بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدالله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد. فإنَّ هذا هوالجزء الثالث من كتابنا ( مباحث الدليل اللفظي ) المشتمل على مباحث النواحي والعالم والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين من بحوث هذا العلم وبه تكمل مباحث الالفاظ ، استفدنا خلال تشرفي بحضور درس سيدي واستاذي الشّهيد السعيد آية الله العظمى السّيد محمد باقر الصدر (قدّس الله سرّه الشريف) .. وقد وفقني الله سبحانه لاعداد وانجازه من اجل النشر وعرض آخر ماانتهي اليه الفكر الاصولي من خلال هذه المدرسة الاصولية الفريدة التي اشادها هذا المعلم الربّاني والشاهد الشّهيد والتي تحتوي من جليل الافكار والمباني العلمية الدقيقة الرائعة ما يجعلها بحق تجديداً في بابه وتطوراً عظيما المناهج هذا العلم ومضامينه .. فسلام الله عليك ايّها المعلم العملاق الذي كنت نبراسا يهتدى بك في كل مجال وستبقي معطيات مدرستك الخالدة هي التي ترسم للاجيال معالم الطريق الى الحقيقة وتنير لهم درب الوثول الى لباب المعرفة واليقين .. وسلام عليك يوم ولدت ويوم جاهدت بعقلك وفكرك ويوم استشهدت في محراب عقيدتك ورسالتك ويوم تبعث حياً مع الشهداء والصالحين .. ووفقنا الله يا سيدي لا تباع نهجك الراشد والاتحاق بقافلتك قافلة قافلة العلماء الشهداء والاجتماع بخدمتك من جديد في مستقر رحمة الواسعة مع الابرار والصاحين وحسن اولئك رفيقا .. والحمدالله رب العالمين ..

السيّد محمود الهاشمي

قم المقدّسة ١٤٠٦ هجرية



مباحث الدليل اللفظي

بحوث النّواهي

ويشتمل على فصول ثلاثة:

ـ دلالات صيغة النهي

ـ اجتماع الأمر والنهي

ـ دلالة النهي على الفساد



بحوث النواهي

دلالات صيغة النّهي

ـ مدلول صيغة النهي

ـ دلالة النهي على الاستغراق

ـ كيفية المتثال النهي

ـ النواحي المتعلقة بالجامع الانتزاعي



الفصل الأول

دلالات صيغة النهي

والبحث حولها من جهات :

الجهة الأولى ـ في مدلولها. وقد اشتهر بين قدماء الأُصوليين أنَّ مفاد صيغة النهي هو الطلب كمفاد الأمر إِلاَّ أَنَّ الأخير يدلّ على طلب الفعل والنهي يدلّ على طلب الترك.

وقد رفض هذا الكلام مشهور المحقّقين المتأخرين من علماء الأُصول مدّعين أنَّ مدلول النهي مختلف عن الأمر ذاتاً فكلّ منهما يدلّ على معنى مغاير ومباين للآخر لا انَّهما يدلاّن معاً على الطلب ويختلفان في متعلقه فقط.

وبهذا الصدد نورد ثلاث كلمات :

الكلمة الأولى ـ ما نسبه السيد الأستاذ إلى مشهور المعترضين على الرّأي السابق في مفاد النهي ، حيث ذكروا انَّ الأمر يدلّ على البعث نحو الطبيعة والتحريك إِليها بينما النهي يدلّ على الزّجر والتبعيد عنها.

ثُمَّ أشكل عليه بأنَّه لو أُريد من التحريك والزجر ، التحريك والزجر التكوينيّان فواضح انَّهما ليسا مدلولي الأمر والنهي وإِن أُريد منهما التحريك والزجر التشريعيّان فذلك يحصل بنفس الأمر والنهي حيث انَّهما بوجوديهما الواقعيّين


لا بمدلوليهما مصداقان للتحريك والزجر فلا بدَّ وأنْ يكون مدلولهما أمراً آخر غير التحريك والزجر.

أقول : ما نسبه إلى المعترضين بهذا المقدار من البيان لا يكون برهاناً على ردّ مقالة السابقين اللهم إِلاّ أنْ يُراد منه دعوى الوجدان والتبادر العرفي وهذا صحيح بالإضافة إلى منبهات لهذا الوجدان سوف نشير إِليها فيما يأتي.

وامّا الاعتراض الّذي وجهه عليهم فكأنّه انسياق مع مبانيه في باب الوضع وانّه عبارة عن التعهّد الّذي يستوجب أنْ يكون الوضع هو منشأ الدلالة التصديقيّة الموجودة في الجملة التامّة حيث يقال حينئذ انّه لا يمكن افتراض وضع الأمر والنهي للتحريك والزجر بمعنى كشفهما عنهما إِذ لو كشف عن التحريك والزجر التكوينيَّين كان واضح البطلان ولو كشف عن تحريك وزجر تشريعيَّين فهما بنفسيهما مصداقان لذلك لا انَّهما يكشفان عنه.

وامَّا على المسلك المشهور والمختار من أنَّ الوضع منشأ الدلالة التصوّريّة فقط فمدلول مادة الأمر والنهي معنى اسميّ ومدلول هيئتهما النسبة التكوينيّة الخارجيّة المنتزع عنها ذلك المعنى الاسمي ـ كما حقّق في معاني الهيئات ـ وهي النسبة الإرساليّة التحريكيّة في الأمر والنسبة الزجريّة التبعيديّة في النهي وكلتا النسبتين يراد منهما الإرسال والزجر الخارجين التكوينيَّين لا التشريعيّين ولكنه كمفهوم تصوّريّ لا تصديقي كي يقال بأنَّه واضح البطلان فانَّ الدلالة التصديقيّة تكون بالظهور الحالي فانّه يكشف كشفاً تصديقيّاً عن أنَّ المراد النفسيّ والداعي الحقيقي للمتكلّم انَّما هو داعي التحريك التشريعي والزجر التشريعي بالأمر والنهي وبذلك يكون مدلول النهي غير الأمر تصوراً وتصديقاً.

الكلمة الثانية ـ فيما اختاره السيد الأستاذ نفسه من أنَّ الأمر يدلّ على وضع الفعل واعتباره في ذمّة العبد والنهي يدلّ على اعتبار حرمان المكلّف عن الفعل وابتعاده عنه لا اعتبار تركه على ذمّته والشاهد عليه بناء على مسلك العدليّة من تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها انَّ الأمر يتبع مصلحة في الفعل فيناسب اعتبار الفعل في ذمة المكلّف والنهي يتبع مفسدة في الفعل فالفعل هو مركز البغض فيناسب اعتبار حرمان المكلَّف منه.


أقول : امَّا المصير إلى فرض مدلول الأمر والنهي هو الاعتبار فهذا أيضا يكون منه انسجاماً مع مسلكه في الوضع بنحو ينشأ منه الدلالة التصديقيّة وقد تقدّم في محلّه توضيح انَّ المدلول الوضعي للأمر ليس هو الاعتبار وإِنْ كان قد يستظهر كون المدلول التصديقي هو الاعتبار بدلالة سياقيّة.

وهنالك بعض الشواهد على ذلك من قبيل انَّ فكرة الاعتبار وما يرتبط بها وما تستلزمه من افتراض وعاء ذمّة وعهدة للمكلَّف أُمور دقيقة معقّدة لا تنسجم مع الدلالة الوضعيّة التي هي أبسط وأقدم تصوراً من مثل هذا التعقيد ، وانَّ صيغة الأمر كما تصدر من العالي الّذي قد يكون لديه اعتبار كذلك قد تصدر من الدّاني إلى العالي كما في قولنا « ربَّنا اغفرْ لنا » بينما لا يخطر على بالنا افتراض جعل شيء في ذمة الله تعالى واعتباره على عهدته (١).

وامَّا الاستدلال على كون مفاد النهي اعتبار حرمان المكلّف لا اعتبار الترك في ذمته بمذهب العدلية فيرد عليه.

أولا : انَّنا نتكلّم في الوضع اللغويّ الثابت قبل تكون مثل هذه المسالك الفلسفيّة لدى علماء المسلمين فما معنى الاستدلال على مدلول لغويّ وضعي بمذهب كلامي لدى فرقة من المسلمين.

وثانياً : انَّ مذهب العدليّة لا يقتضي ذلك إِذ المولى كما يمكنه أنْ يتوصّل إلى تبعيد المكلَّف عن مفسدة الفعل عن طريق اعتبار حرمانه كذلك يمكنه أنْ يتوصَّل إلى نفس النتيجة عن طريق اعتبار الترك في ذمته ومجرّد مناسبة اعتبار الحرمان مع مفسدة الفعل لا تكون دليلاً على أنَّ الواضع قد لاحظ هذه المناسبة بعين الاعتبار ولم يغفل أو يتغافل عنها.

الكلمة الثالثة ـ ما هو المختار فنقول : انَّ ما قيل في الكلمة الأولى من الفرق بين مفاد صيغة النهي ومفاد صيغة الأمر صحيح.

__________________

(١) للقائل بمسلك الاعتبار أن يجعل المدلول الوضعي في هذه الموارد الدعاء ابتداءً. نعم هذا يؤدي إلى أَنْ يكون المدلول التصديقي للصيغة ابتداءً متعلّقاً بمدلول المادة وهذا غريب في نفسه على ما تقدّم نظيره في بحوث الأمر.


فكلّ من الصيغتين لها دلالة تصوريّة وتصديقيّة وهما تختلفان في كلتا الدلالتين على ما تقدّم والحجّة عليه هو الوجدان القاضي بأنَّ ما يفهم من صيغة افعلْ يختلف عمّا يفهم من صيغة لا تفعل اختلافاً ذاتياً لا اختلافاً بحسب المتعلَّق كما هو مدعى القدماء. وهناك منبِّهات لهذا الوجدان أهمّها :

انَّ الصيغتين لو كان مفادهما متباينين ـ كما هو المدَّعى ـ فلا نحتاج إلى افتراض شيء وراء المعنى الحرفيّ للهيئة والمعنى الاسمي للمادة في اقتناص مفاد الأمر والنهي كاملة.

فيكون مدلول ( صلِّ ) مثلاً هو الإرسال والتحريك نحو الصلاة أي النسبة الإرسالية نحو الصلاة ومدلول ( لا تصلِّ ) مثلاً هو الزجر والمنع عن الصلاة أي النسبة الزجريّة عن الصلاة.

وامَّا إِذا أخذنا بوجهة نظر القدماء فنحتاج إلى توسيط عنصر ثالث وإدخال معنى آخر غير مفاد الهيئة والمادة في مفاد النهي إذ الطلب أو النسبة الطلبيّة أو التحريكيّة هل يكون متعلِّقاً بالمادة فهذا خلف المقصود من النهي أو يكون متعلِّقاً بتركها فهذا إدخال عنصر الترك الّذي لا يكون مدلولاً للمادة في مدلولها لأنَّ مدلولها الطبيعة التي وإِنْ كانت لم يؤخذ فيها لا الوجود ولا العدم إِلاّ انَّها انَّما تصلح مرآة لما يوجد من افرادها لا لتركها فهذه المشكلة التي يواجهها أصحاب هذا الاتجاه تجعلهم أمام أمرين فإما أنْ يلتزموا بدال ثالث وراء الهيئة والمادة يدلّ على هذا العنصر الغريب عنهما وهذا خلف المفروض أو أَنْ يأخذونه في مدلول أحد الدالّين ، فانْ أخذ في طرف المادة بدعوى : انَّ الصلاة في لا تصلِّ مثلاً مستعملة في ترك الصلاة مجازاً وعناية فهذا واضح البطلان بحسب وجدان كلّ عرفي القاضي بعدم عناية ولا تجوّز في طرف النواهي كالأوامر وإِنْ أخذ في طرف المادة بأَنْ أخذت فانية في الترك الخارجي فهذا أيضا مستحيل لما قلناه من انَّ الطبيعة انَّما تُفنى في وجودها في الخارج لا في عدمها.

وإِنْ أخذ في طرف الهيئة فهذا أيضا غير عرفي بل خلاف الأوضاع اللغوية لأنّ الهيئة معنى حرفي نسبي والترك معنى اسمي لا بدَّ وأن يقع طرفاً للنسبة ونحن لم نعهد أَنْ يكون ما له معنى حرفي دالاً على النسبة وطرفها معاً.


ثمّ لو فرضت الدلالة على ذلك فنحتاج إلى نسبة أُخرى بين الترك ـ المعنى الاسمي المدلول عليها بالهيئة ـ وبين المادة وهي الطبيعة وهي نسبة الإضافة لأنَّ المطلوب انَّما هو ترك المادة لا مطلق الترك ولا دال على هذه النسبة الثانية فأيضاً لا بدَّ من إقحامها في مدلول الهيئة فهذه مشاكل ومتاعب تثيرها هذه الفرضيّة لمفاد النهي.

الجهة الثانية ـ في أنَّ المستفاد من صغة النهي هل هو الإنحلال بحيث يكون الحكم الستغراقيّاً أم لاتوجد إلاَّ حرمة واحدة كالوجوب المستفاد مت الأمر؟

المعروف أنَّ المستفاد من النهي التحريم المطلق بنحو الإطلاق الاستغراقي فيكون هناك تحريمات عديدة بعدد الأفراد لا حرمة واحدة والأثر العملي بين القولين أنَّه على القول بوحدة التحريم لو صدر منه الفعل مرّة جاز له أَنْ يرتكب فرداً آخر منه وامَّا على القول بانحلالية التحريم فيكون الفرد الثاني محرماً كالفرد الأول بحرمة أُخرى مستقلة لا تسقط بعصيان الأولى.

والصحيح ما عليه المشهور فمتعلّق النهي إطلاقه شمولي استغراقي بخلاف متعلّق الأمر الّذي يكون إطلاقه بدليّاً ويكون المطلوب صرف وجوده.

من هنا يرد السؤال : انَّه كيف أصبح الفرق بينهما مع انَّ الإطلاق في المدلولين معاً بمقدمات الحكمة وهي واحدة في المقامين.

وقد عالج السيد الأستاذ ـ هذا الإشكال ببيان انَّ هناك مقداراً مشتركاً من مقدمات الحكمة يجري في مورد البدلي والشمولي معاً وهذا المقدار المشترك ليس هو المعين للشمولية أو البدليّة وانَّما يضمّ إليه ضميمة ومقدمة عقلية في بعض الموارد فينتج البدلية ويضمّ إليه ضميمة ومقدمة أُخرى فينتج الشمولية (١).

ولأجل توضيح هذه الفكرة نورد ثلاثة أمثلة.

الأول : في متعلَّقات الأوامر كما إِذا قال المولى ( صلِّ ) فانَّه لا يخلو من أَنْ يكون متعلَّق الأمر أحد شقوق فإما هو جميع الصلوات ـ وهو معنى الإطلاق الشمولي ـ وإِمَّا هو إِحدى الصلوات وهو الإطلاق البدلي ـ وإِمَّا هو مجموعة من الصلوات.

__________________

(١) المحاضرات ، ج ٤ ، ص ١٠٦ ـ ١١٤


والشقّ الثالث يبطل بمقدمات الحكمة بصيغتها المشتركة العامة ، إِذ أيّ خصوصيّة في تلك المجموعة كي تحمل الطبيعة عليها فقط فلو كان المقصود واحدة من المجاميع المتصوّرة كان عليه أَنْ ينصب التقييد عليها.

والشقّ الأول يبطل بمقدمة عقلية وهي عدم المقدورية ، إِذ كيف يمكن الإتيان بجميع الصلوات مع انَّ أفرادها العرضية متزاحمة ومتضادة فيتعيّن الشقّ الثاني وهو الإطلاق البدلي.

الثاني : في متعلّقات النواهي كما إِذا قال ( لا تكذب ) فانَّه أيضا فيه ثلاثة احتمالات ، أَنْ يكون الحرام جميع أفراد الكذب أي كلّ كذب ـ وهو الإطلاق الشمولي ـ وأَنْ يكون الحرام أحد أفراد الكذب ـ وهو الإطلاق البدلي ـ وأَنْ يكون الحرام مجموعة من أفراد الكذب ـ كالكذب على الله ورسوله مثلاً والكذب في حالة الصوم مثلاً ـ والشقّ الثالث هنا أيضا يبطل بمقدمات الحكمة بصيغتها المشتركة في جميع الموارد إِذ لو كان المراد مجموعة أو فئة معيّنة من الأكاذيب وهو في مقام البيان لكان عليه أَنْ ينصب قرينة عليها ، وامَّا الشقّ الأول والثاني في المقام فنجد انَّ المقدمة العقلية تنفي الشقّ الثاني أي الإطلاق البدلي لأنَّ الإطلاق البدلي غير معقول إِذ مقتضى طبع المطلب أَنْ يترك الإنسان كذباً واحداً على الأقل أي أحد أفراد الكذب فانتراك كذب واحد ضروري قهري فلا يعقل التكليف به فيتعين الشقّ الأول وهو الإطلاق الشمولي.

الثالث : ما سمّاه بموضوعات الأحكام الوضعيّة « كأحلّ الله البيع » فانَّه أيضا يرد فيه الاحتمالات الثلاثة ، حليّة كلّ بيع وحلية أحد البيوع وحليّة مجموعة معيّنة من البيوع كالعقدية مثلاً ، والاحتمال الثالث يُنفى بالقدر المشترك من مقدمات الحكمة والاحتمال الثاني يُنفى بمقدمة عقلية إِذ من اللغو حليّة بيع لا بعينه فيتعيّن الاحتمال الأول أي الإطلاق الشمولي.

