تعليقات على الجزء الرابع

الحج والأمارات

تقسيم الحجج

حجّية القطع

التجرّي

الموافقة الالتزامية

حجّية الدليل العقلي

منجزيّة العلم الإجمالي

حجّية الظنّ

حجّية السيرة

حجّية خبر الواحد



تقسيم الحجج

ص ٧ قوله : ( البحث الأوّل : انّ الشيخ جعل المقسم المكلّف ... ).

المهم هنا هو البحث عن المقسم من ناحيتين :

الاولى : هل يشمل المقسم المكلف العقلي الشامل للصبي المميز والمدرك القابل لتكليفه بشيء أم يختص بالمكلف الشرعي ، أعني البالغ كما هو ظاهر تقسيم صاحب الكفاية 1.

الثانية : هل يشمل المقسم المجتهد والمقلّد أو يختصّ بالأوّل كما عليه المحقّق النائيني 1.

أمّا الناحية الاولى : فالصحيح انّ المقسم هو المكلف العقلي ؛ لأنّ الأقسام الثلاثة تحصل له على حدّ المكلف الشرعي ولابد له من الخروج عن عهدتها اجتهاداً أو تقليداً أو احتياطاً.

ودعوى : وضوح عدم التكليف في حق غير البالغ وكونه من المسلمات والضروريات التي لا نحتاج إلى تعليل أو اجتهاد أو احتياط.


مدفوعة : بأنّ ذلك لا يبرر اخراجه عن المقسم وذلك :

أوّلاً ـ لأنّ بعض الأحكام التي يقطع بها المكلف الشرعي أيضاً قد يكون كذلك أي من المسلمات والضروريات ، فليكن هذا الحكم منها ويدخل في قسم القطع بالحكم من دون وجه في تخصيص المقسم بالمكلف الشرعي.

نعم ، لو فرضنا خروج القطع عن مباحث علم الاصول وتقسيمات مباحثه لم يتم هذا الجواب. وهذا هو المراد بالعبارة في الكتاب ( خصوصاً مع كون مسألة حجّية القطع ليست اصولية ).

وثانياً ـ انّ المسلّم والضروري أصل شرطية البلوغ وهذا لا يمنع عن لزوم الاجتهاد أو التقليد في تفاصيل ذلك في بعض الموارد ، وأهمها الموارد الثلاثة المذكورة في الكتاب. ثمّ انّه لا يتوهم بأنّ أدلّة الاصول العملية أيضاً تكون مقيدة بأدلّة رفع القلم في حق الصبي ، فإنّه يقال :

أوّلاً : لا وجه لذلك بالنسبة إلى الاصول العملية الترخيصية ، لأنّ دليل رفع القلم عن الصبي يرفع ما فيه الكلفة لا كل تشريع لكونه امتنانياً.

وثانياً : لو فرض فبعد فرض اجمال دليل رفع القلم حيث انّ الاصول العملية أدلّتها لفظية صحّ التمسك باطلاقاتها.

وثالثاً : لو فرض عدم الدليل اللفظي المطلق في مورد بعضها نرجع إلى الاصول المؤمنة العقلية كالبراءة على القول بها.

ص ٩ قوله : ( المقام الأوّل في منهجية التقسيم ... ).

يمكن المناقشة فيه بأنّ نظر الاصوليين في هذا التقسيم إلى الظن والشك


الواقعين موضوعاً للحجية والاعتبار الشرعي في مقام استنباط الحكم الشرعي أو الانتهاء إلى الوظيفة العملية في الفقه وليست حجّية الفتوى مما يقع في قياس الاستنباط كما هو واضح. فأصل التقسيم وإن كان معقولاً في حقه ولكنه خارج عن المقسم بهذا الاعتبار.

نعم لو فرض (١) انّ الأحكام الظاهرية كانت حجة في حق المقلّد والمجتهد معاً ثبوتاً وواقعاً لم يكن وجه لتخصيص المقسم بالمجتهد.

ص ١١ قوله : ( وثالثاً ـ حتى بناءً على المسالك ... ).

قد يناقش في هذا الجواب بما في حاشية السيد الحائري من أنّ تنزيل الامارة منزلة العلم ظاهر عرفاً في التنزيل منزلة العلم العرفي والاعتيادي والذي هو العلم عن خبرة.

وفيه : انّه إذا فرض ورود دليل على تنزيل الامارة منزلة القطع الموضوعي ابتداءً فقد يتم مثل هذا الاشكال عندئذٍ ، ولكنه ليس كذلك بل الأثر الموضوعي للقطع لعله نادر أو غير معهود في الموالي العقلائية وإنّما هو من أحكام الشارع ، وترتيبه في موارد الامارات عند الميرزا يكون من جهة الإطلاق في أدلّة

__________________

(١) بل حتى على هذا الفرض لابد من اخراج المقلّد عن المقسم لأنّ المنظور إليه الظن أو الشك المعتبرين لاستنباط الحكم الكلي عن دليله التفصيلي على ما تقدم في تعريف الاصول وما يثبت بدليل التقليد للمقلد من أحكام الظن والشك ليس كذلك وإنّما هو بمقدار حكم نفسه لكونه مقلداً لذلك المجتهد ، وسيأتي توضيح ذلك.

نعم ، هذا البحث أعني عموم الأحكام الظاهرية في موارد القواعد الاصولية للمجتهد والمقلد مؤثر في بحث آخر هو تخريج عملية الإفتاء الذي هو المقام الثاني.


الحجّية المتعرضة لقيامها مقام القطع الطريقي وآثاره ابتداءً حيث يقال انّه يتحقق مصداق من العلم لدى الشارع فيترتب عليه أثره الموضوعي أيضاً إذا كان له أثر موضوعي.

ومن الواضح انّ هذا الإطلاق والدلالة لا يقتضي أكثر من ترتيب الأثر الموضوعي المترتب على العلم بما هو طريق لا بما هو خبرة أي طريق خاص ، فإنّ هذه الخصوصية حيثية صفتية لا محالة لا يمكن استفادة التنزيل بلحاظها من الدلالة الاطلاقية.

ثمّ إنّ هنا اعتراضاً أساسياً على أصل هذا التقريب أولى من الاعتراضات المذكورة ، حاصله : انّ هذا التقريب أيضاً لا يمكنه تخريج عملية الافتاء وحجّية الفتوى على القاعدة ومن باب رجوع الجاهل إلى العالم في حكم مشترك بينهما بلا افتراض عناية زائدة وايجاد موضوع للحكم الذي يراد التقليد فيه. وذلك لأنّه بعد فرض اختصاص الأحكام الظاهرية بالمجتهد تكون العلمية مخصوصة به فهو يرتب ما له من الأثر الموضوعي في مورد الامارة كجواز الافتاء ، وامّا حجّية الفتوى للمقلّد فهو أثر شرعي موضوعه المقلّد لا المجتهد ولا يثبت بدليل جعل الامارة علماً للمجتهد واثباته بدليل حجّية الفتوى دور ؛ لأنّ المفروض توقفه على كون المجتهد عالماً بالواقع امّا وجداناً أو بتعبد ثابت في حق المقلد وهو خلف فرض اختصاص ذلك الحكم الظاهري ـ سواء كان بلسان جعل الطريقية والعلمية أو غيرها ـ بالمجتهد.

فالحاصل : تنزيل علم المجتهد التعبدي أي قيام الخبر الواصل إليه منزلة العلم الوجداني بالواقع في جواز رجوع المقلّد إليه لابد أن يثبت في حق المقلّد لكي


يقوم مقامه في الأثر الموضوعي وهو جواز التقليد واثبات الحكم الواقعي المشترك بينهما به الذي هو معنى حجّية قول العالم للجاهل. وثبوت ذلك للمقلد فرع ثبوت مفاد دليل صدق العادل الذي هو الحكم الظاهري المعبر عنه عند الميرزا بجعل الطريقية والعلمية في حق المقلّد والذي لو ثبت في حقه لم يكن يحتاج إلى جعل العلمية بل كان نفس الحكم الظاهري باخبار المجتهد عن موضوعه ثابتاً في حق المقلّد ولو لم يكن لسان الدليل جعل العلمية ، أمّا إذا ادّعي اختصاصه بالمجتهد كما هو مدعى الميرزا 1 في المقام فلا يترتب أثر القطع الموضوعي لعلم العالم بالواقع الثابت في حق المجتهد ، وهو حجيته عليه في حق المقلّد ، وهذا واضح.

وبعبارة مختصرة : المفروض انّ الحكم الظاهري مخصوص بالمجتهد فمهما كان لسانه والآثار الطريقية أو الموضوعية المترتبة عليه سوف تكون تلك الآثار والأحكام مخصوصة بأحكام المجتهد لا المقلّد إلاّ إذا كان ذلك الحكم الظاهري ثابتاً في حق المقلّد أيضاً كالأحكام الواقعية.

ص ١٢ قوله : ( وهناك تقريب ثان لعلاج مشكلة الافتاء ... ).

حاصله : أنّ دليل التقليد بنفسه وبلا حاجة إلى فرض عناية التنزيل يقوم بتنقيح موضوع نفسه كالاخبار مع الواسطة ؛ لأنّ التقليد في كل مسألة يرجع إلى التقليد في موضوع حكم ظاهري للمقلّد بحسب الحقيقة ، فالمقلد يرجع إلى المجتهد في ثبوت الحالة السابقة الوجدانية للمجتهد فينتج موضوع جريان الاستصحاب في حق المقلّد لأنّ المراد باليقين السابق في دليل الاستصحاب ما يعمّ العلم التعبدي وكذلك الحال في موارد العلم الإجمالي.


ويبقى الفحص فيقال بأنّ فحص كل شخص بحسبه وفي الامارات أيضاً يقال بأنّ المجتهد يفتيه بوجود الخبر الموضوع للحكم الظاهري فيوصله بذلك إلى المقلّد وكذلك يوصل إليه كبرى حجّية الخبر فيكون حجة في حقه بعد تحقق تقليده للمجتهد في الصغرى والموضوع أي محققاً لاطلاق جديد وفرد جديد من الحكم الظاهري نظير الفرد الثابت في حق المجتهد.

وفي الاصول العملية يكون الشك حاصلاً للمكلف أيضاً ، فإذا كان حكمه البراءة أفتاه بالكبرى وبعدم وجود حاكم عليها والصغرى متحققة عنده فتثبت البراءة ، وإذا كان الاحتياط الشرعي فكذلك والعقلي يكفي فيه عدم حكم المجتهد له بالبراءة وهكذا تتحقق عملية الرجوع إلى المجتهد بنحو طولي دائماً.

وهذا لا ينافي فرض اختصاص الأحكام الظاهرية بالمجتهدين ؛ لأنّ المجتهد لم يفت المقلّد بالحكم الظاهري بل بموضوعه كالخبر فوصل بذلك إليه وهو أمر واقعي مشترك ، وبحكمه وهو مقطوع به على تقدير تحقق موضوعه وهو الخبر بحسب الفرض. فهذا الوجه تام حتى على القول بالاختصاص.

وقد ناقش فيه الاستاذ بمناقشتين :

اولاهما ـ أنّ الفحص اللازم في حجّية الخبر أو الاستصحاب أو غيرهما لا يكفي فيه فحص المقلّد عن فتوى المجتهد بل لابد في حجّية الخبر أو أي أصل أو أمارة اخرى من الفحص عما يكون مقدماً عليها أو معارضاً معها من الأدلّة الفقهية وهذا لا يتأتى من المقلّد.

إلاّ أنّ هذه المناقشة سوف يجيب عنها الاستاذ في المسألة الثالثة من امكان


تقليد العامي للمجتهد في مسألة الفحص أيضاً لكون المراد به أمراً واقعياً مشتركاً بين العامي والمجتهد.

الثانية ـ أنّ هذا الوجه يستلزم أن لا يجوز للمجتهد أن يفتي المقلّد بالنتيجة الظاهرية الثابتة في حقه مع قطع النظر عن تقليد العامي له في المرتبة السابقة في موضوع تلك الوظيفة إذ لو لم تكن فتوى المجتهد حجة في حق ذلك المقلّد في موضوع تلك الوظيفة بأن رجع المقلّد فيه إلى المجتهد لم تكن تلك الوظيفة ثابتة في حق المقلّد حقيقةً فلا يجوز المجتهد أن يفتيه بها لكونه كذباً وخلافاً للواقع ، وهذا خلاف الارتكاز المسلم به من أنّ المجتهد له أن يفتي بما يراه الوظيفة الشرعية لكونه يراها هي الوظيفة حتى في حق من لم يرجع إليه أو لا يجوز له الرجوع إليه وهذا بخلاف ما إذا قلنا بأنّ الوظائف الظاهرية كالأحكام الواقعية مشتركة بينهما ولا يجدي في دفع هذا الاشكال أن يقول المجتهد هذا حكم الله في حقي وحق من يجوز له تقليدي فإنّه ليس حكم الله إلاّفي حق من قلّده بالفعل لا من يجوز له تقليده ولو لم يقلده فيكون الاشتراك في طول التقليد بحيث لا يمكنه افتاء من لم يقلّده مثلاً لكونه كذباً وخلاف الواقع وهذا خلاف كون التقليد رجوعاً إلى العالم فيما هو مشترك بينهما مع قطع النظر عن التقليد وأنّه يرى حكمه حكماً لكل مكلف سواءً قلّده أم لا ولهذا يجوز الافتاء به وإن لم يجز للغير الرجوع إليه.

وإن شئت قلت : أنّ المشكلة بالدقة ليست في كيفية الافتاء ـ وإن كان ظاهر كلام الاستاذ ذلك أيضاً ـ فإنّه يمكن للمجتهد أن يفتي العامي حتى الذي لا يجوز له تقليده بالحكم الواقعي إذا كان قد حصل لديه أمارة أو أصل تنزيلي عليه وهو مشترك بحسب الفرض بينهما فإنّ لازم قيام ذلك عنده جواز اسناد مؤداه إلى


الشارع وأنّه هو الحكم الواقعي المشترك بين الجميع بحسب الفرض امّا لقيامها مقام العلم الموضوعي أو لكون جواز الاسناد وموضوعه الواقع.

نعم ، في موارد الأحكام الظاهرية العملية غير التنزيلية يبقى الاشكال حيث انّ من لم يرجع إلى هذا المجتهد وتقليده لا يثبت في حقه ذلك الحكم الظاهري الذي استنبطه ولو لعدم وصوله إلى ذلك العامي وسوف يأتي حل لذلك.

وإنّما الاشكال في نفس عملية التقليد وحجّية فتواه للمقلّد فإنّ دليل الحجّية تجعل الحكم المشترك الذي علم به المجتهد الخبير منجزاً وحجة على المقلّد أيضاً وفي المقام إذا اريد ارجاع العامي إلى المجتهد في الحكم الواقعي الذي بحسب الفرض جاز له الافتاء بعنوانه ـ لقيام الحجة عليه عنده ـ فالمفروض انّه غير خبير ولا عالم به وإن اريد ارجاعه إليه في الوظيفة الظاهرية الثابتة عليه فهو غير مشترك بينهما مع قطع النظر عن التقليد في المرتبة السابقة المحقّق لموضوع ذلك الحكم الظاهري في حق المقلّد ، فيكون التقليد محققاً لهذا الحكم وموجباً لاشتراكه بينهما لا انّ هناك اشتراكاً في المرتبة السابقة خصوصاً إذا قلنا باختصاص الحكم الظاهري بالوصول كبرى وصغرى فيكون الاشتراك في طول التقليد في الصغرى والكبرى معاً بل ليس اشتراكاً بحسب الحقيقة بل تحقيق فرد آخر من الحكم الظاهري. فهذا ما لا يقتضيه دليل التقليد خصوصاً السيرة العقلائية.

ومنه يعرف انّ الاشكال الأساسي مخالفة هذه النكتة لأصل التقليد الموجب لحرماننا من دليل السيرة العقلائية الذي هو أهم دليل على التقليد ، فإنّه يقتضي الرجوع إلى العالم في الحكم المشترك في المرتبة السابقة على التقليد.


مراجعة جديدة للبحث :

البحث عن انّ المقسم هل يختص بالمكلف المجتهد أو يعمّ المقلّد؟ ينبغي ايراده في جهات :

الاولى : امكانية هذا التقسيم في حق غير المجتهد في نفسه ، ولا ينبغي الاشكال فيه لأنّه هو أيضاً كالمجتهد قد يقطع بحكم شرعي واقعي ضروري وقد لا يقطع وإنّما يحصل له ظن معتبر مقطوع الحجّية كالظن الحاصل من قول مقلَّده ، وقد يجري استصحاب بقاء فتوى مقلَّده وعدم عدوله عنه. وقد يثبت فتوى مقلّده بخبر الثقة العدل بناءً على كفايته فيه وقد يجري أصالة الظهور في كلام مقلّده.

الثانية : انّ مقصود الاصولي من المقسم لابد وأن يكون خصوص المجتهد لا الأعم ؛ لأنّ نظره في التقسيم إلى الوظائف المقررة التي تقع في كبرى قياس الاستنباط ، ولهذا لا يبحث في علم الاصول في بحث الظن عن حجّية الفتوى. وأمّا حجّية ظهور كلام المجتهد للمقلد أو استصحاب بقاء رأيه وعدم عدوله عن فتواه فهي مجاري لُاصول موضوعية بحسب الدقة لا حكمية ، أي تثبت الموضوع الخارجي وهو ما هو رأي ونظر المفتي.

إذاً فالتقسيم بلحاظ الوظائف المقررة في كبرى قياس الاستنباط وهي لا تكون للمقلّد.

وإن شئت قلت : انّ الوظائف الظاهرية التي يجريها المقلّد في طول الفتوى لاحرازها كلها وظائف ظاهرية في شبهة موضوعية لا حكمية كلية ، وامّا نفس حجّية فتوى المجتهد واخباره عن الحكم الكلي فهي وإن كانت وظيفة ظاهرية


في شبهة حكمية كلية للمقلد إلاّ انّه ليس استنباطاً للحكم الشرعي بل وظيفة عملية لمن لا يريد بنفسه الوصول إلى الحكم الشرعي ، ولهذا يكون في طول التقليد ولخصوص من قلّد ذلك المجتهد حتى بنظر المقلّد نفسه فهو لا يراه حكماً عاماً لكل أحد بخلاف الوظائف الاصولية المقرّرة كحجية الخبر مثلاً ،

الثالثة : الوظائف الظاهرية المقرّرة في الاصول هل يختص موضوعها بالمجتهد أو يعم المقلّد واقعاً وإن كان لا يمكنه أن يستفيد منها؟ ولا اشكال هنا في عدم أخذ قيد المجتهد في موضوعها وإنّما توهم الاختصاص من ناحية انّ موضوعاتها قد اخذ فيها قيود لا تتيسر للمقلّد كالفحص عن عدم المعارض أو الحاكم أو عدم الدليل على الالزام في البراءة ، أو اليقين السابق في الاستصحاب بل الوصول والعلم بالحكم الظاهري بناءً على شرطيته في كل وظيفة ظاهرية.

والصحيح عدم الاختصاص حتى بهذا المعنى ، إذ الوصول والعلم ليس قيداً حتى في الحكم الظاهري وإن كان شرطاً في التنجيز والتعذير. لما يأتي من وجود مبادئ حقيقية للحكم الظاهري ولو فرض قيديته فالقيد هو مطلق الوصول الأعم من العلمي والتعبدي وهذا ممكن في حق المقلّد ولو من جهة التقليد.

واليقين السابق ليس شرطاً في الحكم بالاستصحاب وإنّما الشرط واقع الحالة السابقة والفحص ليس له موضوعية بل هو طريق إلى عدم وجود المعارض أو الحاكم في معرض الوصول على ما هو مبيّن في الكتاب.

إلاّ أنّ هذا لا يعني امكان استفادة المقلّد وتطبيقه بنفسه لتلك القواعد الظاهرية مباشرة لأنّه لا طريق له إلى احراز الحالة السابقة أو احراز عدم وجود المعارض والحاكم إلاّدليل التقليد وهو لا يقتضي ذلك ، فإنّه لا يقتضي حجّية نظر المجتهد


لمن يريد استنباط حكم شرعي كلي وإنّما غايتة حجّية نظر المجتهد لمن يريد التقليد في النتيجة النهائية ، وإلاّ كان فحص كل مجتهد حجة للمجتهد الآخر ، وهو كما ترى.

الرابعة : في كيفية تخريج عملية الافتاء والتقليد والذي هو من باب رجوع الجاهل إلى الخبير والعالم بحكم مشترك بينهما. فإنّه بعد أن كانت تلك الوظائف المقررة مقيدة لباً بقيود لا تتحقق عادة في حق المقلد فبماذا يفتي المقلّد هل يفتيه بالحكم الواقعي؟ أو بالوظيفة الظاهرية؟ والأوّل خلف فرض عدم علمه به ـ في موارد تلك الوظائف الظاهرية ـ والثاني المفروض اختصاص موضوعاتها لباً بالمجتهد لا المقلّد. ويزداد الاشكال في الأحكام المتعلقة بغيره التي ليست متعلقة في حق المجتهد لعدم ابتلائه بموضوعها فإنّها لا وظيفة ظاهرية ولا حكم فعلي في حقه أيضاً فبماذا يفتي؟

وقد اجيب عنه بوجوه :

١ ـ ما نسب إلى الشيخ من استفادة النيابة والتنزيل من دليل التقليد فشك المجتهد ويقينه وظنه وفحصه منزل منزلة الشك واليقين والظن للمقلد.

وفيه : عدم الدليل على استفادة مثل هذا التنزيل من أدلّة التقليد خصوصاً إذا كان مهم الدليل عليه السيرة العقلائية والأدلّة اللفظية امضائية لها إلاّ إذا انحصر الأمر في ذلك بحيث لم يكن وجه آخر محتمل فتتشكل دلالة الاقتضاء مثلاً. على انّ لازمه عدم امكان افتائه لغير من قلّده بالفعل وهو خلاف الارتكاز كما ذكر في الكتاب.

٢ ـ ما ذكره السيد الخوئي في الأمارات والاصول التنزيلية كالاستصحاب من


إمكان الافتاء بالواقع لكونه ببركة ذلك يصبح عالماً تعبداً به وإن كان متعلقاً بحكم غير المجتهد ، نعم في الاستصحاب في مثل نجاسة الماء المتغير بعد زوال تغيره بحيث يكون للمقلد أيضاً يقين سابق ولو بالتقليد بالنجاسة وشك لاحق يمكن أن يفتيه بالحكم الظاهري.

وأمّا في الاصول غير التنزيلية كالاحتياط والتخيير والبراءة فيفتيه بالحكم الظاهري لاشتراكه ولو بعد فحصه بنفسه وعدم وجدان الدليل على الالزام ، لا الواقع لعدم جريان البراءة في حق المجتهد إذا كان غير مبتلى به ولو جرى لم يكن علماً تعبدياً.

ويرد عليه الوجوه الثلاثة في الكتاب. ولو فرض تغيير المبنى وافتراض انّ الافتاء بالواقع موضوعه الواقع لا العلم والامارة أو الأصل التنزيلي يثبته بحسب الفرض ارتفع الاشكالات كلها.

إلاّ أنّ هنا اشكالاً رابعاً متجهاً على كلا التقديرين والتقريرين وهو روح الاشكال ، وحاصله : انّ قصارى ما ذكر جواز الافتاء والاخبار للمجتهد بالواقع وامّا التقليد والرجوع إلى المجتهد لا يكون من باب الرجوع إلى الخبير في أمر مشترك بينهما إذ لو اريد الرجوع إليه في الحكم الواقعي فالمفروض انّه لا خبرة حقيقية للمجتهد به ـ والذي هو ملاك السيرة العقلائية لا عنوان الخبرة ليقال بحصول التنزيل والاعتبار فيه ـ وإن جاز له الافتاء به تكليفاً كما إذا جاز شرعاً الاخبار بلا علم أصلاً فإنّ هذا لا يجعل المجتهد خبيراً.

ودعوى : انّ مفاد ومدلول ذلك الحكم الظاهري عام ومشترك بين المقلد والمجتهد بخلاف الحكم الواقعي المختص كالقضاء والافتاء.


مدفوعة : بأنّ هذا مجرد لسان وصياغة للحكم الظاهري ليس واقعه إلاّتنجيز أو تعذير شرعي ظاهري عن الواقع وهو منوط بموضوعه كما لا يخفى.

وإن كان المقصود الرجوع إليه في الحكم الظاهري والوظيفة التي شخّصها حقيقة بخبرته وعلمه فالمفروض انّه مختص به موضوعاً.

وهكذا يتضح انّه لابد من التفكيك بين مسألة جواز الافتاء بالواقع في موارد بعض تلك الوظائف المقررة وبين مسألة جواز التقليد والرجوع إليه فيه بعنوان كونه خبيراً بحكم مشترك بينهما فتدبر جيداً.

كما انّه يرد على ما في ذيل كلامه من انّه كيف يكون المقلد مجرىً للبراءة مع فرض تقيدها بالفحص ولم يفحص المقلد؟ وكذلك في الاستصحاب فلابد من التنزيل الذي لا دليل عليه.

٣ ـ أن يقلّده في موضوع الحكم الظاهري والوظيفة الشرعية المقررة كأن يقلده في حكمه بنجاسة الماء المتغير بالنجاسة مثلاً ، ثمّ هو يجري استصحاب بقاء النجاسة إلى ما بعد زوال التغيّر ، لا انّه يقلده في ذلك أيضاً ـ كما لو كان المجتهد لا يرى مثلاً جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية ـ أو يقلده فيه أيضاً لو كان يقول بجريانه ، فيكون موضوع الحكم الاستصحابي وهو اليقين السابق ولو تعبداً أو واقع الحالة السابقة ـ بناءً على كفاية الحدوث في جريان الاستصحاب ـ محرزاً له بالتقليد السابق ؛ ومثله لو قلده في موضوع أصالة الاحتياط من العلم الإجمالي بالتكليف غاية الأمر يكون للمقلد علماً اجمالياً تعبدياً لا وجدانياً.

وهكذا فيصبح في طول التقليد في حكم واقعي موضوعاً لنفس الوظيفة


الظاهرية.

وهذا الوجه فيه المحذور الأوّل من المحذورين المتقدمين على الوجه الأوّل وهو عدم إمكان افتاء المجتهد لمن لم يقلده في المرتبة السابقة وهو خلاف الارتكاز ؛ كما انّ فيه محذور آخر حاصله انّ المقلد لو أراد أن يطبق كبرى الوظيفة الظاهرية بنفسه ابتداءً فدليل التقليد في موضوعها لا يشمله كما تقدم ، وإذا أراد أن يقلد المجتهد في الكبرى وانطباقه عليه في الموارد من سائر النواحي كالفحص وعدم الحاكم ونحوه فهذا فرع واقعية الحكم الظاهري من تلك النواحي فيتوقف على ما سيأتي في الوجه القادم من عدم اختصاص الأحكام الظاهرية المقررة بالمجتهد.

٤ ـ أن يقلده في الحكم الظاهري لكونه حكماً واقعياً له موضوع واقعي يحرزه المجتهد للمقلد إلاّمن ناحية الشك بمعنى عدم العلم وهو محفوظ لدى المقلد أيضاً في غير مورد الضروريات والمسلمات الفقهية ، فيكون مشمولاً للأحكام الظاهرية التأمينية أو التنجيزية الشرعية بناءً على واقعية مبادئها وانحفاظها حتى لمن لم يحرز موضوعاتها ، وهو من الرجوع إلى الخبير في حكم واقعي مشترك بينهما يحرزه المجتهد للمقلد ويوصله إليه على حدّ ايصال الحكم الواقعي.

وهذا الجواب يتم في الأمارات لأنّ موضوع الوظائف فيها واقع الخبر أو الظهور أو الشهرة أو غير ذلك ، وامّا الفحص فإن كان أمراً طريقياً إلى واقع عدم وجود الحاكم أو المعارض في معرض الوصول فكذلك وإن كان للفحص موضوعية كما لو استفيد ذلك من دليل هلا تعلّمت. فنقول : انّ هذا تخصيص لإطلاق أدلّة تلك الأحكام الظاهرية فنقول : بأنّ المقدار الذي يقتضيه المخصّص


ولو بضميمة أدلّة التقليد ليس بأكثر من فحصه بنفسه أو فحص الخبير فإنّه لا وجه لأكثر من هذا المقدار من التقييد والتخصيص.

وامّا الاصول العملية فبالنسبة للحكم الظاهري الاستصحابي ، إن قلنا بأنّ موضوعه واقع الحالة السابقة فهو أمر واقعي مشترك أيضاً فيكون يقين المجتهد طريقاً محضاً لاحرازه للمقلد ، وإن قلنا بموضوعية اليقين السابق كان الحكم الاستصحابي ثابتاً لمن قلّده في ذلك لأنّه يثبت في حقه الحالة السابقة بالحجة والعلم التعبدي ، والمقرر في محله جريان الاستصحاب في ذلك. وبالنسبة للفحص اللازم في جريان الاصول فقد عرفت حاله.

وأمّا الاصول غير المحرزة فبالنسبة إلى الفحص قد عرفت الحال وبالنسبة إلى عدم العلم فهو مشترك بحسب الفرض بين المقلّد والمجتهد. يبقى حجّية الظن عند الانسداد على الحكومة.

والصحيح فيه انّه أيضاً مرجعه إلى استكشاف عدم ايجاب الاحتياط في المشكوكات والموهومات عند المجتهد الخبير حتى على مقلّديه ، والاحتياط الثابت بحكم العقل في غيرهما من أوّل الأمر على الجميع.

وأمّا البراءة العقلية على القول بها فالرجوع إلى المجتهد من قبل المقلّد في موردها يكون بمعنى الرجوع إليه في تحقق شرطها وهو أمر واقعي مشترك وهو عدم وجود حكم واقعي أو ظاهري الزامي أو ايجاب احتياط رافع لموضوع البراءة العقلية ، وهذا معناه التأمين الشرعي الظاهري للمقلّد من ناحية عدم الفحص فقط.

وأمّا كبرى قاعدة قبح العقاب بلا بيان فلابد وأن يحكم به عقله ، ولا يعقل فيه


التقليد إلاّبمعنى جعل حكم ظاهري ترخيصي شرعي لو فرض ورود دليل التقليد في هذا المورد بالخصوص.

فالحاصل المقلد يرجع إلى المجتهد في الأحكام الواقعية المشتركة وهي امّا معلومة بنفسها أو معلوم مقدار تنجزها وثبوتها التنجيزي أو التأميني الشرعي ، وهو أمر واقعي مشترك إلاّفي الاستصحاب بناءً على موضوعية اليقين السابق وكذلك في موارد منجزية العلم الإجمالي حيث يكون التقليد فيهما طولياً أي بعد احراز موضوع الحكم الظاهري بالاستصحاب أو احراز موضوع التنجيز العقلي.

وأمّا لسان الافتاء والفتوى فذاك أمر اثباتي ومربوط بعالم الصياغة كما هو مقرّر من قبل سيدنا الشهيد 1.

ونلخص البحث كلّه بأنّ هناك مشكلتين كلتاهما يمكن حلهما على كلا المسلكين.

اولاهما ـ كيفية افتاء من لا يقلد هذا المجتهد بالحكم الظاهري الثابت في حقه ، حيث انّ الارتكاز الفقهي قائم على أنّ له أن يفتيه بذلك وانّه حكم الله في حقه أيضاً بحسب نظره ولو فرض انّه لم يجز لذلك العامي أن يقلّده.

ثانيتهما ـ كيفية تخريج تقليد العامي له في موارد الحكم الظاهري على القاعدة أي من باب رجوع الجاهل إلى العالم في حكم ثابت في حقه بقطع النظر عن التقليد.

امّا حل المشكلة الاولى ففي مورد الأمارات والاصول التنزيلية يوجد حلاّن يتمان على كلا المسلكين :


١ ـ الافتاء بالحكم الواقعي المشترك امّا من باب قيام الأمارة والأصل التنزيلي مقام القطع الموضوعي في هذا الأثر وهو جواز الافتاء والاسناد أو من جهة كونه أثراً للواقع لا للعلم به كما هو الصحيح.

٢ ـ الافتاء بالحكم الظاهري حتى لمن لا يقلده امّا على مسلك وجود المبادئ للحكم الظاهري فلثبوته في حق العامي الشاك في المسألة ـ وهو أحد أجزاء موضوع الحكم الظاهري ـ وكون سائر أجزاء الموضوع امور واقعية وامّا على مسلك اختصاص الحكم الظاهري بالوصول فلأنّ الوصول عندهم شرط الفعلية لا الجعل فيمكنه أن يفتيه بكبرى الجعل وصغراه من غير ناحية الوصول ، وهما أمران واقعيان ، غاية الأمر لا يكون ذلك الحكم الظاهري فعلياً في حق غير من يكون رأيه هذا حجة في حقه حيث يتحقق الوصول بذلك ولا ارتكاز على خلاف ذلك في باب الأحكام الظاهرية ، فكأنّ الفتوى هي أنّ من يكون رأيي واخباري حجة له يكون الجعل الظاهري المذكور فعلياً في حقه ، وهذا من لوازم اشتراط الوصول في الحكم الظاهري في تمام الموارد حتى الامارات المثبتة لها في حق المجتهد ويلتزم به القائل بهذا المسلك في تمام الموارد حيث يكون الوصول قيداً في مؤداها وموضوعها لباً.

وهذا يعني ـ بعد فرض كون المجعول الفعلي أمراً وهمياً ـ أنّه يفتيه بكبرى الجعل المقيد بالوصول ، بينما على المسلك الآخر يخبره بكبرى الجعل غير المقيد بالوصول ، فالاشكال كان ناشئاً من تصور كون الافتاء بالحكم الظاهري بمعنى المجعول الفعلي والمفروض انّه أمر وهمي تصوري والأمر الحقيقي هو الاخبار أو الافتاء بالكبرى والصغرى.


وفي موارد الاصول والأحكام الظاهرية غير التنزيلية يمكنه الافتاء بالحكم الظاهري الفعلي على القول بوجود مبادئ للحكم الظاهري ؛ إذ موضوع هذه الأحكام الشك وهو محرز في حق العامي على كل حال وعدم وجود حاكم في معرض الوصول ثابت بحسب فحص المجتهد وعلى القول الآخر أيضاً يمكنه الافتاء بجعل ذلك الحكم الظاهري كبروياً وبصغراه من غير ناحية الوصول أي بالحكم الظاهري لمن يصل إليه ذلك ولو بنفس حجّية فتواه له ، وقد قلنا انّه ليس على خلاف الارتكاز بناءً على أخذ الوصول شرطاً في الفعلية.

والتعبير بالافتاء بالحكم الظاهري الفعلي أو بالكبرى والصغرى مطلب واحد يختلفان في التعبير بناءً على ما هو الصحيح من انّ المجعول الفعلي أمر وهمي فلا فرق من هذه الناحية بين المسلكين. نعم ، الفرق بينهما من حيث انّ الجعل أي الكبرى المخبر به على الأوّل ليس الوصول قيداً فيه وعلى الثاني يكون قيداً فيه وهذا يلتزم به صاحب المسلك الثاني كما قلنا في تمام أدلّة الأحكام الظاهرية ، ولهذا قلنا انّه ليس فيه ما يخالف الارتكاز بالدقة.

وأمّا حل المشكلة الثانية فلأنّ الشك الموضوع لبّاً لكلّ الأحكام الظاهرية ثابت بحسب الفرض للعامي والظن الذي يراد به الظن النوعي المتمثل في الامارة كالخبر والظهور ونحوهما أمر واقعي ، وكذلك عدم وجود حاكم أو معارض في معرض الوصول والاستصحاب ركنه ثبوت الحالة السابقة واقعاً وهو أيضاً أمر واقعي مشترك فيكون رجوع العامي إلى المجتهد لأخذ الكبرى والصغرى رجوعاً في أمرين واقعيين ثابتين في حقه أيضاً ، غاية الأمر على مسلكنا من ثبوت المبادئ للأحكام الظاهرية وعدم اشتراط الوصول ثبوت هذا المقدار يستلزم ثبوت الحكم الفعلي الذي هو أمر وهمي ، وعلى مسلك


الميرزا 1 يكون الجعل مقيداً لباً بالوصول الحاصل في المقام بنفس تقليده في الكبرى والصغرى من ناحية الوصول فيكون التقليد في الكبرى والصغرى من غير ناحية الوصول تقليداً على القاعدة غاية الأمر ترتب الأثر العملي المهم للمقلّد وهو رفع منجزية احتمال الالزام الواقعي في كل مسألة إنّما يترتب في طول التقليد ، وهذا أمر مشترك بين المسلكين فاننا لو قلنا بأنّ الحكم الظاهري غير مشروط بالوصول أيضاً لا ترتفع المنجزية العقلية قبل التقليد عن العامي لأنّ ثبوت الحكم الظاهري ومباديه الترخيصية واقعاً لا يكفي لرفع المنجزية العقلية للشبهة من دون اجتهاد أو تقليد كما هو واضح.

وهذا يعني ـ بعد فرض انّ حقيقة الحكم الفعلي والمجعول أمر وهمي ـ انّه لا فرق حقيقي بين المسلكين في مسألة التقليد إلاّمن ناحية أنّ الجعل وكبرى الحكم الظاهري الذي هو أمر واقعي ثابت يقلده فيه العامي على مسلكنا لا يكون مقيداً بالوصول ، وعلى مسلك الميرزا مقيد بالوصول ، وهذا فرق في مؤدّى المحكي بالفتوى والحجة لا نفس الحجّية والتقليد ولا في ترتب الأثر العملي ، وهو رفع المنجزية الفعلية الثابتة قبل التقليد ، فعلى كلا المسلكين المنجزية ثابتة عقلاً قبل التقليد ، وعلى كليهما التقليد رجوع إلى العالم في اثبات أمر واقعي ثابت بقطع النظر عن التقليد مفيد في رفع المنجزية في حق المقلّد وهو كبرى الجعل وصغراه ، وعلى كلا المسلكين أيضاً يكون نفس هذا التقليد رافعاً للمنجزية ومثبتاً لذلك الحكم الظاهري المؤمن وإنّما الفرق انّه على أحدهما ما يفتيه به المجتهد من كبرى الحكم الظاهري قد اخذ في موضوعه شرط الوصول والآخر لم يؤخذ ذلك ؛ فالفرق في المفتى به اطلاقاً وتقييداً بالوصول لا في حجّية الفتوى.


وهذا الفرق في المفتى به يلتزم به من يقول بشرطية الوصول في الحاكم الظاهري في تمام أدلّة الأحكام الظاهرية حتى في حق المجتهد نفسه ، فما يكون أمراً مشتركاً وحكماً موضوعياً ثابتاً في حق المجتهد يكشفه بالدليل بنفسه يكون ثابتاً للمقلد يكشفه بالتقليد.

وهذا التحليل يوضح لنا كيف انّ كل هذا الاشكال نشأ من تصور أنّ الفتوى يكون بالحكم الفعلي وانّ عالم المجعول الفعلي أمر حقيقي كما هو مسلك الميرزا ، فهذه المسألة كأنّه استرسل فيها سيدنا الشهيد 1 تأثراً بطرز تفكيرهم من التفكيك بين مرحلة الجعل والمجعول الفعلي. حيث انّه إذا كان اللازم هو الافتاء بالمجعول الفعلي في حق المقلد اتجه المحذور واحتجنا في مقام رفعه إلى الافتاء بالحكم الواقعي أو بالحكم الظاهري لمن يقلّده وأن يكون التقليد في الكبرى والصغرى من غير ناحية الوصول ويتحقق الوصول بنفس التقليد فيهما ، وعندئذٍ قد يقال أنّه خلاف الارتكاز وخلاف كون الحكم الفعلي مشتركاً ثابتاً في حق العامي قبل التقليد.

وامّا إذا قلنا أنّ الافتاء بالمجعول الفعلي ليس إلاّعبارة عن الافتاء بكبرى الجعل وبصغراه لأنّهما الأمران الحقيقيان وامّا تولّد المجعول الفعلي منهما فهو أمر وهمي تصوري ، فالتقليد على كل حال يكون في الكبرى والصغرى من غير ناحية الوصول ، وهما أمران واقعيان والمقلّد يشخصهما في حق نفسه كما في الأحكام الواقعية تماماً غاية الأمر يكون الفرق في أخذ قيد الوصول وعدمه في موضوع الكبرى وهذا فرق بين المسلكين فيما يفتى به لا في أصل الفتوى ، فلا محذور لا في الافتاء ولا في التقليد ، ويكون هذا نظير افتاء المجتهد بوجوب القصر في الصلاة على العالم به ولو بنفس التقليد ، ونظير ثبوت الأحكام الظاهرية


في حقّ المجتهد نفسه بأدلّتها التفصيلية وامّا لزوم التقليد فعلى كلا المسلكين يكون لرفع المنجزية الثابتة في كل شبهة قبل التقليد أو الاجتهاد على المكلفين جميعاً.

والتقليد على أحد المسلكين وإن كان محققاً لأحد أجزاء الموضوع ـ الصغرى ـ إلاّ انّه يتحقق بنفسه في طول التقليد في الكبرى والصغرى من غير ناحية الوصول التي هي امور واقعية مشتركة بحسب الفرض فلا يكون الاشكال في حقيقة التقليد فيما يرجع فيه إلى المجتهد.

نعم ، قد يسأل عن وجه لزوم هذا التقليد في الأمر المشترك ليصل إلى العامي فيتنجز أو يثبت التأمين في حقه ، والجواب أنّ وجه لزومه على كلا المسلكين واحد وهو رفع المنجزية القبلية للأحكام الواقعية المعلومة اجمالاً بل المحتملة أيضاً ، لكون الشبهة قبل الفحص. وعلى هذا الأساس لابد من فرض أصل الاشكال على أساس مسلك الميرزا القائل بالحكم الفعلي المجعول وانّ الافتاء لابد وأن يكون به لا بمنشئه دائماً وهو الصغرى والكبرى ، وينبغي تغيير منهج البحث على هذا الأساس ، فراجع وتأمل.

ص ١٧ قوله : ( ثمّ انّه يمكن أن يستشكل في حجّية رأي المجتهد المفضول ... ).

الاشكال في كيفية حصول اليقين مع الاعتراف بأعلمية الآخر أو احتماله مع العلم بوجود الخلاف بل واحتماله أيضاً.

وقد اجيب عليه في الدورة السابقة بأنّ المجتهد غير الأعلم بالرجوع إلى الأعلم تنقلب وظيفته من عدم وجدان الحجة مثلاً على الالزام إلى الحجة التي


وجدها الأعلم بأعلميته من ظهور أو سند أو اجماع أو غير ذلك ، وهذا لا يقدح في حجّية ذلك الحكم الظاهري بالفعل لغير الأعلم إذا كان قد فحص بمقدار وسعه في المسألة ولم يجد ما يدله على الالزام فإنّه لا يستفاد من مجموع أدلّة وجوب الفحص العقلائية أو الشرعية ـ كروايات هلا تعلّمت ـ أكثر من هذا المقدار من الفحص أي فحص كل خبير بحسب ما لديه من القدرة والخبرة ، كما وانّه يمكن أن ينقض بمثل ذلك في الأعلم ، فإنّه قد يتحقق مثل هذا الاحتمال في حقّه أيضاً إذا احتمل وجود حجة ولو اتفاقاً لدى غيره المفضول أو المساوي له.

إلاّ أنّ كلا هذين الجوابين قد عدل عنهما السيد الشهيد في الدورة الثانية لعدم تماميتهما. أمّا الثاني فلأنّه من المعقول دعوى حصول الاطمئنان عادة للأعلم بعدم وجود حجة كذلك بعد استكمال فحصه ولو فرض عدم استكمال الفحص أو احتمال خصوصية في مورد يلتزم فيه بوجوب الفحص عن مدرك غير الأعلم أو المساوي هناك أيضاً.

وامّا الأوّل فلأنّه :

أوّلاً ـ أدلّة الفحص مطلقة تشمل كل مورد يحتمل فيه أن يحصل على حجة ولو لدى الأعلم ، لأنّ هذا الفحص في وسعه أيضاً كالفحص عن الأدلّة في سائر مظانّها وعند العلماء والفقهاء السابقين فأي فرق بين مورد ومورد؟

وثانياً ـ كثيراً ما يكون احتمال الاختلاف بينه وبين الأعلم من باب احتمال التخطئة ، أي لا يكون من باب رفع الموضوع للحكم الظاهري بل رفع المحمول كما لو احتمل الخطأ في تشخيص الحكم الواقعي أو في أصل الحكم الظاهري بمعنى أنّه حصل على امارة على الترخيص مثلاً يحتمل انّه لو يراجع الأعلم يثبت


خطأه فيكون شكه في أصل ثبوت هذا الحكم الظاهري الترخيصي لا من ناحية مقدار الفحص ليقال بكفاية هذا المقدار من الفحص وكذلك لو كان الشك في أصل صحة كبرى الحكم الظاهري الترخيصي الذي تمسك باطلاقه في كل مورد ، فمسألة كفاية هذا المقدار من الفحص إنّما تجدي فيما إذا كان تمامية أصل ذلك الحكم الظاهري الترخيصي وإطلاق دليله ثابتاً مقطوعاً به عندهما وليس تمام موارد الحكم الظاهري كذلك كما هو واضح.

والصحيح في الجواب في الجملة : ما في الكتاب من إمكان حصول الجزم أو الاطمئنان لغير الأعلم امّا باعتبار أنّ مجموع المسائل الاستدلالية ومدارك كل مسألة كثيرة ونسبة الاختلاف ضئيلة بحيث يكون في قباله اطمئنان بالعدم بناءً على قبول حجّية الاطمئنان في أمثال المقام بالنكات المذكورة في الكتاب.

أو باعتبار التفاتة إلى نظر الأعلم في مسألة خاصة بالتمام والالتفات إلى نكتة زائدة ، ممّا يوجب نفي احتمال غفلته عن شيء آخر عادة وجزمه بتمامية فحصه. أو باعتبار انّ المسألة مما ترجع إلى نكات ذاتية وذوقية أو استظاهرية غير قابلة للبحث والنقاش ، إلاّ أنّه في غير هذه الحالات لو فرض الالتفات والتوجّه وبقاء احتمال معتدّ به بوجود دليل أو نكتة لدى الأعلم لو علم بها لتغيّر نظره فلا محالة ينتفي الجزم لديه ، من دون الرجوع إلى مدرك فتوى الأعلم المخالف معه في المسألة فيلتزم بوجوب الفحص فيه.

ص ٢٠ قوله : ( الجهة الثانية : في الأقسام ... ).

أشكل صاحب الكفاية على التقسيم الثلاثي باشكالين :

الأوّل : التداخل في الأقسام حيث انّ الظن غير المعتبر ملحق بالشك من


حيث الحكم.

واجيب عنه بثلاث أجوبة :

١ ـ المراد بالظن خصوص المعتبر كما لعله ظاهر تعبير الشيخ في بحث الاصول العملية ، ذكره السيد الخوئي.

وفيه : مضافاً إلى انّه خلاف ظاهر الظن وخلاف المنهجية أيضاً إذ المنظور في التقسيم الرتبة السابقة على الاعتبار الشرعي والحجّية لبيان موضوعاتها المتنوعة فلا معنى لأخذ الاعتبار قيداً في هذه المرتبة.

٢ ـ أنّ الملحوظ امكان الحجّية وامتناعها وضرورتها لا فعليتها فلا يلزم التداخل. ذكره الميرزا في الأجود والسيد الخوئي في المصباح.

وفيه : أنّ الامكان ثابت للشك أيضاً إلاّ إذا اريد بالشك مجموع الاحتمالين لا أحد طرفيه وهو بلا موجب ولهذا لم يكن المراد بالظن إلاّ أحد الاحتمالين أيضاً.

ودعوى : أنّ أحد الاحتمالين في الشك غير قابل لجعل الكاشفية والحجّية له بخلاف الظن.

يدفعها : بأنّ الكاشفية التعبدية يمكن جعلها له ولهذا جعلت في الاستصحاب باعتراف هذا العلم. هذا مضافاً إلى انّ الملحوظ والمهم ليس هو إمكان الحجّية بل الحكم الظاهري الفعلي والظن غير المعتبر حكمه الفعلي حكم الشك بحسب الفرض فالتداخل بلحاظ ما هو المهم ثابت.

٣ ـ ما ذكره الميرزا في الفوائد من انّ التقسيم باعتبار مرتبة أسبق من الاعتبار من أجل تقسيم مواضيع الكتاب فلابد من جعل موضوع القسم الثاني الظن لكي


يبحث فيه عن اعتباره وعدمه وما هو معتبر منه وما لا اعتبار له لا خصوص الظن المعتبر. فالتثليث بلحاظ الأنواع التكوينية الثلاث لدرجات التصديق والكشف من اجل البحث عن حكم كل قسم منها امكاناً ووقوعاً. وهذا منهج تدويني صحيح.

الثاني : انّ أحكام القطع غير مختص بما إذا تعلق بالحكم الواقعي بل يشمل القطع بالحكم الظاهري أيضاً فلابد من جعل التقسيم ثنائياً من انّه امّا أن يحصل له القطع بحكم شرعي أو لا كما في الكفاية.

وفيه : انّ الملحوظ سواءً كان تقسيم البحث أو بيان حكم كلي من العناوين الثلاثة لابد من جعل التقسيم ثلاثياً ، لأنّ مناط وملاك كل حكم ظاهري لابد من ابرازه.

وإن شئت قلت : انّ القطع بالحكم الظاهري وإن كان ملحقاً بالقطع بالحكم الواقعي من حيث آثار القطع إلاّ أنّ ما هو المهم هو البحث عن ثبوت نفس ذلك الحكم الظاهري والمفروض انّ موضوعه الظن والشك كما لا يخفى كيف ولو كان النظر إلى النتيجة النهائية لأمكن ارجاع الجميع إلى عنوان واحد وهو تشخيص الوظيفة القطعية سواء كانت حكماً شرعياً واقعياً أو ظاهرياً أو حكماً عقلياً.

لا يقال : لو جعلنا التقسيم ثلاثياً يلزم التداخل حيث يدخل الظن والشك المعتبرين في القطع بالحكم الظاهري من حيث احكامه.

فإنّه يقال : ليس هذا من التداخل لأنّ دخولهما من حيث القطع بالحكم الظاهري في أحكام القطع لا ينافي ثبوت أحكام الظن والشك عليهما من حيث هما ظن وشك أي بحسب الحقيقة يكون في مورده موضوعان أحدهما الظن


والشك والآخر القطع بحكم هذا الظن والشك ، والأوّل ملحق بأحد القسمين الأخيرين ، والثاني بالقسم الأوّل ، وليس هذا من التداخل في الأحكام.

نعم ، قد يقال : بلحاظ منهجة البحث ينبغي جعل المراد من الحكم في المقسم الواقعي الذي هو الحكم المنجز ويكون المراد بيان حكم القطع والظن والشك من حيث تنجيز ذلك الحكم وعدمه في مواردها فلأجل أن لا يتداخل الأقسام في منهج البحث لابد من جعل المراد بالحكم في المقسم الواقعي بالخصوص لأنّ الأثر المهمى الملحوظ هو التنجيز والتعذير ولا يكون إلاّبلحاظ الحكم الواقعي فيكون التقسيم ثلاثياً ومتعلق الأقسام الثلاثة هو الحكم الواقعي بالخصوص.

وبعبارة اخرى : حيث انّ هذا التقسيم يكون بلحاظ ما هو موضوع الأحكام الظاهرية والقابلة للتنجيز والتعذير فكان لابد من ارادة الحكم الواقعي لكي لا يتداخل الأقسام. وهذا لا يمنع عن معقولية البحث ثبوتاً عن احكام القطع والظن والشك فيما إذا تعلقت بالأحكام الظاهرية وجريان الحكم الظاهري عن الحكم الظاهري ، وهذا صنعناه في الكتاب من التفكيك بين الحيثيتين.

إلاّ أنّ هذا ليس من التداخل كما ذكر أوّلاً وكون المنجز هو الحكم الواقعي لا يقتضي تخصيص الحكم المتعلق بالأقسام الثلاثة بالواقعي بالخصوص لو فرض جريان الحكم الظاهري عن الحكم الظاهري.

وأمّا البحث في الجهة الثالثة ، ففي معقولية اجراء الوظائف الظاهرية بلحاظ الشك أو الظن في الأحكام الظاهرية وعدمها.

والتحقيق أن يقال : انّ اجراء الوظائف المذكورة بلحاظ الشك أو الظن في الأحكام الظاهرية يمكن أن يراد به أحد معنيين.


الأوّل : اجرائها عنها كما تجري عن الأحكام الواقعية من أجل التنجيز والتعذير بلحاظها ، وهذا المعنى غير معقول لما ثبت في محلّه من أنّ الأحكام الظاهرية أحكام طريقية ليس لها مبادئ نفسية ، ومن هنا لا يعقل لها منجزية ومعذرية مستقلة عن الواقع ، وإنّما هي تنجز الواقع وتعذر عنها ، فلا معنى لاجراء التنجيز عن تنجيزها بل يكون التنجيز أو التعذير بلحاظ الواقع ومبادئه النفسية دائماً.

لا يقال : فكيف تجري أصالة الاشتغال في موارد قيام الحجة الظاهرية على الالزام اجمالاً كالبينة على نجاسة أحد انائين ، فإنّ الحكم الواقعي ليس معلوماً حتى اجمالاً ، بل مشكوك بحسب الفرض فتجري عنه البراءة لولا منجزية الحكم الظاهري في نفسه.

فإنّه يقال : قيام الحكم الظاهري الإجمالي يوجب تساقط الاصول الشرعية المؤمنة في الطرفين لمنافاتها وتناقضها مع نفس الحكم الظاهري الالزامي والحجة الإجمالية ، وامّا البراءة العقلية على القول بها فلا تجري مع العلم بالحجة الإجمالية على الالزام كما ذكره القائلون بها ، فيكون حكم العقل بالاشتغال والتنجيز بلحاظ الحكم الواقعي المحتمل لا محالة وإن كان لقيام الحجة الالزامية دخل في حكم العقل بالتنجيز حتى على مسلك حقّ الطاعة لوضوح انّ حق الطاعة في مورد العلم الإجمالي ولو بالاهتمام الظاهري المولوي أشد وآكد من موارد الشك المجرد.

ثمّ انّه يترتب على ما ذكر أن يكون موارد مخالفة الواقع عصياناً لا تجرياً خلافاً لما في الكتاب.


الثاني : جريان الوظائف المذكورة في الظن والشك المتعلقين بالحكم الظاهري فيقعان موضوعاً لتلك الوظائف رغم أنّ التنجيز أو التعذير الحاصل بجريان تلك الوظائف إنّما يكون بلحاظ الحكم الواقعي ، وهذا هو معنى جريان الوظائف الظاهرية عن الظن والشك المتعلقين بالأحكام الظاهرية لا المعنى الأوّل.

والصحيح هنا التفصيل بين الأمارات والاصول التنزيلية فإنّها تجري عن الحكم الظاهري إذا قامت عليها كما في اثبات الظهور بالخبر أو حجّية الخبر بالظهور الكتابي أو اثبات البراءة الشرعية أو أيّة قاعدة ظاهرية بالخبر أو الظهور وكلها من قيام الظن المعتبر على حكم ووظيفة ظاهرية ، وكذلك استصحاب الحجّية إذا شك في بقاء حجّية خبر الثقة مثلاً أو نسخها وكذلك استصحاب البراءة الشرعية ، من دون فرق في ذلك بين مسلك اختصاص الأحكام الظاهرية بالوصول وعدمه لأنّ هذا وصول لها أيضاً فإنّهم لا يقصدون بالوصول الوصول الوجداني بالخصوص.

وامّا الاصول غير التنزيلية كالبراءة أو الاحتياط الشرعيين فإذا قلنا بمسلك الاختصاص بالوصول لم يكن معنى لاجرائهما عن الشك في الحكم الظاهري إذ عند الشك وعدم وصول الحكم الظاهري المشكوك ولو بالحجة أو الأصل التنزيلي لا يكون ثابتاً واقعاً فلا شك فيه لكي يكون موضوعاً لتلك الوظيفة بل يقطع بعدم فعليته ـ وهذا هو التعليل الصحيح لا ما في ظاهر الكتاب ـ وامّا على المسلك الصحيح من انّ الحكم الظاهري محفوظ حتى مع عدم وصوله فيكون الشك فيه معقولاً فتشمله الوظيفة المقرّرة.


وقد أشكل على ذلك السيد 1 في الدورة السابقة بأنّه مع الشك في الحكم الواقعي امّا أن تجري تلك الوظيفة كالبراءة بلحاظه أم لا تجري ، فإن لم تكن تجري بأن كان الواقع منجزاً فأي فائدة في اجرائها عن الحكم الظاهري المشكوك مع فرض كونه لابد له من الاحتياط تجاه الواقع الذي هو المنجز دائماً وإن كانت تجري البراءة عن الواقع ويؤمن من ناحيته فأي حاجة إلى اجرائها عن الحكم الظاهري بل أيّة فائدة له بعد أن لم يكن على مخالفته عقاب.

وهذه المناقشة غير تامة ، فإنّه بناءً على مسلكنا يعقل أن يكون اهتمام المولى تجاه الملاكات الواقعية تختلف من مورد الشك في الواقع المجرّد والشك في اهتمام المولى بالواقع عند الشك فيه فيحكم بالبراءة في الأوّل وبالاحتياط في الثاني أو بالعكس ، غاية الأمر هذا لا يظهر أثره في مورد شك في الواقع يكون مشمولاً لاطلاق دليل الحكم الظاهري حيث انّه بالتمسك به ينفى الشك في جعل ذلك الحكم الظاهري فيه ، وإنّما يظهر أثره في الشبهة المصداقية لدليل الحكم الظاهري كما إذا شك في حرمة شيء وكان هناك رواية على الحرمة يشك في وثاقة راويها بنحو لا يمكن اثباته أو نفيه بالاستصحاب ، فلا يمكن التمسك بدليل البراءة في الشبهة ابتداءً لكونه من الشبهة المصداقية لمخصّصه ـ وهو دليل حجّية خبر الثقة المخصّص لإطلاق دليل البراءة ـ فحينئذٍ يمكننا التمسك بأصالة البراءة بلحاظ الشبهة الثانية الطولية حيث انّه بلحاظها لا تكون شبهة مصداقية إذ لا يوجد خبر ثقة على وثاقة الراوي ، ولنفرض انّه فحص عن وثاقته وعدمها أيضاً ولم يجد دليلاً على أحدهما ، لكن لا يمنع عن جريان البراءة في مثل هذه الشبهات الموضوعية والتي هي حكمية من حيث النتيجة. نعم ، لو قلنا بأنّ دليل حجّية خبر الثقة إنّما يقيّد دليل البراءة كبروياً بخصوص موارد وجود خبر ثقة


على الالزام واصل إلى المكلّف ، لا بوجوده الواقعي ، فلا يظهر هذا الأثر.

وبهذا يتضح أنّ التمسك بالبراءة أو الاحتياط ـ أي الحكم الظاهري غير التنزيلي ـ في الشك في الحكم الظاهري يكون معقولاً ومفيداً أيضاً في التأمين أو التنجيز عن الواقع المحتمل ولا يرد ما ذكر في النقاش من انّ البراءة أو الاحتياط عن الواقع يغنينا عن ذلك ، فإنّه في مثل المقام لا تجري البراءة أو الاحتياط ـ على القول به ـ عن الواقع لكون الشبهة مصداقية لدليله فنحتاج إلى البراءة أو الاحتياط في الشك الطولي المتعلّق بالحكم الظاهري المشكوك فيه بنحو الشبهة المصداقية ويكون ذلك مؤمناً أو منجزاً عن الحكم الواقعي في هذه المرتبة من الشك. ولولا جريان الحكم الظاهري المذكور لما أمكن التأمين أو التنجيز للواقع ؛ هذا لو فرض إطلاق في دليل ذلك الحكم الظاهري لهذه المرتبة من الشك كما هو الغالب وإلاّ فقد تختلف النتيجة إذا احتملنا الفرق في درجة ونوع اهتمام المولى في الشبهتين الشبهة الأولية المتعلقة بالواقع والشبهة الثانوية الطولية ومعه لا يكفي اثبات نفس الحكم الظاهري من مجرد ثبوته في سائر الموارد التي يكون الشك المتعلّق بالواقع موضوعاً لاطلاق دليل ذلك الحكم الظاهري فقد تصل النوبة إلى ما يحكم به العقل من الوظيفة وعندئذٍ قد تكون تلك الوظيفة العقلية مخالفة مع ذلك الحكم الظاهري بأن يكون احتياطاً في مورد البراءة أو بالعكس حسب اختلاف المباني.


حجّية القطع

ص ٢٧ قوله : ( حجّية القطع : ... ).

وفيه نقطتان للبحث :

اولاهما ـ حجّية القطع.

الثانية ـ إمكان الردع عن العمل به.

أمّا النقطة الاولى من البحث : فالحجية لها معان عديدة قد يقع الخلط فيما بينها الحجّية المنطقية والتكوينية والاصولية.

أمّا الحجّية المنطقية فهي المعبر عنها في كلماتهم بطريقية القطع لاثبات متعلقه وهو المعلوم والمقطوع به.

والطريقية : يقصد بها كونه بذاته انكشافاً ورؤية للواقع المقطوع به ، فهذه حقيقة القطع وماهيته فإنّه عبارة عن رؤية الشيء المقطوع به ولكنه رؤية للمعلوم بالذات لا المعلوم بالعرض وإلاّ لاستحال تخلف القطع عن الواقع ، فالطريقية إلى المعلوم بالذات هي ذات القطع وماهيته ، وهذا هو المراد بكونها ذاتية للقطع ؛ لأنّ المعلوم بالذات عين القطع والاختلاف بينهما بالاعتبار. والطريقية إلى المعلوم بالعرض والواقع الخارجي أمر زائد على القطع بل ليس لازماً له وإن كان ثابتاً للعلم القائم على أساس موضوعي صحيح وهذا هو البحث المعروف في المنطق


بنظرية المعرفة أو حقانية مطابقة العلم للواقع إذا حصل من منشئه الصحيح وهو خارج عن غرض الاصولي.

وامّا الحجّية التكوينية والعملية فيراد بها المحركية والدفع الخارجي التكويني نحو المقطوع به على النحو المناسب لغرض القاطع ، وهذا كسابقه ليس هو مقصود الاصولي في المقام.

وامّا الحجّية الاصولية فهي الحجّية العقلية بمعنى التنجيز والتعذير والمعبر عنه في كلمات الشيخ بوجوب متابعة القطع عقلاً أي حكم العقل بذلك وبترتب استحقاق العقوبة على مخالفة القطع بالالزام والعذر وقبح العقاب في مورد العمل بما يقطع فيه بالترخيص ولو صادف الحرام الواقعي ، وبذلك يعرف أنّ الحجّية بهذا المعنى ليست أمراً تكوينياً كالمعنى الأوّل ، ولا حالة طبيعية غريزية كالثاني بل حكم عقلي عملي ، وهناك بحث في حقيقة الأحكام العقلية العملية بالتحسين والتقبيح هل هي الزامات عقلية أو بناءات عقلائية أو لوازم واقعية نفس الآمرية.

ولا إشكال في عدم كونه حكماً عقلياً بمعنى التشريع والالزام إذ ليس للعقل ذلك وإنّما هو ادراك عقلي عملي ، ونتيجة لذلك اختلف في أنّه من القضايا المشهورة كما هو أحد القولين في تفسير الأحكام العقلية العملية أو من مدركات العقل الاعتبارية بالمعنى الفلسفي أو الواقعية ـ وبناء العقلاء في هذه الموارد ليس إلاّ بمعنى ادراك عقولهم لها لا تشريعها ووضعها ـ بناءً على ما هو الصحيح من انّ لوح الواقع أوسع من لوح الوجود حتى في الفلسفة النظرية ومدركات العقل النظري ، ولابد هنا من الإشارة إلى نكات :

١ ـ انّ الحجّية بالمعنى المذكور للقطع لا يمكن أن يستدل عليه بقاعدة قبح


الظلم وحسن العدل وأنّ مخالفة القطع بتكليف المولى وعصيانه ظلم له ، اللهم إلاّ أن يراد بذلك مجرد التنبيه واثارة المرتكزات الفطرية والوجدانية ؛ لأنّ الظلم والعدل فرع ثبوت حق الطاعة في المرتبة السابقة ليكون سلبه ظلماً واعطائه عدلاً ، فلو اريد اثبات هذا الحق بالقاعدة لزم الدور.

وهذا اشكال عام على كبرى هذه القاعدة ، وسوف يأتي التعرض إليه في محله. فالأصح الاستدلال عليه بادراك العقل لصغرى هذه القاعدة ، أي ثبوت حق الطاعة والمولوية وقبح المخالفة للمولى في مورد القطع بالزاماته وقبح معاقبة العبد في مورد العمل بالقطع بالترخيص.

٢ ـ انّ أحكام العقل العملي مدركات واقعية نفس أمرية وليست قضايا مشهورة مجعولة من قبل العقلاء لحفظ نظامهم ، وسوف يأتي البحث عن ذلك مفصلاً في التجري حلاًّ ونقضاً.

٣ ـ انّ حق الطاعة (١) والمولوية على أقسام ثلاثة كما في الكتاب ، ولابد وأن ترجع إلى المولوية الذاتية أي لابد من فرض وجود مولوية وحكم عقلي أولي ذاتي في مبدأ الاعتبار والحجّية ، ولا يمكن أن تكون جعلية ، وإلاّ لاستحال حجّية أي حكم ؛ إذ جعل الحجّية حاله حال جعل الحكم الواقعي الأوّل ، اللهم إلاّ إذا لزم العمل بمجرد لقلقة الجعل الاعتباري أو الالزام بالقوة خارجاً وكلاهما لا يقبلهما العقل السليم ملاكاً للتنجيز والتعذير.

__________________

(١) وملاك المولوية الذاتية نفس الخالقية وكونها من صنعه وعمله لا حيثية شكر المنعم فإنّ المنعميةحيثية أبعد في نظر العقل العملي من حيثية الخالقية والمالكية وهذا هو روح مطلب الاستاذ ، وهو صحيح لا غبار عليه فلا يحتاج إلى ملاحظة حيثية الانعام بالخلق فما في الهامش غير تام.


ومنه يعرف : انّه لا يمكن أن تكون حجّية القطع حكماً عقلائياً انشائياً أي جعلاً ؛ نعم يمكن أن يكون حكماً تصديقياً خبرياً ولكنه تلقيني وذلك مطلب آخر سوف يأتي تفنيده.

وبعبارة اخرى : أنّ المنجزية بمعنى لزوم الاتباع يستحيل أن تكون أمراً جعلياً تشريعياً ، إذ لو لم يكن أمر المولى وجعله للالزام بالفعل حجّة ولازم الاتباع ـ بقطع النظر عن جعل المنجزية ولزوم الاطاعة ـ فهذا يسري إلى جعل الأمر بلزوم الاطاعة والاتباع أيضاً ، فلابد وأن ننتهي إلى حكم عقلي ذاتي بلزوم الاتباع وكل حجّية لأي جعل وأمر لابد وأن ينتهي إلى ذلك وإلاّ كان مصادرة.نعم الالزام الخارجي بالقوة والاجبار أمر ممكن إلاّ انّه نفوذ خارجي ثابت في حق الظالمين أيضاً لا نفوذ قانوني وعقلي.

٤ ـ انّ منجزية القطع ومعذريته رجعت بالتحليل إلى ادراك العقل العملي لحق الطاعة والمولوية الذاتية في مورد القطع وهذه ليست قضية عقلية عملية اخرى تثبت للقطع وراء مولوية المولى الثابتة له واقعاً كما هو التصور المشهور ، وحيث انّ مولوية المولى الحقيقي مطلقة ولا حدّ لها فتكون المولوية والمنجزية مطلقة ثابتة في تمام موارد امكانها وهي كل ما لم يقطع بالترخيص.

وتوضيح ذلك : انّ المشهور يستفاد من كلماتهم ومنهج بحثهم في المقام أنّهم يفترضون مولوية المولى ووجوب اطاعته حكماً عقلياً عملياً ثابتاً واقعاً لأحكام المولى بنفس ثبوت ملاك مولويته كالخالقية والمالكية أو المنعمية ، ويجعلون ذلك أمراً مقرراً في علم الكلام والعقائد لا الاصول ، ثمّ يبحثون في الاصول عن منجزية القطع بالزامات المولى كحكم عقلي عملي آخر موضوعه القطع بالزام المولى ، ومن هنا جعلوا المنجزية من لوازم القطع العقلية واعتبروا ذلك حكماً


عقلياً عملياً آخر لا ربط له بالمولوية وحق الطاعة الواقعية الثابتة لأحكام المولى في نفسها ولا انّه تحديد لتلك المولوية.

وهذا المنهج غير تام بعد أن اتضح انّ المنجزية ليست إلاّعبارة عن حق الطاعة والمولوية وانّ القضية الثانية تكون تحديداً للقضية الاولى وتفصيلاً لمولوية المولى وحق طاعته بحسب الحقيقة ، فإنّ هذا الحق امّا أن يكون موضوعه ودائرته الالزام الواقعي للمولى أو يكون موضوعه الالزام المقطوع به بالخصوص أو يكون موضوعه الالزام الواصل ولو وصولاً احتمالياً غير المقطوع بعدمه.

والأوّل غير معقول ، لاستلزامه منجزية التكليف بوجوده الواقعي حتى إذا علم عدمه بنحو الجهل المركب ، وهو واضح البطلان.

وإن شئت قلت : انّ الأحكام العقلية العملية بالانبغاء والحسن والقبح يكون الالتفات والوصول ولو الاحتمالي مأخوذاً فيها في باب المولوية وحق الطاعة الذي يكون ملاكه ونكتته العقلية لزوم احترام المولى وتعظيمه وعدم هتكه بمخالفة أمره ؛ ومن الواضح تقوم ذلك بوصول أمره ونهيه ولو وصولاً احتمالياً على الأقل ، وامّا مع القطع بالعدم فلا تكون المخالفة الواقعية هتكاً أصلاً ، وهذا يعني انّه لا يمكن افتراض المولوية وحق الطاعة أمراً ثابتاً للمولى بلحاظ أحكامه الواقعية على واقعها.

وأمّا الثاني فهو يعني التفصيل والتحديد في مولوية المولى وحق طاعته بخصوص الالزام المقطوع به وهو خلاف وجدانية إطلاق مولوية المولى الحقيقي المطلق. وظني أنّ المشهور لعدم التفاتهم إلى هذه النكتة وبحثهم عن قضية


منجزية القطع مفصولاً ومستقلاًّ عن قضية حدود مولوية المولى وحق طاعته ذهبوا إلى البراءة العقلية.

فيتعين الثالث وهو المقصود من ثبوت المولوية والمنجزية وحق الطاعة في مطلق موارد امكان الاحتياط وحفظ غرض المولى ، وهو موارد الالتفات ووصول الالزام أو احتماله ، أي غير ما يقطع بعدمه ، لأنّ مولوية المولى الحقيقي وحق طاعته كانعامه وخالقيته مطلقة لا حدّ لها بحسب وجداننا الفطري ، وامّا العذر في مورد القطع بالترخيص فليس من باب التبعيض في المولوية وتحديدها بل لعدم إمكان المنجزية وعدم معقوليتها فيه على ما سوف يأتي تفصيله وتوضيحه فهو خروج تخصّصي لا تخصيصي.

النقطة الثانية : في عدم إمكان الردع عن العمل بالقطع وجعل حكم ظاهري على خلاف المقطوع به.

لا إشكال في انّه يمكن جعل حكم ظاهري على خلاف الوظيفة العقلية العملية الأولية في موارد غير القطع من الظن والاحتمال ـ سواء كانت الوظيفة العقلية المنجزية وحق الطاعة كما هو الصحيح أو البراءة وقبح العقاب كما هو مختار المشهور ـ بعد الجواب على شبهة ابن قبة على ما سوف يأتي في كيفية الجمع بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي.

والوجه في إمكان ذلك هو انّ حكم العقل بالوظيفة الأولية حكم تعليقي ، فالمنجزية التي يحكم بها العقل معلقة على عدم جعل الشارع للترخيص الظاهري ، وكذلك البراءة العقلية على القول بها معلقة على عدم الالزام الظاهري من قبل المولى وايجابه الاحتياط بأي لسان كان فيرتفع موضوع الوظيفة الأولية


العقلية بورود ذلك ، وأمّا منجزية القطع ومعذريته فلا يعقل فيه جعل حكم ظاهري على خلافه على ما سوف يظهر ، وهذا يؤدّي إلى الفرق بين منجزية القطع ومنجزية الاحتمال بناءً على مسلك حق الطاعة من وجهين :

أوّلاً ـ انّ القطع منجز ومعذر بخلاف الاحتمال.

وثانياً ـ انّ منجزيته ومعذريته لا يمكن سلبهما عنه ، بخلاف الاحتمال ، وقد انفتح هذا البحث تاريخياً في علم الاصول نتيجة دعوى الاخباريين امكان ردع الشارع عن العمل بالقطع ، بل ادعوا وقوعه في ما ثبت من الردع عن العمل ببعض الأدلّة العقلية كالقياس والاستحسان ، وادعى الاصوليون استحالة ذلك وذكروا فيه وجوهاً ثلاثة :

١ ـ لزوم التضاد بين الحكمين امّا واقعاً أو في نظر القاطع على الأقل ، وكلاهما محال.

٢ ـ انّه مناقض لحكم العقل بحجية القطع أو تفكيك بين القطع ولوازمه الذاتية.

٣ ـ لزوم نقض الغرض بحسب نظر القاطع.

وهذه الوجوه بهذه الصياغات غير تامة.

إذ الأوّل والثالث ـ أي التضاد إذا اريد به التضاد ونقض الغرض في مرحلة المبادئ فجوابه انّ الردع لا يكون بحكم نفسي بل بحكم طريقي كما في موارد الشك والاحتمال وإلاّ فجعل حكم نفسي في مورد الشك محال أيضاً لاستحالة احتمال اجتماع الضدين أيضاً ، والحكم الطريقي سوف يأتي انّه ليس فيه مبادئ مستقلة ، امّا لكون مبادئها في نفس الجعل أو لكون مبادئها نفس مبادئ الحكم


الواقعي المقطوع به فلا تضاد ولا نقض بلحاظ المبادئ والأغراض.

وإذا اريد به التضاد أو نقض الغرض بلحاظ مرحلة المنجزية والامتثال أي بلحاظ المنتهى فهو موقوف على أن تكون المنجزية وحق الطاعة غير مرتفعة بورود حكم ولو طريقي من الشارع نفسه في هذه المرتبة وإلاّ لم يكن تضاد أيضاً كما هو واضح.

ولا ينبغي الاشكال في انّ حقّ الطاعة ـ أي المنجزية والمعذرية ـ تعليقي بهذا المعنى دائماً ؛ لأنّ حقّ الطاعة موضوعه اطاعة أوامر المولى وأحكامه ، فإذا كان جعل حكم مولوي ولو طريقي معقولاً في مورد القطع في نفسه فلا محالة يكون حاكماً رافعاً لموضوع حكم العقل بالمنجزية أو المعذرية ، فلا معنى للتشكيك في ارتفاع منجزية القطع وكذلك معذريته لو أمكن جعل الحكم الظاهري في مورده.

وبهذا يعرف الجواب أيضاً على الوجه الثاني ، فإنّه لا يوجد أي تناقض بين الحكم الطريقي الشرعي وبين المنجزية وحق الطاعة المدركة من قبل العقل في القطع بالالزام وكذلك معذرية القطع بالترخيص ؛ لأنّ الحكم الطريقي من الشارع إن كان معقولاً في نفسه كان رافعاً لموضوع المنجزية والمعذرية كما هو الحال تماماً في موارد منجزية أو معذرية الاحتمال.

فالصحيح في الجواب أن يقال : بأنّ جعل حكم طريقي في مورد القطع غير ممكن على مسلكنا في حقيقة الحكم الظاهري. نعم ، قد يتم على بعض المسالك الاخرى ، وذلك لأنّ المكلّف بنفس قطعه يرى نفسه خارجاً عن روح هذا الحكم الطريقي وملاكه إذ الحكم الطريقي كما سوف يأتي إنّما هو من أجل حفظ


الأهم من الملاكين الواقعيين الالزامي والترخيصي المتزاحمين في مقام الحفظ ؛ والقاطع يرى أنّه بالسير على وفق قطعه يحفظ الملاك المولوي الأهم والواقعي دائماً ومن دون تزاحم.

وإن شئت قلت : انّ التزاحم الحفظي غير معقول إلاّمع الشك والتردد وامّا مع القطع بالالزام أو الترخيص فلا تزاحم حفظي في نظر المكلّف ولا يقصد بالتزاحم الحفظي إلاّذلك أي حفظ الأهم من الملاكين في مرحلة الامتثال من جهة الجهل وعدم تشخيصه لموارده المشتبهة ، فمع فرض القطع لا موضوع للتزاحم الحفظي وبالتالي لا موضوع لجعل حكم طريقي.

نعم ، في نظر المولى ومن زاوية علمه ربما يتحقق التزاحم الحفظي بأن يرى انّ معلومات المكلّف جملة منها غير مصيبة ومخالفة للواقع ، إلاّ أنّ هذا التزاحم مع فرض بقاء قطع المكلّف لا يمكن أن يوصله للمكلف لأنّه يرى انّه لا تزاحم حفظي في البين ، بمعنى انّه في كل قطع تفصيلي يلتفت إليه يراه خارجاً عن موضوع ذلك التزاحم الحفظي وإنّما يحتمل التزاحم الحفظي في موارد معلوماته الاخرى التي لا التفات تفصيلي إليها بالفعل ، فلو ردعه عن العمل بقطعه لم يكن مثل هذا الحكم منجزاً عليه ؛ لأنّه يجد نفسه خارجاً عن موضوع التزاحم الحفظي للملاكات الواقعية الالزامية والترخيصية للمولى.

والحاصل جعل الحكم النفسي لا إشكال في استحالته ، والحكم الطريقي ـ أي الظاهري ـ يجد القاطع نفسه خارجاً عن روحه وملاكه دائماً فلا يعقل أن يكون رافعاً لمنجزية القطع ومعذريته لأنّ المنجز والمعذر دائماً روح الحكم وملاكه لا الجعل والاعتبار وروح الحكم الظاهري لا يمكن وصوله إلى المكلّف في المقام.


وبهذا يظهر الجواب عمّا ذكر في هامش الكتاب ، هذا بحسب مسلكنا وأمّا بحسب مسالك القوم الذين يجعلون ملاك الحكم الطريقي ومباديه في نفس الجعل أو في السلوك ونحو ذلك فلا يمكن الاجابة الفنية على مدعى الاخباري إذ كما يمكن جعل حكم طريقي مخالف في مورد احتمال الحكم الواقعي دون أن يلزم التضاد في المبادئ ولا في المنتهى ولا نقض الغرض كذلك في المقام.

وامّا ما في تقريرات السيد الحائري من التفصيل بين المحركية الشخصية والمحركية المطلقة وأنّه إذا كان غرض المولى في الحصة الخاصة من الفعل المتحققة من المكلف بداعي حبّه للمولى لا الزامه فيمكنه أن يسقط القطع عن الحجّية باسقاط حق طاعته ليجرب مدى حب العبد له وانّه هل بلغ حبّه إلى مستوى يكفي وحده لتحريكه نحو الامتثال كالأمر الناشىء من قبل من لا تجب عقلاً طاعته على المأمور أم لا.

ففيه : أنّه غير معقول أيضاً ـ رغم تعليقية حق الطاعة ـ بنفس البيان المتقدم ؛ لأنّ التنجيز لا يمكن أن يرتفع إلاّبروح الحكم الظاهري وهي غير متصورة وغير معقول الوصول للمكلف فلا يمكن أن ترتفع منجزية الالزام المولوي الواقعي به فإذا كانت المصلحة والملاك الواقعي في الحصة الخاصة كان أمره بها خلفاً بل في مثل هذه الحالة سوف لا يأمره أمراً الزامياً وإنّما يبلغه مجرد حبّه أو يأمره بأمر غير الزامي وإن كان الملاك والمصلحة ثبوتاً لزومية ؛ لأنّه لا يمكنه أن يصل إليه عن طريق اعمال مولويّته ، وهذا غير اسقاط حق الطاعة في مورد القطع.

وهكذا يتضح انّ التوصل إلى هذه النتيجة أعني اختبار العبد أو دفعه نحو تحقيق الحصة الخاصة من الفعل الصادرة منه لمجرد حبّ المولى لا الزامه لا يتحقق إلاّبرفع الالزام الواقعي المقطوع به الذي يعني رفع صغرى حق الطاعة


وهو أجنبي عن مسألة الردع عن العمل بالقطع.

لا يقال : بعد فرض تصريح المولى للمكلف بأن لا يعمل مثلاً بقطوعه الحاصلة من الدليل العقلي أو من القياس وفرض أنّه لا تضاد بين جدية ذلك وبين تكاليفه الواقعية لما يراه من التزاحم الحفظي نتيجة امكان خطأ المكلف في قطوعه وفرض انّ هذا المطلب بشكله الكلي يفهمه المكلف ويحتمله أيضاً. لا وجه لدعوى انّ مثل هذا الحكم والتصريح المولوي المعقول لا يعبأ به العقل العملي ولا يراه نافذاً أي موجباً للاحتياط في مورد القطع بالترخيص أو رفع التنجيز في مورد القطع بالالزام ، فإنّ كل قطع بالخصوص وإن كان يرى المكلف انّه مصيب للواقع وانّه لو لم يعمل بقطعه سوف يضيع على المولى الملاك الواقعي الالزامي أو الترخيص المولوي تضييعاً قطعياً لا احتمالياً إلاّ انّه لا مانع منه ، إذ لو كان المانع كونه قبيحاً عقلاً فالمفروض انّ حكم العقل تعليقي لا تنجيزي ، ولو كان المانع أنّه يرى نفسه خارجاً عن التزاحم الحفظي فالتزاحم الحفظي ليس من وظيفة العبد بل المولى أي ليس التزاحم الحفظي كالامتثالي مما يرتبط بالعبد بل بالمولى فليس هو المكلّف بالحفظ للملاكات.

ولو كان المانع انّ مثل هذا الأمر لا يكون بروحه وبملاكه محفوظاً وثابتاً في مورد القطع بحسب نظر المكلف ؛ لأنّه يرى قطعه مصيباً فهو يخطِّىء المولى في المورد في روح الحكم والغرض منه.

فهذا أيضاً مدفوع بأنّ روح الحكم ليس هو التزاحم وحفظ الملاك في كل مورد مورد بل في مجموع موارد نوع حكم ظاهري واحد ـ كما سيأتي في محله ـ وهذا محتمل لدى المكلّف القاطع فإنّه وإن كان لا يحتمل خطأ قطعه في ذلك المورد ولكنه يحتمل أن يكون مجموع ما سيحصل له في سائر الموارد من


القطوع من الدليل العقلي مثلاً خطأً ، كما يشخصه المولى.

فإنّه يقال : هذا الكلام غير تام. إذ صحيح انّ التزاحم الحفظي يكون بلحاظ مجموع الموارد إلاّ أنّ معقوليته في كل مورد وتكليف منوط باحتمال كونه من تلك الموارد أي داخلاً في ذلك المجموع. وامّا مع القطع بخروجه عن ذلك المجموع فلا يرى القاطع إلاّخطأ المولى في ذلك المورد بمعنى امكان حفظ غرضه الواقعي بلا تزاحم ، فلا يكون روح الحكم الظاهري محفوظاً فيه ، وهذا واضح.

ثمّ انّ ما فعله الميرزا وذكره السيد الخوئي في المقام وناقش فيه من أخذ عدم حصول العلم من طريق خاص كالقياس في الحكم الواقعي أجنبي عن بحث امكان الردع عن العمل بالقطع ؛ لأنّ موضوع هذا البحث القطع الطريقي وتلك المحاولة من الميرزا 1 تحويل للقطع الطريقي إلى الموضوعي بأخذ عدم حصول القطع طريق خاص في موضوع المتعلق وهو على فرض امكانه غير مربوط بالبحث عن الردع عن القطع الطريقي كما لا يخفى ، فهناك تشويش في تقريرات السيد الخوئي فراجع وتأمل.

وكذلك يظهر الجواب على اشكال آخر سجّله السيد الحائري على المقام في بحث المنع عن حجّية الدليل العقلي ( ص ٥٦٦ ) من انّه يكفي لمعقولية وصول الحكم الطريقي برفع حق المولوية ان يحتمل هذا العبد خطأ بعض قطوعه إجمالاً ، ممّا أوجب اضطرار المولى إلى اتخاذ احتياط في تمام قطوعه برفع حق المولوية عنه فيها ، والقاطع وإن كان لا يعقل أن يحتمل خطأ قطعه حين القطع لكن احتماله لخطأ بعض قطوعه على الاجمال معقول ، فبناءً على تعليقية حق المولوية يمكن الردع عن العمل بالقطع.


فإنّ هذا الكلام لا يثبت جواز الردع عن حجّية القطع بل يثبت جواز المنع عن خوض المقدمات المنتهية إلى تلك القطوع ، وتنجيز الواقع المعلوم فيه اجمالاً على المكلف من قبل المولى قبل الخوض والوصول إلى المقطوع به تفصيلاً ، نظير باب المقدمات المفوتة فيكون مخالفة الواقع عن ذلك الطريق منجزاً عليه ، ولو فرض حصول القطع له بالترخيص وعدم امكان ردعه عن العمل به في ذلك الوقت ؛ لأنّ التفويت كان بسوء اختياره على ما سوف يأتي مشروحاً في بحث الدليل العقلي فليس هذا مربوطاً بامكان الردع عن العمل بالقطع.

وهكذا يتضح انّ الأساس لعدم إمكان الردع عن منجزية القطع وحجيته ليس تنجيزية الحكم العقلي هنا وتعليقيته في سائر الموارد كما ادعاه العراقي 1 بل عدم انحفاظ مرتبة الحكم الظاهري بروحه وحقيقته فيه.


التجرّي

ص ٣٦ قوله : ( قبح التجرّي ... ).

والبحث فيه عن قبحه العقلي أوّلاً ثمّ عن استحقاق العقاب عليه ثانياً ثمّ عن حرمته شرعاً ثالثاً. فالبحث في نقاط :

النقطة الاولى ـ قبح التجري :

والبحث فيه وجداني لا يمكن اقامة البرهان عليه ، نعم يمكن التنبيه واثارة الوجدان ؛ لأنّ مدركات العقل العملي بالقبح والحسن كذلك دائماً ، ولا إشكال في حكم العقل بقبح المعصية وأنّها لا تنبغي ؛ ولا إشكال أنّ هذا الحكم العقلي ليس موضوعه مخالفة الحكم الواقعي للمولى ، لوضوح لزوم تحقق العصيان في موارد الجهل المركب وغيره وهو واضح البطلان بل قد تقدم انّ موضوع أحكام العقل العملي ليس كالمصلحة والمفسدة أمراً واقعياً لا دخل لعلم المكلف وجهله فيه ، فلا محالة يدور الأمر بين احتمالين وتصورين آخرين أن يكون الموضوع نفس وصول التكليف الواقعي والعلم به ولو لم يكن تكليف واقعاً ، أو التكليف الواقعي مع وصوله ، فالقائل بقبح التجري يدعي الأوّل والقائل بعدم قبحه يدعي الثاني.

ويمكن أن يستدل على التصور الأوّل بوجوه :

١ ـ انّ التجري يقابل الانقياد كما انّ المعصية تقابل الاطاعة ، ولا إشكال عند


أحد في حسن الانقياد كالاطاعة رغم عدم تحقق المحبوب في مورده ، فكذلك الحال في التجري والمعصية.

وهذا الاستدلال غير تام حتى كمنبه وجداني لأنّ الانقياد وإن كان حسناً إلاّ انّه لا إشكال في انّ حسن الانقياد ليس لزومياً بحيث يستحق تاركه العقاب كما في الاحتياط في موارد عدم لزومه شرعاً ولا عقلاً بخلاف قبح التجري ، وهذا يعني أنّ التجري لا يقابل الانقياد ، فلو اريد التوصل من حكم الانقياد إلى حكم التجري فهو لا يثبت قبح التجري على مستوى اللزوم.

وبعبارة اخرى : للخصم أن يقول أنّ حسن الانقياد كما انّ محموله أوسع من قبح التجري موضوعه أيضاً أوسع وهو مطلق الوصول.

٢ ـ ما أفاده السيد الاستاذ الشهيد 1 من أنّ حق الطاعة والمولوية للمولى ليس بملاك تحصيل مصلحة له أو عدم الاضرار به كما في حقوق الناس ؛ إذ لا مصلحة كذلك لله سبحانه ، وإنّما بملاك نفس أدب العبودية واحترام المولى وهذا الاحترام والأدب يكون الوصول تمام الموضوع فيه وقوامه سواءً كان مصيباً للواقع أم لا فيكون التجري بنفسه اساءة أدب للمولى وعدم احترامه الذي يعبر عنه المشهور بظلم المولى كما انّ المعصية أيضاً ما يتحقق فيه هذا الظلم على المولى لا ظلم آخر من اضرار أو دفع مصلحة إذ لا مصلحة للمولى ولا ضرر عليه في أوامره ونواهيه ، ولو فرض ذلك فهو أجنبي عن حكم العقل بحسن الاطاعة وقبح العصيان حيث يحكم به بقطع النظر عن ذلك كما لا يخفى.

وهذا البيان قد يناقش فيه : بأنّ احترام المولى اثباتاً ونفياً يكون بمخالفة الزامه الواصل ، وامّا إذا انكشف انّه لم يكن الزام بل كان يتخيل المكلّف ذلك


فلا هتك واقعاً للمولى وإنّما تخيّل الهتك إذ لا مخالفة لأمره فحيثية الاحترام وأدب العبودية لابد لها من اضافة إلى المولى زائداً على الوصول بأن يكون هناك الزام وتكليف للمولى ويكون واصلاً إلى المكلّف فيكون خروجه عليه خروجاً على المولى ومضافاً إليه ، وامّا حيث لا الزام فلا خروج على المولى وإنّما توهم الخروج عليه.

وإن شئت قلت : انّ العقل يدرك أنّ القبح في مورد المعصية إنّما هو بملاك المخالفة لالزام المولى الواصل للمكلف ، بحيث يكون عنوان المخالفة وهتك أمره الذي هو أمر واقعي محفوظاً وملحوظاً في حكمه بالقبح ، بينما على التقدير الآخر يكون الملحوظ فيه فعل ما يقطع بكونه مخالفة ، سواءً كان مخالفة في الواقع أم لا.

ولعلّ هذا هو مقصود بعض الأعلام من انّ ادراكنا للقبح إنّما هو لمحض عنوان المخالفة لا الهتك والخروج فإنّه لابد وأن يريد بذلك المخالفة الواصلة الذي هو التصور الثاني.

فالحاصل : ما ذكر من انّ ملاك القبح ليس هو دفع المصلحة أو الاضرار بالمولى بل ترك الاحترام وهتك رسم العبودية وإن كان صحيحاً إلاّ أنّ هذا الهتك يتحقق بمخالفة أمر المولى ونهيه وإهماله ، فإنّ تعظيم المولى يكون بامتثال أمره ، وهتكه يكون بهدر أمره ، وهو غير المصلحة والمضرة ، فهناك أمر آخر موضوعي غير المصلحة والمضرة يكون الهتك وعدم الاحترام بلحاظه معقولاً.

ودعوى : أنّ الاحترام والتعظيم والهتك والاساءة تمام الموضوع فيه العلم والوصول غير مقبولة لوضوح أنّ هذه العناوين أيضاً مما يعقل فيه الخطأ


والصواب كمن يتصور قدوم مولاه فيقوم له احتراماً ثمّ ينكشف عدم كون القادم مولاه ، فإنّه لا يقال انّه احترم مولاه ، وهكذا في طرف الاساءة ، وإنّما يقال أنّه أقدم على ذلك وأراد الاحترام أو الاساءة فهذا بنفسه منبه إلى التصور الثاني لا الأوّل ، وفي قبال ذلك منبهان :

المنبه الأوّل : انّ لازم أخذ المخالفة الواقعية قيداً في حق الطاعة والاحترام أن يكون حكم العقل بمنجزية القطع والذي قلنا انّه يرجع إلى نفس ادراكه لحق الطاعة والمولوية في مورده منوطاً باصابته للواقع بحيث عندما ينكشف الخلاف ينكشف عدم ثبوت القبح والمنجزية وحق الطاعة فيه لارتفاع أحد جزئي موضوعه بحيث يرى العقل فرقاً في المنجزية بين القطع المصيب والقطع غير المصيب مع انّ الوجدان قاضٍ بعدم الفرق وكون المنجزية فعلية في كليهما وأنّ التخطئة ليست للمنجزية بل لنفس القطع بحيث انّ القائل بعدم قبح التجري يلتزم أيضاً بفعلية منجزية القطع وكونها من لوازمه التي لا يمكن تفكيكه عنه.

ومنبه آخر : موارد الاحتمال المنجز فإنّه لا إشكال في فعلية المنجزية والقبح وحكم العقل فيها بذلك ، مع أنّ ملاك ذلك إن كان المخالفة لأمر المولى فهو أمر محتمل وليس على كل تقدير إذ ليس معنى المنجزية فيها احتمال المخالفة وبالتالي احتمال العقاب الذي يحكم العقل بلزوم دفعه ، فإنّ هذا المبنى غير تام على ما شرحناه في محله ، فإنّ استحقاق العقاب ليس محتملاً بل مقطوع به في موارد التنجيز وليست المحركية العقلية والمنجزية من باب قاعدة دفع الضرر المحتمل بل باستحقاق العقاب المنجز على ما سيأتي شرحه.

وكلا هذين المنبهين يمكن دفعهما بالالتزام بما يأتي من ثبوت مدرك عقلي آخر هو قبح الاقدام على الفعل القبيح حتى الاقدام الاحتمالي بالنسبة إلى المولى


الحقيقي الذي يدرك العقل قبح هتك أمره الواصل بأي درجة من درجات الوصول ـ وهو وجه آخر لقبح التجري غير هذا الوجه سيأتي بحثه ـ نعم لو أنكرنا قبح الاقدام تم المنبهان المذكوران ، فهما يدلان على صحة أحد الوجهين لا محالة.

وقد يقال : انّ وجدانية الفرق بين مراتب التجري في موارد القطع والاحتمال المنجز يكشف عن انّ تمام الموضوع والملاك للحكم بالقبح إنّما هو درجة الوصول.

ولكن هذا لا يمكن أن يكون منبهاً على ذلك خصوصاً بناءً على قبول قبح الاقدام على الهتك حيث أنّ درجة الاقدام في موارد القطع أشد من الاقدام في موارد الاحتمال المنجز.

هذا ، ولكن الانصاف أنّ العقل يدرك بأنّ المتجري هتك المولى بالفعل لا أنّه أقدم على القبيح كما في موارد الخطأ في المولوية ، وأمّا ما تقدم من كون الاحترام والهتك أمرين واقعيين فمبني على النظر العرفي لا العقلي العملي الدقي.

هذا مضافاً إلى انكار عدم الهتك حتى عرفاً في موارد الجهل والخطأ بنحو الشبهة الموضوعية لا الحكمية كما إذا تصور أنّ هذا زيد الذي هو مولاه فلم يحترمه فخرج عمراً ، فإنّه هاتك لزيد ، نعم لو تصور انّ عمرواً أيضاً مولاه ولم يحترمه فظهر انّه ليس مولاه فلا هتك للاحترام لا لزيد الذي هو مولاه وهو واضح ولا لعمرو لأنّه ليس مولى له أصلاً.

٣ ـ ما أفاده السيد الشهيد 1 أيضاً من وجود ادراك عقلي أيضاً بقبح الاقدام


على القبيح وهتك المولى ، فيثبت قبح التجري حتى إذا قيل بأنّ قبح المعصية يكون بملاك التصور الثاني أي دخالة المخالفة الواقعية في الهتك والقبح.

والمنبه على هذا الادراك ثبوت القبح حتى في موارد الخطأ في أصل المولوية ، ولو فرض انّه لا مولى له واقعاً أصلاً بحيث لا موضوع للهتك والظلم وسلب حق ذي حق ، وهذا الوجه يثبت قبح التجري بملاك آخر غير ملاك الهتك والظلم وعدم الاحترام فهو يثبت نتيجة التصور الأوّل.

لا يقال : على هذا يلزم تعدد القبيح في مورد المعصية وأشديته من التجري ويقال بأنّه خلاف الوجدان.

فإنّه يقال : إنّما يلزم ذلك بناءً على انكار التصور الأوّل وإلاّ كان في كليهما الهتك الفعلي والاقدام على الهتك ثابتاً فيكونان متلازمين في موارد اصابة القطع وخطأه. نعم من ينكر تحقق الهتك الفعلي ـ أي التصور الأوّل ـ لابدّ وأن يلتزم بالأشدية والتعدد أو يلتزم بأنّ القبيح دائماً هو الاقدام على الظلم لا نفس صدور الظلم ، أي انّ موضوع القبح العقلي وصول الحق صغرى وكبرى وهو واحد في الموردين وإن كان في أحدهما أمر آخر للعقوبة هو التشفي ، وهذا نتيجته كالتصور الأوّل غاية الأمر هناك قلنا انّ الوصول تمام الموضوع للظلم والاحترام وهنا يقال انّه تمام الموضوع للقبح العقلي.

لا يقال : انّ الوجدان يحكم بأنّ هناك قبحاً عقلياً واحداً مدركاً في تمام الموارد وهو قبح الاقدام على سلب ذي الحق حقه والاقدام متقوم بالوصول ويكون تمام موضوعه ذلك بالدقة لوجدانية عدم تعدد القبح والقبيح في موارد المعصية فضلاً عن التجري.


فإنّه يقال : هذا خلاف ما سيأتي من وجدانية الفرق بين الخطأ في موضوع المولوية والخطأ في كبرى المولوية حيث يدرك العقل في الأوّل سلب حقّ من المولى بخلاف الثاني إذ لا موضوع فيه لمن يكون له الحق فكيف يكون سلباً للحق.

وأمّا ما جاء في هامش تقرير السيد الحائري ص ٣٠٤ من وجود مخالفة لحقين مولويين في موارد المعصية حق الاحترام وحق تحقيق غرضه ... الخ.

ففيه : انّ حق تحقيق الغرض ليس غير حق الاطاعة لأوامره والذي رجع إلى حق الاحترام والامتثال سواءً كان الغرض يعود عليه أو على المولى أو على شخص ثالث ، نعم عدم تحقق الغرض إذا كان راجعاً للمولى قد يوجب التشفي وذلك خارج عن البحث.

ومنه يظهر عدم الأشدية بين العاصي والمتجري لا من حيث القبح ولا الذم العقلي ولا استحقاق العقوبة بل كيف يمكن فرض وحدة درجة القبح واللوم أمام محكمة الوجدان العقلي مع أشدية استحقاق العقاب لا بملاك التشفي والتفصيل بين العقاب واللوم كما صدر منه في بحث العقاب غير صحيح أيضاً فإنّ كل ما كان يلام عليه الفاعل المختار عقلاً يستحق بمعنى يحسن عقابه عليه من قبل مولاه الذي له حق تأديبه وعقوبته ؛ فكأنّه وقع خلط بين عدم امكان عقوبة العقلاء اللائمين فيما لا يرجع إليهم ، وبين عدم استحقاق العقوبة من قبل مولاه الحقيقي على فعله للقبيح حتى إذا لم يكن مربوطاً بالمولى ، فراجع وتأمّل.

ويتلخص مما سبق : انّ العقل يدرك قبح التجري كالمعصية ، نعم يجدر البحث في أنّ هذا القبح هل هو بملاك الظلم وسلب حق الاحترام وأدب العبودية عن


المولى أو بملاك الاقدام على الظلم ولو لم يتحقق ظلم ، وهذا بحث كبروي عن حقيقة القبح المدرك من قبل العقل العملي في أمثال هذه الموارد وأنّه ما هو موضوعه الظلم أو الاقدام عليه.

وبعبارة أدق : هل يكون العلم ووصول ذلك الحق كبرى وصغرى مأخوذاً في موضوع حكم العقل بالقبح أم لا يكون مأخوذاً؟ وهذا بحث جليل في تحليل مدركات العقل العملي وحقيقتها محمولاً وموضوعاً.

والبحث عن هذه المدركات العملية يقع من ثلاث جهات :

الجهة الاولى ـ في انّ هذه المدركات أساساً هل تكون عقلية أو شرعية؟

وهذا هو النزاع الكلامي المعروف بين الأشعري والمعتزلي وهو خارج عن محل الكلام ، ولا ينبغي الاشكال والفراغ هنا عن كون المدركات المذكورة عقلية ، أي يحكم بها العقل مع قطع النظر عن وجود الشارع وحكمه وعدمه كما هو واضح لكل وجدان وعقل عملي سليم ، بل يترتب على انكار عقليتها توالي فاسدة لا يمكن الالتزام بها بوجه على ما هو مقرر في محله من الكتب الكلامية.

الجهة الثانية ـ البحث الفلسفي المعروف عن حقيقة هذه القضايا العقلية العملية وموقعها في قائمة المعقولات والقضايا التصديقية ، وهنا مسلكان :

الأوّل : ما هو المشهور بين الفلاسفة من أنّها قضايا مشهورة داخلة في صناعة الجدل لا البرهان ، ولتفسير هذا المسلك فرضيتان كما في الكتاب ، ولا زيادة عليه إلاّفيما يتعلق بما سوف يأتي من المناقشة في أصل تصديقية هذه القضايا.

الثاني : ما اختاره بعض المحققين من علماء الاصول من انّ هذه القضايا مدركات عقلية واقعية أزلية يدركها العقل كما يدرك سائر الامور الواقعية النفس


الأمرية غير الوجودية كالملازمات والوجوب والامتناع والامكان ونحوها.

وقد عبّر السيد الشهيد عن ذلك بأنّ لوح الواقع والتصديق أوسع من لوح الوجود كما في التصديق بالقضايا السالبة العدمية.

ونحن لا ندخل الآن في تحليل حقيقة تلك القضايا التي تسمّى بالمعقولات الثانوية في الفلسفة ، ومعنى كون لوح الواقع أو التصديق أوسع من لوح الوجود وإنّما الذي أدركه بوجداني هنا أنّ مدركات العقل العملي ليست من سنخ التصديقات أصلاً حتى نفس الأمرية ، فإنّ التصديق هو الكشف عمّا هو خارج الذهن سواء كان أمراً وجودياً أم واقعياً نفس أمرياً بينما حسن العدل وقبح الظلم ليس إلاّعبارة عن انبغاء العدل وعدم انبغاء الظلم والذي بالتحليل يرجع إلى ميل العقل وشوقه ورغبته وارادته للعدل وكراهته ونفرته عن الظلم فطبيعة القضايا العقلية العملية طبيعة التحسين والترغيب أو التقبيح والتنفر ، والعقل ليس شأنه مجرّد الادراك بمعنى الكشف عن الواقع كما قالوا ، بل له شأن آخر مهم جداً هو التقييم الذي يرجع إلى باب الابتهاج العقلي والبغض والنفرة والاشمئزاز كذلك ولنعبر عنه بالعشق والابتهاج والكره والاشمئزاز العقليين كما عبّر العرفاء.

والمنبه على هذا الكلام انّ الانبغاء واللاانبغاء قضيتان من سنخ القضايا المجعولة ومبادئها من الارادة والكراهة وما تستبطنان من البعث والزجر ، فالفرق بين هذه القضايا العملية والقضايا النظرية سواءً الوجودية أو الواقعية النفس الآمرية كالفرق بين القضية المتعلق بها الارادة والكراهة والقضية المتعلق بها التصديق والكشف.

ومنبه آخر : انّ مفهومي الحسن والقبح المحمولين في هذه القضايا كمفهوم


الجمال أمر غير موضوعي بل يرتبط بميل الطبع ونفرته عن الشيء. وهذا هو معنى انّ هذه القضايا ليست قضايا تصديقية إلاّبنحو من التأويل بأن يكون المقصود التصديق بثبوت تلك الطبيعة الاشتياقية والرغبة العقليّة نحو الأمر الحسن والنفرة والكراهة العقلية عن القبح ، وامّا ما يذكره بعض من أن المدركات العقلية العملية ادراكات نظرية لتوقف الكمال الانساني المنشود على الفعل أو الترك والتعبير عن ذلك بصيغة انشائية مجرد تفنّن عقلي في التعبير غير تام أيضاً ؛ إذ ماذا يراد بالكمال والجمال غير نفس المدركات العقلية العملية بعد وضوح عدم إرادة الكمال الوجودي بمعنى الوجوب في قبال الامكان في الوجود أو السعة في الوجود ، وإلاّ كان كربط المدركات العقلية في باب التحسين والتقبيح بالمصلحة والمفسدة ، والله العالم بحقائق الامور.

الجهة الثالثة ـ في حدود هذه القضايا وموضوعها ، وهنا للسيد الشهيد كلمات ثلاث :

الكلمة الاولى : انّ قضيتي حسن الفعل وقبحه واستحقاق العقوبة أو عدم استحقاقها عليه قضيتان موضوع احداهما غير موضوع الاخرى وليس احداهما عين الاخرى لأنّ الحسن والقبح معناه الانبغاء واللا انبغاء وحينئذٍ تارة يلاحظ فعل الإنسان نفسه فيقال انّه ينبغي أن يفعل أو لا يفعل فيسمى بالحسن والقبح واخرى يلاحظ فعل الآخرين وموقفهم تجاه فاعل القبيح والحسن فيقال ينبغي عقابه ـ إذا كان مولاه ـ أو لومه أو لا ينبغي فيسمى باستحقاق العقوبة أو اللوم وعدم استحقاقها ، وسوف يأتي في الكلمة الثالثة أثر هذا التفكيك.

ويلاحظ عليه : انّ العقاب أو اللوم والذم وإن كان فعل الغير إلاّ أنّ تمام


الموضوع لهما الفعل القبيح الصادر من الإنسان فما يستحق فاعله الذم والعقاب نفس القبيح وليس شيئاً آخر.

وإن شئت قلت : انّه ليس حكم العقل وتجويزه للوم أو العقاب من قبل الغير مدركاً عقلياً آخر له ملاك مستقل وراء ما أدركه من القبح في فعل الفاعل وما يستحقه عليه. بل ذم العقلاء عبارة اخرى عن وصف فعله بالقبيح ونفرة العقل العملي عن فاعله كما انّ عقاب مولاه ليس بمعنى انبغاء العقاب كيف وقد يحسن العفو بل بمعنى أنّ له أن يعاقبه على فعله باعتباره مولاه ، نعم هناك مدرك عقلي آخر وهو أنّ غير مولاه لا يحق له عقابه لكونه ظلماً مع عدم المولوية وعدم الحق عليه وذاك مطلب آخر لا ربط له بالبحث. وعليه فموضوع استحقاق العقوبة نفس موضوع القبح ولا يكون أحدهما غير الآخر وهو معنى وحدة القضيتين في هذا البحث.

الكلمة الثانية : أنّهم أرجعوا مدركات العقل العملي إلى حسن العدل وقبح الظلم أي انبغاء العدل وعدم انبغاء الظلم وهذه القضية رغم صحة مضمونها نتيجةً ، إلاّ أنّها من الناحية المنطقية قضية بشرط المحمول ، إذ المراد بالظلم سلب الحق من ذي الحق والحق لا يراد به الحق الجعلي بل العقلي الذي يرجع لا محالة إلى ادراك عقلي بعدم الانبغاء ، وهذا معناه انّه لابد من أخذ عدم الانبغاء والقبح الثابت في طرف المحمول في موضوع القضية ، نعم يمكن أن تكون هذه القضية تجميعاً للقضايا الأولية واشارة اليها فالمدركات العقلية هي قبح الخيانة والكذب والهتك للمولى وهكذا.

ويمكن التعليق على هذا الكلام بأنّ الوجدان يرى الفرق بين باب قبح الظلم


وباب قبح الكذب مثلاً ، فإنّ الثاني عبارة عن عدم الانبغاء الملحوظ في ذات الفعل الصادر من الفاعل بينما الأوّل عبارة عن عدم انبغاء الفعل بلحاظ ما يستلزم من سلب حق من ذي حق والحق ليس نفس عدم انبغاء الفعل بل الحق مدرك عقلي آخر موضوعه صاحب الحق فالمولى له أن يأمر عبده بمعنى أنّ أمره لعبده ليس قبيحاً وظلماً بل عدل ومن شأنه ـ سواء امتثل العبد أم لا ـ بخلاف أمره لغير عبده فإنّه ليس له ذلك ـ سواء امتثله أم لا ـ وفي طول هذا المدرك يدرك العقل لا محالة أنّ مخالفة العبد له سلب لحقه فيكون ظلماً وقبيحاً أي لا ينبغي فعله ، وهذا يعني أنّ قضية قبح الظلم غير قبح الكذب كما يعني انّ قضية قبح الظلم ليست بشرط المحمول لأنّ الحكم العقلي المأخوذ في مفهوم الظلم ليس نفس القبح وعدم الانبغاء لفعل الفاعل للظلم الذي هو المحمول بل حكم عقلي آخر موضوعه المولى مثلاً وانّه له أن يأمر وينهى عبده ومملوكه فلا تكون القضية بشرط المحمول.

الكلمة الثالثة : انّ قضية قبح فعل كالمعصية ومخالفة المولى ـ وهي القضية الاولى ـ قد يقع الخطأ فيها من قبل الفاعل تارة : في الكبرى بأن يتصور مولوية شخصٍ في مورد مع عدم ثبوتها وهو الخطأ بنحو التوسعة أو يتصور عدم ثبوتها مع ثبوتها واقعاً وهو الخطأ بنحو التضييق ، واخرى : في الصغرى كذلك أيضاً فهذه صور أربع للخطأ كما هو في الكتاب فلابد وأن نلحظ ما يحكم العقل به في كل واحد من هذه الموارد لتشخيص ما اخذ في موضوع قبح مخالفة المولى من العلم بالمولوية صغرى وكبرى ، وليس البحث هنا برهانياً ولا المقصود منه اثبات شيء بقدر ما يكون منهج البحث التحليل العلمي والتوفيق بين وجدانياتنا العقلية العملية التي نحسّ بها واستخلاص النظرية النهائية من خلال ذلك فنقول : هناك


وجدانيات لا ينبغي انكارها.

١ ـ وجدانية عدم قبح الفعل ولا استحقاق العقوبة في موارد القطع بالترخيص مع ثبوت الالزام واقعاً أي موارد الخطأ في الصغرى بنحو التضييق.

٢ ـ وجدانية قبح الفعل واستحقاق العقوبة أيضاً في موارد القطع بالالزام مع عدم ثبوته واقعاً ـ أي موارد التجري ـ.

٣ ـ وجدانية عدم استحقاق العقاب ومعذورية المعتقد بعدم المولوية في مورد مع ثبوتها واقعاً أي الخطأ في كبرى المولوية بنحو التضييق كمن يرى البراءة العقلية في الشبهات بعد الفحص.

٤ ـ وجدانية القبح في مورد الخطأ في كبرى المولوية بنحو التوسعة كمن يعتقد حق الطاعة مع عدم ثبوتها واقعاً.

وقد وفّق الاستاذ 1 بين هذه الوجدانيات العقلية العملية بالنحو التالي :

إنّ للعقل حكمين بالقبح حكم بقبح هتك المولى والخروج عن آدب الطاعة له وهذا حكم عقلي واقعي اخذ في موضوعه العلم بصغرى المولوية تمام الموضوع فمع وصول أمر المولى يثبت هذا الحكم العقلي سواء كان أمر واقعاً أم لا ولهذا يقبح التجري ولا قبح في موارد العلم بالترخيص بل احتماله أيضاً عند من يقبل قاعدة قبح العقاب بلا بيان فإنّه لابد وأن يريد بالوصول المأخوذ الوصول العلمي لا مطلق الاحتمال. وهذا معناه أنّ العقل يدرك حق الطاعة في خصوص موارد وصول المولوية من ناحية الصغرى فلا مولوية في موارد الخطأ بنحو التضييق في الصغرى وتثبت المولوية في موارد الخطأ بنحو التوسعة في الصغرى.


وأمّا من ناحية كبرى المولوية فلا يعقل أخذ وصولها في موضوعها بناءً على أنّ مدركات العقل العملي امورٌ واقعية وليست مجعولية ليعقل أخذ العلم بالجعل في موضوع المجعول ، وهذا يعني أنّ القبح وحق الطاعة ثابت واقعاً في موارد الخطأ في الكبرى بنحو التضييق كمن يتصور عدم مولوية المولى في موارد الاحتمال والشبهة بعد الفحص مثلاً خطأً فيكون الاقتحام قبيحاً واقعاً. نعم ، على مسلك المشهور من أنّ هذه أحكام عقلائية ويراد بذلك انها مجعولة يمكن افتراض أخذ العلم بالكبرى بالمعنى المتقدم في فعليتها ، إلاّ انّه عندئذٍ يتوجه اشكال في موارد الخطأ بنحو التوسعة صغرى أو كبرىً حيث يلزم لغوية جعل هذا القبح وكفاية جعل القبح على المعصية أي في موارد اصابة العلم بالمولوية كبرىً وصغرىً لأنّ القاطع يرى دائماً قطعه مصيباً.

