

بسم الله الرحمٰن الرحيم
الحمد
لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وعلى اله الطاهرين ، وصحبه المنتجبين ومن تبعهم باحسان إلى يوم الدين .
وبعد
. كنا قد قدمنا للقراء الكرام الحلقة الأولى من « سلسلة الأركان الأربعة » والتي تناولت حياة الصحابي الجليل « أبو ذر الغفاري » رضي الله عنه حيث نالت استحساناً نمّ عنه سرعة نفاذ النسخ في خلال أشهر مما شجعنا على متابعة السير في خطىً حثيثة والإسراع في اخراج باقي الحلقات بالشكل اللائق .
والآن
نقدم للقراء الكرام الحلقة الثانية وهي تتناول حياة الصحابي الجليل سلمان الفارسي رضي الله عنه أحد الأركان الأربعة ، وسابق فارس نحو الإسلام ، آملين من الله سبحانه أن يوفقنا لإتمام باقي الحلقات ، وأن يأخذ بيد المسلمين كافة إلى ما فيه الخير والصلاح .
ولا
يفوتنا القول بأن الدار قد حرصت كل الحرص على اخراج هذا الكتاب بالشكل اللائق المناسب إيماناً منها بضرورة الإخلاص في العمل والتسهيل على القراء الكرام ، والله حسبنا ونعم الوكيل .
|
قالَ عليٌ " عليه السلام " : « السبّاق خمسَة فأنا سَابق العربْ وسَلمان سَابق فارس وصهيبْ سَابق الرّوم وبلال سَابق الحَبش وَخبابْ سَابق النبْط »
الخصَال " ٣١٢ "
|
|
بين يدي القارىء
على
مقربة من بغداد صوب الشرق ، تلوح للناظر من بعيد بلدة صغيرة تدعى « المدائن » يلتقي فيها شاهدان . شاهد كسرى وشاهد سلمان .
أما
شاهد كسرى ، فذلك الطاق المحدودب الهرم الذي يحكي قصة جبروت صانعيه ، والذي بقي أثراً من الإيوان الشهير الذي أقامه كسرى أنوشروان ليصبح فيما بعد مقراً للأكاسرة حيث كانوا يطلقون عليه إسم « القصر الأبيض » وكانوا يديرون من بين أروقته حكم ثالث إمبراطورية في العالم القديم ، لم يبق منه اليوم سوى هذا الطاق . وهو إن دل على شيء فانما يدل على شموخ الإسلام وعظمته حيث إستطاع أن يقضي على مظاهر الأباطرة والآكاسرة بفترة وجيزة من أيام حكمه .
وأما
شاهد سلمان ، فضريح ومزار وقبة ومئذنتان ينطلق منهما صوت الحق عالياً مدوياً كل يوم يحكي قصة الإيمان والتضحية والشرف . وهناك تحت تلك القبة الشامخة يتمدد جسد ذلك الصحابي العظيم « سلمان سابق فارس نحو الإيمان » والذي ستبقى روحه الزكية مناراً يشع عبر العصور باسمى معاني النبل والوفاء للإسلام العظيم ولرسالته الخالدة ، كما ستظل سيرته مؤشراً يلوح للمسلمين بأن يوحدوا خطاهم على درب الله .
ان
من عظيم الحكمة وبديع التدبير أن يهيء الله سبحانه أفراداً من أمم شتى وقوميات مختلفة يساهمون في دعم دينه وهو بعد لم يزل في طور نشأته
ونموه
، فكان منهم العربي والفارسي والرومي والحبشي والنبطي وكانوا كلهم سواء في ساحته يجسدون عنوان وحدته وشموله ويمثل هو عنوان وحدتهم وقوتهم دون أن يكون لإختلاف الدم أو العنصر أي تأثير .
ولقد
كان للمبادرين الأول في هذا المضمار ميزة خاصة من بين سائر المسلمين مكنتهم من إحتلال الصدارة في التأريخ الإسلامي ، وأعطتهم لقب السبّاق نحو الإسلام وكان من بينهم صاحبنا سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه .
قال
علي عليه السلام : السُبّاق خمسة ، فأنا سابقُ العربْ ، وسلمان سابقُ فارس وصهيبُ سابق الروم ، وبلال سابقُ الحبشة ، وخبّابُ سابقُ النبط » .
لقد
استطاع هؤلاء النفر أن يجسدوا نظرية الإسلام حول التفاضل بين بني الإنسان ، هذه النظرية التي تقوم على أساس التقوى ، تقوى الله سبحانه واطاعته والسير على منهاجه الذي إرتضاه ، كما هو صريح التعبير القرآني . قال تعالى :
« يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ
شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ » . ٤٩ ـ ١٣
فكانوا
أوضح مصداق لهذا المضمون بفضل سلوكهم الصحيح المتسم بالإخلاص والجدية والتفاني في سبيل الله ورفع كلمته ، وبهذا صار كل واحد منهم سابق أمته باستحقاق وجدارة .
ومن
ثم ، فقد شن الإسلام حرباً شاملةً في وجه العصبيات بشكل عام ، وكافح دعاتها ، فالعصبية ـ عنصريةً كانت أو عرقيةً أو قبلية ـ لا ترتبط بأي مبدإٍ ذي قيمةٍ من الوجهة الأخلاقية ، ولا تخضع لأي منطق عقلي ، بل الحكم فيها يرجع إلى العاطفة وحدها ، لأن العصبية لا تعدو كونها ثورةً عاطفية تنتاب الفرد أزاء قرابته أو قبيلته أو بني قومه ، دون أن يكون للعدل فيها دور ، لذا فان الإسلام قد دعا إلى قلب هذه العقلية التي يتسّم بها المجتمع الإنساني بشكل عام وتوجيهها بطريقة إنعاكسية نحو الإيمان بالله سبحانه ، فهو
أداة
الربط بين المؤمنين يجمع شتاتهم ، ويشد عزائمهم ، ويوحد صفوفهم ، وهو أيضاً الوسيلة الناجعة للوصول إلى درب الخلاص ، ومن ثم النهوض بالإنسانية إلى أرقى وأسمى القيم التي تنشدها على هذه الأرض ، الإيمان بالله ، ورسله ، وكتبه ، واليوم الآخر بكل ما انطوت عليه هذه الكلمات من مضامين عالية نبيلة تتهافت عندها جميع الحواجز المادية التي تلف حياة الإنسان ، كما تتلاقى في ساحتها جميع القلوب الخيرة المفتوحة لا فرق في ذلك بين الإنسان الأبيض والأحمر والأسود والأصفر والقريب والبعيد . قال سبحانه وتعالى :
« لَّا تَجِدُ قَوْمًا
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَٰئِكَ
كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ
حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ » . ٥٨ ـ ٢٢
ولقد
كان صاحبنا « سلمان الفارسي » رضي الله عنه أحد المجسدين لهذا الشعار القرآني بعزم وإرادة وتصميم يفوق حد الوصف ، جسده في بداية إيمانه حين هجر أهله ووطنه في سبيل الوصول إلى منابع الإيمان ـ كما ستقرأ ـ ضارباً عرض الحائط كل تفاهات المجوسية واساطيرها دون تردد أو وجل . وجسده بعد إسلامه حين غزا المسلمون أرض فارس سنة ١٥ للهجرة وأطاحوا بآكاسرتها وأساورتها حيث كان هذا الرجل العظيم « داعية المسلمين ورائدهم » في تلك الوقعة ـ على حد تعبير ابن الأثير ـ فكان يدعو قومه إلى الإسلام ، يدعوهم كما كان النبي صلى الله عليه وآله يدعوهم ، فان أبوا ناجزهم ونهدَ إليهم .
إن
قصة إسلام هذا الصحابي الجليل فريدة من نوعها في عالم التدين ـ حسبما أعلم ـ اللهم عدا ما يختص بالأنبياء والرسل وأوصيائهم ، فهي لا تخلو من مآثر وكرامات وخوارق تتصل كلها بعالم التدين وما يربط بين الأديان جميعاً ، بل هي في ذاتها حافز للمؤمنين يمدهم بمزيدٍ من الثبات والثقة ، وهي
أيضاً
بقدر كونها وثيقة تأريخية تثبت آصالة الأديان السماوية ، تؤكد ـ وبكل وضوح ـ كون الإسلام هو خاتمة تلك الأديان .
« إِنَّ الدِّينَ
عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا
مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ » . ٣ ـ ١٩
فأنت
حين تقرأ سلمان في هذا الكتاب ، ستجد نفسك وجهاً لوجه أمام انسان وقف كل حياته لأجل أن يحظى بنصيب أكبر من عالم الروح والإيمان ، وحين تتعمق في قرائته أكثر ، ستدرك ولا شك أن هذا الانسان المثل كان فريداً من نوعه ، وفي أبناء جنسه وفي مسلكه وفي عمق إدراكه ، حتى ليخيّل إليك أن كان أمةً في جانب ، والناس في جانب ، وستلمس أن هذا الإنسان الذي بدأت حياته بالغرائب والعجائب ، انتهت حياته كذلك .
إنه
الرجل الذي استطاع ان يمثل أمةً بأكملها دون أن يستطيع أَحد تمثيله ـ إلا ما يعلم الله ـ لا أقول هذا جزافاً أو إعجاباً ، بل أقوله للحق ، وللحق وحده ، فلقد كنت ألوم بعض الذين كتبو عن « سلمان » وأمعنوا في سرد كراماته ومآثره ، بل كنت أعتبر ذلك غلواً منهم وتطرفاً دافعهما الحب والإخلاص ، لكنني حين تأملت ما كتبه المؤرخون حوله ، وجدت أن الأمر كما قالوا ، وأن الصورة التي رسمت له هي الصورة الصحيحة .
رحم
الله سلمان ، هلالاً أطل من سماء فارس ليشرق بدراً في دنيا الإسلام .
بسم الله الرحمن الرحيم
« واصـْبِرْ نفسـَك
معَ الـذِينَ يـَدعُونَ رَبَّـهُم بالغـَدَاةِ والعشي ـ يُرِيدُونَ وجهَهُ وَلا تَعدُو عيناكَ عَنهُم تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدنيا ولا تُطِـع مَن أغفلنَا قلبَهُ عَن ذِكـرِنَا وإتَّبَـعَ هـَواهُ وَكـَانَ أَمـرُهُ فـُرُطـَا » الكهف ـ ٢٨
نزلت
في سلمان
سلمانُ مِنَّا أهل البيت . لو كَانَ الدينُ في الثُريَّا لنالَهُ سلمان .
سلمانُ يُبْعَثُ أُمةً ، لقد أُشبعَ مِنَ العِلْمِ .
الرسول
الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم
سلمان : إمروءٌ مِنَّا وإلَيْنَا أهلَ البيْتْ ، مَنْ لَكُمْ
بِمثْلِ لُقْمانَ الحَكِيمْ ، عَلِمَ العِلْمَ الأولْ والعِلْمَ الآخِر ، وقرأَ الكِتَابَ الأوَلْ والكِتَابَ الآخِرْ ، وكَانَ بَحْراً لا يُنْزَف .
أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

سلمان والمجوسية
قال
سلمان رضي الله عنه وأرضاه :
«
كنت ابن دهقان قرية جي من أصبهان ، وبلغ من حب أبي لي أن حبسني في البيت كما تحبس الجارية فاجتهدت في المجوسية حتى صرت قطن بيت النار . . » .
الذي
يبدو من هذا النص أن سلمان اعتنق المجوسية في بادىء أمره عندما كان يعيش في ظل أبويه شأن أي إنسان يعتنق دين آبائه وأجداده حين لا يجد مندوحةً عن ذلك وحين يفتقد المرشد والموجّه ويعيش بعيداً عن آفاق المعرفة . ومع هذا فان ذلك لا يمكن جعله خدشةً في نقاء الذات التي كان يحملها سلمان ولا وصمةً في طهرها ، سيما بعد أن يتضح لنا أن إرتباطه بالمجوسية كان شكلياً صورياً غير مستند إلى شيءٍ من قناعاته كما سيأتي .
وقبل
البحث في هذه الناحية لا بد لنا من المرور في تأريخ « المجوسية » بشكل عابر وسريع نظراً لارتباط سلمان بها تأريخياً ، ومن ثم إيقاف القارىء على حقيقتها ، إذ أن للمجوسية في أذهاننا صورة لم تشأ الذاكرة أن تحتفظ منها بأكثر من « بيوت النيران » وتقديس المجوس أو عبادتهم لها حيث لم
__________________
يوفروا
لأنفسهم من هذا الدين سوى طابع الوثنية وتأطيرهم أنفسهم به عبر العصور ، إذن طبيعة البحث تتطلب منا معرفة : ما هي المجوسية ؟
المعروف
عن المجوس أنهم المؤمنون بزرادشت ، وكتابهم المقدس ( أوستا ) غير أن تاريخ حياته وزمان ظهوره مبهم جداً كالمنقطع خبره ، وقد افتقدوا الكتاب باستيلاء الإسكندر على إيران ، ثم جددت كتابته في زمن ملوك ساسان ، فأشكل بذلك الحصول على حاق مذهبهم .
والمسلّم
أنهم يثبتون لتدبير العالم مبدأين ، مبدأ الخير ومبدأ الشر « يزدان وأهريمن » أو « النور والظلمة » ويقدسون الملائكة ويتقربون إليهم من غير أن يتخذوا لهم أصناماً كما يفعل الوثنيون ، وهم يقدسون البسائط العنصرية وخاصةً النار ، وكانت لهم بيوت نيران بإيران ، والصين ، والهند ، وغيرها ، وينهون الجميع إلى « أهورا مزدا » موجد الكل . »
هل هم أصحاب كتاب ؟
والجواب
عن هذا السؤال تتكفل به الكتب الفقهية لما يحمل من أهمية تتصل ببعض الأحكام الشرعية المترتبة على ذلك نفياً أو إثباتاً .
فالمقصود
بأهل الكتاب ، هم الأمة أو الفئة الخارجة عن الشريعة الإسلامية ، لكنها تعتنق شريعةً معينة تسندها إلى الخالق سبحانه بواسطة النبي المرسل إليها ، وهؤلاء منهم من له كتاب محقق كاليهود والنصارى فان التوراة والإنجيل كتابان سماويان بلا شبهة . ومنهم من له شبهة كتاب ، كالمجوس .
ولا
يبعد أن المراد بالكتب الكتب المنزلة على أولياء العزم وهم : نوح ، وابراهيم ، وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم ، والذي بقي منها إنما هو التوراة والإنجيل لا غير ، فاختص اتباعهما باسم « أهل الكتاب » في القرآن الكريم ، ولم يثبت أن الإنجيل لم تكن له نسخة في زمن نزول القرآن غير هذه
__________________
النسخ
الأربع التي هي ليست منه في خلٍ ولا خمر ، لأنها وضعت من جماعة بعد صعود المسيح عليه السلام بمدد طويلة .
فإنجيل
« مرقس » كتب بعد سبعين عاماً من صعود المسيح إلى السماء ، وانجيل « متى » كتب في أوائل القرن الأول من صعوده ، وانجيل « لوقا » كتب في أوائل القرن الثاني وهكذا انجيل « يوحنا » وهي تنقض بعضها بعضاً في نسب المسيح وغيره .
أما
المجوس ، فالذي يظهر من كلام الشهرستاني أن كتابهم هو : صحف ابراهيم عليه السلام ، لكن تلك الصحف قد رفعت لأحداثٍ أحدثوها . .
والأخبار
الواردة في كتب الفقه تؤكد على أنهم من أهل الكتاب ، لكنها لا تشير إلى رفعه عنهم . فمن ذلك :
ما
رواه الشافعي باسناده ، أن فروة بن نوفل الأسجعي قال : على ما تؤخذ الجزية من المجوس ، وليسوا بأهل كتاب ؟
فقام
إليه المستورد ، فأخذ بتلبيبه فقال : عدو الله ، أتطعن في أبي بكر وعمر وعلي أمير المؤمنين « عليه السلام » وقد أخذوا منهم الجزية ، فذهب به إلى القصر فخرج علي عليه السلام ، فجلسوا في ظل القصر ، فقال : أنا أعلم الناس بالمجوس ، كان لهم علم يعلمونه ، وكتاب يدرسونه .
ومنه
: ما رواه أحمد بن عبد الله بن يونس عن سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة : أن علياً عليه السلام قال على المنبر « سلوني قبل أن تفقدوني » فقام إليه الأشعث فقال : يا أمير المؤمنين ، كيف تؤخذ الجزية من المجوس ، ولم ينزل عليهم كتاب ، ولم يبعث اليهم نبي ؟ .
__________________
فقال
: بلى يا أشعث ، قد أنزل الله عليهم كتاباً ، وبعث إليهم نبياً . .
ومنه
: صحيحة أو موثقة سماعة بن مهران عن أبي عبد الله عليه السلام قال : بعث النبي صلى الله عليه وآله خالد بن الوليد إلى البحرين فأصاب بها دماء قوم من اليهود والنصارى والمجوس ، فكتب إلى النبي صلى الله عليه وآله اني قد أصبت دماء قوم من اليهود والنصارى فوديتهم ثمانمائة درهم ثمانمائة ، وأصبت دماء قوم من المجوس ولم تكن عهدت إلي فيهم عهداً .
فكتب
إليه رسول الله صلى الله عليه وآله : إن ديتهم مثل دية اليهود والنصارى ، وقال : إنهم أهل الكتاب . إلى غير ذلك من النصوص .
واضع شريعة المجوس
الذي
يظهر من أقوال المؤرخين أن واضع شريعتهم هو زرادشت الحكيم ، وأنه كان موحداً كما يستفاد ذلك من مجموع ما نقل من آرائه الفلسفية ، قال ابن الأثير :
«
وشرح زرادشت كتابه وسماه « زند » ومعناه التفسير ، ثم شرح الزند بكتاب سماه « بازند » يعني تفسير التفسير وفيه علوم مختلفة كالرياضيات وأحكام النجوم والطب وغير ذلك من أخبار القرون الماضية وكتب الأنبياء . . الخ »
والذي يقوى عندي ـ بعد ملاحظة النصوص ـ أن زرادشت ليس هو واضع شريعتهم ، بل هو مجدد لها ومبين للكتاب الحقيقي الذي رفع عنهم .
__________________
مذاهبهم
ويبدو
أن الفرق المجوسية تنوف على أربع عشر فرقة ، منها : « الثنوية » « والمانوية » و « الزرادشتية » و « والكيومثرية » و « الزروانية » و « المسخية » و « الديصانية » . وغيرها .
هل اعتنق سلمان المجوسية . . ؟
إلا
أنه من المقطوع به عندي أن سلمان لم يعتنق المجوسية حتى في صباه ، بل كان موحداً لله سبحانه ، نعم حكمت عليه بيئته التي عاش فيها أن يرتبط بالمجوسية ارتباطاً شكلياً ، كما ورد ذلك في الأحاديث المأثورة عن النبي الكريم وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين .
من
ذلك ما رواه الصدوق عن ابن نباتة عن علي عليه السلام حديث جاء فيه : « حضرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسلمان بين يديه فدخل أعرابي فنحاه عن مكانه وجلس فيه ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى در العرق بين عينيه واحمرتا عيناه ثم قال : يا أعرابي أتنحي رجلاً يحبه الله تبارك وتعالى في السماء ويحبه رسوله في الأرض . . إلى أن قال : إن سلمان ما كان مجوسياً ، ولكنه كان مظهراً للشرك مبطناً للإيمان . »
وفي حديث الإمام الصادق عليه السلام
«
إن سلمان كان عبداً صالحاً حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين . »
قال
الصدوق : إن سلمان ما سجد قط لمطلع الشمس ، إنما كان يسجد لله عز
__________________
وجل
، وكانت القبلة التي أمر بالصلاة إليها شرقيةً ، وكان أبواه يظننان أنه إنما يسجد للشمس كهيئتهم . »
أجل
، إن من يتتبع قصة إيمان هذا الرجل يلمس فيها شواهد على ذلك ، لقد خيل لي وأنا أكتب عن هجرته من فارس أن هذه الآية كانت تعج في أعماق نفسه : «
قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ
لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ » الأنعام ـ ٧٩
__________________
الهجرةُ إلى الله
« وَقَالَ إِنِّي
مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ »
٢٩ ـ ٢٦

