

مقدّمة التحقيق
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله الذي
خلق ملكه على مثال ملكوته ، وأسّس ملكوته على مثال جبروته ، ليستدلّ بملكه على
ملكوته ، وبملكوته على جبروته.
والصّلوة والسلام
على ممدّ الهمم رسوله الخاتم ، وآله الموازين القسط أئمّة الأمم ، ومن سلكوا نهجهم
الهادين الى الطريق الأمم.
وبعد فلا يخفى على
من لم يهمل نفسه ولم ينسها أن معرفة النفس هى السبيل الى معرفة الواجب تعالى شأنه
، والطريق إلى الإيقان بالمعاد المفضى الى تحصيل السعادة الأبديّة ، فهى أفضل
المعارف وأنفعها. قوله سبحانه : ( وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ. )
قال الوصيّ الإمام
أمير المؤمنين على ـ عليهالسلام ـ : « لا
تجهل نفسك فان الجاهل معرفة نفسه جاهل بكل شيء ».
وقال عليهالسلام : « من
عرف نفسه فقد انتهى إلى غاية كل معرفة وعلم ».
وقال عليهالسلام : « من
لم يعرف نفسه بعد عن سبيل النجاة وخبط في الضلال والجهالات ».
وقال عليهالسلام : « معرفة
النفس انفع المعارف ».
وقال عليهالسلام : « من
عرف نفسه عرف ربّه ».
وقد اعتنى اساطين
العلم من قديم الدهر بتصنيف الصحف النورية في معرفة النفس الانسانية ، وقد عددنا
عدة منها فى مفتتح كتابنا الفارسي في معرفة النفس الموسوم بـ « گنجينه گوهر روان ».
ومن تلك الصحف الكريمة كتاب نفس الشفاء للشيخ الرئيس ـ رضوان الله عليه ـ وقد
قرأناه عند شيخنا الأعظم واستاذنا الأكرم العلامة الشعرانى ـ قدس سرّه الشريف ـ ( سنة
١٣٨٠ ه ق ١٣٤٠ ه ش ).
وبعد ذلك بذلنا
الجدّ والجهد في تصحيحه وتدريسه والتعليق عليه. وقد رزقنا الله المفيض الوهّاب
ومهيّئ الأسباب ومسبّبها ، عدة نسخ من الشفاء مخطوطة ومطبوعة مصحّحة من مشايخ
العلم واساطين الحكمة ، وهذا السفر القويم الموشح بتعليقاتنا عليه قد صحّحناه
بالعرض عليها ، ونهديه إلى النفوس المستعدة للاعتلاء إلى ذرى معارج المعارف. ونسأل
الله العصمة والسداد ، وأن يجعله ذخرا ليوم المعاد.
وترى في آخر
الكتاب نماذج من تصاوير بعض صفحات نسخنا المذكورة الموجودة فى مكتبتنا. دعويهم
فيها سبحانك اللهم وتحيّتهم فيها سلام وآخر دعويهم أن الحمد لله رب العالمين.
٢٩ / ٣ /
١٣٧٥ ه ش ـ غرة الصفر ١٤١٧ ه ق ـ قم.
حسن حسن
زاده الآملى.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الفن
السادس من الطبيعيات
قد استوفينا فى
الفن الأول الكلام على الأمور العامّة فى الطبيعيات ، ثم تلوناه بالفن الثانى فى
معرفة الاجرام والسماء والعالم والصور والحركات الأولى
فى عالم الطبيعة ، وحققنا أحوال الأجسام التى لا تفسد والتى تفسد ، ثم تلوناه
بالكلام على الكون والفساد وأسطقساتها ، ثم تلوناه بالكلام على أفعال الكيفيات
الأولى وانفعالاتها والأمزجة المتولدة منها.
وبقى لنا أن نتكلم
على الأمور الكائنة ، فكانت الجمادات وما لا حس له ولا حركة إرادية أقدمها وأقربها
تكوّنا من العناصر ، فتكلّمنا فيها فى
__________________
الفن الخامس.
وبقى لنا من العلم
الطبيعى النظر فى أمور النباتات والحيوانات لما كانت النباتات والحيوانات متجوهرة
الذوات عن صورة هى النفس ومادة هى الجسم والأعضاء ، وكان أولى ما يكون علما بالشىء
هو ما يكون من جهة صورته ، رأينا أن نتكلم أولا فى النفس ، ولم نر أن ننثر علم النفس فنتكلم أولا فى النفس النباتية والنبات ، ثم فى النفس الحيوانية
والحيوان ، ثم فى النفس الإنسانية والإنسان. وإنما لم نفعل ذلك لسببين :
أحدهما أن هذا
التنثير مما يوعّر ضبط علم النفس المناسب بعضه لبعض.
والثانى أن النبات
يشارك الحيوان فى النفس التى لها فعل النمو والتغذية والتوليد. ويجب لا محالة أن
ينفصل عنه بقوى نفسانية تخص جنسه ثم تخص أنواعه. والذى يمكننا أن
نتكلم عليه من أمر نفس النبات هو ما يشارك فيه الحيوان. ولسنا نشعر كثير شعور
بالفصول المنوعة لهذا المعنى الجنسى فى النبات ؛ وإذا كان الأمر كذلك لم تكن نسبة
هذا القسم من النظر إلى أنه كلام فى النبات أولى منه إلى أنه كلام فى الحيوان ؛ إذ
كانت نسبة الحيوان إلى هذه النفس نسبة النبات إليها وكذلك أيضا حال
__________________
النفس الحيوانية
بالقياس إلى الإنسان والحيوانات الأخر.
وإذ كنا إنما نريد
أن نتكلم فى النفس الحيوانية والنباتية من حيث هى مشتركة ، وكان لا علم بالمخصص
إلا بعد العلم بالمشترك ، وكنا قليلى الاشتغال بالفصول الذاتية لنفس نفس ولنبات
نبات ولحيوان حيوان لتعذر ذلك علينا. فكان الأولى أن نتكلم
فى النفس فى كتاب واحد ، ثم إن أمكننا أن نتكلم فى النبات والحيوان كلاما مخصصا
فعلنا. وأكثر ما يمكننا من ذلك يكون متعلقا بأبدانها وبخواص من أفعالها البدنية ،
فلأن نقدّم تعرّف أمر النفس ونؤخّر تعرّف أمر البدن أهدى سبيلا فى التعليم من أن نقدّم تعرّف أمر البدن ونؤخّر تعرّف أمر النفس. فإن معونة
معرفة أمر النفس فى معرفة الأحوال البدنية أكثر من معونة معرفة البدن فى معرفة
الأحوال النفسانية. على أن كل واحد منهما يعين على الآخر ، وليس أحد الطرفين
بضرورى التقديم ، إلا أنا آثرنا أن نقدّم الكلام فى النفس لما أمليناه من العذر ، فمن شاء أن يغيّر هذا الترتيب فعل بلا مناقشة لنا معه.
وهذا هو الفن
السادس ، ثم نتلوه فى الفن السابع بالنظر فى أحوال النبات ، وفى الفن الثامن
بالنظر فى أحوال الحيوان. وهناك نختم العلم الطبيعى ، ونتلوه بالعلم الرياضى فى
فنون أربعة ، ثم نتلو ذلك كله بالعلم الإلهى ، ونردفه شيئا من علم الأخلاق ، ونختم
كتابنا هذا به.
__________________
المقالة الأولى
خمسة فصول :
الفصل
الأول : فى اثبات النفس
وتحديدها من حيث هى نفس.
الفصل
الثانى : فى ذكر ماقاله
القدماء فى النفس فى جوهرها ونقضه.
الفصل
الثالث : فى أنّ النفس
داخلة فى مقولة الجوهر.
الفصل
الرابع : فى تبيين أنّ
اختلاف أفاعيل النفس لاختلاف قواها.
الفصل
الخامس : فى تعديد قوى
النفس على سبيل التصنيف.
الفصل الاول
فى إثبات النفس وتحديدها
من حيث هى نفس
نقول : إن أول ما
يجب أن نتكلم فيه إثبات وجود الشىء الذى يسمى نفسا ، ثم نتكلم فيما يتبع ذلك فنقول
: إنا قد نشاهد أجساما تحسّ وتتحرّك بالإرادة ، بل نشاهد أجساما تغتذى وتنمو
وتولّد المثل وليس ذلك لها لجسميتها ، فبقى أن تكون فى ذواتها مبادئ لذلك غير
جسميتها ، والشىء الذى تصدر عنه هذه الأفعال. وبالجملة كل ما يكون مبدأ لصدور
أفاعيل ليست على وتيرة واحدة عادمة للإرادة ، فإنا نسمّيه نفسا. وهذه اللفظة اسم لهذا
الشىء ، لا من حيث هو جوهره ، ولكن من جهة إضافة مّا له ، أى من جهة ما هو مبدأ
لهذه الأفاعيل ، ونحن نطلب جوهره والمقولة التى يقع فيها من بعد. ولكنا الآن إنما
أثبتنا وجود شىء هو مبدأ لما ذكرنا ، وأثبتنا وجود شىء من جهة مّا له عرض مّا
ونحتاج أن نتوصّل من
__________________
هذا العارض الذى
له إلى أن نحقّق ذاته لنعرف ماهيته ، كأنّا قد عرفنا أن لشىء يتحرك محركا مّا.
ولسنا نعلم من ذلك أن ذات هذا المحرك ما هو.
فنقول : إذا كانت
الأشياء ، التى يرى أن النفس موجودة لها ، أجساما ، وإنما يتم وجودها من حيث هى
نبات وحيوان لوجود هذا الشىء لها ، فهذا الشىء جزء من قوامها. وأجزاء القوام كما
علمت فى مواضع هى قسمان : جزء يكون به الشىء هو ما هو بالفعل ، وجزء يكون به الشىء
هو ما هو بالقوة ، إذ هو بمنزلة الموضوع ؛ فإن كانت النفس من القسم الثانى ، ولا شك أن البدن من ذلك القسم ، فالحيوان والنبات لا يتم حيوانا ولا نباتا
بالبدن ولا بالنفس فيحتاج إلى كمال آخر هو المبدأ بالفعل لما قلنا. فذلك هو
النفس وهو الذى كلامنا فيه ، بل ينبغى أن تكون النفس هو ما به يكون النبات
والحيوان بالفعل نباتا وحيوانا. فإن كان جسما أيضا ، فالجسم صورته ماقلنا ؛ وإن كان جسما بصورة مّا ، فلا يكون هو من حيث هو جسم ذلك المبدأ ، بل يكون
كونه مبدأ من جهة تلك الصورة ، ويكون صدور تلك الأحوال عن تلك الصورة بذاتها. وإن
كان بتوسط هذا الجسم ، فيكون المبدأ الأول تلك الصورة ، ويكون أول
__________________
فعله بوساطة هذا
الجسم ، ويكون هذا الجسم جزءا من جسم الحيوان ، لكنه أول جزء يتعلق به المبدأ ،
وليس هو بما هو جسم إلا من جملة الموضوع. فتبيّن أن ذات النفس ليس بجسم ، بل هو
جزء للحيوان والنبات ، هو صورة أو كالصورة أو كالكمال.
فنقول الآن : إن
النفس يصح أن يقال لها بالقياس إلى ما يصدر عنها من الأفعال قوة .
وكذلك يجوز أن
يقال لها بالقياس إلى ما يقبلها من الصور المحسوسة
والمعقولة على معنى آخر قوة.
ويصح أن يقال أيضا
لها بالقياس إلى المادة التى تحلها فيجتمع منهما جوهر نباتى أو حيوانى صورة.
ويصح أن يقال لها
أيضا بالقياس إلى استكمال الجنس بها نوعا محصلا فى الأنواع العالية أو السافلة
كمال ، لأن طبيعة الجنس تكون ناقصة غير محدودة ما لم تحصّلها طبيعة الفصل البسيط أو غير البسيط منضافا إليها ؛ فإذا انضاف كمل النّوع. فالفصل كمال النوع
بما
__________________
هو نوع وليس لكل
نوع فصل بسيط ، قد علمت هذا ، بل إنما هو للأنواع المركبة الذوات من
مادة وصورة ، والصورة منها هو الفصل البسيط لما هو كماله.
ثم كل صورة كمال ، وليس كل كمال صورة ، فإن الملك كمال المدينة ، والربّان كمال السفينة ،
وليسا بصورتين للمدينة والسفينة ، فما كان من الكمال مفارق الذات لم يكن بالحقيقة
صورة للمادة وفى المادة. فإن الصورة التى هى فى المادة هى الصورة المنطبعة فيها
القائمة بها ، اللهم إلا أن يصطلح فيقال لكمال النوع صورة النوع. وبالحقيقة فإنه
قد استقر الاصطلاح على أن يكون الشىء بالقياس إلى المادة صورة ، وبالقياس إلى
الجملة غاية وكمالا ، وبالقياس إلى التحريك مبدأ فاعليا وقوة محركة.
وإذا كان الأمر
كذلك فالصورة تقتضى نسبة إلى شىء بعيد من ذات الجوهر الحاصل منها ، وإلى شىء يكون الجوهر الحاصل هو ما
__________________
هو به بالقوة ، وإلى شىء لا تنسب الأفاعيل إليه ، وذلك الشىء هو المادة لأنها صورة باعتبار وجودها للمادة.
والكمال يقتضى
نسبة إلى الشىء التام الذى عنه تصدر الأفاعيل لأنه كمال بحسب اعتباره للنوع . فبين من هذا أنا إذا قلنا فى تعريف النفس إنها كمال كان أدل على معناها ، وكان أيضا يتضمن جميع أنواع النفس من جميع وجوهها ، ولا تشذ النفس المفارقة للمادة عنه.
وأيضا إذا قلنا :
إن النفس كمال فهو أولى من أن نقول : قوة ، وذلك لأن الأمور الصادرة عن النفس منها
ما هى من باب الحركة ، ومنها ما هى من باب الإحساس والإدراك ، والإدراك بالحرى أن
يكون لها لا بما لها قوة هى مبدأ فعل ، بل مبدأ قبول. والتحريك بالحرى أن يكون لها
لا بما لها قوة هى مبدأ قبول ، بل مبدأ فعل ، وليس أن ينسب إليها أحد الأمرين
بأنها قوة
__________________
عليه أولى من
الآخر. فإن قيل لها : قوة ، وعنى به الأمران جميعا كان ذلك باشتراك الاسم. وإن قيل
: قوة ، واقتصر على أحد الوجهين ، عرض من ذلك ماقلنا.
وشىء آخر وهو أنه
لا يتضمن الدلالة على ذات النفس من حيث هى نفس مطلقا ، بل من جهة دون جهة. وقد بينا فى الكتب المنطقية أن ذلك غيرجيد ولا صواب.
ثم إذا قلنا :
كمال ، اشتمل على المعنيين. فإن النفس من جهة القوة التى يستكمل بها إدراك الحيوان كمال ، ومن جهة القوة التى تصدر عنها أفاعيل
الحيوان أيضا كمال ، والنفس المفارقة كمال ، والنفس التى لا تفارق كمال.
لكنا إذا قلنا :
كمال ، لم يعلم من ذلك بعد أنها جوهر ، أو أن ليست بجوهر لأنّ معنى الكمال هو
الشىء الذى بوجوده يصير الحيوان بالفعل حيوانا والنبات بالفعل نباتا ، وهذا لا
يفهم عنه بعد أنّ ذلك جوهر أو ليس بجوهر.
__________________
لكنا نقول : إنه
لا شك لنا فى أن هذا الشىء ليس بجوهر بالمعنى الذى يكون به الموضوع جوهرا ، ولا
أيضا بالمعنى الذى يكون به المركب جوهرا. فأما جوهر بمعنى الصورة فلينظر فيه.
فإن قال قائل :
إنى أقول للنفس جوهر وأعنى به الصورة ، ولست أعنى به معنى أعم من الصورة ، بل معنى
أنه جوهر معنى أنه صورة ، وهذا مما قاله خلق منهم ، فلا يكون معه موضع بحث واختلاف ألبتة. فيكون معنى قوله : إن النفس جوهر ،
أنها صورة ؛ بل يكون قوله : الصورة جوهر ، كقوله الصورة صورة أو هيئة والإنسان
إنسان أو بشر ، ويكون هذيانا من الكلام.
وإن عنى بالصورة ما ليس فى موضوع ألبتة ، أى لا يوجد بوجه من الوجوه قائما فى الشىء الذى
سميناه لك موضوعا ألبتة ، فلا يكون كل كمال جوهرا. فإن كثيرا من الكمالات هى فى موضوع لا محالة ، وإن كان ذلك الكثير بالقياس إلى المركب ، ومن حيث
كونه فيه ليس فى موضوع ، فإن كونه جزءا منه لا يمنعه أن يكون فى موضوع ، وكونه فيه
لا كالشىء فى الموضوع لا يجعله جوهرا ، كما ظن بعضهم. لأنه لم يكن الجوهر ما لا
يكون بالقياس إلى شىء على أنه فى موضوع حتى يكون الشىء من جهة ما ليس فى هذا الشىء
على أنه فى موضوع جوهرا ، بل
__________________
إنما يكون جوهرا
إذا لم يكن ولا فى شىء من الأشياء على أنه فى موضوع. وهذا المعنى لا يدفع كونه فى
شىء مّا موجودا لا فى موضوع ، فإن ذلك ليس له بالقياس إلى كل شىء ، حتى إذا قيس
إلى شىء يكون فيه لا كما يوجد الشىء فى موضوع صار جوهرا ؛ وإن كان بالقياس إلى شىء
آخر بحيث يكون عرضا ، بل هو اعتبار له فى ذاته. فإن الشىء إذا تأملت ذاته ونظرت
إليها فلم يوجد لها موضوع ألبتة كانت فى نفسها جوهرا ، وإن وجدت فى ألف شىء لا فى
موضوع بعد أن توجد فى شىء واحد على نحو وجود الشىء فى الموضوع فهى فى نفسها عرض.
وليس إذا لم يكن عرضا فى شىء فهو جوهر فيه ، فيجوز أن يكون الشىء لا عرضا فى الشىء
ولا جوهرا فى الشىء ، كما أن الشىء يجوز أن لا يكون واحدا
فى شىء ولا كثيرا ، لكنه فى نفسه واحد أو كثير. وليس الجوهرى والجوهر واحدا
، ولا العرض بمعنى العرضى الذى فى إيساغوجى هو العرض الذى فى قاطيغورياس . وقد بينا هذه الأشياء لك فى صناعة المنطق.
فبين أن النفس لا
يزيل عرضيتها كونها فى المركب كجزء ، بل يجب
__________________
أن تكون فى نفسها
لا فى موضوع ألبتة ، وقد علمت ما الموضوع.
فإن كان كل نفس
موجودة لا فى موضوع ، فكل نفس جوهر ، وإن كانت نفس مّا قائمة بذاتها والبواقى كل
واحد منها فى هيولى وليست فى موضوع فكل نفس جوهر ، وإن كانت نفس مّا قائمة فى
موضوع وهى مع ذلك جزء من المركب فهى عرض ، وجميع هذا كمال. فلم يتبين لنا بعد أن
النفس جوهر أو ليست بجوهر من وضعنا أنها كمال. وغلط من ظن أن هذا يكفيه فى أن
يجعلها جوهرا كالصورة.
فنقول : إنا إذا
عرفنا أن النفس كمال بأى بيان وتفصيل فصلنا الكمال ، لم يكن بعد عرفنا النفس
وماهيتها ، بل عرفناها من حيث هى نفس ؛ واسم النفس ليس يقع عليها من حيث جوهرها ،
بل من حيث هى مدبرة للأبدان ومقبسة إليها. فلذلك يؤخذ البدن فى حدها ، كما يؤخذ
مثلا البناء فى حد البانى ، وإن كان لا يؤخذ فى حده من حيث هو إنسان.
ولذلك صار النظر
فى النفس من العلم الطبيعى ، لأن النظر فى النفس من حيث هى نفس نظر فيها من حيث
لها علاقة بالمادة والحركة ، بل يجب أن نفرد لتعرّفنا ذات النفس بحثا آخر. ولو
كنّا عرفنا بهذا ذات النفس ، لما أشكل علينا وقوعها فى أى مقولة تقع فيها. فإن من
عرف وفهم ذات الشىء فعرض على نفسه طبيعة أمر ذاتى له لم يشكل عليه وجوده له ، كما
أوضحناه فى المنطق.
لكن الكمال على
وجهين : كمال أول ، وكمال ثان. فالكمال الأول
__________________
هو الذى يصير به
النوع نوعا بالفعل كالشكل للسيف. والكمال الثانى هو أمر من الأمور التى تتبع وجود
نوع الشىء من أفعاله وانفعالاته ، كالقطع للسيف ، وكالتمييز والرويّة والإحساس
والحركة للإنسان. فإن هذه كمالات لا محالة للنوع ، لكن ليست أوّليّة ، فإنه ليس
يحتاج النوع فى أن يصير هو ما هو بالفعل إلى حصول هذه الأشياء له بالفعل ، بل إذا
حصل له مبدأ هذه الأشياء بالفعل حتى صار له هذه الأشياء بالقوة بعد ما لم تكن
بالقوة إلا بقوة بعيدة تحتاج إلى أن يحصل قبلها شىء حتى تصير بالحقيقة بالقوة صار
حينئذ الحيوان حيوانا بالفعل. فالنفس كمال أول.
ولأن الكمال كمال
للشىء ، فالنفس كمال الشىء ، وهذا الشىء هو الجسم ، ويجب أن يؤخذ الجسم بالمعنى
الجنسى لا بالمعنى المادى ، كما علمت فى
صناعة البرهان. وليس هذا الجسم الذى النفس كماله كل جسم ، فإنها ليست كمال الجسم
الصناعى كالسرير والكرسى وغيرهما ، بل كمال الجسم الطبيعى. ولا كل جسم طبيعى ،
فليست النفس كمال نار ولا أرض ولا هواء ، بل هى فى عالمنا كمال جسم طبيعى تصدر عنه
كمالاته الثانية بآلات يستعين بها فى أفعال الحياة التى أولها التغذى والنمو.
فالنفس التى نحدّها هى كمال أول لجسم طبيعى آلى له أن يفعل أفعال الحياة.
لكنه قد يتشكك فى
هذا الموضوع بأشياء ، من ذلك أن لقائل أن يقول : إن هذا الحد لا يتناول النفس
الفلكية فإنها تفعل بلا آلات. وإن تركتم ذكر الآلات واقتصرتم على ذكر الحياة لم
يغنكم ذلك شيئا ، فإن
__________________
الحياة التى لها
ليس هو التغذى والنمو ، ولا أيضا الحس. وأنتم تعنون بالحياة التى فى الحد هذا ، وإن
عنيتم بالحياة ما للنفس الفلكية من الإدراك مثلا والتصور العقلى أو التحريك لغاية
إرادية ، أخرجتم النبات من جملة ما يكون له نفس. وأيضا إن كان التغذى حياة فلم لا
تسمون النبات حيوانا.
وأيضا لقائل أن
يقول : ما الذى أحوجكم إلى أن تثبتوا نفسا ولم لم يكفكم أن تقولوا : إن الحياة
نفسها هى هذا الكمال فتكون الحياة هى المعنى الذى يصدر عنه ما تنسبون صدوره إلى
النفس.
فلنشرع فى جواب
واحد واحد من ذلك وحله ، فنقول : أما الأجسام السماوية فإن فيها مذهبين : مذهب من
يرى أن كل كوكب يجتمع منه ومن عدة كرات قد دبّرت بحركته جملة جسم كحيوان واحد ،
فتكون حينئذ كل واحدة من الكرات يتم فعلها بعدة أجزاء ذوات حركات ، فتكون هى
كالآلات. وهذا القول لا يستمر فى كل الكرات . ومذهب من يرى أن
كل كرة فلها فى نفسها حياة مفردة ، وخصوصا ويرى جسما تاسعا ، ذلك الجسم واحد
بالفعل لا كثرة فيه. فهؤلاء يجب أن يروا أن اسم النفس إذا وقع على النفس الفلكية
وعلى النفس النباتية فإنما يقع بالاشتراك ، وأن هذا الحد
إنما هو للنفس الموجودة للمركبات ، وإنه إذا احتيل حتى تشترك الحيوانات والفلك فى معنى اسم النفس ، خرج
__________________
معنى النبات من
تلك الجملة. على أن هذه الحيلة صعبة ، وذلك لأن الحيوانات والفلك لا تشترك فى معنى
اسم الحياة ولا فى معنى اسم النطق أيضا لأن النطق الذى هاهنا يقع على وجود نفس لها
العقلان الهيولانيان ، وليس هذا مما يصح هناك على ما يرى. فإن العقل هناك عقل
بالفعل ، والعقل بالفعل غير مقوم للنفس الكائنة جزء حد للناطق .
وكذلك الحس هاهنا
يقع على القوة التى تدرك بها المحسوسات على سبيل قبول أمثلتها والانفعال منها ،
وليس هذا أيضا مما يصح هناك على ما يرى.
ثم إن اجتهد فجعل
النفس كمالا أول لما هو متحرك بالإرادة ومدرك من الأجسام حتى تدخل فيه الحيوانات
والنفس الفلكية ، خرج النبات من تلك الجملة. وهذا هو القول المحصل.
وأما أمر الحياة
والنفس فحل الشك فى ذلك على ما نقول له : إنه قد صح أن الأجسام يجب أن يكون فيها
مبدأ للأحوال المعلومة المنسوبة إلى الحياة بالفعل. فإن سمّى مسمّ هذا المبدأ حياة
لم تكن معه مناقشة.
وأما المفهوم عند
الجمهور من لفظة الحياة المقولة على الحيوان فهو أمران : أحدهما كون النوع موجودا
فيه مبدأ تصدر تلك الأحوال عنه ، أو كون الجسم بحيث يصح صدور تلك الأفعال عنه.
فأما الأول فمعلوم أنه ليس معنى النفس بوجه من الوجوه . وأما الثانى فيدل على معنى أيضا
__________________
غير معنى النفس.
وذلك لأن كون
الشىء بحيث يصح أن يصدر عنه شىء أو يوصف بصفة يكون على وجهين : أحدهما أن يكون فى
الوجود شىء غير ذلك الكون نفسه يصدر عنه ما يصدر مثل كون السفينة ، بحيث تصدر عنه
المنافع السفينية. وذلك مما يحتاج إلى الربان حتى يكون هذا الكون ، والربان وهذا
الكون ليس شيئا واحدا بالموضوع. والثانى أن لا يكون شىء غير هذا الكون فى الموضوع
مثل كون الجسم بحيث يصدر عنه الإحراق عند من يجعل نفس هذا الكون الحرارة ، حتى
يكون وجود الحرارة فى الحسم هو وجود هذا الكون ، وكذلك وجود النفس وجود هذا الكون على ظاهر الأمر.
إلا أن ذلك فى
النفس لا يستقيم ، فليس المفهوم من هذا الكون ومن النفس شيئا واحدا ، وكيف لا يكون
كذلك والمفهوم من الكون الموصوف لا يمنع أن يسبقه بالذات كمال ومبدأ ، ثم للجسم
هذا الكون. والمفهوم من الكمال الأول الذى رسمناه يمنع أن يسبقه بالذات كمال آخر ،
لأن الكمال الأول ليس له مبدأ وكمال أول فليس إذن المفهوم من الحياة والنفس واحدا
إذا عنينا بالحياة ما يفهم الجمهور وإن عنينا بالحياة أن تكون لفظة مرادفة للنفس
فى الدلالة على الكمال الأول لم نناقش ، وتكون الحياة اسما لما كنا وراء إثباته من
هذا الكمال الأول.
فقد عرفنا الآن
معنى الاسم الذى يقع على الشىء الذى سمى نفسا بإضافة له.
__________________
فبالحرى أن نشتغل
بإدراك ماهية هذا الشىء الذى صار بالاعتبار المقول نفسا .
ويجب أن نشير فى
هذا الموضع إلى إثبات وجود النفس التى لنا إثباتا على سبيل التنبيه والتذكير إشارة
شديدة الموقع عند من له قوة على ملاحظة الحق نفسه من غير احتياج إلى تثقيفه وقرع عصاه وصرفه عن المغلطات.
فنقول : يجب أن
يتوهم الواحد منا كأنه خلق دفعة وخلق كاملا ، لكنه حجب بصره
عن مشاهدة الخارجات ، وخلق يهوى فى هواء أو خلاء هويّا لا يصدمه فيه قوام الهواء صدما مّا
يحوج إلى أن يحسّس ، وفرّق بين أعضائه فلم تتلاق ولم
تتماس ، ثم يتأمل أنه هل يثبت وجود ذاته ولا يشك فى إثباته لذاته موجودا ولا يثبت
مع ذلك طرفا من أعضائه ولا باطنا من أحشائه ولا قلبا ولا دماغا ولا شيئا من
الأشياء من خارج.
__________________
فإن قيل : انّ ،
المشعور به هو المزاج.
فالجواب : انّ
المزاج لا يدرك الا بالانفعال والمنفعل عنه غير المنفعل ، بل كان يثبت ذاته ولا يثبت لها طولا ولا عرضا ولا عمقا ، ولو أنه أمكنه فى
تلك الحالة أن يتخيل يدا أو عضوا آخر لم يتخيله جزءا من ذاته ولا شرطا فى ذاته ،
وأنت تعلم أن المثبت غير الذى لم يثبت والمقرّ به غير الذى لم يقرّبه ، فإذن للذات
التى اثبت وجودها خاصية لها على أنها هو بعينه غير جسمه وأعضائه التى لم تثبت ،
فإذن المتنبّه له سبيل إلى أن يتنبه على وجود النفس بكونه شيئا غير الجسم بل غير
جسم ، وأنه عارف به مستشعر له ، فإن كان ذاهلا عنه يحتاج إلى أن يقرع عصاه.
__________________
الفصل الثانى
فى ذكر ما قاله القدماء
فى النفس وجوهرها ونقضه
فنقول : قد اختلف
الأوائل فى ذلك لأنهم اختلفوا فى المسالك إليه ، فمنهم من سلك إلى علم النفس من
جهة الحركة ، ومنهم من سلك إليه من جهة الإدراك ، ومنهم من جمع بين المسلكين ،
ومنهم من سلك طريق الحياة غير مفصلة .
فمن سلك منهم جهة
الحركة ، فقد كان تخيل عنده أن التحريك لا يصدر إلا عن محرك ، وأن المحرك الأول
يكون لا محالة متحركا بذاته ، وكانت النفس محركة أولية ، إليها يتراقى التحريك من
الأعضاء والعضل والأعصاب ، فجعل النفس متحركة لذاتها ، وجعلها لذلك جوهرا غير مائت
، معتقدا أن ما يتحرك لذاته لا يجوز أن يموت. قال : ولذلك ما ، كانت الأجسام
السماوية ليست تفسد والسبب فيه دوام حركتها.
فمنهم من منع أن
تكون النفس جسما فجعلها جوهرا غير جسم متحركا لذاته ومنهم من جعلها جسما وطلب
الجسم المتحرك بذاته.
__________________
فمنهم من جعل ما
كان من الأجرام التى لا تتجزأ كرّيا ليسهل دوام حركته ، وزعم أن الحيوان
يستنشق ذلك بالتنفس ، وأن التنفس غذاء للنفس ، وأن النفس تستبقى به النفس بإدخال
بدل ما يخرج من ذلك الجنس من الهباء التى هى الأجرام التى لا تتجزأ التى هى المبادئ
وأنها متحركة بذاتها ، كما يرى من حركة الهباء دائما فى الجو ، فلذلك صلحت لأن
تحرّك غيرها.
ومنهم من قال :
إنها ليست هى النفس ، بل إن محركها هو النفس وهى فيها ، وتدخل البدن بدخولها.
ومنهم من جعل
النفس نارا ورأى أن النار دائمة الحركة.
وأما من سلك طريق
الإدراك :
فمنهم من رأى أن
الشىء إنما يدرك ما سواه لأنه متقدم عليه ومبدأ له ، فوجب أن تكون النفس مبدأ ، فجعلها من الجنس الذى كان يراه المبدأ : إما نارا ،
أو هواء ، أو أرضا ، أو ماء. ومال بعضهم إلى القول بالماء لشدة رطوبة النطفة التى
هى مبدأ التكون وبعضهم جعلها جسما بخاريا ، إذ كان يرى أن البخار مبدأ الأشياء على
حسب المذاهب التى عرفتها ، وكل هؤلاء كان يقول : إن النفس إنما تعرف الأشياء كلها
لأنها من جوهر المبدأ لجميعها. وكذلك من رأى أن المبادئ هى الأعداد ، فإنه
__________________
جعل النفس عددا.
ومنهم من رأى أن
الشىء إنما يدرك ما هو شبيهه وأن المدرك بالفعل شبيه المدرك بالفعل فجعل النفس
مركبة من الأشياء التى يراها عناصر ، وهذا هو قول انباذقلس ، فإنه قد جعل النفس مركبة من العناصر الاربعة ومن
الغلبة والمحبة ، وقال : إنما تدرك النفس كل شىء شبهه فيها.
وأما الذين جمعوا
الأمرين فكالذين قالوا : إن النفس عدد متحرك لذاته ، فهى عدد لأنها مدركة وهى متحركة لذاتها ، لأنها محركة أولية.
وأما الذين
اعتبروا أمر الحياة غير ملخص :
__________________
فمنهم من قال : إن
النفس حرارة غريزية لأن الحياة بها.
ومنهم من قال بل
برودة وأن النّفس مشتقة من النّفس والنّفس هو الشىء المبرد ولهذا ما ، يتبرد
بالاستنشاق ليحفظ جوهر النفس.
ومنهم من قال بل
النفس هو الدم ؛ لأنه إذا سفح الدم بطلت الحياة.
ومنهم من قال بل
النفس مزاج لأن المزاج ما دام ثابتا لم تتغير صحة الحياة.
ومنهم من قال بل
النفس تأليف ونسبة بين العناصر وذلك لأنا نعلم أن تأليفا مّا يحتاج إليه حتّى
يكوّن من العناصر حيوان ، ولأن النفس تأليف فلذلك تميل إلى المؤلفات من النغم
والاراييح والطعوم وتلتذبها.
ومن الناس من ظن
أن النفس هو الإله ـ تعالى عما يقوله الملحدون ـ وأنه يكون فى كل شىء بحسبه فيكون
فى شىء طبعا وفى شىء نفسا وفى شىء عقلا سبحانه وتعالى عما يشركون.
فهذه هى المذاهب
المنسوبة إلى القدماء الأقدمين فى أمر النفس ، وكلها باطلة.
فأما الذين تعلقوا
بالحركة فأول ما يلزمهم من المحال أنهم نسوا
__________________
السكون ، فإن كانت النفس تحرّك بأن تتحرّك فكان لا محالة تحرّكها علة للتحريك ، فلم
يخل تسكينها إما أن يصدر عنها وهى متحركة بحالها فتكون نسبة تحركها بذاتها إلى
التسكين والتحريك واحدة. فلم يمكن أن يقال : إنها تحرك بأن تتحرك ، وقد فرضوا ذلك. أو يصدر عنها وقد سكنت ، فلا تكون متحركة بذاتها.
وأيضا فقد عرفت
مما سلف أنه لا متحرك إلا من محرك وأنه ليس شىء متحركا من ذاته فلا تكون النفس
شيئا متحركا من ذاته.
وايضا فإن هذه
الحركة لا يخلو إما أن تكون مكانية أو كمية أو كيفية أو غير ذلك . فإن كانت مكانية فلا يخلو إما أن تكون طبيعية أو قسرية أو نفسانية ، فإن
كانت طبيعية فتكون إلى جهة واحدة لا محالة ، فيكون تحريك النفس إلى جهة واحدة فقط.
وإن كانت قسرية فلا تكون متحركة بذاتها ، ولا يكون أيضا تحريكها بذاتها ، بل
الأولى أن يكون القاسر هو المبدأ الأول وأن يكون هو النفس. وإن كانت نفسانية
فالنفس قبل النفس وتكون لا محالة بإرادة فتكون إما
__________________
واحدة لا تختلف ،
فيكون تحريكها على تلك الجهة الواحدة ، أو تكون مختلفة فتكون بينها كما علمت
سكونات لا محالة ، فلا تكون متحركة لذاتها.
وأما الحركة من
جهة الكم فأبعد شىء من النفس ، ثم لا يكون شىء متحركا من جهة الكم بذاته ، بل
لدخول داخل عليه أو استحالة فى ذاته.
وأما الحركة على
سبيل الاستحالة فإما أن تكون حركة فى كونها نفسا فتكون النفس إذا حركت لا تكون نفسا ، وإما حركة فى عرض من الأعراض لا فى
كونها نفسا ، فأول ذلك أن لا يكون تحركها ، من نحو تحريكها ، بل تكون ساكنة فى
المكان حين تتحرّك فى المكان. والثانى أن الاستحالة فى الأعراض غايتها حصول ذلك
العرض ، وإذا حصل فقد وقفت الاستحالة.
وأيضا فقد تبين لك
أن النفس لا ينبغى أن تكون جسما والمحرك الذى
__________________
يحرك فى المكان
بأن يتحرك نحو ما يحرك فهو جسم لا محالة فلو كان للنفس الحركة والانتقال لكان يجوز
أن تفارق بدنا ثم تعود إليه. وهؤلاء يجعلون مثل النفس مثل زيبق يجعل فى بعض
الأجسام ، فإذا ترجرج تحرك ذلك الجسم ويدفعون أن تكون الحركة حركة اختيارية.
وأيضا فقد علمت أن
القول بالهباء هذر باطل ، وعلمت أيضا أن القول بوحدة المبدأ الأسطقسى
جزاف.
ثم من المحال ما
قالوه من أن الشىء يجب أن يكون مبدأ حتى يعلم ماوراءه ، فإنا نعلم وندرك بأنفسنا
أشياء لسنا بمبادئ لها.
وأما إثبات ذلك من
طريق من ظن أن المبدأ أحد الأسطقسات ، فهو أنا نعلم أشياء ليست الأسطقسات بوجه من
الوجوه مبدأ لها ، ولا هى مبدأ للأسطقسات وهو أن كل شىء إما أن يكون حاصلا فى
الوجود وإما أن لا يكون ، وأن الأشياء المساوية لشىء واحد متساوية. فهذه الأشياء
لا يجوز أن يقال : إن النار والماء وغير ذلك مبادئ لها فنعلمها بها ، ولا بالعكس.
وأيضا إما أن تكون
معرفة النفس بما هى مبدأ له إنما تتناول عين ذلك المبدأ ، أو تتناول الأشياء التى
تحدث عن المبدأ وليست هى المبدأ ، أو تكون بكليهما. فإن كانت إنما تتناول ذلك
المبدأ أو تتناول كليهما ، وكان العالم بالشىء يجب أن يكون مبدأ له فتكون النفس
أيضا مبدأ للمبدأ وايضا مبدأ لذاتها ، لأنها تعلم ذاتها ، وإن كانت ليس تعلم
المبدأ ، ولكن تعلم
__________________
الأحوال والتغيرات
التى تلحقه. فمن الذى يحكم بأن الماء والنار أو أحد هذه مبدأ.
وأما الذين جعلوا
الإدراك بالعددية فقالوا لأن المبدأ لكل شىء عدد ، بل قالوا ماهية كل شىء عدد ،
وحدّه عدد ، وهؤلاء وإن كنا قد دللنا على بطلان رأيهم فى المبدأ فى موضع أخر ،
وسندلّ فى صناعة الفلسفة الأولى أيضا على استحالة رأيهم هذا وما أشبهه ، فإن مذهبهم هاهنا
نزيّفه من حيث النظر الخاص بالنفس ، وذلك بأن ننظر ونتأمل هل النفس إنما تكون نفسا
بأنها عدد معين كأربعة أو خمسة ، أو بأنها مثلا زوج أو فرد أو شىء أعم من عدد
معين.
فإن كانت النفس
إنما هى ما هى بأنها عدد معين ، فما يقولون فى الحيوان المخرز الذى إذا قطع تحرك كل جزء منه وأحسّ ، وإذا أحسّ فلا محالة هناك تخيل مّا ، وكذلك كل جزء منه يأخذ فى الهرب إلى جهة وتلك الحركة من تخيل ما لا محالة.
ومعلوم أن الجزءين يتحركان عن قوتين فيهما ، وأن كل واحد منهما أقل من العدد الذى
كان فى الجملة ، وإنما كان النفس عندهم العدد الذى فى الجملة لا غير ، فيكون هذان
الجزءان يتحركان لا عن نفس وهذا محال ، بل فى كل واحد منهما نفس من نوع نفس الآخر
، فنفس مثل هذا الحيوان واحدة بالفعل ، متكثرة
__________________
بالقوة تكثرا إلى
النفوس.
وإنما تفسد فى
الحيوان المخرز نفساه ولا تفسد فى النبات ، لأن النبات قد شاعت فيه الآلة
الأولية لاستبقاء فعل النفس ولا كذلك فى الحيوان المخرز ، بل بعض بدن الحيوان
المخرز لا مبدأ فيه لاستبقاء المزاج الملائم للنفس. وفى بعضه الآخر ذلك المبدأ ،
ولكنه يحتاج فى استبقائه ذلك إلى صحبة من القسم الآخر ، فيكون بدنه متعلق الأجزاء
بعضها ببعض فى التعاون على حفظ المزاج.
فإن لم تكن النفس
عددا بعينه ، بل كانت عددا له كيفية مّا وصورة فيشبه أن تكون فى بدن واحد نفوس
كثيرة. فإنك تعلم أن فى كثير من الأزواج أزواجا وفى كثير من الأفراد أفرادا ، وفى
كثير من المربعات مربعات ، وكذلك سائر الاعتبارات.
وأيضا فإن الوحدات
المجتمعة فى العدد إما أن يكون لها وضع ، أو لا يكون لها
وضع ، فإن كان لها وضع فهى نقط ، وإن كانت نقطا فإما أن تكون نفسا لأنها عدة تلك النقط أو لا تكون كذلك ، بل لأنها قوة أو كيفية أو غير ذلك. لكنهم جعلوا
الطبيعة النفسية مجرد عددية ، فيكون العدد الموجود للنقط طبيعة النفس ، فيكون كل
جسم إذا فرض فيه ذلك العدد من النقط ذا نفس ، فكل جسم لك أن تفرض فيه كم نقطة شئت
، فيكون كل جسم من شأنه أن يصير ذا نفس لفرض النقط فيه.
__________________
وإن كانت عددا لا
وضع له ، وإنما هى آحاد متفرقة ، فبماذا تفرقت وليس لها مواد مختلفة ولا قرن بها صفات اخر وفصول أخرى وإنما تتكثر الأشياء
المتشابهة فى المواد المختلفة. فإن كان لها مواد مختلفة فهى ذوات وضع ولها أبدان
شتى.
ثم فى الحالين جميعا كيف ارتبطت هذه الوحدات أو النقط معا ، لأنه إن كان ارتباطها بعضها
ببعض والتئامها للطبيعة الوحدية والنقطية ، فيجب أن تكون الوحدات والنقطات مهرولة
إلى الاجتماع من أى موضع كانت ، وإن كان لجامع فيها جمع واحدة منها إلى الأخرى
وضامّ ضمّ بعضها إلى بعض حتى ارتبطت وهو يحفظها مرتبطة ، فذلك الشىء أولى أن يكون
نفسا.
وأما الذين قالوا
إن النفس مركبة من المبادئ حتى يصح أن تعرف المبادئ وغير المبادئ بما فيها منها ،
وإنه انّما يعرف كل شىء بشبهه فيه ، فقد يلزمهم أن تكون النفس لا تعرف الأشياء
التى تحدث عن المبادئ مخالفة لطبيعتها. فإن الاجتماع قد يحدث هيئات فى المبادئ وصورا
لا توجد فيها مثل العظمية واللحمية والإنسانية والفرسية وغير ذلك ، فيجب أن تكون
هذه الأشياء مجهولة للنفس ، إذ ليس فيها هذه الأشياء ، بل إنما فيها أجزاء المبادئ
فقط ، فإن جعل فى تأليف النفس إنسانا وفرسا وفيلا ، كما فيه نار وأرض وغلبة ومحبة
، وقال إن فيها هذه الأشياء ، فقد ارتكب العظيم.
__________________
ثم إن كان فى
النفس إنسان ، ففى النفس نفس ، ففيه مرة أخرى إنسان وفيل ، ويذهب ذلك إلى غير
النهاية . وقد يشنّع عليه من جهة أخرى هى أنه يجب على هذا الوضع أن
يكون الله تعالى إما غير عالم بالأشياء وإما مركبا من الأشياء ، وكلاهما كفر ، ومع
ذلك يجب أن يكون غير عالم بالغلبة ، لأنه لا غلبة فيه. فإن الغلبة توجب التفريق
والفساد فيما تكون فيه ، فيكون الله تعالى غير تام العلم بالمبادئ ، وهذا شنيع
وكفر.
ثم يلزم من هذا أن
تكون الأرض أيضا عالمة بالأرض ؛ والماء بالماء ، وأن تكون الأرض لا تعلم الماء ،
والماء لا يعلم الأرض ، ويكون الحار عالما بالحار غير عالم بالبارد.
ويجب أن تكون
الأعضاء التى فيها أرضية كثيرة شديدة الإحساس بالأرض وليست هى كذلك ، بل هى غير
حساسة لا بالأرض ولا بغيرها ، وذلك كالظفر والعظم. ولأن ينفعل الشىء ويتأثر عن ضده
، أولى من أن يتأثر عن شكله . وأنت تعلم أن الإحساس تأثر مّا وانفعال مّا و يجب أن لا تكون هاهنا قوة واحدة تدرك الأضداد فيكون السواد والبياض ليس
يدركان بحاسة واحدة ، بل يدرك البياض بجزء من البصر هو أبيض ، والسواد بجزء منه هو
أسود ، ولأن الألوان لها تركيبات بلانهاية ، فيجب
__________________
أن يكون قد أعدّ
للبصر أجزاء بلانهاية مختلفة الألوان.
وإن كان لا حقيقة
للوسائط ، وما هو إلا مزج الضدين بزيادة ونقصان من غير اختلاف آخر ، فيجب أن يكون
مدرك البياض يدرك البياض صرفا ، ومدرك السواد يدرك السواد صرفا ، إذ لا يمكن أن
يدرك غيره ، فيجب أن لا تشكل علينا بسائط الممتزج ولا تتخيل إلينا الوسائط التى لا
يظهر فيها بياض وسواد بالفعل.
وكذلك يجب أن يدرك
المثلث بالمثلث ، والمربّع بالمربّع ، والمدوّر بالمدوّر ، والأشكال الأخرى التى
لا نهاية لها ، والأعداد أيضا بأمثالها ، فتكون فى الحاسّة أشكال بلا نهاية ، وهذا
كله محال. وأنت تعلم أن الشىء الواحد يكفى فى أن يكون عيارا للأضداد تعرف به ،
كالمسطرة المستقيمة يعرف بها المستقيم والمنحنى جميعا ، وأنه لا يجب أن يعلم كل
شىء بشىء خاص.
وأما الذين جعلوا
النفس جسما يتحرك بحركته المستديرة التى تتحرك على الأشياء لتدرك بها الأشياء ،
فسنوضح بعد فساد قولهم حين يتبيّن أن الإدراك العقلى لا يجوز أن يكون بجسم.
وأما الذين جعلوا
النفس مزاجا فقد علم مما سلف بطلان هذا القول وعلى أنه ليس كل
ما يفسد بفساده الحياة يكون نفسا ، فإن كثيرا من الأشياء والأعضاء والأخلاط وغير
ذلك بهذه الصفة. وليس بمنكر أن يكون شىء لا بد منه حتى
تكون للنفس علاقة بالبدن ، ولا يوجب ذلك
__________________
أن يكون ذلك الشىء
نفسا.
وبهذا يعلم خطأ من
ظن أن النفس دم ، فكيف يكون الدم محرّكا وحسّاسا.
والذى قال : إن
النفس تأليف فقد جعل النفس نسبة معقولة بين الأشياء ، وكيف تكون النسبة بين
الأضداد محركا ومدركا والتأليف يحتاج إلى مؤلف لا محالة ، فذلك المؤلف أولى أن
يكون هو النفس. وهو الذى إذا فارق وجب انتقاض التأليف. ثم سيتضح فى خلال ما نعرفه
من أمر النفس بطلان جميع هذه الأقاويل بوجوه أخرى. فيجب الآن أن نكون نحن وراء طلب
طبيعة النفس. وقد قيل فى مناقضة هذه الآراء أقاويل ليست بالواجبة ولا اللازمة
وإنما تركناها لذلك.
الفصل الثالث
فى أنّ النفس داخلة فى
مقولة الجوهر
فنقول نحن إنك
تعرف مما تقدم لك أن النفس ليست بجسم ، فإن ثبت لك أن نفسا مّا يصح لها الانفراد
بقوام ذاتها ، لم يقع لك شك فى أنها جوهر وهذا إنما يثبت
لك فى بعض ما يقال له نفس. وأما غيره مثل النفس النباتية والنفس الحيوانية ، فإن
ذلك لا يثبت لك فيه. لكن المادة القريبة لوجود هذه الأنفس فيها إنما هى ما هى بمزاج خاص وهيئة خاصة ، وإنما تبقى بذلك المزاج الخاص
بالفعل موجودا مادام فيها النفس. والنفس هى التى تجعلها بذلك المزاج ، فإن النفس
هى لا محالة علة لتكوّن النبات والحيوان على المزاج الذى لهما إذ كانت النفس هى
مبدأ التوليد والتربية كما قلنا : فيكون الموضوع القريب للنفس مستحيلا أن يكون هو
ما هو بالفعل إلا بالنفس ، وتكون النفس علة لكونه كذلك.
__________________
ولا يجوز أن يقال
: إن الموضوع القريب حصل على طباعه موجودا لسبب غير النفس ، ثم لحقته
النفس لحوق ما لا قسط له بعد ذلك فى حفظه وتقويمه وتربيته ، كالحال فى أعراض يتّبع
وجودها وجود الموضوع لها اتباعا ضروريا ، ولا تكون مقومة لموضوعها بالفعل. وأما
النفس فإنها مقومة لموضوعها القريب موجدة إياه بالفعل ، كما تعلم الحال فى هذا إذا
تكلّمنا فى الحيوان.
وأمّا الموضوع
البعيد فبينه وبين النفس صور أخرى تقومه. وإذا فارقت النفس وجب
ضرورة أن يكون فراقها يحدث لغالب . صيّر الموضوع
لحالة أخرى ، وأحدث فيه صورة جمادية ، كالمقابلة للصورة المزاجية
الموافقة للنفس ولتلك الصور . فالمادة التى للنفس لا تبقى بعد النفس على نوعها ألبتة ،
بل إما أن يبطل نوعها وجوهرها الذى به كان موضوعا للنفس ، أو تخلف النفس فيها صورة
تستبقى المادة بالفعل على طبيعتها ، فلا يكون ذلك الجسم الطبيعى كما كان ، بل
تكوّن له صورة وأعراض أخرى ، ويكون أيضا قد تبدّل بعض أجزائها وفارق مع تغير الكل
__________________
فى الجوهر ، فلا
تكون هناك مادة محفوظة الذات بعد مفارقة النفس هى كانت موضوعة للنفس ، والآن هى
موضوعة لغيرها. فإذن ليس وجود النفس فى الجسم كوجود العرض فى الموضوع. فالنفس إذن
جوهر لأنها صورة لا فى موضوع.
لكن لقائل أن يقول
: لنسلم أن النفس النباتية هذه صورتها ، فإنها علة لقوام مادتها القريبة ؛ وأما
النفس الحيوانية فيشبه أن تكون النباتية تقوّم مادتها ثم تلزم هذه النفس الحيوانية إياها ، فتكون الحيوانية متحصلة الوجود فى مادة تقومت
بذاتها ، وهى علة لقوام هذه التى حلّتها أعنى الحيوانية ، فلا تكون الحيوانية لا
قائمة فى موضوع.
فنقول فى جواب ذلك
: إن النفس النباتية بما هى نفس نباتية لا يجب عنها إلا جسم متغذ مطلقا ، ولا
النفس النباتية مطلقة لها وجود إلا وجود معنى جنسى ، وذلك فى الوهم فقط ؛ وأما
الموجود فى الأعيان فهو أنواعها.
والذى يجب أن يقال
: إن النفس النباتية سبب واحد وله شىء أيضا عام كلى غير محصل ، وهو الجسم المتغذى
النامى المطلق الجنسى غير المنوّع.
وأما الجسم ذو
آلات الحس والتمييز والحركة الإرادية ، فليس مصدره عن النفس النباتية بما هى نفس
نباتية ، بل بما ينضم إليها فصل آخر تصير به طبيعة أخرى ، ولا يكون ذلك إلا أن
تصير نفسا حيوانية.
بل يحب أن نبتدىء فنزيد
هذا شرحا.
__________________
فنقول : إن النفس
النباتية.
إما أن يعنى به
النفس النوعية التى تخص النبات دون الحيوان ، أو يعنى بها المعنى العام الذى يعم
النفس النباتية والحيوانية من جهة ما تغذى وتولّد وتنمى ، فإن هذا قد يسمى نفسا نباتية
، وهذا مجاز من القول ، فإن النفس النباتية لا تكون إلا فى النبات ، ولكن المعنى
الذى يعم نفس النبات والحيوان يكون فى الحيوانات كما يكون فى النبات ووجوده ، كما
يوجد المعنى العام فى الأشياء.
وإما أن يعنى بها
القوة من قوى النفس الحيوانية التى تصدر عنها أفعال التغذية والتربية والتوليد.
فإن عنى بها النفس
النباتية التى هى بالقياس إلى النفس الفاعلة للغذاء نوعية ، فذلك يكون فى النبات
لا غير ، ليس فى الحيوان.
وإن عنى بها
المعنى العام فيجب أن ينسب إليها معنى عام لا معنى خاص ، فإن الصانع العام هو الذى
ينسب إليه المصنوع العام ، والصانع النوعى كالنجار هو الذى ينسب إليه المصنوع
النوعى ، والصانع المعين هو الذى ينسب إليه المصنوع المعين. فهذا شىء قد مرلك
تحقيقه. فالذى ينسب إلى النفس النباتية العامة من أمر الجسم أنه نام عام ، وأما
أنه نام بحيث أنه يصلح لقبول الحس أو لا يصلح فليس ينسب ذلك إلى النفس النباتية من
حيث هى عامة ، ولا هذا المعنى يتبعه.
وأما القسم الثالث
فيستحيل أن يكون على ما يظن من أن القوة النباتية
__________________
تأتى وحدها فتفعل
بدنا حيوانيا ولو كان المنفرد بالتدبير تلك القوة لكانت تتمّم جسما نباتيا ، وليس
كذلك ، بل إنما كانت تتمّم جسما حيوانيا بآلات الحس والحركة ، فتكون هى قوة لنفس لتلك النفس قوى أخرى. وهذه القوة من قواها تتصرف على المثال الذى يؤدى إلى
استعداد الآلة للكمالات الثانية التى لتلك النفس التى هذه قوتها وتلك النفس هى
الحيوانية.
ويتضح من بعد أن
النفس واحدة ، وأن هذه قوى تنبعث عنها فى الأعضاء ، ويتأخر فعل بعضها ويتقدم بحسب استعداد الآلة. فالنفس التى لكل حيوان هى جامعة أسطقسات بدنه ، ومؤلّفتها
ومركّبتها على نحو يصلح معه أن يكون بدنا لها ، وهى حافظة لهذا البدن على النظام
الذى ينبغى ، فلا تستولى عليه المغيرات الخارجة ما دامت النفس موجودة فيه ولو لا
ذلك لما بقيت على صحتها.
ولاستيلاء النفس
عليها ما يعرض من قوة القوة النامية وضعفها عند استشعار النفس
قضايا تكرهها أو تحبها كراهة ومحبة ليست ببدنية ألبتة ، وذلك عند ما يكون الوارد
على النفس تصديقا مّا ، وليس ذلك مما يؤثر فى البدن بما هو اعتقاد ، بل يتبع ذلك
الاعتقاد انفعال من سرور أو غم ،
__________________
وذلك أيضا من
المدركات النفسانية ، وليس مما يعرض للبدن بما هو بدن فيؤثّر ذلك فى القوة النامية
الغاذية حتى يحدث فيها من العارض الذى يعرض للنفس أولا ـ وليكن الفرح النطقى ـ شدة
ونفاذا فى فعلها ، ومن العارض المضاد لذلك ـ وليكن الغم النطقى
الذى لا ألم بدنىّ فيه ـ ضعفا وعجزا حتى يفسد فعلها ، وربما انتقض المزاج به
انتقاضا.
وكل ذلك مما يقنعك
فى أن النفس جامعة لقوى الإدراك واستعمال الغذاء ، وهى واحدة لها ، ليست هذه
منفردة عن تلك .
فبيّن أن النفس هى
مكمّلة البدن الذى هى فيه ، وحافظته على نظامه الذى الأولى به أن يتميّز ويتفرّق ،
إذ كل جزء من أجزاء البدن يستحق مكانا آخر ويتسوجب مفارقة لقرينه ، وإنما يحفظه
على ما هو عليه شىء خارج عن طبيعته ، وذلك الشىء هو النفس فى الحيوان.
فالنفس إذن كمال
لموضوع ، ذلك الموضوع يتقوّم به ، وهو أيضا مكمّل النوع وصانعه ، فإن الأشياء
المختلفة الأنفس تصير بها مختلفة الأنواع ، ويكون تغايرها بالنوع لا بالشخص.
فالنفس إذن ليست من الأعراض التى لا تختلف بها الأنواع ، ولا يكون لها مدخل فى
تقويم الموضوع. فالنفس إذن كمال كالجوهر لا كالعرض ، وليس يلزم هذا أن يكون مفارقا
أو غير مفارق. فإنه ليس كل جوهر بمفارق ، فلا الهيولى بمفارقة ولا الصورة ، وقد
علمت أنت أن الأمر كذلك ، فلندلّ الآن دلالة مّا مختصرة على قوى النفس وأفعالها ثم
نتبعها بالاستقصاء.
__________________
الفصل الرابع
فى تبيين أنّ اختلاف
أفاعيل النفس لاختلاف قواها
نقول : إن للنفس
أفعالا تختلف على وجوه :
فيختلف بعضها
بالشدة والضعف ، وبعضها بالسرعة والبطء. فإن الظن اعتقاد مّا يخالف اليقين
بالتأكيد والشدة ، والحدس يخالف التلقين التفكّر ( خ ل ) بسرعة الفهم.
وقد تختلف أيضا
بالعدم والملكة ، مثل أن الشك يخالف الرأى ، فإن الشك عدم اعتقاد من طرفى النقيض ،
والرأى اعتقاد أحد طرفى النقيض ؛ ومثل التحريك والتسكين.
وقد تختلف بالنسبة
إلى أمور متضادة مثل الإحساس بالأبيض والإحساس بالأسود وإدراك الحلو وإدراك المر.
وقد تختلف بالجنس
مثل إدراك اللون وإدراك الطعم ، بل مثل الإدراك والتحريك.
وغرضنا الآن أن
نعرف القوى التى تصدر عنها هذه الأفاعيل ،
__________________
وأنه هل يجب أن
تكون لكل نوع من الفعل قوة تخصه أو لا يجب ذلك.
فنقول : أما
الأفعال المختلفة بالشدة والضعف فإن مبدأها قوة واحدة ، لكنها تارة تكون أتم فعلا
، وتارة تكون أنقص فعلا. ولو كان النقصان يقتضى أن تكون هناك للأنقص قوة غير القوة
التى للأتم ، لوجب أن يكون عدد القوى بحسب عدد مراتب النقصان والزيادة التى لا
تكاد تتناهى ، بل القوة الواحدة يعرض لها تارة أن تفعل الفعل أشد وأضعف بحسب
الاختيار ، وتارة بحسب مؤاتاة الآلات ، وتارة بحسب عوائق من خارج أن تكون أو لا تكون وأن تقل أو تكثر.
فأمّا الفعل وعدمه
فقد سلف لك فى الأقاويل الكلية أن مبدأ ذلك قوة واحد.
وأما اختلاف
أفعالها التى من باب الملكة بالجنس كالإدراك والتحريك أو كإدراك وإدراك ، فذلك مما
بالحرى أن يفحص عنه فاحص ، فينظر مثلا هل القوى المدركة كلها قوة واحدة ، إلا أن
لها إدراكات مّا بذاتها هى العقليات ، وإدراكات مّا بآلات مختلفة بسبب اختلاف
الآلات. فإن كانت العقليات والحسيات مثلا لقوتين ، فهل الحسيات كلها التى تتخيل من
باطن والتى تدرك فى الظاهر لقوة واحدة ، فان كانت التى فى الباطن لقوة أو لقوى ،
فهل التى فى الظاهر لقوة واحدة تفعل فى آلات مختلفة أفعالا مختلفة. فإنه ليس
بممتنع أن تكون قوة واحدة تدرك أشياء مختلفة الأجناس والأنواع ، كما هو مشهور من
__________________
حال العقل عند
العلماء ومشهور من حال الخيال عندهم ، بل كما أن المحسوسات المشتركة التى زعموا أنها العظم والعدد والحركة والسكون والشكل قد تحسّ بكل واحدة من
الحواس أو بعدة منها وإن كانت بوساطة محسوس آخر.
ثم هل قوة التحريك
هى قوة الإدراك ، ولم لا يمكن ذلك. وهل قوة الشهوة بعينها هى قوة الغضب ، فإذا
صادفت اللذة انفعلت على نحو ، وإن صادفت الأذى انفعلت على نحو آخر ، بل هل الغاذية
والنامية والمولدة شىء من هذه القوى ، وإن لم تكن فهل هى قوة واحدة ، حتى إذا كان
الشىء لم يتم بصورة حرّكت الغذاء إلى أقطاره على هيئة وشكل ، فإذا استكمل حرّكت
ذلك التحريك بعينه. إلا أن الشكل قد تم فلا يحدث شكل آخر ، والعظم قد بلغ مبلغا لا
تفى القوة بأن تورد من الغذاء فيه أكثر مما يتحلل منه فتقف. وهناك يفصل من الغذاء
فضل يصلح للتوليد لتنفذه إلى أعضاء التوليد ، كما تنفذ الغذاء إليها لتغذوها به ،
لكنه يفصل عما
__________________
تحتاج إليه أعضاء
التوليد من الغذاء فضل يصلح لباب آخر ، فتصرفه تلك القوة بعينها إليه ، كما تفعل
بفضول كثيرة من الأعضاء ، ثم تعجز هذه القوة فى آخر الحياة عن إيراد بدل ما يتحلّل
مساويا لما يتحلّل ، فيكون ذبول. فلم تفرض قوة نامية ولا تفرض قوة مذبلة ، واختلاف
الأفعال ليس يدل على اختلاف القوى ، فإن القوة الواحدة بعينها تفعل الأضداد ، بل
القوة الواحدة تحرك بإرادات مختلفة حركات مختلفة ، بل القوة الواحدة قد تفعل فى
مواد مختلفة أفاعيل مختلفة.