وعليه فعلى المبنى المتقدم يكون القبح ثابتاً واقعاً في موارد عدم وصول المولوية كبروياً مع ثبوتها واقعاً أي الخطأ بنحو التضييق كما انّه لا يمكن أن يثبت في موارد الخطأ بنحو التوسعة أي وصول المولوية كبروياً مع عدم ثبوتها ، إلاّ انّه في المورد الأوّل يحكم العقل بالقضية الثانية وهو عدم استحقاق العقوبة حيث قد تقدم أنّها غير قضية قبح العقل وانّه مدرك عقلي عملي آخر موضوعه فعل المولى أو العقلاء فلا محذور أن يؤخذ في موضوعه علم الفاعل بالقبح لتعدد المدركين والقضيتين فمع عدم العلم لا عقوبة فلا يلزم محذور ، كما أنّ هناك حكماً عقلياً آخر بالقبح موضوعه نفس الاقدام على القبيح أي تمام موضوعه العلم بقبح الفعل كبرى وصغرى ، وبهذا نفسّر وجدانية عدم استحقاق عقاب المخطىء بنحو التضييق في كبرى المولوية ووجدانية قبح اقدام المخطىء بنحو التوسعة.

ونتيجة هذا التحليل انّه في موارد ثبوت كبرى المولوية واقعاً يثبت القبح


الواقعي وإذا وصل كبرى وصغرى يثبت قبحان القبح الواقعي وقبح الاقدام ، وفي موارد عدم ثبوت كبرى المولوية لا قبح واقعي وإنّما يكون قبح الاقدام إذا قطع بها صغرى وكبرى ، ومنه يعرف انّه في موارد التجري بنحو القطع يوجد قبحان كالمعصية القبح الواقعي وقبح الاقدام.

وظني انّ الذي اضطر سيدنا الشهيد 1 إلى اتخاذ هذا التفسير ما اعترف به في الجهة الثانية من كون الحسن والقبح مدركين عقليين تصديقيين ثابتين في لوح الواقع الذي هو أوسع من لوح الوجود حيث انّ هذا يستلزم لا محالة ثبوت أمر واقعي لا يمكن أن يكون الوصول والعلم به كبروياً مأخوذاً في موضوعه ؛ لأنّه دور وتهافت ، فكان لابد من الاعتراف عندئذٍ بوجود قبح واقعي أولي وقبح بعنوان الاقدام والالتزام بعدم ترتب الاستحقاق للعقوبة إلاّعلى قبح الاقدام لا القبح الواقعي ـ وهذا خلاف الوجدان كما تقدم ـ وان يكون في موارد الاقدام المصيب كبروياً قبحان وفي غيره قبح واحد وهو أيضاً خلاف وجدانية عدم الفرق بين التجري بلحاظ صغرى المولوية أو كبراها ، فكل هذه لوازم خلاف الوجدان الفطري.

مضافاً إلى انّ هذا لا يحل الاشكال لأنّه سوف يبقى الاشكال فيمن لا يدرك كبرى قبح الاقدام على القبيح ـ وهو خطأ بنحو التضييق للمدرك العقلي الثاني ـ فأقدم على القبيح في مورد لا يكون فيه القبح الواقعي الأولي ثابتاً ـ وهو مورد الخطأ بنحو التوسعة للمدرك العقلي الأوّل ـ فإنّه حينئذٍ إذا قيل بقبح فعله قبحاً واقعياً بملاك الاقدام واستحقاق العقوبة لزم من ذلك أن يكون هذا القبح العقلي أشد حالاً من القبح العقلي الثابت واقعاً إذ ذلك القبح لا يعاقب عليه الإنسان إذا لم تكن كبراه واصلة إليه ، بخلاف هذا القبح ، وإذا قيل بعدم استحقاقه للعقوبة كان


خلاف الوجدان بخلاف ما إذا كان وصول القبح الواقعي الأوّل تمام الموضوع فيه.

نعم ، يمكن أن يقال بأنّ ثبوت القبح الواقعي الثاني مع وصول أحد القبحين كبروياً أو خطأً كافٍ لاستحقاق العقوبة عليه عقلاً.

وأيّاً ما كان فيمكن التوفيق بين الوجدانيات المتقدمة في المقام بأحد طريقين :

الطريق الأوّل : إنّ وصول الصغرى وادراك الكبرى ـ بالمعنى المناسب مع باب العقل العملي الذي تقدم انّه ليس تصديقاً ـ شرط في الحكم العقلي بالقبح ولا يلزم منه محذور الدور بناءً على ما تقدم من أنّ هذه المدركات ليست قضايا تصديقية كاشفة عن أمر في الخارج حتى بلحاظ عالم الواقع ونفس الأمر ليلزم محذور الدور ، وإنّما هي مدركات ذاتية من سنخ الكراهة والارادة والابتهاج والشوق والبغض أو النفرة فتثبت النفرة العقلية عما يصدر من الفاعل المختار الذي له العقل والاحساس العقلي الذي ينفّره من الفعل الذي أقدم عليه ، فإذا لم يكن يحس بقبح الفعل حقيقةً بأي سبب بحيث كان يرى نفسه معذوراً والفعل حسناً فلا يحكم العقل بقبح فعله واستحقاقه للعقوبة ، أي عندما يلاحظه العقل لا يحسّ بالنفرة منه ولا يلزم من ذلك محذور الدور ولا غيره لعدم كون الحكم المذكور تصديقاً بأمر ثابت خارج نفس الاحساس والتصور العقلي الذاتي ، وبهذا يصح ما ذكروه من انّ القبيح دائماً هو الاقدام على الظلم وسلب الحق لا سلبه واقعاً.

الطريق الثاني : أن نعترف بوجود مدركين عقليين عمليين في باب قبح الظلم


أحدهما ادراكه للحق وبأنّ من له الحق له الأمر والنهي مثلاً والآخر قبح مخالفته والعلم بالأوّل كبرىً وصغرىً يكون مأخوذاً في موضوع الثاني.

ويكون العلم أو وصول الصغرى والكبرى للحق تمام الموضوع في حكم العقل بالقبح وهذا معناه أنّ موضوع القبح هو الاقدام على الظلم وسلب الحق المدرك في الحكم الأوّل. غاية الأمر انّ الاقدام على الظلم مع عدم الخطأ في الصغرى والكبرى يكون مساوقاً مع تحقق الظلم أيضاً ولكنه ليس له قبح آخر غير قبح الاقدام ، ومع فرض الخطأ في الصغرى أو الكبرى بنحو التوسعة لا يساوق تحقق الظلم خارجاً وإن كان اقداماً على الظلم وقبيحاً. وهذا ينتج أن موارد التجري وإن كان لا يختلف عن موارد المعصية في حكم العقل بالقبح لكون موضوعه فيهما واحداً وهو الاقدام على الظلم ولكن يختلفان في صدق عنوان الظلم وسلب الحق في المعصية دون التجرّي ، وهذا لا يؤدي إلى تعدد القبح في المعصية وإنّما مجرد صدق سلب الحق في أحدهما دونه في الآخر وهو لا يوجب مزيد قبح أو عقوبة عقلية وإنّما قد يوجب العقوبة الزائدة من باب التشفّي ، وهذا الذي يفسر وجدانية وجود فرق بين موارد التجري والمعصية.

براهين صاحب الكفاية على عدم قبح التجرّي :

البرهان الأوّل : عدم امكان قبح التجري وهو هنا شرب مقطوع الخمرية لعدم تعلق الارادة به ، بل بالخمر وهو لم يتحقق ، والقبح لا يكون إلاّللفعل الارادي.

وجوابه الأساسي : انّ الاختيارية والارادية ليست بمعنى الشوق ، بل بمعنى السلطنة التي يكفي فيها القدرة والالتفات سواءً كان الشوق نحوه أو نحو ملازماته وهو يعلم هنا انطباق عنوان مقطوع الخمرية على فعله وإن لم يشتق إليه.


ونقض عليه تارة : بمورد ما إذا اشتاق إلى شرب الخمر لا لخمريته بل لبرودته مثلاً الملازم مع الخمرية ، واخرى : بما إذا تعلقت ارادته بالجامع بين الحرام وغيره فطبقه على فرد من الخمر ولو من باب عدم الترجيح.

واجيب على الأوّل : بوجود ارادة غيرية.

وفيه : انّه قد يكون ذلك الأمر ملازماً أو علة لشرب الخمر لا معلولاً.

واجيب على الثاني : بأنّ ارادة الجامع تتوقف على ارادة الفرد لاستحالة الترجيح بلا مرجح. وفيه : مضافاً إلى بطلان المبنى حيث يمكن الترجيح بلا مرجح في الأفعال الاختيارية انّ المرجح قد يكون ملازماً للخمرية كما انّه قد يكون شرب الفرد للانحصار بناءً على عدم سراية الشوق من الجامع إلى الفرد.

والصحيح انّه بناءً على مسلكه في الارادية تارة : يقال بسريان الشوق من أحد المتلازمين إلى الآخر ، واخرى : يقال بعدم سريانه ، فعلى الأوّل تندفع كل النقوض ، لأنّ شرب الخمر لا يلازم شرب مقطوع الخمرية بل بينهما عموم من وجه.

نعم ، يرد عليه عندئذٍ ، مضافاً بطلان مبنى السراية ، ثبوت الملازمة في التجري بنحو الشبهة الحكمية ، فإنّ العالم بحرمة التتن يكون قصده لشرب التتن ملازماً لا محالة مع قصده لشرب معلوم الحرمة ؛ لأنّه أعم منه ، بل وثبوته في الشبهة الموضوعية امّا اتفاقاً كما لو تعلّق له غرض في شرب معلوم الخمرية أو من باب صدور فعل منه اختياري وهو ملازم مع شرب معلوم الخمرية لا محالة.

البرهان الثاني : انّ الالتفات لا يتحقق غالباً إلى نفس القطع من قبل القاطع


وإنّما يتحقق إلى المقطوع به لأنّ القطع طريق وآلة إلى الواقع ، ومع فقدان الالتفات لا اختيارية ولا قبح.

ولا يرد عليه نقض النائيني 1 بأنّه يلزم استحالة القطع الموضوعي ، فإنّه لا يدعي استحالة الالتفات إلى القطع أو غلبة عدم الالتفات إلى القطع ، وإنّما ادّعى ذلك في القطع الطريقي ، وامّا القطع الموضوعي فحيث انّ الغرض فيه مترتب على نفس القطع لا الواقع المقطوع به فلا محالة يلتفت إليه.

والصحيح : أوّلاً ـ كفاية الالتفات الآلي للاختيارية.

وثانياً ـ حصول الالتفات التفصيلي بلحاظ الغرض العقلي والمنجزية فإنّهما مترتبان على نفس القطع كما لا يخفى.

البرهان الثالث : وهو يختص بالشبهات الموضوعة وحاصله : عدم صدور فعل اختياري من المكلف أصلاً لا شرب الخمر ولا شرب الماء ولا شرب مقطوع الخمرية ، لأنّ شرب الخمر الذي كان مقصوداً لم يقع ، وشرب الماء الذي قد وقع لم يقصد ، وعنوان شرب مقطوع الخمرية ـ الجامع ـ إنّما قصد ضمن الحصة التي لم تقع فما وجد ضمن ما وقع لم يقصد.

وفيه : أوّلاً ـ النقض بموارد الخطأ في الخصوصية مع قصد الجامع المحرم كمن أراد شرب الخمر العنبي فشرب التمري.

وثانياً ـ ما تقدم من كفاية الالتفات إلى انطباق عنوان في الخارج بلا حاجة إلى قصده وتعلق الشوق إليه في الاختيارية وانطباق عنوان مقطوع الخمرية ملتفت إليه على كل حال ، وليس الالتفات كالقصد والارادة من حيث دعوى عدم


تعلقها بالحصة والفرد الخارجي.

وثالثاً ـ ارادة جامع شرب الخمر يستوجب ارادة هذا الفرد الذي به يتحقق ذلك الجامع لا محالة وارادة هذا الفرد المقطوع خمريته ارادة لعنوان مقطوع الخمرية المتحقق فيه. والحاصل الفرد الجزئي الخارجي بما هو جزئي صدر من المكلّف بالارادة جزماً. نعم بما هو ماء لم يصدر منه وبما هو خمر لا وجود له إلاّ أنّ هناك حيثية لهذا الفرد صدر به ولو حيثية هذا الجزئي وهو يتضمن عنوان مقطوع الخمرية فيكون اختيارياً.

ثمّ انّه يرد على البرهان الأوّل والثالث نقض آخر وهو انّه لو حرّم المولى شرب مقطوع الخمرية وأراد المكلف واشتاق إلى شرب الخمر الواقعي يلزم من ذلك عدم حرمة فعله ، لأنّه لم يصدر منه شرب مقطوع الخمرية بالاختيار.

البرهان الرابع : وهو وجداني وليس برهاناً ، وهو مذكور في الكتاب بما لا مزيد عليه ، وجوابه : انّه خلط بين باب الحسن والقبح وباب المصلحة والمفسدة.

النقطة الثانية ـ استحقاق المتجري للعقوبة :

وأمّا البحث عن استحقاق المتجري للعقوبة فليس فيه مطلب زائد خصوصاً بناءً على ما تقدم من أنّ موضوعه نفس موضوع القبح ، بل هما قضية واحدة لا قضيتان ، كما أنّ التعبير بعقاب العقلاء للمتجري تأديباً لا يخلو من اشكال فإنّه ليس لغير المولى حق عقاب المكلّف ، نعم لهم الذم واللوم لا أكثر لأنّ العقاب فرع المولوية.


كما أنّ صيغة جواب برهان الشيخ ينبغي أن يكون هكذا : إنّ اختيارية فعل لا تتوقف على أن تكون تمام أبواب ومقدمات وجوده اختيارية بل يكفي في ذلك أن يكون واحد منها اختيارياً ، وهذا ثابت في المعصية فإنّ ارادة الفعل كانت اختيارية. نعم ، في التجري لم يتحقق الفعل لأمر غير اختياري فلا يكون فيه استحقاق للعقاب لانتفاء الموضوع لأمر غير اختياري فليس عقاب العاصي لأمر غير اختياري.

ثمّ انّ صريح الكفاية القول باستحقاق المتجري للعقاب واللوم مع انّه أنكر قبح الفعل المتجرىء به لكونه غير اختياري مع وضوح شرطية الاختيارية في العقوبة أيضاً.

والمستظهر من ذيل كلامه انّ ما عليه استحقاق العقوبة إنّما هو العزم على العصيان والاقدام عليه ، وكأنّه يرى انّ هذا العزم والارادة المستتبعة لتحريك العضلات هو المستحق عليه العقوبة فيمكن أن يكون هو القبيح أيضاً.

والظاهر انّ منشأ الاستشكال عندهم الغفلة عن انطابق عنوان الهتك للمولى أو الخروج عن أدب عبوديته أو عنوان الاقدام على المعصية على نفس الفعل المتجرى به غاية الأمر انّه عنوان ثانوي فليس مقصود من يحكم بقبح الفعل المتجرى به قبحه بعنوانه الأولي.

النقطة الثالثة ـ حرمة التجري :

استدلّ لحرمة التجرّي شرعاً ـ مع قطع النظر عن الروايات الخاصة التي سيأتي التعرّض لها ـ تارة : بالتمسّك باطلاق أدلّة التكاليف ، واخرى : بقانون الملازمة ، وفيما يلي توضيح وتفصيل ذلك :


١ ـ إثبات حرمة التجرّي بالاطلاقات :

واثبات الحرمة باطلاقات الأدلّة الأولية إنّما هو في خصوص التجري في الشبهات الموضوعية لا الحكمية ، لعدم معقوليته فيه إذ المفروض عدم كبرى الحكم في مورد التجري بنحو الشبهة الحكمية.

وتقريب هذا الإطلاق ما أفاده المحقق النائيني 1 ، وقد اختلفت عبائر مدرسته في مقام تقريره وروح مقصوده لعلّه مركب من المقدمات الثلاث التالية :

١ ـ انّ متعلق الاراة والاختيار ليس هو الواقع بوجوده الواقعي بل بوجوده العلمي ، وما يراه الفاعل واقعاً لأنّ المحرّك والباعث والسبب لحركة الفاعل إنّما هو المعلوم بالذات لا المعلوم بالعرض كما هو واضح.

٢ ـ انّ التكاليف حيث انها من أجل المحركية والباعثيّة فمتعلقها لا محالة ارادة الفعل واختياره ، فالمولى يريد تحريك العبد وارادته نحو الفعل أو التحرك.

٣ ـ التكليف لابد وأن يكون متعلقه مقدوراً لا محالاً وارادة المكلف حيث لا يمكن أن تتعلق بالمعلوم بالعرض الخارجي فلا محالة يكون متعلق التكليف الفعل المعلوم للمكلف.

فالحاصل نتيجة هذه المقدمات أنّ التكاليف لابد وأن تكون متعلقة بموضوعاتها المعلومة بالذات الثابتة حتى في التجري لا المعلوم بالعرض لعدم امكان تعلّق اختيار المكلف وارادته به ، فأخذ المصادفة للواقع في متعلق التكليف والارادة يستلزم التكليف بغير المقدور.


وقد أجاب عنه المحقق النائيني بجوابين :

أوّلاً ـ انّ إرادة العبد لا تتعلق بالمعلوم بوصف المعلومية بل متعلق بالواقع والعلم طريق محض إليه وهذه مناقشة في المقدمة الاولى.

وهذا الجواب واضح البطلان ؛ إذ لا إشكال في انّ متعلق الارادة هو المعلوم بالذات لا المعلوم بالعرض ، ولو كان العلم كاشفاً وطريقياً لأنّه طريق إلى المعلوم بالذات لا إلى الأمر الخارجي على ما تقدم شرحه ؛ فإذا فرضنا أنّ التكليف من أجل التحريك وأنّ المولى يريد ارادة العبد وتحريكه فلا محالة يكون متعلق ارادته المعلوم بالذات لا بالعرض وهو موجود في موارد التجري أيضاً.

وثانياً ـ بأنّ التكليف لا يتعلق بالارادة بنحو المعنى الاسمي بل الحرفي ، أي الفعل الصادر بالارادة والاختبار لا نفس الارادة ، وكأنّ هذه مناقشة في المقدمة الثانية.

وفيه : انّ أخذ الارادة سواء كان بنحو المعنى الاسمي أو الحرفي يساوق أخذ المعلوم بالذات لا محالة دون المعلوم بالعرض ، لأنّ الارادة متعلقة به لا بالخارج ، بل يستحيل تعلقها به بحسب المقدمة الثالثة ، فلا يمكن أخذ الارادة المتعلقة بالخارج في متعلق التكليف.

وأمّا مدرسة الميرزا فقد أجابت بوجهين آخرين :

الأوّل : النقض بباب الامتثال لو أخطأ في التطبيق فصلّى مع القطع بدخول الوقت ، أو مع القطع بالطهور ، ثمّ انكشف الخلاف أو أعتق من اعتقد كونه عبداً فبان حرّاً.


وفيه : إذا كان التكليف مضيقاً أي لا بدل له كما إذا وجبت الصلاة في كل وقت وقت أو اكرام كل عالم عالم فالقول بوجوب ما فعله يلتزم به القائل بحرمة التجري إذ لا يختص التجري بباب المحرمات بل يجري في ما يقطع بوجوبه ، والمراد بحرمة التجري ما يعم وجوب الفعل في الشبهات الوجوبية المساوق مع حرمة الترك ، وان كان الواجب موسعاً أي له بدل كما في الصلاة داخل الوقت أو مع الطهور أو عتق رقبةٍ فإنّه في مثل ذلك يكون متعلق التكليف هو الارادة المتعلقة بالفرد المعلوم بالذات من الصلاة أو العتق في تمام الوقت ، وهو لم يتحقّق منه بحسب الفرض ومقدور له فلا يسقط عنه.

وإن شئتم قلتم : انّ هذا التقريب يقتضي أخذ المعلوم بالذات بالمقدار الذي تقتضيه المحركية لا أزيد ، وفي المقام المحركية نحو الجامع البدلي ـ سواءً بلحاظ عمود الزمان أو الأفراد ـ يكون مقدوراً نظير من لا يكون قادراً على الطهور في أوّل الوقت دون آخره فإنّه لا يسقط التكليف عنه.

وبتعبير ثالث : المأخوذ في متعلّق التكليف المعلوم بالذات الذي لا ينكشف خلافه مع بقاء ظرف الامتثال كما في الواجب الموسّع.

هذا ولكن يبقى النقض على صاحب هذا التقريب بموارد انكشاف الخلاف خارج الوقت أو الاتيان بالصلاة بعد الوقت بتخيل بقاء الوقت فإنّه في مثل ذلك لابد من القول بتحقق الامتثال إذ انّ ترك ما فعله يكون تجرياً حراماً عليه بحسب هذا التقريب فيكون ما فعله مصداقاً للواجب لا محالة فلا يجب عليه القضاء ، وكذلك يلزم أن يكون من أعتق الحرّ بتصور انّه عبد مع عدم قدرته على أكثر من عتق واحد ممتثلاً حيث لا يعقل بقاء الأمر بالعتق في حقه.


لا يقال : يمكن القول بأنّ متعلق التكليف في موارد الواجب البدلي ـ الموسّع ـ أحد الأفراد التي يعلم المكلف بكونها مصداقاً للواجب ، أي أحد الأفراد من المعلوم بالذات مما هو مصداق الواجب لا المعلوم بالعرض ، ونقيده بالمعلوم بالذات المطابق مع الواقع حيث انّ الارادة والتحرك يكون معقولاً عندئذٍ ولا يلزم التكليف بغير المقدور لأنّ بعض تلك المصاديق المعلومة بالذات مطابقة للواقع بحسب الفرض فيكون تطبيق المكلف للواجب على المعلوم بالذات غير المطابق امتثالاً تخيلياً لا حقيقياً فيجب القضاء لا محالة.

فإنّه يقال : هذا خلف كون العلم تمام الموضوع للتكليف وانّ الاصابة للواقع لا يمكن أخذها في متعلّق التكليف.

وإن شئتم قلتم : الخصوصية المقيدة لموضوع التكليف ببعض أفراد المعلوم بالذات وهي المصيبة للواقع ان كان نفس حيثية الاصابة فهذا رجوع إلى الاشكال المذكور في التقريب وهو لزوم تعلّق التكليف بالمعلوم بالعرض مع استحالة تعلّق الارادة به ، وان كانت خصوصية ثابتة في مرحلة المعلوم بالذات فهو واضح البطلان إذ لا توجد خصوصية كذلك ليمكن أخذها فلابد وأن يكون التكليف متعلقاً بالجامع بين تمام أفراد المعلوم بالذات كونها مصداقاً للواجب وهو مساوق مع تحقق الامتثال. كيف ولازم انكار ذلك أن لا يكون متجرياً لو ترك ذلك المصداق الذي فعله بعد الوقت مع انّه لا ينبغي الاشكال في كونه من مصاديق التجري لو كان قد تركه ، إذ لا فرق في التجري بين باب الحرمة أو الوجوب فاما يلتزم بكونه مشمولاً لاطلاق الواجب فيكون امتثالاً أو يلتزم بالتفكيك بين التجري في باب المحرمات والتجري في باب الواجبات وكلاهما واضح البطلان.


ويرد نقض آخر على أصل هذا التقريب وهو لزوم ارتفاع التكليف في موارد الخطأ بنحو التضييق أي الجهل المركب كمن يعتقد انّ هذا ماء وكان خمراً واقعاً إذ لا يمكن تكليفه بارادة تركه لأنّه تكليف بغير المقدور.

الثاني : ما هو مذكور في الكتاب مع جوابه وهو واضح.

وأجاب السيد الشهيد بجوابين :

الأوّل : ـ وهو مناقشة في المقدمة الثانية ـ انّ ارادة العبد واختياره للفعل مراد تكويني للمولى لا تشريعي ، أي انّه مراد تكويني له في طول أمره حيث يريد أن يتسبّب بأمره وتكليفه ايّاه إلى ايجاد تلك الارادة وقدحها في نفسه لكي يتحقق المعلوم بالعرض الخارجي ، لا انها متعلق أمره ، وفرق بين ما يكون معلولاً للأمر وما يكون متعلقاً وموضوعاً له ، بل يستحيل أن يكون ما هو معلول الأمر ومتأخراً عنه مأخوذاً فيه ومتقدماً عليه لا بنحو المعنى الاسمي ولا بنحو المعنى الحرفي فالتكليف لا يتعلق إلاّبالفعل لا بالارادة ليقال لو كان التكليف بالارادة المتعلقة بالواقع فهو محال ولو كان بالارادة المتعلقة بالمعلوم بالذات فهو محفوظ في موارد التجري. وفي المورد الذي يكون الواقع معلوماً أو محتملاً يكون التكليف بالمعلوم بالعرض تكليفاً بأمر اختياري ، بل الصحيح انّه في موارد الجهل المركب أيضاً التكليف بالواقع اختياري على ما حققناه في محلّه ، وإنّما لا يكون منجزاً عقلاً.

ثمّ إنّ الصحيح انّ المقدمة الاولى مع الثانية من المقدمات الثلاث المتقدمة تقريب والمقدمة الثالثة مع الاولى تقريب ثانٍ.


فالأوّل : انّ التكليف حيث انّه بداعي المحركية وايجاد الداعي والارادة فيكون متعلقه ارادة المكلّف وداعيه وهي تتعلق بما يراه المكلّف لا بالواقع ابتداءً.

والجواب : أوّلاً ـ انّ ايجاد الداعي والارادة في نفس العبد غرض تكويني لا تشريعي ، وقد وقع الخلط بينهما.

وثانياً ـ هذا لا يمنع عن أخذ الواقع أيضاً قيداً للمتعلّق ، بأنّ يتعلق التكليف بالاراة المصيبة للواقع والقاطع يرى ارادته مصيبة للواقع فيتحرك.

والثاني : انّ هذا أخذ قيد غير مقدور في المتعلق وهو محال.

والجواب هو الجواب الثاني القادم ، أي انّ أخذ قيد غير مقدور في المتعلق إنّما لا يصح لو لم يؤخذ قيداً في موضوع الوجوب أيضاً وإلاّ كان ممكناً وهو واضح. وهذا هو ظاهر الدورة الاولى للسيد الشهيد.

الثاني : انّ الاصابة للواقع لو اخذت قيداً للواجب لزم محذور التكليف بغير الاختياري ، وامّا إذا اخذت قيداً للوجوب فلا يلزم ذلك فيكون التكليف بما يراه الفاعل الواجب أو ترك الحرام مشروطاً باصابة رؤيته للواقع ، فمع عدم الواقع لا تكليف وأخذ شيء غير اختياري في موضوع التكليف لا محذور فيه كما هو واضح ، وإنّما المحذور في أخذه قيداً في المكلّف به ونتيجة ذلك ارتفاع التكليف في موارد التجري فلا حرمة شرعية فيه.

وإن شئت قلت : انّ الفعل أو الترك الخارجي بنفس امكان تعلق علم المكلف به يكون اختيارياً فيصحّ تعلّق التكليف به ؛ لأنّ النكتة العقلية المانعة عن التكليف


بغير المقدور أو القرينة اللبية وهو كون التكليف من اجل التحريك فلا إطلاق له لحالات العجز إنّما تقتضيان ارتفاع التكليف في موارد العجز والاضطرار والذي لا يتمكن المكلّف أن يتحرك حتى إذا أدرك الواقع وهذا هو المراد بالقدرة المشروط بها التكليف ، وامّا إذا كان المكلّف قادراً على الفعل والترك ولو في طول الالتفات والادراك العلمي أو الاحتمالي فلا محذور في إطلاق التكليف بالنسبة إليه بل يكون إطلاق التكليف هذا بنفسه من موجبات حصول العلم أو الالتفات الذي يحمل المكلف على الانبعاث والتحريك. فالاختيارية في مقابل العجز والاضطرار شرط في التكليف دون الاختيارية في مقابل الجهل وعدم الالتفات ، فإنّ هذا النوع من الاختيارية الذي يرجع إلى شروط الانبعاث والتحرك من قبل المكلّف من ناحية علمه والتفاته رغم كونه شرطاً في المنجزية عقلاً ليس شرطاً في التكليف شرعاً بل يكون محققاً غالباً بنفس التكليف ، وقد شرحنا هذه النكتة مفصلاً في مبحث إمكان إطلاق التكليف للناسي فراجع.

٢ ـ إثبات حرمة التجرّي بقانون الملازمة :

أمّا كبرى الملازمة في نفسها فتارة : يبنى على انّ الأحكام العقلية تشريعات ومجعولات عقلائية ، واخرى : يفرض انها مدركات واقعية نفس أمرية ، وثالثة :

يفرض انها من مقولة الأشواق والميول العقلية ، فعلى الأوّل قد يقال كما ذكر المحقق الاصفهاني 1 بتمامية الملازمة إذ سوف يكون الشارع ضمن العقلاء ممن جعل وشرّع الحكم المذكور ولا يراد بالحكم الشرعي غير ذلك.

وفيه : مع بطلان المبنى في نفسه لا تتم الملازمة أيضاً إذ لا ملزم لافتراض اشتراك الشارع مع العقلاء في مصالحهم النظامية.


وعلى الثاني لا اشكال انّ الشارع أيضاً سوف يدرك ما يدركه العقل من الحسن والقبح فيكون كل ما أدركه العقل مما يدركه الشارع أيضاً إلاّ انّه لا يستلزم ذلك الحكم الشرعي إذ لا موجب لتوهم انّ نفس ادراك الحسن والقبح يكون حكماً وتشريعاً من قبل الشارع كما انّه لا يلزم عليه أن يشرع على طبقه تكليفاً ، فلعله يكتفى بحكم العقل وادراكه وامّا على الثالث فحيث انّ الشارع أيضاً يكون مدركاً لحكم العقل ويكون المراد منه الشوق والميل فقد يقال بأنّ الملازمة ثابتة ، إذ معنى ذلك ميل الشارع والرغبة نحو الفعل أو الترك وهذا هو روح الحكم وجوهره ولكن هذا بحسب الحقيقة مبني على تشخيص حقيقة الحكم الشرعي ، فإنّه إذا كان مجرد القبح والحسن والشوق والبغض لدى الشارع وهي من مبادئ الحكم كافياً لدى العقل في وجوب الاطاعة كانت الملازمة متحققة هنا لا محالة ، وأمّا إذا كان الحكم بمعنى التشريع متقوماً بالتصدي المولوي لتسجيل الفعل أو الترك على ذمة العبد زائداً على مبادئ الحكم كما هو الصحيح بحيث يكون في طول ذلك اطاعة وعصيان وانقياد وتمرّد على ذلك التصدي المولوي فلا ملازمة بين حكم العقل وحكم الشارع كما هو واضح.

وامّا اشكال الاستحالة بملاك اللغوية في مقام الامتثال والمحركية فكما اجيب عليه في الكتاب من أنّ التحريك بملاك عدم هتك المولى والتمرد عليه غير التحريك بالملاك الأولي المدرك حسنه أو قبحه عقلاً.

وأمّا البحث عن امكان تطبيق تلك الكبرى في باب التجرّي فقد ذكر للمنع محاولات ثلاث ، وهذه المحاولات جميعاً تثبت استحالة جعل الحرمة شرعاً للتجري في عرض جعل الحرمة الواقعية ، سواء أثبتنا ذلك بقانون الملازمة أم بغير ذلك ، فلا تختص بهذا الدليل على حرمة التجري بالخصوص.


١ ـ محاولة الميرزا 1 ، وحاصله : إن جعلت الحرمة على الخمر الواقعي والخمر معلوم الحرمة بجعل واحد بأن يقول : الخمر أو ما علم انّه خمر محرم حرام لزم التهافت ، لأنّ الثاني في طول الأوّل. وإن جعلت الحرمة عليهما بجعلين أحدهما يختص بالخمر الواقعي والآخر بمعلوم الخمرية والحرمة فإن كان الجعل الثاني مخصوصاً بموارد التجري بالمعنى المقابل للمعصية ، استحال وصوله إلى المكلّف لأنّ المتجري يجد نفسه عاصياً دائماً ، وإن كان عاماً يشمل العاصي أيضاً لزم اجتماع المثلين ؛ لأنّ النسبة بين العنوانين في نظر القاطع العموم المطلق ، إذ هو يرى انّ كل قطعه مصيب للواقع فيكون حرمة معلوم الخمرية أخصّ من حرمة الخمر الواقعي وهو محال.

وأجاب السيد الشهيد 1 عن الفرض الأوّل بأنّه لا تهافت ، إذ بحسب عالم المجعول الذي يكون التجري منوطاً به ـ لأنّ المنجز إنّما هو الحكم الفعلي لا الجعل ـ تكون حرمة الخمر الواقعي متقدماً في الرتبة على حرمة معلوم الخمرية والحرمة واحدى الحرمتين غير الاخرى نظير ما يقال في باب الاخبار مع الواسطة.

لا يقال : هذا الجواب يدفع محذور التهافت بلحاظ مرحلة الفعلية والانحلال التي هي مرحلة تصورية لا تصديقية فلا موضوع للاشكال المذكور فيه ، ولكن لا يدفعه بلحاظ مرحلة الجعل واللحاظ الذي هو أمر تصديقي حقيقي ، فإنّ التجري لحكم كالعلم به يكون من القيود والتقسيمات الثانوية الطولية للحكم ، وقد تقدم من الاستاذ 1 في بحث التعبدي والتوصلي استحالة أخذها في الموضوع أو متعلّق شخص ذلك الحكم للتهافت في اللحاظ ، ففي المقام الجامع بين الخمر وغير الخمر الذي تنجزت حرمة الخمر في مورده يكون لحاظه في


طول لحاظ نفس الحرمة التي يراد جعلها بهذا الجعل في طرف المحمول ؛ فأخذه في الموضوع تهافت.

وبعبارة أدق : يوجب أن يلحظ الحكم بلحاظ اخباري مفروغ عنه ولحاظ انشائي لايجاده واللحاظان متهافتان لا يجتمعان في جعل واحد.

فإنّه يقال : بل يدفعه لتعدد الحكم وانحلاليته في عالم اللحاظ أيضاً ، فعندما يقال : ( لا تشرب الخمر ، وما يعلم بأنّه خمر حرام ) ، الحرمة المجعولة للخمر الواقعي غير الحرمة المجعولة لمعلوم الخمرية والحرمة فلا تهافت حتى في اللحاظ في عالم الجعل كما هو الحال في جعل الحجّية لطبيعي الخبر الذي له أثر شرعي ، فلا يرد المحذور المتقدم هنا.

وأجاب عن الفرض الثاني : بأنّ الجعل الثاني ليس موضوعه خصوص التجري العلمي بل مطلق التجري الثابت في تمام موارد تنجز الواقع سواء بالعلم أو بالاحتمال المنجز فيكون الخطاب كل ما ليس خمراً واقعاً ولكنه تنجزت حرمته على المكلف فهو حرام. وهذا قابل للوصول إلى المكلّف وتحريكه ولو في موارد الاحتمال المنجز حيث انّه سوف يعلم اجمالاً بالحرمة امّا لكونه خمراً أو تجرياً ، وهذا وصول إجمالي للحكم وهو كاف للمحركية ودفع اللغوية.

وأمّا عدم امكان الوصول التفصيلي فليس بلازم ، كما ان هذا لا يعني اختصاص الحرمة بملاك التجري بموارد الاحتمال المنجز ، بل يثبت حتى في مورد التجري بالقطع بالحرمة ، غاية الأمر لم تكن منجزة عليه ؛ لأنّه يرى ارتفاع موضوعها في حقّه نظير إطلاق الحكم لموارد الجهل المركب بانتفاء موضوع التكليف.


لايقال : هذا الجواب لا يتم على مسالك الميرزا والقوم من الايمان بقاعدة قبح العقاب بلا بيان حتى في أطراف العلم الإجمالي لولا التعارض.

وتوضيح ذلك : انّ الاحتمال المنجز تارة يكون تنجزه بلحاظ امارة أو أصل محرز لخمرية الشيء مثلاً ، واخرى لمنجزية نفس الاحتمال كما في أطراف العلم الإجمالي أو موارد الشك في الامتثال ؛ أمّا الأوّل فمن الواضح انّ الامارة أو الأصل المحرز كما ينجز الحرمة الواقعية ينفي موضوع الحرمة بملاك التجري بنفيه لجزء موضوعه ولا محذور فيه من ناحية العلم الإجمالي ؛ لأنّ طرفه الآخر وهو الحرمة الواقعية قد تنجز به فيكون العلم الإجمالي هنا منحلاً لا محالة.

وأمّا الثاني فلأنّه تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان عن الحرمة بملاك التجري ولا تعارض بشيء لأنّ الطرف الآخر وهو الحرمة الواقعية منجزة بحسب الفرض.

وبعبارة اخرى : على مسلك قبح العقاب بلا بيان لا يعقل جعل هذه الحرمة ، لعدم امكان منجزيتها لا في مورد التجري بمخالفة القطع ولا في مورد التجري بمخالفة الاحتمال المنجز لأنّه في الأوّل يقطع بانتفاء قيد الموضوع ، وفي الثاني تجري القاعدة لنفيها عقلاً من دون محذور.

بل على مسلك حق الطاعة لو قيل بعموم البراءة الشرعية أيضاً لا يبقى مورد للمنجزية ، وإن كانت معقولة ثبوتاً.

فالحاصل هذا الحكم لا يمكن وصوله وصولاً منجزاً لا بالعلم التفصيلي ولا الإجمالي المنجز لكلا طرفيه ؛ لأنّ هذا العلم الإجمالي المتولد منه دائماً يكون في طول تنجز الحكم الواقعي المحتمل الذي هو أحد طرفي العلم فيكون


منحلاً دائماً. نعم ، يمكن أن يكون منجزاً في طول جعل الاحتياط في موارد الشبهات ، فهذا الحكم بنفسه وبلا جعل وجوب الاحتياط لا يمكن أن يكون منجزاً وإنّما يمكن أن يكون كذلك بضميمته ، وهذا المقدار لو فرض كفايته ثبوتاً لمعقولية الجعل ولكن حيث انّه اثباتاً لم يجعل ايجاب الاحتياط شرعاً في الشبهات البدوية فلا يكون معقولاً.

فإنّه يقال : لا موضوع لجريان البراءة العقليّة أو الشرعية في المقام ؛ للعلم بثبوت تكليف واحد في مخالفة عقاب وعدم وجود تكليفين بالحرمة ـ لأنّ المفروض انّ المراد بالتجري ما يقابل المعصية ولا يجتمع معها ـ لأنّه لو اريد باجراء البراءة نفي العقوبة الزائدة فهي مقطوعة العدم ، وإن اريد نفي العقوبة الواحدة فهي مقطوعة الثبوت وهذا واضح.

والمقصود أنّ جعل حرمة التجري بهذا المعنى ليس لغواً ؛ لأنّه قابل للوصول العلمي الإجمالي ، وهو أشدّ تحريكاً وتنجيزاً لأغراض المولى من الاحتمال المنجّز كما هو واضح.

واجيب عن الفرض الثالث في كلام السيد الخوئي : أوّلاً : بامكان فرض عدم وصول حرمة الخمر الواقعي للمكلف. وثانياً : بعدم المحذور في تعدد الحكم على نحو العموم المطلق كما في نذر الصلاة الواجبة.

ويردّ الأوّل انّه إن اريد اختصاص الحرمة بمن يعلم بالخمرية ولا يعلم حرمته فهذا خروج عن مبحث التجري ولا ملاك لدعوى الحرمة فيه لأنّ الملاك والدليل على الحرمة هو الملازمة وهي فرع العلم بالحرمة والقبح ؛ وإن اريد عدم الوصول الواقعي بمعنى عدم الاصابة فهو لا يرفع مشكلة اجتماع المثلين في نظر القاطع


وإن رفع اجتماع المثلين في الواقع.

ويرد على الثاني انّه ليس من العموم المطلق بل من وجه كما هو واضح.

وأجاب السيد الشهيد على هذا الفرض بجوابين :

١ ـ انّ النسبة بين الجعلين عموم من وجه لا مطلق ، لأنّ القاطع إنّما يرى اصابة شخص قطعه حين قطعه للواقع ولا يرى اصابة كل قطع آخر له أو لغيره للواقع دائماً فبحسب نظره أيضاً النسبة بين الجعلين عموم من وجه بحيث يكون معقولاً جعلهما وإنّما يرى في خصوص مورد قطعه الشخصي الاجتماع بينهما.

وبعبارة اخرى : انّ ما يراه القاطع بحسب نظره واحداً هو المصداق للعنوانين لا نفس العنوانين الذي هو مناط الجعل ، فالمكلف القاطع أيضاً عندما يلاحظ عنواني الخمر ومقطوع الخمرية والحرمة يجد انّ النسبة بينهما عموم من وجه ، وامّا الانطباق في مورد القطع الخارجي للمكلف بحسب نظره فهذا مربوط بمرحلة الفعلية والتطبيق لا الجعل ، والمفروض امكان جعل حكمين على موضوعين بينهما عموم من وجه بلا محذور اجتماع المثلين لعدم كونهما عارضين على محل وعنوان واحد بل عنوانين.

٢ ـ انكار كبرى استحالة تعدد التكليفين المثلين مع كون النسبة بينهما العموم المطلق إذ لا محذور في الأمر بالجامع والأمر بالحصة لأنّه لو اريد لزوم محذور الاجتماع بلحاظ عالم المجعول والفعلية فهو عالم وهمي تصوري كما ذكرنا وإن اريد لزوم المحذور بلحاظ عالم الجعل ونفس المولى فتعدد متعلق كل من التكليفين يكفي في دفعه حيث انّ العنوان الخاص غير العنوان العام ، وإن اريد لزوم المحذور في مرحلة التحريك المولوي حيث يلغو فرض تحريكين في


مورد واحد فالجواب أنّ التحريك نحو الحصة أثره الاتيان بها لمن يريد امتثال كل أوامر مولاه والتحريك نحو الجامع أثره الاتيان به ولو في غير مورد الحصة لمن لا يريد تحقيق الحصة فلا لغوية.

لا يقال : هذا صحيح في مثل الأمر بالجامع والأمر بالحصة أي التكاليف البدلية وامّا التكاليف الانحلالية كحرمة الخمر وحرمة التجري ووجوب اكرام كل عالم ووجوب اكرام الفقيه فلا يعقل فيه ذلك لأنّ كل فرد بحسب الفرض له حكمه الخاص من الحرمة أو الوجوب فجعل حكم آخر مماثل فيه لغو محض.

فإنّه يقال : لا لغوية فيه أيضاً ، إذ يكفي في عدمها تحريك من لا يتحرك من تكليف واحد من قبل المولى بخلاف ما إذا كان هناك تكليفان.

هذا إذا كان الاشكال من ناحية اللغوية ، وإذا كان الاشكال من ناحية محذور اجتماع المثلين فجوابه كفاية تعدد العنوان المعروض للحكمين في امكان ذلك كما يشهد به الوجدان.

ثمّ انّ هنا جواباً آخر قد يذكر في المقام وحاصله : انّ ما ذكر فيه من اللغوية في مقام المحركية أو جعل الحكم الأخص مع وجود الحكم الأعم في مورده إنّما هو محذور في مرحلة الاثبات الراجع إلى ظهور خطابات الشارع في انها تكون مجعولة بداعي التحريك والبعث وهذا إنّما يمنع عن اثبات الحكم الشرعي من لسان الدليل إذا كان الدليل عليه لفظياً ، وامّا إذا كان الدليل على الحكم الشرعي لبياً عقلياً وهو قانون الملازمة بين ما حكم به العقل حكم به الشرع فلا محالة يكون الحكم الشرعي ثابتاً بروحه وحقيقته في عالم الثبوت لا محالة.

إلاّ أنّ هذا الجواب غير تام ؛ لأنّ قانون الملازمة إنّما يكشف عن جعل الحكم


الشرعي إذا لم يكن لغواً ، والمفروض انّ حقيقة الحكم الشرعي وروحه متقوّم بالتصدّي المولوي ، لا مجرّد الحسن والقبح العقليين.

٢ ـ المحاولة الثانية : ما ذكره السيد الخوئي من انّ حرمة التجري إذا كانت مخصوصة بغير موارد العصيان فهذا مضافاً إلى انّه بلا موجب لعدم أسوئية التجري عن المعصية لا يمكن أن يصل إلى المكلّف كما تقدم ، وإن فرض شموله لموارد العصيان أيضاً لزم التسلسل إذ يكون لهذه الحرمة عصيان وهو قبيح عقلاً فيكون محرماً أيضاً وهكذا.

وهذه المحاولة في الواقع نفس المحاولة السابقة ، غاية الأمر قد استعيض فيها محذور لزوم اجتماع المثلين بمحذور التسلسل ، ففيما يتعلق بالتقدير الأوّل يجاب عليه بما تقدم ، وامّا محذور الأسوئية فغير لازم إذ يكفي وجود الحرمة الشرعية في مورد العصيان عن جعلها ثانية بخلاف التجري ؛ وفيما يتعلق بالتقدير الثاني أجاب السيد الشهيد بأنّه لا محذور للتسلسل في الامور الاعتبارية الانشائية.

وهذا الكلام بحاجة إلى تمحيص ، فإنّ الحكم والتكليف متقوم بالتصدي المولوي وهو أمر حقيقي يستحيل التسلسل فيه.

وإن شئت قلت : انّ الحكم بمعنى الجعل ومباديه أمر حقيقي وإنّما المجعول أمر اعتباري ، والحل : انّ هنا في مقام الجعل تصدياً من المولى لتحريم كل عصيان على المكلف بنحو القضية الحقيقية الشاملة لنفسها أيضاً في مقام الفعلية فيكون التسلسل في مرحلة الأحكام الفعلية المجعولة لا الجعل ، وقد تقدم انها أحكام تصورية وهمية لا تصديقية حقيقية ليستحيل التسلسل فيها ، فكلما


افترض في هذا العالم التصوري من تحقق عصيان جديد كان له حرمة مجعولة جديدة تنتهي بانتهاء التصور.

٣ ـ المحاولة الثالثة : ما ذكره السيد الخوئي أيضاً وهو منسوب إلى الميرزا الشيرازي 1 من انّ كبرى الملازمة تتم في حق الأحكام العقلية الواقعة في سلسلة علل الأحكام الشرعية كقبح الكذب والغصب لا معلولاتها كما في قبح العصيان والتجري للزوم اللغوية هنا ، فلابد وأن يكون الأمر والنهي الواردين فيها ارشادياً لا مولوياً.

وهذا يختلف عمّا تقدم في البحث الكبروي عن الملازمة ؛ إذ لا يقال هنا انّه لا تعدد ولا تأكد للمحركية لأنّ ما يتولد من المحركية ثابت بسنخه وشخصه لولا جعل الحرمة الثانية ، امّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فلأنّه لا يكون هناك ملاك جديد للمولى في الفعل غير نفس الملاك الأوّل وحكمه الأوّل المتنجز بحسب الفرض ، فروح هذا البيان يرجع إلى ما بيناه في الفرض الثالث من المحاولة الاولى من انّ جعل حكم آخر لحرمة التجري الذي هو في طول منجزية الحكم الأوّل لغو في مرحلة المنجزية والمحركية ، ولا يقاس بموارد تعدد الملاك الموجب لجعل حكمين يتأكدان في مورد اجتماعهما.

والجواب : ما ذكرناه من معقولية ذلك كلما كان يلزم من جعل الحكم الثاني اشتداد مرتبة المحركية والمنجزية والحافظية كما إذا جعلت الحرمة الثانية على طبيعي التجري والانقياد ، فإنّ انساناً ربما يطيع التكليف المنجز عليه بالعلم دون ما يتنجز عليه بالاحتمال ؛ إذ لا اشكال في وجود مراتب للمحركية والتنجز ، وهذا واضح.


ص ٦٣ قوله : ( وهو خارج عن بحث التجري المرتبط بالقطع الطريقي ... ).

أي كان السفر مع مظنة الهلاك معصية بعنوانه الأولي والبحث عن حرمة التجري بالعنوان الثانوي فيخرج عن الدلالة على المقصود.

ص ٦٣ قوله : ( فإنّه حيث قصد المعصية لا فرق بينهما أصلاً كما لا يخفى ... ).

بل تقدم انّ القصد لا يتعلق بالخارج وإنّما يتعلق دائماً بالوجود العلمي وما يراه الفاعل خارجاً فلا تعدد في قصد الحرام بين موارد التجري والمعصية.

ثمّ انّ المراد من قوله : ( أراد قتل صاحبه ) ليس مجرد النية فإنّ الارادة تستعمل في التلبس بالفعل الخارجي كما لا يخفى على من لاحظ الاستعمالات ، فهذه الطائفة الاولى كلها تدل على حرمة عناوين اخرى هي أفعال جانحية أو جارحية تكون من أعظم المحرمات كالمبارزة بالسيف والمحاربة أو الرضا بفعل المنكر ـ رغم انّه فعل الغير لا نفسه ـ الذي هو نوع تثبيت وتعزيز للمنكرات والظلم واضمار السوء والسيئة أو غير ذلك ولم أجد فيها ما يدل على مسألة استحقاق العقوبة بمجرد النية على المعصية من دون فعل ، لأنّها جميعاً تدلّ على تحقق عنوان آخر محرّم في مورد تلك النيّة حتى مثل قوله 7 : « نيّة الفاجر أو الكافر شرّ من عمله » فضلاً عن روايات الاعانة على الإثم فراجعها.

ثمّ انّه قد يقال : بأنّ من ألسنة اثبات الحرمة لسان ترتيب استحقاق العقوبة على فعل من الأفعال فيكفي الدلالة على استحقاق العقوبة أو ترتبها لاثبات الحرمة في المقام أيضاً.


ويمكن أن يجاب : بأنّ استظهار التحريم إنّما يكون فيما إذا لم يكن الفعل في نفسه قبيحاً عقلاً يستحق فاعله العقوبة كما إذا قال : من شرب الخمر أكبه الله في النار ، وإلاّ أمكن أن يكون بيان الاستحقاق ارشاداً إلى القبح والاستحقاق العقلي فلا يتم الظهور المذكور حينئذٍ.

وفي قبال هذه الطائفة توجد طائفة ثانية تدلّ على نفي العقاب على مجرد نيّة الحرام إذا لم يعمله.

وقد وقع البحث في كيفية الجمع بينها وبين الطائفة الاولى ، وأهمّ ما ذكر هناك ما ذكره الشيخ من تخصيص روايات نفي العقوبة بما إذا رجع من نفسه ، وروايات العقوبة على ما إذا لم يرتدع عن قصده ، وإنّما حيل بينه وبين العمل ؛ لأنّ النبوي المتقدم بمقتضى ذيلها يدل على العقاب فيمن حيل بينه وبين الحرام ، فيقيد به الطائفة الثانية ، فتنقلب النسبة بينها وبين سائر روايات الطائفة الاولى.

وفيه : أوّلاً ـ بطلان كبرى انقلاب النسبة.

وثانياً ـ عدم تمامية الصغرى كما هو موضح في الكتاب.

نعم ، يمكن تتميم الجمع المذكور بملاحظة ما في صحيحة أبي بصير : « انّ المؤمن ليهمّ بالسيئة أن يعملها فلا يعملها فلا تكتب عليه » (١) ورواية حمزة بن حمران : « ومن همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه حتى يعملها فإن لم يعملها كتبت له حسنة وإن عملها اجّل تسع ساعات فإن تاب وندم عليها لم يكتب

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١ ص ٣٦.


عليه » (١) فإنّهما خاصّان بما إذا لم يعمل من نفسه فيكون أخصّ مطلقاً من الطائفة الاولى فتخصصها فتنقلب النسبة بينها وبين ما هو عام من الطائفة الثانية إلى التخصيص.

هذا لو فرض وجود إطلاق في روايات الطائفة الثانية ولم يدع انصرافها إلى خصوص صورة الارتداع من نفسه ولو بقرينة انّها بصدد الحثّ على الندم والتراجع عن النية وإلاّ كان مفادها نفي العقوبة حتى إذا لم يصادف الواقع لخطأ عمله فإنّ مثل عنوان ( لا يؤاخذ أهل الفسق حتى يفعلوا ) مثلاً لو فرض اطلاقه لما إذا ارتدع للعجز لا من نفسه يشمل ما إذا كان الارتداع للجهل أيضاً لأنّه ينفي كتابة أيّة سيئة حتى يصدر الفعل منه ؛ وبناءً على هذا لا نحتاج إلى كبرى انقلاب النسبة فيصح هذا الجمع.

٢ ـ ما ذكره السيد الشهيد من حمل الطائفة الاولى على استحقاق العقوبة والثانية على نفي الفعلية تنصلاً كما هو صريح بعضها.

وهذا الجمع يفيد في غير الروايات من الطائفة الاولى الصريحة في فعلية التسجيل على العبد كقوله 7 : « كلاهما في النار » في النبوي فإنّ مثل هذا اللسان لابد وأن يحمل على صدور فعل محرم منه وهو المحاربة مع المسلم كما تقدم.

ثمّ إنّ نفي فعلية العقاب على مجرد النية تفضّلاً من المولى سبحانه وتعالى بهذه الروايات لا يرفع الاستحقاق والقبح العقلي ، ولا يكون بمعنى الترخيص

__________________

(١) وسائل الشيعة ص ٣٧.


والتجويز الشرعي للارتكاب كما في موارد الترخيصات الشرعية في الشبهات ، بل لا يعقل الترخيص فيه ، فإنّه كالترخيص في المعصية من حيث عدم امكانه مع حفظ عنوان المعصية والتجرّي لكونه قبيحاً ذاتاً.

تنبيهات :

يرد على كلام صاحب الفصول انّه يتصور الحسن والقبح أمرين واقعيين كالمصلحة والمفسدة قد يخطأ فيهما الفاعل ، وهذا إنّما يعقل بناءً على كونهما مجعولات عقلائية لحفظ المصالح الواقعية ، وامّا بناء على كونهما عقليين ذاتيين لموضوعيهما فيستحيل انفكاكهما عن موضوعهما العقلي كلما تحقق فلا يمكن أن يرتفعا في مورد إلاّبأن يرتفع الموضوع ولو ببعض قيوده كما أنّهما متقومان بالوصول وليسا من قبيل المصلحة والمفسدة أمران واقعيان. نعم ، قد يكون وصول المصلحة رافعاً لموضوع القبح كما في ضرب اليتيم تأديباً فإنّه ليس ظلماً ، أو الكذب للاصلاح فإنّه ليس اغراءً واغواءً ، وهذا هو معنى اختلاف الحسن والقبح بالوجوه والاعتبارات.

وبناءً على هذا يرد على ما استنتجه صاحب الفصول :

أوّلاً ـ انّ الكسر والانكسار إنّما يتعقل بين الأمرين الواقعيين كالمصلحتين أو المصلحة والمفسدة ، ولا يتعقل في باب الحسن والقبح الذاتيين ، لأنّه إذا كان موضوع كل منهما متحققاً كان ثبوته فيه ذاتياً ضرورياً ، وإلاّ كان مرتفعاً ، فأمرهما يدور بين الوجود والعدم لا الكسر والانكسار فإنّه غير معقول فيهما.

ثانياً ـ انّ الحسن والقبح حيث انّ العلم والوصول تمام الموضوع فيهما فلا يعقل تأثير المصلحة أو المفسدة بوجوديهما الواقعيين في رفعهما أو رفع


موضوعيهما وإنّما قد يعقل ارتفاع موضوعيهما بوصول المصلحة والمفسدة كما ذكرنا ، والمفروض في موارد التجري عدم وصول الواقع ، بل في موارد التجري لا يعقل الوصول ، إذ به يرتفع موضوع التجري.

وثالثاً ـ انّ القبيح في موارد المعصية نفس القبيح في موارد التجري وهو التمرد على المولى المتحقق بفعل الحرام الواقعي والحرام الخيالي على حدّ واحد فلا يتعدد القبح فضلاً عن استحقاق العقوبة في موارد العصيان ، وهذا أيضاً نشأ من تصور انّ القبح موضوعه يمكن أن يكون أمراً واقعياً قد يصيبه المكلف وقد يخطئه.

ورابعاً ـ لو تمّ ما ذكر لجرى في المعصية في الموالي العرفية أيضاً كما إذا كان المولى العرفي مخطأ في تشخيص مصلحته فأمر بما فيه مفسدة أو نهى عمّا فيه مصلحة ومع ذلك خالفه العبد مع انّه لا يلتزم به صاحب الفصول حيث انّه اراد بيان الفرق بين التجري والمعصية.

أقسام القطع الموضوعي :

قسم القطع الموضوعي إلى المأخوذ بنحو الصفتية والمأخوذ بنحو الطريقية ، وكل منهما إلى ما يكون جزء الموضوع والواقع جزؤه الآخر وما يكون تمام الموضوع ، وهذا التقسيم إنّما كان استطراقاً وبهدف البحث في المقام القادم عن مدى وفاء أدلّة الحجج والامارات بقيامها مقام القطع الموضوعي من هذه الأقسام.

وقد وقع الاشكال في هذا التقسيم تارة بالمنع عن بعض أقسامه وجعل الأقسام أقل ، واخرى باضافة أقسام اخرى ، فهنا ملاحظات عديدة.


الملاحظة الاولى : ما ذكره الميرزا 1 من انّ القطع المأخوذ بنحو الطريقية والكاشفية تمام الموضوع غير معقول ؛ لأنّه مستلزم للتهافت ، وقد بيِّن التهافت في كلماتهم بأحد تقريبين :

الأوّل : ما فهمه المحقق العراقي 1 من كلام الميرزا ـ ولعلّه ظاهر أجود التقريرات ـ من ارادة التهافت في اللحاظ حيث انّ أخذه تمام الموضوع مقتضى لحاظ القطع مستقلاً في موضوع الحكم من دون ملاحظة متعلقه وأخذه بما هو طريق معناه لحاظه آلياً وطريقاً إلى متعلقه ، أي لحاظ الواقع وذي الطريق اللازم لعدم الالتفات إلى نفس العلم والكاشف فيلزم التهافت في كيفية لحاظ القطع.

وهذا البيان واضح الاندفاع كما أفاد المحقق العراقي نفسه ، وحاصله بتوضيح منا : انّ التهافت إذا ادعي لزومه في عالم الجعل الذي فعل المولى فمن الواضح انّه لا يأخذ في موضوع جعله إلاّمفهوم القطع وهو غير متوقف على فعلية القطع بل على فرض وجوده ومفهوم القطع ليس فيه طريقية أو كاشفية في اللحاظ. وإن ادعي لزومه في مرحلة الفعلية ولدى القاطع فلا إشكال انّ القاطع أيضاً يمكنه أن ينظر إلى قطعه بنظرة اخرى فيراه مستقلاً بما هو انكشاف وطريق بل لا يحتاج في مرحلة المجعول إلى أكثر من العلم بوجود الموضوع وتحققه ولو لم يكن ملحوظاً بلحاظ استقلالي كما هو واضح.

فالحاصل هذا خلط بين مقام الجعل ومقام الفعلية. على انّه لو تم لتم في أخذ القطع بنحو جزء الموضوع أيضاً لأنّ المرآتية محفوظة فيه ، مع انّ اللازم في كيفية لحاظ الموضوع بتمام أجزائها الاستقلالية لا المرآتية.

الثاني : ما هو ظاهر عبائر مدرسة الميرزا من ارادة التهافت والتناقض في


الواقع لا في اللحاظ ، حيث انّ فرض كون القطع كاشفاً هو فرض ايصاله إلى متعلقه وبالتالي ثبوت المقطوع به كجزءٍ أو قيد وإلاّ لم يكن كشف في البين وفرض كونه تمام الموضوع هو فرض عدم دخالة الواقع في ترتب الحكم وفعلية الحكم ولو لم يكن القطع كاشفاً وطريقاً إلى الواقع وهو خلف وتناقض.

والجواب : انّه وقع خلط بين الكاشفية الذاتية للقطع والكاشفية العرضية المجازية المساوق مع وجود المنكشف في الخارج فالميرزا يفهم الثاني والخراساني يقصد الأوّل ، ومقتضى إطلاق دليل أخذ القطع الموضوعي لموارد الجهل المركب ما قصده الخراساني ، اللهم إلاّ أن يقال : انّ الكاشفية عرفاً ما ذكره الميرزا لا الكاشفية الذاتية فإنّها أمر فلسفي يساوق عرفاً الصفتية لا الكاشفية ، ولكنه لا موجب له فإنّ العرف أيضاً يفهم كاشفية القطع في موارد الجهل المركب والمنبه عليه ثبوت الإطلاق في دليل القطع الموضوعي له أيضاً.

الملاحظة الثانية : ما قد يظهر من كلمات المحقق الاصفهاني 1 من انّ كاشفية القطع الذاتية عين القطع وليست صفة زائدة على ذاته حتى يمكن الغائها ؛ لأنّ القطع تمام حقيقته الكاشفية وذاته الكشف. نعم ، بناءً على تفسير الميرزا 1 للكاشفية وارادة الكشف المجازي إلى الواقع تكون الكاشفية الذاتية معنىً صفتياً للقطع لا محالة.

وكأنّه أجاب على مثل هذا الاشكال صاحب الكفاية بعبارة في الكفاية يمكن ارجاعها إلى جوابين :

١ ـ انّ العلم نور في نفسه ونور لغيره فتارة يؤخذ بلحاظ نوريته الذاتية ولنفسه فيكون صفتياً ، واخرى بلحاظ منوريته لغيره فيكون طريقياً.


وفيه : انّ ملاحظة نوريته عبارة اخرى عن ملاحظة الطريقية والكاشفية وإذا ألغيت حيثية النورية ولوحظ مجرد الحضور في النفس شمل كل حاضر في النفس ولزم الغاء أخذ عنوان القطع والانكشاف فيه وهو خلف ؛ وأمّا مقصودهم من العبارة فهو انّ العلم بنفسه الظهور فلا يحتاج إلى مظهر آخر.

٢ ـ انّ العلم من الأعراض ذات الاضافة والتعلق بمتعلق فتارة نلحظ ذات الاضافة مع قطع النظر عن معلومه ومتعلقه ، واخرى نلحظه بما هو مضاف إليه ، فالأوّل صفتي والآخر طريقي.

وفيه : إن اريد اضافته إلى المعلوم بالذات فهي اضافة اشراقية كاضافة الوجود إلى الماهية لا حقيقية مقولية أي لا تعدد فيه بينهما ولا تغاير إلاّبالتحليل والاعتبار فهي عين ظهور المضاف إليه واشراقه الذي هو الطريقي. نعم ، لو اريد الغاء متعلق العلم وأخذ جامعه كان معقولاً إلاّ انّه غير محتمل للزوم ترتب الأثر على العلم بكل شيء وهو غير مقصود جزماً ، وإن اريد اضافته إلى المعلوم بالعرض فهي وإن كانت اضافة مجازية وليست متقومة للعلم ، إلاّ انّه أمر زائد على طريقية العلم المأخوذة فيه على انّ أخذها يؤدي إلى عدم امكان كونها تمام الموضوع حينئذٍ.

ويمكن أن يجاب على هذه الملاحظة بأنّ الطريقية عبارة عن أخذ الانكشاف المذكور والصفتية عبارة عن أخذ ملازمات هذا الانكشاف التكوينية كسكون النفس واطمينانها مع الانكشاف ، وهذا يعني أخذ خصوصية صفتية زائداً على ذات القطع والانكشاف وهذا لعلّه يقبله المحقق الاصفهاني أيضاً.

أو بتعبير أدق : أخذ الانكشاف بما هو صفة وعارض على النفس بنحو يكون


له وجود مستقل عرضي فيها فإنّ هذه الخصوصية المقولية ليست مقوّمة للعلم ، بدليل عدم ثبوته في علم الباري مع انّه انكشاف للباري أيضاً ، أي بما هو وجود عرض خاص على النفس الناطقة ، وهذا هو معنى الغاء حيثية الكاشفية في القطع.

الملاحظة الثالثة : قسّم بعض الأعاظم (١) القطع الموضوعي المأخوذ على نحو الطريقية سواء كان جزء الموضوع أو تمامه إلى قسمين أيضاً فكانت أقسامه أربعة وباضافة القسمين في الصفتي ستة.

١ ـ أن يكون مأخوذاً في الموضوع بما هو كشف تام ، فلا تقوم مقامه الامارات وبما هو أصل الكشف ومن مصاديقه فتقوم مقامه الامارات.

والظاهر منه انّ مبنى قيام الامارات مقام القطع الموضوعي المأخوذ على وجه الصفتية بنفس أدلّة الحجّية إنّما هو أخذ العلم بما هو من مصاديق أصل الكشف في موضوع الحكم فيكون دليل تتميم الكشف في أدلّة الحجّية محققة وجداناً للموضوع.

وفيه : إن اريد أخذ القطع بما هو حجة في موضوع الحكم الشرعي صحّ قيام الامارات مقامه بنفس دليل الحجّية في بعض الموارد لا مطلقاً على ما سوف يأتي شرحه ، إلاّ أنّ هذا خروج عن باب القطع الموضوعي وأخذ عنوانه في موضوع الحكم ، ومعناه انّ الموضوع للحكم الشرعي ابتداءً مطلق الحجة لا عنوان القطع ، فليس هذا تقسيماً للقطع الموضوعي لوضوح انّ تقسيمات

__________________

(١) درر الفوائد ، وتهذيب الاصول. ولكن في الدرر سمى الأوّل بالصفتي وهو غريب ، فإنّ تمامية الكشف عين الطريقية التامة.


القطع الموضوعي لابد وأن يفترض لها مقسماً مشتركاً هو أخذ القطع موضوعاً للحكم لا أخذه معرفاً ومشيراً إلى عنوان آخر أوسع منه من أوّل الأمر ، فقيام الامارة مقام القطع الموضوعي لابد وأن يكون ببركة دليل الحجّية ومن ناحيته لا من ناحية انّ الموضوع من أوّل الأمر ليس هو القطع ، فإنّ هذا أمر واضح لا إشكال فيه عند أحد.

وإن اريد التحفظ على دخالة عنوان القطع والكشف في الموضوع بحيث يحتاج في مقام الامارة مقام القطع الموضوعي على نحو الطريقية استفادة ذلك من دليل الحجّية ورد عليه :

أوّلاً ـ انّه سوف يأتي انّ جعل الامارة حجة لا يفي باثبات ذلك حتى لو قيل انّ المجعول هو الكاشفية والعلمية ، لأنّ هذا يجعل الامارة كشفاً اعتبارياً لا حقيقياً وكل عنوان يشمل أفراده الحقيقية لا الاعتبارية.

وثانياً ـ لو فرض كفاية جعل الحجّية للامارة في اثبات كونها كشفاً وبالتالي قيامها مقام القطع الموضوعي بنحو الطريقية فأيضاً لا مجال لهذا التقسيم إذ على كلا شقيه سوف تقوم الامارة مقام القطع الموضوعي المذكور ، لأنّ دليل الحجّية تجعل الامارة كشفاً تاماً لا ناقصاً. نعم ذات الامارة قد تكون كشفاً ناقصاً كالظن ولكنه لا إشكال في عدم قيامها مقام القطع الموضوعي المذكور.

نعم لو اريد من تمامية الكشف الجنبة الصفتية فيه تمّ الأثر المذكور ، ولكنه خارج عن القطع الموضوعي على وجه الطريقية وداخل في القطع الصفتي ، فلا تكون الأقسام ستة بل أربعة ؛ ولعلّ ظاهر عبارة صاحب الدرر هذا المعنى ، ويمكن أن يكون هذا الكلام منهم لأنّهم رأوا أنّ القطع حقيقته وذاته الكشف فلا


يعقل انقسامه إلى الصفتي والطريقي إلاّبأخذ حيثية الكشف تاماً تارة وأصله اخرى ، وقد عرفت عدم تماميته على كل حال. فالتقسيم المذكور إمّا خارج عن المقسم أو لا يكون صحيحاً.

الملاحظة الرابعة : ما ذكره صاحب الكفاية 1 من أنّ القطع المأخوذ على نحو الصفتية ينقسم إلى أربعة أقسام لا قسمين ؛ إذ قد يؤخذ القطع بما هو صفة للقاطع وقد يؤخذ بما هو صفة للمقطوع به ، وكل منهما قد يكون على نحو جزء الموضوع أو تمامه فتكون الأقسام ستة لا أربعة.

وقد أجاب عليه السيد الشهيد تبعاً لمدرسة الميرزا 1 بأنّه إذا اريد من المقطوع به المعلوم بالذات فهو نفس القطع وقوامه فإنّه قد تقدم انّ القطع حقيقته الانكشاف والظهور لمتعلقه ، وهذا متقوم بالقاطع والمقطوع به وإلاّ كان كل قطع ولكل أحد حتى غير القاطع موضوعاً لترتب الحكم ، ولهذا قلنا انّ الصفتية إنّما تكون بأخذ حيثيات خارجة عن قوام العلم والانكشاف ملازمة معها كسكون النفس أو اطمئنانها. وإن اريد المعلوم بالعرض فقد عرفت انّ هذه الاضافة مجازية وليس القطع مساوقاً معه وهو الطريقية عند الميرزا. على انّه بناء هذا لا يصح تقسيمه إلى ما يكون تمام الموضوع تارة وجزءه اخرى إذ أخذ هذه الصفة للمعلوم بالعرض فرع وجوده دائماً.

وقد يكون مقصود صاحب الكفاية انّ نفس تلك الخصوصية التكوينية الصفتية المأخوذة في القطع الصفتي زائداً على أصل الانكشاف تارة تؤخذ مضافة إلى القاطع ، واخرى مضافة إلى المقطوع به فيقال مثلاً كون الشيء مطمئناً به أو مسكوناً إليه واخرى يقال كون المكلف مطمئناً وساكن النفس ، وحينئذٍ


يكون الجواب عليه بأنّ هذا التقسيم لا أثر مهم له ، فإنّه حيث اخذت خصوصية صفتية في موضوع الحكم زائداً على ذات القطع والانكشاف فبأي نحو كانت تلك الخصوصية كان القطع الموضوعي صفتياً لا يمكن أن تقوم الامارة مقامه بنفس دليل الحجّية وإنّما يحتاج ذلك إلى عناية التنزيل المستقل للامارة منزلة تلك الخصوصية ، وهذا ما لا تقوم به دليل الحجّية فهذا التقسيم ليس تقسيماً بحسب الحقيقة بل ملاحظة لأنحاء ومصاديق الخصوصيات الصفتية التي يمكن أخذها في القطع الموضوعي المأخوذ على نحو الصفتية.

قيام الامارة مقام القطع الطريقي :

هناك شبهتان :

١ ـ شبهة ابن قبة ومتفرعاتها في كيفية اجتماع الحكم الظاهري مع الواقعي مع كونهما متضادين أو فيه نقض الغرض أو تحليل الحرام وتحريم الحلال.

٢ ـ شبهة كيفية تخصيص قاعدة قبح العقاب بلا بيان العقلية مع أنّ الأحكام العقلية لا تقبل التخصيص ، والشبهة الأولى تبحث في مسألة كيفية الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري في مستهل مبحث الظن ، والثانية تبحث هنا لأنّها ترتبط بكيفية قيام الامارة مقام القطع الطريقي الذي هو المراد بالبيان والعلم في موضوع القاعدة العقلية المذكورة.

وحاصل الشبهة : أنّ الامارة إمّا أن تنجز الحكم الواقعي المشكوك أو تنجز حكماً آخر هو الحكم الظاهري ، الثاني غير معقول لأنّه خلاف كونه ظاهرياً. وليس هذا معناه قيامه مقام القطع الطريقي بل هو قطع وجداني بحكم آخر فيكون منجزاً ، والأوّل تخصيص للقاعدة العقلية وهو غير معقول.


وهذه الشبهة لا موضوع لها بناءً على مسلكنا من انكار القاعدة وارجاع المسألة إلى تحديد مقدار حقّ الطاعة كما هو موضّح في الكتاب.

وقد اجيب عليها في كلمات المحققين بجوابين :

الأوّل : ما هو ظاهر كلمات مدرسة المحقق النائيني 1 من أنّ الشارع يتصرف في موضوع القاعدة العقلية فيرفعها وذلك بجعل العلمية والطريقية والبيانية للامارة فيرتفع موضوع القاعدة العقلية ويتنجز الحكم الواقعي من دون مناقضة مع حكم العقل المذكور.

وهذا الجواب غير تام وذلك.

أوّلاً ـ لأنّه تارة يراد بجعل العلمية الحكومة والتنزيل واخرى الورود وايجاد فرد ومصداق من العلم والبيان وجداناً ، أمّا الأوّل فهو غير معقول هنا ، إذ لا يعقل التنزيل والحكومة إلاّبلحاظ أحكام المشرع نفسه لأنّ حقيقة التنزيل التوسعة أو التضييق في أحكام المشرع نفسه ، كما انّه لا يرفع الاشكال لأنّ روح الحكومة هو التخصيص والقرينة الشخصية والمفروض انّ الحكم العقلي غير قابل للتخصيص.

وأمّا الثاني فلأنّه إذا اريد ايجاد فرد من العلم الوجداني بالجعل المذكور فهو واضح البطلان لوضوح انّ العلم والبيان الحقيقي أمر تكويني لا يتحقق بمجرد الجعل والاعتبار ، وإن اريد ايجاد فرد اعتباري من العلم أي ما يراه ويسميه الشارع علماً ـ وقد سمينا ذلك بالحكومة الميرزائية الادعائية ـ فهذا قد ينفع في ترتيب الآثار المترتبة على العلم في لسان الشارع بلا حاجة إلى مؤنة التنزيل ـ ومنها تقدم الامارة على دليل الأصل المأخوذ فيه عدم العلم بهذا المعنى ـ ولكن


لا ينفع في رفع موضوع القاعدة العقلية والذي هو البيان والعلم الحقيقي ، فالمناقضة مع الحكم العقلي باقية على حالها.

وثانياً ـ النقض بالاصول العملية خصوصاً غير التنزيلية كأصالة الاشتغال الشرعية فإنّه لا اشكال في امكان جعلها شرعاً ، كما لا اشكال في كونها منجزة على تقدير جعلها بحيث لا تجري معها قاعدة قبح العقاب بلا بيان مع انّه ليس المجعول فيها الطريقية والعلمية وهذا يكشف عن أنّ روح الجواب غير مربوط بما هو المجعول في لسان دليل الحكم الظاهري وأنّ هذه المجعولات ليست إلاّ مجرد صياغات وألسنة اعتبارية لا يمكن أن يكون جواب الشبهة مرتبطاً بخصوصية فيها كما تصورت هذه المدرسة فتعاملت مع هذه المجعولات الصياغية الاعتبارية وكأنّها امور واقعية حقيقية غفلة عن انّ الجواب لابد وأن يكون مرتبطاً بروح الحكم الظاهري الالزامي مهما كانت صياغته الاعتبارية الانشائية فإذا كانت تلك الروح موجودة لم تجر القاعدة العقلية ولو لم يكن المجعول اعتبار العلمية والطريقية وإذا لم تكن موجودة فلا تجدي اعتبار العلمية.

الثاني : ما ذكره المحقق العراقي 1 فإنّه بعد أن التفت إلى الاشكال المتقدم على المحقق النائيني 1 وأنّ روح الجواب لا ترتبط بما هو المجعول الاعتباري بحسب ألسنة أدلّة الحكم الظاهري أجاب عن الشبهة بما يمكن ارجاعه إلى مقدمتين :

الاولى : انّ حقيقة الحكم الظاهري ـ على ما سوف يأتي في دفع شبهة ابن قبة عنده ـ ابراز الحكم والارادة الواقعية بانشاءات اخرى متأخرة عن الانشاء


الواقعي وأوسع منه حيث تشمل موارد الجهل التي قد لا يكون الحكم الواقعي ومباديه ثابتاً في بعضها فهي على اختلاف ألسنتها ابراز وطريق للأحكام الواقعية ولهذا تكون صورية في مورد عدم المصادفة وحقيقية في مورد المصادفة للواقع مبرزة لنفس تلك الأحكام والمبادئ ولهذا تكون العقوبة على مخالفة الواقع في موردها لا نفسها وهذا هو معنى طريقية الأحكام الظاهرية.

الثانية : لازم ما ذكر انّه حين قيام الحكم الظاهري الالزامي في مورد سوف يكون الحكم والارادة الواقعية للمولى واصلاً إلى المكلّف على تقدير المصادفة وهذا يعني انّ البيان تام على تقدير وجود الحكم في الواقع فلا موضوع للقاعدة العقلية لأنّ موضوعه عدم البيان على تقدير وجود الحكم وهو منتفٍ هنا ، إذ على تقدير المصادفة فالحكم الواقعي مبرز وواصل من خلال الانشاء الظاهري ، ولعلّ الوجه في انّه جعل موضوع القاعدة عدم البيان على تقدير المصادفة لا عدم البيان المطلق انّ العذر مانع ومخالفة الواقع مقتضي للعقوبة فتكون على تقدير المصادفة وهو معنى عدم البيان على تقدير المصادفة وأمّا على تقدير عدم المصادفة فلا مقتضي للعقوبة على الواقع ، نعم قد يعاقب عقاب التجري إذا كان هناك منجّز ، وهكذا يتضح انّه مع قيام الامارة بل كل حكم ظاهري الزامي يرتفع موضوع القاعدة حقيقة ووجداناً لأنّ موضوعها عدم البيان على تقدير المصادفة والمفروض انّ الحكم الظاهري بيان على تقدير المصادفة ، وهذا لعلّه أحسن من التعبير بما في الكتاب من انّه من الشبهة المصداقية للقاعدة.

وهذا البيان أيضاً غير فنّي ؛ لما ذكر في ردّه في الكتاب من أنّ المراد بالبيان هو العلم ، ومن الواضح انّه لا علم بالحكم الواقعي ، والحكم الظاهري ليس بنفسه منجزاً ، والعلم بالجامع بين حكم واقعي قابل للتنجيز وحكم ظاهري لا يقبل


بنفسه للتنجيز ليس منجزاً ، وهذا واضح. فالعبائر المذكورة ليست إلاّتلاعباً بالألفاظ.

والصحيح في الجواب على الشبهة ما في الكتاب.

وبما ذكر فيه يتبين انّ فذلكة الموقف في دفع الشبهة إنّما هو بما يبرزه الخطاب الظاهري من مرتبة الاهتمام المولوي بالملاكات الواقعية الالزامية بأي لسان كان الانشاء والجعل وانّه لا موضوع للقاعدة العقلية على القول بها في مورد العلم بالاهتمام المذكور من قبل المولى وأنّه كالعلم بالحكم الواقعي في نظر العقل ، ويترتب على ذلك الامور الثلاثة المذكورة في الكتاب.

ثمّ انّه قد يتوهم في مقام الاجابة على الشبهة انّ الموضوع للقاعدة العقلية هو عدم البيان بمعنى عدم الحجة على الحكم وبقيام الدليل على حجّية الامارة يتحقق فرد من الحجة حقيقة ووجداناً فيكون الرفع بالورود.

وفيه : إن اريد بالحجة مطلق المنجز رجعت قضية قبح العقاب ـ الذي يعني التأمين وعدم التنجيز ـ بلا حجة إلى قضية بشرط المحمول إذ يكون المعنى عدم التنجيز حيث لا يكون منجز وهو لغو باطل.

وإن اريد بالحجة المثبت والطريق إلى الواقع ـ حيث انّ الحجة هي الوسط الذي يثبت الأكبر للأصغر ـ فيقال بأنّ جعل الامارة حجة يرفع موضوع اللاحجة فهذا عبارة اخرى لما قاله الميرزا من انّ جعل الامارة علماً وبياناً يرفع موضوع اللابيان إذ الاثبات والطريقية والحجّية كلّها معانٍ مترادفة لها مصداق حقيقي ذاتي هو العلم وما يجعله الشارع لا يكون إلاّفرداً تعبدياً انشائياً له وهو لا يغير من الواقع شيئاً ولا يمكن أن يكون موضوع القاعدة مربوطاً بمجرد الاعتبار


والصياغة كما تقدم في ردّ الميرزا 1.

ثمّ انّه يناسب التعرّض هنا لعدة امور اخرى مرتبطة بمبحث قيام الامارات مقام القطع الطريقي :

١ ـ انّ مدرسة الميرزا 1 اعترضت على الشيخ الأعظم 1 حيث فسّر الحكم المجعول في الظاهري بأنّه تنزيل المؤدّى منزلة الواقع لا تنزيل نفس الامارة والظن منزلة العلم بأنّه محال لاستلزامه التصويب أو محذور التضاد مع الحكم الواقعي ، حيث قالت هذه المدرسة أنّ الامارة والظن لا يمكن تنزيله منزلة العلم الطريقي لعدم كون أثره وهو التنجيز والتعذير حكماً شرعياً ولا تنزيل المؤدّى منزلة الواقع رغم انّه حكم شرعي للزوم التصويب فلابد وأن يكون المجعول نفس اعتبار العلمية والطريقية وتتميم الكشف.

وفيه : انّ تنزيل المؤدى منزلة الواقع إنّما يلزم منه التصويب أو التضاد إذا كان التنزيل والحكومة واقعياً لا ظاهرياً وهذا واضح.

وعليه فكما يمكن أن يكون المجعول في حجّية الامارة جعل المنجزية والمعذرية لها وتنزيلها منزلة العلم في ذلك أو اعتبارها علماً كذلك يمكن أن يكون تنزيل مؤداها منزلة الواقع امّا بأن يكون المجعول عنوان التنزيل الانشائي أو نتيجة التنزيل وهو جعل الحكم المماثل ، نعم التنزيل بمعنى ترتيب آثار المنزل عليه ولو ظاهراً إنّما يعقل في الامارة على الموضوع لا الحكم في الشبهة الحكمية كما لا يخفى ؛ فتنزيل المؤدى منزلة الواقع معقول أيضاً غاية الأمر لابد لمثل مسلك الشيخ أن يبين وجه ارتفاع قاعدة قبح العقاب بلا بيان بهذا التنزيل.

والظاهر أنّه يرى الارتفاع من باب انّ العلم بالواقع التنزيلي التعبدي كالعلم


بالواقع الحقيقي رافع لموضوع القاعدة ، وقد عرفت أنّ الصحيح في ارتفاع موضوع القاعدة هو العلم بالمدلول التصديقي لدليل الحكم الظاهري الذي هو روحه المشتركة على جميع المسالك والأقوال فيما هو المجعول والصياغة الاعتبارية له وليس للمجعول الاعتباري وكيفيته أي دخل في ذلك.

٢ ـ ذكر الميرزا 1 في فوائد الاصول بأنّ التنجيز الذي هو أمر عقلي لا يرتفع إلاّ بالوصول والعلم بالواقع واحرازه امّا بنفسه ( كما في العلم الوجداني والامارات والاصول التنزيلية ) وامّا بطريقه ( كما في موارد جريان أصالة الاحتياط الشرعية ) ، وبهذا فرق بين باب الامارات والاصول التنزيلية الالزامية وبين الاصول غير المحرزة الالزامية ، وهذا أيضاً تأثر بعالم المجعول الاعتباري فكأنّ الذي يرفع موضوع القاعدة نفس الأمر الاعتباري الذي ينشئه المولى ، فإذا كان هو العلمية والكاشفية والمحرزية للواقع كان الواقع واصلاً للمكلف بنفسه ، وإن كان ايجاب الاحتياط أو الأمر بالاتباع كان الواقع غير واصل بنفسه بل بطريقه وهو الحكم الظاهري الذي جعل لحفظ الواقع.

وفيه : أنّ هذا عين المناقضة مع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ؛ إذ لا يكون الحكم الواقعي واصلاً في مورده لا بالعلم والطريق الوجداني ولا التعبدي فلابد إمّا من الالتزام بتخصيص القاعدة العقلية أو القول بكون العقوبة على مخالفة نفس الحكم الظاهري ، وهذا ما لا يلتزم به لأنّه خلف كونه حكماً طريقياً كما صرّح بذلك في أكثر من مورد.

والصحيح ما عرفت من انّ موضوع القاعدة ترتفع بشيء واحد في تمام موارد الأحكام الظاهري الالزامية وذلك الشيء أمر حقيقي تصديقي لا يرتبط بما هو المجعول الاعتباري في دليل الحكم الظاهري وهو روح الحكم الظاهري


ومباديه الحقيقية في نفس المولى المبرزة بأدلّة الأحكام الظاهرية على اختلاف ألسنتها وتلك الروح هي ترجيح المولى واهتمامه بأغراضه اللزومية في موارد الشك والاشتباه والتزاحم الحفظي ، فإنّ المكلّف إذا علم بذلك ارتفع موضوع اللابيان في القاعدة ؛ لأنّ موضوعها عدم العلم بالواقع وعدم العلم باهتمام الشارع به وأمره بحفظه في مورد الشك ، وهذا الأمر هو المدلول التصديقي المستكشف في تمام موارد الأحكام الظاهرية مهما كانت الصياغة لمجعولاتها الاعتبارية بل حتى لو لم يكن مجعول وإنّما كان لسان دليل الحكم الظاهري مدلولاً إخبارياً صرفاً عن اهتمام المولى وترجيحه لملاكاته اللزومية أيضاً ارتفع موضوع القاعدة.

ومنه يعرف عدم لزوم انشاء أمر في مورد الحكم الظاهري كما توهمه المحقق العراقي 1 ، وكأنّه لأنّه يرى الحكم الظاهري حقيقته الانشاء الطولي الصرف ولا مبادي لها ، فإذا فرض عدم الانشاء لها أيضاً لم يكن حكماً أصلاً. كما انّه لو فرض وجود انشاء ومجعول اعتباري فلا فرق من هذه الناحية بين صياغاتها المختلفة. نعم ، يوجد فرق بينها من احدى ناحيتين :

أ ـ مقدار الحكم الظاهري وسعته وضيقه بلحاظ الأحكام الواقعية ، فالأحكام الظاهرية المحرزة ـ سواءً الامارات أو الاصول ـ يترتب في موردها تمام الآثار الشرعية الواقعية المترتبة على ما أحرزه ذلك الحكم الظاهري ظاهراً ، فتكون الحكومة الظاهرية أوسع ، بخلاف أصالة البراءة أو الاحتياط الشرعية فإنّه حكم ظاهري بمقدار نفس الحكم الواقعي المشكوك لا آثاره والأحكام الاخرى المترتبة عليه ، فصحّة المعاملة مثلاً لا تثبت بالبراءة عن حرمة أكل الطعام المشكوك.


ب ـ من ناحية تقدم بعضها على بعض فإنّ هذا أيضاً مما قد يترتب على الألسنة المذكورة بنكات اثباتية سوف يأتي التعرض اليها في محالّها.

٣ ـ في تحقيق ما هو المستفاد من أدلّة حجّية الامارات وأنّه جعل الطريقية والعلمية أم غير ذلك.

قد يقال : بأنّه لا ينبغي الاشكال في ذلك بناءً على مسلك الميرزا من عدم معقولية غير جعل الطريقية من جعل المنجزية أو التنزيل منزلة العلم أو تنزيل المؤدّى والحكم الظاهري حيث يتعين ذلك ثبوتاً ولو لم يكن عليه قرينة اثباتاً.

وفيه : مضافاً إلى بطلان المسلك كما تقدم لابد من وجود قرينة على ذلك اثباتاً وإلاّ احتمل أن يكون المجعول فيه الجري العملي والاحراز الثابت في الاصول المحرزة أو مجرد الأمر بالاتباع كحكم تكليفي طريقي كما في الاصول غير المحرزة ، فمجرد عدم معقولية جعل المنجزية أو التنزيل لا يعين ما ذكره الميرزا حتى على مسالكه.

والذي يستظهر من كلمات مدرسة المحقق النائيني المؤسس لهذا المسلك في اثبات انّ المجعول في الامارات هو الطريقية والعلمية وتتميم الكشف انّ مهم الدليل لنا على حجّية الامارات هو السيرة العقلائية وامّا الأدلّة اللفظية فهي ارشادية أو امضائية والعقلاء ليست لهم أوامر وتكاليف كالشارع ليكون المجعول عندهم ذلك ، أو يكون المجعول هو التنزيل أو المنجزية والمعذرية لأنّها فرع وجود تكاليف مولوية وهي مفقودة ، بل قد عرفت انّ المنجزية والمعذرية حكم العقل ولا يعقل التنزيل بلحاظها ولا جعلها من قبل العقلاء وإنّما المعقول اعتبار


الامارة علماً وتعامل العقلاء مع الامارة كالعلم والاطمئنان كاشف عن اعتباره علماً وكشفاً تاماً.

وقد ناقش السيد الشهيد 1 في الدورة السابقة في هذا الاستدلال من وجهين :

١ ـ أنّ العقلاء في أغراضهم بما هم موالي أي في المولويات العقلائية لهم تكاليف وأوامر أيضاً ، نعم العقلاء في أغراضهم التكوينية ليس لهم ذلك ، إلاّ أنّ المراد بالسيرة العقلائية التي نتمسك بها في الفقه أو الاصول إنّما هو سيرتهم في أغراضهم بما هم موالي على ما سوف يقع البحث عنه مفصلاً فيما يأتي.

٢ ـ انّ غاية ما يستفاد من الرجوع إلى السيرة العقلائية إنّما هو عملهم وترتيبهم لآثار الواقع في موارد الامارات امّا هل انّ ذلك باعتبار انهم جعلوه علماً أو لمجرد الجري العملي على طبقه فلا يمكن احراز ذلك خارجاً ، وما ادعي من أنّ العقلاء يتسامحون ويرون الامارة كالعلم ممنوع خصوصاً في الامارات التي يكثر مخالفتها للواقع كالظهورات بل ولا يفيد حتى في الامارات القوية كالاطمئنان لأنّ هذا النظر اخباري وليس انشائياً ، فلعلّه من جهة الخطأ في التطبيق وهو لا يناسب النظر الانشائي وهو جعل الطريقية والعلمية الاعتبارية ، وما دام لا يوجد جعل ونظر انشائي عقلائي كذلك لا يمكن الوصول إلى جعل الطريقية والعلمية شرعاً من دليل الامضاء كما هو واضح.

إلاّ أنّ المستظهر من كلمات السيد الاستاذ 1 في الدورة الثانية الميل إلى صحة ما ذكره الميرزا 1 باعتبار أنّ جعل العلمية والطريقية هي أفضل صيغة ذوقية وعقلائية متناسبة مع نكتة وملاك حجّية الامارات وهو الترجيح على


أساس قوّة الكشف محضاً ، فإذا فرض وجود تشريع عقلائي في مورد الامارات عند العقلاء فالمتعيّن بحسب الذوق العقلائي أن يكون هو جعل العلمية والطريقية.

وإن شئت قلت : حيث انّ العقلاء يرون حجّية الامارات حتى في موارد يلتفتون فيها إلى أنّها ليست علماً لا حقيقة ولا مسامحة ، ومع ذلك يحكمون بحجيتها واعتبارها كالعلم ، وحيث أنّ للعقلاء أحكاماً وانشاءات اعتبارية ولو لنظم امورهم كما في موارد المعاملات العقلائية والأحكام والسياسات ، وحيث انّ أفضل صيغة لذلك هو جعل العلمية والطريقية فلا محالة نستكشف جعل الطريقية والعلمية للامارات وهو معنى النظر الانشائي الاعتباري لهم فيكون امضاء الشارع لذلك معناه جعلها لدى الشارع أيضاً وعندنا وإن لم يكن الجعل ضرورياً ولازماً ، إلاّ أنّه ثابت لدى العقلاء نوعاً كما في أبواب المعاملات ونحوها ، بل أصل الالتزام بوجود مرحلة للأحكام اسمها الجعل والمجعول مبني على الطريقية العقلائية والأدلّة الشرعية إنّما يستظهر منها ذلك باعتبار انّ الشارع يسير وفق هذه الطريقة وليست له طريقة جديدة ، فإذا أنكرنا طريقة الجعل لدى العقلاء في مورد بناءاتهم العقلائية لانسدّ باب استكشاف الجعل في تمام الموارد.

وهكذا يصحّ ما ذهب إليه الميرزا 1 بذوقه وحسّه العقلائي السليم من انّ المجعول في باب الامارات العقلائية الطريقية والعلمية.

ولعلّ ما ورد في لسان بعض الروايات الدالة على حجّية خبر الثقة من التعبير بأنّه « لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما روى عنّا ثقاتنا قد عرفوا بأننا


نفاوضهم بسرّنا » أو التعبير بأنّ فلاناً ثقة مأمون خذ عنه معالم دينك أو التعبير بأنّهم حجتي عليكم يناسب أيضاً أن يكون المجعول العلمية والمحرزية والاصابة للواقع.

ص ٧٩ قوله : ( قيام الامارة مقام القطع الموضوعي المأخوذ على وجه الطريقية ... ).

أشكل في إمكانه ثبوتاً لا من حيث نفسه لوضوح انّ أثر القطع الموضوعي شرعي يمكن توسيعه أو تضييقه من قبل الشارع بل في إمكان استفادة ذلك من نفس دليل حجّية الامارة ، وينبغي أن يعرف منذ البداية انّ البحث مبني على أخذ العلم بعنوانه في موضوع دليل القطع الموضوعي على وجه الطريقية ، وامّا إذا كان الموضوع مطلق الحجة ، أو المنجز والمعذر فلا اشكال في قيام الامارة بل مطلق المنجز والمعذر حتى العقلي ـ على التقدير الثاني ـ مقام القطع في ترتيب ذلك الأثر الموضوعي ؛ لأنّ الموضوع ليس هو القطع وإنّما هو الأعم من أوّل الأمر فلا حاجة إلى تنزيل أصلاً.

وقد ذهب الشيخ 1 إلى امكان الاستفادة المذكورة ولو بالتمسك باطلاق أدلّة جعل الحجّية للامارة ، وخالف في ذلك صاحب الكفاية 1 ، مدعياً استحالته الثبوتية ، وحاول المتأخرون عنه حلّ الاستحالة المذكورة ، ومن هنا اتجهت أبحاثهم كلها نحو البحث الثبوتي ، غافلين عن البحث الاثباتي ، وكأنّ فرض الامكان الثبوتي يكفي وحده للاستفادة الاثباتية من دليل الحجّية.

وأيّاً كان فالاشكال الذي وجهه المحقق الخراساني 1 في المقام يمكن


تقريبه بأحد أنحاء ثلاثة (١) :

١ ـ ما هو ظاهر كلامه من انّ قيام الامارة مقام القطع الموضوعي بحاجة إلى التنزيل لا محالة فيكون قيامها مقام الطريقي والموضوعي معاً متوقفاً على تنزيلها منزلة كلا القطعين ، وهذا التنزيل إذا كان بين المؤدى والواقع كان القطع ملحوظاً آلياً ومرآتياً وإذا كان بين الظن والقطع نفسيهما كان القطع ملحوظاً بالاستقلال وفي نفسه مع قطع النظر عن مؤداه والجمع بين اللحاظين محال ولا مفهوم جامع لمثل المظنون والظن والمقطوع والقطع ليقع التنزيل عليه ليفي بالأمرين.

وهذا التقريب جوابه ما في الكتاب ص ٨٠ و ٨١ تحت عنوان ( ٢ و ٣ ).

__________________

(١) لعلّ الأنسب ترتيب البحث بنحو آخر بأن يقال : انّ الوجوه التي ذكرت لتصحيح قيام الامارة مقام القطع الموضوعي المأخوذ على نحو الطريقية من دليل الحجّية أحد بيانات ثلاثة :

١ ـ ما ذكره الشيخ من إطلاق التنزيل ثمّ يذكر اشكال المحقق الخراساني عليه بالاستحالة بتقريباته مع أجوبتها.

٢ ـ ما ذكره الميرزا من جعل الطريقية واعتبار العلمية وهو غير التنزيل ، ثمّ يجاب عليه بما في الكتاب من عدم معقولية ذلك ما لم يرجع إلى التنزيل. ثمّ يجاب على كلا البيانين ـ بيان الشيخ وبيان الميرزا ـ باشكالين اثباتيين للسيد الشهيد مشتركي الورود على البيانين ، وهما انّ دليل الحجّية لبّي وهو السيرة ، ولا لسان لها ليتمسك باطلاقه أو ظهور ، والمتيقن منه قيام الامارة مقام القطع الطريقي ، ولو فرض دليل لفظي تأسيسي على حجّية امارة فأيضاً لا نظر لها لأكثر من جعل الحجّية بلحاظ المؤدي أي قيامها مقام القطع الطريقي بل الجمع بين الأمرين أشبه بالجمع بين مدلول اخباري وانشائي ، وهو خلاف الظاهر في دليل واحد.

٣ ـ ما ذكره المحقق الخراساني لتصحيح بيان الشيخ من استفادة ذلك بالدلالة الالتزامية لدليل الحجّية مع مناقشاته.


٢ ـ انّه يلزم من تنزيل الظن منزلة القطع في الأثرين الجمع بين الكناية والصراحة في مرحلة المدلول الاستعمالي وهو خلاف الظاهر ، بل والطبع العرفي واللغوي جداً ؛ لأنّ تنزيله منزلة القطع الطريقي في الأثر الشرعي يعني تنزيل مؤداه أي المظنون منزلة الحكم المقطوع به فيكون ذلك الظن والقطع كناية عن المظنون والمقطوع به.

وقد أشكل عليه الاصفهاني بعدم الملازمة المصححة للكناية. ويمكن دفعه بأنّه يكفي الطريقية وكون القطع مرآتاً في نظر القاطع وملازماً دائماً مع المؤدى لصحة الكناية ، وبهذا يصبح الاشكال اثباتياً لا ثبوتياً كالتقريب السابق.

وهذا يرد عليه : الاشكال الثاني من الاشكالات الثلاثة في الكتاب ؛ إذ لو صحّ التنزيل بلحاظ الحكم العقلي بالمنجزية والحكم الشرعي معاً كان الاستعمال من دون كناية بلحاظ كلا الأثرين كما هو واضح.

٣ ـ لزوم اختلاف سنخ المدلول التصديقي لدليل واحد وهو خلاف الظاهر عرفاً كالجمع بين مدلول اخباري وآخر انشائي في دليل واحد ولو كان المدلول الاستعمالي واحداً فيكون المحذور بلحاظ عدم عرفيته كما هو مبيّن في الكتاب.

وهذا اشكال اثباتي متين مشترك الورود كالاشكال الأوّل على بيان الشيخ ـ التمسك باطلاق دليل الحجّية والتنزيل ـ وبيان الميرزا ـ بناءً على جعل العلمية بنحو الحكومة لا الورود ـ معاً وما في هامش الكتاب من امكان الجمع بين المدلولين في لسان واحد لو فرض كان من الجمع بين المدلولين صريحاً وبالنظر اليهما معاً ، وهذا لا ينافي كونه خلاف ظاهر أدلّة جعل الحجّية ؛ إذ ليس المدّعى


عدم امكان التصريح بالجمع في عنوان انتزاعي ، وإنّما المدّعى انّه خلاف ظاهر الخطابات العامة والتي منها أدلّة الحجّية العامة.

ومدرسة الميرزا قد عالجت اشكال الاستحالة بأنّ المجعول نفس الطريقية واعتبار ما ليس بعلم علماً لا التنزيل ، وهو حكم واعتبار واحد يرتّب كلا أثري القطع على الامارة.

ويرد عليه : ما في الكتاب من انّه إن كان بنحو الحكومة التنزيلية فيعود المحذور ، وإن كان بنحو الورود ـ الحكومة الميرزائية ـ ففيه محاذير اخرى مذكورة في الكتاب.

مضافاً إلى ورود اشكالين اثباتيين : أحدهما : ما ذكر في التقريب الثالث لمطلب المحقق الخراساني ، والآخر : الاشكال في أصل المنهجة وأنّ الدليل على الحجّية لبّي فلا يستفاد منه أكثر مما هو المتيقن ، وهو قيام الامارة مقام القطع الطريقي ، بل أساساً لا توجد للعقلاء أحكام وتشريعات يكون القطع موضوعاً لها.

وقد يناقش فيما أفاده السيد الشهيد 1 في المقام بأنّ الميزان عندنا في حجّية السيرة والتمسك بها هو استكشاف امضاء الشارع للنكتة والارتكاز الذي تقوم عليه السيرة لا خصوص المقدار الخارجي من عمل العقلاء ، فإذا فرض انّ العقلاء كانوا يرون الامارة علماً ولو في مورد القطع الطريقي دون الموضوعي لعدم وجود أحكام للقطع الموضوعي عندهم فذلك لا يضرّ بقيامها مقامه في القطع الموضوعي أيضاً ولو كان مصداقه لدى الشارع لا العقلاء.

وفيه : أوّلاً ـ هذا إنّما يعقل إذا فرض وحدة النكتة والملاك ، وقد عرفت انّ


عنوان جعل العلمية والطريقية للامارة وإن كان واحداً في عالم الجعل والصياغة لكنه بحسب الروح ما هو مفاده في مورد القطع الطريقي غير مفاده في مورد القطع الموضوعي ، إذ الأوّل حكومة ظاهرية وسنخ مدلول اخباري بملاك ترجيح الأهم من الملاكات الواقعية المتزاحمة ، بينما الثاني حكومة واقعية وسنخ مدلول انشائي حقيقي له مبادئ واقعية ، فالنكتة ليست واحدة ليستكشف امضاءها في الموردين.

وثانياً ـ انّ هنا اشكالاً أعمق مما أفاده السيد 1 يتم حتى إذا فرض وجود آثار عقلائية مترتبة عندهم على القطع الموضوعي بشيء وأنّهم يرتبون ذاك الأثر في مورد الامارة أيضاً وهو انّ هذا لعلّه من جهة انّ موضوع ذاك الحكم هو مطلق الحجة لا القطع بعنوانه ؛ لأنّ هذه الحكومة واقعية ثبوتاً كما قلنا ، وتعني أنّ موضوع ذاك الحكم هو الأعم والحكومة لا تكون في الأدلّة اللبية والسيرة بل هي خصوصية لسانية تختص بالأدلّة اللفظية ، فلا يمكن أن يستفاد من امضاء هذه السيرة شرعاً أكثر من مفادها ، وهو انّه كلما كان الأثر الشرعي موضوعه مطلق الحجة والدليل المعتبر قامت الامارة مقامه.

إلاّ أنّ هذا ـ كما ذكرنا في مستهل البحث ـ خارج عن مسألة قيام الامارة مقام القطع الموضوعي ، وغير مربوط بدليل الحجّية ، بل بدليل ذاك الأثر الذي اخذ في موضوعه مطلق الحجة لا القطع.

وإن شئت قلت : انّ استفادة قيام الامارة مقام القطع الموضوعي من دليل الحجّية مجرد نكتة اثباتية لا ثبوتية ؛ لأنّه بحسب عالم الثبوت لا محالة يكون الموضوع لذلك الأثر هو الأعم ، لاستحالة الاهمال فيه ، والنكات الاثباتية


لا معنى لاستفادتها بالسيرة العقلائية ، والأدلّة اللبية التي ثبوتها عين اثباتها فأصل الاستعانة بالسيرة لاثبات قيام الامارة مقام القطع الموضوعي خاطىء منهجاً.

ثمّ إنّ المحقق الخراساني 1 حاول في حاشيته على الرسائل أن يعالج الاشكال الذي أثاره من استحالة الجمع بين اللحاظين بأنّ المجعول في دليل الحجّية تنزيل المؤدّى فقط منزلة الواقع ، ولكن تتشكل في طول ذلك دلالة التزامية على تنزيل القطع بذلك الواقع التنزيلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي في الآثار فتقوم الامارة مقام القطع الموضوعي لا باعتبار نفسها بل باعتبار القطع بمؤداها التنزيلي ، فإنّه يكون كالقطع بالواقع.

ثمّ أشكل عليه في الكفاية بأنّه تكلّف بل تعسّف ، وشرحه باستحالة ذلك ؛ إذ لا يمكن أخذ أحد التنزيلين في طول الآخر بلحاظ جزئي موضوع حكم واحد.

ومن هنا انفتح البحث عن امكان الطولية في التنزيل بلحاظ جزئي موضوع حكم واحد ، وهذا بحث كلي ثبوتي مستقل ؛ وفيما يلي نبحث في ثلاث نقاط :

النقطة الاولى : في التعليق على كلام الحاشية في نفسه مع قطع النظر عن الاثارة الثبوتية عليه من الكفاية.

النقطة الثانية : في إمكان الطولية في التنزيل بلحاظ جزئي موضوع حكم واحد في نفسه.

النقطة الثالثة : في الطولية المدعاة في التنزيل في المقام ، أي في باب القطع الموضوعي.


أمّا النقطة الاولى من البحث : فليس فيه كلام زائد على ما في الكتاب ص ٩٣ ، والذي هو كلام يقود إلى مرحلة الاثبات. نعم ، بالنسبة للاشكال الثالث قال السيد الشهيد 1 انّه يرد عليه بعض ما قلناه على استفادة الحاشية ، ويمكن أن يكون مقصوده ما يلي :

أوّلاً ـ ما تقدم بعنوان أوّلاً من أنّ الدلالة الالتزامية العقلية للاطلاق على أساس دفع اللغوية ودلالة الاقتضاء غير تام. وإنّما اللغوية لو فرضت توجب عدم انعقاد الإطلاق ؛ لأنّه مقيد بوجود الأثر العملي ، والملازمة العرفية فرع ورود الدليل في المورد ـ أي مورد البراءة الشرعية ـ ولا يفي به الإطلاق فإنّه ليس جمعاً للقيود.

وثانياً ـ أساساً لا لغوية في رفع البراءة شرعاً من دون جعل المنجزية حتى عرفاً ، بل يحال إلى حكم العقل من حق الطاعة أو البراءة العقلية أو الاحتياط العقلي في كل مورد بحسبه ، وهذا أثر عملي مهم ولكنه غير حجّية تلك الامارة وقيامها مقام القطع الطريقي كما هو واضح.

وأمّا البحث في النقطة الثانية : فالاشكال الثبوتي يمكن تقريبه بأحد نحوين :

النحو الأوّل : بصياغة لزوم الدور بملاك اللغوية ، امّا في الدلالة أو في المدلول كما هو مشروح في الكتاب.

ويرد عليه : أوّلاً : النقض بالتنزيلين العرضيين. وثانياً : بأنّ دفع اللغوية لا يتوقف على الوجود الفعلي للآخر بل الوجود التقديري أي على تقدير ثبوت الأوّل وصدق الشرطية لا يستلزم صدق طرفيها فلا دور.


النحو الثاني : بصياغة أدق وأمتن وهو انّ التنزيل الأوّل إذا كان لحكم ثابت على الجزء الأوّل مستقلاً فالمفروض عدمه وإن كان بلحاظ نفس الحكم المترتب على الجزئين فيلزم تحقق التنزيل الواحد في رتبتين وتقدم الشيء على نفسه بل توقفه عليه وهو محال فلابد من عرضية التنزيلين.

وإن شئت قلت : انّ الطولية تستلزم تعدد التنزيل وكون أحدهما في طول الآخر بل متأخراً عنه ومتوقفاً عليه ، وكون الحكم المنزل واحداً لمجموع الجزئين التنزيلين يستلزم وحدة التنزيل فهو خلف التعدد فضلاً عن كونه في رتبتين أو متوقفاً على نفسه ، فإنّ هذا كلّه محال في الحكم الواحد.

والجواب الفني العام : أنّ هذا الاشكال إنّما يرد إذا اريد التنزيل والاسراء الحقيقي من التنزيل مع أنّ التنزيل أمر اثباتي صرف لا ثبوتي ، فهو لسان من ألسنة بيان سعة الحكم أو تقييده فلا مانع من تعدد التنزيل في جزئي موضوع حكم واحد عرضياً كان أو طولياً إذ ليست الطولية في عالم الثبوت إذ لا تنزيل ولا اسراء ثبوتاً بل في عالم الثبوت ليس إلاّثبوت الحكم على الموضوع العام بتمام مصاديقه في عرض واحد ولا يعقل فيه اسراء وتنزيل ، وهذا معناه انّه كما يمكن بيان ذلك بالتنزيلين العرضيين كذلك يمكن بيانه بالتنزيلين الطوليين كما في المقام لو تمت ملاك الدلالة الالتزامية في كلام الحاشية.

نعم ، لو كان المراد من الطولية بيان انّ ثبوت الحكم على أحد الجزئين في طول ثبوته على الجزء الآخر ـ والثبوت الواقعي حيثية ثبوتية ـ كان محالاً إلاّ أنّه لا وجه لحمل الدليل الطولي على ذلك بل يمكن أن يحمل على الثبوت اللولائي كما في التنزيلين العرضيين.


وإن شئت قلت : يكون إطلاق التنزيل في المؤدى ثابتاً كحيثية إثباتية لا ثبوتية وكتنزيل وتعبد عنواني اعتباري فيحصل العلم بالواقع التعبدي والتنزيلي فينزل منزلة العلم بالواقع الحقيقي مع قطع النظر عن اشكال أخذ العلم في موضوع شخص الحكم الذي يختص بالمقام أي بالبحث في النقطة الثالثة ـ وسنشير إلى حكمه ـ ويكون المدلول الجدّي من وراء هذا الأمر الاعتباري عموم الحكم وشمول موضوعه للجزئين التنزيليين كالجزئين الواقعيين من دون الابتلاء بمحذور ثبوتي ، وهذا هو المقصود من انّ هذا مجرّد صياغة اثباتية لا يشكل محذوراً ثبوتياً.

والمحقق العراقي 1 حاول الاجابة بما في الكتاب وهو جواب كلي على الاشكال كأصل الشبهة مع الاشكالات الثلاثة عليه وثالثها يختص بهذا البحث بالخصوص ، أي بالنقطة الثالثة من البحث.

وقد يقال : انّ كلاً من جوابنا وجواب المحقق العراقي ينفع في دفع اشكال تعدد التنزيل مع وحدة الحكم ؛ ولا ينفع في دفع اشكال استحالة الطولية بينهما بأن يكون موضوع أحد التنزيلين متوقفاً على فعلية التنزيل الآخر ، لأنّ فعلية التنزيل الآخر بلحاظ مدلوله الجدي ـ بناءً على تقريبنا ـ وبلحاظ القضية الشرطية ـ بناءً على بيان المحقق ـ لا يكون إلاّبتحقق الجزء التنزيلي الآخر وإلاّ كان لغواً ومجرد اعتبار انشائي لا تنزيل حقيقي ، فالمحقق أيضاً يقبل بأنّ التنزيل منزلة الجزء في القضية والحكم التعليقي لا يكون وحده وبلا تنزيل الجزء الآخر بل يكونان معاً.

وإن شئت قلت : انّ الغرض الجدي والنهائي منه لابد وأن يكون ترتب الحكم


الفعلي لأنّه المنجز والمعذّر لا التعليقي ، فإذا كان الجزء الثاني متوقفاً على ترتب الحكم الفعلي كان من توقف الحكم على نفسه بلحاظ هذا الحكم الفعلي.

ولكن الجواب : انّ هذا هو اشكال اللغوية والذي تقدم انّه يكفي في دفعها الثبوت التعليقي على تقدير ثبوت الآخر بنحو القضية الشرطية ، فلا لغوية في تنزيل الجزء الأوّل بلحاظ القضية الشرطية ليتحقق موضوع التنزيل في الجزء الثاني فيترتب الحكم الفعلي في طول ذلك. هذا على تقريب المحقق ، وأمّا على تقريبنا فيقال : بأنّ الطولية في الجزء الثاني تكون بلحاظ نفس التنزيل للجزء الأوّل كخصوصية اثباتية أو كخصوصية ثبوتية بنحو جزء الموضوع ، أي في طول ثبوت القضية الشرطية وهي ترتب الأثر والتنزيل على تقدير الجزء الأوّل.

فالحاصل : إن كان الاشكال من ناحية انّ الحكم الواحد لا يتحمل تنزيلين طوليين من حيث الدلالة فجوابه هو الجواب الأوّل في الكتاب ص ٩٠ ، وإن كان الاشكال من ناحية الطولية في المدلول واستحالة أن يكون التنزيل بلحاظ أحد جزئي موضوع حكم واحد في طول تنزيل جزئه الآخر في شخص ذلك الحكم للزوم تقدم جزء الموضو على حكمه فهذا جوابه هو الجواب الثاني في الكتاب من انّ جعل التنزيل الثاني لا يتوقف على أكثر من فرض تحقق التنزيل في المؤدى وفرض العلم به. نعم ، هذا يلزم منه محذور أخذ العلم بالحكم الواحد في موضوعه ، وجوابه بأخذ العلم بالكبرى والصغرى لا الحكم الفعلي.

النقطة الثالثة : في امكان التنزيلين في المقام بالنحو المذكور في الحاشية. وهنا يوجد اشكالان بحسب الحقيقة :

الأوّل : اشكال الطولية من ناحية أخذ أحد التنزيلين في موضوع التنزيل


الآخر ، وقد عرفت جوابه.

