

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام
على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين.. وبعد.
تمثّل الرسالة الإسلامية بكل تجلّياتها
الأُسس التي يبتنىٰ عليها المجتمع الإسلامي الصحيح ، والتي يرتكز عليها توازن الحياة في نفس الإنسان وعلاقته بمجتمعه وبالحياة كلّها ، والانفتاح الفكري والعملي على تلك الرسالة لا يكون من
دون الارتباط بالقدوة الرمز من خلال التأثير المباشر بما جسدته سيرته من صور مشرقة على مستوى الكلمة والحركة والموقف. قدوة يعيش الإسلام بروحه وعقله ، ويمتلك جميع القيم الإسلامية ، ويستوعب جميع امتدادات رسالة التوحيد ، مع الفهم الثاقب الذي لا يشتبه في شيء منها ، بحيث يكون رسالة تتحرّك على الأرض ، وعلماً يتفجّر على الدوام ، وحقّاً لا باطل فيه ، ووعياً للرسالة وأهدافها ومقاصدها وكأنّه قرآن
ناطق ليدلّ على معالم الطريق. ولا خلاف بأن تلك الصفات قد تجسّدت كلّها في شخصية الرسول القائد صلىاللهعليهوآله
، القدوة الفذّ الذي وقفت السماء لتؤيّده بكل قوّة ، حتىٰ استطاع من خلال ذلك القضاء على كل ما خالف التصور الإسلامي الصحيح للرسالة في حياته الشريفة ، ولم يكن هناك ثمة اختلاف كبير بين أصحابه صلىاللهعليهوآله
بفضل شخصيته الفذّة ، ووحدة المرجعية آنذاك المتمثّلة في شخصه العظيم في كل شيء ، فكان مناراً للهدى في كل حركاته وسكناته صلىاللهعليهوآله
؛ ولهذا لم يُظْهِر بعض أصحابه في حياته ما أظهروه بعد وفاته صلىاللهعليهوآله
، لعلمهم بأنّ إشارةً واحدةً منه كافيةٌ لإسقاطهم على مرِّ الجديدين. والدين الخاتِم الذي تكفّل ببيان شخص القدوة ، وحمّله ثقل الرسالة ومسؤوليتها ، وأمر الناس
ـ كل الناس ـ باتّباعه ، وحذّرهم من معصيته ، لأجل الحفاظ على رسالته الفتية لا
يعقل أن يهمل تلك الرسالة بعده ، ولا يحافظ على مستقبلها ، ولا يعيّن من سيكمل تلك المسيرة ، ويهدم كل ما بناه القدوة بترك الأمر للناس في اختيار القدوة الجديد
كيفما يشاءون حتىٰ لو لم يمتلك الحدّ الأدنى من شخصية الرسول القائد صلىاللهعليهوآله. وإذا كنّا نربأ بالقائد الحكيم أن يهمل أمر رعيته ، فحاشا لله أن يهملا ذلك ولرسوله ، ومن هنا لم
يكن أحد من الصحابة يستفسر عن هذا الأمر الخطير بعد سماعهم وفي مواطن شتّى من سيخلف النبي صلىاللهعليهوآله
في أُمته ، بدءاً من يوم الدار وانتهاءً بمرضه الأخير الذي توفي فيه صلىاللهعليهوآله.
نعم.. كانوا يعرفون قادتهم بعد نبيهم صلىاللهعليهوآله
وإنّهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش ، وإنّهم مع القرآن الكريم ثقلان لا يفترقان حتىٰ يردا على النبي الحوض
، وأنهم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق وهوى ، وانهم كباب حطّة من دخله
غفر له ، وإن من مات ولم يعرف إمام
زمانه منهم ، أو لم تكن له بيعة لأحدهم مات ميتة جاهلية ، وإن الأرض لا تخلو منهم طرفة عين ، وإنهم حجج الله على عباده ، وأُمناؤه على وحيه ، وهم من أعلى الله تعالى ذكرهم ، وأمر بولايتهم ، وأوجب الصلاة عليهم ، وفرض مودتهم ، ومن كانوا من النبي والنبي منهم صلّى الله عليه وعليهم.
ترى فمن عساهم أن يكونوا غير من قال
الله تعالى فيهم : (
). بلى.. إنهم
عليهمالسلام
أصحاب الكساء الخيبري وكفىٰ.
وبهذا يمكننا الاقتراب من معالم شخصية
من نريد الحديث عنه من أهل البيت عليهمالسلام
وهو الإمام السبط الحسن عليهالسلام
، إذ لابدّ وأن تكون شخصيته مجسّدة لعناصر شخصية جده المصطفىٰ صلىاللهعليهوآله
، وأبعاد شخصية صاحب الولاية الكبرى أميرالمؤمنين عليهالسلام
، وروحانية سيدة نساء العالمين صلوات الله عليهم أجمعين.
لقد وجدنا السبط الأكبر عليهالسلام يمثل الطهارة
والنقاء في عقله وقلبه وحركته وقوله وفعله ، فكان لا يشتكي ، ولا يسخط ، ولا يبرم حتىٰ من أعدائه ، كان حلماً
وكرماً وزهداً وتقوى ، وكان علماً يتفجّر ، فإذا نطق جرت الموعظة والحكمة على لسانه عفواً ، وإذا
سكت فبلا عيّ بل عن فكر وتأمّل ، وكان صلوات الله عليه لا يقول ما لا يفعل ، بل
يفعل ما يقول وما لا يقول ، وكأنه عليهالسلام
يريد للفعل أن يتحدّث عن نفسه لأنه أبلغ في النفوس من كل واعظ وخطيب. ومن معالم تلك الشخصية الفذّة الرمز أن رسول الله صلىاللهعليهوآله قد غرس في شخصية سبطه الأكبر هيبته وسؤدده ، حتىٰ أنه عليهالسلام كان إذا جلس بباب
داره انقطع الطريق من المارة هيبة له ، وكان عليهالسلام
يحجّ ماشياً فإذا رآه الصحابة لم يملكوا أنفسهم إلاّ أن يترجّلوا ، ويسيروا بين يديه ومن خلفه إجلالاً ومهابة له. لقد
أكّدت سيرة الإمام الحسن عليهالسلام
شرعية إمامته وموقعها في حركة الواقع حتىٰ لم تعد بحاجة إلى تلك النصوص الكثيرة التي ألمحنا إلى بعضها ، وذلك من خلال الفرص المتاحة له سواء كان في موقع السلطة أو في خارجها ، إذ كان هادياً ومعلّماً ومرشداً وناصحاً لكل
خير مع الانفتاح على شرائح المجتمع كلها انطلاقاً من موقع القدوة والرمز ، الأمر الذي
كان يشكّل أكبر خطورة على مطامح ابن آكلة الأكباد في التخطيط لمستقبل السلطة من بعده ، فكان المدبّر لفاجعة سم الحسن عليهالسلام
وشهادته. والكتاب الذي بين يديك عزيزي القارئ قد سلّط الأضواء على بعض الجوانب المهمة في حياة إمامنا السبط الحسن عليهالسلام
بعبارات واضحة مختصرة فسهّل بهذا مهمة الدخول إلى عالمه الأقدس ، سائلين المولى عزّوجلّ أن يتقبّله منه ، ويمهّد سبل الانتفاع به ، ويجزل المثوبة
لمؤلّفه إنّه سميع الدعاء.
مركز
الرسالة
المقدِّمة
الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة
والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله الطيّبين الطاهرين ، وبعد :
جاءت الرسالة الإسلامية الخاتمة
للرسالات السماوية من أجل إقرار المنهج الإلهي في الواقع الإنساني ، وتحقيق مفاهيمه وقيمه في صور عملية واقعية تترجم فيها الأفكار والنصوص إلى مشاعر وأوضاع وممارسات وارتباطات في واقع الحياة الإنسانية.
وقد جسّد رسول الله صلىاللهعليهوآله ذلك في أقواله
وأفعاله وسيرته ، فجعل المفاهيم والقيم حقيقةً واضحة ليقتدي بها المسلمون والناس جميعاً ويتوجّهوا في مسيرتهم نحو التكامل والسموّ والارتقاء ، وترك فيهم أئمة وقادةٍ من أهل بيته عليهمالسلام
ليكونوا قدوة للأجيال في جميع مراحل الحركة الإنسانية.
وكان الإمام الحسن عليهالسلام عنوانا مضيئاً في
حياة الإنسانية ، ومعلماً شامخاً في حركة التاريخ والمسيرة الإنسانية ، نطق بتطهيره الوحي ، ونطق بفضائله ومقاماته النبي ، ولهج بذكره المسلمون من جميع المذاهب ، وهو علم الهدى وقدوة المتّقين ، عرف بالعلم والحكمة والإخلاص والوفاء والصدق والحلم وسائر صفات الكمال في الشخصية الإسلامية. استقبله رسول الله صلىاللهعليهوآله
منذ اللحظات الأولى من ولادته فأذّن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى ، وسمّاه بهذا الإسم ، وهو اسم لم يكن معروفاً في الجاهلية ، وعقّ عنه
وحلق شعره ، واستمرّ
على ملازمته ورعايته وتعليمه وتربيته ، وكان يوجّه أنظار المسلمين إلى فضائله ومقاماته. وهكذا كان السبط الأكبر ترعرع في الأجواء النبوية يستمع الوحي والحديث النبوي ويتابع حركات جدّه وسكناته ؛ فكان منهجه في حياته منهجاً إيمانياً خالصاً.
وقف عليهالسلام
مسانداً للحق منذ صباه ، وعاش الأجواء السياسية التي غُمطت فيها حقوق أهل البيت عليهمالسلام
وضح النهار ، ابتداءً من اقصاء أبيه أميرالمؤمنين علي عليهالسلام
عن حقه في خلافة الرسول صلىاللهعليهوآله
، وانتهاءً بموقف الطلقاء منه في خلافته عليهالسلام.
ومع كل ذلك كان حريصاً على رفعة الإسلام وسموِّه متعالياً على جراحاته ، جاعلاً مصلحة الإسلام هي العليا في سياسته والحاكمة على جميع خطواته ، حتى قاده ذلك إلى أن يكون الشجى المعترض في حلق معاوية حتى بعد تنازله عن السلطة ؛ لكي لا تفهم الأمة أنه عليهالسلام
وجد الباغي للخلافة أهلاً فسلّمها إليه ، وهكذا كان السبط ميزان عدلٍ للحكم على أفكار وممارسات السلطة الباغية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى ؛ لأنه مرجع الأمة وإمامها الحق في زمانه.
ولهذا خطّطت السلطة لتغييبه بدسّ السمّ
إليه ، فاستشهد مسموماً مظلوماً بعد أن أدّى مسؤوليّاته في بناء قاعدة شعبية تواصل مسيرة التكامل والسموّ بقيادة وإمامة ثالث أئمّة أهل البيت عليهمالسلام.
وسوف نقف في هذا الكتاب ـ إن شاء الله تعالى
ـ على معالم شخصية الإمام الحسن السبط عليهالسلام
مع استجلاء صفحات سيرته العطرة وتاريخه المشرق بالتضحية والعطاء.
الفصل
الأوّل
الإمام
الحسن عليهالسلام في عهد رسول الله صلىاللهعليهوآله
ولد الإمام الحسن عليهالسلام في حياة جدّه رسول
الله صلىاللهعليهوآله
وعاش في ظلّ رعايته وتربيته سبع سنوات وستّة أشهر ، وكانت هذه الفترة كافية للسموّ والتكامل والارتقاء إلى أعلى قمم الإيمان والتقوى والصلاح. حيث تلقّى رعاية خاصّة من جدّه رسول الله صلىاللهعليهوآله
ابتدأت من اللحظات الأولى لولادته. حيث أذّن رسول الله صلىاللهعليهوآله
في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى ، ولهذه الممارسة نتائج إيجابية على شخصية الإنسان المستقبلية كما ورد عن رسول الله صلىاللهعليهوآله
أنّه قال : « من ولد له مولود فيؤذّن في أذنه اليمنى بأذان الصلاة ، وليقم في اليسرى ؛ فإنّها عصمة من الشيطان الرجيم » .
ومن الطبيعي أن تصل هذه العصمة إلى قمّتها حينما يكون رسول الله صلىاللهعليهوآله
هو من يفعل ذلك ، وبمن ؟ بسبطه ابن علي وفاطمة صلوات الله عليهم. وهكذا أحيط الحسن عليهالسلام
منذ نعومة أظفاره بجميع مقوّمات التربية والتعليم والرعاية النفسية والروحية ؛ فأصبح بهذه المقوّمات ـ ومن قبلها الرعاية الإلهيّة ـ معصوماً بإرادته.
التقدير والتكريم والاهتمام :
دلّت الدراسات العلمية والنفسية على دور التقدير والتكريم في مرحلة الطفولة في بناء شخصية الإنسان في جميع مقوّماتها الفكرية والعاطفية والسلوكية ، وقد ثبت « أنّ نموّ الطفل متكيّفاً تكيّفاً حسناً وكينونته راشداً صالحاً يتوقّف على ما إذا كان الطفل محبوباً مقبولاً شاعراً __________________
بالاطمئنان في البيت
» .
وكلّما وجد الطفل التقدير والاهتمام والتكريم كان منقاداً لمن يقدّره ويهتمّ به ويكرّمه. ويتوقّف تأثير ذلك على شخصيّة المربّي وشخصية المراد تربيته والمحيط الاجتماعي الذي يعيشان فيه ، وفي مقامنا هذا نرى أنّ الإمام الحسن عليهالسلام
قد تلقّى ذلك من قبل جدّه رسول الله صلىاللهعليهوآله
، في مواقع عديدة أمام مرأى ومسمع الصحابة ، وكلّ ذلك أسهم ـ مع بقيّة المقوّمات ـ على أن يكون الإمام عليهالسلام
معصوما بإرادته التي تطابقت مع الإرادة الإلهيّة ، فالله تعالى هيّأ هذه المقوّمات وهي الوراثة الصالحة والتربية الصالحة والرعاية الروحية والنفسية. وهذا النوع من الرعاية تعدّى رعاية الجدّ لحفيده ، وتعدّى الرعاية العاطفية المحضة بل كانت مظاهرها العديدة تنبيهاً للأمة على دور الإمام الحسن عليهالسلام
الريادي ودوره كقدوة وأسوة وإمام مفترض الطاعة ، ولولا هذا الإشعار لأمكن له صلىاللهعليهوآله
أن يقدّره ويكرّمه بشكل آخر كما يفعل الأجداد والآباء ، وقد تجلّى ذلك في ممارسات عديدة.
عن البرّاء بن عازب قال : « رأيت رسول
الله صلىاللهعليهوآله
حامل الحسن بن علي رضي الله عنهما على عاتقه وهو يقول : اللهمّ إنّي أحبّ حسناً فأحبّه » .
فقد أشار صلىاللهعليهوآله
إلى هذا الحبّ وهو حامل الإمام الحسن عليهالسلام
على عاتقه ؛ ليُشْعِر المسلمين بأهمية وضرورة هذا الحبّ ؛ وهو الذي لا ينطق عن الهوى ، فهو حبّ عقائدي يفرض على المسلمين أن يقتدوا بهذا المحبوب المكرّم من قبل رسول الله صلىاللهعليهوآله.
وعن جابر قال : « دخلت على النبي صلىاللهعليهوآله وهو يمشي على أربعة
وعلى ظهره الحسن والحسين رضي الله عنهما ، وهو يقول : نعم الجمل جملكما ونعم العدلان أنتما »
.
__________________
وعن عبدالله بن مسعود ، قال : « حمل
رسول الله صلىاللهعليهوآله
الحسن والحسين على ظهره ، الحسن على أضلاعه اليمنى والحسين على أضلاعه اليسرى ، ثمّ مشى وقال : نعم المطيّ مطيّكما ، ونعم الراكبان أنتما وأبوكما خير منكما » .
وهذه الممارسة قد يستهجنها البعض في تلك
المرحلة القريبة من الجاهلية ، ولكنها مداليل عظيمة تبيّن عظمة هذين السبطين من قبل رسول الله صلىاللهعليهوآله ؛ فهي ليست ممارسة عاطفية محضة ؛ بل هي ممارسة تربوية لتربية المسلمين على أهميّة هذين السبطين في الحياة الإسلامية والإنسانية ؛ هذه الأهمية دفعت برسول الله صلىاللهعليهوآله
إلى أداء هذه الممارسة. ليوجه أنظار الصحابة إلى الدور الذي سيقوم به الحسن عليهالسلام
بعد رحيل جدّه وأبيه.
وفي مقام آخر نجد أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله يقطع خطبته وينزل
عن منبره ليحتضن الحسن والحسين عليهماالسلام
ويأخذهما معه إلى المنبر ؛ لكي يستشعر الصحابة ويستشعر المسلمون مقام هذين السبطين. قال ابن كثير : « وقد ثبت في الحديث أنّه عليهالسلام
بينما هو يخطب إذ رأى الحسن والحسين مقبلين فنزل إليهما فاحتظنهما وأخذهما معه إلى المنبر ، وقال : صدق الله (
إِنَّمَا
أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ )
، إنّي رأيت هذين يمشيان ويعثران فلم أملك أن نزلت إليهما ، ثمّ قال : إنّكم لمن روح الله وإنّكم لتبجلون وتحبّبون » .
ومن مصاديق ومظاهر الاهتمام ما ورد عن
أبي هريرة أنّه قال لمروان بن الحكم : « أشهد لخرجنا مع رسول الله صلىاللهعليهوآله
حتى إذ كنّا ببعض الطريق سمع رسول الله صلىاللهعليهوآله
صوت الحسن والحسين وهما يبكيان مع أمّهما ، فأسرع السير حتى أتاهما فسمعته يقول لها : ما شأن ابْنَيَّ ، فقالت : العطش ، قال : فاختلف __________________
رسول الله صلىاللهعليهوآله إلى شنة يبتغي فيها
ماء ، وكان الماء يومئذ أغدار ، والناس يريدون الماء ، فنادى : هل أحد منكم معه ماء ؟ فلم يبقَ أحد أخلف بيده إلى كلاَّبه يبتغي الماء في شنة ، فلم يجد أحد منهم قطرة فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : ناوليني أحدهما ، فناولته إيّاه من تحت الخدر ، فأخذه فضمّه إلى صدره وهو يطغو ما يسكت ، فأدلع له لسانه فجعل يمصّه حتى هدأ أو سكن ، فلم أسمع له بكاء ، والآخر يبكي كما هو ما يسكت ، فقال : ناوليني الآخر ، فناولته إيّاه ففعل به كذلك ، فسكتا » .
ومن خلال هذه الرواية نجد أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله
قد أشبع حاجات الحسن والحسين بنفسه ، وأبدى عناية واهتماما بهما أمام مرأى الصحابة ليبيّن عظمة هذين السبطين ومكانتهما من رسول الله صلىاللهعليهوآله.
الحُبّ :
الحاجة إلى المحبّة أو الشعور بها حاجة أساسية للإنسان وخصوصاً في مرحلة الطفولة ، والحبّ الذي يشعر به الطفل له تأثير كبير على جميع جوانب شخصيّته الفكرية والعاطفية والسلوكية ، ويكون تأثير المحبّة أكثر إيجابية حينما يكون المحبّ هو رسول الله صلىاللهعليهوآله
ومن فوقه الله تعالى ، ويكون المحبوب هو الحسن عليهالسلام
المنحدر من سلالة طاهرة ، والمهيّأ من قبل الله تعالى ورسوله ليكون إماماً مفترض الطاعة وحجّة على الإنسانية إلى يوم القيامة. وقد تواترت الروايات على تأكيد هذا الحبّ بعد التصريح به من قبل رسول الله صلىاللهعليهوآله في مناسبات عديدة.
عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوآله أنّه قال للحسن : «
اللهمّ إنّي أحبّه فأحبّه وأحبب من يحبّه » .
وعن أسامة بن زيد قال : « طرقت النبي صلىاللهعليهوآله ذات ليلة في بعض
الحاجة __________________
فخرج النبي صلىاللهعليهوآله وهو مشتمل على شيء
لا أدري ما هو ، فلمّا فرغت من حاجتي ، قلت : ما هذا الذي أنت مشتمل عليه فكشفه فإذا حسن وحسين على وركيه ، فقال : هذان إبناي وإبنا إبنتي اللهمّ إنّي أحبُّهما فأحبَّهُما واحبب من يحبُّهما
» .
وعن سلمان رضياللهعنه
قال : « قال رسول الله صلىاللهعليهوآله
للحسن والحسين : من أحبّهما أحببته ، ومن أحببته أحبّه الله ، ومن أحبّه الله أدخله جنّات النعيم ، ومن
أبغضهما أو بغى عليهما أبغضته ، ومن أبغضته أبغضه الله ، ومن أبغضه الله أدخله عذاب جهنّم وله عذاب مقيم » .
وعن الإمام علي عليهالسلام قال : « إنّ رسول
الله صلىاللهعليهوآله
أخذ الحسن والحسين ، فقال : من أحبّ هذين ، وأباهما وأمّهما ، كان معي في درجتي يوم القيامة » .
والدعوة لحبّ أهل البيت عليهمالسلام
دعوة رسالية لتوجيه المسلمين إلى الارتباط بهم فكرياً وعاطفياً ومن ثمّ الاقتداء بهم والالتزام بأوامرهم وتوجيهاتهم لتكون مفاهيمهم وقيمهم هي الحاكمة على حركة الإنسان والمجتمع المسلم.
المناغاة والتربية البدنية :
تُعدُّ المناغاة في مراحل الإنسان الأولى من الممارسات الضرورية له ولهذا نرى أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله
قد مارسها مع حفيده الحسن عليهالسلام
فقد روي أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله
كان يرقّص الحسن والحسين عليهماالسلام
ويقول : حزقّة حزقّة ترقّ عين بقّة. وفي رواية أنّه أخذ يديه جميعاً بكتفي الحسن والحسين وقَدَماهما على قدم رسول الله صلىاللهعليهوآله
ويقول : ترقّ عين بقّة .
وكانت فاطمة عليهاالسلام
ترقص ابنها حسنا وتقول :
« أشبه أباك يا حسن
|
|
واخلع عن الحقّ الرسن
|
__________________
واعبد إلها ذا منن
|
|
ولا توال ذا الإحن »
|
وكانت أمّ سلمة ترقّص الحسن وتقول :
« بأبي ابن علي
|
|
أنت بالخير مليّ
|
كن كأسنان حليّ
|
|
كن ككبش الحولي »
|
التربية والتعليم :
التربية والتعليم من المسؤوليّات العظيمة التي تساهم في إعداد الإنسان للدخول في الحياة الاجتماعية ؛ ليكون عنصراً فعّالاً في إصلاحها وبنائها ، والأسرة هي نقطة البدء التي تتبنّى إنشاء وتنشئة الشخصية بجميع مقوّماتها : الفكرية والعاطفية والسلوكية ، وهي نقطة البدء المؤثّرة في جميع مراحل الحياة إيجاباً وسلباً ؛ وفي مقامنا هذا نجد إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله قد أدّى مسؤوليّته في أسرته ومجتمعه ؛ فقد ربّى هذه الأسرة الكريمة على أساس مفاهيم وقيم القرآن ، وقد أبدى عناية تربوية وتعليمية استثنائية وعظيمة لعظم الشخصّيات المراد تربيتها وتعليمها لأنّها عدل للقرآن الكريم ولأنّها القرآن الناطق ، ومنها الإمام الحسن عليهالسلام
، فقد كان يصطحبه إلى المسجد وإلى المواقع المتعدّدة التي يتواجد فيها صلىاللهعليهوآله
، ومن يتتبع الروايات وأخبار المؤرّخين يجد أنّ أسرة علي وفاطمة عليهماالسلام
أقرب الأسر إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله
من حيث اللقاءات والزيارات ، ولا نبالغ إذا قلنا إنّ لقاءاته مع هذه الأسرة الكريمة تكاد تكون أكثر
من لقاءاته مع زوجاته ؛ فالإمام علي عليهالسلام
والحسن والحسين عليهماالسلام
كان يصحبونه إلى المسجد أو يلتقون به في المسجد ، إضافة إلى اللقاءات المستمرّة في دارهم تارة وفي دار رسول الله صلىاللهعليهوآله
تارة أخرى ؛ ولهذا كانت الصحبة أدوم وأكثر نوعاً وكمّاً ، وكان تأثير التربية واضحاً على أفراد هذه الأسرة الكريمة لدوام ارتباطهم برسول الله صلىاللهعليهوآله
ودوام تلقّيهم لتوجيهاته وإرشاداته وتعاليمه. وقد دلّت الأخبار __________________
على هذا القرب
المكاني ، فقد ورد أنّ عليّاً عليهالسلام
أصاب منزلاً مستأخراً عن رسول الله صلىاللهعليهوآله
قليلاً ، فقال له صلىاللهعليهوآله
: « إنّي أريد أن أحوّلك إليّ ». فحوّله بجنبه . ولم تنقطع العلاقة بهذه الأسرة يوماً ما ، فكان رسول الله صلىاللهعليهوآله إذا قدم من غزو أو
سفر بدأ بالمسجد فصلى به ركعتين ثمّ يأتي فاطمة ، ثمّ يأتي أزواجه .
ومن الطبيعي أن يكون الحسن عليهالسلام
قريباً من رسول الله صلىاللهعليهوآله
ومصاحباً له في أغلب أوقاته ، ومن خلال هذا القرب وهذه المصاحبة أحاط الإمام الحسن عليهالسلام
بالعلوم والمعارف والمفاهيم والقيم ، من طرق شتّى ، ويأتي التسديد الإلهي والإلهام في طليعتها ؛ باعتباره من الصفوة المختارة من قبل الله عزّوجلّ ، زيادة على التعلّم المباشر والاستماع إلى توجيهات رسول الله صلىاللهعليهوآله
مباشرة ، وقد صرّح الإمام الحسن عليهالسلام
بذلك وهذا واضح من خلال أقواله وتصريحاته ، فتارة يقول : « علّمني رسول الله صلىاللهعليهوآله » ، وأخرى يقول : «
سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله
».
ففي مجال الدعاء ورد عنه عليهالسلام أنّه قال : « علّمني
رسول الله صلىاللهعليهوآله
كلمات أقولهنّ في الوتر : اللهمّ اهدني فيمن هديت ، وعافني فيمن عافيت ، وتولّني فيمن تولّيت ، وبارك لي فيما أعطيت ، وقني شرّ ما قضيت ، فإنّك تقضي ولا يقضى عليك ، وإنه لا يذلّ من واليت ، تباركت ربّنا وتعاليت » .
وفي مجال العبادة وما يتعلّق بها من
مندوبات ورد عن عمير بن مأمون ، قال : « سمعت الحسن بن علي يقول : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله
يقول : من صلى الغداة فجلس في مصلاّه حتى تطلع الشمس كان له حجاب من النار » .
وفي المجال الاجتماعي والأخلاقي يجيب عليهالسلام عن تساؤلات البعض ،
فقد ورد __________________
عن أبي الحوراء ،
قال : « قلت للحسن بن علي رضي الله عنهما : مثل من كنت في عهد رسول الله صلىاللهعليهوآله
؟ وما عقلت عنه ؟ قال : عقلت عنه أنّي سمعته يقول : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، فإنّ الشرّ ريبة ، والخير طمأنينة ، وعقلت عنه الصلوات الخمس ،
وكلمات أقولهنّ عند انقضائهنّ قال : اللهمّ اهدني ... » .
وقال عليهالسلام
: « أمرنا رسول الله صلىاللهعليهوآله
أن نلبس أجود ما نجد ، وأن نتطيّب بأجود ما نجد ، وأن نضحّي بأسمن ما نجد ، البقرة عن
سبعة ، والجزور عن عشرة ، وأن نظهر التكبير ، وعلينا السكينة والوقار » .
وفي مجال الفقه والتشريع كان رسول الله صلىاللهعليهوآله يتدخّل ـ أحياناً ـ
ليعلّم الحسن عليهالسلام
بعض الأحكام عن طريق الموقف العملي ، فقد ورد عن ربيعة بن شيبان قال : « قلت للحسن بن علي رضياللهعنه
: ما تعقل عن رسول الله صلىاللهعليهوآله
؟ قال : صعدت معه غرفة الصدقة ، فأخذت تمرة فلكتها ، فقال النبي صلىاللهعليهوآله : القها فإنّا لا تحلّ لنا الصدقة » .
وفي مجال الثواب والتعويض يوم القيامة ،
قال الأصبغ بن نباتة : « دخلت مع عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه إلى الحسن بن علي نعوده ، فقال له عليّ رضي الله عنه : كيف أصبحت يا ابن رسول الله ؟ قال : أصبحت بحمد الله بارئاً ، قال
: كذلك إن شاء الله ، ثمّ قال الحسن رضي الله عنه : أسندوني ، فأسنده علي رضي الله عنه إلى صدره ، فقال : سمعت جدّي رسول الله صلىاللهعليهوآله
يقول : إنّ في الجنّة شجرة يقال لها شجرة البلوى يؤتى بأهل البلاء يوم القيامة ، فلا يرفع لهم ديوان ، ولا ينصب
لهم ميزان ، يُصبّ عليهم الأجر صبّا » . وكان الحسن عليهالسلام يحضر مجلس رسول
الله صلىاللهعليهوآله
وهو ابن سبع سنين ، فيسمع الوحي فيحفظه فيأتي أمّه فيلقي إليها ما حفظه ، وكلّما __________________
دخل عليّ عليهالسلام وجد عندها علماً
بالتنزيل ، فيسألها عن ذلك ، فتقول : « من ولدك الحسن » .
وهذا الحضور وفي عمر مبكّر يؤهّل صاحبه لأنّ يكون قمّة في العلم والمعرفة ، فقد كان الحسن عليهالسلام
يستمع إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله
برغبته ويصغي إليه فيحفظ ما يقوله من آيات قرآنية ومن أحاديث شريفة ، ولم يكتف بهذا الحفظ ، بل يلقي إلى أمّه فاطمة الزهراء عليهاالسلام
ما حفظه ، فتأخذ به مسلمة بصحّة صدوره ، لمعرفتها وثقتها بالقدرة العلمية لولدها لأنّه ذو شأن عند الله ورسوله صلىاللهعليهوآله. وكان الحسن عليهالسلام
يبادر رسول الله صلىاللهعليهوآله
بالأسئلة ليتعلّم منه ما يحتاجه من علوم ومعارف في مختلف جوانب الحياة الإنسانية ومنها الارتباط الروحي برسول الله صلىاللهعليهوآله
وآثاره الإيجابية. قال الإمام الصادق عليهالسلام
عن آبائه عليهمالسلام
« بينا الحسن بن علي عليهماالسلام
ذات يوم في حجر رسول الله صلىاللهعليهوآله
إذ رفع رأسه فقال : يا أبة ما لمن زارك بعد موتك ، قال : يا بني من أتاني زائراً بعد موتي فله الجنّة ، ومن أتى أباك زائراً بعد موته فله الجنّة ، ومن أتى أخاك زائراً بعد موته فله الجنّة ، ومن
أتاك زائراً بعد موتك فله الجنّة » .