فهذه شكوك يجب أن
يكون حلها مهيئا عندنا ، حتى يمكننا أن ننتقل ونثبت قوى النفس ؛ وأن نثبت أن عددها
كذا ، وأنّ بعضها مخالف للبعض ، فإن الحق عندنا هذا.
فنقول : أما أولا
، فإن القوة من حيث هى قوة بالذات وأوّلا ، هى قوة على أمر مّا ويستحيل أن تكون
مبدأ لشىء آخر غيره ، فانّه من حيث هو قوة عليه مبدأ له ، فإن كان مبدأ لشىء آخر
فليس هو من حيث هو مبدأ لذلك الأول فى ذاته. فالقوى من حيث هى قوى إنما تكون مبادئ
لأفعال معينة بالقصد الأول.
لكنه قد يجوز أن
تكون القوة مبدأ لأفعال كثيرة بالقصد الثانى ، بأن تكون تلك كالفروع ، فلا تكون
مبدأ لها أوّلا ، مثل أن الإبصار أنّما هو قوة أولا على إدراك الكيفية التى بها
يكون الجسم بحيث إذا توسّط بين جسم قابل للضوء وبين المضىء لم يفعل المضىء فيه
الإضاءة ، وهذا هو اللون ، واللون يكون بياضا وسوادا.
__________________
وأيضا القوة
المتخيلة هى التى تستثبت صور الأمور المادية من حيث هى مادية مجردة عن المادة نوعا
من التجريد غير بالغ ، كما نذكره بعد. ثم يعرض أن يكون ذلك لونا أو طعما أو عظما
أو صوتا أو غير ذلك. والقوة العاقلة هى التى تستثبت صور الأمور من حيث هى بريّة عن
المادة وعلائقها ، ثم يتفق أن يكون ذلك شكلا ، ويتفق أن يكون عددا.
وقد يجوز أن تكون
القوة معدّة نحو فعل بعينه ، لكنها تحتاج إلى أمر آخر ينضم إليها حينئذ ، حتى يصير
لها ما بالقوة حاصلا بالفعل ، فإن لم يكن ذلك الأمر لم تفعل ، فيكون مثل هذه القوة
تارة مبدأ للفعل بالفعل وتارة غير مبدأ له بالفعل ، بل بالقوة ، مثل القوة المحركة
فإنها إذا صح الإجماع من القوة الشوقية بسبب داع من التخيل أو المعقول إلى التحريك
حرّكت لا محالة ، فإن لم يصح لم تحرّك.
وليس يصدر عن قوة
محركة واحدة بآلة واحدة إلا حركة واحدة ، إذ الحركات الكثيرة لكثرة آلات الحركة
التى هى العضل فينا وفى كلّ عضلة قوة محركة جزئية لا تحرّك إلا حركة بعينها.
وقد تكون القوة
الواحدة أيضا يختلف تأثيرها بحسب القوابل المختلفة أو الآلات المختلفة ، وهذا
ظاهر.
فنقول الآن : إن
أول أقسام أفعال النفس ثلاثة :
أفعال يشترك فيها
الحيوان والنبات كالتغذية والتربية والتوليد.
وأفعال تشترك فيها
الحيوانات أكثرها أو جلّها ولا حظّ فيها للنبات مثل الإحساس والتخيل والحركة
الإرادية.
__________________
وأفعال تختص
بالناس مثل تعقل المعقولات واستنباط الصنائع والرويّة فى
الكائنات والتفرقة بين الجميل والقبيح.
فلو كانت القوى
النفسانية واحدة وكانت الأفعال النباتية تصدر عن القوة التى تصدر عنها الحيوانية
صدورا أوليا لكان عدم الأجسام النباتية وأعضاء الحيوان التى تغذى ولا تحس مما هو
صلب أو ليّن للإحساس إما أن يكون بسبب عدم القوة ، أو بسبب أن
المادة ليست تنفعل عنها.
ومحال أن يقال :
إن المادة ليست تنفعل عن الحر والبرد ولا تتأثر عنهما وعن الطعوم القوية والروائح
القوية ، فإنها تنفعل عنها ، فبقى أن يكون ذلك بسبب عدم القوة الفعالة لذلك ، و قد وجدت القوة الغاذية ، فإذن القوتان مختلفتان.
وأيضا فإن تحريك
النفس لا يخلو إما أن يكون على سبيل نقل مطلق وكل جسم قابل للنقل مطلقا ، وإما أن
يكون لنقل على سبيل قبض وبسط ، وفى أجسامنا أعضاء هى أقبل لذلك من العضل وفيها حياة للتغذى ، وليس يمكن تحريكها. فالسبب فى ذلك ليس من جهتها
، بل من جهة فقدانها للقوة المحركة.
__________________
وكذلك بعض الأعصاب
تنفذ فيها قوة الحس فقط دون الحركة ، وبعض الأعصاب تنفذ فيها قوة الحركة ولا تتفاضل
بشىء يعتد به ، بل قد يوجد ما يشاكل ما ينفذ فيه الحس ويزيد عليه فى الكيف وينقص ،
وقد تنفذ فيه قوة الحركة ، وقد يوجد ما هو كذلك وليس تنفذ فيه قوة الحس.
وكذلك يمكنك أن
تعلم أن العين ليست دون اللسان فى أن تنفعل عن الطعوم المجاورة ، ولا تحس العين
بالطعم من حيث هو مذوق ؛ لست أقول من حيث هو كيفية ولا بالصوت.
وأما القوة
الإنسان فسنبين من أمرها أنها مبرّئة الذات عن الانطباع فى المادة ، ونبيّن أن
جميع الأفعال المنسوبة إلى الحيوان يحتاج فيها إلى آلة. فإذن الحواس والتخيلات
لقوة أخرى مادية غير القوة المحركة وإن كانت تفيض عنها. وقوى الحركة أيضا متعلقة
من وجه ، كما سنبين ، بقوى الحسن والتخيل. فإذا فهمت هذا وما أعطيناك من الأصول
سهل عليك أن تعرف فرقان ما بين القوى التى نحن فى ترتيبها وتعديدها ، وتعلم أن كل
قوة لها فعل أوّلى فلا تشارك قوة أخرى لها فعل أوّلى مخالف لفعلها الأوّلى.
الفصل الخامس
فى تعديد قوى النفس
على سبيل التصنيف
__________________
لنعدّ الآن قوى
النفس عدّا على سبيل الوضع ، ثم لنشتغل ببيان حال كل قوة فنقول : القوى النفسانية
تنقسم بالقسمة الأولى أقساما ثلاثة :
أحدها النفس
النباتية ، وهى الكمال الأول لجسم طبيعى آلى من جهة ما يتولد وينمى ويغتذى ،
والغذاء جسم من شأنه أن يتشبه بطبيعة الجسم الذى قيل إنه غذاء له فيزيد فيه مقدار
ما يتحلّل أو أكثر أو أقل.
والثانى النفس
الحيوانية ، وهى الكمال الأول لجسم طبيعى آلى من جهة ما يدرك الجزئيات ويتحرك
بالإرادة.
والثالث النفس
الإنسانية ، وهى كمال أول لجسم طبيعى آلى من جهة ما ينسب إليه أنه يفعل الأفاعيل
الكائنة بالاختيار الفكرى والاستنباط بالرأى ، ومن جهة ما يدرك الأمور الكلية.
ولو لا العادة
لكان الأحسن أن يجعل كل أول شرط مذكورا فى رسم الثانى إن أردنا أن نرسم النفس لا القوة
النفسانية التى للنفس بحسب ذلك الفعل. فإن الكمال مأخوذ فى حد النفس لا فى حد قوى
النفس.
وأنت ستعلم الفرق
بين النفس الحيوانية وبين قوة الإدراك والتحريك ،
__________________
وبين النفس
الناطقة وبين القوة على الأمور المذكورة من التميّز وغيره.
فإن أردت الاستقصاء
فالصواب أن تجعل النباتية جنسا للحيوانية ، والحيوانية جنسا للإنسانية ، وتأخذ الأعم فى حد الأخص. ولكنك إذا التفت إلى النفس من حيث القوى الخاصة
لها فى حيوانيتها وإنسانيتها ، فربما قنعت بما ذكرناه.
وللنفس النباتية
قوى ثلاث :
الغاذية وهى قوة
تحيل جسما غير الجسم الذى هى فيه إلى مشاكلة الجسم الذى هى فيه فتلصقه به بدل ما
يتحلل عنه.
والقوة المنمية
وهى قوة تزيد فى الجسم الذى هى فيه بالجسم المتشبه به زيادة متناسبة فى أقطاره
طولا وعرضا وعمقا ليبلغ به كمال النشوء.
والقوة المولدة و هى قوة تأخذ من الجسم الذى هى فيه جزءا هو شبيهه بالقوة
فتفعل فيه باستمداد أجسام أخرى تتشبه به من التخليق والتمزيج ما يصيّره شبيها به
بالفعل.
وللنفس الحيوانية
بالقسمة الأولى قوتان : محركة ، ومدركة.
والمحركة على
قسمين : إما محركة بأنها باعثة على الحركة ، وإما محركة بأنها فاعلة :
__________________
والمحركة على أنها
باعثة هى القوة النزوعية الشوقية ، وهى القوة التى إذا ارتسمت فى التخيل الذى
سنذكره بعد صورة مطلوبة أو مهروب عنها بعثت القوة المحركة الأخرى التى نذكرها على التحريك ، ولها شعبتان : شعبة تسمى قوة شهوانية وهى
قوة تبعث على تحريك تقرب به من الأشياء المتخيلة ضرورية كانت أو نافعة طلبا للذة.
وشعبة تسمى غضبية وهى قوة تبعث على تحريك تدفع به الشىء المتخيل ضارا أو مفسدا
طلبا للغلبة.
وأما القوة
المحركة على أنها فاعلة فهى قوة تنبعث فى الأعصاب والعضلات من شأنها أن تشنج
العضلات فتجذب الأوتار والرباطات المتصلة بالأعضاء إلى نحو جهة المبدأ أو ترخيها أو تمدها طولا ، فتصير الأوتار والرباطات إلى خلاف جهة
المبدأ.
وأما القوة
المدركة فتنقسم قسمين : منها قوة تدرك من خارج ، ومنها قوة تدرك من داخل.
__________________
فالمدركة من خارج
هى الحواس الخمس أو الثمانى :
فمنها البصر وهى
قوة مرتبة فى العصبة المجوفة تدرك صورة ما ينطبع فى الرطوبة الجليدية من أشباح
الأجسام ذوات اللون المتأدية فى الأجسام الشفافة بالفعل
إلى سطوح الأجسام الصقيلة.
ومنها السمع وهى
قوة مرتّبة فى العصبة المتفرقة فى سطح الصماخ تدرك صورة ما يتأدى إليها من تموّج
الهواء المنضغط بين قارع ومقروع مقاوم له انضغاطا بعنف يحدث منه صوت فيتأدى تموّجه
إلى الهواء المحصور الراكد فى تجويف الصماخ ، ويحرّكه بشكل حركته ، وتماس أمواج
تلك الحركة العصبة فيسمع.
ومنها الشم وهى قوة مرتبة فى زائدتى مقدم الدماغ الشبيهتين بحلمتى الثدى تدرك ما يؤدى
إليها الهواء المستنشق من الرائحة الموجودة فى البخار المخالط له أو الرائحة
المنطبعة فيه بالاستحالة من جرم ذى رائحة.
ومنها الذوق وهى
قوة مرتّبة فى العصب المفروش على جرم اللسان
__________________
تدرك الطعوم المتحللة من الأجسام المماسة له المخالطة للرطوبة العذبة التى فيه مخالطة
محيلة.
ومنها اللمس وهى
قوة مرتّبة فى أعصاب جلد البدن كله ولحمه تدرك ما يماسه ويؤثر فيه بالمضادة
المحيلة للمزاج أو المحيلة لهيئة التركيب. ويشبه أن تكون هذه القوة عند قوم لا
نوعا أخيرا ، بل جنسا لقوى أربع أو فوقها منبثة معا فى
الجلد كله.
واحدتها حاكمة فى
التضاد الذى بين الحار والبارد.
والثانية حاكمة فى
التضاد الذى بين الرطب واليابس.
والثالثة حاكمة فى
التضاد الذى بين الصلب واللين.
والرابعة حاكمة فى
التضاد الذى بين الخشن والأملس. إلا أن اجتماعها فى آلة واحدة يوهم تأحّدها فى
الذات .
وأما القوى المدركة
من باطن فبعضها قوى تدرك صور المحسوسات ، وبعضها تدرك معانى المحسوسات. ومن
المدركات ما يدرك ويفعل معا ، ومنها ما يدرك ولا يفعل ، ومنها ما يدرك إدراكا
أوليا ، ومنها ما يدرك إدراكا ثانيا.
والفرق بين إدراك
الصورة وإدراك المعنى أن الصورة هو الشىء الذى يدركه الحس الباطن والحس الظاهر
معا. لكن الحس الظاهر يدركه أولا
__________________
ويؤديه إلى الحس
الباطن مثل إدراك الشاة لصورة الذئب أعنى تشكّله وهيئته ولونه ، فإن الحس الباطن
من الشاة يدركها ، لكن إنما يدركها أوّلا حسها الظاهر. وأما المعنى فهو الشىء الذى
تدركه النفس من المحسوس من غير أن يدركه الحس الظاهر أوّلا ، مثل إدراك الشاة
للمعنى المضاد فى الذئب أو للمعنى الموجب لخوفها إياه ، وهربها عنه من غير أن يدرك
الحس ذلك ألبتة. فالذى يدرك من الذئب أولا الحس الظاهر ثم الحس الباطن فإنه يخصّ فى
هذا الموضع باسم الصورة . والذى تدركه القوى الباطنة دون الحس فيخص فى هذا الموضع
باسم المعنى.
والفرق بين
الإدراك مع الفعل والإدراك لا مع الفعل ، أن من أفعال بعض القوى الباطنة أن يركّب
بعض الصور والمعانى المدركة مع بعض ويفصّله عن بعض ، فيكون قد أدرك وفعل أيضا فيما
أدرك.
وأما الإدراك لا
مع الفعل فهو أن تكون الصورة أو المعنى يرتسم فى الشىء فقط من غير أن يكون له أن
يفعل فيه تصرفا ألبتة.
والفرق بين
الإدراك الأول والإدراك الثانى أن الإدراك الأول هو أن يكون حصول الصورة على نحو
مّا من الحصول وقد وقع للشىء من نفسه ؛ والإدراك الثانى هو أن يكون حصولها للشىء
من جهة شىء آخر أدّى إليها.
فمن القوى المدركة
الباطنة الحيوانية قوة بنطاسيا والحس المشترك
__________________
وهى قوة مرتبة فى
التجويف الأول من الدماغ تقبل بذاتها جميع الصور المنطبعة فى الحواس
الخمس المتأدية إليه ، ثم الخيال والمصورة وهى قوة مرتبة أيضا فى آخر التجويف المقدم من الدماغ تحفظ ما قبله الحس المشترك من الحواس الجزئية الخمس ، ويبقى فيه
بعد غيبة تلك المحسوسات.
واعلم أن القبول
لقوة غير القوة التى بها الحفظ فاعتبر ذلك من الماء ، فإن له قوة قبول النقش
والرقم ، وبالجملة الشكل ، وليس له قوة حفظه ؛ على أنا نزيدك لهذا
تحقيقا من بعد.
وإذا أردت أن تعرف
الفرق بين فعل الحس العام وفعل الحس المشترك وفعل المصورة فتأمل حال القطرة التى
تنزل من المطر فترى خطا مستقيما ، وحال الشىء المستقيم الذى يدور فترى طرفه دائرة
، ولا يمكن أن يدرك الشىء خطا أو دائرة إلا ويرى فيه مرارا. والحس الظاهر
__________________
لا يمكن أن يراه
مرتين ، بل يراه حيث هو ، لكنه إذا ارتسم فى الحس المشترك وزال قبل أن تنمحى
الصورة من الحس المشترك أدركه الحس الظاهر حيث هو ، وأدركه الحس المشترك كأنه كائن
حيث كان فيه وكائن حيث صار إليه ، فرأى امتدادا مستديرا أو مستقيما. وذلك لا يمكن
أن ينسب إلى الحس الظاهر ألبتة.
وأما المصورة
فتدرك الأمرين وتتصورهما ، وإن بطل الشىء وغاب.
ثم القوة التى
تسمى متخيلة بالقياس إلى النفس الحيوانية ، ومتفكرة بالقياس إلى النفس
الإنسانية ، وهى قوة مرتّبة فى التجويف الأوسط من الدماغ عند الدودة ، من شأنها أن تركّب بعض ما فى الخيال مع بعض وتفصّل بعضه عن بعض ، بحسب
الإرادة.
ثم القوة الوهمية
وهى قوة مرتبة فى نهاية التجويف الأوسط من الدماغ تدرك المعانى غير المحسوسة
الموجودة فى المحسوسات الجزئية كالقوة الموجودة فى الشاة الحاكمة بأن هذا الذئب
مهروب عنه وأن هذا الولد هو المعطوف عليه. ويشبه أن تكون هى أيضا المتصرفة فى المتخيلات تركيبا وتفصيلا.
ثم القوة الحافظة
الذاكرة وهى قوة مرتبة فى التجويف المؤخر من
__________________
الدماغ تحفظ ما
تدركه القوة الوهمية من المعانى غير المحسوسة فى المحسوسات الجزئية.
ونسبة القوة
الحافظة إلى القوة الوهمية كنسبة القوة التى تسمى خيالا إلى الحس المشترك. ونسبة
تلك القوة إلى المعانى كنسبة هذه القوة إلى الصور المحسوسة. فهذه هى قوى النفس
الحيوانية.
وأما النفس
الناطقة الإنسانية فتنقسم قواها إلى قوة عاملة وقوة عالمة .
__________________
وكل واحدة من
القوتين تسمى عقلا باشتراك الاسم أو تشابهه .
فالعاملة قوة هى
مبدأ محرك لبدن الإنسان إلى الأفاعيل الجزئية الخاصة بالرويّة على مقتضى آراء
تخصها اصطلاحية ، ولها اعتبار بالقياس إلى القوة الحيوانية النزوعية
واعتبار بالقياس إلى القوة الحيوانية المتخيلة والمتوهمة ، واعتبار بالقياس إلى
نفسها.
فاعتبارها بحسب
القياس إلى القوة الحيوانية النزوعية هو القبيل الذى تحدث منه فيها هيئات تخص
الإنسان يتهيأ بها لسرعة فعل وانفعال مثل الخجل والحياء والضحك والبكاء وما أشبه
ذلك.
واعتبارها الذى
بحسب القياس إلى القوة الحيوانية المتخيلة والمتوهمة هو القبيل الذى تنحاز إليه إذا اشتغلت باستنباط التدابير فى الأمور الكائنة الفاسدة ، واستنباط الصناعات
الإنسانية.
واعتبارها الذى
بحسب القياس إلى نفسها هو القبيل الذى تتولد فيه بين العقل العملى والعقل النظرى الآراء التى تتعلق بالأعمال وتستفيض ذائعة
مشهورة مثل : أن الكذب قبيح ، والظلم قبيح ، لا على
__________________
سبيل التبرهن ،
وما أشبه ذلك من المقدمات المحدودة الانفصال عن الأوليات العقلية المحضة فى كتب
المنطق. وإن كانت إذا برهن عليها صارت من العقلية أيضا على ما عرفت فى كتب المنطق.
وهذه القوة يجب أن
تتسلط على سائر قوى البدن على حسب ما توجبه أحكام القوة الأخرى التى نذكرها حتى لا
تنفعل عنها ألبتة ؛ بل تنفعل تلك عنها وتكون مقموعة دونها ، لئلا تحدث
فيها عن البدن هيئات انقيادية مستفادة من الأمور الطبيعية. وهى التى تسمى أخلاقا
رذيلة ، بل يجب أن تكون غير منفعلة ألبتة وغير منقادة ، بل متسلطة ، فتكون لها
أخلاق فضيلة وقد يجوز أن تنسب الأخلاق إلى القوى البدنية أيضا ، ولكن إن كانت هى
الغالبة ، تكون لها هيئة فعلية ، ولهذا العقل هيئة انفعالية. ولنسّم كل هيئة خلقا
فيكون شىء واحد يحدث منه خلق فى هذا وخلق فى ذلك ؛ وإن كانت هى المغلوبة تكون لها هيئة انفعالية ، ولذلك هيئة فعلية غير غريبة
، فيكون ذلك أيضا هيئتين وخلقين ، أو يكون الخلق واحدا له
نسبتان .
وإنما كانت
الأخلاق التى فينا منسوبة إلى هذه القوة لأن النفس الإنسانية كما يظهر من بعد جوهر
واحد ، وله نسبة وقياس إلى جنبتين : جنبة هى تحته ، وجنبة هى فوقه ، وله بحسب كل
جنبة قوة بها تنتظم
__________________
العلاقة بينه وبين
تلك الجنبة. فهذه القوة العملية هى القوة التى لها لأجل العلاقة إلى الجنبة التى
دونها وهو البدن وسياسته.
وأما القوة
النظرية فهى القوة التى لها لأجل العلاقة إلى الجنبة التى فوقه لتنفعل وتستفيد
منها وتقبل عنها. فكأنّ للنفس منا وجهين : وجه إلى البدن ، ويجب أن يكون هذا الوجه
غير قابل ألبتة أثرا من جنس مقتضى طبيعة البدن ، ووجه إلى المبادئ العالية. ويجب
أن يكون هذا الوجه دائم القبول عما هناك والتأثر منه. فمن الجهة السفلية تتولد
الأخلاق ، ومن الجهة الفوقانية تتولد العلوم ، فهذه هى القوة العملية.
وأما القوة
النظرية فهى قوة من شأنها أن تنطبع بالصور الكلية المجردة عن المادة ، فإن كانت
مجردة بذاتها فأخذها بصورتها فى نفسها أسهل ، وإن لم تكن فإنّها تصير مجردة
بتجريدها إياها ، حتى لا يبقى فيها عن علائق المادة شىء ، وسنوضح كيفية هذا من
بعد.
وهذه القوة
النظرية لها إلى هذه الصور نسب مختلفة ، وذلك لأن الشىء الذى من شأنه أن يقبل شيئا
قد يكون بالقوة قابلا له وقد يكون بالفعل قابلا له.
والقوة تقال على
ثلاثة معان ، بالتقديم والتأخير : فتقال قوة للاستعداد المطلق الذى لا يكون خرج
منه بالفعل شىء ، ولا أيضا حصل ما به يخرج ، كقوة الطفل على الكتابة. وتقال قوة
لهذا الاستعداد إذا كان لم يحصل للشىء إلا ما يمكنه به أن يتوصل إلى اكتساب الفعل
بلاواسطة ، كقوة الصبى الذى ترعرع وعرف الدواة
والقلم وبسائط
__________________
الحروف على
الكتابة . وتقال قوة لهذا الاستعداد إذا تم بالآلة ، وحدث مع الآلة
أيضا كمال الاستعداد بأن يكون له أن يفعل متى شاء بلاحاجة إلى اكتساب ، بل يكفيه
أن يقصد فقط ، كقوة الكاتب المستكمل للصناعة إذا كان لا يكتب. والقوة الأولى تسمى
مطلقة وهيولانية ، والقوة الثانية تسمى قوة ممكّنة ، والقوة الثالثة تسمى كمال
القوة.
فالقوة النظرية
إذن :
تارة تكون نسبتها
إلى الصور المجردة التى ذكرناها نسبة ما بالقوة المطلقة ، وذلك حين ما تكون هذه
القوة التى للنفس لم تقبل بعد شيئا من الكمال الذى بحسبها ، وحينئذ تسمى عقلا
هيولانيا ، وهذه القوة التى تسمى عقلا هيولانيا موجودة لكل شخص من النوع ، وإنما
سميت هيولانية تشبيها إياها باستعداد الهيولى الأولى التى ليست هى بذاتها ذات صورة
من الصور ، وهى موضوعة لكل صورة.
وتارة نسبة ما
بالقوة الممكّنه ، وهى أن تكون القوة الهيولانية قد حصل فيها من المعقولات الأولى
التى تتوصل منها وبها إلى المعقولات الثانية ، أعنى بالمعقولات الأولى المقدمات
التى يقع بها التصديق لا باكتساب ولا بأن يشعر المصدّق بها أنه كان يجوز له أن
يخلو عن التصديق بها وقتا ألبتة ، مثل اعتقادنا بأن الكل أعظم من الجزء وأن الأشياء
المتساوية لشىء واحد بعينه متساوية. فما دام انه يحصل فيه من معنى مّا بالفعل هذا القدر بعد فانّه يسمى عقلا بالملكة. ويجوز أن يسمى
هذا عقلا بالفعل بالقياس إلى الأولى ، لأن القوة الأولى ليس لها أن تعقل شيئا
بالفعل ،
__________________
وأما هذه فإن لها
أن تعقل إذا أخذت تبحث بالفعل.
وتارة تكون نسبة
مّا بالقوة الكمالية وهو أن يكون حصل فيها أيضا الصور المعقولة المكتسبة بعد
المعقولة الأولية ، إلا أنه ليس تطالعها وترجع إليها بالفعل ، بل كأنها عنده
مخزونة فمتى شاء طالع تلك الصور بالفعل فعقلها ، وعقل أنه قد عقلها. وسمّى عقلا
بالفعل لأنه عقل يعقل متى شاء بلا تكلف اكتساب وإن كان يجوز أن يسمّى عقلا بالقوة
بالقياس إلى ما بعده.
وتارة تكون النسبة
نسبة مّا بالفعل المطلق ، وهو أن تكون الصورة المعقولة حاضرة فيه وهو يطالعها
بالفعل فيعقلها بالفعل ويعقل أنه يعقلها بالفعل فيكون ما حصل له حينئذ يسمى عقلا
مستفادا. وإنما سمى عقلا مستفادا ، لأنه سيتضح لنا أن العقل بالقوة إنما يخرج إلى
الفعل بسبب عقل هو دائما بالفعل وأنه إذا اتصل العقل بالقوة بذلك العقل الذى
بالفعل نوعا من الاتصال انطبع فيه نوع من الصور تكون مستفادة من خارج.
فهذه أيضا مراتب
القوى التى تسمى عقولا نظرية. وعند العقل المستفاد يتم الجنس الحيوانى والنوع
الإنسانى منه. وهناك تكون القوة الإنسانية قد تشبهت بالمبادئ الأولية للوجود كله.
فاعتبر الآن وانظر
إلى حال هذه القوى كيف يرءس بعضها بعضا وكيف يخدم بعضها بعضا ، فإنك تجد العقل
المستفاد رئيسا ويخدمه الكل وهو الغاية القصوى.
ثم العقل بالفعل
يخدمه العقل بالملكة.
__________________
والعقل الهيولانى
بما فيه من الاستعداد يخدم العقل بالملكة.
ثم العقل العملى
يخدم جميع هذه. لأن العلاقة البدنية كما سيتضح بعد لأجل تكميل العقل النظرى
وتزكيته وتطهيره ، والعقل العملى هو مدبر تلك العلاقة.
ثم العقل العملى
يخدمه الوهم.
والوهم تخدمه
قوتان : قوة بعده وقوة قبله. فالقوة التى بعده هى القوة التى تحفظ ما أداه الوهم
أى الذاكرة ، والقوة التى هى قبله هى جميع القوى الحيوانية.
ثم المتخيلة
تخدمها قوتان مختلفتا المأخذين : فالقوة النزوعية تخدمها بالائتمار لأنها تبعثها
على التحريك نوعا من البعث ، والقوة الخيالية تخدمها لعرضها الصور المخزونة فيها
المهيّأة لقبول التركيب والتفصيل. ثم هذان رئيسان لطائفتين ، أما القوة الخيالية
فتخدمها بنطاسيا ، وبنطاسيا تخدمها الحواس الخمس.
وأما القوة
النزوعية فتخدمها الشهوة والغضب ، والشهوة والغضب تخدمهما القوة المحركة فى العضل
، فهاهنا تفنى القوى الحيوانية.
ثم القوى
الحيوانية تخدمها النباتية وأولها ورأسها المولدة. ثم النامية تخدم المولدة. ثم
الغاذية تخدمهما جميعا. ثم القوى الطبيعية الأربع تخدم هذه ، والهاضمة منها تخدمها الماسكة من جهة والجاذبة من جهة ، والدافعة
تخدم جميعها.
ثم الكيفيات
الأربع تخدم جميع ذلك. لكن الحرارة تخدمها
__________________
البرودة ، فإنها إما أن تعدّ للحرارة مادة أو تحفظ ما هيّأتها الحرارة ، ولا مرتبة
للبرودة فى القوى الداخلة فى الأعراض الطبيعية إلا منفعة تابع وتال
، وتخدمهما جميعا اليبوسة والرطوبة ، وهناك آخر
درجات القوى.
__________________
المقالة الثانية
وهى خمسة فصول :
الفصل الاول : فى
تحقيق القوى المنسوبة الى النفس النباتية.
الفصل الثانى : فى
تحقيق اصناف الادراكات التى فينا.
الفصل الثالث : فى
الحاسّة اللمسية.
الفصل الرابع : فى
الذوق والشمّ.
الفصل الخامس : فى
حاسّة السمع.
الفصل الأول
فى تحقيق القوى المنسوبة
إلى النفس النباتية
فلنبدأ بتعريف حال
القوى المذكورة قوة قوة ، ولنعرّفها من جهة أفعالها. وأول ذلك أفعال القوى
النباتية ، وأولها حال التغذية. فنقول :
قد علمت فيما سلف
نسبة الغذاء إلى المغتذى وحد كل واحد منهما وخاصيته. فنقول الآن : إن الغذاء ليس
إنما يستحيل دائما إلى طبيعة المتغذّى دفعة ، بل أولا يستحيل استحالة مّا عن
كيفيته ويستعدّ للاستحالة إلى جوهر المغتذى ، فتفعل فيه قوة من خدم القوة الغاذية
وهى الهاضمة ، وهى التى تذيب الغذاء فى الحيوان وتعده للنفوذ المستوى ، ثم إن
القوة الغاذية تحيله فى الحيوان الدموى أول الإحالة إلى الدم والأخلاط التى منها
قوام البدن على ما بينا فى مواضع أخرى. وكل عضو فإنه يختص بقوة غاذية تكون فيه
وتحيل الغذاء إلى مشابهته الخاصة فتلصقه به.
فالقوة الغاذية
تورد البدل ، أى بدل ما يتحلل وتشبه وتلصق. فانّه وإن كان الغذاء أكثر منافعه أنه
يقوم بدل ما يتحلل ، فإنه ليست الحاجة إلى الغذاء لذلك فقط ، بل قد تحتاج إليه
الطبيعة فى أول الأمر للتربية ، وإن كان بعد ذلك إنما يحتاج إلى وضعه موضع المتحلل
فقط. فالقوة
الغاذية من قوى
النفس النباتية تفعل فى جميع مدة بقاء الشخص وهى مادامت موجودة تفعل أفاعيلها وجد
النبات والحيوان باقيين ، وان بطلت لم يوجد النبات والحيوان باقيين. وليس كذلك حال
سائر القوى النباتية .
والنامية تفعل فى
أول كون الحيوان فعلا ليس هو التغذية فقط ، وذلك لأن غاية التغذية ما حدّدناه ، وأما هذه القوة فإنها توزّع الغذاء على خلاف مقتضى القوة الغاذية ،
وذلك لأن الذى للقوة الغاذية لذاتها أن تؤتى كل عضو من الغذاء بقدر عظمه وصغره
وتلصق به من الغذاء بمقداره الذى له على السواء.
وأما القوة
النامية فإنها تسلب جانبا من البدن من الغذاء ما يحتاج إليه لزيادة فى جهة أخرى
فتلصقه بتلك الجهة لتزيد تلك الجهة فوق زيادة جهة أخرى مستخدمة للغاذية فى جميع
ذلك. ولو كان الأمر إلى الغاذية لسوّت بينهما أو لفضّلت الجهة التى نقصتها
النامية. مثال ذلك أن الغاذية إذا انفردت وقوى فعلها وكان ما يورد أكثر مما يتحلل
فإنها تزيد فى عرض الأعضاء وعمقها زيادة ظاهرة بالتسمين ، ولا تزيد فى الطول زيادة
__________________
يعتد بها. وأما
المربية فإنها تزيد فى الطول أكثرا كثيرا مما تزيد فى العرض ، والزيادة فى الطول
أصعب من الزيادة فى العرض ، وذلك لأن الزيادة فى الطول يحتاج فيها إلى تنفيذ
الغذاء فى الأعضاء الصلبة من العظام والعصب تنفيذا فى أجزائها طولا لتنميها وتبعد
بين أطرافها. والزيادة فى العرض قد تغنى فيها تربية اللحم وتغذية العظم أيضا عرضا
من غير حاجة إلى تنفيذ شىء كثير فيه وتحريكه. وربما كانت أعضاء هى فى أول النشوء
صغيرة وأعضاء هى فى أول النشوء كبيرة ، ثم يحتاج فى آخر النشوء أن يصير ما هو أصغر
أكبر وما هو أكبر أصغر ؛ فلو كان التدبير إلى الغاذية لكان يستمر ذلك على نسبة
واحدة. فالقوة الغاذية من حيث هى غاذية تأتى بالغذاء وتقتضى إلصاقه بالبدن على
النحو المستوى أو القريب من المستوى ، وعلى الوجه الذى فى الطبع أن تفعله عند الإسمان.
وأما النامية
فتوغر إلى الغاذية بأن تقسم ذلك الغذاء وتنفذه إلى حيث تقتضى
التربية خلافا لمقتضى الغاذية ، والغاذية تخدمها فى ذلك ، لأن الغاذية لا محالة هى الملصقة ؛ لكنها تكون متصرفة تحت تصريف القوة
المربية. والقوة المربية إنما تنحو نحو تمام النشوء.
__________________
وأما المولدة فلها
فعلان : أحدهما تخليق البزر وتشكيله وتطبيعه ، والثانى إفادة
أجزائه فى الإستحالة الثانية صورها من القوى والمقادير والأشكال والأعداد والخشونة
والملاسة وما يتصل بذلك متسخرة تحت تدبير المتفرد بالجبروت ، فتكون الغاذية تمدها بالغذاء ، والنامية تخدمها بالتمديدات المشاكلة فهذا
الفعل يتم فيها فى أول تكون الشىء ثم يبقى التدبير مفوضا إلى النامية والغاذية.
فإذا كان فعل
النامية يستتم فحينئذ تنبعث القوة المولدة فى توليد البزر والمنى ليسكنهما القوة التى هى من جنسها مع الخادمتين . وبالجملة فإن
القوة الغاذية مقصودة ليحفظ بها جوهر الشخص ، والقوة النامية مقصودة ليتم بها جوهر
الشخص ، والقوة المولدة مقصودة ليستبقى بها
__________________
النوع إذ كان حب الدوام أمرا فائضا من الإله تعالى على كل شىء ، فما لم يصلح أن
يبقى بشخصه ويصلح أن يبقى بنوعه فإنه تنبعث فيه قوة إلى استجلاب بدل يعقبه ليحفظ
به نوعه. فالغاذية تورد بدل ما يتحلل من الشخص ، والمولدة تورد بدل ما يتحلل من
النوع.
وقد ظن بعضهم أن الغاذية نار ، لأن النار تغتذى وتنمو.
وقد أخطأ من وجهين
: أحدهما من جهة أن الغاذية ليست تغتذى بنفسها ، بل تغذى البدن وتنميه ، والنار إن
كانت تغتذى فهى إنما تغتذى وتنمى بنفسها . ومن وجه آخر أن
النار ليست تغتذى ، بل تتولد شيئا بعد شىء وتطفأ ما تقدم. ثم لو كانت تغتذى وكان
حكمها حكم غذاء الأبدان ، لما كان يجب أن يكون للأبدان وقوف فى النمو. فإن النار
__________________
مادامت تجد مادة
لم تقف ، بل تزيد إلى غير نهاية.
وأعجب من ذلك ما
قال صاحب هذا القول : إن الأشجار تعرّق من أسفل لأن الأرضية تتحرك إلى أسفل وتفرّع
إلى فوق ، لأن النار تتحرك إلى فوق. فأول غلطه هو أن كثيرا من النبات أغصانه أثقل
من عروقه.
وثانيا أنه لم لا
ينفصل بهذه الحركة فيفارق الثقيل الخفيف. فإن كان ذلك لتدبير النفس فليجعل التعريق
والتفريح أيضا للنفس ، وعلى أنه يشبه أن يكون الفوق فى النبات حيث رأسه ، ورأس النبات عروقه ومنه منشؤه.
ثم إن آلة هذه
القوة الأولية هى الحار الغريزى ، فإن الحار هو المستعد لتحريك المواد
ويتبعها البرد لتسكينها عند الكمالات من الخلق محتوية عليها . وأما من الكيفيات المنفعلة فآلتها الأولية الرطوبة ، فإنها هى التى تتخلق
وتتشكل ، وتتبعها اليبوسة فإنها تحفظ الشكل وتفيد التماسك.
والقوة النباتية التى فى الحيوان فإنها تولد جسما حيوانيا ، وذلك لأنها نباتية تتعلق بها قوة
الحيوان ، وهى الفصل الذى لهما مما يشاركها فى كونها ذات قوة التغذية والنمو ،
فتمزّج الأركان والعناصر مزاجا يصلح
__________________
للحيوان. إذ ليس
تتولى مزاجها القوة المشتركة بين النبات والحيوان من حيث هى مشتركة ، فإنها من حيث
هى مشتركة لا توجب مزاجا خاصا ، بل إنما توجب مزاجا خاصا فيها لأنها مع أنها غاذية
هى أيضا حيوانية فى طباعها أن تحس وتتحرك إذا حصلت الآلة ، وهى بعينها حافظة لذلك التأليف والمزاج حفظا ، إذا أضيف إلى ذوات التأليف
كان قسريا ، لأنه ليس من طباع العناصر والأجسام المتضادة أن تأتلف لذاتها ، بل من
طباعها الميل إلى جهات مختلفة ، وإنما تؤلفها النفس الخاصة. مثلا فى النخلة نفس
نخليّة ، وفى العنب نفس عنبيّة. وبالجملة النفس التى تكون صورة لتلك المادة.
والنفس إذا صارت نخلية كان لها مع أنها نفس النمو زيادة أنها نفس نخلية ، وفى
العنب أنها نفس عنبية ، وليست النخلة تحتاج إلى نفس نباتية ونفس أخرى تكون بتلك
النفس نخلة ، وإن كان ليس لها أفعال خارجة عن أفعال النبات ، بل تكون نفسها
النباتية فى نباتيتها أنها نخلية.
وأما النفس
النباتية التى فى الحيوان فإنها تعّد خلقة الحيوان نحو أفعال غير أفعالها وحدها من
حيث هى نباتية ، فهى مدبرة نفس حيوانية ، بل هى بالحقيقة غير نفس نباتية ، اللهم
إلا أن يقال إنها نفس نباتية بالمعنى الذى ذكرنا أعنى العام. فالفصل المقوم لنوعية
نفس نفس من النفوس النباتية أعنى الفصول التى لنبت مّا دون نبت مّا لا يكون إلا
مبدأ فعل نباتى مخصص فقط.
وأمّا النفس
النباتية الحيوانية ففصلها القاسم إياها المقوّم لنوع نوع تحتها
__________________
هو قوة النفس
الحيوانية المقارنة لها التى تعّد لها البدن ، وهو فصل على نحو الفصول التى تكون
للبسائط لا التى تكون للمركبات.
وأما النفس
الإنسانية فلا تتعلق بالبدن تعلقا صوريا كما نتبين ، فلا يحتاج أن يعدّ لها عضو. نعم قد تتميز الحيوانية التى لها ، عن سائر
الحيوانات ، وكذلك الأعضاء المعدة لحيوانيتها أيضا.
__________________
الفصل الثانى
فى تحقيق أصناف الإدراكات
التى لنا
فلنتكلم الآن فى
القوى الحاسة والدراكة ، ولنتكلم فيها كلاما كليا فنقول : يشبه أن يكون كل إدراك
أنما هو أخذ صورة المدرك بنحو من الأنحاء ، فإن كان الإدراك إدراكا لشىء مادى فهو
أخذ صورته مجردة عن المادة تجريدا ما ، إلا أن أصناف التجريد مختلفة ومراتبها
متفاوتة ، فإن الصورة المادية تعرض لها بسبب المادة أحوال وأمور ليست هى لها
بذاتها من جهة ما هى تلك الصورة فتارة يكون النزع عن المادة نزعا مع تلك العلائق
كلها أو بعضها ، وتارة يكون النزع نزعا كاملا. وذلك بأن يجرد المعنى عن المادة وعن
اللواحق التى لها من جهة المادة.
مثاله أن الصورة
الإنسانية والماهية الإنسانية طبيعة لا محالة تشترك فيها أشخاص النوع كلها بالسوية
، وهى بحدها شىء واحد وقد عرض لها أن وجدت فى هذا الشخص وذلك الشخص فتكثرت. وليس
لها ذلك من جهة طبيعتها الإنسانية. ولو كان للطبيعة الإنسانية ما يجب فيها التكثر
لما كان يوجد إنسان محمولا على واحد بالعدد ولو كانت الإنسانية موجودة لزيد لأجل
أنها إنسانيته ، لما كانت لعمرو ، فإذن أحدى العوارض التى
تعرض للإنسانية من
جهة المادة هى هذا النوع من التكثر والانقسام .
ويعرض لها أيضا
غير هذا من العوارض ، وهو أنها إذا كانت فى مادة مّا حصلت بقدر من الكم والكيف
والوضع والأين ، وجميع هذه أمور غريبة عن طبائعها ، وذلك لأنه لو كانت الإنسانية
هى على هذا الحد أو حد آخر من الكمّ والكيف والأين والوضع لأجل أنها إنسانية ،
لكان يجب أن يكون كل إنسان مشاركا للآخر فى تلك المعانى. ولو كانت لأجل الإنسانية
على حد آخر وجهة أخرى من الكم والكيف والأين والوضع ، لكان كل إنسان يجب أن يشترك
فيه. فإذن الصورة الإنسانية بذاتها غير مستوجبة أن يلحقها شىء من هذه اللواحق
العارضة لها ، بل من جهة المادة ، لأن المادة التى تقارنها تكون قد لحقتها هذه
اللواحق.
فالحس يأخذ الصورة
عن المادة مع هذه اللواحق ، ومع وقوع نسبة بينها وبين المادة ، إذا زالت تلك النسبة بطل ذلك الأخذ ، وذلك لأنه لا ينزع الصورة
عن المادة مع جميع لواحقها ، ولا يمكنه أن يستثبت تلك الصورة إن غابت المادة ،
فيكون كأنه لم ينتزع الصورة إن غابت المادة ، فيكون كأنه لم ينتزع الصورة عن
المادة نزعا محكما ، بل يحتاج إلى وجود المادة أيضا فى أن تكون
تلك الصورة موجودة لها.
وأما الخيال
والتخيل فإنه يبرئ الصورة المنزوعة عن المادة تبرئة أشد ،
__________________
وذلك لأنه يأخذها
عن المادة بحيث لا تحتاج فى وجودها فيه إلى وجود مادتها ، لأن المادة وإن غابت عن
الحس أو بطلت ، فإن الصورة تكون ثابتة الوجود فى الخيال ، فيكون أخذه إياها قاصما
العلاقة بينها وبين المادة قصما تاما ، إلا أن الخيال لا يكون قد جردها عن اللواحق المادية ، فالحس لم يجردها عن
المادة تجريدا تاما ولا جردها عن لواحق المادة. وأما الخيال فإنه قد جردها عن
المادة تجريدا تاما ، ولكن لم يجردها ألبتة عن لواحق المادة ، لأن الصورة التى فى
الخيال هى على حسب الصورة المحسوسة ، وعلى تقدير مّا وتكيّف مّا ووضع مّا. وليس
يمكن فى الخيال ألبتة أن تتخيل صورة هى بحال يمكن أن يشترك فيها جميع أشخاص ذلك
النوع ، فإن الإنسان المتخيل يكون كواحد من الناس ، ويجوز أن يكون ناس موجودين
ومتخيلين ليسوا على نحو ما تخيّل الخيال ذلك الإنسان .
وأما الوهم فإنه
قد يتعدى قليلا هذه المرتبة فى التجريد ، لأنه ينال المعانى التى ليست هى فى ذاتها
بمادية ، وإن عرض لها أن تكون فى مادة. وذلك لأن الشكل واللون والوضع وما أشبه ذلك
أمور لا يمكن أن تكون إلا لمواد جسمانية وأما الخير والشر والموافق والمخالف وما
أشبه ذلك ، فهى أمور فى أنفسها غير مادية ، وقد يعرض لها أن تكون مادية. والدليل
على أن هذه الأمور غير مادية ، أن هذه الأمور لو كانت بالذات مادية لما كان
__________________
يعقل خير وشر أو
موافق ومخالف إلا عارضا لجسم ، وقد يعقل ذلك بل يوجد . فبيّن أن هذه الأمور هى فى أنفسها غير مادية ، وقد عرض لها إن كانت مادية.
والوهم إنما ينال ويدرك أمثال هذه الأمور.
فإذن الوهم قد
يدرك أمورا غير مادية ، ويأخذها عن المادة ، كما يدرك أيضا معانى غير محسوسة وإن
كانت مادية. فهذا النزع إذن أشد استقصاء وأقرب إلى البساطة من النزعين الأولين ،
إلا أنه مع ذلك لا يجرد هذه الصورة عن لواحق المادة ، لأنه يأخذها جزئية وبحسب
مادة مادة ، وبالقياس إليها ، ومتعلقة بصورة محسوسة مكنوفة بلواحق المادة وبمشاركة
الخيال فيها.
وأما القوة التى
تكون الصورة المثبتة فيها ، إما صور موجودات ليست بمادية ألبتة ولا عرض لها أن
تكون مادية ، أو صور موجودات مادية ولكن مبرأة عن علائق المادة من كل وجه ، فبيّن
أنها تدرك الصور بأن تأخذها أخذا مجردا عن المادة من كل وجه. فأما ما هو متجرد
بذاته عن المادة فالأمر فيه ظاهر ، وأما ما هو موجود للمادة إما لأن وجوده مادى ،
وإما عارض له ذلك فتنزعه عن المادة وعن لواحق المادة معه ، فتأخذه أخذا مجردا ،
حتى يكون مثل الإنسان الذى يقال على كثيرين ، وحتى تكون قد أخذ الكثير طبيعة واحدة
، وتفرزه عن كل كم وكيف وأين ووضع مادى. ولو لم تجرّده عن ذلك لما صلح أن يقال على
الجميع.
فبهذا يفترق إدراك
الحاكم الحسى ، وإدراك الحاكم الخيالى ، وإدراك الحاكم الوهمى ، وإدراك الحاكم
العقلى. وإلى هذا المعنى كنا نسوق
__________________
الكلام فى هذا
الفصل.
فنقول : إن الحاس
فى قوته أن يصير مثل المحسوس بالفعل ، إذ كان الإحساس هو قبول صورة الشىء مجردة عن
مادته فيتصور بها الحاس ، فالمبصر هو مثل المبصر
بالقوة ، وكذلك الملموس والمطعوم وغير ذلك ، والمحسوس الأول
بالحقيقة هو الذى يرتسم فى آلة الحس وإياه يدرك ، ويشبه أن يكون إذا قيل : أحسست
الشىء الخارجى كان معناه غير معنى أحسست فى النفس ، فإن معنى قوله : أحسست الشىء
الخارجى ، أن صورته تمثّلت فى حسى ، ومعنى أحسست فى النفس أن الصورة نفسها تمثلت
فى حسى. فلهذا يصعب إثبات وجود الكيفيات المحسوسة فى الأجسام.
لكنا نعلم يقينا أن جسمين وأحدهما يتأثر عنه الحس شيئا ، والآخر لا يتأثر عنه ذلك الشىء
أنه مختص فى ذاته بكيفية هى مبدأ إحالة الحاسة دون الآخر.
وأما ذيمقراطيس
وطائفة من الطبيعيين فلم يجعلوا لهذه الكيفيات وجودا ألبتة ، بل جعلوا الأشكال
التى يجعلونها للأجرام التى لا تتجزأ أسبابا لاختلاف ما يتأثر فى الحواس باختلاف
ترتيبها ووضعها. قالوا : ولهذا ما يكون الإنسان الواحد قد يحس لونا واحدا على
لونين مختلفين :
__________________
بحسب وقوفين منه
تختلف بذلك نسبتهما من أوضاع المرئى الواحد ، كطوق الحمامة فإنها ترى مرة شقرا ومرة أرجوانية ومرة على لون الذهب ، بحسب اختلاف المقامات
، فلهذا ما يكون شىء واحد عند إنسان صحيح حلوا ، وعند إنسان مريض مرا. فهؤلاء هم
الذين جعلوا الكيفيات المحسوسة لا حقائق لها فى أنفسها ، إنما هى أشكال .
وهاهنا قوم آخرون
أيضا ممن لا يرون هذا المذهب لا يجعلون لهذه الكيفيات حقيقة فى
الأجسام ، بل يرون أن هذه الكيفيات إنما هى انفعالات للحواس فقط من غير أن يكون فى
المحسوسات شىء منها. وقد
__________________
بينا فساد هذا
الرأى ، وبينا أن فى بعض الأجسام خاصية تؤثر فى حاسّة اللسان ، مثلا الشىء الذى
نسميه إذا ذقناه حلاوة ، ولبعضها خاصية أخرى من جنسها ، وهذه الخاصية نسميها الطعم
لا غير.
وأما مذهب أصحاب
الأشكال فقد نقضنا أصله فيما سلف .
ثم قد يظهر لنا
سريعا بطلانه ، فإنه لو كان المحسوس هو الشكل لكان يجب إذا لمسنا الشكل وأدركناه
خصوصا بالحدقة أن نكون رأينا أيضا لونه ، فإن الشىء الواحد من جهة واحدة
يدرك شيئا واحدا ، فإن أدرك من جهة ولم يدرك من جهة ، فالذى لم يدرك منه غير
المدرك ، فيكون اللون إذن غير الشكل ، وكذلك أيضا الحرارة غير الشكل ، اللهم إلا
أن يقال : إن الشىء الواحد يؤثر فى شيئين أثرين مختلفين ، فيكون أثره فى شىء مّا
ملموسا وأثره فى شىء آخر مرئيا. فإذا كان كذلك لم يكن الشكل نفسه محسوسا ، بل أثر
مختلف يحدث عنه فى الحواس المختلفة غير نفسه. والحاس أيضا جسم ، وعنده أنه لا يتأثر إلا بالشكل ، فيكون أيضا
__________________
الحاس إنما يتأثر
بالشكل ، فيكون الشىء الواحد يؤثر فى آلة شكلا مّا وفى آلة أخرى
شكلا آخر لكن لا شىء من الأشكال عنده إلا ويجوز أن يلمس ، فيكون هذا المرئى أيضا يجوز أن يلمس. ثم من الظاهر البين أن اللون فيه مضادة وكذلك الطعم وكذلك
أشياء اخرى ، ولا شىء من الأشكال بمضاد لشىء ، وهؤلاء بالحقيقة يجعلون كل محسوس
ملموسا ، فإنهم يجعلون أيضا البصر ينفذ فيه شىء ويلمس ، ولو كان كذلك لكان يجب أن
يكون المحسوس فى الوجهين جميعا هو الشكل فقط.
ومن العجائب
غفلتهم عن أن الأشكال لا تدرك إلا أن تكون هناك ألوان أو طعوم أو روائح أو كيفيات
أخرى ؛ ولا تحس ألبتة بشكل مجرد. فإن كان لأن الشكل المجرد إذا صار محسوسا أحدث فى
الحس أثرا من هذه الآثار غير الشكلية ، فقد صح وجود هذه الآثار. وإن لم تكن هذه
الآثار إلا نفس الشكل ، وجب أن يحس شكل مجرد من غير أن يحس معه شىء آخر.
وقال قوم من
الأوائل : إن المحسوسات قد يجوز أن تحس بها النفس بلاوسائط ألبتة ولا آلات ، أما
الوسائط فمثل الهواء مثلا للإبصار وامّا الآلات فمثل العين للإبصار.
وقد بعدوا عن الحق
، فإنه لو كان الإحساس يقع للنفس بذاتها من غير هذه الآلات لكانت هذه الآلات معطلة
فى الخلقة لا ينتفع بها ، وأيضا فإن النفس إذا كانت غير جسم عندهم ولا ذات وضع
فيستحيل أن يكون بعض
__________________
الأجسام قريبا
منها ومتجها إليها فيحس ، وبعضها بعيدا منها محتجبا عنها فلا يحس. وبالجملة يجب أن
لا يكون اختلاف فى أوضاع الأجسام منها وحجب وإظهار ، فإن هذه الأحوال تكون للأجسام عند الأجسام. فيجب أن تكون النفس إما مدركة
لجميع المحسوسات وإما غير مدركة ، وأن لا تكون غيبة المحسوس تزيله عن الإدراك. لأن
هذه الغيبة عند شىء لا محالة هى خلاف الحضرة منه. فيكون عند ذلك الشىء لهذا الشىء
غيبة مرة وحضور مرة ، وذلك مكانى وضعى فيجب أن تكون النفس جسما ؛ ليس ذلك بمذهب
هؤلاء ؛ وسنبين لك من بعد أن الصورة المدركة لا يتم نزعها عن المادة وعلائق المادة
يستحيل أن تستثبت بغير آلة جسدانية ؛ ولو لم تحتج النفس فى إدراك الأشياء إلى
المتوسطات لوجب أن لا يحتاج البصر إلى الضوء وإلى توسط الشاف ، ولكان تقريب المبصر
من العين لا يمنع الإبصار ، ولكان سد الأذن لا يمنع الصوت ، ولكانت الآفات العارضة
لهذه الآلات لا تمنع الإحساس.
ومن الناس من جعل
المتوسط عائقا ، وقال إنه لو كان المتوسط كلما كان أرّق كان أدلّ ؛ فلو لم يكن ، بل كان خلأ صرفا ، لتمت
__________________
الدلالة ، ولأبصر
الشىء أكبر مما يبصر ، حتى كان يمكن أن تبصر نملة فى السماء.
وهذا كلام باطل ،
فليس إذا أوجب رقته زيادة ، يجب أن يكون عدمه يزيد أيضا فى ذلك ، فإن الرقة ليس هى
طريقا إلى عدم الجسم. وأما الخلأ فهو عدم الجسم عندهم ، بل لو كان الخلأ موجودا
لما كان بين المحسوس والحاس المتباينين موصل ألبتة ، ولم يكن فعل ولا انفعال
ألبتة.
ومن الناس من ظن
شيئا آخر وهو أن الحاس المشترك أو النفس متعلق بالروح ، وهو جسم لطيف ، سنشرح حاله
بعد ، وأنه آلة الإدراك ، وأنه وحده يجوز أن يمتد إلى المحسوسات فيلاقيها أو
يوازيها أو يصير منها بوضع ذلك الوضع يوجب الإدراك.
وهذا المذهب أيضا
فاسد ، فإن الروح لا يضبط جوهره إلا فى هذه الوقايات التى تكتنفه ، وأنه إذا خالطه شىء من خارج أفسد جوهره مزاجا وتركيبا. ثم ليس
له حركة انتقال خارجا وداخلا ، ولو كان له هذا
__________________
لجاز أن يفارق
الإنسان ويعود إليه ، فيكون للإنسان أن يموت وأن يحيا باختياره فى ساعته ولو كان
الروح بهذه الصفة لما احتيج إلى الآلات البدنية.
فالحق أن الحواس
محتاجة إلى الآلات الجسدانية ، وبعضها إلى وسائط ، فإن الإحساس انفعال مّا ، لأنه
قبول منها لصورة المحسوس ، واستحالة إلى مشاكلة المحسوس بالفعل ، فيكون الحاس
بالفعل مثل المحسوس بالفعل ، والحاس بالقوة مثل المحسوس بالقوة ، والمحسوس
بالحقيقة القريب هو ما يتصور به الحاس من صورة المحسوس ، فيكون الحاس من وجه مّا
يحس ذاته لا الجسم المحسوس ، لأنه المتصور بالصورة التى هى المحسوسة القريبة منها . وأما الخارج فهو المتصور بالصور التى هى المحسوسة البعيدة ، فهى تحس ذاتها لا الثلج ، وتحس ذاتها لا القار ، إذا عنينا أقرب الإحساس الذى لا واسطة فيه. وانفعال الحاس من المحسوس ليس على سبيل
الحركة ، إذ ليس هناك تغير من ضد إلى ضد ، بل هو استكمال. أعنى أن يكون الكمال
الذى كان بالقوة قد صار بالفعل من غير أن بطل فعل إلى القوة.
وإذ قد تكلمنا
الآن على الإدراك الذى هو أعم من الحس ، ثم تكلمنا فى كيفية إحساس الحس مطلقا ،
فنقول : إن كل حاسة فإنها تدرك محسوسها وتدرك عدم محسوسها ، أما محسوسها فبالذات ،
وأما عدم
__________________
محسوسها كالظلمة
للعين والسكوت للسمع وغير ذلك فإنها تكون بالقوة لا
بالفعل. وأما إدراك أنها أدركت فليس للحاسة ، فإن الإدراك ليس هو لونا فيبصر أو
صوتا فيسمع ، ولكن إنما يدرك ذلك بالفعل العقل أو الوهم على ما يتضح من حالهما
بعد.
__________________
الفصل الثالث
فى الحاسة اللمسية
وأول الحواس الذى
يصير به الحيوان حيوانا هو اللمس ، فإنه كما أن
__________________
كل ذى نفس أرضية
فإن له قوة غاذية ، ويجوز أن يفقد قوة قوة من الأخرى ولا ينعكس ، كذلك حال كل ذى
نفس حيوانية فله حس اللمس ، ويجوز أن يفقد قوة قوة من الآخرى ولا ينعكس. وحال
الغاذية عند سائر قوى التى للنفس الأرضية ، حال اللمس عند سائر قوى الحيوان. وذلك
لأن الحيوان تركيبه الأول هو من الكيفيات الملموسة ، فإن مزاجه منها وفساده
باختلالهما.
والحس طليعة للنفس
، فيجب أن تكون الطليعة الأولى ، هو ما يدل على ما يقع به الفساد ويحفظ به الصلاح
وأن تكون قبل الطلائع التى تدل على أمور تتعلق ببعضها منفعة خارجة عن القوام أو
مضرة خارجة عن الفساد.
والذوق ، وإن كان
دالا على الشىء الذى به تستبقى الحياة من المطعومات ، فقد يجوز أن يعدم الذوق
ويبقى الحيوان حيوانا ، فإن الاحساس الأخر ربما أعان على ارتياد الغذاء الموافق واجتناب المضارّ.
وأما الحواس
الأخرى فلا تعين على معرفة أن الهواء المحيط بالبدن مثلا محرق أو مجمد. وبالجملة
فإن الجوع شهوة اليابس الحار والعطش شهوة البارد الرطب. والغذاء بالحقيقة ما يتكيف
بهذه الكيفيات التى يدركها اللمس. وأما الطعوم فتطييبات ، فلذلك كثيرا ما يبطل حس
الذوق لآفة تعرض فيكون الحيوان باقيا ، فاللمس هو أول الحواس ولا بد منه لكل حيوان
أرضى.
وأما الحركة
فلقائل أن يقول : إنها أخت اللمس للحيوان ، وكما أن من
__________________
الحس نوعا متقدما
كذلك قد يشبه أن يكون من قوى الحركة نوع متقدم. وأما المشهور فهو أن من الحيوان ما
له حس اللمس وليس له قوة الحركة ، مثل ضروب من الأصداف.
لكنا نقول : إن
الحركة الإرادية على ضربين : حركة انتقال من مكان إلى مكان ، وحركة انقباض وانباسط
للأعضاء من الحيوان وإن لم يكن به انتقال الجملة من موضعه فيبعد أن يكون حيوان له
حس اللمس ولا قوة حركة فيه ألبتة ، فإنه كيف يعلم أنه له حس اللمس إلا بأن يشاهد
فيه نوع هرب من ملموس وطلب لملموس. وأما ما يتمثلون هم به من الأصداف والإسفنجات وغيرها ، فإنا نجد للأصداف فى غلفها حركات انقباض وانبساط والتواء وامتداد فى
أجوافها ؛ وإن كانت لا تفارق أمكنتها ، ولذلك يعرف أنها تحس بالملموس. فيشبه أن
يكون كل ما له لمس فله فى ذاته حركة مّا إرادية إما لكليته وإما لأجزائه.
وأما الأمور التى
تلمس ، فإن المشهور من أمرها أنها الحرارة
__________________
والبرودة والرطوبة
واليبوسة والخشونة والملاسة والثقل والخفة. وأما الصلابة واللين واللزوجة والهشاشة
وغير ذلك فإنها تحس تبعا لهذه المذكورات. فالحرارة
والبرودة كل منهما يحس بذاته ، لا لما يعرض فى الآلة من الانفعال بها. وأما
الصلابة واللين واليبوسة والرطوبة فيظن أنها لا تحس
بذاتها ، بل يعرض للرطوبة أن تطيع لنفوذ ما ينفذ فى
جسمه ، ويعرض من اليبوسة أن تعصى فتجمع العضو الحاس وتعصره ، والخشونة أيضا يعرض
لها مثل ذلك بأن تحدث الاجزاء الناتية منه عصرا ولا
تحدث الغائرة شيئا ، والأملس يحدث ملاسة واستواء ، وأما الثقل فيحدث تمددا إلى
أسفل ، والخفة خلاف ذلك.
فنقول لمن يقول
هذا القول : إنه ليس من شرط المحسوس بالذات أن يكون الإحساس به من غير انفعال يكون
منه ، فإن الحار أيضا ما لم يسخّن لم يحسّ. وبالحقيقة ليس إنّما يحس ما فى المحسوس
بل ما يحدث منه فى الحاس حتّى انّه ان لم يحدث ذلك لم يحس به. لكن المحسوس بالذات
هو الذى تحدث منه كيفية فى الآلة الحاسة مشابهة لما فيه فيحس. وكذلك الانعصار عن
اليابس والخشن والتملس من
__________________
الأملس والتمدد
إلى جهة معلومة من الثقيل والخفيف ، فإن الثقل والخفة ميلان والتمدد أيضا ميل إلى
نحو جهة مّا. فهذه الأحوال إذا حدثت فى الآلة أحس بها لا بتوسط حر أو برد ، أو لون
أو طعم ، أو غير ذلك من المحسوسات ، حتى كان يصير لأجل ذلك المتوسط غير محسوس أوّلى
أو غير محسوس بالذات ، بل محسوسا ثانيا أو بالعرض. ولكن هاهنا ضرب آخر مما يحس مثل تفرق الاتصال الكائن
__________________
بالضرب وغير ذلك ،
وذلك ليس بحرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة ولا صلابة ولا شىء من المعدودات ، وكذلك أيضا الإحساس بالملذات اللمسية مثل اللذة التى للجماع وغير ذلك ، فيجب
أن ننظر أنها كيف هى وكيف تنسب إلى القوة اللمسية وخصوصا وقد ظن بعض الناس أن سائر
الكيفيات إنما تحس بتوسط ما يحدث من تفرق الاتصال. وليس كذلك ، فإن الحار والبارد من حيث يتغير به المزاج يحس على استوائه ، وتفرق الاتصال لا يكون مستويا متشابها فى جميع الاجسام.