وهذا الكلام فيه عدّة مواضع للنظر نقتصر فيه على نكتتين :

النكتة الأولى : انَّ استفادة البدلية أو الشمولية في كلّ مورد ليس بميزان لغوية الآخر وعدم معقوليته مع ضمّ القدر المشترك بدليل انَّه في كثير من الموارد يكون كلّ


منهما معقولاً ومع ذلك لا شك في انَّ صناعة الفهم العرفي تقتضي تعيين أحد الوجهين وذلك كما في موضوعات الأوامر لا في متعلقاتها. من قبيل ما إِذا قال ( أكرم العالم ) فانَّه بالنسبة إلى الموضوع وهو العالم لا إِشكال في أنَّ مقتضى الإطلاق فيه الشمولية وثبوت الحكم على كلّ فرد من أفراد طبيعة العالم مع انَّه لا استحالة ولا لغوية في أَنْ يكون بدليّاً بأَنْ يجب إِكرام عالم ما فقط ، بل كلّ من الشمولية والبدلية معقول على حدّ واحد فهذا يبرهن على انَّ وراء مسألة استحالة البدلية في هذا المورد أو الشمولية في ذلك المورد توجد نكتة أُخرى هي التي تقتضي البدليّة أو الشمولية.

النكتة الثانية : في موارد متعلّقات الأوامر ـ المثال الأول ـ ما أُفيد غير كافٍ للانتهاء إلى البدليّة وذلك لأنَّنا إِذا بنينا على عدم شرطية القدرة في الخطاب أصلاً وافترضنا أنَّه شرط في مقام الامتثال فقط كما ادَّعاه الأستاذ في بحث الترتّب وإِنْ لم أعهد منه التفريع عليه في مورد أصلاً ، فلا مانع من إطلاق الخطاب لكلّ أفراد المتعلّق غاية الأمر أنَّ الامتثال اللازم بحكم العقل يختصّ بالمقدور منها.

وأمَّا إِذا قلنا بأنَّ شرطيّة القدرة بحكم العقل فحيث انَّ هذا المقيّد لبّي كالمتصل فلا ينعقد إطلاق لغير المقدور من أفراد المتعلّق فتثبت الشمولية في حدود هذا المقيّد المتّصل الّذي يقيّد دائرة الإطلاق الشمولي كسائر المقيدات للإطلاقات الشمولية ، وكذلك الحال لو قلنا بأنَّ الخطاب يقتضي تقييد المادة بالمقدور منها بل الحال على ذلك أوضح كما لا يخفى.

فلا بدَّ من التفتيش عن نكتة أُخرى لاقتضاء البدليّة في متعلّقات الأوامر والشمولية في متعلّقات النواهي وراء هذه الكلمات.

وتلك النكتة قد شرحناها مفصّلاً في بحث المرّة والتكرار. ونوجزها هنا قائلين :

انَّ البدليّة والشمولية تارة تكون في العمومات وأخرى في المطلقات. امَّا في العمومات فالدال عليها لفظي ف ( كلّ ) موضوعة للدلالة على الشمول أو ( أي ) موضوعة للدلالة على العموم البدلي ، وامَّا المطلقات فقد قيست على العمومات وتصوّر فيها أيضا انَّ البدلية والشمولية من شئون الإطلاق ومقدمات الحكمة.

والصحيح انَّ الإطلاق ومقدمات الحكمة لا يثبت إِلاّ أنَّ موضوع الحكم هو الطبيعة


من دون قيد زائد وامَّا البدليّة والشموليّة فهما من شئون تطبيق الحكم وليسا مدلولين لمقدمات الحكمة ولا للوضع ، فانَّ الحكم على الطبيعة لو كان غير قابل للانطباق على جميع الأفراد فهو بدلي وإِلاّ فشمولي.

وتوضيح ذلك : انَّ هناك متعلّقاً للحكم وموضوعاً والموضوع يفرض مفروغاً عن وجوده بخلاف المتعلّق إِذ لو كان مفروغاً عنه قبل الحكم كان الأمر به تحصيلاً للحاصل ، وحينئذ يقال : انَّ الطبيعة المفروغ عنها في المرتبة السابقة على الحكم يستتبع لا محالة انطباقها على جميع ما يصلح أَنْ يكون مصداقاً لها فيتعدد الحكم بتعدد فعليات تلك الطبيعة كما هو شأن القضيّة الشرطيّة ، فأكرم العالم يرجع إلى قولنا إِنْ كان هذا عالماً وجب إِكرامه ، هذا في طرف الموضوعات وامَّا في طرف المتعلقات فالقاعدة تقتضي العكس لأنَّ المتعلّق لم يفرض وجوده كي يتعدد الحكم تطبيقاً بتعدد فعلياته.

بل انَّما يثبت بنفس الحكم فلا موجب لتعدده.

وبتعبير واضح انَّ القضية الحقيقيّة المناط فيها الحكم بالشرط انَّما يتعدد بلحاظ الشرط لا بلحاظ المتعلّق والجزاء ، ومن هنا قلنا في بحث المرّة والتكرار ، انَّ الأصل في الموضوعات هو الإطلاق الشمولي والأصل في المتعلّقات هو الإطلاق البدلي ، ولكنه يوجد استثناءان ان لذلك أحدهما ـ عن الأصل الأول حيث يستثنى من هذا الأصل في الموضوعات ما إِذا كان الموضوع منوّناً من قبيل أكرم عالماً ـ حيث انَّ الاسم يحتاج إلى ما يتّكئ عليه من تنوين أو الألف واللام ـ فيصير الإطلاق بدليّاً من جهة انَّ تنوين التنكير يكون ظاهراً في أخذ قيد الوحدة وصرف الوجود فيه وهذا لا يعقل مع الشمولية (١).

__________________

(١) ليس التنوين الدال على الوحدة ينافي الشمولية بدليل دخوله على موضوع النهي في قولك لا تكرم عالماً مع شموليّته بل حتى في الأمر إذا أخذ مقدر الوجود كما إذا قال إنْ رأيت عالماً فأكرمه بل السر هو ان ( عالماً ) في أكرم عالماً وإِن كان بحسب الموقع اللفظي موضوعاً في الجملة ولكنه بحسب المعنى واللّب قيد في متعلّق الأمر فلا يفهم أخذه مقدر الوجود بل لو أمكن إيجاده لإكرامه لوجب لو لا القرينة الخاصّة نظير قولنا ابن مسجداً أو توضأ بالماء ـ رغم عدم التنوين في الأخير ـ فالمعنى أوجد إكرام عالم ، وهذا يتحقق بإكرام عالم واحد بنحو صرف الوجود وامّا في لا تكرم عالماً فحيث انّ المطلوب إعدام إكرام عالم ، فلا يتحقق إِلاّ بترك إكرام كلّ عالم. فالحاصل كلّما كان القيد قيداً في متعلّق الأمر ولو كان بحسب ظاهر اللفظ في مركز الموضوع فلا ينحل الحكم بلحاظه فليس هذا استثناءً عن القاعدة السابقة. وأمّا الانحلال في ( أكرم العالم ) فلأنَّ اللام تدلّ على أنّه مقدر الوجود سواءً كانت للعهد أو الجنس فتأمّل جيداً.


والاستثناء الثاني عن الأصل الثاني في المتعلقات حيث يستثنى منه متعلقات النواهي فانه يستفاد منها انَّ كلّ فرد من المتعلّق موضوع مستقل للحرمة وهو معنى الشمولية ، وقرينة ذلك غلبة نشوء النهي عن المفسدة وغلبة كون المفسدة انحلاليّة بعدد الأفراد على ما تقدّم شرحه مفصّلاً في أبحاث المرّة والتكرار وقد تعرّض السيد الأستاذ إلى هذه القرينة في المقام ولم يرتضها بل اعترض عليها بأمرين :

الأول : انَّه انَّما يتمّ بناء على تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد وامَّا إِذا أنكرنا ذلك كما هو مسلك الأشاعرة فلا موضوع لهذه القرينة.

الثاني : انَّ هذا تخرّص ورجم بالغيب إِذ نحن لا نعرف ملاكات خطابات المولى بل انَّما نستكشف انحلاليّة الخطاب بها. وكلا الاعتراضين ممّا لا يمكن المساعدة عليهما.

أمّا الأول : فلأنَّ الكلام في الظهور العرفي اللغوي للكلمة والنزاع بين الأشعري وغيره نزاع ثبوتي في الأحكام الشرعية خاصة ومن الواضح انَّ الأشاعرة الذين ينكرون ذلك في أحكام الله لا ينكرونه في حقّ نواهي الناس وهذا كافٍ في تماميّة القرينة المدّعاة. وإِن شئت قلت : انَّ الغالب كون المبغوضية والمفسدة التي هي ملاك النهي في كلّ فرد من أفراد الطبيعة سواءً كانت تلك المفسدة راجعة إلى العبد أو إلى المولى نفسه أو كانت جزافيّة وتحكميّة وهذا لا ربط له ببحث التبعيّة بين الأشعري والمعتزلي.

وبهذا يندفع الأمر الثاني أيضا إِذ المدّعى غلبة انحلالية ملاكات النواهي العرفية لا الشرعية وهذه الغلبة تستوجب الظهور في النهي فيكون حجّة لو صدر ذلك النهي عن الشارع أيضا.

وبما ذكرناه ظهر وجه الفرق بين الأوامر والنواهي حيث يكون الأمر ساقطاً بالعصيان أو الامتثال مرّة بخلاف النهي فانَّه لا يسقط بالعصيان مرّة وليس ذلك إِلاّ من جهة تعدد الحرمة والنهي ووحدة الأمر.

وقد اتّضح بذلك ما في كلام المحقّق الخراسانيّ من تفسير ثبوت النهي والحرمة للشرب الثاني بالتمسّك بإطلاق المتعلّق للشرب الثاني بعد الشرب الأول فانَّه قد تبيّن انَّ الإطلاق لا يقتضي أكثر من كون الطبيعة بما هي موضوع الحكم من دون فرق


في ذلك بين باب الأوامر والنواهي وامَّا الاستغراقية أو البدلية فبحاجة إلى نكتة أخرى على النحو الّذي شرحناه.

الجهة الثالثة : انَّه إِذا فرضنا وحدة النهي وعدم انحلاليته فصار مفاد لا تشرب ثبوت حرمة واحدة على حدّ الأمر بالطبيعة ، مع ذلك سوف يبدو لنا فرق بين الأمر والنهي غير ما كنّا بصدده في الجهة السابقة ـ وهو الانحلال إلى عدّة تكاليف ـ فانَّه وإِنْ لم يكن فرق بينهما من حيث السقوط بالعصيان إِلاَّ انَّه يبقى بينهما فرق في كيفيّة الامتثال فانَّ الأمر يمتثل بإتيان فرد من أفراد الطبيعة ولا يكون عصيانه إلاّ بأَنْ يترك تمام أفرادها وامَّا النهي فالتحريم الواحد انَّما يمتثل باجتناب تمام أفراد الطبيعة ولا يكفي اجتناب بعض أفرادها ، وهذه ليست دلالة لفظية بل من جهة حكم العقل بأنَّ الطبيعة الواحدة مفهوماً لا تنعدم إلاّ بانعدام تمام أفرادها ولكنها توجد بوجود فرد واحد ، والمطلوب في طرف الأمر هو الإيجاد فيكون بواحد بينهما المطلوب في طرف النهي الإعدام فلا يكون إِلاّ بانعدام الجميع.

وبما ذكرناه من التمييز بين هذا الفارق وبين الفارق في الجهة السابقة اتّضحت جملة من المغالطات في كلمات المحقّقين من أهمّها ما وقع في تقريرات المحقّق العراقي ( قده ) من طرح المشكلة ابتداءً بما ذكرناه في الجهة السابقة من بقاء النهي بعد العصيان بينما لا يبقى الأمر بعد العصيان وجعل جوابها الكلام المشهور أي ربطها بالفارق العقلي في كيفية الامتثال الّذي قلناه في هذه الجهة ، مع انَّ هذا المطلب لا دخل له في دفع تلك المشكلة وجوابها هو ما قلناه في تلك الجهة من انحلالية النهي وبدلية الأمر.

وأيّاً ما كان فالبحث هنا عن الفارق المذكور بين كيفيّة امتثال الأمر وكيفية امتثال النهي وانَّه هل صحيح ما ذكر من حكم العقل في كيفية وجود الطبيعة وعدمها؟ حيث انَّ المحققين المتأخرين أنكروا ذلك وقد حقّقنا هذه المشكلة مفصلاً في بحث المرّة والتكرار وأثبتنا صحّة ما ذهب إليه المشهور في حلّ المشكلة.

وملخّص ما قلناه هناك : انَّ الطبيعة إِذا لاحظنا وجودها الخارجي فالاتجاه الصحيح والمشهور فيه هو انَّ نسبة الكلّي الطبيعي إلى أفراده الخارجية انَّما هي نسبة الآباء إلى الأبناء في قبال اتّجاه الرّجل الهمداني القائل بأنَّ نسبة الطبيعي إلى أفراده


نسبة الأب الواحد إلى أبنائه فيقال علي مستوى البحث الفلسفي بصحّة الاتّجاه الأول الّذي سار عليه ابن سينا دون الاتجاه الثاني الّذي سلكه الرّجل الهمداني.

وقد ربطت المسألة الأصولية هذه بتلك المسألة الفلسفية أيضا فقيل : بأنَّه إِذا كان الطبيعي يوجد بوجودات متعدّدة وانَّ وجود كلّ فرد ناقض لعدم الطبيعة في ضمن ذلك الفرد لا مطلقاً فلا معنى لما اشتهر من انَّ الكلّي يوجد بفرد واحد ولا ينعدم إلاّ بانعدام تمام أفراده ، لأنَّ وجود الطبيعي في ضمن كلّ فرد لا يحفظ إلاّ في ضمن ذلك الفرد ولا يعدم إِلاّ بعدم ذلك الفرد فكما انَّ هناك وجودات عديدة للطبيعة هناك أعدام عديدة لها أيضاً فإذا كان الأمر متعلّقاً بوجود واحد كذلك النهي يتعلّق بعدم واحد من تلك الأعدام.

هذا ملخّص ما انتهى إليه المحقّقون المتأخرون.

وقد ذكرنا في بحث المرة والتكرار انَّ هذا الربط بين المسألتين في غير محلّه فانَّ بطلان مسلك الرّجل الهمداني انَّما هو بلحاظ المسألة الفلسفية وعالم الوجود الخارجي للطبيعة ، وامَّا بلحاظ المسألة الأُصولية وبالقياس إلى عالم الذهن الّذي ينتزع جامعاً يكون قدراً مشتركاً بين الأفراد فيصحّ كلام الرّجل الهمداني حقيقة بلا إِشكال حتى من ابن سينا ، إذ لا إِشكال في وحدة الكلّي عنواناً ومفهوماً ومتعلّق الأمر والنهي انَّما هو الوجود العنواني للمتعلق أي المفهوم لا الوجود فما يكون متعلّقاً للأمر حقيقة ينحفظ بفرد واحد ولا ينعدم إلاّ بانعدام تمام أفراده وهذا هو معنى تلك الكلمة المشهورة ، والمطلوب في الأوامر حفظ ذلك المفهوم الطبيعي بينما المطلوب في النواهي إعدامه.

الجهة الرابعة : وتشتمل على تنبيهين مرتبطين بالجهتين السابقتين.

التنبيه الأول : انَّ هاتين الخصيصتين اللتين تميزان النهي عن الأمر في الجهتين السابقتين ثابتتان للنهي سواءً كان النهي مدلوله الزجر عن الفعل أو طلب الترك ولذلك لو صرّح بطلب الترك أيضا كانت الخصيصتان مستفادتين منه كما إِذا قال ( أترك الصلاة ) فانَّه يستفاد منه نفس ما يستفاد من النهي عن الصلاة في مثل ( لا تصلِّ).

والوجه في ذلك إِنَّ كلتا النكتتين موجودتان في طلب الترك أعني نكتة نشوء طلب


الترك غالباً من مفسدة الفعل التي هي انحلالية فيكون الحكم انحلاليّاً ونكتة انَّ الطبيعة لا تترك إِلاّ بترك تمام أفرادها فيكون امتثاله بترك تمامها.

التنبيه الثاني : انَّ قاعدة أنَّ الطبيعة توجد بفرد واحد ولا تنعدم إِلاّ بانعدام تمام أفرادها بالتفسير المتقدّم تنطبق على كلّ الطبائع والكلّيات إِلاّ الجامع الانتزاعي مثل أحدهما فانَّه لو قال ( أوجد أحدهما ) استفيد منه لزوم إيجاد أحدهما بينما إِذا قال أعدم أحدهما أو اترك أحدهما لا يستفاد منه لزوم تركهما وإعدامهما معاً مع انَّ القاعدة العقلية لا تقبل التخصيص وبعبارة أخرى مثل عنوان أحدهما يختلف عن أي عنوان جامع آخر في انَّه يمكن أَنْ يصدق في حقّه في آن واحد الوجود والعدم معاً فنقول أحدهما موجود وأحدهما معدوم وهذا بخلاف سائر الجوامع والمفاهيم الكليّة فانَّه لا يضاف إليها العدم إِلاّ بانعدام تمام مصاديقها وأفرادها ، وهذا لغز مستعصى لا يمكن حلّه إِلاّ بمراجعة حقيقة هذه الجوامع لكي يتبيّن انَّها ليست كلّيات وانَّما هي أشباه كلّيّات.