حضور الحسنين عليهماالسلام بيعة الرضوان :
من أساسيّات المنهج الإسلامي الاعتماد على الأمّة في إنجاح المسيرة التكاملية لحركة الإسلام الواقعية ، ومسؤوليّة إنجاح المسيرة تكليف عام يشمل جميع المكلّفين القادرين على العمل والنشاط والفاعلية ، ومن هنا جاءت البيعة تعبيراً عن توزيع المسؤولية بين القائد وبين الأمّة ، وكان لها دور كبير في انطلاقة المسلمين في العهد النبوي ، ولأهميّتها عمل بها رسول الله صلىاللهعليهوآله
، وطلب من المسلمين أن يبايعوه في مواقف عديدة ومنها بيعة الرضوان ، وكان جابر بن عبدالله يقول : « إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله لم __________________
يبايعنا على الموت ،
ولكن بايعنا على أن لا نفرّ » . ولا فرق كبير بين
الاثنين ، فمن يبايع على الموت يكون قد بايع على عدم الفرار ؛ لأنّ الإنسان غالباً ما يفرّ من المعركة إن أصابه الخوف من الموت ؛ فهي بيعة على الجهاد والثبات والتضحية.
وقد شارك كبار الصحابة في هذه البيعة
كما شارك في البيعة جمع من الصحابة الشباب ، ولم يشارك من صغار السنّ إلاّ الحسن والحسين عليهماالسلام كما ورد في قول الإمام محمد الجواد عليهالسلام
مخاطباً المأمون والعباسيين في أحد المجالس : « أما علمتم أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله
افتتح دعوته بدعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام
وهو ابن عشر سنين ، وقبل منه الإسلام وحكم له به ، ولم يدع أحدا في سنّه غيره. وبايع الحسن والحسين عليهماالسلام
وهما ابنا دون الستّ سنين ، ولم يبايع صبيّاً غيرهما ... » .
وبيعتهما لرسول الله صلىاللهعليهوآله
تعبّر عن النضوج والمعرفة الرشيدة والإرادة الصلبة لمن يحسنون اليقين بالله تعالى والتوكّل عليه والاتّجاه نحوه ، ويحسنون العمل والسلوك والتصرّف مع القائد ومع المسلمين ، وتعبّر تلك البيعة عن الشجاعة الفائقة والثبات المنقطع النظير على تكاليف الرسالة ؛ وهي ليست بيعة يراد منها التشجيع ، ولا بيعة عاطفية ؛ بل هي بيعة رسالية حقيقية بين القائد وأتباعه لا بين الجدّ وأحفاده ، وهي بيعة يراد منها توجيه أنظار وعقول المسلمين إلى عظم شخصية الحسن والحسين عليهماالسلام
وإلى دورهم الريادي في المجتمع الإنساني ؛ لأنّ ما يصدر عن رسول الله صلىاللهعليهوآله
لا يكون عبثاً بل حكمة يراد منها أمر هام في حياة المسلمين.
شهادة الإمام الحسن عليهالسلام على كتاب ثقيف :
كتب رسول الله صلىاللهعليهوآله
إلى ثقيف كتاباً بيّن فيه بعض الأمور المتعلّقة بحقوقهم ، وقد جاء فيه : «
هذا كتاب
__________________
رسول الله صلىاللهعليهوآله لثقيف ، كتب : أنّ
لهم ذمّة الله الذي لا إله إلاّ هو ، وذمّة محمد بن عبدالله النبي ، على ما كتب عليهم في هذه الصحيفة : أنّ واديهم حرام محرّم لله كلّه : عضاهه ، وصيده وظلم فيه ، وشرق فيه أو إساءة ، وثقيف أحقّ الناس بوجّ ، ولا يعبر طائعهم ، ولا يدخله عليهم أحد من المسلمين يغلبهم عليه ... وشهد على نسخة هذه الصحيفة : علي بن أبي طالب وحسن بن علي وحسين بن علي ، وكتب نسختها لمكان الشهادة ». قال أبو عبيد : « وفي
هذا الحديث من الفقه : إثباته صلىاللهعليهوآله
شهادة الحسن والحسين » .
واثباته صلىاللهعليهوآله
شهادتهما عليهماالسلام
وهما في ذلك السن لم يكن نابعاً عن هوى أو نزوة أو رغبة عاطفية لأنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله معصوم من جميع ذلك ، فكلّ عمل أو ممارسة تصدر منه إنّما تصدر عن وحي يوحى وعن تسديد إلهي ، بل هو إشارة واضحة إلى تكاملهما في جميع مقوّمات الشخصية ، خصوصاً وأن تلك الشهاة قد جاءت في قضية مهمّة تتحدّد فيها علاقات رسول الله صلىاللهعليهوآله
مع ثقيف وهي من العشائر الكبيرة في عدّتها وعددها. ومن الأمور الملفتة للنظر إنّ الطرف الآخر وهو ثقيف لم يعترض على هذه الشهادة باعتبار صغر سن الحسنين عليهماالسلام
، وهذا إن دلّ على شيء إنّما يدلّ على قناعة ثقيف بأهليتهما الكاملة للشهادة وهما في هذا العمر المبكر.
ولا يخفى ما في هذا الأسلوب النبوي الفذ
من إلفات النظر إلى تصحيح مواقف الحسن عليهالسلام
المستقبلية والاعتراف بسلامتها العقائدية والتشريعية ، ومن هذه المواقف ـ التي سيأتي البحث عنها ـ شهادته لأمّه فاطمة عليهاالسلام في مسألة فدك ، ومنها قوله لأبي بكر ومن ثمّ لعمر بن الخطّاب « إنزل عن منبر أبي » ، فهي لم
تكن شهادة صبي ولا اعتراض صبي ، بل هي شهادة رسالية واعتراض رسالي يعبّر __________________
عن إدراك كامل لما
يجري من أحداث ومواقف ومدى سلامتها الفكرية والشرعية.
موقف الإمام الحسن عليهالسلام من أبي سفيان :
صالح رسول الله صلىاللهعليهوآله
قادة قريش على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهنّ الناس ويكفّ بعضهم عن بعض ، إلاّ أنّ قادة قريش نقضت بعض بنود الصلح بالاعتداء على خزاعة الذين كانوا في عقد رسول الله صلىاللهعليهوآله
وعهده ، فقرّر رسول الله صلىاللهعليهوآله
التوجّه إلى مكّة ، وحينما سمع أبو سفيان بالأمر توجّه إلى المدينة ، وأتى رسول الله صلىاللهعليهوآله فكلّمه في تجديد العهد ، فلم يردّ عليه شيئاً ، ثمّ كلّم بعض الصحابة فلم يستجيبوا
له ، فتوجّه إلى الإمام علي عليهالسلام
فدخل عليه فقال : « يا أبا الحسن تمشي معي إلى ابن عمّك محمد فتسأله أن يعقد لنا عقداً ويكتب لنا كتاباً ، فقال : يا أبا سفيان
لقد عقد لك رسول الله عقداً لا يرجع عنه أبداً » ، وكانت فاطمة عليهاالسلام من وراء الستر والحسن يدرج بين يديها وهو من أبناء أربعة عشر شهراً ، فقال لها : « يا بنت محمد قولي لهذا الطفل يكلّم لي جدّه فيسود بكلامه العرب والعجم ، فأقبل الحسن إلى أبي سفيان وضرب احدى يديه على أنفه والأخرى على لحيته ، ثم أنطقه الله عزّوجلّ بأن قال : يا أبا سفيان قل : لا إله إلاّ الله محمد رسول الله ؛
حتى أكون شفيعاً » .
وفي هذه الواقعة يتّضح شأن الحسن عليهالسلام
وإدراكه العميق للأشخاص والأحداث ، فقد مارس عملية تأديب لأبي سفيان كان مستحقّاً لها لنقضه عهد رسول الله صلىاللهعليهوآله
، وقد دعاه إلى الإسلام لأنه العلاج الأساسي للأزمة التي حدثت ، فجعل شفاعته مشروطة بإسلامه.
فضائل
الإمام الحسن عليهالسلام وإمامته :
أولاً
ـ من القرآن الكريم :
أهل البيت عليهمالسلام
عنوان مضيء في حياة الإنسانية وحركة التاريخ والمسيرة __________________
الإسلامية ، أراد
الله تعالى لهم أن يكونوا أعلام الهدى وقدوة المتّقين ومأوى أفئدة المسلمين ، وروّاد الحركة الإصلاحية والتغييرية في المسيرة الإنسانية ؛ ولهذا أبدى القرآن الكريم عناية فائقة بذكر دورهم وفضائلهم وسموّ مكانتهم ، وفيما يلي نستعرّض جملة من آيات القرآن الكريم التي تطرّقت إلى ذلك لكونها شاملة للإمام الحسن عليهالسلام
كواحد من أهل البيت عليهمالسلام.
١ ـ آية التطهير :
( إِنَّمَا
يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) : تظافرت التفاسير
والروايات إلى أنّ المقصود بأهل البيت عليهمالسلام
هم أهل بيت النبي صلىاللهعليهوآله
وهم : رسول الله صلىاللهعليهوآله
وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهمالسلام.
فقد روي عن أمّ سلمة وبطرق عديدة أنّها قالت : « لمّا نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلىاللهعليهوآله
عليّا وفاطمة وحسناً وحسيناً فجلّل عليهم كساءً خيبرياً ، فقال : اللهمّ هؤلاء أهل بيتي أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً. قالت أمّ سلمة : ألست منهم ؟ فقال : أنت إلى خير » . وهذه الآية
الكريمة تدلّ على عصمة أهل البيت عليهمالسلام
ومنهم الحسن عليهالسلام
كما ورد في تفسيرها عن رسول الله صلىاللهعليهوآله
حيث قال : « أنا وأهل بيتي مطهّرون من الذنوب » .
وقال الإمام الحسن عليهالسلام
في بعض خطبه : « وأنا من أهل البيت الذي كان جبرائيل ينزل إلينا ، ويصعد من عندنا ، وأنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً » .
وآية التطهير تؤكّد العناية والرعاية الإلهيّة الخاصّة والاستثنائية وذلك بإبعادهم عن الزلل والخطأ والإنحراف وهكذا أصبح أهل البيت عليهمالسلام
الميزان الثابت الذي توزن به الأفكار والعواطف والممارسات ، وتقوّم من خلاله الإشخاص والكيانات __________________
والأحداث والمواقف ،
فهم المرجع العلمي والسياسي والاجتماعي للناس جميعاً.
٢ ـ آية المودّة :
( قُل
لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ
)
: أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طريق ابن جبير عن ابن عباس ، قال : « لمّا نزلت هذه الآية ... قالوا : يا رسول الله من قرابتك
الذين وجبت مودّتهم ؟ قال : علي وفاطمة وولدها » . وفي رواية أخرى عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس قالوا : « يا رسول الله من هؤلاء الذين نودّهم ؟ قال : علي وفاطمة وأبناؤهما ». وعلّق القرطبي على ذلك قائلاً : « وكفى قبحاً بقول من يقول : إنّ التقرّب إلى الله بطاعته ومودّة نبيّه صلىاللهعليهوآله
وأهل بيته منسوخ ، وقال : قال النبي صلىاللهعليهوآله
: من مات على حبّ آل محمد مات شهيداً ، ومن مات على حبّ آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة ، ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس اليوم من رحمة الله ، ومن مات على بغض آل محمد لم يرَ رائحة الجنّة ، ومن مات على بغض آل بيتي فلا نصيب له في شفاعتي » .
وهذا يوجِّه العقول والقلوب نحو أهل البيت عليهمالسلام
ويشدّها لهم ، ويؤكّد على أنّ أجر الرسالة هو محبّتهم الحقيقية ، وهي دعوة للارتباط بهم فكرياً وعاطفياً وسلوكياً.
٣ ـ آية الصلاة :
( إِنَّ
اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا
)
: أخرج النسائي وغيره عن أبي هريرة ، أنّهم سألوا رسول الله صلىاللهعليهوآله
: كيف نصلّي عليك ؟ قال : « قولوا اللهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وآل محمد كما صلّيت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد ، والسلام كما قد علمتم » .
والصلاة بتلك الكيفية __________________
جعلت أهل البيت عليهمالسلام مناراً وقدوة
للأمّة ، فمنهم يتلقّى المسلمون مفاهيم العقيدة وقيم السلوك وموازين التقييم ، وهذا التلقّي هو مصداقٌ واقعي للصلاة عليهم ؛ لأنّ
الصلاة واجبة كما ورد في آراء الكثير من العلماء ، حتى قال الشافعي : « من لم يصلِّ عليكم
لاصلاة له » .
وقال الديلمي : « الدعاء محجوب حتى يُصَلَّىٰ على محمد وأهل بيته » .
٤ ـ آية آل ياسين :
( سَلامٌ
عَلَىٰ إِلْ يَاسِينَ ) : ورد في الكثير من
التفاسير : إنّ المراد من ( ياسين ) النبي محمد صلىاللهعليهوآله
.
وورد عنه صلىاللهعليهوآله
أنّه قال : « إنّ الله سمّاني في القرآن بسبعة أسماء : محمّد وأحمد وطه ويس والمزمّل والمدثّر وعبدالله » .
وتظافرت التفاسير على انّ المقصود من ( آل ياسين ) هم ( آل محمد عليهمالسلام ). وعن الإمام علي عليهالسلام
قال : « يس محمد ، ونحن آل يس » . وهنالك قولان في
قراءة آل ( يس ) مفصولة : الأوّل
: إنّه آل هذا النبي المذكور وهو يدخل
فيهم. والثاني
: إنّهم آل محمد صلىاللهعليهوآله .
وهذا السلام الصادر من الله تعالى إلى آل رسول الله صلىاللهعليهوآله
هو توجيه للبشرية نحو دورهم الريادي في حركة التاريخ ، وهو توجيه نحو مفاهيمهم وقيمهم وسيرتهم الممتدّة في كلّ زمان ومكان ، وهو توجيه للارتباط بهم فكرياً وعاطفياً وسلوكياً.
٥ ـ سورة الإنسان وآية الإطعام :
( وَيُطْعِمُونَ
الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا
نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا
)
: عن ابن عباس رضياللهعنه
: « أنّ الحسن والحسين مرضا فعادهما رسول الله صلىاللهعليهوآله
في ناس معه ، __________________
فقالوا : يا أبا
الحسن ، لو نذرت على ولدك ، فنذر عليّ وفاطمة وفضّة ـ جارية لهما ـ أن برءا ممّا بهما : أن يصوموا ثلاثة أيّام ، فشفيا وما معهم شيء ، فاستقرض عليّ
من شمعون الخيبري اليهودي ثلاث أصوع من شعير ، فطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم ، فوضعوا بين أيديهم ليفطروا ، فوقف عليهم سائل ، فقال : السلام عليكم أهل بيت محمد ، مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنّة ، فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلاّ الماء ، وأصبحوا صياماً ؛ فلمّا أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه ، ووقف عليهم أسير في الثالثة ، ففعلوا مثل ذلك ؛ فلمّا أصبحوا أخذ علي عليهالسلام
بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله
، فلمّا أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع ، قال : ما أشدّ ما يسوءني ما أرى بكم ، وقام فانطلق معهم ، فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها وغارت عيناها ، فساءه ذلك ، فنزل جبرائيل وقال : خذها يا محمد هنّأك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة » .
٦ ـ آية المباهلة :
( فَمَنْ
حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ
وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ
)
: والثابت في نزول هذه الآية ، هو أنّ نصارى نجران ، لمّا دعاهم رسول الله صلىاللهعليهوآله
إلى المباهلة قالوا : حتى نرجع وننظر ، فلمّا تخالوا قالوا : للعاقب وكان ذا رأيهم : « يا عبدالمسيح ما ترى ؟ فقال : والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أنّ محمدا نبيّ مرسل ، وقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم ، والله ما باهل قوم نبيّاً قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ، ولئن فعلتم لتهلكنّ فإن أبيتم إلاّ إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه ، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى __________________
بلادكم ، فأتى رسول
الله صلىاللهعليهوآله
وقد غدا محتضناً الحسين آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعليّ خلفهما وهو يقول : إذا أنا دعوت فأمّنوا. فقال أسقف نجران : يا معشر النصارى ، إنّي لأرى وجوهاً لو شاء الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها ، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة. فقالوا : يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك وأن نقرّك على دينك ونثبت على ديننا »
... وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهمالسلام
، وبرهان واضح على نبوّة النبي صلىاللهعليهوآله.
وهذه الآية دالّة على أنّ الحسن والحسين عليهماالسلام
كانا ابني رسول الله صلىاللهعليهوآله.
٧ ـ آية أهل الذكر :
( فَاسْأَلُوا
أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ
)
: يقول الحارث : « سألت عليّاً عن هذه الآية ، فقال : والله إنّا لنحن أهل الذكر ، نحن
أهل الذكر ، نحن أهل العلم ، ونحن معدن التأويل والتنزيل » .
٨ ـ آية الراسخون في العلم :
( وَمَا
يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ )
: قال الإمام علي عليهالسلام
: « أين الذين زعموا أنّهم الراسخون في العلم دوننا كذباً وبغياً علينا أن رفعنا الله ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم ،
بنا يستعطى الهدى ويستجلى العمى » . إلى غير ذلك من
الآيات الكثيرة الأخرى التي لا مجال في تفصيلها ، غير أن ما تقدم منها يبيّن لنا دور الإمام الحسن عليهالسلام ومقامه السامي في إمامة وقيادة الإنسانية ، فهو الطاهر المطهّر المعصوم كما ورد في
آية التطهير ، وهو من الذين أمر الله تعالى بحبّهم وطاعتهم وموالاتهم كما في آية __________________
المودّة ، ومن
المشمولين بالصلاة عليهم وتعظيمهم وتبجيلهم ، وهو من أهل الذكر ، والراسخين في العلم.
وإذا انضمّ هذا إلى ما تقدم عن رسول
الله صلىاللهعليهوآله
بحق الحسن عليهالسلام
علم أنه الإمام القدوة الذي ينبغي الاقتداء بأقواله وأفعاله لأنّه العارف بأسس وقواعد المنهج الإسلامي بجميع أبعاده ومجالاته ، والمعصوم الذي لا يميل مع الهوى ولا يتأثّر بالمؤثّرات الضيّقة كالمودّة والشنآن والعصبية ؛ فهو على ضوء ذلك يمثل المرجعية الحقّة التي يُرجع إليها في حال اختلاف المعايير واضطراب الموازين في أجواء التشكيك والبلبلة والاضطراب الفكري الذي أثارته بوجه الإمام الحسن عليهالسلام
الشجرة الملعونة بقيادة زعيم البغاة ابن آكلة الأكباد كما سنرىٰ.
ثانياً
ـ من السنّة النبوية :
جاء رسول الله صلىاللهعليهوآله من أجل إيصال
المجتمع الإنساني إلى قمّة التكامل والسموّ والارتقاء ؛ بتقرير المنهج الإلهي في واقع الحياة ، وجعله الحاكم على تصوّرات الناس ومشاعرهم ومواقفهم ، وقد عاش مع المجتمع يدعوه إلى عبادة الله تعالى وإلى إصلاح وتغيير العقول والقلوب والإرادات ، ويدعوه إلى الارتباط بالقدوة والأسوة الصالحة ، ولذا نجده يوازن بين الدعوة إلى الدين كمفاهيم وقيم وبين الدعوة لمن يمثّل هذا الدين في حركة الواقع ، ويأتي تبيانه لفضائل أهل البيت عليهمالسلام
ضمن هذا التوازن. وفي هذا المقام فإنّ تبيان فضائل الإمام الحسن عليهالسلام
لم يكن نابعاً عن الرغبة العاطفية المحضة نتيجة القرابة القريبة ، بل هو دعوة للاستمرار في حركة الرسالة وامتدادها في الإمام الحسن عليهالسلام الذي جسّدها ويجسّدها في سكناته وحركاته وأقواله وأفعاله. فالإمام الحسن عليهالسلام هو سيّد شباب أهل الجنّة ، كما ورد في حديث أبي سعيد الخدري قال : « قال رسول الله صلىاللهعليهوآله
: الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة » . وقال أيضاً : « من
__________________
سرّه أن ينظر إلى
سيّد شباب أهل الجنّة ، فلينظر إلى الحسن بن علي » .
وهذا التفضيل العظيم للحسنين عليهماالسلام
لم يكن على أساس القربى النسبية ، بل هو تفضيل رسالي ، فهما أفضل من الغير بدرجة قربهم من المفاهيم والقيم الإلهيّة التي جسّدوها ويجسّدونها في أفكارهم وعواطفهم وممارساتهم.
وعن عبدالله بن عمر قال : « سمعت رسول
الله صلىاللهعليهوآله
يقول : إنّ الحسن والحسين هما ريحانتاي من الدنيا » . وفي الحديث : « خير
رجالكم علي بن أبي طالب ، وخير شبابكم الحسن والحسين ، وخير نسائكم فاطمة بنت محمد » .
وفيه أيضاً : « نحن ولد عبدالمطّلب سادة أهل الجنّة : أنا وحمزة وعلي وجعفر والحسن والحسين والمهدي » .
وفيه حديث آخر : « الحسن والحسين سيفا العرش وليسا بمعلّقين » .
وعن عمر بن الخطاب أنّه قال : « قال رسول الله صلىاللهعليهوآله
: إنّ فاطمة وعليّاً والحسن والحسين في حظيرة القدس في قبّة بيضاء سقفها عرش الرحمن » .
وعن أبي هريرة قال : « قال رسول الله صلىاللهعليهوآله
: يحشر الأنبياء يوم القيامة على الدّواب ليوافوا من يومهم المحشر ، ويبعث صالح على ناقته ، وأبعث أنا على البراق ، ويبعث ابناي الحسن والحسين على ناقتين من نوق الجنّة » .
وعن زينب بنت أبي رافع ، عن فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوآله
أنّها أتت بالحسن والحسين إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله
في شكواه الذي توفي فيه ، فقالت : « يا رسول الله هذان ابناك فورثهما شيئاً ، فقال : أمّا الحسن فله هيبتي وسؤددي ، وأما حسين فله جرأتي __________________
وجودي » .
وعن جابر قال : « قال رسول الله صلىاللهعليهوآله
: إنّ الله عزّ وجل جعل ذريّة كلّ نبي في صلبه ، وإنّ الله تعالى جعل ذريّتي في صلب علي بن أبي طالب » .
وعن عمر بن الخطّاب ، قال : « سمعت رسول
الله صلىاللهعليهوآله
يقول : كلّ بني أنثى فإنّ عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة فإنّي أنا عصبتهم وأنا أبوهم » .
وقال صلىاللهعليهوآله
: « الحسن والحسين سبطان من الأسباط » .
وقال صلىاللهعليهوآله
: « حسن سبط من الأسباط » .
والأحاديث الشريفة المتقّدمة والتي
تبيّن فضائل الإمام الحسن عليهالسلام
يراد منها : تنبيه المسلمين وتوجيههم للارتباط بأرقى نماذج الشخصية الإنسانية لكي يقتدوا بها ويستسلمون استسلاماً واعياً متعقّلاً لمفاهيمها وقيمها ، ولكي يميّزوا بين الحقّ والباطل في معترك الأهواء والصراع والمنافسة بين التيّارات المتصارعة الآنية والمستقبلية ، فجعل رسول الله صلىاللهعليهوآله
أهل البيت عليهمالسلام
المقياس والميزان الذي تقاس وتوزن به المواقف والشخصيّات والتيّارات ، فمحاربتهم محاربة لرسول الله صلىاللهعليهوآله
ومسالمتهم مسالمة لرسول الله صلىاللهعليهوآله
كما ورد عن أبي هريرة ، قال : « نظر رسول الله صلىاللهعليهوآله
إلى عليّ وابنيه وفاطمة ، فقال : أنا حرب لمن حاربكم ، سلم لمن سالمـكم » .
ونحوه عن زيد بن أرقـم .
وفي هذا الحديث الشريف ألقى رسول الله صلىاللهعليهوآله
الحجّة على أعداء أهل البيت عليهمالسلام
وبيّن سلامة مواقفهم في خضمّ الأحداث الواقعة بعد رسول الله صلىاللهعليهوآله
كحرب الجمل وصفّين والنهروان ، وتمرّد معاوية الباغي الخبيث على دولة الإمام الحسن عليهالسلام
، وقتل يزيد ( لعنه الله ) __________________
للإمام الحسين عليهالسلام.
الإمامة بعد رسول الله صلىاللهعليهوآله تعيّن بالنصّ ولا
تترك لاختيار الأمّة ؛ فهي عهد من الله عزّوجلّ للمصطفين من عباده ، وقد أكّد أهل البيت عليهمالسلام تلك الحقيقة ، فالأمر ليس متروكاً للأمة ولا حتى لأهل البيت عليهمالسلام أنفسهم ، فهم لا يستخلفون أو ينصّون على من بعدهم إلاّ بعهد معهود من رسول الله صلىاللهعليهوآله وبأمر الله تعالى.
عن أبي بصير ، قال : « كنت عند أبي
عبدالله عليهالسلام
فذكروا الأوصياء وذكرت إسماعيل فقال : لا والله يا أبا محمد ما ذاك إلينا وما هو إلاّ إلى الله عزّ وجلّ
ينزل واحداً بعد واحد » .
وقال عليهالسلام
: « أترون الموصي منّا يوصي إلى من يريد ؟ لا والله ولكن عهد من الله ورسوله صلىاللهعليهوآله
لرجل فرجل حتى ينتهي الأمر إلى صاحبه » .
وعلّة النصّ هي أنّ الإمامة منصب عظيم
وخطير ؛ لأنّ الإمام هو حجّة الله على خلقه ، وهو المقتدى به في أقواله وأفعاله ؛ ولذا فإنّ الإمّة لا تستطيع أن تشخّص إمامها ، وهذا ما تؤكّده المسيرة الإسلامية وسير الأحداث ؛ فلابدّ وأن يكون الاختيار إلهياً للحفاظ على سلامة المفاهيم والقيم الإسلامية ، وحماية الإسلام من تحريف الضّالين وتأويل الجاهلين ، والنصّ سنة من سنن الله تعالى في تعيين الأئمّة والأوصياء من لدن آدم إلى خاتم الأنبياء والمرسلين. وقد نصّ رسول الله صلىاللهعليهوآله
على إمامة الحسن عليهالسلام
في أقواله باعتباره أحد الأئمّة الإثني عشر ، فقد وردت روايات عديدة تنصّ على عدد الأئمّة نختار بعضها.
قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : « إنّ هذا الأمر
لا ينقضي حتى يمضي فيهم إثنا عشر خليفة كلّهم من قريش » .
وقال : « بعدي إثنا عشر خليفة » ، ثمّ أخفى صوته وقال : __________________
« كلّهم من بني هاشم » .
وقال : « أهل بيتي عترتي من لحمي ودمي ، هم الأئمّة بعدي عدد نقباء بني إسرائيل » . وقال : « يا علي
أنا وأنت وابناك الحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين أركان الدين ودعائم الإسلام ، من تبعنا نجا ، ومن تخلّف عنّا فإلى النار » .
وقال للإمام الحسين عليهالسلام
: « أنت إمام ابن إمام أخو إمام أبو أئمّة تسعة تاسعهم قائمهم » . وقال في بيان
أوصيائه من بعده : « أوّلهم أخي ووزيري ووارثي وخليفتي في أمّتي ، ووليّ كلّ مؤمن بعدي ... ثمّ ابني الحسن ثمّ ابني الحسين ، ثمّ تسعة من ولد الحسين ؛ واحد بعد واحد حتى يردوا عليّ الحوض ، هم شهداء الله في أرضه ، وحجّته على خلقه ، وخزّان علمه ، ومعادن حكمته ؛ من أطاعهم أطاع الله ، ومن عصاهم عصى الله » . وقال بشأن الحسن
والحسين عليهماالسلام
: « هذان ابناي إمامان قاما أو قعدا » .
وقال في أهل بيته عليهمالسلام
: « إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدى ؛ أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يتفرّقا حتى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما » .
وقال أيضاً : « إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق ، وإنّما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطّة في بني إسرائيل من دخله غُفِر له » . وقال : « النجوم
أمان لأهل الأرض __________________
من الغرق وأهل بيتي
أمان لأمّتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس » .
وما تقدّم يدلّ دلالة واضحة على إمامة
الحسن عليهالسلام
فهو إمام مفترض الطاعة منصّب من الله تعالى ومن رسوله صلىاللهعليهوآله
، وهو المقتدى به في أقواله وأفعاله ؛ وعلى ضوء ذلك فهو المقياس الذي تقاس به أفكار ومواقف الآخرين ، فمن وافقه نجا ، ومن خالفه خسر وهوى ؛ ولهذا فلا يعذر من خالفه ومن قاتله كمعاوية ، فهو ليس مجتهداً فأخطأ ، كما يزعم أنصار الشجرة الملعونة
بل هو من البغاة العتاة المردة مع سبق الإصرار ؛ لأنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله قد ألقى الحجّة على
المسلمين بالنصّ على إمامة سبطه الحسن عليهالسلام
وعلى عصمته وصحّة أفكاره ومواقفه ، فلا تجوز مخالفته فضلاً عن التمرّد على خلافته بالعصيان العسكري.
الفصل
الثاني
الإمام
الحسن عليهالسلام في عهد الثلاثة
بعد وفاة رسول الله صلىاللهعليهوآله وفي ظرف انشغال
الإمام علي عليهالسلام
وبني هاشم بمراسيم دفنه صلىاللهعليهوآله
حدث صراع واضح المعالم بين بعض المهاجرين ـ وعلى رأسهم أبي بكر وعمر ـ والأنصار ، تخلّلته جميع عوامل الصراع من منافسة ذاتية وحسد وروح قبلية واستخدام المناورة للوصول إلى السلطة ، وقد تم لقريش ما بيّتته وأزيح أمير المؤمنين عليهالسلام
عن منصبه وتولىٰ السلطة أبو بكر لا عن نص أو مشورة.
__________________
موقف
الإمام الحسن عليهالسلام من أبي بكر :
أخرج الدارقطني : « أنّ الحسن جاء لأبي
بكر وهو على منبر رسول الله صلىاللهعليهوآله
فقال : إنزل عن مجلس أبي ، فقال صدقت والله إنّه لمجلس أبيك ، ثمّ أخذه وأجلسه في حجره وبكى. فقال علي رضياللهعنه
: أما والله ما كان عن رأيي. فقال : صدقت والله ما اتّهمك ... ووقع للحسن نحو ذلك مع عمر وهو على المنبر ، فقال له : منبر أبيك والله
لا منبر أبي. فقال عليّ : والله ما أمرت بذلك. فقال عمر : والله ما اتّهمناك » .
