

مقدمة
المركز
الحمدُ
لله ربِّ العالمين ، والصلاة والسلام علىٰ رسوله الأمين محمد المصطفىٰ
وآله الطيبين الطاهرين.
لم
يعد الحديث عن الإيمان حديثا تكرارياً ، ولا خطاباً « رجعياً » كما كان يذاع من قبل الدعوات المادية وهي في ذروة تصاعدها وفي طور التأسيس لكياناتها المستقلّة ، لم يعد كذلك بعد أن وجدت هذه الدعوات نفسها مضطرة إلىٰ استعارة الكثير من قيم الإيمان ومبادئه السامية.. ذلك حين أثبتت لها تجارب الحياة ان
دعوتها المادية إنّما هي « مثالية » من نمط آخر ، إذ أنها كانت تريد أن تصنع انساناً غير
هذا الانسان ، أو أنها كانت تظنّ ان ما جاءت به الأديان إنّما هو محض خرافة ، فلمّا عركتها التجارب أدركت بأنّها غارقة في خيال بعيد حين خيل إليها إنّ الإنسان ما هو إلاّ كتلة من اللحم والدم والعظام التي يجب أن تعيش في إطار هذه المكونات ، ولأجلها وحسب ، فمن الطبيعي ان تهزم مثل هذه الأفكار أمام طبيعة الإنسان الثنائية التي لا يمكن الغاء إحدى قطبيها بحال من الأحوال.. فلم يعد الإيمان إذن حديث خرافة انما هو حديث طبيعة الإنسان وطبيعة الحياة أيضاً.
ومن
ناحية أُخرىٰ ، عندما ندقق النظر ، نجد أن القرآن الكريم حين تحدث عن الايمان ، فقد تحدث عنه في أبعاد متعددة ، ولم يجعله حديثاً تأنس به الروح في يومها من أجل أن تطمئن لغدها ، اُنساً صوفياً وحسب.
لقد
تحدث القرآن عن الإيمان كقضية فرد يرجو لقاء ربه والفوز في الحياة الآخرة : ( ).
( ) ، ( ).
وتحدّث
عنه كقضية مجتمع وأُمّة ، لها دورها الأكبر في تقرير مصيرها الحضاري
ووجودها علىٰ الأرض : (
).
().
وتحدث عنه قيما إنسانية عالية كفيلة بصنع المجتمع الأمثل
: ( ).
هذه
هي صورة الإيمان وحقيقته ، وهذه هي أبعاده ، فليس هو اُنساً صوفياً يحبس المرء في صومعته ، ولا هو مجرّد دعوىٰ تلجُّ بها الألسن أيضاً ، بل هو
الآفاق الشاسعة التي تتعلق بالفكر والسلوك والنظم والعلائق الإنسانية بأسرها ، وهي آفاق واسعة جداً يضيق المدلول اللغوي لكلمة ( الإيمان ) عن ضبطها وحصرها ، فضلاً عن احتوائها. ولهذا كان الإيمان سراً في نهضة أُمم وازدهارها ، وكان الكفر سرّاً في انهيارها وضياعها.
إذن
، حينما ندرس الإيمان والكفر ، فلسنا ننهمك في مداعبة الروح وتخديرها بالآمال ، ولا تخويفها بالأهوال ، كما قد يتخيل البعض بنظرة تبسيطية سطحية ، وإنّما ندرس في الواقع معادلات الحياة البشرية كلّها ، والتي يشكل الفرد والمجتمع أبرز محاورها.
وإذ
يولي مركزنا هذا الموضوع اهتمامه من خلال هذا الاصدار فهو لا يدعي أنه قد وفىٰ لهذا الموضوع حقّه واستوعب جوانبه وإن ألقىٰ المزيد من النور
علىٰ حقائقه الكبرىٰ ، لا لأجل توسيع آفاق المعرفة بهذا الموضوع ، أو تثقيف
العقول برصيده الفكري الضخم فحسب ، وإنّما لأجل أن تستحيل تلك المعرفة إلىٰ طاقة محركة وقوة دافعة تصبغ الواقع الإنساني في اطار الضمير والشعور بصبغة محاور الإيمان النقية الخيرة ، وتتمثل في حياة الفرد والمجتمع نظاماً وخلقاً.
المقدِّمة
الحمدُ لله الذي حبَّبَ الإيمان لعباده
، وزيّنَهُ في قلوبهم ، وكَرَّهَ إليهم الكُفر والفُسوقَ والعصيانَ. والصلاة والسلام علىٰ منار المؤمنين وقبلتهم ومبير الكافرين وأعوانهم أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين ، وبعد..
لا يخفىٰ أنَّ الإيمان بالله وملائكته
وكتبه ورسله هو ذروة العقيدة الحقّة وسنام الدين الأعلىٰ ، مما ينبغي علىٰ المسلمين في كل عصر وجيل أن يكون ( الإيمان ) هو المقياس الحقيقي للتفاضل بينهم بعيداً عن جميع الاعتبارات الاُخرىٰ التي لم يعطها كتاب الله العزيز قيمة ولا وزناً ، وهو ليس شعاراً يرفعه من يشاء ، وإنما هو سلوك وأدب وخلق وممارسة تتجسد في حياة الفرد بالحرص الشديد علىٰ بغض كل شر وحب كل خير وبثه.
وإذا كان كل مولود يولد مؤمناً
علىٰ الفطرة وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، فإنّ هذا المبدأ الاستعدادي للإيمان منذ الوهلة الاُولىٰ لكلِّ مولود جديد غير كافٍ للوصول إلىٰ الغاية الواضحة التي رسمها القرآن الكريم للإيمان ما لم يقترن ذلك الاستعداد بتربية صحيحة وتوجيه سديد وتعليم متقن ، وإلاّ فلا بدَّ من اهتزاز المثل الإيمانية الرفيعة التي تؤدي إلىٰ انحسار الإيمان الحق شيئاً فشيئاً إلىٰ أن ينسحب ظله
من النفوس لا قدّر الله.
ولا أخال أحداً عاقلاً لا يعي ما
للإيمان من دور فعّال في حياة الفرد والمجتمع ، فنظرة واحدة إلىٰ ما أحرزته الاُمم المتقدمة من انتصارات كبيرة في الأبعاد المادية كتسخيرها للطبيعة وتحقيقها تقدماً باهراً في الطب والتصنيع والاتصال ، تكفي شاهداً علىٰ ما نقول ، لأنَّ هذا التقدّم لم يؤثّر إيجابياً في حياتها النفسية ، فلم تجد الطمأنينة والأمن النفسي بعد ، ولم تذق طعم السلام إلىٰ اليوم ، وتنتاب أفرادها موجة من الشك والقلق والخوف من المستقبل ، تدفعهم إلىٰ الهروب من الحياة أو الانتحار الذي أصبح ظاهرة ملفتة للنظر في المجتمعات الغربية ، لذلك أخذ علماؤها ومفكروها يدقون أجراس الخطر.
كما لم يؤثّر التقدم المادي المشهود في
أبعادها الخُلقية إذ يلاحظ كثرة وتنوع مظاهر الفساد في أكثر البلدان وتفشي ظاهرة الجريمة والشذوذ وتعاطي المخدرات علىٰ أوسع نطاق. وفوق ذلك لم يحدث تطور في تصور الإنسان عن غاية الوجود وأهداف الحياة الإنسانية.
والمثير في الأمر بروز مظاهر جديدة
للكفر تقف وراءها مؤسسات عملاقة أخذت تحارب الإسلام وتحاول النيل من مبادئه والحط من مكانة ومصداقية رموزه.
وأخذت دائرة الكفر تتسع بظهور جماعات
تنتشر في كافة القارات ، وتدعوا ـ علناً ـ لعبادة الشيطان ! ، وقد أوجدت لهذه الغاية طقوساً خاصة وأماكن مخصصة ، مستفيدة من أحدث وسائل الاتصال لنشر أفكارها الهدّامة ، لذلك وجدنا الحاجة ماسة للحديث عن قضية الإيمان والكفر ، ونعتقد أنها من القضايا الحيوية الأولية التي يجب إعطاءها ما تستحقه من أهمية.
صحيح أنّ هناك من تضيق عدسة الرؤية لديه
، ولا يرغب في الحديث عن الإيمان والكفر ، ويرىٰ أنها قضية جانبية هامشية ، وأنّ في الدّنيا قضايا
حياتية أهم. ولكن غاب عن هؤلاء أنّها من القضايا المصيرية التي يتوقف عليها مصير الفرد والمجتمع معاً. خصوصاً وأنّ الإيمان مصدر خير للبشرية ، وأنّ الكفر مصدر شرٍّ لها عبر تاريخها الطويل ، فقد كبّل عقول الناس بالخرافات والأساطير وحط من أخلاقهم وحال دون رقيهم ، كما جلب لهم الخصام والتنازع ولم يذوقوا طعم السلام.
ولأجل بيان ما يلزم بيانه ، قسّمنا
البحث علىٰ فصول أربعة وخاتمة ، آملين أن تسهم في تشخيص معالم الكفر والإيمان وبيان أثرهما علىٰ الفرد والمجتمع كخطوة مباركة ـ إن شاء الله ـ في دعم فطرة الإنسان الاولىٰ وتقويتها وصيانتها والحفاظ عليها من مغبة الانزلاق في مسالك الحياة المادية مع الأخذ بيد المؤمنين إلىٰ ما يقوي إيمانهم ويرفعه درجات.
ومنه تعالىٰ نستمد العون والتوفيق
الفصل
الأول
الإيمان
وعلامات المؤمن
المبحث الأول : معنىٰ
الإيمان ومسمّاه :
أصل الإيمان : الاذعان إلىٰ الحقِّ
علىٰ سبيل التصديق له واليقين. ولكنه صار اسما لشريعة سيدنا محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم
.
واختلفوا في مسمىٰ الإيمان في
العرف الشرعي.
فقد ذهب المعتزلة والخوارج والزيدية
وأهل الحديث إلىٰ أنّ الإيمان اسم لأفعال القلوب والجوارح مع الاقرار باللسان. وأنّ الإيمان يتناول طاعة الله ومعرفته مع ما جعل الله تعالىٰ عليه دليلاً عقلياً أو نقلياً في الكتاب والسُنّة المطهّرة. وأنّ الاخلال بواحد من هذه الاُمور كفرٌ.
وذهب أبو حنيفة والأشعري إلىٰ أنّ
الإيمان يحصل بالقلب واللسان معاً.
وهناك فريق ثالث يرىٰ أنّ الإيمان
عبارة عن الاعتقاد بالقلب فقط. وتبلور عنه اتجاه يحصر الإيمان في نطاق ضيق هو معرفة الله بالقلب حتىٰ ______________
أنّ من عرف الله ثم
جحد بلسانه ومات قبل أن يقرّ به فهو مؤمن كامل الإيمان.
وبالمقابل برز فريق رابع يرىٰ أنّ
الإيمان ـ حصراً ـ هو الإقرار باللسان فقط.
وتبلور عنه اتجاه يرىٰ أنّ الإيمان
هو إقرار باللسان ولكن بشرط حصول المعرفة في القلب .
ولكن التدبر في آيات القرآن الكريم يكشف
حقيقة أُخرىٰ للإيمان بعيدة عن كلِّ ما تقدم ، وهي أنّ الإيمان ليس مجرد العلم بالشيء والجزم بكونه حقاً ، لأنَّ الذين تبين لهم الهدىٰ لم يردعهم ذلك عن الارتداد
علىٰ أدبارهم ولم يمنعهم من الكفر والصد عن سبيل الله ومشاققة الرسول كما في قوله تعالىٰ : ( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَىٰ
أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ... إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن
بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَىٰ ) ومنهم من أضله الله علىٰ علم .
فالعلم إذن لا يكفي وحده في المقام ما
لم يكن هناك نوع التزام بمقتضاه وعقد القلب علىٰ مؤداه بحيث تترتب عليه آثاره ولو في الجملة.
ومن هنا يظهر بطلان ما قيل : أنّ الإيمان
هو العمل ، وذلك لأنّ العمل يجامع النفاق ، فالمنافق له عمل ، وربما كان ممن ظهر له الحق ظهوراً ______________
علمياً ، ولا إيمان
له علىٰ أي حال .
وفي هذا الخصوص ، وردت أحاديث كثيرة عن
أهل البيت عليهمالسلام
تعكس التصور الإيماني الصحيح وفق نظرة شمولية ترىٰ أنّ الإيمان هو عقد بالقلب وقول باللِّسان وعمل بالاركان.
سُئل أمير المؤمنين عليهالسلام
عن الإيمان ، فقال : « الإيمان معرفة بالقلب ، وإقرار باللسان ، وعمل بالأركان »
.
وقال الإمام الباقر عليهالسلام
في معرض تفريقه بين الإسلام والإيمان : «
الإيمان إقرار وعمل والإسلام إقرار بلا عمل »
.
ويؤكد الإمام الصادق عليهالسلام
علىٰ قاعدة التلازم بين القول والعمل في تحقق مفهوم الإيمان ، فيقول : « ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ، ولكن الإيمان ما خلص في القلوب وصدّقته الأعمال »
. وعن سلام الجعفي قال : سألت أبا عبدالله عليهالسلام
عن الإيمان فقال : « الإيمان أن يطاع الله فلا يعصىٰ » .
ويتضح من خلال تلك الأحاديث ونظائرها
أنّ أهل البيت عليهمالسلام قد رفضوا كون الإيمان مجرد إقرار باللسان ، أو اعتقاد بالقلب ، أو بهما معاً ؛ لأنه فهم سطحي قاصر ، إذ هكذا إيمان لا روح فيه ولا حياة ، ما لم يقترن
______________
بالطاعة المطلقة لله
وتنفيذ ما أمر والنهي عما زجر كل ذلك في دائرة الوعي والسلوك والعمل.
هذا ، وتبلغ دائرة الإيمان أقصىٰ
اتساع لها في جواب الإمام الصادق عليهالسلام
علىٰ سؤال عجلان أبي صالح عندما سأله عن حدود الإيمان ، فقال عليهالسلام
: «
شهادة أن لا إله إلاّ الله ، وأنَّ محمدا رسول الله ، والإقرار بما جاء به من عند الله ، وصلاة الخمس ، وأداء الزكاة ، وصوم شهر رمضان ، وحجّ البيت ، وولاية وليّنا ، وعداوة عدّونا ، والدخول مع الصادقين »
.
وهكذا نجد أنّ مفهوم الإيمان في مدرسة
أهل البيت عليهمالسلام
يتجاوز دائرة الاعتقاد المنسلخ عن السلوك ، ويرتكز علىٰ رؤية موحدة ومترابطة تذهب إلىٰ أنّ الاعتقاد القلبي متقدم رتبياً علىٰ الإقرار اللفظي ، ولا
بدَّ من أن يتجسد هذا الاعتقاد وذلك الإقرار في سلوك سوي. ثم إنّ كلّ تفكيك بين الإيمان وبين العمل يفتح الباب علىٰ مصراعيه أمام النفاق والمظاهر الخادعة والدعاوى الباطلة. وعلى هذا الأساس قال الإمام الصادق عليهالسلام
: «
الكفر إقرارٌ من العبد فلا يُكلف بعد إقراره ببيّنة ، والإيمان دعوىٰ لا
يجوز إلا ببيّنة وبينته عمله ونيته »
.
فالإمام عليهالسلام
في هذا الحديث يضع ميزاناً دقيقاً للإيمان يرتكز في أحد كفتيه علىٰ الباطن الذي تعكسه نية الفرد وانعقاد قلبه علىٰ الإيمان ، وفي
الكفة الاُخرىٰ يرتكز علىٰ الظاهر الذي يتمثل بعمله وسلوكه السوي
الذين يكونا كمرآة صافية لتلك النية.
______________
ومن هنا يؤكد الأئمة عليهمالسلام
علىٰ أنّ الإيمان كل لا يتجزأ ، ويرتكز علىٰ ثلاث مقومات : الاعتقاد والإقرار والعمل.
فعن أبي الصلت الهروي ، قال : سألت
الرضا عليهالسلام
عن الإيمان ، فقال عليهالسلام
: «
الإيمان عقد بالقلب ولفظ باللسان ، وعمل بالجوارح ، ولا يكون الإيمان إلاّ هكذا » .
تأمل جيداً في العبارة الأخيرة من
الحديث «
... ولا يكون الإيمان إلاّ هكذا » فهي خير شاهد علىٰ النظرة
الشمولية غير التجزيئية للإيمان التي تتبناها مدرسة أهل البيت عليهمالسلام.
ولم تنطلق تلك النظرة من فراغ ، أو
جرّاء التأثر بالمدارس الكلامية ، وإنما هي ربانية التلقي نبوية التوجيه ، قال الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
الإيمان والعمل شريكان في قرن ، لا يقبل الله تعالىٰ أحدهما إلاّ بصاحبه »
.
ثم إنّ هذه النظرة الشمولية للإيمان ـ بمقوماتها
الثلاثة ـ تستقي من منابع قرآنية صافية ، يقول العلاّمة الراغب الاصفهاني : « والإيمان يُستعمل تارة اسماً للشريعة التي جاء بها محمد عليه الصلاة والسلام وعلىٰ ذلك : (
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ )
ويُوصف به كلُّ من دخل في شريعته مُقراً بالله وبنبوَّته ، قيل وعلى هذا قال تعالىٰ : (
وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ )
وتارةً يستعمل علىٰ سبيل المدح
ويُراد ______________
به إذعانُ النَّفس
للحقِّ علىٰ سبيل التصديق وذلك باجتماع ثلاثة أشياء : تحقيقٌ بالقلب ، وإقرار باللِّسان ، وعمل بحسب ذلك بالجوارح ، وعلىٰ هذا قوله : (
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ )
.
وإن قال قائل : إنَّ الله سبحانه قال : (
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ )
والعطف دليل التغاير ، ومعنىٰ هذا
أنَّ العمل ليس جزءاً في مفهوم الإيمان. قلنا في جوابه : المراد بالإيمان هنا مجرَّد التصديق تماماً كقوله تعالىٰ حكاية عن إخوة يوسف : (
وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ )
أمّا أكمل الإيمان فهو أن يعمل حامله بموجب
إيمانه ، ويؤثره علىٰ ميوله وأهوائه ويتجشم الصعاب من أجله لا لشيء إلاّ طاعة لأمر الله .
وصفوة القول إنّ الإيمان برنامج حياة
كامل ، لا مجرد نية تُعقد بالقلب ، أو كلمة تقال باللِّسان بلا رصيد من العمل الايجابي المثمر.
ونخلص إلىٰ القول بأنّ للايمان
مرتبتين ، تعني الاُولىٰ منهما : التصديق بقول « لا إله إلاّ الله محمد رسول الله » وهذا هو الحد الأدنىٰ من الايمان
، وهو الايمان بمعناه الأعم الذي يصدق علىٰ كل من دخل في دين الإسلام مقراً بالله وبنبوة سيدنا محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم.
______________
فيما يراد بالمرتبة الثانية من الإيمان
ما هو فوق التصديق من الاقرار باللسان والعمل بالاركان ، أي التزام مبادىء الشريعة الإسلامية وأحكامها ، من أداء الواجبات والعمل بالطاعات وتجنب المنكرات والشبهات ، وهذا هو الايمان الممدوح في القرآن والسُنّة.
وهذه المرتبة الاخيرة من الايمان هي
التي ستكون محل الاهتمام في هذا الكتاب ، دون المرتبة الاُولىٰ.
المبحث الثاني : حقيقة الإيمان :
إنَّ حقيقة الإيمان في هذا الوجود هي
أكبر وأكرم الحقائق. لم تدركها النفوس عن طريق دائرة الحس الضيقة ، فليست هي بحقيقة مادية تُدرك بالحواس المعروفة ولكن هي حقيقة معنوية علوية تدركها القلوب السليمة ، فتأخذ النفوس من أقطارها ، وتظهر ثمارها الطيبة نظافة في الشعور ورفعةً في الأخلاق واستقامة في السلوك.
تلك الحقيقة التي تتجسد في نفوس المؤمنين
من خلال مظاهر عديدة ، يمكن الاشارة إلىٰ أبرزها اهتداءً بقبس من نور النبوة وحماة منهجها ، وهي :
أولاً : التسليم لله تعالىٰ والرِّضا
بقضائه : يقول الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
إنَّ لكلِّ شيء حقيقةً وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتىٰ يعلم أنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه »
.
______________
فالمؤمن حقاً هو الواثق بالله تعالىٰ
وحكمته المستسلم لقضائه ، والمتقبل لما يجيء به قدر الله في اطمئنان أياً كان.
روى الصدوق ;
بسنده عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه لقي في
بعض أسفاره ركب فقال : «
ما أنتم ؟ قالوا : نحن مؤمنون ، قال : فما
حقيقة إيمانكم ؟ قالوا : الرّضا بقضاء الله والتسليم لأمر الله والتفويض إلىٰ الله تعالىٰ فقال
: علماء
حكماء كادوا أن يكونوا من الحكمة أنبياء ، فإن كنتم صادقين فلا تبنوا ما لا تسكنون ، ولا تجمعوا ما لا تأكلون واتّقوا الله الذي إليه ترجعون »
.
فالرِّضا بقضاء الله والتسليم لأمره من
أعلىٰ مظاهر الإيمان وهما من أبرز الخصال التي يتصف بها الأنبياء ، ومن يتمسك بها يرتقي إلىٰ قمة الهرم الإيماني ويكون قد حصل علىٰ لباب العلم وجوهر الحكمة.
وفي هذا الصدد قيل لأبي عبدالله عليهالسلام
بأي شيء يعلم المؤمن أنّه مؤمن ؟ قال عليهالسلام
: «
بالتسليم لله والرِّضا بما ورد عليه من سرور أو سخط » .