والثاني : لزوم أخذ القطع بالحكم في موضوعه ، إذ الجزء الثاني في المقام هو القطع بالواقع التنزيلي ، وحيث يراد منه القطع بترتب شخص ذلك الحكم والأثر لزم أخذ القطع بالحكم في موضوعه ، وهذا جوابه ينحصر بما ذكرناه أخيراً من أخذ العلم بالكبرى والصغرى لا الحكم الفعلي الجزئي في الخارج ، ولا يتم فيه جواب المحقق العراقي ؛ لأنّ المراد بالقطع بالواقع التعبدي القطع بترتب الأثر الشرعي لا مجرد التنزيل الذي هو أمر اثباتي أو الحكم المعلّق على الجزء فإنّه ليس واقعاً تعبدياً كما هو واضح.

ثمّ انّ هنا ملاحظات في هذه النقطة على اشكال الكفاية بعضها ثبوتية وبعضها اثباتية كما يلي :

١ ـ انّه لا طولية ولا أخذ للعلم بالحكم في موضوع نفسه في المقام بحسب الدقة لأنّ تنزيل المؤدى تنزيل ظاهري وليس واقعياً ، بخلاف تنزيل القطع بالواقع التنزلي فلا طولية بلحاظ حكم واحد بل بين حكمين وتنزيلين بحسب الحقيقة كما هو مشروح في الكتاب.

٢ ـ ويتفرّع على الانتباه إلى ما ذكر أن تكون الطولية بالعكس أي انّ تنزيل المؤدّى منزلة الواقع فرع تنزيل القطع بالواقع التنزيلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي لأنّ التعبد الظاهري فرع الشك في الحكم والأثر وهو فرع عدم العلم بانتفاء الأجزاء الاخرى للموضوع ، وحينئذٍ يحصل اشكال آخر وهو لزوم الدور بين نفس الجزئين حيث انّ التنزيل الظاهري فرع الشك وهو متوقف على عدم العلم بانتفاء الجزء الآخر للموضوع وهو فرع العلم بالواقع التنزيلي الظاهري وهو


فرع ثبوت الواقع التعبدي الظاهري وحلّه بما تقدم من انّ الجزء الثاني هو العلم بالجعل أو نفس الظن أو أي أمر ملازم آخر.

٣ ـ إنّ المدلول الالتزامي سواءً كان بملاك الملازمة العرفية أو العقلية ودلالة الاقتضاء لا وجه لجعله عبارة عن القطع بالواقع التنزيلي بالفعل أي بنحو القضية الفعلية بل القطع به بنحو القضية الشرطية أو الشأنية ـ الذي ليس فيه طولية ـ كما أشرنا فإنّ هذه الحيثية مفهومة عرفاً كما انّ دلالة الاقتضاء تقتضيه أيضاً ، ولو فرض التنزل عن ذلك فبما في الكتاب من ملاحظة مورد يكون فيه الواقع تمام الموضوع لأثر آخر فيتحقق القطع بالواقع التنزيلي بقطع النظر عن إطلاق التنزيل بلحاظ الأثر المترتب على القطع ـ سواءً كان تمام الموضوع أو جزئه فلا وجه لتقييده بما إذا كان تمامه كما في الكتاب ـ فيكون التنزيلان عرضيين ، وإذا كان القطع تمام الموضوع كان هناك تنزيل واحد بلحاظ القطع الموضوعي ، فلا محذور. وإذا كان جزء الموضوع كان هناك تنزيلان بلا توقف أحدهما على الآخر.

هذا بناءً على عرفية الملازمة ، وبناءً على عقليتها فباعتبار انّ دلالة الاقتضاء إذا قبلناها تكشف عن أخذ نفس الأمارة والظن جزءً ثانياً منزلاً منزلة القطع بالواقع الحقيقي.

فالحاصل بناءً على قبول أصل الملازمة بأحد الملاكين ففرض وجود محذور ثبوتي في طولية التنزيلين لا يقدح في أصل المطلب وإنّما يغير صياغته بما لا يكون محالاً.

٤ ـ انّ موضوع التنزيل الظاهري حيث يكون الشك في الحكم فلا موضوع


لكلام الحاشية ودلالة الاقتضاء إذ من دون فرض تحقق الجزء الثاني لا شك في عدم الحكم في مورد قيام الامارة على عدالة زيد مثلاً وإنّما يتحقق موضوع للمدلول المطابقي لدليل حجّية الامارة إذا كان الجزء الثاني متحققاً وواضح انّ الجزء الثاني الحقيقي وهو القطع بالواقع الحقيقي لا يعقل تحققه مع الشك الذي هو موضوع التنزيل فلابد من فرض التنزيل الثاني ليتحقق الشك الذي هو موضوع التنزيل الأوّل ـ ولو بتنزيل العلم بالجعل أو تنزيل نفس الامارة منزلة القطع بالواقع ـ وهذا معناه انّه لا موضوع لدلالة الاقتضاء هنا حيث انّ موضوعه ثبوت الإطلاق في المرتبة السابقة غاية الأمر يكون لغواً من دون ثبوت المدلول الالتزامي بينما هنا صار أصل الإطلاق متوقفاً عليه فاثباته به واضح الفساد ، ولا يمكن أن يقول به أحد.

بل لو كان المدلول الالتزامي عبارة عن تنزيل القطع بالجعل صغرى وكبرى منزلة القطع بالواقع أيضاً لم يتحقق الإطلاق لعدم القطع بالصغرى وهو الشك بحسب الفرض بل يقطع بالعدم ففيه مخالفة مع المناسبة المذكورة للمدلول الالتزامي الأوّل.

هذا على فرض كون الملازمة عقلية وبدلالة الاقتضاء ، وأمّا إذا كانت عرفية فيتم بأحد النحوين المتقدمين أي امّا بتقريب كون الواقع له أثر مستقل فيتحقق القطع بالواقع التنزيلي مع قطع النظر عن إطلاق دليل الحجّية فيتم بلحاظ الأثر الموضوعي للقطع إذا كان جزء موضوعه وإلاّ فالأمر أوضح. وامّا بتقريب انّ المنزل منزلة القطع بالواقع هو القطع بالجعل الظاهري والقطع بفعليته على تقدير تحقق هذا التقدير لا بالفعل أي القطع بحجيته في نفسه وشأناً.


لا يقال : هذه الدلالة الالتزامية العرفية فرع إطلاق المدلول المطابقي للمؤدى والمفروض أخذ الشك فيه فلا موضوع لها بالتقريب الثاني.

فإنّه يقال : الملازمة العرفية مع أصل الجعل في المدلول المطابقي لا مع إطلاقه كما لا يخفى.

نعم ، لو جعلنا اللازم العرفي هو تنزيل العلم بالكبرى أو الصغرى التي هي الشك لم يتم هذا التقريب ، وأيّا ما كان فأصل المسألة غير عرفية كما اشير إليه في الكتاب.

ثمّ انّ صاحب الدرر حمل أصل الملازمة المدعاة في الحاشية على انّ تنزيل المؤدى منزلة الواقع يوجب كون العلم به علماً بالواقع مسامحة نظير موارد خفاء الواسطة واثبات آثار المقيد باستصحاب القيد وبالامارة حيث يكون الموضوع هو المقيد بالجامع بين القيد الواقعي أو القيد التعبدي. ثمّ أشكل عليه بأنّ هذا فرع الملازمة بين العنوانين كما في مائية هذا المائع وكريته فإنّ لازم كونه كراً ولو بالتعبد أنّ هذا الماء كرّ وهذا لا يتم في المقام ، إذ ليس لازم خمرية شيء واقعاً أنّ العلم به علم بخمريته بل لابد من تعلق العلم بعنوان الخمرية وكأنّه يريد بيان انّ الموضوع ليس هو المقيد بالجامع من القيد الواقعي والتعبدي بل خصوص المقيد بالقيد الواقعي ، غاية الأمر الامارة أو الأصل يثبت المقيد المذكور إذا كانت الملازمة واقعية فيترتب الأثر.

وأنت تعلم بأنّ هذا التفسير خلاف مرام صاحب الكفاية 1 ، فإنّه لا يريد اثبات العلم بالواقع تعبداً الذي تكون نتيجته الحكومة الظاهرية واثبات الأثر بالتعبد بل هذا غير معقول في نفسه ، لأنّ العلم بالواقع الحقيقي إن لم يكن


موجوداً فيقطع بعدمه ومعه لا معنى للوجود التعبدي له فإنّه يعقل بلحاظ الامور الواقعية لا العلمية. وإنّما يريد اثبات انّ العلم الوجداني بالواقع التعبدي كالعلم بالواقع الحقيقي من حيث موضوعيته لذلك الأثر فتكون الحكومة بلحاظ هذا الجزء واقعية لا ظاهرية وهذا لا يكون إلاّباستفادة تنزيل آخر واقعي ، ومن دونه لا يمكن ترتيب الأثر الموضوعي حتى إذا قلنا بأنّ الموضوع هو المقيد بالجامع بين القيد الواقعي والتعبدي لأنّ الجزء الأوّل وهو القطع بالخمرية غير موجود في المقام ووجوده يساوق تحقق كلا الجزئين.

ومن مجموع ما تقدم اتضح انّه لا يمكن استفادة قيام الامارات مقام القطع الموضوعي من دليل الحجّية سواءً على مسلك جعل الطريقية أو مسلك التنزيل ، بل قد عرفت انّ مهم الدليل على الحجّية في الامارات المعتبرة هو السيرة العقلائية الممضاة شرعاً وهي دليل لبي لا يمكن أن يستفاد منه قيام الامارة مقام القطع الموضوعي.

هذا كلّه إذا اريد قيامها مقام القطع الموضوعي حقيقة ، أي استفادة ذلك من دليل الحجّية بالحكومة ونحوه بعد فرض انّ المأخوذ في موضوع دليل الحكم والأثر المترتب عنوان القطع بخصوصه ؛ وأمّا إذا اريد قيامها مقام القطع الموضوعي بالورود أي بمعنى كون الموضوع من أوّل الأمر بحسب لسان دليل حكم القطع الموضوعي هو جامع الحجة الأعم من الوجداني والتعبدي ـ وهذا ما سلكه وأراده جملة من المحققين في المقام وإن لم يكن بالدقة من قيام الامارة مقام القطع في الموضوعية إلاّبضرب من المسامحة ـ فلا إشكال فيه كبروياً ويكون التمسك فيه بدليل الأثر الموضوعي لا بدليل حجّية الامارة بحيث يتم المطلوب ولو فرض دليل الحجّية لبياً لا لسان له كالسيرة العقلائية.


إلاّ أنّ السيد الشهيد 1 اعترض على ذلك ـ تبعاً للاصفهاني 1 ـ بأنّه إنّما ينتج ترتب الأثر الموضوعي على الامارة فيما إذا كان لمؤدّى الامارة أثر شرعي آخر مستقل يكون المؤدّى تمام الموضوع له لكي تثبت حجّية الامارة بلحاظه فتقوم مقام القطع في الأثر الموضوعي ؛ لأنّ الموضوع إنّما هو الحجة ولا حجّية من دون أثر على المؤدّى.

وكأنّ صاحب الدرر 1 اعترف بالاشكال في خصوص ما إذا كان القطع تمام الموضوع للأثر ، دون ما إذا كان جزء الموضوع مع كون الواقع جزئه الآخر ؛ لكفاية كونه ذا أثر تعليقي ، بمعنى انّه لو انظم إلى الباقي يترتب عليه الأثر الشرعي.

والتحقيق : اننا تارة نستظهر من دليل الأثر الموضوعي انّ موضوعه الحجة الشأنية أي ما يكون كاشفاً ومثبتاً لمتعلقه في نفسه ـ بحيث إذا كان القطع تمام الموضوع ولم يكن للواقع أي أثر ترتّب الأثر أيضاً ـ واخرى نستظهر ارادة الحجة الفعلية ، فعلى الأوّل لا ينبغي الاشكال في ترتب أثر القطع الموضوعي مطلقاً ، أي في الصور الثلاث ـ وعلى الثاني يثبت في الصورتين الأخيرتين لا الاولى لا في الامارة ولا القطع بنفس النكتة المبينة في هامش الكتاب مع اضافة توضيح حاصله : انّ المراد من أخذ القطع بما هو حجة في موضوع الأثر لا يمكن أن يراد به أخذ حجّيته المنطقية أو طريقيته الذاتية في موضوع الأثر وإلاّ لما قام مقامه الامارة بل يراد به أخذه بما هو منجز لحكم شرعي وحينئذٍ لو اخذ في موضوع ذلك الأثر المنجزية الفعلية بقطع النظر عن الأثر الموضوعي فلا يترتب ذلك الأثر حتى بالقطع إلاّ إذا كان هناك أثر آخر يكون الواقع تمام الموضوع فيه وإن اخذت المنجزية الفعلية ولو بلحاظ نفس هذا الأثر ـ على نحو القضية


الشرطية اللولائية كي لا يلزم الدور ـ كانت الامارة حجة كذلك ؛ فلا فرق من هذه الناحية بين القطع والامارة.

وكأنّ الاستاذ أشار إلى هذا البحث ضمن التنبيه الثاني من التنبيهات الثلاثة كما لا يخفى.

ثمّ انّه يمكن بناءً على مسلك التنزيل أيضاً تصحيح قيام الامارة مقام القطع الموضوعي الذي يكون تمام الموضوع ولا يكون للمؤدى أي أثر لا بنحو التمامية ولا الجزئية بأحد بيانين :

١ ـ أن يكون التنزيل المفاد بالمدلول الالتزامي لازماً لتنزيل المؤدى منزلة الواقع بنحو القضية الشرطية والشأنية أي لو كان للواقع أثر كان يترتب بالامارة والشرطية صادقة ولو لم تصدق الفعلية.

٢ ـ أن يدّعى الملازمة بين الجعلين بمعنى أنّ ثبوت المؤدى بالامارة في الجملة ولو في غير هذا المورد يلازم قيامها مقام القطع الموضوعي.

وكلتا النكتتين تناسب الملازمة بتقريبها العرفي لا العقلي ، إذ العرف لا يرى دخلاً لترتيب أثر آخر على المؤدّى يكون أجنبياً عن الأثر الموضوعي في ترتيب أثر القطع الموضوعي ولو كان في مورده فإذا كان ملاك للملازمة فهو مع ثبوت المؤدّى في الجملة سواءً في مورد أثر القطع الموضوعي أم غيره.

ص ٩٧ قوله : ( ٣ ـ ويتضح على ضوء ... ).

هذا الاشكال النقضي على مسلك الميرزا في الاستصحابين المتعارضين يمكن لمدرسة الميرزا الاجابة عليه : بأنّ الأمر بالنسبة إلى الأثر الموضوعي


وهو جواز الافتاء بالواقع وان كان كذلك إلاّ انّه سوف يحصل المحذور بلحاظ حرمة الكذب الذي موضوعه الواقع حيث يعلم بأنّ أخذ الافتائين يكون كذباً وهو محرم.

وإن شئت قلت : إذا اريد الافتاء بالحكمين الظاهريين فهو فرع حجّية الامارتين أو الاستصحابين بلحاظ المؤدى والأثر الواقعي ، والمفروض التعارض والتساقط بلحاظه.

وإن اريد الافتاء بالحكمين الواقعيين فمن ناحية حرمة الافتاء بلا علم ـ التي حرمة اخرى غير حرمة الكذب ـ وإن لم يكن محذور لتحقق موضوعه حقيقة وبالحكومة الواقعية في الطرفين إلاّ انّه سوف يبتلي بمحذور حرمة الكذب ؛ لأنّه يعلم بأنّ أحد الافتائين خلاف الواقع ودليل جواز الاسناد والافتاء بالعلم الأعم من الواقعي والتعبدي يجوز الافتاء من ناحيته أي من ناحية الحرمة المذكورة لا من كل الجهات فلو استلزم ذلك في مورد الابتلاء بحرمة الكذب حرم الافتاء بملاكها ، وفي المقام حيث يعلم انّ أحد الافتائين كذب فيتشكل علم اجمالي منجز يوجب حرمة كل من الافتائين بالنتيجة العملية.

نعم ، سائر الآثار الموضوعية يمكن ترتيبها ، كجواز الاقتداء مثلاً إذا علم بأنّ زيداً أو عمرواً فاسق وكانا مستصحبي العدالة ، وكان العلم بالعدالة تمام الموضوع لجواز الاقتداء ، فيجوز الاقتداء بكل واحد منهما ؛ لكونه معلوم العدالة تعبداً ، حيث لا تنافي بين العلم الوجداني بفسق أحدهما والعلمين التعبديين بعدالتهما من حيث ترتب آثارهما الموضوعية ، وهذا ما لا يلتزم به أصحاب هذا المسلك.


ص ٩٩ قوله : ( وأمّا القسم الثالث ـ وهو أخذ القطع بحكم في موضوع حكم مماثل ... ).

لا يصحّ ربط البحث في مسألة أخذ القطع بالحكم في موضوع حكم آخر مماثل بما تقدم في بحث التجري من اشكال اللغوية في جعل الحرمة للتجري كما فعل في الدورة الاولى ، ولهذا لا يرد هذا الإشكال على السيد الخوئي القائل بالتأكد في المقام ومعقولية الجعل المذكور رغم قوله بلغوية واستحالة حرمة التجري في البحث السابق والوجه في ذلك : أنّ الحرمة للتجري والمعصية كانت بنفس الملاك الأوّل لا بملاك جديد ، ومن هنا كان يأتي اشكال اللغوية في المحركية المولوية مع جوابه المتقدم هناك ، وامّا هنا فالمفروض ثبوت حرمة اخرى وبملاك آخر في القطع بالحرمة الاولى المماثلة بحسب الفرض فلا لغوية في المحركية المولوية.

كما أنّ الجواب المذكور لدفع شبهة استحالة التأكّد يمكن المناقشة فيه بأنّ الطولية في المقام وإن لم تكن من باب العلية والمعلولية ليستحيل وجودهما بوجود واحد إلاّ أنّ هناك ملاكاً آخر غير العلية والمعلولية تقتضي استحالة وحدة الارادتين أو الكراهتين في المقام وهو لزوم تعلّق الارادة أو الكراهة بنفسها ؛ لأنّ احداهما بحسب الفرض متعلقة بالاخرى فلو اتحدتا في وجود واحد مؤكد لزم تعلقها بنفسها وهو محال.

والجواب على هذه الشبهة يكون بتوضيح انّ الارادة الثانية ليست متعلقة بالارادة الاولى ، بل بلحاظها وعنوانها ، فيكون الفعل المعنون بالعنوانين العنوان الواقعي له وعنوان كونه معلوم الحكم متعلقاً لارادة أو كراهة شديدة أكيدة فلا محذور أصلاً.


ص ١٠١ قوله : ( وامّا القسم الرابع ـ وهو أخذ القطع بالحكم في موضوع شخصه ... ).

استحالة أخذ القطع بالحكم في موضوع شخصه يمكن أن يبيّن بخمسة وجوه :

١ ـ برهان الدور في الحكم ولزوم توقف الحكم على نفسه وهذا هو برهان العلاّمة وجوابه كما هو في الكتاب.

٢ ـ برهان الدور في مرحلة وصول الحكم ، وهذا هو برهان الميرزا 1 وهو صحيح بلحاظ المجعول الفعلي لا الجعل أي إذا اخذ العلم بالمجعول الفعلي والذي هو أمر تصوري في موضوع ، وأمّا إذا اخذ العلم بالكبرى والصغرى فلا محذور.

٣ ـ برهان لزوم الخلف بحسب نظر المكلف ؛ لأنّ القاطع يرى مقطوع قطعه ثابتاً بقطع النظر عن قطعه وفي رتبته متقدمة عليه بالطبع فكونه متوقفاً عليه خلف هذا النظر وهو تهافت ، ولعل هذا هو مقصوده من قال بلزوم تقدم المتأخر بالطبع كالمحقق الاصفهاني 1 ، وهذا هو البرهان المقبول عند السيد الشهيد 1 مع سابقه وهذه البراهين الثلاثة مرتبطة بمرحلة المكلف واستحالة فعلية الحكم في حقه فتكون الاستحالة في المجعول الفعلي بالأصالة وفي الجعل بالتبع.

٤ ـ برهان اللغوية ؛ لأنّ غير القاطع لا حكم له والقاطع يتحرك بقطعه فلا محركيّة لمثل هذا الجعل. وقد أشكل عليه السيد الشهيد 1 بأنّه لا لغوية في مرحلة الجعل لو فرض عدم المحذور في مرحلة الوصول إذ يكون حاله حال سائر الجعول من حيث كون جعلها من موجبات وصولها.


وقد يقال : أنّ هذا الجواب غير تام لأنّ الوصول بعد أن كان في المقام شرطاً في فعلية الملاك والتكليف فلا وجه لجعله لكي يوصل فيتحقق الملاك وهذا بخلاف الأحكام غير المشروطة بالعلم فإنّ عدم جعلها تفويت للملاك على المولى بخلاف المقام.

والجواب : انّ العلم قد يكون من شرائط التحقق لا الاتصاف ، وإنّما اخذ قيداً في موضوع الحكم لعدم القدرة عليه أو لأيّ سبب آخر ، فهذا الاشكال غير متّجه.

٥ ـ برهان لزوم التهافت والخلف بحسب نظر المولى في مرحلة الجعل وهذا ظاهر عبائر مدرسة الميرزا 1 بتقريب انّ الجاعل يرى الموضوع مفروض الوجود ومفروغاً عنه فإذا اخذ العلم بشخص الحكم الذي يريد جعله في الموضوع مفروغاً عنه مسبقاً فكيف يجعله مرة اخرى.

والجواب : أوّلاً ـ انّ المفروغ عنه العلم بالحكم لا نفس الحكم وفرض العلم بالحكم يستلزم فرض المعلوم بالذات لا المعلوم بالعرض ؛ لأنّه ليس قيداً له إلاّ إذا كان الواقع جزء الموضوع وقد تقدم ابطاله.

وثانياً ـ يمكن أن يأخذ العلم بالحكم بنحو القضية الشرطية أي من لو جعل الحكم أصبح عالماً فلا يكون الموضوع المفروغ عنه في الجعل من يفرض عالماً بالفعل ليلزم التهافت بل الموضوع فرض الملازمة وصدقها لا يستلزم فرض صدق جزاءها وهو العلم بالحكم.

وبعبارة اخرى : بهذا النظر لا يكون الحكم مأخوذاً في الموضوع بنحو فعلي مفروغاً عنه ليكون مانعاً عن امكان جعله وانشائه.


ص ١٠٥ قوله : ( ثمّ انّ المحقق النائيني ١ بعد أن بنى على استحالة ... ).

من أجل التوصل إلى نتيجة تقييد الحكم بالعلم به وجد مسلكان :

مسلك الميرزا 1 متمم الجعل.

مسلك العراقي 1 الحصة التوأم.

وكلا المسلكين لا يختصان بالمقام بل طبِّقا أيضاً في مبحث التعبدي والتوصلي ، فبلحاظ جميع القيود الطولية الثانوية يقال بنتيجة التقييد بأحد هذين النحوين ، سواءً في ذلك قيود الوجوب والتكليف كما في المقام أو قيود الواجب كما في قصد الأمر. ولا يلزم محذور اجتماع الوجوبين من مسلك متمم الجعل لما تقدم من أنّ روح الجعلين ومباديهما واحدة والامتناع بلحاظها لا بلحاظ مرحلة الجعل والاعتبار.

وقد أورد الاستاذ 1 على مسلك النائيني 1 في الدورة السابقة :

أوّلاً ـ انّ الجعل الأوّل لابد وأن يكون مطلقاً لأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل السلب والايجاب فإذا استحال أحدهما تعيّن الآخر ، وهذا اشكال مبنائي.

وقد رجع عنه في الدورة الثانية بأنّ هذا الإطلاق لا يمكن أن يكشف عن إطلاق روح الحكم ومباديه لكونه ضرورياً فلا فائدة في مثل هذا الإطلاق.

لا يقال : كما ذكر السيد الحائري في تعليقته ـ كما يستحيل أخذ العلم بالحكم في موضوعه في الحكم بمعنى الجعل يستحيل ذلك في روح الحكم أعني الشوق ، وهذا يعني انّ فرض وجود الحكم ومباديه يساوق فرض اطلاقه وعدم دخل قيد العلم به فيه فلا تحتاج إلى الإطلاق في الجعل.


فإنّه يقال : الشوق والحب والارادة من الصفات الحقيقية التكوينية وليست من قبيل الجعل الذي هو أمر اختياري ، والمفروض انّه لا استحالة في نفس تعلق الحكم أو الشوق بالعالم به وإنّما المحذور في مرحلة فعلية وصوله إلى المكلف وهو مانع عن تحقق الجعل الذي هو فعل اختياري للمولى وليس مانعاً عن الشوق وتعلقه به فإنّه قد يتعلق بأمر مستحيل في نفسه على انّه ليس بمستحيل ؛ إذ يعقل أن يكون الشوق والملاك فيمن علم بفعلية الحكم في حق نفسه ولو من باب الجهل المركب وتصور انّ الحكم مطلق ثابت بقطع النظر عن قطعه على كل أحد ، وهذا وإن كان مانعاً عن الجعل للغويته لكنه ليس مانعاً عن الشوق وتعلّق الارادة به لأنّه أمر تكويني قهري ، وهذا يعني انّه لو احتملنا تقيد الحكم بحسب مباديه وروحه بالعالم بفعليته ـ لا العالم بجعله ـ لم يكن بالامكان نفي احتمال دخالة ذلك بالاطلاق في أدلّة الأحكام للعلم بكونها مطلقة من هذه الناحية ولكنها لا تفيد في الكشف عن إطلاق روح الحكم وما هو المنجز إنّما هو روح الحكم لا مجرد جعله فقد يتصور انّه على هذا ينحصر الوجه في اثبات الحكم في حق الجاهل بفعليته بقاعدة الاشتراك.

وثانياً ـ بأنّ الجعل المتمم سيبقى مهملاً بالنسبة إلى نفسه فلو فرض انّ فعلية الحكم كانت مشروطة بالعلم بتمام المجعول لم يكن يمكن للمولى التوصل إلى غرضه للزوم التسلسل.

وقد رجع عنه في الدورة الثانية ولعلّه لعدم صحته ؛ لأنّ المراد من أخذ العلم بحسب الفرض أخذ العلم بالحكم الفعلي وهو إنّما يكون بلحاظ روح الحكم ومباديه لا بلحاظ مجرد الجعل والاعتبار والمفروض انّه بلحاظ مرحلة روح الحكم ومباديه لا يوجد إلاّحكم واحد لا أحكام عديدة وتعدد الجعل ليس إلاّ


مجرد تفنن في مرحلة الاعتبار للتخلص عن المحذور فبأخذ العلم بالجعل الأوّل في الجعل المتمم يكون المولى واصلاً إلى غرضه وهو إمكان جعل الحكم على العالم به أي بروحه ومباديه.

والصحيح : ما ذكره الشهيد 1 مختصراً في الدورة السابقة ومفصلاً في هذه الدورة ، وتتلخص في ثلاث نقاط ، إذا اريد من الحكم المجعول الفعلي لا الجعل المهمل وإلاّ لم نكن بحاجة إلى مسلك المتمم لما سيأتي من امكان العلم بالجعل في فعلية المجعول.

١ ـ عدم الحاجة إلى متمم الجعل ؛ لأنّ الجعل الأوّل إذا كان في قوة الجزئية فهو يفي بالتقييد وإن كان في قوّة المطلقة فهو يفي بالاطلاق فلا حاجة إلى الجعل المتمم على التقديرين بل على أحدهما فقط وإن كان مهملاً فلا يتحقق موضوع الجعل الثاني أصلاً.

٢ ـ لا يعقل تحقق موضوع الجعل المتمم ؛ لأنّ الجعل الأوّل لا يعقل أن يكون في قوّة الكلية لأنّ المهملة لا يمكن أن تكون كلية ؛ لأنّها فرع الإطلاق ونكتة السريان فيتردد بين أن تكون في قوّة الجزئية أو غير منطبقة على الخارج أصلاً ، والأوّل مستلزم لنفس محذور الدور لأنّ المراد بالجزئية هنا فرض العلم بالمجعول في الجعل الأوّل والعلم به فرع العلم بتحقق موضوعه المتيقن والذي هو نفس فرض العلم به فيتوقف العلم به على العلم به والثاني يستلزم عدم تحقق موضوع الجعل الثاني ، فالحاصل الجعل المتمم غير معقول لعدم إمكان تحقق موضوعه.

٣ ـ انّ المهملة في خصوص المقام يستحيل أن تكون في قوة الجزئية ؛ لأنّ


انطباق الطبيعة على المقيد امّا بأخذه قيداً فيها أو بعدم أخذ عدمه قيداً وكلاهما في المقام محال بحسب مسالكهم فيستحيل انطباق الطبيعة على المقيد في المقام ، وهذا معناه انّ المهملة في المقام مستحيلة الانطباق على الخارج ، بل ويستحيل انطباقها في الخارج من ناحية استحالة تحقق موضوعها كما ذكر في الاشكال السابق ، ومعه يستحيل جعل الحكم عليها ولو مهملاً لوضوح انّ جعله إنّما يكون بلحاظ انطباقها على الخارج ولو ضمن الجزئية ، وهذا بحسب الحقيقة اشكال بنائي على الجعل الأوّل.

وأمّا مسلك العراقي وهو جعل الحكم على الحصة التوأم مع العلم بالحكم ففيه :

أوّلاً ـ عدم معقولية الحصة التوأم في باب المفاهيم وإنّما يعقل في الوجودات الخارجية كما ذكرنا ذلك مراراً.

وثانياً ـ الاستحالة في المقام لم تكن بلحاظ عالم الجعل كما في قصد الأمر بل بلحاظ عالم فعلية وصول المجعول ، فلو سلمنا امكان أخذ العلم بالحكم قيداً وشرطاً فيه بنحو الحصة التوأم والعنوان المشير إلى الحصة الخاصة في المرتبة السابقة إلاّ انّه حيث لا يوجد أي عنوان لتلك الحصة غير عنوان العلم به فيبقى محذور عدم امكان وصول مثل هذا الحكم إلى المكلف في مرحلة الفعلية للزوم الدور على حاله كما لا يخفى.

وهكذا اتضح عدم تمامية المسلكين المذكورين.

والصحيح امكان أخذ العلم بالحكم بمعنى الجعل في موضوع فعلية مجعوله ولا محذور فيه ؛ لتعددهما سواءً قلنا بأنّ المجعول أمر حقيقي تصديقي أو وهمي


تصوري لأنّ الجعل تصوراً غير المجعول.

وما ذكره في الدراسات (١) من انّ العلم بالجعل إن اريد به الجعل غير الشامل للعالم فأخذه بل أخذ مجعوله لم يكن فيه اشكال من أوّل الأمر وليس من أخذ الحكم في موضوع شخصه وإن اريد العلم بالجعل الشامل للعالم لزم المحذور ؛ لأنّ العلم بشمول الجعل فرع العلم بموضوعه الذي هو نفس العلم المذكور فتوقف العلم بالحكم على العلم به.

مدفوع : بأنّ الشمول وعدم الشمول من خصوصيات وانقسامات المجعول لا الجعل فإنّه انشاء جزئي لقضية اعتبارية تصورية ، ولا معنى لاتصافه بالشمول وعدم الشمول إلاّبالتبع ، فلا اشكال في امكان حصول العلم به كما أنّ المنشأ به قد اخذ في موضوعه مفهوم العالم بالحكم فيمكن أن يعلم المكلف بأنّ المولى قد أنشأ وجعل وجوب التمام على العالم به بنحو القضية الحقيقية ، وبنفس هذا العلم يصبح موضوعاً لمجعول ذلك الجعل فيحصل له في طول ذلك علم بشمول الجعل له أو قل علم بالمجعول الفعلي سواءً اعتبرناه أمراً حقيقياً تصديقياً أم تصورياً وهمياً ، فالحاصل العلم بالانطباق والشمول غير العلم بالجعل بمعنى القضية الحقيقة المجعولة على طبيعي العالم بالجعل ؛ ولهذا قد يعلم الإنسان بالقضية الحقيقية ويغفل عن انطباقها على مصداق أو على نفسه ، وهذا واضح.

وقد يقال : انّ هذا غاية ما يفيد امكان نفي تقيد الأحكام بصورة العلم بجعلها بالتمسك باطلاق أدلتها بلا حاجة إلى أدلّة اشتراك العالم والجاهل في الحكم أمّا إذا احتمل تقيد الحكم بالعلم بالمجعول بأن فرض احتمال دخالة العلم بالمجعول

__________________

(١) دراسات في علم الاصول ج ٣.


الفعلي في فعلية الحكم وفعلية ملاكه فلا يمكن نفيه بالاطلاق في دليل الحكم لأنّ الإطلاق وإن كان متعيناً هنا بناءً على ما تقدم من انّه كلما استحال التقييد تعين الإطلاق ، إلاّ انّه إطلاق غير كاشف عن إطلاق مبادئ الحكم وروحه ـ كما أشرنا فيما سبق ـ والمهم اثبات إطلاق روح الحكم في حق الجاهل بالحكم الفعلي كما انّه إذا كان غرض المولى في التقييد المذكور فلا يمكنه أخذه والتوصل إليه.

وهذا الاشكال يمكن الجواب عليه بأحد وجهين :

الأوّل : انّه يكفي إطلاق الخطاب بلحاظ أخذ العلم بالجعل لاثبات إطلاق روح الحكم ومباديه في حق الجاهل ؛ لأنّ الغرض لو كان مختصاً بالعالم بالمجعول الفعلي فالمولى وإن كان لا يتمكن من أخذ العلم بالمجعول الفعلي في موضوع حكمه لكنه يتمكن من أخذ ما يساويه ويساوقه وهو أخذ العلم بالجعل المساوق لأخذ العلم بالكبرى والصغرى والذي يتولد منه العلم بالمجعول الفعلي دائماً ، والمفروض امكان أخذ العلم بالجعل ـ الكبرى ـ والمستبطن للعلم بالصغرى من ناحية هذا القيد لا محالة فيكون ملازماً مع العلم بالمجعول ، وهذا ينتج نفس الدائرة من التقييد التي ينتجها أخذ العلم بالمجعول الفعلي وإن كانا قيدين متباينين عنواناً ، فعدم أخذه يكشف لا محالة عن إطلاق المبادئ للحكم في حق الجاهل كالعالم وهو المقصود من اطلاقات أدلّة الأحكام ، كما انّه إذا كان غرضه في المقيد أمكن أخذ القيد الملازم معه ، فحال أخذ العلم بالجعل حال أخذ العلم بالمجعول الفعلي اطلاقاً وتقييداً.

نعم ، لا يمكن أن يستكشف من أخذه دخالته بعنوانه أو بعنوان ملازمه في


الملاك إلاّ أنّ هذا لا ربط له بأصل الحكم وحدوده اطلاقاً وتقييداً ، وإنّما يرتبط بمركز ما فيه الملاك ومصلحة الأحكام ، وليست الخطابات متكفلة لها بهذه الدقّة الفلسفية.

وإن شئت قلت : انّه عرفاً لا فرق بين النحوين المذكورين من التقييد بحسب النتيجة ، فيتمّ الإطلاق النافي لدخل العلم بالمجعول الفعلي أيضاً عرفاً.

الثاني : انّ التقييد بلحاظ الجعل وإن فرض غير ممكن إلاّ انّه بلحاظ المبادئ أي عالم المصلحة والمفسدة بل الارادة والكراهة ممكن بحسب الفرض باعتبارهما أمرين تكوينيين يمكن تعلقهما بغير المقدور أيضاً ، كما أنّهما ليسا أمرين انشائيين ليرتفعا باللغوية ونحو ذلك ، فيمكن ابراز تقيدهما حينئذ بالعلم بالحكم بمعنى الارادة لا للجعل ، خصوصاً إذا كان العلم بالمجعول شرطاً لتحقق الملاك لا للاتصاف به ، وإنّما يؤخذ شرطاً في الوجوب والتصدّي المولوي لكونه غير اختياري مثلاً ، فيمكن للمولى أخذ ذلك قيداً في الحكم بمعنى المجعول الانشائي ، فيرتفع الدور أو التهافت في مرحلة الوصول ، ويكون الجعل المذكور بنفسه كاشفاً عن تعلّق الارادة والمبادئ بالعالم بهما.

وبهذا يتضح أنّ أصل اشكال الدور والتهافت على أخذ العلم بالحكم في موضوع شخصه ليس بتلك الأهمية ، وممّا يشهد عليه وقوعه خارجاً في التشريعات العقلائية والشرعية.

ثمّ انّهم ناقشوا في كون مثال الجهر والاخفات أو القصر والتمام من مصاديق هذا البحث بدعوى انّ ظاهر الشهيد استحقاق الجاهل القصر للعقوبة وهو ينافي كون الحكم به مشروطاً بالعلم به إذ رفع الموضوع لا يكون موجباً للعقوبة


ويمكن أن نضيف شاهداً آخر لما ذكروه وراموه وهو لزوم القضاء تماماً حتى إذا كان جاهلاً حين الأداء تقصيراً وكذلك الجهر والاخفات فجعلوا المقام من موارد جعل البدل المفوّت لباقي المصلحة والذي هو نوع من الاجزاء.

إلاّ أنّ ما ذكروه غاية ما يثبت عدم كون التكليف بالقصر على المسافر مثلاً مشروطاً بالعلم به إلاّ أنّ صحّة التمام عليه مشروط به لا محالة فالبدل المجعول في موارد الحكم بالصحّة يكون مشروطاً بالعلم به ولهذا لا يصحّ من غيره فيكون من صغريات هذا البحث.


الموافقة الالتزامية

ص ١١٣ قوله : ( الجهة الخامسة : ... ).

الأولى جعل منهج البحث كما يلي :

الأمر الأوّل ـ في معنى وجوب الالتزام.

الأمر الثاني ـ في الدليل على وجوبه عقلاً أو شرعاً.

الأمر الثالث ـ في مانعية المخالفة القطعية الالتزامية عن جريان الاصول في أطراف العلم الإجمالي الذي لا مخالفة قطعية عملية له كموارد الدوران بين المحذورين ونحوه.

وهنا تقريبان ومسلكان للمانعية بناءً على ثبوت وجوب الالتزام عقلاً أو شرعاً بالتكاليف :

١ ـ مانعية نفس المخالفة الالتزامية القطعية كالعملية القطعية عن جريان الاصول للزوم التناقض. وجوابه ما في الكتاب في جواب التقريبين الأوّل والثاني.

٢ ـ مانعية المخالفة الالتزامية لكونها ترجع إلى مخالفة قطعية عملية للتكليف بوجوب الالتزام ، ولا فرق من هذه الناحية في المانعية بين تكليف وتكليف.

والجواب : انّه تارة نبني على حرمة الالتزام بما لا يعلم انّه من الدين ولو كان


منه واقعاً لكونه نوعاً من التشريع أو الاسناد المحرم ـ كما هو الصحيح ـ واخرى نبني على انّ المحرم هو الاسناد أو الالتزام بما ليس من الدين واقعاً.

فعلى الأوّل معناه انّ وجوب الالتزام مقيد موضوعاً بالتكليف المعلوم لا الواقعي وإلاّ لزم التناقض مع حرمة التشريع ، ومعه لا وجوب للالتزام في موارد العلم الإجمالي إلاّبالمقدار المعلوم الإجمالي ولا يجوز الالتزام بشيء من الطرفين لكونه تشريعاً محرماً فلا موضوع لجريان الاصول فيهما بلحاظ هذا الأثر والالتزام بالعنوان الإجمالي ممكن لأنّه عنوان ثالث غير الطرفين تفصيلاً وهذا واضح.

وعلى الثاني يلزم الدوران بين المحذورين ـ وجوب الالتزام وحرمة التشريع ـ في الالتزام بكل مشكوك بحسب الحقيقة ، وفي المقام لو التزم بكل من الوجوب والحرمة ـ لو أمكن ذلك ـ أو ترك الالتزام بهما معاً كانت مخالفة قطعية لأحد الحكمين ومخالفة كذلك للآخر وهنا ذكر صاحب الكفاية بوقوع التزاحم بين التكليف وسقوط وجوب الالتزام على القول به في مثل المقام ولو لقصور دليله ، وهذا جواب صحيح أيضاً على تقدير قبول المبنى ، مضافاً إلى الجواب المذكور في الكتاب من عدم منع ذلك عن جريان الاصول بلحاظ العمل الخارجي لأنّ كلاً منهما تكليف مستقل عن الآخر ، كما انّه مقتضى الصناعة عندئذ هو التوسط في التنجيز ، أي اختيار المخالفة الاحتمالية بالالتزام بأحد الطرفين لا كليهما على ما سيأتي في بحث الدوران بين المحذورين. هذا اجمال البحث.

ثمّ انّه كان ينبغي جعل هذا البحث بعد منجزية العلم الإجمالي ؛ لأنّه بحسب


الحقيقة اشكال على جريان الاصول في تمام الأطراف حتى إذا لم يلزم منه مخالفة عملية ـ كما لعلّه منسوب إلى الفشاركي ـ ولكن جرياً مع منهج الكفاية يقدم ، فالبحث هنا عن وجوب الالتزام ومانعية المخالفة الالتزامية عن جريان الاصول في تمام الأطراف. وفيما يلي نورد تفصيل هذا البحث ضمن امور :

الأمر الأوّل : في اثبات انّ الالتزام غير اليقين وغير الاظهار والابراز بل هو فعل من أفعال الجوانح وليس انفعالاً أو عرضاً كالعلم والحب وحقيقته امّا أن يكون فعلاً تكوينياً مباشرياً للنفس كالتوجه والالتفات وينتزع منه الخضوع والتسليم أو انّه فعل اعتباري انشائي وهو نحو من التعهد والقرار والبناء بين الإنسان ونفسه نظير القرارات والتعهدات مع الآخرين بشهادة الوجدان وبدليل حرمة التشريع والدينونة بما ليس من الدين على انّه من الدين الذي لا إشكال فيه فقهياً كما لا اشكال في انّه غير العلم وغير حرمة الكذب. فما في تهذيب الاصول من انكار وجود موضوع لأصل هذا البحث غير فني.

الأمر الثاني : في تصوير كيفية مانعية وجوب الالتزام عن جريان الاصول في تمام الأطراف ، وذلك بأحد بيانات :

١ ـ عدم عقلائية الالتزام بالنقيضين التزاماً جدياً ، ولازم جريان الاصول في تمام الأطراف ذلك ، ولزوم الالتزام بمفادها مع الواقع المعلوم بالاجمال اللازم التزامه ، وهو مانع عن إطلاق دليل الأصل لتمام الأطراف فإنّ المانع العقلائي كالعقلي بل سوف يأتي انّ الترخيص في المخالفة العملية أيضاً محذوره عقلائي.

وفيه : ما في الكتاب.

٢ ـ عدم عقلائية الالتزام بالواقع المعلوم بالاجمال مع لزوم الجري العملي في


الطرفين بنحو يناقض ذلك الالتزام فإنّه أيضاً غير عقلائي.

وفيه : ما في الكتاب من المنع عن ذلك فإنّ الالتزام غير العمل خصوصاً إذا كان اجمالياً والموقف العملي تفصيلي في الطرفين.

٣ ـ لزوم المخالفة العملية لتكليف الزامي منجز غاية الأمر متعلقه من أفعال الجوانح لا الجوارح وهذا ليس بفارق لأنّ الميزان قبح الترخيص في المعصية سواءً كانت جارحية أو جانحية فيكون جريان الاصول في تمام الأطراف دائماً مؤدياً إلى مخالفة عملية ، غاية الأمر قد يؤدي إلى مخالفتين عمليتين والترخيص في معصيتين كما في موارد امكان المخالفة العملية القطعية ، وقد يؤدي إلى مخالفة واحدة عملية وترخيص في معصية واحدة ، وعلى كل حال يكون ذلك مانعاً عن جريانها.

وجه اللزوم انّ الاصول في تمام الأطراف تنفي الحكم الواقعي في الطرفين مع العلم بوجوده في أحدهما ووجوب الالتزام به فبنفيه ظاهراً وتعبداً يرخص في عدم الالتزام به رأساً وهو معصية معلومة ، وهذا هو التقريب الفني.

الأمر الثالث : في تحقيق حال المانعية بصيغتها الفنية المتقدمة ، وهو متوقف على ملاحظة المحتملات في وجوب الالتزام فإنّه تارة نفترض انّه تكليف عقلي من شؤون باب الاطاعة والانقياد لأوامر المولى ، واخرى يفترض انّه تكليف شرعي ، وعلى كل منهما تارة يكون موضوعه الالتزام بالتكليف الواصل وصولاً منجزاً ـ ولابد من أخذ قيد الوصول وعدم الاكتفاء بمطلق التكليف المنجز لوضوح عدم جواز الالتزام بالواقع المنجز في موارد الشبهات قبل الفحص أو الشك في الامتثال ـ واخرى الواصل ولو لم يكن منجزاً وثالثة الواقع سواءً وصل


أم لم يصل ، فالأقسام ستة ؛ إلاّ انّ اثنين منها غير محتمل في نفسه وهو أن يكون الوجوب عقلياً وعلى الواقع فإنّ العقل إذا حكم بالالتزام فإنّما يحكم به من باب الانقياد والطاعة للمولى والمفروض أخذ الوصول تمام الموضوع في حق الطاعة والمولوية ـ خصوصاً إذا قلنا بحرمة التشريع عقلاً ـ كما انّ الوجوب إذا كان شرعياً فلا يحتمل أن يكون موضوعه خصوص التكليف المنجز بما هو منجز فتبقى أقسام أربعة لابد من ملاحظتها.

الأوّل : أن يكون الوجوب عقلياً وموضوعه ما يتنجز من التكليف ، وقد بين حكمه في الكتاب بما لا مزيد عليه.

الثاني : أن يكون عقلياً وموضوعه التكليف الواصل فيكون في عرض المنجزية العقلية وأعم منها لشمولها للتكاليف غير الالزامية أي يجب الالتزام بمقدار ما وصل من التكاليف لأنّ الوصول تمام الموضوع لحكم العقل بالانقياد والاطاعة ، وهنا أيضاً يتمّ ما ذكر في الكتاب ، وهو تام على كلا المسلكين في باب العلم من انّه متعلق بالواقع أو الجامع إذ لا اشكال في انّ الصورة الذهنية المعلومة بالاجمال غير المعلومة بالتفصيل في الذهن كما انّ جريان الاصول في الطرفين إنّما هو بعنوانهما التفصيليين المشكوكين ، وامّا العنوان الإجمالي فمعلوم لا شك فيه ليكون مجرى الأصل لا بالمطابقة ولا بالملازمة ، امّا الأوّل فواضح ، وامّا الثاني فلأنّ نفي الفردين لا يلازم نفي العلم بالجامع الذي هو موضوع هذا الحكم العقلي وإنّما يلزم منه نفي واقع الجامع تعبداً على القول بالأصل المثبت وهو لا ينافي العلم به وجداناً ، فالمسألة غير مربوطة بنكتة الأصل المثبت.


لا يقال : بناءً على عموم الوصول للتعبدي فإذا جرى استصحاب النجاسة في الطرفين لزم الالتزام بالنجاسة الواقعية في الطرفين معاً وهو ينافي الالتزام بطهارة أحدهما ولو بالعنوان الإجمالي الجامعي بملاك التناقض العقلائي المتقدم شرحه.

فإنّه يقال : هذا لا وجه له بناءً على القول بالوجوب العقلي لأنّ الوصول التعبدي إنّما يفيد لتوسعة موضوع الأحكام الشرعية لا العقلية ـ كما تقدم مفصلاً في بحث قيام الامارات مقام القطع الطريقي المحض ـ وأمّا روح الحكم الظاهري من شدة الاهتمام فلا يقتضي أكثر من الاهتمام بلحاظ الواقع وحفظ أغراضه الواقعية ، والمفروض انّه ليس موضوعاً لوجوب الالتزام.

الثالث : أن يكون وجوب الالتزام شرعياً وموضوعه التكليف الواصل وهنا إذا كان موضوعه خصوص الوصول الوجداني فالكلام فيه عين الكلام في القسم السابق. وإن كان موضوعه الأعم من الوجداني والتعبدي ـ وهو معقول هنا ، خصوصاً في الامارات والاصول التنزيلية ـ سواءً كان ذلك بملاك انّ موضوع وجوب الالتزام الشرعي ابتداءً هو الأعم من العلم الوجداني والتعبدي أو لاستظهار قيام الاصول التنزيلية مقام القطع الموضوعي ـ وقع التنافي بين إطلاق دليل وجوب الالتزام للمعلوم بالاجمال مع الالتزام بمؤدّى الاصول التنزيلية في تمام الأطراف ـ إذا كانت تنزيلية ـ بلحاظ أثر القطع الموضوعي حيث لا يمكن الجمع بينها عقلائياً بحسب الفرض وحيث انّ هذه الحكومة واقعية لا ظاهرية ليتحقق موضوع كلّ منها واقعاً فهو يوجب لا محالة التعارض والتساقط بين الاطلاقات الثلاثة في دليل القطع الموضوعي وهو وجوب الالتزام إذا كان موضوعها الأعم وإلاّ فإن كان قيام الأصل من باب قيامه مقام القطع الموضوعي


بدليل الحجّية فالتمسك وإن كان بدليل الحجّية ولكن بلحاظ اطلاقه للأثر الموضوعي الذي هو حكومة واقعية لا ظاهرية فهو إطلاق أجنبي عن مفاد الحكم الظاهري ، وعلى كلّ حال لا يسري التعارض والاجمال إلى دليل الأصل بلحاظ الحكم الظاهري ؛ فلا يجب الالتزام بشيء أصلاً لو لم يدع تقدم وجوب الالتزام بالمعلوم بالاجمال على اجماله بنكتة اخرى ، إلاّ أنّ هذا على كل حال لا يوجب تساقط الاصول بلحاظ آثار الواقع المترتبة تعبداً ، وهذا واضح.

الرابع : أن يكون الوجوب شرعياً وموضوعه الواقع كوجوب العمل الذي موضوعه الواقع. وهذا الوجوب لا يمكن أن يجتمع مع حرمة التشريع شرعاً الذي لا اشكال في ثبوته ، فلابد من تقييده ، فإن فسرنا التشريع باسناد ما لا يعلم إلى الدين وان كان منه واقعاً رجع إلى القسم السابق ؛ لأنّ معناه اختصاص وجوب الالتزام بالواقع المعلوم لوقوع المنافاة بين الحكمين فلابد من تقييد وجوب الالتزام بذلك.

وإن فسرناه باسناد ما ليس من الدين واقعاً إليه الذي هو نقيض موضوع وجوب الالتزام فلا منافاة بينهما حينئذٍ ، بل كان المقام بلحاظ كلا الحكمين في موارد الشك في الحكم من الدوران بين الحرام والواجب بمعنى انّه لا يمكنه الالتزام بكلا الطرفين ولا ترك الالتزام بهما معاً للمخالفة القطعية في الأوّل من ناحية التشريع ومن ناحية عدم الالتزام بالحكم الواقعي المعلوم في البين الملازم عقلاً أو عقلائياً مع الالتزامين التفصيليين في الطرفين ، وفي الثاني من ناحية عدم الالتزام بالحكم الواقعي الموجود ، ولا يكفي على هذا التقدير الالتزام بالجامع المعلوم بالاجمال لأنّ المفروض وجوب الالتزام بالحكم الواقعي بحدّه الواقعي لا العلمي والجامع المعلوم بالاجمال ولو كان أمراً واقعياً ثابتاً إلاّ أنّ الالتزام


به لا يكفي عن الالتزام الواجب إذ يعلم بزيادة الحكم على الحد الجامعي وتعلقه باحدى الخصوصيتين ، والمفروض وجوب الالتزام بالواقع بعنوانه التفصيلي فلابد من الالتزام باحدى الخصوصيتين أيضاً بناءً على انّ الواقع هو موضوع الوجوب ، فيكون من موارد الدوران بين تكليفين واقعيين تكون الموافقة القطعية لأحدهما مساوقاً للمخالفة القطعية بالنسبة إلى الآخر.

وسيأتي حكمه في بحث الدوران بين المحذورين من لزوم المخالفة الاحتمالية لهما.

كما انّه بلحاظ كل طرف في نفسه أيضاً يكون علم اجمالي بوجوب الالتزام امّا بنجاسته وحرمته أو طهارته وإباحته ، ولا يمكن الالتزام بهما معاً ـ بناءً على عدم امكان الالتزام بالنقيضين والضدين الذي لا ثالث لهما ، وإلاّ كان كالالتزام في طرفي العلم الإجمالي ـ كما انّ تركهما يكون فيه مخالفة قطعية لوجوب الالتزام ولكنه موافقة قطعية لحرمة التشريع ، فوجوب الالتزام المعلوم اجمالاً يمكن مخالفته القطعية ولا يمكن موافقته القطعة وحرمة التشريع يمكن موافقته القطعية ولا يمكن مخالفته القطعية.

وعندئذٍ إذا قلنا بأنّ العلم الإجمالي الذي لا يمكن موافقته القطعية من جهة الاضطرار إلى ترك أحد طرفيه يسقط عن التنجيز مطلقاً ـ كما هو مقالة صاحب الكفاية ـ بخلاف العلم الإجمالي الذي لا يمكن مخالفته القطعية ولكن يمكن موافقته القطعية ، حيث يكون منجزاً ـ كما هو الصحيح ـ فالنتيجة وجوب ترك الالتزامين معاً لفعلية حرمة التشريع المعلومة بالاجمال وسقوط وجوب الالتزام وإن قلنا بمقالة المشهور. والصحيح من بقاء التنجيز في موارد الاضطرار إلى


أحد الأطراف لا بعينه ـ ويسمّى بالتوسط في التكليف أو في التنجيز ـ وقع التزاحم بين التكليفين في مقام تحصيل الموافقة القطعية لأحدهما ـ وهو حرمة التشريع ـ مع المخالفة القطعية للآخر ـ وهو وجوب الالتزام ـ فيدخل في الدوران الذي أشرنا إليه بلحاظ الالتزام في طرفي العلم الإجمالي.

إلاّ أنّ هذا كلّه فرض في فرض ؛ لأنّ حرمة التشريع يقيّد وجوب الالتزام بالحكم المعلوم لا الواقعي.

مضافاً إلى ما في الكتاب من أنّ الصحيح مع ذلك جريان الاصول في تمام الأطراف حتى على هذا القول بلحاظ ترتيب الآثار العملية على الواقع غير هذا الأثر الطولي وهو وجوب الالتزام الذي موضوعه الحكم الواقعي ؛ إذ لا محذور بلحاظها وإنّما المحذور بلحاظ هذا الأثر الطولي فقط فتجري الاصول حتى التنزيلية فضلاً عن غيرها لاثبات الواقع وآثاره العملية غاية الأمر لا يترتب هذا الأثر الطولي فيسقط إطلاق الأصل بلحاظ الأثر الطولي ، لا أصله كما أفاده السيد الشهيد.

لا يقال : قد يسري التعارض إلى الأثر العملي في مورد أحد الأصلين كما إذا علم اجمالاً بأنّ الانائين امّا طهرا معاً أو تنجسا معاً وكانت الحالة السابقة لأحدهما النجاسة وللآخر الطهارة فإنّه سوف يعلم بكذب أحد الاستصحابين اجمالاً ، ولكن لا يلزم منه محذور المخالفة العملية بلحاظ آثار الواقع ابتداءً إلاّ أنّه بادخال التكليف بوجوب الالتزام في الحساب سوف يتشكل علم اجمالي امّا بوجوب الاجتناب عن الاناء مستصحب الطهارة أو وجوب الالتزام بطهارة الاناء مستصحب النجاسة وهو علم اجمالي منجز يمكن موافقته العملية وذلك


باجتناب الاناء مستصحب الطهارة والالتزام بطهارة الآخر فيسقط الأصل المؤمن في الاناء المذكور ويجب الاجتناب عنه ولا يشفع لعدم سقوطه كون الطرف الآخر لا يمكن موافقته القطعية بلحاظ علم اجمالي آخر لكونه في نفسه مجرى للأصل النافي لوجوب الالتزام بالطهارة فيكون معارضاً في رتبة واحدة مع الأصل النافي لوجوب الالتزام بالنجاسة واستصحاب الطهارة في الاناء مستصحب الطهارة فتسقط الجميع.

فإنّه يقال :

أوّلاً ـ هذا غير محذور المخالفة الالتزامية التي كان يريدها المستشكل وانعقد له أصل البحث ، فإنّ المقصود من هذا البحث أن يكون تساقط الاصول من جهة محذور المخالفة الالتزامية محضاً.

وثانياً ـ هذا المحذور غير مرتبط بجريان الاصول في أطراف العلم الإجمالي بل هو محذور في نفسه يرد على القول بوجوب الالتزام بالحكم الواقعي على كل حال ، ولهذا يرد نفس الاشكال إذا كانا معاً مستصحبي الطهارة أو النجاسة حيث لا علم اجمالي بكذب أحد الأصلين ، بل يرد الاشكال في الشبهة البدوية التي لا اشكال في جريان الأصل فيها حيث يتشكل دائماً علم اجمالي منجز بلحاظ التكليف العملي والتكليف الالتزمي فإذا شك في حرمة شرب التتن مثلاً علم اجمالاً إمّا بحرمة شربه أو وجوب الالتزام بحليته ، وهذا العلم الإجمالي يمكن مخالفته العملية وذلك بشربه وعدم الالتزام بحليته فلابد من ترك شربه مع الالتزام بحلّيته من أجل الموافقة القطعية للعلم المذكور ، وهو واضح البطلان ، وهذا يعني أنّ نفس دليل جريان الأصل العملي في الشبهة البدوية ـ الذي هو قطعي بحسب


الفرض ـ يدل بالالتزام على عدم وجوب مراعاة هذا العلم الإجمالي فتدبّر جيداً.

الأمر الرابع : لا دليل على أصل وجوب الالتزام بالتكاليف لا عقلاً ولا شرعاً.

نعم ، يجب الالتزام القلبي والتعبد بل والاظهار أيضاً بأنّ كلّ ما جاء به النبي 6 فهو من قبل الله سبحانه ، فإنّه من شؤون الإسلام وقبول الرسالة والشريعة ، وهذا التزام اجمالي بأنّ كل ما جاء به النبي 6 واقعاً صحيح ومن قبل الله سبحانه ، وهو غير الالتزام بأنّ هذا واجب وذاك حرام.

نعم ، الالتزام على خلاف الواقع المعلوم اجمالاً قد يكون مناقضاً عقلائياً مع الالتزام المذكور ، فيكون كاشفاً عن عدم الالتزام بما جاء به النبي 6 وتصديقه ، كما انّه يكون تشريعاً محرماً فيكون ممنوعاً ، إلاّ أنّ هذا غير وجوب الالتزام المبحوث عنه في المقام كما هو واضح.

تنبيه :

يمكن أن يستدلّ على عدم الوجوب العقلي للالتزام أنّه إذا كان من ناحية ادراكه لغرض وملاك شرعي فيه فهو واضح البطلان ، إذ من أين للعقل أن يدرك أغراض المولى؟ وإن كان من ناحية حكم العقل بقبح عدم الالتزام في نفسه نظير قبح الكذب ، فالوجدان يحكم بعدمه خصوصاً وانّ الالتزام يراد به مجرد فعل اعتباري نفساني في المقام ، وإن كان من ناحية انّه من شؤون اطاعة تكاليف المولى والانقياد له فالاطاعة عنوان ثانوي تابع لما يتعلق به أمر المولى ونهيه ولا يعقل أن يكون أوسع منه ، فإذا كان متعلق الأمر الشرعي فعل الجوارح لا الجوانح فلا موجب لكونه داخلاً في الاطاعة ومقوماً لها ، وهذا بيان آخر غير ما في الكتاب.


حجّية الدليل العقلي

ص ١٢١ قوله : ( أمّا المقام الأوّل ـ فالضيق في عالم جعل الحكم ... ).

ليس هنا كلام زائد غير أنّ هناك صحيحة ابن أبي العلاء عن أبي عبد الله 7 قال : « والله لو انّ ابليس سجد لله بعد المعصية والتكبر عمر الدنيا ما نفعه ذلك ولا قبله الله عزوجل ما لم يسجد لآدم كما أمره الله عزوجل أن يسجد له وكذلك هذه الامّة العاصية المفتونة بعد نبيّها 6 وبعد تركهم الامام الذي نصبه نبيّهم 6 لهم فلن يقبل الله لهم عملاً ولن يرفع لهم حسنة حتى يأتوا الله من حيث أمرهم ويوالوا الامام الذي امروا بولايته ويدخلوا من الباب الذي فتحه الله ورسوله لهم » (١).

وظاهر ذيلها أنّ الدخول من بابهم له موضوعية في أصل اتيان الله الظاهر في امتثال أحكامه تعالى ، وأنّ هذا غير ما امروا به من الولاية ، وهذه أقرب الروايات إلى مدعى الاخباري في المقام.

إلاّ انّه مع ذلك لا يمكن الاستدلال بها ؛ لأنّه :

أوّلاً ـ الحصر في المقام اضافي ، أي في قبال الأبواب الاخرى التي فتحها الآخرون المدّعون لخلافة النبي وولاية التشريع ، وليس في قبال مدركات العقل العملي إذا أمكن الوصول من خلالها إلى استكشاف حكم شرعي.

__________________

(١) وسائل الشيعة : أبواب مقدمات العبادات.


وثانياً ـ أساساً يكون استخدام العقل في استكشاف أحكام المعصومين فهو في طول بابهم لا في عرضه بحسب الدقة ، وهذا جواب صغروي آخر.

ص ١٢٤ قوله : ( المقام الثاني : دعوى قصور الدليل العقلي ... ).

مبنى هذا البحث دعوى كثرة الأخطاء والاشتباه في أحكام العقل النظري إذا استثنينا الرياضيات ؛ لكونها قريبة من الحس أو من البديهيات ، وهذا يوجب عدم حصول اليقين من الاستدلالات العقلية النظرية. وهنا بحث تاريخي لطيف في الكتاب أوّلاً. ثمّ ما ينبغي ذكره في التعليق على كلام الاخباري هنا.

ثمّ ما ذكره القوم في التعليق عليه. ثمّ بحث منطقي أساسي مع المنطق الارسطي في نفسه.

امّا تعليقنا على كلام الاخباري فيبدأ بتشقيق مراده هل هو انكار حصول اليقين بمعنى الجزم من البراهين النظرية بمجرد الالتفات إلى كثرة الخطأ فيها ـ وهو معنى انكار حصول اليقين الاصولي ـ أو انكار حصول اليقين المنطقي وهو المضمون الحقانية أي الذي لا يمكن أن لا يطابق الواقع لكونه مستنتجاً من البرهان الذي صورته بديهية الانتاج ومادته بديهية أيضاً أو منتهية إلى البداهة ، فكل عناصر البرهان مما لا يمكن خطأها فتكون النتيجة أيضاً مما لا يمكن خطأها بخلاف اليقين الاصولي أي مطلق حصول الجزم فإنّه قد يكون على أساس تصور البرهان مع كونه خاطئاً في الواقع ؛ لغفلة أو غيرها من المستدل وقد يكون على أساس الحدس أو غير ذلك.

فإذا قصد الاخباري أنّ وقوع الخطأ فضلاً عن كثرتها في البراهين النظرية العقلية يكشف عن عدم بداهة تمام عناصر الاستنتاج والاستدلال وإلاّ لاستحال ذلك ، فهذا غايته نفي حصول اليقين المنطقي لا الاصولي وما هو موضوع الحجّية


فيه الكاشفية المطلوبة اصولياً ، وحصول الجزم واليقين ولو كان على أساس تصور البرهان من قبل المستدل خطأ ، وهذا واضح.

وإن قصد الاخباري انكار حصول أصل الجزم مع الالتفات إلى هذه الأخطاء في مثل هذه البراهين العقلية فهذا قد ينقض عليه بنقضين ( كما في الدورة السابقة ) كلاهما غير وارد كما هو مذكور في الكتاب.

وقد يجاب بالحل ( كما في الدورة الاولى ) باننا وجداناً وبالتجربة نجد حصول اليقين والجزم رغم العلم بالأخطاء في بعض البراهين.

وهذا الجواب بهذه الصيغة ناقصة ، فإنّه يمكن للاخباري أن يناقش فيه بأنّ الاستناد إذا كان للبراهين العقلية لا للحدس أو القطع بلا سبب كالقطاع الذي هو خارج عن موضوع البحث حيث انّ البحث عن الأدلّة العقلية البرهانية فبعد فرض عدم البرهانية بمعنى عدم بداهة تمام عناصر الاستدلال بدليل وقوع الخطأ فيها كيف يحصل اليقين على أساس البرهان ، وامّا اليقين على أساس الحدس ونحوه فليس من باب الدليل العقلي البرهاني كما يدعيه الاصولي.

والصحيح أنّ كلام الاخباري في انكار حصول اليقين حتى الاصولي له تقريبان مذكوران في الكتاب ؛ والتقريب الأوّل منهما تقريب فني مبني على قواعد حساب الاحتمال وجوابه النقضي بالقضايا الحسية. وثانياً بالحل بأنّ هذا يفيد بالنسبة إلى تقييم استدلالات الغير لا الإنسان المستدل نفسه لأنّ المستدل الذي يعيش القضية البرهانية والدليل العقلي مدركه على يقينه البرهاني العقلي إنّما هو وجدانه العقلي وما يراه من انطباق القضايا البديهية والانتاج الصوري البديهي ، وهذا على حد الوجدان الحسّي المورث لليقين في الحسيات التي قبلها الاسترابادي كالفحص عن أخيك في المسجد ، فالمستدل يرى لنفسه انطباق


البرهان في طول هذا الفحص ، وهذا العلم بالانطباق والتشخيص كالتشخيص في المدركات الحسية حاكم على العلم الإجمالي المنقسم على أطرافه بالقانون الرياضي البديهي سواء كان علماً حسّياً كما في الحسّيات أو عقلياً كما في البرهانيات (١).

لا يقال : لما إذاً يكثر الخطأ في القضايا البرهانية دون الحسية.

فإنّه يقال : بناءً على مسلك المشهور صعوبة الفحص والوجدان العقلي وكثرة الخطأ فيه دون الحسّي وبناءً على المسلك الصحيح الذي يأتي عدم بداهة مواد القضايا على ما سوف يذكر ، وكثرة التعميمات الخاطئة القبلية فيها.

وعلى كلّ حال لا ينبغي التشكيك في امكان حصول اليقين الاصولي ولو من ناحية تصور البرهان واثباته بحسب الوجدان والفحص العقلي.

والتقريب الثاني : دعوى شبهة الملازمة بين العلم بكثرة وقوع الخطأ في القضايا العقلية وبين انتفاء حصول العلم من مثل تلك البراهين.

وهذه الدعوى أيضاً غير تامة كما هو مفصّل في الكتاب.

وامّا تعليق القوم فظاهره اثبات اليقين المنطقي في موارد البراهين العقلية إذا ما روعيت قضايا المنطق التي هي بديهية أو راجعة اليها.

وأشكل عليه الاسترابادي بأنّها تعالج الصورة دون مواد القضايا في الأقيسة.

واجيب : بأنّ الخطأ لابد وأن يرجع إلى الصورة لا المادة ؛ لأنّ البرهان مؤلف من صورة بديهية ـ الشكل الأوّل للقياس المنطقي ـ أو راجعة إلى البداهة

__________________

(١) ونكتته الحكومة مبينة في محلها من الاسس المنطقية.


ـ اشكال القياس الاخرى والاستقراء والتمثيل ـ ومادة بديهية أو مستنتجة من قياس كذلك فالخطأ دائماً يرجع امّا إلى صورة القياس المباشر أو الأسبق منه بعد فرض لزوم الانتهاء إلى قضايا أولية بديهية.

وهذا المطلب لو قبلناه ـ وسوف يأتي عدم قبوله ـ لا يبطل مدعى الاخباري من نفي اليقين المنطقي فإنّ قواعد المنطق لو فرضت بديهية كبرىً وصغرىً أي تطبيقاً أيضاً لاستحال وقوع الخطأ في البراهين فضلاً عن كثرتها ، فهذا يكشف عن عدم البداهة لا محالة امّا في مواد القضايا أو صورة القياس كبروياً أو تطبيقها صغروياً في مقام ترتيب البرهان والاستدلال العقلي ، ومع فرض عدم البداهة في عنصر من هذه العناصر الثلاثة المتشكل منها البرهان كيف تكون النتيجة برهانية واليقين بها منطقياً يستحيل خطأه؟

لا يقال : الخطأ في التطبيق يرجع إلى الخطأ في الالتفات والملاحظة والوجدان الفعلي المتقدم ذكره فيتصور المستدل البرهان مع انّه ليس ببرهان ؛ ففي فرض كونه غير مخطىء في التطبيق ومراعات القواعد المنطقية يكون استدلاله برهاناً واليقين الحاصل منه منطقياً ، وكل يقين حتى الاصولي يكون بحسب نظر صاحبه منطقياً ، والخطأ ليس في اليقين المنطقي بل الاصولي ، أي ما يكون برهانياً بحسب نظره وتطبيقه للبرهان.

فإنّه يقال : أوّلاً ـ هذا معناه عدم إمكان البرهان في أي استدلال عقلي لعدم كون التطبيق بديهياً والنتيجة تتبع أخسّ المقدمات فعندما يلتفت المستدل إلى أنّه بلحاظ التطبيق لا بداهة أي لا يستحيل عدم المطابقة للواقع فسوف لا يكون يقينه منطقياً حتى بالنسبة إليه بل اصولي كالقطع الحاصل في الجزئيات والمحسوسات الخارجية ، لأنّ القطع البرهاني هو الذي لا يمكن أن يكون خطأ


لا مجرد أن يكون مطابقاً للواقع بحسب نظر القاطع وإلاّ كان كل قطع برهانياً ، ومجرد كون القياس على تقدير عدم الخطأ في التطبيق مضمون الحقانية لا يكفي لكون النتيجة كذلك طالما هناك عنصر ثالث في الاستدلال وهو التطبيق لكبريات القياس وأشكاله ، وهل هذا إلاّ أن يقال في المحسوسات أيضاً بأنّه لو لم يخطأ في التطبيق فالنتيجة مضمون الحقانية لاستحالة التناقض مثلاً بين الموجبة الكلية المستقرئة والسالبة الجزئية ، وهي قضية بديهية فتكون قصة البرهان وكونه مضمون الحقانية كلاماً صورياً لا يرجع إلى محصل ، لأنّه يشبه قولنا : انّ كل يقين لم يخطأ فيه المستدل وكان مطابقاً للواقع فلا خطأ فيه!!

وثانياً ـ حيث انّ تطبيق قضايا المنطق وأشكالها الصورية بحسب الوجدان العقلي من الامور المحسوسة لدى الوجدان العقلي بالذات لا بالعرض فتكون كالعلوم الحضورية يقل فيها الخطأ أو ينبغي أن ينتفي بمجرد الالتفات والتروّي ، فمع كون العنصرين الآخرين ـ مواد القضايا وكبريات المنطق ـ بديهيين أيضاً كيف حصل كثرة الخطأ في البراهين العقلية بحيث أصبح أكثر من الامور الحسية الخارجية المدركة بالعرض؟ وهذا بنفسه يكشف عن خلل في هذا الطرز من التفكير المنطقي.

وأمّا البحث مع المنطق الارسطي فمجمله بالنحو المناسب للمقام أنّ المنطق الأرسطي يقسّم المعارف البشرية إلى قائمتين :

١ ـ القضايا اليقينية البديهية وهي التي يدركها العقل ويصدق بها قبل الاستدلال بتمام أشكاله ، ومن هنا تكون أولية ، أي مدركة قبل الاستدلال أو الاستقراء ، وقد تسمى بالمدركات العقلية الأولية ، أي بلا استدلال أو مع استدلال واضح بديهي للكل ، ويسمّى العقل المدرك لها بالعقل الأوّل.


٢ ـ القضايا الثانوية أو النظرية أو المكتسبة أو البعدية ، وهي التي يدركها العقل ويصدق بها من خلال الاستدلال بحيث من دونه وبقطع النظر عنه لا تصديق بها ، وقد يسمّى العقل المدرك لها بالعقل الثاني.

وفيما يتعلق بالقائمة الاولى يحصرها المنطق الارسطي في ست قضايا.

١ ـ الأوليات : وهي التي يكفي نفس تصور القضية للتصديق بها كالكل أكبر من الجزاء وامتناع التناقض.

٢ ـ الفطريات : وهي التي قياساتها معها ، كانقسام عدد الزوج إلى متساويين ، أو استحالة الدور ، ويمكن ارجاعها إلى الأوّل.

٣ ـ التجريبيات.

٤ ـ المحسوسات.

٥ ـ الحدسيات : ( الملاحظة المنظمة ).

٦ ـ المتواترات.

وبالنسبة للقائمة الثانية يدعي المنطق الارسطي أنّ الاستدلال المنطقي ينقسم إلى القياس والاستقراء والتمثيل ، إلاّ أنّ الثاني والثالث ـ حيث لا يمكن الاستقراء التام في القضايا المستنتجة بالاستقراء ـ لابد وأن يرجعا إلى القياس المستتر وإلاّ لم يكن الاستنتاج صحيحاً.

والقياس اقتراني واستثنائي ، والاقتراني على أربعة أشكال ، ترجع ثلاثة منها إلى الشكل الأوّل ، والاستنتاج على أساس القياس الاستثنائي يكون على أساس التلازم المنطقي كالتلازم بين الجزئية والكلية والأصل والعكس في الصدق.


كما انّ الاستنتاج على أساس القياس الاقتراني يكون على أساس التضمن حيث انّ كبرى القياس الكلية يثبت محمولها بتوسط الحد الأوسط على موضوع الحد الأصغر ، ومن هنا يكون سير الاستنتاج في الاستدلال القياسي من العام إلى الخاص ، وعلى أساس تطبيق الكليات والكبريات البديهية على الأخص منها.

ومن هنا وجّه إلى هذا المنهج الاشكال بأنّه لا تكون هناك معرفة جديدة ونمو وزيادة حقيقية في المعرفة عن طريق القياس والمنهج الأرسطي لأنّه ليس فيه إلاّ تحليل ما هو مجمل وتطبيق ما هو عام ، واستخراج لما هو كامن في الكبرى على الصغريات.

وبعبارة اخرى : سوف لا نحصل بناءً على هذا المنهج على كبريات كلية زائداً على القضايا العقلية الأولية.

إلاّ أنّ هذا الكلام قابل للدفع بناءً على قبول رجوع الاستقراء إلى قياس مستتر ، فإنّ الكبريات المستنتجة من هذا القياس تكون مساوقة مع كل المعارف الجديدة.

والمنطق الارسطي بعد أن فرض يقينية وحقانية القضايا الست البديهية ( القائمة الاولى ) المدركة بالعقل الأوّل وكان استنتاج المعارف النظرية منها بالعقل الثاني على أساس القياس البديهي ـ بنحو التضمن أو الاستلزام المنطقي ـ من هنا حكم بحقانية مدركات العقل الثاني أيضاً إذا روعيت قضايا المنطق الصوري ولم يقع خطأ في تطبيقها.

ولنا مع هذا المنهج كلامان كلام يتعلّق بالعقل الأوّل وكلام بالعقل الثاني :

أمّا الكلام الأوّل : فاجماله أنّ القضايا الأولية والفطرية أولية قبلية أي يدركها


العقل الأوّل ، وامّا القضايا الأربع الباقية فكلها ثانوية وبعدية ، ولا يمكن أن تكون قبلية ، فإنّ أوضح تلك القضايا الأربع هو المحسوسات ( وتتوقف الثلاثة الاخرى عليها أيضاً بحيث إذا ثبت عدم أولية المحسوسات ثبت ذلك في الثلاثة الاخرى لا محالة ) لا تكون أولية بل مستنتجة ـ والبحث عن المحسوس الخارجي الموضوعي لا الذهني الوجداني كالاحساس بالألم أو بالادراك نفسه مما يسمّى بالعلم الحضوري ـ وقد كانت هناك ثلاث نظريات سابقاً في اثبات حقانية المحسوسات ومطابقتها للواقع.

١ ـ دعوى بداهتها وأوليّتها ، وقد ناقش فيه جمع كالعلاّمة الطباطبائي بأنّها لو كانت بديهية لم يكن يقع فيها الخطأ.

٢ ـ دعوى بداهة أصل الواقع الموضوعي في الخارج على نحو الاجمال دون التفاصيل ، وهذا ما اختاره الطباطبائي.

٣ ـ دعوى اثبات ذلك بقانون العلية ، وهذا ما سلكناه في فلسفتنا وهو غير تام ، لأنّ هذا القانون يثبت وجود علة لاحساساتنا ، وامّا انها الواقع الموضوعي الخارجي أو حركة جوهرية ذاتيّة داخل نفوسنا فهو لا يتشخص بكبرى العلية.

والصحيح ما أثبتناه في مبحث الاستقراء من أنّ اثبات الواقع الموضوعي للمحسوسات إنّما يكون على أساس منهج المنطق الاستقرائي الذي سوف يأتي شرحه في الكلام الثاني ، وعلى هذا تكون هذه القضايا الأربع كلها بعدية لا قبلية ، ولكن تثبت بمنهج المنطق والاستدلال الاستقرائي لا القياسي ، والذي اصطلحنا عليه بالعقل الثالث في قبال العقل الأوّل والثاني.

وأمّا الكلام الثاني : فهو يتعلّق بما ذكره المنطق الأرسطي من حقانية المعارف


اليقينية وما يتولد منها بالمنهج القياسي لكونه برهاناً قائماً على أساس التلازم المنطقي البديهي فيكون مضمون الحقانية أيضاً.

ولنا تعليقان هنا :

١ ـ أنّ القضايا اليقينة يمكن الخطأ فيها ، أي ليست مضمونة الحقانية ، لأنّ الإنسان قد يخطأ في قضية أولية لا بمعنى انها ثانوية ويتصورها أولية ـ وإن كان هذا معقولاً أيضاً كما قلنا في الحسيات ـ بل بمعنى أنّه يخطأ فيها أو يتصورها كلية ولم تكن بكلية فإنّ أوليّة المعرفة وعدم احتياجها إلى الاستدلال لا تنافي وقوع الخطأ فيها أو في حدودها ، وهذه نكتة أساسية وقع الخلط فيها عند المنطق الارسطي ببرهان انّه قد يشك الإنسان في معلومه بالذات الذي هو أيضاً لا يحتاج إلى الاستدلال بل لا يمكن الاستدلال عليه ، كما يشك في انّه شاك أو ظانّ ، والاستدلالات على استحالة التسلسل من الشواهد على وقوع الأخطاء في مواد البراهين ، وأكثر الأخطاء في الاستدلالات العقلية تنشأ من هذه الناحية خصوصاً بعد التركيب وتأليف أقيسة واستدلالات منها.

٢ ـ انّ ما ذكر من انّ سير التفكير البشري من العام إلى الخاص على طريقة القياس دائماً غير صحيحة ، بل هناك سير آخر من العام إلى الخاص أيضاً وهو المنهج الاستقرائي في كل القضايا المستقرئة والتجريبية والحسية وكل القضايا الأربع المتقدمة ، والمنطق الارسطي كان يرجعه إلى قياس مستتر كبراه : ( الصدفة لا تكون أكثرية ) ولكن أثبتنا في منطق الاستقراء عدم أولية هذه القضية. وبذلك ينهار مبنى هذا المنطق في باب كل الكبريات الخارجية المستحصلة من التجربة والاستقراء بحيث لابد من منطق آخر شرحناه في الاسس المنطقية.


ص ١٣٥ قوله : ( المقام الثاني ـ مدركات العقل العملي ... ).

ولا كلام زائد في هذا المقام عمّا في الكتاب إلاّمن ناحية حقيقة الحسن والقبح العقليين ، فإنّه يمكن أن يقال أنّ فيهما ثلاث اتجاهات رئيسية :

١ ـ أنّهما من القضايا الاعتبارية الموضوعة من قبل العقلاء لحفظ نظامهم ـ المشهورات ـ وقد ذهب إلى ذلك بعض الفلاسفة والاصوليين.

٢ ـ أنّهما من القضايا التصديقية الواقعية ، وهذا تحته ثلاثة أقوال :

١ ـ أنّهما راجعان إلى المصلحة والمفسدة النوعيّين لا الشخصين.

٢ ـ أنّهما راجعان إلى سعة في الوجود الحقيقي العيني.

٣ ـ أنّهما راجعان إلى لوح الواقع الأوسع من لوح الوجود نظير الامكان والامتناع والضرورة في مدركات العقل النظري. فكأنّ هناك ضرورة يدركها العقل النظري وهي ضرورة وجودية وضرورة يدركها العقل العملي وهي ضرورة خلقية عملية وكلاهما من المعقولات الفلسفية الثانوية التي لها ثبوت في لوح الواقع الأوسع من لوح الوجود.

٣ ـ أنّهما راجعان إلى خصوصية ذاتية في العقل المجرد وهي الابتهاج تجاه الفعل الحسن والكراهة والاشمئزاز تجاه الفعل القبيح.

وقد تقدّم الكلام مختصراً عن ذلك في مبحث التجري وتفصيله في علم آخر. ثمّ حيث انّ مدركات العقل العملي لا يمكن بمفردها أن يستكشف منها حكم شرعي بلا ضمّ قاعدة الملازمة النظرية وهي غير تامة على ما بيّن مفصلاً في الكتاب هنا وفيما سبق فلا موضوع لأصل هذا النقاش بين الاخباري والاصولي في هذا الدليل العقلي.


ص ١٤٠ قوله : ( المقام الثالث ـ في دعوى قصور الدليل العقلي من حيث المنجزية والمعذرية ... ).

وليس في هذا المقام كلام زائد إلاّبلحاظ ما ذكر من الاعتراض الثاني على التمسك بروايات النهي عن العمل بالرأي وانّ دين الله لا يقاس بالعقول. من دعوى المعارضة بنحو العموم من وجه من طائفتين من الروايات :

١ ـ روايات الحثّ على لزوم اتباع العلم وجواز القضاء والعمل به وبراءة ذمّة العامل به.

٢ ـ روايات الحثّ على الرجوع إلى العقل وانّ العقل ما عبد به الرحمن وانّه المعاقب والمثاب ونحو ذلك مما هو موجود في أوّل الكافي كتاب العقل والجهل ـ وفيها ما هو صحيح السند ـ.

وقد حكم السيد الشهيد بوقوع التعارض بينها وبين روايات النهي عن العمل بالرأي بنحو العموم من وجه لشمول العلم للعلم الحاصل من الدليل السمعي أو العقلي حتى إذا كان حاصلاً بالنظر والرأي ، وشمول الرأي للظنون الاستحسانية ونحوها وليست علماً وشمول العقل للحكم العقلي البديهي الفطري دون الرأي فإنّه غير صادق فيه وشمول الرأي للظنون دون العقل فإنّه لا يصدق فيه وبعد التعارض والتساقط يثبت حجّية القطع الحاصل من الدليل العقلي.

ويمكن أن يناقش في ذلك :

أوّلاً ـ انّ كلتا الطائفتين مفادها حكم ارشادي لا تأسيسي فليس في شيء منهما اثبات حجّية ومنجزية أو رفع لها ، ومن الواضح انّ الارشاد إلى الحكم


العقلي بحجية العلم وحجّية العقل لا ينافي بوجه الردع عن العمل بالقطع الخاص سواء كان بمعنى الردع عن حجيته بناءً على امكانه وكونه تعليقياً أو كان بمعنى النهي عن سلوك الطريق العقلي بنحو يكون العقاب على نفس السلوك أو بنحو يكون العقاب على الواقع وتنجزه بذلك كما هو واضح ، فإنّه على كل التقادير سوف يكون هذا النهي رافعاً لموضوع الحكم المرشد إليه ولا يقاس المقام بالنهي عن اتباع الظن المعارض مع إطلاق آية النبأ مثلاً لأنّ مفاده نفي الحجّية للظن بخلاف المقام.

فالحاصل لا يعقل التنافي والتعارض بين الطائفتين وبين روايات النهي عن اتباع الرأي لو سلم دلالتها في نفسها بعد فرض كون الطائفتين ارشاديتين كما هو كذلك.

لا يقال : انّه بعد فرض امكان الردع عن القطع شرعاً أو امكان تنجز الواقع في مورده من أوّل الأمر بالمنع عن سلوك الطريق العقلي كان نفس هذا المفاد الشرعي منفياً بأدلّة الأمر باتباع العلم أو العقل لا محالة كما في الظنّ فلا وجه للحكومة.

فإنّه يقال : هذا يصحّ لو كان الدليلان معاً ظاهرين في المولوية ، وامّا إذا كان أحدهما في نفسه ظاهراً في الارشاد إلى الحكم العقلي القبلي كما في المقام ـ ولعلّه كذلك في باب النهي عن اتباع الظن ـ فالحكومة تامّة عندئذٍ.

وثانياً ـ أساساً لا إطلاق للطائفتين امّا روايات الحثّ على العمل بالعلم فهي ليست في مقام بيان حجّية العلم أصلاً حتى يتمسك باطلاقه للعلم العقلي ؛ إذ لو كان النظر إلى أدلّة لزوم تحصيل العلم بالأحكام الشرعية وتعلمها ،


فهي في مقام بيان عدم معذرية الجهل لا معذرية العلم ليتمسك باطلاقه للعلم الحاصل بالطرق العقلية ، وأمّا روايات الأمر بتعلّم الناس الأحكام الشرعية فهي خاصة وناظرة إلى العلم بحلالهم وحرامهم ، أي تعلّم الروايات الصادرة منهم وتعليمهم للناس.

وأمّا روايات الحثّ على التعقل واتباع العقل فهي أجنبية أصلاً عن باب استكشاف الأحكام الشرعية بالأدلّة العقلية الاستدلالية ، فإنّ المراد بالعقل فيها العقل الفطري أو العقل الهادي في اصول الدين وليس في شيء منها ما يمكن استفادة إطلاق منها للحثّ على اتباع الطرق البرهانية والفلسفية للكشف عن الحكم الشرعي.

ثمّ إنّ ما أبرزه السيد الشهيد 1 هنا من إمكان الردع عن دخول الطرق العقلية من أوّل الأمر والتسبّب إلى حصول القطع بها ، ويكون حكماً طريقياً لا نفسياً ، ويكون بمعنى تنجيز الواقع من أوّل الأمر لا ينفع في رفع منجزية القطع بالتكليف الحاصل بالدليل العقلي ، وإنّما يفيد فقط في رفع معذرية القطع بعدم التكليف الحاصل منه ، كما أنّه لا ينفع في رفع معذرية القطع الحاصل من الدليل العقلي صدفة وبلا تسبّب ، أو القطع الحاصل من الأدلّة العقلية التي تكون مقيّدة لاطلاقات الأدلّة السمعية ومحدّدة لها ، ممّا قد يحصل للمجتهد من خلال ممارسته ودراسته لنفس الأدلّة السمعية واستفراغ وسعه للاجتهاد فيها وفي مقدماتها العلمية ، فهذه الدعوى مضافاً إلى بطلانها إثباتاً غير نافع ثبوتاً في أكثر الحالات.


منجزية العلم الإجمالي

ص ١٤٩ قوله : ( الجهة السابعة ... ).

البحث الثبوتي عن أصل منجزية العلم الإجمالي ـ كالتفصيلي ـ لحرمة المخالفة ووجوب الموافقة وكونه بنحو العلية أو الاقتضاء مورده هنا كما انّ البحث عن جريان الاصول اثباتاً في تمام الأطراف أو بعضها مناسب مع بحث الاصول العملية ، ومنه يظهر عدم صحة ما في المصباح من انّ البحث عن حرمة المخالفة هنا والبحث عن وجوب الموافقة هناك فراجع وتأمل.

ص ١٥٠ قوله : ( حرمة المخالفة القطعية للعلم الإجمالي ... ).

لا مزيد عمّا في الكتاب من البيان ، إلاّ انّه ينبغي اصلاح ما ورد في ص ١٥١ حيث انّ ظاهره قد يوهم ارتباط المسألة بالمسلك المختار في التوفيق بين الأحكام الظاهرية والواقعية مع انّه ليس كذلك ، بل ينبغي أن يقال : بأنّ علية العلم لحرمة المخالفة تعني عدم امكان الترخيص بخلافه وهذا يكون لأحد وجهين :

١ ـ ما هو ظاهر كلمات بعض المحققين من انّ حكم العقل بمنجزيته حكم تنجيزي يقبح الترخيص شرعاً في مخالفته لأنّه ترخيص في ما هو قبيح بالفعل فلا يمكن الترخيص الشرعي على خلافه.

٢ ـ ما تقدم منّا سابقاً من انّ حكم العقل بمنجزية العلم وإن كان تعليقياً فيرتفع بورود الترخيص بخلافه ، إلاّ انّه لا يعقل ثبوتاً صدور الترخيص الشرعي


بالخلاف في مورد العلم لعدم انحفاظ مرتبة الحكم الظاهري فيه.

وكلا الأمرين غير تام في المقام ، امّا الأوّل فلما يأتي في دفع كلام الميرزا 1 ؛ وأمّا الثاني فلانحفاظ مرتبة الحكم الظاهري في موارد العلم الإجمالي لتحقق الالتباس والتزاحم الحفظي الذي هو ملاك معقولية جعل الحكم الظاهري.

ثمّ انّه جاء في مصباح الاصول انّ العلم الإجمالي علّة لحرمة المخالفة بحيث لا يجوز الترخيص الشرعي في تمام أطرافه لوقوع التضاد بينهما بلحاظ مرحلة الامتثال ـ أي المنتهى ـ لأنّ العلم الإجمالي بيان رافع لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان بحكم الوجدان بحيث لا يكون العقاب على المخالفة القطعية عقاباً من دون بيان فيقع التنافي بين اقتضاء العلم الإجمالي للامتثال وعدم المخالفة القطعية وبين الترخيص الشرعي ، وهذا بخلاف موارد الشبهات البدوية حيث لا تنافي بين الترخيص فيها وبين الحكم الواقعي لا من حيث المبدأ ؛ لأنّ المصلحة في نفس جعل الحكم الظاهري ولا بلحاظ المنتهى لأنّ الحكم الواقعي غير منجز بعدم وصوله لكي ينافي امتثال الحكم الظاهري.

وهذا الكلام فيه مواقع للنظر :

الأوّل : الاشكال المبنائي بعدم معقولية كون المصلحة في نفس جعل الحكم الظاهري على ما سيأتي في محلّه فالتنافي بلحاظ المبدأ لا يمكن حلّه بما ذكر.

الثاني : إذا كان ارتفاع التنافي بلحاظ المنتهى مبنياً على عدم منجزية الحكم الواقعي لعدم وصوله لزم عدم امكان جعل الحكم الظاهري الترخيصي في مورد يكون الحكم الواقعي المشكوك منجزاً حتى على تقدير عدم وصوله لوقوع التنافي بحسب المنتهى حينئذٍ كما في موارد الشك قبل الفحص أو الشك في


الامتثال مع انّه لا اشكال في امكان جعله فيه أيضاً.

الثالث : انّ البيان المذكور يؤدي إلى عدم إمكان جعل الترخيص الظاهري ولو في بعض الأطراف لأنّه منافٍ مع اقتضاء العلم الإجمالي للامتثال عقلاً ، وإن قيل بأنّه يقتضي امتثال الجامع وبمقدار عدم حرمة المخالفة القطعية دون وجوب الموافقة القطعية كان خلف ما هو الثابت عندهم من اقتضائه وجوب الموافقة القطعية وعدم جريان البراءة العقلية حتى في بعض الأطراف كما سوف يأتي.

الرابع : الخطأ في أصل هذه المنهجة للبحث فإنّ التنافي بين العلم الإجمالي والحكم الظاهري في مرحلة الامتثال مربوط بتحقيق محتوى الحكم العقلي بالمنجزية من حيث كونه تعليقياً أو تنجيزياً وليس مربوطاً بجريان البراءة العقلية ومنجزية الحكم الواقعي في نفسه بقطع النظر عن الترخيص الظاهري وعدمه ، إذ هذا يجعل البراءة الشرعيّة لغواً دائماً لكونه معلقاً على جريان البراءة العقلية في المرتبة السابقة وعدم منجزية الواقع في ذلك المورد لكي لا يلزم التنافي بلحاظ المنتهى ، وهذا واضح البطلان بل منجزية الحكم الواقعي يرتفع بنفس الترخيص الظاهري الشرعي لكونه تعليقياً في موارد الجهل والاشتباه بل في تمام الموارد ، غاية الأمر لابد من ملاحظة امكان جعل الترخيص الظاهري حقيقة وإمكان وصوله إلى المكلّف وهو كذلك في غير موارد العلم التفصيلي كما تقدم ، فالصحيح في منهجة البحث ما ذكره السيد الشهيد 1.

ثمّ إنّ بيان المحقق النائيني وبيان المحقّق العراقي ٠ مذكوران في الكتاب مع الجواب عليهما بما لا مزيد عليه. وكلام صاحب الكفاية 1 مذكور مع جوابه أيضاً ، إلاّ أنّ ذيله أشبه باثبات مدعى الكفاية وكأنّ الجواب الحقيقي هو الصدر فقط ، فإنّه لا يريد الفعلية من ناحية التزاحم الحفظي ، فإنّه لا يسمى بالفعلية


وبحاجة إلى بيان نكتة التزاحم الحفظي ودفع التضاد فيه بين مبادئ الحكم الواقعي والحكم الظاهري ، فلا يمكن تحميله على الكفاية بل الظاهر ارادته للفعلية بلحاظ مبادئ الحكم الواقعي من الارادة والكراهة ، وكأنّه اريد هنا الاجابة بجواب جامع صالح لانطباق كلامه على مدعانا وإن كان بعيداً.

ثمّ إنّ هنا كلاماً في تهذيب الاصول هو التفصيل بين العلم الإجمالي بالتكليف الواقعي والعلم الإجمالي بالحجة ، فالأوّل علّة تامة والثاني مقتضٍ له وقد ذكره هنا وفي بحث الاشتغال مدّعياً أنّ البحث عن العلم الإجمالي بالتكليف الواقعي محلّه هنا ، والبحث عن العلم الإجمالي بالحجة والحكم الظاهري الالزامي ـ كما في مورد ثبوت الحكم الالزامي باطلاق في دليل التكليف مع اشتباه موضوعه بين فردين في الخارج ـ محلّه بحث الاشتغال ، وأنّ الأوّل علّة تامّة من جهة لزوم التناقض وعدم امكان جعل حكم ظاهري ترخيصي مع فعلية التكليف الواقعي.

بل احتماله أيضاً محال ما لم ترتفع فعلية الحكم الواقعي ـ وهذا نظير كلمات صاحب الكفاية ـ وأمّا الثاني فيمكن جعل الترخيص فيه في تمام أطراف العلم الإجمالي ؛ لأنّه لا يلزم التناقض ، بل هو تقييد لاطلاق دليل التكليف الثابت بالحجّة (١).

ومواقع النظر في هذه البيانات عديدة ، نشير إلى بعضها :

١ ـ ما سيأتي من عدم التناقض بين الأحكام الظاهرية والواقعية ، لا في موارد العلم الإجمالي ولا الشبهات البدوية ، وهذا يرجع إلى تشخيص حقيقة الحكم الظاهري والذي هو حكم طريقي وليس نفسياً على ما سيأتي في شرح حقيقة

__________________

(١) راجع : تهذيب الاصول ٢ : ٥٢ و ٢٤٨.


الحكم الظاهري.

٢ ـ انّ الأصل الترخيصي لا يمكن أن يكون مقيداً لاطلاق أدلّة الأحكام التكليفية ، فثبوت التكليف المعلوم بالعلم الإجمالي بالحجة وإطلاق دليل الحكم الواقعي ـ الذي هو امارة ـ لا يغيّر النتيجة شيئاً ، فإنّ الترخيص الظاهري في طرفي هذا العلم الإجمالي إذا اريد جعله مقيداً لاطلاق دليل الحكم الواقعي فهو واضح البطلان ؛ لأنّ الأصل العملي لا ينفي ذلك ، وإن اريد جعله رافعاً لحجية الإطلاق فهو خلف تقدّم الأصل اللفظي والامارة على الأصل العملي.

٣ ـ انّ ما ذكر من أنّ البحث هنا عن العلم الإجمالي الوجداني بالتكليف وعليته أو اقتضائه للمنجزية في مبحث أصال الاشتغال عن العلم الإجمالي بالحجة وعليته أو اقتضائه للمنجزية لا أساس له ، بل البحث عن العلية والاقتضاء راجع إلى العلم الإجمالي بالتكليف الالزامي نفسه ، سواء كان معلومه تلكيفاً واقعياً أو ظاهرياً.

نعم ، يشترط أن يكون ذلك الحكم الظاهري الالزامي مقدماً على الأصل الترخيصي الجاري في أطراف العلم الإجمالي وإلاّ وقع التعارض بين إطلاق دليل الأصل الترخيصي في الطرفين المثبت للحكم الظاهري أي الترخيصي فيهما مع دليل ذاك الحكم الظاهري الالزامي المعلوم بالاجمال ، وهذا ما سوف يتعرض إليه تفصيلاً في تنبيه من تنبيهات مبحث الاشتغال ، وهو غير مربوط ببحث منجزية العلم الإجمالي.

ثمّ إنّ هذا البحث مكرّر في مبحث الاشتغال ج ٥ بصورة أركز وأوضح فليراجع هناك أيضاً.


ص ١٥٥ قوله : ( وجوب الموافقة القطعية ... ).

شرح حقيقة العلم : لا إشكال في انّ العلم الإجمالي علم بتحقق الجامع بين الحكمين لا الحكم على الجامع بين الفعلين على نحو التخيير حتى الجامع الانتزاعي ، وحينئذٍ قد يقال بأنّه ينحل إلى علم بالجامع أي جامع الحكم وعلم آخر سلبي بعدم كون ذلك الجامع في غير الفردين المحتملين للحكم كوجوب الجمعة ووجوب الظهر على حدّ العلم بتحقق جامع الإنسان في الدار ضمن زيد أو عمرو وهذا هو مدعى المحقق الاصفهاني 1.

ولكن من الواضح وجداناً انّ العلم الإجمالي فيه أكثر من العلم الإجمالي بتحقق الجامع والعلم السلبي بعدم كونه في غير الفردين كما إذا علم بتحقق فرد وحصة من الإنسان غير الحصص الاخرى ، فإنّه علم تفصيلي بتحقق جامع الإنسان ضمن حصة وفردٍ ما ووجود غير الوجودات الاخرى ، وليس هذا بعلم اجمالي بل في العلم الإجمالي اضافة على العلم بتحقق الانسانية في الخارج ضمن وجود عيني حقيقي يوجد علم زائد بتحقق احدى خصوصيتين خارجيتين ثابتة مع قطع النظر عن وجود الجامع.

وهذا يعني الالتزام بأنّه علم بشيء زائد على الجامع الحقيقي وهو تحقق احدى الخصوصيتين.

إلاّ أنّ هذا العلم بتحقق احدى الخصوصيتين معقول ثانوي أي يرجع إلى التردّد في الإشارة بالمفهوم إلى الخارج وإن كان قد يعبر عنه بوجود الجامع الانتزاعي أو الاختراعي ، والعلم بوجود أحدهما ، إلاّ أنّ الجامع الانتزاعي أو الاختراعي معلوم تحقّقه ضمناً في العلم التفصيلي بأحدهما ، ولكنه أقل من


العلم (١) الإجمالي كأقلية العلم بالجامع الحقيقي كالانسان ضمن الفرد التفصيلي عن العلم الإجمالي بوجود أحد الانسانين.

فالحاصل فرق وجداناً بين الإشارة بالجامع إلى واقع خارجي معين والإشارة به إلى واقع مردّد ، فالعلم الإجمالي يكون فيه التردد في الإشارة والتطبيق الذهني على الخارج بخلاف العلم التفصيلي بالجامع.

هذا مضافاً إلى البرهان المذكور في الكتاب من أنّ الجزئية لا يكون إلاّ بالإشارة إلى الخارج لا بضم مفهوم إلى مفهوم.

ومن هنا صحّ أن يقال بأنّه علم بالجامع بمعنى انّ المفهوم الذي به الإشارة جامع وكلي دائماً وانّه علم بالواقع بمعنى انّه جزئي بلحاظ الإشارة والتطبيق الذي هو ملاك الجزئية في المفاهيم دائماً وعلم بالمردّد بمعنى أنّ هناك ترديداً في الإشارة والانطباق.

ومن خلال هذا البيان نحصل على تفسير دقيق جديد لهذا النحو من المعقولات الثانوية المخترعة من قبل الذهن فإنّ ثانويتها ناشئة من كونها منتزعة عن الإشارة الذهنية المرددة بالمفهومين التفصيليين إلى مطابقه الخارجي ، وفي طول هذا الاختراع والانتزاع الذهني كأن هناك اشارة واحدة معينة بالجامع

__________________

(١) قد يمنع ذلك وأنّ الجامع الانتزاعي لا يقاس بالحقيقي حيث لا يكون أقل وضمن المعلوم التفصيلي بلحاظ الخصوصية الفردية بل ينطبق الجامع الانتزاعي على الخصوصية المعلوم تفصيلاً أيضاً. إلاّ أنّ الوجدان قاضٍ حينئذٍ بأنّ العلم التفصيلي بالخصوصية فيه زيادة على العلم الإجمالي بها ، وهذه الزيادة إذا لم يمكن تفسيرها على أساس تصوري ومفهومي تعين أن تكون الزيادة من ناحية تعيّن الإشارة في التفصيلي وترددها في الإجمالي.


الاختراعي ـ أحدهما ـ إلى مطابقة الخارجي.

وبعد توضيح حقيقة العلم الإجمالي ينبغي البحث :

أوّلاً ـ عن أصل منجزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة.

وثانياً ـ عن كونها بنحو الاقتضاء أو العلية.

أمّا البحث الأوّل : فالمشهور هو المنجزية ، وهناك مسلكان في تصويرها :

١ ـ مسلك مدرسة الميرزا 1 في بعض تقريراته من أنّ تنجيز العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية فرع تعارض الاصول وتساقطها في الأطراف.

٢ ـ مسلك المحقق العراقي والميرزا في تقريره الآخر.

وبعد ردّ المسلكين بما في الكتاب ننتهي إلى مسلك السيد الشهيد 1 وهو التفصيل بين موارد العلم الإجمالي الناشىء من التردد في قيد يعلم تقيد الواجب واشتغال الذمة به وبين العلم الإجمالي غير الناشىء من ذلك ، مثال الأوّل بعض الشبهات الموضوعية كتردد العالم الواجب اكرامه مثلاً بين زيد وعمرو فيعلم بوجوب اكرام أحدهما ، ومثال الثاني الشبهات الحكمية أو الموضوعية مع تعدد متعلّق الحكم المردد كالدوران بين وجوب الصدقة أو وجوب الصلاة.

فإنّه في الأوّل طبّق السيد الشهيد قاعدة الاشتغال على الخصوصية والقيد المعلوم تقيّد الواجب به للعلم باشتغال الذمة به يقيناً فالمكلّف يعلم هنا بوجوب اكرام أحد الشخصين وبوجوب كونه عالماً ؛ لأنّ تعلّق الحكم باكرام العالم الموجود ضمن أحدهما خارجاً معلوم وواصل ولو ضمناً فيجب الخروج عن عهدته بقاعدة الاشتغال ، وهذا بخلاف الثاني فإنّه تجري فيه البراءة العقلية


على القول بها عن كل من الخصوصيتين ولا يتنجز إلاّ الجامع المعلوم ؛ لأنّ هنا عناوين ثلاثة : عنوان الجامع ولو جامع الخصوصية بالجعل الأولي ، وعنوان هذا الفرد وذاك الفرد والأوّل باعتبار كونه مبيناً ومعلوماً لا تجري فيه قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، أمّا الثاني والثالث فكلاهما صورتان ذهنيتان مشكوكتان فتجري فيهما البراءة.

ولنا في المقام ملاحظتان :

الاولى : ما ذكرناه في هامش الكتاب ، وحاصله : انّ هناك فرقاً واضحاً وجداناً بين العلم بوجوب الجامع والشك في وجوب الخصوصية زائداً عليه كما إذا احتمل تعيّن أحد الخصال في بعض الكفارات ، وبين العلم اجمالاً بوجوب احدى الصلاتين من الجمعة أو الظهر بخوصيتهما ، فإنّه في الأوّل أصل تعلّق الوجوب بالخصوصية مشكوك بخلاف الثاني ، حيث يعلم بتعلقه باحدى الخصوصيتين.

فالحاصل كأنّه وقع خلط بين تعلّق الوجوب بالجامع والعلم بجامع أحد الوجوبين المتعلّق باحدى الخصوصيتين ، فالأوّل مجرى البراءة العقلية على القول بها دون الثاني للفرق بينهما وجداناً كما ذكرنا وبرهاناً بما تقدم من انّ الاشارة محفوظة في احدى الخصوصيتين ، فإذا قيل بكفاية ذلك في البيانية حيث انّ المراد به العلم والتصديق وقوامه بالاشارية كما تقدم فهي محفوظة بالنسبة للخصوصية بخلاف موارد العلم بتعلّق الوجوب بالجامع والشك في ارادة الخصوصية.

وإن شئت قلت : بأنّ ثبوت الإشارة التصديقيّة إلى واقع خارجي ولو بنحو


الترديد يكفي عند العقل في عدم قبح العقاب على المخالفة للخصوصية المعلومة ؛ ولعلّ هذا هو روح مقصود المحقق العراقي 1 من انّ الجامع المعلوم في المقام حيث انّه جامع مفروغ عن تخصّصه بالخصوصية فيكون منجزاً لها.

ودعوى : أنّ التردد في الإشارة وعدم تعيّنها يكفي في جريان القاعدة العقلية بحرفيّتها ؛ لأنّ كلاً من الطرفين مشكوك لا إشارة إليه كالشبهة البدويّة والإشارة إلى الجامع المعلوم يكفي فيه امتثال الجامع.

مدفوعة : بأنّ للقائل بالبراءة العقلية أن يشترط في جريانها انتفاء أصل الاشارية بالتعبير المتقدم منّا في شرح حقيقة العلم أو يشترط عدم العلم بالعنوان الإجمالي المعلوم انطباقه على احدى الخصوصيتين زائداً على الجامع المتحقّق بامتثال أحدهما بناءً على التعبيرات الاخرى في حقيقة العلم الإجمالي ، كما يشهد الوجدان بالفرق بين الموردين ، ولهذا تجري البراءة العقلائية في الشبهة البدوية دون المقرونة بالعلم الإجمالي.

فتحميل صاحب القاعدة بلزوم عدم التفرقة بين الموردين مصادرة ، فإنّه إذا اريد بذلك عدم وجود الفرق فقد عرفت وجوده سواءً على شرحنا لحقيقة العلم أو على شرحهم وان اريد عدم مفرّقية هذا الفرق فهو واضح البطلان لوضوح انّ درجة الكشف عن الخصوصية في مورد الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي أكثر من موارد الدوران بين الأقل والأكثر ، فلا معنى للمنع عن دعوى اكتفاء العقل بالمنجزية بهذا المقدار.

والحاصل : في موارد العلم الإجمالي بالتكليف يعلم بفعليّة تكليف ضمني


زائد على التكليف الضمني المتعلّق بالجامع بين الطرفين ، وهذا التكليف الضمني الزائد المعلوم غير محفوظ في موارد الدوران بين الأقل والأكثر أو التعيين والتخيير فضلاً عن الشبهات البدوية ، والعقل يحكم بمنجزيّة العلم بالتكليف الضمني كالتكليف الاستقلالي على ما هو مقرّر في بحث الانحلال في الدوران بين الأقل والأكثر.

وهذا يعني أنّ العقل لا يحكم بالبراءة عن الوجوب الضمني الزائد المعلوم لكونه معلوماً وإن كان يحتمل امتثاله وتحقق متعلّقه ضمن امتثال الوجوب الضمني المتعلّق بالجامع ، بل لولا الترخيص الظاهري الشرعي ـ حيث إنّه يجري عن كل من الوجوبين في الطرفين بحسب لسان دليله ـ يحكم العقل بوجوب الاحتياط واشتغال الذمة بالوجوب الضمني الزائد ؛ لكونه فعلياً زائداً على فعلية الوجوب الضمني المتعلّق بالجامع.

ولعمري هذه التفرقة واضحة عند العقل ووجدانية ، فلا ينبغي التسوية بين موارد العلم الإجمالي وموارد الدوران بين الأقل والأكثر ، فضلاً عن الشبهة البدوية في جريان البراءة العقلية على القول بها ، وليس ما ذكرناه من جهة انكارنا لأصل البراءة العقلية وقبح العقاب بلا بيان ، واختيار مسلك حق الطاعة حتى في الشبهات البدوية.

وإن شئت قلت : انّ وجداننا العقلي القاضي بحق الطاعة يرى ثبوت هذا الحق للمولى في موارد العلم الإجمالي ـ بقطع النظر عن الترخيص الشرعي ـ بدرجة أشد وآكد منه في موارد الشبهة البدوية أو الدوران بين الأقل والأكثر ، والله الهادي للصواب.


الثانية : بالنسبة للدعوى الثانية والقول بالتفصيل الصحيح هو المنع عن جريان قاعدة الاشتغال اليقيني في الشبهات الموضوعية حتى في مثل ( أكرم العالم ) ؛ لأنّ خصوصية كون المكرم عالماً قيد للوجوب أيضاً لا للواجب فحسب ، فيجب اكرام زيد إذا كان عالماً وعمرو إذا كان عالماً. وقيود الوجوب لا تدخل في العهدة لتجري قاعدة الاشتغال عند الشك فيها كما هو محقّق في محلّه.

وإن شئت قلت : ما يدخل في العهدة إنّما هو متعلّق الأمر والوجوب ، وهو وجوب اكرام زيد إذا كان عالماً ووجوب اكرام عمرو إذا كان عالماً ، فتعلق الاكرام وتقيده بكون المكرم عالماً ليس تحت الأمر ، وإنّما هو شرط في تعلّق الوجوب بذات تلك الحصة والفرد ، فيكون نظير ما إذا علم بوجوب اكرام زيد أو عمرو بنحو القضية الخارجية حيث لا إشكال في جريان البراءة حينئذٍ عن كل من الطرفين بخصوصيته.

نعم ، لو كان الواجب بدلياً كما إذا قال : ( أكرم عالماً ) كان متعلّق الأمر ولا وجوب صرف وجود اكرام العالم ، فتشتغل الذمة به يقيناً ، فيجب الفراغ عنه. ففرق بين الواجب البدلي بنحو صرف الوجود والواجب الانحلالي بنحو مطلق الوجود ، حيث يكون لكلّ فرد خارجي وجوب يخصّه ولكنه مشروط بكون ذاك الفرد عالماً بنحو لا يدخل تقيد الاكرام بقيد العلم في العهدة.

هذا مضافاً إلى أنّ لازم هذا التفصيل أن لا تجري في هذا القسم من الشبهات الموضوعية البراءة الشرعية أيضاً في أحد الطرفين إذا فرض انحلال العلم الإجمالي المذكور بالعلم التفصيلي بوجوب اكرام أحد الطرفين على كلّ حال ،


كما إذا قامت البينة على انّ زيداً يجب اكرامه على كل حال ، امّا لكونه عالماً أو لكونه عادلاً مثلاً إذا وجب اكرام العادل أو علم بأنّه امّا عالم أو عادل فإنّه لا إشكال في جريان البراءة عن وجوب اكرام عمرو وانحلال العلم الإجمالي بوجوب اكرام أحدهما لكونه عالماً ، مع انّه بناءً على اشتغال الذمة يقيناً بوجوب اكرام العالم لا يجدي جريان البراءة عن وجوب اكرام عمرو في الخروج اليقيني عن عهدة التكليف اليقيني بوجوب اكرام العالم ؛ ولهذا لو كان الواجب بدلياً وبنحو صرف الوجود في هذا الفرض ـ ولابد وأن يفرض فيه انحصار العالم في المعلوم بالإجمال ـ كان يجب اكرام عمرو أيضاً خروجاً عن عهدة التكليف المعلوم اشتغال الذمة به. فالحاصل كان لابدّ حينئذٍ من الاحتياط واحراز تحقّق الامتثال امّا وجداناً أو تعبداً ، والبراءة عن وجوب اكرام عمرو لا يحرز ذلك وهذا واضح ، مع انّه لا يلتزم به السيد الشهيد 1 جزماً. فالتفصيل المذكور لا أساس له.

ص ١٧٣ قوله : ( الوجه الأوّل : ما أفاده المحقّق النائيني ١ ... ).

بالنسبة للوجه الأوّل يحتمل أن يكون مقصود الميرزا 1 ما يرجع إلى المنشأ الثالث لا الأوّل أي يرى لزوم الامتثال التفصيلي مع امكانه عقلاً من باب حق الطاعة للمولى ويناسبه تعبير أجود التقريرات من أنّ هذا واجب عقلي لا تجري عنه البراءة ، فإنّ قصد القربة والحسن العبادي وجوبه شرعي لا عقلي.