لكنا نقول : إنه كما أن الحيوان متكون بالامتزاج الذى للعناصر ، كذلك هو متكون أيضا
بالتركيب. وكذلك الصحة والمرض ، فإن منهما ما ينسب إلى المزاج ومنهما ما ينسب إلى
الهيئة والتركيب. وكما أن من فساد المزاج منه ما هو مفسد كذلك من فساد التركيب منه
ما هو مهلك؟
وكما أن اللمس حس
يتقى به ما يفسد المزاج ، كذلك هو حس يتقى به ما يفسد التركيب. فاللمس أيضا يدرك
به تفرق الاتصال ومضاده وهو عوده إلى الالتئام.
ونقول : إن كل حال
مضادة لحال البدن فإنها يحس بها عند الاستحالة وعند الانتقال إليها ، ولا يحس بها
عند حصولها واستقرارها. وذلك لأن الإحساس انفعال مّا أو مقارن لانفعال مّا ،
والانفعال إنما يكون عند زوال
__________________
شىء وحصول شىء ، وأما
المستقر فلا انفعال به. وذلك فى الأمزجة الموافقة والرديئة معا ، فإن الأمزجة
الرديئة إذا استقرت وأبطلت الأمزجة الأصلية حتى صارت هذه الرديئة كانها أصلية لم
يحس بها ، ولذلك لا تحس بحرارة الدق وإن كانت أقوى من حرارة الغب. وأما إن كانت
الأصلية موجودة بعد وهذه الطارئة مضادة لها أحس بها ، وهذا يسمى سوء المزاج
المختلف ، وهذا المستقر يسمى سوء المزاج المتفق ، فالألم والراحة من الألم أيضا من
المحسوسات اللمسية.
ويفارق اللمس فى هذا المعنى سائر الحواس ، وذلك لأن الحواس
__________________
الأخرى : منها ما
لا لذة لها فى محسوسها ولا ألم. ومنها ما يلتذ ويألم بتوسط أحد المحسوسات. فأما
التى لا لذة فيها فمثل البصر لا يلتذ بالألوان
__________________
ولا يتألم ، بل
النفس تتألم من ذلك وتلتذ من داخل. وكذلك الحال فى الأذن ، فإن تألمت الأذن من صوت
شديد والعين من لون مفرط كالضوء فليس تألم من حيث تسمع أو تبصر ، بل من حيث تلمس ،
لأنه يحدث فيه ألم لمسى ، وكذلك تحدث فيه بزوال ذلك لذة
لمسية. وأما الشم والذوق فتتألمان وتلتذان إذا تكيفتا بكيفية منافرة أو ملائمة.
وأما اللمس فإنه قد يتألم بالكيفيية الملموسة ويلتذ بها ، وقد يتألم ويلتذ بغير
توسط كيفية هى المحسوس الأول ، بل بتفرق الاتصال والتئامه.
ومن الخواص التى
للمس أن الآلة الطبيعية التى يحس بها وهى لحم عصبى أو لحم وعصب تحس بالمماسة ، وإن
لم يكن متوسط ألبتة ، فإنه لا محالة يستحيل عن المماسات ذوات الكيفيات ؛
وإذا استحال عنها أحس ، ولا كذلك حال كل حاسة مع محسوسها. وليس يجب أن يظن أن
الحساس هو العصب فقط ، فإن العصب بالحقيقة هو مؤد للحس اللمسى إلى عضو غيره وهو
اللحم. ولو كان الحساس نفس العصب فقط ، لكان الحساس فى جلد الإنسان ولحمه شيئا
منتشرا كالليف ، وكان حسه ليس بجميع أجزائه ، بل
أجزاء ليفية فيه ، بل العصب الذى لحس اللمس مؤد وقابل
معا. والعصبة المجوفة مؤدية للبصر لكنها غير
__________________
قابلة ، إنما
القابل ما إليه تؤدى وهو البردية أو ما هو مستول عليه وهو الروح.
فبين إذن أن من
طباع اللحم أن يقبل الحس ، فان كان يحتاج أن يقبله من مكان آخر ومن قوة عضو آخر
توسط بينهما العصب. وأما إن كان المبدأ موجودا فيه فهو حساس بنفسه وإن كان لحما ،
وذلك كالقلب. وإن انتشر فى جوهر القلب ليف عصبى ، فلا يبعد أن يكون ليلتقط عنه الحس ويؤديه إلى أصل واحد يتأدى عنه إلى
الدماغ ، وعن الدماغ إلى أعضاء أخرى ، كما سيتضح بعد. وكالحال فى الكبد من جهة
انبثاث عروق ليفية فيه لتقبل عنه وتؤدى إلى غيره ، ويجوز أن يكون انبثاث الليف فيه
ليقوى قوامه ويشتد لحمه ، وسنشرح هذه الأحوال فى مواضع آخر مستقبلة.
ومن خواص اللمس أن
جميع الجلد الذى يطيف بالبدن حساس باللمس ولم يفرد له جزء منه. وذلك لأن هذا الحس
لما كان طليعة تراعى الواردات على البدن التى تعظم مفسدتها إن تمكنت من أى عضو
وردت عليه ، وجب أن يجعل جميع البدن حساسا باللمس ؛ ولأن الحواس الأخرى قد تتأدى
إليها الأشياء من غير مماسة ومن بعيد ، فيكفى أن تكون
__________________
آلتها عضوا واحدا
إذا أورد عليه المحسوس الذى يتصل به ضرر عرفت النفس ذلك فاتقته وتنحت بالبدن عن
جهته. فلو كانت الآلة اللامسة بعض الأعضاء ، لما شعرت النفس إلا بما يماسها وحدها من المفسدات. ويشبه أن تكون قوى اللمس قوى كثيرة كل واحد واحد منها تختص بمضادة ، فيكون ما تدرك به المضادة التى بين الحار
والبارد غير الذى تدرك به المضادة التى بين الثقيل والخفيف. فإن هذه أفعال أولية
للحس يجب أن تكون لكل جنس منها قوة خاصة ، إلا أن هذه القوى لما انتشرت فى جميع
الآلات بالسوية ظنت قوة واحدة ، كما لو كان اللمس والذوق منتشرين فى البدن كله
انتشارهما فى اللسان لظن مبدآهما قوة واحدة ، فلما
تميزا فى غير اللسان عرف اختلافهما.
وليس يجب ضرورة أن
تكون لكل واحدة من هذه القوى آلة تخصها ،
__________________
بل يجوز أن تكون
آلة واحدة مشتركة لها ، ويجوز أن يكون هناك انقسام فى الآلات غير محسوس ، وقد اتفق
فى اللمس أن كانت الآلة الطبيعية بعينها هى
الواسطة. ولما كان كل واسطة يجب أن يكون عادما فى ذاته لكيفية ما يؤديه ، حتى إذا
قبلها وأدّاها أدّى شيئا جديدا ، فيقع الانفعال عنه فيقع الإحساس به. والانفعال لا يقع إلا عن جديد كان كذلك أيضا آلة اللمس.
لكن المتوسط الذى
ليس هو مثلا بحار ولا بارد يكون على وجهين : أحدهما على أنه لا حظّ له من هاتين
الكيفتين أصلا ؛ والثانى ما له حظ منهما ولكن صار فيه إلى الاعتدال ، فليس بحار
ولا بارد ، بل معتدل متوسط.
ثم لم يمكن أن
تكون آلة اللمس خالية أصلا عن هذه الكيفيات ، لأنها مركبة منها ، فوجب أن يكون
خلوها عن هذه الأطراف بسبب المزاج والاعتدال لتحسّ ما يخرج عن القدر الذى لها. وما
كان من أمزجة اللامسات أقرب إلى الاعتدال ، كان ألطف إحساسا. ولما كان الإنسان
أقرب الحيوانات كلها من الاعتدال كان ألطفها لمسا. ولما كان اللمس أول الحواس ،
وكان الحيوان الأرضى لا يجوز أن يفارقه ، وكان لا يكون إلا بتركيب معتدل ليحكم به
بين الأضداد ؛ فبيّن من هذا أنه ليس للبسائط
__________________
وما يقرب منها حس ألبتة ولا حياة إلا النمو فى بعض ما يقرب من البسائط. فليكن هذا مبلغ ما
نقوله فى اللمس.
__________________
الفصل الرابع
فى الذوق والشم
وأما الذوق فإنه
تال للّمس ، ومنفعته أيضا فى الفعل الذى به يتقوم البدن وهو تشهية الغذاء واختياره
، ويجانس اللمس فى شىء وهو فى أن المذوق يدرك فى أكثر الأمر بالملامسة ، ويفارقه فى أن نفس الملامسة لا تؤدى الطعم ، كما أن نفس ملامسة
الحار مثلا تؤدى الحرارة ، بل كأنه محتاج إلى متوسط يقبل الطعم ويكون فى نفسه لا
طعم له وهو الرطوبة اللعابية المنبعثة من الآلة المسماة بالملعبة . فإن كانت هذه الرطوبة عديمة الطعوم أدت الطعوم بصحة وإن خالطها طعم ، كما
يكون للممرورين من المرارة ، ولمن فى معدته خلط حامض من الحموضة شابت ما تؤديه
بالطعم الذى فيه فتحيله مرا أو حامضا.
__________________
ومما فيه موضع نظر
هل هذه الرطوبة إنما تتوسط بأن تخالطها أجزاء ذى الطعم مخالطة تنتشر فيها ثم تنفذ
فتغوص فى اللسان حتى تخالط اللسان فيحسه ، أو تكون نفس الرطوبة تستحيل إلى قبول
الطعم من غير مخالطة ، فإن هذا موضع نظر. فإن كان المحسوس هو المخالط فليست
الرطوبة بواسطة مطلقة ، بل واسطة تسهّل وصول الجوهر المحسوس الحامل للكيفية نفسها
إلى الحاس وأما الحس نفسه فإنما هو بملامسة الحاس للمحسوس بلاواسطة. وإن كانت
الرطوبة تقبل الطعم وتتكيف به فيكون المحسوس بالحقيقة أيضا هو الرطوبة ويكون أيضا
هو الرطوبة ويكون أيضا بلاواسطة ، ويكون الطعم إذا لاقى آلة الذوق أحسته ، فيكون لو كان
للمحسوس الوارد من خارج سبيل إلى المماسة الفائضة من غير هذه الواسطة لكان ذوق ،
لا كالمبصر الذى لا يمكن أن يلاقى آلة الإبصار بلاواسطة. وإذا مست الآلة المبصر لم
يدرك ألبتة ، لكنه بالحرى أن تكون هذه الرطوبة للتسهيل وأنها تتكيف
وتختلط معا ، ولو كان سبيل إلى الملامسة المستقصاة من غير هذه الرطوبة لكان يكون
ذوق.
فإن قيل : ما بال
العفوصة تذاق وهى تورث السدد وتمنع النفوذ؟
فنقول : إنها أولا
تخالط بوساطة هذه الرطوبة ثم تؤثّر أثرها من التكثيف وقد خالطت. والطعوم التى
يدركها الذوق هى الحلاوة والمرارة
__________________
والحموضة والقبض والعفوصة والحرافة والدسومة والبشاعة والتفه . والتفه يشبه أن يكون كأنه عدم الطعم ، وهو كما يذاق من الماء ومن بياض
البيض. وأما هذه الأخرى فقد تكثرت بسبب أنها متوسطات وأنها أيضا مع ما تحدث ذوقا يحدث بعضها لمسا ، فيتركب من الكيفية الطعمية ومن
التأثير اللمسى شىء واحد لا يتميز فى الحس ، فيصير ذلك الواحد كطعم محض متميز ،
فإنه يشبه أن يكون طعم من الطعوم المتوسط بين الأطراف يصحبه طعم وتفريق وإسخان
وتسمى جملة ذلك حرافة ، وآخر يصحبه طعم وتفريق من غير إسخان وهو الحموضة ، وآخر
يصحبه مع الطعم تجفيف وتكثيف وهو العفوصة. وعلى هذا القياس ما قد شرّح فى الكتب
الطبية.
وأما الشم فإنه
وإن كان الإنسان أبلغ حيلة فى التشمم من سائر
__________________
الحيوانات فإنه يثير الروائح الكامنة بالدلك ، وهذا ليس لغيره ، ويتقصى فى تحسّسها
بالاستنشاق ، وهذا لا يشاركه فيه غيره. فإنه لا يقبل الروائح قبولا قويا حتى يحدث
فى خياله منها مثل ثابتة كما تحصل للملموسات والمطعومات. بل تكاد أن تكون رسوم
الروائح فى نفسه رسوما ضعيفة. ولذلك لا تكون للروائح عنده أسماء إلا من جهتين :
إحداهما من جهة
الموافقة والمخالفة بأن يقال طيبة ومنتنة ، كما لو قيل للطعم إنه طيّب وغير طيّب
من غير تصور فصل أو تسمية.
والجهة الأخرى أن
يشتق لها من مشاكلتها للطعم اسم فيقال رائحة حلوة ورائحة حامضة ، كأنّ الروائح
التى اعتيد مقارنتها لطعوم مّا تنسب إليها وتعرف بها.
ويشبه أن يكون حال
إدراك الروائح من الناس كحال إدراك أشباح الأشياء وألوانها من الحيوانات الصلبة
العين ، فإنها تكاد أن تكون إنما تدركها كالتخيل غير المحقق وكما يدرك ضعيف البصر
شبحا من بعيد. وأما كثير من الحيوانات الصلبة العين فإنها قوية جدا فى إدراك
الروائح مثل النمل ، ويشبه أن لا تحتاج أمثالها إلى التشمم والتنشق ، بل تتأدى
إليها الروائح فى الهواء.
وواسطة الشم أيضا
جسم لا رائحة له كالهواء والماء وهى التى تحمل رائحة المشمومات .
__________________
وقد اختلف الناس
فى الرائحة : فمنهم من زعم أنها تتأدى بمخالطة شىء من جرم ذى الرائحة متحلل متبخر
فيخالط المتوسط. ومنهم من زعم أنها تتأدى باستحالة من المتوسط من غير أن يخالطه
شىء من جرم ذى الرائحة متحلل عنه. ومنهم من قال إنها تتأدى من غير مخالطة شىء آخر
من جرمه ومن غير استحالة من المتوسط. ومعنى هذا أن الجسم ذا الرائحة يفعل فى الجسم
عديم الرائحة وبينهما جسم لا رائحة له من غير أن يفعل فى المتوسط ، بل يكون
المتوسط ممكّنا من فعل ذلك فى هذا ، على ما يقال فى تأدى الأصوات والألوان.
فحرى بنا أن نحقق
هذا ونتأمله.
ولكن لكل واحد من
المذعنين بشىء من هذه المذاهب حجة.
فالقائل بالبخار
والدخان يحتج ويقول : إنه لو لم تكن الرائحة تسطع بسبب تحلل شىء ، ما كانت الحرارة
وما يهيج الحرارة من الدلك والتبخير وما يجرى مجرى ذلك مما يذكى الروائح ولما كان
البرد ممّا يحتبسها . فبين أن الروائح أنما تصل إلى الشم ببخار يتبخر من ذى
الرائحة ، يخالطه الهواء وينفذ فيه ، ولهذا إذا استقصيت تشمّم التفاحة ذبلت لكثرة
ما يتحلل منها.
والقائلون
بالاستحالة احتجوا وقالوا : إنه لو كانت الروائح التى تملأ المحافل أنما تكون
بتحلل شىء لوجب أن يكون الشىء ذو الرائحة ينقص وزنه ويقلّ حجمه مع تحلل ما يتحلل
منه.
وقال أصحاب
التأدية : خصوصا إنه لا يمكننا أن نقول إن البخار
__________________
يتحلل من ذى
الرائحة فيسافر مائة فرسخ فما فوقه ، ولا أيضا يمكننا أن نحكم أن ذا الرائحة أشد
إحالة للأجسام من النار فى تسخينها ، والنار القوية إنما تسخن ما حولها إلى حد ،
وإذا بلغ ذلك غلوة فهو أمر عظيم ، وقد نجد من وصول الروائح إلى بلاد بعيدة ما
يزيل الشك فى أن وصولها لم يكن بسبب بخار انتشر أو استحالة فشت. فقد علم أن بلاد
اليونانيين والمغاربة لا ترى فيها رخمة ألبتة ولا تأوى
إليها وبينها وبين البلاد المرخمة مسافة كثيرة تقارب ما ذكرناه . وقد اتفق فى بعض السنين أن وقعت ملحمة بتلك البلاد
فسافرت الرخم إلى الجيف ولا دليل لها إلا الرائحة ، فتكون الرائحة قد دلت من مسافة
بعدها بعد لا يجوز معه أن يقال إن الأبخرة أو الاستحالات من الهواء وصلت إليه.
فنقول نحن : إنه
يجوز أن يكون المشموم هو البخار ، ويجوز أن يكون الهواء نفسه يستحيل عن ذى الرائحة
فيصير له رائحة فيكون حكمه أيضا حكم البخار فيكون كل شىء لطيف الأجزاء من شأنه أن
ينفذ إذا بلغ آلة الشم ولاقاها كان بخارا أو هواء مستحيلا إلى الرائحة أحس به . وقد علمت أن كل متوسط يوصل إليه بالاستحالة ، فإن المحسوس أيضا لو تمكّن من
ملاقاة الحاسّ لأحسّ به بلاواسطة.
__________________
ومما يدل على أن
الاستحالة لها مدخل فى هذا الباب ، أنا مثلا نبخر الكافور تبخيرا يأتى على جوهره
كله ، فتكون منه رائحة منتشرة انتشارا إلى حد وقد يمكن أن
تنتشر منه تلك الرائحة فى أضعاف ذلك الموضع بالنقل ، والوضع جزءا جزءا من ذلك
المكان كله حتى يتشمم منه فى بقعة ضيقة صغيرة من تلك الأضعاف مثل تلك الرائحة.
فإذا كان فى كل واحدة من تلك البقاع الصغيرة يتبخر منه شىء فيكون مجموع الأنجرة
التى تتحل منه فى جميع تلك البقاع التى تزيد على البقعة المذكورة أضعافا مضاعفة
للبخار كله الذى يكون بالتبخير أو مناسبا له ، فيجب أن يكون النقصان الوارد عليه
فى ذلك قريبا من ذلك أو مناسبا له ولا
يكون. فبين أن هاهنا للاستحالة مدخلا.
وأما حديث التأدية
المذكورة فأمر بعيد ، وذلك لأن التأدية لا تكون إلا بنسبة
مّا ونصبة للمؤدى عنه إلى المؤدى إليه. وأما الجسم ذو الرائحة فليس
يحتاج إلى شىء من ذلك ، فإنك لو توهمت الكافور قد نقل إلى حيث لا تتأدى إليك
رائحته ، بل قد عدم دفعة ، لم يمنع أن تكون رائحته بعده باقية فى الهواء ، فذلك لا محالة لاستحالة أو مخالطة.
__________________
وأما حديث الرخم
فإنّه قد يجوز أن تكون رياح قوية تنقل الروائح والأنجرة المتحللة عن الجيف إلى
المسافة المذكورة فى أعلى الجو فيحسّ بها ما هو أقوى حسا من الناس وأعلى مكانا مثل
الرخم وغيره. وأنت تعلم أن الروائح وإن كانت قد تصل إلى كثير من الحيوانات فوق ما
تصل إلى الناس بكثير ، فقد تتأدى إليها المبصرات من مسافاة بعيدة وهى تحلّق فى الجو حتى يبلغ إبصارها فى البعد مبلغا بعيدا جدا ، وحتى يكون ارتفاعها
أضعاف ارتفاع قلل الجبال الشاهقة. وقد رأينا قلل جبال شاهقة جدا وقد جاوزتها
النسور محلقة ، حتى يكاد أن يكون ارتفاعها ضعف ارتفاع تلك الجبال.
وقلل تلك الجبال قد ترى من ست أو سبع مراحل ، وليس نسبة الارتفاع إلى الارتفاع
كنسبة بعد المرئى إلى بعد المرئى ، فإنك ستعلم فى
الهندسة أن النسب فى الأبعاد التى منها يرى أعظم وأكبر. فلا يبعد أن تكون الرخم قد
علت فى الجو بحيث ينكشف لها بعد هذه المسافة فرأت الجيف ، فإن كان يستنكر تأدى
أشباح هذه الجيف إليها
__________________
فتأدى روائحها
التى هى أضعف تأديا أولى بالاستنكار. وكما أنه ليس يحتاج كل حيوان فى تحريك الجفن
والمقلة إلى أن يبصر كذلك ليس يحتاج كل حيوان إلى استنشاق حتى يشم ، فإن كثيرا
منها يأتيها الشم من غير تشمم.
__________________
الفصل الخامس
فى حاسة السمع
وإذ قد تكلمنا فى
أمر اللمس والذوق والشم ، فبالحرى أن نتكلم فى أمر السمع. فنقول : إن الكلام فى أمر
السمع يقتضى الكلام فى أمر الصوت وماهيته ، وقد يليق بذلك الكلام فى الصدى. فنقول
:
إن الصوت ليس أمرا
قائم الذات موجودا ثابت الوجود يجوز فيه ما يجوز فى البياض والسواد والشكل من
أحكام الثبات على أن يصح فرضه ممتد الوجود وأنه مثلا لم يكن له مبدأ وجود زمانى
كما يصح هذا الفرض فى غيره ، بل الصوت بيّن واضح من أمره أنه أمر يحدث وأنه ليس
يحدث إلا عن قلع أو قرع. أما القرع فمثل ما تقرع صخرة أو خشبة فيحدث صوت. وأما
القلع فمثل ما يقلع أحد شقى مشقوق عن الآخر كخشبة تنحى عليها بأن يبين أحد شقيها
عن الآخر طولا. ولا تجد أيضا مع كل قرع صوتا ، فإن قرعت جسما كالصوف بقرع لين جدا
لم تحس صوتا ، بل يجب أن تكون للجسم الذى تقرعه مقاومة مّا ، وأن يكون للحركة التى
للمقروع به إلى المقروع عنيف صادم ، فهناك تحس.
وكذلك أيضا إذا
__________________
شققت شيئا يسيرا
وكان الشىء لا صلابة له لم يكن للقلع صوت ألبتة.
والقرع بما هو قرع
لا يختلف ، والقلع أيضا بما هو قلع لا يختلف. لأن أحدهما إمساس والآخر تفريق ، لكن
الإمساس يخالف الإمساس بالقوة والسرعة ، والتفريق أيضا يخالف التفريق بمثل ذلك.
ولأن كل صائر إلى مماسة شىء فيجب أن يفرغ لنفسه مكان جسم آخر كان مماسا له لينتقل
إليه ، وكل مقلوع عن شىء فقد يفرغ مكانه حتى يصار إليه.
وهذا الشىء الذى
فيه هذه الحركات شىء رطب سيال لا محالة إما ماء وإما هواء ، فتكون مع كل قرع وقلع
حركة للهواء وما يجرى مجراه إما قليلا قليلا وبرفق ، وإما دفعة على سبيل تموج أو
انجذاب بقوة. وقد وجب هاهنا شىء لا بد أن يكون موجودا عند حدوث الصوت وهو حركة
قوية من الهواء أو ما يجرى مجراه.
فيجب أن يتعرف هل
الصوت هو نفس القرع أو القلع ، أو هو حركة موجيّة تعرض للهواء
من ذلك ، أو شىء ثالث يتولد من ذلك أو يقارنه. أما القلع والقرع فإنهما يحسان
بالبصر بتوسط اللون ولا شىء من الأصوات يحس بتوسط اللون ، فليس القلع والقرع بصوت
، بل إن كان
__________________
ولا بد فسببا
الصوت .
وأما الحركة فقد
يتشكك فى أمرها ، فيظن أن الصوت نفس تموج الهواء. وليس كذلك أيضا ، فإن جنس الحركة
يحس أيضا بسائر الحواس ، وإن كان بتوسط محسوسات أخر. والتموج الفاعل للصوت قد يحس
حتى يؤلم ، فإن صوت الرعد يعرض منه أن تدك الجبال ، وربما ضرب حيوانا فأفسده. وكثيرا ما يستظهر على هدم الحصون العالية بأصوات
البوقات ؛ بل حس اللمس ، كما أشرنا إليه قبل أيضا قد ينفعل من تلك الحركة من حيث
هى حركة ولا يحس الصوت ، ولا أيضا من فهم أن شيئا حركة فهم أنه صوت. ولو كانت
حقيقة الصوت حقيقة الحركة ، لا أنه أمر يتبعها ويلزم عنها ، لكان من عرف أن صوتا
عرف أن حركة.
وهذا ليس بموجود ،
فإن الشىء الواحد النوعى لا يعرف ويجهل معا إلا من جهتين وحالين ، فجهة كونه صوتا
فى ماهيته ونوعيته ، ليس جهة كونه حركة فى ماهيته ونوعيته. فالصوت إذن عارض يعرض
من هذه الحركة الموصوفة يتبعها ، ويكون معها ، فإذا انتهى التموج من الهواء أو
الماء إلى الصماخ ـ وهناك تجويف فيه هواء راكد يتموج بتموج ما ينتهى إليه ووراءه
كالجدار مفروش عليه العصب الحاس للصوت ـ أحس بالصوت.
__________________
ومما يشكل من امر
الصوت هل هو شىء موجود من خارج تابع من خارج لوجود الحركة أو مقارن أو إنما يحدث
من حيث هو صوت إذا تأثر السمع به ، فإنه لمعتقد أن يعتقد أن الصوت لا وجود له من
خارج ، وأنه يحدث فى الحس من ملامسة الهواء المتموج ، بل كل الأشياء التى تلامس
ذلك الموضع بالمسّ أيضا تحدث صوتا فيه ، فهل ذلك الصوت حادث بتموج الهواء الذى فى
الصماخ أو لنفس المماسة.
وهذا أمر يصعب
الحكم عليه ، وذلك لأن نافى وجود الصوت من خارج لا يلزمه ما يلزم نافى باقى
الكيفيات الأخرى المحسوسة ، لأن هذا له أن يثبت للمحسوس الصوتى خاصية معلومة هى
تفعل الصوت ، وتلك الخاصية هى التموج ، فتكون نسبة التموج من الصوت نسبة الكيفية
التى فى العسل إلى ما يتأثر منه فى الحس. لكنه يختلف الأمر هاهنا ، وذلك لأن الأثر
الذى يحصل من العسل فى الحاسة ومن النار فى الحاسة هو من جنس ما فيهما. ولذلك فإن
الذى يمس الحرارة قد يسخن أيضا غيره إذا ثبت فيه الأثر. وليس الصوت والتموج حالهما
كذا ، فإن التموج شىء والصوت شىء ، والتموج يحس بآلة أخرى وتلك الكيفية لا تحس
بآلة أخرى. وليس يجب أيضا أن يكون كل ما يؤثر أثرا ففى نفسه مثل ذلك الأثر.
فيجب أن تتعرف
حقيقة الحال فى هذا فنقول :
مما يعين على
معرفة أن العارض المسموع له وجود من خارج أيضا أنه لو كان
إنما يحدث فى الصماخ نفسه لم يخل إما أن يكون التموج
__________________
الهوائى يحس
بالسمع من حيث هو تموج أو لا يحس. فإن كان التموج الهوائى يحس بالسمع ـ لست أقول
يحس بلمس آلة السمع ـ حسا من حيث هو تموج ، فإما أن يحس به أوّلا أو بتوسط الصوت.
فلو كان يحس به
أوّلا ، والمحسوس الأوّل بالسمع هو الصوت وهذا مما لا شك فيه ، كان التموج من حيث
هو تموج صوتا ، وقد أبطلنا هذا.
ولو كان يحس به
بتوسط الصوت ، لكان كل من سمع الصوت علم أن تموجا ، كما أن كل من أحس لون المربع
والمربع بتوسطه علم أن هناك مربعا وليس كذلك.
وإن كان إنما يحس
باللمس أيضا عرض منه ما قلنا . فإذن ليس بواجب أن يحس التموج عند سماع الصوت. فلننظر ما
يلزم بعد هذا.
فنقول : إن الصوت
كما يسمع تسمع له جهته ، فلا يخلو إما أن تكون الجهة تسمع لأن الصوت مبدأ تولده
ووجوده فى تلك الجهة ومن هنالك ينتهى ، وإما لأن المنتقل المتأدى إلى الأذن الذى لا صوت فيه بعد أن يفعل الصوت إذا اتصل بالأذن ينتقل من تلك الجهة ويصدم من تلك الجهة فيخيل أن الصوت ورد
من تلك الجهة ، وإما للأمرين جميعا.
فإن كان لأجل
المنتقل وحده ، فمعنى هذا هو أن المنتقل نفسه محسوس ، فإنه إذا لم يشعر به كيف يشعر بجهة مبدئه. فيلزم أن يحس
__________________
بالسمع عند إدراك
جهة الصوت تموج الهواء. وقد قلنا : إن ذلك ليس بواجب.
وإن كان لأجلهما
جميعا ، عرض من ذلك هذا المحال أيضا ، وصح أن الصوت كان يصحب التموج .
فبقى أن يكون ذلك
لأن الصوت نفسه تولد هناك ومن هناك انتهى.
ولو كان الصوت
إنما يحدث فى الأذن فقط ، لكان سواء أتى سببه من اليمين أو اليسار ، وخصوصا وسببه لا يحس به. وهاهنا مؤثر فيه مثل نفسه فلا تدرك جهته لأنه إنما يدرك عند وصوله فكيف ما لا حدوث له إلا عند وصول سببه. فقد بان
أن للصوت وجودا مّا من خارج لا من حيث هو مسموع بالفعل ، بل من حيث هو مسموع
بالقوة ، وأمر كهيئة مّا من الهيئات للتموج غير نفس التموج.
ويجب أن نحقق
الكلام فى القارع والمقروع فنقول :
إنه لا بد فى
القرع من حركة قبل القرع وحركة تتبع القرع ، فأما الحركة قبل القرع فقد تكون من
أحد الجسمين وهو الصائر إلى الثانى ، وقد تكون من كليهما ، ولا بد من قيام كل واحد
منهما أو أحدهما فى وجه الآخر
__________________
قياما محسوسا.
فإنه إن اندفع أحدهما كما يمس ، بل فى زمان لا يحس ، لم يكن
صوت. والقارع والمقروع كلاهما فاعلان للصوت ، لكن أوليهما به ما كان أصلبهما
وأشدهما مقاومة ، فإن حظه فى ذلك أشد ، وأما الحركة الثانية فهو انفلات الهواء
وانضغاطه بينهما بعنف ، والصلابة تعين على شدة ضغط الهواء والملاسة أيضا لئلا
ينتشر الهواء فى فرج الخشونة. والتكاثف أولى بذلك لئلا ينفذ الهواء فى فرج
التخلخل.
وربما كان الجسم
المقروع فى غاية الرطوبة واللين ، لكنه إذا حمل عليه بالقوة وكلف الهواء المتوسط
أن ينفذ فيه أو ينضغط فيما بينهما لم يكن ذلك الجسم أيضا بحيث يمكّن الهواء
المتوسط أن ينفذ فيه ويشقه فى زمان قصير ، بل قاوم ذلك فلم يندفع فى وجه ذلك
الهواء المتوسط ، بل وقاوم أيضا القارع ، لأن القارع كان يسومه انخراقا كثيرا فى زمان قصير جدا. وليس ذلك فى قوة القابل ولا فى قوة الفاعل القارع ، فامتنع من الانخراق ، فقام فى وجه
القارع وضغط عن المتوسط فكانت المقاومة فيه مكان الصلابة. وأنت تعلم هذا إذا
اعتبرت إمرارك السوط فى الماء برفق ، فإنه يمكنك أن تشقه شقا من حيث لا تلزمك فيه
مؤونة ، فإن استعجلت استعصى عليك وقاوم. فالهواء أيضا كذلك ، بل قد يجوز أن يكون
الهواء نفسه يصير جزء منه مقاوما وجزء بينه وبين المزاحم القارع
__________________
منضغطا ، بل يجوز
أن يصير الهواء أجزاء ثلاثة : جزء منه قارع كالريح ، وجزء مقاوم ، وجزء منضغط فيما
بينهما على هيئة من التموج. وليست الصلابة والتكاثف علة أولية لإحداث هذا التموج ،
بل ذلك من حيث يعينان على المقاومة. والعلة الأولية هى المقاومة.
فالصوت يحدث من
تموج الجسم الرطب السيال منضغطا بين جسمين متصاكّين متقاومين من حيث هو كذلك. وكما
أن الماء والهواء والفلك تشترك فى طبيعة هى أداء الألوان ، وتلك الطبيعة لها اسم
وهو الشفيف ، فكذلك الماء والهواء لهما معنى يشتركان فيه من حيث يحدث فيهما الصوت
، وليكن اسمه قبول التموج ، وليس ذلك من حيث المتوسط ماء أو هواء كما أن الإشفاف
لم يكن من حيث المتوسط فلكا أو هواء. ويشبه أن يكون الماء والهواء لهما أيضا من
حيث يؤديان الرائحة أو الطعم معنى كذلك لا اسم له. فلتكن للرطوبة المؤدية للطعم
العذوبة ، وأما ما يشترك فيه نقل الرائحة فلا اسم له.
وأما الصدى فإنه
يحدث من تموج يوجبه هذا التموج ، فإن هذا التموج إذا قارنه شىء من الأشياء كجبل أو جدار حتى وقّفه ، لزم أن ينضغط أيضا بين هذا التموج
المتوجه إلى قرع الحائط أو الجبل ، وبين ما يقرعه هواء آخر
يردّ ذلك ويصرفه إلى خلف بانضغاطه فيكون شكله الشكل
__________________
الأول وعلى هيئته
، كما يلزم الكرة المرمى بها الحائط أن تضطر الهواء إلى التموج فيما بينهما وأن
ترجع القهقرى. وقد بينا فيما سلف ما العلة فى رجوع
تلك الكرة قهقرى ، فلتكن هى العلة فى رجوع الهواء.
وقد بقى علينا أن
ننظر هل الصدى هو صوت يحدث بتموج الهواء الذى هو التموج الثانى ، أو هو لازم لتموج الهواء الأول المنعطف النابى نبوا فيشبه أن يكون هو تموج الهواء المنعطف النابى ، ولذلك يكون على صفته وهيئته ،
وأن لا يكون القرع الكائن من هذا الهواء يولد صوتا من تموج هواء ثان يعتد به. فإن
قرع مثل هذا الهواء قرع ليس بالشديد ، ولو كان شديدا بحيث يحدث صوتا لأضر بالسمع.
ويشبه أن يكون لكل صوت صدى ولكن لا يسمع ، كما أن لكل ضوء عكسا ، ويشبه أن يكون
السبب فى أن لا يسمع الصدى فى البيوت والمنازل فى أكثر الأمر أن المسافة إذا كانت
قريبة بين المصوّت وبين عاكس الصوت لم يسمعا فى زمانيين متباينين ، بل يسمعان معا
كما يسمع صوت القرع
__________________
معه وإن كان بعده
بالحقيقة. وأما إذا كان العاكس بعيدا فرّق الزمان بين الصوتين تفريقا محسوسا ، وإن
كان صلبا أملس فهو لتواتر الانعكاس منه بسبب قوة النبو يبقى زمانا كثيرا كما فى
الحمامات. ويشبه أن يكون هذا هو السبب فى أن يكون صوت المغنى فى الصحراء أضعف وصوت
المغنى تحت السقوف أقوى لتضاعفه بالصدى المحسوس معه فى زمان كالواحد.
ويجب أن يعلم أن
التموج ليس هو حركة انتقال من هواء واحد بعينه ، بل كالحال فى تموج الماء يحدث
بالتداول بصدم بعد صدم مع سكون قبل سكون ، وهذا التموج الفاعل للصوت
سريع لكنه ليس بقوى الصك.
ولمتشكك أن يتشكك
فيقول : إنه كما قد تشككتم فى اللمس فجعلتموه قوى كثيرة لأنه يدرك متضادات كثيرة ،
فكذلك السمع أيضا يدرك المضادة التى بين الصوت الثقيل والحاد ، ويدرك المضادة التى
بين الصوت الخافت والجهير والصلب والأملس والمتخلل والمتكاثف ، وغير ذلك. فلم لا
تجعلونه قوى؟
فالجواب عن ذلك أن
محسوسه الأول هو الصوت ، وهذه أعراض تعرض لمحسوسه الأول بعد أن يكون صوتا. وأما
هناك فكل واحدة من المتضادات تحس لذاتها ، لا بسبب الآخر. فليكن هذا المبلغ فى
تعريف الصوت والإحساس به كافيا.
__________________
المقالة الثالثة
فى الإبصار
ثمانية فصول
الفصل الأول : فى
الضوء والشفيف واللون.
الفصل الثانى : فى
مذاهب وشكوك فى امر النور والشعاع وان النور ليس بجسم بل هو كيفية يحدث فيه.
الفصل الثالث : فى
تمام مناقضة المذاهب المبطلة لان يكون النور شيئا غير اللون الظاهر وكلام فى
الشفاف واللامع.
الفصل الرابع : فى
تأمل مذاهب قيلت فى الالوان وحدوثها.
الفصل الخامس : فى
اختلاف المذاهب فى الرؤية وابطال المذاهب الفاسدة بحسب الامور نفسها.
__________________
الفصل السادس : فى
ابطال مذاهبهم من الاشياء والمقولة فى مذاهبهم.
الفصل السابع : فى
حلّ الشبه التى اوردوها ، وفى اتمام القول فى المبصرات التى لها اوضاع مختلفة من
مشفّات ومن صقيلات.
الفصل الثامن : فى
سبب رؤية الشىء الواحد كشيئين.
الفصل الأول
فى الضوء والشفيف واللون
وحرّى بنا الآن أن
نتكلم فى الإبصار ، والكلام فيه يقتضى الكلام فى الضوء وفى المشف وفى اللون وفى
كيفية الاتصال الواقع بين الحاس والمحسوس البصرى ، فلنتكلم أولا على الضوء فنقول :
إنه يقال ضوء
ويقال نور ويقال شعاع ، ويشبه أن لا يكون بينها فى وضع اللغة كثير تفاوت ، لكنا
نحتاج فى استعمالنا إياها أن نفرّق بينها لأن هاهنا معانى ثلاثة متقاربة :
أحدها الكيفية
التى يدركها البصر فى الشمس والنار من غير أن يقال إنه سواد أو بياض أو حمرة أو
شىء من هذه الألوان.
والثانى الأمر
الذى يسطع من هذا الشىء فيتخيل أنه يقع على الأجسام فيظهر بياض وسواد وخضرة ،
والآخر الذى يتخيل على الأجسام كأنه يترقرق وكأنه يستر لونها
وكأنه شىء يفيض منها ، فإن كان فى جسم قد استفاد ذلك من جسم آخر سمى بريقا
كما يحس فى
__________________
المرآة وغيرها ،
وإن كان فى الجسم الذى له بذاته سمى شعاعا. ولسنا نحتاج الآن إلى الشعاع والبريق ،
بل نحتاج إلى القسمين الأولين.
فليكن أحدهما ـ وهو
الذى للشىء من ذاته ـ ضوءا وليكن المستفاد نورا.
وهذا الذى نسميه
ضوءا مثل الذى للشمس والنار ، فهو المعنى الذى يرى لذاته. فإن الجرم الحامل لهذه
الكيفية إذا وجد بين البصر وبينه شىء كالهواء والماء رؤى ضرورة من غير حاجة إلى
وجود ما يحتاج إليه الجدار الّذى لا يكفى فى أن يرى على ما هو عليه وجود الهواء
والماء وما يشبههما بينه وبين البصر ، بل يحتاج إلى أن يكون الشىء الذى سميناه
نورا قد غشيه حتى يرى حينئذ ، ويكون ذلك النور تأثيرا من جسم ذى ضوء فيه إذا قابله
وكان بينهما جسم ليس من شأنه أن يحجب تأثير المضىء فى قابل النور كالهواء والماء
فإنه يعين ولا يمنع
فالأجسام بالقسمة
الأولى على قسمين :
جسم ليس من شأنه
هذا الحجب المذكور وليسم الشاف.
وجسم من شأنه هذا
الحجب كالجدار والجبل.
والذى من شأنه هذا
الحجب :
فمنه ما من شأنه
أن يرى من غير حاجة إلى حضور شىء آخر بعد وجود المتوسط الشاف ، وهذا هو المضىء
كالشمس والنار ومثله فانّه غير شفاف ، بل هو حاجب عن إدراك ماوراءه. فتأمل إظلال المصباح عن
__________________
المصباح ، فإن
أحدهما يمنع عن أن يفعل الثانى فيما هو بينهما ، وكذلك يحجب البصر عن رؤية
ماوراءه.
ومنه ما يحتاج إلى
حضور شىء آخر يجعله بصفة وهذا هو الملون. فالضوء كيفية القسم الأول من حيث هو كذلك ، واللون كيفية القسم الثانى من حيث هو كذلك.
فإن الجدار لا يمكّن المضىء أن ينير شيئا خلفه ، ولا هو بنفسه منير ، فهو الجسم
الملون بالقوة ، واللون بالفعل
__________________
__________________
إنما يحدث بسبب
النور ، فإن النور إذا وقع على جرم مّا حدث فيه بياض بالفعل أو سواد أو خضرة أو
غير ذلك. فإن لم يكن كان أسود فقط مظلما ، لكنه بالقوة ملون إن عنينا باللون
بالفعل هذا الشىء الذى هو بياض وسواد وحمرة وصفرة وما أشبه ذلك. ولا يكون البياض
بياضا والحمرة حمرة إلا أن تكون على الجهة التى نراها ولا تكون على هذه الصفة إلا أن تكون منيرة.
ولا تظننّ أن
البياض على الجهة التى نراها والحمرة وغير ذلك يكون موجودا بالفعل فى الأجسام ،
لكن الهواء المظلم يعوق من إبصاره ، فإن الهواء نفسه لا يكون مظلما إنما المظلم هو
الذى هو المستنير. والهواء نفسه وإن كان ليس فيه شىء مضىء فإنه لا يمنع إدراك
المستنير ولا يستر اللون إذا كان موجودا فى الشىء. تأمل كونك فى غار وفيه هواء كله
على الصفة التى تظنه أنت مظلما ، فإذا وقع النور فى جسم خارج موضوع فى الهواء الذى
تحسبه نيرا فإنك تراه ، ولا يضرك الهواء المظلم الواقف بينك وبينه ، بل الهواء
عندك فى الحالين كأنه ليس بشىء.
__________________
وأما الظلمة فهى
حال أن لا ترى شيئا وهو أن لا تكون الكيفيات التى إذا كانت
موجودة فى الأجرام التى لا تشف صارت مستنيرة فهى مظلمة ، وبالقوة فلاتراها ، ولا ترى الهواء فيتخيل لك ما يتخيل لك إذا غمضت عينيك
وسترتهما فتتخيل لك ظلمة مبثوثة تراها ، كما يكون من حالك وأنت محدّق فى هواء مظلم وليس كذلك ، ولا أنت ترى وأنت مغمض هواء مظلما أو ترى ما ترى من
الظلمة شيئا فى جفونك إنما ذلك أنك لا ترى.
وبالجملة فإن
الظلمة عدم الضوء فيما من شأنه أن يستنير ، وهو الشىء الذى قد يرى ، لأن النور
مرئى وما يكون فيه النور مرئى ، والشاف لا يرى ألبتة ، فالظلمة هى فى محل
الاستنارة وكلاهما أعنى المحلين جسم لا يشف. فالجسم الذى من شأنه أن يرى لونه إذا
كان غير مستنير كان مظلما ، ولم يكن فيه بالحقيقة لون بالفعل ، ولم يكن ما يظن أن
هناك ألوانا ولكنها مستورة بشىء ، فإن الهواء لا يستر وإن كان على الصفة التى يرى
مظلما إذا كانت الألوان بالفعل.
ولكنه إن سمى
إنسان الاستعدادات المختلفة التى تكون فى الأجسام التى إذا استنارت صار واحد منها
الشىء الذى تراه بياضا والآخر حمرة ألوانا ، فله ذلك ، إلا
أنه يكون باشتراك الاسم. فإن البياض بالحقيقة
__________________
هو هذا الذى يكون
على الصفة التى ترى ، وهذا لا يكون موجودا وبينك وبينه شفاف لا يشف ، لأن الشفاف
قد يكون شفافا بالفعل وقد يكون شفافا بالقوة ، وليس يحتاج فى أن يكون بالفعل إلى
استحالة فى نفسه ، بل إلى استحالة فى غيره أو إلى
حركة فى غيره. وهذا مثل المسلك والمنفذ فإنه لا يحتاج فى أن يكون بالفعل إلى أمر
فى نفسه ، بل إلى وجود السالك والنافذ بالفعل. وامّا الاستحالة التى يحتاج إليها الشفاف بالقوة إلى أن يصير شفافا بالفعل ، فهى
استحالة الجسم الملون إلى الاستنارة وحصول لونه بالفعل.
وأما الحركة فأن
يتحرك الجسم المضىء إليه من غير استحالة فيه ، فقد عرفت كنهه فيما سلف. فإذا حصل
أحد هذين تأدى المرئى ايضا فصار هذا شفافا بالفعل لوجود غيره.
فحرى بنا أن نحقق
أمر هذا المتأدى ، إلا أن الواجب علينا أن نؤخر الأمر فيه إلى أن نذكر شكوكا تعرض
فيما قلناه يسهل من حلّها تصحيح ما قلناه.
__________________
الفصل الثانى
فى مذاهب وشكوك فى امر
النور والشعاع.
وفى ان النور ليس بجسم بل
هو كيفية تحدث فيه
ومن الناس من ظن
أن النور الذى يشرق من المضىء على الأجسام ليس كيفية تحدث فيها بل هو أجسام صغار
تكون منفصلة من المضىء فى الجهات ملازمة لأبعاد مفروضة عنه تنتقل بانتقاله فتقع
على الأجسام فتستضىء بها.
ومن الناس من ظن
أن هذا النور لا معنى له ألبتة وإنما هو ظهور من الملون.
بل من الناس من ظن
أن الضوء فى الشمس ليس إلا شدة ظهور لونه ، لكنه يغلب البصر.
فيجب علينا أولا
أن نتأمل الحال فى هذه المذاهب. فنقول :
إنه لا يجوز أن
يكون هذا النور والشعاع الواقع على الأجسام من الشمس والنار أجساما حاملة لهذه الكيفية المحسوسة ، لأنها إما أن تكون
__________________
شفافة فلا يخلو
إما أن يزول شفيفها بتراكمها كما تكون الأجزاء الصغار من البلور شفافة ويكون
الركام منها غير شفاف ، وإما أن لا يزول شفيفها. فإن كانت شفافة لا يزول شفيفها لم
تكن مضيئة ، إذ قد فرغنا من الفرق بين الشفاف وبين المضىء ؛ وإن كانت تعود
بالارتكام غير شفافة كان ارتكامها يستر ما تحتها ، وكلما ازدادت ارتكاما ازدادت
سترا ، والضوء كلما ازداد ارتكاما ـ لو كان له ارتكام ـ ازداد إظهارا للضوء . وكذلك إذا كانت هذه المضيئات فى الأصل مضيئات غير شفافة ، كالنار وما
أشبهها. فبين إن الشعاع المظهر للألوان ليس بجسم.
ثم لا يجوز أن
يكون جسما ويتحرك بالطبع إلى جهات مختلفة. ثم إن كانت هى أجساما تنفصل من المضىء
وتلقى المستنير ، فإذا غمّت الكوة لم يخل إما أن يتفق لها أن تعدم أو تستحيل أو تسبق
الغام . والقول بسبق الغام اعتساف ، فإن ذلك أمر يكون دفعة. والعدم
__________________
أيضا بالستر من
ذلك الجنس ، فإنه كيف يحكم أن جسما إذا تخلل بين جسمين عدم أحدهما.
وأما الاستحالة
فتوجب ما قلناه وهى أنها تستنير بمقابلة النير ، فإذا غم استحالت. فما الحاجة إن
كان الأمر على هذا إلى مسافرة أجسام من جهة النير ، ولم لا تكون هذه الأجسام تستحيل بنفسها بالمقابلة تلك الاستحالة.
وأما الحجة التى
يتعلق بها أصحاب الشعاع فمن ذلك قولهم : إن الشعاع لا محالة ينحدر من عند الشمس
ويتجه من عند النار ، وهذه حركة ، ولا حركة إلا للجسم. وأيضا فإن الشعاع ينتقل
بانتقال المضىء والانتقال للجسم. وأيضا فإن الشعاع يلقى شيئا فينعكس عنه إلى غيره
والانعكاس حركة جسمانية لا محالة.
وهذه القياسات
كلها فاسدة ، ومقدماتها غير صحيحة ، فإن قولنا : الشعاع ينحدر أو يخرج أو يدخل ،
ألفاظ مجازية ليس من ذلك شىء ، بل الشعاع يحدث فى المقابل دفعة. ولما كان يحدث من
شىء عال توهم كأنه ينزل ، وأن يكون على سبيل الحدوث فى ظاهر الحال أولى من النزول
، إذ لا يرى ألبتة فى الطريق ولا يحتاج إلى زمان محسوس. فلا يخلو : إما أن يكون
البرهان دل على انحداره ، وأنى لهم بذلك. وإما أن يكون الحس هو الدال عليه ، وعليه
معولهم. وكيف يدل الحس على حركة متحرك لا يحس بزمانه ولا يحس فى
__________________
وسط المسافة.
وأما حديث انتقال
الشعاع ، فليس هو بأكثر من انتقال الظل. فيجب أن يكون الظل أيضا جسما ينتقل ، وليس
ولا واحد منهما بانتقال ، بل بطلان وتجدد. فإنه إذا تجددت الموازاة تجدّد ذلك ،
فإن ارتكب مرتكب أن الظل أيضا ينتقل فليس يخلو إما أن ينتقل على النور وإما أن
يكون النور ينتقل أمامه وخلفه ، فإن كان ينتقل على النور ويغطى النور ، فلنفرض النور
المغشى لجميع الأرض لا انتقال له وإنما يغطيه الظل ، فيكون دعوى انتقال النور قد
فسد. وإن كان النور ينتقل أمام الظلمة حتى تنتقل الظلمة فلنفرض المضىء واقفا ،
ومعلوم أنه إذا كان واقفا وقف معه النور ، وهذا يدعو إلى أن تكون حركة ذى الظل سببا لطرد النور ، ويمكن عدة منهم أن يطردوا النور أيضا
من الجهات المختلفة والمضىء واقف فيظلم الموضع حينئذ ، أو يكون النور إذا هرب من
الظل ظفر من خلف فعاد إلى حيث فارقه الظل ، وهذه كلها خرافات ، بل لا الظل
يفسخ النور ولا هو ولا النور بجسم ، وإن كان لهما انتقال فذلك بالتجدد لا أن شيئا
واحدا بعينه ينتقل.
وانعكاس الشعاع
أيضا لفظ مجازى ، فإن من شأن الجسم إذا استنار وكان صقيلا أن يستنير عنه أيضا جسم
يحاذيه من غير انتقال ألبتة.
وأما المذهب الآخر
وهو المذهب الذى لا يرى لهذا النور معنى ، بل
__________________
يجعله اللون نفسه إذا ظهر ظهورا بينا ، فإن لأصحابه أن يقولوا : إن الذى يغرّ فى هذا الباب ما يتخيل مع اللون من بريق الملونات وليس ذلك البريق شيئا
فى المرئى نفسه ، بل أمر يعرض للبصر بالمقايسة بين ما هو أقل ضوءا وما هو أشد
ضوءا. وشدة ظهور اللون لشدة تأثير الشىء المضىء ، فإن الإنارة التى من السراج أقل
قليلا من الإنارة التى من القمر ، والإنارة التى من القمر الذى هو الفخت أقل قليلا من الإنارة التى فى البيوت المستورة نهارا عن الشمس ، بل عن
المواضع ذوات الظل التى ليس فيها شعاع الشمس. وذلك لأن الفخت يبطل فى ظل البيوت
إذا طلعت الشمس فيتلاشى ، ويكون ما يبصر فيها أقوى مما يبصر فى الفخت ، والناس لا
يرون ما كان فى الظل وإن كان منيرا براقية وشعاعية ألبتة ، ويرون أن نور السراج
يفعل فى الأجسام بريقا ، ونور القمر فى الليل يفعل ذلك ، وذلك بالقياس إلى الظلمة
الليلية. فإن الظلمة الليلية تخيل ذلك القدر أنه شعاع برّاق ، وليس ذلك إلا ظهورا
مّا من اللون. والذى للشمس أقوى وأشد تأثيرا. فليرنا مر من مثبتى النور شيئا سوى
اللون أن على الحائط الأبيض شيئا غير البياض وغير ظهوره يسمى ذلك الشىء شعاعا. فإن
قايس مقايس ذلك بالظل على الحائط ، فذلك الظل بسبب ظلمة مّا يخفى بها من البياض ما
كان يجب أن يظهر. وكأنه خلط من
__________________
الظلمة التى لا
معنى لها إلا خفاء أو زيادة خفاء. كما أن النور لا معنى له إلا ظهور أو زيادة
ظهور.
ومن هؤلاء قوم يرون أن الشمس ليس ضوؤها إلا شدة ظهور لونها ، ويرون أن اللون إذا بهر البصر
لشدة ظهوره رؤى بريق وشعاع يخفى اللون لعجز البصر لا لخفائه فى نفسه ، وكأنه يفتر
البصر عن إدراك الجلى ، فإذا انكسر ذلك رؤى لون.
قالوا :
والحيوانات التى تلمع فى الليل إذا لمعت لم يحس لونها ألبتة وإذا كان نهارا كان
لها لون ظاهر ولم يكن فيها لمعان ، فذلك اللمعان هو بسبب شدة ظهور ألوانها لا غير
حتى رؤى فى الظلمة ، ويكون فى غاية القوة حين يظهر فى الظلمة فيبهر البصر إذا كانت الظلمة أضعفته ، فإذا أشرقت الشمس غلب
ظهورها ظهور ذلك فعاد لونها. والبصر لم يتحير له ، لأن البصر قد اعتاد لقاء الظاهرات واشتد بطلوع الشمس.
ومنهم من قال :
ليس الأمر على هذه الصفة ، بل الضوء شىء واللون شىء. لكنه من شأن الضوء إذا غلب
على البصر أن يسترلون ما فيه. والشمس أيضا لها لون ، ومع اللون ضوء فيستر الضوء
اللون باللمعان كما
__________________
للقمر ، وكما
للسنجة السوداء الصقيلة إذا لمعت رؤيت مضيئة ولم يرسوادها.
قالوا : وهذا غير
النور ، فإن النور هو ظهور اللون لا غير ، والضوء ليس ظهور اللون بل شىء آخر وقد
يخفى اللون. وإن هذه اللوامع فى الليل يظهر نورها فى الظلمة فيخفى لونها ، وإذا
ظهرت الشمس غلب نورها وخفى وظهر لونها. فبالحرى أن نتأمل هذا المذهب مع فروعه
المذكورة.
__________________
الفصل الثالث
فى تمام مناقضة المذاهب
المبطلة لأن يكون النور شيئا
غير اللون الظاهر
وكلام فى الشفاف واللامع
فنقول : إن ظهور
اللون يفهم منه فى هذا الموضع معنيان :
أحدهما صيرورة
اللون بالفعل.
والآخر ظهور لون
موجود بنفسه بالفعل للعين.
__________________
والمعنى الأول يدل
على حدوث اللون أو وجوده لونا.
والمعنى الثانى
يدل على حدوث نسبة اللون أو وجود تلك النسبة. وهذا الوجه الثانى ظاهر الفساد. فإن
ظنّ أن النور نفس نسبة اللون إلى البصر ، فيجب أن يكون النور نسبة أو حدوث نسبة
ولا قوام ولا وجود له فى نفسه . وإن عنى به أنه مصير اللون بحيث لو كان بصرا لرآه أو كونه
كذلك ، فإما أن يكون هذا نفس اللون أو معنى يحدث إذا زال معنى من خارج كزوال ستر
أو غيره. فإن كان نفس اللون كان هذا هو الوجه الأول ، وإن كان حالا تعرض له به
يظهر فيكون الضوء غير اللون .
وأما المعنى الأول
فلا يخلو أيضا ، إما أن يعنى بالظهور خروج من القوة إلى الفعل فلا يكون الشىء
مستنيرا بعد ذلك الآن الواحد ، وإما أن يعنى به نفس اللون ، فيكون قوله الظهور لا معنى
له أيضا ، بل يجب أن يقال : إن الاستنارة هو اللون ، أو يعنى به حال تقارن اللون
إما دائما وإما وقتا مّا ، حتى يكون اللون شيئا يعرض له النور تارة وتعرض له
الظلمة أخرى. واللون فى الحالين موجود بالفعل ، فإن كان نفس نسبته إلى ما يظهر له
عاد إلى المذهب الآخر ، وإن كان شيئا آخر عاد إلى
__________________
ذلك أيضا .
فإن قررنا الأمر
على أن الضوء وإن كان نفس اللون فيكون كأن الضوء هو اللون نفسه إذا كان بالفعل ، فلا يخلو إما أن يكون الضوء مقولا على كل لون بالفعل ، أو يكون البياض وحده
ضوءا. فيكون السواد ظلمة. فيستحيل أن يكون الجسم الأسود مشرقا بالضوء ، لكن هذا
ليس بمستحيل ، فإن الأسود يشرق وينوّر غيره فليس الضوء هو البياض وحده ، وإن لم
يكن الضوء هو البياض وحده ، بل كل لون كان بعض ما هو ضوء يضاد بعض ما هو ضوء ،
ولكن الضوء لا يقابله إلا الظلمة ، هذا خلف.
وأيضا فإن المعنى
الذى به الأسود مضىء غير سواده لا محالة ، وكذلك هو غير البياض ، واللون أعنى
طبيعة جنسه الذى فى السواد هو نفس السواد ، واللون الذى فى البياض هو نفس البياض
لا عارضا له ، فليس اللون المطلق الجنسى هو الضوء.
وأيضا فإن الضوء
قد يستنير به الشفاف ، كالماء والبلّور إذا كان فى ظلمة فوقع عليه الضوء وحده دل عليه وأشف ، فبهذا هو ضوء وليس بلون.
وأيضا فإن الشىء
يكون مضيئا وملوّنا ، فتارة يشرق منه على شىء آخر الضوء وحده كما يشرق على ماء أو
حائط ، وتارة يشرق منه إذا كان قويّا الضوء مع اللون جميعا حتى يحمّر الماء أو
الحائط الذى يشرق عليه أو يصفّره. فلو كان الضوء ظهور اللون وكانت الظلمة خفاء
اللون ، لكان
__________________
تأثير اللون
الأحمر فيما يقابله حمرة لا بريقا ساذجا ، فإن كان هذا ظهور لون آخر ، فلم إذا اشتد فعل فيما يقابله إخفاء لونه بأن ينتقل لون هذا القوىّ اللون
إليه .
وعلى أن مذهب هذا
الإنسان يوجب أن الخضرة أو الحمرة وغير ذلك مختلطة من ظهورات بياضية وخفاءات
سوادية. فيلزم من ذلك أنه إذا كان جسم ظاهر اللون بشعاع وقع عليه ثم انعكس على
المعنى الذى تفهمه ضوء جسم آخر ذى لون أن لا يقع لونه عليه ، لأنه لا يخلو إما أن
يكون هذا المستنير المنير لغيره الأجزاء الظاهرة اللون وحدها أو مع غيرها ، فإن
كانت وحدها فهى إنما توجب ظهور اللون فى تلك بأن تبيّض لإخفاء اللون بأن تحمّر أو
تخضّر. وإن كانت مع غيرها حتى كانت الظاهرة اللون والخفية اللون تفعلان جميعا هذا
خفاء وذلك ظهورا. فيكون لخفاء اللون تأثير فى المقابل ، لكن خفاء اللون ليس له هذا
التأثير ، ألا ترى أنه إذا كان خفاء لون مجرد لم يؤثر فيما يقابله كما يؤثر ظهور
اللون الذى يقولون به لو كان مفردا.
فإن قالوا : إن
اللون ظهور الحمرة أيضا والخضرة وغير ذلك من حيث
__________________
هو حمرة وخضرة وإن
الخضرة إذا اشتد ظهورها فعلت مثل نفسها ففعلت خضرة وحمرة. فيقال : ما باله إذا كان
قليل الظهور أظهر اللون فى الذى يقابله على ما هو عليه على المعنى الذى هو ضوء
مجرد فقط ، وفعل مثل ما يفعله مضىء لو لم يكن له لون ، فإذا اشتد ظهوره أبطله أو
أخفاه بلون نفسه ، فكان يجب أول الأمر أن يكون إنما يفعل فيه لونا من لونه قليلا ،
ثم إذا اشتد فعل فيه كثيرا ، فكان كل فعل يفعله إنما هو إخفاء لون ذلك بمزجه بلونه وليس كذلك ، بل يظهر أول شىء لونه إظهارا شديدا. وإنما يظهر فيه اللون الذى فى استعداده مالو حضر مضىء لا خضرة
ولا حمرة فى فعله ، ثم يعود بعد ذلك إذا صار أقوى ظهورا آخذا فى إبطال لونه
وإخفائه وإلباسه لونا آخر ليس فى جبلّته ولا طبيعته.
فيكون إذن أحد
الفعلين عن شىء غير الآخر ، فيكون مصدر أحد الفعلين عن الضوء الذى لو كان الجسم لا لون له وله ضوء لكان يفعل ذلك مثل بلورة مضيئة
، والفعل الآخر يكون من لونه إذا اشتد ظهوره بسبب هذا الضوء حتى صار متعديا.
فإنا وإن كنا نقول
: إن الضوء ليس هو ظهور اللون ، فلا نمنع أن يكون الضوء سببا لظهور اللون وسببا
لنقله. ونقول : إن الضوء جزء من جملة هذا المرئى الذى نسميه لونا وهو شىء إذا خالط
اللون بالقوة حدث
__________________
منهما الشىء الذى
هو اللون بالفعل بالامتزاح ، فإن لم يكن ذلك الاستعداد
كان إنارة وبريقا مجردا . فالضوء كجزء من الشىء الذى هو اللون ومزاج فيه ، كما أن
البياض والسواد لهما اختلاط مّا تحدث منه تلك الألوان المتوسطة.
وأما قول القائل :
إن الضوء واللمعان أيضا ليس إلا ظهور اللون ، ثم قوله فى الأشياء اللامعة فى الليل
ما قاله ، فيبطل بأن السراج والقمر كثيرا ما يبطلان لمعان ذلك ويظهران ألوانها . فيجب أن يكون نور السراج أشد ظهور لون ، فيجب أن يكون
أيضا ما يصير بالسراج ظاهر اللون لا يرى له فى الظلمة لونه. وليس الأمر كذلك ، فإن
اللامعات يرى لونها أيضا بالليل كما يرى بريقها. فليس ما قالوه بحق.