ثانياً : الحب في الله والبغض في الله :
وهو من أبرز المظاهر العاطفية التي تعكس حقيقة الإيمان ، فحينما يؤثر الإنسان ـ علىٰ ما يحبه ويهواه ـ ما يحبه الله تعالىٰ ويرضاه ، وحينما يكون غضبه للّه لا لمصلحته الخاصة ، فلا شك أنّ هذا الشعور العاطفي العالي يكون مصداقاً جلياً علىٰ عمق إيمانه ومصداقيته. ولذا ورد عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
لا يجد العبد حقيقة الإيمان حتىٰ يغضب لله ، ويرضىٰ لله ، فإذا فعل ذلك فقد استحق حقيقة
______________
الإيمان »
. وعن الإمام الصادق عليهالسلام
: «
لا يبلغ أحدكم حقيقة الإيمان حتى يحب أبعد الخلق منه في الله ، ويبغض أقرب الخلق منه في الله »
.
ثالثاً : التمسك المطلق بالحق :
يقول أمير المؤمنين عليهالسلام
: «
إنَّ من حقيقة الإيمان أن تؤثر الحقّ وإن ضرّك علىٰ الباطل وإن نفعك »
.
إنَّ ترجيح كفة الحق الضار علىٰ كفة
الباطل النافع ما هي إلاّ مظهراً من مظاهر قوة الإيمان الراسخ في أعماق النفس المؤمنة.
رابعاً : حب أهل البيت عليهمالسلام
هو أحد الحقائق الهامة التي تميز الإيمان الصادق عن الزائف ، عن زر بن حبيش قال : رأيت أمير المؤمنين عليهالسلام
علىٰ المنبر فسمعته يقول : « والذي فلق الحبة وبرء النسمة ، أنه لعهد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إلي أنه لا يحبك
إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق »
.
وعن جابر بن عبدالله بن حزام الأنصاري
قال كنا عند رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
ذات يوم جماعة من الأنصار فقال لنا : « يا معشر الأنصار
بوروا أولادكم بحب علي بن أبي طالب فمن أحبه فاعلموا أنه لرشدة ومن أبغضه فاعلموا أنه لغية » .
وعن أبي الزبير المكي قال : رأيت جابراً
متوكئاً علىٰ عصاه وهو يدور في سكك الأنصار ومجالسهم وهو يقول : « علي خير البشر فمن أبىٰ فقد
______________
كفر ، يا معاشر
الأنصار أدبوا أولادكم علىٰ حب علي فمن أبىٰ فانظروا في شأن أُمه » .
وأورد الثعلبي في تفسيره ونقله عنه
الزمخشري في الكشّاف ، والقرطبي المالكي في الجامع لأحكام القرآن ، والفخر الرازي في التفسير الكبير قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
من مات علىٰ حب آل محمد مات شهيدا ، ألا ومن مات علىٰ حب آل محمد مات مغفوراً له ، ألا ومن مات علىٰ حب آل محمد مات تائباً ، ألا ومن مات علىٰ حب آل محمد مات مؤمناً مستكمل الإيمان ، ألا ومن مات علىٰ حب آل محمد بشّره ملك الموت بالجنة ثم منكر ونكير ، ألا ومن مات علىٰ حب آل محمد يزّف إلىٰ الجنة كما تزف العروس إلىٰ بيت زوجها ، ألا ومن مات علىٰ حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلىٰ الجنة ، ألا ومن مات علىٰ حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة ، ألا ومن مات علىٰ حب آل محمد مات علىٰ السُنّة والجماعة.
ألا ومن مات علىٰ بغض آل محمد جاء يوم
القيامة مكتوباً علىٰ عينيه آيس من رحمة الله ، ألا ومن مات علىٰ بغض آل محمد مات كافراً ، ألا ومن مات علىٰ بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة »
.
فالإمام علي عليهالسلام
وأهل بيته رمز الإيمان وعلامة الطهر وعليه فمن أحبهم فقد وجد في قلبه حقيقة الإيمان ، فهم مصابيح الدجىٰ وأعلام ______________
الهدىٰ من
أحبهم ذاق طعم الإيمان قال أبو عبدالله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
إنّه لا يجد عبد حقيقة الإيمان حتىٰ يعلم أنّ مالآخرنا لأوّلنا »
.
ولا يكفي الحب المجرّد بل لا بدَّ من
الاتّباع وتحمل تبعات هذا الحب ، عن أبي عبدالله عليهالسلام
قال : «
إنّا لا نعدُّ الرجل مؤمناً حتىٰ يكون بجميع أمرنا متّبعاً مريداً »
. وعن الإمام الباقر عليهالسلام
: «
لا يبلغ أحدكم حقيقة الإيمان حتىٰ يكون فيه ثلاث خصال : حتىٰ يكون الموت أحبّ إليه من الحياة ، والفقر أحبّ إليه من الغنىٰ ، والمرض أحبّ إليه من الصحة.
قلنا : ومن يكون كذا ؟! قال : كلّكم !
ثم قال :
أيّما أحبُّ إلىٰ أحدكم يموت في حبّنا أو يعيش في بغضنا ؟ فقلت : نموت
والله في حبّكم ؟ قال : وكذلك الفقر ... » قلتُ : إي والله .
فالمقياس النبوي الدقيق لمعرفة حقيقة
الإيمان إذن هو حب أهل البيت عليهمالسلام
والتزام طاعتهم ، والتبرّي من أعدائهم ، وقد عرفنا من خلال بعض ما مرَّ أنه المقياس السليم الذي يتم به الكشف عن حقيقة الإيمان الكامل.
ويمكن تصوير الإيمان والكفر ـ بدليل ما
تقدم ـ بميزان ذي كفتين : كفة بيضاء نقية تشتمل علىٰ حب أهل البيت عليهمالسلام
؛ وهي كفة الإيمان الصادق ، واُخرىٰ سوداء مظلمة من بغضهم عليهمالسلام
؛ وهي ليس إلاّ الكفر والنفاق والمروق من الدين.
______________
خامساً : التدبر والنظرة الواعية :
قد تظهر حقيقة إيمان الإنسان من خلال نظرته الفاحصة الواعية لمن حوله ، فحينما يرىٰ الناس منهمكين في إعمار دنياهم وتخريب دينهم ، فيؤثرون الفاني علىٰ الباقي ، يدرك ـ حينئذٍ ـ أنّ هؤلاء عقلاء في دنياهم حمقاء في دينهم. فهذه النظرة وذلك الإدراك يكشفان عن وصول الإنسان لحقيقة الإيمان الواعي. ومن هنا قال الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
لأبي ذر الغفاري ; : « يا أبا ذرّ لا
تصيب حقيقة الإيمان حتىٰ ترىٰ الناس كلّهم حمقاء في دينهم ، عقلاء في دنياهم »
. وقد ورد عن الإمام الصادق عليهالسلام ما يشير إلىٰ
ذلك بقوله : «
لن تكونوا مؤمنين حتىٰ تعدّوا البلاء نعمة والرَّخاء مصيبة »
.
ولا تكفي ـ بطبيعة الحال ـ النظرة
الواعية في تحقق الإيمان الكامل بل لا بدَّ من موقف معاكس ومخالف لما عليه عامة الناس وهو إيثار الباقي علىٰ الفاني والعزوف عن الدنيا الفانية..
لقي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
يوماً حارثة.. فقال له : « كيف أصبحت يا حارثة ؟
فقال : أصبحت يا رسول الله مؤمناً حقاً ، قال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: إنَّ
لكلِّ إيمان حقيقة ، فما حقيقة إيمانك ؟ قال : عزفت نفسي عن
الدنيا ، وأسهرت ليلي وأظمأت نهاري فكأني بعرش ربي وقد قرب للحساب وكأني بأهل الجنة فيها يتراودون ، وأهل النار فيها يعذّبون.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
:
أنت مؤمن نور الله الإيمان في قلبك ، فاثبت ثبتك
______________
الله »
.
سادساً : السلوك العبادي السوي :
قد تبرز حقيقة الإيمان في سلوك عبادي سويّ ، من خلال العمل بأوامر الله واجتناب نواهيه والنصيحة لأهل بيت رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم. وفي هذا
الصدد قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
من أسبغ وضوءه وأحسن صلاته وأدىٰ زكاة ماله وخزن لسانه وكفَّ غضبه واستغفر لذنبه وأدّىٰ النصيحة لأهل بيت رسوله فقد استكمل حقائق الإيمان وأبواب الجنة مفتحة له » . وقد تظهر حقيقة إيمان العبد في ضبطه لجوارحه وخاصة لسانه ، فقد ورد عن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
قوله : «
لا يعرف عبدٌ حقيقة الإيمان حتىٰ يخزن من لسانه »
.
سابعاً : الموقف الاجتماعي :
وقد تظهر حقيقة الإيمان في موقف إجتماعي مشرّف كأن ينفق المؤمن علىٰ ذوي الفاقة علىٰ الرغم من ضيق ذات يده ، أو أن ينصف الناس من نفسه فلا يُسيء لهم ولا يظلمهم ، أو يبذل علمه للجاهل منهم. كل موقف من هذا القبيل قد يأخذ بيد المؤمن إلىٰ مراقي الصعود في درجات الإيمان ، ويشكّل بمفرده حقيقة من حقائقه الناصعة ، يقول الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
ثلاث من الإيمان : الإنفاق من الإقتار ، وبذل السلام للعالم ، والانصاف من نفسك »
.
ثامناً : حالة الخوف والرجاء :
قد تتمثل حقيقة الإيمان في الجانب النفسي عندما يكون المؤمن في حالة نفسية بين الخوف والرجاء عاملاً ______________
وفق مقتضياتهما. قال
أبو عبدالله الصادق عليهالسلام
: «
لا يكون المؤمن مؤمناً حتىٰ يكون خائفاً راجياً ، ولا يكون خائفاً راجياً حتىٰ يكون عاملاً
لما يخاف ويرجو » .
المبحث الثالث : مراتب الإيمان :
إذا كان الإيمان هو العلم بالشيء مع
الالتزام به بحيث تترتب عليه آثاره العملية ، وكان كل من العلم والالتزام مما يزداد وينقص ويشتد ويضعف ، كان الإيمان المؤلف منهما قابلاً للزيادة والنقيصة والشدة والضعف ، فاختلاف المراتب وتفاوت الدرجات من الضروريات التي ينبغي أن لا يقع فيها اختلاف. هذا ما ذهب إليه الأكثر ، وهو الحق. ويدل عليه من النقل قوله تعالىٰ : ( لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ )
وغيره من الآيات.
كما ورد في أحاديث أئمة أهل البيت عليهمالسلام
الدالة علىٰ أنّ الإيمان ذو مراتب :
كالذي رواه عبدالعزيز القراطيسي قال : قال
لي أبو عبدالله عليهالسلام : «
يا عبدالعزيز أنّ الإيمان عشر درجات بمنزلة السلَّم يصعد منه مرقاة بعد مرقاة فلا يقولنَّ صاحب الاثنين لصاحب الواحد لست علىٰ شيء حتىٰ ينتهي إلىٰ العاشر » .
وكذلك ما ورد عن الإمام الصادق عليهالسلام
أنه قال : «
الإسلام درجة
______________
والإيمان علىٰ الإسلام درجة. واليقين
علىٰ الإيمان درجة. وما أوتي الناس أفضل من اليقين » .
وعن أبي عمرو الزبيدي عن أبي عبدالله عليهالسلام
أنه قال : «
.. الإيمان حالات ودرجات وطبقات ومنازل ، فمنه التام المنتهي تمامه ، ومنه الناقص البيّن نقصانه ، ومنه الراجح الزائد رجحانه ،
قلت : إنَّ الإيمان ليتم وينقص ويزيد ؟ قال عليهالسلام
: نعم..
قلت : .. فمن أين جاءت زيادته ؟ فقال عليهالسلام
: قول
الله عزَّ وجلَّ : (
وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ
هَٰذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ )
. وقال
: (
نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى )
. ولو كان واحداً لا
زيادة فيه ولا نقصان لم يكن لأحد منهم فضل علىٰ الآخر ولاستوت النعم فيه ولاستوىٰ الناس وبطل التفضيل ، ولكن بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنة ، وبالزيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله وبالنقصان دخل المفرّطون النار » .
ومن كلِّ ما تقدم تبين أنّ الإيمان له
مراتب ودرجات متفاوتة بتفاوت العلم والمعرفة والعمل الصالح ، والناس يختلفون تبعاً لذلك قال تعالىٰ : (
هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ )
.
______________
وروىٰ الفضيل بن يسار عن الإمام
الرضا عليهالسلام
قوله : «
إنَّ الإيمان أفضل من الإسلام بدرجة ، والتقوىٰ أفضل من الإيمان بدرجةٍ ، ولم يُعط بنو آدم أفضل من اليقين » .
ولا شكّ أنّ أكثر الخلق إيماناً بالله
تعالىٰ هم الأنبياء والأوصياء عليهمالسلام
، لأنهم صفوة الخلق من العباد ، ثم يليهم رتبة من خلص لله سراً وعلانية.
ومنهم دون ذلك ، يقول الإمام الصادق عليهالسلام
: «
إنَّ الإيمان عشر درجات بمنزلة السلّم ، يصعد منه مرقاة بعد مرقاة.. وكان المقداد في الثانية ، وأبو ذر في التاسعة ، وسلمان في العاشرة »
.
ومنهم من عصفت بهم موجة الشك في أوقات
الشدّة والعسر.
ولا بدَّ من التنويه علىٰ أنّ
الترقي الممدوح هو أن يرتفع المؤشر البياني للإيمان ؛ لأنّ كل هبوط فيه إنّما هو نتيجة الشك أو الشبهة مما يكسب ذلك صاحبه المذمة والملامة ويبعده عن ساحة الحق تعالىٰ.
عن الحسين بن الحكم قال : كتبت
إلىٰ العبد الصالح عليهالسلام
ـ الإمام الكاظم ـ أُخبره إنّي شاك وقد قال إبراهيم عليهالسلام
: (
... رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ) وإنّي أحبُّ أن تريني شيئا ، فكتب عليهالسلام
: «
إنّ إبراهيم كان مؤمناً وأحبَّ أن يزداد إيماناً وأنت شاك والشاك لا خير فيه... »
.
______________
عوامل زيادة الإيمان :
هناك عوامل رئيسية تسهم في إيصال
الإنسان إلىٰ أعلىٰ درجات الإيمان ، يمكن الإشارة إليها بالنقاط التالية : ـ
أولاً : العلم والمعرفة :
لما كان العلم رأس الفضائل صار أمل المؤمن ، لكونه المرتقىٰ الذي يتجه به صعوداً إلىٰ الدرجات الرفيعة ، قال
تعالىٰ : (
يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
دَرَجَاتٍ .. ) .
فالعلم هو الذي يكسب صاحبه الشرف
والسؤدد ، قال أمير المؤمنين عليهالسلام
: «
.. لا شرف كالعلم » وقال ـ أيضاً ـ موصياً بضرورة اقتران العلم بالأدب : « يا مؤمن إنّ هذا العلم والأدب ثمن نفسك
فاجتهد في تعلّمهما ، فما يزيد من علمك وأدبك يزيد من ثمنك وقدرك ، فإنَّ بالعلم تهتدي إلىٰ ربّك ، وبالأدب تحسن خدمة ربّك »
.
فالإمام عليهالسلام
يضع ميزاناً لا يقبل الخطأ وهو كلّما تصاعد المؤشر البياني للعلم المقترن بالأدب في نفس المؤمن كلما زيد في قيمته ومكانته أكثر فأكثر. ومن أجل ذلك كان العلماء أقرب الناس إلىٰ درجة النبوة ، بدليل قول الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
أقرب الناس من درجة النبوّة أهل العلم والجهاد ، أما أهل العلم فدّلوا الناس علىٰ ما جاءت به الرسل ، وأما أهل الجهاد فجاهدوا بأسيافهم علىٰ ما جاءت به الرسل »
.
______________
وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
من جاء أجله وهو يطلب العلم لقي الله تعالىٰ ولم يكن بينه وبين النبيين إلاّ درجة النبوة »
.
وفي القرآن الكريم آيات عدة تشير
إلىٰ دور العلم وأهميته في حقل الإيمان بالله وكتبه وملائكته ورسله ، ومن الآيات الصريحة جداً بهذا المجال قوله تعالىٰ : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ
الْعُلَمَاءُ ) ومن هنا نجد وصايا الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم الكثيرة في
طلب العلم ، وكذلك وصايا أهل البيت عليهمالسلام
نكتفي بما قاله أمير المؤمنين عليهالسلام
: «
تعلم العلم فإنَّ تعلمه حسنة ومدارسته تسبيح والبحث عنه جهاد ، وتعليمه من لا يعلمه صدقة وهو عند الله لأهله قربة ... يرفع الله به أقواماً يجعلهم في الخير أئمة ... »
.
ثانيا : العمل الصالح :
وهو العنصر الثاني الذي يقترن بالإيمان ويسهم في إيصال المؤمن إلىٰ أعلىٰ الدرجات ، قال تعالىٰ : (
وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ )
.
وإذا كان الإيمان يمنح الشخصية
الإيمانية الرؤية الصحيحة وسلامة التصور ونقاء الاعتقاد فإنَّ العمل الذي هو شعار المؤمن يفجّر طاقتها الابداعية ، فتنطلق في آفاق أرحب وتحيىٰ حياة طيبة ، يقول عزَّ من قائل : (
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )
. فالإسلام لا يريد من المؤمن أن ينعزل ______________
عن الحياة ويكتفي
بالإيمان المجرَّد الذي يقصره البعض وفق نظره القاصر علىٰ الاعتقاد القلبي أو التلفظ اللساني ، وإنّما يُريد المؤمن أن يترجم إيمانه إلىٰ عمل صالح يحقق النقلة الحضارية التي تتطلع إليها الاُمّة الإسلامية كأُمّة رائدة.
ومن يتدبر في قوله تعالىٰ : (
.. وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) ، يلاحظ أنه استعمل لفظة « كيف » ولم يقل « كم »
تعملون ، لأن الأهم هو نوعية العمل وأبعاده الحضارية وليس كميته. فمبيت الإمام علي عليهالسلام
ـ علىٰ سبيل المثال ـ ليلة واحدة في فراش الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
أنقذت الرسول والرسالة ، وضربته يوم الخندق كانت تعادل عبادة الثقلين !.
فالإنسان يرتفع بنوعية العمل الذي ينجزه
علىٰ صعيد الواقع ، ومن هنا ركّزت مدرسة أهل البيت عليهمالسلام
علىٰ « الثنائي الحضاري » المتمثل بالإيمان المقترن بالعمل ، وفي هذا الصدد قال أمير المؤمنين عليهالسلام
: «
لا تكن ممّن يرجو الآخرة بغير عمل.. يحبُّ الصالحين ولا يعملُ عملهم... »
.
ومن المعروف أنّ بعض الناس يتّكلون
علىٰ أحسابهم الرّفيعة في كسب المكانة الاجتماعية ، ولكن الإمام علياً عليهالسلام
ركّز علىٰ مقياس العمل وأعطاه الأولوية في تكامل الإنسان ورفعته ، فقال عليهالسلام
: «
من أبطأ به عمله ، لم يسرع به حسبه » .
وكان أئمة أهل البيت عليهمالسلام
علىٰ الرغم من شرف حسبهم ، وسمو ______________
مقامهم الاجتماعي ، يجهدون أنفسهم في
العمل ، فعلىٰ سبيل الاستشهاد أنّ الإمام عليّاً عليهالسلام
قد أعتق من كد يده جماعة لا يحصون كثرة ، ووقف أراضي كثيرة وعيناً استخرجها وأحياها بعد موتها .
وسلك ذات المسلك ولده من بعده ، كانوا يعملون لخدمة الناس فينقلون علىٰ ظهورهم الجراب وفيها الدقيق والأطعمة إلىٰ المحتاجين والفقراء. وكانوا يعملون بأيديهم الكريمة في الشمس المحرقة حباً للعمل واحتساباً لله ، حتىٰ عرّضوا أنفسهم في بعض الاحيان لسهام النقد المسمومة وقوارص الكلام ، ومن الشواهد ذات الدلالة ما ورد عن أبي عبدالله عليهالسلام
قال : «
إنَّ محمد بن المنكدر كان يقول : ما كنت أرىٰ أنّ مثل علي بن الحسين عليهالسلام
يدع خلفاً لفضل علي بن الحسين عليهماالسلام
حتىٰ رأيت ابنه محمد بن علي فأردت أن أعظه فوعظني فقال له أصحابه بأي شيء وعظك ؟ قال : خرجتُ إلىٰ بعض نواحي المدينة في ساعة حارة فلقيتُ محمد بن علي عليهماالسلام
وكان رجلاً بديناً وهو متكىء علىٰ غلامين له أسودين أو موليين له ، فقلت في نفسي شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة علىٰ هذه الحال في طلب الدّنيا لأعظه فدنوت منه فسلمت عليه فسلم عليَّ بنهر وقد تصبب عرقاً فقلتُ أصلحك الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة علىٰ هذا الحال في طلب الدنيا لو جائك الموت وأنت علىٰ هذه الحال قال : فخلىٰ عن الغلامين من يده ثم تساند وقال لو جائني والله الموت ، وأنا في هذه الحال جائني وأنا في طاعة من طاعات الله أكف بها نفسي عنك وعن الناس وإنّما كنت أخاف الموت لو جائني وأنا علىٰ معصية من معاصي الله فقلت يرحمك الله أردت أن أعظك
______________
فوعظتني »
.
ثالثاً : الإيثار :
وهو خصلة كريمة ترفع الإنسان إلىٰ أعلىٰ مراتب الإيمان ، فحينما يرتفع الإنسان فوق ( الأنا ) ويضع مصلحة الآخرين فوق مصلحته الخاصة ، فلا شك أنه قد قطع شوطاً إيمانياً يستحق بموجبه الدَّرجات الرَّفيعة. وقد مدح تعالىٰ أولئك الذين يخرجون من دائرة ( الأنا )
الضيقة علىٰ الرغم من ضيق ذات اليد إلىٰ دائرة أسمىٰ هي دائرة الإنسانية ، فقال عزَّ من قائل : ( .. وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ
وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ.. ) .
