* حجية الاجماع المنقول

* حجية الشهرة الفتوائية

* حجية الخبر الواحد

* أدلة حجّيّة مطلق الظّنّ

* تنبيهات دليل الإنسداد


* في حجّية الخبر الواحد

ـ أدلّة المانعين

ـ أدلة المجوّزين

١ ـ الكتاب

٢ ـ السنّة

٣ ـ الإجماع

٤ ـ دليل العقل

* في أدلّة حجّيّة مطلق الظن

١ ـ وجوب دفع الضرر المظنون

٢ ـ قبح ترجيح المرجوح

٣ ـ دليل سيّد الرياض

٤ ـ دليل الإنسداد ومقدّماته الأربعة


* تنبيهات دليل الإنسداد :

التنبيه الأوّل : عدم الفرق في الإمتثال الظنّي بالحكم الواقعي أو الظاهري



* في حجّيّة الإجماع المنقول

(١) قوله قدس‌سره : ( ومن جملة الظنون الخارجة عن الأصل الإجماع المنقول ... إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ١٧٩ )

__________________

(١) قال المحقق المؤسس الطهراني أعلى الله تعالى مقامه الشريف :

« لا يجوز التعويل على الإجماع المنقول بالخبر الواحد ، بل ولو تواتر نقله ؛ لعدم شمول أدّلة حجّيّة الخبر له ـ على فرض ثبوت اعتباره ـ وعدم صلوحه للكشف عن الواقع ؛ حيث إن حجّيّتها تتوقف على أمور فعدم ثبوت واحد منها يكفي في عدم ثبوت النتيجة.

منها : استلزام إتفاق الكل أو البعض المدعي لقول الإمام عليه‌السلام.

ومنها : إرادة الحاكي للإجماع هذا المعنى المستلزم لقوله عليه‌السلام.

ومنها : شمول أدلة حجّيّة الخبر له على تقدير حجّيّته.

وكل من هذه المقدّمات ممنوعة ، بل الدليل قائم على فساده ».

إلى أن قال :

« وحيث إن الغرض من وضع هذا الحديث إنّما هو عزل خليفة الله ونصب من أرادوا من أعداء الله وعجزوا من إثبات مرامهم حتى بهذا الكلام المصنوع فربّما آل الأمر إلى التخصيص بأهل المدينة ، مع أن هذا لا يكاد إثباته.

وكيف كان : فليس في الأدلة لفظ الإجماع ، وعلى تقديره فليس له حقيقة شرعيّة ولا ماهيّة مخترعة ، فلا حاجة إلى تعريفه.


أقول : لا يخفى عليك أنّ نقل الإجماع ـ كنقل السّنة ـ : قد يكون بالمتواتر وقد يكون بالآحاد. وعلى الثّاني : قد يكون بالواحد المحفوف بما يوجب القطع بصدقه بالمعنى الأعمّ من المقرون والمعتضد ، وقد يكون بالواحد الظّني.

والكلام إنّما هو في القسم الأخير. وأمّا الأوّلان ؛ فلا معنى للتكلّم فيهما بعد الفراغ عن إفادة الإجماع للقطع بالسّند أو بالدّليل الظّني المعتبر عند الكلّ.

نعم ، قد يقع الكلام ـ كما عن الشّيخ البهائي في هامش (١) « الزّبدة » ـ في

__________________

إلى أن قال :

ولا يخفى أنه لم يتفق لأحد إلى الآن في شيء من المسائل أن يطلع على قول الإمام عليه‌السلام على الجملة ، من غير أن يعرفه بعينه ؛ فإنّ هذا أوّلا : يتوقّف على حضوره عليه‌السلام وإدراكه ، ولا يتحقّق في زمان الغيبة الكبرى قطعا ، فجميع ما وقع من دعوى الإجماع من أوّل الغيبة الكبرى إلى الآن باطل.

وثانيا : مع عدم معرفته بعينه ولم يتفق هذا في شيء من الموارد ، ولو فرض أن راويا روى عن شخصين ، أحدهما الإمام عليه‌السلام من غير أن يعرفه فاتّفقا في الجواب ، فلا يسمّيه إجماعا ، بل هذا أيضا داخل في السنّة عندهم ، كما إذا سمع منه عليه‌السلام خاصّة مع معرفته له بعينه.

وبالجملة : فمقتضى هذه الطريقة عدم تحقق الإجماع في شيء من الأزمنة.

قال في المعالم : الحق إمتناع الإطلاع عادة على حصول الإجماع في زماننا هذا وما ضاهاه من غير جهة النقل .. ».

إلى أن قال المجدّد الطهراني قدس‌سره القدوسي :

« فظهر أن جميع ما صدر من دعوى الإجماع في جميع الأعصار بناء على التضمّن فاسد لا يعبأ به .. ». إنتهى. محجة العلماء : ج ١ / ٢٦٩ ـ ٢٧٣.

(١) زبدة الاصول : ٩٠ تحقيق فارس حسون.


أصل تحقّق التّواتر في المقام ؛ من حيث إنّ المعتبر في التّواتر باتّفاقهم رجوع المخبرين إلى الحسّ فيما يخبرون عنه ؛ بمعنى كون المخبر به أمرا حسّيّا ، والمخبر عن الإجماع لا يرجع إلى الحسّ ؛ من حيث إنّ مبنى الإجماع على اتّفاق آراء المجمعين في المسألة المجمع عليها ، وتحصيلها موقوف على الاستنباط وإعمال القوّة النّظرية.

وهي كما ترى شبهة واضحة الدّفع ؛ فإنّ فهم المطالب والآراء من العبارات الواضحة ، يرجع إلى الإحساس جدّا. والمعتبر في التّواتر ، ليس أمرا ينافي ذلك إن كان ظاهر الحسّ في باديء النّظر ، ربّما ينافيه ، لكن التّأمّل الصّادق يشهد : بأنّ المراد منه : ما يشمل المقام قطعا. نعم ، قد يكون مبنى النّقل على استنباط الآراء بإعمال المقدّمات الاجتهاديّة كما ستقف عليه ، لكنّه لا دخل له بمنع إمكان التّواتر في نقل الإجماع.

دخول البحث عن الاجماع في المسائل الأصولية

وممّا ذكرنا في تحرير محلّ البحث ومرجع النّزاع يظهر : دخول المسألة في المسائل الأصوليّة ـ التي يبحث فيها عن عوارض الأدلّة بعد الفراغ عن ثبوت دليليّتها كما هو أحد الوجهين بل القولين ـ فيكون المسائل الباحثة فيها عن حجيّة الأدلّة كحجيّة الكتاب والإجماع داخلة في المباديء التّصديقيّة ؛ ضرورة أنّ مرجع الكلام في المسألة إلى البحث عن ثبوت ما فرغ عن حجّيّته بنقل الواحد كما ثبت بالتّواتر ، لا في أصل حجيّة الإجماع ، فمرجع البحث في المسألة إلى البحث عن عوارض الإجماع المفروغ حجيّته من حيث كونه كاشفا عن السّنة ، كما عليه


الخاصّة ، أو من حيث كونه عنوانا مستقلاّ وفي قبال سائر الأدلّة ، كما عليه العامة. فتدبّر.

تاريخ الإجماع في كتب أصحابنا الاصوليين

ثمّ إنّه لم يوجد عنوان للمسألة في كلام أكثر المتقدّمين ، بل لم نر التّمسك بنقل الإجماع في كتبهم الفقهيّة الاستدلالية ، وإنّما عنونها المتأخّرون واستدلّ غير واحد منهم به في المسائل الفقهية.

وأوّل من عنون المسألة واختار حجيّته العلاّمة قدس‌سره في محكي « النّهاية » (١) ، من غير أن ينقل القول بها من أحد ممّن سبقه ، وإن كان ظاهر ذيل كلامه التردّد فيها ، بل الميل إلى عدم الحجيّة. حيث قال : ( إنّ الظهور في المسألة للمعترض من الجانبين » (٢).

وأمّا المحقّق ـ الّذي يكون لسان المتقدّمين ـ فعباراته أصولا وفروعا تنادي : بأنّه لا يقول بحجيّته. وقد صرّح في مواضع كثيرة : بأنّ الإجماع إنّما يكون حجّة على من عرفه ووقف عليه خاصّة.

بل قال بعض أعلام المحقّقين من المتأخّرين : « إنّه لو قيل ـ بعد التّأمّل وإمعان النّظر فيما ذكرنا ـ إنّ الأصحاب متّفقون على عدم حجيّته على الوجه المتعارف في الأعصار المتأخّرة لكان قولا حقّا ودعوى صادقا » (٣).

__________________

(١) نهاية الأصول إلى علم الأصول : ج ٣ / ١٣١ و ٢١٦ تحقيق الشيخ البهادري رحمه‌الله.

(٢) نهاية الوصول إلى علم الأصول : ج ٣ / ٢١٦ تحقيق الشيخ البهادري رحمه‌الله.

(٣) الشيخ المحقق والفاضل الفقيه المدقق أسد الله التستري المتوفى سنة ١٢٣٧ ه‍ ـ صهر


فمراد شيخنا الأستاذ العلاّمة من لفظ ( الكثير ) (١) كثير المتعرّضين للمسألة (٢).

وصريح غير واحد ، منهم : الفاضل النّراقي في « المناهج » : عدم حجيّته (٣).

مقتضى التحقيق عدم حجّيّة نقل الإجماع

ولمّا كان مبنى القول بحجّيّته شمول دليل حجيّة خبر الواحد له من حيث كونه من أفراده ـ كما ستقف عليه ـ فلا محالة يتفرّع على حجيّة خبر الواحد. كما أنّ مبنى القول بعدم حجيّة الأصل بضميمة عدم شمول ما قضى بحجيّة الخبر من حيث الخصوص له ، فالنّزاع في المسألة على تقدير ثبوت حجيّة خبر الواحد في الجملة لا مطلقا ؛ إذ لم يتوهّم القول بحجيّته ممّن نفى حجيّة خبر الواحد مطلقا.

نعم ، لا يتوقّف التكلّم في المسألة على إثبات تلك المسألة وحصول الفراغ منها ، بل يكفي تقدير الثّبوت ؛ ضرورة أنّ التّكلّم في الشّرطيّة لا يتوقّف على الفراغ عن وجود الشّرط ، كما أنّ صدقها الواقعي لا يتوقّف على صدقه ؛ فيصحّ التكلّم في المسألة ممّن ذهب إلى عدم حجيّة الخبر كما لا يخفى هذا.

__________________

الشيخ الأكبر على ابنته ـ في كتابه كشف القناع عن وجوه حجّيّة الإجماع.

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ١٧٩.

(٢) كصاحب المعالم في المعالم : ١٨٠ ، وصاحب الفصول فيه : ٢٥٨ والمحقق القمي في القوانين : ج ١ / ٣٨٤.

(٣) مناهج الأحكام في الأصول : ١٩٩ عند قوله : منهاج : اختلفوا في الإجماع المنقول بخبر الواحد ... إلى آخره.


والّذي يقتضيه النّظر ـ وفاقا لشيخنا قدس‌سره وغير واحد ـ عدم حجيّة نقل الإجماع من حيث الخصوص ؛ لعدم ما يقتضيها ممّا يكون تامّا عندنا. وإن كان بعض ما استدلّوا به على حجيّة الخبر من حيث الخصوص ـ على تقدير تماميّته ـ قاضيا بحجيّته أيضا ، إلاّ أنّ أكثر ما أقاموه على حجيّته ممّا يكون تامّا لا يقضي بحجيّة الإجماع المنقول ، وبعض ما لا يكون تامّا لا يقتضيها أيضا ـ على تقدير التّماميّة ـ واقتضاء ما لا يكون تامّا حتّى في مسألة حجيّة الخبر ، لا يفيد شيئا إلاّ في المسألة الفرضيّة.

توضيح ذلك : أنّهم استدلّوا لحجيّة خبر الواحد من حيث الخصوص في الجملة ـ بالأدلّة الأربعة : الإجماع بقسميه قولا وعملا والعقل والسّنة الثّابتة بالأخبار المتواترة ـ التي ستمرّ عليك ـ والكتاب.

أمّا الأوّل : فانتفاؤه في المقام أوضح من أن يحتاج إلى البيان ؛ ضرورة اعتراف المثبتين : بكون المسألة خلافيّة وأنّه لم يعهد دعوى الإجماع في المسائل الفرعيّة في أزمنة الأئمة عليهم‌السلام حتّى يدّعى الإجماع عملا على العمل بها.

أمّا الثّاني : فلأنّ القاضي منه بحجيّة الخبر من حيث الخصوص هو الانسداد الّذي ادّعوه في خصوص موارد الأخبار من حيث العلم الإجمالي بصدور أكثرها من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام لا ما يقتضي حجيّة الظن مطلقا عند التّحقيق ، كقبح ترجيح المرجوح على الرّاجح ، أو وجوب دفع الضّرر المظنون ، ونحوهما ، وإن ذكره غير واحد لإثبات حجيّة الخبر من حيث الخصوص ، ومن المعلوم انتفاؤه في المقام أيضا.


ودعوى : العلم الإجمالي بمطابقة أكثر الإجماعات المنقولة للواقع ، كما ترى.

وأمّا الثّالث : فاختصاصه بالرّوايات المتعارفة المنتهية إلى الأئمّة عليهم‌السلام المقابلة لنقل الإجماعات أوضح من أن يحتاج إلى البيان كما ستقف عليه في محلّه.

وأمّا الرابع : وهو الكتاب فأكثر الآيات التي استدلوا بها على حجيّة الخبر كآية النّفر (١) ، والسّؤال (٢) ، والكتمان (٣) ، وإن اقتضت : اعتبار نقل الإجماع أيضا ، إلاّ أنّ دلالتها في كمال الضّعف ، والاستدلال بها في غاية الوهن والسّقوط.

ومن هنا لم يقع الاستدلال بها في كلام الأكثرين ، فلم يبق ممّا يصلح للاستدلال به في المقام إلاّ آية النّبأ الّتي هي العمدة عندهم في مسألة حجيّة الخبر عند القائلين بها ، وإن كانت دلالتها ضعيفة عندنا ، كما ستقف عليه عن قريب والدّليل عند القائلين بالحجيّة في المقام وهي لا يقتضي حجيّة نقل الإجماع إلاّ في بعض أقسامه الغير الموجود فيما بأيدينا كما ستقف عليه.

(٢) قوله قدس‌سره : ( وتوضيح ذلك يحصل بتقديم أمرين ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٨٠ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ الأمر الأوّل راجع إلى بيان مقدار مدلول ما دلّ على حجيّة الخبر ، والثّاني راجع إلى بيان حال نقل الإجماع ، وأنّه من أفراد الكليّة

__________________

(١) التوبة : ١٢٢.

(٢) الانبياء : ٧.

(٣) البقرة : ١٥٩.


المستفادة من أدلّة حجيّة الخبر أم لا؟ فالتكلّم في الأوّل راجع إلى التّكلم في الكبرى ، وفي الثّاني إلى التكلم في الصّغرى.

وقد عرفت حال غير آية النبأ ممّا يستدلّ به على حجيّة الخبر ، وأنّه لا يستفاد منه كليّة ينفع المقام أصلا ، بل لا يستفاد منه حجيّة مطلق الخبر الحسّي فضلا عن الحدسي. فقوله قدس‌سره : ( لا تدلّ إلاّ على حجيّة الأخبار عن حسّ ) (١) إنّما هو بالنّظر إلى مجموع ما أقاموه على حجيّة الخبر الّتي منها آية النبأ أو مبنيّ على الإهمال لا الإطلاق.

(٣) قوله قدس‌سره : ( اللهمّ إلاّ أن يدّعى أنّ المناط ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٨٠ )

أقول : مجرّد جعل المناط نقل الكاشف مضافا إلى ما أفاده شيخنا قدس‌سره من المقتضي وأنّ الحاصل عليه حجيّة مطلق الظّن بالحكم الصّادر من الإمام عليه‌السلام ، بل مطلق الظّن بالحكم الشّرعي على التّحقيق ؛ من حيث إنّ الأخذ بالحكم الصّادر عن الإمام عليه‌السلام إنّما هو من حيث كونه حكما شرعيّا إلهيّا ؛ ضرورة أنّ الصدور عن الإمام عليه‌السلام ليس له موضوعيّة قطعا لا يجدي ، إذا احتمل دخل الحسّ فيما يرجع إليه النّاقل ، بناء على إرادة النّاقل الإجماع الدّخولي ، كما عليه القدماء حسبما ستقف عليه ؛ ضرورة أنّه لا يمكن الاطلاع عليه عن حسّ لأحد من علمائنا الحاكين للإجماع كما تقف عليه ، فتدبّر.

ومنه يظهر : فساد التّقريب بحجيّة النّقل بالمعنى ، كما أنّه يظهر ممّا ذكرنا :

__________________

(١) و (٢) فرائد الاصول : ج ١ / ١٨٠.


النّظر فيما أفاده قدس‌سره بقوله : ( كما عمل بفتاوى عليّ بن بابويه ) (١) فإنّ عمل الفقهاء بها عند إعواز النّصوص ليس من جهة بنائهم على الكليّة المذكورة والمناط الّذي ادّعي ـ وإلاّ وجب عليهم العمل بمطلق الظّن في الحكم الشّرعي ـ بل من جهة ما رأوا من رجوع فتاواه إلى النّقل بالمعنى دائما ، كما يظهر من تصريح العاملين بها فكيف يظنّ كون الجهة استفادة المناط المذكور من الأخبار المتواترة الّتي استدلّوا بها على حجيّة الخبر في الجملة؟

والظّاهر أنّ مراده قدس‌سره من قوله : ( كما عمل بفتاوى عليّ بن بابويه ) ليس التّقريب للمناط المتوهّم ، بل لأصل العمل بفتوى الفقيه في الجملة من غير استناد إلى المناط المذكور.

(٤) قوله قدس‌سره : ( وهي إنّما تدلّ على وجوب قبول خبر العادل ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٨١ )

في منع دلالة آية النبأ على حجيّة الإجماع المنقول

أقول : دلالتها على ما ذكر ـ بحيث كان هو المدلول لها ليس إلاّ ، سواء كان مبناها على مفهوم الشرط أو الوصف بالتّقريب الّذي يأتي بيانه في مسألة حجيّة الأخبار ـ مبنيّة على نفي الواسطة بين الفاسق والعادل ، وإن لم يكن المدّعى موقوفا عليه ، كما هو واضح.

ثمّ إنّ ما أفاده قدس‌سره : من أنّ المنفي بالآية على تقدير المفهوم الاعتناء باحتمال تعمّد الكذب في خبر العادل ، والتّوقف في العمل به من الجهة المذكورة ، لا الاعتناء


بجميع الاحتمالات حتّى احتمال السّهو والخطأ والتّوقّف من جهتها ، حتّى يرجع إلى تنزيل خبره منزل خبر المعصوم ، ومعاملة المعصوم مع العادل أمر واضح لا سترة فيه بعد أدنى تأمّل في الآية.

وتعليل وجوب التّبين في خبر الفاسق فيها وإن كان أمرا معقولا في نفسه لا يحيله عقل ، بل وقع في الشّرعيّات ، كما في الرّجوع إلى المفتي ونحوه ممّا يجب البناء فيه على تصويب المخبر في اعتقاده.

ثمّ إنّ منشأ الظّهور الّذي أفاده قدس‌سره بقوله : « والظّاهر منه ... إلى آخره » (١) الراجع إلى الوجهين ـ أحدهما : دلالة الآية عليه ؛ من حيث إناطة الحكم فيها بالفسق والعدالة حين الإخبار ولو على مفهوم الشّرط كما هو المسلّم عندهم ؛ إذ لم يحتمل أحد اعتبار العدالة في جميع موارد اعتباره ؛ اعتبار حين التحمّل. ثانيهما : دلالة التعليل المذكور فيها عليه ـ ممّا لا يرتاب فيه.

إمّا لدلالة الآية على كفاية وجود فسق المخبر حين خبره في الرّد وإن كان عدلا حين التحمل والعمل وكفاية عدالته حين الإخبار ، وإن كان فاسقا حين التحمّل والعمل. فهي من جهة تعليق الحكم على المشتق الظّاهر في تلبّسه بالمبدأ حين الإخبار والنّبأ.

مضافا إلى كونه أمرا مسلّما مفروغا عنه عندهم ـ على ما عرفت الإشارة إليه : من كونه اتّفاقيّا في جميع موارد اعتبار العدالة إلاّ في باب الإفتاء ؛ حيث إنّ

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ١٨١ وفي الكتاب : « الظاهر منها ... ».


المعتبر فيه العدالة حين العمل ، لا حين الإفتاء ، وإن اشترك مع غيره في عدم الاعتبار حين التّحمّل والتّرجيح والاستنباط ـ وإلى دلالة الأخبار عليه كالواردة في كتب بني فضال (١).

وغيرها فتأمّل (٢).

وأمّا استلزام ذلك لظهور الآية فيما أفاده فهو ظاهر ؛ حيث إنّ الخطأ في الاعتقاد ينشأ غالبا من التّحمّل وصيرورة الفاسق حين التّحمّل عادلا لا حين الإخبار لا يرفع خطأه في حدسه واعتقاده ، فلا فرق بين الفاسق والعادل حين الإخبار من جهة احتمال الخطأ في الاعتقاد حين التّحمل.

وإنّما الفرق بينهما من حيث مزيد احتمال التّعمّد في الكذب في الأوّل دون الثّاني ؛ حيث إنّه مرجوح في الثّاني دون الأوّل.

نعم ، ما أفاده مبنيّ على دلالة الآية على اعتبار العدالة من حيث الطّريقيّة مع قطع النّظر عن التعليل وإلاّ لم يكن وجها آخر في قبال التّعليل كما لا يخفى.

__________________

(١) الغيبة للشيخ الطوسي : ٣٨٧ ، عنه الوسائل : ج ٢٧ / ١٠٢ ـ ح ٧٩ باب وجوب العمل بأحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وفي الحديث عن أبي محمد الحسن بن علي عليهم‌السلام : انه سئل عن كتب بني فضال. فقال : خذوا بما رووا وذروا ما رأوا.

(٢) وجه التأمل : ( ان الأخبار الواردة إنما دلّت على عدم قدح انحرافهم في العمل بما رووا وحال الإستقامة ، وأما عدم اعتبار العدالة حين التحمّل وكفاية مجرد العدالة حين الإخبار فلا بد أن يستفاد من إطلاقها وليس لها إطلاق بعد فرض ورودها في الأشخاص الغير المختلفين حالتي التحمل والاخبار من حيث العدالة والفسق فتدبر ). منه دام ظلّه العالي.


وأمّا دلالة التّعليل فهي من جهة استقلال العقل بقبح التّعليل بالعلة المشتركة ، الرّاجع إلى نفي العليّة عن العلّة بعد فرض اشتراكهما في احتمال الخطأ من جهة الحدس والاعتقاد.

وهذا كما ترى لا ينافي تطرّق احتمال التّعبّد في خبر العادل أيضا حتّى يقال : بعدم الفرق بينه وبين خبر الفاسق من هذه الجهة. فمرجع ما ذكر عند التأمّل إلى دلالة الآية بالنّظر إلى التّعليل على عدم حجيّة خبر الواحد رأسا ، عادلا كان المخبر أو فاسقا كما سيأتي بيانه مشروحا عند البحث عن حجيّة خبر الواحد.

والكلام في المسألة على ما عرفت على تقدير دلالة الآية على حجيّة خبر العادل ، فإنّ الفرق بينه وبين خبر الفاسق إنّما هو في مرتبة الاحتمال وكونه ضعيفا في خبر العادل ـ بالنّظر إلى ملكة العدالة الرّادعة عن التّعمّد في الكذب ـ دون خبر الفاسق ، فيجب التّبيّن وتحصيل الاطمئنان من الخارج.

(٥) قوله قدس‌سره : ( فإن قلت : إنّ مجرّد دلالة الآية على ما ذكر ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٨١ )

أقول : حاصل ما أفاده قدس‌سره من السّؤال : أنّ الاستدلال بالآية في المقام إنّما هو بعد البناء على دلالتها على حجيّة خبر العادل الّتي يرجع إلى البناء على صدقه فيما يخبر عنه وكون خبره مطابقا للواقع.

ولازم هذا المعنى ـ كما ترى ـ عدم الاعتناء بجميع الاحتمالات المتطرّقة في خبره الملازمة على تقدير المطابقة لعدم مطابقة الخبر للواقع هذا. مضافا إلى إطلاق عدم وجوب التّبين في جانب المفهوم.


(٦) قوله قدس‌سره : ( قلت : إذا ثبت ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٨٢ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ ملخّص الجواب عن السؤال المذكور يرجع إلى أنّه بعد البناء على إناطة الحكم في الآية منطوقا ومفهوما على الفسق والعدالة من حيث الطّريقيّة ـ على ما عرفت سيّما بملاحظة التّعليل المذكور فيها ـ فلا محالة يحكم بكون الآية مسوقة لبيان قبول خبر العادل وتصديقه وعدم الاعتناء بكلّ احتمال في خبره يكون للعدالة دخل في ضعفه ، لا القبول من جميع الجهات والحيثيّات ، ونفي الاعتناء بتمام الاحتمالات.

كيف! وهذا لا يجامع ابتناء الآية على الطّريقيّة والتّفكيك بحسب الاحتمالات في مرحلة الظّاهر ، ونفي بعضها دون آخر أمر معقول ؛ فالتّبيّن الخارجي ليس شرطا في العمل بخبر العادل من حيث ما للعدالة دخل في ضعفه وإن كان شرطا فيه من جهة الاحتمال الّذي يتطرّق في خبر العادل والفاسق على نهج واحد.

ولا يلزم من نفي بعض الاحتمالات بالآية الشّريفة دون بعض اللّغوية أيضا ؛ فإنّه إذا كان هناك ما يقضي به نفي سائر الاحتمالات المتطرقة كاحتمال الخطاء والسّهو في مرحلة الظّاهر كما في الإخبار عن الأمور المحسوسة عن حسّ أو عن الأمور الغير المحسوسة المستندة إلى المباديء واللّوازم والآثار الحسيّة عن حسّ ، كما في الإخبار عن الملكات ؛ لمشاهدة لوازمها وآثارها ؛ حيث إنّ العقلاء والعلماء مطبقون على عدم الاعتناء باحتمال الخطأ والسّهو في الإخبار الحسّي عن هذه الأمور فتنفع الآية النّافية لاحتمال التّعمّد في الكذب عن خبر العادل إذا كان المخبر بالأمور المذكورة عادلا.


فإمّا تنزّل الآية على الإخبار عن هذه الأمور ، كما ربّما يستظهر من عبارة « الكتاب ». وإمّا لا تنزّل عليه ، وتنفع في الإخبار عنها على ما هو التّحقيق ، ولا يأباه « الكتاب » أيضا فتأمّل.

وعلى التّقديرين لا يمكن الاستدلال بها على نفي سائر الاحتمالات.

نعم ، فيما فرض انتفاء سائر الاحتمالات فيه بحكم القطع الحاصل من الأمور الحدسيّة يستدلّ بالآية الشّريفة على نفي احتمال تعمّد الكذب في مرحلة الظّاهر إذا أخبر به العادل. فعلى الوجه الأوّل تنزّل الآية على ما فرض انتفاء سائر الاحتمالات فيه ولو بحكم الشّرع الكاشف عنه بناء العقلاء والعلماء على العمل بأصالة عدم السّهو والخطأ وليس في هذا ـ كما ترى ـ تقييد وتخصيص في الآية أصلا ، لا منطوقا ولا مفهوما بل هو تقيّد وتخصّص. مع أنّه لو سلّم كونه تقييدا وتخصيصا ، فالقرينة عليهما نفس الآية ، من حيث كونها مسوقة ـ على ما عرفت ـ لعدم الاعتناء بما للعدالة دخل في تضعيفه من الاحتمالات دون مطلق الاحتمال.

وممّا ذكرنا كلّه يظهر : فساد التمسّك بإطلاق المفهوم ـ على ما أشرنا إليه في توضيح السّؤال ـ ؛ ضرورة أنّه لا إطلاق للآية منطوقا ومفهوما لنفي غير احتمال التّعمّد أصلا ، ولا ظهور لها في ذلك جزما.


(٧) قوله قدس‌سره : ( نعم ، لو كان المخبر ممّن يكثر ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٨٢ )

عدم الجدوى في الاستدلال بآية النبأ فيما لم يحكم فيه

بنفي سائر الإحتمالات

أقول : الاستدراك الّذي أفاده ممّا لا بدّ منه على ما أفاده في المراد من الآية على ما عرفت توضيحه ؛ فإنّ حاصله يرجع إلى عدم الجدوى للآية فيما لم يحكم فيه بنفي سائر الاحتمالات من غير فرق بين الإخبار عن الحسيّات والحدسيّات ، كما هو المستظهر من جميع ما دلّ على اعتبار إخبار العادل من حيث الطّريقيّة ـ سواء كان في الأحكام أو الموضوعات ـ ولازم ذلك اشتراط الضّبط في الرّاوي والشّاهد وانحصار فائدتها فيما انتفي ولو ظاهرا ؛ من جهة عدم جريان أصالة عدم النّسيان والخطأ في إخباره عن الأمور الحسيّة.

كما أنّ لازمه اعتبار إخبار العادل عن الأمور الغير الحسيّة ، لمشاهدته لوازمها وآثارها كالإخبار عن الملكات.

كما أنّ لازمه عدم اعتبار إخبار العادل عن الأمور الحسيّة ، إذا علم استناده إلى الحدس.

فاعتبارهم للضّبط في الرّاوي والشّاهد كحكمهم بعدم اعتبار الشّهادة المستندة إلى الحدس ؛ إنّما هو من جهة عدم ما يقضي بنفي جميع الاحتمالات في الرّاوي والشّاهد ، وعدم جريان أصالة عدم الخطأ في حق غير الضّابط والشّهادة الحدسيّة لا من جهة دليل خاصّ خارجيّ مخصّص للآية وغيرها ـ ممّا دلّ على حجيّة رواية العادل وشهادته كما توهّم ، أو استظهار الحسّ من لفظ الشّهادة كما


زعم ـ حتّى يناقش : بمنع أخذ الحسّ في مفهوم الشّهادة بأنّه لا شبهة في كون استعمالها حقيقة في الشّهادة بالتّوحيد والرّسالة ونحوهما مع عدم كونها من الأمور الحسيّة ، مع أن الحكم ليس متعلّقا على لفظ الشّهادة في جميع أدلّة اعتبار خبر العدل في الموضوعات ، بل على لفظ البيّنة في بعضها.

نعم ، قد يستظهر من بعض أخبارها مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إذا رأيت مثل هذا فاشهد وإلاّ فدع » (١) ـ اعتبار الحسّ واشتراطه في حجيّتها ، لكنّه أيضا لا يخلو عن مناقشة مذكورة في محلّها ، غير مختفية على المتأمّل ، فلا حاجة إلى الدّليل من الخارج بعد قصور دليل الاعتبار ، وكون الأصل المسلّم عندهم عدم اعتبار مشكوك الاعتبار.

نعم ، لو كان المعتبر في مقام نظر العادل وترجيحه ورأيه واعتقاده بحيث كان اعتبار خبره من حيث كونه طريقا إلى اعتقاده المعتبر بالفرض ولو كان من جهة كون اعتقاده أقرب إلى الواقع من اعتقاد من أمر بالرجوع إليه لم يكن معنى لاعتبار الحسّ أصلا ، كما في الفتوى.

والحاصل : أنّ الفرق ظاهر بين كون المعتبر إخبار العادل عن الواقع ـ من

__________________

(١) الحديث في الشرائع : ج ٤ / ١٣٢ ، عنه وسائل الشيعة : ج ٢٧ / ٣٤٢ باب « انه لا تجوز الشهادة إلاّ بعلم » ح ٣ وقد أورده الشيخ الطوسي في المبسوط : ج ٨ / ١٨٠ والمحقق قدس‌سره أخذه منه والحديث عامي لا أصل له في تراثنا أنظر المجموع : ج ٢٠ / ٢٦١ وكذا المغني لابن قدامة : ج ١٢ / ١٩ ، والشرح الكبير : ج ١٢ / ٧ ، وكشاف القناع : ج ٦ / ٥١٧ ، وجواهر العقود : ج ٢ / ٣٤٧ ، ونصب الراية : ج ٥ / ٨٢ ، وكنز العمّال : ج ٧ / ٢٣ حديث رقم : ١٧٧٨٢ ، وسبل الهدى والرّشاد : ج ٩ / ٢١٨ ـ إلى غير ذلك.


حيث كونه طريقا إليه ـ وبين كون المعتبر اعتقاده بالواقع ـ ولو كان بملاحظة الطريقيّة ـ من غير فرق بين الموضوعات والأحكام.

فكلّما كان مفاده اعتبار خبر العادل من الحيثية الأولى فمفاده عدم الاعتناء بخصوص احتمال تعمّد كذبه في الإخبار ، لا البناء على تصويبه في اعتقاده ونظره.

وكلّما كان مفاده اعتبار خبره من حيث كشفه عن اعتقاده المعتبر في الحقيقة ؛ فالمستفاد منه البناء على تصويبه في اعتقاده في مرحلة الظّاهر ـ ولو من جهة كون اعتقاده طريقا ـ والمستفاد من الآية وأمثالها ـ ممّا دلّ على حجيّة خبر العادل في الأحكام والموضوعات من حيث كشفه عن الواقع ـ هو الوجه الأوّل.

والمستفاد لما دلّ على رجوع العامي إلى المجتهد في الأحكام الشّرعيّة ـ هو الوجه الثّاني.

ومن هنا لم يستدلّ أحد من الأصحاب على وجوب التّقليد بآية النّبأ ، واستدلّوا عليه بآيتي النّفر والسّؤال ، بالتّقريب الّذي سيأتي بيانه في محلّه.

(٨) قوله قدس‌سره : ( فإن قلت : فعلى هذا ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٨٣ )

أقول : هذا السّؤال متوجّه على التّقريب الّذي بنى عليه الأمر في المراد من الآية ، وكون المقصود منها : اشتراط التّبين الخارجي عن حال خبر الفاسق ؛ من حيث احتمال التّعمد في الكذب من جهة عدم ما يوجب مرجوحيّته من الدّاخل.

بخلاف خبر العادل الموجود فيه ما يوجب مرجوحيّة الاحتمال المذكور ، مع مساواتهما من جهة سائر الاحتمالات.

فإذا فرض إخبار الفاسق عن الموضوعات عن حسّ بعنوان الشّهادة مع


القطع بعدم تعمّده للكذب ، فاللاّزم ـ على ما ذكر ـ قبوله ؛ لفرض انتفاء احتمال التّعمّد وانتفاء سائر الاحتمالات شرعا بالأصول العقلائيّة المعتبرة شرعا. بل هو أولى من شهادة العادل مع عدم القطع بانتفاء احتمال التعمّد ، وهكذا الأمر في غير الشّهادة ممّا حكم فيه شرعا بإلغاء خبر الفاسق مطلقا ولو مع القطع بعدم تعمّده للكذب فيما يجري فيه أصالة عدم الخطأ والسّهو ، لا مثل الفتوى ونحوها.

(٩) قوله قدس‌سره : ( قلت ليس المراد ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٨٣ )

أنحاء اعتبار العدالة في الشرع

أقول : ملخّص الجواب عن السّؤال المذكور : أنّ اعتبار العدالة في الشّرع على أنحاء وأقسام : فإنّه قد يكون اعتبارها بعنوان الطّريقيّة المحضة ـ الّذي عرفت تفصيل القول فيه في طيّ بيان المراد من الآية الشّريفة ـ وقد يكون بعنوان الموضوعيّة المحضة ـ كما في بعض المواضع ـ وقد يكون بعنوان الأمرين ، ويلاحظ فيه الجهتان.

فما كان من الأوّل يحكم بقيام الفاسق مقام العادل عند القطع بعدم عصيانه ، إذا كان هناك أصل شرعيّ أو عقليّ يقتضي مطابقة خبره وفعله للواقع من سائر الجهات.

ومن هنا لا نضايق من القول بجواز توصية الفاسق وتوليته وقيموميّته إذا فرض القطع بعدم خيانته ، بل يجوز العمل له واقعا إن لم نعلم بعدم خيانته ، فيما كان بانيا على إحراز الواقع بينه وبين ربّه ، وإن كنّا نمنعه عن التّعدي فيما لم يعلم بحاله.

وما كان من أحد الأخيرين لا يحكم فيه بقيام الفاسق مقام العادل والتّسوية


بينهما في صورة القطع بعدم عصيان الفاسق ؛ ضرورة أنّ العدالة قابلة لأن يعتبر بكلّ واحد من العناوين المذكورة. ومن هنا قام الإجماع ودلّت الأخبار على اعتبارها في الشّاهد الملحوظ فيه جهة الموضوعيّة ؛ غاية الأمر عدم دلالة الآية إلاّ على اعتبارها بعنوان الطّريقيّة.

فإن كان الغرض من السؤال إبطال ما ذكرنا في المراد من الآية ـ بما ذكره من عدم قبول شهادة الفاسق ـ فلا توجّه له أصلا ؛ لأنّه إنّما يتوجّه على تقدير إرادة نفي قابليّة الموضوعيّة عن العدالة لا على تقدير عدم دلالة الآية.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّهم استدلّوا على اعتبار العدالة في الشّاهد وعدم قبول شهادة الفاسق بالآية الشّريفة ، والجواب المذكور إنّما يستقيم فيما لو كان الدّليل على اعتبار العدالة في الشّاهد غير الآية ، وليس الأمر كذلك. ألا ترى أنّهم تكلّفوا في المفهوم؟

وجعلوا القول في طرف المفهوم تارة مهملة ، لكي يصحّ الاستدلال بها في البيّنة. وأخرى مطلقة ؛ من حيث إنّ كلّ واحد من الشّاهدين في الموضوعات لا يجب التّبيّن في خبره. ومن هنا أمر قدس‌سره بالتّأمّل في الجواب.

وإن أمكن التّأمّل فيه : بأنّ غرضهم الاستدلال بالآية في الجملة ولا ينافي ذلك اعتبارهم للعدالة بعنوان الموضوعيّة من دليل آخر ، هذا كلّه.

مع أنّ اعتبار الموضوعيّة يمنع من التّعدي إلى خبر الفاسق وإن لوحظ الطّريقيّة في اعتبار العدالة أيضا ، فكأنّهم فهموا اعتبار الأمرين.

ومن هنا ذهب غير واحد إلى عدم اعتبار خبر الفاسق في الأحكام الشّرعيّة مطلقا وهذا وإن كان مخالفا لما يقتضيه التحقيق في معنى الآية ، إلاّ أنّه بناء عليه


أيضا يبقى توهّم التّعميم في الآية لنفي جميع الاحتمالات ؛ حيث إنّ الطّريقيّة الموجودة في الآية القابلة للملاحظة ، ليست إلاّ مرجوحيّة التّعمّد بالنّظر إلى ملكة العدالة فتدبّر.

نقل كلام صاحب الفصول لإثبات عموم الآية

ثمّ إنّه قد ظهر ممّا أفاده شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره ـ في تقريب عدم العموم للآية لكلّ خبر ـ ضعف ما أفاده بعض أفاضل المتأخّرين في « فصوله » لإثبات عموم الآية بعد التّمسّك لحكم نقل الإجماع وحجيّته بجملة ممّا دلّ على حجيّة الرّوايات بدعوى شمولها للنّقل عن المعصوم عليه‌السلام ولو بالالتزام والحدس. حيث قال ما هذا لفظه ـ :

« ومنها : آية النّبأ فهي وإن كانت عندنا غير مساعدة على قبول خبر الواحد إلاّ أنّ جماعة ذهبوا إلى دلالتها عليه بالمفهوم. وعلى تقديره يتناول المقام أيضا ؛ فإنّ ناقل الإجماع منبئ عن قول المعصوم عليه‌السلام فيجب قبوله.

واعترض : بأنّ النّبأ وما يرادفه كالخبر إنّما يطلق على نقل ما استند إدراكه إلى الحسّ كالسّماع والمشاهدة. وبهذا فارق الفتوى ؛ فإنّها عبارة عن نقل ما استند إدراكه إلى الدّليل والحجّة » (١).

إلى أن قال : « وضعفه ظاهر ؛ لأنّه إن أريد أنّ النبأ لا يطلق إلاّ على الأشياء الّتي من شأنها أن تدرك بالحسّ وإن أدركه المخبر بطريق الحدس وشبهه ، فهذا لا ينافي المقصود ؛ فإنّ المخبر عنه هنا قول المعصوم عليه‌السلام أو فعله أو تقريره. وهو أمر

__________________

(١) الفصول الغروية : ٢٥٩.


من شأنه أن يدرك بالحسّ وإن كان طريق النّاقل إليه الحدس.

وإن أريد أنّه لا يطلق النّبأ إلاّ على ما كان علم المخبر به بطريق الحسّ فواضح الفساد ؛ للقطع بأنّ من أخبر عن إلهام أو وحي أو مزاولة بعض العلوم كالنّجوم يعدّ منبئا ومخبرا. قال الله تعالى حكاية عن عيسى عليه‌السلام ( وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ) (١). ولا ريب أن إخباره عليه‌السلام لم يكن عن حسّ.

ومثله قوله تعالى في غير موضع ... ) (٢). إلى آخر ما ذكره من الاستشهاد بالآيات الّتي أطلق النّبأ فيها على المعنى الأعم.

ثمّ قال :

« وكذا الكلام فيما دلّ على حجيّة خبر الواحد من الأخبار لما عرفت من شمول الخبر ومرادفاته لنقل الإجماع » (٣). انتهى كلامه رفع مقامه.

وقد عرفت : أنّ الوجه في عدم العموم ، ليس عدم إطلاق النّبأ على النّبأ الحدسي ، بل عدم دلالة الآية إلاّ على نفي احتمال التّعمد في الكذب عن العادل في مرحلة الظّاهر ، هذا كلّه.

مع أنّ الإطلاق الّذي ادّعاه أعمّ من الحقيقة والحقيقة أيضا لا توجب جواز التّمسك ؛ إذ ربّما يكون الظّاهر من المطلق بعض أفراده عند الإطلاق ، وأضعف من التّمسّك بالآية التّمسك بالأخبار في المقام ، مع أنّك قد عرفت سابقا وضوح

__________________

(١) آل عمران : ٤٩.

(٢) الفصول الغرويّة : ٢٥٩.

(٣) نفس المصدر : ٢٥٩.


اختصاصها بالرّوايات المقابلة لنقل الإجماع.

(١٠) قوله قدس‌سره : ( الأمر الثّاني : أنّ الإجماع في مصطلح الخاصّة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٨٤ )

حقيقة الإجماع ووجه حجّيّته

أقول : لمّا توقّف تحقيق حال نقل الإجماع من حيث دخوله في الكليّة المستفادة من آية النّبأ وخروجه عنها على معرفة حقيقة الإجماع وبيان المراد منه ووجه حجيّته ؛ فأورد قدس‌سره الكلام فيه وفي وجه حجيّته.

فنقول ـ اقتفاء لأثره ـ : إنّ الإجماع في اللّغة أطلق على معنيين : أحدهما : العزم ومنه ( لا صيام لمن لم يجمع الصّيام من اللّيل ) (١) و[ ثانيهما ] الاتفاق ، ومنه قولك ( أجمع القوم على كذا ) إذا اتّفقوا عليه ، وذكر غير واحد : أنّه نقل من المعنى الثّاني الّذي هو مطلق الاتفاق في اصطلاحهم إلى اتّفاق خاص ، نقلا من العامّ إلى الخاص ، كما هو الشّائع في باب النّقل.

ويظهر من المحقّق قدس‌سره فيما يأتي من كلامه ـ : أنّه مأخوذ من المعنى الأوّل حيث إنّه قال ـ في ردّ بعض الأصحاب ـ : « إنّ المذهب لا يصار إليه من إطلاق اللفظ ؛ فإنّ الإجماع مأخوذ من قولهم أجمع على كذا إذا عزم عليه هذا » (٢).

ويمكن أن يقال : أن مراده أخذ العزم فيه مضافا إلى الاتّفاق ، كما أنّ مرادهم من الاتّفاق الخاص : هو الاتّفاق بحسب الآراء مع الخصوصيات الأخر ـ الّتي

__________________

(١) سنن النسائي : ج ٤ / ١٩٧ ، والسنن الكبرى للبيهقي : ج ٤ / ٢٠٢ و ٢٢١.

(٢) الرسائل التسع للمحقق الحلي ، رسالة العزية ـ المسألة السابعة : ١٤٤ بإختلاف يسير.


ستمرّ عليك ـ فالعزم والقصد مأخوذ فيه على كلّ تقدير ، فتدبّر.

ثمّ إنّه قد اختلفت كلمات الخاصّة والعامّة في المعنى الاصطلاحي اختلافا يرجع إلى اعتبار خصوص العلماء في المجمعين وما يرادفه كأهل الحلّ والعقد أو مطلق الأمّة وإلى اعتبار الأمر الدّيني في متعلّقه وعدمه وإلى اعتبار العصر الواحد وعدمه وإلى اعتبار اتفاق الجميع كما هو صريح العامّة وأكثر الخاصّة أو الأعمّ منه ومن الجماعة الخاصّة كما اختاره غير واحد من المتأخّرين كما ستقف عليه.

ثمّ إنّ هذا إنّما هو في لفظ الإجماع بقول مطلق. وأمّا الإجماع المضاف إلى جماعة خاصّة كإجماع الصّحابة والتّابعين أو أهل المدينة أو أهل البيت ونحوها فمعلوم أنّه لا يراد منه في كلماتهم المعنى المراد من الإجماع بقول مطلق.

المعتبر في الإجماع الاصطلاحي هو اتفاق الكل

والأقوال في ذلك

ونحن نورد جملة من كلماتهم في هذا الباب حتّى يعلم صدق ما أفاده شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره (١) : من استقرار اصطلاح الفريقين على اعتبار اتفاق الكلّ في الإجماع الاصطلاحي الّذي هو الأصل للعامّة ؛ باعتبار أنّه أصل مستقلّ في قبال الأدلّة الثّلاثة عندهم دون الخاصّة كما ستعرف ، أو باعتبار كونه دليلا على مذهبهم في أمر الخلافة وهم الأصل له من حيث إنّهم ابتدءوا في عنوانه والتّمسك

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ١٨٤.


به وتأسيسه (١) ، كما ستعرف من السيّد علم الهدى قدس‌سره وغيره ، في قبال غير واحد من المتأخّرين الّذين زعموا : أنّه في الاصطلاح هو مطلق الاتّفاق الكاشف من غير أخذ اتّفاق الكلّ فيه.

فنقول : إنّه عرّفه الغزّالي ـ على ما حكي عنه ـ : « بأنّه اتّفاق أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أمر من الأمور الدّينية » (٢). وعن فخر الرّازي : « أنّه اتّفاق أهل الحلّ والعقد من أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أمر من الأمور الدّينيّة » (٣). وعن الحاجبي : « أنّه اجتماع المجتهدين من هذه الأمة في عصر على أمر » (٤).

إلى غير ذلك من كلماتهم الصّريحة في أخذ اتّفاق الكلّ في تعريفه وإن اختلفت من الحيثيّات والاعتبارات الّتي عرفت الإشارة إليها. والجمع بينها ، وإن

__________________

(١) قال المجدّد المؤسس الطهراني رضوان الله تعالى عليه :

« إن الإختلاف بين اصحابنا وبين المخالفين ليس في مدرك حجّيّته وإنّما هو في نفس الحجّيّة كما قال الأستاذ [ الأنصاري ] قدس‌سره :

« إن الإجماع في مصطلح الخاصّة بل العامّة الذين هم الأصل له وهو الأصل لهم » فإنه صريح في انه لا مستند للإجماع إلاّ وضعهم له ، فهم الأصل له ، ولا يستند إليه إلاّ هؤلاء ، وهو معنى قوله : وهو الأصل لهم.

أو أنهم لولاه لم يكن لهم مدرك لنسخ الوحي الإلهي ونصب أصنامهم وعزل خليفة الله وإزالته عن مقامه ». إنتهى محجّة العلماء : ج ١ / ٢٧٣

(٢) المستصفى للغزالي : ١ / ١٧٣ ، والمنخول : ٣٩٩.

(٣) المحصول : ج ٤ / ٢٠.

(٤) حكاه الفصول الغرويّة : ٢٤٢ ، وانظر القوانين : ج ١ / ٣٤٦ عن مختصر الحاجبي مخطوط ، والإحكام للآمدي : ١ / ٢٥٤.


أمكن بما يرفع الاختلاف كما صنعه غير واحد ، إلاّ أنّا لسنا في صدد ذلك.

وأمّا الخاصّة فأكثر كلماتهم ينادي بأعلى صوتها بأخذ اتّفاق الكلّ في حقيقة الإجماع في مقام تعريف الإجماع وغيره. ويكفي في ذلك ما حكاه في « الكتاب » (١) عن العلاّمة في « التّهذيب » (٢) وغيره (٣) في غيره ، واعتذارهم عن المخالف بانقراض عصره ، ودعواهم عدم الاعتداد بقول الميّت من حيث انعقاد الإجماع على خلافه ميّتا لا حيّا ، والمدارك المذكورة في كلماتهم لحجيّته من الدّخول واللّطف وغيرها ممّا سيأتي الإشارة إليه.

وأصرح من جميع ذلك في اتّحاد معنى الإجماع عند الفريقين ما حكي عن السيّد قدس‌سره في دفع السّؤال عن نفسه ـ بعد الحكم بأنّ الوجه في حجيّة الإجماع كشفه عن دخول الإمام عليه‌السلام : « بأنّه إذا كان كذلك فما الفائدة في ضمّ قول الغير؟ وما الوجه في جعله دليلا مستقلا في قبال الأدلّة الثّلاثة بعد رجوعه إلى السّنة ـ : بأنّا لسنا بادين بالحكم بحجيّة الإجماع حتّى يرد كونه لغوا وإنّما بدأ بذلك المخالفون ، وعرضوا علينا فلم نجد بدّا من موافقتهم عليه ؛ لعدم تحقق الإجماع الّذي هو حجّة عندهم في كلّ عصر إلاّ بدخول الإمام عليه‌السلام في المجمعين ـ سواء اعتبر إجماع الأمّة أو المؤمنين أو العلماء ـ فوافقناهم في أصل الحكم ؛ لكونه حقا في نفسه ، وإن خالفناهم في علّته ودليله » (٤). انتهى ما حكي عنه.

__________________

(١) فرائد الاصول : ١٨٤.

(٢) تهذيب الاصول للعلاّمة : ٦٥.

(٣) كصاحب غاية البادي مخطوط ورقة ٧٣ ، وصاحب المعالم في معالمه : ١٧٢.

(٤) الحاكي هو صاحب الفصول الغرويّة في فصوله أنظر : ص ٢٤٣.


نعم ، تسامحهم في لفظ الإجماع على غير معناه المعروف حتّى اتّفاق الاثنين مع كون أحدهما المعصوم عليه‌السلام من جهة الاشتراك في الثّمرة ووجه الحجيّة كما صرّح به في « الكتاب » ممّا لا ينكر. أترى كون الإطلاق حقيقة في اتّفاق الاثنين؟ حاشاك ثمّ حاشاك ومن هنا قال في « المعالم » : ( إنّ الاطّلاع على الإجماع في أمثال زماننا من غير جهة النّقل غير ممكن ) (١).

بل ستقف في « الكتاب » على أنّ المراد من الإجماع بقول مطلق في ألسنة ناقليه من الخاصّة من الطّبقة الوسطى ليس خصوص اتّفاق أهل عصر واحد بل يعتبرون موافقة أهالي الأعصار المتقدّمة إلاّ من لا يعتدّ بقوله.

كلام صاحب القوانين

ومع ذلك كلّه فقد رأينا من المتأخّرين ما يخالف ذلك ، وأنّ اصطلاح الخاصّة في الإجماع غير اصطلاح العامّة قال في « القوانين » ما هذا لفظه :

« واختلفت العامّة في حدّه ولا فائدة في ذكر ما ذكروه وجرحها وتعديلها ، فلنقتصر على تعريف واحد يناسب مذهب العامّة ، ثمّ نذكر ما يناسب مذهب الخاصّة. أمّا الأوّل : فهو أنّه اتّفاق المجتهدين من هذه الأمّة على أمر دينيّ في عصر من الأعصار » (٢).

إلى أن قال :

« وأمّا الثّاني : فهو اتّفاق جماعة يكشف اتّفاقهم عن رأي المعصوم عليه‌السلام فقد

__________________

(١) معالم الدين وملاذ المجتهدين : ١٧٥ ط جماعة المدرسين.

(٢) قوانين الاصول : ١ / ٣٤٦ ذكر الرأى العامي من مختصر الحاجبي مخطوط.


يوافق ذلك مع ما حدّه العامّة به وقد يتخلّف عنه » (١). انتهى ما أردنا نقله.

كلام صاحب الفصول

وقال في « الفصول » بعد جملة كلام له في تعاريف القوم نقضا وإبراما ما هذا لفظه :

« فالصّواب أن يعرف الإجماع ـ على قول من يعتبر دخول المعصوم عليه‌السلام في المتّفقين على وجه لا يعرف نسبه ـ : بأنّه اتّفاق جماعة يعتبر قولهم في الفتاوى الشّرعيّة على حكم ديني بحيث يقطع بدخول المعصوم عليه‌السلام فيهم ، لا على التّعيين ـ ولو في الجملة ـ أو اتّفاق جماعة على حكم ديني يقطع بأنّ المعصوم عليه‌السلام أحدهم لا على التّعيين مطلقا » (٢).

إلى أن قال ـ بعد جملة كلام له ـ :

« ولو عرّف الإجماع بأنّه : الاتّفاق الكاشف عن قول المعصوم عليه‌السلام على حكم دينيّ كان أخصر وأجمع » (٣) انتهى كلامه رفع مقامه.

كلام الفاضل النراقي

وقد ذكر بعض المتأخّرين ممّن قارب عصرنا في « مناهجه » :

« أنّ حقيقة الإجماع بحسب الأقوال المختلفة في مدرك اعتباره يختلف

__________________

(١) قوانين الاصول : ١ / ٣٤٦.

(٢) الفصول الغروية : ٢٤٣.

(٣) الفصول الغرويّة : ٢٤٣.


بحسب الاصطلاح وأنّه يقارب عرف السيّد والعامّة في الإجماع واتحاد موردهما غالبا ، وإن اختلفوا في وجه الحجيّة » (١).

ثمّ قال ـ بعد جملة كلام له ـ :

« وهذا هو السّر في تفسير المتأخّرين بأنّ الاتّفاق الخاصّ الّذي هو الإجماع عند الخاصّة مغاير له عند العامّة وتعريفهم له تارة بعرف العامّة وأخرى بعرف الخاصّة » (٢) انتهى كلامه.

مقتضى التحقيق

والّذي يقتضيه التّحقيق في المقام أن يقال : إنّ الالتزام بتغاير الاصطلاح بين العامّة والخاصّة بقول مطلق ـ كما عرفت عن « القوانين » ـ أو بحسب الأقوال المختلفة في مدركه ـ كما عرفت عن هذا الفاضل ـ كما ترى ؛ فإنّ تغاير الاصطلاح في لفظ واحد عند الفرق المختلفة وإن لم يكن أمرا بعيدا منكرا بل واقع كثيرا إلاّ أنّ الكلام في وقوعه في المقام.

نعم ، الإنصاف تغاير الإرادة بحسب الاختلاف في المدرك ؛ فإنّ المراد من الإجماع عند الشيخ ـ المبني على قاعدة اللّطف ـ غيره عند السّيد وموافقيه ـ المبني على الدّخول ـ وعند المتأخّرين ـ المبني على الحدس ـ وإن لم يرجع إلى المجاز في الكلمة من حيث الادّعاء والتنزيل ، بل إطلاق الإجماع على اتّفاق علماء الخاصّة ، مع أنّهم بعض علماء الأمّة مبنيّ على الادّعاء والتّنزيل والمسامحة

__________________

(١) مناهج الاصول : ١٩١ عند قوله : الفصل الثالث : في الإجماع.

(٢) مناهج الاصول : ١٩١.


وعلى تقدير المجازيّة أيضا لا يلزم تغاير الاصطلاح هذا بعض الكلام في معنى الإجماع.

وجه حجّيّة الإجماع

وأمّا وجه حجّيّته فلا إشكال في اختلاف طريقة الفريقين فيه كما ينادي بذلك كلماتهم.

والمعروف بين العامّة في وجهه أحد الأمرين : أحدهما : كونه كاشفا قطعيّا عن الواقع. ثانيهما : كونه دليلا تعبّديّا. وعلى كلّ تقدير يكون في قبال الأدلّة الثّلاثة. ولا غرض لنا في المقام في شرح القول في هذه الطّريقة. مع أنّه على تقدير فائدة في نقلهم للإجماع من الأمّة وغيره يكون مراد النّاقل منه ظاهرا.


وجوه حجّيّة الإجماع لدى الإماميّة

والمعروف بين الخاصّة في وجهه أحد وجوه (١) :

__________________

(١) قال المجدّد الطهراني أعلى الله تعالى درجاته :

« وحيث شاع هذا التعبير [ أي : الإجماع ] وتشاكل الحق والباطل فتشابه الأمر زعموا أنه حجّة من باب التضمّن ، وحيث أنه لا سبيل إلى الإطّلاع على قول إمام من الأئمة عليهم‌السلام على وجه الجملة في زمان من الأزمنة التجأوا إلى وضع اللطف مع الإعتراف بفساده في نفسه وانه لو لا الإجماع على التمسك بالإجماع لم يكن وجه للإسناد إليه.

فظهر أن اللطف إنّما هو لتصحيح التضمّن ، مع أن بينهما بونا بعيدا ، ولهذا زعم من لا خبرة له : أن للإجماع مدارك مختلفة وأن التضمّن غير اللطف.

وحيث رأى الأواخر أن اللطف لا ينتج هذا المعنى كما أفاده علم الهدي قدس‌سره فنسجوا لإعتباره مدركا آخر وهو الحدس.

فقالوا : إن اتفاق الرعيّة على حكم يكشف كشفا ضروريّا عن رأي رئيسهم.

وهذا لو تمّ كان قسما من البديهيّات ، لا أن الاجماع أحد الأدلّة.

مع انه غلط صرف ؛ حيث ان هذا الكشف إنّما يتم إذا كان الإتّفاق غير مستند إلى الإجتهاد والرأي وإلاّ فلا ملازمة بين توافق آراء الرعيّة وبين رأي الرئيس.

نعم ، إذا كان إتفاقهم مستندا إلى مقالة رئيسهم بحيث يتلقّاه الخلف من السلف فهو نحو من الضرورة ، وغاية الأمر أن دائرته أضيق من ضرورة الدين ولكنه مجرّد فرض لا وقوع له إلاّ في أقلّ قليل.

ومثله من الواضحات التي لا تخفى على أهل العلم كما أن ضروري الدين لا يخفى على أهله ، وأين هذا من الإجماعات التي يستندون إليها في تلك الموارد التي لا تحصى؟


أحدها : كونه متضمّنا للسّنة بحيث يكون دلالته عليها بالتضمّن.

وهو الّذي اختاره السيد وجماعة ممّن سلكوا طريقته ، بل هو الظاهر من أكثر المتقدّمين إلى زمان صاحب « المعالم » (١). ومن هنا قال العلاّمة قدس‌سره في وجه

__________________

مع أن ما يحدث من الإجماع في زمان الغيبة الكبرى لا يحتمل أن يكون مستندا إلى مقالة الإمام عليه‌السلام ؛ فإنها لو كانت لم يختص المجمعون بالإطّلاع عليها ؛ فان الروايات مضبوطة معلومة في الكتب « الاصول ن خ » المعروفة ولا يختص أحد بالاطّلاع على ما فيها. فليس إلاّ اجتهادات متوافقة ، إتفق توافقها لو لم يكن مستندا إلى تقليد بمعنى قلّة البضاعة وعدم استطاعة المخالفة لعظم القائل في نظره كما هو الحال في من نشأ بعد الشيخ قدس‌سره.

والحاصل : ان توافق الآراء والإجتهادات لا يكشف عن رأى الإمام عليه‌السلام وإنما الكاشف عنه ما كان عن حس محض غير مستند إلى النظر أصلا كما هو الحال في جميع ضروريات الدين ، مع أن مجرد احتمال كون الإجماع من هذا القبيل يكفي في فساده ، ولا حاجة إلى إثبات أنه كذلك ، مع ان كون ما تداول من الإجماع في المسائل النظريّة من هذا القبيل مما لا يخفى على المتتبّع ، وكيف يخفى هذا المعنى مع ان الضروري لا يخفى إلاّ على الجاهل ، ولو اتفق خفاؤه على شخص لشبهة فيكفي في دفعها مجرد التنبيه ولا يحتاج إلى الإستدلال ، بل نقول : إن الذي يظهر بالتتبّع وصرّح به أهل الخبرة : أن منشأ الإجماع والشهرة غالبا إنّما هو قول من يعتمدون على نظره وإتقانه كما هو الحال فيمن نشأ بعد الشيخ قدس‌سره من تلامذته ومن يحذو حذوهم .. ». إنتهى.

محجة العلماء : ج ١ / ٢٧٣ ـ ٢٧٤.

(١) السيد في الذريعة : ج ٢ / ٦٠٥ ، والمفيد في أوائل المقالات : ١٢١ ، والسيد ابن زهرة في الغنية والمحقق في المعتبر : ج ١ / ٣١ ، والمعارج : ١٣٢ ، والعلامة في النهاية : ٢٤١ ، والتهذيب : ٦٥ و ٧٠ ، والشهيد في الذكرى : ج ١ / ٤٩ ، وفي القواعد والفوائد : ج ١ / ٢١٧ ،


حجيّته : ( إنّ الأمّة إذا قالت بقول ، فقد قال المعصوم عليه‌السلام به ؛ لأنّه من الأمّة بل سيّدها ورئيسها ، والخطأ مأمون عليه » (١).

وقد ذكروا : أنّه لا يضرّ على هذه الطّريقة مخالفة معلوم النّسب ممّن يعلم كونه غير الإمام عليه‌السلام وخروجه عن المجمعين ، بخلاف مجهول النّسب بحيث احتمل كونه إماما.

والمراد من عدم قدح خروج معلوم النّسب وإن كان أكثر من واحد : عدم قدحه في حجيّة أقوال غيره من حيث اشتمالها على مناط حجيّة الإجماع ، لا في التّسمية ؛ فإنّه قادح فيه لا محالة إلاّ على وجه أشرنا إليه سابقا من الادّعاء والتّنزيل بناء على عدم كونه مجازا في الكلمة وإن كان خلاف الظّاهر.

ثانيها : قاعدة اللّطف.

وقد اختار هذه الطريقة والوجه ، الشّيخ (٢) وجماعة ، منهم : المحقّق الدّاماد (٣) ؛ بل ربّما يستظهر من كلام السيّد المحكي في « العدّة » (٤) في ردّ هذه الطّريقة كونها معروفة قبل الشّيخ أيضا ، بل ربّما استظهر من كلّ من قال بقدح مطلق

__________________

والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٢٥١ ، وصاحب المعالم في معالمه : ١٧٣ ، والفاضل التوني في الوافية : ١٥١.

(١) نهاية الوصول إلى علم الأصول : ج ٣ / ١٣٣ تحقيق الشيخ البهادري رحمه‌الله ، وكذا مباديء الأصول : ١٩٠.

(٢) عدة الاصول : ج ٢ / ٦٣١ و ٦٣٧.

(٣) انظر كشف القناع : ١٤٥.

(٤) عدة الاصول : ج ٢ / ٦٣١.


المخالف في تحقّق الإجماع كالفخر (١) وغيره (٢) ولو كان معلوم النّسب. وقد أكثر في « العدّة » من القول بما هو صريح في اختياره هذه الطّريقة وأنّه لا يجوز انفراده عليه‌السلام بالقول في المسألة مع عدم دليل عليه من كتاب أو سنّة مقطوع بها ، وإلاّ وجب عليه الظّهور والدّلالة على ذلك ولو بإعلام بعض ثقاته بشرط أن يكون معه معجزة تدلّ على صدقه. ويكفي لك في ذلك ملاحظة ما حكاه شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره في « الكتاب » عنها.

نعم ، هنا كلام في انحصار طريقته في الوجه المذكور أو مشاركته مع السيّد قدس‌سره في الوجه المتقدّم واختصاصه وانفراده بهذا الوجه.

فالذي جزم به شيخنا قدس‌سره ـ نظرا إلى صراحة كلامه في مواضع ـ : الأوّل ، وقد تكرّر في كلامه الحكم بعدم قادح فيما اختاره السيّد من عدم وجوب الرّدع على الإمام على تقدير اتّفاق لأمّته على الباطل ، لو لا التّسالم على الاستدلال بالإجماع في الأحكام.

وصريح المحقّق القميّ قدس‌سره ـ في « القوانين » ـ : الثاني ؛ حيث قال ما هذا لفظه : « وثانيها : ما اختار الشّيخ رحمه‌الله في « عدّته » بعد ما وافق القوم في الطّريقة السّابقة » (٣) انتهى كلامه رفع مقامه.

والّذي يخطر ببالي أنّه لم يلاحظ ما حكاه الأستاذ العلاّمة عن « العدّة » ممّا

__________________

(١) انظر إيضاح الفوائد : ج ١ / ٥٠٢.

(٢) كالشهيد والمحقق الثاني ، انظر الذكرى : ج ١ / ٤٤ ، وحاشية الشرائع للمحقق الكركي ( مخطوط ) : ٩٩.

(٣) قوانين الاصول : ج ١ / ٣٥٠.


هو صريح في انحصار طريقه وليس فيها ما يدلّ على مشاركته للسيّد في الطريقة السابقة.

نعم ، فيها ما يتوهّم منه في باديء النّظر ذلك ـ ممّا سيجيء نقله في « الكتاب » مفصّلا في مسألة حجيّة خبر الواحد في مقام الاستدلال عليها بالإجماع ـ حيث قال ـ بعد إثبات الإجماع على العمل بالأخبار ـ :

« فلو لا أنّ العمل بهذه الأخبار كان جائزا لما أجمعوا على ذلك ؛ لأنّ إجماعهم ، فيه معصوم عليه‌السلام لا يجوز عليه الغلط والسّهو » (١) انتهى كلامه.

وأنت خبير : بأنّه لا يمكن رفع اليد عن صراحة كلماته بمجرّد ظهور الظّرف في بادي النّظر في الدخول والاشتمال كما لا يخفى.

ثمّ إنّ لازم هذه الطّريقة عدم قدح مخالفة المخالف مطلقا سواء كان معلوم النّسب أو مجهوله ، مع العلم بعدم إمامته إذا لم يكن معه برهان يدلّ على حجيّة فتواه. كما أنّ لازمها عدم كشف الإجماع واتّفاق الكلّ ، إذا كان هناك آية أو سنّة قطعيّة على خلاف المجمعين وإن لم يفهموا دلالتهما على الخلاف.

الوجه الثالث من وجوه حجيّة الإجماع

ثالثها : الحدس القطعي بكون ما اتّفقوا عليه وصل إليهم من رئيسهم وإمامهم يدا بيد ؛ فإنّ اتفاقهم في بعض المسائل مع كثرة اختلافهم في أكثر المسائل وتشتّت آراؤهم فيها ـ كما هو المشاهد بالعيان ـ يكشف عن أنّ الداعي لهم فيما اتّفقوا عليه

__________________

(١) العدة : ج ١ / ١٢٧.


هو رأي صاحب عصرهم ووليّ أمرهم ، كما يكون الأمر كذلك في اتّفاق تابعي سائر أولي الآراء والمذاهب.

وهذا وإن كان واضح الوقوع في زمان الحضور من حيث إنّ حصول العلم من اتّفاق خواصّ أصحاب الأئمة عليهم‌السلام ـ ممّن لا يصدر إلاّ عن رأيهم ـ على أمر ديني بقول الإمام عليه‌السلام ، كالضّروري بحيث لا يجوز إنكاره إلاّ أنّ حصوله في زمان الغيبة أيضا ممّا لا ينبغي إنكاره.

وإن كنت في ريب من ذلك فلاحظ ما وصل إلى حدّ الضّرورة من الدّين أو المذهب من صاحب الشّرع وحصل العلم الضروري برأيه لجمع الرّعيّة مع كونه في بلاد الإسلام ، فإنّك لا ترتاب في إمكان حصول العلم النّظري من تسامع العلماء وتظافرهم واتّفاقهم على الفتوى.

بل التّحقيق ما ذكره بعض المحقّقين من المتأخّرين : من مسبوقيّة جميع الضّروريّات بالإجماعيات عند العلماء.

وكيف كان : حصول العلم بقول الإمام من الاتّفاق بحكم الحدس القطعي في الجملة ممّا لا ينبغي التّأمّل فيه وإن أطنب في تقريبه في « القوانين » وغيره بما لا يحتاج إليه ، بل ربّما يخلّ بالمقصود. ومن هنا ذهب إلى هذه الطريقة أكثر المحقّقين من المتأخّرين ولا يشترط فيها حصول الاتّفاق من أهل عصر واحد ، بل ربّما لا يفيد أصلا مع مخالفة من تقدمهم ، كما أنّه يقدح فيه مخالفة معلوم النّسب إذا كان ممّن يعتد بقوله فضلا عن مجهول النّسب.

وهذه الطّرق الثّلاثة هي المعروفة بينهم.


الوجه الرابع من وجوه حجّيّة الإجماع

وهنا طريق رابع سلكه بعض المتأخّرين من كشف الإجماع عن رأي الإمام عليه‌السلام من باب التّقرير.

والفرق بينه وبين الطّريقة الثّالثة واضح ؛ حيث إنّه يشترط في كشفه على هذه الطّريقة اجتماع جميع شروط التّقرير بخلافه على الطّريقة الثّالثة هذا.

ثمّ إنّه ذكر بعض الأعلام ممّن تأخّر وتبعه بعض الأفاضل :

أنّه قد يكون الإجماع دليلا قطعيّا فيما إذا كشف بحكم أحد الأمور المتقدّمة عن رأي الإمام عليه‌السلام.

وقد يكون دليلا ظنيّا فيما كان المنكشف ظنيّا وإن كان الكاشف وكشفه قطعيّا ؛ فإنّه كثيرا ما يستكشف من الإجماع عن وجود دليل ظنّي معتبر عند جميع المتّفقين في المسألة المختلفين في غالب مدارك الأحكام ، فيحصل العلم بأنّ السّبب في اتّفاقهم في المسألة الخاصّة وجود ما هو معتبر عند جميعهم حتّى إذا وقفنا عليه وجدناه تامّا من جميع الجهات والحيثيّات هذا.

نقل كلام المحقّق التستري في الإجماع المنقول

ولبعض أفاضل مقاربي عصرنا كلام في طرق الإجماع ، أنهاها إلى اثنتي عشرة فيما صنّفه في المواسعة والمضايقة لا بدّ من إيراده قال قدس‌سره ـ بعد جملة كلام له متعلّق بالمقام ـ ما هذا لفظه :

« وينحصر ذلك في وجوه :


الأوّل : أن يستكشف عادة رأي الإمام عليه‌السلام لكونه المتبوع المطاع من اتّفاق الأصحاب والأتباع ويعلم ذلك بالاطّلاع على ما عليه الإماميّة أو علماؤهم قولا وفعلا والتّصفّح لأصولهم ومصنّفاتهم قديما وحديثا حتّى يعرف ما هم عليه من قديم زمان الدّهر بلا ريبة واشتباه ، ويعلم أنّه مذهبهم بحيث لا يعرف لهم سواه فيقطع عند ذلك أنّهم أخذوه يدا عن يد عن رئيسهم وقدوتهم في أحكامهم ولم يخترعوه من تلقاء أنفسهم بمقتضى أهوائهم وأفهامهم.

ومتى علم ذلك وبدا ما هنا لك وانكشف قول أحد الأئمّة عليهم‌السلام ممّن كان له أقوال معروفة ، تبعه علم أقوال سائر الأئمّة عليهم‌السلام أيضا حتّى الإمام الغائب المستور عجّل الله فرجه وسهّل مخرجه وكذا قول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا لاتّحاد مقالة الجميع ، إلاّ أنّ معرفة قول بعضهم ابتداء : من جهة المتابعة المحكوم بها بمقتضى العادة. ومعرفة قول الباقين : من جهة الأصول القطعيّة العقليّة والشّرعيّة الثّابتة بعد البناء على حكم العادة ، ولا فرق فيما ذكر بين أن يتفرّد الإماميّة أو علماؤهم بالحكم أو يشاركهم فيه سائر الأمّة أو بعضهم.

وربّما يستغنى ـ على هذا الوجه في برهة من الأعصار وجملة من الأحكام ـ عن الوقوف على أقوال الجميع بالاطّلاع على ما يحصل منه الاستكشاف المذكور وإن وقع الخلاف في الحكم من بعضهم ممّن ليس بإمامهم أو لم يحصل الاستقصاء لآراء جميعهم.

الثّاني : أن يستكشف عقلا قول الإمام الغائب ( صلوات الله عليه وعلى آبائه ) من وجود مجهول النّسب في المجمعين واحدا كان أو أكثر متّحدي الرّأي ونفي الإمامة عمّن عداه ؛ فإنّه يلزم حينئذ اختصاصها به ، فيكون قوله حجّة لا محالة.


وهذا الوجه إنّما يتصور حيث استقصي أقوال جميع العلماء أو علماء العصر بقول مطلق ووجد فيها قول متميّز معلوم لغير معلوم ، أو أقوال كذلك ، أو علم دخول قول الإمام عليه‌السلام في جملة أقوال الأمّة غير متميّز منها ، واستقصي أقوال الذين لم يعرف نسبهم للعلم بعدم خروجه منهم ، أو علم قوله إجمالا في جملة أقوال غير المعروفين بالحدس المقتضي للعلم الإجمالي باتّفاق الجميع من جهة النّظر في الأدلّة ونحوها ، أو قياس الغائب على الشّاهد والمجهول على المعلوم ، أو التّضافر والتّسامع الوارد من كلّ ناحية بالنّسبة إلى جميع علماء الأمّة أو الإماميّة ؛ بحيث يتناول الخلف الحجّة ، أو عدم نقل الخلاف الدّال على اتّفاق الكلّ ، أو ما استفيد من جملة من ذلك ، أو الجميع ، إلا أنّه لا وجه لاعتبار جهالة الاسم والنّسب في جملة من هذه الصّور مع ما فيه من إساءة الأدب ، إلاّ على ضرب من التّأويل لا يخفى على من تأمّل.

ويلحق بهذا الوجه أن يحصل استكشاف قول أحد الأئمة عليهم‌السلام من وجدان مجهول الصّفة أو الإمامة في المجمعين الّذين أحدهم الإمام يقينا وإن علم نسب الجميع. وهذا قد يتّفق قبل تعيين الإمام عليه‌السلام مع العلم بوجوده في العصر أو البلد أو المجلس أو الجماعة المعيّنة أو يحصل الاستكشاف من تواتر النّقل عن أهل بلد أو عصر هو فيهم وإن لم يعلم قوله بعينه مع العلم بشخصه.

الثّالث : أن يستكشف عقلا رأي الإمام من اتّفاق من عداه من علماء الطّائفة المحقّة الموجودة في عصره خاصّة ، أو مع غيرهم من العلماء على حكم ، واستقراء مذهبهم عليه مع عدم ردعه لهم ابتداء ولا ردّهم عنه بعد وقوعه بأحد الوجوه الظّاهرة أو الخفيّة أو الممكنة في حقّه ؛ فإنّ ذلك يكشف بقاعدة اللطف الموجبة


لنصبه وعصمته عن صحّة ذلك الحكم واقعا وحقيقة ، كيلا يلزم سقوط التّكليف في ذلك بما أتى به النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستقرّ في شريعته ، أو بغيره أيضا لزوال منشأه ، أو حكمه ، أو ثبوته بما لا طريق للعلماء وغيرهم إلى معرفته مع عدم تقصير كثير في النّظر وسائر ما يتعلّق به وعجزهم عن رفع أسباب خفائه وحكم الأئمّة عليهم‌السلام وعلماء الإماميّة بعدالتهم وإجراء أحكامها عليهم ، أو يلزم إخلال الإمام المعصوم عليه‌السلام بأعظم ما وجب عليه ونصب لأجله مع تمكّنه من فعله وإمكان تمكين الله له من قبله تعطيل دين الإماميّة من أصله ، ولا يتوقّف حجيّة هذا الوجه بناء على ما قرّر على حجيّة الإجماع حتّى يلزم الدّور كما توهّم.

الرابع : أن يستكشف ما ذكر لا من جهة قاعدة اللّطف وملاحظة منصب الإمامة ولوازمه ، بل من جهة أنّه يجب الأمر بالمعروف وتعليمه وإنكار المنكر وتبيينه والرّدع عنه على كلّ متمكّن من ذلك عالم بما هو الواقع والحكمة. فكيف يخلّ المعصوم عليه‌السلام به ، مع علمه بأعمال الأمّة ولا سيّما الإماميّة ووقوفه على أحوالهم وأقوالهم المتعلّقة بالشّريعة؟ فسكوته عمّا اتفّق الإماميّة أو علماؤهم عليه تقرير لهم عليه وهو حجّة مطلقا ، كقوله في حضوره وغيبته وإنّما لم يجعل ـ هنا وفيما سبق ـ من السّنة لكونه منوطا بالاتّفاق ومستخرجا بالنّظر والاستنباط لا معلوما بالمشاهدة والعيان كما في التقرير المعروف وإن تساويا في الحجيّة.

الخامس : هو أحد الوجهين الأخيرين ، إلاّ أنّه يعتبر الكشف عن الحكم الواصلي الّذي هو أعمّ من الواقعي الأوّلي والظّاهري الّذي هو واقعي ثانويّ ، ويقرّر الدّليل بما يناسبه.

السادس : أن يستكشف عادة وجود الحجّة العلميّة ـ القاطعة للعذر الموافقة


قطعا لرأي الإمام عليه‌السلام ـ من اتّفاق علمائنا الأعلام المرتقين في العلم والعمل إلى أعلى مقام على حكم من الأحكام. فإنّ تتبّع كتبهم وأسفارهم والنّظر في أحوالهم وأطوارهم وملاحظة دقائق أنظارهم وتباين أفكارهم وشدّة محافظتهم على مخالطة أئمّتهم وهداتهم وكثرة اختلاف مسالكهم ومداركهم لمعرفة أحكامهم يكشف بالحدس الصّائب والذهن الثاقب عن أنّهم لم يتفقوا إلاّ عن حجّة قطعيّة بيّنة حاسمة للشّبه قاطعة للإعلام ، وهي حجّة مطلقا وإن علمت على سبيل الإجمال.

وربّما يستكشف بهذا الطّريق كون المدرك خبرا قطعيّا واصلا إليهم من الأئمّة عليهم‌السلام لا مطلق الحجّة العلميّة. ولعلّ ذلك يصحّح قولهم بأنّ حجيّة الإجماع لكشفه عن قول المعصوم عليه‌السلام أو للبناء على ما هو الغالب أو لغير ذلك.

والعبرة في هذا الوجه بحصول اتّفاق يكشف عادة عمّا ذكروا توارد الظّنون الموجب لذلك كما في المتواتر ويختلف هذا كثيرا باختلاف المسائل المجمع عليها والنّظر إلى الشّواهد والمنافيات كما هو ظاهر مستبين.

السّابع : أن يستكشف ممّا ذكر عن وجود الدليل المعتبر الّذي لو وقفنا عليه كما وقفوا ، لحكمنا بما حكموا به ولم نتخطه وهو حجّة أيضا كالتفصيلي ، وإن لم يكن موجبا للقطع بالحكم الأوّلي الواقعي. فيكون الإجماع بهذا الاعتبار من الأدلّة المعتبرة الغير المفيدة للعلم إلاّ في بعض المواضع كما هو واضح.

الثّامن : أن يستكشف عادة عن وجود نصّ قاطع أو قطعيّة موجود غير سليم من القدح في الظّاهر من اتّفاق جماعة من فضلاء أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام وأضرابهم ممّن لا يعتمد إلاّ على النّص القطعي كزرارة وابن مسلم وأشباههما والصّدوقين


وأمثالهما ـ على الحكم بشيء لم يظهر فيه نصّ عندنا ، أو الإفتاء برواية لم تثبت صحّتها ، أو ثبت ضعف سندها الموجود عندنا ، أو ترجيح رواية على أخرى لم يتبيّن وجه رجحانها عليها ؛ فإنّ اتفاق هؤلاء إذا سلم من خلاف يعادله يكشف في الأوّل : عن وجود نصّ معتمد معلوم لديهم في ذلك وإن لم نقف عليه ، كما تقدّم في أحوال والد الصّدوق الإشارة إليه.

وفي الثّاني : عن اطّلاعهم على ما يوجب عن صحّة الخبر وخلوّه عن شوائب القدح.

وفي الثّالث : عن وجود ذلك فيما رجحوه وعملوا به فقط ومتى استكشف ما ذكر في أحد الأعصار أو الأعوام علم أيضا : أنّه رأي الإمام الغائب أو أحد آبائه البررة الكرام عليهم‌السلام.

التّاسع : ـ وهو يخالف ما سبق في الكاشف ـ : وهو أن يستكشف قول الإمام عليه‌السلام أو رأيه أو غيرهما ممّا مرّ من تتبّع السّير المستمرّة للأمّة أو الإماميّة في الأعصار والأمصار المتناولة يدا عن يد بلا تحاش وإنكار ؛ فإنّها تكشف عن اتّفاق العلماء الكاشف عمّا تقدّم أو عن سنّة متّبعة ثابتة بأحد وجوهها المعتبرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أحد الأئمة عليهم‌السلام حيث لم يثبت عنهم أو عن العلماء خلاف ذلك.

وهذه يندرج في طرق الإجماع باعتبار الوجه الأوّل الّذي لا يفارق الثّاني غالبا وكثيرا ما لا يصلح إلاّ للتّأييد ؛ لعدم كشفها على سبيل القطع عمّا ذكرنا. ولذلك لم يعدّدها حجّة مستقلّة بنفسها مع كثرة استنادهم إليها.

العاشر : وهو ـ أيضا كالسّابق ـ أن يستكشف قول الإمام عليه‌السلام أو رأيه من تتبّع جملة من الأخبار المرويّة في الكتب المعتمدة ؛ فإنّها إذا وجدت متوافقة في حكم ،


وخلت عن المعارض المصادم ولم يقف على رادّ لها يعتد به ، علم من ذلك قبول العلماء أو معظمهم لها واتفاقهم على العمل بمضمونها ، وربّما يعلم ذلك مع اتّحاد الخبر أيضا. وقد مرّت الإشارة إلى ذلك في حديث نوم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الصّلاة (١) ، ثمّ يحصل من المجموع القطع بقول المعصوم عليه‌السلام أو الظّن المعتدّ به أيضا.

الحادي عشر : وهو ـ أيضا كسابقه ـ أن يستكشف قول الإمام عليه‌السلام أو رأيه أو غيرهما ممّا مضى من تتبّع قواعد العلماء في الفقه أو الأصول وإن لم ينصّوا كلاّ أو بعضا على الحكم بالخصوص ، وينزّل إجماعهم على القاعدة العامّة منزلة إجماعهم على أفرادها الخاصّة ، وما وقفنا عليه وجودا وعدما منزلة ما وقفوا عليه جميعا ، أو يجعل فائدة إجماعهم مختصّة في ذلك الحكم بنا بحسب مقتضى حالنا ومبلغ علمنا ، وقد قرّروا نظير ذلك في القياسين اللّذين عليهما مبنى الاجتهاد والتّقليد. وهذا الوجه على أيّ حال إن صحّ فإنّما يجدي في مقام الاستدلال ، لا نقل الأقوال.

ويلحق بهذه الوجوه وجه آخر يتمّ به العدد وهو :

الثّاني عشر ويختصّ كالثّاني غالبا بالإمام الثّاني عشر « صلوات الله عليه وعلى آبائه الطّاهرين » وهو :

أن يحصل لبعض الأولياء (٢) العلم بقوله عليه‌السلام بعينه بأحد الوجوه الغير المنافية

__________________

(١) كما في التهذيب : ج ٢ / ٢٦٥ باب المواقيت ـ ح ١٠٥٨ ـ ٩٥ ، والإستبصار : ج ١ / ٢٨٦ باب « وقت من فاتته صلاة الفريضة ... » ـ ح ١٠٤٩ ـ ٤.

(٢) طبعا إذا كان هذا الولي من العلماء الفقهاء وإلاّ أيّ ربط للولي ـ الجاهل بمعالم الدين ـ بمقام الإستدلال حتى يبرز ذلك بصورة الإجماع.


لامتناع رؤيته في غيبته (١) ولم يكن مأمورا بإخفائه وكتمانه أو كان مأمورا بإعلامه بحيث لا ينكشف حقيقة أمره فيبرزه في مقام الاستدلال بصورة الإجماع خوفا من التّكذيب والإذاعة والضّياع.

وربّما يكون العلم بقول الإمام كما ذكر هو الأصل في كثير (٢) من الزّيارات والأعمال المعروفة الّتي لا يوجد لها مستند ظاهرا ويحتمل أن يكون منشأها ذلك ؛ فيكون كإحدى الكيفيّات المعروفة للإستخارة بالسّبحة (٣) والدّعاء العلويّ المصريّ (٤) والدّعاء الّذي سمعه ابن طاوس في السّرداب الشّريف (٥) وما نقله

__________________

(١) وهل هذا إلاّ كلام متناقض؟! فإن الرؤية إذا كانت ممتنعة ـ كما هو ظاهر كلامه ـ فأي طريق يبقى للوصول إليه؟ إلاّ الأحلام التي هي ليست بحجة عند أهل العلم خصوصا في مثل هذا المقام ولا عبرة بها إلاّ عند العوام التي هي عندهم أفلام أقرب من أن تكون رؤى وأحلاما ، ولا نريد أن ننكر كون بعضها صادقة لكن أين هذا مما ذكره؟ فتبقى المكاشفة التي يدّعيها بعض الناس على أنها أيضا لا تخلو من كلام.

(٢) هذا كلّه مبني على إمكان اللقاء معه عجّل الله فرجه الشريف في أيّام الغيبة الكبرى كما عليه المشهور عمّن تأخّر من متأخّر المتأخرين ، خلافا لجماعة من الفحول ، على أنه لا يمكن المصير إليه حتى على هذا المبنى لوجوه ليس هاهنا محل ذكرها. والحقيقة إن القول بذلك ناشيء عن عدم الإحاطة بتراث أهل البيت عليهم‌السلام في مثل هذه المقامات بل عدم الخبرة بل عدم الممارسة فيها.

(٣) وهي الّتي ذكرها صاحب الجواهر أعلى الله تعالى مقامه في : ج ١٢ / ١٦٤ ، ط دار الكتب الإسلاميّة وج ٤ / ٥٨٢ ط دار المؤرّخ العربي.

(٤) مهج الدعوات : ٢٨١ ط بوستان كتاب و ٣٣٦ ط الاعلمي بيروت ـ وليس فيه دعوى مشاهدة الإمام عليه‌السلام ورؤيته أصلا بل الموجود فيه : انه رأى الامام بين اليقظة والمنام كرارا وهذا لا يعني اللقاء بل غايته رؤيا صادقة وعناية خاصة بذاك السيّد العلوي.

(٥) المصدر السابق : ٣٥٣ ط الأعلمي ـ بيروت.


راوي قصّة الجزيرة الخضراء المعروفة (١) وغيرها.

ويلزم في دعوى الإجماع على هذا الوجه وقوع اتّفاق مصحّح لما يختار من الكلام لترويج المرام ؛ فيندرج في الإجماع المنقول بالنّسبة إلى غير مدّعيه ظاهرا ، وفي السّنة واقعا كما لا يخفى.

وربّما يجعل قولا مجهول القائل كيلا يضيع الحقّ ويرتفع من أهله ، ويتوهم انعقاد الإجماع على خلافه فيستمرّ عليه من دون تصريح بدليله حيث لم يكن في سائر الأدلّة الموجودة ما ينهض بإثباته ـ بناء على إمكان ذلك ـ كما هو المختار.

ولعلّ ما نقل عن بعض المشايخ من كثرة الميل إلى الأقوال المجهولة القائل وتقويتها بحسب الإمكان ؛ لاحتمال كونها أقوال الإمام عليه‌السلام وقد ألقاها بين العلماء لئلاّ يجمعوا على الخطأ مبنيّ على ما ذكر ؛ إذ لا يتصوّر للإلقاء طريق غير ذلك.

وقد ذكر شيخنا البهائي في « الحبل المتين » في كيفيّة الغسل الارتماسي (٢)

__________________

(١) بحار الانوار : ج ٥٢ / ١٥٩ وهي قصّة لا ربط لها بالإمام عليه‌السلام أرواحنا له الفداء وهي خيال في خيال.

(٢) قال الشيخ البهائي في الحبل المتين :

« ولقد اشتدّت عناية متأخري الأصحاب بتفسير القول بالترتيب الحكمي في الغسل الإرتماسي وأطنبوا الكلام فيه ولعل السبب في ذلك أن جهالة نسب القائل واسمه مع العلم بكونه من علماء الطائفة توجب على مقتضى قواعدنا مزيد الإعتناء بقوله ، زيادة على ما اذا كان معروفا ». انتهى الحبل المتين : ٤٠ ، وانظر : كشف القناع : ١٦٨.


ونقل عن صاحب « نور الثّقلين » (١) سماعا ما يقتضي الموافقة لبعض المشايخ فيما ذكر ، وإن كان ظاهرا من الأقوال المجهولة القائل (٢). انتهى ما أردنا نقله من كلامه قدس‌سره.

وحكي ما أفاده قدس‌سره في الوجه الأخير عن بعض الأعلام من السّادة الأجلّة : من أنّه يتّفق في زمان الغيبة الوصل إلى خدمة الإمام واستعلام بعض الأحكام والآداب عنه وإعلانه بعبارة الإجماع ، خوفا من التّكذيب وعدم القبول ، والغالب فيه الآداب والأدعية والزيارات ونحوها (٣) (٤).

__________________

(١) قال السيد المحدّث الجزائري في كتاب الطهارة من شرح التهذيب ما لفظه :

« ولقد سمعت من شيخنا صاحب التفسير الموسوم بنور الثقلين إن من جملة الفوائد التي تصل إلينا من مولانا صاحب الزمان « عليه الصلاة والسلام » في هذه الأعصار هو أن علماء الشيعة إذا أرادوا الإجماع على حكم من الاحكام فكانوا على خطأ أظهر لهم قولا حتى تصير المسألة بينهم في معرض الخلاف فيحصل الجرأة لمن يأتي من العلماء على الإقدام على الخلاف. وهذه الأقوال التي لا يعرف لها قائل من الأصحاب لعلّه عليه‌السلام هو القائل بها ».

انتهى. وانظر كشف القناع : ١٦٨.

(٢) المواسعة والمضايقة للشيخ أسد الله التستري صهر الشيخ الأكبر كاشف الغطاء والرسالة مخطوطة واسمها : منهج التحقيق في حكمي التوسعة والتضييق وانظر كشف القناع عن وجوه حجيّة الإجماع : ١٦٨ وكذلك ٢١٦ ـ ٢٣٠ ، وكذلك عوائد الأيام للفاضل النراقي : ٦٨٩.

(٣) لم ينسب هذا المعنى الى أحد من الناس وكأنه يتكلم عن نفسه ، نعم ذكر أمرا آخر غير هذا نسبه الى استاذه الشريف ( السيد مهدي بحر العلوم رحمه‌الله ) وهذا نصّه حرفيّا قال : « ربّما يحصل لبعض حفظة الأسرار من العلماء الأبرار ، العلم بقول الإمام بعينه على وجه لا ينافي امتناع الرؤية في مدة الغيبة فلا يسعه التصريح بنسبة القول اليه فيبرزه في صورة الإجماع جمعا


ثمّ إنّ إنكار كشف الإجماع عن رأي الإمام الغائب ( عجّل الله فرجه ) رأسا وبجميع الوجوه والطّرق كما عن غير واحد من أصحابنا الأخباريين وإن كان خلاف الإنصاف (١) إلاّ أنّ أكثرها غير نقيّة عن الإيراد والإشكال في زمان الغيبة فإنّ الإجماع الدّخولي لا ريب في اعتباره بل لا يعقل الكلام فيه بعد الفراغ عن حجيّة السّنة بل إمكان تحقّقه في الجملة ، ووضوح اندفاع ما أوردوا عليه من الإيرادات ، إلاّ أنّ تحقّقه في زماننا هذا وأشباهه محلّ منع.

ومن هنا قال في « المعالم » : « إنّ الاطلاع على الإجماع في زماننا هذا وأشباهه من غير جهة النّقل غير ممكن » (٢).

بل أقول الاطلاع على الإجماع الدّخولي من جهة النّقل بالتّواتر أو القرائن المفيدة للعلم أيضا لا يخلو عن منع ؛ لأنّ الكلام إنّما هو في ناقل الإجماع ؛ لأن النّقلة لم تعاصر الأئمّة ، ومن عاصرهم لم يدّع الإجماع في المسائل وإن كانوا من أهل الفتوى ، واللّطفي الّذي اختاره الشّيخ قدس‌سره وجماعة وإن لم يفرّق فيه بين زماني

__________________

بين الأمر بإظهار الحق والنّهي عن إذاعة مثله بقول مطلق.

قال : وهذا على تقديره طريق آخر بعيد الوقوع ، مختصّ بالأوحديّ من الناس وذلك في بعض المسائل الدينيّة بحسب العناية الرّبانيّة. إنتهى كشف القناع : ٢٣١.

لم نجد فيما نعلم دعوى الإجماع ولا على دعاء واحد من الأدعية والزيارات في كتب أصحابنا المتأخرين بحيث يصبح هو المستند في البين من دون أن يكون موجودا عند المتقدّمين المقاربين لعصر المعصومين عليهم‌السلام ، مضافا إلى أن هذا الكلام مناقض لما اختاره سابقا من إمتناع رؤية الإمام عليه‌السلام في زمن الغيبة الكبرى.

(٥) بل هو الإنصاف بعينه.

(٦) المعالم : ١٧٥.


الغيبة والحضور ـ كما هو ظاهر ـ إلاّ أن الحكم والمصالح المقتضية لغيبة الإمام عليه‌السلام هي الّتي تقتضي رفع إيجاب إظهار الحقّ والرّدع عن الباطل عنه. كما أنّ إظهار الحقّ والرّدع عن الباطل ليس واجبا مطلقا عليه في زمان الحضور أيضا.

ولا ينافي ذلك وجوب وجوده من جهة توقّف وجود الموجودات الخلقيّة في جميع العوالم عليه. ومن هنا قالوا : وجوده لطف وتصرّفه لطف آخر (١).

وقال ( عجّل الله فرجه وسلام الله عليه وعلى آبائه الطّاهرين ) ـ في ردّ من زعم أنّه لا فائدة في وجود الإمام الغائب عليه‌السلام بعد فرض عدم تصرّفه في مرحلة الظّاهر في العوالم الإمكانيّة ـ : ( وأمّا الانتفاع بي في غيبتي كالانتفاع بالشّمس إذا غابتها السحاب ) (٢).

فانظر إلى حضرته الجليلة كيف أوضح ارتباط العوالم الإمكانيّة بشمس فلك الولاية وافتقارها إليها والاقتباس الحدوثي والبقائي من إشراقاتها النّورية بأوضح بيان؟

وبالجملة : هذه الطّريقة محلّ مناقشة من وجوه عديدة مذكورة في مسألة الإجماع المحقّق ، والغرض في المقام التّعرض للمطلب بعنوان الإجمال والإشارة ، مقدّمة لما هو المقصود بالبحث والكلام من اتضاح حال نقل الإجماع من حيث دخوله في أيّ قسم من أقسام الخبر بعد الفراغ عن بيان أحكامها في الأمر الأول.

__________________

(١) كشف المراد : ٤٩١.

(٢) كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق : ج ٢ / ٤٨٥ باب ذكر التوقيعات الواردة عن القائم ـ ح ٤ والرواية هكذا : وأما وجه الإنتفاع بي في غيبتي فكالإنتفاع بالشمس إذا غيّبتها عن الأبصار السحاب ... الحديث.


وأمّا الوجه الرّابع الّذي اختاره بعض المتأخرين وركن إليه فلا يتم إلاّ بضمّ الوجه الثّالث إليه حتّى يحرز به مذهب خواص أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ورأيهم في المسألة ، ثمّ يثبت وجود سائر شروط التّقرير المحتاج إلى كلفة مع تطرّق المنع إليها. ومع تماميّته بنفسه لا حاجة إلى هذا التّجشم أصلا.

وأمّا الوجه الثّالث الّذي ركن إليه أكثر المحقّقين من المتأخّرين وأوضحوا القول فيه غاية الإيضاح فلا ينبغي الارتياب في تماميّته. كما هو الوجه في تحصيل العلم بآراء سائر الرّؤساء في سائر المطالب من العلم باتّفاق تابعيهم على ما عرفت الكلام فيه عند بيان هذا الوجه.

بل أقول : إمعان النّظر في كلمات أكثر العلماء ، قاض باستنادهم إلى هذه الطّريقة في مقام دعوى الإجماع في المسائل ، كما يشهد به المتأمّل المنصف حتّى من كان ظاهره الوجه الأوّل ؛ فإنّ تحصيله بالحسّ غير ممكن عادة لمدّعي الإجماع في أمثال زماننا.

وتحصيله بالحدس القطعي أيضا لا معنى له ؛ لعدم طريق إليه إلاّ إجماع العلماء الكاشف بحكم العادة عن إتفاق أصحاب الأئمة عليهم‌السلام الكاشف عن تلقّيهم عنهم عليهم‌السلام فيرجع الأمر بالأخرة إلى العادة.

وأمّا سائر الوجوه المذكورة في كلام بعض مشايخ الأعلام فتطرّق المنع والمناقشة إليها ظاهر ، سيّما في جعل الإجماع كاشفا عن الحكم الظّاهري الدّليل الظّني المعتبر عند الكلّ بحيث لو وقفنا عليه لحكمنا بتماميّته من جميع الجهات ؛ لأنّ تمسّك كلّ فريق إلى ما لا نراه تامّا من جهة أو جهات ممّا لا يحيله عقل ولا عادة. كيف! وقد وقع ذلك في اتّفاق القدماء القائلين بوجوب النّزح ونحوه.


ثمّ إنّي قد وقفت بعد تحرير المقام ـ على النّسق الّذي عرفت ـ على كلام لبعض أفاضل المتأخّرين في وجه كشف الإجماع عن قول الإمام عليه‌السلام بحكم العادة القطعيّة ، يرجع حاصله إلى :

أنّ من إفتاء كلّ واحد من العلماء يحصل الظّن ، إمّا بالحكم الواقعي المستلزم للظّن بحكم الإمام عليه‌السلام بعد العلم الإجمالي بصدور حكم الواقعة عنه عليه‌السلام ، أو بالحكم الصّادر عنه ابتداء ؛ من حيث إنّ همّتهم مصروفة في إدراك الحكم الصّادر عنه عليه‌السلام ومن جودة أنظارهم وقوة أفكارهم وشدّة ملكاتهم يحصل الظّن من إفتاء كلّ واحد لا محالة ، ومن تراكم الظّن وكثرته : يحصل القطع بقول الإمام عليه‌السلام.

وهذا الوجه وإن ذكره في تقريب إثبات الطّريقة المعروفة بين المتأخّرين إلاّ أنّه كما ترى منظور فيه ؛ من حيث إنّ خطأ الأنظار في المسائل العلميّة النّظريّة وإن توافقت وتراكمت لا تحيله عادة أصلا ؛ غاية ما هناك حصول الظن أو القويّ منه. فالحقّ في تقريب بيان طريقة المتأخّرين ما عرفت الإشارة إليه في طيّ كلماتنا السّابقة.

(١١) قوله قدس‌سره : ( نعم ، يمكن أن يقال : إنّهم قد تسامحوا ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٨٧ )

أقول : الالتزام بتسامحهم في إطلاق لفظ الإجماع ممّا لا مناص عنه. بل قد عرفت ذهاب جمع ممّن قارب عصرنا إلى كونه حقيقة في هذا المعنى المسامحيّ عند المتأخّرين وكونه مختلفي الحقيقة عند القدماء والمتأخّرين.

نعم ، هنا كلام في أنّ إطلاقه على هذا المعنى المسامحيّ هل هو مجاز في الكلمة أو لا وإنّما التّصرّف في أمر عقلي؟


(١٢) قوله قدس‌سره : ( وعلى أيّ تقدير فظاهر إطلاقهم ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٨٧ )

أقول : لا خفاء فيما أفاده من كون الظّاهر من لفظ الإجماع عند عدم القرينة وعند الإطلاق إرادة دخول قول الإمام عليه‌السلام في أقوال المجمعين على ما أثبته من كونه حقيقة في اتّفاق الكلّ المشتمل على الرّئيس حسبما عرفت ؛ فإنّ إطلاقه على غيره مسامحة ولو لم يكن مجازا في الكلمة خلاف الظّاهر ، فيكون الإخبار عن الإجماع ـ بناء عليه ـ إخبارا عن السّنة عند من قال بكون الوجه في حجيّة الإجماع اشتماله على قول المعصوم عليه‌السلام.

كما أنّ الظّاهر منه عند الإطلاق على مذهب الشّيخ قدس‌سره المتأخّرين إرادة المعنى المسامحي الغير الاصطلاحي ؛ فلا يكون الإخبار عن الإجماع إخبارا عن قول الإمام عليه‌السلام تضمّنا ـ على تقدير عدم الانضمام ـ وأمّا إذا انضمّ المنكشف إلى الكاشف وأطلق اللّفظ على المجموع ؛ فإنّه على مذهب المتأخّرين لا يخرجه عن المسامحي كما هو ظاهر. وأمّا على مذهب الشيخ قدس‌سره فإنّه وإن تسامح في الانضمام إلاّ أنّ اللّفظ مستعمل في معناه الحقيقي.

وعلى كلّ تقدير يرجع الإخبار عن الإجماع ـ على تقدير الانضمام ـ إلى الإخبار عن قول الإمام عليه‌السلام. غاية ما هناك لزوم تسامح في الانضمام على مذهب الشيخ ولزوم تسامح من حيث الانضمام في المعنى المسامحي. وهذا هو المراد من قوله قدس‌سره : « ففي إطلاق لفظ الإجماع على هذا مسامحة في مسامحة » (١) من حيث إنّ بعض الجماعة لم يكن داخلا فيهم حقيقة ، وإنّما ادّعي دخوله ؛ فإنّه إنّما

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ١٨٩.


يتصوّر على مذهب المتأخّرين ورجوع الإخبار عن قول الإمام إلى حكم العقل أو العادة على مذهب الشّيخ والمتأخّرين.

(١٣) قوله قدس‌سره : ( نعم ، لو كان نقل الإجماع المصطلح ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٩٠ )

أقول : ترتّب التّدليس على النّقل المسامحي إنّما هو إذا كان الكتاب المنقول فيه الإجماع مرجعا للعلماء ؛ بحيث يعلم عادة وقوف من يذهب إلى اختصاص الحجيّة بنقل الإجماع الاصطلاحي على النّقل المزبور واعتماده عليه مستقلاّ من دون فحص وتتبّع في سائر كتب الفتاوي ، حتّى يظهر له كون بناء النّقل المزبور على المسامحة. وأنّى لمدّعي التّدليس لإثبات ذلك؟ وأيّ عالم يعتمد على نقل الإجماع بمجرّده من دون فحص؟ سيّما مع شيوع الخلاف في مدرك الإجماع وطرق استكشاف قول الإمام عليه‌السلام عن أقوال العلماء.

ثمّ إنّ صريح كلام صاحب « المعالم » : شيوع القول بطريقة المتأخرين وذهاب جماعة ممّن عاصره وتقدّم عليه إلى هذه الطّريقة. وقوله : ( ولا دليل لهم على الحجيّة ) (١) إشارة إلى عدم كون هذه الطّريقة مرضيّة عنده في الاستكشاف عن قول الإمام عليه‌السلام. وقد عرفت : أنّ الطّريق للاستكشاف منحصر فيها في زماننا هذا وأشباهه ، وأنّ طريقة اللّطف غير كاشفة من وجوه ، وأن الدّخول لا يتصوّر إلاّ في زمان الحضور ـ كما اعترف به قدس‌سره على ما عرفت سابقا.

(١٤) قوله قدس‌سره : ( وإن أضاف الإجماع ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٩١ )

أقول : بعد الفراغ عن بيان مقدار مدلول أدلّة حجيّة الخبر وحقيقة الإجماع

__________________

(١) معالم الدين : ١٧٤.


وإطلاقه على غير حقيقته في كلماتهم ، واختلاف التّعبيرات من حيث الظّهور في إرادة المعنى الحقيقي المصطلح أراد التعرّض لحال الإجماعات المنقولة في كلماتهم من حيث انطباق الكليّة المستفادة من آية النّبأ ، على زعم القائل بدلالتها على حجيّة الخبر عليها وعدمه.

والكلام في خصوصيات الأمثلة من حيث دخولها في أحد شقّي التّرديد الّذي أفاده ممّا لا ينبغي صدورها عن أهل العلم ، كما أنّه لا ريب في أنّ مراده قدس‌سره بقرينة تصريحه بعد ذلك من نفي الإشكال في عدم الحجيّة من حيث نقل السّنة وقول الإمام عليه‌السلام تضمّنا كما هو الوجه عند أكثر القائلين بحجيّته لا مطلقا كما لا يخفى.

(١٥) قوله قدس‌سره : ( لكن سيجيء بيان الإشكال في ذلك ). ( ج ١ / ١٩١ )

أقول : من حيث إنّ القدر الّذي يمكن تحصيله بالحسّ من الأقوال للناقل لا يلازم عادة لقول الإمام عليه‌السلام ، أو الّذي يكون ملازما لقول الإمام عليه‌السلام لا يحصل بالحسّ للنقلة فلا فائدة فيه ؛ لما عرفت سابقا : من أنّ الّذي دلّ عليه آية النّبأ هو حجّيّة نقل السّنة عن حسّ أو نقل ما يلازمه كذلك ، ولو كانت الملازمة عادية ؛ من حيث إنّ المدار في باب الطّرق والأمارات غيره في باب الأصول ، فلا يمنع كون ترتب السّنة على المخبر به عاديا عن القول بحجيّته بالنّسبة إلى إثبات السّنة ، كما يمنع ذلك في الأصول على ما ستقف عليه مشروحا في محلّه.

(١٦) قوله قدس‌سره : ( وفي حكم الإجماع المضاف ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٩١ )

أقول : مراده قدس‌سره من الإلحاق الحكمي من حيث عدم نقل السّنة وإن حكم بأولويّته منه من حيث نقل السّبب ، كما أنّ الحكم بالأضعفيّة في قوله : ( وأضعف ممّا


ذكر ... إلى آخره ) (١) مبنيّ على هذه الملاحظة ، وإن قيل بدلالة هذه العبارات أو بعضها وإن لم يكن من نقل الإجماع يقينا على نقل السّبب.

وإن كان هنا وهم من بعض من لا خبرة له : أنّ نقل لازم السّنة أينما وجد نقل للسّنة التزاما وإن لم يكن نقلا لها بالتضمّن هذا.

(١٧) قوله قدس‌سره : ( وإن أطلق الإجماع ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٩٢ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ إرادة المعنى المصطلح ممّا ذكر قد يحتاج إلى مسامحة كما يكون الأمر كذلك على طريقة المتقدّمين المبنيّة على دخول القولي فيما كان هناك مخالف علم عدم قدح مخالفته ، مع العلم بوجود الإمام في المجمعين من حيث تنزيل الخارج منزلة عدمه.

أو طريقة الشّيخ وأتباعه المبنيّة على اللطف ؛ من حيث ضم المنكشف إلى الكاشف والخارج إلى الدّاخل. وقد يحتاج إلى مسامحتين كما في طريقة المتأخّرين على ما عرفت الإشارة إليه في قوله السّابق : ( وفي إطلاق الإجماع على هذا مسامحة في مسامحة ) (٢).

(١٨) قوله قدس‌سره : ( وهذا في غاية القلّة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٩٢ )

أقول : قد عرفت : أنّه لا يمكن تحقّقه إلاّ في زمان الحضور ، بل الكلام في وجود الطّريق إليه في زماننا هذا وأشباهه من الحدس أو النّقل كما أثبته في المعالم ؛ فإنّه علم أنّ نقلة الإجماع في الكتب لم يقفوا على الإجماع الاصطلاحي

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ١٩٢.

(٢) فرائد الأصول : ج ١ / ١٨٩.


ولا طريق من العادة إليه في زمان الحضور ، وإن كان هناك إجماع من الأصحاب في زمان الغيبة ؛ فإنّ غاية ما هناك كشفه عن اتّفاق أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام الكاشف عن تلقّي الحكم عنهم عليهم‌السلام وأين هذا من الإجماع الدّخولي؟ ومن هنا التجى الشّيخ قدس‌سره ـ كما صرّح به في مواضع من كتبه ـ إلى طريقة اللّطف فإذا علم استناد الحاكي إلى هذه الطّريقة فلا معنى لتصديقه.

ومن هنا قد يغلب على الظّن كون مبنى الإجماعات المنقولة في كلمات المتقدّمين القائلين بهذه الطّريقة ـ على ما عرفت الإشارة إليه في مطاوي كلماتنا السّابقة ـ على الحدس المذكور في كلمات المتأخّرين ، وأنّ قولهم بهذه الطّريقة : إنّما هو من جهة عرض العامّة الإجماع الاصطلاحي عليهم الّذي يشتمل على قول المعصوم عليه‌السلام لا محالة ؛ فلم يجدوا بدّا من قبوله ، كما ذكره السيّد قدس‌سره إلاّ أن يكون مبنى تمام الإجماعات الّتي يستندون إليها في المسائل على هذه الطّريقة.

(١٩) قوله قدس‌سره: ( ولا يخفى أنّ الاستناد إليه غير صحيح ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٩٣ )

في بيان عدم جواز الإستناد في دعوى الإجماع إلى قاعدة اللطف

أقول : قد عرفت الإشارة إلى عدم صحّته ، وأنّ الّذي يجب من باب اللّطف على الحكيم تعالى إرسال الرّسل وتبليغ الأحكام على النّحو المتعارف ؛ بحيث لو لا تقصير المقصّرين لبلغ الحكم إلى كلّ مكلّف حتّى المخدّرات في الحجال. وكذا يجب عليه نصب الحافظ للأحكام لصونها من الضّياع والاختفاء بعد بيان الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها إذا كان محفوظا من شرّ الأشرار ؛ فإذا كان هناك مانع من ظهور


الإمام ( عجّل الله فرجه ) وإرشاده المكلّفين ، فلا يلزم خلاف لطف على الحكيم تعالى.

ألا ترى أنّ أكثر الأئمّة عليهم‌السلام في أزمنة ظهورهم وحياتهم لم يكونوا يتصرّفون كمال التّصرف من جهة التّقيّة والمصالح الظّاهرة والخفيّة؟ فكذا الإمام الغائب عن أنظارنا عليه‌السلام من جهة الموانع والجهات الظّاهرة والخفيّة ، لا يجب عليه التّصرف الظّاهري وإن كان فيوضاتها الغيبيّة والظّاهرة فائضة علينا بل على كلّ موجود هذا.

مع أنّ وجود الكتاب والسّنة المتكفلين للحكم الّذي أجمعوا على خلافه ، كيف يكون كافيا وقاطعا للعذر مع خطأ المجمعين؟ هذا. مع أنّ خطأ الكلّ والبعض ، كيف يكون فارقا بين وجوب اللّطف؟ إلى غير ذلك من وجوه عدم صحّة هذه الطّريقة المذكورة في مسألة الإجماع المحقّق.

فإذا علم استناد الحاكي لقول الإمام عليه‌السلام المستكشف من الاتّفاق ، أو الحاكي للاتّفاق الكاشف عن قول الإمام عليه‌السلام المنضمّ إلى أقوال المجمعين مسامحة إلى هذه الطريقة ، فلا وجه للاعتماد على حكايته من جهة نقل السّنة. وأمّا الاعتماد على الحكاية من جهة نقل السّبب فهو أمر آخر ، سيجيء الكلام فيه.

وقد تقدّم : أنّ الإجماعات المحكيّة في كلام الشّيخ قدس‌سره مبنيّة على هذه الطّريقة ، مع أنّ مشاركته للمتقدّمين في الطّريقة المتقدّمة على تقدير التّسليم لا يجدي نفعا أصلا ؛ لما عرفت : من فساد الاستناد إليها في الاستكشاف أيضا ؛ فأمر إجماعاته مردّد بين أمرين لا جدوى فيهما ، مع أنّه على تقدير الجدوى في أحدهما لا معيّن له في كلامه حتّى يحمل عليه ؛ فالمقالة الصّادرة عن بعض


المتأخّرين في مستند إجماعاته لا يجدي شيئا على تقدير تسليمها إغماضا عن الكلمات المحكيّة في « الكتاب » للشّيخ ، الصّريحة في خلافها.

(٢٠) قوله قدس‌سره : ( ثمّ إنّ الاستناد إلى هذا الوجه ظاهر من كلّ ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٩٦ )

أقول : ما أفاده قدس‌سره من ظهور الاستناد إلى قاعدة اللّطف : من كلّ من اشترط في تحقّق الإجماع اتّفاق جميع علماء العصر وقدح المخالف في حجيّته ـ ولو كان واحدا بل قدح عدم موافقته ولو كان متردّدا ، كما يظهر من الفخر (١) ممّا حكي عنه في « الكتاب » (٢) ، كما هو ظاهر كلام المشترط بل صريحه عند التّأمّل ، لا في تحقّق موضوعه بحسب الاصطلاح ـ أمر ظاهر لا سترة فيه أصلا.

فإنّ من المسلّمات عندهم عدم قدح مخالفة معلوم النّسب في الحجيّة على طريقة المتقدّمين والمتأخّرين فيتعيّن أن يكون مبناه على قاعدة اللّطف ؛ فإنّه وإن لم يستفد من كلام الشّيخ قدس‌سره منع مطلق المخالفة عن وجوب الرّدع ، إلاّ أنّ صريح غير واحد ـ مثل المحقّق الدّاماد على ما هو مقتضى كلامه المحكي في « الكتاب » وغيره ـ : أنّ الذي يقتضي اللّطف موافقة رأي بعض العلماء في كلّ عصر لرأي الإمام عليه‌السلام ، فإذا كان هناك مخالف لا يحكم من جهة قاعدة اللّطف بحقيّة ما اتّفق عليه الباقون.

__________________

(١) فخر الدّين وفخر المحققين لقب اختص به أبو طالب محمّد ( ٦٨٢ ـ ٧٧١ ) بن العلاّمة أبي منصور جمال الدين الحسن بن سديد الدين يوسف بن المطهّر الأسدي الحلّي أحد أعلام هذه الطائفة وشيوخها ويحقّ للطائفة بحقّ أن تعتزّ به وبأبيه وجدّه حيث لهم الأيادي البيضاء المشرقة في إعلاء كلمة المذهب.

( ٢ و ٣ و ٤ و ٥ ) فرائد الأصول : ج ١ / ١٩٦.


(٢١) قوله : ( قال في الإيضاح في مسألة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٩٦ )

مراد فخر المحققين في الإيضاح

أقول : مراده كما هو واضح : عدم إبطال ذكر الحكم الأوّل على التّقديرين. كما أنّ قوله : ( لبيان عدم انعقاد بإجماع أهل عصر الاجتهاد الأوّل ) (١) ـ تعليل لعدم إبطال ذكر الحكم الأوّل. وفيه دلالة واضحة على أنّ خلاف الفقيه الواحد لأهل عصره يمنع من انعقاد الإجماع في هذا العصر على خلافه ؛ فإذا رأينا فتوى فقيه في مسألة في عصر يعلم عدم تحقّق الإجماع على خلافها ، كما أنّه يعلم من عدوله عدم انعقاد الإجماع على طبقها.

وقوله : ( وعدم انعقاد إجماع أهل العصر الثّاني على كلّ واحد منهما ... إلى آخره ) (٢) تعليل لذكر التّردد ، مع أنّه لا فائدة فيه في باديء النّظر ، كما أنّ الفائدة ظاهرة لذكر الحكم الثّاني إذا كان على خلاف الحكم الأوّل ؛ ولذا لم يذكر نكتة لذكره. وفيه دلالة واضحة على قدح عدم موافقة فقيه واحد في انعقاد الإجماع فضلا عن مخالفته.

وكذا فيما حكاه عن الشّهيد في « الذّكرى » ، وعن ثاني المحقّقين في « حاشيته على الشّرائع » ، دلالة واضحة على قدح مخالفة الفقيه الواحد في انعقاد الإجماع واعتباره ، لا في مجرّد انعقاد الإجماع الاصطلاحي. وإلاّ لم يكن فيه دلالة على بطلان قول الميّت فتدبّر ، بل ظاهرهما عند التّأمّل نسبة ذلك إلى الأصحاب.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ١٩٦.

(٢) فرائد الأصول : ج ١ / ١٩٦.


(٢٢) قوله قدس‌سره : ( مع بعدها ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٩٧ )

أقول : سيجيء ذكر الوجوهات وبيان بعدها. والمقصود في المقام : بيان قدح المخالفة في انعقاد الإجماع عند الشّهيد بل عند غيره ، بزعم الشّهيد الدّاعي له إلى صرف كلام مدّعي الإجماع مع وجود المخالف إلى غير ظاهره.

والقول : بأنّ المقصود قدح المخالفة في تحقّق الإجماع الاصطلاحي ، كما ترى.

(٢٣) قوله قدس‌سره : ( أحدها أن يحصل له الحدس إلى آخره ). ( ج ١ / ١٩٨ )

أقول : المراد من هذا الوجه : أن يحصل له العلم بمقالة المعصوم عليه‌السلام من فتاوى من كان آرائهم من اللّوازم العادية لرأي الإمام عليه‌السلام بحيث يعلم أنّ توافقهم في المسألة النّظريّة لا يكون عادة إلاّ من جهة متابعة رأي الإمام عليه‌السلام الواصل إليهم يدا بيد ، فهو الدّاعي على اتفاقهم في المسألة مع شدّة اختلافهم في أكثر المسائل وتباين أنظارهم وأفكارهم.

فلا بدّ أن يكون طريق النّاقل إليها الوجدان والتتبّع والاطلاع الحسّي وأن يكون تلك الفتاوى ؛ بحيث لو اطّلع عليها غير النّاقل لحصل العلم الضّروري له من طريق الحدس بمقالة المعصوم عليه‌السلام : بأن حصل له العلم بمقالة المعصوم عليه‌السلام من وجدان فتاوى جميع أهل الفتوى ممّن عاصره وتقدّم عليه مع كثرة المفتين ؛ فإنّه لا إشكال في كون هذه المرتبة والدّرجة سببا للعلم بمقالة المعصوم عليه‌السلام لكلّ من وقف بها واطلع عليها.


(٢٤) قوله قدس‌سره : ( وحيث لا دليل ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٩٩ )

الدليل الصالح منحصر في آية النبأ وهو قاصر

أقول : قد عرفت فيما سبق في الأمر الأوّل : أن الدّليل الصّالح لأن يستدلّ به في غير الرّوايات على تقدير تسليم دلالته على حجيّة خبر الواحد آية النّبأ.

كما أنّك عرفت : أنّ مدلولها الاعتناء باحتمال التّعمد في الكذب عن خبر العادل لا نفي الاعتناء بجميع الاحتمالات والبناء على تصويبه ، فينحصر مدلولها في نفي سائر الاحتمالات عنه بالأصول العقلائية الغير الجارية إلاّ في الإخبار عن الأمور الحسيّة مع ضبط المخبر ، أو عمّا يلازمها عادة كالإخبار عن الملكات المستند إلى مشاهدة لوازمها وآثارها.

فإن علم أنّ حكايته لمقالة المعصوم عليه‌السلام مستندة إلى مشاهدة ما يلازمها عادة كالقسم الأوّل ، فلا ريب في اعتبارها سواء كان باعتبار المستكشف المنضمّ إلى الكاشف كما هو المفروض ومحلّ الكلام ، أو باعتبار الكاشف ؛ نظرا إلى ما عرفت : من أنّ مدار الحجيّة في الطّرق أوسع من الأصول.

وإن لم يعلم بذلك سواء علم باستناده إلى ما يلازمه من القسمين الأخيرين أو لم يعلم الحال ، فلا إشكال في الحكم بعدم حجيّته نظرا إلى أصالة عدم الحجيّة في المشكوك.

(٢٥) قوله قدس‌سره : ( فإمّا أن يجعل الحجّة نفس ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٩٩ )

أقول : لا يخفى عليك ما في التّعبير المذكور من المسامحة ، فالأولى أن يقال بدل ذلك : فإمّا أن يجعل الحجّة إخباره لمقالة المعصوم عليه‌السلام المستكشفة على تقدير


انضمامها إلى الكاشف ووقوع الإخبار بالمجموع على ما هو المفروض.

ومنه يعرف الوجه فيما أفاده السيّد الشّارح « للوافية » بقوله : ( على أنّ التّحقيق في الجواب هو الوجه الأوّل ... إلى آخره ) (١) فإنّ إرجاع الإخبار بالفتاوى إلى الإخبار بمقالة المعصوم عليه‌السلام يحتاج إلى ملاحظة زائدة لا حاجة إليها بعد فرض اعتبار الإخبار بنفس الاتّفاق فيما كان ملازما لقول الإمام عليه‌السلام.

(٢٦) قوله قدس‌سره : ( قلت : [ إنّ ] (٢) الظّاهر ... إلى آخره ) (٣). ( ج ١ / ٢٠١ )

الإجماع حقيقة في إتفاق أهل عصر واحد

أقول : لما استند في السّؤال إلى ظهور لفظ الإجماع بحسب الاصطلاح في اتّفاق الكلّ ـ على ما اعترف به شيخنا قدس‌سره فيما تقدّم من كلامه ـ أجاب عنه بما

__________________

(١) الوافي في شرح الوافية ( مخطوط ) انظر الورقة ١٥٠ للسيّد محسن الفقيه الأعرجي الكاظمي.

(٢) أثبتناها من الكتاب.

(٣) قال سيّد العروة قدس‌سره :

« هذا في محل المنع بالنسبة إلى الإجماعات التي يدعيه واحد من الشيعة إذ كثيرا ما يدّعي أحدهم إجماع من عدا فلان ممن تقدّم عصره ، فلو كان المراد من الإجماع إتفاق أهل عصر واحد كان اللازم أن يدّعيه الإجماع المطلق.

نعم ، من يدعي الإجماع معتذرا بانقضاء عصر المخالف كلامه ظاهر في أنّ الإجماع إتّفاق أهل عصر واحد ، كما أنّ الإجماع عند العامّة أيضا كذلك ولعلّ قول المصنّف [ الأنصاري ] : ( كما يظهر من تعاريفهم ... إلى آخره ) ناظر إلى تعاريف العامة. فافهم ». حاشية فرائد الأصول : ج ١ / ٣٨٧


تقدّم : من كونه حقيقة بالاتفاق في إجماع أهل عصر واحد لا جميع الأعصار ، فليس ظاهرا في معنى يلازم مقالة المعصوم عليه‌السلام ، فهذا لا ينافي ما استظهره ـ فيما سيجيء من كلامه ـ : من ظهوره في اتّفاق جميع علماء الأعصار أو أكثرهم إلاّ من شذّ كما هو الغالب في إجماعات مثل الفاضلين والشّهيدين قدّس الله أسرارهم. فإنّ هذا الاستظهار مستند إلى أمر خارج عن نفس اللّفظ هذا كلّه.

مضافا إلى وجود الصّارف القطعي عن إرادة المعنى الاصطلاحي على ما عرفت من الإجماعات المتداولة في ألسنتهم للعلم بعدم اطّلاع المدّعي عليه بطريق الحسّ والسّماع.

اللهمّ إلاّ على طريق المسامحة من حيث ضمّ المستكشف بحكم العادة إلى الكاشف ، مع أنّه على تقدير عدم وجود الصّارف لا يحتاج اندراجه في الكليّة المستفادة من آية النّبأ إلى تكلّف إثبات الملازمة بين اتّفاق الكلّ ومقالة المعصوم عليه‌السلام حتّى يتوجّه عليه المنع بما أفاده في السّؤال. فلعلّ السّؤال المذكور مبنيّ على الأخذ بظهور اللّفظ بعد رفع اليد عنه بقدر ما قام القاطع على عدم إرادته من الإخبار عن مقالة المعصوم عليه‌السلام تضمّنا على ما هو ظاهر معناه الاصطلاحي.

ثمّ إنّ ما أفاده من عدم التّلازم بين اتّفاق الكلّ في عصر ومقالة المعصوم عليه‌السلام أمر ظاهر لا سترة فيه ، سواء كان أهل العصر قليلين يمكن الاطلاع على آرائهم من طريق الحسّ والسّماع أو كثيرين يتعسّر الاطّلاع على آرائهم من طريق السّماع ، فالّذي يلازم مقالة المعصوم عليه‌السلام وهو اتّفاق جميع أهل عصره وأهالي الأعصار السّابقة ، يعلم عادة عدم تحصيل المدّعي له من طريق الحسّ. والّذي يمكن تحصيله من طريق الحسّ كاتّفاق أهل عصره أو هو مع آراء المعروفين من أهالي


الأعصار السّابقة ، لا يلازم عادة لمقالة المعصوم عليه‌السلام.

ثمّ على تقدير إمكان تحصيل ما يلازم مقالة المعصوم عليه‌السلام لمدّعي الإجماع لم يكن هناك ما يعينه ، فالمرجع أصالة عدم الحجيّة على ما عرفت.

(٢٧) قوله قدس‌سره : ( أحدها : أن يراد ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٠٢ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ اتّفاق المعروفين إذا أريد به اتّفاق أهل عصره وسائر الأعصار المتقدّمة ، لا يمكن تحصيله عادة من طريق الحسّ وإن سلم التّلازم بينه وبين مقالة المعصوم عليه‌السلام ؛ لأنّ كل معروف ليس له كتاب معروف بأيدي الفقهاء ؛ مع أنّ تحصيل فتوى فقيه في بعض كتبه إذا كان له كتب متعدّدة في الفتوى لم يعلم حال جميعها ولو من جهة فقد بعضها ، لا يجدي في نسبة الفتوى إليه.

(٢٨) قوله قدس‌سره : ( الثّاني : أن يريد ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٠٢ )

أقول : المراد إجماع الكلّ في جميع الأعصار لا في خصوص عصر المدّعي. ومن المعلوم ضرورة عدم التّلازم بين اتّفاق أهل عصر وبين اتّفاق أهل غيره من الأعصار ، فضلا عن اتّفاق المعروفين منه ، وإن كانت الغلبة مسلّمة إلاّ أنّها لا يجدي في المقام أصلا كما لا يخفى.

وأوهن منه في طريق تحصيل اتّفاق الكل في جميع الأعصار ـ فتاوى جمع من المعروفين من جهة حسن الظّن بهم وكونهم رؤساء المذهب ، مثل ما حكاه في « المعتبر » على ما في « الكتاب » ؛ فإنّ تعليل الإجماع بوجوده في كتب الثّلاثة ، لا معنى له إلاّ بجعله طريقا إلى اتّفاق غيرهم من العلماء. ومن هنا سمّاه في « المعتبر » مقلّدا ورماه بالجهل ، واحتمل في حقّه التجاهل من حيث وضوح فساد التّلازم الذي زعمه وجعله مدركا وطريقا لتحصيل اتّفاق الكلّ.


(٢٩) قوله قدس‌سره : ( الثالث : أن يستفيد ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٠٣ )

أقول : الفرق بين هذا الوجه وسابقيه لا يكاد أن يخفى ؛ فإنّ مبنى الوجهين السّابقين على الحسّ فقط ، كما هو مبنى الوجه الأوّل. أو على انضمام الاجتهاد والحدس إلى الحسّ كما هو مبنى الوجه الثّاني. ومبنى هذا الوجه على الاجتهاد والحدس في تحصيل الاتفاق فقط من دون ضمّ مقدّمة حسيّة.

(٣٠) قوله قدس‌سره : ( ثمّ إنّ الظّاهر ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٠٤ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ ابتناء الإجماعات المتعارضة من شخص واحد أو من معاصرين أو من متقاربي العصر لا يتعيّن أن يكون على الوجه الثّالث ؛ إذ من المحتمل أن يكون مبنى بعضها على أحد الوجهين السّابقين كالإجماعين المتعارضين من متباعدي العصر. اللهم إلاّ أن يراد مجموع المتعارضين ولو بابتناء أحدهما على ذلك فتدبّر.

(٣١) قوله قدس‌سره : ( أمّا علم الهدى ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٠٥ )

نقل كلام السيد في محكى الخلاف

أقول : استدلّ في محكي « الخلاف » بعد ترجيح جواز التّطهير بغير الماء من المائعات بوجهين : أحدهما : الإجماع. وثانيهما : أنّ الغرض من التّطهير بالماء إزالة العين ، فإذا حصلت بغير الماء فقد حصل المقصود من التّطهير بالماء.

وذكر في تقريب الإجماع ما حكاه المحقّق قدس‌سره عنه ، وهو صريح في أنّ مبنى الإجماع الّذي ادّعاه على أصالة البراءة عن وجوب استعمال الماء في التّطهير تعيّنا أو عن منع استعمال غير الماء في التّطهير ، لا على متتبّع الفتاوى وإلاّ لم يدّع


الإجماع على الجواز بل على المنع.

مع أنّ الأصل الجاري في المقام ليس أصالة البراءة والجواز ، لا من جهة أنّ الشّك في الأمر الوضعي وهو الشك في بقاء النّجاسة ومقتضى الاستصحاب المسلّم في الشّك في الرّافع ، الحكم ببقائها حتّى يقال : إنّ السيّد من النّافين للاستصحاب مطلقا ، بل أصالة المنع من جهة قاعدة الاشتغال الجارية عند الشّك في وجود الشّرط المفروغ شرطيّته الجارية عند السيّد أيضا ، هذا مضافا إلى حصر المطهّر في الماء ؛ بمقتضى بعض الآيات وجملة من الأخبار.

وبالجملة : الكلام ليس في أنّ المقام مقام جريان أصالة البراءة أو أصالة المنع ، بل في تعليل انعقاد الإجماع بأصالة البراءة ، وإلاّ فالتمسّك بالأصل في المقام فاسد ؛ من وجوه : كالتمسّك بالوجه الثّاني في كلامه ، كما لا يخفى.

فاستناد ادّعاء الإجماع في المسألة إلى الأصل كاستناد ادّعائه إلى وجود الرّواية في مسائل الخلاف على ما في « الكتاب » عن « معتبر » المحقّق.

(٣٢) قوله قدس‌سره : ( وقال بعد ذلك ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٠٥ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ مبنى الإجماع الّذي ادّعاه في هذا الفرع أيضا ليس على التّتبّع والوجدان بل على الكلّية المستنبطة من الرّوايات ؛ فهو من الإجماع على القاعدة فتدبّر.

(٣٣) قوله قدس‌سره : ( ومن الثّاني : ما عن المفيد قدس‌سره ). ( ج ١ / ٢٠٦ )

أقول : المراد من الثّاني : ما أفاده بقوله ( أو اتفاقهم على مسألة أصوليّة ... إلى


آخره ) (١) كما يشهد به تكرير كلمة الاتّفاق وغيره وإن كان في الفرق بين المعطوف والمعطوف عليه غموض.

ثمّ إنّ المراد من المطلّقة ثلاثا في مجلس واحد : هي الّتي يقع عليها ثلاث طلقات بلفظ واحد ، أو الأعمّ منها وممّا يقع عليها ثلاث طلقات بصيغ متعدّدة قبل تخلّل الرّجوع ؛ فإنّ المعروف من مذهب العامّة وقوع الثّلاث في الصّورتين. فقد ادّعي الإجماع على عدم وقوع الثّلاث من جهة الإجماع الّذي ادّعاه في المسألة الأصوليّة بعد ضمّ مقدّمة اجتهاديّة إليها وهي : أنّ وقوع الثّلاث مخالف الكتاب والسنة.

(٣٤) قوله قدس‌سره : ( مع أنّ الحلّي لا يرى ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٠٨ )

أقول : لا يخفى عليك صراحة مواضع من كلام الحلّي قدس‌سره في كون أخبار المضايقة غير قطعيّة الصّدور.

نعم ، قد يتوجّه على شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره : أنّ ما أفاده من الاعتراض إنّما يستقيم فيما لو أراد الحلّي استكشاف الحكم الواقعي من فتاوى العاملين بأخبار المضايقة ـ الّتي فرضت كونها أخبار آحاد ـ حتّى يستكشف منه حكم الإمام عليه‌السلام على ما يستفاد من ظاهر كلامه في المقام بناء على ما عرفت : من أنّه أحد الوجوه والطّرق في باب الإجماع على طريقة الحدس أو استكشاف رأي الإمام عليه‌السلام بناء على إرادته من الواقع على وجه الحدس.

وأمّا لو كان مبنى كلامه على طريقة الدّخول ـ كما هو الظّاهر من كلامه ـ

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٢٠٣.