وأما القائل بأن
للشمس والكواكب ألوانا وأن الضوء يخفى لونها ، فيشبه أن يكون الحق أن بعض الأشياء
يكون له فى ذاته لون فإذا أضاء اشتدت إضاءته حتى يبهر البصر فلم يميز اللون ، ومنه
ما يكون له مكان
__________________
اللون الضوء وهو
الشىء الذى يكون الضوء له طبيعيا لازما غير مستفاد ، وبعض الأشياء مختلط الجوهر من
ذلك الأمر ، إما اختلاط تركيب أجزاء مضيئة وأجزاء ذوات ألوان كالنار ، وإما اختلاط
امتزاج الكيفيات كما للمريخ ولزحل. وليس يمكننى أن أحكم فى أمر الشمس الأن بشىء.
فقد عرفنا حال
الضوء وحال النور وحال اللون وحال الإشفاف. فالضوء هو كيفية هى كمال بذاتها للشفاف
من حيث هو شفاف ، وهو أيضا كيفية مّا للمبصر بذاته لا لعلّة غيره. ولا شك أن
المبصر بذاته أيضا يحجب عن إبصار ما وراءه. والنور كيفية يستفيدها الجسم الغير
الشفاف من المضىء فيكمل بها الشفاف شفافا بالفعل. واللون كيفية تكمل بالضوء من
شأنها أن تصيّر الجسم مانعا لفعل المضىء فيما يتوسط ذلك الجسم بينه وبين المضىء.
فالأجسام مضيئة وملونة وشفافة.
ومن الناس من قال
: إن من الأجسام ما يرى بكيفية فى ذاتها. ومنها ما يرى بكيفية فى غيرها ، وجعل
القسم الأخير هو الشفاف. وأما القسم الأول فقد جعله أولا قسمين : أحدهما ما يرى فى
الشفاف لذاته
__________________
ولحضوره وهو
المضىء ، وثانيهما ماليس كذلك. ثم قسم هذا بقسمين : أحدهما ما يشترط فى رؤيته
الضوء مع شرط المشف وهو الملون ، والثانى ما يشترط فى رؤيته الظلمة مع شرط المشف
كالحيوانات التى تلمع فى الليل من حيث تلمع كاليراعة ، وبعض الخشب المتعين وبعض الدود. وقد رأيت أنا بيضة دجاجة بهذه الصفة ، وجرادة
ميتة بهذه الصفة ، وصرارة ميتة بهذه الصفة.
وليست هذه القسمة بمرضية ولا صحيحة ، فإن المضىء يرى لذاته فى الظلمة وفى الضوء جميعا. فإن
اتفق أن كان الرائى فى الضوء الذى يفعله رؤى ، وإن اتفق
أن لم يكن فيه رؤى أيضا ، كالنار يراها الإنسان فى الضوء سواء كان ضوؤها أو ضوء
غيرها ويراها فى الظلمة.
وأما الشمس فإنما
ليس يمكننا أن نراها فى الظلمة بسبب أنها حيث تكون مقابلة لبصر الرائى تكون قد
ملأت العالم ضوءا ولم تترك مكانا مظلما. وأما الكواكب فإنها إنما ترى فى الظلمة ،
لأن ضوءها يقصر عن ضوء الشمس فلا تضىء الأشياء ولا تنورها ، بل لا يمتنع أن توجد
فقد يمكن أن تكون ومعها ظلمة فترى فى الظلمة لا لأن الظلمة سبب ان ترى
__________________
هى بالذات ، بل
يجب أن يعلم أن بعض الأنوار يغلب بعضا حتى لا يرى ، كما أن ضوء الشمس يغلب ضوء
النار الضعيفة وضوء الكواكب ولا ترى مضيئة عند ضوء الشمس فلا ترى ، لا لأجل الحاجة
فى رؤيتها إلى الظلمة ، بل للحاجة إلى أن تكون فى أنفسها مضيئة غير مظلمة بالقياس
إلى أبصارنا. فإذا كانت الشمس غائبة ظهرت ورؤيت ، لأنها صارت مضيئة بالقياس إلى
أبصارنا وبحال فى أبصارنا.
وربما كان حكم
النار والقمر عند ضوء مّا هو أضعف منهما هذا الحكم بعينه. ويجب فى ذلك الضوء أن لا يكون موجودا بالقياس إلينا عند ظهور نار أو قمر ، فيلزم أن تكون ظلمة
حتى يظهرا ، ويلزم أن لا يكون باهر حتى يرى ويتمكن البصر من
إدراكه. فأنت تعلم أن الهباء الذى فى الجو ليس من جنس ما لا يرى المستنير منه
إلا فى الظلمة ، لكن إن كان الإنسان فى الظلمة وقد وقع على هذه الهباءات شعاع
الشمس أمكن أن ترى تلك الهباءات ، فإن كان الإنسان فى شعاع لم يمكن ، وذلك
__________________
لأمر فى بصر
الإنسان لا لأمر فى ضوء الهباءات ، فإن بصر الإنسان إذا كان مغلوبا بضوء كثير لم
يرها ، وإن لم يكن مغلوبا رآها. وكذلك هذه اللوامع فى الليل ليست جنسا آخر ، بل هى
المضيئات ويخالفها لا فى جملة الطبع ، بل فى الضعف ، ولو كانت هذه مخالفة للمضيئات فى جملة الطبع ، فالكواكب كذلك.
ولا يتحصل لهذه
القسمة محصول صادق ، إلا أن يقال : إن بعض المضيئات باهرة لبعض وبعضها مبهورة
لبعض. ومعنى ذلك البهر ليس تأثيرا منها فيها ، بل فى إبصارنا ، كما أن بعض
الصلابات أصلب وبعضها أضعف فلا يجب إذن أن يقال : إن اللواتى تلمع فى الليل نوع أو
جنس مفرد خارج عن الملونات والمضيئات ، بل هى من جملة المضيئات التى يبهرها ما
فوقها فى الإضاءة فلا ترى معها لعجز أبصارنا حينئذ ، بل إنما تقوّى عليها أبصارنا
عند فقدان سلطان الباهرة لأبصارنا من المضيئات.
فإن ذهبوا إلى هذا
فالقسمة جيدة ، إلا أنهم ليسوا يذهبون إلى هذا بل يوهمون أن المضيئات طبقة ، والملوّنات
طبقة ، وهذه طبقة.
__________________
الفصل الرابع
فى تأمل مذاهب قيلت فى
الالوان وحدوثها
ومما يجب أن نفرغ
عنه تأمل مذاهب اخر فى أمر الألوان والضوء ، ما لم نفرغ عنه لم يكن سبيل إلى أن
ندل على صحة ما ذهبنا إليه بطريق القسمة.
فنقول : إن من
المذاهب فى أمر الألوان مذهب من يرى أن اللون الأبيض أنما هو تكونه من الهواء والضوء ، وأن الأسود تكوّنه من ضد
__________________
ذلك ، وأن حدوث اللون
الأبيض هو من الشفاف إذا انقسم إلى أجزاء صغار ثم ارتكم فإنه يعرض هناك أن تقبل
سطوحها النور فتضىء ، ولأنها شفافة يؤدى بعضها إضاءة بعض. ولأنها صغار يكون ذلك
فيها كالمتصل ، ولأن المشف لا يرى إلا بلون غيره ، فإن شفيفها لا يرى ، لكن العكوس
عن السطوح المتراكمة منها ترى متصلة ويرى الجميع أبيض.
قالوا : ولهذا ما
كان زبد الماء أبيض بمخالطة الهواء ، والثلج أيضا أبيض لأنه أجزاء صغار جامدة
شفافة خالطها الهواء ونفذ فيها الضوء ، والبلّور المسحوق والزجاج المسحوق لا يشف ، وأىّ هذه اتصلت سطوحها اتصالا لا يبطل به انفراد كل شخص منها بنفسه عادت
شفافة ، والشفاف الكبير الحجم إذا عرض فيه شق ادّى ذلك الموضع منه إلى البياض. قالوا : فأما السواد فيتخيل لعدم غور الجسم وعمقه
الضوء والإشفاف معا.
ومنهم من جعل
الماء سببا للسواد. قال : ولذلك إذا بلّت هذه الأشياء مالت إلى السواد. قال : وذلك
لأن الماء يخرج الهواء ولا يشف إشفافه
__________________
ولا ينفذ فيه
الضوء إلى السطح فتبقى مظلمة. ومنهم من جعل السواد لونا بالحقيقة وأصل الألوان.
قال : ولذلك لا ينسلخ ، وأما البياض فعارض للمشف بتراكمه ولذلك يمكن أن يصبغ. ولا
يبعد أن يكون المذهب الأول فى السواد يؤدى إلى هذا المذهب أيضا ، إذ جعل السواد
حقيقة ما لا يشف من جهة ما لا يشف وهو حقيقة اللون المنعكس عنه.
وقال قوم : إن
الأسطقسات كلها مشفة ، وإنها إذا تركبت حدث منها البياض على الصفة المذكورة ، وبأن
يكون مايلى البصر سطوحا مسطحة من المشف فينفذ فيها البصر ، وأن السواد يعرض إذا
كان مايلى البصر من الجسم زوايا تمنع الإشفاف للأطراف التى تقع فيها فهى وإن أضاءت
فبما لا ينفذ فيها الضوء نفوذا جيدا فتظلم.
والذى يصعب من هذه
الجملة فصل القول فيه تولد البياض من الضوء ، وكون السواد لونا حقيقيا. فإنا نعرف
أن المشفات تبيضّ عند السحق والخلط بالهواء ، وكذلك اللخالخ ، والناطف يبيض لاجتماع احتقان الهواء فيه مع الإشفاف الذى فى طبعه ،
ونعلم أن السواد لا يقبل لونا ألبتة كما يقبل البياض ، فكأن البياض لإشفافه موضوع
ومعرى مستعد ، والمعرى عن الكيفيات قابل لها من غير حاجة إلى إزالة شىء ،
__________________
والمشغول بواحدة
لا يقبل غيرها إلا بزوالها. فهؤلاء قوم يجعلون مخرج الألوان من الإشفاف وغير
الإشفاف.
وبإزاء هولاء قوم
آخرون لا يقولون بالإشفاف ألبتة ، ويرون أن الأجسام كلها ملوّنة ، وأنه لا يجوز أن
يوجد جسم إلا وله لون. ولكن الثقب والمنافذ الخالية إذا كثرت فى الأجسام نفذ فيها
الشعاع الخارج من المضىء إلى الجهة الأخرى ، ونفذ أيضا شعاع البصر فرؤى ماوراءها.
فأما المذهب الأول
فإذا نقول : لعمرى إنه قد يظهر من دق المشف وخلطه بالهواء لون أبيض ، ولكن إنما يكون ذلك لا فى جسم متصل
__________________
ومجتمع ، بل إنما
يظهر ذلك اللون فى الركام منه ، وأنه إذا جمع وبلّ زال عنه البياض عند الاجتماع
والجفوف. وليس الجص على ما اظنه ويوجبه غالب ظنى أن ما يبيض بياضه لذلك فقط ، بل
لأن الطبخ يجعله بحيث إذا بل ثم جف ابيض بياضا شديدا لمزاج يحدث فيه.
والدليل على ذلك
أنه لو كان فعل النار فى الجص ليس إلا تسهيل التفريق ، وأن تسهيل التفريق قد يوصل
إلى الهيئة التى ذكر أنها سبب لكون البياض ، لكان السحق الكثير المؤدى إلى غاية
تصغير الأجزاء يفعل ذلك الفعل فى الجص وفى النورة وفى غيره ، ولكان المهيئ بالسحق
والتصويل إذا اجتمع بالماء فعل فعل الجص من البياض ، وليس كذلك.
ثم لنفرض أن الجص يتكوّن فيه ذلك البياض على الصورة المذكورة ، فليس كل بياض
يحدث على هذه الصفة ، فإن البيض إذا سلق يصير بياضه
الشفاف أبيض وليس يمكن أن يقال إن النار زادته تخلخلا وتفرقا
فإنها قد زادته تكاثفا على حال ، ولا أنه قد حدثت فيه هوائية وخالطته.
فأول ذلك أن بياض
البيض يصير عند الطبخ أثقل وذلك لما يفارقه من الهوائية.
__________________
وثانيا أنه لو
كانت هوائية داخلت رطوبته فبيضته لكانت خثورة لا انعقادا ، وقد
علمت هذا قبل.
وأيضا فإن الدواء
الذى يتخذه أهل الحيلة ويسمّونه لبن العذراء يكون من خل طبخ فيه المرداسنج حتى انحل
فيه ، ثم صفّى حتى بقى الخل فى غاية الإشفاف والبياض ، وخلط بماء طبخ فيه القلى ،
وصفى غاية التصفية حتى صار كأنه دمعة. فإنه إن قصر فى هذا لم يلتئم منهما المزاج
الذى يطلبونه. فكما يخلط هذان الماءان ينعقد فيه المنحل الشفاف من المرتك أبيض فى غاية البياض كاللبن الرائب ، ثم يجف ، فليس ذلك لأن هناك شفافا عرض
له التفرق ، فإن ذلك كان متفرقا منحلا فى الخل ولا أجزاء مشفة صغارا جدا تدانت
وتقاربت ، بل إن كان ولا بد فقد ازدادت فى ماء القلى تفرقا ولا أيضا خالطها هواء من خارج بوجه من الوجوه ، بل ذلك على سبيل الاستحالة ،
فليس كل تولد بياض فيما أحسب على الصفة المذكورة.
ولو لم يكن البياض
إلا ضوءا والسواد إلا ما قيل ، لم يكن تركيب السواد والبياض إلا آخذا مسلكا واحدا.
بيان هذا : أن
البياض يتجه إلى السواد قليلا قليلا من طرق ثلاثة :
__________________
أحدها طريق الغبرة
وهو الطريق الساذج ، فإنه إذا كان السلوك ساذجا يتوجه إلى الغبرة ثم منها إلى
العوديّة ، وكذلك حتى يسوّد. فيكون سالكا طريقا لا يزال يشتد فيه
السواد وحده يسيرا يسيرا حتى يمحضّ.
والثانى الطريق
الآخذ إلى الحمرة ، ثم إلى القتمة ، ثم إلى السواد.
والثالث الطريق
الآخذ إلى الخضرة ، ثم إلى النيلية ، ثم إلى السواد.
وهذه الطرق إنما
يجوز اختلافها ، لجواز اختلاف ما تتركب عنها الألوان المتوسطة. فإن لم يكن إلا
بياض وسواد ، ولم يكن أصل البياض إلا الضوء وقد استحال ببعض هذه الوجوه ، لم يمكن
فى تركيب البياض والسواد إلا الأخذ فى طريق واحد لا يقع الاختلاف فيه إلا وقوعا
بحسب النقص والاشتداد فيه فقط ، ولم تكن طرق مختلفة. فإن كانت طرق
__________________
مختلفة ، فيجب أن
يكون شوب من غير البياض والسواد مع أن يكون شوبا من مرئى وليس فى الأشياء شىء يظن
أنه مرئى ، وليس سوادا ولا بياضا ولا مركبا منهما إلا الضوء عند من يجعل الضوء
شيئا غيرهما. فإن بطل مذهبه امتنع استحالة الألوان فى طرق شتى ، وإن أمكنه هذه
الاستحالة وجب أن يكون مرئى ثالث خارج عن أحكام البياض والسواد ، ولا وجه أن يكون
هذا المرئى الثالث موجودا إلا أن يجعل الضوء غير اللون.
فمن هاهنا يمكن أن
تركب الألوان فيكون البياض والسواد اذا اختلطا وحدهما كانت الطريقة هى طريقة
الاغبرار لا غير ، فإن خالط السواد ضوء فكان مثل الغمامة التى تشرق عليها الشمس
ومثل الدخان الأسود تخالطه النار ، فكان حمرة إن كان السواد غالبا ، أو صفرة إن
كان السواد مغلوبا وكان هناك غلبة بياض مشرق. ثم إن كان هناك صفرة خلطت بسواد ليس
فى أجزائه إشراق حدثت الخضرة. وبالجملة إذا كان الأسود أبطن والمضىء أظهر والحمرة
بالعكس . ثم إن كان السواد غالبا فى الأول كانت قتمة ، وإن كان
السواد غالبا فى الثانى كانت كراثية تلك الشديدة التى لا اسم لها ، وإن خلط ذلك
ببياض كانت كهوبة زنجارية ، وإن خلط بالكراثية سواد وقليل حمرة كانت نيلية ،
وإن خلطت بالحمرة نيلية كانت أرجوانية. فبهذا يمكن تأليف الألوان سواء كان بامتزاج
الأجرام أو بامتزاج الكيفيات.
__________________
ولو كانت هذه لا
تكون إلا باختلاط الأجسام وقد علم أن السواد لا يصبغ منه الضوء بالعكس جسما ألبتة
أسود لكان يجب أن تكون الألوان الخضر والحمر إنما ينعكس منها البياض
ولا ينعكس من الأجزاء السود شىء ، وخصوصا وهى ضعيفة منكسرة.
فإن قيل : فقد
نراها تنعكس عن المخلوط. فالجواب أن ذلك لأن الخلط يوجب الفعل والانفعال ، ويجب
بسبب ذلك امتزاج الكيفية سواء فعلته الصناعة أو الطبيعة. على أن الطبيعة تقدر على
الامتزاج الذى على سبيل الاستحالة ، والصناعة لا تقدر عليه ، بل تقدر على الجمع ،
فربما أوجبت الطبيعة بعد ذلك استحالة ، والطبيعة تقدر على تلطيف المزج الذى على
سبيل الخلط وتصغير الأجزاء ، والصناعة تعجز عن ذلك الاستقصاء. والطبيعة لا تتناهى
مذاهبها فى القسمة والنسبة قوة وفعلا ، والصناعة لا يمكن أن تخرج جميع ما فى
الضمير منها إلى الفعل.
فقد بان من هذا أن
البياض بالحقيقة فى الأشياء ليس بضوء.
ثم لسنا نمنع أن
يكون للهواء تأثير فى أمر التبييض ، ولكن ليس على الوجه الذى يقولون ، بل بإحداث المزاج المبيض . ولذلك ليس لنا
__________________
أن نقول : إن بياض
الناطف كله من الجهة التى يقولون ، بل من المزاج ، فإن الهواء يوجب لونا أبيض لا
بحسب المخالطة فقط ، بل بحسب الإحالة أيضا.
ولو كان مذهبهم
صحيحا لكان يمكن أن يبلغ بالشىء الأبيض والملون بشدة الترقيق حتى يذهب تراكمه إلى
أن يشف أو إلى قريب منه ، وهذا مما لا يكون.
وأما قولهم : إن
الأسود غير قابل للون آخر ، فإما أن يعنوه على سبيل الاستحالة أو على سبيل الصبغ.
فإن عنوا على سبيل الاستحالة ، فقد كذبوا ، ومما يكذبهم الشباب والشيب. وإن عنوا
على سبيل الصبغ ،
__________________
فذلك حال مجاوره
لا حال كيفيته. فلا يبعد أن يكون الشىء المسود لا يكون مسودا إلا وفيه قوة نافذ
متعلقة قباضة ، فيخالط ، وينفذ ويلزم ، وأن يكون ما هو موجود فى الأشياء البيض
بخلاف ذلك فى طبعه ، فلا يمكنه أن يغشى الأسود ويداخله ويلزمه. على أن ذلك ليس
أيضا مما لا يمكن ، فإنه إذا احتيل بمثل الاسفيذاج وغيره حيلة مّا حتى يغوص ويتخلل السواد صبغه أبيض.
وأما المذهب
الثانى فإن ذلك المذهب لا يستقيم القول به إلا إذا فرض الخلأ
موجودا ، وذلك لأن المسام التى يذكرونها لا يخلو إما أن تكون مملوءة من جسم أو
تكون خالية. فإن كانت مملوءة من جسم ، فإما أن يكون ذلك الجسم يشف من غير مسام ،
أو تكون له أيضا مسام ، وينتهى لا محالة : إما إلى مشف لا مسام له ، وهذا خلاف
قولهم. وإما إلى خلاء ، فيكون مذهبهم يقتضى وجود الخلاء ، والخلاء غير موجود.
ثم بعد ذلك فإنهم
يقولون : إنه ليس كل مسام تصلح لتخييل الإشفاف ، بل يجب أن تكون المسام مستقيمة
الأوضاع من غير تعريج حتى تنفذ فيه الشعاعات على الاستقامة. فلنخرّط كرة من جمد
، بل من بلور ، بل من ياقوت أبيض شفاف ، فهذه المسام التى تكون فيها شفافة مستقيمة
هبها تكون كذلك طولا ، فهل تكون كذلك أيضا عرضا ،
__________________
وهل تكون كذلك
قطرا ومن أى جهة أثبتّ ، فكيف تكون مستقيمات تداخل مستقيمات فتكون من أى جهة
تأملتها لا تنعرج. فمن الضرورة أن يعرض من بعض الجهات خلاف الاستقامة ووقوف
الأجزاء التى لا مسام لها فى سمت الخطوط التى تتوهم خارجة على الاستقامة من العين
أو يكون الجسم خلأ كله ، وهذا محال. فيجب أن تكون الكرة إذا اختلف منك المقامات فى
استشفافها يختلف عليك شفيفها ضرورة.
ثم كيف يكون حال
جسم فيه من المسام والمنافذ ما يخفى لونه حتى تراه كأنه لالون له ، وله فى نفسه
لون ، ولا يستر لونه شيئا ملصقا مما وراءه ، بل يؤدى ماوراءه بالحقيقة. فإن أحدث
سترا فإنما يحدث شيئا ، كأنه ليس ، فتكون لا محالة الثقب التى فيه أكثر كثيرا من
الملأ الذى فيه ، فكيف يجوز أن يكون لها استمساك الياقوت وهو كله فرج. ولو أن
إنسانا أحدث فى الياقوت منافذ ثلاثة أو أربعة ، ثم حمل عليه بأضعف قوة لا نرضّ ولا
نكسر ؛ فهذا المذهب أيضا محال.
فالألوان إذن
موجودات ، وليس وجودها أنها أضواء ، ولا الأضواء ظهورات لها ، ومع ذلك فليست هى
مما هى بالفعل بغير الأضواء. والمشف أيضا موجود ، وهذا ما أردنا بيانه إلى هذه
الغاية. وقد بقى علينا أن نخبر عن حال الإبصار أنه كيف يكون ، ويتعلق بذلك تحقيق
كيفية تأدى الأضواء فى المشف.
الفصل الخامس
فى اختلاف المذاهب فى
الرؤية
وإبطال المذاهب
الفاسدة بحسب الأمور
أنفسها
فتقول : إن
المذاهب المشهورة فى هذا الباب مذاهب ثلاثة ، وإن كان
__________________
كل مذهب منها
يتفرع :
أحدها مذهب من يرى
أن شعاعات خطية تخرج من البصر على هيئة مخروط يلى رأسه العين وقاعدته المبصر ، وأن
أصحها إدراكا هو السهم منها ، وأن تبصّر الشىء هو فعل السهم فيه.
ومنها مذهب من يرى
أن الشعاع قد يخرج من البصر على هيئة ، إلا أنه لا يبلغ كثرته أن يلاقى نصف كرة السماء إلا بانتشار يوجب انتشار الرؤية. لكنه إذا خرج واتصل
بالهواء المضىء ، صار ذلك آلة له وأدرك بها.
ومنها مذهب من يرى
أنه كما أن سائر المحسوسات ليس يكون إدراكها بأن يرد عليها شىء من الحواس بادرا
إليها متصلا بها أو مرسلا رسولا إليها ، كذلك الإبصار ليس يكون بأن يخرج شعاع
ألبتة فيلقى المبصر ، بل بأن تنتهى صورة المبصر إلى البصر بتأدية الشفاف إياها.
وقد استدل
الفريقان الأولان وقالا : إنما جاز فى سائر الحواس أن تأتيها المحسوسات ، لأنها
يصح إدراكها بالملامسة كاللمس ، وكالذوق ،
__________________
وكالشم الذى
يستقرب الروائح بالتنشق ليلاقيه وينفعل به ، وكالصوت الذى ينتهى به التموج إلى
السمع. ثم أن البصر ليس يمكن فيه ذلك لأن المرئى منفصل ، ولذلك لا يرى المقرّب منه
ولا أيضا من الجائز أن ينتقل إليه عرض موجود فى جسم مرئى
أعنى لونه وشكله ، فإن الأعراض لا تنتقل. فإذا كانت الصورة على هذا ، فبالحرى أن
تكون القوة الحاسة ترحل إلى موضع المحسوس لتلاقيه. ومحال أن تنتقل القوة إلا بتوسط
جسم يحملها فلا يكون هذا الجسم إلا لطيفا من جنس الشعاع والروح ، فلذلك سميناه
شعاعا.
ولوجود جسم مثل
هذا فى العين ما يرى الإنسان فى حال الظلمة أن نورا قد انفصل من عينيه وأشرق على
أنفه أو على شىء قريب يقابله.
وأيضا فإن الإنسان
إذا صيح ودعاه دهش الانتباه إلى حك عينيه فإنه يتراءى له شعاعات قدام عينيه.
وأيضا فإن الثقبة
العنبيّة تمتلىء من إحدى العينين إذا غمضت الأخرى ، وفى التحديق المفرط أيضا فلا
محالة أن جسما بهذه الصفة ينصبّ إليها .
__________________
ثم أن الفرقة
الثانية استنكرت أن يكون جسم مثل العين يسع من الشعاع ما يتصل خطا
واحدا بين البصر والكواكب الثابتة فضلا عن خطوط تنتهى إلى ما يرى من العالم ،
وخصوصا ولا يرى ما يرى منها إلا متصلا مستوى الاتصال ، فيجب أن يكون ما يرى به
متصلا.
واستنكرت أيضا أن
يتحرك هذا الشعاع الخارج فى زمان غير محسوس حركة من العين إلى الثوابت ، وقالت يجب
أن تكون نسبة زمان حركتك نحو شىء بينه وبينك ذراعان إلى زمان الحركة إلى الكواكب
الثابتة نسبة المسافتين ، فيجب أن يظهر بين الزمانين اختلاف.
وربما احتج بهذا
أصحاب المذهب الثالث أيضا على أصحاب الشعاع الخطى.
ولم يعلموا أن هذا
فاسد ، وذلك لأنه يمكن أن يفرض زمان غير محسوس قصرا أو أكثر زمان غير محسوس قصرا ،
فتجعل فيه الحركة
__________________
التى للشعاع إلى
الثوابت ، ثم يمكن أن ينقسم هذا الزمان إلى غير النهاية فيمكن أن يوجد فيه جزء أو
بعض نسبته إليه نسبة المسافة المستقصرة إلى المسافة المستبعدة ، فيكون الزمانان
اللذان بينهما البعد كلاهما غير محسوسين قصرا.
لكن لأصحاب
الشعاعات حجة فى حلها أدنى صعوبة وهو قولهم : إن المرايا تشهد بوجود هذه الشعاعات
وانعكاسها ، وذلك أنه لا يخلو : إما أن يكون البصر تتأدى إليه صورة المرآة وقد
تتأدى إليها صورة المرئى متمثلة متشبحة فيها ، وإما أن يكون ما نقوله من أن الشعاع
يخرج فيلقى المرآة ويصير منها إلى أن يلقى ما ينعكس عليه على زاوية مخصوصة . وإذا بطل القول الأول ، بقى القول الثانى.
ومما يتضح به
بطلان القول الأول أنه لو كانت هذه الصورة متشبحة فى المرآة لكانت لا محالة تتشبّح
فى شىء بعينه من سطحها ، كما إذا انعكس الضوء واللون معا فتأديا فى المشف إلى غير
الحامل الأول لهما فإنما يتمثّل المتأدى من ذلك فى بقعة واحدة بعينها يرى فيها على
اختلاف مقامات الناظرين. وليس الشبح الذى فى المرآة بهذه الصفة ، بل ينتقل فيها
بانتقال الناظر ، ولو كان إنما ينتقل بانتقال المرئى فقط لم يكن فى ذلك إشكال. وأما
انتقاله بانتقال الناظر فدليل على أنه ليس هناك بالحقيقة موضع تتشبح فيه الصورة.
ولكن الناظر إذا انتقل انتقل مسقط الخط الذى إذا انعكس إلى المرئى فعل الزاوية
المخصوصة فرأى بذلك الخط بعينه المرئى ورأى جزءا من المرآة آخر ، فتخيل أنه فى ذلك
الجزء الأخر من المرآة ، وكذلك
__________________
لا يزال ينتقل .
وقالوا : ومما يدل
على صحة هذا أن الناظر الذى للإنسان قد ينطبع فيه شبح مرئى ينعكس عنه إلى بصر
ناظر حتى يراه هذا الناظر الثانى ، ولا يراه صاحب الحدقة التى تمثل فيها الشبح
بحسب التخيل ، ولو كان لذلك حقيقة انطباع فى ناظره لوجب على مذهب أصحاب الأشباح أن
يتساوى كل منهما فى إدراكه ، فإن عندهم أن حقيقة الإدراك تمثّل شبح فى الناظر
فيكون كل من تمثّل فى ناظره شبح رآه.
قالوا : فمن هذا
نحكم ونقول إن الناظر فى المرآة يتخيل له فى المرآة أنه يرى صورته وليس كذلك ، بل
الشعاع إذا لاقى المرآة فأدركها كر منعكسا فلاقى صورة الناظر فأدركها ، فإذا رأى
المرآة ونفسه فى سمت واحد من مخرج الخط الشعاعى يتخيل أن أحدهما فى الآخر.
قالوا : والدليل
على أن ذلك ليس منطبعا فى المرآة أنه يرى المرئى فى المرآة بحيث لا يشك أنه ليس فى
سطح المرآة ، وإنما هو كالغائر فيه والبعيد عنه. وهذا البعد لا يخلو إما أن يكون
بعدا فى غور المرآة ، وليس للمرآة ذلك البعد ، ولا أيضا إن كان لها ذلك الغور كانت
المرآة مما يرى ما يتشبح فى باطنها ، فبقى أن يكون ذلك البعد بعدا فى خلاف جهة
غوره فيكون بالحقيقة إنما أدرك الشىء بذلك البعد من المرآة ، فلا يكون قد انطبع
شبحه فى المرآة.
فيلزمنا أول شىء
أن نبطل المذهبين الأولين ، فنثبت صحة مذهبنا وهو الثالث ، ثم نكّر على هذه الشبهة
فنحلها.
__________________
فنقول : إن الشىء
الخارج من البصر لا يخلو إما أن يكون شيئا مّا قائم الذات ذا وضع ، فيكون
جوهرا جسمانيا ؛ وإما أن يكون شيئا لا قوام له بذاته وإنما يقوم بالشىء المشف الذى
بين البصر والمبصر. ومثل هذا الشىء فلا يجوز أن يقال له بالحقيقة : إنه خارج من
البصر ، ولكن يجب أن يقال : إنه انفعال للهواء من البصر ، ويكون الهواء بذلك
الانفعال معينا فى الإبصار. وذلك على وجهين : إما على سبيل إعانة الواسطة ، وإما
على سبيل إعانة الآلة.
وقبل الشروع فى
التفصيل ، فإنى أحكم حكما كليا أن الإبصار ليس يكون باستحالة فى الهواء إلى حالة
تعين البصر ألبتة ، وذلك لأن تلك الحالة لا محالة تكون هيئة فى الهواء ليست معنى
إضافيا بحسب ناظر دون ناظر. فإنا لا نمنع وجود هذا القسم ، بل نقول لابد منه ،
ولابد من إضافة تحدث للهواء مع الناظر عند نظره بتلك الإضافة يكون الإبصار فانّا
إنما نمنع وجود حالة وهيئة قارة فى نفس الهواء وذاته يصير بها الهواء
__________________
ذاكيفية أو صفة فى نفسه وإن كانت لا تدوم له ولا توجد عند مفارقة الفاعل أو توجد لأن
مثل هذه الهيئة لا يكون له بالقياس إلى بصر دون بصر ، بل يكون موجودا له عند كل
شىء ، كما أن الابيض ليس أبيض بالقياس إلى شىء دون شىء ، بل هو أبيض بذاته وأبيض
عند كل شىء وإن كان لا يبقى أبيض مع زوال السبب المبيض.
ثم لا يخلو إما أن
تكون تلك الهيئة تقبل الشدة والضعف فتكون أضعف وأقوى ، أو تكون على قدر واحد. فإن
كان على قدر واحد فلا يخلو : إما أن تكون العلة الموجبة تقبل الأشد والأنقص أو لا
تقبل ، فإن كانت طبيعة العلة تقبل الأشد والأنقص وتلك الطبيعة لذاتها تكون علة ،
فيجب أن يتبعها المعلول فى قبول الأشد والأنقص. فإنه من المحال أن يفعل الضعيف
الفعل الذى يفعل القوى نفسه إذا كانت قوته وضعفه أمرا فى طبيعة الشىء بما هى علة.
فيجب من ذلك أن القوى المبصرة الفاعلة فى الهواء إذا كثرت وازدحمت ، كان حدوث هذه
الحالة والهيئة فى الهواء أقوى وأن يكون قوىّ البصر أشدّ فى إحالة الهواء إلى هذه
الهيئة من ضعيف البصر ، وخصوصا وليس هذا من باب ما لا يقبل الأشد والأضعف لأنه من
باب القوى والحالات فى القوى. ولا تكون قوتها كما ذكرنا بقياس بصر دون بصر ، بل
بنفسها كما قلنا ، فيجب أن يكون ضعفاء الإبصار إذا اجتمعوا رأوا أقوى وإذا تفرقوا
رأوا أضعف ، وأن ضعيف البصر إذا قعد بجنب قوىّ البصر رأى أشد ، وذلك لأن الهواء
يستحيل إلى تلك الهيئة كيف كانت باجتماع العلل الكثيرة والقوية استحالة
__________________
أشد ، فيكون أداؤه
لصورة ومعونته فى الإبصار أقوى ، وإن كان ضعف نفس البصر يزيد خللا فى ذلك فاجتماع
الضعفين معا ليس كحصول ضعف واحد ، كما أن ضعيف البصر لا يستوى حال إبصاره فى
الهواء الكدر والهواء الصافى ، لأن الضعيف إذا وجد معونة من خارج كان لا محالة
أقوى فعلا. ثم نحن نشاهد ضعيف البصر لا يزيده اقتران أقوياء البصر به ، أو اجتماع
كثرة ضعفاء البصر معه شيئا فى إبصاره. فبيّن أن المقدم باطل.
ولنعد إلى التفصيل
الذى فارقناه فنقول : إنه لا يخلو الهواء حينئذ إما أن يكون آلة ، وإما أن يكون
واسطة. فإن كان آلة فإما أن تكون حساسة ، وإما أن تكون مؤدية. ومحال أن يقول قائل
: إن الهواء قد استحال حساسا حتى أنه يحس الكواكب ويؤدى ما أحسّه إلى البصر. ثم
ليس كل ما نبصره يلامسه الهواء ، فإنا قد نرى الكواكب الثابتة والهواء لا يلامسها.
وما أقبح بنا أن نقول : إن الأفلاك التى فى الوسط أيضا تنفعل عن بصرنا وتصير آلة
له كما يصير الهواء آلة ، فإن هذا مما لا يقبله عاقل محصّل.
أو نقول : إن
الضوء جسم مبثوث فى الهواء ، والفلك يتحد بأبصارنا ويصير آلة لها ، فإن ساعدنا على
هذا القبيح فيجب أن لا نرى كلية جسم الكواكب بعد تسليمنا باطلا آخر وهو أن فى
الفلك مسامّ ، وذلك لأنه لا تبلغ مسامهما أن تكون أكثر من نصف جرمهما ، فيجب أن تكون الكواكب المنظور إليها إنما ترى
منها أجزاء ولا ترى أجزاء. ثم ما أشد قوة
__________________
إبصارنا حتى تحيل
الهواء كله والضياء المبثوث فى أجسام الأفلاك بزعمهم إلى قوة حساسة أو أية قوة
شئت.
ثم الهواء والضوء
ليسا متصلين ببصر دون بصر ، فلم يؤديان ما يحسّانه إلى بصر دون بصر. فإن كان من
شرط البصر الذى يرى أن يقع فى مسامتة المرئى حتى يؤدى حينئذ الهواء إليه ما أحس ،
فليس إحساس الهواء بعلة لوصول المحسوسات إلى النفس ، ولكن وقوع البصر من المبصر
على نسبة وتوسط الهواء بينهما. فإن كان الهواء يحس بنفسه ويؤدى أيضا فما علينا من
إحساسه فى نفسه ، بل إنما المنتفع به فى أن نحس نحن تأديته المرئى إلينا. ولا
نبالى أنه يحس فى نفسه أو لا يحس فى نفسه ، اللهم إلا أن يجعل إحساسه لإحساسنا ،
فيكون الهواء والفلك كله يحس لأجلنا.
وأما إذا لم يجعل
ذلك آلة ، بل واسطة تنفعل أولا من البصر ثم يستتم كونها واسطة ، فبالحرى أن نتأمل
أنه أى انفعال ينفعل حتى يؤدى؟ أبأن تقبل من البصر قوة حياة وهو أسطقس بسيط ، هذا
لا يمكن. أو يصير بالبصر شافا بالفعل. فالشمس أقوى من البصر فى تصييره شافا بالفعل
وأكفى ، فليت شعرى ماذا يفعل البصر بهذا الهواء. وإن كان البصر يسخنه ، فيجب إذن
برد الهواء أن يمنع الإبصار أو يبرّده ، فيجب إذا سخّن أن يمنع الإبصار ، وكذلك
الحال فى باقى الأضداد. ولجميع الأضداد التى يستحيل بها الهواء أسباب غير البصر إن
اتفقت كفت الحاجة إلى إحالة البصر وإن اتفق أضدادها لم تغن إحالة البصر أو عساه لا
يحدث إشفافا ولا كيفية ذات ضد من المعلومات ، بل يحدث خاصية غير منطوق بها ، فكيف
عرفها أصحاب هذا المذهب ، ومن أين توصلوا إليها.
أما نحن فقد قدمنا
مقدمة كلية تمنع هذه الاستحالات كلها سواء كانت
منسوبة إلى خاصية
أو طبيعة ، منطوق بها أو غير منطوق بها. وبعد ذلك فإنا نظن أن الهواء إذا كان
شفافا بالفعل وكانت الألوان ألوانا بالفعل وكان البصر سليما ، لم يحتج إلى وجود
شىء آخر فى حصول الإبصار.
ولنضع الآن أن
الخارج جوهر جسمانى شعاعى كما يميل إليه الأكثر منهم فنقول : حينئذ إن أحواله لا
تخلو عن أربعة أقسام :
إما أن يكون متصلا
بكل المبصر وغير منفصل عن المبصر.
وإما أن يكون
متصلا بكل المبصر ومنفصلا عن المبصر.
وأما أن يكون
متصلا ببعض المبصر دون بعض كيف كان حاله مع المبصر.
وإما أن يكون
خارجا عن المبصر وغيره متصل بالمبصر.
فأما القسم الأول
فإنه محال جدا ، أعنى أن يخرج من البصر جسم متصل يملأ نصف العالم ويلاقى الأجسام
السماوية ، ثم كما يطبق الجفن يعود إليه ، ثم يفتح فيخرج آخر مثله ، أو كما يطبق
تعود الجملة إليه ، ثم كما يفتح مرة أخرى تخرج عنها ، حتى كأنها واقفة على نية المغمض.
ثم كيف لا يرى
الشىء البعيد بشكله وعظمه إن كانت الرؤية بوصوله إليه وملامسته إياه. فإن العظم
أولى بأن يدرك بالملامسة بتمامه من اللون ، لأن الشعاع ربما يفرّق ويهلهل فرؤى اللون كما يرى الخلط من اللون ، وأما القدر فرآه حينئذ كما يرى الخلط من
المقدار والخلط من المقدار الجسمانى ، وإن كان متخلخلا كأنه مركب من مقدار جسمانى
ومن
__________________
لا شىء أو لا جسم
لا ينقص من عظم كليته ولا تنفعهم الزاوية التى عند البصر. إنما ينفع ذلك أصحاب
الأشباح إذ يقولون : إن الشبح يقع على القطع الواقع فى
المخروط الموهوم عند سطح الجليدية الذى رأسه فى داخل. فإن كانت الزاوية أكبر لأن
الشىء أقرب كان القطع أعظم والشبح الذى فيه أعظم ، وإن كانت الزاوية أصغر لأن
الشىء أبعد كان القطع أصغر والشبح الذى فيه أصغر. وأما على مذهب من يجعل المبصر
ملموسا بآلة البصر فما تغنى هذه الزاوية.
وأما القسم الثانى
فهو أظهر بعدا واستحالة ، وهو أن يكون ذلك الخارج يفارق المبصر ويمضى إلى الفرقدين
ويلمسهما ولا وصلة بينه وبين المبصر فيحسّ المبصر بما أحس هو ، ويكون كمن يقول : إنّ لامسا يقدر أن يلمس بيد مقطوعة وأن الحية يتأدى إلى
بدنها ما يلمسه ذنبها المقطوع المفصول عنها وقد بقى فيها الحس ، إلا أن يقال إنه أحال المتوسط وحمله رسالة إلى المبصر
فيكون الهواء مؤديا مستحيلا معا ، وقد قلنا على هذا بما فيه كفاية. وإن كان متصلا
ببعض المبصر وجب أن لا يراه كله ، بل ما يلاقيه منه فقط. فإن جعل
مستحيلا إلى
__________________
طبيعته وصار معه كشىء واحد فما الذى يقال فى الفلك ، إذا أبصرناه ، أترى الفلك
يستحيل أيضا إلى طبيعة ذلك الشعاع الخارج ويصير حساسا معه كشىء واحد حتى يلاقى
كوكب زحل بكليته فيراه والمشترى وسائر الكواكب العظام ، وهذا ظاهر الفساد بعيد
جدا. ثم قد قلنا فى فساد هذه الاستحالة ما قلنا.
فإن قالوا : إن
الهواء المشف ليس يتحد به كشىء واحد ولكن يستحيل إلى طبيعة مؤدية ، فما يلاقيه
الشعاع يدركه الشعاع ، وما لا يلاقيه يؤدى إليه الهواء صورته باستحالة عرضت له.
فأول جواب ذلك أن
الهواء لم لا يستحيل عن الحدقة وحدها ويؤدى إليها إن كان من شأنه الأداء فلا يحتاج إلى
جسم خارج .
وأما ثانيا فقد
فرغنا من بيان استحالة هذه الاستحالات.
وأما ثالثا فإن
الهواء المتوسط بين خطين خارجين يجب أن يودى إلى كل خط منهما ما يؤدى إلى الآخر فيكون
آخر الأمر قد تأدى إلى جملة الشعاع من جملة الهواء المتخلل للخطوط صورة المحسوس
مرتين أو مرارا ، فيجب أن يرى المحسوس مرتين أو مرارا وخصوصا إن كان على ما فى بعض مذاهب القوم من أن الخطوط لا تدرك بنفسها ، بل بما يؤدى
إليها الهواء.
ثم إن كان الأداء
إلى الحدقة من الجميع أعنى الخطوط والهواء معا
__________________
فالهواء مؤد
للأشباح على مثل ما قال المعلم الأول. ومن عرف أن لا خلاء وأن
أجرام الأفلاك مصمتة لا فرج فيها ولا فطور عرف أن ذلك مستحيل لا يمكن وأنه لا يمكن
أن ينفذ فيها هذا الخارج ، بل كيف ينفذ هذا الشعاع فى الماء إن لم يكن فيه خلاء
حتى يلاقى جميع الأرض تحته ويراه وهو متصل ، والماء لا يربو حجمه لما خالط منه.
وإن كان هناك خلأ ، فكم يكون مقدار تلك الفرج الخلائية التى تكون فى الماء مع ثقل
الماء ونزوله فى الفرج وملئه إياها. فيرى أن الماء فرج كله أو أكثره أو مناصفه حتى
يمكن الخارج أن ينفذ إلى جميع ما فى قعر الماء ويلاقيه ويماسه وهو غير منقطع عن البصر
، وإن انقطع فذلك أعجب.
فإن قال قائل :
إنا نرى الشىء القليل ينفذ فى الماء الكثير حتى يستولى على كليته مثل الزعفران
يصبغ قليله كثيرا من الماء.
فنقول : إن انصباغ
الماء الكثير بالزعفران القليل لا يخلو من وجهين :
إما أن يكون الصبغ
الحادث فى الماء غير موجود إلا فى الأجزاء الزعفرانية وأجزاء الماء بحالها ، وإما
أن تكون أجزاء الماء استحالت أيضا فى نفسها إلى الصبغ كما تستحيل إلى الحر والبرد
والرائحة ، لا أن جوهرا داخلها ، إما استحالة إلى صبغ حقيقى وإما استحالة إلى صبغ
خيالى ، أعنى بالخيالى كما ترى على سطح الماء شبح شىء ملقى فيه غير محاذ للبصر ،
وكما يتخيل من الماء أنه على لون إنائه ، وذلك مما إذا كثر وعم أرى جميع وجه الماء
بذلك الصبغ وهو فيه قليل.
فإن كان هذا
الانصباغ على مقتضى القسم الآخر فلا منفعة لهذا
__________________
الاعتراض فى الغرض
، لأن الماء يكون قد استحال أو تشبح لا أن الصبغ القليل نفذ فى كله ، وقد يستحيل
كثير المقدار من كثير القوة قليل المقدار. وبالجملة إن كان حال الهواء فى استحالته
عن الأشعة هذه الحال ، عرض ما سلف منا منعه ، ووجب أن تكون الأشعة إذا كثرت جدا
ازداد الهواء استحالة نافعة فى الإبصار. وإن كان على سبيل التأدية دون الاستحالة
فطبيعة الهواء مؤدية للأشباح إلى القوابل فليؤد أيضا إلى الإبصار.
وإن لم يكن على
مقتضى القسم الثانى ، بل على سبيل القسم الأول ، فإنا لا يمكننا أن نشك فى أن
الماء متجز بين أجزاء الزعفران والزعفران متجز بين أجزاء الماء ، وأن أجزاء الماء
لا محالة أعظم حجما من أجزاء الزعفران ، وأن بين كل جزئين من أجزاء الزعفران
متواليين ماء صرفا ، وأن هذه المياه الصرفة فى أكثر المواضع التى بين جزئى
الزعفران أعظم كثيرا من أجزاء الزعفران ، حتى تكون نسبة الأجزاء إلى الأجزاء إذا
أخذت واحدا إلى الآخر كنسبة الكل إلى الكل. فإذا كانت كذلك كانت مقادير أجزاء
الزعفران صغارا ولم يجز أن تستولى على الماء كله ، فما كان ينبغى أن ينصبغ الماء بالكلية
، بل هذا الوجه باطل.
وإنما يرى الماء
مصبوغا كله لأحد الأمرين :
إما لأن كل واحد
من أجزاء الماء وأجزاء الزعفران من الصغر بحيث لا يدركه الحس متميزا ، وذلك لا
يمنع أن يكون أحدهما أكثر كثيرا جدا من
__________________
الآخر لأن الجسم
ينقسم إلى غير النهاية فيمكن أن يكون جزء من الماء هو ألف ضعف جزء من الزعفران وهو
مع ذلك فى الصغر بحيث لا يحسّ مفردا. فإذا كان كذلك ، لم يكد البصر يفرّق بين
أجزاء الزعفران وبين أجزاء الماء فيرى منهما صبغا واحدا شائعا بين الأحمر والشاف ،
فهذا وجه.
وإما أن تكون
الأجزاء المحسوسة من الزعفران ليست على أوضاع متسامتة متوازية ، بل إذا حصل بين جزئين من ترتيب بحال جزء من الماء محسوس القدر ، فإن أجزاء
أخرى من تحت تقع مواقع لو رفعت لغطّت سطحا مع الأول ، فيكون بعضها يرى لأنه فى السطح الأعلى ، وبعضها يرسل شبحها إلى السطح
الأعلى ، فتتوافى الأشباح بصبغ واحد إذا الماء يؤدّى لون كل واحد منها لإشفافه ،
فيرى الجميع متصلا فى سطح واحد ، ويتخيل مستوليا على الماء ولا يكون . ويصحح هذا القول قلة ما يرى من الصبغ فى الرقيق الذى لا ثحن له ، وكثرة ما
يرى فى الكثيف العميق.
وإن كانت النسبة
متشابهة ، وكانت نسبة الزعفران الذى فى الرقيق إلى الرقيق كنسبة الزعفران
الذى فى العميق إلى العميق فعلى هذين الوجهين يمكن أن يستولى
القليل على الكثير. وأما فى الحقيقة فإن
__________________
القليل لا يستولى
على الكثير بالكمية ، بل عسى بالكيفية المحيلة هذا.
وأما إن جعلوا الخارج ينفذ قليل نفوذ فى الهواء ولا يتصل بالمبصر ، ثم الهواء البعيد يؤدى
إليه ويؤدى هو إلى المبصر فإما أن يؤدى إليه الهواء لإشفافه فقط من غير استحالة ،
فلم لا يؤدى إلى الحدقة فيكفى ذلك مؤنة خروج الروح إلى الهواء وتعرّضه للآفات ،
وإن كان بالاستحالة فقد قيل فى ذلك ما قد قيل ثم لم لا يستحيل من الحدقة من غير
حاجة إلى الروح .
__________________
الفصل السادس
فى إبطال مذاهبهم من
الأشياء المقولة فى مذاهبهم
ولنقبل الآن على
عد بعض المحالات التى تلزمهم بحسب أوضاعهم :
فمن ذلك وضعهم أن
أجزاء الخارج عن البصر تنعكس من الأجسام إلى أجسام أخرى ، فإذا رأت جسما انعكست
عنه إلى جسم آخر فرأته ورأت ذلك الجسم الآخر المنعكس إليه ، مثلا لما وصلت إلى
المرآة رأت المرآة ، ثم لما انعكست عن المرآة إلى جسم آخر رأته أيضا معا ، فيكون
شىء واحد رأى شيئين معا ، فيتخيل أن أحد الشيئين تراه فى الآخر وتلزم وضعهم هذا
مباحث عليهم.
من ذلك أن انعكاس
هذا الشعاع هو عن الصلب أو عن الأملس أو عن مجتمعهما ، لكن هذا العكس مما قد يرونه
يقع عن أملس غير صلب مثل الماء فليست الصلابة هى الشرط ، بل بقى أن يكون السبب فيه
هو الملاسة. فإذا كان السبب فيه هو الملاسة ، فلا يخلو إما أن يكفى لذلك أىّ سطح
أملس اتفق ، أو يحتاج إلى سطح متصل الأجزاء أملس. فإن كان الشرط هو القسم الثانى
لم يجز أن ينعكس عن الماء ، لأنه لا اتصال لسطحه عندهم لكثرة المسام التى يضعونها
فيه التى بسببها يمكن أن يرى
ماوراءه بالتمام ،
وإن كان ليس من شرطه الاتصال فيجب أن يوجد هذا العكس عن جميع الأجرام وإن كانت
خشنة ، لأن سبب الخشونة الزاوية أو ما يشبه الزاوية مما يتقعر عن الحدبة. ولا بد فى كل ذى
زاوية من سطح ليست فيه زاوية فيكون أملس ، وإلا لذهبت الزوايا إلى غير النهاية أو
انتهت قسمة من السطح إلى أجزاء ليست بسطوح ، وكلاهما محال. فإذن كل جرم فمؤلف
السطح من سطوح ملس ، فيجب أن يكون عن كل سطح منها عكس.
أو يقال أمران : أحدهما أن السطوح الصغار لا ينعكس عنها الشعاع ، والثانى أن السطوح
المختلفة الوضع ينعكس عنها الشعاع إلى جهات شىء فيتشذب المنعكس. ولا ينال شيئا لعدم الاجتماع.
فأما القسم الأول
فباطل ، فإن من المعلوم أنه إن كان يخرج من البصر جسم حتى ينتشر فى نصف كرة العالم
دفعة أنّه يكون عند الخروج فى غاية تصغر الأجزاء وتشتتها ، وأنه إذا انعكس فإنما
يلاقى كل جزء صغير منه ، وكل طرف خط دقيق منه لا محالة جزءا مساويا له وينعكس عنه
ولا ينفع ولا يضر فى ذلك ماوراءه ، عسى أن اتفق أن كان السطح الأملس الذى يلاقيه
أصغر منه لم ينعكس عنه.
لكنا إذا تأملنا
لم نجد هذا المعنى هو السبب والشرط فى منع الانعكاس
__________________
فى الأشياء
الموجودة عندنا لأنه قد يتفق أن يكون شىء خشن نعلم يقينا أن لأجزائه التى
لها سطوح ملس مقدارا مّا لا نشك فى أنه أعظم من مقدار أطراف الشعاعات
الخارجة ومع ذلك لا تنعكس عنها. وهذا مثل الزجاج المدقوق والملح الجريش والبلور
الجريش الذى نعلم أن سطوح أجزائه ملس وليس بغاية الصغر حتى تكون أصغر من أجزاء
الشعاع الخارج ، وإذا اجتمعت لم ينعكس عنها الشعاع ، بل ولا من أشياء أكبر من ذلك
أيضا.
ثم من البعيد أن
تقبل الأجرام الكثيفة الأرضية تجزيئا إلى أجزاء أصغر من الأجزاء التى يقبل إليها
الجسم الشعاعى التجزى ، حتى يوجد جزء للكثيف أصغر مما ينقسم اللطيف إلى مثله.
ثم إن كان علة
العكس عن الأملس عدم المنفذ وهناك حفز من
__________________
ورائه ، فذلك
موجود للخشن . وإن كان لا حافز من ورائه ولا عدم منفذ فليس يجب أن ينعكس
عن شىء ، فإن الجسم لا تكون له بالطبع حركات مختلفة ، بل بالقسر. وأنت تعلم أنه
إذا كان المضىء قد أماله بالطبع فلا ينعطف الا بالقسر.
ثم الملاسة ليست
من الهيئات الفاعلة فى الأجسام فتغير طبيعة ما يلاقيها ، ولا هى من القوى الدافعة
عن أجسامها شيئا حتى تقسر الأجسام إلى التبعيد عنها ، ولو كانت الملاسة علة لتبعيد
الجسم عن الجسم لكان تبعّد ما بينهما وإن تماست على أىّ وضع كان ، ولكان يجب أن
ينعكس البصر عن المرآة التى يلامسها الشعاع الخارج مخطوطا عليها لا إذا لا قاها
بالطرف فقط.
وإن كان السبب فى
الانعكاس هو الحفز من خلف أو النتوّ كما يعرض للكرة ، وجب أن ينعكس عن كل صلب لا
منفذ فيه وإن لم يكن أملس. وأما على مذهب أصحاب الأشباح فلذلك وجه ، وهو أنهم يجعلون الملاسة علة لتأدية الشبح ، وكل ملاسة عظمت أو صغرت
فهى علة لتأدية
__________________
شبح ما. لكن
الأشباح التى تؤديها السطوح الصغار تكون أصغر من أن يميّزها البصر ، فلا تحس. فإن
الجرم الخشن تختلط فيه الظلمة بالنور فيظلم كل غور ، ويكون كلّ نتوّ أصغر من أن
يؤدّى شبحا يميز بالحس ولو كان متصلا لم يعرض ذلك. فأما أصحاب العكس فهذا الصغر
ليس بعذر لهم فى عدم العكس عنه.
وأما إن لم يجعلوا
العلة الصغر ، بل التشذّب فإن هذا التشذّب موجود أيضا عن المرايا
المشكلة أشكالا ينعكس عنها الشعاع إلى نصف كرة العالم بالتمام مما يعلم فى علم
المرايا. وعسى أن لا يكون العكس عن الخشن يبلغ فى تشذّبه للشعاع ما يبلغه تلك
المرايا ، بل تراكمت خطوط منه على نقطة واحدة ، فهذا أحد المباحث.
والبحث الثانى أنه
ينعكس عن الماء وقتا وينفذ تحته وقتا وكذلك عن البلور ، فيجب إذن أن يدخل أحد
الأمرين نقصان عن الآخر إما أن يكون المبصر تحت الماء لا يرى صحيحا ، بل ترى منه
نقط عند الحس متفرقة لا صورة كاملة ، أو المنعكس إليه لا يرى بالتمام ، بل ترى منه
نقط عند الحس متفرقة لا صورة كاملة وإن رؤى أحدهما أتم رؤى الاخرى بحسبه أنقص ،
وليس الأمر كذلك.
والبحث الثالث هو
أن المنعكس عن الشىء الذى قد فارقه وواصل غيره ثم ترى به صورتهما معا لا يخلو إما
أن تكون مفارقة الشعاع المنعكس لا توجب انسلاخ صورة المحسوس عن الشعاع أو توجب.
فإن كانت لا توجب فكيف لا نرى ما أعرضنا عنه وفارقه الشعاع ، فإنا لا نعرف هناك
__________________
علة إلا أن الشعاع
استبدل به موقعا غيره. وإن كانت المفارقة توجب انسلاخ تلك الصورة عنه ففى الوقت
الواحد كيف ترى المرآة والصورة معا ، فإن كان القائم على المرآة من الشعاع يرى صورة المرآة والزائل عنه إلى شىء آخر يرى صورة ذلك
الشىء ، فقد اختص بكل واحد من المبصرين جزء من الشعاع فيجب أن لا يريا معا ، كما
أن الشعاع الواقع على زيد والشعاع الواقع على عمرو فى فتح واحد من العين معا لا يوجب أن يتخيل المرئى من زيد مخالطا للمرئى من عمرو.
فإن قيل : إن
السبب فيه أن ذلك الشعاع يؤدى الصورة من طريق ذلك الخط إلى النفس
فيكون خط واحد يؤديهما معا وما يؤدّى من خط واحد يرى واحدا فى الوضع .
قيل : أما أولا
فقد أبطلت مذهبك ومنعت أن يكون الخط الخارج مبصرا من خارج ، بل مؤديا ؛ وأما ثانيا
فإنه ليس يمتنع أن يخرج خط ثان يلاقى الخط المنعكس ويتصل به ، فإن كان إنما يؤدى
بما يتصل به من الخطوط ثم تحس القوة التى فى العين لا الخارجة ، فحينئذ كان يجب أن
يرى الشىء من الخطين معا فترى الصورة مع صورة المرآة ومع غير تلك الصورة ، وكان
يجب أن يتفق مرارا أن يرى الشىء متضاعفا لا بسبب فى
__________________
البصر ولكن لاتصال
خطوط شتّى بصريّة بخط واحد ، وهذا مما لا يكون ولا يتفق ، فإنا إنما يمكننا أن نرى
الشىء فى المرآة ونراه وحده إذا كان مقابلا للبصر ، وأما إذا لم يكن مقابلا فإنا
نراه فى المرآة فقط.
فليكن على أصلهم «
ا » نقطة البصر و « ب » موضع المرآة وليكن خط « ا ـ ب » خرج من البصر ثم
انعكس إلى جسم عند « ج ». وليخرج خط آخر وهو « ا ـ د » ويقطع خط « ب ـ ج » على « ه
» ويتصل به هناك. فأقول يجب على أصولهم أن يكون شبح « د » يرى مع شبح « ج » و « ب
» ويرى شبح « ج » من طرفى « ه » و « ب » من خطى « ه ا » و « ب ا ».
وذلك لأن أجزاء
هذه الخطوط الخارجة من الأبصار إما أن تكون متصلة وإما أن تكون متماسة
، فإن كانت متصلة وكان من شأن بعضها كما فرضناه أن يقبل الأثر مع بعض إذا اتصلت
حتى يؤدّى إلى الحدقة ، وكان الأثر فى كلية الجرم الشعاعى نفسه لا فى
سطح منه مختص بجهة ، وليس ذلك من التأدية اختياريا ولا صناعيا ، بل طبيعيا ، فإذا
حصل المنفعل
__________________
ملاقيا للفاعل الذى يفعل بالملاقاة وجب أن ينفعل عنه. فإن الحكم فى خروج التهيّآت الطبيعية
التى فى جواهر الأشياء إلى الفعل هو أن تكون طبيعة التهيؤ موجودة فى ذات المنفعل
وإن لم تكن بسبب شىء من طبيعة الفاعل ، والأمر الذى عنه الفعل موجودا فى ذات
الفاعل ، وإن لم يوجد مثلا فى المنفعل. وإذا حصل ذلك لم يتوقف الخروج إلى الفعل
إلا على وصول أحدهما إلى الآخر. فإذا وصل الفاعل إلى المنفعل وارتفعت الوسائط ،
وهذا فيه قوة الفعل وذاك فيه الانفعال ، وجب الفعل والانفعال الكائن بينهما بالطبع
على أى نحو كان الاتصال ، ولم يكن للزاوية الكائنة بحال معنى ، ولا لفقدان المنفذ
وفناء المشف عند المرآة أثر. فإنه سواء فنى المنفذ واتصل به خطوط أو كان غير فان
واتصل به خطوط ، فإن الفاعل يجب أن يفعل والمنفعل يجب أن ينفعل.
فإن كان الشبح
والأثر مثلا ليس فى الجرم الشعاعى الممتد
__________________
نفسه ولكن فى سطح منه أو نقطه هى فناؤه ونهايته ، وليس فى جهة ذلك الخط بحيث يتصل به ذلك الخط من تلك الجهة فينفعل عنه ، بل على غير امتداد ذلك الخط
، فيجب أن لا ينفعل ما بين أول الخط وآخره ، بل يقع الشبح من السطح الملامس
إلى السطح الثانى دفعة من غير انفعال الأجزاء فى الوسط. وذلك لأن المتصل لا مقطع
له
__________________
بالفعل ، أو وجب أن يكون الأداء على الخط المستقيم ولا يؤدى على زاوية ألبتة ، لأن لنقطة
الزاوية إعراضا عن الاستقامة وهذا مما لا يقال.
فبين من هذا أن
انفعال خط « ه ا » من خط « ج ه » كانفعال خط « ب ا » من خط « ه ب » بل هو أولى
وأقرب. فيجب أن يتأدى شبح « ج » من كلا خطى « ه ا ، ب ا » فيجب أن يرى « ج » حينئذ
لا شيئا واحدا بل شيئين اثنين. وأيضا يجب أن يتأدى شبح « د » مع شبح « ج » ويضعون
أن شبح « ب » متأد مع شبح « ج » ، فيجب أن ترى الأشباح الثلاثة معا ، وجميع هذا
غير كائن.
وعلى هذا القياس
إن كانت متماسة فإنها إن كان كل جزء منها يقبل الأثر بجميع جرمه
وجب بمماسته الفعل والتأثير فى الذى يليه ، وإن كان لا إلا فى السطوح التى تقابل
المبصر لم يجز فى شىء من الزوايا التى
__________________
تقع حائدة عن ذلك
السطح أن يتأدى منها المبصر إلى البصر.