وقد كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
من أشد الخلق حرصاً علىٰ تلك الفضيلة السامية ، حتىٰ ورد في الخبر أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
ما شبع ثلاثة أيام متوالية حتىٰ فارق الدنيا ، ولو شاء لشبع ولكنه كان يؤثر علىٰ نفسه .
وبلغ وصيه الإمام علي عليهالسلام
القمة في الإيثار ، وقد ثمنت السماء الموقف التضحوي الفريد الذي قام به عندما بات علىٰ فراش رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
.. فأوحىٰ الله إلىٰ جبرئيل وميكائيل إني آخيت بينكما وجعلت عمر الواحد منكما أطول من عمر الآخر فأيُّكما يؤثر صاحبه بالحياة فاختار كلاهما الحياة. فأوحىٰ الله عزَّ وجلَّ إليهما أفلا كنتما مثل عليّ بن أبي
طالب آخيت بينه وبين محمد فبات علىٰ فراشه يفديه بنفسه فيؤثره بالحياة فأنزل الله تعالىٰ : (
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ
______________
بِالْعِبَادِ )
.
فالإيثار ـ إذن ـ يرفع الإنسان
إلىٰ أعلىٰ الدرجات الإيمانية كما رفع الإمام عليّاً عليهالسلام بحيث أنّ ربِّ
العزة يفاخر به ملائكته المقربين.
ومن الإيثار ما يكون معنوياً كإيثار
الصدق علىٰ الكذب مع توقع الضرر ، وذلك من أجلىٰ علائم الإيمان ، قال أمير المؤمنين عليهالسلام
: «
الإيمان أن تؤثر الصدق حيثُ يضرك علىٰ الكذب حيثُ ينفعك »
.
رابعاً : الخُلق الحسن :
وهو عنوان صحيفة المؤمن ، وأن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة وشرف المنازل وإنّه لضعيف العبادة كما يقول الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
.
وقد ورد عن الإمام أبي جعفر عليهالسلام
: «
إنَّ أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلقاً » .
وقال أمير المؤمنين عليهالسلام
موصياً : «
روضوا أنفسكم علىٰ الأخلاق الحسنة فإنَّ العبد المؤمن يبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم » .
إذن فالخلق الحسن أحد مقاييس الإيمان ، يصل
من خلاله المؤمن إلىٰ مقامات عالية ويحصل به علىٰ أوسمة معنوية رفيعة ، فمن حكم ومواعظ ______________
أمير المؤمنين عليهالسلام
: «
... عليكم بمكارم الاخلاق فإنها رفعة ، وإيّاكم والأخلاق الدّنية فإنها تضع الشريف ، وتهدم المجد »
.
المبحث الرابع : أنواع الإيمان :
يمكن تقسيم الإيمان بالنظر إلىٰ رسوخه
وثباته أو عدمه إلىٰ ثلاثة أقسام هي : ـ
أولاً : الإيمان الفطري :
كإيمان الأنبياء والأوصياء عليهمالسلام
، الذين لا تخالجهم الشكوك ، ولا يكونون نهبا للوساوس ، لأنّ الله تعالىٰ فطرهم علىٰ الإيمان به واليقين بما أخبرهم عنه من مكنون غيبه.
يقول الإمام الصادق عليهالسلام
: «
إنَّ الله جبل النبيين علىٰ نبوتهم ، فلا يرتدون أبداً ، وجبل الأوصياء علىٰ وصاياهم فلا يرتدون أبداً ، وجبل بعض المؤمنين علىٰ الإيمان فلا يرتدون أبداً ، ومنهم من أعير الإيمان عارية ، فإذا هو دعا وألحَّ في الدعاء مات علىٰ الإيمان »
.
ثانياً : الإيمان المستودع :
وهو الإيمان الصوري غير المستقر الذي سرعان ما تزعزعه عواصف الشبهات ووساوس الشيطان ويُعبر عنه ـ أيضاً ـ بالإيمان المعار كأنما يستعير صاحبه الإيمان ثم يلبسه ولكن سرعان ما ينزعه ويتخلىٰ عنه ، ويذهب بعيدا مع أهوائه ومصالحه. عن الفضل بن يونس عن أبي الحسن عليهالسلام
قال : «
أكثر من أن تقول : اللّهمَّ
______________
لا تجعلني من المعارين ولا تخرجني من التقصير..
» .
وكان الأئمة عليهمالسلام
يطلبون من شيعتهم الاكثار من هذا الدعاء وذلك أنّ بعض كبار الأصحاب قد تعرضت رؤيته للاضطراب بفعل عواصف الشبهات ودواعي الشهوات ، عن جعفر بن مروان قال : إنَّ الزبير اخترط سيفه يوم قبض النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
وقال : لا أغمده حتىٰ أُبايع لعليّ ، ثمَّ اخترط سيفه فضارب عليّا فكان ممّن أُعير الإيمان ، فمشي في ضوء نوره ثمَّ سلبه الله إيّاه .
وفي قوله تعالىٰ : (
وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ.. ) إشارة إلىٰ هذين القسمين من الإيمان : الثابت
والمتزلزل. يقول أمير المؤمنين عليهالسلام
: «
فمن الإيمان ما يكون ثابتا مستقرا في القلوب ، ومنه ما يكون عواري بين القلوب والصدور إلىٰ أجل معلوم.. »
.
ثالثاً : الإيمان الكسبي :
وهو الإيمان الفطري الطفيف الذي نمّاه صاحبه واستزاد رصيده حتىٰ تكامل وسمىٰ إلىٰ مستوىٰ رفيع ،
وله درجات ومراتب .
ويمكن تنمية هذا النوع من الإيمان
وترصينه حتىٰ يصل إلىٰ مرتبة الإيمان المستقر ، ولذلك ورد في نصائح أمير المؤمنين عليهالسلام
لكميل قوله : «
يا كميل إنّه مستقر ومستودع ، فاحذر أن تكون من المستودعين ، وإنّما يستحقُّ أن تكون مستقراً إذا لزمت الجادَّة الواضحة التي لا تُخرجك إلىٰ
______________
عوجٍ ولا تزيلُك عن منهج »
.
وتجدر الإشارة إلىٰ أنّ للإيمان
أربعة أركان يستقر عليها ، فمن اتّصف بها كان إيمانه مستقراً ، وحول هذه المسألة قال أمير المؤمنين عليهالسلام
: «
الإيمان له أركان أربعة : التوكل علىٰ الله ، وتفويض الأمر إلىٰ الله
، والرّضا بقضاء الله ، والتسليم لأمر الله عزَّ وجل »
.
كما أنّ للإيمان أربع دعائم معنوية
يرتكز عليها ، يقول الإمام علي عليهالسلام
: «
إنَّ الإيمان علىٰ أربع دعائم علىٰ الصبر واليقين والعدل والجهاد »
.
وفوق ذلك للإيمان عرىٰ وثيقة تأمن
من تمسك بها من السقوط في مهاوي الضلال منها : التقوىٰ والحب في الله والبغض في الله ، وتولي أولياء الله ، والتبري من أعدائه ، ومن الأدلة النقلية علىٰ ذلك ، قول الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
أوثق عرىٰ الإيمان : الولاية في الله ، والحب في الله ، والبغض في الله » .
وقد وجه الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
لاصحابه ـ يوماً ـ سؤالاً استفهامياً : « أي عرىٰ الإيمان أوثق ؟ فقالوا : الله ورسوله
أعلم ، وقال : بعضهم الصلاة ، وقال بعضهم الزكاة.. فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: لكلِّ
ما قلتم فضل وليس به ، ولكن أوثق عرىٰ الإيمان : الحبُّ في الله ، والبغض في الله ، وتولي أولياء الله ،
______________
والتبري من أعداء الله »
.
وأهل بيت العصمة عليهمالسلام
من العرىٰ الوثيقة التي تعصم من تمسك بها عن السقوط في مهاوي الضلال ، وكان أمير المؤمنين عليهالسلام
كثيراً ما كان يردد هذه الكلمات : «
... أنا حبل الله المتين
، وأنا عروة الله الوثقىٰ ، وكلمته التقوىٰ... » .
لم يكن ذلك منه للتفاخر بل لإلفات النظر
إلىٰ أنّ أهل البيت عليهمالسلام
هم العروة الوثقىٰ التي لا انفصام لها ، عن عبدالله بن عباس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
من أحبَّ أن يتمسك بالعروة الوثقىٰ التي لا انفصام لها فليتمسك بولاية أخي وحبيبي علي بن أبي طالب فإنّه لا يهلك من أحبه وتولاّه ولا ينجو من أبغضه وعاداه »
.
المبحث الخامس : علامات المؤمن :
العلامات الأساسية التي يتميز بها المؤمن
عن غيره أربعة ، وهي :
أولاً
: علائم عبادية :
العبادة هي التجسيد الحقيقي للإيمان
وتحتل مركز الصدارة في الكشف عن حقيقة إيمان الإنسان ، فمن آمن بالله تعالىٰ حقاً عليه أن يتقرب إليه بطقوس عبادية تكشف عن عبوديته ، وتعبر عن شكره وحمده لخالقه ، وخير كاشف عن مصداقية الإيمان هو أداء الإنسان لما افترضه الله ______________
عليه من صلاة وصيام
وحج البيت الحرام وما إلىٰ ذلك من فرائض عبادية. يقول أمير المؤمنين عليهالسلام
: «
.. لا عبادة كأداء الفرائض » ، وعن أبي عبدالله عليهالسلام
قال : «
نزل جبرئيل علىٰ النبي ٦ فقال : يا محمد.. ما تقرب إليَّ عبدي المؤمن بمثل أداء الفرائض ، وإنّه ليتنفل لي حتىٰ أحبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها.. » .
وهناك علاقة طردية بين الإيمان والعبادة
، كلما ازداد إيمان العبد كلما أقبل علىٰ العبادة أكثر فأكثر ، وظهرت عليه علائم التفاعل معها والانفعال بها. كما هو حال أهل البيت عليهمالسلام
الذين ضربوا بعبادتهم أروع الأمثلة ، فكانوا عليهمالسلام
إذا حضرت الصلاة تقشعر جلودهم وتصفر ألوانهم ويرتعدون من خوف الله ، فعلى سبيل الاستشهاد لا الحصر ، ورد عن أبي عبدالله عليهالسلام
قال : « كان أبي عليهالسلام يقول : «
كان علي بن الحسين صلوات الله عليهما إذا قام في الصلاة كأنه ساق شجرة لا يتحرّك منه شيء إلاّ ما حرّكه الريح منه »
.
إنَّ العبادة الصادقة تصنع الأعاجيب
وتمنح المؤمن الكرامة وتزوده بالبصيرة الصافية ، قد تجعله يسبر أغوار نفس غيره فيطلع علىٰ ما يدور فيها ، تمعّن في الحكاية التالية التي تكشف عن بعض كرامات الإمام موسىٰ الكاظم عليهالسلام
كما روتها مصادر العامّة : « عن شقيق البلخي قال : خرجت حاجاً في سنة تسع وأربعين ومئة ، فنزلت القادسية ، فبينما أنا أنظر إلىٰ الناس وزينتهم وكثرتهم ، نظرت فتىٰ حسن الوجه فوق ثيابه ثوب
______________
صوف مشتملاً بشملة
وفي رجليه نعلان ، وقد جلس منفرداً ، فقلت في نفسي : هذا الفتىٰ من الصوفية يريد أن يكون كلاً علىٰ الناس في طريقهم
، والله لأمضينَّ إليه ولأوبخنه ، فدنوت منه ، فلما رآني مقبلاً قال : «
يا شقيق (
اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ) »
وتركني ومضىٰ ، فقلتُ في نفسي : إنَّ هذا لأمر عظيم قد تكلم علىٰ ما في نفسي ونطق باسمي ، ما هذا إلاّ عبد صالح ، لألحقنه ولأسألنه أن يحللني ، فأسرعت في أثره فلم ألحقه ، وغاب عن عيني ، فلما نزلنا واقصة إذا به يصلي وأعضاءه تضطرب ، ودموعه تجري فقلت : هذا صاحبي أمضي إليه وأستحله ، فصبرت حتىٰ جلس وأقبلت نحوه ، فلما رآني مقبلاً قال : «
يا شقيق اقرأ (
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ
اهْتَدَىٰ ) »
ثم تركني ومضىٰ ، فقلتُ : إنَّ هذا الفتىٰ لمن الأبدال ، قد تكلم علىٰ سري
مرتين ، فلما نزلنا إلىٰ منىٰ إذا بالفتىٰ قائم علىٰ البئر وبيده
ركوة يريد أن يستقي ، فسقطت الركوة من يده إلىٰ البئر وأنا أنظر إليه ، فرأيته قد رمق السماء وسمعته يقول :
« أنت ربي إذا ظمئت من الماء
|
|
وقوتي إذا أردت الطعاما
|
اللهمَّ أنت تعلم يا إلهي وسيدي ما لي سواها ، فلا
تعدمني إياها » ، قال شقيق.. : فو الله لقد رأيت البئر وقد ارتفع ماؤه ، فمدّ يده وأخذ الركوة وملأها ماء وتوضأ وصلىٰ أربع ركعات ثم مال إلىٰ كثيب من رمل ، فجعل يقبض بيده ويطرحه في الركوة ويحرّكه ويشرب ، فأقبلت إليه وسلمت ______________
عليه ، فردَّ عليَّ
السلام ، فقلت أطعمني من فضل الله ما أنعم الله تعالىٰ به عليك فقال : «
يا شقيق لم تزل نعمة الله تعالىٰ علينا ظاهرة وباطنة ، فأحسن ظنك بربك » ثم ناولني الركوة
فشربت منها ، فإذا سويق وسكر ، فوالله ما شربت قطّ ألذَّ منه ولا أطيب منه ريحاً ، فشبعت ورويت وأقمت أياماً لا أشتهي طعاماً ولا شراباً ، ثم لم أره حتىٰ دخلنا مكة فرأيته ليلة في جنب قبة الشراب في نصف الليل يصلي بخشوع وأنين وبكاء ، فلم يزل كذلك حتىٰ ذهب الليل ، فلما رأىٰ الفجر جلس في مصلاه يسبح ثم قام فصلىٰ
، فلما سلم من صلاة الصبح طاف بالبيت أسبوعاً وخرج فتبعته ، فإذا له حاشية وأموال ، وهو علىٰ خلاف ما رأيته في الطريق ، ودار به الناس من حوله يسلمون عليه ، فقلت لبعض من رأيته بالقرب منه ؟ من هذا الفتىٰ ؟ فقال : هذا موسىٰ بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين.. رضوان الله عليهم أجمعين ، فقلتُ : قد عجبت أن تكون هذه العجائب والشواهد إلاّ لمثل هذا السيد » .
يبقىٰ أن نشير إلىٰ أنّ
العبادة لا ينحصر مصداقها في الصلاة والصيام وما إلىٰ ذلك من الفرائض العبادية ، بل توجد لها مصاديق أعلىٰ ، تكشف لنا عن علائم المؤمن كالفكر والذكر ، فعن أمير المؤمنين عليهالسلام
أنّ : «
التفكر في آلاء الله نعم العبادة » ، وعنه أيضاً أنّ : « التفكر في ملكوت السماوات والأرض عبادة المخلصين »
.
______________
فالإنسان إذا كان شغله الشاغل التفكر في
خلق الله وآلائه فمن الطبيعي والحال هذه أن يترجم هذا الفكر إلىٰ ذكر يفيض بمعاني الحمد والعرفان ، وهذا من أجلىٰ مظاهر الإيمان.
يقول علماء النفس : قل لنا فيم تفكر نقل
لك من أنت.
ففكر الإنسان الذي يتجسد في أقواله
وينعكس علىٰ أعماله يكشف عن شخصيته ومتبنياته العقيدية.
والإسلام يعتبر التفكر في أمر الله مؤشرا
عظيما علىٰ الإيمان ، يقول الإمام الصادق عليهالسلام : «
ليست العبادة كثرة الصلاة والصوم إنّما العبادة التفكر في أمر الله عزَّ وجلَّ » .
وقد : « سئلت أمّ أبي ذرّ عن عبادة أبي
ذر فقالت : كان نهاره أجمع يتفكر في ناحية عن الناس » .
ثانياً
: علائم نفسية :
يتميز المؤمن عن غيره بعدة علائم نفسية
، يمكن الإشارة إلىٰ أبرزها بالنقاط التالية :
١ ـ الصلابة والثبات :
فالمؤمن يكون ثابتاً كالطود الشامخ لم تزعزعه الحوادث ويستسهل كل صعب بقلب مطمئن بقضاء الله وقدره ، ويتمسك بعروة الصبر في مواطن الخطر ، وقور لا يخرج عن طوره ، شاكراً لربه قانعاً برزقه ، يؤثر راحة الآخرين علىٰ راحته كالشجرة العظيمة في الصحراء ______________
المحرقة تُظلل الناس
بوارف ظلها ، وهي تصطلي حرَّ الهاجرة وأوارها. روي عن الإمام الصادق عليهالسلام
أنّه قال : «
ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثمان خصال : وقورٌ عند الهزائز ، صبور عند البلاء ، شكور عند الرخاء ، قانع بما رزقه الله ، لا يظلم الأعداء ، ولا يتحامل للأصدقاء ، بدنه منه في تعب ، والناس منه في راحة » .
ولا بدَّ من إلفات النظر إلىٰ أنّ
المؤمن وعلىٰ الرغم من صلابته الإيمانية فهو يتصف بالمرونة مثل العشب الناعم ينحني أمام النسيم ولكن لا ينكسر للعاصفة ، يقول الإمام الصادق عليهالسلام
: «
المؤمن له قوّة في دين ، وحزم في لين ، وإيمان في يقين »
.
٢ ـ إلتزام الحق عند الرّضا والغضب :
المؤمن لا يندفع بغريزته إلىٰ آفاق تبعده عن ساحة الحق ، كما أنه يقاوم بلا هوادة نزعة الغضب الكامنة في نفسه حتىٰ لا تجره إلىٰ مهاوي الباطل ، وفي حالة امتلاكه القوة أو
القدرة يتجنب الظلم والعدوان كأمير المؤمنين عليهالسلام
الذي كان يرىٰ أن سلب جُلب شعيرة من نملة ظلم وعصيان للّه وابتعاد عن الحق ، وفي ذلك يقول : «
والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها علىٰ أن أعصي الله في نملة أسلبها جُلب شعيرة ما فعلته.. »
.
وعليه فالمؤمن من يبلغ مرحلة من السموّ
الروحي والتهذيب الوجداني بحيث لا يخرج عن جادة الحق المستقيمة ، وفي هذا الأطار ______________
ورد عن أبي حمزة قال
: سمعت فاطمة بنت الحسين عليهالسلام
تقول : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
ثلاث من كنَّ فيه استكمل خصال الإيمان ، الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في باطل ، وإذا غضب لم يخرجه غضبه من الحقِّ ، وإذا قدر لم يتعاط ما ليس له » .
أنّ القوة الحقيقية هي القوة النفسية
التي يصنعها الإيمان ويرسخها اليقين ، تلك القوة التي يتميز بها المؤمن والتي يتمكن من خلالها من كبح عواطفه المتأججة عند نشوة الحب وسورة الغضب وسكرة القوة التي تغري صاحبها بالجموح والغطرسة ، فعن الإمام الصادق عليهالسلام
، عن أبيه عن جده عليهالسلام
قال : «
مرَّ رسول الله ٦ بقوم يرفعون حجراً ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : نعرف بذلك أشدّنا وأقوانا فقال : ألا أخبركم بأشدّكم وأقواكم ؟ قالوا : بلىٰ يا رسول الله ، قال : أشدّكم وأقواكم الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا باطل ، وإذا سخط لم يخرجه سخطه من قول الحق وإذا قدر لم يتعاط ما ليس له بحق » .
٣ ـ البشر وانشراح الصدر :
من العلائم الاُخرىٰ للمؤمن أنّ البشر يطفح علىٰ وجهه أما حزنه فيدفنه في أعماق قلبه كما إنّه يمتاز بسعة الصدر وإنشراحه ، قال أمير المؤمنين عليهالسلام
محدداً أبرز علامات المؤمن : «
المؤمن بشره في وجهه وحزنه في قلبه ، أوسع شيء صدرا ، وأذل شيء نفساً ، يكره الرفعة ، ويشنأ السمعة ، طويل غمه ، بعيدٌ همهُ ، كثيرٌ صمته ، مشغول وقتُه. شكورٌ صبور ، مغمور بفكرته ، ضنين بخلَّته ، سهلُ الخليقة ،
______________
ليِّن العريكة ! نفسه أصلب من الصلد وهو أذل من
العبد » .
وعن أبي عبدالله عليهالسلام
قال : «
ما من مؤمن إلاّ وفيه دُعابة ، قلتُ : ما الدعابة ؟ قال : المزاح » .
فالمؤمن تتألق ملامحه بالبشر والنور وتفيض عيناه بالوداعة واللطف فيعبر عما يجيش في نفسه من أحاسيس خيرة تجاه الناس عن طريق المزاح محاولاً إدخال السرور علىٰ قلوبهم ، علىٰ العكس من المنافق الذي يغلي قلبه غيضاً وحقداً كالمرجل علىٰ المؤمنين ، فينعكس ما في داخله علىٰ صفحات وجهه فتجده مقطب الجبين تنتابه نوبات من الهستريا والغضب.
وقد ورد عن الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
أنّه قال : «
المؤمن دعبٌ لعبٌ ، والمنافق قطب غضب » .