كان
إسمه « روزبة » وسماه رسول الله صلى الله عليه وآله سلمان
، وكان اسم أبيه « خشفوذان » . وكان هذا الأخير من دهاقين فارس ـ
وقيل من أساورتها
ـ . له إمرة على بعض الفلاحين من أبناء أصفهان وكان واسع الحال يملك بعض المزارع شأن غيره من الطبقة الوسطى في المجتمع الفارسي آنذاك وكانت لولده سلمان مكانة خاصة في نفسه جعلته يستأثر بالنصيب الأكبر من إهتماماته ، فهو لا يكلفه بأي عمل شاق شأنه في ذلك شأن بقية المترفين في معاملة أبنائهم .
وفي
ذات يوم كان خشفوذان مشغولاً ببناءٍ في داره فطلب من ولده أن يذهب إلى مزرعةٍ له ليشرف على سير عمل الفلاحين فيها عن كثب وطلب منه أن لا يتأخر في العودة إليه ، قائلاً له : « ولا تحتبس ، فتشغلني عن كل ضيعةٍ بهمي بك . . »
يقول
سلمان : « فخرجت لذلك ، فمررت بكنيسة النصارى وهم يصلون ، فملت إليهم وأعجبني أمرهم ، وقلت : والله هذا خير من ديننا ، فأقمت عندهم
__________________
حتى
غابت الشمس ، لا أنا أتيت الضيعة ، ولا رجعت إليه . . ! »
لوحة
رائعة يرسمها لنا سلمان وهو يسرد قصة إسلامه ، حيث يجسد لنا فيها كيف كانت بداية هجرته نحو الإيمان . . الإيمان بالله وحده ، بعزم وتصميم وإرادة قوية لا يقف دونها حاجز ولا تتحكم فيها عاطفة ، وكيف إختار لنفسه موقفاً مميزاً جعله فيما بعد من جملة عظماء البشر الذين يزين بهم التاريخ الإنساني
صفحاته ، فكان بذلك « سابق فارس » ورائدها وداعيها إلى الله .
لقد
كانت نفسه التواقة إلى المعرفة تدفعه نحو تخطي الحواجز التي عاش بين قضبانها في ظل أبٍ جمد عقله على طقوس المجوسية دون أن تحرك آيات المبدع سبحانه في نفسه أي تحولٍ نحو الأفضل .
أراد
سلمان تخطي تلك الحواجز لكي يرى الحقائق الكامنة ورائها ، وكان له ما أراد ، فها هو يعثر على دين خير من دينه حيث ساقته قدماه ـ عن قصد أو غير قصد ـ إلى الكنيسة ، فرأى فيها أناساً يصلون ، وربما يرتلون فصلاً من الإنجيل بصوت رخيم يأخذ بمجامع القلوب فيه رجع وصدىً لترانيم الراهب الحزين الذي يبكي المسيح ! ولا بد أن فقرات من الإنجيل شدته ـ في تلك اللحظات الغامرة ـ إلى الاستغراق والتأمل في عالم اللاهوت ضمن أجواء هي مزيج من الحزن ، والفرح ، والسأم ، واللذة ، طافت به ما وراء الغيب ، ثم انتهت لتوقظ في نفسه مكامن الألم الطويل الذي عاناه في ظل أبيه .
دارت
في رأس سلمان زوبعة من التفكير . . انها فرصة قيضتها له يد الغيب ، وما عليه الآن إلا أن يختار . نعم ؛ لقد أعجبه هذا الدين ، ولكن ؛ هل ينتهي به المطاف إلى هنا فتكون هذه الكنيسة هي المحطة الأولى والأخيرة في حياته ؟ ومن يدري ، فلعل يد التشويه قد امتدت إليها أو إلى ذلك الكتاب الذي يتلى فيها فأخرجتهما عن مسارهما الصحيح ، وعندها فما الفائدة إذن ؟ أيترك دين آبائه وأجداده ليعتنق ديناً ربما كان مثله في المحتوى أو أميز منه بقليل ؟
لم
يطل تردده في الأمر ، وحانت منه التفاتة ذكية تنم عن عمق روحي وأصالةٍ في التفكير حيث بدا له أن يسأل عن تواجد أصل هذا الدين ، وبذلك يحفظ خطوط الرجعة على نفسه ، فاندفع يسأل من حوله من النصارى قائلاً لهم :
«
وأين أصل هذا الدين . . ؟ »
قالوا
: بالشام .
أما
خشفوذان فقد طال عليه غياب ولده حتى صار نهباً للقلق عليه مما حدا به أن يرسل جماعةً في طلبه ، وبينما هو يتلدد في داره مفكراً حائراً في أمره وإذا بسلمان عائد بعد الغروب بقليل ، عاد إلى بيته ليجد أباه بتلك الحالة ، وهنا بادره أبوه بنبرةٍ فيها شيء من الغضب ، قائلاً له :
«
لقد بعثت إليك رسلاً » أين كنت . ؟
ولم
يجد سلمان سبيلاً لكتمان ما رأى وسمع ، فالتفت إلى أبيه قائلاً :
«
قد مررت بقوم يصلون في كنيسة فأعجبني ما رأيت من أمرهم ، وعلمت أن دينهم خير من ديننا . . »
قال
هذا بكل جراءةٍ وثقة ، غير أن خشفوذان لم يصدق ما سمعه ، وخالطته حيرة ودهشة ، لكنه تمالك أعصابه وخاطب ولده باسلوب عاطفي هادىء قائلاً له :
«
يا بني ؛ دينك ودين آبائك خير من دينهم . » طمعاً فيه بأن يرجع عن ذلك .
لكن
سلمان بادره بكل إصرار قائلاً : « كلا ، والله . . »
وحين
لم يجد خشفوذان وسيلةً في اقناع ولده عمد إلى استخدام القسوة لتأديبه ، فوضع القيود في رجليه ، وتركه في البيت رهين محبسين ، فعل معه ذلك خوفاً من أن يهرب عنه ، وعقاباً له كي لا يعود لمثلها .
وظل
سلمان رهين قيده وبيته مدةً من الزمن حتى كادت الدنيا أن تسود في
عينيه
لولا حلم الشام الذي ظل يدغدغ فؤاده ويزرع في نفسه الأمل الأخضر الذي يبشره بأزوف الموعد وساعة الخلاص ، فعمد إلى بعض من يثق بهم وأرسله إلى النصارى الذين تعرف إليهم في الكنيسة يعلمهم عن لسانه : بأنه قد أعجبه دينهم ويطلب منهم أن يعلموه بتحرك أول قافلةٍ نحو الشام حتى يكون فيها . فأخبروه .
قال
سلمان : « فألقيت الحديد من رجلي ، وخرجت معهم . » وبدأت الرحلة الطويلة نحو الإيمان ، والهجرة إلى الله .
بدأ
سلمان هجرته هذه مصوباً كل تفكيره نحو الشام ، ولكن ما أن استوى على راحلته حتى بدأت الشكوك تساوره ، وأخذ القلق يسيطر عليه ، فقد خاف أن ينكشف أمره لدى أبيه فيرسل في طلبه جماعة من علوج أصفهان يرجعونه إليه بالقوة فيعيده إلى محبسيه ، وربما لا يكتفي بذلك بل يقيم عليه الرقباء والعيون
يحصون عليه أنفاسه وعندها سيخسر سلمان كل شيء ، وسيكون الفشل نصيب أولى تجاربه في الحياة .
ظلت
هذه الوساوس تساوره في بداية الرحلة ، حتى إذا قطع شوطاً من الطريق أمِنَ معه الطلب ، هدأت نفسه وارتاح ضميره وعاد الفرح إلى قلبه ، فمال بتفكيره ثانيةً نحو الشام ، ولكن سرعان ما هومت فوق صدره سحابة من الحزن لفراق أبويه الكهلين الذين دأبا على اسعاده وحرصا على أن يبقى بجانبهما يؤنس وحشتهما كلما تقدمت بهما السن ، لقد تركهما أسيرين للهم والحزن عليه ، وكاد الأسى أن يعصف بقلبه لولا أن تذكر عناد أبيه ووقوفه سداً في طريق سعادته ، فتابع سيره وصمم أن لا يلتفت .
أما
خشفوذان وزوجه فقد باتا أياماً وليالي لا يغمض لهما جفن ولا ترقأ لهما دمعة لغياب سلمان المدلل ففراقه أقض مضجعهما ، فهما لا يعلمان أين أمسى وأين أصبح ، ولم يتركا استحفاء السؤال عنه في كل مكان ، لقد انقطعت أخباره . . أين هو يا ترى ؟ وربما تناهى إلى سمع خشفوذان أن ابنه رحل إلى الشام فزاد
ذلك
في همه وحزنه ، فأين الشام وأين فارس ومئات الأميال تفصل بينهما . . ويطرق الأب الحزين برأسه إلى الأرض ويستسلم مع زوجته للقدر ، وربما توسلا إلى النار التي يقدسانها أن ترجع إليهما ولدهما الهارب ، ولكن دون جدوى . وهكذا ظل يندب حظه التعس .
أما
سلمان ، فظل يتابع سيره حتى إذا بانت له مشارف الشام حرك لسانه بآيات الشكر لله سبحانه الذي أنقذه من النار وتفاهاتها وحماقات أهلها لينعم بين ظلال الرحمة في مهد الأنبياء وأرض الرسالات . في الشام ، التي هي « صفوة الله
من بلاده وإليها يجتبي صفوته من عباده » على حد تعبير النبي صلىاللهعليهوسلم .
وبعد
قليل من الزمن ، حط الركب الفارسي رحاله ليستريح من وعثاء السفر المضني الطويل ، ولينصرف بعد ذلك كل منهم إلى شؤونه ، عدا سلمان الذي لم يستقر به مكانه بعد ، فهو لم يصل إلى ما يريد ! إنه يطلب العالم الذي يعطيه أصول النصرانية التي جاء بها عيسى عليه السلام عن الله سبحانه وتعالى ، فاندفع يسأل هذا وذاك من أهل الشام عن رجل الدين الذي يولونه ثقتهم ، ويأخذون عنه معالم دينهم ، فأرشدوه إلى الأسقف . فسألهم عن مكان إقامته . ؟
قالوا
: هو مقيم في صومعته على رأس جبل ، ودلوه عليه .
كانت
الصومعة في قمة جبل يشرف على الشام وقد استدارت حولها غابة من السنديان والصنوبر ، يخيل للناظر إليها من بعيد أنها جزيرة صغيرة وسط بحيرة خضراء .
قصد
سلمان تلك الصومعة والفرح يغمر قلبه ، فلما وصل إليها تكلم بكلمات
تركت الأسقف ينفتل من عبادته لينظر من هو المتكلم . وكان
__________________
الأسقف
شيخاً طاعناً في السن مربوع القامة ، في ظهره جنأ كث اللحية أبيضها ، ذو عينين غارقتين تهدل فوقهما حاجبان انعقفا حتى اتصلا بصدغيه ، ترتسم على وجهه سيماء الصالحين . . . تطلع سلمان إليه فأدرك فيه ملامح من سيرة المسيح ( ع ) فانتابته حالة من الذهول أطرق معها إلى الأرض ، إلا أن كلمات الأسقف هزته حيث اندفع نحوه متسائلاً من أنت ؟ وماذا تريد ؟
فرفع
رأسه وقال : أنا رجل من أهل جي جئت أطلب العمل وأتعلم العلم ، فضمني إليك أخدمك وأصحبك ، وتعلمني شيئاً مما علمك الله ! ؟
قال
الأسقف : نعم ، إصعد إلي .
صعد
سلمان إليه ليبقى إلى جانبه يخدمه ويتعلم منه ، وكان الغالب في مأكله : الخل والزيت ، والحبوب ، جرايةً تجري له ، يقول سلمان : « فأجرى علي مثل ما كان يجرى عليه . . . » وبدأ الأسقف يعلمه شريعة الله التي أنزلها على المسيح ويقرأ عليه صحائف من الإنجيل كان قد احتفظ بها ، ويطلعه على بعض الأسرار الإلهية التي تناهت إليه من حواريي عيسى عليه السلام ، وقد وجد في سلمان الرجل القوي الأمين الذي يمكن أن يدفع إليه أمانته ووجد سلمان فيه الأب المشفق والعالم الروحاني الذي يوقفه على غامض العلم ويطلعه على شرائع الأنبياء .
ومرت
الأيام تتوالى مسرعةً ، وانطوت سنين عديدة كان الأسقف خلالها يتقدم نحو أرذل العمر ، وفي ذات يوم اشتكى علةً في جسده سرعان ما ألزمته سريره ، وأدرك سلمان أنها الشيخوخة التي لا ينفع معها دواء ، فظل دائباً في خدمته والعناية به ليله ونهاره ، حتى إذا قوضت أيامه ودارت في صدره حشرجات الموت ، علم سلمان أن صاحبه يحتضر ، وأنه مفارق هذه الدنيا عن قريب ، فجلس عند رأسه يبكي .
__________________
وكان
تعلق الأسقف به شديداً لما لمسه فيه من الخصال الحميدة النادرة ، فكان يؤلمه أن يراه حزيناً أو مفكراً في أمرٍ يشغل باله ، وحانت منه إلتفاتة خاطفة ، فرأى سلمان يكفكف دموعه ، وآلمه ما رأى ، فالتفت إليه قائلاً :
«
ما يبكيك يا ولدي . . ؟ »
قال
سلمان ـ وهو يردُّ غصَّته ـ : « خرجت من بلادي أطلب الخير ، فرزقني الله صحبتك فنزل بك الموت ولا أدرى أين أذهب . . ؟ »
وهنا
أطرق الراوي إطراقةً طويلة وفكر في أن يقف عند هذا الحد ولا يكمل روايته ، والسر في ذلك هو أن محدثيه كانوا كثراً وكلهم يروي عن سلمان سيرته كما جاءت على لسانه ، لكن ما يروونه فيه إختلاف كبير بالنسبة للشكل والصياغة ، وإن كان متقارباً في أصل المضمون ، فالروايات كلها متفقة على أن سلمان إنتقل من راهب إلى راهب ومن دير إلى دير ، وجاب البلاد طولاً وعرضاً في سبيل الوقوف على أصول الدين الذي يمكن الركون إليه . ولكن يبقى العرض للكيفية التي تم بها ذلك مختلفاً غاية الإختلاف .
قال
الراوي : وعلى هذا فلا يمكنني إختيار واحدةٍ من تلك الروايات والإكتفاء بسردها لكم ، لاحتياجها إلى ما في الروايات الأخرى . وافتقار تلك الروايات لها مما يجعل بعضها يكمل بعضاً . ، فالأفضل إذن أن تصاغ القصة من مجموع تلك الروايات في حلةٍ جديدة لائقةٍ بسلمان ومكانته ، تنسج خيوطها من سيرته ذاتها وليست بنشازٍ عنها ، لأنها كلها بلسانه رضي الله عنه .
ثم
استطرد في سرد الرواية قائلاً :
«
فقال الأسقف وهو يعاني سكرات الموت : يا بني ، لقد ترك الناس دينهم ، ولا أعلم أحداً يقول بمقالتي إلا راهباً في إنطاكية ، فإذا لقيته فاقرأه مني السلام ، وادفع إليه هذا اللوح . وناولني لوحاً . ، ثم مات الأسقف . ولم يكشف لنا سلمان شيئاً عن سر ذلك اللوح ، لكن من المعتقد أنه أثر كريم بقي من المسيح
عليه
السلام تركه للحواريين يتداولونه فيما بينهم ثم يسلمونه إلى ذوي الكفاءة من أوصيائهم .
يقول
سلمان : فلما مات ، غسلته وكفنته ودفنته ، وأخذت اللوح وسرت به إلى انطاكية « وهي بلدة قريبة من حلب بعيدة عن الشام موصوفة بالحسن وطيب الهواء وعذوبة الماء لها سور ضخم ، وشكلها كنصف دائرة قطرها يتصل بجبل ، والسور يصعد مع الجبل إلى قمته فتتم دائرةً ، وفي السور داخل الجبل قلعة في وسطها بيعة « القسيان » وهي هيكل طوله مائة خطوة ، وعرضه ثمانون ، وعليه كنيسة على آساطين ، وحول الهيكل أروقة يجلس عليها القضاة والعلماء ، وهناك من الكنائس ما لا يجد كلها معمولة بالذهب والفضة والزجاج الملون ، والبلاط المجزع .
ومضى
سلمان يغد السير حتى وصل إليها ، وكان قد عرف مواصفات الراهب واسمه ، فلما وصل إلى الهيكل سأل عنه ، فدلوه عليه ، وكان في إحدى الكنائس ، فلما وصل إليها تكلم بكلمات . فأطل عليه الراهب يسأله من هو وماذا يريد ؟
ونظر
إليه سلمان ، فرأى فيه سمات التقى والصلاح والزهادة في الدنيا والرغبة عنها إلى الآخرة ، فارتاحت لذلك نفسه ، وعلم أن صاحبه الراحل لم يفرط فيه ، بل أوصى به إلى يدٍ أمينة . . . ورد سلمان على أسئلة الراهب ، ثم أبلغه سلام الأسقف الراحل وسلمه الأمانة .
أخذ
الراهب اللوح من يد سلمان بلهفة وزاد في الترحيب به ، وأنزله معه ، وظل سلمان في خدمته مدةً طويلة يأخذ عنه معالم الدين ، حتى إذا مرت سنين ،
__________________
مرض
الراهب مرض الموت ولزم الفراش وسلمان إلى جانبه . وأحس الراهب أنه
مفارق هذه الدنيا ، فالتفت إلى سلمان قائلاً :
«
إني ميت ! »
وصكت
هذه الكلمة مسامع سلمان ، وأخذت من نفسه مأخذاً حيث خاف الضياع
من بعده ، فقال له بنبرة فيها شيء من الحزن :
فعلى
من تخلفني . . ؟
قال
الراهب : لا أعرف أحداً على طريقتي إلا راهباً بالاسكندرية ، فإذا أتيته فاقرأه عني السلام ، وادفع إليه هذا اللوح .
وما
لبث الراهب أن توفي ، فقام سلمان بتجهيزه ، فغسله ، وكفنه ، ودفنه ، ثم أخذ اللوح معه وخرج قاصداً الإسكندرية .
وكانت
الإسكندرية في ذلك الوقت هي أم الأساطير ـ كما يقال عنها ـ فكان الناس يتحدثون عنها وعن عجائبها فحيكت عن كيفية بنائها قصص كثيرة ، منها : أن الذي بناها هو الاسكندر الأكبر فسميت باسمه ، وقيل : أن الإسكندر وأخوه الفرما قاما ببناء مدينتين في أرض مصر سميت باسمهما ، فلما فرغ الاسكندر من بناء مدينته قال : قد بنيت مدينة إلى الله فقيرة وعن الناس غنية . ، وقال أخوه بعكسه ، فبقيت مدينة الإسكندر ، وتهدمت مدينة أخيه .
وأسطورة
تقول : أن الذي بناها هو جبير المؤتفكي ، وكان قد سخر فيها سبعين ألف بناء ، وسبعين ألف مخندق ، وسبعين ألف مقنطر ، واستغرق بناؤها مائتا سنة ، وكتب على العمودين الذي يقال لهما : المسلتين : أنا جبير المؤتفكي عمرت هذه المدينة في شدتي وقوتي حين لا شيبة ولا هرم أضناني ، وكنزت أموالها في مراجل جبيرية ، وأطبقتها بطبق من نحاس
وجعلتها داخل البحر .
__________________
واسطورة
ثانية تقول : أن جبير المؤتفكي وجد بالقرب منها مغارةً على شاطىء البحر فيها تابوت من نحاس ، ففتحه فوجد فيه تابوتاً من فضة ، ففتحه فإذا فيه درج من حجر الماس ، ففتحه فإذا فيه مكحلة
من ياقوتةٍ حمراء مِرودُها عِرْق زبرجد أخضر ، فدعا بعض غلمانه فكحل إحدى عينيه بشيء مما كان في تلك المكحلة فعرف مواضع الكنوز ، ونظر إلى معادن الذهب ومغاص الدرر ، فاستعان بذلك على بناء الإسكندرية . . إلى غير ذلك من الإساطير التي ترسمها مخيلة القصاصين .
ولقد
كان الركبان الذين يقصدون الإسكندرية يتحدثون بهذا وأمثاله ، يُسَلّون به أنفسهم سيما إذا كان سفرهم عن طريق البحر فإن ذلك يشغلهم عن تذكر البحر وأهواله . . ولكن ماذا يعني سلمان من ذلك كله فهو يسمع ما يروونه عن الإسكندرية لكنه لا يلتفت إلى ما يقولون ، ولا يعبأ بما يتحدثون ، بل كل همه وتفكيره منصبان على كيفية اللقاء بالراهب الذي سيصل إليه ، وكيف سيكون معه ، وهل سيرته كسيرة صاحبيه .
وصل
سلمان إلى الاسكندرية ، وسأل عن الراهب الذي أخذ إسمه ومواصفاته من سلفه الراحل ، واستدل على مكانه ، فوصفوا له صومعةً كان يقطن فيها شأن غيره من الرهبان . فلما وصل إليها وقف خارجها وتكلم بكلمات ما لبث بعدها أن أطل الراهب عليه ، ونظر سلمان إليه فوجد فيه مثل ما وجد في صاحبيه من الهدى والصلاح والزهد فاطمأن به المكان بعد أن رحب به الراهب أجمل ترحيب . وأبلغه سلمان سلام سلفه الراحل وسلمه اللوح .
وبقي
سلمان معه مدةً من الزمن ، وكانت الأيام تمر سراعاً ، والسنين تتوالى والبشارة تقترب .
ومرض
الراهب مرض الموت ، واستمر به المرض حتى إذا إحتضر إلتفت
__________________
إلى
سلمان قائلاً : « إني ميّت ! » وكأنه ينتظر منه سؤالاً ليجيبه عليه ، وهنا بادره سلمان قائلاً له : « فعلى من تخلفني ؟ »
قال
الراهب : لا أعرف أحداً على طريقتي ، وما بقي أحد أعلمه على دين عيسى بن مريم في الأرض ، وقد أظلك زمان نبي يبعث بأرض العرب ، إن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب قد حانت ولادته ، فإذا بلغك أنه قد خرج ، فانه النبي الذي بشر به عيسى صلوات الله وسلامه عليهما ، وآية ذلك :أن بين كتفيه خاتم النبوة ، وأنه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة ، فان أتيته فاقرأه السلام ، وادفع إليه هذا اللوح .
ثم
أغمض الراهب الصالح عينيه مسلماً الروح إلى بارئها . فقام سلمان بتجهيزه ودفنه .
__________________

لـيـلـة الـميـلاد
كان
كسرى ابرويز ـ ملك الفرس ـ من أعظم سلاطين عصره ، وأكثرهم منعةً ونفوذاً ، وكان يحيط نفسه بهالةٍ من الأبهة والعظمة ، فكان يجلس في إيوانه وقد جمع فيه أجزاء عرش دارا وكانت موشاةً بصور نجوم المجرة ، فإذا كان في مشتاه وضعت هذه الأجزاء يحيط بها ستار من أنفس الفراء تتدلى أثناءه ثريات من فضة وأخرى من ذهب ملئت بالماء الفاتر ، ونصب فوقها تاجه العظيم يضرب فيه الياقوت والزبرجد واللؤلؤ بالذهب والفضة مشدوداً إلى السقف بسلسلة من ذهب ، وكان يلبس نسيج الذهب ويتشح بحلي الذهب ، مما يلقي الهيبة في نفوس قواده ووزرائه وزواره إذا حضروا بين يديه .
وفي
ذات يوم إرتجس الإيوان ، ورأى كسرى رؤيا هالته
وأفزعته ، فقد رأى في نومه أنه سقط من قصره ستة عشر شرفة ، فلما أصبح ، أفزعه ما رأى ، فصبر تشجعاً ثم رأى أن لا يكتم ذلك عن وزرائه ومرازبته فلبس تاجه وقعد على سريره ، وجمعهم إليه ، فلما إجتمعوا أخبرهم بالذي بعث إليهم فيه .
__________________
قال
الموبذان
: عسى أن يكون خيراً ، وأنا ـ أصلح الله الملك ـ رأيت البارحة أن النيران قد خمدت وقلعت بيوتها وهلك سدنتها ، ورأيت إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها ، وقد أغمني ذلك .
وبينما
هم كذلك ، إذ ورد عليه كتاب بخمود النار ، فازداد كسرى غماً إلى غمه ، والتفت إلى الموبذان قائلاً له : وأي شيء يكون هذا يا موبذان ؟ ـ وكان أعلمهم عند نفسه بذلك ـ .
قال
الموبذان : ما عندي فيها ولا في تأويلها شيء ـ أيها الملك ـ ولكن ارسل إلى عاملك في الحيرة يوجه إليك رجلاً من علمائهم ، فانهم أصحاب علم بالحدثان .
فكتب
عند ذلك : « من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر ، أما بعد : فوجّه إلي رجلاً عالماً بما أريد أن أسأله عنه . » فوجه إليه النعمان عبد المسيح بن عمرو بن بقيلة الغساني .
فلما
قدم عليه ، قال له : أعندك علم بما أريد أن أسألك عنه . ؟
قال
: ليخبرني الملك ، فان كان عندي منه علم ؛ وإلا أخبرته بمن يعلمه له ، فأخبره بما رأى ، فقال : علم ذلك عند خالٍ لي يسكن مشارف الشام ، يقال له سطيح
.
قال
: فأته فاسأله عما سألتك ، وإئتني بجوابه .
ركب
عبد المسيح راحلته حتى قدم على سطيح وقد أشفى على الموت ، فسلم عليه وحيّاه ، فلم يجبه ؛ وكلمه ، فلم يرد عليه ! فقال :
أصَمُّ
أم يسمع غِطريفُ اليَمَن
|
|
أم
فَادَ فازْلَمّ به شأو العَنَنْ
|
يا
فاصِل الخِطة أعيت مَنْ ومَنْ
|
|
أتاك
شيخ الحيِّ من آل سَنَنْ
|
__________________
وأمه
من آل ذِئب بن حَجَنْ
|
|
أبيضُ
فضفاضُ الرداء والبَدنْ
|
رسولُ
قَيْلِ العُجْم يسري للوسَنْ
|
|
لا
يرهبُ الرعد ولا ريبَ الزمنْ
|
تجوبُ
بي الأرضَ عَلَنْدَاةٌ شَزَنْ
|
|
ترفعني
وَجنٌ وتهوي بي وَجَنْ
|
حتى
أتى عاري الجآجي والقَطَنْ
|
|
تلفه
في الريح بَوْغاء الدِمَنْ
|
فلما
سمع سطيح شعره ، رفع رأسه وقال :
عبد
المسيح على جميل مُشيح جاء إلى سطيح ، وقد أوفى على الضريح ، بعثك ملك بني ساسان لارتجاس الإيوان وخمود النيران ، ورؤيا الموبذان ، رأى إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً ، قد إقتحمت في الواد وانتشرت في البلاد . ثم قال :
يا
عبد المسيح ، إذا كثرت التلاوة ، وبعث صاحب الهراوة ، وفاض وادي السماوة ، وغاضت بحيرة ساوة ، وخمدت نار الفرس ، فليست الشام لسطيح شاماً يملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرفات ، وكل ما هو آتٍ آت ، .
ثم
قبض سطيح مكانه .
ونهض
عبد المسيح إلى راحلته وهو يقول :
شمِّر
فانك ما عُمّرت شِمّير
|
|
لا
يُفزعنَّك تفريقٌ وتغيير
|
إن
يُمْسِ ملك بني ساسان أَفرَطَهُمْ
|
|
فإن
ذا الدهر أطوارٌ دهاريرُ
|
فربما
ربما أضحوا بمنزلة
|
|
تهاب
صَوْلَهُمُ أسدٌ مهاصيرُ
|
منهم
أخو الصرح بَهْرامٌ واخوتُهُمْ
|
|
وهُرْمُزانٌ
وسابورٌ وسابورُ
|
__________________
والناس
أولاد عَلَّاتٍ فمن عَلمِوا
|
|
أن
قد أقَلَّ فمهجورٌ ومحقورٌ
|
وهم
بنو الأمِّ لما أن رأوا نَشَباً
|
|
فذاك
بالغيب محفوظ ومنصور
|
والخير
والشر مقرونان في قَرَنٍ
|
|
فالخير
مُتَّبَعٌ والشر محذورُ
|
فلما
قدم عبد المسيح على كسرى ، أخبره بقول سطيح .
فقال
: إلى أن يملك منا ستة عشر ملكاً تكون أمور ويدور الزمان .
قالوا
: ولما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ارتج إيوان كسرى ، وسقطت منه أربع عشر شرفة ، وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك مائة عام ، وغاضت بحيرة ساوة ، وكانت لا تغيض ، وفاض وادي السماوة بالماء . وان الرؤيا التي رآها كسرى والموبذان كانت في تلك الليلة .
وقد
يجد القارىء في هذه القصة شيئاً من الغرابة يأخذه معها العجب ، ولكن حينما يعود الأمر لله سبحانه فيما يختص به أنبيائه وأصفيائه ، لا يبقى العجيب عجيباً ، ولا الغريب غريباً .
لقد
كان هذا التغير الطارىء العجيب إشعاراً ببداية عهد جديد على الأرض ، يقوم على أسس العدل والحكمة ، كما كان إخطاراً يلوح لبداية انقراض العهود المظلمة ، وانتهاء مسيرة المدلجين في وهد الباطل .
البشارة
مع
هذه البداية الغريبة بدأت البشارة باقتراب الموعد وساعة الخلاص ، البشارة التي تحدث عنها المسيح عليه السلام ، ورسمت في الإنجيل ، وترجمها لنا القرآن .
« وَإِذْ قَالَ عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم
مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ
__________________
يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن
بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ » الآية .
لقد
تناقل الرهبان والموحدون هذه البشارة ، ودارت على ألسنتهم طيلة الفترة ما بين صعود المسيح إلى السماء ، ومبعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد تحدثت كتب التأريخ القديمة عن ذلك ، بل إتفق المؤرخون على أن بعض الأحبار والكهان كانوا يعلمون ذلك .
وعلى
سبيل المثال نذكر بعض الشواهد على هذا :
روي
عن عبد المطلب أنه حين زار مع وفد من سادات قريش سيف بن ذي يزن لتهنئته بملك اليمن ، اختلى هذا الأخير بعبد المطلب وبشره بمولود لقريش في مكة يكون رسولاً إلى الناس أجمعين ، وأعطاه صفاته ، ولما وجد عبد المطلب هذه الصفات تنطبق على حفيده محمد صلى الله عليه وآله وسلم سجد لله شكراً على ذلك .
وقصة
الراهب بحيرى الذي مر به أبو طالب ومعه محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم وهم في طريقهم إلى الشام فلما رآه بحيرى جعل يلحظه لحظاً شديداً ، وينظر إلى أشياء في جسده كان يجدها عنده من صفاته ، ثم نظر إلى كتفه فوجد فيه خاتم النبوة ، فتيقن أنه هو النبي الذي بشر به المسيح ، فأقبل إلى عمه أبي طالب ، فقال له :
ما
هذا الغلام منك . ؟
قال
: إبني .
قال
بحيرى : ما هو بابنك ، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حياً .
قال
: فانه ابن أخي .
قال
: فما فعل أبوه ؟
قال
: مات وأمه حبلى به .
__________________
قال
: صدقت ، فارجع بابن أخيك إلى بلده ، واحذر عليه . . القصة .
وقس
بن ساعدة ، كان أحد المبشرين بمحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم وبرسالته ، وكان من
عقلاء العرب وحكمائهم ، وهو القائل :
هل
الغيث معطي الأمن عند نزوله
|
|
بحال
مسيءٍ في الأمور ومحسن
|
وما
قد تولى فهو فات وذاهب
|
|
فهل
ينفعني ليتني ولو أنني
|
وكان
قس في زمانه أكثر الناس عبادةً ، وأفصحهم خطابةً ، وكان كثيراً ما يذكر رسول الله صلى الله عليه وآله ويبشر الناس به ، وآمن به قبل مبعثه ، وكان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلموسلم يسأل عن أخباره
وترحم عليه ويقول : سيحشر قس أمةً وحده .
ولقد
كانت هذه البشارة تزداد شيوعاً كلما اقترب وقت مبعثه صلوات الله عليه وكان سلمان قد سمع هذه البشارة ، ووعاها قلبه فنبت حب محمد في لحمه ودمه ، فكان أحد المنتظرين ، يترقب ساعة الخلاص لحظةً بعد لحظة ، ويوما بعد يوم وكلمة الراهب لا زالت ترن في أذنه :
«
هذا آوان يظهر فيه نبي من العرب . . » .
لا
يكاد سلمان يتذكر هذا ، حتى يتمنى لو أن الزمان يطوى له كي يلتقي بالرسول المرتقب صلوات الله عليه .
__________________
في طريقة نحو الإسلام
المحنة
العبودية
عتيق الإسلام