فالمقصود ليس إلاّ استكشاف فتاوى الأصحاب المتضمّنة لقول الإمام عليه‌السلام ، ولو كانت مستندة إلى أخبار الآحاد ؛ إذ لم يشترط أحد بناء على الدّخول كون مدرك فتوى المجمعين في المسألة صحيحا عند مدّعي الإجماع ، وإلاّ لا بد من العلم بالمدرك ، ولم يشترطه أحد.

نعم ، على طريقة المتأخّرين ربّما يقدح العلم باستناد المجمعين في المسألة إلى ما نراه فاسدا.

وبمثل ذلك يتوجّه على ما أفاده قدس‌سره من الاعتراض بقوله : ( وإنّ المفتي إذا علم استناده ... إلى آخره ) (١) مع أنّ عدم تماميّة المدرك عنده من جهة الدّلالة أو المعارضة لا يلازم عدم تماميّته عند الحلّي المستكشف من الفتاوى الإجماع في المسألة فتدبّر.

نعم ، ما أفاده من الاعتراضات الثّلاثة عليه قبل ذلك ممّا لا محيص عنه.

(٣٥) قوله قدس‌سره : ( فإنّ الظّاهر أنّ الحلّي ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٠٩ )

أقول : ما استظهره قدس‌سره ـ من استناد الحلّي في نسبة الفتاوى إلى العلماء إلى تدوينهم لما دلّ من الأخبار على وجوب فطرة الزّوجة على الزّوج بتوهّم :

أنّهم أفتوا بإطلاق هذه الأخبار من غير تفطّن ؛ لكون الحكم معلّقا عندهم على أحد الأمرين العيلولة ولو لم تكن مطيعة ، أو وجوب الإنفاق ولو لم يكن عيالا له ـ صحيح.

إلاّ أنّه يحتمل استناده في ذلك إلى فتوى من أطلق في باب الزّكاة وجوب

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٢٠٨.


فطرتها على الزّوج (١) ، من غير تأمّل في أنّ الحكم معلّق على أحد الأمرين كما يظهر من مطاوي كلماتهم فتدبّر.

(٣٦) قوله قدس‌سره : ( وهو في غاية المتانة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢١٠ )

أقول : ما أفاده المحقّق قدس‌سره من التّقريب في كمال الظهور والمتانة إلاّ أنّ أصل كلامه مشتبه المراد في باديء النّظر ؛ فإنّ الظّاهر منه بعد التّأمّل التّام : أنّ مراده من الاتّفاق على لفظ مطلق تعبير المفتين في المسألة عن موضوع القضيّة أو محمولها بلفظ مطلق شامل لما وقع الخلاف فيه من جزئيات هذه القضيّة المطلقة ، فبعد العلم بالخلاف في بعض الجزئيات لا يجوز استناد الفتوى في الجزئي الّذي وقع فيه الخلاف إلى من لم يعلم مذهبه فيه ، من جهة تعبيره باللفظ المطلق ، فمشاهدة الخلاف ممّن عبّر باللفظ المطلق بمنزلة الموهن لظهور لفظ المطلق.

كيف! واعتبار العلم بالمراد بقول مطلق في نسبة الفتوى توجب سدّ باب اعتبار ظواهر الألفاظ كما لا يخفى.

(٣٧) قوله قدس‌سره : ( لكنّك عرفت ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢١٠ )

أقول : حقّ التّحرير في المقام أن يحرّر بدل هذا القول : لكنّك عرفت ما وقع من الجماعة من المسامحة في مقام دعوى الإجماع المبتنية على تتبّع الفتاوى في المسألة الّتي يدعى فيها الإجماع ؛ فإنّ تحصيل الفتاوى في المسألة من جهة الاجتهادات والمقدّمات النّظريّة الحدسيّة ، ليس فيه مسامحة في لفظ الإجماع باستعماله في غير معناه المصطلح.

__________________

(١) انظر السرائر : ج ١ / ٤٦٦.


نعم ، ظاهر النّسبة الوجدان في الكتب ، لا التحصيل عن اجتهاد. لكنّه ليس ارتكاب خلاف الظّاهر في لفظ الإجماع المسامحة في اللّفظ التي عرفناها من مطاوي كلماته قدس‌سره إذ هي استعمال لفظ الإجماع الموضوع لاتّفاق الكلّ المتضمّن لقول الإمام عليه‌السلام في غيره ، وهو اتّفاق من يكشف بحكم قاعدة اللّطف أو الحدس عن رأيه عليه‌السلام.

كما ذكره في « المعالم » أيضا حاكيا له عن المحقّق قدس‌سره ما في « المعتبر » فإنّه ( حكى عن « المعتبر » أنّه قال : « وأمّا الإجماع فعندنا هو حجّة بانضمام المعصوم عليه‌السلام فلو خلي المائة من فقهائنا عن قوله عليه‌السلام لما كان حجّة ، ولو حصل في اثنين لكان قوله عليه‌السلام حجّة ، لا باعتبار اتّفاقهما ، بل باعتبار قوله عليه‌السلام ، فلا تغترّ إذن بمن يحكم فيدّعي الإجماع باتّفاق الخمسة أو العشرة من الأصحاب مع جهالة قول الباقين إلاّ مع العلم القطعي بدخول الإمام عليه‌السلام في الجملة (١) » هذا كلامه وهو في غاية الجودة ) (٢) انتهى كلامه.

ثمّ قال : « والعجب من غفلة جمع من الأصحاب عن هذا الأصل وتساهلهم في دعوى الإجماع عند احتجاجهم به للمسائل الفقهيّة كما حكاه رحمه‌الله حتّى جعلوه عبارة عن مجرّد اتّفاق الجماعة من الأصحاب » (٣) إلى آخر ما تقدّم نقله سابقا في « الكتاب ».

ثمّ قال : « وما اعتذر به عنهم الشّهيد رحمه‌الله في الذّكرى ـ من تسميتهم المشهور

__________________

(١) المعتبر : ج ١ / ٣١.

(٢) معالم الدين وملاذ المجتهدين : ١٧٣.

(٣) المعالم : ١٧٤.


إجماعا أو لعدم الظّفر حين دعوى الإجماع بالمخالف أو بتأويل الخلاف على وجه يمكن مجامعته لدعوى الإجماع وإن بعد ، أو إرادتهم الإجماع على روايته بمعنى تدوينه في كتبهم منسوبا إلى الأئمة عليهم‌السلام ـ لا يخفى عليك ما فيه ».

ثمّ ذكر القدح في الاحتمالات الّتي حكاها عن الشّهيد قدس‌سره إلى أن قال :

« وبالجملة : الاعتراف بالخطأ في كثير من المواضع أخفّ من ارتكاب الاعتذار ، ولعلّ هذا الموضع منها » (١). انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

(٣٨) قوله قدس‌سره : ( قول المحقّق السّبزواري والذي ظهر لي ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢١٢ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ هذا الكلام بظاهره موافق لما أفاده شيخنا قدس‌سره في مبنى دعوى الإجماع ؛ من حيث إنّ المدّعي بعد وجدان الاتّفاق من أصحاب الكتب الموجودة عنده يحصل له الحدس باتّفاق الكلّ ، فيدّعي الإجماع.

(٣٩) قوله : ( أو جعلنا المناط ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢١٣ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ المراد من تعلّق خبره بالمستكشف (٢) : إنّما هو بضمّه إلى الكاشف عنه حدسا فيخبر عنه مسامحة ، نظير الإخبار بالملكات لمشاهدة آثارها الكاشفة عنها كما عرفت تفصيل القول فيه.

__________________

(١) المصدر نفسه : ١٧٤.

(٢) بالمنكشف « ن خ ».


(٤٠) قوله قدس‌سره : ( نعم ، بقي هنا ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢١٤ )

إمكان تصوير قسم خاص من الاجماع المنقول

أقول : المراد من حجيّة خبر الحاكي بالنّسبة إلى النّسبة المحتمل رجوعه فيها إلى الحسّ والوجدان في الكتب في قبال الاجتهاد والنّظر في تحصيل الفتاوى هو الأخذ بظاهر النّسبة المقتضي لرجوع الحاكي إلى الوجدان والإحساس في الكتب والبناء على ذلك لا الزّائد على ذلك ، بمعنى جعل الحكاية حجّة شرعيّة في المسألة بالمعنى المبحوث عنه في المقام. كيف! وهو خلاف صريح كلماته كما لا يخفى.

كما أنّ المراد من قوله قدس‌سره بعد ذلك ـ : ( فنقل الإجماع غالبا إلاّ ما شذّ حجّة ... إلى آخره ) ـ : هو كونه طريقا بالنّسبة إلى صدور الفتوى منهم ؛ من حيث رجوع النّاقل إلى الحسّ بالنّظر إلى ظاهر النسبة كما يفصح عنه صريح كلامه في المقام ، لا كونه حجّة شرعيّة في المسألة ؛ فإن كان هذا المقدار من الفتاوى الّتي بني على كون إخبار العادل بها عن حسّ ـ على تقدير تحقّقه ـ ملازما لرأي المعصوم عليه‌السلام بضميمة ما حصله من الأقوال والأمارات ، بني على اعتباره بالنسبة إليه ويترتّب ملزوم المجموع في مرحلة الظّاهر عليه وهو قول المعصوم عليه‌السلام كما هو المفروض.

إذ لا فرق في حجيّة خبر العادل على تقدير العموم بين تعلّقه بتمام السّبب الكاشف عنه أو بجزئه ؛ إذ التّأمل والتّوقف في ترتيب المسبّب في صورة العلم بوجود بعض أجزاء السّبب والشّك في الجزء الآخر ، إنّما هو من جهة الشّك في


وجود السّبب الناشئ عن الشّك في وجود هذا المشكوك ؛ فإذا أخبر به العادل وحكم الشّارع بتصديقه وعدم الاعتناء باحتمال كذبه كان هذا في معنى الحكم بترتيب المسبّب عليه في مرحلة الظّاهر كما هو ظاهر ، وليس هذا المعنى مختصّا بالجزء ، بل يجري في غيره ممّا يعتبر في تحقّق المطلوب كالشرط مثلا فيما فرض وجود ذات المشروط في محلّ وشك في ترتّب الآثار من جهة الشّك في وجود الشّرط.

بل لا يختصّ بالأدلّة والأمارات ويجري في الأصول أيضا ؛ فإنّه كثيرا ما يجري الاستصحاب في وجود الأجزاء والشّرائط فيما فرض الشّك في بقاء جزء على صفة الجزئيّة أو في بقاء شرط من الشّروط مع فرض العلم بتحقّق سائر ما يعتبر في تحقّق المركب أو المشروط ؛ ضرورة عدم اختصاص الاستصحاب الموضوعي بالشّك في بقاء تمام الموضوع لا من جهة الشّك في جزء أو شرط منه أو جريانه في الموضوع مع كون الشّك فيه مسبّبا عن الشّك في الجزء والشّرط كما توهّم على ما سيجيء تفصيله في محلّه إن شاء الله تعالى.

فالمراد من قوله قدس‌سره بعد ذلك ( وبالجملة : فمعنى حجيّة خبر العادل وجوب ترتيب ... إلى آخره ) (١) : أعمّ من الدّلالة الاستقلاليّة الابتدائية كما إذا كانت الفتاوى المحكيّة عن حسّ بأنفسها ملازمة لقول الإمام عليه‌السلام والدّلالة الثّانوية بملاحظة وجود سائر الأجزاء مثلا كما إذا كانت الفتاوى المحكيّة بانضمام ما حصلها المحكيّ له سببا للعلم برأي الإمام عليه‌السلام.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٢١٦.


(٤١) قوله قدس‌سره : ( ثمّ إنّه [ قد ] (١) نبّه على ما ذكرنا ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢١٨ )

أقول : مراده قدس‌سره من هذا الكلام ـ كما هو صريحه عند التّأمّل ـ : هو التّنبيه على الفائدة الّتي استدركها بقوله : ( نعم ، بقي (٢) هنا شيء ... إلى آخره ) (٣) ، وإلاّ فكلامه قدس‌سره مخالف لما أفاده شيخنا الأستاذ العلاّمة في تحرير المسألة من وجوه ، وإن توافقا في الجملة كما سننبّه عليه.

(٤٢) قوله قدس‌سره : ( ما هذا لفظه ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢١٨ )

أقول : لا يخفى عليك أن اللّفظ المحكيّ في « الكتاب » لـ « لرّسالة » (٤) وإن كان ظاهره كونه لها ول « كشف القناع » والمراد من قوله : ( أو ما في حكمه ) ـ هو الدّخول القولي لا الشّخصي.

(٤٣) ( قول بعض المحققين (٥) : ( لا باعتبار ما انكشف ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢١٨ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ ما أفاده قدس‌سره مخالف لما أفاده شيخنا قدس‌سره من عدم الفرق في الحجيّة فيما تعلّق نقله بالسّبب الملازم لقول المعصوم عليه‌السلام بين جعل

__________________

(١) أضفناها من نسخة الفرائد المطبوعة.

(٢) كذا وفي المطبوع من الفرائد : يبقى.

(٣) فرائد الأصول : ج ١ / ٢١٤.

(٤) أي : رسالة منهج التحقيق.

(٥) الشيخ أسد الله التستري قدس‌سره في كتابه الشريف : كشف القناع : ٤٠٠ وكذا في رسالته المسمّاة بـ « منهج التحقيق في المواسعة والتضييق » المخطوطة.

ملاحظة : الأقوال المشروحة من هنا فصاعدا إلى التعليقة رقم : ٢٤٦ هي للمحقق التستري ولذلك فقد أضفنا لها بين المعقوفتين [ المحقق التستري ].


الحجّة نقله الكاشف عن السّنة عن حسّ أو المنكشف من حيث ضمّه إلى الكاشف.

(٤٤) قوله [ المحقق التستري ] قدس‌سره : ( من جهتي الثّبوت والإثبات ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢١٨ )

أقول : الفرق بين الجهتين إنّما هو بحسب الاعتبار وإلاّ فليس هنا أمران.

(٤٥) قوله [ المحقق التستري ] قدس‌سره : ( وهي محقّقة (١) ظاهرا ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢١٨ )

أقول : ما أفاده مخالف أيضا لما أفاده شيخنا قدس‌سره فيما تقدّم : من عدم دلالة اللّفظ على السّبب ؛ من حيث كون الإجماع حقيقة في اتّفاق الكلّ في عصر واحد لا جميع الأعصار ، فاتّحاد معنى الإجماع عند الفريقين الّذي استشهد به لا يقتضي إلاّ إرادة اتّفاق الكلّ في عصر واحد عند الإطلاق ، ومن المعلوم عدم ملازمته لقول المعصوم عليه‌السلام على ما عرفت تفصيل القول فيه.

نعم ، اتّفاق الكلّ في جميع الأعصار يلازم لقول الإمام عليه‌السلام كما لا يبعد إرادته من كلامه ؛ نظرا إلى قوله : ( وربّما بالغوا في أمره ... إلى آخره ) (٢).

إلاّ أنّك قد عرفت الكلام في إمكان تحصيله من طريق الحسّ والوجدان.

(٤٦) قوله [ المحقق التستري ] قدس‌سره : ( وقد يشتبه الحال ). ( ج ١ / ٢١٨ )

أقول : من حيث توهّم أنّ الوجه في دعوى الإجماع ليس تحصيل الفتاوى في نفس المسألة ، بل من جهة حصول العلم بقول الإمام عليه‌السلام فيها من طريق المكاشفة أو السّماع الغير المتعارف ؛ فيدّعي الإجماع حتّى يقبل منه. وهذا بخلاف

__________________

(١) كذا وفي نسخة الفرائد المطبوعة : « متحقّقة ».

(٢) فرائد الأصول : ج ١ / ٢١٩ حاكيا عنه وفي نسخة الفرائد : بالغوا في أمرها ... إلى آخره.


نقل الإجماع في مقام نقل الخلاف ؛ فإنّه لا يتطرق فيه هذه الاحتمالات.

والمراد من الوجه الأخير هو الثّاني عشر الّذي أضافه إلى وجوه الإجماع وقد عرفته سابقا.

(٤٧) قوله [ المحقق التستري ] قدس‌سره : ( وإذا لوحظت القرائن ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢١٩ )

أقول : التّرديد بين الأخذ بما هو متيقّن أو الظّاهر ، لا ينافي كون الرّاجح هو الأخذ بالظّاهر من حيث اقتضاء اللّفظ ، فلا يتوجّه عليه : كون التّرديد بين الأمرين منافيا لما قرّره من الأخذ بظاهر اللّفظ. فالغرض في المقام مجرّد بيان الوجهين لا تحقيق الحقّ.

(٤٨) قوله [ المحقق التستري ] قدس‌سره : ( وذلك لأنّه ليس إلى آخره ). ( ج ١ / ٢١٩ )

أقول : من المعلوم أنّ نقل السّبب من حيث هو ليس نقلا للسّنة حتّى يشمله ما دلّ على حجيّة نقل السّنة ، فلا بدّ للقائل باعتباره من إقامة الدّليل عليه. فقد استدلّ على اعتباره بوجوه :

أحدها : جريان سيرة الخلف والسّلف على الاعتماد بالأخبار الآحاد في أمثال المقام ممّا كان النّقل فيه على سبيل التّفصيل أو الإجمال.

ثانيها : ما دلّ من الكتاب والسّنة على حجيّة خبر الثّقة العدل بقول مطلق.

ثالثها : ما اقتضى كفاية مطلق الظن وحجيّته فيما لا غنى عن معرفته وهو دليل الانسداد المعروف بينهم. ومن المعلوم عدم الغنى من معرفة الإجماع ؛ فيلزم حجيّة نقل العادل له هذا ملخّص ما ذكره من الوجوه.


وأنت خبير بما فيها :

أمّا الوجه الأوّل ؛ فلأنّه إن أريد بما جرى عليه السّيرة ـ كلّ ما له تعلّق بالحكم الشّرعي في الجملة أو الأعمّ منه وممّا ليس له تعلّق به كما هو صريح كلامه بحيث يشمل المقام فيدّعي السيرة في خصوص المقام أيضا ـ ففيه : منع ظاهر سواء أريد سيرة العلماء فقط كما هو ظاهره ، أو هي مع سيرة العوام.

وإن أريد به أمثال المقام في الجملة من غير أن يدّعي جريانها في خصوص المقام ـ ففيه : أنّه لا تفيد شيئا على تقدير التّسليم ؛ إذ اعتبار الخبر في غير المقام لا يلازم اعتباره في المقام وإلاّ لم يكن معنى للتكلّم فيه كما هو واضح. وكأنّه أريد التمسّك بها في المقام بملاحظة تنقيح المناط وهو كما ترى.

وأمّا الوجه الثّاني ؛ فلأنّك قد عرفت : أنّ ما يسلّم دلالته على العموم ـ على تقدير تسليم دلالته على حجيّة الخبر ـ هي آية النّبأ وقد عرفت عدم دلالتها على حجيّة نقل الاتفاق إلاّ فيما كان ملازما لقول الإمام عليه‌السلام.

وأمّا الوجه الثّالث ؛ فلأنّه لا كلام في اندراج نقل الإجماع فيما أفاد الظّن بالحكم ولو من جهة الظّن بالسّنة تحت الدّليل العقلي المقتضي لحجيّة مطلق الظن على تقدير تماميّة مقدّماته ؛ لكنّه لا تعلّق له بالمقصود بالبحث في المقام من حجيّة نقل الإجماع من باب الظّن.

نعم ، من كان مقصوده إثبات الملازمة بين حجيّة الخبر ونقل الإجماع بقول مطلق بأيّ عنوان ثبت حجيّة الخبر ، لا بدّ له من تحرير المقام على ما حرّره قدس‌سره.


(٤٩) قوله [ المحقق التستري ] قدس‌سره : ( وليس شيء من ذلك من الأصول ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٢٠ )

أقول : ما أفاده قدس‌سره : من عدم كون شيء ممّا حكم بحجيّة الخبر فيه من المسائل الأصوليّة الفقهيّة من حيث فرض قيام الخبر فيه على الموضوعات وإن تعلّق بها الأحكام وفساد القول باختصاص الحجيّة بالمسائل الفقهيّة ـ كما ستقف على بعض الكلام فيه ـ ممّا لا خفاء فيه أصلا.

نعم ، الكلام في حجيّة الخبر في بعض ما ذكره كنقل الإجماع في المقام ، بحث في المسألة الأصوليّة على تقدير ؛ لكنّه لا تعلّق له بما أفاده كما هو واضح.

(٥٠) قوله [ المحقق التستري ] قدس‌سره : ( ولا من الأمور المتجدّدة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٢٠ )

أقول : لا يخفى عليك احتمال القدح أو الجزم به على تقدير كون المذكورات من الأمور المتجدّدة ، إنّما هو فيما إذا أريد إثبات الحجيّة بالسّيرة لا بغيرها من الأدلّة اللفظيّة أو العقليّة فتدبّر.

(٥١) قوله [ المحقق التستري ] قدس‌سره : ( ولا ممّا يندر اختصاص ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٢٠ )

أقول : الموجود في نسخ « الكتاب » وفي نسخة عندي من « الرّسالة » للمحقّق المتقدّم ذكره (١) هذا الّذي عرفت نقله. وهو إمّا غلط من النّاسخ أو سهو من قلم المحقّق المذكور. قدس‌سره وحقّ العبارة أن يقول : ولا ممّا يختصّ معرفته ببعض.

__________________

(١) أقول : وفي كشف القناع / ٤٠٢ : ولا ممّا يقدّر اختصاص معرفته ... الى آخره.


والأمر في ذلك سهل بعد وضوح المراد.

(٥٢) قوله [ المحقق التستري ] قدس‌سره : ( بل هو أولى بالقبول ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٢١ )

أقول : ما أفاده إشارة إلى ما زعمه بعض : من أنّ اعتبار الظّن في الموضوعات أولى من اعتباره في الأحكام من حيث إنّ اهتمام الشّارع بشأنها بمقتضى منعه عن العمل بالظّن فيها دون الموضوعات ؛ فإذا فرض حجيّة الخبر في الأحكام فيحكم بحجيّته في الموضوعات الّتي منها المقام من باب الأولويّة.

وهو كما ترى لا محصّل له عند التّأمّل ؛ مضافا إلى عدم دليل على اعتبار الأولوية الاعتباريّة ، بل هي أوهن بمراتب من نقل الإجماع.

ودعوى : رجوعها إلى مفهوم الموافقة وفحوى الخطاب كما ترى.

(٥٣) قوله [ المحقق التستري ] قدس‌سره : ( الثّالثة : حصول الاستكشاف ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٢١ )

أقول : غرضه قدس‌سره من استكشاف الحجيّة المعتبرة أعمّ من أن يكون المنقول تمام السّبب الكاشف أو جزئه كما يفصح عنه كلامه بعد ذلك.

ثمّ إنّه لمّا يختلف الحال من حيث تعلّق النّقل بتمام السّبب أو بعضه ، كما أنّ الأمر في البعض يختلف بحسب مراتب الأبعاض من جهة حال النّاقلين واللّفظ والمسألة والكتاب وزمان النّقل وغير ذلك من الخصوصيات ، فلا بدّ أن يلاحظ المنقول إليه جميعها ويأخذ بما يقتضي النّقل بعد ملاحظتها فيما كان الاقتضاء واضحا ؛ فإذا التبس الأمر عليه فيأخذ بظاهر اللّفظ أو بما هو المتيقن إرادته من


اللّفظ على الوجهين اللذين تقدّما وإن كان الرّاجح الأوّل.

(٥٤) قوله [ المحقق التستري ] قدس‌سره : ( ثمّ ليلحظ مع ذلك ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٢٢ )

أقول : لزوم ملاحظة سائر الأقوال والأمارات الموجودة في المسألة الّتي ادّعي فيها الإجماع فيما كان المنقول جزء السّبب لا خفاء فيه ، وأمّا لزوم ملاحظة ما كان النّقل كاشفا عنه ظنّا على وجه الإجمال فيما كان تمام السّبب أو جزأه ، كما ربّما يستظهر من كلامه قدس‌سره سيّما قوله : ( وربّما يستغني المتتبّع بما ذكر ... إلى آخره ) (١). فلا معنى له إلاّ إذا ادّعي كون نقل الإجماع ظنّا خاصّا مقيّدا بالعجز عن تحصيل العلم بالمنقول ، أو ظنّا مطلقا ؛ فيكون اعتباره مشروطا بالعجز. نعم ، مقتضى الاجتهاد الفحص عن معارضات الأدلّة لا الفحص عن صدقها وكذبها.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الفحص عن المعارضات بالنّسبة إلى خصوص نقل الإجماع ، يوجب الاطّلاع العلمي على حال نقل الإجماع غالبا. ومن هنا قد يستغني المتتبّع من الرّجوع إلى النّقل لاستظهاره عدم مزيّة النّاقل عليه.

(٥٥) قوله [ المحقق التستري ] قدس‌سره : ( وأخذ فيما اختلف ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٢٣ )

أقول : ليس المراد من الأخذ بالأرجح الأخذ به وترجيحه على النقل المخالف بعد الفراق عن حجيّة المتخالفين كما هو الشّأن في باب تعارض الأدلّة ؛ ضرورة أنّه قد لا يكون المرجوح في المقام كافيا في الاستكشاف ولو فرض سلامته عن المعارض الرّاجح ، بل المراد الأخذ به بالنّسبة إلى ما يدلّ اللّفظ عليه من نقل الفتاوى إجمالا وإن لم يكن كاشفا مستقلاّ في الاستكشاف.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٢٢٢ نقلا عن كشف القناع للمحقق المزبور : ٤٠٤.


(٥٦) قوله [ المحقق التستري ] قدس‌سره : ( وقد اتضح بما بيّناه ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٢٤ )

في المناقشات على إجماعات إبني إدريس وزهره وأضرابهما

أقول : ويشهد له مضافا إلى التتبّع في كلماتهم ـ كما سيأتي الإشارة إلى جملة منها ـ : دعوى الإجماع من ابن زهرة والمرتضى والشيخ وابن إدريس وغيرهم في كثيرة من المسائل وعدم اعتناء معاصريهم بل المتأخّرين منهم بالإجماعات المنقولة في كلماتهم ، بل ربّما يطعنون على إجماعاتهم مثل الشّيخ الحمّصي الّذي أثنى عليه غير واحد من الأعلام من معاصريه وغيرهم ؛ فإنّه قد طعن على إجماعات ابن إدريس بل على كتابه بما هو معروف (١).

ومثل الفاضلين فقد أكثرا من الطّعن على ابن إدريس في دعوى الإجماع والتّواتر بالتغليط والتّشحيط وقلّة التّتبّع والتّحصيل وغيرها ممّا لا يليق ذكره.

ومثل الشّهيد الثّاني حيث نقل عن ابن إدريس دعوى الإجماع على خبر في حكم الكر ، وردّها : « بأنّها دعوى خالية من البرهان ، بل البرهان قائم على خلافها » (٢).

إلى أن قال :

« وإنّما يتم من ضابط ناقد للأحاديث لا من مثل هذا الفاضل » (٣). انتهى كلامه قدس‌سره.

__________________

(١) أورد المحقق التستري في كتابه كشف القناع : ٤٣٨ كلاما من فهرست منتجب الدين حاصله : إنّ شيخه الحمّصي كان يقدح في ابن ادريس بأنه مخلّط لا يعتمد على تصنيفه.

(٢) روض الجنان : ١٤٢ ط ق.

(٣) المصدر نفسه : ١٤٢ ط ق.


ومثل بعض المحقّقين من المتأخّرين حيث طعن عليه : « بأنّه قد اضطرب كلامه في أمر الإجماع فمرّة يدّعيه فيما شذّ القائل به ولا يتعرّض للمخالف ، ومرّة يتعرّض له وهو مثل المفيد أو المرتضى والشّيخ أو غيرهم من الأفاضل ويعتذر بمعلوميّة نسبه أو عدم قصده الفتوى ؛ مع أنّه مقتضى كلامه.

وربّما يدّعي إجماع المسلمين فيما ذكر ، وقد يستند إلى عدم العلم بالمخالف ويحتجّ بالإجماع لذلك ، ويظهر من كثير من عباراته : أنّ عمدة ما يعتمده في نقل الإجماع هو دليل الحكم ؛ فإذا وجده بحسب ما أدّى إليه نظره سارع إلى دعوى الإجماع وإن قلّ القائل به أو وجد المخالف ؛ لزعمه أنّه قول الإمام عليه‌السلام ، ومن المعلوم أنّه لا يجوز الاعتماد على مثل هذا النّقل.

وربّما يدّعي الإجماع على حكم ويحتجّ به ثمّ يقوّي خلافه بلا فصل ، يعتذر بأنّا راجعنا أقوال أصحابنا فرأيناها مختلفة مع علمه بالمخالف ونسبه وعدم قدحه في اتّفاق الباقين بزعمه كما اعترف به مرارا.

فإذا كان هذا حاله فغيره أولى بردّ ما ادّعاه ، ولو أردنا أن نستقصي موارد دعواه الإجماع والتّواتر ، وردّ من بعده من العلماء وعدم اعتنائهم بها لاحتجنا إلى تأليف رسالة مفردة » (١). انتهى كلامه.

ومثل المحقّق في أحكام البئر في مسألة ادّعى ابن زهرة الإجماع فيها ؛ فإنّه قد طعن عليه : « بأنّ من المقلّدة من لو طالبته بدليل ذلك ، لادّعى الإجماع لوجوده

__________________

(١) لم نعثر عليه في هذه العجالة والظاهر انه الشهيد الثاني.


في كتب (١) الثّلاثة ، وهو غلط وجهالة إن لم يكن تجاهلا » (٢) ، بل الطّاعن على إجماعاته أكثر من الطّاعن على إجماعات ابن إدريس.

ومثل ابن إدريس والفاضلين وغيرهم ؛ فإنّهم طعنوا على إجماعات الشّيخ ولا سيّما ما وجد منها في « الخلاف » ؛ فإنّه أكثر فيه دعوى الإجماع فيما شاع فيه الخلاف. ولذا لم يعبأ بها من عاصره وكثير ممّن تأخّر عنه.

وقد جمع ثاني الشّهيدين أربعين مسألة معظمها من « الخلاف » ، وذكر : أنّه ادّعى الشّيخ فيها الإجماع في كتاب مع أنّ نفسه خالف فيها في موضع آخر منه ، أو في غيره مع التّصريح بمنع الإجماع أو بدونه.

وقال أيضا ـ « في رسالته في صلاة الجمعة » ـ : « وأمّا ما اتّفق لكثير من الأصحاب ـ خصوصا للمرتضى في « الإنتصار » والشيخ في « الخلاف » مع أنّهما إماما الطّائفة ومقتدياهم ـ : من دعوى الإجماع في مسائل كثيرة مع اختصاصهما بذلك القول من بين الأصحاب أو شذوذ الموافق لهما فهو كثير لا يقتضي الحال ذكره. ثمّ ذكر تسعا منها وقال : إلى غير ذلك من المواضع » (٣).

ومثل ابن طاوس ؛ فإنّه قد طعن على إجماعات المرتضى (٤).

ومثل العلاّمة ؛ فإنّه كثيرا ما يطعن على إجماعات المرتضى وغيره من

__________________

(١) الاصل : الكتب والصحيح ما أثبتناه ، والمراد بالثلاثة : المفيد والمرتضى والطوسي.

(٢) المعتبر : ج ١ / ٦٢.

(٣) رسالة وجوب صلاة الجمعة للشهيد الثاني المطبوعة ضمن رسائل الشهيد الثاني : ٩١.

(٤) انظر فرج المهموم للسيّد ابن طاووس قدس‌سره.


المتقدّمين ، وقال : إنّي لأعجب ممّا صدر منه من المسامحة في دعوى الإجماع الّذي صنّفه للرّد على المخالفين وما كان ينبغي مثل ذلك لمثله.

ومثل العلاّمة المجلسي في كتاب الصّلاة من « البحار » ؛ فإنّه قد طعن على إجماعاتهم ـ بعد ما بيّن معنى الإجماع ووجه حجيّته عند الأصحاب ـ :

« بأنّهم لمّا رجعوا إلى الفروع كأنّهم نسوا ما أسّسوه في الأصول ؛ فادّعوا الإجماع في أكثر المسائل سواء ظهر الاختلاف فيها أم لا ، وافق الرّوايات المنقولة فيها أم لا ؛ حتّى إنّ السيّد وأضرابه كثيرا ما يدّعون الإجماع فيما يتفرّدون به أو يوافقهم عليه قليل من أتباعهم. وقد يختار هذا المدّعي للإجماع قولا آخر في كتابه الآخر ، وكثيرا ما يدّعي أحدهم الإجماع على مسألة ويدّعي الآخر الإجماع على خلافه ؛ فيغلب على الظّن أنّ مصطلحهم في الفروع غير ما جروا عليه في الأصول » (١). إنتهى كلامه رفع مقامه.

وقال أيضا ـ في مقام الطّعن على إجماعات القدماء في محكي « مرآة العقول » مع غاية تبحّره واطّلاعه على كثير من أصول القدماء وكتبهم ـ :

« بأنّ الإفتاء لم يكن شائعا في زمان الكليني وما قبله بل كان مدارهم على نقل الأخبار وكانت تصانيفهم مقصودة على جمعها وروايتها ، ولهذا يتعسّر بل يتعذّر الاطّلاع على الخبر المجمع عليه بينهم بطريق الإفتاء ويتعسّر معرفة المشهور على هذا الوجه أيضا » (٢). انتهى كلامه رفع مقامه.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٨٦ / ٢٢٢.

(٢) لم نعرف الحاكي.


وقد حكي عن الورع المحقّق وغيره الطعن على إجماعاتهم في جملة من المسائل هذا.

وأمّا كلماتهم الدالّة على عدم اعتنائهم بنقل الإجماع ، فأكثر من أن تحصى.

فمنها : ما حكي عن العلاّمة في مسألة الاكتفاء في صوم شهر رمضان بنيّة واحدة لكلّ الشّهر ـ من نقله دعوى الإجماع عليه عن الشّيخ والمرتضى بل عن المفيد ، كما عن محكيّ « المختلف » (١) وعزاه العلاّمة نفسه إلى الأصحاب (٢) ولم ينقل في المسألة خلافا. ومع ذلك أفتى في بعض كتبه بخلافه (٣) ومال إليه في آخر (٤) لعلّة عقليّة لا تصادم الإجماع أصلا ، وردّ الإجماع بعدم الثّبوت وقال : « إنّ ما ذكره أصحابنا في الاحتجاج على الحكم قياس محض لا نقول به ؛ لعدم النّص على الفرع وعلى علّته » (٥).

ونقل أيضا في كفّارة وطيء الحائض عن الشّيخ والمرتضى : الإجماع على الوجوب وكذا عن ابن زهرة وابن إدريس ، واختار الاستحباب ، وردّ الإجماع بأنّا لم نتحقّقه (٦) ، مع أنّه لم ينقل الخلاف إلاّ عن الشيخ في خصوص « النّهاية » (٧) ، وقد

__________________

(١) انظر مختلف الشيعة : ج ٣ / ٢٤٣.

(٢) انظر تذكرة الفقهاء : ج ٦ / ١٦.

(٣) منتهى المطلب : ج ٢ / ٥٦٠ ط ق.

(٤) لم نعثر عليه عاجلا.

(٥) منتهى المطلب : ج ٢ / ٥٦٠ ط ق ، وكذا : ج ٩ / ٣٧ ط آستان قدس رضوي.

(٦) ليس لذكر الإجماع فيما بين أيدينا من كتبه أثر. نعم ، الموجود في المختلف : ان الشيخ في


حكي عنه في سائر كتبه المتأخّرة عنها الوجوب ، ودعوى الإجماع عليه ، إلى غير ذلك من كلماته الصّريحة في ذلك ، يقف عليها الرّاجع إلى كتبه.

نعم ، المحكيّ عنه في « التّذكرة » (١) و « المنتهى » (٢) الاستدلال بنقل الإجماع في خصوص مسألة التكفير في الصّلاة ، مع أنّ كتبه مشحونة من الاستدلال بما يتراءى كونه من الاعتبارات والاستحسانات العقليّة (٣).

فيحتمل كون ذكره نقل الإجماع فيهما في تلك المسألة وفي محكي « المختلف » في مسائل ، من باب مجرّد التّأييد والاعتضاد ، وإلاّ كيف يجامع ما عرفت : من ردّه نقل الإجماع بعدم الثّبوت الصّريح في عدم حجيّته؟

فهل ترى هذا النّحو من السّلوك في الأخبار؟ وهل يجامع حجيّته مع هذا الّذي صرّحوا به؟ حاشا ثمّ حاشا.

__________________

قوله بالوجوب إحتج بعدّة من الروايات ولم يذكر الإجماع انظر مختلف الشيعة : ج ١ / ١٨٦ ـ المسألة : ١٣١.

انظر النهاية للشيخ الطوسي : ج ١ / ٢٣٧ ط جماعة المدرسين.

(٨) تذكرة الفقهاء : ج ٣ / ٢٩٥.

(٩) منتهى المطلب : ج ٥ / ٢٩٨.

(١٠) قال المحقق المجدد الطهراني رضوان الله تعالى عليه :

« وأمّا ما يتراءى من كلمات آية الله العلاّمة قدس‌سره وغيره من الإستناد إلى الأقيسة والإستحسانات فإنما هو في مقابل العامّة والاّ فالمدرك غير ما ذكر كما لا يخفى على الفقيه الماهر ، وحيث خفي هذا المعنى على بعض من لا خبرة له في الفقه ولا بصيرة له بأحوال الفقهاء رضوان الله عليهم صدر منه ما لا يليق إلاّ به » إنتهى. محجّة العلماء : ج ١ / ٣٣.


ومنها : ما عن الفخر ؛ فإنّه وإن كان يوجد في « تعليق الإرشاد » (١) تمسّكه بنقل الإجماع في جملة من المسائل المعدودة ، كنجاسة غسالة الحمّام ، وفساد الصّوم بالحقنة بالمائع ، وردّ الوديعة الممزوجة بالمغصوب إلى المودع وعدم قبول شهادة الولد على والده ، إلى غير ذلك ، إلاّ أنّ موارد اعتراضه على من نقل الإجماع أكثر بمراتب. فلا بدّ أن يحمل كلامه في موارد التمسّك على ما يجامع هذه الموارد الكثيرة الّتي صرّح فيها بعدم اعتباره.

ومنها : ما عن السيّد عميد الدّين ـ ابن أخت العلاّمة وتلميذه ـ فإنّه وإن اختار في الأصول ـ تبعا لشيخه ـ حجيّة نقل الإجماع وذكر ما يقتضي كون الاطّلاع على الإجماع مستحيلا عادة ، إلاّ أنّ أكثر كلماته في الفقه ينادي بالإعراض عن هذا القول. وإن وجد منه التّمسّك على وجه التّأييد والاعتضاد لا الاعتماد في مسائل قليلة.

ومنها : ما عن الشّهيد ؛ فإنّه وإن اختار في الأصول أيضا ما اختاره شيخه وأستاذه عميد الدّين من اعتباره ، واحتجّ به في جملة من الفروع إلاّ أنّه أعرض عنه في فروع أخر ، وصرّح بأنّ حجيّته في حقّ من عرفه كما في « الدّروس » (٢) ، فإنّه ذكر في مسألة شهادة الولد على والده : ( أنّ الأكثر على عدم قبولها وأنّ الشيخ (٣) نقل فيه الإجماع ) ، ثمّ ذكر فتوى المرتضى قدس‌سره بالقبول ، وقال : ( وهو قوي والإجماع

__________________

(١) لم نعثر على الكتاب.

(٢) الدروس الشرعيّة للشهيد الأوّل : ج ٢ / ١٣٢.

(٣) أنظر الخلاف للشيخ الطوسي : ج ٣ / ٣٤١ ـ مسألة ٤٥.


حجّة على من عرفه ) (١) ، مع أنّه في « اللّمعة » مال إلى المنع. بل عن « غاية المراد » ـ بعد نقل الشّهرة على المنع ـ قال : ربّما كان إجماعا وحكي نقل الإجماع عليه عن المرتضى في « الموصليّات » وعن الشيخ وابن إدريس. ونقل عن « الإستبصار » و « الفقيه » وجود خبر فيه ومع ذلك لم يعتمد عليه وجعله حجّة على من عرفه ، فإذا لم يعتمد على هذا النّقل فكيف يعتمد على سائر الإجماعات المنقولة؟!

وعن « الذّكرى » ـ بعد نقل قول المرتضى قدس‌سره بوجوب التّكبير في العيدين واستدلاله عليه بالأمر في الآية وبالإجماع ـ قال : ( وأجيب بأنّ الأمر قد يرد للندب فيثبت مع اعتضاده بدليل آخر والإجماع حجّة على من عرفه ) (٢). واختار في سائر كتبه النّدب (٣) أيضا ولم يعبأ بنقل الإجماع في المسألة ؛ مع أنّ المعروف من مذهبه كما سيأتي نقله التمسّك بالشّهرة فهو أوهن منها عنده.

ومنها : ما عن الفاضل السّيوري الشّيخ الأجلّ المقداد في كتبه ، والشّيخ أحمد بن فهد أبي العبّاس الحلّي قدس‌سره والشيخ الفاضل الصّيمري قدس‌سره.

فإنّه وإن وجد في كتبهم التّمسك بنقل الإجماع أحيانا وفي بعض المسائل ، إلاّ أنّ مواضع تمسّكهم في جنب موارد إعراضهم كنسبة القطرة إلى البحر ؛ فيكشف ذلك : عن أنّ تمسّكهم به في مواضعه إنّما هو من باب مجرّد التأييد والاعتضاد للدّليل الموجود عندهم فيها كتمسّكهم كثيرا بالإعتبارات الظّنيّة والاستحسانات

__________________

(١) الدروس الشرعيّة : ج ٢ / ١٣٢.

(٢) ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة : ج ٤ / ١٧٨.

(٣) البيان : ١١٤ ، والدروس : ج ١ / ١٩٤ ، واللمعة الدمشقيّة : ٣٣.


العقليّة ، مع أنّ المعلوم من مذهبهم عدم حجيّتها.

ومنها : ما عن المحقّق الكركي في « جامع المقاصد » وغيره من كتبه ؛ فإنّه وإن تمسّك به في بعض المسائل تأييدا إلاّ أنّه أعرض عنه في أكثر المسائل معلّلا بوجود المخالف ، وهي كثيرة جدّا.

ومنها : ما يشاهد من ثاني الشّهيدين وولده وسبطه وأتباعهم الّذين سلكوا مسالكهم ؛ فإنّ من راجع كتبهم يحصل له العلم بعدم اعتنائهم بنقل الإجماع وإعراضهم عنه بمجرّد وجود المخالف ولو كان متأخّرا عن ناقله ، فلا تغترّ إذن بما اختاره جمع ممّن قارب عصرنا من المشايخ الأعلام من التمسّك بنقل الإجماعات في كثير من المسائل حتّى الإجماعات الموهونة وتشييدهم أمره ؛ حتّى إنّهم جعلوه بمنزلة الخبر الصّحيح.

كلام المحقّق التستّري في عدم حجّيّة نقل الإجماع باعتبار المنكشف

إذا عرفت ذلك فلنصرف العنان إلى نقل كلام الشّيخ المحقّق التّستري في المقام الثّاني من المقامين اللّذين ذكرهما وهو : عدم حجيّة نقل الإجماع باعتبار المنكشف ، وإن كان محصّل كلامه باعتبار نقل الكاشف أيضا يرجع إلى عدم حجيّته بالمعنى المعروف حقيقة ـ حسبما عرفته سابقا ـ قال قدس‌سره :

« المقام الثّاني : عدم حجيّته بالاعتبار (١) الثّاني ؛ وهو ما انكشف للناقل من السّبب بادّعائه. والكلام فيه حيث ظهر منه ادّعاء العلم بقول المعصوم عليه‌السلام أو رأيه

__________________

(١) كذا وفي المصدر : بإعتبار.


ونحوه على وجه التّعلق.

وهذا إمّا لتصريحه به ، أو لتعبيره بما يقتضيه من جهة الاصطلاح كلفظ الإجماع ، أو من جهة دعوى الاتفاق في مقام الاحتجاج ، وهو ممّن لا يعتمد عليه بنفسه ، أو لكونه يعتقد الملازمة بينه وبين الكشف. أمّا إذا لم يظهر منه ذلك ، فلا شبهة في عدم حجيّته بهذا الاعتبار.

وأولى منه ما إذا أظهر خلافه كما إذا ادّعي الاتّفاق ونحوه على حكم في غير مقام الاستدلال وخالفه كما تقدّم عن العلاّمة ، أو صرّح بمنع الملازمة ونحوه ما إذا علّق دعوى الإجماع ونحوه على ما لم يعلم هو عند النقل بثبوته ، ولا سيّما إذا لم يكن عليه مبنى الكشف بل مجرّد الاتّفاق واحتمل وجود نظائره ممّا يقدح في ذلك فيما لم نقف عليه من كتب الأصحاب وفتاواهم الّتي يتعذّر حصرها وضبطها والعلم بها.

وذلك كما إذا علّق دعواه على كون مراد فلان كذا ، أو عدوله إلى كذا ، أو تأخّر تصنيف كتابه فلان عن كذا ، أو صحّة طريق فلان في الإجماع أو دعوى الكشف أو نحو ذلك ممّا علّقها عليه ولم يعلم به وإن ظهر لنا ثبوته أو الاستغناء عنه. وهذا خارج في الحقيقة غالبا من الإجماع المنقول المبحوث عنه ، كما هو ظاهر.

ثمّ إذا ظهر منه ادّعاء ما ذكر ، فإن عبّر بما يقتضي دخول المعصوم عليه‌السلام بعينه أو ما في حكمه في المجمعين :

فإن علم أو استظهر كون ذلك باعتبار دعوى الكشف من أحد الوجوه المتقدّمة الغير المقتضية لذلك دخل في محلّ النّزاع. وكذا إذا شك في ذلك ؛ لأنّه مع


تعدّد الاحتمالات وتساويها يؤخذ بأدناها.

وإن علم أو استظهر كون ذلك باعتبار دعوى الاطّلاع على قوله أو فعله عليه‌السلام بعينه أو نحوه ، فإن صدر ذلك ممّن يحتمل في حقّه اللّقاء والسّماع ولو بما مرّ في الوجه الثّاني عشر ، بناء على جواز تصديق مدّعيه (١) ، دخل بهذا في باب السّنة والخبر وكان حجّة مع وثاقة ناقله بهذا الاعتبار كما هو الشّأن في سائر ما رواه الثّقات الّذين يحتمل في حقّهم ما ذكر وإن لم يصرّحوا به.

وإن صدر ممّن لا يحتمل في حقّه ذلك ، دخل في الأخبار المرسلة المتعلّقة بما يتوقّف على السّماع أو المشاهدة مع عدم تحقّقهما للمخبر ، فكان كما يوجد في كتب الفريقين من نسبة بعض الأحوال إلى أحد الأئمّة عليهم‌السلام خصوصا أو عموما في ضمن النّقل عن الصّحابة أو التّابعين أو أهل بلد فيه أحدهم ، حيث لم يظهر من القرائن فقد من عداه خاصّة ؛ فيجري عليه حكم ما قرّر في الأخبار وطرقها وما ورد فيما رواه العامّة عن عليّ عليه‌السلام حيث كان النّاقل منهم (٢) ، لا حكم نقل سائر آحاد الأقوال ؛ فإنّه يتسامح في معرفتها من وجوه شتّى كما أشرنا إليه سابقا ؛ لأنّه

__________________

(١) بل بناء على افتراض إمكان الملاقاة في عصر الغيبة الكبرى مع الوليّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلا فإن جواز التصديق وعدمه متفرّع على ذلك ومتأخّر عنه كما هو واضح.

(٢) إشارة إلى الخبر الذي أورده الشيخ الطوسي عليه الرحمة في عدة الأصول مرسلا عن الإمام الصادق عليه‌السلام حيث فيه :

« إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما رووا عنّا ، فانظروا إلى ما رووا عن علي عليه‌السلام فاعملوا به ». العدّة : ج ١ / ١٤٩.

أقول : ولعلّ الصحيح : فيما روي عنّا ... إلى آخره.


لا يعتقد بمعرفتها الاحتجاج بها على وجه الاستدلال ؛ لمعرفة الأحكام وأصول الشّريعة كسائر الأدلّة ولم يقع فيها ـ من الاختلال الّذي يتعذّر أو يتعسّر غالبا إدراكه ويختلف الأنظار فيه ـ ما وقع في أخبار الأئمّة عليهم‌السلام ، ومن ثمّ فرق بينهما فيما ذكر. وقد وقع نظيره في الشّهادات والأقارير أيضا ، فاعتبر في بعضها من التّعيين والتّفصيل ما لم يعتبر في أخرى.

وأمّا ما صدر من كثير من أعاظم الأصحاب وغيرهم من الاعتماد على بعض المراسيل ، فليس ذلك باعتبار قطع المرسل بصدق الخبر ـ كما يظهر من بعض من لا يعتدّ به ، مع شهادة الأمارات بخلاف ذلك ـ بل لاستظهار عدم إرساله إلاّ عن ثقة يعتمد على خبره ، أو من شهدت القرائن الخاصّة برجحان صدقه ، كما بيّن مفصّلا في محلّه (١).

وإذا علم أو استظهر من النّاقل دعوى العلم بقول المعصوم عليه‌السلام أو غيره ممّا سبق بطريق الكشف الناشئ عن أحد الوجوه المتقدّمة الغير المقتضية للعلم بقوله عليه‌السلام ، بعينه أو ما في حكمه وهذا هو الّذي نفينا حجيّته في حقّ غيره.

والدّليل عليه : أنّه أخذ ذلك من مقدّمتين :

الأولى : أنّ الحكم قد تحقّق فيه اتفاق العلماء ، أو علماء العصر ، أو علماء فيهم مجهول النّسب ، أو غير ذلك من أسباب الكشف. وهذه وجدانيّة ، يجوز فيها تصديقه والتّعويل على خبره المستند إلى الحسّ ، ولو باعتبار أسبابه وآثاره مع عدم ظهور خلافه كما سبق. ولا يعوّل فيها على قطعه المستند إلى حدسه الّذي هو

__________________

(١) أنظر الكتب الرجالية ـ التوثيقات العامة ، بحث مشايخ الثقات.


حكم عقلي يختصّ اعتباره بنفسه ، مع احتمال قبوله بالنّسبة إلى قول غير المعصوم عليه‌السلام أيضا لما مرّ من التّسامح في أمره.

والثّانية : أنّ كلّ ما كان كذلك فهو موافق لقول المعصوم عليه‌السلام أو رأيه أو مقتضى الدّليل القاطع أو المعتبر مطلقا أو الحكم الظّاهري الّذي هو مناط التّكليف. وهذه من المسائل الأصوليّة النّظريّة الّتي لا يجوز للفقيه أن يعتمد فيها على غيره ، ولا سيّما مع معركة الآراء ومختلف الأهواء. وإن وافق رأيه فيها رأي ما قبل الإجماع فهو من باب توافق الرّأيين ، لا من التّقليد الممنوع منه بلا ريب. ومن ثمّ بنى كلّ منهم في الأصول والفروع على ما أدّى إليه نظره الثّاقب ، كما هو طريقتهم في سائر المطالب.

وإذا لم يجز للفقيه أن يعتمد فيها على غيره لم يجز له ذلك في النّتيجة المأخوذة منها المعدودة من جزئياتها. وذلك لوجهين : إجماليّ وتفصيليّ.

أمّا الأوّل : فهو أنّها فرعها ومن جزئيّاتها ويجري فيها من الحكم بالصّواب والخطأ ما يجري فيها في الحكم ويوافقها فيه ضرورة. ولذلك لو قال الفقيه : إنّ الحكم متّفق عليه بين مجتهدي العصر ، وكلّ ما كان كذلك فهو حقّ ـ على رأي الشّيخ أو على رأي العامّة ـ فالحكم حقّ ، كان باطلا. بل إنّما يكون حقّا على أحد الرأيين خاصّة. فالحكم في الإجماع المنقول أيضا ذلك ، بل هو أولى به.

ولو قال الرّاوي ـ في إثبات فوريّة شيء ـ : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر به. والأمر للفور ، لم يعتمد إلاّ على إخباره بصدور الأمر منه ؛ لأنّه أمر وجدانيّ ، إلاّ إذا أخبر أيضا بمصادفة الأمر لوضع أو قرينة وجدانيّة ، مقتضيين للفوريّة ، فيعتمد عليه فيهما أيضا ؛ لما ذكر. ولهذا صرّح الشيخ والمرتضى والعلاّمة وغيرهم من محقّقي الخاصّة


والعامّة : بأنّه لا يجوز تخصيص العموم بمذهب الرّاوي. وصرّحوا أيضا : بأنّه لا يتعيّن معنى المجمل بحمل الرّاوي له على أحد محتمليه » (١).

إلى أن قال :

« وأمّا الثّاني : فيبنى على توطئة مقدّمة ، وهي : أنّ أدلّة الأحكام منحصرة عند جميع فرق الإسلام على اختلافهم في عددها وشروطها في أمور منها : نقليّة معروفة لا تعرف إلاّ بالسّماع أو المشاهدة والنّقل المسموع المنتهي إليهما.

ومنها : عقليّة معلومة منقسمة إلى مطلقة ومقيّدة ـ بعدم المنافي الرّافع لحكمها من النّقل ـ وإلى مستقلّة ومنضمّة مع السّمع.

وقد اتّفقوا على أنّ الأولى حجّة على من وقف عليها أوّلا ومن يلقيه إليه بالواسطة من طريق التّواتر ونحوه ممّا يوجب العلم ، واختلفوا فيما بلغ منها من طريق الآحاد. واتّفقوا أيضا على أنّ الثّانية حجّة على من أدركها بعقله ، إذا كان من ذوي الإدراك لمثلها ومن أهله ، ما لم يبيّن له خطأه » (٢).

إلى أن قال :

« ثمّ لا ريب أنّ حجيّة ما عبّروا عنه بالخبر والرّواية ونحوهما من أحكامه إنّما هي لكونه حاكيا لما هو الدّليل المقرّر بالأصالة ، وهو السّنة النّبوية وغيرها ، وإذا تعلّق بما ليس بدليل لم يكن من أدلّة نفس الأحكام وإن كان قد يقبل ويعوّل عليه فيما يتعلّق بها أو بغيرها لمقاصد أخرى. وقد أطبق جميع فرق المسلمين ، بل

__________________

(١) كشف القناع : ٤٠٥ ـ ٤٠٨.

(٢) نفس المصدر : ٤٠٩.


وسائر الملّيّين على أنّه ليس من جملة الأدلّة ما يختلج في ضمائر آحاد الثّقات أو العلماء ويحكم به عقولهم ؛ فإنّه وإن وجب عليهم الاعتقاد به والعمل بمقتضاه كما وجب نحوه أيضا على سائر النّاس فيما أدركته عقولهم ، إلاّ أنّه ليس حجّة على غيرهم من العلماء ، بل فائدته مقصورة على أنفسهم وعلى مقلّديهم حيث وجب تقليدهم عليهم. ولقد نادى المصنّفون منهم بذلك في كتبهم ، وضرورة العقل أيضا تشهد بذلك ؛ إذ يستحيل على الله تعالى أن يجعل الأحكام الشّرعيّة المحكمة المنزلة في كتبه المكرمة المبنيّة على الحكم الباهرة والمصالح الخفيّة والظّاهرة منوطة بعقائد النّاس وأهوائهم مع عدم عصمتهم وشدّة اختلافهم واضطراب آرائهم » (١).

إلى أن قال ـ بعد جملة كلام له في الاستشهاد لما ذكره ـ :

إذا تمهّد ذلك فاعلم : أنّ الوجه في حجيّة الإجماع المنقول باعتبار المنكشف والتّعويل على النّتيجة المتقدّمة لا يخلو من أمور متقاربة :

الأوّل : أنّ الإجماع الكاشف من الحجج المنصوبة ـ لمعرفة أحكام الشّريعة ـ له وجود في الخارج ونفس الأمر كالسّنة ، فكما وجب العمل بالمعلوم منه بالتّحصيل أو التّواتر فكذا بالمظنون منه بنقل الثّقة لاقتضاء انسداد باب العلم وغيره من أدلّة حجيّة خبر الواحد ذلك كما قرّر في محلّه.

وفيه : أنّه إنّما يستقيم باعتبار السّنة عندنا في نقل نفس الاتّفاق المأخوذ في صغرى القياس ، وقد بيّنا جواز الاكتفاء في معرفته بنقل الثّقة مع مراعات ما مرّ

__________________

(١) المصدر السابق : ٤١١.


مفصّلا ، ولا يستقيم في نفس النّتيجة الّتي هي كالكبرى من الأحكام الذّهنيّة والاعتقادات العقليّة الّتي يختصّ حجيّتها بمدركها ومقلّديه » (١).

إلى أن قال :

« الثّاني : أنّ النّاقل الثّقة ادعى حصول العلم له من الإجماع بطريق الانكشاف رأي الإمام عليه‌السلام أو غيره ممّا يجب العمل به فيجب التّعويل عليه كما يجب فيما يدعي العلم به بالسّماع أو المشاهدة ؛ لأنّ المنشأ أمور محسوسة له حصل منها العلم بما هو حجّة وهو المناط ولا دخل لطريقه ولا يختلف الحكم باختلافه ، فالمستند تنقيح المناط المشترك بين الأمرين. وفساد ذلك ظاهر ممّا بيّناه سابقا. مع أن التّعويل على العلم المذكور الّذي هو المقيس ليس لنصّ » (٢).

إلى أن قال :

« الثّالث : أنّ انسداد باب العلم يقتضي جواز العمل بالظّن مطلقا ؛ فيجوز العمل بالإجماع المنقول لحصول الظّن من ذلك مع وثاقة النّاقل. وخروج بعض الظّنون بالإجماع لا يقتضي خروجه ؛ لمكان الخلاف.

وفيه : أوّلا : أنّ الخلاف المعتدّ به هنا إنّما هو باعتبار نقل الكاشف لا المنكشف كما سبق » (٣).

إلى أن قال ـ بعد ذكر أجوبة ـ :

__________________

(١) المصدر نفسه : ٤٥٦.

(٢ و ٣) المصدر السابق : ٤٦٠.


« وخامسا : أنّ الحقّ الحقيق بالاتّباع والتّحقيق : هو أنّ دليل انسداد باب العلم ـ على ما قرّرناه في محلّه ـ لا يقتضي إلاّ جواز العمل بالظّن في طريق الوصول إلى الأدلّة السّمعيّة المقرّرة واستنباط الأحكام منها ، فيقوم الظّن الخاص من نقل الآحاد على وجه السّماع أو المشاهدة كما هو المعهود المتعارف الّذي عليه جرت عادة النّقلة واستقامت الطّريقة مقام القطع الحاصل من السّماع أو المشاهدة والتّواتر المستند إليهما ، والعلم بوجوب العمل بخبر الثّقة الإمامي تعبّدا لحكمة لا يجب اطّرادها يقوم الظّن الحاصل من معاني الألفاظ وأمارات الحقيقة والمجاز ووجوه الجمع والتّرجيح وشواهد الجرح والتعديل مقام القطع بها ، فلا يعبأ بمطلق الظّن في طريق الوصول كما في قول الرّاوي : أظنّ أنّ الإمام عليه‌السلام قال كذا ، أو فعل كذا ، أو أنّ فلانا روى عنه كذا ، أو نحو ذلك ممّا وقع فيه الالتباس في الأصل ؛ من جهة نفس الصّدور ، أو ما صدر أو من صدر منه وإن حصل الظّنّ للرّاوي أو لغيره اعتمادا على ظنّه. فكيف يوجب العمل بالظّن بقول مطلق ويجعل طريقا مستقلاّ لمعرفة الأحكام؟

مع أن الأخبار المتواترة التي عليها مدار عمل الشّيعة إلى ظهور الخلف الحجّة عليه‌السلام صريحة الدّلالة على أنّ المدرك ـ بعد دليل العقل القاطع الّذي لا يزول ولا يختلف باختلاف الأزمنة والدّهور وبه تعرف الضّرورة والنّظر حجّة كلّ متعوّل وحقيقة كلّ مأثور ـ منحصر في الكتاب الّذي هو كلام الله اللّفظي المسموع المعروف ، والسّنة النّبوية صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإماميّة (١) الّتي هي القول المسموع من

__________________

(١) أي والسنة الإماميّة أي ما صدر عن الأئمة الأطهار « صلوات الله عليهم أجمعين » من قول أو فعل أو تقرير كما يذكره قريبا.


النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو خلفائه وفعلهم وتقريرهم ـ المعلومان بالمشاهدة ـ وما يستفاد منها من الأدلّة الّتي وجب العمل بها وإن لم يحصل منها الظّن بالحكم وتعدّ عند القدماء من الطّرق العلميّة ، لذلك ولأمر آخر ليس هذا موضع بيانه.

وهذا الحصر وقع عن أمر إلهيّ وعلم ضروري بما حدث لدى الشّيعة في زمن حضور من مضى من الأئمّة عليهم‌السلام وما يحدث في غيبة من بقي منهم عليهم‌السلام من الخلل والمفاسد في معرفة الأحكام وانسداد باب العلم بأكثرها في أزمنة السّلف فضلا عن الخلف لأمور ليس هنا موضع ذكرها وبيّناها في الرّسالة وغيرها.

وقد قضت الضّرورة أيضا : بأنّ الطّريق إلى الأحكام بعد البعثة هو النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعده خلفاؤه صلوات الله عليهم فالواجب أخذ الأحكام التّوقيفيّة منهم عليهم‌السلام فينحصر مدركها في الكتاب والسّنة ، ويجب على جميع الناس الرّجوع إليهما في جميع الأزمنة ؛ إذ لا موجب لرفع ذلك أصلا ؛ فإنّه لا نبيّ بعد نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا وصيّ له غير الأئمّة عليهم‌السلام ، ولا آثار باقية منهم بحيث يمكن التمسّك بها سوى الكتاب والسّنة المعروفين ، والطريقة المستمرّة المتداولة المأخوذة عنهم غالبا ومرجعها من النّقل أيضا إلى الأمرين خاصّة ؛ فالعبرة في انفتاح باب العلم وعدمه بهما لا بنفس الأحكام ، فلا وجه لجعل الانسداد سببا لفتح باب دليل آخر غيرهما ؛ على أنّه لو لا ما ذكرنا لكان الاقتصار عليهما ترجيحا للراجح المقرّر الّذي يرتفع به الضّرورة وكان مدار عمل الشّيعة في أزمنة الأئمة عليهم‌السلام مع تحقق الانسداد في معظمها بالنّسبة إلى أكثرهم فلا يكون ترجيحا بلا مرجّح كما أخذ في مقدّمات دليل الانسداد على ما بيّن في محلّه. فلا يلزم القول بحجيّة الظّن بقول مطلق ، مع أنّه ممّا لم يقل به أحد من علماء الأمّة على ما صرّح به المرتضى في بحث أخبار


الآحاد من « الذّريعة » (١). انتهى ما أردنا نقله من كلامه رفع في الخلد مقامه

وأنت خبير بأنّه فيما كان نقل الكاشف حجّة مستقّلة من غير حاجة إلى ضمّ أقوال وأمارات أخر من حيث كون المنقول لازما عاديّا لقول الإمام عليه‌السلام يكون نقل المنكشف من هذا الكاشف ـ بالاعتبار الّذي عرفته في مطاوي كلماتنا السّابقة ـ حجّة بناء على دلالة الآية على حجيّة الخبر في الحسيّات أو ما يرجع إليها حسبما عرفت مفصّلا ، إذن الانتقال من اللاّزم الحسّي إلى ملزومه بمنزلة إحساس الملزوم ولا دخل له بالرّأي والاجتهاد والنّظر ؛ حتّى يمنع من الأخذ به في حقّ المجتهد ، كما أنّه على تقدير عدم ثبوت المفهوم للآية لا يقول بحجيّة شيء منهما.

نعم ، فيما كان المنقول على تقدير تحقّقه غير كاشف في الكشف من حيث عدم ثبوت الملازمة بينه وبين قول الإمام عليه‌السلام عندنا وإن كانت ثابتة باعتقاد النّاقل كان النّقل مقيدا من حيث نقل جزء السّبب فيما لو انضمّ إليه الجزء الآخر بسبب الكشف ولم يكن مقيدا بالنّسبة إلى المنكشف باعتقاد النّاقل ؛ من حيث إنّ إخباره بالنّسبة إلى المنكشف لا يرجع إلى الحسّ ؛ من جهة عدم الملازمة العاديّة بالفرض بين المنقول وقول الإمام عليه‌السلام واقعا ، وإن اعتقدها النّاقل.

ويمكن تنزيل كلام الشّيخ المحقّق المتقدّم ذكره (٢) في التّفصيل الّذي ذكره ، على ما استدركناه أخيرا.

__________________

(١) كشف القناع : ٤٦٠ ـ ٤٦٢ والظاهر ان اللفظ مأخوذ من رسالة المواسعة والمضايقة للمحقق المزبور التي مرّت الإشارة إليها مسبقا وذلك لوجدان الإختلاف الكثير بين الفاظ كشف القناع والمذكورها هنا على ان الرسالة لا تزال مخطوطة.

(٢) المحقق الفقيه الشيخ أسد الله التستري.


والإنصاف أنّ في كلماته الّتي عرفتها شواهد للتنزيل المذكور ، وإن كان ربّما يتراءى منه في باديء النّظر إطلاق القول بالتّفصيل. وممّا ذكرنا على سبيل الإجمال تعرف مواضع النّظر في كلماته قدس‌سره وتقدر على تميزها عن مواضع الصّحة منها.

نعم ، ما أفاده أخيرا في الجواب الخامس : من اختصاص نتيجة دليل الانسداد بالظن في تشخيص طريق الأحكام لا في أنفسها ، منظور فيه. نتكلم فيه مفصّلا عند التكلّم في تنبيهات دليل الانسداد تبعا لشيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره.

تذنيب :

قد تعرّض غير واحد ممّن تعرّض للإجماع المنقول أنّه يدخل فيه ما يدخل الخبر من الأقسام ، ويلحقه ما يلحقه من الأحكام. قال في « المعالم » :

« وبالجملة فحكم الإجماع حيث يدخل في حيّز النّقل حكم الخبر ، فيشترط في قبوله ما يشترط هناك ويثبت له عند التّحقيق الأحكام الثّابتة له ، حتّى حكم التّعادل والتّرجيح على ما يأتي بيانه في موضعه. وإن سبق إلى كثير من الأوهام خلاف ذلك ؛ فإنّه ناش عن قلّة التّأمّل. وحينئذ فقد يقع التّعارض بين إجماعين منقولين وبين إجماع وخبر ؛ فيحتاج إلى النّظر في وجوه التّرجيح بتقدير أن يكون هناك شيء منها وإلاّ حكم بالتّعادل.

وربّما يستبعد حصول التعارض بين الإجماع المنقول والخبر من حيث احتياج الخبر الآن إلى تعدّد الوسائط في النّقل ، وانتفاء مثله في الإجماع ، وسيأتي بيان : أنّ قلّة الوسائط في النّقل من جملة وجوه التّرجيح.

ويندفع : بأنّ هذا الوجه وإن اقتضى ترجيح الإجماع على الخبر ، إلاّ أنّه


معارض في الغالب بقلّة الضّبط في نقل الإجماع من المتصدّين لنقله بالنّسبة إلى نقل الخبر ، والنّظر في باب التّراجيح إلى وجه من وجوهها مشروط بانتفاء ما يساويه أو يزيد عليه في الجانب الآخر كما ستعرفه » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وأنت خبير : بأنّ حكم التعارض من حيث التّرجيح أو التخيير ، إن كان على طبق الأصل فلا إشكال في جريانه في تعارض الإجماعين المنقولين أو نقل الإجماع والخبر ، وإلاّ فتسرية حكم تعارض الخبرين إليهما لا دليل عليه أصلا ؛ إذ مورد أخبار العلاج ترجيحا وتخييرا تعارض الخبرين والرّوايتين.

اللهم إلاّ أن يكون هناك إجماع على التّسرية كما يظهر من العلاّمة قدس‌سره ؛ فإنّه ادّعى الإجماع على أنّ الأخذ بأقوى الدّليلين واجب هذا. وسيأتي تفصيل القول في ذلك في الجزء الرّابع من التعليقة إن شاء الله.

في المتواتر المنقول

(٥٧) قوله قدس‌سره : ومن جميع ما ذكرنا يظهر الكلام في المتواتر المنقول ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٢٧ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ هنا سؤالا على ما أفاده في حكم نقل المتواتر ، يجري مثله فيما أفاده في نقل الإجماع أيضا من التّفصيل في الحكم باعتباره ؛ من حيث نقل الكاشف أو المنكشف ـ بناء على دلالة الآية على حجيّة خبر العادل في المحسوسات ـ بين كون المنقول عن حسّ لازما لقول الإمام عليه‌السلام حتّى في نظرنا أو

__________________

(١) معالم الدين وملاذ المجتهدين : ١٨٠ ـ ١٨١.


الدّليل المعتبر ، وبين عدم كونه لازما لأحدهما في نفس الأمر وإن اعتقد النّاقل الملازمة فأوجب له القطع بأحدهما ، فيكون معتبرا في الأوّل دون الثّاني.

وكذلك الأمر في نقل التّواتر في الخبر ؛ حيث إنّه يصدق فيما لو أوجب العدد الّذي أخبر به العلم بثبوت المخبر به لكلّ من اطّلع عليه دون ما لم يكن كذلك ، وهو أنّ التواتر على ما صرّحوا به صفة في الخبر يوجب العلم بصدق المخبرين من جهة نفس كثرتهم من دون ضمّ شيء آخر ، وإلاّ لم يكن الخبر متواترا ؛ ضرورة أنّه ليس كلّ خبر علميّ بمتواتر في الاصطلاح ، وليس هذا ممّا يختلف فيه أحد من الخاصّة والعامّة.

فإذا أخبر أحد بالتّواتر في خبر ، فقد أخبر بأخبار جماعة كثيرة يمنع عادة خطأهم وتواطؤهم على الكذب. وإن فرض كون عدد موجبا للعلم لأحد دون الآخر ، فلا يكون الموجب نفس العدد وإلاّ لم يتخلّف. فإذا فرض كون الموجب نفس العدد كما هو المفروض ، فلا بدّ أن يكون كذلك في حقّ كلّ أحد.

وكذلك نقل الإجماع على طريقة المتأخّرين ؛ فإنّ المفروض كون الموجب للعلم بقول الإمام عليه‌السلام للنّاقل ، نفس كثرة الفتاوى من دون ضمّ شيء آخر ؛ فإنّ الإجماع عند المتأخّرين القائلين بالحدس إنّما هو هذا المعنى ، لا مطلق اتّفاق جماعة أوجب العلم بقول الإمام عليه‌السلام من جهة انضمام أمور أخر هذا.

وقد يجاب عن هذا السؤال في الموضعين : بأنّ الكلام ليس في مفهوم التّواتر والإجماع ؛ فإنّه أمر مسلّم مفروغ عنه ليس فيه خلاف لأحد كما ذكر في السّؤال. وإنّما الكلام في تطبيق هذا المفهوم على الصّغريات ؛ ضرورة أنّ المتواتر ليس عددا معيّنا محصورا كالألف مثلا حتّى رجع الإخبار به دائما إلى الإخبار بالألف.


وكذلك الإجماع ليس اتّفاق جماعة معيّنة مشخّصة من حيث العدد حتّى يرجع نقله إلى نقل اتّفاق ذاك العدد المعيّن ، فيمكن أن يكون عدد موجبا وسببا للعلم باعتقاد شخص من جهة نفس كثرته ، فلا يتخلّف عنده وفي اعتقاده عن العلم دائما ، ولا يكون كذلك واقعا وفي نظر غيره. فيكون إيجابه العلم في نظره مع عدم كونه سببا له في نفس الأمر من جهة انضمام أمور مركوزة في النّفس في نفس الأمر مع غفلة النّاقل عنه أو اعتقاده عدمه ، وإلاّ لم يمكن التخلّف كما ذكر في السّؤال ، فكما توجب الأمور المركوزة في بعض الأحيان منع حصول العلم عمّا يكون مقتضيا له كما في التّواتر في حقّ من كان ذهنه مسبوقا بشبهة كذلك قد توجب العلم بمعنى السّببيّة النّاقصة باعتبار الانضمام إلى الخبر.

(٥٨) قوله قدس‌سره : ( وإلى أحد الأوّلين ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٢٩ )

أقول : اعتبار الشّرط الّذي اعتبره قدس‌سره في الأوّل : من كون العدد الّذي أخبر به الشهيد قدس‌سره موجبا وسببا في العادة للعلم بقراءة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتلك القراءات وصدق المخبرين عنها ؛ لم يعلم من كلام ثاني المحقّقين أو الشّهيدين ، بل ظاهرهما عدم اعتباره عند التّأمّل في كلامهما.

اللهمّ إلاّ أن يكون مراده قدس‌سره من الأوّل : كون الحكم مترتّبا على ما قرأه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيصدق الشّهيد في دعوى التّواتر مطلقا كما في نقل الإجماع ، إغماضا عمّا هو الحقّ الّذي عرفت تفصيل القول فيه ؛ من عدم قيام الدّليل على حجيّة خبر العادل فيما لا يرجع إلى الحسّ.

(٥٩) قوله قدس‌سره : ( ولا يخلو نظرهما عن نظر ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٢٩ )

أقول : من حيث إنّ الّذي قضى به الدّليل جواز القراءة بما قرأه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم


من غير اعتبار التّواتر فيه. ومن هنا ادّعى غير واحد الإجماع على جواز القراءة بجميع القراءات المختلفة مع اختلافهم في تواترها حسبما عرفت تفصيل القول فيه.

ودعوى : كون القراءة ملازمة للتواتر كما عن بعض ، لم يقم عليها دليل ؛ إلاّ توهّم توفّر الدّواعي على النّقل ، فاعتبار التّواتر في كلام من اعتبره إنّما هو من حيث الطّريقيّة لا الموضوعيّة.

* * *


* في حجية الشهرة الفتوائية

(٦٠) قوله قدس‌سره : ( ومن جملة الظّنون التي توهّم حجيّتها بالخصوص الشّهرة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٣١ )

أقول : الكلام في الشّهرة قد يقع في بيان حقيقتها وموضوعها وما هو المراد منها في كلماتهم ، وقد يقع في حكمها من حيث الحجيّة بالخصوص ، من جهة قيام دليل خاصّ عليها بعنوانها الخاص ، من غير نظر إلى كونها من جزئيّات مطلق الظّن ، فإنّه ليس مقصودا بالبحث في المقام.

أمّا الكلام فيها من الجهة الأولى فملخّصه : أنّ الشّهرة بحسب اللغة والعرف بمعنى البروز والظّهور ، ومنه : شهر فلان سيفه ، وسيف شاهر ، وقولهم : لا يلبس الرجل بالشهرة ، إلى غير ذلك من الاستعمالات. وفي كلماتهم قد يضاف إلى الفتوى بقول مطلق ، وقد يضاف إلى فتوى القدماء ، وقد يضاف إلى فتوى المتأخّرين ، وقد يضاف إلى أصحاب الحديث ، وقد يضاف إلى الرّواية.

كما أنّك عرفت في بحث الإجماع ـ : أنّه قد يطلق وقد يضاف إلى الصّحابة ، أو إلى أهل المدينة ، أو إلى الخاصّة ، أو إلى العامّة ، أو فقهاء أهل البيت ، إلى غير ذلك من الإضافات.

والكلام إنّما هو في الإطلاق الأوّل إلى الشّهرة في الفتوى بقول مطلق ، ولا


كلام في اعتبار فتوى جلّ المعروفين بها ، وإنّما يختلف بحسب الأزمنة ، فإنّها في زمان العلاّمة مثلا يتحقّق بفتوى جلّ المعروفين من أهل الفتوى إلى زمانه ، وفي زماننا يعتبر فتوى المعروفين من زمانه إلى زماننا أيضا وهكذا. كما أنّه لا كلام في أنّه يعتبر فيها عدم موافقة الكلّ ، وإلاّ لم يكن شهرة ، بل يدخل في الإجماع.

إنّما الكلام : في أنّه يعتبر فيها العلم بمخالفة بعض المعروفين ، أو يعتبر فيها عدم العلم بالموافقة وإن لم يعلم بالمخالفة؟ صريح شيخنا قدس‌سره الثّاني.

وعلى كلّ تقدير الظّاهر اعتبار عدم حصول العلم من الفتاوى بقول المعصوم عليه‌السلام ، وإلاّ خرجت عن الشهرة ودخلت في الإجماع ، ومن هنا قالوا : إنّه لا يقدح خروج معلوم النّسب في الإجماع.

نعم ، هنا احتمال آخر ضعيف ، وهو دخول فتوى الجلّ للموجبة للعلم بقول المعصوم عليه‌السلام ، مع مخالفة الباقين في الشّهرة موضوعا ، ولحوقها بالإجماع حكما ، فتدبّر.

فالشهرة وإن لم تكن مقابلة للإجماع بحسب اللغة والعرف العام المطابق لها ، إلاّ أنّها مقابلة له في العرف الخاص ، وإن افترقا في الاصطلاح من جهة أخرى ، غير اعتبار حصول العلم من الإجماع ، واعتبار عدمه في الشّهرة ؛ حيث إنّ المعتبر في الإجماع اتّفاق الكلّ في عصر واحد ، والمعتبر في الشّهرة اعتبار اتّفاق الجلّ الّذي لا يتحقّق في عصر إلاّ باعتبار الإضافة الخارجة عن محلّ البحث.

وكيف كان قد يستند بعض المشتقّات من هذه الكلمة إلى العلماء فيقال : ذهب المشهور ، أو قال المشهور ، أو نحوهما.

وأنت خبير : بأنّ هذا الإسناد لا يخلو عن تكلّف ، بأن يقال : إنّ المراد ذهاب


من يتحقّق من قولهم الشّهرة في المسألة ، أو نحو ذلك ، هذا بعض الكلام في موضوع الشّهرة.

حكم الشهرة من حيث الحجّيّة وعدمها

وأمّا الكلام فيها من الجهة الثّانية إلى حكمها من حيث الحجيّة بالخصوص وعدمها فملخّصه : أنّ المستفاد من كلماتهم في حكمها قولا أو احتمالا وجوه :

أحدها : ما نسب اختياره إلى الشّهيد قدس‌سره في « الذّكرى » ، وإلى بعض الأصوليّين من أصحابنا المتأخّرين (١) في رسالته الّتي أفردها في الشّهرة : من كونها حجّة بالخصوص ، بل يظهر من محكي الشّهيد قدس‌سره ذهاب بعض من تقدّم عليه إلى هذا القول. فإنّه قال ـ في محكيّ « الذّكرى » ـ : وألحق بعض الأصحاب المشهور بالمجمع عليه ، وهو قريب ، إن أراد الإلحاق في الحجيّة لا في كونه إجماعا.

ثمّ استدلّ له بوجهين :

« أحدهما : أنّ عدالتهم تمنع من الاقتحام على الإفتاء بغير علم.

ثانيهما : حصول قوّة الظن في جانب الشّهرة ، ثمّ قال سواء كان اشتهارا في الرّواية ، بأن يكثر تدوينها ، أو في الفتوى » (٢).

ثانيها : ما ذهب إليه الأكثر ، بل نقلت الشّهرة عليه : من عدم حجيّتها

__________________

(١) الفاضل الفقيه الشيخ أحمد النّراقي قدس‌سره والرسالة مخطوطة.

(٢) ذكرى الشيعة : ج ١ / ٥١.


بالخصوص ، ثمّ إنّ القائلين بهذا الوجه منهم من يذهب إلى عدم حجيّتها رأسا بقائها تحت أصالة حرمة العمل بالظّن وغير العلم ، وهم الأكثرون منهم من جهة ذهابهم إلى حجيّة الظّنون الخاصة الكافية في الفقه بانضمام الأدلّة العلميّة. ومنهم من يذهب إلى حجيّتها من حيث الظّن المطلق الخارج عن محلّ البحث.

ثالثها : ما يقال : من عدم حجيّتها بالخصوص ، وكونها كالقياس المحرّم عند الشّيعة.

ثمّ إنّ الأصل في المسألة لمّا كان عدم الحجيّة على ما عرفت : من أنّه الأصل الأوّلي في كلّ ما لم يقم دليل على اعتباره ، فلا محالة لا يحتاج القول الثّاني إلى الاستدلال أصلا لكونه على طبق الأصل ، فالمحتاج إلى الاستدلال الوجهان الآخران.

فما ارتكبه بعض الأفاضل ـ ممّن قارب عصرنا في رسالته المعمولة في المسألة ـ : ( من الاستدلال على عدم الحجيّة بحكم العقل ؛ من حيث إنّ حجيّتها مستلزمة لعدمها ، فإنّ المشهور عدم حجيّة الشهرة ، وما يستلزم وجوده عدمه ، فهو محال ) (١).

ممّا لا يحتاج إليه أصلا ، حتّى نتكلّم في الجواب عنه :

تارة : بأنّ الشّهرة القائمة على عدم حجيّة الشهرة قائمة في المسألة

__________________

(١) رسالة في الشهرة مخطوطة للمولى العالم الفاضل الفقيه الحاج الشيخ أحمد النراقي المتوفي سنة ١٢٤٥ ه‍ إبن المولى العلامة الفقيه الحاج الشيخ مهدي النراقي المتوفي سنة ١٢٠٩ ه‍ ، وانظر منهاج الاصول / منهاج في الشهرة : ٢٠٧.


الأصوليّة ، والشهرة الّتي ذهبوا إلى حجيّتها هي الشّهرة في المسألة الفرعيّة ، فلا يستلزم من حجيّتها عدم حجيّتها.

وأخرى : بأنّ مرجع الشّهرة القائمة على عدم حجيّة الشّهرة إلى عدم وجدان المشهور دليلا على حجيّتها ، فحكموا بعدمها ؛ من حيث الأصل ، فلا كشف في هذه الشّهرة أصلا ، فهي نظير بيّنة النّفي المستندة إلى الأصل ، ومن هنا حكموا بعدم حجيّتها ؛ من حيث عدم كشفها عن شيء.

فملخّص قول المشهور : أنّهم لم يجدوا دليلا على حجيّة الشّهرة ، فلا يعقل جعله أمارة على عدم الحجيّة ، إلاّ أن يجعل عدم وجدانهم أمارة على عدم الوجود ، فتدبّر.

فيما يستدلّ به لصالح مختار الشهيد قدس‌سره

أمّا الوجه الأوّل : الّذي اختاره الشّهيد قدس‌سره وبعض آخر فيستدلّ له بوجوه : أحدها : ما استدلّ به الشّهيد فيما عرفت من كلامه : من أنّ عدالتهم يمنع من الإقدام على الإفتاء بغير علم ، ومراده من العلم هو العلم بالحكم بالمعنى الأعمّ من الحكم الواقعي والظّاهري ، كما قيل في وجه تعريف الفقه بالعلم بالأحكام ، مع كون أكثر مداركه ظنيّة.

وأنت خبير بأنّ هذا الوجه لا محصّل له أصلا ؛ إذ العلم باستناد المشهور إلى ما لا نراه دليلا ، أو إلى ما لا يفيد العلم بالواقع في نظرنا ، أو إلى ما يحتمل الخطأ في حقّهم ، ليس أمرا يستحيله عقل أو عادة ، غاية ما هناك الظّن بإصابتهم للواقع ما لم يكن هناك ما يوجب الوهن في إفتائهم ، فيرجع الأمر بالأخرة إلى دعوى كون


الشّهرة من الأمارات الظّنية ، ولا كلام لنا فيه أصلا ، وإن منعه في « المعالم » في الشّهرة الحاصلة بعد زمان الشّيخ قدس‌سره وإنّما الكلام والبحث في المقام في الكبرى ، أي : حجيّة الظّن الحاصل منها بالخصوص.

ثانيها : ما يستفاد من كلامه قدس‌سره أيضا من قوّة الظّن في جانب الشّهرة ، وهذا كما ترى يرجع أيضا إلى بيان الصّغرى والاستدلال بها ، وكبراها :

إمّا مبنيّة على حجيّة مطلق الظّن القوي بدليل الانسداد ، كما يستفاد من « المعالم » : من كون نتيجة دليل الانسداد حجيّة الظّن القوي على ما سيأتي الكلام فيه ، وهو خارج عن محلّ البحث ؛ إذ ليس الكلام في حجيّة الشّهرة على تقدير القول بحجيّة مطلق الظّن.

وإمّا مبنيّة على ما زعمه بعض : من دلالة ما دلّ على حجيّة خبر العادل على حجيّة الشّهرة بالأولويّة ؛ من حيث كون الظّن الحاصل منها أقوى من الظّن الحاصل من الخبر ، وسيأتي الكلام في فساد هذا الدّليل عن قريب.

ثالثها : ما دلّ من أخبار العلاج على التّرجيح بالشّهرة من حيث الرّواية مثل مرفوعة زرارة (١) ، ومقبولة عمر بن حنظلة (٢).

وتقريب الاستدلال بكلّ منهما من وجهين :

__________________

(١) مستدرك الوسائل كتاب القضاء الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ـ ح ٢.

(٢) الكافي الشريف : ج ٧ / ٤١٢ ـ ح ٥ ، والفقيه : ج ٣ / ٥ ـ ح ٢ ، والتهذيب : ج ٦ / ٢١٨ ـ ح ٥١٤ ، عنهما [ أي الكافي والتهذيب ] الوسائل : ج ٢٧ / ١٣٦ الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ـ ح ١.


أحدهما : جعل الموصول في قوله : ( ما اشتهر ) وفي قوله : ( فإنّ المجمع عليه ) بناء على كون اللاّم موصوليّا أعمّ من الرّواية والفتوى.

ثانيهما : جعل الموصول خصوص الرّواية ، وجعل العلّة في تقديمها الاشتهار من حيث إنّه اشتهار بالمعنى الأعمّ من شهرة الرّواية والفتوى ، لا بمعنى كونها علّة للتّرجيح فقط ؛ حتّى يقال : إنّ غاية ما تدلّ عليه الرّوايتان على هذا التّقريب كون الشّهرة من حيث الفتوى مرجحة ، لا حجّة مستقلّة والفرق بينهما ظاهر ، ولا ملازمة بحسب القول بين الأمرين ؛ حتّى يستدلّ بثبوت أحدهما على ثبوت الآخر ، بل بمعنى كون التّرجيح بها من حيث كونها مرجّحا ، غاية الأمر عدم صلاحيّة الشّهرة من حيث الرّواية لجعلها حجّة مستقلّة ، لكنّه لا يصلح لمنع هذا المعنى في الشّهرة من حيث الفتوى ، هذا.

ولكنّك خبير بظهور فساد كلا التّقريبين ، بحيث لا يحتاج إلى البيان ؛ ضرورة فساد جعل الموصول في الروايتين للأعمّ من الرّواية. وأوضح منه فسادا الوجه الثّاني ، بالتّقريب الّذي عرفته.

رابعها : ما استدلّ به بعضهم : من فحوى ما دلّ على حجيّة خبر الواحد ، من حيث إنّ الخبر حجّة ؛ من حيث إفادته للظن ، لا السّببيّة المحضة. والظّن الحاصل من الشّهرة أقوى من الظّن الحاصل من الخبر ، فما دلّ على حجيّته تدلّ على حجيّتها بالفحوى ، وهذا نظير استدلال ثاني الشّهيدين على طريقيّة الشّياع الظّني ، وحجيّته في القاضي المنصوب بكون الظّن الحاصل منه أقوى من شهادة العدلين (١).

__________________

(١) مسالك الأفهام : ج ١٣ / ٣٥٤.


وفيه أيضا : ما لا يخفى من الوهن والفساد ؛ ضرورة أنّ المناط في حجيّة الخبر :

إن كان الظّن من حيث هو من غير مدخليّة الخبر أصلا فيكون مدلول دليله حجيّة مطلق الظن ، من غير فرق بين الضّعيف والقوي ، وهو خروج عن محلّ البحث ، مضافا إلى وضوح فساده.

وإن كان المناط في حجيّته الظّن الحاصل من السّبب الخاصّ على ما هو معنى الظّن الخاصّ ، فكيف يمكن التّعدي من دليله إلى غيره؟

فإن قلت : الظّاهر من الدّليل ، وإن كان ذلك ، إلاّ أنّ المظنون إناطة الحكم بالظّن من حيث هو ، فإذا فرض وجود الفرد الأقوى في الشّهرة فيحكم بمقتضى الأولويّة بكونها حجّة.

قلت : إذا فرض ظهور الدّليل في نفي المناط المزبور ، فكيف يجوز الاعتماد على هذا الظّن القياسي المعارض للظّهور اللّفظي؟ سلّمنا ، لكن يؤول الأمر بعد اللّتيّا والّتي إلى التمسّك في حجيّة الشّهرة بالأولويّة الظنية الّتي استشكل في أمرها وخروجها عن القياس المحرّم غير واحد من أهل الظّنون المطلقة ، حتّى المحقّق القمي قدس‌سره في « القوانين » ، وإن تمسّك بها بعض أهل الظّنون الخاصّة في بعض الموارد ، مثل ثاني الشهيدين فيما عرفت منه ، وصاحب « المعالم » في مطهّرية الاستحالة للمتنجّسات (١) ، لكن بزعم كونها من الفحوى والدّلالة اللّفظيّة ، كما زعمه المتوهّم في المقام أيضا ، وإن كان ظاهر الفساد ؛ لظهور الفرق بين الفحوى

__________________

(١) فقه معالم الدين وملاذ المجتهدين : ٧٧٦.


الّتي يرجع إلى ظهور اللّفظ في مناط الحكم ، والأولويّة الاعتباريّة التي يرجع إلى تخريج المناط ظنّا من غير أن يكون في اللّفظ دلالة عليه.

ومن هنا يعرف الوجه في كونها أوهن بمراتب من الشهرة الّتي ذهب إلى حجيّتها بعض أهل الظّنون الخاصّة ، وقال بحجيّتها كلّ من قال بحجيّة مطلق الظّن ، وهذا بخلاف الأولويّة الّتي منع منها غير واحد من أهل الظّنون المطلقة ، كما أنّك عرفت فساد تسميته الأولويّة في المقام بالفحوى ، مع أنّه لا دلالة فيما دلّ على حجيّة الخبر على إناطة الحكم بالظّن أصلا ، وكون إثبات الحجيّة له من حيث كونه ظنّا ضعيفا بحيث يكون الفرع ، وهو الظّن القوي مقصودا بالكلام ، هذا.

مع أنّ في قوة الظّن في جانب الشّهرة بالنّسبة إلى خبر العادل الواقعي المخبر عن حسّ كلاما ، ومن هنا جعل في « المعالم » (١) عند الاستدلال بدليل الانسداد لحجيّة الخبر ، خبر العادل أقوى الظّنون ، مع أنّه لو أريد القوّة النوعيّة فلا تجديه ، ولو أريد القوة الشّخصيّة ، فتتبع الموارد الشخصيّة فلا يكون دليلا على حجيّة الشّهرة من حيث هي وبقول مطلق.

عدم حجيّة الشهرة والدليل القائم على ذلك

وأمّا الوجه الثالث وهو : كون الشّهرة ممّا قام دليل على عدم حجيّتها بالخصوص ، فيستدلّ له بالإجماع الّذي قام على عدم حجيّة الفتوى بالنّسبة إلى أهل الفتوى ومن له ملكة استنباط الأحكام من الأدلّة ؛ من حيث إنّه لا فرق في معقد الإجماع بين فتوى واحد أو أكثر ، ما لم يبلغ حدّ الإجماع.

__________________

(١) أصول المعالم : ١٩٣.


ودعوى : كون الإجماع من جهة عدم حصول الكشف الظّني من فتوى فقيه بالنّسبة إلى فقيه آخر ، فاسدة جدّا ؛ ضرورة عدم الفرق في معقد الإجماع بين الصّورتين ، وإلاّ فلازمهم عدم المنع فيما لو حصل الظّن من فتوى فقيه واحد ، وهو كما ترى.

وأمّا ما ترى من عملهم بفتاوى ابن بابويه عند إعواز النّصوص ، فإنّما هو من جهة علمهم بعدم تعدّيه من متون الرّوايات ، فمرجع فتواه في المسألة إلى نقل الرّواية ولو بالمعنى ، أين هذا من العمل بالرّأي والترجيحات؟

وفيه : أنّ دعوى : انعقاد الإجماع على حرمة العمل بالشّهرة ، وكونها ملحقة بالقياس في الشّريعة ، يكذبها فتوى الشّهيد رحمه‌الله وغيره من أهل الظّنون الخاصّة ، وجميع أهل الظّنون المطلقة على حجيّتها؟ فكيف يدعي مع ذهاب هؤلاء إلى حجيّتها للإجماع على عدم الحجيّة؟

ومن هنا ذكرنا سابقا : أنّ ذهاب المشهور إلى عدم حجّيتها إنّما هو من جهة عدم دليل عندهم على الحجيّة ، لا من جهة الدّليل على عدم الحجيّة.

ثمّ إنّ البحث عن المسألة ليس بحثا عن المسألة الأصوليّة ، ولا عن مباديء علم الأصول ، بناء على كون موضوع علم الأصول الأدلّة الأربعة ، فيكون البحث في المقام نظير البحث عن حجيّة مطلق الظّن الغير الراجع إلى البحث عن المسائل والمباديء.

ودعوى : رجوع البحث في المقام إلى البحث عن دلالة الأخبار على حجيّة الشّهرة ـ كما أنّ البحث عن حجيّة مطلق الظّن إلى البحث عن حكم العقل فيدخل في البحث عن المسائل أو المبادي ـ فاسدة جدّا ، وإلاّ لدخل البحث عن كلّ حكم


فرعيّ في البحث عن المسألة الأصوليّة ، فتدبّر.

ولعلّه يساعدنا التّوفيق ونتكلّم في توضيح القول فيما يتعلّق بهذا الباب في مطاوي كلماتنا الآتية ، إن شاء الله تعالى.

وإذا أحطت بوجوه المسألة علمت : أنّ الحق هو الوجه الثّاني الّذي نسب إلى المشهور ، ومن هنا قال ثاني الشّهيدين : إنّ مخالفة الأصحاب مشكل وموافقتهم من غير دليل أشكل (١).

وممّا ذكرنا في أمر الشّهرة يعلم الكلام في عدم الخلاف ، وأوهن منه عدم ظهور الخلاف ؛ فإنّه قد قيل بحجيّتهما ، مثل الشّهيد قدس‌سره متمسّكا بالوجه الأوّل الّذي عرفت منه في الشّهرة ، ويظهر من غيره من أهل الظّنون الخاصّة في بعض الموارد ، إلاّ أنّه لا وجه لها إلاّ بعض ما عرفت ضعفه.

ثمّ إنّه لم يعلم معنى محصّل لما أفاده الشّهيد من التّعميم بقوله المتقدّم (٢) ؛ سواء كان اشتهارا في الرّواية ، أو في الفتوى ، فإنّ حجيّة الشّهرة في الرّواية ممّا لا يتوهّمه أحد ، فراجع إلى كلامه لعلّك تظفر على حقيقة مرامه (*).

__________________

(١) لم نجده فيما بايدينا من كتب الشهيد الثاني قدس‌سره ووجدناه في عبارة لسبطه السيد السند في مدارك الأحكام : ج ٤ / ٩٥.

(٢) ذكرى الشيعة : ج ١ / ٥١.

(*) إنتهى الجزء الأوّل من بحر الفوائد بحسب تجزئتنا للكتاب وآخر دعوانا ـ بعد الصلاة على محمّد وآله ـ أن الحمد لله ربّ العالمين.



* في حجّية الخبر الواحد

أدلّة المانعين

أدلة المجوّزين

١ ـ الكتاب

آية النبأ

آية النفر

آية الكتمان

آية السؤال

آية الأذن

٢ ـ السنّة

٣ ـ الإجماع

٤ ـ دليل العقل



* في حجية الخبر الواحد

(٦١) قوله قدس‌سره : ( ومن جملة الظّنون الخارجة بالخصوص ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٣٧ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ المراد بخبر الواحد في كلماتهم بقول مطلق ما يقابل المتواتر المفيد للعلم بالمخبر به من كثرة المخبرين ، فيعمّ جميع الأخبار الغير المفيدة للعلم ذاتا من الأقسام الأربعة المعروفة وغيرها ، بل المستفيض وغيره ، فيعمّ ما يفيد العلم من جهة القرينة الخارجيّة ، كما أنّه يشمل ما يطابق القرائن الأربع ، أعني : الأدلّة الأربعة ، وإن كان محلّ البحث والكلام غير ما يفيد العلم ، بل غير ما اقترن بإحدى القرائن الأربع ، وإن لم يوجب الاقتران العلم ، حسبما تقف على تفصيل القول فيه.

فما يستفاد من كلام غير واحد : من أنّ البحث في مطلق ما لا يفيد العلم من خبر الواحد وإن وافق الكتاب والسّنة ، كما ترى.

ويكفيك في هذا تخصيص الشّيخ في « العدّة » النّزاع في المسألة بغير صورة وجود إحدى القرائن الأربع (١). كما أنّ المراد منه في المقام : خصوص ما يحكي السّنة من النّبويّة والإماميّة بأقسامها الثّلاثة ، وإن كان المراد منه بقول مطلق ما

__________________

(١) انظر عدّة الأصول : ج ١ / ١٤٣.


يقابل المتواتر ، وإن لم يكن حاكيا عن السّنة.

ثمّ إنّ القول بالحجيّة في الجملة في محلّ البحث في قبال القول بالنّفي والإنكار مطلقا ، وإن كان إجماعيّا على ما سيأتي بيانه ، إلاّ أنّ من المعلوم أنّه لا يجدي إلاّ فيما اتّفق جميع الفرق على حجيّته ، من أقسام الخبر ، بمعنى كونه ثابتا على جميع الأقوال ، ومن هنا يستدلّ بهذا الإجماع على بطلان القول بالإنكار مطلقا فتدبّر.

(٦٢) قوله قدس‌سره : ( اعلم أنّ إثبات الحكم الشّرعي ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٣٧ )

أقول : ما أفاده قدس‌سره : من توقّف إثبات الحكم الشّرعي بالأخبار الحاكية للسّنة القوليّة ، على إحراز أمور ثلاثة (١) : الصّدور ووجهه وعنوانه ـ والمراد من القول الصّادر ، وتوقّف تشخيص المراد في الغالب أوّلا : على تشخيص الأوضاع بالمعنى

__________________

(١) قال السيّد المحقق اللاري قدس‌سره :

« وربّما قيل على أربع ، رابعها : دفع الموانع والمعارضات الذي يكفلها باب التعادل والتراجيح. ولكن يدفعه : أن المقتضي لإثبات الحكم الشرعي إنّما هو موقوف على المقدّمات الثلاث خاصّة ، والموقوف على المقدّمة الرابعة إنما هو دفع المانع ». انظر تعليقة السيّد عبد الحسين اللاّري على فرائد الأصول : ج ١ / ٣٠٤.

* وقال سيّد العروة أعلى الله تعالى مقامه :

« بل ما يبحث عنه في هذا الباب خصوص المقدّمة الأولى ، والثلاثة الباقية ليس التكلّم فيها مخصوصا بخبر الواحد غير العلمي ، بل يجري في الخبر المتواتر لفظا والمحفوف بالقرائن العلميّة ، بل يجري في الكتاب العزيز أيضا بالنسبة إلى غير التقيّة فإنّها غير محتملة فيه ». حاشية فرائد الأصول : ج ١ / ٤٢٢.


الأعمّ من الأوضاع الشّخصيّة الموجودة في الحقائق والنّوعيّة الترخيصيّة الموجودة في المجازات ، وثانيا : على تشخيص إرادة مقتضاها أو غيرها ، وأنّ هذه الأمور لو لم يكن قطعيّا فلا بدّ من إحرازها بالطريق الظّني المعتبر ، وإن عقدت مسألة حجيّة أخبار الآحاد لإثبات الصّدور بها لا وجهه ، وتشخيص المراد بعد الفراغ عن الصّدور ؛ فإنّ التكلّم فيهما خارج عن مسألتنا هذه ، وإن كان الأوّل ثابتا بالأصل العقلائي المسلّم الثّابت في كلام كلّ متكلّم ، وعليه اتّفاق العلماء في جميع الأبواب من الأقارير وغيرها والثّاني أيضا ثابتا بقسميه في الجملة ، على ما عرفت تفصيل القول فيه ـ ممّا لا إشكال فيه أصلا.

كما أنّه لا إشكال في أنّ إثبات الحكم بالأخبار الحاكية للسّنة الفعليّة أو التّقريريّة يتوقّف على إحراز الصّدور في القسمين ، وعنوان الفعل في القسم الأوّل ووجه التّقرير وعنوان ما أتي به في محضر الإمام عليه‌السلام في القسم الثّاني ، ولا أصل لإحراز الأوّل في الأوّل ولإحراز الأمرين في الثّاني ، كما هو واضح.

نعم ، التّكلم من حيث الصّدور فيما يحكى عن أحدهما داخل في مسألتنا هذه ، فمرجع الكلام في المسألة إلى أنّه هل يثبت السّنة بقول مطلق بخبر الواحد ، أو لا يثبت إلاّ بما يفيد العلم بالصّدور من تواتر أو قرينة؟

والغرض ممّا أفاده قدس‌سره بيان جهة البحث وتحرير محلّ الكلام في المسألة والإشارة إلى حكم الجهة الخارجة في الجملة.

نعم ، قد يناقش فيما أفاده قدس‌سره اللّطيف : بأنّ إثبات الحكم الشّرعي بالأخبار المرويّة عن الحجج المعصومين عليهم‌السلام الحاكية للسّنة كما يتوقّف على إحراز الأمور


الثّلاثة المنحلّة إلى الأربعة ، كذلك يتوقّف على إحراز عدم المعارض ولو بالأصل فيما شك فيه وكان جاريا ، أو معالجته بأحد أسباب العلاج فيما كان المعارض موجودا ، هذا.

ولكن يمكن الذّبّ عن المناقشة المذكورة : بأنّ الغرض ليس بيان جميع ما يتوقّف عليه إثبات الحكم الشّرعي ولو من جهة دفع المانع عمّا اقتضاه الدّليل الشّرعي ، بل بيان ما يتوقّف عليه دلالة الدّليل بالنّظر إلى أصل اقتضائه للحكم الشّرعي ، فتدبّر.

(٦٣) قوله قدس‌سره : ( ومن هنا يتّضح ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٣٩ )

دخول المسألة في مسائل العلم

أقول : اتّضاح دخول المسألة في مسائل العلم من جهة ما أفاده في تحرير جهة البحث في المسألة وكونها راجعة إلى البحث عن الحكم بثبوت السّنة المفروغ عن حجيّتها بتوسّط إخبار الواحد بها ، لا عن حجيّة السّنة ـ حتّى تبتني دخولها في مسائل العلم على كون موضوع العلم ذوات الأدلّة على ما زعمه بعض الأفاضل ممّن قارب عصرنا (١) ، فالبحث عن حجيّتها بحث عن عوارضها ؛ إذ على القول بكون الموضوع : الأدلّة الأربعة بعنوان دليليّتها على ما زعمه المحقّق القمّي قدس‌سره (٢) يكون البحث عن حجّيّتها بحثا عن المباديء التّصديقيّة ، كالبحث عن حجّيّة

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ١٢.

(٢) قوانين الاصول : ج ١ / ٩.


الكتاب والإجماع وحكم العقل ـ ولا عن حجيّة خبر الواحد من حيث هو حتّى يخرج عن المسائل على كلّ تقدير ، وعن المباديء على بعض التّقادير أيضا ، ولمّا كان البحث عن ثبوت السّنة المفروغ اعتبارها بحثا عن عوارضها ومحمولاتها بعد الفراغ عنها ، فلا محالة يدخل في مسائل العلم.

وتوهّم : (١) أنّ البحث في المسألة يرجع إلى البحث عن وجود السّنة فيدخل في المباديء على كلّ تقدير ، فاسد ؛ فإنّ الخبر ليس واسطة للثّبوت حتّى يتوهّم ما ذكر ، بل واسطة للإثبات في مرحلة الظّاهر ؛ ضرورة أنّ وجود السّنة واقعا لا يتوقّف على الإخبار بها ، فضلا عن حجيّته ، فتدبّر.

(٦٤) قوله قدس‌سره : ( ثمّ اعلم أنّ أصل وجوب العمل ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٣٩ )

تتمة الكلام في تحرير محلّ النزاع

أقول : هذا الكلام منه قدس‌سره أيضا يرجع إلى تحرير محلّ الكلام في المسألة. فنقول : إنّه لا كلام في أنّ ما في الكتب في الجملة مرجع العلماء في الأحكام على اختلاف مذاهبم في العمل بأخبار الآحاد ؛ فإنّ المنكرين لحجّيّتها يرجعون إليها ويعملون بجملة منها ؛ لدعوى التّواتر ، أو الاحتفاف بالقرينة.

__________________

(١) انظر الإشكال الذي أورده في كفاية الأصول : ٨ ـ ٩ وكذا في ص ٢٩٣ ط آل البيت عليهم‌السلام وتوجيه الميرزا النائيني قدس‌سره لكلام الشيخ بما فيه من محاولة الدفاع عنه في فوائد الأصول : ج ٣ / ١٥٧ وأيضا : أجود التقريرات : ج ٣ / ١٧٧ وقد تنظّر في كلام الميرزا النائيني تلميذه الفقيه السيّد عبد الله الشيرازي انظر عمدة الوسائل : ج ١ / ١١٢ ـ ١١٣.

قلت : ولاحظ مقالات الأصول : ج ٢ / ٨٠.


والقائلين بحجّيّتها من حيث الخصوص على اختلاف مذاهبهم ، يرجع كلّ فريق منهم إلى ما يراه جامعا للشّرائط.

والقائلين بالظّن المطلق يرجعون إلى ما يحصل الظّن منه بالحكم الشّرعي ، أو ما يظنّ حجّيّته ، أو كليهما على اختلاف مذاهبهم في نتيجة دليل الانسداد. وقد عرفت : أنّ الإجماع بل الضّرورة على هذا الأمر المجمل ، مضافا إلى عدم رجوعه إلى المعنى الاصطلاحي لا يفيد شيئا.

كما أنّه لا كلام في فساد دعوى قطعية جميعه كما عن غير واحد من متأخّري الأخباريّين ، أو جلّه كما عن بعضهم ، كما أنّه لا كلام في صحّة دعوى قطعيّة بعضها بالتّواتر ، أو الاحتفاف بالقرينة.

نعم ، هنا كلام بين السّيد وأتباعه ، والمشهور في قطعيّة كثير منها ، لكنّه خارج عن البحث في المسألة.

* * *


* حجة المانعين

(٦٥) قوله قدس‌سره : ( أمّا حجّة المانعين ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٤٢ )

أقول : لا يخفى عليك أنّه لو بنى على الاستدلال للمنع بالآيات النّاهية لجاز الاستدلال له بالعقل ، بل بالأدلّة الأربعة الدّالة على حكم ما شك في اعتباره ، ولا يخصّص بخصوص الآيات النّاهية.

وبعبارة أخرى : لو بنى في المقام على الاستدلال بما دلّ على المنع عن خصوص الأخبار الغير المعلومة لم يجز الاستدلال بالكتاب ، وإلاّ لم يجز ترك الاستدلال بغيره ممّا دلّ على حكم الأخبار من حيث دخولها في موضوع غير العلم ؛ إذ ملخّص الاستدلال بالآيات يرجع إلى إثبات الأصل في المسألة ، ولا كلام لأحد في أنّ مقتضى الأصل الأوّلي عدم الحجيّة ، فمرجع الاستدلال إلى أنّ الأصل في المسألة مع المانع.

كما أنّ مرجع الاستدلال بالتّعليل في آية النّبأ كما عن أمين الإسلام الشّيخ الأجل الطّبرسي (١) إلى ذلك أيضا ؛ إذ مفاد التّعليل وجوب التّبين إرشادا في كلّ ما لا يؤمن مخالفته للواقع ، فهو وجوب إرشاديّ عقليّ ثابت في كلّ ما يكون العمل به

__________________

(١) انظر مجمع البيان : ج ٩ / ١٩٧ ط دار الفكر بيروت.


وسلوكه في معرض مخالفة الواقع ، وهو أحد وجوه حرمة العمل بغير العلم ، قد تقدّم تفصيل القول فيه عند الكلام في تأسيس الأصل في مسألة الظّن.

(٦٦) قوله قدس‌سره : ( وأمّا السّنة فهي أخبار كثيرة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٤٢ )

في بيان حال الأخبار المتمسك بها

أقول : لا يخفى عليك أنّ استدلال المانعين بالأخبار المذكورة في « الكتاب » وغيرها ، مبنيّ على خروج ما وافق الكتاب أو السّنة النّبويّة القطعيّة وإن لم يوجب الموافقة العلم بصدور الخبر عن محلّ النّزاع ؛ ضرورة أنّ موافقتهما لا يوجب العلم بصدور الخبر فضلا عن موافقة أحدهما ؛ إذ وجودهما لا يلازم صدور الخبر على طبقهما أصلا ، على ما عرفت الإشارة إليه في مطاوي كلماتنا.

نعم ، مقتضى الخبر الأوّل : قصر الحجّة من الأخبار على خصوص معلوم الصّدور ، لكنّه معارض بسائر الأخبار.

ثمّ لا يخفى عليك : أنّ الاستدلال في المسألة بالأخبار منعا وإثباتا لا يجوز إلاّ بما يكون قطعي الصّدور بأحد أسبابه : من التّواتر اللّفظي ، أو المعنوي ، أو الإجمالي الرّاجع إلى الثّاني باعتبار ، أو الاحتفاف بالقرينة ، أو التّعاضد بما يوجب العلم بصدوره فيما فرض ذلك.

ودعوى : جواز استدلال المانع بأخبار الآحاد الدّالة على المنع في المسألة من باب الإلزام وإسكات الخصم ، مع أنّه لا يعدّ دليلا وطريقا إلى المطلوب ، فاسدة جدّا ، كما ستقف على وجه الفساد في الجواب عن الاستدلال بالإجماع المدّعى في كلام السيّد قدس‌سره على المنع.


ولمّا لم يكن في المقام من الأخبار الّتي استدلّ بها على المنع ما تواتر لفظا ، فلا بدّ أن يؤخذ بالقدر الثّابت المتيقّن من جميعها المدلول عليه بتمامها ، أو القدر المتواتر منها لو زيدت عددا من أوّل حدّ التّواتر ، فإنّها كما ترى مختلفة المضمون من جهات.

فإنّ الخبر المرويّ (١) في « البحار » عن « بصائر الدّرجات » يعارض سائر ما في الباب ؛ من حيث جعل المدار في الأخذ والطّرح العلم بالصّدور وعدمه في رواية « البصائر » ، وفي السّائر موافقة الكتاب ، أو هو مع السّنة وإن لم يحصل معها العلم بالصّدور على ما عرفت ، والجمع بينهما وإن أمكن بتقييد الموافقة بما لو حصل منها العلم بالصّدور ـ فتدبّر ـ إلاّ أنّه لا معنى له ؛ بعد كون رواية « البصائر » من أخبار الآحاد المانعة من العمل بنفسها ، فإنّها لا يعلم أنّها قول الإمام عليه‌السلام (٢).

وسائر الأخبار يختلف من جهات شتّى :

منها : ذكر السّنّة في بعضها جمعا من جهة العطف بالواو ، أو تخييرا من جهة العطف بأو ، وعدم ذكرها في كثير منها.

ومنها : جعل المدار في الأخذ والطّرح ، الموافقة وعدمها كما في جملة منها ، وجعل المدار الموافقة والمخالفة في بعضها.

ومنها : الحكم ببطلان ما لم يوجد فيه مناط القبول كما في بعضها ، والحكم

__________________

(١) بصائر الدرجات : ٥٢٤ ـ ح ٢٦ ، عنه البحار : ج ٢ / ٢٤١ ـ ح ٣٣ وليس في الرواية إشارة إلى الطرح وإنما فيها الأمر بالتزام المعلوم وردّ ما لم يعلم انه قولهم ، اليهم والمراد بالردّ هنا هو العرض عليهم صلوات الله تعالى عليهم كما هو ظاهر والله أعلم.

(٢) وهو كما ترى.


بعدم جواز تصديق ما لم يوجد فيه المناط ، كما في بعضها الآخر.

ومنها : التّصريح بتعميم الرّاوي من حيث كونه برّا ، أو فاجرا ، أو ثقة أو غير ثقة ، كما في بعضها ، والإطلاق من هذه الجهة في الباقي.

ومنها : التّعرّض لحكم صورة اشتباه الأمر من حيث الموافقة وعدمها والوقوف عنده ، وإرجاع الأمر إلى الأئمّة عليهم‌السلام كما في بعضها ، والسّكوت عنه كما في الباقي.

ومنها : جعل المدار في الأخذ موافقة الكتاب ، أو هي مع موافقة السّنة النّبويّة كما في أكثرها ، أو هما مع موافقة السّنة الإماميّة الثّابتة عنهم عليهم‌السلام كما في بعضها.

ومنها : تعليل المناط المذكور فيها بوجود الأخبار المكذوبة في بعضها كما في صحيحة (١) هشام ، وعدم ذكر التّعليل والسّكوت عنه في الباقي.

ومنها : التّرتيب بين العرض على الكتاب والسّنة في بعضها وعدمه في الباقي.

ومنها : اختصاص العرض بصورة الاختلاف الظّاهرة في التّعارض في بعضها ، وعدم الاختصاص في الباقي ، إلى غير ذلك من الاختلافات.

ولو كانت الأخبار الواردة في الباب كلّها قطعيّة بحسب السّند ، أو معتبرة من حيث السّند ، أو بعضها قطعي الصّدور وبعضها معتبرا سندا كان الخطب في اختلافها

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢ / ٢٥٠ ـ ح ٦٢.


وتعارضها سهلا ؛ لأنّا كنّا نأخذ بالأعمّ فيما لا تعارض بينه وبين الأخصّ وبالعكس ، فيما كان الأمر بالعكس ، وفي مورد التّعارض الحقيقي وعدم إمكان الجمع بوجه من الوجوه الصحيحة نحكم فيه بحكم التّعارض المقرّر في محلّه ، فعلى التّقدير المذكور يحمل إطلاق طرح ما لا يوافق الكتاب على ما دلّ على العرض على السّنّة ، ولم يحمل إطلاقه على ما دلّ على طرح ما يخالف ؛ لعدم التّعارض بينهما.

وكذلك يحكم بأنّ المراد من العطف بالواو في العرض على الكتاب والسّنة هو كفاية موافقة أحدهما بقرينة كلمة « أو » في بعض الأخبار ، وهكذا.

ولمّا لم يكن كذلك ، بل غاية ما في الباب العلم بصدورها في الجملة ، ولو بالنّسبة إلى بعضها ، فلا بدّ من الأخذ بمضمونها بالنّسبة إلى المورد الّذي يراد من الجميع يقينا وهو الجامع للقيود والخصوصيات المذكورة فيها ، إلاّ ما يعلم عدم إرادته ، كاعتبار موافقة الكتاب والسّنة معا ، مثلا.

فإذا كان مورد التّعارض متيقّن الإرادة منها ؛ وإن كان حمل جميعها عليه بعيدا في النّظر ، فلا يحكم بإرادة غيره ؛ إذ لا طريق إليه بعد البناء على عدم حجيّة خبر الواحد ، وكذا إذا كان المتيقّن منها الأخبار الواردة في الأصول مثلا ، وإن كان إرادته بالخصوص بعيدا عن جميع الأخبار ، فلا دليل لنا على إرادة الأخبار الواردة المتكفّلة لحكم الفروع.

وبالجملة : العلاج بجميع أقسامه بين المتعارضين ، أو المتعارضات ، فرع اعتبارها وحجيّتها ، وإلاّ لم يكن معنى لإعمال قاعدة العلاج كما هو ظاهر ،


وليكن هذا في ذكر منك لعلّه ينفعك فيما بعد عند الكلام في الجواب عن الاستدلال بالأخبار.

(٦٧) قوله قدس‌سره : ( وجه الاستدلال بها ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٤٥ )

الموضوع في أخبار العرض هو ما لم يعلم بصدوره عنهم عليهم‌السلام

أقول : لا يخفى عليك أنّ من الواضحات الّتي لا يرتاب فيها كون الموضوع في أخبار العرض ما لم يعلم صدوره عنهم عليهم‌السلام ، ويدلّ عليه ـ مضافا إلى امتناع جعل المدار في الأخذ بما علم صدوره موافقة شيء آخر ـ : نفس تلك الأخبار سؤالا وجوابا ؛ إذ الحكم بعدم التّصديق ، أو الطّرح ، أو البطلان وغيرها من العناوين المذكورة في الأخبار ، إنّما هو فيما لم يعلم بصدقه.

وبعبارة أخرى : ما ذكر من الأخبار إنّما وردت لبيان الحكم الظّاهري فيما لم يعلم صدقه ، وإعطاء الميزان الظّاهري لتميز ما صدر عمّا لم يصدر ، والسّؤال إنّما هو عن هذا المعنى كما يعلم بأدنى تأمّل في تلك الأخبار ، وإن كان التّعليل في بعضها مثل قوله عليه‌السلام : ( فإنّا إن حدّثنا ، حدّثنا بما وافق القرآن ) (١) والكلّيّة المذكورة في جملة منها ، ناطقة بعدم صدور غير الموافق ، أو المخالف إن لم يحمل الكليّة على الحكم الظّاهري بمعنى البناء على بطلان كلّ حديث لا يوافق القرآن ، وكونه زخرفا في مرحلة الظّاهر ؛ إذ لا ينافي جعل المورد والموضوع في أخبار العرض ، ما لم يعلم صدوره ، مع إخبارهم عليهم‌السلام بعدم صدور غير المخالف ، غاية ما هناك ـ

__________________

(١) رجال الكشي : ص ٤٩٠ ـ ح ٤٠١ ، عنه بحار الأنوار : ج ٢ / ٢٤٩.


على تقدير لزوم الكذب في هذا الخبر ـ : أنّه لا بدّ من حمل القضيّة على ما لا يلزم منه الكذب ، ولو بجعل القضيّة ظاهريّة وبمعنى الإنشاء.

كما أنّ من الواضحات الّتي لا يشك فيها عدم جواز حمل الأخبار المذكورة على ما تباين الكتاب والسّنة كلّيّة بحيث يتعذّر الجمع بينهما ، إذن الخبر الّذي يباين الكتاب أو السّنة النبويّة بالصّراحة ـ مع ندرته المنافية لكثرة الأخبار ـ معلوم الحكم عند السّائلين ، وأنّه ممّا لا يجوز تصديقه ، فلا يسأل عنه أصلا ، فلا بدّ من حمل المخالفة ، أو عدم الموافقة ، على معنى يساعد عليه الأخبار. فلا يجوز حمل تلك الأخبار على ما يباين الكتاب والسّنة كلّيّة ، كما توهّم.

(٦٨) قوله قدس‌سره : ( ثمّ إنّ عدم ذكر الإجماع ودليل العقل ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٤٥ )

رجوع الإجماع ودليل العقل إلى السنّة

أقول : رجوع الإجماع إلى السّنة بمعنى كون الموافق له موافقا للسّنة على طريقة الإماميّة ، أمر واضح لا سترة فيه أصلا ، كما عرفت تفصيل القول فيه في مسألة نقل الإجماع.

وأمّا رجوع العقل إليهما مع كونه دليلا مستقلاّ وكاشفا عن حكم الشّارع في قبال الكتاب والسّنة على القول بلزوم تأكيد العقل بالنقل ، من باب اللّطف ، كما اختاره غير واحد ؛ فإنّما هو من جهة التّلازم بينه وبين الكتاب والسّنة ، وإن لم يكن كاشفا عنهما ابتداء كالإجماع ، وأمّا على القول بعدم اللّزوم ، وإن اتّفق كثيرا ما توافقهما ، فيشكل الأمر فيه جدّا. بل قد يشكل الحكم برجوعه إليهما على التّقدير


الأوّل أيضا ، فضلا عن هذا التّقدير ، ووجه الإشكال على التّقديرين ظاهر.

(٦٩) قوله قدس‌سره : ( وهو ظاهر المحكيّ عن الطبرسي ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٤٦ )

أقول : الوجه فيما أفاده من الاستظهار ـ مع أنّ كلامه نصّ في التّعميم بالنّظر إلى الاستثناء ـ إمّا لأجل أنّ النّسبة إلى الإماميّة غير دعوى الإجماع في المسألة ، غاية الأمر كونها ظاهرة في دعوى الإجماع. وإمّا لأنّ استثناء الظّنون الموضوعيّة توجب وهن إرادة العموم من المستثنى منه ، واحتمال إرادة خصوص الظنّ في الموضوعات منه وضعف احتمال إرادة الأعم من الظّنون الموضوعيّة والحكميّة ، فلا يمكن دعوى صراحة كلامه في دعوى الإجماع على حرمة العمل بالخبر الواحد في الأحكام ، كما هو محلّ البحث والكلام ، كدعوى صراحة كلام السيّد قدس‌سره ، فيه غاية ما هناك ظهور كلامه في دعوى الإجماع على الإطلاق.

(٧٠) قوله قدس‌سره : ( والجواب : أمّا عن الآيات ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٤٦ )

أقول : الحكم بكون العمل بما دلّ على حجيّة خبر الواحد في قبال الآيات النّاهية من باب تخصيص تلك الآيات به ، لا يخلو عن مسامحة ظاهرة ، لمن راجع ما أفاده قدس‌سره في وجه حرمة العمل بغير العلم ، وما ذكرنا هناك فهو إمّا مسامحة في لفظ التّخصيص باستعماله في غير ظاهره من الورود والحكومة ، أو مبنيّ على تسامح القوم وتساهلهم وعدم فرقهم بين الأقسام المذكورة.

(٧١) قوله قدس‌سره : ( فإن قلت : ما من واقعة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٤٧ )

أقول : لمّا أجاب عمّا دلّ على طرح ما يخالف الكتاب والسّنة بكونه أخصّ من المدّعى ، وأنّه لا يدلّ على عدم حجيّة كل خبر ، حتّى ما دلّ على حكم لم يدلّ


عليه آية وسنّة ، توجّه عليه السّؤال المذكور ؛ نظرا إلى زعم دلالة الكتاب والسّنة على حكم كلّ واقعة من الوقائع ولو على وجه العموم ، أو الإطلاق.

مضافا إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في حجّة الوداع : ( معاشر النّاس ... ) (١) ـ الحديث ـ الظّاهر في بيانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حكم كلّ واقعة ، فإذا لم يكن الخبر الوارد في المسألة موافقا لهما فلا محالة يكون مخالفا لهما ، فلا واسطة بين غير الموافق والمخالف ، كما ذكر في الجواب ، غاية ما هناك أنّه لا بدّ من أن يخرج منها بما يثبت قطعا من الحجج الطّاهرين عليهم‌السلام ، إذا لم يكن موافقا لهما وتخصيصهما به ، فيبقى ما يشك في وروده عنهم عليهم‌السلام ممّا لا يكون موافقا تحت عموم تلك الأخبار ، كما هو المدّعى فينطبق هذه الطّائفة على المدّعى أيضا.

فالأولى تحرير السؤال بما حرّرنا ، لا بما حرّره قدس‌سره ، فإنّه لا يخلو عن غموض وتعقيد ، وإن كان الظّاهر عطف قوله : ( وكثير ) على عمومات الكتاب ، أي : الضّمير المجرور ، فلا بدّ إذن من إلحاق لفظ السّنة بقوله : ( مخالفة للكتاب ) وعلى تقدير العطف على الأخبار ، لا بدّ من إسقاط لفظة ( من عمومات ).

ثمّ لا يخفى عليك : أنّ الجواب بما ذكره قدس‌سره : من انفراد كلّ طائفة بالجواب ، مبنيّ على تسليم تواتره ، أو قطعيّته من غير جهة التّواتر ، وإلاّ فلا معنى للجواب على ما ذكر ، كما أنّه مبنيّ على عدم جعل المخالف بمعنى غير الموافق ، أو لا يوافق بمعنى المخالف.

__________________

(١) انظر احتجاج الطبرسي : ج ١ / ٧٣ ، والتحصين : ٥٥٠ ، واليقين : ٣٤٨ ، والصراط المستقيم : ٣٠٢.


(٧٢) قوله قدس‌سره : ( قلت أوّلا : انّه لا يعدّ ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٤٧ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ نظم التّحرير يقتضي جعل الجواب الثّاني بدل هذا الجواب ، وجعله الجواب الثّاني الرّاجع إلى تسليم استفادة حكم كلّ واقعة عن عمومات الكتاب والسّنة.

ثمّ إنّ حاصل هذا الجواب يرجع إلى عدم صدق المخالف على الخبر المخصّص للعموم ، سيّما مثل هذه العمومات القريبة من عمومات الأصول ؛ من حيث وسعة عمومها وشيوعها ، وكثرة أفرادها من حيث ضعف الظّهور والدّلالة فيها ، ولو كان من جهة كثرة الخارج منها ، كما أنّه لا يصدق عليه الموافق قطعا فيكون أمرا بين الأمرين ، فتكون هذه الطّائفة أخصّ من المدّعى.

والشّاهد على ما ذكر ـ مضافا إلى ظهور اللّفظ في نفسه ـ لزوم الخروج عن أخبار العرض بالمخصّصات الثّابتة القطعيّة الصّدور من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام ، لعمومات الكتاب والسّنة ، كما التزم به السائل في تقريب السؤال ، وليس المحذور الوارد عليه لزوم تخصيص الأكثر بل هو مع شيء آخر ، وهو لزوم التّخصيص ، مع أنّ النّاظر في تلك الأخبار يقطع بإبائها عن التّخصيص.

ولا ينافي ذلك كون مورد أخبار العرض ، حسبما عرفت في تقريب الاستدلال ما لم يعلم صدوره ؛ فإنّ عرضه على الكتاب والسّنة في تلك الأخبار من جهة دلالتها على قصر الوارد منهم عليهم‌السلام على ما يوافق الكتاب والسّنة ، وإلاّ لم يكن معنى لجعل موافقتهما وعدمها ميزانين للحكم بالصدور والعدم.

كما أنّه لا ينافي ما ذكر في تقريب الاستدلال من عدم جواز إرادة خصوص التّباين الكلّي من المخالفة ؛ فإنّ عدم إرادة خصوص التّباين الكلّي من المخالفة ،


لا ينتج إرادة الأعمّ من العموم المطلق ؛ ضرورة ثبوت الواسطة بينهما.

(٧٣) قوله قدس‌سره : ( وممّا يدلّ على أنّ المخالفة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٤٨ )

أقول : هذا وجه آخر لعدم جواز إرادة ما ذكره من أخبار العرض ، غير الوجهين السّابقين ، ولا بدّ أن يراد من قوله قدس‌سره : ( إذ بناء على تلك العمومات ... إلى آخره ) (١) وفاء العمومات المذكورة وأمثالها بحكم جميع الوقائع ، على زعم الخصم ، وإلاّ كان منافيا لما سيذكره في الجواب الثّاني ، كما أنّه لا بدّ أن يكون تلك الأخبار الّتي استشهد بها قطعيّة الصّدور ، وإلاّ لم يكن معنى لجعلها شاهدة في المقام ، هذا.

وقد يناقش فيما أفاده قدس‌سره : بأنّ لازم نفي المخالفة عن الخبر المخصّص للعمومات ، والمقيّد للمطلقات هو نفي الموافقة عن الخبر الّذي يطابق العموم والإطلاق ، أو التّفكيك بين المطابقة والمخالفة ، مع أنّ المسلّم بينهم جعل المطابقة والمخالفة في أخبار العلاج أعمّ من المطابقة والمخالفة من حيث العموم والإطلاق ، وكذا في باب الشّروط المخالفة للكتاب المحكومة بعدم الصّحة والبطلان.

ومن هنا قد يقال : بأنّ الوجه هو الجواب الثّاني لا الأوّل ، بل لازم قوله قدس‌سره في الجواب عن السّؤال بقوله : ( فإن قلت : فعلى أيّ شيء يحمل تلك الأخبار ) (٢) هو الالتزام بتعميم المخالفة ؛ حيث إنّ الحمل على مورد التّعارض ، أو خبر غير

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٢٤٨.

(٢) فرائد الأصول : ج ١ / ٢٥٠.


الثّقة ونحوهما تخصيص من حيث المحلّ والمورد مع إبقاء لفظ المخالفة على عمومه وشموله ، كما لا يخفى.

(٧٤) قوله قدس‌سره : ( ومن هنا يظهر ضعف التّأمّل ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٥٠ )

أقول : ترتّب الضّعف المذكور على ما أفاده في نفي صدق المخالفة على المعنى الأعمّ ، أمر واضح لا سترة فيه أصلا ؛ لأنّ الحمل على مورد التّعارض كما نطق به بعض الأخبار أيضا يكون كافيا في إفساد التّأمل والقول المذكور ، فتدبّر.

(٧٥) قوله قدس‌سره : ( وثانيا : أنّا نتكلّم ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٥٠ )

أقول : الأولى في بيان هذا الجواب وتحريره أن يقال : وثانيا نمنع من تكفّل الكتاب والسّنة ولو بعنوان العموم والإطلاق لحكم جميع الوقائع في العبادات والمعاملات بالمعنى الأعم من العقود والإيقاعات والأحكام ، غاية الأمر تكفّلهما لحكم كثير من الوقائع.

فإنّه ربّما توهّم من البيان المذكور : أنّ الخصم يسلّم ما أفاده ، مع أنّ الأمر ليس كذلك. ويشهد بصدق ما ادّعينا من كان له تتبّع في الفقه ومدارك المسائل ، سيّما ما كان من قبيل الحكم الوضعي ؛ فإنّه يعلم بعد التّتبع أنّه لا يمكن الاستدلال في جميع الوقائع من العبادات والمعاملات بهما ، إمّا من جهة عدم تعرّضهما لحكم المسألة بنحو من الأنحاء ، وإمّا لإجمالهما الذّاتي ، كما إذا قلنا بكون ألفاظ العبادات موضوعة للصّحيح ، أو كان المشكوك من معظم الأجزاء ، أو العرضي بالمعنى الأعمّ من الإهمال ، أو السّكوت والورود لبيان حكم آخر ، وإمّا لدلالتهما على حكم المسألة الّتي ورد الخبر فيها بعنوان الإطلاق على خلافه.

فإنّ دعوى صدق المخالفة في المقام ـ سيّما على مذهب من يقول بكون


المطلق موضوعا لنفس الطبيعة من غير ملاحظة شيء آخر حتى الإطلاق ، فيكون التّقييد حقيقة على مذهبه ، إذا لم يكن باستعمال لفظ المطلق في المقيّد ـ في كمال الضّعف والسّقوط ؛ فإنّ المقيّد يعدّ شارحا ومفسّرا للمطلق ، لا معارضا ومخالفا له.

(٧٦) قوله قدس‌سره : ( فإن قلت : فعلى أيّ شيء ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٥٠ )

أقول : نظم التّحرير يقتضي ذكر هذا السّؤال قبل الجواب الثّاني ؛ فإنّه من متعلّقاته ، لا من متعلّقات هذا الجواب الثّاني ؛ فإنّه لما نفى صدق المخالفة على المخالفة من حيث العموم والإطلاق ، توجّه عليه هذا السؤال ؛ من حيث إنّ غاية ما يستفاد ممّا أفاده هي القضيّة السّلبيّة. والحمل على المخالفة من حيث التّباين أيضا ممّا لا معنى له ، على ما عرفت مرارا ، فلا بدّ في محمل الأخبار المذكورة على كثرتها أن يكون هناك معنى لا يلزم عليه المحذور المذكور.

ثمّ إنّ الأولى في الجواب عن السؤال المذكور ـ المبني على إمكان معنى آخر للمخالفة غير المخالفة على وجه التّباين والتّخصيص ـ أن يقال بحملها على مخالفة الظّاهرين اللّذين يمكن الجمع بينهما بالتّصرف في أحدهما ، سواء كانت النّسبة بينهما على وجه التّباين ، أو العموم من وجه ؛ فإنّ النّسبة بين قوله اغتسل للجمعة ، وينبغي غسل الجمعة ، هو التّباين مع إمكان الجمع بينهما بأحد التّصرّفين :

إمّا حمل هيئة افعل على الاستحباب ، أو مادّة ينبغي على الوجوب.

وأمّا ما أفاده في الجواب ـ فمع كونه مبنيّا على قطعيّة كلّ من الطّائفتين بل الطّوائف ، وعلى كون المراد من الطّائفة الأولى ممّا تضمّن حكم المخالف الإخبار عن عدم الصّدور وكون المخالف باطلا ، لا البناء على كونه كذلك في مرحلة الظّاهر وأن لا يكون ما صرّح فيه بطرح خبر الثّقة المخالف ، أو البرّ المخالف ، قطعيّ


الصّدور ، أو لا يكون المراد منه ما بنى قدس‌سره على حجيّته ـ قد يناقش فيه ؛ بأنّ الحمل عليه كيف يجامع ما أفاده في الجواب الأوّل عن الاعتراض من عدم صدق المخالفة على التّخصيص والتّقييد؟ فإنّ الحمل على صورة التّعارض ، أو غير خبر الثّقة لا يجامعه قطعا.