والملاحظ أنه في الوقت الذي يُعتبر ( المزاح
) أحد علائم المؤمن النفسية ، نجد أنّ الإسلام يحث علىٰ عدم الاسراف فيه بحيث يصل إلىٰ حد السخف والسفاهة أو تجافي الحق. وقد كان الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
يمازح أصحابه وأهل بيته عليهمالسلام ويحب إدخال السرور
علىٰ الجميع ، ولكن لا يقول إلاّ حقاً ، ولا يخرج عن طوره ، ولا يخل بوقاره وهيبته.
عن الإمام الصادق عليهالسلام
: «
أنَّ الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
قال : كثرة المزاح يذهب بماء الوجه ، وكثرة الضحك يمحو الإيمان.. »
.
______________
وعن أبي عبدالله عليهالسلام
قال : «
كان بالمدينة رجل بطّال يضحك الناس منه ، فقال : قد أعياني هذا الرجل أن أضحكه يعني علي بن الحسين عليهماالسلام
قال : فمرَّ علي عليهالسلام وخلفه موليان له
فجاء الرجل حتىٰ انتزع ردائه من رقبته ثم مضىٰ لم يلتفت إليه علي عليهالسلام
فاتبعوه وأخذوا الرداء منه فجاؤا به فطرحوه عليه ، فقال لهم من هذا ، فقالوا له هذا رجل بطّال يضحك أهل المدينة ، فقال عليهالسلام : قولوا له إنَّ
لله يوماً يخسر فيه المبطلون »
.
٤ ـ قوة الإرادة :
وهي من علامات المؤمن الرئيسية التي يتمكن من خلالها من كبح شهواته والسيطرة علىٰ غرائزه ، فالإنسان بلا إرادة كالسفينة بلا بوصلة سرعان ما تنحرف عن المسير فالإرادة هي الخيط المتين الذي يكبح جموح النفس ويمكّنها من السيطرة علىٰ رغباتها. فمن يفتقد الإرادة ـ إذن ـ يكون حاله كقارب تمزقت حبال مرساته في بحر هائج مائج !
وهنا يبدو من الضروري بمكان الإشارة
الاجمالية إلىٰ علائم نفسية أُخرىٰ تميز المؤمن عن غيره قد تنكشف لنا من خلال نظرته الواعية لمن حوله وما حوله ، كما قد تظهر أيضاً في طبيعة صمته وذكره أو سرعة رضاه وعفوه عمن أساء إليه ، كما قد ننتهي إليها من نيته وما يضمره من الخير للغير ، ويجمع هذه الاُمور ما ورد عن أمير المؤمنين عليهالسلام
: «
إنَّ المؤمن إذا نظر اعتبر ، وإذا سكت تذكّر ، وإذا تكلّم ذكر ، وإذا استغنىٰ شكر. وإذا أصابته شدّة صبر ، فهو ربيب الرضىٰ بعيد السخط ، يرضيه عن الله اليسير ، ولا يسخطه الكثير ولا يبلغ بنّيته إرادته في الخير ، ينوي كثيراً في الخير
______________
ويعمل بطائفةٍ منه ويتلهف علىٰ ما فاته
من الخير كيف لم يعمل به » .
٥ ـ الاستغلال الأمثل للزمن :
للزمن ـ كما هو معروف ـ قيمة حضارية كبرىٰ ، لذلك نجد المؤمن حريصاً علىٰ الزمن الذي هو رأس مال حضاري كبير ، فيقسّم أوقاته بين العبادة الحقة والعمل المثمر واللذَّة المباحة ، لذلك ورد عن أمير المؤمنين عليهالسلام
: «
للمؤمن ثلاثُ ساعات : فساعة يُناجي فيها ربَّهُ ، وساعة يَرُمُّ معاشه ، وساعة يُخلِّي بين نفسه وبين لذتها فيما يحلُ
ويجمُلُ. وليس للعاقل أن يكون شاخصاً إلاّ في ثلاث : مرَمَّةٍ لمعاش ، أو خطوةٍ في معادٍ ، أو لذَّةٍ في غير مُحرَّمٍ »
.
إذن فأحد علامات المؤمن الحضارية هي
الحرص علىٰ الزمن والاستغلال الأمثل له.
ثالثاً
: علائم أخلاقية :
لا يخفىٰ أنّ هناك علاقة وطيدة
بين الإيمان والأخلاق ، كلّما سما المؤمن في إيمانه كلّما حسنت أخلاقه وعليه فالمؤمن المتسلح بإيمان عميق نجد أنه يتصف بخلق رفيع. والأخلاق ـ بدورها ـ هي السور الواقي الذي يصون المؤمن من التردي في مهاوي الضلال والرَّذيلة. ومما يكشف لنا عن عمق نظرة الإمام الصادق عليهالسلام
أنه يحثّ أصحابه علىٰ عدم الانخداع بالمظاهر العبادية للرجل التي قد لا تكلفه شيئاً وقد تنجم عن الألفة والعادة ، ولكن يجب النظر إلىٰ مظاهره الأخلاقية : كالصدق ، والأمانة ، فمن خلال إلتزامه الدائم بها يظهر إيمانه علىٰ حقيقته ، يقول عليهالسلام
: ______________
« لا تنظروا إلىٰ طول ركوع الرجل وسجوده
فإنَّ ذلك شيء قد اعتاده فلو تركه استوحش لذلك ولكن انظروا إلىٰ صدق حديثه وأداء أمانته »
.
وقال عليهالسلام
أيضاً : «
المؤمن لا يُخلق علىٰ الكذب ولا علىٰ الخيانة »
.
ويذهب أهل البيت عليهمالسلام
في تعاليمهم الأخلاقية إلىٰ أقصىٰ حد ، فعن أبي حمزة الثمالي قال : «سمعتُ سيد الساجدين علي بن الحسين عليهماالسلام
يقول لشيعته : «
عليكم بأداء الأمانة ، فو الذي بعث محمداً بالحق نبياً لو أنّ قاتل أبي الحسين بن علي بن أبي طالب عليهمالسلام
ائتمنني علىٰ السيف الذي قتله به لأديته إليه ».
ونسج حفيده الإمام الصادق عليهالسلام
علىٰ هذا المنوال ، فقال لأصحابه : «
اتقوا الله وعليكم بأداء الأمانة إلىٰ من ائتمنكم فلو أنّ قاتل أمير المؤمنين عليهالسلام ائتمنني علىٰ
أمانة لأديتها إليه » .
وهناك خصلة أخلاقية تميز المؤمن عن غيره
هي خصلة الحياء ، والواقع أنّ الحياء والايمان صفتان متلازمتان يؤدي زوال أحديهما إلىٰ زوال الاُخرىٰ ، وهذا هو ما عبر عنه الإمام الباقر عليهالسلام
بقوله : «
الحياء والإيمان مقرونان في قرن فإذا ذهب أحدهما تبعه صاحبه »
.
وهناك خصال أخلاقية أُخرى كالفهم
والرأفة. تشكّل مع الحياء أبرز ______________
علائم المؤمن ، قال
الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم : «
... وأمّا علامة المؤمن فإنَّه يرأف ويفهم ويستحي » .
أضف إلىٰ ذلك ليس من أخلاق المؤمن
أن يحسد الناس علىٰ ما آتاهم الله من فضله ، عن أبي عبدالله عليهالسلام
: «
إنَّ المؤمن يغبط ولا يحسد والمنافق يحسد ولا يغبط » . لأنَّ المؤمن يعلم جيداً أنّ الرزق بيد الله
تعالىٰ يقسمه وفق علمه وحكمته وما صرف عنه قد يكون رحمةً به لانقمة عليه.
كما أنّ من أبرز علائم المؤمنين أنهم لا
يسيئون إلىٰ الآخرين حتىٰ يعتذروا منهم ، علىٰ عكس المنافقين الذين ديدنهم الإساءة ثم الاعتذار قال الإمام الحسين عليهالسلام
: «
إياك وما تعتذر منه ، فإنَّ المؤمن لا يسيء ولا يعتذر ، والمنافق كلَّ يوم يُسيء ويعتذر »
.
رابعاً
: علائم اجتماعية :
من الاُمور الهامة التي تكشف عن مدىٰ
إيمان الفرد شعوره نحو أبناء جنسه وعلاقته معهم. فالمؤمن الواقعي لا يدفن رأسه في رمال اللامبالاة بل يتحسس معاناة الناس ويمد يد العون لهم ، وقد ورد عن الإمام الصادق عليهالسلام
أنّه قال : «
المؤمن حسن المعونة خفيف المؤونة.. »
.
وكان أئمة أهل البيت عليهمالسلام
نموذجاً فريداً للإيمان الكامل يقدّمون العون للفقراء والمعوزين ـ كما أشرنا سابقاً ـ ويحرصون علىٰ عدم الكشف ______________
عن شخصياتهم ، توخياً
للثواب الجزيل علىٰ صدقة السر ، وبُعداً عن الرياء فكانوا في إعانة الملهوف كالبنفسج المختبىء بين لفائف الأدغال ينشق الناس طيبه ويحمدون عرفه وإن لم يعرفوا مكانه. وفي الخصال بسنده عن الباقر عليهالسلام : «
كان علي بن الحسين عليهماالسلام يخرج في الليلة
الظلماء فيحمل الجراب علىٰ ظهره وفيه الصرر من الدنانير والدراهم ، وربما حمل علىٰ ظهره الطعام أو الحطب حتىٰ يأتي باباً باباً فيقرعه ثم يناول من
يخرج إليه ، وكان يغطي وجهه إذا ناول فقيراً لئلا يعرفه فلما توفىٰ فقدوا ذلك فعلموا أنه كان علي بن الحسين ، ولقد خرج ذات يوم وعليه مطرف خز فتعرض له سائل فتعلق بالمطرف فمضىٰ وتركه »
.
من جانب آخر أنّ المؤمن ألف مألوف ، يتحبب
إلىٰ الناس ، ويسعىٰ لكسب رضاهم ، يقول أمير المؤمنين عليهالسلام
: «
المؤمن مألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف » . فالمؤمن لا يعيش منعزلاً خلف الأسوار العالية والابراج العاجية ، بل يتفاعل مع الناس ويحرص علىٰ مداراتهم والترَّفق بهم ، وقد اعتبر الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
أنّ : «
مداراة الناس نصف الإيمان ، والرفق بهم نصف العيش » .
وهناك قرينة اجتماعية قوية تفرز لنا
الإيمان الحقيقي من المزيف وهي علاقة المؤمن بجيرانه ، فمن أحسن إليهم كشف لسان حاله عن عمق إيمانه. وقد صاغ الإمام الصادق عليهالسلام
قاعدة تلازمية لا تقبل الخطأ بين الإيمان والإحسان إلىٰ الجيران ، عن أبي حمزة قال : سمعتُ أبا ______________
عبدالله عليهالسلام
يقول : «
المؤمن من أمِن جاره بوائقه ، قلتُ : ما بوائقه ؟ قال : ظلمه وغشمه » . وفي كتب السيرة : « أنَّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: أتاه رجل من الأنصار فقال : إنّي اشتريت داراً من بني فلان ، وإنَّ أقرب جيراني منّي جواراً من لا أرجو خيره ولا آمن شرّه. فأمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
عليّاً وسلمان وأبا ذر.. أن ينادوا في المسجد بأعلىٰ أصواتهم بأنّه «
لا إيمان لمن لم يأمن جاره بوائقه ». فنادوا بها ثلاثاً
» .
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
أيضاً : «
ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع.. »
. فحسن الجوار ـ إذن ـ من أبرز العلائم الاجتماعية للمؤمن.
______________
الفصل
الثاني
الكفر
وعلامات الكافر
المبحث الأول : معنىٰ الكفر
:
حدد الإمام الصادق عليهالسلام
معنىٰ الكفر أفضل تحديد ، بقوله : « كلّ معصية عُصي الله بها بجهة الجحد والإنكار والاستخفاف والتهاون في كلِّ ما دقّ وجلّ وفاعله كافر ومعناه معنىٰ كُفر ، من أيّ ملّةٍ كان ومن أيّ فرقة
كان بعد أن تكون منه معصية بهذه الصفات فهو كافر... »
.
ويرسم لنا الإمام الباقر عليهالسلام
قاعدة عامة في مسألة الإيمان والكفر هي : «
كلّ شيء يجرّه الإقرار والتسليم فهو الإيمان ، وكلّ شيء يجرّه الإنكار والجحود فهو
الكفر » .
ومن يستقرأ موجبات الكفر في أحاديث أهل
البيت عليهمالسلام
يجد أنها تتمحور ـ أساساً ـ حول الفقرات التالية :
أولاً : الشك في الله تعالىٰ ورسوله :
يقول الإمام الصادق عليهالسلام
: «
من شكَّ
______________
في الله وفي رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
فهو كافر » .
وعن منصور بن حازم قال : قلتُ لأبي عبدالله
عليهالسلام
من شك في رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
قال : «
كافر » .
ثانياً : ترك العمل بالفرائض الواجبة أو جحدها
: وحول هذه الفقرة يقول الإمام الصادق عليهالسلام
: «
.. إنَّ الله عزَّ وجل فرض فرائض موجبات علىٰ العباد فمن ترك فريضة من الموجبات فلم يعمل بها وجحدها كان كافراً »
. وعن جابر عن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
بين الإيمان والكفر ترك الصلاة »
.
ثالثاً : الانحراف العقائدي :
وقد يتمثل في تشبيه الله بخلقه وإطلاق صفات المخلوقين عليه ، يقول الإمام الرضا عليهالسلام
: «
من وصف الله بوجه كالوجوه فقد كفر » .
ومن مظاهر الانحراف الاُخرىٰ الموجبة
للكفر القول بالجبر والتفويض ، فقد ورد عن الإمام الرضا عليهالسلام
إنَّ : «
.. القائل بالجبر كافر ، والقائل بالتفويض مشرك » . كما ورد عنه عليهالسلام
أنّ القول بالتناسخ موجب ـ أيضاً ـ للكفر ، قال : «
من قال بالتناسخ فهو كافر بالله العظيم مكذّب بالجنة والنار » .
______________
رابعاً : إدعاء الإمامة :
فقد جاء عن الصادق عليهالسلام
أنّه قال : «
من ادّعىٰ الإمامة وليس من أهلها فهو كافر »
.
خامساً : بغض أهل البيت عليهمالسلام
: وهو من الموارد التي تؤدي إلىٰ الكفر
، قال الإمام الباقر عليهالسلام
لزيد الشحام : «
يا زيد حُبنا إيمان وبغضنا كفر »
. وعن عبدالله بن مسعود قال : سمعتُ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
يقول : «
من زعم أنه آمن بي وبما جئت به وهو يبغض عليّاً عليهالسلام
فهو كاذب ليس بمؤمن » . وقد تقدم ما يدل عليه في حب أهل البيت عليهمالسلام
أيضاً.
المبحث الثاني : وجوه الكفر وحدوده
:
ما أكثر وجوه الكفر وألوانه وما أكثر
الطرق المؤدية إليه ، بعضها واضح جلي وبعضها غامض خفي ، يسير عليها الإنسان ولا يعلم أنه صائر إلىٰ الهاوية.
وقد كشف لنا الإمام الصادق عليهالسلام
بما امتاز به من نظرة قرآنية عميقة ، عن وجوه الكفر في القرآن ، عن أبي عمرو الزبيري ، عن أبي عبدالله عليهالسلام
قال : قلتُ له أخبرني عن وجوه الكفر في كتاب الله عزَّ وجلَّ قال عليهالسلام
: «
الكفر في كتاب الله علىٰ خمسة أوجه فمنها : كفر الجحود ، والجحود علىٰ
وجهين ، والكفر بترك ما أمر الله ، وكفر البراءة ، وكفر النعم. فأما كفر الجحود فهو الجحود بالربوبية وهو قول من يقول : لا ربّ ولا جنّة ولا نار
______________
وهو قول صنفين من الزّنادقة يقال لهم : الدّهرية
وهم الذين يقولون : (
.. وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ )وهو دين وضعوه
لأنفسهم بالاستحسان علىٰ غير تثبت منهم ولا تحقيق لشيء مما يقولون.. وقال :
(
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ )
. يعني بتوحيد الله
تعالىٰ فهذا أحد وجوه الكفر.
وأما الوجه الآخر من الجحود علىٰ معرفة
وهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنّه حقّ قد استقر عنده وقد قال الله عزَّ وجلَّ :
(
وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا.. )
وقال الله عزَّ وجل : (
.. مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ
فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ )
فهذا تفسير وجهي الجحود.
والوجه الثالث من الكفر كفر النعم وذلك قوله
تعالىٰ يحكي قول سليمان عليهالسلام : (
.. هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن
شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ )
. وقال : ( لَئِن شَكَرْتُمْ
لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ )
.
وقال : ( فَاذْكُرُونِي
أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ )
.
______________
والوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر الله عزَّ
وجلَّ به وهو قول الله عزَّ وجلَّ : (
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ
أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ
فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ
أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ
بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ.. ) فكفّرهم بترك ما
أمر الله عزَّ وجلَّ به ونسبهم إلىٰ الإيمان ولم يقبله منهم ولم ينفعهم عنده فقال : ( فَمَا جَزَاءُ مَن
يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ
الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) .
والوجه الخامس من الكفر كفر البراءة وذلك قوله
عزَّ وجلَّ يحكي قول إبراهيم عليهالسلام :
(
.. كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ
أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ.. )
. يعني تبرأنا منكم ، وقال
يذكر إبليس وتبرئته من أوليائه من الإنس يوم القيامة
: (
.. إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ )
.
وقال : ( .. إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللهِ
أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا.. )يعني يتبرّء بعضكم من بعض » .
ومن الكفر العظيم ما يتصل بإنكار الأنبياء أو
تكذيبهم فيما ينقلون عن
______________
الله تعالىٰ مما
وصل إلينا بطريق التواتر ، أو التفريق بينهم ، أو الإيمان ببعض الأنبياء والكفر ببعض ، قال تعالىٰ : ( إِنَّ الَّذِينَ
يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ
بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ.. أُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا )
.
ويدخل في زمرة الكافرين أهل الأديان
الاُخرىٰ الذين يُنكرون نبوة محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم
وعموم رسالته وأنه خاتم النبيين ، فالقرآن يقول عن اليهود الذين عرفوا أنّ نبوة محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم
حق في عصره ثم أنكروها إستكباراً وعناداً : (
فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى
الْكَافِرِينَ ) .
ويدخل ـ أيضاً ـ في زمرة الكافرين الذين
أنكروا كون القرآن الكريم من عند الله تعالىٰ : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللهِ
ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ.. ) .
ولا بدَّ من التنويه علىٰ أنّ
الكفر ليس ذاتياً في الإنسان بل هو عارض يضعف ويقوى ، فإذا قوىٰ حجب الإيمان وستره ولكن لا ينفيه ولا يبطله بدليل أنّ من يكفر قد يعود بالتوبة أو بالهداية من الله إلىٰ الإيمان بعد الكفر قبل أن يموت ، فإذا مات فحكمه أنّه
كافر. ومن الشواهد الدالة علىٰ ازدياد الكفر ما ورد عن محمد بن مسلم قال : قلتُ لأبي عبدالله عليهالسلام
: (
عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ )
قال : « العُتُلُّ العظيم
الكفر ، والزنيم المستهتر
______________
بكفره »
.
من جانب آخر نجد نمطاً من الناس قد
أسرُّوا الكفر ولكن أظهروا الإيمان نفاقاً ، فهم كالحرباء التي تتأقلم مع الظروف وتتمحور حول المصالح الذاتية ، وكنموذج من أولئك المنافقين في تاريخنا الإسلامي ممن انطلىٰ نفاقهم وكفرهم علىٰ شريحة واسعة من المسلمين لتسترهم بظاهر الإسلام : معاوية بن أبي سفيان وحزبه.
ولا نقول ذلك اجتهادا منّا بل لتواتر
التصريح به ، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام فقد حلف بأغلظ
الأيمان لأصحابه الذين صفهم في صفين ، علىٰ نفاق وزيف إيمان أعدائهم بل وكفرهم ، قائلاً : «
.. فو الذي فلق الحبَّة ، وبرأ النسمة ، ما أسلموا ولكن استسلموا ، وأسرُّوا الكفر ، فلما وجدوا أعواناً عليه أظهروه » . فهذا نموذج من الناس يعيش حالة الفصام بين الظاهر والباطن ، فيظهر الإيمان ويبطن الكفر وهو ـ بلا شك ولا شبهة ـ من أخطر حالات الكفر ضرراً علىٰ الإسلام.
إنَّ الإسلام ركّز علىٰ التلازم
بين الظاهر والباطن ، ومثل هذه الرؤية تتوضح خطوطها فيما ورد عن الإمام الصادق عليهالسلام
: عن الهيثم التميمي قال : قال أبو عبدالله عليهالسلام : «
يا هيثم التميمي إنَّ قوماً آمنوا بالظاهر وكفروا بالباطن فلم ينفعهم شيء ، وجاء قوم من بعدهم آمنوا بالباطن وكفروا بالظاهر فلم ينفعهم ذلك شيئاً ، ولا إيمان بظاهر إلاّ بباطن ولا بباطن إلاّ
______________
بظاهر »
.
وبطبيعة الحال يُحمل قوله عليهالسلام
: «
.. وجاء قوم من بعدهم آمنوا بالباطن وكفروا بالظاهر فلم ينفعهم ذلك شيئاً »
علىٰ عدم القيام بلوازم الإيمان من عبادات ومعاملات ، بتعبير آخر يراد منه « كفر الطاعة » المتمثل بعدم أداء الواجبات وعدم الابتعاد عن المحرمات. وإلاّ فهناك شواهد قرآنية قوية علىٰ إيمان من كفر ظاهرا تقيةً من الكفار ، يقول تعالىٰ : (
مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ.. )
.
ولا خلاف أنها نزلت في عمّار بن ياسر
وجماعته إذ أكرههم مشركوا قريش علىٰ كلمة الكفر فاستجاب بعضهم وأبىٰ بعض ونزل القرآن بعذر من استجاب وقلبه مطمئن بالإيمان.