وهكذا اعترض الإمام الحسن عليهالسلام على تنصيب أبي بكر
بعبارة موجزة « انزل عن مجلس أبي » ، فقد أثبت بهذه
العبارة حقّ أمير المؤمنين عليهالسلام
بالخلافة ، ولم يكن هذا القول بحثٍّ أو تحريك من قبل أبيه عليهماالسلام
ولم يكن نابعاً عن عواطف ساذجة من ابن لأبيه ، وإنّما كان موقفاً لا نظير له في بيان عمق وعي الإمام الحسن السبط بما جرى من وقائع وأحداث بعد وفاة جده المصطفى صلىاللهعليهوآله ، ومن هنا اُعلن بهذا الموقف ـ وعلى مرأى جمع من الصحابة ـ عن حق زعيم أهل البيت عليهمالسلام
المغتصب في خلافة الرسول صلىاللهعليهوآله
كما أكّدته أحاديث شتىٰ ، ولو لم يكن من بينها إلاّ حديث الغدير لكفىٰ ، ذلك الحديث الذي حضر الإمام الحسن عليهالسلام زمانه ومكانه في حجة الوداع. وسمع رسول الله صلىاللهعليهوآله
يقول : « من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه » .
وكان من المهنّئين له بالولاية أبو بكر وعمر ، ففي رواية قال له عمر : « هنيئاً يا بن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كلّ مؤمن ومؤمنة » .
وفي رواية قال له : « بخٍ بخٍ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كلّ مسلم » . وفي رواية أنّ أبا
بكر وعمر قالا له : __________________
« أمسيت يا ابن أبي طالب مولى كلّ مؤمن ومؤمنة »
.
ومن جهة أخرى فأنّ الإمام الحسن عليهالسلام علم كيف تمت البيعة
لأبي بكر ، وكيف تغيّب جميع الصحابة عن السقيفة وخصوصاً الزعماء الكبار منهم وعلى رأسهم أقرباء رسول الله صلىاللهعليهوآله
، ولم تكن شورى بل كانت مغالبة وصراع وتهديد بالقتل ، وإنّ الاحتجاج بالقرابة لا يجدي نفعا وعلي عليهالسلام
هو أقرب الناس إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله.
وقد اعترف أبو بكر بفقدان الشورى بالقول : « إنّ بيعتي كانت فلتة وقى الله شرّها » .
وقال عمر بعد حين : « لا يغرّن امرؤ أن يقول : إنّ بيعة أبي بكر كان فلتة فتمّت ، وإنّها قد كانت كذلك إلاّ أنّ الله قد وقى شرّها » .
فلا غرو إذن فيما لو وقف السبط بوجه رأس
السلطة قائلاً : « إنزل عن مجلس أبي » ، وبمعنى آخر إنزل أو تنحّى عن منصب الخلافة والإمرة ومنصب القيادة والإفتاء والتوجيه والإرشاد ، لأنّه من مختصّات أبي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام
، وبهذه العبارة الموجزة بيّن الإمام الحسن عليهالسلام
نظرية النصّ والتعيين لا نظرية الاختيار ، وبيّن أفضلية أبيه عليهالسلام
وأحقيّته بالخلافة من أبي بكر ، وبهذا سلب شرعية السلطة الحاكمة والممارسات الصادرة عنها.
الإمام
الحسن عليهالسلام وفدك :
عن أبي سعيد الخدري ، قال : « لمّا نزلت
: ( وَآتِ
ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ
)
، أعطى رسول الله صلىاللهعليهوآله
فاطمة فدكاً » .
وفدك هي أرض عائدة لفاطمة الزهراء عليهاالسلام
إمّا بالنحلة أو بالميراث ، إلاّ أنّ الحاكم وهو أبو بكر قد صادر هذه الأرض وانتزعها __________________
من ملكية فاطمة عليهاالسلام ، وقد طلبتها فاطمة
عليهاالسلام
بعد وفاة رسول الله صلىاللهعليهوآله
، « تارة بالميراث وتارة بالنحلة فدفعت عنها » . وحينما أصرّت
فاطمة عليهاالسلام
على استرجاع حقّها طالبها أبو بكر بالبيّنة ، فشهد لها الإمام علي عليهالسلام وأمّ أيمن ، وشهد لها أيضاً « الحسن والحسين » .
ومطالبة فاطمة عليهاالسلام
بفدك لم يكن طمعا في أرض أو مال وهي الصدّيقة الزاهدة ؛ بل هو تعبير عن المطالبة بحقٍّ مغتصب وهو الخلافة ؛ حيث أنّ فدك بقيت على طول التاريخ تمثّل الحقّ المغتصب ، وهذا مانلاحظه في جواب الإمام موسى الكاظم عليهالسلام
لهارون العباسي حينما قال له : « يا أبا الحسن حد فدك حتى أردّها عليك » ، وكان الإمام عليهالسلام
يأبى ذلك ، فلمّا ألحّ عليه ، قال : « لا آخذها إلاّ بحدودها ، قال : وما حدودها ، قال : إن حدّدتها لم
تردّها ، قال : بحقّ جدّك إلاّ فعلت ، قال : أمّا الحدّ الأوّل فعدن ، والحدّ الثاني سمرقند
، والحدّ الثالث أفريقية ، والرابع سيف البحر ممّا يلي الخزر وأرمينية. قال هارون : فلم يبقَ لنا شيء ، فتحول في مجلسي. قال الإمام الكاظم عليهالسلام : قد أعلمتك أنّي
إن حدّدتها لم تردها » .
ففدك ليست أرضاً فحسب بل هي خلافة وحكومة أُزيح عنها أمير المؤمنين عليهالسلام
؛ ولهذا أصرّت فاطمة عليهاالسلام
على المطالبة بهذا الحقّ وأشهدت الشهود على ذلك ومنهم ولدها الحسن عليهالسلام
وكان عمره دون الثامنة ، فهي لم تُشهد طفلاً أو صبياً بل انساناً متكاملاً مؤهّلاً للشهادة على هذا الأمر الخطير ، الذي بقي ولا يزال رمزا لصراع جوهري بين مدرسة أهل البيت عليهمالسلام ومدرسة غيرهم ، وإعطاء الحسن عليهالسلام
هذا الدور البارز في قضية كبيرة ومسألة خطيرة لم يكن عفوياً أو ارتجالياً أو طلباً للحصول على شيء من أمور الدنيا يحشد فيه الإنسان كلّما يحتاجه من شهود ؛ بل هو أمر هام غير منفصل عن
__________________
الموازين والمقاييس
الإسلامية التي يتبنّاها أهل البيت عليهمالسلام
وعلى رأسهم رسول الله صلىاللهعليهوآله
الذي أعطى للحسن عليهالسلام
دورا متميّزاً في حياة المسلمين. وقد شهد الحسن عليهالسلام
بعائدية فدك للزهراء عليهاالسلام
، ولم يكن بهذه الشهادة قد انطلق من منطلقات عاطفية بحتة ، بل انطلق من منطلقات رسالية ؛ فهو في الحقيقة قد شهد بما رأى أو سمع من رسول الله صلىاللهعليهوآله
أنّه أعطى فدك لفاطمة عليهاالسلام
؛ لأنّه كان ملازماً له في أغلب مجالسه أو تنقّلاته ، وهو عليهالسلام
لا يشهد بالباطل أو لا يشهد بما لم يره أو يسمع به. وشهادته لفاطمة عليهاالسلام
لها مداليل كبيرة وكثيرة ، لعل أظهرها أن أهل البيت عليهمالسلام
ـ صغيرهم وكبيرهم ـ ليسوا كبقية الناس ، وإنما هم معدن الرسالة ، ولا يُقاس بهم أحد. كما تعبّر تلك الشهادة عن إيمانه عليهالسلام
بخطأ الحاكم ، وبمخالفته لسنّة رسول الله صلىاللهعليهوآله
وللثوابت الشرعية في تثبيت حقّ فاطمة عليهاالسلام
بالنحلة تارة وبالإرث تارة أخرى.
الإجابة
على الأسئلة الفقهية :
عن عبادة بن الصامت ، قال : « سأل
أعرابي أبا بكر فقال : إنّي أصبت بيض نعام فشويته وأكلته وأنا محرم فما يجب علي ؟ فقال له : يا أعرابي أشكلت عليّ في قضيّتك ؛ فدلّه على عمر ، ودلّه عمر على عبدالرحمن ، فلمّا عجزوا قالوا : عليك بالأصلع ، فقال أمير المؤمنين : سل أيّ الغلامين شئت ، فقال الحسن عليهالسلام : يا أعرابي ألك إبل ؟ قال : نعم ، قال : فاعمد إلى عدد ما أكلت من البيض نوقاً فاضربهنّ
بالفحول ، فما فصل منها فاهده إلى بيت الله العتيق الذي حججت إليه. فقال أمير المؤمنين عليهالسلام : إنّ من النوق السلوب ومنها ما يزلق. فقال الحسن عليهالسلام
: إنّ يكن من النوق السلوب ما يزلق فإنّ من البيض ما يمرق » . لقد أراد الإمام
علي عليهالسلام
بهذا إثبات معرفة ابنه الحسن عليهالسلام
بالأحكام الشرعية التي عجزت عنها السلطة الحاكمة باسم الدين.
__________________
أذان
بلال :
روي أنّ بلالاً رأى النبي صلىاللهعليهوآله في منامه وهو يقول
: « ما هذه الجفوة يا بلال ؟ ما آن لك أن تزورنا ؟ فانتبه حزيناً ، فركب إلى المدينة فأتى قبر النبي صلىاللهعليهوآله وجعل يبكي عنده ويتمرّغ عليه ، فأقبل الحسن والحسين ، فجعل يقبّلهما ويضمّهما ، فقالا له : نشتهي أن تؤذّن في السحر ، فعلا سطح المسجد ، فلمّا قال : الله أكبر ،
الله أكبر ارتجّت المدينة ، فلمّا قال : أشهد أن لا إله إلاّ الله زادت رجّتها ، فلمّا
قال : أشهد أنّ محمداً رسول الله خرج النساء من خدورهنّ ، فما رئي يوم أكثر باكيا وباكية من ذلك اليوم » .
إنّ هذا الطلب يعبّر عن دقّة النظر بربط الماضي بالحاضر والمستقبل ليعيش رسول الله صلىاللهعليهوآله
مع المسلمين في سكناتهم وحركاتهم ولكي تبقى سيرته شاخصة أمام المسلمين بعد ابتعادهم عنها بإقصاء أهل البيت عليهمالسلام عن مناصبهم ، ولكي تعيد الأمّة الذكريات النبوية إلى واقعها ، وتتوجّه إلى منهج النبي صلىاللهعليهوآله
في الحياة لتتلقى منه مفاهيم العقيدة وقيم الإسلام وموازينه وشرائعه وقوانينه وآدابه وتقاليده ؛ لتتحرّك على ضوئها في حركتها نحو الاستقامة والكمال.
الإمام
الحسن عليهالسلام في عهد عمر بن
الخطّاب :
حينما قربت وفاة أبي بكر أوصى بالخلافة
إلى عمر ونصّ عليه ، وأصبح هذا التنصيص اللاشرعي قاعدة من قواعد تولّي الخليفة عند العامة .
وقد تم هذا رغم مخالفة الصحابة لذلك ؛ حيث دخل عليه المهاجرون والأنصار ، فقالوا له : « تراك استخلفت علينا عمر ، وقد عرفته
وعلمت بوائقه فينا وأنت بين أظهرنا ، فكيف إذا وليت عنّا وأنت لاق الله عزّوجلّ فسائلك ، فما أنت قائل » .
وقد توقّع الإمام علي عليهالسلام
هذه المسألة في جوابه لعمر حينما طالبه بالبيعة لأبي بكر __________________
حيث قال : « احلب
حلباً لك شطره ، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غداً » .
فالمسألة مسألة صفقة سياسية ، فاختيار أبي بكر لعمر لم يكن على أساس موضوعي يعتمد على المؤهّلات والخصائص الذاتية ، فلم يكن عمر أفضل الموجودين من حيث العلم والعدالة والكفاءة والشجاعة وباقي خصائص الخليفة ، ولم يتمّ تنصيبه على أساس شورى بين الصحابة ، وإضافة إلى ذلك لم يراع وصايا رسول الله صلىاللهعليهوآله
حول علي عليهالسلام
سواء كان استخلافه بالتصريح أو التلميح ، فلا زال علي عليهالسلام
هو المؤهّل الوحيد لمنصب الخلافة ، وبهذا يكون غيره غير مؤهّل للخلافة.
وقد علم الإمام الحسن عليهالسلام هذه الحقيقة فقال لعمر
بن الخطاب : « انزل عن منبر أبي. فقال عمر : منبر أبيك والله لا منبر أبي » .
فالحسن عليهالسلام
قد واجه عمر بمرّ الحق ، وقال له بأن هذا المنبر الذي تجلس عليه ، تأمر وتنهى ليس لك كما لم يكن لأبي بكر من قبلك ، وإنما هو لنا أهل البيت وهذا زعيمهم وأولهم وهو أبي صلوات الله عليه. والمنبر في كلام الحسن السبط كناية عن الخلافة والسلطة والحكومة وإرث الرسول صلىاللهعليهوآله
التي هي من مختصات أهل البيت عليهمالسلام
بالجعل والتخصيص من لدن الله ورسوله صلىاللهعليهوآله
، وإن من سبقهم إليها إنما سبقهم بتلك الطرق التي أقلّ ما يمكن أن يقال عنها أنها كانت ملتوية إلى حدٍ بعيد. وليس غريباً أن لا يعترض على عمر غير الإمام الحسن عليهالسلام
، وهو دون الخامسة عشر ؛ لإدراكه خطورة إزاحة الإمام علي عليهالسلام
عن منصبه ، فبهذه الإزاحة تسلل الأمويون إلى مناصب خطيرة في الدولة الإسلامية ، وأصبح معاوية الحاكم المطلق لولاية الشام وأعطيت له صلاحيّات مطلقة ، حتىٰ أنّ عمر قال له : « لا
آمرك ولا أنهاك » .
وبعد عمر انتقلت السلطة إلى عثمان بلعبة ( الشورى __________________
العمرية ) فأقرّ بني
أمية ومنهم معاوية وجمع له الشام كلّها ، فكان أميراً عشرين سنة .
وبهذا الاستخلاف أقام معاوية جيشاً قوياً استطاع من خلاله التمرّد على خلافة الإمام علي عليهالسلام
، ومن بعده خلافة الإمام الحسن عليهالسلام
، واستولى على الخلافة بالترغيب والترهيب والتآمر فحولها إلى ملك يتوارثه الأبناء عن الآباء وعلى أثرها عاش أهل البيت عليهمالسلام
قتلاً وتشريداً ، وحرّف الحكّام السيرة النبوية وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله ، وأفسدوا أوضاع وأحوال وأخلاق وعقائد المسلمين. وهكذا فإنّ اعتراض الإمام الحسن عليهالسلام
على عمر لم يكن اعتراضاً ساذجاً بل كان اعتراضاً رسالياً ينظر إلى المستقبل نظرة ثاقبة ، تعبر عن حرصه عليهالسلام على مستقبل الرسالة ومستقبل الأمّة الإسلامية بل مستقبل الإنسانية جمعاء.
التفاني
من أجل الإسلام :
إنّ إزاحة أهل البيت عليهمالسلام عن مناصبهم في
قيادة وإدارة الحكومة ؛ لم يكن عائقاً لهم في تقييم أعمال السلطة ونشاطاتها وتوجيهها نحو الاستقامة على منهج رسول الله صلىاللهعليهوآله
وثوابت القرآن الكريم ؛ لأنّهم ينطلقون من المصلحة الإسلامية العليا متعالين على المصالح الأخرى وإن كانت على مستوى عظيم وهو الخلافة والإدارة السياسية المباشرة ؛ لأنّ بقاء الإسلام وبقاء الكيان الإسلامي أهمّ الأمور بنظر أهل البيت عليهمالسلام
، وقد وقف الإمام علي عليهالسلام
مرشداً وموجهاً للحكّام المتعاقبين كلما استطاع إلى ذلك سبيلاً خصوصا في القضايا التي يعجزون عن توجيهها أو إدارتها أو انجازها ، واعترف عمر بن الخطاب بهذه الحقيقة قائلاً : « لولا عليّ لهلك عمر » .
فقد أسهم الإمام عليهالسلام
في حلّ المسائل القضائية والسياسية المستعصية ، وكان عليهالسلام
يشرك الإمام الحسن عليهالسلام
في هذا الحلّ لتبيان __________________
دوره الريادي في
الأمّة ، فقد ورد في رواية عن الإمام الرضا عليهالسلام
: « أنّه أتي عمر برجل وجد على رأسه قتيل وفي يده سكّين مملوء دماً ، فقال الرجل : لا والله ما قتلته ولا أعرفه ، وإنّما دخلت بهذه السكين أطلب شاة لي عدمت من بين يديّ فوجدت هذا القتيل ، فأمر عمر بقتله ، فقال الرجل القاتل : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، قد قتلت رجلاً وهذا رجل آخر يقتل بسببي ؟ فشهد على نفسه بالقتل ، فأدركهم أمير المؤمنين وقال : لا يجب عليه القود إن كان قتل نفسا فقد
أحيا نفساً ، ومن أحيا نفساً فلا يجب عليه قود. فقال عمر : سمعت رسول الله يقول : أقضاكم عليّ وأعطى ديته من بيت المال ».
وفي الكافي والتهذيب عن أبي جعفر عليهماالسلام : أنّ أمير
المؤمنين عليهالسلام
سأل فتوى ذلك من ولده الحسن عليهالسلام
، فقال : « يطلق كلاهما والدية من بيت المال. قال : ولِم ؟ قال لقوله : ( وَمَنْ
أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا
) » .
وهذه الرواية تبيّن لنا دور الإمام علي عليهالسلام وولده الحسن عليهالسلام في حلّ المسائل المستعصية حيث كان عليهالسلام
يتدخّل مباشرة أو ابتداءً في ذلك باعتباره مسؤولاً عن إدراة شؤون المسلمين وعلاج قضاياهم المستعصية.
عطاء
الإمام الحسن عليهالسلام :
لما دوّن عمر الدواوين وفرض العطاء ألحق
الحسن والحسين بفريضة أبيهما عليهمالسلام
مع أهل بدر لقرابتهما من رسول الله صلىاللهعليهوآله
، ففرض لكلّ واحد منهما خمسة آلاف درهم .
وإذا تتبّعنا كتب التاريخ أو كتب الفقه لا نجد رواية تامّة السند حول استلام أهل البيت عليهمالسلام
لهذا العطاء القائم على أساس الفوارق الطبقية وإن كانت على أساس السبق في الإسلام والجهاد. وأخذ أهل البيت عليهمالسلام __________________
العطاء له مبرّراته
الشرعية. لأنه جزء يسير رُدّ إليهم من أموالهم المغتصبة ، ولكن بصورة العطاء ، وقد يكون أخذ العطاء وسيلة لتوزيعه على مستحقّيه من الفقراء والمحتاجين ، بعد أن أصبحت طريقة التوزيع أمراً واقعاً لا يمكن اصلاحه أو تغييره. وفي جميع الأحوال فلا إشكال في استلام العطاء من قبل الإمام الحسن عليهالسلام.
دخول
الإمام الحسن عليهالسلام في الشورى العمرية
:
حينما طُعِن عمر في خاصرته واستيقن من
هلاكه ابتكر لعبة الشورى في تعيين الخليفة من بعده ، حيث جعل الأمر شورى بين ستة نفر من الصحابة وأمر بقتل من لم يرضَ منهم بعد اتفاق أكثرهم على شخص معين
في قصة مضحكة يطول بيانها وكشف ما فيها من تدبير لوصول عثمان الأموي إلى السلطة. وكان قد أمر باحضار الإمام الحسن عليهالسلام
قائلاً : « وأحضروا معكم الحسن بن عليّ وعبدالله بن عباس ، فإنّ لهما قرابة ، وأرجو لكم البركة في حضورهما ، وليس لهما من أمركم شيء » .
وكان موقف الإمام عليهالسلام
هو المشاركة في الشورى ، ومتابعة أحداثها ، كموقف الإمام علي عليهالسلام
وهو الدخول في الشورى ، حيث وجدا عليهماالسلام
أنّ الخلاف في مثل هذه الظروف لا يجدي نفعاً لأنّهم قرّروا إزاحة الإمام علي عليهالسلام مرّة ثالثة عن موقعه ومنصبه الريادي في إدارة الحكم ، كما يفهم هذا من الامتيازات العمرية التي منحتها عبقريته لعبدالرحمن بن عوف ، وقد أدركا عليهماالسلام ان رفضهما الدخول في الشورى قد يصل إلى درجة قتلهما تحت عنوان إثارة الفتنة وما شابه ذلك ، والمهم من ذلك كله هو أن إشراك عمر للإمام الحسن عليهالسلام في الشورى اعتراف منه بمقامه ودوره في الحياة الإسلامية ، وقد انعكس موقف الإمام علي عليهالسلام
من مكيدة الشورىٰ ونتائجها على موقف الإمام الحسن عليهالسلام في __________________
جميع مراحل حركته
تجاه الأحداث والشخصيّات والوجودات القائمة ، فكانت المصلحة الإسلامية العليا هي الحاكمة على قراراته ومواقفه ، فقد اقتدى بأبيه عليهالسلام في الصبر الجميل ، وفي مراعاة المصلحة العليا ، فكان لا يتردّد في اتّخاذ أيّ قرار
ما دام يصبّ في المصلحة الإسلامية العليا ، وإن كان فيه حيف وظلم له خاصّة.
الإمام
الحسن عليهالسلام في عهد عثمان بن
عفّان
اعتراف
عثمان بمؤهّلات الإمام الحسن عليهالسلام :
اعترف عثمان في زمان سلطته بعلم الإمام
الحسن عليهالسلام
وحكمته ، فقد ورد عن أبي عبدالله عليهالسلام
قال : « إنّ رجلاً مرّ بعثمان بن عفّان وهو قاعد على باب المسجد فسأله فأمر له بخمسة دراهم ، فقال له الرجل ارشدني ، فقال له عثمان : دونك الفتية الذين ترى وأومأ بيده إلى ناحية من المسجد فيها الحسن والحسين وعبدالله بن جعفر عليهمالسلام.
فمضى الرجل نحوهم حتى سلّم عليهم وسألهم ، فقال له الحسن : يا هذا إنّ المسألة لا تحلّ إلاّ في إحدى ثلاث : دم مفجّع ، أو دين مقرّح
، أو فقر مدقّع ، ففي أيّها تسأل ؟ فقال : في وجه من هذه الثلاث ، فأمر له الحسن عليهالسلام بخمسين دينارا ، وأمر له الحسين عليهالسلام
بتسعة وأربعين ديناراً ، وأمر له عبدالله ابن جعفر بثمانية وأربعين ديناراً. فانصرف الرجل فمرّ بعثمان ، فقال له : ما صنعت ؟ فقال : مررت بك فسألتك فأمرت لي بما أمرت ، ولم تسألني فيما أسأل ، وإنّ صاحب الوفرة لما سألته قال لي : يا هذا فيما تسأل ، فإنّ المسألة لا تحلّ إلاّ في إحدى
ثلاث فأخبرته بالوجه الذي أسأله من الثلاثة ، فأعطاني خمسين ديناراً وأعطاني الثاني تسعة وأربعين ديناراً وأعطاني الثالث ثمانية وأربعين ديناراً ، فقال عثمان : ومن
لك بمثل هؤلاء الفتية أولئك فطموا العلم فطماً وحازوا الخير والحكمة » .
__________________
تحدّي
الإمام الحسن عليهالسلام عثمانَ في توديع
أبي ذر :
كان أبو ذر الغفاري رضياللهعنه من جملة الصحابة
الذين نقموا على عثمان بن عفان موبقاته الكثيرة التي حصلت في زمان سلطته ، ولهذا نفاه عثمانُ إلى الشام .
ولمّا وصل إلى الشام عارض سياسة معاوية ، وكان يقول : « والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها ، والله ما هي في كتاب الله ولا سنّة نبيّه صلىاللهعليهوآله
، والله إنّي لأرى حقّاً يطفأ وباطلاً يحيا ، وصادقاً مكذَّباً ، وأثرةً بغير تقى ، وصالحا مستأثراً عليه » .
وكتب معاوية إلى عثمان : « إنّك قد أفسدت الشام على نفسك بأبي ذر ». فكتب إليه : « أن احمله على قتب بغير وطاء » ، فقدم به إلى المدينة وقد ذهب لحم فخذيه ، ولم يقم في المدينة إلاّ أيّاماً حتى أرسل إليه عثمان : « والله لتخرجنّ منها » ، قال أبو
ذر : « أتخرجني من حرم رسول الله ؟ » ، قال : «
نعم ، وأنفك راغم ». فنفاه إلى الربذة ولم يستجب إلى طلبه في نفيه إلى مكة أو البصرة أو الكوفة وقال له : « إلى الربذة التي خرجت منها حتى تموت بها » .
ولمّا أُخرج أبو ذر إلى الربذة أمر عثمان فنودي في الناس إلاّ يكلّم أحد أبا ذر ولا يشيّعه ، فتحاماه الناس سوى أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليهالسلام
وعقيل أخيه والحسنين عليهماالسلام
وعمّار ، فخرجوا يشيّعونه ، فجعل الحسن عليهالسلام
يكلّم أبا ذر ، فقال له مروان ( الخبيث ) : إيها يا حسن ! ألا تعلم أنّ عثمانَ قد نهى عن كلام هذا الرجل ! فإن كنت لا تعلم فاعلم ذلك
ولكن الإمام الحسن عليهالسلام
لم يعر لمروان الخبيث اهتماماً.
وفي وداعه قال له الإمام علي عليهالسلام : « يا أبا ذر إنّك
غضبت لله فارج من غضبت له ، إنّ القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك ، فاترك في أيديهم ما __________________
خافوك عليه ؛ واهرب
منهم بما خفتهم عليه ، فما أحوجهم إلى ما منعتهم ، وما أغناك عمّا منعوك ». وتكلّم عقيل ثمّ تكلّم الحسن عليهالسلام
، فقال : « يا عمّاه ؛ لولا أنّه لا ينبغي للمودّع أن يسكت ، وللمشيّع أن ينصرف ، لقصر الكلام وإن طال الأسف ؛ وقد أتى القوم إليك ما ترى ؛ فضع عنك الدنيا بتذكّر فراغها ، وشدّة ما اشتدّ منها برجاء ما
بعدها ، واصبر حتى تلقى نبيّك صلىاللهعليهوآله
وهو عنك راضٍ » .
وفي هذا الحديث الموجز عبّر الإمام
الحسن عليهالسلام
عن عدّة مفاهيم وقيم عقائدية واجتماعية وسياسية ، فقد أكّد على التوجّه إلى الآخرة وتذكّرها ، وحديثه دعوى للمعارضين الذين يجدون السبل قد انقطعت بهم فلا مجال للاستمرار بالمعارضة مع الإجراءات القاسية التي تبعد الإنسان عن ساحة المواجهة ؛ فهو دعوة إلى استشعار ضيق الدنيا والتعالي على شدائدها التي لا تتّسع لشيء من أماني النفوس التوّاقة للإصلاح والتغيير. وفي حديثه عليهالسلام حثٌّ على الصبر وتحمّل الأذى والعذاب ، والغربة والاغتراب والوحدة في سبيل الله ، ولاستشعار التسديد الإلهي للصابرين وتأييده لهم ؛ فلا يدعهم لوحدهم ولا يتركهم لطاقتهم المحدودة إنّما يمدّهم حين تنقطع بهم السبل ، ويجدّد عزيمتهم حين تتوالى عليهم المحن والشدائد. وحديثه عليهالسلام
دعوة إلى المفاضلة الكاملة الشاملة والتميّز الدقيق لمنهجين مختلفين ؛ منهج الحقّ ومنهج الباطل ، وهو إشارة إلى بطلان سياسة الحكومة برئيسها وأجهزتها التنفيذية وابتعادها عن منهج رسول الله صلىاللهعليهوآله
، وهو تعبير عن رفض للواقع القائم وللحكومة القائمة التي لا تحضى برضا رسول الله صلىاللهعليهوآله
لأنّها مخالفة لمنهجه وسيرته في الحياة الإنسانية.
موقف
الإمام الحسن عليهالسلام من حصار عثمان :
انتهت سياسة عثمان بن عفان إلى خلق جو
من المعارضة السياسية
__________________
لسلطته ، قادها عدد جم من الصحابة
المهاجرين والأنصار ، وقد حاول الإمام علي عليهالسلام
تهدئة الأمور ما استطاع إلى ذلك سبيلاً فاتخذ عليهالسلام
موقف الوساطة بين عثمان ومعارضيه لكي لا تتأزّم الأوضاع وتنتهي إلى قتله ولكن حصل العكس حيث كان عثمان أُلعوبة بيد مروان كلما أبرم اتفاقاً مع الإمام علي عليهالسلام بشأن إرجاع الأمور إلى مجاريها نقضه مروان ، حتى انتهى الأمر إلى محاصرة الصحابة لعثمان من كل جانب بعد نقض ما تعهد به ، وحين علم الإمام علي عليهالسلام بذلك خرج ومعه الحسن والحسين عليهماالسلام
ففرّقوا المعارضين ثمّ دخلوا على عثمان فأعفاهم من الدفاع عنه فخرج الإمام عليهالسلام
وهو يقول : « اللهمّ إنّك تعلم أنّا قد بذلنا المجهود » .
وفي رواية أرسل الإمام عليهالسلام
الحسن والحسين عليهماالسلام
للدفاع عنه ، فمنعوا المعارضين من الدخول إلى منزله ، وقد أصابت الحسن عليهالسلام
عدّة جراحات في الدفاع عن عثمان .
وفي رواية : دعا علي بابنه الحسن ، فقال : « انطلق يا بني إلى عثمان فقل له : يقول لك أبي : أفتحبّ أن أنصرك » فأقبل الحسن إلى عثمان برسالة أبيه ، فقال عثمان : « لا ما أريد ذلك.. ». فسكت الحسن عليهالسلام
وانصرف إلى أبيه فأخبره بذلك .
وفي رواية : والتفت عثمان إلى الحسن بن علي ، وهو جالس عنده ، فقال : « سألتك بالله يا ابن الأخ إلاّ ما خرجت
فإنّي أعلم ما في قلب أبيك من الشفقة عليك » ، فخرج الحسن بن علي عليهماالسلام
.
وروي أنّه بلغ عليّاً أنّ عثمان يراد قتله ، فقال : « إنّا أردنا مروان ، فأمّا قتل عثمان فلا » ، ثمّ قال للحسن والحسين : « إذهبا
بسيفكما حتى تقوما على باب عثمان ، ولا تدعا أحداً يصل إليه ». وبعد حوارات ومساجلات صاخبة بين أتباع عثمان والمعارضين رميت السهام من كلّ جانب ، __________________
وكان الحسن بن علي حاضرا
فأصابه سهم ، فخضّبه بالدم. جدير بالذكر ان روايات دفاع الإمام علي عليهالسلام
عن عثمان في تلك الأزمة وانفاذه الحسن والحسين عليهماالسلام
إلى دار عثمان لنصرته لا تعني أبداً الدفاع عن مواقف عثمان وسياساته التي ألّبت الناس عليه من كل حدب وصوب ، بل تعني المنع من انتهاك حريمه وتعمّد قتله ، ومنع حرمه ونسائه من الطعام والشراب ، ولم ينفذهما ليمنعا من مطالبته بالخلع ، وكيف وهو عليهالسلام
مصرّح بأنّه يستحقّ بأحداثه الخلع .