وأيّاً ما كان ففي المنشأ الثالث يمكن أن يذكر وجهان :

١ ـ أن يقال بحكم العقل بوجوب الطاعة التفصيلية مع الامكان لأنّه مقتضى حق المولى على عبده نظير ما تقدم في الموافقة الالتزامية من دعوى كونها من حق المولى على عبده عقلاً.


وفيه : أوّلاً ـ النقض بالواجبات التوصلية لجريان ذلك فيها أيضاً فلماذا خصّص بالعبادات.

وثانياً ـ على تقدير ثبوته لا يكون موجباً لبطلان العمل لأنّه قد جيىء به على طبق المأمور به وإنّما هو نظير ضم معصية إلى اطاعة. نعم ، لو قيل بأنّ المستفاد من أدلّة العبادات شرطية الطاعة الكاملة في صحتها وقعت باطلة وتمّ التفصيل بين العبادات والتوصليات من حيث الصحة والفساد لا من حيث العقوبة.

وثالثاً ـ انكار حكم العقل بذلك فإنّه لا يحكم إلاّبتحقّق ما أمر به المولى ويكون متعلّق غرضه لا أكثر.

٢ ـ ما ذكره السيد الشهيد في الكتاب مع أجوبته.

ص ١٧٩ قوله : ( التنبيه الأوّل ـ انّه لو بني على تقدم الامتثال التفصيلي ... ).

لو كان مقصود الميرزا لزوم الاطاعة التفصيلية مع الامكان في تحقق الحسن أو الاطاعة فهذا وإن صحّ في المقام في نفسه إلاّ انّه حيث انّ الامتثال الإجمالي فيه حسن الاحتياط المفقود في الامتثال التفصيلي التعبدي ـ بخلاف الوجداني ـ فقد يقال بعدم حكم العقل بأولوية التفصيلية في مقام الاطاعة عن الاحتياط ، ففرق بين الامتثال التفصيلي التعبدي والوجداني من هذه الناحية ، فلا تتمّ دعوى وجدانية حسن التفصيلي في المقام حتى لو تمت في التفصيلي الوجداني ، كما انّه بالنسبة لما يرجع إلى التنبيه الثاني والتكليف العبادي المستحب أو غير المنجز ؛ إذا كان مقصود الميرزا دخالة التفصيلية في الاطاعة عقلاً كالموافقة الالتزاميةلا في تحقق التقرب شرعاً فالاستثناء صحيح لاختصاص وجوب الاطاعة العقلية بالتكاليف الالتزامية والمنجزة لا غير فتأمل.


حجّية الظنّ

ص ١٨٦ قوله : ( وعلى هذا الضوء يعرف أنّ منجزية الظن في الجهة الاولى ذاتية له بمعنى أنّها ثابتة له كما هي ثابتة للعلم ... ).

وهذا التعبير موهم فالأولى أن يقال بأنّ الظن بالالزام منجز كالقطع به وكالشك به والظن بالترخيص ليس مؤمناً لا في موارد احتمال التكليف ولا في موارد الشك في الامتثال. أمّا الثاني فلما يأتي وأمّا الأوّل فلمنجزية الاحتمال حتى الموهوم عقلاً. نعم ، لو كان هناك مؤمن آخر من قبيل البراءة الشرعية كما إذا كان بعد الفحص وفي الشبهة البدوية لا المقرونة بالعلم الإجمالي أو مؤمن عقلي كالبراءة العقلية على القول بها الذي ملاكها عدم البيان لا الظن كان ذلك المؤمن هو الحجة ، ومن هنا يعرف انّ قولهم انّ الظن ليس حجة ذاتاً يكون له معنى معقول إذا اريد به أحد أمرين :

١ ـ انّه ليس بحجة في طرف التأمين كالقطع بل يحتاج مؤمنيّته إلى جعل الحجّية له أو طروّ حالة يحكم العقل بحجيته كالانسداد.

٢ ـ انّه ليس بحجة حتى في طرف التنجيز أيضاً بخصوصيته وإنّما المنجز مطلق احتمال التكليف في موارد عدم المؤمِّن الشرعي والعقلي. نعم ، خصوصية الظن قد توجب أولوية التنجز وآكديته عقلاً من ناحية كون الانكشاف الاحتمالي فيه أكثر من الشك والوهم.


أصالة الامكان :

ص ١٨٩ قوله : ( وقبل البدأ في مناقشة هذه البراهين لا بأس بالاشارة إلى ما جاء في كلمات الشيخ 1 ... ).

ذكر المحقق العراقي 1 انّ المراد بالامكان هنا ليس هو الامكان الذاتي المقابل للامتناع الذاتي لوضوح عدم وجود امتناع ذاتي في التعبد بالظن وإنّما المراد الامكان الوقوعي المقابل للامتناع الوقوعي ، أي ما قد يستلزمه التعبد به من المحاذير العقلية الممتنعة.

وذكر في تهذيب الاصول انّ المراد بالامكان الامكان الاحتمالي كما في المقالة المشهورة كل ما قرع سمعك فذره في بقعة الامكان ، وذهب الميرزا 1 إلى انّ المراد بالامكان هنا الامكان التشريعي لا التكويني ، واعترض عليه من قبل المحقق العراقي وغيره من الاعلام انّ الامكان والامتناع لا ينقسمان إلى تكويني وتشريعي وإنّما هما تكوينيان دائماً ، والأحكام الشرعية بما لها من المبادئ التكوينية تكون مورداً للامكان والامتناع التكوينين كلزوم اجتماع المثلين أو الضدين ونحو ذلك.

ويرد على ما في التهذيب بأنّ الامكان الاحتمالي لا يعني إلاّ احتمال الوقوع والصدق في قبال الكذب وهذا المعنى لا وجه لوقوع البحث عنه في قبال أدلّة جعل الحجة والتعبد بالظن لأنّه يرجع إلى البحث عن وقوع الحجة وعدم وقوعها اثباتاً كما لا يخفى.

ويرد على ما ذهب إليه المحقق العراقي :

أوّلاً ـ بأنّ المراد بالامكان الوقوعي ما يقابل الامتناع الوقوعي أي الامتناع


بالغير لا بالذات كامتناع وجود المعلول بغير علته ، ومن الواضح انّ الاستحالة المتوهمة في المقام ليست ذلك بل هي استحالة اجتماع المثلين أو الضدين والتناقض في الغرض وهذه كلها مصاديق للامتناع الذاتي ، نعم لو لاحظنا الحكم الظاهري بما هو جعل وانشاء لا بروحه فقد يصحّ أن يقال بأنّه على تقدير الامتناع الذاتي لاجتماع مباديه مع مبادئ الحكم الواقعي يكون الانشاء ممتنعاً بالغير ؛ لأنّ مباديه ومقتضيه غير ممكنة ذاتاً. إلاّ أنّ البحث ليس عن خصوص الصياغة وانشاء الحكم الظاهري.

وثانياً ـ لا ينحصر البحث عن الامكان في التعبد بالظن بخصوص محذور اجتماع الضدين والمثلين بل من جملة المحاذير ما يكون مناقضاً مع العقل العملي والحسن والقبح العقليين ـ كما تقدم ـ وهذا ليس بابه باب الامتناع لا الذاتي ولا الوقوعي بل هو من سنخ آخر يمكن أن نسمّيه بالامتناع العملي فإنّ صدور القبيح من الفاعل المختار الحكيم لا يلزم منه لا اجتماع المثلين ولا الضدين ولا وقوع المعلول بلا علته ، وإنّما لا يقع منه لكونه حكيماً نظير ما نقول من انّ المعصية لا تصدر من المعصوم اختياراً رغم عدم امتناع صدورها منه ؛ ولعلّه مراد الميرزا 1 من الامكان التشريعي.

وهناك تفسير آخر لكلام الميرزا وحاصله : أنّ المقصود من أصالة الامكان في كلام الشيخ ليس هو اثبات الامكان المدرك بالعقل النظري بل المقصود اثبات حكم العقل بلزوم العمل ومنجزية حكم المولى وعدم امكان رفع اليد عنه في مقام العمل بمجرد احتمال الامتناع وهذا من مقولة حكم العقل العملي لا النظري ، فالمراد بأصالة الامكان الامكان في مقام الوظيفة العملية اوالمنجزية وهو امكان تشريعي عقلي عملي لا نظري.


وهكذا يتضح انّ المراد من الامكان هنا ما يقابل مطلق المحذور الثبوتي الأعم من الامتناع الذاتي أو الوقوعي أو العملي الذي لا يصدر من الشارع الحكيم ، ويمكن أن نصطلح عليه بالامكان التشريعي.

ثمّ انّ أصالة الامكان في كلام الشيخ فسّر بتفسيرين :

أحدهما ـ التعبد العقلائي بالامكان وهذا ما فهمه الكفاية واعترض عليه بالاعتراضات الثلاثة.

ثانيهما ـ ما ذكره المحقق العراقي وتابعه عليه السيد الخوئي 1 ـ وقد تخلّصوا بذلك أيضاً عن اعتراضات الكفاية الثلاثة ـ من أنّ المراد بأصالة الامكان حجّية الظهور ولزوم الأخذ بظاهر الدليل الدال على التعبد بالظن ما لم يثبت الامتناع لوضوح انّه بمجرد احتمال امتناع مدلول دليل لا يرفع اليد عن حجيته فاحتمال الامتناع كاحتمال الكذب منفي بنفس كاشفية الدليل وحجيته وليس احراز عدمه شرطاً في الحجّية والكاشفية.

ويرد على كلا التفسيرين اشكال مشترك حاصله : انّ اثبات امكان الحكم الظاهري التعبدي بأصالة الامكان التعبدية الظاهرية دور ومصادرة سواء اريد بها الأصل العقلائي أو اريد بها أصالة الظهور ، وإنّما يصحّ أن يستدل بها لاثبات حكم آخر من غير سنخ نفس التعبّد المتضمَّن في أصالة الامكان ، كما إذا احتملنا استحالة جعل اجتماع الأمر والنهي مثلاً وامكانه أو استحالة الترتب وامكانه ، وإلاّ كان منشأ الشك سارياً وجارياً على أصالة الامكان نفسه أيضاً كما في المقام ؛ وهذا هو الاشكال الأساسي الذي لابد من علاجه.

وهذا الاعتراض لم يعالجه السيد الشهيد بشكل أساسي ، خصوصاً بناءً على


التفسير الثاني ، وإنّما حاول الإجابة على اعتراضات صاحب الكفاية الثلاثة بما في الكتاب مع تعليق في الهامش على الملاحظة الاولى من الملاحظتين والاجابتين على اعتراض الكفاية الأوّل.

ويلاحظ على مجموع الإجابات على اعتراضات الكفاية في الكتاب :

أوّلاً ـ انّه يحتاج في دفع تلك الاعتراضات إلى الرجوع إلى التفسير الثاني الذي ذكره المحقّق العراقي والسيد الخوئي ٠ بحيث من دون ذلك لا يمكن اثبات التعبد العقلائي الممضى شرعاً لأصالة الامكان ، وعندئذٍ يقال بأنّ هذا تبعيد للمسافة ، فالأولى ما فعله المحقّق العراقي من تفسير أصالة الامكان ابتداءً بحجية الظهور ما لم يعلم بكذب أو امتناع مفاده.

لا يقال : إذا اريد الأخذ بالتفسير الثاني لأصالة الامكان ابتداءً ورد عليه ما ذكره السيد الشهيد 1 من سريان اشكال الامتناع إلى نفس حجّية الظهور لاشتراك نكتة الامتناع بلحاظ كل حكم ظاهري ، وهذا بخلاف ما تمسّك به السيد الشهيد في الإجابة على اعتراضات الكفاية.

فإنّه يقال : ما ذكره في دفع الاعتراضات لو تمّ فهو يتمّ في دفع هذا الاشكال ـ وهو الاشكال المشترك كما ذكرنا ـ عن التفسير الثاني أيضاً ـ ولعلّه يستفاد من الكتاب ذلك أيضاً حيث لم يتعرّض السيد الشهيد لدفع الاشكال المشترك بالنسبة إلى التفسير الثاني مستقلاًّ ـ لأنّ روح الجواب يتلخص في أنّ الحكم الظاهري مقطوع بجعله في مورده على كل حال ، وإنّما الامتناع المحتمل بالنسبة إلى اجتماعه مع الحكم الواقعي على خلافه في مورده ، فعلى تقدير الامكان يكون الحكمان معاً مجعولين وفعليين ، وعلى تقدير


الامتناع يكون الحكم الواقعي مرتفعاً لا محالة ، وحيث انّه غير الحكم الظاهري وليس من سنخه فالتمسك باطلاق أدلّة الأحكام الواقعية في موارد الأحكام الظاهرية لا محذور فيه لاثباتها تعبداً أو اثبات آثارها من وجوب قضاء أو اعادة أو غير ذلك.

وثانياً ـ أصل هذا الاستدلال لا وجه له ؛ لأنّ مفروض هذا البحث عكس ما ذكر فيه أي القطع بفعلية الأحكام الواقعية في موارد عدم العلم ، وإلاّ يلزم التصويب المقطوع بطلانه ، فأصل البحث عن امكان الحكم الظاهري بعد فرض فعلية الأحكام الواقعية في موارد الشك والظن وعدم احتمال ارتفاعها وارتفاع مباديها وإلاّ لم يكن مجال لهذا البحث. وعليه فيكون موضوع الامكان والامتناع ومركزه نفس الحكم الظاهري لا الواقعي ، فإذا لم يرتفع احتمال الامتناع بالقطع واليقين فبأصالة الامكان التعبدية أو حجّية الظهور لا يمكن اثبات ذلك لكونهما معاً حكمين ظاهريين أيضاً فيكون مصادرة ما لم نقطع بامكان الحكم الظاهري في المرتبة السابقة وهذا واضح.

فالاشكال الأساسي في هذا البحث والذي هو مشترك الورود على التفسيرين لأصالة الامكان وهو اشكال المصادرة أو الدور ؛ لتوقف ثبوت الامكان بأصالة الامكان على ثبوت امكان نفس أصالة الامكان في المرتبة السابقة ، فيستحيل اثباته بها ، لا يندفع بهذا البيان.

والصحيح : أن يفسّر أصالة الامكان في كلام الشيخ بتفسير ثالث سليم عن هذا الاشكال ، وحاصله : أن يراد بأصالة الامكان المنجزية والمؤمنية العقلية وعدم ارتفاع موضوعهما عقلاً بمجرد احتمال امتناع الحكم الشرعي بلحاظ مباديه وروحه أو كونه على خلاف الحكمة والمصلحة الممتنع على الحكيم ،


فإذا ثبت حكم وجعل شرعي ـ سواء كان واقعياً أو ظاهرياً ـ بمعنى ثبت جعل شرعي الزامي أو ترخيصي كان حجة عقلاً ، أي موضوعاً لحكم العقل بالمنجزية والمعذرية ما لم يثبت بالقطع واليقين امتناع كونه حكماً حقيقياً واجداً لمباديه المولوية ، وهذه منجزية ومؤمنية عقلية وليس حكماً شرعياً لكي يسري إليه الاشكال ، وهو احتمال الامتناع كما في التفسير المتقدم عن المحقق العراقي 1 والسيد الخوئي 1 ، فالمسألة غير مربوطة بالعقل النظري والامكان الوقوعي فيه أصلاً.

لا يقال : هذا معناه انّ ما هو موضوع المنجزية والمؤمنية عقلاً مجرد الانشاء للحكم لا روحه ومباديه وهو خلاف التحقيق.

فإنّه يقال : ليس الأمر كذلك بل المنجز والمؤمن عقلاً هو الانشاء والتصدي المولوي الذي يمكن أن يكون وراءه روح الحكم ومباديه ، أي كل جعل وانشاء مولوي لم يعلم بخلوّه عن المبادئ ـ ولو من جهة الامتناع ـ كان منجزاً ومؤمناً عقلاً ، وهذا معقول في موضوع حكم العقل العملي.

فإذا كان هذا هو موضوع حكم العقل العملي فكلما ثبت حكم شرعي كذلك ـ كما في مورد الأحكام الظاهرية إذا قام دليل عليها ـ كان محققاً لموضوع المنجزية والمؤمنية العقلية ، وهو معنى أصالة الامكان في المقام ، والله الهادي للصواب.

امكان التعبد بالظن :

اشكال نقض الغرض وامتناع تفويت المولى لغرضه الواقعي على نفسه وإن كان اشكالاً نظرياً مستقلاً عن الاشكال الثالث المربوط بالعقل العملي وقبح


الايقاع في المفسدة ، حيث يقال انّ المولى الملتفت لا يصدر منه نقض غرضه ولو فرض عدم قبحه العقلي ، ولكن حيث انّه اشكال يرتبط بمقام عمل المولى وغرضه من تشريعه للحكمين الواقعي والظاهري معاً فيكون الجواب عليه وعلى الاشكال الثالث واحداً بحسب الحقيقة ، أي ما يوجّه عمل المولى بحسب نظره على ما سيأتي ، وليس مربوطاً بالامتناع في نفسه.

نعم ، هناك تقرير آخر لنقض الغرض يقصد به نقض الغرض التكويني من جعل الحكم وهو داعي التحريك المولوي للمكلف ، والذي قد يجعل حقيقة الحكم أو قوامه وهو يناقض جعل الحكم الظاهري على خلافه ، وهذا التقرير كمحذور التضاد يجعل المحذور في نفس جعل الحكمين فيكون من سنخ محذور التضاد ، بل هو نوع منه على ما سيأتي شرحه.

ومن هنا لعل الأولى جعل اشكال نقض الغرض وتفويت المصلحة أو الالقاء في المفسدة اشكالاً واحداً حاصله : انّه لا يمكن أن يصدر من المولى الملتفت ما يفوّت عليه ملاكاته وأغراضه الواقعية ، إمّا لأنّه خلف التفاته واهتمامه بتلك الأغراض أو لكونه قبيحاً عقلاً ـ بناءً على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد وقبح تفويتها على العباد ـ ومن هنا يكون التقسيم المذكور في كلام الميرزا 1 أوضح وأولى ، وحاصله : انّ الاشكال تارة يكون بلحاظ الملاكات والأغراض الواقعية ولزوم تفويتها بالحكم الظاهري ، واخرى بلحاظ نفس الحكم الظاهري والواقعي وعدم إمكان اجتماعهما معاً في مورد واحد.

وقد فصّل مشهور الاصوليين كالشيخ الأعظم والميرزا الشيرازي والنائيني ومدرسته في مقام الاجابة على الاشكالين ، فدفعوا الاشكال في مرحلة الملاك وما يستلزمه الحكم الظاهري من تفويت له بافتراض مصلحة سلوكية أو مصلحة


التسهيل والسماحة ، أو مصلحة في نفس الجعل الظاهري ونحو ذلك ، ودفعوا الاشكال في نفس الحكم وما يلزم منه من التضاد أو اجتماع المثلين أو التناقض في الداعوية والمحركية بأجوبة اخرى. خلافاً للمحقق الخراساني ومدرسته حيث أجاب على كلا الاشكالين بجواب واحد ونكتة واحدة.

وفيما يلي نتعرض أوّلاً للاشكال الثبوتي بلحاظ اجتماع نفس الحكمين الواقعي والظاهري بحسب العقل النظري ، أي اشكال التضاد والتمانع بينهما والوجوه المذكورة في كلماتهم للاجابة عليه ، ثمّ نتعرض لما ذكر مستقلاًّ للاجابة على الاشكال من ناحية تفويت الملاكات والأغراض الواقعية.

فالبحث في مقامين :

المقام الأوّل : في دفع محذور لزوم اجتماع الضدين والتمانع بين الحكمين الواقعي والظاهري الراجع إلى مرحلة الحكم نفسه وهو لزوم محذور اجتماع الضدين في صورة المخالفة للواقع والمثلين في صورة المصادفة بناءً على عدم امكان التأكد في المقام كما هو الصحيح لعدم امكان التأكد فيهما للطولية بينهما ، وأخذ الشك في أحدهما في موضوع الآخر ، فلا يمكن أن يفترض المكلف وحدتهما وتأكدهما.

وهنا وجوه عديدة ذكرت في مقام الدفع :

الوجه الأوّل : ما ذكره المحقق الخراساني في حاشيته على الرسائل من انّ المجعول في الحكم الظاهري إذا كان هو المنجزية وقلنا بأنّها ليست منتزعة ومجعولة بالتبع من الحكم التكليفي بل مجعول بالاستقلال كحكم وضعي فلا تضاد ولا تماثل.


الوجه الثاني : ما ذكره الميرزا من انّ المجعول في الامارات والاصول المحرزة هو الطريقية والعلمية لا المنجزية فإنّها بحكم العقل ولا يمكن جعلها والطريقية حكم وضعي فلا يضاد أو يماثل الحكم التكليفي الواقعي.

والجواب : انّ هذا تأثر بعالم الصياغات وغفلة عن روح الحكم ولبه كما ذكر في الكتاب ، وحاصله : انّ الحكم الوضعي المذكور إذا لم يكن مستلزماً لحكم تكليفي مولوي ولو بلحاظ المبادئ أي الارادة والكراهة بل كان مجرد اعتبار وضعي محض فهو لغو فلا يقع موضوعاً لحكم العقل أصلاً ، وإن كان مستتبعاً لطلب موقف عملي من المكلف لزم محذور التضاد أو التماثل ما لم يرجع إلى جواب آخر.

ومثل هذين الوجهين كل وجه يحاول دفع هذا المحذور بفرض أنّ الحكم الظاهري ليس تكليفاً بل امّا يكون حكماً وضعياً أو يكون ارشاداً إلى الأقربية للواقع أو غير ذلك من الصياغات والألسنة فإنّه إن اريد من الارشادية وعدم المولوية مجرد الاخبار والكشف عن غلبة المطابقة للواقع فهذا لا أثر له كما هو واضح ، وإن كان يستتبع جعل الحجّية أو المنجزية والمعذرية ولو بلسان الامضاء لا التأسيس لزم التضاد أو التماثل المحال.

الوجه الثالث : ما يظهر من الميرزا 1 في الحكم الظاهري المجعول في الاصول غير المحرزة كأصالة الاحتياط أو البراءة أو الاباحة أو الطهارة من أنّ الحكم المذكور وإن كان مولوياً وتكليفياً ولكنه حيث انّه طريقي وليس نفسياً ، فإن صادف الواقع فلا محذور فيه أصلاً إذ لا تعدد في الحكم ليلزم التضاد أو التماثل بل هناك حكم واحد وهو الواقع ناشىء من ملاك واحد وإنّما التعدد في الانشاء والابراز حيث ابرز تارة بعنوانه الواقعي واخرى بلسان ايجاب الاحتياط


أو البراءة وإن لم يصادف الواقع فلا حكم حقيقي بايجاب الاحتياط أو الاباحة بل حكم طريقي لا مبادئ له ليلزم المحذور ، وامّا الانشاء والابراز فلا تضاد بلحاظه بين الأحكام.

وإن شئت قلت : انّ التضاد والتمانع إنّما يكون بين الأحكام التكليفية من سنخ واحد ، وامّا إذا كان أحدهما نفسياً والآخر طريقياً فلا تمانع بينهما (١).

وفيه : انّ البحث في كيفية عدم المنافاة بين الحكم الطريقي والواقعي مع كونهما معاً تكليفيين فإن كان وجهه أنّ الحكم الظاهري مجرد انشاء فارغ عن المبادئ فكيف يكون مثل هذا الانشاء موضوعاً لحكم العقل بالاطاعة والمنجزية أو المعذرية إذا فرض انّه مجرد انشاء أجوف بلا مبادئ ، فإنّ العقل لا يرى كفاية مجرد الانشاء الأجوف للاطاعة كما تقدم في ردّ الوجه الأوّل والثاني.

وما ذكره المحقق العراقي من انّه بيان للواقع على تقدير المصادفة وعذر على تقدير المخالفة تقدم في مباحث القطع ردّه.

وإن كان للحكم المذكور مبادي بمعنى الارادة والكراهة التي هي روح الحكم لزم محذور التضاد والتمانع لا محالة بين مباديه ومبادئ الحكم الواقعي.

اللهم إلاّ أن يفرض له سنخ مبادي تجتمع مع المبادي للحكم الواقعي بل متوقفة عليها ، وهذا ما يحتاج إلى بيان غير موجود في هذا الوجه ، ولو تمّ كان هو الجواب على الحكم الظاهري المجعول في الامارات والاصول المحرزة

__________________

(١) وهذا ظاهر المحقق العراقي أيضاً في تقريراته.


أيضاً لا جعل عنوان العلمية أو المنجزية.

ثمّ انّه ورد في كلمات الميرزا في تقرير هذا الوجه التعبير بأنّ الحكم الظاهري في موارد الاصول غير المحرزة كالاحتياط إذا صادف الواقع كان عينه وإذا خالفه كان تخيلياً ، وهذا على ظاهره واضح البطلان لوضوح انّ الحكم الظاهري في مورد ثبوته حقيقي وليس تخيلياً بل لا يعقل أن يكون الحكم بالاحتياط مشروطاً بالمصادفة مع الواقع ؛ ولعلّ المقصود بذلك بيان الطريقية في قبال الموضوعية لا الحقيقية في قبال التخيلية.

الوجه الرابع : ما ذكره السيد الخوئي مع جوابه في الكتاب :

الوجه الخامس : ما ذكره المحقق الخراساني في باب الأحكام الظاهرية في الاصول العملية من أنّها وإن كانت أحكاماً تكليفية ولكنها لا تنافي مع الحكم الواقعي لأنّه ليس فعلياً في موردها بل انشائي فقط أو فعلي من بعض الجهات أي سائر الجهات غير الشك الذي جعل فيه الحكم الظاهري المخالف كما هو مشروح في الكتاب مع جوابه.

وينبغي أن يلتفت إلى انّ المراتب الأربع للحكم متسلسلة بلحاظ عالم التشريع والعمل حيث انّ التنجز متأخر عن الفعلية والفعلية عن الانشاء والانشاء عن الاقتضاء والشأنية ، وامّا بحسب عالم التكوين فالانشاء متأخر عن الفعلية بهذا المعنى ثبوتاً وإن كان متقدماً عليه اثباتاً. كما انّه لابد وأن يعلم أنّ المراد انّ دليل الحكم الواقعي له مدلولان :

الأوّل : الانشاء أو الاعتبار للحكم.

الثاني : المدلول النهائي وهو مبادئ الحكم من الارادة والكراهة أو الترخيص


والتنافي بلحاظ هذا المدلول ودليل الحكم الظاهري كلما ثبت كشف عن انتفاء هذا المدلول بمقداره لا أكثر مع انحفاظ المدلول الأوّل.

كما انّه يظهر بذلك انّ تقسيم الميرزا للحكم إلى الانشاء والفعلية تقسيم مستقل عن هذا التقسيم ويراد به الانقسام إلى القضية الكلية والحقيقية التي يكون موضوعها مقدر الوجود والقضية الجزئية الفعلية في الخارج عند وجود الموضوع ، وهذا يجري في الانشاء والفعلية بمصطلح الكفاية معاً ، فإنّ كلاًّ منهما له قضية حقيقية كلية ولو في نفس المولى وقضية خارجية عند تحقق موضوع تلك القضية خارجاً.

ومنه يعرف الجواب على اشكال الميرزا 1 على الكفاية من استحالة الاهمال فيستحيل التفكيك بين الانشاء والفعلية ، فإنّ المحال التفكيك بين الانشاء والفعلية بلحاظ مرحلة واحدة من الانشاء والفعلية عند المحقق الخراساني 1 ولا يدعيه صاحب الكفاية وإنّما المدعى التفكيك بين الانشاء والفعلية بمصطلحه وهما مرحلتان ثبوتيتان للحكم في نفس المولى ولكل منهما قضية كلية حقيقية وقضية جزئية خارجية فالانشاء ليس مهملاً ولا مقيداً بالعلم بل مطلق جعلاً وفعلية ـ بمصطلح الميرزا ـ والفعلية بمعنى الارادة والكراهة في نفس المولى مقيد جعلاً أي الارادة الكلية على نحو القضية الحقيقية مقيدة بغير الشاك كما أنّها مقيدة مجعولاً أيضاً ، أي عند تحقق الشك في الخارج ، لا شمول ولا فعلية لتلك الارادة بالنسبة إلى الشاك ، وهذا هو البيان الأوضح مما في الكتاب.

ثمّ انّ المحقق العراقي في حاشيته على فوائد الاصول حاول الدفاع عن هذا الوجه بفرض معقولية التفكيك بين الجعل والفعلية ، وعدم الاستفادة من دليل الاشتراك وعدم التصويب إلاّهذا المقدار ، وقد شبّه ذلك بوضع القوانين التي


تجعل في زماننا ، فيكون فيها تفكيك بين مرحلة جعل القانون ومرحلة اجرائه المتوقف على ايصاله أو ابلاغه.

وفيه : انّ الابلاغ في القوانين هو مرحلة قانونية ؛ لأنّه به يحصل التصدي من قبل المقنّن ، وامّا قبل الاعلام في المصدر الرسمي فلا يكون هنالك الزام واقعاً على الناس ، بل مجرد اقتضاء وشأنية ولا ضير في تسميته بالانشاء ؛ وأمّا الأحكام الشرعية الواقعية فهي مبلّغة من قبل الرسول 6 والجهل بها لا يكون رافعاً لفعليتها حتى بهذا المقدار ، فالقياس في غير محلّه جدّاً ، كما انّ أدلّة بطلان التصويب تنفي هذا المقدار جزماً.

الوجه السادس : ما ينسب إلى الميرزا الكبير ويمكن تقريبه بأحد نحوين مذكورين في الكتاب مع جوابهما ، ولا شيء زائد إلاّفي جواب التقريب الأوّل ، حيث يمكن أن يضاف النقض بالحكم الواقعي الذي قد يرتب على عنوان الشك أو الظن أو العلم بالواقع ـ كما إذا كانا مأخوذين على نحو الموضوعية لا الطريقية ـ فإنّه لا شك في امتناع جعل حكم مضاد مع متعلّق الشك أو الظن أو العلم ـ على ما تقدم في مبحث القطع ـ فلو كان تعدد الرتبة كافياً لزم امكان ذلك.

الوجه السابع : ما ذكره صاحب الدرر من انّه بناءً على امكان اجتماع الأمر والنهي مع تعدد العنوان لا محذور في المقام ، لأنّ متعلق الحكم الظاهري العمل بقول العادل مثلاً ومتعلق الحكم الواقعي صلاة الجمعة وهما عنوانان متغايران وإن اتحدا في الخارج فيكون من التزاحم لا التنافي والتعارض.

ثمّ أجاب عليه بأنّه جعل الخبر طريقاً إلى الواقع معناه أن يكون الملحوظ في عمل المكلف نفس العناوين الأولية فلو قام الخبر على وجوب صلاة الجمعة في


الواقع فمعنى العمل على طبقه أن يأتي بها على انها واجبة واقعاً ، فلو فرضنا كونها محرمة في الواقع يلزم كون الشيء الواحد من جهة واحدة محرماً وواجباً وهو محال (١).

وهذا الجواب لا يدفع هذا الوجه ؛ لأنّ كون الخبر طريقاً لا يعني طروّ الحكم الظاهري على الفعل بعنوانه الواقعي بل بعنوان كونه مؤدى الخبر أو مشكوكاً أو مظنوناً فالشك أو الظن مأخوذ في موضوع الحكم الظاهري على كل حال ، وإنّما الطريقية لنفس الحكم الظاهري ، ومن الواضح انّ عنوان الاتيان بمؤدى الخبر غير عنوان الاتيان بصلاة الجمعة وإن كان معنونهما واحداً.

والصحيح في الجواب أوّلاً ـ النقض بالحكم الواقعي لو جعل كذلك ، مع انّه لا اشكال في امتناعه.

وثانياً ـ انّه مبني على امكان اجتماع الأمر والنهي مع تعدد العنوان حتى في الأوامر الشمولية والانحلالية كأكرم كل عالم ولا تحترم أيّ فاسق ، وقد تقدم منّا في مباحث الاجتماع استحالة ذلك لا من جهة عدم المندوحة ليقال انّ ذلك مربوط بمرحلة الامتثال والتكليف بما لا يطاق بل لسريان الارادة والكراهة والحب والبغض إلى الحصة الواحدة وهو محال. نعم لو فرض مصب الحكم الظاهري فعلاً ملازماً مع مخالفة التكليف الواقعي ، كسلوك الامارة إذا فرض انّه ملازم مع مخالفة الحكم الواقعي أمكن الاجتماع في المبادئ بمعنى المصلحة والمفسدة ، بل وحتى الحب والبغض ولكن لا يمكن الاجتماع في روح الحكم الذي هو الارادة والكراهة بمعنى التصدّي والطلب المولوي ؛ إذ لا يعقل طلب

__________________

(١) الدرر : ٣٥.


فعل أحد المتلازمين وترك الآخر ، فإنّه طلب للجمع بين الضدين ، وهو أيضاً كاجتماع الضدين من حيث عدم المعقولية.

وثالثاً ـ لو قيل بالامكان فغايته امكان جعل الحكم الظاهري الالزامي في مورد الشك في الحكم الواقعي لا جعل الحكم الظاهري الترخيصي في مورد الحكم الواقعي الالزامي لأنّ اجتماع عنوان مرخّص فيه مع عنوان ملزم لا يوجب التزاحم ؛ لأنّ الترخيص لا يمكن أن يزاحم الالزام لكي يؤمّن عنه ، فجعل هذه الاباحة ليس بأكثر من جعل اباحة واقعية على عنوان ملازم أو مجامع مع الواجب الواقعي ، والذي لا يوجب التأمين عنه ، ولا يسوّغ ترك الالزام ، وهذا واضح.

الوجه الثامن : ما نسبه في الدرر إلى السيد الفشاركي 1 وهو مؤلف من مقدمات ثلاث :

١ ـ أنّ الأحكام ومباديها من الارادة والكراهة والحب والبغض لا تتعلّق ابتداءً بالموضوعات الخارجية بل إنّما تتعلّق بالمفاهيم المتصورة في الذهن لا من حيث هي موجودة في الذهن بل من حيث انها حاكية عن الخارج فالشيء ما لم يتصور في الذهن لا يتصف بالمحبوبية والمبغوضية.

٢ ـ إنّ العنوانين الذي يكون أحدهما محبوباً والآخر مبغوضاً إذا فرض إمكان اجتماعهما وتعقلهما معاً في الذهن كعتق الرقبة وكونها كافرة فلا محالة إذا فرض اجتماعهما في مورد واحد لابد إمّا من تعلّق الحب بالمقيد منهما أو البغض بأن يكون طرو أحد العنوانين رافعاً لمقتضي العنوان الآخر أو الكسر والانكسار فلا يكون مطلوباً بالفعل ، وهذا هو حال القيود العنوانية التي يمكن أن تجتمع مع


العنوان المطلق ، وأمّا إذا فرض أنّ العنوانين مما لا يمكن تعقلهما معاً في الذهن ، بحيث يكون المتعقل أحدهما دائماً لا مع الآخر فلو فرض انّ أحدهما كان فيه جهة تقتضي المطلوبية والآخر فيه جهة تقتضي المبغوضية أو الاباحة وعدم المطلوبية فلا وجه لفرض التزاحم أو الكسر والانكسار بينهما بل اللازم انّه متى تصور العنوان الذي فيه جهة المطلوبية يكون مطلوباً صرفاً من دون تقييد بعدم العنوان الآخر لعدم تعقل منافيه معه ومتى تصور العنوان الذي فيه جهة المبغوضية يكون مبغوضاً كذلك لعدم تعقل منافيه بحسب الفرض.

٣ ـ انّ العنوان المتعلّق للاحكام الواقعية مع العنوان المتعلّق للأحكام الظاهرية مما لا يجتمعان في الوجود الذهني أبداً ؛ لأنّ الأوّل مبني على ملاحظة المولى للعنوان الواقعي كصلاة الجمعة مجرداً ومع قطع النظر عن لحاظ حكمه الواقعي وهو الوجوب ليجعل له ذلك وإلاّ كانت قضية بشرط المحمول بل هو غير ممكن في التقسيمات الثانوية عندهم ، والثاني مبني على ملاحظته بلحاظ حكمه ووصف كونه مشكوك الحكم ولا يمكن الجمع بين لحاظ التجرد عن الحكم ولحاظ ثبوته معاً فإنّه تهافت.

وبعبارة اخرى : صلاة الجمعة التي كانت متصورة في مرتبة كونها موضوعة للوجوب الواقعي لم تكن مقسماً لمشكوك الحكم ومعلومه ، وإنّما التي تتصور في ضمن مشكوك الحكم تكون مقسماً لهما فتصور ما كان موضوعاً للحكم الواقعي والظاهري معاً يتوقف على تصور العنوان على نحو لا ينقسم إلى القسمين وعلى نحو ينقسم اليهما وهذا مستحيل في لحاظ واحد.

ونتيجة هذه المقدمات أنّه لا تنافي ولا تضاد بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي لأنّ متعلّق أحدهما لا يتعقل مع الآخر أبداً فكلما تصور المولى ذات


صلاة الجمعة مجردة عن قيد مشكوكية الحكم لم تكن إلاّمطلوبة ومتى تصورها المولى بقيد كونها مشكوكة الحكم تكون مبغوضة أو غير مبغوضة ولا غير فلا منافاة في البين (١).

وفيه : أوّلاً ـ النقض المتقدم بأنّ هذا يستلزم امكان جعل حكم واقعي مناقض في مورد الشك أو الظن أو العلم بالحكم الأوّل وهو مسلّم الامتناع عند الكل.

وثانياً ـ الحل وحاصله : انّ ما ذكر في المقدمة الاولى وان كان تاماً إلاّ أنّ ما ذكر في المقدمة الثانية والثالثة غير تام فإنّ عدم تعقل العنوانين واجتماعهما معاً تارة يكون من جهة عدم امكان اجتماع الملحوظين بهما ، واخرى يكون لعدم امكان اجتماع اللحاظين لخصوصية فيهما مع كون الملحوظ بأحدهما مجتمعاً ومنطبقاً على الملحوظ بالآخر ، ففي التقدير الأوّل يتمّ ما ذكر في تلك المقدمة من عدم وقوع تمانع أو كسر وانكسار بين جهة المطلوبية في أحد العنوانين مع جهة المبغوضية أو عدم المحبوبية في الآخر لأنّ المفروض عدم انطباق شيء منهما على الآخر فيكونان متعددين عنواناً ومعنوناً وخارجاً. وأمّا التقدير الثاني فلا يكفي لرفع التمانع بين جهة المطلوبية وجهة المبغوضية في العنوانين لأنّ عدم الاجتماع إنّما هو بلحاظ قيد التجرد وعدم التجرد الذي هو من شؤون اللحاظ فحسب لا الملحوظ بالذات وإلاّ لاستحال انطباقهما على الخارج في مورد واحد ومجرد التغاير بين اللحاظين من ناحية شؤون نفس اللحاظ مع وحدة الملحوظ بالذات لا يكفي لدفع غائلة التضاد ، ألا ترى انّه يستحيل الأمر باكرام الإنسان والنهي عن اكرام الحيوان الناطق رغم تغايرهما في اللحاظ.

__________________

(١) راجع الدرر : ٣٥١ ـ ٣٥٤ ، ط ـ جامعة المدرسين ، قم.


وإن شئت قلت : انّ خصوصية التجرد عن القيد المذكور خصوصية في عالم اللحاظ وليس مأخوذاً في الملحوظ وقيداً فيه وهذا يعني سعة وإطلاق الملحوظ وقابلية انطباقه على المقيّد كما هو كذلك في جميع المطلقات التي تلحظ فيها الطبيعة مجردة عن القيد ، فالتجرد خصوصية في اللحاظ في المطلق مع وحدة ملحوظه مع ذات الطبيعة في المقيد ولهذا قلنا في محله بأنّ النسبة بين التصور المطلق والمقيد من حيث الملحوظ أقل وأكثر وان التقابل بينهما بالسلب والايجاب ومن حيث نفس اللحاظ بينهما تباين لكون كل منهما صورة ذهنية غير الآخر ، وانّ التقابل بينهما بهذا الاعتبار يكون بالتضاد.

وثالثاً ـ النقض بسائر القيود حتى الأولية لأنّ المطلق مع المقيد يستحيل اجتماعهما في لحاظ واحد أيضاً ، لأخذ التجرد قيداً في اللحاظ المطلق ـ على ما تقدم في مبحث المطلق والمقيّد ـ ومنه يعرف عدم تمامية المقدمة الثالثة ، بمعنى أنّ ذات الملحوظ في التعقلين والتصورين الذهنيين إذا كان واحداً كان مقسماً واحداً لهما كما في المطلق والمقيد ، وإن كان المطلق بما هو مطلق لحاظه مبايناً مع المقيّد بما هو مقيّد في الذهن ؛ لأنّ معروض الحكم هو الملحوظ مع قطع النظر عن كيفيّات لحاظه بالحمل الشايع في الذهن فيكون ما هو موضوع للحكم الواقعي وما هو موضوع للحكم الظاهري مجتمعين في عالم التعقل لا محالة ، ويكون الملحوظ هو المقسم لهما معاً كما هو واضح.

وإن شئت قلت : انّ ما ذكر في المقدمة الثالثة من الفرق بين المقام وبين سائر القيود والتقسيمات الأولية غير تام ، إذ لو اريد عدم اجتماع اللحاظين من ناحية أخذ التجرد عن القيد في الملحوظ للمطلق فهو واضح البطلان وإن اريد أخذه قيداً للحاظ فهذا مشترك في تمام المطلقات والمقيدات.


الوجه التاسع : ما ذكره المحقق العراقي 1 بعد ردّه لكلام صاحب الدرر المتقدم عن استاذه الفشاركي بما يشبه ما ذكرناه ، أفاد وجهاً آخر حاول أن يثبت به أنّ للذات الملحوظة مرتبتين طوليتين في الذهن في موارد الحكم الظاهري وذلك ببيان الفرق بين موارد التقييد بنحو النسبة الناقصة ولو بالقيود الثانوية كما في صلاة الجمعة وصلاة الجمعة مشكوكة الوجوب وبين موارد القضية الشرطية كما إذا قال : إذا كانت صلاة الجمعة مشكوكة الوجوب جاز تركها ، فإنّه في الأوّل تكون ذات صلاة الجمعة ـ الملحوظ ـ محفوظة في المقيد أيضاً غاية الأمر مع اضافة التقيد بالقيد عليها ، وامّا في الثاني فما هو موضوع الحكم في الجزاء ليس هو الذات المقيدة فإنّ هذا خلاف ظاهر الشرطية ، وفرقها عن القضايا الوصفية ولا الذات المطلقة فإنّه خلاف التعليق والشرطية ، وإنّما هي الذات المنتزعة في المرتبة المتأخرة عن اتصاف الذات بوصف المشكوكية في جملة الشرط فكأنّ الذهن يرجع إلى الذات الموصوفة بوصف المشكوكية في جملة الشرط ليتصور في طول ذلك ذات صلاة الجمعة المنتزعة عن ذلك المقيد ـ الموصوف مع وصفه ـ ومن هنا تكون الذات المتصورة في هذه المرتبة رغم تجردها عن القيد طولية وبالتالي غير مطلقة وغير منطبقة إلاّفي فرض تحقق الشرط. فإذا تعددت مرتبة الذات لم يلزم وحدة معروض الارادة والكراهة والحكم الواقعي والحكم الظاهري ، وقد نظَّر ذلك بما ذكره في التجري من أنّ الفعل بعنوانه الأولي حسن وبعنوان كونه تجرياً يكون قبيحاً لأنّ الذات ملحوظة في مرتبتين طوليتين فيكون هناك ذاتان في عالم الذهن أحدهما موضوع للارادة والاخرى للكراهة أو اللاارادة.

ثمّ استظهر من أدلّة الأحكام الظاهرية رجوعها جميعاً إلى قضايا شرطية


تكون المشكوكية أو قيام الامارة أو غير ذلك حيثيات تعليلية لطروّ الحكم الظاهري على ذات الفعل بعنوانه الواقعي.

وفيه : أوّلاً ـ ما تقدم من النقض الأوّل على كلام صاحب الدرر ولعله يقبله ؛ لأنّه يذكر ذلك حتى على القول بالسببية.

وثانياً ـ وجدانية عدم الفرق بين الشرطية والوصفية في حل غائلة التضاد.

وثالثاً ـ ما تقدم من الجواب الحلّي على كلام صاحب الدرر فإنّ مجرد التغاير في اللحاظ ولو بحسب الرتبة الذهنية للتصور والانتزاع لا يكفي لدفع الغائلة إذا كان الملحوظ بالذات مما يمكن اجتماعهما وانطباقهما في مورد واحد.

ورابعاً ـ ما ذكر من أنّ الذات تتصور في رتبتين فهناك ذاتان في مرحلة التعقّل لا نتعقله في باب المفاهيم فإنّ أي مفهوم عندما يتصور فاما أن يلحظ معه قيد فيكون مقيداً أو لا يلحظ فيكون مطلقاً بناءً على ما تقدم في محله من انّ التقابل بينهما بالسلب والايجاب فالطولية في التصورين لذات الطبيعة لا نتصور له معنىً معقولاً ، لا بالنسبة للملحوظ ولا بالنسبة للحاظ نفسه ، وارجاع الضمير إلى ذات الطبيعة لا يعني الطولية كما هو واضح بل الذهن امّا أن يتصور ذات الطبيعة فقط فيكون مطلقاً أو يتصورها مع القيد فيكون مقيداً من دون فرق بين الجمل الشرطية أو الحملية.

نعم ، الفرق بين الجملتين أنّ الشرط قيد للحكم في الجزاء بعد طروه على موضوعه المطلق في عقد الوضع فلا تقييد في المفهوم الافرادي للموضوع في الجزاء بل هو مطلق وإن كان بتبع تقيّد الحكم لا أثر لهذا الإطلاق بينما القيد في الجملة الحملية يرجع إلى الموضوع في عقد الوضع قبل طروّ الحكم عليه بنحو


النسبة الناقصة التحصيصيّة.

الوجه العاشر : ما ذكره في حقائق الاصول تقريراً لكلام المحقق العراقي 1 في دفع شبهة التضاد وهو مذكور في الكتاب مع أجوبته ، وظني أنّه مع الوجه الذي قبله في الكتاب يرجعان إلى مطلب واحد ذكره العراقي لدفع شبهة نقض الغرض لا شبهة التضاد فإنّه يدفعها بطريقية الأحكام الظاهرية وخلوها عن المبادئ والارادة والكراهة ، فلا تضاد لا في المبادي للحكم وروحه ولا في الجعل والاعتبار وإنّما المهم عنده دفع شبهة نقض الغرض وتفويت المصلحة أو الالقاء في المفسدة ـ أي المحذوران الملاكيان وإن كان يجعل الأولى منهما محذوراً خطابياً في تعليقه على الفوائد على ما سوف يأتي ـ.

الوجه الحادي عشر ـ ما ذكره المحقق الاصفهاني 1 في المقام وهو يتوقف على مقدمة حاصلها : انّ حقيقة الحكم التكليفي في الأحكام الشرعية بل في مطلق من كان تكليفه لأجل صلاح الغير عبارة عن انشاء البعث أو الزجر بداعي جعل الداعي من دون لزوم ارادة أو كراهة والشوق والبغض بالنسبة إلى فعل المكلف في نفس المولى ؛ لأنّ الشوق النفساني لا يكون إلاّلأجل فائدة عائدة إلى جوهر ذات الفاعل أو إلى قوة من قواه وإلاّ فحصول الشوق الأكيد بالاضافة إلى الفعل على حدّ المعلول بلا علّة وهو محال ، ففرض كون الارادة تشريعية ومتعلقة بفعل الغير فرض عدم وجود شوق مؤكد نحو الفعل ، وإنّما هو مجرد الانشاء بداعي جعل الداعي وتحريك المكلف لمصلحة راجعة إليه وإنّما يتصور الشوق الأكيد في فعل الغير إذا كان ذا فائدة عائدة إلى المريد ايّاه وفي مثله يحمل المولى المكلف على الفعل بأي صورة كان بحيث يستحيل التخلف وفرض العصيان وهذا خارج عن باب الأحكام الشرعية.


فإذا اتضحت هذه المقدمة يقال : بأنّه لا تنافي بين الحكم الواقعي والظاهري إذ لو اريد التنافي بلحاظ مبادئ الحكم في نفس المولى من اجتماع الشوق المؤكد والحب مع البغض فقد عرفت في المقدمة انّ الأحكام الشرعية لا تستلزم ذلك ، وإن اريد التنافي بلحاظ الحكم المجعول أي البعث والزجر فالتنافي في البعث والزجر إنّما يكون فيهما بالحمل الشايع أي فيما يكون بعثاً حقيقياً بالفعل أو زجراً كذلك لا بين انشائهما بداعي جعل الداعي والبعث والداعوية الفعلية بالحمل الشايع فرع تحقق موضوع ذلك الانشاء المجعول على نهج القضية الحقيقية ووصوله إلى المكلّف امّا مع عدم وصوله فلا يكون بعث وداعوية حقيقية وبالحمل الشايع وإنّما داعوية انشائية ، ولا تنافي بينها وبين الحكم الظاهري الفعلي.

وإن شئت قلت : تمام ما بيد المولى جعل ما يدعو بالامكان أي إذا وصل ، وأمّا الداعوية الفعلية وبالحمل الشايع والتي يكون التضاد والتنافي بلحاظها فهي بحكم العقل ولا يمكن اجتماع حكمين كذلك في موارد الأحكام الظاهرية ؛ لأنّه فرع وصول الحكم الواقعي وبه يرتفع موضوع الحكم الظاهري.

وفيه : أوّلاً ـ وجدانية امكان ثبوت الارادة والشوق في موارد الأحكام والارادات التشريعية نحو فعل الغير أيضاً ، وما ذكر من لزوم حصول العلة بلا معلول وهو محال مبني على تصور فلسفي مغلوط في مبحث الطلب والارادة من افتراض الشوق المؤكد علة للمراد وليس كذلك ، ومن هنا يعقل تعلق الشوق المؤكد تارة بفعل المشتاق نفسه واخرى بفعل الغير بارادته من دون لزوم المحذور المتقدم لعدم كون الارادة والشوق علّة في باب أفعال المختارين أصلاً ، وتفصيله متروك إلى محلّه. ولا أقل من انّه ليس علة في خصوص ما إذا تعلّق


بفعل الغير عن ارادته ، لأنّ عليته خلف تعلقة بخصوص الحصة الصادرة من الغير باختياره وارادته لا مطلقاً.

وثانياً ـ لو سلّمنا ذلك وافترضنا انّ مبادئ الأحكام الشرعية مصالح تعود للغير مع ذلك يتعقل التنافي بلحاظ المبادئ للحكم لوضوح انّ الانشاء والبعث أو الزجر بداعي جعل الداعي لا يكون جزافاً بل على أساس ملاحظة تلك المصلحة الفعلية التامة الاقتضاء ، أي غير المنكسرة مع مصلحة اخرى فلابد من فرض أصل المصلحة العائدة للغير ، وفرض عدم انكسارها بمصلحة مزاحمة في باب الارادة التشريعية ؛ ففرض وجود حكمين وجعلين متضادين في مورد واحد يستلزم اجتماع المصلحة والمفسدة والغرضين المتنافيين في المتعلق بلا كسر وانكسار وهو من اجتماع الضدين في مبادئ الأحكام لا محالة.

وثالثاً ـ إذا مشينا حسب هذه التصورات مع ذلك قلنا بأنّ التنافي والتضاد بلحاظ البعث والزجر الفعليين وبالحمل الشايع محفوظ في المقام إذ لا ينبغي أن يراد بالبعث بالحمل الشايع الانبعاث الخارجي المساوق مع الاطاعة والامتثال وإلاّ لم يكن البعث فعلياً في حق العاصي وهو واضح البطلان وإنّما المقصود البعث على تقدير الاستجابة لحكم العقل المساوق مع التنجز بحسب مصطلحات الآخرين ، ومن الواضح أنّ الحكم الواقعي في موارد الحكم الظاهري قد يكون منجزاً لولا الجعل الظاهري كما في موارد الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي أو في الشك في الامتثال أو قبل الفحص بل مطلقاً بناءً على انكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

فالحاصل انشاء البعث إنّما يكون بداعي جعل الداعي والمحركية على تقدير الوصول الأعم من الوصول القطعي أو الاحتمالي المنجز ، فإذا فرضنا انّ التضاد


بين الأحكام التكليفية لابد وأن تلحظ في مرحلة ما هو بعث بالحمل الشايع وبالفعل لزم التضاد في هذه المرحلة بين الحكمين الواقعي والظاهري ، وهذا وإن كان روحاً هو اشكال نقض الغرض إلاّ انّه حسب منهجة هذا المحقق في فهم الأحكام التكليفية وكيفية التضاد فيما بينها يمكن جعله محذوراً خطابياً ؛ لأنّ حقيقة الخطاب الفعلي عنده ما يكون بعثاً بالحمل الشايع ، فيكون مركز التضاد ذلك لا محالة ، ولكان جعل الحكم الظاهري مساوقاً للتصويب وارتفاع الحكم الواقعي بما هو حكم وبعث بالحمل الشائع.

ورابعاً ـ بالنقض بما إذا كان الحكم الظاهري واقعياً فإنّه لو تمّ هذا الوجه لجاز جعل حكم واقعي مضاد في مورد الشك أو الظن في الحكم الواقعي ، مع انّه لا اشكال في لزوم التضاد فيه.

ومن مجموع ما ذكرناه ظهر أنّ الأجوبة المذكورة لدفع اشكال التضاد كلها قد أخطأت الطريق ؛ لأنّ جملة منها حاولت علاج الموقف عن طريق ملاحظة القيود والكيفيات اللحاظية الذهنية لدفع اشكال التضاد ، غافلين عن أنّ وحدة الملحوظين في اللحاظين الذهنيين المختلفين وانطباقهما في الخارج على مورد واحد هو ميزان التضاد ، وبعضها حاولت اخلاء الحكم الظاهري عن المبادئ كلاًّ وكونه مجرد انشاء وضعي أو تكليفي أجوف ، أو كون مباديه في نفس جعله فلا يلزم التضاد في متعلّق الحكم غافلين عن أنّ هذا يجعله مجرّد لقلقة انشاء ، لا يمكن أن يقع موضوعاً لحق الطاعة والمنجزية والتحريك نحو متعلقه ، وبعضها أنكرت المبادئ في كلا الحكمين الواقعي والظاهري معاً ، وجعلت روح الحكم وحقيقته البعث والتحريك بالحمل الشائع المتقوّم بالوصول ، وحيث لا يصل الحكمان معاً فلا تضاد بينهما ، وقد عرفت أنّه أسوأ الحلول والأجوبة مبناً وبناءً ،


كيف ولا ينبغي الشك في أنّ المشرّع لا يمكنه ـ مع قطع النظر عن وصول تشريعاته للمكلفين أو عدم وصولها ـ أن يحكم في مورد واحد بحكمين متضادين ، وهذا واضح.

والمنهج الصحيح والحلّ اللازم في دفع اشكال التضاد أن نصوّر حكماً ظاهرياً له مبادئ حقيقية في نفس المولى ـ لا مجرّد لقلقة انشاء ـ لكي يمكن أن يقع موضوعاً لحكم العقل بالطاعة والمحركية المولوية ، وفي نفس الوقت لا تكون تلك المبادئ مناقضة أو مضادة مع مبادئ الحكم الواقعي ، بل قابلة للاجتماع معها في موارد الشك وعدم العلم بالحكم الواقعي ، وهذا المنهج سوف يتضح في نهاية المطاف.

المقام الثاني ـ في دفع المحذور الملاكي والذي يمكن تقريبه بأحد نحوين :

الأوّل : ما يحكم به العقل من قبح تفويت المصلحة بجعل الحكم الظاهري على خلاف الواقع على المكلف أو القائه في المفسدة.

الثاني : ما يلزم من جعل الحكم الظاهري من نقض الغرض من الحكم والخطاب الواقعي وهو ممتنع وهذا الغرض إذا اريد به الفرض من المأمور به الذي هو نفس المصلحة والمفسدة أو أي غرض آخر يريده المولى ، رجع إلى الوجه الأوّل بروحه ، ويكون محصل الوجه الأوّل لزوم تفويت الغرض من التكليف والذي إذا كان من نوع المصلحة أو المفسدة فتفويت المصلحة والالقاء في المفسدة يكون قبيحاً عقلاً ، وإلاّ فهو لا يصدر من الملتفت ، ولو فرضنا انكار الحسن والقبح العقليين أو المصلحة والمفسدة في متعلقات الأحكام كما على مسلك الأشعري.


ومن هنا قد يقرر محذور نقض الغرض بنحو آخر حاصله : لزوم نقض الغرض بلحاظ المنتهى والمقصود من جعل الخطاب الشرعي ، فإنّ الغرض المولوي من جعله وانشائه هو ايجاد الداعي وتحريك المكلف نحو الامتثال ، فالمنع عن ذلك بجعل حكم ظاهري مخالف خلف ذلك الغرض المولوي.

وإن شئت عبّرت عنه بأنّه يستلزم التناقض أو التضاد بلحاظ الغرض من جعل الخطاب ؛ لأنّ الخطاب إنّما يجعله المولى بغرض المحركية ولو في طول وصوله ومنجزيته فجعل ما يمنع عن ذلك ويصدّه وينافيه خلف ممتنع ـ ولعله لهذا جعله المحقق العراقي 1 محذوراً خطابياً لا ملاكياً ؛ لأنّ قوام الحكم بذلك ـ وهذه غير شبهة اجتماع الضدين في المنتهى والمنجزية والمعذرية ليقال في دفعه بعدم اجتماع الحكمين موضوعاً ووصولاً لدى المكلف ، بل هذا محذور ثبوتي في حق المولى وغرضه التكويني من الجعل ، والذي يكون قوام الحكم والجعل ، كما انّه غير شبهة تفويت المصلحة أو الايقاع في المفسدة بلحاظ فعل المكلف ، كما هو واضح.

وظاهر كلمات المحققين العراقي والاصفهاني الالتفات إلى هذه الشبهة ومحاولة الجواب عليها بما سوف يأتي.

وأمّا مدرسة المحقق النائيني 1 فقد اقتصرت على المحذورين التنافي بلحاظ المبادئ ـ المحذور الخطابي ـ ولزوم تفويت المصلحة أو الالقاء في المفسدة ـ المحذور الملاكي ـ.

وقد يقال : انّ الحق مع الميرزا 1 ؛ لأنّ الغرض أو الارادة من وراء جعل الخطاب ارادة غيرية تكوينية تابعة للغرض النفسي وللارادة التشريعية المتعلقة


بفعل المكلّف فإذا لم يكن بلحاظ الغرض النفسي تفويت ونقض للغرض فلا تفويت بلحاظ الغرضي الغيري أيضاً.

إلاّ أنّ هذا الكلام غير تام وذلك :

أوّلاً ـ لأنّ غايته انّ ما يكون جواباً على المحذور الملاكي الأوّل يمكن أن يكون جواباً على المحذور الثاني ، وهذا لا ينافي تعدد الاشكال والمحذور.

وثانياً ـ ما سيأتي من عدم الملازمة في الجواب على المحذورين فمثلاً قد يدفع المحذور الأوّل الملاكي بأنّ هذا التفويت حاصل في حق المكلف على كل حال لو فرض انّ موارد علمه بالواقع يكثر فيها الخطأ مثلاً بحيث لا يقل التفويت فيه عما إذا كانت الامارة حجة بينما هذا الجواب لا يجدي في دفع محذور نقض الغرض بالتقريب الثاني ، إذ الغرض من جعل الخطاب الواقعي بعد أن كان ايجاد الداعي وتحريك العبد نحو الفعل ولو في طول الوصول الاحتمالي فكيف يناقض ذلك بجعل الترخيص ولا ينقض بموارد الفوات من نفسه نتيجة خطأ علم المكلّف ؛ لأنّه عذر بحكم العقل وليس مستنداً إلى الشارع لينافي إطلاق جعله ، وكذلك لو اخترنا المصلحة السلوكية في دفع اشكال قبح تفويت المصلحة أو الالقاء في المفسدة ، فإنّه لا يكفي لدفع محذور نقض غرض الجعل الواقعي ، فإنّه إذا لم يكن من أجل ايجاد الداعي والتحريك ولو في طول الوصول فلماذا جعل مطلقاً وان كان فلماذا منع عن داعويته ومحركيته فهذا اشكال مستقل يحتاج إلى بيان الجواب عليه مستقلاًّ.

وأيّاً ما كان لابد من ملاحظة كلمات القوم في كيفية حلّ المحذور الملاكي بكلا تقريبيه فنقول : لا إشكال في انّ الأجوبة المتقدمة في دفع المحذور


الخطابي ـ محذور التضاد ـ باستثناء ما تقدم عن صاحب الكفاية الذي بظاهره المتقدم التزام بالتصويب وارتفاع الحكم الواقعي الفعلي ومباديه في مورد الحكم الظاهري لا يجدي شيء منها في دفع هذا المحذور كما لا يخفى بالتأمل فيها ، ومن هنا اتجه المحققون إلى استئناف جواب آخر على هذا المحذور.

فأجاب المحقق النائيني 1 على المحذور الملاكي بوجوه عديدة :

١ ـ انّ هذا المحذور إنّما يرد بناءً على الالتزام بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات ، وانّ تلك المصالح تجري في عالم التشريع مجرى العلل التكوينية من استتباعها للأحكام وكونها لازمة الاستيفاء في عالم التشريع لكي يكون عدم لزوميتها مستلزماً لعدم لزومية التكليف ، لا أنّها من المرجّحات والمحسّنات لتشريعها من دون أن تكون لازمة الاستيفاء ، فإنّها لو كانت كذلك لا يلزم من تفويتها محذور (١).

وفيه : مضافاً إلى انّ هذا لا يدفع المحذور الملاكي بتقريبه الثاني انّه لا يجدي نفعاً في دفع المحذور الملاكي حتى بالتقريب الأوّل لوضوح أنّ الأحكام لا شك في تبعيتها لغرض في متعلقاتها سواء كانت مصالح ومفاسد أو غيرها وسواءً قبلنا التحسين والتقبيح العقليين أم أنكرناهما ، فإنّه على كل حال لابد من فرض غرض في الفعل لاحظه المولى حين تكليفه للناس به وهذا الغرض لا يمكن أن يفوته على نفسه فإنّه خلف الغرض ولا يصدر من الآمر الملتفت على كل حال ، فمحذور الامتناع باقٍ على حاله.

٢ ـ اختصاص هذا المحذور بصورة انفتاح باب العلم وامكان الوصول إلى

__________________

(١) الفوائد : ص ٨٩.


الواقعيات ، وامّا في صورة الانسداد فلا يلزم محذور التفويت بل لابد من التعبد به فإنّ المكلّف لا يتمكن من استيفاء المصالح في حال انسداد باب العلم إلاّ بالاحتياط التام ، وليس مبنى الشريعة على الاحتياط التام في جميع الأحكام فالمقدار الذي تصيب الامارة للواقع يكون خيراً جاء من قبل التعبد بها ولو كان مورد الاصابة أقل قليل فإنّ ذلك القليل أيضاً كان يفوت لولا التعبد فلا يلزم من التعبد إلاّ الخير (١).

وفيه : مضافاً إلى انّه لا يدفع محذور نقض الغرض بتقريبه الثاني انّ عدم كون مبنى الشريعة على الاحتياط إن اريد به وجود مصلحة مزاحمة مع مصلحة الواقع الذي يفوت فهذا رجوع إلى المصلحة السلوكية ونحوها المستلزم لنحو من التصويب ثبوتاً على ما سوف يأتي ، وإن اريد به مجرد مصلحة في التسهيل بلا وجود ما يزاحم الملاكات الواقعية فهذا كيف يبرّر رفع اليد عن تلك المصالح الملزمة بحسب الفرض ، وكيف يجوز المنع عن المقدار الممكن من الاحتياط بحكم العقل ولو في المظنونات ـ التبعيض في الاحتياط ـ.

٣ ـ لو فرض انفتاح باب العلم إلاّ أنّ العلم يراد به القطع وهو لا يلازم الوصول إلى الواقع بل امكان الوصول إليه لامكان الخطأ والجهل المركب في العلم ومعه قد يرى المولى أو العقلاء أنّ موارد اصابة الامارة غالبة المطابقة للواقع أكثر من العلم أو مساو معه فلا يلزم محذور من التعبد بها لعدم لزوم تفويت مصلحة على العباد من التعبد حينئذ ولو فرض فواته في بعض الموارد مع ذلك يجوز جعل الحكم الظاهري خصوصاً في موارد الطرق والامارات العقلائية ولو لمصلحة التسهيل.

__________________

(١) الفوائد : ٩٠ ، ط ـ مع التعليقة للعراقي 1.


وفيه : أوّلاً ـ انّه لا يدفع محذور نقض الغرض من جعل الحكم الواقعي حتى في مورد الحكم الظاهري فإنّه كيف يمنع عن محركيته بالحكم الظاهري وكونه ليس محركاً في مورد الجهل المركب لا يستند إلى المولى ولا يكون نقضاً لهذا الغرض كما تقدم.

وثانياً ـ انّ الجواب المذكور قد يصح في القضايا الخارجية لا الحقيقية والتي لا يلحظ المولى فيها إلاّفرض العلم والجهل لا الموارد الخارجية منهما.

وبعبارة اخرى : القضية الحقيقية تشمل فرض عدم كون الخبر غالب المطابقة للواقع فيلزم التفويت القبيح.

٤ ـ الالتزام بوجود مصلحة في سلوك الامارة مزاحمة مع ما يفوت من ملاكات الواقع ، وهو المعبّر عنه بالمصلحة السلوكية ، والتي أفادها الشيخ الأعظم ، في قبال التفويت الأشعري الذي لا يرى المصلحة إلاّبما تؤدي إليه الامارة ، والتصويب المعتزلي الذي يرى قيام الامارة سبباً لحدوث مصلحة في المؤدى أقوى من الواقع (١).

فيقال هنا بأنّ المصلحة في سلوك الامارة بلا مساس بالمؤدى والواقع ، وإنّما افترضت المصلحة في السلوك لا في المؤدى ؛ لأنّ هذا هو المقدار القابل لاثباته بمقتضى المقيد اللبي بقبح التفويت لا أكثر ، ومن هنا لا تترتب تلك

__________________

(١) هكذا فرّق بينهما في فوائد الاصول ولكنه غير فني إذ المنظور إليه فعلية الحكم في مورد الامارة وهي ثابتة على حدّ واحد على كلا التقديرين لأنّ المصلحة المنكسرة ليست مصلحة وملاكاً للحكم بحسب الحقيقة فيرد محذور الدور على كليهما ، ومن هنا غيّر الاستاذ 1 التفرقة بالنحو الموجود في الكتاب فراجع.


المصلحة إلاّبمقدار السلوك لا أكثر ، فلو انكشف الخلاف في داخل الوقت لم يكن الفائت إلاّفضيلة أوّل الوقت إذا كان قد سلك الامارة فيجب عليه الاعادة ، لانحفاظ المقدار الباقي من مصلحة الواقع وامكان تداركها بعد انكشاف الخلاف بلا مخالفة لسلوك الامارة ، وقد أقرّ المحقق النائيني 1 بأنّ هذا المقدار من السببية لا محذور في الالتزام بها ، ولا يستلزم التصويب كما لا يلزم منه التفويت القبيح.

وفيه : أوّلاً ـ انّه لا يدفع المحذور الملاكي بتقريبه الثاني ، إذ الحكم الواقعي إذا كان جعله وانشائه بداعي المحركية فكيف يمنع عنها بجعل مخالف ولو فرض فيه مصلحة وإلاّ لم يكن حكماً حقيقياً فعلياً.

وثانياً ـ يلزم منه التصويب أيضاً بلحاظ روح الحكم وان يكون الحكم الواقعي تخييرياً من دون فرق بين كون المصلحة الواقعية استيفائية أو تداركية أي مصلحة اخرى ملزمة لا يمكن الجمع بينهما خارجاً ـ خلافاً لما في تقرير الحائري عن الدورة السابقة ـ فإنّ روح الحكم على كل حال يكون تخييرياً كما في سائر موارد التخيير.

نعم ، يعقل الإطلاق في جعل الحكم الواقعي لصلاة الجمعة مثلاً كمجرد جعل وصياغة فارغة عن المحركية عقلاً إذا قامت الامارة على وجوب الظهر ؛ لأنّ المصلحة في الجامع أو في كل منهما مع التنافي وعدم امكان الجمع المساوق مع اشتراط كل منهما بترك الآخر الذي هو التخيير أيضاً ، فلا يكون إطلاق الحكم الواقعي التعييني لمورد الامارة واجداً لمبادئ الحكم ، وفي مثل الحكم الظاهري بالاباحة مع كون الواقع الزاماً يكون الالزام الواقعي مفرَّغاً في مورد سلوك


الامارة وإنّما يجعل لامكان تحقيق ملاك السلوك إلاّ أنّ هذا دفع للتصويب الصوري لا الحقيقي وبلحاظ ما هو روح الحكم ومباديه ، بل الجعل لأجل مثل هذا الغرض في نفسه لو فرض امكانه ومعقولية صدوره عن الشارع فلا اشكال في انّه ليس مفاد أدلّة الأحكام الواقعية ؛ إذ لا يكون موضوعاً لحكم العقل بالاطاعة بل مجرد لقلقة إنشاء لغرض في نفس جعله (١).

٥ ـ وقد يجاب على المحذور الملاكي بجواب خامس قد يستفاد من بعض كلمات المحقق العراقي في تعليقته على الفوائد وكلمات السيد الخوئي وحاصله : انّه في مورد الحكم الالزامي الظاهري المخالف مع الاباحة الواقعية لا تفويت بل مزيد من الاحتياط ولا محذور فيه لحسنه عقلاً. وامّا الحكم الظاهري الترخيصي المخالف للواقع وكذلك الحكم الظاهري الالزامي المخالف للواقعي الالزامي فيمكن أن تكون المصلحة في نفس جعله ويتدارك بها مصلحة الواقع.

وفيه : أوّلاً ـ انّه لا يدفع محذور نقض الغرض بالتقريب الثاني ، وكأنّ المحقق العراقي 1 ذكره لدفع المحذور الملاكي بتقريب الميرزا 1 فقط.

وثانياً ـ ما تقدم من عدم معقولية اصل هذا المبنى في باب الأحكام بل المصلحة سواء في الالزام أو الترخيص لابد من فرضه في الفعل ولو بعنوان ينطبق عليه في طول الجعل وهو يوجب التصويب أو التضاد على ما تقدم.

__________________

(١) يوجد جواب آخر فني من السيد الشهيد 1 نفسه على هذا المسلك ولزوم التصويب منه في ص ١٦٥ من ج ٢ فراجع.


وثالثاً ـ لو فرضنا معقولية ذلك فاما أن يفرض انّ هذه المصلحة في الجعل أيضاً ترجع إلى المكلّف ويتدارك بها مصلحة الواقع الفائت في حقّه فهذا رجوع إلى التصويب ، وإلاّ كان التفويت القبيح حاصلاً والمحذور الملاكي بكلا تقريبيه باقياً على حاله.

٦ ـ ما أجاب به المحقق العراقي في المقام على كلا التقريرين للمحذور الملاكي وهو يتألف من ثلاث مقدمات :

الاولى : انّ الارادة التشريعية إذا تعلقت بشيء فلا محالة يترشح منها ارادة وشوق نحو مقدماتها بحيث تقتضي حفظ وجود المراد من ناحيتها ، إلاّ أنّ المقدمات على قسمين : قسم يكون مقدمة لذات المراد في نفسه بنحو تكون مقدميتها محفوظة بقطع النظر عن تعلّق الارادة والأمر بذلك الفعل من قبيل طي المسافة للحج ، وقسم يكون مقدمات اختيارية في طول تعلق الارادة والخطاب بذلك الفعل ، وهذا بعضه يرجع إلى المولى كجعل الخطاب وتشريعه لكي يصل إلى المكلف فيتحرك ، وهذا في طول وجود أصل الشوق والارادة التشريعية المتعلقة بذات الفعل وبعضه يرجع إلى العبد كارادته للامتثال الذي هو في طول ثبوت الخطاب وفعليته بفعلية موضوعه ، والقسم الثاني بكلا نوعيه لا يمكن أن يكون محفوظاً من قبل نفس الارادة التشريعية لكونه في طولها بل يحتاج إلى ارادة اخرى مستقلة تتعلق بها.

الثانية : انّ ما هو مفاد الخطاب الواقعي ومدلوله إنّما هو ثبوت الارادة التشريعية والشوق المتعلق بذات الفعل والمقتضي لحفظه بحفظ مقدماته من القسم الأوّل ، وامّا حفظه من ناحية المقدمات الطولية فهو خارج عن اقتضاءات


الارادة التشريعية بل يرتبط بارادة اخرى كما ذكرنا في المقدمة الاولى.

ومن هنا حكم في بحث مقدمة الواجب بأنّ خصوص ارادة الامتثال من مقدمات الواجب لا يمكن أن تكون واجبة بالوجوب الغيري الشرعي ومتعلقة للارادة التشريعية ولو الغيرية ، وكذلك مقدار حفظ المولى لتلك الارادة بخطاباته غرض آخر خارج عن اقتضاءات الارادة التشريعية ومحركيتها ولا ترتبط بمفاد تلك الخطابات.

نعم ، يدل عليه نفس جعل الخطاب الواقعي دلالة عقلية التزامية ، من باب كشف المعلول عن علته بمقداره ، وهو تعلّق غرض المولى وارادته بحفظ مرامه التشريعي بمقدار جعل الخطاب الواقعي المحرّك على تقدير الوصول لا أكثر.

الثالثة : انّ منشأ الارادة الطولية بحفظ المرام التشريعي أيضاً المصلحة والملاكات الواقعية وهي تارة تكون بمرتبة من الأهمية بحيث يقتضي حفظ المرام التشريعي من جميع الجهات ، أي تحقيق المقدمات الطولية الراجعة إلى المولى بتمامها من جعل خطاب واقعي يحفظ تحقيق الفعل وتحريك المكلف نحوه على تقدير الوصول وجعل خطاب آخر عند الشك وعدم وصول ذلك الخطاب الواقعي ليحركه حتى في حال عدم وصول الأوّل فيكون حافظاً لتحقيق الفعل حتى في هذه المرحلة.

وفي مثل ذلك لا اشكال انّه يجعل ايجاب الاحتياط ويكون جعل ترخيصي ظاهري على خلافه نقضاً للغرض وتفويتاً للمصلحة القبيح عقلاً ، واخرى لا تكون المصلحة الواقعية بهذه الأهمية بل ليس لها اقتضاء الحفظ إلاّ بمقدار


جعل الخطاب الواقعي وحفظ المرام التشريعي من ناحية المقدمة الاولى من المقدمتين الطوليتين الاختياريتين الراجعتين إلى المولى ـ كما هو مفاد الدلالة الالتزامية العقلية لنفس الخطاب الواقعي ـ سواءً كان ذلك من ناحية المزاحمة مع مصلحة اخرى ، أو من ناحية قصور الاقتضاء من أوّل الأمر ، وهذا يعني التبعيض في محركية الغرض والمصلحة من الفعل بين ذي المقدمة والمقدمات ، فبالرغم من فعلية الغرض والارادة التشريعية بلحاظ ذي المقدمة وذات الفعل مع ذلك لا تكون هذه المقدمة الطولية الراجعة إلى المولى مطلوباً له ولا يتحرك المولى نحو تحقيقها وتحقيق ذي المقدمة من ناحيتها ، ففي مثل ذلك لا محذور في جعل الحكم الظاهري في مرحلة الشك وعدم وصول الحكم الواقعي ولا يلزم من ذلك لا نقض الغرض من الجعل الواقعي ولا التفويت للمصلحة الواقعية القبيح عقلاً ، ولا التصويب.

أمّا الأوّل فلأنّ الغرض والارادة المولوية في حفظ مرامه التشريعي افترضناه من أوّل الأمر بمقدار المقدمة الاولى الراجعة إلى المولى وهو جعل الخطاب الواقعي لا أكثر فلا نقض له أصلاً.

وأمّا الثاني فلأنّ المصلحة الواقعية القاصرة في مرحلة الشك عن الاقتضاء والتأثير لحفظها من قبل المولى لا قبح في تفويتها ، وإنّما القبيح تفويت مصلحة فعلية الاقتضاء لحفظ ما تكون قائمة به.

وأمّا الثالث فلأنّ الحكم الواقعي والارادة التشريعية بمباديه الواقعية من المصلحة أو الحب والشوق نحو الفعل والمحركية نحو مقدماته غير الطولية المفاد بالخطاب الواقعي محفوظ في مرحلة الشك وفعلي فيه أيضاً فلا يحتاج إلى


فرض مصلحة في الفعل أو في السلوك مزاحمة أو ارادة تشريعية اخرى في قبالها لكي تأتي شبهة التصويب أو التضاد بين الارادتين المتضادتين ، وهذا هو معنى طريقية الحكم الظاهري.

هذا قصارى ما استفدناه من مجموع كلمات هذا المحقق في مقالاته وتقريراته وتعليقاته على فوائد الاصول.

وهو 1 وإن كان قد التفت إلى نكتة خطيرة في هذا البحث فتقدم خطوة جليلة نحو الحل الصحيح وهو التفكيك بين محركية الارادة التشريعية وبين متعلق الغرض والارادة التشريعية ، وسوف يأتي انّ هذه فذلكة مهمة أساسية في حلّ الاشكال ، إلاّ انّه لم يعرف كيف يطبق هذه النكتة في المقام فطبقه بلحاظ مقدمات وجود المرام التشريعي بالنحو المذكور في هذه الامور التي رسمها وهي جميعاً غير خالية عن الاشكال والنقد.

أمّا المقدمة الاولى : فيردها ما ذكره السيد الشهيد من النقض الوجداني والحل البرهاني من انّ المقدمية إذا كانت في طول تعلّق الارادة فلا يترشح على المقدمة ارادة غيرية من تلك الارادة النفسية ولو ببيان انّ المقدمية إذا كانت طولية كان معنى ذلك توقف المرام التشريعي على الارادة التشريعية وهو محال.

وإن شئت قلت : يلزم توقف الارادة على ثبوت الارادة في المرتبة السابقة لأنّ معنى طولية المقدمية أخذ الارادة قيداً في المراد فيتعلق الارادة بالفعل المراد وهو محال.

وأمّا إذا كانت المقدميّة فعلية بأن كان تحقق المرام متوقفاً عليه خارجاً على


كل حال كما في ارادة الامتثال والعلم من المكلف بالحكم والخطاب فإنّ تحقيق المرام متوقف على ذلك كسائر المقدمات وإنّما وجود تلك المقدمة والتمكّن منه طولي ، فلا محذور في ترشح الارادة الغيرية من نفس الارادة التشريعية عليها فلا فرق بين قسمي المقدمات.

وأمّا المقدمة الثانية : فيردها أنّ مفاد الخطاب الواقعي ارادة تشريعية حافظة للمرام التشريعي من ناحية جميع مقدماته العرضية والطولية على حدّ سواء ، ولا يعقل التفكيك بين ارادة ذي المقدمة وارادة المقدمات إذا كانت فعلية في المحركية وفي ترشح الارادات الغيرية من تلك الارادة النفسية الفعلية عليها.

كما لا فرق في ترشح الارادة الغيرية نحو مقدمات المرام التشريعي الفعلي بين ما يكون مقدمة اختيارية راجعة إلى المولى أو راجعة إلى العبد ، فإنّ عدم ترشحها على بعض المقدمات امّا يكون للطولية المبينة في المقدمة الاولى فقد عرفت عدم تماميتها ، أو لامكان التفكيك في المحركية بين ارادة ذي المقدمة وارادة مقدمتها وهو غير معقول أيضاً ، فإنّ التحريك نحو ذي المقدمة بالفعل يستلزم التحريك نحو تمام مقدماته كذلك.

وأمّا المقدمة الثالثة : فقد ظهر حالها على ضوء ما تقدم في نقد المقدمتين حيث يلزم من جعل حكم ظاهري على خلاف الواقع نقض الغرض التكويني من جعل الخطاب الواقعي والتحريك الفعلي نحو ايجاد متعلّقه ، حيث منع عن مقدمة من مقدماته بجعل خطاب ظاهري على خلاف تلك المحركية ، كما يلزم محذور تفويت الملاكات الواقعية والغرض التشريعي من المصلحة الفعلية التامة


الاقتضاء للمحركية وهو قبيح ، ما لم يلتزم بالتدارك بمصلحة اخرى ولو في السلوك كما على السببية وهو تصويب.

ودعوى : انّ المصلحة الواقعية قد تكون مشككة وذات مراتب من الأهمية وإن كانت صحيحة إلاّ أنّها لا يصح تطبيقها على ذي المقدمة ومقدماته فإنّه كلما افترضنا تماميتها وأهميتها بلحاظ ذي المقدمة بنحو محرّك نحو تحقيقه كانت فعليّة ومحركة بلحاظ تمام مقدماتها لا محالة فلا يمكن أن تكون ذات مراتب في التحريك والفاعلية بلحاظ ذي المقدمة والمقدمات.

وهكذا نصل إلى أنّ تعبيرات القوم لا يصحّ شيء منها في حلّ المحذورين الخطابي والملاكي ، فلابدّ من استيناف البحث لعلاج المحذور بتقريباته المتعدّدة وذلك كما هو مبين في الكتاب ضمن المقدمات الثلاث ، والمهم منها والذي فيه فذلكة الحلّ وروح الجواب على المحاذير المثارة بوجه امكان جعل الحكم الظاهري هو المقدمة الاولى من المقدمات الثلاث ، وملخّصها التفكيك بين فعلية الحكم الواقعي ومحركية وفعلية حفظه أو قل الاهتمام بحفظه والتحرّك نحو تحصيله المولوي في مورد الاشتباه والشك ، فإنّ الأوّل يتحقق بفعلية المبادئ للحكم من المصلحة والمفسدة والحب والبغض والارادة والكراهة والجعل والابراز ، بل والتصدّي المولوي بذلك لتحصيله من المكلّف كلّما تحقّق موضوعه واقعاً ، إلاّ أنّ هذا لا يقتضي تعلّق الارادة من قبل المريد إلاّبنفس العنوان والفعل الذي فيه الملاك والحب والارادة أو البغض والكراهة بعنوانه ووجوده الواقعي.

نعم ، في مقام التحقيق والتحصيل خارجاً سوف يتحرك المريد لا محالة بنفسه


في الارادة التكوينية نحو تحقيق ما يراه محبوبه وفي الارادة التشريعية يجعل الخطاب ويوصله إلى المكلّف لكي يتحرك نحو ما يراه ويشخّصه المكلّف مصداقاً لذلك العنوان ، وفي هذه المرحلة تبرز الفعلية الثانية ، أي مقدار حفظ المراد والمحبوب مولوياً عن طريق المكلّف ، فإنّه تارة يريد حفظه المطلق حتى في موارد الاشتباه والشك فتتوسّع دائرة المحرّكية عن دائرة الغرض والمحبوب ، واخرى لا يريد أكثر من حفظه في نفسه ، أي حيث يحرز مصداقه ويشخّصه لا أكثر.

إلاّ أنّ هذه التوسعة في الاهتمام أو قل المحركيّة مرتبة اخرى بحسب الدقّة من المحركيّة في مقام التحصيل للمراد التكويني أو التشريعي لا توجب توسعة الحكم أو مبادئه بوجه أصلاً ، كما انّ عدم هذه التوسعة لا يوجب عدم فعلية الحكم ومبادئه الواقعية.

نعم ، أصله ومقداره المتيقن الذي يلازم فعلية الحكم الواقعي ـ الفعلية الاولى ـ هو التحرك في موارد التشخيص والاحراز اليقيني ؛ إذ لو لم يجب التحرك فيه أيضاً كان معناه عدم فعلية أصل الحكم ومبادئه ، أمّا أكثر من ذلك فليس لازماً للفعلية الاولى التي هي قوام الحكم الواقعي.

وخير دليل على هذا التفكيك بين الفعليتين هو ما نجده من فعلية الحكم الواقعي في موارد العذر العقلي ، كما إذا قلنا بالبراءة العقلية في الشبهات أو الدوران بين المحذورين أو القطع بالترخيص أو النسيان ، رغم عدم المحركيّة المولوية بالفعل فيها.

ودعوى : أنّ عدم المحركية في تلك الموارد ليس راجعاً إلى المولى ، بل


لعذر عقلي فلا ينافي فعلية الحكم الواقعي بمعنى المحركية المطلقة من المولى ، وهذا بخلاف موارد جعل الحكم الظاهري من قبل المولى نفسه في موارد الشك ، فإنّه ينافي التصدّي والتحريك المولوي الواقعي.

مدفوعة : بأنّه في جملة من موارد العذر العقلي كالشبهات البدوية ـ على القول بالبراءة العقلية يمكن جعل ايجاب الاحتياط والتحريك المولوي فيه أيضاً ، فلو كانت المحركية المطلقة الممكنة من قبل المولى قوام التكليف الواقعي وشرطاً في فعليته كان اللازم القول بالتصويب إذا لم يجعل الشارع ايجاب الاحتياط فيها ، وهو واضح البطلان.

وعلى هذا فالصحيح ما ذكر في الكتاب ـ بعنوان الاجابة على اشكالين قادمين ـ من انّ مفاد الأدلّة والخطابات ليس بأكثر من فعلية الأحكام الواقعية ومحرّكيتها من حيث نفسها ، أي الفعلية الاولى لا الثانية ، فإنّها مربوطة بمقدار اهتمام المولى بحفظ مراده التكويني أو التشريعي في موارد الاشتباه والتردد الموجب لتحقق التزاحم الحفظي ـ وهي مرحلة اخرى من المحركية غير محرّكية الحكم الواقعي ولا توجب توسعة فيه ولا في مبادئه أو في محرّكيته الشأنية الواقعية ـ فإذا كانت الأغراض الالزامية أهم اتّسعت المحركية في هذه المرحلة بجعل ايجاب الاحتياط ، وإلاّ بأن كانت الأغراض الترخيصيّة أهم ـ وهذا ما يشرح في المقدمة الثانية والثالثة ـ تضيّقت المحرّكيّة بجعل البراءة والتأمين الشرعي ، وكلاهما ناشئان من درجة أهمّية الملاكات الواقعية المتزاحمة لا ملاك آخر ، وبذلك تندفع المحاذير والاشكالات الثبوتية كلّها.

أمّا اشكال التضاد فلعدم التضاد بين الحكمين لا بلحاظ مرحلة الانشاء والجعل لكونهما اعتباريين ، ولا تضاد بين الانشاءات والاعتبارات ، ولا بلحاظ


المبادئ لعدم وجود مبادئ مستقلة للحكم الظاهري لكي يتناقض مع مبادئ الحكم الواقعي ، بل هو لحفظ الأهم من المبادئ الواقعية ، ولا بلحاظ المحركية وفعلية الحكم الواقعي مع الظاهري المخالف له ، لما اتّضح من انّ هناك فعليتين أو قل مرحلتين من المحركية ، وما يكون به قوام الحكم الواقعي إنّما هي الفعلية والمحركية الاولى ، وهي محفوظة في المقام على حدّ ما يكون محفوظاً في موارد البراءة والعذر العقلي ، وما يكون مرتفعاً بالحكم الظاهري الترخيصي إنّما هو الفعلية والمحركية في مرحلة الحفظ والاهتمام بالمراد الواقعي في موارد التزاحم الحفظي والاشتباه المعبّر عنه بايجاب الاحتياط ، فلا تضاد بين الحكمين حتى في المحركية.

وأمّا اشكال نقض الغرض بتقريره العقلي العملي ، أي قبح تفويت المصلحة أو الالقاء في المفسدة فلأنّه تفويت لأحد الغرضين من أجل حفظ غرض أهم وهو ليس بقبيح بل حسن ، وقد يكون واجباً عقلاً وخلافه قبيحاً.

وأمّا اشكال نقض الغرض بتقريبه الآخر ، أي نقض الغرض التكويني من التكليف وهو المحركية فقد عرفت جوابه ، فإنّ هذا هو نفس اشكال التضاد بلحاظ مرحلة محركية الحكم.

وأمّا اشكال التصويب فلما عرفت من أنّ مفاد أدلّة الأحكام الواقعية ليس إلاّ الجعل والانشاء بمباديه بغرض التحريك بمقدار الفعلية الاولى ، وكل هذه العناصر الثلاثة للحكم الواقعي مطلقة ومحفوظة في مورد الحكم الظاهري على حدّ انحفاظها في موارد البراءة والعذر العقلي ، فلا تقييد لمفاد أدلّة التكاليف الواقعية في موارد الجهل وعدم العلم ، كما لا تصويب في البين.

ثمّ انّه لا يرد على هذه المقدمة ما ذكره السيد الحائري في تعليقه من وجدانية


انّ توسّع المحركية ناشىء من توسع دائرة الحب في موارد التردد والشك كما هو في موارد العلم بناءً على ما تقدم من الاستاذ من سريان الحب من الجامع إلى الحصة فيلزم التضاد بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري.

فإنّه أوّلاً ـ هذا البحث لا يتوقف على ذلك المبنى لأنّ الكلام هنا في الجامع بنحو مطلق الوجود ، والذي لا إشكال في سراية الحب فيه إلى كل الحصص ، فالمنهجة غير فنّية.

وثانياً ـ انّ سراية الحب إلى الحصة إنّما هو بنكتة الفناء والحمل الأولي للصورة الذهنية المتعلّق بها الحب والفناء إنّما يكون فيما هو مصداق له بحسب نظر المحب ، وأمّا مع التردد والشك الذي هو مربوط بمرحلة التصديق لا التصور فيكون التردد في المحبوب لا محالة.

وإن شئتم قلتم : انّ الفرق بين الشك والعلم ليس مرتبطاً بدرجة الفنائية لكي يقال انّ الوجدان قاضٍ بالسراية حتى في الفناء الاحتمالي بل العلم طريق إلى أن يرى محبوبه في الخارج فيتحرك نحوه ، فالسريان من شؤون خصوصية الفنائية الموجودة في تصور المحبوب لا من شؤون التصديق بوجود فرد منه في الخارج حتى اليقيني ليتوهم وجدانية السريان إلى موارد الاحتمال ، وإنّما مرحلة التصديق مرحلة المحركية لتحصيل ما هو المحبوب في الخارج ، وهذا قدره المتيقن المحركية نحو موضوعه الواقعي كلما احرز ، أمّا توسعة المحركية أكثر من ذلك بحيث يشمل التحرك نحو ما ليس موضوعاً له كما في موارد التردد والاشتباه ، فيرتبط بمقدار أهمية ذلك الغرض والحب والبغض والارادة والكراهة وترجيحه على ما قد يفوت من الملاكات الاخرى الترخيصية أو غيرها في موضوعاتها ومواردها المشتبهة ـ والذي هو المعنى بالتزاحم الحفظي ـ وهذه


المرحلة من المحركية ليست قوام الحكم الواقعي ولا ربط لها ببحث سرايته من الجامع إلى المصداق أصلاً.

والغريب ما ذكره في مقام التخلص عن الاشكال من انّ القضايا المجعولة شرعاً حيث انها حقيقية لا خارجية فلا أثر لتردد المكلف وعلمه وشكه بحب المولى الذي يسري إلى الحصة ؛ لأنّه تردد أو علم للعبد لا للمولى فلا علاقة له بحب المولى بلحاظ المصاديق ، والمولى يجعل الحكم في القضية الحقيقية على الجامع ، فإذا سرى فهو يسري إلى ما يراه المولى لا العبد ، فإنّ هذا الكلام جوابه واضح ؛ إذ كيف يجعل المولى قضيتين حقيقيتين وهو يعلم بانطباقهما معاً في مورد الشك والتردد من قبل المكلّف الذي هو موضوع الحكم الظاهري ، ولا أدري ماذا اريد من هذه الفقرة ، فإنّ المحذور لم يكن بلحاظ المكلف وانّه يلزم اجتماع الضدين في ذهنه ، بل المحذور المدعى لزوم اجتماع الضدين في مبادئ الحكم في نفس المولى لانطباق موضوع حكمه الظاهري مع الحكم الواقعي سواءً كانا مجعولين بنحو القضايا الخارجية أو القضايا الحقيقية ؛ إذ مع فرض التضاد في المبادئ بحسب رؤية المولى كيف يجعل ترخيصاً كلياً جدّياً وهو يرى انطباقه على محبوبه الخارجي قطعاً أو احتمالاً.

وإن شئت قلت : انّ القضيتين الحقيقيتين في المراد التشريعي كالقضيتين الحقيقيتين في المراد التكويني إلاّمن ناحية انّ المراد هنا فعله وهناك فعل الغير فإذا فرض استحالة تعلق الارادة التكوينية بالقضيتين الحقيقيتين للزوم التضاد بلحاظ السراية كذلك استحال جعل القضيتين الحقيقيتين في المراد التشريعي ، فلابد في دفع اشكال التضاد من بيان الفرق بين الفعليتين وانّ احداهما غير الاخرى ، كما بيّناه وشرحنا هنا وفي الكتاب.


ص ٢٠٣ قوله : ( المقدمة الثانية ... ).

هناك فروق وخصائص لكلّ نوع من أنواع التزاحم الثلاثة ، نشير فيما يلي إليها :

١ ـ التزاحم الملاكي يكون في موضوع واحد بخلاف الامتثالي والحفظي فإنّهما في موضوعين.

٢ ـ التزاحم الملاكي يكون التنافي والتضاد فيه في مبادئ الحكم والارادة ، ولهذا لابد وأن يسقط أحد الحكمين فيه على الأقل. وهذا بخلاف التزاحم الامتثالي والحفظي ، فإنّ التنافي بينهما في المنتهى أي في مرحلة الامتثال والتحصيل والحفظ مع فعلية كلا الحكمين خطاباً وروحاً.

٣ ـ نتيجة لذلك يكون موارد التزاحم الملاكي بحسب مقام الاثبات من التعارض بين الدليلين لأنّ ما هو مفاد الدليل إنّما هو الحكم والمقتضى التام وهو لا يمكن أن يكون إلاّلأحد الملاكين بعد الكسر والانكسار بخلاف التزاحم الامتثالي أو الحفظي فإنّه لا تكاذب ولا تنافي بين دليلي الحكمين فيهما ؛ لعدم التزاحم بلحاظ مبادئ الحكم والارادة وروحه لامكان فعليتهما معاً ، كما لا تنافي بينهما بلحاظ مرحلة الوصول والمحركية أو الامتثال ؛ لأنّ الحكم الواقعي بوصوله وتنجّزه يرفع موضوع الحكم الظاهري وأحد المتزاحمين بالتزاحم الامتثالي أو كلاهما بامتثاله يرفع فعلية الحكم الآخر ، فلا تعارض بين دليليهما أصلاً.

٤ ـ التزاحم الملاكي والحفظي حلّه وعلاجه مربوط بالمولى لا بالعبد ، فهو الذي يرجح أقوى الملاكين في مقام الجعل الواقعي أو الظاهري ؛ لأنّ الارادة


الواقعية وكذلك الحفظ المولوي والمحركية مربوط به بخلاف التزاحم الامتثالي فإنّ حلّه وعلاجه غير مربوط بالمولى ، سواءً قلنا بأنّ القدرة شرط في تنجّز التكليف عقلاً ، لا شرط في التكليف شرعاً وخطاباً أو لا ، أمّا على الأوّل فواضح ، وأمّا على الثاني فلأنّه يرجع بالحقيقة إلى تشخيص ما هو الفعلي من الحكمين من ناحية قيد القدرة المأخوذة في كل خطاب فيكون ارتفاع أحدهما بفعل الآخر تخصصاً لا تخصيصاً فلا تنافي ليقع التعارض بينهما ويحتاج فيه إلى المولى ، كما انّ ترجيح الأهم يرجع إلى تشخيص ما هو الفعلي من الحكمين نتيجة فعلية شرطه وهو القدرة المساوقة مع عدم الاشتغال بالمساوي أو الأهم وما هو فعلي مشروطاً بترك الآخر.

٥ ـ التزاحم الامتثالي لا يعقل بين الترخيص والالزام بخلاف الحفظي والملاكي بشرط أن يكون الاباحة والترخيص اقتضائياً.

ص ٢٠٤ قوله : ( المقدمة الثالثة ... ).

يمكن أن نلاحظ عليه بأنّ هذه المقدمة ليست لازمة لهذا الجمع إذ كما يمكن أن يكون أهمية الغرض الواقعي الالزامي موجباً لايجاب الاحتياط بلا حاجة إلى فرض كون الاباحة اقتضائيه ووجود تزاحم يكون الملاك الالزامي أهم فيه من الترخيصي ، كذلك يكون معقولاً فيما إذا كانت الأغراض الالزامية في نفسها أهميتها بدرجة لا تقتضي الحفظ بأكثر من الخطاب الواقعي ، أي بمقدار الفعلية الاولى ، بلا حاجة إلى فرض اباحة اقتضائية في المشتبهات تزاحم الملاك الالزامي تزاحماً حفظياً ، اللهمّ إلاّ أنّ يقصد بالاباحة الاقتضائية نفس مصلحة التسهيل وإطلاق العنان وما يقابل تحميل مشقة


الاحتياط من قبل المولى على العبد لا خصوص وجود مقتضٍ للترخيص في نفس الفعل المباح المشتبه ، والظاهر أنّ هذا المعنى الأعم هو المقصود من الاباحة الاقتضائية ، فتدبّر جيداً.

ثمّ انّ حاصل هذا الجمع الفنّي يرجع إلى مقدمات أربع كما يلي :

١ ـ انّ دائرة المحركية نحو تحصيل المرام قد تتوسع فتزداد عن دائرة الغرض والملاك والشوق وقد تتقلص وتكون أضيق منها لوجود غرض مزاحم بالتزاحم الحفظي.

٢ ـ التزاحم على ثلاثة أنواع :

تزاحم الملاكين المجتمعين في موضوع واحد في ايجاد الحكم وجعله ـ وهو تزاحم في مبادئ الحكم وعلله ـ.

والتزاحم في مقام الامتثال بين حكمين تامي المبادئ متعلقين بفعلين متباينين وقع بينهما التضاد وعدم القدرة على امتثالهما معاً خارجاً.

والتزاحم بين حكمين تامين مطلقين في موضوعين متباينين لا تضاد ولا تزاحم بينهما واقعاً وإنّما التزاحم والضيق في مقام حفظهما معاً نتيجة الجهل والتردّد واشتباه أحدهما بالآخر.

٣ ـ انّ التزاحم الحفظي كالامتثالي من حيث فعلية الحكمين الواقعيين جعلاً ، بل واطلاقهما وفعليتهما مجعولاً وكالتزاحم الملاكي من حيث معقوليته بين الملاك الترخيصي والالزامي إذا كان الترخيص اقتضائياً.

٤ ـ انّ المقدار الذي يثبت بالظهور الحالي لأدلّة الأحكام الواقعيّة وأدلّة بطلان


التصويب إنّما هو ثبوت الحكم الواقعي وفعلّيته بمباديه من المصلحة والمفسدة والحب والبغض والجعل أو التصدّي المولوي لتسجيله على ذمة المكلّف في موارد الشك والاشتباه كثبوته في موارد العلم ، إلاّ انّ هذا الثبوت والفعلية لا يقتضي المحرّكية تكويناً ـ وهو الغرض التكويني المقدّمي للمولى من الخطاب الواقعي حسب تعبيرات المحقّق العراقي 1 ـ مطلقاً أي حتى في موارد الشك والاشتباه ، بل يقتضي المحرّكية بمقدار لا يلزم من عدمه ـ ولو عرفاً وعقلائياً ـ لغوية الخطاب الواقعي وهو موارد العلم واحراز الحكم الواقعي صغرىً وكبرىً ؛ لأنّ رفع هذا المقدار من المحركية بحكم انعدام الارادة التشريعية ولغوية جعل الحكم.

وأمّا المحركية أكثر من ذلك فهو غير مربوط بفعلية الخطاب الواقعي وفعلية مبادئه بل مربوط بحكم العقل بالتنجيز والتعذير أو اهتمام الشارع وتوسيعه لدائرة المحركية أو تضييقها بجعل ايجاب الاحتياط الرافع للتأمين العقلي أو جعل الترخيص الظاهري الرافع لحكم العقل بحق الطاعة والمنجّزيّة.

وتترتّب على هذه الامور الأربعة فعلية الحكم الواقعي في موارد الشك وعدم العلم ، بحيث لو أراد المكلّف من نفسه الاحتياط وصادف الواقع وقع امتثالاً ـ وهذا بخلاف ما إذا كان الحكم الواقعي مرفوعاً ـ كما ويترتب عدم التضاد بين الحكم الواقعي مع الالزام أو الترخيص الظاهري لكون الحكم الظاهري لم يناقض شيئاً من مباديه وأغراضه ولا شيئاً من اقتضائاته التشريعية أو التكوينية كما لم يوسّع ولم يضيّق شيئاً منها وإنّما وسّع أو ضيّق من موضوع حكم العقل بالتنجيز أو التعذير حسب درجة اهتمامه بملاكات أحكام الواقعية المتزاحمة تزاحماً حفظياً ، أي بسبب التردد والاشتباه والشك ، والله الهادي للصواب.


الأصل عند الشك في الحجّية

( أي ما هو مقتضى القاعدة عقلاً أو شرعاً ) :

ص ٢٢١ قوله : ( الأمر الثالث من المقدمة ... ).

قبل الخوض في الوجوه المذكورة لابد من التعليق على النزاع الدائر بين الشيخ 1 والمحقق الخراساني في معنى الحجّية حيث فسّرها الشيخ على ما هو ظاهر عبارته وعلى ما هو ظاهر تأييد الميرزا 1 له بأنّه عبارة عن جواز التعبد بالمؤدى واسناده إلى الشارع بينما فسرها المحقق الخراساني بالمنجزية والمعذرية أي جواز المؤاخذة والاحتجاج به أو صحة العقوبة وعدمها.

والحق ما ذكره المحقق الخراساني ؛ إذ ليس البحث عن مدلول لفظ الحجّية وإنّما المراد من الحجّية ما تقدم من المعنى الاصولي لها ، أي ما يترتب على الحجّية من المنجزية تجاه الواقع أو المعذرية فالأثر الملحوظ في باب الحجج بما فيها القطع الوجداني في هذا البحث الاصولي إنّما هو الأثر الطريقي لها وهو مدى تنجيزه للواقع أو تأمينه عنه في باب المؤاخذة واستحقاق العقوبة وأمّا الأثر المترتب على نفس الحجة موضوعياً كارتفاع حرمة التشريع العملي أو القولي ، وحرمة اسناد ما ليس من الدين إلى الدين فهذا على فرض ترتبه على كل حجة فهو حكم فرعي آخر أجنبي عن أثر الحجّية الاصولي.

نعم ، قد يدعى الملازمة بينهما بحيث لو ثبت الأوّل بدليل شرعي أو عقلي ثبت الثاني وهذا هو الوجه الثالث القادم.


وأمّا الوجوه المذكورة لاثبات انّ الأصل عند الشك في الحجّية هو عدم الحجّية فهي عديدة :

الوجه الأوّل : انّ الشك في الحجّية شرعاً يساوق العلم بعدم الحجّية وهذا له معنيان :

١ ـ ترتب تمام الآثار العقلية أو الشرعية المترتبة في أدلتها على فرض عدم الحجّية.

٢ ـ انّ الشك في الحجّية يساوق العلم بعدم نفس الحجّية ـ أي الحكم الظاهري المشكوك ـ بناءً على امكان أخذ العلم بالحكم في موضوعه كما هو الصحيح.

امّا المعنى الأوّل فلا اشكال في صحته ومرجعه إلى انّ المأخوذ في موضوع تلك الآثار العقلية أو الشرعية عدم العلم بالواقع أو بالحكم الظاهري وهو محفوظ مع الشك في الحجّية وأمّا الثاني فمبني على دعوى اللغوية باعتبار عدم وجود مبادئ للحكم الظاهري بل هي أحكام طريقية محضة وتكون المصلحة في نفس جعلها وانشائها لكي تصل إلى المكلف فتنجز أو تعذر الواقع ، فلا تكون العقوبة والاحتياط بلحاظها ، فيكون اطلاقها لصورة الجهل بها لغواً ، حيث لا يترتب أثر عليها إلاّ المحركية والمنجزية أو المعذرية على تقدير الوصول ، فمع عدمه يكون ثبوته كحكم فعلي لغواً محضاً. نعم يعقل ثبوته بمعنى مجرد الانشاء وبلحاظه يعقل الشك وهذا يعني انّ قوام الحكم الظاهري الفعلي بالوصول.


وهذا البيان مبني :

أوّلاً ـ على صحة وامكان تقييد الحكم بالعلم به ووصوله ، وقد تقدم منا امكانه إذا اخذ العلم بالجعل في موضوع المجعول وإن كان مستحيلاً عند القوم إلاّبمتمم الجعل ونحوه.

وثانياً ـ على أنّ اللغوية مانعة عن الإطلاق وقد تقدم خلافه حيث لا مؤنة في الإطلاق فباللغوية لا يمكن تقييد الإطلاق للحكم ولهذا في المنع عن إطلاق الحكم لموارد العجز تمسكنا بالظهور الحالي الثاني للخطابات في المحركية المقيد لاطلاقه ومفاده الأوّل كما تقدم. بل قد تقدم انّ أحد أغراض الإطلاق نفس الوصول إلى المكلف ، بل على القول بوجود المصلحة في نفس الجعل لا مانع من ثبوته في اطلاقه أيضاً كما هو واضح.

ثالثاً ـ على مسلك القوم في حقيقة الحكم الظاهري من انّه لا مبادئ له وانّ المصلحة في نفس جعله وايصاله إلى المكلفين للتنجيز والتعذير ؛ مع انك عرفت انّ الحكم الظاهري أيضاً له مدلول تصديقي يكشف عنه جعله ، وهو شدة اهتمام المولى بأغراضه الواقعية الالزامية أو الترخيصية أي درجة أهمية تلك الأغراض ، وهذا أمر واقعي محفوظ كأصل تلك الأغراض الواقعية غاية الأمر ليست شيئاً مبايناً ومغايراً معها بل شأناً من شؤونها ، وهذا هو معنى طريقية الحكم الظاهري لا خلوّه عن المبادئ حقيقة ونهائياً.

وقد تقدم انّ ما هو موضوع لحكم العقل بالاطاعة من تلك الأغراض الواقعية الالزامية للمولى إنّما هو الغرض الالزامي البالغ مرتبة الاهتمام بالحفظ في مورد الشك لا ذات الغرض الواقعي ولو لم يبلغ هذه المرتبة. نعم احتمال هذه المرتبة


في الحكم الواقعي المحتمل كافٍ في حكم العقل بحق الطاعة ، وهذا يعني انّ روح الحكم الظاهري الالزامي ومدلوله التصديقي يقع موضوعاً لحكم العقل بالمنجزية وإن كان هذا متحداً مع الحكم والغرض الواقعي وليس شيئاً مبايناً معه.

ويترتب على ذلك أمران :

١ ـ معقولية ثبوت الحكم الظاهري وفعليته في فرض الجهل به وعدم وصوله كالحكم الواقعي لكونه حيثية مولوية واقعية محفوظة مع قطع النظر عن العلم والشك وترتب أثر عليه ولو من ناحية التعارض ونفيه لحكم ظاهري مناقض معه على ما سيظهر.

٢ ـ وقوع التعارض بين الأحكام الظاهرية بوجوداتها الواقعية لا بوصولها ـ كما على المشهور ـ إذا كانا عرضيين موضوعاً أي كلاهما موضوعهما الشك في الواقع كالبراءة أو الاستصحاب مع الخبر الدال على الحكم الواقعي ، وامّا الخبر أو الظهور الدال على الحكم الظاهري نفسه كأدلّة حجّية الاستصحاب أو البراءة فهو حكم ظاهري طولي بحسب الحقيقة بالنسبة للبراءة أو الاستصحاب عن الواقع لكون موضوعه الشك في نفس جعل الاستصحاب أو البراءة كحكمين ظاهرين عند الشك المسبوق باليقين أو مطلق الشك في الحكم الواقعي ، ولا منافاة بين ثوبتهما معاً فلا مانع من أن يكون الحكم الظاهري المجعول هو ايجاب الاحتياط عند الشك في الواقع ولكن الامارة الدالّة على البراءة حجة أيضاً ؛ لأنّهما رتبتان من الشك في الحكم الواقعي ، فيعقل بلحاظ المرتبة الثانية أن يكون حكم التزاحم مختلفاً عن المرتبة الاولى.


وعلى هذا الأساس يقال : انّه بناءً على مسلك القوم يكون الشك في الحجّية مساوقاً مع عدم الحجّية أي عدم ثبوت الحكم الظاهري الفعلي واقعاً ، وإنّما الشك في الانشاء المحض فضلاً عن عدم ترتب آثار الحكم الظاهري.

وأمّا بناءً على مسلكنا فتارة يفرض الحصول على دليل يدل على حكم ظاهري مخالف كما إذا لاحظنا دليل البراءة في مورد قيام خبر الواحد على الالزام مع الشك في حجّيته ، واخرى نفرض الحصول على دليل يدل على حكم واقعي على خلاف مؤدى الامارة المشكوكة كما إذا شك في حجّية الخبر الواحد في قبال ما يدل من اطلاقات أدلّة الأحكام الواقعية على خلاف مؤداه.

أمّا في الحالة الاولى فإذا كان الدليل على البراءة قطعياً سنداً ودلالة فهو دليل قطعي على عدم حجّية تلك الامارة لا محالة وإن كان ظنياً كاطلاق دليل رفع ما لا يعلمون فيدل بالالتزام على نفي ذلك الحكم الظاهري المشكوك أعني حجّية خبر الواحد لكونهما في عرض واحد ولا مانع من حجّية الإطلاق كحكم ظاهري واحتمال حجّية الخبر الواحد واقعاً إذ لا تنافي بينهما لكونهما طوليين وإنّما التنافي بين مؤدى الإطلاق وحجّية الخبر لكونهما عرضيين.

وامّا في الحالة الثانية فإذا كان الدليل على الحكم الواقعي قطعياً ارتفع موضوع الشك والحجّية وإلاّ بأن كان ظنياً كاطلاقات أدلّة الأحكام الواقعية في مورد الشك في حجّية الخبر فحجية الإطلاق ثابتة ما لم يحرز المخصّص ومع الشك في حجّية الخبر المخصص لا احراز فيثبت ذلك الحكم الواقعي ، ولكن هذا لا ينفي ثبوت الحجّية لذلك الخبر واقعاً لا بلحاظ مؤداه لكونه واقعياً وذاك ظاهري ولا بلحاظ حجّية الإطلاق لكونها طولية بلحاظ حجّية الخبر المخصّص


إذ معنى حجّية الإطلاق ما لم يحرز المخصّص الحجة انّ الإطلاق يجري عند الشك في حجّية المخصّص ، وهذا نظير البراءة الطولية ، فحجية الإطلاق ليست مقيدة بعدم حجّية المخصّص واقعاً بل بعدم العلم بحجيته الذي يرجع بالتحليل وبالدقة إلى حجيته أيضاً في فرض الشك في الحكم الظاهري بحجية المخصّص ، وهذه الحجّية طولية وغير متنافية مع ثبوت حجّية الخبر المخصّص واقعاً ، ونفس الشيء يقال في موارد الشبهة الموضوعية للحكم الظاهري كما إذا شك في وثاقة الراوي الناقل للمخصص أو للحكم الالزامي على خلاف البراءة.

الوجه الثاني والثالث : فكّك بينهما السيد الشهيد مع انّه وجه واحد في كلمات الشيخ والميرزا ، وذلك باعتبار انّ الأدلّة الناهية بعضها ناظرة إلى مرحلة العمل والاستناد كالآية : ( إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) (١) وهي تصح للارشاد إلى نفي الحجّية ابتداءً. وبعضها تنهى عن الاسناد والقول بلا علم من قبيل : ( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (٢) ، « رجل قضى بالحق وهو لا يعلم » ومفادها الحرمة الذاتية لنفس القول والاسناد بلا علم وهي غير عدم الحجّية ، فلابد من ضم دعوى الملازمة بين الحجّية وجواز الاسناد ولو عرفاً ، ولابد أن تكون الملازمة بنحو التساوي لا اللزوم الأخص كما هو كذلك حتى بناءً على جعل الطريقية لكون جواز الاسناد لازم لأحد ألسنة الحجّية ، وهو جعل الطريقية فقط.

هذا إلاّ أنّ الصحيح أنّ هذه الأدلّة أيضاً كالأدلّة السابقة ناظرة إلى اثبات

__________________

(١) سورة النجم : ٢٨.

(٢) سورة الاسراء : ٣٦.