وإنسجاما مع هذه النظرة القرآنية الأرحب
، دفع آل البيت عليهمالسلام شبهة كفر أبي طالب عليهالسلام ، تلك الشبهة التي
أثارها معاوية وتمسك بها فيما بعد خلفه وأنصاره ، وفي هذا الصدد قال الإمام الصادق عليهالسلام
: «
إنَّ مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف ، أسرّوا الإيمان ، وأظهروا الشرك فأتاهم الله أجرهم مرّتين » .
هذا ، وقد أُلّفت في إيمان أبي طالب عليهالسلام
عشرات الكتب.
______________
المبحث الثالث : منازل الكُفر :
للكفر منازل ودرجات ، فمن الكفار من يسد
منافذ العقل والبصيرة التي منحها الله تعالىٰ له ، ويتمسك بقوة بمتبنياته العقيدية الباطلة كما هو حال الإنسان الجاهلي الذي تمسك بالاصنام التي صنعها بيده من الحجر أو التمر ! كما تمسك بظنونه بقوىٰ الجن والسحر ، وشبَّ علىٰ شهواته لاهياً
عما يصير إليه ، قال تعالىٰ : ( .. وَالَّذِينَ
كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ )
. ومن الكفار من يؤمن بالله تعالىٰ ولكن
يشترون بآيات الله ثمنا قليلاً ، ويلبسون الحق بالباطل ويبادرون الكفر بما جاء به خاتم الرسل صلىاللهعليهوآلهوسلم
كحال بني إسرائيل الذين بلغت قلوبهم درجة التحجر ، لذلك خاطبهم تعالىٰ مستنكرا : ( .. أَفَكُلَّمَا
جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ
وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ )
.
وهناك فريق من المسلمين قد يتسافل فيصل
إلىٰ أقرب المنازل من الكفر وإن لم يسمَّ كافراً ، وذلك في الحالات التالية :
أولاً : التعصب للبدع :
وذلك عندما يبتدع شيئاً مخالفاً لقواعد الشرع ومتبنياته ، فيتعصب لما إبتدعه ويعتبره من المسلمات التي لا تقبل نقاشاً ولا جدلاً ، ومن الشواهد الدالة علىٰ هذا النمط ، ما ورد عن الحلبي قال :
قلتُ لأبي عبدالله عليهالسلام
ما أدنىٰ ما يكون به العبد كافرا ؟ قال : « أن يبتدع به
______________
شيئاً فيتولىٰ عليه ويتبرأ ممّن خالفه »
.
ومن خطورة التعصب للبدع أنه يجرّ صاحبه
إلىٰ الكذب علىٰ الشرع الحنيف وذلك بأن يتخبط تخبطاً عشوائياً فيقلب الحقائق الشرعية الواضحة فيعتبر المنهي عنه مأموراً به ! ويتخذ موقفاً معادياً لمن يخالفه ، ويكشف لنا الإمام علي عليهالسلام
عن هذا النمط من الانحراف عن جادّة الصواب بقوله : «
... أدنىٰ ما يكون به العبد كافراً من زعم أنَّ شيئا نهىٰ الله عنه أنّ الله أمر به ونصبه دينا يتولىٰ عليه ويزعم أنّه يعبد الذي أمره به
وإنّما يعبد الشيطان » . كما ورد عن الإمام الرّضا عليهالسلام
: «
من شبّه الله بخلقه فهو مشرك ، ومن نسب إليه ما نهىٰ عنه فهو كافر »
.
ثانياً : الخروج عن قواعد الأخلاق :
لا يمكن التفريق بين الإيمان والاخلاق ، وعليه فكل من فقد الخلق الحسن لا بدَّ وأن يقترب من الكفر وإن نطق الشهادتين ، فمن يتصف بالكذب والخيانة وخلف الوعد ، ويقوم بهتك حرمات الناس ، وإحصاء عثراتهم فسوف يتسافل إلىٰ أسفل السافلين ، وتكون منزلته أدنىٰ منازل الكفر وإن لم يكن كافراً وفي هذا الاطار ورد عن الإمام الباقر عليهالسلام
: «
إنَّ أقرب ما يكون العبد إلىٰ الكفر أن يؤاخي الرّجل الرّجل علىٰ الدّين فيحصي عليه زلاّته ليعيّره بها يوماً ما » .
______________
المبحث الرابع : اُصول الكفر
وعلامات الكافر :
أولاً
: اُصول الكفر :
إذا تتبعنا اُصول الكفر وأركانه في
مصادرنا المعرفية ، فسنجد أنه يتمثل في ثلاثة خصال تشكّل ثالوث الكفر وهي : الاستكبار ، والحرص ، والحسد.
أما الاستكبار فقد أدىٰ
إلىٰ امتناع ابليس ( لعنه الله ) من السجود لآدم عليهالسلام
وعصىٰ ـ بذلك ـ الأمر الإلهي ، بعد أن « اعترته الحمية ، وغلبت
عليه الشقوة وتعزَّز بخلقة النار ، واستهون خلق الصّلصال ، فأعطاه الله النّظرة استحقاقاً للسُّخطة واستتماماً للبليَّة وإنجازا للعدة... »
.
أما الحرص فهو السبب المباشر في تكالب
الناس في كلِّ عصر وجيل علىٰ حطام الدنيا ومتاعها القليل ، وهو من أخس الرذائل المؤدية إلىٰ كفران النعم والشك بعد اليقين والوهن بعد العزيمة والوجل بعد الجذل ، وقد وردت أحاديث كثيرة في ذم الحرص وضرورة الابتعاد عنه لما فيه من نتائج وخيمة في دنيا الفرد وآخرته.
فعن أبي عبدالله الصادق عليهالسلام
قال : «
قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: من علامات الشقاء : جمود العين ، وقسوة القلب ، وشدة الحرص في طلب الدنيا ، والاصرار علىٰ الذنب » .
كما أنّ هناك أحاديث كثيرة تبيّن دعائم
الكفر التي تتكىء علىٰ اُصوله ______________
أو تتظافر معها
وكلّها ترجع إلىٰ أمراض نفسية خطيرة تبعد الإنسان عن دائرة الإيمان.
ثانياً
: علامات الكافر :
لقد رسم القرآن لنا بدِّقة علامات
الكافر ، ويمكن التطرق إليها ضمن الفقرات التالية :
١ ـ الجهل
:
وهو أصل كلّ شر ومنبع كل رذيلة ، والكافر
جاهل لا ترجىٰ هدايته بالحجة والبرهان ولا بالموعظة والنصيحة .. ( إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ )
. فالجهل هو السبب الرئيسي وراء الكفر قال : أمير المؤمنين عليهالسلام
: «
لو أنَّ العباد حين جهلوا وقفوا ، لم يكفروا ولم يضلّوا » .
ولأنَّ الكفار قد تبلّدت عقولهم ، فهم
يعيشون حالة الخواء من الداخل كجذوع نخل خاوية لا روح فيها ولا ثمر لذلك أمر نبينا الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالاعراض عنهم بقوله تعالىٰ : ( خُذِ الْعَفْوَ
وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ) .
٢
ـ موالاة الطاغوت :
سواءً أكان معنىٰ الطاغوت الشيطان
أو الدّنيا الدنية أو الحاكم الجبار ______________
حسب اختلاف المفسرين
، فإنّ الطاغوت ما تكون موالاته والاقتداء به والاعتماد عليه سببا للخروج عن الحق. قال تعالىٰ : (
.. وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ )
. ولا يتوقف الأمر عند حد الموالاة المجرّدة بل أنّ الكافر يذهب بعيداً في موالاته للطاغوت إلىٰ حد القتال في سبيله والتضحية بالنفس والنفيس قال تعالىٰ : (
.. وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ.. )
.
٣
ـ الافراط في الشهوات والملذات :
ومن علامات الكافر التي تميزه عن المؤمن
، إفراطه في شهواته وملذاته ، لاهم له غيرها حتىٰ كأنه لم يخلق إلاّ لاجلها ، وقد وصفهم القرآن الكريم بهذا ، قال تعالىٰ : ( .. وَالَّذِينَ
كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ )
، بينما نجد المؤمن يعتبر تلك الاُمور وسيلة إلىٰ هدف أعلىٰ لأنّها لم تكن غاية بحد ذاتها ومن هنا قال أمير المؤمنين عليهالسلام
: «
.. فما خُلقتُ ليشغلني أكلُ الطَّيباتِ كالبهيمة المربُوطة ، همُّها علفُها ، أو المُرسلةِ شُغلُها تقمُّمها ، تكترشُ من أعلافها ، وتلهو عمَّا
يُرادُ بها.. » ، وقال عليهالسلام
: «
همّ الكافر لدنياه ، وسعيه لعاجله ، وغايته شهوته » .
______________
٤
ـ الخيانة والمكر والخداع والكذب :
ومن العلامات البارزة في حياة الكفّار
الخيانة والمكر والخداع والكذب ، إذ لا رادع لهم عن ذلك لأنّهم فقدوا لذة الإيمان ودوره في محاسبة النفس ، وقد شخّص الإمام علي عليهالسلام
بدقة علامات الكافر بقوله : «
الكافر خبٌّ لئيم ، خؤون مغرور بجهله.. »
. والخبّ هو : «الخدّاع ومعناه الذي يفسد الناس بالخداع ويمكر ويحتال في الأمر ، يقال فلان ( خبّ ضبّ ) إذا كان فاسداً مفسداً مراوغاً » .
وأما الكذب فهو من أخصّ علامات الكافرين
، قال تعالىٰ : ( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ )
. وقال أيضاً : (
إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ
)
فمما يميز المؤمن عن الكافر هو أنّ الأخير يكذب ويخون الأمانة وبذلك لا يمكن الثقة بأقواله ومعاملاته ، قال الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
إياكم والكذب فإنَّ الكذب مجانب للإيمان »
. وقال أيضاً : «
كلُّ خلَّةٍ يُطبع عليها المؤمن إلاّ الخيانة والكذب »
. وقد ورد عن الحسن بن محبوب قال : قلتُ لأبي عبدالله عليهالسلام
: يكون المؤمن بخيلاً ؟ قال : «
نعم ، قلتُ : فيكون كذّاباً ؟ قال : لا
ولا خائناً ، ثم قال : يُجبل
______________
المؤمن علىٰ كلِّ طبيعة إلاّ الخيانة »
.
ولا بدَّ من التنويه علىٰ أنّ
المؤمن قد يكذب ولكن بداعي الصلاح أما الكافر فيكذب بداعي الفساد وشتان ما بين الداعيين ، وقد أحب الله تعالىٰ الكذب في الصلاح ، جاء في وصية النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
للإمام علي عليهالسلام
: «
.. يا علي إنَّ الله عزَّ وجلَّ أحبَّ الكذب في الصلاح وأبغض الصدق في الفساد » .
وقال له أيضاً : « يا علي : ثلاث يحسن فيهنَّ الكذب : المكيدة في الحرب ، وعِدتك زوجتك ، والاصلاح بين الناس.. »
. فالكافر إذن يتصف بالكذب ، وهو عندما يواجهه المؤمن بالبرهان الذي يكشف عن زيف دعواه ، تستبد به الحيرة ويتملكه الاضطراب فيتهم المؤمن بالكذب ! ومن الشواهد القرآنية علىٰ هذا المنحىٰ المنحرف ، موقف أهل مدين من دعوة شعيب وما سبقه من الرسل فقد : ( كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ *
إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ .. قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ) .
ومن الشواهد القرآنية الاُخرىٰ الدالة
علىٰ تكذيب الكاذب للمؤمن ما قصّه الله تعالىٰ من كذب زليخا امرأة العزيز علىٰ يوسف عليهالسلام
عندما راودته عن نفسه وعرضت عليه مفاتنها ، ولما استعصم قذفته كذباً وزوراً ، ولكن يوسف دفع التهمة عن ساحته ، وقيّض الله تعالىٰ له حكما من أهلها ______________
فقطع النزاع كما
حكاه القرآن الكريم : ( .. إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ
فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ *
وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَىٰ قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ
إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ )
. فقد استخدمت هذه المرأة ضد يوسف عليهالسلام
سلاح الكذب والافتراء ولكن الله صرف عنه السوء والفحشاء.
ولا شكَّ أنّ الأنبياء عليهمالسلام
منزّهون عن القبائح كلّها ورأسها الكذب.
٥
ـ السخرية والاستهزاء بالآخرين :
ولما كان الكافر جاهلاً يعجز ـ عادة ـ عن
الرد علىٰ أهل الإيمان بالحجة والبرهان ، يعبر عن عجزه هذا بالاستهزاء بهم والسخرية منهم ، يقول تعالىٰ : ( زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا.. ) . وهذه أحد علامات الكفّار في كلِّ زمان ومكان ، يسخرون
من المصلحين ويتهمونهم بالجهل والتخلف وعدم المسايرة لروح العصر !
فعلىٰ سبيل المثال ، لما أمر الله
نوحاً أن يصنع السفينة ، كان تحوله من داعٍ إلىٰ الله إلىٰ نجّار سبباً في تعجب الكفّار فجعلوا من هذا الأمر
مادةً للسخرية والتندّر عليه .. ( وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ
عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ )
.
وكان أهل مدين لا يؤمنون بالله ويعبدون
سواه وكانوا من أسوأ الناس معاملة ينقصون الكيل والميزان إذا باعوا ، فبعث الله فيهم رجلاً منهم وهو ______________
رسوله شعيب عليهالسلام
فدعاهم إلىٰ عبادة الله وحده ، ونهاهم عن تعاطي هذه الافعال القبيحة وأمرهم بالعدل وحذرهم من عاقبة الظلم ، ولكن القوم أصروا علىٰ باطلهم وقابلوه بالاستهزاء والتهكم ( قَالُوا يَا
شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي
أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ.. )
.
وهذه النفسية المعقدة سببت لهم ضياع فرص
الهداية إلىٰ الأبد إذ كلّما سمعوا كلاما فسروه تفسيراً سلبياً واستهزؤا به.
ويصف لنا تعالىٰ حالة التذبذب
والنفاق التي يعيشها هؤلاء بقوله الكريم : (
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ
شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ )
.
٦
ـ الغرور والاستكبار :
إنَّ من عادة الكفّار الاغترار بقدرتهم
وقوتهم مع المكابرة عن قبول الحق ، سادرين في غيهم ، لاهين في غفلتهم ، متناسين أو ناسين سخط الله القوي عليهم حتىٰ لكأنهم يظنون أنّ قوتهم لا تضمحل وسطوتهم لا تزول ، وقد سخر القرآن الكريم من ذلك التعجرف والغرور وسفّه أحلام هؤلاء الجهلاء قائلاً : ( أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ
لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَٰنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ )
. ولهذا ، نراهم عندما يحاول المؤمنون أن يبرهنوا لهم عن قصور هذه الرؤية ، وأنّ معادلات القوة ليست ثابتة ، تأخذهم العزّة بالإثم ، فيتجهون للعناد والشقاق ، قال تعالىٰ : (
بَلِ الَّذِينَ ______________
كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ )
.
ومن الأمثال الرائعة التي ضربها القرآن
الكريم في هذا المجال قصة صاحب الجنتين ، الذي كان كافراً غنياً قد أبطرته النعمة ، فأخذ يحاور صاحبه المؤمن الفقير مفتخراً عليه بأمواله وكثرة أعوانه. وما سرده الله من تحاورهما يصوّر للإنسان بأجلىٰ بيان كيف ينفخ الشيطان في اُنوف أصحاب المال ويطغيهم حتىٰ يلقيهم في مهاوي الهلكة. وكيف يعلو الإيمان بنفس صاحبه.. ويجعل له حسن العاقبة في الدارين .
قال تعالىٰ : (
وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ
أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ
تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ
يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن
تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ
خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ
مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَّٰكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلَا
أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا... وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ
عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن
دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا.. )
.
______________
الفصل
الثالث
ما
يخرج عن الإيمان
المؤمن هو الذي يسير بخطىٰ ثابتة
علىٰ درب الإيمان الواضح المعالم ولكن قد يتعرض لعواصف هوجاء من الأهواء والشبهات فتخرجه عن جادّة الصواب ، وتسقطه من قمة جبل الإيمان إلىٰ وادي الكفر السحيق ، وعندئذٍ يصبح فقيراً من الناحية المعنوية بعد أن كان غنياً بإيمانه ، سأل زيد بن صوحان العبدي أمير المؤمنين عليهالسلام
قائلاً : « .. فأيُّ فقر أشدّ ؟ » قال عليهالسلام
: «
الكفر بعد الإيمان » .
وسقوط الإنسان في حضيض الكفر بعد
الايمان إنّما يتم علىٰ مراحل وخطوات ، لا سيّما وأنّ الشيطان يتّبع مع الإنسان سياسة : الخطوة خطوة ! لذلك حذر تعالىٰ المؤمنين من إتّباع خطواته قائلاً : (
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ.. )
، وقال أيضاً : (
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ
عَدُوٌّ مُّبِينٌ ) .
______________
فشغل الشيطان الشاغل هو إضلال الإنسان
بشتىٰ الحيل والسبل ولا يتمكن من إيقاع الطلاق فجأة بين الإنسان والإيمان لذلك يسعىٰ للوصول إلىٰ هدفه التضليلي علىٰ مراحل.
والله تعالىٰ يبغض ذلك الإنسان
الذي يلقي بزمام أمره إلىٰ عدوه الشيطان حيثُ السقوط التدريجي والهلاك ، ويؤيده الأثر الوارد عن سلمان الفارسي قدسسره أنه قال : « إذا
أراد الله عزَّ وجل هلاك عبد نزع منه الحياء ، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلاّ خائناً مخوناً فإذا كان خائناً مخوناً نزعت منه الأمانة ، فإذا نزعت من الأمانة لم تلقه إلاّ فظّاً غليظاً ، فإذا كان فظاً غليظاً نزعت منه ربقة الإيمان ، فإذا نزعت منه ربقة الإيمان لم تلقه إلاّ شيطاناً ملعوناً » .
المبحث الأول : عوامل زوال الإيمان
:
هناك مجموعة من العوامل تسهم في إخراج
الإنسان عن طريق الإيمان السوّي ، يمكن الإشارة إلىٰ أبرزها بالنقاط الآتية :
أولاً : عدم معرفة الأئمة :
لمّا كان الأئمة عليهمالسلام هم السبيل
إلىٰ الله تعالىٰ ، والمسلك إلىٰ رضوانه وحججه علىٰ عباده لذا وجبت معرفتهم ومحبتهم ، ويؤيد ذلك ما في آية المودة والحديث المتواتر : « من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهلية »
ومن هنا قال الإمام الباقر أو الصادق عليهماالسلام
: ______________
« لا يكون العبد مؤمناً حتىٰ يعرف الله ورسوله
والأئمة كلّهم وإمام زمانه ويرد إليه ويسلم له » . وقال الإمام الباقر عليهالسلام
في بيان قوله تعالىٰ : ( كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا )
«
الذي لا يعرف الإمام » .
فالمؤمن الكامل في إيمانه يجب أن يعرف
إمام زمانه وبدون هذه المعرفة الواجبة عليه يصبح ضالاً كالحمل الضائع الذي يسير بلا راع نحو المجهول ، عن سليم بن قيس الهلالي عن أمير المؤمنين عليهالسلام
قال : قلتُ له ما أدنىٰ ما يكون به الرجل ضالاً ؟ قال عليهالسلام
: «
أن لا يعرف من أمر الله بطاعته ، وفرض ولايته ، وجعله حُجَّته في أرضه ، وشاهده علىٰ خلقه.
قلتُ : فمن هم يا أمير المؤمنين ؟ فقال عليهالسلام
: الّذين
قرنهم الله بنفسه وبنبيّه فقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ.. ) » قال : فقبّلت
رأسه وقلتُ : أوضحت لي وفرّجت عنّي وأذهبت كلَّ شيء كان في قلبي .
فكلّ إنكار للأئمة عليهمالسلام
ـ إذن ـ يجرّ إلىٰ هاوية الكفر كما أنّ إدعاء الإمامة بغير وجه حق يعتبر من الموارد التي تورد صاحبها الكفر ، عن الفضيل ، عن أبي عبدالله عليهالسلام قال : «
من ادّعىٰ الإمامة وليس من أهلها فهو كافر »
.
ثانيا : الغلو :
وهو من العوامل الأساسية التي تسهم في خروج الإنسان ______________
عن حضيرة الإيمان ، عن
سعيد بن جبير قال : قال أمير المؤمنين عليهالسلام
: «
ما غلا أحد من القدرية إلاّ خرج عن الإيمان »
. وعن بريد العجليّ ، قال : قلتُ لأبي عبدالله عليهالسلام
ما أدنىٰ ما يصير به العبد كافراً ؟ قال : فأخذ حصاة من الأرض ، فقال عليهالسلام
: «
أن يقول لهذه الحصاة إنّها نواة ويبرء ممّن خالفه علىٰ ذلك ويدين الله بالبراءة ممّن قال بغير قوله ، فهذا ناصب قد أشرك بالله وكفر من حيث لا يعلم »
.
ثالثا : العصبية :
الإيمان يعني إلتزام الحق ولا يجتمع مع العصبية التي ضمن ما تعنيه من إيثار مصالح القرابة والقوم علىٰ قواعد الحق والعدالة عند التعارض بينهما وعليه فمن تعصّب فقد انقلب علىٰ عقبيه عن الإيمان وصُنّف مع أعراب الجاهلية ، قال الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
من كان في قلبه حبّة من خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية » ، كما جاء عن الإمام الصادق عليهالسلام
: «
من تعصّب أو تُعصّب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه »
.