الفصل
الثالث
الإمام
الحسن عليهالسلام في عهد أمير
المؤمنين عليهالسلام
بعد مقتل عثمان بن عفان بايع طلحة
والزبير والمهاجرون والأنصار الإمام عليّاً عليهالسلام
، فقد قال له طلحة والزبير : « نبايعك يا أمير المؤمنين على أنّ علينا بيعة المهاجرين » ، ثمّ قام أبو الهيثم بن التيّهان وعقبة بن عمرو وأبو أيوب ، فقالوا :
« نبايعك على أنّ علينا بيعة الأنصار
وسائر قريش » .
وفي بداية عهده وقبل تثبيت أركان الخلافة بدأت المؤامرات تحاك على هذه الدولة المباركة فكانت معركة الجمل ثمّ صفّين ثمّ النهروان.
الإمام
الحسن عليهالسلام في معركة الجمل :
كان الزبير لا يشكّ في ولاية العراق ، وطلحة
في اليمن ، فلمّا استبان لهما أنّ علياً غير مولّيهما شيئاً أظهرا الشكاة ، ثمّ أتيا إلى الإمام عليهالسلام فقالا : « يا أمير المؤمنين ائذن لنا في العمرة ،
فإن تقم إلى انقضائها رجعنا إليك وإن تسر __________________
نتبعك ». فنظر إليهما علي عليهالسلام ، وقال : « نعم ، والله
ما العمرة تريدان ، وإنّما تريدان أن تمضيا إلى شأنكما »
، وفي رواية أخرى قال لهما أو لبعض أصحابه : « والله ما أرادا العمرة ولكنّهما أرادا الغدرة » ، فلحقا عائشة فحرّضاها على الخروج ، فسارت إلى البصرة ومعها طلحة والزبير في خلق عظيم ، وقدم القوم البصرة ، فقالوا لعثمان بن حنيف عامل علي عليهالسلام
: « لم نأتِ لحرب وإنّما جئنا لصلح » فكتبوا كتابا بينهم وبينه أنّهم لا يحدثون حدثاً إلى قدوم علي عليهالسلام ، وأنّ كلّ فريق
منهم آمن من صاحبه ثمّ افترقوا ، فوضع عثمان السلاح ، فنتفوا لحيته وشاربه وأشفار عينيه وحاجبيه ، وانتهبوا بيت المال وأخذوا ما فيه ، فلمّا أتى عليّاً عليهالسلام الخبر سار إلى البصرة ، فخرج من المدينة ، ثمّ صار إلى ذي قار ، ووجّه الحسن عليهالسلام وعمّار بن ياسر إلى الكوفة .
ووصل الإمام الحسن عليهالسلام
إلى الكوفة فالتأم حوله الناس زمراً ، وأعلن الإمام الحسن عليهالسلام
عزل أبي موس الأشعري عن منصبه ، وقال له : يا أبا موسى لم تثبط عنّا الناس ، وأقبل يحدّثه برفق ولين قائلاً : « يا أبا موسى
، والله ما أردنا إلاّ الإصلاح ، وليس مثل أمير المؤمنين يخاف على شيء » ، فبهت أبو موسى وضاقت به مكابرته فقال للإمام عليهالسلام
: « صدقت بأبي أنت وأمي ... ولكن المستشار مؤتمن ». ولكنّ أبا موسى بقي مصرّاً على ما هو عليه من تثبيط عزائم الناس وخذلانهم من الخروج مع الإمام عليهالسلام
، وجعل كلّما سمعه من الحسن عليهالسلام
ومن الخطباء دبر أذنيه حتى أعيى الإمام حسن حلمه فاندفع يصيح به في ثورة وعنف قائلاً له : « اعتزل عملنا أيّها الرجل ، وتنحّ عن منبرنا لا أمّ لك » .
وروي أنّ عمار بن ياسر خطب ثمّ نزل ، فصعد الحسن عليهالسلام
على المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه وذكر جدّه فصلى عليه ، وذكر فضل أبيه وسابقته وقرابته من __________________
رسول الله صلىاللهعليهوآله وأنّه أولى بالأمر
من غيره. ثمّ قال : « معاشر الناس إنّ طلحة والزبير بايعا عليّاً طائعين غير مكرهين ، ثمّ نفرا ونكثا بيعتهما له ، فطوبى لمن خفّ في مجاهدة من جاهده ، فإنّ الجهاد معه كالجهاد مع النبي صلىاللهعليهوآله
» .
وفي رواية أخرى قال : « أيّها الناس
أجيبوا دعوة أميركم وسيروا إلى إخوانكم فإنّه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه ، ووالله لأن يليه أولوا النهى أمثل في
العاجل والآجل وخير في العاقبة ، فأجيبوا دعوتنا وأعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم ، وإنّ
أمير المؤمنين يقول : ... والله إنّ طلحة والزبير لأوّل من بايعني وأوّل من غدر ، فهل
استأثرت بمال أو بدلت حكماً ؟ فانفروا فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر » ، فسامح الناس وأجابوا ورضوا
فقال للناس : « أيّها الناس إنّي غاد ، فمن شاء منكم أن يخرج معي على الظهر ، ومن شاء فليخرج في الماء ». واستجابت الجماهير لدعوة الإمام ، وعجّت الكوفة بالنفار ونزحت منها آلاف كثيرة ، فريق منها ركب السفن ، وفريق آخر ركب المطي ، وقد بدا عليهم الرضا والقبول وقد ساروا وهم تحت قيادة الإمام الحسن عليهالسلام
.
وفي رواية خرج معهم ثمانية آلاف على كلّ صعب وذلول .
خطاب
الإمام الحسن عليهالسلام في معركة الجمل :
فشلت جميع المحاولات لتهدئة الأوضاع
وإعادة المتمرّدين إلى الطاعة ، فقد كان عبدالله بن الزبير من أشدّ المحرّضين على إثارة الفتنة وإراقة الدماء ، وقد أفسد جميع الوسائل التي صنعها الإمام عليهالسلام
لتحقيق السلم ، وقد خطب في جموع البصريين ودعاهم إلى الحرب تحت ذريعة الطلب بدم عثمان. فبلغ خطابه أمير المؤمنين عليهالسلام
فقال للإمام الحسن عليهالسلام
: قم يا بنيّ فاخطب ، فقام خطيباً فحمد الله __________________
وأثنى عليه وقال : «
أيّها الناس قد بلغتنا مقالة ابن الزبير ، وقد كان والله يتجنّى على عثمان الذنوب ، وقد ضيّق عليه البلاد حتى قتل ، وإنّ طلحة راكز رايته على بيت ماله وهو حيّ ، وأمّا قوله إنّ عليّاً ابتزّ الناس أمرهم فإنّ أعظم حجّة لأبيه زعم
أنه بايعه بيده ولم يبايعه بقلبه فقد أقرّ بالبيعة وادّعى الوليجة فليأتي على ما
ادّعاه ببرهان ، وأنّى له ذلك ، وأمّا تعجّبه من تورد أهل الكوفة على أهل البصرة فما أعجبه من أهل حق توردوا على أهل باطل ، ولعمري والله ليعلمنّ أهل البصرة وميعاد بيننا وبينهم اليوم نحاكمهم إلى الله تعالى فيقضي الله الحقّ وهو خير الفاصلين » .
وحينما اشتدّ القتال وكثر القتلى من الطرفين ، دعا الإمام علي عليهالسلام محمد ابن الحنفية فأعطاه رمحه ، وقال له : « اقصد بهذا الرمح قصد الجمل » فذهب فمنعه بنو ضبّة ، فلمّا رجع إلى والده ، انتزع الحسن رمحه من يده ، وقصد الجمل وطعنه برمحه ، ورجع إلى والده وعلى رمحه أثر الدم .
وبعد مقتل الجمل الذي عليه عائشة انهزم الناس .
فقد كان دور الإمام الحسن عليهالسلام
هو دور المدافع باللسان والسنان معاً ، فقد ردّ على خطاب ابن الزبير ، وحسم المعركة بقتل الجمل.
الإمام
الحسن عليهالسلام في معركة صفّين :
قبل بدء المعركة أدرك معاوية الدور
الكبير للإمام الحسن عليهالسلام
لأهليّته للإمامة والخلافة في حال غياب الإمام علي عليهالسلام
، فأراد أن يمنّيه بالخلافة لعلّه يتراجع عن المعركة أو يخلق الاضطراب في جيش الإمام فبعث عبيدالله بن عمر إلى الحسن عليهالسلام
فقال : « إنّ لي إليك حاجة فالقني » ، فلقيه الحسن فقال له عبيدالله : « إنّ أباك قد وتر قريشا أوّلاً وآخراً ، وقد
شنئوه فهل لك أن تخلفه ونولّيك هذا الأمر ؟ ». قال : « كلاّ والله لا يكون ذلك ، لكأني أنظر إليك مقتولاً في يومك أو __________________
غدك » .
وبالفعل تحقّقت نبوءة الإمام الحسن عليهالسلام
وقُتل عبيدالله بن عمر في صفين. وذهب مع من ذهب إلى الجحيم.
ومن خطب الإمام الحسن عليهالسلام في صفين ، قوله : «
الحمد لله لا إله غيره ، وحده لا شريك له ، وأثني عليه بما هو أهله ، إنّ مما عظم الله عليكم من حقّه ، وأسبغ عليكم من نعمه ما لا يحصى ذكره ، ولا يؤدّىٰ شكره ، ولا يبلغه صفة ولا قول ،
ونحن إنّما غضبنا لله ولكم ، فإنّه منَّ علينا بما هو أهله أن نشكر فيه آلاءه
وبلاءه ونعماءه قولاً يصعد إلى الله فيه الرضا ، وتنتشر فيه عارفة الصدق ، يصدق الله فيه قولنا ، ونستوجب فيه المزيد من ربّنا ، قولاً يزيد ولا يبيد ، فإنّه لم يجتمع قوم
على امر واحد إلاّ اشتدّ أمرهم واستحكمت عقدتهم ، فاحتشدوا في قتال عدوّكم : معاوية وجنوده ، فإنّه قد حضر ، ولا تخاذلوا ؛ فإنّ الخذلان يقطع نياط القلوب ، وإنّ
الإقدام على الأسنّة نجدة وعصمة ؛ لأنّه لم يمتنع قوم قط إلاّ رفع الله عنهم العلّة ، وكفاهم
جوائح الذلّة ، وهداهم إلى معالم الملّة » . ثمّ عبّأ الإمام
علي عليهالسلام
جيشه فجعل على ميمنته الحسن والحسين وعبدالله بن جعفر ومسلم بن عقيل .
وفي رواية أنّه عليهالسلام
جعل على القلب الحسن عليهالسلام
.
وأقبل رجل من أهل الشام يقال له : الزبرقان بن الحكم ، وكان سيّد أهل الشام فطلب البراز ، فخرج إليه الحسن بن علي بن أبي طالب ، فقال له الزبرقان : من أنت ؟ قال الحسن بن علي ، فقال له : انصرف يا بنيّ فوالله لقد نظرت إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله
مقبلاً من ناحية « قبا » يسير على ناقة له وأنّك يومئذ لقدّامه ، فما كنت لألقى رسول الله صلىاللهعليهوآله بدمك. فانصرف الزبرقان وهو يقول : إنّي أخاف الله في ابن فاطمة ، وإنّ ذا الكلاع حدّثني أنّه
سمع __________________
جهما يقول : سمعت
رسول الله صلىاللهعليهوآله
يقول : « إنّ حسناً وحسيناً سيّدا شباب أهل الجنّة » .
وقد كذب الزبرقان في علة انصرافه لأنه لوكان صادقاً لمال إلى الحسن عليهالسلام
، لا أن يرجع إلى الوغد الباغي معاوية ، الأمر الذي يشير إلى جبنه وخوفه من سيف شبل أمير المؤمنين عليهماالسلام.
الإمام
الحسن عليهالسلام ومقتل عمّار بن
ياسر :
حينما استشهد عمار بن ياسر وقف الإمام
الحسن عليهالسلام
واجما مستعبراً عند مصرعه ، وأخذ السبط يتلو على المسلمين ما سمعه من جدّه النبي صلىاللهعليهوآله في فضله والإشادة بعظيم مكانته في الإسلام ، فقال عليهالسلام
: إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله
قال لأصحابه : « ابنوا لي عريشاً كعريش موسى ، وجعل
يتناول اللبن من قومه ، وهو يقول : اللهمّ لا خير إلاّ خير الآخرة ، فاغفر للأنصار والمهاجرة. وجعل يتناول اللبن من عمار وهو يقول : « ويحك يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية ». وقال عليهالسلام : « إنّ جدّي قال :
إن الجنّة لتشتاق إلى ثلاثة عليّ وعمّار وسلمان » . والإمام الحسن عليهالسلام يذكر هذين الحديثين أراد تبيان حقيقة المعركة القائمة بين جيش الإمام علي عليهالسلام وجيش معاوية ، فقد وجّه أنظار ومسامع الجيشين إلى معرفة الحقّ من الباطل ، فقد أثبت أحقيّة الإمام علي عليهالسلام
؛ لأنّ أهل الشام كانوا قد سمعوا من عمرو بن العاص يقول : « قال رسول الله صلىاللهعليهوآله لعمّار بن ياسر : تقتلك
الفئة الباغية » .
فقد ذكرهم الإمام الحسن عليهالسلام
بالحديث الشريف وألقى الحجّة عليهم ، ولكن لا حياة لمن تنادي.
الحرص
على سلامة الإمام الحسن عليهالسلام :
في بعض أيّام صفّين رأى الإمام علي عليهالسلام ابنه الحسن عليهالسلام يتسرّع إلى الحرب ، فقال : « املكوا عنّي هذا الغلام لا يهدّني ؛ فإنّي أنفس بهذين ـ يعني __________________
الحسن والحسين عليهماالسلام ـ على الموت لئلاّ
ينقطع بهما نسل رسول الله صلىاللهعليهوآله
» .
ويدلّ هذا القول على أنّ الإمام الحسن عليهالسلام
كان يتسابق إلى قتال أهل البغي والعدوان.
الإمام
الحسن عليهالسلام والتحكيم :
لما انصرف الناس إلى الكوفة وعلموا
بنتائج التحكيم الذي انتهت إليه معركة صفين بين الحكمين عبد الله بن قيس المعروف بأبي موسى الأشعري ، وعمرو بن العاص. خاضوا في أمر الحكمين فقال بعض الناس : ما يمنع أمير المؤمنين عليهالسلام
من أن يأمر بعض أهل بيته فيتكلم ؟ فقال للحسن : قم يا حسن فقل في هذين الرجلين عبدالله بن قيس وعمرو بن العاص ، فقام الحسن عليهالسلام فقال : « أيّها الناس ، إنّكم قد أكثرتم في أمر عبدالله بن قيس ، وعمرو بن العاص فإنّما بعثا ليحكما بكتاب الله فحكما بالهوى على الكتاب ، ومن كان هكذا لم يسم حكماً ولكنه محكوم عليه ، وقد أخطأ عبدالله بن قيس في أن أوصى إلى عبد الله ابن عمر فأخطأ في ذلك ... وإنّما الحكومة فرض من الله وقد حكم رسول الله صلىاللهعليهوآله
سعدا في بني قريظة فحكم فيهم بحكم الله لا شك فيه ، فنفذ رسول الله حكمه ، ولو خالف ذلك لم يجزه » .
فقد بيّن الإمام الحسن عليهالسلام
حقيقة التحكيم ، إذ ليس كل حكم يُعمل به ، وإنّما يُعمل بالحكم المطابق للثوابت الشرعية ، لأنّ الحكمين يقتربان من هذه الثوابت تارة ويبتعدان أخرى ، فإذا حكما بحكم الله فحكمهما مشروع وإلاّ فلا يؤخذ به ، وأراد في خطبته أن يبيّن بأنّ الثوابت الشرعية حاكمة على الأشخاص والشخصيات مهما كان موقعهم الديني والسياسي.
وصية
أمير المؤمنين للإمام الحسن عليهماالسلام عند انصرافه من
صفين :
كتب أمير المؤمنين عليهالسلام وصية للإمام الحسن عليهالسلام في منطقة حاضرين
عند انصرافه من صفين ، وفيما يلي نختار بعض نصوصها :
__________________
« أحيي قلبك بالموعظة وأمته بالزهادة وقوِّه
باليقين ، ونوّره بالحكمة.
وأعرض عليه أخبار الماضين ، وذكّره بما
أصاب من كان قبلك من الأولين ، وسر في ديارهم وآثارهم ، فانظر فيما فعلوا وعمّا انتقلوا ، وأين حلّوا ونزلوا. وأمر
بالمعروف تكن من أهله ، وأنكر المنكر بيدك ولسانك ، وباين من فعله بجهدك. وجاهد في الله حقّ
جهاده ، ولا تأخذك في الله لومة لائم. واخلص في المسألة لربّك ، فإنّ بيده العطاء والحرمان. واعلم أنّه لا خير في علمٍ لا ينفع ، ولا ينتفع بعلمٍ لا يحقّ تعلّمه.
يا بني اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك ، فاحبب لغيرك ما تحب لنفسك ، واكره له ما تكره لها ، ولا تظلم كما لا تحبُّ أن تظلم. قارن أهل الخير تكن منهم ، وباين أهل الشر
تبن عنهم. والعقل حفظ التجارب ، وخير ما جرَّبت ما وعظك. إذا تغيّر السلطان تغيّر
الزمان. سل عن الرفيق قبل الطريق ، وعن الجار قبل الدّار. واكرم عشيرتك؛ فانهم جناحك الذي به تطير ، وأصلك الذي إليه تصير ، ويدك الّتي بها تصول » .
آخر
وصايا أمير المؤمنين للحسنين عليهماالسلام :
أخذ أمير المؤمنين عليهالسلام يوصي ولديه الحسن
والحسين عليهماالسلام
ويرسم لهما وللمسلمين المنهج السليم في العلاقة مع الله ومع المجتمع ، وكانت هذه آخر الوصايا ، فقد صدرت منه في أيام جرحه وقبل شهادته ، ومما جاء فيها : « أوصيكما بتقوى الله ، وألا تبغيا
الدّنيا وإنّ بغتكما ، ولا تأسفا على شيء منها زوي عنكما ، وقولا بالحقّ ، واعملا للأجر. وكونا للظالم خصماً ، وللمظلوم عوناً.
أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي ، بتقوى الله ، ونظم أمركم ، وصلاح ذات بينكم ، فإنّي سمعت جدّكما صلىاللهعليهوآله
يقول : صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصّلاة والصّيام. الله الله في الأيتام ، فلا تغبّوا أفواههم ، ولا
يضيعوا بحضرتكم. والله الله في جيرانكم ، فإنّهم وصيّة نبيّكم ، مازال يوصي بهم حتّى ظننّا أنّه سيورّثهم. والله
الله __________________
في القرآن ،
لايسبقكم بالعمل به غيركم. والله الله في الصّلاة ، فانّها عمود دينكم. والله الله في بيت ربكم ، لاتخلوه ما بقيتم ، فإنّه إن ترك لم تناظروا .
والله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله. وعليكم بالتواصل والتّباذل ، وإيّاكم والتّدابر والتقاطع. لاتتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولّى عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم. يا بني عبد المطلب ، لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً تقولون : قتل أمير المؤمنين ، ألا لا تقتلنّ بي إلاّ قاتلي ، انظروا إذا أنا متُّ من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة ، ولا تمثلوا بالرجل
، فإنّي سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله
يقول : إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور » . وأوصى الإمام الحسن عليهالسلام
بأركان الدين وحسن الخلق وحسن العلاقة مع الآخرين : « أوصيك ، أي بني بتقوى الله ، وإقام
الصلاة لوقتها ، وإيتاء الزكاة عند محلّها ، وحسن الوضوء ، فإنّه لاصلاة إلاّ بطهور ، وأوصيك بغفر الذنب ، وكظم الغيظ ، وصلة الرحم
، والحلم عن الجاهل ، والتفقه في الدين ، والتشبث في الأمر ، والتعاهد للقرآن ، وحسن
الجوار ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، واجتناب الفواحش » .
إمامة
الإمام الحسن عليهالسلام في كلمات ووصايا
أمير المؤمنين عليهالسلام :
حينما عادت الخلافة إلى أهلها ورجعت إلى
مستقرِّها في عهد أمير المؤمنين عليهالسلام
، وأصبح عليهالسلام
على رأس السلطة في الدولة الإسلامية ؛ توسعت القاعدة الشعبية لأهل البيت عليهمالسلام
، وانتشرت أحاديث رسول الله صلىاللهعليهوآله
في إمامتهم ، وكان أمير المؤمنين يؤكّد هذه الحقيقة ويوجّه الانظار إلى خط الإمامة الحقّة ، ويوليها أهمية استثنائية ، وذلك في التأكيد على إمامة العترة الطاهرة ، وتوجيه أنظار المسلمين إليها ، ليوالوها ويسترشدون بنهجها ويقتدوا بها في __________________
أقوالها وممارساتها
ومواقفها العملية ، وممّا قاله في ذلك : « فأين تذهبون ؟ وأنّى تؤفكون والاعلام قائمة ، والآيات واضحة ، والمنار منصوبة ، فأين يتاه بكم ! وكيف تعمهون وبينكم عترة نبيّكم ! وهم أزمّة الحقّ ، وأعلام الدين ، وألسنة الصدق ، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن ، وَرِدوهم ورود الهيم العطاش » .
وقال عليهالسلام
: « انظروا أهل بيت نبيّكم فالزموا سمتهم
واتّبعوا أثرهم ، فلن يخرجوكم من هدىً ، ولن يعيدوكم في ردىً ، فإن لبدوا فألبدوا ، وإن نهضوا فانهضوا ، ولا تسبقوهم فتضلّوا ، ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا ، لقد رأيت أصحاب محمد صلىاللهعليهوآله ، فما أرى أحداً يشبههم منكم ... » .
وقال عليهالسلام
: « الحمد لله الناشر في الخلق فضله ، والباسط فيهم بالجود يده ، نحمده في جميع أموره ، ونستعينه على رعاية حقوقه ، ونشهد أن لا إله غيره ، وأنَّ محمّداً عبده ورسوله ، أرسله بأمره صادعاً وبذكره ناطقاً ، فأدّى
أميناً ومضى رشيداً ، وخلّف فينا راية الحقّ من تقدّمها مرق ، ومن تخلّق عنها زهق ، ومن لزمها لحق ... ألا إنّ مثل آل محمّد ، صلّى الله عليه وآله ، كمثل نجوم السّماء ؛
إذا خوىٰ نجم طلع نجم ، فكأنّكم قد تكاملت من الله فيكم الصّنايع ، وأراكم ما
كنتم تأملون » .
وقال عليهالسلام
: « لا يقاس بآل محمد صلىاللهعليهوآله
من هذه الأمّة أحد ، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً ؛ هم أساس الدين ، وعماد اليقين ، إليهم يفيء الغالي وبهم يلحق التالي ، ولهم خصائص حقّ الولاية ، وفيهم الوصيّة والوراثة » .
وكان أمير المؤمنين عليهالسلام يوجّه الأنظار إلى
إمامة ولده الحسن عليهالسلام
ومقامه السامي وخصائصه وكفاءته العلمية والسياسية والادارية والاجتماعية ، فقد كان يسأله عن المسائل المختلفة أمام مرأى ومسمع الملأ من أصحابه ، فيجيب __________________
عليها بأجوبة شافية
، وقد تركزت اسئلته على مسائل هامة في جميع مجالات الحياة تتعلق بعلاقة الإنسان مع نفسه ومع المجتمع ، لتكون أجوبته نبراساً للمؤمنين باعتبارها صادرة من شخصية متكاملة معصومة مكلفة بامامة وقيادة الأمّة. وقد كثرت الروايات حول هذا الموضوع نكتفي بواحدة منها ، فقد روي « أنّه سأل أمير المؤمنين عليهالسلام
ابنه الحسن عليهالسلام
فقال : يا بنيّ ما العقل ؟ قال : حفظ قلبك ما استودعته.
قال : فما الحزم ؟ قال : أن تنتظر فرصتك
وتعاجل ما امكنك.
قال : فما المجد ؟ قال : حمل المغارم
وايتاء المكارم.
قال : فما السماحة ؟ قال : إجابة السائل
وبذل النائل.
قال : فما الشح ؟ قال : إن ترى القليل
سرفا وما أنفقت تلفا.
قال : فما الرقّة ؟ قال : طلب اليسير
ومنع الحقير.
قال : فما الكلفة ؟ قال : التمسك بمن لا
يواتيك والنظر فيما لايفييك.
قال : فما الجهل ؟ قال : سرعة الوثوب
على الفرصة قبل الاستمكان منها ، والامتناع عن الجواب ، ونعم العون الصمت في مواطن كثيرة وإن كنت فصيحاً » .
وكان أمير المؤمنين يحيل الأسئلة الموجهة إليه إلى الإمام الحسن أو الحسين عليهماالسلام لتوجيه الانظار إلى مؤهلاتهما وقدراتهما ، فقد روي أنّ معاوية بعث رجلاً متنكراً يسأل أمير المؤمنين عليهالسلام
عن مسائل سأله عنها ملك الروم ، فلما دخل الكوفة وخاطب أمير المؤمنين عليهالسلام
أنكره فقرره فاعترف له بالحال ، فقال عليهالسلام
: « يا أخا أهل الشام هذان ابنا رسول الله صلىاللهعليهوآله
وهذا ابني ، فاسأل أيّهم أحببت » ، فقال الشامي : أسأل هذا يعني الحسن عليهالسلام
.
وكان أمير المؤمنين عليهالسلام
يكلّف الإمام الحسن عليهالسلام
بالمهام والمسؤوليات الصعبة ، ويبعثه لحلّ الأزمات ، ويشركه في المواقف الحرجة ليبين للمسلمين موقعه الريادي في المجتمع الانساني ومؤهلاته القيادية ، فقد بعثه __________________
إلى أهل الكوفة لعزل
أبي موسى الأشعري ، وأمره بالردّ على خطاب عبدالله بن الزبير في معركة الجمل ، وأمره بنقض حكم أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص في قضية التحكيم لمخالفتهما القرآن الكريم.
عهد
أمير المؤمنين عليهالسلام بالإمامة لابنه
الإمام الحسن عليهالسلام :
في اليومين الأخيرين من حياة أمير
المؤمنين عليهالسلام
أكّد على إمامة الحسن عليهالسلام
في وصاياه الأخيرة ، فعن الإمام الباقر عليهالسلام
قال : « جمع أمير المؤمنين بنيه وهم اثنا عشر ذكراً فقال لهم : إنّ الله أحبّ أن يجعل فيّ سنة من يعقوب إذ جمع بنيه وهم
اثنا عشر ذكراً ، فقال لهم : إنّي أوصي إلى يوسف فاسمعوا له وأطيعوا ، وأنا أوصي إلى الحسن والحسين فاسمعوا لهما وأطيعوهما » . فقد ربط أمير
المؤمنين عليهالسلام
هذه الوصية بوصية يعقوب عليهالسلام
فهي وصية إلهية ، فبأمر من الله تعالى أوصى يعقوب إلى يوسف ، وهي ليست وصية مال أو رعاية أيتام أو تسديد ديون ؛ بل هي وصية رسالية قائمة على أساس الاستمرار في أداء الدور والتكليف الإلهي للموصى ، وهو القيام بهداية الناس وتنظيم شؤونهم وربطهم بالمنهج الإلهي في الحياة ، إضافة إلى إدارة الدولة. حدّث الأصبغ بن نباتة قال : « دعا أمير المؤمنين عليهالسلام
الحسن والحسين عليهماالسلام
لمّا ضربه الكافر اللعين ابن ملجم لعنه الله ، فقال لهما : إنّي مقبوض في ليلتي هذه ولاحق برسول الله صلىاللهعليهوآله فاسمعا قولي وعياه ؛
أنت يا حسن وصيّي والقائم بالأمر بعدي ، وأنت يا حسين شريكه في الوصية فأنصت ما نطق ، وكن لأمره تابعاً ما بقي ، فإذا خرج من الدنيا فأنت الناطق بعده والقائم
بالأمر » .
وفي حديث زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام : « إنّ محمّد بن
الحنفية قال لعليّ بن الحسين عليهماالسلام
: قد علمت أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله
دفع الوصية والإمامة إلى أمير __________________
المؤمنين عليهالسلام ، ثم إلى الحسن ،
ثم إلى الحسين » .
فالوصية هنا عهد الهي قام به رسول الله صلىاللهعليهوآله
حينما أوصى بالإمامة إلى أمير المؤمنين ، والظاهر أنّ هذه الوصية كانت مكتوبة وهذا يظهر من كلام الأصبغ بن نباتة حين قال : « وكتب له بالوصية عهدا منشوراً نقله جمهور العلماء » . ووصية أمير
المؤمنين عليهالسلام
إلى الإمام الحسن عليهالسلام
كانت بأمر الله عزّوجلّ ، ورسوله صلىاللهعليهوآله
: عن الإمام محمد الباقر عليهالسلام
قال : « أوصى أمير المؤمنين عليهالسلام إلى الحسن وأشهد
على وصيته الحسين عليهالسلام
ومحمّداً وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته ، ثم دفع إليه الكتاب والسلاح ، ثم قال لابنه الحسن : يا بنيّ أمرني رسول الله أن أوصي إليك وأدفع إليك كتبي وسلاحي كما أوصى إليّ رسول الله ودفع إلي كتبه وسلاحه وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعه الى أخيك الحسين.. » .
الفصل
الرابع
من
خصائص الإمام الحسن عليهالسلام القيادية
القائد أو الإمام أو الخليفة الذي يخلف
رسول الله صلىاللهعليهوآله
ينبغي أن يكون متصفاً بأمثل الصفات وأفضلها. ويفهم من آراء العلماء والباحثين في علم السياسة والاجتماع أنّهم يقدّمون الأفضل. قال ( ج. كورتوا ) : « على الرئيس أن يكون أكثر يقظة من الآخرين ، وأكثر ذكاءً ، وأكثر دقة ، وأسرع في اتخاذ القرار ، وأشجع في الأخطار ، وأكثر صراحة ، وأكثر ثباتاً في العمل ، وأكثر دماثة وغنىً بالعواطف النبيلة » .
ويرى الدكتور عبد العزيز القوصي أن يكون القائد شديد __________________
الايمان بالهدف
والخطة ، وأن يكون شخصية متميزة على غيرها ؛ في الفعل والخُلق ، والقدرة البارزة على التأثير ، وأن يتميز بذكاء نادر ، وبصيرة نافذة ، وخلق عالٍ ، ويتميز بقوة الارادة ، وتمثيل آمال الجماعة وطموحاتهم ، وأن يتميز بالتضحية الكاملة .
والأفضلية في حال تسلسلها تصل إلى أعلى المراتب ، وهو ما يسمى بالعصمة ، والإمام الحسن عليهالسلام
باعتباره الإمام والقائد المنصوص عليه فهو يتمتع بخصائص وصفات تؤهله للموقع الريادي في حركة المسلمين ، فقد كان عاقلاً حليما محبّاً للخير فصيحا من أحسن الناس منطقا وبديهة.