(٧٧) قوله قدس‌سره : ( هذا كلّه في الطّائفة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٥١ )

أقول : لا يخفى عليك ، أنّ الإيراد بالأخصيّة ـ حتّى يتوجّه عليه السؤال المذكور لكي يحتاج إلى الجواب عنه ـ لا تعلّق له بهذه الطّائفة أصلا. فالحقّ في تحرير الجواب عن الأقسام ، أن يقال : علي تقدير تسليم قطعيّة كلّ قسم بحسب المضمون ، أن المتيقّن من الأوّل كذا ، ومن الثّاني كذا ، وهكذا فلا تعارض بينها وبين ما دلّ على حجيّة خبر الثّقة مثلا ، على ما عرفت الإشارة إليه في طيّ الكلام في الأخبار.

ومنه يظهر المناقشة فيما أفاده بقوله : ( بعد ذلك ثمّ إنّ الأخبار المذكورة ... إلى آخره ) (١) ؛ فإنّ ما أفاده إنّما يصحّ فيما إذا قلنا بالتّواتر اللّفظي في الأخبار المانعة ، وإلاّ فلا يمكن ارتكاب التخصيص أو تصرّف آخر فيها كما لا يخفى. مع احتياج تصحيح ما أفاده إلى كونه في مقام الجزم ، فلا يكون تكرارا لما أفاده في مقام بيان محمل الأخبار المبنيّ على الاحتمال وذكر الوجوه ، فتأمّل.

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٢٥٢.


(٧٨) قوله قدس‌سره : ( مع احتمال كون ذلك ... إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ٢٥٢ )

أقول : الغرض ممّا أفاده : كون الحمل على البطلان وعدم الصّدور ، مبنيّا على

__________________

(١) قال المحقق السيّد عبد الحسين اللاري في تعداد تلك الإستشهادات :

كاستشهادهم (١) على كون المراد بالجزء في الوصيّة به العشر بقوله تعالى : ( ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) البقرة : ٢٦٠.

واستشهاده (٢) في صحيح البزنطي على كون المراد به السّبع بقوله تعالى : ( لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) الحجر : ٤٤.

واستشهادهم (٣) على كون المراد من السهم فيها الثمن بقوله تعالى : ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ ...) التوبة : ٦٠.

إلى آخر الأصناف الثمانية في مستحقّي الزّكاة.

وعلى كون المراد من الكثير في متعلّق النذر ثمانين عددا (٤) بقوله تعالى : ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) التوبة : ٢٥.

حيث إنّها كانت ثمانين.

وعلى كون المراد من القديم من العبد المنذور عتقه ونحوه من مضى عليه في ملكه ستّة أشهر (٥) بقوله تعالى : ( حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) يس : ١٠.

أنظر التعليقة على فرائد الاصول ج ١ / ٣٠٨.

__________________

(١) انظر الوسائل : ج ١٩ / ٣٨٠ ب ٥٤ من أبواب أحكام الوصايا ح ٢ و ٣ و ٤ و ٨ و ٩.

(٢) أنظر التهذيب : ج ٩ / ٢٠٩ ـ ح ٨٢٨ والإستبصار : ج ٤ / ١٣٢ ـ ح ٤٩٨.

عنهما الوسائل : ج ١٩ / ٣٨٤ ب ٥٤ من أبواب أحكام الوصايا ح ١٢.

(٣) لاحظ الوسائل : ج ١٩ / ٣٨٥ ب ٥٥ من أبواب أحكام الوصايا ح ١ ـ ٣.

(٤) انظر الوسائل : ج ٢٣ / ٢٩٨ ب ٣ من أبواب كتاب النذر والعهد ح ١ ـ ٤.

(٥) أنظر الوسائل : ج ٢٣ / ٥٦ بـ «٣٠» من أبواب كتاب العتق ح ١ و ٢.


الظّاهر المرعي معه احتمال الموافقة بحسب باطن القرآن وبطنه ، وهذا بخلاف ما إذا وجدناه مخالفا للآية الواردة في العقائد بأنّه يدل على كونه زخرفا وباطلا في الواقع ، وإن كان قد يناقش : بأنّ البطلان الواقعي تابع للعلم بكون مفاد الخبر مخالفا أو غير موافق لما يقطع بثبوته ، ومع انتفاء هذا المعنى لا بد أن يكون البطلان ظاهريّا ، من غير فرق بين القسمين ؛ فإنّ ما نراه مخالفا في مرحلة الظّاهر يحتمل موافقته بحسب الباطن ، كما نراه غير موافق فتأمّل.

(٧٩) قوله قدس‌سره : ( وأمّا الجواب عن الإجماع ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٥٢ )

أقول : قد عرفت ـ مرارا فيما أسمعناك ـ : أنّه لا يعقل التّمسك في المسألة إثباتا ونفيا بخبر الواحد ، كما أنّك قد عرفت : أنّ التمسك بنقل الإجماع وحجيّته عند القائلين بها مبنيّ على حجيّة خبر الواحد ، بل هو عندهم من أفراده هذا.

مضافا إلى أنّ نقل الإجماع المذكور قاتل لنفسه ودافع للتمسّك به. ودعوى عدم شموله لنفسه قد عرفت ما فيها ، وستعرفه عن قريب.


* أدلة القائلين بالحجيّة

١ ـ آية النبأ (*)

(٨٠) قوله قدس‌سره : ( والمحكي في وجه الاستدلال بها وجهان (١) : أحدهما ...

__________________

(*) ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) « الحجرات : ٦ ».

(١) قال السيّد عبد الحسين اللاّري قدس‌سره :

لا ينحصر الإستدلال بها في الوجهين المذكورين أعني : الإستدلال بمفهوم شرطه أو بمفهوم وصفه ، حتى يورد على الوجه الأوّل بمنع دلالة مفهوم شرطه على المدّعى لظهور كونه سلبا بانتفاء الموضوع لا المحمول ، وعلى الوجه الثاني بمنع ثبوت مفهوم للوصف سيّما في مثل المقام.

بل للإستدلال بالآية وجه ثالث سالم عن المناقشات ومبرّأ عن شوائب الإيرادات إلا ما يلحق بالمكابرات التي لا مناص عنها في الإستدلالات.

وهو : الإستدلال بمنطوق الآية ومفهوم موافقتها دون مفهوم المخالفة وذلك بتقريب : ان الظاهر من سياق الآية بالنظر إلى ما يفهم من أشباهها ونظائرها في المحاورات العرفية هو اشتراط قبول قول الفاسق بالتبيّن أو التثبّت على اختلاف القراءات الأعم من تحصيل الظن بصدقه ومن العلم ـ على ما في كتب اللغة من تفسير التبيّن عن الشيء بطلب ظهوره ووضوحه والثبات في الأمر بالأخذ فيه من غير تعجيل حذرا عن فعل الجهلاء والسفهاء


إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٥٤ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ تقريب الاستدلال بالآية بالوجهين مذكور في كتب

__________________

والوقوع بواسطته في معرض تنديم العقلاء.

وبقرينة ما ذكرنا من كون المراد بالتبيّن هو الأعم من الظنّي لا خصوص العلمي يظهر بل يتعيّن كون المراد من الجهالة في التعليل هو السفاهة ، لا عدم العلم الأعم من الظن كما هو معنى الجهل لغة ، بل لا يبعد دعوى الفرق بين الجهل والجهالة ....

وبالجملة : فليس المراد التحذير عن مطلق حصول الندامة ؛ فإن حصول الندامة أمر لا ينفك عن السالك طريقا لم يوصله إلى الواقع ولو كان طريقا قطعي الوصول اليه ، بل المراد إنما هو التحذير عن الوقوع في معرض تنديم العقلاء واستحقاقه الملامة على الجهالة بمعنى السفاهة ....

فيرجع محصّل مفاد الآية إلى تقرير بناء العقلاء في كيفيّة العمل بالأخبار وإلى الإرشاد إلى ما يقتضيه العقل وبناء العقلاء من التحذير عن فعل السفهاء في العمل بالأخبار حتى يحصل للعامل مأمن من تنديم العقلاء بما يصحّ الإعتذار به إليهم لو انكشف الخلاف من استظهار وثاقة المخبر أو عدالته ....

فتلخص مما ذكرنا : ... ان للإستدلال بهذه الآية وجهان آخران :

أحدهما : ـ وهو العمدة ـ وقد مر.

والآخر : هو الإستدلال بمفهوم شرطها على الوجه الرابع إلى السالبة بانتفاء المحمول لا الموضوع ، لوجود القرينة الصارفة عن ظاهر الشرط ، وهي مناسبة التعليل وعدم انطباقه على غير صفة الفسق والمناسبة الإقترانيّة بينه وبين الحكم بالتبيّن.

إلى آخر ما ذكره انظر التعليقة على فرائد الأصول : ج ١ / ٣٠٨ ـ ٣١٦ فما بعد ـ للسيّد عبد الحسين اللاّري قدس‌سره.


القوم ، وإن اقتصر في بعضها على الوجه الأوّل ـ أي مفهوم الشّرط ـ وفي بعضها على الوجه الثّاني.

لكن في تقريب الاستدلال بالوجه الأوّل قد اختلفت كلماتهم. ففي بعضها : ذكره كما ذكر في الكتاب نفسه ، وفي بعضها : أنّه سبحانه علّق وجوب التبيّن على مجيء الفاسق ، فينتفي وجوب التّبين بمقتضى التّعليق على الشّرط عند عدم مجيء الفاسق بالنّبأ وهو يشمل بإطلاقه مجيء العادل بالنّبأ أو غير الفاسق به ، بناء على ثبوت الواسطة ؛ ضرورة أنّ عدم مجيء الفاسق بالنّبأ يشمل ما لو لم يكن هناك نبأ أصلا ، أو كان ولم يكن المخبر فاسقا ؛ فإذن ينتفي وجوب التّبين عن خبر العادل بمفهوم الشّرط ، فيدور الأمر بين أمرين لا ثالث لهما ، أحدهما : القبول من دون تبيّن ، ثانيهما : الرّد كذلك ، والثّاني باطل جزما ؛ للزوم كون العادل أسوأ حالا من الفاسق على تقديره ؛ ضرورة كون الرّد من دون تبيّن أسوأ من التّبين ؛ إذ فيه نوع من الاعتناء بشأن المخبر ، وربّما ينتهي إلى العمل بالخبر على تقدير الصّدق ؛ فالآية النّافية للتّبين في خبر العادل بمفهوم المخالفة تنفي الرّد بالفحوى ومفهوم الموافقة. هذا توضيح تقريب الاستدلال المذكور في كلام بعضهم.

(٨١) قوله قدس‌سره : ( للمناسبة والاقتران ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٥٤ )

في بيان مراده قدس‌سره من المناسبة والإقتران

أقول : المراد من الاقتران : يحتمل ـ على بعد ـ أن يكون هو المناسبة ، فيكون العطف للبيان. ويحتمل أن يكون الاقتران المعنوي ؛ حيث إنّ الفاسق فاعل الشّرط ، وقوله : ( بنبأ ) مفعول الشّرط. ومن المعلوم أنّ الجزاء الذي هو معلول


الشّرط أقرب بفاعله بالنّسبة إلى مفعوله ؛ لأنّ نسبة الفعل إلى المفعول بالملاحظة الثّانويّة ، وإلى الفاعل بالملاحظة الأوّلية.

فإذا ثبت كون الظّاهر من القضيّة استناد الحكم ، يعني : وجوب التّبين إلى الوصف ، يعني : الفسق ، فيستكشف عدم صلاحيّة كونه مخبرا واحدا الّذي هو أمر ذاتيّ للعليّة والاستناد وإلاّ لوجب الاستناد إليه ؛ لحصول الذّاتي قبل حصول العرضي الّذي فرض الاستناد إليه ؛ فيكون معلوله في مرتبته ؛ فيلزم أن يكون مقدّما ولو طبعا على العرضي ؛ ضرورة كون لوازم الذات مقدّمة على عوارضه.

والاستناد إلى العرضي يقتضي تأخّره عنه ؛ فيلزم تقدّم الشّيء على نفسه ؛ فيكشف من ذلك كلّه انحصار العليّة والسّببيّة في الوصف ؛ فينتج ثبوت المفهوم والدّلالة على الانتفاء عند انتفائه ، كما هو واضح. ومنه يعلم : أنّ المراد من الأولويّة ـ في عبارة « الكتاب » ـ التّعين ، لا ما يكون حسنا يجوز تركه.

(٨٢) قوله قدس‌سره : ( أقول : الظّاهر أنّ أخذهم ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٥٤ )

في ان ظاهر كلامهم إرادة وجوب التبيّن نفسا

أقول : لا ريب في ظهور كلامهم في تقريب الدّلالة على الوجهين في إرادة الوجوب النّفسي من الأمر بالتّبيّن ، وإن لم يلتزم به أحد حتّى من قال بوجوب تحصيل العلم في الفروع بالوجوب النّفسي ؛ فإنّه لا يقول : بأنّ إخبار الفاسق سبب لوجوب التّبين بالوجوب النّفسي ؛ لأن أخذهم للمقدّمة المذكورة في كلامهم المبنيّة على التّرديد والدوران ينطبق على الوجوب النّفسي ، لا الشّرطي.

وظاهر الأمر في نفسه وإن كان الوجوب النّفسي إلاّ أنّه بالنّظر إلى المقام إلى


الفحص عن الطّرق ، إلى قيام الإجماع ، وإلى التّعليل غير مراد قطعا ، فلا معنى لحمل اللّفظ عليه هذا.

والتّحقيق : أنّ الأمر بالتّبيّن في خبر الفاسق ، وبعدم وجوبه في خبر العادل ، وإن دلّ على عدم حجيّة الأوّل ، وكون وجوده كعدمه ، فلا بدّ من تحصيل العلم بالواقع في مورده ، وعلى حجيّة الثّاني وطريقيّته المغنية عن تحصيل العلم بالواقع بالدلالة اللّفظيّة العرفيّة الواضحة ، إلاّ أنّ حمل الوجوب على الوجوب الشّرطي محلّ مناقشة ؛ فإنّه لا معنى لجعل تحصيل العلم بالواقع شرطا للعمل بخبر الفاسق ؛ فإنّ العمل بالواقع لا دخل له بالعمل بالخبر إلاّ على سبيل التّوسّع والمسامحة.

فلا بدّ أن يحمل وجوب التّبيّن ـ المقصود منه في خصوص المقام الدّلالة على عدم الحجّيّة على ما يحمل عليه الوجوب في كلّ ما دلّ على وجوب تحصيل العلم في الفروع ـ على الجاهل من الوجوب الغيري الإرشادي. وحكم الشّارع بنفي هذا المعنى عند إخبار العادل ، وإن كان في معنى الحكم بحجيّته ؛ إلاّ أنّه لا دخل له بالوجوب الشّرطي.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الآية لا تعلّق لها بخصوص الفروع ، بل يعمّها الموضوعات الّتي لا يجب تحصيل العلم فيها بالوجوب الغيري الإرشادي ، بل مورد الآية من الموضوعات فإن فرض هناك وجوب فليس إلاّ الوجوب الشّرطي غاية الأمر أن يكون الوجوب الثّابت عند إرادة العمل هو الوجوب الغيري ، هذا.


كلام صاحب الفصول

وقال بعض أفاضل من قارب عصرنا ـ في تقريب الاستدلال ـ ما هذا لفظه : « وجه الدّلالة : أنّه تعالى علّق وجوب تبيّن النّبأ على مجيء الفاسق به ، فيدلّ بمفهومه على عدم وجوب التّبين عند مجيء العادل به. ومقتضاه جواز القبول ؛ لأنّ الأمر بطلب البيان ، إمّا كناية عن عدم جواز القبول ، أو مجاز عنه ، أو مخصوص بما لو أريد العمل بمقتضى نبأه فيكون وجوبه شرطيّا ، ويرجع إلى الوجه السّابق ، أو بمواضع خاصّة لا بدّ من التّبيّن فيها. منها : الواقعة التي نزلت الآية فيها ، حيث يجب فيها طلب البيان بمطالبتهم بالصّدقات ، فإن انقادوا إلى الحقّ وأدّوها تبيّن كذب النّبأ قضاء بظاهر الحال. وإن استنكفوا عنها وأظهروا التّمانع والمعاداة تبيّن صدقه ووجب التّهجّم على جهادهم. لكن هذا في الحقيقة راجع إلى طلب أمر مخصوص يحصل به البيان ، وليس بطلب نفس البيان حقيقة. وبالجملة : فلا بدّ من حمل الأمر بالتّبين على أحد هذه الوجوه ؛ للإجماع على عدم وجوب التّبين عند خبر الفاسق مطلقا.

وعلى هذا فما تداول في كتب القوم ـ في بيان وجه الاستدلال : من أنّه علّق وجوب تبيّن النّبأ على مجيء الفاسق به ، فعلى تقدير مجيء العادل به إمّا أن يجب القبول فهو المدّعى أو يجب الردّ ؛ فيلزم أن يكون العادل أسوأ حالا من الفاسق ـ غير مستقيم ؛ إذ مرجع الأمر بالتّبيّن فيما عدا الوجه الأخير إلى ردّ نبأه ، وفي الوجه الأخير يجب التبيّن في نبأ العادل أيضا وإنّما يتمّ ما ذكروه إذا حمل الأمر بالتّبيّن


على وجوبه مطلقا ، وهذا ممّا لا ذاهب إليه (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

(٨٣) قوله قدس‌سره : ( مع أنّ في الأولويّة المذكورة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٥٥ )

حمل وجوب التبيّن على النفسي لا يجدي في تماميّة الاستدلال

أقول : مراده قدس‌سره ممّا أفاده : أنّ حمل وجوب التبيّن على الوجوب النّفسي ـ على ما يستفاد من تقريب الاستدلال في كلماتهم مضافا إلى فساده من وجوه مذكورة في كلامه قدس‌سره ـ لا يتمّ معه تقريب الاستدلال ؛ حيث إنّ نفي وجوب التّبين عن خبر العادل بالوجوب النّفسي لا يلازم وجوب القبول والحجّيّة ، فيشترك مع خبر الفاسق ما لم يتبيّن صدقه ، ومطابقته للواقع في عدم القبول. كما أنّه يشترك معه مع تبيّن الصّدق في العمل بمقتضى التّبين. ويفترقان في وجوب التّفتيش في حال خبر الفاسق من حيث الصّدق والكذب ، وعدم وجوبه في خبر العادل وهو موجب لمزيّة العادل على الفاسق ، لا لمنقصة العادل بالنسبة إلى الفاسق.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ التّبيّن في الخبر نوع من الاعتناء بشأن المخبر ، فلا يصلح أن يكون فارقا. وإليه أشار بقوله ( فتأمّل ) (٢) على ما أفاده في مجلس الدّرس ، وإن لم يخل عن مناقشة.

__________________

(١) الفصول الغروية : ٢٥٧.

(٢) فرائد الاصول : ج ١ / ٢٥٦.


(٨٤) قوله : ( أحدهما : أنّ الاستدلال ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٥٦ )

التعليق على الوصف لا يدل على المفهوم

أقول : مراده قدس‌سره من عدم اعتبار مفهوم في الوصف : عدم ثبوت المفهوم في التّعليق على الوصف ، لا عدم حجيّته واعتباره مع ثبوته ؛ ضرورة عدم الفرق في حجيّة ظواهر الألفاظ بين الظّهور المنطوقي والمفهومي. فكلامهم في باب المفاهيم إنّما هو في الصّغرى ، لا في الكبرى بعد ثبوتها ، كما صرّح به غير واحد من الأعلام ، وإن تسامحوا في بعض التّعبيرات ، إلاّ أنّه لا ضير فيه مع وضوح المراد وظهوره. ومن هنا قالوا : إنّ التّعليق بالوصف يشعر بالعليّة ولا يدلّ عليها.

ومن هنا أجاب غير واحد من الأساطين عن الاستدلال بالآية : بأنّه مبنيّ على دليل الخطاب. أي : مفهوم المخالفة. ولا نقول به. فمثل العلاّمة القائل بثبوت المفهوم للتّعليق على الشّرط (١) لا بدّ أن ينزّل كلامه على إرادة التّعليق على الوصف. ومثل السيّد النّافي لهما معا (٢). يحتمل كلامه لكلّ من الأمرين ، هذا.

والعجب من المحقّق القمّي قدس‌سره في « القوانين » ؛ حيث إنّه مع موافقته للمشهور في القول بعدم المفهوم للتعليق على الوصف ، قال به في المقام ؛ لمساعدة العرف ، وقرينة المقام ؛ حيث قال ـ بعد تضعيف دلالة الآية باعتبار التعليق على الشّرط ـ : « فالاعتماد على مفهوم الوصف ، فإنّا وإن لم نقل بحجّيته في نفسه ، لكنّه

__________________

(١) نهاية الاصول : ٢٩٤ مخطوط.

(٢) الذريعة : ج ٢ / ٥٣٥.


قد يصير حجّة بانضمام قرينة المقام. كما أشرنا إليه في مباحث المفاهيم (١) ». انتهى كلامه رفع مقامه.

وهو كما ترى ، صريح فيما حكينا عنه ، إلاّ أنّه مبنيّ ـ كما صرّح بذلك بعد الكلام الّذي عرفته ـ على مقالة المشهور القائلين بحجيّة ظواهر الألفاظ في حقّ غير من قصد إفهامه بالخطاب ، لا على ما ذهب إليه في بحث الظّواهر من عدم حجيّته إلاّ من باب الظّن المطلق.

ويرد عليه : بأنّا كلّما نتأمّل في المقام لا نفهم قرينة تدلّ على أنّ الغرض من التّعليق الدّلالة على الانتفاء عند الانتفاء هذا. مع أنّ المقام أولى بعدم الدّلالة من حيث عدم ذكر الموصوف في الكلام ، وعدم اعتماد الوصف على موصوف محقّق ، فإنّه أشبه باللّقب في كونه موضوعا للحكم ، وليس أمرا زائدا عليه ؛ حتّى يقال : بأنّ ذكره لغو لو لم يكن الغرض منه الدّلالة على مناط الحكم وعلّته ، كما هو أحد الوجهين في الاستدلال لإثبات المفاهيم في التعليقات التي قالوا بثبوت المفهوم لها.

مضافا إلى ما قيل : من أنّ فائدة التّعليق في المقام ظاهرة ، وهو التنبيه على فسق الوليد ؛ لما روي في شأن نزولها : من أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسل وليد بن عقبة إلى بني المصطلق ؛ ليأخذ منهم صدقاتهم ، فلمّا قرب إلى منازلهم خرجوا إليه ؛ ليتلقّوه تعظيما لحقّه ، فهابهم ؛ لما كان ما بينه وبينهم في الجاهليّة من العداوة ، فهرب إلى

__________________

(١) قوانين الاصول : ج ١ / ٤٣٤.


النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره بتمانعهم من أداء الصّدقات ، فنزلت الآية في حقّه (١).

وقد يروى : أنّه أخبر بارتدادهم (٢) ، فنزلت الآية الشّريفة (٣). فلا يمكن أن يقال : إنّ الدّلالة على الانتفاء عند الانتفاء أظهر الفوائد ، فضلا عن أن يقال : بانحصار الفائدة فيها.

كلام الفصول في الإعتراض على المحقق القمي

وقال بعض الأفاضل ـ ممّن قارب عصرنا بعد حكاية ما عرفت عن « القوانين » ـ :

« أقول : وفيه نظر ؛ لأنّ مساعدة المقام على استفادة حكم المفهوم من التّعليق على الوصف بناء على عدم دلالته عليه في نفسه ، إمّا أن يكون لقرائن حاليّة ، وثبوتها في المقام ممنوع قطعا ، أو لقرائن لفظيّة راجعة إلى انحصار فائدة التّعليق في الاحتراز ، أو ظهورها بحسب مقام التّعليق من بين الفوائد ، فهذا إنّما يتصور جريانه بحسب تحصيل الوثوق والاعتداد به فيما إذا تعقب الوصف

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ج ٩ / ٢٢٠ ، عنه بحار الأنوار : ج ٢٢ / ٥٣.

(٢) أنظر تفسير الأصفى للمولى محسن فيض الكاشاني : ج ٢ / ١١٩٢ ، والذي ينبغي التنبيه عليه هو أن ما ذكر في شأن نزول الآية لا يمكن الوثوق به بتفاصيله لاشتماله على المنكرات التي لا مجال للإيمان بها ، وهذا هو شأن ما ورد من العامّة ولا يرجى منه أكثر من ذلك. ذلك لأنهم حاولوا بشكل وآخر تبرئة الوليد الفاسق الخبيث فتأمل فيما ذكروه وتلطّف حتى تعرف ما ذكرناه.

(٣) الحجرات : ٦.


الخاص الموصوف العام.

كما في قولك : « إن جاءك مخبر فاسق أو رجل فاسق ، بنبأ » ونحو ذلك ممّا يشمل على التّقييد اللفظي المقتضي اعتباره في الكلام لفائدة زائدة على فائدة بيان الحكم ، وظاهر أنّ المقام ليس من بابه ، بل من باب ترجيح التّعبير عن مورد الحكم بعنوان خاصّ على التّعبير عنه بعنوان عام ، ومثل هذا لا يستدعي فائدة ظاهرة يزيد على فائدة بيان الحكم في المورد الخاص.

ومع الإغماض عن ذلك فلا تجد لتعليق الحكم على الوصف في المقام مزيد خصوصيّة لا توجد في غيره ؛ فإنّ ما ذكروه في منع دلالته على حكم المفهوم في غير المقام : من عدم انحصار الفائدة فيه وإنّ من جملة الفوائد كون محلّ الوصف محلّ الحاجة يتّجه في المقام أيضا.

مضافا : إلى أنّ له في المقام نكتة أخرى أيضا وهو : التّنبيه على أنّ المخبر المتّصف بالفسق بعيد عن مقام الاعتماد والاستناد جدّا ؛ إذ يحتمل في حقّه ما يحتمل في حقّ المخبر العادل من السّهو والنّسيان مع زيادة وهي : احتمال تعمّده الكذب وتعويله في خبره على أمارات ضعيفة وأوهام سخيفة ناشئتين من انتفاء صفة العدالة عند الحاجزة على الاقتحام في مثل ذلك. وهذا ظاهر لا سترة عليه » (١). انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٢٧٥.


(٨٥) قوله قدس‌سره : ( ففيه : أنّ مفهوم الشّرط ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٥٧ )

كيفية أخذ المفهوم من القضيّة الشرطيّة

أقول : الوجه فيما أفاده ظاهر لا سترة فيه أصلا ؛ ضرورة أنّ المعتبر في التّعليق على الشّرط كما حقّق في محلّه فيما كان له مفهوم بتبديل كلّ من الشّرط والجزاء بنقيضه مع إبقاء سائر أجزاء القضيّة على حالها في جانب المفهوم. فإذا قال : « إن جاءك زيد فأكرمه ». مثلا ، كان مفهومه سلب الجزاء ، وهو وجوب الإكرام عن زيد عند عدم الشّرط ، وهو مجيء زيد ، لا سلب الإكرام عن عمرو الجائي مثلا ، فإنّه موضوع آخر لم يكن مثبتا في القضيّة أصلا ، فإذا فرض التّعليق على الشّرط في الآية دالاّ على قضيّة أخرى ، يعبّر عنها بالمفهوم ، كانت تلك القضيّة : إن لم يجئكم فاسق بنبأ فلا يجب التّبيّن في نبأه لا إن جاءكم عادل بنبأ فلا يجب التّبين في نبأه فإنّ نبأ العادل ليس من أفراد عدم نبأ الفاسق ، ولو في الجملة ؛ ضرورة أنّ الأمر الوجودي ليس من أفراد العدم ؛ ضرورة تقابل الوجود والعدم. فكيف يمكن تصادفهما؟

نعم ، قد يقارن عدم الشّيء وجود بعض الأشياء أو يلازمه. وأين هذا من التّصادق والفردية؟ فعدم نبأ الفاسق لا يتعدّى عنه ، وليس من أفراده نبأ العادل ، إن تقارن نبأ العادل في الوجود وإلاّ أمكن أن يقال : بأنّ الآية تدلّ منطوقا على عدم حجيّة خبر العادل ؛ بأن يقال : إنّ الآية تدلّ على وجوب التّبين في خبر الفاسق ويشمل بإطلاقها ما لو اجتمع مع نبأ العادل ، فيجب التّبين فيه ، وإن كان المخبر به أمرا واحدا. وهو كما ترى.


فإذا لم يمكن التّبين في النّبأ المنفي عن الفاسق فلا يعقل أن يكون للقضيّة مفهوم ودلالة مرادة للمتكلّم ؛ ضرورة كون انتفاء المحمول عن الموضوع الغير الموجود من جهة استحالة الوجود لا من جهة دلالة اللّفظ ، وإنشاء المتكلّم لنفيه إمّا من جهة الدّلالة الوضعيّة أو الإطلاقيّة الانصرافية أو العقليّة الرّاجعة إلى لزوم اللّغويّة والخلوّ عن الفائدة. فلا بدّ أن يكون الغرض من ذكر الشّرط في أمثال المقام الإشارة والدّلالة على اختصاص الجزاء موضوعا بصورة وجود الشّرط وهذا غير عزيز كما في الأمثلة المذكورة في « الكتاب ».

فلو قيل : إنّ قوله تعالى : ( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ ) (١) الآية يدلّ بالمفهوم على نفي وجوب الاستماع عن قراءة الحديث ؛ حيث إنّ عدم قراءة القرآن يشمل قراءة الحديث كان حقيقا بالإعراض وعدم الاستماع ، وهكذا الأمر في نظائره هذا.

مع أنّ الأخذ بإطلاق المفهوم والحكم بدلالة الآية على عدم وجوب التّبين في خبر العادل لا معنى له من جهة أخرى ؛ فإنّ حمل الآية على ما ذكر يوجب الحكم بأنّ مدلول الآية نفي وجوب التّبيّن بالدّلالة اللّفظيّة عمّا لم يكن هناك نبأ أصلا لا من الفاسق ولا من العادل ، كما أنّ مدلولها نفيه عن نبأ العادل. ومن المعلوم ضرورة أنّ نفي وجوب التّبين شرعا إنّما يتصور في مورد إمكان ثبوته. وكيف يمكن ثبوته فيما لم يكن هناك نبأ أصلا؟

وممّا ذكرنا كلّه يظهر فساد ما قيل في الجواب عن الاعتراض المذكور : من أنّ مفهوم الشّرط وإن لم يكن مجيء العادل بالنّبأ إلاّ أنّه بإطلاقه يشمله ، وهكذا ما

__________________

(١) الاعراف : ٢٠٤.


قيل : من أنّ حمل المفهوم على عدم وجوب التّبين في نبأ الفاسق عند عدم مجيئه به يوجب حمل القضيّة على السّالبة بانتفاء الموضوع ، وهو على خلاف الأصل الظّاهر ؛ ضرورة أنّ الأصل المذكور إنّما يعمل به ويجري فيما كان هناك قضيّة سالبة مردّدة. وقد عرفت : تعيّن كون السّلب في المقام من جهة سلب الموضوع.

(٨٦) قوله قدس‌سره : ( الثّاني : ما أورده في محكي العدّة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٥٨ )

إفتراق الايراد الثاني عن الأول ووجهه

أقول : لا يخفى عليك أنّ مرجع هذا الإيراد أيضا وإن كان إلى كون الغرض من التّعليق في المقام وصفا أو شرطا غير الدّلالة على الانتفاء عند الانتفاء ، إلاّ أنّه يفترق معه من جهة أخرى ؛ فإنّ الاستناد في الإيراد الأوّل إلى منع وجود المقتضي ، وفي الإيراد الثّاني إلى وجود المزاحم والمانع عن الحكم بإرادة المفهوم من التّعليق ، وإن سلّم كون التّعليق في نفسه مقتضيا لعدم وجوب التّبين في خبر العادل ، فالغرض : من التّعارض في المقام هو تنافي ما يقتضيه ظهور اللّفظ والدّلالة العرفية على الانتفاء عند الانتفاء مع وجود ما يمنعه ويزاحمه ، فالتّعليق بهذه الملاحظة ليس له ظهور ومفهوم حقيقة ، فلا يقال : إنّه أخصّ بالنّسبة إلى عموم التّعليل ، فلا بدّ أن يخصّص به كما يكون الأمر كذلك فيما كان التّعليق المقتضي لمفهوم المخالفة والعموم في كلامين إذا فرض العموم مستفادا من غير التّعليل ، فالتّعارض حقيقة بين التّعليق الدّال على المفهوم بحسب الوضع أو غيره من جهات


الدّلالة المذكورة في محلّه وظهور التّعليل في تبعيّة الحكم المعلول له من حيث كونه من آثاره.

فالتّرجيح ليس من جهة المنطوق والمفهوم ؛ حتّى يرد النّقض بالمنفصلين ، بل من جهة الاتّصال والوجود في كلام واحد ؛ ضرورة عدم استقرار ظهور صدر الكلام حتّى يفرغ المتكلّم منه ، مضافا إلى كون العموم مستندا إلى التّعليل الآبي عن التّخصيص ، المقتضي لحمل المعلول على ما يقتضيه التّعليل عموما وخصوصا ، فيحكم بملاحظة ما ذكر : أنّ الغرض من التّعليق ليس الدّلالة على الانتفاء عند الانتفاء بل مطلب آخر ، فليس هناك في الحقيقة خاصّ يعارض العموم.

فإن شئت قلت : إن التّعليل الجاري في صورة انتفاء الوصف أو الشّرط قرينة على أنّ الغرض من التّعليق على أحدهما الدّلالة على شيء آخر غير المفهوم.

وممّا ذكرنا كلّه تبيّن استقامة ما أفاده قدس‌سره في الجواب عن السؤال بقوله : ( لأنّا نقول ما ذكر أخيرا ... إلى آخره ) (١) وهو المراد أيضا من قول الشّيخ في « العدّة » : من ترك دليل الخطاب أي : مفهوم المخالفة لدليل ؛ فإنّ غرضه من التّرك : الحكم بخلوّ الجملة عن المفهوم وكون الغرض من التّعليق أمرا آخر.

(٨٧) قوله قدس‌سره : ( كما في قول القائل ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٦٠ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ المثال المذكور كما يكون مخصّصا يكون معمّما أيضا ؛ فإنّه يتعدّى بحكم التّعليل عن المورد إلى كلّ ما يكون حامضا.

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٢٥٩.


ثمّ إنّ قوله قدس‌سره : ( فيكون عدم التّقييد في الرّمّان ... إلى آخره ) (١) مشتبه المراد ؛ إذ الموجود في النسخة السابقة قبل التّغيير قوله : ( لعلّة الحموضة فيه ) (٢) والمراد منه : أنّه لمّا أريد تعليل الحكم بالحموضة ، فلذا ترك التّقييد من حيث حصول الغرض منه بالتّعليل مع شيء زائد وهو الدّلالة على علّيّة الحكم ، وهذا المعنى كما ترى لا يؤدّى بتلك العبارة. وفي النّسخ المصححة قوله : ( لغلبة الحموضة فيه ) (٣) بدل ذلك القول. وقد سمعت عن شيخنا الأستاذ العلاّمة كون العبارة الأصليّة هذه ، وأبدلت بالعبارة السّابقة من جهة التّشابه اللّفظي وقلة معرفة الكاتب. والمراد منه : أنّ التّقييد مستنعن عنه ؛ لوجود الحموضة في أكثر أفراد الرّمان ؛ حيث إنّه يوجب انصرافه إلى الأفراد الحامضة. فكأنّه قال : لا تأكل الرّمّان الحامض ، وهو كما ترى لا محصّل له.

(٨٨) قوله قدس‌سره : ( وهذا الإيراد مبنيّ ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٦٠ )

إعتراضات على حمل التبيّن على المعنى الأعمّ

أقول : ابتناء الإيراد على ما أفاده أمر ظاهر ؛ إذ على تقدير إرادة الأعمّ من العلم والاطمئنان من لفظ التّبين الواقع في الجزاء المقابل للجهالة وتسليم حصول الاطمئنان من إخبار العادل بخلاف خبر الفاسق ، لا يكون هناك تعارض أصلا ؛ إذ

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٢٦٠.

(٢) أنظر هامش : ج ١ / ٢٦٠ من فرائد الأصول.

(٣) نفس المصدر : ٢٦٠ في المتن.


التّعليل ينطبق على ما كان العمل به في معرض الوقوع في النّدم المنتفي مع حصول الاطمئنان بالفرض ؛ لأنّ الواجب بالآية ـ على هذا التّقدير ـ تحصيل الاطمئنان في مورد إخبار الفاسق ؛ من حيث إنّ العمل بدونه في معرض الوقوع في مخالفة الواقع ، فلا يعقل التّعارض حينئذ بين المفهوم وعموم التّعليل.

لكنّه يرد عليه ـ مضافا إلى مخالفة هذا المعنى لظاهر لفظ التّبيّن ـ :

أوّلا : بأنّ إرادة هذا المعنى يلغو الاستدلال بالمفهوم ؛ حيث إنّ الآية بمنطوقها تدلّ حينئذ على حجيّة خبر العادل ، بناء على إرادة الوجوب الشرطي حسبما عرفت : من أنّه لا بد من ابتناء الاستدلال عليها.

وثانيا : بأنّ إرادتها توجب إثبات حجيّة مرتبة خاصّة من مطلق الظن ، وهو الظن الاطمئناني ، من غير نظر إلى خبر العادل ، فيخرج عن محلّ النّزاع. كما أنّه على تقدير إرادة الأعمّ من مطلق الظّن يثبت حجيّة مطلق الظّن كما زعمه في « القوانين » حتّى مع التّمكّن من تحصيل العلم بالواقع. ولا أظنّ أحدا يلتزم بذلك ، وإن كان ربّما يجري في لسان المحقّق القميّ قدس‌سره في « القوانين » ، لكنّه ليس مذهبه كما يظهر من كلماته في الفقه.

نعم ، بعض مشايخنا (١) في « شرحه على الشّرائع » نفى البعد عن الاعتماد على الظّن الاطمئناني حتّى مع التّمكن من تحصيل العلم متخيّلا : أنّه من مصاديق العلم عرفا ، وهو ـ كما ترى ـ زعم لا وجه له ، مضافا إلى اختصاصه بما تعلّق

__________________

(١) الفقيه البطل الشيخ محمّد حسن النجفي صاحب الجواهر ، انظر الجواهر : ج ٥ / ٣٣٥ ط دار المؤرخ العربي.


الحكم بالعلم في الشّرعيات لا بالمعلوم كما هو ظاهر.

وثالثا : بعدم إمكان إرادته ؛ من حيث لزوم إرادته خروج المورد من الآية بناء على كونه إخبار الوليد بالارتداد ، أو مطلق الإخبار بالارتداد ؛ ضرورة عدم حجيّة مطلق الظّن الاطمئناني بالارتداد ؛ وتقييده في المورد بما إذا حصل من شهادة العدلين كما ترى ؛ ضرورة أنّ الآية لا تتحمّل هذا النّحو من التّقييد بحيث يبقى على إطلاقها مطلقا ، أو في غير موارد اعتبار شهادة العدلين كما لا يخفى.

فتعيّن إذن إرادة المعنى الأخصّ وهو : التّبيّن العلمي ، وإلى ما ذكرنا أشار إليه بقوله قدس‌سره : ( ولكنّك خبير بأنّ الاستدلال بالمفهوم ... إلى آخره ) (١) نعم ، كلامه في المقام خال عن الإشارة إلى الإيراد الأخير ، وسيشير إليه بعد ذلك.

(٨٩) قوله قدس‌سره : ( ثمّ إنّ المحكيّ عن بعض ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٦١ )

إطلاق الجهالة على السفاهة خلاف الظاهر

أقول : إطلاق الجهالة على السّفاهة وإن كان صحيحا إلاّ أنّه خلاف الظّاهر. والاستدلال له بقوله تعالى : ( فَتُصْبِحُوا ) (٢) الآية ، فاسد جدّا ؛ إذ النّدامة مترتّبة على فعل ما يجوز عند العقلاء ، ومن المعلوم أنّ العمل بخبر الفاسق من دون تبيّن وتفتيش من أمره غير مجوّز عند العقلاء بعد الالتفات إلى عدم ما يردعه عن الكذب ، وإن حصل منه الظّن في ابتداء الأمر كالتّقريب له بقوله : ( ولو كان المراد

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٢٦١.

(٢) الحجرات : ٦.


الغلط في الاعتقاد ... إلى آخره ) (١) فإنّ الظّاهر من قوله : ( أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ ) الآية. وإن كان التعليل بما يكون قبحه مركوزا عند العقلاء ، فلا يقبل التّخصيص ، فحجيّة الأمارات الغير العلميّة في الأحكام والموضوعات ربّما ينافيه ، إلاّ أنّ دليل الحجيّة من جهة كشفه عن تدارك مفسدة مخالفة الواقع على ما عرفت تفصيل القول فيه ترفع القبح العقلي.

نعم ، ما يكون اعتباره في مورد العجز عن تحصيل الواقع ، لا يدلّ التّعليل على المنع عنه ؛ من حيث اختصاصه بصورة التّمكن عن تحصيل العلم بالواقع ، وإن كان التّمثيل لذلك بالفتوى محلّ مناقشة غير مخفيّة ، بل المعلول وهو وجوب التّبيّن ظاهر ، بل نصّ بعد حمل التّبيّن على المعنى الأخصّ في اختصاص الحكم بصورة إمكان تحصيل العلم بالواقع.

نعم ، على القول بحمله على المعنى الأعمّ ، يعمّ صورة عدم الإمكان.

لكنّك قد عرفت فساده.

ومنه يظهر النّظر فيما أفاده بقوله قدس‌سره : ( فالأولى لمن يريد التّفصّي عن هذا الإيراد ... إلى آخره ) (٢) ولذا أمر بالتّأمّل فيه هذا.

وقد يناقش في التّعليل من جهة أخرى ، وهي : أنّ إصابة القوم بجهالة إنّما هي في بعض موارد العمل بخبر الفاسق ، لا في جميع موارده.

ولكنّك خبير بأنّ اختصاص التعليل ببعض موارد العمل بخبر الفاسق لا يدفع

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٢٦١.

(٢) فرائد الاصول : ج ١ / ٢٦٢.


الإيراد عن المفهوم ؛ فإنّ الآية تدلّ ـ بعموم التّعليل ـ : على أنّ كلّما كان العمل به ، في معرض الإصابة لا يجوز العمل به من غير فرق بين خبر الفاسق والعادل وغيرهما.

نعم ، لو جعل الاختصاص حكمة لوجوب التّبين لم يكن مانعا عن الأخذ بالمفهوم. لكنّه بعيد في الغاية ، مضافا إلى بعد الفرق على تقدير الحكمة ، والتّقريب أيضا بعد فرض وجودها في خبر العادل ، فتدبّر.

(٩٠) قوله قدس‌سره : ( وفيه : أنّ المراد ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٦٣ )

أقول : المراد ممّا أفاده قدس‌سره هو إبطال توهّم كون النّسبة المنطقيّة عموما من وجه ؛ من حيث كون المفهوم أخصّ مطلقا بحسب النّسبة المنطقية من الآيات النّاهية ؛ وإن كان الوجه في تقديم المفهوم كونه حاكما على الآيات النّاهية أو واردا عليها على الوجهين اللّذين تقدّمت الإشارة إليهما. فالمراد من تعيين التّخصيص في كلامه قدس‌سره هو الخروج عن مقتضى الآيات النّاهية بواسطة المفهوم ، فتدبّر.

(٩١) قوله قدس‌سره : ( وربّما يتوهّم ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٦٣ )

مطلق الخارج عن العام لا يوجب انقلاب النسبة

أقول : لا يخفى عليك أنّ التّمثيل بالبيّنة وأمثالها ـ ممّا يعمل به في الموضوعات ـ مبنيّ على شمول المفهوم للموضوعات. كما أنّ الاختصاص من الجهة الأولى مبنيّ على اختصاص الآيات النّاهية بأسرها بصورة التّمكن من تحصيل العلم ، وعدم نصوصيّة الآية من هذه الجهة بحيث يمكن تخصيصها بصورة العجز عن تحصيل العلم ، فيكون للمفهوم على الوجهين جهة عموم لا يشملها


الآيات النّاهية ، وهي : الشّمول لصورة الانسداد والبيّنة العادلة. مع أنّ الآيات النّاهية لا يشملها.

فالّذي يتوهّم : أن يكون خروجه موجبا لانقلاب النّسبة ، لا بدّ أن يكون من قبيل البيّنة ممّا يشمله المفهوم ، وإلاّ فمطلق الخارج عن تحت الآيات النّاهية لا يوجب انقلاب النّسبة ، كما هو واضح.

وإن كانت دعوى اختصاص جميع الآيات النّاهية بصورة العلم في حيّز المنع ، كدعوى عدم نصوصيّة الآية بالنّسبة إلى صورة التّمكن من العلم ؛ حيث إنّك عرفت : أنّ الأمر بالتّبين المنفي مفهوما إنّما هو فيما لو تمكّن من تحصيل العلم ، هذا.

مع أنّ كون النّسبة عموما من وجه ، بالبيان الّذي توهّمه المتوهّم لا يجدي في المقام أصلا بعد ما عرفت : من كون تقديم دليل حجيّة غير العلم على الآيات النّاهية من باب الحكومة ، أو الورود.

فإن شئت قلت : إنّه لا معنى لملاحظة النّسبة بينهما بعد فرض كون التّقدّم من جانب دليل الحجيّة بحسب الرّتبة ، كما هو واضح.

(٩٢) قوله قدس‌سره : ( ويندفع الأوّل ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٦٣ )

أقول : اندفاع الأوّل ظاهر ممّا أفاده قدس‌سره ، وممّا ذكرنا في تقريب التّوهّم ؛ حيث إنّ دعوى اختصاص مدلول الآية بصورة الانسداد ـ مضافا إلى أنّ تسليم حجيّة الخبر عند الانسداد يكفي المستدلّ الباني على إثبات حجيّة الخبر في الجملة ، في قبال النّفي المطلق ـ ممّا لا معنى لها أصلا.


(٩٣) قوله قدس‌سره : ( والثّاني : بأنّ خروج ما خرج ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٦٣ )

لا معنى لتخصيص العام بالخاص الأخص وجعله موردا للإفتراق

أقول : ما أفاده قدس‌سره أمر واضح لا سترة فيه أصلا ، وإن خالف فيه بعض الأصوليّين من المتأخّرين ؛ حيث إنّ تخصيص العام بالخاص الأخص أوّلا فيما إذا ورد هناك عام وورد خاصّ ، أحدهما أخصّ من الآخر وجعله مادّة لافتراق الخاص الأعمّ لا معنى له ، بعد فرض كون النّسبة بينهما وبين العام نسبة العموم والخصوص ؛ إذ التّرجيح والتّقديم في العلاج ، وقلب النّسبة ممّا لا يساعده العرف أصلا.

فإن شئت قلت : إنّ النّسبة بين الخاص الأعمّ والعام ، إمّا يلاحظ قبل تخصيصه بالخاصّ الأخصّ ، أو بعده. فإن لو حظت قبل التّخصيص وبملاحظة الوضع للعموم ، فلا ريب أنّ النّسبة هي العموم والخصوص بهذه الملاحظة بالفرض. وإن لو حظت بعد التّخصيص بالخاصّ الأخصّ ، وما أريد من العامّ والخاص الأعمّ ، فلا شبهة أنّ التّخصيص لا يعيّن المراد من العام. وإنّما هو قرينة صارفة عن العموم ، لا معيّنة لإرادة تمام الباقي إلاّ بضميمة عدم التّخصيص وعدم خروج فرد آخر ، ومن المعلوم أنّه لا يعمل بالأصل عند قيام الدّليل على التّخصيص.

نعم ، لو كان الخاصّ الأخصّ من المخصّص المتّصل كالتّخصيص بالشّرط ، والغاية ، والوصف ، ونحوها حكم بانقلاب النّسبة بين العام المخصّص به ، والخاص الأعمّ المنفصل ؛ من حيث كونه قرينة صارفة ومعيّنة. وهذا بخلاف المخصّص المنفصل. هذا ، وتفصيل القول في ذلك يطلب من محلّه.


ولعلّنا نتكلّم فيه زائدا على هذا في طيّ التّعليقة عند عنوانه في الجزء الرّابع من « الكتاب ».

(٩٤) قوله قدس‌سره : ( أمّا أوّلا : فلأنّ دخوله ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٦٤ )

أقول : حيث إنّ نقل الإجماع على المنع عن العمل بخبر العادل من النّاقلين خبر عادل ، ومن هنا بني حجيّته على حجيّة خبر الواحد ، حسبما عرفت تفصيل القول فيه ، فلو كان مشمولا للمفهوم كان بعمومه شاملا لنفسه ، ويلزم منه عدم حجيّته. وهو ما أفاده : من كون دخوله مستلزما لخروجه ، ومن حجيته عدم حجيّته ، فيمتنع شمول الآية له ؛ ضرورة أنّ ما يستلزم وجوده عدمه محال.

وما قيل : من عدم شمول نقل الإجماع على المنع لنفسه ـ كما عن بعض مشايخ شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره ـ فيظهر وجه فساده ، مضافا إلى ما ذكره في « الكتاب » : من أنّ عدم الشّمول مستند إلى قصور اللّفظ ، لا للفرق من حيث المناط ، ممّا ستسمعه في دفع الإيراد الّذي يتلو هذا الإيراد.

(٩٥) قوله : ( وأمّا ثانيا : ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٦٥ )

أقول : المراد من الإجماع على تقدير إمكان الشّمول ذاتا هو الاتّفاق من الجميع على تخطئة المدّعي في دعوى الإجماع ؛ حيث إنّ المنكر لحجيّة خبر الواحد يسلّم كون المسألة خلافيّة ، لا الإجماع الكاشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام ؛ حيث إنّ المسألة ليست شرعيّة ، حتّى يكشف اتّفاقهم عن رأي المعصوم.

مضافا إلى منع تسليم المنكر ؛ لكون المسألة خلافيّة ؛ نظرا إلى دعوى جميع المنكرين الإجماع على عدم الحجيّة في المقام. فلعلّه الوجه في أمره بالتّأمّل ، أو الوجه السّابق الرّاجع إلى عدم كشف هذا الاتّفاق عن رأي المعصوم عليه‌السلام ، فتأمّل.


(٩٦) قوله قدس‌سره : ( وقد أجاب بعض من لا تحصيل له ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٦٥ )

أقول : لا يخفى عليك ، أنّ الجواب المذكور في كمال الوضوح من الفساد ، بل لا يظنّ تصوّره من قائله :

أمّا أوّلا ؛ فلأنّ حجيّة الإجماع المنقول على زعم المورد مدلول الآية ، فكيف يقال : إنّ ظاهر الكتاب مقطوع الاعتبار والإجماع المنقول مظنون الاعتبار؟

وأمّا ثانيا ؛ فلأنّ الظّن إن لم يعلم اعتباره ، فكيف يعارض مقطوع الاعتبار؟

وإن علم اعتباره ، فأين مظنون الاعتبار؟ وبالجملة : الجواب المذكور ساقط جدّا.

(٩٧) قوله قدس‌سره : ( ومنها : أنّ الآية لا تشمل ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٦٥ )

في انه لا معنى لإنصراف النبأ إلى الإخبار عن الإمام عليه‌السلام بلا واسطة (١)

أقول : لا يخفى عليك ، أنّ ظاهر هذا الإيراد ، أنّ الإخبار عن الإمام عليه‌السلام بواسطة ، أو بوسائط من مصاديق الإخبار عن الإمام عليه‌السلام ، إلاّ أنّ النّبأ منصرف إلى غيره. وهو : الإخبار بلا واسطة عن الإمام عليه‌السلام ، فلا يشمل الآية الأخبار المرويّة عن الحجج عليهم‌السلام في أمثال زماننا فلا تنفعنا ، وإن نفعت من وصل إليه المرويّ

__________________

(١) انظر تعليقة السيّد علي القزويني قدس‌سره على المعالم : ج ٥ / ٢٢٧ وتعليقة السيّد عبد الحسين اللاّري على الفرائد : ج ١ / ٣٣٦ ، والكفاية : ص ٢٩٧ ، وفوائد الأصول : ج ٣ / ١٧٧ ، ونهاية الدراية : ج ٣ / ٢١٨ ، ومقالات الأصول : ج ٢ / ٩٣ ، ونتائج الأفكار : ج ٣ / ٢٣٨ ، ومصباح الأصول : ج ٤٧ / ٢٠٨ وبحوث في علم الأصول : ج ٤ / ٣٦٣ ، وتنقيح الأصول : ج ٣ / ١٧٤ ، ومنتقى الأصول : ج ٤ / ٢٧٠.


عنهم عليهم‌السلام بلا واسطة ممّن عاصرهم أو قارب عصرهم عليهم‌السلام.

وهذا الإيراد ـ كما ترى ـ في كمال الضّعف والسّقوط ؛ إذ على تقدير تسليم الصّدق لا وجه للانصراف أصلا. وإن اعتبر الانصراف بالنّسبة إلى خبر الواسطة لا الإمام عليه‌السلام ، فأوضح فسادا ، فإنّه لا وجه للانصراف إلى غيره بعد فرض العلم بالصّدق.

نعم ، وجود خبر الإمام عليه‌السلام أو غيره ممّن يكون واسطة بين من أخبرنا والإمام عليه‌السلام ـ فيما فرض تعدّد الوسائط ـ غير معلوم. لكنّه لا دخل له بالانصراف المدّعى في كلام المورد. فالجواب عن الإيراد المذكور لا يتوقّف على فرض تعدّد الأخبار بتعدّد الوسائط ؛ حتّى يتوجّه عليه الإشكال المذكور في « الكتاب ».

نعم ، هو إشكال مستقلّ لا تعلّق له بالإيراد المذكور أصلا. وحاصله : أنّ الحجّة في الأحكام هي السّنة. ولو كان الخبر راجعا إلى الحكاية عنها كان معنى حجيّة الحكم بصدور السّنة وترتيب آثارها على المخبر عنه ، ولو لم يكن خبرا عنها ، بل كان خبرا عن قول الإمام عليه‌السلام وخبره وإن كان متعلّقه خبر المعصوم عليه‌السلام لم يكن معنى لحجيّته ؛ لعدم وجود السّنّة لا على وجه التّحقيق ولا على وجه التّنزيل. اللهمّ إلا أن يقال : إنّ الوجود التّنزيلي لخبر من يخبر عن المعصوم عليه‌السلام ، عين الوجود التنزيلي لخبره عليه‌السلام ، فتأمّل.

(٩٨) قوله قدس‌سره : ( ولكن قد يشكل الأمر ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٦٧ )

أقول : الإشكال في المقام من وجهين :

أحدهما : من حيث شمول الآية لخبر من يخبرنا عن الواسطة ـ كخبر الشّيخ في مثال « الكتاب » ـ ؛ نظرا إلى أنّ معنى حجيّة الخبر ووجوب تصديقه هو ترتيب


ما كان مترتّبا على المخبر به على تقدير ثبوته من المحمولات الشّرعيّة الواقعيّة النّفس الأمريّة في مرحلة الظّاهر ، كما هو معنى حجيّة غيره من الأمارات المعتبرة. ومن المعلوم أنّ المراد من الأثر الشّرعي للمخبر به غير ما ثبت بنفس الآية ؛ إذ لا معنى لإرادة الأعمّ منه ، والمفروض أنّه لا يترتّب شرعا على خبر الواسطة الّذي أخبرنا العادل به ، إلاّ وجوب التّصديق المجعول بنفس الآية.

ثانيهما : من حيث شمولها لخبر الواسطة ؛ نظرا إلى أنّ طريق إثباته نفس الآية. فكيف يشمله؟ حيث إنّ الموضوع لا بدّ أن يكون مفروغ الثّبوت مع قطع النّظر عن المحمول ، وإذا فرض ثبوته بالمحمول المتأخر عنه فلا يمكن شموله له. وهذا معنى ما في « الكتاب » من الإشكال.

والوجه الأوّل راجع إلى عدم إمكان صيرورة الآية واسطة لإثبات خبر الواسطة. والوجه الثّاني راجع إلى عدم إمكان شمول الآية لخبر الواسطة بعد فرض ثبوته بالآية ، والغضّ عن الإشكال الأوّل. وقد أشرنا إلى الإشكال الأوّل ودفعه مع التّأمل فيه. ولا فرق في توجّه الإشكال المذكور بين كون المنقول خبر واحد ، أو المتواتر.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ ثبوت المخبر به من اللّوازم العادية لخبر المتواتر فالحكم الشّرعي المترتّب عليه مترتّب على متعلّق خبر من يخبرنا بالتّواتر بالواسطة ، فالمخبر به وإن لم يكن له حكم شرعيّ من دون واسطة ، إلاّ أنّ له حكما شرعيّا مع الواسطة ، ولا فرق في حجيّة الأمارات الشّرعيّة بين أقسام الأحكام المترتّبة على مواردها ، وليست كالأصول. حتّى يقال فيها بالتّفصيل والفرق ، فتأمّل.


وما يقال ـ في دفع الإشكال عن المقام وغيره ـ : من أنّ وجوب نقل الأخبار أو رجحانه على اختلاف الموارد من الأحكام الشّرعيّة المترتّبة على الخبر إذا تعلّق بالأمور الشّرعية بالمعنى الأعمّ الثّابت في حالات النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام وغزواتهم في قبال الأمور العادية فلا يتوقّف شمول الآية لخبر من يخبرنا عن الخبر على جعل الأثر الشّرعي المتوقّف عليه حجيّة الخبر وشمول الآية أعمّ من الأثر الثّابت بنفس الآية المستحيل بحكم العقل ، كما ترى.

(٩٩) قوله قدس‌سره : ( ولكن يضعّف هذا الإشكال أوّلا ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٦٨ )

أقول : وجه الانتقاض بالنّسبة إلى الإقرار بالإقرار واضح ؛ حيث إنّ الّذي يفيد ويترتب عليه الحكم الشّرعي وإلزام المقرّ بمقتضاه ، هو الإقرار بالحقّ. والمفروض أنّ طريق وجوده والحكم بثبوته هو نفس الإقرار به. فلا بدّ أن يجعل شمول قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( إقرار العقلاء على أنفسهم جائز ) (١) للإقرار بالإقرار الثّابت وجدانا ، مثبتا للإقرار بالحقّ المشكوك وجوده ، فيجعل بعد الثّبوت موضوعا لأدلّة الإقرار.

بل قد يقال : بأنّ المقام أولى بالثّبوت ؛ حيث إنّ الحكم فيه مترتّب على نفس الخبر من غير اعتبار أمر آخر. وفي باب الإقرار مترتّب على الإقرار على النّفس

__________________

(١) كتب الإستدلال الفقهيّة ، عنها وسائل الشيعة : ج ٢٣ / ١٨٤ باب صحة الإقرار من البالغ العاقل ولزومه له ـ ح ٢ وانظر التنقيح الرائع : ج ٣ / ٤٨٥ ، وغوالي اللئالي : ج ١ / ٢٢٣ ـ ح ١٠٤ وج ٢ / ٢٥٧ ـ ح ٥ وج ٣ / ٤٤٢ ـ ح ٥ ـ والحظ جواهر الكلام : ج ٣٥ / ٣ ، والقواعد الفقهيّة للسيّد المحقق الفقيه البجنوردي : ج ٣ / ٤٥ وكيف كان فإن في صحّة كونه حديثا إشكالا واضحا.


لا مجرّد الإقرار ، والإقرار بالإقرار ليس إقرارا بالحقّ ؛ حتّى يكون إقرارا على النّفس ، وجعله إقرارا على النّفس ـ من حيث كونه طريقا للإقرار بالحقّ ـ دوريّ.

اللهمّ إلاّ أن يقال : بكونه إقرارا على النّفس عرفا ؛ حيث إنّ الإقرار على الإقرار في حكم العرف وعندهم اعتراف بما يضرّ النّفس الإنساني. بل قد يقال : بكون نفس الإقرار المذكور طريقا لإثبات الحقّ عرفا ، كالإقرار بالحقّ من غير توسيط مطلب آخر.

ومن هنا يفرّق بين الإقرار بالملكيّة السّابقة للمدّعي والبيّنة عليها ؛ حيث إنّ الإقرار بنفسه موجب لقلب الدّعوى ، بخلاف البيّنة على الملكيّة السّابقة ، مع كون متعلّقها أمرا واحدا بالفرض وإن كان هذا القول فاسدا عند التّأمل ، والفرق صحيحا ، فالنّقض لا محيص عنه ، بل هذا النّقض وارد على الإشكال الأوّل الّذي عرفته منّا ، كما هو واضح عند أدنى تأمّل ، هذا.

وأمّا وجه الانتقاض بالنّسبة إلى إخبار العادل بعدالة مخبر ـ بعد البناء على شمول الآية للتّعديلات والإخبار بالعدالة كما هو المسلّم بينهم ـ فهو : أنّ الحكم في المفهوم شرطا كان أو وصفا متعلّق على بناء العادل. فكما أنّ الآية لا تصير واسطة لإثبات النّبأ في المشكوك بمعنى عدم إثباتها حجيّته ووجوب تصديقه على ما عرفت ، كذلك لا تصير واسطة لإثبات الحكم فيما ثبت عدالة مخبره بنفس الآية ، حذوا بحذو ؛ لاتحاد المناط ، ووحدة جهة المنع والامتناع.


(١٠٠) قوله قدس‌سره : ( وعدم قبول الشّهادة ... إلى آخره ). (١) ( ج ١ / ٢٦٨ )

أقول : ما أفاده قدس‌سره دفع لتوهّم ما يرد على النّقض ؛ من حيث إنّه إذا أمكن صيرورة شمول حكم العام لبعض الأفراد واسطة لإثبات فرد آخر منه ، يتعلّق به حكم العموم ، فما المانع من إثبات شهادة الفرع شهادة الأصل؟ فيحكم بها بمقتضى أدلّة اعتبار الشّهادة مع أنّهم لم يلتزموا به.

وحاصل وجه الدّفع ـ مضافا إلى الالتزام به في الجملة عندهم ، كما إذا تعذّر حضور الأصل من جهة مرض أو مانع آخر ـ : أنّ المانع من القبول في المثال والفرض هو استفادة اعتبار إقامة الشّهادة على الحقّ عند الحاكم وفي محضره من دليل اعتبار الشّهادة في صورة الإمكان.

(١٠١) قوله قدس‌سره : ( وثانيا : بالحلّ ... إلى آخره ) (٢). ( ج ١ / ٢٦٨ )

أقول : حاصل ما أفاده قدس‌سره ـ وإن كانت العبارة قاصرة عن بيانه في أوّل النّظر ـ : هو أنّ الممتنع على تقدير التّسليم هو شمول حكم العام لما صار من الأفراد شموله للفرد المفروغ عن فرديّته واسطة لثبوته ـ كما في المثال المذكور ؛ حيث إنّه بعد حمل صادق أو كاذب على كلّ خبريّ يوجد عنوان الخبريّة ، ويحدث لنفس هذه القضيّة ، فيمتنع تعلّق المحمول على نفسها ، لا لما صار الشّمول لبعض الأفراد واسطة لإثباته ، كما في المقام ؛ ضرورة أنّ وجود خبر المفيد مثلا في نفس الأمر لا يتوقّف على إخبار الشّيخ قدس‌سره عنه ، فضلا عن أن يتوقّف على اعتباره.

__________________

(١) أنظر هامش فرائد الاصول : ج ١ / ٢٦٨ رقم (١).

(٢) انظر هامش رقم (٢) من : ج ١ / ٢٦٨.


والفرق بين الأمرين لا يكاد أن يخفى ، هذا.

والحقّ أن يحرّر المقام بتقديم الجواب الثّالث على الثّاني وتبديل عنوانهما وجعل كلّ منهما جوابا حلّيّا ؛ ضرورة أنّ الجواب لا يخرج عن النّقض والحلّ.

ويجاب ثانيا : بمنع امتناع الشّمول حتّى فيما كان واسطة للثّبوت سواء جعلت القضيّة حقيقيّة شاملة للأفراد الخارجيّة والفرضيّة ، أو عرفيّة شاملة لجميع ما يتحقّق في الخارج ، من أفراد الموضوع في الماضي والحال ، أو الاستقبال بالنّسبة إلى زمان التكلّم بالقضيّة ، والتّرتيب بحسب الوجود فضلا عن مجرّد التّأخر ، لا يمنع من الشّمول قطعا. فإذا فرض وجود عنوان الخبريّة بعد الحمل في المثال المذكور ، فأيّ مانع من شمول المحمول؟ وليس إلاّ مجرّد التّرتيب في الوجود ، وهو لا يمنع بعد فرض تحقّق المحمول بكلّ ما يتصف بعنوان الخبريّة ولو بعد زمان التكلّم.

وإن كان المنع راجعا إلى منع وجود أصل الفرد والعنوان من توسيط الشّمول ، فهو إشكال آخر ، لا تعلّق له بالإشكال المذكور ، مضافا إلى مخالفته للحسّ والوجدان ، كما هو المشاهد في المثال المذكور. ومن هنا ذكر في « الكتاب » : ( بل لا قصور في العبارة ) (١) وإن كان قوله قدس‌سره : ( فهو مثل ما لو أخبر زيد ... إلى آخره ) (٢) بعد نفي القصور متعلّقا بما ذكره قبل التّرقّي من تسليم القصور.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٢٦٩.

(٢) فرائد الاصول : ج ١ / ٢٧٠.


ويجاب ثالثا : بالفرق بين قسمي الواسطة على التّسليم والمماشات والإغماض عن الجواب الثّاني ، بما نبّه عليه قدس‌سره.

(١٠٢) قوله قدس‌سره : ( ويجعل المراد من القبول ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٧٠ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ جعل المفهوم قضيّة مهملة ربّما ينافي القول بالمفهوم المبتني على السّببيّة التّامة للتّعليق على الشّرط أو الوصف ، إلاّ بالبيان الّذي تجيء الإشارة إليه في الكتاب على تأمّل في تماميّته ، كما ستقف عليه.

ثمّ إنّ ابتناء منع الإجماع والأولويّة على ما ذكر من جعل المفهوم قضيّة مهملة ؛ حيث إنّه لم يقل أحد باعتبار الانضمام في حجيّة خبر العدل في الأحكام ، مبنيّ على تسليم الإجماع والأولويّة على تقدير حجيّة خبر العدل في الموضوعات بعنوان الإطلاق ، ولا يشترط كما هو الحقّ. وإلاّ فلا يتوقّف على جعل القضيّة مهملة في الموضوعات ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ فساد الإيراد المذكور المبنيّ على تخيّل كون الفحص عن المعارض في معنى التبين في الخبر والفحص عن صدقه وكذبه ، أوضح من أن يبيّن ؛ ضرورة ثبوت الفرق بينهما ، بكون الأوّل دليلا على الحجيّة والثّاني منافيا لها.

(١٠٣) قوله قدس‌سره : ( وفيه : أنّ غاية الأمر لزوم ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٧١ )

أقول : ما أفاده من البيان هو المشهور بينهم في الاستدلال بالآية الشّريفة لحجيّة خبر العدل في الأحكام والموضوعات معا.

وقد يناقش فيه : بأنّ المفهوم مدلول التزامي للمنطوق تابع له إطلاقا وتقييدا ، وليس له لفظ بخصوصه ؛ حتى يرتكب التّقييد فيه بالنّسبة إلى بعض أفراد موضوعه ومورده ، هذا.


مضافا إلى أنّ مبنى المفهوم على استفادة العليّة التّامّة من التّعليق والجمع بين استفادة حكم الخبر في الموضوعات والأحكام مع العمل بالإطلاق في الثّاني دون الأوّل يلزم حمل القضيّة على المهملة والمطلقة ، فلا يجامع استفادة العليّة التّامّة من التّعليق مع الغضّ عن عدم إمكان الجمع بينهما.

والقول : بأنّ كلاّ من خبري العدل لا يجب التّبيّن فيه في الموضوعات لا ينفع في دفع الإشكال ؛ فإنّه وإن لم يجب التّبيّن فيه إلاّ أنّه لا يجب قبوله وترتيب الأثر عليه بمجرّده.

وبالجملة : فرق بين جعل الخبر تمام السّبب وجزئه ، فتأمّل. ومن هنا حكم بعض أفاضل من قارب عصرنا بكونه تكلّفا فاحشا (١).

(١٠٤) قوله قدس‌سره : ( وفيه : أنّ ظهور اللّفظي ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٧٢ )

منافات ما ذكره هنا لما في تنبيهات دليل الإنسداد

أقول : ما أفاده قدس‌سره : أوّلا : من جواز التمسّك بظواهر الألفاظ في أصول الفقه كمنعه من جواز التّمسّك بالظّن مطلقا ، من غير فرق بين الظّواهر وغيرها في أصول الدّين ممّا لا إشكال فيه ، وستقف على تفصيل القول في المنع الّذي أفاده.

وأمّا ما أفاده ثانيا بقوله : ( والظّن الّذي لا يتمسّك به في الأصول مطلقا هو مطلق الظّن ، لا الظّن الخاص ) (٢). فربّما يناقش فيه ـ بما يأتي في « الكتاب » في

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٢٧٥.

(٢) فرائد الاصول : ج ١ / ٢٧٣.


التّنبيه الأوّل من تنبيهات دليل الانسداد ـ : من عدم الفرق في النّتيجة ، حتّى على تقدير كونها التبعيض في الاحتياط ، فضلا عن الحجيّة بين الظّن في المسألة الأصوليّة العمليّة والفقهيّة ، خلافا لمن خصّها بالأولى ولمن خصّها بالثّانية ، فإذن لا يلائم المنع المذكور ما أفاده هناك من التعميم ، وجعل نفي التّمسّك راجعا إلى الإطلاق شطط من الكلام ؛ ضرورة ثبوت منع التّمسك بهذا العنوان في الظّن الخاصّ أيضا.

(١٠٥) قوله قدس‌سره : ( لأنّ المراد الفاسق ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٧٣ )

أقول : لا يخفى عليك ، أنّ كون المراد الفاسق الواقعي ، لا ينتج دلالة الآية على وجوب التّبين في مشكوك الفسق ؛ ضرورة أنّ الدّليل الدّال على إثبات الحكم لموضوع واقعي ، لا دلالة فيه على الحكم في مورد الشّك في وجود الموضوع ، وإن كان الحكم بعدم الحجيّة في مشكوك الفسق والعدالة صوابا ، إلاّ أنّه ليس من جهة دلالة الآية ، بل من جهة أنّ الأصل عدم الحجيّة ، هذا.

مضافا إلى أنّ العلم بانتفاء الفسق في نفس الأمر لا يلازم كون المخبر معصوما ؛ فإنّ الطّفل أوّل بلوغه قبل اشتغاله بالمعصية لا يكون فاسقا يقينا ، وإن لم يكن عادلا.

(١٠٦) قوله قدس‌سره : ( وأمّا احتمال فسقه بهذا الخبر ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٧٤ )

أقول : الأولى في وجه عدم الاعتناء بهذا الاحتمال أن يقال : إنّ احتمال الكذب منفيّ بحكم الشّارع بعدم وجوب التّبين في خبر العادل وحجيّته ؛ ضرورة أنّ معنى حجيّته عدم الاعتناء باحتمال تعمّد كذبه.


(١٠٧) قوله قدس‌سره : ( ولكن لا يخفى : أنّ حمل التّبيّن على تحصيل مطلق الظّن ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٧٦ )

أقول : قد عرفت توضيح الكلام في الاستدراك ، وأنّه حقّ لا محيص عنه ، فإنّ حمل التّبين على الظّني ، أو خصوص الاطمئناني منه ـ مضافا إلى أنّ لازمه القول بحجّيّة مطلق الظن ، أو الاطمئناني في الموضوعات الّتي منها مورد الآية والأحكام مع أنّه لم يقل أحد به لا في مورد الآية ولا في غيره من الموضوعات ـ يوجب القول بحجيّة الظن أو مرتبة منه ، مع التّمكّن من تحصيل العلم ، ولو من جهة إطلاق الآية ، وهو كما ترى.

والقول : بتقييده بصورة العجز عن تحصيل العلم في خصوص الأحكام وبما إذا حصل من شهادة العدلين في الموضوعات ، كما ترى.

* * *


٢ ـ آية النفر (*)

(١٠٨) قوله قدس‌سره : ( أحدهما : أنّ لفظة لعلّ بعد انسلاخها ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٧٧ )

كيفية الإستدلال بآية النّفر لحكم الخبر (١)

__________________

(*) ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) ، « التوبة : ١٢٢ ».

(١) قال المؤسس الطهراني أعلى الله مقامه الشريف :

« الآية صريحة في البعث على تبليغ النبوّة والتوحيد إلى البلاد النائية ونشر أعلام الهداية في كل صقع وناحية بإقامة الحجج والبراهين لإرشاد الجاهلين وهداية الضالين كما ينبئ عنه جعل التفقّه في الدين غاية للنّفر ، أي : الهجرة عن الأوطان ؛ فإن التفقّه عبارة عن تحصيل الحذاقة والعلم بدقائق الدين التي لا يطلع عليها كلّ واحد ، والدين هو الإسلام كما هو صريح القرآن.

والإنذار عبارة عن التحذير عن المعاد حتى انه صار عبارة أخرى ـ في القرآن ـ عن النبوّة قال تعالى : ( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) [ الرعد : ٧ ] وقال تعالى : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) [ الشعراء : ٢١٤ ] إلى غير هذه من الآيات.

فإنذار غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبارة عن قيامه مقامه وخلافته عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قال : العلماء ورثة الأنبياء وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللهم أرحم خلفائي. قيل : من خلفاءك؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الذين يأتون بعدي


__________________

ـ ويروون سنتي وأحاديثي. وأحاديث « من حفظ على أمتي أربعين حديثا بعثه الله فقيها » قد تقدّمت.

وجعل الحذر أيضا غاية للإنذار دليل على ان المقصود تبليغ الدعوة على وجه يحصل العلم للناس بثبوت المعاد. فالحذر هنا كالخشية في قوله تعالى : ( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى ) طه : ٤٤.

فالمعنى بحسب القواعد اللفظيّة الحث على حضور الناس عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للإطلاع على ما جاء به والتوسط في التبليغ إلى من لم يحضر ولم يطّلع ، والجهاد أيضا من أنحاء التبليغ والترويج فإن القتال إنّما هو لقهر الناس الجاحدين والمارقين على التدّين بالدين فإذا نفر الناس من البلاد النائيّة كان الجهاد مع الكفار أيضا ثمرة أخرى للنّفر والإجتماع عنده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولعل هذا هو وجه المناسبة مع آيات الجهاد والله تعالى أعلم بمعنى كلامه.

فالإنذار عبارة عن التخويف ، وإيجاد سبب الخوف ليس بمجرّد الإخبار ، بل إنّما هو بإقامة البيّنة المفيدة للعلم ، كما ان المخبر به أيضا لا بد ان يكون ممّا يخاف منه ويحذر منه ، لا مثل الاحكام الفرعيّة ، فالتمسك بوجوب إنذار المتفقّه في الدين على حجّية الخبر من أعجب الأمور ؛ حيث إنّ كلمة « لو لا » تدل على ان الحكم إرشاد وموعظة ، لا تأسيس ، وليس إلاّ لأنّ ترويج الدين وإرشاد الضالّين ممّا يستقلّ به العقل ؛ ضرورة انّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستحيل أن يكون مباشرا لإنذار جميع الناس فلا معنى للدين العام لجميع المكلفين إلاّ إلزام جماعة من كل فرقة بالتوسّط في التبليغ ، مع ان الإنذار لا يصدق على الإخبار بالفروع خصوصا في الوضعيّات والمستحبّات والمكروهات والتفقّه مما لا يتوقّف عليه تحمّل الرواية وإنّما


__________________

يتوقف عليه التمكّن من إرشاد الجاهل وهداية الضال.

وأعجب منه التمسك بإطلاقه وعدم اعتبار إفادة خبرهم العلم ؛ ضرورة ان نفس الإنذار لا يتحقق إلاّ بإفادة العلم أو الاحتمال الذي لا يندفع باصل كقبح العقاب بلا بيان الذي لا يدفع الخوف في احتمال ضرر دنيوي.

وأقبح من هذا ما نسجته العامّة أيضا من أن لفظ « لعلّ » بعد انسلاخه من معنى الترجّي ظاهر في كون مدخوله محبوبا للمتكلّم ، ولا معنى لندب الحذر فثبت وجوبه ؛ فإن هذه اللفظة ليست موضوعة إلاّ للدلالة على ان ما بعدها محتمل الوقوع.

إما للشك والجهل وإمّا لكونه على وجوه مختلفة لا يمكن الحكم فيه بالوقوع على الإطلاق وأمّا خصوص الترجّي فلا ، قال :

لا تهين الفقير علّك أن

تركع يوما والدهر قد رفعه

وحيث ان الانذار ليس علّة تامة للحذر فلا بد أن تذكر الغاية بعد كلمة « لعلّ » فلا دلالة إلاّ على انّ الإنذار إنّما هو لحصول هذه الغاية وهو : إهتداء الناس المحتمل ترتّبه على التبليغ.

وأمّا الإستدلال بوجوب الاخبار على تقدير الثبوت على التعبّد بالقبول فهو أوضح فسادا ؛ فإنه يمكن أن يحصل به منفردا أو مع انضمام الوثوق والعلم ، فهذا هو المنشأ للوجوب ، كما أن وجوب أداء الشهادة لا يستلزم كون شهادة العادل الواحد علة تامّة للحجّيّة ، بل شهادة العدلين أيضا قد ترد بالجرح وبالمعارضة مع المساوي والأقوى ، وفي المقام كلمات لا تصلح لأن نتعرّض لها بالإبطال لوضوح فسادها. إنتهى. محجة العلماء : ج ١ / ٢٦١.


__________________

وانتقده المحقق الإصفهاني قدس‌سره قائلا :

ومن غريب الكلام ما عن بعضهم من قصر التفقّه في الدين على العلم بدقائق الدين ممّا يتعلق بأسرار المبدء والمعاد وتبليغ الدعوة والنبوّة وأشباه ذلك مما يطلب فيه العلم دون الأحكام الشرعيّة العمليّة. وفي أخبار الأئمة عليهم‌السلام شواهد كثيرة على صدق التفقّه على تعلّم الحلال والحرام فليراجع.

مع أن صريح الآية إنذار النافرين للمتخلّفين أو بالعكس ، لا تبليغ الدعوة إلى عامة الناس ونشر أعلام الهداية في البلاد النائية كما توهّمه هذا المتوهّم فافهم واستقم » انتهى.

أنظر نهاية الدراية : ج ٣ / ٢٣٨.

* * *

* وذكر الميرزا النائيني قدس‌سره :

« أن التفقه في الحلال والحرام وإن كان مما يحتاج إلى إعمال النّظر والدقّة إلاّ ان التفقّه في الصدر الأوّل لم يكن بحاجة إلى أكثر من إثبات الصدور واختلاف محقّق التفقّه باختلاف الأزمنة لا يوجب اختلافا في مفهومه وعليه : فكما يصدق الفقيه على العارف بالأحكام الشرعية بإعمال النظر والفكر كذلك يصدق على العارف بها من دون ذلك حقيقة.

كما ان لفظ « الإنذار » وان كان ينصرف إلى ذكر عوالم البرزخ والنار وأمثالها كما هو شأن الوعّاظ إلاّ انه انصراف بدوي لا يوجب اختصاص اللفظ به. وعليه : فالإنذار في الآية أعم منه ومن الإنذار التبعي الضمني الملازم لبيان الواجبات والمحرّمات.

ثم إن قوله تعالى : ( لِيَتَفَقَّهُوا ... ) ظاهر في العموم الإستغراقي وأن الإنذار إنما يكون


أقول : أمّا انسلاخ كلمة « لعلّ » عن معنى التّرجّي ، وكونها بمعنى الطّلب في المقام من حيث استحالة التّرجي في حقّه تعالى ، فأمر ظاهر لا سترة فيه أصلا ، فيحمل على الوجوب ؛ من حيث إنّ المستفاد عرفا بعد حمل القضيّة على الطلب والإنشاء هو الوجوب.

وأمّا ما ذكره من الوجهين لصرف الطّلب إلى الوجوب ، فقد يناقش في الأوّل منهما ـ كما في هامش « المعالم » لبعض المدقّقين (١) ، وتبعه جمع من أفاضل المتأخّرين (٢) ـ :

__________________

بتفقّه كل واحد منهم راجع إلى قومه الذي لا يحصل العلم من قوله غالبا.

كما ان كلمة « لعلّ » تستعمل دائما في القدر المشترك الجامع سواء وقعت في كلام الممكن أو الواجب ، وأن ظاهر الحذر هو التحرّز الخارجي لا الخوف النفساني الذي لا وعاء له إلاّ النفس.

وبهذه المقدمات يظهر دلالة الآية المباركة على حجّيّة كلّ من فتوى المجتهد وإخبار الرّاوي من دون اختصاص باحدهما ».

وللتفصيل أنظر فوائد الاصول : ج ٣ / ١٨٥. وأجود التقريرات : ج ٣ / ١٩٢ ولاحظ ردّ المحقق العراقي على الميرزا النائيني قدس‌سره في نهاية الافكار : ج ٣ / ١٢٩.

وللإطلاع على رأي المحقق الخراساني انظر حاشية الفرائد ( درر الفوائد ) ص ١١٧ والكفاية ص ٢٩٨.

(١) حاشية سلطان العلماء على معالم الدين : ٢٧٢.

(٢) منهم صاحب الفصول في فصوله : ٢٧٣.


بأنّ مادّة الحذر لا ينافي الطّلب الغير الإلزامي ؛ إذ كثيرا ما يكون في المكروهات مفسدة يطلب الحذر منها. نعم ، الثّاني منهما موجّه ؛ إذ من الإجماع المركّب من القولين ـ أي : الوجوب على تقدير حجيّته ، والحرمة على تقدير عدمها ـ يثبت التّلازم بين رجحان الحذر عقيب الإنذار ، ووجوبه.

فإن شئت قلت : حكم الطّريق لا يخلو من أمرين : الوجوب ولو تخييرا والحرمة ، هذا. وقد ذكر المحقّق القمّي قدس‌سره في « القوانين » وجها آخر لإثبات كون الحذر في المقام واجبا لخّصه بعض أفاضل من قارب عصرنا بطوله (١).

وهو : « أنّ ندبيّة الحذر من العمل بخبر الواحد غير معقول ؛ لأنّ خبر الواحد قد يشتمل على إيجاب شيء ، أو تحريمه ، ولا يعقل ندبيّة العمل بالواجب ، أو الحرام. نعم ، قد يتصوّر ندبيّة العمل بالواجب في الواجب التّخييري ، لكن لا يكون التّخيير إلاّ بين أمرين ، وليس الأمر الآخر هنا إلاّ العمل بالأصل ؛ إذ الكلام في حجيّة الخبر الواحد حيث لا معارض له بالخصوص. وحينئذ فإمّا أن يعتبر التّخيير بين الأخذ والعمل بكلّ منهما ، أو بين مفادهما.

والأوّل تخيير في المسألة الأصوليّة سواء اعتبر التّخيير بينهما على الإطلاق ، أو في خصوصيّات الموارد. أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثّاني ؛ فلأنّ التّخيير فيه من جزئيات التّخيير في الأوّل وفروعه ، والمفهوم من الآية على ما بني عليه

__________________

(١) هو صاحب الفصول قدس‌سره.


الأوّل هو التّخيير في المسألة الفقهيّة دون الأصوليّة ؛ على أنّ مرجع ذلك إلى التّخيير بين اعتقاد الوجوب وعدمه ، ولا معنى لجواز اعتقاد الوجوب ، ومع ذلك فلا تعارض بين الاعتقادين حتّى يستلزم التّخيير أرجحيّة أحدهما ؛ فإنّ الاعتقاد بجواز العمل بالأصل قبل العثور على الدّليل لا ينافي الاعتقاد بجواز العمل بخبر الواحد بعد العثور عليه ولا سبيل إلى منع الوجوب وإثبات الجواز مع الاستحباب ويرتفع التّنافي ، وبعد بقاء التّكليف بالأحكام وجواز الاستنباط من خبر الواحد يلزم وجوب العمل به من باب المقدّمة ، ولا يجدي في صحّة التّخيير ؛ كون الاستنباط حينئذ من الأصل ؛ إذ العمل بالأصل إنّما يصحّ عند تعذّر معرفة الحكم بغيره.

والثّاني تخيير في المسألة الفقهيّة وهو يؤدّي إلى اجتماع المتنافيين ؛ فإنّ جواز الواجب أو استحبابه غير معقول ، وجعله من باب التّخيير بين العمل بالخبرين المتعارضين أو فتوى المجتهدين غير مستقيم ؛ لأنّ ذلك تخيير عند الاضطرار ، بخلاف المقام فإنّ الآية واردة في حق الحاضرين المتمكنين من معرفة الأحكام ، إلاّ أنّ التخيير هناك إرشاد لطريق العمل ، لا لمعرفة أنّ أحدهما هو الحكم الشّرعي بالخصوص ». انتهى ملخّصا (١).

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٢٧٣.


إيراد الفصول على المحقق القمّي

وأورد عليه الفاضل الملخّص بعد نقله ، بقوله :

« وفيه نظر ؛ لأنّ المفهوم من التّحذير إنّما هو العمل على حسب إنذارهم من فعل أو ترك دون الإتيان به على الجهة الّتي اشتمل إنذارهم عليها ؛ إذ التّحقيق : أنّ نيّة الوجه غير معتبرة ، وقد وقع نظير ذلك في السّنن عند من يتسامح في أدلّتها ؛ إذ كثيرا ما يدل الخبر على وجوب فعل ، أو ترك ، وهم يعملون به على وجه الاستحباب ؛ نظرا إلى قصوره عن إفادة الوجوب.

لا يقال : الإخبار بوجوب شيء ، أو تحريمه يستلزم الإخبار بجواز الإتيان به بنيّة الوجوب أو تركه بنيّة التّحريم. فإذا كان مفاد الآية استحباب العمل بخبرهم مطلقا لزم المحذور المذكور ، وكذا لو فرض تصريح المخبر بذلك.

لأنّا نقول : الإخبار بالجواز لا يعدّ إنذارا ، فيخرج عن مورد الآية. ولو عمّ الحكم إليه بالإجماع المركب يمكن التّمسك به من أوّل الأمر ، ولم يحتج إلى التّطويل المذكور.

ثمّ ما ذكره : من عدم مساعدة التّأويل المذكور على التّخيير بين العمل بالأصل والخبر الواحد ، واضح الاندفاع ؛ لأنّ المستفاد من الآية جواز العمل بخبر الواحد ، فحمله على الوجوب التّخييري لا يقتضي إلاّ التّخيير بين العمل بخبر


الواحد ومعادله لا التّخيير في مؤدّاهما ، مع أنّه أيضا غير مستقيم ، كما عرفت.

ولقد كان له أن يتمسّك أيضا : بأنّ خبر الواحد قد يقتضي الوجوب التّعيني فلا يعقل أن يجب على التّخيير العمل بالواجب التعيني.

وما ذكره : من أنّ التّخيير في المسألة الأصوليّة راجع إلى التّخيير بين اعتقاد الوجوب وعدمه غير مستقيم ، بل راجع إلى التّخيير في البناء على حجيّة كلّ من الدّليلين.

وأما ما ذكره : من أنّ التّخيير هنا في مقام الاختيار ، والتّخيير بين الخبرين المتعارضين والفتاوى المتعارضة تخيير عند الاضطرار ، فإن أراد أنّ التّخيير في الصّورتين ، إنّما يثبت حال الاضطرار ، فهو لا ينافي التّنظير. وإن أراد أنّ التّخيير بين الدّليلين لا يكون إلاّ عند الاضطرار ، فهو في محلّ المنع.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ ما ذكره من أنّ الاستحباب يجمع مع الوجوب التّخييري قد أوضحنا فساده في بعض مباحث النّهي » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وأنت خبير بأنّ ما أفاده المحقّق القمّي قدس‌سره في المقام ، وإن لم يخل عن أنظار ، إلاّ أن ما أفاده هذا الفاضل من النّظر في كلامه لا يخلو عن أنظار أيضا غير مخفيّة على المتأمّل ، يطول المقام بذكرها.

__________________

(١) المصدر السابق : ٢٧٣.


(١٠٩) قوله قدس‌سره : ( كما في قولك : تب لعلّك تفلح ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٧٧ )

أقول : تمام الأمثلة المذكورة لما لا يكون متعلّقا للتّكليف ؛ ضرورة أنّ الفلاح ودخول الجنّة وتذكّر الغير وخشيته ، ليس ممّا يقبل لتعلّق التّكليف. وهذا لا ينافي لزوم ما يكون سببا لها ، وتعلّق التّكليف به ، فإن كانت الغاية ممّا يتعلّق التكليف به ، فيجب بوجوب ذيها ، وإلاّ فيجب تحصيلها بفعل ما يكون سببا لها ، هذا وقد يقال : إنّ وجوب النّفر ، والإنذار مستلزم لوجوبها ؛ من حيث إنّ وجوب الشّيء يستلزم وجوب ما يجب له ، كما حقّق في بحث مقدّمة الواجب. وعلى هذا القول يلزم كون الغاية ممّا يقبل تعلّق التّكليف مطلقا فتدبّر.

(١١٠) قوله قدس‌سره : ( فإن قلت : المراد بالنّفر ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٧٨ )

أقول : المراد أنّه كما يترتب التّفقّه والبصيرة في الدّين قهرا على الجهاد كذا يترتب الإنذار والإخبار عند رجوعهم إلى المدينة قهرا بحكم العادة عليه ، كما يشاهد من المسافرين إلى غير الجهاد من الأسفار ؛ فإنّهم لا يزالون يخبرون عمّا وقع في أسفارهم فاللاّم ليس للغاية ، بل للعاقبة. فالإخبار ليس واجبا ، حتّى يلزم من وجوبه وعدم قبوله لغويّته.

(١١١) قوله قدس‌سره : ( قلت : أوّلا ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٧٨ )

أقول : المراد أنّه بعد الفراغ عن ظهور الآية في إيجاب النّفر للتّفقّه والإنذار من حيث ظهور اللاّم في الغاية ، وأنّ الأمر بالنّفر من جهة ليس هناك قرينة للمعتبرة


صارفة عن هذا الظّهور ؛ فإنّ ظهور السّياق ـ على تقدير تسليمه ـ ليس من الظّهورات اللّفظية ، حتّى يزاحم ظهور اللّفظ. فضلا عن أن يصير متقدّما عليه ، وقرينة صارفة له.

(١١٢) قوله قدس‌سره : ( وثانيا : لو سلّمنا ) ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٧٩ )

أقول : ليس المراد أنّ مدلول الآية أمران وشيئان ، بل المراد : أنّ الغرض من الآية ومفادها بعد الإغماض ، بيان كيفيّة الخروج إلى الجهاد المفروغ وجوبه المعلوم من الخارج ، وأنّه يجب على النّافرين إلى الجهاد أن يخرج من كلّ فرقة طائفة ؛ لتحصيل التّفقه والإنذار ، حتّى يحصل الغرض من الجهاد وتعلّم الأحكام معا ؛ حيث إنّه واجب كفائيّ ، هذا.

وقد يناقش فيما ذكره من التّقريب لهذا الجواب : بأنّ تعيين الكيفيّة الخاصّة لمجرّد الجهاد من جهة الدّلالة على كونه واجبا كفائيّا وأنّ تخليّة المدينة خلاف الحكمة والانتظام ، وإلاّ عورض : بأنّ التّعلّم كالجهاد يحصل الغرض المقصود منه بفعل الكلّ والبعض معا ، فأيّ داع لتعيين البعض؟ فما هو الجواب هو الجواب.

(١١٣) قوله قدس‌سره : ( وثالثا : أنّه قد فسّر الآية ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٧٩ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ الاستعانة بالرّواية على إثبات دلالة الآية على حجيّة الخبر ـ مضافا إلى أولها إلى التّمسّك بالسّنة والمفروض التّمسك بالكتاب ـ

__________________

(١) كذا وفي الكتاب : لو سلّم.


محلّ مناقشة ؛ لما عرفت مرارا : من عدم جواز التّمسك منعا وإثباتا في مسألة حجيّة خبر الواحد بخبر الواحد المجرّد ، مع أنّه معارض بما سيذكره من الأخبار الكثيرة الدّالة على خلافه ، وبأنّه لا دليل على اعتبار التّفسير المذكور على تقدير حجيّة خبر الواحد مطلقا ؛ حيث إنّه غير مرويّ عن الأئمّة عليهم‌السلام.

(١١٤) قوله قدس‌سره : ( فليس في هذه الآية ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٨٢ )

أقول : المراد من التّخصيص ما عرفت مرارا : من أنّه مجرّد رفع اليد وترك العمل بما دلّ على حرمة العمل بغير العلم ، لا معناه الظّاهر المقابل للورود والحكومة.

ثمّ إنّ المراد من قوله قدس‌سره : ( ولذا استشهد الإمام عليه‌السلام ... إلى آخره ). (١) ليس الاستشهاد باستشهاد الإمام عليه‌السلام على إرادة ما ذكره من الآية الشّريفة ، حتّى يمنع منه بكون الأخبار المذكورة أخبار آحاد لا يعتبر في المقام على تقدير تسليم كونها من الآحاد ، بل الغرض ظهور المعنى المذكور من نفس الآية ، مع قطع النّظر عن كلّ شيء ، وكون استشهاد الإمام عليه‌السلام منطبقا عليه ، فتدبّر.

(١١٥) قوله قدس‌سره : ( الثّاني : أنّ التّفقّه الواجب ليس ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٨٢ )

أقول : حاصل ما أفاده : أنّ الغرض من الآية وأمثالها تعلّم الأحكام الدّينيّة الثّابتة من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّتي بلّغها من الله إلى المكلّفين على النّافرين ، والإنذار

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٢٨٢.


والإخبار بها بعد العلم وإيصالها إلى المتخلّفين الجاهلين ، بحيث يبلغ الحقّ النّفس الأمري ويصل إلى كلّ أحد ، فيصير النّاس كلّهم عالمين بما بلغه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يقتضيه إيجاب التّبليغ على الشّاهد ، فالنّافر مكلّف بتكليفين :

أحدهما : تعلّم ما جاء به من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثانيهما : تبليغ ما تعلّمه إلى غيره.

والمتخلّف مكلّف بقول ما بلغه من الأحكام الدّينيّة ، فإن علم بأنّ متعلّق إخباره أمر ثابت من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيجب قبوله ، وإن لم يعلم به لم يجب عليه القبول ، لا من جهة تعلّق الحكم بالمعلوم ، بل من جهة الشّك في موضوع الخطاب الموجب للشّك في تعلّق الخطاب الإلزامي ؛ فيرجع إلى الأصل كما هو الشّأن في سائر الموارد بل يحكم في المقام وأشباهه ـ من موارد الشّك في وجود الطّريق الشّرعيّ أو طريقيّة الموجود ـ بالحرمة ؛ نظرا إلى أنّها مقتضى الأصل الأوّلي في مشكوك الحجيّة في جميع الموارد.

فينحصر مورد وجوب الحذر في الكتاب بما إذا علم المنذر « بالفتح » صدق المنذر « بالكسر » في إنذاره ، ليس من جهة أنّه مدلول لفظيّ للآية ، بل من جهة دلالة العقل عليه في جميع الخطابات والتّكاليف المتعلّقة بالواقع ؛ من حيث إنّ مدلول الخطاب فيها تابع لوجود موضوعه في نفس الأمر ، إلاّ أنّ تنجزّه على المكلّف وفعليّته في حقّه في حكم العقل مشروط بتبيّنه ؛ ضرورة استحالة العلم بالمحمول ، مع الشّك في وجود الموضوع.


فالمقصود من الآية ليس إنشاء الحكم الظّاهري في مسألة خبر الواحد وإعطاء مسألة أصوليّة يبحث عنها ، بل إنشاء تكليف على العالم بالأحكام الواقعيّة ، يترتّب على إطاعته رفع الجهل عن المكلّفين.

(١١٦) قوله قدس‌سره : ( ثمّ الفرق ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٨٤ )

أقول : قد عرفت الفرق بينهما.

وأنّ الأوّل : راجع إلى كون الآية في مقام الإهمال وإثبات وجوب القبول في الجملة ، من غير أن يكون لها إطلاق يقتضي إيجاب العمل عند الشّك في الصّدق والكذب حتّى يدلّ على المرام وإن احتمل أن يكون المراد الواقعي منها ذلك ، إلاّ أنّها لا تدلّ عليه وساكتة عنه.

وأنّ الثّاني : راجع إلى كونها ناطقة باختصاص مدلولها بما يقتضي في حكم العقل عدم إيجاب العمل إلاّ في صورة العلم بالصّدق ، لا أن يكون مدلولها اللّفظي ذلك كما يتوهّم من العبارة في باديء النّظر ، فالبيان والاشتراط بالعلم على الوجه الثّاني ليس ممّا نطقت به نفس الآية. نعم ، هي ناطقة بأمر يلزمه في حكم العقل عدم تنجّز التكليف عند الشّك في الصّدق.


(١١٧) قوله قدس‌سره : ( الثّالث : لو سلّمنا دلالة الآية ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٨٤ )

المراد بالإنذار في الآية

أقول : لا خفاء في أنّ الظّاهر من الإنذار ليس مجرّد الإخبار بالشّيء ، أو بالحكم الشّرعي عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام عليه‌السلام بل هو مقابل البشارة ، فالتّخويف مأخوذ في مفهومه.

ويدلّ عليه ـ مضافا إلى وضوحه ـ : قوله تعالى : ( لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (١) فإنّه لا معنى لطلب الحذر بقول عقيب الإخبار بقول مطلقا ، فلا بدّ أن يكون هناك مقتضى للحذر ، وليس إلاّ أن يكون هناك تخويف موجب للخوف الدّاعي على العمل ، هذا. مضافا إلى أنّ محلّ البحث في المسألة ليس مختصّا بما تضمّن الخبر حكما إلزاميّا يتوهّم صدق الإنذار من مجرّد تعلّمه ، فتدبّر.

كما أنّه لا خفاء حسبما عرفت في صدر المسألة في أنّ محلّ النّزاع ومورد البحث في مسألة حجيّة خبر الواحد إنّما هو الحكم بصدق الرّاوي فيما يحكيه عن المعصوم عليه‌السلام من السّنة بأقسامها والبناء على حجيّة خبره في النّسبة من غير أن يكون له تعلّق بمدلول السّنة المحكيّة ومراد المعصوم عليه‌السلام منها وعنوان صدورها.

نعم ، قد يجب التخويف على الواعظ للعالم بالأحكام والآمر بالمعروف

__________________

(١) التوبة : ١٢٢.


والنّاهي عن المنكر ، أو على المرشد للجاهل فيما يتوقّف تأثير الوعظ والأمر والنّهي والإرشاد ولو ظنّا على التّخويف ، من باب اللّطف. كما أنّه قد يتضمّن الإعلام بالحكم الشّرعي الإلزامي فيما يجب إطاعته على المستمع ، التّخويف من باب اللّطف ، كالإفتاء بالوجوب والتّحريم في حقّ العامي الّذي يجب عليه العمل بقول المجتهد ورأيه ، فتعيّن حمل الآية عليه ؛ فإنّه يشهد له ـ مضافا إلى ما عرفت : [ من ] (١) الأمر بالإنذار والحذر ـ الأمر بالتّفقّه ؛ فإنّه وإن أطلق على مجرّد تحمّل الخبر فيما كان المتحمّل من أهل العلم ـ وإن لم يكن محلّ البحث في المسألة فيما كان كذلك بل أعمّ منه ـ إلاّ أنّ الظّاهر منه تحصيل الفهم والبصيرة والعلم بالأحكام الدّينيّة.

فإن شئت قلت : إنّه كما لا يصدق على مجرّد نقل الأصوات والأقوال المسموعة عن المعصوم عليه‌السلام ـ ولو كان الناقل من العوام ، بل العجمي الّذي لا يعرف لسان المعصوم أصلا كما هو محلّ البحث في المقام ـ الإنذار ، وعلى العمل عليه حسب اجتهاد المنقول إليه ـ ولو كان مفاد النّقل حكما غير إلزامي في اجتهاده ـ الحذر ، كذلك لا يصدق على مجرّد تحمّل الرّواية ، التفقّه في الدّين ، وهذا أمر ظاهر لا سترة فيه أصلا.

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما قيل في دفع الإيراد المذكور : من أنّا نفرض

__________________

(١) إضافة يقتضيها السياق.


الرّاوي من العلماء وأهل النّظر وملكة الاستنباط ، فإذا وجب قبول روايته وجب قبول رواية غيره بالإجماع المركّب ؛ ضرورة كون الرّاوي مجتهدا وعاميّا لا يفرّق بينهما فيما هو المقصود بالبحث في المقام ؛ فإنّ الرّاوي من حيث كونه ناقلا حاكيا لا يصدق عليه الفقيه ، ومن حيث كونه فقيها لا يجب متابعته إلاّ على مقلّديه ، كما هو واضح.

ومن هنا يظهر : أنّه لا مجال لدعوى الإجماع المركّب ، أو تنقيح المناط في المقام ؛ حيث إنّا لا نسلّم دلالة الآية على حجيّة نقل الفقيه ، ولو قصد به الإنذار فيما كانت الرّواية بزعمه دالّة على الحكم الإلزامي المتضمّن للخوف ، حتّى يلحق نقل العامي به.

نعم ، ما ذكر من البيان مناف لرواية « العلل » (١) الواردة في بيان حكمة وجوب الحجّ المذكورة في « الكتاب » (٢).

بل ربّما يقال : إنّه مناف لسائر الأخبار المذكورة فيه ممّا استدلّ فيه بالآية لوجوب النّفر إلى معرفة الإمام اللاّحق بعد مضيّ الإمام السّابق ، لكن الأمر من

__________________

(١) انظر عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ج ٢ / ١٢٦ ضمن الحديث الأوّل من الباب ٣٤ وهو طويل جدّا ، وعلل الشرائع : ج ١ / ٣١٧ ، من الباب ١٨٢ عنها الوسائل : ج ٢٧ / ٩٦ ، الباب الثامن من أبواب صفات القاضي ـ ح ٦٥ وفي رواية الفضل عن الإمام الرضا عليه‌السلام إشكال واضح لاختلاف الطبقة.

(٢) فرائد الأصول : ج ١ / ٢٧٩ ـ ٢٨٠.


جهة رواية « العلل » بل وغيرها بعد كونها أخبار آحاد ، سهل. مضافا إلى ما يقال : من أنّ الإخبار بالإمامة متضمّن للإنذار ، وإلى أنّ الآية بملاحظتها لا بدّ أن ينزل بصورة إفادة الخبر العلم ، فيخرج عن محلّ الكلام ، هذا.

كلام المحقق صاحب الفصول

وممّا ذكرنا كله يظهر : ما في كلام المحقّق القمّي قدس‌سره في « القوانين » في هذا المقام ، وما في كلام بعض أفاضل من قارب عصرنا ؛ حيث إنّه ذكر عند الإشكال في دلالة الآية ما هذا لفظه :

« مع أنّ دلالتها ممنوعة من جهة أخرى أيضا ، وهي : أنّه لا خفاء في أنّ مجرّد الإخبار عن أمر مخوف لا يسمّى إنذارا ما لم يقصد منه التّخويف ، وهذا خلاف طريقة أهل الرّواية ، فإن الّذي يظهر منهم : أنّهم يعنون في رواياتهم مجرّد النّقل والحكاية ـ لا إلزام المجتهد العمل بما يروونه ، بل الأمر في ذلك محال إلى نظره وترجيحه ، ولهذا ترى أنّهم كثيرا ما يروون الرّواية ولا يعملون بها ، وأمّا حيث يقصدون الإلزام فهو في الحقيقة من باب الإفتاء ».

إلى أن قال :

« فإن قلت : فعلى هذا يتعيّن القول بأنّ المراد من الإنذار بطريق الفتوى ».


إلى أن قال :

« قلت : الإنذار بطريق الرّواية قد كان متداولا في العصر الأوّل ومعتبرا ، كما سيأتي التنبيه عليه في بعض المباحث الآتية. وقضيّة الإطلاق تعميم الحكم إليه أيضا. نعم ، يتّجه أن يقال : إذا ثبت بالآية جواز العمل بالخبر عند قصد الإنذار ، ثبت مع عدمه ؛ لعدم قائل بالفرق ».

ثمّ ذكر على الآية إشكالات أخر ، وقال في عدادها ما هذا لفظه :

« ومنها : أنّ المراد بالإنذار ، الإنذار بطريق الفتوى دون الرّواية بقرينة ذكر الفقه. واعتبار قول الواحد فيها خارج عن محلّ البحث. والجواب : أنّ الإنذار يعمّ الإنذار بطريق الفتوى والرّواية ، وتقييده بالأوّل خروج عن الظّاهر من غير دليل ، وليس في لفظ التّفقه دلالة عليه ».

إلى أن قال :

« وقد يقال : لا مدخل للتّفقّه ، أعني : معرفة الحكم في قبول الرّواية ، وإنّما يعتبر ذلك في قبول الفتوى ، فاعتباره في قبول الإنذار دليل على أنّ المراد به الفتوى خاصّة. وجوابه : أنّ التّفقّه لم يعتبر في الآية شرطا ؛ لقبول الإنذار بل جعل غاية للنّفر كالإنذار ، ولا يلزم من جعل أمرين غاية لشيء أن يكون أحدهما معتبرا في الآخر ، ولهذا لا يعتبر في التّفقّه الإنذار. مع أنّ فرض الإنذار بطريق الرّواية مع


عدم التّفقه بعيد جدّا ، والآية واردة على الغالب » (١). انتهى ما أردنا نقله من كلامه قدس‌سره.

وفيه أبحاث وأنظار ـ سيّما في الجواب الّذي ذكره قدس‌سره عن قوله : ( وقد يقال : ... إلى آخره ) ـ غير مخفيّة على المتأمّل ، ولو لا مخافة الإطالة والخروج عن وضع التّعليقة لأشرت إلى جميعها ، هذا. مع أنّ كلامه كما ترى صدرا وذيلا ، سؤالا وجوابا لا يخلو عن تشويش واضطراب.

ثمّ إنّ هنا إشكالات ومناقشات على الآية ، مثل : أنّها لا تشمل الإخبار بغير الحكم الإلزامي ، وأنّ غاية مدلولها الظّن بحجيّة الخبر وهي مسألة أصوليّة ، وأنّها خطاب بالمشافهين فلا يشمل المعدومين ، إلى غير ذلك ممّا هو واضح الاندفاع والفساد.

فإنّ الأوّل فاسد ؛ لقيام الإجماع على عدم الفرق ، مضافا إلى ما قيل : من أنّ الحكم الغير الإلزامي أولى بالثّبوت بخبر الواحد ؛ من حيث إنّه يتسامح فيه ، بخلاف الحكم الإلزامي.

والثّاني فاسد بما عرفت ـ في طيّ دفع الإيرادات الفاسدة عن آية النّبأ ـ : من عدم الفرق في حجيّة الظّن مطلقا ، سيّما ظواهر الألفاظ ، بين المسألة الفقهيّة

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٢٧٤.


والأصولية العمليّة.

والثّالث فاسد ـ مضافا إلى المنع من كونها من قبيل الخطاب الشّفاهي ـ : بأنّ مبنى الاستدلال ليس على شمول الخطاب للمعدومين ، بل على حجيّة الظّواهر في استنباط تكاليف الحاضرين الموجودين في حقّ المعدومين ؛ حتّى يثبت الحكم المستنبط في حقّهم ، بملاحظة دليل الاشتراك في التّكليف.

(١١٨) قوله قدس‌سره : ( مع إمكان منع دلالتها على المدّعى ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٨٦ )

أقول : ما أفاده في وجه منع الدّلالة : من أنّ الغالب تعدّد من يخرج إلى الحجّ ، مسلّم لا شبهة فيه أصلا ، إلاّ أنّه لا يفيد فيما قصده بقوله : ( فإطلاق الرّواية منزّل على الغالب ) (١)

أمّا أوّلا : فلأنّ تعدّد من يخرج إلى الحجّ نوعا غير تعدّده من كلّ مكان.

وأمّا ثانيا ؛ فلأنّ تعدّد من يخرج إليه عن كلّ صقع وناحية لا يلزم كونه عدد التّواتر.

وأمّا ثالثا ؛ فلأنّ التّعدّد من كلّ مكان ولو كانوا عدد التّواتر لا يلزم إخبارهم كلّ فرد من أفراد المكلّفين. هذا ، وقد عرفت عند تقريب الاستدلال بالآية ما له نفع تامّ في المقام ، فراجع.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٢٨٧.


٣ ـ آية الكتمان (*)

(١١٩) قوله قدس‌سره : ( والتّقريب فيه ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٨٧ )

أقول : وتقريب الاستدلال بالآية نظير تقريبه بالآية السّابقة : من أنّ وجوب إظهار الحقّ لكلّ عالم به من غير أن يكون موقوفا بإظهار غيره مع عدم إفادته العلم ، يوجب قبوله على المظهر له والمستمع ؛ من حيث إنّ عدم قبوله يوجب لغويّة وجوب الإظهار على المظهر.

كما أنّ الإيراد على دلالة الآية السّابقة بالوجهين الأوّلين ـ من سكوتها وعدم إطلاقها بالنّسبة إلى صورة عدم حصول العلم ، أو دلالتها على وجوب الإخبار بالحكم الواقعي ، فلا يلزم قبوله بحكم العقل إلاّ فيما لو علم المكلّف بصدق المخبر في إخباره ـ متوجّه على الآية أيضا.

ويشهد للوجه الأوّل كون الآية واردة في تحريم كتمان علامات النّبوة

__________________

(*) ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ) ، « البقرة : ١٥٩ ».


وآياتها على علماء الكتاب (١).

(١٢٠) قوله قدس‌سره : ( نعم ، لو وجب الإظهار ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٨٨ )

أقول : لا يخفى عليك ، أنّ وجوب إظهار الحقّ على المكلّف إذا فرض كونه غير معصوم ، داخل في العنوان الّذي ذكره طيّب الله رمسه الشّريف ؛ ضرورة أنّه لا يعتبر الاجتماع والاتّفاق في توجيه التّكليف إلى المظهرين.

نعم ، وجوب الإظهار عليه ـ من حيث كونه جزء سبب لوضوح الحقّ والعلم به ، سواء كان جزءه الآخر إخبار غيره أو القرينة الخارجيّة ـ لا يلازم وجوب قبوله ؛ من حيث تجريده عن الجزء الآخر ، كما أنّ وجوب الإظهار عليه من حيث رجاء وضوح الحقّ منه ومن غيره لا يلازمه أيضا إن فرض عدم رجوعه إلى ما

__________________

(١) قال المحقق العراقي أعلى الله تعالى مقامه :

« وعلى فرض التعميم ـ لما نحن بصدده ـ نقول :

انه من المحتمل قويّا أن يكون وجوب الإظهار عليهم لأجل رجاء وضوح الحق بسبب إخبارهم من جهة حصول العلم لهم لأجل تعدد المظهرين كما يقتضيه ظهور سوقها في أصول العقائد التي لا يكتفى فيها بغير العلم.

نعم ، لو كان للآية إطلاق يقتضي وجوب الإظهار عليهم ولو في فرض عدم إفادته للعلم بالواقع أمكن التمسك بها على وجوب القبول بمقتضى ما ذكر من الملازمة ولكن الشأن في إثبات هذه الجهة ». انتهى. نهاية الإفكار : ج ٣ / ١٣٠

* أقول : وانظر كلام المحقق الإصفهاني قدس‌سره في نهاية الدراية : ج ٣ / ٢٤٤ طبعة آل البيت


ذكر من السببيّة النّاقصة ، فتدبّر.

ثمّ إنّ هنا إيرادات على الاستدلال بالآية واضحة الفساد ، قد تقدّمت الإشارة إلى كثير منها وجوابها ، مثل كون المسألة أصوليّة لا دليل على حجيّة الظّواهر فيها ومثل كونها من خطاب المشافهة ، ومثل أنّها لا يشمل ما روي عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الإمام عليه‌السلام إذا لم يكن مبيّنا في الكتاب ، إلى غير ذلك ممّا هو ظاهر الاندفاع والفساد.

* * *


٤ ـ آية السؤال (*)

(١٢١) قوله قدس‌سره : ( بناء على أنّ وجوب السؤال ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٨٨ )

أقول : قد يقال : إنّ وجوب السؤال له دلالة عرفية على وجوب قبول قول المسؤول عنه وحجيّته ، من غير حاجة إلى ملاحظة لزوم لغويّة وجوب السّؤال على تقدير عدم وجوب القبول ، بل قد يدّعى ذلك في الآيتين السّابقتين أيضا.

ثمّ إنّ المسؤول عنه ليس جميع أهل الذّكر ، بل كلّ واحد منهم ، فإنّ المقصود كون المسؤول عنه أهل الذّكر ، فيصدق على سؤال بعضهم ، والمراد بأهل الذّكر أهل الاطّلاع والخبرة بالأحكام ، فيصدق على الرّاوي أو أهل العلم ، فيصدق على من كان منهم من أهل العلم ، ويتمّ في الباقي بالإجماع المركّب.

__________________

(*) ( وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) ، « النحل : ٤٣ ».

( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) ، « الأنبياء : ٧ ».


(١٢٢) قوله قدس‌سره : ( وإن كان مع قطع النّظر ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٨٩ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ للذّكر إطلاقات ، منها : القرآن ، ومنها : النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنها : العلم إلى غير ذلك في إطلاق أهل الذّكر على الأئمّة عليهم‌السلام والمضاف إليه في هذه الإضافة يحتمل كلّ واحد من المعاني الثّلاثة (١).

ومقتضى الأخبار المستفيضة : كون المراد من أهل الذّكر في الآية خصوص

__________________

(١) قال المحقق الطهراني قدس‌سره :

« من المعلوم ان الآية الشريفة في مقام الإلزام للكفار الذين كانوا يزعمون أن الرسول لا بد أن يكون ملكا وهذا بشر ـ كما هو صريح الآيات ـ فقال تعالى : ( وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) يعني أن هذا أمر واضح وإن كنتم ممّن لا يدرك الواضحات وممّن لا يعلم فاسألوا من يعلم حتى يفهمكم ويعلّمكم ان الرّسل المبعوثين كانوا بشرا لا ملائكة ؛ فإنّ من لا يستطيع أن يفهم شيئا بنفسه فهو بمقتضى جبلّته يتشبّث بمن يفهمه ويعلّمه.

والحاصل : ان هذا إتمام للحجّة على من أنكر النبوّة إستنادا إلى أنه رجل مثلكم يأكل مما تأكلون ويلبس مما تلبسون.

لا انه في مقام تشريع التعبّد بخبر العدل ، ولو فرض انه في هذا المقام فاعتبار كونه من أهل الذكر لا يلائم إلاّ التقليد ؛ فإن الرواية لا يتوقّف إعتبارها إلاّ على العدالة والتمكن من حفظ الألفاظ أو التعبير بما يساوقها ، والذكر عبارة عن العلم في المقام ». انتهى محجة العلماء : ج ١ / ٢٦٣


الأئمّة عليهم‌السلام ، وعليه : لا معنى للاستدلال بالآية في المقام ، كما أنّه لا معنى للاستدلال بها على تقدير إرادة خصوص علماء الكتاب وكون المسؤول عنه أحوال أنبياء السّلف وكونهم رجالا لا ملائكة ، كما هو ظاهر سياق الآية ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك أنّ الاستشهاد بالأخبار المذكورة لإرادة خصوص الأئمّة من أهل الذّكر مع عدم قطعيّة صدور الأخبار (١) ، وإن بلغت حدّ الاستفاضة ، لا يجوز قطعا ، حسبما عرفت مرارا : من أنّ الاستعانة [ بالخبر الواحد ] (٢) في مسألة حجيّة خبر الواحد منعا وإثباتا (٣) غير جائز عقلا.

كلام صاحب الفصول

وقال بعض أفاضل من قارب عصرنا ـ بعد الاستدلال بالآية في المقام وتعميم مفادها بالنّسبة إلى الفتوى والرّواية والإشكال فيها بظهور سياقها في كون المسؤول عنه علماء الكتاب وكون المسؤول خصوص أحوال الأنبياء من حيث كونهم بشرا لا ملكا ـ ما هذا لفظه :

__________________

(١) هذا التعبير لا يخلو من جفاء فإن قطعيّة صدور الأخبار المزبورة في المقام ـ ولو في الجملة ـ مما لا مجال لإنكارها اللهم إلاّ على وجه المكابرة.

(٢) زيادة يقتضيها السياق.

(٣) في الأصل : « وإثباتا به غير جائز عقلا ». لكن ما صنعناه أفضل.


« فإن قلت : قد ورد في بعض الأخبار (١) : أن ليس المراد بأهل الذّكر علماء اليهود ، ورد الإمام عليه‌السلام على من زعم ذلك بأنّ الله تعالى كيف يأمرنا بمسألتهم؟ مع أنّهم لو سألوا لأمروا بالأخذ بشريعتهم فيبطل التّفسير المذكور.

قلت : الظّاهر أنّ الزّاعم المذكور زعم وجوب مسألتهم مطلقا أو في حقّيّة هذه الشّريعة كما يظهر من الرّد المذكور ، وإلاّ فهو بحسب الظّاهر لا يتم بناء على تخصيص المسألة بما ذكرناه.

سلّمنا لكن أهل الذّكر في الرّواية المذكورة وغيرها من روايات أهل الذّكر مفسّر بأهل البيت عليهم‌السلام ، وعلّل ذلك في بعضها بأنّ الله تعالى سمّى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكرا في قوله تعالى : ( قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً* رَسُولاً ) (٢) فأهل الذّكر هم أهل الرّسول.

والتّحقيق : أنّ مساق الآية لا يأبى عن الحمل على ذلك ، كما لا يخفى. وكيف كان : فلا بدّ من تنزيلها عليه ؛ لصراحة تلك الأخبار فيه ، فيختصّ أهل الذّكر بالأئمة فلا يتناول غيرهم من المحدّثين والمجتهدين ، فلا يتم الاحتجاج بالآية أيضا.

__________________

(١) انظر البرهان في تفسير القرآن : ج ٤ / ٤٥٢ ـ ح ١٣ « ط دار المجتبى » والخبر في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ج ١ / ٢١٦ باب ٢٣ ـ ح ١.

(٢) الطلاق : ١٠ و ١١. لكنّها في الأصل كتبت هكذا : « إنّا أرسلنا إليكم ذكرا رسولا » وهو خطأ واضح والعصمة لمن عصمة الله عز وجل.


اللهمّ إلاّ أن ينزّل الأخبار على بيان الفرد الكامل من أهل الذّكر دون التّخصيص ، ولا يخلو من بعد » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وأنت خبير بأنّ سياق الآية يأبى عن الحمل المذكور ، كما أنّ الأخبار المذكورة تأبى عن الحمل على بيان الفرد الكامل.

(١٢٣) قوله قدس‌سره : ( وردّ بعض مشايخنا ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٨٩ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ المناقشة في سند تلك الأخبار ـ كتصحيح إسنادها ـ ساقطتان ، بعد فرض كونها أخبار آحاد (٢) لا يجوز التّمسك بها في مسألة حجيّة أخبار الآحاد.

(١٢٤) قوله قدس‌سره : ( وثالثا : لو سلّم حمله ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٩٠ )

أقول : ما أفاده قدس‌سره : من المعنى للآية بعد المماشات في كمال الوضوح من الاستقامة ، فالآية لا تدلّ على حكم الرّواية ، لا بعنوان الخصوص ولا بعنوان العموم ، بل ينحصر مفادها بإثبات حكم الفتوى ، كما هو ظاهر.

وممّا أفاده يظهر النّظر فيما ذكره بعض أفاضل من قارب عصرنا في تقريب دلالة الآية على حكم الرّواية ؛ حيث قال :

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٢٧٦ ـ ٢٧٧.

(٢) قد عرفت : ان السقوط مبني على عدم قطعيّة صدور الأخبار المذكورة لا مطلقا وأنّى له بذلك؟!


« وجه الدّلالة : أنّه تعالى أمر عند عدم العلم بمسألة أهل الذّكر ، والمراد بهم إمّا أهل القرآن أو أهل العلم ، وكيف كان : فالمقصود من الأمر بسؤالهم إنّما هو استرشادهم والأخذ بما عندهم من العلم.

والسؤال عند عدم العلم ، كما يقع عن حكم الواقعة كما هو شأن المقلّد فيجاب بذكر الفتوى ، كذلك قد يقع عمّا صدر عن المعصوم عليه‌السلام من قول أو فعل أو تقرير كما هو شأن المجتهد فيجاب بحكايته ونقله ، وهو المعتبر عنه بالخبر والحديث.

وقضيّة الأمر بسؤالهم وجوب قبول ما عندهم فتوى كان أو رواية ما لم يمنع عنه مانع ، فتدلّ على حجيّة أخبارهم كما يدلّ على حجيّة فتاواهم ، وتخصيصه بالثّاني ـ كما هو المعروف في كتب القوم ـ بعيد ؛ لأنّ الآية بظاهرها يفيد الإطلاق ، ولا يختصّ دلالتها بحجيّة أخبار المجتهدين ، بل مطلق أهل العلم وأهل القرآن وإن خصّ في جانب الفتوى بالمجتهدين ».

إلى أن قال :

« ولو سلّم ، فيمكن إتمام الكلام في التّعميم بعدم القول بالفصل ». انتهى كلامه رفع مقامه (١).

__________________

(١) المصدر السابق : ٢٧٦.


٥ ـ آية الأذن (*)

(١٢٥) قوله قدس‌سره : ( مدح الله تعالى رسوله بتصديقه ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٩١ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ تسرية الحكم من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى غيره :

إمّا من جهة دلالة الآية على حسن التّصديق بقول مطلق من غير فرق بين النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيره.

وإمّا من جهة ما دلّ على حسن المتابعة والأسوة للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحسن التّصديق يلازم لحجيّة الخبر لما عرفت في تقريب دلالة آية النّفر ، والمصدّق كلّ واحد من المؤمنين ، لا جميعهم بعنوان الاجتماع والكثرة كما هو ظاهر ، فتدلّ الآية على حجيّة خبر كلّ مؤمن ، ولا يمكن حملها على صورة إفادة الخبر للعلم ؛ ضرورة أنّ التّصديق في صورة العلم ليس من جهة تصديق المؤمن من حيث إنّه مؤمن ، بل من جهة العلم بالواقع.

__________________

(*) ( وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ). « التوبة : ٦١ »


ومن هنا فرّع فيما رواه في « فروع الكافي » قوله : ( فإذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم ) (١) ، على الآية ، وإن كان الاستشهاد بالرّواية مع كونها من أخبار الآحاد على دلالة الآية لا يجوز عقلا حسبما عرفت مرارا (٢).

(١٢٦) قوله قدس‌سره : ( ويرد عليه أوّلا ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٩٢ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ ما أفاده في الجواب إنّما هو مبنيّ على ظاهر الآية بالنّظر إلى لفظ « الأذن » مع قطع النّظر عن عدم إمكان إرادته في المقام في حقّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فإنّه لا معنى لسرعة الاعتقاد بكلّ ما يسمع في حقّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الموجبة للخطأ قطعا ولو كانت بمعنى حسن الظّن بالمؤمنين ، فلا بدّ أن يراد في حقّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إظهار هذا المعنى ، وإن كان معتقدا بكذب المخبر في إخباره ، فيرجع إلى الجواب الثّاني الرّاجع إلى التّصديق المخبري لا الخبري ولا الاعتقادي ، كما هو مرجع الجواب الأوّل (٣).

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٥ / ٢٩٩ ـ باب آخر منه في حفظ المال وكراهة الإضاعة ـ ح ١ ، عنه الوسائل : ج ١٩ / ٨٢ ، باب كراهة إئتمان شارب الخمر ... ـ ح ١ وفيه بدل [ المسلمون ] ، [ المؤمنون ].

(٢) قد عرفت ما فيه.

(٣) انظر كلمة المحقق العراقي قدس‌سره في المقام في نهاية الأفكار : ج ٣ / ١٣١ فإنّها لا تخلو من لطف.


(١٢٧) قوله قدس‌سره : ( وثانيا : أنّ المراد من التّصديق ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٩٢ )

الفرق بين التصديق المخبري والخبري

أقول : الفرق بين التّصديق بمعنى إظهار صدق المخبر في إخباره ولو مع العلم بكذبه في مقابل إظهار كذبه وبين تصديق خبره بمعنى ترتيب آثار الواقع عليه عند الشّك في مطابقته للواقع الّذي هو محلّ الكلام في مسألة حجيّة خبر الواحد بل مسائل حجج جميع الطّرق الظاهريّة لا يكاد يخفى على ذي مسكة ؛ فإنّ المعنى الأوّل لا تعلّق له بمسألتنا هذه ، والمراد من الآية المعنى الأوّل لا الثّاني.

والّذي يدلّ عليه ـ مضافا إلى القرائن الدّاخليّة والخارجيّة ، وأنّه لا معنى لتصديق غير الله تبارك وتعالى في مقابل إخباره تبارك وتعالى ـ حكم العقل المستقلّ ؛ بأنّه لا معنى لجهل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالواقع وشكّه في صدق المخبر وكذبه ، حتّى يتصوّر ترتيب آثار الواقع عليه ظاهرا ، كما هو الشّأن في سائر الطرق الظّاهريّة والأصول العقليّة والشّرعيّة ؛ فإنّه لا معنى لجريانها في حقّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والوليّ [ صلوات الله تعالى عليه ] (*). مع أنّ المعتبر في موضوعاتها عدم العلم بالواقع ، وقد عرفت شطرا من الكلام في ذلك في مسألة اعتبار العلم ، وأنّ معنى

__________________

(*) إضافة الصلوات منا.


قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان ) (١) ونحوه ممّا دلّ على حكمهم بالظّاهر أو عملهم به ، كالوارد في باب اعتبار السّوق ونحوه ، يراد منها حكمهم بهذه الأمور أو عملهم بها فيما طابق الواقع ، لا كحكمنا وعلمنا بها في صورة الشّك في المطابقة وإن كانت في علم الله مخالفة للواقع ، وإلاّ لم يبق فرق بين المعصوم عليه‌السلام وغيره والإمام والرعيّة ، فحسن التّصديق بالمعنى المذكور بقول مطلق لا تعلّق له بمسألة حجيّة خبر الواحد جزما ، فالآية لا تعلّق لها بالمقام أصلا.

(١٢٨) قوله قدس‌سره : ( وأمّا توجيه الرّواية ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٩٤ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ التّصديق بالمعنى الأوّل ، أي : حمل خبر المخبر من حيث كونه فعلا من الأفعال على كونه مباحا لا حراما الّذي يرجع إلى التّصديق المخبري بمعنى إنّما يصحّ إرادته في المقام لو كان له معنى أعمّ شامل لصورة العلم بكذب المخبر بأن يحمل على مجرّد الإظهار ولو مع العلم بالخلاف.

وأمّا لو لم يكن له معنى أعمّ ، بل اختصّ بصورة الشّك في المطابقة والحلال والحرام كما يقتضيه نفي التهمة عن المؤمن ونحوه من التّعبيرات فلا يمكن إرادته في المقام ، لما قد عرفت : من عدم إمكان جعل الحكم الظّاهري في حقّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واقعا ، بأيّ معنى فرض ، وإن اقتضت المصلحة إراءته للنّاس أنّه يسلك نحو

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٧ / ٤١٤ باب « ان القضاء بالبينات والإيمان » ـ ح ١ ، عنه الوسائل : ج ٢٧ / ٣٣٢ باب « انه لا يحل المال لمن أنكر حقا » ـ ح ١.


سلوكهم في العمل بالطّرق الظّاهريّة ، وهذا أمر واضح لا سترة فيه أصلا.

(١٢٩) قوله قدس‌سره : ( ثمّ إنّ هذه الآيات ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٩٦ )

في بيان النسبة بين الآيات المستدل بها

أقول : مفاد منطوق آية النّبأ ـ بناء على كون المراد من الفاسق : هو الخارج عن طاعة الله تبارك وتعالى بجوارحه لا الأعمّ منه ومن الكافر ـ عدم حجّيّة خبر خصوص الفاسق بالمعنى المذكور. ومفهومها على القول بثبوته حجّيّة خبر غير الفاسق ؛ فيثبت حجيّة خبر الواسطة الواقعية بين الفاسق والعادل ، فيقع التّعارض لا محالة بين منطوقها النّافي للحجّيّة ومفاد سائر الآيات المثبتة لحجيّة الخبر.

فإن قلنا باختصاص الآية ـ بالنّظر إلى الأمر بالتّبيّن الظّاهر في تحصيل العلم ـ بصورة إمكان تحصيل العلم وشمولها للموضوعات والأحكام حسبما اتّفقوا عليه ويقتضيه مورد الآية ، وتعميم سائر الآيات وشمولها لصورة العجز عن تحصيل العلم ؛ نظرا إلى قضيّة ألفاظها العامّة كما هو الظّاهر ، واختصاصها بالإخبار عن الحكم كما في غير الآية الأخيرة على ما هو الظّاهر منها فالنّسبة لا يكون عموما مطلقا بين الآية وغير الآية الأخيرة ممّا اختصّ مفاده بالأحكام ، بل عموما من وجه ؛ حيث إنّ الآية لا تشمل صورة العجز عن تحصيل العلم وسائر الآيات تشملها. والآية تشمل الإخبار بالموضوعات ، وسائر الآيات لا تشمله.


نعم ، لو ادّعي اختصاص سائر الآيات أيضا بصورة التّمكن من تحصيل العلم ، أو التّعميم في آية النّبأ من حيث إنّ الأمر بالتّبيّن وإن كان مختصّا بصورة إمكان تحصيل العلم ، إلاّ أنّ مفاد الآية عدم حجيّة خبر الفاسق وأنّ وجوده كعدمه على الإطلاق ، لم يعتبر التّعميم في سائر الآيات من هذه الجهة بل من جهة شمولها للفاسق وغيره ، فالآية تنفي حجيّة خبر الفاسق مطلقا سواء في الموضوعات والأحكام.

وسائر الآيات تثبت حجيّة خبر المخبر فاسقا كان أو عادلا في خصوص الأحكام ، فتفترق الآية في خبر العادل ، كما أنّها تفترق عن سائر الآيات في الموضوعات ، فالنّسبة عموم من وجه لا محالة على تقدير اختصاص الآيات بالإخبار عن الحكم.

وأمّا نسبتها مع الآية الأخيرة فعموم وخصوص مطلقا من حيث شمول الآية الأخيرة للفاسق والعادل في الموضوعات والأحكام وصورتي العجز عن تحصيل العلم وإمكانه واختصاص آية النّبأ بخبر الفاسق.

ومن هنا يتبيّن : أنّ التّعارض بين آية النّبأ وسائر الآيات ، ليس مبنيّا على ثبوت المفهوم ، بل يعمّه وما لو قيل بعدم ثبوت المفهوم ؛ لأنّ التعارض على ما عرفت بين منطوق الآية وسائر الآيات ، لا بين مفهومها ومفاد سائر الآيات.

ثمّ إنّ المرجع آية النّبأ فيما لوحظت مع الآية الأخيرة ، وأصالة عدم الحجيّة


في مادّة التّعارض فيما لوحظت مع سائر الآيات. فالخبر (١) الفاسق في الأحكام الشّرعيّة الّذي هو مادّة التّعارض لا يكون حجّة ، من جهة الأصل لا من جهة منطوق آية النّبأ.

نعم ، لو قيل باختصاص مفاد المنطوق بصورة العجز عن تحصيل العلم وشمول الآيات لها كان خبر الفاسق مع العجز عن تحصيل العلم حجّة بمقتضى سائر الآيات ، ولا يعارضها آية النّبأ.

وبمثل ما ذكرنا ينبغي أن يحرّر المقام لا بمثل ما أفاده ؛ فإنّه لا يخلو عن بعض المناقشات الظّاهرة لمن راجعه وراجع إلى ما ذكرنا.

(١٣٠) قوله قدس‌سره : ( بل يمكن انصراف المفهوم ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٩٦ )

المناقشة في انصراف المفهوم

أقول : قد يناقش فيما أفاده : بأنّ دعوى انصراف المفهوم مع عدم ثبوت لفظ له إلاّ اللّفظ المذكور في جانب المنطوق ، لا وجه لها. نعم ، لو كان هناك انصراف في جانب المنطوق يتبعه في جانب المفهوم أيضا. والأمر في المقام ليس كذلك ؛ ضرورة أنّه لا معنى لدعوى الانصراف في جانب المنطوق حتّى يرجع حاصلها إلى أنّ المنهي ، العمل بخبر الفاسق المفيد للاطمئنان هذا.

__________________

(١) الصحيح : فخبر الفاسق.


مع أنّ مجرّد غلبة الوجود ما لم ينضمّ إليها غلبة الاستعمال لا يوجب الانصراف عند شيخنا قدس‌سره.

وأمّا الاستشهاد بالتّعليل كما في بعض النّسخ وإن لم يكن في النّسخة المصحّحة الموجودة عندي ـ فمع كونه مبنيّا على إرادة الأعمّ من الاطمئنان من التّعليل ـ يوجب فساد الاستدلال بالآية كما هو واضح ، فالمتعيّن كونه غلطا.