هذا ، وللعصبية معنىً آخر غير مذموم
وغير مخرج عن الإيمان كأن يحب الإنسان قومه بحيث لا يؤدي ذلك إلىٰ الظلم والعدوان ، وقد وضع الإمام زين العابدين عليهالسلام
المقياس الصحيح للتفريق ، فقال عليهالسلام
: «
العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرىٰ الرّجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ، ولكن من العصبية أن
______________
يعين
قومه
علىٰ الظلم » .
رابعاً : ضرب القرآن بعضه ببعض :
المعروف أنّ البعض يتلاعب بمعاني القرآن حسب أهواءه ومصالحه فيضرب بعضه ببعض ليثبت حجته ويسكت خصمه تجنياً علىٰ الحق والحقيقة ، وتشويهاً لمعاني ومفاهيم القرآن الصافية ، وهذا هو عين الجحود والكفر بالله تعالىٰ ، عن القاسم بن سليمان عن أبي عبدالله عليهالسلام
: «
ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلاّ كفر » ، وسألت محمد بن
الحسن ;
عن معنىٰ هذا الحديث فقال : هو أن تجيب الرجل في تفسير آية بتفسير آية اُخرىٰ ، بمعنىٰ التمويه علىٰ الآخرين بلا دليل أو برهان.
خامساً : الطمع :
وهو أحد العوامل النفسية التي تسهم في إخراج الإنسان من بوتقة الإيمان ، قيل لأمير المؤمنين عليهالسلام
: « ما ثبات الإيمان ؟ » قال عليهالسلام
: «
الورع ، قيل : فما زواله ؟ قال : الطمع
» .
المبحث الثاني : مرتكب الكبيرة :
بعد أن استعرضنا أبرز العوامل التي تخرج
الإنسان من سكة الإيمان ، نجد من المناسب التطرق إلىٰ مسألة مرتكب الكبيرة فقد اختلف أهل القبلة فيمن أقرَّ بالشهادتين ، وأتىٰ بالذنوب الكبيرة كالقتل وشرب الخمر وما إلىٰ ذلك. هل هو كافر مخلد في النار ، أو أنه مؤمن فاسق يعاقب علىٰ
______________
الذنب بما يستحق ، ثم
يدخل الجنة ؟ ذهب الخوارج إلىٰ كفر مرتكب الكبيرة ، وقال الإمامية والأشاعرة وأكثر الاصحاب والتابعين إلىٰ إنّه مؤمن اتّصف بالفسق ، وأحدث المعتزلة قولاً ثالثاً وأثبتوا المنزلة بين المنزلتين ، أي لا هو بالكافر ، ولا بالمؤمن. وقد أورد الشيخ المفيد في هذا الصدد شاهداً قرآنياً علىٰ أنّ كبائر الذنوب لا تخرج عن الإيمان وذلك انّه لا خلاف أنّ ما صنعه أخوة يوسف عليهالسلام
بأخيهم من إلقائه في غيابة الجب وبيعه بالثمن البخس وكذبهم علىٰ الذئب وما أوصلوه إلىٰ قلب أبيهم نبي الله يعقوب من الحزن كان كبيراً من الذنوب. وقد قصّ الله قصتهم وأخبر عن سؤالهم أباهم الاستغفار عن توبتهم وندمهم فإن كان الحسد لا يخرج عن الإيمان ، فالكبير من الذنوب أيضاً لا يخرج عن الأديان .
واستدل العلاّمة الحلي في شرح التجريد
علىٰ صحة القول بأنّ مرتكب الكبيرة مؤمن فاسق لا يخلد في النار ، استدل : « بأنّه لو خلد في النار للزم أن يكون من عبدَ الله مدة عمره ثم عصىٰ آخر عمره معصية واحدة ، مع بقائه علىٰ إيمانه ، لزم أن يكون هذا مخلداً في النار ، تماماً كمن أشرك بالله
مدة عمره ، وذلك محال لقبحه عند العقلاء » .
وليس من شك أنّ سيئة واحدة لا تحبط جميع
الحسنات ، بل العكس هو الصحيح ، لقوله تعالىٰ : ( ... إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ
السَّيِّئَاتِ.. ) .
والباحث المتجرّد عن الهوىٰ
والغرض ، يلاحظ أنّ رأي أهل البيت عليهمالسلام
______________
حول هذه المسألة
الحساسة أكثر صوابية وينسجم مع روح الإسلام السمحة ، ويتلائم مع رحمة الله الواسعة. فالإنسان ضعيف بطبعه ومعرَّض للخطأ ، لذلك فتح الله تعالىٰ أمامه باب التوبة علىٰ مصراعيه
، عن أبي عبدالله عليهالسلام : «
إنَّ الله عزَّ وجلَّ يفرح بتوبة عبده المؤمن إذا تاب كما يفرح أحدكم بضالته إذا وجدها »
.
وعليه فآل البيت عليهمالسلام
لا يؤيسون الناس من رحمة الله ويدخلونهم في دائرة الكفر بمجرّد إرتكاب الذنب وإن كان كبيراً ، فهناك ربّ رؤوف يتصف بالرحمة والمغفرة أقسم أن لا يُبقي أحداً في النار من الموحدين.
وتزداد هذه الرؤية وضوحاً وإشراقاً من
الأمل ، بما ورد عن أبي عبدالله عليهالسلام
: «
ما من مؤمن يقارف في يومه وليلته أربعين كبيرة ، فيقول : وهو نادم ، استغفر الله الذي لا إله إلاّ هو الحي القيوم بديع السماوات والأرض ذي الجلال والاكرام وأسئله أن يصلي علىٰ محمد وآل محمد وأن يتوب عليَّ إلاّ غفرها الله عزَّ وجلَّ له »
.
وعنه عليهالسلام
: «
.. قد يكون العبد مسلماً قبل أن يكون مؤمناً ولا يكون مؤمناً حتىٰ يكون مسلماً ، فالإسلام قبل الإيمان وهو يشارك الإيمان ، فإذا أتىٰ العبد كبيرة من كبائر المعاصي أو صغيرة من صغائر المعاصي التي نهىٰ
الله عزَّ وجلَّ عنها كان خارجا من الإيمان ، ساقطاً عنه اسم الإيمان وثابتاً عليه اسم الإسلام ، فإن تاب واستغفر عاد إلىٰ دار الإيمان ولا يخرجه
إلىٰ الكفر إلاّ بالجحود والاستحلال أن يقول للحلال هذا حرام وللحرام هذا
______________
حلال ودان بذلك ، فعندها يكون خارجاً من
الإسلام والإيمان داخلاً في الكفر ، وكان بمنزلة من دخل الحرم ثمَّ دخل الكعبة وأحدث في الكعبة حدثاً فأُخرج عن الكعبة وعن الحرم فضربت عنقه وصار إلىٰ النار »
.
نعم الذي يحرم من مغفرة الله هو الذي لم
تعرف له توبة قط بعد كفره ومات علىٰ جحوده وإنكاره للحق تبارك وتعالىٰ ، وكذلك من كفر بعد إيمانه وتاب ولكن توبته لم تكن توبة نصوحة إذ سرعان ما أعاد إلىٰ حضيض الكفر وازداد كفراً قال تعالىٰ : ( إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ
لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا
)
.
______________
الفصل
الرابع
أثر
الإيمان والكفر علىٰ الفرد والمجتمع
إنَّ الإيمان بالله تعالىٰ هو
منبع الفضائل ، كما أنّ الكفر به هو مصدر الرذائل كلّها. فبينما كان الفرد مدَّنساً بالشرك ، وعبداً لأهوائه ولأصنامه الموهومة وللقوىٰ الإجتماعية المتنفذة ، أصبح ببركة الإيمان مطهراً من الشرك وسيداً علىٰ نفسه ووجد طريقاً للخلاص من جاهليته في الاعتقاد والسلوك. وبينما كان المجتمع الجاهلي ممزقاً وفاقداً للعدالة غدا بفضل عقيدة التوحيد قوياً موحداً يرتكز علىٰ قواعد الحق والعدل.
ومن الشواهد التي تعكس لنا النَّقلة
الحضارية الكبرىٰ التي أحدثها الإيمان علىٰ صعيد الفرد والمجتمع ما قاله جعفر بن أبي طالب قدسسره
للنجاشي ملك الحبشة لمّا سأله الأخير عن سبب هجرتهم ومفارقتهم دين قومهم ، فأجابه قائلاً : « أيُّها الملك ، كنّا قوماً أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ،
ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القويُّ منّا الضعيف ، فكنّا علىٰ ذلك حتىٰ بعث الله إلينا رسولاً
منّا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا إلىٰ الله لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنّا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق
الحديث ، وأداء
الأمانة ، وصلة الرّحم ، وحسن الجوار ، والكفّ عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنة ، وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئاً.. » .
وبذلك كشف له عن التحوّل الحضاري الذي
أحدثه الإسلام في فترة وجيزة. لما له من تأثير كبير علىٰ حياة الفرد والمجتمع كما سيتضح في المبحث الآتي :
المبحث الأول : أثر الإيمان والكفر
علىٰ الفرد :
كان الإسلام نقطة البدء في ميلاد إنسان
جديد ، يعشق القيم والحكمة ، ويتطلع إلىٰ آفاق العلم والمعرفة ، ويمتاز بسكينة النفس والسلوك المثالي وعمق الحس الإنساني.
إنَّ هذا التحوّل لم ينطلق من فراغ ، ولم
يحدث علىٰ سبيل الصدفة ، وإنّما حصل نتيجة مباشرة لمعطيات الإيمان الحضارية ، التي يمكن الإشارة إلىٰ أبرزها عبر آثاره المتعددة بالنقاط الآتية :
أولاً
: أثره العلمي :
فتح الإسلام بنوره النوافذ المغلقة أمام
عقل الإنسان الجاهلي الذي لم يكن له سابق عهد بأبسط العلوم والمعارف التي جاء بها الإسلام العظيم ، ووجه تفكير ذلك الإنسان الوجهة الصحيحة إذ دفعه إلىٰ تعقّل ما في هذا الكون الفسيح من قوى وأسرار وطلب منه التأمل في أقطار السموات ______________
والأرض لغايات كثيرة
أهمها معرفة الحق تعالىٰ والبرهان علىٰ وجوده الشريف من خلال ما يشعره الإنسان وما يراه ، وكذلك ليكتشف من خلال هذا التأمل القوانين الرائعة التي تحكم هذا العالم بمنتهىٰ الدقة ، مما ساعد هذا علىٰ ميلاد حركة علمية ومعرفية استفاد منها العلماء الالهيون ، وعلماء الطبيعة منذ فجر الإسلام إلىٰ يومنا هذا ، ولم تقتصر آثار الإيمان بدين الإسلام علىٰ تلك المعطيات العلمية ، بل هناك الكثير منها والتي لا زالت منبعاً ثرّاً لعلماء الاقتصاد والسياسة والاجتماع والتاريخ والفلسفة والكلام زيادة علىٰ ما في دستور الإسلام القرآن العظيم من نظم ودساتير وسياسات هي في منتهىٰ الدقة والإحكام.
وبالجملة فإنّ الحضارة الإسلامية التي
دانت لها أوربا قروناً عديدة إنّما نشأت بفعل الإيمان بهذا الدين وما أوجبه من السعي المتواصل نحو المعرفة والتي ترجمها في أحداثه التاريخية الاُولىٰ بضرورة القضاء
علىٰ الاُمّية ـ كما في فداء أسرىٰ بدر ـ بصفتها وباء الاُمم ومعول هدمها ، ومن هنا جاء الحث علىٰ أهل العلم أن يعلّموا الناس ما يجهلون ، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين عليهالسلام
: «
ما أخذ الله علىٰ أهل الجهل أن يتعلّموا حتىٰ أخذ علىٰ أهل العلم أن يُعلّموا »
.
كما حثَّ الإسلام مريديه علىٰ الاستزادة
من العلم النافع الذي يقرّب الانسان من الله تعالىٰ ، يقول الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
إذا أُتي عليَّ يوم لا أزداد فيه علماً يقرّبني إلىٰ الله تعالىٰ فلا بورك لي في طلوع شمس
ذلك
______________
اليوم »
.
وقد حدد وصيه الإمام علي عليهالسلام
المعطيات الإيجابية للعلم ودوره المهم في تقدم الإنسان وسعادته ، عندما قال : « اكتسبوا العلم
يكسبكم الحياة » .
لقد أولىٰ الدين للعلم أهمية
بالغة وجعل له تقدماً رتبياً حتىٰ علىٰ العبادة ، يقول الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
فضل العالم علىٰ العابد كفضلي علىٰ أدناكم.. » . وروىٰ أبو حمزة عن أبي جعفر عليهالسلام
أنّه قال : «
عالم يُنتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد »
.
وهذه النصوص تعطينا صورة صادقة
علىٰ توجيه الإسلام للفرد نحو ميادين العلم والمعرفة ، وذلك لأنَّ المعرفة بصيرة ، والبصيرة قوة.
ثانياً
: أثره العملي :
ويظهر هذا الأثر واضحاً علىٰ أخلاق
المؤمن وسلوكه ، فبينما يتّبع الكافر سلوكاً إنتهازياً لا يؤمن بنظافة الوسيلة ولا شرف الغاية ، ويضع مصالحه الآنية في سلّم الأولوية ، غاضاً النظر عن القيم والأخلاق ، نجد بالمقابل الإنسان المتسلح بالإيمان يسلك سلوكاً مثالياً يرتكز علىٰ الثوابت الأخلاقية وقواعد السلوك السوّي ، والملاحظ أنّه كلما كمل إيمان الفرد كلّما حسنت أخلاقه وتكاملت فضيلته ، وفي الحديث الشريف : ______________
« .. وأكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً.. »
. ونظراً لوجود هذه العلاقة بين الإيمان والأخلاق نجد التوجهات الأخلاقية تحتل حيزاً كبيراً من التعاليم الدينية.
لذلك نجد أنّ الافراد الذين يعيشون في
مجتمعات بعيدة عن نور الإيمان تغلب عليهم سمة الانحطاط الخلقي ، ذلك لأنَّ الحياء فرع الإيمان ، بل في التعبير النبوي « الحياء والايمان في قرن واحد ، فإذا سلب أحدهما تبعه الآخر » .
أضف إلىٰ ذلك أنّ الإيمان يوجه
الفرد نحو العمل والكسب الحلال ، ويحذّره من التكاسل والاتّكال علىٰ الآخرين ، فمن وصايا الإمام الصادق عليهالسلام
لشيعته خاصة وللمسلمين عامّة : « لا تكسلوا في طلب معايشكم ، فإنَّ آباءنا قد كانوا يركضون فيها ويطلبونها »
.
وقد ترجم هذا الإمام العظيم وصيته
الذّهبية هذه إلىٰ سلوك مثالي ، فعن الفضيل بن أبي قرّة قال : دخلنا علىٰ أبي عبدالله عليهالسلام
وهو يعمل في حائط له فقلنا : جعلنا الله فداك ، دعنا نعمل لك ، أو تعمله الغلمان ؟! قال : «
لا ، دعوني فإنّي أشتهي أن يراني الله عزَّ وجلّ أعمل بيدي وأطلب الحلال في أذىٰ نفسي » .
وقد جسّد لنا بسلوكه المثالي مبدأ
القدوة الحسنة ، الذي هو أحد ______________
الأساليب التربوية
التي يتّبعها أهل البيت عليهمالسلام
، ذلك لأنَّ « القدوة الحسنة والمثال الفعلي ـ أي التأثير دون إقناع منطقي ـ تقوم بدور كبير في تكوين الاتّجاهات. فالأفعال أعلىٰ صوتاً من الأقوال ، وإيحاء السلوك أقوىٰ
من إيحاء الألفاظ » .
مما تقدم ظهر لنا أنّ الإيمان يدفع
الفرد نحو السلوك المثالي الذي يتجسد في الأخلاق الحسنة والعمل الصالح.
ثالثاً
: أثره النفسي :
عندما يذكر المؤمن ربّه ويتصل بالقوة
العظمىٰ الإلهية ، يتبدد خوفه ويتغلب علىٰ ضعفه ويطمئن قلبه ، قال تعالىٰ : (
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ )
، وقال أيضاً : (
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم
مُّهْتَدُونَ ) .
فالإيمان يضفي علىٰ النفس طمأنينة
عند هبوب عواصف الأحداث ، ويرفع الإنسان فوق مستوىٰ الخوف ، وفي تاريخ أهل البيت عليهمالسلام
شواهد جمّة علىٰ ذلك ، فهذا قنبر مولى أمير المؤمنين عليهالسلام
وكان يحبُّ الإمام عليّا عليهالسلام
حباً شديداً ، فإذا خرج الإمام علي عليهالسلام
خرج علىٰ أثره بالسيف ، فرآه ذات ليلة فقال : « يا قنبر ! ما لك ؟
قال : جئتُ لأمشي خلفك ، فإنَّ النّاس كما تراهم يا أمير المؤمنين ! فخفتُ عليك ، قال عليهالسلام
: ويحك
أمن
______________
أهل السماء تحرسني ،
أم من أهل الأرض ؟! قال : لا ، بل من أهل الأرض ، قال عليهالسلام
: إنَّ
أهل الأرض لا يستطيعون لي شيئاً إلاّ بإذن الله عزَّ وجلَّ من السّماء فارجع » فرجع .
وقال يعلىٰ بن مرّة : ( كان عليّ
يخرج بالليل إلىٰ المسجد يصلّي تطوّعاً ، فجئنا نحرسه ، فلمّا فرغ أتانا فقال : « ما يجلسكم ؟
قلنا : نحرسك ، فقال : أمن
أهل السماء تحرسون ، أم من أهل الأرض ؟
قلنا : بل من أهل الأرض ، قال : إنَّه
لا يكون في الأرض شيء حتىٰ يُقضىٰ في السماء ، وليس من أحد إلاّ وقد وكّل به ملكان يدفعان عنه ويكلآنه حتىٰ يجيء قدره ، فإذا جاء قدره خلّيا بينه وبين قدره ، وإنَّ عليَّ من الله جُنّة حصينة فإذا جاء أجلي كشف عنّي... وأنّه لا يجد طعم الإيمان حتّىٰ يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه
وما أخطأه لم يكن ليصيبه » .
فالإيمان يبعث نحو التسليم بقضاء الله وقدره
وبذلك يبعد عن النفس شبح الخوف وهاجس القلق ، وهو عنصر هام في معالجة أمراض النفس ، وقد اعترف بذلك كثير من علماء النفس المتخصصين منهم الدكتور : إرنست ادولف ، استاذ مساعد بجامعة سانت جونس الامريكية ، عندما سُئل عن الأسباب الرئيسية للأمراض العصبية ؟ فأجاب : ( إنَّ من الأسباب الرئيسية لهذه الأمراض الشعور بالإثم أو الخطيئة والحقد والخوف والقلق والكبت والتردد والشك والغيرة والإثرة والسأم ، ومما يؤسف له أنّ كثيراً ممن يشتغلون بالعلاج النفسي قد ينجحون في تقصي أسباب الاضطراب ______________
النفسي الذي يسببه
المرض ، ولكنهم يفشلون في معالجة هذه الاضطرابات ، لأنهم لا يلجأون في علاجها إلىٰ بث الإيمان بالله في نفوس هؤلاء المرضىٰ ) .
والملاحظ أنّ أهم ما يعتمد عليه العلاج
النفسي هو مساعدة الفرد علىٰ الاعتراف بخطاياه ، وذلك أنّ الاعتراف يعيد إلىٰ النفس المضطربة اتزانها وطمأنينتها. وقد أقرَّ القرآن من حيث المبدأ بفكرة الاعتراف هذه ، ولكن حوّل وجهته من اعتراف الإنسان المعروف أمام أبناء جنسه إلىٰ الاعتراف أمام ربّه وخالقه ، فينفس الإنسان ـ بذلك ـ عن الاحتقان والشعور بالاثم الذي يحسّه في قرارة نفسه ، عندما يقف ـ مثلاً ـ بالصلاة بين يدي ربّه رافعاً يده في قنوته قائلاً : ( .. رَبَّنَا
ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ )
.
وقد نقل لنا القرآن الكريم إعترافات
عديدة من هذا القبيل ومن ضمنها بعض أنبيائه ورسله كموسىٰ عليهالسلام
عندما قتل رجلاً ولم يتعمد ذلك قال : (
رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .
ثم إنّ شعور الإنسان بأنّه ليس وحيداً
وأنّ الله تعالىٰ معه علىٰ الدوام ، يضفي عليه هذا الشعور نوعاً من الاطمئنان والثقة ويُبعد عنه أشباح الخوف والقلق والوحدة والشعور بالكآبة لذلك يُطمْئن الله تعالىٰ الناس : (
.. وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )
.
______________
فالإيمان ـ إذن ـ أشبه بمانعة الصواعق
تفرّغ كل ما في الإنسان من شحنات القلق والخوف والاضطراب ، فتمنحه الصحة النفسية والجسدية معاً. وقد أثبت علم النفس أنّ : « الإنسان حين يغشاه انفعال كالخوف أو الحزن أو الغضب ، فإنّ هذه التأثيرات الوجدانية والانفعالية تصحبها تغيرات أو اضطرابات جسمية وفسيولوجية قد تكون بالغة الخطورة إن أزمن الانفعال. فقد اتّضح أنّ القلق المزمن الموصول قد يؤدي إلىٰ ظهور قرحة في المعدة أو الاثني عشر ، وأنّ الكراهة المكظومة لمدة طويلة قد تؤدي إلىٰ ارتفاع في ضغط الدم.. » .
أضف إلىٰ ذلك أنّ الإيمان يؤدي
إلىٰ الأُنس والراحة النفسية فيبدد بذلك الشعور بالعزلة ومن خطبةٍ لأمير المؤمنين عليهالسلام
قال فيها : «
اللهمَّ إنَّك آنسُ الآنسين لأوليائك... إن أوحشتهم الغُربةُ آنسهُم ذكرُكَ ، وإن صُبَّت عليهم المصائب لجؤوا إلىٰ الاستجارة بك ، علماً بأنَّ أزمّة الاُمور بيدك.. » .