وفيما يأتي أهم صفات الإمام الحسن عليهالسلام وخصائصه القيادية :
١ ـ العصمة :
وقد تقدم ما يدل عليها من كتاب الله العزيز ومن أحاديث رسول الله صلىاللهعليهوآله
وأهل بيته ، ولا حاجة إلى إعادة ذلك كله.
٢ ـ العلم :
أخذ الإمام الحسن عليهالسلام
العلم عن جدّه رسول الله صلىاللهعليهوآله
ـ كما تقدّم ـ حيث كان ملازماً له في أغلب جلساته ولقاءاته وحركاته ، وكان يستمع للوحي وهو يلقى في مسجد رسول الله صلىاللهعليهوآله
، ويستمع إلى أحاديث جدِّه صلىاللهعليهوآله
، وأخذ العلم عن أبيه أمير المؤمنين عليهالسلام
الذي لازمه أكثر من أربعين عاماً ، وأبوه عليهالسلام
كان أعلم الناس بشهادة رسول الله صلىاللهعليهوآله
حيث قال : « أنا مدينة العلم وعليّ بابها ، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها » .
وقال صلىاللهعليهوآله
: « أعلم الناس بالسنة والقضاء بعدي علي بن أبي طالب » .
وقال عثمان بن عفّان في علم الحسنين عليهماالسلام : « اولئك فطموا
العلم فطماً وحازوا الخير والحكمة ». قال الشيخ الصدوق : « معنى قوله : فطموا العلم فطماً أيّ قطعوه عن غيرهم قطعاً وجمعوه لأنفسهم جمعاً » . وقال محمد بن طلحة
__________________
الشافعي : « كان
الله عزّ وجل قد رزقه ـ يعني الإمام الحسن عليهالسلام
ـ الفطرة الثاقبة في إيضاح مراشد ما يعانيه ومنحه الفطرة الصائبة لاصلاح قواعد الدين ومبانيه وخصّه بالجبلة التي درت لها أخلاق مادتها بصور العلم ومعانيه » .
وقال الحافظ إسماعيل بن كثير : « أحد علماء الصحابة وحلمائهم وذوي آرائهم » .
وكتب إليه الحسن البصري : « أما بعد فانكم معشر بني هاشم الفلك الجارية واللجج الغامرة والأعلام الشاهرة ، أو كسفينة نوح عليهالسلام
التي نزلها المؤمنون ونجا فيها المسلمون » .
وقد تتلمذ على يديه مجموعة كبيرة من الفقهاء والعلماء ورواة الحديث. وروى عن الإمام الحسن المئات من الصحابة والتابعين وأشرفهم : أخوه الإمام الحسين ، وابن أخيه الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهماالسلام
، وجابر بن عبدالله ، وعبدالله بن عباس ، وعائشة ، وابنه الحسن بن الحسن ، والمسيب بن نجبة ، وسويد بن غفلة ، والعلاء بن عبد الرحمن ، والشعبي ، وهبيرة بن بريم ، والأصبغ بن نباتة ، وجابر بن خالد ، وعيسىٰ بن مأمون ،
وعمير ابن سعيد النخعي ، وإسحاق بن يسار ، وعبد الرحمن بن أبي عوف ، وسفيان بن الليل ، وعمرو بن قيس ، ومعاوية بن حديج ، وإسحاق بن بشار ، ومحمد بن سيرين ، وعكرمة ، وجبير بن نفير وغيرهم .
٣ ـ الارتباط باللّه تعالى :
كان الإمام الحسن عليهالسلام
دائم الارتباط بالله تعالى ، ودائم التوجه إليه ، وكان مرتبطاً به في عقله ومشاعره وإرادته ، وصار هذا الارتباط حقيقة ايجابية متحركة استقرت في أغوار النفس والضمير وتحولت إلى واقع في صورة أعمال وممارسات وحركات دائمة صادرة عن وعي ومتجهة إلى __________________
غاية ، فهي ليست
مظاهر وطقوس مجردة بل هي حركة وفاعلية تعبر عن اخلاص لله وتجرد له تدفع إلى العمل الصالح الذي هو انعكاس لهذا الارتباط الدائم.
عن المفضل بن عمر قال : « قال الصادق عليهالسلام : حدّثني أبي عن
أبيه عليهالسلام
أنّ الحسن بن علي بن أبي طالب عليهماالسلام
كان أعبد الناس في زمانه وأزهدهم وأفضلهم ، وكان إذا حجّ حجّ ماشياً وربما مشى حافياً ، وكان إذا ذكر الموت بكى ، وإذا ذكر
القبر بكى ، وإذا ذكر البعث والنشور بكى ، وإذا ذكر الممر على الصراط بكى ، وإذا ذكر العرض على الله تعالى ذكره شهق شهقة يغشى عليه منها ، وكان إذا قام في صلاته ترتعد فرائصه بين يدي ربّه عزّ وجل ، وكان إذا ذكر الجنة والنار اضطرب اضطراب السليم ويسأل الله الجنة ويعوذ به من النار ، وكان عليهالسلام
لا يقرأ من كتاب الله عزّ وجل : ( يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) إلاّ قال : لبّيك اللهمّ لبّيك ، ولم
ير في شيء من أحواله إلاّ ذاكر الله سبحانه » .
وروي أنّه : حج خمس عشرة حجّة ماشياً ، وخرج لله من ماله مرتين ، وقاسم الله ماله ثلاث مرّات .
وعن الإمام محمد الباقر عليهالسلام : « أنّ الحسن عليهالسلام قال : إنّي لأستحي
من ربّي أن ألقاه ولم أمشي إلى بيته ، فمشى عشرين مرّة من المدينة على رجليه » .
وكان إذا بلغ المسجد رفع رأسه وقال : « ضيفك ببابك ، يا محسن قد أتاك المسيء فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم » . وكان إذا فرغ من
الفجر لم يتكلم حتى تطلع الشمس وإن زحزح .
وكان يقرأ كل ليلة سورة الكهف في لوح مكتوب يدور معه حيث دار من بيوت أزواجه قبل أن ينام وهو في الفراش .
وكان إذا فرغ من الوضوء تغيّر لونه ، فقيل له في ذلك ، فقال : « حقّ على من أراد __________________
أن يدخل على ذي
العرش أن يتغيّر لونه » .
٤ ـ الكرم :
وهو صفة محمودة في جميع الأحوال وسائر الناس ، وانتصار على النفس والغلبة على الشهوة ؛ لأنّ النفس الانسانية مرتبطة باثقال الدنيا ، فلا يتعالى الإنسان على هذه الاثقال إلاّ بالكرم والجود ، والذي يدفع الإنسان المؤمن إلى الكرم والانفاق هو دافع أقوى من شهوة المال وقيود الحرص ، والطمع وهو دافع التقوى وحب الخير وحب الكمال والسمو ، والتقرب إلى الله عزّوجلّ.
والكرم صفة ملازمة للقيادة الصالحة
الناجحة ؛ فبها يستهوي الناس ويشدّهم إلى ما يمليه عليهم من مفاهيم وقيم ومن نصائح وارشادات ، ويدفعهم لمراجعة أفكارهم وعواطفهم وممارساتهم واصلاحها حياءً أو قناعة في مقابل الكرم والجود والإحسان إليهم. وقد امتاز الحسن عليهالسلام
بهذه الصفة وكان قمة في الكرم والجود والإحسان إلى الآخرين. فقد روى أنّه : « لم يقل لسائل قط : لا ، وكان لا يأنس به أحد فيدعه حتى يحتاج إلى غيره ، حتىٰ عُرِفَ عليهالسلام بكريم أهل البيت عليهمالسلام.
واشترى حائطاً من قوم من الأنصار بأربعمائة ألف فبلغه أنّهم احتاجوا ما في أيدي الناس فردّه إليهم » . وهذه ممارسات
نادرة لم يحدّثنا التاريخ أنّ كريماً ـ من غير أهل البيت عليهمالسلام
ـ لم يقل لسائل قط : ( لا ). ومن كرمه وجوده أنّه يوصل بعض الذين يكرمهم إلى مرحلة متقدّمة من العيش الكريم بحيث لا يحتاج إلى الآخرين ؛ لأنّ ما يحصل عليه يسعفه للاعتماد على نفسه وامكاناته. قال ابن كثير : « وقد كان من الكرم على جانب عظيم ، قال محمد بن سيرين : ربما أجاز الحسن بن علي الرجل الواحد بمائة ألف ». وقال : « وذكروا أنّ الحسن رأى غلاماً أسود يأكل من رغيف لقمة ويطعم كلباً هناك لقمة ، فقال له : ما حملك على هذا ؟ فقال : أنّي أستحي منه أن أكل ولا أطعمه ، فقال له الحسن : لا __________________
تبرح من مكانك حتى
آتيك ، فذهب إلى سيده فاشتراه واشترى الحائط الذي هو فيه ، فاعتقه وملكه الحائط » .
وروي أنّه « وقف رجل على الحسن بن علي عليهماالسلام
فقال : يابن أمير المؤمنين بالّذي أنعم عليك بهذا النعمة الّتي ما تليها منه بشفيع
منك إليه ، بل إنعاماً منه عليك إلاّ ما انصفتني من خصمي فإنّه غشوم ظلوم ، لا يوقّر الشيخ الكبير ولا يرحم الطفل الصغير ، وكان متكئا فاستوى جالساً وقال له : من خصمك حتى أنتصف لك منه ؟ فقال له : الفقر ، فأطرق عليهالسلام ساعة ثم رفع رأسه إلى خادمه وقال له : احضر ما عندك من موجود ، فاحضر خمسة آلاف درهم ، فقال : ادفعها إليه ، ثم قال له : بحق هذه الأقسام الّتي أقسمت بها عليّ
متى أتاك خصمك جائراً إلاّ ما أتيتني منه متظلماً » .
وقال ابن شهرآشوب : « ومن سخائه عليهالسلام
ما روي أنّه سأل الحسن بن علي عليهماالسلام
رجل فأعطاه خمسين ألف درهم وخمسمائة دينار ، وقال : ائت بحمال يحمل لك ، فأتى بحمّال فأعطاه طيلسانه ، فقال : هذا كرى الحمال. وجاءه بعض الأعراب ، فقال : اعطوه ما في الخزانة ، فوجد فيها عشرون ألف درهم ، فدفعها إلى الأعرابي » .
وقيل له عليهالسلام
: لأي شيء نراك لا ترد سائلاً وإن كنت على فاقة ؟ فقال : « إنّي لله سائل وفيه راغب وأنا
أستحيي أن أكون سائلاً وأرد سائلاً ، وإنّ الله تعالى عوّدني عادة ؛ عوّدني أن
يفيض نعمه عليّ ، وعوّدته أن أفيض نعمه على الناس ، فأخشى أن قطعت العادة أن يمنعني العادة ، وأنشأ يقول :
إذا ما أتاني سائل قلت مرحباً
|
|
بمن فضله فرض عليّ معجل
|
ومن فضله فضل على كل فاضل
|
|
وأفضل أيام الفتى حين يسأل » .
|
وقال عبدالله بن عباس حول كرم الإمام
الحسن عليهالسلام
: « قاسم الله ماله ثلاث __________________
مرّات ، حتى أنّه
يعطي الخفّ ويمسك النعل » .
وهذا ما قاله علي بن يزيد بن جدعان أيضاً .
وقال سعيد بن عبد العزيز : « سمع الحسن بن علي رجلاً إلى جانبه يسأل الله أن يرزقه عشرة آلاف درهم ، فانصرف ، فبعث بها إليه » .
وقال القاسم بن الفضل الحدّاني : « حدّثنا أبو هارون قال : انطلقنا حجّاجاً ، فدخلنا
المدينة ، فدخلنا على الحسن ، فحدّثناه بمسيرنا وحالنا ، فلما خرجنا بعث إلى كل
رجل منّا بأربعمائة فرجعنا فأخبرناه بيسارنا ، فقال : لاتردّوا عليّ معروفي فلو كنت
على غير هذه الحال كان هذا لكم يسيراً ، إنّ الله يباهي ملائكته بعباده يوم عرفة » .
٥ ـ البلاغة والفصاحة :
من الصفات المحبّبة لدى القائد أن يكون بليغاً وفصيحاً في أقواله وكلماته التي يخاطب بها العقول ، والمشاعر ؛ لتنفتح أمام الحقائق وأنوار الهداية. وهي ضرورية في استجاشة عناصر الخير والصلاح ، ومطاردة عناصر الشر والانحراف ، واستثارة حالة الحذر من مزالق الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء ، وكان الإمام الحسن عليهالسلام
أفضل الناس بلاغة وفصاحة في زمانه ؛ يحث الناس من خلالها على تبني المفاهيم السليمة وممارسة القيم الصالحة. وكان عليهالسلام
يمارس الخطاب البليغ والفصيح لتحريك العقل الجمعي وتوجيهه الوجهة الصالحة. وفي هذا يقول ابن كثير : « وكان علي [ صلوات الله عليه ] يكرم الحسن اكراماً زائداً ويعظمه ويبجله ، وقد قال له يوماً : يا بني ألا تخطب حتى أسمعك ؟ فقال : إنّي أستحي أن أخطب وأنا أراك ، فذهب علي فجلس حيث لايراه الحسن ، ثم قام الحسن في الناس خطيباً وعليّ يسمع ، فأدّى خطبة بليغة فصيحة ، فلما انصرف جعل عليّ يقول : (
ذُرِّيَّةً
بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ
__________________
عَلِيمٌ
) » .
ورُوي أنه : « طعن أقوام من أهل الكوفة في الحسن بن علي عليهماالسلام ، فقالوا : إنّه عيّ لايقوم بحجّة ، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليهالسلام فدعا الحسن فقال : يابن
رسول الله إنّ أهل الكوفة قد قالوا فيك مقالة أكرهها ؟ قال : وما يقولون يا أمير المؤمنين ؟ قال : يقولون : إنّ الحسن بن علي عيّ اللسان لا يقوم بحجة ، وإن هذه الأعواد فاخبر الناس فقال : يا أمير المؤمنين لا أستطيع الكلام وأنا أنظر إليك ، فقال أمير المؤمنين عليهالسلام
إنّي متخلّف عنك ، فناد أنّ الصلاة جامعة ، فاجتمع المسلمون فصعد عليهالسلام
المنبر ، فخطب خطبة بليغة وجيزة فضجّ المسلمون بالبكاء ثم قال : أيّها الناس اعقلوا عن ربّكم إنّ الله عزّوجلّ اصطفى آدم ونوحا وآل
إبراهيم وآل عمران على العالمين ذريّة بعضها من بعض والله سميع عليم ، فنحن الذريّة من آدم ، والاسرة من نوح ، والصفوة من إبراهيم ، والسلالة من إسماعيل ، وآل من محمد صلىاللهعليهوآله
نحن فيكم كالسماء المرفوعة ، والأرض المدحوة والشمس الضاحية ، وكالشجرة الزيتونة ، لا شرقية ولا غربية التي بورك زيتها ، النبي أصلها ، وعلي فرعها ، ونحن والله ثمرة تلك الشجرة ، فمن تعلق بغصن من أغصانها نجا ، ومن تخلف عنها فإلى النار هوى » .
فقد صاغ الأحاديث النبوية الشريفة التي تتحدث عن فضائل أهل البيت عليهمالسلام
صياغة بلاغية جميلة ، وتمثلت بلاغته بالخطاب وبالقاء الشعر ، ومنه :
أغن عن المخلوق بالخالق
|
|
تغن عن الكاذب والصادق
|
واسترزق الرحمن من فضله
|
|
ليس غير الله بالرازق
|
مَن ظن أن الناس يغنوه
|
|
فليس بالرحمن بالواثق
|
مَن ظن أن الرزق مِن كسبه
|
|
زلت به النعلان من حالق
|
__________________
فقد بيّن في هذا الشعر جملة من المفاهيم
والقيم الصالحة لايصالها إلى مسامع الناس لتنفذ إلى عقولهم وقلوبهم ، وفي شعر آخر يتحدث عن الدنيا الزائلة فيقول :
ذري كدر الأيام إنّ صفاءها
|
|
تولى بأيام السرور الذواهب
|
وكيف يفرّ الدهر من كان بينه
|
|
وبين الليالي محكمات التجارب
|
وقال عليهالسلام
:
قل للمقيم بغير دار إقامة
|
|
حان الرحيل فودّع الأحبابا
|
إنّ الذين لقيتهم وصحبتهم
|
|
صاروا جميعاً في القبور ترابا
|
ويشير عليهالسلام
إلى الزهد في الدنيا ؛ في المأكل والمشرب والملبس ، فيقول :
لكسرة من خسيس الخبز تشبعني
|
|
وشربة من قراح الماء تكفيني
|
وطمرة من رقيق الثوب تسترني
|
|
حياً وإن متّ تكفيني لتكفيني
|
ويتحدث عليهالسلام
عن الشدّة والرخاء ، وعدم دوامهما ، فيقول :
لئن سائني دهر عزمت تصبراً
|
|
وكل بلاء لايدوم يسير
|
وإن سرّني لم أبتهج بسروره
|
|
وكلّ سرور لايدوم حقير
|
٦
ـ الهيبة : الهيبة التي يتصف
بها القائد لها تأثير واضح على الاقتداء به من قبل الناس ، فهم يسعون للتشبه بمن له هيبة وسلطان عليهم ، وقد كان الإمام الحسن عليهالسلام
يتصف بهذه الصفة إلى أقصى الحدود. قال محمد بن إسحاق : « ما بلغ أحد من الشرف بعد رسول الله ما بلغ الحسن كان يبسط له على باب داره ، فإذا خرج وجلس انقطع الطريق ، فما مر أحد من خلق الله إجلالاً له ، فإذا علم قام ودخل بيته فمر الناس ، ولقد رأيته في طريق مكة ماشياً فما من خلق الله أحد رآه إلاّ نزل ومشى حتى رأيت سعد بن أبي وقاص يمشي » .
وقال واصل بن عطاء : __________________
« كان الحسن بن علي عليهماالسلام عليه سيماء
الأنبياء وبهاء الملوك » .
وكان عليهالسلام
مهاباً من قبل الكثير من الحكّام والولاة وعموم الناس ، حتى أنّ معاوية الطاغية كان يهابه
، ولهذا كبّر عند موته ، وقال : « والله ما كبّرت شماتة لموته ، ولكن استراح قلبي
وصفت لي الخلافة » .
وقال ابن عباس : « أوّل ذلّ دخل على العرب موت الحسن عليهالسلام
» .
٧ ـ الشجاعة :
إنّ هداية الناس واصلاحهم بحاجة إلى الشجاعة والاقدام ، لأنّها تصطدم بشهوات البعض وبالضعف النفسي لهم ، وتصطدم بالجاهلين الذين يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً ، وبالمنحرفين الذين يبغضون الهداية والسمو ، وبالأعداء والمتآمرين ؛ ومعالجة كل هذا بحاجة إلى التسلّح بالشجاعة ، دون خوف أو وجل أو تردد أو تراجع. والإمام الحسن عليهالسلام
كإمام وخليفة كان يتصف بأعلى درجات الشجاعة ، وكان لايتردد في قول الحقّ وفي فعل الحقّ ولا تأخذه في الحقّ لومة لائم.
روي أنّ الطليق معاوية سأل الحسن عليهالسلام بعد الصلح أن يخطب
الناس فامتنع ، فناشده أن يفعل ، فوضع له كرسيّ ، فجلس عليه ، ثم قال : « ... وأيم الله لا ترى أمة محمد خفضاً ما كانت سادتهم وقادتهم في بني أمية ، ولقد وجّه الله إليكم
فتنة لن تصدروا عنها حتى تهلكوا ؛ لطاعتكم طواغيتكم ، وانضوائكم إلى شياطينكم ، فعند الله أحتسب ما مضى وما ينتظر من سوء دعتكم ، وحيف حكمكم ... » .
وفي ردّ له على معاوية قال : « هيهات !!
لشر ما علوت به يا ابن آكلة الأكباد ، المجتمعون عليك رجلان ، بين مطيع ومكره ، فالطائع لك عاص لله ، والمكره معذور بكتاب الله ، وحاشا لله أن أقول أنا خير منك لأنّك لا خير فيك ، فإنّ الله قد
برأني من __________________
الرذائل كما برأك من
الفضائل » .
وفي مجلس لمعاوية طعن عمرو بن العاص بالإمام الحسن عليهالسلام
، فخاطب الإمام عليهالسلام
معاوية قائلاً : « يا معاوية لا يزال عندك عبد راتعاً في لحوم الناس ، أما والله لو شئت ليكونن بيننا ما تتفاقم فيه الأمور ،
وتحرّج منه الصدور ». ثم أنشأ يقول :
أتأمر يا معاوي عبد سهم
|
|
بشتمي والملا منّا شهود
|
فهل لك من أب كأبي تسامى
|
|
به من قد تسامى أو تكيد
|
ولا جد كجدي يا ابن حرب
|
|
رسول الله إن ذكر الجدود
|
ولا أم كأمي من قريش
|
|
إذا ما حصل الحسب التليد
|
فما مثلي تهكم يا ابن حرب
|
|
ولا مثلي ينهنهه الوعيد
|
فمهلاً لا تهج منا أموراً
|
|
يشيب لهولها الطفل الوليد
|
أمّا الشجاعة في ميدان القتال فقد شهدت
له معارك الجمل وصفين ، ففي معركة الجمل قال الإمام علي عليهالسلام
لمحمد : « أي بنيّ خذ الراية ، فابتدر الحسن والحسين ليأخذاها ، فأخرهما عنها » . وفي معركة صفين
صرّح الإمام علي عليهالسلام
بذلك فقال : « ولقد هممت بالاقدام على القوم فنظرت إلى هذين قد ابتدراني ـ يعني الحسن والحسين ـ ونظرت إلى هذين قد استقدماني ـ يعني عبد الله بن جعفر ومحمد بن علي ـ فعلمت أنّ هذين إن هلكا انقطع نسل محمد من هذه الأمة ، فكرهت ذلك ، وأشفقت على هذين أن يهلكا » . وكان علي عليهالسلام قد جعل الإمام الحسن على قلب جيشه ، كما ورد في كتب التاريخ .
__________________
٨ ـ التواضع :
إنّ مهمة القائد أو الإمام هي هداية الناس واصلاحهم وتقرير مفاهيم وقيم الإسلام في عقولهم وقلوبهم وارادتهم وممارساتهم ، وهذه المهمة تتطلب الاختلاط معهم ومشاركتهم في نشاطاتهم وفعالياتهم ، وهي بأجمعها تعبير عن التواضع وعدم التعالي ، وبهذا التواضع يمتلك القائد عقول وقلوب الناس بعد اطلاعه على همومهم ومشاكلهم وعلى درجة قربهم وبعدهم عن المنهج الإسلامي ، وقد اتصف الإمام الحسن عليهالسلام
بهذه الصفة حتىٰ كانت خلقاً دائماً له ، ومن تواضعه أنّه « مرّ على فقراء وقد وضعوا كسيرات على الأرض وهم قعود يلتقطونها ويأكلونها ، فقالوا له : هلمّ يا ابن بنت رسول الله إلى الغداء ، فنزل وقال : ( إنّ الله لا يحب المتكبرين ) ، وجعل يأكل معهم حتى اكتفوا والزاد على حاله ببركته عليهالسلام
ثم دعاهم إلى ضيافته وأطعمهم وكساهم » . ومرّ بصبيان يأكلون كسراً من الخبز فاستضافوه فنزل وأكل معهم ، ثم حملهم إلى منزله وأطعمهم وكساهم وقال : « اليد لهم لأنّهم لم يجدوا غير ما أطعموني ، ونحن نجد كثيراً مما أعطيناهم » .
٩ ـ الحلم واستيعاب المخالفين :
الحلم وإستيعاب المخالفين صفة أساسية في حركة القائد الإسلامي ، لأنّه يواجه أصنافاً من الناس يختلفون في أفكارهم وتصوراتهم ومواقفهم ، فلا يمكن التأثير عليهم وهدايتهم إلاّ بالحلم والصبر على أخطائهم ومساوئهم ، وقد اتصف الإمام الحسن عليهالسلام
بهذه الصفة وكانت ملازمة له. روي انّه « قدم المدينة رجل كان يبغض عليا عليهالسلام
فانقطع ولم يبقَ معه زاد ولا راحلة فشكى حاله إلى بعض أهل المدينة فدله على الحسن ، وقيل له : لا تجد خيراً منه فجاءه وشكى إليه أمره ، فأمر له بزاد وراحلة ، فقال الرجل : الله أعلم __________________
حيث يجعل رسالته.
وقيل للحسن أتاك رجل يبغضك ويبغض أباك فأمرت له بزاد وراحلة ، فقال : أفلا اشتري عرضي منه بذلك » .
وروى المبرد وابن عائشة : « أنّ شامياً رآه راكباً فجعل يلعنه والحسن لا يردّ ، فلما فرغ أقبل الحسن
عليه فسلم عليه وضحك ، وقال : أيها الشيخ اظنك غريباً ولعلّك شبهت ، فلو استعتبتنا أعتبناك ولو سألتنا أعطيناك ، ولو استرشدتنا أرشدناك ، ولو استحملتنا حملناك ، وإن كنت جائعاً أشبعناك ، وإن كنت عريانا كسوناك ، وإن كنت محتاجاً أغنيناك وإن كنت طريداً آويناك ، وإن كان لك حاجة قضيناها لك ، فلو حركت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك لأنّ لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كبيراً. فلما سمع الرجل كلامه بكى ثم قال : أشهد أنك خليفة الله في أرضه ، الله أعلم حيث يجعل رسالاته ، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إليّ والآن أنت أحبّ الله إليّ ، وحول رحله إليه وكان ضيفه إلى أن ارتحل وصار معتقداً لمحبتهم » .
وروي إنّ اللعين ابن اللعين مروان بن الحكم شتم الحسن بن علي عليهماالسلام فلمافرغ قال الحسن : « إنّي والله لا أمحو عنك شيئاً ، ولكن مهّدك الله فلئن كنت
صادقاً فجزاك الله بصدقك ، ولئن كنت كاذباً فجزاك الله بكذبك ، والله أشدّ نقمة منّي » .
١٠ ـ الرفق والمداراة :
الرفق بالناس ومداراتهم من أساسيات اصلاحهم وهدايتهم ؛ لأنّ الإنسان غالباً ما يأنس بآرائه وأفكاره ومواقفه وممارساته حتى تصبح جزءً من كيانه يرى فيها كرامته وكبرياءه ، ولا يتنازل عنها أحياناً ؛ لأنّه يرى في ذلك تنازلاً عن كرامته ، ولهذا فالتعامل ينبغي أن يكون بهدوء ورفق ، حتى يتأثر بالموعظة فيصلح أفكاره أو ممارساته ، وقد اتصف الإمام الحسن عليهالسلام بهذه الصفة وهي صفة الرفق ومداراة المستويات المتعددة. عن الروياني قال : __________________
« إنّ الحسن والحسين مرّا على شيخ يتوضأ ولا
يحسن ، فأخذا في التنازع يقول كل واحد منهما : أنت لا تحسن الوضوء ، فقالا : أيها الشيخ كن حكما بيننا يتوضأ كل واحد منّا فتوضئا ثم قالا : أيّنا يحسن ؟ قال : كلاكما تحسنان الوضوء ولكن هذا الشيخ الجاهل هو الذي لم يكن يحسن وقد تعلّم الآن منكما وتاب على يديكما ببركتكما وشفقتكما على أمّة جدّكما » . ومن الرفق
والمداراة استخدام الحكمة في الموعظة لتكون أكثر تأثيراً في المقابل ، وقد ورد عن الإمام الحسن عليهالسلام أنّه « مرّ بشاب يضحك ، فقال : هل مررت على الصراط ؟ قال : لا ، قال : وهل تدري إلى الجنة تصير أم إلى النار ؟ قال : لا ، قال : فما هذا الضحك ؟ فما رؤي هذا الضاحك بعد ضاحكاً » .
ومن رفقه ومداراته لأصحابه الذين لا
يدركون حقيقة الموقف الذي اتخذه وهو موقف الصلح ، إنّه كان يقابلهم بهدوء ويرد على إساءتهم بلطف.
قال له أبو عامر سفيان بن الليل : « السلام
عليك يا مذل المؤمنين ! » فقال : لا تقل ذلك يا أبا عامر ، لست بمذل المؤمنين ، ولكنّي كرهت أن اقتلهم على الملك » .
وقال له مالك بن ضمرة : « السلام عليك يا مسخم وجوه المؤمنين » ، فقال له عليهالسلام
: « لا تقل ذلك ، إنّي لما رأيت الناس تركوا ذلك إلاّ أهله خشيت أن يجتثوا عن وجه الأرض ، فأردت أن يكون للدين في الأرض ناعٍ » .
وقيل له : يا مذلّ المؤمنين ومسوّد الوجوه ، فقال : « لا تعذلوني فإنّ فيها مصلحة » .
طائفة
من الأقوال بحق الإمام الحسن عليهالسلام :
* الإمام الحسين عليهالسلام : « رحمك الله أبا
محمد ، إن كنت لتناصر الحقّ مظانه ، وتؤثر الله __________________
عند مداحض الباطل في
مواطن التقية بحسن الروية ، وتستشف جليل معاظم الدنيا بعين لها حاقرة ، وتفيض عليها يداً طاهرة ، وتردع بادرة أعدائك بأيسر المؤنة عليك ، وأنت ابن سلالة النبوة ، ورضيع لبان الحكمة ، وإلى روح وريحان وجنة نعيم » .
* محمد بن الحنفية
: « يرحمك الله أبا محمد إن عزت حياتك فقد هدت وفاتك ولنعم الروح روح تضمنه بدنك ولنعم البدن بدن تضمنه كفنك ، وكيف لا يكون هكذا وأنت سليل الهدى وحليف أهل التقى وخامس أصحاب الكساء غذتك اكفّ الحقّ وربيت في حجور الإسلام ورضعت ثدي الايمان وطبت حياً وميتاً » .
* عبدالله بن عمرو
بن العاص : « هذا أحبّ أهل الأرض إلى أهل السماء » .
* أبو الأسود
الدؤلي : « إنّه لهو المهذّب ، قد أصبح من صريح العرب في غر لبابها ، وكريم محتدها ، وطيب عنصرها » .
* لما مات الحسن عليهالسلام بكى عدوه الخبيث
مروان بن الحكم ، فقال له الحسين عليهالسلام
: « أتبكيه وقد كنت تجرعه ما تجرّعه ؟ » فقال
: « إني كنت أفعل ذلك إلى أحلم من هذا » وأشار بيده إلى الجبل .
* وقال أبوبكرة بن
عبيد ـ عندما سمع بموته ـ : « قد أراحه الله من شرّ كثير ، وفقد الناس بموته خيراً كثيراً ، يرحم الله حسناً » .
* وكان ابن الزبير
يقول : « والله ما قامت النساء عن مثل الحسن بن علي » .