وتوضيح ذلك ـ انَّ عنوان أحدهما وما يماثله ليس جامعاً من قبيل عنوان الصلاة وانَّما هو مجرّد رمز ذهني يراد به التعبير عمَّا في الخارج والإشارة إليه فبدل أَنْ يقول مثلاً جاء زيد يقول جاء أحدهم فانَّ هذا ليس جامعاً ينطبق على زيد وغيره كما في سائر الجوامع وانَّما هو من قبيل الرمز بـ ( س أو ص ) الّذي يعبر بهما عن الاعداد فهو في قوة أَنْ يقال هذا أو ذاك فليس طلب تركه طلباً لترك الجامع وانَّما هو طلب لترك إِحدى الخصوصيّتين.

والبرهان على ذلك : انَّ الجامع لا يمكن أن ينطبق على الفرد بخصوصيّاته لأنّه عبارة عن تجريد الفرد عن خصوصياته وانطباقه على الفرد بذاته لا بخصوصيته ، وهذا بخلاف عنوان أحدهما أو أحدهم فانه ينطبق على الخصوصية بما هي خصوصية.


بحوث النواهي

اجتمَاعُ الأَمرِ وَالنّهي

ـ فذلكة القول بالامتناع

ـ امتناع الأمر بالجامع والنهي عن فرده

ـ امتناع الأمر بعنوان جامع والنهي عن

الجامع عنوان آخر ينطبق على فرد من ذلك

ـ ملاكات ثلاثة لجواز الاجتماع

ـ البحث عن صغرى ان تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون

ـ تنبيهات مسألة الاجتماع



الفصل الثاني

اجتماع الأمر والنهي

الأمر والنهي تارة يلحظان بالنسبة إلى متعلقهما بالذات وأُخرى بالنسبة إلى متعلّقهما بالعرض ، والمقصود من المتعلّق بالذات العنوان القائم في الذهن الّذي هو المعروض الحقيقي للأمر والنهي والمقصود من المتعلّق بالعرض مطبق تلك العناوين باعتبار انَّ تلك العناوين ملحوظة بما هي فانية في معنوناتها فتكون هي المعروضة بالعرض.

وعلى هذا الأساس يقال : انَّ المعروض بالذات للأمر والنهي إِنْ كان واحداً من قبيل ( صلّ ) و( لا تصلِّ ) فيجب أَنْ يفترض استحالة اجتماع الأمر والنهي فيه أصلاً موضوعيّاً مفروغاً عنه قبل البحث عن اجتماع الأمر والنهي. كما انَّه إِنْ فرض انَّ ما هو المعروض بالعرض لهما متغاير بقطع النّظر عن التغاير بين المعروضين بالذات كشرب الخمر والصلاة فهذا أيضا يجب أَنْ يفترض إمكان تعلّق الأمر بأحدهما والنهي بالآخر مفروغاً عنه.

وهناك حالة وسطى هي موضوع هذا البحث وهي التغاير بين المعروضين بالذات فيقع البحث حينئذ عن انَّ هذا التغاير هل يدفع محذور التضاد أم لا؟ امَّا باعتبار كشفه عن التغاير بين المعروضين بالعرض ، وامَّا باعتبار انَّه وإِنْ لم يكشف عن ذلك إِلاّ


أنَّه بنفسه كافٍ في دفع محذور التضاد.

وهذا التغاير يتصوّر بأحد نحوين رئيسين :

أحدهما : أَنْ يكون العنوان واحداً فكلاهما متعلّق بالصلاة مثلاً إِلاّ انَّهما متغايران بالإطلاق والتقييد كصلِّ ولا تصلِّ في الحمام.

الثاني : أَنْ يكون العنوان متغايراً رأساً من قبيل صلِّ ولا تغصب. فلا بدَّ من بحث كلّ واحد منهما.

وهذان النحوان يختلفان في أمر هو انَّه لا يمكن البحث في النحو الأول عن إمكان استلزام التغاير في العنوان ـ المعروض بالذات ـ بهذا النحو للتغاير في المعنون ـ المعروض بالعرض ـ لوضوح وحدة الصلاة الخارجية في الحمام وعدم تعدّدها فينحصر البحث عن هذا النحو من التغاير في انَّ هذا المقدار من التغاير بالعنوان هل يكفي لدفع التضاد بنفسه أم لا؟

بينما النحو الثاني للتغاير يعقل البحث فيه عن اندفاع محذور التضاد بلحاظ كلّ من الناحيتين. وبهذا يظهر انَّ منهج البحث عن اجتماع الأمر والنهي ليس كما صوّره السيد الأستاذ.

وقبل الدخول في البحث عن هذين القسمين الرئيسيين لا بدَّ من التعرّض لما افترضناه أصلاً موضوعيّاً للبحث وهو استحالة اجتماع الأمر والنهي على متعلّق واحد بالذات.

ويمكن بهذا الصدد ذكر ثلاثة بيانات قد يمكن إرجاع بعضها إلى البعض الآخر :

البيان الأول : أَنَّ التكليف مشروط بالقدرة ولا قدرة للمكلّف على أَنْ يصلّي ولا يصلّي ، بل ليس له إِلاّ قدرة واحدة فيستحيل أَنْ يجتمع التكليفان وهذا هو نفس البيان المذكور في باب التزاحم غير انّه هناك كان يجاب عن محذور الاستحالة بوجود قدرتين مشروطتين كلّ منهما بعدم الآخر لكنَّ هذا غير معقول في المقام.

وهذا البيان يمكن لمن يرى انَّ القدرة ليست شرطاً في التكليف بل في الامتثال فقط ـ كما عليه الأستاذ ـ أَنْ يدفعه بدعوى : انَّه لا مانع من التكليف بغير المقدور غاية الأمر أنَّ العقل يحكم بعدم منجزية شيء منهما ، لأنّه على تقدير عدم أحد النقيضين


يكون الآخر ضرورياً لا محالة فلا معنى لاشتراط الأمر بأحدهما بفرض ترك الآخر فانْ وصل أحدهما دون الآخر تنجز حكم العقل به وإِلاّ فلا يحكم العقل بتعيين أحدهما.

البيان الثاني : انَّ التضاد بين صلِّ ولا تصلِّ ثابت في عالم الجعل والحكم لأنَّ الحكم انَّما هو البعث والزجر ، ويستحيل اجتماع البعث والزجر على عنوان واحد ـ مع قطع النّظر عن القدرة في مرحلة الامتثال ـ وهذا البيان بحسب الحقيقة هو روح البيان الأول لأنّه قد أرسل في ذلك البيان شرطية القدرة إرسال المسلَّمات مع انَّ نكتتها ما يذكر في هذا البيان.

وهذا أيضا يمكن إنكاره لمن يرى انَّ الحكم ليس إِلاّ مجرّد اعتبار للفعل أو الترك على ذمّة المكلّف وليس متقوّماً بداعي الباعثية والمحركيّة.

البيان الثالث : انَّ التضاد بينهما ثابت في مرحلة المبادئ لأنَّ الأمر يكشف عن مصلحة تامة ومحبوبيّة فعلية في الفعل ، والنهي يكشف عن قيام مفسدة تامّة ومبغوضيّة فعلية في الفعل فإذا تعلّقا بشيء واحد لزم اجتماع الضدّين.

وهذا البيان أيضا يمكن دفعه على المسلك القائل بأنَّ مبادئ الحكم قد تكون في نفس الجعل بأَنْ تكون المصلحة في الجعل لا متعلّقه فلا يتّحد مركز المصلحة الفعلية مع مركز المفسدة الفعلية.

وكذلك المسلك القائل بأنَّ المبادئ ليست إِلاّ ذات المصلحة والمفسدة لا المصلحة والمفسدة التامّتين الموجبتين للحبّ والبغض لإمكان حصول ذات المصلحة والمفسدة في فعل واحد.

وموضع تحقيق هذه المباني موكول إلى محلّها ونحن هنا نفرغ عن عدم صحّة هذه المباني وتماميّة البيانات الثلاثة معاً.

وعلى هذا الضوء ندخل في شرح كلّ من القسمين للتغاير بين المتعلقين بالذات لنرى ما يتمّ من هذه البيانات فيه.

امّا القسم الأول فالبيان الأول لا يتمّ فيه لوضوح إمكان امتثال الأمر بإتيان الجامع بغير الحصّة المحرمة.

وامَّا البيان الثاني فأيضاً لا يأتي لوضوح إمكان فعلية انقداح كلا الداعيين داعي


البعث نحو المطلق وداعي الزجر عن المقيد.

وامَّا البيان الثالث أي التنافي بلحاظ عالم المبادئ ، فهذا البيان تارة : تلحظه بالنسبة إلى عالم الذهن والمفاهيم أي المعروض بالذات ، وأخرى : بالنسبة إلى عالم الخارج والوجود أي المعروض بالعرض.

امَّا بالنسبة إلى العالم الأول فالصلاة قد وقعت معروضاً للمحبوبية على وجه الاستقلال ووقعت معروضاً للمبغوضية على وجه الضمنيّة أي ضمن المقيد.

وحينئذ قد يقال : انَّه كما يستحيل اجتماع المحبوبيّة والمبغوضيّة الاستقلاليّتين كذلك يستحيل اجتماع المحبوبيّة الاستقلاليّة والمبغوضية الضمنية ، بدليل انَّه لا يمكن اجتماع المبغوضية الاستقلالية مع المحبوبية الضمنية فانَّه لا يعقل الأمر بالصلاة مثلاً مع النهي عن التكبيرة نهياً استقلاليّاً.

إِلاّ أنَّ الصحيح عدم تمامية هذا الكلام وانَّ هناك فرقاً بين المحبوبية الضمنية والمبغوضية الضمنية ، فالأوّل لا يمكن أَنْ تجتمع مع البغض الاستقلالي إِلاّ أنَّ الثاني يمكن أَنْ يجتمع مع الحبّ الاستقلالي فانَّه يمكن أَنْ يبغض مجموع أمرين وجزءين مع تعلّق الحبّ الاستقلالي بأحدهما ، فلا بدَّ من التفرقة بين اجتماع المحبوبية الضمنية مع المبغوضية الاستقلالية فانَّه مستحيل وبين اجتماع المبغوضية الضمنية مع المحبوبية الاستقلالية فانه جائز.

وهذا رغم كونه وجدانيّاً يمكن البرهنة عليه بأحد بيانين :

الأول : انّا لا نتعقّل المبغوضيّة الضمنيّة في نفسها بخلاف المحبوبيّة الضمنية فانَّ الحبّ إِذا تعلّق بمجموع جزءين فسوف تتعلّق محبوبيّتان ضمنيّتان بالجزءين ويكون لكلّ منهما اقتضاء لإيجاد ذلك الجزء لا كاقتضاءين مستقلين بل كجزء من اقتضاء الحبّ الاستقلالي للمجموع كما انَّ الحبّ الضمني كان جزءاً تحليليّاً لذلك الحبّ الواحد.

هذا في طرف الحب وامَّا في طرف البغض إذا تعلّق بمجموع جزءين فهذا البغض انَّما يقتضي إعدام المجموع أي أحد الجزءين ونفيه لا إعدام كليهما ، وهذا الاقتضاء لا يمكن أَنْ يتبعض كي ينحل إلى بغضين ضمنيين على كلّ من الجزءين ويكون لهما


اقتضاءان تحليليان ، وهذا كاشف عن عدم انحلال المبغوضية إلى مبغوضيّتين ضمنيّتين ، إِذ لو كان هناك بغض ضمني فإِنْ كان لا يقتضي شيئاً فهو خلف كونه مبغوضاً وإِنْ كان يقتضي إعدام ذلك الجزء كان معناه زيادة اقتضاء البغض الضمني على البغض الاستقلالي وانه لا بدَّ من إعدام الجميع وهو غير معقول أيضا ولو كان يقتضي إعدام المجموع فهو خلف كونه ضمنيّاً وهذا كلّه انَّما كان على أساس انَّ المجموع وجوده بوجود كلّ أجزائه بينما يكفي في عدمه عدم أحد أجزائه.

الثاني : انَّ البغض والحبّ انّما يتنافيان فيما إذا فرض تنافيهما في مقام الاقتضاء والتأثير فإذا كان بين مقتضاهما تناف ذاتي لا عرضي ـ كالتنافي العرضي في باب التزاحم ـ استحال اجتماعهما ، ولهذا لو افترضنا عالماً يمكن فيه تحقيق كلا النقيضين أمكن تعلّق الحبّ والبغض بشيء واحد فانَّ البغض ليس نقيضاً للحبّ بذاته ولا تضاد ذاتي فيما بينهما أيضا وانَّما التنافي بلحاظ متعلّقهما.

وعليه نقول : انَّه لا تنافي ذاتي بين مقتضى الحبّ الاستقلالي لشيء ومقتضى البغض الضمني لذلك الشيء لأنّ البغض الضمني لا يقتضي أكثر من إعدام المجموع لا الجميع وهو لا يتنافى مع مقتضي الحبّ الاستقلالي لذلك الجزء لعدم توقّف إعدام الجميع على إعدام ذلك الجزء.

وهكذا يتّضح : انَّه لا تنافي بين أَنْ تقع الصلاة مثلاً مركزاً للمحبوبية الاستقلالية ومركزاً للمبغوضية الضمنية فلا تنافي بلحاظ عالم المعروض بالذات.

وامّا بلحاظ عالم المعروض بالعرض فقد يُدعى انَّ تعلّق الأحكام بالعناوين انَّما هو بلحاظ حكايتها عن الخارج ومن الواضح انَّه بلحاظ الخارج لا يوجد إِلاّ شيء واحد فيستحيل أَنْ يكون هذا الوجود الواحد متعلّقاً للمحبوبيّة والمبغوضية الاستقلاليتين معاً.

وهذه الشبهة أيضا غير تامة لأنَّ الأحكام المتعلقة بالعناوين وإِنْ كانت متعلقة بها بما هي مرآة عن الخارج إِلاّ انَّ ذلك انَّما يكون بمقدار مرآتية ذلك العنوان المتعلق لا أكثر من ذلك ، ومن الواضح انَّ متعلّق الأمر انَّما هو الطبيعة التي يكون مرآة عن صرف وجود الطبيعة في الخارج وامَّا متعلّق النهي فهو الحصّة الخاصّة التي تكون مرآة


عن الفرد ، فالمعروض بالعرض للنهي هو الفرد وهو ليس معروضاً بالعرض للأمر بل مصداق للمعروض بالعرض في الأمر ، فانَّه قد تقدّم أنَّ متعلّق الأمر صرف الوجود وصرف الوجود لا يلحظ من خلاله الأفراد كي يكون المعروض بالعرض واحداً وانَّما يلحظ نفس الطبيعة.

وعليه فلا اجتماع للمحبوبيّة والمبغوضية على مركز واحد في عالم المعروض بالعرض كما لا اجتماع في مركز واحد بلحاظ المعروض بالذات وفي مقابل هذا الكلام يوجد بيانان لو تمّ أحدهما سوف يكون ملاكاً للامتناع.

البيان الأول : ما ذكرته مدرسة المحقّق النائيني ( قده ) في تنبيهات المسألة اجتماع الأمر والنهي مع انَّه بيان على أصل الكبرى. وحاصله : انَّه لا يوجد تضاد بين الأمر والنهي المتعلقين بالمطلق والمقيد مع وضوح انَّ التركيب اتحادي وليس انضمامياً لأنَّ مركز الأمر هو صرف الوجود ومركز النهي هو الفرد ولا تنافي ذاتي بينهما إِلاّ انَّه يوجد تناف بالعرض يقتضي : عدم إمكان اجتماع الأمر بالصلاة والنهي عن الصلاة في الحمام وذلك لأنَّ الأمر بصرف وجود الطبيعة لازمه إمكان تطبيقها على أي فرد من أفراد الطبيعة خارجاً حتى الفرد المحرم فيقع تناف لا محالة بين هذا المدلول الالتزامي المستفاد من بدليّة متعلّق الأمر وبين النهي عن الفرد (١).

والفارق العملي بين هذه الصياغة للامتناع وبين الصياغة السابقة التي كانت تفترض التنافي أولا وبالذات بين مدلولي الأمر والنهي انَّه على الصياغة السابقة لا يفرق في الامتناع بين أَنْ يكون النهي تحريميّاً أو كراهياً ، لأنَّ المحبوبية لا تجتمع مع المبغوضية ولو كانت بمرتبة الكراهة ، بينما على أساس هذه الصياغة لا يوجد تناف فيما إِذا كان النهي كراهيتاً لأنَّ الترخيص في التطبيق على الفرد الّذي هو المدلول الالتزامي للأمر بصرف الوجود لا يتنافى مع كراهة ذلك الفرد. وبهذا أجابت مدرسة الميرزا ( قده ) على الإشكال العويص الّذي يواجه مسألة الكراهة في العبادات ولهذا أيضا ذكرت هذا البيان في تلك المسألة. وهذا البيان غير تام لأنَّ الإطلاق البدلي في متعلّق الأمر

__________________

(١) فوائد الأصول ، ج ١ ، ص ٤٣٥


ليس معناه ولا لازمه الترخيص في التطبيق على الأَفراد كحكم شرعي شمولي مولوي.

وتوضيح ذلك : انَّا قد ذكرنا فيما سبق أنَّ مقتضى الإطلاق ليس إِلاّ كون معروض الحكم ذات الطبيعة التي هي تمام المبين بحسب مقام الإثبات ، ولازم ذلك انَّه من قبل هذا الوجوب لا مانع من تطبيقه على أَيّ فرد لا انَّه لا مانع بالفعل ومن جميع الجهات.

وإِنْ شئتم قلتم : انَّه قد وقع الخلط في المقام بين الترخيص الوضعي والترخيص التكليفي ، فانَّ الأمر يقتضي الترخيص الوضعي في تطبيق الحكم على كل فرد أي الاجتزاء بأي فرد محقق للطبيعة وهذا لا ينافي أَنْ يكون هناك مانع من ناحية أخرى ، فلا تنافي بين مدلول الأمر والنهي لا بالذات ولا بالعرض.