رابعاً
: أثره في تكوين شخصية المؤمن :
الإيمان يشكّل محطة إنطلاق أمام الإنسان
إلىٰ ذرىٰ المجد والرفعة لكونه يزوده بالقيم والمثل ، ويساعده علىٰ ضبط نفسه وجوارحه ويجعله يقبض بإحكام علىٰ الدَّفة الموجهة لمساره ، فيسير بخطىٰ ثابتة
حتىٰ يبلغ قمة الرُّقي والرِّفعة : « قيل للقمان عليهالسلام
: ألست عبد آل فلان ؟ قال : بلىٰ ، قيل : فما بلغ بك ما نرىٰ ؟ قال : صدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وترك ______________
ما لا يعنيني ، وغض
بصري ، وكف لساني ، وعفة طعمتي ، فمن نقص عن هذا فهو دوني ، ومن زاد عليه فهو فوقي ، ومن عمله فهو مثلي » .
ثم أنّ الإيمان يوفر للفرد العزّة
والمكانة والكرامة ، قال تعالىٰ : ( وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا
يَعْلَمُونَ ) .
فالمؤمن عزيز مكرّم ، لم يدع للذل إليه
سبيلاً ، فقد ورد عن الإمام الصادق عليهالسلام
: «
إنَّ الله فوّض إلىٰ المؤمن أمره كلّه ، ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً » .
والإيمان يجعل للفرد مهابة ينظر الناس
إليه بعين الإعظام والإكبار ، وقد قيل للإمام الحسن بن علي عليهماالسلام
: فيك عظمة ! فقال عليهالسلام
: «
بل فيَّ عزَّة قال الله : ( وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) .. »
.
فالإيمان يُحدث إنعطافاً حاداً في مسير
الإنسان يُخرجه من ذل المعصية إلىٰ عزِّ الطاعة ، ومن خلال هذا التحوّل الكبير يحصل علىٰ معطيات لا تقدر بثمن ، قال الإمام الصادق عليهالسلام
: «
ما نقل الله عزَّ وجلَّ عبداً من ذلِّ المعاصي إلىٰ عزِّ التقوىٰ إلاّ أغناه من غير مال ، وأعزّه من
غير عشيرة ، وآنسه من غير بشر » .
فالعبودية للّه تعالىٰ هي مبعث
العزّة والكرامة ومصدر الفخر والرفعة.
______________
قال أمير المؤمنين عليهالسلام
: «
لا شرف أعلى من الإسلام ولا عزّ أعزّ من التقوىٰ » .
ومن مناجاته عليهالسلام
: «
إلهي كفىٰ بي عزّاً أن أكون لك عبداً ، وكفىٰ بي فخراً أن تكون لي ربّاً » .
وهكذا نجد الإيمان يزيد في مكانة
الإنسان المؤمن ، ويرفع من رصيده المعنوي مما ينعكس ذلك علىٰ قوة شخصيته ورفعتها ، وهناك آثار كثيرة أُخرىٰ للإيمان يمكن الإشارة إليها بنحو الإجمال وتحت عنوان :
خامساً
: آثار اُخرىٰ للإيمان :
١ ـ ضبط النفس واللسان :
الإيمان يمد النفس بقوة ضبط ذاتية تتمكن من خلالها من كتمان المصائب والهموم والأمراض وأعمال الخير خوفاً من الرياء ، وقد إمتدح تعالىٰ أولئك الذين يسيطرون علىٰ أنفسهم فيكظمون غيظهم : (
.. وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ.. )
.
الإيمان يؤثر تأثيراً بالغاً في ضبط
لسان المؤمن ، فلا يقول شيئاً بسخط الله عزَّ وجلَّ لأنه يعيش حالة تدبّر الأقوال والافعال بخلاف الكافر ، وفي الحديث الشريف : « إنَّ لسان المؤمن وراء قلبه فإذا أراد أن
يتكلّم بشيء تدبّره بقلبه ثم أمضاه بلسانه ، وإنَّ لسان المنافق أمام قلبه فإذا همَّ بشيء أمضاه بلسانه ولم يتدبّره بقلبه »
.
______________
٢ ـ الصمود والشجاعة :
الإيمان يمدّ المؤمن بشحنات عالية من الصمود والشجاعة في مواطن الجهاد في سبيل الله ، فيمكّنه من التغلّب علىٰ نفسه التي تميل إلىٰ الدّعة والراحة وتحب العافية. ولقد انتصر المسلمون يوم بدر بفضل إيمانهم علىٰ الرغم من قلّة عددهم وعدَّتهم.
قال المستشرق المعاصر : جاك ريزلر صاحب
كتاب : يقظة الإسلام ، وكتاب : الحضارة العربية ، الذي طبع في فرنسا سنة ١٩٦٢ م : ( بظهور الدين الإسلامي بدأت مراحل الحضارة العربية ، ويُعزىٰ نجاح قيام هذه الحضارة وانتشارها إلىٰ عدة أسباب : أهمها إرتفاع الروح المعنوية لدىٰ
المسلمين بفضل الدين الجديد ، الأمر الذي أكسبهم جرأة جعلتهم يستهينون بالموت في سبيل الله ) .
٣ ـ النظرة الواعية :
ومن آثار الإيمان العجيبة أنّه يجعل المؤمن ذا نظرة واعية لجميع ما حوله ، ولا يغتر بمغريات الدنيا بأسرها فيقنع بالقليل منها ، ولا يبطره الغنىٰ فيقنع بالقليل منها ، ولا يبطره الغنىٰ. قال
أمير المؤمنين عليهالسلام
: «
.. إنَّما ينظر المؤمن إلىٰ الدنيا بعين الاعتبار ، ويقتات منها ببطن الاضطرار ، ويسمع فيها بإذن المقت والابغاض »
.
وعن سويد بن غفلة ، قال : « دخلت
علىٰ أمير المؤمنين عليهالسلام
بعدما بُويع بالخلافة وهو جالس علىٰ حصير وليس في البيت غيره ، فقلت : يا أميرالمؤمنين بيدك بيت المال ولست أرىٰ في بيتك شيئاً ممّا يحتاج إليه البيت ؟ فقال : « يابن غفلة إنَّ اللبيب لا يتأثث في دار
النقلة ، ولنا دار
______________
أمن قد نقلنا إليها خير متاعنا ، وإنّا عن قليل
إليها صائرون » » .
المبحث الثاني : أثر الإيمان
والكفر علىٰ المجتمع :
يعتبر الإيمان عنصراً أساسياً من عناصر
التماسك الاجتماعي فهو يدفع أفراد المجتمع نحو التعاون والتفاهم ويبعدهم عن التنازع والتخاصم.
ويمكن تلمّس آثار الإيمان والكفر
علىٰ المجتمع بالنقاط الآتية :
أولاً
: الاخاء والاحترام والنصيحة :
يمثل الإيمان نقطة إنطلاق كبرىٰ
في العلاقات البشرية فهو ينقل الناس من حالة العداء والبغضاء إلىٰ حالة الود والاخاء ، قال تعالىٰ : (
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ.. )
.
وقد ذكّر تعالىٰ المؤمنين بنعمة
الاخاء التي قلبت حياتهم الاجتماعية رأساً علىٰ عقب ونقلتهم من حالة الكفر والعداء إلىٰ حالة الإيمان
والاخاء ، قال عزَّ من قائل : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا
تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم
بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا..
)
.
أضف إلىٰ ذلك أنّ الإسلام يحث
المؤمن علىٰ إبداء مظاهر الاحترام والمحبة لاخوانه ويُبشره عن ذلك بالثواب الجزيل ، عن أبي عبيدة قال : ______________
سمعتُ أبا جعفر عليهالسلام
يقول : «
إذا إلتقىٰ المؤمنان فتصافحا أقبل الله بوجهه عليهما وتتحاتُّ الذنوب عن وجوههما حتىٰ يتفرقا »
. ولا يقتصر الأمر علىٰ مظاهر الاحترام والإكرام بل يتعداهما إلىٰ إبداء النصيحة ، قال الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم : «
المؤمن أخو المؤمن لا يدع نصيحته علىٰ كلِّ حال » .
وتتسع مظاهر الاخاء إلىٰ مجالات
معنوية ومادية يمكن تبويبها وفق النقاط التالية :
١ ـ إدخال السرور علىٰ قلب المؤمن :
وهو من أحب الاعمال إلىٰ الله تعالىٰ بدليل قول الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
إنَّ أحب الأعمال إلىٰ الله تعالىٰ إدخال السرور علىٰ المؤمنين »
. وهذا العمل لا شك أنه يوجب الثواب الكبير
، قال أبو عبدالله عليهالسلام : «
من سرَّ أمرءاً مؤمناً سرَّه الله يوم القيامة ، وقيل له : تمنَّ علىٰ ربّك ما أحببت فقد كنت تحب أن تسرَّ أولياءه في دار الدّنيا ، فيُعطىٰ ما تمنىٰ ويزيده الله من عنده مالم يخطر علىٰ قلبه من
نعم الجنة » .
٢ ـ عدم إذاعة سرّه :
مما يُعكر صفو العلاقات الأخوية وقد يعرّضها للقطيعة ، إذاعة المؤمن أسرار أخيه ، مما يترك أعمق الأثر في نفسه ، ويؤدي ذلك إلىٰ إنعدام الثقة به. ومدرسة الإيمان من خلال توصياتها القيمة تُدين ـ بشدة ـ مثل هذا التصرف المنحرف. ويكفي مثلاً علىٰ ذلك : ما ورد عن عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله عليهالسلام
: قال : قال له : عورة ______________
المؤمن علىٰ المؤمن
حرام ، قال عليهالسلام
: «
نعم ، قلت : يعني سفليه ؟ قال : ليس
هو حيث تذهب ، إنّما هو إذاعة سرّه »
.
٣ ـ إعانته ونصرته :
الإيمان يدفع أفراد المجتمع أشواطا بعيدة إلىٰ التعاون والتناصر مما له أعمق الأثر في القضاء علىٰ مظاهر التشتت والفرقة بين البشر. وليس أدل علىٰ ذلك من قول الإمام الصادق عليهالسلام
: «
ما من مؤمن يعين مؤمناً مظلوماً إلاّ كان أفضل من صيام شهر واعتكافه في المسجد الحرام ، وما من مؤمن ينصر أخاه وهو يقدر علىٰ نصرته إلاّ ونصره الله في الدّنيا والآخرة ، وما من مؤمن يخذل أخاه وهو يقدر علىٰ نصرته إلاّ خذله الله في الدنيا والآخرة »
.
٤ ـ الإحسان إليه :
المؤمن حقاً من ينظر بعين العطف لإخوانه المحتاجين ، والله تعالىٰ يُشجع مثل هذا التوجه الإجتماعي ويثيب عليه ، خصوصاً وأنّه يوفر للفئات المحرومة ما لا بدَّ لهم منه كالطعام والشراب والثياب ، عن أبي حمزة الثمالي ، عن علي بن الحسين عليهماالسلام
قال : «
من أطعم مؤمناً من جوع أطعمه الله من ثمار الجنة ، ومن سقىٰ مؤمناً من ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم ، ومن كسا مؤمنا كساه الله من الثياب الخضر » .
ومن الشواهد ذات الدلالة علىٰ تنمية
أهل البيت عليهمالسلام
للشعور الاجتماعي تجاه المؤمنين ، خصوصاً وأنهم المنهل الثر للإحسان إلىٰ الغير ، ما قاله الإمام الصادق عليهالسلام
: «
لأن أطعم مؤمناً محتاجاً أحبّ إليَّ من
______________
أن أزوره ولأن أزوره أحبّ إليَّ من أن أعتق عشر
رقاب » .
إذن هنالك أولوية وتقدم رتبي لبعض أعمال
الاحسان علىٰ بعض وإنّ لكلِّ عمل خيري ثوابه الخاص به حسب أهميته ، وما يدخله من نفع أو خدمة علىٰ المؤمنين.
والمثير في الأمر هنا أنّ الإمام الصادق
عليهالسلام
ينظر لقضية الإحسان من منظار أعمق وأرحب فهو يرىٰ أنّ فضل المحتاجين عند الإحسان إليهم يكون أعظم من فضل المحسنين أنفسهم !. تمعّن جيداً في المحاورة التالية : عن حسين بن نعيم الصحّاف قال : قال أبو عبدالله عليهالسلام
: «
أتحبُّ إخوانك يا حسين ؟ قلت : نعم ، قال : تنفع
فقراءهم ؟ قلتُ : نعم ، قال : أما
إنّه يحق عليك أن تحبَّ من يحبّ الله ، أما والله لا تنفع منهم أحداً حتىٰ تحبّه. أتدعوهم إلىٰ منزلك ؟
قلتُ : نعم ، ما آكل إلاّ ومعي منهم الرجلان والثلاثة والأقلَّ والأكثر ، فقال : أبو عبدالله : أما إنَّ فضلهم عليك
أعظم من فضلك عليهم ، فقلتُ : جعلت
فداك أطعمهم طعامي وأوطئهم رحلي ويكون فضلهم عليَّ أعظم ؟! قال : نعم ، إنَّهم إذا دخلوا منزلك دخلوا بمغفرتك ومغفرة عيالك وإذا خرجوا من منزلك خرجوا بذنوبك وذنوب عيالك »
.
وهذا يعني أنّ الله تعالىٰ جعل
استضافة المؤمن سبباً لمغفرة الذنوب ، ثم أنّ دائرة الإحسان إلىٰ الأخوان تتسع في أكثر من اتجاه ، وتتشعب
علىٰ أكثر من صعيد كالاقراض والصدقة وما إلىٰ ذلك.
فالمؤمن بركة علىٰ المؤمن ولا
تنحصر بركته في مجال واحد ، يقول ______________
الإمام الجواد عليهالسلام
: «
المؤمن بركة علىٰ المؤمن ، وحُجَّة علىٰ الكافر »
، وحول إقراض المؤمن وثوابه العظيم ، ورد عن أبي عبدالله عليهالسلام
: قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
من أقرض مؤمناً قرضاً ينتظر به ميسوره كان ماله في زكاة وكان هو في صلاة من الملائكة حتىٰ يؤديه إليه »
.
وقد أشار الإمام الصادق عليهالسلام
إلىٰ البعد الفردي للاحسان بقوله : « إذا أحسن العبد المؤمن ضاعف الله له عمله بكل حسنة سبعمائة ضعف ، وذلك قول الله عزَّ وجلَّ : (
وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ )
» . كما أشار إلىٰ البعد الاجتماعي مضفياً عليه صبغة حقوقية ، عن أبي المأمون الحارثي قال : قلت لأبي عبدالله عليهالسلام : ما حق المؤمن
علىٰ المؤمن ؟ قال عليهالسلام
: «
إنَّ من حقّ المؤمن علىٰ المؤمن المودَّة له في صدره ، والمواساة له في ماله ، والخلف له في أهله ، والنصرة له علىٰ من ظلمه ، وإن كان نافلة في المسلمين وكان غائباً أخذ له بنصيبه ، وإذ مات الزيارة إلىٰ قبره ، وأن لا يظلمه وأن لا يغشّه وأن لا يخونه وأن لا يخذله وأن لا يكذّبه ، وأن لا يقول له أفّ ، وإذا قال له : أفّ فليس بينهما ولاية ، وإذا قال له : أنت عدوّي فقد كفر أحدهما ، وإذا اتهمه انماث الإيمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء ».
وقد عدّ أهل البيت عليهمالسلام
أداء حق المؤمن من أفضل العبادات قال الإمام الصادق عليهالسلام : «
ما عُبد الله بشيء أفضل من أداء حق المؤمن »
.
______________
٥ ـ قضاء حوائجه :
الإيمان يدفع الفرد إلىٰ خدمة إخوانه بما يعود عليهم بالنفع والفائدة ، قال الإمام الصادق عليهالسلام
: «
المؤمنون خدم بعضهم لبعض ـ ولما قيل له ـ وكيف يكونون خدماً
بعضهم لبعض ؟ قال عليهالسلام : يفيد
بعضهم بعضاً... » .
فالأخوة تؤتي ثمارها الطيبة من خلال دفع
الفرد لقضاء حوائج اخوانه المؤمنين ، ومن الملفت للانتباه في هذا السياق أنّ ثواب العمل ا
لاجتماعي المتأتي عن هذا السبيل ، يفوق أضعافاً مضاعفة العمل العبادي المتأتي عن العتق أو الجهاد وما إلىٰ ذلك. فقد ورد عن أبي عبدالله عليهالسلام
: «
قضاء حاجة المؤمن خيرٌ من عتق ألف رقبة وخير من حملان ألف فرس في سبيل الله »
.
كما أنّ قضاء الحوائج أحب إليه عليهالسلام
من الحج ، عن صفوان الجمّال قال : كنت جالساً مع أبي عبدالله عليهالسلام
إذ دخل عليه رجل من أهل مكة يقال له : ميمون فشكا إليه تعذّر الكراء عليه. فقال لي قم فأعن أخاك ، فقمت معه فيسّر الله كراه ، فرجعت إلىٰ مجلسي فقال : أبو عبدالله عليهالسلام
: «
ما صنعت في حاجة أخيك ؟ فقلت : قضاها الله بأبي
أنت وأُمّي فقال : أما إنك أن تعين أخاك المسلم أحبّ إليَّ من طواف اسبوع بالبيت.. »
.
وقد ورد في أحاديث أهل البيت عليهمالسلام
ما هو صريح بمضاعفة ثواب من يمشي في قضاء حاجة أخيه المؤمن ، فعن الإمام الصادق عليهالسلام
: «
ما من مؤمن يمشي لأخيه المؤمن في حاجة إلاّ كتب الله عزَّ وجلَّ له بكل خطوة
______________
حسنة ، وحط عنه بها سيئة ، ورفع له بها درجة ، وزيد
بعد ذلك عشر حسنات وشفّع في عشر حاجات » ، كما جاء عنه أيضاً : «
من قضىٰ لأخيه المؤمن حاجة قضىٰ الله له يوم القيامة مائة ألف حاجة »
.
وعنه عليهالسلام
: .. «
الله في عون المؤمن ما كان المؤمن في عون أخيه »
.
وكان أهل البيت عليهمالسلام
يعيبون علىٰ الذين لا يتحسسون حوائج إخوانهم ولا يشعرون بمعاناتهم ، عن الحسن بن كثير قال : شكوت إلىٰ أبي جعفر محمد بن علي عليهالسلام
الحاجة وجفاء الاخوان ، فقال : « بئس الأخ أخٍ يرعاك غنيا ويقطعك فقيراً ، ثم أمر غلامه
فأخرج كيساً فيه سبعمائة درهم وقال : استنفق
هذه فإذا نفدت فاعلمني » .
وهكذا نجد أنّ مسألة الأخوة وما تتطلبه
من تعاون وتضامن تتصدر سلّم الأولوية في اهتمامات الأئمة عليهمالسلام
وتوجهاتهم الاجتماعية لكونها الضمان الوحيد والطريق الأمثل لإقامة بناء اجتماعي متماسك. لذلك حثوا شيعتهم علىٰ تحقيق أعلىٰ درجة من التعاون والتضامن ، وفي ذلك يقول الإمام الباقر عليهالسلام
لأحد أصحابه : «
يا اسماعيل أرأيت فيما قبلكم إذا كان الرجل ليس له رداء وعند بعض إخوانه فضل رداء يطرحه عليه حتىٰ يصيب رداء ، فقلت : لا ، قال : فإذا
كان له إزار يرسل إلىٰ بعض اخوانه بإزاره حتىٰ يصيب إزارا ، فقلت : لا ، فضرب
بيده علىٰ فخذه ثم قال : ما هؤلاء
______________
باخوة »
.
ومن الشواهد الاُخرىٰ علىٰ هذا
المسلك المثالي ، عن سعيد بن الحسن قال : قال أبو جعفر عليهالسلام
: «
أيجيء أحدكم إلىٰ أخيه فيدخل يده في كيسه فيأخذ حاجته فلا يدفعه ؟!
فقلت : ما أعرف ذلك فينا ، فقال أبو جعفر عليهالسلام
: فلا شيء إذا ، قلتُ : فالهلاك إذا ، فقال : إنَّ القوم لم يعطوا
أحلامهم بعد » .
وصفوة القول أنّ الإيمان يدفع أبناء
المجتمع نحو الإحسان إلىٰ إخوانهم وخدمتهم ومدّ يد العون لهم وذلك من معطياته الإجتماعية الهامة.
أما الذين كفروا فلعدم إيمانهم بالمنهج
الديني في الحياة فإنهم يبخلون ، وفوق ذلك يأمرون الناس بالبخل ! وقد نقل لنا القرآن الكريم محاورة قيمة بين المؤمنين والكافرين ، أوجزتها آية واحدة ببلاغة فريدة : (
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا
لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ )
.
ومن روائع القرآن تصويره البديع للسان
حال الكافرين إذ يقولون في اليوم الآخر بعد أن يسألهم المؤمنون : ( مَا سَلَكَكُمْ فِي
سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ )
.
هكذا يدفع الكفر الفرد نحو البخل ، قال
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
يقال
______________
للكافر يوم القيامة ، لو كان لك ملأ الأرض ذهباً
أكنت تفتدي به فيقول : نعم ، فيقال له : كذبت قد سئلت ما هو أهون عليك من هذا فأبيت »
.
ثانياً
: تغيير الروابط الاجتماعية :
بينما يدفع الكفر بأبناء المجتمع نحو
هاوية العصبية المقيتة ويركز علىٰ روابط الدم والرَّحم ومظاهر اللون والمكان وما إلىٰ ذلك من روابط جاهلية ، كما قال تعالىٰ : ( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي
قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ) .
نجد أنّ الإيمان يفتح آفاقاً جديدة من
العلائق بين البشر ترتكز علىٰ الأخاء والمساواة ، وغدا معيار التفاضل الوحيد بين البشر يقوم أساساً علىٰ الإيمان والتقوىٰ والفضيلة ، قال تعالىٰ : (
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ.. )
.