__________________
* وقال محمد بن
إسحاق : « ما تكلم عندي أحد كان أحبّ إليّ إذا تكلم أن لا يسكت من الحسن بن علي » .
* الحافظ ابن كثير
الدمشقي : « كان ابن عباس يأخذ الركاب للحسن والحسين إذا ركبا ويرى هذا من النعم عليه ، وكانا إذا طافا بالبيت يكاد الناس يحطّمونهما مما يزدحمون عليهما للسلام عليهما » .
* الذهبي : « كان
هذا الإمام سيداً ، وسيماً ، جميلاً ، عاقلاً ، رزيناً ، جواداً ، ممدحاً ، خيّراً ، ديّناً ، ورعاً ، محتشماً ، كبير الشأن » .
* الزركلي : « كان
عاقلاً حليماً محبّاً للخير فصيحاً ، من أحسن الناس منطقاً وبديهة » .
* ابن الصباغ
المالكي : « الكرم والجود غريزة مغروسة فيه ، واتصال صلاته للمعتقين نهج ما زال يسلكه ويقتفيه » .
* سبط ابن الجوزي :
« كان من كبار الاجواد ، وله الخاطر الوقاد ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوآله
يحبّه حبا شديداً » .
* محمد بن طلحة
الشافعي : « كان الله عزّوجلّ قد رزقه الفطرة الثاقبة في ايضاح مراشد ما يعانيه ومنحه الفطرة الصائبة لاصلاح قواعد الدين ومبانيه وخصه بالجبلة التي درت لها اخلاف مادتها بصور العلم ومعانيه » .
* سليمان كتاني : «
لقد غاب الحسن وبقي له المنهج حتى تستقيم به مناهج الأمة __________________
في حقيقة الإسلام » .
* حسن كامل
الملطاوي : « سيدي السبط الكريم : لقد وقفت على تاريخك العاطر ، فرأيت أن العناية الربّانية قد هيأتك لأن تكون إماماً كاملاً ، فوعيت في طفولتك الباكرة أحاديث عن جدك صلىاللهعليهوآله
أخذها عنك الرواة ، مع أنك لم تعاشره أكثر من سبعة أعوام ونصف. ورأيتك ملازماً لأبيك ، تغرف من بحره الزاخر وترتوي ، ويمدك بمكنون اللآلي والدرر ... ورأيتك معلما للناس وللناشئة من أهل بيتك ممّا علمك الله ؛ فكنت منهم الإمام ، وكانوا هم الأئمة من بعدك » .
* الدكتور طه حسين
: « كان الإمام الحسن رضياللهعنه
عذب الروح ، حلو الحديث ، كريم المعاشرة ، حسن الألفة ، محبباً إلى الناس ، ويحبّه اترابه من شباب قريش والأنصار لهذه الخصال ولمكانه من النبي صلىاللهعليهوآله
، ويحبه عامة الناس لكل هذا ولسخائه وجوده ، واعطائه المال حين يسأل وحين لايسأل » .
الفصل
الخامس
خلافة
الإمام الحسن عليهالسلام
المبحث
الأوّل / المبايعة للإمام الحسن عليهالسلام بالخلافة :
أخرج الحاكم عن الإمام علي بن الحسين عليهماالسلام ، قال : « خطب
الحسن بن علي عليهماالسلام
حين قتل عليّ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : لقد قبض في هذه الليلة رجل لا يسبقه الأولون بعمل ولا يدركه الآخرون ، وقد كان رسول الله صلىاللهعليهوآله يعطيه رأيته فيقاتل وجبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره فما يرجع حتى يفتح الله عليه __________________
وما ترك على أهل
الأرض صفراء ولا بيضاء إلاّ سبع مائة درهم فضلت من عطاياه أراد أن يبتاع بها خادمة لأهله. ثم قال : أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي وأنا ابن النبي وأنا ابن الوصي وأنا ابن البشير وأنا ابن
النذير وأنا ابن الداعي إلى الله بإذنه وأنا ابن السراج المنير وأنا من أهل البيت الذي كان جبرائيل ينزل إلينا ويصعد من عندنا ، وأنا من أهل البيت الذي أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، وأنا من أهل البيت الذي افترض الله مودتهم على كل مسلم ، فقال تبارك وتعالى لنبيّه : (
قُل
لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا
)
فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت » .
ولمّا تمّ خطاب الإمام عليهالسلام
تقدّم عبدالله بن عباس ، وحث المسلمين على مبايعته ، وقال : « معاشر الناس ، هذا ابن نبيّكم ، ووصيّ إمامكم فبايعوه ».
واستجاب الناس إلى بيعته ، وقالوا : « ما
أحبّه إلينا وأحقّه بالخلافة » .
وفي رواية أخرى : جاء الناس إلى الحسن عليهالسلام ، فقالوا : « أنت
خليفة أبيك ووصيّه ، ونحن السامعون المطيعون لك فمرنا بأمرك » .
وتمت البيعة له في يوم الجمعة المصادف الحادي والعشرين من شهر رمضان في سنة ٤٠ للهجرة. وكان عدد المبايعين له أكثر من أربعين ألفاً ، كانوا قد بايعوا أباه عليهالسلام على الموت .
وبقي نحو سبعة أشهر خليفة بالعراق وماوراءه من خراسان والحجاز واليمن .
وعن ميمون بن مهران قال : « إنّ الحسن
بن علي بن أبي طالب بايع أهل العراق بعد علي على بيعتين : بايعهم على الإمرة ، وبايعهم على أن يدخلوا فيما __________________
دخل فيه ، ويرضوا
بما رضي به » .
وخلافة الإمام الحسن عليهالسلام
مطابقة للمتبنيات الفكرية لمدرسة أهل البيت عليهمالسلام
والمدارس الأخرى ، فالإمام الحسن عليهالسلام
إمام مفترض الطاعة منصوص عليه من قبل رسول الله صلىاللهعليهوآله
ثمّ من قبل أمير المؤمنين عليهالسلام
، فهو إمام وخليفة سواء بايعته الأمة أم لم تبايعه والبيعة هنا لا تُنشئ الإمامة أو الخلافة بل توكدها. وهو إمام وخليفة مفترض الطاعة في رأي المدارس الأخرى التي لا تتبنى النصّ والتعيين من قبل رسول الله صلىاللهعليهوآله عن الله تعالى ، فالبيعة وحدها كافية لانعقاد الولاية والإمامة والخلافة. فالماوردي يرى أنّ تعيين الخليفة بيد أهل الحلّ والعقد طبقا للمواصفات والشروط ، وفي ذلك يقول : « فإذا اجتمع أهل العقد والحل للاختيار تصفحوا أحوال أهل الإمامة الموجودة فيهم شروطها ، فقدّموا للبيعة منهم أكثرهم فضلاً وأكملهم شروطاً » .
والخلافة لا تتوقف عند المخالفين على مبايعة سائر أفراد الناس بل يتم انعقادها ولو بعقد رجل واحد ، قال عبد القاهر البغدادي : « الإمامة تنعقد لمن يصلح لها بعقد رجل واحد من أهل الاجتهاد والورع ، إذا عقدها لمن يصلح لها ، فإذا فعل ذلك وجب على الباقين طاعته » .
وقد عمل فقهاء مدرسة الخلفاء بذلك ، فاقرّوا
خلافة أبي بكر بمبايعة عمر له في السقيفة ، وأقرّوا خلافة عمر بن الخطاب بعهد أبي بكر له ، وأقرّوا خلافة عثمان حينما بويع من قبل عبد الرحمن بن عوف أو بقية أصحاب الشورى وإن كانوا مكرهين على ذلك.
دعوة
معاوية للطاعة :
كتب الإمام الحسن عليهالسلام لمعاوية بن أبي
سفيان كتاباً جاء فيه : « بسم الله __________________
الرحمن الرحيم ، من
عبداللّه الحسن أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان ... إنّ الله تعالى بعث محمداً صلىاللهعليهوآله
رحمة للعالمين ... فلمّا توفي تنازعت سلطانه العرب ، فقالت قريش : نحن قبيلته وأسرته وأولياؤه ، ولا يحلّ لكم أن تنازعونا سلطان محمد في الناس وحقّه ... ثم حاججنا نحن قريشا بمثل ما حاجّت به العرب ، فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها ... واستولوا بالاجتماع على ظلمنا ومراغمتنا ... فاليوم فليعجب المتعجّب من توثبك يا معاوية على أمر لست من أهله لابفضل في الدين معروف ، ولا أثر في الإسلام محمود ، وأنت ابن حزب من الأحزاب ، وابن أعدى قريش لرسول الله صلىاللهعليهوآله
... إنّ عليّا رضوان الله عليه لما مضى لسبيله رحمة الله عليه ولاّني المسلمون الأمر بعده ... فدع التمادي في الباطل وأدخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي ، فانك تعلم أنّي أحقّ بهذا الأمر منك عند الله ، وعند كل أوّاب حفيظ ، ومن له قلب منيب. واتق الله ودع البغي ، واحقن دماء المسلمين ، فادخل في السلم والطاعة ، ولا تنازع الأمر أهله ، ومن هو أحق به منك ؛ ليطفئ الله النائرة بذلك ، وتجمع الكلمة وتصلح ذات البين. وإن أبيت إلاّ التمادي في غيك نهدت إليك بالمسلمين ، فحاكمتك حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين » .
واجبار معاوية على الطاعة عن طريق القوة
أمر مشروع ؛ للحفاظ على وحدة الدولة ووحدة الكيان الإسلامي ووحدة المسلمين ، وهذا يظهر من كتاب الإمام علي عليهالسلام
إلى معاوية حيث الزمه بما الزم نفسه : « ... إنّما الشورى للمهاجرين والأنصار ، فإن اجتمعوا على رجلٍ وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضىً ، فإن خرج على أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردّوه إلى ما خرج منه ، فإن أبى قاتلوه على إتباعه غير سبيل المؤمنين ، وولاّه الله ما تولّى » . فالإمام الحسن عليهالسلام هدّد معاوية __________________
باستخدام القوة من
أجل اعادته للصف الإسلامي ، وليس لمجرد عدم البيعة. فعدم البيعة لا يكفي لوحده لاستخدام القوة ما لم تترتب عليها مفسدة شق عصا المسلمين وتفتيت الدولة والكيان الإسلامي. وكان جواب معاوية : « بسم الله الرحمن الرحيم من عبدالله أمير المؤمنين إلى الحسن بن علي ... لو علمت أنك اضبط مني للرعية ، وأحوط على هذه الأمة ، وأحسن سياسة ، وأقوى على جمع الأموال وأكيد للعدو لأجبتك إلى ما دعوتني إليه ... فأنت أحق أن تجيبني إلى هذه المنزلة التي سألتني ، فادخل في طاعتي ولك الأمر من بعدي ... ».
قال جندب بن عبدالله الأزدي : « فلما
أتيت الحسن بن علي بكتاب معاوية قلت له : إنّ الرجل سائر إليك فابدأ أنت بالمسير حتى تقاتله في أرضه وبلاده وعمله ، فأما أن تقدر أنّه يتناولك فلا والله حتى يرى يوماً أعظم من يوم صفين ».
وكتب معاوية : « ... فاحذر أن تكون
منيتك على يد رعاع من الناس ... وإن أنت أعرضت عمّا أنت فيه وبايعتني وفيت لك بما وعدت ، وأجرت لك ما شرطت ... ثم الخلافة لك من بعدي ، فأنت أولى الناس بها ، والسلام ». فأجابه الإمام الحسن عليهالسلام
: « بسم الله الرحمن الرحيم ، أما بعد ، وصل إلي كتابك تذكر فيه ما ذكرت ، فتركت جوابك خشية البغي عليك ، وبالله أعوذ من ذلك ، فاتبع الحق تعلم أني من أهله ، وعليّ إثم أن أقول فأكذب والسلام ». فلما وصل كتاب الحسن إلى معاوية قرأه ، ثم كتب إلى عماله على النواحي نسخة واحدة « ... اقبلوا إليّ حتى يأتيكم كتابي هذا بجندكم وجهدكم وحسن عدتكم ، فقد أصبتم بحمدالله الثأر ، وبلغتم الأمل ... ». فاجتمعت العساكر إلى معاوية بن أبي سفيان ، وسار قاصداً إلى العراق ، وبلغ الحسن خبر مسيره ، فتحرك لذلك. وبعث حجر بن عدي يأمر العمّال والناس بالتهيؤ للمسير ونادى المنادي الصلاة جامعة ، فأقبل الناس يتوثبون ويجتمعون ، فقال الحسن عليهالسلام
إذا رضيت جماعة الناس فاعلمني ، وجاء
سعيد بن قيس
الهمداني فقال : أخرج ، فخرج الحسن عليهالسلام
فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : « أمّا بعد ، فإنّ الله كتب الجهاد على خلقه وسمّاه كرهاً ،
ثم قال لأهل الجهاد من المؤمنين : (
وَاصْبِرُوا
إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ
) .
فلستم أيّها الناس نائلين ما تحبّون إلاّ بالصبر على ما تكرهون ، إنّه بلغني أنّ معاوية بلغه
أنا كنّا أزمعنا على المسير إليه فتحرك لذلك ، فاخرجوا رحمكم إلى معسكركم بالنخيلة حتى ننظر وتنظروا ونرى وتروا ... ». وخرج الناس فعسكروا ونشطوا للخروج ، وخرج الحسن إلى معسكره. ثمّ إنّ الحسن عليهالسلام
سار في عسكر عظيم وعدة حسنة حتى أتى دير عبد الرحمن فأقام بها ثلاثاً حتى اجتمع الناس ، ثمّ دعا عبيدالله بن العباس فقال له : « ... إذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك ، فإن فعل فقاتل ، فإن أصبت فقيس بن سعد على الناس ... ».
مؤامرات
معاوية :
في اليوم الثاني من وصول عبيدالله إلى
مسكن ، وجّه معاوية بخيله إليه فخرج إليهم عبيدالله فيمن معه فضربهم حتى ردّهم إلى معسكرهم ، فلما كان الليل أرسل معاوية إلى عبيدالله أنّ الحسن قد راسلني في الصلح ، وهو مسلم الأمر إلي ، فإن دخلت في طاعتي الآن كنت متبوعاً ، وإلاّ دخلت وأنت تابع ، ولك أن أجبتني الآن إن أعطيك ألف ألف درهم ، أعجل لك في هذا الوقت نصفها ، وإذا دخلت الكوفة النصف الآخر ، فانسل عبيدالله إليه ليلاً .
وفي رواية إنّه صار إليه في ثمانية آلاف من أصحابه . وكان معاوية يدس
إلى عسكر الحسن عليهالسلام
من يتحدث أنّ قيس بن سعد قد صالح معاوية وصار معه ، ويوجه إلى عسكر قيس من يتحدث أنّ الحسن قد صالح معاوية وأجابه .
واستمر __________________
معاوية في دسائسه
وخبثه وكذبه وكيده وحيلته ودهائه ، فقد بعث لكل من عمرو بن حريث والأشعث بن قيس وحجار بن أبجر عيناً من عيونه يمني كل واحد منهم بقيادة جند من جنوده ، أو بتزويج إحدى بناته ، أو بمائة ألف درهم أن قتلوا الحسن ، وقد بلغه عليهالسلام
ذلك فاستلأم ولبس درعاً ، فكان لا يتقدم للصلاة إلاّ وعليه وقاية .
توالي
الخيانات في جيش الإمام عليهالسلام :
بعث الإمام عليهالسلام قائدا من كندة في
أربعة آلاف ، فلما نزل الانبار أغراه معاوية فالتحق به مع مائتي رجل من خواصه ، ثم التحق بمعاوية قائد من مراد في أربعة آلاف .
وكتب جماعة إلى معاوية بالسمع والطاعة له ، وضمنوا له تسليم الحسن عليهالسلام
إليه عند دنّوهم من عسكره أو الفتك به ، وأخبر الإمام عليهالسلام المحيطين به قائلاً : « إنّ أهل الشرف منكم قد أتوا معاوية فبايعوه ، فحسبي منكم لاتغروني في ديني ونفسي » .
وكان جيشه متعدد الولاءات « فبعضهم شيعة له ولأبيه ، وبعضهم محكمة يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة ، وبعضهم أصحاب فتن وطمع في الغنائم ، وبعضهم شكاك ، وبعضهم أصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم لايرجعون إلى دين » .
فلا غرابة من توالي الخيانات وعدم الثبات حتى النهاية.
توالي
الاشاعات والحرب النفسية :
كان معاوية الخبيث يدسّ الجواسيس في جيش
الإمام عليهالسلام
لبث الاشاعات ، ومنها : أن قيس بن سعد قد صالح معاوية ، ودسّ إلى عسكر قيس من يتحدث أنّ الحسن قد صالح معاوية وأجابه. ووجّه معاوية إلى الإمام عليهالسلام __________________
المغيرة بن شعبة
وآخرين فالتقوا به ، وحينما خرجوا قالوا : « إنّ الله قد حقن بابن رسول الله الدماء ، وسكنّ الفتنة وأجاب إلى الصلح ، فاضطرب العسكر ، ولم يشكك الناس في صدقهم » .
وأشاع معاوية أنّ قيس بن سعد قد قتل . وتوالت الاشاعات مما أدت إلى خلخلة جيش الإمام عليهالسلام
وخلق الاضطرابات فيه ، وتشجيع أهل الأهواء والمنافع للالتحاق بمعاوية حيث بدأت بعض القبائل تلتحق به « قبيلة بعد قبيلة حتّى خفّ عسكره » .
مراسلة
معاوية للإمام عليهالسلام ودعوته لتسليم
السلطة إليه :
بعد استمرار الفرار من جيش الإمام عليهالسلام والالتحاق بمعاوية
، وبعد تعرّض الإمام عليهالسلام
لعدّة محاولات استهدفت قتله ، وبعد أن يئس الإمام عليهالسلام
من حسم المعركة لصالحه ، وأيقن أنّ بقاء الأوضاع على هذه الحالة يؤدّي إلى قتله وقتل أهل بيته وأصحابه المخلصين ، جاءته وفود معاوية تدعوه للصلح ، ومعهم كتب رؤساء العشائر الّذين ضمنوا لمعاوية فيها قتل الإمام أو تسليمه إليه .
وكان مع آخر الوفود صحيفة بيضاء ، مختوم
على أسفلها ، بخطّ معاوية وختمه : أن اشترط في هذه الصحيفة الّتي ختمت أسفلها ما شئت فهو لك .
ولما راسله معاوية خطب في البقيّة المتبقيّة من جيشه ، وأخبرهم بدعوة معاوية للصلح ، ثمّ قال : « فإن أردتم الموت رددناه عليه ، وحاكمناه إلى الله عزّ وجل بظُبى السيوف ، وإن أردتم الحياة قبلناه ، وأخذنا لكم الرضا » فناداه الناس من كلّ جانب : « البقيّة البقيّة » . وكان من خطب
الإمام الحسن عليهالسلام
في ذلك الحين __________________
أن قال : « إنّي
لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمدالله ومنّه وأنا أنصح خلقه لخلقه ، وما أصبحت حاملاً على مسلم ضغينة ولا مريداً له بسوء ولا غائلة ، ألا وإنّ ما تكرهون في الجماعة خير لكم ممّا تحبّون في الفرقة ، ألا وإنّي ناظر لكم خيراً من نظركم لأنفسكم ، فلا تخالفوا أمري ، ولا تردّوا عليّ رأيي ، غفر الله لي ولكم ، وارشدني وإيّاكم لما فيه المحبة والرضا إن شاء الله » ، ثم نزل ، فنظر الناس بعضهم
إلى بعض وقالوا : نظنه يريد أن يصالح معاوية ، كفر والله الرجل ! ثمّ شدّوا على فسطاطه فانتهبوه ، وقام إليه رجل من بني أسد فطعنه بمعول ، فحمل إلى المدائن .
ظروف
الصلح البعيدة والقريبة :
إنّ قضية صلح الإمام الحسن عليهالسلام مع معاوية ليست
قضية زمنية حدثت في حقبة زمنية معينة ، بل هي قضية تفاعلت فيها ظروف الماضي مع ظروف الحاضر ، فلابدّ من الوقوف عند هذه المسألة ، لكي تكون الصورة واضحة في الاطلاع على المبررات الموضوعية للصلح ، وهي :
١
ـ ظروف الحكم الأموي :
إنّ صلح الإمام عليهالسلام لم يكن منفصلاً عن
ظروفه وأسبابه البعيدة الّتي شكّلت صراعاً داخل الجسد الإسلامي الواحد ، حيث استطاع الطلقاء أن يجدوا لهم موقعاً ومركزا حسّاساً داخل الكيان الإسلامي ، فقد كان معاوية والياً على الشام في عهد الخلفاء وكانت له صلاحيات مطلقة ، حتّى كان عمر بن الخطاب يحاسب جميع ولاته غير معاوية حيث كان يقول له : « لا آمرك ولا أنهاك » .
وكان يمدحه كثيراً ، وينهى عن ذمّه ويقول : « دعونا من ذمّ فتى قريش » .
كما حذّر أهل الشورى من الفرقة وقال : « إيّاكم والفرقة بعدي فإنْ __________________
فعلتم ، فاعلموا أنّ
معاوية بالشام ، فإذا وكلتم إلى رأيكم عرف كيف يستبزّها منكم » .
وكان يقول أيضاً : « هذا كسرى العرب » . فاستقل معاوية
بالشام استقلالاً حقيقياً نظراً لصلاحياته المطلقة وعدم تدخّل الحكّام في شؤونه ، وتوسّعت ولايته بعد أنّ ضمّ عثمان له الشام كلّها .
فاستطاع أن يكوّن جيشاً مطيعاً مستسلماً
، عن طريق الخداع والتضليل وشراء الضمائر بأموال المسلمين ، وكان يوجّهه توجيهاً خاصّاً عن طريق الوعّاظ والرواة المتملّقين ، وكان معزولاً عن بقيّة الأمصار ، فلا يعرف غير معاوية وبيت أبي سفيان ، ولا يعرف من الإسلام إلاّ ما يوجّهه به معاوية من حيث تاريخ الإسلام وتاريخ رجاله ، فكان الناس يفهمون أنّ معاوية خال المؤمنين ، وموضع ثقة الخلفاء السابقين ، وابن عم الخليفة عثمان ، إضافة إلى ما نسبه وعّاظ السلاطين إليه من فضائل بعد غياب الوعي وعدم الاختلاط ببقيّة الأمصار. وتربّص معاوية بعثمان حتّى قتل ، فلم ينصره في حياته ، وإنّما استغلّ مقتله للتمرّد على خلافة أمير المؤمنين الإمام علي عليهالسلام
، ومن ثمّ الاستقلال الكامل بالشام بعد حرب صفّين. فكان أهل الشام مستسلمين له وحده ، ومنقادين لقيادة واحدة ، وليس له في الشام من ينافسه على الحكم والإمرة. وممّا ساعد على تقوية كيان الأمويّين هو عدم تأمير أحد من بني هاشم في عهد أبي بكر وعمر وعثمان .
٢
ـ ظروف العهد العلوي :
بعد ربع قرن من وفاة رسول الله صلىاللهعليهوآله عاد الحق لأهله
حينما عادت الخلافة __________________
لأمير المؤمنين عليهالسلام إلاّ أنّها لم
تستقم له ، فقد تمرد عليه ثلاثة من الشخصيات وهم : عائشة وطلحة والزبير ، ولم ينته تمرّدهم إلاّ بمقتل جماعة من الطرفين ، إضافة إلى عدد كبير من الجرحى والمعوّقين. واستثمر معاوية ظروف حرب الجمل وظروف مقتل عثمان ، فحارب أمير المؤمنين عليهالسلام
وانتهت المعركة بمجموعة كبيرة من القتلى ، من ضمنهم كبار الشخصيّات الموالية لأهل البيت عليهمالسلام كعمار بن ياسر
ونظرائه.
وأفرزت المعركة ظاهرة الانشقاق في جيش
أمير المؤمنين عليهالسلام
حيث تمرّدت عليه جماعة عرفت فيما بعد بالخوارج وقاموا بخلق البلبلة والاضطراب في داخل قوّات الإمام عليهالسلام.
وكان معاوية يشنّ الغارات المتوالية على أطراف دولته عليهالسلام
، ويقوم بقتل كلّ موالٍ له والاستيلاء على ممتلكاته. ولم تسمح الظروف لأمير المؤمنين عليهالسلام
كي يبني دولته وجيشه بناءً عقائدياً وسلوكياً. وكان أغلب المكّيّين وأهل البصرة لا يدينون بالولاء له. وإضافة إلى كلّ ذلك أنّ المنخرطين في جيشه لم ينخرطوا ولاءً له ، وإنّما تابعوه لأنّه على رأس دولة. فهم تبع لأي حاكم ؛ لا يفرّقون بين أمير المؤمنين عليهالسلام
وبين غيره من الحكّام ، وقد يكون أقصى تقييم أكثرهم له ، أنّه عليهالسلام
أفضل من معاوية فقط. ولم تستمر خلافته سوى أربع سنين حتّى اغتالته أيدي المتآمرين ، للحيلولة دون أن يقوم بإكمال المسيرة الّتي تحتاج إلى زمن طويل في بناء دولة وكيان ، وتأسيس جيش عقائدي متماسك .
٣
ـ ظروف وأوضاع جيش الإمام الحسن عليهالسلام :
لم يكن جيش الإمام عليهالسلام جيشا متماسكاً
موحداً في أفكاره وولاءاته ، بل كان خليطاً غير متجانس من آراء مختلفة وولاءات متعددة ، وقد عبّر الإمام عليهالسلام
عن ذلك قائلاً : « رأيت أهل الكوفة قوماً لا يثق بهم أحد أبدا إلاّ غلب ، __________________
ليس أحد منهم يوافق
آخر في رأي ولا هوى ؛ مختلفين لا نيّة لهم في خير ولا شر » .
وهذا الاختلاف من شأنه خلق البلبلة والاضطراب وعدم الوصول إلى وحدة في القرار والموقف. فمنهم أهل الطمع ، ومنهم أتباع كلّ ناعق ، ومنهم الخوارج .
ومنهم من له رغبة في الحصول على منافع ومكاسب من معاوية ، ومنهم من يتّبع رئيس قبيلته أينما توجه دون تفريق بين الحقّ والباطل. وقد لعبت الأهواء والشهوات والمنافع الذاتيّة دوراً كبيراً في تبدّل النوايا عمّا كانت
عليه من قبل ، وقد وصف الإمام الحسن عليهالسلام
هذه الظاهرة قائلاً : « كنتم في مسيركم إلى صفّين ودينكم أمام دنياكم ، وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم » .
فحينما يصبح أمر الدنيا مقدَّماً على أمر الدين وحاكماً عليه : فإنّه يغيّر من
معادلة الصراع ومعادلة الموقف ، ويصبح المقاتل تبعا لمصالحه الذاتيّة التي تغيّر من ولائه ومواقفه العمليّة. فلم تبق إلاّ القلّة المخلصة في ولائها للإمام الحسن عليهالسلام ولنهجه السليم كحجر بن عدي وقيس بن سعد وآخرين ، حيث إنّ معركة صفّين قد أدّت إلى فقدان الكثير منهم ، إضافة إلى قيام معاوية بقتل الآخرين منهم كمحمّد بن أبي بكر ومالك الأشتر. ومن الطبيعي أن يفرز تعدّد الولاءات وتعدّد الآراء ـ زيادة على تقديم الدنيا على الدين ـ جملة من الظواهر السلبيّة ، كعدم الإخلاص في القتال ، وضعف القدرة على الثبات والصمود إلى آخر المعركة ، وعدم الانقياد للقيادة الصالحة.. وفي مقابل هذا التعاطف مع معاوية ، والاستعداد الفعلي للغدر والخيانة ، والتأثّر بالإشاعات والحرب النفسيّة. وقد تحقّق ذلك بالفعل بالالتحاق بجيش معاوية ، والاستعداد لتسليم الإمام عليهالسلام إليه ، زيادة على محاولات اغتياله عليهالسلام.
__________________
٤
ـ ظروف الإمام الحسن عليهالسلام :
وجد الإمام الحسن عليهالسلام نفسه أمام مرحلة
طويلة من الإعداد ، وإصلاح وترميم كثيرٍ من المواقع السياسيّة والعسكريّة ، وحتّى الاقتصاديّة والاجتماعية ، وهو يرى أنّه يقود جيشاً منهاراً عسكرياً ومعنوياً ، لا يمكن جعله منقاداً إلاّ باستخدام وسائل وأساليب كالّتي يستخدمها معاوية ، وهو عليهالسلام غير مستعدّ لاستخدام تلك الوسائل والأساليب غير المشروعة كالخداع والتضليل وشراء الضمائر بأموال المسلمين وإنفاقها على جماعة خاصّة كرؤساء القبائل وقادة الجيش ، فالإمام عليهالسلام
مقيدٌ بقيود شرعيّة حاكمة على جميع ممارساته ومواقفه. وليس هدفه البقاء في السلطة الآنيّة وإنّما هو جزء من حركة إصلاحيّة تنظر إلى الحاضر والمستقبل ، لكي تبقى المفاهيم والقيم الإسلامية هي الحاكمة على أفكار المسلمين وعواطفهم وممارساتهم العمليّة على طول الحركة التاريخيّة لهم. وكان عليهالسلام
حريصاً على المصلحة الإسلامية الكبرى ، ومصلحة أهل البيت عليهمالسلام وحيث وجد عليهالسلام
أنّه لا يستطيع ـ بحسب الظروف القائمة ـ أن يحسم الموقف لصالح الوجود الإسلامي ، ولا يستطيع القضاء على رأس الفتنة الّتي كان يقودها المجرم الطليق معاوية ، لذا أصبح أمام خيارين : إمّا الاستمرار في معركة خاسرة تؤدّي إلى إضعاف الكيان الإسلامي ككلّ أمام التحديات الخارجيّة ، أو الميل إلى الصلح وحقن الدماء ، والمحافظة على الوجود الإسلامي ثمّ ممارسة الإصلاح من الداخل. والخيار الأول يعني استيلاء معاوية على الحكم دون قيد أو شرط بعد مقتل الإمام الحسن عليهالسلام
وأهل بيته عليهمالسلام
والخيرة من أصحابه ، ومن هنا اختار عليهالسلام
الصلح على الاستمرار في المعركة ، مقيّدا بشروط فيها مصلحة الكيان الإسلامي وكيان الجماعة الصالحة التي تضمن للشريعة بقاءها واستمرار حياتها. فالصلح إذن جاء منسجماً مع تلك الظروف تماماً وإن حاول أنصار
الطلقاء تغييب هذه
الحقائق بشتى الأساليب كالكذب على رسول الله صلىاللهعليهوآله
بأنه قال بشأن الإمام الحسن عليهالسلام
: « إن ابني هذا سيد ولعل الله تبارك وتعالى أن يصلح به بين فئتين من المسلمين ». وهو خبر واحد لا يوجب علماً ولا عملاً تفرّد به الحسن البصري عن أبي بكرة ولم يروه أحد غيره
وأبو بكرة من المنافقين النواصب المنحرفين عن أمير المؤمنين علي عليهالسلام
، وكان ـ قبّحه الله ـ يحرّض الناس على عدم البيعة للإمام علي عليهالسلام
بعد هلاك عثمان .