(١٣١) قوله قدس‌سره : ( بل هذا أيضا منصرف سائر الآيات ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٩٦ )

أقول : قد يناقش فيما أفاده : بأنّه لا معنى للانصراف إلى صورة حصول الاطمئنان بالنّسبة إلى سائر الآيات بأيّ معنى فرض للإنصراف ـ لا غلبة الوجود ولا غلبة الاستعمال ـ بل ولا كثرة الوجود والاستعمال وإن لم تبلغ حدّ الغلبة.

نعم ، حصول مطلق الظّنّ من مطلق الخبر غالبيّ لا خصوص الاطمئنان ، ولا يقاس ذلك بخبر العادل الّذي لا ريب في حصول الاطمئنان منه غالبا ، فلو اعتبر الانصراف بالنّسبة إلى سائر الآيات بعد الحمل على خبر العادل كان وجيها ؛ لكنّه خلاف المفروض في كلامه.

ثمّ لا يخفى عليك أنّه على تقدير تسليم الانصراف المفيد المعتبر بالنّسبة إلى سائر الآيات ، تنقلب النّسبة بين آية النّبأ والآيات ، فتصير النّسبة عموما من وجه مع الإغماض عمّا ذكرنا سابقا في بيان النّسبة من جهة العموم لآية النّبأ لسائر الآيات ؛ حيث إنّ سائر الآيات سليمة عن المعارض في خبر العادل ، ومنطوق


الآية سليم في خبر الفاسق ـ الّذي لا يفيد الاطمئنان ـ على تقدير شمولها له ، ويعارضان في خبر الفاسق الّذي يفيد الاطمئنان وإن كان المنطوق أقلّ أفرادا بالنّسبة إلى سائر الآيات فيلحق بالخاصّ حكما مضافا إلى كونه معلّلا آبيا عن التّخصيص بخلاف سائر الآيات.

(١٣٢) قوله قدس‌سره : ( وإن لم يكن انصرافا ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٩٦ )

مراتب كثرة استعمال المطلق

أقول : لا يخفى عليك أنّ كثرة استعمال المطلق في بعض أفراده بالمعنى الأعمّ من الإطلاق ، لها مراتب كشيوع بعض الأفراد ، وكثرة وجوده على القول بكونه سببا للانصراف ـ من غير نظر إلى كثرة الاستعمال في بعض مراتبها ـ يوجب الوضع التّعيّني لو كان بالمعنى الأخصّ المقابل للإطلاق.

كما قد يتّفق ذلك بالنّسبة إلى سائر الألفاظ المستعملة في معانيها المجازيّة ؛ فإنّ الوضع التّعيّني دائما يستند إلى كثرة الاستعمال.

وفي بعضها يوجب ظهور اللّفظ في الفرد الّذي غلب استعماله فيه ، من دون أن يبلغ مرتبة الوضع ؛ بحيث لا يلاحظ في ظهوره من اللّفظ شيوع الاستعمال كما هو الشّأن في القسم الأوّل.

وفي بعضها يوجب صرف اللّفظ عن الإطلاق ولا يوجب ظهور الفرد منه ،


وإن كان متيقّن الإرادة من اللّفظ ، كما قد يتّفق مثل ذلك بالنّسبة إلى استعمال اللّفظ الموضوع في معناه المجازي بالنّسبة إلى غير المطلقات. وفي بعضها يوجب صرف اللّفظ عن الإطلاق في باديء النّظر ويزول عن الذّهن بعد التّأمّل.

والغرض من العبارة : أنّ الانصراف المدّعى بالنّسبة إلى سائر المطلقات ليس كالانصراف المدّعى بالنّسبة إلى خبر العادل ؛ الّذي يوجب ظهور اللّفظ فيما يحصل منه الاطمئنان ، ولا يظهر منه إرادة غيره ممّا لا يحصل منه الاطمئنان فيكون من القسم الثّاني. وهذا بخلافه بالنّسبة إليها ؛ فإنّه من القسم الأخير فيكون ظاهرة بعد التّأمّل فيما لا يوجب اطمئنانا أيضا.

وهذا الّذي ذكرنا هو المراد ممّا أفاده قدس‌سره وإن كانت العبارة غير وافية بالمراد ؛ حيث إنّه ربّما يظهر منها : أنّ الانصراف المعتبر ما أوجب ظهور عدم إرادة غير الفرد المنصرف إليه اللّفظ وهو معنى المفهوم ، وهو لا يوجد في أيّ مرتبة فرضت للانصراف كما هو واضح. وإنّما الموجود ما أوجب عدم ظهور إرادة غير الفرد المنصرف من الإطلاق كما هو المشاهد في الانصراف المعتبر.

* * *


* ثاني أدلّة المجوّزين السنّة

(١٣٣) قوله قدس‌سره : ( وأمّا السّنة فطوائف ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٩٧ )

أقول : لا يخفى عليك : أنّ الظّاهر من حمل الطّوائف على السّنة الّتي عبارة عن قول المعصوم عليه‌السلام وفعله وتقريره يقتضي كون كلّ منها قطعي الصّدور ، وإن كان الاستدلال بها لو كان باعتبار المجموع لا يتوقّف إلاّ على قطعيّة المجموع من حيث المجموع في الجملة ؛ نظرا إلى ما عرفت مرارا : من عدم جواز الاستدلال في المسألة إثباتا ومنعا بخبر الواحد المجرّد.

ثمّ إنّ قطعيّة كلّ واحدة من الطّوائف ـ كما هو الحقّ ـ ليست من جهة الإحتفاف بالقرينة ، ولا من جهة التّواتر اللّفظي ؛ ضرورة انتفائه ، بل من جهة التّواتر الإجمالي الرّاجع إلى التّواتر المعنوي (١) ، وتواتر القدر المشترك باعتبار (٢) ،

__________________

(١) قال المحقق الجليل الميرزا النائيني قدس‌سره :

« ولا يتوهّم : أن هذه الأخبار من الأخبار الآحاد ولا يصح الإستدلال بها لمثل المسألة فإنها لو لم تكن أغلب الطوائف متواترة معنى فلا إشكال في أن مجموعها متواترة إجمالا ،


__________________

للعلم بصدور بعضها عنهم « صلوات الله عليهم أجمعين » انتهى انظر فوائد الأصول : ج ٣ / ١٩١

* وقال المحقق العراقي قدس‌سره :

« لا يخفى ان التواتر المدعى في تلك الأخبار وإن لم يكن لفظيا إلا انه يكون معنويا ؛ لوضوح كون الجميع بصدد بيان معنى واحد وهو حجية قول الثقة ووجوب العمل على طبقة بل وظاهر بعضها هو كون وجوب العمل بخبر الثقة أمرا مركوزا عندهم بحيث كان من المسلمات عند أصحاب الأئمة عليهم‌السلام ... وحينئذ فلا ينبغي الإرتياب في حجّيّة خبر الثقة ووجوب الأخذ به ». انتهى انظر نهاية الأفكار : ج ٣ / ١٣٤.

(٢) قال شيخ الكفاية المحقق الخراساني قدس‌سره :

« لا يقال : وجه الإستدلال بالأخبار مع عدم تواترها لفظا ومعنى ؛ لوضوح اختلافها بالفاظها ومضامينها وإن كان بينهما قدر مشترك كما لا يخفى ؛ ضرورة ان وجود القدر المشترك بينها لا يوجب تواتر الأخبار بالنسبة اليه ما لم يحرز أن المخبرين بصدد الإخبار عن معنى واحد وإن اختلافهم إنما يكون في خصوصيّاته ، كيف! والأخبار الكثيرة المتفرّقة يكون بين مضامينها قدر مشترك لا محالة ولا يفيد كثرتها القطع به أصلا.

لأنّا نقول : وجه الإستدلال إنما هو تواترها على نحو الإجمال بمعنى ان كثرتها توجب القطع بصدور واحد منها ، وهو كاف حجّة على حجّيّة الخبر الواحد في الجملة في قبال نفي حجيّته مطلقا وقضيّة الإقتصار على إعتبار خصوص ما دلّ على اعتباره من أنحاء خبر الواحد مثل خبر العدل أو مطلق الثقة أخصّ الطائفة التي علم بصدور واحد بينها مضمونا.


__________________

نعم ، يمكن التعدّي عنه إلى غيره لو وجد مثل هذا الخبر ناهضا على حجّيّة غير هذا النحو.

والإنصاف : حصول القطع بصدور واحد ممّا دلّ منها على حجّيّة خبر الثقة ، ولا يخفى ظهور هذه الطائفة في أن اعتبار هذا الوصف في المخبر إنّما هو لأجل حصول الوثوق بالصدور ، ففي الحقيقة تكون العبرة به لا بها ، فلو حصل من غيرها يكون مثله في الإعتبار ، ومن المعلوم عدم إنحصار أسباب الوثوق بالصدور بوثاقة الرّاوي ، بل هي تكون في الأخبار المدوّنة في الكتب المعتبرة سيّما الكتب الأربعة التي عليها المدار في الاعصار والأمصار ، وما يحذو حذوها في الإعتبار كثيرة جدّا :

منها : وجود الخبر في غير واحد من الأصول المعتبرة المتداولة في الأعصار السابقة.

ومنها : تكرّره ولو في أصل واحد بطرق مختلفة وأسانيد عديدة معتبرة.

ومنها : وجوده في أصل معروف الإنتساب الى من أجمع على تصديقه ، كزرارة ونظراءه وعلى تصحيح ما يصحّ عنه كصفوان بن يحيى وأمثاله.

ومنها : كونه مأخوذا من الكتب التي شاع بين السلف الوثوق بها والإعتماد عليها ولو لم يكن مؤلّفوها من الإماميّة.

إلى غير ذلك مما لا يخلو عن أكثرها الكتب التي ألّفت لتكون مرجعا للأنام في الأحكام.

ويشهد على ذلك ـ أي على كون العبرة على الوثوق بالصدور مطلقا ـ : انه كان المتعارف بين القدماء على ما صرّح به الشيخ بهاء الدين في « مشرق الشمسين » إطلاق الصحيح على ما اعتضد بما يقتضي الإعتماد عليه. أو إقترن بما يوجب الوثوق به والرّكون اليه ولم يكن
فيؤخذ من كلّ واحد منها بما هو القدر المتيقّن الثّابت من جميع أخبار كلّ طائفة ، فيثبت المدّعى ، وهو حجيّة خبر الواحد المجرّد إجمالا في قبال النّفي الكلّي والمنع المطلق.

فمنها : ما ورد في حكم علاج المتعارضين من الأخبار بالتّرجيح والتّخيير من حيث الأخذ بالصّدور ؛ ضرورة أنّ المقصود منها بيان علاج المتعارضين الغير القطعيّين من الأخبار ، لا الأعمّ منه ومن القطعيّين ، وإلاّ لم يكن معنى للعلاج بالطّرح صدورا في أحدهما المعيّن ، أو لا على التّعيين الرّاجع إلى التّخيير كما هو واضح.

ومن المعلوم أنّ كلاّ من التّعارض والتّرجيح والتّخيير فرع الحجيّة ، غاية ما هناك أنّ العنوانات المذكورة بأنفسها مع قطع النّظر عن دلالة الأخبار على مناط الحجيّة لا دلالة فيها على ما أنيط به الحجيّة من العنوانات ؛ فيؤخذ بما هو المتيقّن بهذه الملاحظة ، ويكفي في إثبات المدّعى.

لكن في بعض أخبار التّخيير كرواية الحارث (١) ورواية ابن أبي الجهم (٢)

__________________

تقسيم الحديث إلى الأقسام الأربعة المشهورة معروفا بينهم ، وأنّه كان من زمان العلاّمة [ الحلّي ] قدس‌سره. انتهى درر الفوائد في الحاشية على الفرائد : ١٢١

(١) الاحتجاج : ج ٢ / ١٠٨ ، عنه وسائل الشيعة : ج ٢٧ / ١٢٢ باب « وجوه الجمع بين الأحاديث المختلفة » ـ ح ٤١.

(٢) المصدر السابق عنه الوسائل : ج ٢٧ / ١٢١ ـ ح ٤٠ والموجود في الخبر « الحسن بن


وأكثر أخبار التّرجيح ـ كالمشتملة على التّرجيح بالأوصاف (١) ـ دلالة على مناط الحجيّة ؛ فإنّ التّرجيح بالأعدليّة مثلا يدلّ على إناطة الحجيّة بالعدالة ، وإلاّ كان الأولى بل المتعيّن التّرجيح بها لا بالأعدليّة.

نعم ، التّرجيح بالأصدقيّة في المقبولة (٢) وبالأوثقيّة في المرفوعة (٣) ؛ يدلّ على كون اعتبار العدالة من حيث الطّريقيّة إلى الوثاقة لا الموضوعيّة ، فيكون العبرة بالوثاقة لا بالعدالة ، فتدبّر.

ثمّ إنّ اختصاص مورد المقبولة صدرا باختلاف الحكمين ، لا ينافي الاستدلال بها للمقام ؛ لما سيأتي في محلّه مفصّلا : من أنّ المراد من الحكومة فيها : الحكم في الشّبهة الحكميّة من حيث إيراد الحديث.

(١٣٤) قوله قدس‌سره : ( ومنها : ما دلّ على إرجاع آحاد ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٢٩٩ )

أقول : لا يخفى عليك حصول القطع من هذه الطّائفة كالطّائفة الواقعة في

__________________

الجهم ».

(١) الكافي الشريف : ج ١ / ٦٧ باب « اختلاف الحديث » ـ ح ١٠ ، عنه الوسائل : ج ٢٧ / ١٠٦ باب « وجوه الجمع بين الأحاديث المختلفة » ـ ح ١ كما رواه في الفقيه : ج ٣ / ٥ ـ ح ٢ ، والتهذيب : ج ٦ / ٣٠١ ـ ح ٨٤٥.

(٢) أنظر المصدر السابق.

(٣) عوالي اللئالي : ج ٤ / ١٣٣ ـ ح ٢٢٩ ، عنه مستدرك الوسائل : ج ١٧ / ٣٠٣ باب « وجوب الجمع بين الأحاديث المختلفة وكيفيّة العمل بها » ـ ح ٢.


علاج المتعارضين من الأخبار بحجيّة الخبر العلمي في الجملة ؛ فإنّا نعلم بأنّ مناط الرّجوع ليس إفادة خبر المرجع العلم ولو بعد الإرجاع ؛ ضرورة أنّ إرجاع الإمام عليه‌السلام لا يوجب عصمته ، مضافا إلى منافاته لما أشير فيه إلى المناط من هذه الطّائفة ، بل لما صرّح فيه بالمناط وعنوان الرّجوع ، بل اشتمال الرّاوي المرجع على صفة أوجبت حجيّة إخباره لغيره ، فإن كان ما دلّ على المناط من هذه الطّائفة قطعي الصّدور ، فلا بدّ أن يرجع إليه في تشخيص تلك القضيّة ، وإلاّ فلا بدّ من الأخذ بما هو المتيقّن اعتباره ، على تقدير حجيّة خبر الواحد وبعد التّعدي عن الأشخاص المعيّنة بحكم الضّرورة وتسليم الخصم ودلالة الأخبار على علّة الحكم الموجبة للتّعدي ودورانه مدارها ، يحكم بحجيّة خبر كلّ من وجد فيه الصّفة المفروضة.

وهذا معنى حجيّة خبر الواحد المجرّد ، وإن كان إبطال القول بعدم الحجيّة رأسا لا يتوقّف على التّعدي عن الآحاد المذكورة في الرّوايات ، كما هو واضح.

(١٣٥) قوله قدس‌سره : ( وهذه الطّائفة ـ أيضا ـ مشتركة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٠١ )

أقول : إناطة أكثر هذه الطّائفة قبول الخبر بالوثاقة كبعض الطّائفة الأولى ، في كمال الوضوح والظّهور ، بل في بعضها دلالة واضحة على كونها من المسلّمات عند السّائل. ومن هنا وقع سؤاله عن الصّغرى وهو وثاقة الرّاوي ، حتّى يترتّب عليه الكبرى ، وهو أخذ معالم الدّين ، إلاّ أنّ حمل الوثاقة في هذه الطّائفة على مجرّد أمانة الرّاوي في نقل الرّواية بل الاطمئنان بصدقه ، ولو استند إلى القرائن


والأمارات الخارجيّة في كمال البعد عن مساقها ، بل عن ألفاظها ، وكيف يحتمل قوله : « المأمون على الدّين والدّنيا » (١) على كونه أمينا في مجرّد نقل الرّواية ولو كان فاسقا بجوارحه؟ بل ظاهرها المرتبة العليا من العدالة ؛ حيث إنّ ملكة العدالة كسائر الملكات قابلة للشّدة والضعف.

ومن هنا يدخل فيها التّفصيل (٢) ، ويقال : فلان أعدل من فلان. وقد ورد

__________________

(١) رجال الكشي : ج ٢ / ٨٥٨ برقم ١١١٢ ، عنه وسائل الشيعة : ج ٢٧ / ١٤٦ باب « وجوب الرجوع في القضاء والفتوى إلى رواة الحديث » ـ ح ٢٧.

(٢) قال المحقق الجليل الميرزا النائيني قدس‌سره :

« لا إشكال في انه يستفاد من المجموع اعتبار الخبر الموثوق به ، بل يستفاد من بعضها أن الإعتماد على خبر الثقة كان مفروغا عنه عند الصحابة مرتكزا في أذهانهم ولذلك ورد في كثير من الأخبار السؤال عن وثاقة الراوي بحيث يظهر منها ان الكبرى مسلّمة والسؤال كان عن الصغرى ». انظر فوائد الأصول : ج ٣ / ١٩٠

أقول : إنّما أوردنا كلام الميرزا هاهنا ـ مع انه لم يكن له مناسبة تامّة في المقام ـ لكي يعلم رأي الميرزا النائيني قدس‌سره بالنسبة إلى ما يستفاد من مجموع الأخبار الواردة في الباب.

* وقد أفاد المحقق العراقي أعلى الله مقامه الشريف هنا :

« إن الثقة في تلك الأخبار وإن كانت ظاهرة في العدالة بل أعلى درجتها ، ولكن يمكن دعوى عدم اعتبار وصف العدالة في الرّاوي في حجّيّة روايته وأن مدار الحجّيّة إنّما كان على حيث الوثوق في نقل الرواية بنحو يضعف فيه احتمال الكذب بحيث لا يعتني به العقلاء


التّرجيح بالأعدليّة بين المتعارضين كما عرفته في الطّائفة الأولى ، فالمراد من الثّقة في هذه الرّوايات : هو الّذي يراد منها في كلمة أهل الرّجال من كونه العدل الإمامي الضّابط ؛ فإنّ الوثوق بالشّخص من جميع الجهات وبقول مطلق ، يلازم هذا المعنى ، فهي أخصّ من العدالة ؛ حيث إنّه اعتبر فيها الضّبط الغير المعتبر في مفهوم العدالة.

__________________

وأن التعبير بالمأمونيّة في الدين والدنيا إنما هو من جهة كونه ملزوما للوثاقة في الحديث لا من جهة مدخليّة لخصوصيّة المأمونيّة في الدّين في الرّاوي في حجّيّة روايته ... »

إلى أن قال :

« ومن ذلك ترى بناء الأصحاب رضوان الله تعالى عليهم على العمل بالخبر الموثوق به ولو من غير الشيعة اذا علموا بأنّ الرّاوي سديد في نقل الرّواية ومتحرّز عن الكذب وكان ممّن لا يطعن في روايته وإن كان مخطأ في اعتقاده وسالكا غير الطريقة المستقيمة التي سلكها الشيعة والفرقة المحقّة »

إلى أن قال :

« مدار الحجّيّة عندهم على عدالة الرّاوي وحينئذ فلا إشكال في دلالة تلك الأخبار على حجّيّة خبر الموثوق به صدورا أو مضمونا ... إلى آخره » انتهى انظر نهاية الأفكار : ج ٣ / ١٣٤ ـ ١٣٥


(١٣٦) قوله قدس‌سره : ( فإنّه لو سلّم أنّ ظاهر الصّدر الاختصاص ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٠٢ )

في بيان المراد من التوقيع الشريف

أقول : لا يخفى عليك : أنّ الظّاهر من صدر الرّواية ليس خصوص السّؤال عن الرّواة فيما تحمّلوا من الأئمّة عليهم‌السلام من الرّوايات الواردة في بيان أحكام الموضوعات الكليّة ، ولا خصوص السّؤال عنهم فيما تحمّلوا من التّرجيح في نظرهم في مقام الاستنباط إذا كانوا من أهله ، ولا الأعمّ منهما ، فإنّ شأن السّائل يأبى عن حمله على ما ذكر ؛ فإنّ حكمها كان معلوما عند التّأمّل بالقطع واليقين بما ورد عن الأئمّة السّابقين ، بل السّؤال عمّا يتّفق من الوقائع كالتّصرف في أموال الأيتام وسائر القاصرين ونحوه من الأمور الحسبيّة ، بل صرف سهم الإمام عليه‌السلام ونحو ذلك ، فلا بدّ أن يكون المراد من الرّواة في الحديث الشّريف من له أهليّة نصب الإمام عليه‌السلام له من جانبه بعنوان النّيابة عنه ؛ حيث إنّه عليه‌السلام جعلهم حجّة من قبله على المكلّفين وليسوا حجج الله ، كما أنّه عليه‌السلام حجّة الله.

ومن المعلوم أنّ الرّاوي من حيث كونه راويا لا من حيث كونه عارفا بالأحكام من حيث الملكة ، إذا فرض اجتماع الحيثيّتين فيه ، ليس له أهليّة النصب لهذه الأمور الّتي لا يجوز التّصدي لها إلاّ للإمام عليه‌السلام أو نائبه. فلا يقال : إنّ كونهم حجة يلازم حجيّة رواياتهم وأخبارهم عن المعصوم عليه‌السلام.

ومن هنا يظهر تطرّق المناقشة فيما أفاده قدس‌سره في تقريب الاستدلال بالعلّة


المذكورة في الرّواية لحكم المقام ، هذا كلّه.

مضافا إلى أنّه لا يمكن حمل التّعليل على ظاهره من كونهم حجّة بمنزلة الإمام عليه‌السلام في جميع ما ثبت له ، إلاّ ما خرج بالدّليل ، كما توهّمه غير واحد من الأعلام.

وقد سمعت ما ذكرت في معنى الرّواية عنه قدس‌سره مرارا في مجلس البحث ، وقد ذكره قدس‌سره في « المكاسب » (١) عند الكلام في بيان منصب الفقيه في زمان الغيبة بعد نقل التّوقيع الشّريف المرويّ في « إكمال الدّين » و « كتاب الغيبة » و « الإحتجاج » الوارد في جواب مسائل إسحاق بن يعقوب ـ الّتي ذكر « أنّي سألت العمروي رضي‌الله‌عنه أن يوصل لي إلى الصّاحب عجّل الله فرجه كتابا يذكر فيه تلك المسائل الّتي أشكلت عليّ ، فورد الجواب بخطّه « عليه وعلى آبائه آلاف الصّلاة والسّلام » في أجوبتها ، وفيها : « وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله » (٢) ـ ما يظهر منه موافقته لما ذكرنا في معنى الرّواية : من تخصيص الرّواة فيها « بالعلماء وأهل النّظر » فإنّه قال : ما هذا لفظه :

« فإنّ المراد من الحوادث ـ ظاهرا ـ مطلق الأمور الّتي لا بدّ من الرّجوع

__________________

(١) المكاسب [ كتاب البيع بحث « ولاية الفقيه » ] ج ٣ / ٥٥٥.

(٢) كمال الدين : ٤٨٤ ، ضمن الحديث ٤ ، والغيبة للطوسي : ٢٩١ ، ضمن الحديث ٢٤٧ ، والاحتجاج ج ٢ / ٢٨٣.


فيها عرفا أو عقلا أو شرعا إلى الرّئيس ، مثل النّظر في أموال القاصرين ؛ لغيبة أو موت أو صغر أو سفه.

وأمّا تخصيصها بخصوص المسائل الشّرعيّة ، فبعيد من وجوه :

منها : أنّ الظّاهر وكول نفس الحادثة إليه ليباشر أمرها مباشرة أو استنابة ، لا الرّجوع في حكمها إليه.

ومنها : التّعليل بكونهم « حجّة عليكم وأنا حجّة الله » فإنّه يناسب الأمور الّتي يكون المرجع فيها هو الرّأي والنّظر ، فكان هذا منصب ولاة الإمام عليه‌السلام من قبل نفسه عليه‌السلام ، لا أنّه واجب من قبل الله سبحانه على الفقيه بعد غيبة الإمام عليه‌السلام وإلاّ كان المناسب أن يقول : حجج الله عليكم ، كما وصفهم في مقام آخر بأنّهم « أمناء الله تعالى على الحلال والحرام » (١).

ومنها : أنّ وجوب الرّجوع في المسائل الشّرعيّة إلى العلماء الّذي هو من بديهيّات الإسلام من السّلف إلى الخلف ، ممّا لم يكن يخفى على مثل إسحاق بن يعقوب ، حتّى يكتبه في عداد مسائل أشكلت عليه ، بخلاف الرّجوع في المصالح

__________________

(١) يريد الإشارة الى مثل الحديث الوارد عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام في زرارة ونظرائه حيث قال صلوات الله عليه : بشر المخبتين بالجنة بريد بن معاوية العجلي وأبو بصير ليث بن البختري المرادي ومحمّد بن مسلم وزرارة أربعة نجباء أمناء الله على حلاله وحرامه لو لا هؤلاء انقطعت آثار النبوّة واندرست. أنظر رجال الكشي : ج ١ / ٣٩٨ برقم ٢٨٦ ، عنه وسائل الشيعة : ج ٢٧ / ١٤٢ باب « وجوب الرجوع في القضاء والفتوى إلى رواة الحديث » ـ ح ١٤.


العامّة إلى رأي أحد ونظره ... إلى آخره ما أفاده في معنى الرّواية » (١).

وأنت إذا تأمّلت فيه لم يبق لك ريب في عدم دلالة الرّواية أصلا على حكم نقل الحديث ممّن ليس له معرفة نظريّة بالأحكام الشّرعيّة ، وإن سلمت دلالتها على حكم الإفتاء ؛ فإنّه لا تعلّق له بالمقام.

ثمّ إنّ اختصاص الرّواية بالعدول على تقدير تسليم الدّلالة ليس قابلا للإنكار ؛ فإنّ الفاسق لا أهليّة له لنصب الإمام عليه‌السلام له.

(١٣٧) قوله قدس‌سره : ( ومثل الرّواية المحكيّة عن العدّة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٠٢ )

أقول : لا إشكال في صراحة الرّواية في عدم اعتبار العدالة في حجّيّة الرّواية في الجملة ، إلاّ أنّها خبر واحد لا يجوز الاستدلال بها على حجّيّة خبر الواحد بالنّسبة إلى الجهة الّتي تفارق سائر الأخبار.

(١٣٨) قوله قدس‌سره : ( ومثل ما في الإحتجاج ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٠٢ )

أقول : لا يخفى عليك : أنّ المراد من التقليد في « الرّواية » بل « الآية » كما يظهر بالتّأمّل في الرّواية من أوّلها إلى آخرها ، هو متابعة قول الغير وإخباره ، مطلقا سواء كان عن اجتهاده ورأيه أو عن المسموعات ، فيشمل العمل بروايته كما أنّه يشمل التّقليد الاصطلاحي. كما يشهد له قوله عليه‌السلام : « ولذلك ذمّهم لما قلّدوا من

__________________

(١) المكاسب : ج ٣ / ٥٥٥ ـ ٥٥٦.


[ قد ] عرفوا ومن [ قد ] علموا أنّه لا يجوز قبول خبره ولا تصديقه » (١). وقوله : ( وأمّا من ركب من القبائح ... إلى آخره ) (٢) وغير ذلك ، لا خصوص العمل باجتهاده ورأيه أو العمل بإخباره عن اجتهاده الّذي يسمّى إفتاء أو متابعته تقليدا والّذي يشهد له ـ مضافا إلى ما عرفت ـ ورود الآية في ذمّ اليهود الّذين رجعوا إلى علمائهم في تحقيق علامات نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المذكورة في التّوراة ، ومن المعلوم أنّه لا يتصوّر هناك التّقليد بالمعنى الاصطلاحي ، كما لا يخفى.

فلا ينبغي الإشكال إذن في دلالة الحديث الشّريف على حكم الرّواية. نعم ، متابعة العلماء من حيث كونهم رواة ، ليس من حيث كونهم علماء إلاّ على سبيل التّوسع ، ولا مناص من ارتكاب هذا الخلاف الظّاهر بعد القطع بإرادته من الرّواية.

ثمّ إنّه ـ بعد البناء على شمول الحديث الشّريف (٣) لنقل السّنة ـ قد يناقش فيما أفاده قدس‌سره واستظهره : من إناطة القبول بالتّحرّز عن الكذب وإن كان المخبر فاسقا بجوارحه ؛ حيث إنّ المنع عن متابعة قول من كان مرتكبا للمحرّمات

__________________

(١) الاحتجاج : ج ٢ / ٥١١.

(٢) الاحتجاج ٢ / ٥١٢ ، الحديث ٣٣٧ ، والتفسير المنسوب للامام العسكري : ٢٩٩ ـ ٣٠١.

(٣) هذا الخبر أشار اليه الشيخ الأعظم قدس‌سره فيما قرّر عنه في مجلس بحثه المطبوع في رسالة ملحقة بمطارح الأنظار :

قال : « ورواية الإحتجاج في أعلى مراتب الضعف لكونها من تفسير العسكري عليه‌السلام الذي لا يعمل بما فيه الأخباريّون ». [ فكيف بغيرهم؟! ] انظر مطارح الأنظار : ج ٢ / ٦٥٥


المذكورة في الرّواية الّتي منها الكذب الصّريح ليس من حيث كون الفاعل لا داعي له على الكذب العمدي ، بل من حيث كونه فاسقا ، وإن كان وجه المنع ملاحظة الطّريقيّة وإدراك الواقع. كيف! ولو لم يكن الأمر كذلك ، لأشكل الحال في الفتوى ؛ حيث إنّ اعتبار العدالة في المفتي ومانعيّة الفسق ليس من حيث كون العدالة طريقا إلى وثاقة المفتي من حيث الإخبار عن اجتهاده بحيث لا يكون لها جهة موضوعيّة أصلا ، بل لها جهة موضوعيّة قطعا ، وإن كان لها جهة طريقيّة أيضا.

والتّفكيك بين الفتوى والرّواية من الحيثيّتين ، أو القول باستفادة اعتبار العدالة من حيث الموضوعيّة في الفتوى من الدّليل الخارجي غير الحديث الشّريف ـ وحمله على كون اعتبار الأوصاف في المرجع من حيث كونها موجبة للتّحرّز عن الكذب فيكون هو المناط حقيقة لا الأوصاف الملازمة للعدالة بل للمرتبة العليا منها لو لم يحمل الهوى في الرّواية على خصوص ما كانت متابعته من المحرّمات في الشّريعة ـ كما ترى.

(١٣٩) قوله قدس‌سره : ( وظاهرهما وإن كان الفتوى ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٠٥ )

ظاهر الخبر اعتبار الإيمان

أقول : لا إشكال في شمول الرّوايتين بأدنى تأمّل لنقل الحديث ؛ من حيث إنّه يصدق على الرّجوع إلى الرّاوي كالرّجوع إلى المفتي لأخذ المعالم منه والاعتماد في الدّين عليه ، إلاّ أنّ ظاهرها اعتبار الإيمان ، بل ظاهر الأوّل عدم


كفاية مجرّد الإيمان أيضا ، بل مرتبة خاصّة منه.

والقول : بأنّ التّعليل بالخيانة في الرّواية الأخيرة في منع التّعدي عن الشّيعة ، يقتضي جواز العمل بخبر الثّقة من حيث انتفاء العلّة في حقّه بعد فرض أمانته في الأخبار ، كما ترى.

فإنّ ظاهره : أنّ خيانتهم أوجبت ردّ قولهم مطلقا هذا كلّه ، مع أنّ شمولها للفتوى كما هو المسلّم المفروغ عنه ، يوجب القول باعتبار العدالة وأنّ المراد منها ذلك قطعا ؛ إذ قد عرفت ما في التّفكيك في اعتبارها بين الرّواية والفتوى في حديث واحد ، فتدبّر.

(١٤٠) قوله قدس‌سره : ( دلّ على جواز العمل بالخبر ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٠٧ )

أقول : قد يناقش فيما أفاده : بأنّ دلالة الحديث على جواز العمل بخبر من يضع الحديث في نفس الأمر والواقع مع عدم علم العامل بذلك ، غير دلالته على جواز العمل به مع علم العامل بفسق الرّاوي وتضييعه للرّواية ، وليس المفروض في الحديث ، الثّاني بل ظاهره الأوّل ، كما لا يخفى ، غاية ما هناك دلالة الرّواية على عدم اعتبار العدالة من حيث الموضوعيّة في نفس الأمر.

بل يمكن أن يقال : إنّ مدلول الرّواية ترتيب ما في الآية الشّريفة على عنوان العمل بما يرويه المضيّع ؛ من حيث إنّه حديثهم الصّادر عنهم ، فالأجر مترتّب على عنوان الانقياد للحكم الشّرعي الثّابت باعتقاد العامل ، وأين هذا من الحكم بحجيّة


خبر المضيّع للرّواية مع العلم بكونه كذلك؟ فتدبّر.

(١٤١) قوله قدس‌سره : ( ومنها : الأخبار الكثيرة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٠٧ )

أقول : دلالة بعض هذه الأخبار على كون خبر الواحد الغير العلمي حجّة في الجملة ، وكون مدار العمل عليه في زمان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأزمنة الأئمّة عليهم‌السلام ، ممّا لا مجال لإنكاره ، كالأخبار الدّالة على كثرة الكذّابين على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام ؛ إذ لو كان البناء في تلك الأزمنة على الاقتصار على المقطوعات من المتواترات وغيرها ، لم يكن داع للدّس والتّكذيب أصلا (١) ، فتدبّر.

ومن هنا يظهر : أنّ ما أفاده بقوله : « والاحتفاف بالقرينة القطعيّة في غاية القلّة » (٢). لا تعلّق له بالمقام ، وإن كان حقّا ومطابقا للواقع.

إذ كثرة الاحتفاف بالقرينة القطعيّة لا تجوّز التّكذيب كما هو ظاهر ، فليس الدّاعي إلى التّكذيب إلاّ قبول النّاس لخبر المكذّب من حيث كونه من أفراد خبر الواحد المعمول به عندهم ، وإن كان نفس الأمر كذبا.

(١٤٢) قوله قدس‌سره : ( وهي أيضا منصرف إطلاق غيرها ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٠٩ )

أقول : قد عرفت ما في دعوى الانصراف في الأخبار المطلقة إلى خصوص

__________________

(١) أقول : وهذه نكتة ظريفة بل إلتفاتة شريفة تستحقّ الوقوف والتريّث عندها فإنّه لا ينتقل إليها ـ مع غاية وضوحها ـ إلاّ موفّق.

(٢) فرائد الأصول : ج ١ / ٣٠٩.


صورة إفادة الخبر الاطمئنان بصدق الرّاوي ، بل قد عرفت : منع كونه من الانصراف المفيد في صرف المطلق من كلام شيخنا قدس‌سره.

(١٤٣) قوله قدس‌سره : ( والواردة في كتب بني فضال ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٠٩ )

أقول : قد عرفت : منع دلالة ما ورد في كتب بني فضال على عدم اعتبار العدالة في زمان الرّواية ، الّذي هو محلّ الكلام في باب الرّواية ، كيف! وكتبهم كانت مرجعا للشّيعة قبل رجوعهم عن مذهب الحقّ فتوى ورواية. فلا بدّ أن يكونوا عدولا قبل الرّجوع (١) ، فتدبّر.

__________________

(١) أقول : لم يكن بنو فضّال في زمان من الأزمنة على مذهب الحقّ حتى يرجعوا عنه ، بل كانوا على الباطل دهرهم أجمع ، اللهم إلاّ ما يحكى عن الحسن بن علي بن فضّال المعاصر لمولانا الإمام الرضا عليه‌السلام ومولانا الإمام الجواد عليه الصّلاة والسّلام حيث ذكر النجّاشي عليه الرحمة : انه مات على الحق وأنكر الإقرار بإمامة عبد الله الأفطح ساعة موته وقال : قد نظرنا في الكتب فما رأينا لعبد الله شيئا هذا.

والمعروف في كتب أصحابنا الرجاليين رضوان الله تعالى عليهم أن بني فضّال كلّهم فطحيّة إلاّ ما عرفت ، على كلام بينهم.

وأما إمتلاء بيوت الشيعة الإمامية من كتبهم فليس بغريب ، بعد كونهم من أكبر البيوتات العلميّة في الكوفة التي هي حاضرة العلم والحديث للخاصة والعامّة وإن كانت أكثر اختصاصا بشيعة أهل البيت عليهم‌السلام.

مضافا الى اختلاطهم بالأصحاب واختلاط الأصحاب بهم وأخذهم الحديث عن أمّة


__________________

كبيرة من أصحاب الإمامين الصادقين صلوات الله تعالى عليهم كل ذلك.

الى جانب من نبغ في هذه الأسرة بالعلم والفقه والحديث والزّهد والتظاهر بسمات الدّين والوثاقة والأمانة كالحسن بن علي بن فضّال وولده علي الذي قال فيه النجاشي عليه الرحمة :

كان فقيه أصحابنا بالكوفة ووجههم وثقتهم وعارفهم بالحديث والمسموع قوله فيه ، سمع منه شيئا كثيرا ولم يعثر له على زلّة فيه ولا ما يشينه وقلّ ما روى عن ضعيف ... وقد صنف كتبا كثيرة ». إنتهى.

مما حدى بأكابر الأصحاب أن يأخذوا منهم ويتلقّوا الحديث عنهم فطار صيتهم وانتشرت آثارهم وكتبهم على حدّ امتلأت بيوت الشيعة منها كما في الخبر المزبور.

ولو صحّ الخبر المذكور ـ لما فيه من كلام لدى الأساطين والمحقّقين ـ فليس هو ناظر إلى عدالة هؤلاء قبل الرجوع عن المذهب الحق كما يتوهّم ؛ إذ هم على الباطل من الإبتداء ، ولعلّ منشأ التوهّم هو ما ذكره السفير الثالث « صلوات الله تعالى عليه » ـ حيث سئل عن كتب الشلمغاني الخبيث وبيوت الشيعة منها ملأى ـ أقول فيها ما قال أبو محمّد « صلوات الله عليه » ... إلى آخره.

إذ كان الشلمغاني فقيها إماميّا عادلا بظاهره قبل الإرتداد. مع أن الخبر المزبور في مقام بيان حجيّة الروايات المودّعة في كتب بني فضّال ـ بعد الفراغ عن وثاقتهم والوثوق بكتبهم ولو لا ذلك ما امتلأت بيوت الشيعة منها ـ دون ما يختارونه من رأي فقهي يختصّون به.

وأما ارجاع الرأي الى الإعتقاد فساقط قطعا ، لأنّ الواضح لا يسئل عنه ـ عادة ـ وفساد


وأمّا مرفوعة الكناني (١) فقد عرفت عدم دلالتها على نفي اعتبار العدالة.

(١٤٤) قوله قدس‌سره : ( نعم ، في غير واحد ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣١٠ )

أقول : مقتضى الجمع حمل ما دلّ على جواز العمل بخبر الثّقة على تقدير إطلاقه على الثّقة من الشّيعة ، وقد عرفت ما في الاستشهاد بما ورد في كتب بني فضال ، وما في الاستشهاد بالتّعليل الوارد في عدم جواز التخطّي عن خبر الشّيعة فالتّعدي من جهة الإخبار عن خبر العدل الإمامي في غاية الإشكال ، وإن شهد له بعض الأخبار ، مثل ما في « العدّة » الآمر بالأخذ بما رووا عن عليّ عليه‌السلام (٢) فإنّه من أخبار الآحاد المجرّدة ، فلا يجوز التّمسك به في مسألة حجيّة خبر الواحد.

__________________

معتقد الفطحيّة مما لا يخفى على صبيان الشيعة الإمامية ونسوانهم فكيف برجالهم؟!!

حتى يحتاج الإمام عليه الصلاة والسلام للتنبيه على بطلان معتقدهم والرّدع عن الأخذ به. هذا مجمل الكلام في الرواية الشريفة وتفصيله موكول إلى أبحاثنا الرّجاليّة. ويرجع فضل التنبيه على مثله إلى فقيه الطائفة وعملاقها المقدّم العلاّمة العبقري السيّد الأستاذ المددي أعلى الله تعالى كلمته وأدام عافيته.

(١) كذا والصحيح : الكناسي ، أنظر الكافي الشريف : ج ٨ / ١٧٨ باب « ومن يتق الله يجعل له مخرجا » ـ ح ٢٠١ ، عنه وسائل الشيعة : ج ٢٧ / ٩٠ باب « وجوب العمل بأحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » ـ ح ٤٥.

(٢) عدة الاصول ج ١ / ١٤٩ ـ « تحقيق محمّد رضا الأنصاري ».



* ثالث أدلّة المجوّزين الإجماع

(١٤٥) قوله قدس‌سره : ( وأمّا الإجماع فتقريره من وجوه ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣١١ )

التقرير الأوّل للإجماع

أقول : لا يخفى عليك : أنّ المراد من الإجماع أعمّ من القولي والعملي (١) من

__________________

(١) قال الميرزا النائيني قدس‌سره :

« أمّا الإجماع القولي : فهو عبارة عن اتّفاق أرباب الفتوى على الفتوى بحكم فرعي أو أصولي.

وطريق إحراز ذلك : إنّما يكون من تتّبع أقوالهم في كتبهم ورسائلهم.

وأمّا الإجماع العملي : فهو عبارة عن عمل المجتهدين في المسألة الأصوليّة بحيث يستندون إليها في مقام الإستنباط ويعتمدون عليها في مقام الفتوى كإجماعهم على التمسك بالإستصحاب في أبواب الفقه سواء أجمعوا على الفتوى بحجّيّته أيضا ، أو كان مجرّد الإجماع على الإستناد اليه في مقام الإستنباط ، غايته انه في صورة الإجماع على الفتوى يجتمع الإجماع القولي والعملي.


العلماء والمسلمين والمتشرّعة أو العقلاء بالبيان الّذي ستقف عليه ، وإدخال غير الأخير ، أي : الإجماع من العقلاء في الإجماع ممّا لا شبهة فيه ، وأمّا إدخال الأخير فقد يتأمّل فيه : من حيث كونه كاشفا عن حكم العقل ابتداء وبالذّات ، وإن كشف عن حكم الشّرع أيضا من جهة الملازمة الثّابتة بينهما.

ثمّ إنّ تحصيل الإجماع القولي في مقابل المنكرين من تتبّع الفتاوى الّذي هو مرجع الوجه الأوّل من الوجهين ، ليس المراد به تتبّع الفتاوى في خصوص المسألة الأصوليّة ، أعني حجيّة خبر الواحد. كيف! وكثير منهم لم يعنونوا المسألة ، بل أعمّ منه ومن تتبّع فتاواهم في موارد الاستنباط في الفروع المبنيّة على التّمسك بالخبر المجرّد.

كما أنّ المراد من كشفه عن وجود نص معتبر : كشفه عمّا كان معتبرا عند الكلّ ؛ بمعنى القطع باعتباره عند الشّارع من غير أن يكون مبنيّا على مسألة حجيّة خبر الواحد. فلا يقال : إنّ الكشف على الوجه الثّاني يؤول إلى التّمسك بخبر الواحد في مسألة حجيّة خبر الواحد فلا يفيد في المقام ، وإنّما يفيد في مسألة أخرى بعد الفراغ عن حجيّة خبر الواحد في الجملة ، فتدبّر.

__________________

فالإجماع العملي لا يكون إلاّ في المسائل الأصوليّة التي تقع في طريق الإستنباط ولا معنى للإجماع العملي في المسائل الفرعيّة ؛ لاشتراك المجتهد في العمل بها مع غيره ». فوائد الأصول : ج ٣ / ١٩١.


ثمّ إنّ الوجه في عدم قدح خلاف المنكرين في الإجماع على هذا الوجه والوجه الثّاني من جهة كونه لشبهة حصلت لهم على ما حكي عن العلاّمة قدس‌سره في الاعتذار عن دعوى الإجماع مع مخالفتهم ، سيجيء بيانه مفصّلا عن قريب تبعا لشيخنا قدس‌سره.

(١٤٦) قوله قدس‌سره : ( والثّاني : تتبّع الإجماعات المنقولة في ذلك. فمنها : ما [ حكي ] عن الشّيخ قدس‌سره ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣١١ )

المراد من معقد إجماع الشيخ في المقام

أقول : التّمسك بالإجماعات المنقولة في المقام ، إمّا من جهة تواترها أو احتفافها بالقرينة الموجبة للقطع بصدقها ، كما ستعرف من « الكتاب ».

ثمّ لا يخفى عليك : أنّ الإجماع المدّعى في كلام الشّيخ ـ الّذي استدلّ به على حجيّة ما اختاره من خبر الواحد المجرّد المرويّ عن الحجّة في قبال المرويّ عن الصّحابة إذا كان راويه سديدا في نقله ، ضابطا غير مطعون في روايته ، وكان طريقه من أصحابنا ، وإن لم يكن عدلا ـ وإن كان إجماعا عمليّا من العلماء في مقام الاستنباط والاستدلال بالخبر في الأحكام الشّرعيّة ، إلاّ أن عنوان عملهم به في كلّ خبر عملوا به بزعمه ، هو الجامع لما ذكره من الشّروط ، فاستدلّ به على حجيّة الخبر المذكور ، وإن كان اعتبار الأمور المذكورة عنده من حيث كونها


طريقا إلى وثاقة الرّاوي ، فالعبرة بها حقيقة لا باجتماعها.

ألا ترى أنّه ادّعى الإجماع في مطاوي كلماته المحكيّة في « الكتاب » على كون العدالة شرطا في العمل بالخبر ، ومع ذلك لم يأخذها في عنوان مختاره ، بل صرّح فيها بحجيّة خبر من كان ثقة في نقله صحيح الحديث وإن كان فاسقا بجوارحه ، بل فاسد الاعتقاد؟

فاعتبار العدالة عنده لا بدّ أن يكون من حيث الطّريقيّة إلى الوثاقة ، لا الموضوعيّة ، وإلاّ لم يجامع تصريحه بحجيّة خبر جماعة من الثّقات الّذين لم يكونوا على الحقّ أو عدلوا عنه معتذرا بكونهم ثقاتا وبأنّ الإجماع منعقد على العمل بأخبارهم ، بل ادّعى في مطاوي كلماته ورود الأخبار بذلك أيضا.

فالعنوان الّذي انعقد الإجماع عليه في زعمه واعتقاده ـ بحيث يكون دائرا مداره من غير أن يكون لغيره مدخل فيه إلاّ من حيث الكشف ـ هو الوثوق والاطمئنان بصدق الرّاوي في نقله ، فمورد الإجماع العملي من أخبار هذه الكتب ما كان مشتملا على العنوان المذكور فليس لوجوده في الكتب المتداولة مدخل للحجيّة ولا لخروجه عنها منع.

فالعلّة عندهم كون الرّاوي ثقة في نقله ، فأينما وجد هذا العنوان يحكم بحجيّته وإن لم يكن نقله في الكتب المعروفة. وأينما لم يوجد لم يحكم بحجيّته ، وإن كان ثابتا في الكتب الدّائرة من غير فرق بين عدالة الرّاوي وعدمها.


نعم ، اعتبار خبر المخالف عنده مشروط بعدم المعارضة لخبر الإمامي ، كما هو ظاهر بعض ما عرفت من الأخبار أيضا ، فنزل إجماعهم على حرمة العمل بأخبار الآحاد ـ على تقدير تسليمه ـ على ما كان رواية من المخالفين فيما رووا خلافه.

ولك أن تقول : بأنّ هذا لا ينافي قوله بحجيّة خبر الثّقة على الإطلاق ؛ ضرورة أنّه لا يحصل الوثوق بعد فرض معارضة خبر المخالف بخبر الإمامي. نعم ، ظاهر جوابه عن سؤال الفرق بين ما يرويه المخالف والشّيعة : هو اعتبار كون الرّاوي إماميّا ، لكنّ التّأمّل فيما ذكره من التّفصيل بعد ذلك ، يقتضي ذهابه إلى عدم الفرق مع وثاقة الّراوي ، فتدبّر.

فالإجماع العملي سواء كان من العلماء من حيث إنّهم من أهل الرّأي والنّظر أو المسلمين من حيث إنّهم من أهل التّدين بدين الإسلام وإن لم يكن بنفسه ناطقا بالعنوان الّذي وقع عليه الّذي هو الموضوع للحكم الشّرعي حقيقة ، إلاّ أنّ المستكشف عند الشّيخ من تتبّع موارد استدلالاتهم وعملهم بمعونة القرائن ، كون العنوان في المأخوذ من الأخبار وثاقة الرّاوي ، كما أنّ الوجه في المطروح من الأخبار كونه عن غير ثقة ، فليكن هذا على ذكر منك لعلّه ينفعك فيما سيتلى عليك.


(١٤٧) قوله قدس‌سره : ( ثمّ أورد على نفسه بأنّ العمل بخبر الواحد يوجب كون الحقّ في جهتين ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣١٥ )

نقل عبارة الشيخ في العدّة

أقول : الأولى نقل عبارة « العدّة » في الإيراد والجواب بعينها ثمّ التّكلم في بيان مراده قدس‌سره قال في « العدّة » :

« فإن قال قائل (١) : هذا القول يؤدّي إلى أن يكون الحقّ في جهتين مختلفتين ، والمعلوم من حال أئمّتكم وشيوخكم خلاف ذلك. قيل له : المعلوم من ذلك : أنّه لا يكون الحقّ في جهتهم إذا كان ذلك صادرا من خبرين مختلفين ؛ فقد بيّنا : أنّ المعلوم خلافه.

والّذي يكشف أيضا : أنّ من منع العمل بخبر الواحد يقول : إنّ هنا أخبارا كثيرة لا ترجيح لبعضها على بعض ، والإنسان فيها مخيّر ، فلو أنّ اثنين اختار كلّ واحد منهما العمل بواحد من الخبرين يكونان مختلفين وقولهما حقّ ، على مذهب هذا القائل. فكيف يدّعي أنّ المعلوم خلاف ذلك؟

ويبيّن ذلك أيضا : أنّه قد روي عن الصّادق عليه‌السلام أنّه سئل عن اختلاف

__________________

(١) في المصدر : فإن قيل ... إلى آخره.


أصحابه في المواقيت وغير ذلك فقال : « أنا خالفت بينهم » (١) فترك الإنكار لاختلافهم ، ثمّ أضاف الاختلاف إلى أنّه أمرهم به ، فلو لا أنّه كان جائزا لما جاز ذلك عنه عليه‌السلام » (٢) انتهى كلامه بألفاظه.

وأنت خبير بأنّ فرض التّخيير على القول بعدم حجيّة خبر الواحد ، إنّما يتصوّر بالنّسبة إلى الأصول اللّفظيّة الجارية في المتعارضين القطعيّين بحسب الصّدور ، لا التّخيير الّذي يقول به القائل بحجيّة خبر الواحد بين المتعارضين من حيث الحكم بالصّدور. وهذا وإن كان على خلاف التّحقيق الّذي ستقف عليه في محله ، إلاّ أنّه لا بدّ من تنزيل كلام الشّيخ عليه بعد فرض قطعيّة المتعارضين من حيث الصّدور.

والقول : بأنّ مراده التّخيير بين المتعارضين الظّنيّين بحسب الصّدور تعبّدا ـ على القول بعدم حجّيّة خبر الواحد نظير التّخيير بين الاحتمالين ـ كما ترى.

ثمّ إنّ تصوير كون الحقّ في جهتين في المتعارضين إنّما هو بحسب الحكم الظّاهري ، ومنع ذلك بالنّسبة إلى جهة مخالفتهم في الاعتقاد وجهتهم إنّما هو من

__________________

(١) لم نعثر على هذا الخبر بهذا اللفظ إلاّ في العدّة مرسلا كما ترى ، نعم ، ورد ما يقرب منه في المضمون انظر الكافي الشريف : ج ١ / ٦٥ باب « اختلاف الحديث » ـ ح ٥ ، عنه الوسائل ج ٤ / ١٣٧ ـ الباب ٧ من أبواب المواقيت ـ ح ٣.

(٢) عدة الأصول : ج ١ / ١٢٩ ـ ١٣٠.


جهة عدم احتمال الحجيّة في جهتهم في قبال جهة الإماميّة حتّى يتصوّر الحكم الظّاهري وإلقاء الخلاف من الإمام عليه‌السلام بين أصحابه من جهة اقتضاء المصلحة لا ينافي كون وظيفته عليه‌السلام بيان الحكم الواقعي لأصحابه ورفع الجهل عنهم لا تثبيتهم على الجهل ، وبيان الحكم الظّاهري المقرّر في حقّ الجاهل.

(١٤٨) قوله قدس‌سره : ( ونحن لم نعتمد على مجرّد نقلهم ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣١٥ )

أقول : مراده قدس‌سره : أنّه لو كان المتمسّك في حجّيّة خبر الواحد كونه راوية (١) للأحكام أو كون الشّخص المعيّن راويا ومخبرا ، لتوجّه الاعتراض : بأنّ رواة هذه الرّوايات رووا ما كان مخالفا لمذهب الحقّ من المنكرات ، وليس الأمر كذلك ، بل لم يقل بذلك أحد ، بل التّمسّك بالإجماع العملي الصّادر منهم بالنّسبة إلى أكثر الرّوايات من الثّقات الكاشف عن كون عنوان الحجيّة عندهم وثاقة الرّاوي من غير فرق في ذلك بين روايته لأخبار الجبر والتّشبيه ونحوهما وعدم روايته لها.

وهذا المعنى وإن كان بعيدا في باديء النّظر إلاّ أنّه يتعيّن حمل كلامه عليه بقرينة قوله : بعد ذلك « وإن عوّلتم على عملهم دون روايتهم فقد وجدناهم عملوا بما طريقه هؤلاء الّذين ذكرناهم وذلك ... إلى آخره » (٢).

ثمّ إنّه لمّا أجاب قدس‌سره عن الاعتراض ـ بأنّ رواة هذه الرّوايات رووا أخبار

__________________

(١) في المتن « رواية » والصحيح ما أثبتناه.

(٢) فرائد الأصول : ج ١ / ٣١٦.


الجبر والتّشبيه ونحوهما ـ : بأنّ الرّواية لا تدلّ على اعتقاد الرّاوي بمضمون الخبر ، أورد سؤال كون أكثر رواة هذه الرّوايات الّتي في الفروع يعتقدون للاعتقادات (١) الفاسدة المخالفة للاعتقاد الصحيح ، فكيف يعتبر في عنوان حجيّة الخبر كونه واردا من طرق أصحابنا القائلين بإمامة الأئمّة الاثني عشر عليهم‌السلام ثمّ يستدلّ على ذلك بالإجماع العملي المتحقّق بالنّسبة إلى خبر هؤلاء أيضا؟

مضافا إلى منافات ذلك لما أجمعوا عليه : من اعتبار العدالة عند القائل بحجيّة خبر الواحد المجرّد عن القرينة ، فلا بدّ أن يجعل عنوان عملهم الاحتفاف بالقرينة عندهم وفي زعمهم أو التّواتر كذلك ، وإلاّ لم يمكن الجمع بينه وبين اتّفاق القائلين بحجيّة الخبر على اشتراط العدالة.

وأنت خبير بأنّ الجواب عن هذا السؤال منحصر بمنع الاتّفاق على اشتراط العدالة أو منع اشتراطها بعنوان الموضوعيّة ، بل بالمعنى الأعمّ منها ومن الطريقيّة إلى الوثوق والاطمئنان بصدق الرّاوي وصدور الرّواية ، فلا ينافي التّمسّك بعملهم على حجيّة الخبر المجرّد مع وجوده في خبر الفاسق وتسليم اتّفاقهم على اعتبار العدالة بالمعنى المذكور ، أو منع كون رواة المعمول بها من الأخبار فاسدة العقيدة ، وإن رووا أخبار الجبر والتشبيه وغيرهما ممّا يخالف الاعتقاد الصّحيح ، وما ذكره الشّيخ قدس‌سره من الجواب لا بدّ أن يرجع إلى ما ذكرنا ، وإن كانت عبارته قاصرة في

__________________

(١) كذا والصحيح : الإعتقادات.


إفادة المرام في الجملة.

(١٤٩) قوله قدس‌سره : ( وأمّا ما يرويه قوم من المقلّدة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣١٦ )

أقول : المراد من المقلّد للحقّ في كلامه ، من علم بالحقّ استنادا إلى ما لا يجوز الاستناد إليه في مقام الاستناد. ومراده من كونه مخطئا ، الخطأ في ترك النّظر وتحصيل البرهان والدّليل ؛ من حيث إنّ النّظر واجب نفسي مستقل في زعمه من غير أن يكون شرطا للإيمان كما يظهر من العلاّمة قدس‌سره فيما سيجيء من كلامه. أو واجبا غيريّا بحيث يسقط بعد حصول المعرفة ولو من التّقليد ، كما ستقف على تفصيل القول فيه ، فالفرق بينه وبين من كان عالما بالحقّ من الدّليل الإجمالي الّذي لا يقدر على شرحه وبيانه بقانون علم الميزان واضح لا يكاد يخفى.

والدّليل على وجوب النّظر والاستدلال مستقلاّ عنده : هو ما دلّ من الآيات والأخبار الكثيرة على وجوبه والذّم على تركه الظّاهر في وجوبه كذلك. والدّليل على العفو عنده على ما يستفاد من كلامه في غير هذا الموضع ، عدم قطع الأئمّة عليهم‌السلام وأصحابهم (١) والعلماء ، معاشرتهم مع هؤلاء وعدم معاملتهم معهم معاملة الفسّاق فضلا عن الكفّار ، وإلاّ لما تركوا أمرهم بتحصيل النّظر وقطع موالاتهم معهم.

وهذا وإن كان منظورا فيه ـ مضافا إلى ما يقال عليه : من كون العفو منافيا

__________________

(١) في المتن « وأصحابه » والصحيح ما أثبتناه.


للّطف الواجب على الحكيم تعالى بالوعد للطّاعة والوعيد على المعصية حسبما عرفت بعض الكلام فيه في أوّل التّعليقة في مسألة التّجري بالنّية إشكالا وجوابا ـ إلاّ أنّه على تقدير تسليمه لا ينافي اعتبار العدالة في الرّاوي ؛ ضرورة أنّ ترك هذا الواجب على تقدير ثبوت العفو كالصّغيرة المكفّرة باجتناب الكبيرة.

(١٥٠) قوله قدس‌سره : ( وحاصل أحدهما : كفاية ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣١٧ )

أقول : هذا كلامه :

« وأمّا الفرق الّذين أشار إليهم من الواقفيّة والفطحيّة وغير ذلك فعن ذلك جوابان :

أحدهما : أنّ ما يرويه هؤلاء يجوز العمل به ، إذا كانوا ثقاتا في النّقل وإن كانوا مخطئين في الاعتقاد إذا علم من اعتقادهم تمسّكهم بالدّين وتحرّيهم من الكذب ووضع الأحاديث. وهذه كانت طريقة جماعة عاصروا الأئمّة عليهم‌السلام من نحو عبد الله بن بكير وسماعة بن مهران (١) ونحو بني فضال من المتأخّرين عنهم وبني سماعة ومن شاكلهم ، فإذا علمنا أنّ هؤلاء الّذين أشرنا إليهم كانوا مخطئين في الاعتقاد من القول بالوقف ونحو ذلك وكانوا ثقاتا في النّقل فما يكون طريقة هؤلاء جاز العمل به.

والجواب الثّاني : أنّ جميع ما يرويه هؤلاء إن اختصّوا بروايته لا يعمل به ،

__________________

(١) في كونه واقفيّا تأمل.


وإنّما يعمل به إذا أضاف إلى روايتهم رواية من هو على الطريقة المستقيمة والاعتقاد الصحيح » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وقال بعد جملة كلام له في ضمن أوراق ما هذا لفظه :

« وأمّا العدالة المراعاة في ترجيح أحد الخبرين على الآخر فهو أن يكون الرّاوي معتقدا للحقّ ، مستبصرا ، ثقة في دينه ، منحرفا عن الكذب ، غير متّهم فيما يرويه. فأمّا إذا كان مخالفا للاعتقاد في أصل المذهب وروى مع ذلك عن الأئمّة عليهم‌السلام نظر فيما يرويه ، فإن كان هناك من طرق الموثوق بهم ما يخالفه وجب اطراح خبره ، وإن لم يكن هناك ما توجب اطراح خبره ويكون هناك ما يوافقه وجب العمل به وإن لم يكن هناك من الفرقة المحقّة خبر يوافق ذلك ولا يخالفه ولا يعرف لهم قول فيه ، وجب أيضا العمل به ؛ لما روي عن الصّادق عليه‌السلام أنّه قال : ( إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما يروى عنّا فانظروا إلى ما رووا عن عليّ عليه‌السلام فاعملوا به ) (٢).

ولأجل ما قلنا عمل الطّائفة بما رواه « حفص بن غياث » و « غياث بن

__________________

(١) عدة الاصول : ج ١ / ١٣٤.

(٢) عدّة الأصول : ج ١ / ١٤٩ ، وعنه بحار الأنوار : ج ٢ / ٢٥٣ ، وأنظر جامع أحاديث الشيعة : ج ١ / ٢٢٣ ـ ح ٣٢١.


كلوب » و « نوح بن درّاج » (١) و « السّكوني » وغيرهم من العامّة عن أئمّتنا (٢).

إلى أن قال :

( وأمّا إذا كان الرّاوي من فرق الشّيعة مثل الفطحيّة والواقفيّة والنّاووسيّة وغيرهم ، نظر فيما يروونه ، فإن كان هناك قرينة تعضده أو خبر آخر من جهة الوثوق بهم ، وجب العمل به ) (٣).

إلى أن قال : « فإن كان ما رووه ليس هناك ما يخالفه ولا نعرف من الطّائفة العمل بخلافه وجب أيضا العمل به ، إذا كان منحرفا في روايته ، موثقا في أمانته وإن كان مخطئا في أصل الاعتقاد. ولأجل ما قلناه عملت الطّائفة بأخبار الفطحيّة ، مثل عبد الله بن بكير وغيره وأخبار الواقفيّة مثل سماعة بن مهران (٤) » (٥).

إلى أن قال :

« وأمّا من كان مخطئا في بعض الأعمال وفاسقا بأفعال الجوارح وكان ثقة في روايته ؛ فإنّ ذلك لا يوجب ردّ خبره فيجوز العمل به ؛ لأنّ العدالة المطلوبة في

__________________

(١) لم يكن من العامة قطعا فيكون قد صدر ذلك سهوا من قلمه الشريف.

(٢) نفس المصدر : ج ١ / ١٤٩.

(٣) نفس المصدر : ج ١ / ١٥٠ ، وفي المصدر : من جهة الموثوقين بهم.

(٤) مرّ التأمّل في صحّة نسبة الوقف إليه.

(٥) المصدر السابق : ج ١ / ١٥٠.


الرّواية حاصلة فيه ، وإنّما الفسق بأفعال الجوارح يمنع من قبول شهادته ، وليس المانع من قبول خبره ، ولأجل ذلك قبلت الطّائفة أخبار جماعة هذه صفتهم » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وهو كما ترى ، صريح في إناطة الاعتبار بالوثاقة ، بل صريحه كون المراد بالعدالة في الرّواية غيرها في باب الشّهادة.

(١٥١) قوله قدس‌سره : ( قيل لهم القرائن الّتي تقترن بالخبر وتدل على صحّته ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣١٨ )

أقول : الموجود في بعض نسخ « العدّة » الموجود عندي كما في « الكتاب » من جهة تعداد القرائن ، والظّاهر أنّه غلط من النّاسخ ، فإنّ التّواتر ليس في قبال السّنة ، فلا بدّ أن يذكر بدله العقل ، فإنّما يذكره بعد ذلك في عداد القرائن الأدلّة الأربعة وهو المعروف منه ، وحكاه عنه شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره في غير موضع. فالمتعيّن كونه غلطا قال قدس‌سره في « العدّة » عند ذكر القرائن وشرحها ـ ما هذا لفظه :

« والقرائن الّتي تدلّ على صحّة الخبر وتوجب العلم ، أربعة أشياء : الأوّل منها : أن تكون موافقة لأدلّة العقل وما اقتضاه ؛ لأنّ الأشياء في العقل إذا كانت على الحظر أو الإباحة على مذهب قوم فمتى ورد الخبر متضمّنا للحظر أو الإباحة

__________________

(١) المصدر السابق : ج ١ / ١٥٢ ، وفيما ذكره من نصّ العدّة يختلف مع النسخة المطبوعة المحقّقة إختلافا يسيرا.


ولا يكون هناك ما يدلّ على خلافه وجب أن يكون ذلك دليلا على صحّة متضمّنه عند من اختار ذلك » (١).

إلى أن قال :

« ومنها : أن يكون الخبر مطابقا لنصّ الكتاب ، إمّا خصوصه أو عمومه أو دليله أو فحواه ، فإنّ جميع ذلك دليل على صحّة متضمّنه » (٢).

إلى أن قال :

« ومنها : أن يكون الخبر موافقا للسّنة المقطوع بها من جهة التّواتر ) (٣).

إلى أن قال :

« ومنها : أن يكون موافقا لما أجمعت عليه الفرقة المحقّة فإنّه متى كان كذلك دلّ أيضا على صحّة متضمّنه » (٤). انتهى كلامه رفع مقامه.

__________________

(١) المصدر السابق : ج ١ / ١٤٣.

(٢) المصدر السابق : ج ١ / ١٤٤.

(٣) المصدر السابق : ج ١ / ١٤٥.

(٤) المصدر السابق : ج ١ / ١٤٥.


إشارة الشيخ إلى دليل الإنسداد

(١٥٢) قوله قدس‌سره : ( حتّى أنّه أشار في جملة كلامه إلى دليل الانسداد ). ( ج ١ / ٣١٩ )

أقول : أشار إلى ذلك بقوله : ( ومن قال عند ذلك : إنّي متى عدمت شيئا من القرائن ... إلى آخره ) (١). فإنّ مراده ممّا يقتضيه العقل ، الحكم بمقتضى البراءة في موارد وجود الخبر الغير العلمي ؛ ضرورة كون الرّجوع إليه مستلزما لترك أكثر الأخبار الواردة عن الشّرع بالعلم الإجمالي المتضمّنة للأحكام الشّرعيّة الفرعيّة ، فتركه موجب لترك أكثر الأحكام المعلومة إجمالا فيرجع هذا إلى دليل الانسداد الذي أقاموه على حجيّة خبر الغير العلمي بالخصوص.

وهذا وإن كان منظورا فيه عندنا ـ كما ستقف على شرح القول فيه فيما سيتلى عليك من الأدلّة العقليّة الّتي أقاموها على حجيّة الأخبار المجرّدة من حيث الخصوص ـ إلاّ أنّ غرضه استدلاله على المطلب بجميع الطّرق والوجوه وعدم اقتصاره على بعضها ، لا تماميّة الوجوه المذكورة كما هو واضح.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٣١٨.


(١٥٣) قول : صاحب « المعالم » قدس‌سره : ( وما فهمه « المحقّق » من كلام الشيخ ... إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ٣٢٠ )

اشتباه صاحب المعالم في فهم مذهب الشيخ والمحقّق قدس‌سرهما

أقول : عدم كون « العدّة » عند صاحب « المعالم » عند كتابة هذا الموضع من الواضحات الّتي لا يرتاب فيها ، وإلاّ لم يحتمل في حقّه الوقوع في هذا الوهم البيّن الفساد من عدم مخالفته للسيّد في المذهب في مسألة حجيّة أخبار الآحاد واقتصاره على المتواترات والآحاد المحفوفة ؛ لأنّ كلام الشّيخ مناد بالصّراحة في مواضع ـ ممّا عرفت وما لم تعرف ـ بأعلى صوته بذهابه إلى حجيّة خبر الواحد المجرّد ، بل أخذ التّجرّد عن القرائن على ما عرفت في عنوان مختاره.

إنّما الكلام في أنّه كيف اشتبه عليه الأمر من ملاحظة كلام المحقّق ووقع في وهمين فاسدين بل أوهام فاسدة؟

أحدها : عدم مخالفة الشيخ قدس‌سره للسيّد في المذهب.

ثانيها : أنّ المحقّق فهم أيضا موافقتهما فيما ذهبا إليه في مسألة حجيّة الأخبار.

ثالثها : أنّ المحقّق موافق لهما في مسألة حجيّة خبر الواحد مع أنّ ما حكاه

__________________

(١) معالم الدين وملاذ المجتهدين : ١٩٨.


عن « المعارج » لا دلالة له على شيء من الأوهام المذكورة ، بل صريحه عند التّأمّل خلاف ما سبق إلى ذهن صاحب « المعالم » ؛ فإنّه قدس‌سره أراد بما ذكره في « المعارج » جعل الشّيخ موافقا له فيما ذهب إليه من التّفصيل في حجيّة أخبار الآحاد بما ذكره في « المعتبر » بعد نقل الأقوال في المسألة ، كما استفاده شيخنا قدس‌سره لا جعله من المنكرين لحجيّة خبر الواحد على الإطلاق وموافقا للسيّد في المذهب ، وإن كان ما أفاده في بيان مراد الشّيخ قدس‌سره محلّ نظر ومناقشة ، كما ستقف عليه ، لكنّه لا دخل له بما زعمه في « المعالم » ، فالأولى نقل عبارة « المعتبر » حتّى يظهر من ملاحظتها صدق ما عرفت في بيان مراده ممّا ذكره في « المعارج » قال قدس‌سره : ما هذا لفظه :

« مسألة : أفرط « الحشويّة » في العمل بخبر الواحد ؛ حتّى انقادوا لكلّ خبر ، وما فطنوا ما تحته من التّناقض ، فإنّ من جملة الأخبار قول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ستكثر بعدي القالة عليّ ) (١). وقول الصّادق عليه‌السلام : « إنّ لكلّ رجل منّا من يكذب عليه » (٢) واقتصر بعض عن هذا الإفراط ، فقال : كلّ سليم السّند يعمل به. وما علم أنّ الكاذب والفاسق قد يصدق ، ولم يتنبّه أنّ ذلك طعن في علماء الشيعة وقدح في المذهب ؛ إذ ما مصنّف إلاّ ويعمل بخبر المجروح كما يعمل بخبر العدل. وأفرط آخرون في

__________________

(١) لم نعثر عليه في الجوامع الحديثيّة نعم ، ذكره المحقق في المعتبر : ج ١ / ٢٩ والموجود في الكافي الشريف : ج ١ / ٦٢ باب « اختلاف الحديث » ـ ح ١ : « قد كثرت علىّ الكذابة ».

(٢) المعتبر : ج ١ / ٢٩.


طرف ردّ الخبر حتّى أحال استعماله عقلا ، واقتصر آخرون فلم ير العقل مانعا لكن الشّرع لم يأذن به. وكلّ هذه الأقوال منحرفة عن السّنن ، والتّوسّط أصوب ، فما قبله الأصحاب أو دلّت القرائن على صحّته ، عمل به وما أعرض عنه الأصحاب أو شذّ يجب اطّراحه » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وهذا الكلام كما ترى ، ينادي بأعلى صوته ببطلان قول السيّد الّذي نقله أخيرا ، وأنّ التوسّط الّذي اختاره غيره ، وأنّ كلامه في الخبر المجرّد الّذي أحال قوم استعماله ، وأنّ ما اختاره هنا موافق لما نزل عليه كلام الشّيخ في « المعارج » هذا.

ولكن ذكر في الاستدلال على ما اختاره ما ربّما يظهر منه : عدم قوله بحجيّة خبر الواحد المجرّد ؛ فإنّه بعد ذكر الوجوه الكثيرة لعدم حجيّة المطروح والشّاذ قال ، ما هذا لفظه :

« وأمّا أنّه مع عدم الظّفر بالطّاعن والمخالف لمضمونه يعمل به ؛ فلأنّ مع عدم الوقوف على الطّاعن يتيقّن أنّه حقّ ؛ لاستحالة تمالي الأصحاب على القول بالباطل وخفاء الحقّ بينهم. وأمّا مع القرائن ؛ فلأنّها حجّة بانفرادها فتكون دالّة على صدق مضمون الحديث ، ويراد بالاحتجاج به التّأكيد ، ولا يقال لو لم يكن خبر الواحد حجّة لما نقل. لأنّا ننقض ذلك بنقل خبر من عرف فسقه وكفره ، ومن

__________________

(١) المعتبر : ج ١ / ٢٩.


قذف بوضع الأخبار ورمي بالغلوّ ، والأخبار الّتي استدلّوا بها في المباحث العلميّة كالتّوحيد والعدل. والجواب في الكلّ واحد » (١). انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

وأنت خبير بظهوره غاية الظّهور في ذهابه إلى عدم حجيّة خبر المجرّد سيّما بملاحظة السّؤال والجواب المذكورين في ذيل كلامه ، بل كلامه قبل ذلك في مقام الاستدلال على عدم حجيّة المطروح والشّاذ أيضا ، ظاهر في ذلك ، حيث قال :

« ولا يقال : الإماميّة عاملة بالأخبار وعملها حجّة. لأنّا نمنع ذلك ، فإنّ أكثرهم يردّ الخبر بأنّه واحد وبأنّه شاذّ ؛ فلو لا استنادهم مع الاختيار على وجه يقتضي العمل بها ، لكان عملهم اقتراحا ، وهذا لا يظنّ بالفرقة النّاجية » (٢). انتهى كلامه رفع مقامه.

وهذا كما ترى ظاهر في إنكاره للعمل بالخبر الواحد المجرّد رأسا ، ولا ندري كيف يجامع هذا الإنكار الشّديد قوله سابقا : « إذ ما من مصنّف إلاّ ويعمل بخبر المجروح كما يعمل بخبر العدل ».؟!

وكيف لا يكون إنكار عمل الطّائفة بخبر الواحد رأسا طعنا وقدحا في المذهب ، ويكون إنكارهم للعمل بخبر غير السّليم طعنا فيهم وقدحا في المذهب؟ فتأمّل لعلّك تقف على وجه التّوفيق بين كلماته قدس‌سره وإن كانت في غاية الاضطراب ،

__________________

(١) نفس المصدر ج ١ / ٣٠ ـ ٣١.

(٢) نفس المصدر : ج ١ / ٣٠.


سيّما مع ما يشاهد في الفقه من « المحقّق » من تمسّكه بأخبار الآحاد في كثير من المسائل ، فراجع « المعتبر » حتّى تقف على حقيقة الأمر وتشهد بصدق ما ادّعيناه.

(١٥٤) قوله قدس‌سره : ( ثمّ إنّ إجماع الأصحاب الّذي ادّعاه الشّيخ ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٢٤ )

عدم صلاحيّة الإجماع العملي لأن يكون قرينة على العمل بالاخبار

أقول : قد عرفت في تقريب استدلال الشّيخ قدس‌سره بالإجماع العملي في المسألة ، ما يوضّح ما أفاده قدس‌سره : من عدم صلاحيّته لأن تصير قرينة عامّة قطعيّة لما عملوا به من الأخبار ، وإن فرض وجوده بالنّسبة إلى جميع ما في الكتب المعتبرة والأصول المعتمدة ؛ حيث إنّك قد عرفت : أنّ عنوان عملهم كون المعمول به خبر واحد عدل أو ثقة أو غيرهما من العناوين. ومن المعلوم أنّ مرجعه إلى الإجماع في المسألة الأصوليّة ، أعني : حجيّة خبر الواحد في زعم المجمعين ، فكيف يمكن أن يصير قرينة على صدور الخبر؟

فليس العمل الصّادر منهم بالعنوان الّذي عرفته إلاّ نظير القول الصّادر منهم بحجيّة الخبر ، فهل ترى من أحد أن يتوهّم كون قولهم بحجيّة خبر الواحد قرينة على صدوره؟ والمفروض أن الاستدلال بعملهم من حيث كشفه عن رأيهم في المسألة الأصوليّة.

نعم ، لو اتّفقوا على الإفتاء في مسألة ورد فيها خبر واحد على طبق آرائهم


مع العلم إجمالا بصدور حكم المسألة عن المعصوم عليه‌السلام من غير جهة الإجماع ، كان الإجماع المذكور قرينة قطعيّة على صدور الخبر المذكور أو ما يرادفه. وأين هذا من الإجماع الّذي يجعل دليلا على حجيّة خبر الواحد؟ وشتّان بينهما ، فإنّه قرينة قطعيّة على صدور الخبر ، فيخرج عن عنوان خبر الواحد المجرّد ، ولا يمكن أن يجعل دليلا على حجيّته. وهذا بخلاف الإجماع المبحوث عنه في المقام ؛ فإنّه دليل على حجيّة الخبر المجرّد ولا يمكن أن يصير قرينة على صدوره.

نعم ، من لا يتعدّى في باب الأخبار عن الخبر المعمول به عند الأصحاب ، يمكن حمل كلامه على كون الاتّفاق قرينة عنده على صدور الخبر كما عرفته من ذيل كلام « المحقّق » في « المعتبر » ولكنّه لا تعلّق له بكلام الشّيخ قدس‌سره.

(١٥٥) قوله قدس‌سره : ( وأمّا المحقّق فليس في كلامه ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٢٧ )

أقول : قد عرفت اضطراب كلام المحقّق قدس‌سره في « المعتبر » ومنافات صدره مع ذيله ، فراجع.

(١٥٦) قوله قدس‌سره : ( والإنصاف : أنّ ما فهمه العلاّمة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ١٦٨ )

امكان الجمع بين قولي الشيخ والسيّد

أقول : ما أفاده قدس‌سره : من عدم اعتبار عمل الأصحاب ولا الموجود في الكتب المعروفة في حجيّة الخبر الّذي قال بحجيّته الشّيخ قدس‌سره وكون كلامه في حجيّته قضيّة


مطلقة غير مشروطة كما ذكره العلاّمة قدس‌سره واستفاده من كلام الشيخ قدس‌سره سواء كان راويه عدلا في الرّواية ـ بالمعنى الّذي عرفته من كلام الشّيخ ـ أو ثقة ، ولو لم يكن إماميّ المذهب ـ على ما عرفت من عدم دوران الحجيّة مدار العدالة عند الشّيخ قدس‌سره بل تدور مدار الوثاقة ـ في كمال الجودة والاستقامة.

فإنّك قد عرفت : أنّ الشّيخ قدس‌سره جعل عملهم بالأخبار الموجودة في الكتب إجمالا ـ من حيث كشفه عن العنوان الّذي اعتقده ـ دليلا على حجيّة الخبر الجامع للعنوان الّذي ذكره من غير اعتبار أمر آخر ، ولذا لم يأخذه في عنوان مختاره كما صنعه المحقّق في « المعتبر » هذا.

(١٥٧) قوله قدس‌سره : ( ويمكن الجمع بينهما بوجه أحسن ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٣١ )

أقول : ربّما يتوهّم من هذه العبارة كون ما أفاده سابقا من الجمع بين القول والعمل بما في الكتاب ، يرجع إلى الجمع بين قولي السيّد والشّيخ قدس‌سرهما في المسألة ، وهذا كما ترى توهّم فاسد ؛ ضرورة أنّ ما أفاده سابقا ـ من إرجاع قولهم في مقام الإنكار على العامل بالخبر المجرّد إلى ما لا ينافي اتّفاقهم في العمل بالخبر المجرّد في الجملة أو عملهم إلى ما لا ينافي قولهم ، على ما صنعه السيّد قدس‌سره ـ لا تعلّق له بالجمع بين كلامي السيّد والشّيخ قدس‌سرهما بل هو صريح في تصديق أحدهما وتكذيب الآخر على كلّ تقدير بحيث لا يمكن الجمع بينهما أصلا.

وهذا بخلاف الجمع الّذي ذكره أخيرا ، فإنّه يرجع إلى الجمع بين قوليهما في المسألة من غير أن يكون له نظر وتعلّق بالجمع بين إجماعي القولي الّذي ذكره


السيّد قدس‌سره والعملي الّذي ادّعاه الشيخ قدس‌سره فإنّ حاصله : أنّ مراد السيّد من الخبر المحفوف بالقرينة القطعيّة : هو المقرون بما يفيد الاطمئنان بصدق الرّاوي والوثوق به. ومراد الشّيخ من الخبر المجرّد ـ الّذي ادّعى إجماعهم على العمل به ـ : هو المجرّد عن القرائن الأربع ، مع اعترافه بدوران الحجيّة مدار الوثوق والاطمئنان بصدق الرّاوي. فلا نزاع بينهما حقيقة ، هذا.

ولكن قد يناقش فيما أفاده قدس‌سره : بأنّ تعريف العلم بما اقتضى سكون النّفس ، تعريف معروف له ، ذهب إليه الأكثرون ، منهم السيّد قدس‌سره في « الذّريعة » على ما حكي عنها (١) ، والشّيخ في « العدّة » (٢) ، ومرادهم منه كما هو ظاهر ليس ما يقابل التّحير والتّردّد ، حتّى يصدق على الوثوق والاطمئنان ، بل ما يقابل الاعتقاد الجزمي القابل للزّوال بتشكيك المشكّك ، أو قسم منه كالجزم الحاصل من التّقليد كما هو الظّاهر من كلامهم ، أو المرتبة العليا من الاعتقاد الجزمي الّذي يساوق الشّهود ، ألا ترى أنّ نبيّ الله إبراهيم عليه‌السلام مع اعتقاده الجزمي بالمعاد والحشر وإيمانه العلمي به سأل ربّه جلّ جلاله إراءة إحياء الموتى لاطمئنان قلبه الشّريف الحاصل بالشّهود؟! ولا ينافي مقام نبوّته ومرتبة ولايته المطلقة ؛ لأنّ مراتب العلوم كثيرة متقاربة في النّظريات والضّروريات وغير ذلك متقاربة من حيث الظّهور ،

__________________

(١) الذريعة : ج ١ / ٢١.

(٢) عدة الاصول : ج ١ / ١٢.


والّذين لا يختلف حال علومهم بالمعلومات نبيّنا وأمير المؤمنين والأئمّة الطّاهرين من ولدهما صلوات الله وسلامه وتحيّاته عليهم أجمعين. ومن هنا قال الأمير صلوات الله عليه : ( لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا ) (١).

وبالجملة : حمل كلام السيّد على ما أفاده في غاية البعد ، بل إطلاق العلم في العرفيّات عليه لا يكون إلاّ من باب المسامحة ، ومن هذا الباب إطلاقه على دونه من الظّنون ، كإطلاق الظّن على العلم ، وإن ذكر بعض مشايخنا (٢) في « شرحه على شرائع الإسلام » شيوع استعماله فيه ، بحيث يحمل على الأعمّ من الاطمئنان عند الإطلاق ويترتّب عليه أحكام العلم ، لكنّه كما ترى ، مع أنّه لا تعلّق له بكلام السيّد وغيره في مقام تعريف العلم : بأنّه ما اقتضى سكون النّفس (٣).

قال الشيخ قدس‌سره في « العدّة » : « العلم ما اقتضى سكون النّفس » وهذا الحدّ أولى من قول من قال : ( بأنّه الاعتقاد بالشّيء على ما هو به مع سكون النّفس ) ؛ لأنّ الّذي يبيّن به العلم من غيره من الأجناس هو سكون النّفس دون كونه اعتقادا. ولا

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤٠ ص ١٥٣ ، وكتاب الألفين : ١٢٦ وليس للحديث أصل في تراث أصحابنا المعتبر ، نعم ، ورد في مثل فضائل شاذان ونظائره مرسلا على أنّ الإمام المعصوم عليه الصلاة والسلام لا تخفى عليه خافية ولا يحجبه غطاء حتى يحتاج إلى كشفه ، ألا تقرأ في زيارة بقية الله عزّ وجل « السلام عليك يا ناظر شجرة طوبى وسدرة المنتهى ».

(٢) الفقيه المتضلّع الشيخ محمّد حسن النجفي في جواهره أنظر الجواهر : ج ٤٠ / ٥٥.

(٣) الذريعة : ١ / ٢١.


يبيّن أيضا بقولنا اعتقاد الشّيء على ما هو به ؛ لأنّه يشاركه فيه التّقليد أيضا إذا كان معتقده على ما هو به ، والّذي يبيّن به هو سكون النّفس ، فينبغي أن يقتصر عليه ، وليس من حيث إنّه ما اقتضى سكون النّفس لا يكون اعتقادا للشيء على ما هو به ينبغي أن يذكر في الحدّ ، كما أنّه لا بد من أن يكون عرضا وموجودا ومحدثا وحالاّ في المحلّ ، ولا يجب ذكر ذلك في الحدّ ؛ من حيث إنّه لا يبين به ، فكذلك ما قلناه. ولا يجوز أن يحدّ العلم بأنّه المعرفة ؛ لأنّ المعرفة هي العلم بعينه ، فلا يجوز أن يحدّ الشّيء بنفسه. ولا يجوز أن يحدّ بأنّه إثبات ؛ لأنّ الإثبات في اللّغة هو الإيجاد ، ولأجل ذلك يقول الرّجل : أثبت السهم في القرطاس ، أي : أوجدته فيه (١) ، انتهى ما أردنا نقله من كلامه قدس‌سره.

وهو كما ترى ينادي بمنافاته للجمع الّذي ذكره شيخنا ( قدس‌سره اللطيف ).

وقال الفاضل القزويني بعد جملة كلام له في « شرح العدة » :

« ولا يخفى أنّ مشاكثة (*) الوهم لا ينافي سكون النّفس ، فلا يتوهّم من قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه‌السلام : ( وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) (٢) : أنّه عليه‌السلام لم يكن عالما

__________________

(١) عدّة الأصول : ج ١ / ١٢ باختلاف يسير.

(*) لم نعثر في المجاميع اللغويّة على استعمال العرب لهذه اللفظة ولعلّه يريد المشاكسة بالسين المهملة التي تعني التضاد والضيق والعسر والإختلاف والتنازع وفي التنزيل : ( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ ) ، « الزمر : ٢٩ ».

(٢) البقرة : ٢٦٠.


بإمكان إحياء الموتى فإنّه لدفع مشاكثة الوهم بانضمام المشاهدة إلى البرهان. وروى « ابن بابويه » في كتاب « التّوحيد » عن الرّضا عليه‌السلام أنّه قال : ( إنّ الله تعالى كان أوحى إلى إبراهيم عليه‌السلام أنّي متّخذ من عبادي خليلا إن سألني إحياء الموتى أجبته ، فوقع في نفس إبراهيم عليه‌السلام أنّه ذلك الخليل ، فقال : ( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) على الخلّة » (١) الحديث. وربّما يطلق على المشاكثة الوهميّة الشك مجازا ، ولا يبعد أن يكون قوله تعالى في سورة يونس : ( فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ ) (٢) محمولا عليه.

ثمّ ظاهر كلام المصنف موافقا « للذّريعة » : أنّ سكون النّفس أخصّ من عدم تجويز النّقيض ، وأنّ عدم تجويز النّقيض متحقّق في الجهل المركّب والتّقليد دون سكون النفس كما سيجيء في قوله : ( لأن الجاهل يتصور نفسه بصورة العالم ) (٣) ولعلّه زعم : أنّ سكون النّفس هو عدم تجويز النّقيض مع رسوخه في النّفس. أي : امتناع زواله بالمعنى المذكور سابقا.

وقال المحقّق الطّوسي في « شرح رسالة العلم » : ( الجهل المركّب والتّقليد يشاركان العلم في كونهما اعتقادين مقارنين لسكون النّفس ، إلاّ أنّ العلم يقتضيه

__________________

(١) توحيد الصدوق : ١٣٢.

(٢) يونس : ٩٤.

(٣) عدّة الأصول : ج ١ / ١٧.


بالذّات والباقيان يقارنانه لا على سبيل الوجوب ) (١) انتهى.

ويظهر منه : أنّ سكون النّفس في الاعتقاد مساوق لعدم تجويز النّقيض والاحتراز في حدّ العلم عن الجهل ليس باعتبار سكون النّفس ، بل باعتبار قيد الاقتضاء. فإنّ المراد أنّه باعتبار نحو حصوله ، يمتنع زوال السّكون بعده بالمعنى المذكور سابقا ». انتهى كلامه رفع مقامه (٢).

وهو كما ترى ، شاهد أيضا على ما ذكرنا في المراد من سكون النّفس.

ثمّ إنّه يظهر ما أفاده من الجمع ، من كلام بعض أفاضل المتأخّرين أيضا قال في « المناهج » بعد جملة كلام له في الجمع بين كلامي السّيد والشّيخ قدس‌سرهما ما هذا لفظه :

« ولا يبعد أن يكون مراد السّيد من القطع ، العلم العادي أو الظّن المتأخم للعلم كما صرّح به بعض مشايخنا ، ويرجع النّزاع بينهما حينئذ أيضا إلى اللّفظي » (٣). انتهى كلامه رفع مقامه.

__________________

(١) شرح رسالة العلم مخطوط.

(٢) شرح العدّة للفاضل القزويني مخطوط.

(٣) مناهج الأحكام في أصول الفقه للفاضل النراقي ، انظر ذيل الوجه الثالث من وجوه القول بحجّيّة الخبر الواحد ـ قبل قوله : تتميم ـ وذلك ص ١٧٢.


(١٥٨) قوله قدس‌سره : ( وممّن نقل الإجماع على حجيّة أخبار الآحاد ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٣٢ )

الإجماع الذي إدعاه ابن طاوس

أقول : الإجماع الّذي ذكره ابن طاوس قدس‌سره (١) وإن كان إجماعا عمليّا كالّذي ادّعاه الشّيخ قدس‌سره إلاّ أنّه مشتبه المراد ؛ من حيث رجوعه إلى الإجماع القولي ؛ من حيث كشف عملهم عن رأيهم في المسألة أو السّيرة الكاشفة عن تقرير المعصوم عليه‌السلام بشرائطه المقرّرة في محلّها ، فيخرج عمّا نحن بصدده وجهان : من حيث ادّعائه إجماع العلماء والاعتضاد بادّعاء الشّيخ وغيره ، ومن حيث ذكره أوّلا إجماع المسلمين والمرتضى وتعقيبه بإجماع علماء الشّيعة الماضين الظّاهر في كون عملهم بها من حيث كونهم من المسلمين.

ومن هنا ذكر عمل المرتضى قدس‌سره بها ، مع أنّه لا مصحّح له إلاّ غفلته عن كون المعمول به خبرا واحدا غير علميّ ؛ ضرورة أنّه لا يجامع قوله بكون حرمة العمل بأخبار الآحاد في مذهب الشّيعة كحرمة العمل بالقياس مع قوله بجواز العمل ، ومثله في الرّجوع إلى دعوى السّيرة الإجماع الّذي حكاه عن المجلسي قدس‌سره ؛ فإنّه ظاهر في ذلك أيضا وإن احتمل كون مراده من الشّيعة علماءهم ، فيرجع إلى دعوى الشّيخ قدس‌سره.

__________________

(١) أنظر فرج المهموم : ٤٢.


(١٥٩) قوله قدس‌سره : ( ثمّ إنّه يمكن أن تكون الشّبهة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٣٤ )

أقول : لا يخفى عليك الفرق بين الوجهين الأوّلين الرّاجعين إلى الاشتباه في عنوان العمل كما في الوجه الأوّل ، والاشتباه في إطلاق القول كما في الوجه الثّاني والوجه الثّالث ، الرّاجع إلى مخالفة السيّد لإجماعهم في المسألة مع التفاته إلى كونها إجماعيّة من جهة عدم كشفه عن قول المعصوم عليه‌السلام له ؛ نظرا إلى حصول شبهة كلاميّة له مانعة عن الكشف وهذا بخلاف الوجهين الأوّلين ؛ فإنّ مرجعهما إلى الاشتباه في أصل الإجماع ؛ ومن هنا ينقدح لزوم حمل الشّبهة على أحد الأوّلين ؛ إذ غاية الأمر على الأخير : توجيه مخالفته للإجماع وعدم قدح مخالفه في تحقّقه ، لا تصحيح دعواه الإجماع في المسألة ، وهذا بخلاف الأوّلين ، فإنّه يمكن معهما دعوى الإجماع كما لا يخفى.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ العلاّمة قدس‌سره في مقام الاعتذار عن مخالفته ، وإنّها لا يقدح في تحقّق الإجماع على حجيّة الخبر المجرّد ، لا في مقام تصحيح دعواه الإجماع على عدم الحجيّة ، فتدبّر.

(١٦٠) قوله قدس‌سره : ( ثمّ إنّ دعوى الإجماع ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٣٤ )

أقول : مراده قدس‌سره من نفي الصّراحة : إنّما هو بالنّسبة إلى الإجماع الاصطلاحي لا الأعمّ منه ومن الاتفاق ؛ ضرورة كون كلام المحقّق في « المعتبر » وغيره صريحين في دعوى الاتّفاق ، كما أنّ مراده من العلماء من كان قبل المجلسي قدس‌سره ، وإلاّ فدعوى المتأخّرين الإجماع من الواضحات الّتي لا يرتاب فيه من راجع


مصنّفاتهم في الأصول والفروع.

(١٦١) قوله قدس‌سره : ( وفيه ما لا يخفى ، أو يكون مراده ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٣٧ )

أقول : أمّا عدم جواز إرادة الخبر العلمي من خبر الثّقة فهو أمر ظاهر لا سترة فيه أصلا ؛ لأنّ أخبار المضايقة لو كانت علميّة لم يكن معنى لاستكشاف عملهم بها من قولهم : بأنّه لا يحلّ ردّ الخبر الموثوق برواته ، كما هو واضح عند من له أدنى تدبّر.

وأمّا الاعتذار الثّاني فقد عرفت ما فيه من المناقشة ، فلعلّ الوجه في تمسّكه بتلك الأخبار ، زعم كون إجماعهم على العمل بها قرينة لها ، فيخرج عن الخبر المجرّد وإن كان هذا الزعم فاسدا ؛ من حيث إنّ عملهم بها لكونها إخبار ثقات عندهم فلا يكشف على تقدير تسليم اتّفاقهم إلاّ عن مسألة أصوليّة ، وهي حجّيّة خبر الثّقة على خلاف مذهب الحليّ كما ذكره شيخنا قدس‌سره. وأين هذا من صيرورته قرينة قطعيّة لصدورها على ما زعمه ـ بناء على التّنزيل الّذي عرفته ـ؟

(١٦٢) قوله قدس‌سره : ( وضممت إلى ذلك ما يظهر ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٤١ )

أقول : مثل قول عبد العزيز بن مهدي (١) فيما تقدّم من الأخبار : « أفيونس بن عبد الرّحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني؟ » (٢) الصّريح في مفروغيّة

__________________

(١) كذا والصحيح « عبد العزيز بن المهتدي ».

(٢) رجال الكشي : ج ٢ / ٤٩٠ ـ ح ٩٣٥ ، عنه وسائل الشيعة : ج ٢٧ / ١٤٧ باب « وجوب


حجيّة خبر الثّقة إلى غير ذلك.

(١٦٣) قوله قدس‌سره : ( وهذه حكاية عجيبة لا بدّ من توجيهها ... إلى آخره (١) ). ( ج ١ / ٣٤١ )

أقول : أمّا طريقة المولى التّستري (٢) في باب أخبار الآحاد وقوله بحجيّتها في الجملة ، فهي ممّا لا يكاد أن يخفى. وأمّا توجيهها فلعلّه نقل للسيّد صاحب « المدارك » قدس‌سره رجوعه إلى القول بعدم الحجيّة وإن كان النّقل كذبا في الواقع. مع أنّه على تقدير الصّدق أو ذهابه إلى عدم الحجيّة من أوّل الأمر لا يستحقّ رميه بكونه مبدعا في الدّين ؛ فلعلّ الأمر اشتبه على الثّقة الحاكي للسيّد الجزائري ، والله العالم.

(١٦٤) قوله قدس‌سره : ( لكنّ [ الإنصاف أن ] المتيقن من هذا كلّه ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٤١ )

أقول : قد عرفت : أنّ المتيقّن ممّا دلّ على حجيّة الخبر من الإجماع وغيره : هو خبر العدل دون مطلق ما يفيد الاطمئنان وإن لم يكن راويه عدلا ، فافهم.

__________________

الرجوع في القضاء والفتوى إلى رواة الحديث » ـ ح ٣٣.

(١) انظر هامش رقم ٣ من : ج ١ / ٣٤١.

(٢) أنظر ترجمته في أعيان الشيعة : ج ٨ / ٤٨.


(١٦٥) قوله قدس‌سره : ( الثّاني من وجوه تقرير الإجماع ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٤٢ )

التقرير الثاني للإجماع

أقول : قد يناقش في هذا التّقرير :

أوّلا ؛ بعدم كشفه عن الحجيّة بعد فرض عدم تسليم السيّد للانسداد ، وهذا معنى ما يقال : إنّ الإجماع التّقديري والتّعليقي لا فائدة فيه ، فتأمّل.

وثانيا : أنّ تسليم السيّد قدس‌سره وغيره من المانعين لحجيّة الظّن عند انسداد باب العلم ، لا يفيد فيما نحن بصدده من إثبات حجيّة الخبر من حيث الخصوص. نعم ، لو استظهر من كلماتهم حجيّة الخبر من حيث إنّه خبر على تقدير الحاجة بحيث لا يتعدى إلى غيره من الظّنون كما هو مذهب جمع ، كان الاستدلال في محلّه.

(١٦٦) قوله قدس‌سره : ( الثّالث من وجوه تقرير الإجماع ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٤٣ )

التقرير الثالث للإجماع

أقول : الفرق بين هذا التّقرير وسابقه لا يكاد أن يخفى ؛ حيث إنّه راجع إلى التّمسّك بسيرة المسلمين الكاشفة عن تقرير المعصوم عليه‌السلام من غير مدخليّة لخصوص العالم فيعتبر في كشفها اجتماع شرائط التّقرير ، وهذا بخلاف الأوّلين ، فإنّهما راجعان إلى الإجماع القولي من خصوص العلماء.


(١٦٧) قوله قدس‌سره : ( أقول : المعترض حيث ادّعى الإجماع ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٤٥ )

أقول : ما أفاده قدس‌سره مبني على كون مراده من نفي الخلاف الإجماع القولي كما هو الظّاهر ، وقد يناقش فيما أفاده : بأنّ الخصم لم يتمسّك في جميع موارد ثبوت التعبّد بالخبر بالإجماع ، حتّى كان من تلقين خصمه ، بل إنّما ذكر في الجواب : « أنّ هذه مقامات ثبت فيها التّعبّد بأخبار الآحاد من طرق علميّة من إجماع وغيره ... إلى آخر ما ذكره » (١) ، فأين تمسّكه في الموارد المذكورة بخصوص الإجماع حتّى كان من تلقين المعترض؟

(١٦٨) قوله قدس‌سره : ( ولو ادّعى استقرار سيرة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٤٥ )

أقول : للخصم منع السّيرة على وجه يكشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام أوّلا ، ومنع جواز قياس المقام به بعد حرمة القياس عندنا ثانيا ؛ إذ قيام السّيرة على العمل بالظّن في بعض الموارد لا يقتضي العمل بغيره بعد الاتّفاق على كون الأصل حرمة العمل بغير العلم ، فكما لا يجوز قياس أمارة لم تثبت حجيّتها بأمارة ثبت حجيّتها ، كذلك لا يجوز قياس مورد لم تثبت حجيّة الظّن فيه على مورد ثبت حجيّة الظّن فيه ، كقياس الموضوعات بالأحكام أو العكس. فالتّقريب بما ذكره لا يكون أبعد عن الرّد ، ومن هنا أمر قدس‌سره بالتّأمّل. ويحتمل كون الوجه فيه ما ذكرنا أوّلا في قوله :

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٣٤٤.


( أقول : ... إلى آخره ) (١) بعد نقل كلام السيّد ، فتدبّر ، هذا.

ثمّ إنّه يلحق بالتّقرير المذكور في « الكتاب » ما ذكره بعض الأعلام من محقّقي المتأخّرين عند تقرير وجوه الإجماع : من اتّفاق جميع أهل الشّرائع على توسيط أخبار الثّقات بينهم وبين صاحب شرعهم ونبيّ عصرهم وزمانهم ومن يقوم مقامه من غير توقّف في ذلك أصلا ، وتقرير جميع الأنبياء والأولياء لهم على ذلك ، وهذه طريقتهم وسجيّتهم إلى زمان خاتم النّبيّين وسيّد المرسلين وأوصيائه الطّيبين الطّاهرين « سلام الله عليهم أجمعين » بحيث كان هذا المطلب مسلّما عندهم مركوزا في نفوسهم.

ومن هنا وقع السّؤال في بعض الرّوايات عن وثاقة الرّاوي ، بحيث يظهر منه كون أصل الرّجوع إلى خبر الثّقة أمرا مسلّما مفروغا عنه لا يحتاج إلى السؤال عنه أصلا ولم يعهد من نبيّ أو وصيّ ـ من آدم « على نبيّنا وعليه‌السلام » والخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن بينهما ـ إيجاب الأخذ بخصوص الطّرق العلميّة بالسّؤال عنه بلا واسطة أو بوسائط علميّة ؛ ضرورة استحالة تحقّق ذلك لجميع المكلّفين بالنّسبة إلى آحاد الأحكام عادة بعد فرض ابتناء التّبليغ على الوجه المتعارف المعهود في تبليغ المطالب إلى عموم النّاس. ومن هنا ترى المكلّفين يعتمدون على إخبار الثّقة عن فتوى مرجعهم وفقيه عصرهم من دون تأمّل في ذلك ؛ حتّى يسألوا عن جواز الاعتماد بنقله.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٣٤٥.


(١٦٩) قوله قدس‌سره : ( الرّابع : استقرار طريقة العقلاء ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٤٥ )

التقرير الرابع للإجماع

أقول : هذا التّقرير وإن لم يكن له تعلّق بالإجماع الكاشف عن رأي الحجّة ابتداء ؛ حيث إنّ إجماع العقلاء قولا أو عملا يكشف أوّلا عن حكم العقل الدّاعي على اتّفاقهم والباعث لهم على ذلك ، إلاّ أنّه بعد كشفه بملاحظة زائدة عن رأي المعصوم عليه‌السلام وإمضائه ، يلحق بالإجماع حكما وإن كان أصل الاستدلال به لا يتوقّف على كشفه عن رأي المعصوم عليه‌السلام وإن كان الكشف لا يتخلّف عنه.

وملخّص الاستدلال بهذا الوجه : أنّ بعد استقرار طريقة العقلاء على توسيط أخبار الثقات في جميع أمورهم العادية ـ الّتي منها الأوامر الجارية من الموالي إلى العبيد وجعلها طرقا في باب إطاعة الأوامر والاعتماد بها في سقوطها وامتثالها ـ يكشف ذلك كشفا علميّا عن حكم العقل بحجيّة خبر الثّقة وطريقيّته في باب الإطاعة ، فيستكشف من ذلك عن رضاء الشّارع بسلوكه في إطاعة الأحكام الشّرعيّة ما لم يثبت منع الشّارع عنه أو نصبه طريقا آخر لإطاعة أحكامه ؛ حيث إنّ حكم العقل في طريق الإطاعة ليس تنجّزيّا بحيث لا يقبل تصرّف الشّارع فيه ، كحكمه في أصل وجوب الإطاعة ؛ حيث إنّه ممّا لا يقبل التّصرف فيه أصلا.

فإن شئت قلت : إنّ حكم العقل في باب الطّريق متعلّق بموضوع قابل للارتفاع بحكم الشّارع ، وهذا بخلاف حكمه في أصل وجوب الإطاعة. ومن هنا


يستكشف عن حكم العقل بحجيّة مطلق الظّن عند تماميّة مقدّمات الانسداد من إمضاء الشّارع له حسبما ستقف على تفصيل القول فيه.

ومراده قدس‌سره من قوله ـ في مقام التّعليل ـ : « لأنّ اللاّزم في باب الإطاعة والمعصية ... إلى آخره » (١) هو ما ذكرنا ؛ ضرورة أنّ المسألة ليست عرفيّة ، فالمراد من العرف هم العقلاء من حيث عنوان عقلهم ، نظير استدلالهم في مسألة اجتماع الأمر والنّهي ببناء العرف على الامتناع ، فكما قد يستدلّون ببناء العقلاء ـ ويكون المراد عنوان فهمهم وجهتهم العرفيّة ، كما تراهم يستدلّون كثيرا مّا ببناء العقلاء في باب الألفاظ كذلك قد يستدلّون ببناء العرف في المسائل العقليّة ، ويكون المراد جهة عقلهم ، ولا ضير في ذلك بعد وضوح المراد وقيام القرينة الجليّة عليه.

ثمّ إنّه ليس على المستدلّ بهذه الطّريقة في المقام إثبات عدم ردع الشّارع عن سلوك الطّريق المذكور ، بل عدم ثبوت الرّدع كاف في الحكم لسلوكه ؛ لما قد عرفت مرارا من عروض الأحكام العقليّة للأمور الوجدانيّة والعنوانات المعلومة عند العقل ، وامتناع عروضها للموضوعات النّفس الأمريّة الواقعيّة المجهولة عنده ، فالرّدع الواقعي ليس مانعا عنده حتّى يتوقّف حكمه على إثبات عدمه ، بل العلم به مانع عن حكمه ، كما علم به في أكثر الموضوعات الشّرعيّة ؛ حيث إنّه ثبت من الشرع أنّ لها طرقا مخصوصة غير مطلق خبر الثّقة. ومن هنا التزم من جانب

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٣٤٥.


الخصم بإثبات الرّدع بقوله : « فإن قلت : يكفي في ردعهم الآيات المتكاثرة والأخبار المتظافرة بل المتواترة ... إلى آخره » (١).

فإن قلت : المسلّم استقرار طريقة العقلاء وجريان سيرتهم على العمل بخبر الثّقة في أمور معاشهم ، ولا يلزم منه العمل به في أمور معادهم ، والفرق : أنّهم لو بنوا على عدم العمل بخبر الثّقة في أمور معاشهم لا ختلّ نظام أمورهم كما لا يخفى ؛ فالضّرورة دعتهم على العمل به في أمور المعاش ، فلا يقاس عليها أمور المعاد.

قلت : أوّلا : أنّا نرى استقرار طريقتهم على العمل به مع التّمكن من تحصيل العلم وفيما لا ضرورة هناك.

وثانيا : أنّ الضّرورة الدّاعية في أمور المعاش هي بعينها موجودة في أمور المعاد أيضا ؛ ضرورة أنّه لو بني على الاقتصار على الأدلّة العلميّة وترك العمل بخبر الثّقة في أمور المعاد ، لزم منه ما هو أشدّ من محذور ترك العمل به في أمور المعاش ، وهو طرح أكثر الأحكام المعلوم وجودها في الوقائع المجهولة المعبّر عنه في لسان جمع من أعلام المتأخّرين بالخروج عن الدّين.

فإن شئت قلت : الدّاعي على العمل به في أمور المعاش إن كان الانسداد الشّخصي ، فهو بعينه متحقّق بالنّسبة إلى أمور المعاد أيضا وإن كان الانسداد الأغلبي فهو أيضا موجود بالنّسبة إلى أمور المعاد ؛ ضرورة انسداد باب العلم

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٣٤٦.


بالنّسبة إلى غالب الأحكام ، فلا فرق بين المقامين فتأمّل ، هذا كلّه.

مضافا إلى ما عرفت في بيان الاستدلال بهذا الوجه من استقرار طريقتهم على العمل به في باب الإطاعة الكاشف عن حكم العقل بطريقيّة خبر الثّقة لإطاعة الأحكام الصّادرة عن الموالي بالنّسبة إلى العبيد. وعليه : لا أثر لهذا السّؤال أصلا كما لا يخفى.

(١٧٠) قوله قدس‌سره : ( قلت : قد عرفت انحصار دليل حرمة العمل ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٤٦ )

أقول : ملخّص الجواب : أنّ ما دلّ على تحريم العمل بما لم يقم دليل على وجوب العمل به ، لا يكون رادعا عن حكم العقل ورافعا لموضوع حكمه ولا يقبل لذلك بعد فرض كون العقل حاكما بحجيّة خبر الثّقة وطريقا للإطاعة ؛ ضرورة كون حكم العقل بحجيّة خبر الثّقة المستكشف من بناء العقلاء رافعا لموضوع ما دلّ على حرمة متابعة ما لم يثبت حجيّته والعمل به والتّديّن بمقتضاه من الأدلة الأربعة المقتضية لحرمة التّشريع والافتراء على الشّارع ؛ لما قد عرفت من استكشاف الحجّة الشّرعيّة من حكم العقل بالحجيّة ، ولو كان من جهة إمضاء الشّارع فلا يبقى موضوع لحرمة التّشريع بالملاحظة المذكورة ؛ حتّى يستلزم من عدم الحكم بالحرمة طرح دليله.

فإن شئت قلت : إنّ حرمة التّشريع وقبحه ممّا يستقلّ العقل به في الشّرعيّات والعرفيّات ، ومع ذلك نجد سلوك العقلاء لخبر الثّقة في إطاعة الأوامر الصّادرة من الموالي إلى العبيد ، فيكشف ذلك عن ارتفاع موضوع الحرمة بحكم العقل


ولا يمكن العكس ، وإلاّ لم يحكم العقل بالحجيّة ، فحرمة العمل بغير العلم من باب التّشريع ، لا يمكن أن يكون رادعا ، وأمّا حرمة طرح الأصول اللاّزم من العمل بالظّن في مقابلها ، وإن لم يكن بعنوان التّعبّد والتّشريع ، فلا يقبل أيضا رادعا من بناء العقلاء.

وحكم العقل بالحجيّة ، بعد فرض كونها معلّقا بعدم قيام الدّليل في موارد جريانها كما في الأصول العقليّة المحضة ، أو محكومة بدليل حجيّة الظّن كما في الأصول الشّرعيّة المحضة كالاستصحاب ـ بناء على القول به من باب الأخبار ـ أو ما كان اعتباره من باب الظّن كالأصول اللّفظيّة والاستصحاب ـ بناء على القول به من باب الظّن ـ أو مورودة من جهة ومحكومة من أخرى كالأصول العقليّة والشّرعيّة كأصالة الإباحة ـ بناء على عدم كون المراد ممّا ورد فيها من الأخبار إمضاء لحكم العقل وتأكيدا لمفاده بل تأسيسا للإباحة الظّاهريّة الشّرعيّة ـ وإن استلزم نفي المؤاخذة الّذي يحكم به العقل عند عدم العلم بالتّكليف ، فعدم جريان الأصول في مقابل خبر الثّقة ـ سواء كانت لفظيّة أو عمليّة وسواء قام على التّكليف في مقابل الأصول النّافية له ، أو على نفيه في مقابل الأصول المثبتة له ، وإن كانت أصولا لفظيّة فيما كان مفاد الخبر أخصّ منها وأظهر بالنّسبة إليها ـ ليس من جهة كون العقل حاكما بتلك الأصول فيكشف حكم العقل بحجيّة خبر الثّقة في مقابلها عن عدم جريانها وكون حكم العقل بها تعليقيا ؛ لما قد عرفت : من جريان ما ذكر بالنّسبة إلى الأصول الشّرعيّة المحضة الصّرفة ، وما كان اعتباره من جهة بناء


العرف كالأصول اللّفظيّة أو الظّن النّوعي كالاستصحاب ، بناء على القول به بالعنوان المذكور وبمثل ما حرّرنا ينبغي أن يحرّر المقام ، لا بمثل ما حرّره الأستاذ العلاّمة قدس‌سره فإنّه لا يخلو عن بعض المناقشات كما ستقف [ على ] (١) الإشارة إليه في التّعليقات الآتية.

(١٧١) قوله قدس‌سره : ( لأنّ الأصول الّتي مدركها حكم العقل ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٤٧ )

أقول : المراد من قصور الأدلّة الشّرعيّة عن إفادة اعتبارها ، قصورها عنها على وجه لا يرجع إلى إمضاء حكم العقل بها وتأكيدها لحكم العقل ، وإلاّ فدلالة جملة من الآيات والأخبار بل الإجماع على البراءة بل الاحتياط ممّا لا شبهة فيها.

نعم ، التمسّك بغير الإجماع في التّخيير العقلي ممّا لا معنى له ، وإن كان بعنوان إمضاء حكم العقل ؛ فإنّه وإن توهّم استفادته ممّا دلّ على التّخيير بين الخبرين المتعارضين المتكافئين ، إلاّ أنّه فاسد جدّا ، حسبما عرفت تفصيل القول فيه في أوائل التّعليقة وسننبّهك عليه في الجزء الثّاني أيضا ، فالمراد من القصور أعمّ من عدم الدّلالة كما أنّ الأخبار عنوان لمطلق الدّليل الشّرعي ، فتدبّر.

(١٧٢) قوله قدس‌سره : ( وأمّا الاستصحاب ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٤٧ )

أقول : قد يناقش فيما أفاده : بأنّ الاستصحاب على القول به من باب الظّن ،

__________________

(١) زيادة يقتضيها السياق.


ليس مبناه على الظّن الشّخصيّ على ما بنى الأمر عليه في الجزء الثّالث من « الكتاب » في باب الاستصحاب ـ حسبما سيأتي تفصيل القول فيه ـ بل على الظّن النّوعي الّذي يجامع الظّن على الخلاف ، فضلا عن الشّك في البقاء.

وعلى القول به من باب الأخبار فالمدّعى في كلامه في بابه ـ كما ستقف عليه ـ تواترها إجمالا ، فيخرج عن الخبر الواحد ؛ فالمتعيّن في وجه رفع اليد عنه على التّقديرين ما عرفت : من أنّه بعد بناء العقلاء على سلوك خبر الثّقة وحجيّته عند العقل ، يكون حاكما على الاستصحاب على الوجهين ، فلا يكون رفع اليد عنه في مقابله طرحا لدليل اعتباره ومخالفة له حقيقة.

(١٧٣) قوله قدس‌سره : ( وأمّا الأصول اللّفظيّة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٤٧ )

في تقديم خبر الثقة على الأصول اللفظية

أقول : قد يناقش فيما أفاده أيضا : بأنّه بعد استقرار طريقة أهل اللّسان على العمل بالأصول اللّفظيّة عند عدم القرينة الصّارفة عندهم عن إرادة مقتضى الظّهور والوضع ، فلا وجه لرفع اليد عنها بمجرّد قيام خبر الثّقة على خلافها ما لم يعلم بحجيّتها عند الشّارع ، بل يكون إمضاء الشّارع لها على الوجه المذكور رادعا عن بناء العقلاء على العمل بخبر الثّقة ، وليس معنى اعتبار الأصول اللّفظيّة عند أهل اللّسان والعرف في محاوراتهم ـ من حيث إنّهم من أهل اللّسان ـ عين معنى اعتبارها عند العقلاء من حيث إنّهم عقلاء ، حتّى يكون شأنها شأن الأصول الثّلاثة


العمليّة ضرورة اختلاف الجهتين والحيثيتين على ما عرفت الإشارة إليه.

ومن هنا أمر بالتّأمّل في المقام من حيث كون ما أفاده محل مناقشة.

ويمكن أن يكون الوجه في أمره قدس‌سره بالتّأمّل : ما يتطرّق من المناقشة في وجه رفع اليد عن الاستصحاب في مقابل خبر الثّقة بما عرفت.

وهذا الّذي عرفت من المناقشة ، إنّما هو فيما أريد استناد رفع اليد عن الأصول اللّفظيّة بخبر الثّقة القائم على خلافها إلى ما أفاده قدس‌سره : من كون اعتبارها عقليّة كالأصول العمليّة العقليّة الصّرفة.

وأمّا إذا أريد استناده إلى ما عرفت منّا سابقا ، فلا يرد عليه مناقشة أصلا ، ومن هنا أشرنا إلى كون الحريّ تحرير المقام به ؛ حتّى لا يتوجّه عليه المناقشة. والفرق بين التحريرين لا يكاد أن يخفى.

(١٧٤) قوله قدس‌سره : ( الخامس : ما ذكره العلاّمة قدس‌سره في النّهاية ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٤٧ )

التقرير الخامس للإجماع

أقول : يستفاد الإشارة إلى هذا الوجه من كلام الشّيخ قدس‌سره في « العدّة » والسيّد وغيرهما « قدّس الله أسرارهم » وقد ذكروا في باب الإجماع ، إجماع الصّحابة


وإجماع أهل المدينة عنوانا مستقلاّ. وكان من دأب الخلفاء والصّحابة [ و ] (١) التّابعين إذا أشكل الأمر عليهم في آية أو مسألة ، السّؤال ممّن سمع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهما شيئا ، فإذا نقل وروى منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حكم ما استشكلوا آية أو رواية ، أخذوا بقوله من دون تأمّل (٢) ، فيكشف ذلك إمّا عن تقرير المعصوم عليه‌السلام أو متابعة ما وصل إليهم منه ، من وجوب العمل بخبر الواحد في الأحكام الشّرعيّة.

(١٧٥) قوله قدس‌سره : ( وهذا الوجه ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٤٧ )

أقول : حاصل الجواب عن هذا الوجه : أنّ عمل الصّحابة إنّما يكشف عن السّنة قولا أو تقريرا فيما كان العامل تابعا في عمله لقول الحجّة أو رأيه ، بحيث لو منعه عن عمله لارتدع بردعه عليه‌السلام كما هو الشّأن في كشف سكوت الإمام عليه‌السلام عن جواز الفعل في جميع الموارد ؛ حيث إنّ المعتبر في كشف الفعل مع سكوت المعصوم عليه‌السلام عن تقريره ، عدم كون الفعل صادرا عن قلّة الاكتراث في الدّين وعدم كون الفاعل مسامحا فيه. كما أنّه يعتبر فيه عدم المانع عن ردعه عليه‌السلام من تقيّة ونحوها ، ولم يثبت عمل واحد من الصّحابة [ و ] (٣) التّابعين بالخبر المجرّد ، فضلا عن اتّفاق الباقين عليه. نعم ، قد ثبت عمل غير هؤلاء على وجه لا شبهة فيه ، لكنّه

__________________

(١) زيادة يقتضيها السياق.

(٢) وفيه ما لا يخفى كما هو واضح.

(٣) زيادة يقتضيها السياق.


لا يكشف عن السّنة بعد فرض العلم بتبعيّتهم لأهوائهم الفاسدة وآرائهم الباطلة المخالفة لرأي المعصوم عليه‌السلام من جهة مجرّد العناد.

ودعوى : لزوم الرّدع على الإمام عليه‌السلام وتابعيه مع فرض العلم بعدم التّأثير أو الخوف من الرّدع ، من جهة لزوم الإرشاد وإن لم يظنّوا الارتداع ، بل علموا بعدمه ـ كما اتّفق ذلك بالنّسبة إلى مسألة الخلافة الّتي هي أعظم من جميع المسائل من حيث وجود الدّواعي في النّفوس الشقيّة لإخفائها وكمال الخوف من إظهار بطلان مدّعيها ـ هدم لما تسالموا عليه : من اعتبار تأثير الرّدع وعدم الخوف من إظهار الحق.

والقياس بمسألة الخلافة فاسد جدّا ؛ لوضوح الفرق بينهما وعدم الخوف من إظهار الحقّ في أوّل الأمر وإن كان موجودا في الأزمنة المتأخّرة ، سيّما بالنّسبة إلى سائر الأئمّة عليهم‌السلام وأصحابهم ، ولذا لم يظهروا الحقّ إلاّ عند الخواصّ ، هذا.

مع أنّه على تقدير لزوم الرّدع على المعصوم عليه‌السلام مطلقا من الجهة المذكورة ، لا يجدي في المقام أصلا ؛ إذ نقول : على هذا التّقدير أنّا نحتمل ردع المعصوم عليه‌السلام وعدم ارتداع العامل بردعه ، وليست هنا عادة قطعيّة قاضية بوصول الرّدع إلينا على تقدير وجوده ، فتدبّر.


(١٧٦) قوله قدس‌سره : ( وثانيا : أنّ ما ذكر من الاتّفاق ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٤٩ )

أقول : حاصل ما أفاده من الجواب الثّاني : أنّ الاتّفاق على العمل بخبر شخصي أو بأخبار كثيرة حتّى ممّن ذهب إلى عدم حجيّة خبر الواحد المجرّد وإنّما يجعل دليلا على حجيّته سواء كان خبرا أو أخبارا كثيرة ؛ من حيث كشفه عن تقرير المعصوم عليه‌السلام للعاملين المختلفين في الرّأي في مسألة حجيّة الخبر المعتقدين بوجود العناوين المتعدّدة له ، كلّ بحسب زعمه ، لا من حيث كشفه عن رأيهم في المسألة حتّى يرجع إلى الإجماع القولي ؛ ضرورة امتناع ذلك بعد فرض الاختلاف المذكور مع فرض دخل عمل من يعتقد عدم الحجيّة في الكشف.

ومن المعلوم أنّ العاملين بالخبر المجرّد القائلين بحجيّته ، مختلفين في العنوان الّذي اقتضى حجيّته من حيث كونه خبر عدل أو ثقة في روايته وإن لم يكن ثقة على الإطلاق ، بل ولا معتقدا للحقّ ، أو مظنون الصّدور ، إلى غير ذلك من العناوين ، ولا يفيد الإجماع العملي الرّاجع إلى كشفه عن تقرير المعصوم عليه‌السلام في حقّنا إلاّ بعد إحراز أمرين :

أحدهما : إحراز عنوان الفعل الّذي وقع موردا للتّقرير ، وهذا لا بدّ من إحرازه ، فإنّه يرجع إلى تشخيص الموضوع للحكم الشّرعي ؛ حيث إنّ الفعل بنفسه لا دلالة له على عنوانه ، من غير فرق في ذلك بين الفعل الّذي يقع موردا لتقرير المعصوم عليه‌السلام إذا صدر من غيره ، وبين الفعل الّذي يتحقّق من المعصوم عليه‌السلام ويكون


دليلا على المشروعيّة في حقّنا ؛ لدليل التّأسّي.

ثانيهما : إحراز تحقّقه في حقّنا واعتباره أيضا ظاهر ؛ ضرورة اختلاف الأحكام باختلاف الموضوعات ، فكلّ من دخل تحت موضوع لحقه حكمه.

ففيما نحن فيه إذا علمنا بأنّ بعض العاملين بخبر عمل به من حيث علمه بصدوره ، وبعضهم عمل به من حيث ظنّه بصدوره مثلا قاطعا بحجيّة الخبر المظنون الصّدور فلم يحصل لنا العلم بصدوره ولا العلم بحجيّة الخبر المظنون صدوره ، فكيف يجوز لنا الأخذ به من حيث تقرير المعصوم عليه‌السلام للعاملين وعدم ردعه لهم؟

هذا حاصل ما أفاده في الجواب الثّاني.

وفيه مناقشة ظاهرة ؛ حيث إنّ الاعتقاد بالحكم الشّرعي سواء كان فرعيّا أو أصوليّا لو كان خطأ في نفس الأمر وجب على المعصوم عليه‌السلام ردع المعتقد وبيان خطأه فيه ، ولا يقاس بالعناوين الواقعيّة الّتي يختلف بها الحكم ، ولو كانت من مقولة حالات المكلّفين الّتي لا تتطرق الخطأ والصّواب فيها ، بل ولا بالاعتقاد بالموضوع مع فرض خطأ المعتقد فيه الّذي لا يجب على الإمام عليه‌السلام ردع المعتقد وبيان خطأه فيه ، كالّذي يعمل بالخبر من حيث اعتقاده بصدوره مع عدم صدوره في نفس الأمر ، فتدبّر وإلاّ لزم سدّ باب التمسّك بالتّقرير.

فإن شئت قلت : إنّ الاعتقاد بالحكم الشّرعي ليس من العناوين الّتي يختلف بها الحكم حتّى يجب إحرازه في حقّ غير العامل. والقول : بأنّا لا نعلم بانتهاء عمل


من يعمل بالخبر ـ من حيث اعتقاده بحجيّة الخبر الواحد المجرّد عن القرينة (١) حضور المعصوم عليه‌السلام حتّى يستكشف من عدم ردعه عليه‌السلام له حجيّته ـ فاسد جدّا ؛ إذ مبنى ما أفاده كما ترى ، ليس على ما ذكر من التّوهّم في توجيه كلامه ، بل على ما ذكرنا في بيانه بحيث لا يحتمل منه غيره فتدبّر.

__________________

(١) الظاهر أن لفظة القرينة لا بد أن تكون مضافة الى الحضور حتى تنسجم العبارة معنى ولفظا وحينئذ فلا بدّ من حذف الألف واللام من القرينة فيقال : الخبر الواحد المجرّد عن قرينة حضور المعصوم عليه‌السلام ... إلى آخره. ولعلّ المراد بحضور المعصوم هو تقرير المعصوم ، ومع ذلك فالعبارة لا تخلو من تشويش والله العالم.


* رابع أدلّة المجوّزين دليل العقل

التقرير الأوّل :

(١٧٧) قوله قدس‌سره : ( أوّلها : ما اعتمدته سابقا ... إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ٣٥١ )

__________________

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« واعلم ان قضيّة ذلك وجوب العمل بكل خبر مثبت للتكليف أو ناف له إذا لم يكن على خلافه أصل مثبت له كالإحتياط في نفس المسألة ، أو الإستصحاب بناء على اعتباره في موارد علم إجمالا ، لا بقيام حجّة على خلافه في بعضها أيضا فلا وجه لما فرّع عليه بقوله قدس‌سره : « فيجب بحكم العقل العمل بكل خبر مظنون الصدور » ولذا ضرب عنه بقوله : « ربّما يدّعى ... إلى آخره ».

هذا لو لم يلزم من العمل بالكل محذور العسر ، وإلاّ وجب التبعيض ». انظر درر الفوائد الجديدة : ١٢٥ وكذا الكفاية : ص ٣٠٤

وعلّق العلاّمة الفاضل رحمة الله قدس‌سره على كلام المحقق الخراساني قائلا :

أقول : حكم العقل بوجوب العمل بإعتبار الضرر في ترك العمل لو كان المتروك واجب العمل بناء على تنجّز التكليف مع العلم الإجمالي وليس ذلك البتة إلاّ في الخبر المثبت


__________________

للتكليف ؛ إذ النافي لا ضرر في ترك العمل به بأن يعمل بمحتمل التكليف إحتياطا فلا حكم للعقل بوجوب العمل بخبر النافي ، مع أن نفي التكليف يكفيه الأصل السالم عن قيام الدليل على خلافه والخبر النافي لا يخالفه بل يعاضده فلا معنى لوجوب العمل بالخبر النافي بحكم العقل ، ثمّ العقل يحكم بوجوب العمل حتى يرفع العلم الإجمالي عن الباقي فلا حكم له بوجوب العمل بعده فيعمل بمقتضى الأصل ؛ إذ المانع عن العمل به قبل ذلك العلم الإجمالي وقد رفع ، لكن العقل يعيّن في القدر الرافع للعلم الإجمالي ما هو أقرب إلى الواقع.

فإن المثبتات للتكليف ذوات مراتب بحسب القرب إلى الواقع فإن رفع الإجمالي بالمظنونات بالظن القوي فهو ، وإلاّ فبغيره ، فإن رفع فهو ، وإلاّ فالمشكوك.

والخراساني ذهل عن هذا وزعم أن القضيّة وجوب العمل بكل خبر معترضا على المصنّف ولله درّه من بحر محيط حيث حكم بان الواجب بحكم العقل العمل بكل خبر مظنون الصدور فيرفع العلم الإجمالي فلا حكم للعقل بعد ذلك.

فإن قلت : لعلّ الخراساني رأى بقاء العلم الإجمالي إلى أن يعمل بكل خبر.

قلت : هذا رأي فاسد ؛ فإن هذا ليس ولا يكون إلا مع العلم بصدور الكل ، فأنت أردت أن تصلح فأفسدت وأن تدفع فأوردت ، ولعمري إن الإعتراف بالاغترار في بعض الموارد خير من الإعتذار ، والمكثار لا بد وأن يقع في الإنكسار فافتهم. إنتهى حاشية رحمة الله على الفرائد : ١٠٢

* قلت : وانظر فوائد الأصول للميرزا : ج ٣ / ١٩٦ وأجود التقريرات : ج ٣ / ٢٠٣ ، وتعليقة المحقق الإصفهاني الموسومة بنهاية الدراية : ج ٣ / ٢٥٥ التعليقة رقم ١١٧ ، وكذا


دعوى العلم الإجمالي بصدور أكثر الأخبار

أقول : لا يخفى عليك أنّ المعلوم صدوره تفصيلا من الأخبار بالتّواتر بأقسامه أو القرينة بأقسامها خارج عن أطراف العلم الإجمالي ، فالمعلوم صدوره من الأخبار الكثيرة إنّما هو في ضمن غير المعلوم صدوره تفصيلا ، فمحصّل هذا الوجه : أنّا نعلم إجمالا بصدور أكثر ما بأيدينا من الأخبار الّتي لا نعلم تفصيلا بصدورها ولا طريق لنا إلى تشخيص الصّادر عن غيره ، فيجب إمّا الاحتياط والأخذ بكلّ ما يحتمل صدوره ولو موهوما ـ على ما يقتضيه العلم الإجمالي بحكم العقل ـ أو الأخذ بما ظنّ صدوره منها بعد فرض قيام الدّليل على بطلان الاحتياط الكلّي.

والقول : بأنّ ما أفاده قدس‌سره في تقريب العلم الإجمالي لا يفيد العلم أصلا ـ بعد فرض عدم التّواتر والقرينة ؛ ضرورة أنّ الأخبار المفروضة ليست في واقعة واحدة وإنّما هي في وقائع مختلفة متعدّدة لا ارتباط بينها أصلا كلّها مرويّة بسند واحد ؛ فيلاحظ كلّ خبر بنفسه من غير أن يكون له تعلّق بخبر آخر في قضيّة أخرى ، غاية

__________________

نهاية الأفكار للمحقق العراقي : ج ٣ / ١٣٨ ، ومقالات الأصول : ج ٢ / ١١٥ ، وتعليقة السيّد علي القزويني قدس‌سره على المعالم : ج ٥ / ٢٦٨ ، وكذا نتائج الأفكار للسيّد الشاهرودي الكبير : ج ٣ / ٢٦٩ ، ومصباح الأصول : ج ٢ / ٢٠٣.


ما هناك كونها مظنون الصّدور بالظّن الاطمئناني ، بعد ملاحظة كيفيّة ورودها إلينا واهتمام المشايخ في شأنها وأخذها وإيداعها في أصولهم. وأين هذا من العلم الإجمالي بصدور أكثرها أو كثير منها؟ وإن هي إلاّ نظير الأخبار الكثيرة الواردة على الشّخص في القضايا المتعدّدة المختلفة الغير المربوطة بعضها ببعض من غير أن يكون مرجعها إلى تعيين ما اتّفقوا على وقوعه ؛ حتّى يرجع إلى تواتر القدر المشترك ، وإلاّ فيخرج عن الفرض ؛ ضرورة أنّه لا فرق بين خبر واحد في قضيّة شخصيّة ولو كان راويه عدلا إماميّا ضابطا وبين أخبار كثيرة غاية الكثرة في وقائع مختلفة ، ولو كانت من ثقات محتاطين في النّقل. فإن أفادت العلم بالصّدور فلا بدّ أن يفيد العلم به أيضا وهو خلف ، مع أنّه على هذا التّقدير الفاسد لا بدّ أن يكون معلوم الصّدور تفصيلا ، لا أن يكون بعضها معلوم الصّدور إجمالا فيتردّد بين الجميع ـ فاسد جدّا.

إذ الكلام بعد العلم ببيان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والوصيّ جميع ما يحتاج إليه الأمّة في الوقائع لأهل زمانهما وإيجابهما تبليغ الشّاهد ، واهتمام كلّ طبقة على نقل ما سمعوه ولو بوسائط ، وعدم اندراس تمام ما بيّنه النّبي والوصيّ صلوات الله عليهما ووجود ما ثبت منهما فيما وصل إلينا من أخبار الكتب من جهة ما أفاده قدس‌سره من الشّواهد والقرائن ، بحيث لا يحتمل كون تمام ما بأيدينا غير ما صدر عن المعصوم عليه‌السلام في بيان الأحكام بحيث اختفى تمامه علينا ويكون تمام ما وصل إلينا من الأخبار المكذوبة عليهم عليهم‌السلام.


نعم ، لا ينكر اختفاء البعض كما لا ينكر احتمال وجود بعض الأخبار المكذوبة فيما بأيدينا ، وهذا لا ينافي العلم الإجمالي بصدور كثير منها أو أكثرها. بل لا ينافيه العلم بالاختفاء في الجملة ووجود الأخبار المكذوبة عليهم فيما بأيدينا في الجملة كما هو واضح.