فإن سئلنا نحن :
أنكم ما بالكم توجبون أن تقع تأدية هذا الشبح على الاستقامة أو على هيئة مّا وقوعا
إلى بعض الأبصار المماسة له دون بعض.
فنقول : أما نحن
بالحقيقة فلا نقول : إن الهواء مؤدّ على أنه قابل شىء ألبتة من الرسوم والأشباح من
شىء ليحمله إلى شىء ، بل نقول : إن من شأن النيّر أن يتأدى شبحه إلى المقابل له إن
لم يكن بينهما عائق هو الملون ، بل كانت الواسطة بينهما مشفة. ولو كانت الواسطة
قابلة أو لا ثم مؤدية لأدّت إلى الأبصار كلها كيف كان وضعها كما تؤدّى الحرارة إلى الملامس كلها كيف كان وضعها.
ثم من الأمور التى
يجب أن يبحث عنها فى هذا الموضع هو أنّ كثيرا ما نرى الشبح وذا الشبح معا دفعة
واحدة ونراهما متميزين ، أعنى أنا نرى فى المرآة شبح شىء ونراه أيضا بنفسه من جانب
وذلك معا ، وعسى أن ذلك إنما يقع بسبب خطى شعاع أحدهما يصير إليه بالاستقامة ،
والآخر على زاوية عكس. ولأن الواقعين على الشىء اثنان ، فمن جهة ذلك
__________________
نراه اثنين فنحصّل
الآن هذا هل هو ممكن أو ليس بممكن.
فنقول : إن وقوع
جزئين على المبصر لا يوجب أن يرى الشىء الواحد اثنين ، فإن الشعاع عندهم كلما
اجتمعت أجزائه على المبصر وتراكمت كان إدراكها إياه أشد تحقيقا وأبعد عن الغلط فى
العدد. والخصوم معترفون بهذا ولا يوجبون أن شعاعا واحدا إذا رأى الشىء وحده كان
واحدا ، فإن وقع عليه شعاع آخر واتصل به صار فى الرؤية بسببه غلط. على أنه لا يمكن
أن يلمس شيئا واحدا شعاعان معا لا شعاعا أصل ولا شعاعا أصل وعكس. والشعاع جسم على
ما يرونه ، لأن الجسم لا ينفذ فى الجسم ، بل يجوز أن يقع شعاع على شعاع.
فإن سلكنا هذه
السبيل لم يكن الإبصار بكليهما على سبيل اللمس ؛ بل يكون أحدهما يلمس والآخر يقبل
منه ، وسواء كان الشعاعان طرفى خطين خرجا على الاستقامة أو أحدهما والآخر من جانب
العكس.
فإذن إن كان هاهنا
فليس وقوع شعاعين على واحد مطلقا ، بل بالشرط وهو أن أحد
الشعاعين وقع عليه وحده ، والشعاع الثانى أيضا وقع معه على غيره.
__________________
وهذا القسم يبطل
بمرآتين توضعان متقابلتين ، فإن الأشعة لا تفترق فيهما من هذه الجهة ، بل كل شعوب شعاع فهو واقع على الاثنين جميعا. ومع ذلك فإن
البصر يرى كل مرآة وشبحها دفعة. والشعاعان هاهنا لا يفترقان ، ولا يجوز أن يؤدّى شعاع شبحا والآخر غير ذلك الشبح ، فإن كل واحد منهما أدرك ما أدرك
الآخر والمدرك واحد فيجب أن لا يكون الإدراك والأداء اثنين ، بل يجب أن يأتى البصر
صورة كل مرآة مرة غير مكررة. وإن تكررت بسبب العكس وكان لذلك وجه وعذر
__________________
متكلف لنسامح فى
تسليمه ، فلا يجب أن يقع تكرار بعد تكرار فما بال كل واحدة من المرآتين تتأدى عنها
أشباح كثيرة حتى ترى المرآة الواحدة مرارا كثيرة ، مرة واحدة ترى نفسها كما هى
ومرارا كثيرة جدا شبحها.
فإن قلنا : إن
الشعاع لما انعكس من هذه المرآة إلى الأخرى رأى الاخرى فى هذه المرآة ، ثم لما
انعكس مرة أخرى إلى الأولى رأى الأولى فى هذه الأخرى ، فإذا انعكس مرة أخرى فلم لا يرى كما رآه مرة
__________________
أولى ، إلا أن
يقولوا إن الأول رآه بجزء والآخر رآه بجزء آخر. فإن كانت الأجزاء مؤدية لا رائية
فليس تؤدى أشياء أخرى ، بل ذلك الشبح بعينه واختلاف وقوعها عليه بعد كونه واحدا
بعينه لا يوجب اختلافا فى الرؤية. فقد بينا ذلك أيضا ، فإن عندهم أن أجزاء المنعكس
تجتاز على المبصر المنعكس عنه اجتيازا ، فيجب أن تتبدل صورته فى تلك
الأجزاء. ومع ذلك فليس يجب من تبدلهما عليه أن تزيد فى عدد ما يدرك أولا وثانيا إذ
كان ما يؤدّى من الصورة واحدة ، وإن كانت الأجزاء بأنفسها رائية وجب ما قلنا فى امتناع
رؤية شبح المنعكس إليه فى شبح المنعكس عنه. ثم لم يجب أن يرى الأشباح عن قليل وقد صغرت .
فعسى أن يقولوا :
إن الشعاع إذا تردد طالت مسافته فرأى كل مرة أصغر ففارق الأول الثانى بالصغر ،
فيجب أن يكون أولا الخطوط الشعاعية إذا تراكمت لا تكون كخط واحد أغلظ وأقوى من
الأول ، بل تبقى خطوطا معطوفة موضوعة بعضها بجنب بعض محفوظة القوام لا تتحد. وهذا الحكم عجيب. وبعد ذلك فإنهم لا يجدون للصغر
__________________
بالبعد المنعرج من
عند عدد الزاوية ما يوجد للبعد المستقيم.
ثم ما يقولون فى
ذلك المرئى بعينه؟ ، فإنه إذا بوعد به أضعاف ما تقتضيه المساحة بين الانعكاسات لم
ير بذلك الصغر. مثلا إذا انعكس البصر من مرآة « ا »
إلى مرآة « ب » فرأى صورة « ب » فى مرآة « ا » ثم انعكس البصر من مرآة « ب » إلى
مراة « ا » فرأى صورة « ا » فى مرآة « ب » ، ثم انعكس البصر من مرآة « ا » إلى
مرآة « ب » فرأى صورة مرآة « ا ». ثم كذلك رأى صورة « ب » فى مرآة « ا » والبعد
بينهما شبران فيجب أن يكون ما قطعه الشعاع من مسافة المنعرجة ما بين العين وإحدى
المرآتين ثمانية أشبار. ولو أنّا بعّدنا مرآة ب من مركزها عشرة أشبار فما فوقها لم
يكن نراه بذلك الصغر. على أن العجب فيما ذكرناه هو من افتراق الصورة المأخوذة عن
الشىء بذاته ، والمأخوذة عنه بالعكس ، أو المأخوذة عنه بعكسين ، فإن جميع ذلك
متفرق عند البصر. والصورتان المأخوذتان هما عن مادة واحدة فى قابل واحد فبماذا
تفترقان. لأن افتراق الصور إما بالحدود والمعانى وإما فى القوابل ؛ والصورتان
معنياهما واحد وحاملهما
__________________
الأول واحد ، وقابلهما الثانى واحد ، فيجب أن لا تكونا اثنين.
أما على مذهبنا ،
فإن هذه الشناعة غير لازمة ، لأن الصورتين عندنا مأخوذتان عن قابلين : أحدهما
حاملهما الأول ، والثانى الجسم الصقيل القابل لشبحهما نوعا من القبول
والفاعل بصورهما فى العين نوعا من الفعل.
ثم العجب فى أمر الشعاع بعد الشعاع ، فإنه إن كان الأمر على ما قلنا من أن الشعاع
الثانى لا يجب أن ينفذ فى الأول ، بل يماسه من خارج فكيف يلامس الشعاع المنعكس
المرئى فرآه ، وإنما يلامس ما غطّاه من لامسه السابق.
فإن كان يرى ما
رآه ذلك بحسب الانفعال منه وقبول ما قبله بسبب الاتصال به ، بطلت شريطة الانفعال
على الزاوية المعينة ، وكان أيضا إنما أدرك ما أدرك الأول لا شيئا غيره بالعدد بوجه من الوجوه ، وإن كان كل يلامس شيئا من أجزاء الشىء غير ما يلامسه
الآخر ، فليس ولا واحد منهما بمستقصى الإدراك ولا إدراكهما لشىء واحد .
__________________
الفصل السابع
فى حلّ الشبه التى
اوردوها وفى اتمام القول فى المبصرات
التى لها أوضاع مختلفة من
مشفّات ومن صقيلات
فلنحلّ الآن الشبه
المذكورة . فأما ما تعلّقوا به من أن القرب يمنع الإبصار وأن انتقال
الألوان والأشكال عن موادها مستحيل ، فهذا إنما كان يصح لهم لو قيل : إن الإبصار
أو شيئا من الإحساسات إنما هو بنزع الصورة عن المادة على أنه أخذ نفس الصورة من
المادة ونقلها إلى القوة الحاسة. وهذا شىء لم يقل به أحد ، بل قالوا إن ذلك على
سبيل
__________________
الانفعال.
والانفعال ليس أن يسلخ المنفعل قوة الفاعل أو كيفيته ، بل أن يقبل منه مثلها أو
جنسا غيرها.
ونحن نقول : إن
البصر يقبل فى نفسه صورة من المبصر مشاكلة للصورة التى فيه لا عين صورته ، وهذا
الذى يحسّ أيضا بالتقريب كالمشموم والملموس فليس يسلب الحاس بذلك صورته ، بل إنما
يوجد فيه مثل صورته.
لكن من الأشياء ما
إلى الانفعال منه سبيل بالملاقاة ، ومنها ما إذا لوقى انقطع عنه شىء يحتاج إليه
حتى يؤثر أثره ، وهو فى هذا الموضع هو الشعاع المحتاج إلى اتصاله بالصورة المرئية
فى أن يلقى ذو الصورة شبحا من صورته فى غيره مناسبا لما نراه إلقائه شبحه المؤكد
إذا اشتد عليه الضوء ، حتى أنه يصبغ ما يقابله بصبغه قارّا فيه متحققا إذا كان ما يقابله قابلا لذلك ولو بتوسط مرآة أيضا ، ومع الاحتياج إلى
استضاءة المرئى فإنه يحتاج أيضا إلى متوسط كالآلة تعينه عليه وهو الإشفاف ، وأن
يكون للمقدار منه حد محدود لا يقع الأصغر منه فيه.
ومن الدليل على أن
المدرك يأخذ شبحا من المدرك ما يبقى فى الخيال من صورة المرئى حتى يتخيله متى شاء
، افترى أن ذلك المتخيل هو صورة الشىء فى نفسه ، وقد انتقل إلى الخيال وتجرّد
تجرّد الشىء عن صورته ، كلاّ بل هو شىء غيره مناسب له.
وأيضا فإن بقاء
صورة الشمس فى العين مدة طويله إذا نظرت إليها ثم أعرضت عنها يدلّك على قبول العين
للشبح ، وكذلك تخيل
__________________
القطرة النازلة
خطا والنقطة المتحركة على الاستدارة بالعجلة دائرة ، ولا يمكنك أن تتخيل ذلك وتراه
إلا أن ترى امتدادا مّا ، ولا يمكن أن ترى امتدادا من نقطة متحركة فى غير زمان ولا
من غير أن تتخيل الشىء فى مكانين.
فيجب أن يكون لكون
القطرة فوق ثم تحت وامتدادها ما بين ذلك ، وكون النقطة على
طرف من المسافة التى تستدير فيها وعلى طرف آخر ، وامتدادها فيما بين ذلك ، متصور
الشبح عندك. وليس ذلك بحسب آن واحد ، فيجب إذن أن يكون شبح ما
تقدم مستحفظا بعده باقيا عقيبه ، ثم يلحقه الإحساس بما تأخر ويجتمعان امتدادا كأنه
محسوس. وذلك لأن صورته راسخة وإن كانت القطرة أو النقطة قد زالت عن أىّ حدّ فرضت
ولم تبق فيه زمانا.
وأما ما ذكروه من
أمر النور الذى يتخيّل بين يدى العين ، فالسبب فى غلطهم به أن ذلك عندهم ليس يكون
إلا على وجه واحد ، حتى ظنوا أنه لا يجوز أن تكون العين شيئا له فى جوهره
ضوء كالأشياء اللوامع التى ذكرناها فيما سلف. فإذا كانت ظلمة لمع وأضاء ما قدّامه
بكيفية تؤثرها لالشىء ينفصل عنه وكأنّه لا يجوز أيضا أن يكون الحك واللمس قد يحدث
شعاعات نارية لطيفة فى الظلمة ، كما يتفق من مس ظهر السنور
__________________
وإمرار اليد على
المخدّة واللحية فى الظلمة.
وقد يظهر لك أنه
لا يبعد أن تكون الحدقة نفسها مما يلمع ليلا ويضىء ويلقى شعاعها على ما يقابلها ،
فإن عيون كثير من الحيوان بهذه الصفة كعين الأسد والحية. فإذا كانت كذلك جاز أن
ينير المظلم. ولهذا ما كان كثير من الحيوانات ترى الظلمة لإنارتها الشىء بنور يفيض
من عينيها ولقوة عينها.
وأما حديث امتلاء
الحدقة عند تغميض الأخرى فمن الذى ينكر أن يكون فى العصبة المجوّفة جسم لطيف هو
مركب القوة الباصرة ، وهو الذى يسمى الروح الباصر أنه يتحرك تارة مستبطنا هاربا وتارة مستظهرا محدقا. فإذا غمضت إحدى العينين
هربت من التعطل ومن الظلمة طبعا ، فمالت إلى العين الأخرى
، لأن المنفذ فيهما مشترك على ما يعرفه أصحاب التشريح. وليس إذا امتلأ شىء من شىء
، يجب أن يكون فى طبع المالئ بروز وخروج وذهاب فى الأرض ومسافرة إلى أقطار العالم.
وأما حديث المرآة فيلزم سؤالهم جميع من عنده أن المرآة تنطبع فيها صورة المحسوس. لكن الأجوبة
التى يمكن أن يجاب بها عن ذلك ثلاثة :
جواب كأنّه مبنى
على مذهب مشهور ، وهو أن الصورة لا تنطبع فى
__________________
المرآة على الهيئة
التى تنطبع الصورة المادية فى موادها وبحيث لا تجتمع فيه الأضداد ، بل هذه الصورة
تنطبع كليتها فى كلية المرآة ، ولا بأس أن يجتمع فيها شبح بياض وسواد معا لأنهما
فيها لا على سبيل التكيف بهما ، بل كما يكون فى المعقول. والعقول تعقل السواد
والبياض من غير تعاند ولا انقسام. ثم إنما يتأدى إلى البصر ما يكون على نسبة ما
بين الثلاث أعنى البصر والمرآة والمبصر. ولا تتفق نسبة الجميع من كل جزء من المرآة
، بل يكون جزء منها يؤدى البياض بعينه وجزء آخر يؤدّى السواد بعينه ويتحدد
بينهما حدّ فى الرؤية ، فتكون جملة الأداء والتحدد محصلة لصورة مثل المبصر فى
البصر.
وهذا الجواب مما
لا أقول به ولا أعرفه ، ولا أفهم كيف تكون الصورة تنطبع فى جسم مادى من غير أن
تكون موجودة فيه ، وقد يخلو الجسم عنها وهى منطبعة فيه ، وكيف يكون غير خال عنها
وهو لا يرى فيه ، بل ترى صورته التى له ، مع أن من شأن ذلك
أيضا أن يرى. أو كيف يكون خاليا بالقياس إلى واقف دون واقف وهذا اشتطاط وتكلف بعيد.
ومما فيه من
التكلّف أنهم لا يجعلون للشكل انطباعا فيه. فإن جعلوا جعلوا الشكل غير محدود ،
ومما فيه من التكلف أن يجعلوا صورة السواد فى جسم من غير أن يكون ذلك سوادا للجسم
، وأن يجوّزوا أيضا اجتماع البياض فيه فى وقت واحد ويجعلوا صورة السواد غير السواد
وصورة
__________________
البياض غير
البياض.
وأما حديث العقل
والمعقول فدعه إلى وقته.
وأما الجوابان
الآخران اللذان يمكن أن يجيب بهما مجيب : أحدهما متشدّد فيه والآخر مقارب فيه .
فأما المتشدد فيه
فأن يقال : أما أولا فليس يجب إذا كان شىء يحتاج إليه أن يفعل شىء فى شىء أن يكون
المحتاج إليه مثل المرآة او المشف هاهنا ينفعل من المبدأ مثل الانفعال الذى ينفعل
به الثالث ، فيرى أن السيف إذا أولم به الم ، والهدية إذا سر بها سرّت.
وأما ثانيا فليس
بيّنا بنفسه ولا ظاهرا لا شك فيه أن كل جسم فاعل يجب أن يكون ملاقيا للملموس ، فإن
هذا وإن كان موجودا بالاستقراء فى أكثر الأجسام فليس واجبا ضرورة أن يكون كل فعل
وانفعال باللقاء والتماس ، بل يجوز أن تكون أفعال أشياء فى أشياء من غير ملاقاة.
فكما يجوز أن يفعل ما ليس بجسم فى الجسم من غير ملاقاة كالبارى والعقل والنفس ،
فليس ببدع أن يكون جسم يفعل فى جسم بغير الملاقاة ، فتكون أجسام تفعل بالملاقاة
وأجسام تفعل لا بالملاقاة.
وليس يمكن أحدا أن
يقيم برهانا على استحالة هذا. ولا على أنه لا يمكن أن يكون بين الجسمين نصبة ووضع يجوز أن يؤثر أحدهما فى الآخر من غير ملاقاة ، إنما يبقى هاهنا ضرب من
التعجب كما لو كان انفق أن كانت الأجسام كلها إنما يفعل بعضها فى بعض بمثل تلك
النصبة المباينة ، فكان إذا اتفق أن شوهد فاعل يفعل بالملاقاة
يعجب منه كما
__________________
يتعجب الآن من
مؤثر بغير ملاقاة.
فإذا كان هذا غير
مستحيل فى أول العقل وكان صحة مذهبنا المبرهن عليه يوجبه وكان لا برهان ألبتة
ينقضه فنقول :
إن من شأن الجسم
المضىء بذاته والمستنير الملون أن يفعل فى الجسم ـ الذى يقابله إذا كان قابلا
للشبح قبول البصر وبينهما جسم لا لون له ـ تأثيرا هو صورة مثل صورته من غير أن
يفعل فى المتوسط شيئا ، إذ هو غير قابل لأنه شفاف. فإذا كان غير بيّن بنفسه ولا
قام عليه برهان الا أن يكون جسم يفعل فى مقابل له بتوسط شفاف ألبتة.
وكان هذا مجوزا فى
أول العقل ومتضحا بما برهّنا عليه من كيفية الإدراك ، وكان ذلك غير محال ، فكذلك
غير محال أيضا أن يكون بدل المتوسط الواحد متوسطان : المتوسط ومتوسط آخر ، وبدل
النصبة والوضع نصبتان ووضعان : النصبة والوضع المذكوران ، مع وضع ونصبة أخرى. فيكون
بدل هذا المتوسط الشفاف وحده متوسط ملوّن صقيل مع الشفاف ، وبدل نصبة المقابلة مع
هذا المضىء والمستنير النصبة والمقابلة مع ذلك الصقيل الذى له النصبة والوضع
المذكوران مع المضىء المستنير المرئى. فيكون من شأن هذا الجسم أن يفعل فى كل ما
قابل مقابلا له صقيلا يكون مقابله فى شفيف ولو صقيل بعد صقيل إلى غير النهاية بعد
أن يكونا على وضع محدود فعلا هو مثل صورته من غير أن يفعل فى الصقيل ألبتة. فيكون
المشف والصقيل شيئين يحتاج إليهما حتّى يفعل شىء فى شىء آخر ولا يكون ذلك الفعل
بعينه فيهما. فإذا كان كذلك واتفق أن وافى خيال الصقيل إلى البصر وخيال الشىء
الآخر معا ورؤيا معا فى جزء من الناظر واحد ، ظن أن الخيال يرى فى الصقيل بعكس ما
قالوا فى الشعاعات
.
وأما الطريق
المساهل فيه فهو أنه ليس يجب أن يؤثر كل شىء فى كل شىء مثل نفسه ، كما يجوز أن
يؤثر أيضا مثل نفسه. فالمضىء والمستنير يجوز أن يؤثّرا فى الهواء أثرا مّا ، ذلك
الأثر ليس أن يتشبح بشبح مثل صورة المضىء والمستنير ، بل يؤثر فيه أثرا لا يدرك
بالحس البصرى أو غيره من الحواس ، وكذلك يجوز أن يؤثّر فى الصقيل أثرا مّا إما
بواسطة المشف أو بغير واسطة ثم المشف أو الصقيل يفعل فى آلة البصر أولا ، أو بتوسط
فعله فى سطح الهواء الذى يليه أثرا ، ذلك الأثر هو مثل صورة مّا أثّر فى كل واحد منهما أولا ، فيكون كل واحد من المؤثّرين يؤثّر أثرا
خلاف ما فيه ، أعنى بالمؤثرين : المؤثر المرئى الذى يؤثر فى المشف أو الصقيل ، والمشف أو
الصقيل الذى يؤثر فى البصر. ومثل هذا كثير ، أعنى أن يكون شىء يؤثّر فى شىء أثرا
خلاف طبيعته ، ثم يؤثر هو فى شىء آخر مثل طبيعة الأول ، مثل الحركة فإنها تحدث فى
جرم سخونة فتسخّن الشىء ، ثم تلك السخونة تحدث حركة غير الحركة الأولى بالعدد
ومثلها فى النوع.
وقد يمكن أن يشاهد
هذا بمرآة ينعكس عنها ضوء ولون إلى حائط
__________________
بحيث يستقر فى
الحائط ولا ينتقل بحسب مقامات الناظر ولا يكون مستقرا ألبتة فى المرآة. وهذا
المستقر يعلم أنه وارد من طريق المرآة إلى الحائط ، وهو وإن كان يرى فى المرآة فلا
يرى مستقرا فيها فتكون المرآة أثّرت أثرا مثل كيفية مّا أثّرت فيها ليس مثل كيفيته
فى الاستقرار ، وعلى ذلك حال البصر.
وأما حديث
الانعطاف عن الماء فقد قال أصحاب الشعاع إن الشعاع إذا وقع عليه انبسط وانكسر
أولا فأخذ مكانا أكثر ثم نفذ فرآه مع أكثر مما يحاذيه.
وأما أصحاب
الأشباح فقد قال بعضهم : إن السبب فيه أن بعض ما يحاذى يؤدّى على أنه منفذ فى المحاذاة ، وبعضه على أنه مرآة ، ولا يبعد أن يظن أن
الجميع يؤدّى على أنه مرآة ، والمرآة من داخل خلاف المرآة من خارج.
وقال فاضل قدماء
المفسرين : إن البصر يعرض له لما يفوته من استقصاء تأمل الشىء أن يراه أبعد ويتفرق البصر لتأمله فيعظم شبحه.
__________________
ويمكن أن يؤكّد
هذا القول بأن الشىء الذى اعتيد أن يرى من بعد مّا على قدر مّا فإذا تخيل أبعد من
حيث هو ولم ير قدره القدر الذى يخيّله ذلك البعد ، بل أعظم منه لأنه بالحقيقة قريب
رؤى له مقدار أعظم من المقدار الذى يستحقه ببعده فيتخيّل أعظم من المعهود.
ثم فى هذا فضل نظر
يحتاج أن يفطن له المتحقق للأصول ، ويكون بحيث لا يخفى عليه كيف ينبغى أن يكون الحق
فى ذلك.
ثم هذه الشبهة
ليست مما تخص بلزومها إحدى الفرقتين دون الأخرى فإن الانكسار الذى يقوله أصحاب
الانكسار إن كان للصك فلم بقى على حاله ولم لا يرجع كرّة أخرى فيستوى ، إذ طبيعة
الشعاع أن ينفذ على الاستقامة. فإن كان هذا مستحيلا فى الشعاع النافذ إليه إذا
لاقاه ثم ازداد الشىء غورا فلم يعرض له أن يزداد لغوره انكسارا ولم لا يزداد
بامتداده انتظاما ، فإن القياس يوجب أن يحدث له بالامتداد اتصال لا ينبسط.
وبالجملة فنعم ما
قال المعلم الأول حين قال : لأن يمتد المبصر من سعة إلى ضيق فيجتمع فيه يكون ذلك
فيه أعون على تحقيق صورته من أن يخرج الرائى من العين منتشرا فى السعة.
ومما يتصل بهذا
الموضع حال ما نقوله من أوضاع المرئى والرائى والضوء والمرآة ، فنقول :
قد يعرض أن يكون
المرئى والمضىء والرائى فى شفّاف واحد وقد يعرض أن يكون المضىء والمرئى فى شفّافات
بينها سطوح.
__________________
فإن كان وضع السطح
فى المحاذاة التى بين الرائى والمضىء الفاعل للاستنارة لم ير ذلك السطح كسطح الفلك
والهواء.
وإن كان السطح
خارجا عن ذلك كسطح الماء ونحن فى الهواء ، والمضىء ليس فى هذه المحاذاة ، فإن ذلك
السطح ينعكس عنه الضوء الآتى من المضىء إلى البصر ، فيرى متميزا ، فقد علمت ما
نعنى بالعكس. وإن كان فى داخل السطح المنعكس عنه مرئى أراه ما هو فيه على أنه مشف
وأراه على أنه مرآة ، وكانت المرآة التى هناك مطابقة لما يحاذى المرئى إن كان
مكشوفا للرائى.
وإن كان مستورا
وكانت المرآة ملتقى الخط الخارج من البصر والعمود الخارج من المرئى الذى فى الماء
، فإن شبحه يتأدى عنه على استقامة. فإنك إن ألقيت خاتما فى الطشت بحيث لا تراه ثم
ملأته ماء رأيته.
وإن كان المرئى
خارجا عن شفاف متوسط غير الشفاف الذى فيه الرائى والمضىء ، فإن المشف المتوسط يريه
وإن كان ليس كذلك ، بل هو من جهة الرائى ، فإن سطح ذلك المشف لا يريه إلا أن
يجعل له لون غريب بشىء يوضع من ذلك الجانب حتى يرى ككرة البلور الملون أحد
جانبيها.
__________________
الفصل الثامن
فى سبب رؤية الشىء الواحد
كشيئين
لنقل فى سبب رؤية
الشىء الواحد كشيئين فإنه موضع نظر ، وذلك لأنه أحد ما يتعلق به أصحاب الشعاعات
أيضا. ويقولون : إنه إذا كان الإبصار بشىء خارج من البصر يلقى المبصر ثم يتفق أن
ينكسر وضعه عند البصر ، وجب أن يرى الشىء الواحد لا محالة كشيئين متباينين فيرى
اثنين. وليسوا يعلمون أن هذا يلزمهم الشناعة بالحقيقة ، وذلك لأن الإبصار إن كان
بمماسة أطراف الشعاعات وقد اجتمعت عليه ، فيجب أن يرى على كل حال واحدا. ولا يضر
فى ذلك انكسار أطراف الشعاعات المنكسرة.
بل الحق هو أن شبح
المبصر يتأدى بتوسط الشفاف إلى العضو القابل المتهيئ الأملس النيّر من غير أن
يقبله جوهر الشفاف أصلا من حيث هو
__________________
تلك الصورة ، بل
يقع بحسب المقابلة لا فى زمان ، وأن شبح المبصر أوّل ما ينطبع
إنما ينطبع فى الرطوبة الجليدية ، وأن الإبصار بالحقيقة لا يكون عندها ، وإلا لكان
الشىء الواحد يرى شيئين لأن له فى الجليدتين شبحين كما إذا لمس باليدين كان لمسين.
ولكن هذا الشبح يتأدى فى العصبتين المجوّفتين إلى ملتقاهما على هيئة الصليب ، وهما
عصبتان نبيّن لك حالهما حين نتكلم فى التشريح.
وكما أن الصورة
الخارجة يمتد منها فى الوهم مخروط يستدق إلى أن توقع زاويته وراء سطح الجليدية ،
كذلك الشبح الذى فى الجليدية يتأدى بوساطة الروح المؤدية التى فى العصبتين إلى
ملتقاهما على هيئة مخروط فيلتقى المخروطان ويتقاطعان هناك فتتّخذ منهما صورة شبحية واحدة عند الجزء من الروح الحامل للقوة الباصرة.
ثم أن ما وراء ذلك
روحا مؤدّية للمبصر لا مدركة مرة أخرى ، وإلا لافترق الإدراك مرة أخرى لافتراق
العصبتين. وهذه المؤدّية هى من
__________________
جوهر المبصر وتنفذ
إلى الروح المصبوبة فى الفضاء المقدم من الدماغ فتنطبع الصورة المبصرة مرة أخرى فى
تلك الروح الحاملة لقوة الحس المشترك فيقبل الحس المشترك تلك الصورة وهو كمال
الإبصار .
والقوة المبصرة
غير الحس المشترك ، وإن كانت فائضة منه مدبّرا لها. لأن القوة الباصرة تبصر ولا
تسمع ولا تشم ولا تلمس ولا تذوق ، والقوة التى هى الحاسة المشتركة تبصر وتسمع وتشم
وتلمس وتذوق على ماستعلم.
ثم إن القوة التى
هى الحاس المشترك تؤدى الصورة إلى جزء من الروح يتصل بجزء من الروح الحامل لها
فتنطبع فيها تلك الصورة وتخزنها هناك
__________________
عند القوة المصورة
وهى الخيالية ـ كما ستعلمها ـ فتقبل تلك الصورة
وتحفظها . فإن الحس المشترك قابل للصورة لا حافظ ، والقوة الخيالية
حافظة لما قبلت تلك.
والسبب فى ذلك أن الروح
التى فيها الحس المشترك إنما تثبت فيها الصورة المأخوذة من خارج منطبعة مادامت
النسبة المذكورة بينها وبين المبصر محفوظة أو قريبة العهد. فإذا غاب المبصر انمحت
الصورة عنها ولم تثبت زمانا يعتد به.
وأما الروح التى
فيها الخيال فإن الصورة تثبت فيها ، ولو بعد حين كثير ، على ما سيتضح لك عن قريب.
والصورة إذا كانت
فى الحس المشترك كانت محسوسة بالحقيقة فيه ، حتى إذا انطبع
فيه صورة كاذبة فى الوجود أحسها كما يعرض للممرورين ، وإذا
كانت فى الخيال كانت متخيلة لا محسوسة.
ثم إن تلك الصورة
التى فى الخيال تنفذ إلى التجويف المؤخر إذا شاءت القوة الوهمية ففتحت الدودة بتبعيد ما بين العضوين المسميين
__________________
أليتى الدودة ،
فاتصلت بالروح الحاملة للقوة الوهمية بتوسط الروح الحاملة للقوة المتخيلة التى
تسمى فى الناس مفكرة ، فانطبعت الصورة التى فى الخيال فى روح القوة الوهمية . والقوة المتخيلة خادمة للوهمية
__________________
مؤدية ما فى
الخيال إليها ، إلا أن ذلك لا يثبت بالفعل فى القوة المتوهمة ، بل مادام الطريق
مفتوحا والروحان متلاقيين والقوتان متقابلتين فإذا أعرضت القوة المتوهمة عنها بطلت
عنها تلك الصورة.
والدليل على صحة
القول بأن حصول هذه الصورة فى الوهم غير حصولها فى الخيال ، أن الخيال كالخازن
وليست الصورة التى فيه متخيلة للنفس بالفعل دائما ، وإلا لكان يجب أن نتخيل معا
صورا كثيرة أىّ صورة كانت فى الخيال ، ولا هذه الصور أيضا فى الخيال على سبيل ما
بالقوة وإلا لكان يحتاج إلى أن نسترجع بالحس الخارج مرة أخرى ، بل هى مخزونة فيه ،
والوهم بتوسط المفكرة والمتخيلة يعرضها على النفس وعنده يقف تأدّى الصور للمحسوسة
، وأما الذكر فهو لشىء آخر كما نذكره بعد. فهذه أصول يجب أن تكون عتيدة عندك.
ولنرجع إلى غرضنا
فنقول : إن السبب فى رؤية الشىء الواحد اثنين أربعة أسباب :
أحدها انفتال الآلة المؤدية للشبح الذى فى الجليدية إلى ملتقى العصبتين فلا يتأدى الشبحان
إلى موضع واحد على الاستقامة ، بل ينتهى كل عند جزء من الروح الباصر المرتب هناك
على حدة ، لأن خطى الشبحين لم ينفذا نفوذا من شأنه يتقاطعا عند مجاورة ملتقى
العصبتين ، فيجب لذلك أن ينطبع من كل شبح ينفذ عن الجليدية خيال على حدة وفى جزء
من الروح الباصرة على حدة ، فيكون كأنهما خيالان عن شيئين مفترقين
__________________
من خارج ، إذ لم
يتحد الخطان الخارجان منهما إلى مركز الجليديتين نافذين فى العصبتين ، فلهذا السبب
ترى الأشياء كثيرة متفرقة .
والسبب الثانى
حركة الروح الباصرة وتموّجه يمنة ويسرة حتى يتقدم الجزء المدرك مركزه المرسوم له فى
الطبع آخذا إلى جهة الجليديتين أخذا متموجا مضطربا فيرتسم فيه الشبح والخيال قبل
تقاطع المخروطين فيرى شبحين ، وهذا مثل الشبح المرتسم من الشمس فى الماء الراكد
الساكن مرة واحدة والمرتسم منها فى المتموج ارتساما متكررا. وذلك أن الزاوية
الحاصلة بين خط البصر إلى الماء وخط الشمس إلى الماء التى عندها يكون
__________________
إبصار الشىء على
طريق التأدى من المرآة لشىء لا تبقى واحدة ، بل يتلقاها الموج فى مواضع فتكثر هذه
الزاوية فتنطبع أشباح فوق واحد.
والسبب الثالث من
اضطراب حركة الروح الباطن الذى وراء التقاطع إلى قدام وخلف حتى تكون لها حركتان إلى جهتين
متضادتين :
حركة إلى الحس
المشترك ، وحركة إلى ملتقى العصبتين ، فتتأدى إليها صورة المحسوس مرة أخرى قبل أن
ينمحى ما تؤديه إلى الحس المشترك ، كأنها كما أدّت الصورة إلى الحس المشترك رجع
منها جزء يقبل ما تؤدّيه القوة الباصرة وذلك لسرعة الحركة ، فيكون مثلا قد ارتسم
فى الروح المؤدية صورة فنقلتها إلى الحس المشترك ، ولكل مرتسم زمان ثبات إلى أن
ينمحى ، فلما زال القابل الأول من الروح عن مركزه لاضطراب حركته يخلفه جزء آخر
فقبل قبوله قبل أن ينمحى عن الأول ، فتجزّأت الروح للاضطراب إلى جزء
متقدم كان فى سمت المرئى فأدركه ثم زال ، ولم تزل عنه الصورة دفعة ، بل هى فيه
وإلى جزء آخر قابل للصورة أيضا بحصوله فى السمت الذى فى مثله يدرك الصورة عاقبا
للجزء الأول والسبب الاضطراب. وإذا كان كذلك حصل فى كل واحد منهما صورة مرئية ،
لأن الأولى لم تنمح بعد عن الجزء القابل الأول المؤدّى إلى الحس المشترك أو عن
المؤدى إليه حتى انطبعت فى الثانى.
والفرق بين هذا
القسم والقسم الذى قبله أن هذه الحركة المضطربة إلى قدّام وخلف ، وكانت تلك إلى
يمنة ويسرة.
__________________
ولمثل هذا السبب
ما يرى الشىء السريع الحركة إلى الجانبين كشيئين. لأنه قبل أن انمحى عن الحس
المشترك صورته وهو فى جانب يراه البصر وهو فى جانب آخر فيتوافى إدراكاه فى الجانبين معا. وكذلك إذا دارت نقطة ذات لون على شىء مستدير رؤيت
خطا مستديرا ، وإذ امتدت بسرعة على الاستقامة رؤيت خطا مستقيما.
ونظير هذه الحركة
الدوار ، فإنه إذا عرض سبب من الأسباب المكتوبة فى كتب الطب فحرك الروح الذى فى
التجويف المقدم من الدماغ على الدور ، وكانت القوة
الباصرة تؤدى إلى ما هناك صورة محسوسة ، فالجزء من الروح القابل لها لا يثبت مكانه
، بل ينتقل ويخلفه جزء آخر يقبل تلك الصورة بعد قبوله وقبل انمحائها عنه. وكذلك
على الدور ، فيتخيل أن المرئيات تدور وتتبدل على الرائى ، وإنما الرائى هو الذى
يدور ويتبدل على المرئى. وإذا كان القابل ثابتا وتحرّك الشىء المبصر بسرعة انتقل
لامحالة شبحه الباطن من جزء من القابل إلى جزء آخر ، فإنه لو كان الشبح يثبت فى
ذلك الجزء بعينه لكان نسبة القابل مع المقبول واحدة ثابتة. فإذن إذا عرض لحامل
الشبح أن ينتقل عن مكانه انتقل الشبح لا محالة ، فتغيّرت نسبته إلى الجسم الذى من
خارج ، فعرض ما يعرض لو كان الشىء الذى من خارج ينتقل.
وأيضا فإن الناظر
فى ماء شديد الجرى يتخيل له أنه هوذا يميل عن جهة ويسقط إليها ، والسبب فى ذلك أنه
يتخيل الأشياء كلها تميل إلى خلاف جهة ميل الماء ، فإن شدة الحركة الموجبة لسرعة
المفارقة توهم أن
__________________
المفارقة من
الجانبين معا ، والسبب انتقال الشبح فى القابل مع ثباته فى كل جزء تفرضه زمانا
مّا.
ويجب أن يعلم أن
مع هذه الأسباب سببا آخر معينا لها ماديا ، وذلك أن جوهر الروح جوهر فى غاية اللطافة
وفى غاية سرعة الإجابة إلى قبول الحركة ، حتى أنه إذا حدث فيه سبب موجب لانتقال
الشبح من جزء إلى جزء يلزمه أن يتحرك جوهر الروح حركة مّا ـ وإن قلّت ـ إلى سمت
ذلك الجزء. والسبب فى ذلك أن لكل قوة من القوى المدركة انبعاثا بالطبع إلى مدركها
، حتى أنها تكاد تلتذ به وإذا انبعثت نحوه مال حاملها إليه أو مالت بحاملها إليه.
ولهذا ما كان
الروح الباصر يندفع جملة إلى الضوء وينقبض عن الظلمة بالطبع ، فإذا مال الشبح إلى
جزء من الروح دون جزء كانت القوة كالمندفعة إلى جهة ميل للشبح بآلتها. فإن الآلة
مجيبة لها إلى نحو الجهة التى تطلبها القوة فيحدث فى الروح تموّج إلى تلك الجهة
للطافتها وسرعتها إلى قبول الأثر كأنها تتبع الشبح . ولهذا السبب إذا أطال الإنسان النظر إلى شىء يدور يتخيل له أن سائر الأشياء
تدور لأنه تحدث فى الروح حركة مستديرة لاتباعها لانتقال الشبح.
وكذلك إذا أطال النظر
إلى شىء سريع الحركة فى الاستقامة تحدث فى الروح حركة مستقيمة إلى ضد تلك الجهة ،
لأن جهة حركة الشىء متضادة لجهة حركة الشبح ، فحينئذ ترى
الأشياء كلها تنتقل إلى ضد
__________________
تلك الجهة ، لأن
أشباح الأشياء لا تثبت.
والسبب الرابع
اضطراب حركة تعرض للثقبة العنبية ، فإن الطبقة العنبية سهلة الحركة إلى هيئة تتسع لها الثقبة وتضيق تارة إلى خارج ، وتارة إلى داخل
على الاستقامة أو إلى جهة ، فيتبع اندفاعها إلى خارج انضغاط يعرض لها واتساع من
الثقبة ، ويتبع اندفاعها إلى داخل اجتماع يعرض لها وتضيّق من الثقبة. فإذا اتفق أن
ضاقت الثقبة يرى الشىء أكبر أو اتسعت رؤى أصغر ، أو
اتفق أن مالت إلى جهة رؤى فى مكان آخر. فيكون كأنّ المرئى أولا غير المرئى ثانيا ،
وخصوصا إذا كان قد تمثل قبل انمحاء الصورة الأولى صورة أخرى .
__________________
ولقائل أن يقول :
فلم لا تثبت الصورة واحدة مع انتقال القابل كمال تبقى صورة الضوء واحدة مع انتقال
القابل ، فيكون إذا زال القابل عن المحاذاة بطلت الصورة عنه وحدثت فيما يقوم مقامه
، فلم تكن صورتان ، فلم تكن رؤيتان ، ولا اتصال خط من نقطة ، ولا رؤيت الأشياء
تستدير.
فنقول : لا يبعد
أن يكون من شأن الروح التى للحس المشترك أن لا تكون إنما تنضبط الصورة بالمحاذاة
فقط ، وإن كان لا تضبطها بعد المحاذاة مدة طويلة فيكون يضبط لا كضبط المستنير
بالضوء للضوء الذى يبطل دفعة ولا كضبط الحجر للنقش الذى يبقى مدة طويلة ، بل بين
بين. وتكون تخليته عن الصورة بسبب تقوى وتعان بعد المحاذاة بزمان مّا لأسباب تجدها
مذكورة فيما تفتر حركته وفيما يعود إلى طبيعته حيث نتكلم فى مثله.
ومن هذا يعلم أن
قبول الروح الباطن للخيالات المبصرة ليست كقبول الشبح الساذج الذى يزول مع زوال
المحاذاة. وبالحرى أن تكون الحواس هى هذه المشهورة ، وأن تكون الطبيعة لا تنتقل من
درجة الحيوانية إلى درجة فوقها ، أو توفى جميع ما يكون فى تلك الدرجة. فيجب من ذلك
أن تكون جميع الحواس محصلة عندنا ، ومن رام أن يبين هذا بقياس واجب فقد يتكلّف
شططا. وجميع ما قيل فى هذا فهو غير مبرهن ، أو لست أفهمه فهم المبرهن عليه ويفهمه
غيرى ، فلتتعرف ذلك من غير كلامنا.
__________________
فالحواس المفردة
والمحسوسات المفردة ما ذكرنا ، وهاهنا حواس مشتركة ومحسوسات مشتركة فلنتكلم أولا فى المحسوسات المشتركة فنقول :
إن الحواس منا قد
تحسّ مع ما تحسّ أشياء أخرى لو انفردت وحدها لم تحسّ ، وهذه الأشياء هى المقادير
والأوضاع والأعداد والحركات والسكونات والأشكال والقرب والبعد والمماسة وما هو غير
ذلك مما يدخل فيه. وليس إنما تحسّ هذه بالعرض ، وذلك لأن المحسوس بالعرض هو الذى
ليس محسوسا بالحقيقة ، لكنه مقارن لما يحسّ بالحقيقة مثل إبصارنا أبا عمرو وأبا
خالد ، فإن المحسوس هو الشكل واللون ، ولكن عرض أن ذلك مقارن لشىء مضاف ؛ فنقول :
إنا أحسسنا بالمضاف ولم نحسّه ألبتة ولا فى أنفسنا خيال أو وهم ولا رسم لأبى خالد
من حيث هو أبو خالد يكون ذلك الوهم ، أو الخيال مستفادا من الحس بوجه من الوجوه.
وأما الشكل والعدد وغير ذلك فإنه وإن كان لا يحسّ بانفراده ، فإن رسمه وخياله يلزم
خيال ما يحسّ وما يدرك بأنه لون أو حرارة أو برودة مثلا ،
حتى يمتنع ارتسام أمثال هذه فى الخيال دونها أيضا.
وليس إذا كان
الشىء متمثلا ومدركا لشىء فى شىء بتوسط شىء فهو
__________________
غير متمثل
بالحقيقة فإن كثيرا من الأمور التى بالحقيقة وليست بالعرض فإنها
تكون بمتوسطات.
وهذه المحسوسات
المشتركة لما كان إدراكها بهذه الحواس ممكنا لم يحتج إلى حاسة أخرى ، بل لما كان
إدراكها بلاتوسط غير ممكن استحال أن تفرد لها حاسة.
فالبصر يدرك العظم
والشكل والعدد والوضع والحركة والسكون بتوسط اللون ، ويشبه أن يكون إدراك الحركة
والسكون مشوبا بقوة غير الحس .
واللمس يدرك جميع
هذا بتوسط صلابة أولين فى أكثر الأمر ، وقد يكون بتوسط الحر والبرد.
والذوق يدرك العظم
بأن يذوق طعما كثيرا منتشرا ، ويدرك العدد بأن
__________________
يجد طعوما كثيرة
فى الأجسام ، وأما الحركة والسكون والشكل فيكاد أن يدركه أيضا ولكن ضعيفا ، يستعين
فى ذلك باللمس.
وأما الشم فيكاد
لا يدرك به العظم والشكل والحركة والسكون إدراكا متمثلا فى الشام ، بل
يدرك به العدد بأن يتمثل فى الشام ، ولكن النفس تدرك ذلك بضرب من القياس أو الوهم
بأن تعلم أن الذى انقطعت رائحته دفعة قد زال والذى تبقى رائحته هو ثابت.
وأما السمع فإن
العظم لا يدركه ولكن السمع قد تدلّه النفس عليه دلالة غير مستمرة على الدوام ،
وذلك من جهة أن الأصوات العظيمة قد ينسبها إلى أجسام عظيمة ، وكثيرا ما تكون من
أشياء صغيرة وبالعكس. ولكن قد يدرك العدد ويدرك الحركة والسكون بما يعرض للصوت
الممتد من ثبات أو اضمحلال يكون مصيره إلى ذلك الاختلاف فى تحدد مثل ذلك البعد.
ولكن هذا الإدراك من جملة ما تدركه النفس للعادة التى عرفتها.
وقد يمكن أن يسمع
الصوت عن الساكن على هيئة الصوت الذى يسمع عن المتحرك وعن المتحرك على هيئة الصوت
الذى يسمع عن الساكن ، فلا تكون هذه الدلالة مركونا إليها ولا
تجب وجوبا ، بل تكون فى أكثر الأمر. وأما الشكل فلا يدركه السمع إلا شكل الصوت لا
شكل الجسم ، وأما الذى يسمع عن المجوّف فيوقف على تجويفه فهو شىء يعرض
__________________
للنفس وتعرفه
النفس على سبيل الاستدلال. وتأمل مذهب العادة فيه.
ويشبه أن يكون حال
البصر فى كثير مما يدركه هذه الحال أيضا إلا أن إدراك البصر لما يدركه من ذلك
أظهر.
فهذه هى المحسوسات
التى تسمى مشتركة ، إذ قد تشترك فيها عدة من الحواس والعدد كأنه أولى ما يسمى
مشتركا فإن جميع الحواس تشترك فيه.
وقد ظن بعض الناس
أن لهذه المحسوسات المشتركة حاسة موجودة فى الحيوان تشترك فيها وبها تدرك ، وليس
كذلك. فأنت تعلم أن من ذلك ما يدرك باللون لولا اللون لما أدرك ، وأنّ منه ما يدرك
باللمس لولا الملموس لما أدرك. فلو كان يمكن أن يدرك شىء من ذلك بغير المتوسط من
كيفية هى تدرك اوّلا لشىء من هذه الحواس ، لكان ذلك ممكنا ، وأما أن ما يستحيل
فينا إدراكه إلا بتوسط مدرك بحاسة معلومة أو استدلال من غير توسط الحاسة فليس لها
حاسة مشتركة بوجه من الوجوه.
__________________
المقالة الرابعة
فى الحواس الباطنة
أربعة فصول
[ الفصل الأوّل :
فيه قول كلّى على الحواس الباطنة التى للحيوان ]
[ الفصل الثانى :
فى افعال القوّة المصوّرة والمفكّرة من هذه الحواسّ الباطنة ]
[ الفصل الثالث :
فى أحوال القوى المتذكّرة والوهمية ]
[ الفصل الرابع :
فى أحوال القوى المحرّكة وضرب من النبوة المتعلّقة بها ]
الفصل الأول
فيه قول كلى على الحواس
الباطنة التى للحيوان
[ فى اثبات الحس المشترك
]
وأما الحس المشترك
فهو بالحقيقة غير ما ذهب إليه من ظنّ أن للمحسوسات المشتركة حسا مشتركا
، بل الحس المشترك هو القوة التى تتأدى إليها المحسوسات كلها ، فإنه لو لم تكن قوة
واحدة تدرك الملون والملموس لما كان لنا أن نميّز بينهما قائلين : إنه ليس هذا
ذاك. وهب أن هذا التميز هو للعقل ، فيجب لا محالة أن يكون العقل يجدهما معا حتى
يتميّز بينهما ، وذلك لأنها من حيث هى محسوسة وعلى النحو المتأدى من المحسوس لا
يدركها العقل كما سنوضح بعد. وقد نميّز نحن بينهما ، فيجب أن يكون لها اجتماع عند
مميّز إمّا فى ذاته وإما فى غيره ، ومحال ذلك فى العقل على ما ستعلمه. فيجب أن
يكون فى قوة أخرى.
ولو لم يكن قد
اجتمع عند الخيال من البهائم التى لا عقل لها المائلة
__________________
بشهوتها إلى
الحلاوة مثلا أن شيئا صورته كذا هو حلو لما كانت إذا رأته همّت بأكله ، كما أنه
لولا أن عندنا نحن أن هذا الأبيض هو هذا المغنّى لما كنّا إذا سمعنا غناه الشخصى
أثبتنا عينه الشخصية وبالعكس. ولو لم يكن فى الحيوان ما تجتمع فيه صور المحسوسات
لتعذرت عليه الحياة ، ولم يكن الشمّ دالا لها على الطعم ، ولم يكن الصوت دالا إياها على الطعم ، ولم تكن صورة الخشبة تذكّرها صورة الألم حتى تهرب منه
، فيجب لا محالة أن يكون لهذه الصور مجمع واحد من باطن.
وقد يدلنا على
وجود هذه القوة اعتبارات أمور تدل على أن لها آلة غير الحواس الظاهرة منها نراه من
تخيل المدور به أن كل شىء يدور ، فذلك إما عارض عرض فى المرئيات أو عارض عرض فى
الآلة التى تتمّ بها الرؤية ، وإذا لم يكن فى المرئيات كان لا محالة فى شىء آخر.
وليس الدوار إلا
بسبب حركة البخار فى الدماغ وفى الروح التى فيه فيعرض لتلك الروح أن تدور ، فتكون إذن القوة المرتبة هناك هى التى يعرض لها أمر قد فرغنا منه. ولذلك
يعرض للإنسان دوار من تأمّل ما يدور كثيرا على ما أنبأنا به. وليس يكون ذلك بسبب
أمر فى جزء من العين ، ولا فى روح مصبوب فيه . وكذلك تخيل استعجال
المتحرك النقطى مستقيما أو مستديرا على ما سلف من قبل ،
ولأن
__________________
تمثل الأشباح
الكاذبة وسماع الأصوات الكاذبة قد يعرض لمن تفسد لهم آلات الحس أو كان مثلا مغمضا
لعينه ، ولا يكون السبب فى ذلك إلا لتمثلها فى هذا المبدأ.
والتخيلات التى
تقع فى النوم إما أن تكون لارتسام فى خزانة حافظة للصور ، ولو كان كذلك لوجب أن
يكون كل ما اختزن فيها متمثلا فى النفس ليس بعضها دون بعض حتّى يكون ذلك البعض
كأنه مرئى أو مسموع وحده أو أن يكون يعرض لها التمثل فى قوة أخرى ، وذلك إما حس
ظاهر وإما حسّ باطن ، لكن الحس الظاهر معطل فى النوم ، وربما كان ذلك الذى يتخيل ألوانا
مّا مسمول العين فبقى أن يكون حسا باطنا ، وليس يمكن أن يكون إلا المبدأ
للحواس الظاهرة. والذى كان إذا استولت القوة الوهمية وجعلت تستعرض ما فى الخزانة
تستعرضه بها ولو فى اليقظة ، فإذا استحكم ثباتها فيها كانت كالمشاهدة.
فهذه القوة هى
التى تسمى الحس المشترك وهى مركز الحواس ، ومنها تتشعب الشعب ، وإليها تؤدى الحواس
، وهى بالحقيقة هى التى تحس.
[ فى اثبات الخيال ]
لكن إمساك ما
تدركه هذه هو القوة التى تسمى خيالا وتسمى مصورة وتسمى متخيلة ، وربما فرّق بين
الخيال والمتخيلة بحسب الاصطلاح ، ونحن ممّن يفصّل ذلك. والصورة التى فى الحس
المشترك. والحس المشترك والخيال كأنهما قوة واحدة ، وكأنهما لا يختلفان فى الموضوع
، بل
__________________
فى الصورة. وذلك
لأنه ليس أن يقبل هو أن يحفظ ، فصورة المحسوس تحفظها القوة التى تسمى المصورة والخيال ،
وليس لها حكم ألبتة ، بل حفظ. وأما الحس المشترك والحواس الظاهرة فإنها تحكم بجهة
مّا أو بحكم مّا ، فيقال إن هذا المتحرك أسود وإن هذا الأحمر حامض ، وهذا الحافظ
لا يحكم به على شىء من الموجود إلا على ما فى ذاته بأن فيه صورة كذا.
[ فى اثبات القوة المتصرفة ]
ثم قد نعلم يقينا
أنه فى طبيعتنا أن نركّب المحسوسات بعضها إلى بعض ، وأن نفصّل بعضها عن بعض ، لا
على الصورة التى وجدناها عليها من خارج ولا مع تصديق بوجود شىء منها أو لا وجوده.
فيجب أن تكون فينا قوة نفعل ذلك بها ، وهذه هى التى تسمى إذا استعملها العقل تسمّى
مفكرة ، وإذا استعملتها قوة حيوانية تسمّى متخيلة.
[ فى اثبات الواهمة ]
ثم إنا قد نحكم فى
المحسوسات بمعان لا نحسّها ، إما أن لا تكون فى طبائعها محسوسة ألبتة ، وإما أن
تكون محسوسة لكننا لا نحسّها وقت الحكم. أما التى لا تكون محسوسة فى طبائعها فمثل العداوة والرداءة والمنافرة التى تدركها الشاة فى صورة الذئب ، وبالجملة
المعنى الذى
__________________
ينفّرها عنه ،
والموافقة التى تدركها من صاحبها ، وبالجملة المعنى يؤنسها به. وهذه أمور تدركها
النفس الحيوانية ، والحسّ لا يدلّها على شىء منها. فإذن القوة التى بها تدرك ، قوة
أخرى ولتسمّ الوهم.
وأما التى تكون
محسوسة فإنا نرى مثلا شيئا أصفر فنحكم أنه عسل وحلو ، فإن هذا ليس يؤديه إليه
الحاس فى هذا الوقت ، وهو من جنس المحسوس ، على أن الحكم نفسه ليس بمحسوس ألبتة
وإن كانت أجزاؤه من جنس المحسوس ، وليس يدركه فى الحال ، إنما هو حكم نحكم به
وربّما غلط فيه وهو أيضا لتلك القوة.
وفى الإنسان للوهم
أحكام خاصة من جملتها حمله النفس على أن تمنع وجود أشياء لا تتخيل ولا
ترتسم فيه وتأبيّها التصديق بها. فهذه القوة لا محالة موجودة فينا ، وهى الرئيسة
الحاكمة فى الحيوان حكما ليس فصلا كالحكم العقلى ، ولكن حكما تخيليا مقرونا
بالجزئية وبالصورة الحسية ، وعنه تصدر أكثر الأفعال الحيوانية.
وقد جرت العادة
بأن يسمى مدرك الحس المشترك صورة ومدرك الوهم معنى ، ولكل واحد منهما خزانة.
فخزانة مدرك الحس
وهو الصورة هى القوة الخيالية ، وموضعها مقدم الدماغ ، فلذلك إذا حدثت هناك آفة فسد
هذا الباب من التصور ، إما بأن تتخيل صورا ليست أو تصعب استثبات الموجود فيها.
وخزانة مدرك
المعنى هو القوة التى تسمى الحافظة ، ومعدنها
__________________
مؤخر الدماغ ،
ولذلك إذا وقع هناك آفة وقع الفساد فيما يختص بحفظ هذه المعانى .
وهذه القوة تسمى
أيضا متذكّرة ، فتكون حافظة لصيانتها ما فيها ، ومتذكرة لسرعة استعدادها لاستثباته
، والتصور به مستعيدة إياه إذا فقد ، وذلك إذا أقبل الوهم
بقوته المتخيلة فجعل يعرض واحدا واحدا من الصور الموجودة فى الخيال ليكون كأنه يشاهد
الأمور التى هذه صورها. فإذا عرض له الصورة التى أدرك معها المعنى الذى بطل ، لاح
له المعنى حينئذ كما لاح من خارج ، واستثبتته القوة الحافظة فى نفسها كما كانت
حينئذ تستثبت فكان ذكر .
__________________
وربما كان المصير
من المعنى إلى الصورة ، فيكون المتذكر المطلوب ليست نسبته إلى ما فى خزانة الحفظ ،
بل نسبته إلى ما فى خزانة الخيال. فكأن إعادته إما فى وجه العود إلى
هذه المعانى التى فى الحفظ حتى يضطر المعنى إلى لوح الصورة فتعود النسبة إلى ما فى
الخيال ثانيا ، وإما بالرجوع إلى الحس.
مثال الأول إذا نسبت نسبته إلى صورة وكنت عرفت تلك النسبة تأملت الفعل الذى كان يقصد منها ، فلما عرفت الفعل ووجدته وعرفت أنه أى طعم وشكل ولون
يصلح له فاستثبت النسبة به فالفيت ذلك وحصّلته نسبة إلى
صورة فى الخيال وأعدت النسبة فى الذكر ، فإن خزانة الفعل هو الحفظ لأنه من المعنى.
فإن كان أشكل ذلك عليك من هذه الجهة أيضا ولم يتضح فأورد عليك الحس صورة الشىء ،
عادت مستقرة فى الخيال وعادت النسبة إليه مستقرة فى التى تحفظ.
وهذه القوة
المركّبة بين الصورة والصورة ، وبين الصورة والمعنى ، وبين المعنى والمعنى ، هى
كأنها القوة الوهميّة بالموضوع ، لا من حيث تحكم ، بل من حيث تعمل لتصل إلى الحكم.
وقد جعل مكانها وسط الدماغ ليكون لها اتصال بخزانتى المعنى والصورة.
ويشبه أن تكون
القوة الوهمية هى بعينها المفكرة والمتخيلة والمذكّرة. وهى بعينها الحاكمة فتكون
بذاتها حاكمة وبحركاتها وأفعالها متخيلة
__________________
ومتذكرة ، فتكون
متخيلة بما تعمل فى الصور والمعانى ، ومتذكرة بما ينتهى إليه عملها. وأما الحافظة
فهى قوة خزانتها ، ويشبه أن يكون التذكر الواقع بالقصد معنى للإنسان وحده ، وأن
خزانة الصورة هى المصورة والخيال. وأن خزانة المعنى هى الحافظة. ولا يمتنع أن تكون
الوهمية بذاتها حاكمة متخيلة ، وبحركاتها متخيلة ذاكرة.
الفصل الثانى
فى أفعال القوة المصورة
والمفكّرة من هذه الحواس الباطنة
وفيه القول على
النوم واليقظة والرؤيا الصادقة والكاذبة وضرب من خواص النبوة.
فلنحصّل القول فى
القوة المصورة أولا فنقول :
إن القوة المصورة
التى هى الخيال هى آخر ما تستقر فيه صور المحسوسات ، وإن وجهها إلى المحسوسات هو الحس
المشترك ، وإن الحس المشترك يؤدّى إلى القوة المصوّرة على سبيل استخزان ما تؤديه
إليه
__________________
الحواس فتخزنه.
وقد تخزن القوة أيضا أشياء ليست من المأخوذات عن الحس ، فإنّ القوة المفكرة قد
تتصرف على الصور التى فى القوة المصوّرة بالتركيب والتحليل لأنها موضوعات لها ،
فإذا ركّبت صورة منها أو فصّلتها أمكن أن تستحفظها فيها ، لأنها ليست خزانة لهذه
الصورة من جهة ما هذه الصورة منسوبة إلى شىء وواردة من داخل أو خارج ، بل إنما هى
خزانة لها لأنها هذه الصورة بهذا النحو من التجريد ، ولو كانت هذه الصورة على نحو ما فيها من التركيب والتفصيل ترد من خارج لكانت هذه
القوة تستثبتها. فكذلك إذا لاحت لهذه القوة من سبب آخر.
وإذا عرض بسبب من الأسباب إما من التخيل والفكر وإما لشىء من التشكلات السماوية أن تمثلت صورة فى المصورة وكان الذهن غائبا أو ساكنا عن اعتباره ، أمكن أن يرتسم ذلك
فى الحس المشترك نفسه بعينه الى تبيانه فيسمع ويرى
ألوانا وأصواتا ليس لها وجود من خارج ولا أسبابها من خارج. وأكثر ما يعرض هذا عند
سكون القوى العقلية أو غفول الوهم ، وعند اشتغال النفس النطقية عن مراعاة الخيال
والوهم. فهناك تقوى المصورة والمتخيلة على أفعالها الخاصة حتى يتمثل مما تورده من
الصور محسوسة.
ولنزد هذا بيانا
فنقول : إنه سنبيّن بعد أن هذه القوى كلها لنفس واحدة وأنها خوادم للنفس ، فلنسلّم
ذلك وضعا ، ولنعلم أن اشتغال النفس
__________________
ببعض هذه يصرفها
عن إعانة القوى الأخر على فعلها أو عن ضبطها عن زيفها أو عن حملها على الصواب ، فإن من شأن النفس إذا اشتغلت بالأمور الباطنة أن
تغفل عن استثبات الأمور الخارجة فلا تستثبت المحسوسات حقها من الاستثبات ، وإذا
اشتغلت بالأمور الخارجة أن تغفل عن استعمال القوى الباطنة ، فإنها إذا كانت تامة
الإصغاء إلى المحسوسات الخارجة ففى وقت مّا تكون منصرفة إلى ذلك يضعف تخيّلها
وتذكّرها ، وإذا انصبت إلى أفعال القوة الشهوانية انكسرت منها أفعال القوة الغضبية
، وإذا انصبت إلى أفعال القوة الغضبية انكسرت منها أفعال القوة الشهوانية ؛
وبالجملة إذا انصبت إلى استكمال الأفعال الحركية ضعفت الأفعال الإدراكية ،
وبالعكس.