حرمة في مورد عدم العلم ثابتة حتى مع فرض ثبوت الحجّية واقعاً لأنّه ليس بأفضل من ثبوت الحكم واقعاً وقد أفتى به بلا علم ، وهذا يعني انّه حتى على القول بالطريقية لا إشكال في حرمة الاسناد مع الشك في جعلها للظن ، بل قيل بأنّ ذلك ظلم قبيح عقلاً أيضاً فاطلاق هذه الأدلّة لفرض الشك في الحجّية مع ثبوتها واقعاً بنفسه دليل على انّ هذه الحرمة موضوعها عدم العلم بمعنى عدم الحجّية الواصلة.

وبهذا يعرف انّه لا إطلاق لها لمن علم بالحجية ولو لم يكن حجة واقعاً ـ فما ذكره في الكتاب في النقطة الثانية غير تام بل العكس تام أي انّه حتى على مسلك جعل الطريقية مفاد هذه الأدلّة اثبات الحرمة في موارد عدم الحجّية الواصلة وهذا لا يلازم نفي الحجّية الشرعية ، وإنّما الحرمة أعم والجواز أخص من الحجّية لأنّه للحجة الواصلة.

ويعرف ثانياً ـ انّ مفاد هذا الصنف من الأدلّة أيضاً كالصنف الأوّل ليس بياناً لأمر مولوي حتى نفى جعل الحجّية ، بل ارشاد إلى ما يحكم به العقل بقبح اسناد ما لم يعلم انّه من الدين لا بالعلم الوجداني ولا بالعلم التعبدي الواصل إمّا لكونه بنفسه قبيحاً بناءً على افتراض انّه يكون ظلماً للمولى وتحميلاً عليه أو باعتباره تجرياً لاحتمال كونه خلاف الواقع مع تشكل علم اجمالي منجز فكلا الصنفين من الأدلّة يرجعان إلى مدلول واحد وهو انّ رأس الخيط لابد وأن يكون علمياً.

وقد تعرّض السيد الشهيد 1 في بحث حجّية خبر الواحد إلى هذه الآيات وحملها على الارشاد إلى الحكم العقلي المذكور أو إلى النظر إلى اصول الدين التي يطلب فيها الواقع والحقيقة فراجع.


الوجه الرابع : التمسك باستصحاب عدم الحجّية ، وقد يستشكل فيه بأنّ الأثر المراد نفيه بهذا الاستصحاب مترتب بنفس الشك في الحجّية فلا مجال للاستصحاب حيث لا شك في ذلك الأثر ليراد ترتيبه به.

هذا ما ذكره الشيخ الأعظم 1.

وهذا الاشكال تارة يوجه بناءً على ما هو الصحيح من انّ أثر الحجّية العملي إنّما هو المنجزية والمعذرية المترتب عقلاً ، واخرى يوجه بناءً على أن يكون الأثر المنظور إليه من الحجّية هو حرمة الاسناد والاستناد شرعاً.

أمّا على التقدير الأوّل فتقرير الاشكال بأنّ الشك في حجّية الامارة الالزامية مثلاً بنفسه كافٍ لحكم العقل بالبراءة والمؤمنية ، وكذلك العكس في مورد الاحتياط العقلي فلا نحتاج إلى الاستصحاب بل هو تحصيل حاصل.

وجوابه : أوّلاً ـ بالنقض بموارد قيام الامارات على عدم الحجّية بل وباستصحاب عدم الوجوب عند الشك فيه مع ثبوت حكم العقل بالبراءة في مورد لا يترتب على نفي الوجوب الواقعي بالاستصحاب أي أثر شرعي وإنّما أثره التأمين فقط الثابت بحكم العقل.

وثانياً ـ بالحل بأن التأمين الحاصل من التعبد الشرعي غير التأمين الثابت عقلاً فإنّه على القول به تأمين عقلي بملاك عدم البيان وذاك تأمين شرعي وبيان من قبل الشارع على عدم جعل الاحتياط ، أو على عدم شدة الاهتمام ، وهذا الجواب لا يتم على القول بأنّ الحجّية متقومة بالوصول لعدم الشك في عدم الحجّية الفعلية والشك في الانشاء ليس موضوعاً للأثر العملي كما هو واضح وهذا من لوازم ذلك المسلك حيث انّه لابد من التفصيل بين الدليل على الحجّية


فإنّه بنفسه ايصال لها فلا مانع من اثباتها به وبين الدليل على نفي الحجّية عند الشك فيه فإنّه لا يجري سواء كان استصحاباً أو اطلاقاً لأنّ نفس الشك في الحجّية يوجب العلم بعدمها فلا موضوع لحجية ذلك الدليل ، ولعلّ الميرزا ناظر إليه.

نعم ، إذا كان الشك في الحجّية بنحو الشبهة الموضوعية كما إذا شك في وثاقة الراوي جرى استصحاب عدم حجّية خبره ـ ولو بنحو العدم الأزلي ـ لتنقيح موضوع البراءة الشرعية فيكون الاستصحاب ايصالاً للحكم الظاهري الشرعي بالبراءة ، وهذا من الفوارق بين المسلكين فتدبر.

هذا إذا لوحظ التأمين العقلي الجاري بلحاظ الشك في الحجة الالزامية الذي يعني الشك في ايجاب الاحتياط ، وامّا التأمين العقلي الجدي بلحاظ الشك في الحكم الواقعي المحتمل فهو لا يكفي وحده للتأمين ما لم يجر بلحاظ الشك في الحجّية مؤمن أيضاً كما هو واضح.

وأمّا على التقدير الثاني أي فيما إذا كان الأثر للحجية هو حرمة الاسناد شرعاً فتقرير الاشكال بأنّ هذا الأثر الشرعي موضوعه الشك في الحجّية فلا أثر على المستصحب لكي يجري هذا الاستصحاب ، وقد ناقش فيه المحقق الخراساني 1 باشكالين :

أحدهما : عدم لزوم أثر شرعي مترتب على المستصحب إذا كان بنفسه حكماً شرعياً ، كما في استصحاب عدم الوجوب.

والثاني : انّ موضوع هذا الأثر وهو حرمة الاسناد والاستناد كما يترتب على الشك كذلك يترتب على عدم الحجّية واقعاً فيكون الشك في الحجّية مورداً لكل


من الاستصحاب والقاعدة ويتقدم الاستصحاب على القاعدة لكونه علماً تعبدياً نظير تقدم استصحاب الطهارة على قاعدة الطهارة.

وقد أجاب الميرزا 1 عن الاشكال الأوّل بأنّه لابد في الاستصحاب حتى الحكمي من ترتب أثر عملي على المستصحب ولا يكفي مجرد كونه ممّا تناله يد الجعل لأنّ دليل الاستصحاب نهي عن النقض العملي لليقين ، وهذا الأثر العملي قد يترتب بلا واسطة كما في استصحاب الأحكام وقد يترتب بواسطة أثر شرعي كما في استصحاب الموضوعات ، وفي باب استصحاب عدم الوجوب يكون المستصحب وهو عدم الوجوب أو الرخصة بنفسه متعلقاً بعمل المكلف ويقتضي الجري العملي ، وهذا بخلاف المقام حيث انّ الحجّية بوجودها الواقعي ليس موضوعاً لأثر عملي بل بوجودها العلمي.

وهذا الجواب بهذا المقدار غير تام ، فإنّ الحجّية أيضاً يترتب عليه الأثر العملي وهو المنجزية والمعذرية كما ذكرنا ولا فرق بينها وبين الوجوب المستصحب اثباتاً أو نفياً.

إلاّ أنّ هذا بحسب الحقيقة رجوع إلى التقدير الأوّل فيكون روح الاشكال على الشيخ 1 انّه لا ينحصر مصحح جريان استصحاب عدم الحجّية في ترتّب حرمة الاسناد بل نفس المنجزية والمعذرية تكفي لتصحيحه.

وأمّا إذا فرضنا انّ الأثر المنظور في الحجّية خصوص حرمة الاسناد شرعاً فلابد في تصحيح الاستصحاب المذكور من ترتيب هذا الأثر ، فإذا فرضنا انّه غير مترتب على الحجّية بوجودها الواقعي كما إذا استظهر من الأدلّة انّ موضوعه عدم العلم حتى إذا كانت الحجّية ثابتة واقعاً كما هو الصحيح فاشكال الشيخ ثابت


بحيث لا يكون الأثر الشرعي المذكور مترتباً على الحجّية الواقعية ليجري الاستصحاب بلحاظه.

وأجاب الميرزا 1 على الاشكال الثاني :

أوّلاً ـ بأنّه لا يعقل أن يكون الشك في الواقع موضوعاً للأثر في عرض الواقع ، ولعل وجهه الطولية بينهما ، ولكنك عرفت عدم الطولية بين الواقع بالعرض والشك والعلم فلا محذور في أن يكون الموضوع هو الجامع. نعم إذا فرضنا الحجّية عبارة اخرى عن جواز الاسناد وعدمها عبارة عن حرمة الاسناد كما هو مقتضى السير على منهج الشيخ في تفسير الحجّية استحال ترتب الحرمة على عدم الحجّية الواقعية وعدم الشك في الحجّية للزوم أخذ الشك في الحكم في موضوع شخصه وهو محال ، ولهذا أرجع الميرزا الشك في الحجّية إلى الشك في انشائها وانّه موضوع لعدمها الفعلي ولكنك عرفت بطلان هذا المبنى.

وثانياً ـ بأنّه تحصيل للحاصل ، بل من أردأ أنحاء تحصيل الحاصل لأنّه تحصيل تعبدي لما هو حاصل وجداناً.

وحاول أن يجيب على النقض بالدليل الاجتهادي على عدم الحجّية ، بأنّ الشك ليس مأخوذاً في موضوع حجّية الامارات وإنّما هو مورد لها وعلى النقض باستصحاب الطهارة المقدم على قاعدتها بأنّ القاعدة لا تثبت الطهارة الواقعية بخلاف الاستصحاب.

ومن الواضح انّ الاجابة على النقضين غير تام ؛ لأنّ الشك مأخوذ في موضوع حجّية الامارات كالاصول ثبوتاً ، وإنّما الفارق بينهما اثباتي محض وهو لا يؤثر في المقام والقاعدة تثبت الطهارة الواقعية بتمام آثارها وإلاّ لم يمكن تصحيح


العمل المشروط بالطهارة الواقعية بها.

وتحقيق الكلام في المقام انّه تارة يفرض تعدد الحرمة احداهما على الواقع والآخر على عدم العلم بالحجية فلا موضوع لتحصيل الحاصل بل تعدد الحرمة والعقوبة غاية الأمر احداهما ثابت موضوعها واقعاً والاخرى ظاهراً وبالتعبد الاستصحابي ، وأمّا حكومة الاستصحاب على قاعدة الشك في هذا الفرض فمبني على أن يكون الاستصحاب تعبداً بالعلمية وأن يكون موضوع حرمة الاسناد الواقعية نفس الشك في الحجّية لا مطلق عدم العلم بها وأن يكون قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي من باب جعل العلمية فيه مطلقاً حتى بلحاظ الأثر الآخر لا جعل العلمية بمقدار الأثر المترتب على المؤدّى.

وإذا فرض حرمة واحدة على الجامع بين عدم الحجّية واقعاً وعدم العلم بها فعدم العلم بالحجية محرز على كل حال سواءً قام هذا الاستصحاب مقام العلم بالعدم أم لا (١) ، فعلى هذا التقدير لا شك في ترتب الحكم المراد استصحاب عدم الحجّية بلحاظه حيث يعلم بتحقق موضوعه وهو الجامع ضمن أحد مصداقيه على كل حال وجداناً والتعبد به من ناحية مصداقه الآخر ليس تحصيل حاصل بل لا موضوع له لأنّ المصداق لم يكن موضوع الأثر وإنّما الجامع موضوعه فلابد من جريان الاستصحاب فيه وهو غير مشكوك بل معلوم التحقق

__________________

(١) وهنا يرد كلام المحقق النائيني من انّه تحصيل للحاصل ، بل من أردأ أنحائه ، إلاّ انّه بالدقة لا يجري الاستصحاب على هذا التقدير ، لا انّه تحصيل للحاصل فإنّه فرع أن يكون التعبد الاستصحابي في طول ثبوت مؤداه في المرتبة السابقة وليس الأمر كذلك بل هما في عرض واحد موضوعهما الشك ، فالأصح ما ذكرناه من انّ الشك في الموضوع إنّما يجري فيه التعبد الاستصحابي إذا كان حكمه مشكوكاً لا مقطوع الثبوت ، ولعلّه مقصوده.


فلا موضوع للاستصحاب.

ومنه يظهر الفرق بين المقام وبين استصحاب الطهارة وقاعدتها ، فإنّ الشك في الطهارة الواقعية موضوع للطهارتين الظاهريتين في عرض واحد ، نعم إذا كانت الطهارة على تقدير الشك طهارة واقعية لا ظاهرية ـ وهو غير معقول عندهم رغم ذهاب بعض الاخباريين إلى ذلك ـ لم يكن استصحاب الطهارة جارياً لعدم الشك فيه بحسب الفرض ، فالقياس مع الفارق.

كما انّ النقض بالدليل الاجتهادي على عدم الحجّية غير وارد ؛ لأنّ الدليل الاجتهادي يكشف عن عدم الجعل والانشاء وبالتالي عن عدم الفعلية للحجية من ناحية عدم أصل الجعل ، أو قل حرمة الاسناد من ناحية المجعول لعدم جعله وهو لا ينافي احراز عدم الفعلية وحرمة الاسناد من ناحية اخرى وهي انتفاء قيد المجعول الفعلي وهو الوصول ، نعم لا يحتاج مع احراز ذلك إلى ذلك الدليل الاجتهادي في ترتيب هذا الأثر ، إلاّ أنّ هذا لا يمنع عن حجيته لنفي الجعل إذا ترتب عليه الأثر ولو بالملازمة والوسائط كنفي الحجّية حتى في حق من يعلم بالحجية من باب الخطأ والجهل المركب كمن علم بحجية الظن القياسي وإن كان معذوراً ، فاطلاق الدليل الاجتهادي المذكور له يثبت عدم الحجّية الفعلية لتلك الامارة مطلقاً لا لخصوص الجاهل بها ، ومثل هذا لا يتم في الاستصحاب لتقومه بالشك.

نعم ، لو قلنا بأنّه في الشبهات الحكمية يجري الفقيه الاستصحاب حتى بلحاظ من له يقين بالخلاف أمكنه احراز استصحاب عدم الحجّية في حق من يعلم بالحجية لاثبات فعلية الحرمة عليه واقعاً وان كان معذوراً فلا يبقى فرق


بين الامارة والاستصحاب من هذه الناحية ولكن يبقى الفرق بلحاظ آثار اخرى تترتب على حجّية الدليل الاجتهادي كنفي حجّية المعارض له أو الردع عن عمل الناس به بخلاف الاستصحاب ، فإنّ معارضته فرع ترتب أثر عملي بلحاظ مؤدّاه فلو لم يكن أثر عملي لم يجر في نفسه ومعه لا تعقل المعارضة.

ولعل هذا روح مقصود الميرزا عندما قال بأنّ الاستصحاب تعبدنا بعدم النقض عملاً فلابد من ترتب أثر عملي بخلاف الامارات فإنّ حجيتها لا تتوقف على ذلك وإنّما تتوقف على عدم اللغوية ولو بلحاظ الوسائط واللوازم.

وامّا إذا فرض انّ الموضوع للحرمة هو الجامع بين عدم الحجّية واقعاً والشك في الحجّية لا عدم العلم بالحجية فقد يقال أنّ دليل التعبد الاستصحابي بعد فرض قيامه مقام القطع الموضوعي يرفع الشك فيرتفع موضوع الحرمة الثانية بالوجدان حقيقة لكون الحكومة بلحاظ الأثر الموضوعي واقعية لا ظاهرية ويثبت الحرمة ظاهراً وتعبداً فلا يكون تحصيل الحاصل ، وشبهة اللغوية جوابها انّه لا يمنع عن الإطلاق في دليل حجّية الاستصحاب.

لا يقال : هذا دور ، لأنّ قيامه مقام القطع الموضوعي فرع جريانه وهو فرع قيامه مقام القطع الموضوعي.

فإنّه يقال : أوّلاً ـ يمكن دفع الدور بما نذكره غالباً من كفاية ترتب الأثر بنحو القضية الشرطية التعليقية لا الفعلية أي لو كان حجّة لترتب عليها الأثر وهي صادقة بلا صدق طرفيها أيضاً فلا دور.

وثانياً ـ بناءً على مسلك الميرزا من عدم الطولية بين قيام الامارة أو الأصل المحرز مقام القطع الموضوعي وقيامهما مقام القطع الطريقي لا دور ؛


إذ إطلاق دليل القيد يرفع أثر الشك الموضوعي سواء كان لمؤدى الاستصحاب أثر أم لا ، ثمّ في طول ذلك يثبت للمؤدّى الأثر أيضاً وهو الحرمة الظاهرية.

إلاّ أنّ هذه الفرضية في نفسها غير محتملة ؛ إذ لا يعقل أن يكون الشك في الحجّية أشد حالاً من العلم بالعدم لا ثبوتاً ولا اثباتاً كما هو مذكور في الكتاب ، وأمّا إذا قبلناها فيتم كلام المحقق الخراساني 1.

وإن شئتم قلتم : انّ المفروض قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي سواء كان لمؤداه أثر (١) أم لا ، فاليقين السابق بعدم الحجّية مع الشك اللاحق بنفسه يرفع الشك في الحجّية بلحاظ أثره الموضوعي وهو الحرمة ، والمفروض انّه حكومة واقعية ، أي انّ الجامع المذكور من ناحية هذا الفرد غير موجود لأنّه الجامع بين الشك غير المسبوق باليقين بالعدم وهذا شك مسبوق باليقين بالعدم الذي هو علم بالعدم تعبداً فيصبح الجامع مشكوكاً من ناحية فرده الآخر وهو العدم الواقعي للحجية فيجري استصحابه.

هذا ولكن الصحيح عدم جريان الاستصحاب حتى على هذا التقدير ، إذا كان الأثر الموضوعي مرتباً على عنوان جامع بين الشك والواقع لا على الشك بعنوانه وعلى عدم الواقع بعنوانه ؛ لأنّ دليل الاستصحاب ينفي الشك ولا ينفي الجامع ، وكون الحكومة واقعية لا يعني التعبد بتحقق أو انتفاء ذلك الجامع لأنّ الرفع تعبدي لا حقيقي ، فتنزيل شيء منزلة العلم وعدم الشك لا يستلزم تنزيله منزلة

__________________

(١) وهنا يترتب على مؤداه أثر ولو في طول قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي فقد يقال بكفايته في قيامه مقام القطع الموضوعي.


عدم الجامع بين الشك وبين الأمر الواقعي كما لا يخفى.

فالحاصل ما لم نضم عناية زائدة مجرد قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي حتى من دون طولية بينه وبين قيامه مقام القطع الطريقي لا يكفي لجريان الاستصحاب في المقام ؛ لأنّ الشك ليس بعنوانه موضوعاً لحرمة الاسناد بحسب الفرض ، وإنّما ذاك العنوان الجامع بينه وبين عدم الحجّية الواقعية موضوع لها ولا تعبد بارتفاع هذا الجامع بمجرد التعبد بكون الشك المسبوق باليقين بالعدم يقين بالعدم.

ومن مجموع ما تقدم ظهر انّه بلحاظ حرمة الاسناد إذا فرض انّ موضوعها الشك وعدم العلم بالحجية لا يجري استصحاب عدم الحجّية لترتبها عند الشك في الحجّية ، ولا يقاس باستصحاب الطهارة مع قاعدة الطهارة ، وأمّا بلحاظ الأثر العملي المترتب على الحجّية وهي المنجزية والمعذرية ، فالاستصحاب المذكور يكون جارياً على مسلكنا في واقعية الأحكام الظاهرية وعدم تقومها بالوصول ، ويكون الأثر العملي المترتب على جريانه غير الأثر العملي الثابت بحكم العقل بملاك الشك وعدم البيان الشرعي ، حيث يكون الاستصحاب المذكور بنفسه بياناً وعذراً شرعياً ، وهو لا ينافي أيضاً مع إطلاق أدلّة البراءة الشرعية في مورد الامارة الالزامية المشكوكة أو اطلاقات أدلّة النهي عن الظن لو استفيد منها عدم الحجّية لأنّ الصحيح عندنا عدم الحكومة بين الامارة والأصل المتوافقين.

لا يقال : أيّ أثر لنفي حجّية الامارة المشكوكة بالاستصحاب فإنّه إذا اريد التعذير ونفي التنجيز عن الواقع قلنا بأنّ نفي الحجّية للامارة الالزامية لا يعني


التأمين عن الواقع وإنّما يعني انّ الواقع لا يتنجز علينا عن طريق هذا الدليل ، والتأمين الحيثي لا قيمة له ، وإن قصد الثاني قلنا انّ الحكم الظاهري بما هو حكم ظاهري غير قابل للتنجيز حتى يصح التعذير عنه.

فإنّه يقال : بل يعذر عن الواقع من ناحية تلك الامارة وامّا من سائر النواحي فأيضاً يمكن نفي التنجيز امّا باستصحاب عدم جعل ايجاب الاحتياط أو بأصل عقلي أو شرعي آخر ، فإنّ هذا ليس اشكالاً بحسب الحقيقة على جريان الاستصحاب المذكور وتماميته من ناحية تلك الامارة المشكوكة والتي يكون تأميناً شرعياً لا عقلياً بملاك عدم البيان ، وهذا واضح.

وجواب هذا الاشكال بتعبير آخر انّه باستصحاب عدم الحجّية ينقح موضوع إطلاق دليل البراءة الشرعية في هذه المرتبة المؤمنة عن الواقع كما انّه يؤمن عن احتمال شدة اهتمام المولى بالملاكات الالزامية وهذا تأمين شرعي أقوى من التأمين العقلي ، بل ولو لم يكن أقوى منه فإنّه يكفي في جريان الاستصحاب ترتب الأثر العملي الشرعي وامّا عدم كفاية ذلك ولزوم اجراء البراءة والتأمين العقلي عن احتمال التكليف الواقعي أيضاً فهو لا يضرّ بجريان الاستصحاب المذكور ، وهذا الجواب مذكور في الكتاب.

وأمّا بناءً على مسالك القوم من تقوّم الحكم الظاهري بالوصول فينبغي التفصيل بين استصحاب الحجّية واستصحاب عدم الحجّية ، لأنّ الأوّل بنفسه ايصال للحجية فيكون منجزاً أو مؤمناً.

وأمّا الثاني فحيث انّ الشك في الحجّية يساوق العلم بعدمه فلا موضوع لاستصحاب العدم كما أشرنا سابقاً ؛ إذ لو اريد استصحاب عدم الحجّية الفعلية


فهو مقطوع به وإن اريد استصحاب عدم انشاء الحجّية فليس الانشاء مما يترتب عليه الأثر والوظيفة العملية لكي يجري الاستصحاب فيه.

ومن هنا يظهر انّه بناءً على مسالك القوم يتم اشكال الميرزا في المسألة من عدم جريان استصحاب عدم الحجّية ، ولا يتم الجواب المذكور في مصباح الاصول من النقض تارة بالأدلّة على نفي حجّية بعض الظنون الخاصة وبدليل البراءة الشرعية في مورد قبح العقاب بلا بيان والحل اخرى بالطولية بين الحكم العقلي والحكم الشرعي بعدم الحجّية أو بالبراءة.

لوضوح انّ القياس مع الفارق فإنّ الشك في الحجّية بحسب الفرض يساوق القطع بعدم الحجّية الشرعية الفعلية والتي يراد نفيها بالتعبد الاستصحابي ، فليس الاشكال هو اللغوية ليقال بالطولية بل لو كان الاشكال باللغوية أمكن دعوى عدم قدحها بالاطلاق ولو لم تكن طولية ، وإنّما الاشكال من ناحية استلزام الشك في الحجّية لارتفاع موضوع التعبد الاستصحابي وهو الشك في الحجّية الفعلية شرعاً.

وبتعبير آخر : استصحاب عدم جعل الحجّية إنّما يجري في حق من لو كان الجعل ثابتاً واقعاً كان شاملاً له لا من يقطع بعدم شموله له على كل تقدير لفقد قيد آخر في موضوع ذلك الجعل وهو الوصول والعلم به.

وأمّا الدليل على عدم حجّية الظن القياسي فهو يكشف عن عدم الجعل والانشاء المشكوك بحسب الفرض فلو فرض ترتب أثر على ذلك ولو بالملازمة لترتب لا محالة وإلاّ فلا ؛ ولا ضير في الالتزام بذلك.


ثمّ انّ السيد الخوئي أجاب على الميرزا بأنّ الحكم العقلي بعدم جواز الاستناد والاسناد ، وكذلك البراءة العقلية حكم تعليقي يرتفع بجريان الاستصحاب وإن كان بالاستصحاب يتحقق موضوع آخر لحكم العقل بقبح البيان وعدم المنجزية.

وفيه : أوّلاً ـ انّ المعلّق عليه حكم العقل هو العلم بالمنجز والتكليف لا الأعم منه والعلم بالعدم.

وثانياً ـ هذا المقدار لا يدفع اشكال اللغوية ما لم يبرز نكتة اخرى اضافية ، والجواب الحلّي الفني امّا بلحاظ الأثر العقلي العملي وهو عدم المنجزية فما في الكتاب من انّ عدم المنجزية بحكم العقل من باب عدم العلم غير عدم المنجزية المترتبة على إذن الشارع وحكمه الظاهري فلا تحصيل للحاصل ؛ لأنّ هذا شرعي وذاك عقلي ولا لغوية لأنّ هذا يكشف عن موقف الشارع واذنه وهو ملاك أشد وأقوى في عدم صحة المعاقبة أو في المعاقبة إذا كان الحكم الظاهري الزامياً ، وامّا جريان الاستصحاب بلحاظ الحكم بحرمة الاسناد فهو حكم شرعي لابد وأن يلحظ موضوعه وهو كما في الكتاب.

وهكذا يتلخص انّ الشك في الحجّية يساوق عدم الحجّية عقلاً أي من ناحية الآثار العقلية المترتبة في ذلك المورد من تنجيز أو تعذير لأنّ موضوعها لا ترتفع إلاّ بالعلم بالحجية.

ويساوق عدم الحجّية شرعاً أيضاً تمسكاً بأدلّة الأحكام الظاهرية الشامل باطلاقها لذلك المورد ـ كاطلاق دليل البراءة ـ المستلزم لنفي الحجّية المشكوكة أو باستصحاب عدم تلك الحجّية أو باطلاق أدلّة نفي الحجّية عن الظن وغير العلم إذا فرض استفادة ذلك منها وعدم حملها على الارشاد إلى الحكم العقلي.


حجّية السيرة

ص ٢٣٣ قوله : ( حجّية السيرة ... ).

ونقصد بسيرة المتشرعة كل ما يعمل به المتشرعة ويلتزمونه عملياً في دائرة ابتلاءاتهم الشرعية ، سواءً كان بالمعنى الأخص أي منشأه منحصراً في حكم الشرع أو بالمعنى الأعم بأن كان من باب التأثر بطبع عقلائي ، ونقصد بسيرة العقلاء ما لم يحرز عمل المتشرعة في دائرة الأحكام والابتلاءات الشرعية به ، ولكن يحرز الطبع والقانون أو الارتكاز العقلائي فيه. وهذا هو المعنى الأخص للسيرة العقلائية ، في قبال السيرة المتشرعية ، وقد يطلق بمعنى عام يشمل ما يعمل به المتشرعة أيضاً ، ثمّ انّه وقع سهواً التعبير في الكتاب عن القسم الثالث بالسيرة المتشرعية مع انّ الصحيح السيرة المشرِّعة سواء كانت عقلائية أو متشرعية.

ص ٢٣٦ قوله : ( بل لأنّه يمكن ادراجه تحت كبرى أصالة عدم النقل ... ).

هذا إنّما يصحّ لو تحقق مجموع شرطين :

الأوّل : أن يقال بأنّ القرينة توجب تغيير المدلول التصوري للفظ ولو في تركيب خاص أو مع القرينة نظير ما يقال في المجاز المشهور وأمّا إذا قلنا بأنّ القرينة ترتبط بالمدلول التصديقي وتدل عليه ابتداءً من دون أن يولّد للفظ مدلولاً تصورياً مغايراً مع ما هو المدلول اللغوي له فلا تجري أصالة عدم النقل حينئذٍ ؛


إذ موضوعها الشك في تبدل المدلول التصوري فهي تحرز المدلول التصوري ، والمفروض انّه لا شك فيه ، وأمّا المدلول التصديقي فإنّ المحرز له أصالة الظهور بشعبها المختلفة التي منها أصالة عدم القرينة والمفروض عدم جريان أصالة عدم القرينة المتصلة عندنا.

الثاني : لو فرضنا انعقاد دلالة تصورية عرفية للفظ على أساس القرينة النوعية على حد الدلالة اللغوية ولو للفظ ضمن تركيب خاص وشروط خاصّة مع ذلك إنّما تجري أصالة الثبات وعدم النقل إذا كان الشك في أصل النقل لا ما إذا علم بأصله وشك في زمانه ووقته فإنّه لا تجري فيه أصالة عدم النقل للعلم بأصل النقل كما حقق في محله ، وعلى هذا الأساس لو فرض العلم بأنّ الظهور العرفي النوعي المذكور حادث للفظ وإنّما الشك في امتداده إلى زمن صدور النص كان ذلك من قبيل ما إذا علم بأصل النقل عن المعنى اللغوي إلى معنى شرعي وشك في زمانه ووقته فلا تجري فيه أصالة عدم النقل لأنّ نكتتها أصالة الثبات وعدم النقل ومع العلم به لا موضوع له عند العقلاء ، وفي المقام يعلم بانتقال الظهور للفظ ولو ضمن تركيب خاص عن معناه اللغوي إلى المعنى العرفي الفرعي لأنّ القرينة النوعية حادثة على كل حال حتى إذا كان كالمجاز المشهور لأنّ هذا الظهور النوعي أيضاً يتوقف على مرتبة من الاستعمال لكي يكون اللفظ بمجرده مأنوساً مع المعنى العرفي المذكور ، وإنّما يشك في وقته وزمانه فلا يمكن اجراء أصالة عدم النقل.

نعم ، يمكن التمسك بأصالة عدم النقل في طرف العكس كما إذا كان اللفظ ظاهراً عرفاً في نفس المعنى اللغوي اليوم وإنّما نحتمل وجود سيرة أو ارتكاز نوعي في زمن الصدور كان يوجب تغير المعنى والظهور العرفي له عن ذلك


المعنى اللغوي ، فبأصالة عدم النقل نثبت بقاء الظهور النوعي العرفي مطابقاً مع الظهور اللغوي اللفظي وإلاّ لزم أن يكون هناك انتقال وتغير في الدلالة اللفظية التصورية وهو من الشك في أصل النقل فتجري فيه أصالة عدم النقل.

ومنه ظهر انّه لو قبلنا جريان أصالة عدم النقل في المقام أمكن أن ينفى بها احتمال وجود قرينة لبية نوعية كانت محفوفة في زمان صدور الخطاب باللفظ ومغيرة لمعناها العرفي ، وهذا على خلاف ما ذكره السيد الشهيد فيما سبق من انّ هذا الاحتمال كلما جاء يوجب الاجمال في الدليل ؛ إذ لا يمكن نفيه لا بأصالة عدم القرينة ولا بشهادة الراوي كما هو واضح. والظاهر أنّ اجراء أصالة عدم النقل في الظهورات العرفية القائمة على أساس القرائن الارتكازية النوعية محل تأمل واشكال باعتبار ما ذكرناه في الشرط الأوّل.

وإن شئتم قلتم : انّ أصالة عدم النقل والثبات موضوعها الدلالات التصورية للألفاظ بحيث تكون محفوظة حتى إذا سمع اللفظ من الجدار ، وهذا لا يتحقق مع فرض بقاء المعنى اللغوي على حاله حتى في المجاز المشهور وإلاّ أصبح وضعاً تعينياً.

ص ٢٤٣ قوله : ( ٢ ـ أن تكون دلالة حالية ... ).

يمكن المناقشة في حجّية كل دلالة حالية أو سكوتية لو لم تكن محفوفة بكلام وحيثية تعليلية لانعقاد ظهور فيه ما لم يبلغ مرتبة القطع أو الاطمئنان ، وما قيل من انّ السكوت قد يكون أبلغ من الكلام مجرد تشبيه في أصل الدلالة لا في الحجّية ، ولو فرض حجيتها فهي بحاجة إلى مصادرة اخرى غير كبرى حجّية الظهور.


ص ٢٤٨ قوله : ( وكلا المعنيين للسيرة المتشرعية تكون حجة بملاك كشف المعلوم عن علته ... ).

الانصاف انّ المعنى الثاني لا يكون كاشفيته بملاك كشف المعلول عن علته لاحتمال أن تكون علته الارتكاز العقلائي.

ودعوى : انّ غفلتهم جميعاً عن السؤال عن الموقف الشرعي منفي بحساب الاحتمالات ، فلابد وأن يكون قد صدر من بعضهم على الأقل سؤال عن الموقف الشرعي من المعصوم فتكون السيرة مستندة إلى نظر الشارع ويكون عمل المتشرعة مبنياً عليه ومعلولاً لموقف الشارع ، فلا يحتاج إلى الركن الثاني أعني عدم الردع.

جوابها : انّ هذا البيان لا يتم إذا كان ذلك الارتكاز أمراً راسخاً في الطبع العقلائي بحيث قد تقع الغفلة لدى الجميع عن السؤال عن الموقف الشرعي أو يوجب تخيّل موافقة الشارع له ، فالسيرة المتشرعية بهذا المعنى أيضاً يحتاج إلى عدم الردع. نعم ، يمن اثبات الامضاء وعدم الردع في هذا النحو من السيرة من نفس تحققها ، إذ لو كان هناك ردع لم تتحقق السيرة المتشرعية ولكان عملهم على الخلاف لكونهم متشرعة ملتزمين بأحكام الشارع فلا يحتاج في مقام اثبات عدم الردع إلى الشرطية الثانية.

وهكذا يتضح أنّ سيرة المتشرعة بالمعنى الأخص لا يحتاج إلى الأمر الثاني والسيرة المتشرعة بالمعنى الثاني يحتاج إلى الأمر الثاني ولكن خصوص الشرطية الاولى منه وسيرة العقلاء يحتاج إلى كلتا الشرطيتين.

وبهذا أيضاً يمكن أن نفسر الأقوائية للسيرة المتشرعية بالمعنى الأخص عن


المعنى الأعم.

ثمّ انّ هناك فروقاً اخرى بين السيرتين غير الفرقين المذكورين :

منها : أهمية السيرة المتشرعية بالمعنى الأعم أو السيرة العقلائية وتنوعها كما تقدم ، وسعة دائرة الاستفادة بها في أبواب الفقه والاصول بخلاف السيرة المتشرعية بالمعنى الأخص.

ومنها : انّ السيرة المتشرعية بالمعنى الأخص غالباً ما توجد في مواردها أدلّة اخرى على الحكم من خطابات أو اجماع الفقهاء لكونها معلولة للموقف الشرعي الذي ينعكس على الناس عادة من خلال خطاباته بخلاف السيرة العقلائية.

ومنها : انّ طريق اثبات السيرة العقلائية ومعاصرتها لزمان المعصوم أيسر من اثبات معاصرة سيرة المتشرعة بالمعنى الأخص لأنّ أوضاع المتشرعة اليوم قد تكون ناشئة من فتاوى العلماء واثبات الوضع المتشرعي في زمن المعصوم يحتاج إلى تبعات تاريخية لا تخلو من صعوبة بخلاف فهم الطباع العقلائية.

ص ٢٥٢ قوله : ( وإنّما المقصود ان كلّ عاقل يرى ... ).

ويمكن أن يكون المقصود انا بملاحظة المولويات العقلائية الواقعة في الخارج نلاحظ جعل الظهورات حجة كما في باب المرافعات والأوضاع الاجتماعية والعلاقة مع الامراء والحكومات التي تعتبر نوعاً من المولوية ، وهذا لا ينافي مع كون الحكم الظاهري بالحجية يجعله كل آمر على مأموره في حدود أغراضه مع مواليه لا غير.


ص ٢٥٤ قوله : ( وهذا البيان يحتاج في تتميمه إلى دعوى مصادرة وجدانية ... ).

المقصود انّ الاستحالة إنّما تكون إذا كانت الاطلاقات الرادعة تشمل نفسها ، وأمّا إذا لم تشمل نفسها أو كان اطلاقها لنفسها فقط ساقطاً عن الحجّية واحتملنا الفرق في عدم الحجّية بين هذه الاطلاقات وسائر الظهورات والظنون أمكن التمسك بالسيرة العقلائية في شخص هذه الاطلاقات ، للردع عن غيرها من الظنون ، ولا محذور فيه.

وما في الهامش هنا من عدم شمول هذه الاطلاقات للظهورات واختصاصها بسائر الظنون للزوم نحو تناقض عرفي لو اريد اعتماد الظهور للردع عن الظهور لا وجه له ؛ إذ لا تناقض حتى عرفاً في اعتماد الظهور والإطلاق لنفي حجّية الظنون حتى الظهورات غير القطعية ، وهذا واضح.

ثمّ إنّ هنا جواباً آخر على دعوى استحالة الرادعية في المقام ، وحاصله : أنّ رادعية الاطلاقات لا تتوقف على حجيتها ، بل تكفي دلالتها اللغوية والعرفية وكشفها التصديقي الظني ـ ولو لم يكن حجة ـ على الرادعية ونفي حجّية الظنون في اثبات الردع بمعنى عدم امكان الكشف عن الامضاء ؛ إذ كيف يستكشف الامضاء مع وجود مثل هذه الدلالات والكواشف الظنية الرادعة. نعم ، لو اشترطنا في الرادع أن يكون حجة لم يتم هذا الجواب ، إلاّ انّه بلا موجب كما هو واضح.

ص ٢٥٥ قوله : ( إلاّ أنّ الصحيح امكان تعميم نتيجة السيرة ... ).

يرد عليه : أوّلاً ـ عدم توقف الجزم بالسيرة المتشرعية على فرض سيرة


العقلاء بل نقطع بذلك امّا من مراجعة عملهم ـ كما ذكر في الهامش ـ أو باعتبار انّه لو كان لهم طريقة اخرى لانعكس باعتبار انّه لابد لهم من طريقة في فهم الأحكام الشرعية ومرادات الشارع غير العلم والاطمئنان ولو كان غير العمل بالظهورات التي يعملها المتشرعة اليوم لبان ذلك وانعكس في التاريخ.

وثانياً ـ لو سلّم التوقف على ذلك لم يكن هذا استدلالاً بسيرة المتشرعة التي لا تحتاج إلى الركن الثاني وهو عدم الردع بل استدلال بالسيرة العقلائية لأنّها تحتاج إلى اثبات عدم الردع كما ذكر في المتن.

وإن شئت قلت : لا يمكن الكشف الاني عن حكم الشارع إلاّبما وقع عمل المتشرعة به خارجاً لا بما يكون في ارتكازهم بما هم عقلاء من التوسعة مع عدم احراز عملهم به ؛ إذ ليس المراد اثبات السيرة لدى المتشرعة بمعنى انّ المتشرع كان يرى الحجّية بنحو القضية الشرطية ولو من جهة تأثّره بالطبع العقلائي ، بل المراد بالسيرة المتشرعية العمل الكاشف والمعلول لحكم الشارع والذي لا يحتاج إلى ضم مقدمة عدم الردع ، وهذا لا يكون إلاّفيما يحرز وقوعه خارجاً من عمل المتشرعة امّا ارتكازهم المتأثر بالطبع العقلائي وحده فلا يمكن أن يكون كاشفاً عن الموقف الشرعي ومعلولاً له كما هو واضح.

ص ٢٦٠ في الهامش : ( ثمّ انّ هنا وجهاً آخر ... ).

هذا الوجه يمكن جعله تقريراً آخر للوجه الثالث ، فإنّه إذا قلنا بالامضاء لكل الارتكازات العقلائية قبل اكمال الدين وانّ الروايات ناسخة لذلك الامضاء جرى الاستصحاب كما في المتن ، وإن قلنا بعدم الامضاء بل مجرد السكوت الظاهر في الامضاء فينكشف خلافه بالروايات فتكون مقيدة لذلك الظهور لا ناسخة تم


الوجه المذكور ، فإنّ الظهور السكوتي أو اللفظي ـ لو فرض وجود اطلاقات تدل على الامضاء ـ حجة ما لم يثبت المقيد والمخصص فمجرد احتمال التقييد غير كافٍ.

ص ٢٧٣ قوله : ( القول الأوّل ... ).

حاصل كلام المحقق القمي هو التفصيل بين من قصد افهامه وغيره أو بين المخاطب والمشافه وغيره ، وهناك فرق بينهما من ناحية انّ من قصد افهامه قد تحصل دلالة عقلية ـ كدلالة الاقتضاء والحكمة القائمة على أساس عدم نقض الغرض ـ على ارادة ما فهمه من الخطاب ، إلاّ أنّ احتمال ارادة المفصل هذه الدلالة من تفصيله بعيد جداً لأنّ هذه الدلالة قطعية أو اطمئنانية وعقلية لا ربط لها بحجية الظهورات التعبدية كما انّه ليس في تمام الموارد إذ قد يحتمل قصد الاجمال ولو في جانب من دلالات الكلام حتى للمقصود بالافهام فلابد وأن يكون مقصود المفصل من المقصود بالافهام من صدور الخطاب له من أجل افهامه ولو لم يكن حاضراً مجلس الخطاب ومشافهاً به فيكون حاله حال المخاطب. فما هو ظاهر المتن من انّ المقصود بالافهام يستغني في أكثر الاحتمالات الخمسة عن أصالة الظهور ولا يحتاج اليها في غير محله.

وأيّاً ما كان فالتفصيل المذكور يمكن أن يذكر له تقريبان كما في المتن ، وقد اعترض عليه بعدم اختصاص أصالة الظهور بمن قصد افهامه أو بالمخاطب.

وهذا الجواب بهذا المقدار لا يشفي الغليل لما تقدم من انّ حجّية الظهور ليس تعبدياً بل على أساس نكتة الكاشفية فيدعى عدم انحفاظها لغير المخاطب أو لغير من قصد إفهامه إذ لعل هناك قرينة حالية أو اصطلاح خاص بين المتكلم


وبينهما بحيث لو كان هذا المكلف حاضراً أو مقصوداً بالافهام لتغير المدلول بالنسبة إليه وهذا الاحتمال لا كاشف ينفيه.

وحاصل جواب السيد 1 بيان مناشىء احتمال ارادة خلاف الظاهر والتي تجري فيها الأصل العقلائي أو لا تجري. وهي كما يلي :

١ ـ احتمال ارادة الاجمال والاهمال ، وهذا ينفيه أصل عقلائي وهو ظهور حال نفس تصدي المتكلم للتكلم والافهام والمحاورة في انّه ليس في مقام الاهمال والاجمال وهو حجة بحق المخاطب وغيره ، والمقصود الافهام ـ بالمعنى الذي تقدم منا والذي قد يكون مساوقاً مع المخاطب بالخطاب ـ على حد واحد لأنّ نكتة الكاشفية واحدة للجميع وهي أصل تصدي المتكلم للبيان والمحاورة في ذلك الموضوع.

٢ ـ احتمال ارادة خلاف الظاهر ولو من خلال اعتماد قرينة منفصلة ، وهذا أيضاً ينفيه ظهور حال المتكلم في بيان تمام مرامه بشخص خطابه لا بالقرائن المنفصلة ، فإنّها خلاف الطبع الأولي وإن كان واقعاً كالمجاز الذي لا يضر وقوعه في ظهور ارادة الحقيقة وكثرة وقوعه في حق شارعنا الأقدس لا يمنع عن أصل انعقاد هذا الظهور الحالي. نعم ، يوجب عدم حجيته قبل الفحص عن القرينة المنفصلة على ما سيأتي في محله.

٣ ـ احتمال ارادة الخلاف وبيان قرينة متصلة لم يلتفت اليها وهذا نسبته إلى كل من حظر وسمع الخطاب على حد واحد وينفيه أصالة عدم الغفلة العقلائية كما انّه بالنسبة لغير من حضر ينفيه شهادة الراوي كما شرحناه.

٤ ـ احتمال ارادة الخلاف من جهة احتمال الضياع ، وهذا نسبته إلى الجميع


على حد واحد ، وقد ذكرنا انّه لا نافي له كلما جاء هذا الاحتمال.

٥ ـ احتمال ارادة الخلاف على أساس وجود أمر أو اصطلاح خاص بينهما.

وهذا الاحتمال قد نفاه السيد 1 بأصل عقلائي وظهور حالي آخر هو ظهور حال المتكلمين باتباع الطريقة اللغوية العامة إلاّمع التنصيص على ذلك في مقام المحاورة.

وهذا التعبير بظاهره لا يخلو من مسامحة فإنّه ليس هناك أصل عقلائي كذلك بل ظاهر حال كل متكلم انّه يعتمد كل ما يمكنه أن يعتمد عليه في افهام غيره ومخاطبته ، فلو فرض وجود قرينة لبية أو حالية بينهما أو لغة ورمز مخصوص لم يمكن نفي ذلك بمجرد عدم التصريح منهما بذلك وليس في سكوتهما عن التصريح بذلك في شخص هذا الخطاب دلالة على عدمه بل حال هذا الاحتمال حال القرائن اللبية الارتكازية التي تقدم من السيد الشهيد 1 أنّه لا أصل نافي له.

فهذا الاحتمال لابد من نفيه وجداناً بالعلم أو الاطمئنان الشخصي كما في سائر موارد احتمال القرائن اللبية والارتكازية.

هذا إذا كان ذلك الرمز أو الاصطلاح عاماً ، وأمّا إذا كان خاصاً بشخص ذاك الخطاب كفى في نفيه سكوت الراوي عنه وشهادته السلبية فهذا الاحتمال بحسب الحقيقة من مصاديق وتطبيقات الاحتمال الثالث ونفيه يكون بدعوى الجزم أو الاطمئنان بعدم وجود رمز أو اصطلاح بين الأئمّة والرواة ، وامّا احتمال القرائن الخاصة المحفوفة بشخص كل خطاب أو مجلس المخاطبة فينفيها سكوت الراوي.

ثمّ انّ هنا اشكالاً آخر على أصل هذا التفصيل ذكره السيد الخوئي 1 في


المصباح وحاصله انّه لا موضوع لهذا التفصيل حتى إذا قبلنا كبراه فلا يلزم منه انسداد باب العمل بالروايات كما ادعاه المحقق القمي إذ لا اشكال في انّ الرواة كانوا مخاطبين أو مقصودين بالافهام من الروايات. ثمّ إنّهم نقلوها بالمعنى أو باللفظ مع قصد الافهام للطبقة الثانية وهكذا إلى أصحاب الكتب كالكليني والصدوق والشيخ 5 وهم أيضاً كانوا يقصدون افهام كل من ينظر في كتبهم فيكون موضوع الحجّية تاماً في حق الجميع.

وهذا البيان قابل للمناقشة فانا لو سلمنا التفصيل فيحتمل أن يكون هناك اصطلاح أو رموز أو فهم خاص لنصوص الأحاديث التي كان الرواة خصوصاً أصحاب الاصول والكتب متقيدين بنقل ألفاظها من دون تصرّف فيها فلم يكونوا بصدد نقل المعنى وقصد افهامه للطبقة الثانية بل بصدد نقل متن الحديث ونصّه ، بل حتى لو فرض النقل بالمعنى في حق أصحاب الكتب وقصدهم افهام معنى الأحاديث للطبقة الثانية ، فهو أيضاً في إطار الفهم العام في زمانهم لا زماننا الذي يفصل بيننا وبينهم أكثر من ألف سنة ، فلا نافي لهذا الاحتمال إلاّ التتبع والجزم أو الاطمئنان بعدم وجود قرينة نوعية على خلاف المعنى اللغوي العام.

ثمّ انّ الشيخ الأعظم 1 تعرّض هنا لشبهة احتمال التقطيع في الروايات بنحو كان يوجب الاخلال في الظهور ، وهذا يجعله بالدقة من موارد احتمال قرينية الموجود لا وجود القرينة للعلم بوجود الاتصال الذي قطعه الرواة وهو محتمل القرينية ، وفي مثله لا تجري أصالة عدم القرينة حتى عند المشهور.

وحلّه ما أفاده أيضاً ، وبتوضيح منّا : انّ شهادة الراوي السلبية ينفي ذلك ؛ لأنّهم كانوا عارفين بأساليب اللغة فلو كان في المُقطَّع ما يغيّر المعنى لكان ينبغي


أن ينبه عليه الراوي وإلاّ كان خلاف أمانته أو خلاف التفاته وعدم غفلته ، فعدم التنبيه والذكر لذلك بنفسه شهادة سلبية على نفي قرينية الموجود كنفي وجود القرينة.

ص ٢٧٧ قوله : ( شبهة خبر الاغريقي المعروفة ... بعد فرض كذب سائر أخبار الآخرين ... ).

لا موجب لهذا القيد حتى يقال انّه مع فرض كذبها كيف يمكن فرض كذب هذا الأخبار وإنّما لابد من أن نفرض عدم وجود أي اخبار آخر لأي اغريقي ولا لهذا الرجل غير هذا الاخبار وهو قضية حقيقية تشمل كلما يفرض خبراً اغريقياً وحيث لا مصداق له غير نفسه فيكون مصداقاً لنفسه ، فاما أن يفرض كاذباً أو صادقاً أو لا كاذباً ولا صادقاً ولا شق ثالث ، والأخير ارتفاع للنقيضين ، والأولان يلزم من كل منهما نقيضه أي اجتماع النقيضين وكونه صادقاً وكاذباً وهو محال أيضاً.

وقد أجاب السيد الشهيد عن الاشكال بالانحلال إلى اخبار ونسب خبرية إلى ما لا نهاية ؛ لأنّ القضية الخبرية الحقيقية هذه بنفسها خبر أيضاً ونسبة بين محمول وموضوع من اغريقي فيقع موضوعاً لمحمولها وهو الكذب ـ إذا افترضناها كاذبة ـ وبذلك يتحقق اخبار عن كذبها وهذا خبر جديد يتولد في طول القضية الحقيقية وهو الإخبار عن كذب تلك القضية الحقيقية وهذا الإخبار صادق وليس كاذباً بعد فرض كذب القضية الحقيقية وحيث انّ القضية حقيقية فتشمل هذا الإخبار أيضاً ؛ لأنّه خبر اغريقي وبلحاظ هذا الشمول يتولد إخبار عن كذب الإخبار بكذب القضية الحقيقية لأنّ محمول القضية الحقيقية الكذب ، وحيث انّ


ذاك الإخبار ليس كذباً بل صدق فهذا الإخبار الثالث الناشيء من هذا الشمول يكون كاذباً ، وحيث انّه إخبار أيضاً فيقع موضوعاً جديداً لمحمول القضية الحقيقية أيضاً فتتشكل نسبة خبرية جديدة بين المحمول في القضية الحقيقية وهذا الكذب وبين هذا الإخبار وحكم عليه بأنّه كاذب وهو نسبة خبرية رابعة صادقة وهكذا.

ولو فرضنا صدق القضية الاولى فحيث انها حقيقية فتشمل نفسها وحيث انها ليست كاذبة بحسب الفرض فيكون اطلاقها وشمولها لنفسها والإخبار عن كذب نفسها اخباراً ثانياً كاذباً ، وهذا الإخبار أيضاً خبر اغريقي فيكون مشمولاً لمحمول القضية الحقيقية فيكون هناك اخبار ثالث عن كذب الإخبار الثاني وهو إخبار صادق ، وحيث انّه اخبار فيكون مشمولاً لموضوع القضية الحقيقية أيضاً فيكون قد أخبر أيضاً عن كذبه وحيث انّه صدق فيكون هذا الإخبار الرابع كاذباً وهكذا إلى ما لا نهاية حسب المقدار الذي نلاحظ فيه هذه الانطباقات النفس الآمرية الاعتبارية ولا محذور في التسلسل في ذلك ، بل لا محذور في التسلسل في سلسلة المعلولات حتى في الوجودات العينية فضلاً عن الاعتبارية ـ المعقولات الثانوية ـ.

بل يمكن أن يقال : انّ هذه الإخبارات تحليلية وبلحاظ مرحلة مدلول القضية بالحمل الأولي وهو صدق النسبة الخبرية ، وحيث انّ النسبة الخبرية تصورية وذهنية لا واقعية فلا تسلسل ، وإنّما يمتد ذلك بمقدار الملاحظة الذهنية للنسبة ولأنّ الصدق والكذب صفتان للنسبة الذهنية لا النسبة الواقعية فإنّها لا تتصف بالصدق والكذب والنسبة الذهنية تدور مدار مقدار التصور الذهني لتلك النسبة فلا موضوع للتسلسل أصلاً.


والظاهر انّ هذا الجواب بحاجة إلى تمحيص وتطوير فإنّه بحسب الحقيقة لا يوجد انحلال وقضايا عديدة بل هذه القضية مفرّغة بلحاظ نفسها حتى إذا كانت حقيقية فإنّها لا يمكن أن تشمل نفسها ، بشهادة وجدانية أنّ هذه القضية لو كانت وحدها بحيث لم يكن يوجد خبر اغريقي غيره لم يكن معنى لافتراضها كذباً أو صدقاً وهذا ينبه إلى انّه لا يمكن أن تكون هذه القضية صادقة أو كاذبة بلحاظ نفسها فلابد من حلّ آخر.

وحاصله ما اشير إليه في حل شبهة التناقض الذي أثاره ( رسل ) ، وتوضيحه : أنّ الصدق والكذب حيث انهما صفتان للقضية المعقولة لا للواقع الخارجي ـ فهو من المعقولات الثانوية التي تتوقف على وجود نسبة خبرية وقضية معقولة في المرتبة السابقة على ثبوت نفس الصدق والكذب فإذا كانت النسبة الخبرية والقضية المعقولة المتحققة في طول هذا الإخبار محمولها نفس الصدق والكذب فلا يكون هناك محكي لها لكي تصدق أو تكذب بلحاظه.

وهذا يعني انّه حتى إذا كانت القضية حقيقية فلا يمكن أن تحكي نفسها لأنّ صدقها على نفسها فرع أن تكون هي قضية ذات موضوع ومحمول ويكون محمولها غير نفس الصدق والكذب ؛ لأنّ الصدق والكذب يكون صدقهما متوقفاً في المرتبة السابقة على وجود قضية معقولة غيرها فلا تكون مثل هذه القضية صادقة أو كاذبة إلاّبلحاظ قضية اخرى غيرها تكون بمثابة القضية الأولية بالنسبة إلى هذه القضية الثانوية ، فإنّه إذا وجدت قضية كذلك فتلك تتصف بالكذب أو الصدق بلحاظ المطابق الخارجي لها فتتشكل قضية اخرى هي الإخبار عن صدق أو كذب تلك القضية الاولى وهذا الإخبار يمكن أن يتصف بالصدق والكذب كما إذا كانت تلك القضية صادقة مثلاً ولكن اخبرنا بأنّها كاذبة


أو بالعكس فتكون القضية الثانية كاذبة ، وإذا اخبرنا عن حقيقة صدقها أو كذبها كانت القضية الثانية صادقة فيمكن الإخبار عن صدقها أيضاً في قضية ثالثة انحلالية وهكذا.

وهذا يعني انّ الانحلال فرع وجود قضية أولية ، فمع عدم وجود قضية أولية تكون القضية مفرغة غير قابلة للصدق أو الكذب فلا تشمل نفسها ، ومع وجود قضية أولية يمكن أن تشمل نفسها ، وحينئذٍ إذا فرضت تلك القضية الأولية صادقة كانت القضية الثانوية كاذبة بلحاظ إخبارها عن كذب القضية الأولية ولأنّها تكون بنفسها خبر اغريقي فهناك إخبار عن كذبها أيضاً بالانحلال ، وهذا الإخبار صادق وهكذا.

وإذا كانت القضية الأولية كاذبة كانت القضية الثانوية صادقة ولا يلزم من صدقها كذبها ولكن يلزم أن يكون الإخبار عن كذب كل خبر اغريقي حتى هذا الإخبار الثانوي بالانحلال كاذباً فيكون الإخبار الثالث كاذباً وهو بنفسه إخبار اغريقي مشمول للإخبار عن كذب كل خبر اغريقي ، فهناك إخبار عن كذب الإخبار الثالث وهو إخبار صادق لا كاذب وهكذا.

لا يقال : إذا كانت هذه القضية حقيقية فهي تحكي الملازمة الواقعية بين اخبار اغريقي وبين كذب ذلك الإخبار وهذه قضية أولية صدقها أو كذبها لا تستلزم صدق طرفيها فيمكن أن تتصف بالصدق والكذب من دون فرض قضية قبلها في المرتبة السابقة.

فإنّه يقال : إذا فرض انّ محكي القضية الحقيقية المذكورة هذه الملازمة الواقعية لزم من صدقها بمعنى ثبوت هذه الملازمة الواقعية استحالة الإخبار


عنها من قبل الاغريقي لا انّه يلزم كذبها ليكون من التناقض ، فإذا فرض الإخبار عنها كان بنفسه دليلاً على عدم ثبوت تلك الملازمة الواقعية فلا يلزم من صدقها كذبها بل استحالة الإخبار وحيث انّ الإخبار فعلي فيستكشف عدم الصدق كما انّه لا يلزم من كذبها صدقها حتى إذا فرض انحصار الإخبار فيها لأنّ معنى كذبها عدم ثبوت الملازمة الواقعية ، ومجرد كذب هذا الاخبار لا يلزم منه صدق الملازمة المفاد به كما هو واضح.

وبهذا يتضح انّ الجواب الفني على شبهة الاغريقي أن يقال : انّ هذه القضية إن كانت خارجية أي ناظرة إلى ما يفرض قبلها من الأخبار فهي لا تشمل نفسها كما هو واضح وإن فرضت قضية حقيقية تحكي الملازمة بين اخبار الاغريقي والكذب فهي كاذبة جزماً ؛ لأنّ صدقها يلزم منه استحالة وقوع الإخبار بها عن الاغريقي فنفس فرض وقوعه دليل كذبها ولا يلزم من كذبها ثبوت الملازمة ، وهذا يعني انّ هذه القضية يستحيل أن تشمل نفسها لأنّها امّا خارجية أو قضية حقيقية كاذبة لأنّها يستحيل أن تحكي الملازمة حكاية صادقة مطابقة للواقع.

وهذا يعني انّه لا يوجد هناك انحلال ؛ لأنّ القضية إذا كانت خارجية فلا انحلال وإذا كانت حقيقية فهي كاذبة ولا يلزم من كذبها صدق الملازمة لتكون صادقة فتدبر جيداً.

وهذا البيان لا يجري في شبهة راسل لأنّ البحث هناك عن المفهوم التصوري لا التصديقي وهي منتزعة عن مفهوم مفروض مسبقاً فهي من القضية الخارجية دائماً أي لابد من فرض مفهوم قبله وإلاّ كان مفرّغاً غير قابل للاتصاف بالصدق والكذب على نفسه.


ص ٢٩٢ قوله : ( لا ينبغي الاشكال في انّه الظهور الموضوعي ... ).

ما ذكر في التعليل بظاهره قابل للمناقشة فإنّ الظهور الشخصي أيضاً فيه كاشفية وطريقية شخصية كالظن الشخصي. والظاهر انّ حاق المقصود هو انّ الظهور المذكور هو ظهور حال المتكلم في ما يريده باللفظ وهو أمر واحد ثابت بلحاظ الطرائق العامة النوعية للدلالة وهو المعبّر عنه بالظهور الموضوعي ، وامّا الظهور الشخصي الذاتي فهو أمر نسبي متغير من فهم شخص إلى شخص فلا يناسب أن يكون هو موضوع الحجّية إذ لا ربط له بالمتكلم وحاله ، والارتكاز العرفي أيضاً يشهد على انّ كلّ خطاب له ظهور واحد لا ظهورات عديدة نسبية بعدد الأفراد.

ص ٣١٩ قوله : ( ٢ ـ ما كنا نورده نحن في الدورة السابقة ... ).

حاصل الاشكال انّه بناءً على انكار الملازمة العقلية بين الإجماع المحصل وبين الحكم الشرعي وانّ كاشفيته الإجماع والتواتر من باب حساب الاحتمالات الذي ينتهي إلى تضعيف الاحتمال وفي النهاية حصول العلم من خلال تلك الاحتمالات في ذهن الإنسان طبعاً وذاتاً لا من جهة برهان استحالة الصدفة أو التواطؤ على الخطأ والكذب ، فهذا الحساب إنّما يجري ويفيد في حق من يحصل عنده ذاك الإجماع أو التواتر لا من ينقل إليه ذلك ؛ إذ لا يفيد خبر الواحد للعلم وإنّما يراد اثباته بالتعبد وحينئذٍ لو اريد اجراء التعبد وتطبيقه على المدلول المطابقي لنقل الإجماع فهو ليس حكماً شرعياً وإن اريد تطبيقه بلحاظ المدلول الالتزامي فهو فرع ثبوت الملازمة العقلية أي فرع ثبوت قضية شرطية كلية حقيقية مفادها انّه كلما تحقق التواتر أو الإجماع كان المخبر به أو المجمع


عليه مطابقاً للواقع وثبوت القضية الحقيقية المذكورة فرع ثبوت الملازمة واستحالة الانفكاك ، وقد أنكرناها في الدليل الاستقرائي ، فلا تتشكل دلالة التزامية لنقل الإجماع على الحكم الشرعي.

وقد اجيب على هذا الاشكال في الدورة السابقة بأجوبة لا ترجع إلى محصل من قبيل دعوى كفاية الملازمة بين العلمين وإن لم تكن ملازمة بين المعلومين.

والجواب : انّه كما لا ملازمة بين المعلومين لا ملازمة بين العلمين أيضاً إذا لم تثبت القضية الحقيقية المذكورة ؛ على انّ هذا معناه حجّية نقل الإجماع بلحاظ علم الناقل بالمسبب وهو من الإجماع الحدسي وليس حسياً على ما سوف يأتي بيانه.

ومن قبيل انّ عدم ثبوت ذلك الحكم امّا ناشىء من كذب المخبر عن الإجماع أو التواتر أو عدم ثبوت الحكم رغم ثبوت الإجماع والتواتر والأوّل منفي بحجية خبر الثقة والثاني مرفوض من قبل المنقول إليه بالقطع واليقين.

والجواب : انّه لا نافي لذلك إذا لم تثبت القضية الحقيقية. نعم من يحصل له اليقين بالتواتر أو الإجماع المحصل يحصل له اليقين بالحكم الشرعي من باب الطبع الذاتي وحساب الاحتمالات ، إلاّ انّه من دون تحصيل الإجماع لديه لا يمكن أن يتيقن بأنّ كل اجماع يلازم صدق المجمع عليه ومطابقته للحكم الشرعي إلاّ إذا ثبتت القضية الحقيقية المذكورة ، والمفروض عدم امكان اثباتها بالدليل الاستقرائي ، فهذا نظير من يحصل له علم حدسي كثيراً أو غالباً من الشهرة مثلاً ، فإنّه لا يكفي لأن يكون نقل الشهرة له بخبر الواحد حجة.

ومن قبيل أنّ الناس إذا كان يحصل لهم علم عادة من الإجماع والتواتر كان


المحصِّل لهما عالماً بالحكم الشرعي فيكون نقله للحكم الشرعي حجة لكونه اخباراً قريباً من الحس عن حكم شرعي وهو كالاخبار الحسّي للحكم الشرعي عن المعصوم.

وفيه : أوّلاً ـ انّ هذا معناه حجّية النقل للاجماع من باب نقل المسبب والحكم الشرعي ابتداءً لا من باب نقل السبب كما هو المقصود اثباته ، وامّا نقل المسبب فسوف يأتي انّه حدسي في باب الإجماع.

وثانياً ـ لو فرض في مورد حصول علم لعامة الناس ذاتاً من دون ملازمة منطقية ـ كما إذا فرضنا انّ عامة الناس كانوا قطاعين ـ لم يكن ذلك حجة فإنّ الحجة إنّما هو النقل المستند إلى علم حسي أو ما يكون من ملازماته المتوقفة على ثبوت القضية الحقيقية ، فليس الميزان في حجّية خبر الثقة في الحسيات أن يكون حصول العلم نوعياً ولو كان على أساس غير منطقي بل ذاتي وشخصي فإنّه من الاخبار الحدسي ، كما إذا فرضنا انّ عامة الناس أصبحوا قطاعين ، فإنّ هذا لا يجعل اخباراتهم على أساس ذلك من الاخبار الحسي المشمول لدليل الحجّية.

والصحيح في الجواب ما ذكره السيد الشهيد في الدورة الثانية ، وحاصله : انّ القضية التي تثبت في الاستقراء ليس صدق كلي خبر متواتر أو اجماع أو دليل استقرائي بالخصوص بل المنهج الاستقرائي يثبت أيضاً القضية الكلية وهي انّ الصدفة لا تكون في الخارج ولو بنحو القضية الخارجية الكلية في عالمنا فتتشكل القضية الكلية الخارجية لا الحقيقية.

وإن شئتم قلتم : انّه تتشكل قضية حقيقية مخصوصة بعالمنا الخارجي بمعنى


انّ كل ما يقع من التواترات أو الاجماعات في هذا العالم ملازمة مع الصدق ، وهذه القضية الشرطية كافية لتشكل الدلالة الالتزامية المطلوبة ، فإنّه إذا فرضنا انّ المعصوم من باب علمه بالغيب والمستقبل أخبرنا بأنّه كلما جاءك زيد جاءك عمر بنحو القضية الخارجية لا بنحو استحالة أن لا يأتي عمر فقامت بينة على انّه قد جاء زيد لا محالة تتشكل دلالة التزامية على انّه قد جاء عمر وتكون هذه الدلالة الالتزامية حجة ؛ لأنّ نفس درجة الكشف الثابتة بلحاظ المدلول المطابقي ونكتتها المنطقيّة بنفسها ثابتة بلحاظ المدلول الالتزامي أيضاً.

وهذا محفوظ في المقام فإنّه مع ثبوت التصديق بالقضية الكلية القائلة بأنّ الصدفة لا تقع ولو في عالمنا الخارجي فكلما أخبر الثقة عن تحقق التواتر أو الإجماع على شيء كان كاشفاً بنفس تلك الدرجة من الظن والتصديق عن صدق القضية المخبر بها لكونها مدلولاً التزامياً منطقياً لا محالة فإنّ الدلالة الالتزامية فرع صدق القضية الشرطية الكلية بنحو تكون شاملاً لما أخبر به المخبر على تقدير صدقه ، والمفروض ثبوت هذه القضية الكلية في المقام بعد فرض إمكان اثبات كبرى نفي الصدفة بنحو كلي بالاستقراء ، وهذا يعني أنّه لا فرق بين منهجنا ومنهج المنطق الارسطي في ثبوت التصديق بالقضية الكلية بأنّ الصدفة لا تكون بنحو يشمل تمام ما يقع في عالمنا من الاستقراءات والتواترات وإنّما الفرق بين المسلكين في انّ المنطق الارسطي يدعي ذلك على أساس التصديق بقضيّة اخرى عقلية أولية هي استحالة وقوع الصدفة فتكون القضية الكلية حقيقية ، وبلحاظ كل العوالم بينما المنهج الاستقرائي يرى حصول التصديق بالقضية المذكورة الكلية في عالمنا على أساس حسابات الاحتمال التي تجري لاثبات نفس القضية الكلية المذكورة فتكون القضية كلية بمقدار عالمنا.


بل هذا البحث أصله لا موجب له ؛ لأنّ الثابت في محلّه في بحث الاستقراء ، أنّ القضايا الحسّية ، أي المحسوسات الخارجية أيضاً يكون التصديق بها على أساس منطق الاستقراء لا البرهان ، فالخبر الحسّي للسبب لا يراد منه إلاّ ما يكون العلم به قائماً على أساس هذا المنطق لا البرهان والقضايا الحقيقية ، وهذا واضح.

ومن ذلك يظهر انّ ما ذكره السيد الشهيد 1 في ذيل المقام من انّه لو عدل الناقل عن نقله للسبب إلى نقل المسبب ابتداءً لم يجد شيئاً ؛ لأنّ اخباره عن السبب وهو قول المعصول ليس حسياً بل حدسي وإنّما الحسي نقله للسبب قابل للمناقشة فإنّ هذا إنّما يتم إذا كانت السببية حدسية ثابتة بالبرهان أو باجراء حسابات الاحتمال بنحو لا يكون مورثاً للقطع واليقين لكل انسان وإنّما يحصل لدى المنقول إليه اتفاقاً ، وامّا إذا كان ينقل ما يكشف عن قول المعصوم أو السيرة المتشرعية والارتكاز المتلقى عن المعصوم عند عامة الناس كان نقل المسبب حجة أيضاً ؛ لأنّه نقل حسي أو قريب من الحسّ.

وإن شئت قلت : بناءً على المنهج المتقدم في كاشفية الإجماع والتواتر يكون الإخبار عن القضية المتواترة أو الحكم الشرعي المجمع عليه إخباراً عن أمر حسي أو قريب منه لأنّ القطع الحاصل من التواتر ونحوه من الأدلّة الاستقرائية ليس قطعاً حدسياً بل حسي أو قريب منه كالقطع الحاصل بالسبب نفسه ، وهذا في التواتر أوضح منه في الإجماع ، ولهذا يصح الإخبار عن القضية المتواترة ابتداءً.

نعم ، يمكن دعوى انّ اجراء حساب الاحتمالات وتجميع القرائن بنحو


نستكشف منه وجود الارتكاز المتلقى عن المعصوم لدى المجمعين قد يحتاج إلى مقدمات واعمال نكات ليس كلها حسياً ومفهوماً بلا نظر وتأمل وفحص للمسألة ونفي احتمال المدركية ونحو ذلك فأصالة الحس في نقل المسبب إنّما يجري إذا فرض أنّ الناقل ينقل ابتداءً السيرة على الحكم أو الارتكاز المتلقى من المعصوم ابتداءً واحتملنا بلوغه مرتبة الحسّية ، ولعلّ هذا حاق مقصود السيد الشهيد 1.

ومن مجموع ما ذكرناه ظهر انّ ما ذكره في مصباح الاصول من عدم احتمال حسية النقل لقول المعصوم ولو بالواسطة من خلال كشفه من اجماع المجمعين ليكون اخباره حجة من باب الشهادة ولو فرض احتماله فهو بحكم الرواية المرسلة لا يمكن التعويل عليه مما لا يمكن المساعدة عليه. فإنّه لو فرض ظهور كلام الناقل للإجماع في مركوزية ومسلّمية الحكم المجمع عليه وتلقيه عن المعصومين كان حجة لا محالة ؛ لأنّ مثل هذا محتمل في المورد الذي لا يكون فيه مدرك آخر للحكم ويكون حصول القطع الحاصل منه قريباً من الحس ويكون شهادة بالموقف الشرعي المتلقّى عن المعصوم ونظره والمسلَّم بين أصحابه تماماً ، نظير توثيق الرواة المتقدمين على عصر النجاشي والشيخ والذي لا يحتمل كونه عن حس بالمباشرة وإنّما يحتمل في حقهم الاطلاع على وثاقتهم من خلال التلقي بالتواتر والتسالم من السابقين وهو يفيد العلم نوعاً لكل انسان سليم العقل فيكون قريباً من الحس ، وكما في وجود مدينة أو جبل لم يسافر إليه الإنسان في حياته أصلاً ولكنه قد تواتر النقل عن وجوده من قبل المسافرين إليه ، كما انّه ليس المقصود نقل وجود رواية عن المعصوم ليقال بأنّه كالخبر المرسل بل المقصود نقل تلقي الحكم الشرعي وهذا واضح.


حجّية خبر الواحد

ص ٣٤٤ قوله : ( الاستدلال بآية النبأ ... ).

قد يقال في تقريب الاستدلال بمفهوم الوصف في آية النبأ على حجّية الخبر انّ الوصف والقيد له مفهوم بنحو السالبة الجزئية وإلاّ لزم لغوية ذكره على ما هو محقق في محله ، وهذا المقدار يكفي في المقام لاثبات حجّية خبر العادل في الجملة ولو في القدر المتيقن كالخبر العادل المظنون صدوره الذي لا امارة على خلافه ، والبحث هنا في اثبات أصل الحجّية في الجملة لا حدودها.

وقد يجاب عن ذلك بأنّ ذكر وصف الفسق هنا للاشارة إلى فسق المخبر وهو الوليد لا للاحترازية ـ كما ذكر في المتن والحاشية ـ.

وفيه : انّه خلاف الظاهر جداً فإنّ ظاهر الآية أيضاً ارتباط وجوب التبين بفسق المخبر بنحو القضية الحقيقية.

وقد يجاب بأنّ السالبة الجزئية يكفي فيها أن يكون خبر العادل حجة في موارد حصول الاطمينان منه بالصدور فيكون دخل وصف الفسق باعتباره لا يستوجب الاطمينان والعلم دائماً أو غالباً.

وفيه : انّ العلم والاطمينان حجة سواء كان في مورد خبر العادل أو الفاسق وهو خارج عن موضوع الآية. وإن شئت قلت : انّ الموضوع في الآية هو النبأ وظاهره في نفسه ، وبقرينة الأمر بالتبين الذي يعني تحصيل العلم هو الخبر الذي


لا يعلم بصدقه أو كذبه فإذا قيّد بوصف مجيىء الفاسق كان مفهومه الجزئي أنّ النبأ الذي لا يعلم بصدقه أو كذبه إذا لم يجيىء به الفاسق لا يجب التبين في العمل به في الجملة ، وهذا يثبت الحجّية لخبر العادل في الجملة في غير موارد الاطمئنان والعلم الذي لا ربط له بحجية الخبر وهو المطلوب.

والتحقيق في الجواب على هذا التقريب أن يقال : بأنّ ذكر وصف الفسق في الآية لدخالته في الحكم بوجوب التبين الشديد والأكيد الذي بيّنته الآية فغاية ثبوت المفهوم الجزئي له أنّه بانتفائه ينتفي هذا الحكم المؤكد الشديد في الجملة في خبر العادل ولكنه لا ينافي ثبوت وجوب تبيّن غير مؤكّد فيه أيضاً.

فالحاصل ذكر الوصف إذا كان بحسب مناسبات الحكم والموضوع دخيلاً في تأكد حكم وشدة ملاكه كما في قولك : ( أكرم العالم المتبحِّر ) لا يكون مقتضياً لانتفاء أصل الحكم حتى بنحو السالبة الجزئية ؛ لأنّ هذا المقدار من الدخالة في الحكم وهو الدخالة في شدته وتأكده أيضاً غرض عرفي صالح لذكر القيد فلا يكون ذكره لغواً لكي يتوقف على ثبوت المفهوم الجزئي كما انّه لا يكون خلاف قاعدة احترازية القيود لكونه دخيلاً في شخص هذا الحكم المؤكد. وهذا ما يستفاد من كلام السيد الشهيد أخيراً في دفع التقريب السادس فراجع وتأمل.

ص ٣٤٨ قوله : ( ٢ ـ ما اختاره الشيخ 1 ... ).

ذكر في تقريب الدلالة على حجّية خبر العادل بناءً على المفهوم للآية أنّها تدل على انتفاء وجوب التبيّن إذا كان المخبر عدلاً فإذا لم يجب التبيّن فاما أن يرد وامّا أن يقبل بلا تبيّن ، والأوّل يجعله أسوأ من خبر الفاسق ، والثاني يساوق الحجّية.

وأفاد الشيخ الأعظم والميرزا انّ الحاجة إلى مقدمة عدم الأسوئية مبني على


أن يكون الوجوب نفسياً لا شرطياً أي شرطاً للعمل بخبر الفاسق إذ يكون المفهوم عندئذ إذا اريد العمل بالخبر فلا يشترط التبيّن إذا جاء به العادل وهو يساوق الحجّية (١).

وأصرّ المحقق العراقي على الحاجة إلى مقدمة عدم الأسوئية على كل تقدير وتحقيق الحال أن يلاحظ محتملات وجوب التبيّن فنقول كما في الكتاب :

١ ـ إذا كان الوجوب نفسياً لا تفيد ضم مقدمة عدم الأسوئية كما هو مذكور في الكتاب ، وهذا الاحتمال باطل في نفسه.

٢ ـ الارشاد المحض إلى عدم حجّية خبر الفاسق ، وهذا هو ظاهر الآية ، لأنّ هذا اللسان أحد ألسنة نفي الحجّية والعلمية ، وبناءً عليه لا نحتاج إلى مقدمة الأسوئية. إلاّ انّ تسمية هذا بالوجوب الشرطي في غير محله.

٣ ـ الوجوب الشرطي للتبيّن لجواز أو وجوب العمل بخبر الفاسق بأن يكون مفاد المنطوق اثبات شرطية التبيّن لجواز العمل بخبر الفاسق فيكون مفاد المفهوم نفي الشرطية إذا كان المخبر عدلاً.

وعلى هذا نحتاج إلى مقدمة خارجية لأنّ الشرطية لا تفي أكثر من الملازمة وانّه إذا وجب هذا وجب ذاك وامّا هل يجب ذاك أم لا فلا يدل عليه دليل الشرطية ، فلعله يحرم العمل بخبر العادل حتى مع التبيّن ، إلاّ أنّ هذا يجعله أسوأ من خبر الفاسق بل غير معقول في نفسه لاستلزامه الردع عن القطع والتبيّن.

إلاّ أنّ هذا الاحتمال خلاف الظاهر ، إذ لو اريد جعل جواز العمل شرعاً ـ الذي

__________________

(١) فوائد الاصول : ١٦٥.


يساوق الحجّية ـ مشروطاً بالتبيّن فهذا غير معقول ، ولو اريد جعل منشأ انتزاعه وهو حرمة العمل بخبر الفاسق بلا تبيّن والذي قد ينتزع منه عقلاً انّ جواز العمل به مشروط بالتبيّن (١) فيكون المجعول بهذا اللسان ذلك المنشأ للانتزاع كما يقال في سائر موارد الشرطية والجزئية ، فهذا وإن كان معقولاً ثبوتاً إلاّ أنّه غير صحيح اثباتاً ، لأنّ العمل عندئذٍ بالعلم لا بالخبر فعدم جعل الحجّية له لا يوجب انتزاع شرطية التبيّن للعمل به إلاّبالمسامحة المستهجنة عرفاً ؛ إذ لا وجوب للعمل بالخبر ولا عمل بالخبر عندئذٍ بل حتى لو صدق العمل بالخبر فوجوبه عقلي من جهة القطع به لا شرعي ، فليس هنا جعل شرعي ملازم مع جعل شرعي آخر لينتزع منه الشرطية كما هو معنى الوجوب الشرطي. اللهم إلاّ أن يرجع إلى مجرد تعبير لفظي لا شرطية حقيقية فيكون ارشاداً إلى عدم الحجّية فيرجع إلى الاحتمال السابق.

٤ ـ الوجوب الطريقي للتبيّن بمعنى وجوب الاحتياط امّا بتحصيل العلم بالواقع أو الامتثال الاحتياطي ، وهذه مرتبة من منجزية وحجّية خبر الفاسق في قبال الاصول الترخيصية وانتفاء هذا الوجوب لا يساوق حجّية خبر العادل إلاّ بعد ضم عدم الأسوئية.

إلاّ أنّ هذا الاحتمال خلاف الظاهر كما ذكر في الكتاب فإنّه كان ينبغي أن يقول : فلا تتركوا خبره وخذوا به ولو من باب الاحتياط ، وكان ينبغي أن يعلل باحتمال اصابة الفاسق للواقع لا بالعكس والتحذير من احتمال كذبه.

__________________

(١) وهو معنى إذا اريد العمل به وجب التبيّن لأنّ المقصود ليس انّ له أن يريد العمل وله أن لا يريدفلابد أن يراد جواز العمل بالمعنى الأعم.


٥ ـ الوجوب الغيري للتبيّن مع ارادة الأعم من تحصيل العلم والظن ، وهذا ما ذكره العراقي 1 بعد أن جعل احتمال الوجوب الشرطي بمعنى الشرطية التي هي حكم وضعي انتزاعي خلاف الظاهر فأرجع الوجوب الشرطي إلى وجوب التبيّن بالمعنى الأعم من العلم والظن ـ ليبقى معقولية العمل بالخبر ـ وجوباً غيرياً مقدمة لامتثال الوجوب النفس الطريقي للعمل بخبر الفاسق بعد تحصيل الوثوق به وانتفاء هذا الوجوب الغيري للتبيّن أعني خبر العادل لا يلازم حجيته ما لم تثبت وجوب العمل به النفسي الطريقي إلاّبضم مقدمة عدم الأسوئية ، والجواب ما في الكتاب.

٦ ـ أن يكون الأمر بالتبيّن ارشاداً إلى حكم العقل بلزوم تحصيل العلم بالواقع حيث لا حجة ، وهذا ما اختاره العراقي 1 بناءً على ارادة التبيّن العلمي ، إذ على أساسه لا يمكن أن يكون الأمر بالتبيّن لا نفسياً ولا شرطياً ، إذ ليس العمل حينذاك بالخبر بل بالعلم ، فيكون عدم حجّية خبر الفاسق مستفاداً بالملازمة من الأمر الارشادي إلى لزوم تحصيل العلم في مورده. إلاّ انّ انتفاء هذا الأمر الارشادي في مورد خبر العادل كما يمكن أن يكون من جهة الحجّية يمكن أن يكون من جهة العلم بكذب خبره فلابد من ضم عدم الأسوئية.

وقد أشكل عليه السيد الشهيد :

تارة : بأنّ العقل لا يحكم بلزوم تحصيل العلم بل بالأعم منه ومن الاحتياط ، فليس متعلق الأمر بالتبيّن نفس متعلّق حكم العقل ليحمل على الارشاد ، وهذا يمكن أن يجاب عليه بأنّ الآية تأمر بتحصيل العلم حينما يراد الأخذ بمضمون الخبر المحتمل الذي يساوق عدم الاحتياط فيمكن أن يكون ارشاداً إلى حكم


العقل ، إذ ليس أمراً بتحصيل العلم مطلقاً حتى في قبال الاحتياط بل على تقدير ترك الاحتياط وارادة العمل بالنبأ.

واخرى : بأنّ الآية علّقت وأناطت وجوب التبيّن على الفسق مع انّ الحكم العقلي المذكور ليس معلقاً عليه.

والجواب : انّه اريد بذلك الارشاد إلى عدم حجيته لا التعليق ، فالحكم العقلي المذكور فرع عدم الحجّية لخبر الفاسق فترتبه بهذا الاعتبار.

وإن شئتم قلتم : بأنّ مجيىء الفاسق دخيل في عدم الحجّية الدخيل في وجوب التبيّن وظهور أخذ عنوان في دخله في حكم لا يشترط فيه الدخل المباشر بل يكفي فيه هذا المقدار.

وثالثة : بأنّ الخبر المعلوم كذبه أيضاً مصداق للحكم العقلي المرشد إليه إذ يصدق فيه أيضاً بأنّه لا مؤمن إلاّ القطع بالواقع لعدم إمكان حجيته لأنّ وجوب تحصيل القطع ليس تكليفياً بل لابدية عقلية عملية فلا يقال بأنّ ثبوته في مورد القطع بالواقع تحصيل للحاصل ، فإذا لم يكن خبر العادل غير معلوم الكذب بحجة لزم ثبوت اللابدية المذكورة في تمام موارد الاخبار وهو خلف المفهوم فلابد من فرض حجّية خبر العادل غير معلوم الكذب بلا حاجة إلى ضم الأسوئية.

وفيه : ما ذكر في حاشية الكتاب من انّ الأمر بالتبيّن أمر مقدمي عقلي مترشح من اللابدية العقلية لا أنّها نفس اللابدية العقلية ، وإلاّ لم تكن اللابدية منتفية حتى في خبر العادل بناءً على حجّيته فالمنتفي هو الأمر بالتبيّن وتحصيل العلم الذي هو لزوم عقلي مقدمي. ومن الواضح انّ هذا موضوعه ما إذا لم يكن علم بالكذب فيكون هذا الأمر العقلي المقدمي منتفياً في موارد العلم كموارد الحجة.


والجواب الفني على كلام العراقي ما ذكر في الحاشية أيضاً ، مضافاً إلى أنّ الأمر بالتبيّن العلمي امّا أن يكون ارشاداً إلى عدم جعل الحجّية من قبل المولى لخبر الفاسق ولو من باب كونه ملزوم وجوب تحصيل العلم عقلاً فيكون المدلول أمراً مولوياً هو عدم الحجّية لخبر الفاسق فيكون مفهومه الحجّية لخبر العادل لا نفي وجوب تحصيل العلم لكي يحتاج إلى مقدمة عدم الأسوئية ولو بلحاظ فرض العلم بالكذب ، وهذا هو التقريب الأوّل المختار وامّا أن يكون ارشاداً إلى الحكم العقلي بلزوم تحصيل العلم من دون الدلالة على عدم حجّية خبر الفاسق ، فلا يثبت المفهوم للآية أيضاً.

إلاّ أنّ هذا خلاف الظاهر جداً ، إذ معناه عدم بيان حكم خبر الفاسق شرعاً ؛ لأنّ هذا الحكم ليس موضوعه خبر الفاسق ، بل مطلق ما لا يكون علماً ولا علمياً ، ولعلّ هذا حاق مقصود السيد الشهيد 1 من الاعتراض الثاني المتقدم.

كما انّ عدم الأسوئية في التقريب المذكور بمعنى كون خبر العادل معلوم الكذب أسوئية تكوينية معلومة العدم وليست أسوئية تشريعية.

ص ٣٥٣ قوله : ( ولا ينبغي الاستشكال ... ).

حاصل الاعتراض على هذا البيان للمفهوم والذي هو بيان المحقق العراقي بروحه على ما يظهر من مراجعة كلامه يتضح على ضوء مقدمة نبيّن فيها ملاك دلالة الشرطية على مفهوم وحاصلها : انّ اقتناص المفهوم يتوقف على تمامية شرطين :

١ ـ أن لا يكون انتفاء الشرط مساوقاً مع انتفاء موضوع الجزاء كما في ( إن رزقت ولداً فاختنه ) وإلاّ لم يكن موضوع للمفهوم كما تقدم بالبيانين المذكورين


في الكتاب.

٢ ـ أن يكون الشرط تقييداً للحكم في الجزاء وتعليقاً لثبوته على تقدير ثبوت الشرط وهو يتوقف على أن يلحظ الجزاء حكماً وموضوعاً مفروغاً عنه وثابتاً في المرتبة السابقة على الشرط لكي يقيد مطلق حصصه بالشرط فيدل بذلك على انتفاء مطلق حصصه عند انتفاء الشرط ، وامّا إذا لم يلحظ ذلك في مقام الاثبات بل سيق الشرط مساق فرض موضوع الجزاء فلا مفهوم له ، إذ لا يمكن اجراء الإطلاق المذكور في التعليق حينئذٍ ، وهذا هو مقصود سيدنا الشهيد 1 من تعبيره في الدورة الاولى انّ الشرط الثاني للمفهوم أن لا يكون موضوع الحكم في الجزاء داخلاً تحت دائرة الفرض والتقدير الشرطي. ولا يرد عليه اشكال السيد الحائري في هامش كتابه فراجع وتأمل.

وعلى ضوء هاتين المقدمتين نقول :

لا مفهوم لآية النبأ وذلك لوجهين :

أوّلاً ـ انثلام الشرط الثاني. فإنّ الجملة لم ترد بعنوان إن جاءكم الفاسق بالنبأ فتبينوا. وإنّما ورد بعنوان إن جاءكم فاسق بنباً فتبينوا.

وثانياً ـ عدم احراز الشرط الأوّل ، فإنّه لو فرض انّ مرجع الضمير في التبيّن نبأ الفاسق فانتفائه بانتفاء الشرط عقلي ، والظاهر انّه كذلك ؛ لأنّ مرجع الضمير هو المعنى المشخص لا النكرة فلو قال : النبأ إن جاءكم به الفاسق فتبينوا صحّ فرض الموضوع طبيعي النبأ المعرّف باللام الدالّ على فرض وجوده ، وامّا حيث جاء النبأ نكرة فلابد من أن يكون مرجع الضمير هو الطبيعي المتخصص والمتعين ولو بتعدد الدال والمدلول فيما جاء به الفاسق ؛ لأنّ الضمير من المبهمات التي


بحاجة إلى تعيينه من خلال مرجعه ولهذا لو قال : ( جاءني رجل وأكرمته ) كان المرجع الرجل الخاص لا طبيعي الرجل ولو ضمن فرد آخر.

ثمّ انّ للسيد الخوئي بياناً آخر في دورته الثالثة لاثبات المفهوم للآية وحاصله : انّ الجزاء إذا كان متوقفاً عقلاً على الشرط فالتعليق ليس مولوياً فلا مفهوم بخلاف ما إذا لم يكن كذلك فما كان من الأوّل فالتعليق فيه ارشاد إلى حكم العقل وليس تقييداً للحكم بخلاف الثاني فيتمّ المفهوم بلحاظه ، وهذا هو الميزان في ثبوت الموضوع بانتفاء الشرط وعدمه ، وعلى هذا الأساس لابد أن يلاحظ ما يقع في الشرط من القيود فإن كان مما يتوقف عليه الجزاء عقلاً فلا مفهوم بلحاظه وما لا يكون كذلك كان التقييد بلحاظه مولوياً فيثبت المفهوم ، وفي المقام الشرط بحسب التحليل مركب من جزئين : النبأ ، وكون الآتي به فاسقاً ، ويكون أحدهما وهو النبأ موضوعاً للحكم المذكور في الجزاء ؛ لتوقفه عليه عقلاً ، فلا مفهوم بلحاظه ، والجزء الآخر وهو كون الآتي به فاسقاً ممّا لا يتوقف عليه الجزاء عقلاً فيكون التقييد مولوياً بلحاظه فتدل القضية على المفهوم بالنسبة إليه ومفاده عدم وجوب التبيّن عند انتفاء كون الآتي به فاسقاً وهو المطلوب (١).

وهذا البيان واضح الضعف لأنّ تشخيص كون الجزاء متوقفاً عقلاً على الشرط فرع تحديد ما هو موضوع الجزاء في الرتبة السابقة فإنّ الموضوع للتبيّن إن كان نبأ الفاسق فهو ينتفي عقلاً بانتفاء الشرط ، بخلاف ما إذا كان طبيعي النبأ أو النبأ الجائي فالمهم اثبات ما هو الموضوع للجزاء في المرتبة السابقة.

__________________

(١) راجع مصباح الاصول : ص ١٥٨.


والغريب انّه صرّح بأنّ تشخيص ذلك يكون بالاستظهار العرفي ومع ذلك لم يبيّن في المقام وجه افتراض انّ الموضوع للجزاء ذات النبأ لا نبأ الفاسق.

ثمّ انّ الوارد في تقريراته انّه في الدورة السابقة أنكر المفهوم باستظهار انّ الموضوع ليس هو النبأ بل الفاسق والتبيّن متوقف على مجيئه بالنبأ عقلاً فمفاد الآية انّ الفاسق إن جاءكم بنبأ فتبيّنوا نظير ذلك إن أعطاك زيد ردهماً فتصدق به الذي يكون الموضوع فيه زيد وله حالتان : حالة اعطاء الدرهم وحالة عدم اعطائه ، إلاّ أنّ حالة عدم اعطائه يكون التصدق منتفياً بانتفاء موضوعه فلا دلالة للآية على الموضوع.

وهذا الكلام غريب بظاهره فإنّه وقع فيه الخلط بين ما هو موضوع الشرطية وما هو موضوع الحكم في طرف الجزاء ، فإنّ ما يستلزم السالبة بانتفاء الموضوع إنّما هو انتفاء موضوع الجزاء لا موضوع القضية الشرطية.

ولعلّ واقع مقصوده دام ظله ما ذكره السيد الشهيد 1 في الدورة الثانية من انّ الشرطية لو كان لها موضوع مستقل عن موضوع الجزاء فلا مفهوم لها حتى إذا لم يكن انتفاء الشرط مستلزماً لانتفاء موضوع الحكم في طرف الجزاء.

إلاّ انّ السيد الشهيد طبّق هذه النكتة على العكس بحيث أنتج ثبوت المفهوم للآية وحصول جواب ثالث على شبهة انّ الشرطية مسوقة لتحقق الموضوع حيث استظهر انّ ما هو الموضوع المقدر وجوده للشرطية هو طبيعي النبأ ومجيىء الفاسق به هو الشرط والتبيّن عن النبأ هو الجزاء فيكون الموضوع وهو النبأ بحكم كونه موضوعاً لأصل الشرطية مقدّر الوجود فيستحيل أن تكون الشرطية مسوقة لتحققه.


وهذا الكلام يمكن أن يناقش فيه بوجهين :

أحدهما : انّه لا دليل على انّ هناك موضوعاً للشرطية وهو طبيعي النبأ لا نبأ الفاسق أو الفاسق ـ كما ذكر السيد الخوئي دام ظله ـ.

الثاني : أنّ أصل هذا الكلام محل منع فإنّه إن اريد بموضوع الشرطية موضوع جملة الشرط المفروض وجوده فيها من قبيل زيد في إن أعطاك زيد درهماً والختانان في إذا التقى الختانان والولد في إذا رزقت ولداً فهذا لا وجه لأن يكون قيداً في التعليق ، والجملة الشرطية ، بل هو قيد في جملة الشرط فقط كما انّه لا وجه لفرض عدم المفهوم عند انتفائه إذا فرض بقاء موضوع الجزاء كما في مثال إن رزقت ولداً فتصدق على الفقراء ، فإنّه يدل على عدم وجوب التصدق إن لم يرزق ولداً ، وإن اريد بموضوع الشرطية ما يكون خارجاً عن جملة الشرط ومستقلاًّ عنه ، لا ان يكون قيداً للشرطية فهذا بنحو الموضوع غير ممكن بالدقة وإنّما ينبغي أن يكون بنحو الشرط لأنّ الشرطية جملة فلا تقع محمولاً.

والظاهر انّ هذا هو مقصود السيد الشهيد من التطعيم بالحملية لا الحملية بالدقة ، ومثاله : الولد إن رزقته ذكراً فتصدق على الفقير الذي هو في قوة قولك : إن جاء لك مولود فإن كان ذكراً فتصدق على الفقير ، وهذا لا يدلّ على أنّه إن لم يجيىء لك مولود أصلاً لا يجب التصدق على الفقير لانتفاء الشرطية عندئذٍ بانتفاء موضوعها لأنّ نفس الشرطية أصبحت معلقة على فرض وجود المولود كما هو واضح.

إلاّ انّ هذا بحاجة إلى ما يدلّ على تعليق أصل الشرطية على شرط وإلاّ كان الظاهر تعدد الشرط ، فإذا قال : إن رزقت ولداً ذكراً فتصدق على الفقير كان الشرط مجموع الأمرين والذي ينتفي بانتفاء أحدهما كما هو واضح.


ص ٣٦١ قوله : ( والجواب على هذا الاعتراض واضح ... ).

وحاصله : انّ طبيعي النبأ إذا فرض موضوعاً للجزاء وهو متعلق الشرط فحيث انّ طبيعي النبأ له انحلال واحد فيكون لا محالة هذا الانحلال محفوظاً في طرف الجزاء والشرط معاً فيكون مفاد الجملة انّ كل نبأ إذا جاء به الفاسق يجب التبيّن عنه لا إذا جاء الفاسق بغيره لأنّ هذا خلف الانحلال.

لا يقال : على هذا يكون مفاد الحصر كل نبأ إذا جاء به الفاسق وجب التبيّن عنه أي النبأ الشخصي الجزئي ، ومن الواضح انّ انتفاء مجيىء الفاسق بذلك النبأ الشخصي يستلزم السالبة بانتفاء الموضوع فلا يكون تعليق.

فإنّه يقال : حيث انّ ذلك النبأ الشخصي ملحوظ مفروض الوجود في طرف موضوع الجزاء بقطع النظر عن الشرط وفي المرحلة السابقة عليه فيكون الشرط لا محالة كون الجائي بالنبأ فاسقاً ، وهذا ليس من السالبة بانتفاء الموضوع.

وبعبارة اخرى : الخبر الجزئي منحل تحليلاً وذهناً إلى الحصة الخاصة لطبيعي النبأ وكونها من قبل الفاسق والحيثية الاولى مأخوذة مفروضة الوجود في المرتبة السابقة على الشرط فلا يكون انتفاء الخصوصية مستلزماً لانتفاء موضوع الحكم بحسب عالم المفاهيم والتحليل الذهني عن القضية وإن كان مستلزماً لذلك بحسب الوجود الخارجي نظير قولك هذا الإخبار إن كان إخباراً من قبل الفاسق فتبيّن عنه ، أو يجعل الموضوع النبأ بمعنى المخبر به لا الإخبار فيكون المعنى انّ كل مخبر به إذا جاء به الفاسق وجب التبيّن عنه ، بمعنى عدم جواز الاستناد فيه إليه وعدم حجيته ، ومفهومه إذا لم يجيىء به الفاسق بأن جاء به العادل لا يجب التبيّن فيكون حجة ، ولا محذور في أن يكون في فرض مجيء


الفاسق به النبأ حجة إذا جاء به العادل أيضاً ؛ لأنّ مفاد المنطوق وهو عدم حجّية مجيىء الفاسق به ثابت أيضاً فيه.

ثمّ انّ اشكال المحقق الاصفهاني 1 لو تمّ أوجب سقوط المفهوم مطلقاً حتى فيما إذا كان الموضوع جزئياً أو كان موضوع الجزاء غير راجع إلى موضوع الشرط كما في مثالي : ( إن جاءك زيد فأكرمه وإن رزقت ولداً فتصدق على فقير ) فإنّ الاشكال مع تغيير جزئي في التقرير جارٍ فيهما أيضاً حيث يقال : إن كان الشرط قيداً في الجزاء فوجوب الاكرام موضوعه زيد الجائي ، والفقير الموجود بعد رزق الولد ؛ ومن الواضح انتفاء هذا المفهوم بانتفاء الشرط فينتفي الحكم من باب السالبة بانتفاء الموضوع لا المحمول ، وإن لم يكن الشرط قيداً في موضوع الجزاء لزم إطلاق وجوب الاكرام لزيد والتصدق على الفقير في طرف المنطوق أعني على فرض مجيىء زيد ورزق الولد حتى لما إذا كان الاكرام والتصدق قبل مجيئه وقبل رزق الولد بحيث لو كان قد أكرمه قبل ذلك أو تصدق كذلك كان مشمولاً لاطلاق المنطوق لأنّ المنطوق في طرف الجزاء مطلق وجوب اكرام زيد والتصدق على الفقير الصادق على اكرامه قبل مجيئه وقبل رزق الولد كما إذا لم يكن شرط أصلاً مع انّ هذا الإطلاق غير ثابت في طرف الجزاء قطعاً.

فما في تقرير السيد الحائري من اختصاص الاشكال بما إذا كان موضوع الجزاء كلياً وكان راجعاً إلى ما هو موضوع الشرط غير صحيح.

وكذلك ظهر بالبيان المتقدم انّه لا موضوع لاشكال آخر سجله في الحاشية وكأنّه بنى على تصور الانحلال في نفس الشرط أعني مجيىء الفاسق لا في موضوع الجزاء وهو النبأ.


كما انّ الجواب الذي جعله هو الجواب الصحيح ليس إلاّمجرد دعوى عرفية غير مفهومة ، فإنّه إذا كان الشرط قيداً في موضوع الجزاء ولو في مرتبة طولية وكان هذا مفهوماً من الشرطية فلماذا يكون المفهوم مع ان انتفائه انتفاء للموضوع ما لم نرجع إلى النكتة التي بيّناها في الكتاب للطولية المذكورة فراجع وتأمل.

ص ٣٦٦ الهامش.

الجواب على ما ذكر في الهامش يمكن أن يكون بأحد وجهين :

١ ـ انّ اخبار الكليني بنطق الصفار بنفسه إخبار بالملازمة الاتفاقية بين عدم كذبه ـ ذات عدم كذبه ـ وصدور النص عن المعصوم ؛ لأنّه عالم بهذه الملازمة وجداناً لكونه عالم بنطقه فنتمسك بدليل الحجّية لاثبات هذه الملازمة التي يكون اخبار الكليني عنها بلا واسطة وذات عدم الكذب ثابت لنا بحسب الفرض امّا وجداناً أو تعبداً فيثبت اللازم لا محالة.

ولعلّ هذا هو مقصود السيد الشهيد فكأنّه يدعي الملازمة الاتفاقية والمقارنة بين عدم الكذب بالفعل خارجاً وبين صدور النص ولو لم تكن ملازمة عقلية بينهما ، ولا حاجة إلى الملازمة العقلية.

وكون هذه الملازمة هو الحصة الخاصة أي المقرونة مع نطق الصفار خارجاً لا يضر بعد أن كان هذا القيد بنحو قيد الواجب لا الوجوب كما افيد في المتن إذ ليس اخباره بها معلقاً على نطق الصفار بل إخبار بها بالفعل وبتحقق قيدها.

٢ ـ أن نلاحظ الملازمة العقلية بين صدور النص عن المعصوم وبين مجموع أمرين إخبار الصفار بذلك وعدم كذبه على تقدير إخباره به وهذه الملازمة ثابتة


سواءً أخبر الكليني بشيء أم لا ، غاية الأمر لابد من احراز شرطها ليثبت الجزاء وهو الحكم الشرعي وبالامكان اثبات شرطها بدليل حجّية خبر الواحد بلا واسطة حيث نثبت الجزء الأوّل منه بتطبيق دليل الحجّية على خبر الكليني حيث انّه يخبر مباشرة عن إخبار الصفار ونثبت الجزء الثاني بتطبيق دليل الحجّية على خبر الصفار بوجوده الواقعي حيث انّ مفاد دليل الحجّية انّ كل ثقة إذا أخبر فلا يكذب في إخباره فيثبت الجزء الثاني وهو نفس القضية التعليقية تعبداً من قبل تطبيق دليل الحجّية على خبر الصفار بوجوده الواقعي والتطبيقان عرضيان ليس أحدهما في طول الآخر ، حالهما حال احراز اجزاء موضوع أثر شرعي واحد بمجموع امارات وطرق عديدة كل منها يثبت بعضها ، وهذا الجواب يقترب روحاً من الوجه الثاني الذي ذكره السيد الشهيد في المتن.

إن قيل : هذا معناه أنّ تطبيق دليل الحجّية على خبر الكليني ولو بلحاظ المدلول الالتزامي لاخباره الذي هو نفس الحكم الشرعي يتوقف على جعل الحجّية في المرتبة السابقة للخبر وإلاّ لم يمكن اثبات الشرط للملازمة المخبر بها من قبل الكليني ، وهذا رجوع وعود على المحذور العقلي وهو توقف شمول الحجّية لخبر الكليني على ثبوتها في المرتبة السابقة بحيث لولا ثبوتها لم يكن يمكن اثبات الحكم الشرعي بخبر الكليني وهذا هو روح المحذور.

ودعوى : انّ دليل الحجّية نطبقه على خبر الصفار بوجوده الواقعي سواء أخبر الكليني عنه أم لا لا يكفي في دفع المحذور وإلاّ لكفى أن يقال انّ ترتب الأثر الشرعي على خبر الكليني يتوقف على ثبوت الحجّية لخبر الصفار بوجوده الواقعي وهو فرد آخر غير خبر الكليني فلا يتوقف موضوعيته لدليل الحجّية على ثبوت الحجّية له بل لغيره فلا محذور.


قلنا : هذا غير المحذور المتقدم ، فإنّ المحذور المتقدم كان عبارة عن انّ أثر خبر الكليني إنّما هو الحجّية التي هي نفس الحكم المراد جعله له إذا كان له ذلك الأثر.

وهذا المحذور يندفع بما ذكر ، حيث يكون الأثر لخبر الكليني المأخوذ في موضوع جعل الحجّية له الحكم الشرعي بوجوب السورة مثلاً لا الحجّية فوجوب السورة يكون هو الأثر الشرعي المصحح لجعل الحجّية لكل من إخبار الكليني وإخبار الصفار معاً وهو غير جعل الحجّية فاندفع المحذور السابق بكلا تقريبيه ، وامّا ما ذكر فهو محذور آخر محصله أنّ الحجّية ثبوتها على خبر الكليني فرع ثبوتها على خبر الصفار ولو بوجوده الواقعي في المرتبة السابقة فيستحيل جعلهما معاً ؛ لأنّه يلزم تقدم المتأخر إذا فرض وحدة الجعل.

وجوابه : واضح فإنّه لا توقف في البين إذ أي فرق بين إخبار الكليني وإخبار الصفار بعد أن كان كل واحد منهما يخبر عن جزء الموضوع ، فإذا كان الاثبات في كل منهما في طول الآخر لزم الدور وهو محال في نفسه ، فالاثباتان في عرض واحد لا محالة وليس أحدهما متوقفاً على الاثبات الآخر في الرتبة السابقة بل ثبوته معه.

وإن شئت قلت : يتوقف على ثبوته لو كان الآخر ثابتاً بنحو القضية الشرطية فلا دور ولا توقف فلا تقدم للمتأخر.

وبهذا يتضح انّه لا طولية بحسب الحقيقة في باب الإخبار مع الواسطة ليطبق فيها جواب المشهور من الانحلال وإن كان على فرض الطولية فالانحلال جواب تام في نفسه أيضاً على ما سيأتي.


وقد يقال : انّ الطولية تصح فيما إذا أخبر الثقة عن وثاقة الراوي كشهادة الشيخ والنجاشي بوثاقة راوٍ معين ـ مثلاً شهادة الشيخ في رجاله بوثاقة سهل ابن زياد ـ فإنّه في مثله لا يتم شيء من الجوابين المذكورين في المقام الأوّل ؛ لأنّ إخبار سهل عن قول المعصوم محرز وجداناً بحسب الفرض ، وإنّما الشك في وثاقته ، وليس صدور الحكم متوقفاً على وثاقة الشيخ وسهل واقعاً بمعنى عدم كذبهما ، بل متوقف على عدم كذب سهل فقط ، وعدم كذبه لا يثبت إلاّ بالتعبد على تقدير وفي طول عدم كذب الشيخ في شهادته بتوثيقه ، فيكون الأثر الشرعي المترتب على خبر الشيخ وشهادته نفس حجّية خبر الثقة لا غير ، أي انّه في طول جعل الحجّية لخبر الثقة بكون خبر الشيخ ذا أثر شرعي وهو نفس هذا الأثر لا غيره حتى الملازمة ؛ إذ لا ملازمة بين وثاقة سهل وبين صدور الحكم عن المعصوم وإنّما الملازمة تعبدية حاصلة من نفس جعل الحجّية لخبر الثقة.

ولكن الصحيح إمكان اجراء ما ذكر في المقام الأوّل من الجواب بروحه في الشهادة بالوثاقة أيضاً وذلك بأن نقول انّ صدور الحكم عن المعصوم لازم أنّ كل ثقة بوجوده الواقعي لا يكذب إذ لو لم يكن صادراً فلابد من فرض كذب امّا في توثيق الشيخ أو في إخبار سهل بذلك الحكم ، ودليل حجّية خبر الثقة يتعبد بأنّ كل ثقة بوجوده الواقعي لا يكذب ويكون هذا التعبد في كل خبر ثقة بوجوده الواقعي في عرض الآخر من دون طولية بينهما.

وهكذا يتضح انّ الأثر المصحح لتطبيق دليل الحجّية على الأخبار دائماً هو الحكم الشرعي الفرعي وانّ الأخبار حتى الطولية تكون عرضية بلحاظه بحسب الدقة فتدبر جيداً.


ص ٣٧١ قوله : ( وفيه : إن اريد جعل خبر الكليني ... ).

حاصل الجواب : إن اريد علمية خبر الكليني تعبداً بالنسبة إلى الحكم الشرعي ، أي وجوب السورة فهو لا يخبر عنه وجداناً ، نعم قد يفرض انّ له علم تعبدي به إلاّ أنّ هذا رجوع إلى جوابنا في الدورة السابقة المتقدم مع جوابه.

وإن اريد علميته لاثبات خبر الصفار فذات خبر الصفار ليس هو العلم التعبدي وإنّما حجيته علم تعبدي فلابد من اثبات حجيته فإن أردنا اثبات ذلك بتطبيق دليل الحجّية ابتداءً على المخبر به أي يكون إخبار الكليني محرزاً لنا إخبار الصفار فنطبق عليه نحن دليل الحجّية فيكون علماً تعبداً أيضاً كما طبقناه على خبر الكليني فمن الواضح انّ هذا غير تام ؛ لأنّ ما هو موضوع الحجّية الخبر بوجوده الواقعي لا التعبدي.

وبعبارة اخرى : الحكومة والاحراز هنا ظاهري لا واقعي ليمكن التمسك بدليل الحجّية ابتداءً ومباشرةً ، بل التمسك لاثبات ذلك الأثر يكون بعلمية خبر الكليني نفسه كما هو الحال في تمام موارد الحكومة الظاهرية.

وإن أردنا اثبات ذلك بعلمية خبر الكليني اثباتاً ظاهرياً وبحكومة ظاهرية حيث انّ الإخبار عن ذات الخبر الواقعي إخبار عن لازمه وأثره الشرعي وهو الحجّية الثابتة عليه بوجوده الواقعي فهذا وقوع في المحذور حيث انّ هذا الأثر وهو العلمية لخبر الصفار مجعولة بنفس جعل العلمية لخبر الكليني فيلزم من أخذه في موضوعه محذور الطولية والدور.

ثمّ إنّ المذكور في الكتاب في ذيل هذا الجواب من صحته وتماميّته إذا اكتفينا في رفع التأمين والتنجيز العقليين بالعلم بالكبرى والصغرى بلا حاجة إلى العلم


بالنتيجة التي هي فعلية المجعول لأنّ إخبار الكليني يحرز الصغرى والكبرى معلومة لنا وجداناً مما لا يمكن المساعدة عليه أيضاً إذ العلم بذات الصغرى وحده لا يكفي للتنجيز أو التعذير ما لم يعلم بطرفيته وموضوعيته للكبرى. وإن شئت عبّرت : شمول الجعل واطلاقه له فإنّه لو فرض محالاً التفكيك بين الأمرين أو فرض اجمال الجعل في نظره مع كونه واقعاً شاملاً له فلا تنجيز ولا تعذير ، وهذه الطرفية والشمول غير محرزة وجداناً في المقام لعدم احراز إخبار الصفار وجداناً واثباته باخبار الكليني به بالملازمة العقلية كما هو في الإخبار بموضوع سائر الأحكام الشرعية رجوع في المقام إلى المحذور لأنّ الطرفية للجعل فرع ثبوت ذلك الجعل في الرتبة السابقة فإذا كان نفس الجعل الذي يراد تطبيقه على المورد لزم اشكال الطولية.

فالحاصل اثبات الطرفية للجعل باخبار الكليني كاثبات المجعول الفعلي من حيث الطولية وهي أمر واقعي وليس كالمجعول وهمياً فالاشكال مسجل على مدرسة الميرزا 1 على كل حال.

ثمّ انّ هنا خلطاً في مصباح الاصول حيث انّه ذكر اشكال الطولية بتقريبه الثاني أوّلاً وجعل جوابه الانحلال وان اخبار الصفار الذي يثبت باخبار الكليني له حجّية اخرى غير ما يترتب على اخبار الكليني وجعل الجواب على التقريب الأوّل للاشكال ما ذكره المحقق الخراساني من انّ القضية طبعية مع انّ الانحلال لابد منه في الاجابة على التقريب الأوّل أيضاً بلحاظ مرحلة المجعول والفعلية.

وما ذكر من الجواب إنّما يحلّ اشكال الطوليّة في عالم الجعل فقط ، وأمّا التقريب الثاني للاشكال ـ والذي ذكره أوّلاً ـ يكفي في الاجابة عليه بأننا


لا نطبق دليل الحجّية على اخبار الصفار الثابت بخبر الكليني لأنّه اثبات تعبدي ظاهري لا واقعي أي حكومة ظاهرية وقد عرفت انّه في الحكومة الظاهرية يكون اثبات أثر المخبر به بنفس التعبد بحجية الاخبار أي بنفس حجّية خبر الكليني لا بحجية اخرى.

نعم ، لابد أن يكون لاخبار الصفار بوجوده الواقعي ذلك الأثر ، إلاّ انّه من الواضح انّ الوجود الواقعي لخبر الصفار ليس في طول اخبار الكليني فاشكال الطولية لا يتم إلاّبتقريب واحد وهو التقريب الأوّل حسب تقريرنا كما ذكر صاحب الكفاية أيضاً.

وينبغي في الجواب عليه الجمع بين جواب الكفاية بلحاظ عالم الجعل وجواب الانحلال بلحاظ عالم المجعول.

ص ٣٩٩ قوله : ( الاولى في تحقيق حال أصل هذه التوقّفات المذكورة ... ).

حاصل المقصود أنّ الدليلين المتعارضين إذا كان كل منهما يرفع حجّية الآخر فهذا هو الذي سوف نصطلح عليه في بحث التعارض بالورود من الجانبين في الحكمين الذين لا يمكن اجتماعهما معاً سواءً كانا واقعيين أو ظاهريين كالحجية في المقام.