أسباب
عدم اختيار موقف التضحية :
إنّ موقف الإمام الحسن عليهالسلام لابدّ وأن يكون
منسجماً مع الأهداف المرحليّة والبعيدة المدى لمنهج أهل البيت عليهمالسلام
ولحركة الإسلام العامّة ، لِتستتبعه نتائج إيجابيّة للمنهج والوجود الإسلامي معاً ، فاتخاذ الموقف بجميع ألوانه في سِلْمٍ أو تضحية مقيّد بقيود المصلحة الإسلاميّة العليا ، وتبعُ لها ، ومن هنا
اختار الإمام الحسن عليهالسلام
موقف التوقف عن القتال المؤدّي إلى التضحية للأسباب التالية :
أوّلاً :
إنّ معاوية أحكم خطته وأظهر نفسه بمظهر المسالم المحبّ للصلح ، وحقن الدماء ، وإعادة الأُلفة بين المسلمين ، وأراد أن يُلصق بالإمام الحسن عليهالسلام رغبته في القتال وإراقة الدماء ، وقد استطاع أن يُدخل في عقول المسلمين هذه المغالطات ، فلو لم يستجب الإمام الحسن عليهالسلام
للصلح لكان مخطّط معاوية سيجد له قبولاً ورواجاً ، وسيلقي المسلمون باللاّئمة على الإمام عليهالسلام وينسبون إليه حبّه للقتال وإراقة الدماء.
ثانياً :
إنّ الظروف الّتي كانت تحيط بالامام الحسن عليهالسلام
لم تكن في صالحه ، __________________
فإنّ استمرار القتال
سيؤدي إلى قتله من قِبَل عملاء معاوية المندسّين في جيشه ، وسيتنصّل معاوية من جريمة قتله. أو قد يؤدّي القتال إلى تسليم الإمام عليهالسلام إلى معاوية من قبل رؤساء بعض العشائر أو قادة الجيش ، وفي جميع التقادير سيكون معاوية هو الغالب ، كما ورد ذلك في قول الإمام عليهالسلام
: « يزعمون أنّهم لي شيعة ، ابتغوا قتلي وانتهبوا ثِقْلي وأخذوا مالي. والله لئن آخذ من معاوية عهداً أحقن به دمي وآمن به في أهلي خير من أن يقتلوني ، فيضيع أهل بيتي وأهلي. والله لو قاتلت معاوية ؛ لأخذوا بعنقي حتّى يدفعوني إليه سِلماً ، فوالله لئن اُسالمه وأنا
عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسيره ، أو يمنَّ عليَّ فتكون سُبّة على بني هاشم إلى آخر الدهر
» .
ثالثاً :
إنّ تضحية الإمام الحسن عليهالسلام
ستكون بلا صدى ؛ وذلك لقدرة معاوية على احتواء آثارها وتشويه أهدافها ما دام كثير من المسلمين لا يعي طبيعة الصراع ، ويسمع الإشاعات المستمرّة بأنّ الإمام الحسن عليهالسلام كان يقاتل من أجل السلطة ، أو بدوافع قبليّة موروثة في الصراع بين بني هاشم وبني أميّة.
رابعاً :
إنّ التضحية ستؤدّي إلى القضاء على الإمامين الحسن والحسين عليهماالسلام وبقيّة بني هاشم ، والصفوة الخيّرة الصالحة من أتباع أهل البيت عليهمالسلام ، وبالتالي ستخلو الساحة لمعاوية وأنصاره دون معارضين ودون غيورين ومصلحين ، وخلوّ الساحة يشجّع معاوية وأتباعه على قلب المفاهيم الإسلاميّة ، وتغيير القيم ، وإعادة الجاهليّة بلباس إسلامي جديد ، وهو ما فعله معاوية ومهّد له بعد الصلح إلى أن توج ذلك بمصرع سيد الشهداء الإمام الحسين عليهالسلام.
خامساً :
قلّة الأنصار المخلصين للإمام الحسن عليهالسلام.
وقد عبّر الإمام عليهالسلام
عن ذلك بقوله : « والله ما سلّمت الأمر إليه إلاّ أنّي لم أجد أنصاراً ، ولو وجدت
أنصاراً لقاتلته ليلي ونهاري » .
وقال عليهالسلام
في موقف آخر : « وقد خذلتني الأُمّة وبايعتك __________________
يا ابن حرب ، ولو
وجدت عليك أعوانا يخلصون ما بايعتك » .
شروط
الإمام عليهالسلام ووعود معاوية :
إن الصلح الذي قرّر الإمام عليهالسلام قبوله قد أحاطه
بشروطٍ تجعل الإمام عليهالسلام
في موقع القوّة دائماً ومعاوية في موقع الضعف على المدى القريب والبعيد ، سواء كان معاوية يفي بالشروط أو لا ، فإنّ عدم الوفاء بها يضمن للإمام عليهالسلام ولخطّ أهل البيت عليهمالسلام
نصراً على المدى البعيد لا محالة. وقد تعهد معاوية إلى الإمام الحسن عليهالسلام
بجملة من الأمور ، حيث كتب إليه : « إنّي صالحتك على أنّ لك الأمر من بعدي ولك عهد الله وميثاقه وذمّته ... لا أبغيك غائلة ولا مكروهاً ، وعلى أن أعطيك في كلّ سنة ألف ألف درهم من بيت المال ، وعلى أنّ لك خراج ( فسا ) و ( دار أبجرد ) تبعث إليها عمّالك ، وتصنع بهما ما بدا لك » .
وأمّا شروط الإمام الحسن عليهالسلام فهي : أن يعمل
معاوية بكتاب الله وسنّة رسوله صلىاللهعليهوآله
، وليس لمعاوية أن يعهد لأحدٍ من بعده عهداً ، والناس آمنون حيث كانوا في العراق والشام والحجاز وتهامة ، مع أمان شيعة وأصحاب علي عليهالسلام على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم ، وأن لا يبغي للحسن ولا لأحد من أهل بيته غائلة سرّاً وعلانيةً ، ولا يُخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق
، وأن لا يسميه الحسن عليهالسلام
بأمير المؤمنين ، وأن لا يقيم عنده شهادة ، ولا يتعقب معاوية على شيعة عليّ عليهالسلام
شيئاً ، وأن يفرق في أولاد من قُتل مع أبيه عليهالسلام
يوم الجمل وصفين ألف ألف درهم .
الدور
الايجابي للوعود والشروط :
إنّ الوعود والشروط الممضاة من قبل
الطرفين ، تفرض منطقياً على كلّ من __________________
يفاضل بين الحرب
والصلح ، أن يختار الصلح مع تلك الظروف والموازنة العسكريّة غير المتكافئة ، وإلاّ فإنّ معاوية سينال السلطة إمّا بانتصاره العسكري أو بقتل الإمام عليهالسلام
من قبل عملائه المندسين في جيش الإمام عليهالسلام
، وستؤول السلطة إليه دون شروط أو قيود تقيّده أمام المسلمين. بينما أخذ الإمام عليهالسلام
عهوداً ومواثيق مقرونة بأَيْمانٍ مغلّظة من قبل معاوية على أن يفي بها. فإن وفى بما تعهّد به ، فإنّ الأمر سيعود إلى الإمام من بعده ، وستكون لأتباع الإمام عليهالسلام
مطلق الحرّيّة في أداء دورهم الإصلاحي والتغييري. وإنّ شرط عدم تسميته بأمير المؤمنين يسلب عنه شرعيّة الخلافة وإمرة المؤمنين ، ويبقى مجرّد حاكمٍ أو ملك في أنظار المسلمين.
وإذا لم يفِ معاوية بالشروط فإنّ
الاُمّة ستنكشف لها حقيقة معاوية والحكم الأموي ، وأنّه مجرّد طالب سلطة منذ أوّل شعار أعلنه حين مطالبته بدم عثمان ، وبالتالي فإنّ الاُمّة ستشخص قادتها الحقيقيّين وهم أهل البيت عليهمالسلام وستعود إلى موالاتهم في الحاضر أو في المستقبل.
الصلح
ومراعاة المصلحة الإسلامية :
إنّ موقف الإمام المعصوم عليهالسلام تحدّده عدّة عوامل
، راعاها الإمام الحسن عليهالسلام
في صلحه ومن أهمّها :
١. شرعيّة الموقف والقرار :
وهذا الأمر بديهي في السيرة التاريخية لحركة الإسلام وقادته الصالحين ، فالشريعة هي الحاكمة على الموقف وهي التي تحدّده في جميع الظروف والأحوال ، فقد صالح رسول الله صلىاللهعليهوآله
قريشاً في الحديبيّة وهم كفّار ، وصالح اليهود والنصارى في أكثر من واقعة.
٢. الظروف : الظروف بنوعيها :
الايجابي والسلبي هي التي تحدّد الموقف وتكون حاكمة عليه ، وهذا واضح من خلال سيرة رسول الله صلىاللهعليهوآله وسيرة أمير المؤمنين عليهالسلام
، فرسول الله صلىاللهعليهوآله
لم يجاهد قريشاً في المرحلة المكّيّة لأنّ الظروف
لاتسمح بذلك ، وحينما
تغيّرت في المرحلة المدنيّة غيّر صلىاللهعليهوآله
موقفه واستمرّ في جهاده إلى أن انتصر على جميع قوى الشرك في المدينة والحجاز واليمن ، وكذلك أمير المؤمنين عليهالسلام
في سيرته مع من اغتصب حقّه وتقدم عليه بالباطل ، بل حتىٰ مع المتمرّدين عليه في خلافته.
٣. المصلحة الإسلاميّة :
من أساسيات المنهج الإسلامي أنّ لأي حكم شرعي مصلحة يتضمّنها ، فمن باب أولى أن يكون لأخطر موقف ـ وهو الصلح وفي تلك الظروف الحسّاسة ـ مصلحة على المدى القريب والبعيد ، فالصلح انطوى على عدّة مصالح آنيّة ومستقبليّة راعاها الإمام عليهالسلام قبل اتخاذه القرار
، بعضها متعلّق بالمصلحة العامّة للمسلمين ، والآخر متعلّق بمصلحة منهج أهل البيت عليهمالسلام
في حركته الواقعيّة في المسيرة التاريخيّة.
المبحث
الثاني / نتائج الصلح وآثاره
انكشاف
حقيقة معاوية والحكم الأموي :
في أجواء الكيد والدسّ ، والتربّص بقادة
الاُمّة الحقيقيّين ، وفي خضّم تزيين الضلال ، وتزييف الحقائق ، وإشاعة اللبس في الرؤية من قبل معاوية لإبقاء المسلمين بعيداً عن الوعي وإدراك الحقائق ؛ كان للصلح دوره الكبير في كشف حقيقة معاوية ونواياه الخفيّة ، فبعد أن استلم معاوية زمام الأمور استسلم لزهو الإنتصار ، ولم يتمالك نفسه حتّى كشف عن سريرته ومكنونات أهوائه ، ولم يلتفت إلى الآثار المترتّبة على هذا الكشف ، فأعلن لأهل العراق عن أهدافه الحقيقيّة وهي تتلخّص في الوصول إلى قمّة السلطة ، كما جاء ذلك في خطابه حين قال : « إنّي والله ما قاتلتكم لتصلّوا ، ولا لتصوموا ، ولا لتحجّوا ، ولا لتزكّوا
، إنّكم لتفعلون ذلك ، وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم » . وهذا التصريح قد
كشف عن __________________
الوجه الحقيقي
لمعاوية كشفاً لا يمكن بعد ذلك التستّر عليه بتزوير الأحاديث ، وتحريف الوقائع ، ولا تقوّل المبرّرات الموضوعة للتستّر عليه والّتي كان منها عدالة جميع الصحابة ، وغيرها من الفضائل الّتي أدلى بها الوضّاعون من رواة السلاطين كأبي هريرة وأمثاله. وانكشفت حقيقة معاوية أمام الأمويّين خصوصاً أمام عائلة عثمان ، إذ قد رفع معاوية شعار الطلب بدم عثمان وتمرّد على الإمامة الشرعيّة المنصوبة من قبل رسول الله صلىاللهعليهوآله
وبالبيعة من قبل أهل الحلّ والعقد ـ كما هو الرأي السائد آنذاك ـ وهو ما حصل في خلافة الإمام الحسن عليهالسلام بعد أن بايعه عامّة المهاجرين والأنصار ، فتخلّى معاوية عن شعاراته حين تمّ الصلح ، وترك متابعة قتلة عثمان ، وحينما دخل دار عثمان قالت عائشة بنت عثمان : وا أبتاه ، وبكت ، فأجابها معاوية : « يا ابنة أخي إنّ الناس أعطونا طاعة ، وأعطيناهم أماناً ... وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد ، ومع كلّ إنسان سيفه وهو يرى مكان أنصاره ، فإن نكثنا بهم نكثوا بنا ولا ندري أعلينا تكون أم لنا ؟ ولأن تكوني بنت عمّ أمير المؤمنين خير من أن تكوني امرأة من عرض المسلمين » .
لقد كشف معاوية عن نواياه في عدم الوفاء
بالعهود والمواثيق التي قطعها على نفسه وقال : « ألا أنّ كلّ شيء أعطيته للحسن بن عليّ تحت قدميّ هاتين لا أفي به » .
وكان لهذا التصريح دور واضح في تقييم الأشخاص والأحداث والمواقف من قبل عموم المسلمين ، حيث استطاعوا تشخيص القيادة الحقيقيّة عن القيادة المزيّفة ، وانكشفت لهم طبيعة الصراع القائم ، فهو ليس صراعاً بين قبيلتين أو شخصين ، وإنّما هو صراع بين منهجين : منهج الاستقامة الّذي يمثّله أهل البيت عليهمالسلام
ومنهج الانحراف والجاهليّة الّذي يمثّله الأمويّون. وكان هذا __________________
التصريح فرصة
للجماعة الصالحة لتبيان الحقائق وإقناع الاُمّة بمخطّطات معاوية التخريبيّة النابعة من أهوائه.
خصائص
معاوية الارهابية :
كان معاوية من أخبث الناس في زمانه ، يتظاهر
بالعفو والحِلم والسماحة ، ويتظاهر بحبّ السلام والأمان ، وكراهة إراقة الدماء ، فقد رفع المصاحف في صفّين ودعا إلى الصلح مبرّراً ذلك بحقن الدماء وهكذا فعل قبل الصلح ، إلاّ أنّه سرعان ما كشف القناع عن زيفه ، فبعد أن تمّ تسليم السلطة إليه بأيّام قلائل : نادى ـ وهو في المدائن ـ بأعلى صوته : « ألا إنّ ذمّة الله بريئة ممّن لم يخرج فيبايع ... ألا وإنّا قد أجّلنا ثلاثاً ، فمن لم يبايع فلا ذمّة له ولا أمان له
عندنا » .
فقد خالف معاوية أساسيات المنهج الإسلامي المتفق عليه بين عموم المسلمين وهو عدم الإكراه على البيعة ، وقد قامت سيرة رسول الله صلىاللهعليهوآله وسيرة أمير المؤمنين عليهالسلام
على ذلك ، فلم يكرهوا أحداً على البيعة لأنّها اختياريّة. بينما أعلن معاوية عن طبيعته الإرهابيّة في ملاحقة ومطاردة وقتل الرافضين لبيعته. ومن ذلك مواجهة عبدالله بن جعفر له في الشام وأمام المقربين له ؛ حيث خاطبه قائلاً : « ما يجهل موضع الصفوة إلاّ أهل الجفوة ،
وإنّك لتعرف وشائظ قريش وصبوة غرائزها ، فلا يدعونك تصويب ما فرط من خطئك في سفك دماء المسلمين ومحاربة أمير المؤمنين إلى التمادي فيما قد وضح لك الصواب في خلافه ، فاقصد لمنهج الحقّ ، فقد طال عماك عن سبيل الرشد ، وضبطك في بحور ظلمة الغيّ » .
رقابة
الإمام الحسن عليهالسلام لممارسات معاوية :
كان الإمام الحسن عليهالسلام يراقب تصرفات
معاوية ويكشف للملأ عن __________________
انحرافاته عن المنهج
الإسلامي في أفكاره وممارساته. فقد قام خطيباً عليهالسلام
ـ ومعاوية جالس ـ فقال : « أيّها الناس إنّ معاوية بن صخر زعم : إنّي رأيته للخلافة أهلاً ، ولم أر نفسي لها أهلاً ، فكذب معاوية ، وأيم الله لأنا أولى
بالناس في كتاب الله وعلى لسان رسول الله صلىاللهعليهوآله
، غير إنّا لم نزل أهل البيت مخيفين مظلومين مضطهدين منذ قبض رسول الله صلىاللهعليهوآله
فالله بيننا وبين من ظلمنا حقّنا » . وفي هذا الخطاب بيّن الإمام عليهالسلام
إحدى الحقائق الأساسية ، وهي تقمّص معاوية ومن بسط يده من نيل ذلك للخلافة زوراً ، مع تكذيب مدعياته ، وأكّد على إمامة أهل البيت عليهمالسلام
ونفي الشرعية عن حكم معاوية فلم يخاطبه إلاّ باسمه. وقال عليهالسلام ذات يوم لمعاوية : « أما الخليفة فمن سار بسيرة رسول الله صلىاللهعليهوآله وعمل بطاعة الله عزّوجلّ ، ليس الخليفة من سار بالجور وعطّل السنن واتخذ الدنيا أمّاً وأباً ، ولكن
ذلك أمرَ ملْكٍ أصابَ مَلِكاً ، فتمتع به قليلاً ، وكان قد انقطع عنه وضم لذته ، وبقيت
عليه تبعته ، وكان كما قال الله تبارك وتعالى : (
وَإِنْ
أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ )
، وأومأ بيده إلى معاوية ، ثم قام عليهالسلام
فانصرف » .
فقد استثمر الإمام عليهالسلام الفرصة المتاحة له
في مواجهة ممارسات معاوية الخاطئة ، وكشفها أمام الملأ من أتباعه وأتباع معاوية ؛ ووضّح من خلال ذلك الكثير من المفاهيم والقيم الإسلامية السليمة لكي لا يقوى معاوية على طمسها أو تزييف مداليلها ، فقد ميّز عليهالسلام
بين منهجين سياسيين منهج الحق الذي يتبناه أهل البيت عليهمالسلام
، ومنهج الباطل الذي اتبعه بنو أمية ومن وافقهم.
المبحث
الثالث / الإمام الحسن عليهالسلام من الصلح حتى
الشهادة
أخرج الحافظ ابن عقدة أنّ الحسن بن علي عليهماالسلام لمّا أجمع على صلح
معاوية __________________
قام خطيباً وحمدالله
وأثنى عليه وذكر جدّه المصطفى صلىاللهعليهوآله
بالرسالة والنبوة ثم قال : « إنّا أهل بيت أكرمنا الله بالإسلام
واختارنا واصطفانا وأذهب عنّا الرجس وطهّرنا تطهيراً ، لم تفترق الناس فرقتين إلاّ جعلنا الله في خيرهما من آدم إلى جدّي محمد صلىاللهعليهوآله
، فلمّا بعث الله محمداً للنبوة واختاره للرسالة وأنزل عليه كتابه ثم أمره بالدعاء إلى الله عزّوجلّ فكان أبي أوّل من استجاب لله ولرسوله ، وأوّل من آمن وصدّق الله ورسوله صلىاللهعليهوآله
وقد قال في كتابه المنزل على نبيّة المرسل : ( أَفَمَن
كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ
)
فجدّي الذي على بيّنة من ربّه وأبي الذي يتلوه وهو شاهد منه. وقد سمعت هذه الاُمّة جدي صلىاللهعليهوآله
يقول : ما ولّت أمة أمرها رجلاً وفيهم من هو أعلم منه إلاّ لم يزل يذهب أمرهم سفالاً حتى يرجعوا إلى ما تركوه. وسمعوه يقول لأبي : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي. وقد رأوه وسمعوه حين أخذ بيد أبي بغدير خم وقال لهم : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللّهم وال من والاه وعاد من عاده ، ثمّ أمرهم أن يبلّغ الشاهد
الغايب » .
وخطب عليهالسلام
قبل دخول معاوية الكوفة فقال : « أيّها الناس ، إنّما نحن أمراؤكم وضيفانكم ، ونحن أهل بيت نبيّكم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً » ، وكرّر ذلك حتى أبكى الجميع . وفي هذين الخطابين
تركيز على جملة من المفاهيم والتصورات العقائدية ومن جملتها : فضائل ومقامات الإمام علي عليهالسلام
، والنص على إمامته وخلافته ، وإمامة أهل البيت عليهمالسلام
، وعصمتهم ، ومصير الأمة عند تولّي غير الأعلم عليها.
وبعد أن تمّ الصلح عقد اجتماع موسع حضره
الإمام عليهالسلام
ومعاوية وأتباعهما ، وتبادل الإمام ومعاوية الخطب التي تعبر عن منهج كلّ منهما.
__________________
فقد بين الإمام عليهالسلام دور أهل البيت عليهمالسلام في إمامة وخلافة
الأمّة ، ووجوب طاعتهم ، ومما جاء في خطابه : « نحن حزب الله المفلحون وعترة رسول الله صلىاللهعليهوآله الأقربون ، وأهل بيته الطاهرون الطيبون ، وأحد الثقلين اللذين خلّفهما رسول الله صلىاللهعليهوآله
... فإنّ طاعتنا مفروضة ، إذ كانت بطاعة الله والرسول وأولي الأمر مقرونة » .
وبيّن عليهالسلام
فضائل أهل البيت عليهمالسلام
في هداية الناس واخراجهم من الضلالة إلى النور ، ودورهم في حقن دمائهم ، وأكّد على المواثيق المأخوذة على معاوية في إقامة العدل وتحسين الأوضاع المعيشية ، وممّا قاله : « أيّها الناس إنّ
الله هداكم بأولنا ، وحقن دماءكم بآخرنا ، وإنّي قد أخذت لكم على معاوية أن يعدل فيكم وأن يوفّر عليكم غنائمكم ، وأن يقسم فيكم فيأكم » ، ثم أقبل على معاوية ، فقال : أكذاك ؟ قال : نعم .
وروىٰ حبيب بن ثابت ، قائلاً : « خطب معاوية بالكوفة حين دخلها ، والحسن والحسين عليهماالسلام
جالسان تحت المنبر ، فذكر علياً عليهالسلام
فنال منه ، ثم نال من الحسن ... ثم قام الحسن عليهالسلام
فقال : أيّها الذاكر علياً ، أنا الحسن وأبي عليّ ، وأنت معاوية وأبوك صخر ، وأمّي فاطمة وأمّك هند ، وجدّي رسول الله وجدّك عتبة بن ربيعة ، وجدّتي خديجة وجدّتك قتيلة ، فلعن الله أخملنا ذكرا وألأمنا
حسباً ، وشرّنا قديماً وحديثاً ، وأقدمنا كفراً ونفاقاً ، فقال طوائف من أهل
المسجد : آمين » .
ونحن نقول : آمين ثم آمين ثم آمين ثم آمين.
وروى أبو الحسن المدائني قال : « سأل
معاوية الحسن بن علي بعد الصلح أن يخطب فامتنع ، فناشده أن يفعل ، فوضع له كرسي فجلس عليه ثم قال : الحمد لله الذي توحد في ملكه ، وتفرّد في ربوبيته ، يؤتي الملك من يشاء وينزعه عمّن يشاء ، والحمد لله الذي أكرم بنا مؤمنكم ، وأخرج من الشرك أولكم وحقن دماء __________________
آخركم ، فبلاؤنا
عندكم قديماً وحديثاً أحسن البلاء ، إن شكرتم أو كفرتم. أيها الناس ، إنّ ربّ عليّ كان أعلم بعليّ حين قبضه إليه ، ولقد اختصه بفضل لم تعتادوا مثله ، ولم تجدوا مثل سابقته ... وأيم الله لا ترى أمة محمد خفضاً ما كانت سادتهم وقادتهم في بني أميّة ... » .
عدم
الاعتراف بشرعية سلطة معاوية :
لم يعترف الإمام الحسن عليهالسلام بشرعية سلطة معاوية
في جميع المواقف ، فكان يسمّيه باسمه دون اضافة أي لقب إليه لئلا يضفي عليه أيّة صفة شرعية ، ولم يستطع معاوية اجباره على تسميته بالأمير أو الخليفة ، وكان الإمام عليهالسلام لايستجيب لأوامر معاوية ، فقد أراد منه أن يتولى قتال الخوارج من أجل اشغال المعارضة له بعضها بالبعض الآخر ، فأجابه الإمام عليهالسلام
: « والله لقد كففت عنك لحقن دماء المسلمين ، وما أحسب ذلك يسعني ؛ أفأقاتل عنك قوماً أنت والله أولى بالقتال منهم » .
وجاء في رواية أخرى أنّه عليهالسلام
قال : « لو آثرت أن أقاتل أحداً من أهل القبلة لبدأت بقتالك فإنّي تركتك لصلاح الأمة وحقن دمائها » .
والدرس المستفاد من موقف الإمام عليهالسلام
هو عدم شرعية حكومة معاوية وعدم شرعية الأوامر الصادرة منه ، اضافة إلى أولوية مجاهدة الحكومة الجائرة ـ عند توفر القدرة ـ قبل مجاهدة الفئات الضالة التي لا سلطان لها.
رفض
مصاهرة الامويين وتبيان حقيقة الصراع :
رام معاوية مصاهرة بني هاشم ، وكتب
لعامله مروان أن يخطب زينب بنت عبدالله بن جعفر ليزيد لعنه الله على حكم أبيها في الصداق وقضاء دينه ، وعلى صلح بني هاشم وبني أمية ، فأجاب عبدُالله مرواناً بأنّ الأمر بيد الحسن عليهالسلام ، __________________
فجمع مروان
الهاشميين والأمويين وخطب من الإمام عليهالسلام
، فأجابه الإمام عليهالسلام
: « أمّا ما ذكرت من حكم أبيها في الصداق ، فإنّا
لم نكن لنرغب عن سنّة رسول الله صلىاللهعليهوآله
في أهله وبناته ، وأمّا قضاء دين أبيها ، فمتى قضت نساؤنا ديون آبائهنّ ؟ وأمّا صلح الحيين ، فانّا عاديناكم لله وفي الله فلا نصالحكم للدنيا » .
فقد رفض الإمام عليهالسلام
توثيق العلاقة مع الأمويين ، وبين أنّ حقيقة الصراع هو الصراع بين منهجين ومسيرتين ؛ صراع بين الحقّ والباطل وبين الكفر والإيمان ، وبين الاستقامة والانحراف ، وبين الفضيلة والرذيلة ، وبين العدل والظلم ، وهو صراع في جميع مقومات الشخصية الانسانية ؛ صراع الفكر والعاطفة والسلوك ، فلا دور للقيم المادية في ازالة هذا الصراع واعادة الأمور إلى التوافق ؛ لأنّه ليس
صراعاً على مال أو منصب أو شيء من حطام الدنيا ، بل هو صراع بين منهجين متناقضين في قربهما وبعدهما عن القرآن الكريم والسنة النبوية.
فضح
النظام الأموي :
كانت لقاءات الإمام الحسن عليهالسلام مع رؤوس النظام
الأموي على هيئة مناظرات ، استطاع الإمام عليهالسلام
من خلالها فضح رأس النظام الأموي معاوية وأتباعه وتبيان فضائل ومقامات الإمام علي عليهالسلام
، ففي أول مناظرة بينهما افتخر معاوية عليه فأجابه عليهالسلام
: « هيهات لشرّ ما علوت يابن آكلة الأكباد ؛ المجتمعون عليك رجلان : بين مطيع ومكره ، فالطائع لك عاص لله ، والمكره معذور بكتاب الله ، وحاشا لله أن أقول أنا خير منك ، لأنّك لا خير فيك ، فإنّ الله قد برأني من
الرذائل كما برّأك من الفضائل » .
وفي مناظرة أخرى قال عليهالسلام
: « أما بعد يا معاوية ، فما هؤلاء شتموني ولكنك شتمتني ، فحشاً ألفته وسوء رأي عرضت به ، وخلقاً سيئاً ثبتَ عليه ، وبغياً علينا ؛ عداوة منك لمحمد وأهله ، ولكن اسمع يا معاوية ، واسمعوا فلأقولنّ __________________
فيك وفيهم ما هو دون
ما فيكم. أنشدكم الله أيها الرهط أتعلمون أنّ الذي شتمتموه منذ اليوم ، صلّى القبلتين كليهما ، وأنت يا معاوية بهما كافر تراها ضلالة ، وتعبد
اللات والعزى غواية. وأنشدكم الله هل تعلمون أنّه بايع البيعتين كليهما بيعة الرضوان وبيعة الفتح ، وأنت يا معاوية باحداهما كافر وبالاخرى ناكث. وأنشدكم الله هل تعلمون أنّه أوّل الناس ايماناً ، وإنّك يا معاوية وأباك من المؤلفة قلوبهم
تسرّون الكفر وتظهرون الإسلام وتستمالون بالأموال. وأنشدك الله يا معاوية أتذكر يوماً جاء أبوك على جمل أحمر ، وأنت تسوقه وأخوك عتبة يقوده ، فرآكم رسول الله صلىاللهعليهوآله فقال : « اللهم العن الراكب والقائد والسائق ». أتنسى يا معاوية الشعر الذي كتبته
إلى أبيك لمّا همّ أن يُسلم ؛ تنهاه عن ذلك :
يا صخر لاتسلمِنْ يوماً فتفضحنا
|
|
بعد الذين ببدرٍ أصبحوا فرقا
|
خالي وعمّي وعمّ الأم ثالثهم
|
|
وحنظل الخير قد أهدى لنا الأرقا
|
والله لما أخفيت من أمرك أكبر ممّا
أبديت ». ثمّ بيّن مساوئ بطانة معاوية : عمرو بن العاص ، والوليد بن عتبة ، وعتبة بن أبي سفيان ، والمغيرة بن شعبة ، وبعد انتهاء اللقاء قال معاوية : « قد أنبأتكم أنّه ممن لاتطاق عارضته ، ونهيتكم أن تسبوه فعصيتموني ، والله ما قام حتى أظلم عليّ البيت ، قوموا عنّي ، فلقد فضحكم الله وأخزاكم بترككم الحزم » . وهنالك مناظرات
عديدة انعقدت في المدينة والشام بيّن فيها الإمام الحسن عليهالسلام
فضائل ومقامات أهل البيت عليهمالسلام
ومساوئ معاوية ودوره في مواجهة الحقّ ومؤامراته على رسول الله صلىاللهعليهوآله وعلى أمير المؤمنين عليهالسلام
؛ وكان معاوية في جميعها مستسلماً للأمر الواقع لأنّه يخشى من حركة الإمام عليهالسلام
ومن حركة أنصاره.