فإذا لم تكن النفس
مشتغلة بأفعال قوى عن أفعال قوة مّا بل كانت وادعة كأنها معزّلة عرض لأقوى القوى وأعملها أن تغلب ، وإذا اشتغلت بقوة مّا وعارض مّا عن تثقيف قوة
، إنما تضبطها عن حركاتها المفرطة مراعاة النفس أو الوهم إياها استولت تلك القوة
ونفذت فى أفعالها التى بالطبع قد خلالها الجو وتثقفت.
وهذا الذى يعرض
للنفس من أن لا تكون مشتغلة بفعل قوة أو قوى فقد يكون لآفة أو لضعف شاغل عن
الاستكمال ، كما فى الأمراض وكما فى الخوف ؛ وإما أن يكون لاستراحة مّا ، كما فى
النوم ؛ وإما أن يكون لكثرة انصراف الهمة إلى استعمال القوة المنصرف إليها من
غيرها.
__________________
ثم إن القوة
المتخيلة قوة قد تصرفها النفس عن خاص فعلها بوجهين : تارة مثل ما يكون عند اشتغال
النفس بالحواس الظاهرة وصرف القوة المصورة إلى الحواس الظاهرة وتحريكها بما يورد
عليها منها حتى لا تسلم للمتخيلة المفكرة فتكون المتخيلة مشغولة عن فعلها الخاص
وتكون المصورة أيضا مشغولة عن الانفراد بالمتخيلة ويكون ما تحتاجان إليه من الحس المشترك ثابتا واقعا فى شغل الحواس الظاهرة وهذا الوجه هو وجه.
وتارة عند استعمال
النفس إياها فى أفعالها التى تتصل بها من التميّز والفكرة. وهذا على
وجهين أيضا :
أحدهما أن تستولى
على المتخيلة فتستخدمها والحس المشترك معها فى
__________________
تركيب صور
بأعيانها وتحليلها على جهة يقع للنفس فيها غرض صحيح ، ولا تتمكن المتخيلة لذلك من
التصرف على ما لها أن تتصرّف عليه بطباعها ، بل تكون منجرّة مع تصريف النفس
النطقية إياها انجرارا.
والثانى أن تصرفها
عن التخيلات التى لا تطابق الموجودات من خارج فتكفها عن ذلك استبطالا لها فلا
تتمكن من شدة تشبيحها وتمثيلها ، فإن شغلت المتخيلة من الجهتين جميعا ضعف فعلها ،
وإن زال عنها الشغل من الجهتين كلتيهما ـ كما يكون فى حال النوم أو من جهة واحدة
كما يكون عند الأمراض التى تضعف البدن وتشغل النفس عن العقل والتمييز وكما عند
الخوف حتى تضعف النفس وتكاد تجوّز ما لا يكون وتكون منصرفة عن العقل جملة لضعفها
وتخوّفها وقوع أمور جسدانية فكأنها تترك العقل وتدبيره ـ أمكن التخيل حينئذ أن يقوّى ويقبل على المصورة ويستعملها ويتقوى اجتماعهما معا فتصير
المصورة أظهر فعلا فتلوح الصور التى فى المصورة فى الحاس المشترك فترى كأنها
موجودة خارجا ، لأن الأثر المدرك من الوارد من خارج ومن الوارد من داخل هو ما
يتمثل فيها وإنما يختلف بالنسبة.
وإذا كان المحسوس
بالحقيقة هو ما يتمثل ، فإذا تمثل كان حاله كحال ما يرد من خارج. ولهذا ما يرى
الإنسان المجنون والخائف والضعيف والنائم أشباحا قائمة كما يراها فى حال السلامة
بالحقيقة ويسمع أصواتا كذلك ،
__________________
فإذا تدارك
التميّز أو العقل شيئا من ذلك وجذب القوة المتخيلة إلى نفسه بالتنبيه اضمحلّت تلك
الصور والخيالات.
وقد يتفق فى بعض
الناس أن تخلق فيه القوة المتخيلة شديدة جدا غالبة حتى أنها لا تستولى عليها
الحواس ولا تعصيها المصورة ، وتكون النفس أيضا قوية لا يبطل التفاتها إلى العقل
وما قبل العقل انصبابها إلى الحواس. فهؤلاء يكون لهم فى اليقظة ما يكون لغيرهم فى
المنام فى الحالة التى سنخبر عنها بعد وهى حالة إدراك النائم مغيبات
يتحققها بحالها أو بأمثلة تكون لها. فإن هؤلاء قد يعرض لهم مثلها فى اليقظة ،
وكثيرا ما يكون لهم فى توسط ذلك أن يغيبوا آخر الأمر عن المحسوسات ويصيبهم كالإغماء وكثيرا
ما لا يكون ، وكثيرا ما يرون الشىء بحاله ، وكثيرا ما يتخيل لهم مثاله للسبب الذى
يتخيل للنائم مثال ما يراه مما نوضحه بعد ، وكثيرا ما يتمثل لهم شبح ويتخيلون أن ما
يدركونه خطاب من ذلك الشبح بألفاظ مسموعة تحفظ وتتلى ، وهذه هى النبوة الخاصة
بالقوة المتخيلة. وهاهنا نبوات أخرى سيتضح أمرها .
وليس أحد من الناس
لا نصيب له من أمر الرؤيا ومن حال الإدراكات التى تكون فى اليقظة ، فإن الخواطر
التى تقع دفعة فى النفس إنما يكون سببها اتصالات مّا لا يشعر بها ولا بما يتصل بها لا قبلها ولا بعدها ، فتنتقل النفس منها إلى
شىء آخر غير ما كان عليه مجراها. وقد يكون
__________________
ذلك من كل جنس ،
فيكون من المعقولات ، ويكون من الإنذارات ، ويكون شعرا ،
ويكون غير ذلك بحسب الاستعدادات والعادة والخلق. وهذه الخواطر تكون لأسباب تعنّ للنفس مسارقة فى أكثر الأمر وتكون كالتلويحات المستلبة التى لا تتقرّر فتذكر إلا أن تبادر إليها النفس بالضبط الفاضل ،
ويكون أكثر ما يفعله أن يشغل التخيل بجنس غير مناسب لما كان فيه.
ومن شأن هذه القوة
المتخيلة أن تكون دائمة الإكباب على خزانتى
__________________
المصورة والذاكرة
، ودائمة العرض للصورة مبتدئة من صورة محسوسة أو مذكورة ، منتقلة منها إلى ضد أو
ندّ أو شىء هو منه بسبب ، وهذه طبيعتها.
وأما اختصاص
انتقالها من الشىء إلى ضده دون ندّه ، أو ندّه دون ضده ، فيكون لذلك أسباب جزئية
لا تحصى.
وبالجملة يجب أن
يكون أصل السبب فى ذلك أن النفس إذا جمعت بين مراعاة المعانى والصور انتقلت من
المعنى إلى الصورة التى هى أقرب إليها إما مطلقا وإما لاتفاق قرب عهد مشاهدته
لتألّفهما فى حس أو فى وهم ، وانتقلت كذلك من الصورة إلى المعنى. ويكون السبب
الأول الذى يخصّص صورة دون صورة ومعنى دون معنى أمرا قد ورد عليه من الحس خصّصه به
، أو من العقل ، أو الوهم فخصصه به ، أو لأمر سماوى. فلما تخصص بذلك صار استمراره
وانتقاله متخصصا لتخصيص المبدأين ، ولأجل أحوال
تقارن من العادة او لقرب العهد ببعض الصور والمعانى. وقد يكون ذلك لأحوال أيضا
سماوية ، وقد يكون لطوالع من الحس والعقل بعد التخصيص الأول يضاف إليه.
واعلم أن الفكر
النطقى ممنوّ بهذه القوة وهو من غريرة هذه القوة فى شغل شاغل ، فإنه إذا استعملها
فى صورة مّا استعمالا موجها نحو غرض مّا انتقلت بسرعة إلى شىء آخر لا يناسبه ومنه
إلى ثالث وأنست النفس أول ما ابتدأت عنه حتى تحوج النفس إلى التذكر نازعة إلى التحليل
__________________
بالعكس حتى تعود
إلى المبدأ.
فإذا اتفق فى حال
اليقظة أن أدرك النفس شيئا أو فى حال النوم أن اتصلت بالملكوت اتصالا على ما سنصفه
بعد وصفا ، فإن هذه القوة إن مكنتها بسكونها أو
بانقهارها من حسن الاستثبات ولم تغلبها مقصرة عليها زمان الاستثبات
لما يلوح لها من تخيلاتها ، تمكنت تلك الصورة من الذكر تمكنا
جيدا على وجهه وصورته فلم تحتج إن كان يقظة إلى التذكر ، وإن كان نوما إلى تعبير ، وإن كان وحيا إلى التأويل ، فان التعبير والتأويل هاهنا يذهبان مذهب
التذكر.
فان لم تستثبب
النفس ما رأته من ذلك فى قوة الذكر على ما ينبغى ، بل كانت القوة المتخيلة توازى
كل مفرد من المرئى فى النوم بخيال مفرد أو مركب ، أو توازى مركبا من المرئى فى
النوم بخيال مفرد أو مركب فلا تزال تحاذى ما يرى هناك بمحاكاة مؤلفة من صور ومعان كان استثبات النفس فى ذاتها لما يراها أضعف من
استثبات المصورة والمتذكرة لما يورده التخيل ، فلم يثبت فى الذكر ما أرى من الملكوت
وثبت ما حكى به.
__________________
ويتفق كثيرا أن
يكون ما يرى من الملكوت شيئا كالرأس وكالابتداء ، فيستولى التخيل على النفس
استيلاء يصرفها عن استتمام ماتراه ، وتنتقل بعده انتقالا بعد انتقال لا تحاكى بتلك
الانتقالات شيئا مما يرى من الملكوت ، إذ ذلك قد انقطع ، فيكون هذا ضربا من
الرؤيا. إنما موضع العبارة منه شىء طفيف وباقيه أضغاث
أحلام ، فما كان من الرؤيا من الجنس الذى السلطان فيه للتخيل
فإنه يحتاج إلى عبارة ضرورة.
وربما رأى الإنسان
تعبير رؤياه فى رؤياه فيكون ذلك بالحقيقة تذكرا ، فإن القوة المفكرة كما أنها قد
تنتقل أولا من الأصل إلى الحكاية لمناسبة بينهما ، كذلك لا يبعد أن تنتقل عن
الحكاية إلى الأصل.
فكثيرا ما يعرض
لها أن تتخيل فعلها ذلك مرة أخرى فيرى كأن مخاطبا يخاطبه بذلك ، وكثيرا مّا لم يكن كذلك ، بل كان كأنها تعاين الشىء
معاينة صحيحة من غير أن تكون النفس اتصلت بالملكوت ، بل تكون محاكاة من المتخيلة
للمحاكاة فترجع إلى الأصل.
وهذا الضرب من
الرؤيا الصحيح قد يقع عن التخيل من غير معونة
__________________
قوة أخرى وإن كان
الأصل فيه ذلك فيرجع ، وربما حاكت هذه المحاكاة محاكاة أخرى فتحتاج إلى تعبير
المعبر مرة أخرى ، وهذه أشياء وأحوال لا تضبط.
ومن الناس من يكون
أصح أحلاما ، وذلك إذا كانت نفسه قد اعتادت الصدق وقهرت التخيل الكاذب
وأكثر من يتفق له أن يعبّر رؤياه فى رؤياه هو من كانت همته مشغولة بما رأى ، فإذا
نام بقى الشغل به بحاله ، فأخذت القوة المتخيلة تحاكيه بعكس ما حاكت أولا.
وقد حكى أن هرقل
الملك رأى رؤيا شغلت قلبه ولم يجد عند المعبرين ما يشفيه ، فلما نام بعد ذلك عبر
له فى منامه تلك الرؤيا ، فكانت مشتملة على إخبار عن أمور تكون فى العالم وفى خاص
مدينته ومملكته ، فلما دوّنت تلك الانذارات خرجت على نحو ما عبر له فى منامه ، وقد
جرّب مثل هذا فى غيره.
والذين يرون هذه
الأمور فى اليقظة :
منهم من يرى ذلك
لشرف نفسه وقوتها وقوة متخيلته ومتذكرته فلا
__________________
تشغلها المحسوسات
عن أفعالها الخاصة.
ومنهم من يرى ذلك
لزوال تميّزه ولأن النفس التى له منصرفة عن التميّز. ولذلك فإن تخيله قوىّ ، فهو
قادر على تلقى تلك الأمور الغيبية فى حال اليقظة. فإن النفس محتاجة فى تلقى فيض
الغيب إلى القوة الباطنة من وجهين : أحدهما ليتصور فيها المعنى الجزئى تصورا
محفوظا ، والثانى لتكون معينة لها متصرفة فى جهة إرادتها ، لا شاغلة إياها ، جاذبة
إلى جهتها ، فيحتاج إلى نسبة بين الغيب وبين النفس والقوة الباطنة المتخيلة ونسبة
بين النفس والقوة الباطنة المتخيلة فإن كان الحس يستعملها أو العقل يستعملها على
النحو العقلى الذى ذكرناه لم تفرغ لأمور أخرى ، مثل المرآة إذا شغلت عن جهة وحركت
نحو جهة فإن كثيرا من الأمور التى من شأنها أن ترتسم فى تلك المرآة مغافصة ومباغتة
لنسبة مّا بينهما لا ترتسم. وسواء كان هذا الشغل من الحس أو من ضبط العقل ، فإذا
فات أحدهما أو شك أن تتفق النسبة المحتاج إليها ما بين الغيب وبين النفس والقوة
المتخيلة ، وبين النفس وبين القوة المتخيلة ، فيلوح فيها اللائح على نحو ما يلوح.
ولأنا قد انتقل
بنا الكلام فى التخيل إلى أمر الرؤيا فلا بأس أن ندلّ يسيرا على المبدأ الذى تقع
الإنذارات فى المنام بأمور نضعها وضعا. وإنما يتبين لنا فى الصناعة التى هى
الفلسفة الأولى.
فنقول : إن معانى
جميع الأمور الكائنة فى العالم مما سلف ومما حضر ومما يريد أن يكون موجودة فى علم
البارىء والملائكة العقلية من جهة وموجودة فى أنفس الملائكة السماوية من جهة ،
وستتضح لك الجهتان فى موضع آخر.
وإن الأنفس
البشرية أشد مناسبة لتلك الجواهر الملكية منها للأجسام المحسوسة ، وليس هناك
احتجاب ولا بخل ، إنما الحجاب للقوابل إما لانغمارها فى الأجسام وإما لتدنسها
بالأمور الجاذبة إلى الجنبة السافلة. وإذا وقع لها أدنى فراغ من هذه الأفعال حصل
لها مطالعة لما ثمّ ، فيكون أولى ما تستثبته ما يتصل بذلك الإنسان أو بذويه أو
ببلده أو بإقليمه. فلذلك أكثر الأحلام الذى تذكر تختص بالإنسان الذى حلم بها وبمن
يليه ، ومن كانت همته المعقولات لا حت له. ومن كانت همته مصالح الناس رآها واهتدى
إليها ، وكذلك على هذا القياس.
وليست الاحلام
كلها صادقة ، او بحيث يجب أن يشتغل بها ، فإن القوة المتخيلة ليس كل محاكاتها إنما
تكون لما يفيض على النفس من الملكوت ، بل أكثر ما يكون منها ذلك إنما يكون إذا
كانت هذه القوة قد سكنت عن محاكاة أمور هى أقرب إليها.
والأمور التى هى
أقرب إليها منها طبيعية ، ومنها إرادية.
فالطبيعية هى التى
تكون من ممازجة قوى الأخلاط للروح التى تمتطيها القوة المصورة والمتخيلة ، فإنها أول شىء إنما تحكيها وتشتغل بها. وقد تحكى
أيضا آلاما تكون فى البدن وأعراضا فيه ، مثل ما يكون عندما تتحرك القوة الدافعة
للمنى إلى الدفع ، فإن المتخيلة حينئذ تحاكى صورا من شأن النفس أن تميل إلى
مجامعتها ، ومن كان به جوع حكى له مأكولات ، ومن كان به حاجة إلى دفع فضل حكى له
موضع ذلك ، ومن
__________________
عرض لعضو منه أن
سخّن أو برد بسبب حر أو برد حكى له أن ذلك العضو منه موضوع فى نار أو فى ماء بارد.
ومن العجائب أنه
كما يعرض من حركة الطبيعة لدفع المنى تخيل مّا ، كذلك ربما عرض تخيل مّا لصورة
مشتهاة بسبب من الأسباب ، فتنبعث الطبيعة إلى جمع المنى وإرسال الريح الناشرة لآلة
الجماع وربما قذفت المنىّ ، وقد يكون هذا فى النوم واليقظة جميعا وإن لم يكن هناك
هيجان وشبق.
وأما الإرادية فان
يكون فى همة النفس وقت اليقظة شىء تنصرف النفس إلى تأمّله وتدبّره ، فإذا نام أخذت
المتخيلة تحكى ذلك الشىء وما هو من جنس ذلك الشىء ، وهذا هو من بقايا الفكر التى
تكون فى اليقظة ، وهذه كلها أضغاث أحلام. وقد تكون أيضا من تأثيرات الأجرام
السماوية ، فإنها قد توقع بحسب مناسباتها ومناسبات نفوسها صورا فى التخيل بحسب
الاستعداد ليست عن تمثل شىء من عالم الغيب والإنذار.
وأما الذى يحتاج
أن يعبّر وأن يتأول فهو ما لم ينسب إلى شىء من هذه الجملة ، فيعلم أنه قد وقع من
سبب خارج وأن له دلالة مّا ، فلذلك لا يصح فى الأكثر رؤيا الشاعر والكذاب والشرير
والسكران والمريض والمغموم ومن غلب عليه سوء مزاج أو فكر.
ولذلك أيضا إنما
يصح من الرؤيا فى أكثر الأمر ما كان فى وقت السحر ، لأن الخواطر كلها تكون فى هذا
الوقت ساكنة ، وحركات الأشباح تكون قد هدأت. وإذا كانت القوة المتخيلة فى حال
النوم فى مثل هذا الوقت غير مشغولة بالبدن ولا مقطوعة عن الحافظة والمصورة ، بل
متمكنة منهما ،
فبالحرى أن تحسن خدمتها للنفس فى ذلك ، لأنها تحتاج لا محالة فيما يرد عليها. من
ذلك أن ترتسم صورته فى هذه القوى ارتساما صالحا
إما هى بأنفسها وإما محاكياتها.
ويجب أن يعلم أن
أصح الناس أحلاما أعدلهم أمزجة.
فإن اليابس المزاج
وإن كان يحفظ جيدا فإنه لا يقبل جيدا.
والرطب المزاج وإن
كان يقبل سريعا فإنه يترك سريعا فيكون كأنه لم يقبل ولم يحفظ جيدا.
والحار المزاج
متشوش الحركات.
والبارد المزاج
بليد.
وأصحهم من اعتاد
الصدق.
فإن عادة الكذب
والأفكار الفاسدة تجعل الخيال ردىء الحركات غير مطاوع لتسديد النطق ، بل يكون حاله حال خيال من فسد مزاجه إلى تشويش.
[ فى النوم واليقظة ]
وإذا كان هذا مما يتعلق بالنوم واليقظة ، فيجب أن ندل هاهنا
__________________
باختصار على أمر
النوم واليقظة. فنقول :
إن اليقظة حالة
تكون النفس فيها مستعملة للحواس أو للقوى المحركة من ظاهر بالإرادة التى لا ضرورة
إليها ، فيكون النوم عدم هذه الحالة ، وتكون النفس فيه قد أعرضت عن الجهة الخارجة
إلى الجهة الداخلة وإعراضها لا يخلو من أحد وجوه : إما أن يكون لكلال عرض لها من
هذه الجهة. وإما أن يكون لمهمّ عرض لها فى تلك الجهة. وإما أن يكون لعصيان الآلات
إياها.
والذى يكون من
الكلال هو أن يكون الشىء الذى يسمى روحا وتعرفه فى موضعه قد تحلل وضعف فلا يقدر
على الانبساط فيغور وتتبعه القوى النفسانية. وهذا الكلال قد يعرض من
الحركات البدنية وقد يعرض من الأفكار وقد يعرض من الخوف. فإن الخوف قد يعرض منه
النوم ، بل الموت.
[ سبب تنويم الافكار ]
وربما كانت
الأفكار تنوّم لا من هذه الجهة ، بل بأن تسخّن الدماغ
__________________
فتنجذب الرطوبات
إليه فيمتلىء الدماغ فينوّم بالترطيب .
والذى لمهم فى
الباطن هو أن يكون الغذاء والرطوبات قد اجتمعت من داخل فتحتاج إلى أن يقصدها الروح
بجميع الحار العزيزى ليفى بهضمها التام فيتعطّل الخارج.
والذى يكون من جهة
الآلات فأن تكون الأعصاب قد امتلأت وانسدت من أبخرة وأغذية تنفذ فيها إلى أن تنهضم ، والروح ثقلت من الحركة
لشدة الترطيب.
وتكون اليقظة
لأسباب مقابلة لهذه. من ذلك أسباب يجفّف مثل الحرارة واليبوسة ، ومن ذلك جمام وراحة حصلت ، ومن ذلك فراغ عن الهضم فتعود الروح منتشرة كثيرة ، ومن ذلك حالة
ردّية تشغل النفس عن الغور ، بل تستدعيها إلى خارج كغضب أو خوف لأمر قريب أو
مقاساة لمادّة مؤلمة. وهذا قد دخل فيما نحن فيه بسبيل العرض ، وإن
كان من حق النوم واليقظة أن يتكلم فيه فى عوارض ذى الحس.
__________________
الفصل الثالث
فى أفعال القوى المتذكرة
والوهمية
وفى أن أفعال هذه القوى
كلها بآلات جسمانية
كأنا قد استقصينا
القول فى حال المتخيلة والمصورة. فيجب أن نتكلم فى حال المتذكرة ، وما بينها وبين
المفكرة ، وفى حال الوهم ، فنقول :
إن الوهم هو
الحاكم الأكبر فى الحيوان ، ويحكم على سبيل انبعاث تخيلى من غير أن يكون ذلك محققا
؛ وهذا مثل ما يعرض للإنسان من استقذار العسل لمشابهته المرارة ، فإن الوهم يحكم بأنه فى حكم ذلك ، وتتبع النفس ذلك الوهم وإن كان العقل
يكذبه. والحيوانات وأشباهها من الناس إنما يتبعون فى أفعالهم هذا الحكم من الوهم
الذى لا تفصيل منطقيا له ، بل هو على سبيل انبعاث مّا فقط ، وإن كان الإنسان قد
يعرض لحواسه وقواه بسبب مجاورة النطق ما يكاد أن تصير قواه الباطنة نطقية مخالفة
للبهائم. فلذلك يصيب من فوائد الأصوات المؤلفة والألوان
__________________
المؤلفة والروائح
والطعوم المؤلفة ومن الرجاء والتمنى أمورا لا تصيبها
الحيوانات الأخرى ، لأن نور النطق كأنه فائض سائح على هذه القوى. وهذا التخيل أيضا الذى للإنسان قد صار موضوعا للنطق بعد ما
أنه موضوع للوهم فى الحيوانات ، حتى أنه ينتفع به فى العلوم وصار ذكره أيضا نافعا
فى العلوم كالتجارب التى تحصل بالذكر والأرصاد الجزئية وغير ذلك.
ونرجع إلى حديث
الوهم. فنقول : إن من الواجب أن يبحث الباحث ويتأمل أن الوهم الذى لم يصحبه العقل
حال توهمه كيف ينال المعانى التى هى فى المحسوسات عندما ينال الحس صورتها من غير
أن يكون شىء من تلك المعانى يحس ومن غير أن يكون كثير منها مما ينفع ويضر فى تلك
الحال.
فنقول : إن ذلك
للوهم من وجوه : من ذلك الإلهامات الفائضة على الكل من الرحمة الإلهية ، مثل حال الطفل ساعة يولد فى تعلقه
__________________
بالثدى ، ومثل حال
الطفل إذا أقلّ وأقيم فكاد يسقط من مبادرته إلى أن يتعلق بمستمسك لغريزة
جعلها فيه الإلهام الإلهى ، وإذا تعرض لحدقته بالقذى بادر فأطبق جفنيه قبل فهم ما يعرض له وما ينبغى أن يفعل بحسبه كأنه غريزة
لنفسه لا اختيار معه وكذلك للحيوانات إلهامات غريزية ، والسبب فى ذلك مناسبات
موجودة بين هذه الأنفس ومبادئها هى دائمة لا تنقطع غير المناسبات التى يتفق أن
تكون مرة وأن لا تكون ، كاستعمال العقل وكخاطر
الصواب ، فإن الأمور كلها من هناك. وهذه الإلهامات يقف بها الوهم على المعانى
المخالطة للمحسوسات فيما يضر وينفع ، فيكون الذئب تحذره كل شاة وإن لم تره قط ولا
أصابتها منه نكبة ، وتحذر الأسد حيوانات كثيرة ، وجوارح الطير يحذرها سائر الطير وتشنّع عليها الطير
الضعاف من غير تجربة ؛ فهذا قسم.
وقسم آخر يكون
لشىء كالتجربة ، وذلك أن الحيوان إذا أصابه ألم أو لذة أو وصل إليه نافع حسى أوضار
حسى مقارنا لصورة حسية ، فارتسم فى المصورة صورة الشىء وصورة ما يقارنه ، وارتسم
فى الذكر
__________________
معنى النسبة
بينهما والحكم بينهما فإن الذكر لذاته وبجبلّته ينال ذلك. فإذا لاح للمتخيلة تلك الصورة من خارج تحركت فى المصورة وتحرك معها
ما قارنها من المعانى النافعة أو الضارة ، وبالجملة المعنى الذى فى الذكر على سبيل
الانتقال والاستعراض الذى فى طبيعة القوة المتخيلة فأحس الوهم بجميع ذلك معا فرأى
المعنى مع تلك الصورة ، وهذا هو على سبيل يقارب التجربة ، ولهذا تخاف الكلاب المدر
والخشب وغيرها.
وقد تقع للوهم
أحكام أخرى بسبيل التشبيه بأن تكون للشىء صورة تقارن معنى وهميا فى بعض المحسوسات
وليس تقارن ذلك دائما وفى جميعها ، فيلتفت مع وجود تلك الصورة إلى معناها ، وقد
تخلف.
فالوهم حاكم فى
الحيوان يحتاج فى أفعاله إلى طاعة هذه القوى له ، وأكثر ما يحتاج إليه هو الذكر
والحس ؛ وأما المصورة فيحتاج إليها بسبب الذكر والتذكر.
[ الفرق بين الذكر والتذكر ]
والذكر قد يوجد فى سائر الحيوانات ، وأما التذكر وهو الاحتيال لاستعادة ما اندرس فلا
يوجد على ما أظن إلا فى الإنسان ، وذلك انّ الاستدلال على أن شيئا كان فغاب إنما يكون للقوة النطقية ، وإن كان
__________________
لغير النطقية فعسى
أن يكون للوهم المزين بالنطق. فسائر الحيوانات إن ذكرت ذكرت ، وإن لم تذكر لم تشتق
إلى التذكر ، ولم يخطر لها ذلك بالبال ، بل إن هذا الشوق والطلب هو للإنسان.
والتذكر هو مضاف
إلى أمر كان موجودا فى النفس فى الزمان الماضى ، ويشاكل التعلم من جهة ويخالفه من
جهة. أما مشاكلته للتعلم فلأن التذكر انتقال من أمور تدرك ظاهرا أو باطنا إلى امر
غيرها ، وكذلك التعلم فإنه أيضا انتقال من معلوم إلى مجهول ليعلم ، لكن التذكر هو
طلب أن يحصل فى المستقبل مثل ما كان حاصلا فى الماضى ، والتعلم ليس إلا أن يحصل فى
المستقبل شىء آخر.
وأيضا فإن التذكر
ليس يصار إلى الغرض فيه من أشياء توجب ضرورة حصول الغرض ، بل على سبيل علامات إذا
حصل أقربها من الغرض انتقلت النفس إلى الغرض فى مثل تلك الحال ، ولو كانت الحال غير ذلك لم يجب ـ وإن أخطر صورة الأقرب أو معناه ـ أن تنتقل
، كمن يخطر بباله كتاب بعينه فتذكر منه معلّمه الذى قرأ عليه ذلك الكتاب. وليس يجب
من إخطار صورة ذلك الكتاب بالبال وإخطار معناه أن يخطر ذلك المعلم بالبال لكل
إنسان. وأما العلم فإن السبيل. الموصلة إليه ضرورية النقل إليه وهو القياس والحد.
ومن الناس من يكون
التعلم أسهل عليه من التذكر ، لأنه يكون مطبوعا على ضروريات النقل ومن الناس من
يكون بالعكس ومن الناس من يكون شديد الذكر ضعيف التذكر ، وذلك لأنه يكون يابس
المزاج
__________________
فيحفظ ما يأخذه ،
ولا يكون حرك النفس مطاوع المادة لأفعال التخيل واستعراضاته ومن الناس من يكون
بالعكس. وأسرع الناس تذكرا أفطنهم للإشارات ، فإن الإشارات تفعل نقلا عن المحسوسات
إلى معان غيرها ، فمن كان فطنا فى الإشارات كان سريع التذكر. ومن الناس من يكون
قوى الفهم ولكن يكون ضعيف الذكر ويكاد أن يكون الأمر فى الفهم والذكر بالتضاد ،
فإن الفهم يحتاج إلى عنصر للصور الباطنة شديد الانطباع ، وإنما تعين عليه الرطوبة
، وأما الذكر فيحتاج إلى مادة يعسر انفساخ ما يتصور فيها ويتمثل ، وذلك يحتاج إلى
مادة يابسة ، فلذلك يصعب اجتماع الأمرين.
فأكثر من يكون
حافظا هو الذى لا تكثر حركاته ولا تتفنن هممه ، ومن كان كثير الهمم كثير الحركات
لم يذكر جيدا ، فيحتاج الذكر مع المادة المناسبة إلى أن تكون النفس مقبلة على
الصورة وعلى المعنى المستثبتين إقبالا بالحرص غير مأخوذة عنهما باشتغال آخر ، ولذلك كان الصبيان مع رطوبتهم يحفظون جيدا ، لأن نفوسهم
غير مشغولة بما تشتغل به نفوس البالغين ، فلا تذهل عما هى مقبلة عليه بغيره. وأما
الشبان فلحرارتهم واضطراب حركاتهم مع يبس مزاجهم لا يكون ذكرهم كذكر الصبيان
والمترعرعين ، والمشايخ أيضا يعرض لهم من الرطوبة الغالبة أن لا يذكروا
ما يشاهدون.
وقد يعرض مع
التذكر من الغضب والحزن والغم وغير ذلك ما يشاكل
__________________
حال وقوع الشىء ، وذلك أنه لم يكن سبب وقوع الغم والحزن والغضب فيما مضى إلا انطباع هذه
الصورة فى باطن الحواس ، فإذا عادت فعلت ذلك أو قريبا منه ، والأمانى والرجاء تفعل
ذلك ، والرجاء غير الأمنية ، فإن الرجاء تخيل أمر مّا مع حكم أو ظن بأنه فى الأكثر
كائن ، وأما الأمنية فهى تخيل أمر وشهوته والحكم بالتذاذ يكون إن كان ، والخوف
مقابل الرجاء على سبيل التضاد ، واليأس عدمه ، وهذه كلها تكون أحكاما للوهم .
فلنقتصر الآن على
ما قلناه من أمر القوى المدركة الحيوانية ، ولنبين أنها كلها تفعل افعالا بالآلات ، فنقول : أما المدرك من القوى للصور الجزئية الظاهرة على هيئة
غير تامّة التجريد والتفريد عن المادة ولا مجردة أصلا عن علائق المادة كما تدركه
الحواس الظاهرة ، فالأمر فى احتياج إدراكه إلى آلات جسمانية واضح سهل. وذلك لأن
هذه الصور إنما تدرك
__________________
ما دامت المواد
حاضرة موجودة ، والجسم الحاضر الموجود إنما يكون حاضرا موجودا عند جسم ، وليس يكون
حاضرا مرة وغائبا أخرى عند ما ليس بجسم ، فإنه لا نسبة له إلى قوة مفرّدة من جهة
الحضور والغيبة. فإن الشىء الذى ليس فى مكان لا تكون للشىء المكانى إليه نسبة فى
الحضور عنده والغيبة عنه ، بل الحضور لا يقع إلا على وضع او بعد للحاضر عند
المحضور. وهذا لا يمكن إذا كان الحاضر جسما إلا أن يكون المحضور جسما أو فى جسم.
وأما المدرك للصور
الجزئية على تجريد تام من المادة وعدم تجريد ألبتة من العلائق المادية كالخيال
فيحتاج أيضا إلى آلة جسمانية ، فإن الخيال لا يمكنه أن يتخيل إلا أن ترتسم الصورة
الخيالية فيه ارتساما مشتركا بينه وبين الجسم ؛ فإن الصورة المرتسمة فى الخيال
من صورة شخص زيد على شكله وتخطيطه ووضع أعضائه بعضها عند بعض التى تتميز فى الخيال
كالمنظور إليها لا يمكن أن تتخيل على ما هى عليه إلا أن تلك الأجزاء والجهات من
أعضائه يجب أن ترتسم فى جسم وتختلف جهات تلك الصورة فى جهات ذلك الجسم وأجزاؤها فى
أجزائه.
ولننقل صورة زيد
إلى صورة مربع ا ب ج د المحدود المقدار والجهة والكيفية واختلاف الزوايا بالعدد ،
وليكن متصلا بزاويتى ا ب منه مربعان كل واحد منهما مثل الآخر ، ولكل واحد جهة
معينة ولكنهما متشابها الصورة ، فترتسم من الجملة صورة شكل مجنح جزئى واحد بالعدد
مقرّر فى الخيال.
__________________
فنقول : إن مربع « ا ه ر و» وقع غيرا بالعدد لمربع « ب ـ ح ـ ط ـ ى » ووقع فى الخيال منه بجانب
اليمين متميزا عنه بالوضع المتخيل المشار إليه فى الخيال فلا يخلو إما أن يكون
لصورة المربعية لذاتها أو لعارض خاص له فى المربعية غير صورة المربعية ، أو يكون
للمادة التى هى منطبعة فيها .
ولا يجوز أن تكون
مغايرته له من جهة صورة المربعية ، وذلك انّا فرضناهما متشاكلين متشابهين
متساويين. ولا يجوز أن يكون ذلك لعارض يخصه.
أما أولا فإنا لا
نحتاج الى تخيله يمينا إلى إيقاع عارض فيه ليس فى ذلك غير جهات المادة.
وأما ثانيا فإن
ذلك العارض إما أن يكون شيئا فيه نفسه لذاته أو
__________________
يكون شيئا له
بالقياس إلى ما هو شكله فى الموجودات حتى يكون كأنه
شكل منزوع عن موجود هو لهذا الخيال ، أو يكون شيئا له بالقياس إلى المادة الحاملة.
ولا يجوز أن يكون شيئا له فى نفسه من العوارض التى تخصه ، لأنه إما أن يكون لازما
أو زائلا.
ولا يجوز أن يكون
لازما له بالذات إلا وهو لازم لمشاركه فى النوع ، فإن المربّعين وضعا متساويين فى
النوع فلا يكون لهذا عارض لازم ليس لذلك.
وأيضا فإنه لا
يجوز إن كان هو فى قوة غير متجزئة تجزّئ القوى الجسمانية أن يعرض له شىء دون الآخر الذى هو مثله ومحلهما واحد غير متجزئ وهو القوة القابلة.
ولا يجوز أن يكون زائلا ، لأنه يجب إذا زال ذلك الأمر أن تتغير صورته فى الخيال ،
فيكون الخيال أنما يتخيله كما هو لأنه يقرن به ذلك الأمر ، فإذا زال تغير ، و الخيال إنما يتخيله هكذا لا بسبب شىء يقرنه به ، بل يتخيله كذلك كيف كان ،
ولا إلى الخيال أن يلحق بالآخر هذا العارض فيجعله كالأول ، بل مادام موجودا فيه
يكون كذلك ويعتبره الخيال كذلك من غير التفات إلى أمر آخر يقرنه به.
ولهذا لا يجوز أن
يقال : إنّ فرض الفارض جعله بهذه الحال ، كما يجوز أن يقال فى مثله فى المعقولات ، وذلك لأن الكلام يبقى بحاله فيقال ما الذى فعله الفارض حتى خصصه بهذه الحال
متميزا عن الثانى.
__________________
وأما فى الكلى
فهناك أمر يقرنه به العقل وهو حد التيامن أو حد التياسر ، فإذا قرن بمربع حد
التيامن صار بعد ذلك متيامنا ، والحد إنما يكون لأمر معقول كلى وفى مثله يصح لأنه
أمر فرضى يتبع الفرض فى التصور. وأما هذا الجزئى الذى ليس يكون بالفرض ، بل إنما
تتصور فى الخيال صورة عن محسوس من غير اختلاف فتثبت منظورا إليها متخيلة بعينها ،
فليس يمكن أن يوجد له هذا الحد دون صاحبها إلا لأمر به يستحق زيادة هذا الحد دون صاحبها ،
ولا الخيال يفرضها كذلك بشرط يقرنه بها ، بل يتخيلها كذلك دفعة على أنها فى نفسها
كذلك لا بفرضه فيتخيل هذا المربع يمينا وذلك يسارا ، لا بسبب شرط يقرن بذلك وبهذا
، وبعد لحوقه يفرض ذلك يمينا وهذا يسارا. وأما فى صقع العقل فإن حد التيامن وحد
التياسر يلحق المربع ـ وهو مربع لم يعرض له شىء آخر ـ لحوق الكلى بالكلى ، فإنه
يجوز أن يثبت فى العقل كلى من غير إلحاق شىء به ، ويكون معدّا لأن يلحق به ما
يلحق.
وأما الخيال فما
لم يتشخص المعنى فيه بما يتشخص به لم يتمثل للخيال ، فلذلك يجوز أن يكون فى سلطان
العقل أن يقرن معنى بمعنى على سبيل الفرض .
وأما الخيال فما
لم يقع للتمثل فيه وضع محدود جزئى لم يرتسم فى الخيال ، ولا كان شيئا
يجرى عليه فرض. فقد بطل أن يكون هذا التمييز
__________________
بسبب عارض فى ذاته
لازم أو غير لازم فى ذاته أو مفروض .
فنقول : ولا يجوز
أن يكون بالقياس إلى الشىء الموجود الذى هو خياله ،
وذلك لأنه كثيرا ما يتخيل ما ليس بموجود.
وأيضا فإن وقع
لأحد المربعين نسبة إلى جسم وللمربع الآخر نسبة أخرى ، فليس يجوز أن تقع ومحلهما غير منقسم ، فإنه ليس أحد المربعين الخياليين
أولى بأن ينسب إلى أحد المربعين الخارجين من الآخر إلا أن يكون قد وقع هذا فى نسبة
من الجسم الموضوع له الحامل إياه إلى أحد الخارجين لا يقع الآخر فيها. فيكون إذن
محل هذا غير محل ذلك ،
__________________
وتكون القوة
منقسمة ولا تنقسم بذاتها ، بل بانقسام ما فيها فتكون جسمانية. وتكون الصورة مر
تسمة فى الجسم ، فليس يصح أن يفترق المربعان فى الخيال لافتراق المربعين
الموجودين وبالقياس إليهما ، فبقى أن يكون ذلك إما بسبب افتراق الجزئين فى القوة
القابلة أو الجزئين من الآلة التى بها تفعل القوة.
وكيف كان ، فإن
الحاصل من هذا القبيل أن الإدراك إنما يتم بقوة متعلقة بمادة جسمانية. فقد اتضح أن
الإدراك الخيالى هو أيضا إنما يتم بجسم.
ومما يبيّن ذلك
أنا نتخيّل الصورة الخيالية كصورة الناس مثلا أصغر أو أكبر كأنّا ننظر إليهما. ولا
محالة أنها ترتسم وهى أكبر ، وترتسم وهى أصغر فى شىء لا فى مثل ذلك الشىء بعينه ،
لأنها إن ارتسمت فى مثل ذلك الشىء فالتفاوت فى الصغر والكبر إما أن يكون بالقياس
إلى المأخوذ عنه الصورة وإما بالقياس إلى الآخذ وإما لنفس الصورتين.
ولا يجوز أن يكون
بالقياس إلى المأخوذ عنه الصورة ، فكثيرا من الصور الخيالية غير مأخوذة عن شىء
ألبتة ، وربما كان الصغير والكبير صورة شخص واحد.
ولا يجوز أن يكون
بسبب الصورتين فى أنفسهما فإنهما لما اتفقتا فى الحد والماهية واختلفتا فى الصغر
والكبر فليس ذلك لنفسيهما ، فإذن ذلك بالقياس إلى الشىء القابل ، ولأن الصورة تارة
ترتسم فى جزء منه أكبر وتارة فى جزء منه أصغر.
__________________
وأيضا فإنه ليس
يمكننا نتخيل السواد والبياض فى شبح خيالى واحد ساريين فيه معا ،
ويمكننا ذلك فى جزئين منه يلحظهما الخيال مفترقين. ولو كان الجزءان لا يتميزان فى
الوضع ، بل كان كلا الخيالين يرتسمان فى شىء غير منقسم ، لكان لا يفترق الأمر بين
المتعذر منهما والممكن. فإذن الجزءان متميزان فى الوضع والخيال يتخيلهما متميزين
فى جزئين.
فإن قال قائل :
وكذلك العقل ، فنجيبه ونقول : إن العقل يعقل السواد والبياض معا فى زمان واحد من
حيث التصور ، وأما من حيث
__________________
التصديق فيمتنع أن
يكون موضوعهما واحدا. وأما الخيال فلا يتخيلهما معا لا على قياس التصور ولا على
قياس التصديق. على أن فعل الخيال إنما هو على قياس التصور لا غير ، ولا فعل له فى
غيره.
ولمّا علمت هذا فى
الخيال ، فقد علمت فى الوهم الذى ما يدركه إنما يدركه متعلقا بصورة جزئية خيالية
على ما أوضحناه.
الفصل الرابع
فى أحوال القوى المحركة
وضرب من النبوة المتعلقة بها
وإذ قلنا فى القوى
المدركة من قوى النفس الحيوانية فخليق بنا أن نتكلم فى القوى المحركة منها فنقول :
إن الحيوان ما لم
يشتق اشتياقا إلى شىء شعر باشتياقه أو تخيله أو لم يشعر به ، لم ينبعث إلى طلبه
بالحركة. وليس ذلك الشوق هو لشىء من القوى المدركة ، فليس لتلك القوى إلا الحكم
والإدراك ، وليس يجب إذا حكم أو أدرك بحس أو وهم أن يشتاق الى ذلك الشىء ، فإن
الناس
__________________
يتفقون فى إدراك
ما يحسون ويتخيلون من حيث يحسون ويتخيلون ، لكن يختلفون فيما يشتاقون إليه مما
يحسون ويتخيلون. والإنسان الواحد قد يختلف حاله فى ذلك ، فإنه يتخيل الطعام
فيشتاقه فى وقت الجوع ولا يشتاقه فى وقت الشبع.
وأيضا فإن الحسن
الأخلاق إذا تخيل اللذات المستكرهة لم يشتقها ، والآخر يشتاقها. وليس هذان الحالان
للإنسان وحده ، بل وللحيوانات كلها.
والشوق قد يختلف :
فمنه ما يكون ضعيفا بعد. ومنه ما يشتد حتى يوجب الإجماع. والإجماع ليس هو الشوق
فقد يشتد الشوق إلى الشىء فلا يجمع على الحركة ألبتة ، كما أن التخيل يقوىّ فلا
يشتاق إلى ما يتخيل ، فإذا صحّ الإجماع أطاعت القوى المحركة التى ليس لها إلا
تشنّج العضل وإرسالها. وليس هذا نفس الشوق ولا الإجماع ، فإن الممنوع من الحركة لا
يكون ممنوعا من شدة الشوق ومن الإجماع ، لكنه لا يجد طاعة من القوى الأخرى التى
لها أن تحرك فقط ، وهى التى فى العضل.
وهذه القوة
الشوقية من شعبها القوة الغضبية والقوة الشهوانية. فالتى تنبعث مشتاقة إلى اللذيذ
والمتخيل نافعا لتجلبه هى الشهوانية ، والتى تنبعث مشتاقة إلى الغلبة وإلى المتخيل
منافيا لتدفعه فهى الغضبية.
وقد نجد فى
الحيوانات انبعاثات لا إلى شهواتها ، بل مثل نزاع التى ولدت إلى ولدها والذى ألف الى إلفه ، وكذلك اشتياقها إلى الانفلات من
الأقفاص والقيود ، فهذا وإن لم يكن شهوة للقوة الشهوانية فإنه اشتياق
__________________
مّا إلى شهوة
للقوة الخيالية. فإن القوة المدركة تخصّها فيما تدرك وفيما تنقلب فيه من الأمور
التى تتجدد بالمشاهدة أو من الصور مثلا لذة تخصها ، فإذا تألّمت بفقدانها اشتاقت
إليها طبعا ، فأجمعت القوة الإجماعية على أن تحرّك إليها الآلات كما تجمع لأجل
الشهوة والغضب ، ولأجل الجميل من المعقولات أيضا. فيكون للشهوة اشتداد الشوق إلى
اللذيذ ، وللقوة النزوعية الإجماع ، وللغضب اشتداد الشوق إلى الغلبة ، وللقوة
النزوعية الإجماع ، وكذلك للمتخيل أيضا ما يخصّه وللقوة النزوعية الإجماع.
والخوف والغم
والحزن عن عوارض القوة الغضبية بمشاركة من القوى الدراكة ، فإنها إذا
انخزلت اتباعا لتصور عقلى أو خيالى كان خوف ، وإذا لم تخف قويت :
ويعرض لها الغم من الذى يوجب الغضب إذا كان غير مقدور على دفعه أو كان
مخوفا وقوعه.
والفرح الذى من
باب الغلبة فإنه غاية لهذه القوة أيضا. والحرص
__________________
والنهم والشهوة والشبق وما أشبه ذلك فهى للقوة البهيمية الشهوانية. والاستيناس
والسرور من عوارض القوى الدراكة.
وأما القوى
الإنسانية فتعرض لها أحوال تخصها سنتكلم فيها بعد.
والقوى الإجماعية
تتبع للقوى المذكورة ، فإنها إذا اشتد نزاعها أجمعت وهى كلها تتبع أيضا القوة
الوهمية ، وذلك أنه لا يكون شوق ألبتة إلا بعد توهم المشتاق إليه وقد يكون وهم ،
ولا يكون شوق. لكنه قد يتفق أحيانا لآلام بدنية تتحرك الطبيعة إلى دفعها أن توجب
تلك الحركة انبعاث التوهم ، فتكون تلك القوى سائقة للتوهم إلى مقتضاها ، كما أن
اكثر التوهم فى أكثر الأمر يسوق القوى إلى المتوهم ، فالوهم له السلطان فى حيز
القوى المدركة فى الحيوانات ، والشهوة والغضب لهما السلطان فى حيز القوى المحركة
وتتبعهما القوة الإجماعية ثم القوى المحركة التى فى العضل.
فنقول الآن : إن
هذه الأفعال والأعراض هى من الاعراض التى تعرض للنفس
وهى فى البدن ولا تعرض بغير مشاركة البدن ، ولذلك فإنها تستحيل معها أمزجة
الأبدان. وتحدث هى أيضا مع حدوث أمزجة الأبدان ، فإن بعض الأمزجة يتبعه الاستعداد
للغضب ، وبعض الأمزجة يتبعه الاستعداد للشهوة ، وبعض الأمزجة يتبعه الجبن والخوف.
ومن الناس من سجيته سجية مغضب فيكون سريع الغضب ، ومن الناس من يكون كأنه
مذعور مرعوب فيكون جبانا مسرعا إليه الرعب. فهذه
__________________
الأحوال لا تكون
إلا بمشاركة البدن.
والأحوال التى
للنفس بمشاركة البدن على أقسام :
منها ما يكون
للبدن أولا ولكن يكون لأجل أنه ذو نفس.
ومنها ما يكون
للنفس أولا ولكن لأجل أنها فى بدن.
ومنها ما يكون
بينهما بالسوية. فالنوم واليقظة والصحة والمرض أحوال هى للبدن ومبادئها منه ، فهى
له أولا ، ولكن إنما هى للبدن بسبب أن له نفسا.
وأما التخيل
والشهوة والغضب وما يجرى هذا المجرى فإنها للنفس من جهة ما هى ذات بدن ، وللبدن من
جهة أنها لنفس البدن أولا ، وإن كان من جهة ما ان النفس ذو بدن ، لست أقول من قبل
البدن.
وكذلك الغم والهمّ
والحزن والذكر وما أشبه ذلك ، فإن هذه ليس فيها ما هو عارض للبدن من حيث هو بدن ،
ولكن هذه أحوال شىء مقارن للبدن لا تكون إلا عند مقارنة البدن ، فهى للبدن من قبل
النفس ، إذ هى للنفس أولا وإن كانت للنفس من قبل ما هى ذات بدن ، لست أقول من قبل
البدن.
وأما الألم من
الضرب ومن تغير المزاج فإن العارض فيه موجود فى البدن ، لأن تفرق الاتصال والمزاج
من أحوال البدن من جهة ما هو بدن ، وأيضا موجود فى الحس الذى يحسه من جهة ما يحسه
ولكن بسبب البدن. ويشبه أن يكون الجوع والشهوة من هذا القبيل.
وأما التخيل
والخوف والغم والغضب فإن الانفعال الذى يعرض له يعرض أوّلا للنفس ، وليس الغضب
والغم من حيث هو غضب وغم انفعالا من الانفعالات المؤلمة للبدن ، وإن كان يتبعه انفعال
بدنى مؤلم
للبدن ، مثل
اشتعال حرارة أو خمودها وغير ذلك. فإن ذلك ليس نفس الغضب والغم ، بل هو أمر يتبع
الغضب والغم.
ونحن لا نمنع أن
يكون أمر الأخلق به أن يكون للنفس من حيث هى فى بدن ثم تتبعه فى البدن انفعالات
خاصة بالبدن ، فإن التخيل أيضا من حيث كونه إدراكا ليس هو من الانفعالات التى تكون
للبدن بالقصد الأول ، ثم قد يعرض من التخيل أن ينتشر بعض الأعضاء ، وليس ذلك بسبب
طبيعى أوجب أن مزاجا قد استحال وحرارة قويت وبخارا تكوّن ونفذ فى بعض العضو حتى
نشره ، بل لما حصلت صورة فى وهم أو جبت الاستحالة فى مزاج او حرارة ورطوبة وريحا ،
لولا تلك الصورة لم يكن فى الطبيعة ما يحركها.
ونحن نقول بالجملة
إن من شأن النفس أن تحدث منها فى العنصر البدنى استحالة مزاج تحصل من غير فعل
وانفعال جسمانى فتحدث حرارة لا عن حار ، وبرودة لا عن بارد.
بل إذا تخيلت
النفس خيالا وقوى فى النفس لم يلبث أن يقبل العنصر البدنى صورة مناسبة لذلك أو
كيفية. وذلك لأن النفس من جوهر بعض المبادئ التى هى تلبس المواد ما فيها من الصور
المقومة لها ، إذا هى أقرب مناسبة لذلك الجوهر من غيره ، وذلك إذا استتم استعدادها
لها . وأكثر استعداداتها إنما تكون بسبب استحالات فى الكيف ؛
كما قلنا فيما سلف ، وإنما تستحيل فى الأكثر عن أضداد تحيلها.
فإذا كانت هذه
المبادئ قد تكسو العنصر صورة مقومة لنوع طبيعى
__________________
لنسبة ممّا تتقرر
بينهما ، فلا يبعد أيضا أن تكسوها الكيفيات من غير حاجة إلى أن تكون هناك مماسة
وفعل وانفعال جسمانى يصدر عن مضادة.
بل الصورة التى فى
النفس هى مبدأ لما يحدث فى العنصر ، كما أن الصورة الصحيّة التى فى نفس الطبيب
مبدأ لما يحدث من البرء ، وكذلك صورة السرير فى ذات النجار لكنه من المبادئ التى
لا تنساق إلى إصدار ما هو موجب له إلا بآلات ووسائط ، وإنما تحتاج إلى هذه الآلات لعجز
وضعف وتأمل حال المريض الذى توهم أنه قد صح والصحيح الذى توهم أنه مرض ، فإنه
كثيرا ما يعرض من ذلك أن يكون إذا تأكدت الصورة فى نفسه وفى وهمه انفعل منها عنصره
فكانت الصحة أو المرض ، ويكون ذلك أبلغ مما يفعله الطيب بآلات
ووسائط. ولهذا السبب ما يمكن الإنسان مثلا أن يعدو على جذع ملقى فى القارعة من الطريق وإن كان موضوعا كالجسر وتحته هاوية لم يجسر أن يمشى
عليها دبيبا إلا بالهوينا ، لأنه يتخيل فى نفسه صورة السقوط تخيلا قويا
جدا فتجيب إلى ذلك طبيعته وقوة أعضائه ولا تجيب إلى ضده من الثبات والاستمرار.
فالصور إذا استحكم
وجودها فى النفس الكلية واعتقاد أنها يجب أن توجد فقد يعرض كثيرا أن تنفعل عنها
المادة التى من شأنها أن تنفعل عنها وتكون.
__________________
فإن كان ذلك فى
النفس الكلية التى للسماء والعالم جاز أن يكون مؤثرا فى طبيعة الكل ، وإن كان فى
نفس جزئية جاز أن يؤثر فى الطبيعة الجزئية.
وكثيرا ما تؤثر
النفس فى بدن آخر كما تؤثر فى بدن نفسها تأثير العين العائنة والوهم العامل.
[ كلام سام جدا فى تأثير النفوس ]
بل النفس إذا كانت
قوية شريفة شبيهة بالمبادئ أطاعها العنصر الذى فى العالم وانفعل عنها ووجد فى
العنصر ما يتصور فيها. وذلك لأن النفس الإنسانية سنبين أنها غير منطبعة فى المادة
التى لها ، لكنها منصرفة الهمة إليها. فإن كان هذا الضرب من التعلق يجعل لها أن
تحيل العنصر البدنى عن مقتضى طبيعته ، فلا بدع أن تكون النفس الشريفة القوية جدا
تجاوز بتأثيرها ما يختص بها من الأبدان إذا لم يكن انغماسها فى الميل إلى ذلك
البدن شديدا قويا وكانت مع ذلك عالية فى طبقتها قوية فى ملكتها جدا ، فتكون هذه
النفس تبرئ المرضى ، وتمرض الأشرار ، ويتبعها أن تهدّم طبائع ، وأن تؤكّد طبائع ،
وأن تستحيل لها العناصر فيصير غير النار نارا وغير الأرض أرضا ، وتحدث بارادتها
أيضا أمطار وخصب كما يحدث خسف ووباء كل بحسب الواجب العقلى.
وبالجملة فإنه
يجوز أن يتبع إرادته وجود ما يتعلق باستحالة العنصر فى الأضداد ، فإن العنصر بطبعه
يطيعه ويتكوّن فيه ما يتمثل فى إرادته ، إذ
__________________
العنصر بالجملة
طوع للنفس وطاعته لها أكثر من طاعته للأضداد المؤثرة فيه. وهذه أيضا من خواص القوى
النبوية.
وقد كنا ذكرنا
خاصيّة قبل هذه تتعلق بقواها المتخيلة وتلك خاصية تتعلق بالقوى الحيوانية المدركة
، وهذه خاصية تتعلق بالقوى الحيوانية المحركة الإجماعية من نفس النبى العظيم
النبوة.
فنقول : إنه لما
تبين أن جمع القوى الحيوانية لا فعل لها إلا بالبدن ، ووجود القوى أن يكون بحيث
تفعل ، فالقوى الحيوانية إذن إنما تكون بحيث تفعل وهى بدنية فوجودها أن تكون بدنية
، فلا بقاء لها بعد البدن. وقد تكلمنا فى كتبنا الطبية فى أسباب استعدادات الأشخاص
المختلفة بجبلتها وبحسب اختلاف أحوالها للفرح والغم والغضب والحلم والحقد والسلامة
وغير ذلك كلاما لا يوجد للمتقدمين ما يجرى مجراه فى تفصيله وتحصيله فليقرأ من
هناك.
المقالة الخامسة
وهى ثمانية فصول :
الفصل الأول : فى
خواص الافعال والانفعالات التى للانسان وبيان قوى النظر والعمل للنفس الانسانية.
الفصل الثانى : فى
اثبات ان قوام النفس الناطقة غير منطبع فى مادة جسمانية.
الفصل الثالث
يشتمل على مسألتين : احداهما كيفية انتفاع النفس الانسانية بالحواس. والثانية
اثبات حدوثها.
الفصل الرابع : فى
ان الانفس الانسانية لا تفسد ولا تتناسخ.
الفصل الخامس : فى
العقل الفعال فى انفسنا والعقل المنفعل عن انفسنا.
الفصل السادس : فى
مراتب افعال العقل وفى اعلى مراتبها وهو العقل القدسى.
الفصل السابع : فى
عدّ المذاهب الموروثة عن القدماء فى امر النفس وافعالها وانها واحدة او كثيرة
وتصحيح القول الحق فيها.
الفصل الثامن : فى
بيان الآلات التى للنفس.
الفصل الأول
فى خواص الافعال
والانفعالات التى للإنسان
وبيان قوى النظر والعمل
للنفس الانسانية
قد فرغنا من القول
فى القوى الحيوانية أيضا ، فحرى بنا أن نتكلم الآن فى القوى الإنسانية. فنقول :
إن الإنسان له
خواص أفعال تصدر عن نفسه ليست موجودة لسائر الحيوان. وأول ذلك أنه لما كان الإنسان
فى وجوده المقصود فيه يجب أن يكون غير مستغن فى بقائه عن
المشاركة ولم يكن كسائر الحيوانات التى يقتصر كل واحد منها فى نظام معيشته على
نفسه وعلى الموجودات فى الطبيعة له. وأما الإنسان الواحد فلو لم يكن فى الوجود إلا
هو وحده وإلا
__________________
الأمور الموجودة
فى الطبيعة له لهلك أو لساءت معيشته أشد سوء.
وذلك لفضيلته
ونقيصة سائر الحيوان على ما ستعلمه فى مواضع أخرى ، بل الإنسان محتاج إلى أمور
أزيد مما فى الطبيعة ـ مثل الغذاء المعمول واللباس المعمول والموجود فى الطبيعة من
الأغذية ـ ما لم تدبّر بالصناعات فإنها لا تلائمه ولا تحسن معها معيشته. والموجود
فى الطبيعة من الأشياء التى يمكن أن تلبس أيضا ، فقد تحتاج أن تجعل بهيئة وصفة حتّى
مكنها أن يلبسها.
وأما الحيوانات
الأخرى فإن لباس كل واحد معه فى الطباع ، فلذلك يحتاج الإنسان أول شىء إلى الفلاحة
وكذلك إلى صناعات أخرى ، لا يتمكن الإنسان الواحد من تحصيل كل ما يحتاج إليه من
ذلك بنفسه ، بل بالمشاركة حتى يكون هذا يخبز لذاك ، وذاك ينسج لهذا ، وهذا ينقل
شيئا من بلاد غريبة إلى ذلك ، وهذا يعطيه بإزاء ذلك شيئا من قريب.
فلهذه الأسباب
وأسباب أخرى أخفى وآكد من هذه ما احتاج الإنسان أن تكون له فى طبعه قدرة على أن
يعلم الآخر الذى هو شريكه ما فى نفسه بعلامة وضعية وكان أخلق ما يصلح لذلك هو
الصوت لأنه ينشعب إلى حروف تتركب منها تراكيب كثيرة من غير مؤونة تلحق البدن ويكون
شيئا لا يثبت ولا ييقى فيؤمن وقوف من لا يحتاج إلى شعوره عليه.
وبعد الصوت
الإشارة فإنها كذلك ، إلا أن الصوت أدل من الإشارة ، لأن الإشارة إنما تهدى من حيث
يقع عليها البصر ، وذلك يكون من جهة مخصوصة ، ويحتاج أن يكلف المراد إعلامه
أن يحرّك حدقته إلى
__________________
جهة مخصوصة حركات
كثيرة يراعى بها الإشارة. وأما الصوت فقد تغنى الاستعانة به عن أن يكون من جهة
مخصوصة ، وتغنى أيضا عن أن تراعى تحريكات ، ومع ذلك فليس
يحتاج فى أن يدرك إلى متوسط كما لا يحتاج اللون إليه ، لا كحاجة الإشارات.
فجعلت الطبيعة للنفس أن تؤلف من الأصوات ما يتوصل به إلى إعلام الغير. وفى الحيوانات الأخرى
أيضا أصوات يقف بها غيرها على حال فى نفسها. لكن تلك الأصوات إنما تدل بالطبع وعلى
جملة من الموافقة أو المنافرة غير محصلة ولا مفصلة.
والذى للإنسان فهو
بالوضع ، وذلك لأن الأعراض الإنسانية تكاد أن لا تتناهى ، فما كان يمكن أن تطبع هى
على أصوات بلانهاية ، فمما يختص بالإنسان هذه الضرورة الداعية إلى الإعلام
والاستعلام لضرورة داعية إلى الأخذ والإعطاء بقدر عدل ولضرورات أخرى ، ثم اتخاذ
المجامع واستنباط الصنائع.
وللحيوانات الأخرى
وخصوصا للطير صناعات أيضا ، فإنها تصنع بيوتا ومساكن لا سيما النحل. لكن ذلك ليس
مما يصدر عن استنباط وقياس ، بل عن إلهام وتسخير ، ولذلك ليس مما يختلف ويتنوّع ،
وأكثرها لصلاح أحوالها وللضرورة النوعية ليست للضرورة الشخصية. والذى للإنسان
فكثير منه للضرورة الشخصية ، وكثير لصلاح حال الشخص بعينه.
__________________
ومن خواص الإنسان
أنه يتبع إدراكاته للأشياء النادرة انفعال يسمى التعجب ويتبعه الضحك ، ويتبع
إدراكه للأشياء المؤذية انفعال يسمى الضجر ويتبعه البكاء.
ويخصه فى المشاركة
أن المصلحة تدعو إلى أن تكون فى جملة الأفعال التى من شأنه أن يفعلها أفعال لا ينبغى له أن يفعلها ، فيعلّم ذلك صغيرا وينشأ عليه. ويكون قد تعوّد منذ
صباه سماع أن تلك الأفعال ينبغى أن لا يفعلها ، حتى صار هذا الاعتقاد له كالغريزى
له ، وأفعال أخرى بخلاف ذلك ، وتسمى الأولى قبيحة ، والأخرى جميلة.