فقياس المقام بالأخبار الكثيرة الواردة في الوقائع المختلفة ، قياس مع الفارق ؛ فالّذي يقاس به المقام ما لو علم بصدور أحكام كثيرة من سلطان لم نسمعها منه ، ولكن نقلت إلينا بوسائط ثقات محتاطين في النّقل مع شدّة اهتمامهم في الضّبط ؛ فإنّه يعلم إجمالا بأنّ تلك الأخبار مشتملة على ما صدر من السّلطان ومن أنكره فإنّما ينكره باللّسان وقلبه مطمئنّ بالإيمان.

(١٧٨) قوله قدس‌سره : ( أو دعوى الظّن بصدور جميعها ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٥٦ ).

أقول : لا يخفى عليك أنّ المراد من الظّن بصدور الجميع المنافي للعلم الإجمالي بكذب البعض ، هو الظّن الشّخصي الفعلي لا النّوعي الشّأني ولا الأعمّ منهما ؛ ضرورة إمكان اجتماع الظّن الشّأني بصدور الجميع مع العلم الإجمالي بكذب البعض ، نظير العلم الإجمالي مع الشّك في جميع أطراف الشّبهة.


(١٧٩) قوله قدس‌سره : ( ثمّ إنّ هذا العلم الإجمالي إنّما هو متعلّق ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٥٧ )

متعلّق العلم الإجمالي هو ما لم يعلم بصدوره من الأخبار

أقول : قد عرفت : أنّ متعلّق العلم ما لم يعلم صدوره تفصيلا من الأخبار بالتّواتر أو القرينة ؛ لأنّ العلم الإجمالي المتعلّق بمطلق الصّادر المردّد بين المعلوم التفصيلي والمشكوك ، لا أثر له بالنّسبة إلى المشكوك ؛ لرجوع الشّك فيه إلى الشّك البدوي ؛ إذ لا يعقل العلم الإجمالي مع كون أحد طرفيه معلوما بالتّفصيل.

وهذا مع وضوح الأمر فيه ستسمع شرح القول فيه في الجزء الثّاني من التّعليقة : في حكم الشّبهة المحصورة وأنّ العلم الإجمالي فيها إنّما يؤثّر في وجوب الاحتياط وحمل المكلّف على الإطاعة الإجماليّة فيما لو أوجب التّكليف وأثبته على كلّ تقدير ، أمّا لو أثبته على بعض التّقادير دون بعض ، فلا يؤثّر في وجوب الاحتياط كما لو علم بتنجّس أحد الإناءين من جهة العلم بوقوع النّجس في أحدهما يعلم بنجاسة أحدهما تفصيلا قبل العلم الإجمالي ، فلا يجب الاحتياط عن المشكوك بل يرجع إلى أصالة الطّهارة ، فإنّه على تقدير وقوع النّجس فيما علم بنجاسته تفصيلا لا يوجب فيه تكليفا بوجوب الاجتناب فيما لو كانا من جنس واحد. بل الأمر فيما نحن فيه أوضح من المثال المفروض ؛ لاحتمال كون الخبر الصّادر ، ما علم صدوره تفصيلا ، فلا يكون هناك علم إجماليّ أصلا ، بل علم تفصيليّ ومشكوك بدوي كما هو الظّاهر.


وأمّا اعتبار كونهما متعلّق الخبر المخالف للأصل ، وبعبارة أخرى : الأخبار المثبتة للتّكاليف الإلزاميّة فيما لا يحكم بمقتضاها بمقتضى الأصول المثبتة للتّكليف الإلزامي ؛ فلأنّ الرّجوع إلى الأصل لا يوجب طرح المعلوم بالإجمال ؛ لأنّ الخبر الدّال على الإباحة مثلا ولو كان صادرا عن الإمام عليه‌السلام في الواقع لا يقتضي إيجاب العمل بمقتضاه حيث إنّ الالتزام بالإباحة الظّاهريّة ثابتة بالفرض ، كما أنّ الالتزام بالحكم الواقعي على ما هو عليه ثابت أيضا والالتزام بالإباحة الظّاهريّة من حيث اقتضاء الخبر لها لا دليل عليه أصلا ، وإن منع العلم بصدوره تفصيلا عن جريان الإباحة الظّاهريّة إلاّ أنّ الرّجوع إلى الأصل في مورد العلم الإجمالي لا يوجب طرحه عملا والتزاما.

وكذلك الخبر الدّال على الوجوب مثلا لا يقتضي إلاّ وجوب إيجاد الفعل في الخارج ، والمفروض حصوله بمقتضى الأصل المطابق له ووجب إيجاده من حيث دلالة الخبر عليه لا مطلقا إنّما هو إذا علم بصدوره تفصيلا لا إجمالا.

والفرق ظاهر ؛ حيث إنّ الاحتياط لا يوجب رفع اليد عن الأصل المثبت للتّكليف ، وليس العلم بصدور بعض الأخبار في الفرض إلاّ نظير العلم ببقاء الحالة السّابقة في أحد مستصحبي النّجاسة إجمالا ، أو وقوع نجاسة في واحد من مستصحبي النّجاسة ؛ فإنّ هذا العلم الإجمالي لا يوجب رفع اليد عن استصحاب النّجاسة جزما ، والالتزام بالحكم الظّاهري الإلزامي أيضا حاصل وإن لم يكن من مقتضيات أدلّة وجوب العمل بالخبر الصّادر على ما عرفت. فلا بدّ أن يدّعى كون


المعلوم بالإجمال ، الأخبار المخالفة للأصول الّتي لم يعلم بصدورها تفصيلا فتدبّر.

(١٨٠) قوله : قدس‌سره : ( فيجب بحكم العقل العمل ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٥٧ )

أقول : تعيين العمل بخصوص مظنون الصّدور لتحصيل الواقع المراد به في المقام الخبر الصّادر عن المعصوم عليه‌السلام إنّما هو مبنيّ على ما زعمه غير واحد : من قيام الظّن التّفصيلي في حكم العقل مقام العلم التّفصيلي والظّن الخاصّ عند انسداد بابهما من غير التفات إلى الامتثال العلميّ الإجمالي بإتيان جميع المحتملات ؛ نظرا إلى قيام الدّليل من إجماع وغيره عندهم على عدم وجوبه.

وأمّا على ما يقتضيه التّحقيق : من كونه المتعيّن بعد تنجّز التّكليف بالواقع المعلوم إجمالا المجهول تفصيلا من غير فرق بين الحكم الأصولي والفرعي ، وأنّ المانع منه هو لزوم الاختلال أو الحرج من مراعاته فيما لا نقول بوجوبه كالشّبهة الغير المحصورة أو الشّبهة (١) الكثير في الكثير كما سيجيء تفصيل القول فيه : عند التكلّم في دليل الانسداد الّذي أقاموه على حجيّة الخبر أو الظّن مطلقا أو في الجملة ، فلا بدّ من أن يؤخذ بكلّ ما يحتمل صدوره ـ ولو موهوما في غير مورد التّعارض لعدم المانع منه في المقام أصلا ، بل الاحتياط الكلّي في المقام ربّما يوجب السّعة على المكلّف لا الضّيق كما لا يخفى ـ وبما يظنّ صدوره من المتعارضين أو يظنّ مطابقته للواقع بينهما ؛ من حيث إنّ العمل بالخبر الصّادر إنّما

__________________

(١) كذا والصحيح : أو شبهة الكثير ... إلى آخره.


يجب من حيث كونه طريقا إلى الواقع لا من حيث هو.

وليس هذا من جهة ترجيح أحد المتعارضين على الآخر بالظّن حتّى يقال : إنّه كيف يتصوّر التّرجيح بين ما لم يثبت حجيّته من الأخبار المتعارضة؟ بل من جهة أنّه غاية ما يمكن الأخذ به من باب امتثال الواقع المردّد ؛ لأنّ الغرض عدم إمكان الاحتياط وإحراز الواقع على وجه اليقين لمكان التّعارض.

وممّا ذكرنا كلّه يظهر : تطرّق المناقشة إلى قوله قدس‌سره : ( بل ربّما يدّعى ... إلى آخره ) (١) فإنّ المقام حقيق أن يقال بدل ما عرفت : « فيجب بحكم العقل العمل بكلّ خبر يحتمل صدوره في غير مورد التّعارض ... إلى آخر ما عرفت ».

وربّما يدّعى وجوب العمل بخصوص مظنون الصّدور بتوهّم قيام الدّليل على عدم وجوب الاحتياط في المقام إلاّ أنّ العذر في سوق التّحرير على النّمط المسطور عدم كونه في مقام التّحقيق بل في مقام مجرّد ذكر وجوه المسألة أو كونه في مقام بيان ما اعتمد عليه في سالف الزّمان لا بيان ما يقتضيه التّحقيق عنده لا حقا من مقتضى العلم الإجمالي.

(١٨١) قوله قدس‌سره : ( والجواب عنه أوّلا ... إلى آخره ) (٢). ( ج ١ / ٣٥٧ )

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٣٥٧.

(٢) قال شيخ الكفاية قدس الله تعالى نفسه الشريفة :


__________________

« لا يخفى ان العلم الإجمالي بوجود الأخبار الصادرة عن الحجج المعصومين « صلوات الله عليهم أجمعين » فيما بايدينا من الأصول والكتب المعتبرة إذا كان بمقدار يفي بمعظم الفقه بحيث لا يبقى معه علم بالتكليف إجمالا فيما عدا الموارد التي دلّت على التكليف فيها نمنع عن تأثير العلم الإجمالي بوجود التكليف بينها وبين سائر الأمارات التي لم ينهض دليل على اعتبارها ، وذلك لأنه حينئذ لم يعلم بتكليف آخر غير ما اقتضته تلك الأخبار الصادرة كي يراعى ويحتاط في غير ما يكون من محتملاتها من الرّوايات من موارد سائر الأمارات ، كما اذا كانت تلك الأخبار معلومة تفصيلا ، فكما ان العلم الإجمالي بالتكاليف بين هذه الأطراف حينئذ لا يوجب الاحتياط في خصوص أطرافه بالأخذ بكل خبر مثبت منها.

والحاصل : انه يكون حال العلم الإجمالي بالتكاليف بين الأخبار وسائر الأمارات مع العلم الإجمالي بوجود أخبار صادرة بينها ، ناهضة بنصوصها أو ظهورها على مقدار من التكاليف قد علمناه بينها وبين سائر الأمارات ، حال العلم الإجمالي بحرمة عشرين شاة في قطيع غنم مع العلم الإجمالي بقيام البيّنة على حرمة العشرين من خصوص البيض ، حيث لا يجب الإجتناب إلاّ عن كل ما كان بيضا من باب الاحتياط (*).

فظهر : ان العلم الإجمالي بوجود أحكام وتكاليف كثيرة بين الروايات وسائر الأمارات لا يوجب الاحتياط في أطرافه إذا علم إجمالا بصدور أخبار منهم عليهم‌السلام ناهضة بظهورها أو بنصوصها على المقدار المعلوم بالإجمال من التكاليف بين تمام الأمارات وإن كان وجوب العمل بالأخبار الصادرة إنّما هو لأجل امتثال أحكام الله الواقعيّة المدلول عليها بتلك


__________________

الأخبار ، إلاّ أنّ احتمال انطباقها على الموارد التي نهض على التكليف فيها خصوص الأخبار الصادرة مع بداهة حجّيّتها وتنجّز التكاليف المدلول عليها وفعليّتها ظاهرا مطلقا أصابت الواقع أو اخطأت عنها ، يكون مانعا عن تنجّزها فيما صادفت غير تلك الموارد من الأطراف.

وسرّه ـ كما أشرنا إليه ـ : إنحلاله إلى العلم الإجمالي بتكاليف فعليّة في خصوصها ومجرّد الإحتمال فيما عداها ، كما لا يخفي. إنتهي. درر الفوائد في حاشية الفرائد : ص ١٢٥ ـ ١٢٦.

(*) أقول : وعلّق الفاضل المحقق الشيخ رحمة الله الكرماني قدس سره على هذا الموضع من كلام المحقق الخراساني قدس سره قائلا :

أقول : حاصل ما ذكره : عدم العلم الإجمالي بوجود التكاليف المنجّزة بين سائر الأمارات وانحصاره في الأخبار.

وأنت تعلم ان ذلك على تقدير الفرض لا ينفع ، وبالنظر إلى الواقع خلاف الواقع ، فإنّا نعلم إجمالا بوجود التكاليف المنجّزة بين سائر الأمارات كما نعلم بوجودها بين الأخبار ، ونعلم أيضا إجمالا بان لها أدلّة بين الأمارات هي طرق إليها وإن لم نعلمها تفصيلا وإلاّ لم تكن التكاليف منجّزة ، كما نعلم إجمالا بوجود الأخبار الصادرة ، والذي أنكر ذلك أنكر وجدانه.

ثم فرضه في طيّ الحاصل العلم الاجمالي بوجود أخبار صادرة بينها ناهضة بنصوصها أو ظهورها علي التكاليف ، ذهول عن ان فرض نهوض السند يوجب الحجّيّة وهي توجب العلم التفصيلي بالأحكام وبالأخبار الصادرة أيضا وهو خلاف الفرض ، وأيضا فيه توارد العلم الإجمالي


وجوب طاعة النّبي والوصيّ لأن طاعتهما طاعة الله عزّ وجل

أقول : ما أفاده في كمال الوضوح عند من تأمّل في عنوان وجوب الأخذ بالسّنة القطعيّة وبقول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والوصيّ القائم مقامه ؛ حيث إنّ إطاعة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والوليّ ليست واجبة في قبال إطاعة الله جلّ شأنه على سبيل الاستقلال بحيث لو خالفهما المكلّف لعوقب على مخالفتهما زائدا على عقاب مخالفة الله الحاصلة من مخالفتهما من حيث كون قولهما كاشفا قطعيّا عن حكم الله تبارك وتعالى ، بل من حيث كونهما إطاعة الله ؛ نظرا إلى كون قولهما طريقا إلى حكمه جلّ جلاله وكاشفا عنه نظير كشف حكم العقل عن حكم الشّرع ؛ حيث إنّه رسول في الباطن ، كما أنّ الشّرع رسول في الظّاهر وعقل في الحقيقة. فحيثيّة وجوب الأخذ بقولهما وعنوانه كونهما دليلين على حكم الشارع وموصلين إليه من غير أن يكون له مطلوبيّة نفسيّة ذاتيّة في عرض حكم الله تعالى.

__________________

والتفصيلي على مورد واحد.

ثم المناسب لما أراده [ وظهورها ] بدل [ أو ظهورها ] ثم الأولى فيهذا المقام أن نذر الباقي في السنبل ونتمّم الكلام. انتهى. انظر حاشية رحمة الله على الفرائد : ١٠٣.


بل التّحقيق : كون وجوب العمل بالكتاب أيضا من حيث كونه دليلا وطريقا إلى حكم الله تبارك وتعالى كما هو واضح فالعمل بالخبر الصّادر يقينا بالعلم التّفصيلي عن الحجّة إنّما هو من حيث كونه عملا بحكم الله تعالى الواقعي وامتثالا له ، فإذا علم إجمالا بصدور أخبار كثيرة عن الحجج في بيان أحكام الله تعالى فيجب الأخذ بالأحكام المدلول عليها بتلك الأخبار حقيقة ، والأخذ بالأخبار إنّما هو من حيث كونها كاشفة عنها وطريقة إليها.

فإن علم إجمالا بصدور أحكام كثيرة وتكاليف شرعيّة عنهم عليهم‌السلام من غير أن يعلم باختصاصها بموارد الأخبار ، بل علم بوجودها في موارد الأخبار وسائر الأمارات الكاشفة عن صدور الحكم عن الحجج ، فالواجب الأخذ بجميع الأخبار والأمارات الكاشفة أو خصوص ما يحصل الظّن منه بصدور الحكم ، فلا ينتج هذا الدّليل حجيّة خصوص الخبر ، بل ولا الاحتياط في خصوص الأخبار. ونحن تدّعي وجود العلم الإجمالي بصدور أحكام إلزاميّة كثيرة في ضمن تمام الأمارات الشّاملة للأخبار وغيرها.

(١٨٢) قوله قدس‌سره : ( العلم الإجمالي ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٥٨ )

في اختصاص العلم الإجمالي بموارد الاخبار وعدمه

أقول : لمّا ادّعى قدس‌سره العلم الإجمالي العامّ الشّامل لموارد جميع الأمارات توجّه عليه سؤال اختصاصه بموارد الأخبار من حيث إنّ العلم بالأحكام على


سبيل الإجمال إنّما نشأ وحصل من العلم الإجمالي بصدور أكثر تلك الأخبار ، وإلاّ فلا موجب للعلم الإجمالي ؛ إذ لا يعلم إجمالا بمطابقة أكثر تلك الأمارات للواقع حتّى يدّعى العلم الإجمالي بالأحكام في مواردها أيضا.

فأجاب قدس‌سره عن السّؤال ـ بعد تسليم وجود العلم الإجمالي في ضمن خصوص الأخبار ـ : بأنّ هناك علما إجماليّا عامّا شاملا لموارد الأخبار والأمارات ، والواجب مراعاته لا العلم الإجماليّ الخاصّ ؛ إذ في مراعاته مراعات للخاصّ بخلاف العكس كما هو ظاهر.

والشّاهد على ما أفاده والدّليل عليه : أنّ العلم الإجمالي بوجود أحكام كثيرة صادرة عن الحجج عليهم‌السلام ؛ إنّما حصل من العلم بأنّ الغرض من الرّسالة في كلّ عصر وزمان بعث فيه رسول ، تبليغ الأحكام الإلهيّة والأوامر والنّواهي الواقعيّة إلى العباد ؛ بحيث لا ينفك العلم بإرسال الرّسل وإنزال الكتب من العلم بما ذكر. فالعلم ببعث الرّسول ملازم للعلم بالتّكاليف ، فإذا علمنا برسالة الرّسول المختار صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنعلم بتبليغه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تكاليف من الله عزّ وجلّ إلى العباد فيكلّفون بها من الله تبارك وتعالى من غير فرق بين الحاضر والغائب والموجود والمعدوم ، فإذا لم يعلم بها تفصيلا فيعلم بوجودها بين ما يحكى عنها من الأخبار وغيرها من غير اختصاص بإحداهما.

لا يقال : ما ذكر إنّما هو قبل الاطّلاع على حال الأخبار والعلم بصدور أكثرها عن الحجج عليهم‌السلام ، وأمّا بعد العلم بصدور أكثرها عن الحجج عليهم‌السلام فلا نسلّم


العلم بوجود أحكام كثيرة على وجه الإطلاق بحيث يشمل موارد الأمارات. سلّمنا ، لكن لا نسلّم كون الشّبهة في المقام من الشّبهة المحصورة ، لم لا يكون من غيرها فلا يؤثّر في وجوب الاحتياط؟

لأنّا نقول : العلم بصدور أحكام كثيرة في مضامين تلك الأخبار بملاحظة العلم الإجمالي بصدور أكثرها عن الحجج عليهم‌السلام لا ينافي بقاء العلم الإجمالي في موارد مجموع الأمارات ، وإلاّ أمكن دعوى ارتفاع العلم الإجمالي عن موارد الأخبار من جهة العلم بكثير من الأحكام الشّرعية المدلول عليها بالكتاب وسائر الأدلّة العلميّة ، وذلك من جهة كثرة المعلومات الإجماليّة بحيث لا يحتمل اختصاصها بموارد الأخبار والكتاب وسائر الأدلّة العلميّة.

ومنه يظهر فساد ما يتخيّل : من كون الشّبهة في المقام من الشّبهة الغير المحصورة.

وإن كنت في شك ممّا ذكرنا : من وجود العلم الإجمالي في مجموع الأمارات ـ مضافا إلى العلم الإجماليّ الموجود في موارد خصوص الأخبار ـ فارجع إلى الضّابط الّذي ذكره قدس‌سره في « الكتاب » ؛ لتميّز موارد وجود العلمين عن موارد وجود العلم الواحد ؛ حتّى تعلم صدق ما ادّعاه.

فإنّه لا شبهة في بقاء العلم الإجمالي بعد عزل طائفة من الأخبار يحتمل انحصار المعلوم بالإجمال من الأحكام في الأخبار في مواردها ، وضمّ تمام الأمارات بباقي الأخبار وملاحظتها معها بعد عزل تلك الطّائفة الخاصّة.


وهذا دليل على وجود العلم الإجمالي الأعمّ ، وإلاّ لم يبق علم بعد عزل تلك الطّائفة الخاصّة الّتي يحتمل انحصار المعلوم بالإجمال في الأخبار فيها لا ما يزيد عليه ولا ما ينقص عنه ؛ فإنّه على كلّ من الوجهين لا يدلّ على وجود العلمين كما هو واضح.

فمجرّد وجود العلم الإجمالي بالتّكاليف الكثيرة في مضامين الأخبار لا يكشف عن خروج سائر الأمارات عن أطراف العلم الإجمالي الكلّي العام ، وإلاّ أمكن اختصاص العلم في الأخبار بطائفة خاصّة منها كأخبار العدول مثلا وخروج غيره ، فإنّه لا ينبغي الإشكال في وجود العلم الإجمالي بالتّكاليف في مضامين أخبار العدول ، مضافا إلى العلم الإجمالي الموجود في مضامين تمام الأخبار فتدبّر.

فإذا فرض تعلّق العلم الإجمالي بمجموع الأمارات فلا بدّ من رعايته في مضامينها على ما عرفت ، غاية الأمر : كون الاحتياط في الأخبار أولى بالاهتمام من جهة العلم الإجمالي في مضامينها بالخصوص أيضا ولكن مجرّد كونها أولى بالاهتمام لا يمنع من الاحتياط في غيرها.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ الاحتياط على هذا الوجه الكلّي يوجب الحرج الشّديد ؛ إذ يجب أن يؤخذ حينئذ بكلّ ما يثبت التّكليف الإلزامي خبرا كان أو غيره ، لكنّه ـ مضافا إلى اقتضائه رعاية الاحتياط في خصوص الأخبار وإلقائه في غيرها كما سيجيء الكلام فيه ـ لا تعلّق له بدعوى اختصاص العلم الإجمالي بموارد الأخبار.


(١٨٣) قوله قدس‌سره : ( وثانيا : أنّ اللاّزم من ذلك ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٥٩ )

أقول : لا يخفى عليك : أنّ هذا الجواب مبنيّ على الإغماض عمّا يقتضيه التّحقيق : من كون النّتيجة بعد تسليم اختصاص العلم الإجمالي بمضامين الأخبار ، الاحتياط الكلّي لا الاقتصار على خصوص موارد الظّن ، وقد عرفت الإشارة إلى استقامة ما أفاده بعد وضوح كون العمل بالخبر الصّادر يقينا ؛ من حيث كونه طريقا إلى الواقع وكاشفا عنه ، فالعبرة بما يظنّ مطابقته للواقع من الأخبار ، لا ما يظنّ بصدورها كما يقوله المستدلّ بالوجه المزبور.

(١٨٤) قوله قدس‌سره : ( وثالثا : أنّ مقتضى ... إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ٣٦٠ )

__________________

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« لا يخفى انه ليس عدم وجوب العمل بالخبر الثاني [ أي الأخبار الصادرة النافية للتكليف ] مع لوازم ثبوته بالعلم الإجمالي ليرد به على هذا الوجه ، بل هو من لوازمه ولو علم تفصيلا.

نعم ، يتّجه عليه ما أورده عليه بقوله : « وكذلك لا يثبت به حجّيّة الأخبار على وجه ينهض لصرف الظواهر ... إلى آخره ». [ فرائد الأصول : ج ١ / ٣٦٠ ] » حاشية درر الفوائد : ١٢٦.

وعلّق عليه الشيخ رحمة الله الكرماني قائلا :

« أقول : لا شك لأصاغر الطلبة أن عدم وجوب العمل بالخبر النافي للتكليف لازم نفسه سواء كان معلوما تفصيلا أو إجمالا ، لا من لوازم كونه معلوما إجمالا.

وبهذا يردّ على هذا الوجه : انه لا يقتضى وجوب العمل بالخبر النافي ، فهذا الوجه مقتضاه


أقول : لمّا كان عنوان الأخذ بالخبر بمقتضى هذا الوجه رعاية الاحتياط اللاّزم في مضامين الأخبار من جهة العلم بصدور أكثرها عن الحجج عليهم‌السلام وكون مضامينها أحكام الله تعالى فلا يتعدّى عمّا يقتضي الوجوب والتّحريم من الأخبار ، ضرورة عدم تطرّق الاحتياط اللاّزم في الأخبار الغير المتضمّنة للأحكام الإلزاميّة. ومن هنا قيّد المعلوم بالإجمال بالأخبار المثبتة للتّكاليف الإلزاميّة المخالفة للأصول ، مع أنّ معنى حجيّة الخبر هو الأخذ بمقتضاه من غير فرق بين الأحكام المدلول عليها فهذا المعنى لا يمكن إثباته بهذا الوجه فلا معنى للاستدلال به.

نعم ، هنا حكم إلزامي متعلّق بغير الحكم الإلزاميّ أيضا ـ سواء كان واقعيّا أو ظاهريّا ـ وهو وجوب الالتزام به على ما هو عليه ؛ فإنّه من الحكم الأصولي حقيقة ومن فروع تصديق النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما جاء به وبلغه عن الله « تبارك وتعالى » من غير فرق بين كون ما جاء به حكما إلزاميّا وغيره ، فلا تعلّق له بدليل حجيّة الخبر ولا يمكن إثباته به.

__________________

أخص من المدّعى ، فالإيراد على تقدير عدم اقتضاء العلم الإجمالي وجوب العمل بالخبر النافي ، وأمّا على تقدير اقتضائه إيّاه فلا إيراد عليه من هذه الجهة. وزعم الخراساني : أن الأمر بالعكس.

والعجب انه صدّق ما أورده المصنّف ثانيا بقوله : « وكذلك يثبت به ... الى آخره » مع كون الإيراد فيهما من جهة واحدة ». انتهى حاشية رحمة الله الكرماني على الفرائد : ص ١٠٤


نعم ، دليل حجيّته ـ فيما فرض كون مدلوله هي الحجّة عند الشّارع لا وجوب الاحتياط ـ يثبت الحكم الشّرعي في مرحلة الظّاهر من غير فرق بين الإلزام وغيره فيلتزم به كذلك ، كما أنّه يلتزم بالحكم الواقعي على نحو ثبوته في موارد الأخبار على تقدير عدم قيام الدّليل على حجيّتها من غير فرق بين كون مفادها الإلزام وغيره وإن علمنا بصدور بعضها عن المعصوم عليه‌السلام ومطابقته للواقع وهذا أمر ظاهر.

(١٨٥) قوله قدس‌سره : ( وكذلك لا يثبت به حجيّة الأخبار ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٦٠ )

أقول : لمّا كان مفاد الوجه المذكور على ما عرفت : الاحتياط في موارد الأخبار المثبتة للتّكليف الإلزامي لا حجيّة خبر الواحد فلا محالة لا يعارض الدّليل الموجود في المسألة ، وإن كان عموما من العمومات الكتابيّة والسّنة القطعيّة أو إطلاقا من إطلاقاتها لرجوع المعارضة إلى معارضة الأصل والدّليل.

ومن هنا قال قدس‌سره ما قال : من عدم وفاء هذا الوجه لإثبات حجيّته الأخبار على وجه ينهض لصرف ظواهر الكتاب والسّنة القطعيّة ، كما أنّه لا ينهض لرفع اليد به عن مقتضى الأصول العمليّة فيما إذا اقتضت التّكليف كالاستصحاب المقتضي للتّكليف الإلزامي أو أصالة الاحتياط المقتضية للجمع بين المحتملين في دوران الأمر بين المتباينين ، فإذا دلّ الخبر على وجوب أحدهما لم يجز رفع اليد به عن الآخر ، بل يجب الإتيان به ، كما إذا لم يكن هناك خبر.

وهذا بخلاف ما لو كان مفاد الدّليل حجيّة الخبر فإنّه يثبت به مدلوله في


مرحلة الظّاهر ويرفع اليد به عن مقتضيات الأصول لفظيّة كانت أو علميّة كما يسلكه القائل بحجيّة الخبر ويزعمه.

وإن كان لنا كلام فيما أفاده قدس‌سره : من كون لازم حجيّة الظّن بقول مطلق ـ وإن كان اعتباره من حيث العجز عن تحصيل العلم ـ جواز رفع اليد به عن الأصول اللّفظيّة سيجيء عند الكلام في دليل الانسداد كما نتكلّم فيما ذكره قدس‌سره فيما سيجيء : من كون لازم حجيّة الظّنّ الرّجوع إلى الأصول العلميّة في موارد فقده إذا كان بقدر الكفاية أو رفع الإجمال به في الألفاظ المجملة.

التقرير الثاني :

(١٨٦) قوله قدس‌سره : ( وإمّا العمل بكلّ خبر ظنّ صدوره ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٦٢ )

أقول : بعد البناء على كون المعلوم بالإجمال في خصوص الأخبار إغماضا عمّا عرفته في الجواب عن الوجه : من اختصاص العلم الإجمالي بمضامين الأخبار والمنع من اختصاصه في مضامين الأخبار المشروطة بما ذكره من الشّروط وإن كان هناك علم إجماليّ خاصّ في مضامينها ، والإغماض عمّا يقتضيه العلم الإجمالي من الأخذ بكلّ خبر كان من أطراف الشّبهة بعد العجز عن تعيين الصّادر وتميزه عن غيره كما هو المفروض يجب الأخذ بما ظنّ مطابقته للواقع من الأخبار لا بما ظنّ بصدوره وإن لم يظنّ بمطابقته للواقع ؛ حيث إنّ عنوان الأخذ بالأخبار الصّادرة هو كشفها عن الواقع لا من حيث هو حسبما عرفت في طيّ


الجواب عن الوجه الأوّل. فلعلّ ما أفاده إغماض عمّا يقتضيه التّحقيق في المقام وتسليم لما يقوله الخصم.

(١٨٧) قوله قدس‌سره : ( وثانيا : أنّ مقتضى ... إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ٣٦٢ )

__________________

(١) قال المحقق الأصولي السيّد علي القزويني ـ في مقام الرد على التقرير الثاني ـ :

« والأولى أن يقال في الردّ :

انه إن أريد بهذا البيان دعوى العلم الإجمالي بأن لحقائق العبادات والمعاملات أجزاء وشرائط وموانع ، فيجب العمل بأخبار الآحاد المثبتة لتلك الأجزاء والشرائط والموانع للتوصّل إلى المعلومات بالإجمال.

ففيه : انه يرجع إلى الوجه الأوّل فيرد عليه أكثر ما ورد عليه ، مضافا إلى عدم قضائه بحكم الأخبار النافية للجزئيّة أو الشرطيّة أو المانعيّة.

وإن أريد به أن لو ترك العمل بالآحاد المتكفّلة لبيان الإجزاء والشرائط والموانع للعبادات والمعاملات يلزم منه خروج حقائقهما عمّا هي عليها.

ففيه : أنه يرجع إلى دليل الإنسداد المنتج لحجّيّة الظن مطلقا أو في الجملة وذلك لأن دعوى الملازمة تتوقّف على إحراز مقدّمات :

منها : بقاء التكليف بحقائق العبادات والمعاملات وأجزائهما وشرائطهما وموانعهما.

ومنها : انسداد باب العلم بها غالبا.

ومنها : قبح التكليف بما لا يطاق لو كلّفنا بالعلم فيها ، أو الخروج عن الدين لو منعنا عن العمل بالأخبار الغير القطعيّة المتكفّلة لبيان الأجزاء والشرائط والموانع ، فتعيّن العمل بها.

فنقول : إن نتيجة الدليل حينئذ هو وجوب العمل بكل ما يوجب الظن بحقائق العبادات


أقول : ما أفاده قدس‌سره : من قصر مقتضى الدّليل المذكور على ما يثبت الأجزاء والشّرائط والموانع للماهيّات وعدم عمومه لما ينفي أحد الأمور المذكورة لخروجه عن أطراف العلم ممّا لا خفاء فيه أصلا ، مع أنّ معنى حجيّة الخبر : إثبات ما دلّ عليه مطلقا من غير فرق بين أن يكون مدلوله الإثبات أو النّفي سواء على القول بالاشتغال في ماهيّات العبادات أو البراءة كما يقول به المستدلّ.

وهذا المعنى لا يثبت بالدّليل المذكور المقتضي للأخذ بالأخبار المثبتة للماهيّات بعنوان الاحتياط ، سيّما إذا اقتضى الأصل خلافه. كما لا يثبت به الأخذ بالأخبار الغير المتضمّنة لحكم الماهيّات وإن اقتضت الإلزام فضلا عمّا لا يقتضيه.

ودعوى : الإجماع المركّب وعدم القول بالفصل في المقام كما ترى.

وأيضا : لا يثبت به العمل بالخبر المقتضي للحرمة مثلا فيما كان هناك عموم أو إطلاق ينفيها سواء كان في المعاملات أو العبادات على مذهب الأعمّي في ألفاظها إذا وجد هناك شرائط التمسّك بالإطلاق ولعلّه قدس‌سره طوى ذكر هذا الاعتراض اعتمادا على ما أفاده في الإيراد على الوجه الأوّل المشترك مع هذا الوجه في النّتيجة كما أشار بقوله سابقا : ( وهذا المعنى لا يثبت بالدّليل المذكور ... إلى آخره ) (١).

__________________

والمعاملات وأجزائهما وشرائطهما وموانعهما ، لا خصوص الأخبار الغير القطعيّة فضلا عن هذه الطائفة المخصوصة ». انتهى تعليقة المعالم : ج ٥ / ٢٧٢

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٣٦٠.


التقرير الثالث :

(١٨٨) قوله قدس‌سره : ( الثّالث : ما ذكره بعض المحقّقين ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٦٣ )

كلام الشيخ محمّد تقي في حاشية المعالم (١)

__________________

(١) قال شيخ الكفاية أعلى الله مقامه الشريف :

« مراد المستدل من السنّة ـ على ما صرّح به في الجواب عن بعض ما أورده على نفسه ـ هي الأخبار المحكيّة لا نفس ما يحكى بها من قول الحجة وفعله وتقريره ، وتنزيلها عليها كما أفاده قدس‌سره إجتهاد في مقابلة النص ، وكأنّه قدس‌سره ما لاحظ تمام ما أورده في المقام من النقض والإبرام.

كما أن ظاهر كلامه ـ على ما يشهد به مراجعة تمامه على طوله ـ دعوى العلم بوجوب الرجوع إلى الكتاب والسنّة علينا فعلا ولزوم الخروج عن عهدة هذا التكليف عقلا بأن يرجع على نحو يحصل منهما العلم بالحكم ، أو الظن الخاص لو أمكن ، وإلاّ فعلى وجه يحصل منهما بالحكم سواء كان عدم التمكّن من العلم وما بحكمه في الدلالة وحدها كما في الكتاب والخبر المتواتر ، أو فيها وفي السند كما في السنّة المحكيّة بخبر الواحد ، فيكون ملاك الإستدلال بهذا الوجه استقلال العقل بلزوم الخروج عن عهدة هذا التكليف الفعلي على قدر القدرة الموجب للرّجوع إلى الكتاب والسنّة على نحو يحصل منهما الظن بالحكم دلالة أو سندا ، بعد فرض عدم إمكان الرجوع اليهما على نحو يحصل منهما العلم أو ما بحكمه ، لا


أقول : الأولى نقل كلامه بألفاظه ولو بإسقاط مكرّراته أو ما لا تعلّق له بالمقام.

__________________

دعوى لزوم الرّجوع إلى هذه الأخبار المحكيّة ؛ لإستلزام عدم الرجوع اليها الخروج من الدين من جهة العلم بمطابقة كثير منها للتكاليف الواقعيّة حتى يرجع إلى دليل الإنسداد ، أو لأجل خصوص العلم الإجمالي بصدور أكثر هذه الأخبار حتى يرجع إلى الوجه الأوّل.

فهو سالم عمّا أورده قدس‌سره عليه ، إلاّ انه يرد عليه :

انه لازم ذلك ـ أي العلم الإجمالي بوجوب الرجوع إلى الكتاب والسنّة المحكيّة ـ الإقتصار على القدر المتيقّن ممّا يحتمل وجوب الرّجوع إليه منهما لو كان ، فإن وفى بمعظم الفقه وإلاّ فالتعدّي إلى المتيقّن من الباقي لو كان ، وهكذا وإلاّ فالاحتياط في الرجوع اليهما ولو لم يحصل منهما الظن بالحكم.

هذا بناء على العلم بوجود ما يجب الرجوع إليه ممّا يفي بمعظم الفقه من الأخبار فيما بأيدينا مع أن مجال المنع عنه واسع ؛ لإحتمال أن يكون المرجع منها قسطا خاصا لم يكن ههنا أصلا ، أو لم يكن بمقدار الكفاية ». انتهى انظر درر الفوائد في الحاشية على الفرائد : ص ١٢٧

أقول : وعلّق عليه الفاضل الكرماني بقوله قدس‌سره :

« أقول : وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنّة معلوم تفصيلا ، إنّما المعلوم بالإجمال هو التكليفات الواقعة فيهما ، فقوله : « أي العلم الإجمالي بوجوب الرجوع إلى الكتاب والسنّة ... » ساقط.

وأيضا : هذا المحقق في مقام إثبات حجّيّة خبر الواحد في الجملة من غير نظر إلى كمّه فالإيراد عليه بأن لازم دليله أمر هو لا ينافي مراده ، غريب ». انتهى.

انظر حاشية رحمة الله على الفرائد : ص ١٠٥


قال قدس‌سره في تعليقاته على « المعالم » في عداد الوجوه على حجيّة الأخبار :

« السّادس » : أنّه قد دلّت الأخبار القطعيّة والإجماع المعلوم من الشّيعة على الرّجوع إلى الكتاب والسّنة بل ذلك ممّا اتّفقت عليه الأمّة وإن وقع الخلاف بين الخاصّة والعامّة في موضوع السّنة وذلك ممّا لا ربط له بالمقام. وحينئذ نقول : إن أمكن حصول العلم بالحكم الواقعي من الرّجوع إليهما في الغالب تعيّن الرّجوع إليهما على الوجه المذكور ؛ حملا لما دلّ على الرّجوع إليهما على ذلك. وإن لم يحصل ذلك بحسب الغالب وكان هناك طريق في كيفيّة الرّجوع إليهما ، تعيّن الأخذ به وكان بمنزلة الوجه الأوّل. وإذا انسدّ سبيل العلم به أيضا وكان هناك طريق ظنّي في كيفيّة الرّجوع إليهما لزم الانتقال إليه والأخذ بمقتضاه وإن لم يفد الظّن بالواقع تنزّلا من العلم إلى الظّن مع عدم المناص عن العمل ، وإلاّ لزم الأخذ بهما والرّجوع إليهما على وجه يظنّ منهما بالحكم على أيّ وجه كان ؛ لما عرفت من وجوب الرّجوع إليهما حينئذ فينزل إلى الظّن. وحيث لا يظهر ترجيح لبعض الظّنون المتعلّقة بذلك على بعض يكون مطلق الظّن المتعلّق بهما حجّة فيكون المتّبع حينئذ هو الرّجوع إليهما على وجه يحصل الظّن منهما.

والحاصل : أنّ هناك وجهين :

أحدهما : الرّجوع إليهما على وجه يعلم منه بأداء التّكليف من أوّل الأمر إمّا لكون الرّجوع إليهما مفيدا للعلم بالواقع أو القيام دليل على الرّجوع إليهما على وجه مخصوص سواء أفاد اليقين بالواقع أو الظّن به أو لم يفد شيئا منهما.


ثانيهما : الرّجوع إليهما على وجه يظنّ معه بذلك وذلك بعد انسداد سبيل العلم إلى الأوّل مع العلم ببقاء التّكليف المذكور فينزل في حكم العقل إلى الظّن به فإن سلّم انسداد سبيل الوجه الأوّل على وجه يكتفى به في استعلام الأحكام كما يدّعيه القائل بحجيّة مطلق الظّن ، فالمتّبع في حكم العقل هو الوجه الثّاني سواء حصل هناك ظنّ بالطّريق أو بالواقع وإن ترتب الوجهان على حسب ما مرّ من التّفصيل. وحينئذ فالواجب الأخذ بمقتضى الظّن المذكور بخصوصه في استنباط الأحكام من غير تعدية إلى سائر الظّنون.

فإن قلت : إنّا نمنع وجوب الأخذ بالكتاب والسّنة مطلقا ولو مع عدم إفادتهما اليقين بالحكم ولم يقم دليل قاطع وقيام الإجماع على وجوب الرّجوع إليهما من القائل بحجيّة مطلق الظّن ، والظّن المخصوص لا يفيد حجيّتهما بالخصوص ؛ إذ القائل بحجيّة مطلق الظّن لا يقول بحجيّته من حيث الخصوصيّة وإنّما يقول به من جهة اندراجه تحت مطلق الظّن. والقائل بحجيّة الظّن الخاص لا يثبت بقوله إجماع مع مخالفة الباقين ولم يقم دليلا قطعا حتّى يثبت به ذلك. والقول بدلالة الأخبار القطعيّة عليه ممنوع ، أقصى الأمر دلالتها على حجيّة ذلك بالنّسبة إلى المشافهين المخاطبين بتلك الخطابات ومن بمنزلتهم. وحينئذ قد يقال بحصول العلم بالنّسبة إليهم ؛ إذ لا بعد في احتفافها إذن بالقرائن القاطعة ومع تسليم عدمه غاية الأمر حجيّة الظّن الحاصل بالنّسبة إليهم وذلك غير الظّن الحاصل لنا للاحتياج إلى ضمّ ظنون عديدة لم يكن محتاجا إليها حينئذ ولا دليل على حجيّتها


عندنا إلاّ ما دلّ على حجيّة مطلق الظّن.

قلت : المناقشة فيما ذكرنا واهية ؛ إذ إنعقاد الإجماع على وجوب الرّجوع إلى الكتاب والسّنة بالنّسبة إلى زماننا هذا وما قبله من الأمور الواضحة الجليّة بل ممّا يكاد يلحق بالضّروريّات الأوليّة ، وليس بناء الإيراد على إنكاره ؛ حيث إنّه غير قابل للمنع والمنازعة. ولذا نوقش فيه ؛ من جهة اختلاف المجمعين في المبنى فإنّ منهم من يقول به من جهة كونه من جزئيات ما يفيد الظّن لا الخصوصيّة فيهما فلا يقوم إجماع على اعتبار الظّن الحاصل منهما بخصوصيّة.

وفيه : أنّه بعد قيام الإجماع عليه لا عبرة بالخلاف المذكور فيما نحن بصدده ؛ إذ ليس المقصود دعوى الإجماع على وجوب الرّجوع إلى الكتاب والسّنة لخصوصيّة لهما ، بل المدّعى قيام الإجماع بالخصوص على وجوب الرّجوع إليهما لكون الظّن الحاصل منهما حجّة ثابتة بالخصوص ؛ إذ لا حاجة إذن في إثبات حجيّتهما إلى ملاحظة الدّليل العقلي المذكور بل هو ثابت بالإجماع القطعي. فيكون ظنّا ثابتا بالدّليل وليس نعني بالظّن الخاص إلاّ ما يكون حجيّته ثابتة بالخصوص ، لا ما يكون حجّة بحسب الواقع بملاحظة الخصوصيّة الحاصلة فيه لا من جهة عامة وهو واضح لا خفاء فيه. فإذا ثبت حجيّة الظّن الحاصل منهما في الجملة ووجوب العمل بهما وعدم سقوط ذلك عنده ، ولم يتعيّن عندنا طريق خاصّ في الاحتجاج بهما ، كان قضيّة حكم العقل حجيّة الظّن المتعلّق بهما مطلقا حسبما قرّرنا.


وأمّا المناقشة في الأخبار الواردة في ذلك ؛ فإن كان من حيث الإسناد فهي واهية جدّا. وكذا من جهة الدّلالة ؛ إذ من البيّن بعد ملاحظة فهم الأصحاب وعملهم شمولها لهذا العصر ونحوه قطعا وليس جميع تلك الأخبار من قبيل الخطاب الشّفاهي لمحض الحاضرين ويتوقّف في شموله للغائبين على قيام الإجماع. ومع الغضّ عن ذلك ففيما ذكرنا من الإجماع المعلوم كفاية في المقام.

وكيف كان فإن سلّم عدم قيام الدّليل القاطع من الشّارع أوّلا على حجيّة الظّن المتعلّق بالكتاب والسّنة على وجه يتمّ به نظام الأحكام ـ حسبما ندّعيه كما سيأتي الإشارة إليه ـ فقضيّة حكم العقل هو حجيّة الظّن المتعلّق بهما من أيّ وجه كان على ما يقتضيه الدّليل المذكور والمقصود بالاحتجاج المذكور بيان هذا الأصل ، وبعد ثبوته لا وجه للرجوع إلى شيء من سائر الظّنون ؛ إذ لا ضرورة إليها ولم يقم عليها دليل خاصّ.

فإن قلت : القدر المسلم الرّجوع إلى الكتاب والسّنة في الجملة ولا يقضي ذلك بحجيّة الظّنّ الحاصل منهما مطلقا ، بل القدر الثّابت من ذلك هو ما قام الإجماع عليه فيقتصر من الكتاب على خصوصه ، ومن السّنة على الخبر الصّحيح الّذي يتعدّد مزكّى رجاله فلا يعمّ سائر وجوه الظّن الحاصل من الكتاب والسّنة.

وحينئذ نقول : لا يكفي الظّن المذكور ؛ لأنّ المعلوم بإجماع الشّيعة بل الأمّة والأخبار القطعيّة وجوب الرّجوع إلى الكتاب والسّنة الواقعيّة الّتي هي قول المعصوم عليه‌السلام وفعله وتقريره ولا فرق في ذلك بين أن يفيد ذلك القطع بالحكم


الواقعي أو الظّن به ، بل وإن لم يفد أحدهما وليس شيء من ذلك من باب الظّن المطلق الثّابت بدليل الانسداد فإذا انسدّ باب العلم بالسّنة الواقعيّة فاللاّزم الأخذ بالظّن بكونها سنّة.

ومن المعلوم أنّ الظّن الحاصل من الشّهرة وأخواتها من الظّنون المطلقة مساوية مع الأخبار في كونها كاشفة ظنّا عن السّنة الواقعيّة. أعني : القول أو الفعل أو التّقرير الصّادرة من المعصوم عليه‌السلام. فهذا هو الاستدلال المشهور لحجيّة الظّن المطلق في الأحكام الواقعيّة مع اختلال وفساد في تقريره ؛ من جهة أنّ وجوب الرّجوع إلى الكتاب والسّنة ليس لذاته بل لأجل ثبوت التّكليف بالأحكام الواقعيّة الموقوف معرفتها على الرّجوع إلى الكتاب والسّنة ».

إلى أن قال :

« قلت : بناء على اختيار الوجه المذكور لا نسلّم قيام الدّليل القاطع على حجيّة خصوص شيء من الأخبار » (١).

وساق الكلام إلى أن قال :

« فإن قلت : إنّ قضيّة ما ذكر من وجوب الرّجوع إلى الكتاب والسّنة هو الرّجوع إلى ما علم كونه كتابا وسنّة ، وإن كان الأخذ منهما على سبيل الظّن فلا عبرة بالكتاب الواصل إلينا على سبيل الظّن حسبما أشاروا إليه في بحث حجيّة

__________________

(١) هداية المسترشدين : ج ٣ / ٣٧٧.


الكتاب ، وكذا ينبغي أن لا يعتبر من السّنة إلاّ ما نقل إلينا على وجه اليقين من المتواتر أو المحفوف بقرينة القطع ، وحينئذ فلا يتمّ ما قرر في الاحتجاج لظهور عدم وفاء المقطوع به منهما بالأحكام وإن كان استنباط الحكم منهما على سبيل الظّن فلا بدّ إذا من الرّجوع إلى مطلق الظن.

قلت : لا ريب أنّ السّنة المقطوع بها أقلّ قليل وما يدلّ على الرّجوع إلى السّنة في زماننا يفيد أكثر من ذلك للقطع بوجوب رجوعنا اليوم في تفاصيل الأحكام إلى الكتب الأربعة وغيرها من الكتب المعتمدة في الجملة بإجماع الفرقة واتّفاق القائل بحجيّة مطلق الظّن والظّن الخاصّ ، فلا وجه للقول بالاقتصار على السّنة المقطوعة وبذلك يتم التّقريب المذكور » (١). انتهى ما أردنا نقله من كلامه (٢).

__________________

(١) المصدر السابق : ج ٣ / ٣٧٨.

(٢) قال المحقق الجليل السيّد علي القزويني قدس‌سره :

« قضيّة كلامه : انقسام السنّة إلى ما هو قطعي وما هو ظنّي ، وكلاهما يجب الرجوع إليهما ولكن على وجه الترتيب لا مطلقا.

وهذا الإنقسام ـ كما ترى ـ لا يتمشّى في الكتاب ؛ لأنّ الظاهر أن القطعيّة والظنّيّة هنا تعتبران بالنّسبة إلى السند والصدور ، بدليل :

أن مورد الدليل الذي هو محلّ البحث إنّما هو خبر الواحد الغير العلمي قبالا للأخبار العلميّة ؛ لتواتر أو احتفاف قرائن ، وظنّيّة السند بالقياس إلى الكتاب غير متصوّر وحينئذ فإدراجه في الدليل ممّا لا جدوى فيه.


__________________

والعمدة من مورد الدليل هو السنّة ؛ لأن المقصود إنتاجه لوجوب العمل بالسنّة الظنّيّة وحينئذ فيرد عليه :

أنه إمّا يرجع إلى دليل الإنسداد المنتج لحجّيّة مطلق الظن ولو في الجملة ، أو لا يرجع إلى محصّل أصلا ؛ لانّ السنّة :

إن أريد بها معناها المصطلح عليه ـ وهو قول المعصوم أو فعله أو تقريره ـ فالدليل راجع إلى دليل الإنسداد لاشتراط الرجوع إلى السنّة الظنّيّة والعمل بها بعدم إمكان العلم ، فيفيد وجوب العمل بكلّ ما يظنّ صدور بيانه من الحكم الواقعي من المعصوم بقول أو فعل أو تقرير ، وهذا لا يختص بالخبر المصطلح ، بل لو ظنّ من جهة الشهرة أو الإجماع المنقول أن الحكم المشهور ، أو معقد الإجماع صدر بيانه من المعصوم بقول أو فعل أو تقرير وجب الأخذ به وكذلك الإستقراء والأولويّة الظنّيّة إذا ظنّ من جهتهما صدور الحكم من المعصوم بإحدى الجهات.

نعم ، قد لا يظنّ بهما ذلك بل يظنّ بالحكم الواقعي من غير ظنّ بصدور بيانه منه ، وإن كان من الأحكام المخزونة عند الإمام ؛ إذ لا يلزم في كل ما هو مخزون عنده أن يكون ممّا صدر بيانه منه ؛ فإنّ كثيرا من الأحكام الواقعيّة لم يصدر بيانها من الأئمّة عليهم‌السلام لمصلحة مقتضية لإخفائها ، أو تأخير بيانها إلى وقته المعلوم.

وإن أريد بها حكاية قوله أو فعله أو تقريره ـ كما هو الإصطلاح في الخبر والحديث ـ فإن كان الغرض من الرجوع إليها الأخذ بالمحكي المتضمّن للحكم الشرعي ، فيرجع إلى التقرير الأوّل فيرد عليه ما عرفت


وهو كما ترى وإن كان مشتبه المراد ؛ حيث إنّه قد يظهر منه : أنّ محلّ البحث في حجيّة ظواهر الكتاب والسّنة ، وهي لا تعلّق لها بما نحن فيه.

وقد يظهر منه : كون محلّ بحثه في كشف الأخبار الظّنية وحكايتها من حيث إسناد الرّاوي عن السّنة الواقعيّة وأنّ ما يحكيه المخبر عن المعصوم عليه‌السلام من السّنة يجب الاعتماد عليه والعمل به من حيث كشفه ظنّا عن السّنة بالنّظر إلى الحكاية الظّنية كما هو المقصود بالبحث في المقام ، إلاّ أنّه بعد التّأمّل في أطراف كلماته ومجموعها يظهر ممّا أفاده : تعلّق قصده بإثبات حجيّة الظّن الخبري من حيث السّنة :

إمّا من جهة كونه من الظّنون المخصوصة من حيث قيام الإجماع من القائل بحجيّة الظّن الخاص والظّن المطلق على حجيّته كما هو ظاهر بعض كلماته ، وإن كان التمسّك بمثل الإجماع المذكور كما ترى.

وإمّا من جهة إجراء دليل الانسداد في التّكليف المتعلّق بالمسألة الأصوليّة.

أعني : وجوب العمل بالسّنة بتقريب : أنّه بعد الفراغ عن ثبوته وانسداد طريق العلم

__________________

وإن كان الغرض إيجاب الرجوع إليها في نفسها مع قطع النظر عن المحكي ، فهو ممّا لا محصّل له ولا تصلح مقسما للقطعيّة والظنّيّة ، ولا معنى لوجوب الرجوع إلى الحكاية القطعيّة والحكاية الظنّيّة المجرّدة عن القول والفعل والتقرير المفيد للحكم ». انتهى.

انظر تعليقة على معالم الأصول للسيّد علي القزويني قدس‌سره : ج ٥ / ٢٧٣ ـ ٢٧٤.


إليها في الغالب ، وكذا الظّن الخاصّ ، لا بدّ من الرّجوع إلى الأخبار الغير العلميّة الكاشفة عنها على سبيل الظّن ؛ إذ هو الأقرب إلى العلم في حكم العقل بعد انسداد الطّريق إليه وعدم نصب الشّارع ما يقوم مقامه عند تعذّر تحصيله كما يستظهر من بعضها أيضا.

وإن توجّه عليه ما أفاده شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره : من أنّ التكليف المتعلّق بالعمل بالسّنة إنّما هو من حيث كونها كاشفة عن الحكم الواقعي المدلول عليه بها لا من حيث ذاتها. مع أنّ مقتضاه العمل بكلّ ما يكشف ظنّا عن السّنة الواقعيّة لا خصوص الأخبار ، مع أنّ كلّ أمارة كاشفة عن الحكم الواقعي كاشفة عن السّنة بعد العلم ببيان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأحكام جميع الوقائع كما هو المعلوم عندنا وإليه أشار شيخنا قدس‌سره بقوله : « والحاصل : أنّ مطلق الظّن بحكم الشّارع ... إلى آخره » (١).

ودعوى : عدم العلم الإجمالي بالتّكاليف الواقعية في غير مضامين الأخبار قد عرفت فسادها بما فصّل في الجواب عن الوجه الأوّل الّذي اعتمد عليه شيخنا قدس‌سره في سابق الأيّام فلا حاجة إلى إطالة البحث والكلام (٢).

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٣٦٤ ، وفي الكتاب : الظّنّ بحكم الله ... إلى آخره.

(٢) انظر كلمات الاعلام ذيل ما أفاده صاحب الهداية أعلى الله تعالى مقامه الشريف ، في كلّ من : أجود التقريرات : ج ٣ / ٢١٤ ، وفوائد الأصول : ج ٣ / ٢١٢ ، ونهاية الأفكار : ج ٣ / ١٤٣ ، والكفاية : ٣٠٦ ، ومنتقى الأصول : ج ٤ / ٣١٧ ، ومصباح الأصول : ج ٢ / ٢١٤.


(١٨٩) قوله قدس‌سره : ( والإنصاف : أنّ الدّال منها ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٦٦ ).

أقول : المراد بمؤدّى الخبر الّذي تعلّق به الوثوق والاطمئنان مضمونه من حيث الحكاية عن السّنة ، لا الحكم الواقعي الّذي تضمّنه السّنة المحكيّة ؛ فإنّه لا تعلّق له بالمقام أصلا ، كما عرفت تفصيل القول فيه في ابتداء البحث عن مسألة حجيّة أخبار الآحاد ، وأنّ الكلام فيها من حيث الحكم بصدق الرّاوي في الحكاية وهو المراد بالواقع أيضا في قوله قدس‌سره : ( والمعيار فيه : أن يكون احتمال مخالفته للواقع بعيدا ) (١) كما هو واضح لا الحكم الواقعي كما ربّما يتوهّمه من لا خبرة له.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٣٦٦.


* في أدلّة حجّيّة مطلق الظّنّ

١ ـ وجوب دفع الضرر المظنون

٢ ـ قبح ترجيح المرجوح

٣ ـ دليل سيّد الرياض

٤ ـ دليل الإنسداد

ومقدّماته الأربعة



* في حجيّة مطلق الظن

(١٩٠) قوله قدس‌سره : ( وهو كون الخبر مطلقا ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٦٧ ).

كلام في الأدلّة الأربعة لحجّيّة الظن

أقول : ما أفاده من باب المثال على تقدير عدم الكليّة والإهمال في النتيجة ؛ لأنّ المعيّن لا ينحصر فيه على هذا القدر كما سيجيء تفصيل القول فيه.

ثمّ إنّ ذكر الوجوه الأربعة غير الوجه الثّالث في كلمات القدماء والمتأخّرين من الخاصّة والعامّة عدا جمع من متأخّري المتأخّرين ؛ إنّما هو لإثبات حجيّة الظّنّ الخبري وإن لم يكن الوجوه بأسرها ناظرة إليه ، إلاّ أنّهم أقاموها لإثبات حجيّة الخبر بأخذه في عنوان الدّليل أو إرجاعه إليه كما صنعه في « المعالم » عند الاستدلال بالدّليل الرّابع لإثبات حجيّة الخبر ، وإن كان الصّواب في تحريرها ما صنعه جمع من متأخّري المتأخّرين.

ثمّ إنّ الوجهين الأوّلين ، بل الثّالث على تأمّل ، لا يفرّق في مفادهما بين التّمكّن من تحصيل العلم والظّن الخاصّ في غالب الأحكام أو في المسألة


الشخصيّة والحكم الشّخصي وعدم التّمكن منهما وعدم التزام المستدلّ بهما بما ذكر لا يوجب إلاّ نقضا عليه ، أو هو مع إيراد عليهما على تقدير الاتّفاق على عدم الالتزام بمفادهما عند التمكن من تحصيل العلم أو الظّن الخاصّ.

وما ستعرفه من المحقّق القميّ قدس‌سره : من أخذ مقدّمات دليل الانسداد في سائر الوجوه العقليّة لا تعلّق له بكلامهم في الاستدلال بالوجوه المذكورة. مع أنّه لا معنى له بناء على ما أفاده قدس‌سره : من جعلها دليلا مستقلاّ في قبال الدّليل المذكور وإن زعم قدس‌سره عدم التّنافي بين الأمرين كما سيجيء الإشارة إليه.


* الدليل الأوّل من أدلّة حجّيّة مطلق الظن

١ ـ وجوب دفع الضرر المظنون

(١٩١) قوله قدس‌سره : ( وهو فاسد ؛ لأنّ الحكم المذكور ... إلى آخره ) (*). ( ج ١ / ٣٦٨ )

وضوح فساد الإعتراض على الدليل الأوّل (١)

أقول : فساد منع الكبرى وكون الحكم المذكور إلزاميّا أطبق عليه العقلاء والعلماء في جميع أمورهم ممّا لا يحتاج إلى البيان من غاية وضوحه. ومن هنا استدلّوا على وجوب المعرفة بوجهين :

أحدهما : أنّ شكر المنعم من حيث ذاته لازم في حكم العقل ويتوقّف على

__________________

(*) لاحظ كلمة المحقق الخراساني قدس‌سره في المقام في كتابه درر الفوائد : ص ١٢٧ وأيضا مناقشة الشيخ رحمة الله الكرماني فيما أفاده في الفرائد المحشّى ص ١٠٧ فإنه مغتنم.

(١) وهو : وجوب دفع الضرر المظنون.


معرفة المنعم فيجب من باب المقدّمة.

ثانيهما : أنّ شكر المنعم واجب من حيث إنّ تركه في معرض زوال النّعمة والضّرر ، فإذا كان واجبا وجب المعرفة من باب المقدّمة وحكموا بوجوب النّظر في أمر من يدّعي النّبوّة من حيث إنّ تركه في معرض الضّرر ويجب دفعه عقلا فيجب النّظر لدفعه ، والمفروض : أنّه لا يمكن إثبات وجوبه بالشّرع كما هو واضح ، فلو لم يجب عقلا لم يكن لله على غير النّاظر حجّة فيلزم إقحام الأنبياء. وإثبات نبوّة النّبيّ اللاّحق بإخبار النّبي السّابق لا يجدي جدّا ؛ إذ ينقل الكلام إلى طريق إثبات نبوّة السّابق.

(١٩٢) قوله قدس‌سره : ( بل الأقوى كما صرّح به الشّيخ في العدّة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٦٩ )

نقل كلام الشيخ في مسألة الضرر وما يتوجّه عليه

أقول : ما أفاده قدس‌سره من تسرية الحكم إلى الضّرر المحتمل وأنّه ممّا يجب دفعه في حكم العقل ، لا بدّ من أنّ يحمل على الإهمال من حيث الضّرر الدّنيوي والأخروي ومراتب الاحتمال في الضّرر الدّنيوي وأقسامه ؛ فإنّ حكم العقل بوجوب دفع الضّرر المحتمل الأخروي ممّا لا شبهة فيه ، كما يرشد إليه اتّفاقهم في مسألة وجوب النّظر مع أنّها ليست مفروضة في خصوص الظّن بصدق المدّعى كما لا يخفى ، كحكمه بدفع الضّرر المشكوك الدّنيوي في الجملة لا مطلقا. كيف! وستعرف تصريحه بعدم اعتناء العقلاء باحتمال الضّرر الدّنيوي مع ظنّ السّلامة


هذا. وستعرف شرح القول في ذلك منّا عن قريب.

نعم ، كلام الشّيخ قدس‌سره في « العدّة » لا يأبى عن ذلك ؛ فإنّه بعد ما اختار القول بالوقف من جهة العقل في مسألة الحظر والإباحة في الأشياء المشتملة على المنفعة الخالية عن أمارة المفسدة وفاقا لجماعة وشيخه (*) أبي عبد الله قال ما هذا لفظه :

« والّذي يدلّ على ذلك : أنّه قد ثبت في العقول أنّ الإقدام على ما لم يؤمن المكلّف كونه قبيحا ، مثل إقدامه على ما يعلم قبحه ، ألا ترى أنّ الإقدام على الإخبار بما لا يعلم صحّته ، يجري في القبح مجرى من أخبر مع علمه بأنّ خبره على خلاف ما أخبر به على حدّ واحد؟ وإذا ثبت ذلك وفقدنا الأدلّة على حسن هذه الأشياء قطعا ينبغي أن يجوز كونها قبيحة ، وإذا جوّزنا ذلك فيها قبح الإقدام عليها. فإن قيل : نحن نأمن قبحها ؛ لأنّها لو كانت قبيحة لم يكن إلاّ لكونها مفسدة ؛ لأنّه ليس لها جهة قبح يلزمها مثل الجهل ، والظّلم ، والكذب ، ولو كانت قبيحة للمفسدة وجب على القديم « تعالى » أن يعلّمنا ذلك وإلاّ قبح التّكليف ، فلمّا لم يعلّمنا ذلك علمنا حسنها عند ذلك ، وذلك يفيدنا الإباحة. قيل : لا يمنع أن يتعلّق المفسدة بإعلامنا جهة الفعل على التّفصيل فيقبح الإعلام ، ويكون المصلحة لنا في التّوقّف في ذلك والشّك وتجويز كلّ من الأمرين » (١). انتهى ما أردنا نقله من كلامه قدس‌سره.

__________________

(*) هو الشيخ محمّد بن محمّد المعروف بالمفيد وابن المعلّم المتوفى سنة ٤١٣ ه‍.

(١) عدّة الأصول : ج ٢ / ٧٤٢ بإختلاف يسير.


وهو كما ترى لا يأبى الشّمول لبعض مراتب الاحتمال الموهوم وإن كان آبيا لشمول جميع مراتبها فإنّ مع الاطمئنان يحصل الأمن فتدبّر.

وأمّا تمسّكه بعد العقل بالآية الشّريفة فليس له عين ولا أثر في النّسخة الموجودة عندي ، مع أنّ في الاستدلال بها ما لا يخفى ؛ فإنّ الاستدلال بما يثبت الحكم للموضوع النّفس الأمري الواقعي لإثبات الحكم في صورة احتمال وجود الموضوع ، كما ترى.

وقال قدس‌سره في « العدّة » في آخر المسألة :

« واستدلّ كثير من النّاس على أنّ هذه الأشياء على الحظر أو الوقف ؛ بأن قالوا : قد علمنا أنّ التحرز من المضارّ واجب في العقول وإذا كان ذلك واجبا لم يحسن منّا أن نقدم على تناول ما لا نأمن أن يكون سمّا قاتلا فيؤدّي ذلك إلى العطب ؛ لأنّا لا نفرّق بين ما هو سمّ أو غذاء وإنّما ينظر ذلك إعلام الله ( تعالى ) لنا ما هو غذاء والفرق بينه وبين السّموم. واعترض من خالف في ذلك بهذا الاستدلال بأن قال : يمكننا أن نعلم ذلك بالتّجربة.

إلى أن قال ـ بعد جملة كلام له والنّقض والإبرام على الوجه المذكور ـ : « فالمعتمد في هذا الباب ما ذكرناه أوّلا في صدر هذا الباب » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

__________________

(١) عدّة الأصول : ج ٢ / ٧٥٠.


(١٩٣) قوله قدس‌سره : ( ثمّ إنّ ما ذكره من ابتناء الكبرى ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٦٩ )

المراد من تحريم تعريض النفس للمهالك والمضار

أقول : مراده قدس‌سره من تحريم تعريض النّفس للمهالك والمضارّ الدّنيويّة والأخرويّة ؛ لا بدّ أن يكون أعمّ من التّحريم الإرشاديّ العقلي أو خصوص الإرشاديّ ؛ ضرورة عدم تصوّر التّحريم الشّرعي بالنّسبة إلى المقطوع من الضرر الأخروي فضلا عن المظنون أو المحتمل منه ، بل الأمر بالنّسبة إلى تعريض النّفس للمهالك الدّنيويّة أيضا كذلك ؛ فإنّ الضّرر الدّنيوي وإن كان قابلا لتعلّق الوجوب الشّرعي بدفع المظنون منه بل المشكوك منه من باب الموضوعيّة ، إلاّ أنّه خلاف ما يستفاد من الأدلّة ؛ فإنّ ما ذكره من الآيات على تقدير دلالتها على حكم التّعريض المدّعى صدقه في صورة الظّن بالضّرر ، لا يدلّ إلاّ على الطلب الإرشادي وأكثرها يرجع إلى الإيعاد على ترتيب لوازم مخالفة الشّارع ، مع أنّه قد يمنع من دلالتها على حكم صورة الظّن سيّما « آية التهلكة » (١).

ثمّ إنّه قد يناقش في الابتناء الّذي أفاده بقوله : « بناء على أنّ المراد ... إلى آخره » (٢) ـ مضافا إلى ظهور الفتنة فيما أفاده ـ : بأنّ المدّعى أعمّ من الضّرر

__________________

(١) البقرة : ١٩٥.

(٢) فرائد الاصول : ج ١ / ٣٦٩.


الدّنيوي والأخروي ، فالاستدلال يتمّ على كلّ تقدير.

(١٩٤) قوله قدس‌سره : ( نعم ، التّمسك في سند الكبرى ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٧٠ )

أقول : ما أفاده قدس‌سره واضح لا خفاء فيه أصلا ؛ فإنّ الافتراق بين الدّليل العقلي والشّرعي إنّما هو بالكبرى ؛ فإنّ ملاك الدّليليّة إنّما هو بها لا بالصّغرى ولا بالمجموع ، غاية ما هناك : تسمية ما يكون الكبرى فيه فقط عقليّا بالعقل الغير المستقلّ في اصطلاحهم ؛ نظرا إلى عدم كفايته في الإنتاج وإلاّ لم يعقل عدم الاستقلال فيما يحكم به العقل وتسمية ما يكون المقدّمتان فيه عقليّا بالعقل المستقلّ كما في مسألة التحسين والتقبيح العقليّين مع ثبوت الملازمة بحكم العقل.

(١٩٥) قوله قدس‌سره : ( ولا يبعد عن الحاجبي ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٧٠ )

أقول : لا خفاء فيما أفاده قدس‌سره وإنّما العجب من حكمه : بأنّ حكم العقل في المسألة استحساني ، مع أنّه منكر لأصل حكم العقل رأسا ؛ فإنّه مع إنكاره الرّأسي كيف تصوّر ما حكم به؟ اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الجواب الإغماضي لا يتوقّف على التّصور التّحقيقي فتدبّر.

(١٩٦) قوله قدس‌سره : ( ثانيها : ما يظهر من « العدّة » و « الغنية » ... إلى آخره ) ( ج ١ / ٣٧٠ )

أقول : لم أر الجواب المذكور والفرق بين الضّررين في النّسخة الموجودة عندي من « عدّة » الشّيخ قدس‌سره فلعلّ ما كان عنده قدس‌سره من النّسخة مغاير لما عندي ولا ريب في لزوم تصديقه.


(١٩٧) قوله قدس‌سره : ( أو يريد أنّ المضار الغير الدّنيوية ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٧٠ )

أقول : هذا منبىء على كون المراد من العقاب خصوص ما يستحقّه المكلّف للمعصية من الدّخول في النّار أو العذاب والعقوبات الّتي يلحقه في عالم البرزخ إلى ورود جهنّم ، لا مثل انحطاط الشّأن والمرتبة بحسب الدّرجات العالية ، والبعد عن مراتب قرب ساحته « جلّ جلاله » والحرمان عن الفيوضات الغير المتناهية ، أو خصوص دخول النّار لا غيره.

ثمّ إنّ الباعث على التّكليف وبعث الرّسل إنّما هو تكميل النّفوس وحصول الاستعداد لها ، لفيضان رحمة الحقّ جلّت عظمته والتّشبّه بالمبدأ الموجب لقرب حضرته الّذي هو منتهى المقصود ، فدفع المضارّ الأخرويّة ممّا يترتّب على هذا المقصود كجلب المنافع الأخرويّة وليسا ممّا يقصده بالتّكليف والبعث أوّلا وبالذّات. فلعلّ مراده قدس‌سره ما ذكرنا لا ما ربّما يستظهر من العبارة في باديء النّظر.

(١٩٨) قوله قدس‌سره : ( كخبر الفاسق ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٧١ )

أقول : غرضه قدس‌سره مجرّد التّمثيل ، ومثاليّة الأوّل إنّما هي على سبيل الإهمال ، كيف! وقد صرّح قدس‌سره بحجيّة خبر الفاسق في الجملة في مواضع من كلماته ، بل وكذا غيره من الإماميّة.

وقد عرفت قول « المحقّق » : « إنّه ما من مصنّف إلاّ ويعمل بخبر


المجروح » (١) وكذا قول الشيخ وغيره من الأصحاب ( رضوان الله عليهم ).

(١٩٩) قوله قدس‌سره : ( ويضعف الأوّل ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٧١ )

أقول : الجواب المذكور للمحقّق القميّ قدس‌سره ولا يبعد أن يكون مراده من الانسداد كما سيجيء : هو الانسداد الغالبي لا الشّخصي ، إلاّ أنّ مبنى الدّليل لما لم يكن على فرض الانسداد أصلا فضلا عن الغالبي ، يتوجّه عليه النّقض والإبرام بحرمة العمل بالقياس المفيد للظّن بالوجوب والتّحريم في الجملة لامتناع تطرّق التّخصيص في الدّليل العقلي وإلاّ لم يكن حاكما ، فكأنّه لما عرفت حمل الانسداد في الجواب على الشّخصي.

(٢٠٠) قوله قدس‌سره : ( والثّاني : أنّ إتيان الفعل حذرا ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٧١ )

أقول : لا يخفى عليك : أنّ ما أفاده قدس‌سره في تضعيف الوجه الثّاني : من أنّ عنوان وجوب دفع الضّرر المظنون في حكم العقل الّذي يرجع إلى الاحتياط في مورد قيام الأمارة على الوجوب والتّحريم كحكمه بوجوب دفع الضّرر المحتمل فيما يحكم به من موارد تنجّز التّكليف بالعلم الإجمالي ، لا ينافي عنوان حرمة العمل بالظّن القياسي من كونه الأخذ به بعنوان التّدين والتّعبد به.

ولذا انعقد الإجماع على حسن الاحتياط في موارد القياس وأشباهه ، مع انعقاد الإجماع على حرمة العمل به كما يحكم بحرمة العمل بالظّن المشكوك

__________________

(١) المعتبر : ج ١ / ٢٩.


الاعتبار أيضا بهذا العنوان ، فلا فرق في عنوان الحرمة ومعروضها بينهما أصلا. وإنّما الفرق بينهما بعد ثبوت حرمة العمل بالخصوص في القياس جواز قيام الدّليل على الاعتبار في المشكوك الاعتبار ، فيخرج العمل به عن عنوان التّشريع.

وعدم جوازه في القياس وأشباهه إنّما هو مبنيّ على ما هو الصّواب والحقّ عنده من كون مفاد الوجه المذكور ـ على تقدير تسليمه كما هو المفروض في كلام المجيب ـ هو إيجاب الاحتياط في مورد الظّن بالضّرر في حكم العقل ، لا حجيّة الظّن وطريقيّته كما هو مبني الاستدلال به ومقتضاه في زعم المستدلّ ، وإلاّ فلا توجّه لما أفاده قدس‌سره في المقام.

مع أنّه قد يناقش فيه ـ على التّقدير الصّواب والحقّ ـ بأنّ مرجع تحريم العمل بالقياس وأشباهه وإن كان إلى تحريم التّعبّد بمقتضاه فلا ينافي الاحتياط من جهة إدراك الواقع المحتمل في مورده ، إلاّ أنّه ينافي وجوب مراعاة الظّن المذكور ولو بعنوان الاحتياط ؛ ضرورة أنّ معنى إلغاء الظّن هو وجوب الرّجوع إلى الأصول الشّرعيّة الجارية في مورده ، كما أنّ معنى اعتباره عند الشّارع هو رفع اليد عن الأصول الجارية في مورده.

وهذا كما ترى لا يجامع إيجاب الاحتياط فيما حكم بعدم اعتباره من جهة نفس الأمارة الغير المعتبرة. نعم ، يجامع إيجاب الاحتياط من جهة الشّك في المسألة الفرعيّة الّتي قامت الأمارة الغير المعتبرة عليها فيما لو كان الشّك موجبا للاحتياط لكنّه لا دخل له بالاحتياط من جهة الأمارة القائمة ولو كان الأصل


الجاري في المسألة نافيا للاحتياط كما إذا كان الشّك في التّكليف.

نعم ، لو فرض إبطال الأصول رأسا كالطّرق الأخر غير الظّن وما يقابله بحيث دار الأمر بينهما حكم حينئذ باعتبار الظّن فيرجع إلى دليل الانسداد ولا دخل له بهذا الوجه.

وإن أمكن دفع المناقشة عمّا أفاده قدس‌سره : بأنّ غرضه الاعتراض على من أجاب بكون خروج القياس عن هذا الوجه. أي : حكم العقل بوجوب دفع الضّرر من جهة الخروج الموضوعي من حيث إنّ العمل به مشتمل على الضّرر الأعظم فلا يقتضي الوجه المذكور وجوب العمل به ؛ حيث إنّه توهّم أنّ العمل به بأيّ عنوان كان مشتمل على تلك المفسدة وليس في مقام منع دلالة دليل إلقائه على عدم وجوب الاحتياط في مورده فتأمّل.

(٢٠١) قوله قدس‌سره : ( فالأولى لهذا المجيب ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٧٣ )

أقول : فعلى ما أفاده قدس‌سره يكون مرجع خروج القياس عن حكم العقل المزبور إلى التّخصّص والخروج عن الموضوع لا التّخصيص والخروج الحكمي ؛ حيث إنّ حكم العقل في مسألة دفع الضّرر ولو في الضّرر المقطوع ؛ إنّما هو في الضّرر الغير المتدارك. فالضّرر المتدارك خارج موضوعا عن مورد حكم العقل والوجه في أمره بالتّأمّل ما سيجيء في بيان وجوه خروج القياس عن دليل الانسداد من الإشكال في تماميّة هذا الوجه فانتظر.


(٢٠٢) قوله قدس‌سره : ( فإنّ استحقاق العقاب على الفعل أو التّرك ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٧٣ )

قصر الطاعة والمعصية على العلم والظن محل مناقشة

أقول : ما أفاده قدس‌سره في بيان وجه منع الصّغرى على تقدير إرادة العقاب من الضّرر المظنون في موارد الظّن بالحكم الإلزامي من جهة عدم الملازمة في حكم العقل بين الحكم الإلزامي الواقعي الّذي تعلّق به الظّن واستحقاق العقاب ممّا لا خفاء فيه أصلا. ومن هنا يتخلّف قولا واحدا عن مخالفة الحكم الواقعي في موارد تحقّقها عن جهل مركّب أو بسيط في الجملة ، أي : مع القصور لا التّقصير وهو المراد بما أفاده ، لا القضيّة المطلقة. فإذا لم يكن ملازمة بينهما فلا يمكن أن يستكشف من الظّن بالحكم الإلزامي الواقعي الظّن بالضّرر ويستدلّ به عليه ، إلاّ أنّ قصره الإطاعة والمعصية الموجبتين لاستحقاق الثّواب والعقاب على العلم والظّن المعتبر محلّ مناقشة.

إذ كثيرا مّا يحكم بترتّب الثّواب على موافقة الأحكام الواقعيّة من دون حصول أحد الأمرين كما قد يحكم باستحقاق العقاب على مخالفتها من دون تحقّق أحدهما كما في موارد جهل الّذي لا يكون عذرا في حكم العقل.

اللهمّ إلاّ أن يكون الحصر إضافيّا ومقصودا بالنّسبة إلى الظّن الغير المعتبر بحيث لا يكون في المسألة مقتضيا لاستحقاق العقوبة من غير جهة الظّن. ومن هنا ألحقه بالشّك حكما ؛ من حيث إنّ العقل حاكم بالمعذوريّة معه كما يحكم


بالمعذوريّة مع الشّك. والإلحاق الموضوعي بقوله : ( بل هو هو ) (١) كما في بعض النّسخ ، غلط جدّا ؛ إذ حكم الشّارع بعدم الاعتبار لا يوجب خروج الشّيء عن حقيقته وانقلابه عمّا هو عليه.

والقول : بأنّه يوجب ارتفاع الظّن عن الأمارة ، خروج عن الفرض ؛ إذ الكلام إنّما هو في حكم الظّن ، وقد أمر في مجلس البحث بكونه غلطا ومحوه عمّا وجد فيه من النّسخ.

وبالجملة : لا يمكن جعل حكم العقل المفروض دليلا على وجوب العمل بالظّن في المقام الموقوف على ثبوت الظّن بالعقاب الموقوف على حجيّة الظّن. ومن هنا قال قدس‌سره : ( ومنه يعلم فساد ما ربّما يتوهّم أنّ قاعدة دفع الضّرر ... إلى آخره ) (٢).

(٢٠٣) قوله قدس‌سره : ( لكنّه رجوع عن الاعتراف ... إلى آخره ) (٣). ( ج ١ / ٣٧٤ )

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٣٧٣.

(٢) فرائد الاصول : ج ١ / ٣٧٤.

(٣) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« ولا يخفى ان قوله قدس‌سره : « لكنه رجوع عن الإعتراف ... إلى آخره » كأنه سهو من القلم وأن الصحيح ان يقال : « لكنه رجوع عن الإعتراف بعدم وجوب دفع الضرر المشكوك » كيف والمفروض فيما استدرك عنه هو الظن بالتكليف ، فلا تغفل ». انتهى. انظر درر الفوائد في


__________________

الحاشية على الفرائد : ص ١٣٠.

* وقال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

( في كونه رجوعا عمّا اعترف به تأمّل ؛ لأن وجوب التحرّز عن العقاب المحتمل فضلا عن المشكوك من المستقلاّت العقليّة ولذا نحكم بوجوب الإجتناب عن محتملات الشبهة المحصورة فكيف يعترف الخصم بجواز الإقدام عليه بالإجماع والعقل؟

وانما اعترف الخصم بان مشكوك الوجوب أو الحرمة أو موهومهما لا يجب مراعاته عقلا وإجماعا ، فالعقل والإجماع مؤمّنان عن المفسدة المترتّبة على فوت الواقع.

وأمّا مظنون الوجوب والحرمة فحيث لا عقل ولا اجماع يؤمّن [ يؤمّنان ] المكلّف من تبعة مخالفة الواقع ، يجب عليه الإحتياط تحرّزا عن العقاب المحتمل فضلا عن مشكوكه.

ولم يعترف المستدل في مقدمات دليله بان العقاب المحتمل لا يجب التحرّز عنه فلاحظ. والله العالم ) انتهى. حاشية الفرائد لا غارضا الهمداني قدس‌سره الطبعة القديمة : ص ٢٤.

* وقال سيد العروة أعلى الله تعالى مقامه :

« للقائل أن يقول باستقلال العقل على عدم المؤاخذة على الوجوب والتحريم المشكوكين بواسطة الجهل المركّب أو البسيط بالحكم ويكون الضرر حينئذ مقطوع العدم ، ويقول بوجوب دفع الضرر المحتمل في مظنون الوجوب والحرمة لفرض عدم حكم العقل فيه بقبح العقاب على الواقع المظنون ولا يكون هذا رجوعا عمّا اعترف به أوّلا.

إذ ما اعترف به أوّلا استقلال العقل على قبح عقاب مشكوك الوجوب والحرمة ، لا مشكوك الضرر للقطع بعدم الضرر بواسطة هذا الحكم العقلي ، وهذا غير ما يلتزم به أخيرا :


أقول : حقّ التّحرير أن يقال ـ بدل القول المذكور ـ : لكنّه مناف لحكم العقل المستقلّ بقبح العقاب من دون وصول بيان من الشّارع إلى المكلّف ولو مع الظّن الغير المعتبر بالتّكليف والمفروض : أنّ بيانيّة الظّن في المقام دوري على ما عرفت.

والوجه في أولويّة التّبديل ممّا لا يخفى ؛ فإنّه لم يسبق اعتراف من المستدلّ بذلك. إلاّ أن يقال : إنّ التزامه بإثبات حجيّة الظّن ، اعتراف بأنّه لولاه لم يكن مانع عن الرّجوع إلى البراءة حتّى في مورد الظّن بالتّكليف. اللهم إلاّ أن يقال : إنّ مرجع التزامه إلى ورود قاعدة دفع الضّرر دائما على قاعدة القبح وهو في معنى عدم الالتزام بلزوم قيام دليل على التّكليف في المنع عن الرّجوع إلى البراءة وإلاّ فليس في المقام دليل سوى الظّن الّذي لم يقم دليل على اعتباره غير قاعدة وجوب دفع الضّرر ، فتأمل.

__________________

من وجوب دفع الضرر المشكوك في مظنون الوجوب والحرمة الذي لا يستقل العقل بقبح العقاب عليه كما هو مفروض المتن.

بقي الكلام فيما أفاده : من استقلال العقل بقبح العقاب على الوجوب والتحريم المشكوكين وعدم استقلاله في مظنون الوجوب والحرمة ، والحق عدم الفرق.

فإن كان يحكم بقبح المؤاخذة يحكم في الموضعين وإلاّ لا يحكم في الموضعين. وقد أفرط المصنّف في رسالة أصل البراءة حيث حكم باستقلال العقل بقبح العقاب على الحكم المجهول حتى في الشبهات الموضوعية ».

إلى آخر ما ذكره فراجع حاشية فرائد الاصول تقرير بحث السيد اليزدي : ج ١ / ٤٩٩.


(٢٠٤) قوله قدس‌سره : ( إلاّ أنّا لا نظنّ يترتّب المفسدة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٧٥ )

موضوع حكم العقل بوجوب الدفع هو الضرر غير المتدارك

أقول : ما أفاده قدس‌سره مبنيّ على ما عرفت الإشارة إليه : من كون حكم العقل لاحقا وعارضا في قاعدة وجوب الدّفع للضّرر الغير المتدارك من حيث كون عنوان موضوع حكمه التّضرّر الغير المتحقّق في صورة التّدارك ، فكما أنّه لا بدّ من إحراز ذات الضّرر في حكم العقل ، كذلك لا بدّ من إحراز قيده : وهو عدم التّدارك. فإذا احتمل مصادفة ما يتدارك به الضّرر فلا يلازم الظّن بالوجوب مثلا الظّن بالتّضرّر.

بل قد يقال : بأنّه على قول العدليّة بتبعيّة الأحكام الشّرعيّة للمصالح والمفاسد النّفس الأمريّة لا يلازم الظّن بالحكم الإلزامي الظّن بالمفسدة في الفعل ؛ إذ ربّما يكون المصلحة في التّشريع والتّكليف ، أو يكون حكمة التّشريع وجود المصلحة في وجود الفعل في الجملة لا في جميع أشخاصه. ومن هنا حكموا بعدم لزوم الاطّراد في الحكمة. فالظّن بالحكم لا يلزم الظّن بالضّرر في جميع موارد وجوده فتأمّل.

(٢٠٥) قوله قدس‌سره : ( ويرد عليه : أنّ الظّن ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٧٥ )

أقول : ما أفاده ممّا لا خفاء فيه بعد التّأمّل في بناء العقل وحكم العقل في موارد ثبوته ، فالمأخوذ في موضوع الحكم العقلي عدم العلم بالتّدارك ، لا العلم


بعدم التّدارك المنتفي باحتمال التّدارك ، ولا التّدارك الواقعي ؛ حتّى يلزم إحراز عدمه ؛ ضرورة استحالة تعلّق الحكم العقلي بالأمر النّفس الأمري كما ستعرف شرح القول فيه ، مضافا إلى ما عرّفته في مطاوي كلماتنا السّابقة.

(٢٠٦) قوله قدس‌سره : ( ووجه الضّعف : ما ثبت سابقا ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٧٥ )

أقول : قد تقدّم سابقا ـ عند تأسيس الأصل في العمل بالظّن بل مطلق غير العلم ـ : أنّ النّهي عن العمل به ، قد يكون من باب الطّريقيّة ؛ من حيث أنّه موجب لطرح الواقع الأوّلي أو الثّانوي في مورده فيكون النّهي عنه إرشاديّا حتّى لا يقع في محذور مخالفة الواقع المحتمل أو المحقّق ، وقد يكون من باب الموضوعيّة ؛ من حيث إنّ التّديّن به مع عدم العلم بحجيّته ولو لم يوجب طرح الواقع أصلا ، حرام من حيث كونه تشريعا محرّما بالأدلّة الأربعة ؛ فإذا فرض الظّن بوجوب فعل ففعله المكلّف تحرّزا عن الوقوع في مخالفة الحكم الإلزامي وبعنوان الاحتياط بحيث لا يكون في فعله احتمال حرمة أصلا ، فليس الفعل المزبور بالعنوان المذكور محرّما بوجه من الوجوه ، بل يكون حسنا قطعا في حكم العقل.

نعم ، قد عرفت : أنّ إيجاب الاحتياط في مورد الظّن المزبور من جهته مع فرض ترخيص الشّارع الرّجوع إلى الأصل المقابل للظّن المستفاد ممّا دلّ على عدم اعتباره ولو من جهة الشّك في الاعتبار ، لا يجامع عدم حجيّة الظّن. والمفروض كون مفاد الدّليل المذكور الاحتياط لا الحجيّة كما هو مبنى كلامه قدس‌سره فتأمل.


وممّا ذكرنا يظهر : أنّ ما أفاده قدس‌سره بقوله المذكور ؛ إنّما هو بالنّسبة إلى بعض ما دلّ على حرمة العمل بالظّن ، وإلاّ فقد عرفت تصريحه مرارا بثبوت الجهة الثّانية لحرمة العمل بالظّن فلعلّه ترك التّعرض له في المقام من جهة تعرّضه فيما تقدّم لعدم مانعيّة للعمل بالظّن بالضّرر بعنوان الاحتياط.

(٢٠٧) قوله قدس‌سره : ( ثمّ إنّه لا فرق بين أن يحصل القطع ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٧٦ )

الكلام في الضرر

أقول : لمّا أبطل مانعيّة مجرّد احتمال التّدارك ومزاحمته لحكم العقل بوجوب الدّفع ولو كان بمرتبة الشّك فالتزم بإثبات التّدارك للضّرر بما ذكره معممّا في مراتب الثّبوت بقوله هذا.

وما أفاده من عدم الفرق بين حصول القطع بالتّدارك وبين الظّنّ به ممّا لا خفاء فيه أصلا ؛ حيث أنّه لا يظنّ بالضّرر مع الظّن بالتّدارك أيضا ، كما لا يظنّ به مع القطع بالتّدارك من جهة القطع بالإذن من الشّارع. فالواجب في حكم العقل دفع الضّرر المظنون الّذي لم يظنّ تداركه ؛ فإنّه مع الظّن بالتّدارك يكون كالظّن بالسّلامة فكما لا يحكم العقل بوجوب دفع الضّرر المقطوع الّذي يقطع بتداركه من جهة القطع بإذن الشّارع ، كذلك لا يحكم بوجوب دفع مظنونه مع التّدارك الثّابت بإذن الشّارع ولو ظنّا.

نعم ، الفرق بينهما : أنّه مع القطع بالضّرر لا يجوز الرّجوع إلى الأصول من


جهة القطع بالحرمة. ومع الظّن به يجوز الرّجوع إليها ؛ من حيث إنّ الظّن لم يثبت حجيّته شرعا وإنّما فرض حكم العقل بوجوب الدّفع في مورده من باب الاحتياط والمفروض : أنّ إذن الشّارع في مورده ظاهرا الكاشف عن التّدارك لا ينافي حكم العقل أصلا كما عرفت.

ومن هنا يعلم أنّه لو فرض قيام الدّليل على اعتبار الظّن بالحكم شرعا لم يجز الرّجوع إلى الأصول أيضا ؛ حيث إنّ الدّليل مانع عن الرّجوع إلى الأصل بخلاف العكس فافهم.

ثمّ إنّ له قدس‌سره تعليق متعلّق بالمقام قبل قوله : « ثم إنّ مفاد هذا الدّليل ... إلى آخره » (١) لا بدّ من نقله وإيراده وبيان ما يحتاج إلى التّوضيح منه ثمّ إيراد ما يخطر بالبال في تنقيح المقام. قال قدس‌سره :

« ومحصّل الكلام : أن الضّرر الدّنيوي لمّا جاز حكم الشّارع عليه بجواز الارتكاب بخلاف الضّرر الأخروي فيجوز أن يحكم الشّارع بجواز الارتكاب مع ظنّه فيكون مظنون الضّرر كمحتمله مرخّصا فيه بأدلّة الأصول.

نعم ، لو ثبت طريقيّة الظّن وحجيّته كان كمقطوع الضّرر ؛ فإذا فرضنا أنّ الإضرار الواقعي بالنّفس محرّم فإن قطع أو ظنّ بظنّ معتبر جاء التّحريم وإلاّ دخل تحت الشّبهة الموضوعيّة المرخّص فيها مع الشّك والظّن الغير المعتبر ، فوجوب دفع الضّرر المظنون موقوف على إثبات طريقيّة الظّن فإثباتها به دور ظاهر.

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٣٧٩.


فالتّحقيق : أنّ الظّن بالضّرر إن استند إلى الأمارات الخارجيّة في الشّبهات الموضوعيّة كان طريقا وحجّة بإجماع العقلاء والعلماء. والسّر فيه : انسداد باب العلم بالضّرر في الأمور الخارجيّة فالعمل بالأصول في مقابل الظّن يوجب الوقوع في المضار الكثيرة بحيث يخلّ بنظام المعاش نظير ترك العمل بظنّ السّلامة ، وإن كان مستندا إلى الأمارات في الشّبهات الحكميّة فلا دليل على اعتباره بل المرجع الأصول المرخّصة النّافية للتّكليف إلاّ إذا ثبت انسداد باب العلم فيها فيرجع إلى دليل الانسداد ، وكذلك الكلام في ظنّ السّلامة في مقابل الأصول المثبتة للتّكليف فتأمّل.

والأولى والأسلم : الجواب بمنع ترتّب الضّرر الدّنيوي على مخالفة الواجب والحرام إمّا بالوجدان وإمّا لاحتمال كون المصالح والمفاسد مترتّبة على المخالفة عصيانا لا مطلقا ولا يلزم من ذلك عدم حسن الاحتياط في موارد الشّك فافهم » (١). انتهى كلامه قدس‌سره في الهامش.

** قوله فيه : « فوجوب دفع الضّرر المظنون ... إلى آخره » (٢).

ظاهره وإن كان في باديء النّظر منع أصل الكبرى في الضّرر المظنون الدّنيوي ما لم يثبت حجيّته ؛ نظرا إلى كون التّحريم متعلّقا بالإضرار الواقعي فيكون

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / هامش صفحة ٣٧٨ برقم (٤).

(٢) نفس المصدر ، وهذه الحاشية على الهامش وبعبارة أخرى : حاشية على الحاشية ورمزنا لذلك بنجمتين.


الظّن المتعلّق به كالظّن الغير المعتبر المتعلّق بسائر الموضوعات المحرّمة ، إلاّ أنّه بعد التّأمل في أطراف كلماته يعلم أنّ مراده منع وجوب الدّفع من حيث ترخيص الشّارع الثّابت بأدلّة الأصول الموجب للتّدارك الرّافع لقيد الموضوع في حكم العقل. كما أنّ إذن الشّارع بالنّسبة إلى الضّرر الأخروي يرجع إلى رفع الموضوع أيضا فينطبق على ما أفاده في « الكتاب ».

فإذا كان تطبيق الكبرى في المورد الخاص على الصّغرى موقوفا على حجيّة الظّن حتّى يمنع جريان الأصل المثبت للتّدارك فلا يمكن إثبات حجيّة الظّن بالضّرر بنفس وجوب الدّفع الموقوف جريانه على إثبات الصّغرى الموقوف على الحجيّة ، وإلاّ لزم الدّور الواضح ؛ من حيث توقّف الصّغرى على الحجيّة المتوقّفة على وجوب الدّفع المتوقّف على الحجيّة. فإن أسقطت الواسطة قلت : يتوقّف كلّ من الصّغرى والكبرى على الأخرى.

وتوهّم : لزوم الدّور أيضا ـ من استناد رفع قيد الموضوع إلى أصالة البراءة من حيث إنّ إجراءها يتوقّف على عدم البيان الموقوف على عدم حجيّة الظّن بالضّرر المستند إلى أصالة البراءة فيلزم توقّف كلّ من الصّغرى والكبرى في قاعدة قبح العقاب من غير بيان على الأخروي وهذا معنى الدّور ـ فاسد جدّا ؛ حيث إنّ القاعدة يتوقّف على عدم العلم بالحجيّة وهو حاصل في المقام ؛ إذ المفروض عدم إمكان حجيّة الظّن بالضّرر بنفس وجوب الدّفع وحكم العقل لكونه دوريّا هذا. وسيجيء تتمّة الكلام في ذلك عند تعرّض شيخنا قدس‌سره له في الجزء الثّاني من « الكتاب ».


** قوله قدس‌سره في الحاشية : ( فالتّحقيق : أنّ الظّن بالضّرر ... إلى آخره ) (١).

مراده من ذلك الظّن المتعلّق بموضوع الضّرر من الأمارات الخارجيّة القائمة عليه ابتداء وبالذّات في قبال الظّن المتعلّق به ثانيا وبالعرض ؛ من جهة الظّن بالحكم الشّرعي الإلزامي سواء كان من جهة تعلّقه بالحكم الكلّي كما في الشّبهات الحكميّة كما هو مفروض البحث ، أو الحكم الجزئي كما في الشّبهات الموضوعيّة الوجوبيّة أو التّحريميّة.

ومن هنا تبيّن أنّ ملاك الفرق بين القسمين : هو تعلّق الظّنّ بالضّرر ابتداء من غير تعلّقه به من جهة تعلّقه بالحكم الإلزامي المبني على المفسدة على مذهب العدليّة ، وإن كان من جهة تعلّقه بوجود الضّرر في موضوع كلّي وتعلّقه به من جهة تعلّقه بالحكم الإلزامي وإن كان من جهة تعلّقه بتحريم موضوع جزئي من جهة الظّن بكونه من مصاديق الحرام المعلوم في الشّرع.

وجعل السّر في اعتبار الظّن في الأوّل انسداد باب العلم بالضّرر فيه غالبا ؛ حيث إنّه لا يعلم به غالبا إلاّ بعد الوقوع فيه ، يحتمل أن يكون من باب الحكمة لانعقاد إجماع العلماء والعقلاء على اعتباره ، كما هو الحكمة في اعتبار أغلب الظّنون الخاصّة. ويحتمل أن يكون من جهة كونه علّة ودليلا بحجيّة الظّن به في حكم العقل ؛ فيكون هو الوجه والدّاعي لإجماعهم على سلوكه ، كما هو الشّأن في إجماعهم على اعتبار الظّن في الأمور المستقبلة وجملة من الموضوعات

__________________

(١) انظر هامش (٤) من فرائد الاصول : ج ١ / ٣٧٨.


الخارجيّة كالعدالة والنّسب والوقف ونحوها ممّا ستعرف الكلام فيها في تنبيهات دليل الانسداد.

والفرق بين الوجهين لا يكاد يخفى على أحد ؛ فالظّن بالمفسدة والضّرر في القسم الثّاني بناء على ما أفاده قدس‌سره لا يفيد شيئا إلاّ إذا فرض تماميّة مقدّمات الانسداد في الشّبهات الحكميّة. وعليه : يحكم بحجيّة الظّن المتعلّق بالحكم الشّرعي الكلّي ابتداء من غير اعتبار توليد الظّن بالضّرر منه ، ولذا لا يفرّق على فرض تماميتها بين مذهب العدليّة والأشاعرة.

والوجه في أمره بالتّأمّل عقيب حكمه قدس‌سره بالفرق بين القسمين ما سننبّئك عليه في توضيح المقام ؛ من أنّه لو حصل الظّن بمرتبة من الضّرر يجب دفعها في حكم العقل إذا حصل الظّن بها في الموضوعات الخارجيّة كالضّرر المهلك من الظّن بالحكم الشّرعي الكلي لم يكن معنى للحكم بعدم وجوب دفعه ، ومن هنا ذكر قدس‌سره : ( أنّ الأولى والأسلم : الجواب بمنع ترتّب الضّرر ... إلى آخره ) (١).

ومراده من ذلك : العلم بعدم كون الضّرر والمفسدة من لوازم نفس الفعل بحيث يترتّب عليه قهرا والشّاهدة له مشاهدة التّخلّف كثيرا أو احتمال ذلك باحتمال كون الضّرر مترتّبا على الفعل إذا صدر بعنوان العصيان.

كما أنّ المصلحة مترتّبة في العبادات على الفعل الصّادر بعنوان الإطاعة ولا يلزم على هذا الاحتمال عدم حسن الاحتياط في موارد احتمال الحكم

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٣٧٩ ، في الهامش.


الإلزامي فيما اقتضت أدلّة البراءة نفي العصيان على وجه العلم واليقين بتوهّم : أنّ حسن الاحتياط ورجحانه في حكم العقل إنّما هو من جهة التّحرز عن لوازم فعل الحرام وترك الواجب من المفاسد الكامنة الثّابتة في نفس الأفعال بأيّ نحو وجدت ؛ ضرورة أنّه يكفي في حسنه احتمال ترتّب المفسدة على الفعل بعنوانه الإطلاقي والتّجريد عن المعصية وإن احتمل ترتّبها على الفعل إذا صدر بعنوان العصيان. نعم ، على الوجه الأوّل لا معنى للحكم بحسن الاحتياط في صورة القطع بانتفاء العصيان فتدبّر.

هذا بعض ما خطر ببالي وخاطري القاصر في توضيح مرامه ممّا علّقه بالمقام عاجلا وإن أردت تنقيح المقام وشرح القول فيه بحيث يزول عنك جملة الشّبهات المتطرّقة في نفسك ، فاستمع لما يتلى عليك بسمع الطّالب الشّائق فنقول ـ من باب المقدّمة ـ :

الأحكام تابعة للموضوعات الوجدانيّة عند الحكم

إنّه لا ريب ولا إشكال في أنّ الحكم بمعنى الإنشاء من أيّ حاكم كان شارعا أو عقلا أو غيرهما يتبع الموضوعات الوجدانيّة عند الحاكم فيلحقها من غير فرق بين الموضوعات البسيطة أو المركبة ، الأعمّ من المقيّدة الرّاجعة عند التّحقيق ببعض الملاحظات إلى الموضوعات البسيطة الّتي تكون علّة الحكم في نظر الحاكم وموجبة له ، فلا يعقل عروض الحكم للموضوع النّفس الأمري


المجهول عند الحاكم بحيث يلزم وجود الحكم في الواقع من الحاكم مع جهله به ؛ ضرورة استحالة تبعيّة الأمر الوجداني للأمر النّفس الأمري.

وأمّا تقسيم الحكم الشّرعي إلى الواقعي الشّأني والفعلي المنجّز فإنّما هو بملاحظة أمر آخر يرجع إلى المكلّف لا إلى الشّارع الحاكم فلا يعقل جهل الشّارع بحكمه ، وإنّما يتصور جهل الغير بحكم الشّارع. وهذا ليس من جهة كونه شارعا عالما بالغيب معصوما عن الخطأ ، بل من جهة كونه حاكما حسبما عرفت.

ومن هنا قلنا : بامتناع جريان الاستصحاب في الأحكام العقليّة الرّاجعة إلى التّحسين والتّقبيح العقليّين كما يمرّ عليك في باب الاستصحاب ؛ حيث أنّه لا يتصوّر الشّك فيها للعقل ، وحكمنا بفساد القول بجريان استصحاب الاشتغال العقلي والبراءة العقليّة كما ستقف عليه في باب البراءة ، وإن كان الشّك متصوّرا في الحكم الشّرعي المستكشف من الحكم العقلي وإن رجع إلى الشّك في بقاء ما هو المناط والموضوع في نظر الشّارع ومعه لا يجري الاستصحاب أيضا إلاّ أنّه ليس من تلك الحيثيّة كما لا يخفى.

ولذا قلنا بجريان الاستصحاب لإثبات الحكم الشّرعي فيما يرجع الشّك فيه إلى الشّك في بقاء الموضوع في الآن اللاّحق فيما لا يرجع إلى الشّك في موضوعيّة الموضوع كالموضوع الّذي كان مضرّا في السّابق مثلا يقينا ، وشك في بقاء الضّرر فيه من جهة الأمور الخارجيّة ؛ فإنّه لا مانع من استصحاب الضّرر له والحكم من أجله بالحرمة الشّرعيّة ، وإن لم يكن الحكم بالحرمة العقليّة بمعنى


التّقبيح العقليّ من حيث كون حكمه تابعا للأمر الوجداني لا للأمر الواقعي النّفس الأمريّ حتّى يقبل الشّك في بقائه.

إذا عرفت ما قدّمنا لك من المقدّمة فاستمع لما يتلى عليك في توضيح المقام في موضوعين : أحدهما : في الضّرر الأخروي. ثانيهما : في الضّرر الدّنيوي.

الكلام في الضرر الأخروي

أمّا الأوّل فتحقيق القول فيه : أنّه لا ريب في استقلال العقل وحكمه بوجوب دفع محتمله كمقطوعه من غير فرق بين مراتب الاحتمال ظنّا وشكّا ووهما إلاّ في الوضوح والخفاء ؛ حيث إنّ حكمه بوجوب دفع الموهوم ليس كحكمه به في المشكوك ، وفي المشكوك ليس في الوضوح كحكمه به في المظنون ، كما أنّ في المظنون ليس كحكمه به في المقطوع في كونه بالنّظر الأوّلي وإن كان حكمه في الموهوم ينتهي إلى البديهي الأوّلي فضلا عن حكمه في المظنون ، كما هو الشّأن في جميع النّظريّات.

وتوهّم : عدم حكمه في الموهوم أصلا فاسد جدّا ؛ حيث إنّه مع مخالفته للوجدان السّليم موجب لإقحام الأنبياء وأن لا يكون لله تعالى حجّة على غير النّاظر وعدم حكمه بوجوب شكر المنعم الّذي هو مبنى وجوب معرفة الله تعالى ولو في حقّ المتوهّم فليس حكم العقل بوجوب دفع الضّرر المظنون من حيث كون الظّن طريقا إلى الضّرر النّفس الأمري وإلاّ لم يتحقّق في المشكوك والموهوم كما لا يخفى.


مضافا إلى ما عرفت في المقدّمة من استحالة لحوق حكم العقل للموضوع النّفس الأمري ، بل من حيث ذاته كالمقطوع فالعلم والظّن سيّان من هذه الجهة.

ثمّ إنّ الحكم العقلي المذكور في المقام وإن كان إرشاديا كسائر الأحكام العقليّة ، إلاّ أنّه لا يمكن أن يجعل دليلا على الحكم الشّرعي المولوي كما في أكثر الموارد ، بل يجعل دليلا على الحكم الإرشادي للشّارع لاستحالة الاستكشاف من ذلك في المقام ، كما في حكمه في مسألة وجوب الإطاعة وحرمة المعصية ؛ حيث أن حكم العقل فيها لا يمكن أن يجعل دليلا إلاّ على الحكم الإرشادي للشّارع كما هو واضح لا سترة فيه ؛ فكلّ ما ورد ممّا يدلّ على الطّلب الإلزامي من الآيات والأخبار فيحمل على الطّلب الإرشادي فيكون تأكيدا لحكم العقل به كأوامر الإطاعة.

ثمّ إنّ حكم العقل فيما ذكرنا من الضّرر الأخروي بمراتبه المذكورة لا يبحث فيه من حيث إنّه لاحق للضّرر أو الضّرر الغير المتدارك حيث أنّ إيقاع الشّارع في الضّرر الأخروي مع جبره بالتّدارك غير معقول وإن كان حكم العقل لاحقا عند التّحقيق للضّرر الغير المتدارك مطلقا.

ففي كلّ موضع لم يحكم فيه بوجوب الدّفع بالنّسبة إلى الضّرر الأخروي مع إذن الشّارع خصوصا أو عموما فليس من جهة كشفه عن التّدارك وارتفاع القيد للموضوع العقلي ، بل من جهة ارتفاع أصل الضّرر مع إذن الشّارع ؛ ضرورة امتناع التّخصيص بل الحكومة بالنّسبة إلى الأحكام العقليّة ، فلا بدّ أن يجعل دليل الإذن


واردا على الحكم العقلي ورافعا لموضوع حكمه حقيقة.

فإذا فرضنا في المقام ـ كما هو المفروض ـ عدم قيام دليل من الخارج على حجيّة الظّن بالوجوب والتحريم بل أريد إثبات حجيّته بنفس حكم العقل من حيث كون الظّن بهما ظنّا بالضّرر الأخروي فهو إنّما يتمّ فيما إذا كان الظّن بهما ظنّا به مع قطع النّظر عن حكم العقل بوجوب دفع الضّرر المظنون وإلا لدار ، فلا يتمّ القياس والاستدلال.

والمفروض أنّ الحاكم باستحقاق العقاب على مخالفة المولى العقل ، فلا يعقل أن يتبع حكمه المخالفة الواقعيّة التّابعة للطّلب الحتمي النّفس الأمري ، بل إنّما يتبع تبيّن الطّلب وقيام الدّليل عليه عند المكلّف ولو في مرحلة الظّاهر إلاّ فيما لا يعذر فيه الجاهل من جهة جهله مع التّقصير ؛ حيث أنّ نفس احتمال الحكم الإلزامي يكفي في تنجزّه في حقّه كما هو واضح. وهذا معنى ما ذكرنا من لحوق حكم العقل للموضوع الوجداني لا النّفس الأمريّ.

ومن هنا ذكر شيخنا قدس‌سره في مطاوي كلماته الشّريفة : أنّ حكم العقل بالاستحقاق يتبع المعصية الّتي هي من الأمور الوجدانيّة لا المخالفة الواقعيّة للخطاب الشّرعي النّفس الأمري ، فإذن لا يحتاج في إبطال جعل حكم العقل بوجوب دفع الضّرر المظنون الأخروي دليلا على حجيّة الظّن بالوجوب والتحريم إلى ملاحظة ورود دليل البراءة على هذه القاعدة العقليّة ، بل نفس القاعدة غير جارية إذا فرض استحالة جعلها موجبة للصّغرى وهو الظّن بالضّرر والعقاب حسبما عرفت.


وهذا معنى عدم إمكان الاستدلال على حجيّة الظّن بقاعدة وجوب دفع الضّرر ، بل قد يتأمّل في إبطال جعله دليلا من جهة الورود المذكور بعد تسليم وجود الموضوع لقاعدة وجوب الدّفع مع قطع النّظر عن حكم العقل في قاعدة قبح العقاب من غير بيان وغيره من أدلّة البراءة ؛ حيث إنّه يجعل بيانا بعد تسليم وجود موضوعه بالملاحظة المسطورة ودليلا ظاهريّا على وجود الحكم الإلزامي ؛ فيجعل واردا على دليل البراءة وإن كان فاسدا بما أشرنا إليه سابقا عن قريب في توضيح ما أفاده قدس‌سره : من لزوم الدّور في كلامه السّابق في الهامش فتأمّل. فإنّ المقام حقيق بالتأمّل فيه. بل قد يقال برجوع ما أفاده قدس‌سره في غير موضع من ورود دليل البراءة على القاعدة إلى ما ذكرناه.

وبالجملة : حكم العقل بوجوب دفع الضّرر المظنون عند الظّن بالوجوب والتّحريم سواء كان في الشّبهة الحكميّة أو الموضوعيّة إنّما يجعل دليلا على عدم معذوريّة المكلّف وحسن عقابه على الواقع المظنون فيما فرض عدم معذوريّة الجاهل من جهة جهله من غير توقّف على كون الظّن دليلا كما في الجاهل المقصّر الّذي منه التّارك للنّظر في المعجزة ، فهذا الدّليل لا يتمّ إلاّ بإرجاعه إلى دليل الانسداد فلا يكون دليلا مستقلاّ على المدّعى كما هو المدّعى.

والقول : بعدم المانع من جعله دليلا مستقلاّ مع توقّفه على ضمّ مقدّمات الانسداد ؛ نظرا إلى أنّه قد يؤخذ مقدّمات دليل في دليل آخر كما في « القوانين ». فيه ما لا يخفى.


ثمّ إنّ الحكم العقلي المذكور فيما يكون ثابتا كما في موارد عدم معذوريّة الجاهل حسبما عرفت ؛ إنّما يصحّ دليلا على حسن المؤاخذة على الواقع المظنون على تقدير ثبوته واقعا وفي نفس الأمر لا على حجيّة الظّن بالحكم الإلزامي وإلاّ لم يتحقّق في المحتمل ؛ إذ لا يعقل طريقيّة مجرّد الاحتمال. مع أنّك قد عرفت ثبوت حكمه في المحتمل كالمظنون ، وهذا وإن كان أمرا ظاهرا لا سترة فيه بعد التّأمّل فيما ذكرنا إلاّ أنّه كلام آخر لا تعلّق له بالمقام هذا بعض الكلام في الموضع الأوّل.

الكلام في الضرر الدنيوي

وأمّا الموضع الثّاني وهو الضّرر الدّنيوي فتفصيل القول فيه : أنّه لا شبهة في استقلال العقل في الحكم بوجوب دفع مقطوعه ومظنونه. في الجملة ، ولو كان في خصوص ما يوجب هلاك النّفس ، أو يقرب منه عادة.

بل التّحقيق : حكمه بوجوب دفع المحتمل من هذا القسم من الضّرر الدّنيوي الّذي يحكم به مع القطع أو الظّن به في الجملة ، أي : في بعض مراتب الاحتمال ولا ينافي ما ذكرنا في الموضع الأوّل : من حكم العقل بالوجوب في المحتمل من الأخروي مطلقا للفرق بين الضّررين كما لا يخفى ، كالفرق بين مراتب الضّرر الدّنيوي حسبما عرفت.

لكن حكمه بالوجوب فيما يحكم به من الضّرر الدّنيوي حتّى في المقطوع


منه ؛ إنّما هو من حيث ذات الضّرر وعنوانه بنفسه مع قطع النّظر عن ضمّ عنوان آخر حسن إليه يوجب حسن إرتكابه بالعرض كحكمه بالحسن والقبح في كثير من الموضوعات والعنوانات ؛ فإنّه ليس إلاّ بالملاحظة الّتي ذكرنا. وليس العنوان المعروض للحسن والقبح فيها علّة تامّة لهما في نظر العقل ، بل إنّما هو مقتض لهما.

فإن شئت قلت : إنّهما يعرضان في أكثر الموارد للعنوانات المقيّدة بعدم المزاحم لا المطلقة البسيطة كما في بعض الموارد كقبح الكفر بالله والظلم والمعصية وحسن الإيمان بالله وإطاعته مثلا فإذا حكم الشّارع في مورد بتعريض النّفس للمهلكة فيكشف ذلك عن ضمّ عنوان حسن إلى الضّرر غالب على قبحه. ومن هنا ذكر قدس‌سره في « الكتاب » : « أنّه يجوز إذن الشّارع في ارتكاب الضّرر المقطوع الدّنيوي فضلا عن المظنون منه » (١) وإن كان مجرّد احتمال ذلك غير مجد في نظر العقل وإلاّ لزم تأثير الأمر النّفس الأمري في الأمر الوجداني وهو محال ظاهر على ما عرفت مفصّلا.

كشف الحكم العقلي عن الحكم الشرعي المولوي

ثمّ إنّ الحكم العقلي المذكور يكشف بقاعدة التّلازم من حيث قابليّة المورد ـ سواء كان في مقطوع الضّرر أو مظنونه ـ عن حكم شرعيّ مولويّ يعاقب على

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٣٧٨.


مخالفته وإن تخلّف الاعتقاد عن الواقع لما عرفت : من استحالة طريقيّة الاعتقاد في المستقلاّت العقليّة.

ومن هنا ذكر الفقهاء رضوان الله عليهم في باب القصر : أنّ سلوك طريق مقطوع العطب أو مظنونه معصية يجب إتمام الصّلاة معه وإن انكشف عدم الضّرر (١). وليس قولهم هذا مبنيّا على حرمة التّجرّي كما زعم واستظهره شيخنا العلاّمة قدس‌سره من كلماتهم على ما عرفت في أوّل « الكتاب » في فروع مسألة العلم بل على ما ذكرنا.

وليس هذا كحكمه في الضّرر الأخرويّ من حيث عدم إمكان كشفه عن حكم شرعيّ مولوي في مورده على ما عرفت شرح القول فيه في الموضع الأوّل.

هذا في الضّرر الدّنيوي الّذي يستقلّ العقل بالحكم فيه ، وقد عرفت : عدم إمكان جعل الظّن طريقا بالنّسبة إليه من حيث اختصاص طريقيّته بما يكون الحكم عارضا لمتعلّقه.

نعم ، يمكن طريقيّته فيما لوحظ بالنّسبة إلى الحكم الشّرعي المعلّق على نفس ارتكاب المضر الواقعي ولو كان مهلكا ويحكم العقل بوجوب الدّفع في

__________________

(١) انظر الرسائل التسع للمحقق الحلي : ٣١٣ ، ورسائل الكركي : ج ١ / ١٢٣ ، وشرح اللمعة : ج ١ / ٧٨٥ ، والذكرى : ج ٤ / ٣١٤ ، والروض ط قديم : ٣٨٨ والذخيرة : ٤٠٩ ، والحدائق الناظرة : ج ١١ / ٣٨٢ ، وكشف الغطاء : ج ٣ / ٣٤٢.


مقطوعه ومظنونه بل مشكوكه فتدبّر.

وأمّا الضّرر الّذي لا يستقلّ العقل بحكمه من حيث كونه دون المرتّبة الّتي يحكم العقل فيها فلا إشكال في إمكان ثبوت الحرمة الشّرعيّة له ؛ من حيث كون الموضوع في الحكم الشّرعي في باب الضّرر أوسع منه في الحكم العقلي ، وحكم العقل بوجوب الدّفع إجمالا من جهة تصديق الشّارع ؛ نظرا إلى عكس قاعدة التّلازم كما هو الشّأن في جميع موارد ثبوت الحكم الشّرعي فيما لا يستقلّ العقل بحكمه ، فلا إشكال في إمكان جعل الظّن طريقا بالنّسبة إليه خصوصا أو عموما من جهة قيام دليل خاصّ أو عامّ كشبه دليل الانسداد ؛ حيث إنّه قد يقال بجريانه في بعض الموضوعات الّتي منها الضّرر على ما عرفت الإشارة إليه في شرح الحاشية. وعلى هذا القسم لا بدّ من أن يحمل ما أفاده قدس‌سره فيها لما عرفت : من استحالة طريقيّة الظّن فيما يستقلّ العقل بحكمه.

ثمّ إنّ هذا الّذي ذكرنا إنّما هو فيما لو تعلّق الظّن ابتداء بالضّرر الدّنيوي وإن تعلّق الظّن بالحرمة من جهته كما فيما يظنّ كونه مضرّا في الموضوعات الخارجيّة. وأمّا إذا تعلّق الظّن ابتداء بالحرمة فيظنّ من جهته بالضّرر الدّنيوي كما في الظّن بالتّحريم مثلا في الشّبهات الحكميّة حسبما يبحث عنه بناء على ما هو المقرّر عند العدليّة من تبعيّة الأحكام الشّرعيّة للمصالح والمفاسد النّفس الأمريّة ، فلم يقم هناك دليل على حجيّة الظّن حتّى يجب متابعته لما عرفت ؛ من عدم استقلال العقل فيه بحكم.


والدّليل الدّال على حرمة ارتكاب المضرّ لا يجدي مع عدم إحراز الموضوع بالطّريق المعتبر. والمفروض إذن الشّارع بالرّجوع إلى الأصول فيما لم يقم هناك دليل على الرافع حتّى في مورد قيام الظّن ، فالضّرر وإن كان مظنونا من جهة الظّن بالتّحريم الشّرعي إلاّ أنّه مع كونه متداركا على تقدير ثبوته من جهة إذن الشّارع فيه الثّابت بالفرض لا يستقلّ العقل فيه بشيء.

فجعل مطلق الظّن بالضّرر في الفرض حجّة يتوقّف على جعل الظّن بالحرمة مطلقا حجّة شرعيّة من دليل الانسداد ونحوه ؛ فيرجع الكلام إلى عدم صلاحيّة قاعدة وجوب الدّفع لجعل الظّن بالتّحريم والوجوب حجّة في الأحكام الشّرعيّة ؛ من حيث استلزامه للظّن بالضّرر الدّنيوي إمّا من جهة منع استقلال العقل في ذلك الّذي يرجع إلى المنع الكبروي ؛ وإمّا من جهة ثبوت التّدارك من إذن الشّارع في مورد الظّن المستفاد من أدلّة حرمة العمل بغير العلم وأدلّة الأصول فيرجع إلى المنع الصّغروي ، وإن كان الثّاني منظورا فيه.

نظرا إلى أنّه بعد تسليم استقلال العقل في الحكم لم يكن هناك محلّ للرّجوع إلى عمومات حرمة العمل بغير العلم أو أدلّة الأصول فلا بدّ من منع استقلال العقل وإن كان إذن الشّارع على تقدير مصادفته للوقوع في الضّرر في مورد ثبوته بتدارك به الضّرر.

فلعلّ هذا وجه أمره قدس‌سره بالتّأمّل وإن كان بعيدا عن مساق العبارة ؛ إذ الظّاهر منها بعد إمعان النّظر ـ كما صرّح به قدس‌سره في مجلس المذاكرة على ما هو ببالي


وعرفت توجيه التّأمّل به في مطاوي شرح الحاشية ـ التّأمل في حكم الظّن المتعلّق ابتداء بالضّرر كما في الشّبهة الموضوعيّة والظّن المتعلّق به ثانيا وبالعرض ؛ من جهة الظّن المتعلّق بالحكم الإلزامي الشّرعيّ كما في الشّبهة الحكميّة ؛ فإنّ المناط هو الظّن بالتّضرّر عند العقلاء فلا بدّ إمّا من القول بعدم حكم العقل في الصّورتين وإمّا من القول به فيهما فالتّفصيل لا معنى له. وإن كان هذا منظورا فيه بعد التّأمّل فيما تلوناه عليك.

ثمّ إنّ الوجه المذكور للتّأمّل دعاه قدس‌سره إلى العدول عمّا أفاده إلى الجواب عن القاعدة في الضّرر الدّنيوي بقوله : « والأولى والأسلم في الجواب ... إلى آخره » (١) الرّاجع إلى منع استلزام الظّن بالحكم الإلزامي للظّن بالمفسدة الكامنة في الفعل من غير احتياج إلى إثبات التّدارك وإن قلنا بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد على ما هو المفروض ؛ إذ لا يلزم القول بذلك القول بوجود المفاسد في ذوات الأفعال ، بل يكفي الالتزام بوجود المفاسد الدّاعية للطّلب والباعثة عليه في الجملة ، ولو كان في الفعل باعتبار وجوده بعنوان المعصية ، ولا يلزم عليه محال ؛ من حيث إنّ تحقق الإطاعة والمعصية متأخّر عن الطّلب المتأخّر عن جهته أعني المصلحة والمفسدة ؛ إذ الحكمة الدّاعية على الطّلب والعلّة الغائية له لا بدّ أن تكون مقدّمة عليه من حيث التصوّر وإن كانت متأخّرة عنه من حيث الوجود ، كما هو الشّأن في مطلق العلل

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٣٧٩ في الهامش.


الغائية حتّى الموجودة في ذوات الأفعال ؛ فإنّ وجود الأفعال متأخّر عن الطّلب ، وتصور المعصية لا يتوقّف على وجود طلب خارجيّ. ومن هنا حكموا بأنّ المصلحة في العبادات إنّما هي في وجودها بعنوان الإطاعة لا مطلقا.

فتحصل من ذلك : أنّ القول بالتبعيّة لا يلزم وجود المفسدة في ذات الفعل. فنقول ـ في توضيح الجواب بعد منع الملازمة المذكورة ـ : إنّ الظّن بالتّحريم مثلا إنّما يكون ظنّا بالمفسدة إذا كان ظنّا بالمعصية ولا يكون ظنّا بها إلاّ بعد حجيّة الظّن ، وهو محال. كما عرفته في الضّرر الأخرويّ طابق النّعل بالنّعل ، ولا يلزم من ذلك عدم حكم العقل في موارد احتمال الحكم الإلزامي بحسن الاحتياط ورجحانه ؛ من جهة أنّ تحقّق الإطاعة مثلا يتوقّف على ثبوت الطّلب المفروض عدمه في مورد الاحتمال ؛ حيث إنّ المنع الّذي ذكرنا لم يكن مبنيّا إلاّ على احتمال تبعيّة المفسدة للعصيان مع احتمال تبعيّتها لذات الفعل فلا ينافي حسن الاحتياط المبنيّ على الاحتياط كما لا يخفى.

وهذا الوجه وإن أمكن تصحيحه في الجملة بتكلّف بعيد حسبما عرفت ، إلاّ أن الأوجه في الجواب عن الضّرر الدّنيوي ، ما ذكرنا. وملخّصه : المنع من كون الظّن بالتّحريم مثلا ظنّا بالضّرر الّذي يحكم العقل بوجوب دفعه مع قطع النّظر عن حكم الشّارع ، وإلاّ لحكم به استقلالا وهو خلف فتدبّر.

فما يحكم العقل بوجوب دفعه من الضّرر لا يظنّ من الظّن بالتّحريم ، وما يظنّ من الظّن بالتّحريم ، لا يحكم العقل بوجوب دفعه. هذا آخر ما أردنا إيراده في


المقام وقد بقي خبايا في زوايا ولعلّ المتأمّل فيما ذكرنا يستغني به عمّا طوينا إيراده.

(٢٠٨) قوله قدس‌سره : ( ثمّ إنّ مفاد هذا الدّليل هو وجوب العمل بالظّن ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٧٩ )

أقول : لا يخفى عليك : أنّ المدّعى هو حجيّة الظّن بحيث يكون مثبتا لمدلوله وطريقا إليه شرعا مطلقا سواء قام على الحكم الإلزامي وغيره وسواء وافق الاحتياط ـ كما إذا كان مفاده إثبات جزئيّة ما شك في جزئيّته أو شرطيّته ـ أو خالفه كما إذا كان مفاده تعيين الواجب المردّد بين المتباينين في الشّك في المكلّف به.

ومن المعلوم ضرورة ـ حسبما عرفت الإشارة إليه في كلام شيخنا في طيّ الجواب عن الوجه الأوّل الّذي اختاره في سابق الأيّام ـ عدم وفاء الوجه المذكور على تقدير تماميّته بإثبات هذا المدّعى ؛ فإنّ مرجعه إلى الاحتياط في مورد قيام الظّن على الحكم الإلزامي ، فلا يشمل فيما لو قام على غيره من الأحكام الثّلاثة. كما أنّه لا يشمل فيما لو قام على تعيين المكلّف به فيما يقتضي الاحتياط في المسألة الفرعيّة الجمع بين المحتملين.

وإثبات المدّعى وتماميّته من الجهتين بالإجماع المركّب وعدم القول بالفصل ، كما ترى ؛ إذ من قال بحجيّة ظنّ لا يفرق بين موارد قيامه ومفاده لا من يعمل به من باب الاحتياط فإنّه لا معنى لعدم تفصيله ، بل لا بدّ له من القول


بالتّفصيل ؛ فإنّ الحيثيّة الموجبة للعمل به نافية له فيما خالف الاحتياط كما لا يخفى.

(٢٠٩) قوله قدس‌سره : ( ويمكن أن يرد أيضا : بأنّها قاعدة عمليّة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٧٩ )

أقول : ما أفاده قدس‌سره كالإيراد السّابق عليه ، مبنيّ على ما هو الحق والصّواب في مفاد القاعدة : من كونه وجوب الاحتياط ظاهرا في موارد الظّن بالحكم الإلزامي ، فيكون أصلا من الأصول في خصوص مورد الظّن بالتكليف الإلزامي فلا يقبل المعارضة للعمومات الاجتهاديّة المثبتة للحكم الغير الضّرري في مورد الظّن بالحكم الضّرري بل يكون العمومات واردة عليه ، كما هو الشّأن في مقابلة مطلق الدّليل مع الأصل العقلي.

مع أنّ المستدلّ بهذا الوجه يريد إثبات حجيّة الظّن به بحيث يكون دليلا في مقابل العمومات الاجتهاديّة النّافية بعمومها للحكم الضّرري.

نعم ، لو قيل بحجيّته من جهة دليل الانسداد ولم يتوجّه عليه هذا الإشكال بناء على اعتبار العمومات من باب الظّن الخاصّ الموجب لإنفتاح باب العلم في مورده كما ستقف على تفصيل القول فيه عن قريب.


(٢١٠) قوله قدس‌سره : ( وقد يشكل بأنّ المعارضة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٧٩ )

مفاد القاعدة وجوب الإحتياط

أقول : توضيح الإشكال : أن مبنى الإيراد وهو عدم نهوض القاعدة دليلا ينتفع به في مقابل العمومات الاجتهاديّة الدّالّة على الحكم الغير الضّرري في الشّبهات الحكميّة ولو كان مواردها شكّا في التّكليف مثل قوله تعالى : ( أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ) (١) مثلا على أنّ مفاد قاعدة وجوب الدّفع إثبات الاحتياط في موارد الظّن بالتّكليف. ولزوم الاحتياط في كلّ مورد فرض في حكم العقل ؛ إنّما هو من جهة احتمال الضّرر كما هو المفروض في المقام أيضا.

والعمومات الاجتهاديّة المرخّصة رافعة لاحتمال الضّرر أو مثبتة للتّدارك فيما لو كان المحتمل هو الضّرر الدّنيوي فيرجع إلى منع صغرى قاعدة وجوب الدّفع بملاحظة العمومات الاجتهاديّة كما كان مرجع الإيراد الأوّل المذكور في قوله قدس‌سره : ( فالأولى أن يقال ... إلى آخره ) (٢) إليه أيضا ؛ لأنّ مفاده ملخّصا : منع الصّغرى بملاحظة دليل البراءة ، والحال أنّ مبنى الإيراد الثّاني على الإغماض عن الإيراد الأول الرّاجع إلى منع الصّغرى وتسليم تماميّة القاعدة والمنع عن إنتاجها حجيّة الظّن.

__________________

(١) المائدة : ٥.

(٢) فرائد الاصول : ج ١ / ٣٧٦.


والمراد من الحكومة في قوله قدس‌سره ـ في تقريب الإشكال : ( فإن نهضت للحكومة ... إلى آخره ) (١) ـ الورود ؛ إذ كثيرا ما يطلق أحدهما على الآخر مسامحة فتدبّر.

والوجه في أمره بالتّأمّل ـ المشير إلى عدم تماميّة الإشكال واستقامة الإيراد ـ هو أنّ مبنى الإيراد ليس على منع أصل القاعدة بمنع الصّغرى حتّى يرجع إلى الإيراد الأوّل فيستقيم حينئذ مطالبته الفرق بين الجوابين ، بل على أنّ مفادها على تقدير تماميّتها والإغماض عن منع صغراها قاعدة عمليّة.

وتقديم بعض الأصول العمليّة على بعض من حيث الاختلاف في المرتبة لا يلازم تقديم ما هو مقدّم على الأصل العملي على الأصل اللّفظي وإن كان معمولا به عند الشّك كالأصل العملي.

ألا ترى أنّ الاستصحاب وارد على البراءة العقليّة وحاكم على البراءة الشّرعيّة ولا يعارض أصلا من الأصول اللّفظية وإن كان في غاية الضّعف كأصالة الإطلاق فضلا من أن يقدّم عليه؟

والوجه فيه ـ مع كون كلّ منهما معمولا به عند الشّك ـ : أنّ الأصل اللّفظي إنّما يعمل به عند الشّك في القرينة على المراد والصّارف عن الظّاهر ، والأصل العملي ليس اعتباره من حيث كونه طريقا إلى الواقع وكاشفا عن مراد الشّارع من

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٣٧٩ في الهامش برقم (١).


اللّفظ كأصل البراءة مثلا ؛ فإنّه إنّما يعمل به عند عدم ثبوت التّكليف من الشّارع رأسا واقعا وظاهرا نقلا وعقلا فإذن تصلح القاعدة على تقدير تماميّتها للورود على البراءة كما هو مبنى الإغماض ، ولا تصلح قرينة لإرادة خلاف الظّاهر من اللّفظ.

فهذا الإيراد راجع إلى منع صلاحيّة القاعدة للصّارفيّة لا إلى رفع صغراها بالعمومات الاجتهاديّة وإن كان وجودها ملازما لرفع الصّغرى ، إلاّ أنّ مبنى الإيراد ليس عليه ، فتأمّل حتّى لا يختلط عليك الأمر في وجه أمره قدس‌سره بالتّأمّل فتقع في حيص وبيص.

* * *


* الدليل الثاني من أدلة حجية مطلق الظن

٢ ـ قبح ترجيح المرجوح

(٢١١) قوله قدس‌سره : ( الثّاني : أنّه لو لم يؤخذ بالظّن لزم ترجيح المرجوح ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٨٠ )

أقول : لا يخفى عليك أن الوجه المذكور في كلماتهم لحجيّة خصوص الخبر أو مطلق الظّن غير محصّل المراد ومحتمل للوجهين ؛ فإنّه قد يقرّر بالنّسبة إلى الحكم بمقتضى الظّن وجعل حكم الله الظّاهري ما اقتضاه من غير نظر إلى العمل وإن ترتّب عليه العمل في الجملة من غير فرق بين أن يكون مفاده الحكم الإلزامي من الوجوب والتّحريم أو غيره ، ومن غير فرق على الأوّل بين أن يكون مورده من موارد الشّك في التّكليف أو المكلّف به.

وقد يقرّر بالنّسبة إلى العمل بمقتضاه وإن استتبع الحكم به أيضا في الجملة كما إذا كان مفاده الإلزام من غير فرق بين الصّور المذكورة ، وعلى الأوّل يكون مفاده حجيّة الظّن مطلقا من غير فرق بين الصّور المتصوّرة ، والمراد منه على كلّ تقدير. ومفروضه أنّه لو لم يؤخذ بالظّن لم يكن هناك مناص عن الأخذ بالوهم ، فلا


يرد : بأنّه مع التّمكن من الأخذ بالعلم وتحصيله في المسألة لا يؤخذ بشيء من الظّن والوهم ، فإذا كان الظّن حجّة فيجب تحصيله للشّاك فإنّ اعتباره أوجب تقديمه فيجب تحصيله.

قال المحقّق القميّ قدس‌سره ـ بعد ذكر الوجه المذكور ونقله عن العلاّمة قدس‌سره في « نهاية الأصول » وغيره في غيرها ـ ما هذا لفظه :

« وتوضيحه : أنّ لفظ التّرجيح في قولنا ترجيح المرجوح بمعنى الاختيار ، ولفظ المرجوح عبارة عن القول : بأنّ الموهوم حكم الله أو العمل بمقتضاه.

والرّاجح عبارة عن القول (١) بأنّ المظنون حكم الله تعالى أو العمل بمقتضاه. ومبدأ الاشتقاق في لفظ الرّاجح والمرجوح هو الرّجحان (٢) بمعنى استحقاق فاعله

__________________

(١) قال المحقق الاصولي الفقيه السيّد علي القزويني معلّقا على كلام المحقق القمي قدس‌سره :

« وقد سهى قلمه في هذا المقام ففسّر المرجوح : بالقول بأن الموهوم حكم الله ، مع انه عبارة عن نفس الموهوم. كما انّ الرّاجح عبارة عن المظنون ، وما ذكره هو معنى اختيار المرجوح على الرّاجح لا معنى المرجوح فقط.