غادر
سلمان الدير حاملاً بيده اللوح ، ووقف حائراً لا يدري كيف يصنع ولا أين يذهب ، إنه يريد أرض تهامة ، ولكن . . هو غلام ديراني ، وحياة الديرانيين تشبه إلى حد ما حياة أهل السجون لولا الفارق النفسي بينهما من حيث توطين النفس على الإقامة فيها اختياراً ، والشعور بالانفساح الروحي عند الخلوة لمناجاة الله سبحانه ، وإلا فكل شيء في الأديرة يخضع لقيود معينة ، الملبس فيها خاص وبشكل معين ، والمأكل فيها خاص ينحو نحو النباتية ، والزهد في الدنيا شرط ، فلا مال ولا عقار ، ولا شيء من مغريات الحياة ، بل على الداخل فيها أن يخرج من الدنيا وما فيها ـ هكذا كانت حياة الأديرة ـ وهكذا كان سلمان عندما كان ديرانياً .
والآن
، خرج من الدير ، فمن الطبيعي أن يخرج منه كما دخل صفر اليدين ، ويمكننا تصور حالته النفسية في ذلك الظرف العصيب ، فهو يريد أن يأكل ويريد أن يسافر ، ويريد أن يتعامل مع هذه الحياة كما يتعامل بقية الناس ، ولكن دون جدوى ، ففي الدير كانت له جراية تجرى عليه كما تجرى لصاحبه الراحل ، أما الآن فقد إنتهى كل شيء فها هو قد خرج وهو لا يملك درهماً ولا ديناراً ، فماذا يفعل الآن ؟
في
زخم هذه الحيرة التي لفت سلمان كانت خيوط الأمل الأخضر تشرق في نفسه فتضيء له جنباتها . . إنه الأمل بلقاء النبي الموعود ، فلقد نبت حب محمد
صلى
الله عليه وآله في قلبه كما ينبت العطر في أكمام الورود ، وتذكر في هذه الحال ما قاله له أستاذه الراحل من أنه « سيخرج نبي في أرض تهامة » وتساءل بينه وبين نفسه : من يدري ، فلعله قد خرج ؟ !
وأحس
سلمان بموجةٍ من الفرح تغمره ، فاندفع منطلعاً نحو الطريق وإذا به يرى
ركباً يقصدون أرض الحجاز . وأحس أنهم من ذوي الثراء والمكانة لِما رأى من
ترفهم وحسن مظهرهم ، وما معهم من الشياه والأغنام والأثاث والرياش ، وهنا
بادرهم بالتحية ، فردوا عليه بمثلها ، ثم سايرهم قليلاً وفكر في أن يعرض عليهم
ما في نفسه من الرغبة في مرافقتهم ؛ ولكن منعه من ذلك قصَرُ ذات اليد
، فما معنى أن يكون معهم ولا يشاطرهم في نفقة الطريق ؟ فعاد إلى نفسه ولم
يتكلم بكلمة ، إنه لم يرضَ أن يكون عالةً على غيره ، يأخذ ولا يعطي ، فهذا شأن الساقطين في الحياة ، وبينما هو في غمرة تفكيره إذ لاحت له خاطرة ذكية أحس من خلالها بقرب الفرج ، حيث بدا له أن يعرض عليهم نفسه للخدمة في قبال أن يقوموا بنفقاته ، ورأى أن هذا أمر لا ضير فيه ولا مهانة ، بل هو شيء حسن ، فلم يتردد في ذلك وخاطبهم قائلاً :
«
يا قوم ، اكفوني الطعام والشراب ، أكفكم الخدمة . ! »
وكان
طلباً محبباً لهم ، فالعرب أمة عرفت بالبذل والكرم والسخاء ، بل أحب شيء للعربي ضيافة الوافد وإكرامه ، فكيف بجماعة كل شيء لديهم وافر ، أتراهم يمتنعون عن قبول مثل هذا العرض بدون مقابل ؟ بالطبع لا . غير أنهم أدركو في سلمان أنه رجل عفيف لا يحتمل المن ، ولا هو من المتسكعين ، فلم يماطلوا معه بالسؤال والجواب لكي لا يحرجوه فأجابوه بقولهم : نعم .
سار
سلمان معهم يخدمهم في رحلتهم تلك ويهيء لهم ما يحتاجون إليه ، فلما صار وقت الطعام « عمدوا إلى شاة ، فقتلوها بالضرب ، ثم أخذوا لحمها وجعلوا بعضه كباباً وبعضه شواءً » وجلسوا يأكلون ، أما هو فلم يعجبه هذا الأمر ، فجلس ناحيةً ولم يأكل ، ولفت انتباههم ذلك ، فقالوا له : كلْ .
لكنه
أصر على موقفه الرافض ـ ولعل طريقة قتلهم للشاة لم تعجبه لأنها منافية لما جاء في الشرايع السماوية من شروط الذبيحة ـ وبقي ممتنعاً عن الأكل ، وفكر في جوابٍ يرضي به فضولهم ويدفع عنه لائمتهم . فقال لهم :
«
إني غلام ديراني ، والديرانيون لا يأكلون اللحم ! »
ووجد
خلاف ما كان يتوقع ، فالذي ظهر أن القوم يكرهون الأديرة والديرانيين والنصارى أجمعين ، وأنهم وثنيون أو يهود ، فرأوا وجوده بينهم مدعاةً لتعكير صفو عيشهم شأن ذوي العقول المتحجرة من المتعصبين ، فنهضوا إليه يؤدبونه .
يقول
سلمان : « فضربوني ، وكادوا يقتلوني ! »
فقال
أحدهم ـ وكأنه يختبر حقيقة أمره ـ : أمسكوا عنه حتى يأتيكم الشراب ، فانه لا يشرب . »
« المحنة »
هذه
هي المحنة بدأت تواكب سلمان من جديد تضعه على المحك ، المحنة التي يبتلي بها الله أصفيائه وأوليائه والمؤمنين ، فقد ورد في الحديث الشريف « أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأوصياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل . » وما ذلك إلا ليعرفوا أنفسهم بأنفسهم ويدركوا مقدار ما هم عليه من الصدق مع الله والإخلاص له ، ولكي يعرف من سواهم أنهم لم يصلوا إلى أعلى المراتب إلا بالصبر على البلاء والتضحية في سبيل الله .
جاء
الشراب ، فقالوا لسلمان : إشرب ، فأبى ولم يشرب وقال : « إني غلام ديراني والديرانيون لا يشربون الخمر . . »
وهنا
لم يجدوا رداً على كلامه إلا بالضرب ، يقول : « فشدوا علي وأرادوا قتلي ! »
«
فقلت لهم : لا تضربوني فاني أقر لكم بالعبودية . ! فأقررت لواحد منهم ، فأخرجني وباعني بثلاثمائة درهم من رجل يهودي . »
وهكذا
ضحى سلمان في سبيل الإيمان ، وما كان أغناه عن ذلك كله لو بقي في المكان الذي جاء منه ، لكنها الأمانة التي تلزمه أن يتابع سيره ويضحي بكل ما يقدر عليه في سبيل الوصول إلى الهدف الذي ينشده ، سيما وقد أدرك أن الأرض التي هو فيها الآن هي موطن ذلك النبي .
حين
إشتراه اليهودي أخذ يسأله عن قصته وسلمان يحدثه بكل ما جرى له منذ أن ترك بلاد فارس ، وكيف اعتنق النصرانية وصار ينتقل من عند راهب إلى آخر ، ولم ينسَ أن يحدثه بما بشره به راهب الإسكندرية من أن زمان نبي من العرب قد اقترب وأنه قصد هذه البلاد رجاء أن يقيّض الله له اللقاء به ـ وهو يظن أنه بذلك سوف يثير عطفه عليه ـ لكن ما حصل كان عكس ذلك ، فما أن سمع اليهودي بذكر محمد حتى فقد صوابه وصمم في نفسه أن ينتقم منه ، فاليهود يقرأون في توراتهم ويسمعون من أحبارهم عن ظهور نبي يأتي بالحنيفية ـ دين إبراهيم ـ فكان بعضهم من المؤمنين ينتظر ذلك اليوم ، والبعض الآخر عمي عن الحق فأخذته العزة بالإثم ، وكان صاحبنا منهم ، فقال لسلمان بنبرةٍ تنم عن حقد وغضب : « واني لأبغضك وأبغض محمداً »
قال
سلمان : ثم أخرجني خارج الدار وإذا رمل كثير على بابه ، فقال : والله يا روزبة ، لئن أصبحت ولم تنقل هذا الرمل كله من هذا الموضع لأقتلنك . !
وحار
سلمان في أمره وهو يسمع تهديد سيده . فلم يدر ما يفعل ، وأنى له بنقل تلٍّ من الرمل في فترة قصيرة من الزمان ، وشعر أن الرجل يريد الإنتقام منه بإيجاد وسيلة لذلك .
قال
: فجعلت أحمل طول ليلتي ، فلما أجهدني التعب رفعت يدي إلى السماء وقلت : يا ربي أنك حبّبْتَ محمداً إليَّ ، فبحق وسيلته عجل فرجي ، وأرحني مما أنا فيه .
فبعث
الله ريحاً قلعت ذلك الرمل من مكانه إلى المكان الذي قال عنه اليهودي ، فلما أصبح نظر إلى الرمل وقد نقل ، ودهش لما رأى وخيّل إليه أنه ضرب من السحر ، فقال مخاطباً سلمان :
يا
روزبة ، أنت ساحر وأنا لا أعلم ، فلأخرجنك من هذه القرية لئلا تهلكها ! .
ونفذ
اليهودي قوله ، فأخرجني فباعني لإمرأةٍ سَلْمية ، فأحبتني حباً شديداً ، وكان لها حائط ( بستان ) فقالت : هذا الحائط لك ، كلْ منه ما شئت ، وتصدق بما شئت .
مكث
سلمان مع هذه المرأة فترةً طويلة يدير لها شئون بستانها يسقي الزرع ، ويؤبّر النخل وما إلى ذلك بكل أمانةٍ واخلاص ، ويدعو الله بين الحين والحين بقرب الفرج واللقاء بالنبي الموعود صلى الله عليه وآله .
في
هذه الفترة كان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قد خرج بمكة يدعو
الناس إلى الهدى والحق واتباع دين الله الذي ارتضى وسلمان لا يعلم بذلك ، وقدم النبي إلى المدينة ، وبينما كان سلمان في رأس نخلة إذ به يسمع رجلاً يقول لصاحبه : « أي فلان ، قاتل الله بني قيلة مررت بهم آنفاً وهم مجتمعون على رجل بقبا قدم عليهم من مكة يزعم أنه نبي » قال : فوالله ما هو إلا أن سمعتها ، فأخذني القرُّ والإنتفاض ورجَفَتْ بي النخلة حتى كدت أن أسقط . . » لقد خرج محمد إذن ، وأين عنه أنا الآن ، واللوح لا زال معي ، ولكن ، العلامات الثلاث لا بد أن تكون فيه !
ويستمر
سلمان في دعائه لله أن ييسر له اللقاء بمحمد ، فهو لا يستطيع الهرب عن مولاته ، لأن ذلك قد يعقد الأمور ويعطيه صفة ( الآبق ) الذي يستحق أنواع العقوبات في شريعة الجاهليين سيما إذا لحق بمحمد ، ففضّل التريث والتعقل في الأمر ، وتحيّن الفرص الملائمة في الوصول إليه ، لكنه بقي في دوامة من التفكير لا تهدأ ، واستمر هكذا أيام .
__________________
قال
: فبقيت في ذلك الحائط ما شاء الله ، فبينا أنا ذات يوم في الحائط وإذا بسبعة رهط قد أقبلوا تظلهم غمامة . ، فقلت في نفسي : والله ما هؤلاء كلهم أنبياء ، وإن فيهم نبيا .
لقد
كان هؤلاء النفر هم : محمد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وعلي بن أبي طالب والحمزة بن عبد المطلب وعقيل ابن أبي طالب وزيد بن حارثة والمقداد ، وأبو ذر الغفاري . وكانت الصفات الظاهرية للرسول تميزه عما سواه ، فكان وسيم الطلعة ربعةً في الرجال ليس بالطويل البائن ، ولا بالقصير المتردد ، ضخم الرأس ، ذا شعر رجل شديدٌ سواده ، مبسوط الجبين فوق حاجبين سابغين منوّنَيْن متصلينْ ، واسع العينين أدعجهما تشوبُ بياضهما في الجوانب حمرة خفيفة وتزيد في قوة جاذبيتهما أهداب طوال حوالك ، مستوي الأنف دقيقه ، مفلج الأسنان كث اللحية ، طويل العنق جميله ، عريض الصدر ، رحب الساحتين ، أزهر اللون ، شثن الكفين والقدمين يسير ملقياً جسمه إلى الأمام ، إذا مشى كأنما ينحدر من صبب ، وإذا قام كأنما ينقلع من صخر ، وإذا التفت التفت جميعاً . نظر إليه سلمان ، فرآه مميزاً عن باقي أصحابه ، ولكن هذا لا يكفي ، المهم العلامات الثلاث : لا يأكل الصدقة ، ويأكل الهدية ، وفي كتفيه خاتم النبوة . . لقد حان وقتها . . ودخل الرسول ومن معه إلى ذلك البستان ، فجعل أصحابه يتناولون من حشف النخل ، والرسول يقول لهم : كلوا ولا تفسدوا على القوم شيئاً .
وهنا
اغتنم سلمان الفرصة التي قيضها الله له ، والتي كانت بداية خلاصه والتحاقه بركب الاسلام ، فأقبل إلى مولاته مستميحاً إياها أن تهبه قليلاً من الرطب قائلاً : « هبي لي طبقاً من الرطب . »
وكانت
المرأة كما ذكرنا تحبه حباً شديداً ، فقالت له : لك ستة أطباق !
قال
: فحملت طبقاً فقلت في نفسي إن كان فيهم نبي فانه لا يأكل الصدقة ويأكل الهدية ، فوضعته بين يديه فقلت : هذه صدقة .
فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلوا ، وأمسك هو وعليٌ وأخوه عقيل وعمه حمزة .
فقلت
في نفسي : هذه علامة !
فدخلت
إلى مولاتي فقلت : هبي لي طبقاً آخر . . قالت : لك ستة أطباق !
فحملتُ
طبقاً ووضعته بين يديه وقلت : هذه هدية .
فمدّ
النبي صلى الله عليه وآله وسلم يده وقال : بسم الله ، كلوا ، ومدّ القوم جميعاً أيديهم فأكلوا ، فقلت في نفسي : هذه أيضاً علامة أخرى .
قال
: ورجعت إلى خلفه وجعلت أتفقد خاتم النبوة ، فحانت من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلتفاتة فقال : يا روزبة ؛ تطلب خاتم النبوة ! ؟ » .
قلت
: نعم .
فكشف
عن كتفيه فإذا بخاتم النبوة معجون بين كتفيه عليه شعرات ! ، فسقطتُ على قدميه أقبلهما . . ونسي الراوي أن يقول : فأبلغته سلام الراهب ، وأعطيته اللوح ، وحدثته بما جرى لي .
وإلى
هنا يكون سلمان قد وصل إلى هدفه الذي خرج من أجله ، ويبقى في هذه القصة لغز ربما حير كثيرين . . لغز الرهبان الثلاثة أو الأربعة الذين كانوا يوصون بسلمان إلى بعضهم البعض ، وآخرهم الذي قال له : « لا أعلم أحداً في الأرض على دين عيسى بن مريم . . ! » تُرىٰ ، هل أن هؤلاء الرهبان كانوا قد احتكروا الديانة المسيحية لأنفسهم ، فأين ملايين النصارى ومئات القسس وأين موقعهم من ذلك الدين ؟ سيما وأن النصوص الواردة في « إسلامه » تظافرت واتفقت على هذا المعنى .
الحق
: أن أولئك الرهبان كانوا من الأبدال الذين لا تخلو الأرض منهم ،
__________________
أو
أنهم كانوا من « أوصياء أوصياء المسيح » على حد تعبير البعض ، وبذلك يسهل علينا تقبل ما أورده كثير من المؤرخين من أن سلمان أدرك « وصي وصي عيسى » ، « أو أدرك بعض الحواريين . » .
« عتيـق الإسـلام »
بقيت
مشكلة الرق ( المفتعل ) الذي تم بسبب أولئك القساة الذين صحبهم سلمان من الإسكندرية ، والذي يحول بينه وبين اللحاق برسول الله صلى الله عليه وآله ، سيما وأن هذه المرأة لن تتخلى عنه بسهولة ، وهنا تدخل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لينقذ سلمان من محنته
القاسية فالتفت إليه قائلاً :
«
يا روزبة ادخل إلى هذه المرأة وقل لها : يقول لك محمد بن عبد الله أتبيعيني له . ؟ »
نهض
سلمان إليها وأبلغها مقالة النبي صلوات الله عليه ، وهو يظن أنها ستجيبه إلى طلبه وتبيعه بدراهم معدودات كما فعل معه أسياده السابقون ، وعندها سيتخلص من ربقة العبودية ويعيش حراً في دنيا الإسلام .
كان
ما حصل هو العكس ، فالمرأة شديدة التعلق بهذا الفارسي ـ وربما لإخلاصه وأمانته ـ فهي لن تتخلى عنه بسهولة ، ومن جهة ثانية أن المساوم عليه هو محمد بن عبد الله النبي الذي يكرهه الوثنيون والمشركون والتي هي منهم ، فهي إذن تود إيذائه وتعجيزه وقهره لو استطاعت ، فكانت هذه المساومة من محمد فرصةً سانحة لذلك ، فوافقت على بيعه وشرطت شرطاً لا يمكن تحقيقه إلا إذا تدخلت العناية الإلهية . فقالت لسلمان :
«
لا أبيعك إلا بأربعمائة نخلة ، منها مائتان صفراء ومنها مائتان حمراء . »
إنه
طلب صعب ، فمن أين تجتمع هذه النخلات الأربعمائة بهذه
__________________
المواصفات
؟ ، ولكن شاء الله أن تكون حياة هذا الفارسي مليئة بأسرار لا يعلمها إلا هو ، واختارت مشيئة سبحانه ان يكون لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم القدرة على تحقيق ما يعجز عنه البشر وأن تحصل على يديه خوارق تزيد المؤمنين بصيرة .
«
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما أهون ما طلبتْ ! » ثم قال ، قم يا علي فاجمع هذا النوى كلّه ، فأخذه ، صلى الله عليه وآله وسلم ، وغرسه . ثم قال إسقه ، فسقاه فما بلغ آخره حتى خرج النخل ولحق بعضه بعضاً .
والتفت
رسول الله إلى سلمان قائلاً : ادخل إليها وقل : يقول محمد بن عبد الله هذا شيئك فاستلميه ، وسلمينا شيئنا .
قال
: فدخلت عليها وقلت لها ذلك ، فخرجَتْ ونظرت إلى النخل ، فقالت :
والله
لا أبيعك له إلا بأربعمائة نخلة صفراء ! .
لقد
دهشت هذه المرأة لما رأتْ ، فها هو النخل أمام عينيها وقد صار فسيلاً ، يا لله ! هل هو السحر ؟ أم هو الإعجاز الذي يؤيد الله به أنبياءه ؟ وفي حالةٍ من الاضطراب لا توصف ، تراجعت عن كلامها ، أنها تريد النخل بأجمعه أصفر . وتدخلت العناية الإلهية مرةً ثانية حيث « هبط جبرئيل عليه السلام ومسح النخل بجناحيه فصار كله أصفر » .
فقال
النبي لسلمان ، قل لها : إن محمداً يقول لك خذي شيئك وادفعي لنا شيئنا .
قال
سلمان ، فقلت لها ذلك ، فقالت : والله لنخلة من هذه أحب إلي من محمد ومنك . !
فقلت
لها : والله ليوم واحد مع محمد أحب إلي منك ومن كل شيء أنت فيه .
ثم
إن رسول الله صلى الله عليه وآله اعتقني وسماني : سلمان .
ووردت في كيفية عتقه روايات أخرى .
منها
: أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال له : كاتب صاحبك
، .
«
يقول سلمان : فلم أزل بصاحبي حتى كاتبته على أن أغرس له ثلاثماية ودية ، وعلى أربعين أوقية من ذهب .
«
فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : أعينو أخاكم
بالنخل بالخمس والعشر حتى اجتمع لي . فقال لي : نقر لها ولا تضع منها شيئاً حتى أضعه بيدي ، ففعلت » « فغرسها رسول الله كلها بيده المباركة إلا واحدة غرسها عمر ، فأطعم كل النخل من عامه إلا تلك الواحدة ، فقطعها صلىاللهعليهوسلم ثم غرسها فأطعمت . »
وبقي
الذهب ، فبينما هو قاعد إذ أتاه رجل من أصحابه بمثل البيضة من ذهب أصابه من بعض المعادن ، فقال صلىاللهعليهوسلم : ادع سلمان المسكين
الفارسي المكاتب فلما دعي له ، قال : أد هذه .
قال
سلمان ، فقلت : يا رسول الله أين تقع هذه مما علي ؟
وكان
سلمان يقول : « أعانني رسول الله صلىاللهعليهوسلم ببيضة من ذهب ، فلو
وزنت بأحد لكانت أثقل منه . »
__________________
الروايات الواردة حول إسلامه
* رواية اكمال الدين
* رواية ابن أبي الحديد ( شرح النهج )
* رواية ابن الأثير ( أسد الغابة )
* رواية الحاكم النيشابوري المختصرة
* روايته الثانية

رواية : إكمال الدين
عن
علي بن مهزيار ، عن أبيه ، عمن ذكره ، عن موسى بن جعفر :
قال
: قلت يا ابن رسول الله ، ألا تخبرنا كيف كان إسلام سلمان ؟
فقال
: حدثني أبي عليه السلام ، أن أمير المؤمنين قال لسلمان ، يا أبا عبد الله ، ألا تخبرنا بمبدأ أمرك . ؟
فقال
له : لو غيرك سألني ، ما أخبرته .
أنا
رجل من أهل شيراز ، من أبناء الدهاقين ، وكنت عزيزاً على والديَّ ، فبينا أنا سائر مع أبي في عيدٍ لهم ، إذا أنا بصومعةٍ ، وإذا فيها رجل يقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن عيسى روح الله ، وأن محمداً حبيب الله !
فرسخ
وصف محمد في لحمي ودمي ، فلم يهنئني طعام ولا شراب .
فقالت
لي أمي : ما لك اليوم لم تسجد لمطلع الشمس . ؟
قال
: فكابرتها حتى سكتت ، فلما انصرفت إلى منزلي ، إذا أنا بكتاب معلق بالسقف .
فقلت
لأمي : ما هذا الكتاب . ؟
__________________
فقالت
: يا روزبه ، لما رجعنا من عيدنا ، رأيناه معلقاً في ذلك المكان ، فلا تقربه ، فانك إن قربته ، قتلك أبوك !
قال
: فجاهدتها ، حتى جن الليل ، فنام أبي وأمي ، فقمت ، وأخذت الكتاب ، وإذا فيه :
بسم
الله الرحمن الرحيم : هذا عهد من الله إلى آدم ، إنه خالق من صلبه نبياً ، يقال له : محمد ، يأمر بمكارم الأخلاق ، وينهى عن عبادة الأوثان . يا روزبه ، أنت وصي عيسى . ! !
فصعقت
صعقةً ، وزادني شدة . فعلم بذلك أبي وأمي ، فأخذوني وجعلوني في بئر عميق وقالوا : إن رجعت ؛ وإلا قتلناك !
فقلت
لهم : افعلوا ما شئتم ، حب محمدٍ لا يذهب من صدري .
قال
سلمان : وما كنت أعرف العربية قبل قراءتي الكتاب ، وقد فهَّمني الله عز وجل العربية من ذلك اليوم .
قال
: فبقيت في البئر ، وجعلوا يُنزلون إليّ أقراصاً صغاراً ، ولما طال أمري رفعت يدي الى السماء ، فقلت :
يا
ربي ، إنك حببت محمداً ووصيه إلي ، فبحق وسيلته عجِّل فرجي وأرحني مما أنا فيه .
فأتاني
آتٍ عليه ثياب بيض ، فقال : قم يا روزبه ؛ فأخذ بيدي ، وأتى بي إلى الصومعة ، فأنشأت أقول :
أشهد
أن لا إله إلا الله ، وأن عيسى روح الله ، وأن محمداً حبيب الله .
فأشرف
علي الديراني ، فقال : أنت روزبه . ؟ قلت : نعم .
فأصعدني
إليه ، وخدمته حولين كاملين ، فلما حضرته الوفاة ، قال : إني ميت .
فقلت
له : فعلى من تخلفني . ؟
فقال
: لا أعرف أحداً يقول بمقالتي هذه إلا راهباً في أنطاكية ، فاذا لقيته فاقرأه مني السلام ، وادفع إليه هذا اللوح . وناولني لوحاً .
فلما
مات ، غسلته ، وكفنته ، ودفنته ، وأخذت اللوح وسرت به إلى انطاكية ، وأتيت الصومعة وانشأت أقول :
أشهد
أن لا إله إلا الله ، وأن عيسى روح الله ، وأن محمداً حبيب الله .
فأشرف
علي الديراني وقال : أنت روزبة . ؟ فقلت : نعم .
فأصعدني
إليه ، فخدمته حولين ، ولما حضرته الوفاة قال لي : إني ميت !
فقلت
: على من تخلفني . ؟
فقال
: لا أعرف أحداً يقول بمقالتي هذه إلا راهباً بالاسكندرية . فإذا أتيته فاقرأه مني السلام ، وادفع إليه هذا اللوح .
فلما
توفي ، غسلته ، وكفنته ، ودفنته ، وأخذت اللوح ، واتيت الصومعة فأنشأت أقول :
أشهد
أن لا إلاه إلا الله ، وأن عيسى روح الله ، وأن محمداً حبيب الله .
فأشرف
علي الديراني فقال : أنت روزبة . ؟ فقلت : نعم .
فأصعدني
إليه ، فخدمته حولين ، فلما حضرته الوفاة ، فقال : إني ميت .
فقلت
: على من تخلفني . ؟
فقال
: لا أعرف أحداً يقول بمقالتي هذه في الدنيا ، وان محمد بن عبد الله بن عبد المطلب قد حانت ولادته . فان أتيته ، فاقرأه السلام ، وادفع إليه هذا اللوح .
ولما
توفي ، غسلته ، وكفنته ، ودفنته ، وأخذت اللوح ، وخرجت ، .
فصحبت
قوماً ، فقلت لهم : يا قوم ؛ اكفوني الطعام والشراب ، أكفكم الخدمة .
قالوا
: نعم .
قال
: فلما أرادوا أن يأكلوا شدّوا على شاة ، فقتلوها بالضرب ، ثم جعلوا بعضها كباباً وبعضها مشوياً ، فامتنعت من الأكل . !
فقالوا
: كُلْ . فقلت : اني غلام ديراني ، وان الديرانيين لا يأكلون اللحم .
فضربوني
، وكادوا أن يقتلوني ! فقال ( أحدهم ) أمسكوا عنه حتى يأتيكم الشراب ، فانه لا يشرب . !
فلما
أتوا بالشراب ، قالوا له إشرب !
فقال
: قلت لهم ، اني غلام ديراني ، وان الديرانيين لا يشربون الخمر .
فشدوا
علي وأرادوا قتلي . فقلت لهم : لا تضربوني ، فاني أقر لكم بالعبودية .
فأقررت
لواحد منهم ، فأخرجني وباعني بثلاثمائة درهم من رجل يهودي ، فسألني
عن قصتي ، فأخبرته ، وقلت له : ليس لي ذنب إلا أني أحببت محمداً ووصيه .
فقال
اليهودي : واني لأبغضك وأبغض محمداً ! ، ثم أخرجني إلى خارج الدار ، وإذا رمل كثير على بابه ، فقال :
والله
يا روزبة ، لئن أصبحت ولم تنقل هذا الرمل كله من هذا الموضع ، لأقتلنك !
قال
: فجعلت أحمل طول ليلتي ، فلما أجهدني التعب ، رفعت يدي إلى السماء ، وقلت : يا ربي ، إنك حببت محمداً ووصيه إلي ، فبحق وسيلته عجل فرجي وأرحني مما أنا فيه .
فبعث
الله ريحاً قلعت ذلك الرمل من مكانه إلى المكان الذي قال عنه اليهودي ، فلما أصبح ، نظر إلى الرمل وقد نقل ، فقال : يا روزبة ؛ أنت ساحر وأنا لا أعلم فلأخرجنك من هذه القرية لئلا تهلكها .
قال
: فأخرجني ، وباعني لإمرأةٍ سَلْمية ، فأحبتني حباً شديداً ، وكان لها حائط فقالت :
هذا
الحائط لك ، كلْ منه ماشئت ، وتصدق بما شئت ! ! .
قال
: فبقيت في ذلك الحائط ما شاء الله ، فبينا أنا ذات يوم في الحائط ، وإذا أنا بسبعة رهط قد أقبلوا تظلهم غمامة .
فقلت
في نفسي : والله ما هؤلاء كلهم أنبياء ، وان فيهم نبيّاً .
قال
: فأقبلوا ، حتى دخلوا الحائط ، والغمامة تسير معهم ، فلما دخلوا ، إذا فيهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وأمير المؤمنين ،
وأبو ذر ، والمقداد ، وعقيل بن أبي طالب ، وحمزة بن عبد المطلب ، وزيد بن حارثة . فجعلوا يتناولون من حشف النخل ، ورسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول لهم : كلوا الحشف
ولا تفسدوا على القوم شيئاً .
فدخلت
على مولاتي فقلت لها : هبي لي طبقاً من رطب . فقالت لك ستة أطباق !
قال
: فحملت طبقاً من رطب ، فقلت في نفسي : إن كان فيهم نبي ، فإنه لا يأكل الصدقة ، ويأكل الهدية . فوضعته بين يديه فقلت :
هذه
صدقة .
فقال
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : كلوا . وأمسك رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأمير المؤمنين ،
وأخوه عقيل وعمه حمزة .
فقلت
في نفسي : هذه علامة .
فدخلت
إلى مولاتي ، فقلت : هبي لي طبقاً آخر .
فقالت
: لك ستة أطباق ! فحملت طبقاً ، ووضعته بين يديه ، وقلت : هذه هدية .
فمد
يده وقال : بسم الله كلوا . ومد القوم جميعاً أيديهم ، فأكلوا .
فقلت
في نفسي : هذه أيضاً علامة أخرى .
قال
: ورجعت إلى خلفه ، وجعلت أتفقد خاتم النبوة ، فحانت من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إلتفاتة ، فقال :
يا
روزبة ؛ تطلب خاتم النبوة .
قلت
: نعم .
فكشف
عن كتفيه ، فإذا بخاتم النبوة معجون بين كتفيه ، عليه شعرات .
قال
: فسقطت على قدم رسول الله أقبلها .
فقال
: يا روزبة ؛ أدخل إلى هذه المرأة ، وقل لها : يقول لك محمد بن عبد الله : أتبيعيني له . ؟
فدخلت
، فقلت لها : إن محمد بن عبد الله يقول لك : أتبيعيني له ؟ .
فقالت
: لا أبيعك إلا بأربعمائة نخلة ، منها مائتان صفراء ، ومنها مائتان حمراء . !
قال
: فجئت إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فأخبرته .
فقال
صلىاللهعليهوآلهوسلم : ما أهون ما سألتْ
، ثم قال : قم يا علي فاجمع هذا النوى كلَّه . فأخذه وغرسه . ثم قال : إسقه ، فسقاه أمير المؤمنين ، فما بلغ آخره حتى خرج النخل ، ولحق بعضه بعضاً .
فقال
لي : ادخل إليها ، وقل : يقول محمد بن عبد الله ، هذا شيئك فاستلميه ، وسلمينا شيئنا .
قال
: فدخلت عليها ، وقلت لها ذلك .
فخرجت
ونظرت إلى النخل ، فقالت : والله لا أبيعك له إلا بأربعمائة نخلة صفراء .
قال
: فهبط جبرئيل ( ع ) ومسح النخل بجناحه ، فصار كله أصفر .
ثم
قال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قل لها إن محمداً
يقول لك : خذي شيئك ، وادفعي لنا شيئنا .
قال
: فقلت لها ذلك . فقالت : والله لنخلة من هذه أحب إلي من محمد ومنك .
فقلت
: والله ليوم واحد مع محمدٍ أحب إلي منك ومن كل شيء أنت فيه .
فأعتقني
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وسماني سلمان .

رواية ابن أبي الحديد
قال
في شرح النهج
وأما
حديث إسلام سلمان ، فقد ذكره كثير من المحدثين ، ورووه عنه .
قال
: كنت ابن دهقان قرية جيّ من أصبهان ، وبلغ من حب أبي لي أن حبسني في البيت كما تحبس الجارية ، فاجتهدت في المجوسية ، حتى صرت قطن بيت النار .
فأرسلني
أبي يوماً إلى ضيعةٍ له ، فمررت بكنيسة النصارى ، فدخلت عليهم فأعجبتني صلاتهم ، فقلت : دين هؤلاء خير من ديني . فسألتهم : أين أصل هذا الدين . ؟
قالوا
: بالشام .
فهربت
من والدي حتى قدمت الشام ، فدخلت على الأسقف فجعلت أخدمه وأتعلم منه حتى حضرته الوفاة .
فقلت
: إلى من توصي بي . ؟
فقال
: قد هلك الناس ، وتركوا دينهم إلا رجلاً بالموصل ، فالحق به ، فلما
__________________
قضى
نحبه لحقت بذلك الرجل . فلم يلبث إلا قليلاً حتى حضرته الوفاة .
فقلت
: إلى من توصي بي . ؟
فقال
: ما أعلم رجلاً بقي على الطريقة المستقيمة إلا رجلاً بنصيبين .
فلحقت
بصاحب نصيبين . .
قال
: ثم احتضر صاحب نصيبين ، فبعثني إلى رجل بعموريه من أرض الروم ، فأتيته وأقمت عنده ، واكتسبت بقيرات وغنيمات . فلما نزل به الموت ، قلت له :
بمن
توصي بي . ؟
فقال
: قد ترك الناس دينهم ، وما بقي أحد منهم على الحق ، وقد أظل زمان نبي مبعوث بدين ابراهيم ، يخرج بأرض العرب مهاجراً إلى أرض بين حرتين ، لها نخل .
قلت
: فما علامته . ؟
قال
: يأكل الهدية ، ولا يأكل الصدقة ، بين كتفيه خاتم النبوة .
قال
: ومر بي ركب من كلب ، فخرجت معهم ، فلما بلغوا بي وادي القرى ، ظلموني وباعوني من يهودي ، فكنت أعمل له في زرعه ونخله ، فبينا أنا عنده ، إذ قدم ابن عم له ، فابتاعني منه ، وحملني إلى المدينة ، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها .
وبعث
الله محمداً بمكة ، ولا أعلم بشيء من أمره ، فبينا أنا في رأس نخلة ، إذ أقبل ابن عم لسيدي ، فقال :
__________________
قاتل
الله بني قيلة قد اجتمعوا على رجل بقباء قدم عليهم من
مكة ، يزعمون أنه نبي . قال :
فأخذني
القُرّ
والانتفاض ، ونزلت عن النخلة ، وجعلت استقصي في السؤال ، فما كلمني سيدي بكلمة ، بل قال : أقبل على شأنك ، ودع ما لا يعنيك .
فلما
أمسيت ، أخذت شيئاً كان عندي من التمر ، وأتيت به النبي صلى الله عليه وآله فقلت له : بلغني أنك رجل صالح ، وأن لك أصحاباً غرباء ذوي حاجة ، وهذا شيء عندي للصدقة ، فرأيتكم أحق به من غيركم .
فقال
عليه السلام لأصحابه : كلوا ، وأمسك فلم يأكل .
فقلت
في نفسي : هذه واحدة ، وانصرفت . فلما كان من الغد أخذت ما كان بقي عندي وأتيته به ، فقلت له :
اني
رأيتك لا تأكل الصدقة ، وهذه هدية .
فقال
: كلوا ، وأكل معهم .
فقلت
: إنه لهو . فأكببت عليه أقبله وأبكي . فقال : ما لك ؟ فقصصت عليه القصة ، فأعجبه ، ثم قال : يا سلمان ، كاتب صاحبك . فكاتبته على ثلاثمائة نخلة ، وأربعين أوقية .
فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله للأنصار : « أعينوا أخاكم » .
فأعانوني
بالنخل ، حتى جمعت ثلاثمائة ودية ، فوضعها رسول الله صلى الله عليه وآله بيده ، فصحت كلها .
وأتاه
مال من بعض المغازي ، فأعطاني منه ، وقال : أدِّ كتابتك . فأديت وعتقت .
__________________

رواية ابن الأثير في « أسد الغابة »
روى
بأسانيده المتعددة عن ابن عباس ، قال : حدثني سلمان ، قال :
كنت
رجلاً من أهل فارس ، من أصبهان من جي ، ابن رجل من دهاقينها ، وكان أبي دهقان أرضه ، وكنت أحب الخلق إليه ( أو عباد الله إليه ) فأجلسني في البيت كالجواري ، فاجتهدت في المجوسية ، فكنت في النار التي توقد فلا تخبو ، وكان أبي صاحب ضيعةٍ ، وكان له بناء يعالجه في داره ، فقال لي يوماً :
يا
بني ، قد شغلني ما ترى ، فانطلق إلى الضيعة ، ولا تحتبس فتشغلني عن كل ضيعةٍ بهمي بك .
فخرجت
لذلك ، فمررت بكنيسة النصارى وهم يصلون ، فملت إليهم ، وأعجبني أمرهم ، وقلت والله هذا خير من ديننا ، فأقمت عندهم حتى غابت الشمس ، لا أنا أتيت الضيعة ، ولا رجعت إليه . فاستبطأني ، وبعث رسلاً في طلبي ، وقد قلت للنصارى حين أعجبني أمرهم : أين أصل هذا الدين . ؟
قالوا
: بالشام .
فرجعت
إلى والدي ، فقال : يا بني ؛ قد بعثت إليك رسلاً ، !
__________________
فقلت
: قد مررت بقوم يصلون في كنيسة ، فأعجبني ما رأيت من أمرهم ، وعلمت أن دينهم خير من ديننا .
فقال
: يا بني ، دينك ودين أبائك خير من دينهم .
فقلت
: كلا ، والله . فخافني وقيدني .
فبعثت
إلى النصارى ، وأعلمتهم ما وافقني من أمرهم ، وسألتهم إعلامي من يريد الشام ، ففعلوا . وألقيت الحديد من رجلي ، وخرجت معهم ، حتى أتيت الشام فسألتهم عن عالمهم ؟ فقالوا : الأسقف .
فأتيته
، فأخبرته ، وقلت : أكون معك أخدمك ، وأصلي معك .
قال
: أقم . ، فمكثت مع رجل سوء في دينه ، كان يأمرهم بالصدقة ، فاذا أعطوه شيئاً ، أمسكه لنفسه حتى جمع سبع قلال مملوءة ذهباً وورقاً ، فتوفي ، فأخبرتهم بخبره ، فزبروني ، فدللتهم على ماله . ، فصلبوه ولم يغيبوه ، ورجموه ، وأجلسوا مكانه رجلاً فاضلاً في دينه ، زهداً ورغبةً في الآخرة وصلاحاً ، فألقى الله حبه في قلبي حتى حضرته الوفاة . ، فقلت : أوصني . فذكر رجلاً بالموصل . ، وكنا على أمر واحد حتى هلك .
فأتيت
الموصل ، فلقيت الرجل ، فأخبرته بخبري ، وان فلاناً أمرني باتيانك .
فقال
: أقم . ، فوجدته على سبيله وأمره حتى حضرته الوفاة .
فقلت
له : أوصني .
فقال
: ما أعلم رجلاً بقي على الطريقة المستقيمة ، إلا رجلاً بنصيبين . فلحقت بصاحب نصيبين . قالوا : وتلك الصومعة التي تعبد فيها سلمان قبل الإسلام باقية إلى اليوم .
ثم
احتضر صاحب نصيبين ، فقلت له : أوصني .
فقال
: ما أعرف أحداً على ما نحن عليه . إلا رجلاً بعمورية من أرض الروم . ، فأتيته بعمورية فأخبرته بخبري ، فأمرني بالمقام ، وثاب لي شيء ،
واتخذت
غنيمة وبقرات ، وحضرته الوفاة . فقلت :
إلى
من توصي بي . ؟
فقال
: قد ترك الناس دينهم ، ولا أعلم أحداً اليوم على مثل ما كنا عليه ، ولكن
قد أظلك نبي يبعث بدين إبراهيم الحنيفية ، مهاجره بأرض بين حرتين ، ذات
نخل . وبه آيات وعلامات لا تخفى .
قلت
: فما علامته . ؟
قال
: بين منكبيه خاتم النبوة ، يأكل الهدية ، ولا يأكل الصدقة ، فان استطعت
فتخلص إليه .
فتوفي
. فمر بي ركب من العرب من كلب . فقلت : أصحبكم وأعطيكم بقراتي وغنمي
هذه ، وتحملوني إلى بلادكم . فحملوني إلى وادي القرى ، فلما بلغناها ، ظلموني
فباعوني من رجل من اليهود . ، فكنت أعمل له في نخله وزرعه ، ورأيت النخل
فعلمت أنه البلد الذي وصف لي . فأقمت عند الذي إشتراني .
وقدم
عليه رجل من بني قريظة ، فاشتراني منه ، وقدم بي المدينة ، فعرفتها بصفتها
، فأقمت معه أعمل في نخله ، وبعث الله نبيه بمكة ، ولا أعلم بشيء من أمره
صلىاللهعليهوآله وغفلت عن ذلك حتى
قدم المدينة ، فنزل في بني عمرو بن عوف . ، فإني
لفي رأس نخلة إذ أقبل ابن عم لصاحبي ، فقال : أي فلان ، قاتل الله بني قيلة
، مررت بهم آنفاً وهم مجتمعون على رجل بقبا قدم عليهم من مكة يزعم أنه نبي
!
فوالله
ما هو إلا أن سمعتها ، فأخذني القر والانتفاض ، ورجفت بي النخلة حتى
كدت أن أسقط ، ونزلت سريعاً فقلت : ما هذا الخبر ؟ . فلكمني صاحبي لكمة
، وقال : وما أنت وذاك ، أقبل على شأنك . فأقبلت على عملي حتى أمسيت
، فجمعت شيئاً كان عندي من التمر . . الخ . . الرواية .
__________________