وليس يكون للحيوانات
الأخرى ذلك ، فإن كانت الحيوانات الأخرى تترك أفعالا لها أن تفعلها مثل أن الأسد
المعلّم لا يأكل صاحبه ولا يأكل ولده فليس سبب ذلك اعتقادا فى النفس ورأيا ، ولكن
هيئة أخرى نفسانية ، وهى أن كل حيوان يؤثر بالطبع وجود ما يلذه وبقاءه ، وأن الشخص
الذى يمونه ويطعمه قد صار لذيذا له لأن كل نافع لذيذ بالطبع عند
المنفوع ، فيكون المانع عن فرسه ليس اعتقادا ، بل هيئة وعارضا نفسانيا آخر. وربما
وقع هذا العارض فى الجبلة ومن الإلهام الإلهى كحب كل حيوان ولده من غير اعتقاد
ألبتة ، بل على نوع تخيل بعض الإنسان لشىء نافع أو لذيذ او نفرته عنه إذا كان فى
صورته ما ينفرّ عنه.
والإنسان قد يتبع
شعوره بشعور غيره أنه فعل شيئا من الأشياء التى قد أجمع على أنه لا ينبغى أن
يفعلها انفعال نفسانى يسمى الخجل ، وهذا
__________________
أيضا من خواص
الناس.
وقد يعرض للإنسان
انفعال نفسانى بسبب ظنه أن أمرا فى المستقبل يكون مما يضره ، وذلك يسمى الخوف.
والحيوانات الأخرى إنما يكون لها ذلك بحسب الآن فى غالب الأمر ، أو متصلا بالآن.
وللإنسان بإزاء الخوف الرجاء ، ولا يكون للحيوانات الأخرى إلا متصلا بالآن ، ولا
يكون فيما يبعد عن الآن من الزمان ذلك. والذى تفعله من الاستظهار فليس ذلك لأنها تشعر بالزمان وما يكون فيه ، بل ذلك أيضا ضرب من الإلهام.
والذى تفعله النمل من نقل الميرة بالسرعة إلى
جحرتها منذرة بمطر يكون ، فلأنها
تتخيل أن ذلك هوذا يكون فى هذا الوقت. كما أن الحيوان يهرب عن الضد لما يتخيل انّه
هو ذا يريد أن يضربه فى الوقت.
ويتصل بهذا الجنس
ما للإنسان أن يروّى فيه من الأمور المستقبلة أنه هل ينبغى له أن يفعلها أو لا
ينبغى فيفعل ما يصح أن توجب روّيته أن لا يفعله وقتا آخر أو فى هذا الوقت بدل ما
روّى ، ولا يفعل ما يصح أن توجب روّيته أن يفعل وقتا آخر أو فى هذا الوقت بدل ما
روّى. وسائر الحيوانات إنما يكون لها من الإعدادات للمستقبل ضرب واحد مطبوع فيها
وافقت عاقبتها أو لم توافق.
__________________
وأخص
الخواص بالإنسان تصور المعانى الكلية العقلية المجردة عن المادة كل التجريد على ما حكيناه
وبيناه ، والتوصل إلى معرفة المجهولات تصديقا وتصورا من المعلومات العقلية. فهذه
الأحوال والأفعال المذكورة هى مما يوجد للإنسان ، وجلها يختص به الإنسان وإن كان
بعضها بدنيا ، ولكنه موجود لبدن الإنسان بسبب النفس التى للإنسان التى ليست لسائر
الحيوان.
بل نقول : إن
للإنسان تصرفا فى أمور جزئية وتصرفا فى أمور كلية والأمور الكلية إنما يكون فيها
اعتقاد فقط ولو كان أيضا فى عمل ، فإن من اعتقد اعتقادا كليا أن البيت كيف ينبغى
أن يبنى ، فإنه لا يصدر عن هذا الاعتقاد وحده فعل بيت مخصوص صدورا أوليا ، فإن
الأفعال تتناول أمورا جزئية وتصدر عن آراء جزئية ، وذلك لأن الكلى من حيث هو كلى
ليس يختص بهذا دون ذلك. ولنؤخر شرح هذا معوّلين على ما يأتيك فى الصناعة الحكمية
فى آخر الفنون.
فتكون للإنسان إذن
قوة تختص بالآراء الكلية ، وقوة أخرى تختص بالروية فى الأمور الجزئية ، فيما ينبغى
أن يفعل ويترك مما ينفع ويضر ، وفيما هو جميل وقبيح وخير وشر ، ويكون ذلك بضرب من
القياس والتأمل صحيح أو سقيم غايته أنه يوقع رأيا فى أمر جزئى مستقبل من الأمور
الممكنة ، لأن الواجبات والممتنعات لا يروّى فيها لتوجد أو تعدم ، وما مضى أيضا لا
يروّى فى إيجاده على أنه ماض. واذا حكمت هذه القوة تتبع حكمها حركة القوة الإجماعية إلى تحريك البدن ، كما كانت
__________________
تتبع أحكام قوى
أخرى فى الحيوانات ، وتكون هذه القوة استمدادها من القوة التى على الكليات ، فمن
هناك تأخذ المقدمات الكبرى فيما تروّى وتنتج فى الجزئيات.
فالقوة الأولى
للنفس الإنسانية قوة تنسب إلى النظر فيقال عقل نظرى ؛ وهذه الثانية قوة تنسب إلى
العمل فيقال عقل عملى ؛ وتلك للصدق والكذب وهذه للخير والشر فى الجزئيات ، وتلك
للواجب والممتنع والممكن وهذه للقبيح والجميل والمباح ، ومبادئ تلك من
__________________
المقدمات الأولية
ومبادئ هذه من المشهورات والمقبولات والمظنونات والتجربيات الواهية التى تكون من
المظنونات غير التجربيات الوثيقة.
ولكل واحدة من
هاتين القوتين رأى وظن ، فالرأى هو الاعتقاد المجزوم به ، والظن هو الاعتقاد
المميل إليه مع تجويز الطرف الثانى. وليس كل من ظن فقد اعتقد ، كما ليس كل من أحس
فقد عقل ، أو من تخيل فقد ظن أو اعتقد أو رأى ، فيكون فى الإنسان حاكم حسى وحاكم
من باب التخيل وهمى وحاكم نظرى وحاكم عملى ، وتكون المبادئ الباعثة لقوته
الإجماعية على تحريك الأعضاء وهم خيالى وعقل عملى وشهوة وغضب ، وتكون للحيوانات
الأخرى ثلاثة من هذه.
والعقل العملى
محتاج فى أفعاله كلها إلى البدن وإلى القوى البدنية.
وأما العقل النظرى
فإن له حاجة مّا إلى البدن وإلى قواه لكن لا دائما ومن كل وجه ، بل قد يستغنى
بذاته.
وليس لا واحد
منهما هو النفس الإنسانية ، بل النفس هو الشىء الذى له هذه القوى. وهو كما تبين
جوهر منفرد وله استعداد نحو أفعال بعضها لا يتم إلا بالآلات وبالإقبال عليها
بالكلية ، وبعضها يحتاج فيه إلى الآلات حاجة مّا ، وبعضها لا يحتاج إليها ألبتة.
وهذا كله سنشرحه بعد.
فجوهر النفس
الإنسانية مستعد لأن يستكمل نوعا من الاستكمال بذاته وبما فوقه ولا يحتاج فيه إلى
مادونه ، وهذا الاستعداد له هو بالشىء الذى يسمى العقل النظرى ؛ ومستعد لأن يتحرز
عن آفات تعرض له من المشاركة ، كما سنشرحه فى موضعه.
وأن يتصرف فى
المشاركة تصرفا على الوجه الذى يليق به. وهذا الاستعداد له بقوة تسمى العقل العملى
، وهى رئيسة القوى التى له إلى
جهة البدن. وأما
ما دون ذلك فهى قوى تنبعث عنه لاستعداد البدن لقبولها ولمنفعته.
والأخلاق تكون
للنفس من جهة هذه القوة كما قد أشرنا إليه فيما سلف. ولكل واحد من القوتين استعداد
وكمال ، فالاستعداد الصرف من كل واحدة منهما يسمى عقلا هيولانيا سواء أخذ نظريا أو
عمليا. ثم بعد ذلك إنما يعرض لكل واحدة منهما أن تحصل لها المبادئ التى بها تكمل
أفعالها ، إما للعقل النظرى فالمقدمات الأولية وما يجرى معها ، وإما للعملى
فالمقدمات المشهورة وهيئات أخرى. فحينئذ يكون كل واحد منهما عقلا بالملكة ، ثم
يحصل لكل واحد منهما الكمال المكتسب. وقد كنا شرحنا هذا من قبل ، فيجب أول كل شىء أن نبين أن هذه النفس المستعدة لقبول المعقولات بالعقل
الهيولانى ليس بجسم ولا قائم صورة فى جسم.
__________________
الفصل الثانى
فى اثبات ان قوام النفس
الناطقة غير منطبع فى مادة جسمانية
إن مما لا شك فيه
أن الإنسان فيه شىء وجوهر مّا يتلقى المعقولات بالقبول.
[ البرهان الاول على تجرد النفس الناطقة ]
فنقول : إن الجوهر
الذى هو محل المعقولات ليس بجسم ولا هو قائم بجسم على أنه قوة فيه أو صورة له
بوجه. فإنه إن كان محل المعقولات جسما أو مقدارا من المقادير ، فإما أن تكون
الصورة المعقولة تحل منه شيئا وحدانيا غير منقسم ، أو تكون إنما تحل منه شيئا
منقسما. والشىء الذى لا ينقسم من الجسم هو طرف نقطىّ لا محالة.
__________________
ولنمتحن أولا أنه
هل يمكن أن يكون محلها طرفا غير منقسم ، فنقول إن هذا محال ، وذلك لأن النقطة هى نهاية ما لا تميز لها عن الخط فى
__________________
الوضع أو عن
المقدار الذى هو منته إليها تميزا يكون له النقطة شيئا يستقر فيه شىء من غير أن يكون فى شىء من ذلك المقدار ، بل كما أن النقطة لا تنفرد بذاتها
وإنما هى طرف ذاتى لما هو بالذات مقدار كذلك إنما يجوز أن يقال بوجه مّا أنه يحل
فيها طرف شىء حال فى المقدار الذى هى طرفه.
فهو متقدر بذلك
المقدار بالعرض ، وكما أنه يتقدر به بالعرض كذلك يتناهى بالعرض مع النقطة ، فتكون
نهاية بالعرض مع نهاية بالذات ، كما يكون امتداد بالعرض مع امتداد بالذات.
ولو كانت النقطة
منفردة تقبل شيئا من الأشياء لكان يتميز لها ذات. فكانت النقطة إذن ذات جهتين :
جهة منها تلى الخط الذى تميّزت عنه ، وجهة منها مخالفة له مقابلة فتكون حينئذ
منفصلة عن الخط بقوامها. وللخط المنفصل عنها نهاية ولا محالة غيرها تلاقيها ؛
فتكون تلك النقطة نهاية الخط لا هذه. والكلام فيها وفى هذه النقطة واحد ، ويؤدى
هذا إلى أن تكون النقط متشافعة فى الخط إما متناهية وإما غير متناهية.
وهذا أمر قد بان
لنا فى مواضع أخرى استحالته ، فقد بان أن النقط لا يتركب بتشافعها جسم ، وبان أيضا
أن النقطة لا يتميز لها وضع خاص.
__________________
ولا بأس بأن نشير
إلى طرف منها فنقول : إن النقطتين اللتين تليان نقطة واحدة من جنبتيها حينئذ : إما
أن تكون النقطة المتوسطة تحجز بينهما فلا تتماسان ، فيلزم حينئذ أن تنقسم الواسطة
على الأصول التى قد علمت ، وهذا محال. وإما أن تكون الوسطى لا تحجز المكتنفتين عن
التماس فحينئذ تكون الصور المعقولة حالة فى جميع النقط وجميع
النقط كنقطة واحدة. وقد وضعنا هذه النقطة الواحدة منفصلة عن الخط ، فللخط من جهة
ما ينفصل عنها طرف غيرها به ينفصل عنها ، فتكون تلك النقطة مباينة لهذه فى الوضع.
وقد وضعت النقط كلها مشتركة فى الوضع وهذا محال .
فقد بطل إذن أن
يكون محل المعقولات من الجسم شيئا غير منقسم ، فبقى أن يكون محلها من الجسم ـ إن
كان محلها فى الجسم ـ منقسما.
فلنفرض صورة
معقولة فى شىء منقسم ، فإذا فرضنا فى الشىء المنقسم أقساما عرض للصورة أن تنقسم ،
فحينئذ لا يخلو إما أن يكون الجزءان متشابهين أو غير متشابهين :
فإن كانا متشابهين
فكيف يجتمع منهما ما ليس بهما ، إذ الكل من حيث هو كل ليس هو الجزء ، إلا أن يكون
ذلك الكل شيئا يحصل منهما من جهة الزيادة فى المقدار أو الزيادة فى العدد لا من
جهة الصورة ، فحينئذ تكون الصورة المعقولة شكلا مّا أو عددا مّا ، وليس كل صورة
معقولة بشكل أو عدد ، وتصير حينئذ الصورة خيالية لا معقولة ، وأنت تعلم أنه
__________________
ليس يمكن أن يقال
، إن كل واحد من الجزئين هو بعينه الكل ، كيف والثانى داخل فى معنى الكل وخارج عن
معنى الجزء الآخر. فمن البين الواضح أن الواحد منهما وحدّه ليس يدل على نفس معنى
التمام .
وإن كانا غير
متشابهين ، فلينظر كيف يمكن أن يكون ذلك ، وكيف يمكن أن تكون للصورة المعقولة
أجزاء غير متشابهة. فإنه ليس يمكن أن تكون الأجزاء غير المتشابهة إلا أجزاء الحد
التى هى الأجناس والفصول ، وتلزم عنها محالات :
منها أن كل جزء من
الجسم يقبل القسمة أيضا فى القوة قبولا غير متناه ، فيجب أن تكون الأجناس والفصول
فى القوة غير متناهية وهذا محال. و قد صح أن الأجناس
والفصول الذاتية للشىء الواحد ليست فى القوة غير متناهية ، ولأنه ليس يمكن أن يكون
فيه توهم القسمة يفرز الجنس والفصل ، بل مما لا نشك فيه أنه إذا كان هناك جنس وفصل
يستحقان تميزا فى المحل أن ذلك التميز لا يتوقف إلى توهم القسمة ، فيجب أن تكون
الأجناس والفصول بالفعل أيضا غير متناهية. وقد صح أن الأجناس والفصول وأجزاء الحد
للشىء الواحد متناهية من كل وجه. ولو كانت الأجناس والفصول يجوز لها أن تكون غير
متناهية بالفعل ، لما كان يجوز أن تجتمع فى الجسم اجتماعا على هذه الصورة ، فإن ذلك يوجب أن يكون الجسم الواحد انفصل بأجزاء غير متناهية بالفعل.
__________________
وأيضا ولتكن
القسمة مما قد وقع من جهة ، فأفرز من جانب جنسا ومن
جانب فصلا. فلو غيّرنا القسمة لم يخل إما أن يقع بها فى كل جانب نصف جنس ونصف فصل أو يوجب انتقال الجنس والفصل إلى القسمين ،
فيميل الجنس والفصل كل إلى قسم من القسمة ، فيكون فرضنا الوهمى أو قسمتنا الفرضية
تدور بمكان الجنس والفصل ، وكان يجرّ كل واحد منهما
إلى جهة مّا بحسب إرادة مريد من خارج فيه. على أن ذلك أيضا لا يغنى ، فإنه يمكننا
أن نوقع قسما فى قسم.
وأيضا ليس كل
معقول يمكن أن ينقسم إلى معقولات أبسط منه ، فإن هاهنا معقولات هى أبسط المعقولات
، وهى مبادئ للتركيب فى سائر المعقولات ، وليس لها أجناس ولا فصول ، ولا هى منقسمة
فى الكم ، ولا هى منقسمة فى المعنى. فإذن ليس يمكن أن تكون الأجزاء المفروضة
متشابهة كل واحد منها هو فى معنى الكل ، وإنما يحصل الكل بالاجتماع فقط ، ولا أيضا
يمكن أن تكون غير متشابهة فليس يجب أن تنقسم الصورة
المعقولة.
وإذا لم يمكن أن
تنقسم الصورة المعقولة ولا أن تحل طرفا من المقادير غير منقسم ولابد لها من قابل
فينا ، فلابد من أن نحكم أن محل المعقولات جوهر ليس بجسم ، ولا أيضا متلقّيها منا
قوة فى جسم ، فإنها يلحقها ما يلحق الجسم من الانقسام ثم يتبعه سائر المحالات ، بل
متلقّى
__________________
الصورة المعقولة
منا غير جسمانى.
ولنا أن نبرهن على
هذا ببرهان آخر.
[ البرهان الثانى على تجرد النفس الناطقة ]
فنقول : إن القوة
العقلية هوذا تجرد المعقولات عن الكم المحدود والأين والوضع وسائر ما قيل من قبل ،
فيجب أن ننظر فى ذات هذه الصورة المجردة عن الوضع كيف هى مجردة عنه أبا لقياس إلى
الشىء المأخوذ منه أو بالقياس إلى الشىء الآخذ ، أعنى أن وجود هذه الحقيقة
المعقولة المتجردة عن الوضع هل هو فى الوجود الخارجى أو فى الوجود المتصور فى
الجوهر العاقل.
ومحال أن نقول :
إنها كذلك فى الوجود الخارجى ، فبقى أن نقول :
إنها إنما هى
مفارقة للوضع والأين عند وجودها فى العقل. فإذا وجدت فى العقل لم تكن ذات وضع
وبحيث تقع إليها إشارة أو تجزّو انقسام أو شىء مما أشبه هذا المعنى ، فلا يمكن أن
تكون فى جسم.
[ البرهان الثالث على تجرد النفس الناطقة ]
وأيضا إذا انطبعت
الصورة الأحدية الغير المنقسمة التى هى لأشياء غير منقسمة فى المعنى فى مادة منقسمة ذات
جهات ، فلا يخلو إما أن لا تكون ولا لشىء من أجزائها التى تفرض فيها بحسب جهاتها
نسبة إلى الشىء المعقول الواحد الذات الغير المنقسم المجرد عن
المادة ، أو تكون
__________________
لكل واحد من
أجزائها التى تفرض نسبة ، أو تكون لبعض دون بعض.
فان لم تكن ولا
لشىء منها فلا لكلّها ، فان ما يجتمع عن مباينات مباين.
وان كان لبعضها
دون بعض فالبعض الذى لا نسبة له ليس هو من معناه فى شىء.
وإن كان لكل جزء
يفرض نسبة مّا ، فإما أن يكون لكل جزء يفرض فيه نسبة إلى الذات كما هى أو إلى جزء من الذات ، فإن كان لكل جزء يفرض نسبة إلى الذات كما هى
فليست الأجزاء إذن أجزاء معنى المعقول ، بل كل واحد منها معقول فى نفسه مفردا ؛
وإن كان كل جزء له نسبة غير نسبة الجزء الآخر إلى الذات ، فمعلوم أن الذات منقسمة
فى المعقول وقد وضعناها غير منقسمة ، هذا خلف.
فان كان نسبة كل
واحد إلى شىء من الذات غير ما إليه نسبة الآخر ، فانقسام الذات أظهر.
ومن هذا تبين أن
الصور المنطبعة فى المادة الجسمانية لا تكون إلا أشباها لأمور جزئية منقسمة ، ولكل
جزء منها نسبة بالفعل أو بالقوة إلى جزء منه.
[ البرهان الرابع على تجرد النفس الناطقة ]
وأيضا فإن الشىء
المتكثر فى أجزاء الحد ، له من جهة التمام
__________________
وحدة مّا لا
تنقسم. فلينظر أن ذلك الوجود الوحدانى ، من حيث هو واحد مّا ، كيف يرتسم فى
المنقسم ويكون الكلام فيها وفيما لا ينقسم بالحد واحدا.
[ البرهان الخامس على تجرد النفس الناطقة ]
وأيضا فإنه قد صح
لنا أن المعقولات المفروضة التى من شأن القوة الناطقة أن تعقل بالفعل واحدا واحدا
منها غير متناهية بالقوة. وقد صح لنا أن الشىء الذى يقوى على أمور غير متناهية
بالقوة لا يجوز أن يكون جسما ولا قوة فى جسم ، قد برهن على هذا فى الفنون الماضية.
فلا يجوز إذن أن تكون الذات المتصورة للمعقولات قائمة فى جسم ألبتة ، ولا فعلها
كائن فى جسم ولا بجسم.
وليس لقائل أن
يقول : كذلك المتخيلات ، فذلك خطأ ، فإنه ليس للقوة الحيوانية أن تتخيل أى شىء
اتفق مما لا نهاية له فى أى وقت كان ما لم يقرن بها تصريف القوة الناطقة.
ولا لقائل أن يقول
: إن هذه القوة أى العقلية قابلة لا فاعلة ، وأنتم إنما أثبتم تناهى القوة الفاعلة
، والناس لا يشكّون فى جواز وجود قوة قابلة غير متناهية كما للهيولى. فنقول : إنك
تعلم أن قبول النفس الناطقة فى كثير من أشياء لا نهاية لها قبول بعد تصرف فعلى.
[ البرهان السادس على تجرد النفس الناطقة ]
ولنستشهد أيضا على
ما بينّاه بالكلام الناظر فى جوهر النفس الناطقة وفى أخص فعل له بدلائل من أحوال
أفعال أخرى له مناسبة
لما ذكرناه.
فنقول : إن القوة
العقلية لو كانت تعقل بالآلة الجسدانية حتى يكون فعلها الخاص إنما يستتم باستعمال تلك الآلة الجسدانية ، لكان يجب أن لا تعقل ذاتها وأن لا تعقل الآلة
وأن لا تعقل أنها عقلت ، فإنه ليس بينها وبين ذاتها آلة ، وليس لها بينها وبين
آلتها آلة ، وليس لها بينها وبين أنها عقلت آلة ، لكنها تعقل ذاتها وآلتها التى
تدّعى لها وانّها عقلت فإذن تعقل بذاتها لا بآلة.
بل قد نحقق فنقول
: لا يخلو إما أن يكون تعقلها آلتها لوجود ذات صورة آلتها تلك ، أو لوجود صورة
أخرى مخالفة لها بالعدد ، وهى أيضا فيها وفى آلتها ، أو لوجود صورة أخرى غير صورة
آلتها تلك بالنوع ، وهى فيها وفى آلتها.
فإن كان لوجود
صورة آلتها فصورة آلتها فى آلتها وفيها بالشركة دائما. فيجب أن تعقل آلتها دائما ، إذ كانت إنما تعقلها لوصول
__________________
الصورة إليها .
وإن كان لوجود
صورة لآلتها غير تلك الصورة بالعدد فذلك باطل.
أما أوّلا فلأن المغايرة بين أشياء تدخل فى حد واحد ، إما لاختلاف المواد والأحوال
والأعراض ، وإما لاختلاف ما بين الكلى والجزئى والمجرد عن المادة والموجود فى
المادة ، وليس هاهنا اختلاف مواد وأعراض ، فإن المادة واحدة والأعراض لموجودة
واحدة ؛ وليس هاهنا اختلاف التجريد والوجود فى المادة ، فإن كليهما فى المادة ؛
وليس هاهنا اختلاف الخصوص والعموم لأن إحداهما إن استفادت جزئية فإنما تستفيد
الجزئية بسبب المادة الجزئية واللواحق التى تلحقها من جهة المادة التى فيها. وهذا
المعنى لا يختص بإحداهما دون الأخرى ، ولا يلزم هذا على إدراك النفس ذاتها ، فإنها
تدرك دائما ذاتها وإن كانت قد تدركها فى الأغلب مقارنة للأجسام التى هى معها على
ما بيّناه.
وأنت تعلم أنه لا
يجوز أن يكون لوجود صورة أخرى غير صورة آلتها ، فإن هذا أشد
استحالة ، لأن الصورة المعقولة إذا حلّت الجوهر العاقل جعلته عاقلا لما تلك الصورة
صورته أو لما تلك الصورة مضافة إليه ، فتكون صورة المضاف داخلة فى هذه الصورة ،
وهذه الصورة المعقولة ليست صورة هذه الآلة ولا صورة شىء مضاف إليها بالذات ،
__________________
لأن ذات هذه الآلة
جوهر ونحن إنما نجد ونعتبر صورة ذاته ، والجوهر فى ذاته غير مضاف ألبتة.
فهذا برهان واضح
على أنه لا يجوز أن يدرك المدرك بالآلة آلته فى الإدراك. ولهذا فإن الحس إنما يحسّ
شيئا خارجا ولا يحس ذاته ، ولا آلته ولا إحساسه. وكذلك الخيال لا يتخيل ذاته ولا
فعله ألبتة ، بل إن تخيل آلته تخيلها لا على نحو يخصه وأنها لا محالة
له دون غيره ، إلا أن يكون الحس يورد عليه صورة آلته لو أمكن ، فيكون حينئذ إنما
يحكى خيالا مأخوذا من الحس غير مضاف عنده إلى شىء حتى لو لم يكن هو آلته لم
يتخيله.
[ البرهان السابع على تجرد النفس الناطقة ]
وأيضا مما يشهد
لنا بهذا ويقنع فيه أن القوى الدرّاكة بالآلات يعرض لها من إدامة
العمل أن تكلّ ، لأجل أن الآلات تكلّها إدامة الحركة وتفسد مزاجها الذى هو جوهرها
وطبيعتها ، والأمور القوية الشاقة الإدراك توهنها ، وربما أفسدتها ولا تدرك عقيبها
الأضعف منها لانغماسها فى الانفعال عن الشاق ، كالحال فى الحس فإن المحسوسات
الشاقة والمتكررة تضعفه وربما أفسدته كالضوء للبصر والرعد الشديد للسمع ، ولا يقوى
__________________
الحس عند إدراك
القوى على إدراك الضعيف ، فإنّ المبصر ضوءا عظيما لا يبصر معه ولا عقيبه نورا
ضعيفا ، والسامع صوتا عظيما لا يسمع معه ولا عقيبه صوتا ضعيفا ، ومن ذاق الحلاوة
الشديدة لا يحسّ بعدها بالضعيفة.
والأمر فى القوة
العقلية بالعكس ، فإن إدامتها للعقل وتصورها للأمور التى هى أقوى تكسبها قوة
وسهولة قبول لما بعدها مما هو أضعف منها ؛ فإن عرض لها فى بعض الأوقات ملال أو
كلال فذلك لاستعانة العقل بالخيال المستعمل للآلة التى تكلّ فلا تخدم العقل ، ولو
كان لغير هذا لكان يقع دائما وفى الاكثر والأمر بالضد.
[ البرهان الثامن على تجرد النفس الناطقة ]
وأيضا فإن أجزاء
البدن كلها تأخذ فى الضعف من قواها بعد منتهى النشوء والوقوف ، وذلك دون الأربعين
أو عند الأربعين. وهذه القوة المدركة للمعقولات إنما تقوى بعد ذلك فى أكثر الأمر ،
ولو كانت من القوى البدنية لكان يجب دائما فى كل حال أن تضعف حينئذ. لكن ليس ذلك إلا فى أحوال وموافاة عوائق دون جميع الأحوال ، فليست هى إذن من القوة
البدنية.
ومن هذه الأشياء
تبيّن أن كل قوة تدرك بآلة فلا تدرك ذاتها ولا آلتها ولا إدراكها ، ويضعفها تضاعف
الفعل ، ولا تدرك الضعيف إثر القوىّ ، والقوى يوهنها ويضعف فعلها عن ضعف آلات
فعلها ، والقوة العقلية بخلاف ذلك كله.
__________________
وأما الذى يتوهم من أن النفس إذا كانت تنسى معقولاتها ولا تفعل فعلها مع مرض البدن وعند
الشيخوخة فلذلك لها بسبب أن فعلها لا يتم إلا بالبدن ، فظنّ غير ضرورى ولا حقّ ،
وذلك أنه قد يمكن أن يجتمع الأمران جميعا ، فتكون النفس لها فعل بذاتها إذا لم يعق
عائق ولم يصرف عنه صارف ، وأنها أيضا قد تترك فعلها الخاص مع حال يعرض للبدن فلا
تفعل حينئذ فعلها وتصرف عنه ، ويستمر القولان من غير تناقض . وإذا كان كذلك لم يكن إلى هذا الاعتراض التفات.
ولكنا نقول : ان
جوهر النفس له فعلان : فعل له بالقياس إلى البدن ، وهو السياسة. وفعل له بالقياس
إلى ذاته وإلى مبادئه وهو الإدراك بالعقل ؛ وهما متعاندان متمانعان ، فإنه إذا
اشتغل بأحدهما انصرف عن الآخر ، ويصعب عليه الجمع بين الأمرين. وشواغله من جهة البدن الإحساس والتخيل والشهوات والغضب والخوف والغم والفرح والوجع.
وأنت تعلم هذا
بأنك إذا أخذت تفكر فى معقول تعطّل عليك كل شىء من هذه ، إلا أن تغلب هى النفس
وتقسرها رادّة إياها إلى جهتها.
__________________
وأنت تعلم أن الحس
يمنع النفس عن التعقل ، فإن النفس إذا أكبّت على المحسوس شغلت عن المعقول من غير
أن يكون أصاب آلة العقل أو ذاتها آفة بوجه ؛ وتعلم أن السبب فى ذلك هو اشتغال النفس بفعل دون فعل ، فكذلك الحال
والسبب إذا عرض أن تعطّلت أفعال العقل عند المرض.
ولو كانت الملكة
العقلية المكتسبة قد بطلت وفسدت لأجل الآلة ، لكان رجوع الآلة إلى حالها يحوج إلى
اكتساب من الرأس . وليس الأمر كذلك ، فإنه قد تعود النفس إلى ملكتها وهيئتها
عاقلة بجميع ما عقلته بحالها إذا عاد البدن إلى سلامته ، فقد كان إذن ما كسبته
موجودا معها بنوع مّا إلا أنها كانت مشغولة عنه.
وليس اختلاف جهتى
فعل النفس فقط يوجب فى أفعالها التمانع ، بل تكثّر أفعال جهة واحدة قد يوجب ذلك
بعينه. فإن الخوف يغفل عن الوجع والشهوة تصدّ عن الغضب ، والغضب يصرف عن الخوف ،
والسبب فى جميع ذلك واحد وهو انصراف النفس بالكلية إلى أمر واحد.
فبين من هذا أنه
ليس يجب إذا لم يفعل شىء فعله عند اشتغاله بشىء أن لا يكون فاعلا فعله إلا عند
وجود ذلك الشىء المشتغل به.
ولنا أن نتوسع فى
بيان هذا الباب ، إلا أن الإمعان فى المطلوب بعد
__________________
بلوغ الكفاية
منسوب إلى التكلف لما لا يحتاج إليه.
فقد ظهر من أصولنا
التى قررنا أن النفس ليست منطبعة فى البدن ولا قائمة به ، فيجب أن يكون اختصاصها
به على سبيل مقتضى هيئة فيها جزئية جاذبة إلى الاشتغال بسياسة البدن الجزئى ،
بعناية ذاتية مختصة به ، صارت النفس عليها كما وجدت مع وجود بدنها
الخاص بهيئته ومزاجه.
__________________
الفصل الثالث
يشتمل على مسألتين :
إحداهما كيفية انتفاع النفس
الإنسانية بالحواس ؛
والثانية إثبات حدوثها.
إن القوى
الحيوانية تعين النفس الناطقة فى أشياء منها : أن يورد الحس من جملتها عليها
الجزئيات فتحصل لها من الجزئيات أمور أربعة :
أحدها انتزاع
الذهن الكليات المفردة من الجزئيات على سبيل تجريد لمعانيها عن المادة وعلائق
المادة ولواحقها ومراعاة المشترك فيه والمتباين به والذاتى وجوده والعرضى وجوده ،
فتحدث للنفس من ذلك مبادئ التصور وذلك بمعاونة استعمال الخيال والوهم.
والثانى إيقاع النفس
مناسبات بين هذه الكليات المفردة على مثل سلب أو إيجاب ، فما كان التأليف فيها بسلب أو إيجاب أوّليا بينا بنفسه أخذه ، وما كان ليس
كذلك تركه إلى مصادفة الواسطة .
__________________
والثالث تحصيل
المقدمات التجربية ، وهو أن تجد بالحس محمولا لازم الحكم لموضوع مّا كان حكمه
إيجابا أو سلبا أو تاليا موجب الاتصال أو مسلوبه أو موجب العناد أو مسلوبه ، وليس
ذلك فى بعض الأحايين دون بعض ولا على سبيل المساواة ، بل دائما وجودا يسكن النفس إلى أنّ بين طبيعة هذا المحمول وهذا الموضوع هذه النسبة ، وأن
طبيعة هذا التالى تلزم هذا المقدم أو تنافيه لذاته لا بالاتفاق ، فيكون ذلك
اعتقادا حاصلا من حس وقياس كما هو مبين فى الفنون المنطقية.
والرابع الأخبار
التى يقع فيها التصديق لشدة التواتر.
فالنفس الإنسانية
تستعين بالبدن لتحصيل هذه المبادئ للتصور والتصديق.
ثم إذا حصّلتها
رجعت إلى ذاتها ، فإن تعرّض لها شىء من القوى التى دونها شاغلة إياها بمايليها من
الأحوال شغلتها عن فعلها فأضربت عن فعلها ، وإن لم تشغلها فلا تحتاج إليها بعد ذلك فى خاص
أفعالها إلا فى أمور تحتاج فيها خاصة إلى أن تعاود القوى الخيالية مرة أخرى وذلك
لاقتناص مبدأ غير الذى حصل أو معاونة بتمثيل الغرض فى الخيال ليستحكم تمثّله
بمعونته فى العقل ، وهذا مما يقع فى الابتداء ولا يقع بعده إلا قليلا. فأما إذا
استكملت النفس وقويت فإنها تنفرد بأفاعيلها على الإطلاق ، وتكون القوى الحسية
والخيالية وسائر القوى البدنية صارفة إياها عن فعلها ، مثل أن الإنسان قد يحتاج
إلى دابة وآلات ليتوصل بها إلى
__________________
مقصد مّا ، فإذا
وصل إليه ثم عرض من الأسباب ما يعوقه عن مفارقتها صار السبب الموصل بعينه عائقا.
ونقول : إن الأنفس الإنسانية لم تكن قائمة مفارقة
للأبدان ثم حصلت فى البدن ، لأن الأنفس الإنسانية متفقة فى النوع والمعنى ، فإذا فرض
أن لها وجودا ليس حادثا مع حدوث الأبدان ، بل هو وجود مفرد ، لم يجز أن تكون النفس
فى ذلك الوجود متكثرة. وذلك لأن كثرة الأشياء إما أن
تكون من جهة الماهية والصورة ، وإما أن تكون من جهة النسبة إلى
العنصر والمادة المتكثرة بما تتكثر به من الأمكنة التى تشتمل على كل مادة فى جهة
والأزمنة التى تختص بكل واحد منها فى حدوثه والعلل القاسمة إياها ، وليست متغايرة بالماهية والصورة ، لأن صورتها
__________________
واحدة . فإذن إنما تتغاير من جهة قابل الماهية أو المنسوب إليه الماهية بالاختصاص ،
وهذا هو البدن. وأما إذا أمكن أن تكون النفس موجودة ولابدن ، فليس يمكن أن تغاير
نفس نفسا بالعدد وهذا مطلق فى كل شىء ، فإن الأشياء التى ذواتها معان فقط وقد
تكثرت نوعياتها بأشخاصها فإنما تكثرها بالحوامل والقوابل والمنفعلات عنها أو بنسبة
مّا إليها وإلى أزمنتها فقط وإذا كانت مجردة أصلا لم تتفرق بما قلنا. فمحال أن يكون
بينها مغايرة وتكثر ، فقد بطل أن تكون الأنفس قبل دخولها الأبدان متكثرة الذات
بالعدد.
وأقول : ولا يجوز
أن تكون واحدة الذات بالعدد ، لأنه إذا حصل بدنان حصل فى البدنين نفسان.
فإما أن تكونا
قسمى تلك النفس الواحدة ، فيكون الشىء الواحد الذى ليس له عظم وحجم منقسما بالقوة
، وهذا ظاهر البطلان بالأصول المتقررة فى الطبيعيات وغيرها.
وإما أن تكون
النفس الواحدة بالعدد فى بدنين ، وهذا لا يحتاج أيضا إلى كثير تكلف فى إبطاله.
ونقول بعبارة أخرى
: إن هذه الأنفس إنما تتشخص نفسا واحدة من جملة نوعها بأحوال تلحقها ليست لازمة لها بما هى نفس ، وإلا لاشترك فيها جميعها. والأعراض
اللاحقة تلحق عن ابتداء لا محالة زمانى لأنها تتبع سببا عرض لبعضها دون بعض ،
فيكون تشخص الأنفس
__________________
أيضا أمرا حادثا ،
فلا تكون قديمة لم تزل ويكون حدوثها مع بدن. فقد صح إذن أن الأنفس تحدث كما تحدث
مادة بدنية صالحة لاستعمالها إياها ، ويكون البدن الحادث
مملكتها وآلتها ، وتكون فى جوهر النفس الحادثة مع بدن مّا ذلك البدن استحق حدوثها
من المبادئ الأولى هيئة نزاع طبيعى إلى الاشتغال به واستعماله والاهتمام بأحواله والانجذاب
إليه تخصها وتصرفها عن كل الأجسام غيره ، فلابد أنها إذا وجدت متشخصة فإن مبدأ
تشخصها يلحق بها من الهيئات ما تتعين به شخصا وتلك الهيئة تكون مقتضية لاختصاصها
بذلك البدن ومناسبة لصلوح أحدهما للآخر ، وإن خفى علينا تلك الحالة وتلك المناسبة
، وتكون مبادئ الاستكمال متوقّعة لها بوساطته ، ويكون هو بدنها.
ولكن لقائل أن
يقول : إن هذه الشبهة تلزمكم فى النفوس إذا فارقت الأبدان ، فإنها إما أن تفسد ولا
تقولون به ، وإما أن تتحد وهو عين ما شنّعتم به ، وإما أن تبقى متكثرة ، وهى عندكم
مفارقة للمواد ، فكيف تكون متكثرة.
فنقول : أما بعد
مفارقة الأنفس للأبدان ، فإن الأنفس قد وجدت
__________________
كل واحدة منها
ذاتا منفردة باختلاف موادها التى كانت وباختلاف أزمنة حدوثها واختلاف هيئاتها التى
لها بحسب أبدانها المختلفة لا محالة. فإنا نعلم يقينا أن موجد المعنى الكلى شخصا
مشارا إليه لا يمكنه أن يوجده شخصا أو يزيد له معنى على
نوعيّته به يصير شخصا من المعانى التى تلحقه عند
حدوثه وتلزمه ، علمناها أو لم نعلم.
ونحن نعلم أن
النفس ليست واحدة فى الأبدان كلها ، ولو كانت واحدة وكثيرة بالإضافة لكانت عالمة
فيها كلها أو جاهلة ، ولما خفى على زيد ما فى نفس عمرو ، لأنّ الواحد المضاف إلى
كثيرين يجوز أن يختلف بحسب الإضافة. وأما الأمور الموجودة له فى ذاته فلا يختلف
فيها ، حتى إذا كان أب لأولاد كثيرين وهو شاب لم يكن شابا إلا بحسب الكل ، إذ
__________________
الشباب له فى نفسه
فيدخل فى كل إضافة ؛ وكذلك العلم والجهل والظن وما أشبه ذلك إنما تكون فى ذات
النفس وتدخل مع النفس فى كل إضافة.
فإذن ليست النفس
واحدة ، فهى كثيرة بالعدد ، ونوعها واحد ، وهى حادثة ، كما بيناه.
فلا شك أنها بأمر
مّا تشخصت وأن ذلك الأمر فى النفس الإنسانية ليس هو الانطباع فى المادة ، فقد علم
بطلان القول بذلك ، بل ذلك الأمر هيئة من الهيئات ، وقوة من القوى ، وعرض من الأعراض الروحانية ، أو جملة منها تشخصها
باجتماعها وإن جهلناها.
وبعد أن تشخصت
مفردة فلا يجوز أن تكون هى والنفس الأخرى بالعدد ذاتا واحدة ، فقد أكثرنا القول فى
امتناع هذا فى عدة مواضع.
لكنا نتيقن أنه
يجوز أن تكون النفس إذا حدثت مع حدوث مزاج مّا أن تحدث لها هيئة معدّة تعدّها فى
الأفعال النطقية والانفعالات النطقية تكون على جملة متميزة عن الهيئة الناظرة لها
فى أخرى تميّز المزاجين فى البدنين وأن تكون الهيئة المكتسبة التى تسمى عقلا
بالفعل أيضا على حد مّا تتميز به عن نفس أخرى ، وأنها يقع لها شعور بذاتها الجزئية
، وذلك الشعور هيئة مّا فيها أيضا خاصة ليست لغيرها. ويجوز أن تحدث فيها من جهة
القوى البدنية هيئة خاصة أيضا ، وتلك الهيئة تتعلق بالهيئات الخلقية ، أو تكون هى
هى ، أو تكون أيضا خصوصيات أخرى تخفى علينا تلزم النفوس مع حدوثها وبعده ، كما
تلزم امثالها أشخاص الأنواع الجسمانية فتتمايز بها ما بقيت ، وتكون الأنفس كذلك
تتميز بمخصصاتها
__________________
فيها ، كانت
الأبدان أو لم تكن أبدان ، عرفنا تلك الأحوال أو لم نعرف أو عرفنا بعضها .
__________________
الفصل الرابع
فى أن الأنفس الانسانية
لا تفسد ولا تتناسخ
أما أن النفس لا
تموت بموت البدن ، فلأن كل شىء يفسد بفساد شىء آخر فهو متعلق به نوعا من التعلق ،
وكل متعلق بشىء نوعا من التعلق فإما أن يكون تعلقه به تعلق المتأخر عنه فى الوجود
، أو تعلق المتقدم له فى الوجود الذى هو قبله فى الذات لا فى الزمان ، أو تعلق
المكافئ فى الوجود.
فإن كان تعلق
النفس بالبدن تعلق المكافئ فى الوجود ، وذلك أمر ذاتى له لا عارض ، فكل واحد منهما
مضاف الذات إلى صاحبه وليس لا النفس ولا البدن بجوهر ، لكنهما جوهران وإن كان ذلك
أمرا عرضيا لا ذاتيا.
فإن فسد أحدهما ،
بطل العارض الآخر من الإضافة ، ولم تفسد الذات بفساده من حيث هذا التعلق.
وإن كان تعلقها به
تعلق المتأخر عنه فى الوجود ، فالبدن علة النفس فى
__________________
الوجود والعلل
أربع : فإمّا أن يكون البدن علة فاعلية للنفس معطية لها الوجود ، وإما أن يكون علة
قابلية لها بسبيل التركيب كالعناصر للأبدان أو بسبيل البساطة كالنحاس للصنم ، وإما
أن يكون علة صورية ، وإما أن يكون علة كمالية .
ومحال أن يكون علة
فاعلية ، فإن الجسم بما هو جسم لا يفعل شيئا ، وإنما يفعل بقوة. ولو كان يفعل
بذاته لا بقواه ، لكان كل جسم يفعل ذلك الفعل. ثم إن القوى الجسمانية كلها إما
أعراض وإما صور مادية.
ومحال أن تفيد
الأعراض والصور القائمة بالمواد وجود ذات قائمة بنفسها لا فى مادة ووجود جوهر
مطلق.
ومحال أيضا أن
يكون علة قابلية ، فقد برهّنا وبيّنا أن النفس ليست منطبعة فى البدن بوجه من
الوجوه ، فلا يكون البدن إذن متصورا بصورة النفس لا بحسب البساطة ولا بحسب التركيب
بأن تكون أجزاء من أجزاء البدن تتركب وتمتزج تركيبا
مّا وامتزاجا مّا فتنطبع فيها النفس.
ومحال أن يكون
الجسم علة صورية للنفس أو كمالية ، فإن الأولى أن يكون بالعكس.
فإذن ليس تعلق النفس بالبدن تعلق معلول بعلة ذاتية.
وإن كان المزاج
والبدن علة بالعرض للنفس ، فإنه إذا حدث مادة بدن تصلح أن تكون آلة للنفس ومملكة
لها أحدثت العلل المفارقة النفس الجزئية أو حدث عنها ذلك. فإن إحداثها بلا سبب
يخصص إحداث واحدة
__________________
دون واحدة محال.
ومع ذلك فإنه يمنع
عن وقوع الكثرة فيها بالعدد ، لما قد بيناه ، ولأنه لابد لكل كائن بعد ما لم يكن
من أن تتقدمه مادة يكون فيها تهيّؤ قبوله أو تهيؤ نسبته إليه ، كما تبين فى العلوم
الأخرى ، فانّه لو كان يجوز أيضا أن تكون نفس جزئية تحدث ولم تحدث لها آلة بها
تستكمل وتفعل لكانت معطلة الوجود ولا شىء معطل فى الطبيعة. وإذا كان ذلك ممتنعا
فلا قدرة عليه ، ولكن إذا حدث التهيؤ للنسبة والاستعداد للآلة يلزم حينئذ أن يحدث
من العلل المفارقة شىء هو النفس وليس ذلك للنفس فقط بل كل ما يحدث بعد ما لم يكن من الصور فإنما يرجّح وجوده عن لا وجوده
استعداد المادة له وصيرورتها خليقة به. وليس إذا وجب حدوث شىء عند
حدوث شىء وجب أن يبطل مع بطلانه ، إنما يكون ذلك إذا كانت ذات الشىء قائمة بذلك
الشىء وفيه. وقد تحدث أمور عن أمور ، وتبطل تلك الأمور ، وتبقى تلك الأمور إذا
كانت ذاتها غير قائمة فيها ، وخصوصا إذا كان مفيد الوجود لها شىء آخر غير الذى إنما تهيأ إفادة وجودها مع وجوده. ومفيد وجود النفس هو غير جسم ولا
هو قوة فى جسم ، بل هو لا محالة ذات قائمة بريئة عن المادة وعن المقادير. فإذا كان
وجودها من ذلك الشىء ومن البدن يحصل وقت استحقاقها للوجود
__________________
فقط فليس له تعلق
فى نفس الوجود بالبدن ، ولا البدن علة له إلا بالعرض . فلا يجوز إذن أن يقال إن التعلق بينهما على نحو يوجب أن يكون الجسم متقدما
تقدّم العلية على النفس.
وأما القسم الثالث
مما ذكرنا فى الابتداء وهو أن يكون تعلق النفس بالبدن تعلق المتقدم فى الوجود ، فإما أن يكون التقدم مع ذلك زمانيا فيستحيل أن
يتعلق وجودها به فقد تقدمته فى الزمان ، وإما أن يكون التقدم بالذات لا بالزمان ،
وهذا النحو من التقدم هو أن تكون الذات المتقدمة فى الوجود كما توجد يلزم أن
تستفاد عنها ذات المتأخر فى الوجود.
وحينئذ لا يوجد
أيضا هذا المتقدم فى الوجود إذا فرض المتأخر قد عدم ، لا أنّ فرض عدم المتأخر أوجب
عدم المتقدم ، ولكن لأن المتأخر لا يجوز أن يكون عدم إلا وقد عرض أولا للمتقدم فى
طبعه ما أعدمه ، فحينئذ عدم المتأخر ، فليس فرض عدم المتأخر موجب عدم المتقدم ، ولكن فرض عدم المتقدم نفسه لأنه إنما يفرض المتأخر معدوما بعد أن عرض للمتقدم أن عدم فى نفسه.
وإذا كان كذلك
فيجب أن يكون السبب المعدم يعرض فى جوهر النفس فيفسد معه البدن ، وأن لا يكون
البدن ألبتة يفسد بسبب يخصه. لكن فساد البدن يكون بسبب يخصه من تغيّر المزاج أو
التركيب. فمحال
__________________
أن تكون النفس
تتعلق بالبدن تعلق المتقدم بالذات ، ثم يفسد البدن ألبتة بسبب فى نفسه ، فليس إذن
بينهما هذا التعلق. وإذا كان الأمر على هذا ، فقد بطلت أنحاء التعلق كلها وبقى أن
لا تعلق للنفس فى الوجود بالبدن ، بل تعلقها فى الوجود بالمبادئ الأخرى التى لا
تستحيل ولا تبطل.
وأقول أيضا : إن
سببا آخر لا يعدم النفس ألبتة ، وذلك أن كل شىء من شأنه أن يفسد بسبب مّا ففيه قوة
أن يفسد ، وقبل الفساد فيه فعل أن يبقى ، وتهيؤه للفساد ليس لفعله أنه يبقى ، فإن
معنى القوة مغاير لمعنى الفعل ، وإضافة هذه القوة مغايرة لإضافة هذا الفعل ، لأن
إضافة ذلك إلى الفساد وإضافة هذا إلى البقاء. فإذن لأمرين مختلفين ما يوجد فى
الشىء هذان المعنيان.
فنقول : إن
الأشياء المركبة والأشياء البسيطة التى هى قائمة فى المركبة يجوز أن يجتمع فيها
فعل أن يبقى وقوة أن يفسد ، وفى الأشياء البسيطة المفارقة الذات لا يجوز أن يجتمع
هذان الأمران.
وأقول بوجه مطلق :
إنه لا يجوز أن يجتمع فى شىء أحدىّ الذات هذان المعنيان ، وذلك لأن كل شىء يبقى
وله قوة أن يفسد فله أيضا قوة أن
__________________
يبقى ، لأن بقاءه
ليس بواجب ضرورى. وإذا لم يكن واجبا كان ممكنا ، والإمكان الذى يتناول الطرفين هو
طبيعة القوة ، فإذن يكون له فى جوهره قوة أن يبقى وفعل أن يبقى. وقد بان أن فعل أن
يبقى منه لا محالة ليس هو قوة أن يبقى منه ، وهذا بيّن ، فيكون فعل أن يبقى منه
أمرا يعرض للشىء الذى له قوة أن يبقى ، فتلك القوة لا تكون لذات مّا بالفعل ، بل
للشىء الذى يعرض لذاته أن تبقى بالفعل ، لا أنه حقيقة ذاته. فيلزم من هذا أن تكون
ذاته مركبة من شىء إذا كان ، كانت به ذاته موجودة بالفعل وهو الصورة فى كل شىء ،
وعن شىء حصل له هذا الفعل وفى طباعه قوته وهو مادته.
فإن كانت النفس
بسيطة مطلقة لم تنقسم إلى مادة وصورة ، فإن كانت مركبة فلنترك المركب ولننظر فى
الجوهر الذى هو مادته.
ولنصرف القول إلى
نفس مادته ولنتكلم فيها.
ونقول : إن المادة
إما أن تنقسم هكذا دائما ونثبت الكلام دائما ، وهذا محال ، وإما أن لا يبطل الشىء
هو الجوهر والسنخ. وكلامنا فى هذا الشىء الذى هو السنخ والأصل وهو الذى نسميه
النفس ، وليس كلامنا فى شىء مجتمع منه ومنه شىء آخر. فبين أن كل شىء هو بسيط غير
مركب ، أو هو أصل مركب وسنخه ، فهو غير مجتمع فيه فعل أن يبقى وقوة أن يعدم
بالقياس إلى ذاته. فإن كانت فيه قوة أن يعدم فمحال أن يكون فيه فعل أن يبقى ، وإذا
كان فيه فعل أن يبقى وأن يوجد فليس فيه قوة أن يعدم.
فبين إذن أن جوهر
النفس ليس فيه قوة أن يفسد.
وأما الكائنات
التى تفسد فإن الفاسد منها هو المركب المجتمع ، وقوة أن
يفسد أو يبقى ليس
فى المعنى الذى به المركب واحد ، بل فى المادة التى هى بالقوة قابلة كلا الضدين.
فليس إذن فى الفاسد المركب لا قوة أن يبقى ولا قوة أن يفسد ، فلم تجتمعا فيه.
وأما المادة فإما
أن تكون باقية لا بقوة تستعد بها للبقاء كما يظن قوم ، وإما أن تكون باقية بقوة
بها تبقى وليس لها قوة أن تفسد ، بل قوة أن تفسد شىء آخر يحدث فيها. والبسائط التى
فى المادة فإن قوة فسادها فى جوهر المادة لا فى جوهرها. والبرهان الذى يوجب أن كل
كائن فاسد من جهة تناهى قوّتى البقاء والبطلان ، إنما يوجب فيما هو كائن من مادة
وصورة ، وتكون فى مادته قوة أن تبقى فيه تلك الصورة وقوة أن تفسد هى منه ، كما قد
علمت. فقد بان إذن أن النفس الإنسانية لا تفسد ألبتة ، وإلى هذا سقنا كلامنا والله
الموفق.
وقد أوضحنا أن
الأنفس إنما حدثت وتكثرت مع تهيؤ من الأبدان. على أن تهيؤ الأبدان
يوجب أن يفيض وجود النفس لها من العلل المفارقة.
__________________
وظهر من ذلك أن
هذا لا يكون على سبيل الاتفاق والبخت ، حتى يكون وجود النفس الحادثة ليس لاستحقاق
هذا المزاج نفسا حادثة مدبرة.
ولكن قد كان وجدت نفس واتفق أن وجد معها بدن فتعلق بها ، فإن مثل هذا لا يكون علة ذاتية
ألبتة للتكثر ، بل عسى أن يكون عرضية.
وقد عرفنا أن
العلل الذاتية هى التى يجب أن تكون أولا ، ثم ربما تليها العرضية ، فإذا كان كذلك
، فكل بدن يستحق مع حدوث مزاج مادته حدوث نفس له ، وليس بدن يستحقه وبدن لا يستحقه
، إذ أشخاص الأنواع لا تختلف فى الأمور التى بها تتقوم. وليس يجوز أن يكون بدن
إنسانى يستحق نفسا تكمل به وبدن آخر وهو فى حكم مزاجه بالنوع لا يستحق ذلك ، بل إن
اتفق كان وإن لم يتفق لم يكن ، فإن هذا حينئذ لا يكون من نوعه ، فإذا فرضنا أن
نفسا تناسختها أبدان ، فكلّ بدن فإنه بذاته يستحق نفسا تحدث له وتتعلق به ، فيكون
البدن الواحد فيه نفسان معا.
ثم العلاقة بين
النفس والبدن ليست هى على سبيل الانطباع فيه ، كما بيناه مرارا ، بل العلاقة التى
بينهما هى علاقة الاشتغال من النفس بالبدن ، حتى تشعر النفس بذلك البدن ، وينفعل
البدن عن تلك النفس. وكل حيوان فإنه يستشعر نفسه نفسا واحدة هى المتصرفه والمدبرة للبدن الذى له ، فإن كان هناك نفس أخرى لا يشعر الحيوان بها ولا هو
بنفسه ولا تشتغل
__________________
بالبدن ، فليست
لها علاقة مع البدن ، لأن العلاقة لم تكن إلا بهذا النحو ، فلا يكون تناسخ بوجه من
الوجوه. وبهذا المقدار لمن أراد الاختصار كفاية ، بعد أنّ فيه كلاما طويلا.
الفصل الخامس
فى العقل الفعال فى
أنفسنا والعقل المنفعل عن أنفسنا
نقول : إن النفس
الإنسانية قد تكون عاقلة بالقوة ، ثم تصير عاقلة بالفعل ، وكل ما خرج من القوة إلى
الفعل فإنما يخرج بسبب بالفعل يخرجه. فهاهنا سبب هو الذى يخرج نفوسنا فى المعقولات
من القوة إلى الفعل ، وإذا هو السبب فى إعطاء الصور العقلية ، فليس إلا عقلا
بالفعل عنده مبادئ الصور العقلية مجردة ، ونسبته إلى نفوسنا كنسبة الشمس إلى
إبصارنا. فكما أن الشمس تبصر بذاتها بالفعل ويبصر بنورها بالفعل ما ليس مبصرا
بالفعل ، كذلك حال هذا العقل عند نفوسنا ، فإن القوة العقلية إذا اطلعت على
الجزئيات التى فى الخيال وأشرق عليها نور العقل الفعال
__________________
فينا الذى ذكرناه
، استحالت مجردة عن المادة وعلائقها ، وانطبعت فى النفس الناطقة ، لا
على أنها نفسها تنتقل من التخيل إلى العقل منا ، ولا على أن المعنى المغمور فى العلائق وهو فى نفسه واعتباره فى ذاته مجرد يفعل مثل نفسه ، بل
على معنى أن مطالعتها تعدّ النفس لأن يفيض عليها المجرد من العقل الفعال. فإن
الأفكار والتأملات حركات معدة للنفس نحو قبول الفيض ، كما أن الحدود الوسطى معدة
بنحو أشد تأكيدا لقبول النتيجة ، و إن كان الأول على
سبيل. والثانى على سبيل أخرى ، كما ستقف عليه.
فتكون النفس
الناطقة إذا وقعت لها نسبة مّا إلى هذه الصورة بتوسط إشراق العقل الفعال حدث فيها
منه شىء من جنسها من وجه وليس من جنسها من وجه ، كما أنه إذا وقع الضوء على
الملونات فعل فى البصر منها أثرا ليس على جملتها من كل وجه.
فالخيالات التى هى
معقولات بالقوة تصير معقولات بالفعل ، لا أنفسها ، بل ما يلتقط عنها ؛ بل كما أن
الأثر المتأدى بواسطة الضوء من الصور المحسوسة ليس هو نفس تلك الصور ، بل شىء آخر
مناسب لها يتولد بتوسط الضوء فى القابل المقابل ، كذلك النفس الناطقة إذا طالعت
تلك الصور الخيالية واتصل بها نور العقل الفعال ضربا من الاتصال استعدت لأن تحدث
فيها من ضوء العقل الفعال مجردات تلك الصور عن الشوائب.
__________________
فأول ما يتميز عند
العقل الإنسانى أمر الذاتى منها والعرضى وما به تتشابه تلك الخيالات وما به تختلف
، فتصير المعانى التى لا تختلف تلك بها معنى واحدا فى ذات العقل بالقياس إلى
التشابه لكنّه فيه بالقياس إلى ما تختلف به يصير معانى كثيرة ، فتكون للعقل قدرة
على تكثير الواحد وتوحيد الكثير من المعانى .
أما توحيد الكثير
فمن وجهين : أحدهما بأن تصير المعانى الكثيرة المختلفة فى المتخيلات بالعدد ، إذا
كانت لا تختلف فى الحد معنى واحدا. والوجه الثانى بأن يركب من معانى الأجناس
والفصول معنى واحدا بالحد.
ويكون وجه التكثير
بعكس هذين الوجهين.
فهذه من خواص
العقل الإنسانى ، وليس ذلك لغيره من القوى ، فإنها تدرك الكثير كثيرا كما هو ،
والواحد واحدا كما هو ،
__________________
ولا يمكنها أن
تدرك الواحد البسيط ، بل الواحد من حيث هو جملة مركبة من أمور وأعراضها ، ولا
يمكنها أن تفصّل العرضيّات وتنزعها من الذاتيات.
فإذا عرض الحس على
الخيال والخيال على العقل صورة مّا وأخذ العقل منها معنى ، فإن عرض عليه صورة أخرى
من ذلك النوع وإنما هى أخرى بالعدد لم يأخذ العقل منها ألبتة صورة مّا غير ما أخذ
إلا من جهة العرض الذى يخص هذا من حيث هو ذلك العرض ، بأن يأخذه مرة مجردا ومرة مع
ذلك العرض.
ولذلك يقال : إن
زيدا وعمروا لهما معنى واحد فى الإنسانية ، ليس على أن الإنسانية المقارنة بخواصّ
عمرو هى بعينها الإنسانية التى تقارن خواص زيد ، وكأن ذاتا واحدة هى لزيد ولعمرو
كما يكون بالصداقة أو بالملك أو بغير ذلك ، بل الإنسانية فى الوجود متكثرة فلا
وجود لإنسانية واحدة مشترك فيها فى الوجود الخارج حتى تكون هى بعينها إنسانية زيد
وعمرو ، وهذا سنبّين فى الصناعة الحكمية.
ولكن معنى ذلك أن
السابق من هذه إذا أفاد النفس صورة الإنسانية ، فإن الثانى لا يفيد ألبتة شيئا آخر
، بل يكون المعنى المنطبع منهما فى النفس واحدا هو عن الخيال الأول ؛ ولا تأثير
للخيال الثانى ، فإن كل واحد منهما كان يجوز أن يسبق فيفعل هذا الأثر بعينه فى
النفس ليس كشخصى إنسان وفرس هذا.
ومن شأن العقل إذا
أدرك أشياء فيها تقدم وتأخر أن يعقل معها الزمان ضرورة ، وذلك لا فى زمان ، بل فى
آن. والعقل يعقل الزمان فى آن ، وأما تركيبه القياس والحد فهو يكون لا محالة فى
زمان ، إلا أن تصوره
النتيجة والمحدود
يكون دفعة .
والعقل ليس عجزه
عن تصور الأشياء التى هى فى غاية المعقولية ، والتجريد عن المادة لأمر فى ذات تلك
الأشياء ، ولا لأمر فى غريزة العقل ، بل لأجل أن النفس مشغولة فى البدن بالبدن ،
فتحتاح فى كثير من الأمور إلى البدن ، فيبّعدها البدن عن أفضل كمالاتها.
وليست العين إنما
لا تطيق أن تنظر إلى الشمس لأجل أمر فى الشمس وأنها غير جلية ، بل لأمر فى جبلّة
بدنها. فإذا زال عن النفس منا هذا الغمور وهذا العوق كان تعقّل النفس لهذه أفضل
التعقلات للنفس وأوضحها وألذها.
ولأن كلامنا فى
هذا الموضع إنما هو فى أمر النفس من حيث هى نفس ، وذلك من حيث هى مقارنة لهذه
المادة. فليس ينبغى لنا أن نتكلم فى أمر معاد النفس ـ ونحن متكلمون فى الطبيعة ـ إلى
أن ننتقل إلى الصناعة الحكمية وننظر فيها فى الأمور المفارقة. وأما النظر فى
الصناعة
__________________
الطبيعية فيختص
بما يكون لائقا بالأمور الطبيعية ، وهى الأمور التى لها نسبة إلى المادة والحركة.
بل نقول : إن تصور
العقل يختلف بحسب وجود الأشياء ، فالأشياء القوية جدا قد يقصر العقل عن إدراكها
لغلبتها ، والأشياء الضعيفة الوجود جدا كالحركة والزمان والهيولى فقد يصعب تصورها
، لأنها ضعيفة الوجود.
[ العقول التى لا يخالطها ما بالقوة لا تعقل العدم والشر ]
والأعدام لا
يتصورها العقل وهو بالفعل مطلقا ، لأن العدم يدرك من حيث لا تدرك الملكة فيكون مدرك العدم
من حيث هو عدم والشر من حيث هو شرّ شىء هو بالقوة وعدم كمال ، فإن أدركه عقل فإنما يدركه لأنه بالإضافة إليه بالقوة فالعقول التى لا يخالطها ما بالقوة لا
تعقل العدم والشر من حيث هو شر وعدم ولا تتصورهما ، وليس فى الوجود شىء هو شر
مطلقا.