وهكذا نجد أنّ الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
قد ركّز في عمله التبليغي علىٰ إزالة غيوم العصبية السوداء ، وعمل جاهداً علىٰ إزالة الرواسب الجاهلية من نفوس أصحابه والمحيطين به ، ومن الشواهد الدالة علىٰ هذه الحالة ، أنّ الصحابي الجليل سلمان الفارسي رضياللهعنه
الذي رفعه الإيمان من أسفل القاع الاجتماعي إلىٰ القمة ، فبعد أن كان عبداً فارسياً أصبح حراً ومن أهل البيت عليهمالسلام
ينظر له المسلمون بعين الاحترام ، ويقابلوه بالتعظيم والإكرام الأمر الذي أثار حفيظة بعض الأصحاب كعمر بن الخطاب الذي لم تغادر العصبية ـ يومئذ ـ قاع وعيه ولم تنفك رواسبها تتحكم في مشاعره ، فقد ______________
دخل سلمان الفارسي ـ
ذات يوم ـ مسجد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
فعظّموه وقدّموه وصدّروه إجلالاً لحقه وإعظاماً لشيبته واختصاصه بالمصطفىٰ وآله صلوات الله عليهم. فدخل عمر فنظر إليه فقال : من هذا العجمي المتصدر فيما بين العرب ؟! فصعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
المنبر فخطب فقال : « إنَّ الناس من عهد آدم إلىٰ يومنا هذا مثل أسنان المشط ، لا فضل للعربي علىٰ العجمي
ولا للأحمر علىٰ الأسود إلاّ بالتقوىٰ »
.
كما وجّه الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
اللَّوم والعتاب للصحابي الجليل أبي ذر ـ إنْ صحّ الحديث ـ ، فعن المعرور بن سويد قال : « مررنا بأبي ذر بالرَّبذة وعليه بُرد وعلىٰ غلامه مثله ، فقلنا : يا أبا ذر لو جمعت بينهما كانت حُلّة ؟! فقال : إنَّهُ كان بيني وبين رجل من إخواني كلامٌ ، وكانت أُمَّهُ أعجميَّة ، فعيَّرتهُ بأُمَّه ، فشكاني إلىٰ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
فلقيت النبي فقال : « يا أبا ذرٍّ إنَّك أمرؤٌ فيك جاهلية !.
قلتُ : يا رسول الله من سبَّ الرجال
سبَّوا أباهُ وأُمَّهُ.
قال : يا أبا ذرّ إنَّك
أمرؤٌ فيك جاهلية ، هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فأطعموهم ممّا تأكلون ، وألبسوهم ممّا تلبسون »
.
وقد زود الإسلام المؤمن بنظرة واعية
عميقة تحصّنه من الانزلاق في حضيض العنصرية وتفاخرها بالاحساب والانساب ، ويكفي مثلاً علىٰ ذلك أنّه لما : « تفاخرت قريش عند سلمان الفارسي رضياللهعنه
قال : لكن خلقت من نطفة قذرة ، وأعود جيفة منتنة ثم إلىٰ الميزان فإن ثقل فأنا كريم وإن ______________
خفّ فأنا لئيم » .
ولعل من أجلىٰ مظاهر التغيير
الإجتماعي الذي أحدثه الإيمان أنّ أفراداً كانوا في أسفل السلّم الاجتماعي قبل الإسلام أصبحوا ـ علىٰ حين غرة ـ بعد الإسلام في مواقع اجتماعية عالية يتزوجون من بيوتات مرموقة ، يقول الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
إنَّما زوّجت مولاي زيد بن حارثة زينب بنت جحش ، وزوّجت المقداد ضباعة بنت الزبير لتعلموا أنّ أكرمكم عند الله أحسنكم إسلاماً » . كما تبوأ البعض مناصب رفيعة كبلال الحبشي الذي أصبح مؤذناً للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وكان أُسامة بن زيد شاباً يافعاً فأصبح قائداً عسكرياً أناط به الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
قيادة الجيش الإسلامي المتجه إلىٰ « مؤتة » لمواجهة دولة عظمىٰ هي دولة الروم ، وأدخل تحت إمرته أبا بكر وعمر وكبار المهاجرين والأنصار.
زد علىٰ ذلك دفع الإيمان
علىٰ إقامة عادات وتقاليد جديدة بدلاً من التقاليد البالية التي تمجّد الثراء والرفعة فقد ترك الدين بصماته وآثاره
حتىٰ علىٰ مراسم الزواج وعاداته فبينما كان معيار الاختيار يتم علىٰ أساس المال والثروة والجاه غدا يتمحور علىٰ التقوىٰ والفضيلة ، قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
من زوّج كريمته من فاسق فقد قطع رحمه »
.
وجاء رجل إلىٰ الحسن عليهالسلام
يستشيره في تزويج ابنته ؟ فقال عليهالسلام
: «
زوّجها من رجل تقي ، فإنّه إنّ أحبّها أكرمها وإن أبغضها لم يظلمها »
.
______________
ثم إنّ الإسلام حارب التقاليد البالية
التي تمجد المراسم الفارغة التي لا تنسجم مع بساطة الإسلام والتي لا تنفع بقدر ما تولد العنت والمشقة وتضع الحواجز النفسية والاجتماعية خاصة بين الحاكم والمحكوم. وكان الإمام علي عليهالسلام
نموذجاً للحاكم الإسلامي الذي يحب البساطة والتواضع ويكره التكلّف والتعظّم بدليل أنّه : « لما لقيه عند مسيره إلىٰ الشام
دهاقين الأنبار ، فترجلوا له واشتدوا بين يديه ، فقال عليهالسلام
: «
ما هذا الذي صنعتموه ؟ فقالوا : خُلق منّا نعظِّم به أُمراءَنا ، فقال عليهالسلام
: والله ما ينتفعُ بهذا أمراؤكم ! وإنَّكم لتشقُّون علىٰ أنفسكم في دُنياكم ، وتشقون به في آخرتكم.. »
.
ثالثاً
: الإيمان يمنح البركة والقوّة :
الإيمان يدفع الأفراد نحو التقدم
المطرَّد ، والسير إلىٰ الأمام وعدم الانكفاء إلىٰ الوراء ، قال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
من اعتدل يوماه فهو مغبون ، ومن كان غده شراً من يومه فهو ملعون ، ومن لم يتفقد النقصان من نفسه فهو في نقصان ، ومن كان في نقصان فالموت خيرٌ له »
. وعن علي بن الحسين عليهالسلام
قال : «
بينما أمير المؤمنين ذات يوم جالس مع أصحابه يعبيهم للحرب إذ أتاه شيخ عليه شحبة السفر.. فقال : إنّي أتيتك من ناحية الشام وأنا شيخ كبير وقد سمعتُ فيك من الفضل ما لا أحصيه وإنّي أظنّك ستُغتال ! فعلمني ما علّمك الله قال : نعم يا شيخ من اعتدل يوماه فهو مغبون.. ومن كان في نقص فالموت خير له »
.
إذن فالإيمان يُحفز أفراد المجتمع
علىٰ التقدم نحو الأفضل ، ______________
والاستفادة من
طاقاتهم وقدراتهم علىٰ النحو الأكمل.
وعلى هذا الصعيد لا بدَّ من التنويه
علىٰ أنّ التوجه المخلص لله تعالىٰ تنعكس آثاره النافعة علىٰ الطبيعة التي يعيش فيها الإنسان فتجود ـ بإذن الله تعالىٰ ـ بالخير والبركة الأمر الذي يساعد علىٰ زيادة القوة سواءاً
كانت قوة إقتصادية أم اجتماعية وما إلىٰ ذلك. ومن الشواهد القرآنية علىٰ ذلك
ما قاله النبي هود عليهالسلام
لأبناء مجتمعه الذين أصابهم القحط والجدب بسبب كفرهم وإعراضهم عن الله تعالىٰ : ( وَيَا قَوْمِ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ
قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ )
.
لقد بدا واضحا أنّ هود عليهالسلام
قد أعلم قومه الكافرين بأنّ طريق الإيمان والهداية يؤدي إلىٰ حصول الخير والبركة للمجتمع حيثُ ترسل السماء مطرها الغزير وتجود الأرض بالخصب فتتضاعف القوة. أما الاعراض علىٰ طريق الإيمان فسوف يُنذر بعواقب خطيرة تبرز مؤشراتها المأساوية بارتفاع البركات المؤدي إلىٰ تدمير المجتمعات ، قال تعالىٰ : (
وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا
رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ
* وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ )
.
وهكذا نجد أنّ الكفر عامل أساسي في
تدمير المجتمع وفناءه.
وقد دمّر الله تعالىٰ الاُمم
الكافرة بمختلف ألوان وأشكال العذاب وكانت الطبيعة أداةً هامة في تنفيذ العقوبة الإلهية.
______________
وقد خاطب تعالىٰ الكافرين محذراً
من الاغترار بدوام حالة الأمن التي يعيشونها ، فإنّ من سُنته الإمهال قبل حلول النكال ، قال لهم بصيغة الاستفهام الانكاري : ( أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ
الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا * أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَىٰ
فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا
تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا )
.
ومن يقرأ سورة هود يلاحظ أنها تستعرض
سريعاً أوجه الدمار الذي حلَّ بالمجتمعات الكافرة ابتداءً من قوم عاد إلىٰ قوم فرعون. وتستخلص السورة من كلِّ ذلك عبرة قيّمة مفادها أنّ الظلم كان السبب وراء تدمير المجتمعات : (
.. وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ
ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ) .
وهذا بخلاف الإيمان الذي تمتد بركاته
وثماره لا إلىٰ حياة المؤمن فحسب وإنما إلىٰ أبنائه وأحفاده قال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
في وصيته لأبي ذر : «
يا أبا ذرّ إنَّ الله يصلح بصلاح العبد ولده وولد ولده ويحفظه في دويرته والدور حوله ما دام فيهم » .
وصفوة القول إنّ الإيمان بمثابة السور
الوقائي الذي يقي المجتمع من الدمار ويحقق له البركة والرفاهية ويمنحه القوة. أما الكفر وما يرافقه من الظلم فإنّه ينطوي علىٰ نتائج مأساوية كالدمار والبوار.
والحمدُ
لله ربِّ العالمين ، والصلاة والسلام علىٰ خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين
______________
المصادر
١ ـ القرآن المجيد
٢ ـ نهج البلاغة ، ضبط صبحي الصالح ، انتشارات
هجرت ـ قم.
٣ ـ تفسير الميزان ، العلاّمة
الطباطبائي ، مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ١٣٩٣ هـ ط ٢
٤ ـ تحف العقول ، ابن شعبة الحراني ، مؤسسة
النشر الإسلامي ـ قم ط ٢.
٥ ـ اُصول الكافي ، الكليني ، دار صعب ـ
بيروت ١٤٠١ هـ ط ٤.
٦ ـ معاني الأخبار ، الصدوق ، منشورات
جماعة المدرسين ـ قم ١٣٧٩ هـ.
٧ ـ كنز العمال ، المتقي الهندي ، مؤسسة
الرسالة ١٤٠٥ هـ ط ٥.
٨ ـ الذريعة إلىٰ مكارم الشريعة ،
الراغب الاصفهاني ، مكتبة الكليات الازهرية ـ مصر ١٣٩٣ هـ ط ١.
٩ ـ التفسير الكبير ، الفخر الرازي ـ ط ٣.
١٠ ـ مفردات ألفاظ القرآن ، الراغب
الاصفهاني ، المكتبة المرتضوية.
١١ ـ الخصال ، الشيخ الصدوق ، منشورات
جماعة المدرسين ـ قم ١٤٠٣ هـ.
١٢ ـ مكارم الأخلاق ، الطبرسي ، مؤسسة
الأعلمي ـ بيروت ١٣٩٢ هـ ط ٦.
١٣ ـ الأمالي ، الشيخ الصدوق ، مؤسسة
الأعلمي ـ بيروت ١٤٠٠ هـ ط ٥.
١٤ ـ الارشاد ، الشيخ المفيد ، منشورات
بصيرتي ـ قم.
١٥ ـ الاختصاص ، الشيخ المفيد ، انتشارات
مكتبة الزوراء ـ قم ١٤٠٢ هـ.
١٦ ـ الفصول المختارة من العيون
والمحاسن ، السيد المرتضىٰ ، منشورات مكتبة الداوري ـ قم ١٣٩٦ هـ ط ٤.
١٧ ـ روضة الواعظين ، الفتال النيسابوري
، منشورات الرضي ـ قم.
١٨ ـ المحجة البيضاء ، المحقق الكاشاني
، مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ١٤٠٣ هـ ط ٢.
١٩ ـ تنبيه الخواطر ، المعروف بمجموعة
ورّام ، دار صعب.
٢٠ ـ في ظلال الصحيفة السجادية ، الشيخ
مغنية ، دار التعارف ـ بيروت ط ٢.
٢١ ـ أخلاق أهل البيت عليهمالسلام
، السيد مهدي الصدر.
٢٢ ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد
، دار احياء التراث العربي ـ ط ٢.
٢٣ ـ التوحيد ، الشيخ الصدوق ، مؤسسة
النشر الإسلامي ـ قم.
٢٤ ـ المؤمن ، للشيخ الثقة الحسين بن
سعيد الكوفي الاهوازي ، تحقيق ونشر مدرسة الإمام المهدي (عج) ـ قم ١٤٠٤ هـ.
٢٥ ـ فروع الكافي ، الكليني ، دار صعب ـ
بيروت ١٤٠١ هـ ط ٤.
٢٦ ـ روض الرياحين في حكايات الصالحين ،
عبدالله بن أسعد اليافعي اليمني ثم المكي ، مؤسسة عماد الدين ـ قبرص.
٢٧ ـ في رحاب أئمة أهل البيت عليهمالسلام
، السيد محسن الأمين ، دار التعارف للمطبوعات ـ بيروت ١٤٠٠ هـ.
٢٨ ـ وسائل الشيعة ، الحر العاملي ، دار
احياء التراث العربي ـ بيروت ١٤٠٣ هـ ط ٥.
٢٩ ـ المناقب ، الخوارزمي ، مكتبة نينوىٰ
الحديثة ـ طهران ، ناصر خسرو.
٣٠ ـ الشيعة بين الحقائق والأوهام ، السيد
محسن الأمين ، مؤسسة الأعلمي ـ ط ٢.
٣١ ـ قصص القرآن ، محمد أحمد جاد المولىٰ
، دار الرائد العربي ـ بيروت ١٤٠٦ هـ.
٣٢ ـ مجمع البحرين ، الشيخ الطريحي ، المكتبة
المرتضوية ـ طهران.
٣٣ ـ الأمثال في القرآن ، الدكتور محمود
بن الشريف ، دار مكتبة الهلال ـ بيروت ط ٥.
٣٤ ـ ثواب الأعمال وعقاب الاعمال ، الصدوق
، مؤسسة الاعلمي ـ بيروت ط ٤
٣٥ ـ التفسير الكاشف ، الشيخ مغنية ، دار
العلم للملايين ـ بيروت ط ٣.
٣٦ ـ السيرة النبوية ، لابن هشام ، دار
الفكر ـ القاهرة.
٣٧ ـ من لا يحضره الفقيه ، الشيخ الصدوق
، دار صعب ـ بيروت ١٩٨١ م.
٣٨ ـ اُصول علم النفس ، الدكتور أحمد
عزت راجح ، المكتب المصري الحديث ـ الاسكندرية ١٩٧٠ م ط ٨.
٣٩ ـ الخطايا في الإسلام ، عفيف
عبدالفتاح طبارة ، دار العلم للملايين ـ بيروت ط ١.
٤٠ ـ سُنن أبي داود ، دار الفكر ، مراجعة
وضبط محمد محيي الدين.
٤١ ـ صحيح مسلم ، دار احياء التراث
العربي ، ط ١.
٤٢ ـ الصحيفة السجادية الجامعة ، مؤسسة
الإمام المهدي (عج) ـ قم ١٤١١ هـ ط ١.
المحتويات
المقدِّمة ....................................................................... ٧
الفصل الأول
الإيمان وعلامات المؤمن ................................................ ١١ ـ٤٩
المبحث الأول : معنى الإيمان ............................................... ١١
المبحث الثاني : حقيقة الإيمان .............................................. ١٧
أولاً : التسليم لله
تعالىٰ والرِّضا بقضاءه ................................... ١٧
ثانياً : الحب في الله
والبغض في الله ....................................... ١٨
ثالثاً : التمسك
المطلق بالحق .............................................. ١٩
رابعاً : حب أهل البيت
عليهمالسلام ............................................ ١٩
خامساً : التدبر
والنظرة الواعية .......................................... ٢٢
سادساً : السلوك
العبادي السوي ........................................ ٢٣
سابعاً : الموقف
الاجتماعي ............................................... ٢٣
ثامناً : حالة الخوف
والرجاء ............................................. ٢٣
المبحث الثالث : مراتب الإيمان ............................................ ٢٤
عوامل زيادة الإيمان ...................................................... ٢٧
أولاً : العلم
والمعرفة ................................................... ٢٧
ثانياً : العمل الصالح
.................................................. ٢٨
ثالثاً : الإيثار ......................................................... ٣١
رابعاً : الخُلق الحسن
.................................................. ٣٢
المبحث الرابع : أنواع الإيمان ............................................. ٣٣
أولاً : الإيمان
الفطري .................................................... ٣٣
ثانياً : الإيمان
المستودع .................................................. ٣٣
ثالثاً : الإيمان
الكسبي .................................................... ٣٤
المبحث الخامس : علامات المؤمن .......................................... ٣٦
أولاً : علائم عبادية ...................................................... ٣٦
ثانياً : علائم نفسية ...................................................... ٤٠
١ ـ الصلابة والثبات ................................................ ٤٠
٢ ـ التزام الحق عند
الرضا والغضب ................................. ٤١
٣ ـ البشر وإنشراح
الصدر .......................................... ٤٢
٤ ـ قوة الإرادة ..................................................... ٤٤
٥ ـ الاستغلال الأمثل
للزمن ......................................... ٤٥
ثالثاً : علائم
أخلاقية ..................................................... ٤٥
رابعاً : علائم
اجتماعية .................................................. ٤٧
الفصل الثاني
الكفر وعلامات الكافر ............................................... ٥١ ـ ٦٨
المبحث الأول : معنىٰ الكفر ............................................... ٥١
موجبات الكفر .......................................................... ٥١
أولاً : الشك في الله
تعالىٰ ورسوله ........................................ ٥١
ثانياً : ترك العمل
بالفرائض الواجبة ...................................... ٥٢
ثالثاً : الانحراف
العقائدي ................................................ ٥٢
رابعاً : إدعاء
الإمامة ..................................................... ٥٣
خامساً : بغض أهل
البيت عليهمالسلام ......................................... ٥٣
المبحث الثاني : وجوه الكفر وحدوده ..................................... ٥٣
المبحث الثالث : منازل الكفر ............................................. ٥٩
أولاً : التعصب للبدع ..................................................... ٥٩
ثانياً : الخروج
علىٰ قواعد الأخلاق ...................................... ٦٠
المبحث الرابع : اصول الكفر وعلامات الكافر ........................... ٦١
أولاً : اصول الكفر ....................................................... ٦١
ثانيا : علامات الكافر
................................................... ٦٢
١ ـ الجهل .......................................................... ٦٢
٢ ـ موالاة الطاغوت ................................................ ٦٢
٣ ـ الافراط في
الشهوات والملذات .................................. ٦٣
٤ ـ الخيانة والمكر
والخداع .......................................... ٦٤
٥ ـ السخرية
والاستهزاء بالآخرين .................................. ٦٦
٦ ـ الغرور والاستكبار
................................................. ٦٧
الفصل الثالث
ما يخرج عن الإيمان ................................................... ٦٩ ـ ٧٦
المبحث الأول : عوامل زوال الإيمان ....................................... ٧٠
أولاً : عدم معرفة
الأئمة عليهمالسلام ........................................... ٧٠
ثانياً : الغلو .............................................................. ٧١
ثالثاً : العصبية ........................................................... ٧٢
رابعاً : ضرب القرآن
بعضه ببعض ....................................... ٧٣
خامساً : الطمع .......................................................... ٧٣
المبحث الثاني : مرتكب الكبيرة ........................................... ٧٣
الفصل الرابع
أثر الإيمان والكفر علىٰ الفرد والمجتمع .............................. ٧٧ ـ ١٠٢
المبحث الأول : أثر الإيمان والكفر علىٰ الفرد ............................ ٧٨
أولاً : أثره العلمي ....................................................... ٧٨
ثانياً : أثره العملي ....................................................... ٨٠
ثالثاً : أثره النفسي ....................................................... ٨٢
رابعاً : أثره في
تكوين شخصية المؤمن .................................... ٨٥
خامساً : آثار اُخرىٰ
للإيمان .............................................. ٨٧
١ ـ ضبط النفس واللسان
........................................... ٨٧
٢ ـ الصمود والشجاعة .............................................. ٨٨
٣ ـ النظرة الواعية ................................................... ٨٨
المبحث الثاني : أثر الإيمان والكفر علىٰ المجتمع ............................ ٨٩
أولاً : الاخاء
والاحترام والنصيحة ....................................... ٨٩
١ ـ إدخال السرور
علىٰ قلب المؤمن ................................. ٩٠
٢ ـ عدم إذاعة سرّه ................................................. ٩٠
٣ ـ إعانته ونصرته .................................................. ٩١
٤ ـ الاحسان إليه .................................................... ٩١
٥ ـ قضاء حوائجه ................................................... ٩٤
ثانياً : تغيير
الروابط الاجتماعية .......................................... ٩٧
ثالثاً : الإيمان يمنح
البركة والقوة ........................................ ١٠٠
المصادر .................................................................. ١٠٣
المحتويات .................................................................. ١٠٥
|