رواية الحاكم النيسابوري في المستدرك .
بسنده
عن أبي الطفيل عن سلمان الفارسي ، قال :
«
كنت رجلاً من أهل جي ، وكان أهل قريتي يعبدون الخيل البلق فكنت أعرف
أنهم ليسوا على شيء ، فقيل لي إن الدين الذي تطلب إنما هو بالمغرب ، فخرجت
حتى أتيت الموصل ، فسألت عن أفضل من فيها . ، فدللت على رجل في صومعة
، فأتيته ، فقلت له :
إني
رجل من أهل جي ، وجئت أن أطلب العمل وأتعلم العلم ، فضمني إليك
، أخدمك وأصحبك ، وتعلمني شيئاً مما علمك الله .
قال
: نعم . فصحبته ، فأجرى علي مثل ما كان يُجري عليه ، وكان يجرى عليه
الخل والزيت والحبوب ، فلم أزل معه حتى نزل به الموت ، فجلست عند رأسه
أبكيه .
فقال
: ما يبكيك . ؟
قلت
: أبكي أني خرجت من بلادي أطلب الخير ، فرزقني الله صحبتك ، فعلمتني
، وأحسنت صحبتي ، فنزل بك الموت ، فلا أدري أين أذهب ؟
__________________
فقال
: لي أخ بالجزيرة مكان كذا وكذا وهو على الحق ، فأته فاقرأه مني السلام
، وأخبره أني أوصيت إليه وأوصيتك بصحبته .
فلما
أن قبض الرجل ، خرجت فأتيت الرجل الذي وصفه لي ، فأخبرته بالخبر
، وأقرأته السلام من صاحبه ، وأخبرته أنه هلك وأمرني بصحبته .
فضمني
إليه ، وأجرى علي ما كان يجري علي مع الآخر ، فصحبته ما شاء الله
، ثم نزل به الموت ، فلما نزل به الموت جلست عند رأسه أبكي ، فقال لي : ما يبكيك . ؟
قلت
: خرجت من بلادي أطلب الخير ، فرزقني الله صحبة فلان ، فأحسن صحبتي
وعلمني وأوصاني عند موته بك ، وقد نزل بك الموت ، فلا أدري أين أتوجه
؟
فقال
: تأتي أخاً لي على درب الروم فهو على الحق ، فأته ، واقرأه مني السلام
، واصحبه فانه على الحق .
فلما
قبض الرجل ، خرجت حتى أتيته فأخبرته بخبري وتوصية الآخر قبله ، قال
: فضمني إليه وأجرى علي كما كان يجري علي ، فلما نزل به الموت جلست أبكي
عند رأسه ، فقال لي ما يبكيك . ؟
فقصصت
قصتي ، قلت له : إن الله تعالى رزقني صحبتك ، فأحسنت صحبتي
، وقد نزل بك الموت ولا أدري أين أتوجه .
فقال
: لا دين ! وما بقي أحد أعلمه على دين عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام
في الأرض ، ولكن هذا أوانٌ يخرج فيه نبي ، أو قد خرج بتهامة ، وأنت
على الطريق لا يمر بك أحد إلا سألته عنه ، فاذا بلغك أنه قد خرج ، فانه
النبي الذي بَشّر به عيسى صلوات الله وسلامه عليهما ، وآية ذلك أن بين كتفيه
خاتم النبوة ، وأنه يأكل الهدية ، ولا يأكل الصدقة .
__________________
قال
: فكان لا يمر بي أحد إلا سألته عنه . ، فمر بي ناس من أهل مكة ، فسألتهم
. فقالوا : نعم ، ظهر فينا رجل يزعم أنه نبي ! فقلت لبعضهم : هل لكم أن أكون
عبداً لبعضكم على أن تحملوني عقبه ، وتطعموني من الكسر ، فإذا بلغتم إلى
بلادكم ، فان شاء أن يبيع باع ، وإن شاء أن يستعبد إستعبد ! .
فقال
رجل منهم : أنا . فصرت عبداً له حتى أتى بي مكة ، فجعلني في بستان له
مع حبشانٍ كانوا فيه ، فخرجت ، فسألت ، فلقيت إمرأة من أهل بلادي ، فسألتها
؟ فإذا أهل بيتها قد أسلموا . قالت لي : إن النبي صلى الله عليه وآله يجلس
في الحجر
هو وأصحابه إذا صاح عصفور بمكة ، حتى إذا أضاء لهم
الفجر تفرقوا .
فانطلقت
إلى البستان ، فكنت أختلف ، فقال لي الحبشان : ما لك ؟
فقلت
: أشتكي بطني ، وإنما صنعت ذلك لئلا يفقدوني إذا ذهبت إلى النبي صلى
الله عليه وآله وسلم فلما كانت الساعة التي أخبرتني المرأة يجلس فيها هو وأصحابه
، خرجت أمشي حتى رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فاذا هو يجتبي
، وإذا أصحابه حوله ، فأتيته من ورائه ، فعرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي
أريد ، فارسل حبوته ، فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه ، فقلت : الله أكبر ، هذه واحدة .
ثم
أنصرفت ، فلما أن كانت الليلة المقبلة ، لقطت تمراً جيداً ، ثم انطلقت حتى أتيت به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوضعته بين يديه . فقال : ما هذا ؟ فقلت : صدقة . فقال للقوم ، كلوا ، ولم يأكل . ثم لبثت ما شاء الله ، ثم أخذت مثل ذلك ، ثم أتيته فوضتعه بين يديه ، فقال : ما هذا ؟ فقلت : هدية . فأكل منها وقال للقوم : كلوا .
__________________
فقلت
أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله . فسألني عن أمري وأخبرته . ، فقال : إذهب فاشترِ نفسك .
فانطلقت
إلى صاحبي ، فقلت : بعني نفسي .
فقال
: نعم ، على أن تنبت لي بمائة نخلة . ، فما غادرت منها نخلةً إلا نبتت ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأخبرته أن النخل قد نبتت . فأعطاني قطعةً من ذهب ، فانطلقت بها ، فوضعتها في كفة الميزان ، ووضع في الجانب الآخر نواة ، قال : فوالله ما استقلت قطعة الذهب من الأرض ، قال : وجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته . فأعتقني .
رواية المستدرك الثانية
بسنده
عن زيد بن صوحان عن سلمان ، قال :
كنت
يتيماً من رام هرمز ، وكان ابن دهقان رام هرمز يختلف إلى معلم يعلمه ، فلزمته لأكون في كنفه ، وكان لي أخ أكبر مني وكان مستغنياً بنفسه ، وكنت غلاماً قصيراً ، وكان إذا قام من مجلسه تفرق من يحفظهم ، فإذا تفرقوا خرج فيضع بثوبه ثم صعد الجبل ، وكان يفعل ذلك غير مرة متنكراً .
قال
: فقلت له انك تفعل كذا وكذا ، فلم لا تذهب بي معك ؟
قال
: أنت غلام وأخاف أن يظهر منك شيء .
قال
: قلت لا تخف . قال : فإن في هذا الجبل قوماً في برطيلهم لهم عبادة ، ولهم صلاح ، يذكرون الله تعالى ويذكرون الآخرة ، ويزعموننا عبدة النيران وعبدة الأوثان وأنا على دينهم .
قال
: قلت فاذهب بي معك اليهم ، . قال : لا أقدر على ذلك حتى أستأمرهم ، وأنا أخاف أن يظهر منك شيء فيعلم أبي فيقتل القوم ، فيكون هلاكم على يدي .
__________________
قال
: قلت لن يظهر مني ذلك . فاستأمرهم فأتاهم فقال : غلام عندي يتيم ، فأحب أن يأتيكم ويسمع كلامكم .
قالوا
: إن كنت تثق به .
قال
: أرجو أن لا يجيء منه إلا ما أحب . قالوا : فجىء به .
فقال
لي : قد استأذنت في أن تجيء معي ، فإذا كانت الساعة التي رأيتني أخرج فيها فإتني ولا يعلم بك أحد ، فان أبي إن علم بهم قتلهم .
قال
: فلما كانت الساعة التي يخرج ( فيها ) تبعته ، فصعدنا الجبل فانتهينا إليهم فإذا هم في برطيلهم وكان الروح قد خرج منهم من العبادة ،
يصومون النهار ويقومون الليل ، ويأكلون عند السحر ما وجدوا . فقعدنا إليهم ، فأثنى الدهقان على حبر ، فتكلموا فحمدوا الله وأثنوا عليه ، وذكروا من مضى من الرسل والأنبياء حتى خلصوا إلى ذكر عيسى بن مريم عليهما السلام فقالوا :
بعث
الله عيسى عليه السلام رسولاً ، وسخر له ما كان يفعل من إحياء الموتى ، وخلق الطير ، وابراء الأكمة والأبرصْ والأعمى ، فكفر به قوم وتبعه قوم ، وإنما كان عبد الله ورسوله ابتلى به خلقه .
قال
: وقالوا قبل ذلك ، يا غلام إن لك لربّاً ، وإن لك معاداً ، وان بين يديك جنةٌ ونار إليها تصيرون ، وإن هؤلاء القوم الذين يعبدون النيران أهل كفر وضلالة ، لا يرضي الله ما يصنعون وليسوا على دين . فلما حضرت الساعة التي ينصرف فيها الغلام ، انصرف وانصرفت معه ، ثم غدونا إليهم فقالوا مثل ذلك وأحسن ولزمتهم ، فقالوا لي :
يا
سلمان إنك غلام وانك لا تستطيع أن تصنع كما نصنع ، فصلّ ونمْ وكل واشرب .
__________________
قال
: فاطلع الملك على صنيع ابنه ، فركب في الخيل حتى أتاهم في برطيلهم فقال : يا هؤلاء ، قد جاورتموني فأحسنت جواركم ، ولم تروا مني سوءاً ، فعمدتم إلى إبني فأفسدتموه علي ، قد أجلتكم ثلاثاً ، فان قدرت عليكم بعد ثلاث ، أحرقت عليكم برطيلكم هذا ، فالحقوا ببلادكم فاني أكره أن يكون مني إليكم سوء .
قالوا
: نعم ، ما تعمدنا مساءتك ، ولا أردنا إلا الخير . فكفَّ ابنه عن إتيانهم .
فقلت
: اتق الله ، فانك تعرف أن هذا الدين دين الله ، وأن أباك ونحن على غير دين . إنما هم عبدة النار لا يعبدون الله ، فلا تبع آخرتك بدين غيرك .
قال
: يا سلمان هو كما تقول ، وإنما أتخلف عن القوم بقياً عليهم ، وإن تبعت القوم طلبني أبي في الجبل ، وقد خرج في إتياني إياهم حتى طردهم ، وقد أعرف أن الحق في أيديهم ، فأتيتهم في اليوم الذي أرادوا أن يرتحلوا فيه ، فقالوا :
يا
سلمان ، قد كنا نحذر مكان ما رأيت ، فاتق الله تعالى واعلم أن الدين ما أوصيناك ، وأن هؤلاء عبدة النيران لا يعرفون الله تعالى ، ولا يذكرونه ، فلا يخدعنك أحد عن دينك .
قلت
: ما أنا بمفارقكم .
قالوا
: أنت لا تقدر أن تكون معنا ، نحن نصوم النهار ، ونقوم الليل ، ونأكل عند السحر ما أصبنا ، وأنت لا تستطيع ذلك .
قال
: فقلت : لا أفارقكم .
قالوا
: أنت أعلم ، وقد أعلمناك حالنا ، فإذا أتيت خذ مقدار حمل يكون معك شيء تأكله ، فانك لا تستطيع ما نستطيع بحق .
قال
: ففعلت ، ولقَينا أخي فعرضت عليه ، ثم أتيتهم يمشون وأمشي معهم ، فرزق الله السلامة حتى قدمنا الموصل ، فأتينا بيعة الموصل ، فلما دخلوا إحتفوا
بهم
، وقالوا : أين كنتم ، ؟ قالوا : كنا في بلاد لا يذكرون الله تعالى ، فيها عبده النيران ، وكنا نعبد الله فطردونا .
فقالوا
: ما هذا الغلام ؟ فطفقوا يثنون علي وقالوا : صحبنا من تلك البلاد فلم نرَ منه إلا خيراً .
قال
سلمان : فوالله انهم لكذلك إذ طلع عليهم رجل من كهف جبل ، قال : فجاء حتى سلم وجلس ، فحفّوا به ، وعظموه أصحابي الذي كنت معهم ، وأحدقوا
به .
فقال
: أين كنتم ؟ فأخبروه . فقال : ما هذا الغلام معكم ؟ فأثنوا علي خيراً وأخبروه
باتباعي إياهم ، ولم أرَ مثل إعظامهم إياه ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم ذكر
من أرسل من رسله وأنبيائه وما لقوا وما صنع بهم ، وذكر عيسى ابن مريم
عليه السلام وانه ولد بغير ذكر ، فبعثه الله عز وجل رسولاً ، وأحيى على يديه
الموتى ، وأنه يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً باذن الله
، وانزل عليه الإنجيل ، وعلمه التوارة وبعثه رسولاً إلى بني إسرائيل ، فكفر
به قوم وآمن به قوم ، وذكر بعض ما لقي عيسى بن مريم ، وأنه كان عبد الله
أنعم الله عليه فشكر ذلك له ، ورضي الله عنه حتى قبضه الله عز وجل وهو يعظهم
ويقول : اتقوا الله والزموا ما جاء به عيسى عليه الصلاة والسلام ، لا تخالفوا
فيخالف بكم ، ثم قال : من أراد أن يأخذ من هذا شيئاً فليأخذ ، فجعل الرجل
يقوم فيأخذ الجرة من الماء ، والطعام ، فقام أصحابي الذي جئت معهم فسلموا
عليه وعظموه وقال لهم : الزموا هذا الدين وإياكم أن تفرقوا ، واستوصوا
بهذا الغلام خيراً . وقال لي : يا غلام ، هذا دين الله الذي تسمعني أقوله
، وما سواه الكفر .
قال
: قلت : ما أنا بمفارقك .
قال
: إنك لا تستطيع أن تكون معي ، اني لا أخرج من كهفي هذا إلا كل يوم
أحد ولا تقدر على الكينونة معي .
قال
: وأقبل عليّ أصحابه فقالوا يا غلام انك لا تستطيع أن تكون معه .
قلت
: ما أنا بمفارقك ! قال له أصحابه ، يا فلان إن هذا غلام ، ويخاف عليه
.
فقال
لي : أنت أعلم . قلت : فاني لا أفارقك . فبكى أصحابي الأولون الذين كنت
معهم عند فراقهم إياي .
فقال
: يا غلام ، خذ من هذا الطعام ما ترى أنه يكفيك إلى الأحد الاخر ، وخذ
من الماء ما تكتفي به ، ففعلت ، فما رأيته نائماً ولا طاعماً ، إلا راكعاً وساجداً
إلى الأحد الآخر ، فلما أصبحنا ، قال لي : خذ جرتك هذه وانطَلَق . فخرجت
معه أتبعه حتى انتهينا إلى الصخرة ، وإذا هم قد خرجوا من تلك الجبال
ينتظرون خروجه فقعدوا ، وعاد في حديثه نحو المرة الأولى ، فقال : إلزموا
هذا الدين ولا تفرقوا ، واذكروا الله واعلموا أن عيسى بن مريم عليهما السلام كان عبد الله تعالى ، أنعم الله عليه ، ثم ذكرني ، فقالوا له : يا فلان كيف
وجدت هذا الغلام ؟ فأثنى علي وقال خيراً . فحمدوا الله تعالى وإذا خبز كثير وماء كثير ، فأخذوا وجعل الرجل يأخذ ما يكتفي به وفعلت ، فتفرقوا في تلك الجبال ، ورجع إلى كهفه ورجعت معه ، فلبثنا ما شاء الله ، يخرج في كل يوم أحد ويخرجون معه ويحفون به ويوصيهم بما كان يوصيهم به . ، فخرج في أحد فلما اجتمعوا حمد الله تعالى ووعظهم ، وقال مثل ما كان يقول لهم ثم قال لهم آخر ذلك :
يا
هؤلاء ، أنه قد كبر سني ورق عظمي وقرب أجلي وانه لا عهد لي بهذا البيت منذ كذا وكذا ولا بد من اتيانه ، فاستوصوا بهذا الغلام خيراً فاني رأيته لا بأس به . قال : فجزع القوم فما رأيت مثل جزعهم ، وقالوا : يا فلان أنت كبير فأنت وحدك ولا نأمن أن يصيبك شيء ( ولا بد لك من ) يساعدك ( ونحن ) أحوج ما كنا إليك .
قال
: لا تراجعوني ، لا بد من إتيانه ( يعني بيت المقدس ) ، ولكن استوصوا
بهذا
الغلام خيراً ، وافعلوا . . وافعلوا . . قلت : ما أنا بمفارقك . قال : يا سلمان ، قد رأيت حالي وما كنت عليه ، وليس هذا كذلك . ، أنا أمشي أصوم النهار وأقوم الليل ولا أستطيع أن أحمل معي زاداً ولا غيره ، وأنت لا تقدر على هذا . قلت : ما أنا بمفارقك . قال : أنت أعلم .
قالوا
: يا فلان ، فانا نخاف على هذا الغلام ؛ قال : فهو أعلم ، قد أعلمته الحال وقد رأى ما كان قبل هذا . قلت : لا أفارقك ، فبكوا وودعوه ، وقال لهم : اتقوا الله وكونوا على ما وصيتكم به ، فان اعش فعلي ( أن ) أرجع إليكم ، وإن مت فإن الله حي لا يموت .
فسلم
عليهم وخرج وخرجت معه يمشي وأتبعه ، يذكر الله تعالى ولا يلتفت ولا يقف على شيء ، حتى إذا أمسينا قال : يا سلمان ، صلّ أنت ونْم وكلْ واشربْ ، ثم قام هو يصلي حتى انتهينا إلى بيت المقدس ، وكان لا يرفع طرفه إلى السماء حتى انتهينا إلى باب المسجد وإذا على الباب مُقْعَدٌ فقال يا عبد الله ، ترى حالي ، فتصدق علي بشيء ، فلم يلتفت إليه ودخلنا المسجد ، فجعل يتتبع أمكنة من المسجد ، فصلى فيها . فقال : يا سلمان إني لم أنم منذ كذا وكذا فإن فعلت أن توقظني إذا بلغ الظل مكان كذا وكذا ، نمت ، فاني أحب أن أنام في هذا المسجد ، وإلا لم أنم .
قلت
: فاني أفعل . فنام ، فقلت في نفسي هذا لم ينم منذ كذا وكذا ، لأدعنه ينام حتى يشتفي من النوم ، فلم يمض إلا يسيراً حتى استيقظ فزعاً يذكر الله تعالى . فقال لي : يا سلمان ، مضى الفيء من هذا المكان . . أينَ ما كنت جعلت على نفسك ؟
قلت
: أخبرتني أنك لم تنم منذ كذا وكذا ، فأحببتُ أن تشتفي . ، فحمد الله تعالى .
وكان
فيما يمشي ، يعظني ويخبرني أن لي رباً وأن بين يدي جنةً وناراً وحساباً ، ويعلمني ويذكرني نحو ما يذكر القوم يوم الأحد حتى قال فيما يقول : يا
سلمان
، إن الله عز وجل سوف يبعث رسولاً اسمه أحمد يخرج بتهمة ـ وكان رجلاً أعجمياً لا يحسن القول ( فيقول في تهامة تهمة ) ـ علامته أنه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة ، بين كتفيه خاتم ، وهذا زمانه الذي يخرج فيه قد تقارب ، أما أنا فإني شيخ كبير ولا أحسبني أدركه ، فان أدركته أنت فصدقه واتبعه .
قلت
: وإن أمرني بترك دينك ؟
قال
: اتركه ، فان الحق فيما أمر به ، ورضى الرحمن فيما قال .
وقام
، فخرج فتبعته فمر بالمقعد ، فقال ( الرجل ) المقعد : يا عبد الله دخلت فسألتك فلم تعطني ! وخرجت فسألتك ، فلم تعطني ! فقام ينظر هل يرى أحداً ، فلم يره ، فدنا منه فقال له : ناولني يدك ، فناوله ، فقال : بسم الله . فقام كأنه أنشط من عقال صحيحاً لا عيب فيه ، فخلا عني بعده ، فانطلق ذاهباً فكان لا يلوي على أحد ولا يقوم عليه .
فقال
لي المقعد : يا غلام إحمل علي ثيابي حتى أنطلق فأسير إلى أهلي ، فحملت عليه ثيابه وانطلق لا يلوي علي ، فخرجت في أثره أطلبه ، فكلما سألت عنه قالوا : أمامك حتى لقيني ركب من كلب ، فسألتهم ، فلما سمعوا لغتي ، أناخ رجل منهم لي بعيره فحملني خلفه حتى أتوا بلادهم ، فباعوني فاشترتني إمرأة من الأنصار ، فجعلتني في حائط لها ، وقدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأخبرت به ، فأخذت شيئاً من تمر حائطي . . . ثم ذكر خبر الصدقة والهدية والخاتم ، وأن أبا بكر اشتراه وأعتقه ـ وهو مخالف للمشهور من أن النبي هو الذي ساعده على عتقه كما تقدم .

مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في
جهاده
الخندق
حصار الطائف
على لسان النبي الكريم
بين النبي وسلمان
بين سلمان وأبي الدرداء
كتاب النبي يوصي فيه بال سلمان