فملخّص ما ذكره : ان اختيار المرجوح على الرّاجح إمّا قولي وهو القول بأن حكم الله في الواقعة هو الموهوم. أو عملي وهو تطبيق الحركات الخارجيّة على الموهوم على انه حكم الله تعالى » انتهى. انظر تعليقة السيّد على القوانين : ج ١ / ٤٤٤.

(٢) « وإنّما يكون الرجحان مبدأ اشتقاقهما لما فيه من اعتباري البناء للفاعل أعني : الراجحيّة ، والبناء للمفعول وهو المرجوحيّة ، والظاهر انه لازم يتعدّى بواسطة « على » فمفعوله مرجوح


المدح ، أو الذّم ؛ بمعنى كون الشّيء ذا المصلحة الدّاعية إلى الفعل كما هو المصطلح في لفظ المرجّح والمرجوح ».

إلى أن قال :

وبالجملة : المراد : أنّ الفتوى والعمل بالموهوم مرجوح عند العقل والفتوى. والعمل بالرّاجح حسن. ووجهه : أنّ الأوّل يشبه الكذب بل هو هو ، بخلاف الثّاني ولا يجوز ترك الحسن واختيار القبيح » (١) (٢). انتهى كلامه رفع مقامه.

__________________

عليه.

والرّاجح في غير هذا المقام عبارة عن ذي المزيّة وهي المصلحة الدّاعية إلى الفعل والمرجوح هو الخالي عنها ، وهذه المصلحة عقلائيّة كانت أو غير عقلائيّة يقال لها المرجح ، ومن لوازم الرّاجح بمعنى ذي المصلحة العقلائيّة استحقاق فاعله المدح ، فالمرجوح الخالي عنها ما يستحق فاعله الذمّ.

وهيهنا يراد بهما استحقاق الفاعل للمدح واستحقاقه الذمّ من باب التفسير باللاّزم لا ذو المصلحة والخالي عنها ؛ لأنّ الرجحان الذهني والمرجوحيّة الذهنيّة اللذين عليهما مدار الظن والوهم لا يستلزم وجودها والخلو عنها ؛ حيث إن الظن ليس بدائم المصادفة للواقع » انتهى.

انظر تعليقة السيّد القزويني على القوانين : ج ١ / ٤٤٤.

(١) قوانين الاصول : ج ١ / ٤٤٣ ـ ٤٤٤.

(٢) وأورد عليه صاحب الفصول قائلا :


وأنت خبير بأنّ مرادهم من الرّاجح في المقام الظّن ومن المرجوح الوهم.

(٢١٢) قوله قدس‌سره : ( وربّما يجاب عنه بمنع ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٨٠ )

أقول : يستفاد هذا الجواب ممّا أفاده بعض مشايخ المحقّقين في تعليقه على المقام [ في المعالم ] (١) وهو مبنيّ على إرادة إثبات إيجاب العمل بمقتضى الظّن كليّة من الدّليل المذكور ، فأورد عليه : بأنّ لزوم ترجيح الظّن على الوهم إنّما هو من حيث كونه أقرب إلى الواقع من الوهم ؛ فإذا فرض كون الوهم مطابقا للاحتياط

__________________

( لا يخفى ما في تأويله مع ضعف تعليله.

أمّا الأوّل : فلأن تفسير المرجوح والرّاجح بالقول والعمل ليس على ما ينبغي ، بل الوجه اعتباره في الترجيح ؛ فإن الإختيار كما يكون بالقول كذلك يكون بالرّأي والعمل ، ثمّ تفسيره الرجحان الذي هو مبدأ لاشتقاقهما باستحقاق فاعله المدح والذم غير سديد ؛ لأنّه بهذا المعنى مبدأ لإشتقاقهما بمعنى آخر ، ومنه المرجوح في قوله : « الفتوى والعمل بالموهوم مرجوح » والفرق واضح ثم عطفه الذم على المدح في تفسير الرجحان لا يتم إلاّ بتعسّف.

وأمّا الثاني : فلأنّه مع اختصاصه بالقول مدفوع بأن المشابهة على تقدير تسليمها لا يقضي بالمشاركة في الحكم ، والعينيّة ممنوعة ؛ فإن العبرة في الصدق والكذب بموافقته ومخالفته دون الإعتقاد.

فإن قلت : نعم ، لكن المدار في الإتصاف بالحسن والقبح على الإعتقاد.

قلت : لا نسلّم حسن القول المظنون الصدق وإنّما المسلّم حسن القول المعلوم الصدق هذا ). انتهى. انظر الفصول الغرويّة : ٢٨٧.

(١) زيادة يقتضيها السياق.


فليس في ترجيحه بمعنى العمل بمقتضاه طرحا للواقع أصلا. وهذا بخلاف العكس فإنّه لو عمل بمقتضى الظّن ، باختيار ترك ما يظنّ إباحته مثلا مع احتمال وجوبه لم يؤمن من مخالفة الواقع.

ومن هنا ربّما يناقش فيما أفاده قدس‌سره ـ في الإيراد على هذا الجواب بقوله : ( وفيه : أنّ المرجوح المطابق للاحتياط ... إلى آخره ) (١) ـ : بأنّ العمل بالمرجوح في الفرض وإن لم يكن طرحا للرّاجح ، إلاّ أنّ العمل بالرّاجح باختيار التّرك خلاف الاحتياط يقينا. وإن التزم في الفرض بعدم جواز اختيار التّرك كان هذا في معنى لزوم العمل بالمرجوح.

نعم ، لو كان المراد من ترجيح المرجوح الفتوى بمقتضى الوهم لا بعنوان الاحتياط لم يكن معنى للجواب المذكور في كلام المجيب فتدبّر.

(٢١٣) قوله قدس‌سره : ( وقد يجاب أيضا : بأنّ ذلك فرع ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٨٠ )

أقول : هذا الجواب معروف ذكره في « القوانين » وغيره والغرض منه : أنّ مرجع الوجه المذكور إلى أن نفس دوران الأمر بين الظّن والوهم يوجب في حكم العقل من حيث كون الظّن راجحا والوهم مرجوحا وجوب العمل بالظّن وحجيّته عند العقل ، فيرجع إلى كون اعتبار الظّن ذاتيا وهو فاسد ؛ إذ مع التمكّن من تحصيل العلم في المسألة يتعيّن تحصيل العلم فيها ، ومع العجز عنه يرجع إلى الأصول.

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٣٨٠.


فعلى كلّ تقدير لا يرجّح الظّن والوهم وإن كان العمل على طبق أحدهما.

نعم ، لو فرض في مقام وجوب ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر وكان الأمر دائرا بينهما لزم في حكم العقل ترجيح الظّن وقبح ترجيح الوهم بل يقبح التّوقف أيضا.

(٢١٤) قوله قدس‌سره : ( وفيه : أنّ التوقّف عن ترجيح الرّاجح أيضا قبيح كترجيح المرجوح فتأمّل ). ( ج ١ / ٣٨١ )

كلام في قاعدة ترجيح الراجح على المرجوح

أقول : كأنّه قدس‌سره زعم من الجواب : كون المراد منه مجرّد عدم ترجيح المرجوح فأورد عليه بما ذكره ، ولو حمله على ما عرفت في شرح المراد منه لم يورد عليه أصلا ؛ فإنّه راجع كما ترى إلى ما أفاده في الجواب الحلّي عن الوجه المذكور ، فليته ذكر في وجه التّأمل ما يرجع إلى الجواب الّذي ذكره عن الجواب ، لا ما أفاده بقوله في الحاشية :

« وجه التّأمل : أنّ مراد المستدلّ من الرّاجح والمرجوح ما هو الأقرب إلى الغرض والأبعد عنه في النّظر. ولا شك في وجوب التّرجيح بمعنى العمل بالأقرب وقبح تركه مطلقا ، فلا فرض لعدم وجوب التّرجيح ليردّ به هذا الدّليل ، فلا فائدة في


الرّد » (١) انتهى كلامه قدس‌سره في حاشية « الكتاب » في وجه التّأمل.

__________________

(١) لم ترد هذه الحاشية في طبعة مؤتمر تكريم الشيخ الأعظم قدس‌سره ، نعم ، وردت في الفرائد المحشّى بحاشية « رحمة الله قدس‌سره » ص ١١١ في أعلى الصفحة وعلّق عليها الملاّ رحمة الله قائلا :

أقول : ما ذكره قدس‌سره في وجه التأمّل وجه آخر في تضعيف الجواب عن دليل المستدل غير ما ذكره في المتن بقوله : « وفيه : أن التوقّف عن ترجيح الرّاجح أيضا قبيح ... ».

وفيما ذكره من وجه التأمّل ، تأمّل ؛ لأنّ الغرض مجهول غير معلوم فكيف يمكن الأخذ بما هو أقرب إليه؟ فلو كان الغرض هو الواقع فوجوب الترجيح متعيّن.

وعليه : يصحّ الحكم بقبح التوقف عن الترجيح ، ولو كان هو الواقع المعلوم وما في حكمه فالعمل بالأصول متعيّن في محلّ الكلام ، ولا قبح للتوقف عن الترجيح فمع كون الغرض مجهولا لم يدر الأمر بين ترجيح الرّاجح والمرجوح كيما يلزم الثاني على تقدير نفي الأوّل.

ولو عيّن الغرض بالظن ثم أخذ بما هو أقرب إليه فهو مصادرة.

فعلم ممّا ذكرنا : ان الجواب عن الدليل الثاني : بأن ذلك فرع وجوب الترجيح سليم لو لم يرد بأن التوقف عن ترجيح الراجح أيضا قبيح. ويمكن دفعه أيضا بأنّ التوقّف عن ترجيح الرّاجح بمعنى بناء العمل على طبق الراجح قبيح لو وجب الترجيح ، أمّا لو لم يجب الترجيح فلا قبح في التوقّف عنه أصلا ؛ لأنّه توقّف فيما لم يجب ، فلا معنى لقبحه.

اذا علمت ذلك فاعلم : ان القرص من الكلام هو ما كان صلابة مادّته وبساطة شكله وصقالة سطحه بحيث كلّما أردت أن تخدش موضعا منه لم ينخدش ، ولعمري إن هذا الجواب من مصاديقه. « رحمة الله »


فإنّ ما أفاده يرجع إلى تأييد الاستدلال بعد الجواب عن الإيراد عليه بقوله : ( وفيه : .... إلى آخره ) (١) ويتوجّه عليه ـ مضافا إلى أنّه ليس المقام مقام الأمر بالتّأمّل ـ : بأنّ تنزيل الاستدلال عليه موجب لأخذ تمام مقدّمات دليل الانسداد في هذا الوجه. وعليه لا يتوجّه عليه ما أفاده من الإيراد أيضا كما لا يخفى.

__________________

* كما علّق عليها المحقق الخراساني في « درره » قائلا :

« ولا يخفى انّه إنّما لم يبق فرض لعدم وجوبه حينئذ إذا لم يمكن الإحتياط ، وإلاّ فللتوقّف عن الترجيح مجال ، كما أفاده في الجواب عن الإستدلال فتدبّر جيّدا » انتهى.

درر الفوائد الجديدة : ١٣١ ، وانظر درر الفوائد القديمة : ٥٣٧.

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٣٨١.


* الدليل الثالث من أدلة حجّيّة مطلق الظن

٣ ـ دليل سيّد الرياض (*)

(٢١٥) قوله قدس‌سره : ( فيما حكاه عن أستاذه شريف العلماء عن أستاذه السيّد الأجلّ الآقا ميرزا سيّد علي قدس‌سره (١) ما في مجلس المذاكرة ؛ لأنّ الجمع على غير هذا الوجه ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٨٢ )

أقول : الصّور المتصوّرة بعد بطلان الاحتياط الكلّي في جميع الوقائع المشتبهة كثيرة : الاحتياط في المظنونات فقط ، والاحتياط في المشكوكات فقط دون المظنونات والموهومات ، والاحتياط في الموهومات فقط ، والتّبعيض بين

__________________

(*) وزبدته : أن مقتضى الجمع بين العلم الإجمالي بالتكاليف وعدم التمكّن من تحصيل الموافقة القطعيّة ، التنزّل إلى تحصيل الظن بالموافقة جمعا بين قاعدتي الإحتياط ونفي الحرج.

(١) الفقيه الأمير سيّد علي الطباطبائي صاحب الرّياض المتوفى سنة ١٢٣٢ ه‍ صهر الوحيد البهبهاني ـ على إبنته ـ وإبن أخته.


الجميع والتبعيض بين البعض المتصوّر بصور كثيرة غير مخفيّة.

وعين الوجه الأوّل في الجمع بين قاعدة وجوب الاحتياط من جهة العلم الإجمالي وقاعدة نفي الحرج بإبطال غيره بالإجماع وهو بظاهره محلّ مناقشة واضحة ؛ إذ بعد الغضّ عن سند قيام الإجماع يتوجّه عليه : بأنّ تعيّن الأخذ بالظّن من جهة الإجماع يخرج الدّليل عن الدّليل العقلي.

فالأولى ـ بناء عليه ـ التمسّك بقيام الإجماع على وجوب العمل بالظّن عند انسداد باب العلم في الأحكام الشرعيّة كما ذكره في « القوانين » وغيره ، هذا كلّه. مضافا إلى أنّ صريح الوجه المذكور وجوب الاحتياط في مظنونات التّكليف الإلزامي. وأين هذا من حجيّة مطلق الظّن في الأحكام الشّرعيّة؟

وستقف على الفرق بينهما مضافا إلى وضوحه عند تعرّض شيخنا الأستاذ العلاّمة له في طيّ دليل الانسداد.

(٢١٦) قوله قدس‌سره : ( إنّه راجع إلى دليل الانسداد ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٨٢ )

أقول : توقّف إتمام هذا الدّليل على أخذ مقدّمات دليل الانسداد فيه ممّا لا ريب فيه أصلا. إذن مجرّد العلم بوجود الواجبات والمحرّمات مع فرض انفتاح باب العلم ، أو الظّن الخاصّ ، أو الرّجوع إلى ما ينفي التّكليف في جميع الوقائع مع فرض الانسداد ، أو إلى الأصول في الوقائع ، لا يقتضي العمل بالظّن قطعا فيتوجّه عليه مضافا إلى ما عرفت ما أفاده قدس‌سره بقوله : ( مع أنّ العمل بالاحتياط في


المشكوكات أيضا ... إلى آخره ) (١) ؛ حيث إنّ مبنى الدّليل المذكور على ما عرفت على وجوب العمل بالاحتياط في المظنونات وترك العمل به في المشكوكات والموهومات ؛ دفعا للحرج.

فإذا فرض اندفاع الحرج من ترك الاحتياط في الموهومات من جهة كثرتها فلا يلزم هناك حرج من ضم الاحتياط في المشكوكات إلى الاحتياط في مظنونات التّكليف ، فلا مانع من الحكم بوجوبه بمقتضى العلم الإجمالي الكلّي.

ودعوى : ضمّ المشكوكات بالموهومات ـ من حيث عدم وجوب الاحتياط من جهة عدم القول بالفصل ـ فاسدة جدّا ؛ من حيث أنّ عدم وجوب الاحتياط في الموهومات إنّما هو من جهة دفع الحرج لا من جهة تعيين المعلومات الإجماليّة بالظّن.

وكلّ من قال بعدم وجوب الاحتياط في الموهومات من جهة ذهابه إلى حجيّة الظّن المطلق أو الخاص ، قال بعدم وجوبه في المشكوكات من جهة العلم الإجمالي الكلّي أيضا وإن التزم بوجوبه من جهة العلم الإجمالي الخاصّ الموجود في بعض المسائل.

وكلّ من قال بعدم وجوبه في الموهومات من جهة لزوم الحرج من مراعاته فيها مع اعترافه باندفاع الحرج من الاقتصار في مخالفة الاحتياط عليها لا يقول بعدم وجوب الاحتياط في المشكوكات ، بل يقول بوجوب الاحتياط فيها.

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٣٨٢.



* الدليل الرابع من أدلّة حجّيّة مطلق الظن

٤ ـ دليل الإنسداد

(٢١٧) قوله قدس‌سره : ( الدّليل الرّابع : هو الدّليل المعروف ... إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ٣٨٤ )

أقول : للدّليل المذكور في كلماتهم تقريرات مختلفة وبيانات متعدّدة من

__________________

(١) قال المحقق العراقي قدس‌سره :

« المسالك في دليل الإنسداد مختلفة من حيث المقدّمات ومن حيث النتيجة فإن النتيجة على بعض المسالك هو التبعيض في الإحتياط والرجوع إلى الظن في مقام إسقاط التكليف.

وعلى البعض الآخر حجّيّة الظن ومرجعيّته في مقام إثبات التكليف بنحو الحكومة تارة والكشف أخرى.

ومنشأ هذا الإختلاف هو الإختلاف في مدرك عدم جواز إهمال التكاليف وانه هو العلم الإجمالي بالتكاليف في الوقائع المشتبهة ، أو هو الإجماع ومحذور الخروج عن الدين.

فعلى الأوّل يحتاج إلى مقدّميّة العلم الإجمالي وتكون النتيجة هي التبعيض في الإحتياط محضا.

وعلى الثاني : لا يحتاج إليها وتكون النتيجة حجّيّة الظن ومرجعيّته في مقام إثبات التكليف بنحو الحكومة أو الكشف على تفصيل مذكور في محلّه ». نهاية الأفكار : ج ٣ / ١٤٦.


حيث أخذ بعض المقدّمات فيه وتركه من جهة وضوحه ، أو استفادته ممّا ذكر من المقدّمات ، كالعلم الإجمالي بالواجبات والمحرّمات في الوقائع وكوننا مكلّفين بها كالحاضرين الغير الموجودين كما سلكه قدس‌سره ، وإن كان مستفادا من مطاوي ما ذكره من المقدّمات ؛ كوجوب التّعرض لامتثال الأحكام المشتبهة وعدم جواز إهمالها.

ثمّ إنّ الدليل المذكور قد يقرّر بالنّسبة إلى وجوب الامتثال والعمل بالأحكام المشتبهة على كثرتها ، وقد يقرّر بالنّسبة إلى تحصيل الأحكام وحفظها عن الضّياع وضبطها من حيث وجوب حفظ الأحكام الدّينيّة كفاية على المكلّفين ولو لم يكن متعلّقا لعمل المأمور بمعرفته وضبطه كأحكام النّساء للرّجال وكالأحكام الغير الإلزاميّة.

والمعروف في تقريره هو الوجه الأوّل والفرق بينهما لا يكاد أن يخفى.

إذ على الأوّل : يكون تحصيل الظّن من باب المقدّمة للعمل كتحصيل العلم فلا يجب إلاّ إذا وجب العمل ، فلا يقتضي الدّليل اعتبار الظّن بالنّسبة إلى غير الأحكام الإلزاميّة ويحتاج إتمامه إلى إبطال الاحتياط والرّجوع إلى الأصول.

وعلى الثّاني : يكون مطلوبا نفسّيا كفائيّا من غير فرق بين الأحكام الإلزاميّة وغيرها. ولا يتصوّر الاحتياط على هذا التّقرير ، ولا الرّجوع إلى الأصول بعد فرض ثبوت وجوب الحفظ حتّى يتوقّف إتمامه على إبطال وجوب الاحتياط والرّجوع إلى سائر الأصول ، وإن كان الغرض من حفظ الأحكام العمل


بها في الجملة ، إلاّ أنّه ليس واجبا مقدّميّا ؛ فإنّ الغرض من إرسال الرّسل وتشريع الدّين وإبلاغه إلى المكلّفين هو حصول الكمال لأنفسهم بأخذه والعمل بمقتضاه ، إلاّ أنّه لا يوجب كون وجوب البيان على الأنبياء غيريّا.

وبالجملة : تقرير الدّليل على الوجه الثّاني غير مذكور في كلماتهم ، وإن كان على تقدير تماميّته أنفع من الوجه الأوّل ، وإن كان مقتضاه حصول المعرفة الظنّيّة بالنّسبة إلى الواقع ، والقطعيّة بالنّسبة إلى الحكم الظّاهري على تقدير إثباته حجيّة الظّن بالنّسبة إلى مورده أيضا ، إلاّ أنّه يتوجّه عليه : إشكال لزوم التبعيض في الاحتياط على ما ستقف عليه وعدم العموم له بالنّسبة إلى الظّن بغير الأحكام الإلزاميّة.

ثمّ إنّ ما أفاده قدس‌سره في بيان المقدّمة الأولى في عداد المقدّمات على الوجه الأوّل على سبيل الإجمال والفهرست : من انسداد باب العلم والظّن الخاص في معظم المسائل الفقهيّة ، ليس المراد منه ما يتراءى من ظاهر لفظ المعظم ، بل المراد منه هو الكثير من المسائل الفقهيّة المشتملة على الأحكام الإلزاميّة بحيث يكون الشّبهة من الكثير في الكثير. ولو فرضت كثرة المعلومات التّفصيليّة أو المظنونة بالظّن الخاصّ فالمراد : أنّ المشتبهات المشتملة على الواجبات والمحرّمات يكون أكثر بمراتب من المعلومات والمظنونات بالظّن الخاص.

(٢١٨) قوله قدس‌سره : ( ونجعل أنفسنا ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٨٤ )


أقول : الفرق بين الوجهين لا يكاد أن يخفى ؛ فإنّه على الأوّل : لم يصدر حكم من الشّارع في حقّ الجاهل وإنشاء في مرحلة الظّاهر أصلا. وفي الثّاني : صدر إنشاء من الشّارع في حقّه بمقتضى أدلّة البراءة أو أصالة العدم.

(٢١٩) قوله قدس‌سره : ( لعدم الوجوب في بعضها ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٨٤ )

أقول : المراد من البعض الّذي يكون إبطال وجوبه مقدّمة لا جوازه ، هو الاحتياط كما ستقف عليه مشروحا ؛ حيث أنّ بطلان تعيينه ، يكفي في الحكم بحجيّة الظّن ولا يتوقّف على بطلان جوازه ؛ فإنّ جوازه بل رجحانه يجامع انفتاح باب الظّن الخاصّ بل العلم التّفصيلي ، فضلا عن الظّن المطلق ؛ فإنّ حجيّة الظّن لا تنفي جواز إحراز الواقع بالاحتياط.

وهذا بخلاف سائر الأصول والطّرق المحتملة ؛ فإنّ جوازها ينافي حجيّة الظّن أمّا الأصول فظاهر ، وأمّا التّقليد ونحوه ؛ فإنّ حجيّة الظّن في حقّ المجتهد يوجب تمكّنه عن الاجتهاد في المسألة. فكيف يجوز له الأخذ بوظيفة العامي؟

ثمّ إنّ المقدّمة الرّابعة كما ترى ، بمنزلة الكبرى للقياس المركّب من الصّغرى الموقوفة على المقدّمات الثّلاثة ؛ فإنّه يثبت بمعونتها الدّوران بين الامتثال الظّني والشّكّي والوهميّ. وبمقتضى المقدّمة الرّابعة ؛ تثبت كبرى هذه الصّغرى ؛ فإنّ العقل يحكم حكما كليّا : بأنّه كلّما دار الأمر فيه بين الظّن والاحتمالين الآخرين يجب تقديم الظّن عليهما. فإذا انضمّت إلى الصّغرى المذكورة ، فيحصل من المجموع


العلم بالنّتيجة : وهي وجوب الامتثال الظّني. ومن هنا سمّي الدّليل عقليّا من حيث إنّ الحاكم في كبرى القياس المذكور العقل.

وما أفاده في تقرير المقدّمة الرّابعة وإن لم يكن واضح الدّلالة على ما ذكرنا من البيان إلاّ أنّ مراده ما ذكر (١) (٢).

__________________

(١) أقول : مراجعة كلام شيخ المحققين في حاشيته على المعالم للإستطلاع على رأيه الشريف في دليل الإنسداد ومقدّماته مغتنمة. انظر هداية المسترشدين : ج ٣ / ٣٨٩.

(٢) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« لا يخفى أن الاولى جعل المقدّمة الأولى هو العلم الإجمالي بثبوت تكاليف فعليّة علينا في الشريعة وإن كان ذلك بيّن اللزوم لما جعله أولى المقدمات ، بداهة ان وضوح المقدّمة لا يوجب الإستغناء عنها فيكون الدليل مركّبا من مقدمات خمس ... إلى آخره » أنظر درر الفوائد : ١٣١ وكذا الكفاية : ٣١١.

وانتقده جماعة منهم :

* الفاضل الكرماني قدس‌سره قائلا :

أقول : من الواضح الجلي ان الكلام هنا بعد الفراغ عن إثبات مكلّف ومبلّغ وتبليغ اشتراكنا مع من بلّغ اليهم فيما بلّغ إليهم وعلمنا إجمالا بكوننا فعلا مكلّفين بامتثال ما علمناه إجمالا من التكليف.

فعلى هذا الفرض الثابت ما قبله مما ذكر قبل هذا يقع النظر في طريق امتثالها أنه بأي وجه يكون؟ ولو لا هذا الفرض لكانت المقدمات السابقة أكثر مما تخيّله أولى المقدمات.


__________________

ويوضّح ما قلناه : من ان الكلام على الفرض المذكور والفراغ عمّا تقدّم انّهم سمّوه بدليل الإنسداد ولو كان الأمر كما تخيّله لكان الأنسب أن يسمّوه بدليل العلم الإجمالي بالتكاليف ... إلى آخره ما ذكره ). أنظر حاشية رحمة الله على الفرائد : ص ١١١.

* ومنهم : الميرزا النائيني قدس‌سره قائلا :

( ثم لا يخفى ان المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره زاد في المقدمات مقدّمة أخرى وجعلها المقدمة الأولى : وهي العلم ببقاء التكاليف حال الإنسداد ، زعما منه أن الترتيب الطبيعي يقتضي ذلك ؛ إذ لو لا العلم ببقاء التكاليف لما كان مجال لدعوى الإنسداد أبدا.

وهذا منه قدس‌سره عجيب ؛ فإنه إن أراد من العلم ببقاء التكاليف عدم نسخ الشريعة وبقاء احكامها إلى يوم القيامة ، فهو من ضروريّات الدين ومن الأمور المسلّمة في المقام فلا معنى لجعله من المقدّمات وإلاّ فليجعل إثبات الصانع والنبوّة من المقدمات أيضا.

وإن أراد منه لزوم التعرّض لها في فرض الإنسداد وعدم جواز إهمالها فهي عين المقدّمة الثانية وليست في قبالها مقدمة أخرى فالأولى جعل المقدمات أربعا كما صنعه العلاّمة الأنصاري قدس‌سره ). أنظر أجود التقريرات : ج ٣ / ٢٢٢.

* وأمّا المحقق الأصفهاني قدس‌سره فقد انتقد الشيخ الاعظم قدس‌سره لإهماله هذه المقدّمة قائلا : ( بان إسقاطها إن كان لأجل عدم المقدّميّة فمن الواضح انه لولاها لم يكن مجال للمقدّمات الأخر إلاّ بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.

وإن كان لوضوح هذه المقدّمة لدلالة سائر المقدّمات عليها ، فمن الواضح أن وضوحها لا يوجب عدم مقدّميّتها ولا الإستغناء بذكر الباقي عن ذكرها وإلاّ كان بعضها الآخر كذلك ، بل


( دليل الإنسداد )

المقدمة الأولى

(٢٢٠) قوله قدس‌سره : ( أمّا المقدّمة الأولى ... إلى آخره ) (١) (٢). ( ج ١ / ٣٨٦ )

__________________

بعضها أوضح ). أنظر نهاية الدراية : ج ٣ / ٢٧٢ رقم التعليقة ١٢٥.

* وقد أولى المحقق العراقي هذه المقدمة اهتماما أكثر من غيره وجعلها دخيلة في اختلاف المسالك في دليل الإنسداد وقد مضى كلامه قبل صفحات فراجع. وأنظر نهاية الافكار : ج ٣ / ١٤٦.

(١) لاحظ كلمة المحقق الخراساني قدس‌سره في المقام في كتابه درر الفوائد : ١٣٢.

(٢) قال الفاضل الكرماني قدس‌سره :

( في بعض الحواشي :

لا إشكال في توقّف إثبات حجّيّة الظن على إثبات المقدّمة الأولى بالدليل نظرا إلى كفاية الأصل عند الشك في تحقق الإنسداد وعدمه ؛ إذ مقتضى الأصل عدم التكليف بالعلم لتوقفه على جعل الشارع أمارات مخصوصة لإمتثال الأحكام الواقعيّة ، والأصل عدمه فيكون مدّعي الإنسداد في معنى المنكر الذي لا يكلّف بالإثبات ويكتفى منه بمجرّد النفي وعدم العلم بالثبوت ، والأولى إبتناء المسألة على أن مقتضي الاصل هو جواز العمل بالظن أو حرمته ، فيلزم الإثبات على الثاني دون الأوّل.


أقول : ما أفاده بالنّسبة إلى انسداد باب العلم في أغلب الأحكام من عدم احتياجه إلى الإثبات بما في « المعالم » وغيره ، في كمال الظّهور ؛ فإنّ كثيرا من الواجبات والمحرّمات وإن كانت معلومة في الجملة ؛ من جهة الضّرورة والإجماع والأخبار المتواترة ، إلاّ أنّه لا ينافي ما ندّعيه من انتفاء العلم التّفصيلي بالنّسبة إلى كثير منها ؛ فإنّ المنافي له العلم بأكثر الأحكام بحيث يلحق الباقي بالشّبهة الغير

__________________

إذ على الثاني لا بد في الخروج من مقتضى الأصل المذكور من إثبات المقتضي لجواز العمل بالظن ولا يثبت ذلك إلاّ بعد ملاحظة الأخبار وغيرها من الأمارات وعدم وجود مقدار من الأمارات المعتبرة شرعا كاف في أغلب أبواب الفقه وحيث قد سلف من المصنّف عند تأسيس الأصل في المسألة كون مقتضى الأصل هي حرمة العمل بالظن فلا بد حينئذ من إثبات الإنسداد.

أقول : النافع في المقام الذي نحن الآن فيه هو أن التكاليف الواقعيّة الثابتة من الشارع هل يكفي تحصيلها بالظن الذي لم يثبت من الشارع إذن فيه ولا منع بالخصوص ويحصل الامتثال بها وتفرغ ذمّتنا عنها كما يحصل الامتثال وفراغ الذمّة عنها لو حصّلناها بالعلم أو بطريق جعله الشارع لها أم لا بد من تحصيلها بأحدهما.

ولا شك أن الأصل عدم حصول المقصود بالظن الذي دليل الاكتفاء به في المقام مفقود ويتوقّف إثبات المرام على مقدمات : أعظمها إنسداد باب العلم والعلمي بلا كلام ، أو ما لم نقطع اليد عن معلوم الكفاية لم ينفتح باب كفاية مجهول الكفاية.

ولكون هذه المقدمة تامّة المدخليّة في إثبات المراد سمّوا المؤلّف من مقدّمات هي منها بدليل الإنسداد إعتناء بشأنها وتنزيل غيرها في هذا الدليل مبنيّا عليها وهي أساسها وأسّها ، وبعد طلوع النّيّر الوهّاج أطفيء السرّاج ). انتهى. حاشية رحمة الله على الفرائد : ص ١١٢.


المحصورة وهو منفيّ قطعا ، مع أنّ الواجبات المعلومة إنّما علمت على سبيل الإجمال لا بجميع أجزائها وشرائطها وموانعها. ألا ترى أنّا نعلم بوجوب الصّلاة؟

لأنّه من أوضح ضروريّات الدّين الّتي يكون العلم بها خارجا عن الفقه حقيقة ، إلاّ أنّا لا نعلم بجميع ما يعتبر فيه ، وكذلك الصّيام والحجّ والزّكاة والخمس وغيرها من أمّهات الفروع وأصولها.

وأمّا بالنّسبة إلى انسداد باب الظّن الخاصّ المراد به ما قام الدّليل على اعتباره من حيث حصوله من سبب خاصّ ، فتصديقه موقوف على أن لا يثبت ممّا تقدّم من الأدلّة القطعيّة على حجيّة الظّواهر والأخبار ، ما يفي بضميمة الأدلّة القطعيّة بأغلب الأحكام بحيث لم يكن هناك مانع من الرّجوع إلى الأصول في المسائل الخالية عنه.

فهذا يتوقّف على سير في الأدلّة وفي المسائل الفقهيّة ولو على نحو الإجمال ؛ حتّى يعلم وجود ما علم حجيّته بالخصوص في أغلبها وعدمه. وليس هذا أمرا مضبوطا جدّا ، بل يختلف باختلاف اعتقاد العلماء في باب حجيّة الأمارات الخاصّة ، ومذهب شيخنا قدس‌سره لا يستفاد من « الكتاب » قطعا.

وقد استفدت من كلماته في مجلس البحث وغيره : أنّه يعتقد وفاء الظّنون الخاصّة بأغلب الأحكام بضميمة الأدلّة العلميّة وإن كان الظّن الخاصّ منحصرا في زعمه ـ حسبما عرفت ـ بظواهر الألفاظ ، والخبر المفيد للوثوق والاطمئنان ، وكلّ ما يوجب نفي الرّيب بالإضافة ، في باب التّعارض كما ستقف عليه في الجزء الرابع.


ثمّ إنّ إثبات هذا الجزء من المقدّمة الأولى هو العمدة في المقام ؛ لأنّ إثبات انسداد باب العلم في الأغلب وكذا إثبات سائر المقدّمات لا يحتاج إلى إتعاب النّظر ، بل هو أمر مسلّم عندهم. ولذا لم يتعرّض أكثر المستدلّين بالدّليل له إلاّ على سبيل الإشارة والإجمال في الجملة كصاحب « المعالم » والشّيخ [ البهائي ] في « الزّبدة » (١) فإنّهما أبطلا الرّجوع إلى البراءة بعدم حصول الظّن منها في مقابل الخبر ، من هنا سمّي الدّليل بدليل الانسداد من حيث كونه هو العمدة من مقدّماته.

المقدمة الثانية

(٢٢١) قوله قدس‌سره : ( بل قد ادّعى في « المختلف » في باب ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٨٨ )

أقول : بل ادّعى غير واحد في هذا الباب الإجماع على تضيّق الواجبات الموسّعة بظنّ الضّيق ، بل ادّعى بعض المحقّقين : الإجماع على حجيّة الظّن بالنّسبة إلى الأمور المستقبلة ؛ نظرا إلى انسداد باب العلم بها غالبا (٢).

(٢٢٢) قوله قدس‌سره : ( الثّاني : إنّ الرّجوع في جميع تلك الوقائع ...

__________________

(١) زبدة الأصول : ٩٢ ، تحقيق فارس حسّون.

(٢) المحقق الشيخ محمّد تقي الرازي قدس‌سره صاحب الحاشية على المعالم.


إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ٣٨٨ )

__________________

(١) قال شيخ الكفاية رضوان الله تعالى عليه :

« لزوم مخالفة كثيرة من الرجوع في تلك الوقائع إلى البراءة بحيث يعدّ الراجع إليها مع التزامه بما قطع بثبوته في الشريعة من الضروريات والاجماعيات والمتواترات وما احتفّ بما يوجب اليقين وما ساعدت عليه أمارة ثبت إعتبارها من العبادات وغيرها من العقود والإيقاعات وسائر أبواب الفقه خارجا من الدين غير متديّن بشريعة سيّد المرسلين [ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ] كي يكون ذلك محذورا لا يجوّزه أحد من المسلمين ، ولوجود المخالفة القطعيّة لما علم بالإجمالي من التكاليف ممنوع جدّا ، سيّما إذا كان الاحتياط في الدماء والفروج والأموال مما علم بثبوته في الشريعة أيضا على نحو اللزوم بحيث لا يجوز شرعا الإقتحام فيما اشتبه حلاله بالحرام.

ولا يخفى انه لا شهادة في أكثر ما نقله من الأعلام على ذلك ، وذلك لأن ظاهر السؤال والجواب في كلام السيد وإن كان هو التسالم والتصالح على أنه لو فرض الحاجة إلى أخبار الآحاد لعدم المعوّل في أكثر الفقه ، لزم العمل عليها وإن لم يقم دليل عليه بالخصوص ، إلاّ أنه لم يعلم منه أن ذلك لئلاّ يلزم محذور الخروج عن الدين ، بل لعلّه لأجل أنه يرى نفس المخالفة القطعيّة محذورا ... ». إلى آخر ما ذكره. راجع درر الفوائد : ١٣٢.

* واعترض عليه الفاضل المحقق الشيخ رحمة الله الكرماني قائلا :

( أقول : أمّا منع لزوم المخالفة الكثيرة المذكورة :

إن كان على تقدير كفاية العلم والعلمي في معظم الفقه فهو الذي يقوله القائل بالظن الخاص ولم يتعدّ عنه إلى الظن المطلق ولم يتم عنده الدليل العقلي وليس ذلك ما يصلح لأن


__________________

يبرز أحد نفسه بالإرعاد والإبراق للإيراد على المصنّف.

وإن كان مع فرض عدم الكفاية فوضوح فساده ينادي بأن لا يصغى إليه.

وأمّا منع شهادة ما نقله المصنّف على ذلك وأن المحذور عنده نفس المخالفة القطعيّة فهو ذهول عن أن الفرار عن المخالفة القطعيّة اللازمة لإهمال البراءة بالعمل بالظن رجوع إلى المخالفة القطعيّة الحاصلة بين المظنونات.

توضيحه : ان المخالفة القطعيّة الإجماليّة لازمة لا يمكن الفرار عنها ؛ فإنّا نعلم إجمالا أنّا لو رجعنا إلى البراءة في الوقائع المجهولة على كثرتها كان بينها ما يخالف البراءة ، وكذا لو فررنا عن البراءة إلى الظن كان بين المظنونات ما يخالف الواقع ، إنّما المحذور ـ الذي يمكن الفرار عنه وينفيه القائل بالظن الخاص ويفرّ عنه القائل بالظن المطلق لعدم العلم والعلمي عنده بقدر الكفاية ـ هو المخالفة القطعيّة الكثيرة البالغة في الكثرة إلى حدّ يحدّ من خالف فيها أنه خارج عن هذا الدّين.

وهل يظنّ بهؤلاء الاعلام المستشهد بكلامهم أنّهم فرّوا عن نفس المخالفة القطعيّة الواقعة بين تلك الوقائع ـ التي رجع فيها إلى البراءة ـ إلى الظّنّ وما دروا أنّ ذلك فيما فرّوا إليه حاصل؟!!

حاشا ثمّ حاشا ، ودعوى : عدم العلم الإجمالي بالمخالفة في العمل بالظن ، ليس بأولى من دعوى عدم العلم الإجمالي بها في اجراء البراءة ، بل نقول : لو كان العلم والعلمي بمقدار لو رجعنا في غيرهما إلى البراءة لم يكن كثرتها بحيث يعدّ الراجع إليها خارجا عن هذا الدين لم يرجع إلى الظنّ ولو علمنا ان بين ما يرجع فيها إلى البراءة مخالفات


أقول : صريح هذا الكلام ـ كما ترى ـ كون المخالفة الكثيرة للعلم الإجمالي ـ المعبّر عنها في لسان المتأخّرين : بالخروج عن الدّين ـ مانعا مستقلاّ من الرّجوع إلى أصالة البراءة وأصالة العدم على القول بجريانها في موارد جريان البراءة ، وإن لم نلتزم بقدح المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي في الشّبهة المحصورة ومنعها عن الرّجوع إلى الأصل.

وقد استظهره قدس‌سره ممّا حكاه من كلمات المتقدّمين والمتأخّرين ، فإن كان هناك إجماع كاشف عن حكم الشّارع بذلك فهو ، وإلاّ فللمناقشة فيه مجال ؛ إذ المانع في حكم العقل في كلّ مورد هو مخالفة الخطاب المتعلّق به لا بملاحظة اجتماع الخطابات وكثرتها بحسب الموارد فلو لم يكن المخالفة القطعيّة للخطاب المعلوم بالإجمال ، قبيحة عند العقل لم يكن كثرتها أيضا قبيحة. نعم ، الفرق بينهما لو كان فإنّما هو بالوضوح والخفاء.

(٢٢٣) قوله قدس‌سره : ( نعم ، هذا إنّما يستقيم في حكم واحد ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٨٩ )

أقول : إنّما يستقيم ما أفاده على القول بالانفتاح بالنّسبة إلى أغلب الأحكام بحيث كانت موارد الشّبهة داخلة في الشّك الغير المقرون بالعلم الإجمالي

__________________

لم يبلغ إلى حدّ المحذور ، فلو لم يعلم ان بين المظنونات أيضا مخالفة لم يكن وجه في المفروض الترك ، العمل بالظنّ ، ولمّا طال التعليق فالأجود اقتصار التحقيق ). انتهى. أنظر الفرائد المحشّى : ص ١١٣.


بالتّكليف ولو بتعيّن المعلومات الإجماليّة بالظّنون الخاصّة بناء على كونها بمنزلة العلم التّفصيلي من هذه الجهة ، وإلاّ فلو فرض هناك علم إجماليّ بالتّكليف في مسألة شخصيّة كالقصر والتّمام ونحوها من موارد الشّك في المكلّف به فلا معنى للرّجوع إلى أصالة البراءة.

وبالجملة : هذا الكلام مسوق لبيان ارتفاع أثر العلم الإجمالي الكلّي من جهة الانفتاح في الأغلب ولا دخل له بما فرضنا من صورة العلم الإجمالي بالتّكليف في المسألة الشخصيّة.

نعم ، لو أغمض عن منع مطلق المخالفة القطعيّة من الرّجوع إلى الأصول وجعل خصوص كثرتها مانعة ، صحّ ما أفاده على تقدير عدم حمله على ما ذكرنا أيضا. ولمّا كان مبنى الوجه الثّاني على ذلك فلا مانع من حمله على ما ذكر إغماضا عمّا بنى عليه الأمر في الوجه الثّالث فتدبّر.

(٢٢٤) قوله قدس‌سره : ( بل الإنصاف : أنّه لو فرض والعياذ بالله ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٩٥ )

أقول : ما أفاده قدس‌سره ـ من عدم سقوط الامتثال بعد العلم الإجمالي بالتّكاليف الإلزاميّة على تقدير انسداد باب الظّن المطلق ممّا لا شبهة فيه ، غاية الأمر تعيّن الامتثال أوّلا بعد انسداد باب الظّن الشّخصي بتحصيل الأمارات والظّنون النّوعية. وعلى تقدير عدم وجودها ، أو عدم كفايتها ، يتعدّى إلى الامتثال الشّكي ، ثمّ يتعدّى إلى الامتثال الوهمي على تقدير.


وبالجملة : بعد العلم الإجمالي بالواجبات والمحرّمات لا بدّ في حكم العقل من امتثالها بنحو من أنحاء امتثال العاجز عن تحصيل العلم التّفصيلي الّذي آخر مرتبته الامتثال الإجمالي ، وهذا ممّا يحكم به بديهة العقل. أترى أنّه لو طرأ العجز عن الصّلاة إلى أربع جهات عند تردّد القبلة ، أن تحكم بسقوط الصّلاة بالنّسبة إلى الجهة الممكنة؟ وهكذا في تردّد الثّوب ونحوه ممّا يجب فيه الجمع وفرض العجز عنه مع التّمكّن من الإتيان ببعض الاحتمالات.

(٢٢٥) قوله قدس‌سره : ( ما لم يصل المعلوم الإجمالي إلى حدّ الشّبهة الغير المحصورة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٩٦ )

أقول : المراد ممّا أفاده قدس‌سره : عدم الجريان رأسا عند اشتباه الواجب أو الحرام في الشّبهة المحصورة أو الشّبهة الملحقة بها وإن كان الحقّ عنده حسبما ستقف على تفصيل القول فيه عدم جواز المخالفة القطعيّة في الشّبهة الغير المحصورة أيضا.

(٢٢٦) قوله قدس‌سره : ( قلت : أوّلا إنّه مستحيل ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٩٦ )

استحالة اجتماع العلم الإجمالي مع الظن التفصيلي بالخلاف

أقول : ما أفاده : من استحالة اجتماع العلم الإجمالي مع الظّن التّفصيلي الشّخصي بالخلاف في جميع أطراف الشّبهة من حيث أوله إلى اجتماع النّقيضين أو الضدين ـ نظرا إلى عدم تنافي الإدراكات من حيث الذّات وإنّما هو من جهة


متعلّقاتها ـ ممّا لا شبهة فيه.

نعم ، لو فرض الظّنون القائمة على خلاف العلم الإجمالي في جميع أطراف الشّبهة من الظّنون النّوعيّة على تقدير تعميم النّتيجة بالنّسبة إلى حجيّة الظّنّ النّوعي ، أو كانت مظنونة الاعتبار على تقدير التّعميم بالنّسبة إلى المسألة الأصوليّة ـ كما ستقف على شرح القول فيه ـ توجّه منع الاستحالة ، لكن كلامه قدس‌سره مبنيّ على خلاف المفروض.

وتوهّم : عدم التّنافي بين الأمرين ـ كما يشاهد في الغلبة من حيث حصول الظّن بالإلحاق بالنّسبة إلى الأفراد المشكوكة مع العلم الإجمالي بتخلّف الفرد النّادر ـ فاسد جدّا كما ستقف على تفصيل القول فيه.

فإن قلت : كيف يحكم بالاستحالة فيما فرض؟ مع أنّا نرى بالوجدان اجتماع الشّك مع العلم الإجمالي ولا ينكره أحد. وأيّ فرق بين الظّنّ بالخلاف في جميع أطراف العلم الإجمالي والشّك؟ فكما أنّ مرجع الأوّل إلى اجتماع العلم بالشّيء والظّن بعدمه فيؤول إلى اجتماع الوجود والعدم ، كذلك مرجع الثّاني إلى العلم بوجود الشيء والشّك فيه فيؤول إلى تجويز اجتماع الوجود والعدم.

قلت : ما قرع سمعك من اجتماع العلم مع الشّك بالنّسبة إلى جميع أطراف الشّبهة ؛ فإنّما هو بالنّسبة إلى الشّك في انطباق المعلوم بالإجمال وتعيينه ، لا بالنّسبة إلى وجوده. ولا يمكن هذا الاعتبار بالنّسبة إلى الظّن في جميع


الأطراف ؛ ضرورة أنّ الظّن بعدم انطباق المعلوم بالإجمال بالنّسبة إلى بعض الأطراف موجب للظّن بانطباقه على الطّرف الآخر. فتدبّر حتّى لا يختلط عليك هذا الأمر الواضح.

(٢٢٧) قوله قدس‌سره : ( ولكنّ الظّاهر أنّ ذلك مجرّد فرض ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٩٧ )

أقول : ربّما ينافي ظاهر ما استظهره هنا مع الجزم بعدم الوقوع الّذي ذكره سابقا ؛ من حيث دلالة كثير من الأمارات على الحكم الإلزامي وجوبا أو تحريما كما هو واضح لمن راجع الفقه إجمالا ؛ فإنّه يعلم علما يقينيّا بأنّ كثيرا منها مثبتة له ، فكيف يحصل منها الظّن بعدم التّكليف في جميع الوقائع المحتملة للحكم الإلزامي؟ فلا مناص عن هذا الجواب ، كما أنّه لا مناص عمّا قبله وما بعده من التّبعيض على تقدير اختلاف المراتب ، أو الأخذ باحتمال التّكليف بالنّسبة إلى بعضها تخييرا على تقدير التّساوي وإن كان لا يتّفق عادة.

(٢٢٨) قوله قدس‌سره : ( ثمّ إنّه قد يردّ ... إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ٣٩٧ )

أقول : لا يخفى عليك : أنّ ما ذكره في « المعالم » (٢) و « الزّبدة » (٣) لما كان مفروضا لإثبات حجيّة الظّن الخبري تعرّضا لحال أصل البراءة في مقابل خبر

__________________

(١) الرّاد هو المحقق القمّي ، انظر القوانين : ج ١ / ٤٤٢.

(٢) المعالم : ١٩٢ ـ ١٩٣.

(٣) الزبدة : ٩٢ ، تحقيق المرحوم فارس حسّون طيّب الله تعالى مثواه.


الواحد ، وأنّه لا يحصل منه الظّن في مقابل الخبر من حيث كونه من الأمارات التّعليقيّة سواء كان مبنيّا على استصحاب البراءة أو غيره ، والخبر من الأمارات التّنجيزيّة إذا فرض الكلام في مطلق الظّن.

وسيجيء في باب البراءة والاستصحاب : أنّ مبناهما على الحكم القطعي كما في البراءة ، والتّعبّد الثّابت من الشّارع كما فيهما ، وأنّ توهّم : كونهما من باب الظّن ـ كما نسب إلى الأكثر ـ فاسد جدّا موضوعا وحكما أي : من حيث الصّغرى والكبرى.

(٢٢٩) قوله قدس‌سره : ( وذكر المحقّق القميّ رحمه‌الله في منع ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٩٨ )

فيما يتوجه على كلام المحقق القمي

أقول : لا يخفى عليك : أنّ ما ذكره في « الكتاب » من المحقّق القميّ قدس‌سره هو الّذي أورده على المحقّق « جمال الدّين » بعد نقل كلامه المحكيّ في « الكتاب » في الإيراد الثّاني ؛ فإنّه بعد نقله أورد عليه بإيرادات كثيرة.

منها : الإيراد الثّاني الّذي أورده في « الكتاب » : وسائر ما أورده عليه غير الإيراد الأوّل والثّاني واضح الدّفع كما يظهر لمن راجع إلى « القوانين ».

وأمّا الإيراد الأوّل ؛ فهو مبنيّ على ما أورده في مسألة أصل البراءة في الشّك في المكلّف به من تسليم وجوب الاحتياط فيما كان التّكليف متعلّقا بالواقع المعلوم إجمالا من غير اشتراطه بالعلم التّفصيلي كما ستقف على تفصيل القول فيه


في محلّه ، فلا ينافي ما بنى عليه الأمر في الشّك في المكلّف به من عدم وجوب الاحتياط.

وأمّا الإيراد الثّاني ؛ فإن كان مبنيّا على زعم إرادة المحقّق « جمال الدّين » قدس‌سره ؛ من حكم العقل بالبراءة فيما لا علم بالتّكليف حكم العقل القطعي بعدم التّكليف في الواقع ونفس الأمر ، كما يستفاد من قولهم بالإباحة الواقعيّة في الأشياء قبل الشّرع.

فما أورده عليه من الإيرادات على التّقدير المزبور حقّ لا محيص عنه ، لكن الكلام في صحّة الزّعم المزبور ؛ حيث إنّه لا شاهد له من كلامه أصلا ، وإن كان مبنيّا على ما يستفاد من ظاهره ؛ من إرادة حكم العقل بعدم التّكليف في مرحلة الظّاهر ، وقبح العقاب على الواقع المجهول كما هو مبنى البراءة عند المحقّقين.

فما أورده عليه بقوله : « فدعوى كون مقتضى أصل البراءة قطعيّا أوّل الكلام » (١). لا توجّه له أصلا ؛ ضرورة استقلال العقل في الحكم بما ذكر على سبيل القطع واليقين.

وأمّا ما أورده عليه بقوله : « سلّمنا كونه قطعيّا في الجملة ... إلى آخره » (٢). فهو وإن كان متوجّها عليه في الجملة ، إلاّ أنّه يرجع إلى الإيراد الأوّل حقيقة على تقدير ومناقض لما بنى عليه الأمر في باب البراءة من صور الشّك في المكلّف به

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٣٩٨.

(٢) نفس المصدر.


من جواز الأخذ بأصالة البراءة فيما لم يكن هناك إجماع ونصّ على عدم جواز ترك المشتبهين.

وبالجملة : ما أفاده المحقّق القميّ قدس‌سره في المقام لا يخلو عن تشويش واضطراب ، مضافا إلى ما يتوجّه عليه من المناقشات الغير المخفيّة على المتأمّل في أطرافه.

(٢٣٠) قوله قدس‌سره : ( وممّا ذكرنا ظهر صحة دعوى الإجماع ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٣٩٩ )

أقول : لا يخفى عليك : أنّ دعوى الإجماع على البراءة في المقام يرجع إلى الإجماع المدّعى على الحكم الظّاهري الّذي لم يخالف فيه أحد من المجتهدين والأخباريّين ؛ من أن الحكم فيما لا يعلم بصدور الحكم الإلزامي من الشّارع بعد الفحص التّامّ لا خصوصا ولا عموما : هو جواز الفعل والتّرك في مرحلة الظّاهر بانضمام عدم قيام الدّليل على حجيّة الخبر الّذي دلّ على التّكليف كما هو المفروض ؛ فإنّ من انضمامه يتحقّق مبنى القياس الثّابت كبراه بالإجماع ؛ فإنّ خلاف القائل بحجيّة الخبر من حيث الخصوص ، لا يقدح في دعوى الإجماع بعد فرض عدم تماميّة دليل حجيّته عند المستدلّ بالإجماع ؛ فإنّ الصّغرى : وهو عدم العلم بالبيان ، أو عدم البيان الواصل إلينا قطعية وجدانيّة عنده ، فالمراد من عدم البيان في قوله : « صدق قطعا عدم البيان » أحد الأمرين اللّذين عرفت الإشارة إليهما.

ثمّ إنّ ما أفاده قدس‌سره مبنيّ ـ كما هو واضح ـ على الإغماض عمّا ذكره في وجه بطلان الرّجوع إلى البراءة في المقام ، وإلاّ فلا تأمّل عنده فيه حسبما عرفت


وستعرفه من كلامه.

(٢٣١) قوله قدس‌سره : ( ثمّ إنّ ما ذكره من التّخلّص ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٠١ )

أقول : لا يخفى عليك : أنّ ما أفاده في كمال الوضوح من الاستقامة ؛ ضرورة عدم جريان البراءة في الوضعيّات والماليّات المشكوكة المردّدة في أبواب المعاملات بالمعنى الأعمّ. وإن فرض هنا شك في التّكليف المسبّب عن الوضع ؛ فإنّه بمجرّده لا يكفي للرّجوع إلى البراءة بعد فرض كونه مسبّبا عن الوضع كما لا يخفى.

وأمّا عدم جواز المعالجة بالتّخيير في هذه الموارد حتّى يخيّر الحاكم المرجع عند تعادل الأمارات المعتبرة في الشّبهات الحكميّة أو الموضوعيّة ، فأمر واضح بعد عدم جريان دليله في المقام ، بل عدم تحقّق موضوعه سيّما التّخيير الّذي ذكره المحقّق المعترض الّذي يرجع إلى اللّزوم واللاّبدّية وعدم الحكم حقيقة.

فإن شئت قلت : إنّ مقتضى الأصل في الماليّات الحكم بحرمة التّصرّف فيما شك في صحّة المعاملة الواقعة عليها إمّا من جهة الأصل الموضوعي أو الحكمي على أضعف الوجهين فلا معنى للرّجوع إلى البراءة هذا.

وقوله قدس‌سره في وجه المنع إلى الرّجوع إلى البراءة ، لحرمة تصرّف كلّ منهما على تقدير كون المبيع ملك صاحبه لا يخلو عن غموض ، بل ربّما يناقش في دلالته على المدّعى.


(٢٣٢) قوله قدس‌سره : ( ويمكن أن يكون هذا الأصل ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٠٢ )

أقول : قد عرفت في أوّل التّعليقة وسيجيء في باب الاستصحاب : أنّ أصل العدم ليس أصلا مستقلاّ في قبال الاستصحاب ، بل هو قسم منه. وأنّ دعوى الإجماع على اعتباره وكونه مسلّما عندهم فاسدة.

نعم ، يمكن دعوى الإجماع على اعتبار خصوص أصالة الفساد في المعاملات ؛ فإنّها أمر مسلّم عندهم ظاهرا في جميع أبواب المعاملات ، وأمّا اعتبار مطلق أصالة العدم سيّما في الشّبهات الحكميّة وسيّما فيما قامت أمارة على خلافها فليس أمرا مسلّما عندهم ويشهد له نزاعهم في أنّ النّافي يحتاج إلى دليل أم لا.

واستدلال النّافين لاعتبار الاستصحاب : بأنّه لو كانت حجّة لكانت بيّنة النّفي ، مقدّمة على بيّنة الإثبات. والمراد من الرّجوع إلى الظّن العقلي ـ على تقدير ابتنائه على الاستصحاب ـ الرّجوع إلى ما هو المعروف من استدلالهم في باب الاستصحاب بقولهم : « ما ثبت دام » المعروف منه بقولهم : « ما ثبت جاز أن يدوم وجاز أن لا يدوم » ويمكن أن يكون المراد منه ما ذكروه في منع الكبرى في باب الاستصحاب فتأمل.

(٢٣٣) قوله قدس‌سره : ( اللهمّ إلاّ أن يدّعى تواترها ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٠٢ )

أقول : يرد على الاستدراك المذكور ـ مضافا إلى منع التّواتر الإجمالي ـ أنّه لا ينفع أصلا ؛ لأنّ العلم بصدور بعض أخبار الاستصحاب مع دلالة بعضها وعدم دلالة الآخر لا يجدي أصلا كما لا يخفى.


المقدّمة الثالثة

(٢٣٤) قوله قدس‌سره : ( مضافا إلى ما يستفاد من أكثر ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٠٤ )

أقول : وجه الاستفادة : أنّه لو لم يكن بطلان وجوب الاحتياط أمرا مسلّما مفروغا عنه عندهم ، لم يحسن الاستدلال المدكور ولم يتم أصلا ؛ حيث أنّه على تقدير وجوب الاحتياط لا يلزم من عدم الالتزام بحجيّة الخبر الرّجوع إلى البراءة حتّى يترتّب عليه بطلان أكثر الأحكام كما هو واضح.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الاحتياط في إحراز الواقع بحسب العمل غير الحكم به والغرض الثّاني ، إلاّ أن يقال : إنّ الغرض من الحكم بالواقع هو العمل بمقتضاه ، وإلاّ فلا يلزم إبطال أكثر الأحكام من الرّجوع إلى البراءة ؛ فإنّ الرّاجع إليها يلتزم بأنّ الحكم الواقعي ثابت للمشتبه في نفس الأمر وإن خالف مقتضى البراءة فتأمل.

(٢٣٥) قوله قدس‌سره : ( قلت : مع أنّ لنا أن نفرض ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٠٦ )

أقول : حاصل ما أفاده : أنّا نتكلّم في حكم موضوع الانسداد وأنّه لا يمكن أن يكون وجوب الاحتياط بل لا يمكن أن يكون جواز الاحتياط ؛ نظرا إلى إيجابه الحرج الموجب لاختلال نظام المعاش بل المعاد من حيث لزومه من اختلال نظم المعاش فتدبّر.

فهذا ما ذكرنا ، فيكون منافيا للغرض فيقبح من الشّارع تجويزه فتدبّر. فإذن


لا تعلّق لدفعه : بأنّ الاختلال إنّما يلزم من التّعليم والتعلّم ، لا من مجرّد العمل بالاحتياط ؛ فيرجع المكلّفون بالتّقليد إلى من يعتقد الانفتاح.

(٢٣٦) قوله قدس‌سره : ( هذا كلّه مع كون المسألة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٠٦ )

أقول : ما أفاده في كمال الوضوح ؛ حيث إنّ موضوع الاحتياط على ما عرفت مرارا إنّما هو في موارد إمكانه لا فيما دار الأمر فيه بين المحظورين سواء أجرى فيه التّخيير أم لا ؛ حيث إنّه لا مناص فيه عن العمل بالظّن كما ستقف على تفصيل القول فيه.

(٢٣٧) قوله قدس‌سره : ( وكما (١) لو فرضنا أداء ظنّ المجتهد ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٠٧ )

أقول : فرض أداء ظنّ المجتهد إلى ما ذكره يحصل بأمرين :

أحدهما : أداؤه إلى الحكم الإلزامي في جميع الوقائع المشتبهة. وبعبارة أخرى : أداؤه إلى ما يوافق الاحتياط بالنّسبة إلى جميع موارد احتمال التّكليف.

ثانيهما : أداؤه إلى ذلك بالنّسبة إلى أكثرها بحيث يفرض لزوم العسر من الاحتياط فيها من غير توقّف حصوله على ضمّ الباقي.

(٢٣٨) قوله قدس‌سره : ( والجواب : أنّ ما ذكر في غاية ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٠٧ )

أقول : لا يخفى عليك : أنّ كلام المورد مشتبه المراد ؛ فإنّ ملخّص ما ذكره

__________________

(١) كذا وفي نسخة الكتاب المطبوع من الفرائد : وكذا.


من النّقض : أنّ إثبات حجيّة مطلق الظّن بإبطال وجوب الاحتياط من حيث إيجابه الحرج والعسر لا يجوز من حيث لزوم المحذور المزبور على تقدير العمل بالظّن أيضا.

وأمّا قوله : ( وبالجملة فلزوم الحرج ... إلى آخره ) (١) فغير محصّل المراد ؛ إذ لم يظهر كون المراد منه المنع من قيام دليل على نفي التّكليف العسري ، أو منع حكومته على ما يثبت التّكاليف في الشّريعة مع تسليم وجوده ، أو تقديم القواعد عليه وترجيحه عليه بضرب من التّرجيح مع تسليم وجوده وتقدّمه الذّاتي على عمومات التّكاليف في الجملة.

فإن كان المراد الأوّل :

فلا شبهة في بداهة بطلانه بعد دلالة الأدلّة الثّلاثة بل الأربعة عليه في المقام وأشباهه ممّا يوجب الحرج البالغ حدّ الاختلال الّذي يحكم العقل المستقل بوجوب رفعه على الحكيم تعالى.

وإن كان المراد الثّاني :

فلا ينبغي الأشكال في فساده وإن زعم بعض المتأخّرين صحّته ؛ فإنّ قوله تعالى : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (٢) وأشباهه من الآيات والأخبار

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٠٧.

(٢) الحج : ٧٨.


يكون شارحا لما أثبت الأحكام الدّينيّة من العمومات والإطلاقات ومفسّرا لها بالدّلالة اللّفظيّة وحاكيا عنه ومتفرعا عليه. وهذا معنى الحكومة والتّقدم الذاتي بحيث لا يلاحظ نسبة وترجيح بينهما أصلا. ومن هنا يقدّمونه عليه من غير ملاحظة مرجّح هذا كلّه بالنّسبة إلى غير المقام.

وأمّا بالنّسبة إليه فلا شبهة في ورود دليل نفي الجرح من وجهين :

أحدهما : كون مبنى وجوب الاحتياط عند العقل ومناطه احتمال العقاب ،

ومن المعلوم ضرورة ارتفاعه بإذن الشّارع ولو لم يكن مستفادا ممّا يكون حاكما على عمومات التّكاليف بل ولو لم يكن من الأدلّة الاجتهاديّة ، ومن هنا يكون الاستصحاب واردا على الاحتياط العقلي.

ثانيهما : كون النّافي للحرج في المقام العقل المستقلّ فلا محالة يكون واردا على ما يوجب الاحتياط ولو كان دليلا شرعيّا هذا.

وإن كان المراد الثّالث :

ففيه : أنّ الموجب للاحتياط في المقام حكم العقل من جهة لزوم دفع الضّرر المحتمل فيكون دليل نفي الجرح واردا عليه لا محالة فلا يكون قابلا لأن يقدّم عليه ويخصّصه ، مضافا إلى ما عرفت عن قريب ؛ من كون النّافي في المقام بملاحظة لزوم الاختلال من الاحتياط ، العقل المستقلّ. فكيف يحكم بتقديم الاحتياط عليه؟


نعم ، قاعدة نفي العسر والحرج في غير ما يوجب الاختلال ظنيّة مستفادة من عمومات الكتاب والسّنة القطعيّة على ما هو الصّواب عندنا وفاقا للمشهور وخلافا لبعض أفاضل المتأخّرين في « عوائده » (١) ، وغيره في غيره ؛ حيث زعما كون التّكليف العسريّ قبيحا عقلا وخلافا للّطف ، وأنّ ما في الشّرعيّات ممّا حكموا بكونه تكليفا عسريّا مثل الجهاد ونحوه لا يكون عسرا بعد ملاحظة ما أعدّ الشّارع له من الأجر والثّواب. ولتحقيق المقام وتوضيح فساد الزّعم المزبور مقام آخر.

فعلى ما ذكرنا تكون القاعدة في غير ما يوجب الاختلال ، قابلة للتّخصيص بما هو أخصّ منه ؛ مثل ما دلّ على وجوب الغسل على المريض المجنب عمدا (٢) على تقدير تماميّته سندا ودلالة ، وما دلّ على وجوب التّرتيب بين الفوائت لمن

__________________

(١) الفاضل النراقي في عوائد الأيّام العائدة : ١٩ / ١٩٦.

(٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته عن مجدور أصابته جنابة؟ قال : إن كان أجنب هو فليغتسل وإن كان إحتلم فليتيمّم » ، انظر الكافي : ج ٣ / ٦٨ باب « الكسير والمجدور ومن به الجراحات وتصيبهم الجنابة » ـ ح ٣ ، والفقيه : ج ١ / ١٠٧ ـ ح ٢٢٠ ، والإستبصار عن الكافي : ج ١ / ١٦٢ باب « الجنب إذا تيمّم وصلى هل تجب عليه الإعادة أم لا؟ » ـ ح ٧ ، عنه أيضا التهذيب : ج ١ / ١٩٨ باب « التيمّم وأحكامه » ـ ح ٤٨ ، عنها الوسائل : ج ٣ / ٣٧٣ باب « وجوب تحمّل المشقّة الشديدة في الغسل لمن تعمّد الجنابة دون من احتلم وعدم جواز التيمم للمتعمّد حينئذ » ـ ح ١.


عليه فوائت كثيرة (١) أو بين الحاضرة والفائتة في الفرض المسطور ونحوهما فيخرج بها عن القاعدة بعد تماميّتها ؛ نظرا إلى عدم إمكان تحكيم القاعدة عليها كما لا يخفى ، فيعامل معهما معاملة مطلق الخاص والعام المتنافيين.

فتلخّص ممّا ذكرنا : أنّ ما ذكره المورد من النّقض ، لا توجّه له أصلا بالنّسبة إلى ما فرضه من المثالين وأشباههما لوضوح الفرق بينهما وبين المقام من وجوه. وأمّا ما ذكره من فرض أداء ظنّ المجتهد إلى وجوب أمور يلزم من مراعاتها الحرج ، فسيجيء الكلام عليه عند تعرّض شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره له.

(٢٣٩) قوله قدس‌سره : ( وممّا يوضح ما ذكرنا ويدعو ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٠٨ )

أقول : دلالة الرّواية على كون تقدّم ما دلّ على نفي الحرج على العمومات المثبتة للتكاليف العسريّة بعمومها ذاتيّا ومن باب الحكومة ، مضافا إلى ما عرفت من وضوحه ممّا لا يكاد أن يخفى ؛ فإنّ معرفة المسؤول من كتاب الله بحيث يغني عن السّؤال عن الإمام عليه‌السلام مع كون النّسبة بين قوله تعالى : ( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (٢) « وما دلّ على وجوب المسح على الرّجل » (٣) الظّاهر في

__________________

(١) الكافي : ج ٣ / ٢٩١ باب « من نام عن الصلاة أو سهى عنها » ـ ح ١ ، عنه التهذيب :

ج ٣ / ١٥٨ باب « أحكام فوات الصلاة » ـ ح ١ ، عنهما الوسائل : ج ٤ / ٢٩٠ باب « وجوب الترتيب بين الفرائض أداء وقضاء ووجوب العدول بالنيّة إلى السابقة إذا ذكرها في أثناء الصّلاة أداء وقضاء جماعة ومنفردا » ـ ح ١.

(٢) الحج : ٧٨.


المسح على بشرتها عموم من وجه ، فلا يمكن المعرفة من الكتاب بنفسه إلاّ بكون ما دلّ على نفي الحرج مقدّما عليه بذاته وبحسب المرتبة.

ولا فرق فيما ذكرنا من الدّلالة بين كون إيجاب المسح على المرارة مستفادا من الكتاب أيضا حسبما هو ظاهر شيخنا قدس‌سره في المقام وصريحه فيما تقدّم ، وبين كونه تأسيسا من الإمام عليه‌السلام وكون الغرض من الإحالة والإجماع إلى الكتاب ، نفي وجوب المسح على البشرة حسبما عرفت باستظهاره سابقا. وإن كان خلاف ظاهر الرّواية في باديء النّظر فإنّ المقصود يحصل بالثّاني.

في انه لا يمكن الظن بما لا يوافق الإحتياط في جميع الوقائع

(٢٤٠) قوله قدس‌سره : ( وأمّا ما ذكره من فرض أداء ظنّ المجتهد إلى وجوب أمور كثيرة (١) ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤١٠ )

أقول : لمّا كان النّقض المذكور نظير نقض بطلان البراءة من جهة العلم الإجمالي بأداء ظنّ المجتهد إلى ما يوافق البراءة في جميع الوقائع المشتبهة فلا بدّ أن يجاب عنه :

أوّلا : بعدم الإمكان من حيث وجود العلم الإجمالي بالأحكام الغير

__________________

(٣) المائدة : ٦.

(٤) كذا ولا توجد لفظة « كثيرة » في النسخة المطبوعة من الفرائد.


الإلزاميّة في الوقائع المشتبهة ، ومعه لا يمكن الظّن بما يوافق الاحتياط في جميعها أو فيما يوجب من مراعاته الحرج ؛ نظرا إلى كثرة الأحكام الغير الإلزاميّة كما هو واضح. فكما أنّ العلم الإجمالي بالأحكام الإلزاميّة يمنع من الظّن بما يوافق البراءة في جميع الوقائع المشتبهة ، كذلك العلم الإجمالي بالأحكام الغير الإلزاميّة يمنع من الظّن بما يوافق الاحتياط في جميع الوقائع.

وثانيا : بعدم الوقوع على تقدير تسليم الإمكان بجعل نتيجة الدّليل أعمّ من الظّن الشخصيّ والنّوعي وكون الأمارات القائمة على التّكليف مفيدة للظّن النّوعي كلاّ أو جلاّ بحيث يجامع العلم الإجمالي بالخلاف ؛ نظرا إلى كون مدلول غالب الأمارات من الأخبار وغيرها ، الأحكام الغير الإلزاميّة. فكيف يظنّ منها الحكم الإلزامي؟

وثالثا : بعدم جواز العمل بجميعها على تقدير تسليم الإمكان والوقوع ؛ نظرا إلى لزوم الحرج والاختلال فيحكم بالتّبعيض بين مراتب الظّنون بالقوّة والضّعف ، فيختار جانب التّكليف الإلزامي فيما قام الظّن القويّ عليه وجانب الحكم الغير الإلزامي فيما قام على التّكليف الظّن الضّعيف ، فإن سلّم الخصم هذا المعنى فيرجع إلى الاعتراف بوجوب العمل بالظّن في مقابل الاحتياط في الجملة.

وأمّا ما أفاده شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » من الأجوبة فغير نقيّة عن المناقشة ؛ لأنّ حصول العلم من أدلّة نفي الحرج بعدم جعل الحكم العسري في الشّريعة أصلا ورأسا ؛ مبنيّ على كون نفي الحكم العسري في الشّريعة عقليّا لا من جهة لزوم


الاختلال فيما فرض لزومه ، فإنّه مضافا إلى مخالفته لظاهر كلامه في المقام ، مناف لصريح كلامه فيما يأتي ؛ حيث إنّه جعل لزوم الاختلال فيما سيأتي جوابا مستقلاّ ، بل من جهة ما زعمه بعض المتأخّرين ؛ من كون التكليف العسري خلاف اللّطف.

وهو مناف لصريح كلامه فيما مضى وتصديقه بكونه في غير ما يوجب الاختلال قاعدة ظنيّة قابلة للتخصيص بقوله : ( نعم ، ... إلى آخره ) (١) فراجع.

هذا لو أريد من العلم العلم التّفصيلي كما هو ظاهر كلامه بل صريحه عند التّأمّل.

وأمّا لو أريد منه العلم الإجمالي من حيث العلم بإرادة بعض الأفراد من كلّ عام. ومن هنا حكموا بقبح التّخصيص المستغرق.

ففيه : أنّه لا يجدي شيئا أصلا وإن كان مسلّما فإنّه يكفي فيه عدم عسريّة بعض أحكام الشّريعة. نعم ، ينافي هذا العلم الظّن بكون كلّ حكم مجعول شرعا عسريّا لكنّه ليس مراد المستدلّ قطعا ؛ إذ مبنى كلامه على لزوم العسر من مراعات الظّن كلزومه من مراعات الاحتياط. وأين هذا من فرض أداء ظنّ المجتهد إلى كون المجعول في كلّ واقعة حكما عسريّا؟

وبالجملة : لا أرى وجها لتصحيح الجواب الّذي أفاده.

وقد اعترضت عليه قدس‌سره في مجلس البحث بما عرفت فاعتذر ـ بعد

__________________

(١) فرائد الاصول : ١ / ٤٠٨.


الاعتراف بعدم تماميّته ـ : بأنّه ليس جوابا مستقلاّ عنده تامّا عند التّأمّل.

(٢٤١) قوله قدس‌سره : ( سلّمنا إمكان ذلك ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤١٠ )

أقول : ما أفاده في تصور الإمكان : صريح في كون الجواب الأوّل مبنيّا على قطعيّة ما دلّ على نفي الحرج دلالة وقد عرفت ما فيه.

ثمّ إنّ ما ذكره في وجه الإمكان أوّلا : مبنيّ على كون نتيجة دليل الانسداد هي حجيّة الظّن بالمعنى الأعمّ من الظّن النّوعي والشّخصي ، أو كون الظّنون القائمة في المسائل الفرعيّة مظنونة الاعتبار.

وما أفاده في تصويره ثانيا : مبنيّ على كون اعتبار الظّواهر من باب الظّن المطلق ، وإلاّ فيخرج عن الفرض.

وما أفاده ثالثا في تصويره : مبنيّ على ما أسمعناك في طيّ كلماتنا السّابقة فساده : من إمكان اجتماع الظّنون الشّخصيّة مع العلم على الخلاف ؛ حيث إنّا نرى بالوجدان اجتماعها في الغلبة ؛ نظرا إلى حصول الظّن بملاحظة الغلبة بإلحاق الأفراد المشكوكة بالغالب مع العلم الإجمالي بتخلّف النّادر ، والوقوع أخصّ من الإمكان.

وإن كان هذا الوهم في كمال الوضوح من الفساد وخلاف العقل والوجدان حتّى فيما فرضه من مثال الغلبة ، فإنّ الظّن بالإلحاق بالنّسبة إلى الأفراد المشكوكة إذا لوحظت بعنوان الاجتماع لا يحصل جدّا فإذا بقي فرد مشكوك لا يمكن الظّن


بإلحاقه ، إلاّ إذا فرض ذهاب الظّن بالإلحاق من غيره ممّا شك فيه ، وهذا أمر ظاهر لا سترة فيه أصلا.

(٢٤٢) قوله قدس‌سره : ( سلّمنا إمكانه ووقوعه لكنّ العمل ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤١١ )

في الفرق بين حجّيّة الظن والعمل به بعنوان الاحتياط

أقول : الفرق بين العمل بالظّن وكونه حجّة ومناطا للتّكليف في الشّرعيّات مع أدائه إلى الحكم الإلزامي في جميع الوقائع المشتبهة والأخذ بالاحتياط فيها وكونه مناطا لإطاعة الأحكام المشتبهة في لزوم الاختلال على الثّاني دون الأوّل : هو أنّ لزوم الاختلال إنّما هو من جهة انضمام التّعليم وتعلّم موارد الاحتياط إلى العمل به على ما عرفته مفصّلا ، وهو لا يلزم من حجيّة الظّن إذا فرض أداؤه إلى ما يوافق الاحتياط في جميع الوقائع ؛ فإنّه أمر منضبط واحد كما هو واضح.

نعم ، لو كان الموجب للاختلال نفس العمل بالاحتياط لم يكن فرق بينهما أصلا كما لا يخفى.

وممّا ذكرنا كلّه يظهر لك : توجّه المناقشة إلى ما أفاده في وجه عدم ورود إشكال لزوم العسر على تقدير العمل بالظّن وأنّه ليس كرّا على ما فرّ منه بقوله : « لأنّ العسر اللاّزم على تقدير طرح العمل بالظّن كان بالغا حدّ اختلال النّظام من


جهة لزوم مراعات الاحتمالات المشكوكة والموهومة ... إلى آخره » (١) حيث إنّ ظاهره بيان الفرق بين الأمرين مع قطع النّظر عن التّعليم والتعلّم وهو كما ترى ، فإنّ المفروض في الإيراد أداء ظنّ المجتهد إلى ما يوافق الاحتياط في جميع الوقائع المشتبهة فلا يبقى هنا موارد موهومة ومشكوكة حتّى تجعل فارقة.

نعم ، لو فرض لزوم الحرج من العمل بالظّن فيما لو أدّى إلى ما يوافق الاحتياط في كثير من الوقائع المشتبهة بحيث لو انضمّ إلى العمل بالظّن العمل بالاحتياط في سائر الموارد المشتبهة لزوم الاختلال توجّه الفرق بينهما بما أفاده لكنّه رجوع عمّا ذكره سابقا من كون الاختلال مستندا إلى التّعليم والتعلّم.

وبالجملة : عبارة « الكتاب » في بيان الفرق لا يخلو عن شيء.

(٢٤٣) قوله قدس‌سره : ( ومنها : أنّه يقع التّعارض ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤١٢ )

أقول : وقوع التّعارض بين ما دلّ على حرمة العمل بالظّن ودليل نفي الحرج إنما هو من جهة اقتضاء النّافي للحرج حجيّة الظّن بعد فرض تماميّة سائر المقدمات كما هو المفروض عند البحث في بطلان الاحتياط كالبحث عن سائر ما له دخل في تماميّة الدّليل فيتعارضان في حكم العمل بالظّن في زمان الانسداد منعا وإثباتا تعارض العامين من وجه.

فإذا كان الأوّل أكثر فلا مجال لترجيح الثّاني عليه ، غاية الأمر تعادلهما

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٤١١.


فيحكم بتساقطهما ، والرّجوع إلى ما يقتضي وجوب الاحتياط من حكم العقل بملاحظة العلم الإجمالي.

بيان وضوح فساد التّعارض المتوهّم في المقام

(٢٤٤) قوله قدس‌سره : ( وفيه : ما لا يخفى لما عرفت ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤١٢ )

أقول : لا يخفى عليك وضوح فساد التّعارض المتوهّم في المقام ؛ فإنّ الدّليل الدّال على وجوب العمل بالظّن وارد على ما دلّ على حرمته من جهة التّشريع بل من جهة إحراز الواقع بالاحتياط أيضا ؛ ضرورة ارتفاع موضوع التّشريع ، المبنيّ على عدم العلم بالحجيّة والاحتياط المبنيّ على احتمال الضّرر بالدّليل القائم على الحجيّة ، بل التّعارض المتوهّم في المقام إنما هو بملاحظة الاحتياط ، فإذا حكم بارتفاع موضوعه بدليل نفي الحرج فلا يبقى تعارض أصلا. فأين تعارض الدّليلين حتّى يصير الاحتياط مرجعا بعد تساقطهما؟

ومن هنا يظهر : أنّه لا تعارض حقيقة بين دليل الحرمة ودليل نفي الحرج على تقدير ثبوت الحرمة الذّاتية للعمل بالظّن أيضا ؛ إذ مقتضى دليل نفي الحرج عدم وجوب الاحتياط عند انسداد باب العلم وقضيّة العقل بعد تماميّة تمام المقدّمات وجوب العمل بالظّن. وأين هذا من التّعارض بين دليل الحرمة ودليل نفي الحرج؟ فكلام المورد ساقط من أصله.


(٢٤٥) قوله قدس‌سره : ( ومنها : أنّ الأدلّة النّافية للعسر ... إلى آخره ) ( ج ١ / ٤١٢ )

أقول : توهّم عدم شمول الأدلّة النّافية للعسر للمقام من وجهين :

أحدهما : ما أفاده قدس‌سره في « الكتاب » : من أنّ المنفيّ بها هو الأحكام المجعولة أوّلا وبالذّات للأفعال والموضوعات العسرة بحيث لم يستند إلى غير الشّارع أصلا ؛ إذ الظّاهر من قوله تعالى ( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (١) ونحوه : هو ما ذكر لا غيره ، فيبقى الغير تحت العمومات والأدلّة المقتضية للتّكليف بالأمور المتعسّرة ، فإذا كان موضوع وجوب الاحتياط والسّبب فيه اشتباه الحكم الإلزامي الصّادر من الشّارع بحيث لو لم يكن تقصير من المكلّفين في حفظه وتبليغه بل في اختفاء من كان حافظا للدّين ومبيّنا لما اشتبه من أحكام جدّه سيّد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمكلّفين لم يقعوا في الاشتباه جدّا فلا ينفي تلك الأدلّة.

ثانيهما : أنّ المنفي بتلك الأدلّة : هو الحكم الشّرعي لا العقلي ؛ فإنّ صريح قوله تعالى : ( وَما جَعَلَ ... ) الآية هو المجعولات الإلهيّة لا العقليّة. ومن المعلوم ضرورة أنّ الحاكم بوجوب الاحتياط في موارد العلم الإجمالي بالتكليف الإلزامي هو العقل ، وما ورد من الأخبار بعنوان العموم لا يستفاد منها وجوب الاحتياط وعلى تقدير الدّلالة يكون مؤكّدا لحكم العقل نظير ما دلّ من الآيات

__________________

(١) الحج : ٧٨.


والأخبار على وجوب الإطاعة وحرمة المعصية.

فإن شئت قلت : إنّ الاحتياط من مراتب الإطاعة الّتي لا يمكن أن يتعلّق بها حكم شرعي مولويّ فلا ينفيه ما دلّ على عدم جعل الحكم الحرجي في الدّين ؛ إذ هو مفسّر وشارح لما أثبته الشّارع من الأحكام. فكما أنّ إثبات وجوب الاحتياط في موارد العلم الإجمالي بالتّكليف الإلزامي ليس من الشّارع ، كذلك نفيه ليس منه بما ينفي المجعولات الشّرعيّة هذا.

ولكنّك خبير بفساد كلا الوجهين :

أمّا الأوّل : فلما ذكره قدس‌سره في « الكتاب » : من منع الاختصاص أوّلا ؛ لأنّ دخل المكلّف في تحقّق موضوع الحكم وتسبيبه له ، لا دخل له في جعل الحكم ولا أثر له بالنّسبة إليه أصلا. فالجعل دائما من الشّارع سواء كان في الموضوع العسري أو الضّرري. فوجوب الغسل على المريض المجنب عمدا وإن أصابه من المرض ما أصابه ممنوع وكذا أشباهه وأمثاله.

نعم ، لو قام هناك دليل قطعيّ على جعل حكم حرجيّ أو ضرريّ أو ظنّي معمول به عندهم لخرجنا به عمّا دلّ على نفي الحرج والضّرر من غير فرق بين أن يكون السّبب لإيجاد موضوعه نفس المكلّف أو غيره. ومن هنا يحكم بوجوب الجهاد والاجتهاد وإن سلّم كونه حرجيّا وأغمض عمّا في « الكتاب » من منعه : ( بأنّ


مزاولة العلوم لأهلها ... إلى آخره ) (١) من جهة ما أفاده فيما سيجيء : من كونه أشقّ من طول الجهاد.

وأمّا العمومات المثبتة للتكليف فهي محكومة بالنّسبة إلى ما دلّ على نفي الأمرين من غير فرق بين الصّورتين. هذا مع الإغماض عن كون النّافي لوجوب الاحتياط في المقام العقل بملاحظة لزوم الاختلال ، وتسليم التّوهم المذكور على تقدير الإغماض بالنّسبة إلى ما التزم به المكلّف من الأمور الشّاقة ثانيا ؛ فيفرق بين المريض المجنب عمدا فلا يجب عليه الغسل ، وبين الأجير على الأعمال الشّاقة فيجب عليه الوفاء ؛ من حيث إنّ إيجاب الوفاء في حقّه يرجع إلى إيجاب الوفاء بما التزم على نفسه باختياره كالنّاذر للأمور الشّاقة. فمرجع الجعل في هذا القسم إلى إمضاء ما التزم به المكلّف. وهذا التّسليم لا ينفع المتوهّم في المقام ؛ فإنّه من القسم الأوّل لا الثّاني كما لا يخفى.

وأمّا الثّاني ؛ فلأنّ إيجاب الاحتياط وإن كان عقليّا والحاكم به وإن كان هو العقل المستقلّ إلاّ أنّه كاشف عن حكم شرعيّ مطابق له بقاعدة التّلازم جدّا وإلاّ لم يكن دليلا متّبعا معتبرا فإذا حكم الشّارع بعدم جعل الحكم الحرجي مطلقا سواء كان حكما واقعيّا أو ظاهريّا فيكشف ذلك عن عدم مؤاخذة الشّارع على الواقع المجهول المعلوم إجمالا في موارد تعسّر الاحتياط في تحصيله ، فيرفع موضوع

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٤١٥.


حكم العقل بوجوب الاحتياط.

ومن هنا حكموا بعدم وجوب الاحتياط في الشّبهة الغير المحصورة وحكم الشّارع بعدم وجوبه عند اشتباه القبلة وقنع بالصّلاة إلى أربع جهات فتدبّر.

(٢٤٦) قوله قدس‌سره : ( نعم ، من لم يوجب الاحتياط ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤١٦ )

أقول : فلعلّ المجيب المورد بما ذكر هو ممّن لا يوجب الاحتياط حتّى مع العلم الإجمالي بالتّكليف كما يشهد له قوله بعدم الدّليل على وجوب الاحتياط وكونه أمرا مستحبّا ، بل هو الظّاهر.

فالغرض من الاستدراك : بيان كون الإيراد مبنيّا على هذا الزّعم الفاسد ، لا على ملاحظة الشّك في الواقعة مع قطع النّظر عن العلم الإجمالي الكلّي ، حتّى يتوجّه. على أنّ الإغماض وقطع النّظر لا يوجب رفع الأثر من العلم الإجمالي الموجود بالفرض فتدبّر.

(٢٤٧) قوله قدس‌سره : ( قال في « الإرشاد » ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤١٦ )

كلام المتكلّمين في وجه اعتبار معرفة الوجه وقصده

أقول : ما ذكره في « الإرشاد » (١) يحتمل وجهين :

أحدهما : كون كلّ من المعرفة وإيقاع الفعل على وجهه بعد المعرفة واجبا

__________________

(١) إرشاد الأذهان : ج ١ / ٢٥١.


مستقلاّ وشرطا في صحّة العبادة من غير أن يكون المعرفة مقدّمة لقصد الوجه كما ربّما يتراءى من العبارة في النّظرة الأولى.

ثانيهما : كون المعرفة مقدّمة للقصد من غير أن يكون شرطا مستقلاّ في العبادة ، ولعلّه الظّاهر بعد ملاحظة عدم القول باعتبارها على الوجه الأوّل ، وإن قيل باعتبار الأوّل دون الثّاني ، أو الثّاني دون الأوّل ، إلاّ من باب المقدّمة العقليّة ؛ حيث إنّ القصد إلى عنوان الفعل يتوقّف عقلا على معرفته.

ثمّ إنّا قد أشرنا ـ عند البحث عن حكم العلم الإجمالي وكون الاحتياط طريقا مع التّمكّن من تحصيل الظّن المعتبر ـ إلى ما زعمه المتكلّمون وجمع من الفقهاء وجها لاعتبار معرفة الوجه ، أو قصده في تحقّق الإطاعة وإلى فساده ونشير هنا أيضا على سبيل الإجمال والاختصار طلبا لمزيد البصيرة وتنبيها لبعض ما طوينا ذكره هناك ، فنقول :

إنّ المستفاد من كلماتهم في وجه ما ذهبوا إليه : هو أنّ الفعل إنما يجب شرعا من حيث كونه معنونا بعنوان منطبق عليه لا بعنوانه الأوّلي وباعتبار كونه فعلا وإلاّ لوجب كلّ فعل شرعا ، فالأمر المتعلّق بالأفعال حقيقة معلول للعنوان المذكور المشتمل على المصلحة الملزمة.

فإذا أتى بالفعل بعنوانه ؛ إمّا يقصد نفس العنوان أو يقصد ما يكون حاكيا عنه ومشيرا إليه ومعلولا عنه كان ترتّب العنوان على الفعل وتحقّقه اختياريّا فتحصل الإطاعة وامتثال الأمر فيترتّب جميع ما هو آثار الامتثال عقلا وشرعا.


وإذا أتى به لا بذلك العنوان بالمعنى الّذي عرفته كان ترتّبه على تقديره من غير اختيار ، كما إذا فعل فعلا كان إهانة لشخص ولم يلتفت إلى كونه إهانة ؛ فإنّه يترتّب عليه الإهانة جدّا إلاّ أنّه ليس فعلا اختياريا للفاعل.

ومن هنا يترتّب إسقاط الأمر على الواجبات التّوصّليّة إذا أتى بها لا بعنوان الإطاعة ؛ نظرا إلى عدم اشتراط الامتثال في صحّتها وسقوط الأمر المتعلّق بها وإن كان شرطا في ترتّب استحقاق الثّواب عليها.

فإذا فرض اشتراط تحقق الإطاعة والامتثال في صحة العبادات فلا بد من قصد العنوان المزبور والوجه المذكور ولو بقصد الوجوب المسبب عنه مثلا حتى يتحقق الامتثال. ومن هنا قالوا : إنّه لا بدّ من قصد الوجوب أو وجه الوجوب هذا على القول باعتبار قصد الوجه فيكون المعرفة حينئذ مقدّمة له.

وأمّا على القول بكفاية نفس المعرفة وإن لم يقصد الوجه المعلوم فيستدلّ له : بأن العلم بعنوان الواجب أو الحكم المعلول عنه يكفي في تحقّق الامتثال بالنّسبة إلى الأمر المتعلّق بالمعنون وصدق كونه بذلك العنوان اختياريّا ولا يعتبر قصده بعد معرفته في تحقّق الامتثال. هذا ملخّص ما يستفاد من كلماتهم في وجه المسألة.

ولكنّك خبير ؛ بأنّه لا يقتضي على تقدير تماميّة الاقتصار على ما ذكروه لأنّه بعد التّعدي عن القصد التّفصيلي بعنوان الفعل ولو من جهة تعذّره غالبا وعدم الاطلاع عليه إلى كفاية القصد الإجمالي بقصد ما يكون حاكيا عنه لا يلزم قصد


خصوص الوجوب والاستحباب ، بل يكفي قصد الظّهريّة والعصريّة مثلا.

نعم ، لو فرض في مقام كان المميّز منحصرا في الوجوب والاستحباب تعيّن قصدهما كما ذكروه بالنّسبة إلى فريضة الصّبح ونافلته. هذا كلّه ، مضافا إلى أنّه يتمكّن في موارد الاحتياط من القصد الّذي ذكروه ؛ فإنّه يجعل الدّاعي للجمع بين الفعلين مثلا وجوب أحدهما عند الله ، كما أنّه يجعل الدّاعي له امتثال الأمر المتعلّق بأحدهما من غير فرق بين الأمرين.

ومن هنا اتّفقوا على كفايته فيما لا يتمكّن من تحصيل الوجه أصلا ولو بالظّن. والقول بالتّفكيك والفرق بين صورتي التّمكن والعجز ممّا يضحك منه الثّكلى ، ومن هنا ذكر المحقّق قدس‌سره في « المعتبر » ـ في باب الوضوء في مسألة قصد الخلاف بعد ذهابه إلى الصحّة ـ : « وأمّا ما ذكره المتكلّمون من وجوب إيقاع الواجب على وجهه ، أو وجه وجوبه فكلام شعري » (١).

فإنّا وإن ذكرنا في الفقه : أنّ قصد الخلاف لا يمكن من العالم بالوجه ، وذكر جماعة : أنّ عدم اعتبار قصد الوجه لا يلازم جواز قصد الخلاف من حيث إنّ قصده يرجع إلى قصد غير الأمر المتوجّه إلى المكلّف فلا يكون قاصدا للأمر المتعلّق به ، إلاّ أنّه كلام آخر لا تعلّق له بالمقام ، وقد مضى شطر من الكلام فيه عند

__________________

(١) لم نجدها في « المعتبر » ووجدناها في « المسائل الطبريّة » المسألة الخامسة عشر المطبوعة ضمن الرسائل التسع للمحقق الحلي بتحقيق الشيخ رضا الاستاذي ص ٣١٧.


تأسيس الأصل في العمل بغير العلم.

(٢٤٨) قوله قدس‌سره : ( وفيه أوّلا : أنّ معرفة الوجه ممّا يمكن ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤١٧ )

كلام المصنّف في معرفة الوجه وقصده

أقول : لعلّ المراد من الأدلّة في قبال إطلاقات العبادة الأخبار البيانيّة للعبادات فإنّ سكوتها عن اعتبارها في مقام بيان ما يعتبر فيها شطرا أو شرطا يكشف عن عدم اعتبارها فإنّ المستفاد منها حصر ما يعتبر فيها فيما ذكر فيها فتدبّر.

وأمّا إطلاق العبادة فالمراد منه ظاهرا هو إطلاق المادّة ؛ ضرورة أنّ إطلاق الهيئة إنما ينفع عند الشّك في الإطلاق واشتراط الواجب لا عند الشّك فيما يعتبر في تحقّق امتثال الأمر المطلق المتعلّق بالواجب.

فقد يناقش فيما أفاده قدس‌سره : بأنّ التّمسك بإطلاق العبادات مادّة مبنيّ على القول بكون ألفاظها أسامي للأعمّ وأمّا على القول بكونها أسامي لخصوص الصّحيحة التّامّة كما اختاره قدس‌سره في محلّه فلا محالة يكون ألفاظها مجملة ذاتا.

ثمّ على القول بالأعمّ لا يجوز التّمسك بها على الإطلاق ؛ وإنما يجوز إذا وجد هناك شرائط التمسّك بالإطلاق فإنّ حال ألفاظ العبادات على هذا القول حال سائر المطلقات من حيث كونها مبنيّة بالذّات.


وقد ذكر شيخنا قدس‌سره (١) في الجزء الثّاني من « الكتاب » كما سيجيء الإشارة إليه : أنّه لا يجوز التّمسّك بأكثر ألفاظ العبادات بل كلّها على القول بالأعمّ أيضا ؛ من حيث ورودها في مقام الإهمال وبيان المطلوبيّة في الجملة ، أو سوقها لبيان حكم آخر من الحثّ والتّرغيب هذا كلّه.

مضافا إلى ما ربّما يقال : من منافاته لما أفاده في أوّل « الكتاب » ؛ من عدم كون اعتبار هذه الخصوصيّة وأمثالها تقييدا في العبادة حتّى يدفع بإطلاقها من حيث إنّ معرفة الوجه وكذا قصده كقصد القربة يلاحظ بعد تحقّق الأمر. فكيف يمكن أخذها في المأمور به المتأخّر عن الأمر؟ وإن ذكرنا هناك بعض المناقشات في ذلك ، وأنّ الظّاهر من حال الأمر والآمر كون غرضه متعلّقا بوجود الفعل المأمور به من غير اعتبار أمر آخر فيه إلاّ فيما ثبت اعتبار قصد الامتثال فيه.

ومن هنا اتفقوا على أنّ مقتضى الأصل اللّفظي في الواجبات ، التّوصّليّة ، فلعلّه المراد من إطلاق العبادة. وكون الخصوصيات المذكورة متأخّرة عن الأمر من حيث التّصور ، لا ينافي تأخّرها عنه من حيث الوجود فيعتبر في صحّة العبادة فتأمل في المقام فإنّه من مزالّ الأقدام.

وذكر قدس‌سره في مقام آخر كما سيجيء الإشارة إليه ـ لدفع مثل الخصوصيّة المشكوكة في المقام بدل إطلاق العبادة ـ إطلاق الإطاعة وهو إشارة إلى التّمسّك

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٤٦.


بما ورد في باب الإطاعة من الآيات والأخبار من حيث المادّة بعد الفراغ عن صدق الإطاعة على وجه القطع واليقين على الخالية عن الخصوصيّة المبحوث عنها ، والشّك في اعتبارها عند الشارع فيها تعبّدا وإلاّ لم يعقل التّمسك بها كما لا يخفى.

وهذا وإن كان أسلم من التّمسك بإطلاق العبادة ، إلاّ أنّه ربّما يناقش فيه أيضا : بأن ما دلّ على وجوب الإطاعة وحرمة المعصية إنما هو في مقام بيان حكم الموضوعين المذكورين من غير أن يكون في مقام بيان حقيقة الإطاعة وما يعتبر فيها شرعا فتدبّر.

وأمّا التمسّك بسيرة المسلمين في المقام فقد يناقش فيه أيضا : بعدم العلم بوجودها ، بل نعلم بعدمها كيف! ومذهب جماعة من الفقهاء الّذين كان مدار عمل المسلمين على تقليدهم ومتابعة آرائهم كالعلاّمة قدس‌سره وغيره على اعتبار معرفة الوجه ، أو قصده المتوقّف على المعرفة. فكيف يمكن مع ذلك تحقّق السّيرة الكاشفة عن تقرير المعصوم عليه‌السلام؟

ومثله التّمسك بسيرة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام مع النّاس؟

فإنّه يناقش فيه ـ مضافا إلى عدم كونه وجها أخر في قبال سيرة المسلمين ـ : بأنّه لم يعلم عنوان عمل النّاس في زمان الحضور وأنّهم يكتفون بالاحتياط مع التّمكن من المعرفة العلميّة أو لا يقصدون وجه الفعل بعد تحصيل المعرفة؟ مع أنّه قد يدّعى على تقدير تسليم العلم بالعنوان : أنّ ما ورد من الآيات


والأخبار في باب وجوب تحصيل العلم بالأحكام يكفي رادعا هذا.

مضافا إلى أنّه قد يدّعى : أنّ السّيرة على إلقاء الإطاعة الإجماليّة مع التّمكن من الإطاعة التّفصيليّة العلميّة ، بل ادّعى عليه الإجماع في كلام بعضهم وإن كانت هذه الدّعوى فاسدة بما أسمعناك في فروع العلم فراجع.

فالحقّ فساد ادّعاء السيرة من الجانبين فلا وجه يقضي بوجوب تحصيل معرفة الوجه أو قصده بالمعنى المبحوث عنه في المقام ، وإن كان ما يدلّ على وجوب تحصيل العلم من الآيات والأخبار بالمعنى الّذي عرفته في أوائل التّعليقة عند التّكلم في حكم العلم الإجمالي أكثر من أن تحصى.

(٢٤٩) قوله قدس‌سره : ( وثانيا : سلّمنا (١) وجوب المعرفة أو احتمال وجوبها الموجب للاحتياط ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤١٧ )

أقول : الحكم بوجوب المعرفة ظاهرا مع احتمال وجوبها مبنيّ على جريان الاشتغال في خصوص المسألة مع القول بالبراءة عند الشّك في ماهيّة العبادة ودورانها بين الأقلّ والأكثر كما اختاره شيخنا الأستاذ العلامة قدس‌سره وفاقا للمشهور كما ستقف عليه في الجزء الثّاني من « الكتاب » ؛ نظرا إلى استقلال العقل في حكمه بلزوم الأخذ بالطّريق اليقيني في باب الإطاعة عند الشّك في حصولها بغيره ، كما بنى عليه الأمر في أوّل « الكتاب » أيضا.

__________________

(١) كذا وفي الكتاب : لو سلّمنا.


لكنّك عرفت : التّأمل في ذلك هناك ، وأنّ مرجع الشّك إن كان إلى الشّك في حصول الإطاعة في حكم العقلاء عند إلقاء خصوصيّة من الخصوصيّات يلزم في حكم العقل الإتيان على وجه يحصل مع العلم بحصول الإطاعة وإن كان إلى الشّك في اعتبار خصوصيّة زائدة عند الشّارع مع الجزم بحصول الإطاعة عند العقلاء بدونها ، فلا يسلّم حكم العقل بلزوم الإتيان بالخصوصيّة بل مبنيّ على القول بالاشتغال في ماهيّة العبادة المردّدة بل يمكن المصير إلى البراءة في أمثال المقام ، ولو قلنا بالاشتغال في ماهيّات العبادات المردّدة ؛ من حيث أنّ الرّافع لحكم العقل هو العلم بمنع الشّارع ولا يكفي مجرّد احتمال المنع على ما عرفت في طيّ كلماتنا السّابقة وستعرفه فيما يتلى عليك بعد هذا إن شاء الله تعالى.

ثمّ إنّ الوجه فيما أفاده قدس‌سره من الفرق ـ على تقدير تسليم وجوب المعرفة في الجملة ـ بين التّمكن من المعرفة العلميّة والتّمكن من المعرفة الظّنيّة على ما ذكروه من اعتبار الجزم بالنّية ، ظاهر ؛ حيث إنّه لا جزم بالمنوي في صورة الظّن ، فكيف يتمكّن من جعله على سبيل الجزم داعيا؟

ولو اكتفي باحتماله لم يفرّق بين الإطاعة الظّنية والاحتماليّة الحاصلة عند الاحتياط بل لم يفرّق بين صورتي اعتبار الظّن وعدمه ؛ ضرورة أنّ حجيّة الظّن لا توجب القطع بوجود المظنون ، وإلاّ خرج عن كونه ظنّا ، فالدّاعي بالنّسبة إلى الأمر الواقعي عند عدم العلم بالواقع هو احتمال وجوده المشترك بين صور الظّن والشّك والوهم.


نعم ، قطعيّة اعتباره يوجب القطع بالحكم الظّاهري ولا تعلّق له بالأمر الواقعي العبادي الّذي يجب معرفته نفسا أو مقدّمة لقصد الوجه في العبادات ؛ ضرورة كون الأمر المتعلّق بالطّريق توصّليا إرشاديّا دائما ولا يوجب قصده قصد الواقع ولا يغني عنه أصلا. مع أنّه على تقدير كونه تعبّديّا لم ينفع قصده عن قصد الواقع. وأدلّة وجوب الأخذ بالطّريق وتنزيله منزلة الواقع إنّما تجدي بالنّسبة إلى الآثار الشّرعيّة والأحكام الإلهيّة المحمولة على الواقع لا الآثار العقليّة المرتّبة على العلم بالواقع ، فلا يمكن أن يتوهّم بملاحظة دليل اعتبار الطّريق وتنزيله منزلة الواقع إمكان الجزم بنيّة الوجه.

ومنه يظهر : تطرّق المناقشة إلى قوله قدس‌سره ( فالتّحقيق : أنّ الظّن بالوجه إذا لم يثبت حجيّته فهو كالشّك فيه ... إلى آخره ) (١) ؛ لما عرفت : من عدم الفرق بالنّسبة إلى قصد المظنون بين اعتبار الظّن وعدمه.

(٢٥٠) قوله قدس‌سره : ( بل لا يبعد ترجيح الاحتياط على تحصيل الظّن الخاصّ ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤١٨ )

أقول : الوجه فيما أفاده ـ : من ترجيح الاحتياط عند العقل على سلوك الظّن الخاصّ ولو كان مبنى اعتباره على ملاحظة المصلحة المتداركة لمصلحة الواقع على تقدير فوتها من سلوك الأمارة المعتبرة بالخصوص ـ ظاهر ؛ إذ غاية ما هناك

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٤١٧.


تدارك المصلحة الواقعيّة الفائتة.

ومن المعلوم : أنّ إدراك نفس المصلحة الأوّليّة أولى من إدراك ما يتدارك به تلك المصلحة ، فالاحتياط بهذه الملاحظة أولى من سلوك الظّن الخاص لكن سلوك الظّن الخاصّ بملاحظة منع جماعة عن سلوك الاحتياط مع وجود الطّريق المعتبر في الشّرعيّات وإطلاقهم القول في اعتبار قصد الوجه أولى من الاحتياط.

وهذا هو الوجه في أمره قدس‌سره بالتّأمّل في ترجيح الاحتياط على الظّن الخاصّ ، فالأولى لمن يريد الاحتياط تحصيل الواقع أوّلا بظنّه المعتبر وإتيان العمل بمقتضاه ، ثمّ الإتيان بالمحتمل بعنوان الاحتياط وإن لم يكن هذا ولا ذاك لازما لما أسمعناك في مسألة العلم الإجمالي مفصّلا.

(٢٥١) قوله قدس‌سره : ( نعم ، الاحتياط مع التمكّن من العلم التّفصيلي ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤١٩ )

أقول : لا يخفى عليك : أنّ هذا الكلام لا بدّ أن يحمل على الإهمال لا الإطلاق ؛ لاستظهاره قدس‌سره عدم الإجماع على المنع فيما لا يتوقّف الاحتياط على تكرار العبادة فالحمل على الإطلاق ينافيه ، فراجع إلى ما أفاده هناك حتّى تصدّق ما ذكرنا.

(٢٥٢) قوله قدس‌سره : ( وثالثا : سلّمنا ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤١٩ )

أقول : إذا كان الجمع ممكنا فلا يجدي التّوهم المذكور لإبطال وجوب


الاحتياط ، فيؤخذ بمقتضى العلم الإجمالي بوجود التّكاليف بين الوقائع المشتبهة ودليل اعتبار قصد الوجه الظّني على تقدير تسليمه وتماميّته ، وإلاّ فقد عرفت عدم دليل عليه أصلا.

(٢٥٣) قوله قدس‌سره : ( ورابعا : لو أغمضنا عن جميع ما ذكرنا ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٢٠ )

توضيح الجواب الرابع

أقول : الوجه فيما أفاده ظاهر بعد التّأمّل فيما قدّمنا لك سابقا في طيّ الأجوبة السّابقة ؛ حيث إنّ المقتضي لبطلان الاحتياط مع الاعتراف بأنّه مقتضى الأصل والقاعدة الأوليّة بالنّظر إلى العلم الإجمالي بالتّكليف الإلزامي بين الوقائع المشتبهة ، ليس إلاّ وجوب قصد الوجه الظّاهري المبنيّ على حجيّة الظّن المبنيّة على وجوب قصد الوجه ، أو الوجه الواقعي بعنوان الاحتمال ، أو المعرفة القطعيّة للوجه الظّاهري المبنيّة على حجيّة الظّن.

ومن المعلوم ضرورة عدم اقتضاء ما ذكر لبطلان الاحتياط مع الغضّ عمّا فيه من لزوم الدّور في الجملة كما هو ظاهر ؛ فإنّه بعد الاعتراف بكون وجوب الاحتياط ممّا يقضي به العقل والنّقل بملاحظة العلم الإجمالي فتحصل هناك معرفة الوجه الظّاهري علما فيأتي بنيّته على تقدير كون المعرفة مقدّمة لنيّة الوجه ولا يلزم عليه شيء من لزوم الدّور ونحوه.


ومن هنا يؤتى بالفعل بهذا العنوان فيما يفتي فيه الفقهاء بالوجوب من باب الاحتياط والأصول الظّاهريّة. اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ إتيان العوام بعنوان الوجوب فيما يفتي فيه الفقهاء بالوجوب : من حيث إنّه ممّا أفتى به المفتي من غير ملاحظة مدرك فتواه فتدبّر.

نعم ، قد يناقش في هذا الوجه الرّابع : بأن وجوب كلّ من المحتملين أو المحتملات في موارد العلم الإجمالي وجوب عقليّ إرشاديّ محض لا دخل له بوجوب المعلوم بالإجمال في حكم الشّارع ، فقصد هذا الوجوب كمعرفته ليس قصدا للوجوب الواقعي يقينا ، كما أنّ معرفته ليست معرفة له فلا يجدي على القول بوجوب معرفة الوجه أو قصده جدّا فتأمّل.

وهذا هو الوجه في أمره قدس‌سره بالتّأمّل عقيب الوجه الرّابع وإن احتمل ضعيفا كون الوجه فيه ما ذكرنا في وجه استكشاف حكم المقام من موارد إفتاء الفقهاء بالوجوب الظّاهري بقولنا : ( إلاّ أن يقال ... إلى آخره ) فتدبّر.

نعم ، هنا شيء قد نبّهنا عليه سابقا وهو : أنّه يمكن قصد الوجه الواقعي جزما بعنوان الاحتمال في موارد الاحتياط كما يقصد التّقريب كذلك وهذا لا يتأتّى مع إلقاء الاحتياط والاقتصار على الظّن فهذه جهة مزيّة الاحتياط على العمل بالظّن ؛ فإنّه على تقدير حجيّته بعنوان الخصوص لا يمكن قصد الوجه الواقعي معه على وجه الجزم واليقين.


(٢٥٤) قوله قدس‌سره : ( إلاّ أنّ هناك شيء ينبغي أن ينبّه عليه ... إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ٤٢١ )

__________________

(١) قال الفاضل الكرماني أعلى الله تعالى مقامه الشريف :

إعلم أيّها البصير الطالب للتمييز بين الصحيح والسقيم اني رأيت هناك شيئا لم أطق ولم أقدر على حفظ نفسي إلاّ أن أنبّهك على ما يوجب ازدياد البصيرة ويسوق إليك العجب وهو انه طبع في بعض مطابع تبريز نسخة من هذا الكتاب فحشّاة بحواش مّمن لا أعرفهم ولا سمعت في عداد المتبرّزين إسمهم إلاّ أنها رقمت بالتفريشي وأوثق الوسائل وسيّد سرابي ونحوهم من المجاهيل وقليل من تعليقات المحقق الآشتياني قدس‌سره ترويجا لها كالدرّة الواقعة في الأخزاف.

ومما رقم بالتفريشي هنا :

لا يخفى ان هذا على طوله تطويل بلا طائل وقول لم يسبقه ولا يلحقه قائل.

أمّا أوّلا : فلما عرفت من ان الاجماع على نفي الاحتياط من لوازم الاجماع على حجّيّة الظن الإجتهادي بل عينه ، وليس إجماعا مستقلاّ ، لكن يستفاد منه التبعيض على الوجه المزبور ،

كيف : وقد صرّح الفاضل الاستاذ دام ظلّه بأنه لم يذهب فقيه ولا مستفقه ولا إحتمله أحد من الأصحاب أصلا في مقام المناقشة غير المصنّف وهذا المقدار كاف في تحصيل الإجماع ...

إلى آخر ما طوّله تركنا الباقي صونا لهذا الكتاب عنه ، وما نقلناه انموذج الباقي.

والظاهر لكي يستفاد بدل لكن يستفاد ، هذا خلط من الكاتب لا من التفرشي.

وبعد : فمفاسد هذا المقدار المنقول أكثر من ان تحصى ؛ فإن عدّه كلام المصنّف قدس‌سره تطويلا


__________________

بلا طائل أعظم شاهد على ذلك. وهل ذمّ الخفاش ضوء الشمس نقص عليها؟! بل عليه.

ولله درّ المصنّف :

كريم اذا أمدحه أمدحه والورى معي

وإذا مالمته لمته وحدي

وفي هذا البيت لطيفة لفظيّة وهو ان تعدّى إذا أعدّه وجزم الفعل المضارع ولم يكن له ذلك ، كالتفريشي. ولقد يعجبني قول المتنّبي في هذا المقام أن يكون لسان حال المصنّف قدس‌سره :

اذا أتتك مذمّتي من ناقص فهي

الشهادة لي بأني كامل

وفي قوله : « قول لم يسبقه ولا يلحقه قائل » ما يضحك الثكلى ؛ فإنه لم يكن للمصنّف قولا ، بل منع استلزام بطلان وجوب الاحتياط في الكل لحجّيّة الظن ولم يقل به أحد فيما سبق فكيف صار قولا؟! ولعلّه لم يدر ان القول في الإصطلاح إظهار الرأي وزعمه بمعنى التلفّظ.

وليت شعري انه من أين علم انه لا يقول به أحد في المستقبل حيث قال : « ولا يلحقه قائل » فإنه لا يعلم ذلك أحد إلاّ الله عزّ وجلّ. وكأنّه حمله على هذا الإدّعاء الفاسد مراعاة السجع وكان يمكنه ان يقول : « ولم يسبقه قائل » إلاّ انه أراد فصلا معتدا بين السجعين فادّعى ما هو من خصائص الواجب تعالى.

ثم من المعلوم ان الاجماع على عدم وجوب الاحتياط كليّا ولا بالتبعيض مع باقي المقدمات مستلزم لحجّيّة الظن في الجملة وحجّيّة الظن لازم له فقوله : « ان الاجماع على نفي الاحتياط من لوازم الاجماع على حجّيّة الظن الاجتهادي » غلط صبياني وما أدري من أين جاء الاجماع على حجّيّة الظن والمسألة معركة الآراء ، وعلى فرض ذلك الإجماع من


إشكال تفرّد به المصنّف

أقول : حاصل ما أفاده من التّحقيق الّذي تفرّد به في بيان مفاد هذه المقدّمة ولازمها : هو أنّ مقتضى ما أقاموه على بطلان وجوب الاحتياط الكلّي في الوقائع المشتبهة من مظنونات التّكليف بقسميها ، وموهومات التّكليف كذلك ، ومشكوكات التّكليف من الوجوه الثّلاثة المتقدّمة ؛ هو بطلان كليّة الاحتياط فيها لا بطلانه فيها رأسا.

أمّا دليل بطلان الحرج ولزوم الاختلال ، فظاهر أنّه لا يقتضي إلاّ رفع اليد عن الاحتياط بحيث لا يترتّب عليه شيء من المحذورين. ومن المعلوم أنّ مقتضاه رفع اليد عن الاحتياط ومخالفته في الوقائع المشتبهة في الجملة ؛ غاية الأمر تعيين العقل اختيار مخالفة الاحتياط الكلّي اللاّزم بمقتضى العلم الإجمالي

__________________

أيّ وجه يستلزم الإجماع على نفي الإحتياط وصار هو من لوازمه؟ ومن أين صار عينه؟ وهل يصلح أن تكتب هذه المهملات على حاشية الفرائد وتطبع؟ لا والله. ولا على حاشية كتاب الفأرة والهرّة.

ولقد أرخص هذا الطبع أضراب هذه حتى بلغ قيمة نسخة منه ثمانية عشر قرانا ومع ذلك هو غال. فانتظر لإتمام هذه النسخة الموشّحة بحويشياتي فإنها كريمة ، فكن كما قال الشاعر :

وإذا تباع كريمة أو تشترى

فسواك بايعها وأنت المشتري

أنظر الفرائد المحشّى بحاشية رحمة الله الكرماني : ص ١٢٤.


في ضمن ما كان احتمال التّكليف فيه في كمال البعد على تقدير اندفاع المحذور بمخالفة الاحتياط في ضمنه فقط ، أو في ضمن مطلق موهومات التّكليف على تقدير توقف اندفاع الحرج بذلك ، وهذا هو المراد بالتّردّد في قوله كلاّ أو بعضا.

وأمّا الإجماع ؛ فلأنّ القدر المسلّم الثّابت منه هو انعقاده على بطلان الاحتياط الكلّي بأن يحتاط في كلّ واقعة يحتمل التّكليف فيه على ما يقتضيه العلم الإجمالي ، فيكون مفاده مفاد دليل نفي الحرج لا غير ، فيلزم أن يؤخذ في باقي المحتملات بمقتضى العلم الإجمالي ؛ إذ لا مانع منه بعد فرض عدم اقتضاء دليل البطلان إلاّ البطلان في الجملة المعيّن في حكم العقل في ضمن الموهومات كلاّ أو بعضا. فالدّليل على وجوبه فيه هو بعينه الدّليل الّذي اقتضى وجوب الاحتياط في صورة العلم الإجمالي بالتّكليف.

وتوهّم : عدم المقتضي للاحتياط في باقي المحتملات بعد فرض قيام الدّليل على عدم وجوب الاحتياط في الجملة المستلزم لعدم تنجّز التّكليف بالواقع على كلّ تقدير ، فاسد جدّا ؛ إذ لو كان قيام الدّليل على البطلان في الجملة رافعا لتنجّز التّكليف مطلقا لم يجب العمل بالظّن أيضا هذا. مع أنّ غاية ما يستلزمه هو المعذوريّة في مخالفة الواقع في ضمن موهومات التّكليف لا مطلقا.

وبعبارة أخرى : عدم تنجّز التّكليف بالواقع المتحقّق في ضمن خصوص موهومات التّكليف هذا.

وسيجيء تتمّة الكلام في اندفاع التّوهّم المزبور عن قريب.


(٢٥٥) قوله قدس‌سره : ( لأنّ الفرق بين المنع (١) المذكور هو ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٢١ )

الفرق بين حجية الظن والتبعيض في الإحتياط

أقول : لا يخفى عليك : أنّ ما أفاده قدس‌سره في بيان الفرق بين حجيّة الظّن والتّبعيض في الاحتياط بين الوقائع المشتبهة والثّمرة بينهما في موارد فقد الظّن : من خروج الوقائع المشكوكة الخالية عن الأمارة عن أطراف العلم الإجمالي الكلّي على الأوّل ؛ من حيث تعيين الواجبات والمحرّمات الإجماليّة بالظّن القائم على التّكليف الإلزامي وجوبا أو تحريما فلا يبقى علم إجماليّ في موارد فقده بحكم دليل حجيّته فيلاحظ الشّك في نفس الواقعة مع قطع النّظر عن العلم الإجمالي ويؤخذ بمقتضاه.

وعدم خروجها عنها على الثّاني ؛ حيث إنّ الجهة المقتضية للبناء على التّكليف في مظنونات الإلزام كونها من أطراف العلم الإجمالي الكلّي وهو بعينه موجود في مشكوكات التّكليف ؛ غاية الأمر عدم وجوب رعاية العلم الإجمالي في موهومات التّكليف بملاحظة حكم العقل بانضمام دليل نفي الحرج.

وعدم وجوب الاحتياط الكلّي على ما عرفت تفصيل القول فيه إنّما هو مبنيّ على كون لازم حجيّة الظّن ، تعيين المعلومات الإجماليّة وارتفاع العلم

__________________

(١) كذا وفي الكتاب : بين المعنى المذكور وهو ... إلى آخره.


الإجمالي به. وإن لم يقم على التّعيين ولم يكن مفاده ذلك فيكون معنى حجيّة الظّن سواء كانت من حيث الخصوص ، أو من حيث الإطلاق والعموم كونه معيار الامتثال الأحكام المشتبهة إثباتا ونفيا فيكون كالعلم التّفصيلي.

وإن كان الفرق بينهما ظاهرا ؛ حيث إنّ ارتفاع العلم الإجمالي بالعلم التّفصيلي إذا تعلّق بالمعلوم بالإجمال في بعض أطراف الشّبهة قهريّ عقليّ. وهذا بخلاف الظّن بالمعلوم بالإجمال في بعض أطراف الشّبهة ؛ فإنّه لا ينافي العلم الإجمالي بوجود التّكليف في تمام الوقائع المشتبهة في حكم العقل وإنما ينافيه بحكم الشّرع. هكذا قرّر الفرق.

وقد تنظّر قدس‌سره فيه في الجزء الثّاني من « الكتاب : بأنّ ذلك إنّما يسلّم فيما كان مفاد الأمارة القائمة على التّكليف ، تعيين المعلومات الإجماليّة وقصرها وحصرها في موارد وجودها ، وإلاّ يمنع كون لازم حجيّة الظّن شرعا حصر المعلومات الإجماليّة في موارده فيما لم يفرض قيامه على التّعيين هذا.

وسيجيء تتمّة الكلام في ذلك في التّنبيهات مع الإشارة إلى دفعه ، كما أنّه يجيء تفصيل القول فيه في الجزء الثّاني من التّعليقة فانتظر.

(٢٥٦) قوله قدس‌سره : ( ودعوى : لزوم الحرج أيضا من الاحتياط ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٢٣ )

أقول : ما ذكره من الدّعوى ناظر إلى رفع الفرق الّذي أفاده بين حجّيّة الظّن والتّبعيض في الاحتياط ؛ من حيث إنّه بعد فرض لزوم الحرج من انضمام


الاحتياط في مشكوكات التّكليف إلى مظنونات التّكليف لا بدّ من رفع اليد عن مقتضى العلم الإجمالي الكلّي في مشكوكات التكليف ، فيكون حالها حال الموهومات فيقتصر في رعاية جانب العلم الإجمالي الكلّي على مظنونات التّكليف ويرتفع الفرق المذكور والثّمرة المزبورة ، وإن كان هناك فرق آخر من جهة أخرى سيجيء الكلام فيه ، إلاّ أنّه لا دخل له بهذا الفرق.

وما أفاده في وجه ضعف الدّعوى المذكورة ممّا لا خفاء فيه أصلا ، مضافا إلى أنّ الأخذ بالاحتياط في المشكوكات إذا اقتضاه الشّك في نفس المسألة من جهة العلم الإجمالي الجزئي ممّا لا مناص عنه على كلّ تقدير. كما أنّ الأخذ بالتّكليف إذا اقتضاه أصل آخر في المشكوكات ممّا لا مناص عنه أيضا وإن لم يكن بعنوان الاحتياط.

فعلى تقدير عدم حجيّة الظّن ينضمّ إلى مظنونات التّكليف حقيقة ما شك فيه ممّا لا يقتضي الأصل الأخذ بالتّكليف فيه ولا ريب في قلّته ، فلا يلزم الحرج.

فالدعوى المذكورة من جهة فسادها لا تجدي في رفع الثّمرة المذكورة ، فينحصر الرّافع في قيام الإجماع ، على عدم وجوب مراعات العلم الإجمالي الكلّي في المشكوكات كالموهومات ، وستعرف ما في دعواه.

(٢٥٧) قوله قدس‌سره : ( وحاصله : دعوى : أنّ الشّارع لا يريد ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٢٣ )

أقول : المراد من الامتثال العملي الامتثال المستند إلى العلم الإجمالي


والمنبعث عنه إلى الاحتياط ، لا الامتثال المحصّل للعلم الإجمالي. كيف! ولا يحصل بالاحتياط في بعض موارد الشّبهة كما هو المفروض.

ثمّ إنّ قيام الإجماع على بطلان الاحتياط رأسا وإن كان ربّما يستظهر من كلماتهم في بطلان الرّجوع إلى البراءة عند الاستدلال على حجيّة الخبر بالحاجة على ما عرفت الكلام فيه ، إلاّ أنّ الجزم بذلك ممنوع ، ألا ترى أنّ الفقهاء عند تردّدهم في المسائل من جهة عدم استقصاء النّظر في أنظارهم يحتاطون فيها؟ وإن جوّزوا للعامي تقليد من أقصى النّظر فيها في اعتقاده وأفتى بأحد طرفي المسألة.

(٢٥٨) قوله قدس‌سره : ( فإن قلت : إذا ظنّ بعدم وجوب الاحتياط ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٢٣ )

أقول : لمّا سلّم قدس‌سره قيام الإجماع الظّني على عدم وجوب الاحتياط أصلا ورأسا ، وأنّ الشّارع لا يريد امتثال المعلومات الإجمالية على تقدير وجودها في ضمن المشكوكات ـ بمعنى معذوريّة المكلّف في مخالفتها ـ توجّه عليه السّؤال : بأنّ لازم الظّن ببطلان الاحتياط بالمعنى المذكور الحاصل من الظّن بالإجماع على ذلك الظّن ، يكون المرجع في المشكوكات الأصول الجارية فيها بمقتضى الشّك في نفس المسألة من غير ملاحظة العلم الإجمالي ؛ فإنّ المانع من الرّجوع إليها في مجاريها لم يكن إلاّ الاحتياط المسبّب عن العلم الإجمالي.

فالظّن ببطلانه ملازم للظّن بالرّجوع إلى الأصول فيكون الأصل مظنون الاعتبار وسيجيء في التّنبيه الأوّل ـ من تنبيهات دليل الانسداد ـ : عدم الفرق في


نتيجة مقدّمات دليل الانسداد الجاري في المسائل الفقهية سواء على القول بكون نتيجة حجيّة الظّن أو التّبعيض في الاحتياط بين الظّن بالمسألة الأصوليّة ، وكون الشّيء حجّة ومعتبرا وطريقا عند الشّارع ، وبين الظّن بالمسألة الفقهيّة المنسدّ فيها باب العلم.

وإن كان هذا على خلاف التّحقيق الّذي بنى عليه الأمر قدس‌سره في سالف الزّمان ، وأنّ عدم الفرق مبني على كون النّتيجة حجيّة الظّن لا التّبعيض في الاحتياط ، إلاّ أنّ المختار عنده لا حقا هو الحكم بتعميم عدم الفرق كما ستقف على تفصيل القول فيه.

(٢٥٩) قوله قدس‌سره : ( قلت : مرجع الإجماع ... إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ٤٢٤ )

__________________

(١) أنظر هامش رقم ١ من ص ٤٢٤.

أقول : جاء في مصباح الأصول : ج ٢ / ٢٧١ ( ط. مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي ) عن لسان الأصولي المحقق الفقيه السيد الخوئي قدس‌سره عن أستاذه المحقق النائيني : أن هذا الكلام المذكور في هامش الرسائل ليس من قلم الشيخ قدس‌سره ؛ فإن الكلام المذكور مبني على الكشف والشيخ قائل بالحكومة ، بل هو للسيد الميرزا الشيرازي الكبير قدس‌سره فإنه كان مائلا إلى الكشف.

وفي الأجود : ج ٣ / ٢٣٩ :

ثم إن العلاّمة الانصاري ـ بعد ما بنى على عدم لزوم الاحتياط في الموهومات وحكم بتبعيض الاحتياط في المظنونات والمشكوكات ـ ذكر أن الاجماع ـ على تقدير قيامه على


__________________

عدم وجوب الإحتياط في المشكوكات ـ بمعنى كشفه عن عدم اعتناء الشارع بالامتثال الإحتمالي كلاّ أو بعضا ، فلا محالة يحكم العقل بلزوم الإطاعة الظنّيّة ليس إلاّ.

لكنه قدس‌سره لم يجزم بتحقق الإجماع على ذلك وإن أفاد كونه مظنونا بالظن القوي.

ثم أورد على نفسه بما حاصله : ان التنزّل إلى لزوم الإطاعة الظنّيّة لا يدور مدار القطع بالإجماع المذكور ، بل يكفي كونه مظنونا أيضا ؛ ضرورة ان لازم ذلك هو الظن بجريان الأصول في موارد المشكوكات مع انه لا فرق في إعتبار الظن بين كونه متعلقا بالحكم الواقعي أو بحجّيّة الطريق وعليه فينحصر مورد الأحتياط بخصوص المظنونات.

وأجاب عن ذلك بما ملخّصه : ان التسوية بين الاعتبارين المزبورين تتوقف على تماميّة مقدمات الانسداد التي منها : بطلان الاحتياط في المشكوكات والموهومات فلو توقّف تماميّة المقدمات على التسوية المذكورة لزم الدور. وحيث ان الجواب المذكور في كلامه لم يكن خاليا عن الخدشة الواضحة ـ [ وقد أوردها الميرزا في الأجود ها هنا ] ـ ضرب سيّد أساتيذنا العلاّمة الشيرازي قدس‌سره على الجواب المذكور وعدل عنه إلى جواب آخر كتبه قدس‌سره بخطّه في هامش الكتاب وأراه لشيخه العلاّمة الأنصاري قدس‌سره فأمضاه.

وحاصل ذلك الجواب : إنكار كفاية الظن بالإجماع المذكور في وصول النوبة إلى الإطاعة الظنّيّة ، وأن لازم الإجماع ـ سواء كان قطعيّا أو ظنيّا ـ هو وجود الحجة الكافية في الفقه قطعا أو ظنا ، وعلى كل تقدير لا تصل النوبة إلى لزوم الإطاعة الظنّيّة.

وتوضيح هذا الجواب يطلب من كلمات الميرزا النائيني قدس‌سره في الأجود : ج ٣ / ٢٤١.

** وقال المحقق الخراساني في توضيح هذا الجواب :


__________________

غرضه : إن مرجع هذه الدعوى إلى دعوى الاجماع على حجيّة الظن بعد الإنسداد وهو غير مفيد في المقام.

أما وجه رجوعها إليها فلأجل أنه لو لم يكن الظن حجة لم يكن وجه آخر يوجب الرجوع إلى الأصول في المشكوكات دون المظنونات مع استواء الطائفتين حينئذ في كونها طرفي العلم بالتكاليف وعدم الحجة المكافئة في البين.

وأما عدم كون الإجماع مفيد أصلا ـ قطعيّا كان أو ظنيّا ـ فلأنه لو كان قطعيّا فهو وإن كان يوجب رفع اليد عن الاحتياط في المشكوكات إلاّ انه اثبات حجية الظن بغير دليل الإنسداد وهو ليس بالمراد. وإن كان ظنّيّا فلا يوجب رفع اليد عنه فيها لتوقّفه على ثبوت حجية الظن مع عدم الثبوت بالظن إلاّ على وجه دائر كما لا يخفى على المتأمّل .... إلى آخره والتعليقة طويلة أنظر درر الفوائد الجديدة : ص ١٣٧.

* قال المحقق الملا رحمة الله قدس‌سره : ومراده من الوجه الدائر : هو لزوم الدور ؛ فإن ثبوت حجية الظن يتوقف على حجية الظن بالإجماع على عدم الإحتياط في المشكوكات وهي تتوقف على ثبوت حجية الظن وهو الدور.

أقول : قول الخراساني في بيان وجه رجوعها إليها : فلأجل انه لو لم يكن الظن حجة لم يكن وجه آخر ... إلى آخره.

يردّه : ان الوجه الآخر واضح وهو قيام الاجماع على عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات دون المظنونات فهي باقية تحت حكم العقل بوجوب الاحتياط ، فوجوب العمل بالتكليف المظنون من حيث انه على طبق الإحتياط لا من حيث انه مظنون كما ان عدم


__________________

وجوب الاحتياط في موهومات التكليف باعتبار الاجماع على ذلك لا باعتبار الظن بعدم التكليف وإن وافق الظن منهما وصاحبهما وأنّى هذا المعنى من كون المستند هو الظن؟

ويرشد إلى هذا اجراء الأصل في المشكوكات والحكم بعدم التكليف مع انه لا ظنّ فيهما فلو كان مدار النفي والاثبات على الظن لم يتخلّف في هذا المورد ، اللهم إلاّ ان يقال : ان الظن وإن لم يكن فيهما باعتبار الواقع إلاّ انه في المسألة الأصولية وهو كون هذه الموارد مجرى الأصل الملازم لعدم التكليف على الظاهر لا الواقع.

وأمّا قوله في بيان عدم كون الاجماع القطعي مفيدا ... فلأنه اثبات حجية الظن بغير دليل الإنسداد فيردّه : ان مرادهم من كون دليل الإنسداد عقليا ان العقل بعد إثبات المقدمات الثاتبة بالضرورة أو الاجماع أو غيرهما يحكم بحجّيّة الظن وان مقدماته عقليّة ، فالاجماع على عدم وجوب الإحتياط في المشكوكات لا يوجب خروج دليل الإنسداد عن كونه عقليا. ثم قال : للهمداني [ آغا رضا رحمه‌الله تعالى ] هنا كلمات لو فرض لها محصّل يشبه ان تكون أكلا من القفا.

فإن قلت : فلم أنت ما نطقت وعن تحقيق المقام سكتّ وفي هذا المضمار ما اجلت؟

قلت : كان هذا في مضمارنا وتوطئة لهذا نقلت عن الخراساني والهمداني فاصغ لكلامي وافهم مرامي وهو : أن من الواضح الجلي غير الخفي أن لنا في الاحكام الشرعية معلومات قليلة تفصيليّة ومظنونات ومشكوكات وموهومات كثيرة بينها معلومات كثيرة اجمالية ، فإذا أوجب العقل امتثالها بالاحتياط لثبوت التكليف والشك في المكلف به وكان حرجيّا ارتفع وجوبه بأدلة نفي الحرج ، ولمّا كان الاحق بترك الاحتياط موهومات التكليف أخذنا فيها


__________________

بالظن بعدم التكليف ، وأخذنا بالظن بالتكليف أيضا في المظنونات لأنه الاحق بالاحتياط فيه.

ولما كان المانع من اجراء الاصل في غير المعلومات التفصيليّة من المظنونات والمشكوكات والموهومات أمرين : أحدهما : لزوم ما هو كالخروج من هذا الدين. والثاني العلم الاجمالي الذي هو موضوع حكم العقل بوجوب الاحتياط ـ فاذا أخرج المظنونات بالعمل بالظن بالتكليف والموهومات بالعمل بالظن بعدم التكليف ، ارتفع المانع الأول من إجراء الأصل في المشكوكات قطعا ، والثالث : أيضا لأن العلم الاجمالي في الكلّ لا في كلّ خصوصا المشكوكات لأنها لو لم يدّع عدمها فلا أقل من كونها في غاية القلّة كنسبة الواحد والإثنين إلى الألف خصوصا مع الاجماع ولو بالظن القوي ، ولو لم ندع أيضا حق [ كذا ] على كونها مجاري للأصل وعدم وجوب الاحتياط فيها وكونه في قوّة فلان وتلك القوّة في قوّة فلان لا يصغى إليه فإن المعتبر المترتب عليه الأثر الفعل لا القوّة. ولزوم الدور توهّم فإن الظن بكون عدم التكليف المنجّز في المشكوكات إجماعيا يستلزم الوهم بالتكليف فيها الخارج في جملة الموهومات بأدلة الحرج فالمقتضي موجود والمانع مفقود ومن بقي له شك بعد هذا البيان الوهّاج فهو محتاج إلى العلاج. « يرجو الغفران بفضل الله رحمة الله ».