وسوف يأتي انّه لا يمكن أن يكون كل منهما متوقفاً على عدم حجّية الآخر بالفعل لأنّ هذا بنفسه التمانع بين شيئين وحكمين وهو دور محال سواء في التكوينيات كالضدين أو الأحكام فلابد وأن يكون أحدهما على الأقل متوقفاً على عدم الآخر في نفسه أي لولا الأوّل فإن كان كل منهما كذلك فلا يكون شيء منهما ثابتاً أي لا تثبت لا حجّية السيرة ولا حجّية الآيات وإن كان أحدهما كذلك


والآخر متوقف على عدم الأوّل بالفعل صار هو الفعلي لا محالة هذا بشكل كلي.

وأمّا في المقام فحيث انّ حجّية السيرة وبالتالي مخصصيته ليست تعبدية بل من باب كونه علماً وجدانياً فلا يكون بابه باب جعل الحكمين المشروطتين بل في طرف العمومات حكم مجعول وهو الحجّية التعبدية وفي طرف السيرة أمر تكويني هو الحجّية الذاتية أي حصول العلم بالامضاء وهنا أيضاً يقال بأنّه لا يعقل أن تكون حجّية العمومات متوقفة على عدم العلم بالامضاء والعلم بالامضاء متوقفاً على عدم حجّية العمومات لأنّ هذا بنفسه دور محال كالحجيتين التعبديتين إذا توقفت احداهما على الاخرى بالفعل ، إذ لا فرق في استحالة التمانع بين شيئين بين أن يكونا اعتباريين ومجعولين أو واقعيين وتكوينيين أو أحدهما واقعياً تكوينياً والآخر اعتبارياً مجعولاً ، فلابد من أن تكون احدى الحجيتين على الأقل متوقفة على عدم الآخر في نفسه ـ أي العدم الولائي ـ وعندئذٍ يقال : لا إشكال في انّ حجّية العمومات ليست متوقفة على عدم القطع اللولائي لأنّ كل ظهور حجة ما لم يعلم بخلافه بالفعل أي على تقدير حجّيته لا ما لم يعلم بخلافه حتى على تقدير عدم حجيته فإنّه لا وجه له ، والمفروض في المقام انّه على تقدير حجّية العمومات لا علم بالامضاء لأنّها رادعة عن السيرة.

إذاً فمقتضي الحجّية في طرف العمومات تامّ لانعقاد ذات الدلالة بحسب الفرض وعدم العلم بكذبها على تقدير حجيتها. وأمّا العلم الوجداني بالامضاء فلا يمكن أن يكون متوقفاً على عدم حجّية العمومات بالفعل لكونه مستلزماً للدور ولكونه في نفسه غير معقول أيضاً فلابد وأن يكون متوقفاً على عدم حجّية العمومات في نفسها وبقطع النظر عن السيرة ـ أي عدم الحجّية اللولائية ـ امّا كونه


يستلزم الدور فلما تقدم من انّ توقف كل من الحجتين على عدم الآخر بالفعل دور محال وامّا انّه غير معقول في نفسه فلأنّ السيرة كما تقدم علم وجداني واستكشاف للامضاء من معلوله وهو وجود السيرة وعدم الردع الحجة عنها.

ومن الواضح انّ ما هو معلول الامضاء عدم الردع الحجة في نفسه لا عدم الردع الحجة الثابت هذا العدم للحجية نتيجة العلم بالامضاء وفي طوله إذ المعلول معلول لذات العلة لا للعلم بها كما هو واضح.

وهكذا يتعين أن تكون حجّية العمومات متوقفة على عدم الحجّية الوجدانية للسيرة بالفعل ، وامّا حجّية السيرة فمتوقفة على عدم حجّية العمومات نفسها والنتيجة ثبوت الرادعية دون المخصصية.

ولو اكتفينا في الرادعية بذات الدلالة الرادعة أي اكتفينا باحتمال صدور الرادع أو احتمال حجّيته ولو لم يكن حجة بالفعل فالمسألة أوضح حيث تكون الرادعية فعلية وغير متوقفة على عدم المخصصية وعدم الحجّية للسيرة بخلاف العكس وهذا واضح.

ص ٤٠٢ قوله : ( ثالثاً إذا كانت المخصّصية ... ).

حاصله : انّ الردع إذا توقف على عدم التخصيص توقف عدم العلم به على عدم العلم بعدم التخصيص لأنّ انتفاء العلم بالمعلول متوقف على انتفاء العلم بعلته. وحيث انّ حجّية السيرة وبالتالي مخصصيتها متوقفة على عدم العلم بالردع فتتوقف مخصصية السيرة على عدم العلم بعدم التخصيص أي على الجامع بين احتمال التخصيص أو العلم بالتخصيص ، ولا يمكن أن يكون ثبوت شيء متوقفاً على العلم به أو الشك فيه.


وببيان آخر : انّ هذا أيضاً دور لأنّ عدم العلم بعدم التخصيص متوقف على عدم العلم بالردع إذ لو علم به حصل العلم بعدم التخصيص فعاد عدم العلم بالردع متوقفاً على عدم العلم بالردع وهو دور. وهذا أولى من التعبير بأخذ العلم أو الشك في شيء في موضوعه إذ الحجّية للسيرة ذاتية وليست جعلية فبابه باب العلة والمعلول التكوينيين لا الحكم والموضوع.

ويمكن أن يبيّن الاشكال على الكفاية بتوضيح آخر حاصله : انّه لا يمكن أن تكون حجّية السيرة متوقفة على عدم العلم بالردع في المقام أي عدم ثبوت الردع لأنّ معنى ذلك توقف حجّية السيرة على عدم حجّية الآيات بالفعل والمفروض انّ حجّية الآيات متوقفة على عدم حجّية السيرة بالفعل لوضوح انّ كل ظهور حجة ما لم يثبت حجة أو علم وجداني على خلافه فيلزم الدور ؛ لأنّه عبارة اخرى عن توقف كل من الحجتين على عدم الآخر بالفعل وقد تقدم انّه مستحيل لكونه توارداً من الجانبين على نحو التمانع وهو محال فلابد من نفي أحد التوقفين وعلى الأقل بأن يكون متوقفاً على عدم الآخر اللولائي أي عدم المقتضي للآخر فإن ادعي ذلك في كلا الطرفين لم يثبت حجّية شيء منهما وإن ادعي في أحد الطرفين وهو حجّية السيرة كما هو الصحيح ثبتت الرادعية وعدم المخصصية امّا دعواه في طرف حجّية الآيات دون حجّية السيرة فبلا موجب بل قد عرفت انّه خلاف الواقع.

وإن شئت قلت : انّ دعوى صاحب الكفاية بعدم ثبوت الرادعية ولو من جهة الاستحالة لا المخصصية ليلزم الدور فتثبت حجّية السيرة بناءً على كفاية عدم ثبوت الردع ليس بأولى من العكس وانّ المخصصية بعد أن كانت دورية فلا تثبت لا من باب الردع بل من باب دوريتها ويكفي في حجّية الظهورات عدم


ثبوت المخصص ولا يشترط عدمه واقعاً كما هو واضح.

نعم ، على هذا التعبير يرد اشكال مذكور في الكتاب وهو انّ مخصصية السيرة إنّما هي من باب العلم الوجداني فمقام ثبوته عين مقام اثباته فإذا لم تثبت المخصصية لم تكن واقعاً أيضاً ، ولهذا يكون الأدق التعبير الأوّل في المقام.

وهكذا يتضح انّه كان يمكن بيان المطلب بصياغة ساذجة حاصلها : انّ توقف كل من حجّية السيرة وحجّية العمومات على عدم الآخر محال لأنّه بنفسه تمانع بين طرفين ودور على ما هو مبيّن في بحث الضد ومبيّن في بحث التعارض ولهذا يقال بأنّ المتعارضين كل منهما حجّيته معلّقة على عدم مقتضي حجّية الآخر لا نفس حجّية لكي لا يلزم الدور فكذلك في المقام فامّا ان يقال بأنّ كل منهما متوقف على عدم مقتضي حجّية الآخر ، والذي يراد به في المقام الحجّية اللولائية فلا يكون شيء منهما حجة أو تكون حجّية السيرة متوقفة على ذلك وحجّية الآيات على عدم حجّية السيرة بالفعل فتتم الرادعية ، وامّا احتمال العكس فلا موجب له بل خلاف الواقع أيضاً بعد ملاحظة انّ حجّية السيرة ذاتية تكوينية أي يراد بها حصول العلم الوجداني والذي مقام ثبوته عين مقام اثباته.

وبهذا البيان يظهر وجه الضعف فيما ذكره السيد الحائري في حاشيته ص ٥٣٦ من انّه على تقدير توقف حجّية الآيات على عدم حجّية السيرة في نفسها تعود السيرة حجة لعدم صلاحية الآيات للردع عنها حينئذٍ فتكون النتيجة لصالح صاحب الكفاية.

فإنّ هذا إنّما يلزم لو فرض انّ حجّية السيرة لسيت متوقفة على عدم حجّية الآيات في نفسها بل على عدم حجيتها بالفعل وقد عرفت انّه لو لم يكن العكس


هو المتعين فلا اشكال في عدم تعين هذا الاحتمال بل يكون كل منهما متوقفاً على العدم الولائي للآخر فلا يكون شيء منهما حجة كما هو الحال في سائر موارد التوارد بين الحكمين مع عدم احراز ما يكون منهما متوقفاً على عدم الآخر في نفسه وما يكون منهما متوقفاً على عدم الآخر بالفعل.

ص ٤٠٣ قوله : ( فإنّه يقال : لا يحتمل في المطلقات التخصيص بلحاظ الزمن الأوّل بالخصوص ... ).

هناك جواب أوضح من هذا وهو انّ عدم الردع في زمان المعصومين كاشف عن الامضاء للسيرة مطلقاً لانتهاء زمان الردع فلو كان مفاد السيرة محدوداً زماناً عند الشارع لكان اللازم عليه أن يبيّن ذلك في أزمنه تشريعه فلا نحتاج إلى استصحاب بقاء حكم السيرة الذي هو من استصحاب عدم النسخ كما هو واضح.

ص ٤٠٦ قوله : ( لا يقال : لم لا تكون حجّية السيرة أيضاً موقوفة على عدم حجّية الاطلاقات ... ).

المقصود انّ حجّية السيرة متوقفة على عدم الردع والرادع هو ما لا يكون محكوماً على تقدير حجّية السيرة لا مطلق الدلالة فليس المقصود توقف حجّية السيرة على عدم حجّية الآيات بالفعل ليلزم الدور بل على عدم حجّية الآيات في نفسها ولكن بشرط أن تكون دلالتها مساوية مع السيرة لا أعم منها.

وحاصل الجواب انّ هذا غير معقول في باب المخصصات اللبية كالسيرة لأنّ مخصصيتها ليست من باب القرينة بل من باب العلم الوجداني والذي يرفع موضوع حجّية الظهور مطلقاً فكل ظهور محكوم في الواقع لمخصصية السيرة ، لارتفاع موضوع حجّيته بها وهو الشك فلو فرض اشتراط وجود ظهور غير


محكوم لم يكن أي ظهور مانعاً ورادعاً عنها. نعم ، لو اريد بهذا الكلام انّه لا يكفي ظهور واحد فضلاً عن إطلاق أو عموم للردع عن سيرة مرتكزة فذاك مطلب آخر صحيح يرجع إلى أحد الجوابين المختارين المتقدمين ولا ربط له بمحل الكلام من كفاية حجّية الرادع في الردع.

ص ٤١١ قوله : ( تبقى في المقام شبهتان : احداهما دعوى انحلال العلم ... ).

الشبهتان يمكن ارجاعهما إلى شبهة واحدة هي انّ المعلوم بالاجمال في دائرة الروايات أكثر بكثير من العلم بالاجمال في دائرة الشهرات وبنحو بحيث يكون موارد الاجتماع من الآيات والشهرات يعلم فيه أيضاً بمقدار المعلوم بالاجمال في دائرة الشهرات فينحل العلم الإجمالي في دائرة الشهرات بالعلم الإجمالي في دائرة الشهرات التي فيها اخبار لتطابق المعلومين فيهما بخلاف العلم الإجمالي في دائرة الاخبار.

وقد أجاب عليه السيد الشهيد 1 بوجوه :

١ ـ انّه كيف يمكن افتراض انّ المعلوم بالاجمال في دائرة الاخبار أكثر من المعلوم بالاجمال في دائرة الشهرات مع انّ كاشفية الشهرة ليست بأقل من كاشفية الاخبار.

وفيه : أوّلاً ـ انّ أكثر الشهرات يكون في موردها ما يصلح للمدركية من وجود خبر كما هو في مورد الاجتماع أو وجود عام فوقاني أو أصل عملي أو قاعدة عقلية أو عقلائية وهذا مما يضعف كاشفية الشهرة دون الخبر.

وثانياً ـ كثرة الاخبار في نفسها بخلاف الشهرات أو أيّة امارة اخرى ، فإنّها


بالقياس إلى الاخبار والروايات نسبة قليلة جداً ، وهنا لابد من افتراض انّ موارد الاجتماع يوجد فيه علم اجمالي بمقدار المعلوم بالاجمال في دائرة مجموع الشهرات أو أكثر على كل حال أي مع قطع النظر عن مورد افتراق الروايات وانّه مع ضمها إلى مورد الاجتماع يصعد المعلوم بالاجمال في مجموع الروايات ولكن بنحو بحيث المقدار الأوّل منه معلوم التحقق ضمن مورد الاجتماع وإلاّ كان افراز مورد الافتراق يوجب زوال العلم في الباقي أي مورد الاجتماع وهو خلف ، وهذا يمكن أن يحصل من جهة كثرة دائرة الروايات بالنسبة إلى الشهرات فمثلاً إذا فرضنا انّ مجموع الأخبار الالزامية الف ومجموع الشهرات مئة وعشرة ، ومورد الاجتماع منهما مئة وفي دائرة الشهرات كان يعلم اجمالاً بوجود عشرة أحكام الزامية وفي دائرة الأخبار يعلم بوجود مئة حكم الزامي وفي دائرة المئة المجتمعة مع الشهرات أيضاً يعلم بوجود عشرة أحكام الزامية اجمالاً أي لكثرة الروايات يعلم اجمالاً بصدقها بنسبة ١١٠ ففي كل مئة منها خصوصاً المجتمعة مع الشهرات يعلم اجمالاً بصدق عشرة منها رغم انّ ضمّ عشرة شهرات اخرى في مورد الافتراق لا يوجب زيادة في المعلوم بل لعل مجموع الشهرات لو كانت وحدها لم يكن معلومها بمقدار العشرة أيضاً ، فكثرة دائرة الروايات هي الموجبة لازدياد المعلوم فيها وفي مورد الاجتماع مع الشهرات فتدبر جيداً.

٢ ـ انّه كيف يمكن افتراض ان ضمّ الشهرات العشر في مورد الافتراق إلى مورد الاجتماع التسعين لا يوجب ارتفاع مقدار المعلوم بالاجمال فيه فينحل بينما يكون ضم الأخبار العشر في مورد الافتراق موجباً لذلك فلا ينحل العلم الإجمالي في دائرة الأخبار مع وضوح أقوائية الشهرة المجردة عن الخبر المجرد أو المعرض عنه.


وفيه : أوّلاً ـ ما أشرنا إليه من أنّ عدد الأخبار أكثر بالنسبة إلى الشهرات وهذا عامل من عوامل ارتفاع المعلوم بالنحو الذي أشرنا إليه وهو مفقود في الطرف الآخر.

وثانياً ـ هذا معقول حتى في فرض تساوي العدد ـ كما هو فرض الكتاب ـ لأنّ عشر شهرات في مورد الافتراق لو لوحظت مع تسعين شهرة بقطع النظر عن الأخبار في موردها فهو يوجب حصول أصل العلم الإجمالي أو ارتفاع عدد المعلوم فيه إلى ثمانية مثلاً ؛ لأنّه لولاه قد لا يكون علم اجمالي في مورد تلك الشهرات التسعين أو يكون ولكن بمقدار اثنين أو ثلاث إلاّ انّه بملاحظة قيام الأخبار في تسعين مورد من الشهرات قد يفرض العلم بوجود ثمانية أو أكثر من الأحكام الالزامية في مورد التسعين من ناحية عدم احتمال كذب الأخبار لا الشهرات وضم الشهرات العشر لا يوجب ارتفاع عدد المعلوم أكثر من هذا المقدار فإنّ هذا الضم لم يكن من جهة العلم بصدق بعض تلك الشهرات العشر وإلاّ كان بنفسه علماً اجمالياً منجزاً في دائرتها بل يحصل بضم كاشفية الشهرات العشر إلى كاشفية سائر الشهرات ، وهذا إنّما يوجب الارتفاع على المقدار المعلوم بحساب الشهرات التسعين لو كانت وحدها ، لا ما إذا كان في التسعين كاشف آخر أوجب صعود المعلوم بالاجمال في موردها إلى أكثر من ذلك المقدار المعلوم بالاجمال في دائرة مجموع الشهرات أو بمقداره ؛ إذ يمكن أن تكون الثمانية المعلومة بالشهرات المئة متطابقة وموجودة كلها في دائرة التسعين فلا يصعد المقدار المعلوم عن ذلك المقدار ؛ لأنّ ملاك هذا الارتفاع مربوط بحساب القيم الاحتمالية للشهرات بما هي شهرات فمجموع هذه القيم الاحتمالية لا يحتمل كذبها جميعاً بل يعلم بمقتضى تجميع قيمها الاحتمالية انّ


ثمانية منها مطابقة للواقع على الأقل وادخال حساب آخر في مورد بعضها بحيث يعلم بصدقه لا يوجب ارتفاع عدد المعلوم في دائرة المجموع ، ولهذا يمكن افتراض العلم من الخارج بصدق بعض تلك الشهرات بعينها أو في دائرة أضيق من المجموع مع عدم ارتفاع مقدار المعلوم بالاجمال في دائرة المجموع ، وهذا واضح جداً إذا ما لاحظنا أنّ الشهرات العشر ضمها إلى الأخبار التسعين يفقد المضعف الكيفي لحساب الاحتمال لأنّ الشهرة سنخ امارة غير الخبر واحتمال كذب العشرة كلها في نفسها موجود بحسب الفرض كما انّ احتمال كذب التسعين باستثناء الثمانية فيها موجود كذلك وضم مقدار من امارة إلى مقدار آخر من امارة اخرى قد لا يوجب ارتفاع معلومه بمقدار ما لو كان ذلك المقدار كله من نوع امارة واحدة.

٣ ـ انّ لنا أن نشكّل علماً اجمالياً صغيراً تكون النسبة بينه وبين العلم الإجمالي في دائرة الأخبار العموم من وجه ، بأن نأخذ نصف الأخبار العشرة في مورد الافتراق مثلاً مع مجموع الشهرات فيكون مئة وخمس امارة بينهما وبين الأخبار المئة عموم من وجه ويكون المعلوم بالاجمال فيه بمقدار المعلوم بالاجمال في دائرة الأخبار المئة فلا ينحل العلم الإجمالي الوسط بأحدهما دون الآخر فيجب الاحتياط.

ومثله يمكن أن يقال بالنسبة لانحلال العلم الإجمالي في دائرة الشهرات المئة بالشهرات التسعين التي عليها رواية فيما إذا عزلنا بعضها وضممنا إلى الباقي الشهرات العشر فإنّه قد يكون المعلوم بالاجمال مساوياً مع المعلوم بالاجمال في مورد الاجتماع أي ثمانية مثلاً. والحاصل لو فرض وجود رواية واحدة ليست كاشفيتها بأقوى من كاشفية مجموعة الامارات المفترقة عن الروايات


أمكن تلفيق مثل هذا العلم الإجمالي الذي تكون نسبته إلى العلم الإجمالي في دائرة الأخبار العموم من وجه فيستحيل انحلال العلم الإجمالي الوسط بأحدهما دون الاخرى.

وفيه : إنّ رواية واحدة وإن كان قد يفترض كاشفيتها لوحدها ليست بأقوى من كاشفية عشر شهرات ولكن حيث انها طرف في مجموعة روايات يعلم بصدق مقدار منها إجمالاً أكثر من المعلوم بالاجمال في دائرة الشهرات لو كانت وحدها فافرازها قد يوجب نقصان المعلوم بالاجمال بمقداره في الباقي رغم انّ ضم الشهرات العشرة لا يوجب حصول العلم باضافة ذلك المقدار وهذا ممكن جزماً.

فاتضح انّه قد يفترض الفرق الكبير بين المعلوم بالاجمال الحاصل في دائرة الأخبار وبملاك حساب الاحتمال فيها عن المعلوم بالاجمال في دائرة الشهرات وحساب الاحتمال فيها بحيث يكون ضم الشهرات في مورد الافتراق لا يؤثر أصلاً على ارتفاع المقدار المعلوم في مورد الاجتمع وإنّما المؤثر فقط حساب الأخبار ومقدارها عدداً وكاشفية.

٤ ـ انّ الشهرات العشر أو أيّة امارة اخرى إذا فرض عدم تأثيرها في زيادة عدد المعلوم بالاجمال في العلم الإجمالي الوسط فهذا معناه خروجها عن الطرفية له وإن فرض تأثيرها في زيادة المعلوم فلا محالة بافرازها يقل عدد المعلوم بالاجمال في العلم الإجمالي الوسط ولهذا قلنا بأنّ العلم الإجمالي هنا دائر بين الأقل في مورد الاجتماع أو الأكثر في موردي الافتراق.

والجواب اتضح مما سبق فإنّه يمكن افتراض طرفيتها بلحاظ المعلوم بالاجمال الحاصل من حساب الامارة الكاشفة من نفس السنخ وبلحاظه يوجب


ضمها ارتفاع المعلوم بالاجمال وهذا لا ينافي أن تكون دائرة أضيق من الامارات والكواشف كالاخبار فيها معلوم بالاجمال بمقدار أكبر يوجب انحلال العلم الإجمالي في ضمن دائرة الامارة الاخرى بل دائماً لابد وأن يكون انحلال الدائرة الكبيرة بالدائرة الصغيرة للعلم الإجمالي بملاك وجود كاشفية اخرى في الدائرة الصغيرة يستوجب أن يكون المعلوم بالاجمال فيها بمقدار المعلوم بالاجمال في الدائرة الكبيرة فلا يكون ضم مورد الافتراق مؤثراً وطرفاً للعلم الإجمالي وإن كان مؤثراً وطرفاً لولا ذلك وهذا هو مبنى الانحلال الحقيقي.

والمتحصّل من مجموع ما تقدم في بيان وجه الانحلال انّ العلم الإجمالي في دائرة الشهرات ونحوها من الظنون غير خبر الواحد أو خبر الثقة. معلومه ليس بمقدار المعلوم بالاجمال في دائرة مجموعة اخبار الثقات أو اخبار الكتب الأربعة مثلاً بل أقل منه بكثير والنسبة بينها وبين مجموع تلك الأخبار وإن كانت العموم من وجه إلاّ أنّ مورد الاجتماع بينها ، حيث انّ كاشفية الأخبار فيها قوية أو عددها أكثر فالعوامل الموجبة لمطابقتها أو صدورها أقوى بكثير فيعلم في دائرة مورد الاجتماع منها بمقدار ذلك المعلوم بالاجمال بل وأكثر منه فينحل العلم الإجمالي في دائرة الظنون الاخرى بهذا العلم الإجمالي الصغير ولكن مع ذلك لا ينحل العلم الإجمالي في دائرة مجموع الأخبار ؛ لأنّ معلومه أكثر وان كان يعلم بأنّ مقداراً من ذلك المعلوم يكون في مورد الاجتماع على كل تقدير فلا انحلال في هذه الدائرة بخلاف الدائرة الاولى رغم انّ النسبة بينهما عموم من وجه.

وبهذا يظهر أيضاً وجه الانحلال حتى مع عدم انطباق الميزان الذي ذكروه للانحلال من اننا إذا أفرزنا بمقدار المعلوم بالاجمال في دائرة الروايات من مورد


الافتراق لها عن الشهرات كان العلم الإجمالي محفوظاً في الباقي. حيث ظهر انّ بقاء العلم الإجمالي من جهة انّه في مورد الاجتماع يوجد علم بأنّ مقداراً من المعلوم اجمالاً في مجموع الروايات يكون باقياً فيه ـ أي بمقدار المعلوم بالاجمال في الشهرات أو أكثر منه ـ ولكنه أقل من مجموع المعلوم بالاجمال في دائرة الأخبار جميعاً فهو لا يوجب انحلال العلم الإجمالي في دائرة الأخبار ولكن يوجب انحلال العلم الإجمالي في دائرة الشهرات ، فهذه فرضية معقولة وقريبة التحقق.

وهذا البيان هو نفس البيان المذكور في الكتاب بعنوان الشبهة الثانية مع ردّ الايرادات الثلاثة التي ذكرها السيد الشهيد في مقام الجواب عليها وعمدتها انّه كيف يمكن أن لا يوجب ضمّ مورد الافتراق من الشهرات التي لا رواية في موردها إلى سائر الشهرات من مورد الاجتماع ازدياد المعلوم بالاجمال عن المقدار المعلوم في مورد الاجتماع ، وقد عرفت انّ هذا ممكن بسبب قوّة كاشفية الأخبار أو كثرتها بخلاف الشهرات في نفسها كما يشهد بذلك الوجدان أيضاً ، والله الهادي للصواب.

ثمّ انّ ما ذكره الميرزا 1 في تقرير فوائده من العلم الإجمالي بصدور مقدار من الروايات ولو لم يكن مفادها قطعياً بل ظهور حجة يوجب أن يكون المعلوم بالاجمال ولو كحجة في دائرة الروايات أكثر بكثير من الواقع المعلوم بالاجمال في دائرة الشهرات أو الاجماعات المنقولة فيكون الانحلال أوضح وإن كان انحلالاً حكمياً وبالحجة لا حقيقياً ، وما ذكر في الكتاب من وجود دائرة اخرى صغيرة ولو بالتلفيق فيها وبين دائرة الأخبار العموم من وجه قد عرفت الجواب عليه.


ص ٤١٦ قوله : ( الثاني ـ العلم إجمالاً بمطابقة بعض تلك الروايات النافية للواقع ... ).

حاصله : انّنا إذا علمنا بمطابقة بعض الروايات النافية للواقع حصل اليقين الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف فيحصل الإجمال في دليل الاستصحاب بالنسبة لتلك الأطراف ، وأمّا إذا لم نعلم بذلك وإنّما علمنا بصدور بعض تلك الظهورات النافية فهو من العلم الإجمالي بالحجة على الترخيص وهو ليس منجزاً ولا رافعاً للشك في التكليف في تمام تلك الأطراف ، فلا علم بالانتقاض فيها حتى اجمالاً فيجري الاستصحاب المثبت للتكليف في جميع الأطراف فيجب الاحتياط فيها ، إلاّ إذا قلنا بقيام الامارة مقام القطع الموضوعي الرافع لموضوع الاستصحاب فيكون كل طرف شبهة مصداقية لدليل الاستصحاب فيبتلي بالاجمال أيضاً.

والصحيح انّه لا فرق بين العلم بمطابقة بعض الروايات النافية للواقع أو العلم بصدور بعضها من حيث عدم جريان الاستصحاب المثبت للتكليف في الأطراف وابتلاء دليله بالاجمال ، سواء قلنا بقيام الامارة مقام القطع الموضوعي وتقدمها على الاستصحاب بالحكومة أم لا ؛ إذ لا اشكال في تقدم الامارة على الاستصحاب سواء بالحكومة من باب قيامها مقام القطع الموضوعي أو بالتخصيص ونحوه من أنحاء الجمع العرفي ـ على ما سيأتي في بحث الاستصحاب والنسبة بين أدلّة الامارات والاصول العملية ـ والوجه في ذلك أنّ دليل الاستصحاب سوف يتقيّد على كل حال بغير مورد وجود تلك الامارة ـ وهي الظهور الصادر عن المعصوم في المقام ـ فلا يمكن التمسك بدليل الاستصحاب في شيء من الأطراف ؛ لأنّه شبهة مصداقية


لمخصّصه أو للحاكم عليه.

ودعوى : جريان استصحاب عدم قيام الامارة في كل طرف وهو استصحاب موضوعي ينقح موضوع إطلاق دليل الاستصحاب المثبت للتكليف في كل طرف ، وهذا استصحاب طولي لا يكون محكوماً لتلك الامارة وليس لدينا علم بامارة اخرى على وجود الظهور ـ الامارة الاولى ـ في كل من الطرفين ليكون هذا الاستصحاب الموضوعي الطولي أيضاً شبهة مصداقية في دليل الاستصحاب ، فنرتّب بذلك أثر الاستصحاب المثبت للتكليف في كل من الطرفين ـ وهذا ما ذكر في الدورة السابقة ـ.

مدفوعة : بأنّ هذا الاستصحاب الموضوعي الطولي وإن لم يكن محكوماً للامارة المعلومة بالاجمال فلا يكون التمسك بدليل الاستصحاب لاجرائه شبهة مصداقية لمخصّصه ، إلاّ انّه لا يجري في المقام بنكتة الاجمال بين الصدر والذيل لدليل الاستصحاب ؛ لأنّنا على يقين بقيام الظهور الامارة في أحد الطرفين بحسب الفرض فيكون من نقض اليقين باليقين.

فالحاصل : التمسك باطلاق دليل الاستصحاب لاجراء الاستصحاب المثبت للتكليف في الأطراف تمسك بالعام في الشبهة المصداقية لمخصّصه أو الحاكم عليه وهو لا يصح ، والتمسك باطلاق دليل الاستصحاب لنفي قيام الامارة في كل طرف كاستصحاب موضوعي ينقّح موضوع ذاك الاستصحاب الحكمي المثبت للتكليف ، خلف مبنى الشيخ 1 من عدم جريان الاستصحاب في موارد العلم الإجمالي بالانتقاض ، لأنّه يعلم وجداناً بانتقاض عدم قيام الامارة في بعض الأطراف بصدور بعض الأخبار النافية ، وهذا واضح.


ص ٤١٦ قوله : ( وقال جملة من المحققين ... ).

ويمكن المناقشة فيه بأنّ العلم الإجمالي بصدور جملة من الروايات الالزامية لا يستلزم العلم بورود التخصيص والتقييد على العمومات القرآنية الترخيصية ، نعم العمومات الواسعة جداً قد يعلم تفصيلاً بوجود مخصص ومقيد لها فلا يمكن الأخذ بها في قبال الأخبار الواردة في قبالها ، وامّا العموم القرآني الذي ليس في قباله أخبار الزامية كثيرة ليعلم اجمالاً بتخصيصه ، ولا يوجد في قباله مع عمومات قرآنية اخرى اخبار الزامية كثيرة يعلم اجمالاً بصدور بعضها لكي يتشكل علم اجمالي امّا بتخصيصه أو تخصيص تلك العمومات فتتعارض وتتساقط ، فإنّه في مثل ذلك يكون العام الترخيصي حجة بلا محذور ، وهذا فرضه ليس بعيداً في الفقه.

ص ٤١٨ قوله : ( المورد الخامس : إذا كان الخبر المثبت للتكليف في قباله أصل مثبت للتكليف ... ).

لتوضيح هذا المورد يمكن أن ننقل المثال إلى الشبهات الموضوعية والعلم الإجمالي بالتكليف المردد بين طرفين مع جريان أصل الزامي معاكس في أحدهما المعين ، وحيث انّ الأصل الالزامي قد يكون عقلياً وقد يكون شرعياً فهنا فرضان :

١ ـ أن يكون الأصل الالزامي عقلياً من قبيل أصالة الاشتغال في موارد الشك في المحصل ، كما إذا علم بنجاسة هذا الثوب أو ذاك الاناء ، وكان وقت الصلاة والمكلّف يشك في كفاية ما يلبسه للستر في الصلاة ـ والشك في الساتر مجرى قاعدة الاشتغال عقلاً ـ فيجب عليه عقلاً لبس ذاك الثوب المشكوك نجاسته


ـ لولا نجاسته ـ تحصيلاً لليقين بالفراغ عن شرطية الستر في الصلاة ، أو وجود علم اجمالي بتكليف معاكس يكون أحد أطراف علمنا الإجمالي الأوّل طرفاً فيه أيضاً ، كما إذا علمنا بوجوب شرب ما في أحد الانائين من الدواء أو غير ذلك ، وكان أحد طرفيه المعين طرفاً للعلم الإجمالي بالنجاسة أو الحرمة مع طرف ثالث.

وفي هذا الفرض ـ بكلا شقيه ـ لا اشكال في أنّ مقتضى القاعدة منجزية كلا المقتضيين العقليين للاحتياط في نفسهما بعد سقوط الاصول المرخصة في الأطراف ، إلاّ أنّه هنا يقع التزاحم بين وجوب الموافقة القطعية لكل منهما مع الآخر ، حيث لا يمكن للمكلّف تحصيل ذلك في الطرفين ، ولكن حيث يكون العلم بالتكليف الواقعي في كلا المقتضيين فعلياً فالمخالفة القطعية منجزة في كليهما ، لامكانها فيهما معاً ، كما انّه لا يجوز ترك الموافقة القطعية في كليهما ؛ لأنّه متمكن منها في أحدهما فيتنجز ، فيتخيّر المكلّف عقلاً في ترك الموافقة القطعية لأحد العلمين الاجماليين أو المقتضيين للاشتغال. وهذا أحد شقوق الدوران بين المحذورين الذي هو مجرى أصالة التخيير العقلية ، وسيأتي تفصيل البحث فيه وفي شقوقه.

نعم ، لا يبعد حكم العقل هنا بتعيّن التكليف الأهم من التكليفين جزماً أو احتمالاً في مقام تحصيل الموافقة القطعية فتجب موافقته القطعية والمخالفة الاحتمالية للآخر ، وكذلك إذا كان احتمال المخالفة لأحدهما أكثر من الآخر فيجب تحصيل الموافقة القطعية للتكليف الأهم محتملاً أو الأكثر احتمالاً بحكم العقل القاضي في موارد فعلية تنجّز التكليف بلزوم حفظه بأية درجة ممكنة احتمالاً أو محتملاً.


وبهذا يظهر انّ ما في الكتاب من انّه لا يؤثر العلمان الاجماليان بلحاظ مادة الاجتماع للتزاحم بينهما لا يخلو من مسامحة.

٢ ـ أن يكون الأصل الالزامي شرعياً كما إذا فرضنا أنّ أحد طرفي علمنا الإجمالي بالتكليف مجرىً لاستصحاب تكليف معاكس ، كاستصحاب النجاسة أو الحرمة في المثال المتقدّم للعلم الإجمالي بالوجوب.

وقد حكم السيد الشهيد 1 في هذا الفرع ـ الذي لم يتعرّض له الاصوليون حتى في مباحث منجزية العلم الإجمالي ـ بالتعارض بين استصحاب النجاسة في الطرف المعيّن مع الاستصحاب أو أي أصل نافٍ للوجوب المعلوم بالاجمال في الطرف الآخر ؛ لأنّ هذا الاستصحاب وإن كان الزامياً مثبتاً للحرمة ، إلاّ انّه ينفي الوجوب لا محالة ، بل يمنع عن جواز ارتكابه فيكون مع الأصل النافي للوجوب في الطرف الآخر مرخّصاً في تركهما فيكون ترخيصاً في المخالفة القطعية للوجوب المعلوم بالاجمال فيكون كالأصل الترخيصي النافي للوجوب في هذا الطرف من هذه الناحية.

نعم ، لو كان أصلاً مختصاً بهذا الطرف بعد سقوط الاصول النافية المشتركة في الطرفين وعدم وجود أصل نافٍ مختص في الطرف الآخر لكان جارياً بلا معارض طبقاً للمبنى المنقح في محله من سلامة الأصل المختص.

فالحاصل قد تعامل السيد الشهيد 1 مع هذا الأصل الشرعي الالزامي المعاكس نفس التعامل مع الأصل النافي لكونه أيضاً نافياً للالزام المعلوم بالاجمال فيدخل في المعارضة مع الاصول النافية في الأطراف الاخرى على


القاعدة ، ونتيجة ذلك تنجيز العلم الإجمالي بالوجوب ووجوب الاحتياط باتيان كلا الطرفين حتى ما فيه استصحاب الحرمة أو النجاسة.

وهذا البيان وإن كان فنّياً على مقتضى القاعدة ؛ لأنّ الالزام بترك أحد الطرفين والترخيص في ترك الطرف الآخر كالترخيص في ترك الطرفين ترخيص في المعصية يوجب التعارض بين إطلاق دليل الأصلين لهما وترجيح أحدهما على الآخر لا مرجّح له فيسقطان معاً.

إلاّ أنّ الوجدان يحكم بأنّ مثل هذا الأصل الالزامي الشرعي في طرف العلم الإجمالي بالزام معاكس ينبغي أن يكون جارياً ولا يرفع اليد عنه ، وإنّما يسقط الأصل الترخيصي في الطرف الآخر فقط.

ويمكن تخريجه بناءً على ما هو الصحيح من انّ ملاك التعارض هو التناقض العرفي والعقلائي بين الغرض الالزامي المعلوم بالاجمال والترخيص الظاهري في الطرفين بملاك انّ الأغراض الالزامية لا تكون أهميّتها بدرجة خفيفة بحيث يوجب رفع اليد عنه مع كونه معلوماً بالاجمال في قبال مصلحة التسهيل في الشبهات.

أقول : بناءً على هذا المبنى يمكن أن يقال بأنّ التناقض المذكور يختص بما إذا كان الأصل الشرعي في الطرفين ترخيصياً ، وامّا إذا كان الأصل في أحد الطرفين الزامياً معاكساً فهذا معناه انّ هناك غرض الزامي آخر مهم عند الشارع وعندئذٍ أي مانع في أن يكون ذلك الغرض الالزامي أهم بدرجة بحيث يتقدم على الغرض الالزامي المعاكس له المعلوم بالاجمال فيتقدم عليه حتى إذا كان الأصل الالزامي المعاكس في الطرفين فضلاً عمّا إذا كان في طرف واحد فيجري


الأصل الالزامي ولا يكون داخلاً في المعارضة مع الأصل في الطرف الآخر حتى إذا كان ترخيصياً ، وعندئذٍ امّا أن يجري في الطرف الآخر الأصل الترخيصي أيضاً لكونه شبهة بدوية بعد فرض تنجز الغرض الالزامي الآخر في الطرف الأوّل أو يقال بعدم جريانه لأنّه في قوة الترخيص في المخالفة القطعية للغرض الالزامي المعلوم بالاجمال كما هو الصحيح.

وإن شئت قلت : انّ دليل حجّية الأصل الالزامي يدل بالملازمة على أنّ الأصل الترخيصي في الطرف الآخر ليس بحجة ؛ لأنّ ملاكات الترخيص حتى إذا كانت اقتضائية فليست بدرجة بحيث تزاحم الغرض الالزامي المعلوم بالاجمال تزاحماً حفظياً بنحو يستلزم المخالفة القطعية ، وهذه دلالة التزامية للامارة لا الأصل ، والله الهادي للصواب.

ثمّ إنّ الأصل الالزامي في هذا المورد لو كان هو الاشتغال أو منجزية العلم الإجمالي ، فالفرق بين المسلكين واضح حيث يجب على القول بحجية الخبر الالزامي بدليل خاص العمل به بينما على القول بمنجزية العلم الإجمالي وقاعدة الاشتغال يثبت التخيير أو العمل بالأهم من الالزاميين المعلومين محتملاً أو احتمالاً بالنحو الذي ذكرناه.

وأمّا إذا كان الأصل الالزامي هو الاستصحاب فهو ساقط بالمعارضة دائماً ـ بناءً على القول بدخوله في المعارضة ـ لأنّ الاطراف الاخرى عادة فيها استصحابات نافية للتكليف ؛ إذ لا أقل من استصحاب عدم جعل الالزام فيها فلا يبقى فرق عملي بين المسلكين إذ يجب على كل تقدير مراعات جانب الخبر الالزامي.


ص ٤١٩ قوله : ( الثاني : أن تكون المنجزية لسائر الأطراف من جهة سقوط الاصول المؤمنة ... ).

حاصله : انّ العلم الإجمالي منجز بلحاظ مورد الافتراق لسقوط الاصول في تمام الأطراف بالتعارض وإن كان غير صالح للتنجيز في مورد الاجتماع فإنّه لعدم إمكان الاحتياط باعتبار الدوران بين المحذورين لا لسقوط العلم الإجمالي عن التنجيز وانحلاله ، كما لو جرى في أحد الطرفين أصل منجز ، فليس المقام من موارد الانحلال.

ص ٤٢٠ قوله : ( وقد يقال هنا ... ).

حاصلها : اننا إذا افترضنا المعلوم بالاجمال حكماً واحداً لا أكثر وافترضنا خبرين أحدهما دلّ على وجوب الجمعة والآخر على حرمتها وفرضنا خبر آخر دلّ على وجوب شيء آخر في مسألة اخرى فمثل هذا العلم الإجمالي لا يمكن مخالفته القطعية ولا مخالفته القطعية إذ لو عملنا بالخبرين الدالين على الوجوب في المسألتين فلعلّ المعلوم بالاجمال هو الحرمة المفادة بخبر التحريم ولو عملنا بالخبر الدال على الوجوب في المسألة الاخرى والدال على الحرمة في الجمعة فلعل الحكم الواقعي هو وجوب الجمعة ولو تركنا الخبر في المسألة الاخرى ، فلعله هو الحكم الواقعي.

وعلى كل حال المخالفة والموافقة محتملة لأنّ المكلف لا يمكنه أن يترك الجمعة ويفعلها معاً فأحدهما ضروري الصدور منه وكل منهما يحتمل أن يكون هو الحكم ويحتمل أن يكون غيره فمن هذه الناحية يكون من قبيل موارد الدوران بين المحذورين ، فبناءً على جريان البراءة الشرعية عن كلا المحذورين في موارد الدوران بينهما تجري هنا في الأطراف الثلاثة أيضاً ؛ إذ لا يلزم منه


الترخيص في المخالفة القطعية ولا الترخيص القطعي في المخالفة لامتناع المخالفة القطعية وكلا الأمرين مخصوصان بموارد إمكان المخالفة القطعية أعني إمكان تحصيل القطع بالمخالفة على ما هو مذكور في مبحث الاضطرار بل جريان البراءة الشرعية عن مورد الافتراق في المقام أوضح من جريانها عن المحذورين لوجود اشكال اثباتي هناك مانع عن جريانها وهو عدم احتمال الحلية بخلاف المقام حيث انّ مورد الافتراق يحتمل فيه الحلية إذ لا دوران فيه بين الوجوب والحرمة بحسب الفرض.

نعم ، هذا البيان يختصّ بالمورد الرابع والخامس بشقه الأخير لا شقه الأوّل الذي فيه علم اجمالي آخر يشترك في طرف مع العلم الإجمالي بصدور بعض الأخبار فإنّه كالمورد السادس من حيث امكان المخالفة القطعية لكل من المعلومين الاجماليين في نفسه بلحاظ أطرافه وهو يكفي في التعارض والتساقط بين الاصول المؤمنة ما لم نضم نكتة الكفاية في مبحث الاضطرار إلى غير المعين من سقوط العلم عن المنجزية ؛ لأنّ العلم الذي لا يمكن موافقته القطعية لا تحرم مخالفته القطعية أيضاً لجريان البراءة عن طرفه الآخر.

نعم ، العلم الآخر لابد من موافقته القطعية لعدم الاضطرار إلى تركها فيه فلا تجري الاصول المؤمنة في موردي افتراق كلا العلمين بل أحدهما وهو الذي خولف مخالفة احتمالية في الطرف المشترك وامّا الآخر فيجب الاحتياط فيه لامكانه بحسب الفرض وهذا غير مذكور في الكتاب.

وهذا هو معنى جريان روح تلك الشبهة هنا ولكنها شبهة غير صحيحة على ما حقق في محلها ، هذا مضافاً إلى تولد علم اجمالي ثالث بلحاظ مادتي


الافتراق وهو المذكور في الجواب الثالث وهو يوجب التعارض بين الاصول المؤمنة في موردي افتراق العلمين الاجماليين.

وقد ناقش السيد الشهيد في الدورة السابقة وفي هذه الدورة في هذا الجواب بأنّه لا يتم فيما إذا كان العلم الإجمالي مستنداً إلى الاستقراء وتجميع القيم الاحتمالية للصدق في مجموع الأطراف ، لعدم إمكان تشكيل القضية الشرطية القائلة بأنّه إذا لم يكن هذا الخبر صادقاً كان الخبر الآخر صادقاً ؛ لأنّ فرض كذب ذلك الخبر هو فرض زوال العلم الإجمالي بزوال بعض القيم الاحتمالية المحصّلة له.

وهذا الاشكال كأنّه من رواسب الدورة السابقة ، فإنّ هذا لا ربط له بمحل بحثنا ؛ إذ لنا علم اجمالي بالفعل بثبوت الزام امّا في طرف العلم الإجمالي الصغير ، أو في سائر الأخبار ؛ لأنّ فرض عدم الالزام فيهما معاً مناقض مع فرض وجود علمين اجماليين لا يمكن تطابق معلوميهما معاً في مورد الاشتراك ـ لكونهما متعاكسين ـ فلا نحتاج إلى قضية شرطية واحراز موضوعها ليلزم المحذور المذكور.

نعم ، هذا البيان يفيد فيما إذا علمنا بكذب بعض الأطراف كما إذا علمنا بوجوب الجمعة وتعيين المعلوم بالاجمال بالعلم الصغير فيه وكذب الخبر الدال على حرمتها فإنّه سوف يزول العلم بثبوت الزام في دائرة سائر الأخبار ، وأين هذا من محل البحث.

وكأنّه وقع خلط بين ما يذكر من لزوم المضعف الكيفي لحصول العلم من تجميع القيم الاحتمالية بعامل الضرب وعدم كفاية المضعف الكمي وانّه من دون


تدخل قيم احتمالية اخرى لا يمكن تحصيل العلم وبين المقام الذي فرض فيه حصول العلم ولو بلحاظ تدخل المضعف الكيفي فإنّه مع فرض فعلية العلم الإجمالي في دائرة الأخبار لا محالة يعلم اجمالاً بالالزام في أحد موردي الافتراق بين العلمين.

نعم ، قد يفرض انّ نفس قيام علم اجمالي صغير يشترك أحد أطرافه مع مورد خبر الزامي بنحو يعاكسه يوجب تضعيف قيمة ذلك الخبر وبالنتيجة يزول العلم الإجمالي في دائرة الاخبار لنقصان القيمة الاحتمالية لأحد أطرافه والذي كان دخيلاً في تحصيل العلم الإجمالي بصدق واحد منها ؛ إلاّ أنّ هذا خلف المفروض لأنّه يؤدي إلى زوال العلم الإجمالي في دائرة الأخبار فلا يصح شيء من الأجوبة الثلاثة أو الجوابان الثاني والثالث معاً على الأقل ، وهو خلاف المقصود.

والحاصل مع فرض فعلية العلم الإجمالي في دائرة الأخبار حتى مع اشتراك بعض أطرافه مع علم اجمالي آخر متعاكس معه في معلومه الالزامي فكما يتم الجواب الثاني يتم الجواب الثالث ، ولا يقدح بذلك ما ذكر في الاسس من عدم امكان تشكيل قضايا شرطية في العلوم الاجمالية الحاصلة من حساب الاحتمالات لأنّ تلك الكبرى صحيحة إلاّ أنّها لا تنطبق في المقام وإنّما تنطبق فيما إذا اريد تعيين المعلوم بالاجمال خارجاً في بعض الأطراف من خلال تلك القضية الشرطية عن طريق احراز انطباق شرطها وهو كذب بعض الأخبار في بعض الأطراف فيصح عندئذٍ أن يقال بأنّه مع فرض العلم بكذب بعض الأخبار يزول مبرر حصول العلم الإجمالي لأنّه مستند إلى تجميع القيم الاحتمالية في جميع الأطراف فلو زال بعضها زال أساس العلم فلا علم في الباقي ، وهذه الكبرى لا يمكن تطبيقها في المقام وذلك ببيانين يرجعان إلى روح واحدة :


أحدهما : اننا لا نحتاج هنا إلى قضية شرطية أصلاً ، بل ننطلق من نفس العلمين الاجماليين الفعليين فنقول : حيث انّ معلومهما لا يمكن اجتماعهما معاً في مورد الاجتماع ؛ لأنّ أحدهما الوجوب والآخر الحرمة ، فلا محالة يوجد علم بالزام في أحد موردي الافتراق ، وهذا علم اجمالي ببرهان عقلي لا بحساب الاحتمال.

الثاني : انّ القضية الشرطية التي نحتاجها ليست هي إذا كذب الخبر الدال في مورد الاجتماع على الحرمة فالالزام ثابت في الخبر في مورد الافتراق ليقال بأنّ هذه الشرطية إذا لم يحرز شرطها فلا علم بجزائها وإذا احرز شرطها زال مبرّر العلم الإجمالي الحاصل بحساب الاحتمالات ، وإنّما الشرطية التي نحتاجها وتكفينا في المقام هي انّه إذا كان أحد الالزامين في مورد الاجتماع ـ حرمة صلاة الجمعة أو وجوبها ـ كذباً فيوجد الزام واحد على الأقل في موردي الافتراق واحراز شرط هذه القضية الشرطية لا يتوقف على احراز كذب الخبر في مورد الاجتماع ؛ لأنّ العلم بالجامع لا يتوقف على العلم بالفرد كما لا يستلزمه ، وحيث انّه محرز عقلاً ببرهان التناقض فيكون الجزاء محرزاً ومعلوماً لا محالة من دون أن يفقد العلم الإجمالي القائم على أساس حساب الاحتمالات مبرره في شيء من أطرافه.

نعم إذا فرض انّ كلا العلمين الاجماليين كان على أساس حساب الاحتمال فمع فرض اشتراك طرف بينهما بشكل متعاكس ، المستلزم للعلم بكذب أحدهما فيه ، فلا محالة لا يتشكل علم اجمالي بلحاظ موردي الافتراق ؛ لأنّه لا يوجد من أوّل الأمر أكثر من علم اجمالي واحد لا علمين اجماليين ، وفي ذلك لا يثبت تنجيز طرفي الافتراق لا بالجواب الثاني ولا بالجواب الثالث ، إذ لعلّ معلومنا


الإجمالي في مورد الاجتماع والعلم الآخر لكذب طرفه في مورد الاجتماع لا علم به حتى بلحاظ مورد افتراقه فتجري البراءة في موردي الافتراق بلا أي محذور.

ص ٤٢٥ قوله : ( وأمّا خبر الثقة فهل يكون ميزان حجيته ... ).

قد يقال انّ مفاد السيرة الذي هو عمدة الدليل على الحجّية حجّية الخبر الموثوق به لا خبر الثقة وبينهما عموم من وجه كما هو واضح.

وفيه : إن اريد من الوثوق الاطمينان الشخصي فمن الواضح عدم حصوله من الأخبار الموجودة بأيدينا للنكات المذكورة فيما تقدم فلا يمكن أن تكون سيرة المتشرعة مبناها ذلك كما انّ الوارد في الأخبار عنوان الثقة في المخبر لا في الاخبار ، وسيرة العقلاء لا ترجع إلى ذلك ؛ لأنّ هذا معناه عدم السيرة من العقلاء على حجّية خبر الثقة ، لأنّ الاطمينان الشخصي حجة ولو حصل من طيران الغراب فلا موضوعية لخبر الثقة مع انّه له موضوعية بحسب الوجدان والارتكاز العقلائي وبشهادة ألسنة الروايات المتقدمة ، فأخبار الثقة كالظهور والدلالات له موضوعية في الحجّية العقلائية ، على انّ هذا يؤدي إلى سقوط أثر الأخبار عن الحجّية لعدم حصول الاطمئنان الموضوعي منها بالنكات المبينة في الكتاب.

وإن اريد من الوثوق مجرد الظن القوي أو الاطمئنان النوعي ، أي يفيد الاطمئنان ولو في غير هذا المورد فإن كان الحجة ذلك الظن القوي أو الاطمئنان النوعي ولو حصل من غير خبر الثقة لزم الغاء الموضوعية له ، وكون كل ظن قوي حجة بل يلزم الهرج والمرج إذ لا ضابط موضوعي لحصول هذا الظن إذا كان الميزان بالظن الشخصي فقد يحصل الظن سريعاً أو بطيئاً عند الناس كما في


القطاع والوسواس ، وإن اريد خصوص ما يحصل من خبر الثقة كان مساوقاً مع حجّية خبر الثقة ، وإن اريد ما يحصل من الخبر ولو لم يكن ثقة إذا كان المضمون مما يوثق ويظن به كان معناه انّ الميزان للحجية عندهم مطلق الظن القوي لأنّ خبر غير الثقة لا كاشفية له وإنّما الكاشفية ولو النوعية امّا للوثاقة أو للأسباب الخارجية كالشهرة ونحوها والأوّل يقتضي الاختصاص بخبر الثقة والثاني يقتضي حجّية مطلق الظن الشخصي النوعي وهو خلف.

وأمّا احتمال أخذ قيد زائد على وثاقة المخبر من الوثوق الزائد أو الوثاقة العالية فمنفية بالوجهين المذكورين في الكتاب.

ص ٤٢٦ قوله : ( الأوّل : أنّ خبر الثقة إذا زوحم بامارة أقوى ... ).

قد يناقش في ذلك بوجوه مذكورة في تقرير السيد الحائري حفظه الله.

١ ـ انّ ما يزول بالامارة على الخلاف إنّما هو الكشف والظن الشخصي الحاصل من الخبر لا الظن النوعي القائم على أساس العلم الإجمالي بصدق جملة من أخبار الثقات.

وفيه : انّ المفروض انّ تلك الامارة المعاكسة أيضاً فيها الظن النوعي بنفس هذا الملاك وبنفس الدرجة أو أقوى فتزول الكاشفية بكلا نوعيها في المقام فلا ملاك للحجية العقلائية.

٢ ـ انّ انتفاء الكاشفية بالامارة المزاحمة المساوية أو الأقوى في الكاشفية لا تمنع عن الإطلاق في الدليل اللفظي لأنّ العقلاء وإن كانوا لا يرون في ذلك نفس المقدار من الكاشفية إلاّ انهم لا يستبعدون الحجّية ولا يستهجنونها ولو


لوجود الكاشفية النوعية بلحاظ ذات الخبر لا بما هو مزاحم مع امارة أقوى نظير ما نجده في باب حجّية الظهور فإنّه لا اشكال في حجّيته حتى إذا كان على خلافه امارة اخرى أقوى ليست بحجة.

وفيه : انّ هذا الكلام كان تاماً لو كان لنا دليل لفظي تأسيسي على حجّية خبر الثقة مطلقاً ، وليس لنا ذلك وإنّما الموجود الروايات المتقدمة التي ورد فيها التعبير بأنّ فلاناً ثقة ، أو الثقة المأمون ، وقد تقدم انّ هذا بمثابة تقدير الكبرى لمركوزيتها فيكون المقدر فيها ما هو المركوز عند العقلاء وعليه عملهم ، وليس هو بحسب الفرض إلاّخبر الثقة التي لا امارة قوية على كذبه.

فالحاصل : لسان الروايات لم يكن فيه دلالة لفظية مستقلة وتأسيسيّة على حجّية خبر الثقة ليتمسك باطلاقها ، وإنّما هي بلسان الاحالة على السيرة المركوزة عقلائياً وبمساعدتها فلا ينعقد لها إطلاق أكثر مما عليه العقلاء ، فالاشكال الاثباتي تام.

وأمّا النقض بالظهورات فلأنّ موضوعية الظهور غير قائمة بكشفه بل بالظهور والاقرار اللفظي الذي تحقق حين الكلام والثابت حتى مع العلم بالتخصيص أو قيام حجة أقوى على خلافه لما ثبت في محله من انّ ظهور الخطاب لا يزول بالقرائن المنفصلة وهذه الخصوصية باقية حتى مع قيام قطع أو امارة حجة على الخلاف فضلاً عن امارة غير حجة فلابد من العمل به ما لم يعلم أو تثبت حجة أقوى على الخلاف ، فلا يقاس حجّية الخبر به.

٣ ـ انّ مفاد روايات الترجيح بموافقة الكتاب حتى إذا كان موافقاً للعامة على المخالف للكتاب حتى إذا كان مخالفاً للعامة يدل على انّ الخبر الذي على خلافه


امارة أقوى أو مساوية وهو الخبر المعارض معه المخالف للكتاب وللعامة حجة أيضاً بل ظاهر أخبار العلاج انّ كل واحد من المتعارضين حجة في نفسه لولا الآخر فلا اشكال في عموم مقتضي الحجّية فيهما بحيث لو كان يمكن العمل بهما معاً لكان كلاهما حجة وإنّما عموم الحجة لعدم إمكان حجيتهما معاً.

وفيه : لو سلم كلتا النكتتين المفروضتين في هذا الوجه فإنّ هذا كلّه أجنبي عن محل البحث لأنّ التعارض بين الخبرين لا يستلزم زوال الكاشفية في ناحية الصدور وابتلائه بالمزاحم للعلم بصدور أحاديث متعارضة عن المعصومين كما شرحنا ذلك في بحوث التعارض تقية أو لجهات اخرى ، ومحل البحث ما إذا قامت امارة قوية نوعية توجب الوثوق بالخلل في الأخبار أي في صدور الخبر الذي ينقله الثقة بحيث تشكل قرينة على الكذب بمعنى عدم المطابقة مع الواقع في موارد اعراض المشهور من المقدماء فكيف يقاس ذلك على موارد التعارض؟ فالانصاف انّ هذه الشرطية في محلّها جدّاً.

ص ٤٢٩ قوله : ( وقد استشكلت مدرسة المحقق النائيني ١ ... ).

حاصل الكلام : انّ الحكومة في حجّية الظن يمكن تفسيرها بامور :

١ ـ ما عن السيد الخوئي 1 بأنّه عبارة عن التبعيض في الاحتياط.

وفيه : انّه ليس حكومة بالدقة وإنّما هذا يعني بقاء منجزية العلم الإجمالي بعد سقوطه في بعض الأطراف لأي سبب.

٢ ـ ما عن المحقق الخراساني 1 من حكم العقل بحجية الظن عند الانسداد فيكون التكليف منجزاً به لا بالعلم الإجمالي. وقد اعترض عليه بما في الكتاب


من لزوم أحد أمرين كلاهما مما لا يمكن المساعدة عليه ، امّا كون العقل جاعلاً أو نقض قاعدة قبح العقاب بلا بيان التي تعني اختصاص المنجزية الذاتية بالعلم والبيان.

وفيه : إذا لوحظ روح المطلب وانّ هذه القاعدة مع حق الطاعة والمولوية أمر واحد كما هو المنهج الصحيح في البحث فمن الممكن دعوى انّ العقل يرى حق الطاعة للمولى في موارد الظنون عند انسداد باب العلم وعدم إمكان الامتثال العلمي بخلافه عند الانفتاح ، وبخلاف المشكوكات والموهومات حتى عند الانسداد ؛ لأنّ عدم امكان تحصيل العلم ولا العلمي مع الظن بالالزام لا إشكال في انّ مقتضى حق الطاعة فيه آكد وأشد فلعل مثل صاحب الكفاية يحكم به عقله العملي الذي هو المدرك لقاعدة قبح العقاب إذ ليس مدركه نصّ شرعي كما هو واضح ، فيكون الظن منجزاً للتكليف المظنون عند الانسداد ولو لم يكن علم اجمالي أو بشرط العلم الإجمالي رغم عدم تنجزه.

٣ ـ ما يستفاد من بعض عبائر تقريرات المحقق النائيني 1 من انّ التبعيض في الاحتياط لا يعني أكثر من سقوط وجوب الاحتياط في بعض أطراف العلم الإجمالي وبقائه في الأطراف الاخرى تعييناً ـ كما إذا قام الإجماع على عدم وجوبه في خصوص المشكوكات والموهومات ـ أو تخييراً ـ كما إذا قام على عدم وجوب الاحتياط التام ـ وامّا الحكومة فتأتي في مرحلة متأخرة عن ذلك وهي مرحلة الامتثال حيث يحكم العقل عندئذٍ بأنّ كل تكليف اشتغلت الذمة به وتنجز يجب في الخروج عنه الامتثال القطعي إن أمكن وإلاّ فالظني وإلاّ فالاحتمالي ولا يتنزّل إلى الامتثال الوهمي إلاّمع تعذر المراتب السابقة عليه.


وهذا المطلب يتوقف على أن يكون التكليف الواقعي منجزاً ، وأنّ المنجّز إذا كان هو العلم الإجمالي فهو ينجز التكليف الواقعي بخصوصيته لا بمقدار الجامع.

ولا يقال : انّ الاتيان بالمظنونات وحدها لا يوجب الظن بالاتيان بالأحكام الواقعية لبقاء المشكوكات التي يحتمل وجود الحكم فيها والنتيجة تتبع أخسّ المقدمتين.

فإنّه يقال : المقصود لزوم تحصيل الظن بامتثال التكليف المعلوم بالاجمال المنجز لا التكاليف الواقعية ، وهذا واضح.

٤ ـ ما يحتمل أن يكون مراد المحقق النائيني 1 من انّ العلم الإجمالي يقتضي تنجيز الواقع على كل حال والموافقة القطعية إلاّ إذا لم يمكن كما في موارد الدوران بين المحذورين أو الاضطرار إلى ترك بعض الأطراف ؛ أو دلّ دليل على عدم وجوبه وعندئذٍ إذا لم يكن في أحد الأطراف مرجح ثبت التخيير والتبعيض في الاحتياط وإن كان مرجح وهو الظن كان العلم الإجمالي منجزاً له إذ لا يلزم منه ترجيح بلا مرجح ، وهذا أيضاً يتوقف على أن يكون العلم الإجمالي منجزاً للواقع أي للخصوصية المشكوكة من التكليف المعلوم بالاجمال لا للجامع فحسب.

٥ ـ انّ العلم الإجمالي حتى إذا نجز الجامع فعلى القول بانكار البراءة العقلية يقع تعارض بين البراءات الشرعية في كل طرف للترجيح بلا مرجح فيتنجّز الخصوصية في كل طرف بالاحتمال ، ولكن حيث لا يمكن الاحتياط التام أو لا يجب يقع التزاحم بين الاحتمالات المتنجزة فيقال بأنّ العقل يحكم بلزوم تقديم الاحتمال الأقوى على الأضعف في مقام امتثال التكليف المنجز ولو بالاحتمال.


٦ ـ بعد ثبوت التنجيز للخصوصية في كل طرف امّا بالعلم الإجمالي أو بالاحتمال المنجّز يحكم العقل ـ بعد عدم امكان الاحتياط أو وجوبه ـ بلزوم تقديم المظنونات على المشكوكات والموهومات من باب الأهمية ؛ وذلك لأنّ احتمال مطابقة المظنونات أكثر أي في دائرة المظنونات يظن بنسبة أكثر من الأحكام لا محالة من دائرة المشكوكات لأنّه مقتضى سريان الظنون من كل طرف إلى المجموع فيكون التكاليف والأغراض الالزامية الشرعية الموجودة فيها أكثر ، والأغراض الأكثر أهم من الأقل فبالتالي يكون احتمال أهمية الأغراض في دائرة المظنونات أكبر وأقوى من العكس.

وهذا البيان يتمّ في مورد تعدد الأحكام المعلومة بالاجمال ولا يتم في مورد العلم الإجمالي بحكم واحد ، وهذا التفسير يناسب مع ما جاء في أحد تقريري الميرزا 1 من التفصيل في الحكومة بين وحدة الحكم وتعدده فراجع كلامه.

ثمّ انّ تقرير الحكومة بالنحو المتقدم لتفسير كلام المحقق الخراساني يوجب انحلال العلم الإجمالي وجريان البراءة العقلية في غير المظنونات ، فلا نحتاج بناءً عليها إلى نفي وجوب الاحتياط بالاجماع أو بقاعدة نفي العسر والحرج بخلافه بناءً على الوجوه الاخرى ، وعندئذٍ يتوقف حكم العقل بترجيح المظنون على الموهوم أن يكون مدرك نفي الاحتياط هو الإجماع الذي قدره المتيقن الموهومات أو قاعدة نفي العسر والحرج بنحو تتعين في طرف الموهومات ولا تجري في كل الأطراف تخييراً ، وإلاّ لارتفع الحكم العقلي المذكور لكونه تعليقياً ، وسوف يأتي بيان وجه اختصاص جريان القاعدة في طرف الموهومات فقط.


ص ٤٣٦ قوله : ( وهذا التقرير أيضاً غير تام ... ).

ويمكن الايراد عليه أيضاً : بأنّ الاضطرار ليس إلى معين وإنّما تعيين ما يجوز تركه يكون بحكم العقل في طرف معين وهو المشكوكات والموهومات إلاّ أنّ هذا التعيين ظاهري لا واقعي فهو لا يرفع الحكم الواقعي إذا صادف ذلك الطرف وإنّما يرفع منجزيته فيكون العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي باقياً كما هو الحال في الاضطرار إلى طرف لا معين.

وإن شئت قلت : هذا التعين بحكم عدم التعين ؛ لأنّ الميزان أن يكون الاضطرار موجباً لرفع الحكم الواقعي على تقدير ، وهذا غير موجود هنا كما هو واضح. ويمكن جعل هذا بياناً آخر للاشكال الأوّل.

ص ٤٣٧ قوله : ( ونلاحظ على ما ذكره أوّلاً ـ ... ).

حاصله أمران :

١ ـ انّ قيام الإجماع أو الضرورة لا يوجب حلّ العلم الإجمالي ؛ لأنّه لا ينجز طرفاً معيناً وإنّما يمنع عن جريان البراءة الظاهرية في تمام الأطراف فيبقى العلم الإجمالي باقياً وصالحاً لتنجيز الواقع وغير منحل لا حقيقة ولا حكماً لعدم حصول العلم الوجداني وعدم قيام ما ينجز الحكم الواقعي على واقعه في طرف معين فيمكن للعلم الإجمالي أن ينجز التكليف الواقعي بلا محذور.

٢ ـ انّ قيام الإجماع أو الضرورة وحده لا يفيد في تتميم دليل الانسداد من دون ادخال منجزيّة العلم الإجمالي ، إذ غاية ما يلزم منه حرمة اقتحام تمام الأطراف ولا يوجب تعين المظنونات بل يمكن اجراء البراءة ولو العقلية عن تعينها لولا منجزية العلم الإجمالي واقتضائه للامتثال ، فإنّ حكم العقل أو الشرع


بترجيح المظنونات فرع تنجيز التكليف المعلوم بالاجمال ووجوب موافقته وانكشاف الفراغ عنه بالمقدار الممكن من الكشف ولو الظنّي. نعم ، لو قلنا بأنّ العقل يستقل بحجية الظن بمجرد سقوط البراءة الشرعية في المظنونات بلا حاجة إلى فرض منجزية العلم الإجمالي فسوف لا يتم شيء من الاشكالين كما هو واضح.

ص ٤٣٨ قوله : ( وثانياً انّ ما أفاده من استحالة تنجّز الشبهة ... ).

هذا المطلب متوقف على مقدمة مطوية ومسلمة في محلها وهي انّ المراد من قولهم المنجز لا يتنجز ان المتنجز في الرتبة السابقة لا يتنجز بمنجز آخر في الرتبة اللاحقة كما إذا كان تنجيزه طولياً ومتوقفاً على ذلك وامّا المنجزان العرضيان من دون طولية بينهما فلا محذور فيه كما إذا قامت امارتان أو أصلان منجزان على تكليف واحد ، وعلى هذا الأساس يقال بأنّ منجزية الظن في طول منجزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة المستوجب لتساقط الاصول الشرعية في الأطراف لا لوجوب الموافقة ، فسواء كانت الموافقة منجزة بالاحتمال ـ كما هو على مسلك الاقتضاء ـ أو بالعلم الإجمالي ـ كما هو على مسلك العلية ـ فلا محذور في تنجيز التكليف الواقعي المحتمل في المظنونات بالظن وبالاحتمال والعلم الإجمالي معاً. هذا إذا كان المقصود من منجزية الظن بنحو الحكومة المعنى المتقدم في شرح مرام صاحب الكفاية.

وأمّا إذا كان المراد من منجزية الظن بالحكومة ترجيح الامتثال الظني على الوهمي والشكي بعد فرض تنجز التكليف الواقعي المحتمل بالعلم الإجمالي أو بالاحتمال وفرض تعذر أو تعسر الاحتياط التام فالأمر أوضح ؛ لأنّ منجزية الظن بهذا المعنى تعني صرف تنجيز العلم أو الاحتمال إلى الطرف المظنون أو


تفريغ الذمة عنه في مقام الامتثال بذلك ، فلا ربط له بكبرى انّ المنجز لا يتنجز أصلاً.

وأمّا إذا كان المراد منجزية الظن بنحو الكشف فهو وإن كان متوقفاً على منجزية الاحتمال أو العلم الإجمالي للموافقة القطعية أيضاً أعني في كل طرف وإلاّ فلعل الشارع اعتمد عليها بعد فرض حرمة المخالفة القطعية في تمام الأطراف. إلاّ انّ كشف جعل الشارع للظن حجة في هذا الحال ـ بعد فرض تعذر أو تعسّر الاحتياط التام ـ لا محذور فيه إذ المنجز هنا مجعول شرعي وليس عقلياً لكي يقال بأنّ المتنجز لا يتنجز وهذا واضح.

ص ٤٤٠ قوله : ( وعلى المبنى الأوّل ... ).

الفرق بين المباني الثلاثة : انّ المبنى الأوّل يجعل المنفي الحكم الحرجي بلسان نفي المسبب عنه بارادة السبب منه فيكون النفي حقيقياً والمبنى الثاني يجعل المنفي الحكم الحرجي بلسان نفي متعلقه ومعروضه تنزيلاً وادعاءً كما في « لا ربا بين الوالد والولد » ، والمبنى الثالث يجعل المنفي الضرر الخارجي الناشىء من قبل الشارع ، وفي الشريعة ويكون النفي حقيقياً ، والضرر أيضاً مستعمل في معناه الحقيقي.

ولازم الأوّل والثالث انطباق القاعدة في المقام لنفي الاحتياط لأنّ المرجح فيه ناشىء من الشريعة ومسبب عن الحكم الشرعي بعد ضمه دائماً إلى وجوب الطاعة وحق الطاعة للمولى سواءً في موارد العلم التفصيلي بالتكليف أو الإجمالي والتطبيقات الثلاثة صياغات متعددة لروح واحدة هي ما ذكرناه.

وهذا بخلاف المبنى الثاني ، فإنّ الثابت به الحكم بنفي ما هو معروض الحكم


فلابد وأن يكون معروضه ومتعلقه حرجياً وليس الاحتياط معروضاً للحكم الشرعي كما انّ الحكم الواقعي معروضه ليس حرجياً فاحتيج إلى أحد الوجوه المذكورة في الكتاب.

وقد يناقش حتى على المبنيين الآخرين بأنّ إطلاق المسبب على السبب إنّما يكون فيما إذا كان تحقيقه مستلزماً للضرر أو الحرج وامّا إذا لم يكن كذلك وإنّما تحصيل اليقين بتحقيقه مستلزم له فلا يكفي هذا لتصحيح إطلاق اسم المسبب على السبب لأنّ الغرض المولوي لم يستلزم الضرر وإنّما تحصيل اليقين بالامتثال مستلزم لذلك وليس هذا ضرراً ناشئاً من نفس الشريعة.

وهذا الاشكال لئن تمّ على الصياغة الاولى التي طبق فيها القاعدة على نفس الحكم الواقعي المعلوم بالاجمال ـ على نحو التوسط في التكليف والرفع المشروط لا المطلق ليلزم جواز المخالفة القطعية أيضاً ـ فهو لا يتم على الصياغتين الثانية والثالثة ؛ لأنّ المطبق عليه في الصياغة الثانية ايجاب الاحتياط الشرعي أو العقلي بلحاظ منشأه وروحه وهو تلك الدرجة من الاهتمام المولوي المقتضي للاحتياط عقلاً.

والاهتمام غرض مولوي تشريعي ، بل هو روح الحكم الظاهري كما تقدم في محله ، وليس أمراً تكوينياً وليس عنوان الجعل مأخوذاً في لسان القاعدة إلاّ استطراقاً إلى روحه وهو الأغراض التشريعية لا الاعتبار بما هو اعتبار ، وكذلك الصياغة الثالثة فإنّ عدم الترخيص في بعض الأطراف بحسب روحه ناشىء من تلك المرتبة الشديدة من الاهتمام المولوي الموجب لجعل ايجاب الاحتياط أو عدم جعل الترخيص اعتماداً على حكم العقل بالاحتياط ، وهذه مرتبة من التكليف والاهتمام التشريعي الالزامي فيكون مرفوعاً بالقاعدة.


ثمّ انّ مقتضى إطلاق أدلّة فعلية الأحكام الأولية بقاء التكليف الواقعي وان الرفع للاهتمام والحكم الظاهري فالتقريب الثاني والثالث متقدم رتبة على الأوّل ؛ لأنّه مستلزم لتقييد زائد في أدلّة الأحكام الواقعية ، ولا موجب له مع امكان رفع ايجاب الاحتياط وبالتالي اثبات التوسط في التنجيز لا التكليف.

وإن شئت قلت : انّ المرفوع به الفعلية المطلقة للحكم الواقعي ومن جميع الجهات بحسب مصطلح صاحب الكفاية 1 لا مطلق الفعلية.

لا يقال : لازم ذلك أن تكون القاعدة في المقام ظاهرية كما إذا دلّ دليل على جعل الترخيص الظاهري في بعض الأطراف مع انها قاعدة واقعية في سائر الموارد ، وكيف يمكن الجمع في قاعدة واحدة بين الظاهرية والواقعية.

فإنّه يقال : المحذور إنّما يكون فيما إذا كان الرفع بالقاعدة ظاهرياً وواقعياً في نفس الوقت لا ما إذا كان الرفع واقعياً على كل حال ، إلاّ انّ المرفوع قد يكون حكماً واقعياً ينشأ منه الحرج كالوضوء الحرجي وقد يكون حكماً ظاهرياً ينشأ منه ذلك كايجاب الاحتياط واهتمام المولى بأغراضه الالزامية ، وهذا لا محذور فيه لأنّه لا يعني أكثر من إطلاق النفي لكل حكم شرعي ينشأ منه الحرج وهذا واضح.

لا يقال : ظاهر الآية المباركة نفي الجعل الحرجي من ناحية أصل الشريعة وامّا الحرج الناشىء من سوء اختيار الناس وابتعادهم عن الأئمّة المعصومين : المسبب لتحريف أو اختفاء الأحكام عليهم فليس ذلك مربوطاً بالشريعة لكي ينفى بالقاعدة ؛ وهذا نظير ما يقال من عدم ارتفاع الحكم الضرري إذا كان باقدام المكلّف نفسه على الضرر.


فإنّه يقال : هذا أيضاً مشمول لاطلاق القاعدة خصوصاً بالنسبة للأجيال المتعاقبة التي لم يكن لهم دور في خفاء الأحكام.

ثمّ انّ ما اختاره السيد الشهيد 1 من التفسير الثالث للقاعدة هنا وفي لا ضرر واضح إذا كان اللسان نفي جعل الحرج في الإسلام أو في الدين كما في لا ضرر في الإسلام ، وامّا ما ورد بلسان ما جعل عليكم في الدين من حرج فالمنفي به ليس نفس الحرج وطبيعيّه ، بل المجعول من قبل الدين إذا انطبق عليه عنوان الحرج هو المنفي ، وهذا أنسب مع تفسير الميرزا 1 من ارادة الجعل والحكم من الحرج بعلاقة السببية.

كما أنّ ما ذكره الكفاية سوف يأتي في قاعدة لا ضرر انّ فيه عناية التنزيل الفائقة كما انّه يناسب نفي حكم نفس العنوان المنفي ادعاءً كما في لا ربا وهو خلف المقصود في المقام وفي قاعدة لا ضرر ؛ إذ ليس المراد فيها نفي حكم الضرر والحرج بل نفي الحكم الحرجي أو الضرري المتعلّق بالفعل بعنوانه الأولي.

ثمّ انّه لا يتم التطبيقان الثاني والثالث بصياغتيهما المتقدمتين بناءً على التفسير المختار من قبل صاحب الكفاية لأنّ المرفوع عنده ما هو معروض الحكم الشرعي والاحتياط ليس كذلك حتى بلحاظ روح الحكم ، فإنّ شدة الاهتمام موضوعه الغرض الواقعي الالزامي لا عنوان الاحتياط ؛ اللهم إلاّ أن يدعى إطلاق نفي الجعل للحكم العقلي المنجعل تبعاً لجعل الحكم الشرعي الواقعي فيكون نظير تطبيق حديث الرفع على الجزئية والشرطية وهذا هو التطبيق الأوّل في الكتاب.

إلاّ أنّ الانصاف عدم تمامية هذه التوسعة لأنّ الجزئية والشرطية منتزعة عن


نفس الجعل الشرعي فيمكن أن يعتبر ولو عرفاً مجعولاً شرعياً بخلاف وجوب الاحتياط العقلي.

كما أنّ التطبيق الرابع والخامس غير تامّين كما في هامش الكتاب. فإنّ اهتمام المولى له رتبتان : اهتمامه بدرجة بحيث يجعل ايجاب الاحتياط ويتصدى بنفسه لحفظ غرضه الالزامي واهتمامه بدرجة بحيث لا يجعل الترخيص ويعول على حكم العقل بالاحتياط والذي ينفى بتطبيق القاعدة على وجوب الاحتياط الشرعي المحتمل إنّما هو الأوّل لا الثاني فلا يرتفع موضوع حكم العقل بالاحتياط. فلم يبق غير التطبيق الثاني وما فيه من القيود والتحفظات.

ص ٤٤٦ قوله : ( ولكن التحقيق انّه لابد من صرف الترخيص ... ).

لا حاجة إلى هذا البيان ، إذ يكفي بعد فرض تنجز الحكم الواقعي بالاحتمال ولو لسقوط البراءة العقلية بالمعارضة أن يحكم العقل بلزوم الخروج والامتثال اليقيني إن أمكن وإلاّ فالظني لكل تكليف تنجز واشتغل ذمة المكلف به.

وإن شئت قلت : انّه على هذا سوف يكون الشك في الامتثال للتكاليف الواقعية المنجزة وأي درجة من احتمال عدم امتثالها منجزاً في هذا المقام فيتنجز الظن لا محالة ، وهذا هو الحكومة بتفسير الميرزا 1 حينما قال بحكم العقل يتقدم الامتثال الظني على غيره بعد فرض عدم وجوب الاحتياط التام.

وإن كان البيان المذكور صحيحاً أيضاً بل روحاً هو البيان الصحيح على كلا التقديرين أي سواء كان المنجز هو الاحتمال أو العلم الإجمالي إذ موضوع حكم العقل بحق الطاعة إنّما هو احتمال اهتمام المولى بأغراضه الواقعية سواءً في ذلك موارد الشك في التكليف أو الامتثال ، وهذا الاحتمال مرفوع بالقاعدة


في المقام في طرف الموهومات يقيناً لأنّ القاعدة امّا ترفع نفس الحكم الواقعي أو شدّة الاهتمام به على تقدير كونه في طرف الموهومات جزماً حيث لا يشمل العكس تعييناً ومعه لا موجب لتقييد الحكم الواقعي أو شدة الاهتمام به في طرف المظنونات لو كان الحكم الواقعي فيه ؛ لأنّ هذا تقييد زائد ، فإنّ التقييد التخييري معناه تقييد كل منهما التقديري بينما يكفي تقييد الموهومات التقديري فلا وجه للتقييد الزائد.

لا يقال : التقييد التعييني للموهومات أكثر من التقييد التخييري لها.

فإنّه يقال : ليس بأكثر لأنّ المفروض على تقدير ارتكاب المظنونات وعدم الاحتياط فيها أن لا يكون التكليف مرتفعاً في الموهومات لو كان فيها ؛ إذ معناه الترخيص في المخالفة القطعية وهو خلف التوسط في التنجيز أو التكليف.

لا يقال : المفروض العلم بعدم التكليف في المظنونات والموهومات معاً وإنّما التكليف في أحدهما فإذا كان كذلك كان معنى التقييد التخييري الدوران بين تقييد واحد للتكليف امّا في مورد المظنون أو المورد الموهوم ولا معين لأحدهما في قبال الآخر.

فإنّه يقال : أوّلاً ـ يمكن أن يكون التكليف الواقعي في بعض المظنونات وبعض الموهومات.

وثانياً ـ مفاد القاعدة هو النفي التقديري وبنحو القضية الشرطية الصادقة حتى مع عدم صدق طرفيها فيكون مؤداها أنّ التكليف الواقعي وشدة الاهتمام به إذا كان في الطرف الموهوم فهو مرفوع عن المكلّف وهذا المضمون ثبوته في الطرف الموهوم مقطوع به على كل حال ولا موجب لأكثر منه بثبوته في الطرف


المظنون أيضاً إذ يكفي ذلك لدفع الحرج.

وهكذا يتضح أنّه يمكن اثبات التبعيض في الاحتياط في خصوص الموهومات دون المظنونات ببيانين كلاهما تام في نفسه وإن كان روحاً أحدهما راجع إلى الآخر.

ثمّ إنّه ينبغي البحث عن الفرق بين المسالك الثلاثة في مقدار ما يثبت من حجّية الظن وكون نتيجة المقدمات بناءً عليه الإطلاق أو الاهمال من حيث المراتب للظن والأسباب ونوع التكليف المحتمل فنقول :

أمّا على مسلك الحكومة بالتفسير المتقدم لكلام صاحب الكفاية وبيانية الظن عند الانسداد فلا اشكال في انحلال العلم الإجمالي على كلا المسلكين في منجزيته وجريان البراءة العقلية لا الشرعية ـ لكون المنجزية في طول سقوطها بالمعارضة وإلاّ ارتفع حكم العقل لكونه تعليقياً ـ في المشكوكات فضلاً عن الموهومات. والميزان على هذا المسلك بالظن الشخصي لا النوعي ، لأنّ الكاشفية والبيانية الشخصية التي هي الميزان على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان إنّما يكون للظن الشخصي من أي سبب حصل فالنتيجة الإطلاق من حيث الأسباب.

وهل تختص الحجّية بالمرتبة القوية للظن أو تعم مطلق المراتب؟ يتوقف على مقدار ما يقول به صاحب هذا المسلك من بيانية الظن عند الانسداد أو ثبوت حق الطاعة للمولى فيه.

وامّا على مسلك الكشف فتجري البراءة الشرعية فضلاً عن العقلية في الموهومات والمشكوكات لانحلال العلم الإجمالي باستكشاف الحجة الشرعية


في بعض الأطراف ، إلاّ أنّه لابد من الأخذ بالمتيقن حجيته على أساس هذا المسلك وهو الظن القوي إذا كان وافياً لمعظم الفقه وبمقدار المعلوم بالاجمال وإلاّ تنزلنا إلى المرتبة الأضعف منها لكونها المتيقن دون غيرها فهذا المسلك من حيث مراتب الظن نتيجته التقييد بالمرتبة المتيقنة الكافية بمعظم الفقه ، وامّا من حيث الأسباب بمعنى انّ الميزان هل يكون بالظن الشخصي أو النوعي ـ والنسبة بينهما عموم من وجه ـ فحيث انّ هذا الدليل يتوقف على وجود القدر المتيقن ووصول الحجّية فيه وإلاّ وقع الانسداد من جديد ووجب الاحتياط ، حيث لا يمكن استكشاف جعل الحجّية فيه ، فلا محالة يكون الحجة مجمع الظنين الشخصي والنوعي أي السبب الموجب للظن الشخصي ، وإذا فرض عدم وفاء مجمع الظنين بمعظم الفقه وتردد أمر الحجّية المستكشفة بين الظن الشخصي أو النوعي لم تثبت حجّية شيء منهما وحصل الانسداد ، ووجوب الاحتياط في دائرتهما وهو يبطل أصل مسلك الكشف لتوقفه كما تقدم على وجود القدر المتيقن ، وهذا لا يتحقق مع التردد جزماً.

ثمّ انّه على هذين المسلكين لا يؤثر اليقين أو احتمال أهمية نوع التكليف في مورد الموهومات لأنّ المفروض انحلال العلم الإجمالي وجريان البراءة العقلية على الأقل في التكاليف المحتملة مهما كانت مهمة.

وأمّا على مسلك التبعيض في الاحتياط فالنتيجة وجوب الاحتياط فيما عدا ما يرتفع به الحرج من الشبهات لعدم انحلال العلم الإجمالي بناءً عليه فلو فرض كفاية عدم الاحتياط في الموهومات لزم الاحتياط في الباقي حتى المشكوكات ، كما انّه لو ارتفع بترك الاحتياط في الموهومات التي يكون احتمال التكليف فيها ضعيفاً جداً لزم الاحتياط في سائر الموهومات أيضاً.


وهكذا فالنتيجة على هذا المسلك من حيث المراتب التقييد أيضاً ولكن من طرف الوهم فيترك الاحتياط في الأكثر وهماً فالأكثر.

وهل الميزان بالوهم الشخصي أو يكفي الوهم النوعي كما إذا قام خبر على الترخيص مع عدم حصول الظن الشخصي به؟

هذا يرتبط بالقول بالحكومة بتفسير الميرزا ، بمعنى اننا لو قلنا بلزوم تحصيل الفراغ الظني مع التمكن بعد فرض تنجز التكاليف الواقعية بالعلم أو الاحتمال المنجز كان المعيار بتحصيل الظن الشخصي بالامتثال لا محالة ،

نعم ، لو لاحظنا الوجه الآخر وهو تطبيق دليل نفي العسر والحرج فقد يثبت التخيير إذا احتملنا رفع التكليف الموهوم في مورد الأهم النوعي تعييناً.

كما انّه إذا فرض انّ بعض التكاليف الموهومة على تقدير ثبوتها تكون أهم بحيث لا يرضى الشارع بتفويتها لزم الاحتياط فيها وتطبيق التبعيض في الاحتياط على غيرها ولو من المظنونات مما لا يحرز أهميتها.

كما انّه إذا فرض احتمال أهمية بعض الموهومات أهمية لا يحتمل مثلها في المظنونات جاز تطبيق التبعيض في الاحتياط على المظنونات لاحتمال التعيين في الرفع لكل من الطرفين فقد يحكم العقل بالتخيير في مقام الخروج عن عهدة أغراض المولى وطاعته.

وقد يحكم بتعيين امتثال الأهم الموهوم إذا كانت أهمية كبيرة بحيث يحرز أنّ المولى لو كان بنفسه واقعاً في هذا التردد والتزاحم الحفظي كان يرجح غرضه الأهم ولو كان موهوماً على غرضه غير الأهم ولو كان مظنوناً ، والله الهادي للصواب.



تعليقات على الجزء الخامس

الاصول العملية

أصالة البراءة

أصالة التخيير



أصالة البراءة

١ ـ البراءة العقلية :

ص ٢٠ قوله : ( والاصول العملية كأصالة الصحة أو الطهارة ... ).

ذكر في المصباح انّ خروج أصالة الطهارة عن علم الاصول مع جريانها في الشبهات الحكمية لوضوحها وعدم الاختلاف فيها.

وفيه : أوّلاً ـ منع الكبرى فإنّ كون المسألة بديهية أو غير مختلف فيها لا يجعلها خارجة عن مسائل العلم.

وثانياً ـ منع الصغرى للخلاف في حدودها وجريانها في مورد احتمال النجاسة الذاتية أو المسبوقة بالنجاسة في توارد الحالتين.

وثالثاً ـ النقض بأصالة الاحتياط في الشك في المكلف به أو البراءة العقلية أو حجّية الظهور أو غيرها.

فالصحيح ما أفاده السيد الشهيد 1.

ص ٢٤ ـ قوله : ( وقد أوضحنا مفصلاً في بحوث القطع ... ).

حاصله : انّ المولوية التي هي ادراك عقلي عملي ليست إلاّ المنجزية


واستحقاق العقوبة أو حسنها ؛ لأنّ مدركات العقل العملي ليست إلاّ التحسين والتقبيح العقليين كما انّ تمام موضوعها الوصول كما تقدم في بحث القطع ، فالجمع بين إطلاق المولوية وقبح العقاب بلا بيان تناقض ؛ لأنّ الأوّل يعني اطلاقها في كل مورد يمكن فيها الطاعة بينما الثاني يعني نفيها في مورد الشك وعدم العلم ، وهذا لا محالة تقييد في إطلاق المولوية.

ص ٢٦ قوله : ( الأوّل : الاحالة إلى الوجدان العرفي والعقلائي في باب المولويات العقلائية ... ).

ويمكن المناقشة الصغروية فيها أيضاً فإنّ الثابت في القوانين الوضعية أنّ الجهل بالقانون لا يكون عذراً.

ص ٢٦ قوله : ( الثاني : ما تمت صياغته في مدرسة المحقق النائيني ١ ... ).

وهناك بيان آخر يظهر من فوائد الاصول حاصله : انّ فوت التكليف بعد الفحص وعدم وصوله ليس مستنداً إلى المكلف بل امّا لقصور في بيان المولى بحيث لم يكن صالحاً للوصول إليه أو لعامل آخر غير مربوط بالمكلف وخارج عن قدرته فلا يكون التفويت منه ليستحق عليه العقاب.

وفيه : انّ ملاك استحقاق العقاب ليس الاضرار أو التفويت بالمولى وإنّما ملاكه عدم اطاعته وأداء حق مولويّته والعبودية له ، ولهذا قلنا بالعقوبة حتى في موارد التجري مع عدم التفويت فيها.

ص ٢٨ قوله : ( أوّلاً ـ إنّ الانشاء يمكن أن يكون محركاً ... ).

كما في موارد الشبهة قبل الفحص أو المقرونة بالعلم أو الشك في الامتثال فإنّه


من المستبعد أن لا يقول هذا المحقق فيها بحق الطاعة والمنجزية.

ثمّ انّ هناك بحثاً أثاره القوم على القول بالقاعدة من انّه قد يقال بالتعارض بينها وبين قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل خصوصاً الاخروي أي العقاب.

وقد اجيب عليه بأنّ موضوع الثانية احتمال العقاب والقاعدة ترفعه وتوجب القطع بعدمه لاستحالة صدور القبيح من المولى.

هذا لو قبلنا أصل هذا الحكم كحكم عقلي ، والصحيح انّه ليس حكماً عقلياً أصلاً ، لأنّ الحكم العقلي يرجع إلى التحسين والتقبيح العقليين ، ولا إشكال في أنّ العقل لا يحكم بقبح الاقدام على الضرر لا الدنيوي ولا الاخروي ، وإنّما هذا مطلب غريزي وغرض طبيعي لا حكم عقلي عملي ، فإنّ كل انسان بحسب طبعه متنفر عن الضرر والألم ؛ وهذا تارة ندعيه كوجدان ، واخرى نقيم عليه برهاناً حاصله : انّ العقاب دائماً يكون على الخروج عن أدب العبودية وحق الطاعة والمولوية للمولى والجرأة عليه وظلمه كما تقدم في بحث التجري فيتوقف احتماله على تنجز التكليف وحق الطاعة في المرتبة السابقة فيستحيل أن يكون التنجز بهذه القاعدة وهذا يعني انّ هذه القاعدة لا يمكن أن تكون حكماً عقلياً بالتنجز لأنّها فرع التنجز في المرتبة السابقة وليس للعقل في باب الاطاعة والعصيان حكم نفسي غير التنجز وقبح العصيان والخروج عن حق الطاعة ، ولو فرض ثبوت قبح نفسي للاقدام على الضرر بقطع النظر عن حق المولى وظلمه كما في قبح الكذب مثلاً ، فهذا أجنبي عن استحقاق العقاب والتنجّز ، وهذا يعني انّه يستحيل أن تثبت بهذه القاعدة تنجز التكاليف حتى في موارد عدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان كموارد الشبهة المقرونة بالعلم أو قبل الفحص أو الشك


في الامتثال ، وحيث لا حكم عقلي آخر في باب الطاعة والعصيان فلا محالة يثبت انّ وجوب الدفع ليس حكماً عقلياً عملياً أصلاً ولا يمكن التمسك به في أي مجال.

وهذا هو الجواب الصحيح لا ما ذكره بعض الأعلام من الترديد بين كونه حكماً غيرياً أو نفسياً أو طريقياً أو ارشادياً ، والاستدلال على ابطال ما عدا الأخير منها تارة بلزوم اللغوية واخرى بلزوم تعدد العقاب ، فإنّ هذه التقسيمات غير جارية في الأحكام العقلية العملية التي كلها بملاكات الحسن والقبح العقليين الذاتيين وليست أحكاماً مجعولة ليتصور فيها الغرض الطريقي أو النفسي أو الغيري أو اللغوية ، وامّا تعدد العقوبة أو تأكدها فلا محذور فيه ؛ لأنّ القائل به يقبله حتى في مورد القطع بالتكليف وانّه أيضاً يقبح فيه الاقدام على العقاب فلا يلزم أسوأية الاحتمال على العلم بل استحقاق العقاب دائماً على الاقدام نظير ما يقال من انّ ملاك العقاب في التجري والعصيان أمر واحد وهو الاقدام على المعصية.

ولعلّ حاق مقصوده ما ذكرناه من استحالة أن تثبت المنجزية بهذه القاعدة لأنّها في طولها ؛ إلاّ أنّ هذا كان يقتضي منه انكار كونها حكماً عقلياً عملياً أصلاً كما أشرنا ، وعدم التمسك بها في أي مورد حتى الشبهة قبل الفحص أو المقرونة بالعلم الإجمالي لاثبات التنجز مع انّه قد تمسك بها فيها.

وقد يقال : انّه يعقل أن تكون هذه القاعدة منجزة في فرض واحد وهو ما إذا كان الشك في كبرى التنجيز كما إذا شك المكلف ولم يدر انّ العقل هل يحكم بحق الطاعة في موارد الشك أو يحكم بقبح العقاب.


إلاّ أنّ الصحيح انّه في هذه الحالة أيضاً لا يعقل تنجيز الحكم بهذه القاعدة ، إذ لو فرض انّ العقل يرى الشك في كبرى المولوية وحق الطاعة عذراً عقلاً فلا احتمال للعقوبة لكي تجري القاعدة ولو فرض انّه غير معذر عقلاً كما هو الصحيح ، ومن هنا كان احتمال العقاب أو استحقاقه ثابتاً فالتنجز ثابت في المرتبة السابقة على جريان القاعدة.

٢ ـ البراءة الشرعية :

ص ٣١ قوله : ( منها قوله تعالي( لا يكلّف الله نفساً إلاّوسعها ).

المراد من الموصول ابتداءً أحد احتمالات أربعة :

١ ـ المال بالخصوص ويكون المقصود من الايتاء في الآية الإعطاء والتكليف به بمعنى التكليف بانفاقه.

٢ ـ الفعل ويكون المقصود من الايتاء الاقدار عليه وانفاق المال يكون من مصاديقه.

٣ ـ التكليف بالخصوص ويكون المراد من الايتاء عندئذٍ ايصاله ، فإنّ ايتاء كل شيء بحسبه.

٤ ـ الأعم الشامل لجميع ذلك بمقتضى الإطلاق.

والاستدلال يتم على الثالث والرابع لا الأوّل والثاني ، إلاّ أنّ الثالث غير مطابق مع مورد الآية الذي هو انفاق المال في عدة الطلاق وارضاع ولد المطلق ، فيتعين الرابع وتقريبه بالتمسك بالاطلاق في الموصول إذ لا موجب لتقييده بخصوص المال أو الفعل وكونه مورداً للآية لا يوجبه فإنّ المورد لا يكون مخصصاً على انّ


سياق الجملة ومناسباتها تقتضي ارادة تطبيق كبرى كلية على المورد.

ونوقش بأنّ الإطلاق المذكور غير تام ، إذ اضافة التكليف إلى الفعل اضافة الى المتعلق والمفول به ( المكلف به ) بينما اضافته إلى نفس التكليف لابد وأن يكون من باب المفعول المطلق والذي يعني انّه طور من أطوار الفعل وقسم منه ، وهذان معنيان متباينان فلا يمكن الاستعمال فيهما معاً.

واجيب من قبل المحقق العراقي تارة بأنّه يمكن الاستعمال في نسبة جامعه. وجوابه ما في الكتاب من عدم وجودها إلاّبنحو المعنى الاسمي لا الحرفي النسبي كما هو مقرر في محله.

واجيب من قبل المحقق النائيني والعراقي اخرى بأنّه يمكن افتراض الاستعمال في الاضافة إلى المفعول به ، ومع ذلك يعم الموصول الحكم والتكليف أيضاً. امّا لكون الحكم والتكليف بمعنى اسم المصدر هو المقصود من الأحكام الشرعية وهي تقع متعلقاً لفعل التكليف فيقال كلّف بتكليف أو حكم بحكم وهذا تقريب النائيني. أو بأنّ فعل التكليف ليس مساوقاً ومرادفاً مع الجعل والحكم ، بل مبداه الكلفة والمشقة والجهد فيكون معنى ( لا يكلف الله ) انّه لا يجهد نفساً إلاّ بما آتاها والتكليف بمعنى الحكم يمكن أن يقع متعلقاً ومفعولاً به لهذا المعنى أي لا يجهد نفساً بتكليف وحكم إلاّما آتاها. فلا يلزم استعمال اللفظ في معنيين. وهذا ما ذكره العراقي ووافق عليه الشهيد الصدر 0.

ونلاحظ على ما ذكر :

أوّلاً ـ حتى إذا كانت النسبة إلى المفعول المطلق مع ذلك لا يمكن استفادة البراءة من الآية ، لما ذكر من انّ المراد من التكليف لغة وعرفاً الجهد والمشقة


فيكون الجملة انّ الله لا يكلّف نفساً كلفةً وجهداً إلاّما آتاها ، أي جهداً آتاها ؛ وايتاء الجهد هو الاقدار عليه. فتكون الآية من أدلّة عدم التكليف بغير المقدور وما لا يطاق ، فالحاصل المفعول المطلق ليس هو التكليف بمعناه الاصولي أي الحكم والجعل حتى على هذا التقدير فلا تكون الآية على هذا التقدير ناظرة إلى جريان البراءة عن التكليف المحتمل ، ولا يبعد استظهار هذا المعنى من الآية ؛ إذ لو كان المقصود الاستثناء من المفعول به والمكلف به كان اللازم ذكر حرف الجر أي ( إلاّبما آتاها ) أو ( لا يكلّف الله نفساً بشيء إلاّما آتاها ) لعدم اضافة التكليف إلى المكلف به ابتداءً فيكون نظير لا يكلف الله نفساً إلاّوسعها كما أشرنا إليه في هامش الكتاب.

وثانياً ـ يرد على تقريب النائيني بأنّ الحكم والتكليف لو فرض اضافة فعل ( يكلّف ) إليه في الكلام كما إذا قال كلّفه بحكم أو تكليف أمكن حمله على اسم المصدر ، وامّا حيث لا يكون ذلك مذكوراً وإنّما المذكور لا يكلف الله نفساً ( بشيء ) إلاّما آتاها فهذا لا يشمل إلاّما يكون مصداقاً حقيقياً لمتعلق التكليف وليس هو إلاّ الفعل أو المال لا نفس التكليف بالمعنى اسم المصدري فإنّه بحاجة إلى اعمال عناية ولا دالّ عليها.

وثالثاً ـ يرد على كلا التقريرين :

١ ـ انّ الايتاء بمعنى الاقدار والاعطاء غير الايتاء بمعنى الايصال ، وما يقال من انّ ايتاء كل شيء بحسبه إنّما يجدي إذا كانت الاضافة إلى ما يناسب ذلك المعنى فلا يمكن استفادته من الإطلاق.

وإن شئت قلت : اضافة الايتاء إلى مطلق الشيء في الجملة لابد وأن يكون له


معنىً واحد ولو كان جامعاً بين معنيين آخرين ولا يمكن أن يكون بلحاظ كل مصداق للشيء له معنىً غير معناه بلحاظ المصداق الآخر ، والمعنى الجامع هو الاعطاء وجعله واجداً له ومتمكناً منه وهو مباين مع الايصال ، بل استعماله في الايصال مجاز وما يذكر من الأمثلة كقوله تعالى : آتاه الله الحكمة أو العلم فهو أيضاً بمعنى الاعطاء والمعطى هو العلم والحكمة والمعرفة لا المعلوم بمعنى اعلامه به ، والحكم هو المعلوم لا العلم.

٢ ـ سياق الآية خير شاهد على انّ النظر إلى السعة والقدرة على الانفاق وأنّ الكبرى المنظورة هي عدم التكليف بما لا يطاق كما ذكره المفسرون طرّاً ، وهي كبرى اخرى غير كبرى البراءة عن التكليف المشكوك.

ص ٣٤ قوله : ( هذا ولكن ينبغي أن يعلم انّ المقدار الذي يثبت بها البراءة ما لم يصدر من الشارع البيان ... ).

هذا غير ظاهر بل لعلّ المناسب مع نفي العذاب والعقوبة حمل ارسال الرسل على كونه معرفاً إلى قيام الحجة ووصول التكليف ؛ لأنّ مجرد ارسال الرسول واقعاً من دون وصوله أو تنجزه على المكلفين لا يصحح العقاب أيضاً ، اللهم إلاّ أن يقال بأنّ الآية ليست في مقام البيان من ناحية عقد المستثنى بل المستثنى منه فقط وهو خلاف الظاهر.

كما انّ ما ذكرناه في الهامش واختاره النائيني 1 في فوائده وهو ارادة مطلق الحجة الأعم من البيان الشرعي أو الحجة العقلية خلاف الظاهر ، بل مستهجن أيضاً ، فإنّ ظاهر الآية إناطة العذاب بفعل يرجع إلى المولى والشارع كما انّه بناءً على حملها على الاستحقاق يكون المعنى عدم تنجز التكليف حيث لا تنجز


للتكليف فيكون كالقضية بشرط المحمول.

فالانصاف تمامية دلالة الآية على امضاء ما لعله مركوز لدى العرف من عدم التنجز للتكليف وعدم استحقاق العقوبة إذا لم تصل الحجة الشرعية عليه ، وهذا لسان عرفي لبيان البراءة الشرعية ، أو قل امضاء البراءة العقلائية. نعم ، هذا اللسان لا يثبت إلاّ البراءة المحكومة للاحتياط إذا تم دليل الاخباري عليه لأنّه حجة شرعية.

ص ٣٥ قوله : ( ومن الآيات قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً ) ... ).

الاستدلال بهذه الآية على البراءة خلاف الظاهر جداً ، خصوصاً مع ملاحظة سياقها الوارد في مقام بيان انّ الله لا يترك المؤمنين ومن هداهم إلى الايمان خارجاً بل يتدخل من أجل تسديدهم وارشادهم إلى ما فيه مصلحتهم الخارجية ومن ينبغي أن يتقون منه ؛ وهذا مفاد مباين عرفاً مع البراءة ومعذورية الجهل بالتكليف ، فما في الهامش هنا تام بكلا فقرتيه.

وما ورد في بعض الروايات كرواية عبد الأعلى عن أبي عبد الله 7 في حديث قال : وسألته عن قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَايَتَّقُونَ ) قال : « حتى يعرفهم ما يرضيه ويسخطه ». ومثلها رواية حمزة بن محمّد الطيار (١) لا ينافي ما ذكرناه ، لأنّ ظاهرها انّ عدم المعرفة يوجب العجز الخارجي عن العمل ، ولهذا استشهد الإمام 7 في نفس الرواية على ذلك بآية : ( لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ).

__________________

(١) من أبواب المقدمات ح ١٠ و ١١ جامع أحاديث الشيعة ج ١ ص ٣٢٧.


الاستدلال بالسنّة على البراءة :

ص ٣٦ قوله : ( منها ـ الحديث المعروف « كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » ... ).

سند هذا الحديث غير تام ؛ لأنّه مروي في الفقيه مرسلاً عن الصادق 7 ، بل حتى لو قيل باعتبار مراسيل الصدوق فهذه ليست منها ؛ لأنّ الموجود في الوسائل ص ٦٢٦ ج ١٨ وإن كان بعنوان ( محمّد بن علي بن الحسين قال ، قال الصادق 7 ... ) إلاّ أنّه بمراجعة الفقيه ج ١ ص ٢٠٨ ( ط ـ النجف ) يلاحظ انّ الموجود فيه روي عن الصادق 7 ، فالسند غير تام على كل حال ، فما في أكثر كتب الاصول ومنها كتابنا اشتباه منشأه نقل صاحب الوسائل.

ثمّ انّ في كلمات السيد الخوئي والسيد الإمام استشهاد على نظر الحديث إلى الاباحة الظاهرية المغياة بالوصول لا بالصدور بنكتة لم يتعرض لها السيد الشهيد 1 وهي انّ المراد لو كان هو الاباحة قبل ورود النهي بمعنى الصدور كان مختصاً بزمن النبي 6 لا مطلقاً لتمام الأزمنة ؛ لأنّ التشريع كان مختصاً به مع انّ الرواية صادرة عن الامام الصادق 7 فلابد وأن يكون المراد من الورود الوصول.

وهذه النكتة أيضاً يمكن الاجابة عليها بأنّ المراد من الورود ليس هو التشريع ليقال بانتهائه في زمن النبي 6 بل البيان من قبل الرسول أو الامام المكلف من قبل الله سبحانه بذلك ، وهذا المعنى مستمر في زمان الأئمّة أيضاً ، فإنّ جملة من الأحكام لم تبين للناس من قبل النبي 6 مباشرة بل بتوسط الأئمّة : ، كما ورد ذلك في حديث الحجب الصادر عن الأئمّة وفي حديث التثليث الذي


ينقله الصدوق عن خطب أمير المؤمنين وفيه : « وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً فلا تكلفوها » فيمكن أن يكون مفاد الحديث على هذا جعل الإباحة الظاهرية قبل صدور الخطاب والبيان العام من المعصوم ، وهذا معنى معقول في نفسه.

والانصاف انّ هناك فرقاً بين مثل : « اسكتوا عمّا سكت الله عنه » أو « لا تكلفوها » وبين لسان « كل شيء مطلق » ، فإنّ الأوّل ناظر إلى نكتة انّ مسؤولية بيان وصدور الأحكام على المعصومين ، وانّ هناك نكات قد تقتضي السكوت موقتاً في بيانها فلا تلحّوا في استيضاحها ورفع موانع البيان كي لا تقعوا في ضيق ، بينما الثاني ناظر إلى جعل قاعدة عملية يستفيد منها المكلف في موارد الشك في الحلية والحرمة ، ومثل هذه القاعدة بحسب الارتكاز العرفي المناسب معها أن يكون موضوعها عدم الوصول والعلم ولكن لا الناشيء من ترك الفحص وغض العين بل عدم الوصول فيما يكون في معرض الوصول والذي يكون مساوقاً مع الصدور في معرض الوصول ، فتكون الرواية من أدلّة البراءة والحلية الظاهرية بعد الفحص وعدم الوصول إلى نهي في معرض الوصول ، والله الهادي للصواب.

ص ٣٧ قوله : ( المرحلة الثانية لو فرضنا استظهار الوصول من الورود ... ).

لا يقال : الحرمة المشكوكة بما هي مشكوكة شيء أيضاً مشمول لاطلاق الحديث فيدل على انّه إذا ورد فيه نهي ـ كما يقول الاخباري ـ ارتفع الإطلاق والسعة والحلية.

فإنّه يقال : هذا معناه حكومة دليل الاخباري على الاحتياط بالنسبة للبراءة


والحلية الظاهرية الطولية التي تجري عن الواقع عند الشك في ايجاب الاحتياط ، وهذا إطلاق آخر في الحديث غير اطلاقه للفعل المشكوك بعنوانه الأولي ، أي بعنوان انّه شرب التتن مثلاً ، فالاطلاق المعارض مع دليل الاخباري على الاحتياط هو إطلاق الشيء للعناوين الأولية.

نعم ، يمكن أن يقال : انّ عنوان الشيء الذي هو من العناوين المبهمة يعلم انّه لا يرد فيه نهي بعنوان انّه شيء ، وإنّما النهي والتحريم يرد على العناوين التفصيلية للأفعال ، فإذا كان الشيء عنواناً مشيراً إلى العناوين التفصيلية للأفعال والتي يرد النهي والتحريم عليها صحّ ما ذكر ، إلاّ أنّ هذا خلاف الظاهر ، فإنّ الشيء ليس عنواناً فانياً في العناوين الاخرى بل في مصاديقها الخارجية ، من خلال عنوان الشيء لا العناوين التفصيلية الاخرى ، فيكون هذا قرينة على انّ ورود النهي فيها يعم وروده فيها بأي عنوان كان ، فيكون مفاده محكوماً لدليل الاحتياط في الشبهات. ولعلّ الارتكاز العرفي في مثل هذه التعبيرات خصوصاً مع التعبير ( بالاطلاق لا الحلية والاباحة ) يساعد على فهم هذا المعنى من الحديث ؛ والله العالم.

ثمّ انّ هذا الحديث بناءً على مناقشات السيد الشهيد مفاده مفاد اسكتوا عمّا سكت الله عنه ، ونحوه ممّا يدل على الاباحة قبل الخطاب وبيان الأحكام واصدارها من قبل المعصومين امّا كاباحة وحكم واقعي أو ظاهري على الأقل ، وهذا قد يقبل به حتى الاخباريين ونتيجته انّه لا يجب السؤال عن النواهي ولا تنجز لها قبل صدورها من المعصوم ـ وقد ورد في الرواية المتقدمة عن أمير المؤمنين 7 قوله : « فلا تكلفوها » ـ وعندئذٍ يمكن اثبات هذه الاباحة في أزمنتنا إذا احتملنا صدور النهي ولم يصلنا باستصحاب عدمه وهو استصحاب


موضوعي يجري حتى عند المنكر لجريانه في الأحكام فيثبت بذلك الاباحة ظاهراً. هذا ما أفاده صاحب الكفاية 1.

وهنا عدّة ملاحظات :

الاولى : قد يقال انّ هذه الاباحة الثابتة بالاستصحاب في قوّة اثباتها بالأصل العملي المحكوم للدليل الاجتهادي كما إذا تمّ دليل الاخباري على وجوب الاحتياط في الشبهات.

وفيه : انّ دليل الاخباري بعد فرض تمامية دلالة هذا الحديث على الاباحة قبل صدور الخطاب يكون مقيداً بالشبهة التي صدر فيها الخطاب فيخرج عن دليل الاحتياط موارد عدم صدور الخطاب واقعاً ، فيكون التمسك به تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقية.

لا يقال : هذا يلزم منه تخصيص دليل الاحتياط بموارد نادرة هي موارد العلم بصدور الخطاب مع الشك في دلالته على الحرمة والحلية.

فإنّه يقال : أوّلاً : مجموع موارد العلم الإجمالي بالنهي أو صدور الخطاب وموارد توارد الحالتين وموارد العلم بصدور الخطاب والشك في النسخ وموارد التعارض أو اجمال الخطاب بناءً على عدم شمول الحديث لهما كافٍ لاخراج قاعدة الاحتياط عن اللغوية.

وثانياً : الميزان في التخصيص بالفرد النادر أن يكون الباقي تحت العام من الأفراد نادرة ، لا أن يكون احرازه نادراً للمكلف ، كما إذا كان احراز العدالة في العالم الواجب اكرامه نادراً ، فإنّه لا يوجب أن يكون تخصيص ( أكرم كل عالم )


واخراج الفاسق منه مستهجناً ومن التعارض ، والمقام من هذا القبيل ؛ لأنّ الشبهة التي ورد فيها نهي واقعاً ولم يصل إلى المكلّف في نفسه ليس نادراً.

الثانية : انّ الاباحة المذكورة لا تشمل موارد صدور النهي ومعارضته مع ما يدلّ على الترخيص وموارد اجمال النصّ لأنّ الخطاب صادر في مثل ذلك فلعلّه يجب السؤال والفحص فيه ولا يجري الاستصحاب للعلم بصدور خطاب النهي وإنّما الشك في الحرمة الواقعية. اللهم إلاّ أن يقال : بأنّ المقصود بحسب المتفاهم العرفي والعقلائي من صدور النهي صدور ما يكون صالحاً لاستفادة التحريم منه بحسب الفهم العرفي العام وفي موارد التعارض أو اجمال النصّ لا يكون النهي صادراً بحسب الفهم العام خصوصاً موارد الاجمال الذاتي الداخلي لخطاب النهي ، إلاّ أنّ هذا الاستظهار غير واضح.

الثالثة : ما ذكره المحقق الخراساني من عدم جريان الاستصحاب المذكور في موارد توارد الحالتين. وقد علّله السيد الشهيد بعدم جريان الاستصحاب مع العلم بصدور النهي.

لا يقال : انّ الغاية هي النهي غير المنسوخ وصدوره مشكوك.