في غزوة الخندق
الذي
عليه أكثر المؤرخين أن سلمان لم يشارك في غزوات النبي الأولى كبدرٍ وأحد ، لأنه كان لا يزال في حينها قيد الرق ، أما بعد أن أعتقه الإسلام من رقه فانه لم ينفك عن مصاحبته صلى الله عليه وآله وسلم ومواكبته له في غزواته وحروبه ، واسداء الرأي والنصيحة حينما يتطلب الأمر ذلك ، فكان له مواقف خالدة في هذا المضمار إحتفظ لنا التأريخ ببعض منها نظراً لما كان يترتب عليها من أهمية تتصل بالحفاظ على قوة المسلمين العسكرية .
وأهم
هذه المواقف وأعظمها ما أشار به على المسلمين في حربهم ضد الشرك فيما يسمى بغزوة « الخندق » . ، وغزوة الخندق هذه إشتملت على مشاهد مثيرة يعيشها القارىء من خلال ما سجلته أقلام المؤرخين حولها ، ففيها إلتقت الكثافة العددية لجيش العدو بالقلة العددية لجيش المسلمين ، مع ما دبر من مكائد تجمعها كلمة « الحرب خدعة » بين الطرفين ، وتدخل العنصر الغيبي « الإلهي » لحسم الموقف ، مما يدعو القارىء والكاتب إلى ضرورة الإلمام بها وبظروفها ولو بنحو الإجمال .
لقد
بدأت هذه الحرب في شوال من السنة الخامسة للهجرة بتحريض جماعة من اليهود وذلك : أن نفراً من يهود بني النضير قرروا فيما بينهم أن يقوموا
__________________
بحملة
تستهدف تجميع القوى المناهضة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولرسالته الاسلامية ومن ثم مهاجمته في المدينة والقضاء عليه وعلى من يكون معه ، فقدموا على قريش بمكة ودعوهم إلى ذلك وقالوا نكون معكم حتى نستأصله . وكان من هؤلاء اليهود سلام ابن أبي الحقيق ، وهوذة بن قيس الوائلي وغيرهم .
فقالت
لهم قريش : يا معشر اليهود ؟ إنكم أهل الكتاب الأول ، وتعلمون بما أصبحنا عليه نحن ومحمد ، ونحن نسألكم أديننا خير أم دينه . ؟
فقالوا
: بل دينكم خير من دينه ، وأنتم أولى بالحق منه !
وبهذه
المناسبة نزلت الآية الكريمة : « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا هَٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن
يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا . »
ولما
سمعت قريش من اليهود ذلك استبشرت وطمعت في أن يحقق لها هذا التكتل النصر على محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتواعدوا وإياهم على حربه عندما يتيسر لهم من العراب من يناصرهم عليه .
ولم
يكتف اليهود بذلك ، بل حرضوا بعض القبائل الأخرى على حربه صلى الله عليه وآله وسلم واعدين إياهم النصر الأكيد ، إذ لا طاقة لمحمد وأصحابه على مناجزتهم والثبات في وجههم ، وهم بهذا العدد الضخم من الأفراد والعدة الكاملة من السلاح ، فاستجابت لهم غطفان وكان قائدها عيينة بن حصن ، وبنو سليم بقيادة سفيان بن شمس ، وبنو أسد ، وفزارة ، وبعض قبيلة الأشجع وبنو مرة وغيرهم ، وكان أبو سفيان قائد قريش ، فبلغ مجموعهم أكثر من عشرة آلاف مقاتل وكان في قريش وحدها ثلاثة آلاف فارس ومعها ألف وخمسمائة بعير .
وبلغ
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك فجمع أصحابه وأمرهم بالاستعداد للمواجهة وحثهم على الجهاد واستشارهم في وضع خطة تمنع دخولهم إلى المدينة ، فأشار عليه سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر الخندق ، قائلاً له :
«
كنا بفارس إذا حوصرنا حفرنا خندقا يحول بيننا وبين عدونا . . »
فاستحسن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه هذا الرأي وأمر بحفره ، وبهذه المناسبة صار المهاجرون والأنصار يبدون تقربهم لسلمان فاختلفوا فيما بينهم وكل يقول : سلمان منا ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حزم الأمر بقوله : « سلمان منا أهل البيت » فكانت هذه الكلمة من الرسول في حقه أكبر وأعظم وسام يناله صحابي .
ثم
أن النبي حدد لكل عشرة من المسلمين أن يحفروا أربعين ذراعاً ، وكان هو كأحدهم يحفر بيديه مؤاساةً وتشجيعاً لهم ، وكان المسلمون يحفرون وينشدون الأشعار ، أما سلمان ، فلا نشيد ولا كلمة على لسانه تلهب حماسه ، لكنه مع ذلك كان من أنشطهم وأخلصهم في العمل ، وسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يسمع من سلمان شعراً كما يسمع من غيره ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم اللهم أطلق لسان سلمان ولو على بيت من الشعر فأنشأ سلمان يقول :
ما
لي لسان فأقول الشعرا
|
|
أسأل
ربي قوةً ونصرا
|
على
عدوي وعدو الطهر
|
|
محمد
المختار حاز الفخرا
|
حتى
أنال في الجنان قصرا
|
|
مع
كل حوراء تحاكي البدرا
|
وبينما
كان سلمان مع تسعة نفر يحفرون في المساحة المحددة لهم وإذا بصخرة بيضاء قد اعترضتهم ، فأعجزتهم ولم تصنع بها المعاول شيئاً ، فقالوا لسلمان : إذهب إلى رسول الله وأخبره بذلك ، فلعله يأمرنا بالعدول عنها ، فإنا لا نريد أن نتخطى أمره .
فلما
أخبره سلمان بذلك ، أقبل عليهم وهبط بنفسه إلى الخندق وأخذ المعول من سلمان وضرب الصخرة ضربةً صدعتها وخرج منها بريق أضاء أجواء المدينة حتى لكأنها مصباح في بيت مظلم ـ على حد تعبير الراوي ـ فكبَّر رسول
__________________
الله
. ثم ضربها ضربةً ثانية فتصدعت وخرج منها نفس البريق الأول ، وفي الضربة الثالثة تكسرت وظهر لها بريق أضاء ما وراء المدينة ، فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأشرقت نفسه الكبيرة للنصر المؤمل في النهاية ، ثم أخذ بيد سلمان وصعد خارج الخندق .
فقال
له سلمان : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، لقد رأيت شيئاً ما رأيته قط !
فالتفت
رسول الله إلى القوم وقال : هل رأيتم ما يقول سلمان ؟
فقالوا
: نعم يا رسول الله ، بأبينا أنت وأمنا ، لقد رأيناك تضرب ، فيخرج البرق كالموج ، فرأيناك تكبر فكبرنا ، ولم نر غير ذلك .
قال
: صدقتم ، لقد أضاءت لي في البرقة الأولى قصور الحيرة ومدائن كسرى ، وأخبرني جبريل بأن أمتي ظاهرة عليها . ثم ضربت الثانية ، فأضاءت لي قصور الحمر من أرض الروم وأخبرني جبريل بأن أمتي ظاهرة عليها . ، وفي الضربة الثالثة أضاءت لي قصور صنعاء وأخبرني جبريل بأن أمتي ظاهرة عليها . ، فاستبشر المسلمون بذلك .
وأما
المنافقون فحينما سمعوا ذلك قالوا : ألا تعجبون من محمد يحدثكم ويمنيكم ويخبركم بأنه يبصر من يثرب قصور الحيرة وصنعاء ومدائن كسرى وأنتم تحفرون خندقاً ليحول بينكم وبين أعدائكم ، وأحدنا اليوم لا يأمن أن يذهب لقضاء حاجته !
فنزلت
الآية : «
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا
وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا . »
والذي
زاد الطين بلة ، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قد عقد عهداً بينه وبين يهود بني قريظة وكان زعيمهم كعب بن أسد القرظي ، فدس إليه أبو سفيان حي بن أخطب لينقض العهد مع النبي ، وبعد حوار مثير وجدل بينهما نقض كعب العهد ـ فاشتد خوف المسلمين حيث أصبحوا وهم يواجهون عدوين داخلي ـ في نفس المدينة ـ وخارجي ، وهم الغزاة .
وتوزع
المشركون في ثلاث كتائب ، كتيبة أقبلت من فوق الوادي وقائدها ابن الأعور السلمي . وكتيبة من الجنب وقائدها عيينة بن حصن ، ووقف أبو سفيان ومن معه في كتيبة ازاء الناحية الثانية للخندق . وقد وصف الله سبحانه هذا المشهد وموقف المسلمين بقوله تعالى :
« إِذْ جَاءُوكُم مِّن
فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ
الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم
مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا .
»
وطال
الحصار على المسلمين واستمر الخوف بهم ، وكان في الخندق ثغرة ضيقة مكنت ستة نفر من المشركين من عبوره وفيهم عمرو بن ود العامري وضرار بن الخطاب ونوفل بن عبد الله ، وحاول بقية فرسان قريش عبورها إلا أن علياً عليه السلام ، وبعض المسلمين رابطوا فيها وصدوهم عن ذلك .
وأقبل
عمرو بن ود العامري يجول بفرسه داعياً الناس إلى المبارزة ، ولكن المسلمين تحاموه لما يعرفونه من شجاعته وشدة بأسه ، بل صاروا يرتعدون من الخوف ، إلا علي عليه السلام فانه لما سمعه يدعو إلى البراز ترك مكانه وجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال له : أنا له يا رسول الله فقال له النبي صلى
الله عليه وآله وسلم : اجلس انه عمرو بن ود !
وكرر
عمرو النداء ، فلم يتحرك له أحد من المسلمين غير علي ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمره بالجلوس ، ليرى مقدار التضحية والبذل من المسلمين لا رغبةً بعلي عن المخاطر .
ولما
رأى عمرو أن أحداً لا يجيبه ، جعل يتحداهم ويقول : أين جنتكم التي تزعمون أن من قتل منكم دخلها ، أفلا يبرز إلي أحد ، ثم أنشد :
ولقد
بُححتُ من النداءِ
|
|
بجَمْعِكم
هل من مبارز
|
إني
كذلك لم أزَل
|
|
متسرِّعاً
نحو الهَزاهزْ
|
إنَّ
الشجاعةَ في الفتى
|
|
والجودَ
مِنْ خير الغَرائزْ
|
هذا
والنبي صلى الله عليه وآله يصوب نظره نحو المسلمين يميناً وشمالاً ويدعوهم إلى مبارزته ، فلم يستجب له أحد .
فقام
علي عليه السلام إلى النبي وقال : أنا له يا رسول الله ، والنبي يقول له : اجلس انه عمرو . فقال علي : وإن كان . فأذن له صلى الله عليه وآله وسلم وأعطاه سيفه ذا الفقار ، وألبسه درعه ، وعممه بعمامته وقال :
«
اللهم انك قد أخذت مني عبيدة يوم بدر ، وحمزة يوم أحد . وهذا علي أخي وابن عمي فلا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين . » ثم قال : « برز الإيمان كله إلى الشرك كله . »
فبرز
إليه علي وهو يقول :
لا
تعجلنَّ فقد أتاك
|
|
مجيبُ
صوتِكَ غير عاجزْ
|
ذو
نيّةٍ وبصيرةٍ
|
|
والصدقُ
منجي كلَّ فائزْ
|
اني
لأرجو أن أقيمَ
|
|
عليك
نائحةَ الجَنائز
|
من
ضربةٍ نجلاءَ يبقى
|
|
صِيتُها
بعدَ الهزاهز
|
ولما
تقابلا قال له عمرو : من أنت . ؟
قال
: أنا علي بن أبي طالب .
فقال
: يا بن أخي ، ليبرز إلي غيرك من أعمامك من هو أشد منك ، فاني أكره أن أقتلك لأن أباك كان صديقاً ونديماً لي في الجاهلية .
فقال
علي ( ع ) : إن قريشاً تتحدث عنك أنك تقول : لا يدعوني أحد إلى ثلاث خلال إلا أجبت ، ولو إلى واحدة منها .
قال
: أجل .
فقال
علي : فاني أدعوك إلى الإسلام .
قال
: دع عنك هذه .
قال
: فاني أدعوك إلى أن ترجع بمن تبعك من قريش إلى مكة .
قال
: إذن تتحدث عني نساء مكة أن غلاماً مثلك خدعني !
قال
علي : فاني أدعوك إلى البراز .
قال
: اني لا أحب أن أقتلك . . فقال له علي ( ع ) : ولكني أحب أن أقتلك .
وحين
سمع عمرو هذه المقالة . هاج به الغضب وأخذه الحماس . فاقتحم عن فرسه وعقره . ثم أقبل على علي ( ع ) . فتنازلا وتجاولا . فضربه عمرو بسيفه . فاتقاه علي بدرقته . فاثبت فيها السيف وأصاب رأسه . فضربه علي على حبل عاتقه . فسقط يخور بدمه .
عن
جابر عبد الله الأنصاري أنه قال : « كنت قد تبعت علياً لأنظر ما يكون من أمره . ولما ضربه علي ثارت غبرة شديدة حالت بيني وبينهما . غير أني سمعت تكبيراً فكبر المسلمون عند ذلك . فعلمنا أن علياً قد قتله . وانجلت الغبرة عنهما فإذا علي على صدره يحز رأسه » وفر أصحابه ليعبروا الخندق فطفرت بهم خيلهم إلا نوفل بن عبد الله فإنه قصر به فرسه فوقع في الخندق فرماه المسلمون بالحجارة . فقال يا معشر المسلمين قتلة أكرم من هذه . فنزل إليه علي فقتله .
وروي
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في قتل علي ( ع ) لعمرو : « لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن ود يوم الخندق أفضل أعمال أمتي إلى يوم القيامة . »
وفي
هذه الغزوة كان حسان بن ثابت الشاعر قابعاً مع النساء والأطفال في حصن بعيداً عن ساحة القتال ، وكانت صفية بنت عبد المطلب هناك ، تقول صفية : فمر بنا رجل من اليهود وجعل يطوف بالحصن وقريظة قد قطعت ما بينها وبين رسول الله من العهد وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا ورسول الله
والمسلمون
في مقابل عدوهم ، وخافت صفيّة أن يكون ذلك الرجل عيناً لقومه بني قريظة يدلهم على ما يوصلهم إلى حصن النساء فقالت لحسان : يا حسان . إن هذا اليهودي كما ترى يطوف حول حصوننا واني والله ما آمنه أن يدل على عوراتنا من رواءنا ، ورسول الله في شغل عنا بمن أحاط به من المشركين ، فإنزل إليه واقتلهُ .
فقال
حسان : يغفر الله لك يا ابنة عبد المطلب . والله إنك لتعلمين أني لستُ بصاحب هذا الأمر .
قالت
صفية : فلما سمعت منه ذلك ويئست من خيره . شددت وسطي بثوب كان عليَّ وأخذت عموداً ونزلت إليه من الحصن فضربته بالعمود حتى قتلته . فلما فرغتُ منه رجعت إلى الحصن . وقلت له : يا حسان . إنزل إليه فاسلُبْهُ . فإنه لا يمنعني من سلبه إلا أنه رجل .
فقال
: ما لي بسلْبهِ من حاجة يا بنت عبد المطلب !
واستمر
الحصار مضروبا حول المدينة ، واستمر المؤمنون في ثباتهم وعزمهم مسلِّمينَ أمرهم إلى الله وإلى رسوله يحدوهم الأمل بالنصر كما وعدهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأنزل الله فيهم قوله : « وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ
الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا .
» .
وبينما
النبي صلى الله عليه وآله وسلم يُفكّر في حلّ لتلك الأزمة وإذا بنعيم بن عامر بن مسعود ينسلُّ من بين الغزاة متوجهاً صوب النبي ليعلمه أنه آمن به وبرسالته دون أن يعرف به قومه ، قائلاً للنبي : مرْني بما شئت . وكان نعيم هذا مسموع الكلمة في قومه . وعلم النبي ذلك ، فرأى أن أفضل عمل يقوم به هو بث روح التفرقة في جيش المشركين وبذلك يضمن تمزيقه ، فقال له :
«
إنما أنت رجلٌ واحد ، فخذلْ عنا ما استطعت ، فإن الحرب خدْعةٌ . ! »
فخرج
نعيم حتى انتهى إلى بني قريظة وكان لهم نديماً من قبل ، فقال لهم : يا
بني
قريظة ، لقد عرفتم ودي لكم وصلتي بكمْ . فقالوا : قل ما تريد ، فلست عندنا بمُتّهَمْ
.
فقال
لهم : إن قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم ، البلدُ بلدكم وفيه أموالكم وأولادكم
ونساؤكم ومن الصعب عليكم أن تتحولوا لغيره . ، أما قريش وغطفان فقد
جاؤا لحرب محمّدٍ وتركوا نسائهم وأموالهم وأولادهم في بلدهم آمنين ، فان قُدِّرَ
لهم أن يصيبوا محمداً وأصحابه فذاك ما يريدون ، وإن عجزوا رجعوا إلى بلادهم
وخلُّوا بينكم وبينه ، ولا طاقة لكم به إنْ خلَا بكْم ، وأرى لكم أن لا تقاتلوا مع القوم إلا أن تأخذوا منهم رهْناً من أشرافهم يكونوا بأيديكم ، وعندها يضطرّون أن لا يتخلوا عنكم ويرجعوا إلى بلادهم .
واقتنعت
قريظة بهذا الرأي وقالوا : أشرتَ بالصواب .
وأتى
قريشاً فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه : قد عرفتم ودّي لكم وفراقي محمداً ، وقد بلغني أمر رأيتُ عليَّ حقاً أن أُبلغكموه فاكتموه عليّ . فقالوا : لك ذلك .
قال
: بلغني أن معشر يهود قد ندِموا على ما صنعوا بينهم وبين محمّد ، وقد أرسلوا إليه بذلك وعرضوا عليه أن يأخذوا رجالاً منكم ومن غطفان ويسلّموه إياهم ليضرب أعناقهم ثم ينحازوا معه حتى يستأصلوكم ، فأجابهم هو لذلك ، فإن بعث إليكم اليهود يلتمسون منكم رهناً من رجالكم فلا تسلموا لهم أحداً .
وخرج
إلى غطفان وقال : يا معشر غطفان أنتم أهلي وعشيرتي وأحبُّ الناس إلي ، ولا أراكم تتهموني في شيء . فقالوا : أنت لست بمتَّهم عندنا . ثم قال لهم ما
قاله لقريش وحذَّرهم من اليهود وغدرهم بهم .
واستطاع
أن يعبّىء نفوس قريش وغطفان بالشك والريب في يهود بني قريظة ، وبذلك مزَّق وحدتهم .
وارسلت
قريش وغطفان عكرمة بن أبي جهل ومعه جماعة إلى بني قريظة
قائلين
لهم : إنا لسنا بدار مُقام وقد هلك الخُفُّ والحافر فإستعدوا للقتال حتى نناجز محمداً ونفرغَ مما بيننا وبينه .
وصادف
ذلك يوم السبت ، فأرسلوا إليهم : أن اليوم يومَ سبتٍ ونحن لا نعمل فيه شيئاً ، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثاً فأصابه ما لم يخفَ عليكم ، ولسنا ـ مع ذلك ـ نقاتل معكم محمداً حتى تعطونا رهناً يكون بأيدينا لنطمأن بأنكم ستقاتلونه إلى النهاية ، فأنا نخشى إن ضرّستْكُم الحرب واشتد عليكم القتال أن تُسرعوا إلى بلادكم وتتركونا وإياه وهو في بلدنا ولا طاقة لنا به وحدنا .
فرجع
عكرمة ومن معه إلى قريش وغطفان وأخبروهما بمقالة القوم ، فقالوا عند ذلك : صَدَق نعيمٌ بما حدثنا به .
فأرسلوا
إليهم : أنا لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا ، فان كنتم تريدون القتال فاخرجوا لنقاتله غداً .
وأصرَّ
كل من الطرفين على موقفه ، ورفض اليهود أن يتعاونوا معهم إلا إذا دفعوا لهم الرهائن .
ولم
يغيّرْ ذلك في موقف أبي سفيان من محاربة النبي ، فصمم هو ومن معه أن يناجزوا محمداً في صبيحة يومهم التالي .
وهنا
تدخلت العناية الإلهية لإنقاذ الموقف ، ففي تلك الليلة عصفت ريحٌ شديدة هوجاء مصحوبة بأمطار وصواعق لا عهد لأحدٍ منهم بها ظلت تشتد حتى اقتلعت خيامهم وكفأت قدورهم ، ودَاخَلَهُمْ من الرعب والخوف ما لم يعهدوه في تأريخهم الطويل ، وخُيّل اليهم أن المسلمين سينتهزون هذه الفرصة للوثبة عليهم والتنكيل بهم .
فقام
طلحة بن خويلد ونادى : إن محمداً قد بدأكم بالشر فالنجاة النجاة . . وقال أبو سفيان : يا معشر قريش ، إنكم والله ما اجتمعتم بدار مقام لقد هلك
الكُراعُ
والخفُّ ، وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم ما نكره ، وقد لقينا من شدة الريح ما ترون ، فإرتحلوا ، فاني راحلٌ الساعة .
وهكذا
أسرع القوم بالرحيل تاركين وراءهم اشلاء خيامهم الممزقة ، وبقايا من أحمالهم وأمتعتهم ، وهم يتعثرون بأعتاب الرُعبْ والفشل .
وما
ذلك ، إلا بفضل دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتأييد الله له .
وبضربة علي ( ع ) لعمرو ، وبإشارة سلمان بحفر الخندق ، وتخذيل نعيم للمشركين .
« يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ
جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرًا . . »

وفي حصار الطائف . .
بعد
أن فرغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من فتح مكة واستقامت له الأمور فيها ، قام بإرسال السرايا نحو القبائل المجاورة لمكة لتطهير المنطقة من عبادة الأوثان ونشر راية التوحيد ، وكانت الظروف مهيأةً له بالنسبة لذلك .
وفي
ذات يوم بلغه أن « هوازن » وأحلافها من « ثقيف » و « جشم » و « نصر » قد ساءهم إنتصاره بمكة وقدّرُوا أن الدائرة ستدور عليهم ، وأن المسلمين سيقتحمون عليهم بلادهم ، فاجتمعوا فيما بينهم وقرروا القيام بمبادرة عسكرية لصد الهجوم المرتقب من النبي وأصحابه ، فبلغ عددهم مجتمعين نحو ثلاثين ألف مقاتل أو أكثر ، ونزلوا بسهل « أوطاس » المعروف « بحنين » بقيادة مالك بن عوف .
وتجهز
النبي صلى الله عليه وآله وسلم لملاقاتهم ومعه نحو عشرة آلاف مقاتل ، وبدأت الحرب بين الفريقين ونظراً لتفوّق المشركين عددياً ، ووجود بعض المنافقين والمتخاذلين ومن أسلموا رهبةً في صفوف المسلمين ، فقد رجحت كفّةُ المشركين عسكرياً وحلّت الهزيمة في صفوف المسلمين ولولا ثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخروجه إلى المعركة بنفسه وثبات بعض أصحابه معه وتذكير المسلمين ببيعتهم للرسول صلى الله عليه وآله وسلم تحت الشجرة وحثهم على
__________________
مواصلة
الكفاح لولا هذا لكانت هزيمتهم محتمةً والفشل حليفهم ، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ، فقد انتهت المعركة بنصر المسلمين ، وفي ذلك نزلت الآية الكريمة :
« وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ
أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ
الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ
عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا » .
وقد
ظفر المسلمون في هذه الحرب بغنائم كثيرة بلغت إثنين وعشرين ألفاً من الإبل وأربعين ألفاً من الشياه ، وأربعة آلاف أوقية من الفضة ، وكان عدد الأسرى ستة آلاف أسير ، أما قائد المشركين مالك بن عوف فقد فَرّ في عدد من ثقيف إلى الطائف ، وكانت الطائف مدينةً محصنةً لها أبواب ، وكان أهلها ذَوو خبرةٍ في الحرب وثروات طائلة مكّنتهم أن يجعلوا حصونهم من أمنع الحصون ، فجمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الغنائم والأسرى وجعل على حراستها بُديل بن ورقاء وجماعة من المسلمين ، وأمر مناديه بالرواح إلى الطائف لمحاصرتها طمعاً في أن يسلم أهلها ، فسار المسلمون نحوها ونزلوا في مكانٍ قريب منها ، ولما أشرف عليهم أهل الطائف هالتهم كثرتهم ، فأمطروهم بوابل من النبل وأصابوا عدداً من المسلمين مما حدا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يأمرهم بالانتقال إلى مكان آخر .
أقام
المسلمون في ذلك المكان أياماً ينتظرون مواجهة ثقيف لهم ، لكن ثقيف لم تكن بحالةٍ من الاستعداد تمكنهم من المواجهة بعد هزيمتهم في حنين ، فأثرت الانتظار على المواجهة والمكوث داخل الحصن ، سيّما وأن الحصن منيعٌ والمؤن متوفرة ، وليس لدى المسلمين السلاح الذي يمكنهم من إقتحام الحصن .
وطال
الانتظار بالمسلمين . وهنا أشار سلمان الفارسي ( رضي ) باستعمال المنجنيق قائلاً : يا رسول الله ، أرى أن تنصب المنجنيق على حصنهم ، فانا كنا بأرض فارس ننصب المنجنيقات على الحصون وتُنصبُ علينا . فنصيب من
عدونا
ويصيب منا بالمنجنيق ، وإن لم يكن المنجنيق طال الثواء .
فأمره
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فعمل منجنيقاً بيده
، فنصبه على حصن الطائف وقذفوا به الصخور إلى ما وراء الحصن فلم تعمل فيه ، ثم استعملوا نوعاً آخر من الأسلحة كان لبعض القبائل المقيمة بأسفل مكة علم بها وهو الدبابة وهي آلة من جلود البقر يدخلون في جوفها تقيهم النبال والسيوف ، ثم يندفعون بها إلى الحصون ، ومنها ينفذون إلى ما وراءها ، ولكن رجال الطائف كانوا من المهارة بمكان ، حيث أرسلوا عليهم سِكَكَ الحديد المحماة . فلاذوا بالفرار . . ولم يطل انتظار المسلمين كثيراً فقد أشار النبي عليهم بقطع كرومهم وأشجارهم ، وحين ناشدوه الله والرحم كفَّ عن ذلك ، ثم أمر مناديه أن ينادي : أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حرٌّ ، فنزل إليه نفرٌ منهم ، منم أبو بكرة نفيع بن الحارث بن كلدة فأخبر النبي أنهم يملكون من المؤن والذخائر ما يكفيهم زمناً طويلاً ، فاستدعى رسول الله نوفل بن معاوية الدؤلي واستشاره في أمرهم ، فقال نوفل
:
يا
رسول الله ، إن ثقيفاً كثعلب في جحر ، فإن أقمت عليه أخذته ، وإن تركته لم يضرَّك .
وكان
قد مضى على النبي نحواً من خمسة عشر يوماً أو تزيد وقد أصبحوا على أبواب شهر ( ذي القعدة ) وهو من الأشهر الحُرُمْ وقد حرَّمَ الإسلام فيه القتال ، فآثر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يرجع عنهم ليعود إليهم بعد إنقضاء الأشهر الحرم فيما لو أصرّوا على موقفهم المعادي للإسلام . لكنهم عادوا إلى صوابهم وأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفداً يعرضون عليه إسلامهم ثم أسلموا .
قال
أبو عمر : وقد روي أن سلمان شهد بدراً وأحُداً وهو عبدٌ يومئذٍ ، والأكثر أن أول مشاهده الخندق ، ولم يفته بعد ذلك مشهد .
__________________

على لسان النبي الكريم صلى الله عليه
وآله وسلم
ونستعرض
هنا ما جاء على لسان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بشأن هذا الصحابي
الجليل من كلمات مضيئة هي بمثابة أوسمةٍ منحها إياه النبي الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم باستحقاق وجدارة . ونقتصر هنا على ذكر الرواية بذلك ، دون ذكر السند .
قال
صلى الله عليه وآله وسلم :
«
سلمان منا أهل البيت »
«
لو كان الدين في الثريا ؛ لناله سلمان ! »
« أمرني ربي بحب
أربعة وأخبرني أنه يحبهم : علي ، وأبو ذر ، والمقداد ، وسلمان . »
«
سلمان يبعث أمةً ، لقد أشبع من العلم »
عن
عائذ بن عمرو :
أن
أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر ، فقالوا : والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها .
__________________
قال
: فقال أبو بكر : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم ؟
فأتى
النبي صلىاللهعليهوسلم فأخبره ، فقال صلىاللهعليهوسلم : يا أبا بكر ، لعلك
أغضبتهم ؟ لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك .
فأتاهم
أبو بكر فقال : يا إخوتاه أغضبتكم .
قالوا
: لا . يغفر الله لك يا أخي .
عن
أبي هريرة أنه قال :
«
لما نزلت على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هذه الآية : وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم . قلنا : يا رسول
الله ، من هؤلاء الذين إن تولينا إستبدلوا بنا . ؟ ـ وسلمان الفارسي إلى جنبه ـ .
فضرب
صلىاللهعليهوآلهوسلم بيده على ركبته فقال
: هذا وقومه . مرتين أو ثلاثاً . والذي نفسي بيده لو كان الإيمان يناط بالثريا ، لتناوله رجال من الفرس . أو قال : من هؤلاء .
__________________
بين النبي وسلمان
قالت
عائشة : « كان لسلمان مجلس من رسول الله صلىاللهعليهوسلم ينفرد به الليل ، حتى كاد يغلبنا على رسول الله . »
وعن
الصادق جعفر بن محمد عليه السلام قال :
عاد
رسول الله صلى الله عليه وآله سلمان الفارسي فقال : يا سلمان ؟ لك في علتك ثلاث خصال . أنت من الله عز وجل بذكر ، ودعاؤك فيه مستجاب . ولا تدع العلّةُ عليك ذنباً إلا حطته ، متعك الله بالعافية إلى منتهى أجلك .
__________________

بين سلمان وأبي الدرداء
حين
هاجر النبي صلى الله عليه وآله إلى المدينة واستقرت به الدار هناك ، آخى بين المسلمين من المهاجرين والأنصار ، ولا يخفى ما لهذه المؤاخاة من مغزىً دقيق ، فالمهاجرون ضيوف على الأنصار ولا رابطَ قبليَّ بينهم يؤكد تلاحُمَهم ـ حسب المنطق السائد آنذاك ـ بل كانت الخصومات والحروب بين الأنصار ـ من الأوس والخزرج ـ مستمرة قبل الإسلام سرعان ما تستشري بينهم لأتفه الأمور ، فكانت المؤاخاة في الله عاملاً فعَّالاً في شد الروابط بين المسلمين
جميعاً وتوحيد صفوفهم ، ومدعاةً لنسيان الضغائن والأحقاد فيما بينهم .
آخى
رسول الله صلىاللهعليهوسلم بين أبي بكر وخارجة
( من الخزرج ) ، وبين عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك ، وبين أبي عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ . . . وبين سلمان الفارسي وأبي الدرداء عُويْمر بن ثعلبة .
وكان
كلٌ من سلمان وأبو الدرداء مثالاً عالياً للأخوّةِ في الله ، يُكِنُّ كل منهما للآخر أسمى معاني التعظيم والإجلال ، لكن يبدو أن لسلمان في نفس أبي الدرداء مكانة كبرى ، حيث كان أبو الدرداء يأخذ بنصائحه وتوجيهاته ، ويطيعه فيما يقول ، فقد روي : « أن سلمان بات عنده ليلة ، فلما كان الليل قام أبو الدرداء ـ للعبادة ـ فحبسه سلمان وقال : إنّ لربك عليك حقّاً ، وإنَّ لأهلِكَ
__________________
عليك
حقّاً ، وإن لجسدكَ عليك حقّاً ، فاعطِ لكل ذي حقٍ حقه .
فلما
كان وجه الصبح قال : قُم الآن ، فقاما فصلّيا ( النافلة ) ثم خرجا إلى الصلاة . فلما صلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم قام إليه أبو
الدرداء وأخبره بما قال سلمان . فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم مثل ما قال سلمان .
وكان
سلمان إذا نزل الشام نزل على أبي الدرداء . ، وروى أبو جحيفة أن سلمان جاء يزور أبا الدرداء ، فرأى أم الدرداء مبتذلة ، فقال : ما شأنكِ ؟
فقالت
: إن أخاك ليس له حاجة في شيء من الدنيا .
فلما
جاء أبو الدرداء رحّبَ بسلمان وقرب له طعاماً . فقال سلمان : أطعِمْ . قال : إني صائم . قال : أقسمت عليك إلا ما طَعِمْت ، إني لست بآكل حتى تَطْعم .
«
وكان سلمان الفارسي وأبو الدرداء يأكلان من صحفة ، فسبحت الصحفة أو سبح ما فيها . »
وسكن
سلمان العراق ، وسكن أبو الدرداء الشام ، فكتب إلى سلمان يقول :
سلامٌ
عليك ، أما بعدُ : فإنَّ الله رزقني بعدكَ مالاً وولداً ، ونزلتُ الأرض المقدّسةَ .
فكتب
إليه سلمان :
سلام
عليك ، أما بعد : فإنك كتبتَ لي أن الله رزقك مالاً وولداً ، فاعلم أن الخير ليس بكثرة المال ، ولكن الخيرَ أن يكثر حِلمُكَ ، وأن ينفعك عَمَلُك . وكَتبْتَ إليَّ نزلت الأرض المقدسة ، وإنَّ الأرض لا تعملُ لأحد . إعمل كأنك تُرى ، واعدد نفسك من الموتى .
__________________
كتاب النبي صلىاللهعليهوسلم
يوصي فيه بآل سلمان
قالوا
:
وكتب
النبي صلى الله عليه وآله عهداً لحي سلمان بكازرون ، وصورته :
بسم
الله الرحمن الرحيم : هذا كتاب من محمد رسول الله ، سأله سلمان وصيةً بأخيه ماهاد بن فروخ وأهل بيته وعَقِبه من بعده ، من أسلَم منهم وأقام على دينه سلام الله . أحمد الله إليكم الذي أمرني أن أقولَ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، أقولها وآمر الناس بها ، وأن الخلق خلقُ الله ، والأمرَ حكمُه ، اللهُ خلقهم وأماتهم ، وهو ينشرُهم ، وإليه المصير ، وإن كلَّ أمر يزول ، وكل شيء يبيد ويَفنى ، وكلُ نفس ذائقة الموت من آمن بالله ورسوله ، كان له في الآخرة دِعةُ الفائزين ، ومَنْ أقام على دينه تركناه فلا إكراه في الدين ، وهذا كتابٌ لأهل بيت سلمان ، أن لهم ذمة الله وذمتي على دمائهم وأموالهم في الأرض التي يقيمون فيها ، سهلِها وجبَلِها ، ومراعيها وعيونها ، غيرَ مظلومين ولا مضيّقاً عليهم .
فمن
قرىء عليه كتابي هذا من المؤمنين والمؤمنات ، فعليه أن يحفظهم ويكرمهم ، ويبرَّهم ولا يتعرض لهم بالأذى والمكروه ، وقد رفعتُ عنهم جزَّ الناصية ، والجزية ، والخمس ، والعشر إلى سائر المؤن والكَلَفْ ، ثم إن سألوكم فاعطوهم ، وإن استغاثوا بكم فأغيثوهم ، وإن استجاروا بكم فأجيروهم ، وإن أساؤا فاغفروا لهم ، وإن أُسيء إليهم فامنعوا عنهم ، ولهم أن يُعطوا من بيت
__________________
مال
المسلمين في كل سنة مائة حلة في شهر رجب ، ومائة في الأضحية ، ومن الأواني مائة ، فقد استحق سلمان ذلك منا ، لأن فضل سلمان على كثير من المؤمنين ، وانزل في الوحي علي أن الجنة إلى سلمان أشوق من سلمان إلى الجنة ، وهو ثقتي وأميني ، تقي نقي ناصِحٌ لرسول الله والمؤمنين وسلمان منا أهل البيت ، فلا يخالفن أحد هذه الوصية ، فمن خالفها فقد خالف الله ورسوله وعليه اللعنة إلى يوم الدين ، ومن أكرمهم فقد أكرمني وله عند الله الثواب ومن آذاهم فقد آذاني وأنا خصمه يوم القيامة ، وجزاؤهم جهنم ، وبرئت منه ذمتي والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
وكتب
علي بن أبي طالب بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله في رجب سنة تسع من الهجرة وحضر أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسلمان وأبو ذر وعمار وعتبة وبلال والمقداد وجماعة آخرون من المؤمنين .
قال
ابن شهر اشوب : والكتاب إلى اليوم ـ في عصره ـ في أيديهم ويعمل القوم برسم النبي فلولا ثقته بأن دينه يطبق الأرض لكان كتبه هذا السجل مستحيلاً .
وأورد
المحدث النوري في كتابه نفس الرحمن هذا النص ، وقال أنه وجده في ( تأريخ كزيدة ) وقال ما معناه أن أقارب سلمان من أكابر فارس وعندهم هذا العهد بخط أمير المؤمنين وعليه خاتم النبي على أديم أبيض .
وقد
ذكر صاحب مجموعة الوثائق السياسية نسخة هذا العهد في القسم الرابع من كتابه ، في ذكر ما نسب إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم من العهود ، أخرجها من نسخة عهد نشرها جمشيد جي جيرجي ، وهي مبنية على أصل كان عندهم وذكرها أيضاً عن طبقات المحدثين بأصبهان لابن حُبَّان ، أخبار أصفهان لأبي نعيم ، لكن ألفاظ العهد وأسلوبه يغاير سائر عهوده .
__________________
سلمان والتشيع
أمير المدائن
في الشام وبيروت
سلمان يختار الكوفه مقراً للجند