وعند ما أشكلنا على أصحاب هذا المسلك بهذا الإشكال أجابوا بأنَّ هذا مدلول عرفي يوجب الامتناع والتنافي العرفي بينهما وهذا مطلب آخر سوف نتعرض له مشروحاً فيما يأَتي.

البيان الثاني : انَّ الحبّ المتعلق بالجامع بنحو صرف الوجود يلازم تعلق الحبّ بكل فرد فرد على تقدير عدم الافراد الأخرى ، وهذا معناه انَّ التخيير العقلي دائماً يلزم منه التخيير الشرعي بلحاظ عالم الحبّ وإِنْ لم يكن كذلك بحسب عالم الجعل والحكم وهذا يستوجب التضاد بين النهي عن الحصّة والأمر بالطبيعة لأنَّ الأول يقتضي تعلق البغض بالحصّة والثاني يقتضي تعلق الحبّ بها منوطاً بترك سائر الحصص ، فبلحاظ عالم الحبّ يكون الحبّ سارياً من الطبيعة إلى الأفراد بنحو مشروط وإِنْ لم يكن كذلك بلحاظ الحكم فيلزم اجتماع الضدّين إِذ كما لا يجتمع الضدّان مطلقاً كذلك مشروطاً.

وهذا البيان موقوف على تمامية إرجاع الحبّ المتعلّق بالطبيعة إلى الحب بكل حصّة منها مشروطاً بعدم الأُخرى ولو اختياراً من جهة أنَّ المكلَّف لم يقدِّم غيرها إلى المولى. وهذا التلازم وجداني في النّفس البشرية فانَّه من غير الصحيح أَنْ يقال لمن يحبّ شرب الماء من هذا الإناء أو ذاك انَّه يحبّ صرف الوجود لا هذا الّذي شربه أو ذاك إِذا شربه بل يحبّ الجامع الّذي هو غير هذا وغير ذلك (١). وهذا معناه انَّه

__________________

(١) وجدانية هذا الحكم محل تأمل بل الوجدان يحكم انَّه يحبّ هذا الفرد بما هو مصداق لذلك الجامع فهو يحبّ الصلاة الخارجية وهذا الفرد صلاة خارجية كذلك الفرد الآخر فالخصوصيّات والحيثيّات الفرديّة الأخرى المقيّدة وكذلك الحصص بما هي حصص خاصة لا تكون متعلّقة للحبّ إِلاّ بالعرض. ولكن لا ينبغي الإشكال في وجدانية التضاد والتنافي ثبوتاً بين ( صلِّ ) و( لا تصلِّ )


بلحاظ روح الحكم وهو الحبّ والبغض يلزم دائماً التخيير الشرعي من التخيير العقلي فهذا البيان الثاني تام في إثبات الامتناع.

هذا كله في التغاير بين متعلق الأمر والنهي بنحو الإطلاق والتقييد.

وامّا التغاير بينهما بنحو تعدد العنوان من قبيل ( صلِّ ) و( لا تغصب ) فهنا يوجد دعويان متقابلان متطرفان ، دعوى تقول بأنَّه يكفي في رفع غائلة التضاد بينهما مجرّد تعدد الوجود الذهني الّذي هو المعروض بالذات للحكم ولو اتّحد المعروض بالعرض لهما ، ولازم هذه الدعوى انَّه لو أوجدنا ماهية واحدة في الذهن بوجودين مرتين ـ كما إِذا تصوّرنا الصلاة مرتين ـ أمكن أَنْ يتعلّق بأحدهما الحبّ وبالآخر البغض لأنَّ كل منهما وجود غير وجود الآخر وإِنْ اتحدا ماهية فعروض الضدين عليهما نظير عروض أحد الضدين على زيد والآخر على عمر اللذان هما وجودان خارجيان لماهية واحدة.

ودعوى أخرى : بأنَّ الغائلة لا ترتفع إِلاّ بتعدد الوجود الخارجي للمتعلقين لأنَّ الأحكام وإِنْ كانت متعلقة بالوجود الذهني إِلاّ انَّها متعلقة بها بما هي قنطرة إلى الخارج فلا بدَّ من تعدد الوجود الخارجي كي يرتفع محذور التضاد.

والدعوى الأولى كما أشرنا تتوقّف تماميّتها على إثبات انَّ الأحكام لا تعرض على الوجود الخارجي وانّما تعرض على الوجود الذهني.

وهذه النقطة يمكن البرهنة عليها بعدة تقريبات :

التقريب الأول : انَّه لو كانت الأحكام متعلقة وعارضة على الوجود الخارجي فما ذا يقال عن الحكم الّذي لم يمتثل ولم يتحقق بعد شيء من مصاديقه في الخارج ، كما لو عصى المكلّفون ولم يأتوا بشيء من الصلوات خارجاً ، مع وضوح انحفاظ الأمر

__________________

في الحمام ) ولعل وجهه ان إيجاب الطبيعي مع تحريم فرد من أَفراده يؤدّي بحسب عالم النّفس واللحاظ الّذي هو عالم الحكم إلى إمكان اجتماعهما في مورد واحد مع انّ الإرادة والكراهة أو الحبّ والبغض يستحيل اجتماعهما في موضوع واحد. فالحاصل التضاد بين الإرادة والكراهة وامتناع اجتماعهما في مورد واحد يستدعي زائداً على اشتراط تغاير متعلقيهما بالذات أَنْ لا يكون بحسب عالم اللحاظ ومن منظور الملاحظ مما يمكن أَن يتطابقا في الخارج على مورد واحد وإِلاّ كان من زاوية نظر الملاحظ من اجتماع الضدّين في مورد واحد وهو تهافت وهذا بحسب الحقيقة من شئون مرآتية العناوين وحكايتها عن الخارج فلا بدّ وأَن يتقيّد متعلّق الأَمر بغير الفرد المحرم. وما ذكر من انَّ الجامع بنحو صرف الوجود غير الفرد انَّما هو بلحاظ عالم المفاهيم والتحليل الذهني لا عالم تعلق الأَمر والإرادة الّذي هو عالم محكي تلك المفاهيم في الخارج تماماً كالعناوين الانتزاعية الذهنية التي سوف يأتي بيان هذا المحذور فيها فتدبّر.


والحكم الشرعي في حالتي العصيان والامتثال معاً.

التقريب الثاني : انَّه لو كان الحكم متعلقاً بالوجود الخارجي لكان متأخراً مرتبة عن الوجود الخارجي مع انَّه من مبادئ الوجود الخارجي والدواعي لا لإيجاده فيستحيل أَنْ يكون عرضاً من أعراضه ، وهذا هو معنى ما يقال من انَّ العلّيّة تنافي العروض ، ولا يمكن الجواب عليه : بما ذكره المحقق الأصفهاني من التفرقة بين الوجود العلمي والوجود الخارجي بأَنْ يكون العارض على الوجود الخارجي هو الأمر الواقعي وما يكون علّة للوجود الخارجي هو الأمر بوجوده العلمي أي علم المكلّف بالأمر فاختلف ما هو العلّة والمتقدّم عمّا هو العارض والمتأخر.

لأنَّه إِذا كان الأمر بوجوده الواقعي عارضاً على الوجود الخارجي ومتأخراً عنه فيستحيل أَنْ يكون العلم بمثل هذا الأمر محركاً نحو ذلك الوجود الخارجي لأنَّ العلم به سوف يكون كاشفاً عن وجود معروضه في الخارج ، لأنَّ ما يكون محركاً انَّما هو العلم بالأمر الفعلي لا الشأني التقديري ، والأمر لا يكون فعليّاً إِلاّ بعد أَنْ يتحقق الموجود خارجاً أو على الأقل بعد أَنْ يرى العالم معروضه موجوداً في الخارج ، فإذا لم يَر العالم المعروض فعليّاً في الخارج فلا يكون الأمر فعلياً بحسب نظره فلا يكون محركاً.

وبعبارة أخرى : إذا فرض انَّ العلم بالأمر المحرك للمكلف متعلق بالأمر الفعلي المتحقق في الخارج بتحقق موضوعه لزم التهافت في نظر العالم لأنه يرى الفعل معلولاً له ولعلمه فكيف يكون موجوداً بقطع النّظر عنه فهذا تحصيل الحاصل ، وإِنْ كان المحرك له العلم بأنَّه سوف يتحقق الموضوع ويتحقّق حكمه في الخارج أي الحكم التقديري فهذا لا يمكن أَنْ يكون محركاً.

التقريب الثالث : ما أشرنا إِليه مراراً من أنَّ الأحكام الشرعية من الصفات ذات الإضافة والتي تكون الإضافة مقومة لها بحيث لا يعقل افتراضها في أي مرتبة إِلاّ ولها تلك الإضافة حتى مرتبة ذاتها إِذ يلزم من الانفكاك في مرتبة من المراتب تعقل حبّ أو علم مثلاً بلا محبوب أو معلوم وهو غير معقول ، ولازم هذا أَنْ يكون المضاف إِليه في هذه الصفات ثابتاً في مرتبة ذاتها ، وبهذا البرهان يثبت انَّ المحبوب بالذات والمبغوض بالذات انَّما هو نفس الحبّ والبغض.


ويمكن أَنْ يصاغ هذا التقريب بصياغة أخرى حاصلها : انَّ الإرادة نسبة إلى ماهية المراد وهي امَّا نسبة العرض إلى موضوعه كنسبة البياض إلى الجسم أو نسبة الشيء إلى متعلقه ، والأول واضح البطلان لأنَّ موضوع الإرادة هو النّفس لا المراد الخارجي بل قد تتعلق الإرادة بالعدم كما لو أراد أَنْ لا يكون زيد عالماً ، وامَّا الثاني فانْ كانت هذه النسبة التي هي نسبة الإضافة نسبة تعرض على الإرادة كعروض الإضافة الخارجية على الشيء فيقال عنه انه لفلان مثلاً فهذا يستلزم إمكان انفكاك هذه الإضافة عن المضاف مع انَّه غير ممكن في الإرادة إِذ لا يتعقل إرادة بلا مراد ، وإِنْ كانت هذه الإضافة أمراً ذاتياً للإرادة بأَنْ كانت حقيقتها ذلك فمن الواضح انَّ الإرادة ليست عبارة عن نسبة الإضافة التي لا استقلال لها في نفسها وانَّما الإرادة شيء لها الإضافة إلى المراد ، فإذا بطلت هذه الشقوق كلّها يتعيّن أَنْ تكون نسبة الإرادة إلى المراد نسبة الوجود إلى الماهية ولكن بالوجود الذهني ، والوجود مع الماهية متّحدان لا محالة وفي عالم واحد كما هو واضح.

وعلى أساس هذه التقريبات يقال بأنَّه يرتفع غائلة الاجتماع بمجرد تعدد الوجود الذهني المتعلّق به الأمر والنهي.

وهذه الدعوى لو تمّت لاقتضت جواز الاجتماع حتى لو كان العنوان واحداً ـ كما أشرنا إِليه ـ فيما إذا وجد ذلك العنوان في الذهن مرّتين.

إِلاّ انَّ هذه الدعوى غير صحيحة لأنَّ كون الأحكام عارضة على الوجودات الذهنية وإِنْ كان صحيحاً إِلاّ أنَّ الصور الذهنية لها اعتباران ، اعتبار بالحمل الأوّلي واعتبار بالحمل الشائع وقد تقدّم مراراً توضيح هذين الاعتبارين في الصور والوجودات الذهنيّة.

ومحصّله : إِنَّ الوجود الذهني بالنظر التصوري ـ الحمل الأوّلي ـ يكون عين الأمر الخارجي المحكي عنه ، وبالنظر التصديقي ـ الحمل الشائع ـ يكون مبايناً للخارج وغير واجد لشيء من خصائصه وأحكامه ، فالماء الموجود في الذهن بالنظر التصديقي صورة وانطباع في النّفس وليس ماءً ولا واجداً لشيء من خصائص الماء وبالنظر التصوّري يكون ماءً رافعاً للعطش محبوباً لدينا. والحكم بمبادئه يتعلّق بالصورة الذهنية بحسب النّظر التصوري لا التصديقي ولذلك أيضا يكون محركاً نحو الخارج الّذي


هو المنظور التصوّري وامَّا الصورة الذهنية بحسب النّظر التصديقي فليس بمطلوب ولا محبوب أصلاً. وحينئذ سوف يكون الحكم والحبّ في عالم النّفس وبحسب لحاظ المولى متعلقاً بالصورة الذهنية بالحمل الأوّلي والنّظر التصوّري الّذي لا يرى به إِلاّ الماهية فإذا كانت الماهية والمنظور التصوّري واحداً ـ ولو ضمن وجودين ذهنيين ـ فيستحيل أَنْ يتعلّق الحبّ والبغض والأمر والنهي بها لأنَّه بحسب هذا النّظر واللحاظ الّذي هو نظر المولى في مقام الحكم ومبادئه يلزم التهافت والتضاد فيكون مستحيلاً أيضا ، فليست الاستحالة منحصرة بما إِذا كان الوجود الذهني المعروض للأمر والنهي بالحمل الشائع واحداً فقط.

وامَّا الدعوى الثانية فتقريبها : انَّ الأحكام الشرعية وإِنْ كانت متعلقة بالصور الذهنيّة وبالعناوين في أُفق النّفس أو عالم الاعتبار إِلاّ انَّها انَّما تتعلّق بها بما هي فانية في المعنونات الخارجية إذ لو لا هذا الفناء لما كان يريد المولى شيئاً من هذه العناوين فالمتعلّق المطلوب للمولى هو المعنون الخارجي ، وعلى هذا فلا بدَّ من تعدد الوجود الخارجي لمتعلّق الأمر والنهي كي لا يلزم التضاد وإِلاّ فالتضاد حاصل ولو كانت العناوين والمرايا متعددة ، ومن هنا قالوا انَّ الميزان في الامتناع والجواز تشخيص أنَّ تعدد العنوان بعدد المعنون أم لا؟ أي انَّ التركيب بين معنون متعلّق الأمر مع معنون متعلّق النهي اتحادي أو انضماميّ فانْ كان اتحاديّاً بأنْ كان هناك معنون واحد امتنع الاجتماع وإِنْ كان انضماميّاً جاز الاجتماع. وكأن هذا المقدار من البيان يشترك فيه المحقّق الخراسانيّ والنائيني ( قدهما ) والسيد الأستاذ فإنَّهم جميعاً يتّفقون على أصل هذه الدعوى وانَّ الأحكام متعلّقة بالعناوين بما هي فانية في الخارج وانَّما يختلفون في التطبيق وبعض النتائج ، فالمحقّق الخراسانيّ ( قده ) يدّعي انَّ الخارج واحد وانَّ تعدد العنوان لا يؤدّي إلى تعدد المعنون (١) ـ وهذه مقدمة أخرى غير أصل الدعوى يذكرها في برهانه على الامتناع المؤلّف من عدة مقدمات ـ والمحقق النائيني ( قده ) يدّعي انَّ تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون إِذا كان العنوانان بنحو العامين من وجه ، كعنواني

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ٢٤٠


الغصب والصلاة ، ببرهان يذكره لإثبات ذلك محصله : انَّ كلاً من العنوانين لا بدَّ وأَنْ يكون منتزعاً من جهة مشتركة محفوظة في موارد الاجتماع والافتراق معاً فلا بدَّ من الالتزام بجهتين في موارد الاجتماع لا محالة وإِلاّ استحال انتزاع عنوانين بينهما عموم من وجه بل صحّ انتزاع عنوان الغصب حينئذ من الصلاة في المسجد وكذلك عنوان الصلاة من الغصب وإنْ كان بغير الصلاة (١) ، والسيد الأستاذ أفاد موقفاً وسطاً بين المحقّق الخراسانيّ والنائيني ( قدهما ) حيث ادعى انَّ إطلاق القول بأنَّ تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون وكذلك إطلاق القول بأنَّ تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون في العامين من وجه كلاهما لا يمكن المساعدة عليه وإِنَّما الصحيح أَنْ يقال : انَّ العنوانين إِنْ كانا من المقولات الحقيقيّة والماهيّات الخارجية فلا محالة يتعدد المعنون بتعدد العنوان إِذ يستحيل أَنْ تكون ماهيّتان لموجود واحد في الخارج بل الوجود الواحد لا تكون له إِلاّ ماهية واحدة ، وإِنْ كان العنوانان من العناوين الانتزاعيّة الاعتبارية فتعددها لا يوجب تعدد المعنون حتى لو كانا عامين من وجه ، وما ذكره المحقّق النائيني ( قده ) من البرهان لا يتمّ فيها لأنَّ العنوان الانتزاعي لا يلزم أَنْ يكون منشأ انتزاعه ماهية واحدة بل قد ينتزع في مورد الاجتماع من ماهية غير التي ينتزع منها في مورد الافتراق (٢).