فإنّه يقال : الاباحة الظاهرية المجعولة قبل صدور الخطاب تنتفي بالنهي الصادر قطعاً سواءً نسخ ذلك فيما بعد بالاباحة أم لا فإنّ نسخه لا يرجع الاباحة الظاهرية ، وإنّما يثبت الاباحة الواقعية بعده كما هو واضح. فالحديث لا دلالة له على الاباحة الظاهرية أكثر من هذا المقدار وهي مقطوعة الارتفاع مع العلم بصدور النهي فلا معنى لاستصحابها.

وأمّا تعليل المحقق الاصفهاني فمذكور في الكتاب بما لا مزيد عليه.


حديث الرفع :

ص ٤٠ قوله : ( أمّا المقام الأوّل : فالفقرة التي يستدلّ بها من الحديث ... ).

الأولى تغيير المنهجة في المقام الأوّل بما يلي :

استدل بفقرة « ما لا يعلمون » في الحديث على البراءة والرفع الظاهري.

وقد واجه هذا الاستدلال اشكالاً حاصله : انّ ظاهر اسناد الرفع إلى ما لا يعلمون انّه رفع حقيقي لما لا يعلمونه من الأحكام فيكون ظاهراً في الرفع الواقعي لا الظاهري لأنّه بحاجة إلى عناية امّا في الرفع أو في المرفوع ، فيكون الحديث مقيداً لاطلاقات أدلّة الأحكام الأولية بصورة العلم كما هو بلحاظ سائر الفقرات أيضاً وبذلك يكون أجنبياً عن البراءة ولا يتوهم انّ هذا أيضاً ينفع الاصولي بشكل آكد حيث ينتفي أصل الحكم في موارد الجهل لأنّه يقال هذا لا يفيد عندئذٍ في موارد العلم بأنّ الحكم الواقعي لو كان لما كان مختصاً بالعالمين كما يدعى ذلك على مبنى التخطئة في تمام الأحكام أو أكثرها.

نعم ، لو كان الحديث مجملاً من هذه الناحية أو قابلاً للحمل على الرفع الظاهري في تلك الموارد كجمع عرفي أمكن التمسّك باطلاق أدلّة الأحكام الواقعية في موارد الشك وعدم العلم ، وجعل ذلك قرينة على ارادة الرفع الظاهري من الحديث بالنسبة لفقرة ما لا يعلمون ، وأمّا إذا كان ظاهر الحديث الرفع الواقعي فيكون مقيّداً لاطلاق تلك الأدلّة ، كما هو كذلك بالنسبة إلى سائر فقرات الحديث ؛ لكونه ناظراً إلى تلك الاطلاقات وحاكمة عليها ، ولهذا حاول السيّد الشهيد 1 اثبات الاجمال على الأقل في الحديث من هذه الناحية ، وحاول الآخرون استظهار الرفع الظاهري بالخصوص.


وقد تصدى المحققون للاجابة على هذا بوجوه عديدة.

منها ـ ما ذكره المحقق النائيني من انّ هذا يستلزم التصويب وهو مقطوع البطلان عندنا ، وهذا الجواب يمكن دفعه بأنّ غايته انّه في كل حكم ثبت الاشتراك وعدم احتمال الاختصاص يكون ذلك تخصيصاً في الحديث ولا يثبت في ذلك المورد رفع أصلاً ، وهو لا يمنع من جريانه في سائر الموارد التي يحتمل فيها عدم الاشتراك ، وليس بطلان التصويب أمراً بديهياً ليشكل قرينة لبية متصلة بالحديث تصرفه إلى الرفع الظاهري.

منها ـ ما ذكره المحقق العراقي 1 من انّ الرفع في الحديث امتناني والامتنان يحصل برفع ايجاب الاحتياط الذي هو أثر الحكم الواقعي فلا وجه أن يستفاد منه أكثر من ذلك.

وفيه : انّ الامتنان كما يحصل برفع ايجاب الاحتياط كذلك يحصل برفع الحكم الواقعي ؛ لأنّ رفع منشأ ايجاب الاحتياط أيضاً فيه منّة على المكلّف ، وليس أحد الرفعين أكثر من الآخر ليقال بأنّ سياق الامتنان تمنع عنه وإنّما كل منهما رفع حكم واحد. على انّ المفروض ظهور الحديث في رفع نفس ما لا يعلمونه وهو الحكم الواقعي بحسب الفرض ، لا ايجاب الاحتياط.

ومنها ـ ما ذكره المحقق العراقي 1 أيضاً كمحذور ثبوتي من انّ الرفع الحقيقي لا يعقل وروده على الحكم الواقعي في ظرف الجهل به إذ العدم في ظرف الجهل بشيء مستحيل وروده على الشيء الملحوظ في الرتبة السابقة عن الجهل بنفسه فلا محيص من كون المراد به رفعه بالعناية أو رفع أثره.

وفيه : انّ هذا روحه ولبه نفس اشكال استحالة أخذ العلم بالحكم في


موضوع شخصه وارتفاع الحكم في فرض عدم العلم به ؛ لكون المعلوم متقدّماً على العلم.

وقد تقدم الجواب عليه في محله من انّ ما هو المتقدم على الجهل والعلم ليس هو واقع المعلوم أعني المعلوم بالعرض بل الملعوم بالذات الذي هو عين العلم فلا تقدم ولا تأخر. نعم ، يلزم محذور التهافت في اللحاظ إذا اخذ العلم بالحكم في موضوع شخصه الذي اجيب عليه بالتفكيك بين الجعل والمجعول والرفع في الحديث ليس إلاّتخصيصاً لاطلاق أدلّة الأحكام الأولية في مورد الفقرات التسعة بناءً على استظهار الرفع الظاهري وليس جعلاً آخر ، فإذا دلّ على عدم الالزام واقعاً في موارد عدم العلم به دلّ على تقيّد الالزامات الواقعية بصورة العلم بها بالنحو الممكن ولو بأخذ العلم بالحكم بمعنى الجعل في موضوع فعلية المجعول.

ومنها ـ ما ذكره في مصباح الاصول ، وكأنّه تقريب اثباتي لما تقدّم عن المحقّق العراقي 1 بعنوان وجود القرينة الداخلية أو مناسبات الحكم والموضوع على ارادة الرفع الظاهري لأنّ ظاهر الحديث انّ هناك شيئاً واقعياً لا نعلمه ؛ إذ الشك في شيء والجهل به فرع وجوده ولو كان المرفوع وجوده الواقعي بمجرد الجهل به لكان الجهل به مساوقاً للعلم بعدمه كما هو ظاهر.

وفيه : أوّلاً ـ إن اريد انّ ظاهر الحديث افتراض وجود الحكم الواقعي الذي لا يعلمونه في طرف موضوع الرفع فمن الواضح انّ هذا لا يقتضي أكثر من الافتراض التقديري واللولائي أي لولا الرفع كان ثابتاً لا افتراض وجوده حتى بعد الرفع ، وإن اريد انّ ظاهر الحديث أخذ الشك واحتمال وجود الحكم المرفوع


في موضوع الرفع بالفعل أي حتى بعد الرفع ، وهو لا ينسجم مع كون الرفع واقعياً ؛ إذ يلزم منه ارتفاع الشك إلى العلم بالعدم.

ففيه : منع الظهور المذكور ، إذ لم يرد في الحديث الشك بل عدم العلم الذي هو أعم من الشك وينحفظ مع العلم بالعدم كما هو مقتضى كون الرفع واقعياً ، بل لو فرض أخذ عنوان الشك أيضاً لم يكن محذور كما إذا قال : كل حكم مشكوك مرفوع فإنّه لا يستظهر منه عرفاً أكثر من انّه مشكوك مع قطع النظر عن الرفع فتدبر.

وثانياً ـ ما سيأتي شرحه من أنّ هذا الوجه وكذا ما قبله مبني على أن يكون المراد بالموصول في فقرة ( ما لا يعلمون ) الحكم والالزام المرفوع ، مع انّه يمكن أن يكون المراد به الفعل المحرّم أو المحظور الذي يرتكب مع عدم العلم بكونه محظوراً شرعاً ، كما هو المراد من الموصول في الفقرات الاخرى ؛ إذ ما اضطرّ إليه أو استكره عليه أو لا يطيقون يراد به الفعل المحظور شرعاً بما هو محظور ، فكذلك فيما لا يعلمون يمكن أن يراد به الفعل المحظور شرعاً ، والذي بهذا العنوان الثانوي ـ أي بما هو محظور ـ لا يعلم بارتكابه ويكون المرفوع حكم الفعل المحظور فيمكن أن يكون رفعه واقعياً بلا لزوم محذور التهافت لا ثبوتاً ولا اثباتاً.

ومنها ـ ما أفاده السيد الشهيد 1 من انّ الرفع الواقعي أيضاً يستلزم عناية في المقام إذ لو اريد رفع الحكم بمعنى المجعول الذي لا يعلمونه لزم منه تقيد المجعول بالعلم به وهو محال ، وإن اريد رفع الحكم بمعنى المجعول الذي لا يعلمون بجعله لكي يكون فعلية المجعول مشروطاً بالعلم بالجعل لا المجعول


فهذا وإن كان معقولاً عندنا إلاّ انّه يستلزم العناية في الاسناد حيث يكون المرفوع هو المجعول وما لا يعلم به هو الجعل فإذا كانت العناية ثابتة على كل حال فنعيِّن ارادة الرفع الظاهري بمناسبات الحكم والموضوع العرفية ، حيث انّ الشك وعدم العلم بالحكم يناسب الرفع الظاهري لا تبدّل الحكم الواقعي.

وهذا الجواب يرجع امّا إلى الوجه الثبوتي المتقدّم عن المحقّق العراقي أو إلى الوجه الاثباتي المتقدّم عن السيّد الخوئي وليس وجهاً آخر غيرهما ، فيرد عليه ما تقدّم من الوجهين.

وإن شئت قلت : انّ ظاهر الحديث ارتفاع الالزام بمعنى المجعول في موارد عدم العلم به ، وهذا الارتفاع لازمه أن يكون الحكم الواقعي مقيداً بالعلم بالجعل فيؤخذ بهذا الظهور ونثبت به اللازم المذكور في أدلّة الأحكام الواقعية ، وليس المدلول المطابقي لحديث الرفع بيان كيفية تقييد الالزامات الواقعية المجعولة في مورد العلم بها ، وإنّما في مقام بيان موارد ارتفاعها فيمكن أن يقال بأنّه في موارد عدم العلة بالالزام الفعلي والمجعول لا حكم واقعاً ، كما أشرنا في ردّ الوجهين السابقين.

هذا مضافاً إلى وجود تفسير آخر لفقرة ( ما لا يعلمون ) في الحديث وهو تطبيق الموصول فيها على الفعل المحظور الذي لا يعلم به المكلّف بما هو محظور كما في الفقرات الاخرى للحديث ، فيرتفع بذلك مبنى مثل هذه الأجوبة.

ومنها ـ ما ذكره السيد الشهيد 1 أيضاً من انّ ظاهر الحديث انّ الرفع فعلي في تمام موارد ما لا يعلمون بحيث لولاه لكان فيه كلفة ووضع على الامّة ، وهذا لا يناسب إلاّمع الرفع الظاهري الذي يعني رفع ايجاب الاحتياط العقلي أو


الشرعي ـ والذي يكون ثابتاً في تمام الشبهات لولا هذا الحديث ـ سواء كان الالزام الواقعي موجوداً فيها واقعاً أم لا لأنّ موضوع ايجاب الاحتياط نفس الشك وهذا بخلاف الرفع الواقعي فإنّه لا يعقل إلاّفي موارد عدم العلم مع ثبوت ذلك التكليف واقعاً وهذا خلاف إطلاق ما لا يعلمون وفعلية الرفع في تمام موارد الشك وعدم العلم.

وفيه : أوّلاً ـ ما ذكره السيد الشهيد نفسه من أنّ هذا إنّما يتمّ لو اريد بالموصول عنوان التكليف الذي لا يعلمونه ، لا واقع التكليف ، وإلاّ كان مأخوذاً مقدّر الوجود في موضوع الرفع وكان المعنى انّ التكليف الواقعي لو لم يعلم به المكلّف رفعناه عنه ، فلا موضوع للاطلاق المذكور.

والغريب انّه استظهر المعنى الأوّل وإرادة عنوان التكليف ونفس الشك فيه من الموصول وهو خلاف الظاهر جداً ، فإنّ الموصول كأي عنوان آخر ينطبق على مصداقه الواقعي الخارجي لا العناوين والمفاهيم الذهنية.

نعم ، لو قال : ( إذا شككت فلا شيء عليك ) كان ظاهراً في أنّ الموضوع نفس الشك ، وأمّا إذا قال : ( ما لا تعلم به وتشك فيه مرفوع ) فهذا ظاهر في رفع المشكوك بالعرض الخارجي على تقدير وجوده ، وهو واضح.

وثانياً ـ ما أشرنا إليه من أنّ هذا مبني كالوجوه السابقة على ارادة الحكم المرفوع من الموصول لا الفعل الذي لا يعلم محظوريته شرعاً ، وسيأتي تعيّن هذا الاستظهار وأنّ ارادة الرفع الظاهري في فقرة ( ما لا يعلمون ) بارادة الحكم من الموصول فيها والرفع الواقعي في سائر الفقرات بارادة الفعل من الموصول فيها خلاف الظاهر جداً ، بل لا يصحّ إلاّبتأويلات وتمحّلات تعسّفية غير عرفية.


والظاهر أنّ الهامش في الكتاب مربوط بهذا الوجه ولكنه خطأً جعل الترقيم على البحث القادم.

ومنها ـ ما لعله حاق مقصود السيد الشهيد 1 من انّ ظاهر الحديث انّ المرفوع تلك المرتبة من الحكم والارادة المولوية التي يلزم من ثبوتها الضيق والكلفة على المكلف لولا الرفع الشرعي ، سواء اريد بالموصول في فقرة ( ما لا يعلمون ) نفس الحكم المرفوع أو الفعل المحظور بما هو محظور والمرفوع حكمه ، فإنّه على كلا التقديرين سياق الحديث ظاهر في ارادة رفع الكلفة والثقل والمسؤولية التي تثبت في الفعل المحظور لولا أحد هذه العناوين التسعة ، وهذه المرتبة من الحكم أو الكلفة في مثل الاضطرار والاكراه من فقرات الحديث تساوق أصل الحكم والالزام الواقعي ، فيكون رفعه برفع أصل الالزام للغوية ثبوت أية مرتبة من الحكم فيه ، بينما في موارد الجهل وعدم العلم التي يكون التزاحم فيها حفظيّاً هي الارادة والاهتمام الفعلي للمولى في مورد الشك لا ذات الارادة الواقعية المجتمعة مع الترخيص الظاهري.

وقد تقدم في مبحث القطع انّ موضوع حكم العقل بالطاعة إنّما هو هذه المرتبة من الحكم لا الحكم الواقعي المجرد عن هذه الدرجة من الاهتمام والذي ليس فعلياً في موارد التزاحم الحفظي والاشتباه ، وهذه المرتبة من الحكم يكون مرفوعاً حقيقة بالبراءة الشرعية ، فيكون الرفع حقيقياً والمرفوع أيضاً الحكم الفعلي بهذا المعنى حقيقةً فلا عناية في البين ، ويؤكد ذلك أيضاً الارتكاز والمناسبة العرفية في باب الأحكام المأخوذ في موضوعها الشك وعدم العلم.

هذا إذا لم نقل بأنّ المرفوع إنّما هو المؤاخذة والعقوبة المأخوذ في التقدير ،


وانّ اسناد الرفع إليه لا إلى الموصولات والعناوين التسعة ، وإلاّ لم يكن وجه لاستفادة رفع الحكم الواقعي في ما لا يعلمون أساساً.

ثمّ إنّه لو فرض اجمال الحديث ودورانه بين الرفعين الواقعي والظاهري مع ذلك تكون النتيجة بصالح الرفع الظاهري وذلك تمسكاً باطلاق أدلّة الأحكام الواقعية وانحفاظها في موارد الشك وعدم العلم فينتج انّ الرفع ظاهري لا محالة.

لا يقال : هذا ينفع في الشبهة الموضوعية لا الشبهة الحكمية إذ لا يحرز فيها دليل على الحكم الواقعي ليتمسك باطلاقه.

فإنّه يقال : أوّلاً ـ أثر كون الرفع واقعياً أو ظاهرياً يظهر في موارد انكشاف الخلاف وفيما يحرز الدليل على الواقع فيمكن التمسك باطلاقه بموارد الشك السابق لترتيب آثار كون الرفع ظاهرياً لا واقعياً.

وثانياً ـ قد يفرض العلم بعدم دخل الشك في حكم واقعي ، أي عدم احتمال التصويب فيه ـ كما ادعي الإجماع على قاعدة الاشتراك ـ ويكون مع ذلك أصل ذلك الحكم مشكوكاً فإنّه بناءً على كون الرفع في الحديث ظاهرياً يكون اطلاقه شاملاً له ، وبناءً على كونه واقعياً يكون ذاك المورد خارجاً عنه لا محالة فيكون هذا مستلزماً للتخصيص في الحديث ، ومقتضى اطلاقه ثبوت الرفع فيه لانطباق عنوان ما لا يعلمون عليه جزماً ولازمه أن يكون الرفع المذكور في الحديث ظاهرياً لا واقعياً في تمام الموارد ، إذ هو جعل واحد فامّا أن يكون واقعياً أو ظاهرياً ولا يعقل أن يكون في بعض الموارد ظاهرياً وفي البعض الآخر واقعياً.

وهذا البيان إنّما يتم إذا كان الاجمال والتردد بين الرفع الواقعي والظاهري من ناحية الاجمال في المراد من الرفع مع ظهور الحديث في وجود رفع في موارد


الشك وعدم العلم وامّا إذا كان الاجمال في دلالة الحديث وظهوره في أنّ المراد من الموصول المشكوك بالعرض ليكون الرفع واقعياً أو نفس الشك وعدم العلم ليكون المرفوع حكمه وهو ايجاب الاحتياط فالشك المذكور لا يمكن رفعه بأصالة عدم التخصيص ؛ لأنّه لا يثبت ما هو المدلول الاستعمالي للفظ بل هو في طول تعيينه في المرتبة السابقة ، فإنّه إذا كان الرفع مسنداً إلى نفس الحكم الواقعي المشكوك بالعرض فيقطع بالتخصيص وإلاّ فيقطع بالاطلاق والتخصيص ، وبأصالة الإطلاق لا يمكن اثبات انّ المدلول الاستعمالي هو الثاني لا الأوّل ؛ لأنّ الإطلاق للكشف عن المراد لا لاثبات المدلول الاستعمالي.

ص ٤٢ قوله : ( المقام الثاني ... ).

هناك وجوه عديدة ذكرت لاثبات التعميم للشبهتين الموضوعية والحكمية معاً ـ كما يظهر بمراجعة كلمات المحقق الاصفهاني 1 ـ إلاّ أنّ أكثرها واضحة الضعف ، وخير ما ذكر وجهان :

الأوّل : ما أشار إليه صاحب الكفاية واختاره المحقق العراقي 1 من ارادة الحكم الفعلي الأعم من الكلي والجزئي مما لا يعلمون وهذا يصدق في الشبهتين معاً فإنّ الشبهة الموضوعية كما يكون فيه شك في العنوان الموضوعي الخارجي كالخمرية كذلك يكون فيه شك في حكمه الجزئي فإنّه يصدق عليه انّ حرمته مشكوكة فإنّ الحكم الكلي له اضافة إلى مصاديق موضوعه أيضاً فبهذا الاعتبار يصدق عليه انّ حكمه غير معلوم ، وهذا لا يفرق فيه القول بالتفكيك بين الجعل والمجعول وعدمه لأنّ عدم التفكيك إنّما هو بلحاظ مرحلة الوجود التصديقي لا التصوري.


وهذا الجواب فيه ضعفان :

أوّلهما ـ استلزام تقييد الموصول فيما لا يعلمون بالحكم بالخصوص ولا قرينة على هذا التقييد ، بل ظاهر الموصول مطلق الشيء حكماً كان أو موضوعاً.

وهذا الاشكال كان قد أورده السيد الشهيد في الدورة السابقة على هذا الوجه ولكنه انصرف عنه في هذه الدورة ، ولعلّه باعتبار أنّه بقرينة الرفع لابد من فرض تقييد على كل حال في البين إذ ليس كل ما لا يعلم مرفوعاً وإنّما الموضوع ما يكون له حكم وأثر تشريعي ولو بقرينة صدور هذا الخطاب من قبل الشارع. وعندئذٍ كما يمكن جعل الموصول مطلقاً وأخذ تقدير أو تقييد في الشيء المرفوع بأن يكون له حكم الزامي أو يكون رفعه رفعاً تشريعياً وانّ المرفوع أثره وحكمه كذلك يمكن جعل ذلك قرينة على ارادة الحكم والالزام الذي لا يعلمونه من الموصول.

ثانيهما ـ انّ هذا قد يعالج الاشكال في فقرة لا يعلمون ولكن يبقى الاشكال في صدر الحديث وهو قوله 7 رفع عن امتي تسعة فقد اضيف الرفع في اسناد واحد إلى التسعة ، ولا شك في انّ باقي التسعة يراد بالموصول فيها الفعل الخارجي والذي لا يكون اسناد الرفع اليها حقيقياً بل مجازياً.

وهذا الاشكال أيضاً قابل للدفع بأنّ المجازية بالنسبة إلى سائر الفقرات ليست في مدلول كلمة الرفع ليلزم استعماله في أكثر من معنى مثلاً ، وإنّما المجازية في الاسناد والنسبة مع استعمال الرفع في معناه الحقيقي ، وحيث انّ النسب متعددة بتعدّد الفقرات المعطوفة في الحديث فلا محذور أن يكون بعضها


حقيقياً وبعضها عنائياً من قبيل ما إذا قيل ( اسئل زيداً وعمراً والقرية ) أي أهل القرية.

نعم ، قد يقال انّ وحدة سياق الموصولات المتعددة في الفقرات التسعة في الحديث تقتضي ارادة معنى واحد منها ، وحيث أنّ المراد منها في سائر الفقرات الفعل لا الحكم المرفوع ، وأيضاً ما تقدّم في المقام السابق من استظهار فعلية الشك حتى بعد الرفع وهذا قد لا يناسب أن يراد بالموصول الحكم والذي هو المرفوع أيضاً بالحديث ، فمجموع هذه النكات قد يوجب ظهور الموصول فيما لا يعلمون أيضاً في الفعل أو الشيء الذي يقع متعلّقاً للحكم المرفوع.

الثاني : ما ذكره صاحب الكفاية من جعل التمسك باطلاق الموصول بمعنى الشيء للحكم المجهول والموضوع المجهول معاً ، ثمّ أشكل عليه بأنّ اسناد الرفع عندئذ بلحاظ الموضوع مجازي بخلاف الحكم.

واجيب على ذلك بوجوه عديدة :

منها ـ ما في الكتاب عن المحقق الاصفهاني 1 من الوجهين مع جوابهما.

ومنها ـ ما عن بعض الأعلام من انّ الرفع تشريعي وليس حقيقياً فيكون اسناد الرفع التشريعي إلى الفعلي أيضاً حقيقياً بمعنى انّ الفعل ليس موضوعاً للتشريع في اعتبار المولى.

وفيه : انّ الرفع التشريعي بهذا المعنى لا يعقل في غير الموضوع ، إذ ليس الحكم موضوعاً لأثر تشريعي فيلزم محذور الاختصاص بالشبهة الموضوعية. وبعبارة اخرى : الرفع التشريعي بمعنى عدم وقوعه موضوعاً للتشريعات في لوح


التشريع مخصوص بالموضوع ، وامّا ارتفاع نفس الحكم المشكوك فهو رفع حقيقي وهو أثر الرفع التشريعي للموضوع فيلزم اجتماع الرفع الحقيقي والتشريعي في الرفع ولهذا لو قال : لا وجوب لصلاة الجمعة لم يكن من الرفع التشريعي بل الحقيقي.

ومنها ـ ما أفاده السيد الشهيد 1 من انّ الرفع اسند مجازاً إلى غير من هو له على كل حال لعدم ارتفاع الحكم الواقعي ، فالمرفوع التبعة والمنجزية والمؤاخذة على التسعة لا نفسها سواء كان ما لا يعلم حكماً أو موضوعاً.

وفيه : أوّلاً ـ انّ أخذ التقدير بالنحو المذكور خلاف الظاهر على ما سيأتي في المقام القادم ، بل العناية مفروضة في الرفع وانّه الرفع التشريعي أو في لوح التشريع وهو لا يعقل إلاّ إذا اريد بالموصول الفعل لا الحكم كما تقدم.

وثانياً ـ انّ المؤاخذة أو التنجيز والتبعة أيضاً مضاف ومسند حقيقة إلى الحكم الذي لا يعلم به لا الموضوع الذي لا يعلم به فيلزم تقييد الموصول بالحكم الأعم من الكلي والجزئي فيما لا يعلمون مع انّه في سائر التسعة يراد منه الفعل.

وإن شئت قلت : انّ هناك مشكلتين في الحديث إحداهما انّ الرفع هل يكون واقعياً أو ظاهرياً أي رفعاً لايجاب الاحتياط والتنجز. والاخرى : انّ الرفع المذكور سواء كان واقعياً أو ظاهرياً وبأي نحو فسّرت الظاهرية اسناده في الشبهات الحكمية إلى ما لا يعلمون اسناد إلى ما يقبله حقيقة بخلاف الشبهات الموضوعية التي يكون ما لا يعلم فيها نفس الفعل وعنوانه الحقيقي ؛ لأنّ الموضوع غير قابل للرفع لا الواقعي ولا الظاهري ، فلو اريد بكون الرفع عنائي على كل حال عناية الظاهرية فهذا لا يحل الاشكال الثاني ، وإن اريد العناية في


الاسناد باعتبار عدم ارتفاع التسعة خارجاً حقيقة ، فإن كانت العناية في الرفع بأن اريد به الرفع التشريعي فهو غير معقول في الحكم المجهول وإنّما يعقل في الموضوع الخارجي ، وإن اريد الرفع الحقيقي للمؤاخذة فالمؤاخذة لا تكون على الفعل الذي لا يعلمونه والحكم الذي لا يعلمونه بل على أحدهما لا محالة.

والتحقيق في الجواب : انّ المستفاد بقرينة الرفع الامتناني ومقام التشريع المولوي أنّ النظر في العناوين التسعة جميعاً إلى ما يصدر من المكلّف مما يكون ممنوعاً ومحظوراً شرعاً لولا هذا الرفع ، وهذا يعني انّ الموصول في تمام الفقرات إنّما هو الفعل أو الترك المحظورين شرعاً بهذا العنوان الثانوي والمرفوع حكمه الشرعي وهو المحظورية امّا واقعاً أو ظاهراً ، وهذا يصدق في فقرة ما لا يعلمون أيضاً في الشبهتين الحكمية والموضوعية على حدّ واحد ، فيكون الحرام الذي لا يعلمونه ـ أي لا يعلمون انّه حرام ـ مرفوعاً عنه المؤاخذة أو مرفوعاً رفعاً تشريعاً أو مرفوعاً حكمه ، سواء كان سبب عدم العلم بالحرام عدم العلم بكبرى الحرمة ، كما في التدخين المشكوك حرمته ، أو عدم العلم بصغراها ، وعندما يكون المراد بالموصول الحرام أو الممنوع شرعاً لولا الرفع يعقل رفعه التشريعي حتى في الشبهة الحكمية ؛ لأنّ الممنوع أو الحرام عنوان للفعل ، فيكون رفعه التشريعي بمعنى عدم موضوعيته للحكم والتشريع معقولاً ، فيندفع الاشكال المتقدم برأسه.

لا يقال : الحرام الذي لا يعلم في الشبهة الحكمية إنّما هو الحرام بما هو حرام لا بما هو تدخين مثلاً ، وهذا لا يكون موضوعاً للرفع التشريعي وإنّما ما يكون موضوعاً للرفع التشريعي ذات الحرام وهو عنوان التدخين وهو ليس ما لا يعلم.


فإنّه يقال : امّا على فرض أخذ تقدير واسناد الرفع إليه فلا محذور ؛ لأنّ العقوبة والتبعة على الفعل الحرام بما هو حرام في الشبهتين معاً ، وأمّا على فرض العناية في الرفع لا الاسناد فرفع الفعل الحرام بما هو حرام تشريعي يعني رفع حرمته أيضاً ، ولا يلزم أن يكون بخصوص عناية انّ الفعل ليس متعلقاً للحكم.

ص ٤٤ قوله : ( وفيه : انّ الاختلاف في الدالّين الواقعين في سياق واحد ... ).

هذا الجواب يكفي لدفع الاشكال إذا كان الملحوظ وحدة السياق بين الموصولات في الحديث. إلاّ أنّ المظنون انّ مقصود صاحب الاشكال مطلب آخر تقريره : أنّ الرفع اسند إلى تسعة في صدر الحديث وظاهره أنّ كيفية الوضع للتسعة لولا الرفع من سنخ واحد لا سنخين ، ومن الواضح انّ وضع الحكم يختلف عن وضع الفعل ، كما انّ رفع الحكم يختلف عن رفع الموضوع ـ سواءً كان الرفع حقيقياً أو تشريعياً ـ لأنّ اضافة الفعل حتى في لوح التشريع إلى المكلف غير اضافة الحكم إليه ، فالفعل يوضع على ذمة المكلّف وعهدته أو مسؤوليته بخلاف الحكم.

وقد عبّر الشيخ 1 عن هذا الاشكال بتعبير آخر حاصله : انّ الملحوظ في الحديث رفع المؤاخذة وهي إنّما تكون على الفعل لا على الحكم فلابد وأن يكون المراد بما لا يعلمون ذلك أيضاً ، والتقرير الذي ذكرناه أولى من هذا التعبير ؛ لأنّه يتم حتى إذا لم يكن مفاد الحديث رفع خصوص المؤاخذة. ومن الواضح انّ الجواب المذكور لا يفي لحل هذا الاشكال.

والصحيح في الاجابة ما ذكرناه من انّ الموصول في ما لا يعلمون يراد به


الفعل حتى في الشبهة الحكمية ، فالفعل المحرم الذي لا يعلمه يكون مرفوعاً عن عهدة المكلّف ومسؤوليته ، سواء كان منشأ عدم علمه به الشك في الموضوع الخارجي أو في الجعل الشرعي ، فالمرفوع في الجميع يكون وضعه من سنخ واحد وهو الوضع على ذمة المكلف ومسؤوليته لولا حديث الرفع.

ص ٤٥ قوله : ( الثانية : ما أبرزه المحقق العراقي ١ من دعوى الاختصاص ... ).

عبائر المحقق المذكور في التقريرات وفي حاشيته على تقرير الكاظمي صريحة في انّه يريد اثبات التعميم لا التخصيص بالشبهة الحكمية كما انّ الدليل المذكور فيه أيضاً لا يقتضي أكثر من تخصيص الموصول بالحكم لا الاختصاص بالشبهة الموضوعية ، لأنّ الشبهة الموضوعية أيضاً فيها حكم مشكوك.

والظاهر وقوع خطأ في الكتاب ، فلعل المقصود انّ المحقق المذكور يجعل الموصول مختصاً بالحكم المجهول الأعم من الكلي والجزئي لا الموضوع ، فكأنّه يريد ابراز قرينة على تقييد الموصول بالحكم المجهول دون الموضوع المجهول فلا يشمل الشك في الموضوع في الشبهة الموضوعية وإن كان يشمل الشك في الحكم الجزئي فيها ، لأنّ الموصول لو اريد به الموضوع والفعل الخارجي فنضطر إلى أن نرتكب العناية في طرف صلته بأن يراد عدم العلم بعنوانه لا بذاته حيث انّ ذاته معلومة الصدور خارجاً فشرب هذا المائع الخارجي لا شك فيه وإنّما شك في صفة كونه خمراً وهو خلاف ظاهر اسناد عدم العلم في طرف الصلة إلى نفس الموصول ، وهذا بخلاف ما لو اريد به الحكم الأعم من الكلي والجزئي.


والصحيح جعل كلامه جواباً آخر على قرينية السياق المبرزة لاثبات الاختصاص بالشبهة الموضوعية لأنّه يصرح في تقريراته وتعليقاته على الفوائد بأنّ قرينة السياق لو سلّمت فهي توجب العناية إذ لو اريد من الموصول الفعل الذي لا يعلم فلا محالة لابد وأن يراد عدم العلم بوصفه العنواني وهو اسناد وارجاع للصلة إلى غير الموصول بخلاف ما إذا اريد به الحكم الأعم من الكلي في الشبهة الحكمية والجزئي في الشبهة الموضوعية.

وعندئذٍ يكون الجوابان من السيد الشهيد راجعين لهذا الجواب.

ص ٤٨ قوله : ( فإنّه يقال : حيث انّ أصالة عدم التقدير ... ).

كما انّ أصالة عدم التقدير يثبت سعة الإطلاق كذلك أصالة الظهور في ارادة المصداق التكويني الخارجي يثبت ضيق المراد الجدي فلا فرق من هذه الناحية ، لأنّ لوازم الاصول اللفظية حجة. على انّ تطبيق هذه الكبرى في المقام في نفسه غير تام ، إذ الشك في المراد الاستعمالي لا المدلول اللغوي والكبرى المذكورة مخصوصة بالثاني لا الأوّل لأنّ المدلول الاستعمالي مدلول تصديقي فمع الشك والتردد فيه يصبح مجملاً لا محالة.

ثمّ انّ ما ذكر في الاحتمال الثاني من ارادة النفي الحقيقي للوجود التشريعي من التسعة غير مناسب هنا أيضاً ، فإنّ هذا إنّما يناسب مورداً يراد فيه نفي المشروعية لفعل أو نفي استلزام الشريعة له ، نظير لا رهبانية في الإسلام أو لا ضرر ولا ضرار. لا ما إذا اريد نفي وجوب أو حرمة فعل أعني نفي الالزام بفعل واثبات التخفيف أو العذر فيه.

ومن هنا يكون الأنسب أن يكون الرفع بلحاظ عالم العهدة والذمة على


المكلف كما ذكرناه في الهامش وفي المطالب القادمة ، ويشهد عليه التعبير بالرفع والوضع وعن امتي ، حيث انّه ناظر إلى ما على المكلفين لا إلى التشريع ، وإلاّ كان الأنسب أن يقول في الإسلام أو الشريعة ، كما في لا رهبانية أو لا ضرر في الإسلام.

نعم ، يمكن جعل هذا أيضاً من الرفع التشريعي بمعنى انّ الرفع التشريعي تارة يكون بلحاظ لوح التشريع الاستساغي فيكون المنفي جوازه أيضاً ، واخرى بلحاظ لوح التشريع الجعلي والوضعي على ذمة المكلّف فيكون المنفي لزومه واشتغال الذمة به فقط لا أكثر ، كما في ما جعل عليكم في الدين من حرج ، فهذا أيضاً لون من ألوان الرفع الحقيقي للأمر الاعتباري التشريعي.

ص ٤٩ قوله : ( وقد ناقش المحقق النائيني ١ في شموله لذلك ....

يمكن اجابة اخرى على هذا النقاش بعدم احتمال الفرق عرفاً وفقهياً حتى إذا فرض عدم شمول الحديث بلسانه اللفظي للاضطرار إلى الترك ؛ إذ نكتة المعذرية لا تختلف بين أن يكون الاضطرار إلى فعل الحرام أو ترك واجب.

ص ٤٩ قوله : ( المورد الثاني : انّه بناءً على الاحتمال الثاني ... ).

قد فرّع في الدورة الاولى على هذا المورد نتيجة مهمة هي انّه إذا اضطر إلى ترك جزء مركّب ، فبناءً على الاحتمال الثالث يكون مفاد الحديث التعبد بتحقق الجزء وبالتالي اجزاء العمل للتقابل بين النقيضين.

وفيه : انّ العنوان المنصب عليه النفي إنّما هو عنوان وجودي هو ما يضطر إليه والمستكره عليه ، ونفيه لا يلازم التعبد بتحقق الفعل لا عقلاً وهو واضح ولا عرفاً


لأنّه قد يصحّ فيما إذا اضيف إلى الترك فقيل مثلاً لم يترك السورة وليس كذلك في لمقام. ثمّ انّ النسيان كما لا يطيقون لا يناسب الاحتمال الثالث أصلاً.

ص ٥٠ قوله : ( الجهة الثانية : في إمكان استفادة انحفاظ الملاك ... ).

استفادة انحفاظ الملاك تارة يكون على أساس التمسك بالدلالة الالتزامية في إطلاقات أدلّة الأحكام الأوّلية بعد وضوح انّ مفاد حديث الرفع ليس بأكثر من رفع الحكم الفعلي ، واخرى يكون على أساس استفادة فعلية المقتضي من نفس حديث الرفع.

والاستفادة الاولى مبنية على القول بعدم التبعية بين الدلالتين في الحجّية وعلى فرض ثبوت الإطلاق في المدلول المطابقي لأدلّة الأحكام الأولية في موارد التسعة في نفسه لولا حديث الرفع وكلا الأمرين غير تام ، فإنّ الصحيح هو التبعية في الحجّية على ما نقحناه في محله ، كما انّ بعض التسعة ببعض مراتبها لا إطلاق في أدلّة الأحكام الأولية في نفسه لها كما في الاضطرار والاكراه البالغين حدَّ العجز.

وأمّا الاستفادة الثانية فقد ذكر السيد الشهيد 1 نكتتين لتقريب دلالة الحديث على انحفاظ مقتضي الحكم في الموارد التسعة : الاولى منهما مع جوابها واضح ، وإنّما البحث في الثانية ، والتي هي نقطة مستقلة في الحديث ينبغي بحثها بقطع النظر عن هذه الجهة أيضاً.

وحاصلها : انّ التعبير بالرفع مع انّ الحكم مندفع في موارد التسعة من أوّل الشرع بأيّة مناسبة وهدف؟


وهنا كلام للميرزا 1 أضرب عن ذكره السيد 1 لوضوح جوابه فإنّه أفاد بأنّه لا فرق دقة بين الدفع والرفع ، لأنّ البقاء كالحدوث بحاجة إلى علة فلا يكون الانتفاء إلاّبرفع علة الشيء سواءً كان في مرحلة الحدوث أو البقاء.

إلاّ أنّ هذا خلط بين الواقع الخارجي والمفاهيم الذهنية ، فإنّ الأعيان والموجودات الخارجية في تحصلها الخارجي تحتاج في مرحلة بقائها إلى العلّة كحدوثها بلا فرق ؛ إلاّ أنّ هذا لا يعني عدم تعدد وتغاير مفهوم الرفع عن الدفع وانّ الأوّل منتزع عن الانتفاء بعد الحدوث بخلاف الثاني ، وهذا واضح.

وبناءً عليه لابد من انحفاظ هذه النكتة في مورد الحديث ، وعلى هذا يقال بأنّ استعمال الرفع باعتبار انحفاظ الحكم في موارد التسعة اقتضاءً وملاكاً فإنّه نحو ثبوت للشيء.

وأجاب عليه السيد الشهيد بأجوبة عديدة :

منها ـ انّه لا يتم على الاحتمال الثالث ؛ لأنّ مناسبة الرفع حينئذٍ باعتبار وجود المرفوع خارجاً وانّ الرفع تنزيلي.

وفيه : انّ تنزيلية السلب وادعائيته نسبتها إلى نكتة الدفع والرفع على حدّ سواء إذ لا يتوقف السلب التنزيلي على فرض وجود الشيء خارجاً لكي لا يناسب الدفع التنزيلي ، ونفي مطلق وجوده تنزيلاً كما في لا ربا.

ومنها ـ انّ الرفع لعله باعتبار احتمال ثبوت الأحكام حتى في موارد التسعة في بداية الشريعة.

وفيه : انّه غير محتمل بالنسبة إلى أكثر التسعة كالخطأ والنسيان والاضطرار


والاكراه ، بل وخلاف ظاهر الحديث من انّ الرفع ثابت في أصل هذه الشريعة.

ومنها ـ احتمال أن يكون الرفع باعتبار ثبوت الأحكام في الشرائع السابقة.

وفيه : انّ هذا أيضاً غير محتمل في بعض التسعة على الأقل كيف وانتفاء الحكم فيها عقلي كالخطأ والنسيان ومراتب الاضطرار والاكراه البالغة حدّ العجز. نعم ، قد يكون بعض التسعة كموارد الجهل أو بعض مراتب الاضطرار والاكراه غير منفي في الشرائع السابقة ، ومن مختصات هذه الامّة ، إلاّ انّ هذا لا يجدي لاشباع عناية الرفع إلاّ إذا جعلنا الرفع بلحاظ مجموع التسعة ومجموع مراتبها وهو خلاف الظاهر بل ظاهر الحديث انّ الرفع بلحاظ كل واحد منها ؛ ولهذا ورد في بعض الأحاديث خمسة أو أربعة أو ثلاثة من التسعة.

ومنها ـ احتمال أن يكون الرفع اثباتياً أي بلحاظ مقام الاثبات ولسان الأدلّة وانّه لولا الرفع لكان الحكم ثابتاً فيها بأدلّتها.

وفيه : مضافاً إلى انّ صرف نظر الحديث والرفع فيه من عالم الثبوت إلى عالم الاثبات ولسان الأدلّة عناية زائدة بل فائقة لا دليل عليها انّ بعض التسعة ولو ببعض مراتبها لا تكون ثابتة حتى بحسب مقام الاثبات بناءً على ما هو الصحيح من عدم إطلاق الخطابات لموارد العجز وعدم الاختيار.

والصحيح في الاجابة على هذه الشبهة أن يقال :

انّ مناسبة الرفع في الحديث من جهة ما يفترض فيه من صدور الفعل أو الترك ، أعني الارتكاب من المكلف في موارد التسعة خارجاً ، ويكون الرفع رفعاً لها عن عهدته ومسؤوليته وعاتقه ، وقد عبّر في بعض الروايات بالوضع


عنهم ، وهو أصرح في هذه المناسبة.

وإن شئت قلت : انّ المرفوع هو الفعل المحظور الذي بالارتكاب يقع على ذمّة المكلف فيرفع عن ذمّته ، بحيث لولا هذا الرفع لكان يلزمه وكان موضوعاً في عهدته ، فليست نكتة التعبير بالرفع هو ثبوت الملاك في موارد التسعة بل ما ذكرناه ؛ لأنّ ما هو سبب الادانة والمسؤولية والعهدة إنّما هو صدور الفعل والارتكاب خارجاً من المكلف.

وقد يقال : انّه يترتب على هذا التفسير اختصاص الحديث في فقرة ما لا يعلمون أيضاً بموارد صدور الفعل خارجاً عن جهالة وهذا لا إطلاق له لموارد التردد والشك حين العمل كما ذكرناه في حاشية سابقة في الكتاب.

والجواب : انّه لا موجب للاختصاص بذلك ؛ إذ لا إشكال في شموله لمن يرتكب المجهول بعد تردده ويقدم عليه وهو مساوق لرفع التنجيز والعهدة من أوّل الأمر.

ص ٥٣ قوله : ( وإن شئت قلت : انّ الحديث إنّما يجري ... ).

كأنّ المقصود انّ الالقاء في الحرام بسوء الاختيار حتى على القول بسقوط التكليف عند طروّ العجز حين الأداء بنفسه ممنوع عقلاً وقبيح كما انّه معاقب عليه شرعاً. والالقاء المذكور لم يصدر بالاضطرار فلا يكون مشمولاً للحديث وإن فرض صدور الفعل الحرام بعده اضطراراً.

وفيه : لو سلّمنا القبح المذكور فغاية هذا الوجه ثبوت العقوبة في المقام لا الآثار التحميلية الاخرى المترتبة على الفعل الحرام المأتي به خارجاً ، فإنّها


تكون مشمولة للحديث ؛ لأنّها آثار تحميلية مترتبة على الفعل في مرحلة الأداء.

على أنّ ما ذكر في نفيه غير تام لأنّ العقل يحكم بقبح نفس الفعل الصادر بسوء الاختيار واستحقاق العقوبة عليه لا على الاقدام والالقاء ونحوها من العناوين الانتزاعية وشمول الحديث باطلاقه لنفس الفعل المضطر إليه حين الأداء رافع لموضوع العقوبة المذكورة.

نعم ، قد يصح هذا الجواب في المقدمات التسبيبية في الأفعال التسبيبية كالاحراق الصادق على نفس الالقاء في النار أو الالقاء من شاهق.

فالصحيح في الجواب ما ذكر أوّلاً من انّ الاضطرار والنسيان وغيرهما من العناوين مضافة إلى المخالفة والامتثال للتكليف لأنّ هذا هو سبب المسؤولية والادانة فلابدّ وأن يصدق انّه خالف التكليف اضطراراً ، وهذا لا يصدق في المقام ، لأنّ المخالفة تنتزع من ملاحظة الفعل الخارجي بلحاظ مجموع زمان التكليف لا خصوص زمان أدائه. فإذا كان متمكناً منه في بعض الوقت ولكنه بسوء اختياره عجّز وألقى نفسه في الاضطرار أو الاكراه لا يصدق عليه انّه خالف ولم يمتثل اضطراراً أو اكراهاً.

وظاهر الحديث ولو بمناسبات الحكم والموضوع انّ المراد بالموصول هو المخالفة وعدم الامتثال الذي هو سبب الوضع والتسجيل والادانة على المكلّف.

ص ٥٣ قوله : ( الجهة الخامسة : أفاد الميرزا 1 ... ).

قد يقال انّ ظاهر الخطأ والنسيان أيضاً الفعل الصادر خطأً ونسياناً ؛ لأنّ هذه العناوين تستعمل كأوصاف للفعل الخارجي كما تشهد عليه الآية : ( لَاتُؤَاخِذْنَا إِن


نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ) ، فإنّ المؤاخذة على الفعل الواقع خارجاً لا نفس النسيان والخطأ بما هما صفتان نفسانيّتان ، فلا حاجة إلى هذه الجهة رأساً.

ص ٥٥ قوله : ( والذي ينبغي أن يقال : انّ المعذرية المستفادة من الحديث ... ).

هذه النكتة تؤكد ما ذكرناه سابقاً من انّ الحديث ناظر إلى رفع التسعة في لوح الادانة والمسؤولية بمعنى المؤاخذة لا لوح التشريع ، وبناءً عليه لا وجه لتطبيق الحديث على المعاملات لرفع آثارها بمعنى صحتها لعدم كونها مربوطة بباب الادانة والمسؤولية بهذا المعنى ، وما ذكره السيد الشهيد 1 من أخذ الاختيارية فيها لا يوجب إطلاق الحديث لمثل هذه الآثار إذا لم تكن مربوطة بباب المعذرية.

نعم ، لو كان انطباق أحد التسعة موجباً لعدم تحقق عنوان المعاملة تكويناً ، أو أي عنوان متقوّم صدقه بالاختيارية والعمد ، لم يترتب الأثر عليه على القاعدة بلا حاجة إلى حديث الرفع ، وبناءً عليه لا دلالة في الحديث على بطلان بيع المضطر إلى البيع ، أو المكره عليه. وأمّا الحكم بالبطلان في بيع المكره فمن جهة أدلّة اشتراط طيب النفس في صحة المعاملات لا حديث الرفع.

ودعوى : انّ هذا خلاف تطبيق الإمام 7 حديث الرفع على ما إذا حلف بالطلاق والعتاق مكرهاً (١) مما يعني إطلاق الحديث للمعاملات.

__________________

(١) رواية صفوان وأحمد بن محمّد بن أبي نصر عن أبي الحسن 7 في الرجل يستكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك أيلزمه ذلك؟ فقال : « لا ، قال رسول الله 6 : وضع عن امتي ما اكرهوا عليه وما لم يطيقوا وما أخطأوا ». وسائل الشيعة ٢٣ : ٢٢٦ ، ( ط ـ آل البيت ).


مدفوعة : بأنّ المذكور في مورد الروايات جعل طلاق الزوجة وعتق العبد ادانة وعقوبة على حنث الحلف واليمين ، وهذه كالكفّارات نحو عقوبة ومؤاخذة ترتفع بالاكراه أو الاضطرار ، فلا يقاس بصحة المعاملة وترتّب الآثار الوضعية والحقوقية عليها.

وإن شئت قلت : انّ المرفوع هنا تحقق حنث اليمين لكونه صادراً عن اضطرار أو اكراه.

فالحاصل : المرفوع بالحديث في موارد التسعة الآثار التي تعتبر نحو مؤاخذة وعقوبة وادانة ، وهي تترتّب على الحنث والإثم وارتكاب مخالفة للمولى لا مطلق الآثار.

والسيد الشهيد 1 في الدورة السابقة جعل الميزان كون الأثر مترتباً على الفعل المنتسب إلى المكلّف بما هو منتسب إليه ، بخلاف الآثار المترتبة على عنوان كيفما اتفق ولو من غير انتساب إلى المكلف كالنجاسة بالملاقاة ، وهو ظاهر السيد الخوئي أيضاً في بعض تقريراته ؛ ولهذا فصّل السيد الخوئي في باب قضاء الصلاة وانّه إذا كان موضوعه الفوت فلا يشمله الحديث ، أمّا إذا كان موضوعه ترك المكلّف للصلاة شمله الحديث إذا كان من موارد التسعة.

وفيه : أوّلاً ـ ورود النقض بمثل الاتلاف في باب الأمانات ، حيث لا يكون التلف فيها موجباً للضمان ، بخلاف الاتلاف حتى إذا وقع نسياناً أو اضطراراً ، وهو فعل منسوب إلى المكلف ، فينبغي أن لا يترتب فيه الضمان طبقاً لهذا الميزان ، مع انّه لا يكون مشمولاً للحديث جزماً ـ مع قطع النظر عن حيثية عدم الامتنان في رفع الضمان فيه ـ وكذلك من اضطر أو نسي فأخرج حيواناً أو نبتاً


من داخل الحرم إلى خارجه ، فإنّه يجب عليه ارجاعه إليه ، مع أنّ موضوعه الاخراج المنسوب إلى المكلف لا الخروج ، وكذلك عنوان الافطار الموجب للقضاء في الصوم ، إلى غير ذلك ، بل وضوح عدم الفرق بين أن يكون القضاء موضوعه ترك الفريضة أو فوتها في عدم شمول الحديث لمثل هذا الحكم.

وثانياً ـ عدم وضوح نكتة لهذا المعيار ، فإن كانت نكتته انّ عنوان الاضطرار والاكراه صفة للفعل المضطرّ إليه والمنتسب إلى المكلف لا مثل الملاقاة من العناوين التي ليست عناوين لفعل المكلف فهذا لئن تمّ في مثل فقرة ( ما اضطرّوا إليه وما استكرهوا عليه ) فلا يتم في فقرة ( ما لا يعلمون ) وفي النسيان ، وإن كان من جهة ما ذكره السيد الشهيد 1 في الدورة السابقة من انّ العناوين التسعة تجعل اسناد الفعل الصادر من المكلّف إلى الشخص ضعيفاً في نظر العرف فلا يترتب عليه الأثر ، فلابد وأن يكون موضوع الأثر الفعل المنتسب إلى المكلف بما هو منتسب إليه فهذا ممنوع جداً ؛ إذ الانتساب تام حتى في موارد الاضطرار أو الاكراه أو النسيان والخطأ ، ولهذا يكون القاتل خطأً قاتلاً حقيقةً.

نعم ، هذه النكتة توجب اختصاص الحديث بالفعل المنتسب إلى المكلف بما هو صادر عن اختياره وارادته ؛ ولعلّه لهذا عدل في الدورة الثانية عن جعل المعيار كون الأثر مترتباً على الفعل المنتسب إلى المكلف ، وجعل المعيار أضيق من ذلك ، بأن يكون الفعل بما هو صادر عن ارادة المكلف واختياره موضوعاً لذلك الأثر ، فإنّ العناوين المذكورة توجب ضعف الارادة والاختيارية أو زوالها بالمرّة.

إلاّ أنّ هذه النكتة أيضاً لا يمكن المساعدة عليها ، وذلك :


أوّلاً ـ انّ بعض العناوين المذكورة لا تنافي الاختيارية أصلاً ، كما في ( ما لا يعلمون ) بل والنسيان أيضاً ، خصوصاً إذا كان نسياناً للحكم لا للموضوع ، فإنّ الفعل المشكوك حكمه أيضاً يصدر عن المكلف بكامل وعيه واختياره.

وثانياً ـ انّ الأثر إذا كان مترتباً على الفعل الاختياري والعمدي كان ارتفاعه في موارد الاضطرار والاكراه والخطأ على القاعدة حتى لولا حديث الرفع ؛ لزوال قيد العمدية والاختيارية بطروّ ذلك.

وإن شئت قلت : انّ هذا من القسم الثالث المتقدم في جهة سابقة ، وهو ما إذا كان مأخوذاً في موضوع الأثر الشرعي عدم أحد العناوين التسعة ، والذي تقدّم هناك انّه لا اشكال في عدم شمول الحديث لها وعدم نظره اليها.

فالصحيح ما أشرنا إليه من انّ النكتة الملحوظة في الحديث رفع الادانة والآثار التي تكون نحو مؤاخذة وعقوبة أو تكفير ، وتبعة وهذا يناسب باب التنجيز والتعذير حتى إذا كان الفعل اختيارياً ، كما في ارتكاب الشبهات وما لا يعلمون ، فكلّ أثر لا يكون كذلك حتى إذا كان موضوعه الفعل المنتسب إلى المكلف أو الفعل الاختياري الصادر بارادته لا يرتفع بالحديث حتى إذا كان التزاماً ومسؤولية وحقّاً عليه ـ كالمعاملات ـ والله الهادي للصواب.

ص ٥٥ قوله : ( الجهة السابعة في نظرة اجمالية لتطبيق الحديث على أقسام ... ).

هذه الجهة تطبيقات لمفاد الحديث على أقسام من الحكم وقع الخلاف فيها ، وقد ذكر فيها خمسة تطبيقات :


١ ـ عدم انطباق الحديث إذا كان الاضطرار أو الاكراه أو غيرها إلى ترك واجب لا فعل حرام ، حيث قد يقال بعدم شمول الحديث له امّا بناءً على الاحتمال الثالث فبما تقدم عن الميرزا انّ لسان الحديث التعبد بالنفي لا الاثبات وفي مورد الترك يلزم أن يكون التعبد بالوضع والاثبات وامّا بناءً على الاحتمال الثاني فلأن الترك ليس موضوعاً لأثر في لوح التشريع ولا متعلقاً وإنّما المتعلق الفعل.

وفيه : أوّلاً ـ عدم صحة هذا البيان لا على الاحتمال الثالث لما تقدم فيما سبق ولا على الثاني لأنّ الأمر عرفاً بل دقة أيضاً يقتضي المنع عن ضده العام وهو الترك ، فيكون محظوراً تشريعاً.

وثانياً ـ ما تقدم من عدم احتمال الفرق في نكتة المعذرية عرفاً ولا فقهياً بين الاضطرار والعذر نحو فعل الحرام أو ترك الواجب فتتشكل دلالة التزامية عرفية للحديث حتى إذا فرض عدم شمول الإطلاق اللفظي له.

وثالثاً ـ شمول فقرة ما لا يطيقون للاضطرار إلى الترك إذا كان من جهة العجز عن الفعل أو الاكراه الشديد على تركه.

٢ ـ عدم انطباق الحديث إذا كان الاضطرار أو الاكراه إلى فعل الواجب لا تركه فلا يرفع وجوبه وكونه امتثالاً.

ووجهه المذكور في الكتاب انّ رفعه خلاف الامتنان إذ ليس في ثبوت الوجوب هنا أي تحميل على المكلّف بل بالعكس رفعه فيه مؤنة الاعادة ويمكن أن يضاف إلى ذلك انّ الحديث ناظر إلى مرحلة المعذرية ورفع الادانة فيكون موضوع الحديث المخالفة للتكليف لا الموافقة معه ، فعدم الانطباق هنا أوضح


من ذلك بحيث لا يحتاج حتى إلى نكتة الامتنانية. أي رفع التسعة في لوح تشريع المسؤولية والعهدة لا أكثر فيكون موضوعها المخالفة لما جعل شرعاً على الذمة وفعل الواجب ولو اضطراراً ليس مخالفة له.

٣ ـ عدم انطباق الحديث إذا كان الاضطرار أو الاكراه متجهاً نحو فرد الواجب البدلي أي الجامع بنحو صرف الوجود مع امكان تحقيقه ضمن فرد آخر.

وهذا واضح بناءً على الاحتمال الثاني لأنّ ما هو موضوع الأثر هو الجامع وليس المكلف مضطراً إلى تركه فيجب فعل فرد آخر ، ولكن أفاد السيد 1 انّه بناءً على الاحتمال الثالث يمكن أن يقال بالتعبد بتحقق ذلك الفرد وترتيب آثاره.

وفيه : أوّلاً ـ انّ التعبد بنفي الترك بعنوان انّه شيء اضطر إليه لا يستلزم التعبد بتحقق الفعل إذ التنزيل بأحد المتلازمين لا يستلزم التعبد بالآخر إلاّبدعوى ملازمة عرفية وهي لا تتم في الإطلاق حتى لو سلم أصلها.

وثانياً ـ ما في الهامش من انّ الفرد ليس له حكم ووجوب لكي يكون الاكراه على تركه مشمولاً للحديث أصلاً وإنّما الحكم للجامع بنحو صرف الوجود وهو لا اكراه على تركه فالاكراه أو الاضطرار إلى ترك الفرد كالاضطرار إلى ترك فعل لا حكم له في الشريعة أصلاً من حيث عدم شمول الحديث له.

٤ ـ تطبيق الحديث على الواجبات الضمنية. ولا إشكال فيه في نفسه لرفع الوجوب بالمركب إذا كان العذر في الجزء أو الشرط مستوعباً وإلاّ دخل في التطبيق السابق. وهذا المقدار لا إشكال فيه.

إلاّ انّه يقع البحث في نقطتين :


١ ـ انّه هل يجب اتيان الباقي على القاعدة.

الصحيح أن يقال : انّه في مورد ما لا يعلمون يجب الاتيان بالباقي من باب منجزية العلم الإجمالي كما سيأتي في بحث الأقل والأكثر ، وامّا في غيره فما يكون الرفع فيه واقعياً فمقتضى القاعدة عدم وجوب الباقي ؛ لأنّه وجوب واحد قد سقط ، فيحتاج ايجاب الباقي إلى دليل خاص ، كقاعدة الميسور أو الصلاة لا تسقط بحال أو غير ذلك.

وقد يتصور امكان اثبات الأمر بالباقي بتطبيق حديث الرفع على جزئية ذلك الجزء كحكم وضعي فترفع فيتم التمسك باطلاق الأمر بسائر الأجزاء فيكون الحديث مخصصاً لأدلّة الجزئية كما فيما إذا وردت رواية تدل على نفي الجزئية ورفعها في حال من الأحوال.

وفيه : أوّلاً ـ انّ الجزئية وإن فرض انها حكم شرعي عرفاً ـ وليس كذلك عقلاً ـ وقابل للرفع برفع منشئه ـ ولعله لهذا رفع السيد الشهيد اليد عن بيانه في الدورة السابقة من انّ الجزئية ليست مجعولة شرعاً وإنّما هو منتزع عقلاً ـ إلاّ انّه لا ثقل فيه ولا تحميل ، وإنّما الثقل والتحميل في التكليف ؛ ولهذا لا منّة في رفعه ، بل المنّة في اطلاقها وثبوتها في مورد العذر لاستلزامه سقوط الأمر بالمركب.

وثانياً ـ انها حكم وضعي ثابت لعنوان الاجزاء والشرائط للماهية المركبة مع قطع النظر عن انتسابه إلى المكلف أو دخل الاختيارية فيه ولا ادانة عليه وإنّما الادانة على مخالفة التكليف.

٢ ـ هل يمكن اثبات صحة الناقص ونفي وجوب القضاء بحديث الرفع؟


قد يقال بذلك بأحد تقريبين مذكورين في الكتاب ، إلاّ انّ الأوّل منهما غير صحيح حتى على القول بالاحتمال الثالث لما تقدم آنفاً. كما انّ بين الوجهين فرقاً من حيث انّ الأوّل يثبت نفي القضاء بملاك اثبات الاجتزاء والصحة للناقص بينما الثاني يجري لنفي القضاء ابتداءً ولو لم يأت بالناقص فهو نفي للقضاء مع قطع النظر عن تصحيح الناقص فينتفي القضاء حتى إذا ترك الناقص كما في موارد الاضطرار والاكراه.

والجواب عليه بنكتتين :

احداهما ـ انّ الفوت أو عدم الاتيان ملحوظان في موضوع القضاء كنتيجة أي ولو لم يكونا منسوبين إلى المكلّف أو لم يكن اختيارياً له ، وهذا هو مقصود السيد 1 من العدم المحمولي أو الفوت المسبب ولا يخلو ظاهر التعبير من تشويش في الكتاب.

الثانية ـ ما تقدم من انّ المرفوع هو الأثر الذي يكون ادانة وتبعة على الفعل أو الترك ، والقضاء ليس كذلك بل هو لتحصيل الملاك المتبقى.

٥ ـ تطبيق الحديث على المعاملات ، لرفع صحتها في موارد الاكراه لا الاضطرار ، وهنا نقض بلزوم تطبيق الاكراه على ترك المعاملة الموضوع بقاءً لبقاء الأثر السابق كالاجبار والاكراه على ترك الطلاق لمن كان يريده ؛ والجواب بالرجوع إلى النكتتين المبينتين في التطبيق السابق.

ولكن قد تقدم الاشكال في أصل صحة تطبيق الحديث على باب المعاملات حتى بلحاظ الاكراه على الفعل.


ص ٥٨ قوله : ( المقام الرابع ـ في سند الحديث ... ).

هذا الحديث الشريف منقول بطرق عديدة إلاّ انّ ما فيه فقرة ( ما لا يعلمون ) له أربعة طرق :

١ ـ مرسلة الصدوق في الفقيه كتاب الوضوء ، قال : قال الإمام الصادق 7 : « قال رسول الله 6 : رفع عن امتي تسعة ...

٢ ـ مرفوعة محمّد بن أحمد النهدي عن أبي عبد الله 7 : « وضع عن امتي تسع خصال » والمنقولة في الكافي (١).

٣ ـ الصدوق في الخصال والتوحيد عن أحمد بن محمّد بن يحيى ( وقد وقع خطأ في بعض نسخ التوحيد محمّد بن أحمد بن يحيى ) عن سعد بن عبد الله عن يعقوب بن يزيد عن حماد بن عيسى عن حريز عن أبي عبد الله 1 رفع عن امتي تسعة.

٤ ـ ما ينقله صاحب الوسائل بسنده إلى الشيخ ومنه إلى كتاب نوادر أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري عن اسماعيل الجعفي عن أبي عبد الله 7 قال : سمعته يقول : « وضع عن هذه الامّة تسعة خصال » والأولان لا اعتبار بهما ، وما ذكر في هامش الكتاب غير تام ؛ إذ ليس في كلام الصدوق ما يدلّ على انّه لا يأخذ من جوامع الحديث والرواة الذين ينقلون بعض الروايات عن أصحاب الاصول ، فلعلّ هذا قد أخذه من أحمد بن محمّد بن يحيى واعتمد عليه ، خصوصاً إذا لاحظنا انّ الحديث منقول في الخصال والتوحيد بلسان « رفع عن امتي تسعة :

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١١ ص ٢٩٥.


الخطأ والنسيان وما اكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا إليه والحسد والطيرة والتفكير في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة ». بينما في الفقيه بلسان « وضع عن امتي تسعة أشياء السهو والخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون والطيرة والحسد والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق الإنسان بشفة » وبينهما فرق من جهات عديدة كما لا يخفى. فيبقى الطريق الثالث والرابع.

والثالث فيه مشكلة أحمد بن محمّد بن يحيى العطار الذي لم يشهد الرجاليون بتوثيقه ، ويمكن توثيقه تارة بأنّه ثقة لأنّه من مشايخ الصدوق الذي يكثر عنه الروايات في كتبه جداً ويترحّم عليه كثيراً ويعتمد عليه السيرافي في كلام له معروف في بحث الرجال وعدم ذكره بالتوثيق في كتب الرجال لعله لتأخره من حيث الطبقة ووضوح وثاقته ومجموع هذه القرائن قد توجب الاطمئنان بالوثاقة بل بأعظم من ذلك.

واخرى بتطبيق نظرية التعويض بلحاظ انّ الشيخ الطوسي ينقل الحديث في التهذيب بطريقه إلى الصدوق عن أحمد بن محمّد ... الخ ، وحيث انّ الشيخ الطوسي في مشيخته وفهرسته يقول انّه يروي جميع كتب وروايات اولئك كسعد بن عبد الله ويعقوب بن يزيد وحمّاد وحريز بالطرق التي يذكرها وفيها ما يكون صحيحاً فيمكن التعويض بذلك عن هذا الطريق.

وفيه : انّ العموم الذي يذكره الشيخ في مشيخته موضوعه الروايات المنسوبة إلى كل واحد ممن يذكرهم وهذه الاضافة لا يراد بها مجرد وقوع ذلك الشخص في السند في رواية فإنّ هذا خلاف اصطلاح اضافة الرواية إلى راوٍ معين الظاهر


في اختصاصه به بنحو من الأنحاء وإلاّ لكثرت الطرق جداً ، فلابد وأن يراد بالاضافة المذكورة خصوص ما ينقله عن الإمام أو يجمعه في كتابه أو يبدأ الشيخ السند به في كتابيه التهذيب والاستبصار لا أكثر ، وليس هذا السند منها.

وأمّا الطريق الرابع ففيه اشكالان :

الأوّل ـ تردد اسماعيل الجعفي بين أسماء وعناوين عديدة لا توثيق لبعضهم والعناوين خمسة :

١ ـ اسماعيل بن جابر الجعفي : ذكره النجاشي بلا توثيق وقال انّ له كتاباً وذكر طريقه إليه صحيحاً إلى صفوان عنه.

٢ ـ اسماعيل بن جابر : ذكره الشيخ في فهرسته بلا توثيق وذكر ان له كتاباً وذكر طريقه إليه صحيحاً إلى صفوان عنه وهو نفس طريق النجاشي.

٣ ـ اسماعيل بن جابر الخثعمي الكوفي : ذكره الشيخ في رجاله مع توثيقه وانّ له كتباً وروايات يرويها عنه صفوان.

٤ ـ اسماعيل بن عبد الرحمان الجعفي : مذكور في مشيخة الصدوق في مقام ذكر طريقه إلى روايات اسماعيل الجعفي ، وذكره النجاشي بمناسبة ابن أخيه بسطام بن حصين وقال انّه وجه في أصحابنا وأبوه وعمومته وكان أوجههم اسماعيل وهم بيت في الكوفة من جعفي يقال لهم ابن أبي سبرة.

٥ ـ اسماعيل بن عبد الخالق الجعفي : ذكره الشيخ في رجاله في أصحاب السجاد 7 وذكره مع أصحاب الباقر 7 مع توصيفه بالجعفي وفي أصحاب الصادق 7 مع توصيفه بالأسدي ، وذكره البرقي في أصحاب الصادق 7 مع


توصيفه بالجعفي الكوفي ، وذكره النجاشي بلا توصيف بالجعفي وقال : وجه من وجوه أصحابنا وفقيه من فقهائنا وهو من بيت الشيعة عمومته شهاب وعبد الرحيم ووهب وأبوه عبد الخالق كلّهم ثقات رووا عن أبي جعفر 7 وأبي عبد الله 7 واسماعيل نفسه ( ثقة ) روى عن أبي عبد الله 7 وأبي الحسن 7 له كتاب رواه عنه جماعة.

وذكره الكشي مع عمومته وأبيه وفي ذيل كلامه ( كلهم فاضلون كوفيون ) وذكره الشيخ في فهرسته عنوان اسماعيل بن عبد الخالق مع ذكر طريقه إليه وهو أحد الطريقين الذين يذكره في الفهرست إلى كتاب اسماعيل بن جابر أيضاً.

وهذا الأخير لا اشكال في وثاقته على كل حال وإن كان هناك كلام في انّ توصيفه بالجعفي والأسدي معاً صحيح أو لا لأنّ الأسدي بمعنى انّه مولى بني أسد بينما الجعفي يعني انّه عربي أو انّ الصحيح هو الأسدي دون الجعفي الذي ذكره فيه البرقي والشيخ واحتمال تعدده وانّ هناك شخصين أسدي وجعفي بعيد جداً.

فالتردد المخلّ بين الأربعة الاولى وبعضهم لم يوثق. وهناك عدة وجوه للتوثيق :

الوجه الأوّل : دعوى وحدة العناوين الأربعة ، حيث انّ الخثعمي منهم موثق فيثبت توثيق اسماعيل الجعفي ، وهو بعيد بل المظنون انّ اسماعيل بن جابر ـ سواء كان ملقباً بالخثعمي كما قال الشيخ أو بالجعفي كما قال النجاشي ـ غير اسماعيل بن عبد الرحمان الجعفي يقيناً إذ هناك عدة قرائن على التعدد.

منها ـ ذكر الصدوق في المشيخة شخصين أحدهما بعنوان اسماعيل بن جابر


من دون توصيفه بالجعفي مع ذكر طريقه إليه ينتهي بصفوان بن يحيى ، والآخر بعنوان اسماعيل الجعفي وذكر طريقه إليه ( محمّد بن علي ماجيلويه رضى الله عنه عن عمه محمّد بن أبي القاسم عن أحمد بن محمّد بن خالد عن أبيه عن محمّد بن سنان وصفوان بن يحيى عن اسماعيل بن عبد الرحمن الجعفي الكوفي ).

وهذا يدلّ على تعدد الرجل وحمله على السهو وانّه ابن جابر الجعفي بعيد جداً مع تعدد الذكر والطريق ، وكذلك ذكر النجاشي بعنوان اسماعيل بن جابر الجعفي واسماعيل بن عبد الرحمن الجعفي في ترجمة ابن أخيه مع توصيفه وذكر بيته بخلاف اسماعيل بن جابر ، وذكر الكتاب لابن جابر دون ابن عبد الرحمن وكذلك الشيخ 1 مما يدلّ على التعدّد عنده أيضاً.

الوجه الثاني : دعوى وحدة الخثعمي مع الجعفي وان خثعمي تصحيف الجعفي وقد شهد الشيخ بوثاقته فتثبت وثاقة اسماعيل بن جابر.

وهذا بعيد أيضاً لأنّ الخثعي وارد في لسان بعض الروايات كما انّه وارد مع الجعفي في لسان الرجاليين فالتصحيف بعيد جداً ، بل من يراجع رجال الشيخ يكاد يطمئن بأنّ ابن جابر عنده هو الخثعمي وان ابن عبد الرحمن هو الجعفي فكأنّ الخطأ عند النجاشي. نعم ، قد يدعى الوحدة لأنّ خثعم حي في اليمن وجعف رئيس القبيلة إلاّ أنّ هذا لو تمّ يبقى الاشكال من ناحية التردد بين ابن جابر وابن عبد الرحمان الذي لم يشهد بوثاقته.

الوجه الثالث : دعوى الانصراف إلى اسماعيل بن جابر الجعفي الموثق ـ بعد فرض عدم اتحاده مع الخثعمي ـ لما ذكره النجاشي ـ في حديث الأذان الذي نقله اسماعيل الجعفي ـ هو اسماعيل بن جابر وان هذا معروف ان له كتاباً بخلاف ابن


عبد الرحمن.

وهذا أيضاً لا وجه له بعد فرض وجود اسماعيل بن عبد الرحمن الجعفي في الروايات ، وتعيين الشيخ الصدوق لاسماعيل الجعفي فيه لا في ابن جابر ، وفي الروايات الوارد امّا اسماعيل بن جابر أو اسماعيل الجعفي. نعم ، هناك رواية ينقلها الصدوق في الفقيه بعنوان اسماعيل بن جابر الجعفي في كتاب الطلاق ح (١٦١٥) ج ٣ الفقيه كما انّ هناك حديثاً ينقله في الروضة ص ٢٨٣ عن اسماعيل الجعفي ، والظاهر انّه نفسه في الص ٢٨٥ عن اسماعيل بن جابر ، إلاّ أنّ هذا المقدار لا يقتضي الانصراف.

الوجه الرابع : توثيق ابن عبد الرحمان بكلام النجاشي فإنّه دالّ عليه حيث جعله وجهاً في بيته وأقربائه الذين ذكرهم بل أوجههم ، ونقل الصدوق عنه بطريقه في المشيخة فيها بواسطة صفوان بن يحيى وهو يروي عنه في عرض محمّد بن سنان لا في طوله ليرد فيه اشكال الكتاب ، وكأنّ السيد الشهيد راجع الرسائل لا مشيخة الفقيه. نعم ، في مبدأ السند ماجيلويه الذي لم يشهد بتوثيقه ولكنه من مشايخ الصدوق 1 المعروفين.

نعم ، هنا اشكال في انّه كيف يمكن أن يروي محمّد ابن سنان وصفوان بن يحيى مباشرة عمن توفي في زمان الصادق 7 مما يعني وقوع اشكال فيما يذكره الصدوق في ابن عبد الرحمن الجعفي ، وهذا اشكال مشترك الورود سوف يأتي ، ويأتي الجواب عنه.

كما انّ اسماعيل الجعفي عند النجاشي يتوثق بنقل صفوان عنه بطريقه الصحيح ، وكذلك اسماعيل بن جابر عند الشيخ والخثعمي موثق فتثبت وثاقة


العناوين الخمسة معاً.

إلاّ أنّ هناك اشكالاً في هذا الوجه وهو كيف ينقل صفوان بن يحيى ومحمّد بن سنان عن اسماعيل بن جابر مع انّ من يجد رواياته في الفقه يجد انّه يروي عنه أمثال عبد الله بن سنان وعبد الله بن بكير ومسكان وأبان وحماد وحريز وجميل من أصحاب الصادق 7 فكيف يمكن أن ينقل عنه مثل محمّد بن سنان وصفوان ممن لم يدركوا زمان الصادق ، وكيف يعقل أن يروي عن شخص واحد طبقات مختلفة من الرواة من أصحاب الباقر والصادق إلى الكاظم والرضا : ، فإنّ هذه ظاهرة غريبة ومستبعدة.

وهذا الاشكال يمكن أن يجاب عليه بأنّ كتب واصول الأصحاب ربما كانت تصل إلى بعض الرواة بطرق قطعية متواترة ولكن من دون مشافهة وأخذ منهم مباشرة ، وبهذا يجاب عن الاشكال على طريق الصدوق إلى كتاب ابن عبد الرحمن.

الثاني ـ وهو الاشكال المهم ـ انّ أحمد بن محمّد بن عيسى قد نقل الرواية في نوادره عن اسماعيل الجعفي مباشرة ، وهذا مما يطمئن بخلافه لأنّ اسماعيل الجعفي من أصحاب الصادق ولم نجد رواية له بهذا العنوان عن أبي الحسن 7 بل رواياته امّا عن الباقر أو الصادق ، وكذلك اسماعيل بن جابر ، وكذا اسماعيل بن عبد الرحمن ؛ بل قد عرفت انّه توفي في زمن الصادق 7 ، وعندئذٍ لا يمكن أن ينقل عنه أحمد بن محمّد بن عيسى الذي يفصله عن زمان الإمام الصادق 7 أكثر من مئة عام بل نجد انّ ما ينقله أحمد من أصحاب الصادق 7 دائماً بواسطتين فكيف ينقل هنا بلا واسطة ، وملاحظة طبقة رواة روايات اسماعيل


الجعفي في الكتب الأربعة تدل على ما نقول ، فلابد من وقوع سقط في البين بل كتاب النوادر أكثر رواياته كذلك ، أي مرسلات عن الراوي المباشر للامام.

وهذا الاشكال قد يجاب عليه تارة بأن في السند تعليقاً بأن يكون قد نقله النوادر عن فضالة عن سيف بن عميرة عن اسماعيل الجعفي ، كما صنعه في البحار في مقام نقله عن النوادر.

إلاّ أنّ هذا بعيد أيضاً ، إذ ليس في الكتاب أيّة دلالة على ذلك ، بل ظاهره كغيره من مرسلات الكتاب الكثيرة ارسال الرواية عن اسماعيل الجعفي ، دون تعليق لها على ما قبله بل لا يناسب ذلك مع التعليق ، لأنّ قبله منقول عن فضالة عن سيف عن أبي بكر الحضرمي عن الصادق 7 ، فالتعبير بعده بقوله ( عن اسماعيل عن أبي جعفر 7 ) لا يناسب أن يكون عطفاً على ما سبق وتعليقاً بمقدار فضالة وسيف فقط كما لا يخفى.

ومما يؤيّد هذا المعنى اننا لا نجد لأحمد بن محمّد بن عيسى روايات اخرى ينقلها مباشرة عن كتاب اسماعيل الجعفي في الفقه كله فكيف ينقل عنه وعن غيره من الرواة المباشرين هنا بالمباشرة مع انّه في الفقه ينقل عنهم بطرقه المذكورة ، فليس ما في النوادر إلاّمن باب الارسال وحذف الأسانيد.

نعم ، قد يدعى اعتبار كتاب النوادر وكونه أصلاً معتمداً عند السابقين كما صرّح به الصدوق في مقدمة الفقيه وعند الشيخ وأساساً لو قيل بأنّ الاصول والمجاميع الحديثية كانت مقطوعة الصدور عن أصحابها واولئك أيضاً كانوا يجمعون ويسندون إلى الرواة المباشرين ما كان ثابتاً صدوره ونسبته إليهم في كتبهم واصولهم بنحو من أنحاء الشهادة الحسية أو القريبة من الحس ؛ فمثل هذه


الدعوى ليست بالبعيدة ولكنها منهج آخر يقرب من منهج المحدثين في قبول الأحاديث والروايات ، والله الهادي للصواب.

ص ٦٢ قوله : ( حديث السعة ... ).

وهو ضعيف ؛ لأنّه منقول في عوالي اللئالي عن النبي 6 انّه قال : « الناس في سعة ما لم يعلموا ».

وهو بهذه الصيغة يناسب أن تكون ( ما ) فيه مصدرية زمانية ؛ لأنّها داخلة على المضارع الداخل عليه ( لم ) والذي يكون في معنى الماضي ، فإذا لم يستظهر المصدريّة فلا أقل من الاجمال ، وعندئذٍ لا يمكن أن يستفاد منه ما يعارض دليل الاخباري بل يكون محكوماً له.

ثمّ انّ الموجود في أجود التقريرات ومصباح الاصول بيان التفصيل على عكس ما هو مذكور في الكتاب ، أي انّه على فرض كون ( ما ) موصولة يثبت الإطلاق المنافي مع دليل الاخباري ، وعلى فرض كونها مصدرية يكون مفادها مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان فتكون محكومة لدليل الاخباري. وأيّاً ما كان ينبغي ذكر الاشكال على كل من التقديرين فنقول :

امّا على تقدير كونها موصولة فقد ذكر في الكتاب أنّ مفادها رفع الضيق من ناحية الحكم الواقعي الذي لا يعلم به فلا ينافي ثبوته من ناحية حكم آخر وهو ايجاب الاحتياط.

وفيه : انّ ظاهر الحديث عندئذٍ انّ الناس في سعة الحكم المجهول ما داموا جاهلين به ، وهذا الجهل لا يرتفع بثبوت حكم آخر ، وحيث انّ ايجاب الاحتياط


حكم ظاهري طريقي ينجز الحكم الواقعي ويثبت الضيق من أجله فيكون هذا منفياً بحكم إطلاق الحديث لأنّه ينفي الضيق المضاف إلى نفس الحكم الواقعي ما دام مجهولاً ، وهذا خلاف مفاد أدلّة الاحتياط.

ولعلّ هذا هو مقصود السيد الشهيد 1 من انّ الاضافة موردية لا نشوية ، بل حتى إذا كانت الاضافة نشوية مع ذلك ليست الاضافة بمعنى رفع الضيق الناشىء من وصول الحكم والعلم به ، بل ظاهر الاضافة رفع الضيق والاهتمام والمنجزية المضافة إلى نفس الحكم الواقعي المجهول فيكون مفاد الحديث انّ الحكم الواقعي ليس بتلك المرتبة من الأهمية بحيث يحافظ عليه المولى في موارد الجهل وعدم العلم وهذا مناف لمفاد دليل الاخباري ، إذ ليس مفاده اثبات حكم آخر وإنّما مفاده ابراز أهمية الحكم الواقعي المشكوك.

وأمّا على تقدير كون ( ما ) مصدرية فقد يقال بعدم الإطلاق باعتبار أنّ مفاد الحديث عندئذٍ مفاد قبح العقاب بلا بيان ، وانّ المكلّف ما دام جاهلاً لا يعرف وظيفته وموقفه فهو معذور وموسّع عليه فيما يصدر منه من مخالفة للواقع فكأنّه ارشاد إلى المعذورية العقلائية أو العقلية المعبر عنها بقاعدة قبح العقاب بلا بيان فيكون مثل هذا المفاد محكوماً لدليل الاخباري.

وفيه : أوّلاً ـ انّ ظاهر الحديث انّ متعلق العلم إنّما هو التكليف الواقعي الذي بلحاظه يكون السعة والضيق ، فيكون مفاد الحديث انهم في سعة ما داموا لم يعلموا بالتكليف الواقعي ، وهذا معناه نفي أهمية التكليف الواقعي في موارد الشك والجهل فينافي دليل الاخباري.

وثانياً ـ مع قطع النظر عما ذكر حمل الحديث على الارشاد إلى قاعدة عقلية


أو عقلائية خلاف الظاهر فإذا صدر من الشارع ما يدلّ على البراءة كان ظاهراً في انّ ملاكات الأحكام الواقعية الالزامية غير مهمة في موارد التزاحم الملاكي ، فيكون منافياً على مفاد دليل الاحتياط.

ثمّ انّ حديث السعة موجودة في الوسائل ج ١٦ ص ٣٧٣ ط ـ ايران. وفي السند النوفلي ، فإذا قيل بصحته صحّ الحديث.

وما استشكل فيه من انّ في المورد استصحاب عدم التذكية الحاكم على البراءة ، فلابد أن يكون النظر إلى امارية سوق أو بلد المسلمين لا البراءة.

مدفوع : أوّلاً ـ بأنّ السؤال فيه لم يرد عن حكم اللحم بالخصوص بل حكم مطلق ما في السفرة من لحم وخبز وجبن مما يعني انّ السؤال عن حرمة أو حزازة ذاتية في سفرة المجوسي مع قطع النظر عن التذكية وإلاّ لخصّص السؤال باللحم ، فلعلّه كان المركوز في ذهنه حرمة سؤر الكتابي أو نجاسته بالعرض لنجاسة الكتابي ذاتاً أو عرضاً.

وثانياً ـ حمل الحديث على ارادة امارية سوق المسلمين غير عرفي لصراحته في اعطاء ضابطة كلية هي السعة ما لم يعلم الحرام.

نعم ، الاشكال فيه انّه مخصوص بالشبهات الموضوعية لعدم إطلاق لفظي فيها لأكثر من مورد الحلال المشتبه خارجاً بالحرام فتكون الرواية على وزان روايات الحلّ.

ص ٦٣ قوله : ( حديث الحجب ... ).

في سنده أبو الحسن زكريا بن يحيى وهو ان كان الواسطي فيكون ثقة وإلاّ


فيقع الاشكال في سنده أيضاً. كما انّ دلالته محل تأمل لما ذكر في الهامش ، ويؤيده الروايات الاخرى الواردة لبيان انّه ليس على الناس أن يعرفوا وإنّما عليهم أن يقبلوا إذا عرّفهم الله ، فراجع وتدبر.

ص ٦٤ قوله : ( حديث الحلية ... ).

هناك رواية اخرى غير ما ذكر في الكتاب معتبرة أيضاً ، وهي عن عبد الله بن سنان عن عبد الله بن سليمان في الجبن كل ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه ، فتدبر.

والميرزا حمل كل شيء فيه حلال وحرام على الترديد لا التقسيم بدعوى ظهور شيء في الموجود الجزئي الخارجي وهو لا يتحمل التقسيم.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ الشيء ليس ظاهراً في ذلك بل في الأعم ؛ لأنّه من الأسامي المبهمة ، ويؤيّده الرواية الاخرى لعبد الله التي ذكرناها.

وبالنسبة لرواية مسعدة يوجد تصحيف في ذكر الأمثلة في الكتاب فليصحح على ضوء الحديث في الوسائل ص ج ١٢ ص ٦٠.

كما انّ ما ذكرناه في تفسيره وفقهه في الهامش يؤيده رواية أبي الجارود ج ١٧ ص ٩١ فراجع.

كما انّ الرواية يمكن دعوى اختصاصها بالشبهة الموضوعية بقرينة الأمثلة وذكر البينة وقوله ( بعينه ) والروايات الاخرى المناظرة لها في التعبير ؛ إذ الانصاف انّ مجموع هذه النكات تصلح لسلب اطلاقها للشبهة الحكمية. وهناك روايات اخرى على الحلية في الشبهة الموضوعية وهي خارجة عن البحث.


إلاّ أنّ هناك رواية عامة للشبهتين وهي رواية أبي منذر عن أبي عبد الله 7 قال : الأشياء مطلقة ما لم يرد عليك أمر ونهي وكل شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً ما لم تعرف الحرام منه فتدعه (١).

وقد نقلها الشيخ 1 في أماليه عن الحسين بن ابراهيم القزويني عن أبي عبد الله محمّد بن وهبان عن أبي القاسم علي بن حبش عن أبو الفضل ( أو أبي المفضل ) العباس بن الحسين ( أو بن محمّد بن الحسين ) عن أبيه عن صفوان بن يحيى عن الحسين بن أبي غندر عن أبيه عن أبي عبد الله 7 ، وفي السند عدة مجاهيل منهم أبي غندر ومنهم أبو الفضل العباس وأبيه ومنهم الحسين بن ابراهيم القزويني ـ وإن كان هذا الأخير شيخ الشيخ الطوسي 1.

فلولا ضعف السند كانت دلالته واضحة لأنّها بصدرها تدل على السعة في الشبهة الحكمية التحريمية والوجوبية معاً ولا يرد فيه ما ورد على رواية كل شيء مطلق. إذ التعبير بقوله ما لم يرد عليك أمر ونهي ظاهر في عدم الوصول لا الورود ، خصوصاً مع ما في ذيله من جعل الميزان بالعلم بالحرمة الواقعية.

إلاّ أنّ هنا احتمالاً قوياً وهو أن تكون هذه الرواية جمعاً بين حديثين من قبل الراوي مصدرها هو حديث « كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » وذيلها حديث الحلّ.

ومن جملة ما استدلّ به على البراءة معتبرة عبد الأعلى : من لم يعرف شيئاً هل عليه شيء؟ قال : « لا ».

__________________

(١) جامع الأحاديث ج ١ ص ٣٢٩.


بتقريب ظهور عدم المعرفة في المقام في الطريقية أي انّه استطراق إلى الارتكاب نتيجة عدم المعرفة ، فالمسؤول عليه حكم الارتكاب والعمل لا عدم المعرفة في نفسه فيكون ظاهر الجواب لا محالة البراءة والترخيص الظاهري في الارتكاب مع الجهل. نعم ، ظاهر الحديث انّ عدم المعرفة هو الطريق المؤدي إلى الارتكاب ، فيختصّ بعدم معرفة كلا الحكمين الواقعي والظاهري معاً فلا إطلاق للحديث لموارد العلم بالحكم الظاهري دون الواقعي فيكون محكوماً لدليل الاخباري.

وفيه : انّ ظاهر النكرة في سياق النفي العموم ، أي نفي الطبيعة والذي لا يكون إلاّ بانتفاء تمام أفرادها فظاهر من لم يعرف شيئاً انّه يعرف أي شيء أي السالبة الكلية لا العموم البدلي والسالبة الجزئية ، وعندئذٍ لابد وأن يكون النظر إلى سنخ خاص من المعارف والذي قد لا يعرف الإنسان منها شيئاً أصلاً ، وليس هذا إلاّ المعارف في اصول الدين فتكون الرواية ناظرة إلى المستضعفين الجاهلين بأصل الدين وأحكامه ، ويكون المقصود عدم كونهم معاقبين بلحاظ أصل الدين والمذهب ، بل ظاهره الغافل غير الملتفت إلى الدين وأحكامه.

ومن جملة الروايات رواية بشير بن عبد الصمد : « أي امرء ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه ».

وموردها الشبهة الحكمية ؛ لأنّ السائل كان جاهلاً بحكم الإحرام وحرمة لبس المخيط في حال الإحرام وقد تمسكوا باطلاق الجهالة فيها لموارد الجهل التصديقي المجتمع مع الالتفات والتردّد ، والإمام 7 قد نفى الكفارة والمؤاخذة في ذلك فيكون الحديث باطلاقه دالاًّ على البراءة. نعم ، هي براءة محكومة


لا معارضة مع دليل الاخباري على الاحتياط لأنّ الجهالة التي تستوجب الارتكاب إنّما هو الجهالة بمجموع الحكمين معاً فلا إطلاق لها لأكثر من ذلك.

والانصاف عدم دلالة هذه الرواية على البراءة أيضاً إذ الجهالة المستلزمة لركوب المخالفة إنّما هي الجهالة المطلقة المناسبة مع الغفلة والجهل المركب لا مطلق الجهالة الشاملة للشك والتردد ، فإنّ المتردد الملتفت يتردد في الركوب لا انّه يركب المخالفة ، ويؤيده نظر الامام إلى ما بعد وقوع الارتكاب ، فلو كان المقصود جعل البراءة عند الشك كان الأولى ملاحظة حالة الجهل وانّه هل يجوز له الارتكاب ويحلّ أم لا فيقال لا بأس بأن يرتكب كما في أخبار الحلّ.

فالانصاف عدم تمامية الإطلاق المذكور في الرواية وإنّما هي ناظرة إلى حالات الغفلة والجهل المركب.

ثمّ إنّه قد يستشكل في أصل معقولية مرتبتين من البراءة احداهما موضوعها الشك في الواقع فقط والاخرى موضوعها الشك في الواقع والظاهر معاً. وذلك بأنّ لازم البراءة الثانية اختصاص وجوب الاحتياط على تقدير ثبوته واقعاً بفرض العلم به ، وهذا معناه أخذ العلم بالحكم بوجوب الاحتياط في موضوع شخصه وهو محال ، وهذا يعني انّ دليل البراءة الثانية بالملازمة ينفي وجوب الاحتياط رأساً فلا توجد إلاّبراءة واحدة ؛ نعم لو قلنا بمسلك المشهور بأنّ الأحكام الظاهرية لا ثبوت لها ولا تعارض فيما بينها بوجوداتها الواقعية لم يتم هذا الكلام إلاّ انّ المختار خلاف ذلك. ولعلّه لهذا حمل المشهور هذه الطائفة الثانية على الارشاد إلى قبح العقاب بلا بيان ، إلاّ انّ هذا الحمل غير صحيح عندنا بناءً على مسلك حق الطاعة كما هو واضح.


والجواب : اننا نقبل امكان أخذ العلم بالحكم بمعنى الجعل في موضوع نفسه ، ومثل الميرزا أيضاً يقبل معقولية ذلك ولو بمتمم الجعل ، فلا محذور ولا دلالة التزامية كذلك. نعم لازم هذا انّ دليل الاحتياطي حاكم على إطلاق دليل البراءة الثانية ، ودليل البراءة الثانية مقيّد لاطلاق دليل الاحتياطي بصورة العلم به فإنّ اطلاقه يقتضي ثبوته حتى مع الشك فيه ، إلاّ أنّ هذا الغاء لدليل البراءة الثانية ، وهذا لا محذور فيه بأن يكون أصل الدليل المحكوم مقيداً لاطلاق في الدليل الحاكم وإن كان أصل الدليل الحاكم رافعاً لموضوع إطلاق الدليل المحكوم ، فتدبر جيداً.

وقد يقال : بأنّ هذا وإن كان معقولاً ثبوتاً إلاّ انّه لغو اثباتاً حيث انّ جعل الاحتياط المشروط بوصوله لغو عرفاً ، إذ في فرض العلم بوجوب الاحتياط يتحقق الاحتياط من المكلّف حتى إذا كان علمه جهلاً مركباً ، فأي فائدة في مثل هذا الجعل ، وهذا يعني تشكل دلالة التزامية عرفية على نفي الاحتياط لا عقلية.

والجواب : انّ فائدة جعله انّه بجعله يصل إلى المكلف فيعلم به فيحتاط ، وهذا هو فائدة جعل الأحكام بصورة عامة ، فلا لغوية حتى عرفية.

نعم ، لو قيل بأنّ جعل ايجاب احتياط لو لم يصل لم يكن ملاكه فعلياً لغو عرفاً لأنّ الجعل لابد وأن يحفظ ملاكاً فعلياً لولا الجعل صحت الملازمة المذكورة.

إلاّ أنّ هذه الدعوى بلا موجب.

نعم ، لو قيل باننا لا نحتمل فقهياً جعل وجوب احتياط مشروط بالعلم به بالخصوص أو قيل بظهور أدلّة الاحتياط في خلاف ذلك ظهوراً لا يقبل رفع اليد عنه لأنّه كالصريح في انّ الملاك للاحتياط نفس الاشتباه والالتباس لا العلم


بوجوب الاحتياط أو قيل بظهور حالي في دليل جعل ايجاب الاحتياط في انّه يحفظ ملاكاً للاحتياط يكون فعلياً مع قطع النظر عن وصول الجعل والعلم به فلا محالة يقع التعارض بينه وبين دليل البراءة من النوع الثاني أيضاً فلا تتم الثمرة الثانية المذكورة في الكتاب لهذه البراءة فتدبر جيداً.

ص ٦٨ قوله : ( الثانية : ما ذكره الميرزا 1 ... ).

بل لا يلزم تحصيل حاصل أصلاً ؛ لأنّ البراءة العقلية يرتفع موضوعها عندهم على القول بها بقيام الأصل الشرعي ؛ لأنّه بيان وحجة على الترخيص ؛ وهذا جواب السيد الخوئي. نعم بناءً على ما هو الصحيح على القول بقاعدة قبح العقاب بلا بيان من انّ موضوعها عدم بيان الالزام الواقعي أو الظاهري سواء وصل بيان ظاهري على الترخيص أم لا ، لا يتم هذا لجواب ، كما انّ روح اشكال اللغوية في تحصيل الحاصل يبقى على حاله ما لم تحلّ عقدة الاشكال.

ص ٧٢ قوله : ( ٢ ـ بيان ثمرات وفوائد لجعل البراءة ... ).

هذا لازمه الالتزام بالاشكال في موارد عدم ترتب تلك الثمرات وبالتالي القول بعدم جريان البراءة الشرعية فيها ، وهو واضح البطلان بنفسه ، اللهم إلاّ أن يقال بالتزام المشهور بذلك وان الجاري فيها الاستصحاب لا البراءة.

ص ٧٣ قوله : ( وثانياً ـ لو سلمنا الحكومة ... ).

هذا الجواب غير تام لأنّ الحكومة الادعائية لا تختص بفرض التعارض ، بل كلما كان الادعاء ناظراً إلى أثر ترتب ذلك الأثر كما في الطواف صلاة.

والصحيح أن يقال بأنّ جعل العلمية والطريقية لو سلم في دليل الاستصحاب


فهو بلحاظ الآثار الطريقية للعلم لا الآثار الموضوعية أو بلحاظ الآثار الواقعية لا الأحكام الظاهرية.

ص ٧٤ قوله : ( نعم لو قيل بقيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي ... ).

بل لو قيل بأنّ حرمة الكذب موضوعها عدم المطابقة مع الواقع جرى استصحاب عدم الاباحة لنفي حرمة اسناد عدم الاباحة إلى الشارع بملاك حرمة الكذب بلا حاجة إلى القول بقيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي فيعارض استصحاب عدم الحرمة بلحاظ التأمين عن الارتكاب إذ يعلم امّا بحرمة الارتكاب أو حرمة اسناد عدم الاباحة إلى الشارع لكونه كذباً لأنّه يعلم اجمالاً بجعل الاباحة أو الحرمة للفعل المذكور بحسب الفرض فيقع التعارض بين الاستصحابين ، إذ يلزم منهما المخالفة العملية ولا تجري البراءة عن الحرمة أيضاً لنفس النكتة.

والتخلص عن هذا الاشكال يتوقف على القول بأنّ حرمة الكذب موضوعها عدم العلم لا عدم الواقع.

نعم ، بلحاظ حرمة الاسناد لا يتمّ هذا العلم الإجمالي ، إذ لا مانع من اباحة الارتكاب وجواز اسناد عدم الاباحة للشارع لأنّ موضوعه عدم الشك الحاصل بنفس التعبد الاستصحابي لا المطابقة مع الواقع ، فحتى إذا كان الفعل مباحاً واقعاً يصحّ اسناد عدم الاباحة مع فرض جريان استصحاب عدمها ، لأنّه عالم بذلك ، ولهذا انتقل السيد الشهيد في الكتاب في مقام اسقاط استصحاب عدم الاباحة بالمعارضة إلى علم اجمالي آخر وهو العلم الإجمالي بحرمة اسناد عدم الاباحة أو عدم الحرمة إلى الشارع والذي هو أثر القطع الموضوعي في الطرفين ؛ لأنّه


وإن كان يوجد لدى المكلّف علم تعبدي بعدم الاباحة وعدم التحريم معاً ـ ولا محذور فيه ، إذ ليس العلم التعبدي كالوجداني لا يتعلق بالضدين ـ إلاّ أنّه حيث يعلم اجمالاً بأنّ أحد العدمين خلاف الواقع فيكون حرمة التشريع بملاك اسناد ما يعلم بأنّه خلاف الواقع إلى الشارع ثابتاً لا محالة ؛ إذ لا شك في انّه افتراء محرم كموارد اسناد ما يعلم بأنّه خلاف الواقع تفصيلاً.

ص ٨٠ قوله : ( وهذا الكلام لا يرجع إلى محصل ... ).

وذلك لوجوه :

أوّلاً ـ بطلان المبنى من قيام الامارات والاصول المحرزة مقام القطع الموضوعي.

ثانياً ـ لو سلّم ذلك فغايته قيام الامارة مقام القطع في الطرف الذي قامت فيه فيتعبد بحصول العلم وزوال الشك فيه وهو لا يستلزم زوال العلم الإجمالي تعبداً ؛ لأنّ التعبد بأحد المتلازمين ليس تعبداً بالآخر واللازم هنا لنفس العلم التفصيلي لا للمعلوم ، فليس هو من لوازم الامارات.

وثالثاً ـ لو سلّم ذلك فموضوع المنجزية وملاكها هو عدم جريان الأصل لاستلزامه الترخيص في المخالفة القبيحة أو الممتنعة عقلاً ، وعندئذٍ إن كان المقصود من التعبد بزوال العلم الإجمالي عدم المانع عن جريان الأصل في الطرف حيث لا يؤدي إلى المخالفة ؛ لأنّ الطرف الآخر لا يجري فيه الأصل ، أو لأنّ العلم الإجمالي لا يمكن أن ينجزه ، فهذا لا يتوقف على التعبد بزوال العلم الإجمالي بل هو رجوع إلى الوجه الثاني للانحلال الحكمي التام حتى إذا لم تكن الامارة علماً تعبداً وإن كان المقصود نفي المنجزية مع قطع النظر عن ذلك واثبات


التأمين من ناحية زوال العلم الإجمالي ولو تعبداً حتى لو كان كلا طرفيه مجرىً للأصل المؤمن فهذا غير معقول ، لأنّ التعبد بزوال عنوان العلم الإجمالي لا يجدي في رفع محذور امتناع الترخيص في المخالفة القطعية وقبحه فإنّ ملاكه ليس عنوان العلم الإجمالي بل واقعه وإلاّ لجاز الترخيص في كلا طرفي العلم الإجمالي ، وهذا واضح.

ورابعاً ـ هذا لا يتمّ فيما إذا كان المنجز لبعض الأطراف أصلاً غير تنزيلي أو أصلاً عقلياً كما إذا كان الشك في الامتثال مع انّه لا اشكال في الانحلال الحكمي فيه أيضاً فلابد أن يصار إلى الوجه الثاني.

ص ٨٢ الهامش.

قد يقال : هنا بيان آخر لجريان الأصل في الفرد الطويل يتم حتى على مسلك المشهور القائل بأنّ التنافي بين الأحكام الظاهرية في مرحلة الوصول فقط وحاصله :

انّ الامارة لو قامت على ثبوت النجاسة أو الحرمة في أحد الطرفين من أوّل الأمر فهي حجة في اثبات مؤداها حتى بلحاظ الزمن السابق بحيث لو كان يترتب على ذلك لترتب بالامارة كما هو واضح ؛ وهذا يعني انّ المكلف في مرحلة البقاء حينما ينظر إلى الزمن الماضي لا يرى بحسب وظيفته الفعلية انّ حكم ذلك الزمان هو الاباحة بل التحريم وإن كان سابقاً كان يراه الاباحة وكانت الاباحة الظاهرية فعلية في حقه حقيقة نتيجة رؤيته ذلك ، إلاّ انّه الآن يرى انّه محرم عليه ظاهراً وإن كان لا أثر فعلي لهذه الرؤية ـ وهذا نظير ما يقال في الكشف الحكمي في الاجازة من الانقلاب ـ وهذا يجعل الأصل المؤمن في


الطرف الباقي ـ الفرد الطويل ـ سليماً عن المعارضة ؛ لأنّ الميزان في المعارضة بملاك العلم الإجمالي أن يرى المكلّف فعلية جريان ترخيصين في طرفين يستلزم منه المخالفة القطعية ، والمكلف لا يرى ذلك في المقام ؛ إذ لا يرى الآن انّ الطرف القصير مجرى للبراءة الظاهرية بحيث لو نقل إلى ذلك الزمان لما كان يجريها في ذاك الطرف ؛ وهذا بخلاف ما إذا تلف أحد الطرفين فإنّه بعد التلف أيضاً يرى المكلف انّ الطرف الباقي مع الطرف التالف بلحاظ ما قبل تلفه كلاهما مجرى للترخيص الظاهري حتى بلحاظ رؤيته ونظره الفعلي ، فالميزان في المعارضة والسقوط في كل زمان بالنظر الفعلي للمكلف فإن كان بحسبه توجد معارضة كان الأصل ساقطاً وإلاّ فلا.

إلاّ أنّ هذا البيان لو تمّ لجرى حتى إذا انكشف انّ أحد الطرفين كان نجساً ولو بنجاسة اخرى تفصيلاً بنحو لا يوجب انحلال العلم الإجمالي حقيقة ولا يلتزم به على ما سيأتي في محلّه.

هذا مضافاً إلى عدم تمامية أصله ، وذلك لأنّ المعارضة ليست كالمنجزية مربوطة برؤية المكلف ونظره في كل آن بل هي حقيقة واقعية قائمة بين الدلالتين أو الاطلاقين الواقعيين للدليل فكلما كان في دليل اطلاقان واقعيان لطرفي العلم الإجمالي كان بينهما معارضة ، وهذا محفوظ في المقام لأنّ المكلف حتى بعد قيام الامارة يعلم بأنّ هذا الطرف قبل قيام الامارة كان مجرىً للأصل الترخيصي وانّ قيام الامارة ليس بمعنى عدم صحّة جريانه وعدم شمول إطلاق الدليل له والمفروض اطلاقه أيضاً للفرد الطويل فيقع التعارض بينهما لأنّهما ترخيصان في مورد المخالفة القطعية. فهذا البيان غير تام.


وأمّا ما جاء في الهامش فغير تام لا لما ذكره السيد الحائري في هامش تقريراته ص ٣٨٦ من انّ هذا الأصل الترخيصي في المرحلة الثانية متوقف على الترخيص في المرحلة الاولى فيستحيل أن يكون معارضاً معه. فإنّ هذا الكلام غير تام :

أوّلاً ـ لأنّ الترخيص في المرحلة الثانية لا يتوقف إلاّعلى احتمال الترخيص والالزام في المرحلة الاولى لا على ثبوته واقعاً ليكون في طوله.

وثانياً ـ لو سلّمنا التوقف فهو متوقف على الترخيص في مورد جريانه لا في الطرف الآخر الذي يكون معارضاً معه ، فهذا الجواب غير تام.

بل الجواب على هذا الاشكال : أنّ الأصل الطولي في الطرف الذي قام فيه الامارة لا يدخل بنفسه في المعارضة مع أصالة البراءة في الطرف الآخر ، وإنّما يتعبدنا بوقوع المعارضة بين أصالة البراءة في الطرف الآخر والبراءة في مورده ؛ لأنّه أصل موضوعي أو طولي فسقوطه بالمعارضة ليس بمعنى دخوله بنفسه في المعارضة بل بمعنى عدم جريانه لأنّه يثبت مفاداً على تقدير ثبوته يكون معارضاً وساقطاً أي يكون سقوطه في طول تعارض مؤداه والمفروض انّ هذا قد انكشف خلافه وأنّه لم يكن تعارض واقعي إذ كانت الأمارة ثابتة ولا موضوع للبراءة من أوّل الأمر بناءً على مسلك الشهيد فالأصل الطولي إلى حين الجريان كان يعبدنا بوجود المعارض للبراءة في الطرف الآخر وعندما قامت الامارة انكشف عدم المعارض وامّا نفسه فلا يمكن أن يدخل طرفاً للمعارضة مع البراءة في الطرف الآخر ؛ لأنّه يثبت المعارضة بينه وبين مؤداه تعبداً فيستحيل أن يدخل في المعارضة معه ؛ لأنّه في فرض جريانه يكون قد تعبدنا بأنّ الطرف الآخر له


معارض فلا يكون للأصل في الطرف الآخر وجود وجريان لكي يتعارض مع نفس الاستصحاب والمعارضة فرع جريان الأصل الآخر حين جريان هذا الأصل.

فالحاصل يستحيل أن يعارض الاستصحاب المذكور مع ما يكون في فرض جريان الاستصحاب ساقطاً حقيقة أو تعبداً ، وهذا يعني انّ الاستصحاب الطولي يجري ويرتب أثر المعارضة بين الطرف الآخر وبين مؤداه تعبداً فلابد من رفع اليد عن البراءة في الطرف الآخر بهذا الملاك لا بملاك المعارضة مع نفس الاستصحاب الطولي فإنّه يستحيل أن يكون داخلاً في المعارضة ، فإذا انكشف الخلاف ظهر عدم المعارض من أوّل الأمر وانّ ما تعبدنا به كان خلاف الواقع.

ثمّ انّ هذا البيان فني وتام على مسلك الشهيد 1 فيما إذا علمنا بسبق الامارة وجوداً ، وامّا إذا احتملنا تأخرها فضلاً عما إذا كان مؤدى الامارة نجاسة هذا الطرف من آنِ قيامها لا من أوّل الأمر ففي مثل ذلك يتعارض الأصل الجاري في الطرف الآخر مع الأصل في الفرد القصير إذ لم ينكشف خلاف الأصل الطولي ، فلعلّ الامارة لم تكن آنذاك فيكون تعبداً بالمعارضة والسقوط من أوّل الأمر.

وكذلك لا يتمّ هذا البيان لو كان الأصل الطولي حكمياً لا موضوعياً أي يجري البراءة عن الحكم الواقعي المشكوك في مرتبة الشك في الامارة وقيام حكم ظاهري الزامي فإنّ سقوط الأصل المؤمن في الطرف الآخر يكون بالمعارضة مع الأصل الحكمي الطولي الجاري حقيقة في هذا الطرف ، فتأمل جيداً.

ثمّ انّ هذا الذي ذكره السيد الشهيد هنا مخالف لما يأتي منه في ص ٢٥٣ من الشرط الثالث للانحلال الحكمي فراجع وتأمل.


ص ٩٣ قوله : ( الاولى : انّ هذه الطائفة فرضت ثبوت الهلكة ... ).

الأولى جعل هذا هو التقريب الأساسي لاشكال المشهور على الاستدلال فإنّ الأمر بالوقوف عند الشبهة إذا كان مولوياً لا يمكن أن يعلل بالوقوع في الهلكة بمعنى العقاب لأنّه معلول للحكم المولوي وليس علّة له وإنّما يصلح أن يكون علة للأمر الارشادي.

فما يأتي بعد ذلك بعنوان : الثانية في ص ٩٤ ليس اشكالاً آخر على الاستدلال بل يصلح أن يكون جواباً على تقريب آخر للاستدلال بالحديث كما في الروايات ، وذلك بأن يقال : انّه إذا قيل مقتضى إطلاق الأمر بالوقوف عند الشبهة للشبهة البدوية بعد الفحص وجود منجز فيها أيضاً وليس هو إلاّوجوب الاحتياط الطريقي المولوي ، فيقان بأنّ هذا جوابه أنّ الإطلاق المذكور إن كان بنفسه مولوياً فهو أشبه باستعمال اللفظ في معنيين ، فإنّ الأمر امّا أن يكون ارشادياً أو مولوياً فلا يمكن أن يكون أصله ارشادياً واطلاقه مولوياً ، وإن اريد أن يكون الإطلاق كاشفاً عن أمر آخر مولوي بالملازمة في مورد الشبهة البدوية بعد الفحص فهذا إنّما يصح لو كان واقع الأمر بايجاب الاحتياط كافياً لثبوت الأمر الارشادي وليس كذلك وإنّما اللازم وصوله أو تنجزه ، فإنّ فرض وصوله في المرتبة السابقة فلا يمكن أن يكون هذا الأمر كاشفاً عنه وإن فرض عدم وصوله فلا يمكن أن يكشف عنه هذا الأمر الارشادي لأنّ وجوده الواقعي ليس لازماً له.

وإن شئت قلت : انّه لا إطلاق للأمر الارشادي المذكور إلاّلموارد تنجز التكليف في المرتبة السابقة لا أكثر لأنّه مقيد لباً وموضوعاً بمقتضى التعليل


بالوقوع في الهلكة بالشبهة التي فيها الهلكة والعقاب وهي الشبهة المنجز فيها التكليف امّا بالوصول الإجمالي أو كونها قبل الفحص.

وهناك تقريب آخر لتتميم الاستدلال وذلك بأن يقاس التعبير بأنّ الوقوف خير من الاقتحام في الهلكة بما دلّ من الروايات على بعض الأحكام الالزامية بلسان ترتيب العقاب على الفعل أو الترك ، حيث يستكشف منها بالملازمة الحرمة أو الوجوب المولويين والوصول قيد وشرط في ترتّب العقوبة فيها أيضاً فلا يمنع عن الدلالة الالتزامية على الخطاب المولوي ، فكذلك في المقام.

فالحاصل المقام كما إذا قال الاقدام في الشبهة وقوع في الهلكة والعقاب أو إذا ارتكب الشبهة دخل النار بمعنى في طول وصول هذا الحكم إليه والذي لا مانع أن يكون بنفس جعل هذا الخطاب نظير قوله : من شرب الخمر دخل النار. وهذا ما استظهره السيد الشهيد 1.

وقد أجاب عنه السيد الخوئي : بأنّ هذا يصحّ في مثال شرب الخمر ولا يصح في المقام ، لأنّ المخبر به ليس هو ترتب العقاب على الاقدام بل جملة الوقوف خير من الوقوع في الهلكة والذي يعني المفروغية عن الهلكة وفرض وجودها في المرتبة السابقة لا ارادة الاخبار عنها. ففرق بين أن تقول : إذا ارتكبت الشبهة وقعت في الهلكة أو الأخذ بالشبهة موجب للهلكة وبين أن تقول : قف عند الشبهة ، فإنّ الوقوف عندها خير من الاقتحام في الهلكة ، فإنّ هذا لسان التعليل الذي يفرض فيه المفروغية عن ثبوت العلة بقطع النظر عن الحكم المراد بيانه فيكون ظاهراً في دوران الحكم المبين مدار ثبوت العلة ، وانّه كلما دار الأمر بين الوقوع في الهلكة أو الوقوف عند الشبهة فالثاني أولى ومتعين وليس مسوقاً


لبيان ترتب الهلكة تأسيساً في الأخذ بالشبهة ليقاس بمثال ترتب العقاب على شرب الخمر.

وأجاب بعضهم أيضاً بأنّ هذا غير عرفي بأن يكون هناك أمران ارشادي وآخر مولوي يستفاد بالملازمة من جهة ترتب الهلكة. إلاّ أنّه لا وجه له.

ص ٩٤ قوله : ( وثالثاً : انّه سواء حملت هذه الروايات على القضية الخارجية ... ).

لا يحتاج إلى أخذ القيد المذكور بنحو القضية الخارجية ، بل حتى إذا كانت قيداً بنحو القضية الحقيقية مع ذلك كان إطلاق الخطاب من أجل إطلاق المكنيِّ عنه وهو ايجاب الاحتياط المجعول ، وهذا نظير الحكم الواقعي المبيّن بلسان ترتيب العقاب على مخالفته ، فإنّ أخذ الوصول في ترتب العقاب لا يستلزم أخذه في ملزومه وهو الحكم المجعول فيكون المقصود جعل ايجاب الاحتياط مطلقاً في الشبهات بلسان ترتيب العقوبة على المخالفة.