* وقال المحقق رحمة الله قدس‌سره في مقام الجواب عمّا أورده الشيخ قدس‌سره على نفسه بدلا عمّا أفاده السيد المجدد الشيرازي قدس‌سره : أقول : الجواب الأسد : ان الكلام في اعتبار الظن ولم يثبت بعد كيما يسوّي بين الظن المتعلق بالواقع والمتعلق باعتبار الطريق الموصل إلى الواقع ، والإجماع الظني المدعي ـ على كون المرجع في المشكوكات الاصول


أقول : الوجه فيما أفاده ـ : من رجوع الإجماع على الرّجوع إلى الأصول في مجاريها بعد العلم الإجمالي قطعيّا كان أو ظنيّا إلى الإجماع على وجود الحجّة الكافية الوافية بتشخيص المعلومات الإجماليّة ، ولو كان هو الظّن المطلق فيرجع الأمر بالأخرة في المقام إلى دعوى الإجماع على حجيّة الظّن المطلق ـ واضح بعد إمعان النّظر فيما ذكرنا ؛ حيث إنّك قد عرفت : انحصار المانع من الرّجوع إلى الأصول في العلم الإجمالي ، ولا يرتفع إلاّ بالعلم التّفصيلي بالمعلومات الإجماليّة ، أو ما في حكمه من الظّن المعتبر ، على ما بنى عليه الأمر في بيان الثّمرة بين حجيّة الظّن والتّبعيض في الاحتياط. فقيام الإجماع القطعي أو الظّني على اعتبار

__________________

لا يسمن ولا يغني ؛ لعدم امكان إثبات اعتبار الظن بالظن للمصادرة وللزوم الدور كما لا يخفى. حاشية « رحمة الله » على الفرائد : ص ١٢٥.

* وقال سيّد العروة أعلى الله تعالى مقامه الشريف :

لا نعرف ارتباط هذا الجواب بالسؤال أصلا ولعلّه لذا ضرب على هذه العبارة إلى آخرها في بعض النسخ وأثبت بدله : « قلت : مسألة اعتبار الظن بالطريق ... » إلى آخره وهو مناسب للسؤال إلاّ أنه أطنب في البيان بما لا يحتاج إليه ، فليتأمّل. حاشية الفرائد تقرير بحث السيّد اليزدي : ج ١ / ٥٩٠.

* أقول : وأنظر نهاية الأفكار : ج ٣ / ١٥٨.


الأصول في محلّ البحث ؛ إنما هو من جهة قيامه على اعتبار الظّن المطلق.

فملخّص دعوى الإجماع في كلام المتوهّم : دعوى الإجماع الظّني على حجيّة مطلق الظّن في زمان الانسداد. ومن المعلوم ضرورة عدم كفايته أصلا في الخروج عن مقتضى الأصل الأوّلي في الظّن. وما قرع سمعك : من عدم الفرق في النّتيجة ؛ إنّما هو بعد إنتاج المقدّمات في حكم العقل على وجه القطع الرّجوع إلى الظّن ، فلا يفرّق بين الظّن في المسألة الفقهيّة والظّن في المسألة الأصوليّة.

فلا معنى لتوهّم : أنّه بناء عليه يلزم الاكتفاء بالظّن الحاصل من الإجماع القطعي على اعتبار الأصول في المشكوكات على حجيّة الظّن المطلق ، فيرجع الأمر بالأخرة إلى إثبات الظّن بالظّن من غير حاجة إلى إنهائه إلى القطع ، وهذا أمر واضح لا سترة فيه أصلا ، هذا.

مضافا إلى أنّه بعد البناء على كفايته ، لا معنى للتمسّك بدليل الانسداد لإثبات المدّعى في حكم العقل أصلا بل يتمسّك بالإجماع الظّني على حجيّته.

ومن هنا استدلّ بعض أفاضل من تأخّر في المقام : بإجماع العلماء كافّة على حجيّته في زمان الانسداد. وإن كان هذا كما ترى لا شاهد له أصلا.

فإن قلت : المفروض في المقام أيضا إنتاج المقدّمات في حكم العقل على وجه القطع واليقين الرّجوع إلى الظّن في الجملة ولو من جهة التّبعيض في موارد الاحتياط اللاّزم بمقتضى العلم الإجمالي الكلّي فيحكم بعد ملاحظته بوجوب


الأخذ بالظّن القائم على حجيّة مطلق الظّن الحاصل من الإجماع الظّني.

قلت : ما ذكر توهّم فاسد وتمحّل بارد ؛ لأنّ التّبعيض في الاحتياط الملازم لعدم حجيّة مطلق الظّن لا يمكن أن ينتج حجيّة مطلق الظّن المانعة من التّبعيض في الاحتياط. نعم ، الظّن بحجّيّة بعض الأمارات القائمة على نفي التّكليف الإلزامي مع عدم إفادتها الظّن الفعلي به في حكم الظّن الفعلي على القول بكون النّتيجة هو التّبعيض في الاحتياط.

وأين هذا من اتّصافه بالظّن بحجّيّة مطلق الظّن؟ بناء على التّبعيض في الاحتياط ، والفرق بين الأمرين ممّا لا يكاد أن يخفى على ذي مسكة.


(٢٦٠) قوله قدس‌سره : ( وتحصل ممّا ذكرنا إشكال آخر أيضا ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٢٧ )

إعضال : التبعيض في الإحتياط دون الحجيّة

أقول : لمّا كان لازم حجيّة الظّن أمرين :

أحدهما : تعيين المعلومات الإجماليّة به فيما قام عليها فيلزم خروج المشكوكات عن أطراف العلم الإجمالي بعد ما كانت منها فيرجع فيها إلى الأصول.

ثانيهما : إثباته لمدلوله وطريقيّته إليه وترتيب أحكامه عليه ورفع اليد به عن الظّواهر الموجودة في مورده على خلافه من العمومات والإطلاقات وغيرهما إذا كان أقوى منها.

فإذا لم يثبت بالدّليل المذكور ؛ نظرا إلى المقدّمة الثّالثة إلاّ رفع اليد عن الاحتياط الكلّي في الجملة وإن تعين هذه المهملة ؛ نظرا إلى حكم العقل في ضمن جزئيّة معيّنة وهي الظّنون المخالفة للاحتياط كلاّ أو بعضا لم يترتّب عليه شيء من الأمرين.

أمّا الأوّل ؛ فقد عرفت الكلام فيه.

وأمّا الثّاني ؛ فظاهر بعد فرض كون النّتيجة ما ذكر من التّبعيض في الاحتياط من غير فرق بين الظّن القائم على التّكليف ـ في قبال ما ينفيه من


الظّواهر كما هو مفروض « الكتاب » ؛ فإنّه لا يجوز رفع اليد به عنها لعدم جواز رفع اليد عن الدّليل بأصالة الاحتياط ـ وبين القائم على عدمه ؛ فإنّ الثّابت عنده مجرّد عدم وجوب الاحتياط في مورده ، لا إثبات مدلوله. فلو دلّ على استحباب شيء لا يحكم به وإنما يحكم بعدم وجوب الاحتياط ، فإنّ دليل نفي الحرج أو الإجماع على عدم وجوب الاحتياط لا يقتضي إلاّ عدم رعاية احتمال الوجوب والاحتياط من جهة العلم الإجمالي ، ولا يقتضيان الحكم بالاستحباب كما هو ظاهر هذا.

وقد يناقش فيما أفاده قدس‌سره : بأنّ رفع اليد عن الظّواهر المعتبرة من الكتاب والسّنة القطعيّة ، أو الظّنية المعتبرة ، بالظّن على خلافها إنما هو فيما كان مبنى اعتباره على الحجيّة من حيث الخصوص حتّى يكون في مرتبة الظّواهر ، لا على الحجيّة من جهة الظّن المطلق ؛ فإنّه ليس في مرتبة الظّواهر حتّى يرفع اليد به عنها.

فإن شئت قلت : إنّ حجيّة الظّن المطلق مبنيّة على عدم انفتاح باب العلم والظّن الخاص في المسألة الشّخصيّة فإذا فرض انفتاح أحدهما في مسألة فلا معنى لحجيّة الظّن المطلق فيها كما لا يخفى.

فما أفاده : من رفع اليد عن الظّواهر ـ إذا كانت النّتيجة حجيّة الظّن بخلاف ما إذا كانت هو التّبعيض في الاحتياط ـ كما ترى.

فهذه الثّمرة ساقطة على الوجهين ، كما أنّها ساقطة على القول باعتبار الظّواهر من باب الظّنّ المطلق ؛ لاستحالة حصول الظّنّين الفعليّين بطرفي


النّقيضين ، إلاّ على القول بكون النّتيجة هي حجيّة الظّنّ بالمعنى الأعمّ من الشّخصي والنّوعي ، لكنّه فاسد كما ستقف على تفصيل القول فيه.

نعم ، إنّما يتصور التّعارض الحقيقي بينهما فيما لو كان مبنى حجيّة أحدهما على الظّن باعتباره ، لا حصول الظّن منه في المسألة الفقهيّة ؛ فإنّه يتصور التّعارض حينئذ.

لكن مبنى كلامه قدس‌سره ليس على ذلك ، بل على الوجه الأوّل ؛ فيتوجّه عليه الإشكال بعدم الفرق على الوجهين في عدم جواز العمل بالظّن المطلق في مقابل الظّواهر الّتي ثبت كونها من الظّنون الخاصّة ، فهذه الثّمرة ساقطة عنها.

(٢٦١) قوله : ( ودعوى : أنّ باب العلم والظّن الخاصّ ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٢٧ )

أقول : ما ذكر من الدّعوى ، يرجع إلى ما سبق إلى بعض الأوهام من نفي الإشكال الثّاني. والثّمرة المذكورة من جهة توهّم عدم وجود لموضوع الظّواهر بعد فرض العلم الإجمالي باختلالها من جهة طروّ الصّوارف ؛ فلا يبقى ظاهر منها على ظهوره ، وإلاّ لم يجز ادّعاء انسداد باب الظّن الخاصّ لتكفل ظواهر الكتاب والسّنة القطعيّة والظّنيّة المعتبرة بالاتفاق لأحكام أكثر الوقائع ، فلو لا إجمالها من الجهة المذكورة لم يكن معنى لدعوى الانسداد.

فإذا قام هناك أمارة على التّكليف في قبال الظّواهر النّافية له ، لم يفرّق في وجوب العمل بها بين كون عنوان العمل بالظّنون الموافقة للاحتياط ، الاحتياط أو الحجيّة. وهذا معنى نفي الثّمرة المذكورة.


(٢٦٢) قوله قدس‌سره : ( إذ لا علم ولا ظنّ بطروّ مخالفة الظّواهر (١) ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٢٧ )

في بيان ما يوجب إجمال الخطابات

أقول : خطابات الكتاب والسّنة القطعيّة والمعتبرة الغير الوافية بأغلب الأحكام ولو مع الانضمام بالأدلّة القطعيّة وسائر الظّنون الخاصّة :

قد تكون مجملة من حيث الذّات كألفاظ العبادات على القول بالوضع للصّحيحة أو على القول بالوضع للأعمّ إذا قيّدت بقيد مجمل ، أو كان المشكوك من معظم الأجزاء الّتي لها دخل في أصل الصّدق ، أو من جهة وضعه للمعاني المتعدّدة مع عدم القرينة على التّعيين كلفظ القرء ، أو من جهة إرادة المعنى المجازي مع تعدّده وعدم القرينة على التّعيين.

وقد تكون غير ظاهرة من جهة سوقها في مقام الإهمال وبيان التّكليف في الجملة كقوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) (٢) ؛ فإنّه ليس إلاّ في مقام إعلام تشريع وجوب الصّوم في هذه الشّريعة كالشّرائع السّابقة.

وقد تكون غير ظاهرة من جهة ورودها في مقام بيان حكم آخر ، ككثير من

__________________

(١) كذا وفي الكتاب : الظاهر.

(٢) البقرة : ١٨٣.


الخطابات الواردة في العبادات كقوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (١) ونحوه ممّا ورد في بيان الحثّ والتّرغيب والتّأكيد ، بل المعاملات كقوله : « البيّعان بالخيار » (٢) ونحوه ممّا يشهد به التّتبّع كالأخبار الواردة في « عدم انعزال الوكيل إلاّ بعد بلوغ العزل إليه » (٣) فإنّه لا ظهور لها من حيث بيان شروط الوكالة وما يعتبر فيها كما زعمه بعض مشايخنا المتأخّرين في « شرحه » على « الشّرائع ».

وقد تكون غير ظاهرة من جهة كثرة استعماله في بعض الأفراد أو المعنى المجازي فيما أوجبت الإجمال وهكذا.

وقد تكون مجملة من حيث العلم الإجمالي الخاصّ كما في العامين من وجه ، أو مطلق الظّاهرين المتعارضين بعد القطع من غير جهة الدّلالة.

وقد تكون مجملة من جهة العلم الإجمالي العامّ إذا كانت الشّبهة ملحقة بالمحصورة ؛ نظرا إلى العلم بإرادة خلاف الظّاهر من كثير من الخطابات.

والإثبات والنّفي في كلام المدّعي وشيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره يرجع إلى القسم الأخير لا إلى سائر الوجوه والأقسام ؛ فإنّها ليست محلّ الإنكار أصلا ولا

__________________

(١) البقرة : ١١٠.

(٢) الكافي : ج ٥ / ١٧٠ ، باب « الشرط والخيار في البيع » ـ ح ٤ ، عنه وسائل الشيعة : ج ١٨ / ٥ بقية كتاب التجارة أبواب الخيار ـ ح ١.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ج ٣ / ٨٥ باب « اذا ادعى الموكل عزل الوكيل » ـ ح ٣٣٨٣ ، عنه وسائل الشيعة : ج ١٩ / ١٦٣ ، باب « ان الوكيل اذا تصرف بعد عزله » ـ ح ٢.


ينفع المدّعى جزما ؛ إذ هي مسلّمة على القول بانفتاح باب العلم والظّن الخاصّ أيضا ؛ إذ ليس مبنيّا على كون جميع الخطابات مبنيّة فعلا بحيث يجوز الرّجوع إليها عند الشّك ، وبعد إخراج ما يكون مجملة من غير الجهة الأخيرة لا يبقى ظواهر كثيرة يمنع ظهورها عن ادّعاء الانسداد حتّى يكون إثبات إجمالها من جهة العلم الإجمالي من مقدّمات دليل الانسداد.

مضافا إلى أنّه لا شاهد لهذا العلم الإجمالي والتّمسك بالقضيّة المعروفة : ( ما من عامّ إلاّ وقد خصّ وما من مطلق إلاّ وقد قيّد ) مضافا إلى عدم إيجابه الإجمال كما حقّق في محلّه ، وعدم الفرق بناء عليه بين القولين ، لا يجدي بالنّسبة إلى غير العموم والإطلاق من الظّواهر ، هذه غاية ما يقال في بيان كلامه وتوجيه مرامه.

لكن ما أفاده قدس‌سره في المقام ينافي ما أفاده بعد ذلك عند التّكلّم في التّنبيه الثّاني ؛ فإنّه قد جزم هناك كما سيجيء : بأنّ إجمال تلك الخطابات من مقدّمات دليل الانسداد وأنّه لا شبهة فيه من جهة العلم الإجمالي العام. وقد جعل الثّمرة بين حجيّة الظّن والتّبعيض في الاحتياط مع فرض الإجمال وتسليمه في ارتفاع الإجمال عن الخطابات وعودها إلى الحالة الأوليّة من البيان على الأوّل ، وعدم ارتفاع الإجمال منها على الثّاني.

وفيه كلام ستقف عليه عند شرح القول في التّنبيه الثّاني فانتظر. فما أدري


بالمراد بقوله قدس‌سره : ( وسيجيء بيان ذلك عند التّعرض ... إلى آخره ) (١) مع أنّ ما تعرّضه هناك مناف لما أفاده في المقام.

(٢٦٣) قوله قدس‌سره : ( وأمّا الرّجوع في كلّ واقعة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٢٨ )

أقول : لا يخفى عليك : أنّ ما أفاده في بيان مجاري الأصول في المقام ، لا يخلو عن اضطراب ؛ لأنّ ظاهره أوّلا حصر مجرى التّخيير في الشّك في المكلّف به وظاهر قوله : ( كما إذا كان الشّك في تعيين التّكليف الإلزامي ... إلى آخره ) (٢) أخيرا تعميم مجراه بالنّسبة إلى الشّك في التّكليف كما هو الحقّ عنده وعندنا بل وعند الكلّ.

(٢٦٤) قوله قدس‌سره : ( فيردّه (٣) : أنّ العلم الإجمالي ... إلى آخره ) (٤). ( ج ١ / ٤٢٨ )

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٤٢٧. هامش رقم / ٤.

(٢) المصدر السابق : ج ١ / ٤٢٨.

(٣) وفي الكتاب : ويردّ هذا الوجه ... إلى آخره.

(٤) قال سيّد العروة قدس سرّه الشريف :

( ما ذكره المصنف هنا مخالف لما صرّح به في الشبهة المحصورة من رسالة أصل البراءة وفي تعارض الإستصحابين من رسالة الإستصحاب : من ان العلم الإجمالي بمخالفة الواقع في مجاري الأصول لا يسقطها عن الإعتبار إذا لم يلزم مخالفة عمليّة من إجراءها كما فيما نحن فيه ، وهذا هو التحقيق في المسألة لا ما ذكره ها هنا ولا ما ذكره أيضا في الشبهة


عدم جواز الرجوع إلى الاصول النافية للتكليف

أقول : ما أفاده في بيان عدم جواز الرّجوع إلى الأصول النّافية للتّكليف من البراءة أو الاستصحاب المطابق لها ظاهر لا شبهة في صحّته واستقامته ؛ فإنّ الوجه فيه : هو الّذي عرفت توضيحه في طيّ إثبات عدم الرّجوع إليها في جميع الوقائع ، فإنّ ملاحظة الشّك مع قطع النّظر عن العلم الإجمالي لا يرفعه كما هو واضح.

وأمّا ما أفاده في بيان عدم جواز الرّجوع إلى غير الاحتياط من الاستصحاب المثبت للتّكليف من منع العلم الإجمالي بوجود الأحكام الغير الإلزاميّة في مجراه من جريانه في موارده فهو مبنيّ على ما أفاده في الجزء الثّاني من « الكتاب » في الشّبهة المحصورة : من عدم الفرق في عدم جواز الرّجوع إلى الأصل الجاري في المشتبهين مع قطع النّظر عن العلم الإجمالي بين كونه على

__________________

المحصورة : من سقوط الإستصحابات التي علم إجمالا بكون بعضها مخالفا للواقع لأجل حصول غايتها التي نطق بها أخبار الإستصحاب مثل قوله : « لا تنقض اليقين إلاّ بيقين مثله » فبعد العلم الإجمالي بخلاف اليقين السابق فقد حصل اليقين الناقض فانقطع الحكم المستصحب ). انتهى.

انظر حاشية الفرائد ، تقرير بحث السيّد اليزدي : ج ١ / ٥٩٢.


طبق الاحتياط أو على خلافه ؛ من حيث أنّ الغاية في أدلّة الأصول أعمّ من العلم الإجمالي والتّفصيلي هذا.

ولكن هنا وجهين آخرين :

أحدهما : جريان ما لم تنتقض حالته السّابقة في الواقع وفي علم الله ولمّا لم يكن معلوما تفصيلا للمكلّف فيحتاط في العمل بهما احتياطا في الحكم الظّاهري وعملا بالاستصحاب الجاري في الواقع نظير الاحتياط في العمل بالخبرين اللّذين يعلم بصحّة سند أحدهما إجمالا.

وهذا هو الّذي يحتمله قوله قدس‌سره : « يمنع من العمل بالاستصحابات من حيث أنّها استصحابات ... إلى آخره ) (١) فإنّه على الأوّل لا يكون العمل بالاستصحابات أصلا ورأسا ، إلاّ على تكلّف ؛ بأن يكون المراد العمل على طبقها فتدبّر.

ثانيهما : جريان الاستصحابات بأسرها والفرق بين الأصول المثبتة والنّافية في قدح العلم بالخلاف ؛ حيث إنّ قدحه من جهة لزوم طرح التّكليف الإلزامي المعلوم بالإجمال المتوجّه إلى المكلّف على وجه التّنجز ، فإذا لم يلزم ذلك في المقام ـ كما هو المفروض ـ فلا مانع من الرّجوع إلى الأصل. ومن هنا يرجع إلى الأصل في المشتبهين إذا كان نافيا للتّكليف أيضا فيما لم ينجّز التّكليف بالمعلوم إجمالا على كلّ تقدير في الشّبهة المحصورة.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٤٢٨.


وهذا هو الوجه عندنا وقد مال إليه قدس‌سره في أواخر الاستصحاب ، إلاّ أنّ استفادة ذلك من أخبار الاستصحاب بحيث يفرّق في الغاية بين العلم الإجمالي بالتّكليف الإلزاميّ وغيره ، يحتاج إلى إمعان نظر تامّ ، ولعلّنا نتكلّم في ذلك ونشرح لك القول فيه في أجزاء التّعليقة المتعلّقة بالبراءة والاستصحاب.

ثمّ إنّ الوجه في أمره قدس‌سره بالتّأمّل يحتمل أن يكون منع قدح العلم الإجمالي بالنّسبة إلى الأصول المثبتة كما هو مبنى الوجه الأخير ، ويحتمل أن يكون منع جريان ما لم تنتقض حالته السّابقة في علم الله كما هو مبنى الوجه الثّاني ، بناء على حمل كلامه عليه كما سمعنا عنه في مجلس البحث ؛ حيث إنّ عدم الانتقاض واقعا وبقاء الحالة السّابقة في علم الله لا يمكن أن يجعل مناطا وموضوعا للأصل الظّاهري ولا يقاس ذلك بالخبر الصّحيح المردّد بين الخبرين للفرق بينهما بما لا يخفى على ذي مسكة ؛ فإنّ الصّحة تكون عنوانا لحجيّة الخبر بخلاف بقاء المستصحب في الواقع فإنه لا يمكن أن يكون مناطا وإنما المناط الشّك في البقاء المتحقّق بالنّسبة إلى كلّ منهما هذا.

ثمّ إنّ لازم الوجوه الثّلاثة في الأصول المثبتة بأسرها البناء على الأخذ بالتّكليف الإلزامي وإن افترقت من جهة أخرى ؛ حيث إنّ لازم الوجه الأخير الراجع إلى جريان الاستصحاب الحكم بترتّب جميع آثار المستصحب في زمان الشّك فيحكم بتنجس ملاقي أحد مستصحبي النّجاسة مع العلم بطهارة أحدهما بخلافه على الوجهين الأوّلين كما هو واضح وسيجيء تفصيل القول فيه في محلّه هذا.


ثمّ إنّه لم يتعرّض لوجه عدم جريان أصالة التّخيير في مواردها وإن تعرّض لها عند بيان مقتضى الأصل في الوقائع بقوله : ( وأمّا الرّجوع في كلّ واقعة ... إلى آخره ) (١) من حيث وضوح كون الموضوع والمناط فيها تسوية الاحتمالين المرتفعة بالظّن ، فالرّجوع إلى الظّن في موارد التّخيير ممّا لا مناص عنه ، سواء على القول بكون نتيجة المقدّمات حجيّة الظّن ، أو التّبعيض في الاحتياط. كما أنّ الأخذ بالتّخيير ممّا لا مناص عنه مع عدم التّمكن من تحصيل الظّن على كلّ تقدير ، هذا. وسيجيء توضيح القول في ذلك زيادة على ذلك في التّنبيه الثّاني.

وحاصل ما أفاده قدس‌سره في حكم المقام : أنّه بعد البناء على عدم جواز الرّجوع إلى الأصول النّافية من جهة العلم الإجمالي يؤول الأمر بالأخرة إلى الأخذ بمقتضى التّكليف الإلزامي سواء كان من جهة الأخذ بالاحتياط أو الاستصحاب أو التّخيير فيوافق من حيث العمل للاحتياط الكلّي فيلزمه العسر والحرج لا محالة.

(٢٦٥) قوله قدس‌سره : ( والثّاني : أنّ الجاهل الّذي وظيفته ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٢٩ )

أقول : إذا فرض عدم شمول دليل التّقليد كتابا وسنّة وإجماعا للمقام كما هو واضح لكلّ من له أدنى تأمّل ، فلا معنى للحكم بتبعيّته وتقدّمه على الظّن ، بل مقتضى الوجه الأوّل : كونه ممّا قام الدّليل القطعي على حرمته من حيث

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٤٢٨.


الخصوص ، فلا يكون في عرض سائر الظّنون أيضا على تقدير الإغماض عن عدم إفادته للظّن في حقّ هذا المجتهد المخطئ القائل بالانفتاح ، بل مع فرض العلم بخطأ المجتهد في مدارك اجتهاده لا يجوز تقليده للعالم بالخطأ وإن كان عاميّا ، فكيف إذا كان مجتهدا؟

فعدم الشمول للمقام حقيقة من وجهين :

أحدهما : أنّ دليل التّقليد يختصّ بالجاهل العاجز عن الاستنباط.

وبعبارة أخرى : يختصّ بالعامي العاجز ، والمفروض في المقام كون المكلّف مجتهدا بالقوّة بل بالفعل.

ثانيهما : أنّ مصبّه فيمن خفي عليه مدرك استنباط المجتهد واحتمل إصابته فيه ، فلا يشمل من يعلم بخطأ المجتهد في مدرك استنباطه ولو فرض كونه عاميّا ؛ لأنّ نظره ليس له طريقيّة بالنّسبة إليه هذا.

(٢٦٦) قوله قدس‌سره : ( وهذا شيء مطّرد في باب (١) رجوع ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٣٠ )

أقول : ما أفاده من اطّراد ما ذكره في حكم المقام في باب مطلق رجوع الجاهل إلى العالم سواء كان المرجع مفتيا أو شاهدا أو غيرهما ممّا لا خفاء فيه ولا شبهة تعتريه ؛ ضرورة أنّ مبنى الإرجاع على طريقيّة قول المرجع وكشفه عن الواقع فلا بدّ أن يكون له مزيّة. فإذا فرض انكشاف مبنى قوله واختياره لمن أمر

__________________

(١) كذا وفي الكتاب : في باب مطلق رجوع الجاهل ... إلى آخره.


بالرّجوع إليه بحيث علم بخطأه فيه أو عدم صلاحيّته للاستناد إليه أو تحقّقه في حقّه فلا معنى للأمر برجوعه إليه. ومن هنا حكموا بعدم حجيّة الشّهادة على النّفي الأصلي ونحوه إلى غير ذلك.

المقدّمة الرابعة

(٢٦٧) قوله قدس‌سره : ( في أنّه إذا وجب التعرض لامتثال الواقع (١) ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٣١ )

أقول : قد عرفت الإشارة إلى أنّ غير المقدّمة الرّابعة من المقدّمات ، مهّدت لإثبات الصّغرى ، والمقدّمة الرّابعة ذكرت لبيان الكبرى العقليّة ، وأنّه كلّما وجب التّعرض لامتثال الخطاب الواقعي في مسألة واحدة كما في الشّك في المكلّف به ، أو في مسائل كما في المقام في الشّبهة الموضوعيّة أو الحكميّة ، ولا يمكن تحصيله بالعلم أو الطّرق المقرّرة من الشّارع ولا يجب الاحتياط في تحصيله ، وجب الرّجوع إلى الظّن في تحصيله.

فإن شئت قلت ـ في بيان الكبرى ـ : إنّه كلّما وجب تحصيل الواقع ودار الأمر بين الظّن والشّك والوهم يجب تقديم الظّن وسلوكه في تحصيله فيجب استفراغ الوسع في تحصيل الظّن ولا يجوز قبله الأخذ بأحد طرفي الشّك ، كما أنّه لا يجوز بعد حصوله الأخذ بالوهم وهذا ممّا يحكم به ضرورة العقل ، إن فرض

__________________

(١) انظر هامش رقم (١) من : ج ١ / ٤٣١ من فرائد الأصول.


تماميّة المقدّمات حتّى بطلان التّبعيض في الاحتياط المثبتة للصّغرى ، فيحصل من ضمّ المقدّمة الرّابعة إليها العلم بحجيّة الظّن بحكم العقل.

ثمّ إنّ عدم الجزم بثبوت حجيّة الظّن فيما ذكره من الموضوعات المشتبهة كالضّرر والعدالة والنّسب والوقف وغير ذلك من جهة التّأمّل في تماميّة المقدّمات بالنّسبة إليها كما ستقف على تفصيل القول في ذلك لا من جهة الفرق ، بعد فرض تماميّتها بين الموضوعات والأحكام كما هو واضح.

(٢٦٨) قوله قدس‌سره : ( توضيح ذلك : أنّه إذا وجب عقلا ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٣١ )

أقول : لا يخفى عليك : أنّه قدس‌سره قد أسقط بعض مراتب الامتثال كالإطاعة الظّنية الاطمئنانيّة ؛ فإنّها مقدّمة على الامتثال الظّني بقول مطلق. والإطاعة الظّنية بالظّن النّوعي ؛ فإنّها مقدّمة على الامتثال الشّكي والوهمي فمراتب الامتثال ستّة لا أربعة ، بل قد يقال : إنّها سبعة بناء على عدم إدراج التّبعيض في الاحتياط في المرتبة الثّانية فتدبّر.

(٢٦٩) قوله قدس‌سره : ( فاندفع بذلك ما زعمه بعض من تصدّى لردّ ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٣٢ )

أقول : قد عرفت استقلال العقل بوجوب متابعة الظّن عند دوران الأمر في الامتثال بينه وبين الشّك والوهم ، فإذن لا معنى لقدح مجرّد احتمال جعل شيء آخر ؛ فإمّا أن يختار عدم حكم العقل في موضوع الدّوران. وإمّا أن يختار ويلتزم بعدم قدح احتمال جعل شيء آخر ؛ لما قد عرفت مرارا : من عدم إمكان دخل


الأمر النّفس الأمري في جعل العقل المبنيّ على الوجدان. وقدح مجرّد الاحتمال المتحقّق بالوجدان خروج عمّا فرضنا من حكم العقل في موضوع الدّوران من غير مدخليّة شيء آخر. والغرض : أنّ مجرد الاحتمال لا يخرج الموضوع عن الدّوران.

فإن شئت قلت : إذا فرض تقدّم الامتثال الظّني على الشّكي والوهميّ عند العقل الحاكم في أصل مسألة الإطاعة ومراتبها فلا معنى لقدح احتمال جعل شيء آخر ، وإنّما القادح العلم بالجعل من حيث إنّه رافع لموضوع حكم العقل ؛ ضرورة أنّه لا دوران هنا بين الظّن والشّك والوهم ، بل بينه وبين الامتثال العملي.

فكما أنّ مجرّد وجود الظّن وإن احتمل كونه مجعولا لا يرفع حكم العقل بلزوم الامتثال العلمي عند التّمكّن منه ، كذلك احتمال جعل ما لا يفيد الظّنّ في زمان الانسداد مع التّمكّن من الظّنّ لا يوجب رفع موضوع حكم العقل. فالظّن عند تماميّة مقدّمات دليل الانسداد كالعلم في عدم الحاجة إلى جعل الشّارع لا مثل العلم في عدم إمكان تعلّق الجعل به مطلقا سواء كان من الشّارع أو العقل. وهذا هو المراد من قوله قدس‌سره : ( والحاصل أنّه كما لا يحتاج الامتثال العلمي ... إلى آخره ) (١).

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٤٣٣.


(٢٧٠) قوله قدس‌سره : ( واندفع ممّا ذكرنا ... إلى آخره ) ( ج ١ / ٤٣٣ )

لا تنافي بين ثبوت التكليف بالواقع وكفاية الظن

أقول : اندفاع التّوهم المذكور بما أفاده واضح ؛ ضرورة أنّ ما ذكره المتوهّم من التّنافي بين الالتزام ببقاء التّكليف وتعلّقه بالواقع وكفاية ما لا يقطع معه بإحراز الواقع قضيّة عقليّة لا شرعيّة ، فإذا فرض كون الامتثال ذا مراتب متعدّدة في حكم العقل حتّى أنّ آخر مراتبه الامتثال الاحتمالي والوهمي فكيف يحكم بالتّنافي بين الأمرين؟

توضيح ذلك : أنّ المراد من التّكليف الباقي في الوقائع المجهولة إن كان هو الحكم الواقعي النّفس الأمري ، فلا إشكال في تعلّقه بنفس الواقع من غير مدخليّة للعلم والجهل فيه. فكما يتعلّق بالعالم ، كذلك يتعلّق بالجاهل على نهج واحد من غير فرق بينهما ؛ لأنّ تعلّقه بهما بخطاب واحد وجعل كذلك بالنّسبة إلى جميع حالات المكلّفين المختلفين من حيث العلم والجهل بأقسامه ومراتبه ، لكنّه لا يتنجّز بمجرّد وجوده النّفس الأمري بمعنى ؛ أنّه لا يؤاخذ على مخالفته مطلقا ولا يجب امتثاله كذلك ؛ إذ ربّما يكون المكلّف معذورا في مخالفته ولا يجب عليه امتثاله أصلا.

وإذا فرض تنجّزه في مقام لا يلزم في حكم العقل تحصيل العلم بحصوله مطلقا بل يلزم ذلك في الجملة وفي بعض المراتب والحالات ، كما ذكره في


« الكتاب » فقد يكتفى في امتثاله مع تنجّزه بمجرّد احتمال حصوله.

وإن كان هو التّكليف المنجّز الّذي ليس بإنشاء حكم من الشّارع حقيقة ، بل إنّما هو من شؤونه ومراتبه بحسب حكم العقل ففيه : أنّه يتبع وجوب الامتثال ومراتبه فلا معنى لجعله قادحا في الاكتفاء بالامتثال الظّني كما هو واضح.

فإن شئت قلت : إنّ الالتزام ببقاء التّكليف بالواقع بالفرض مع كفاية الامتثال الظّني نظير الالتزام ببقاء التّكليف في جميع موارد الأمارات المعتبرة الشّرعيّة والظّنون الخاصّة ، وموارد الأصول الّتي لا يقطع مع الأخذ بها بالواقع الأوّلي ؛ فإنّ التوهّم المذكور جار بالنّسبة إلى الجميع. ولك أن تجعل ما ذكر من النّظائر بمنزلة الجواب النّقضي.

والحلّ أن يقال : إنّ الحكم الواقعي الصّادر من الشّارع في الجميع متعلّق بالواقع بما هو واقع ، إلاّ أنّه بمجرّده لا يؤثّر في عدم المعذوريّة واستحقاق العقاب على مخالفته في حكم العقل على كلّ تقدير ، والحكم الفعلي المنجّز الّذي هو عين الحكم الأوّلي على تقدير ، وغيره بالاعتبار المنتزع من حكم العقل بوجوب امتثال الحكم الواقعي واستحقاق العقاب على مخالفته يتبع حكمه بحسب مراتبه فقد يكون موجودا في المظنون ولا يكون موجودا في غيره.

وهذا معنى الالتزام بالتّكليف المتوسّط بين تعلّقه بالواقع بما هو هو ، وعدم التّكليف رأسا ولا يمكن اعتبار التّوسّط بالنّسبة إلى الحكم الأوّلي وإلاّ لزم التّصويب والالتزام بالإجزاء عند انكشاف خطأ الأمارات والأصول كما هو


واضح ، وهذا هو المراد من التّكليف المتوسّط في « الكتاب » لا ما يزعمه غير الخبير بمراده قدس‌سره.

ولك أن تقول : إنّ الحكم الواقعي الغير المختلف باختلاف الظّنون والآراء متعلّق بالواقع والحكم الظّاهري المختلف باختلافهما يتبع مقتضيات الأصول والأمارات وإن بقي لك تأمّل فيما ذكر مع ما عرفت ، فارجع إلى ما أوردنا من الكلام في أوائل التّعليقة في شرح الحكم الواقعي الشّأني والفعلي والظّاهري (١).

ثمّ إنّ المراد من قبح العدول عن الظّن إلى الوهم المتكرّر في كلامه وقبح الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي مع التّمكن من الامتثال الظّني في المقام ليس ما يتراءى منه في باديء النّظر من حسن العمل بالظّن ذاتا وقبح الأخذ بغيره كذلك ، بل المراد منه القبح العرضي الغيري من جهة ملاحظة طرح الواقع كثيرا في غيره ، والحسن الغيري من جهة إدراك الواقع كثيرا في الظّن ؛ ضرورة أنّه ليس للعمل بالظّن مع قطع النّظر عن الواقع حسن ذاتّي على مذهب أهل الصّواب.

ومنه يظهر : أنّ التّمسّك في حكم المقام بقبح ترجيح المرجوح على الرّاجح ـ كما وقع في كلام غير واحد من الأعلام ـ لا يخلو عن مناقشة ونظر إن كان المراد من الصّفتين في القضيّة ما كان كذلك بالذّات.

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ١ / ١٢.


(٢٧١) قوله قدس‌سره : ( هذا خلاصة الكلام في مقدّمات ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٣٥ )

أقول : المراد من وجوب العمل بالظّن في الجملة ما يشمل القول بكون نتيجة المقدّمات هو التّبعيض في الاحتياط ؛ فإنّك قد عرفت إيجابه العمل بالظّن القائم على خلاف الاحتياط ، وعلى تنزيل العبارة على القول بكون النتيجة هي حجيّة الظّن لا بد أن يكون المراد ما يقابل التّعميم من جميع الجهات الّتي يقع الكلام فيها في الأمر الثّاني ، أو فيه وفي الأمر الأوّل ، لا المهملة المردّدة ؛ حتّى ينافي التّقرير على وجه الحكومة كما ستقف عليه.

وما ذكره في الأمر الأوّل وإن كان ظاهره الاختصاص بالقول بكون النّتيجة حجيّة الظّن إلاّ أنّه يصرّح بعد ذلك في الأمر الثّاني : أنّ التّعميم من حيث المسألة الأصوليّة والفرعيّة ثابت على القولين.


* تنبيهات دليل الإنسداد

* التنبيه الأوّل : في الإمتثال الظّني لا يفرّق بين الظن

بالحكم الواقعي والظاهري


* تنبيهات دليل الإنسداد

* التنبيه الأوّل :

لا يفرّق في الإمتثال الظنّي بين الظنّ بالحكم الواقعي والظاهري

(٢٧٢) قوله قدس‌سره : ( إلاّ أنّك قد عرفت : أنّ قضيّة المقدّمات ... إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ٤٣٧ )

__________________

(١) قال المحقق الجليل الفاضل الشيخ رحمة الله الكرماني قدس‌سره بعد ان نقل الكلام الآتي :

« بعد ما انتجت المقدمات يحكم العقل القطعي بوجوب الامتثال الظني في الأحكام التي علم اجمالا وجودها بين المحتملات للتكليف فهل الواجب تحصيل الظن بالأحكام الواقعيّة أو الاحكام التي هي مؤديّات الطرق المظنون اعتبارها بجعل الشارع في عرض الواقع إمّا في الطول بمعنى كفاية الظن بالواقع مع العجز عن مؤدّى المظنون وبالعكس ، فالظاهر انه لا ينكره أحد ، أو كفاية كل منهما بمعنى أن أيّهما حصل ، حصل الإمتثال ؛ فإن المقدمات تنتج اعتبار الظن وحجيته من غير فرق بين تعلقه بالحكم الواقعي أو طريق ظنّ أن الشارع نصبه للوصول إلى الواقع وجعل مؤدّاه قائما مقام الواقع.

والأخير مختار أيضا وهو القوي ، وفي المحكي ان الثاني مختار صاحب الهداية والفصول وسبقهما الشيخ أسد الله التستري وهو لا يقدح فيما ذكره في الفصول من انه لم يسبقه إلى ما اختاره أحد لأنه مع أخيه الفاضل الشارح صاحب الهداية من تلامذة الشيخ


الضرورة العقليّة حاكمة بتعميم نتيجة المقدّمات

أقول : قد عرفت ذلك مرارا سيّما عند بيان مراتب الامتثال ، وأنّ منها

__________________

المذكور ولا غرو في نسبة التلميذ مطالب شيخه إلى نفسه كما جرى ديدنهم عليه في امثال هذا الزمان ».

أقول : في هذا الاعتذار نظر بيّن فإن نسبة مطلب الشيخ إلى نفسه من حيث موافقته للشيخ في هذا المطلب غير تخصيص مطلب بنفسه ، وعدم كونه مسبوقا بفهم هذا المطلب مع إشتراك الغير معه وسبقه فيه عليه والغيران مختلفان في الجواز وعدمه ولا تنحصر المعذرة في هذا الإعتذار الغير النافع.

وكيف كان : والأوّل مختار البهبهاني والقمّي والرياض قدس الله اسرارهم على المحكي. وزعم [ المحقق صاحب الكفاية ] الخراساني : أن اختلافهم هنا من جهة اختلافهم فيما يجب تحصيل العلم به من الواقع أو مؤدّى الطريق المعلوم الاعتبار مع الإنفتاح حيث قال : « اعلم انه لما كان الظاهر أن هذا الاختلاف إنما هو مع الاتفاق على لزوم التنزّل في حال الإنسداد وإلاّ لجأ إلى الظنّ بما يجب تحصيل القطع به في حال الإنفتاح وإنّما هو لاختلافهم فيما يجب تحصيل العلم به مع التمكّن ... » (*) إلى آخر ما قال متعمّدا على الإغلاق. ولو كان الأمر كما زعم لكانوا تكلّموا في العلم ثمّ الحقوا الظنّ به. إنتهى حاشية رحمة الله على الفرائد : ١٢٨.

(*) انظر تعليقة المحقق الخراساني الطويلة في درر الفوائد : ١٤٠.


الامتثال الظّني المتعيّن عند انتفاء الأوّلين من مراتبه وإن كان شرحه هناك ربّما ينافي كلامه في المقام ؛ حيث إنّه فسّره بالإتيان بما يظن أنّه المكلّف به. اللهم إلاّ أن يحمل على البيان في الجملة ، أو يجعل المراد من الظّن بكونه المكلّف به أعمّ من الظّن به في مرحلة الظّاهر.

ثمّ إنّ ما ذكره من تعميم نتيجة المقدّمات الجارية في المسائل الفرعيّة الفقهيّة للظّن في المسألة الأصوليّة العمليّة يستفاد من المحقّق القمي قدس‌سره وبعض آخر ، وهو ممّا يحكم به ضرورة العقل عند التّأمّل ؛ فإنّ امتثال الخطابات الواقعيّة بإتيان نفس ما تعلّقت به وإن كان حسنا عند العقل ؛ من حيث اشتماله على المصلحة الموجبة لكمال النّفس ، إلاّ أنّ الّذي يحكم العقل بلزومه التّخلّص عن مؤاخذة مخالفتها والبراءة عنها وإن لم يتحقّق موافقتها في نفس الأمر وفي علم الشّارع.

ومن هنا ذكرنا مرارا : أنّ الواجب في حكم العقل بوجوب الإطاعة في مطلق الأوامر الصّادرة من الموالي دفع العقاب. ومن هنا يصحّ جعله غاية للإطاعة في العبادات وتسمّى الإطاعة ـ بالملاحظة المذكورة ـ بإطاعة العبيد ، وبها تمتاز عن إطاعة الأجزاء الملحوظ فيها طلب الأجر والثّواب وعن إطاعة الأحرار الغير الملحوظ فيها إلاّ كون المولى مستحقّا للإطاعة والعبادة المختصّة بأولياء الله تعالى وسادات الخلق أجمعين « سلام الله عليهم ما دامت السّماوات


والأرضون » (١).

فإذا كان الواجب عند العقل عند انسداد باب العلم بالواجبات والمحرّمات تحصيل الظّن بامتثال الخطابات الواقعيّة وسقوطها عن المكلّف فلا محالة يحكم بالتّعميم من حيث الظّن في المسألة الأصوليّة ؛ حيث إنّه يرجع إلى الظّن برضاء الشّارع في إطاعة أوامره الواقعيّة بسلوك ما ظنّ طريقيّته ما دام الطّريق قائما ، والبناء على كون مفاده نفس ما أراده الشّارع في ضمن الخطابات الواقعيّة.

فكما أنّه يحكم بجواز تحصيل العلم بالطّريق المجعول مع التّمكّن من تحصيل العلم بالواقع إذا فرض انفتاح باب العلم بهما من حيث كونه موجبا للقطع بسقوط الخطابات الواقعيّة في مرحلة الظّاهر ما لم ينكشف الخلاف وإن جاز معه تحصيل العلم بالواقع الأولي الموجب لارتفاع موضوع الأمر بالطّريق ، كذلك يحكم بجواز تحصيل الظّن بمفاد الطّريق من غير فرق بين أن يعلم إجمالا بجعله أوّلا ، كما يحكم بجواز تحصيل الظّن بالواقع الأوّلي من حيث كونه مطلوبا أوّليّا من غير ترتيب بين الأمرين ، وإن كان الثّاني أولى في نظر العقل من حيث إيجابه بالظّن بإدراك المصلحة الأوليّة.

__________________

(١) في الأصل : « الأرضين » وهو من سهو القلم.


(٢٧٣) قوله قدس‌سره : ( وقد خالف في هذا التّعميم فريقان ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٣٧ )

أقول : أوّل من سلك هذا المسلك واختار هذه الطّريقة فيما وجدته الشّيخ المحقّق التّستري قدس‌سره فيما عرفت من كلامه عند البحث في حجيّة نقل الإجماع حيث ذكر : أنّ انسداد باب العلم بما يجب العمل به من الأدلّة كالكتاب والسّنة يقتضي في حكم العقل وجوب إعمال الظّن في تشخيصهما لا في تحصيل الأحكام الواقعيّة (١).

وقد تبعه غير واحد ممّن تأخّر عنه ؛ إمّا بعد العلم الإجمالي بجعل الطّرق الظّنيّة وانسداد باب العلم والطّريق الخاصّ إلى تشخيصه كما هو مبنى كلام الشّيخ الفاضل في « الفصول » (٢) ، أو مطلقا كما هو مبنى بعض الوجوه المذكورة في كلام أخيه الأجلّ الشيخ المحقّق قدس‌سره في « تعليقه على المعالم » (٣) كما حكاه شيخنا الأستاذ العلاّمة عنهما في « الكتاب » (٤).

والقول الثّاني المقابل لهذا القول ذهب إليه شيخ شيخنا وأستاذه

__________________

(١) كشف القناع للشيخ أسد الله التستري قدس‌سره.

(٢) الفصول الغرويّة : ٢٧٧.

(٣) هداية المسترشدين : ج ٣ / ٣٥١ ـ ٣٥٢.

(٤) فرائد الأصول : ج ١ / ٤٣٨ و ٤٥٤.


الشّريف قدس‌سره (١) وبعض تلامذته كما ستقف عليه مفصّلا في « الكتاب » (٢).

(٢٧٤) قوله قدس‌سره : ( وهو أنّا كما نقطع بأنّا مكلّفون ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٣٨ )

كلام صاحب الفصول في مسألة الظن في الطريق

أقول : الأولى نقل باقي كلامه المتعلّق بالمقام أوّلا ؛ ثمّ إيراد ما يوضح به مرامه قال قدس‌سره ـ بعد ما في « الكتاب » ـ ما هذا لفظه :

« وإنما اعتبرنا في الظّن أن لا يقوم دليل معه على عدم جواز الرّجوع إليه حينئذ ؛ لأنّ الحكم بالجواز هنا ظاهري فيمتنع ثبوته مع انكشاف خلافه ، ومع تعذّر هذا النّوع من الظّن فالرّجوع إلى ما يكون أقرب إليه مفادا من المدارك التي لا دليل على عدم حجيّتها مع الاتّحاد ، ومع التّعدّد ، والتّكافؤ ، التّخيير ؛ لامتناع الأخذ بما علم عدم جواز الأخذ به كما مرّ ، أو ترجيح المرجوح ، أو التّرجيح مع عدم المرجّح.

وممّا يكشف عمّا ذكرناه : أنّا كما نجد على الأحكام الأمارات نقطع بعدم اعتبار الشّارع إياها طريقا إلى معرفة الأحكام مطلقا وإن أفاد الظّن الفعلي بها

__________________

(١) شريف العلماء في ضوابط الأصول : ٢٦٦ ، والسيّد المجاهد في مفاتيح الاصول :

٤٥٨ ـ ٤٥٩.

(٢) فرائد الأصول : ج ١ / ٤٣٨.


كالقياس ، والاستحسان ، والسّيرة الظّنية ، والرّؤيا ، وظنّ وجود الدّليل ، والقرعة ، وما أشبه ذلك ممّا لا حصر له ، كذلك نجد عليها أمارات نعلم بأنّ الشّارع قد اعتبرها كلاّ أو بعضا طريقا إلى معرفة الأحكام وإن لم يستفد منها ظنّ فعليّ بها ولو بمعارضة الأمارات السّابقة.

وهذه أمارات محصورة ؛ منها : الكتاب والسّنة الغير القطعيّين ، والاستصحاب ، والإجماع المنقول ، والاتّفاق الغير الكاشف ، والشّهرة ، وما أشبه ذلك ؛ فإنّا نقطع بأنّ الشّارع لم يعتبر بعد الأدلّة القطعيّة في حقّنا أمارات أخر خارجة عن هذه الأمارات. ومستند قطعنا في المقامين الإجماع ، مضافا في بعضها إلى مساعدة الآيات والأخبار ؛ إذ القائلون بحجيّة مطلق الظّن كبعض متأخّري المتأخّرين لا يتعدّون في مقام العمل عن هذه الأمارات إلى غيرها وإن لم يستفد منها ظنّ فعليّ بمآربها.

وحيث إنّه قد وقع النّزاع في تعيين ما هو المعتبر من هذه الأمارات في نفسه وفي صورة التّعارض ولا علم لنا بالتّعيين ، ولا طريق علميّا إليه مع علمنا ببقاء التّكليف بالعمل بها ، كان اللاّزم الرّجوع في ذلك إلى ما يستفاد اعتبارها من هذه المدارك الاحتماليّة لتقدّمها في نظر العقل حينئذ على المدارك المعلوم عدم اعتبارها شرعا ، مقدّما للأقرب منها في النّظر إلى غيره مع تحقّقه ، فثبت ممّا قرّرنا جواز التّعويل في تعيين ما يعتبر من تلك الطّرق الّتي هي أدلّة الأحكام على الظّن الّذي لا دليل على عدم حجيّته ، ثمّ على ما هو الأقرب إليه كذلك ».


إلى أن قال :

« واعلم أنّ العقل يستقلّ بكون العلم طريقا إلى إثبات الحكم المخالف للأصل ولا يستقلّ بكون غيره طريقا إليه مع تعذّره حيث لا يعلم ببقاء التّكليف معه ، بل يستقل حينئذ بعدم كون غير العلم طريقا في الظّاهر ، وبسقوط التّكليف ما لم يقم على حجيّة غير العلم قاطع سمعيّ واقعي ، أو ظاهري معتبر مطلقا ، أو عند انسداد باب العلم مع حصوله.

ثمّ إن دلّ الدّليل السمعيّ على حجيّة طريق مطلقا كان في مرتبة العلم مطلقا فيجوز التّعويل عليه ولو مع إمكان تحصيل العلم في تلك الواقعة. وإن دلّ على حجيّته عند تعذّر العلم لم يجز التّعويل عليه ، إلاّ عند تعذّره ؛ فيقدّم العمل بالعلم وبما دلّ الدّليل السّميعي على قيامه مقامه مطلقا مع تيسّره.

وأمّا إذا انتفى الجميع وعلم ببقاء التّكليف معه ، ثبت بحكم العقل وجوب العمل بالظّن الّذي لا دليل على عدم حجيّته. ثمّ الأقرب إليه على ما مرّ ، وهذه مرتبة ثالثة متوقّفة على تعذّر المرتبتين المتقدّمتين ».

وساق الكلام إلى أن قال :

« فاتّضح أنّ للطّريق ثلاثة مراتب لا يعوّل على اللاّحقة منها إلاّ بعد تعذّر السّابقة ، ونحن حيث علمنا ممّا مرّ : أنّ الشارع قد قرّر في حقّنا إلى معرفة الأحكام أصولا وفروعا ـ ولو بعد انسداد باب العلم وما في مرتبته ـ طرقا مخصوصة لم


يجز لنا العدول إلى المرتبة الثّالثة والأخذ بما يقرّره العقل طريقا إلى معرفة الأحكام ، بل يجب علينا تحصيل تلك الطّرق الّتي علمنا بنصب الشّارع إيّاها وتعيينها بالعلم أو بما علم قيامه بالخصوص مقامه ولو بعد تعذّره ».

إلى أن قال :

« فتعيّن أنّ طريقنا إلى معرفة فروع الأحكام الغير القطعيّة إمّا في المرتبة الأولى ، أو الثّانية ، وإلى معرفة تفاصيل ذلك في المرتبة الثّالثة. والسّر في الفرق : أنّا لمّا راجعنا طريقة أصحابنا وجدناهم يعتمدون في فروع الأحكام على طرق ومدارك مخصوصة مطبقين على نفي حجيّة ما عداها مع إمكان الرّجوع إليها مطلقا ، وفي إثبات حجيّة تلك الطّرق وتعيين ما هو المعتبر فيها على أدلّة قطعيّة عندهم كالكتاب والإجماع ... » إلى أخر ما ذكره (١).

توضيح مراد صاحب الفصول

ثمّ ساق الكلام بعد إتمام الوجه إلى النّقض والإبرام بإيراد الإشكالات والإيرادات عليه والنّقض والجواب عنها بما يطول المقام بذكره من أراده فليراجع إلى كتابه.

وملخّص ما يقال في توضيح مرامه : أنّ التّكليف بالعمل بالطّرق المجعولة

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٢٧٧ ـ ٢٧٨.


إذا لم يكن تكليفا مستقلاّ في قبال التّكليف بالواقع كالتكاليف الواقعية كما هو المسلّم الواضح الّذي لم يتوهّم أحد خلافه ، فلا بدّ إمّا من إرجاع التّكليف بالواقع إليه ؛ بمعنى عدم إرادة إطاعته إلاّ إذا ساعد عليه الطّريق ، فالواقع الّذي لم يكن مدلولا لأحد الطّرق المعتبرة لا يجب امتثاله على المكلّف لا بمعنى عدم ثبوته في نفس الأمر فيما لم يساعد عليه الطّريق حتّى يلزم التّصويب الباطل ، فالتّكليف الفعلي الّذي عليه المدار في وجوب الإطاعة وحرمة المعصية تابع لقيام الطريق ، أو إرجاع التّكليف بالطّريق إليه ؛ بمعنى عدم لزوم العمل به إلاّ فيما طابق الواقع فيكون عند عدم المطابقة غير واجب العمل واقعا ، ولمّا لم يعقل الثّاني ؛ حيث إنّ العلم بالمطابقة يوجب امتناع جعل التّكليف الظّاهري في حقّ العالم ولا يعقل اعتبار ما يوجب العلم به ارتفاع موضوع الحكم فيه ، فتعيّن الوجه الأوّل وهو الّذي أفاد بقوله : ( ومرجع التّكليفين ... إلى آخره ) (١) وفعليّة الأحكام الواقعيّة عند تحصيل العلم بها من جهة كون العلم طريقا شرعيّا معتبرا بحكم العقل. هذا ما يقال في توضيح مرامه.

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٢٧٧.


إيرادان على الفصول

ويرد عليه ـ مضافا إلى ما أورده عليه في « الكتاب » ـ :

أوّلا : أنّ تنجّز الخطابات الواقعيّة والتّكاليف النّفس الأمريّة ؛ إنما هو بنفس العلم الإجمالي المتعلّق بها والتّكليف بالعمل بالطّريق على ما عرفت في توضيح مرامه ، ليس في عرض التّكليف بالواقع وفي مرتبته ، بل إنّما هو تكليف غيري إرشادي شرع للتّوصّل بسلوكه إلى الواقع ، وإن لاحظ الشّارع في جعله تسهيل الأمر على المكلّفين. ولازمه العقلي عدم جواز المؤاخذة عند مخالفة سلوكه للواقع ، لا انقلاب التّكليف الفعلي إلى مؤداه حسبما زعمه قدس‌سره.

ومن هنا يجب الفحص عن الواقع ويجب الاحتياط في تحصيله فيما لم يكن هناك طريق إليه في مورد العلم الإجمالي.

نعم ، فيما قام الطّريق الشّرعي على تعيين الواقعيّات المجهولة بحيث يوجب رفع العلم الإجمالي الكلّي ولم يكن هناك أصل مثبت للتّكليف ، ولم يقتض العلم الإجمالي الخاصّ للاحتياط في المورد لم يجب الاحتياط في الشّبهات الحكميّة بعد الفحص التّام.

وليس هذا من جهة انقلاب التّكليف الفعلي إلى مؤدّيات الطّرق ، بل من جهة حكم العقل بقبح المؤاخذة المقرّر في باب البراءة ، ومن هنا يجوز تحصيل العلم


بالواقع الأوّلي عند التمكّن منه ولو جاز سلوك الطريق فيما لو كان معلوما بالتّفصيل أيضا.

والقول بكون العلم مجعولا أيضا كالظّن ، قد عرفت فساده بما لا مزيد عليه في طي كلماتنا السّابقة في أوّل التّعليقة.

وثانيا : أنّ لازم ما أفاده عدم جواز الامتثال الظني في تحصيل الواقع أصلا عند انسداد باب الظّن بالطّريق المجعول إجمالا ، مع اعترافه فيما عرفت من كلامه بلزوم العمل عليه عند انسداد باب الظّن بالطّريق ، فالاعتراف به ينافي القول بكون مرجع التّكليف الفعليّ مؤدّيات الطّرق.

ودعوى : الرّجوع إليه عند التّمكّن من تحصيله ولو ظنّا دون ما لم يتمكّن من تحصيله ؛ فإنّ التّكليف حينئذ بنفس الواقع ، كما ترى.

(٢٧٥) قوله قدس‌سره : ( وفيه أوّلا : منع (١) نصب الشّارع طرقا خاصّة للأحكام وافية ... إلى آخره ) (٢) (٣). ( ج ١ / ٤٣٩ )

__________________

(١) كذا وفي الكتاب : إمكان منع نصب الشارع ... إلى آخره.

(٢) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« لا يقال : المراد من الطرق الخاصة ما يعمّ ما نصبها من الطرق المتعارفة بين العقلاء إمضاء لسيرتهم وتقريرا لطريقتهم ولو بعدم الردع عنه ومعه لا مجال لمنع نصبها ودعواه بيّنة وإنكاره مكابرة.


__________________

لأنا نقول : دعوى منع نصب طرق خاصة كذلك من رأس وإن كانت مكابرة إلاّ أن المنع عن غير ما علم تفصيلا من الطرق الخاصة الإبتدائية أو الإمضائية في محلّه.

ودعوى : العلم به ، لا بيّنة ولا مبيّنة ؛ لقوّة احتمال الإحالة في الموارد الخالية على تقدير عدم الكفاية كما هو الفرض إلى ما يحكم به العقل على الإستقلال من مراتب الامتثال كما اذا لم يكن طريق خاص في البين.

بداهة انه يعيّن مراتب له مرتّبة لا يجوز التنزّل من سابقتها إلى لا حقتها إلاّ بعد تعذّرها ، والإجماع على وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنّة غير مفيد ؛ فإنّ المسلّم منه إنّما هو على الرجوع إليهما في الجملة لا بمقدار الكفاية في الفقه وهو المفيد ». انظر درر الفوائد : ١٤٦.

* وأورد عليه الفاضل الجليل الشيخ رحمة الله الكرماني قدس‌سره بعد أن نقل نص عبارته بأكملها قائلا :

« أقول : إنّما نقلت عين الألفاظ بما فيها ؛ لإنها واضحة المراد بيّنة الإيراد ؛ فإن الذي يقول بحجّيّة الظن في الطريق يريد به الطرق الجعليّة الإبتدائية لا الإمضائيّة ولا الأعم منها ومنها : فإن من طرق العقلاء عند فقد العلم الظنّ.

أترى هذا القائل يريد أن يثبت حجّيّة الظّنّ بأن الشارع أمضى اعتبار الظّنّ ، فيقع الكلام في اعتبار الظّنّ وهلمّ جرّا ولله درّ المصنّف في جودة فهمه واستقامة سليقته في فهم مراد القائل حيث منع القطع بنصب الشارع طرقا للأحكام وهو المراد من إمكان المنع ، وجعل الطرق العقلائية سندا للمنع ثم الذي أجاب المنع به الخراساني في دفع لا يقال ، الأولى أن نذره في سنبله وإلاّ إنجرّ الكلام ويفوتنا المرام وبالله الإعتصام ». حاشية رحمة الله على الفرائد : ١٢٩.


__________________

(٣) قال أبو المجد حفيد صاحب الهداية قدس الله تعالى سرّهما :

أقول : لماذا تراه عدل عن العبارة المتداولة في أمثال المقام ـ أعني المنع ـ إلى إمكان المنع؟!

أمّا أنا فأرى أنه قدس‌سره علم أنّ من الواضح الذي لا يرتاب فيه وجود الطريق المنصوب فمنعه ورعه وتحرّجه عن منع يعلم خلافه إلى دعوى إمكانه ، والإمكان باب واسع لا يغلق إلاّ على شريك الباري ونحوه ، وصاحب « الفصول » لا يدّعي الوجوب العقلي حتى ينافيه الإمكان ، بل يدّعي القطع بوجود الطريق وهو ـ طاب ثراه ـ يعلم أنه صادق في دعواه وكلامه شاهد له فراجع ما ذكره من الإجماع والسيرة وتواتر الأخبار على حجّيّة خبر الواحد في الجملة.

وليس بمنفرد في دعواه ؛ إذ يشاركه فيها عيون الطائفة الحقّة ووجوهها من رواتها وعلمائها ومحدّثيها وفقهائها وقد نقل الشيخ من كلامهم المقرون بدعوى الإجماع والقطع ما فيه مقنع وكفاية ، فراجع.

إلى أن قال قدس‌سره : وما ذكره من أن تلك الطرق لو كانت لاشتهرت اشتهار الشمس في رابعة النهار. فقد حصلت ولله الحمد والمنّة ودلّت الأدلّة الواضحة على حجّية الشريفين : الكتاب والسنّة ، وإن كان ثمّة ريب فهو في حدّ السنّة أو تعيين مصاديقها.

وما ذكره خلال كلامه : من احتمال إحالة الشارع العباد في طريق إمتثال أحكامه إلى ما هو المتعارف بينهم في امتثال أحكامهم العرفيّة إلى آخره. فرائد : ج ١ / ٤٤٠.

فإن كان مع التمكّن من الحجّة عندهم كخبر الثقة فاعتماد العقلاء على الظن ممنوع ....

وأمّا مع عدم التمكّن منه فلا شك في جميع ما ذكره حتى فيما استعاذ منه هنا وفي مواضع


أقول : لمّا كان المدّعى نصب الشّارع طرقا مخصوصة ؛ بمعنى جعله لها في مقابل الإمضاء والتّقرير بحيث يوجب رجوع الجعلين بالتّقريب الّذي عرفت إلى جعل واحد ، فلا محالة يلزم عليه إثبات أمور :

أحدها : الجعل والنّصب بالمعنى الّذي عرفت.

__________________

أخر ، أعني : تعيّن الإمتثال بالاحتمال إذا فقدت الطرق الظنّيّة.

والحاصل : أن جميع ما مرّ من كلامه وشطرا ممّا يأتي منه يرد على صاحب « الفصول » لو أراد وجوب نصب الطريق غير العقلائي عقلا ، ويصحّ ما ذكره في دفع ما يقال : من أن منع نصب الطريق لا يجامع القول ببقاء التكليف وأمّا مع كون المراد ما يعمّ الجعل والإمضاء ، فلا سبيل إلى منع قبح التكليف وحكم العقل بالعمل بالظن مع عدم الطريق الخاص لا يرفع وجوب نصب الطريق على الشارع.

ولقد حمل بعض تلامذة الشيخ نصب الطريق في كلام صاحب الفصول على غير ذلك فأطنب بل أفرط في الإعتراض عليه (*).

وقد أنصف الأستاذ في الحاشية حيث لم ينكر كون المراد من الطرق الخاصّة ما يعمّ ما نصبها من الطرق المتعارفة بين العقلاء امضاء لسيرتهم ولو بعدم الردع عنه قال :

« ومعه لا مجال لعدم نصبها ، ودعواه بيّنة وإنكاره مكابرة » [ حاشية الآخوند على الفرائد : ١٤٦ ].

وما ذكره من اعتراف صاحب « الفصول » بما نقله عنه فلم يظهر لي إرتباطه بالمقام إلاّ بتكلّف ، فهل كان المتوقّع منه أن يقول بلزوم نصب الطريق إلى تلك الطرق فيلزمه لزوم نصبه إلى طريق الطريق وهكذا إلى ما لا نهاية له؟! » إنتهى. وقاية الأذهان : ٥٢٧ ـ ٥٢٩.

(*) الظاهر انه يريد به المحقق الميرزا الآشتياني قدس‌سره.


ثانيها : كفاية ما جعله ووفاؤه بأغلب الأحكام الفرعيّة ؛ ضرورة أنّ مطلق العلم بالجعل لا يجدي في صرف التّكليف عن جميع الواقعيّات إلى مؤدّيات الطّرق.

ثالثها : عدم كون المجعول معلوما بالتّفصيل لنا ، وإلاّ لم يكن معنى الرّجوع إلى الظّن في تشخيصه وعدم التّمكّن من تحصيله بالطّرق المقررّة الخاصّة لتشخيصها ولو من جهة عدم العلم بها كما هو المصرّح به في كلامه ؛ ضرورة أنّه لا معنى للرّجوع إلى مطلق الظّن في تعيين الطّريق مع فرض انفتاح باب الظّن الخاصّ في هذه المسألة ، كما هو الشّأن في كلّ ما يرجع فيه إلى الظّن المطلق.

رابعها : إثبات كون المجعول الكافي المعلوم بالإجمال موجودا فيما بأيدينا من الأمارات المحتملة للجعل ، وإلاّ لم يعقل الحكم بصرف التّكليف من الواقعيّات الّتي فرض العلم ببقاء التّكليف بالنّسبة إليها إلى مؤدّيات طرق غير موجودة فيما بأيدينا.

فإذا لزم عليه إثبات الأمور المذكورة من حيث كونه مستدلاّ ومثبتا فلا محالة يكفي في ردّ دليله احتمال عدم الجعل بالمعنى المبحوث عنه وإمضائه للرّجوع إلى الطّرق العقلائية المقرّرة في باب إطاعة مطلق الأوامر الصّادرة من الموالي بالنّسبة إلى العبيد ، مع القطع بعدم جعل طريق من المولى من الأخذ بما يمكن تحصيله من الطّرق العلميّة أو الاحتياط في تحصيل الواقع ، أو الرّجوع إلى الظّن الاطمئناني في تحصيله الّذي اختار بعض مشايخنا في « شرحه على


الشّرائع » (١) كونه في مرتبة العلم مطلقا بل كونه من أفراده الحقيقي أو الادّعائي كما احتمله في « الكتاب » وإن لم يكن مفيدا فيما يترتّب على الموضوع المعلوم ، فضلا عمّا يترتّب على الواقع ، إلاّ فيما انسدّ فيه باب العلم ؛ فإنّه مقدّم على مطلق الظّن عند العقل والعقلاء كما ستقف على تفصيل القول فيه في الأمر الثّاني من التّنبيهات كما عرفت بعض الكلام فيه في مسألة حجيّة الخبر بالخصوص سيّما فيما أفاده شيخنا قدس‌سره عند الجمع بين كلامي السيّد والشّيخ قدس‌سرهما ، أو مطلق الظّن الفعلي ، أو الشأني ، أو الاحتمالي ، كلّ في محلّ ، فاحتمال ما ذكر مانع من الاستدلال هذا.

مع أنّه يمكن الاستدلال لعدمه بما أفاده قدس‌سره في « الكتاب » بقوله : « كيف وإلاّ لكان وضوح تلك الطّرق ... إلى آخره » (٢).

والمناقشة فيه : بأنّ الحاجة وإن فرضت كثرتها لكلّ مكلّف لا يلازم عدم الاختفاء ، وإلاّ لم يختف المرجع بعد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يقع الخلاف فيه. كما ترى ؛ لوضوح الفرق بين المقامين من جهة وجود دواعي اختفاء المرجع بعد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طلب الرّئاسة الكليّة الإلهيّة أو الخلقيّة وغيره ، وهذا بخلاف الطّرق المجعولة ؛ فإنّه لا داعي لاختفائها فالفرق ظاهر ، فلا يجوز قياس حال أحدهما بالآخر فتأمّل (٣).

__________________

(١) الشيخ محمّد حسن النجفي في جواهر الكلام ، أنظر : ج ٤٠ / ٥٥.

(٢) فرائد الأصول : ج ١ / ٤٣٩.

(٣) وجه التأمّل : أنّ الفرق بين الأمرين وإن كان ظاهرا ، إلاّ ان مجرد الفرق لا يوجب القطع


(٢٧٦) قوله قدس‌سره : ( هذا حال المجتهد وأمّا المقلّد ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٤٠ )

أقول : ما أفاده قدس‌سره مبني على ما عرفت : من اعتبار كون المجعول معلوما بالإجمال ، وإلاّ لم يكن مفيدا في إثبات حجيّة الظّن في تعيين الطّريق ، كما أنّ الأمر كذلك على تقدير قيام الطّريق الخاصّ على تعيينه. ومن هنا اعتبر المستدلّ قدس‌سره انتفاءه.

ومن هنا يظهر عدم الجدوى فيما يحكم بحجيّته قطعا من الظّنون الخاصّة كظواهر الألفاظ والأصول الشرعيّة إذا كان مرجع اعتبارها إلى الجعل ، لا الإمضاء في إثبات مقصود المستدلّ أصلا.

(٢٧٧) قوله قدس‌سره : ( فظهر ممّا ذكرنا : اندفاع ما يقال ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٤١ )

أقول : لما كان مجرّد احتمال عدم الجعل كافيا في إبطال الاستدلال المذكور على ما عرفت بيانه ، فلا بدّ للمستدلّ من إقامة الدّليل على الجعل على سبيل الإجمال من العقل أو النّقل ، وليس في العقل ما يتوهّم اقتضاؤه لما ذكر إلاّ حكمه بقبح التكليف مع عدم نصب الطّريق الممنوع بما أفاده بقوله قدس‌سره : « توضيح الاندفاع :

__________________

بعدم الإختفاء بالنسبة إلى الطرق. ألا ترى اختفاء كثير من الأحكام الشرعيّة؟

مع انه لا داعي لإختفاءها. ومن هنا قال قدس‌سره : « وكيف كان فيكفي في رد الإستدلال ... » فافهم. منه دام ظلّه العالي.


أنّ التكليف ... إلى آخره » (١) وفي النّقل ما يتوهّم دلالته عليه ، إلاّ الإجماع الّذي أشار إليه بقوله : « وربّما يستشهد للعلم الإجمالي ... إلى آخره » (٢).

ويستفاد الاستدلال به ممّا عرفت نقله من كلام المستدلّ المندفع بما أفاده قدس‌سره في فساده من الوجهين بقوله : « وهو ممنوع أوّلا ... إلى آخره » (٣) الرّاجعين عند التّحقيق إلى منع تحقّق الإجماع :

إمّا من جهة : ذهاب جماعة إلى الاقتصار على الأدلّة العلميّة في الشّرعيّات كما هو مرجع وجه الأوّل.

وإمّا من جهة : أنّ الاختلاف بنفسه لا يكون إجماعا وإنّما يكون كاشفا عنه إذا كان راجعا إلى التّعيين بحيث لو فرض خطأ بعض المختلفين فيما ذهب إليه من المختار الخاص لالتزم بمقالة غيره تفصيلا أو إجمالا ، وإلاّ لم يكن مجرّد الاختلاف مجديا في الإجماع على القدر المشترك ، وإلاّ لم تر الأقوال في المسألة على اثنين دائما والملازمة ظاهرة كبطلان التّالي ، بل هو أظهر كما لا يخفى.

(٢٧٨) قوله قدس‌سره : ( وربّما يجعل تحقّق الإجماع ... إلى آخره ) (٤). ( ج ١ / ٤٤٢ )

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٤٤١.

(٢) نفس المصدر.

(٣) نفس المصدر.

(٤) قال شيخ الوقاية وحفيد الهداية :


أقول : لا يخفى عليك : أنّ ما أفاده أيضا راجع إلى الاستدلال على وجود

__________________

قال [ الشيخ الأنصاري ] طاب ثراه في الجواب عن الدليل الأوّل من الأدلّة التي ذكرها لحجّية مطلق الظنّ من غير خصوصيّة للخبر ما نصّه :

« استحقاق الثواب والعقاب إنّما هو على تحقق الطاعة والمعصية اللتين لا تتحقّقان إلاّ بعد العلم بالوجوب والحرمة أو الظنّ المعتبر بهما ، وأمّا الظنّ المشكوك الإعتبار فهو كالشك ، بل هو هو بعد ملاحظة أن من الظنون ما أمر الشارع بإلغائه ويحتمل أن يكون المفروض منها ». [ فرائد : ج ١ / ٣٧٣ ].

وصريحه : أن المنع عن بعض الظنون يجعل الظن المشكوك الإعتبار كالشك ، بل يحوّله إلى الشك ويجعله هو هو بعينه لا يتحقّق به طاعة ولا معصية ولا يستحق به ثواب ولا عقاب فماذا الذي نقمه من هذا القول وقد قال بمثله وبلغ في المبالغة فيه إلى حدّ لم يصل إليه هذا القائل حيث جعل الظن غير المعتبر شكّا بالحمل الشائع.

هذا وأمّا الإجماع الذي ادّعاه فيحقّ لنا أن نسأل عنه ونقول : هل هو محصّل أو منقول؟ فما طريق تحصيله إن كان محصّلا؟ ومن الناقل له إن كان منقولا؟

ومن الطريف جدّا أن الإجماع على عدم جواز العمل بالقياس في نفس الأحكام الشرعيّة حال الإنسداد مما ينكره مثل المحقق القمّي ويجعله الشيخ أوّل الأجوبة عن إشكال خروج القياس مع تلك التصريحات الكثيرة من أئمة العلم ـ قديمهم وحديثهم ـ بإجماع الشيعة على بطلانه وتركهم كتب مثل الأسكافي أحد السّلف الذي عزّ في الخلف مثله ، ومع تواتر النصوص الواردة في بطلانه ثم يدّعي الإجماع على عدم الجواز في تعيين الطريق به الذي لم يصرّح به أحد ولا جاء فيه خبر واحد ولم يوجد إلاّ في صحيفة الاحتمال ». وقاية الأذهان : ٥٣٢.


الحجّة الكافية المجهولة بين الأمارات ؛ من حيث إنّ المنع عن العمل بجملة من الأمارات حتّى في زمان الانسداد يكشف بحكم العقل عن أنّ المرجع بحكم الشّارع غيرها. ولا يمكن أن يكون مطلق الظّن بالحكم كما يحكم به العقل في زعم القائل بحجيّة مطلق الظّن ، وإلاّ لم يعقل التّخصيص ؛ فلا بدّ أن يكون المرجع أمورا خاصّة ما هو ظاهر.

ومثل الاستدلال بالإجماع المذكور على وجود الحجّة الشّرعيّة الكافية بين الأمارات ، الاستدلال عليه بما دلّ من الأخبار العامّة لزماني الانسداد والانفتاح على حرمة العمل بالقياس بالتّقريب المذكور.

ولمّا كان مرجع الاستدلال إلى ملاحظة المقدّمة المذكورة لا محالة فأجاب قدس‌سره عنه بالوجهين من النّقض والحلّ.

(٢٧٩) قوله قدس‌سره : ( فإن قلت : ثبوت الطّريق ... إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ٤٤٢ )

__________________

(١) قال سيّد العروة قدس‌سره الشريف :

« والحاصل : ان ما جعله السائل في عرض سائر الطرق هو الظن بالواقع غير المتوقّف على دليل الإنسداد ، ولا يدفعه ما قاله المصنف : من ان الظن ليس طريقا مجعولا في عرض سائر الطرق لأن الظن الذي ليس طريقا مجعولا هو الثابت بجريان دليل الإنسداد المتعلق ببعض تلك فإذن يسقط الجواب الأوّل ». أنظر حاشية الفرائد تقرير بحث السيد اليزدي :


__________________

ج ١ / ٦٠١.

* وقال الفاضل الكرماني قدس‌سره :

أقول : الذي الآن اعتقده وينبغي لك ان تعتقده وأخطّئك إن اعتقدت غيره : ان الطريق المقطوع جعلا أو إمضاء في عرض القطع بالواقع في كون كلّ منهما مبرء للذمّة وحصول البراءة القطعيّة والطريق المظنون جعلا أو إمضاء في عرض الظّنّ بالواقع في حصول البراءة الظنّيّة وأرى الآن ذلك كالشمس في رابعة النهار.

فإن أراد المصنّف من الطرق المجعولة التي جعل مطلق الظن في طولها وكالأصل بالنسبة إلى الدليل ، الطرق المقطوعة فذلك مسلّم وهو الذي مع وجوده لم يحكم العقل بكون الظنّ طريقا ؛ لأن الظن بالواقع لا يعمل به في مقابلة القطع ببراءة الذمّة لكن الكلام ليس فيه والقائل لا يريده ، ويريد من العلم الإجمالي به أن يعيّنه بالظنّ ويجعل المظنون حجّة ، والمعلوم الإجمالي والتفصيلي ليسا على حدّ سواء فإنّ كون مطلق الظنّ في طول الطريق المعلوم التفصيلي ليس ولا يكون يلزم منه كونه في طول المعلوم الاجمالي الذي لا يفصل إلاّ بالظّنّ ويصير مظنونا تفصيليّا وتقديمه عليه باعتبار الإحتياط ينفي وجوبه الاجماع على عدم وجوب الإحتياط.

وإن أراد منها ولم يرد الطرق المظنونة فكون مطلق الظن في طولها ممنوع لتشاركهما في حصول البراءة الظنيّة ولا ترجيح لأحدهما على الآخر إلاّ بقوّة الظن.

فقوله : « وإن لم يوجد كان طريقا ... » ج ١ / ٤٣٣ سطر ٨ و ٩.

إن أراد انه إن لم يوجد الطريق الجعلي مطلقا لا مقطوعة ولا مظنونة كان مطلق الظن


أقول : مرجع السّؤال المذكور بعد منع تحقّق الإجماع على وجود الحجّة الكافية المردّدة على ما عرفت إلى وضوح تحقّقه وفساد المنع المذكور بعد ملاحظة كون الخاصّة مختلفين بين قولين : منهم من يقول بحجيّة الظّنون الخاصّة وهم الأكثرون. ومنهم من يقول بحجيّة الظّن المطلق. فوجود الطّريق إجمالا ممّا اتّفق عليه الكلّ.

__________________

طريقا لأن احتمال البراءة ما لم يبلغ مرتبة الرّجحان لا يلتفت إليه مع الظن بالواقع ، فهو وإن كان صحيحا إلاّ أنه خارج عن مقام نحن فيه لا يضرّ ولا ينفع.

وإن أراد انه إذا لم يوجد الطريق المقطوع وكان الطريق المجعول مظنونا كان مطلق الظن طريقا ولا يلتفت إلى الطريق المظنون ، فمع انه ممنوع لما عرفت : من كونهما في العرض لا ينفعه ، بل يضرّه لأن هذا خلاف ما هو مقصوده : من كون الظن في طول الطريق المجعول.

قوله : فتردّد الأمر بين مطلق الظنّ وطريق خاص آخر مما لا معنى له. ج ١ / ٤٤٣ سطر ١٢.

إن أراد من الطريق الخاص الآخر الطريق المعلوم التفصيلي فهو حق سواء أراد من مطلق الظنّ خصوص الظن بالواقع أو الأعم منه والطريق ، لكن كلام القائل ليس في هذا.

وإن أراد منه الطريق المظنون فهو والظن بالواقع في عرض واحد وله معنى صحيح ، بل هو الحق.

وبالجملة : الميزان ما ذكرته في أول التعليق فما وازنه عدلا نقبله وما عدل عنه نردّه حيث أمرنا بذلك في قوله تعالى : ( وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ) ١٨٢ / الشعراء إنتهى.

حاشية رحمة الله على الفرائد : ص ١٣١.


ويرد عليه ـ مضافا إلى ابتنائه على عدم قدح مخالفة القائلين بالانفتاح وإلى الإغماض عن كون مطلق الاختلاف غير كاشف عن وجود القدر المشترك وإلى الإغماض عن أنّ المدعى على ما عرفت وجود الحجّة الشّرعيّة بين الأمارات لا الأعمّ منه وممّا أمضاه الشّارع من الحجّة العقليّة ـ :

أوّلا : بما أفاده في « الكتاب » : من أنّ الدّوران والتردّد في المقام غير معقول ، بعد فرض كون المانع عن حكم العقل هو العلم بجعل الشّارع للأمارات وثبوته عند العقل ، لا مجرّد احتماله على ما عرفت مرارا.

وثانيا : أنّ نتيجة الدّوران المذكور ـ على تقدير الإغماض ـ هو عدم العلم بوجود الحجّة الكافية الشّرعيّة بين الأمارات ، لا العلم بوجودها الّذي ادّعاه الخصم فأين المعلوم بالإجمال الشّرعي؟ أي : الحكم الشّرعي لا الأصولي ؛ حتّى ينقلب التّكليف إليه ويجب تعيينه بالظّن المطلق بعد فرض انتفاء العلم والظّنون الخاصّة في تعيين الطّريق المجعول إلى غير ذلك ممّا يرد عليه من الإيرادات الواضحة عند المتأمّل.

(٢٨٠) قوله قدس‌سره : ( ومن المعلوم : أنّ مثل هذا لا يعدّ بيّنة شرعيّة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٤٤ )

أقول : الوجه فيما أفاده قدس‌سره ـ مضافا إلى رجوع أكثر التّعديلات إلى الاجتهاد والخبر الحدسي ـ : أنّ البيّنة الشّرعيّة من مقولة الخبر ، والكتب ليس خبرا.

ومن هنا لا يعمل به في المرافعات إلاّ فيما فرض كشفه على وجه القطع ولو من


جهة القرائن عن تحقّق مفاده.

ودعوى : حجيّة الخبر المذكور المعدّل بالتعديلات الكتبيّة في الأحكام الشّرعيّة من جهة توافق جميع المختلفين في حجيّة أقسام الخبر على العمل به وإن لم يكن الكتب بيّنة شرعيّة حتّى يستدلّ على اعتبارها بما دلّ على حجيّة البيّنة.

ضعيفة بمنع تحقق الإجماع العملي الكاشف عن تقرير المعصوم عليه‌السلام ، أو الكاشف عن الإجماع القولي من حيث كشف عمل العلماء عن آرائهم في المسألة ، وإن كان اتّفاقهم على العمل به مسلّما ؛ نظرا إلى ما عرفت في طي كلماته السّابقة من لزوم إحراز عنوان فعل المتّفقين والقطع بتحقّقه عندنا حيث إنّ الفعل مجمل ملتبس من الجهة الّتي يقع عليها هذا.

ولكنّك عرفت فيما سبق : أنّ ما أفاده مسلّم مفهوما ، لكنّه غير نافع في المقام بعد فرض انتهاء عمل العاملين المختلفين في شرائط العمل بالأخبار إلى زمان الحجّة هذا. مضافا إلى أنّ منع كثرة الخبر المفيد للاطمئنان بالصّدور ولو من جهة القرائن الرّاجع إلى عدم كفاية المجعول ولو من جهة ندرته محلّ منع.

فالأولى في الجواب : منع أصل الاتفاق على العمل بالخبر المزبور المنتهي إلى زمان الحجّة.


(٢٨١) قوله قدس‌سره : ( وثالثا : سلّمنا نصب الطّريق ... إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ٤٤٤ )

أقول : لا يخفى عليك : أنّ ما أفاده قدس‌سره إنّما يستقيم فيما علم إجمالا بأنّ الشّارع قد جعل لنا الطّرق الكافية فإذا انضمّ إليه تيقّن بعض الأمارات بالنّسبة إلى الجميع أو بالإضافة ؛ بمعنى كونه أولى بالاعتبار ، مع فرض كفايته فيرتفع العلم الإجمالي بالجعل عن الباقي فيرجع فيه إلى أصالة الحرمة ، إلاّ إذا فرض العلم بجعل ما يزيد على الكفاية. وأنّى له بإثباته؟ فتدبّر.

(٢٨٢) قوله قدس‌سره : ( وهو في المقام مفقود ... إلى آخره ) (٢). ( ج ١ / ٤٤٥ )

__________________

(١) قال صاحب الوقاية : ( لا يخفى على من تأمّل عبارة « الفصول » أن مبنى كلامه على عدم وجود القدر المتيقّن وهذا صريحه من أوله إلى آخره ممّا نقله الشيخ وممّا اسقطه منه. وكأنه ـ طاب ثراه ـ لم يعط التأمّل فيها حقّه وإلاّ ما كان يخفى مثله على مثله وأنا الضمين بأن لا يخالف صاحب الفصول مرسومه ويجري على اقتراحه من الأخذ بالمتيقّن لو وجد بمقدار الكفاية ، ويرجع في غيره إلى الأصول العمليّة أو إلى أصالة حرمة العمل كما ذكره ، وكأنه فرض وجود القدر المتيقّن كما يؤيّده قوله بعد ذلك : « سلّمنا عدم وجود القدر المتيقّن » [ فرائد : ج ١ / ٤٤٧ ].

ولكن لا يخفى أن جميع هذا التعب وتحمّل العناء والنّصب لعدم وجود القدر المتيقن بقدر الكفاية والالم يبق موضع لدليل الإنسداد ولا لما يدخل في بابه ). وقاية الاذهان :

ص ٥٣٧.

(٢) * قال الفاضل الكرماني قدس‌سره :


__________________

« لان الدليل النافي لوجوب الإحتياط من الإجماع وغيره دل على عدم وجوب الاحتياط الكلي.

ومعنى الإحتياط في العمل بالطرق : هو أن يعمل بكل ما يحتمل ان يكون طريقا إذا كان مثبتا للتكليف مطلقا وإذا كان نافيا للتكليف أيضا إذا وافقه الأصول المعتبرة على تقدير عدم كون الطريق المحتمل طريقا وأما إذا خالفه الاصول فالعمل بها.

فالاحتياط في المقام أقلّ كلفة وموردا من الإحتياط الكلي فيما إذا وافق الطريق المحتمل مع الاصول المعتبرة في نفي التكليف.

ومعلوم ان الدليل الدال على نفي الإحتياط في الأكثر لا دلالة له على نفيه في الأقل بإحدى الدلالات الثلاث.

ولكن بقي في المقام كلام وهو : انه لا بد للإحتياط في الإحتياط الكلي من احتمال التكليف والاحتمال لا بد له من منشأ لا مجرّد الإحتمال والإمكان العقلي ، فإذا تطابق في مورد من الموارد جميع ما يحتمل كونه طريقا والأصول على نفي التكليف فمن أين جاء احتمال التكليف حتى يجب الإحتياط على الإحتياط الكلّي دون الإحتياط في الطريق ، فعلى هذا لم ينفك الإحتياط في المقام عن الإحتياط الكلّي فينفيه كل ما ينفي الإحتياط الكلّي بل زعم بعض من لا تعمّق لنظره : ان الاحتياط اللازم في المقام أكثر من الإحتياط الكلي ؛ لأنه يضاف إلى الإحتياط في الفروع الإحتياط في الطرق وما درى أن الإحتياط في الطرق ليس فيه عمل وكلفة زائدة على ما في الفروع ، فإذا أفتى فقيه بوجوب غسل الجمعة مثلا واحتمل كون فتوى الفقيه من الطرق المنصوبة ، فمعنى الإحتياط في الطريق أن يعمل


أقول : فقد الدّليل على عدم وجوب الاحتياط في المقام ظاهر ؛ لأنّ شيئا من الوجوه الثّلاثة المقتضية بطلانه عند اشتباه الحكم الشّرعيّ الفرعي في صورة انسداد باب العلم في معظم المسائل الفقهيّة من الإجماع وقبح ما يوجب الاختلال ودليل نفي الحرج ، لا يقتضيه عند اشتباه الحكم الشّرعي الأصولي.

__________________

بمؤدّاه ويفعل الغسل يوم الجمعة لا أن هناك احتياطين ؛ احتياطا في الطريق وإحتياطا في المسألة الفرعيّة.

فأرعد هذا البعض وأبرق : بأن الدليل إذا دلّ على عدم الإحتياط اللازم في الفروع فكيف إذا إنضاف إليه الإحتياط في الطرق؟! وفساده ظهر ممّا نبّهناك عليه.

نعم الظاهر تصادقهما موردا وإن تباينا مفهوما.

وأرعد الخراساني وأبرق في مقابل هذا البعض : « بأن قضيّة هذا الإحتياط رفع اليد عن الإحتياط في المسألة الفرعيّة في موارد :

منها : ما كان خاليا عن أطراف العلم بالطريق رأسا ». [ درر الفوائد : ١٤٧ ].

وذهل عن أن الأصل في هذا المورد الخالي إن كان نافيا فلا احتياط فيه على التقديرين وإن كان مثبتا فما اقتضاه على التقديرين أيضا ؛ إذ ليس معنى الإحتياط في الطرق أن المورد الخالي عنهما خال عن التكليف ولو إقتضاه مقتض بلا مانع.

وذكر موارد أخر مثل هذا طيّها خير من نشرها.

ولعمري إنّ تعليقاتي على الفرائد فرائد فلا ترخص بيعها ولو بخزائن الفرائد ). إنتهى.

أنظر حاشية ملا رحمة الله على الفرائد : ١٣١.


أمّا الأوّل (١) فظاهر.

وأمّا الثّاني والثّالث (٢) ؛ فلأنّ الاحتياط في المقام يوجب التّوسعة على المكلّف لا الضيق عليه ؛ ضرورة أنّ أكثر الأمارات ينتفي (٣) التّكليف ولا يثبته.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ مقتضى الدّليل هو وجوب العمل بما يوجب الإلزام على المكلّف لا بالأعمّ منه وما ينفيه. لكنّه فاسد : من جهة أنّ المستدلّ لم يأخذه في عنوان مختاره ولم يعتبره شرطا فيه فتدبّر.

(٢٨٣) قوله قدس‌سره : ( وكذا لو كان مخالفا للاستصحاب المسقط للتّكليف ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٤٥ ) (٤)

أقول : العبارة محتملة لوجهين :

أحدهما : أنّه يحتاط في العمل بالاستصحابات المثبتة كما يكشف عنه قوله بعد ذلك : ( فالعمل مطلقا على الاحتياط ) (٥) نظرا إلى جريان ما لم يقم أمارة معتبرة في الواقع على خلافه فيحتاط في العمل بالحكم الظّاهري على ما عرفت من احتماله في بعض كلماته السّابقة في طيّ المقدّمات.

__________________

(١) أي : الإجماع.

(٢) أي : لزوم اختلال النظام والحرج.

(٣) كذا في النسخ والصحيح : ينفي.

(٤) أنظر هامش (١) من فرائد الاصول : ج ١ / ٤٤٦ ، لكن الذي فيه : المثبت للتكليف.

(٥) فرائد الأصول : ج ١ / ٤٤٦.


ثانيهما : جريان جميع الاستصحابات المثبتة ؛ نظرا إلى عدم المانع من جريانها أصلا ، لعدم لزوم المخالفة العمليّة القطعيّة من العمل بها أصلا لا من جهة الخطابات الواقعيّة ، ولا من جهة الخطابات الظّاهريّة والمخالفة الالتزاميّة.

بل يمكن أن يقال : إنّ العلم الإجمالي بجعل الأمارات لا يوجب الاحتياط في الحكم الظّاهري بالنّسبة إلى الأمارات النّافية للتّكليف فيما لم يكن في مقابلها أصل مقتض للتّكليف ، فضلا عمّا إذا كان. وقد عرفت كونه وجها في كلامه السّابق في طيّ المقدّمات.

والأخذ بالاستصحابات المثبتة على هذا الوجه وإن لم يكن بعنوان الاحتياط ويختلفان بحسب الآثار والأحكام ، إلاّ أنّه مثله في الحكم المقصود منه في المقام.

فالمراد من قوله : « فالعمل مطلقا على الاحتياط » (١) : هو رعاية جانب احتمال التّكليف ولو لم يكن بعنوان الاحتياط.

وما يتوهّم : من أنّ لازم انقلاب التّكليف إلى مؤدّيات الطّرق إلقاء الأصول المقتضية للاحتياط والإلزام في المسألة الفرعيّة فاسد ؛ لأن المراد منه ليس ما يرجع إلى التّصويب بل إلى ما ذكرنا في المراد منه سابقا فتأمّل.

ثمّ إنّه لا يخفى عليك : أنّه قدس‌سره لم يستوف الأصول النّافية ؛ فإنّها غير منحصرة

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٤٦.


في الاستصحابات النّافية ؛ ضرورة كون أصالة البراءة مغايرة للاستصحاب ؛ فكان الأولى تبديل الاستصحاب النّافي للتّكليف في كلامه بالأصل النّافي للتّكليف ، وإن أمكن توجيه ما أفاده : بأنّ الاستصحاب النّافي عنوان لمطلق الأصل النّافي.

(٢٨٤) قوله قدس‌سره : ( فالعمل مطلقا على الاحتياط ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٤٦ )

أقول : مراده من الاحتياط ـ كما هو صريح كلامه ـ أعمّ من الاحتياط في المسألة الفرعيّة والأصوليّة.

ودعوى : إلقاء الاحتياط على هذا القول في المسألة الفرعيّة رأسا ، قد عرفت ما فيها.

(٢٨٥) قوله قدس‌سره : ( إذ يصير حينئذ كالشّبهة المحصورة فتأمّل ). ( ج ١ / ٤٤٦ )

أقول : الوجه في أمره بالتّأمّل : هو منع لزوم الحرج من الجمع بين الاحتياطين ؛ إذ موارد مخالفة الاحتياط كثيرة ؛ لأنّ موارد تطابق الأصول النّافية والأمارات لا يحتاط فيها كما أنّه لا يحتاط فيها ، إذا لم يكن هناك أمارة أصلا. وإرجاعه إلى التّأمل فيما أفاده بقوله : « إذ يصير حينئذ كالشّبهة المحصورة » ضعيف جدّا كما هو ظاهر ؛ إذ لا وجه لمنع إلحاق الشّبهة في المقام الّتي من الشّبهة الكثيرة في الكثير باعتبار كثرة المعلومات الإجماليّة في المشتبهات الكثيرة بالشّبهة المحصورة الممنوعة من الرّجوع إلى الأصول فيها حكما إن لم نقل بإلحاقها بها موضوعا وكونها من مصاديقها ؛ من حيث إنّ المناط في الحصر


وعدمه ، قلّة الاحتمالات المتعارضة المتباينة وكثرتها ، لا مطلق القلّة والكثرة كما ستقف على شرح القول فيه في الجزء الثّاني من « الكتاب ».

(٢٨٦) قوله قدس‌سره : وخامسا : سلّمنا العلم الإجمالي ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٤٦ )

الجواب الخامس من أجوبة إستدلالات صاحب الفصول

أقول : الوجه فيما أفاده تسليما ـ من عدم إيجاب العلم الإجمالي بنصب الطّرق الكافية الموجودة فيما بأيدينا من الأمارات مع الإغماض عن وجوب الاحتياط تعيّن الرّجوع إلى مفاد الطّرق المجعولة بالمعنى المتوهّم للمستدلّ ـ ما أسمعناك سابقا ؛ من أنّ حصر الحكم الفعلي في مؤدّيات الطّرق إن كان من جهة دلالة نفس الطّرق عليه فهي ممنوعة جدّا ، ولم يتوهّمه متوهّم أيضا ، بل لا يعقل دلالتها عليه كما هو ظاهر.

وإن كان من جهة دلالة دليل اعتبارها ووجوب العمل بها عليه ؛ من حيث ظهورها في الوجوب التّعييني فهي أشدّ منعا ؛ ضرورة أنّه لا معنى لتعيين إيجاب العمل بالطّرق إلى الواقع في مقام التمكّن من تحصيل نفس الواقع.

نعم ، يمكن تعلّق الوجوب التّعييني بالعمل بالطّرق في موضوع الجهل ما دام موجودا كما يتعلّق الخطاب التّعييني بالتّمام ما دام المكلّف حاضرا ، فيجوز له رفع الموضوع الموجب لرفع الحكم المتعيّن.


وإن كان من جهة دلالة العقل عليه ؛ من حيث إنّه يحكم بقبح المؤاخذة على مخالفة الواقع الّتي أدّى إليها سلوك الطّرق المجعولة ، فالواقع الّذي أدّى الطّريق إلى خلافه لا يؤاخذ على مخالفته ، وهذا معنى كون الحكم الفعلي تابعا لمؤدّى الطّريق.

ففيه : أنّ المعذوريّة بالمعنى المذكور لا يقتضي إلاّ ترخيص سلوك الطّرق المجعولة عند العقل وإن كانت مخالفة للواقع في نفس الأمر ، لا عدم جواز تحصيل الواقع عند العقل وعدم القناعة به في رفع المؤاخذة هذا.

فإن شئت قلت : إنّ لازم العلم الإجمالي بالخطابات الواقعيّة والأحكام الشّرعيّة الإلزاميّة في حكم العقل تنجّزها عنده ، غاية ما هناك كون سلوك الطّريق المجعول علما أو ظنّا عند العجز عن تحصيل العلم بالواقع والطّريق موجبا لمعذوريّة المكلّف عند العقل عند المخالفة ، كما أنّ العمل بالواقع علما أو ظنّا عند تماميّة مقدّمات الانسداد موجب للأمن من العقاب عند العقل ، فغاية ما يتصوّر للظّن بالطّريق كونه في مرتبة الظّن بالواقع بناء على تقرير الحكومة. فكيف يحكم بتقدّمه عليه؟

ولا فرق فيما ذكرنا بين كون الطّريق المجعول ، مجعولا مطلقا ؛ حتّى عند التّمكّن من تحصيل العلم التّفصيلي بالواقع ـ فيسمّى عندهم بالظّن الخاصّ المطلق ، فيجوز للمكلّف عند العقل الأخذ بمؤدّى الطّريق والقناعة به عن الواقع ما لم ينكشف الخطأ وإن جاز معه تحصيل الواقع علما أيضا ، كما أنّه يجوز له من أوّل الأمر تحصيل العلم بالواقع. فيرتفع موضوع الطّريق المجعول في حقّ الجاهل


بالواقع ، فليس جواز الأمرين في حقّه من التّخيير الشّرعي الاصطلاحي ، وإن هو إلا نظير القول بجواز اختيار السّفر للحاضر الموجب لرفع موضوع التّمام.

وهذا الّذي ذكرنا مراده قدس‌سره من التّخيير في قوله : « مثلا إذا فرضنا حجيّة الخبر مع الانفتاح تخيّر المكلّف ... إلى آخره » (١) لا ما يتوهّمه من لا خبرة له ـ وبين كونه مجعولا عند العجز عن تحصيل الواقع فيسمّى بالظّن الخاصّ المقيّد.

فإنّ تقديم سلوكه على الظّن بالواقع إنّما هو مع التّمكّن من تحصيل العلم به ؛ من حيث إنّه موجب للقطع بمعذوريّة المكلّف في مخالفة الواقع وسقوطه عنه في مرحلة الظّاهر. والظّن بالواقع لا يوجبه مع التّمكّن من تحصيل الطّريق المذكور علما وإن أوجبه مع العجز عنه في حكم العقل كالظّن بالطّريق بناء على الحكومة.

ثمّ إنّه كما يتعيّن سلوك الطّريق المجعول بقسميه مع التمكّن من تحصيل العلم به ، أو تحصيله من الطّرق الشّرعيّة المعتبرة بالخصوص في مقابل الظّن المطلق بالواقع ، كذلك يتعيّن سلوكه في مقابل الاحتياط الكلّي بالنّسبة إلى الواقع. أمّا على القول بتقديم الامتثال التّفصيلي المعتبر على الامتثال الإجمالي العلميّ على ما عرفت الكلام فيه في محلّه فواضح.

وأمّا على القول بجواز الامتثال الإجمالي مع التمكّن من الامتثال التّفصيلي فلإيجابه الاختلال الّذي يحكم العقل بقبح تجويز ما يوجبه والاحتياط الكلّي في

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٤٦.


الأحكام الشّرعيّة مع فرض انسداد باب العلم في أغلبها يوجب ذلك قطعا على ما عرفت الكلام فيه في طي المقدّمات.

ومنه يظهر : أنّ ما ذكرنا في طي التّعليقة وذكره شيخنا قدس‌سره في مطاوي كلماته من كون الامتثال العلمي الإجمالي ممّا يحكم العقل والنّقل بحسنه ورجحانه وجوازه حتّى مع التّمكن من الامتثال العلمي التّفصيلي فضلا عن التّمكّن من الامتثال الظّني التّفصيلي بالظّن الخاصّ فضلا عن الظّن المطلق ؛ فإنّما هو بالنّظر إلى القضيّة الطبيعيّة وملاحظته في نفسه والأخذ به في الجملة ، لا في جميع الأحكام ؛ فإنّه قبيح في حكم العقل من حيث استلزامه للقبح.

فما ذكرنا مرارا وقرع سمعك : من صحّة عمل المحتاط التّارك لطريقي الاجتهاد والتّقليد إنّما هو فيما إذا بنى على الاحتياط في بعض الأحكام المثبتة لا في جميعها.

نعم ، لو لم يبلغ الحرج اللاّزم من الاحتياط في جميع أحكام المشتبه حدّا يخلّ بنظام المعاش والمعاد لم يمنع تعسّره من جوازه ورجحانه ، وإن منع من إيجابه ؛ لأنّ رفع ما يوجب العسر الغير البالغ حدّ الاختلال إنّما هو بحكم الشّرع فقط ـ على ما عرفت مرارا ـ في قبال من تخيّل كون رفعه عقليّا أيضا.

والدّليل الشّرعي القائم عليه لا يدلّ إلاّ على أنّ الشّارع لم يوجب الأمر الحرجي على العباد ، ومن هنا حكمنا بصحّة الوضوء والغسل والصّوم ونحوها مع الحرج الّذي لا يحتمل عادة ، وحكمنا بفسادها مع لزوم الضّرر من فعلها على المكلّف.


ومنه يظهر : أنّه لا يمنع تعسّره من إيجابه تخييرا أيضا. فلا يقال : إنّه كيف يقصد الوضوء للصّلاة الواجبة فيما كان عسرا؟ مع أنّ الأمر الإيجابي يقتضي إيجاب مقدّماته ؛ فإنّا نلتزم في موارد تعسّر الطّهارة المائيّة بالتّخيير بينها والطّهارة التّرابية فالمقدّمة حقيقة كلّ منهما تخييرا لا تعيينا ، فلا ينافي إيجاب الصّلاة تعيينا عدم إيجاب الطّهارة المائيّة تعيينا فتأمّل (١).

وممّا ذكرنا كلّه يظهر لك : المراد من قول شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره في « الكتاب » : ( وكذا مع العلم الإجمالي ... إلى آخره ) (٢). وإن كانت العبارة لا تخلو عن شيء بحسب العطف مع وضوح المراد منه.

__________________

(١) الوجه فيه : ان الواجب في موارد تعسّر الوضوء والغسل ، هو التيمم ليس إلاّ ، لا انه يجوز فعلهما من جهة رجحانهما ، ويحصل به رفع الحدث فيسقط الأمر بالتيمم من جهة إرتفاع موضوعه ، فليس الوضوء مثلا واجبا تخييرا في الفرض ، ولا مستحبّا شرعيّا إصطلاحيّا ، وإن كان مؤثرا في رفع الحدث فهو نظير الوضوء بعد الوقت للغايات المستحبّة فافهم. منه دام ظلّه العالي.

(٢) فرائد الاصول ج ١ / ٤٤٧. انظر هامش / ١.


(٢٨٧) قوله قدس‌سره : ( وكأنّ المستدلّ توهّم (١) : أنّ مجرد نصب الطّريق ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٤٧ )

أقول : لا يخفى عليك : ما في التّعبير المذكور ؛ فإنّ كلام المستدلّ صريح في أنّ نصب الطّريق ولو عرض فيه الاشتباه ، موجب لصرف التّكليف الفعلي إلى مؤدّاه ولا يحتمل غير ذلك. وقد بنى عليه الأمر يقينا وهو من مقدّمات مطلبه جزما فلا يحسن التّعبير بـ « كأنّ » ، وإن أوضحنا وأوضح قدس‌سره فساده بما لا مزيد عليه ، وأنّه

__________________

(١) قال صاحب الوقاية :

( إن هذا الذي سمّاه توهّما قد جزم به في رسالة البراءة وتخلّص به عن الدليل العقلي المستدلّ به على وجوب الإحتياط في الشبهة التحريميّة ودونك كلامه بنصّه :

« والجواب أوّلا : منع تعلّق تكليف غير القادر على تحصيل العلم إلاّ بما أدّى إليه الطرق غير العلميّة المنصوبة له ـ [ وقد سمعت منه منع نصب الطريق ] ـ فهو مكلّف بالواقع بحسب تأدية هذه الطرق لا بالواقع من حيث هو ولا مؤدّى هذه الطرق من حيث هو حتى يلزم التصويب أو ما يشبهه ؛ لأن ما ذكرناه هو المتحصّل من ثبوت الأحكام الواقعيّة للعالم وغيره وثبوت التكليف بالعمل بالطرق ». [ فرائد الأصول : ج ٢ / ٨٩ ]

وهذا مذهب صاحب الفصول بعينه وقد أحسن في بيانه وتشييد أركانه وقد برّأه عن هجنة التصويب وما يشبهه ، وجعله المتحصّل من ثبوت الأحكام الواقعيّة والعمل بالطرق العلميّة واحتمل هنا نظيره في مسألة عمل القاضي بالظنّ في الطريق.

وظاهر أن جميع ما يورد على صرف التكليف عن الواقع إلى مؤدّيات الطريق من التصويب وشبهه يرد عليه بعينه ). وقاية الأذهان : ٥٤١.


لا يلزم من نصب الطّرق الخاصّة إلى الأحكام الواقعيّة إلاّ جواز اكتفاء المكلّف بسلوكها عن تحصيل الواقع ، ومعذوريّة سالكها في حكم العقل على تقدير الخطأ لا رفع اليد عن الواقع الّذي نصب لأجله الأمارة بحيث لا يجوز تحصيله مع نصب الأمارة وانقلاب التّكليف الفعلي إلى مؤدّاها كما زعمه المستدلّ هذا.

مضافا إلى أنّ ما توهّمه ؛ إنّما يستقيم على تقدير الإغماض عمّا ذكرنا عليه فيما كان المجعول نوعا واحدا من الأمارات ، فيتوهّم انقلاب التّكليف الفعلي إلى مؤدّاه وعدم تعلّق إرادة الفعليّة من الشّارع بالواقع الّذي لم يقم عليه لا ما إذا كان أنواعا مختلفة متعدّدة.

ودعوى : كون المحصّل من مجموع الأدلّة القائمة على جعلها عدم إرادة ما لم يقم عليه واحد منها شطط من الكلام فتأمّل.

مضافا إلى أنّ لازم ما توهّمه لغويّة اعتبار الأصول والرّجوع إليها في مجاريها حتّى أصالة البراءة بل عدم اعتبار ما قام من الأمارات المظنون اعتبارها على غير الأحكام الإلزاميّة.

اللهمّ إلاّ أن يعتبر الشّأنيّة والفعليّة بالنّسبة إلى جميع الأحكام حتّى الإباحة وهو كما ترى بمكان من الضّعف والسّقوط. كما أنّ لازمه عدم اعتبار ما قام منها على الأحكام الوضعيّة إلاّ إذا يترتّب عليها أحكام تكليفيّة إلزاميّة.

مضافا إلى أنّ لازمه عدم اعتبار الظّنّ بالأحكام الفرعيّة الواقعيّة مطلقا حتّى


مع انسداد باب الظّنّ المطلق في الطّريق ، أو عدم كفاية ما ظنّ اعتباره ، مع أنّه التزم بحجيّة الظّن في الفروع على هذا التّقدير فيما عرفت من كلامه والملازمة كبطلان اللّوازم ظاهرة. اللهمّ إلاّ أن يتشبّث في التّعميم بالنّسبة إلى جميع ذلك بعدم القول بالفصل وهو كما ترى بمكان من الضعف.

والحاصل (١) : أنّ كلّ ما يزيد المنصف التّأمّل في هذا القول ولوازمه يزيد له

__________________

(١) قال أبو المجد والوقاية وحفيد المحقق صاحب الهداية الشيخ محمد رضا الإصفهاني قدس‌سره :

ومن العجب أنّ من لا أسمّيه من علماء العصر بلا علامة زعم : أن كلّ ما يزيد المنصف التأمّل في هذا القول ولوازمه يزيد له التعجّب ممن صار إليه مع كونهم من أفاضل الأعلام.

هذا مع اعترافه بأنه مشتبه المراد ولا أدري كيف جاز له المبادرة إلى الإيراد وهو باعترافه لم يعرف المراد!

ونحن نعرّفه وأصحابه بمراد العلاّمة الجدّ وشقيقه [ صاحب الفصول ] وعديله [ صاحب المقابس ] ( الثلاثة المتناسبة ) ونقول :

إن هؤلاء الأعلام لم يأتوا ببدع من القول ولا ببدعة في الدين ، بل جروا على سنّة أسلافهم الصالحين من حصر الحجّة في كتاب ربّهم وسنّة نبيّهم وآثار أئمّتهم وتجنّبوا مزالق الظن والتخمين ، ولمّا فشا في زمانهم الكلام على هذا الدليل البالغ حدّ الفساد المعروف بدليل الإنسداد وكاد أن يتّسع الخرق على الرّاقع ويقوم ما لا يغني عن الحق شيئا مقام الشارع فيفتح بهذا الإنسداد أبواب البدع والأهواء ويقول في الدين من شاء ما شاء ، ويتعلّق كلّ مبدع بأهدابه ، ويدخل ما ليس من الدين فيه من بابه قاموا في نصرة الحق أتمّ قيام


التعجّب ممّن صار إليه مع كونهم من أفاضل الأعلام.

__________________

وأوضحوا لشيعة أهل البيت عليهم‌السلام أن التمسك بمطلق الظن في معرفة الأحكام إنّما يتمّ على مذهب المخالفين المصوّبة الذين يجعلون حكم الله تابعا لآراء المجتهدين ، وما الكتاب والسنّة عندهم إلاّ كسائر موجبات الظنّ.

وأمّا الفرقة الناجية ـ أعلى الله كلمتها ـ الذاهبة إلى أنّ لله في كل واقعة حكما والطريق إليه منحصر في الحجّة الشرعيّة ، لا تكليف بغير مؤدّياتها ولا يحتجّ على العباد بغيرها كما مرّ مفصلا في كلام الفصول وغيره فلا شك أن الوظيفة لو فرض بعد انسداد باب العلم إلى معرفتها ، هي تعيينها بالظن ، والظنّ بها مقدّم على الظنّ بالواقع ، ومنزلتها منه منزلة الدليل من الأصل على ما بيّنّاه من الدرجات ـ أعلى الله درجاتهما ـ في كلامهما.

فلا يعوّل على الظن بالواقع إلاّ مع عدم التمكّن من الظنّ بها ، بل لا يبعد القول بتقديم الطريق الموهوم على الواقع المظنون ، والوجه فيه ظاهر للمتأمّل.

نعم بعد اليأس من الطريق يرجع إلى الظنّ به لو علم ببقاء التكليف ولا يعلم.

ومن الغريب اعتراض هذا العالم وغيره على صاحب « الفصول » من أن اللازم من مذهبه عدم الرجوع إلى الواقع مطلقا! وما ذلك إلاّ الغفلة عن هذا الشرط المصرّح به في كلامه ). إنتهى.

أنظر وقاية الأذهان : ٥٩٤ ـ ٥٩٦.

أقول : أوردت هذا البيان بأكمله فيهذا المقام ـ وإن كان الأنسب تأخيره حيث يفرغ من الايراد على الشقيقين ـ لكنّي رأيت مراعاة المناسبة بين ما أورده صاحب الوقاية من كلمات الميرزا الآشتياني وعتبه عليه أجمل ، فليعذرني على ذلك الناظر الكريم في هذه الصفحات والله العافي عن السيّئات والغافر للخطيئات والحمد لله رب العالمين.


(٢٨٨) قوله قدس‌سره : ( قلت : فرق بين ما نحن فيه وبين المثالين ... إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ٤٤٨ )

__________________

(١) قال المحقق الخراساني زيد في علوّ مقامه :

« قلت : مجمل الكلام في الذبّ عنه : ان الموارد الموهمة للرجوع إلى الظن في تعيين الطريق دون الواقع : إمّا يكون ذلك لأجل حجّيّة الظن في تعيين الطريق له بالخصوص فلا إنسداد معه.

وإمّا للمنع عن اتباع الظنّ في تعيين الواقع كالنّهي عن اتباع القياس مطلقا وعلى كل حال ولو في حال الإنسداد.

وإمّا لإنّ الطريق المعلومة بالإجمال ليست مجعولة على نحو الكاشفيّة ، بل على نحو السببيّة والموضوعيّة كالحكم بالحلف والنكول ونحوهما.

فلا جرم عند الإشتباه ولا بدّيّة التعيين ، كان الرجوع إلى الظنّ في تعيّنها لا تعيين الواقع ، فافهم ». درر الفوائد : ١٥٠.

وعلّق عليه الفاضل الكرماني ـ الذي هو تلميذ الآشتياني قدس‌سره ـ قائلا :

« أقول : الذبّ عن هذا :

إمّا بأنّ القياس باطل ؛ فإنه إذا كان مقتضى القاعدة المستنبطة من حكم العقل القطعي التسوية بين تحصيل الواقع والطريق المجعول بالظن فكلّما خرج فهو لأمر خارج اقتضى ذلك وهذا الذي نجيب عنه به.

وإمّا ببيان الفارق كما فعل المصنّف قدس‌سره وإن لم يتم إلاّ انه على طبق المناظرة.

وأمّا ما توهّمه الخراساني حصول الذبّ به من أن الموارد التي كان البناء فيها على الظن


أقول : الوجه في القيد الّذي اعتبره في التّعميم كنفس الفرق بين المثالين والمقام من الوجهين ممّا لا يكاد أن يخفى ؛ فإنّ حال المثالين بعد ملاحظة الوجهين المذكورين حال القياس وشبهه ، ممّا قام الدّليل القطعي على عدم اعتباره بالخصوص حتّى في زمان الانسداد وإن كان هناك فرق بين الوجهين من حيث

__________________

بالطريق لا الواقع ، إمّا أن يكون لأجل هذا أو لأجل هذا ، فبعيد عن حصول الذبّ به ، خارج عن قانون المناظرة.

إذ من الجليّ أن للخصم أن يذبّ عن نفسه هذا الذي توهمه ذابّا بأن أمر الموارد ليس لأجل ما ذكر ، بل لأجل أن جعل الطريق مطلقا أو في حال الإنسداد يوجب الصرف عن الواقع إلى مؤدّى الطريق ، فإن تعيّن فهو ، وإلاّ تعيّن بالظنّ كما في المثالين.

ودفعه : بادعاء انحصار أمرها في الأمور الثلاثة مما يضحك الثكلى.

وأيضا : له أن يدّعي الأمور المذكورة فيما يكون الكلام فيه فالدّعويان مشتركتان في أمر هو الخلوّ عن البرهان وإن افترقتا بثبوت الحكم في موضوع إحداهما والكلام في موضوع الأخرى.

وبالجملة : الذي أراه هو ما عليه المصنّف من التسوية بين الظنّين نرى بهما كالعينين ننظر من كلّ ونرى بكلّ وهما عينان نضّاختان نشرب من كلّ ونسقي بكلّ.

ولنعم ما قال الشاعر :

تسقيك من طرفها خمرا ومن يدها

خمرا فما لك عن سكرين من بدّ

لي سكرتان وللندمان واحدة

شيء خصصت من بينهم وحدي

نستغفر الله ونعوذ به ممّا يسخطه ونتقرّب إليه بما يحبّ ويرضى ». إنتهى.

حاشية رحمة الله على الفرائد : ١٣٣.


خروج ظنّ العامي في الأحكام.

والقاضي في الموضوعات بالنّظر إلى الوجه الأوّل وهو كثرة مخالفتهما عن موضوع حكم العقل ؛ حيث أنّ حكمه بحجيّة الظّن سواء تعلّق بالواقع ، أو بالطّريق إنّما هو من حيث غلبة مطابقته للواقع وكشفه عنه.

فالعنوان في حكم العقل والموضوع الأوّلي فيه هي غلبة المطابقة لا الظّن من حيث إنّه ظن ، ولذا لا يجوز العمل بما يكون غالب المخالفة من الظّنون في تعيين الطّريق كالقياس وشبهه باعتراف الخصم وعدم خروجها عنه في النّظر الأوّل على الوجه الثّاني ؛ حيث إنّ الإجماع على عدم حجيّة الظّن لا على كثرة مخالفته ؛ فإنّه ممّا لا يقبل قيام الإجماع عليه ، وإن لم يكن بدّ عن الالتزام بخروجهما عن الموضوع بجعل الإجماع على عدم الحجيّة كاشفا عنه على سبيل الإجماع ، كما يلتزم به فيما قام ممّا نهى عنه بالخصوص من جهة الإجماع وغيره على تشخيص الطّريق أيضا.

فعلى ما ذكر يحكم بجواز عمل العامي مثلا بالظّن في الحكم الفرعي إذا حصل من الأمارات المضبوطة كالأمارات الّتي يعمل بها في تشخيص المرجع كما يحكم بجواز عمله بالظّن في تشخيص المجتهد بالنّظر إلى الوجه الأوّل وإن منع منه بالنّظر إلى الوجه الثّاني.

فكما أنّ العامي الّذي يقدر على إعمال الظّنون الخاصّة في زمان الحضور يتخيّر بينه وبين التّقليد ، كذلك يتخيّر بين إعمال الظّن في تشخيص الحكم


والمرجع في زمان الانسداد إذا فرض حصوله من نوع واحد ممّا كان منضبطا من غير فرق بينهما.

وإلى الفرق بين مقتضى الوجهين أشار بأمره بالتّأمل بعد إبداء الفرق في ظنّ القاضي بين ما يعمل به لتشخيص ميزان القضاء وفصل الخصومة الرّاجع إلى الظّن بالحكم الظّاهري الشّرعي وما يعمل به لتشخيص الحقّ بين قولي المتخاصمين في الموضوعات الخارجيّة والوقائع الشّخصيّة دون ما يعمل به لتشخيص الحقّ في الوقائع الكلّيّة إذا كان التّرافع في الشّبهات الحكميّة ؛ فإنّ الظّن به يرجع إلى الظّن بالحكم الفرعي الواقعي أو الظّاهري الّذي لا مناص من القول بحجيّته في كلا القسمين على ما عرفت تحقيقه هذا.

كما أنّه يحكم بتعيّن إعماله الظّن في تشخيص الحكم الفرعي إذا حصل من أمارات مضبوطة مع قدرته على الفحص عمّا يعارضها مع عجزه عن إعمال مثلها في تعيين المرجع. ألا ترى أنّهم حكموا بوجوب عمل العامي بالشّهرة في الأحكام الشّرعيّة إذا عجز عن تحصيل رأي المجتهد فيها؟ وليس هذا إلاّ من جهة ما ذكرنا من عدم إلغاء الظّن بالحكم الفرعي في حقّه رأسا واعتباره في حقّه في الجملة وإن كان المختار عندنا في هذه المسألة وجوب رجوعه إلى قول الأموات من المجتهدين في المسألة الّتي لا يجد فيها رأي الأحياء ، أو الأخذ بالاحتياط إذا لم يكن عسرا حسبما فصّلنا القول فيه في باب التّقليد ، خلافا لما اختاره شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره.


وممّا ذكرنا كلّه يظهر لك : المراد من قول شيخنا قدس‌سره : « لم يجب عليه العمل بالظّن في تعيين المجتهد بل وجب عليه العمل بظنّه في تعيين الحكم الواقعي » (١) فإنّ الوجوب المنفي في كلامه هو الوجوب التّعييني ، كما أنّ المثبت هو الوجوب التّخييري ؛ لأنّ إرادة غير ما ذكرنا لا يجامع المفروض في كلامه.

نعم ، لو كان المفروض قبل هذا القول قدرة العامي على إعمال الأمارات المضبوطة في الأحكام وعجزه عن إعمالها في تعيين المرجع تعيّن حمل الوجوب المثبت على التّعيين ، والمنفي على أصل الوجوب مع عدم الجواز كما هو ظاهر فافهم.

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٤٩.


(٢٨٩) قوله قدس‌سره : ( هذا مع إمكان أن يقال : إنّ مسألة عمل القاضي بالظّن ... إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ٤٤٩ )

الحق جواز عمل القاضي بعلمه

أقول : لا يخفى عليك : أنّ ما أفاده قدس‌سره مجرّد إبداء احتمال ، ولذا عبّر بالإمكان ، وقد حكي عن بعض القدماء المصير إليه في باب القضاء ، ولأجله منع من قضاء القاضي بعلمه وإن جوّز عمله به ، وإلاّ فالّذي يقتضيه الأدلّة واختاره شيخنا قدس‌سره في باب « القضاء » وأكثر الفقهاء ، بل ادّعي عليه الإجماع لزوم قضائه بعلمه بل لا يعقل منعه بعد كونه مأمورا بالقضاء بالحقّ والقسط (٢). وتنزيل الأدلّة على خصوص القضاء في الشّبهات الحكميّة كما ترى.

ولا ينافي ذلك ما دلّ على حصر القضاء من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالبيّنة والأيمان مع كونه عالما بالواقع دائما كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » ، وكذا

__________________

(١) * قال الفاضل الكرماني قدس‌سره :

« لعلّه للإشارة إلى أن ذلك ليس لأجل عجز القاضي عن الإجتهاد في الوقائع الشخصيّة ، بل بإعتبار قصور دليل الإنسداد عن إثبات اعتبار الظن في الموضوعات الخارجيّة ». الفرائد المحشّي : ١٣٣.

* وأنظر حاشية الفرائد تقرير بحث السيّد اليزدي قدس‌سره : ج ١ / ٦٠٧.

(٢) كتاب القضاء للميرزا الآشتياني : ج ١ / ١٦٧.


غيره ممّا دلّ على الحصر بقول مطلق ؛ فإنّ المراد من الأوّل قضاء النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحقّ الواقعي على طبق البيّنة واليمين. كيف! وجعل الحكم الظّاهري في حقّه غير معقول. ومن الثّاني الحصر بالإضافة إلى غيرهما من الأمارات هذا.

وإن أردت شرح القول في ذلك فراجع إلى ما علّقناه في « الكتاب » في مسألة البحث عن « العلم » (١) فإنّا قد استوفينا الكلام فيما يتعلّق بالمقام نقضا وإبراما ، وإلى ما كتبناه في باب « القضاء » من الفقه (٢) ؛ وقد ذكرنا هناك ما يدلّك على أنّ شرع القضاء بالموازين المقرّرة ليس على السّببيّة المحضة ؛ بحيث لم يلاحظ الطّريقيّة فيها أصلا ورأسا ، بل على الطّريقيّة والكشف النّوعي (٣) حتّى في مسألة القرعة كما يظهر من أخبارها.

مع أنّ عدم ملاحظة الكشف لا يلازم إعراض الشّارع عن الواقع رأسا بحيث لو علم بخطأ البيّنة بالنّسبة إلى الواقع حكم بكونها حجّة ، غاية ما هناك كون اعتبارها من باب التعبّد الصّرف كاعتبار الأصول في مجاريها مثل الاستصحاب ، ولا يلزم من اعتبارها على هذا الوجه إعراض الشّارع عن الواقع في مواردها بحيث يقيّد الواقع بها حتّى يشبه التّصويب الّذي اتّفقت كلمة العامّة على بطلانه في الموضوعات.

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ١ / ٥.

(٢) كتاب القضاء : ج ١ / ١٦٠ ـ ١٦٨.

(٣) نفس المصدر في مواضع ومنها : ج ٢ / ٩٧٩.


اللهمّ إلاّ أن يكون مراده قدس‌سره من الإعراض عدم ملاحظة الطّريقيّة في جعلها لا رفع اليد عن الواقع رأسا في مواردها ، فيرجع إلى ما ذكرنا من احتمال التعبّد في جعلها ويترتّب عليه ما أفاده : من عدم التّسوية بين إعمال الأمارة في تشخيص الطّريق وإعمالها في تشخيص الواقع على هذا التّقدير أيضا. كما يترتّب على ما يقتضيه ظاهر العبارة في النّظر الأوّل وإن كان بينهما فرق في الوضوح والخفاء من حيث التّرتّب المذكور واللاّزم المنظور.

ومنه يظهر : أنّه يمكن الفرق بين المقام وعمل العامي بالتّقليد أيضا ؛ من حيث احتمال التّعبّد في حقّه ، وهذا الوجه وإن كان فاسدا في « التّقليد » بل في باب « القضاء » إلاّ أنّ احتماله يكفي مانعا عن قياس المقام به ولا بدّ من تنزيل عبارة « الكتاب » على هذا الوجه وإن استلزم خلاف الظّاهر في بعض ألفاظها. وببالي أنّه قدس‌سره يفسّر العبارة في مجلس البحث بذلك ؛ فإنّ الوجه الأوّل ممّا لا يمكن الالتزام بلوازمه الفاسدة.

نعم ، ترتيب ما أفاده قدس‌سره على الوجه الثّاني من عدم التّسوية بين الظّنين يحتاج إلى مزيد تأمّل ؛ فإنّه يمكن أن يقال : إنّ عدم ملاحظة الشّارع الطّريقيّة في جعل الأمارات إذا لم يوجب الإعراض عن الواقع كما هو المفروض ، فأيّ مانع من الحكم بحجيّة الظّن في تشخيص الواقع كالظّنّ في تشخيص الطّريق الّذي فرض انسداد باب العلم به كالواقع؟ وأيّ مزيّة للثّاني على الأوّل؟

غاية ما هناك ملاحظة الشّارع وجود مصلحة في أمره بسلوك الطّريق


يتدارك به المصلحة الفائتة عند مخالفتها للواقع وهذا المقدار لا يوجب رفع اليد عن الواقع رأسا وإلاّ لزم الإعراض بالمعنى الأوّل الباطل كما هو المفروض ، فالإعراض بهذا المعنى لا يلازم نفي التّسوية بين الظّنين فافهم.

(٢٩٠) قوله قدس‌سره : ( بخلاف الطّرق المنصوبة للمجتهد على الأحكام ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٤٩ )

مجرد أغلبيّة الظنون الخاصّة لا يوجب جعلها مطلقا حتى في زمان الانفتاح

أقول : جعل الوجه في تخصيص الطّرق المنصوبة بالخصوص من بين الأمارات ما أفاده قدس‌سره فيما لو قيل باختصاص اعتبارها بزمان العجز عن تحصيل العلم في مواردها فيصير من الظّنون الخاصّة المقيّدة بزمان الانسداد ممّا لا غبار فيه ولا شبهة تعتريه.

وأمّا على القول بعموم اعتبارها لزمان الانفتاح والتّمكّن من تحصيل العلم في موردها بالرّجوع إلى المعصوم عليه‌السلام فيكون من الظّنون الخاصّة المطلقة كما هو الشّأن فيما بأيدينا من الظّنون الخاصّة.

فقد يناقش فيه : بأنّ مجرّد أغلبيّة الظّنون الخاصّة بالنّسبة إلى سائر الأمارات الملقاة عند الشّارع لا يوجب جعلها مع التّمكن من تحصيل العلم


بالواقع ؛ فإنّه يلزم منه فوت الواقع أحيانا مع التّمكن من تحصيله وهو قبيح على ما اعترف به شيخنا قدس‌سره أيضا فيما تقدّم من كلامه في ردّ ابن قبة قدس‌سره فلا بدّ من أن يلتزم مضافا إلى الأغلبيّة بوجود مصلحة في أمر الشّارع بسلوكها يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع من العمل بها هذا.

ويمكن دفع المناقشة المذكورة : بأنّ المصحّح لجعلها مع التّمكّن من تحصيل العلم وإن كان ما ذكر من وجود ما يتدارك به مصلحة الواقع الفائتة من سلوكها ، إلاّ أنّ شيخنا قدس‌سره لمّا اكتفى من المصلحة اللاّزمة بمجرّد تسهيل الأمر على المكلّفين حسبما عرفت منه فيما ساقه في ردّ « ابن قبة » وكان موجودا بالنّسبة إلى جميع الأمارات المعتبرة وغيرها من غير فرق بينهما فلا محالة يكون المرجّح غير المصلحة المذكورة.

ومن هنا جعل الوجه في ترجيحها من بين سائر الأمارات الأغلبيّة المذكورة وإن كانت المصلحة المذكورة ملحوظة في جعلها ، بل غير منفكّة عنها كما لا يخفى.

وإن شئت قلت : إن كلامه قدس‌سره في مقام إثبات ملاحظة الطّريقيّة في جعل الأمارات ، لا في مقام حصر عنوان الجعل فيها فلا ينافي ملاحظة الموضوعيّة والمصلحة فافهم.


(٢٩١) قوله قدس‌سره : ( نعم ، قد اتفق في الخارج أنّ الأمور التي ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٥١ )

أقول : عدم تعلّق السّؤال المذكور بكلام المستدل القائل بتخصيص اعتبار الظّن بالطّريق بمكان لا يرتاب فيه أحد ؛ فإنّه بعد مصيره إلى انقلاب التّكليف إلى مؤدّيات الطّرق الشّرعيّة وكونها المكلّف بها فعلا فأيّ مدخليّة للظّن بالواقع عنده حتّى يعتبره مرجّحا للأمارات الّتي ظنّ اعتبارها على ما لا يظن اعتباره من الأمارات القائمة على نفس الواقع؟

وأمّا الاستدراك المذكور في كلام شيخنا قدس‌سره فلو لا إلحاق كلمة شخصا أو نوعا ، لتوجّه عليه المنع ممّا ذكره بجملة ممّا ظنّ اعتباره بناء على ظهور الظّنّ في الظّن الشّخصيّ. مع أنّه بناء على التّعميم أيضا يمكن منعه ؛ بأنّ اعتبار الاستصحاب ونحوه من الأصول عنده من جهة الظّن باعتباره ، مع أنّه غير مفيد للظّن شخصا ونوعا. اللهمّ إلاّ أن يكون مراده من الأمور خصوص الأمارات فتأمّل.

مضافا إلى أن التّعميم المذكور لا يلائم ما ذكره في الجواب الثّاني عن السّؤال ؛ فإنّ نتيجة مقدّمات الانسداد سواء على الإطلاق أو الإهمال ـ كما ستقف على شرح القول فيها ـ هي حجيّة الظّن الشّخصي لا الأعمّ منه ومن النّوعي.

(٢٩٢) قوله قدس‌سره : ( وثانيا : إنّ هذا يرجع إلى ترجيح بعض الأمارات ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٥٢ )

أقول : رجوع ما ذكر في السّؤال : من لزوم الأخذ بالجامع بين الامتثالين


الظّنيين في حكم العقل دون أحدهما فقط ، وما يظنّ اعتباره جامع بينهما من بين الأمارات دون ما لم يظنّ إلى القول بحجيّة الظّن في المسألة الفرعيّة على الإهمال والرّجوع في تعيينها إلى الظّن بالاعتبار ؛ من حيث كونه موجبا للظّن بتدارك الواقع على تقدير خطأ الأمارة ، أو لأقربيّة إدراك الواقع وبدله كما ستقف على شرح القول فيه فيما تعلّق على الأمر الثّاني ممّا لا يكاد أن يخفى.

فلا تعلّق لهذا السّؤال بكلام المستدلّ أصلا ؛ إذ مبناه كما عرفت : على كون مدار تكليف العباد مؤدّى الأمارة الشّرعيّة والطّرق المعتبرة وإن خالف الواقع ، لا الواقع من حيث هو ؛ فإنّه غير مكلّف به فعلا ، فلا معنى لملاحظة الظّن المتعلّق به ولا الواقع ومؤدى الطّريق معا بحيث يكون مدار التّكليف على مؤدّى الطّريق المطابق للواقع حتّى يعتبر الظّن بهما معا ؛ ضرورة استحالة اعتبار هذا العنوان التّقييد كما هو واضح.

وبالجملة : لا ريب في كون السّؤال المذكور أجنبيّا عن كلام القائل باختصاص نتيجة المقدّمات بالظّن في المسألة الأصوليّة ؛ نظرا إلى ما عرفت من كلامه وجه فساده وما ستعرفه.