وهكذا اختلف هؤلاء المحقّقون الثلاث في النتائج تبعاً لاختلافهم في تطبيق تلك الكبرى الكليّة القائلة بأنَّ الميزان في دفع غائلة الاجتماع تعدد الوجود الخارجي وعدمه وسوف يأتي التعرض تفصيلاً لهذه التطبيقات وبراهينها التفصيليّة وانَّما نحن في هذا المقام بصدد ملاحظة أصل تلك الدعوى وما تحتويها من الفكرة الكليّة فنقول :

إنَّ عبارة أنَّ الأحكام تتعلّق بالعناوين بما هي فانية لا بما هي هي وبالمعنى الاسمي على إجمالها صحيحة إِلاّ أنَّ هذا لا يعني انَّ العنوان قنطرة حقيقة توصل الحكم إلى المعنون الخارجي بحيث يستقر عليه فانَّ هذا مستحيل سواءً أُريد به انَّ الحكم

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٣٣٧

(٢) نفس المصدر ، ص ٣٣٧ ـ ٣٣٨


عفويّاً وتلقائيّاً يسري من الصورة الذهنيّة والعنوان إلى الخارج أو أُريد به انَّ الصورة الذهنية تكون سبباً لإدراك المولى للخارج فيلقي الحكم عليه ، إذ يرد على الأول : ما تقدّم من الأدلة على استحالة تقوم الحكم بالوجود الخارجي. ويرد على الثاني : انَّ إدراك الخارج غير معقول وانَّما يكون إدراكه بإدراك الصورة الذهنية وبعنوان دائماً ، وليس معنى الفناء في الخارج انَّ الصورة الذهنية تكون سبباً وعلّة لإدراك الخارج بنحو الحيثيّة التعليليّة وانَّما معنى الفناء والإفناء انَّه لا يوجد لدى المولى الحاكم إِلاّ الصورة الذهنية بالنظر التصديقي ويكون هذا الشيء الحقيقي هو الفاني وهو المفني فيه لا انَّه فان في شيء آخر لدى المولى ، بل الجهة الفانية من هذا الشيء هو الصورة بالحمل الشائع والجهة المفني فيها هي الصورة بالحمل الأوّلي. وبعبارة أخرى. انَّ المفني فيه بالذات الحقيقي هو نفس الصورة الذهنية لا الخارج وليس الخارج إِلاّ المفني فيه بالعرض كما هو واضح.

فالتعابير بالفناء والآليّة والقنطرة إلى الخارج ونحو ذلك من التعابير ليس إِلاّ بمعنى انَّنا ننظر إلى الصورة الذهنية لا بحقيقتها الواقعيّة بل بعنوانها وما يتوهّم من خلالها. وهكذا يتّضح : انَّ كون الأحكام متعلقة بالصورة الذهنية بما هي فانية في الخارج لا يعني عروضها وتعلّقها بالخارج بل يعني انَّها تتعلّق بالصورة بما هي ترى عين الخارج إِلاّ أنّ كونها ترى عين الخارج بالنظر التصوري لا يعني تعلقها بالخارج حقيقة.

وبهذا يتّضح أيضا انَّه يجوز تعلّق الأمر والنهي بالعنوانين وإِنْ كان الوجود الخارجي ( المعنون ) لهما واحداً لأنَّ متعلّق الأمر والنهي الصورة الذهنية بالنظر التصوّري وهو متعدد بنفس تعدد العنوان بالنظر التصوّري لأنَّه بحسب النّظر التصوّري يرى امران في الخارج إِذ ليس معنى لحاظهما خارجيين لحاظ الوجود الشخصي في الخارج بل لحاظ نفس الطبيعة والعنوان في الخارج وهما متعددان بحسب الفرض.

وهكذا نصل إلى انَّ تعدد العنوان بحسب النّظر التصوّري الّذي هو ظرف عروض الحكم يكفي لدفع غائلة التضاد بالذات بين الأمر والنهي في هذا الشقّ كما كان كذلك في الشقّ الأول ـ أي ما إذا كان الأمر بالجامع والنهي عن الحصّة ـ.


يبقى بعد هذا أَنْ نلاحظ التقريبين اللذين ذكرناهما للامتناع في الشقّ الأول لا من جهة نفسي الأمر والنهي بل باعتبار ما يلزم الأمر بشيء بنحو صرف الوجود من الترخيص في تطبيق الجامع على الحصة أو لزوم التخيير الشرعي فهل يتمّ شيء منهما في المقام أي ما إِذا كان متعلق النهي غير متعلّق الأمر عنواناً كالغصب والصلاة أم لا؟.

والتحقيق : عدم تمامية شيء منهما في المقام ، لأنَّ متعلق النهي هنا عنوان آخر كالغصب وهو غير الجامع المتعلق للأمر وليس حصّة منه فانَّ الحصّة المقيدة للصلاة بالغصب تعني الصلاة مع تقيدها بالمكان المغصوب مثلاً على نحو دخول التقيد وخروج القيد فعنوان الغصب الّذي هو القيد يبقى خارجاً عن معروض الأمر أو الحبّ المتعلقين بالصلاة حتى إِذا لزم منهما الترخيص في تطبيقه على الحصّة أو تعلّق الحبّ بها بنحو التخيير الشرعي ، فيكون معروض الأمر والحبّ ذات الحصّة والتقيد ومعروض النهي والبغض القيد وهو الغصبيّة ولا محذور في ذلك ، وهذا بخلاف الشقّ السابق أي ما إِذا تعلّق النهي بالحصّة المقيّدة ـ كالصلاة في الحمام أو في المكان المغصوب ـ حيث انَّه سوف يتعلّق النهي والبغض بالحصّة المقيّدة التي يلزم من الأمر بالجامع المنطبق عليها الترخيص فيها أو تعلّق الحبّ بها بنحو التخيير الشرعي فيجتمع المتضادان في مركز واحد ، نعم هناك تحفّظ أساسي هنا سوف يأتي بيانه.

ومن مجموع ما تقدّم إلى هنا نستطيع أَنْ نستخلص ثلاثة ملاكات وتقريبات لجواز اجتماع الأمر والنهي في موضوع واحد لو تمّ شيء منها في مورد جاز الاجتماع.

الملاك الأول : انَّ الأمر إِذا كان متعلّقاً بصرف وجود الطبيعة في الخارج فحتى إِذا كان النهي متعلّقاً بالفرد والحصّة لا تضاد بينهما ، إِذ لا محذور في أَنْ يريد المولى صرف الوجود للجامع وينهى عن فرد من أفراده.

الملاك الثاني : أَنْ يكون متعلّق الأمر غير متعلّق النهي عنواناً وإِنْ انطبقا على وجود واحد في مورد خارجاً ، لأنَّ تعدد العنوان يؤدّي إِلى تعدد ما هو معروض الأمر والنهي والحبّ والبغض حقيقة وذاتاً.

الملاك الثالث : أَنْ يكون التركيب بين عنواني المأمور به والمنهي عنه انضماميّاً


لا اتّحاديّاً ، أي يكون تعدد العنوان مستلزماً لتعدد المعنون خارجاً.

والملاك الثالث هو الّذي بنى عليه المحقّقون جواز الاجتماع كبرويّاً وإِنْ اختلفوا في تشخيص موارده صغرويّاً ، وسوف يأتي الحديث عن ذلك مفصلاً.

والملاك الثاني قد أوضحناه الآن وعلى أساسه أثبتنا جواز الاجتماع حتى مع وحدة المعنون.

والملاك الأول قد بيّنا فيما سبق انَّه وإِنْ كان صحيحاً في نفسه بلحاظ نفس الأمر والنهي إِلاّ انَّه لو لاحظنا ما ادّعينا وجداناً لزومه عن الأمر بالجامع بنحو صرف الوجود من التخيير الشرعي في عالم الحبّ والإرادة المستلزم لتعلّق الحبّ بالفرد عند ترك سائر الأفراد لزم التضاد بين الأمر بالجامع والنهي عن الفرد في عالم الحبّ والبغض الّذي هو عالم المبادئ وروح الحكم (١).

__________________

(١) ذكر سيدنا الأستاذ ( قدس سرّه الشريف ) خارج البحث تعليقاً على هذا الملاك لجواز الاجتماع بأنَّ ما ذكرناه في ردّه من سريان المحبوبيّة من الجامع إلى الفرد لا يشكل محذوراً ثبوتيّاً للامتناع وانَّما هو مجرّد محذور إثباتي مخصوص بما إذا كان الأمر والنهي ثابتين بدليلين لفظيّين.

توضيح ذلك : انَّ حبّ الفرد المتولد من حبّ الجامع تارة يكون بنحو بحيث يغلب مبغوضيّة الفرد المحرم بعد الكسر والانكسار بين مصلحة الجامع المتحقّقة بالفرد ومفسدته فيكون الفرد محبوباً ولكن بدرجة أخفّ من محبوبيّة سائر الأفراد ، وأخرى : يفرض غلبة المبغوضيّة فلا حبَّ للجامع المنطبق على هذا الفرد المبتلى بالمفسدة.

فعلى الأوّل يمكن ثبوتاً بقاء الأمر بل الحبّ على الجامع رغم تعلّق النهي بالفرد غاية الأمر لا يكون ملاك النهي مبغوضيّة الفرد بل وجود المفسدة فيه أو قلّة محبوبيّته ، فالمولى ينهى عنه لكي يطبّق المكلّف الجامع على الأفراد غير المبتلاة بالمفسدة والواجدة للمحبوبيّة الكاملة ولكن لو أتى به كان واجداً للمصلحة والمحبوبيّة.

وعلى الثاني أيضا يبقى الأمر على الجامع المنطبق على الفرد المبغوض ولا ينحسر عنه إلى الجامع المختصّ بسائر الأفراد ، لأنَّ هذا الفرد وإنْ لم يكن محبوباً إِلاّ انَّه واجد للمصلحة وملاك الأمر ومعه لا وجه لبقاء الأمر ومعاقبة المكلّف على تركه للجامع ضمن سائر الأفراد بعقاب زائد على ارتكابه للحرام بل يبقى الأمر متعلّقاً بالجامع رغم عدم محبوبيّة هذا الفرد ولكن ينهى عن الفرد لكي يدفع المفسدة والمبغوضيّة ، فانَّ الأمر والنهي لا يلزم أَنْ ينشأ دائما عن المحبوبيّة والمبغوضيّة الفعليّتين في متعلقيهما وانَّما ظاهرهما ذلك ، مع إمكان أن تكون إحداهما أو كلتاهما شأنية ولا يقدح ذلك في تنجز الأمر أو النهي ودخوله في عهدة المكلّف فانه يكفي في ذلك إبرازهما من قبل المولى والتصدّي لتحصيل ملاكهما إذا كان ممكناً كما في المقام ، وهذا يعني انَّ دليلي الأمر والنهي لو كانا لفظيين بحيث يستظهر منهما المحبوبيّة والمبغوضيّة الفعليتين وقع التنافي بينهما بلحاظ هذا الظهور وامّا إذا كان أحدهما لبّيّا كالإجماع أمكن الجمع بينه وبين مدلول الآخر ، فالمحذور إثباتي وليس ثبوتيّاً ... انتهى بيانه ( ١ الشريف ).

هذا ولكن يخطر في الذهن القاصر تحفّظان على هذا البيان :

الأول ـ انَّنا لو وافقنا على هذا البيان فلا وجه للقول بالامتناع حتى إثباتاً وفي موارد ثبوت الأمر والنهي بدليلين لفظيين ، لأنَّ دلالة الأمر والنهي على المحبوبيّة والمبغوضيّة ليست إِلاّ دلالة التزاميّة مبنيّة على قاعدة التبعيّة أو على الغلبة والاستئناس العرفي نتيجة انَّ من يأمر بشيء يُحِبُّ المأمور به عادة ومن ينهى عن شيء يبغضه ، وكلا هذين الملاكين لا يستوجبان رفع اليد عن المدلول المطابقي


ثمّ انَّ هنا تحفّظات للقول بالجواز لا بدَّ من التنبيه عليها :

التحفّظ الأول : عدم جواز الاجتماع إِذا كان الواجب عباديّاً لا باعتبار لزوم غائلة التضاد بل باعتبار عدم إمكان التقرّب ، فانَّ الفرد إذا كان مبغوضاً للمولى فلا يمكن التقرّب به فانَّ الإتيان بالمبغوض مبعد عن المولى وليس مقرباً له ومعه لا يقع الفرد مصداقاً للواجب لاشتراط القربة فيه.

ويشترط في هذا التحفّظ أَنْ يكون النهي واصلاً فمع الجهل به يمكن التقرّب ويقع المجمع مصداقاً للواجب ، وهذا أحد الفروق والثمرات بين القول بالامتناع والقول بالجواز فانَّه على الأول يقع العمل باطلاً حتى مع الجهل بالنهي بخلافه على الثاني ، وسوف يأتي مزيد تعرّض لثمرات القولين في تنبيهات المسألة.

التحفظ الثاني : إنَّ تعدد العنوان انَّما يشفع للجواز فيما إِذا كان العنوانان حقيقيين ـ سواءً كانا ماهويين أو انتزاعيين ـ لا ما إِذا كانا من العناوين التي ينشئها العقل كعنوان أحدهما أو واحد منهما ، فانَّ هذه العناوين ليست إِلاّ رموزاً يشير بها الذهن إلى الخارج لا أكثر ، فلو أمر بأحد الخصال الثلاث لم يمكن أَنْ ينهي عن أحدهما بالخصوص ـ كالعتق مثلاً ـ لأنَّ معروض الأمر والحبّ سوف يكون واقع الخصال بنحو التخيير

__________________

لخطاب الأمر والنهي في مورد الاجتماع ، إذ يمكن ثبوتهما غاية الأمر لا يستكشف من مدلوليهما الالتزامي أكثر من الملاك أي المصلحة والمفسدة ، وأي محذور فيه بعد أَنْ كان ذلك مدلولاً التزاميّاً تصديقيّاً؟ خصوصاً وانَّ خطابات شارعنا الأقدس تنشأ عن مصالح ومفاسد ترجع إلى العباد لا إلى المولى نفسه ورغباته أو ميوله.

الثاني ـ اننا لو ميزنا بين الحبّ وبين الإرادة التشريعية بمعنى التحريك والدفع المولوي نحو الفعل وجعلنا هذا هو روح الحكم وحقيقته سواءً أبرزه بصيغة الاعتبار والإنشاء أو الاخبار ، وقلنا برجوع التخيير العقلي إلى الشرعي بلحاظ روح الحكم أي إرادة المولى التشريعيّة أو لزوم الترخيص في تطبيق الجامع على الفرد من الأمر به أو لزوم التهافت واجتماع الضدّين في اللحاظ. فالمحذور أعني التضاد باقٍ على حاله ، لأنَّ المولى لا يمكنه أَنْ يدفع المكلّف نحو الصلاة في الحمّام مثلاً ويمنعه عنها في ذات الوقت ، بل امَّا أَنْ يدفعه إليها أو يمنعه عنها فإذا ثبت انَّه يمنعه عنها تقيّد دفعه وتحريكه بغيرها من أفراد الطبيعة لا محالة.

وامّا تحقق المصلحة بالفرد المحرم أيضا فهذا وإنْ كان ممكناً ثبوتاً وموجباً لسقوط الأمر وعدم عقاب المكلَّف بتركه لسائر الأفراد إِلاّ انَّه لا يبرر الأمر بالجامع المنطبق على الفرد المحرم إذا كان روح الأمر وحقيقته الدفع والتحريك المولوي لا مجرد الملاك والمصلحة أو المحبوبيّة ولو الشأنية المبرزة بالأمر ، فيتعيّن للمولى إذا فرض اشتمال الفرد المحرم على مصلحة الواجب أَنْ يأخذ عدمه قيداً في موضوع الإرادة كما لو تحققت المصلحة بفعل الغير أو من نفسها لا أَنْ يأمر به فانه محال. ومنه يظهر ان ما أفيد من انَّ المولى يمكنه انْ يبقي أمره في الصورتين على الجامع ولكن لا يكشف عن المحبوبيّة التامة بل الناقصة أو لمجرد المصلحة بنفسه يشكل دليلاً على انَّ حقيقة الحكم وروحه ليست المحبوبيّة والمبغوضيّة بل التصدّي والتحريك المولوي المعبّر عنه بالإرادة والكراهة التشريعيتين المضاهيتين للإرادة والكراهة التكوينيتين وحينئذ لا بدَّ من ملاحظة التضاد والتمانع بلحاظ هذا المركز كما ذكرنا لا المحبوبيّة والمبغوضيّة.


الشرعي. وإن شئت قلت : انَّ الذهن من خلال هذا العنوان الانتزاعي يرى واقع العناوين المنطبق عليها فيلزم التهافت والتضاد بهذا اللحاظ.

التحفّظ الثالث : إنَّ العنوانين المتغايرين إِذا اشتركا في جزء كما إِذا أمر بتعظيم العادل ونهى عن تعظيم الفاسق فقام المكلّف لمجيء العادل والفاسق في مورد مثلاً بحيث انطبق على فعله العنوانان معاً كان هذا من الشقّ الأول لأنَّ الجزء المشترك وهو التعظيم سوف يكون محبوباً ومأموراً به ضمناً وباعتبار لزوم التخيير الشرعي منه سوف يتعلّق الحبّ بالفرد المبغوض لا محالة ، وهذا يعني انَّ تعدد العنوان انَّما يوجب جواز الاجتماع إذا كانا متمايزين بتمام حقيقتهما وامَّا إِذا كانا متغايرين في الخصوصية مع الاشتراك في ذي الخصوصية لحق بالشقّ الأول.

وبما ذكرناه من التحفُّظات حول الملاك الثاني للجواز أعني كفاية تعدد العنوان لدفع غائلة التضاد يظهر انَّنا بحاجة أيضا إلى البحث التطبيقي ـ الصغروي ـ للملاك الثالث من ملاكات الجواز وهو ما دار بين المحقق الخراسانيّ والنائيني والسيد الأستاذ من انَّ المجمع هل يكون واحداً أو متعدداً ، فانَّه إذا ثبت انَّه متعدد أمكن الاجتماع وكذلك التقرّب لا محالة بالمجمع وإِنْ كان منضمّاً إلى ما يكون مصداقاً للحرام.