سلمان والتشيع . .
الشيعة
لغةً : الأتباع والأنصار ، ثم صار اسماً يطلق على محبي آل بيت محمدٍ عليهم السلام ومتبعيهم والسائرين على منهاجهم ، .
روى
أبو بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال : ليهنكم الإسم ، قلت : وما هو ؟ قال : الشيعة . قلت : إن الناس يعيروننا بذلك .
قال
: أما تسمع قول الله سبحانه : « وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ »
وقوله : «
فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ . »
والتشيع
ليس مذهباً طارئاً في الإسلام ، بل هو من صميمه دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما دعا إلى بقية أركان الدين ، فقد نشأ في عهد رسول الله كما تدل على ذلك الأحاديث الكثيرة والمتواترة ، وأهمها وأكثرها شهرة الحديث المعروف ( بحديث الغدير ) الذي جاء في خطبة النبي صلى الله عليه وآله في حجته الأخيرة المعروفة ( بحجة الوداع ) حيث قال :
معاشر
المسلمين ، ألست أولى بكم من أنفسكم ؟
قالوا
: اللهم بلى .
قال
: من كنت مولاه ، فهذا علي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وأنصر من نصره واخذل من خذله .
__________________
وقد
روي هذا الحديث بطرق مختلفة وألفاظ متغايرة بمضمون واحد ، فقد رواه من الصحابة أكثر من مائة وعشرة صحابياً ، ومن التابعين أربعة وثمانون تابعياً ، ورواه من العلماء ثلاثمائة وستون عالماً ، عدا من ألّف فيه .
بل رواه الطبري من نيف وسبعين طريقاً . وابن عقدة من مائة وخمس طرق وغيره من مائة وخمسة وعشرين طريقاً .
قال
الشيخ الطوسي : فان لم تثبت بذلك صحته ، فليس في الشرع خبر صحيح !
ثم
قال : والمراد بالمولى هنا : الأولى . والذي يدل على ذلك قول أهل اللغة ، قال أبو عبيدة معمر بن المثنى في قوله تعالى : « النار مولىً لهم » معناه أولى لهم . وعن المبرد قال : مولى ، وولي ، وأولى ، وأحق بمعنى واحد .
وقد
بسطت الحديث حول هذا الموضوع في كتاب ( أبو ذر الغفاري ) واستشهدت بأحاديث كثيرة إشتملت على لفظ ( شيعة ) فراجع .
إن
الباحث حين يتتبع ما كتب حول الشيعة والتشيع ، يجد أن سلمان الفارسي رضي الله عنه أول من يذكر في هذا المضمار بعد بني هاشم ، وما ذلك إلا لاشتهاره في هذا الأمر لدى العامة والخاصة وتكريس نفسه له . وإليك بعضاً من النصوص التي تناولت ذلك .
قال
أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني :
«
إن لفظ الشيعة على عهد رسول الله كان لقب أربعةٍ من الصحابة سلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري . . الخ »
__________________
وقال
الشيخ المفيد رحمه الله في بيان امامة أمير المؤمنين :
«
فاختلفت الأمة في إمامته يوم وفاة النبي صلى الله عليه وآله فقالت شيعته وهم : بنو هاشم كافة وسلمان وعمار . . الخ »
وقال
ابن أبي الحديد :
«
وكان سلمان من شيعة علي عليه السلام وخاصته ، وتزعم الإمامية أنه أحد الأربعة الذين حلقوا رؤوسهم وأتوه متقلدي سيوفهم في خبر يطول . . الخ . . »
إلى
غير ذلك مما يذكرونه في كتب التأريخ والرجال .
ويخيل
إليك وأنت تقرأ ما ورد على لسان سلمان عن النبي في فضائل أهل البيت عليهم السلام أن كلمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم « سلمان منا » شدته إلى التفاني في هذا السبيل . بيد أن الأمر أكبر من ذلك ، وسلمان أعظم من أن ينجرف في متاهات العاطفة الدنيا ، أليس هو ذلك الذي عرفناه شاباً ـ أو صبياً ـ يترك أهله ووطنه في سبيل الوصول إلى المنهل الروحي الذي يستقي منه تعاليم الدين ، وكابد ما كابد في سبيل ذلك حتى أفضى به الأمر إلى رسول الله ، وعرفناه كهلاً يلازم النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ويواكبه في حروبه وجهاده ، سخياً بنفسه في سبيل الله ، هذا الإنسان العظيم لم يكن التشيع بالنسبة إليه هواية تتحكم فيها العاطفة ، بل كان يرى فيه المكمل لرسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد عرف موقع علي عليه السلام من النبي وأدرك أنه الوصي من بعده على الأمة ، وماذا يضره إذا كان في جانب والمسلمون في جانب ، فقد كان نفسه قبل الإسلام في جانب ، وأمم أخرى في جانب ، لذلك التزم بصراحته التي لم تفارقه يوماً من الأيام ، وبقي على الخط الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودعا المسلمين إليه .
__________________
لقد
كان سلمان الفارسي رضي الله عنه ممن نادى بالتشيع ، ودافع عنه في أكثر من موطن ، ولم يكن تشيعه عاطفياً يقتصر على حب أهل البيت فقط ، بل تشيعاً مبدئياً ينادي بأحقية علي في الخلافة بعد رسول الله بلا فصل ، وكان يدعو المسلمين إلى ذلك بكل وضوح وجرأة ، مستنداً في ذلك لما سمعه من رسول الله محمد صلى الله عليه وآله في حق علي وأهل البيت الطاهر عليهم السلام .
بل
الذي يظهر من بعض النصوص حول هذا الموضوع أنه كان أول من دعا المسلمين لمبايعة أمير المؤمنين علي عليه السلام ، كما روي ذلك عن جعفر بن محمد الصادق عليه السلام عن أبائه عليهم السلام ، قال :
خطب
الناس سلمان الفارسي رحمة الله عليه بعد أن دفن النبي صلى الله عليه وآله بثلاثة أيام ، فقال :
«
ألا أيها الناس ، إسمعوا عني حديثي ، ثم اعقلوه عني ، ألا واني أوتيت علماً كثيراً ، فلو حدثتكم بكل ما أعلم من فضايل أمير المؤمنين لقالت طائفة منكم : هو مجنون . وقالت طائفة أخرى : اللهم اغفر لقاتل سلمان . ألا إن لكم منايا تتبعها بلايا ، ألا وان عند علي عليه السلام علم المنايا والبلايا ، وميراث الوصايا وفصل الخطاب وأصل الأنساب ، على منهاج هارون بن عمران من موسى عليه السلام إذ يقول رسول الله صلى الله عليه وآله فيه : أنت وصيي في أهل بيتي ، وخليفتي في أمتي ، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى ، ولكنكم أخذتم سنة بني إسرائيل ، فأخطأتم الحق ، فأنتم تعلمون ولا تعلمون ، أما والله لتركبن طبقاً عن طبق حذو النعل بالنعل ، والقذة بالقذة .
أما
والذي نفس سلمان بيده ، لو وليتموها عليّاً لأكلتم من فوقكم ومن تحت أقدامكم ، ولو دعوتم الطير لأجابتكم في جو السماء ، ولو دعوتم الحيتان من البحار لأتتكم ، ولما عال ولي الله ، ولا طاش لكم سهم من فرائض الله ، ولا اختلف اثنان في حكم الله ، ولكن أبيتم فوليتموها غيره ، فأبشروا بالبلايا
واقنطوا
من الرخاء ، وقد نابذتكم على سواء ، فانقطعت العصمة فيما بيني وبينكم من الولاء .
عليكم
بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فوالله لقد سلمنا عليه بالولاية وأمرة المؤمنين مراراً جمة مع نبينا ، كل ذلك يأمرنا به ، ويؤكده علينا ،
فما بال القوم عرفوا فضله فحسدوه ! وقد حسد هابيل قابيل فقتله ! وكفاراً قد ارتدت أمة موسى بن عمران ، فأمر هذه الأمة كأمر بني اسرائيل ، فأين يذهب بكم ؟ .
أيها
الناس ، ويحكم ؛ أجهلتم أم تجاهلتم ، أم حسدتم أم تحاسدتم ؟ والله لترتدن كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف ، يشهد الشاهد على الناجي بالهلكة ، ويشهد الشاهد على الكافر بالنجاة ، ألا وأني أظهرت أمري ، وسلمت لنبيي ، واتبعت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة علياً أمير المؤمنين عليه السلام وسيد الوصيين ، وقائد الغر المحجلين ، وإمام الصديقين والشهداء والصالحين .
ويؤكد
موقفه هذا كلمته المشهورة يوم السقيفة حين أخبر بمبعاية الناس لأبي بكر ، وهي قوله : « كرديد ونكرديد » وقد ذكرها المعتزلي في شرح النهج في أكثر من مورد كما ذكرها غيره . إلا أنهم إختلفوا في تفسيرها . لكن الذي يظهر أن معناها فعلتم وما فعلتم . وابن أبي الحديد نفسه يفسرها بتفاسير مختلفة . فتارةً
يقول : « أن المراد صنعتم شيئاً وما صنعتم أي استخلفتم خليفةً ونعم ما فعلتم ، إلا أنكم عدلتم عن أهل البيت ، فلو كان الخليفة منهم كان أولى . »
وأخرى
يقول : « تفسره الشيعة فتقول : أراد أسلمتم وما أسلمتم ، ويفسره أصحابنا فيقولون معناه : أخطأتم وأصبتم »
وفي
الحقيقة أن مراد سلمان واضح جداً ، بل صرح به هو حيث قال مخاطباً
__________________
الصحابة
: « أصبتم الخير ولكن أخطأتم المعدن . وفي رواية أخرى : أصبتم ذا السن منكم ولكن أخطأتم أهل بيت نبيكم ، أما لو جعلتموها فيهم ما اختلف منكم اثنان ولأكلتموها رغداً . »
وذكرها
البلاذري بشكل أوضح حيث قال :
«
قال سلمان الفارسي حين بويع أبو بكر : « كرداذ وناكرداذ » ـ أي عملتم وما عملتم ـ لو بايعوا علياً لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم . »
والمتتبع
للأحاديث والأخبار يلمس موقف سلمان هذا من أهل البيت عليهم السلام فيما كان يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وآله في حقهم ، وعلى سبيل المثال نذكر شطراً من تلك الروايات :
الجويني
بسنده عن زاذان ، عن سلمان ، قال :
سمعت
حبيبي المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقول : كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله عز وجل مطيعاً يسبح الله ذلك النور ويقدسه قبل أن يخلق الله آدم بأربعة عشر ألف سنة ، فلما خلق الله تعالى آدم ركب ذلك النور في صلبه ، فلم يزل في شيء واحد حتى افترقنا في صلب عبد المطلب ، فجزءٌ أنا وجزءٌ علي .
الجويني
بسنده عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال :
«
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : خلقت أنا وعلي بن أبي طالب من نور الله عن يمين العرش نسبح الله ونقدسه من قبل أن يخلق الله عز وجل آدم بأربعة عشر ألف سنة . فلما خلق الله آدم نقلنا إلى أصلاب الرجال وأرحام النساء الطاهرات ، ثم نقلنا إلى صلب عبد المطلب وقسمنا نصفين ،
__________________
فجعل
نصف في صلب أبي عبد الله وجعل نصف آخر في صلب عمي أبي طالب ، فخلقت من ذلك النصف وخلق علي من النصف الآخر ، واشتق الله تعالى لنا من أسمائه أسماءً ، فالله عز وجل محمود وأنا محمد ، والله الأعلى ، وأخي
علي ، والله الفاطر ، وابنتي فاطمة ، والله محسن ، وأبناي الحسن والحسين ، وكان اسمي
في الرسالة والنبوة وكان اسمه في الخلافة والشجاعة ، وأنا رسول الله ، وعلي ولي الله . »
وبسنده
عن الأصبغ ، قال :
سئل
سلمان الفارسي رضي الله عنه عن علي بن أبي طالب وفاطمة عليهما السلام فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : عليكم بعلي بن أبي طالب فانه مولاكم فأحبوه ، وكبيركم فاتبعوه ، وعالمكم فأكرموه ، وقائدكم إلى الجنة فعززوه ، فإذا دعاكم فأجيبوه ، وإذا أمركم فأطيعوه ، أحبوه بحبي ، وأكرموه بكرامتي ، ما قلت لكم في علي إلا ما أمرني به ربي جلت عظمته .
وبسنده
عن عباد بن عبد الله ، عن سلمان الفارسي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال : أعلم أمتي من بعدي علي بن أبي طالب .
وبسنده
عن أبي عثمان ( النهدي ) عن سلمان الفارسي قال :
قال
رسول الله صلى الله عليه وآله : إذا كان يوم القيامة ضربت لي قبة حمراء عن يمين العرش ، وضربت لإبراهيم قبة من ياقوتةٍ خضراء عن يسار العرش ، وضربت فيما بيننا لعلي بن أبي طالب قبة من لؤلؤةٍ بيضاء ، فما ظنكم بحبيب بين خليلين .
__________________

أمير المَدائن
|
« وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ »
|
|

رأى
عُيَيْنة بن حصن سلمان عند رسول الله صلى الله عليه وآله يوماً وعليه شملة : فقال له : إذا دخلنا عليك ، فنح عنا هذا وأمثاله فنزلت الآية الكريمة :
« وَاصْبِرْ نَفْسَكَ
مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ
وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ
مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا » .
وقيل
: إن المؤلفة قلوبهم وهم عيينة بن حصن والأقرع بن حابس وذووهم ، جاؤا إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وعنده سلمان وأبو ذر
وصهيب وعمار وغيرهم من فقراء المسلمين ، فقالوا : « يا رسول الله ، لو جلست في صدر المجلس وتغيبت عن هؤلاء وأرواح جبابهم ـ وكانت عليهم جباب صوف ـ جالسناك أو حادثناك وأخذنا عنك » « فلا يمنعنا من الدخول عليك إلا هؤلاء ! »
مساكين
أولئك النفر من المؤلفة قلوبهم ، لقد نفخ الشيطان في أعطافهم ، واستحكمت العصبية في نفوسهم ، فصاروا لا ينظرون إلا إلى أنفسهم ، ولا يبصرون إلى ما وراء أنوفهم ، لقد أعمى الكبر أعينهم وأصم أسماعهم فتاهوا عن الحق وأضاعوا الهدف ، لقد عظم عليهم أن يروا هذه الفئة المؤمنة بجانب محمد صلى الله عليه وآله وسلم فمن يكون سلمان وصهيب وبلال ـ في نظرهم ـ
__________________
وهل
هم إلا من الدهماء وأخلاط الناس وفدوا من فارس والروم والحبشة طلباً للعيش ، واليوم أصبحوا يزاحمون سادات قريش في ديارهم ، لقد عظم عليهم أن يروا أنفسهم في هذا الموقع ، فهم يتعاملون مع الحياة والناس من زاوية محيطهم الضيق . ولم يكونوا ـ في يوم من الأيام ـ ليفكروا في حدوث مثل هذا في حياتهم ، ولكنه الواقع الذي لا مفر منه ، فها هم الدهماء ـ بنظرهم ـ يحتلون الصدارة في مجلس محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومحمد من ؟ لو لم يكن نبياً لكان سيد العرب بلا منازع ، فكيف وهو اليوم النبي المرسل الذي يمني أصحابه ببسط نفوذ الإسلام على ما وراء الجزيرة وكسر شوكة الأباطرة والأكاسرة والمتجبرين ، وقد رأوا انتصارته الكاسحة رأي العين ولمسوها بأنفسهم .
أجل
، عظم في نفس عيينة أن يرى نفسه مضطراً للجلوس إلى جانب سلمان ولم يكن يخطر على بال هذا المغرور المائل بعطفه أن سلمان سيصبح يوماً ما أميراً على البلد التي كانت مقراً لأكاسرة الفرس ، وأنه سيحتل مكان سابور ذي الأكتاف ، وابرويز ، ويزدجرد هؤلاء الذين دوخوا العالم بانتصارتهم ، وأذاقوا الناس أنواع ظلمهم ، سيحتل مكانهم ليحكم بين الناس بالعدل والحق وبما أنزل الله .
لو
فكر عيينة بمثل هذا لجن أو صعق ،
ومرت
السنين تتلوها سنين والمسلمون يسجلون أعلى الإنتصارات وأعظمها في ميادين الفتح ووعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بفتح مدائن كسرى وظهورهم على القصور الحمر في الروم وقصور الحيرة في صنعاء ، هذا الوعد ظل حلماً في نفوس المؤمنين ينتظرون تحقيقه ، وخيالاً في نفوس المنافقين ، حتى حان الموعد ، وتحقق الوعد الحق .
ففي
سنة أربعة عشر للهجرة تجهز المسلمون لغزو القادسية ، وكان في نية عمر ـ ثاني الخلفاء ـ الشخوص إليها بنفسه ، فاستشار علياً عليه السلام في ذلك فنهاه ، وقال له في كلام طويل :
«
إن الأعاجمَ إن ينظروا إليك غداً يقولوا : هذا أصلُ العَربْ ، فاذا اقتطعتموه إستَرحتُمْ . . . إنك إن شخصتَ من هذه الأرض ، انتَقضَتْ عليك العربُ من أطرافها وأقطارها حتى يَكون ما تدعُ وراءك من العورات أهمَّ إليك مما بين يديك . . الخ »
فأمَّرَ
عمر سعد بن أبي وقاص على المسلمين . وبعث يزدجرد رُسْتُم الأرمني أميراً على الفرس .
أرسل
سعد ، النعمان بن مقرَن رسولاً من قبله إلى يزدجُرد ، فدخل عليه وكلمه بكلام غليظ ، فقال يزدجرد : لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتك ، ثم حمَّله وقراً من تراب على رأسه وساقه حتى أخرجه من باب من أبواب المدائن وقال : ارجع إلى صاحبك ، فقد كتبت إلى رستم أن يدفنه وجنده من العرب في خندق القادسية . ، ثم لأشغلن العرب بعدها بأنفسهم ، ولأصيبنهم بأشد مما أصابهم به سابور ذو الأكتاف .
فرجع
النعمان إلى سعد ، فأخبره . فقال : لا تخف فان الله قد ملكنا أرضهم ، تفاؤلاً بالتراب .
قال
الطبري : وتثبط رستم عن القتال وكرهه وآثر المسالمة ، واستعجله يزدجرد مراراً واستحثه على الحرب وهو يدافع بها ويرى المطاولة ، وكان عسكره مائة وعشرين ألفاً ، وكان عسكر سعد بضعةً وثلاثين ألفاً .
وأقام
رستم بريداً من الرجال الواحد منهم إلى جانب الآخر من القادسية إلى المدائن ، كلما تكلم رستم كلمة أدّاها بعضهم إلى بعض حتى تصل إلى سمع يزدجرد في وقتها .
وشهد
وقعة القادسية مع المسلمين طليحة بن خويلد ، وعمرو بن معدي
__________________
كرب
، والشماخ بن ضرار ، وعبدة بن الطبيب الشاعر ، وأوس بن معن الشاعر ، وقاموا في الناس ينشدونهم الشعر ويحرضونهم .
وقرن
أهل فارس أنفسهم بالسلاسل لئلا يهربوا ، فكان المقرنون منهم نحو ثلاثين ألفاً .
والتحم
الفريقان في اليوم الأول ، فحملت الفيلة التي مع رستم على الخيل فطحنتها ، وثبت لها جمع من الرجالة ، وكانت ثلاثة وثلاثين فيلاً ، منها فيل الملك وكان أبيض عظيماً ، فضربت الرجال خراطيم الفيلة بالسيوف فقطعتها وارتفع عواؤها ، وأصيب في هذا اليوم ـ وهو اليوم الأول ـ خمسمائة من المسلمين وألفان من الفرس .
ووصل
في اليوم الثاني أبو عبيدة الجراح من الشام في عساكر من المسلمين ، فكان مدداً لسعد ، وكان هذا اليوم على الفرس أشد من اليوم الأول ، قتل من المسلمين ألفان ومن المشركين عشرة آلاف ، وأصبحوا في اليوم الثالث على القتال ، وكان عظيماً على العرب والعجم معاً ، وصبر الفريقان ، وقامت الحرب ذلك اليوم وتلك الليلة جمعاء لا ينطقون ، كلامهم الهرير فسميت ليلة الهرير .
وانقطعت
الأخبار والأصوات عن سعد ورستم ، وانقطع سعد إلى الصلاة ، وأصبح الناس حسرى لم يغمضوا ليلتهم كلها والحرب قائمة بعد إلى وقت الظهر ، فأرسل الله تعالى ريحاً عاصفاً في اليوم الرابع أمالت الغبار والنقع على العجم فانكسروا ، ووصلت العرب إلى سرير رستم وقد قام عنه ليركب جملاً وعلى رأسه العلم ، فضرب هلال بن علقمة الجمل الذي رستم فوقه فقطع حباله ، ووقع على هلال أحد العدلين فأزال فقار ظهره ، ومضى رستم نحو العتيق
فرمى نفسه فيه ، واقتحم هلال عليه فأخذ برجله وخرج به يجره حتى ألقاه تحت رجل الخيل وقد قتله ، وصعد السرير فنادى : أنا هلال ، أنا قاتل رستم ،
__________________
فانهزمت
الفرس ، وتهافتوا في العتيق ، فقتل منهم نحو ثلاثين ألفاً ، ونهبت أموالهم وأسلابهم وكانت عظيمةً جداً .
ومن
طريف ما يذكر : أن العرب أخذت كافوراً كثيراً فلم يعبئوا به لأنهم لم يعرفوه ، وباعوه من قوم بملح وقالوا : أخذنا منهم مِلْحاً طيباً ، ودفعنا إليهم مِلحاً غير طيّب .
وأصابوا
من الجامات من الذهب والفضة ما لا يقع عليه العد لكثرته ، فكان الرجل منهم يعرض جامين من ذهب على صاحبه ليأخذ منه جاماً واحداً من فضة ، يعجبه بياضها ويقول : من يأخذ صفراويين ببيضاء .
وأخذ
ضرار بن الخطاب في ذلك اليوم من فارس الراية العظمى ، وكانت متخذةً من جلود النمور المعروفة بـ ( درفش كاويان ) وكانت مرصعة بالياقوت واللؤلؤ وأنواع الجواهر ، فعوض منها بثلاثين ألفاً ، وكانت قيمتها ألفي ألف ومائتي ألف .
وكانت
هذه المعركة هي الباب الأول الذي ينفذ منه المسلمون إلى المدائن حيث القصر الأبيض الذي يقطنه يزدجرد .
وفي
سنة ستة عشر للهجرة كان المسلمون على أبواب بهرسير ( المدائن الغربية ) فلما رأوا الإيوان قالوا : الله أكبر ! أبيض كسرى ! هذا ما وعد الله ورسوله . وكان نزولهم عليها في ذي الحجة .
وحاصر
المسلمون هذه المدينة شهرين وضربوها بالمجانيق واستعملوا أنواع السلاح في قتال أهلها . ثم دخلوها فلم يخرج لهم أحد إلا رجل ينادي بالأمان ، فأمنوه فقال لهم : ما بقي بالمدينة من يمنعكم ، فدخلوا فما وجدوا فيها شيئاً ولا أحداً إلا أسارى وذلك الرجل . وكان المشركون قد فروا منها .
__________________
وفي
شهر صفر صمم المسلمون على عبور دجلة ـ وكان فائضاً ـ وهو يفصل بين بهرسير وبين المدائن التي فيها الطاق ، وتلاحق الناس في دجلة وانهم يتحدثون كما يتحدثون في البر وطبقوا دجلة حتى ما يرى من الشاطىء شيء . وكان الذي يساير سعداً سلمان الفارسي ، فعامت بهم خيولهم . وسعد يقول : حسبنا الله ونعم الوكيل ، والله لينصرن الله وليه ؛ وليظهرن دينه ، وليهزمن عدوه إن لم يكن في الجيش بغى ، أو ذنوب تغلب الحسنات . فقال له سلمان : الإسلام جديد ، ذللت لهم البحور كما ذلل لهم البر ، أما والذي نفس سلمان بيده ليخرجن منه أفواجاً كما دخلوا فيه أفواجاً فخرجوا منه كما قال سلمان لم يفقدوا شيئاً .
خرج
الناس سالمين وخيلهم تنفض أعرافها ، فلما رأى الفرس ذلك وأتاهم أمر لم يكن في حسابهم خرجوا هاربين نحو حلوان ، وكان يزدجرد قد قدم عياله إليها قبل ذلك . ودخل المسلمون المدائن ، فأخذوا في سككها لا يلقون فيها أحداً يخشونه إلا من كان في القصر الأبيض ، فأحاطوا بهم ودعوهم ، فاستجابوا على تأدية الجزية والذمة .
قال
ابن الأثير :
«
وكان سلمان الفارسي رائد المسلمين وداعيتهم ، دعا أهل ( بهرسير ) ثلاثاً ، وأهل القصر الأبيض ثلاثاً . » « كان يقول لهم : إنما كنت رجلاً منكم
، فهداني الله للإسلام فإن أسلمتم ، فلكم ما لَنَا وعليكم ما علينا ، وإن أنتم أبيتم ؛
فأدوا الجزية وأنتم صاغرون ، فإن أبيتم ، نابذناكم على سواء إن الله لا يحب الخائنين . » يخاطبهم بهذا القول قبل الهجوم عليهم ،
عَلَّهم يفيئون إلى الإسلام ، وكان يقول : « أَدعُوهم كما رأيتُ رسولَ الله يدعوهم . » يفعل ذلك بهم ثلاثاً .
__________________
واسم
المدائن بالفارسية ( توسفون ) وإنما سمتها العرب المدائن لأنها سبع مدائن ، بين كل مدينة إلى الأخرى مسافة قريبة ، وقد ورد ذكرها في شعر العرب .
قال
رجل من مراد :
دعوت
كريباً بالمدائن دعوةً
|
|
وسيرت
إذ ضمت علي الأظافر
|
فيال
بني سعدِ علام تركتما
|
|
أخاً
لكما يدعوكما وهو صابر
|
أخاً
لكما إن تدعواه يجبكما
|
|
ونصركما
منه إذا ريع فاتر
|
وقال
عبدة بن الطبيب :
هل
حبلُ خولة بعد الهجر موصولُ
|
|
أم
أنتَ عنها بعيدُ الدار مشغولُ ؟
|
وللأحبة
أيامٌ تَذَكَّرُها
|
|
وللنوى
قبل يوم البين تأويلُ
|
حلَّتْ
خويلةُ في دارِ مجاورةً
|
|
أهل
المدائن فيها الديك والفيل
|
هذا
، وقد تولى سلمان ولاية المدائن في عهد عمر بن الخطاب . . ولم أعثر على نص يحدد تأريخ هذه الولاية وزمانها ، إلا أنه من المرجح أن توليه لها كان بعد فتحها دون أن يسبقه أحد إليها سيما إذا أخذنا بعين الإعتبار خصوصية اللغة ( الفارسية ) بالإضافة إلى كونه من السابقين ، مما يعطيه الأفضلية في ذلك .
ومما
يجدر ذكره ، أنه حين ورد إلى المدائن قعد تحت ظلال الحائط في المسجد ولم يقبل أن يدخل قصر الإمارة . كما روي ذلك عنه ، وهو إن دل على شيء فأنما يدل على مدى السمو النفسي الذي كان يتمتع به هذا الرجل والذي جعله في مصاف عباقرة العالم ممن تخدمهم الدنيا ولا يخدمونها ، وقد بقي سلمان
__________________
في
المدائن إلى أن توفي في سنة ٣٤ هجرية على الأصح ـ كما يقول السيد بحر العلوم .
بينما
يذهب البعض إلى أنه بقي فيها إلى خلافة أمير المؤمنين علي عليه السلام « وأنه توفي في سنة ٣٦ للهجرة » . ولعلهم يستندون في ذلك إلى الكتاب الذي بعث به إليه أمير المؤمنين ( ع ) ، والكتاب هذا نصه :
أما
بعدُ : فإنما مَثَلُ الدنيا مثل الحيَّة ، ليِّنٌ مَسُّها قاتلٌ سَمُّها ، فأعرِضْ
عما يُعجبُكَ فيها لقلة ما يَصْحَبُك منها ، وضع عنك هُمُومَها لما أيقنت به من فراقها
وتصَرَّفِ حالاتها ، وكن آنسَ ما تكون بها أحذرَ ما تكونَ منها ، فان صاحِبَها كلما إطمأن فيها إلى سرور أشخصته إلى محذور ، أو إلى إيناس أزالته عنه إلى إيحاش ، والسلام .
لكن
هذا لا يكفي دليلاً لما ذهبوا إليه ، فان لعلي عليه السلام في نفس سلمان مكانة كبرى تخوله أن يبعث إليه بمثل هذا الكتاب حتى في عهد عمر ، وقد ذكر الشريف الرضي رحمه الله أنه كتبه إليه قبل خلافته .
__________________
في الشام وبيروت . . !
لم
تَفُتْ سلمان رضي الله عنه زيارة هذه البقعة من الأرض ، بل لم يفت هذه البقعة أن تتشرف بزيارة سلمان أحد حواري الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأحد المدركين لوصي عيسى عليه السلام ، وما عشت أراك الدهر عجبا . إنني لم أكد أصدق ، وأنا أقرأ النص الذي يتحدث عن هذه الزيارة ، لأن سلمان بقدر ما له من مكانة في نفوس المسلمين ، لم يشأ أحد من مؤرخيهم إستعراض حياته في مؤلفاته ، بل كل ما يركزون عليه : قصة إسلامه ، وجزءٌ من مواقفه المشهورة التي صار يعرفها القريب والبعيد والقاصي والداني ، فلذا يجد الكاتب عن حياة سلمان صعوبةً ومشقة ، لأنه في هذا الحال سيضطر إلى الغوص في أعماق الكتب كي يعثر على فرائد تتعلق بحياته الكريمة يصطادها من خلال ما يقرأ والتي يدونها المؤلفون ـ عادةً ـ فيما يناسبها .
زار
سلمان الشام ـ وكانت زيارة قصيرة ـ لكنها كانت حدثاً هاماً في تأريخها فحين تناهى إلى سمع الناس فيها أن سلمان ينوي زيارتهم ، هبوا لإستقباله ، وكأنهم يستقبلون ملكاً أو خليفة ، ولم يبق أحد من كبراء الشام وساداتها من ذوي المكانة والشرف إلا تمنى أن ينزل سلمان في ضيافته .
وفي
هذه اللحظات يسأل سلمان عن أخيه أبي الدرداء لينزل في ضيافته فأجابوه بأنه في بيروت .
وكانت
بيروت في ذلك الوقت ثغراً من الثغور الهامة التي يرابط فيها
المسلمون
. فتوجه سلمان نحوها ، ويحدثنا بالقصة القاسم بن عبد الرحمن حيث يقول :
«
زارنا سلمان الفارسي ، فخرج الناس يتلقونه كما يتلقى الخليفة ، فلقيناه وهو يمشي فوقفنا نسلم عليه ، ولم يبق شريف إلا سأله أن ينزل عنده ، فسأل عن أبي الدرداء ! فقيل : هو مرابط .
فقال
: وأين مرابطكم ؟
قالوا
: بيروت .
فتوجه
قِبَله ، فلما صار إلى بيروت ، « واجتمع بمن فيها » قال سلمان :
يا
أهل بيروت ، ألا احدثكم حديثاً يذهب عنكم غرض الرباط ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : رباط يوم كصيام شهر وقيامه ، ومن مات مرابطاً في سبيل الله أجير من فتنة القبر ، وأجرى له ما كان يعمل إلى يوم القيامة .
__________________
سلمان يختار الكوفة
الكوفة
، هذه البقعة الطيبة من الأرض ورد في فضلها وفضل مسجدها احاديث كثيرة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام ، وما ذلك إلا لقدسيتها وكرم تربتها .
«
كان علي عليه السلام يقول : نعمة المدرة . وقال : انه يحشر من ظهرها يوم القيامة سبعون ألفاً وجوههم على صورة القمر .
ويقول
: هذه مدينتنا ومحلتنا ، ومقر شيعتنا .
وقال
جعفر بن محمد الصادق عليه السلام : اللهم ارم من رماها ، وعاد من عاداها .
ويقول
: تربة تحبنا ونحبها .
وكان
علي عليه السلام يقول : الكوفة كنز الإيمان وحجة الإسلام وسيف الله ورمحه يضعه حيث شاء . والذي نفسي بيده لينتصرن الله بأهلها في شرق الأرض وغربها كما انتصر بالحجاز .
وأما
مسجدها فقد رويت فيه فضائل كثيرة .
روى
حبة العرفي ، قال : كنت جالساً عند علي عليه السلام فأتاه رجل
__________________
فقال
: يا أمير المؤمنين هذه راحلتي وزادي أريد هذا البيت أعني بيت المقدس .
فقال
عليه السلام : كل زادك ، وبع راحلتك وعليك بهذا المسجد ـ يعني مسجد الكوفة ـ فانه أحد المساجد الأربعة ، ركعتان فيه تعدلان عشراً فيما سواه من المساجد ، والبركة منه إلى إثنى عشر ميلاً من حيث أتيته ، وهي نازلة من كذا ألف ذراع . وفي زاويته فار التنور ، وعند الاسطوانة الخامسة صلى ابراهيم عليه السلام ، وقد صلى فيه ألف نبي وألف وصي وفيه عصا موسى والشجرة اليقطين ، وفيه هلك يغوث ويعوق وهو الفاروق ، وفيه مسير لجبل الأهواز ، وفيه مصلى نوح عليه السلام ، ويحشر منه يوم القيامة سبعون ألفاً ليس عليهم حساب ، ووسطه على روضة من رياض الجنة ، وفيه ثلاث أعين من الجنة تذهب الرجس وتطهر المؤمنين ، لو علم الناس ما فيه من الفضل لأتوه حبواً .
هذه
البقعة الطاهرة لم يكن لها إسم قبل السنة السابعة عشرة للهجرة ، أو على الأقل لم تكن معروفة بهذا الإسم قبل ذلك الحين ، فالعرب يقولون للرملة الحمراء : كوفة ويقولون لكل رمل وحصباء مختلطين : كوفة . فما هي قصتها . ؟
يبدو
أن المسلمين بعد أن فرغوا من حرب القادسية والمدائن وأقاموا فيهما لم تلائم التربة ولا الطقس أجسامهم ، فتغيرت ألوانهم ونحلت أبدانهم ، فكتب حذيفة إلى عمر : إن العرب قد رقّت بطونها ، وجفَّت أعضادها ، وتغيرت ألوانها .
فكتب
عمر إلى سعد : اخبرني مالذي غير ألوان العرب ولحومهم ؟
فكتب
اليه سعد : إن الذي غيَّرهم وَخُومةُ البلاد ، وإن العرب لا يوافقها إلا ما وافق إبلها من البلدان .
__________________
فكتب
إليه عمر : أن إبعث سلمانَ وحذيفةَ رائدين ، فليرتادا منزلاً برياً بحرياً ليس بيني وبينكم فيه بحر ولا جسر .
فأرسلهما
سعد ، فخرج سلمان حتى يأتي الأنبار ، فسار في غربي الفرات لا يرضى شيئاً حتى أتى الكوفة ، وسار حذيفة في شرقي الفرات لا يرضى شيئاً حتى أتى الكوفة ، فأعجبتهما البقعة ، فنزلا فصليا ودعوا الله تعالى أن يجعلها منزل الثبات .
ثم
رجعا إلى سعد فأخبراه ، فارتحل سعد من المدائن حتى نزل الكوفة في المحرم سنة سبع عشرة ، وكتب إلى عمر : اني قد نزلت بالكوفة منزلاً فيما بين الحيرة والفرات برياً وبحرياً
ينبت الحلفاء والنصيّ
، وخيرت المسلمين بينها وبين المدائن ، فمن أعجبه المقام بالمدائن تركته فيها كالمسلحة .
ولما
استقروا بها ، عرفوا أنفسهم ورجع إليهم ما كانوا فقدوا من قوتهم وأول شيء خط فيها وبني ، مسجدها ، قام في وسطه رجل شديد النزع فرمى من كل جهة بسهم ، وأُمر أن يبنى ما وراء ذلك ، وبني ظلّة في مقدمة المسجد على أساطين رخام من بناء الأكاسرة في الحيرة .
وهكذا
رأينا سلمان يختار هذه البقعة وكأن يد الغيب دلته عليها ، فهي اليوم مزار ملايين المسلمين ، أحياءً وأمواتاً وفي ظهرها ثاني أكبر مقبرة في
العالم حيث مدفن أمير المؤمنين علي عليه السلام والبررة الصالحين من مواليه .
ولم
يفتر سلمان عن ذكرها ، والتنويه بفضلها ، فكان يقول :
الكوفة
قبة الإسلام ، يأتي على الناس زمان لا يبقى مؤمن إلا وهو بها أو يهوي قلبه إليها .
ويقول
: أهل الكوفة أهلُ الله ، وهي قبة الإسلام يحن إليها كلُّ مؤمن .
__________________