وقد شجعت مواقف الإمام الحسن عليهالسلام غيره على تحدّي
معاوية ، فقد تحدّاه عبدالله بن عباس وعبدالله بن جعفر وعبدالله بن الزبير ، وأبو الأسود الدؤلي __________________
وآخرون ، وروي أنّه «
دخل عليه سعد بن مالك ، فقال : السلام عليك أيّها الملك ، فغضب معاوية ، فقال : ألا قلت السلام عليك يا أميرالمؤمنين ؟ قال : ذاك إن كنّا أمّرناك إنّما أنت منتزٍ » .
وفي مجالات الفخر كان الإمام عليهالسلام
يفتخر على معاوية أو يرد عليه مفتخراً ، ويربط هذا الافتخار بمجالاته العقائدية والسياسية والأخلاقية ، فهو ليس افتخار شخصي أو قبلي بل افتخار عقائدي لتبيان منهجين وسيرتين ، فقد روي « أن معاوية فخر يوماً فقال : أنا ابن بطحاء مكة ، أنا ابن أغرزها جوداً وأكرمها جدوداً ، أنا ابن من ساد قريشاً فضلاً ناشئاً وكهلاً. فقال الحسن بن علي عليهماالسلام
: أعليّ تفخر يا معاوية ، أنا ابن عروق الثرى ، أنا ابن مأوى التقى ، أنا ابن من جاء بالهدى ، أنا ابن من ساد أهل الدنيا بالفضل السابق والحسب الفائق أنا ابن من طاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله ، فهل لك أب كأبي تباهيني به ؟ وقديم كقديمي تساميني به ؟ تقول نعم أو لا ؟ قال معاوية : بل أقول : لا ، وهي لك تصديق » .
الاعداد
الفكري والسلوكي للطليعة المؤمنة :
أدّى الإمام عليهالسلام مسؤوليته في إعداد
أصحابه إعداداً فكرياً وسلوكياً ليساهموا في أداء المسؤولية في تقرير مفاهيم وقيم أهل البيت عليهمالسلام في واقع الحياة ، وبذل الجهد لحماية العقيدة وصيانة الأخلاق في الشعور وفي الممارسات العملية ، وكان يدعو أصحابه وسائر الناس إلى جعل المفاهيم والقيم الإسلامية ميزاناً ومعياراً لتقييم الأمور ، وكان يدعو للسير على منهج القرآن الكريم ومنهج رسول الله صلىاللهعليهوآله.
ففي مجال الالتزام بمفاهيم القرآن الكريم قال عليهالسلام
: « أيّها الناس إنّه من نصح لله وأخذ قوله دليلاً هدي للتي هي أقوم ووفقه الله للرشاد وسدّده للحسنى ؛ فإنّ جار الله محفوظ وعدوّه خائف مخذول ، فاحترسوا من الله بكثرة __________________
الذكر ، واخشوا الله
بالتقوى ، وتقربوا إلى الله بالطاعة » . وفيما يلي نستعرض المفاهيم والقيم والموازين التي حثّ الإمام الحسن عليهالسلام
على إدراكها واستشعارها في الفكر والعاطفة والسلوك وجعلها حقيقة سلوكية تمارس في الواقع.
١ ـ تقوى الله والخروج من الفتن :
قال عليهالسلام
: « اتقوا الله عباد الله واعلموا انّه من يتق الله يجعل له مخرجامن الفتن ، ويسدده في أمره ، ويهيء له رشده ويفلجه بحجته ».
٢ ـ التشاور :
قال عليهالسلام
: « ما تشاور قوم إلاّ هدوا إلى رشدهم ».
٣ ـ الاختلاف إلى المسجد :
قال عليهالسلام
: « من أدام الاختلاف إلى المسجد أصاب إحدى ثمان : آية محكمة وأخاً مستفاداً وعلماً مستطرفاً ورحمة منتظرة ، وكلمة تدله على الهدى أو ترده عن ردى ، وترك الذنوب حياءً أو خشية » .
٤ ـ السياسة :
قال عليهالسلام
: « السياسة هي أن ترعى حقوق الله ، وحقوق الأحياء ، وحقوق الأموات ، فأمّا حقوق الله : فأداء ما طلب ، والاجتناب عمّا نهى ، وأمّا
حقوق الأحياء : فهي أن تقوم بواجبك نحو إخوانك ، ولا تتأخر عن خدمة امتك ، وأن تخلص لولي الأمر ما أخلص لأمته ، وأن ترفع عقيرتك في وجهه إذا ما حاد عن الطريق السوي ، وأمّا حقوق الأموات : فهي أن تذكر خيراتهم ، وتتغاضى عن مساوئهم ؛ فإنّ لهم ربّاً يحاسبهم » .
٥ ـ ايجابيات التقية :
قال عليهالسلام
: « إنّ التقية يصلح الله بها أمة ، لصاحبها مثل ثواب أعمالهم ، وتركها ربما أهلك أمة ، تاركها شريك في إهلاكهم وإنّ معرفة حقوق الاخوان تحبب إلى الرحمن ، وتعظّم الزلفى عند الملك الديّان ، وإن ترك قضائها يمقت إلى الرحمن ، ويصغّر الرتبة عند الكريم المنّان » .
٦ ـ مكارم الاخلاق :
قال عليهالسلام
: « مكارم الأخلاق عشر : صدق اللسان ، وصدق __________________
البأس ، وإعطاء
السائل ، وحسن الخلق ، والمكافأة بالصنائع ، وصلة الرحم ، والتذمم للجار ، ومعرفة الحقّ للصاحب ، وقري الضيف ، ورأسهنّ الحياء ». وقيل له : من أحسن الناس عيشاً ؟ قال عليهالسلام
: « من أشرك الناس في عيشه » ، وقيل : من شرّ الناس عيشاً ؟ قال عليهالسلام
: « من لا يعيش في عيشه أحد » وقال عليهالسلام : « أحسن الحسن الخلق الحسن » .
٧ ـ أخلاق المؤمنين :
قال عليهالسلام
: « إنّ من أخلاق المؤمنين : قوة في دين ، وكرماً في لين ، وحزماً في علم ، وعلماً في حلم ، وتوسعة في نفقة ، وقصداً في عبادة ، وتحرجاً في طمع ، وبراً في استقامة ، لا يحيف على من يبغض ، ولا يأثم فيمن يحبّ ، ولا يدّعي ما ليس له ، ولا يجحد حقاً هو عليه ، ولا يهمز ولا يلمز ، ولا
يبغي ، متخشع في الصلاة ، متوسع في الزكاة ، شكور في الرخاء ، صابر عند البلاء ، قانع بالذي له ، لا يطمح به الغيظ ، ولا يجمح به الشح ، يخالط الناس ليعلم ، ويسكت
ليسلم ، ويصبر أن بغي عليه ليكون الهه الذي يجزيه ينتقم له » .
٨ ـ العقل :
قال عليهالسلام
: « لا أدب لمن لا عقل له ، ولا مروة لمن لا همة له ، ولا حياء لمن لا دين له ، ورأس العقل معاشرة الناس بالجميل ، وبالعقل تدرك الدارين جميعاً ، ومن حرم العقل حرمهما جميعاً » .
٩ ـ العلاقات الاجتماعية :
قال عليهالسلام
: « أحسن جوار من جاورك تكن مسلماً ، وصاحب الناس بمثل ما تحبّ أن يصاحبوك بمثله تكن عادلاً » .
وقال عليهالسلام
: « هلاك الناس في ثلاث : الكبر والحرص
والحسد » .
وقال عليهالسلام
: « المعروف ما لم __________________
يتقدّمه مطل ولا
يتبعه منّ ، والاعطاء قبل السؤال من أكبر السؤدد ». وقال عليهالسلام : « المزاح يأكل هيبة ، وقد أكثر من الهيبة
الصّامت » .
١٠ ـ التشيّع مسؤولية :
قال له رجل : أنا من شيعتكم ، فقال عليهالسلام
: « يا عبدالله إن كنت لنا في أوامرنا وزواجرنا مطيعاً فقد صدقت ، وإن كنت بخلاف ذلك فلا تزد في ذنوبك بدعواك مرتبة شريفة لست من أهلها ، لا تقل لنا : أنا من شيعتكم ، ولكن قل : أنا من مواليكم ومحبيكم ، ومعادي أعدائكم ، وأنت في خير وإلى خير » .
وكان عليهالسلام
يصحح الأفكار والمفاهيم الصادرة من بعض الصحابة ليبيّن الرأي الأكثر صواباً والأكثر انسجاماً مع ثوابت الايمان والاعتقاد. قيل له عليهالسلام : إنّ أباذر كان يقول : « الفقر أحبّ إليّ من الغنى ، والسقم أحبّ إليّ من الصحة ». فقال عليهالسلام : « رحم الله أباذر ، أمّا أنا فأقول : من
إتكل على حسن اختيار الله لم يتمنّ أنّه في غير الحالة التي اختارها الله له » .
١١ ـ الرواية عن رسول الله صلىاللهعليهوآله :
وفي هذا الصدد رويت عنه عليهالسلام
أحاديث في أبواب مختلفة ؛ في الفضائل ، وفي الأخلاق ، وفي الفقه ، كما هو مدوّن في كتب الحديث ودعا عليهالسلام
بنيه وبني أخيه ، فقال : « يا بنيّ وبني أخي ، إنّكم صغار قوم يوشك أن تكونوا كبار آخرين ، فتعلّموا العلم ، فمن لم يستطع منكم أن يرويه أو يحفظه فليكتبه وليضعه في بيته » . ولم يتوقف عن
إعداد المصلحين والمبلّغين والدعاة إلى الإسلام وإلى منهج أهل البيت عليهمالسلام
حتى في أحرج الظروف الصحية ، فقد كان يحث الآخرين على سؤاله والاستفسار منه وهو في فراش الموت وفي أيامه الأخيرة عند ما سقي السقم. عن عمير بن إسحاق قال : « دخلت أنا ورجل على الحسن بن علي نعوده ، فقال : يا فلان سلني ، قال : لا والله لا نسألك
__________________
حتى يعافيك الله ثم
نسألك ، ثم دخل ثم خرج إلينا ، فقال : سلني قبل أن لا تسألني ، فقال : بل يعافيك الله ثم أسألك ، قال : لقد ألقيت طائفة من كبدي وأنّي سقيت السمّ
مراراً فلم أسق مثل هذه المرة ، ثم دخلت عليه من الغد وهو يجود بنفسه » .
١٢
ـ الموعظة والنصيحة :
وفي هذا أحاديث كثيرة منها : دخل جنادة
بن أبي أمية على الإمام الحسن عليهالسلام
في مرضه الذي تُوفي فيه ، فقال : « عظني يابن رسول الله ، قال : نعم استعد لسفرك وحصل زادك قبل حلول أجلك ، واعلم أنك تطلب الدنيا والموت يطلبك ، ولا تحمل همّ يومك الذي لم يأت على يومك الذي أنت فيه ، واعلم أنك لا تكسب من المال شيئاً فوق قوتك إلاّ كنت فيه خازنا لغيرك ، واعلم أنّ الدنيا في حلالها حساب وفي حرامها عقاب وفي الشبهات عتاب ، فانزل الدنيا بمنزلة الميتة خذ منها ما يكفيك فإن كان حلالاً كنت قد زهدت فيها ، وإن كان حراماً لم يكن في وزر فأخذت منه كما أخذت من الميتة ، وإن كان العتاب فالعتاب يسير ، واعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً ، وإذا أردت عزّاً بلا عشيرة وهيبة بلاسلطان فاخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعة الله عزّوجلّ ، وإذا نازعتك إلى صحبة الرجال حاجة فاصحب من إذا صحبته زانك وإذا خدمته صانك وإذا أردت معونة أعانك وإن قلت صدق قولك وإن صلت شدّ صولك وإن مددت يدك بفضل مدها وإن بدت منك ثلمة سدها وإن رأى منك حسنة عدها وإن سألته أعطاك وإن سكت عنه ابتداك وإن نزلت بك إحدى الملمات واساك من لا تأتيك منه البوائق ولا تختلق عليك منه الطرائق ولا يخذلك عند الحقائق وإن تنازعتما منقسماً آثرك » .
١٣ ـ بيان حقيقة معاوية وخبثه :
عن الأسود بن قيس العبدي قال : « لقي الحسن بن علي يوماً حبيب بن مسلمة ، فقال له : يا حبيب ربّ مسير لك في غير __________________
طاعة الله ، فقال : أمّا
مسيري إلى أبيك فليس من ذلك ، قال : بلى ، ولكنك أطعت معاوية على دنيا قليلة زائلة ، فلئن كان قام بك في دنياك لقد قعد بك في دينك ، ولو
كنت إذ فعلت شراً قلت خيراً كان ذاك كما قال الله تبارك وتعالى : ( خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا ) ، ولكنّك كما قال
جلّ ثناؤه : ( كَلَّا
بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) ».
ومن خبث معاوية أنه قال يوماً في مجلسه
: « إذا لم يكن الهاشمي سخياً لم يشبه حسبه ، وإذا لم يكن الزبيري شجاعاً لم يشبه حسبه ، وإذا لم يكن المخزومي تائهاً لم
يشبه حسبه ، وإذا لم يكن الأموي حليماً لم يشبه حسبه ». فبلغ ذلك ـ الإمام ـ الحسن بن علي عليهماالسلام
فقال : « والله ما أراد الحقّ ، ولكنّه أراد أن يغري بني هاشم بالسخاء فيفنوا أموالهم ويحتاجوا إليه ، ويغري آل الزبير بالشجاعة فيفنوا بالقتل ، ويغري بني مخزوم بالتيه فيبغضهم الناس ، ويغري بني أمية بالحلم فيحبهم الناس » .
غدر
معاوية واغتيال الإمام الحسن عليهالسلام :
أيقن معاوية أنّ بقاء الإمام الحسن عليهالسلام حيّاً يشكّل تهديداً
واضحاً لنظامه القائم على أساس الخداع والتضليل وتزوير الحقائق وشراء الضمائر ، لأنه عليهالسلام الخليفة الحق والأعلم والأتقى والقمة في جميع مقوّمات الشخصية الانسانية ، وزيادة على مؤهلاته الذاتية فإنّه يتمتع بفضائل ومقامات وردت في القرآن الكريم وأحاديث رسول الله صلىاللهعليهوآله
، وفي مقابل ذلك يبقى معاوية باغياً طليقاً مبتزّاً متسلطاً غاصباً للسلطة والحكومة لا يملك أي مؤهلات سوى الخداع والتضليل وشراء الضمائر كمقوّمات لبقائه في السلطة ، وهو لا يستطيع الاستمرار في التسلط وممارسة الانحرافات المخالفة للكتاب والسنة ، وتحويل الخلافة إلى ملكٍ __________________
عضوض وسلطان يتوارثه بنو أمية مادام
الإمام الحسن عليهالسلام
حياً ؛ ولهذا فكّر في التخلّص من الإمام عليهالسلام
فقتله بالسمّ. قال قتادة وأبوبكر بن حفص : « سُمَّ الحسن ابن علي ، سمّته امرأته بنت الأشعث بن قيس الكندي ، وقالت طائفة كان ذلك منها بتدسيس معاوية إليها وما بذل لها في ذلك » .
ولما مات ورد البريد بموته على معاوية ، فقال : « يا عجباً من الحسن شرب شربة من عسل بماء رومة فقضى نحبه » .
وفي رواية عن الإمام الحسن عليهالسلام
قال : « لقد رقي إليّ أنّه كتب إلى ملك الروم يسأله أن يوجّه إليه من السمّ القتال بشربة ، فكتب إليه ملك الروم : أنّه لا
يصلح لنا في ديننا أن نعين على قتال من لا يقاتلنا. فكتب إليه : إنّ هذا ابن الرجل
الذي خرج بأرض تهامة قد خرج يطلب ملك أبيه ، وأنا أريد أن أدّس إليه من يسقيه ذلك ، فاريح العباد والبلاد منه ، ووجّه إليه بهدايا وألطاف ، فوجّه إليه
ملك الروم بهذه الشربة التي دسّ بها فسقيتها » . وعملية السم ليست عملية حقد شخصي أو ناجمة عن خلافات عشائرية أو قبلية ، بل هي تآمر سافر على مستقبل الرسالة الإسلامية ، فهي ليست قتل لشخص فحسب ، بل هي قتل للمفاهيم والقيم التي أراد الإمام عليهالسلام
لها أن تكون الحاكمة على الدولة والمجتمع الإسلامي. وكان الإمام الحسن عليهالسلام
يقول : « قد سقيت السمّ مراراً ، فلم أسق مثل هذا » .
وقال الشعبي : « إنّما دسّ إليها معاوية ، فقال : سمّي الحسن وأزوّجك يزيد وأعطيك مائة ألف درهم ، فلمّا مات الحسن بعثت إلى معاوية تطلب انجاز الوعد ، فبعث إليها بالمال ، وقال : إنّي أحبّ يزيد وأرجو حياته لولا ذلك لزوجتك إيّاه » .
واتفق المؤرخون على أنّ الإمام عليهالسلام
اُستشهد بالسمّ ، وإنّ __________________
معاوية اللعين ابن
اللعين هو الذي دسّ إليه السُّمَّ فقتله .
وقد أوصى الإمام الحسن لأخيه الإمام
الحسين عليهماالسلام
قائلاً : « هذا ما أوصى به الحسن بن علي إلى أخيه الحسين ، أوصى أنّه يشهد أنّ لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأنّه يعبده حقّ عبادته لا شريك له في الملك ، ولا ولي له من الذل ، وأنّه
خلق كل شيء فقدره تقديراً ، وأنّه أولى من عُبِد ، وأحقّ من حُمِد ، من أطاعه رشد
، ومن عصاه غوى ، ومن ناب إليه اهتدى ، فإنّي أوصيك يا حسين بمن خلفت من أهلي وولدي وأهل بيتك أن تصفح عن مسيئهم ، وتقبل من محسنهم ، وتكون لهم خلفاً ووالداً ، وأن تدفنني مع رسول الله صلىاللهعليهوآله
فإنّي أحقّ به وببيته ، فإنّ أبوا عليك فانشدك الله وبالقرابة التي قرب الله منك والرحم الماسة من رسول الله صلىاللهعليهوآله أن لا يهراق من أمري محجمة دم حتى تلقى رسول الله فتخصمهم وتخبره بما كان من أمر الناس إلينا » .
« ثمّ وصى إليه بأهله وولده وتركاته ، وما كان وصى به إليه أمير المؤمنين عليهالسلام
حين استخلفه وأهله بمقامه ودلّ شيعته على استخلافه ، ونصب لهم علماً من بعده » .
ثم طلب عليهالسلام
أخاه محمّد بن الحنفية ليعلمه بإمامة الحسين عليهالسلام
قائلاً لقنبر : « ادع لي محمد بن عليّ ، فلمّا دخل وسلّم
قال له الإمام عليهالسلام
: اجلس فإنّه ليس مثلك يغيب عن سماع كلام يحيى به الأموات ويموت به الاحياء ، كونوا اوعية العلم ومصابيح الهدى ؛ فإنّ ضوء النهار بعضه أضوء من بعض. أما علمت أنّ الله جعل ولد إبراهيم عليهالسلام
أئمة ، وفضّل بعضهم على بعض وآتى داود عليهالسلام
زبوراً وقد علمت بما استأثر به محمد صلىاللهعليهوآله.
يا محمد بن عليّ إنّي أخاف عليك الحسد ، وإنّما وصف الله به الكافرين ، فقال الله عزّوجلّ : (
كُفَّارًا
حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ
__________________
لَهُمُ الْحَقُّ
)
، ولم يجعل الله عز وجلّ للشيطان عليك سلطاناً. يا محمد ألا أخبرك بما سمعت من أبيك فيك ؟ سمعت أباك عليهالسلام
يقول يوم البصرة : من أحبّ أن يبرّني في الدنيا والآخرة فليبرّ محمداً ولدي ... يا محمد بن عليّ أما علمت أنّ الحسين بن
علي بعد وفاة نفسي ومفارقة روحي جسمي ؛ إمام من بعدي وعند الله جلّ اسمه في الكتاب ، وراثة من النبي صلىاللهعليهوآله
أضافها الله عزّوجلّ له في وراثة أبيه وأمّه ، فعلم الله أنكم خيرة خلقه ، فاصطفى منكم محمداً صلىاللهعليهوآله
واختار محمد علياً عليهالسلام
واختارني عليّ عليهالسلام
بالامامة ، واخترت أنا الحسين عليهالسلام
». فقال له محمد : « أنت إمام وأنت وسيلتي إلى محمد صلىاللهعليهوآله
... الحسين أعلمنا علما وأثقلنا حلماً ، وأقربنا من رسول الله صلىاللهعليهوآله
رحماً ، كان فقيهاً قبل أن يخلق ، وقرأ الوحي قبل أن ينطق ، ولو علم الله في أحد خيراً ما اصطفى محمداً صلىاللهعليهوآله
، فلما اختار الله محمداً ، واختار محمد علياً ، واختارك عليّ اماماً ، واخترت الحسين ؛ سلّمنا ورضينا » .
ولما دنى أجله عليهالسلام ، قال لأخيه الإمام
الحسين عليهالسلام
: « يا أخي إنّ هذه آخر ثلاث مرار سقيت فيها السمّ ، ولم أسقه مثل مرّتي هذه ، وأنا ميت من يومي ، فإذا
أنا متّ فادفني مع رسول الله صلىاللهعليهوآله
، فما أحد أولى بقربه منّي ، إلاّ أن تمنع من ذلك فلا تسفك فيه محجمة دم ».
ولما اُستشهد عليهالسلام أخرج الإمام الحسين
عليهالسلام
نعشه يُراد به قبر رسول الله صلىاللهعليهوآله
، فركب مروان بن الحكم ، وسعيد بن العاص ، فمنعا من ذلك ، حتى كادت أن تقع فتنة ، وكانت عائشة قد ركبت في ذلك اليوم بغلة شهباء ، وقالت : بيتي لا آذن فيه لأحد ، فأتاها القاسم بن محمد بن أبي بكر ، فقال لها : يا عمّة ما
غسلنا رؤوسنا من يوم الجمل الأحمر ، أتريدين أن يقال يوم البغلة الشهباء ؟ فرجعت. واجتمع مع الحسين بن علي عليهماالسلام
جماعة وخلق من الناس ، فقالوا له : __________________
دعنا وآل مروان ،
فوالله ما هم عندنا كأكلة رأسٍ ، فقال : إنّ أخي أوصاني أن لا أريق فيه محجمة دم ، فدفن عليهالسلام
في البقيع .
وكان عدد المشيعين كبيراً جداً ، فقد روي عن ثعلبة بن مالك أنّه قال : « شهدت الحسن يوم مات ودفن في البقيع ، فرأيت البقيع ولو طرحت فيه ابرة ما وقعت إلاّ على رأس انسان » .
واختلف في سنة شهادته ، فقيل سنة ٤٩ ه ، وقيل سنة ٥٠ ه .
وحينما وصل الخبر إلى معاوية كبّر في جمع من أهل الشام ، وقال : « والله ما كبّرت شماتة ، ولكن استراح قلبي وصفت لي الخلافة » .
وبعد شهادته نقض معاوية بقية العهود والمواثيق ، وازداد البلاء فلم يبقَ أحد من اتباعه إلاّ وهو خائف على دمه ، أو طريد في الأرض .
وسلام على السبط الحسن الزكي المُمتحَن
يوم
وُلد ويوم استُشهد ويوم يُبعث مع الشهداء حيّاً
وسيعلم
الذين ظلموا آل محمد صلىاللهعليهوآله حقهم أيَّ منقلبٍ
ينقلبون
__________________
الفهرست
كلمة
المركز .............................................................................................................. ٥
المقدِّمة
................................................................................................................... ٧
الفصل
الأوّل : الإمام الحسن عليهالسلام في عهد رسول الله صلىاللهعليهوآله ...................................................................... ٩
التقدير والتكريم والاهتمام ................................................................................................ ٩
الحُبّ ............................................................................................................... ١٢
المناغاة والتربية البدنية .................................................................................................. ١٣
التربية والتعليم ........................................................................................................ ١٤
حضور الإمام الحسن عليهالسلام بيعة الرضوان ................................................................................. ١٧
شهادة الإمام الحسن عليهالسلام على كتاب ثقيف ............................................................................... ١٨
موقف الإمام الحسن عليهالسلام من أبي سفيان ................................................................................. ٢٠
فضائل الإمام الحسن عليهالسلام وإمامته ....................................................................................... ٢٠
أولاً : من القرآن الكريم ................................................................................................ ٢٠
ثانياً : من السنّة النبوية ................................................................................................. ٢٦
الفصل
الثاني : الإمام الحسن عليهالسلام في عهد الثلاثة ............................................................................. ٣١
موقف الإمام الحسن عليهالسلام من أبي بكر .................................................................................... ٣٢
الإمام الحسن عليهالسلام وفدك .............................................................................................. ٣٣
الإجابة على الأسئلة الفقهية ............................................................................................ ٣٥
أذان بلال ............................................................................................................ ٣٦
الإمام الحسن عليهالسلام في عهد عمر بن
الخطّاب .............................................................................. ٣٦
التفاني من أجل الإسلام ................................................................................................ ٣٨
عطاء الإمام الحسن عليهالسلام .............................................................................................. ٣٩
دخول الإمام الحسن عليهالسلام في الشورى .................................................................................... ٤٠
الإمام الحسن عليهالسلام في عهد عثمان بن
عفّان ............................................................................... ٤١
اعتراف عثمان بمؤهّلات الإمام الحسن عليهالسلام ............................................................................... ٤١
تحدي الإمام الحسن عليهالسلام عثمان في توديع أبي
ذر ........................................................................... ٤٢
موقف الإمام الحسن عليهالسلام من حصار عثمان .............................................................................. ٤٣
الفصل
الثالث : الإمام الحسن عليهالسلام في عهد أمير
المؤمنين عليهالسلام .................................................................. ٤٥
الإمام الحسن عليهالسلام في معركة الجمل ..................................................................................... ٤٥
خطاب الإمام الحسن عليهالسلام في معركة الجمل .............................................................................. ٤٧
الإمام الحسن عليهالسلام في معركة صفّين ..................................................................................... ٤٨
الإمام الحسن عليهالسلام ومقتل عمّار بن
ياسر .................................................................................. ٥٠
الحرص على سلامة الإمام الحسن عليهالسلام ................................................................................... ٥٠
الإمام الحسن عليهالسلام والتحكيم ........................................................................................... ٥١
وصية أمير المؤمنين للإمام الحسن عليهماالسلام عند انصرافه من
صفين ............................................................... ٥١
آخر وصايا أمير المؤمنين عليهالسلام .......................................................................................... ٥٢
إمامة الإمام الحسن عليهالسلام في كلمات ووصايا
أمير المؤمنين عليهالسلام .............................................................. ٥٣
عهد أمير المؤمنين عليهالسلام بالامامة لابنه
الحسن عليهالسلام .......................................................................... ٥٦
الفصل
الرابع : خصائص الإمام الحسن عليهالسلام القيادية .......................................................................... ٥٧
١ ـ العصمة ........................................................................................................ ٥٨
٢ ـ العلم ........................................................................................................... ٥٨
٣ ـ الارتباط بالله تعالى ................................................................................................ ٥٩
٤ ـ الكرم .......................................................................................................... ٦١
٥ ـ البلاغة والفصاحة ................................................................................................ ٦٣
٦ ـ الهيبة ........................................................................................................... ٦٥
٧ ـ الشجاعة ....................................................................................................... ٦٦
٨ ـ التواضع ........................................................................................................ ٦٨
٩ ـ الحلم واستيعاب المخالفين ......................................................................................... ٦٨
١٠ ـ الرفق والمداراة .................................................................................................. ٦٩
طائفة من الأقوال بحق الإمام الحسن عليهالسلام ................................................................................ ٧٠
الفصل
الخامس : خلافة الإمام الحسن عليهالسلام .................................................................................. ٧٣
المبحث
الأوّل : المبايعة للإمام الحسن عليهالسلام بالخلافة ............................................................................ ٧٣
دعوة معاوية للطاعة ................................................................................................... ٧٥
مؤامرات معاوية ...................................................................................................... ٧٨
توالي الخيانات في جيش الإمام عليهالسلام ..................................................................................... ٧٩
توالي الاشاعات والحرب النفسية ........................................................................................ ٧٩
مراسلة معاوية للإمام عليهالسلام ودعوته لتسليم
السلطة إليه ...................................................................... ٨٠
ظروف الصلح البعيدة والقريبة .......................................................................................... ٨١
١ ـ ظروف الحكم الأموي ............................................................................................ ٨١
٢ ـ ظروف العهد العلوي ............................................................................................. ٨٢
٣ ـ ظروف وأوضاع جيش الإمام الحسن عليهالسلام .......................................................................... ٨٣
٤ ـ ظروف الإمام الحسن عليهالسلام ....................................................................................... ٨٥
أسباب عدم اختيار موقف التضحية ...................................................................................... ٨٦
شروط الإمام عليهالسلام ووعود معاوية ....................................................................................... ٨٨
الدور الايجابي للوعود والشروط ......................................................................................... ٨٨
الصلح ومراعاة المصلحة الإسلامية ....................................................................................... ٨٩
١. شرعيّة الموقف والقرار .............................................................................................. ٨٩
٢. الظروف ......................................................................................................... ٨٩
٣. المصلحة الإسلاميّة ................................................................................................. ٩٠
المبحث
الثاني : نتائج الصلح وآثاره ......................................................................................... ٩٠
انكشاف حقيقة معاوية والحكم الأموي .................................................................................. ٩٠
خصائص معاوية الارهابية .............................................................................................. ٩٢
رقابة الإمام الحسن عليهالسلام لممارسات معاوية
الباغي .......................................................................... ٩٢
المبحث الثالث : الإمام الحسن عليهالسلام من الصلح حتى
الشهادة ................................................................. ٩٣
عدم الاعتراف بشرعية سلطة معاوية ..................................................................................... ٩٦
رفض مصاهرة الامويين وتبيان حقيقة
الصراع ............................................................................. ٩٦
فضح النظام الأموي ................................................................................................... ٩٧
الاعداد الفكري والسلوكي للطليعة
المؤمنة ................................................................................ ٩٩
١ ـ تقوى الله والخروج من الفتن ..................................................................................... ١٠٠
٢ ـ الاختلاف إلى المسجد ........................................................................................... ١٠٠
٣ ـ التشاور ....................................................................................................... ١٠٠
٤ ـ السياسة ....................................................................................................... ١٠٠
٥ ـ ايجابيات التقية .................................................................................................. ١٠٠
٦ ـ مكارم الاخلاق ................................................................................................ ١٠٠
٧ ـ أخلاق المؤمنين ................................................................................................. ١٠١
٨ ـ العقل ......................................................................................................... ١٠١
٩ ـ العلاقات الاجتماعية ............................................................................................ ١٠١
١٠ ـ التشيّع مسؤولية ............................................................................................... ١٠٢
١١ ـ الرواية عن رسول الله صلىاللهعليهوآله .................................................................................... ١٠٢
١٢ ـ الموعظة والنصيحة ............................................................................................. ١٠٣
١٣ ـ بيان حقيقة معاوية وخبثه ...................................................................................... ١٠٣
غدر معاوية واغتيال الإمام الحسن عليهالسلام ................................................................................ ١٠٤
الفهرست
............................................................................................................. ١٠٩
|