وقد ذكرنا فيما سبق انَّ القوم انّما اتجهوا هذا المنحى في تصوير الجواز وعدم الاكتفاء بتعدد العنوان باعتبار ما اشتهر من أنَّ الأحكام انَّما تتعلّق بالعناوين لا بما هي هي بل بما هي فانية في الخارج وحاكية عنه فالمعروض هو الخارج فلا بدَّ من تعدّده.

ونحن قد كشفنا وجه المغالطة في ذلك حيث قلنا انَّ هذا الفناء والإفناء ليس بمعنى انَّه يوجد هناك شيئان العنوان والمعنون وانَّ الحكم يعبر من الأول إلى الثاني ، بل ليس هنالك إِلاّ معروض واحد للحكم وهو العنوان غاية الأمر انَّه تارة يلحظ بالحمل الأوّلي فيكون معروضاً للحكم وأخرى بالحمل الشائع فلا يكون معروضاً ، فالفناء في الخارج ليس إِلاّ عبارة عن لبس نظارة الحمل الأوّلي في مقام جعل الحكم فيرى العنوان كأنَّه شيء في الخارج فإذا تعدد العنوان تعدد لا محالة خارجيتهما بهذا المعنى ولا ربط لذلك بالمعنون أو الوجود الخارجي أصلاً.


ثمَّ لو سلَّمنا بأنَّ الحكم من خلال العنوان يعرض على المعنون الخارجي وقطعنا النّظر عن محاذيره ولوازمه الباطلة ، فغاية ما يمكن تسليمه انَّ الذهن حينما يدرك العنوان يجعله أداة لصبّ الحكم على المعنون ورؤيته بالعنوان إِلاّ أنَّ جواز الاجتماع على هذا المسلك أيضا لا يحتاج إلى فرض تعدد المعنون في الوجود الخارجي بل يكفي تعدد المقدار المرئي من المعنون بكل من العنوانين سواءً كان وجوده متّحداً مع المرئي بالعنوان الآخر أم لا ، لأنَّ العنوان انَّما يحكي عن معنونه بمقداره لا بأكثر من ذلك من دون فرق بين العناوين الذاتيّة ـ نوعية كانت أم جنسية أم فصلية ـ أو الانتزاعيّة كالفوقية والتحتيّة لأنَّها أيضا حيثيات واقعية في خارج الذهن وإِنْ لم تكن من سنخ الوجود.

وأيّاً ما كان فقد ذكر المحقّق الخراسانيّ ( قده ) انَّ المجمع واحد مهما تعدد العنوان ، لأنَّ عناوين متعددة قد تنطبق على وجود واحد وربّما يكون بسيطاً من كلّ الجهات كالواجب تعالى فمجرّد تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون.

ومن هنا ذهب صاحب الكفاية إلى امتناع الاجتماع.

والمحقق النائيني ( قده ) ذكر في المقام انَّ العناوين على قسمين :

القسم الأول : العناوين الاشتقاقيّة التي تحمل على الذات كالطويل والعالم والعادل وغيرها.

والقسم الثاني : مبادئ اشتقاق تلك العناوين أي الطول والعلم والعدالة.

والنوع الأول من العناوين تنتزع عن الذات المحمولة عليها باعتبار قيام المبادئ والأعراض بها ، إِلاَّ أنَّ هذا القيام مجرّد حيثيّة تعليليّة في الصدق لا تقييديّة لوضوح انَّ الحمل والصدق على الذات لا على تلك المبادئ ، فإذا كانت هذه العناوين منتزعة من الذات وجهات صدقها عليها تعليلية وليست تقييديّة فتعددها لا يوجب تعدد المعنون وإِنْ كانت النسبة بينهما عموم من وجه ومن هنا يكون التركيب بين العنوانين الاشتقاقيين كالحلو والأبيض والمصلّي والغاصب في مورد الاجتماع اتحاديّاً دائماً.

وامَّا النوع الثاني من العناوين فحيث انَّها تنتزع من نفس المبادئ والتي هي عناوين ذاتيّة لها وتكون هي مصداقها بنحو الحيثيّة التقييديّة فتعددها يوجب تعدد المعنون خارجاً إذا كان بين العنوانين عموم من وجه كالغصب والصلاة ـ لا الغاصب


والمصلّي ـ إذ في هذا الحال لا بدَّ لكلّ من العنوانين من جهة صدق بنحو الحيثية التقييديّة محفوظة في مورد افتراقه عن الآخر وهذا لا يكون إِلاّ مع تعدد المعنون وإِلاّ لزم عدم صدقهما في مورد الاجتماع ، وهكذا يتبرهن : انَّ التركيب انضمامي في مورد الاجتماع بلحاظ المبادئ والعناوين الذاتيّة إذا كان بينهما عموم من وجه كالغصب والصلاة ، ومن هنا قال هذا المحقق بالجواز.

نعم لو كانت النسبة التساوي أو العموم من وجه فقد يكون التركيب اتحاديّاً كما في العناوين والماهيات الطولية كالأجناس المتصاعدة أو النوع والفصل ولا يتمّ فيهما البرهان الّذي ذكر.

والسيد الأستاذ وافق على أصل هذا الاستدلال إِلاّ انَّه استثنى منه العناوين الانتزاعية التي لا حقيقة مقولية خارجية لها كالفوقيّة والتحتيّة ونحو ذلك ، فانَّها حيث انَّها ليست من الماهيات المتأصّلة في الخارج فتعددها لا يستدعي تعدد المعنون خارجاً لأنّها قد تنتزع من مبادئ ومناشئ متباينة فانَّ السقف فوق والكتاب فوق والسماء فوق وهكذا ، وحيث انَّ الغصب والصلاة من هذه العناوين فلا بدَّ من ملاحظة منشأ انتزاعهما في الخارج فإذا كان حركة واحدة لزم الامتناع.

والواقع انَّ مرد هذا الاختلاف بين الأستاذ وشيخه لعلّه في الصغرى وليس كبرويّاً ، بمعنى أنَّه يرجع بحسب روحه إلى تشخيص انَّ الحمل المعقول في العناوين الانتزاعية هل هو حمل اشتقاق فقط ـ أي حمل ذو هو ـ فيقال السقف فوق أي ذو فوقية كما يقال الإنسان عالم أي ذو علم؟ أو يعقل فيها أيضا حمل مواطاة ـ أي حمل هو هو ـ كما يعقل ذلك في المبادئ الذاتيّة المتأصّلة فيمكن أَنْ يشار إلى حيثية في الخارج ويقال انَّها فوقية أو تحتية؟.

ذهب الحكماء إلى انَّ هذه العناوين ظرف العروض فيها الذهن وظرف اتصافها الخارج ، وعليه فلا توجد في الخارج حيثية نستطيع أَنْ نشير إِليها بحمل مواطاة. ونحن قلنا مراراً انَّ هذا الكلام غير معقول وانَّ ظرف العروض لا بدَّ وأَنْ يكون هو ظرف الاتصاف وانَّ هذه الأمور واقعية ثابتة خارج الذهن في لوح الواقع الّذي هو أوسع من لوح الوجود ، فهناك حيثية في خارج الذهن يحمل عليها عنوان الفوقية ويصدق عليها


على حدّ صدق سائر المبادئ الذاتيّة على مصاديقها بحمل مواطاة.

وعلى كلّ حال فالنزاع بين العلمين كأنَّه يرتبط بهذه النكتة إثباتاً ونفياً وكان ينبغي أَنْ ينتهي البحث بينهما إلى توضيح حقيقة هذه العناوين من هذه الناحية وانَّها هل لها مصداق بالذات في الخارج أم لا؟ فان كان لها مصداق بالذات تحمل عليه بحمل مواطاة كان الصحيح ما ذهب إليه الميرزا ( قده ) فانه لا محالة تكون نسبتها إلى مصداقها بالذات نسبة الماهية المتأصلة إلى مصداقها في الخارج ، فكما يستحيل قيام ماهيّتين عرضيتين بوجود واحد في الخارج فانَّ لكل ماهية عرضية وجوداً واحداً لا محالة كذلك لا يمكن أَنْ يكون لجهة خارجية واحدة عنوانان ذاتيان عرضيان.

وما ذكره الأستاذ من انتزاع عنوان الفوق والتحت من مقولات متباينة كالسقف والسماء يكون من الخلط بين حمل مواطاة وحمل اشتقاق ، فانَّ السقف والسماء المتباينين يحمل عليهما الفوق بحمل اشتقاق لا مواطاة وهذا ثابت حتى في الماهيات المتأصلة كما تقدّم.

وإِنْ أنكرنا أَنْ تكون لهذه الحيثيات خارجية كما ذهب إليه مشهور الحكماء وانَّما الخارجية لمناشئها ، أي لما تحمل عليه بحمل اشتقاق كان الصحيح ما ذكره الأستاذ ، وحيث انَّ مختارنا واقعية هذه العناوين فالصحيح كبروياً ما ذهب إليه الميرزا ( قده ).

ثمّ انَّ ما جاء في كلام الميرزا ووافق عليه الأستاذ من اختصاص البرهان على تعدد المعنون بما إذا كان العنوانان بنحو العامين من وجه لم نفهم له وجهاً ، فانَّ فذلكة البرهان انَّ حيثيّتين عرضيتين يستحيل أَنْ يكون لهما مصداق واحد بالذات في الخارج إذ يستحيل أَنْ يكون للشيء الواحد ماهيّتان عرضيّتان سواءً كانت النسبة بينهما عموم من وجه أو التساوي ، نعم يمكن ذلك في الماهيات المتداخلة والتي بعضها يتمم البعض الآخر ، وهذه هي الملاحظة الأولى لنا على كلام الميرزا ( قده ) في المقام.

والملاحظة الأخرى : انَّ عناوين الأفعال كالغصب والصلاة وإِنْ كانت من المبادئ بحسب مصطلح اللغويين إِلاّ انَّها بحسب الواقع وما هو منظور بحث الأصولي في المقام تتضمن اشتقاقاً مستتراً ، فانَّ الفعل الصلاتي عمل له إضافة إلى المولى بإضافة العبادية كما انَّ الغصب فعل له إضافة واقعية إلى ملك الغير المسمّاة بالغصبية ، وحينئذ


لوكان الأمر والنهي متعلّقين بالإضافتين لم يكن هناك محذور لتعددهما وجوداً أو واقعاً ، فانَّه يمكن للمولى أَنْ يقول اجعل عملك هذا عبادة ومضافاً إلى المولى ولا تجعله غصباً ، وامَّا إذا كان الأمر والنهي متعلّقين بنفس الفعل المضاف لا الإضافة فالفعل المضاف كالإنسان الموصوف بأنَّه يصلّي أو يغصب يكون حمل العنوانين عليه بحسب الحقيقة حمل اشتقاق الّذي لا يلزم من تعددهما تعدد المعنون.

وهكذا يتّضح : انَّ الملاك الثالث للجواز الّذي ذهب إليه المحقّق النائيني ( قده ) انَّما يصحّ في خصوص ما إذا كان العنوانان عرضيين ومحمولين على الخارج بحمل مواطاة ، أي لهما مصداق بالذات بحسب نظر الأصولي لا بحمل اشتقاق وإِلاّ فلا يؤدّي تعددهما إلى تعدد المعنون حقيقة ودقة.

وهذا الملاك للجواز إذا قارنّا بينه وبين الملاك الثاني الّذي نحن أثبتناه ، وهو كفاية تعدد العنوان لرفع غائلة التضاد ، نجد انَّه لا فرق كثير بينهما من حيث النتائج فانَّه في كلّ مورد يصدق فيه هذا الملاك يصدق فيه الملاك الثاني وفي كلّ مورد لا يصدق فيه الملاك الثاني لا يصدق فيه هذا الملاك أيضا باستثناء مورد واحد.

توضيح ذلك : انَّه في جميع موارد العناوين التي هي من المبادئ الحقيقية أو الانتزاعية والتي تحمل على مصاديقها بحمل مواطاة كما ينطبق الملاك الثاني للجواز ينطبق الملاك الثالث.

وفي العناوين التي تحمل على مصاديقها بحمل اشتقاق بالمعنى الّذي اصطلحنا عليه الشامل لمثل الصلاة والغصب كما لا ينطبق الملاك الثالث للجواز لا ينطبق الملاك الثاني للجواز بل يكون الاجتماع ممتنعاً ، باعتبار انَّه في هذه الموارد سوف يكون بالدقّة للعنوانين محور مشترك هو الذات المتّصفة بالحيثية ، وقد ذكرنا في التحفّظ الثالث انه كلّما كان هناك محور مشترك بين العنوانين فلا يتمّ فيه الملاك الثاني للجواز لأنَّه بلحاظ ذلك المحور المشترك سوف يجتمع الأمر والنهي على عنوان واحد (١).

__________________

(١) هذا ليس هو التحفّظ الثالث فانَّ التحفّظ الثالث ما إذا كان بين العنوانين جزء مفهومي مشترك أي عنصر عنواني مشترك كاحترام العادل واحترام الفاسق وفي المقام لا اشتراك في مفهوم وجزء عنواني بين الصلاة والغصب ، إذ لو أُريد اشتراكهما في مفهوم الذات والشيء فمن الواضح انَّ هذه مفاهيم اعتبارية إشارية يستخدمها الذهن للإشارة بها إلى الخارج وليست جزءاً من


نعم إذا تعلّق الأمر بعنوان الجنس والنهي بالفصل انطبق الملاك الثاني للجواز دون الثالث ، كما إذا أمر برسم الخطّ ونهى عن انحنائه ـ والانحناء فصل للخطّ المنحني ـ فانَّه بناء على الملاك الثاني يجوز ذلك لتعدد العنوان وحيثيّة الانحناء الفصل من المبادئ بالنسبة إلى الخطّ وليس بينهما محور مشترك.

وامَّا بناء على الملاك الثالث فلا يجوز ذلك لأنَّ الفصل خارجيته بوجوده ووجوده في الخارج بعين وجود الجنس ، ولهذا قلنا فيما سبق انَّ هذا الملاك يشترط فيه أَنْ يكون العنوانان عرضيين أي ليسا طوليين كالجنس والنوع والفصل حيث انَّ الفصل متمّم للجنس وفي طوله والوجدان شاهد على صحّة الأمر بالخطّ مع النهي عن انحنائه وهذا بنفسه منبّه وجداني يدلّ على كفاية تعدد العنوان في جواز الاجتماع وإِنْ كان المعنون واحداً بحسب عالم الوجود الخارجي ، وهكذا نستنتج انَّ النسبة بين الملاك

__________________

المفاهيم المنتزعة من الخارج ولهذا يمكن للعقل استخدامها في المتقابلات ، وإِنْ أُريد اشتراكهما في المصداق والمعنون فهذا صحيح إِلاّ انه ليس من الاشتراك في المفهوم وقد ذكرنا في الملاك الثاني انَّ متعلّق الأمر والنهي ليس هو الخارج وانَّما هو المفهوم والعنوان بالحمل الأوّلي وهو متعدد بحسب الفرض ورجوع التخيير العقلي إلى الشرعي لا يعني تعلّق الأمر بالخارج والمعنون بل يعني تعلّقه بالعنوان الخاصّ وهو مباين مع العنوان الآخر وإِنْ اتّحدا في الخارج.

وامَّا صحّة الأمر بالخطّ والنهي عن الانحناء فيه فهذا خارج عن البحث باعتبار انَّه من الأمر بفعل والنهي عن خصوصيّة فيه وتغايرهما ثابت حتى عند القائل بالامتناع ، فانّه من الأمر بالعنوان الاشتقاقي والنهي عن خصوصيّة المبدأ فيه وتعدّدهما لا كلام فيه ، كما لو أمر بالصلاة ونهى عن كونها في الحمام ، وكون المنطقي يعتبر الانحناء أو منشأه فصلاً متّحداً في الوجود مع وجود الجنس لا يمنع عن كونه بحسب عالم المفاهيم التي هي متعلّقات الأحكام يعتبر صفة ومبايناً في الوجود عن وجود موصوفه.

وأيّاً ما كان فلا بدَّ من استئناف وجه آخر لإثبات الامتناع في مثل الصلاة والغصب إذا كان الوجدان يحسّ بامتناع اجتماع الأمر بأحدهما مع النهي عن الآخر بالرغم من تعددهما عنواناً ، وبهذا الصدد يمكن أَنْ نذكر بيانين لتوجيه هذا الوجدان.

الأول ـ دعوى انَّ الذهن البشري يتعامل مع العناوين كلّها بشكل واحد وهو الإشارة بها إلى الخارج فكما انَّه يشير ويرمز بالعناوين الاعتبارية كعنوان أحدهما إلى المعنون الخارجي كذلك في العناوين الحقيقية ويرمز بها إلى الخارج ، لا بمعنى انَّه يرمز بها إلى وجود الطبيعي والكلّي في الخارج إذ لا معنى للكلّي إِلاّ إمكان الرمز والإشارة بالمفهوم إلى خارجيّات عديدة بل بمعنى انَّه يرمز بها مباشرة إلى المعنونات والوجودات الواقعيّة في الخارج ، وعلى هذا سوف يكون الأمر بالصلاة والنهي عن الغصب كالأمر بأحدهما والنهي عنه والّذي تقدّم في التحفّظ الثاني امتناعه.

وهذا البيان مبنيّ على ما تبنته المدرسة الوضعيّة في المنطق من إنكار المفاهيم والقضايا الكلّيّة وافتراض أنَّ العناوين ليست إِلاّ رموزاً وإشارات يستخدمها الذهن في التعامل مع الخارج.