هذا إلاّ أنّ في النفس من أصل هذا البيان اشكالاً ، فإنّ لسان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة يناسب الارشاد إلى حكم عقلي كما أفاد المشهور لا ايجاب الاحتياط بلسان ترتب العقاب ، فلا يقاس ببيان الأحكام الواقعية الالزامية بذلك. ولعلّ نكتته توقف صدق تفريع العقاب في مورد الحكم الواقعي على ثبوت ذلك الالزام الواقعي وإلاّ كانت القضية كذباً وهذا بخلاف المقام فإنّ صدقها لا يتوقف على ذلك مع وجود حكم عقلي ولو في بعض الشبهات وهي الشبهات المنجزة فلا يتعين ذلك.

هذا مضافاً إلى انّه يمكن أن يقال بأنّه فرق بين أن يقال : قف عند الشبهة فإنّ


الوقوف خير من الاقتحام في الهلكة وبين أن يقال الأخذ بالشبهة موجب لدخول النار أو للهلكة ، فإنّ الثاني كالاخبار عن دخول النار بشرب الخمر مثلاً ظاهر في تأسيس الحرمة بلسان ترتب العقوبة ولو في طول الوصول. بينما الأوّل سياقه مسوق للتعليل والمفروغيّة عن ثبوت العلة في نفسها بقطع النظر عن هذا الحكم فليس الخطاب مسوقاً لتأسيس ترتب الهلكة والعقاب تعبداً ليستكشف منه جعل الحرمة المولوية بل ظاهر في دوران الحكم مدار ثبوت العلة المفروغ عنها أينما كانت كما أشار إليه السيد الخوئي 1.

ثمّ انّ بعض الأعلام أجاب عن الاستدلال بهذه الطائفة بجواب آخر هو انّ اطلاقها تشمل الشبهات الموضوعية مع وضوح عدم وجوب الاحتياط فيها حتى عند الاخباري فلابد امّا من تخصيصها أو حملها على الارشاد ، والأوّل يأباه لسان الروايات فيتعين الثاني.

وفيه : أوّلاً ـ امكان دعوى اختصاص بعضها بالشبهات الحكمية من قبيل ما ورد في ذيله « وتركك حديثاً لم تروه خير من روايتك حديثاً لم تحصه » ، وكذا ذيل مقبولة عمر بن حنظلة الظاهر في الاختصاص والنظر إلى الشبهة الحكمية.

وثانياً ـ إذا فرض انّ الروايات المذكورة كناية عن جعل ايجاب الاحتياط مطلقاً في كل شبهة بلسان ترتب العقوبة على المخالفة فلا موجب لفرض ابائها عن التخصيص فإنّ ما يأبى عنه إنّما هو الحكم العقلي الارشادي لا ايجاب الاحتياط المولوي كما هو واضح.

ص ١٠١ قوله : ( وفيه أوّلاً : قوّة احتمال رجوع الإشارة ... ).

لا يخلو من اشكال لوضوح انّ النظر لو كان إلى حرمة الاسناد بلا علم لكان


الأنسب الإشارة إلى ذلك وانّه لا ينبغي أن يفتى بلا علم مع انّه لم يذكر شيء من ذلك لا السائل ولا الإمام وإنّما فرض مجرد عدم العلم والتوقف ، على انّ الافتاء بلا علم حرام قطعي لا أنّه يجب التوقف للاحتياط فلا محالة يكون المراد بالاحتياط الاحتياط في العمل لا في الفتوى ، فالصحيح المناقشة الثانية ، ويمكن تقريبها بنحوين :

١ ـ ان ذكر « حتى تسألوا وتعلموا » في الذيل يمنع عن الإطلاق لحالة عدم امكان التوصل إلى الحكم الشرعي بعد الفحص.

٢ ـ أنّ هذا التعبير بنفسه قرينة على انّ النظر إلى تحصيل العلم ومنجزية الواقع قبل الفحص فيكون نظير أخبار وجوب التعلّم.

ص ١٠٣ قوله : ( إلاّ انّ هذا الكلام غير تام ... ).

بل تام لأنّ في أخبار البراءة ما يختص بالشبهة الحكمية ، بل لعل نظر السيد الخوئي إلى خصوص ذلك ومعه لو قيل بانقلاب النسبة أو اختصاص أدلّة البراءة بما بعد الفحص والشبهة البدوية تمّ ما ذكره السيد الخوئي ، فهذا الاشكال وكذلك ما ذكر من الوجه بصالح أخبار الاحتياط يتوقف على أن لا يكون في أخبار البراءة ما يختصّ بالشبهة الحكمية مثل حديث الحجب أو كل شيء مطلق أو غيرهما. نعم ، هناك اشكال آخر يرد على السيد الخوئي سنذكره في وجه تقديم الاستصحاب أيضاً.

ص ١٠٥ قوله : ( وثالثاً : ما تقدّم مراراً ... ).

إذا كان مقصود الميرزا انّ كل حجّية تجعل بملاك الكاشفية واحراز الواقع


تكون بنحو جعل الطريقية والعلمية لم يتجه عليه هذا الاشكال لأنّ أخبار الاحتياط لا تجعل ذلك بهذا الملاك بخلاف دليل الاستصحاب.

ويمكن أن يقال : انّ تخصيص أدلّة الاحتياط بالشبهة قبل الفحص والمقرونة بالعلم الإجمالي بحكم طرحها خصوصاً مثل المقبولة التي موردها الفحص ووصول خبرين متعارضين من دون علم اجمالي بالتكليف ، وكذلك روايات التثليث صريحة في شمول موارد عدم العلم وكون المحذور في ارتكاب الشبهة لا في ترك الفحص والتعلم ومعه لا يمكن تقديم الاستصحاب على هذه الأخبار ، بل لو تمت كانت النتيجة بالعكس. وهذا الاشكال وارد على تقديم أخبار البراءة على الاحتياط أيضاً.

ثمّ انّ للسيد الخوئي بيانات ثلاثة لتقديم أخبار البراءة على الاحتياط ذكر السيد الشهيد اثنين منها ، وثالثها حمل الأمر بالاحتياط على الاستحباب والرجحان لمكان الترخيص في أخبار البراءة الصريحة في عدم الالزام كما في سائر موارد حمل الأمر على الاستحباب بدليل الترخيص ؛ نعم روايات الهلكة كالصريح في التنجيز فلا يمكن هذا الحمل فيها ، إلاّ أنّها غير تامة دلالة لكونها ارشاد إلى موارد تنجز التكليف.

والجواب : أنّ هذا الجمع قد لا يصح في الأوامر الطريقية كما في المقام لوضوح أنّها طريق إلى تنجيز الحكم الواقعي ، وليس طلباً نفسياً لينقسم إلى الوجوب والندب الشديد والضعيف ، نعم يمكن حملها على الارشاد إلى حسن الاحتياط عقلاً ، إلاّ أنّه خلاف ظهور قوي في الخطاب الشرعي ، فليس من قبيل الحمل على الاستحباب.


ص ١٠٦ قوله : ( فإنّه يقال ... ).

انّ ما تقدم منا في هذا الصنف من أخبار الاحتياط لم يكن الاحتياط الطولي الشرعي ، بل قلنا انّ مفاده الارشاد إلى ما يحكم به العقل من لزوم مستند للتحرك والعمل والوظيفة العملية ولو أن يكون البراءة العقلية ، وهذا غير الاحتياط الشرعي الطولي ، فهي امّا أن تثبت الاحتياط في الشك في الحكم الواقعي الالزامي ـ وهو احتياط معارض مع أخبار البراءة ـ أو تكون ارشاداً إلى الحكم العقلي المذكور المورود لدليل البراءة الشرعية حتى الطولية.

ص ١٠٧ قوله : ( ومدرسة المحقق النائيني ١ علّقت ... ).

ذكر السيد الخوئي أنّ البراءة العقلية موضوعها عدم البيان والبراءة الشرعية موضوعها الشك وعدم العلم ، وكل ما يجعل فيه العلمية والطريقية كاستصحاب الحرمة يرفع ذلك بالحكومة أو الورود. ثمّ جعل مراد الشيخ من الأصل الموضوعي ما يرفع موضوع أصالة البراءة.

وهذا المطلب مضافاً إلى انّه خلاف ظاهر الشرطية التي ذكرها الشيخ ، فإنّ ظاهرها ارادة تقدم الأصل الموضوعي السببي على الحكمي المسببي بقرينة تطبيقه على أصالة عدم التذكية ، غير صحيح ؛ فإنّه مضافاً إلى ما في الكتاب يرد عليه أنّ عطف البراءة العقلية على الشرعية غير صحيح ، لأنّ ارتفاعها بالامارة أو الأصل الالزامي الشرعي وإن كان بالورود ولكنه من الواضح انّه ليس بملاك جعل العلمية في الامارة أو الأصل الالزامي ، ولهذا حتى إذا كان الأصل الشرعي الالزامي أمراً بالاحتياط أي غير محرز ولم تجعل فيه الطريقية كان وارداً على قاعدة قبح العقاب ، لأنّ المراد بالبيان في موضوعها العلم بالحكم الواقعي أو


الظاهري ، ولو كان غير محرز ولا كاشف فهذا خلط آخر في المقام لم يتعرض له الاستاذ 1.

ثمّ انّ البحث عن جريان أصالة عدم التذكية وعدمه وهو الأصل الموضوعي السببي الحاكم على أصالة البراءة في باب اللحوم ينبغي ايراده كالتالي :

انّ الثابت في باب اللحوم حرمتان : حرمة اللحم ذاتاً ، وحرمته من جهة كونه غير مذكّى. والحرمة الاولى تثبت حتى في لحم الحيوان القابل للتذكية كالوحوش والأرنب. وعندئذٍ تارة يكون الشك في الحرمة الاولى بنحو الشبهة الحكمية أو الموضوعية ، واخرى يكون الشك في الحرمة الثانية أي من جهة الشك في التذكية ، وهذا الشك أيضاً ينقسم بلحاظ قبول التذكية إلى حكمية تارة وموضوعية اخرى وإن كان بلحاظ الحرمة الثانية شبهة موضوعية في الحرمة.

والشك في الحرمة الاولى ـ أي كون الحيوان مأكول اللحم ذاتاً ـ خارج عن هذا التنبيه ، إلاّ أنّه يبحث فيه اجمالاً بأنّه إذا كانت الشبهة حكمية فإن كان عام يدل على حلية لحم كل حيوان أو حلية كل طعام إلاّما خرج بالدليل رجعنا فيه إلى العام ، وإلاّ كان المرجع استصحاب عدم جعل الحرمة أو أصالة الحل والبراءة ، وفي الشبهة الموضوعية أيضاً يرجع إلى أصالة البراءة ما لم يكن أصل موضوعي حاكم كما إذا شك في بقاء عنوان يوجب حرمة الأكل ولو مع التذكية.

وقد يجري في المقام استصحاب الحرمة الثانية حال الحياة في الشبهتين كما في الكتاب.

والجواب : أوّلاً ـ لا دليل على حرمة أكل الحيوان الحيّ من غير ناحية التذكية.


وثانياً ـ لو سلّم فهو من استصحاب القسم الثالث للكلي إلاّ إذا قيل بأنّ حرمة أكل الحي مخصوص بغير الحرام ذاتاً ، وامّا الحرام ذاتاً فليس فيه في زمن الحياة أو بعد التذكية والموت إلاّحرمة واحدة وهي الحرمة الذاتية. فيكون من القسم الثاني للكلي.

إلاّ أنّ هذا أوّلاً : لا موجب له. وثانياً : لا يكفي ، لأنّ حرمة الحيّ بعنوان الحي تكون الحياة حيثية تقييدية فيه فتكون الحرمة الكلية المستصحبة غير ثابتة لذات الحيوان على كل تقدير ، فيكون فيه اشكال تبدّل الموضوع. وثالثاً : انّ استصحاب الكلي من القسم الثاني لا يجري في الأحكام بل في الموضوعات ، لأنّه جامع بين الحكم غير القابل للتنجيز والقابل للتنجيز.

وامّا البحث عن الحرمة بملاك عدم التذكية ، فإذا كانت الشبهة حكمية وافترضنا قيام دليل على قبول كل حيوان للتذكية والحلية من ناحيتها إلاّما خرج رجعنا عند الشك بنحو الشبهة الحكمية إلى هذا العام فيثبت التذكية والحلية. وما في تقريرات السيد الخوئي من عدم جواز الرجوع إلى العام في بعض أنحاء الشبهة الحكمية لكون التذكية ليست أمراً عرفياً غير صحيح ، فإنّ الرجوع إلى العام لا يتوقف على ذلك ؛ إذ ليس التمسك بمفهوم التذكية الشرعي بل بما دلّ على حلية أكل المذبوح بالشروط المذكورة أو عنوان ما ذكّاه الذابح بمفهومه العرفي. وأغرب منه اجرائه لاستصحاب عدم التذكية مع انّه على التركيب لا معنى له ، إذ لا شك إلاّفي المفهوم على ما سيأتي.

وأمّا إذا لم يكن عموم كذلك فقد يقال بالرجوع عندئذٍ إلى استصحاب عدم التذكية حيث يشك في تحققها بفري الأوداج.


إلاّ انّ التحقيق يقتضي تنقيح أمرين :

١ ـ انّ التذكية هل هي اسم للأفعال المركبة أو لعنوان بسيط عرفي منتزع أو مسبب منها أو لعنوان شرعي مترتب عليها.

٢ ـ بناءً على كونها عنواناً بسيطاً فهل يكون عدمها المأخوذ في موضوع الحرمة مضافاً إلى ذات الحيوان أو إلى الحيوان المذبوح بما هو زاهق الروح أي بنحو الطولية تارة بنحو العدم المحمولي واخرى بنحو العدم النعتي ؛ فإن قيل في الأمر الأوّل بأنّها اسم لنفس الأعمال والشروط المركبة فلا موضوع لاستصحاب عدم التذكية ، إذ لا شك في شيء من تلك الأفعال والمركب بل بعضها مقطوع التحقق وبعضها مقطوع العدم ، وإنّما الشك في موضوعيّتها للتذكية وللحلية. نعم مفهوم اللفظ بما هو مفهوم اللفظ يشك في تحققه ، لكنه ليس موضوعاً للحكم وإنّما الموضوع واقع المفهوم لا حيثية المفهومية للفظ.

وبهذا يعرف عدم جريان الاستصحاب حتى في الشبهة المفهومية ، فالمرجع أصالة الحلّ والبراءة ، أو استصحاب عدم الحرمة ، لأنّه من الشك في مقدار الحرمة المجعولة بحسب الحقيقة.

وإن قيل بأنّ التذكية عنوان بسيط وحداني منتزع أو مترتب على الأفعال جرى استصحاب عدمها على كل حال ، لنفيه واثبات موضوع الحرمة ، غاية الأمر لابد من ملاحظة المطلب الثاني حينئذٍ ، فإن كان عدم التذكية مضافاً إلى الحيوان بنحو العدم النعتي أو المحمولي أو إلى المذبوح بنحو العدم المحمولي جرى الاستصحاب ، وكان من العدم الذي له حالة سابقة فعلية على الأوّل ومن العدم الأزلي على الثاني وإن كان عدم التذكية مضافاً إلى المذبوح بنحو العدم


النعتي أي موضوع الحرمة المذوبح المتصف بكونه غير مذكى فهذا لا حالة سابقة له ولا يمكن اثباته بالعدم المحمولي أي عدم كون الذبح مذكّى إلاّبنحو الأصل المثبت.

وحيث انّ الحلية ثبتت بعنوان ( إلاّما ذكّى ) بنحو الاستثناء والتخصيص فيكون المستظهر هو العدم المحمولي الذي هو نقيض الموضوع الخارج بالتخصيص والاستثناء لا العدم النعتي بنحو القضية المعدولة.

ولا فرق في ذلك بين أنحاء الشبهة الحكمية المذكورة في الدراسات وفي الكتاب ، أي سواء كان الشك في القابلية للتذكية أو في مانعية شيء عارض كالجلل أو في شرطية شرط كالتسمية أو الاستقبال مطلقاً أو في حال النسيان. وما عن السيد الخوئي 1 من جريان أصالة عدم المانع عند الشك في مانعية العارض كالجلل لا نفهم له معنىً ، إذ لا يوجد لدينا أصل بهذا العنوان واستصحاب عدم المانعية لا أثر له ، إذ ليست حكماً شرعياً ولا موضوعاً للتذكية ولا هي المنجزة فإنّ المنجز هو الحرمة كما هو واضح.

نعم ، لو قيل بجريان الاستصحاب التعليقي أمكن اجرائه امّا في الحلية ابتداءً بأن يقال : لو كان يذبح بالشروط قبل الجلل كان حلالاً أو في التذكية بناءً على كونها حكماً وضعياً شرعياً فيقال لو كان يذبح قبل الجلل كان مذكى فالآن كذلك ، إلاّ أنّ الصحيح عدم جريان الاستصحاب التعليقي.

وأمّا الشبهة الموضوعية للتذكية ففيها الأقسام الثلاثة المتقدمة وهي :

١ ـ احتمال طروّ المانع كالجلل.


٢ ـ احتمال كون الحيوان من الصنف الذي لا يقبل التذكية كما لو شك في كونه غنماً أو كلباً.

٣ ـ احتمال عدم تحقق بعض أفعال التذكية كالتسمية أو الاستقبال.

أمّا الأوّل : فيجري فيه استصحاب عدم تحقق الجلل المانع ، لأنّه حادث مشكوك مسبوق بالعدم ويثبت موضوع الحلية ؛ إلاّ إذا قيل بأنّ التذكية عنوان بسيط منتزع أو مترتب تكويناً على تلك الأفعال مع عدم الجلل ـ كعنوان النقاء والطيب التكويني مثلاً ـ لأنّ استصحاب عدم الجلل لا يثبت هذا العنوان التكويني إلاّبنحو الأصل المثبت ، ولا حالة سابقة لذلك العنوان قبل الذبح بحسب الفرض لتقومه بمجموع الأفعال والشروط ، فما عن السيد الخوئي من عدم الاشكال في هذا الشق على جميع التقادير في اثبات عنوان التذكية غير صحيح بل لابد وأن يرجع على هذا التقدير إلى استصحاب عدم التذكية. فتثبت الحرمة.

وأمّا الثاني : فإن فرضت التذكية فيه أمراً بسيطاً مترتباً شرعاً على الأفعال مع تلك الخصوصية المشكوكة فإن كانت الخصوصية وجودية كالغنميّة مثلاً جرى استصحاب عدم التذكية بنحو العدم الأزلي والنعتي على المبنيين المتقدمين لذلك ؛ كما يجري استصحاب عدم الغنمية الأزلي بناءً على جريانه حتى في مثل هذه العناوين الذاتية أو إذا فرضت الخصوصية غير ذاتية كالأهلية وبه يثبت عدم التذكية الموضوع للحرمة وإن كانت الخصوصية عدمية كعدم الوحشية جرى استصحاب عدم الوحشية الأزلي فتثبت التذكية فلا يجري استصحاب عدمها لكونه أصلاً موضوعياً بالنسبة إلى استصحاب عدم التذكية.


وإذا كانت التذكية عنواناً بسيطاً ولكن تكوينياً لا شرعياً جرى استصحاب عدم التذكية بنحو العدم النعتي أو الأزلي ولا أثر لاستصحاب عدم الخصوصية المشكوكة كما هو واضح. وإذا كانت التذكية عنواناً مركباً أي اسماً لنفس الأفعال مع الخصوصية المشكوكة أي موضوع الحلية مركب منها فإذا كانت الخصوصية المأخوذة في الحلية عدمية كعدم الوحشية كما إذا كان عام فوقاني يدل على قبول كل حيوان للتذكية ولحلية الأكل بذبحه إلاّما خرج كالحيوان الوحشي جرى استصحاب عدمها لاثبات التذكية والحلية بنحو العدم الأزلي فتثبت الحلية ، ولو قيل بعدم جريان الأصل في الاعدام الأزلية جرت البراءة وأصالة الحلّ.

وإن لم يثبت ذلك ولكن كانت الحرمة والمانعية أي عدم التذكية ثابتة على عناوين ثبوتية كالثعلب والوحش والكلب فأيضاً جرى استصحاب عدمها لنفي موضوع الحرمة وهو كافٍ ولا يجب اثبات موضوع الحلية ولا يجري بحسب الفرض أصالة عدم التذكية وإن كان موضوع الحلية وعدم المانعية وجودياً وموضوع الحرمة والمانعية عدمياً كما إذا قام الدليل على حلية وتذكية الحيوان الأهلي فقط جرى استصحاب عدمه وثبتت الحرمة.

وبهذا يظهر الاشكال في التعبير في الكتاب حيث جعل فيه الحكم بالحلية والتذكية مبنياً على ثبوت عموم يدل على قبول كل حيوان للتذكية إلاّما خرج فيحرز عدم عنوان الخارج بنحو العدم الأزلي مع انّه يكفي لنفي الحرمة نفي موضوعها إذا كان وجودياً ولو لم يكن عام فوقاني مثبت لتذكية كل حيوان إلاّ ما خرج.


كما انّه بناء على عدم القول بالاستصحاب في الاعدام الأزلية أيضاً المرجع أصالة الحل والبراءة. وظاهر الكتاب خلافه.

ثمّ انّ ما جاء في الكتاب من التفصيل بين الجزئية والقيدية في التذكية وانّه على التقدير الثاني يجري في الشق الثاني ( أي أخذ العنوان الوجودي كالأهلية في التذكية ) استصحاب عدم المقيد بما هو مقيد ( ص ١١٢ ) أي عدم التذكية فهذا خلف فرض التركيب فإنّ المقيد بما هو مقيد عنوان بسيط. على انّه خلاف ما يأتي في محله من رجوع التقيدات إلى التركيب.

وأمّا الثالث : فالجاري فيه استصحاب عدم الفعل المشكوك تحققه كالاستقبال فيترتب عليه عدم التذكية إذا كان عنواناً بسيطاً شرعياً مترتباً على مجموع تلك الأفعال أو كان مركباً فإنّه يكون هذا المركب موضوعاً بحسب الحقيقة للحلية ونقيضه وهو انتفاء أحدهما موضوع للحرمة وإن كان التذكية عنواناً بسيطاً تكوينياً جرى ابتداءً استصحاب عدم التذكية بنحو العدم الأزلي أو النعتي حسب المبنى المبيّن سابقاً في اضافة عدم التذكية إلى اللحم.

فعلى جميع التقادير يجري الاستصحاب لاثبات موضوع الحرمة في هذا الشق.

الخلاصة :

الشك إمّا في المانع المسبوق بالعدم كالجلل وامّا في القابلية وامّا في فعل من أفعال التذكية كالاستقبال ، وكل من هذه الأقسام الثلاثة قد تكون الشبهة فيه حكمية وقد تكون موضوعية.


والبحث عن جريان أصالة عدم التذكية فيها مبني على ملاحظة المطلب الأوّل وهو كون التذكية عبارة عن نفس الأفعال بشروطها أو عبارة عن عنوان وحداني بسيط منتزع عنها تكويناً أو مترتب عليها شرعاً. كما انّ هناك بحثاً آخر في كون استصحاب عدم التذكية على تقدير الجريان هل يكون من استصحاب العدم الأزلي ومبتنياً عليه أو لا.

وهذا ما لم يتفطن له السيد الخوئي 1. كما انّه يرد على السيد الخوئي في الأقسام الثلاثة للشبهة الموضوعية في القسم الأوّل : انّ اثبات التذكية باستصحاب عدم الجلل لا يصحّ إذا كان أمراً بسيطاً منتزعاً عن الأفعال مع عدم الجلل كعنوان النقاء والطيب العرفي إلاّعلى القول بالأصل المثبت بل يجري استصحاب عدم التذكية أي ذاك العنوان البسيط فيثبت الحرمة.

وفي القسم الثاني : انّه بناءً على التركيب يجري استصحاب عدم الخصوصية الوجودية المأخوذة في التذكية إن لم يكن عام فوقاني كالأهلية مثلاً ـ إذا كان الدليل في الشبهة الحكمية يثبت حلية كل حيوان أهلي وقابليته للتذكية فشككنا في كون الحيوان وحشياً أو أهلياً ـ فيجري استصحاب عدم الأهلية فيثبت عدم التذكية والحرمة حتى على التركيب ولا يرجع إلى أصالة الحلّ. كما لا وجه لما قاله من انّ التذكية مقطوعة.

ويرد في القسم الأوّل من الشبهة الحكمية الذي ذكره في ذيل القسم الثاني في الدراسات من أصالة عدم تحقق المانع بأنّ هذا الأصل لا أساس له إلاّ الاستصحاب التعليقي وهو ممنوع بل يجري استصحاب عدم التذكية على البساطة ويرجع إلى أصالة الحلّ أو استصحاب عدم جعل الحرمة على التركيب.


ويرد على القسم الثالث : أوّلاً ـ عدم جريان أصالة عدم التذكية بناءً على التركيب لعدم الشك إلاّفي تحقق الاسم بما هو اسم لا في تحقق المفهوم.

وثانياً ـ منع ما ذكره من عدم امكان الرجوع إلى الإطلاق.

ص ١١٧ قوله : ( امّا المقام الأوّل فالمشهور حسن الاحتياط عقلاً واستحبابه شرعاً ... ).

الأمر المولوي بالاحتياط شرعاً يتصور بأحد أنحاء ثلاثة :

١ ـ الأمر الشرعي المولوي بالاحتياط بملاك مصلحة نفسية كالتعوّد والتمرين على الامتثال ، وهذا خطاب شرعي لم يستشكل الميرزا في امكانه ، وقد يستفاد من لسان بعض أوامر الاحتياط.

٢ ـ الأمر الشرعي المولوي الطريقي كما هو في سائر الأحكام الظاهرية الكاشفة عن اهتمام المولى بملاكاته اللزومية وأرجحيّتها من الملاكات الترخيصية ودرجة الأهمية قد تكون لزومية فيكون الأمر وجوبياً ، وقد تكون أقل فيكون استحبابياً.

وهذا لا يمكن استكشافه بقانون الملازمة بين حكم العقل والشرع بل لابد فيه من خطاب شرعي ، لأنّ العقل لا علم له بما هو الأهم من ملاكات المولى في موارد التزاحم الحفظي والاشتباه ، والمدّعى استفادة ذلك من أوامر الاحتياط بعد عدم دلالتها على وجوب الاحتياط الذي هو مدّعى الاخباري.

وهذا لا يرد عليه لا اشكال اللغوية لما في الكتاب ولا اشكال الميرزا لأنّه ليس مستكشفاً بقانون الملازمة ولا مرتبطاً بملاك حكم العقل بحسن الانقياد


والاحتياط ، ولهذا يكون متعلقه وهو الاحتياط مبايناً مفهوماً وأوسع صدقاً من موضوع حكم العقل بحسن الانقياد في موارد احتمال التكليف.

٣ ـ الأمر الشرعي المولوي بملاك الحسن العقلي نظير الأمر الشرعي بالعدل بملاك حسنه العقلي. وهذا أمر مولوي نفسي ـ على تقدير ثبوته ـ وليس طريقياً فهو كالأوامر النفسية الاخرى ، غاية الأمر ملاكه الحسن لا المصلحة ، والحسن قائم في عنوان الانقياد والاحتياط سواء صادف الملاك الواقعي أم لا. وهذا هو الذي يمكن أن يدّعى ثبوته واستكشافه بقانون الملازمة وهو الذي يمكن أن يورد عليه الميرزا 1 باستحالته في الأحكام العقلية الطولية والتي هي في سلسلة معلولات الأحكام.

وهذا الاشكال غير تام في المقام أيضاً ، لأنّ وجه الاستحالة إن كان التسلسل فهذا لا يلزم في المقام كما هو واضح وإن كان هو اللغوية كما يقال في الأمر بالاطاعة وان من لا يتحرك من الحكم الشرعي الأوّل لا يتحرك من الثاني أيضاً وانّ المحرّك على كل حال هو حكم العقل بلزوم طاعة أوامر المولى فإذا لم يكن حكمه بالنسبة إلى التكليف الأوّل محركاً فلا يكون محركاً بالنسبة إلى الثاني أيضاً ، فهذا البيان لو تمّ في اطاعة الأوامر والتكاليف الواصلة فهو لا يتم هنا ، لوضوح انّ الخطاب والأمر الشرعي اليقيني ولو كان استحبابياً قد يوجب انقياد العبد وتحرّكه بخلاف الحسن العقلي المجرد عن الخطاب والارادة الشرعية ، فإنّ العبد يتحرك من ارادة المولى وطلبه الحقيقي المولوي الجزمي بخلاف الحسن العقلي وبخلاف الخطاب الشرعي الواقعي غير الجزمي ولو كان لزوميّاً فلا لغوية في البين أصلاً.


وهكذا يتضح انّه سواء كان مدرك القول باستحباب الاحتياط في الشبهات البدوية الأخبار الآمرة بالاحتياط ـ بناءً على امكان استفادة ذلك من ألسنتها ولو بقرينة أخبار البراءة ـ أو قانون الملازمة بين ما حكم به العقل حكم به الشرع لا يرد عليه اشكال الميرزا 1.

وبهذا يظهر التشويش في كلمات الأصحاب في المقام فراجع وتدبّر.

ص ١١٨ قوله : ( وهكذا يظهر عدم محذور في استفادة استحباب الاحتياط ... ).

إلاّ أنّ الانصاف انّ استفادته اثباتاً من تلك الروايات محل تأمل ؛ لأنّها جميعاً أجنبية عن ذلك ، وما يكون فيها صالحاً للاستحباب الطريقي كقوله : « أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت » حيث انّه أمر ظاهر في الطلب المولوي أيضاً تقدم عدم دلالته عليه وقوة احتمال نظره إلى لزوم حفظ الدين ومراعاته والاهتمام به.

ص ١٢٠ قوله : ( إلاّ أنّ الصحيح امكان اختيار الشق الأوّل ... ).

المقصود أنّ دليل الأمر بالاحتياط يحمل أيضاً على الاحتياط بلحاظ ما هو المأمور به لا على تفريغ الذمة واسقاط التكليف المحتمل المتوقف على قصد القربة ، وإنّما يستفاد لزوم قصد القربة بحكم العقل.

وهذا الكلام غير تام ، إذ يرد عليه :

أوّلاً ـ ما في الهامش وهو اشكال اثباتي ، وحاصله انّ الاحتياط ليس بهذا المعنى ، فإذا ورد في دليل مطلق لم يشمل المقام لا أنّه يشمله ويحمل على معنى آخر بدلالة الاقتضاء ، ولا يقاس بالأمر بالفعل بعنوانه الأولي والاتيان به بقصد


الأمر بحكم العقل ، فإنّ تعلّق الأمر بالعنوان المذكور مفروغ عنه هنا وهو لا يتوقف على شيء.

وثانياً ـ عدم شمول إطلاق الأمر بالاحتياط للعبادات المشكوكة على تقدير اشتراط قصد الأمر الجزمي في العبادة حتى لو قيل بامكان أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر ؛ وذلك لأنّه يوجد هنا محذور آخر غير لزوم الدور بلحاظ الجعل أو بلحاظ فعلية الحكم من ناحية القدرة ، الذي هو محذور عام في الأوامر التعبدية ، وحاصل هذا المحذور الآخر هو استحالة انطباق عنوان الاحتياط على الفعل بحسب نظر المكلّف ؛ لأنّه متوقف على الاتيان به بقصد أمر متعلق به ويدعو إليه وتعلق أمر به كذلك فرع انطباق عنوان الاحتياط عليه بنحو مفاد كان الناقصة ، فإذا توقف انطباق هذا العنوان عليه على الاتيان به بداعي الأمر الجزمي صار دوراً في مرحلة الموضوع واتصاف الفعل بأنّه احتياط حتى إذا فرضنا عدم اشتراط القدرة في التكليف ، فلا يرجع هذا إلى اشكال الميرزا 1.

وإن شئت قلت : فعل الاحتياط يمكن الاتيان به بقصد الأمر الجزمي المتعلق به كما في كل أمر تعبدي متعلق بفعل إلاّ أنّ الكلام في انّ هذا العنوان ليس عنواناً أولياً بل ثانوي فكيف ينطبق على الاتيان بالفعل العبادي المشكوك لكي يمكن قصد هذا الأمر الجزمي المتعلق بعنوان الاحتياط فما لم ينطبق هذا العنوان الثانوي لا يمكن الاتيان بالفعل ـ كالصلاة مثلاً ـ بداعي الأمر بالاحتياط وانطباقه عليه فرع وجود أمر يدعو إلى ذلك الفعل في المرتبة السابقة فيستحيل أن يكون ذلك نفس الأمر المتعلّق بالاحتياط ، فالدور هنا في انطباق العنوان المأمور به على الفعل لا من ناحية القدرة ليصح الجواب المذكور في محله.


وبعبارة ثالثة : انّ قصد الأمر وإن كان عنواناً ثانوياً أيضاً إلاّ انّه كان يؤخذ كجزء أو قيد للمتعلق مع كون ذات الفعل أيضاً متعلقاً للأمر ولو ضمناً ، بينما في المقام لا يكون ذات الفعل متعلقاً للأمر الجزمي حتى ضمناً وإنّما متعلقه عنوان الاحتياط ، فكيف ينطبق عنوان الاحتياط المأمور به على الفعل الأولي بنحو مفاد كان الناقصة لكي يمكن الاتيان به بداعي هذا الأمر الجزمي ، فتعلق الأمر به فرع كونه احتياطاً بنحو مفاد كان الناقصة ، وكونه احتياطاً فرع تعلّق الأمر به ، وهذا دور في أصل التعلق في عالم الجعل.

وبعبارة رابعة : لولا الأمر الاستحبابي بالاحتياط كان الأمر العبادي المحتمل ساقطاً جزماً في مورد الشك وعدم العلم بناءً على اشتراط قصد الأمر الجزمي في العبادة فلا موضوع للاحتياط وخطابات الأمر بالاحتياط لا تحقق موضوع نفسها بل في طول فعلية موضوعها ـ من غير ناحية القدرة ـ تكون فعلية. وفي المقام احتمال التكليف من قيود موضوع الأمر بالاحتياط وإن كان سبب ارتفاعه عدم القدرة على الأمر العبادي الأوّل.

ودعوى إطلاق الأمر من ناحية قيد القدرة الحاصلة في طول الأمر لا يجدي في دفع هذا الاشكال.

ص ١٢٢ قوله : ( والثاني خلاف ظاهر حال الخطاب الصادر من المولى ... ).

ليس الظهور الحالي في المولوية في الخطابات الشرعية تقتضي أكثر من هذا المقدار ، وهو التفضل على العباد بتنجيز نفس الثواب البالغ إليه وضمانه له ، فإنّ هذا ليس ثابتاً عقلاً.

والحاصل : لا يقتضي الظهور الحالي المذكور أن يكون المولى في مقام جعل


أمر واستحباب بالخصوص ، خصوصاً وأنّ النظر في هذه الروايات إلى تنجيز الثواب لا الاستحباب والطلب ، بل ولا الترغيب في الفعل بأكثر مما يقتضيه تنجيز الثواب البالغ وضمانه للمكلّف الذي التمس ذلك الثواب تفضلاً عليه.

وهذا يمكن جعله احتمالاً سادساً هو الظاهر من هذه الأحاديث وهو الارشاد إلى الحكم العقلي العملي مع التفضّل المولوي على العباد بتنجيز وضمان نفس المقدار من الثواب البالغ له.

وهذا المعنى مضافاً إلى انّه المقدار المتيقن من منطوق هذه الروايات بحيث استفادة الأكثر من ذلك بحاجة إلى دلالة وعناية ولا دالّ عليها لا لفظي ولا حالي ، هو المناسب مع الاعتبارات التشريعية لاستبعاد ارادة جعل استحباب نفسي أو طريقي بهذا العرض العريض في مورد كل خبر ضعيف وكل ابلاغ مهما كان واهياً على استحباب الأفعال وبنحو القضية الحقيقية كما هو ظاهر بعضها مثل رواية محمّد بن مردان عن أبي جعفر 7 « من بلغه من الله ثواب على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب اوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه » (١).

ص ١٢٥ قوله : ( وثانياً : انّ ترتب الثواب إن كان من باب التفضّل ... ).

فرق هذا الاشكال عن الاشكال السابق الذي ذكر في قبال التمسك باطلاق الخطاب لغير صورة الانقياد لاثبات الاستحباب والأمر المولوي ، انّ المقصود في ذلك الاشكال انّه لا إطلاق لغير صورة الانقياد ؛ لأنّ قيد الطاعة وقصد الأمر الجزمي أو الاحتمالي انقياداً مأخوذ لا محالة في ترتب الثواب ، فإذا كان لابد من

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٨٢ ، ب ١٨ من مقدّمات العبادات.


أصل هذا التقييد فلا معيّن لكون القيد مطلق قصد القربة والأمر ، لا خصوص قصد الانقياد وبلوغ ذاك الثواب ، بل لعلّ المتفاهم والأقرب مع لسان الروايات كون القيد المقدر هو قصد الانقياد بالخصوص.

والمقصود من الاشكال الثاني منع أصل الدلالة على الاستحباب بالملازمة حتى إذا فرضنا انّ المقدر قصد مطلق القربة لا خصوص الانقياد للأمر البالغ بالخبر الضعيف ؛ لأنّ نكتة استفادة الاستحباب من أدلّة ترتيب الثواب على المستحبات بالملازمة هو عدم صدق ترتب الثواب عليها ـ ولو مع أخذ قيد قصد القربة مفروغاً عنه وبنحو الشرط المقدر لترتب الثواب ـ إلاّ إذا كان قد تعلّق بها أمر ، وحيث انّه لم يؤخذ في موضوع ترتب الثواب في الخطاب إلاّذات الفعل فيستكشف تعلّق ذاك الأمر أيضاً بذات الفعل ؛ إذ لا منشأ له غير ذلك وإن كان فعلية ترتب الثواب عليه مشروطاً بقصد الأمر والقربة ، فيستفاد الاستحباب التوصلي لذلك الفعل ، وهذه النكتة لا تتم في المقام ؛ لأنّ ترتب الثواب على الثواب البالغ لا يتوقف على وجود أمر آخر ؛ لأنّه قد فرض في موضوعه بلوغ أمر ولو بخبر ضعيف ، وهو يكفي للانقياد ففرق بين ترتيب الثواب على فعل لم يفرض تعلق أمر به أصلاً وبين ترتيبه في مورد بلوغ ثواب أمر على عمل ، فالتوقف في الصدق والملازمة العقلية تام في الأوّل دون الثاني ، فلا وجه لاستكشاف تعلّق الأمر والاستحباب بذات الفعل ، فإنّ هذا يمكن أن يصدق من دون استكشاف أمر في البين كما هو واضح.

ويمكن الجواب على الاشكال الأوّل بأنّ القيد المذكور وإن كان مفروغاً عنه ومقدراً لفعلية ترتب الثواب ، إلاّ أنّ ما يقتضيه التقدير المذكور ليس بأكثر من أخذ أصل قصد قربي أو الهي في ترتب الثواب ، لا خصوص قصد الانقياد للأمر


والثواب البالغ ، والنسبة بين القيدين عرفاً نسبة الأقل إلى الأكثر في مقام التقييد ، فينفى التقييد الزائد وهو اشتراط القربة الخاصة بالاطلاق ومقدمات الحكمة.

كما انّه يمكن الجواب على الاشكال الثاني بأنّ إطلاق فعلية الثواب المترتب على العمل البالغ عليه الثواب لغير صورة قصد الانقياد يتوقف على تعلّق الأمر بذات هذا العنوان الثانوي فيدل بالملازمة على الاستحباب.

وإن شئت قلت : إذا كان الثواب مرتباً على ذات فعل سواء بعنوان أولي أو ثانوي استفيد منه تعلّق الأمر أيضاً بذات ذلك العنوان ، وإن كان فعلية الثواب عليه مشروطاً بقصد القربة أو الأمر.

اللهم إلاّ أن يقال بعدم الإطلاق المذكور في المقام ، بخلاف أدلّة سائر المستحبات التوصلية المفادة بلسان ترتيب الثواب.

وبعبارة اخرى : انّ هذه الدلالة الالتزامية العقلية من سنخ دلالة الاقتضاء التي لا يجري فيها الإطلاق ؛ لأنّه يكفي في دلالة الاقتضاء ثبوت أصل اللازم واندفاع اللغوية به ، وليس المتكلم في مقام البيان من تلك الناحية ليتم الإطلاق فيها ، وأمّا استفادة ذات العمل في سائر المقامات فباعتبار انّ ذكر الثواب كناية عن الأمر والمطلوبية فيها ، وحيث انها مرتبة على ذات الفعل فيكون كناية عن استحباب ذات الفعل أيضاً.

فالحاصل : ترتيب الثواب وحمله على ذات الفعل يخلع على الخطاب ظهوراً في انّه متعلق الأمر أيضاً ، وهذا بخلاف ترتيب الثواب على بلوغ أمر أو ثواب في المرتبة السابقة ، فإنّه لا تتم فيه لا الكنائية ولا الظهور المذكور ، فيكون مناسباً مع الارشاد إلى ثواب الانقياد ، غاية الأمر قد ضمنته هذه الروايات تفضلاً للعباد ،


وسيأتي أيضاً مزيد توضيح لعدم صحة التمسك بهذا الإطلاق في الجهة الثالثة المعقودة لحيثية اخرى من البحث.

ثمّ إنّ ما ذكر في هامش الكتاب في هذا المقام من النكتتين الاستظهاريتين غير تام ، فإنّ عنوان البلوغ لا اشكال في أخذه ولحاظه في موضوع ترتيب الثواب في هذه الروايات ، سواء كان الثواب عليه من باب الانقياد والخطاب ارشاد إلى حكم العقل بالنسبة لأصل حسن الانقياد والثواب عليه أو كان من جهة تعلّق أمر واستحباب شرعي به.

كما أنّ تغاير مقدار الثواب في مورد كل ثواب بالغ حسب ما يبلغ لا ينافي استكشاف الاستحباب النفسي للعنوان الثانوي المذكور بوجه أصلاً.

نعم ، ما ذكرناه سابقاً من استبعاد جعل استحباب نفسي بهذا العرض العريض أمر صحيح ، فيدور الأمر بين المعنى السادس الذي ذكرناه واشير إليه في ذيل الهامش أيضاً وبين الأمر الطريقي الاستحبابي ، ولكن المتعيّن هو الاحتمال السادس الذي ذكرناه ؛ لعدم شاهد على الأمر الطريقي أيضاً ـ كما أشرنا سابقاً ـ بل لا يناسبه لسان الروايات أيضاً ، فإنّ ارادة الأمر الطريقي أيضاً يناسب التعبير عنه برجاء واحتمال الاصابة ، أو حفظ الواقع المحتمل ، أو الاحتياط ونحو ذلك كما في ألسنة روايات الاحتياط ، لا التصريح بالعكس والنظر إلى فرض كذب الخبر وعدم مطابقته للواقع ، فلا تناسب تعبيرات هذه الروايات لا مع الحكم الطريقي بمعنى جعل الحجّية للخبر الضعيف ، ولا مع الحكم الطريقي بمعنى الأمر الظاهري الاستحبابي بحفظ المستحبّات البالغة عن النبي 6 ، وإنّما تناسب الاحتمال الذي ذكرناه ، والله الهادي للصواب.


ص ١٢٧ قوله : ( منها : تحقق التعارض ... ).

هذا مبني على أن لا نستظهر انصراف أخبار من بلغ إلى الموارد التي لا يعلم ولو تعبداً وبالحجة بكذب الخبر الضعيف ، ولو قلنا بعدم الانصراف فلا مانع من أن يلتزم هنا أيضاً بالاستحباب النفسي للفعل الذي أبلغه الخبر الضعيف ، حيث يحتمل صحته وجداناً ، فيكون مفاد أخبار من بلغ في خصوص المستحبات ترجيح الخبر المثبت للاستحباب حتى إذا كان ضعيفاً ، فالنتيجة واحدة على القولين إلاّمن حيث انّ الاستحباب يثبت بناءً على الحجّية بالعنوان الأولي ، وبناءً على الاستحباب النفسي بالعنوان الثانوي.

ص ١٢٧ قوله : ( ومنها : لو فرض ورود خبرين ضعيفين ... ).

بل على مسلك غير المحقّق النائيني 1 أيضاً تظهر الثمرة ؛ لأنّه لا يمكن الالتزام باستحباب العنوانين الأوليين ، لا من أجل التعارض ليقال بعدم استفادة أكثر من المدلول المطابقي ، بل للعلم بعدم أحد الاستحبابين بالعنوانين الأوليين ، وأخبار من بلغ لا تثبت استحباباً بعنوان واقعي يعلم بكذبه ولو اجمالاً ، أي لا يثبت انّ المكلّف لو فعلهما معاً امتثل مستحبين واقعيين ، بل مستحب واقعي واحد ، وهذا بخلافه على القول بالاستحباب النفسي للعنوان الثانوي.

نعم ، لو قلنا بأنّ أخبار من بلغ لا إطلاق لها لموارد العلم ولو اجمالاً بكذب الخبر الضعيف فلا يثبت بهذه الأخبار على كلا القولين في المقام إلاّمستحب واحد بالعنوان الأولي أو الثانوي لأحدهما اجمالاً لا تفصيلاً ، فلا تتم هذه الثمرة أيضاً.


ص ١٢٧ قوله : ( ومنها : لو ورد دليل على عدم استحباب عمل يضر بالنفس ... ).

إذا لم يكن هذا الدليل دالاًّ على نفي الاستحباب في العمل المضرّ بأي عنوان ، وإنّما ينفي استحبابه بالعنوان الأولي فقط من جهة الضرر ، فهذا لا يعارض أخبار من بلغ حتى على القول بالاستحباب النفسي ؛ لأنّه ثابت بالعنوان الثانوي غير المنظور إليه في الدليل النافي ، وإن كان نافياً للاستحباب بكل عنوان آخر لكونه ضررياً فترتب الثمرة المذكورة مبنية على القول باستفادة جميع آثار الحجّية من هذه الروايات للخبر الضعيف لا خصوص اثبات الاستحباب بالعنوان الأولي ، وإلاّ كان معارضاً معه ونافياً للاستحباب بالعنوان الأولي أيضاً ، فلا تثبت هذه الثمرة أيضاً.

ص ١٢٨ قوله : ( ومنها ـ لو دل خبر ضعيف على وجوب عمل ... ).

لا يقال : كيف يثبت الإطلاق في أخبار من بلغ للخبر الدال على الوجوب على القول بالاستحباب النفسي دون القول بالحجية.

فإنّه يقال : انّ مناسبات الحكم والموضوع تقتضي ذلك إذ بناءً على الأوّل يستفاد ولو بالفحوى انّ الميزان هو اطاعة النبي والتحرك من مجرد بلوغ الثواب والرجحان على فعل ، وهذا لا يفرق فيه بين الثواب على الواجب أو المستحب بخلافه على القول بجعل الحجّية ، كما انّه على القول بالأمر الطريقي بالاحتياط استحباباً أيضاً تثبت الفحوى المذكورة.

هذا ولكن على القول الآخر ـ جعل الحجّية ـ أيضاً يمكن استفادة الرجحان والمطلوبية فقط من ترتيب الثواب البالغ ؛ لأنّ الحجّية تثبتها هذه الروايات للخبر


الضعيف بمقدار اثبات أصل الثواب وترتّبه المساوق مع أصل الرجحان لا أكثر والدلالة على الثواب مدلول التزامي لدليل الوجوب وليس تحليلياً.

ص ١٢٨ قوله : ( ومنها ـ لو دل دليل على استحباب عمل مطلقاً ... ).

أخبار من بلغ تثبت المستحبات لا انها تنفيها فلا يمكن أن يستفاد من مفادها نفي استحباب المطلق ، بل ما ذكر في الهامش هنا صحيح من انّه سوف يأتي عدم استفادة التقييد والتخصيص بناءً على استفادة الحكم الطريقي من هذه الأخبار حتى بمعنى حجّية الخبر الضعيف وإنّما المستفاد منها اثبات الاستحباب بالعنوان الأولي الذي أبلغه الخبر الضعيف لا أكثر ، فلا تخصيص ولا تعارض بل يثبت حكمان استحبابيان أحدهما على المطلق والآخر على المقيّد بنحو تعدد الجعل ، غاية الأمر بناءً على الحجّية يكون بالعنوان الأولي ، وبناءً على الاستحباب النفسي يكون بالعنوان الثانوي ، فلا تصحّ هذه الثمرة أيضاً.

ص ١٢٩ قوله : ( الجهة الثالثة ـ في تحقيق ما اختلف فيه المحققون ... ).

ينبغي أن يقال : امّا على القول بكون الأخبار ارشاداً إلى حسن الانقياد بالأمر والثواب البالغ مع الوعد بحصول نفس الثواب تفضلاً فلا اشكال في انّ موضوع الحسن العقلي إنّما هو الانقياد للأمر المحتمل فمن دونه لا حسن ولا ثواب استحقاقي ، والمفروض عدم أمر آخر شرعي في البين ؛ نعم الوعد بالثواب التفضلي يمكن أن يكون أوسع من الاستحقاقي أي على مطلق الفعل ، إلاّ انّه لا إطلاق للأخبار على هذا التقدير لأكثر من موارد الثواب الاستحقاقي جزماً ، إذ ظاهرها التفضل بالوعد بذلك الثواب من حيث مقداره ومن حيث انّه حتى إذا لم يكن الاستحباب ثابتاً واقعاً وانّ رسول الله 6 لم يقله مع ذلك يحصل هذا


الثواب كما لو كان الاستحباب ثابتاً ومعلوماً ؛ ومن المعلوم انّه على تقدير ثبوت الاستحباب والعلم به أيضاً لا ثواب إلاّمع فرض قصد الانقياد والقربة فلا يستفاد من هذه الروايات أكثر من التفضل بالثواب على هذا التقدير.

وأمّا على القول باستفادة الحجّية للخبر الضعيف فلا ينبغي الاشكال في ثبوت الاستحباب بالعنوان الأولي وعلى نفس ما دلّت على استحبابه الرواية الضعيفة ، فإذا دلّت على استحباب العمل مطلقاً كما في المستحب التوصلي ثبت الاستحباب ، له بلا حاجة إلى قيد البلوغ فضلاً عن قيد قصد الانقياد.

وأمّا على القول باستفادة الأمر والاستحباب الطريقي للتحفظ على المستحبات الواقعية المحتملة فهذا أيضاً لا يقتضي كون الأمر تعبدياً أو مقيداً بقصد الانقياد ، وإن كان ترتب الثواب عليه منوطاً بذلك ، فإنّ الأمر الطريقي يدور مدار الأمر الواقعي المحتمل ، وإن كان يمكن في المقام اختصاصه بالاحتياط بقصد الرجاء إلاّ انّه لا موجب له والوعد بترتيب الثواب محمول عرفاً لا محالة على انّه شرط في ترتبه كما في الأمر الواقعي ، لا انّه قيد لمتعلّق الأمر الطريقي.

وأمّا على القول باستفادة الاستحباب النفسي لعنوان الفعل البالغ عليه الثواب ـ الذي هو عنوان ثانوي ـ فعندئذٍ ينفتح البحث في انّ بلوغ الثواب هل يكون مأخوذاً في موضوع الأمر الاستحبابي فحسب أو انّه قيد في متعلق الأمر الاستحبابي أيضاً ، بحيث لابد من الاتيان به بداعي بلوغ ذلك الثواب ، فإذا جاء به لا بهذا القصد بل بقصد آخر غير مربوط بالمولى لا يكون مستحباً أصلاً لا انّه يكون مستحباً ولكن لا يترتب عليه الثواب كما في سائر المستحبات التوصلية.

فأثر هذا البحث : أوّلاً ـ إطلاق الاستحباب الشرعي للعنوان الثانوي مطلقاً


ولو لم يؤت به بقصد القربة ، وعدم اطلاقه.

وثانياً ـ اشتراط خصوص قصد الانقياد والرجاء وبلوغ امتثال الأمر المحتمل وحصول الثواب البالغ عليه فلا يجزي قصد نفس هذا الاستحباب النفسي بناءً على تقييد المتعلّق بقصد بلوغ ذاك الثواب والأمر ، بل لا يمكن ذلك ؛ لأنّه متعلق بالفعل المقيّد بقصد الرجاء والانقياد للأمر الواقعي المحتمل ولم يتعلق بذات الفعل مطلقاً.

وهذا يعني انّه على القول بالتقييد يكون هذا الأمر الاستحبابي في حكم الأمر التعبدي لأنّ متعلقه مقيد بقصد القربة بنحو مخصوص وهو قصد امتثال الاستحباب الواقعي المحتمل.

وقد قرِّب التقييد تارة من باب القرينة المتصلة المانعة عن الإطلاق واخرى القرينة المنفصلة.

أمّا الاولى : فهو التعبير بقول ( فعمله ) تفريعاً على بلوغ الثواب الظاهر في كونه من التفريع على داعي العمل.

وأمّا الثانية : فهو ما جاء في روايتين من قوله 7 : فعمله التماساً لذلك الثواب أو طلباً لقول النبي 6 فيحمل المطلق لو كان على المقيد.

وهناك محاولات لدفع القرينة الاولى :

١ ـ المحاولة الاولى : أنّ التفريع ليس ظاهراً في التقييد بقصد الانقياد إلاّ إذا كان من التفريع على الداعي وهو غير ظاهر ، بل الظاهر انّه من التفريع على السبب والموجب للعمل مع بقاء العمل على إطلاقه.


وكون الثواب لا يترتب إلاّمع فرض قصد القربة والايتاء بالعمل بداعي الانقياد والطاعة للمولى فيكون قيداً لبّاً لا يستلزم تقييد موضوعه بذلك ، كما هو الحال في ترتيب الثواب على أي فعل آخر ، كما إذا قال : ( من فطّر صائماً كان له كذا من الثواب ) ، فإنّ المستفاد منه استحباب ذاك العمل مطلقاً وإن كان ترتب الثواب عليه مقيداً بفرض قصد القربة والانقياد ، فكذلك في المقام.

وهذا البيان غير تام ؛ لأنّه فرق بين سائر المستحبات وبين المقام ، فإنّ الثواب مرتّب فيها على ذات الفعل ، فيكون شاهداً على انّ الاستحباب أيضاً ثابت على ذات الفعل وإن كان فعليّة ترتب الثواب على الفعل مشروطة بقصد القربة والانقياد.

وأمّا في المقام فالثواب التفضّلي في الروايات قد رتّب على بلوغ الثواب ، أي ما فيه ثواب بالغ عن النبي 6 فيكون ما فيه الثواب موضوعاً للثواب التفضلي الذي تريد هذه الأخبار ترتيبه في المقام ، ومن الواضح انّ عنوان ما فيه ثواب مقيد ومخصوص بفرض تحقق قصد الانقياد والطاعة وليس عبارة عن ذات الفعل ليستكشف من ترتيب الثواب عليه تعلّق هذا الاستحباب أيضاً بذات الفعل ، وهذا نظير ما إذا قيل : ( من فعل ما فيه ثواب كان له عندي درهم ) ، فإنّه لا يشمل الاتيان بالمستحب التوصلي بغير قصد القربة ؛ لعدم الثواب فيه بالفعل ، وحمله على المشيرية إلى ذات المستحب الذي هو ذات الفعل خلاف الظاهر ، ولا أقل من الاجمال.

وإن شئت قلت : انّ مرجع الضمير في قوله 7 ( فعمله ) هو الثواب أي عمل الثواب وهذا لا يكون إلاّبعمل الفعل المستحب بقصد القربة والانقياد وإلاّ لم يكن


عملاً للثواب ، فإنّ هذا معناه عمل موجب الثواب وسببه بتمام أجزائه ومنها قصد القربة من باب انّ فعل السبب فعل للمسبّب. ولا أقل من الاجمال ، فلا إطلاق في هذه الروايات للعمل المأتي به لغاية دنيوية وبلا داعٍ الهي.

٢ ـ المحاولة الثانية : انّ داعي الثواب وتحصيله أعم من قصد الرجاء وانقياد الأمر الأوّل البالغ عليه الثواب أو قصد أمر مولوي آخر وهو الأمر الجزمي باستحباب العمل البالغ عليه الثواب فلا وجه لتقييده بخصوص الأوّل.

وفيه : مضافاً إلى امكان دعوى ظهور الخطاب في انّ العمل عمل للثواب البالغ وهو غير الثواب المرتّب على الاستحباب الثابت بالعنوان الثانوي بنفس هذه الأخبار فيكون ظاهراً في قصد الرجاء والتماس ذاك الثواب لو سلمنا الإطلاق من هذه الناحية مع ذلك لا يثبت استحباب مطلق الفعل حتى المأتي به بقصد غير الهي بل استحباب الفعل البالغ عليه الثواب بقيد الاطاعة وامتثال أمرٍ أولي أو ثانوي فهذا لا يثبت إطلاق متعلق الاستحباب النفسي وهو الثمرة الاولى. نعم ، هذا ينفي الثمرة الثانية.

٣ ـ المحاولة الثالثة : ما عن المحقق الاصفهاني 1 بتوضيح منا بأنّ ظاهر الحديث ترتيب نفس النتيجة والثواب الذي أبلغه الخبر الضعيف وهو الثواب على العمل مطلقاً لا العمل المقيد غاية الأمر في فرض بلوغه فالتقييد ليس بأكثر من فرض حصول البلوغ لا تقيّد العمل بأنّه من أجل البلوغ ؛ ولعلّ هذا أيضاً مقصود المحقّق الخراساني 1 من أخذ البلوغ بنحو الحيثية التعليلية لا التقييدية.

وفيه : إن اريد كونه نفس الثواب من حيث الكمية والنوعية فهذا صحيح ، إلاّ انّه لا يقتضي الإطلاق في موضوع الثواب التفضّلي وإن اريد كونه نفس الثواب


من حيث موضوعه وموجبه أيضاً فهو غير صحيح ؛ لأنّ الثواب البالغ قد رتب على ذات الفعل ، بينما الثواب المرتّب بهذه الأخبار قد رتّب على ما فيه الثواب والذي يكون قصد الانقياد أو الطاعة قيداً فيه ، فلا إطلاق في موضوع هذا الثواب التفضّلي من هذه الناحية ، وليس هو نفس موضوع الثواب البالغ.

وإن شئت قلت : كما أنّ قيد البلوغ مأخوذ في موضوع هذا الثواب التفضلي كذلك مأخوذ فيه أن يعمله المكلف بما انّه فيه الثواب والذي لا يكون إلاّمع قصد الطاعة والانقياد ، لا أنّه يعمل ذات ما فيه الثواب البالغ ولو بقصد دنيوي ولا أقل من أنّه لا ظهور في الروايات في وحدة موضوع هذا الثواب التفضّلي والاستحباب المستكشف به مع موضوع الثواب البالغ من هذه الناحية.

نعم ، بناء على استفادة حجّية الخبر الضعيف أو جعل حكم طريقي على طبق مؤدّاه يكون موضوع الأمر المولوي الثابت بالروايات حينئذٍ ذات الفعل الذي أبلغ الخبر الضعيف استحبابه ، إلاّ أنّ هذين الاحتمالين خلف المفروض في هذا البحث ، وقد ذكرنا حكمهما آنفاً.

وبما ذكرنا يظهر انّ ما ذكره السيد الشهيد تبعاً للسيد الخوئي ٠ من عدم ظهور ما ورد في بعض هذه الروايات من التعبير بالعمل التماساً لذلك الثواب أو لقول النبيي 6 في تقييد المتعلّق بالحصة الانقيادية وانّ ذلك من أجل انّ التماس الثواب شرط في ترتّب الثواب ، فلا يكون ذكره من جهة أخذه قيداً في المتعلّق ، مما لا يمكن المساعدة عليه أيضاً ، ولا أقل من الاجمال.

نعم ، الاجمال لا يفيد لحمل المطلق على المقيّد ، فلو فرض استفادة الإطلاق من بعض الروايات تمّ المطلوب حينئذٍ ، والله الهادي للصواب.


ص ١٣٣ الهامش رقم (٢).

لا صحّة لذلك أيضاً بلحاظ الفعل والترك ؛ لأنّه لا يعقل تعلّق الحب بهما معاً ، بل لابد من الكسر والانكسار في الملاك والمبادئ أيضاً ، فهذا الهامش لا وجه له.

ص ١٣٤ الهامش رقم (١).

لا وجه له إذا استظهرنا من الروايات انّ موضوعها ما إذا أمكن قصد تحصيل ذاك الثواب بالانقياد ، لا ما إذا لم يمكن كما في مورد وجود احتمال الكراهة كالاستحباب.

ص ١٣٤ الهامش رقم (٢).

هذا خلاف ما تقدم منا في الجهة الثالثة. نعم ، هو مطابق مع مختار السيد الخوئي والسيد الشهيد ٠.

ص ١٣٤ قوله : ( الثالث ... ).

هذا بحث كلي وهو جريان التزاحم بين الفعل والترك إذا كان أحدهما على الأقل تعبدياً.

والاشكال فيه يكون بأحد وجهين :

الأوّل : ما أفاده السيد الشهيد من استحالة الداعوية للأمر في المقام ، لأنّ الأمر لا يدعو دائماً إلى الفعل الخارج ، فداعوية الأمر التوصلي والتعبدي واحدة من هذه الناحية أي كلاهما يدعوان ويوجدان القصد إلى ذات الفعل فإن اريد في


المقام داعوية الأمر إلى خصوصية الفعل فهو كالترك بحسب الفرض عند المولى أي هما سيان عنده فلا يمكن ترجيح احدى الخصوصيتين من أصله وإن اريد داعويته نحو الجامع بين الفعل والترك فهو ضروري التحقق ، وهذا بخلاف موارد الضدين كزيارة الامام الحسين 7 في عرفة والحج مثلاً فإذا استحالت الداعوية استحالت التعبدية.

وهذا الاشكال أشبه بالشبهة في قبال البديهة ، لوجدانية امكان تعلق غرض المولى بالحصة القربية من ضدين لا ثالث لهما أو من الفعل والترك بحيث انّ المولى لا يريد الفعل أو الترك التوصلي لأحدهما أو كليهما ويريد تحقق أحدهما تعبداً ـ إذا كانا معاً تعبديين ـ أو يريد الجامع بين التوصلي في طرف والتعبدي في الآخر.

وحلّها بأنّ الداعوية هنا يمكن أن تكون إلى ترك القصد الدنيوي في الفعل أو الترك ولا محذور فيه ، إذ لا يلزم منه تعدد القصد والارادة ، فالأمر بالفعل القربي والأمر بالتحرك يدعوانه إلى ترك الحصة غير القربية من الفعل أي المأتي بها بغرض دنيوي مثلاً فلا يجعل لنفسه داعياً دنيوياً ولا يرد فيه محذور.

وإن شئت قلت : انّه يدعوه نحو الجامع بين الحصة القربية للفعل والترك وهذا الجامع ليس ضرورياً ؛ ولهذا يمكن الأمر به بنحو الأمر التخييري والأمرين المشروطين الترتبيين في قوّة الأمر التخييري بالجامع ، بل يرجع إليه بحسب المبادئ وعالم الحب عند الاستاذ 1 على ما تقدم في بحث الواجب المشروط ، كما انّه ليس القصد والارادة مأخوذاً فيه ؛ إذ الجامع بين القربى وغير القربى ليس قربياً كما هو واضح.


وإن شئت قلت : انّ الأمر بشيء تعبدي يكون داعياً إلى الحصة المقيدة بقصد القربة لا إلى ذات الفعل والجامع بين هذه الحصة والترك ليس ضرورياً ليكون غير معقول ، والوجدان شاهد على انّ المولى إذا كان غرضه في النقيضين ولكن مشروطاً بقصد القربة في أحدهما أو كليهما يمكنه أن يحفظ غرضه بالأمر بالفعل أو الترك التعبدي ؛ ومن هنا قلنا انّ هذه شبهة في قبال البديهة.

الثاني : انّ الأمر بالفعل يستتبع النهي عن ضده العام وكذلك العكس فيلزم اجتماع الأمر والنهي الغيري وهو محال.

وفيه : أوّلاً ـ إنّما يتم بناءً على القول بالامتناع لا الجواز.

وثانياً ـ إنّما يتم إذا قلنا باستلزام الأمر بالشيء للنهي عن ضده العام ، بمعنى انّ حبّ الشيء يستتبع بغض نقيضه.

وثالثاً ـ يمكن افتراض انّ المحبوب هو المصلحة المترتبة على الفعل أو المصلحة المترتبة على الترك بحيث يكون عدم كل منهما ملازماً مع الفعل أو الترك لا نفسه فالصحيح جريان التزاحم بين الفعل والترك أيضاً إذا كان أحدهما تعبدياً ، وعلى ضوء ما ذكرناه في المقام لابد من تغيير واصلاح الهامش في الكتاب ، فراجع وتأمل.

ص ١٣٠ قوله : ( وامّا على الثاني فمضافاً إلى عدم جريان التزاحم ... ).

هذا غلط مطبعي والصحيح : مضافاً إلى جريان التزاحم في المستحبات كالواجبات لعدم امكان الأمر المطلق منهما بل لابد من الترتب والتقييد. فيعود فيه الاشكال المتقدم.


نعم ، السيد الخوئي عبر بالتزاحم في المستحبات وانّه ليس بعزيز ، بمعنى امكان الأمر المطلق بكل منهما بلا حاجة إلى ترتب ، ولهذا وقع هذا التشويش. فكأنّ مقصود العبارة عدم جريان التزاحم بمعنى الأمر المطلق بلا ترتب في المستحبات.

ص ١٤٥ الهامش :

لا موضوع لكلا الاشكالين.

أمّا الأوّل : فلأنّ مفاد كان الناقصة في المتعلق ليس في طول تعلق الأمر بذلك المتعلق بل هو ثابت في نفسه فلا شائبة للدور.

وأمّا الثاني : فلأنّ الشك في مائية المائع ـ حتى إذا كان ايجاد الماء تحت الطلب لا قيداً في الفعلية ـ ليس من الشك في القدرة على الامتثال ؛ لأنّ المفروض انّه يقوم ويأتي به فهو قادر على الاتيان به وإنّما الشك في اتصافه بأنّه وضوء بالماء بنحو مفاد كان الناقصة والذي فرضنا انّه شرط في فعلية التكليف ، فالجاري هنا البراءة عن وجوب الوضوء لا الاحتياط ، فتدبر جيداً.

ثمّ انّه بالنسبة إلى ما جاء في ذيل الهامش من لزوم الاحتياط في الشك في القدرة على الامتثال إذا قلنا بعدم تقيد الخطابات بالقدرة وإنّما العجز معذر عقلي عن العقاب فالأمر واضح ؛ إذ لا شك حينئذٍ في فعلية التكليف أصلاً فلا موضوع للبراءتين.

وأمّا إذا قلنا بتقيد الخطابات بالقدرة وعدم العجز إمّا بمقيّد لبي من جهة عدم إمكان الانبعاث في موارد العجز أو من جهة حديث رفع ما لا يطيقون وما اضطروا إليه ، فمع الشك في القدرة والعجز لا يتم شيء مما في الهامش من


الوجوه الثلاثة.

إذ يرد على الأوّل منها أنّه لو سلّم فهو لا يمنع عن جريان البراءة العقلية لتحقق موضوعها وكون تفويت الحكم من ناحية احتمال عدم القدرة على الامتثال ليس عذراً عقلاً لا يمنع جريان البراءة العقلية على القول بها والتي ترجع إلى معذرية الجهل وعدم العلم بالحكم الفعلي فإنّها حيثية اخرى.

وأمّا الثاني فلأنّه رجوع إلى القول بعدم شرطية القدرة لأنّ القائل بها يرى أنّ القيد واقع القدرة وعدم العجز ؛ لأنّه المانع عن الانبعاث كما انّ ظاهر حديث الرفع ذلك.

وامّا الثالث فلأنّه ممنوع بعد أن كان المقيّد اللبي المتصل أو اللفظي المنفصل يقضي باختصاص الخطاب بالقادر فكأنّه قال : أيّها القادر يجب عليك كذا.

نعم ، لو كان وجه التقييد بالقدرة لغوية جعل الخطاب والحكم في مورد العجز أمكن دعوى اطلاقه لصورة الشك فيه ـ الوجه الثاني ـ ولكن يبقى الاشكال في المقيد اللفظي واطلاقه لواقع العجز والاضطرار.

اللهم إلاّ أن يدعى ظهوره في ارتفاع التكليف مع فعلية ملاكه ومقتضيه فيتم الوجه الثالث في مورد الشك في القدرة فمجموع النكتتين تشكلان وجهاً واحداً حينئذٍ ، إلاّ أنّ استفادة فعلية الملاك تقدم عدم صحتها.

ص ١٤٥ قوله : ( وهكذا يتضح انّ الميزان والضابط لجريان البراءة في الشبهة الموضوعية ... ).

ذكر الخراساني في الشبهة التحريمية والنواهي انّه إذا كان النهي انحلالياً أي منحلاً إلى نواه عديدة بعدد أفراد الموضوع خارجاً كان من الشك في


التكليف ، وإذا كان النهي واحد أو المطلوب مجموع التروك كان من الشك في الامتثال.

ووسعه تلميذه صاحب الدر إلى الشبهتين وجعل الأقسام ثلاثة ، فإنّه تارة يكون الحكم وجوباً أو تحريماً متعلقاً بالطبيعة على وجه الانحلال والاستغراق كوجوب اكرام العلماء وحرمة شرب الخمر. واخرى يكون حكماً واحداً متعلقاً بمجموع الأفراد. وثالثة حكماً واحداً متعلقاً بصرف وجود الطبيعة المنطبق على أوّل الوجود فحكم بالبراءة في الأوّل والاحتياط في الأخيرين لكون ذلك الحكم الواحد الاشتغال به يقيناً فيقتضي الفراغ اليقيني.

وهذا الكلام بكلا التقريبين الاشكال عليه واضح من ناحيتين :

أوّلاً ـ انّ الحكم وجوباً كان أو تحريماً إذا تعلّق بمجموع الأفراد أو مجموع التروك فالشك في فرد منه يكون من الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطي الذي هو مجرى للبراءة حتى عند الخراساني 1 من غير فرق بين وجوب مجموع الأفراد أو التروك أو حرمة مجموع الأفراد على ما هو مبين في ذيل مباحث الأقل والأكثر الارتباطي.

وثانياً ـ في مورد تعلق الحكم بالطبيعة بنحو صرف الوجود أو بالوجود الأوّل منها هناك فرق بين الأمر والوجوب والنهي والحرمة لا من حيث تعدد الحكم ووحدته ؛ لأنّ المفروض وحدته حتى إذا كان نهياً ؛ ولهذا لا يحرم الوجود الثاني من الطبيعة بعد الوجود الأوّل ، بل من ناحية أنّ النهي شمولي ، فإذا تعلق بالطبيعة ولو بوجودها الأوّل أو بنحو صرف الوجود فهو يقتضي اعدام تمام أفرادها لتنعدم الطبيعة بنحو صرف الوجود ، فإذا شك في فرد أنّه


منها أم لا شك لا محالة في سعة النهي الواحد وعدمها لا محالة ، فيكون مجرى للبراءة لا الاحتياط ، بخلاف الأمر البدلي بالطبيعة بنحو صرف الوجود أو الوجود الأوّل.

لا يقال : البراءة عن المشكوك تعارض البراءة عن ارتكاب المقطوع كونه فرداً بعد ارتكاب المشكوك حيث يشك في كونه محققاً للوجود الأوّل أو لصرف الوجود فيكون من أوّل الأمر يوجد علم اجمالي امّا بحرمة الأوّل أو الثاني بعد الأوّل فيتعارض البراءتان.

فإنّه يقال : لو فرض تنجز مثل هذا العلم الإجمالي مع ذلك لم يكن اشكالاً في المقام ، إذ البحث في كون الشك مجرىً للبراءة في نفسه وعدمه وهذا واضح.

ثمّ انّ الاشكال على صاحب الكفاية لا فرق فيه بين أن يكون مرجع النهي إلى الزجر عن الطبيعة أو الأمر بالكف أو طلب تركها. نعم ، لو فرض أنّ المقصود من طلب مجموع التروك طلب عنوان بسيط مترتب ومسبّب عن مجموع التروك غير منطبق عليها كعنوان خلوّ صفحة الوجود من الطبيعة ، كما إذا كان المطلوب حفظ المسجد عن النجاسة أو حفظ البطن عن الخمر مثلاً وكان هذا العنوان متحصلاً من ترك مجموع الأفراد وشك في فرد انّه نجاسة أم لا أو خمر أو لا. وجب تركه ؛ لأنّ اشتغال الذمة بوجوب الحفظ يقيني والشك في تحصيله وعدمه والأفعال أو التروك مقدمات لتحصيله.

إلاّ أنّ حمل كلام صاحب الكفاية على ارادة هذا الفرض بعيد غايته.

وأمّا الميرزا فقد جعل الميزان كون الشك في قيد من قيود فعلية الحكم المستتبعة له أي ما يكون مأخوذاً مقدر الوجود في فعلية الحكم.


وقد أوضحه في رسالته في اللباس المشكوك بأنّ الحكم له متعلق وهو فعل المكلف وله متعلق المتعلق وهو المعبر عنه بالموضوع ، وله قيود الحكم وشرائطه العامة أو الخاصة.

ولا شك في أنّ الشك في الأخير شك في التكليف لكونه ملحوظاً مقدر الوجود ومعلق عليه الحكم. وأمّا الثاني فإذا كان غير اختياري فأيضاً لابد وأن يؤخذ مقدر الوجود في فعلية الحكم إلاّ إذا كان جزئياً وموجوداً في الخارج كالقبلة وعرفات في وجوب الصلاة إلى القبلة والوقوف بعرفات حيث يمكن جعل الحكم مطلقاً من ناحيته وتكون اضافة المتعلق إليه ضمن المتعلق والشك فيه من الشك في المتعلق ، وإذا كان متعلق المتعلق اختيارياً فيمكن أن يؤخذ أيضاً مقدر الوجود فلا يجب تحصيله ويكون فعلية الحكم منوطة بوجوده والشك فيه شك في التكليف ، ويمكن أن يكون الحكم مطلقاً من ناحيته فيجب تحصيله كالصلاة مع الطهور أو فيما يؤكل لحمه فيكون الشك فيه مجرى للاشتغال لأنّه من الشك في ايجاد المتعلق.

وأمّا الأوّل وهو المتعلق فلا يمكن أن يكون مأخوذاً مقدر الوجود بل الحكم مطلق من ناحيته ويكون مقتضياً لايجاده ، فالشك فيه شك في الامتثال ومجرى للاحتياط.

كما انّ الثاني ـ وهو الموضوع ـ المأخوذ مقدر الوجود إذا كان انحلالياً كان الشك شكاً فيما يستتبع الحكم لأنّ حكم كل فرد منوط بفردية ذلك الفرد ، وامّا إذا كان بدلياً أي كان الموضوع اكرام صرف وجود العالم مثلاً لا كل عالم فالشك في فرد منه لا يكون شكاً فيما اخذ مقدر الوجود في فعلية الحكم لعدم ترتب


الحكم وتعليقه إلاّعلى صرف وجود العنوان الكلي وهو متحقق بحسب الفرض سواء كان هذا الفرد من الطبيعة أم لا فيكون من الشك في الفراغ والامتثال. ثمّ أفاد الميرزا انّ العدميات والنواهي يكون الموضوع ـ متعلق المتعلق ـ فيها انحلالياً دائماً.

وقد نوقش في هذا البيان بامور :

١ ـ ما قد يستفاد من تعليق المحقق العراقي 1 على الفوائد أيضاً ، من انّ الشك في المتعلق أيضاً يكون مجرى للبراءة في النواهي كما إذا شك في انّ ما يقوله كذب أو بهتان أم لا.

٢ ـ انّ الأحكام العدمية والمحرمات بحسب تعبيره يعقل أن لا تكون مشروطة ومقيدة بوجود متعلق المتعلق ـ الموضوع ـ خارجاً فيمكن أن يحرم شرب الخمر قبل تحققه أيضاً ؛ إذ لا ملزم ثبوتي ولا اثباتي لأخذ وجوده قيداً في الفعلية وأثره تحريم ايجاده المستلزم لتحقق الحرام منه بعده اضطراراً ، كما هو مقرر في محلّه ، ومع ذلك تجري البراءة عند الشك في الخمرية.

٣ ـ في مورد الحكم الواحد المتعلق بمجموع الأفراد لا يكون الفرد المشكوك فرديّته شرطاً في فعلية ذلك الحكم لكونه فعلياً على كل حال بتحقق موضوعه ولو ضمن الباقي ، ومع ذلك تجري البراءة فيها.

ومن هنا جعل السيد الشهيد الميزان في جريان البراءة إذا لم يكن الشك فيما اخذ مقدر الوجود أن يكون الحكم شموليّاً لا بدلياً ، أي كون الشك مستلزماً للشك في سعة الحكم في مرحلة الفعلية سواء كانت السعة بنحو حكم استقلالي أو ضمني. ثمّ عاد وعدّل كلام الميرزا باضافة تعديلين فيه فاندفعت الاشكالات


الثلاثة كما هو مشروح في الكتاب.

هذا ولكن يمكن أن ينقض على المعيار المعطى من قبل السيد الشهيد بأنّا لو فرضنا وجوب الطهور مطلقاً من حيث وجدان الماء وغير مشروط به بحيث كان واجباً على المكلف تحصيله مع الامكان فالقيد للتكليف ليس إلاّ التمكن والقدرة على الطهور المائي سواء كان الماء موجوداً خارجاً أم لا ، فهنا لو لم يكن المكلف قادراً على تحصيل غير ما هو موجود أمامه من المائع وكان ذلك مردداً في كونه ماءً مطلقاً أو مضافاً مثلاً كان مقتضى ميزان السيد 1 وجوب الاحتياط بالتوضي به لأنّه من الشك في القدرة على امتثال واجب بدلي وهو مجرى للاحتياط.

وهذا بخلافه على ميزان الميرزا ، لأنّ اتصاف هذا الفعل بكونه وضوءً بالماء شرط في فعلية الوجوب ومأخوذ لباً بنحو الفرض والتقدير كما في المحرمات والنواهي وهو شرط آخر غير شرطية القدرة والتي لا يكون الشك فيها معذراً ، فتجري البراءة ( مع قطع النظر عن فرض علم اجمالي منجز بوجوب الوضوء عليه أو التيمم ) ، وهذا يعني انّ البدلية ليست مانعة عن جريان البراءة في تمام الموارد وانّ الشك في متعلق الحكم البدلي قد يرجع إلى الشك في أصل الحكم وفعليته فيكون من الشك في التكليف الذي هو مجرى للبراءة لا الاشتغال.

والظاهر أنّ هذا هو المقصود من الحاشية الثانية في الكتاب ولكن لم يبيّن بصورة صحيحة فتدبر جيداً.

والمستخلص من كل ما تقدّم انّه كلما كان الشك في الأمر الخارجي شكاً فيما يوجب سعة الحكم في مرحلة الفعلية سواء بثبوت أصل حكم استقلالي


أو بثبوت حكم ضمني زائد كان من الشك في التكليف ، وكلّما لم يكن كذلك امّا لكون الحكم بدلي ثبوته متيقن لتحقق موضوعه ، أو لكونه متعلقاً بعنوان آخر ، يحصل ويتولد من مجموع الأفراد أو الأجزاء ، وليس منطبقاً عليه بحيث يكون التوسعة في الامتثال مربوطاً بالمقدمات للواجب لا بنفس الواجب ، وهو المعبر عنه بالشك في المحصل كان مجرى للاشتغال.

وفي باب النواهي والتحريمات المتعلقة بالطبايع يكون الشك سواءً في الموضوع أو المتعلق دائماً من الشك في سعة التكليف سواء كان تحريماً واحداً متعلقاً بصرف الوجود أو أوّل الوجود أو تحريمات عديدة انحلالية وهذا بخلاف باب الواجبات والأوامر.

ص ١٤٩ قوله : ( النحو الخامس أن يكون متعلّق الحكم أمراً مسبباً ... ).

جريان البراءة في الشبهة التحريمية في هذا النحو مبني على أن يكون المسبب التوليدي المحرّم مرجعه إلى لزوم تحقيق انعدام الطبيعة في الخارج ، كما في مثال حرمة قتل المؤمن ، بمعنى حرمة أن يقتل ولو من قبل الغير ، ووجوب حفظه وسدّ تمام أبواب هلكته ، فلو شك في انّ ضربة واحدة خفيفة تهلكه أم لا ، كان مقتضى القاعدة الاحتياط بتركه ؛ لأنّه من الشك في تحقق الحرام المعلوم اشتغال الذمة به على تقدير تحققه لا الشك في الحرمة ، وإلاّ كان من الشك في التكليف إذ لا فرق بين السبب والمسبب التوليدي من حيث انّ الطبيعة إذا وقعت متعلقاً للنهي كان شمولياً ومجرى للبراءة عند الشك في انطباقه ، وهذا واضح.


أصالة التخيير

ص ١٥٥ الهامش ...

الجواب عليه : انّ ما هو غير اختياري إنّما هو الطاعة لمجموع الاحتمالين احتمال الوجوب واحتمال الحرمة ، أي جمعاً لا بدلاً ، فإنّه كل واحد منهما بالخصوص يمكن في نفسه الاطاعة فيه ؛ ولهذا لو كان العقل مثلاً يحكم بترجيح الحرمة ودفع المفسدة على الوجوب وجلب المصلحة ، أو يفصل في البراءة العقلية بين الشبهة التحريمية والوجوبية ، كما يصنع الاخباري في البراءة الشرعية ، تعيّن الترك.

وهذا يعني انّ هناك مجرىً للبراءة العقلية أيضاً عن خصوصية كل منهما المحتملة لنفي تعين الطاعة فيه ويكون معنى التخيير جريان البراءة العقلية عن تعين الطاعة لكل من الخصوصيتين ولا محذور فيه وإنّما المحذور جريان الاحتياط وحق الطاعة في الخصوصيتين ، ومن هنا قلنا بالتزاحم بينهما في الاقتضاء بناءً على مسلك حق الطاعة ، فالتخيير العقلي بناءً على مسلك حق الطاعة مرجعه إلى حكم العقل بتساوي مقتضي حق الطاعة في كل من الخصوصيتين المحتملتين أعني الوجوب والحرمة وتزاحمهما في مقام التأثير وعدم الترجيح لأحدهما على الآخر بحكم العقل ، وهذا يمكن أن يصطلح عليه بأصالة التخيير العقلية.

وكذلك الحال على مبنى الميرزا من عدم جريان البراءة الشرعية ولا العقلية


في المقام فإنّه بالنتيجة ننتهي إلى عدم منجزية العلم ومنجزية الاحتمال في نفسه في كل طرف ولكنه مزاحم بالاحتمال في الطرف الآخر والعقل يحكم بالتخيير بينهما ما لم يكن أحدهما أقوى احتمالاً أو محتملاً.

وأمّا بناءً على مسلك البراءة العقلية فلا يوجد بالدقة أصالة التخيير العقلية وإنّما الموجود حكم العقل بعدم منجزية العلم بالالزام لاستحالة الطاعة والمنجزية فيه وحكمه بقبح العقاب على مخالفة كل من الخصوصيتين المحتملتين أعني الالزام بالفعل أو الالزام بالترك لو صادف المخالفة ، وهذا نتيجته التخيير لا أصالة التخيير.

لا يقال : بناءً على انّ قبح العقاب بمعنى عدم حق الطاعة والمولوية في موارد عدم البيان والشك فهذا موضوعه أن يكون الطاعة ممكناً في نفسها وهنا لا يمكن الطاعة في نفسها فلا موضوع لعدم حق الطاعة ولا لحق الطاعة.

فإنّه يقال : بالنسبة لكلٍ من الخصوصيتين تعييناً وفي نفسه الطاعة معقولة فيه وإنّما تكون مزاحمة بالطاعة في الاخرى ، فحق الطاعة في كل منهما في نفسه معقول وإنّما يسقط بالمزاحمة ، الذي هو معنى أصالة التخيير بناءً على مسلك حق الطاعة.

وامّا على مسلك البراءة فلا تصل النوبة إلى ذلك ؛ لأنّ البراءة تثبت عدم حق الطاعة في كل منهما في نفسه ، وقد ذكرنا انّه لا تزاحم بين البراءة العقلية عن الخصوصيتين ، فتدبر جيداً.

ثمّ انّه بناءً على القول بعدم جريان البراءة العقلية في أطراف العلم الإجمالي لكونه بياناً ـ كما عن صاحب الكفاية ـ لا للتعارض بينهما ـ كما عن السيد


الخوئي ـ لا موضوع لجريان البراءة العقلية في المقام أيضاً ؛ لأنّ عدم امكان منجزية هذا العلم الإجمالي لا يضر بارتفاع موضوع البراءة العقلية ؛ لأنّها معلّقة على عدم العلم لا على عدم العلم المنجّز ، فتدبر جيداً.

ص ١٥٧ قوله : ( الوجه الرابع ـ المنع عن شمول أدلّة البراءة ... ).

ويمكن الجواب عليه : أوّلاً ـ انّ ظاهر رفع ما لا يعلمون هو التفسير الأوّل لا الثاني ، أي ارادة المشكوك بالذات لا بالعرض ؛ لأنّ الثاني يجعله تقديرياً ، أي إذا كان المشكوك بالعرض ثابتاً فيكون هناك رفع ظاهري ، وهذا قد تقدم من قبل السيد الشهيد انّه خلاف الظاهر ، فما لا يعلم موضوع للرفع الظاهري حقيقة ، كما انّ ما لا يطيقون وما اضطروا إليه موضوع حقيقة للرفع الواقعي ، ويدور الرفع مدار هذه العناوين ، لا مدار أمر آخر واقعي يكون ثابتاً على تقدير دون تقدير.

وثانياً ـ انّ الحكم المردد في الدوران بين المحذورين وإن كان واحداً كما في الدوران بين الوجوب والجواز أو الحرمة والاباحة ، إلاّ أنّ الرفع في المقام متعدد وفي موارد الشك في الالزام واحد ، والوجه فيه أنّ الرفع إنّما هو للحكم الالزامي لا الترخيصي ، فالالزام هو المرفوع ظاهراً ، فإذا كان مقابله الترخيص فليس إلاّ رفع واحد ، وإذا كان مقابله الزام آخر ـ كما في المقام ـ فهناك رفعان لا محالة ؛ لأنّ كلاً منهما على تقدير كونه واقعاً فهو مرفوع ، فهناك رفعان مشروطان ، ومفاد البراءة بناءً على هذا التفسير دائماً هو الرفع على تقدير أي المشروط في قبال وضعين لايجاب الاحتياط بلحاظ كل واحد منهما مستقلاًّ عن الآخر ، والمفروض انّ عدم امكان الجمع بين الوضعين لا يمنع عن امكان الرفعين كما تقدم في دفع الوجه الثاني المتقدم عن الميرزا 1 ، فهذا الوجه الرابع غير تام أيضاً. وهذا الجواب لعله أوضح مما سيأتي في شرح الهامش القادم.


ص ١٥٨ قوله : ( هذا كله فيما إذا لم تفرض مزية ... ).

مع فرض المزية إذا قلنا بعلّية العلم الإجمالي للتنجيز بنحو يمنع عن جريان الأصل الشرعي أيضاً ، وقلنا بأنّ العلم المذكور ينجز الأقوى احتمالاً أي الموافقة الظنّية لم يكن فرق بين الأصل الشرعي أو العقلي ، فلا ينبغي جعل البحث مخصوصاً بالبراءة العقلية كما هو ظاهر الكتاب.

وينبغي طرح البحث كما يلي :

بناءً على عدم جريان البراءة في أطراف هذا العلم الإجمالي والانتهاء إلى أصالة التخيير العقلي لعدم تنجيز كل من الطرفين على الآخر فالنتيجة تنجز الأقوى احتمالاً أو محتملاً ، إلاّ إذا كان عدم جريان البراءة من جهة اللغوية لا من جهة الامتناع أو قصور المقتضي ، فإنّه عندئذٍ لا لغوية في جريانها عن الأقوى ، وبناءً على جريان البراءة في نفسه في الطرفين يجري ما في الكتاب من غير فرق بين البراءة العقلية أو الشرعية.

ص ١٥٨ الهامش.

وحاصل الاشكال الثاني في الهامش أنّ استظهار كون المرفوع ظاهراً هو المشكوك بالعرض لا بالذات لا يمنع عن جريان البراءة الشرعية في المقام ، فإنّ التكليف الذي يجري عنه البراءة الشرعية ليس هو جامع التكليف المعلوم ، فإنّه لا شك فيه وإنّما الذي يجري عنه البراءة هو الوجوب المحتمل والحرمة المحتملة ، فيقول المكلف إن كان الوجوب له مطابق في الواقع فهو مرفوع ، وكذلك إن كان احتمال الحرمة له مطابق ومشكوك بالعرض في الخارج فهو مرفوع ، كما هو الحال في موارد الشبهات البدوية ، غاية الأمر بناءً على أن


يكون موضوع البراءة الشرعية المشكوك بالذات تجري البراءة الشرعية عن كل من الوجوب والحرمة ، جمعاً لتحقق موضوعها فيهما ، فتكون هناك براءتان فعليتان في الطرفين ، وكل منهما يقابل وضع ايجاب الاحتياط بلحاظه في نفسه ، ومع قطع النظر عن جعله لسائر التكاليف المحتملة.

وأمّا بناءً على التفسير الثاني ، حيث انّ المرفوع هو المشكوك بالعرض لا بالذات ، أي الواقع ، ويعلم بعدم تحقق أكثر من واقع واحد في المقام ، لهذا يحرز جريان البراءة والرفع الظاهري في أحدهما بدلاً لا جمعاً ؛ إذ يعلم بتحقق أحد المشكوكين واقعاً وعدم الآخر ، فموضوع البراءة والرفع الظاهري في أحد الطرفين يكون ثابتاً.

وإن شئت قلت : انّ في كل من الطرفين يكون الرفع التقديري ثابتاً ، وهذا ينفع للمكلف وليس جعله لغواً ؛ إذ فائدته انّ المكلف يؤمن عن الواقع ، سواءً كان وجوباً أو حرمة ؛ إذ يعلم بعدم تحقق أحدهما واقعاً ، وبأنّ الآخر مرفوع عنه ظاهراً ، وهذا نظير موارد الشك البدوي الذي يعلم فيه بالبراءة ، امّا بعدم التكليف واقعاً ، أو ارتفاعه ظاهراً ، لو كان موجوداً واقعاً ، فالرفع للمرفوع واحد لا اثنان ، ونحن لا نشخّصه ، لا انّ البراءة تجري عن التكليف بعنوانه الإجمالي ، كيف وهو معلوم ، فالبراءة تجري عن العنوانين التفصيليين التعيينين المشكوكين.

وهذا لا يتوقف إلاّعلى امكان وضع ايجاب الاحتياط في ذلك المرفوع الواقعي تعييناً وهو ممكن كما إذا كان مصلحة الايجاب أو التحريم في موارد التزاحم الحفظي هو الأهم عند المولى ، فيجعل ايجاب الاحتياط بلحاظه تعييناً وما لا يكون وضعه ممكناً جعل ايجاب الاحتياط عن التكليف الواقعي على اجماله.


بل يمكن أن يقال : انّ المهم للمكلف في التأمين إنّما هو الرفع على تقدير ثبوت التكليف المشكوك واقعاً لا أكثر فيكون مفاد دليل البراءة ذلك أي الرفع على تقدير. وفي كل من احتمال الوجوب والحرمة الرفع التقديري وبنحو القضية الشرطية يمكن أن يكون صادقاً ، فإنّ صدق الشرطية لا يستلزم صدق طرفيها فسواءً كان المحتملان ممكن اجتماعهما ووجودهما معاً في الخارج أم لا كانت البراءة الشرعية بمعنى الرفع التقديري جارية في الطرفين معاً وجمعاً.

لا يقال : هذا لغو لا فائدة فيه ، إذ لولا جعلهما أيضاً كان العقل يحكم بذلك للضرورة.

فإنّه يقال : هذا رجوع إلى بيان المحقق العراقي والذي أجبنا عليه سابقاً من امكان جعل الشارع لايجاب الاحتياط بلحاظ أحد الطرفين تعييناً وإن كان لا يمكن جعله فيهما جمعاً فدليل البراءة ينفي الاحتياط التعييني في أحد الطرفين.

ومما ينبه على صحة الرجوع إلى البراءة الشرعية انّه على تقدير وجود المزية لأحد الالزامين احتمالاً أو محتملاً بناءً على مسلك حق الطاعة سوف يجب الاحتياط بالالتزام بامتثال الطرف ذي المزية ، ومن البعيد التزام الاستاذ به ، فتدبر جيداً.

ص ١٦٣ قوله : ( المقام الثالث ... ).

تكرر الواقعة قد يكون عرضياً وقد يكون طولياً وبلحاظ عمود الزمان ـ كما ذكره في مصباح الاصول ـ ومثال الثاني واضح كما في الكتاب ، ومثّل للأوّل بما إذا صدر منه حلفان تعلّق أحدهما بفعل شيء كشرب عصير ـ كعصير الرمان ـ


والآخر بترك آخر ـ كشرب عصير العنب ـ ثمّ اشتبه عليه الأمر فلم يدر أيّهما قد حلف على فعله وأيّهما حلف على تركه فيتشكل في كل منهما علم اجمالي بين محذورين وفيهما معاً علمان اجماليان امّا بوجوب هذا أو حرمة ذاك وبالعكس.

وقد أفاد السيد الخوئي ـ دام ظله ـ بأنّ العلمين الاجماليين المذكورين ـ سواءً في العرضين أم الطوليين بناءً على منجزية العلم الإجمالي في التدريجيات ـ تحرم مخالفتهما القطعية فيجب فعل أحدهما وترك الآخر في العرضيين ويجب الفعل في اليومين معاً أو الترك كذلك لكي تكون المخالفة والموافقة احتمالية لا قطعية ، وقد ذكر انّ الحكم كذلك حتى إذا كان أحد التكليفين المعلومين بالاجمال في الواقعتين أهم من الآخر ـ كما إذا كان أحدهما قد نذر فعله والآخر قد نهاه أبوه عن فعله فاشتبه الأمر عليه وفرضنا انّ مخالفة النذر أشد من مخالفة الأب ـ فله مطلبان أحدهما تقدم المخالفة القطعية على الموافقة القطعية ، والآخر عدم الفرق في ذلك بين الأهم والمهم من التكاليف :

أمّا المطلب الأوّل فيمكن أن يذكر في وجهه أحد بيانين :

الأوّل : ما هو ظاهر تقريرات السيد الخوئي 1 من انّ وجوب الموافقة القطعية لكل من العلمين الاجماليين يزاحم الآخر ، ولا مرجح لأحدهما على الآخر فيتساقطان ، فيبقى حرمة المخالفة القطعية لكل منهما على حاله ؛ لامكان عدم المخالفة القطعية لهما معاً ، فلابد من الموافقة الاحتمالية ، ويكون التخيير بين الفعل والترك في الواقعتين إذا كانا تدريجيين بدوياً لا استمرارياً ، وهذا الوجه بهذا المقدار واضح الجواب ؛ إذ كما يزاحم وجوب الموافقة القطعية لأحد العلمين وجوب الموافقة القطعية للآخر كذلك يزاحم حرمة المخالفة القطعية له فكما تسقط وجوب الموافقة للعلم الآخر بذلك تسقط حرمة مخالفته به أيضاً وكذلك


في طرف العكس ، وهذا يعني سقوط وجوبي الموافقة وحرمتي المخالفة في العلمين معاً لمزاحمة وجوب الموافقة لكل علم بكل من وجوب الموافقة وحرمة المخالفة للعلم الآخر.

الثاني : ما هو مذكور في الكتاب من انّ العلم الإجمالي علّة لحرمة المخالفة ، فيكون تنجيزياً ومقتضياً لوجوب الموافقة فيكون تعليقياً ، والتنجيزي مقدم على التعليقي.

وقد أجاب عليه في الكتاب بجوابين :

أوّلهما : انّ المعلّق عليه إنّما هو عدم الترخيص الشرعي ، وهو فعلي ، فيكون الاقتضائان معاً تنجيزيين ، وسوف يأتي عدم امكان فعلية الاقتضائين معاً عند المشهور.

وثانيهما : ادخال عنصر أهمية أحد التكليفين في الحساب وتأثيره على تجويز المخالفة القطعية للمهم ، في قبال الموافقة القطعية للأهم ، وانّ هذا إذا جاز في مورد العلم التفصيلي بالأهم والمهم فكيف لا يجوز في مورد العلم الإجمالي.

وهذا الجواب مربوط بالمطلب الثاني بحسب الحقيقة ، ويكون التقريب الثاني المذكور في الكتاب هنا جواباً عليه ، فلا ينبغي ذكره هنا.

وبعبارة اخرى : في مورد العلم التفصيلي يكون تزاحم امتثالي بين التكليف الأهم والمهم ، والمفروض ارتفاع التكليف بالمهم عند الاشتغال بالأهم فلا مخالفة ، وهذا بخلاف المقام والذي لا يكون فيه تزاحم بين التكليفين ، ويكون كلاهما فعليين واقعاً ، وإنّما التزاحم في حكم العقل بعدم المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية ، وهذا واضح.


وقد استشهد السيد الخوئي 1 على مدّعاه من حكم العقل بعدم المخالفة القطعية في المقام بموارد الاضطرار إلى أحد الطرفين لا بعينه ، فإنّه إذا فرضنا العلم اجمالاً بنجاسة أحد الانائين الشرقيين مثلاً والعلم اجمالاً أيضاً بنجاسة أحد الانائين الغربيين واضطر المكلف إلى شرب اثنين من الأربعة لا بعينه ، فإنّه لا يجوز له شرب الشرقيين معاً أو الغربيين كذلك ، بل يتعيّن عليه ـ طبقاً لما يأتي من بقاء التكليف الواقعي في موارد الاضطرار إلى أحد الطرفين لا بعينه على فعليته ومنجزيته ، وهو المسمّى عندهم بالتوسط في التنجيز ـ أن يختار أحد الشرقيين وأحد الغربيين ، أي لا يخالف مخالفة قطعية لأحد العلمين وإن كان فيه موافقة قطعية للعلم الآخر ، بل تتعين المخالفة الاحتمالية عقلاً.

وأمّا المطلب الثاني : فهو انّه لا فرق بين فرض التساوي أو فرض الأهمية لأحد التكليفين على الآخر فيما ذكر ـ خلافاً للميرزا 1 ـ لأنّ الحكمين وإن لم يكونا من قبيل المتعارضين إذ لا تنافي بينهما في الجعل ، إلاّ أنّهما ليسا من قبيل المتزاحمين أيضاً ليقيد إطلاق المهم منهما فيسقط عند امتثال الأهم ، إذ المفروض قدرة المكلف على امتثال كليهما لولا الجهل والاشتباه فلا تزاحم بين التكليفين ؛ ومعه يكون كل من التكليفين اطلاقه فعلياً غير ساقط أي داخلاً في العهدة ، والمفروض انّ العقل يحكم بقبح عصيان ومخالفة كل تكليف داخل في العهدة مخالفة قطعية سواء كان ملاكه شديداً أو خفيفاً فلا وجه للترجيح بالأهمية في المقام بخلاف باب التزاحم في الامتثال.

وأضاف السيد الخوئي على هذا البيان نقضاً على الميرزا 1 بأنّ لازم تطبيق قوانين باب التزاحم في المقام من الترجيح بالأهمية ونحوها الالتزام بالتخيير فيما إذا كان التكليفان المعلومان بالاجمال متساويين في الأهمية ، فيجوز


المخالفة القطعية لأحدهما في قبال الموافقة القطعية للآخر ، مع انّه لم يلتزم به ، بل التزم بحرمة المخالفة القطعية في فرض التساوي في الأهمية وتعيّن الموافقة والمخالفة الاحتمالية لهما معاً ، وهذا يكشف انّ الأهمية لا دخل لها في المقام بوجه أصلاً ، وأنّ التزاحم هنا ليس بين واقع التكليفين كي يربط حكمه بملاك كل منهما ونسبته إلى ملاك الآخر ، وإنّما التزاحم والتمانع في حكم العقل بلزوم الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالاجمال ، فلابد من ملاحظة انّ أيّهما تنجيزي وأيّهما تعليقي في نظر العقل في قبال الآخر ، ولا شك انّ حرمة المخالفة القطعية هي المتعينة لكونها حكماً عقلياً تنجيزياً في قبال وجوب الموافقة القطعية.

وأجاب عليه في الكتاب بمنع عدم تأثير أهمية التكليف المعلوم بالاجمال في حكم العقل بالاطاعة ؛ لأنّه بملاك حفظ ما يهم المولى فكلما كان غرض المولى أهم كان حفظه آكد عقلاً وألزم.

وإن شئت قلت : المقدار الزائد من الغرض في الطرف الأهم كالمخالفة الأكثر والأشد مهم عند العقل في مقام اطاعة المولى ، فقد يحكم العقل بلزوم حفظه حتى إذا استلزم المخالفة القطعية للمهم ؛ لأنّه الأكثر اطاعة للمولى وحفظاً لحق مولويته ؛ ولأنّه لو كان مراداً تكوينياً للمولى لأقدم على ذلك أيضاً ، فكذلك العبد الذي هو بمثابة الآلة ويد المولى في الارادة التشريعية لابدّ وأن يقوم بذلك ، وهذا يعني انّ المهم حتى إذا كان معلوماً لا يدخل في دائرة حق الطاعة والمولوية في قبال الأهم ، فلا تكون مخالفته معصية قبيحة.

وهذا الجواب لا يمكن المساعدة عليه لا على مباني المشهور من قبح الترخيص في المخالفة القطعية وامتناعه ثبوتاً ، ولا على مباني السيد الشهيد من


امكانه ثبوتاً ، وإنّما المحذور اثباتي وفي الارتكاز العقلائي.

أمّا على الأوّل : فلأنّ المفروض امتناع الترخيص في مخالفة أي تكليف واقعي معلوم ما لم يرتفع التكليف الواقعي بنفسه ، كما في موارد التزاحم الامتثالي ، حيث يتقدم الأهم بمعنى أنّ التكليف بالمهم يرتفع ويسقط حقيقة عند الاشتغال بالأهم ، فلا يكون الأمر بالمهم أمراً أو ترخيصاً في المعصية للمهم ، فكذلك المقام لو وجب أو رخّص فيما يلزم منه المخالفة القطعية للتكليف المهم كان ممتنعاً ما لم يرجع إلى ارتفاع التكليف المهم واقعاً فيزول العلم الإجمالي به ولا يكون في البين إلاّ العلم الإجمالي بالتكليف بالأهم ، بل احتمال ذلك أيضاً يستلزم زوال العلم الإجمالي بالمهم ، وهذا يعني انّه ما دام التكليف المهم المعلوم بالاجمال فعلياً ـ ولو من باب التمسك باطلاق أدلّة الأحكام الواقعية لنفي التصويب ـ فيستحيل أن يجوز الشارع أو العقل ما يلزم منه المخالفة القطعية لهذا التكليف ومعصيته.

لا يقال : إنّما يستحيل على الشارع الترخيص الظاهري في المخالفة ، وهذا لا ينافي أنّ العقل يحكم به من باب التزاحم في مقام الاطاعة للمولى والدوران بين مخالفة تكليفٍ وتكليف.

فإنّه يقال : نكتة الاستحالة القبح العقلي للمعصية والذي لا يرتفع ما دامت المعصية ، فإذا فرض ارتفاعه عقلاً ولو في هذا التزاحم والدوران جاز الترخيص الشرعي به أيضاً ، فالحاصل لا موضوع بناءً على مبنى المشهور لارتفاع قبح المعصية والمخالفة القطعية لتكليف واقعي فعلي لا شرعاً ولا عقلاً ما لم يرجع إلى ارتفاع نفس التكليف المعلوم بالاجمال كما ذكره السيد الخوئي في مثال العلمين الاجماليين بأنّ أحد الشيئين مؤمن يحرم ذبحه أو رميه والآخر شاة منذورة


يجب ذبحها ، حيث تجب الموافقة القطعية لحرمة قتل المؤمن بعدم رمي شيء منها وارتفاع وجوب النذر وسقوطه واقعاً ، فلا علم إجمالي إلاّبتكليف واحد.

وبهذا يعرف انّه على هذا المبنى الذي هو مبنى الميرزا والسيد الخوئي ٠ أيضاً اشكال السيد الخوئي 1 مسجّل على استاذه الميرزا حلاًّ ونقضاً ، ولا مجال بناءً عليه لما أفاده السيد الشهيد 1 من ارتفاع دائرة حق المولوية والطاعة للمهم في قبال الأهم ، فإنّ هذا ممتنع ما لم يرجع إلى ارتفاع الحكم الواقعي والذي هو خروج موضوعي عن البحث وبحاجة إلى دليل يقيّد دليل الحكم الواقعي لأحد المعلومين الإجماليين كما ذكر السيد الخوئي 1.

وأمّا بناءً على مباني السيد الشهيد 1 فحيث يجوز عقلاً الترخيص الشرعي الظاهري في المخالفة القطعية بلا تناف مع فعلية الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال فثبوتاً يعقل دوران الأمر بين الموافقة القطعية للتكليف الأهم المستلزم للمخالفة القطعية للتكليف المهم ، وبين الموافقة والمخالفة الاحتمالية لهما معاً ، أي نحتمل أنّ الشارع يهتم في موارد التزاحم الحفظي بالأهم في قبال المهم ، حتى إذا استلزم المخالفة القطعية له ، أي يكون مرتبة الحكم الظاهري وروحه محفوظة في كل من طرفي الدوران والتزاحم الحفظي في المقام ، وحيث انّ حكم العقل بحق الطاعة والمنجزية تعليقي مشروط بعدم ثبوت حكم ظاهري على خلافه ـ كما هو محقّق في محلّه مفصلاً ـ فينفتح هذا البحث حينئذٍ ، سواء في المعلومين الإجماليين المتساويين أو الذي أحدهما أهم أو محتمل الأهمية بالنسبة للآخر فيما يقتضيه هذا الدوران ، ولا معنى للرجوع إلى حكم العقل ابتداءً وجعله هو المشخّص لما يخرج عن دائرة حق الطاعة من التكليفين ابتداءً ـ كما هو ظاهر الكتاب ـ لوضوح أنّ حكم العقل بذلك معلّق على تشخيص ما هو


اهتمام المولى في هذا التزاحم الحفظي الحاصل بين التكليفين الالزاميين المعلومين بالاجمال.

وهنا يمكن أن تكون أهمية أحد التكليفين ملاكاً موجباً لاهتمام المولى بحفظه القطعي حتى إذا استلزم تفويت الآخر القطعي ، كما يمكن أن لا يكون كذلك ، أي رغم أهمية أحد التكليفين المولى يرضى بالموافقة والمخالفة الاحتمالية لهما معاً ، لا تفويت أحدهما في قبال الآخر ، وليس للعقل في هذا الميدان حكم أصلاً ، بل حال المقام حال سائر موارد التزاحم الحفظي التي لابد من أخذ الأحكام الظاهرية فيها من الشارع نفسه.

نعم ، لو فرض الشك في ما يهتم به الشارع انتهينا إلى ما يحكم به العقل في مورد الشك من الوظيفة التنجيزية ـ كما سنبيّن ـ فهذا هو المنهج الصحيح للبحث بناءً على مبنى السيد الشهيد 1.

وعندئذٍ نقول : لو علم باهتمام المولى بحفظ أحد التكليفين في قبال الآخر ولو استلزم تفويته القطعي تعيّن ذلك عقلاً ، ولو علم بعدم رضاه بذلك وتعيّن المخالفة والموافقة الإجمالية فكذلك ، ولو شكّ في ذلك كان مقتضى حكم العقل هو التخيير بين الأمرين حتى إذا كان أحد التكليفين أهم من الآخر ملاكاً.

هذا هو مقتضى القاعدة بحسب الكبرى ومقام الثبوت.

وأمّا بحسب مقام الاثبات فيقال : بأنّ ارتكاز المناقضة المذكورة في المحذور الاثباتي للترخيص في المخالفة القطعية يوجب تشكيل دلالة التزامية في دليل الواجب الأهم بعدم رضا الشارع بتفويته جزماً ، في قبال حفظ المهم وموافقته القطعية ، كما انّه إذا فرض تساوي التكليفين في الملاك أيضاً قد يقال


بتشكيل نفس الدلالة الالتزامية في دليلي الحكمين الواقعيين أيضاً على عدم رضا الشارع بتفويتهما ، فلا يجوز المخالفة القطعية لشيء منهما ، وتتعين الموافقة والمخالفة الاحتمالية لهما ـ رغم انّه ثبوتاً يحتمل جواز الأوّل ـ.

ولعلّ هذا هو مبنى قبول السيد الشهيد 1 أيضاً ما قبله الميرزا أيضاً من تعيّن الموافقة الاحتمالية إذا كانا متساويين ـ كما هو ظاهر الكتاب ـ.

وأمّا إذا فرض أهمية أحد المعلومين بالاجمال على الآخر واريد موافقته القطعية وحفظه المستلزم للتفويت القطعي لغير الأهم فإذا فرض أنّ دليل الواجب الأهم كان يستلزم ذلك عرفاً لشدّة الأهمية وفهم مذاق الشارع فيه كما في باب حرمة الأعراض والنفوس ، فإن كان ذلك رافعاً للدلالة الالتزامية لدليل التكليف غير الأهم على عدم رضا الشارع بتفويت حفظه بمقدار المخالفة القطعية ، امّا ذاتاً بأن لم تنعقد هذه الدلالة في التزاحم مع التكليف الأهم من هذا النوع حتى عرفاً أو حجيةً لكون الأوّل قطعياً مثلاً تعيّن حفظ الأهم بهذا المستوى ، وأمّا إذا لم تنعقد دلالة من هذا القبيل في دليل الواجب الأهم امّا لضئالة أهميته أو لاحتمالها وعدم العلم بها كانت الدلالة الالتزامية لدليل التكليف المهم حجة ونافيةً لتجويز المولى لمخالفته القطعية ، ولو فرض ـ لأيّة جهة ـ عدم تشكيل هذه الدلالة الالتزامية أيضاً كانت النتيجة التخيير عقلاً بين المخالفة القطعية للمهم من أجل الموافقة القطعية للأهم أو الموافقة والمخالفة الاحتمالية لهما معاً ، والله الهادي للصواب.

ثمّ انّ لتعدد الواقعة ـ سواء في الدفعي أو التدريجي أي في زمانين ـ شقوقاً ثلاثة :


١ ـ اختلاف الحكمين أي وجوب أحدهما وحرمة الآخر كما في مثال السيد الخوئي.

٢ ـ اتحادهما في الحكم كما إذا حلف فيهما على نحو واحد ولكن لا يدري حلف على الترك أو الفعل.

٣ ـ احتمال الاتحاد والاختلاف كما إذا علم بأنّه حلف فيهما معاً ولكن يحتمل انّه حلف على ترك أحدهما وفعل الآخر.

وفي هذا الشق الأخير لا يتشكل العلم الإجمالي الآخر أي التدريجي ، ولهذا لا تعقل المخالفة ولا الموافقة القطعية ، ويكون التخيير استمرارياً في الزمانين أيضاً وفي الشق الثاني يتشكل العلم الإجمالي ، كما يمكن المخالفة القطعية بالترك في أحدهما والفعل في الآخر ، إلاّ انّه لا يجري في هذا الشق بحث الترجيح بالأهمية إلاّ إذا اريد ترجيح الترك فيهما معاً أو الفعل كذلك لكونه أهم ، وقد تقدم جريان البراءة عنه بناءً على جريانها في الدوران بين المحذورين كما يجري في هذا الشق بحث عدم استمرارية التخيير في التدريجي وكونه ابتدائياً كما ذكره السيد الخوئي.

وأمّا الشق الأوّل فهو الذي يجري فيه البحث عن العلم الإجمالي الثاني والترجيح بالأهمية معاً ، ولا يجري فيه بحث ابتدائية التخيير ، بل لابد وأن يختار خلاف ما اختاره أوّلاً لكي لا يلزم المخالفة القطعية كما ذكره السيد الخوئي ، إلاّ انّ هذا أيضاً من جهة عدم استمرارية التخيير فلا وجه لتخصيصه بالشق الثاني.


المحتويات

تعليقات على الجزء الرابع

(الحجج والامارات)

تقسيم الحجج.................................................................. ٧

حجية القطع.................................................................. ٣٧

التجري....................................................................... ٥٠

الموافقة الالتزامية............................................................. ١٣٨

جحية الدليل العقلي.......................................................... ١٤٩

منجزية العلم الاجمالي........................................................ ١٦٣

حجية الظن................................................................. ١٧٧

حجية السيرة................................................................ ٢٤٤

حجية خبر الواحد........................................................... ٢٦٦

تعليقات على الجزء الخامس

(الاصول العملية)

أصالة البراءة................................................................ ٣٣١

أصالة التخيير ............................................................... ٤٤١

اضواء واراء - ٢

المؤلف:
الصفحات: 456