(٢٩٣) قوله قدس‌سره : ( ثمّ إذا فرضنا ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٥٢ )

مجرّد ملاحظة المصلحة في الأمر بسلوك الأمارة لا يوجب رفع اليد عن الواقع

أقول : قد عرفت شرح القول في ذلك وأنّ مجرّد ملاحظة الشّارع المصلحة في أمره بسلوكه الأمارة الكاشفة عن الواقع مضافا إلى كشفها لا يقتضي رفع اليد عن الواقع ، بل غاية ما يلازمه تدارك ما فاتت من مصلحة الواقع من جهة سلوكها. وأين هذا من إعراض الشّارع عن الواقع رأسا؟

بل قد أسمعناك في طيّ الكلام في أقسام جعل الطّريق : أنّ هذا المقدار لا يلازم الإجزاء والقناعة عن امتثال الواقع بامتثال الطّريق فيما لو انكشف خطأ الطّريق في أثناء الوقت ، بل بعد خروج الوقت أيضا في وجه عرفته هناك.

بل أسمعناك عن قريب : أنّه على تقدير القول بكون جعل الأمارات كالأصول من باب التّعبّد ؛ بحيث لم يلاحظ في جعلها كشفها عن الواقع ، وإن كانت كاشفة لا يلازم إلقاء الواقع ، أو رفع اليد عنه ؛ حتّى يترتّب عليه عند انسداد باب العلم بالطّريق والواقع تعيين إعمال الظّن بالطّريق.

كيف! ورفع اليد عن الواقع واقعا مع وجود العلم الإجمالي به ، لا معنى له وإن كان معقولا بإرادة رفع فعليّة الخطاب عند قيام الطّريق المجعول عليه ما لم


ينكشف الخطأ بالبناء على كون مؤدّاه هو الواقع ما دامت الأمارة قائمة ؛ بمعنى القناعة عن امتثال الواقع ظاهرا بامتثال الطّريق ؛ من حيث البناء على كون مؤدّاها هو الواقع ما دامت قائمة ، فيجوز مع قيامه امتثال نفس الواقع بتحصيل العلم به أو الاحتياط في تحصيله.

كيف لا يكون كذلك؟ مع أنّ الاكتفاء بسلوك الطّريق إنما هو من حيث البناء على كون مؤدّاه الواقع لا رفعه واقعا وفي نفس الأمر ، ولو بتقييده بحسب وجوده الواقعي بقيام الأمارة على ما يقتضيه ظاهر عبارة بعضهم الّذي هو نوع من التّصويب حقيقة.

بل يمكن الالتزام بفساده مع القول بالتّصويب أيضا ، فإن القائل به إنما يجعل الواقع نفس ما اقتضته الأمارة لا أن يجعل الأمارة قيدا للواقع واقعا ، كيف! والأمارة ليست في مرتبة الواقع حتّى يصحّ جعلها قيدا له.

ومنه يظهر : فساد ما حكاه شيخنا قدس‌سره عن المحقّق المحشّي رحمه‌الله بقوله : ( وبذلك ظهر ما في قول بعضهم إنّ التّسوية بين الظنّ بالواقع والظّن بالطّريق ... إلى آخره ) (١).

إذ كما لا يمكن أن يكون التّكليف بالطّريق في عرض التّكليف بالواقع كالتّكليفين الواقعيّين كالتكليف بالصّلاة والصّوم مثلا وإن كان مغايرا له كذلك ، لا

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٤٥٣.


يمكن أن يكون قيدا له ؛ حيث أنّه ليس في مرتبته بل هو عين التّكليف بالواقع بالجعل والبناء ، وإن كان غيره واقعا بمعنى آخر. ومن هنا يترتّب جميع آثار الواقع على مؤدّى الأمارات ما دامت قائمة هذا.

والأولى : نقل كلام الشّيخ المحقّق المحشّي قدس‌سره فيما يتعلّق بالمقام بتمامه أوّلا ، ثمّ التّعرّض لشرح ما يخطر بخاطري من المناقشة فيه بعد بيان مراده حسبما يظهر بنظري القاصر ؛ لأنّ المقام حقيق بذلك.

كلام المحقّق صاحب الحاشية فيما يتعلّق بالظّنّ في الطريق

قال قدس‌سره في ذيل التّقرير الثّاني لدليل الانسداد ـ الّذي قرّره لإثبات حجيّة الظّن بالطّريق ـ ما هذا لفظه :

« ويمكن الإيراد في المقام : بأنّه كما انسدّ سبيل العلم بالطّريق المقرّر ، كذلك سبيل العلم بالأحكام المقرّرة في الشّريعة. وكما ينتقل من العلم بالطّريق المقرّر بعد انسداد سبيله إلى الظّن به ، فكذا ينتقل من العلم بالأحكام الشّرعيّة إلى ظنّها تنزّلا من العلم إلى الظّن في المقامين لكون العلم طريقا قطعيّا إلى الأمرين ، فبعد انسداد طريقه يؤخذ بالظّن بهما ، فغاية ما يستفاد إذن من الوجه المذكور كون الظّن بالطّريق حجّة أيضا كالظّن بالواقع ، ولا يأبى عنه القائل بحجيّة مطلق الظن فيثبت ذلك مقصوده من حجيّة مطلق الظّن ، وإن أضيف إليه شيء آخر.


ويدفعه : أنّ المطلوب لمّا كان أداء الواقع لكن من الطّريق الّذي قرّره الشّارع فإن حصل العلم بذلك الطّريق وأدّاه كذلك فلا كلام ، وكذا إن أدّاه على وجه يقطع معه بأداء الواقع ؛ فإنّ العلم طريق إليه قطعا ، وأمّا إذا انسدّ سبيل العلم بالأمرين تعيّن الأخذ بالظّن بالطّريق دون الظّن بالواقع لأداء التّكليف المتعلّق بالطّريق بذلك ، وأداء الواقع به على حسب الطريق.

وأما الأخذ بمطلق الظن بالواقع فليس فيه أداء التكليف المتعلق بالطريق لا علما ولا ظنّا ، وكون أداء الواقع على سبيل القطع أداء لما هو الواقع عن طريقه قطعا لا يستلزم أن يكون الظّن طريقا ظنيّا ؛ إذ قد لا يكون أصلا ، فليس في أدائه كذلك علم بأداء ما هو الواقع ولا بأدائه على الوجه المقرّر ، وإنّما هو ظنّ بأداء الواقع لا غير ، فلا يؤدّى به التّكليف المتعلّق بالطّريق مطلقا ويبقى الخروج عن عهدة التّكليف المتعلّق بالطّريق في محلّ الشّك ؛ إذ لا يعلم ولا يظنّ بأداء التّكليف المتعلّق بالطّريق فلا علم ولا ظنّ بأداء الفعل على الوجه الّذي قرّره الشّارع ولا يمكن معه الحكم بالبراءة.

فإن قلت : إنّه كما قام الظّن بالطّريق مقام العلم به من جهة الانسداد ، فأيّ مانع من قيام الظّن بالواقع مقام العلم بالواقع حينئذ؟ فإذا قام مقامه كان بمنزلة العلم بأداء الواقع ، كما أنّ الظّن بالطّريق بمنزلة العلم به ، فكما يحصل البراءة بالعلم مع انفتاح سبيله يحصل بالظّن أيضا مع انسداد سبيله.

قلت : لو كان أداء التّكليف المعلّق بكلّ من الفعل والطّريق المقرّر مستقلاّ ،


صحّ ذلك لقيام الظّن بكلّ من التّكليفين مقام العلم به مع قطع النّظر عن الآخر ، وأمّا إذا كان أحد التّكليفين منوطا بالآخر مقيّدا له فمجرّد حصول الظّن بأحدهما من دون حصول الظّن بالآخر الّذي قيّد به لا يقتضي الحكم بالبراءة (١) ... ». إلى آخر ما نقله عنه شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » (٢) (٣).

__________________

(١) هداية المسترشدين : ج ٣ / ٣٦١.

(٢) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٥٥.

(٣) ذكر الفاضل الشيخ محمد ابراهيم اليزدي ـ مقرّر بحث السيّد صاحب العروة في ضمن تعليقه على عبارة الشيخ الأعظم في الفرائد : ج ١ / ٤٥٩ قوله : « ومنشأ ما ذكره قدس‌سره تخيّل ان نفس سلوك الطريق الشرعي المجعول ... إلى آخره » عن استاذه المزبور السيد محمد كاظم اليزدي طاب ثراه أنّه حكى عن أستاذه الشيخ محمد باقر [ من قدماء تلامذة الشيخ الأعظم قدس‌سره وأخص تلامذته به وكان قد قرأ كتاب والده هداية المسترشدين على الشيخ الأعظم في المنزل ] ولد المحقق المذكور [ صاحب الحاشية الشيخ محمد تقي ] ـ :

أنه أخطأ المصنّف في فهم كلام المحقق [ صاحب الحاشية ] وقال : إن مراده انه يجب في حكم العقل أوّلا تحصيل العلم برضاء الشارع بما يعمله المكلّف من موافقة الواقع أو الطريق ، فلو إنسد باب العلم يجب في حكم العقل تحصيل الظن برضاء الشارع بما يعمله بأيّ وجه من أيّ طريق حصل ذلك الظن بالرضا ، وإنكار هذا المعنى مكابرة.

فمراده من الظن بالطريق هو الظن بما يرضى به الشارع فعلا من المكلّف واستشهد على استفادة هذا المعنى من كلامه بتعبيره بتفريغ الذمّة في حكم المكلّف وحكم الشارع مرارا متعددة فتدبر.


مراد المحقق المذكور

وظاهر أنّ مراده تقييد الحكم الواقعي والتّكليف النّفس الأمري بالطّرق المقرّرة المعتبرة شرعا من غير فرق بين العلم وغيره حسبما زعمه من كون العلم أيضا مجعولا شرعا وعقلا مع بقاء الإطلاق للتّكليف بالطّريق ، فالمكلف به من الواقع الّذي قام به الطّريق ومن الطّريق ما قضى بحكم سواء طابق التّكليف الواقعي أو خالف ، فلا يكون كلّ منهما مستقلاّ حتّى يحكم بحجيّة الظّن المتعلّق به

__________________

وهذا المعنى لا يرد عليه بشيء مما أورد عليه المصنّف رحمه‌الله.

ثم أورد السيدة عدة من الإشكالات على هذا البيان.

وكان قد أفاد السيّد اليزدي قبل ذلك ( فيما يخصّ عبارة الشيخ المذكورة آنفا ) :

[ أن ] هذا التخيّل بعيد عن ساحه جلالة هذا المحقّق النحرير ؛ لأن من الواضح أنه يجب تحصيل طريق إلى مطلق المجعولات الشرعيّة سواء كان ذلك المجعول حكما شرعيّا أو طريقا جعليّا فالعلم بالواقع والعلم بالطريق المجعول في عرض واحد ، كما أن نفس الحكم الواقعي والطريق المجعول أيضا في عرض واحد فكيف يشتبه هذا على مثل ذلك المحقّق؟!

ثم يستفاد من كلام المصنّف أن هذا التخيّل ينتج مقصود المحقّق لو كان حقّا ، وهو غير واضح ؛ إذ لو سلّمنا أن العمل بنفس الطريق كالعمل بالعلم بالواقع ملازم للقطع بالتفريغ لا نسلّم أنّ الظنّ بالطريق يلازم الظن بتفريغ الذمّة بعد كون هذا الظن مشكوك الحجّيّة فتدبّر.

أنظر حاشية الفرائد : ج ١ / ٦٠٩.


وإن انفك عن الظّن بالآخر ، بل التّكليف بالطّريق مستقلّ فيقوم الظّن به مع انسداد باب العلم به مقام العلم به ، والتّكليف بالواقع غير مستقلّ فلا يقوم الظّن به مقام العلم به.

ثمّ إنّه لمّا كان غير العلم من الطّرق الشّرعيّة لها واقعيّة ووجود نفس أمريّ ، فيمكن تعلّق كلّ من العلم والظّن به ، وأمّا العلم بالواقع فلمّا لم يكن له وجود واقعيّ بل تابع للوجدان وإن كان العالم قد يغفل عن علمه فلا يمكن تعلّق الظّن به ، فلا يقال : إنّه إذا أسلم طريقيّة العلم بالواقع فيمكن تعلّق الظّن به.

ما يرد على المحقق صاحب الحاشية

ويرد عليه :

أوّلا : أنّ مرجع ما أفاده قدس‌سره كما ترى ، إلى حصر تكليف المكلّفين قاطبة في الطرق ليس إلاّ ، فإنّه بعد اعتبار الإطلاق من جانب التّكليف بالطّريق والتّقييد من جانب التّكليف بالواقع لا محصّل له إلاّ ذلك ؛ إذ التّقييد من جانب الطّريق أيضا يوجب ارتفاع الجعل بالنّسبة إلى الطّريق كما هو ظاهر مضافا إلى صراحة كلامه بخلافه ولا أظنّ أحدا يلتزم بذلك حتّى المصوّبة.

وثانيا : أنّ تقييد الواقع بالطّريق ووجود المحكي عنه في نفس الأمر لقيام الحاكي عليه سواء كان علما أو ظنّا مستلزم للدور لا محالة كما هو واضح ، فلو كان


العلم معتبرا شرعا كالطّرق الظّنيّة والأمارات ، فلا بدّ أن يلتزم في مورده كمواردها بقضيّتين شرعيّتين :

إحداهما : واقعيّة ثابتة في نفس الأمر من غير أخذ أحد من الإدراكات فيها. والثّانية : ظاهريّة قد أخذ العلم بالواقع الأوّلي أو الظّن به في موضوعها ؛ حتّى لا يلزم هناك دور كما أسمعناك في البحث عن مسألة العلم.

وبالجملة : لا بدّ من أن يعتبر هناك متعلّق للعلم والظّن غير القضيّة التي أخذ أحدهما في موضوعها. ومن هنا ذكرنا في أوّل التّعليقة : أنّه يمكن أخذ العلم في القضيّة الشّرعيّة بالنّسبة إلى الموضوعات دون الأحكام ، إلاّ أن يكون هناك قضيّة اعتبر تعلّق العلم بها بالنّسبة إلى قضيّة أخرى.

فإن قلت : إنّ مراده من التكليف المقيّد بالطّريق هو التّكليف الفعلي الّذي هو مدار الإطاعة والمعصية ولوازمها من استحقاق الثّواب والعقاب وغيرهما على ما يفصح عنه كلماته قدس‌سره كما عرفت عن أخيه قدس‌سره في الوجه الأوّل فيعتبر تعلّق العلم أو الظّن بالحكم النّفس الأمري المطلق المعرّى عن جميع القيود والاعتبارات الإدراكيّة موضوعا للحكم الفعلي ، فيكون هنا قضيّتان ، فلا يلزم دور. فيندفع الإيراد الثّاني ، بل الأوّل عند التّأمل ؛ لأنّ الالتزام بانحصار التّكليف الفعلي بما قام به الطّريق المعتبر بقول مطلق من غير فرق بين العلم وغيره ممّا لا ضير فيه أصلا ، بل لا بدّ من الالتزام به ولا تعلّق لهذا بمسألة التّصويب ولا يقول المصوّبة به كيف! وهم ينكرون الأحكام الواقعيّة وثبوت القضيّتين بالمعنى الّذي عرفت.


قلت : ما ذكر في دفع الإيراد توهّم فاسد وتمحّل بارد ، وإن تكرّر في كلمات القائلين بحجيّة الظّن بالطّريق ، بل في كلام شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره فإنّ المجعول الشرعي إنّما هو الأحكام الواقعيّة والظّاهريّة ، وفعليّة الأحكام الواقعيّة وتنجّزها يتعلّق العلم بها ، أو الظّن المعتبر ، أو الشّك ، بل مجرّد الاحتمال ولو كان موهوما في مقام ليست من المجعولات الشّرعيّة ، بل إنّما هي من شؤونها ومراتبها بحكم العقل الحاكم في مسألة استحقاق العقاب ، فليس هنا قضيّتان شرعيّتان اعتبر العلم بإحداهما في موضوع الأخرى هذا.

وقد مضى شطر من الكلام في ذلك في أوائل التّعليقة ، مع أنّ كلام المحقّق المحشّي قدس‌سره يأبى عن الحمل على ذلك في المقام.

بقيّة الجواب الثاني عن دليل المحقّق المحشّي قدس‌سره

فإن قلت : إنّ المراد من التّكليف الآخر المقيّد هو التّكليف بوجوب الامتثال والإطاعة الّذي لا يمكن إنكار ثبوته في الشّرعيّات. كيف! وقد قضت به الأدلّة الثّلاثة وإن حكم به العقل أيضا.

قلت : ما دلّ من الأدلة الشّرعيّة على وجوب الامتثال بالوجوب الإرشادي إنّما هو إمضاء وتأكيد لما حكم به العقل المستقلّ وإلاّ فليس الامتثال وإطاعة المولى أمرا يقبل تعلّق التّكليف الشّرعي به فلو قيّد بشيء فلا بدّ أن يقيّده العقل.


وقد عرفت : أنّ العقل قد يحكم بوجوب الامتثال مع الشّك بل الاحتمال أيضا ، فليس هنا تكليف شرعيّ قيّد بالطّريق.

فإن شئت قلت : إنّ وجوب الامتثال غير مقيّد بشيء من الأشياء. نعم ، نفس الامتثال لا يتحقّق إلاّ بجعل الدّاعي على الفعل الأمر الشّرعي الواقعي سواء علم أو ظنّ أو احتمل من غير فرق بين هذه الحالات ، ومن غير فرق بين التّعبديّات والتوصّليات ، غاية ما هناك سقوط الأمر في التّوصليات بإتيان الواجب من دون أن يأتي بالدّاعي المذكور ولو مع الغفلة ، أو في ضمن الحرام ، ولكن الامتثال لا يتحقّق إلا بما ذكر.

فالأمر بالطّريق بما هو أمر به لا يقتضي امتثالا ولا إطاعة ؛ لأنّه غيري دائما وإنّما الاقتضاء للأمر الواقعي كما هو ظاهر هذا. وسيأتي مزيد بيان لذلك إن شاء الله تعالى.

فإن قلت : إذا لم يكن التّكليف بالعمل بالطّريق مقيّدا لشيء من التّكاليف والأحكام ، والمفروض أنّه ليس تكليفا مستقلاّ في قبال التّكليف بالواقع على ما ذكرت فما معناه وحقيقته؟

قلت : التّكليف بالعمل بالطّريق مرجعه إلى جعل حكم ظاهري في نفس الأمر في موضوعة الّذي اعتبر فيه الجهل بحكمه المجعول له أوّلا وبالذّات ، وإن كان إرشاديّا فهو من سنخ الحكم الواقعي ، وإن لم يكن في مرتبته ولا يترتّب عليه جميع ما يترتّب عليه من اللوازم والآثار.


نعم ، يلزم اكتفاء الشّارع به عن الواقع في حكم العقل بمعنى البناء عليه في حكمه ما دامت الأمارة قائمة ، ومعذوريّة المكلّف في مخالفة الواقع في حكمه ، ما لم ينكشف مخالفته للواقع فهو حكم واقعي بمعنى وظاهري بمعنى. ومرجعه إلى ترخيص الشّارع بسلوكه في امتثال الواقع ، وإن جاز مع وجوده امتثال نفس الواقع من غير التفات إليه هذا ، وقد مضى شطر من الكلام في ذلك وسيأتي تمامه فانتظر.

الجواب الثالث عن ذلك

وثالثا : أنّه لم يعلم المراد من كون العلم كالظّن المعتبر طريقا في الشّرع والعقل على ما هو المكرّر في كلامه وكلام أخيه قدس‌سره على ما في « الفصول ».

فإنّه إن أراد كشفه الذّاتي عن المعلوم ، فهو أمر ثابت له بحسب ذاته. كما أنّ الكشف الظّني للظّن أيضا ثابت له بحسب ذاته وإن لم يكن معتبرا من دون جعل من غير دخل للشّرع والعقل فيه أصلا. نعم ، لمّا كان هذا الأمر ثابتا فلا محالة يدركه الشّرع والعقل.

وإن أراد اعتباره كما هو الظّاهر من كلامه. ففيه ما عرفت مرارا : أنّ اعتبار العلم فيما كان الحكم ثابتا لذات المعلوم ككشفه ذاتي لا يمكن تعلّق الجعل به وإنّما يدركه الشّرع والعقل ككشفه الذّاتي ، وهذا بخلاف الظّنّ. ولو سلّم إمكانه فيصير كالظّن فيكون الحكم بوجوب العمل به غير الحكم المعلوم المجعول في نفس الأمر فيكون ثابتا وإن تخلّف عن الواقع ، كما أنّه ثابت وإن لم يتعلّق به العلم على ما عرفت سابقا.


(٢٩٤) قوله قدس‌سره : ( إنتهى بألفاظه ). ( ج ١ / ٤٥٥ )

نقل بقيّة كلام المحقّق المحشّي قدس‌سره

أقول : الأولى نقل باقي كلامه قدس‌سره ممّا يتعلّق بهذا الوجه لما يترتّب عليه من الفوائد المقصودة قال قدس‌سره ـ عقيب ما في « الكتاب » بلا فصل ـ :

فإن قلت : إن قام أوّلا طريق من الشّرع في الوصول إلى الحكم والحكم معه بتفريغ الذمّة عن التّكليف فلا كلام ، وإن لم يقم فالواجب أوّلا تحصيل العلم بالواقع ، فمع تعذّره ينوب منابه الظّن بالواقع. أو يقال : إن لم يقم طريق مقرّر من الشّرع للوصول إلى الواقع كان العلم هو الطّريق إلى الواقع وإن قام اكتفي بما جعله طريقا فإن لم يثبت عندنا ذلك أو ثبت وانسدّ سبيل العلم به ، كان المرجع هو العلم بالواقع ؛ إذ القدر المسلّم من التّكليف بالرّجوع إلى الطّريق إنّما هو مع العلم به وبعد انسداد سبيل العلم به يرجع إلى الظّن بالواقع حسب ما قرروه.

قلت : لا ترتيب بين تحصيل العلم بالواقع والعلم بالطّريق المقرّر من الشّرع ، وليس تعيّن الرّجوع إلى العلم مع عدم الطّريق المقرّر ، أو عدم العلم به قاضيا بترتّب العلم بالواقع عليه ، بل الجميع في مرتبة واحدة وإنّما تعيّن الرّجوع إلى العلم مع انتفاء الطّريق المقرّر أو عدم العلم به لانحصار العلم بالخروج عن عهدة التّكليف في ذلك ولذا يجوز الرّجوع إلى العلم مع وجود الطّريق المقرّر أيضا ويتخيّر المكلّف في الرّجوع إلى أيّهما شاء.


والحاصل : أنّ القدر اللاّزم أداء الفعل وحصول البراءة بحسب حكم الشّرع وهو حاصل بكلّ من الوجهين وتعيّن تحصيل العلم بالواقع مع فرض انتفاء العلم بالطّريق المقرّر ؛ إذ انتفاؤه واقعا ليس لكونه متعيّنا في نفسه ، بل لحصول البراءة به على النّحو الّذي ذكرناه. وفرق بين كون الشّيء مطلوبا بذاته وكون المطلوب حاصلا به ، فهو إذن أحد الوجهين في تفريغ الذّمة.

فإذا انسدّ باب العلم بتفريغ الذّمة على الوجه المفروض بكلّ من الوجهين المذكورين : بأن لم يحصل هناك طريق قطعيّ من الشّرع يحكم معه بتفريغ الذّمة وانسدّ سبيل العلم بالواقع القاضي بالقطع بتفريغ الذّمة ، رجع الأمر بعد القطع ببقاء التّكليف إلى الظّن بتفريغ الذّمّة في حكم الشّارع حسبما عرفت. وهو يحصل بقيام الأدلّة الظّنيّة على حجيّة الطّرق المخصوصة حسبما قام الدّليل عليها في محالّها من غير أن يكتفى في حجيّتها بمجرّد كونها مفيدة للظّن بالواقع كما هو قضيّة الوجه الآخر.

فإن قلت : إنّ الظّن بأداء الواقع يستلزم الظّن بتفريغ الذّمّة على الوجه المذكور لو لا قيام الدّليل على خلافه كما في القياس ونحوه ؛ إذ أداء المكلّف به واقعا يستلزم تفريغ الذّمّة بحسب الواقع قطعا لقضاء الأمر بالإجزاء على الوجه المذكور ، والظّن بالملزوم قاض بالظّن باللاّزم. فكلّما يفيد الظّن بالواقع يفيد الظّن بتفريغ الذّمة في حكم الشّرع لو لا قيام الدّليل على خلافه ؛ إذ ليس مقصود الشّارع حقيقة إلاّ الواقع.


وإذا قام الدّليل على خلافه فإن كان قطعيّا فلا إشكال في عدم جواز الرّجوع إليه ؛ لعدم مقاومة الظّن المفروض للقطع ، وإن كان ظنيّا وقعت المعارضة بين الظّنين المفروضين ؛ حيث إنّ الظّن بالواقع يستلزم الظّن بتفريغ الذّمة على الوجه المذكور حسبما عرفت.

والدّليل القاضي بعدم حجيّة ذلك الظّن قاض بالظّن بعدم تفريغ الذّمة كذلك فيراعى حينئذ أقوى الظّنّين كما هو الشّأن في سائر المتعارضين بل القوي حينئذ هو الظّن والآخر وهو في مقابله ولا يتحاشى عند القائل بأصالة حجيّة الظّن ، بل ذلك مصرّح به في كلام جماعة منهم.

نعم ، غاية ما يلزم من التّقرير المذكور ، أن يقال : بحجيّة ما لا يفيد ظنّا بالواقع كالاستصحاب في بعض الموارد إذا قام دليل ظنّي على كونه طريقا شرعيّا إلى الواقع لحصول الظّن منه حينئذ بتفريغ الذّمة في حكم الشّرع وإن لم يحصل منه الظّن بأداء الواقع.

والظّاهر أنّه لا يأبى منه القائل بحجيّة مطلق الظّن ، فغاية الأمر أن يقول حينئذ بحجيّة كل ظنّ بالواقع ويضيف إليه حجية ما يظن كونه طريقا إلى الواقع شرعا وإن لم يفد ظنا بالواقع.

والحاصل : أنّ القول بحجيّة ذلك لا ينافي مقصود القائل بحجيّة مطلق الظّن سواء التزم به في المقام أو لم يلتزم لبعض الشّبهات.


قلت : قد عرفت ممّا مرّ : أنّ الظّن بما هو ظنّ ليس طريقا إلى الحكم بتفريغ الذّمّة فمجرّد الظّن بالواقع ليس قاضيا بالظّن بتفريغ الذّمة في حكم الشرع مع قطع النّظر عن قيام دليل على حجيّة ذلك الظّن لوضوح عدم حصول التّفريغ به كذلك ، وإنّما يحتمل حصوله به من جهة احتمال قيام الدّليل على حجيّته ومن البيّن تساوي احتمال قيام الدّليل المذكور وعدمه في نظر العقل فتتساوى نسبة الحجيّة وعدمها إليه.

فدعوى الاستلزام المذكور ، فاسدة جدّا. كيف! ومن الواضح عدم استلزام الظّن بالواقع الظّن بحجيّة ذلك الظّن ولا اقتضائه له ، فكيف يعقل حصول الظّن به من جهته؟

نعم ، إنّما يستلزم الظّن بالواقع الظّن بتفريغ الذّمة بالنّظر إلى الواقع لا في حكم المكلّف الّذي هو مناط الحجيّة والمقصود في المقام حصول الظّن به في حكمه ؛ إذ قضيّة الدّليل المذكور حجيّة ما يظنّ من جهته بتفريغ الذّمة في حكم الشرع بعد انسداد سبيل العلم به ، وهو إنّما يتبع الدّليل الظّني القائم على حجيّة الطّرق الخاصّة ولا يحصل من مجرّد تحصيل موضوع الظّن بالواقع لما عرفت من وضوح كون الظّن بالواقع شيئا والظّن بحجيّة ذلك الظّن شيئا آخر ولا ربط له بذلك الظّن (١).

__________________

(١) قال العلاّمة الأصولي حفيد هداية التقي أعلى الله تعالى مقامهما الشريف :


__________________

إن أكثر الإعتراضات الموردة على كلام هذا الإمام [ أي صاحب الهداية ] ـ ولم أبعد عن الحق إن قلت : جميعها ـ ما نشأ إلاّ عن أمرين :

أحدهما : جعل مقدمات هذا الدليل عين مقدّمات دليل الإنسداد المشهور ، وعدّه نتيجة له ، وهذا دليل على بطلان ذلك الدليل لا أنه نتيجة له.

وثانيهما : الغفلة عن أصل المدّعى الذي صدّر كلامه ببيانه وعن سائر الوجوه التي ذكرها لإثباته ، فربّما ترك توضيح أمر أو بيان مقدّمة لاعتماده على ما حقّقه في موضع آخر ، وما كتاب « الهداية » عند أهل ملّة العلم إلاّ قرآن الفنّ يفسّر بعضه بعضا ولو لا مخافة الشطح في المقال لقلت : وأهل البيت أدرى بما فيه ، وأعلم بظاهره وخافيه. إلى أن قال :

وأوّل ما يلزمنا توضيح المدّعى فطالما نشئت الإعتراضات من الغفلة عنه وأورد عليه بما لا مساس له به ، فنقول :

الذي نذهب إليه حجّيّة الظنون المخصوصة وما هي غير الحاصلة من الثقلين : الكتاب والسنّة ، ومع وجودها لا يجوز التمسك بغيرها وتتقدّم على الظنّ المطلق تقدّم الدليل العلمي عليه ، والأحكام الفعليّة مقيّدة بمساعدة الظنون الحاصلة منهما عليها ، فلا علم بتكليف فعلي ، بل ولا تكليف فعلي خارج عنها.

وعليه فلا يبقى موقع للظن بالواقع أصلا فضلا عن عدم ترجيح الظن بالطريق عليه أو ترجيحه على الظن بالطريق ، وإنّما موقع ذلك دليل الإنسداد على تقريره الذي لم يؤخذ في مقدماته العلم بالطرق الشرعيّة ولا انحصارها في أمور مخصوصة يناط بها التكاليف الفعليّة.

ولقد تفرّس صاحب ( الهداية ) أن هذا الإعتراض أوّل ما يتشدّق به المعترضون فجعله


__________________

أوّل اعتراض أجاب عنه بعد ما أوضحه وأصلحه وأجاب عنه بإطناب وإسهاب [ ومن ذلك قوله ] :

« فإن قلت : إن الظنّ بأداء الواقع يستلزم الظن بتفريغ الذمّة ... » إلى أن قال : « قلت : قد عرفت : أن الظنّ بما هو ظنّ ليس طريقا إلى الحكم بتفريغ الذمّة ... » إلى أن قال : « لما عرفت : من وضوح كون الظنّ بالواقع شيئا والظن بحجّيّة ذلك الظنّ شيئا آخر ... إلى آخره » فتراه لم يغادر شيئا من تقرير هذا الإعتراض ثم أجاب عنه بأصح جواب وتوضيحه :

أنه لا بد في أداء التكليف والتخلّص من ورطة العقاب على مخالفته من الحجّة على امتثاله حجّة يقبلها الشارع ويصح الإعتذار بها عنده ولا حجّة إلاّ العلم الذي حكم بحجّيّتها العقل وإمضاء الشرع بأحد الأمرين من إتيان أحد الواقعين من الأصلي والجعلي ومع العجز تنتقل بحكم العقل إلى الظنّ بالحجة وظاهر أن الظنّ بالواقع لا يستلزم الظن بالحجّة لاختلاف متعلّقيهما وعدم الملازمة بينهما.

أمّا الأوّل فظاهر منقّح بما قرّره هنا من كون الظن بالواقع شيئا والظنّ بالحجّة شيئا آخر ، وبما قرّره قبل ذلك من أن الطريق إلى الحكم بالشيء شرعا غير الطريق إلى نفس ذلك الشيء.

وأمّا عدم الملازمة ؛ فإن التفكيك بينهما واضح إمكانا ووقوعا كما قرّره.

وكيف يتوهّم الملازمة بينهما مع أن النسبة عموم من وجه يفترقان ويجتمعان!؟

حتى انه يجتمع مع القطع بعدم الحجّيّة فضلا عن الظن به أو الشك فيه.

وما سبب الخطأ في هذا القياس الذي ساقوه سياق البرهان ـ أعني أن الظنّ بكلّ من


__________________

الأمرين يقوم مقام العلم به ـ إلاّ الغفلة عن أن الواجب بحكم العقل القطع بالحجّة وبعد عدم إمكانه ينتقل إلى الظنّ بها فقط ولم يكن القطع بالواقع كافيا لخصوصيّة فيه بل لكونه حجّة شرعيّة عقليّة ـ كما اوضحه طاب ثراه في مواضع من كلامه ـ ولا فرق في ذلك بين أن يكون مؤدّى الطريق شيئا مستقلاّ في مقابل المراد الواقعي ، وبين أن يكون نفس المراد بجعل الشارع كما اختاره وأطنب في بيانه وبالغ في رد الاحتمال الأوّل ولا أدري ما الذي دعا الشيخ إلى الإطالة في بيانه وجعله أساس اعتراضاته؟!

وقد عرفت : ان العلاّمة المستدل يوافقه في أن الحكم الظاهري هو الواقعي جعلا ... كما انه لم يظهر لنا وجه الحاجة في أن الإمتثال لا يكون إلاّ بالعلم أو بالظن القائم مقامه ، مع أنه أمر واضح لا يخفى على أصاغر الطلبة فضلا عن إمام مثله ...

وأمّا ما جعله منشأ لكلام الجد من تخيّل : أن نفس سلوك الطريق الشرعي في مقابل سلوك الطريق العقلي وأنه قاس الطريق الشرعي بالطريق العقلي.

فلنا أن نطالبه بالمحل الذي استظهر هذا من كلامه ، وقد علمت أن العلم عنده عقلي شرعي ، وسمعت تصريحه به غير مرّة فأين القياس؟

وقد علمت أن القياس رأس مال منكري مقالته حيث قاسوا الظنّ بالعلم في كفايته مطلقا تعلّق بالواقع أم تعلّق بالطريق.

وما ذكره : من أن الطريق الشرعي لا يتصف بالطريقيّة إلاّ بعد العلم تفصيلا.

فإن أراد به التخصيص بالعلم فهو واضح الضعف ومخالف لما صرّح به قبيل ذلك من قوله : « أمّا العلم بالفراغ المعتبر في الإطاعة فلا يتحقق في شيء منهما إلاّ بعد العلم أو الظنّ


وقد عرفت : أن ما يتراءى من استلزام الظّنّ بالواقع ، الظّن بتفريغ الذّمّة ؛ نظرا إلى أن المكلّف به هو الواقع ، إنّما يصح بالنّسبة إلى الواقع ؛ حيث أنّه يساوق الظّن بالواقع ، الظّن بتفريغ الذّمة بالنّسبة إليه عند أدائه كذلك ، وذلك غير الظّن بتفريغ الذّمة في حكم المكلّف.

كيف! والظّن المذكور حاصل في القياس أيضا بعد قيام الدّليل على عدم حجيّته ؛ فإنّه إذا حصل منه الظّن بالواقع فقد حصل منه الظّن بفراغ الذّمة بالنّظر إلى الواقع عند أداء الفعل كذلك ، إلاّ أنّ الظّن المفروض كالظّن المتعلّق بنفس الحكم ممّا لا اعتبار له بنفسه ، وقد قام الدّليل الشّرعي هناك أيضا على عدم اعتباره.

فظهر ممّا قررناه : أنّ الإيراد المذكور إنّما جاء من جهة الخلط بين الوجهين وعدم التّميز بين الاعتبارين ، وممّا يوضح ما قلناه : أنّ الظّن بالملزوم لا يمكن أن يفارق الظّن باللاّزم ، فبعد دعوى الملازمة بين الأمرين ، كيف يعقل استثناء ما قام الدّليل على خلافه؟ والقول بأنّه بعد قيام الدّليل القطعي يعلم الانفكاك ، ومع قيام الدّليل الظّني يظنّ ذلك فيه ، هل ذلك إلاّ الانفكاك بين اللاّزم والملزوم؟

__________________

القائم مقامه ».

وإن أراد به غيره فهو حقّ ، ولكن المستدلّ يقول بقيام الظنّ مقامه بحكم العقل عند إنسداد باب العلم ولا يقول بما جعله لغوا صرفا أعني : مجرّد تطبيق العمل على الطريق مع قطع النظر عن حكم الشارع ).

أنظر وقاية الأذهان : ٥٧٩ ـ ٥٩٠.


فظهر مما قررناه : أنّ اللاّزم أوّلا في حكم العقل هو تحصيل العلم بالتّفريغ في حكم الشرع ، وبعد انسداد سبيله ينزّل إلى الظّن بالتّفريغ في حكمه لا مجرّد الظّن بالواقع ، وقد عرفت عدم الملازمة بين الأمرين وحصول الانفكاك من الجانبين.

نعم ، لو كان الحاصل بعد انسداد سبيل العلم بحصول التّفريغ في حكم أمور مفيدة للظّن بالواقع من غير أن يكون هنا دليل قطعي أو ظنّي على حجيّة شيء منها وتساوت تلك الظّنون في ذلك كان الجميع حينئذ حجّة في حكم العقل ، وإن لم يحصل من شيء منها ظنّ بالتّفريغ ، وذلك لعدم إمكان تحصيل الظّن بالتّفريغ من شيء منها على ما هو المفروض فينتقل الحال إلى مجرّد تحصيل الظّن بالواقع ، ويحكم العقل من جهة الجهل المذكور وتساوي الظّنون في نظره بالنّسبة إلى الحجيّة وعدمها حيث لم يقم دليل على ترجيح بعضها على بعض بحجيّة الجميع والأخذ بأقواها عند التّعارض من غير فرق بينها.

فصار المحصّل : أن اللاّزم أوّلا تحصيل العلم بالتّفريغ في حكم الشّرع كما مرّ القول فيه ، وبعد انسداد سبيله يتعيّن تحصيل الظّن بالتّفريغ في حكمه تنزّلا من العلم به إلى الظّن ، فينزل الظّن به بمنزلة العلم. وإذا انسدّ سبيله أيضا تعيّن الأخذ بمطلق ما يظنّ معه بأداء الواقع حسبما ذكر في المقام ، فهناك مراتب متدرّجة ودرجات مترتّبة ، ولا يتدرّج إلى الوجه الثّالث إلاّ بعد انسداد سبيل الأوّلين.

والمختار عندنا : حصول الدّرجة الأولى وعدم انسداد سبيل العلم بالتّفريغ


من أوّل الأمر كما سيأتي الإشارة في الوجه الأخير.

لكنّا نقول : إنّه بعد انسداد سبيله إنّما ينزّل إلى الوجه الثّاني دون الثّالث ، وإنّما ينزّل إليه بعد انسداد سبيل الثّاني أيضا وتساوي الظّنون من كلّ وجه وأنّى لهم بإثبات ذلك؟ بل من البيّن خلافه ؛ إذ لا أقلّ من قيام الأدلّة الظّنيّة على حجيّة ظنون مخصوصة كافية في استنباط الأحكام الشّرعيّة وهي كافية في وجوب الأخذ بها وعدم جواز الاتّكال على غيرها ؛ نظرا إلى قيام الدّليل القطعي المذكور فليس ذلك من الاتّكال على الظّن في إثبات الظّن ليدور كما ظنّ (١). انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

فيما يرد على ما أفاده المحقّق المحشّي قدس‌سره

وهو كما ترى مع أنّه مشتبه المراد كما ستقف عليه في طيّ الإيرادات لا يخلو عن أبحاث وأنظار :

أمّا أوّلا : فلأنّ ما أفاده قدس‌سره من الواجب أوّلا بقوله : « وأنّ الواجب علينا أوّلا : هو تحصيل العلم بتفريغ الذّمة في حكم المكلّف بأن يقطع معه بحكمه بتفريغ ذمّتنا عمّا كلّفنا به ... إلى آخره » (٢) لم يعلم المراد منه.

__________________

(١) هداية المسترشدين ج ٣ / ٣٥٢ ـ ٣٥٦.

(٢) المصدر السابق عنه ، فرائد الاصول : ج ١ / ٤٤٥.


فإنّه إن كان المراد هو الواجب السّمعي كما ربّما يوهمه قوله : « بأن يقطع معه بحكمه ».

ففيه : أنّه ليس في الشّرع ما يدلّ على ذلك أصلا ؛ لأنّ لزوم تحصيل العلم بتفريغ الذّمة في مقام وكفاية الظّن به في مقام ، والاحتمال في مقام ممّا لا تعلّق له بالشّرع ولم يبيّن في الشّرعيّات.

وإن كان المراد هو الواجب العقلي كما لا بد من حمل كلامه عليه وإن لم يكن ظاهرا منه في النّظر الأوّل ؛ حيث إنّه بعد العلم بالتّكليف من جانب الشّارع إنّما يلزم المكلّفين بما يوجب فعله رفع المؤاخذة والعقاب عنهم.

وبعبارة أخرى : إنّما يوجب العقل الإتيان بالواجبات من حيث إنّ فعلها رافع للمؤاخذة وتركها موجب لاستحقاق العقاب ، لا أنّ فعلها يوجب إدراك المصالح النّفس الأمريّة وتكميل النّفس والفوز إلى الثّواب والدّرجات الأخرويّة ، أو التّقريب إلى المولى ، أو كونه مستحقّا للإطاعة من غير ملاحظة شيء من الغايات ؛ فإنّه وإن كان بكلّ واحد من العناوين والاعتبارات المذكورة مطلوبا عقليّا ، إلاّ أنّه ليس واجبا في حكم العقل ، ولذا يجوّز العقل في التّوصّليات الإتيان بنفس الفعل من غير أن يلاحظ المكلّف رفع العقاب المترتب عليه قهرا.

ولمّا كانت نسبة هذا الواجب العقلي بإتيان نفس ما أوجبه الشّارع مع إمكان تحصيل العلم به وسلوك ما جعله الشارع طريقا إليه عند التّمكّن من تحصيل العلم به ، في مرتبة واحدة وإن تخلّف سلوكه عن الواقع ؛ حيث إنّ إذن الشّارع في سلوك


الطّريق في حكم العقل لا يجامع المؤاخذة عند مخالفته فلا محالة يحكم العقل بتجويز كلّ منهما في باب الإطاعة ولا يلزم خصوص الأوّل ؛ حيث إنّ المطلوب العقلي يحصل بكلّ منهما من غير فرق.

ومن هنا قال قدس‌سره فيما عرفت : « وفرق بين كون الشّيء مطلوبا بذاته وكون المطلوب حاصلا به » (١) حيث إنّ الواجب العقلي حاصل في إتيان الواجب الواقعي مع العلم به لا أن يكون هو الواجب العقلي من حيث هو ».

ففيه : أنّ هذا وإن كان مسلّما عندنا ، إلاّ أنّه لا تعلّق له بحكم الشرع وليس من جهة سلوك الطّريق من حيث ذاته ، بل من حيث البناء على كون مؤدّاه هو الواجب الواقعي بجعل الشّارع ، فسلوكه بالجعل هو عين الواقع لا أن يكون مغايرا له بهذه الملاحظة وإن كان غيره بملاحظة أخرى.

وبالجملة : لا إشكال في أنّ سلوك الأمارة بل الأصل التّعبّدي ما لم ينكشف خلافهما موجب لسقوط العقاب في حكم العقل ، لكنّه لا ينتج في كون الطّريق مطلوبا من حيث هو في قبال الواقع أو قيدا للواقع كما صرح به في آخر كلامه الّذي عرفت في الجواب عن السّؤال.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ما أفاده بعد انسداد سبيل العلم بالواقع والطّريق وتعيّن تحصيل الظّن بالبراءة في حكم العقل وعدم حصوله إلاّ من الظّن بالطّريق ؛ نظرا

__________________

(١) هداية المسترشدين : ج ٣ / ٣٥٣.


إلى أنّ مجرّد الظّن بالواقع لا يوجب الظّن برضا المكلّف به ، سيّما بعد نهيه عن العمل بالظّن بخلاف الظّن بالطّريق ؛ فإنّه في معنى الظّن برضا المكلّف في امتثال التّكليف الواقعي بسلوكه لا محصّل له أصلا ؛ فإنّ الواجب العقلي بعد تماميّة مقدّمات الانسداد ، وعدم وجوب الاحتياط رأسا بعد العلم الإجمالي بالتّكاليف الإلزاميّة الواقعيّة. الموجبة لدوران الأمر في موافقتها بين الموافقة الظنية والشكيّة والوهميّة وجوب الموافقة الظّنية للتّكاليف الإلزاميّة الواقعيّة ، ولو بسلوك ما ظنّ كون مؤدّاه هو الواقع الأوّلي بجعل الشّارع ؛ من حيث إيجابه لسقوط التّكليف الواقعي ظنّا في حكم العقل ، وإن خالف الواقع ما لم ينكشف الخلاف ، وتعيّن ذلك في حكم العقل وعدم جواز العدول عنها إلى الموافقة الشّكيّة والوهميّة ما دامت ممكنة كما هو المفروض.

وهذا معنى حكم العقل بحجيّة الظّن عند انسداد باب العلم الّذي يلزمه حكمه على وجه القطع واليقين بقبح المؤاخذة على مخالفة الواقع على تقدير خطأ الظّنّ وعدم إصابته من غير فرق بين الظّن بالواقع والظّن بالطّريق.

فالمظنون أوّلا وبالذّات أمر يترتّب على فعله القطع بالبراءة من الواقع الأوّلي ما دامت الأمارة قائمة بالنّظر إلى حكم العقل في سلوك الطّريق المظنون أيضا ، لا مع قطع النّظر عن حكمه ؛ فإنّ العمل على طبق الطّريق المظنون من غير استناد إليه ولو كان في الواقع حجّة وطريقا ليس عملا به وسلوكا له.

والعمل به والاستناد إليه ـ مع قطع النّظر عن حكم العقل بحجيّته ـ وإن كان


سلوكا له ، لكنّه محرّم بالأدلّة الأربعة ، وإن كان طريقا في نفس الأمر ، ولا يمكن أن يترتّب عليه سقوط الخطاب الواقعي حينئذ ، كما لا يمكن أن يترتّب على مجرّد الموافقة الاتفاقيّة للطّريق كما في القسم الأوّل.

والظّن بالواقع وإن جرى فيه أيضا القسمان المذكوران مع قطع النّظر عن حكم العقل ، إلاّ أنّ في كلّ منهما يسقط الخطاب الواقعي عن المكلّف على تقدير المصادفة في نفس الأمر لو كان توصّليّا وإن لم يحكم بذلك إلاّ على سبيل الظّن قبل انكشاف الخلاف. ومن هنا توهّم : أن الظّن بالواقع أولى بالحجيّة ، بل جزم به فريق.

وأمّا الاستشهاد بعدم الملازمة بين الظّن بالواقع والظّن برضا الشّارع بما دلّ على النّهي عن العمل بالظّن ، ففي غاية الغرابة. كيف! ونسبة النّواهي الواردة عن العمل بغير العلم إلى الظّن بالواقع والظّن بالطّريق على حدّ سواء. ومن هنا ذكرنا الحكم بحرمة كلّ من القسمين واقعا مع قطع النّظر عن حكم العقل بحجيّة الظّن هذا.


في توضيح ما أفاده الشيخ الأعظم في الجواب

عن كلام المحقّق المحشّي قدس‌سره

فإن شئت توضيح ما ذكرنا فاستمع لما يتلى عليك تمام السّماع فنقول : إنّ التّكليف الإلزامي سواء كان إيجابا أو تحريما لا يخلو عن قسمين :

أحدهما : تعبّدي يعتبر في سقوطه قصد الامتثال والإطاعة.

ثانيهما : توصّلي يسقط عن المكلّف بإيجاد متعلّقه كيفما اتّفق ولو في ضمن الحرام بل ربّما يسقط بوجود متعلّقه كذلك.

والأمارة القائمة على الأحكام سواء كانت مفيدة للظّن وإن لم يظنّ حجيّته ، أو ظنّ حجيّته وإن لم تكن مفيدة للظّن ، قد تقوم على الحكم الإلزامي في الشّبهات الحكميّة التّكليفيّة ، وقد تقوم على الحكم الغير الإلزامي في تلك الشّبهات ، وقد تقوم على تعيين المكلّف به في موارد الشّك في المكلّف به.

فإن قام على الحكم الإلزامي في الشّبهات التّكليفيّة فالاستناد إليه وجعله حجّة مع قطع النّظر عن حكم العقل حرام مطلقا ، وإن كان موجبا لسقوط الخطاب الواقعي على تقدير مصادفته له في نفس الأمر لو كان توصّليّا ، كما أنّ الأخذ به بعنوان الاحتياط في تحصيل الواقع حسن مطلقا ، بل واجب بهذا العنوان ، مع قطع النّظر عن حكم العقل بحجيّة الظّن بالنّظر إلى العلم الإجمالي بالتّكاليف الإلزاميّة ،


وموجب لسقوط الخطاب الواقعي على تقدير المصادفة في نفس الأمر.

ولو كان التّكليف تعبّديّا وإن لم يترتّب عليه آثار الواقع ظاهرا ؛ من حيث إنّ الإتيان به كان بعنوان الاحتياط لا بعنوان الواقع ، كما يؤتى به بهذا العنوان على تقدير حجيّة الظّن ويترتب عليه جميع آثار الواقع ظاهرا.

وإن قام على الحكم الغير الإلزامي فيما يحتمل الحكم الإلزامي ، فالتّدين به وترتيب الآثار عليه حرام أيضا مع قطع النّظر عن حكم العقل بحجيّة الظّن ، بل العمل عليه حرام مطلقا بالحرمة الإرشادّية ، وإن لم يكن بعنوان التّديّن ؛ نظرا إلى حكم العقل بوجوب الاحتياط في مورده من جهة العلم الإجمالي الكلّي وإن كان جائزا لولاه.

وممّا ذكرنا كلّه يعلم حكم ما لو قام على تعيين المكلّف به ؛ فإنّه مع قطع النّظر عن حكم العقل بحجيّة الظّن ، لا يجوز الأخذ بمفاده والبناء على التعيين والاستناد إليه مطلقا وإن كان موجبا لسقوط الخطاب الواقعي على تقدير كونه توصّليا فيما لو صادف الواقع. كما أنّ الاحتياط في مورده بالبناء على الجمع بين ما قام عليه والطّرف الآخر حسن ، بل واجب بالملاحظة الّتي عرفتها وموجب لسقوط الخطاب الواقعي ولو في التعبّديّات ، إلاّ أنّه في المعنى إلقاء للظّن حقيقة كما لا يخفى ، هذا كلّه مع قطع النّظر عن حكم العقل بحجيّة الظّن.

وأمّا إذا لوحظ حكمه فالاستناد إليه جائز في جميع الصّور ، كما أن العمل به موجب لسقوط الخطاب الواقعي على تقدير المصادفة ، ولو كان تعبديّا وغير


موجب لسقوطه مطلقا على تقدير عدم المصادفة في نفس الأمر ، وإن كان الحكم البناء على السقوط مطلقا في مرحلة الظّن ؛ من حيث البناء على كونه حجّة وموافقا للواقع في مرحلة الظّاهر. كما أنّ العقاب على مخالفته قبيح عند عدم المصادفة ، بعد حكم العقل بحجيّته ، أو كشفه عن كونه حجّة بحكم الشارع ؛ فإنّه بناء على الحكومة يستكشف عن حكم الشارع بحجيّته ، ولو من باب الإمضاء ، على ما قرّر في محلّه ؛ من ثبوت الملازمة حسبما ستقف عليه فيما سيتلى عليك في التّنبيه الثّاني.

وكيف ما كان : يحكم العقل بمعذوريّة المكلّف في مخالفة الواقع المرتّبة على سلوكه ، كما أنّه يحكم قطعا بعدم معذوريّته على تقدير المخالفة على تقدير عدم حجيّته كما هو واضح ، فالظّن بالحكم الإلزامي يلازم الظّن بسقوط الخطاب الإلزامي في التّوصّليّات مطلقا ، وفي التّعبديّات إذا أتي بالفعل ببعض العنوانات الّذي عرفته لا مطلقا. وأمّا الظّن بالطّريق الّذي لا يفيد الظّن بالواقع فلا يظنّ منه سقوط الخطاب الواقعي مطلقا ، ولو في التّوصّليات ؛ حيث إنّ المفروض عدم إيجابه للظّن بالواقع ، وأمّا الخطاب المتعلّق بالطّريق المفروض كونه مظنونا وإن كان المظنون سقوطه مطلقا بسلوك الطّريق ؛ نظرا إلى تعلّق الظّن به ، إلاّ أنّه خطاب تبعيّ غيريّ توصّلي ليس مطلوبا بالذّات حتّى يترتّب عليه أثر وفائدة هذا.

مع أنّك قد عرفت : أنّ الخطاب المتعلّق بالطريق إنّما يقتضي الاستناد إليه وهو محرم قطعا فيما لو يعلم به فسلوك الطّريق الّذي كانت حجيّته في نفس الأمر


محرّمة بالأدلّة الأربعة عند عدم العلم به ولو كان مصادفا للواقع. فكيف يمكن أن يجعل الظّن به ظنّا بالبراءة عن الواقع مطلقا؟

نعم ، الظّن به ظنّ بسقوط الخطاب المتعلّق بالطّريق حيث أنّه توصّلي مطلقا فهو إنّما يفيد فيما لو كان التّكليف بالطّريق في عرض التّكليف بالواقع ، وليس الأمر كذلك حيث إنّه عينه بناء ، وغيره حقيقة مع كونه غيريّا توصّليا فتدبّر.

فما أفاده : من أنّ الظّن بالطّريق ظنّ بالبراءة دون الظّن بالواقع لم يعلم له معنى محصّل. وأمّا الاستشهاد لذلك : بأنّه قد يحصل الظّن بالواقع ممّا يقطع بحرمة سلوكه ، فكيف يكون موجبا للظّن بالبراءة؟

ففيه : أوّلا : أنّه قد يحصل الظّن بالطّريق أيضا ممّا يقطع بحرمة سلوكه كالقياس وأشباهه.

وثانيا : أنّ ذلك إنّما يمنع من الظّن بالبراءة لو كان المراد منها رضا الشّارع بالعمل به ، لا سقوط الخطاب الواقعي ؛ فإنّه يظنّ منه ذلك فيما لو كان توصّليا وإن كان العمل بالظّن المفروض حراما هذا.

فإن شئت قلت : الظّن بالحكم الشّرعي الفرعي وبما يكون طريقا إليه بعد تماميّة مقدّمات دليل الانسداد في حكم العقل بمنزلة العلم بهما سواء كان الحكم المذكور تعبّديّا أو توصّليا ، من غير فرق بينهما إلاّ في كون اعتبار العلم ذاتيا نفسيّا واعتبار الظّن بحكم العقل الكاشف عن حكم الشّرع ؛ فإنّ الموافقة الظنيّة في حكمه


بمنزلة الموافقة العلميّة بعد الملاحظة المذكورة ، والبراءة بمعنى سقوط العقاب يحصل يقينا بملاحظة حكم العقل المذكور ولو خالف الظّن الواقع ، من غير فرق بين الظّن بالواقع والظن بما جعل طريقا إليه ما دامت الأمارة قائمة ، من غير فرق بين التّوصّلي والتّعبّدي ولا يلزم حصوله بمعنى آخر.

وأمّا ثالثا : فلأنّ ما أفاده : من تسليم كون الظّن بالواقع ملازما للظّن بالبراءة عن الواقع من حيث أنّه واقع ، لا للظّن بالبراءة عنه في حكم المكلّف ، لا محصّل له أيضا إلاّ بدعوى تقييد الواقع بالطّريق كما هو صريح كلامه في الوجه الثّاني من الوجوه الّتي ذكرها لإثبات مرامه وسيجيء نقله ، وليس مبنى هذا الوجه عليه ، مع أنّك قد عرفت فساده بما لا مزيد عليه.

مع أنّك قد عرفت : أنّ جعل الطّريق ليس معناه حصول البراءة بسلوكه كيفما اتّفق ، بل معناه حسبما عرفت مرارا : تنزيل مؤدّى الطّريق منزلة الواقع ، فهو عين الواقع بالجعل الظّاهري وغيره حقيقة. وإن كان الملحوظ في الأمر المتعلّق به كونه غالب الإيصال إلى الواقع وكاشفا عنه ومرآة له ، فليس إلاّ أمرا تبعيّا غيريّا مقدّميّا فلا يكون سلوك الطّريق مطلوبا بالذّات فضلا من أن يكون أولى من الواقع أو قيدا له. مع أنّ هذا الوجه ليس مبناه على العلم الإجمالي بجعل الطّريق كما هو مبنى الوجه السّابق في الكتاب المذكور وفي « الفصول » أيضا. فكيف يمكن تقييد الخطابات الواقعيّة بمساعدة الطّريق عليها؟

وأمّا رابعا : فلأن ما أفاده : من تسليم حجيّة الظّن بالواقع مع فرض انسداد


باب الظّن بالطّريق فجعل هناك ثلاث مراتب متدرّجة مترتّبة لم يعلم له محصّل أيضا مع فرض البناء على تقييد الواقع بمؤدّى الطّريق ؛ إذ غاية ما يمكن أن يوجّه به على ما فرضوه أن يقال : إنّ العقل مستقلّ بلزوم تحصيل العلم بالبراءة أوّلا في حكم الشّارع بتحصيل العلم بالطّريق ، أو العلم بالواقع الّذي هو طريق إليه بحكم الشارع ، ومع انسداد بابه يحكم بلزوم تحصيل الظّن بالبراءة الّذي لا يحصل إلاّ من الظّن بالطّريق ، ومع انسداده يحكم بلزوم تحصيل احتمال البراءة الّذي هو آخر مراتب الإطاعة في حكم العقل ، وهو حاصل في الظّن بالواقع الّذي لم يعلم عدم حجيّته كما هو المفروض عند كلا الفريقين.

فهو إنّما يحكم بحجيّة الظّن بالواقع في الموضوع الّذي عرفته من حيث حصول احتمال البراءة به من حيث احتمال كونه طريقا وحجّة في حكم الشارع ، لا من حيث إنّه ظنّ بالواقع حتّى يتوجّه عليه : أنّه بعد تقييد الواقع بالطّريق لا معنى للحكم بحجيّة الظّن المتعلّق بالواقع أصلا ؛ حتّى مع فرض انسداد باب الظّن بالطّريق.

لكن يتوجّه عليه ـ بعد تسليم المقدّمات المذكورة ـ : أنّ اللاّزم عليه على ما ذكر الفرق في الظّنون القائمة على المسائل الفرعيّة بين مشكوك الاعتبار منها والموهوم ، بل اللاّزم عليه بعد فرض عدم كفاية مشكوك الاعتبار الفرق بين مراتب الوهم ، كما أنّ اللاّزم عليه التّعميم حينئذ بالنّسبة إلى الظّن بالواقع والطّريق المشكوك الاعتبار ، أو موهومه ، مع عدم إفادته للظّن بالواقع كما هو ظاهر.

وما يقال ـ في التفصّي عمّا ذكر ـ : من أنّ المفروض في كلام المستدلّ


تسوية الظّنون القائمة على الحكم الفرعي الواقعي فلا يتوجه عليه الإيراد المذكور.

فاسد جدّا ؛ لأنّ المفروض في كلامه الّذي عرفته كما هو صريحه ، التسوية من جهة عدم قيام الظن باعتبار بعضها لا التسوية من جميع الجهات فلا مناص عن الإيراد المذكور.

اللهمّ إلاّ أن يتشبّث للتّعميم بين الظّنون القائمة على الأحكام الواقعيّة من غير فرق بين المشكوك اعتباره وموهومه بذيل الإجماع بسيطا أو مركبا وهو كما ترى ، بمكان من الضّعف والسّقوط.

ثمّ إنّ مراده قدس‌سره من لزوم الأخذ بأقوى الظّنون القائمة على الأحكام الواقعيّة في حكم العقل عند انسداد باب الظّن بالطّريق إذا تعارضت ، ليس التّعارض الحقيقي. كيف! ولا يمكن اجتماع الظّنين الشّخصيّين في مسألة على طرفي النّقيض ، بل المراد : التّعارض الصّوري بين الأمارتين المقتضيتين للظّن فيكون مفاد الأقوى ظنّا والضّعيف وهما فيؤول إلى اجتماع الظّن والوهم حقيقة ، على ما عرفت الإشارة إليه من كلامه فيما قام ظنّ على عدم حجيّة الظنّ الّذي يدخل في مسألة المانع والممنوع الّتي يأتي البحث عنها في « الكتاب ».

ثمّ إنّ هنا مناقشات أخر ، قد طوينا عن التّعرض لها خوفا من إطالة الكلام ، مضافا إلى أنّه بعد التّأمّل فيما تعرّضنا له يمكن الإحاطة بها والالتفات إليها فلا فائدة في ذكرها.


(٢٩٥) قوله قدس‌سره : ( ثمّ شرع في إبطال دعوى حصول العلم ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٥٦ )

كلام صاحب الحاشية في أن خبر الثقة لا يفيد العلم بالواقع

أقول : الأولى نقل كلامه قدس‌سره في هذا المقام لترتّب بعض الفوائد عليه قال قدس‌سره : « والقول : بإفادة قول الثّقة ، القطع بالنّسبة إلى السّامع منه بطريق المشافهة ـ نظرا إلى أنّ العلم بعدالته والوقوف على أحواله يوجب العلم العادي بعدم اجتراءه على الكذب ، كما هو معلوم عندنا بالنّسبة إلى كثير من الأخبار العاديّة سيّما مع انضمام بعض القرائن القائمة ـ مجازفة بيّنة ؛ إذ بعد فرض المعرفة بالعدالة بطريق اليقين مع عدم اعتبارها في الشّرع المبين ، كيف يمكن دعوى القطع؟ مع انفتاح أبواب السّهو والنّسيان وسوء الفهم سيّما بالنّسبة إلى الأحكام البعيدة عن الأذهان كما نشاهد ذلك في أفهام العلماء ، فضلا عن العوام.

مضافا إلى قيام احتمال النّسخ في زمن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كلّ آن ، ومع ذلك لم يوجب على جميع أهل بلده التجسّس بما يفيد العلم بعدمه في كلّ زمان بل كانوا يبنون على الحكم الوارد إلى أن يصل إليهم نسخه ، هذا كلّه بالنّسبة إلى البلدة الّتي فيها الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام عليه‌السلام ، فكيف بالنّسبة إلى سائر الأماكن والبلدان سيّما الأقطار البعيدة والبلاد النائية؟

ومن الواضح أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يكتفي منهم بالأخذ بالأخبار الواردة عليهم بتوسّط الثّقات كما يدلّ عليه آية النّفر ، والطّريقة الجارية المستمرّة المقطوعة ، ولم


يوجب صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوما على كلّ من لم يتمكّن من العلم المهاجرة ونحوها ، أو أخذ الأحكام على سبيل التّواتر ونحوه ، وكذا الحال في الأئمّة عليهما‌السلام. وذلك أمر معلوم من ملاحظة أحوال السّلف والرّجوع إلى كتب الرّجال ، وإنكاره يشبه إنكار الضّروريات وليس ذلك إلاّ للاكتفاء بالأخذ بطرق ظنيّة.

ودعوى حصول العلم بالواقع ، من الأمور البعيدة خصوصا بالنّسبة إلى البلاد النّائية سيّما بعد ما كثرت الكذّابة على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهما‌السلام حتّى قام خطيبا في ذلك (١) ، ونادى به الأئمّة عليهما‌السلام كما يظهر من ملاحظة الأخبار (٢) ، وما يتراءى من دعوى « السيّد » وغيره إمكان حصول القطع بالأحكام في تلك الأعصار ممّا يقطع بخلافه ، ويشهد له شهادة الشّيخ رحمه‌الله وغيره بامتناعه. والظّاهر أنّ تلك الكلمات مؤوّلة بما لا يخالف ما قلناه لبعد تلك الدّعوى من أضرابه.

وممّا ينادي بعدم بناء الأمر على تحصيل القطع ، ملاحظة حال العوامّ مع المجتهدين ؛ فإنّ من البيّن عدم وجوب تحصيل القطع عليهم بفتاوى المجتهد على حسب المكنة ، بل يجوز لهم الأخذ عن الواسطة العادلة مع التّمكن من العلم بلا

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ١ / ٦٢ باب « اختلاف الحديث » ـ ح ١ ، عنه وسائل الشيعة : ج ٢٧ / ٢٠٦ باب « عدم جواز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المروي عن غير جهة الأئمة عليهم‌السلام ما لم يعلم تفسيره منهم » ـ ح ١.

(٢) أنظر اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي قدس‌سره ( رجال الكشي ) : ج ٢ / ٤٨٩ ـ ح ٤٠١ وص ٤٩١ ـ ح ٤٠٢.


ريبة. وعليه جرت طريقة الشّيعة في سائر الأزمنة ، بل الظّاهر أنّه ممّا أطبقت عليه سائر الفرق أيضا. وهل كان الحال في الرّجوع إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهما‌السلام في ذلك العصر ، إلاّ كحال العوامّ في هذه الأعصار في الرّجوع إلى المجتهدين؟

فبملاحظة جميع ما ذكرناه : يحصل القطع بتجويز الشّارع العمل بغير العلم في الجملة مع انفتاح طريق العلم ، سيّما مع ملاحظة ما في التّكليف بالعلم في خصوصيات الأحكام من الجرح التّام بالنّسبة إلى الخواص والعوام ، وهو ممّا لا يناسب هذه الشّريعة السّمحة السّهلة الّتي رفع عنها الحرج والمشقّة ، ووضعت على كمال التّيسّر والسّهولة.

ويشهد بذلك أيضا ملاحظة الحال في موضوعات الأحكام ؛ فإنّه اكتفى الشّارع في إثباتها بطرق مخصوصة من غير التزام بتحصيل العلم بها بالخصوص ، لما فيه من الحرج والمشقّة في كثير من الصّور. فإذا كان الحال في الموضوعات على الوجه المذكور ، مع أنّ تحصيل العلم بها أسهل فذلك بالنّسبة إلى الأحكام أولى.

وأيضا من الواضح كون المقصود من الفقه هو العمل وتحصيل العلم به إنّما هو من جهة العلم بصحّة العمل وأدائه مطابقا للواقع. ومن البيّن أنّ صحّة العمل كما يتوقّف على العلم بالحكم كذلك يتوقّف على العلم بالموضوع ، فالاقتصار على خصوص العلم بالنّسبة إلى الحكم لا يثمر العلم بصحّة العمل بالنّظر إلى الواقع مع الاكتفاء بغيره في تحصيل الموضوع. وليس المحصّل للمكلّف حينئذ بالنّسبة إلى


العمل إلاّ العلم بمطابقة العمل لظاهر الشّريعة والقطع بالخروج عن العهدة في حكم الشارع ، فينبغي أن يكون ذلك هو المناط بالنّسبة إلى العلمين (١) ». انتهى كلامه رفع مقامه.

وقد عرفت ـ ممّا قدّمنا في مسألة حجيّة الأخبار من حيث الخصوص ـ : أنّا لا نضايق من القول بحجيّة خبر الثّقة في الأحكام الشّرعيّة من حيث الخصوص لكن بالعنوان الّذي عرفت شرحه عن قريب ، لا أن يكون هو المناط والمدار في التّكليف.

(٢٩٦) قوله قدس‌سره : ( أنّ الحاصل : أنّ سلوك الطّريق المجعول مطلقا أو عند تعذّر العلم ...إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٥٩ )

سلوك الطريق لا يوجب رفع الواقع عند المخالفة

أقول : قد عرفت شرح القول في ذلك وأنّ الأمر بسلوك الطّريق من حيث هو أمر تبعيّ غيريّ لا يؤثر موافقة الاتّفاقيّة في سقوط الخطابات الواقعيّة أصلا عند المخالفة ، بل امتثاله مع العلم به لا يجدي شيئا في سقوط الخطاب الواقعي.

نعم ، يحكم العقل بكون المكلّف معذورا في مخالفة الواقع المسبّبة عن سلوك الطّريق فيما لو أسند إليه مع ثبوته بالعلم أو الظّن المعتبر ، فمجرّد موافقته من

__________________

(١) هداية المسترشدين ج ٣ / ٣٢٦ ـ ٣٢٧.


دون استناد إليه لا يؤثر أصلا ؛ حتّى في سقوط الخطاب المتعلّق به ، فضلا عن الخطاب المتعلّق بالواقع. فليس العمل بالطّريق من دون استناد إليه مثل العمل بالواقع حتّى بالنّسبة إلى الخطاب المتعلّق بالطّريق على ما عرفت تفصيل القول فيه ، فما أفاده شيخنا قدس‌سره في شرح المقام لا يخلو عن بعض المناقشات الواضح لمن أحاط خبرا بما قدّمنا في توضيح ذلك عن قريب عند الاعتراض على المحقّق المحشّي قدس‌سره فراجع.

ثمّ إنّ فيما أفاده شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره في « الكتاب » في ردّ الوجهين وذكرنا في توضيحه وإن كان غنى وكفاية في تبيّن حال سائر الوجوه الّتي استند إليها المحقّق المحشّي في إثبات حجيّة الظّن في خصوص الطّريق ، في قبال القول بحجيّة الظّنّ على الإطلاق أو في خصوص الواقع ، إلاّ أنّ الأولى التعرض لها وبيان حالها إجمالا حسبما يساعدنا التّوفيق ، ولكن لا بدّ من التّعرّض للوجه الأوّل المذكور في « الكتاب » الّذي ذكره المحقّق المحشّي ثاني الوجوه أوّلا مع التّعرض لما يرد عليه ، ثمّ نتعرّض لباقي الوجوه فإنّ بينه وبين ما حكاه شيخنا قدس‌سره عن أخيه في « الفصول » فرقا ، فإنّه قال ـ في عداد الوجوه ما هذا لفظه ـ :

« الثاني : أنّه كما قرّر الشّارع أحكاما واقعيّة ، كذا قرر طريقا للوصول إليها ؛ إمّا العلم بالواقع أو مطلق الظّن ، أو غيرهما ، قبل انسداد باب العلم وبعده ، وحينئذ فإن كان سبيل العلم بذلك مفتوحا ، فالواجب الأخذ به والجري على مقتضاه ، ولا يجوز الأخذ بغيره ممّا لا يقطع بالوصول إلى الواقع ؛ من غير خلاف فيه بين


الفريقين. وإن انسدّ سبيل العلم به تعيّن الرّجوع إلى الظّن به ، فيكون ما ظنّ أنّه طريق مقرّر من الشارع طريقا قطعيّا حينئذ إلى الواقع ؛ نظرا إلى أنّ القطع ببقاء التّكليف بالرّجوع إلى الطّريق وقطع العقل بقيام الظّن في مقام العلم حسبما عرفت ويأتي. فالحجّة إذن ما يظنّ كونه حجّة وطريقا إلى الوصول إلى الأحكام وذلك إنّما يكون لقيام الأدلّة الظنيّة على كونه كذلك ، وليس ذلك إثباتا للظّن بالظّن حسبما قد يتوهّم ، بل تنزّلا من العلم بما جعله الشّارع طريقا إلى ما يظنّ كونه كذلك بمقتضى حكم العقل حسبما مرّت الإشارة إلى نظيره في الوجه المتقدّم » (١).

سائر الوجوه التي تمسّك بها المحقّق المحشّي

ثمّ ساق الكلام فيما يورد على هذا الوجه والجواب عنه إلى أن قال :

« ثالثها : أنّ الانتقال إلى الظّن بما جعله طريقا إنّما يكون مع العلم ببقاء التّكليف بالأخذ بالطّريق المقرّر بعد انسداد باب العلم به وهو ممنوع ؛ إذ لا ضرورة قاضية ببقاء التّكليف في تلك الخصوصيّة لو سلّم انسداد باب العلم بها بخلاف الأحكام الواقعيّة ؛ فإنّ بعد انسداد باب العلم بها قد قامت الضّرورة ببقاء التّكليف ، وإلاّ لزم الخروج عن الدّين. وهو أيضا في الوهن نظير سابقته ؛ إذ من الواضح أنّ للشّارع حكما في شأن من انسدّ عليه سبيل العلم من وجوب عمله

__________________

(١) هداية المسترشدين : ج ٣ / ٣٥٨.


بمقتضى الظّن ، أو الظّن الخاصّ ، فلا نعني نحن بالطّريق المقرّر إلاّ ذلك. وحينئذ كيف يمكن منعه؟ مع أنّ الضّرورة القاضية به بعد القطع ببقاء التّكليف ؛ أوضح من الضّرورة القاضية ببقاء التّكليف إذ مع البناء عليه لا مجال لأن يستريب ذو مسكة فيه مع قطع النّظر عن ضرورة الدّين القاضية ببقاء الأحكام.

فإذا علم ثبوت طريق للشّارع في شأنه حينئذ من الأخذ بمطلق الظّن أو غيره ، تعيّن تحصيل العلم به أولا ، فإن قام عليه دليل قطعيّ من قبله كما يدّعيه القائل بالظّنون الخاصّة فلا كلام ، وإلاّ تعيّن الأخذ بما يظنّ كونه طريقا ولا يصحّ القول بالرّجوع إلى مطلق الظّن بالواقع من جهة الجهل المفروض ، بل قضيّة علمه بتعيين طريق عند الشّارع في شأنه وجهله من جهة انسداد سبيل العلم به ، هو الرّجوع إلى الظّن به أعني الأخذ بمقتضى الدّليل الظّني الدّال عليه ؛ حتّى يحصل له القطع من ذلك بكونه الحجّة عليه بضميمة الدّليل المذكور وذلك حاصل في جهة الظّنون الخاصّة دون مطلق الظّن.

نعم ، لو لم يكن هناك طريق خاصّ يظنّ حجيّته ممّا يكتفى به في استنباط القدر اللاّزم من الأحكام وتساوت الظّنون بالنّسبة إلى ذلك مع القطع بوجوب الرّجوع إلى الظّن في الجملة ، كان الجميع حجّة حسبما مرّ ونحن نسلّمه ، إلاّ أنّه ليس الحال كذلك في المقام.

رابعها : أنّه إن أريد بذلك حصول العلم الإجماليّ بأنّ الشّارع قد قرّر طريقا لإدراك الأحكام الواقعيّة والوصول إليها فكلّفنا في واقعة بالبناء على شيء كما هو


مقتضى الإجماع والضّرورة فمسلّم ، ولكن نقول : هو ظنّ المجتهد مطلقا من أيّ سبب كان من الأسباب التي لم يعلم عدم الاعتداد بها. وإن كان المراد القطع بأنّ الشّارع قد وضع طريقا تعبّديّا كالبيّنة للوصول إلى الأحكام فممنوع ، فأين القطع به؟ بل خلافه من المسلّمات لقيام الإجماع والضّرورة على توقّف التّكليف على الإدراك والفهم وأقلّه الظّن بالواقع » (١).

في بيان فساد الوجوه المذكورة

« وهذا أوضح فسادا من الوجوه المتقدّمة :

أمّا أوّلا : فلأنّ ما سلّمه من تعيين طريق من الشّارع للوصول إلى الأحكام مدّعيا قضاء الضّرورة به هو عين ما أنكره أوّلا : وحينئذ فقوله : « إنّا نقول : إنّ ذلك الطّريق هو مطلق الظّن » بيّن الفساد ؛ فإنّه إن كان ذلك من جهة اقتضاء انسداد سبيل العلم وبقاء التّكليف له فهو خلاف الواقع ، فإنّ مقتضاه بعد التّأمّل فيما قرّرناه هو ما ذكرناه دون ما توهّموه. وإن كان لقيام دليل آخر عليه فلا كلام لكن أنّى له بذلك؟

وأمّا ثانيا : فإنّه لا مانع من تقرير الشّارع طرقا تعبّديّة للوصول إلى الأحكام كما قرّر طرقا بالنّسبة إلى الموضوعات ، بل نقول : إنّ الأدّلة الفقهائية كلّها من هذا

__________________

(١) هداية المسترشدين : ج ٣ / ٣٥٨ ـ ٣٥٩.


القبيل بل وكذا كثير من أدلّة الاجتهاديّة حسبما فصّلنا القول فيها في محلّ آخر.

وأمّا ثالثا : فبأنّ ما ذكره من التّرديد ممّا لا وجه له أصلا ؛ فإنّ المقصود من المقدّمة المذكورة تعيّن طريق إلى ذلك عند الشّارع في الجملة من غير حاجة إلى بيان الخصوصيّة. فما ذكره من التّرديد خارج عن قانون المناظرة.

ويمكن الإيراد في المقام : بأنّه كما انسدّ سبيل العلم بالطّريق المقرّر كذا انسدّ سبيل العلم بالأحكام المقرّرة في الشّريعة ، وكما ينتقل من العلم بالطريق المقرّر بعد انسداد سبيله إلى الظّن به ، فكذا ينتقل من العلم بالأحكام الشّرعيّة إلى ظنّها تنزّلا من العلم إلى الظّن في المقامين ؛ لكون العلم طريقا قطعيّا إلى الأمرين ؛ فبعد انسداد طريقه يؤخذ بالظّن بهما.

فغاية ما يستفاد إذن من الوجه المذكور كون الظّن بالطّريق أيضا حجّة كالظّنّ بالواقع ، ولا يستفاد منه حجيّة الظّنون الخاصّة دون مطلق الظّن ، بل قضيّة ما ذكر حجيّة الأمرين ، ولا يأبى منه القائل بحجيّة مطلق الظّن ، وإن أضيف إليه شيء آخر أيضا.

ويدفعه : أنّه لمّا كان المطلوب أداء ما هو الواقع لكن من الطّريق الّذي قرّره الشّارع ، فإن حصل العلم بذلك الطّريق وأدّاه كذلك فلا كلام. وكذا إن أدّاه على وجه يقطع معه بأداء الواقع ، فإنّ العلم طريق إليه قطعا سواء اعتبره الشّارع بخصوصه في المقام أولا ، وسواء حصل له العلم بالطّريق الّذي قرّره الشّارع أولا ، للاكتفاء بأداء الواقع أيضا ، بل يتعيّن الأخذ به على تقدير انسداد سبيل العلم


بالطّريق المقرّر وانفتاح سبيل العلم بالواقع. وأمّا إذا انسدّ سبيل العلم بالأمرين ، تعيّن الأخذ بالظّن بالطريق ، دون الظّن بالواقع لأداء التّكليف المتعلّق بالطّريق بذلك ، وأداء الواقع على حسب الطّريق. وأمّا الأخذ بمطلق الظّن بالواقع فليس فيه أداء التّكليف المتعلّق بالطّريق لا علما ولا ظنّا.

وكون أداء الواقع على سبيل القطع أداء لما هو الواقع من طريقه قطعا ، لا يستلزم أن يكون الظّن بأداء الواقع أداء للواقع على سبيل الظّن ، مع الظن بكونه من طريقه ؛ لوضوح أنّ كون العلم طريقا قطعيّا لا يستلزم أن يكون الظّن طريقا ظنيّا ؛ إذ قد لا يكون طريقا أصلا ، فليس في أدائه كذلك علم بأداء ما هو الواقع ، ولا بأدائه على الوجه المقرّر ، ولا ظنّ بأدائه على الوجه المقرّر ، وإنّما هو ظنّ بأداء الواقع لا غير » (١).

إلى أن قال :

« فإن قلت : إنّه كما قام الظّن بالطّريق مقام العلم به من جهة الانسداد ، فأيّ مانع من قيام الظّن بالواقع مقام العلم به حينئذ؟ وإذا قام مقامه كان بمنزلة العلم بأداء الواقع ، كما أن الظّن بالطّريق بمنزلة العلم به فكما يحصل البراءة بالعلم مع انفتاح سبيله يحصل أيضا بالظّن مع انسداد سبيله.

قلت : لو كان أداء التّكليف المتعلّق بكلّ من الفعل والطّريق المقرّر مستقلاّ.

__________________

(١) هداية المسترشدين : ج ٣ / ٣٥٨ ـ ٣٦١.


صحّ ذلك لقيام الظّن في كلّ من التّكليفين مقام العلم به مع قطع النّظر عن الآخر. وأمّا إذا كان أحد التّكليفين منوطا بالآخر مقيّدا له فمجرّد حصول الظّن بأحدهما من دون حصول الظّن بالآخر الّذي قيّد به ، لا يقتضي الحكم بالبراءة.

وحصول البراءة في صورة العلم بأداء الواقع إنّما هو لحصول الأمرين به ؛ نظرا إلى أداء الواقع وكونه من الوجه المقرّر لكون العلم طريقا إلى الواقع في حكم العقل والشّرع ، فلو كان الظّن بالواقع ظنّا بالطّريق أيضا جرى الكلام المذكور في صورة الظّن أيضا ، لكنّه ليس كذلك ولذا لا يحكم بالبراءة حسبما قلنا » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وممّا ذكره أخيرا يظهر : أنّ مراده من حكمه باكتفاء أداء الواقع أيضا في طيّ كلماته ليس من جهة كفاية نفس أداء الواقع من حيث هو ، بل من جهة كونه حاصلا من الطّريق وهو العلم.

فيما يرد على كلامه المزبور

ويرد عليه ـ مضافا إلى ما عرفت في مطاوي ما أفاده شيخنا قدس‌سره في الإيراد على الوجه الأوّل ـ :

أوّلا : بأنّ التّرديد الّذي ذكره في عنوان هذا الوجه بين العلم ومطلق الظّن

__________________

(١) هداية المسترشدين : ج ٣ / ٣٥٩ ـ ٣٦٢.


وغيرهما قبل الانسداد وبعده ، ممّا لا معنى له ؛ فإنّه وإن كان محمولا على ما زعمه قدس‌سره : من كون العلم مجعولا شرعا ، لكنّه جزم بكونه معتبرا دائما في حكم العقل والشّرع ، بل عرفت حكمه بكونه معتبرا في نفسه وإن لم يرد الشّرع به ، المراد به ـ جمعا بين كلماته ـ : اعتباره عقلا ، فإذا كان كذلك فلا يجعل من أطراف المعلوم بالإجمال حتّى يحصل العلم به من الخارج كما هو واضح. بل هو معتبر مطلقا سواء اعتبر غيره معه أم لا ، هذا.

مضافا إلى أنّ احتمال اعتبار الظّن المطلق مع التّمكن من تحصيل العلم ممّا يقطع بفساده عنده ، فكيف يجعل أحد طرفي التّرديد؟ اللهمّ إلاّ أن يحمل ما أفاده على المهملة ، بمعنى العلم إجمالا بجعل طريق من الشارع إمّا خصوص العلم ، أو هو مع غيره من الظنون الخاصّة في زمان الانفتاح ، أو خصوص الظّنون الخاصّة ، أو الظّن المطلق في زمان الانسداد ، كلّ على مذهب فلا بدّ من الفحص حتّى يعلم بالمجعول في كلّ من الزّمانين والوقتين فتأمّل.

وثانيا : أنّ ما أفاده بقوله جوابا عن الاعتراض الثّالث : « وهو أيضا في الوهن نظير سابقته ؛ إذ من الواضح أنّ للشّارع حكما ... إلى آخره » (١) غير محصّل المراد ؛ لأنّ دوران الأمر بين الظّن الخاصّ الّذي هو مجعول شرعيّ ، والظّن المطلق الّذي هو مجعول عقليّ لا معنى له ؛ لأنّ هذا الأمر المردّد بين المجعول وغيره لا يمكن

__________________

(١) هداية المسترشدين : ج ٣ / ٣٥٨.


دعوى تعلّق الجعل الشّرعي به وكونه معلوما إجماليّا ؛ لأنّ المجعول العقلي ـ مضافا إلى عدم كونه أمرا واقعيّا يتعلّق الجهل به ، بل هو أمر وجداني كما هو واضح ـ ليس في مرتبة المجعول الشّرعيّ حتّى يتردّد الأمر بينهما ، بل هو بالنّسبة إليه من قبيل الأصل بالنّسبة إلى الدّليل ، فإن علم باعتبار ظنون خاصّة من جانب الشارع فلا يحكم العقل بحجيّة الظّن قطعا. وإن لم يعلم به سواء ظنّ بالظّن الغير المعتبر أو شك فيه ، حكم قطعا بحجيّة الظّن المطلق. فالتّرديد والدّوران لا معنى له على كلّ تقدير. وهذا بناء على تقرير الحكومة ظاهر ، وأمّا بناء على تقرير الكشف فالأمر كذلك ؛ فإنّ المانع من استكشاف العقل حجيّة مطلق الظّن عند الشّارع علمه بحجيّة الظّنون الخاصّة لا مجرّد احتماله ولو كان ظنّا إذا لم يكن معتبرا فتأمّل (١).

نعم ، الفرق بينهما ـ كما ستقف على تفصيل القول فيه في الأمر الثّاني (٢) ـ ، أنّه بناء على الحكومة يحكم بعدم الفرق بين الظّن في المسألة الفقهيّة والظن في المسألة الأصوليّة وبناء على الكشف لا يحكم بالتّعميم إلاّ بعد إجراء مقدّمات الإنسداد في تعيين المهملة ؛ وهي المسألة الأصوليّة ، المستكشفة عن المقدّمات الجارية في الفروع على ما ستعرفه هذا كلّه ، مضافا إلى أنّه إذا كان حجيّة مطلق

__________________

(١) الوجه في التأمّل : ما سيجيء في كلام شيخنا قدس‌سره في الأمر الثاني من قدح الإحتمال ولو كان موهوما في استكشاف العقل عن حكم الشارع بحجيّة الظن على تقرير الكشف.

منه دام ظلّه.

(٢) أنظر : التنبيه الثاني.


الظّن في المسائل الفقهيّة أحد شقّي الترديد ، ولم يقم بالفرض دليل معتبر على حجيّة بعض الظّنون بخصوصه ـ وإن ظنّ بظنّ لم يعلم اعتباره ـ فلم لا يحكم بتعيّنه ويعدل عنه إلى خصوص المظنون الاعتبار الغير المفيد للظّن بالواقع؟ فتدبّر.

سائر ما استند اليه المحقّق المحشّي قدس‌سره

ثمّ إنّك إذا عرفت بعض الكلام في هذا الوجه فاستمع لما يتلى عليك ممّا وعدناك من نقل كلامه المتعلّق بذكر سائر الوجوه فقال قدس‌سره :

« الثّالث : أنّ قضيّة بقاء التّكليف وانسداد سبيل العلم به ـ مع كون قضيّة العقل أوّلا هو تحصيل العلم به ـ هو الرّجوع إلى الظّن قطعا على سبيل القضيّة المهملة ، وحينئذ فإن قام دليل قاطع على حجيّة بعض الظّنون ممّا فيه الكفاية في استعلام الأحكام ، انصرف إليه تلك القضيّة المهملة من غير إشكال ، فلا يفيد حجيّة ما زاد عليه. ولو تساوت الظّنون من كلّ وجه قضى ذلك بحجيّة الجميع ؛ نظرا إلى انتفاء التّرجيح في نظر العقل وعدم إمكان رفع اليد عن الجميع ، وإلى العمل بالبعض دون بعض ؛ لبطلان التّرجيح بلا مرجّح ، فيجب الأخذ بالكلّ حسبما يدّعيه القائل بحجيّة مطلق الظّن.

وأمّا إذا قام الدّليل الظّني على حجيّة بعض الظّنون ممّا فيه الكفاية دون البعض ، فاللاّزم البناء على ترجيح ذلك البعض ؛ إذ لا يصحّ القول بانتفاء المرجّح بين الظّنون.


وتوضيح المقام : أنّ الدّليل الظّني القائم على بعض الظّنون :

إمّا أن يكون مثبتا لحجيّة عدّة كافية في استنباط الأحكام من غير أن يقوم هناك دليل ظنّي على نفي الحجيّة من غيرها ولا إثباتها.

وإمّا أن يكون نافيا لحجيّة عدّة منها من غير أن يكون مثبتا لحجيّة ما عداها ولا نافيا لحجيّتها.

وإمّا أن يكون مثبتا لحجيّة عدّة منها كذلك نافيا لحجيّة الباقي.

وإمّا أن يكون مثبتا لحجيّة البعض على الوجه المذكور نافيا لحجيّة عدّة أخرى مع خلوّ الباقي عن الأمرين.

ويجب في حكم العقل الأخذ بمقتضى الظن في الجميع في مقام الترجيح ، وإن اختلف الحال فيها بالقوّة والضّعف غير أنّه في القسم الثّاني لا بدّ من الحكم بحجيّة ما قضى الظّن بعدم حجيّته ؛ نظرا إلى انتفاء المرجّح بينها.

فإن قلت : إن أقيم الدّليل على حجيّة الظّن مطلقا فقد ثبت ما يدّعيه الخصم وإن لم يقم عليه دليل فلا وجه للحكم بمقتضى الدّليل الظّني من البناء على الحجيّة أو نفيها ؛ فإنّها رجوع إلى الظّن واتكال عليه وإن كان في مقام التّرجيح والاتكال عليه ممّا لا وجه له قبل قيام القاطع عليه.

بل نقول : إن لم يكن الدّليل الظني القائم في المقام من الظّنون الخاصّة ، لم يعقل الاتّكال عليه من المستدل ؛ إذ المختار عنده عدم حجيّته وأنّ وجوده كعدمه. وإن كان من الظّنون المخصوصة كان الاتّكال عليه في المقام دوريّا.


قلت : ليس المقصود في المقام إثبات حجيّة تلك الظّنون بالأدلّة الظّنية القائمة عليها ليكون الاتّكال في الحكم بحجيّتها على مجرّد الظن ، بل المثبت لحجيّتها هو الدّليل العقلي المذكور.

والحاصل من تلك الأدلّة الظّنية ، هو ترجيح بعض تلك الظّنون على البعض ، فيمنع ذلك من إرجاع القضيّة المهملة إلى الكليّة ، بل يقتصر في مقام المهملة على تلك الجملة.

فالظّن المفروض إنّما ينبعث على صرف مفاد الدّليل المذكور إلى ذلك وعدم صرفه إلى سائر الظّنون ، نظرا إلى حصول القوّة بالنّسبة إليها لانضمام الظّن بحجيّتها إلى الظّن الحاصل منها بالواقع ، بخلاف غيرها ؛ حيث لا ظنّ بحجيّتها في نفسها. فإذا قطع العقل بحجيّة الظن بالقضيّة المهملة ، ثمّ وجد الحجيّة متساوية النّسبة بالنّظر إلى الجميع فلا محالة يحكم بحجيّة الكلّ حسبما مرّ ، وأمّا إن وجدها مختلفة وكان جملة منها أقرب إلى الحجيّة من الباقي ؛ نظرا إلى الظّن بحجيّتها مثلا دون الباقي ، فلا محالة يقدّم المظنون على المشكوك ، والموهوم والمشكوك على الموهوم في مقام الحيرة والجهالة ، فليس الدّليل الظّني المفروض مثبتا لحجيّة تلك الظّنون ؛ حتّى يكون ذلك اتّكالا على الظّن في ثبوت مظنونه ، وإنّما هو قاض بقوّة جانب الحجيّة في تلك الظّنون فيصرف به ما قضى به الدّليل المذكور من حجيّة الظن في الجملة.

فإن قلت : إنّ صرف مفاد الدّليل المذكور إلى ذلك إن كان على سبيل اليقين


ثمّ ما ذكر وإن كان ذلك أيضا على سبيل الظّن كان ذلك أيضا اتّكالا على الظّن فإنّ النتيجة تتبع أخسّ المقدّمات. والظّاهر أنّه من قبيل الثّاني ؛ لتقوّم الظّنّ باحتمال الخلاف ، فإذا فرض تحقّق ذلك الاحتمال كان الظّن المذكور كعدمه ، فيتساوى الظّنون المفروضة بحسب الواقع ، فلا يتحقّق ترجيح بينها حتّى ينصرف الدّليل المذكور إلى الرّاجح منها.

والحاصل : أنّه لا قطع حينئذ بصرف الدّليل إلى خصوص تلك الظّنون من جهة ترجيحها على غيرها ؛ لاحتمال مخالفة الظن المفروض للواقع ومساواتها لغيرها من الظّنون بحسب الواقع ، بل احتمال عدم حجيّتها بخصوصها ، فلا قطع لحجيّتها بالخصوص بوجه من الوجوه حتّى يكون الاتّكال هنا على التّعيين. وغاية الأمر حصول الظّن بذلك فالمحذور على حاله.

قلت : الاتكال على حجيّة تلك الظّنون ليس على الظّن الدّالّ على حجيّتها بحسب الواقع ، ولا على الظن بترجيح تلك الظّنون على غيرها بعد إثبات حجيّة الظّنّ في الجملة ، بل التّعويل فيها على القطع بترجيح تلك الظنون على غيرها عند دوران الحجيّة بينها وبين غيرها.

وتوضيح ذلك : أنّ قضيّة الدّليل القاطع المذكور هو حجيّة الظّن على سبيل الإهمال ، فيدور الأمر بين القول بحجيّة الجميع والبعض. ثمّ الأمر في البعض يدور بين المظنون وغيره والتّفصيل. وقضيّة حكم العقل في الدّوران بين حجيّة الكلّ والبعض ، هو الاقتصار على البعض أخذا بالمتيقّن. ولذا قال علماء الميزان : إنّ


القضيّة المهملة في قوّة الجزئيّة (١).

واعترف الجماعة : بأنّه لو قام الدّليل القاطع على حجيّة ظنون خاصّة كافية للإستنباط لم يصحّ التّعدي عنها إلى غيرها من الظّنون ولو لم يتعيّن البعض الخاصّ في المقام ودارت الحجيّة بين الأبعاض من غير تفاوت بينها في نظر العقل ، لزم الحكم بحجيّة الكلّ لبطلان ترجيح البعض من غير مرجّح إلى آخر ما مرّ.

وأمّا لو كان حجيّة البعض ممّا فيه الكفاية مظنونة بخصوصه بخلاف الباقي ، كان ذلك أقرب إلى الحجيّة من غيره ممّا لم يقم على حجيّة ذلك دليل ، فيتعيّن عند العقل الأخذ به دون غيره ؛ فإنّ الرّجحان حينئذ قطعيّ وجدانيّ والتّرجيح من جهة ليس ترجيحا بمرجّح ظنّي ، بل قطعيّ وإن كان ظنّا بحجيّة تلك الظنون فإنّ كون المرجّح ظنّا لا يقتضي كون التّرجيح ظنّيا وهو ظاهر.

والحاصل : أنّ العقل بعد حكمه بحجيّة الظّنّ في الجملة ودوران الأمر عنده بين حجيّة خصوص ما قام الدّليل الظّني على حجيّته من الظّنون ، أو البناء على حجيّة ذلك وغيره ممّا لم يقم دليل على حجيّته من سائر الظّنون ، لا يحكم إلاّ بحجيّة الأوّل لترجيحه على غيره في نظر العقل قطعا ، فلا يحكم بحجيّة الجميع من غير قيام دليل على العموم » (٢). انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

__________________

(١) أنظر منطق المظفّر : ١٦٠ ، والحكمة المتعالية : ج ١ / ٢٥٣.

(٢) هداية المسترشدين : ج ٣ / ٣٦٢ ـ ٣٦٥.


الوجه المذكور يبتني على ان تكون نتيجة المقدمات قضيّة مهملة

وهذا الوجه كما ترى مبنيّ على كون نتيجة المقدّمات قضيّة مهملة ، وستعرف في الأمر الثّاني (١) : أنّ الحقّ في التقرير لما كان تقرير الحكومة ومقتضاها الإطلاق والعموم بالنّسبة إلى الأسباب ـ كما ستقف على تفصيل القول فيه ـ فما أفاده غير مستقيم هذا.

مضافا إلى ما ستقف عليه : أنّه بناء على تقرير الكشف المقتضي لإهمال النّتيجة ـ بالمعنى الّذي ستقف عليه ـ لا معنى للقول بكون مطلق الظّن بالحجيّة والاعتبار معيّنا للمهملة ، بل إنّما يصحّ التّعيين به في الجملة ، وأنّ ما ذكر في وجهه غير تامّ.

مضافا إلى أنّ ما أفاده بعد فرض الإهمال ؛ من أنّه قد يقوم هناك دليل قاطع على حجيّة بعض الظّنون ممّا فيه الكفاية فيجب الاقتصار عليه ، خارج عن مفروض المقام ؛ لأنّ تماميّة دليل الانسداد المنتج لحجيّة الظن على سبيل الإطلاق ، أو الإهمال ، موقوف على انسداد باب الظّن الخاصّ الكافي في الأحكام ، وأنّه من إحدى مقدّمات هذا الدّليل. فكيف يفرض وجوده بعد جريان

__________________

(١) يأتي الكلام عنه في التنبيه الثاني.


المقدّمات وإنتاجها لحجيّة الظن؟

اللهمّ إلاّ إن يكون مراده من الدّليل القاطع كونه متيقّن الاعتبار من بين الظنون ، أو قيام المتيقّن الاعتبار على اعتباره ، حسبما ستقف على تفصيل القول فيه ، وإن كانت إرادة هذا المعنى بعيدا من كلامه كما لا يخفى.

نقل تتمة كلام المحقّق المحشّي قدس‌سره

ثمّ قال قدس‌سره : « الرّابع : إنّه بعد قضاء المقدّمات الثّلاث بحجيّة الظّن على سبيل الإهمال ، إن اكتفينا بالمرجح الظّني ـ كما مرّ في الوجه السّابق ـ كان ما دلّ على حجيّة الدّليل الظّني هو المتبع دون غيره ، حسبما قرّر في الوجه المتقدّم. وإن سلّمنا عدم العبرة به وتساوى الظّنون حينئذ بالملاحظة المذكورة بالنّسبة إلى الحجيّة وعدمها ، فاللاّزم حينئذ حجيّة الجميع ، إلاّ ما قام الدّليل المعتبر على عدمه. ومن الدّليل المعتبر حينئذ هو الدّليل الظّني ؛ لقيامه مقام العلم. فإذا قضى الدّليل الظّني بكون الحجّة هي الظّنون الخاصّة دون غيرها تعيّن الأخذ بها دون ما سواها ؛ فإنّه بمنزلة الدّليل القاطع الدّال عليه كذلك.

فإن قلت : إذا قام الدّليل القاطع على حجيّة بعض الظنون ممّا فيه الكفاية كانت القضيّة المهملة الثّابتة بالدّليل المذكور منطبقة عليه ، فلا يتسرّى الحكم منها إلى غيرها حسب ما مرّ. وأمّا إذا قام الدّليل الظّني على حجيّته كذلك لم يكن الحال فيها كما ذكر ، وإن قلنا بقيام الظّن مقام العلم وتنزيله منزلته فلا وجه إذا للاقتصار


عليه ؛ إذ الدّليل الدّال على حجيّته هو الدّال على حجيّة الباقي ، غاية الأمر أن يكون الدّال على حجيّته أمران : الدّليل القاطع العام ، والدّال على حجيّة غيره هو الأوّل خاصّة.

قلت : الحال حينئذ على ما ذكرت وليس المقصود في المقام تنزيل الدّليل الظّني القائم على خصوص بعض الظّنون منزلة الدّليل القاطع الدّال عليه في تطبيق القضيّة المهملة المذكورة عليه ، لوضوح الفرق بين الأمرين ، بل المقصود : أنّ قيام الدّليل الظّني على عدم حجيّة غير الظّنون الخاصّة قاض بسقوطها عن الحجيّة ؛ فإنّ تنزيل ذلك الدّليل الظّني منزلة القطع قاض بعدم حجيّة غيرها من الظّنون.

فإن قلت : إنّه يقع المعارضة حينئذ بين الظّن المتعلّق بالحكم ، والظّن المتعلّق بعدم حجيّة ذلك الظّن ؛ لقضاء الأوّل بالظّن بأداء المكلّف به القاضي بحصول الفراغ ، وقضاء الثّاني بالظّن ببقاء الاشتغال ، ويتدافعان ولا بدّ حينئذ من الرّجوع إلى أقوى الظّنين المذكورين ، لا القول بسقوط الأوّل رأسا.

قلت : لا مصادمة بين الظنين المفروضين أصلا ؛ نظرا إلى اختلاف متعلقيهما ، مع انتفاء الملازمة بينهما أيضا لوضوح إمكان حصول الظّن بالواقع مع الظن بعدم حصول البراءة به في الشّريعة أو العلم به كما هو الحال في القياس ونظائره ».

وساق الكلام إلى أن قال :

« فإن قلت : على هذا يقع المعارضة بين الدّليل الظّني المفروض والدّليل


القاطع المذكور الدّال على حجيّة مطلق الظّنون لقضاء ذلك بعدم حجيّة الظّن المفروض فهو دليل ظنّي معارض لما يقتضيه القاعدة القطعيّة ».

إلى أن قال :

« قلت : لا معارضة في المقام بين الدّليلين حتّى يكون ظنّية أحدهما قاضية بسقوطه في المقام ، بل نقول : إنّ ما يقتضيه الدّليل القاطع مقيّد بعدم قيام الدّليل على خلافه على حسبما مر بيانه ، فإذا قام الدّليل عليه لم يعارض ذلك ما يقتضيه الدّليل المذكور ».

إلى أن قال :

« فإن قلت : إن قام هناك دليل على عدم حجيّة بعض الظّنون كان الحال فيه على ما ذكرت ، وأمّا مع قيام الدّليل الظّني عليه فإنّما يصح كونه مخرجا عن موضوع القاعدة المقرّرة إذا كانت حجيّته معلومة ، وهي إنّما تبتنى على القاعدة المذكورة ، وهي غير صالحة لتخصيص نفسها ».

إلى أن قال :

« قلت : الحجّة عندنا هي كلّ واحد من الظّنون الحاصلة وإن كان المستند في في حجيّتها شيئا واحدا ، وحينئذ فالحكم بحجيّة كلّ واحد منها مقيّد بعدم قيام دليل على خلافه. ومن البيّن حينئذ كون الظّن المتعلّق بعدم حجيّة الظّن المفروض دليلا قائما على عدم حجيّة ذلك الظّنّ فلا بدّ من ترك العمل به ».


إلى أن قال :

« فإن قلت : إنّ العقل كما يحكم بحجيّة الأوّل إلى أن يقوم دليل على خلافه ، كذا يحكم بحجيّة الأخير كذلك ، وكما يجعل الثّاني باعتبار كونه حجة دليلا على عدم حجيّة الأوّل ، فليجعل الأوّل باعتبار حجيّته دليلا على عدم حجيّة الثّاني ؛ إذ لا يمكن الجمع بينهما في الحجيّة. فأيّ مرجّح للحكم بتقديم الثّاني على الأوّل؟

قلت : نسبة الدّليل المذكور إلى الظّنين على حدّ سواء ، لكنّ الظّن الأوّل متعلّق بحكم المسألة بالنّظر إلى الواقع ، والثّاني متعلّق بعدم حجيّة الأوّل فإن كان مؤدّى الدّليل حجيّة الظّن مطلقا لزم ترك أحد الظّنين ، ولا ريب إذن في لزوم ترك الثّاني ؛ فإنّه في الحقيقة معارض للدّليل القاطع القائم على حجيّة الظّن مطلقا لا الظّن المفروض ، وحينئذ فلا ظنّ بحسب الحقيقة بعد ملاحظة الدّليل القطعيّ المفروض. وأمّا إن كان مؤدّاه حجيّة الظّن إلاّ ما دلّ الدّليل على عدم حجيّته فلا مناص من الحكم بترك الظّن الأوّل ؛ إذ قضيّة الدّليل المفروض حجيّة الظّن الثّاني ، فيكون دليلا على عدم حجيّة الأوّل ولا معارضة فيه للدّليل القاضي بحجيّة الظّن وساق الكلام في بيان عدم المعارضة ».

إلى أن قال :

« فإن قلت : إنّ مقتضى الدّليل المذكور حجيّة الظّن المتعلّق بالفروع ، والظّن المذكور إنّما يتعلق بالأصول ؛ حيث إنّ عدم حجيّة الظّنون المفروضة من مسائل أصول الفقه ، فلا دلالة فيه إذن على عدم حجيّتها فيندرج تلك الظّنون حينئذ تحت


القاعدة المذكورة ويكون الدّليل المذكور حجّة قاطعة على حجيّتها.

قلت : أوّلا : إنّ مفاد الدّليل المذكور حجيّة الظن فيما انسدّ فيه سبيل العلم مع العلم ببقاء التّكليف فيه ولا اختصاص له بالفروع وإن كان عقد البحث لها ، والمفروض انسداد سبيل العلم في هذه المسألة وعدم المناص عنه في العمل. وثانيا : إنّ مرجع الظّن المذكور إلى الظّن في الفروع ؛ إذ مفاده عدم جواز العمل بمقتضى الظّنون المفروضة والإفتاء الّذي هو من جملة أعمال المكلّف ، فتأمّل (١) ». انتهى كلامه المتعلّق بهذا الوجه.

فيما يتوجّه على الوجه المزبور

ويتوجّه عليه :

أوّلا : أنّ الظّن بحجيّة جملة من الأمارات الكافية في الفقه لا يلازم الظن بعدم حجيّة غيرها من الأمارات ؛ ضرورة أنّ ما في أيدينا من الأمارات القائمة في المسألة الأصوليّة ليست ناطقة بذلك ، والمهملة المردّدة بين الكلّ والبعض تجامع كلاّ منهما. فكيف يكون الظن بحجيّة بعض الأمارات نافية لحجيّة غيرها حتّى يكون محلاّ للوجه المذكور؟

وثانيا : أنّه على تقدير تسليم ذلك أو فرض هناك أمارة دالّة على قضيّتين موجبة وسالبة يدخل المسألة لا محالة في مسألة المانع والممنوع كما هو صريح

__________________

(١) هداية المسترشدين : ج ٣ / ٣٦٥ ـ ٣٦٩.


كلامه في المقام ، وسيجيء : أنّه على تقرير الحكومة وحجيّة الظن في الأصول كما في الفروع ، يلزم الأخذ بأقوى الأمارتين. والتّقييد الّذي ذكره في مقتضى الدّليل سيجيء ما فيه.

وثالثا : أنّه لا مناص عن توجّه السّؤال الأخير ، فإنّك ستسمع : أنّ نتيجة المقدّمات على الكشف والإهمال ، هي حجيّة الظن في خصوص الفروع على ما عرفت الإشارة إليه سابقا.

نعم ، قد ذكرنا : أنّه يمكن إثبات حجيّة الظّن في الأصول بتقرير مقدّمات في تعيين هذه المهملة لو لم يكن هناك معيّن لها بالنّسبة إلى الفروع ، لكن على سبيل الإهمال لا الإطلاق كما ذكره لكن كلامه ليس مبنيّا على ذلك كما لا يخفى هذا.

وأمّا ما أفاده من الجواب الثّاني عن السؤال الأخير ، فلو لا أمره بالتّأمل الكاشف عن عدم تماميّته عنده لذكرنا بعض ما فيه : من أنّ الرّجوع الّذي ذكره إنّما هو بالنّسبة إلى الحكم الفرعيّ الظّاهري لا الواقعي الّذي هو محلّ الكلام والبحث ، فأين هذا منه؟

ثمّ ساق الكلام بعد ذكر الوجه الخامس الّذي أقامه في قبال القول بحجيّة مطلق الظّن في الفروع المبنيّ على إهمال النّتيجة ووجوب الاقتصار على القدر المتيقّن من الظّنون والكلام في إثبات صغراه كما سيجيء تفصيل القول فيه في الأمر الثّاني (١).

__________________

(١) انظر : فما بعد في التنبيه الثاني.


بقيّة وجوه المحقّق المذكور

إلى أن قال :

« السّادس : أنّه قد دلّت الأخبار القطعيّة والإجماع المعلوم على وجوب الرّجوع إلى الكتاب والسّنة ، بل ذلك ممّا اتفقت عليه الأمّة وإن وقع الخلاف بين الخاصّة والعامّة في موضوع السّنة وذلك ممّا لا ربط له بالمقام ، وحينئذ فنقول : إن أمكن حصول العلم بالحكم الواقعي من الرّجوع إليهما في الغالب تعيّن الرّجوع إليهما على الوجه المذكور ؛ حملا لما دلّ على الرّجوع إليهما على ذلك وإن لم يحصل ذلك بحسب الغالب وكان هناك طريق في كيفيّة الرّجوع إليهما تعيّن الأخذ به وكان بمنزلة الوجه الأوّل.

وإن انسدّ سبيل العلم به أيضا وكان هناك طريق ظنّي في كيفيّة الرّجوع إليهما لزم الانتقال إليه والأخذ بمقتضاه وإن لم يفد الظن بالواقع تنزّلا من العلم ، إلى الظّن مع عدم المناص عن العمل وإلاّ لزم الأخذ بهما والرّجوع إليهما على وجه يظنّ منهما بالحكم على أيّ وجه كان لما عرفت من وجوب الرّجوع إليهما حينئذ فينزّل إلى الظّن ؛ وحيث لا يظهر ترجيح لبعض الظنون المتعلّقة بذلك على بعض يكون مطلق الظّن المتعلّق بهما حجّة ، فيكون المتّبع حينئذ هو الرّجوع إليهما


على وجه يحصل الظّن منهما » (١).

وقد أطال الكلام في النّقض والإبرام على ما ذكره وحاصله :

إجراء المقدّمات في خصوص العمل بالكتاب والسّنة دون الواقع بما هو واقع وقد سلك هذا المسلك الشيخ المحقّق التّستري قدس‌سره فيما تقدّم من كلامه في مسألة حجيّة نقل الإجماع ، واقتصر عليه في إثبات حجيّة الظّن في خصوص الطّريق.

ولمّا كان غرض المحقّق المحشي قدس‌سره والمهم في نظره : منع حجيّة مطلق الظّن بالواقع كما يقوله جماعة ويتأتّى ذلك بعدم التّعدّي عن الظّن الحاصل من الكتاب والسّنة بالنّظر إلى الواقع ولم يتعرّض لوجه تقديم الظّن الأوّل على الثّاني ، فلا بدّ أن يكون الوجه فيه أحد الوجوه السّابقة في كلامه فلا يعدّ هذا وجها مستقلاّ في إثبات المقام ، وإن كان وجها مستقلا في إثبات مرامه الّذي عرفته.

فيظهر الجواب عن التّرتيب الّذي زعمه بين الظّنين بملاحظة الجواب عن سائر الوجوه ، كما أنّه يظهر الجواب عن هذا الوجه بملاحظة ما تقدّم في مسألة حجيّة الأخبار من حيث الخصوص فراجع ، هذا.

مع أنّ ما أفاده قدس‌سره ـ مضافا إلى ما فيه من وجوه غير مخفيّة قد تقدّمت ـ غير محصّل المراد ؛ فإنّ غرضه من ذلك إثبات حجيّة الأخبار الحاكية عن السّنة قولا

__________________

(١) هداية المسترشدين : ج ٣ / ٣٧٣ ـ ٣٧٤.


أو فعلا أو تقريرا عند التّأمّل ، والأدلّة القطعيّة القاضية بالرّجوع إلى الكتاب والسّنة لا تعرض لها بالنّسبة إلى ما يحكى عنهما قطعا ، بل لا تعرّض لها بالنّسبة إلى حجيّة ظواهرهما عند التّحقيق ، وإن كانت حجّة من حيث الخصوص عندنا كما تقدّم تفصيل القول فيه في مسألة حجيّة ظواهر الكتاب فراجع.

وقال قدس‌سره : « السّابع : أنّه لا شك في كون المجتهد بعد انسداد باب العلم مكلّفا بالإفتاء ، وأنّه لا يسقط عنه التّكليف المذكور من جهة انسداد سبيل العلم.

ومن البيّن : أنّ الإفتاء فعل كسائر الأفعال يجب بحكم الشّرع على بعض الوجوه ويحرم على آخر ، فحينئذ إن قام عندنا دليل علميّ على تميّز الواجب منه عن الحرام فلا كلام في تعيّن الأخذ به ووجوب الإفتاء بذلك الطّريق المعلوم وحرمة الإفتاء على الوجه الآخر.

وإن انسدّ سبيل العلم بذلك أيضا تعيّن الرّجوع في التّميز إلى الظّن ؛ ضرورة بقاء التّكليف المذكور وكون الظّن هو الأقرب إلى الواقع ، فإذا دار أمره بين الإفتاء بمطلق الظّن أو بمقتضى الظّنيّات الخاصّة دون مطلق الظّن ، لم يجز له ترك الفتوى مع حصول الأوّل والإقدام عليه بمجرّد قيام الثّاني ؛ إذ هو ترك للظّن وتنزّل إلى الوهم من دون باعث عليه.

فإن قلت : إن الظن بثبوت الحكم في الواقع في معنى الظّن بثبوت الحكم في حقّنا وهو مفاد الظّن بتعليق التّكليف بنا في الظّاهر ، فكيف يقال بالانفكاك بين الظّن بالحكم والظّن بتعلّق التّكليف في الظّاهر المرجّح للحكم والإفتاء؟


قلت : إن أقصى ما يفيده الظّن بالحكم هو الظّن بثبوت الحكم في نفس الأمر وهو لا يستلزم الظن بجواز الإفتاء أو وجوبه بمجرّد ذلك ؛ ضرورة جواز الانفكاك بين الأمرين حسبما مرّ بيانه في الوجوه السّابقة.

ألا ترى أنّه يجوز قيام الدّليل القاطع أو المفيد للظّن على عدم جواز الإفتاء حينئذ من دون أن يعارض ذلك الظن المتعلّق بنفس الحكم؟ ولذا يبقى الظّن بالواقع مع حصول القطع أو الظّن بعدم جواز الإفتاء بمقتضاه.

ودعوى : أنّ قضيّة الظّن بثبوت الحكم في الواقع هو حصول الظن بتعلّق التّكليف.

ينافي الظّاهر والظّن بجواز الإفتاء بمقتضاه ، إلاّ أن يقوم دليل قاطع أو مفيد للظّن بخلافه ، عريّة عن البيان. كيف! وضرورة الوجدان قاضية بانتفاء الملازمة بين الأمرين ولو مع انتفاء الدّليل المفروض ؛ نظرا إلى احتمال أن يكون الشّارع قد منع من الأخذ به.

نعم ، لو لم يقم هذا الاحتمال كان الظّن بالحكم مستلزما للظّن بتعلّق التّكليف في الظّاهر.

فإن قلت : إنّ مجرّد قيام الاحتمال لا ينافي حصول الظّن سيّما بعد انسداد سبيل العلم بالواقع وحكم العقل حينئذ بالرّجوع إلى الظّن.

قلت : الكلام حينئذ في مقتضى حكم العقل فإنّ ما يقتضيه العقل توقّف


الإفتاء على قيام الدّليل القاطع على جوازه وبعد انسداد سبيله ينتقل إلى الظّن به. ومجرّد الظّن بالواقع لا يقتضيه مع قيام الدّليل الظّني على جواز الإفتاء بظنيّات مخصوصة.

نعم ، إن لم يقم دليل ظنّي على الرّجوع إلى بعض الطّرق ممّا يكتفى به في استنباط القدر اللاّزم من الأحكام وكانت الظّنون متساوية من حيث المدرك في نظر العقل ، كان مقتضى الدّليل المذكور القطع بوجوب العمل بالجميع وجواز الإفتاء بكلّ منها لوجوب الإفتاء حينئذ وانتفاء المرجّح بينها ، وأمّا مع قيام الدّليل الظّني فلا ريب في عدم جواز الرّجوع إلى مطلق الظّن بالواقع.

والحاصل : أنّ الواجب أوّلا ـ بعد انسداد سبيل العلم بالطّريق المجوّز للإفتاء ـ هو الأخذ بمقتضى الدّليل القاضي بالظّن بجواز الإفتاء سواء أفاد الظّن بالواقع أو لا ، ومع انسداد سبيل الظّن به يؤخذ بمقتضى الظّنّ بالواقع ويتساوى الظّنون حينئذ في الحجيّة ، ويكون ما قرّرنا دليلا قاطعا على جواز الإفتاء بمقتضاها » (١). انتهى ما أردنا نقله من كلامه قدس‌سره.

وأنت خبير : بأنّ المدّعى الواحد لا يختلف باختلاف التعبيرات ؛ ضرورة أنّ الواجب على المفتي في كلّ زمان الإفتاء بالأحكام الواقعيّة أو الظّاهريّة من الطّرق المقرّرة لها وهذا ممّا لم يختلف فيه أحد ، وإنّما الاختلاف في الطّرق.

__________________

(١) هداية المسترشدين : ج ٣ / ٣٨٠ ـ ٣٨٢.


والقائل بحجيّة مطلق الظن يقول : إنّ الطّريق للأحكام مطلق الظّن المتعلّق بها بحسب الواقع فقط ، أو هو مع الظّن المتعلّق بها بحسب الظّاهر على الاختلاف ، وإنّ نتيجة مقدّمات الانسداد بحكم العقل ذلك ، لا خصوص الثّاني على ما تقدّم تفصيل القول فيه.

ودعوى : كون الطّريق خصوصه ، محتاجة إلى الإثبات ؛ فلا بدّ من أن يتمسّك له ببعض الوجوه السّابقة ، فلا يكون هذا الوجه دليل مستقلاّ على المدّعى ، هذا.

مع أنّ ما أفاده في بيان تسليم الملازمة بين الظّن بالحكم والظّن بجواز الإفتاء بقوله : « نعم ، لو لم يقم هذا الاحتمال ... إلى آخره » (١) غير محصّل المراد ؛ إذ مع انتفاء احتمال المنع يقطع بحجيّة الظّن بالخصوص فيحصل القطع بجواز الإفتاء فيخرج عن مفروض البحث ، لا أنّه يظنّ بجواز الإفتاء مع انتفاء هذا الاحتمال. فلعلّه سهو من قلمه الشّريف ، أو غلط من النّاسخ فلا تغفل.

ثمّ إنّه لو بني في المسألة على الاستدلال بهذا الوجه ، أمكن الاستدلال بنظيره بالنّسبة إلى ما دلّ على وجوب القضاء على الحاكم في الأحكام الكليّة الإلهيّة ، لا في الشّبهات الموضوعيّة ؛ فإنّ وجوب القضاء على المجتهد في الشّبهات الحكميّة نظير وجوب الإفتاء عليه ثابت بالأدلّة القطعيّة حرفا بحرف.

__________________

(١) نفس المصدر : ج ٣ / ٣٨١.


(٢٩٧) قوله قدس‌سره : ( ويدفعه : أنّ المسألة ... إلى قوله : مع أنّ دعواه في مثل هذه المسائل المستحدثة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٦١ )

أقول : مراده ممّا أفاده : أنّه لو كان الكلام في المسألة في أنّ المجعول الشّرعي في حقّ المكلّفين في زمان الانسداد ماذا؟ أمكن دعوى الإجماع فيها مركّبا أو بسيطا في وجه ، مع قطع النّظر عن الجواب الثّاني الرّاجع إلى عدم إمكان الاطّلاع على أقوال العلماء ، مع عدم عنوان المسألة في كلماتهم ، إلاّ على وجه الاجتهاد والحدس الّذي لا يفيد في شيء.

وأمّا لو كان البحث في المسألة فيما يحكم به العقل في طريق إطاعة الأحكام الشّرعيّة المنسدّ فيها باب العلم ، وأنّه هل يحكم بحجيّة الظّن في خصوص الواقع أو الطّريق ، أو هما معا؟ فلا معنى لدعوى الإجماع فيها بسيطا أو مركّبا فتدبّر.

انتهى الجزء الثاني من بحر الفوائد بحسب تجزئتنا للكتاب ويليه الجزء الثالث أوله : التنبيه الثاني : من تنبيهات دليل الانسداد.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين

* * *



الفهرس التفصيلي

الأبحاث المطروحة في هذا المجلّد.................................................. ٥

في حجّيّة الإجماع المنقول......................................................... ٩

دخول البحث عن الاجماع في المسائل الأصولية ................................ ١١

تاريخ الإجماع في كتب أصحابنا الاصوليين .................................... ١٢

مقتضى التحقيق عدم حجّيّة نقل الإجماع ...................................... ١٣

في منع دلالة آية النبأ على حجيّة الإجماع المنقول ............................... ١٧

عدم الجدوى في الاستدلال بآية النبأ فيما لم يحكم فيه بنفي سائر الإحتمالات ..... ٢٣

أنحاء اعتبار العدالة في الشرع ................................................ ٢٦

نقل كلام صاحب الفصول لإثبات عموم الآية ................................. ٢٨

حقيقة الإجماع ووجه حجّيّته.................................................. ٣٠

المعتبر في الإجماع الاصطلاحي هو اتفاق الكل والأقوال في ذلك .................. ٣١


كلام صاحب القوانين ....................................................... ٣٤

كلام صاحب الفصول ...................................................... ٣٥

كلام الفاضل النراقي ........................................................ ٣٥

مقتضى التحقيق ............................................................ ٣٦

وجه حجّيّة الإجماع ......................................................... ٣٧

وجوه حجّيّة الإجماع لدى الإماميّة ............................................ ٣٨

الوجه الثالث من وجوه حجيّة الإجماع ........................................ ٤٢

الوجه الرابع من وجوه حجّيّة الإجماع ......................................... ٤٤

نقل كلام المحقّق التستري في الإجماع المنقول ................................... ٤٤

في بيان عدم جواز الإستناد في دعوى الإجماع إلى قاعدة اللطف .................. ٦٢

مراد فخر المحققين في الإيضاح ................................................ ٦٥

الدليل الصالح منحصر في آية النبأ وهو قاصر .................................. ٦٧

الإجماع حقيقة في إتفاق أهل عصر واحد ...................................... ٦٨

نقل كلام السيد في محكى الخلاف ............................................ ٧١

إمكان تصوير قسم خاص من الاجماع المنقول .................................. ٧٨

في المناقشات على إجماعات إبني إدريس وزهره وأضرابهما ....................... ٨٧


كلام المحقّق التستّري في عدم حجّيّة نقل الإجماع باعتبار المنكشف ............... ٩٥

في المتواتر المنقول........................................................... ١٠٧

في حجية الشهرة الفتوائية..................................................... ١١١

حكم الشهرة من حيث الحجّيّة وعدمها ...................................... ١١٣

فيما يستدلّ به لصالح مختار الشهيد قدس‌سره ..................................... ١١٥

عدم حجيّة الشهرة والدليل القائم على ذلك ................................. ١١٩

الأبحاث المطروحة في فصل حجّيّة الخبر الواحد ................................ ١٢٣

في حجية الخبر الواحد........................................................ ١٢٥

دخول المسألة في مسائل العلم .............................................. ١٢٨

تتمة الكلام في تحرير محلّ النزاع ............................................ ١٢٩

حجة المانعين................................................................. ١٣١

في بيان حال الأخبار المتمسك بها ........................................... ١٣٢

الموضوع في أخبار العرض هو ما لم يعلم بصدوره عنهم : ...................... ١٣٦

رجوع الإجماع ودليل العقل إلى السنّة ....................................... ١٣٧

* أدلة القائلين بالحجيّة .................................................... ١٤٧

١ ـ آية النبأ ............................................................ ١٤٧


في بيان مراده قدس‌سره من المناسبة والإقتران ...................................... ١٤٩

في ان ظاهر كلامهم إرادة وجوب التبيّن نفسا................................. ١٥٠

كلام صاحب الفصول ..................................................... ١٥٢

حمل وجوب التبيّن على النفسي لا يجدي في تماميّة الاستدلال .................. ١٥٣

التعليق على الوصف لا يدل على المفهوم ..................................... ١٥٤

كلام الفصول في الإعتراض على المحقق القمي ................................ ١٥٦

كيفية أخذ المفهوم من القضيّة الشرطيّة ...................................... ١٥٨

إفتراق الايراد الثاني عن الأول ووجهه........................................ ١٦٠

إعتراضات على حمل التبيّن على المعنى الأعمّ .................................. ١٦٢

إطلاق الجهالة على السفاهة خلاف الظاهر .................................. ١٦٤

مطلق الخارج عن العام لا يوجب انقلاب النسبة .............................. ١٦٦

لا معنى لتخصيص العام بالخاص الأخص وجعله موردا للإفتراق ................ ١٦٨

في انه لا معنى لإنصراف النبأ إلى الإخبار عن الإمام عليه‌السلام بلا واسطة....... ١٧٠

منافات ما ذكره هنا لما في تنبيهات دليل الإنسداد ............................. ١٧٨

٢ ـ آية النفر ............................................................ ١٨١

كيفية الإستدلال بآية النّفر لحكم الخبر ...................................... ١٨١


إيراد الفصول على المحقق القمّي ............................................. ١٨٨

المراد بالإنذار في الآية ...................................................... ١٩٥

كلام المحقق صاحب الفصول ............................................... ١٩٨

٣ ـ آية الكتمان.......................................................... ٢٠٢

٤ ـ آية السؤال.......................................................... ٢٠٥

كلام صاحب الفصول..................................................... ٢٠٧

٥ ـ آية الأذن ........................................................... ٢١١

الفرق بين التصديق المخبري والخبري ........................................ ٢١٣

في بيان النسبة بين الآيات المستدل بها ........................................ ٢١٥

المناقشة في انصراف المفهوم ................................................. ٢١٧

مراتب كثرة استعمال المطلق ................................................ ٢١٩

ثاني أدلّة المجوّزين : السنّة...................................................... ٢٢١

في بيان المراد من التوقيع الشريف ........................................... ٢٢٩

ظاهر الخبر اعتبار الإيمان ................................................... ٢٣٤

ثالث أدلّة المجوّزين : الإجماع................................................... ٢٤١

التقرير الأوّل للإجماع ..................................................... ٢٤١


المراد من معقد إجماع الشيخ في المقام ........................................ ٢٤٣

نقل عبارة الشيخ في العدّة .................................................. ٢٤٦

إشارة الشيخ إلى دليل الإنسداد ............................................. ٢٥٦

اشتباه صاحب المعالم في فهم مذهب الشيخ والمحقّق. ........................... ٢٥٧

عدم صلاحيّة الإجماع العملي لأن يكون قرينة على العمل بالاخبار ............. ٢٦١

امكان الجمع بين قولي الشيخ والسيّد ........................................ ٢٦٢

الإجماع الذي إدعاه ابن طاوس ............................................. ٢٦٩

التقرير الثاني للإجماع ...................................................... ٢٧٣

التقرير الثالث للإجماع .................................................... ٢٧٣

التقرير الرابع للإجماع ..................................................... ٢٧٦

في تقديم خبر الثقة على الأصول اللفظية ...................................... ٢٨٢

التقرير الخامس للإجماع ................................................... ٢٨٣

رابع أدلّة المجوّزين : دليل العقل................................................ ٢٨٩

التقرير الأوّل : ........................................................... ٢٨٩

دعوى العلم الإجمالي بصدور أكثر الأخبار ................................... ٢٩١

متعلّق العلم الإجمالي هو ما لم يعلم بصدوره من الأخبار ........................ ٢٩٤


وجوب طاعة النّبي والوصيّ لأن طاعتهما طاعة الله عزّ وجل.................... ٣٠٠

في اختصاص العلم الإجمالي بموارد الاخبار وعدمه.............................. ٣٠١

التقرير الثاني :............................................................. ٣٠٨

التقرير الثالث : .......................................................... ٣١١

كلام الشيخ محمّد تقي في حاشية المعالم ...................................... ٣١١

ومقدّماته الأربعة .......................................................... ٣٢٣

الأبحاث المطروحة في فصل أدلّة حجّيّة مطلق الظن ............................ ٣٢٣

في حجيّة مطلق الظن......................................................... ٣٢٥

كلام في الأدلّة الأربعة لحجّيّة الظن .......................................... ٣٢٥

الدليل الأوّل من أدلّة حجّيّة مطلق الظن ١ ـ وجوب دفع الضرر المظنون......... ٣٢٧

وضوح فساد الإعتراض على الدليل الأوّل ................................... ٣٢٧

نقل كلام الشيخ في مسألة الضرر وما يتوجّه عليه ............................ ٣٢٨

المراد من تحريم تعريض النفس للمهالك والمضار ............................... ٣٣١

قصر الطاعة والمعصية على العلم والظن محل مناقشة ........................... ٣٣٧

موضوع حكم العقل بوجوب الدفع هو الضرر غير المتدارك .................... ٣٤١

الكلام في الضرر .......................................................... ٣٤٣


الأحكام تابعة للموضوعات الوجدانيّة عند الحكم ............................. ٣٤٩

الكلام في الضرر الأخروي ................................................. ٣٥١

الكلام في الضرر الدنيوي .................................................. ٣٥٥

كشف الحكم العقلي عن الحكم الشرعي المولوي ............................. ٣٥٦

مفاد القاعدة وجوب الإحتياط .............................................. ٣٦٤

الدليل الثاني من أدلة حجية مطلق الظن ٢ ـ قبح ترجيح المرجوح................ ٣٦٧

كلام في قاعدة ترجيح الراجح على المرجوح ................................. ٣٧٢

الدليل الثالث من أدلة حجّيّة مطلق الظن ٣ ـ دليل سيّد الرياض................. ٣٧٥

الدليل الرابع من أدلّة حجّيّة مطلق الظن ٤ ـ دليل الإنسداد..................... ٣٧٩

( دليل الإنسداد ) ........................................................ ٣٨٥

المقدمة الأولى ............................................................. ٣٨٥

المقدمة الثانية ............................................................. ٣٨٨

استحالة اجتماع العلم الإجمالي مع الظن التفصيلي بالخلاف .................... ٣٩٣

فيما يتوجه على كلام المحقق القمي .......................................... ٣٩٦

المقدّمة الثالثة.............................................................. ٤٠١

في انه لا يمكن الظن بما لا يوافق الإحتياط في جميع الوقائع...................... ٤٠٧


في الفرق بين حجّيّة الظن والعمل به بعنوان الاحتياط .......................... ٤١١

بيان وضوح فساد التّعارض المتوهّم في المقام .................................. ٤١٣

كلام المتكلّمين في وجه اعتبار معرفة الوجه وقصده ........................... ٤١٧

كلام المصنّف في معرفة الوجه وقصده ....................................... ٤٢١

توضيح الجواب الرابع ...................................................... ٤٢٨

إشكال تفرّد به المصنّف ................................................... ٤٣٢

الفرق بين حجية الظن والتبعيض في الإحتياط ................................ ٤٣٤

إعضال : التبعيض في الإحتياط دون الحجيّة .................................. ٤٤٦

في بيان ما يوجب إجمال الخطابات .......................................... ٤٤٩

عدم جواز الرجوع إلى الاصول النافية للتكليف .............................. ٤٥٣

المقدّمة الرابعة ............................................................. ٤٥٨

لا تنافي بين ثبوت التكليف بالواقع وكفاية الظن .............................. ٤٦١

تنبيهات دليل الإنسداد........................................................ ٤٦٥

تنبيهات دليل الإنسداد........................................................ ٤٦٦

التنبيه الأوّل : لا يفرّق في الإمتثال الظنّي بين الظنّ بالحكم الواقعي والظاهري ........ ٤٦٦


الضرورة العقليّة حاكمة بتعميم نتيجة المقدّمات ............................... ٤٦٧

كلام صاحب الفصول في مسألة الظن في الطريق ............................. ٤٧١

توضيح مراد صاحب الفصول .............................................. ٤٧٤

إيرادان على الفصول ...................................................... ٤٧٦

الجواب الخامس من أجوبة إستدلالات صاحب الفصول ....................... ٤٩٧

الحق جواز عمل القاضي بعلمه .............................................. ٥١١

مجرد أغلبيّة الظنون الخاصّة لا يوجب جعلها مطلقا حتى في زمان الانفتاح ........ ٥١٤

مجرّد ملاحظة المصلحة في الأمر بسلوك الأمارة لا يوجب رفع اليد عن الواقع ..... ٥١٨

كلام المحقّق صاحب الحاشية فيما يتعلّق بالظّنّ في الطريق........................ ٥٢٠

مراد المحقق المذكور ........................................................ ٥٢٣

ما يرد على المحقق صاحب الحاشية .......................................... ٥٢٤

بقيّة الجواب الثاني عن دليل المحقّق المحشّي قدس‌سره ................................ ٥٢٦

الجواب الثالث عن ذلك ................................................... ٥٢٨

نقل بقيّة كلام المحقّق المحشّي قدس‌سره ............................................ ٥٢٩

فيما يرد على ما أفاده المحقّق المحشّي قدس‌سره ..................................... ٥٣٨


في توضيح ما أفاده الشيخ الأعظم في الجواب عن كلام المحقّق المحشّي قدس‌سره ........ ٥٤٣

كلام صاحب الحاشية في أن خبر الثقة لا يفيد العلم بالواقع..................... ٥٥٠

سلوك الطريق لا يوجب رفع الواقع عند المخالفة .............................. ٥٥٣

سائر الوجوه التي تمسّك بها المحقّق المحشّي ..................................... ٥٥٥

في بيان فساد الوجوه المذكورة .............................................. ٥٥٧

فيما يرد على كلامه المزبور................................................. ٥٦٠

سائر ما استند اليه المحقّق المحشّي قدس‌سره ........................................ ٥٦٣

الوجه المذكور يبتني على ان تكون نتيجة المقدمات قضيّة مهملة ................. ٥٦٨

نقل تتمة كلام المحقّق المحشّي قدس‌سره ........................................... ٥٦٩

فيما يتوجّه على الوجه المزبور .............................................. ٥٧٣

بقيّة وجوه المحقّق المذكور ................................................... ٥٧٥

الفهرس التفصيلي ......................................................... ٥٨٣

بحرالفوائد في شرح الفرائد - ٢

المؤلف:
الصفحات: 593