الزاهد المتعبد
سلمان العالم
من كـلامه
قال سلمان فصدق
سلمان ، على لسان أئمة أهل البيت
ازواجه وأولاده
كيفية وفاته وغسله ودفنه
كم عاش سلمان

الـزاهد المتعبد
قال
علي عليه السلام :
الزهد
كله بين كلمتين من القرآن : قال الله سبحانه : ( تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ) ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي
، فقد أخذ الزهد بطرفيه .
هذا
هو معنى الزهد باختصار . ويُستشف من هذا التفسير أن الذي يملك نفسه حيال مغريات الدنيا وزهوها هو الزاهد . وبهذا نفهم مضمون الكلمة المأثورة : « ليس معنى الزهد أن لا تملك شيئاً ، بل الزهد أن لا يملك شيء » .
وهو
صفة مميزة للأنبياء والمرسلين والأوصياء والأولياء ، صفة بارزة في سلوكهم لا تقبل التصنع ولا التكلف .
وللإمام
علي عليه السلام خطبة يصف فيها الدنيا وزهد الأنبياء فيها قال :
«
ولقد كان في رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ كافٍ لك في الأسوة ، ودليل لك على ذم الدنيا وعيبها ، وكثرة مخازيها ومساويها ، إذ قبضت أطرافها ، ووطئت لغيره أكنافها ( أي جوانبها ) وفطم عن رضاعها ، وزوي عن زخارفها .
__________________
ثم
يقول (ع) : وإن شئت ثنيت بموسى كليم الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ حيث يقول : « رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ » والله ما سأله إلا خبزاً
يأكله ، لأنه كان يأكل بقلة الأرض ، ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه لهزاله وتشذب لحمه .
إن
شئت ثلثت بداوود ـ صلىاللهعليهوسلم ـ صاحب المزامير ،
وقارىء أهل الجنة ، فلقد كان يعمل سفائف الخوص بيده ، ويقول لجلسائه : أيكم يكفيني بيعها ، ويأكل قرص الشعير من ثمنها .
ثم
يستطرد واصفاً زهد عيسى عليه السلام قائلاً : وإن شئت قلت في عيسى بن مريم عليه السلام فلقد كان يتوسد الحجر ، ويلبس الخشن ، ويأكل الجشب ، وكان أدامه الجوع ، وسراجه بالليل القمر ، وضلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها ، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم ، ولم تكن له زوجة تفتنه ، ولا ولد يحزنه ، ولا مال يلفته ، ولا طمع يذله ، دابته رجلاه ، وخادمه يداه .
ثم
يعود عليه السلام ، فيصف زهد النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيقول :
ولقد
كان صلى الله عليه وآله يأكل على الأرض ، ويجلس جلسة العبد ، ويخصف بيده نعله ويرقع بيده ثوبه ، ويركب الحمار العاري ، ويردف خلفه ، ويكون الستر على باب بيته ، فتكون في التصاوير ، فيقول : يا فلانة ـ لإحدى زوجاته ـ غيبيه عني فاني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها . . الخطبة
.
وأمير
المؤمنين علي عليه السلام كان قمةً في الزهد والتعبد ، ويكفي في ذلك ، ما ورد عن ضرار بن حمزة الضبائي حين دخل على معاوية ، فسأله معاوية عنه ، فقال :
__________________
«
أشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله ، وهو قائم في محرابه ، قابض على لحيته ، يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين ، ويقول : يا دنيا يا دنيا ، إليك عني . أبي تعرضتِ ؟ أم إلي تشوقت ؟ لا حان حينك ، هيهات ؛ غري غيري ، لا حاجة لي فيك ، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها ، فعيشك قصير ، وخطرك يسير ، وأملك حقير ، آهٍ آه من قلة الزاد ، وطول الطريق وبعد السفر وعظيم المورد ! »
وعن
نوف البكالي ، قال : رأيت أمير المؤمنين عليه السلام ذات ليلة وقد خرج من فراشه فنظر في النجوم ، فقال لي : يا نوف ، أراقد أنت أم رامق ؟
فقلت
: بل رامق .
قال
: يا نوف ، طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة ، أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطاً ، وترابها فراشاً ، وماءها طيباً ، والقرآن شعاراً ، والدعاء دثاراً ، ثم قرضوا الدنيا قرضاً على منهاج المسيح .
ولعل
القارىء الكريم يستغرب من هذا العرض الطويل ـ وربما اعتبره خروجاً عن حدود الموضوع ـ زهد سلمان ـ لكن الأمر عكس ذلك ، فأنا أجدني مضطراً لعرض هذا وأكثر منه ، لأن ما يروى في زهد سلمان رضي الله عنه يفوق حد الوصف إلى درجةٍ عالية قد يرفضها الكثيرون ، أو على الأقل يعتبرونها ضرباً من الشذوذ ومدعاة للانتقاص .
ولكن
حين يقارن الباحث والقارىء بين الزهد بالنسبة للأنبياء والأوصياء ، وزهد سلمان الذي كان كما يقال ( قد أدرك أوصياء المسيح ) يهون عليه الأمر ويتقبله بكل إطمئنان وبكل إجلال وإكبار ، وإليك بعضاً مما ورد عن زهده وتعبده .
قال
ابن أبي الحديد ، قال أبو وائل : ذهبت أنا وصاحب لي إلى سلمان
__________________
الفارسي
، فجلسنا عنده فقال : لو لا أن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن التكلف لتكلَّفت لكم ، ثم جاء بخبز وملح ساذج لا أبزار عليه ، فقال صاحبي : لو كان لنا في ملحنا هذا سعتر ! فبعث سلمان بمطهرته فرهنها على سعتر ، فلما أكلنا قال صاحبي : الحمد لله الذي قنعنا بما رزقنا .
فقال
سلمان : لو قنعت بما رزقك لم تكن مطهرتي مرهونة !
ودخل
قوم على سلمان وهو أمير على المدائن ، وهو يعمل الخوص ، فقيل له : تعمل هذا وأنت أمير يجرى عليك رزق ؟
فقال
: اني أحب أن آكل من عمل يدي ، وذكر أنه تعلم عمل الخوص بالمدينة من الأنصار عند بعض مواليه . »
وعن
الحسن البصري : « كان عطاء سلمان خمسة آلاف ، وكان إذا خرج عطاؤه تصدق به ، ويأكل من عمل يده ، وكانت له عباءة يفرش بعضها ويلبس بعضها » .
«
ولم يكن لسلمان بيت ، إنما كان يستظل بالجدر والشجر ، وإن رجلاً قال له : آلا نبني لك بيتاً تسكن فيه . ؟ »
قال
: لا حاجة لي في ذلك . فما زال به الرجل ، حتى قال له : أنا أعرف البيت الذي يوافقك .
فقال
: فصفه لي .
قال
: أبني لك بيتاً إذا أنت قمت فيه ، أصاب رأسك سقفه ، وإن أنت مددت فيه رجليك أصابهما ( الجدار ) .
__________________
قال
: نعم فبنى له . »
«
وقع بين سلمان الفارسي ورجل كلام وخصومة . فقال له الرجل : من أنت يا سلمان ؟ !
فقال
( رضي ) : أما أولي واولك فنطفة قذرة ! وأما آخري وآخرك فجيفة نتنة ! فإذا كان يوم القيامة ، ووضعت الموازين . فمن ثقلت موازينه فهو الكريم ، ومن خف ميزانه فهو اللئيم . »
وذكر
المسعودي في مروج الذهب : أنه « كان يلبس الصوف ، ويركب الحمار ببرذعته بغير إكاف ويأكل خبز الشعير ، وكان ناسكاً زاهداً فلما احتضر بالمدائن قال له سعد بن أبي وقاص : أوصني يا أبا عبد الله .
قال
: نعم . قال : اذكر الله عند همك إذا هممت ، وعند لسانك إذا حكمت وعند يدك إذا قسمت ، فجعل سلمان يبكي ، فقال له : يا أبا عبد الله ما يبكيك ؟ قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : إن في الآخرة
عقبة لا يقطعها إلا المخفون ، وأرى هذه الأساود حولي .
فنظروا
فلم يجدوا في البيت إلا إداوة وركوة ومطهرة » .
__________________

سلمان العالم
نكتفي
هنا بعرضٍ لما قيل وكتب حول علم سلمان الفارسي ( رضي ) فان في ذلك صورة واضحة لما يتمتع به هذا الصحابي العظيم من العلم والفضل .
قال
النبي صلى الله عليه وآله : سلمان يبعث أمة ، لقد أشبع علماً .
وقال
صلىاللهعليهوسلم مخاطباً أبا الدرداء
، وكأنه يريد إيقافه على حقيقة كان يجهلها : « يا عويمر ؛ سلمان أعلم منك . »
وقد
سئل عنه علي عليه السلام ، فقال : امرؤ منا واِلينا أهل البيت ، من لكم بمثل لقمان الحكيم علم العلم الأول والعلم الآخر ، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر ، وكان بحراً لا ينزف . « روى عنه ابن عباس ـ حبر الأمة ـ وأبو
عثمان النهدي ، وأبو الطفيل ، وأبو قرة الكندي » وقد روى البخاري عنه ستين حديثاً .
وغيرهم من الصحابة والتابعين .
وجاء
في كتاب فنون الإسلام في أول من جمع حديثا إلى مثله في باب واحد وعنوان واحد من الصحابة الشيعة : وهم أبو عبد الله سلمان الفارسي وأبو ذر
__________________
الغفاري
رضي الله عنهما ، وقد نص على ذلك رشيد الدين ابن شهراشوب في كتابه معالم علماء الشيعة .
وذكر
الشيخ أبو جعفر الطوسي شيخ الشيعة ، والشيخ أبو العباس النجاشي في كتابيهما في فهرست أسماء المصنفين من الشيعة مصنفاً لأبي عبد الله سلمان الفارسي . ومصنفاً لأبي ذر الغفاري وأوصلا إسنادهما إلى رواية كتاب سلمان وكتاب أبي ذر . وكتاب سلمان كتاب حديث الجاثليق الرومي الذي بعثه ملك الروم بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وقصة
الجاثليق هذا ، أوردها بعض المؤلفين القدامى في كتبهم ، روايةً عن سلمان ، وأرى أن ذكرها هنا لا موجب له .
وقد
ورد في حديث زرارة عن الصادق عليه السلام بلغ من علمه أنه مرَّ برجل في رهط ، فقال له : يا عبد الله ، تب إلى الله عز وجل من الذي عملت في بطن بيتك البارحة .
قال
: ثم مضى ، فقال له القوم لقد رماك سلمان بأمر فما رفعته ( دفعته ) عن نفسك !
قال
: انه أخبرني بأمر ما إطلع عليه إلا الله وأنا . الحديث .
__________________
من كلامه رضي الله عنه
عن
أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهم السلام ، قال :
جلس
جماعة من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ينتسبون ويفتخرون وفيهم سلمان رحمه الله فقال له عمر :
ما
نسبتك أنت يا سلمان ، وما أصلك ؟
فقال
: أنا سلمان بن عبد الله ، كنت ضالاً ، فهداني الله بمحمد ، وكنت عائلاً ، فأغناني الله بمحمد ، وكنت مملوكاً فاعتقني الله بمحمد ، فهذا حسبي ونسبي يا عمر .
ثم
خرج رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : فذكر سلمان ما قال
عمر وما أجابه به .
فقال
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، يا معشر قريش ؛ إن
حسب المرء دينه ، ومروته خلقه ، وأصله عقله ، قال الله تعالى : « يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا ...
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ » .
ثم
أقبل على سلمان فقال له : « سلمان ، إنه ليس لأحد من هؤلاء عليك فضل إلا بتقوى الله عز وجل ، فمن كنت أتقى منه فأنت أفضل منه . »
__________________
البلاذري
بسنده عن أحمد بن يحيى الجوني :
«
قال سلمان الفارسي حين بويع أبو بكر « كرداذ وناكرداذ » ـ أي عملتم وما عملتم ـ لو بايعوا علياً لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم . »
قال
عمر لسلمان : أملك أنا أم خليفة . ؟
قال
له سلمان : إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهماً أو أقل أو أكثر ووضعته في غير حق ، فأنت ملك غير خليفة . فبكى عمر .
وكان
إذا قيل له : ابن من أنت ؟ يقول : أنا سلمان بن الإسلام أنا من بني آدم .
صنع
سلمان طعاماً لإخوانه ، فجاء سائل ، فأراد بعضهم أن يناوله رغيفاً ، فقال سلمان : ضع ، إنما دعيت لتأكل .
ثم
قال : وما علي أن يكون لي الأجر ، وعليك الوزر . ولا يخفى ما في هذه الفقرة من الدقة الفقهية ، فللضيف الحق في أن يأكل هو ، ولا يجوز له التصرف في أكثر من ذلك إلا بإذن المضيّف . ولو تصرف المرء بمال غيره وتصدق به ، فإن الأجر يكون للمالك ، والوزر على المتصدق لأنه غاصب .
وروى
الكشي بسنده عن أبي عبد الله عليه السلام قال :
تزوج
سلمان إمرأةً من كندة ، فدخل عليها فإذا لها خادمة وعلى بابها عباءة .
فقال
سلمان : إن في بيتكم هذا لمريضاً ، أو قد تحولت الكعبة فيه .
فقيل
: إن المرأة أرادت أن تستر على نفسها فيه .
__________________
قال
: فما هذه الجارية . ؟
قالوا
: كان لها شيء فأرادت أن تخدم .
قال
: إني سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : أيما رجل
كانت عنده جارية ، فلم يأتها أو لم يزوجها من يأتيها ، ثم فجرت كان عليه وزر مثلها .
ومن
أقرض قرضاً فكأنما تصدق بشطره ، فان أقرضه الثانية ، كان رأس المال وأداء الحق إلى أن يأتيه به في بيته أو في رحله فيقول : ها خذه .
عن
أبي عبد الله عليه السلام قال :
قال
سلمان رحمة الله عليه : عجبت بستّ ، ثلاث أضحكتني وثلاث أبكتني .
فأما
التي أبكتني ، ففراق الأحبة محمد وحزبه . وهول المطلّع . والوقوف بين يدي
الله عز وجل .
وأما
التي أضحكتني ، فطالب الدنيا والموت يطلبه . وغافل وليس بمغفول عنه ، وضاحك ملىء فيه لا يدري أرضي الله أم سخط .
__________________

قال سلمان ، فصدق !
قال
سلمان مخاطباً المسلمين حين غزوا بلنجر وغنموا وفرحوا بالغنائم :
«
إذا أدركتم سيد شباب أهل محمد ، فكونوا أشد فرحاً بقتالكم معه بما أصبتم اليوم من الغنائم . . »
قال
المسيب بن نجبة الفزاري : لما أتانا سلمان الفارسي قادماً ، تلقيناه فسار حتى انتهى إلى كربلاء ، فقال ما تسمون هذه الأرض ؟ قالوا : كربلاء . فقال : هذه مصارع اخواني ، هذا موضع رحالهم ، وهذا مناخ ركابهم ، وهذا مهراق دمائهم ، يقتل بها ابن خير الأولين ، ويقتل بها خير الآخرين .
قال
سلمان ذلك قبل أن يكون هناك قتال في كربلاء ، فقد كانت غزوة بلنجر في سنة اثنتين وثلاثين للهجرة أي قبل واقعة كربلاء بثلاثين سنة تقريباً كما يظهر
ومرت
السنين تتوالى ، ومات خليفة وقام خليفة حتى جاء عهد يزيد الطاغية ، فكانت ثورة الإمام الحسين الخالدة . . . وبينما الحسين في طريقه إلى كربلاء إذ به ينزل على ماء ويخيم مع أهل بيته هناك ، وكان زهير بن القين قادماً من الحجاز بعد أن أنهى مناسك حجه فيها ، فنزل بالقرب من الحسين
__________________
وكان
عثماني العقيدة منحرفاً عن أهل البيت عليهم السلام إلا أن الماء جمعهم في ذلك المكان ، وعلم الحسين به فاستدعاه ذات يوم . فشق عليه ذلك ، ثم أجابه على كره ، فلما عاد من عنده نقل ثقله إلى ثقل الحسين ، ثم قال لأصحابه :
من
أحب منكم أن يتبعني ، وإلا فانه آخر العهد ، وسأحدثكم حديثاً : غزونا بلنجر ففتح علينا وأصبنا غنائم ففرحنا ، وكان معنا سلمان الفارسي ، فقال لنا : إذا أدركتم سيد شباب أهل محمد فكونوا أشد فرحاً بقتالكم معه بما أصبتم اليوم من الغنائم . فأما أنا فأستودعكم الله . ، ثم طلق ـ زهير ـ زوجته وقال لها : الحقي
بأهلك فاني لا أحب أن يصيبك في سببي إلا خير ، ولزم الحسين حتى قتل معه »
قـال سلمان :
«
لتحرقن هذه الكعبة على يدي رجل من أهل الزبير » أي بسببه .
قالها
قبل زمن بعيد من دعوة عبد الله بن الزبير الناس إلى نفسه ولجوئه إلى الكعبة المشرفة .
وفي
سنة أربع وستين للهجرة حوصر ابن الزبير ومن معه من أصحابه في البيت ، واستمر القتال بينه وبين أهل الشام قرابة الشهرين « حتى إذا مضت ثلاثة أيام من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين ، رموا البيت بالمجانيق وحرقوه بالنار وأخذوا يرتجزون ويقولون :
خطارة
مثل الفنيق المزبد
|
|
نرمي
بها أعواد هذا المسجد
|
وقيل
: إن الكعبة إحترقت من نار كان يوقدها أصحاب عبد الله حول
__________________
الكعبة
وأقبلت شررة هبت بها الريح فاحترقت ثياب الكعبة واحترق خشب البيت .
ومر
سلمان ـ في طريقه إلى المدائن ـ بالكوفة ، فسأل من كان معه :
هذه
الكوفة . ؟
قالوا
نعم .
قال
: قبة الإسلام . « يأتي على الناس زمان لا يبقى مؤمن إلا وهو بها ، أو يهوي قلبه إليها . . »
__________________