الثاني ـ انَّ الذهن عند ما يرى اجتماع عنوانين متغايرين على معنون واحد فسوف يرى كأنَّ أحدهما أصبح مصداقاً للآخر بالعرض في ذلك المورد ـ وإِنْ لم يكن مصداقاً له بالذات ـ وبهذه الرؤية لا يمكن أَنْ يتعلّق بأحدهما الأمر وبالآخر النهي فانه تهافت.


الثاني للجواز والملاك الثالث العموم والخصوص المطلق أي انَّ الملاك الثاني أوسع من الملاك الثالث ، كما انَّ النسبة بين هذين الملاكين للجواز وبين الملاك الأول الّذي كان يكتفي في الجواز بأَنْ يكون الأمر بصرف الوجود والنهي عن الفرد ـ مع قطع النّظر عن مسألة لزوم التخيير الشرعي بحسب عالم الإرادة والحبّ ـ هو العموم من وجه إذ يفترق الملاك الأول عن الأخيرين في مثل الأمر بالصلاة والنهي عن الصلاة في الحمام ويفترق الأخيران عنه فيما إذا فرض انَّ الأمر كان بنحو مطلق الوجود أيضا لا بنحو صرف الوجود.

وبعد هذا ينبغي البحث في التطبيق المعروف لهذه المسألة وهو الصلاة في المغصوب.

التطبيق المعروف لمسألة الاجتماع

لا إشكال في الأمر بالصلاة والنهي عن الغصب وقد وقع من جراء ذلك البحث في حالة ما إذا اجتمع هذان العنوانان في مورد واحد ، كما إذا صلّى في المغصوب فهل يمكن أَنْ تكون الصلاة حينئذٍ صحيحة ومصداقاً للمأمور به ، أم لا؟.

وهذا الفرع ينحل إلى فرعين :

الفرع الأول ـ الصلاة في اللباس المغصوب.

الفرع الثاني ـ الصلاة في المكان المغصوب.

والفرع الأول ـ فيه مسألتان :

إحداهما ـ أَنْ يكون اللباس المغصوب هو الساتر.

الثانية ـ أَنْ لا يكون هو الساتر بل امر اخر.

ويوجد تقريبان لإثبات الامتناع يختص أحدهما بالمسألة الأولى بينما يعم ثانيهما كلتا المسألتين.

اما التقريب المختص بالمسألة الأولى : فهو انَّ الستر جزء واجب في الصلاة فلو كان باللباس المغصوب كان حراماً لكونه تصرفاً في المغصوب فيلزم اجتماع الأمر والنهي في فعل واحد.


وهذا التقريب غير تام ، لأنَّ المورد ليس من موارد مسألة الاجتماع لأنَّ التستر بحسب الحقيقة قيد للصلاة وليس جزءاً منها على حد قيدية الاستقبال ، وفي القيود الأمر لا ينبسط على القيد بل على التقيد فحسب فيكون التستر خارجاً عن مصب الأمر بالصلاة ، والدليل على ذلك مضافا : إلى قصور الأدلة عن إثبات جزئية التستر ، انه لو كان جزءاً لكان يجب إتيانه على وجه قربي مع وضوح انّه قد لا يكون ملتفتاً إليه ولا يجب إتيانه مَع قصد القربة ، فلو لم يقم إجماع تعبدي على اشتراط إباحة الساتر كان مقتضى القاعدة صحة الصلاة في الساتر المغصوب.

وامّا التقريب الثاني والّذي يعم المسألتين : فهو لزوم اجتماع الأمر والنهي لا بلحاظ الستر بل بلحاظ الفعل الصلاتي نفسه من قيام وركوع وسجود ، لأنَّ هذه الأفعال الصلاتية تستوجب تحريك الثوب أو الساتر المغصوب والتصرف فيه إذ الركوع والسجود والقيام تستلزم الهويِّ والنهوض وهما علّة تحريك اللباس المغصوب فلو كان الهويّ والنهوض إجزاءً للصلاة لزم الاجتماع بلحاظهما لأنَّ علّة الحرام حرام أيضا ، ولو فرض انَّهما مقدمتان لما هو جزء من الرّكوع والسّجود قيل بأنَّ نفس الركوع والسجود أيضا علّة لتحريك الثوب أو طيَّه وهو تصرف فيه. وهذا البيان لو تمّ فلا يفرق فيه بين الساتر المغصوب وغيره كما لا يخفى.

وفيه : انَّ الأفعال الصلاتية ليست علّة تامة لتحريك اللباس المغصوب ـ حتى لو فرضنا انَّ هذا التحريك تصرف في الغصب ومحرم ـ لأنَّ مجرد الركوع والسجود أو النهوض والهويِّ ليس تمام السبب في تحرك الثوب بل هناك اجزاء أُخرى له لا أقل من إبقاء الثوب على البدن وعدم فصله عنه حين الركوع والسجود. وهكذا يتضح انَّ الفرع الأول خارج عن مسألة الاجتماع.

وامّا الفرع الثاني ـ أي الصلاة في المكان المغصوب فقد يتصور أنه من تطبيقات مسألة الاجتماع ، حيث انَّ عنوان الصلاة مأمور به وعنوان الغصب منهي عنه وهما صادقان في المجمع.

ولكن ينبغي أَنْ يعلم : انَّ عنوان الغصب ليس إلاّ عنوانا مشيراً إلى واقع العناوين والتصرفات الخارجية في مال الغير كالدخول في ( بيوتِ غير بيوتكم ) و


( أكل مال الغير ) وغير ذلك مما دلت الآيات والروايات على حرمتها ، وعنوان الغصب ليس بنفسه مركز النهي ومصبه ، وعليه فالحرام في مكان راجع إلى الغير انما هو التصرف فيه بتغيير أو بالكون فيه وإشغال حيِّزٍ منه أو بإلقاء الثقل عليه ونحو ذلك.

فلا بدَّ وأَنْ نرى انَّ هذه العناوين يتَّحد شيء منها مع فعل من افعال الصلاة أم لا؟ فنقول :

الصلاة تشتمل على عدة أمور :

منها ـ النية والقصد ، ولا إشكال في انه ليس شيئا من العناوين المحرمة المذكورة.

ومنها ـ ما هو من مقولة فعل اللسان ، كالقراءة والتسبيح والتهليل والذّكر ، وهذا أيضا ليس مصداقا لشيء من العناوين المحرمة.

ودعوى : انَّ القراءة يستوجب تحريك الهواء وتموّجه وهو تصرف في فضاء ملك الغير وهوائه.

مدفوعة : أولاً ـ بأنَّ القراءة أو الصوت ليس عين التموج في الهواء وانما يحصل بسببه فيكون التموّج علّة لحصول الصوت والقراءة لا نفسها.

وثانياً ـ لو سلّمنا انه نفس التموج فلا دليل على حرمة التصرف في هواء ملك الغير فانَّ الإنسان يملك الفضاء لا الهواء الّذي فيه ، ولهذا يجوز سحبه وتغييره أو سحب جزء من خارجه.

وثالثاً ـ لا دليل على حرمة هذا المقدار من التصرف ، فانه بحسب نظر العرف ليس هذا تصرفاً أو تغييراً في ملك الغير ليشمله دليل حرمة التصرف ، خصوصاً بعد أَنْ لم يكن هناك دليل لفظي مطلق.

ومنها ـ ما يكون من مقولة افعال الجوارح كالركوع والسجود والقيام ، فيقال : بأنَّ هذه الأفعال بنفسها تصرف في المكان المتعلق بالغير.

وفيه : انَّ القيام والركوع والسجود بما هي افعال المصلي تصرف في جسم الراكع والقائم والساجد لا في ملك الغير ، نعم كون المصلي في ملك الغير تصرف فيه إلاّ أنَّ هذا الكون ليس جزءاً من أفعال الصلاة.

وقد يقال : انَّ من الأفعال الاستقرار وهو كون في المكان المغصوب.


وفيه : انَّ الاستقرار والطمأنينة يعني عدم الاضطراب والترجح يمنة ويسرة وهذا غير الكون في المكان المغصوب ولهذا يمكنه أَنْ ينتقل من مكان إلى آخر دون الإخلال بالطمأنينة.

وقد يقال : بأنَّ الهويّ إلى الركوع أو السجود تصرف وحركة في ملك الغير وفضائه وهو محرم أيضاً. والجواب : انَّ الهويّ ليس جزءاً من الصلاة وإِن كان مقدمة لبعض اجزائه.

وهكذا يتضح : انَّ هذه البيانات كلها لم تنجح لتصوير مركز اجتماع بين المأمور به والمنهي عنه.

نعم هناك أمر رابع ربما يكون بلحاظه الاجتماع وهو مربوط بتحقيق معنى السجود ، فانه قد يقال : انَّ السجود ليس عبارة عن مجرد التَّماس بين الجبهة والأرض وانما فيه معنى وضع الجبهة على الأرض الّذي هو نحو إلقاء الثقل على الأرض وهو نوع تصرف فيها ، وحينئذ إِنْ قلنا بجواز الاجتماع على أساس الملاك الثالث أو الثاني فبعد أَنْ عرفت انَّ المحرم ليس هو عنوان الغصب بل واقع الفعل الّذي يتحقق به الغصب ـ وهو إلقاء الثقل في المقام ـ يظهر عدم انطباق شيء من الملاكين للجواز هنا ، نعم لو قبلنا الملاك الأول القائل بأنَّ الأمر بصرف الوجود لا يتنافى مع النهي عن الفرد والحصة جاز الاجتماع في المقام. وهكذا يتضح : انَّ الاجتماع انما يمكن ادعاه بلحاظ السجود ووضع الجبهة على الأرض في الصلاة فما لا سجود فيه بهذا النحو من الصلوات لا يكون من تطبيقات هذه المسألة أي من زاوية مسألة امتناع الاجتماع لا محذور فيها وإِنْ كان من الزاوية الفقهية قد يستدل ببعض الروايات على بطلان الصلاة في المكان المغصوب ، والبحث عنه في ذمة علم الفقه.

بعد هذا يقع البحث في تنبيهات مسألة الاجتماع ، وقد أدرجنا فيها جملة من البحوث التي قدمت في كلمات المحققين على استعراض أصل المسألة لما وجدناه من انَّ تحقيق تلك الأمور متفرع على فهم أصل مسألة الاجتماع وملاكات الجواز والامتناع فيها.


تنبيهات مسألة الاجتماع

التنبيه الأول ـ في تحقيق هويّة هذه المسألة من حيث كونها أصولية أو فقهيّة أو كلامية أو من المبادئ التصديقية.

وقد ذكر صاحب الكفاية طبقا لضابطة أصولية المسألة عنده أنها أصولية لوقوع نتيجتها في طريق استنباط حكم شرعي كلي هو صحة الصلاة في الدار المغصوبة أو بطلانها (١).

وأشكل عليه المحقق النائيني ( قده ) بأنَّ اللازم وقوعها كبرى في قياس الاستنباط طبقا لمبناه في أصولية المسألة ـ أي لا يحتاج معها إلى ضم كبرى أخرى وبما ان هذه المسألة من دون ضم كبرى أخرى إليها كفساد العبادة بالنهي عنها لا تثبت حكما شرعياً فلا يمكن ان تكون مسألة أصولية (٢).

وأجاب السيد الأستاذ عن الإشكال : بكفاية استغنائها عن كبرى أخرى على أحد التقديرين ، وهو تقدير القول بالجواز فانه لا يحتاج في تصحيح العبادة عندئذٍ إلى كبرى أخرى (٣).

ولنا على كل هذه الكلمات ملاحظات.

امّا كلام الأستاذ فيمكن الإجابة عليه : بعد تسليم الضابطة المذكورة لأصولية المسألة بأنه حتى على تقدير القول بالجواز نحتاج إلى ضم كبرى أصولية أخرى إذ لو قيل بالجواز بملاك كفاية تعدد العنوان كان لا بدَّ من ضم كبرى عدم قدح النهي عن مصداق المأمور به ولو بعنوان آخر في صحة العبادة واستئناف بحث حول ذلك.

وإِنْ قيل بالجواز بملاك تعدد المعنون فائضاً نحتاج في تصحيح العبادة امّا إلى القول بإمكان الترتب ، كما لو فرض عدم المندوحة أو وجودها ولكن قلنا بأنَّ الأمر بالجامع بين الفرد غير المزاحم مع الحرام والفرد المزاحم غير ممكن إلاّ بنحو الترتب

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ٢٢٦.

(٢) فوائد الأصول ، ج ١ ، ص ٣٩٩.

(٣) هامش أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٣٣٣ ـ ٣٣٤


لاشتراط أَنْ يكون متعلق الأمر مقدوراً عقلا وشرعا كما ذهب إليه المحقق النائيني ، أو إلى كبرى إمكان الأمر بالجامع بين المقدور وغير المقدور ، اذن فتصحيح العبادة في مورد الاجتماع بحاجة إلى ضم كبرى أخرى على كل حال ، فإذا فرض انَّ الثمرة لهذه المسألة تصحيح العبادة في مورد الاجتماع فهي تتوقف على ضمّ قاعدة أُخرى على تمام تقادير مسألة الاجتماع.

وامّا التعليق على كلام المحقق النائيني ( قده ) فبأن لصاحب الكفاية أَنْ يجعل الثمرة المستنبطة من هذه المسألة نفس الوجوب والحرمة في مورد الاجتماع إثباتاً ونفياً فانهما حكمان شرعيان كليان أيضاً ، فلا حاجة إلى جعل خصوص صحة العبادة أو بطلانها في المجمع ثمرة ، وهذه الثمرة لا يحتاج في استنباطها إلى ضم كبرى أخرى.

هذا ، والصحيح : انَّ كل هذا الكلام لا موضوع له بناء على ما هو الضابط عندنا لأصولية المسألة من أَنْ تثبت الحكم الشرعي الكلي بنحو الاستنباط والتوسيط وأَنْ تكون مشتركة سيّالة في أكثر من باب فقهي وأَنْ تكون مرتبطة بالشارع لا أجنبية عنه ، فكلما تحققت هذه الخصائص الثلاث في مسألة كانت أصولية ، وهي مجتمعة في مسألتنا هذه فانها تثبت الوجوب والحرمة أو الصحة والبطلان في مورد الاجتماع بنحو التوسيط لا التطبيق ، فانَّ الوجوب أو الصحة كحكمين شرعيين مجعولين يستنبطان من قاعدة إمكان الاجتماع العقلية وليست تطبيقاً لها ، كما انَّ القاعدة لا تختص بباب فقهي خاص ، وهي مرتبطة بالشارع وأحكامه من وجوب أو حرمة وليست مرتبطة بأمر خارجي مستقل عن الشارع كوثاقة الراوي أو فسقه.

فالصحيح انَّ هذه المسألة أصولية.

التنبيه الثاني ـ انَّ الإمكان والامتناع المبحوث عنهما في هذه المسألة هل هو بحسب نظر العقل أو العرف؟

فانه ربما قيل بإمكان الاجتماع عقلا وامتناعه عرفا.

وقد استشكل فيه : بأنَّ الإمكان والامتناع امران واقعيان يدركهما العقل ولا شأن للعرف في ذلك وليس نظره حجة في تشخيصهما وإنَّما يمكن أَنْ يحتجّ بنظر العرف في باب المفاهيم وتحديد مداليل الألفاظ.

والتحقيق : انَّ نظر العرف في تشخيص المصاديق من حيث هو تشخيص


للمصاديق وإِنْ لم يكن حجة كما أُفيد ، إلاّ انه لو فرض نشوء دلالة التزامية عرفية للدليل اللفظي نتيجة نظر عرفي في المصداق أو نتيجة امتناع يتصوره العرف وإنْ لم يكن امتناعا بالدقة فهذه الدلالة الالتزامية العرفية سوف تكون مشمولة لدليل حجية الظهور والدلالات أيضاً ، والحاصل : كلّما كان هناك توسعة في الدلالة أو المفهوم للدليل ولو كان في طول نظر عرفي تطبيقي كان حجة ومفيداً فقهياً. وهذا له تطبيقات كثيرة في الفقه ، فمثلاً دليل مطهرية شيء يدل عرفا وبالملازمة على طهارته لأن المطهر لا يعقل عرفاً أَنْ لا يكون طاهراً مع انه عقلاً لا امتناع في ذلك ودليل نجاسة الماء النجس المتمم بالطاهر كراً يلازم عرفاً نجاسة الماء كله وإِنْ كان عقلاً لا يمتنع ذلك ، وهكذا في المقام لو فرض الامتناع عرفاً لاجتماع الأمر والنهي في موضوع واحد كان دليل وجوب الصلاة مثلاً دالاً بالملازمة العرفية على اختصاصها بغير الفرد المحرم.

اذن فالبحث عن الإمكان والامتناع العرفي معقول ومفيد فقهياً أيضاً ، نعم هناك فرق بين الامتناع العرفي والامتناع العقلي من حيث انَّ الامتناع العرفي يختص اثره بما إذا كان الدليل على الأمر أو النهي لفظياً ، فلا يتم فيما إذا كان الدليل لبياً من إجماع أو غيره لما عرفت من انَّ الامتناع عرفاً انما يجدي إذا كان منشئاً لتشكيل دلالة في الدليل تكون موضوعاً لكبرى حجية الدلالات ، وهذا مخصوص بباب الألفاظ ودلالاتها ولا مجال له في الأدلة اللبية.

ثم إنَّ الصحيح عدم الامتناع عرفاً في كل مورد نقول فيه بعدم الامتناع عقلاً.