__________________
الفصل السادس
فى مراتب أفعال العقل
وفى أعلى مراتبها وهو
العقل القدسى
فنقول : إن النفس
تعقل بأن تأخذ فى ذاتها صورة المعقولات مجردة عن المادة ، وكون الصورة مجردة إما
أن يكون بتجريد العقل إياها ، وإما أن يكون لأن تلك الصورة فى نفسها مجردة عن
المادة ، فتكون النفس قد كفيت المؤنة فى تجريدها.
والنفس تتصور
ذاتها ، وتصورها ذاتها يجعلها عقلا وعاقلا ومعقولا ، وأما تصورها لهذه الصور فلا يجعلها كذلك ، فإنها فى جوهرها فى البدن دائما بالقوة عقل ، وإن خرج فى أمور مّا إلى الفعل.
وما يقال من أن
ذات النفس تصير هى المعقولات ، فهو من جملة ما
__________________
يستحيل عندى ؛
فإنى لست أفهم قولهم : إن شيئا يصير شيئا آخر ، ولا أعقل أن ذلك كيف يكون ، فإن
كان بأن يخلع صورة ثم يلبس صورة أخرى ، ويكون هو مع الصورة الأولى شيئا ، ومع
الصورة الأخرى شيئا ، فلم يصر بالحقيقة الشىء الأول الشىء الثانى ؛ بل الشىء الأول
قد بطل وإنما بقى موضوعه أو جزء منه ، وإن كان ليس كذلك فلينظر كيف يكون.
فنقول : إذا صار
الشىء شيئا آخر ، فإما أن يكون إذ هو قد صار ذلك الشىء موجودا أو معدوما . فإن كان موجودا ، فالثانى الآخر إما أن يكون موجودا أيضا أو معدوما. فإن كان
موجودا ، فما موجودان لا موجود واحد. وإن كان معدوما ، فصار هذا الموجود شيئا معدوما لا شيئا آخر موجودا ، وهذا غير معقول.
وإن كان الأول قد
عدم فما صار شيئا آخر ، بل عدم هو وحصل شىء آخر. فالنفس كيف تصير صور الأشياء.
وأكثر ما هوّس
الناس فى هذا هو الذى صنف لهم إيساغوجى وكان
__________________
حريصا على أن
يتكلم بأقوال مخيلة شعرية صوفية يقتصر منها لنفسه ولغيره على التخيل ، ويدلّ أهل
التمييز على ذلك كتبه فى العقل والمعقولات وكتبه فى النفس.
نعم إن صور
الأشياء تحلّ النفس وتحليّها وتزيّنها ، وتكون النفس كالمكان لها بتوسط العقل
الهيولانى ، ولو كانت النفس صورة شىء من الموجودات بالفعل ، والصورة هى الفعل ،
وهى بذاتها فعل ، وليس فى ذات الصورة قوة قبول شىء ، إنما قوة القبول فى القابل
للشىء ، وجب أن تكون النفس حينئذ لا قوة لها على
قبول صورة أخرى وأمر آخر. وقد نراها تقبل صورة أخرى غير تلك الصورة ، فإن كان ذلك
الغير أيضا لا يخالف هذه الصورة فهو من العجائب ، فيكون القبول واللاقبول واحدا . وإن كان يخالفه ، فتكون النفس لا محالة إن كانت هى الصورة المعقولة قد صارت
غير ذاتها ، وليس من هذا شىء ، بل النفس هى العاقلة.
والعقل إنما يعنى
به قوتها بها تعقل ، أو يعنى به صور هذه المعقولات فى انفسها. ولأنها فى النفس
تكون معقولة ، فلا يكون العقل والعاقل والمعقول شيئا واحدا فى أنفسنا ، نعم هذا فى
شىء آخر يمكن أن يكون على ما سنلمحه فى موضعه .
__________________
وكذلك العقل
الهيولانى إن عنى به مطلق الاستعداد للنفس فهو باق فينا أبدا ما دمنا فى البدن ،
وإن عنى بحسب شىء شىء فإن الاستعداد يبطل مع وجود الفعل .
وإذ قد تقرر هذا
فنقول : إن تصور المعقولات على وجوه ثلاثة :
أحدها التصور الذى
يكون فى النفس بالفعل مفصّلا منظّما ، وربما يكون ذلك التفصيل والنظام غير واجب ،
بل يصحّ أن يغيّر. مثاله أنك فصلّت فى نفسك معانى الألفاظ التى يدل عليها قولك :
كل إنسان حيوان ، وجدت كل معنى منها كليا لا يتصور إلا فى جوهر غير بدنى ، ووجدت لتصورها فيه تقديما وتأخيرا.
فإن غيّرت ذلك حتى
كان ترتيب المعانى المتصورة الترتيب المحاذى لقولك : الحيوان محمول على كل إنسان
لم تشك أن هذا الترتيب من حيث هو ترتيب معان كلية لم يترتب إلا فى جوهر غير بدنى ،
وإن كان أيضا يترتب من وجه مّا فى الخيال فمن حيث المسموع لا من حيث المعقول ،
وكان الترتيبان مختلفين ، والمعقول الصرف منهما
واحد.
والثانى أن يكون
قد حصل التصور واكتسب ، لكل النفس معرضة عنه ، فليست تلتفت إلى ذلك المعقول ، بل
قد انتقلت عنه مثلا إلى معقول آخر ، فإنه ليس فى وسع أنفسنا أن تعقل الأشياء معا
دفعة واحدة.
__________________
ونوع آخر من
التصور وهو مثل ما يكون عندك فى مسألة تسئل عنها مما علمته أو مما
هو قريب من أن تعلمه فحضرك جوابها فى الوقت ، وأنت متيقن بأنك تجيب عنها مما علمته
من غير أن يكون هناك تفصيل ألبتة ، بل إنما تأخذ فى التفصيل والترتيب فى نفسك مع
أخذك فى الجواب الصادر عن يقين منك بالعلم به قبل التفصيل والترتيب.
فيكون الفرق بين
التصور الأول والثانى ظاهرا. فإن الأول كأنه شىء قد أخرجته من الخزانة وأنت
تستعمله.
والثانى كأنه شىء
لك مخزون متى شئت استعملته.
الثالث يخالف
الأول بأنه ليس شيئا مرتبا فى الفكر ألبتة ، بل هو كمبدأ لذلك مع مقارنته لليقين ، ويخالف الثانى بأنه لا يكون معرضا عنه ، بل منظورا
إليه نظرا مّا بالفعل يقينا إذ تتخصص معه النسبة إلى بعض ما هو كالمخزون.
فإن قال قائل : إن
ذلك علم أيضا بالقوة ولكن قوة قريبة من الفعل ، فذلك باطل ، لأن لصاحبه يقينا
بالفعل حاصلا لا يحتاج أن يحصله بقوة قريبة او بعيدة. فذلك اليقين اما لأنّه متيقّن أن هذا حاصل عنده إذا شاء علمه ، فيكون تيقّنه بالفعل بأن هذا
حاصل تيقنا به بالفعل ، فإن الحصول حصول لشىء ، فيكون هذا
الشىء الذى نشير إليه حاصلا بالفعل ،
__________________
لأنه من المحال أن
يتيقّن أن المجهول بالفعل معلوم عنده مخزون ، فكيف يتيقّن حال الشىء إلا والأمر هو
من جهة ما يتيقّنه معلوم ، وإذا كانت الإشارة تتناول للمعلوم بالفعل ومن المتيقن
بالفعل أن هذا عنده مخزون فهو بهذا النوع البسيط معلوم عنده ، ثم قد يريد أن يجعله
معلوما بنوع آخر.
ومن العجائب أن
هذا المجيب حين يأخذ فى تعليم غيره تفصيل ما هجس فى نفسه دفعة يكون مع ما يعلّمه
يتعلّم العلم بالوجه الثانى فيرتّب تلك الصورة فيه مع ترتب ألفاظه.
فأحد هذين هو
العلم الفكرى الذى إنما يستكمل به تمام الاستكمال إذا ترتب وتركب.
والثانى هو العلم
البسيط الذى ليس من شأنه أن يكون له فى نفسه
__________________
صورة بعد صورة
ولكن هو واحد تفيض عنه الصور فى قابل الصور فذلك علم فاعل للشىء الذى نسميه علما
فكريا ومبدأ له ، وذلك هو للقوة العقلية المطلقة من النفوس المشاكلة للعقول الفعالة.
وأما التفصيل فهو
للنفس من حيث هى نفس ، فما لم يكن له ذلك لم يكن له علم نفسانى. وأما أنه كيف يكون
للنفس الناطقة مبدأ غير النفس له علم غير علم النفس ، فهو موضع نظر يجب عليك أن
تعرفه من نفسك.
واعلم أنه ليس فى
العقل المحض منهما تكثر ألبتة ولا ترتيب صورة فصورة ، بل هو مبدأ لكل صورة تفيض
عنه على النفس. وعلى هذا ينبغى أن تعتقد الحال فى المفارقات المحضة فى عقلها
الأشياء ، فإن عقلها هو العقل
__________________
الفعال للصور
والخلاق لها لا الذى يكون الصور أو فى صور .
فالنفس التى
للعالم من حيث هى نفس فإن تصوّرها هو التصور المرتب المفصل ، فلذلك ليست بسيطة من
كل وجه ، وكل إدراك عقلى فإنه نسبة مّا إلى صورة مفارقة للمادة ولأعراضها المادية
على النحو المذكور. فللنفس ذلك بأنها جوهر قابل منطبع به ، وللعقل بأنه جوهر مبدأ
فاعل خلاق ، فما يخص ذاته من مبدئيته لها هو عقليته بالفعل ، وما يخص النفس من
تصورها بها وقبولها لها هو عقليتها بالفعل.
والذى ينبغى أن
يعلم من حال الصور التى فى النفس هو ما أقوله :
أما المتخيلات وما
يتصل بها فإنها إذا اعرض عنها النفس كانت مخزونة فى قوى هى للخزن ، وليست بالحقيقة مدركة ، وإلا لكانت مدركة وخزانة معا ، بل هى خزانة إذا
رجعت القوة الدرّاكة الحاكمة وهى الوهم والنفس أو العقل وجدتها حاصلة ، فإن لم
تجدها احتاجت إلى استرجاع بتحسس أو بتذكّر.
ولولا هذا العذر
لكان من الواجب أن يشك فى أنّ كل نفس إذا كانت ذاهلة عن صورة ، أتلك الصورة موجودة أم
ليست بموجودة إلا بالقوة.
ويتشكك فى أنها
كيف ترتجع ، وإذا لم تكن عند النفس فعند أى شىء
__________________
تكون ، والنفس بأى
شىء تتصل حتى تعاود هذه الصورة.
لكن النفس
الحيوانية قد فرّقت قواها ، وجعلت لكل قوة آلة مفردة ، فجعلت للصور خزانة قد يغفل عنها الوهم ، وللمعانى خزانة قد يغفل عنها
الوهم ، إذ ليس للوهم موضع ثبات هذه الأمور ، ولكن الحاكم .
فلنا أن نقول : إن
الوهم قد يطالع الصور والمعانى المخزونة فى حيّزى القوتين ، وقد يعرض عنها ، فماذا نقول الآن فى الأنفس الإنسانية والمعقولات التى
تكتسبها وتذهل عنها إلى غيرها ، أتكون موجودة فيها بالفعل التام فتكون لا محالة
عاقلة لها بالفعل التام ، أو تكون لها خزانة تخزنها فيها ، وتلك الخزانة إما ذاتها
أو بدنها أو شىء بدنى لها. وقد قلنا : إن بدنها وما يتعلق ببدنها مما لا يصلح لذلك
، إذ لم يصلح أن يكون محلا للمعقولات ، ولا يصلح أن تكون الصور العقلية ذات وضع
وكان اتصالها بالبدن بجعلها ذات وضع ، وإذا صارت فى البدن ذات وضع بطل أن تكون
معقولة.
أو نقول : إن هذه
الصور العقلية أمور قائمة فى أنفسها ، كل صورة منها نوع آخر قائم فى نفسه ، والعقل ينظر إليها مرة ويغفل عنها
__________________
أخرى ، فإذا نظر
إليها تمثّلث فيه ، وإذا أعرض عنها لم تتمثل ، فتكون النفس كمرآة وهى كأشياء خارجة
، فتارة تلوح فيها وتارة لا تلوح ، وذلك بحسب نسب تكون بين النفس وبينها.
أو يكون المبدأ
الفعال يفيض على النفس صورة بعد صورة بحسب طلب النفس ، وأن يكون إذا أعرضت عنه
انقطع الفيض. فإن كان هذا هكذا فلم لا تحتاج كل كرّة إلى تعلّم من رأس.
فنقول : إن الحق
هو القسم الآخر ، وذلك أنه من المحال أن نقول إن هذه الصورة موجودة فى النفس
بالفعل التام ولا تعقلها بالفعل التام ، إذ ليس معنى أنها تعقلها إلا أن الصورة
موجودة فيها ، ومحال أن يكون البدن لها خزانة ، ومحال أن تكون ذاتها خزانتها ، إذ
ليس كونها خزانة لها إلا أن تلك الصورة معقولة موجودة فيها وبهذا تعلقها.
وليس كذلك الذكر
والمصورة ، فان إدراك هذه الصورة ليس لهما ، بل حفظها فقط ، وإنما إدراكها بقوّة
اخرى ، وليس وجود الصورة المذكورة والمتصورة فى شىء هو إدراك ، كما ليس وجود صورة
المحسوسات فى الشىء هو حس ، ولذلك ليست الأجسام وفيها صورة المحسوسات بمدركة ، بل
الإدراك يحتاج أن يكون لما من شأنه أن ينطبع بتلك الصورة انطباعا مّا بما هو قوة
مدركة. وأما الذكر والمصورة فإنما تنطبع فيهما الصور بما هى آلة ولها جسم يحفظ تلك
الصور قريبا من حامل القوة الدرّاكة وهى الوهم حتى ينظر إليها متى شاء ، كما يحفظ
الصور المحسوسة قريبا من الحس ليتأملها الحس متى شاء.
فهذا التأويل
يحتمله الذكر والمصورة ولا تحتمله النفس ، فإن وجود الصورة المعقولة فى النفس هو
نفس إدراكها لها ، وأيضا سنبين بعد فى
الحكمة الأولى أن هذه الصورة لا تقوم منفردة.
فبقى أن يكون
القسم الصحيح هو القسم الأخير ، ويكون التعلم طلب الاستعداد التام للاتصال به ،
حتى يكون منه العقل الذى هو البسيط فتفيض منه الصور مفصلة فى النفس
بتوسط الفكرة ، فيكون الاستعداد قبل التعلم ناقصا ، والاستعداد بعد التعلم تاما.
واذا تعلم يكون من
شأنه أنه إذا خطر بباله ما يتصل بالمعقول المطلوب ، وأقبلت النفس على جهة النظر ـ وجهة
النظر هو الرجوع إلى المبدأ الواهب للعقل ـ اتصل به ففاضت منه قوة العقل المجرد الذى يتبعه فيضان التفصيل ، وإذا أعرض عنه عادت فصارت تلك
الصورة بالقوة ، لكن قوة قريبة جدا من الفعل. فيكون التعلم الأول كمعالجة العين ،
فإذا صارت العين صحيحة فمتى شاءت نظرت إلى الشىء الذى منه تأخذ صورة مّا ، وإذا
أعرضت عن ذلك الشىء صار ذلك بالقوة القريبة من الفعل. وما دامت النفس البشرية
القاسية فى البدن ، فإنه ممتنع عليها أن تقبل العقل الفعال دفعة ،
بل يكون حالها ما قلنا.
وإذا قيل : إن
فلانا عالم بالمعقولات ، فمعناه أنه بحيث كلما شاء أحضر صورته فى ذهن نفسه ، ومعنى
هذا أنه كلما شاء كان له أن يتصل بالعقل الفعال اتصالا يتصور فيه منه ذلك المعقول
، ليس أن ذلك المعقول
__________________
حاضر فى ذهنه
ومتصور فى عقله بالفعل دائما ، ولا كما كان قبل التعلم.
وبتحصيل هذا الضرب
من العقل بالفعل ، وهو القوة تحصل للنفس أن تعقل بها ما تشاء ، فإذا شاءت
اتصلت وفاضت فيها الصورة المعقولة ، وتلك الصورة هى العقل المستفاد بالحقيقة ،
وهذه القوة هى العقل بالفعل فينا من حيث بها أن نعقل. وأما العقل المستفاد فهو
العقل بالفعل من حيث هو كمال.
وأما التصور
للأمور المتخيلة فهو رجوع من النفس إلى الخزائن للمحسوسات. والأول نظر إلى فوق ،
وهذا نظر إلى أسفل. فإن خلص عن البدن وعوارض البدن فحينئذ يجوز أن يتصل بالعقل
الفعال تمام الاتصال ويلقى هناك الجمال العقلى واللذة السرمدية كما نتكلم عليه فى
بابه.
واعلم أن التعلم
سواء حصل من غير المتعلم أو حصل من نفس المتعلم فإنه متفاوت فيه ، فإن من
المتعلمين من يكون أقرب إلى التصور ، لأن استعداده الذى قبل الاستعداد الذى ذكرناه
أقوى ، فإن كان ذلك للإنسان فيما بينه وبين نفسه سمى هذا الاستعداد القوى حدسا.
وهذا الاستعداد قد
يشتد فى بعض الناس ، حتى لا يحتاج فى أن يتصل بالعقل الفعال إلى كثير شىء وإلى
تخريج وتعليم ، بل يكون شديد
__________________
الاستعداد لذلك
كأنّ الاستعداد الثانى حاصل له ، بل كأنّه يعرف كل شىء من نفسه.
وهذه الدرجة أعلى
درجات هذا الاستعداد ، ويجب أن تسمى هذه الحالة من العقل الهيولانى عقلا قدسيا ،
وهى من جنس العقل بالملكة ، إلا أنه رفيع جدا ليس مما يشترك فيه الناس كلهم.
ولا يبعد أن يفيض
بعض هذه الأفعال المنسوبة إلى الروح القدسية لقوتها واستعلائها فيضانا على
المتخيلة ، فتحاكيها المتخيلة أيضا بأمثلة محسوسة ومسموعة من الكلام على النحو
الذى سلفت الإشارة إليه.
وممّا يحقّق هذا
أن من المعلوم الظاهر أن الأمور المعقولة التى يتوصل إلى اكتسابها إنما تكتسب
بحصول الحد الأوسط فى القياس. وهذا الحد الأوسط قد يحصل من ضربين من الحصول :
[ تعريف الحدس والذكاء ]
فتارة يحصل بالحدس
، والحدس فعل للذهن يستنبط به بذاته الحد الأوسط والذكاء قوة الحدس.
وتارة يحصل بالتعليم
، ومبادئ التعليم الحدس ، فإن الأشياء تنتهى لا محالة إلى حدوس استنبطها أرباب تلك
الحدوس ثم اوردوها إلى المتعلمين. فجائز إذن أن يقع للإنسان بنفسه الحدس وأن
ينعقد فى ذهنه القياس بلا تعلّم .
وهذا مما يتفاوت
بالكم والكيف : أما فى الكم فلأن بعض الناس يكون
__________________
أكثر عدد حدس
للحدود الوسطى ، وأما فى الكيف فلأن بعض الناس أسرع زمان حدس. ولأنّ هذا التفاوت
ليس منحصرا فى حد ، بل يقبل الزيادة والنقصان دائما ، وينتهى فى طرف النقصان إلى
من لا حدس له ألبتة ، فيجب أن ينتهى أيضا فى طرف الزيادة إلى من له حدس فى كل
المطلوبات أو أكثرها ، وإلى من له حدس فى أسرع وقت وأقصره.
[ القوة القدسية ]
فيمكن إذن أن يكون
شخص من الناس مؤيد النفس لشدة الصفاء وشدة الاتصال بالمبادئ العقلية إلى أن يشتعل
حاسا ، أعنى قبولا لها من العقل الفعال فى كل شىء وترتسم فيه الصور التى فى العقل
الفعال ، إما دفعة ، وإما قريبا من دفعة ارتساما لا تقليديا ، بل بترتيب يشتمل على
الحدود الوسطى. فإن التقليديات فى الأمور التى إنما تعرف بأسبابها ليست يقينية
عقلية. وهذا ضرب من النبوة ، بل أعلى قوى النبوة ، والأولى أن تسمى هذه القوة قوة
قدسية ، وهى أعلى مراتب القوى الإنسانية.
__________________
الفصل السابع
فى عدّ المذاهب الموروثة
عن القدماء فى أمر النفس وأفعالها
وأنها واحدة أو كثيرة
وتصحيح القول الحق فيها
إن المذاهب
المشهورة فى ذات النفس وفى أفعالها مختلفة.
فمنها قول من زعم
أن النفس ذات واحدة ، وأنها تفعل جميع الأفعال بنفسها باختلاف الآلات.
ومن هؤلاء من زعم
أن النفس عالمة بذاتها ، تعلم كل شىء ، وإنما تستعمل الحواس والآلات المقربة
للمدركات منها بسبب أن تتنّبه به لما فى ذاتها.
__________________
ومنهم من قال : إن
ذلك على سبيل التذكّر لها ، فكأنّها عرض لها عنده أن نسيت.
ومن الفرقة الأولى
من قال : إن النفس ليست واحدة ، بل عدة ، وأن النفس التى
فى بدن واحد هى مجموع نفوس : نفس حساسة دراكة ، ونفس غضبية ، ونفس شهوانية. فمن
هؤلاء من جعل النفس الشهوانية هى النفس الغذائية ، وجعل موضوعها القلب ، وجعل له
شهوة الغذاء والتوليد جميعا.
ومنهم من جعل
التوليد لقوة من هذا الجزء من أجزاء النفس فائضة إلى الانثيين فى الذكر والأنثى.
ومنهم من جعل
النفس ذاتا واحدة ، وتفيض عنها هذه القوى ، تختص كل قوة بفعل ، وأنها إنما تفعل ما
تفعله من الأمور المذكورة بتوسط هذه القوى .
فمن قال : إن
النفس واحدة فعالة بذاتها احتج بما سيحتج به أصحاب المذهب الأخير مما نذكره.
ثم قال : فإذا كانت واحدة غير جسم استحال أن تنقسم فى الآلات وتتكثر ، فإنها حينئذ
تصير صورة مادية ، وقد ثبت عندهم أنها جوهر مفارق بقياسات لا حاجة لنا إلى تعدادها
هاهنا ، قالوا فهى بنفسها تفعل ما
__________________
تفعل بآلات
مختلفة.
والذين قالوا من
هؤلاء : إن النفس علاّمة بذاتها ، احتجوا وقالوا : لأنها إن كانت
جاهلة عادمة للعلوم فإما أن يكون ذلك لها لجوهرها أو يكون عارضا لها ، فإن كان
لجوهرها استحال أن تعلم ألبتة ، وإن كان عرضا لها فالعارض يعرض على الأمر الموجود للشىء. فيكون موجودا للنفس أن تعلم الأشياء لكن عرض لها أن جهلت بسبب ، فيكون
السبب إنما يتسبب للجهل لا للعلم. فإذا رفعنا الأسباب العارضة بقى لها الأمر الذى
فى ذاتها ، ثم إذا كان الأمر الذى لها فى ذاتها هو أن تعلم فكيف يجوز أن يعرض لها
بسبب من الأسباب أن تصير لا تعلم وهى بسيطة روحانية لا تنفعل ، بل يجوز أن يكون
عندها العلم وتكون معرضة عنه مشغولة ، إذا نبّهت علمت ، وكان معنى التنبيه ردّها
إلى ذاتها وإلى حال طبيعتها ، فتصادف نفسها عالمة بكل شىء .
__________________
وأما أصحاب التذكر
فإنّهم احتجوا وقالوا : إنه لو لم تكن النفس علمت وقتا ما تجهله الآن وتطلبه لكانت إذا ظفرت به لم تعلم أنه المطلوب ، كطالب العبد
الآبق ؛ وقد فرغنا عن ذكر هذا فى موضع آخر وعن نقضه .
والذين كثّروا
النفس ، فقد احتجوا وقالوا : كيف يمكننا أن نقول : إن الأنفس كلها نفس واحدة ،
ونحن نجد النبات وله النفس الشهوانية ، أعنى التى
ذكرناها فى هذا الفصل ، وليس له النفس المدركة الحاسة المميزة ، فتكون لا محالة
هذه النفس شيئا منفردا بذاته دون تلك النفس ،
__________________
ثم نجد الحيوان
وله هذه النفس الحساسة الغضبية ، ولا تكون هناك النفس النطقية أصلا ، فتكون هذه النفس
البهيمية نفسا على حدة. فإذا اجتمعت هذه الأمور فى الإنسان ، علمنا أنه قد اجتمع
فيه أنفس متباينة مختلفة الذوات ، قد يفارق بعضها بعضا ، فلذلك تختص كل واحدة منها
بموضع ، فيكون للمميزة الدماغ ، ويكون للغضبية الحيوانية القلب ، ويكون للشهوانية
الكبد.
فهذه هى المذاهب
المشهورة فى أمر النفس وليس يصح منها إلا المذهب الأخير مما عدّ أوّلا فلنبين صحته. ثم نقبل على حلّ الشبه التى أوردوها.
فنقول : قد بان
مما ذكرناه أن الأفعال المتخالفة هى بقوى متخالفة وأن كل قوة من حيث هى فإنما هى
كذلك من حيث يصدر عنها الفعل الأول الذى لها فتكون القوة
الغضبية لا تنفعل من اللذات ولا الشهوانية من المؤذيات ولا تكون القوة المدركة
متأثرة مما تتأثر عنه هاتان ولا شىء من هاتين من حيث هما قابل للصور المدركة متصور
لها. فإذا كان هذا متقررا فنقول :
إنه يجب أن يكون
لهذه القوى رباط يجمع كلها وتجتمع إليه ، وتكون نسبته إلى هذه القوى نسبة الحس
المشترك إلى الحواس التى هى الرواضع. فإنا نعلم يقينا أن هذه القوى يشغل بعضها
بعضا ، ويستعمل بعضها بعضا ، وقد عرفت هذا فيما سلف. ولو لم يكن رباط يستعمل هذه
__________________
فيشتغل ببعضها عن
بعض فلا يستعمل ذلك البعض ولا يدبره ، لما كان بعضها يمنع بعضا عن فعله بوجه من
الوجوه ولا ينصرف عنه. لأن فعل قوة من القوى إذا لم يكن لها اتصال بقوة أخرى ، لا
يمنع القوة الأخرى عن فعلها إذا لم تكن الآلة مشتركة ولا المحل مشتركا ولا أمر
يجمعهما غير ذلك مشتركا. ونحن نرى أن الإحساس يثير الشهوة ، والقوة الشهوانية لا
تنفعل عن المحسوس من حيث هو محسوس ، فإن انفعل لا
من حيث هو محسوس لم يكن الانفعال الذى يكون لشهوة ذلك المحسوس ، فيجب لا محالة أن
يكون هو الذى يحس. وليس يجوز أن تكون القوتان واحدة ، فبين أن القوتين لشىء واحد ،
فلهذا يصدق أن نقول : إنا لما أحسنا اشتهينا ، أو لما رأينا كذا غضبنا .
وهذا الشىء الواحد
الذى تجتمع فيه هذه القوى هو الشىء الذى يراه كل منا أنه ذاته ، حتى يصدق أن نقول
لما أحسسنا اشتهينا.
وهذا الشىء لا
يجوز أن يكون جسما :
أما أولا ، فلأن
الجسم بما هو جسم ليس يلزمه أن يكون مجمع هذه
__________________
القوى ، وإلا كان
كل جسم له ذلك ، بل لأمر به يصير كذلك ، ويكون ذلك الأمر هو الجامع الأول ، وهو
كمال الجسم من حيث هو مجمع ، وهو غير الجسم ، فيكون إذن المجمع هو شىء غير جسم وهو
النفس.
وأما ثانيا ، فقد
تبين أن من هذه القوى ما ليس يجوز أن يكون جسمانيا مستقرا فى جسم.
فإن تشكك فقيل :
إنه إن جاز أن تكون هذه القوى لشىء واحد ، مع أنها لا تجتمع معا فيه ، إذ بعضها لا
يحل الأجسام وبعضها يحلّها ، فتكون مع افتراقها من غير أن تكون بصفة واحدة منسوبة إلى شىء واحد ، فلم لا يكون كذلك الآن وتكون كلها منسوبة إلى جسم أو جسمانى.
فنقول لأن هذا
الذى ليس بجسم ، يجوز أن يكون منبع القوى فيفيض عنه بعضها فى الآلة ، وبعضها يختص
بذاته ، وكلها يؤدّى إليه نوعا من الأداء. واللواتى تكون فى الآلة تجتمع فى مبدأ
يجمعها فى الآلة ذلك المبدأ ، وهو فائض عن الغنىّ
عن الآلة كما نبيّن حاله بعد فى حل الشبه. وأما الجسم فلا يمكن أن تكون هذه القوى
كلها فائضة منه ، فإن نسبة القوى إلى الجسم ليس على سبيل الفيضان ، بل على سبيل
القبول ، والفيضان يجوز أن يكون على سبيل مفارقة الفيض عن المفيض ، والقبول لا يجوز أن يكون على تلك السبيل.
وأما ثالثا فإن
هذا الجسم إما أن يكون جملة البدن ، فيكون إذا نقص
__________________
منه شىء لا يكون
ما نشعر به أنّا نحن موجودا ، وليس كذلك ، فإنى أكون أنا وإن لم أعرف أن لى يدا
ورجلا أو عضوا من هذه الأعضاء ، على ما سلف فى مواضع أخرى ، بل أظن أن هذه توابعى
، وأعتقد أنها آلات لى أستعملها فى حاجات ، لولا تلك الحاجات لما احتيج إليها ،
وأكون أنا أيضا أنا ولست هى.
ولنعد إلى ما سلف
ذكره منا فنقول :
لو خلق إنسان دفعة
واحدة ، وخلق متباين الأطراف ، ولم يبصر أطرافه ، واتفق أن لم يمسّها ، ولا تماسّت
، ولم يسمع صوتا ، جهل وجود جميع أعضائه ، وعلم وجود إنيته شيئا واحدا مع جهل جميع
ذلك.
وليس المجهول
بعينه هو المعلوم ، وليست هذه الأعضاء لنا فى الحقيقة إلا كالثياب التى صارت لدوام
لزومها إيانا كأجزاء منا عندنا. وإذا تخيلنا أنفسنا لم نتخيلها عراة ، بل نتخيّلها
ذوات أجسام كاسية ، والسبب فيه دوام الملازمة. إلا أنا قد اعتدنا فى الثياب من
التجريد والطرح ما لم نعتد فى الأعضاء ، فكان ظننا الأعضاء أجزاء منا آكد من ظننا
الثياب أجزاء منا.
وأما إن لم يكن
ذلك جملة البدن ، بل كان عضوا مخصوصا ، فيكون ذلك العضو هو
الشىء الذى أعتقده أنه لذاته أنا ، أو يكون معنى ما أعتقده أنه أنا ليس هو ذلك
العضو ، وإن كان لابد له من العضو. فإن كان ذات ذلك العضو وهو كونه قلبا أو دماغا
أو شيئا آخر أو عدة أعضاء بهذه
__________________
الصفة هويتها أو
هوية مجموعها هو الشىء الذى أشعر به أنّه أنا ، فيجب أن يكون شعورى بأنا شعورى
بذلك الشىء. فإن الشىء لا يجوز من جهة واحدة أن يكون مشعورا به وغير مشعور به ،
وليس الأمر كذلك ، فإنى إنما أعرف أن لى قلبا ودماغا بالإحساس والسماع والتجارب ،
لا لأنى أعرف أنى أنا ، فيكون إذن ليس ذلك العضو لنفسه الشىء الذى أشعر به أنه أنا
بالذات ، بل يكون بالعرض أنا ، ويكون المقصود بما أعرفه منى أنى أنا الذى أعنيه فى
قولى : أنا أحسست وعقلت وفعلت ، وجمعت هذه الأوصاف ، شيئا آخر هو الذى أسمّيه أنا.
فإن قال هذا
القائل : إنك أيضا لا تعرفه أنه نفس.
فأقول : إنى دائما
أعرفه على المعنى الذى أسميه النفس ، وربما لا أعرف
تسميته باسم النفس. فإذا فهمت ما أعنى بالنفس ، فهمت أنه ذلك الشىء ، وأنه
المستعمل للآلات من المحركة والدراكة. وإنما لا أعرف مادمت لا أفهم معنى النفس ،
وليس كذلك حال قلب ولا دماغ فإنى أفهم معنى القلب والدماغ ولا أعلم ذلك ، فإنى إذا
عنيت بالنفس أنه الشىء الذى هو مبدأ هذه الحركات والإدراكات التى لى ومنتهاها فى
هذه الجملة عرفت أنه إما أن يكون بالحقيقة أنا أو يكون هو أنا مستعملا لهذا البدن
، فكأنى الآن لا أقدر أن أميز الشعور بأنا مفردا عن مخالطة الشعور بأنه مستعمل
للبدن ومقارن للبدن. وأما أنه جسم أو ليس بجسم ، فليس يجب عندى أن يكون جسما ، ولا
يتخيل هو لى جسما من الأجسام
__________________
ألبتة ، بل يتخيل
لى وجوده فقط من غير جسمية. فيكون قد فهمته من جهة أنه ليس بجسم ، إذ لم أفهم
الجسمية ، مع أنى فهمته.
ثم إذا حققت فإنى
كلما عرضت جسمية لهذا الشىء الذى هو مبدأ هذه الأفعال ، لم يجز أن
يكون ذلك الشىء جسما ، فبالحرى أن يكون تمثله الأول فى نفسى أنه شىء مخالف لهذه
الظواهر وأن تغلطنى مقارنة الآلات ومشاهدتها وصدور الأفعال عنها ، فأظن أنها
كالأجزاء منى ، وليس إذا غلط فى شىء وجب له حكم ، بل الحكم لما يلزم أن يعقل. وليس
إذا كنت طالبا لوجوده ولكونه غير جسم فقد كنت جاهلا بهذا جهلا مطلقا ، بل كنت
غافلا عنه. وكثيرا ما يكون العلم بالشىء قريبا ، فيغفل عنه ، ويصير فى حد المجهول
، ويطلب من موضع أبعد. وربما كان العلم القريب جاريا مجرى التنبيه ، وكان مع خفة
المؤونة فيه كالمذهوب عنه ، فلاترجع الفطنة إلى طريقه لضعف الفهم ، فيحتاج أن يؤخذ
فيه مأخذ بعيد.
فبين من هذا أن
لهذه القوى مجمعا هو الذى تؤدّى كلها إليه ، وأنه غير جسم وإن كان مشاركا للجسم أو
غير مشارك.
وإذ قد بينا صحة
هذا الرأى فيجب أن نحل الشبه المذكورة.
أما الشبهة الأولى
، فنقول : إنه ليس يجب إذا كانت النفس واحدة الذات أن لا تفيض عنها فى أعضاء
مختلفة قوى مختلفة ، بل من الجائز أن يكون أول ما يفيض عنها فى البزر والمنى قوة
الإنشاء ، فتنشىء أعضاء على
__________________
حسب موافقة أفعال
تلك القوة ، ويستعدّ كلّ عضو لقبول قوة خاصة لتفيض عنه ، ولولا ذلك لكان خلق البدن
معطلا لها.
وأما من تشكك فجعل
النفس عالمة لذاتها فهو فاسد ، فإنه ليس يجب إذا كان جوهر النفس خاليا بذاته عن
العلم أن يستحيل له وجود العلم. فإنه فرق بين أن يقال : إن جوهر الشىء باعتبار
ذاته لا يقتضى العلم ، وبين أن يقال : إن جوهره بذلك الاعتبار يقتضى أن لا يعلم ،
فإن لزوم الجهل مع كل واحد من القولين مختلف.
فإنا إذا سلمنا أن النفس بجوهرها جاهلة ، فإنما نعنى أن جوهرها إذا انفرد ولم يتصل به سبب من
خارج لزمه الجهل ، بشرط الانفراد مع شرط الجوهر ، لا بشرط الجوهر وحده. ولسنا نعنى
بهذا أن جوهرها جوهر لا يعرّى عن الجهل.
وإن لم نسلّم ، بل
قلنا : إن ذلك أمر عارض لها ، فليس يجب أن يكون مثل هذا العارض واردا على
الأمر الطبيعى ، فإنه ليس إذا قلنا : إن الخشبة خالية عن صورة السريرية ، وأن ذلك
الخلو ليس لجوهرها ، بل أمر عارض لها جائز الزوال ، كان هذا القول كانّا نقول
: يجب أن يكون قد كانت فيه صورة السريرة فانفسخت .
من المحال أيضا ما
قاله المتشكك من ارتداد الشىء إلى ذاته ، فإن
__________________
الشىء لا يغيب
ألبتة عن ذاته ، بل ربما قيل إنه قد يغيب عن أفعال تختص بذاته ، وتتم بذاته وحدها
، وإنما يتوسع فيقال هذا ، لأن هذه الأفعال لا تكون موجودة له ، بل لا تكون موجودة
أصلا. وأما ذاته فكيف تكون غير موجودة لنفسها وبالحقيقة ، فإن أفعاله لا يجوز أن
يقال فيها إنه يغيب عنها لأن الغائب هو موجود فى نفسه غير موجود للشىء ، وهذه
الأفعال ليست موجودة أصلا إلا وقت ما يوجدها فلا يكون غائبا عنها ، وأما ذات الشىء
فلا يغيب الشىء عنه ولا يرجع إليه.
وأما أصحاب التذكر
فقد نقض احتجاجهم فى الصناعة الآلية .
وأما حجة هؤلاء
الذين يجزّئون النفس فقد أخذ فيها مقدمات باطلة ، من ذلك قولهم : إنه توجد النفس
النباتية مفارقة للحساسة ، فيجب أن يكون فى الإنسان شىء آخر غيره. فإن هذه المقدمة
سوفسطائية.
وذلك لأن المفارقة
تتوهم على وجوه ، والتى يحتاج إليها هاهنا وجهان :
أحدهما أنه قد
تتوهم لها مفارقة ، كما لللّون عن البياض وللحيوان عن الإنسان إذ توجد هذه الطبيعة
فى غير البياض وتلك فى غير الإنسان بأن يقارن كل فصلا آخر.
وقد تتوهم مفارقة
، كما للحلاوة المقارنة للبياض فى جسم. فإنها قد توجد مفارقة له ، فتكون الحلاوة
والبياض قوتين مختلفتين لا يجمعهما
__________________
شىء واحد . وأليق المفارقات بالنفس النباتية للنفس الحساسة هو القسم الأول ، وذلك لأن
النفس النباتية الموجودة فى النخلة لا تشارك القوة النامية الموجودة فى الإنسان
ألبتة فى النوع ، فإن تلك القوة ليست بحيث تصلح
لأن تقارن النفس الحيوانية ألبتة ، ولا القوة النامية التى فى الحيوان تصلح لأن
تقارن النفس النخليّة ، ولكن يجمعهما معنى واحد وهو أن كل واحدة منهما تغذّى وتنمى وتولّد وإن كانت تنفصل عنه بعد ذلك بفصل
مقوّم منوع ، لا بعرض فقط. والمعنى الموجود فيهما جميعا هو جنس القوة النباتية
التى للإنسان ، ويفارق على جهة ما يفارق المعنى الجنسى.
ونحن لا نمنع أن
يوجد جنس هذه القوى لأشياء أخرى ، وليس فى ذلك أنه يجب أن لا تجتمع هذه القوى فى
الإنسان لنفس واحدة ، بل ليس يجب من ذلك أن لا تكون الطبيعة النامية الموجودة فى
الحيوان مقولة على النفس الحيوانية التى له حتى تكون نفسه الحيوانية هى تلك القوة
، كما أن الإنسان ليس شيئا غير حصته فى جنس الحيوانية. وهذا شىء قد تحقق لك فى المنطق
، فهذا ليس يوجب أن تكون النفس النباتية التى فى الإنسان غير النفس الحيوانية ،
فضلا عن أن تكونا قوتى نفس واحدة ، فليس إذن النباتية التى فى الإنسان توجد ألبتة
مفارقة بنوعها للإنسان .
__________________
واحتجاجهم غير
منتفع به إذا كانت القوة لا تفارق بنوعيتها ، بل بجنسيتها ، وهما مختلفان. ومع ذلك
فلنضع القوة النباتية فى الحيوان مخالفة للقوة الحيوانية فيه ، كأنّ كل واحدة
منهما نوع محصّل منفرد بنفسه ، وليس أحدهما الآخر ، ولا مقولا عليه ، فما فى ذلك
مما يمنع أن تكون القوتان جميعا فى الحيوان لنفس الحيوان ،
كما أنه ليس إذا وجدت الرطوبة فى غير الهواء ، وليست مقارنة للحرارة ، يجب من ذلك
أن لا تكون الرطوبة والحرارة فى الهواء لصورة واحدة أو لمادة واحدة ، وليس إذا
كانت حرارة توجد غير صادرة عن الحركة ، بل عن حرارة أخرى ، يجب من ذلك أن الحرارة
فى موضع آخر ليست تابعة للحركة.
ونقول : ليس يمتنع
أن تكون هذه القوى متغايرة بالنوع أيضا ، وتنسب إلى ذات واحدة هى فيها. فأما كيفية
تصور هذا فهو أن الأجسام العنصرية تمنعها صرفية
التضاد عن قبول الحياة ، فكلما أمعنت فى هدم
__________________
طرف من التضاد
وردّه إلى التوسط الذى لا ضد له جعلت تضرب إلى شبه بالأجسام السماوية ، فتستحق
بذلك قبول قوة محيية من الجوهر المفارق المدبر.
ثم إذا ازدادت
قربا من التوسط ازدادت قبول حياة حتى تبلغ الغاية التى لا يمكن أن يكون أقرب منها
إلى التوسط ، ولا أهدم منها للطرفين المتضادين ، فتقبل جوهرا مقارب الشبه من وجه
مّا للجوهر المفارق كما للجواهر السماوية ، فيكون حينئذ ما كان يحدث فى غيره من
المفارق يحدث فيه من نفس هذا الجوهر المقبول المتصل به الجوهر.
ومثال هذا فى
الطبيعيات : لنتوهم مكان الجوهر المفارق نارا أو شمسا ، ومكان البدن جرما يتأثر عن
النار وليكن كرة ما ، وليكن مكان النفس النباتية تسخينها إياها ، ومكان النفس
الحيوانية إنارتها فيها ، ومكان النفس الإنسانية اشتعالها فيها نارا.
فنقول : إن ذلك
الجرم المتأثر كالكرة ، إن كان ليس وضعه من ذلك المؤثر فيه وضعا يقبل الاشتعال
منه نارا ولا إضائة وإنارة ، ولكن وضعا يقبل تسخينه لم يقبل غير ذلك. فإن كان وضعه
وضعا يقبل تسخينه ، ومع ذلك هو مكشوف له أو مستشف أو على نسبة إليه يستنير بها عنه
استنارة قوية ، فإنه يتسخّن عنه ويستضىء معا ، ويكون الضوء الواقع فيه منه هو مبدأ
أيضا مع ذلك المفارق لتسخّنه. فإن الشمس إنما تسخن بالشعاع ، ثم إن كان الاستعداد
أشد وهناك ما من شأنه أن يشتعل عن المؤثر الذى من
__________________
شأنه أن يحرق
بقوته أو شعاعه اشتعل فحدثت الشعلة جرما شبيها بالمفارق من وجه ، وتكون تلك الشعلة
أيضا مع المفارق علة للتنوير والتسخين معا حتى لو بقيت وحدها لاستتم أمر التنوير
والتسخين ، ومع هذا فقد كان يمكن أن يوجد التسخين وحده ، أو التسخين والتنوير
وحدهما ، ولم يكن المتأخر منهما مبدأ يفيض عنه المتقدم ، وكان إذا اجتمعت الجملة يصير حينئذ كل ما فرض متأخرا مبدأ أيضا للمتقدم وفائضا عنه
المتقدم.
فهكذا فليتصور
الحال فى القوى النفسانية وسيأتى فى بعض الفنون المتأخرة ما نشرح صورة الأمر فى
هذا حيث نتكلم فى تولد الحيوان.
__________________
الفصل الثامن
فى بيان الآلات التى
للنفس
فبالحرىّ أن نتكلم
الآن فى الآلات للنفس ، فنقول :
إنه قد أفرط الناس
فى أمر الأعضاء التى تتعلق بها القوة الرئيسة من النفس إفراطا فى جنبتى اللجاج ،
وركنوا إلى تعسف كثير وتعصب شديد مال إليه كل واحد من الفريقين حتى خرج من الحق.
وأكثرهم غلطا من
جعل النفس ذاتا واحدة وقضى مع ذلك أن الأعضاء الرئيسة كثيرة ، فإنه لما خالف فيه
الفلاسفة القائلة بتكثر أجزاء النفس ، ووافق من قال بوحدانيتها ، لم يعلم أنه
يلزمه أن يجعل العضو الرئيس واحدا ، وهو الذى يكون به اوّل تعلق النفس. وأما
المكثّرون لأجزاء النفس فما عليهم أن يجعلوا لكل جزء منه معدنا مخصوصا ومركزا
مفردا.
فنقول أولا : إن
القوى النفسانية البدنية مطيتها الأولى جسم لطيف نافذ فى المنافذ روحانى ، وإنّ
ذلك الجسم هو الروح ، وإنه لولا أن قوى النفس المتعلقة بالجسم تنفذ محمولة فى جسم
لما كان سدّ المسالك حابسا لنفوذ القوى المحركة والحساسة والمتخيلة أيضا ، وهو
حابس
ظاهر الحبس عند من
جرّب التجارب الطبية ، وهذا الجسم نسبته إلى لطافة الأخلاط وبخاريتها نسبة الأعضاء إلى كثافة الأخلاط ، وله مزاج مخصوص ، ومزاجه يتغير أيضا بحسب
الحاجة إلى اختلاف يقع فيه ليصير به حاملا لقوى مختلفة ، فإنه ليس يصلح المزاج
الذى منه يغضب للمزاج الذى معه يشتهى أو يحس ، ولا المزاج الذى يصلح للروح الباصر
هو بعينه الذى يصلح للروح المحرك. ولو كان المزاج واحدا لكانت القوى المستقرة فى
الروح واحدة وأفعالها واحدة ، فإذا كانت النفس واحدة. فيجب أن يكون لها أول تعلق
بالبدن ، ومن هناك تدبّره وتنميه ، وأن يكون ذلك بتوسط هذا الروح ، ويكون أول ما
تفعل النفس ، تفعل العضو الذى بوساطته تنبعث قواه فى سائر الأعضاء بتوسط هذا الروح
، وأن يكون ذلك العضو أول متكوّن من الأعضاء وأول معدن لتولد الرّوح. وهذا هو
القلب ، يدل على ذلك ما حققه التشريح المتقن ، وسنزيد هذا المعنى
شرحا فى الفن الذى فى الحيوان.
فيجب أن يكون أول
تعلق النفس بالقلب ، وليس يجوز أن تتعلق بالقلب ثم بالدماغ ، فإنها إذا تعلقت بأول
عضو صار البدن نفسانيا ، وأما
__________________
الثانى فإنما تفعل
لا محالة بتوسط هذا الأول. فالنفس تحيى الحيوان بالقلب ، لكن يجوز أن تكون قوى
الأفعال الأخرى تفيض من القلب إلى الأعضاء الأخرى ، لأن الفيض يجب أن يكون صادرا
من أول متعلق به ، فيكون الدماغ هو الذى يتم فيه مزاج الروح الذى يصلح لأن يكون
حاملا لقوى الحس والحركة إلى الأعضاء حملا يصلح معه أن تصدر عنها أفعالها. وكذلك
حال الكبد بالقياس إلى قوى التغذية ، ولكن يكون القلب هو المبدأ الأول الذى أول
تعلقه به ومنه ينفذ إلى غيره ويكون الفعل فى أعضاء أخرى. كما أن مبدأ الحس عند
مخالفى هذا القول إنما هو فى الدماغ ، لكن أفعال الحس لا تكون به وفيه ، بل فى
أعضاء أخرى كالجلد وكالعين وكالأذن.
وليس يجب من ذلك
أن لا يكون الدماغ مبدأ ، لذلك أيضا لجواز أن يكون القلب مبدأ لقوى التغذية ولكن
أفعالها فى الكبد ، ولقوى التخيل والتذكر والتصور ولكن أفعالها فى الدماغ ، بل
ينبغى أن يكون المبدأ للقوى المختلفة غير صالح لأن يصدر عن معدنها جميع أفعالها ،
بل يجب أن تتفرع فى آلات مختلفة تتخلق بعد ذلك العضو تخلقا وتفيض من ذلك العضو
إليها قوة ملائمة لمزاج ذلك الفرع واستعداده ، على ما ستقف عليه فى ذكر الحيوان ،
حتى لا يكون على العضو الذى هو المبدأ ثقل.
ولذلك خلقت العصب
للدماغ والأوردة للكبد ، كانّ الدماغ والكبد مبدأين أولين للحس والحركة والتغذية
أو كانا مبدأين ثانيين. وإذا فاض من القلب قوة التكوين والتخليق إلى الدماغ فيكوّن
الدماغ ؛ فلا كثير بأس بأن يكون الدماغ يرسل من نفسه آلة يستمد بها الحس والحركة
من القلب ،
أو يكون القلب
ينفذ إليه الآلة التى بتوسطها ينفذ اليه الحس والحركة. فلا يجب أن يقع من المضايقة فى أمر خلقة العصب أن مبدأها من
القلب أو من الدماغ ما هو ذا يقع ، بل نسلم أنه من الدماغ ويستمد من القلب ، كما
أن الكبد يرسل إلى المعدة ما يستمد منها فيه ولها أيضا عروق تمد غيرها بها. فليس
يجب أن يكون العضو الذى هو مبدأ قوة فيه أيضا أول أفعال
تلك القوة ، وأن يكون آلة لأفعال تلك القوة ، بل يجوز أن تكون الآلة خلقت
للاستمداد من شىء آخر ، وأن يكون إنما يستمد بعد تخلّقها ، حتى يكون الدماغ أول ما يخلق لم يكن مبدأ للحس والحركة بالفعل ، بل مستعدا
لأن يصير مبدأ مّا للأعضاء التى بعده إذا استمد من غيره بعد أن تتخلق آلة
الاستمداد من غيره له ، فلما تخلق منه عصب ذاهب إلى القلب استمد الحس والحركة منه حينئذ. ويمكن أن يكوّن مع تخلق هذا المنفذ بلا تأخر فلا تكون فى نفوذه عنه إلى القلب حجة أيضا ولا شبه حجة ، بل كما يخلق الدماغ يخلق معه من مادته شىء
نافذ إلى القلب غريب عن القلب استمد منه الحس والحركة. على أن نبات هذا العصب من
الدماغ ومصيره منه إلى القلب ليس شيئا يظهر الظهور الذى يظنّه مدّعى نبات العصب
الذى بين الدماغ والقلب من الدماغ إلى القلب لا من القلب إلى الدماغ ، على ما
__________________
سنو ضحه فى محلّه
من كلامنا فى طبائع الحيوان ونطول الكلام فيه طولا يشفى ويقنع.
ومع ذلك فلنعد إلى
معاملة أخرى ، فنقول :
إنه ليس بمستحيل
أن يكون مبدأ وجود قوة هو فى عضو ، فينفذ من ذلك العضو إلى عضو آخر ، وهناك يتم
القوة ويستكمل ، ثم تنعطف إلى هذا العضو الأول فيرفده . فإن الغذاء إنما يصير إلى الكبد من المعدة ، ثم إذ صار هنالك على نحو ما عاد
فغذّا المعدة فى عروق تنبعث عن الطحال والأجوف وتنبث فى المعدة
، فلا ضير أن يكون مبدأ القوة ينبعث من القلب مثلا ولا تكون القوة فى القلب كاملة تامة ثم إنها تفيد القلب إذا استكملت فى عضو آخر . وهكذا حال الحس المشترك ، فإن مبدأ القوة الحساسة الجزئية منها ، ثم إنها تعود
إليه بالفائدة.
على أن حس القلب
نفسه ـ وخصوصا اللمس ـ أعظم من حس الدماغ نفسه ، ولذلك أوجاعه لا تحتمل ، وعلى أنه
ليس بممتنع فى القوى أن تصير أقوى وأشد فى غير مبادئها لمصادفة مواد تجعلها بتلك
الحال.
__________________
ويشبه أن تكون قوة
أطراف الأوتار على الجذب أشد من قوة أوائلها التى تلى العصب.
فالقلب مبدأ أول تفيض منه إلى الدماغ قوى : فبعضها تتم أفعالها فى الدماغ وأجزائه كالتخيل
والتصور وغير ذلك. وبعضها تفيض من الدماغ إلى أعضاء خارجة عنه كما تفيض إلى الحدقة
وإلى العضل المحركة ، وتفيض من القلب إلى الكبد قوة التغذية. ثم تفيض من الكبد
بتوسط العروق فى جميع البدن وتغذو القلب أيضا ، فتكون القوة مبدؤها من القلب ،
والمادة مبدؤها من الكبد.
وأما القوى
الدماغية :
فإن البصر يتم
بالرطوبة الجليدية التى هى كالماء الصافى ، فتقبل صور المبصرات وتؤديها إلى الروح
الباصر ، ويكون تمام الإبصار عند ملتقى العصبة المجوفة ، على ما علم من تشريحه
وتعريف حاله.
وأما الشم
فبزائدتين من مقدم الدماغ كحلمتى الثدى.
وأما الذوق
فبأعصاب دماغية تأتى اللسان والحنك وتؤتيهما قوة الحس والحركة.
وأما السمع
فبأعصاب دماغية أيضا تأتى الصماخ فتغشى السطح المحيط به.
__________________
وأما اللمس
فبأعصاب دماغية ونخاعية تنتشر فى البدن كله.
وأكثر عصب الحس من
مقدم الدماغ ، لأن مقدم الدماغ ألين ، واللين أنفع فى الحس ، ومقدم الدماغ كما
يتأدى إلى خلف وإلى النخاع فيصير أصلب ليتدرّج إلى النخاع الذى يجب أن تعين دقّته
الصلابة. وأكثر عصب الحركة التى من الدماغ إنما ينبت من مؤخر الدماغ ، لأنه أصلب ،
والصلابة أنفع فى الحركة وأعون عليها. والعصب التى للحركة فى أكثر الأمر تتولد
منها العضل ، فإذا جاوزت العضل حدث منها ومن الرباطات الأوتار ، وأكثر اتصال أطرافها بالعظام وقد تتصل فى مواضع بغير العظام ، وقد تتصل
العضلة نفسها بالعضو المحرك من غير توسط وتر.
والنخاع كجزء من
الدماغ ينفذ فى ثقب الفقارات ، لئلا يبعد ما يتولّد من العصب من الأعضاء ، بل
يتولد منها العصب مرسلة بالقرب إلى الموضع المحتاج كونها به.
وأما القوة
المصورة والحس المشترك فهما من مقدم الدماغ فى روح يملأ ذلك
التجويف ، وإنما كانا هناك ليطلا على الحواس التى
أكثرها إنما تنبعث من مقدم الدماغ ، فبقى الذكر والفكر فى التجويفين الآخرين ،
__________________
لكن الذكر قد تأخر
موضعه ليكون مكان الروح المفكّرة متوسطا بين خزانة
الصورة وخزانة المعنى ، وتكون مسافته بينهما واحدة.
والوهم مستول على
الدماغ كله وسلطانه فى الوسط .
وأخلق بأن يتشكك
فيقول : كيف ترتسم صورة جبل بل صورة العالم فى الآلة اليسيرة التى تحمل القوة
المصورة؟
فنقول له : إن
الإحاطة بانقسام الأجسام إلى غير نهاية تكفى مؤونة هذا التشكك ، فإنه كما يرتسم
العالم فى مرآة صغيرة وفى الحدقة بأن ينقسم ما يرتسم فيه بحذاء اقسامه ، إذ الجسم
الصغير ينقسم بحسب قسمة الكبير عددا وشكلا ، وإن كان يخالف القسم القسم فى المقدار
، فكذلك حال ارتسام الصور الخيالية فى موادها. ثم تكون نسبة ما يرتسم فيه الصورة
الخيالية بعضها إلى بعض فى عظم ما يرتسم فيه وصغر ما ترتسم فيه ، نسبة الشيئين من
خارج فى عظمهما وصغرهما مع مراعاة التشابه فى البعد .
وأما قوة الغضب
وما يتعلق بها فلم تحتج إلى عضو غير المبدأ ، لأن فعلها فعل
واحد ويلائم المزاج الشديد الحر وتحتاج إليه ، وليس تأثير المتفق منه أحيانا تأثير
المتصل من الفكرة والحركة حتى يخاف أن يشتعل اشتعالا مفرطا ، وذلك لأنه مما يعرض
أحيانا ، ذلك كاللازم. ومثل الفهم
__________________
والفكرة وما
يشبههما مما يحتاج إلى ثبات وإلى قبول. ويجب أن يكون العضو المعدّلهما أرطب وأبرد ، وهو الدماغ ، لئلا يشتعل الحار الغريزى
اشتعالا شديدا ، وليقاوم الالتهاب الكائن بالحركة.
ولما كانت التغذية
مما يجب أن يكون بعضو عديم الحس حتى يمتلئ من الغذاء ويفرغ منه ، فلا يوجعه ذلك ،
ولا يتألّم كثيرا بما ينفذ فيه ومنه وإليه ، وأن يكون أرطب جدا كيما يحفظ الحار
القوى بالمعادلة والمقاومة ، فجعل ذلك العضو الكبد وجعل قوة التوليد فى عضو آخر
شديد الحس ليعين على الدعاء إلى الجماع بالشبق ، وإلا لم يكن
بتكلف ذلك لو لم يكن فيه لذة وإليه شبق ، إذ لا حاجة إليه فى بقاء الشخص . واللذة تتعلق بعضو حساس فجعل له الأنثيان وأعينتا بآلات أخرى بعضها لجذب
المادة وبعضها لدفعها ، كما يأتيك ذكره حيث نتكلم فى الحيوان.
هذا آخر كتاب
النفس وهو الفن السادس من الطبيعيات.
__________________
فهرس الموضوعات
الفن السادس من الطبيعيات
المقالة الأولى
الفصل
الاول : فى إثبات النفس وتحديدها من حيث هى نفس .................. ١٣
الفصل
الثانى : فى ذكر ما قاله القدماء فى النفس وجوهرها
ونقضه .............. ٢٨
الفصل
الثالث : فى أنّ النفس داخلة فى مقولة الجوهر .......................... ٤١
الفصل
الرابع : فى تبيين أنّ اختلاف أفاعيل النفس لاختلاف
قواها ............. ٤٧
الفصل
الخامس : فى تعديد قوى النفس على
سبيل التصنيف .................... ٥٤
المقالة الثانية
الفصل
الأول : فى تحقيق القوى المنسوبة إلى النفس
النباتية ...................... ٧٣
الفصل
الثانى : فى
تحقيق أصناف الإدراكات التى لنا ........................... ٨١
الفصل
الثالث : فى
الحاسة اللمسية .......................................... ٩٣
الفصل
الرابع : فى الذوق والشم .......................................... ١٠٦
الفصل
الخامس : فى حاسة السمع .......................................... ١١٥
المقالة الثالثة
الفصل
الأول : فى الضوء والشفيف واللون ................................. ١٢٧
الفصل
الثانى : فى مذاهب وشكوك فى امر النور والشعاع ..................... ١٣٤
الفصل
الثالث : فى
تمام مناقضة المذاهب المبطلة لأن يكون النور شيئا ........... ١٤١
الفصل
الرابع : فى تأمل مذاهب قيلت فى الالوان وحدوثها ................... ١٥١
الفصل
الخامس : فى اختلاف المذاهب فى الرؤية وإبطال
المذاهب .............. ١٦٣
الفصل
السادس : فى
إبطال مذاهبهم من الأشياء المقولة فى مذاهبهم ............ ١٨٠
الفصل
السابع : فى حلّ الشبه التى اوردوها وفى اتمام
القول فى المبصرات ........ ١٩٧
الفصل
الثامن : فى سبب رؤية الشىء الواحد كشيئين ........................ ٢٠٨
المقالة الرابعة
الفصل
الأول : فيه قول كلى على الحواس الباطنة التى
للحيوان ................ ٢٢٧
فى
اثبات الحس المشترك ................................................ ٢٢٧
فى
اثبات الخيال ........................................................ ٢٢٩
فى
اثبات القوة المتصرفة................................................. ٢٣٠
فى
اثبات الواهمة ........................................................ ٢٣٠
الفصل
الثانى : فى أفعال القوة المصورة والمفكّرة من هذه
الحواس الباطنة ......... ٢٣٥
فى
النوم واليقظة ....................................................... ٢٤٩
سبب
تنويم الافكار .................................................... ٢٥٠
الفصل
الثالث : فى أفعال القوى المتذكرة والوهمية ........................... ٢٥٢
الفرق
بين الذكر والتذكر .............................................. ٢٥٥
الفصل
الرابع : فى أحوال القوى المحركة وضرب من النبوة المتعلقة
بها .......... ٢٦٧
كلام
سام جدا فى تأثير النفوس .......................................... ٢٧٤
المقالة الخامسة
الفصل
الأول : فى خواص الافعال والانفعالات التى للإنسان .................. ٢٧٩
الفصل
الثانى : فى
اثبات ان قوام النفس الناطقة غير منطبع فى مادة جسمانية..... ٢٨٨
البرهان
الاول على تجرد النفس الناطقة ................................... ٢٨٨
البرهان
الثانى على تجرد النفس الناطقة ................................... ٢٩٤
البرهان
الثالث على تجرد النفس الناطقة .................................. ٢٩٤
البرهان
الرابع على تجرد النفس الناطقة ................................... ٢٩٥
البرهان
الخامس على تجرد النفس الناطقة ................................. ٢٩٦
البرهان
السادس على تجرد النفس الناطقة ................................. ٢٩٦
البرهان
السابع على تجرد النفس الناطقة .................................. ٢٩٩
البرهان
الثامن على تجرد النفس الناطقة ................................... ٣٠٠
الفصل
الثالث : يشتمل على مسألتين : إحداهما كيفية انتفاع
النفس ........... ٣٠٤
الفصل
الرابع : فى أن الأنفس الانسانية لا تفسد ولا
تتناسخ .................. ٣١٢
الفصل
الخامس : فى العقل الفعال فى أنفسنا والعقل المنفعل
عن أنفسنا .......... ٣٢١
العقول
التى لا يخالطها ما بالقوة لا تعقل العدم والشر ...................... ٣٢٦
الفصل
السادس : فى
مراتب أفعال العقل وفى
أعلى مراتبها وهو العقل القدسى.... ٣٢٧
تعريف
الحدس والذكاء ................................................ ٣٣٩
القوة
القدسية ......................................................... ٣٤٠
الفصل
السابع : فى عدّ المذاهب الموروثة عن القدماء فى
أمر النفس وأفعالها...... ٣٤١
الفصل
الثامن : فى
بيان الآلات التى للنفس .................................. ٣٥٧








|