سلمان على لسان أئمة أهل البيت عليهم
السلام
سئل
علي أمير المؤمنين عليه السلام عن سلمان ، فقال :
«
إمرء منا وإلينا أهل البيت ، من لكم بمثل لقمان الحكيم ، علم العلم الأول والعلم الآخر ، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر ، وكان بحراً لا ينزف . ! »
عن
أبي جعفر عليه السلام ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال :
«
ضاقت الأرض بسبعة ، بهم ترزقون ، وبهم تنصرون ، وبهم تمطرون ، منهم : سلمان الفارسي والمقداد ، وأبو ذر ، وعمار ، وحذيفة . وكان علي ( ع ) يقول : وأنا إمامهم ، وهم الذين صلوا على فاطمة عليها السلام . » .
أخرج
الشيخ الطوسي في أماليه ، عن منصور بن بزرج ، قال :
قلت
لأبي عبد الله الصادق ( ع ) ما أكثر ما أسمع منك ـ سيدي ـ ذكر سلمان الفارسي . ؟
قال
( ع ) : لا تقل سلمان الفارسي ، ولكن قل سلمان المحمدي ، أتدري ما أكثر ذكري له . ؟ قلت : لا .
قال
: لثلاث خصال ، إيثاره هوى أمير المؤمنين عليه السلام على نفسه .
__________________
والثانية
: حبه للفقراء واختياره إياهم على أهل الثروة والعدد . والثالثة : حبه للعلم والعلماء .
وأخرج
الكشي عن محمد بن حكيم ، قال :
ذكر
عند أبي جعفر ( ع ) سلمان المحمدي ، فقال : إن سلمان منا أهل البيت ، إنه كان يقول للناس : هربتم من القرآن إلى الأحاديث . ، وجدتم كتاباً دقيقاً حوسبتم فيه على النقير والقمطير والفتيل وحبة الخردل ، فضاق عليكم ذلك ، وهربتم إلى الأحاديث التي اتسعت عليكم .
وبسنده
عن الحسين بن صهيب عن أبي جعفر ، قال : ذكر عنده سلمان الفارسي قال فقال أبو جعفر عليه السلام :
لا
تقولوا سلمان الفارسي ، ولكن قولوا : سلمان المحمدي ، ذاك رجل منا أهل البيت .
الصدوق
، بسنده عن إبن نباته قال :
سألت
أمير المؤمنين عليه السلام عن سلمان الفارسي رحمة الله عليه وقلت : ما تقول فيه ؟
فقال
: ما أقول في رجل خلق من طينتنا ، وروحه مقرونة بروحنا ، خصه الله تبارك وتعالى من العلوم بأولها وآخرها وظاهرها وباطنها وسرها وعلانيتها ، ولقد حضرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمان بين يديه ، فدخل أعرابي فنحاه عن مكانه وجلس فيه ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله حتى در العرق بين عينيه واحمرتا عيناه ثم قال : يا أعرابي ، اتنحي رجلاً يحبه الله تبارك وتعالى في السماء ويحبه رسوله في الأرض ! يا أعرابي ، أتنحي رجلاً ما حضرني جبرئيل إلا أمرني عن ربي عز وجل أن أقرئه السلام ! يا
__________________
أعرابي
، إن سلمان مني ، من جفاه فقد جفاني ومن آذاه فقد آذاني ، ومن باعده فقد
باعدني ، ومن قربه فقد قربني ، يا أعرابي لا تغلطن في سلمان ، فان الله تبارك وتعالى قد أمرني أن أطلعه على علم المنايا والبلايا والأنساب وفصل الخطاب .
قال
: فقال الأعرابي : يا رسول الله ، ما ظننت أن يبلغ من فضل سلمان ما ذكرت ، أليس كان مجوسياً ثم أسلم ؟
فقال
النبي ( صلى الله عليه وآله ) يا أعرابي أخاطبك عن ربي ، وتقاولني ؟ ! إن سلمان ما كان مجوسياً ، ولكنه كان مظهراً للشرك ، مبطناً للإيمان .
يا
أعرابي ، أما سمعت الله عز وجل يقول : « فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ
حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ
حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا »
أما سمعت الله عز وجل يقول : « وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا .
» يا أعرابي خذ ما آتيتك وكن من الشاكرين ولا تجحد فتكون من المعذبين ، وسلم لرسول الله قوله تكن من الآمنين .
عن
جابر ، عن أبي جعفر عليه السلام قال :
«
دخل أبو ذر على سلمان وهو يطبخ قدراً له ، فبينا هما يتحادثان إذ انكبت القدر على وجهها على الأرض ، فلم يسقط من مرقها ولا من ودكها شيء ! فعجب من ذلك أبو ذر عجباً شديداً ، وأخذ سلمان القدر فوضعها على حالها الأول على النار ثانيةً ، وأقبلا يتحدثان فبينما يتحدثان إذ انكبت القدر على وجهها فلم يسقط منها شيء من مرقها ولا من ودكها !
قال
: فخرج أبو ذر ـ وهو مذعور ـ من عند سلمان ، فبينما هو متفكر إذ
__________________
لقي
أمير المؤمنين عليه السلام على الباب ، فلما أن بصر به أمير المؤمنين عليه السلام ، قال له : يا أبا ذر مالذي أخرجك من عند سلمان وما الذي ذعرك ؟
فقال
له أبو ذر : يا أمير المؤمنين ، رأيت سلمان صنع كذا وكذا ، فعجبت من ذلك !
فقال
أمير المؤمنين : يا أبا ذر ، إن سلمان لو حدثك بما يعلم لقلت : رحم الله قاتل سلمان . . الحديث .
__________________
أزواجه وأولاده
الرجل
كل الرجل ، ذلك الذي يعظم في أعين الناس ، فينسون كل شيء حوله ، ينسون محيطه وأبنائه ، وماله وما عليه إلا شخصيته ، وهذا أمر نلمسه وندركه ، فالأنظار عادةً تصوب نحو العظماء دون التفكير بمن حولهم حتى ولو كانوا أبنائهم .
والذي
يبدو أن سلمان من هذا النمط النادر ، فلا هو يهتم بالتحدث عن عائلته وبيته ، ولا الناس يتحدثون عن ذلك ، اللهم إلا ما يتصل منه بعالم المثل والأخلاق .
عن
عبد الرحمن بن السلمي قال : إن سلمان الفارسي تزوج إمرأة من كندة ، فلما كان ليلة البناء عليها ، جلس عندها فمسح بناصيتها ودعا لها بالبركة ، وقال لها :
أتطيعيني
فيما آمرك ؟
قالت
: جلست مجلس من تطيع .
قال
: فان خليلي صلى الله عليه وآله أوصاني إذا اجتمعت إلى أهلي ، أن أجتمع على طاعة الله .
فقام
وقامت إلى المسجد فصليا ما بدا لهما ، ثم خرجا فقضى منها ما تقضي
الرجال
من النساء ، فلما أصبح ، غدا عليه أصحابه وقالوا : كيف وجدت أهلك ؟
فأعرض
عنهم ، ثم قال : إنما جعل الله الستور والخدور والأبواب لتواري ما فيها ؛ حسب امرىءٍ منكم أن يسأل عما ظهر له ، فأما ما غاب عنه فلا يسئلن عن ذلك . سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : التحدث عن
ذلك كالحمارين يتشامان في الطريق .
وفي
مهج الدعوات : انه كان له ولد إسمه عبد الله .
وذكر
صاحب « نفس الرحمن » أن من أحفاده ضياء الدين ، وهو من علماء خجند ، وله شرح على كتاب ( محصول الرازي ) . . وكان متكفلاً للأمور الشرعية في بخارى ، وتوفي بهرات سنة ٦٣٣ .
__________________
كيفية وفاته رضي الله عنه
لقد
آن لهذا الفارس أن يترجل بعد أن حاز قصب السبق في ميدان الإيمان ، لقد كان أروع مثل للعبقرية التي تنجبها أمة فكان « سابق فارس » نحو الإيمان ورائدها نحو الإسلام ، قضى عمره المديد مجداً في طلب الحق حتى كان له ما أراد ، وقد شاء الله له أن يعود من حيث أتى ، إلى وطنه وأهله وعشيرته دالّاً لهم ومرشداً ، وأمير عدل يحكم بينهم بالحق .
ومضت
سنين أحسبها تنوف على ربع قرن ، كان سلمان خلالها ينفض عن نفسه غبار هذه الدنيا الزائفة مزمعاً الرحيل نحو العالم الخالد . . عالم الآخرة . لينعم هناك برضوان الله ورحمته في جنته الخالدة مع الأنبياء والشهداء والصديقين .
قال
الأصبغ بن نباته : كنت مع سلمان الفارسي رحمة الله عليه وهو أمير المدائن ، فأتيته يوماً وقد مرض مرضه الذي مات فيه . . فلم أزل أعوده في مرضه حتى اشتد به الأمر ، فالتفت إلي وقال :
يا
أصبغ ، عهدي برسول الله صلى الله عليه وآله يقول : يا سلمان ، سيكلمك ميت إذا دنت وفاتك .
__________________
(١) : راجع البحار
٢٢ / ٣٧٤ والقصة طويلة ومفصلة اقتضبنا منها ما يناسب الموضوع .
وبينما
هو في مرضه إذ دخل عليه سعد بن أبي وقاص يعوده ، فبكى سلمان ، « فقال له سعد : ما يبكيك يا أبا عبد الله ؟ توفي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو عنك راضٍ ، وترد عليه الحوض .
فقال
سلمان : أما اني لا أبكي جزعاً من الموت ، ولا حرصاً على الدنيا ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله عهد إلينا فقال : ليكن بلغة أحدكم مثل زاد الراكب ، وحولي هذه الأساود .
وإنما
حوله إجانة ، وجفنة ، ومطهرة .
واشتد
به المرض ، فمر على المقابر ـ وكأنه أراد أن يستعلم أمره ـ فقال : السلام عليكم يا أهل القبور من المؤمنين والمسلمين ، يا أهل الدار هل علمتم أن اليوم جمعة .
وحين
عاد إلى مقره استلقى على فراشه ، فغفى ونام « فأتاه آتٍ فقال : وعليكم السلام يا أبا عبد الله ، تكلمت فسمعنا ، وسلمت فرددنا ، وقلت : هل تعلمون أن اليوم جمعة ، وقد علمنا ما تقول الطير في يوم الجمعة : قدوس . . قدوس . . ربنا الرحمن الملك . . »
وأفاق
سلمان من غفوته ، ثم التفت إلى من حوله قائلاً لهم : أسندوني ، فلما أسندوه رمق السماء بطرفه وقال :
«
يا من بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون ، وهو يجير ولا يجار عليه بك آمنتُ ، ولنبيك إتبعت ، وبكتابك صدقتُ ، وقد أتاني ما وعدتني ، يا من لا يُخلف الميعاد إقبضني إلى رحمتك ، وانزلني دار كرامتك ، فأنا أشهد أن لا إله إلاه إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . » والتفت إلى من حوله قائلاً :
__________________
«
قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله « إذا حضرك أو أخذك الموت ، حضر أقوام يجدون الريح ولا يأكلون الطعام ـ يعني الملائكة ـ . »
ثم
أخرج صرةً من مسك . فقال : هبة أعطانيها رسول الله صلى الله عليه وآله . . ثم بلّها ونضحها حوله ، ثم قال لإمرأته : قومي أجيفي الباب . »
«
قالت زوجته : ففعلت ، وجلست هنيئة ، فسمعت هسهسةً ، فصعدت ، فإذا هو قد مات وكأنما هو نائم . »
« تجهيزه ودفنه »
قالوا
: وإن الذي قام بتجهيزه هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام !
وكيفية ذلك هو ما رواه الأصبغ بن نباتة ، قال :
«
فبينما نحن كذلك ـ منشغلين بموت سلمان ـ إذ أتى رجل على بغلة شهباء متلثماً ، فسلم علينا ، فرردنا السلام عليه . »
فقال
: يا أصبغ جدوا في أمر سلمان ، وأردنا أن نأخذ في أمره ، فأخذ معه حنوطاً وكفناً فقال : هلموا ، فان عندي ما ينوب عنه ، فأتيناه بماءٍ ومِغْسل ، فلم
يزل يغسِّلُه بيده حتى فرغ ، وكفَّنهُ وصليْنا عليه ودفنَّاه ولحدَّه علي عليه
السلام بيده ، فلما فرغ من دفنه وهمَّ بالإنصراف تعلقت بثوبه ، وقلت له : يا أمير المؤمنين ، كيف كان مجيئك ؟ ومن أعلمك بموت سلمان ؟
قال
: فالتفت عليه السلام إلي وقال : آخذُ عليك ـ يا أصبغ ـ عهدَ الله وميثاقه أنك لا تحدث به أحداً ما دمتُ حياً في دار الدنيا .
فقلت
: يا أمير المؤمنين ، أموت قبلك ؟
فقال
: لا يا أصبغ ، بل يطول عمرك !
__________________
قلت
يا أمير المؤمنين ، خذ علي عهداً وميثاقاً ، فإني لك سامع مطيع ، اني لا أحدث به حتى يقضي الله من أمرك ما يقضي ، وهو على كل شيء قدير .
فقال
لي : يا أصبغ ، بهذا عهدني رسول الله ، فاني قد صليت هذه الساعة بالكوفة ، وقد خرجت أريد منزلي ، فلما وصلت إلى منزلي إضطجعت ، فأتاني آتٍ في منامي وقال : يا علي ، إن سلمان قد قضى نحبه !
فركبت
وأخذت معي ما يصلح للموتى ، فجعلت أسير ، فقرّب الله لي البعيد ، فجئت كما تراني ، وبهذا أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله .
قال
الأصبغ : ثم إنه دفنه وواراه ، فلم أرَ صعد إلى السماء ، أم في الأرض نزل ، فأتى الكوفة والمنادي ينادي لصلاة المغرب .
رواية ثانية عن ( مناقب ابن شهراشوب )
روى
حبيب بن حسن العتكي ، عن جابر الأنصاري قال :
صلى
بنا أمير المؤمنين عليه السلام صلاة الصبح ، ثم أقبل علينا فقال : معاشر الناس ، أعظم الله أجركم في أخيكم سلمان ، فقالوا في ذلك ـ أي صاروا بين مصدق ومكذب ـ فلبس عمامة رسول الله صلى الله عليه وآله ودراعته ، وأخذ قضيبه وسيفه ، وركب على العضباء وقال لقنبر : عدَّ عشراً ! قال
: ففعلت ، فإذا نحن على باب سلمان .
قال
زاذان : فلما أدركت سلمان الوفاة قلت له : من المغسل لك . ؟
قال
: من غسل رسول الله . ( يعني علياً ) .
فقلت
: انك بالمدائن وهو بالمدينة !
__________________
فقال
: يا زاذان ، إذا شددت لحيي ، تسمع الوجبة ! فلما شددت لحييه سمعت الوجبة
، وأدركت الباب ، فإذا أنا بأمير المؤمنين عليه السلام ، فقال : يا زاذان
، قضى أبو عبد الله سلمان ؟
قلت
: نعم يا سيدي ، فدخل وكشف الرداء عن وجهه . . الخ الرواية
وهناك
رواية أخرى بنفس المضمون ، لكنها تشير إلى أن ذلك حدث في خلافة
عمر بن الخطاب .
ومن
الواضح أن هذه الروايات يناقض بعضها بعضاً ، فالأولى تقول : أنه ـ يعني
علياً ـ كان في الكوفة ، والثانية تقول : أنه جاء من المدينة ، والثالثة : أن ذلك تم في خلافة عمر . إلى غير ذلك .
ولكن
لنا أن نقول : بأن هذا الأمر شائع بين الناس ، بل بين الخاصة إلى عصرنا الحاضر ، فالمعروف أن الذي جهز سلمان رضي الله عنه هو أمير المؤمنين علي عليه السلام ، ولعل عدم اثبات المؤرخين لمثل هذا في كتبهم يرجع إلى تكذيب القصة من أساسها ، حيث أن أذهانهم لا تتحمل فكرة إنتقال الأجسام من مكان إلى مكان بسرعة غير طبيعية تفوق سرعة ( الحصان والجمل ) .
أما
نحن ، فعلينا أن ننظر لهذا الأمر من زاوية فكرية متحررة ، فنقول :
إن
حدوث مثل هذا الأمر ممكن عقلاً ، بل هو واقع أيضاً في عصرنا الحاضر بفضل التقنية والتقدم العلمي الذي يهيىء الوسيلة لذلك .
إذن
، يبقى السؤال : كيف وما هي الوسيلة في ذلك العصر ؟
إن
قدرة الله سبحانه لا يقف دونها شيء ، فهو مسبب الأسباب ، والقادر على تهيئتها متى يشاء ، وقد ورد في كتابه الكريم مثل لما نحن في صدده ، في عرضه لقصة « عرش بلقيس » حيث قال تعالى :
« قَالَ يَا أَيُّهَا
الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ
* قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ
__________________
الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ
وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ . قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ
طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي . »
وهكذا
في طرفة عين كان عرش بلقيس ينقل من اليمن إلى القدس على يد صاحب سليمان ( آصف بن برخيا ) الذي عنده علم من الكتاب !
فما
ظنك بصاحب محمد صلى الله عليه وآله الذي قال فيه : أنا مدينة العلم وعلي بابها .
__________________
كم عاش سلمان . . ؟
مسألة
ـ طول العمر ـ حيرت كثيراً من الباحثين ، وهي مسألة تترتب عليها أهمية كبرى في غير ما نحن فيه ، من حيث أنها تصل بنا إلى الحديث عن ( المهدي ) أو المخلص الذي ينتظره العالم والذي ولد منذ أكثر من ألف سنة ولا زال حياً ، تسوقنا إلى الحديث عنه مرغمين ، لذلك فإن رفض الفكرة من أساسها يعني الرفض لفكرة بقاء المهدي ، وأمثالها ، مع أن ذلك أمر تسالمت عليه الأديان وأقرته .
إذن
: مسألة طول العمر مسألة ذات أهمية قصوى لما يترتب عليها من آثار جليلة ، فلا يمكن الوقوف أزاءها موقف الحيرة والتردد ، بل لا بد من البت فيها كي نريح ونستريح .
والآن
: ماذا يقول المؤرخون عن عمر سلمان . ؟
قال
العباس بن يزيد ، قال أهل العلم : عاش سلمان ثلاثمائة وخمسين سنة ، فأما مائتان وخمسون فلا يشكون فيه .
قال
أبو نعيم : كان سلمان من المعمرين ، يقال أنه أدرك عيسى بن مريم وقرأ الكتابين .
وقال
ابن الأثير : وكان عمره مائتين وخمسين سنة ، هذا أقل ما قيل فيه .
__________________
وقيل
ثلاثمائة وخمسون سنة ، وكان قد أدرك بعض أصحاب المسيح عليه السلام .
وقال
ابن عبد البر : يقال أنه أدرك عيسى بن مريم ، وقيل بل أدرك وصي عيسى ، ثم عقب قائلاً :
قال
الذهبي : وجدت الأقوال في سنه كلها دالة على أنه تجاوز المائتين وخمسين ، والاختلاف إنما هو في الزائد . . الخ .
والذي
أعتقده أن هذه النصوص كافية في إقتناعنا بالنسبة لعمر سلمان الذي تجاوز المائتين وخمسين سنة ، ولكن يبقى سؤال : هل هناك مانع من أن يعيش الإنسان فترات طويلة ربما تجاوزت الألف سنة أو أكثر ؟
والجواب
هو بالنفي القاطع ، فلا مانع من ذلك البتة ، بل كل الشواهد الدينية والعلمية تقر ذلك وتؤيده ، وكذلك الحسية .
الشواهد الدينية ، تؤكد أن الخضر عليه السلام لا زال
حياً منذ عهد موسى عليه السلام ، وأن نوح عليه السلام لبث في قومه ٩٥٠ سنة بنص الآية الكريمة : «
فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا » وقصة أصحاب الكهف :
«
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا » فيها دليل كافٍ ،
إلى ما هنالك .
الشواهد العلمية : وهي تتلخص بنظرية أن الإنسان « قابل
للبقاء إلى حد بعيد » وأن السؤال المحير هو : « لماذا الموت ؟ » لا « لماذا الحياة » فإن الأنسجة
الرئيسية في جسم الكائن الحي قابلة للإستمرار إلى ما لا نهاية له ما لم يعرض لها ما يقطع حياتها .
فقد
أصبح من المقرر لدى علماء الحياة أن لا مانع للإنسان من حياةٍ طويلة إذا تيسرت له جميع الظروف المناسبة ، بل لقد قرروا أن الأجزاء الأولية
__________________
للأنسجة
يمكن أن تبقى حيةً نامية ما دام يتوفر لها الغذاء اللازم والمناخ الملائم وما دامت في منأىً عن العوارض الخارجية المعيقة للنمو والحياة .
إذن
فلنفتش عن سر الموت ، لماذا يموت الإنسان ؟
هناك
ما يقرب من مائتي إجابة عن هذا السؤال الخطير الذي كثيراً ما يطرح في المجالس العلمية ، والذي دافعه حلم الإنسان بالخلود ، وقد يطرح بعضهم أجوبةً لهذا السؤال : منها : ( فقدان الجسم لفاعليته ) ، ( وانتهاء عملية الأجزاء التركيبية ) ، ( تجمد الأنسجة العصبية ) ، ( حلول المواد الزلالية القليلة
الحركة ، محل الكثير منها ) ، ( ضعف الأنسجة الرابطة ) ، « انتشار سموم « بكتريا » الأمعاء في الجسم » وما إلى ذلك .
وربما
كان القول « بفقدان الجسم لفاعليته » قولاً جذاباً ، فان الآلات الحديدية والأقمشة والأخشاب كلها تفقد فاعليتها بعد أجل محدود كذلك أجسامنا أيضاً تبلى وتفقد فاعليتها كالجلود التي نلبسها في موسم الشتاء .
لكن
العلم الحديث لا يؤيدنا في ذلك ، لأن المشاهدة العلمية للجسم الإنساني تؤكد أنه ليس كالجلود الحيوانية والآلات الحديدية ، وليس كالجبال . . وإن أقرب شيء يمكن تشبيهه به ، هو ذلك ( النهر ) الذي لا يزال يجري منذ آلاف السنين على ظهر الأرض ، فمن الذي يستطيع القول بأن النهر الجاري يبلى ويهن ويعجز ؟ .
بناءً
على هذا الأساس ، يعتقد الدكتور « لنس بالنج » أن الإنسان أبدي إلى حد كبير ، نظرياً ، فان خلايا جسمه آلات تقوم بإصلاح ما فيه من الأمراض ومعالجتها تلقائياً ! وبرغم ذلك فإن الإنسان يعجز ويموت ؛ ولا تزال علل هذه الظاهرة أسراراً تحير العلماء .
__________________
إن
جسمنا هذا في تجدد دائم ، وإن المواد الزلالية التي توجد في خلايا دمائنا تتلف كذلك ثم تتجدد ، ومثلها جميع خلايا الجسم تموت وتحل مكانها خلايا جديدة ، اللهم إلا الخلايا العصبية . وتفيد البحوث العلمية : أن دم الإنسان يتجدد تجدداً كلياً خلال ما يقرب من أربع سنين ، كما تتغير جميع ذرات الجسم الإنساني في بضع سنين ، ونخرج من هذا بأن الجسم الإنساني ليس كهيكل ، وإنما هو كالنهر الجاري أي أنه ذو عمل مستمر .
شواهد حسية :
بعد
هذا فليس بعجيب أن يطول عمر بعض الناس إذا توفرت الظروف الصالحة ـ كما نرى بالبديهة في عصرنا الحاضر ـ فقد عمَّر كثيرون من سكان منطقة خوزستان إلى ما فوق المئتي سنة ، ووصل أفراد منهم إلى ربع الألف وزادوا
كما أجرت بعض وسائل الإعلام مقابلات معهم منذ أربع سنوات .
الإستقراء :
وهو
شاهد رابع يضاف إلى تلك الشواهد ، فقد دون المؤرخون الشيء الكثير عن أخبار المعمرين وأحوالهم ، وأفرد بعضهم كتباً خاصةً لذلك ـ ونذكر من هؤلاء المعمرين ما يلي .
١ـ
لقمان بن عاد . قال في مجمع البحرين ، أنه عاش ألف سنة ، وقيل أنه عاش عمر سبعة أنسر ، فكان يأخذ النسر وهو فرخ ويجعله في الجبل ، فإذا مات أخذ غيره ، حتى كان آخرها « لُبَد » وكانت أطولها عمراً ، فقيل : طال الأمد على لبد ، ولما رأى هلاكه قال : اهلكتني يا لبد ، وفيه يقول الأعشى :
لنفسك
أن تختار سبعة أنسر
|
|
إذا
ما مضى نسر خلوت إلى نسر
|
فعمر
حتى خال أن نسوره
|
|
خلود
وهل تبقى النفوس على الدهر
|
وقال
لأدناهن إذ حل ريشه
|
|
هلكت
وأهلكت ابن عادٍ ولا تدري
|
__________________
٢
ـ ربيع بن ضبع بن وهب ، قيل : انه عاش ثلاثمائة وأربعين سنة وأدرك النبي صلى الله عليه وآله ، ولم يسلم ، وهو الذي يقول ، وقد جاوز المئتين :
ألا
أبلغ بنيّ بَني ربيع
|
|
وأشرار
البنين لهم فداء
|
بأني
قد كبرت ودق عظمي
|
|
فلا
يشغلكم عني النساء
|
إذا
كان الشتاء فأدفئوني
|
|
فان
الشيخ يهدمه الشتاء
|
وأما
حين يذهب كل قر
|
|
فسربال
خفيف أو رداء
|
إذا
عاش الفتى مئتين عاماً
|
|
فقد
ذهب اللذادة والفتاء
|
٣ ـ أكثم بن صيفي
الأسدي التميمي . « قيل أنه عاش ثلاثمئة وثلاثين سنة . »
وكانت العرب لا تفضل عليه أحداً ، وهو القائل :
وإن
إمرىءً قد عاش تسعين حجةً
|
|
إلى
مئةٍ لم يسئم العيش ، جاهل
|
خلت
مائتان غير ست واربع
|
|
وذلك
من عد الليالي قلائل
|
وقد
أدرك الإسلام وكتب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً يقول فيه : باسمك اللهم ، من العبد إلى العبد فانا بلغنا ما بلغك ، وأتانا عنك خبر ، ما أصله ؟ فإن كنت رأيت فأرنا ، وإن كنت علمت ، فعلمنا ، وأشركنا في كنزك ، والسلام .
فكتب
إليه رسول الله صلى الله عليه وآله في بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى أكثم بن صيفي ، أحمد الله إليك ، إن الله أمرني أن أقول لا إله إلا الله ، أقولها وآمر الناس بها ، الخلق خلق الله والأمر كله لله ، خلقهم
وأماتهم ، وهو ينشرهم وإليه المصير ، أدبتكم بآداب المرسلين ، ولتسئلن عن النبأ العظيم ، ولتعلمن نبأه بعد حين .
فلما
وصل كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمع بني تميم ووعظهم وحثهم على المسير إليه ، وعرفهم وجوب ذلك عليهم ، فلم يجيبوه . ، فسار هو
__________________
وبنوه
، وبنو بنيه ، فمات قبل أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وعاش
بعده حفيده صيفي بن رياح مئتين وسبعين سنة ، ولم ينكر من عقله شيء .
٦
ـ عمرو بن جمحة الدوسي . قيل : انه عاش أربعمئة سنة ، وهو الذي يقول :
كبرت
فطال العمر حتى كأنني
|
|
سيم
أفاعٍ ليله غير مهجع
|
فما
الموت أفناني ولكن تتابعت
|
|
علي
سنون من مصيف ومربع
|
ثلاث
مئين قد مررن كواملاً
|
|
وها
أنا بعد أرتجي مر أربع
|
٧ ـ عبيد بن شريد
الجرهمي ،
قيل : إنه عاش ثلاثمئة وخمسين سنة ، وقيل أقل من ذلك ، وقد أدرك النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وحسن إسلامه وبقي
بعده إلى أيام معاوية ، وقدم عليه فقال له معاوية : أخبرني يا عبيد عما رأيت وسمعت . ؟ ومن أدركت ؟ وكيف الدهر ؟
فقال
: أما الدهر فرأيت ليلاً يشبه ليلا ، ونهاراً يشبه نهارا ، ومولوداً يولد ، وحياً يموت ، ولم أدرك أهل زمان إلا وهم يذمون زمانهم ، وأدركت من قد عاش ألف سنة وحدثني عمن عاش قبله ألفي سنة . . الخ .
٩
ـ العوام بن المنذر ، عاش دهراً طويلاً ، وأدرك خلافة عمر بن عبد العزيز ، فأدخل عليه وقد اختلفت ترقوتاه ، فقيل له : ما أدركت ؟ فقال :
فوالله
ما أدري أأدركت أمةً
|
|
على
عهد ذي القرنين أم كنت أقدما
|
متى
تكشفوا عني القميص تبينوا
|
|
جناحي
لم يكسين لحماً ولا دما
|
١٠ ـ معديكرب الحميري
، عاش مائتين وخمسين سنة .
__________________
١١
ـ جعفر بن فرط الجهني عاش ثلاثمائة سنة ، وأدرك النبي صلى
الله عليه وآله وسلم .
١٢ ـ عوف بن كنانة
الكلبي ، عاش ثلاثمائة سنة .
١٣
ـ هبل بن عبد الله بن كنانة ، عاش ستمائة وسبعين سنة .
١٤
ـ قس بن ساعدة الأيادي ، قيل أنه عاش ستمائة سنة ، وقيل أقل من ذلك .
١٥
ـ ذو القرنين ـ ٣٠٠٠ سنة .
١٦
ـ الضحاك ( بيورسب ) ١٢٠٠ سنة .
١٧
ـ أفريدون بن اثـفيان الذي ملك ٥٠٠ سنة عاش ١٠٠٠ سنة .
١٨
ـ ملك فارس الذي أحدث عيد النيروز ٢٥٠٠ سنة وقيل استتر عن قومه ٦٠٠ سنة . الخ
بعد
هذا يمكننا بكل طمأنينة أن نقول :
١٩
ـ سلمان الفارسي عاش ٢٥٠ سنة وقيل أكثر من ذلك . وقيل أنه أدرك بعض أوصياء المسيح عليه السلام وهو غير بعيد .
__________________

مصادر الكتاب
مرتبة على أحرف الهجاء ، مع ذكر تأريخ
وفاة المؤلف
أ
ـ القرآن الكريم
١
ـ إبن أبي الحديد ، عز الدين ـ ( ٦٥٦ هـ ) شرح نهج البلاغة . تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، مصر ـ دار احياء التراث العربي ـ ١٣٨٥ ـ ١٩٦٥ م
٢
ـ ابن أبي حاتم الرازي ( ٣٢٧ هـ ) الجرح والتعديل ، الهند . حيدرآباد الدكن ، م مجلس دائرة المعارف النعمانية .
٣
ـ إبن الأثير ، علي بن محمد ، ( ٦٣٠ هـ ) أسد الغابة في معرفة الصحابة : أوفس ـ طهران ـ والكامل
في التاريخ
بيروت ـ دار صادر ـ دار الكتاب
٤
ـ إبن حجر العسقلاني أحمد بن علي ( ٨٥٢ هـ ) الإصابة في تمييز الصحابة ، بيروت ، أوفست عن طبعة مصر ١٣٢٨ هـ .
٥
ـ إبن سعد ، محمد ( ٢٣٠ هـ ) كتاب الطبقات الكبير ، بيروت ، دار صادر ودار بيروت طبعة ١٩٥٧ .
٦
ـ إبن عبد البر ، يوسف بن عبد الله ( ٤٦٣ هـ ) الإستيعاب على هامش الإصابة ، بيروت أوفست عن طبعة ١٣٢٨ هـ .
٧
ـ ابن العماد الحنبلي ، عبد الحي بن أحمد ( ١٠٨٩ هـ ) شذرات الذهب ، بيروت ـ دار المسيرة .
٨
ـ ابن هشام ، عبد الملك ( ٢١٣ هـ ) السيرة النبوية ، بيروت ـ دار الجيل
، ١٩٧٥ م .
٩
ـ أبو الحسين ، مسلم بن الحجاج ( ٢٦١ هـ ) ، صحيح مسلم بيروت ، دار الفكر
ـ ١٣٩٨ هـ ـ ١٩٧٨ م .
١٠
ـ الأزرقي ، محمد بن عبد الله ( ٢٤٠ ـ ٢٦٠ هـ ) أخبار مكة ، مكة المكرمة ، دار
الثقافة ، ١٣٨٥ هـ ـ ١٩٦٥ م .
١١
ـ الأمين ، السيد محسن ، أعيان الشيعة ، الطبعة الأولى ـ بيروت ، مطبعة الإنصاف
، ١٣٧٠ هـ ـ ١٩٥٠ م .
١٢
ـ الأميني ، عبد الحسين أحمد ، الغدير في الكتاب والسنة ، بيروت ـ دار الكتاب
العربي ١٣٩٧ هـ ـ ١٩٧٧ م . الطبعة الرابعة .
١٣
ـ البلاذري ، أحمد بن يحيى ، أنساب الأشراف ، وفتوح البلدان ، بيروت ، دار
النشر للجامعيين .
١٤
ـ بيضون ، لبيب وجيه ، تصنيف نهج البلاغة توزيع دار القلم ـ بيروت .
١٥
ـ بحر العلوم السيد محمد مهدي ، ( ١٢١٢ هـ ) ، رجال بحر العلوم ، النجف ، الآداب
، ١٣٨٥ ـ ١٩٦٥ .
١٦
ـ الجناتي ، الشيخ
إبراهيم
، طهارة
الكتابي في فتوى السيد الحكيم ، النجف
الأشرف ١٣٩٠ هـ .
١٧
ـ الجويني ، ابراهيم بن محمد ، ( ٧٣٠ هـ ) فرائد السمطين ، بيروت ، مؤسسة المحمودي
.
١٨
ـ الحاكم النيشابوري ، محمد بن عبد الله ( ٤٠٥ هـ ) المستدرك على الصحيحين مع
التلخيص ، الرياض ، مكتبة ومطابع النصر .
١٩
ـ الحر العاملي ، محمد بن الحسن ( ١١٠٤ هـ ) وسائل الشيعة ، بيروت ، دار احياء
التراث العربي .
٢٠
ـ خان ، السيد علي صاحب السلافة ( ١١٢٠ هـ ) الدرجات الرفيعة ، المكتبة
الحيدرية .
٢١
ـ خان ، وحيد الدين ، الإسلام يتحدى دار البحوث العلمية ـ الطبعة ٣ .
٢٢
ـ الخوئي ، السيد أبو القاسم ، معجم رجال الحديث ، النجف ـ الآداب .
٢٣
ـ الخونساري ، محمد باقر ، مفتاح الجنات ، المطبعة الحيدرية ـ طهران .
٢٤
ـ الرازي ، محمد بن ابي بكر ( ٦٦٦ هـ ) مختار الصحاح ، بيروت ـ دار الكتب
العربية .
٢٥
ـ الزركلي خير الدين ، الأعلام لم يذكر مكان الطبع ، ويعتقد انه الشام .
٢٦
ـ سليمان ، الشيخ إبراهيم ، طهارة أهل الكتاب ، مخطوط .
٢٧
ـ سليمان ، كامل ، يوم الخلاص دار الكتاب اللبناني ، دار الكتاب المصري : ط
١٣٩٩ ـ ١٣٧٩ .
٢٨
ـ السبيتي ، عبد الله ، سلمان الفارسي ، بيروت ، دار التعارف ، دار الأنوار
ـ ١٩٧٧ .
٢٩
ـ الشريف الرضي ( ٤٠٦ هـ ) المختار من كلام مولانا أمير المرمنين نهج
البلاغة بيروت ، مؤسسة
الأعلمي .
٣٠
ـ الشهرستاني ، محمد بن عبد الكريم ( ٥٤٨ هـ ) الملل والنحل بيروت ، دار المعرفة
.
٣١
ـ الصدر ، السيد حسن ، الشيعة وفنون الإسلام بيروت ، دار المعرفة .
٣٢
ـ الصدوق ، محمد بن علي ( ٣٨٤ هـ ) إكمال الدين واتمام النعمة النجف ، المطبعة
الحيدرية ١٩٧٠ وكتاب
الخصال
بيروت ، دار التعارف ، ١٣٨٩ هـ .
٣٣
ـ الطباطبائي ، السيد محمد حسين ، الميزان في تفسير القرآن بيروت ، مؤسسة
الأعلمي ط ٣ ١٣٩٣ هـ ـ ١٩٧٣ م .
٣٤
ـ الطبرسي ، أحمد بن علي ( ٦٢٠ هـ تقريباً ) بيروت ، مؤسسة النعمان .
٣٥
ـ الطبرسي ، الفضل بن الحسن ( ٥٦١ هـ ) مجمع البيان في تفسير القرآن ، بيروت
، دار إحياء التراث العربي .
٣٦
ـ الطريحي ، فخر الدين ، مجمع البحرين ، طبعة حجرية .
٣٧
ـ الطوسي ، الشيخ محمد بن الحسن ( ٤٦٠ هـ ) الإقتصاد فيما يتعلق
بالاعتقاد ، منشورات جمعية
منتدى النشر ـ النجف ١٣٩٩ هـ ـ ١٩٧٩ م .
٣٨
ـ الفقيه ، الشيخ يوسف ، حقائق الإيمان مطبعة العرفان ـ صيدا ـ ١٣٤٣ هـ .
٣٩
ـ الفقيه ، محمد جواد ، أبو ذر الغفاري ، بيروت ، دار الفنون ١٩٨٠ م .
٤٠
ـ قصص
العرب
، محمد أبو الفضل ابراهيم ، وعلي محمد البجاري ، ومحمد أحمد جاد المولى ، دار احياء التراث العربي ـ بيروت ـ ١٣٨٢ هـ ـ ١٩٦١ م .
٤١
ـ المجلسي ، محمد باقر ، بحار الأنوار ج ٢٢ ـ دار الكتب الإسلامية طهران ١٣٨٥ هـ .
٤٢
ـ معروف ، السيد هاشم ، سيرة المصطفى ، بيروت ـ دار القلم ١٩٧٥ .
٤٣
ـ المفيد ، محمد بن محمد ( ٤١٣ هـ ) ، الإرشاد ، بيروت ، مؤسسة
الأعلمي
٤٤
ـ المسعودي ، علي بن الحسن ( ٣٤٦ هـ ) أخبار الزمان ، بيروت ، دار الأندلس ومروج
الذهب ومعادن الجوهر
بيوت ، دار الأندلس ، ١٣٨٥ هـ ـ ١٩٦٥ م .
٤٥
ـ النوري ، ميرزا حسين ، نفس الرحمن في فضائل سلمان ، طبعة حجرية .
٤٦
ـ الواقدي ، محمد بن عمر بن واقد ، ( ٢٠٧ هـ ) المغازي ، بيروت ـ عالم الكتب .
٤٧
ـ ياقوت بن عبد الله الحمودي ( ٦٢٦ هـ ) ، معجم البلدان ، بيروت ـ دار إحياء التراث العربي .
|