والوجه في ذلك : انَّ الامتناع العقلي على ما بيناه انما هو بلحاظ مبادئ الحكم من الحب والبغض والإرادة والكراهة والإنسان العرفي يعيش هذه الحالات بحسب وجدانه ويمر في حياته حتماً بعناوين يحب بعضها ويبغض بعضها الاخر وقد يجتمعان في مورد واحد فإذا كان عقلاً يجوز ذلك فالإنسان العرفي سوف يحس بوجدانه حتما إمكان أَنْ يجتمع الحب والبغض في مورد على شيء واحد بعنوانين فيذعن بإمكانه وعدم امتناعه.

التنبيه الثالث ـ في الفرق بين مسألة الاجتماع ومسألة اقتضاء النهي لفساد العبادة.

حيث قد يتوهم اتحادهما باعتبار انَّ البحث هنا عن انَّ النهي عن شيء هل


يوجب زوال امره أم لا؟ والبحث في تلك المسألة عن انَّ النهي عن العبادة هل يقتضي بطلانها أي عدم وقوعها مصداقاً للمأمور به أم لا؟

وهذه نفس الجهة المبحوث عنها في مسألة الاجتماع.

وقد حاول صاحب القوانين ( قده ) التفرقة بين المسألتين بحسب الموضوع وانَّ موضوع مسألة الاجتماع ما إذا كان هناك عنوانان بينهما عموم وخصوص من وجه كالغصب والصلاة ، بينما موضوع مسألة النهي عن العبادة ما إذا كان هناك أمر بالجامع ونهي عن فرد من أفراده.

وأشكل عليه في الفصول : بأنَّ موضوع بحث الاجتماع ما إذا كان هناك عنوانان على معنون واحد سواءً كانت النسبة بينهما عموم من وجه أو عموم مطلق ، نعم موضوع المسألة الأخرى ما إذا كان النهي متعلقاً بفرد من افراد العبادة.

وكلا هذين البيانين إذا أُريد ظاهرهما فهو واضح الفساد فانه كما لا يختص البحث عن جواز الاجتماع بما إذا كان العنوانان عامين من وجه كذلك لا يختص البحث عن اقتضاء النهي عن العبادة لفسادها بما إذا كان النهي قد تعلق بالعبادة من خلال عنوان أخص منها بل يشمل ما إذا تعلق بها ولو من خلال عنوان أعم منها من وجه.

كما انَّ ما جعله موضوعاً لمسألة الاقتضاء من وجود عنوان واحد تعلق بجامعه الأمر وبفرده النهي أيضاً مندرج في مبحث الاجتماع بالملاك الأول الّذي ذكرناه للجواز كما تقدم شرحه.

ومن هناك ذكرت مدرسة المحقق النائيني ( قده ) : بأنَّ الفارق بين المسألتين ليس من حيث الموضوع بل من حيث الرتبة ، فانَّ مسألة الاجتماع تنقح موضوع مسألة الاقتضاء ، فانَّ المبحوث عنه هنا بحسب الحقيقة انما هو سريان النهي إلى ما تعلق به الأمر ـ كالصلاة ـ وعدمه فإذا ثبت السريان تنقح موضع تلك المسألة فيبحث عند ذاك عن اقتضاء النهي للفساد وإذا ثبت عدم السريان فلا موضوع لتلك المسألة (١).

وهذه التفرقة أيضا غير مطابقة مع الواقع ، فانَّ البحث في مسألة الاجتماع ليس

__________________

(١) نفس المصدر السابق ، ص ٣٣٤


عن السراية وعدمها بل عن جواز اجتماع الأمر والنهي ولو مع فرض السراية ووحدة المعنون ـ كما هو الحال في الملاك الأول للجواز ـ فيكون البحث في هذه الجهة في عرض البحث في مسألة اقتضاء النهي للفساد من حيث الرتبة.

ولصاحب الكفاية أيضاً كلام في التفرقة بين المسألتين حاصله : انَّ الفرق ليس ولا ينبغي أَنْ يكون بلحاظ الموضوع وإلاّ أمكن تقسيم كل بحث إلى بحوث عديدة ـ كما ذكر ذلك في موضوع العلم ـ وانما المعيار في تمايز المسائل بعضها عن بعض بتمايز جهة البحث فيها ، وجهة البحث في المقام هو السراية وعدمها ، وجهة البحث في المسألة القادمة اقتضاء النهي للبطلان وعدمه (١).

وهذا الفارق أيضا لا يرجع إلى محصل إذ لو كان المراد من جهة البحث المحمول فالسراية ليست هي محمول مسألتنا وانما المحمول هو الجواز والامتناع وامّا السراية فحيثية تعليلية بمثابة البرهان لإثبات الامتناع ، والمحمول هنا وهو الامتناع كالمحمول في تلك المسألة وهو البطلان ، على انه لما ذا وافق على التمايز على أساس المحمول دون الموضوع. وإِنْ أراد من جهة البحث الحيثية التي بها نثبت محمول المسألة لموضوعها أَي واسطة الإثبات فالسراية يمكن أَنْ يكون واسطة لإثبات محمول مسألة الاجتماع ولكن البطلان ليس واسطة في المسألة القادمة بل نفس المحمول فكان ينبغي أن يذكر أَنْ الجهة فيها مثلاً عدم إمكان قصد التقرّب ، على أنَّ تعدد الحيثية التعليليّة لا يوجب تعدد المسألة ولهذا لو كانت لمسألة واحدة حيثيات تعليلية وبراهين عديدة لم تخرج عن كونها مسألة واحدة.

وإِن أَراد من جهة البحث الغرض المتوخى من المسألة فمن الواضح انَّ الغرض الفقهي من المسألتين واحد وهو تصحيح العبادة وانطباق الأمر على مورد النهي وعدمه.

والتحقيق أَنْ يقال : انَّ تعدد المسألة يتوقف على توفر مجموع شرطين.

الشرط الأول ـ تعدد القضية أي تغاير المسألتين والّذي يكون امّا بتغاير موضوعهما

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ٢٣٤ ـ ٢٣٥


أو محمولها فانَّ تعدد القضية يكون بذلك.

الشرط الثاني ـ أَنْ لا تكون الجهة التعليلية أي نكتة الثبوت في المسألتين واحدة ، أي مفروغاً عن وحدتها فيهما بحيث لو ثبتت في إحداهما ثبتت في الأخرى عند أهل تلك الصناعة أيضا.

فمثلا استلزام وجوب الصلاة لوجوب مقدمته مسألة مغايرة مع استلزام وجوب الصوم لوجوب مقدمته إلاّ انَّ نكتة الثبوت واحدة في المسألتين عند أهل الصناعة فلا معنى لعقد بحثين لهما.

وفي المقام كلا هذين الشرطين متحقق ، امّا الأول فلأنَّ المسألتين متغايرتان في المحمول على الأقل ، فانَّ المحمول في المقام عبارة عن انَّ النهي هل ينافي الأمر كحكم تكليفي أم لا؟ والمحمول في المسألة القادمة انَّ الحرمة هل تنافي الصحة كحكم وضعي أم لا؟ واحدهما غير الاخر.

وامّا الشرط الثاني ، فلوضوح انَّ نكتة المنافاة الأولى يمكن أَنْ تكون غير نكتة المنافاة الثانية ، كما إذا قيل بامتناع الاجتماع مع القول بالصحّة وضعاً من جهة الملاك وكفاية قصده في التقرب ، أو قيل بالجواز على أساس الملاك الأول مع القول بالفساد على أساس عدم إمكان التقرب على القول بالسراية ، وهكذا فحيثية الإثبات في المسألتين أيضاً متعددة.

التنبيه الرابع ـ قد يتوهم انَّ بحث اجتماع الأمر والنهي يبتني على مسألة تعلق الأمر بالطبيعة أو الافراد ، فإذا قلنا بأنَّ الأوامر تتعلق بالافراد ثبتت السراية وامتناع الاجتماع ، بخلاف ما إذا قيل بأنها تتعلق بالطبائع إذ يقال بالجواز مثلاً لتغاير متعلقهما ، أو يقال بأنه على هذا التقدير يقع النزاع في الجواز والامتناع من جهة انَّ الطبيعة انما تلحظ بما هي فانية في الخارج فقد يقال بالسراية عندئذ.

وقد دفع هذا التوهم كل من صاحب الكفاية ( قده ) والمحقق النائيني ( قده ) ببيان خاص.

فصاحب الكفاية ذكر : انَّ نكتة الامتناع والجواز في هذه المسألة غير مرتبطة بمسألة تعلّق الأوامر بالطبائع أو الافراد ، إذ يمكن على كلا التقديرين في تلك المسألة البحث هنا في


الجواز والامتناع باعتبار انَّ نكتته عبارة عن كفاية تعدد العنوان لدفع التضاد أو عدم كفايتها في ذلك سواءً كان الأمر متعلقاً بالطبيعة أو الفرد ، فلو قيل بأنَّ تعدد العنوان يكفي في دفع التضاد جاز الاجتماع حتى إذا كان الأمر يتعلق بالافراد لوجود عنوانين فرديين ، وإِنْ كان تعدد العنوان لا يكفي لم يمكن الاجتماع ولو كان الأمر متعلقاً بالطبيعة لأنَّ المفروض انَّ الطبيعتين منطبقتان على موجود واحد خارجاً (١).

والمحقق النائيني ( قده ) أفاد : أنَّ النكتة هنا أنَّ تعدد العنوان هل يوجب تعدد المعنون خارجاً لكون التركيب بينهما انضمامياً أو لا لأنَّ التركيب اتحاديٌّ؟ فعلى القول بالتعدد جاز الاجتماع ولو كان متعلق الأوامر الافراد لا الطبائع لتعدد الفرد خارجا ، وعلى القول بالاتحاد لم يمكن الاجتماع حتى إذا كان متعلق الأوامر الطبائع لا الافراد (٢).

والتحقيق أَنْ يقال : انَّ للقول بجواز اجتماع الأمر والنهي ملاكات ومسالك ثلاثة تقدمت ، وفي مسألة تعلق الأمر بالطبائع لا الافراد توجد مسالك متعددة لمعنى تعلق الأمر بالافراد تقدمت في محلها أيضاً ، وبعض تلك المسالك يكون له تأثير على بعض المسالك للجواز في مسألتنا ، وبعضها حيادية لا تؤثر شيئاً في المقام ، ولتوضيح ذلك نستعرض أهم المسالك في مسألة تعلق الأوامر بالطبيعة أو الافراد مع ملاحظة مدى تأثير كل منها على مسالك القول بالجواز فنقول :

المسلك الأول ـ أَنْ يكون مراد القائل بتعلق الأوامر بالطبيعة تعلقها بالجامع بنحو صرف الوجود وبنحو التخيير العقلي بين افرادها بينما القائل بتعلقهما بالافراد يرى تعلقها بكل فرد من افراد الطبيعة بدلاً على سبيل التخيير الشرعي.

وهذا المسلك يؤثر في المقام على الملاك الأول للجواز كما ذكرنا في دفعه دون الملاك الثاني فضلا عن الثالث كما هو ظاهر.

المسلك الثاني ـ أَنْ يراد بتعلق الأمر بالطبيعة بقاؤه على الطبيعة في قبال سريانه إلى

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ٢٤٠ ـ ٢٤١

(٢) فوائد الأصول ، ج ١ ، ص ٤١٢ ـ ٤١٧


الافراد بمعنى سريانها إلى المشخصات العرفية للطبيعة خارجا كالكون في مكان خاص أو زمان خاص أو صفة خاصة ، وبناء على هذا المسلك يبطل الملاك الثالث للجواز ، إذ حتى إذا فرض التركيب انضمامياً لا اتحادياً سوف يسري الأمر إلى المشخصات العرفية لوجود الطبيعة في الخارج والتي منها خصوصية المبدأ المنهي عنه في مورد الاجتماع.

ولكنه لا يبطل الملاك الثاني لأنَّ السريان إلى المشخصات لا يعني السريان إلى عنوان المشخص وطبيعي الغصب بل السريان إليها بما هي مشخصات.

وكذلك لا يبطل الملاك الأول لأنَّ الأمر بالطبيعة مع مشخصاتها المسامحية أيضا امر بصرف الوجود فلا يتنافى مع النهي عن الحصة.

المسلك الثالث ـ أَنْ يراد من تعلق الأمر بالطبيعة تعلقه بالطبيعة بما هي هي ومن تعلقه بالافراد تعلقه بالطبيعة بما هي فانية في الوجود الخارجي.

وهذا المسلك لا يبطل شيئاً من ملاكات الجواز في المقام كما هو واضح.

إلاّ انه على هذا المسلك سوف يكون القول بتعلق الأمر بالطبيعة بما هي هي لا بما هي فانية في الخارج مستوجبا لتعين الملاك الثاني للجواز في المقام بوضوح ومن دون مناقشة كما لا يخفى.

المسلك الرابع ـ أَنْ يكون مراد البحث عن تعلق الأمر بالطبائع أو الافراد إلى البحث عن أصالة الوجود أو أصالة الماهية ، فمن يقول بأنَّ الأصل هو الوجود يقول بتعلقها بالافراد ومن يقول بأنَّ الأصل هو الماهية يقول بتعلقها بالطبيعة لأنها الماهية.

وبناء على هذا المسلك قد يتوهم ابتناء البحث في المقام على تلك المسألة ، حيث انه بناء على أصالة الوجود وتعلق الأمر به لا يوجد إلاّ وجود واحد في مورد الاجتماع فلا يمكن الاجتماع وبناء على أصالة الماهية وتعلق الأمر بالطبيعة يجوز الاجتماع لتعدد الماهية.

وهذا التوهم فاسد فانَّ القول بأصالة الوجود أو أصالة الماهية لا يؤثر على المقام ، إذ كلما كان الموجود واحداً كانت الماهية الحقيقية واحدة أيضاً وانما يتصور التكثر في العناوين العرضية الانتزاعية لا العناوين الماهوية الحقيقية فلا ربط لمسألتنا


بمصطلحات أصالة الوجود أو الماهية ، إذ ليس بين القول بأصالة الوجود والقول بأصالة الماهية اختلاف في الوحدة والتعدد الخارجي بل كل ما يراه القائل بأحدهما واحداً يراه الاخر واحداً أيضا ، وانما الاختلاف في انَّ الأصل وما هو قوام الأشياء وحقيقتها هل هو أمر عيني لا يمكن أَنْ تدركه العقول إلاّ عرضا ، وهو مفهوم الوجود المشار به إلى الخارج ، أو انَّ الأصل والقوام ما ينتزعه العقل ويدركه من المعقولات الأولية من الخارجيات؟ فالخلاف في هوية الخارج لا في وحدته وتعدده كما هو واضح.

التنبيه الخامس ـ في انه هل يشترط في موضوع بحث الاجتماع فرض ثبوت الملاكين في المجمع أم لا يشترط ذلك؟ والبحث هنا في عدة جهات :

الجهة الأُولى ـ في أصل هذه الشرطية التي جاءت في كلمات المحقق الخراسانيّ ( قده)

حيث أفاد : أنَّ المجمع متى ما فرض واجداً لملاكي الأمر والنهي دخل في بحث الاجتماع وانّ كلا منهما هل يمكن أَنْ يؤثر في إيجاد مقتضاه فيكون من اجتماع الأمر والنهي أو لا يمكن ذلك فعلى القول بالجواز يمكن أَنْ يؤثرا معاً فيجتمع الوجوب مع الحرمة تمسكا بإطلاق دليلهما ، وعلى القول بالامتناع يلزم التزاحم بين الملاكين والاقتضاءين ولا يقع بينهما تعارض لأنَّ الملاكات مفروضة الوجود.

واما إذا كان الفرض ارتفاع أحد الملاكين في مورد الاجتماع فسوف يكون خارجاً عن هذا البحث ، لأنه على كل تقدير سوف يقع التعارض بين دليلي الحرمة والوجوب سواءً قلنا بالجواز أو بالامتناع ، لأنَّ أحد الحكمين بلا ملاك فلا يعقل ثبوتهما معاً ولا التزام بين مقتضيهما (١).

هذا حاصل ما ذكره في الكفاية من دون أَنْ يستدل عليه بشيء وسوف يظهر بعض ما يمكن أَنْ يكون دليلاً على مدعاه.

وقد ناقشت في ذلك مدرسة المحقق النائيني ( قده ) : بأنَّ مسألة الاجتماع غير مبتنية على القول بوجود ملاك للأحكام أصلاً ، بل حتى القائلين بعدم لزوم تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها يمكنهم البحث في إمكان أو امتناع اجتماع الأمر

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ٢٤١ ـ ٢٤٢


والنهي في مورد واحد ، لأنَّ مناط البحث هنا هو لزوم اجتماع الضدين ـ وهما الأمر والنهي ـ في موضوع واحد وهو محال حتى عند المنكر للتبعية فلا وجه لاشتراط وجود الملاكين في مورد الاجتماع ولا ربط بين المسألتين (١).

وهذا النقاش كأنه نشأ عن مجرد تشابه لفظي بين ما ذكره المحقق الخراسانيّ من لزوم فعلية الملاكين في المجمع وبين مسألة تبعية الأحكام للملاكات بمعنى المصالح والمفاسد للعباد.

فانّه من المظنون قوياً انَّ مقصود المحقق الخراسانيّ من الملاك في المقام لم يكن هو الملاك في مسألة التبعية ، وإِلاّ كان من الواضح انَّ مشكلة الاجتماع لا ربط لها بمسألة تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، وانَّما مقصوده سنخ ملاك للحكم لا يختلف فيه الأشعري مع المعتزلي ، أي مبادئ الحكم ، فانَّ كلّ أمر أو نهي لا بدَّ له من مبادئ ولو كانت تلك المبادئ راجعة إلى المولى نفسه لا إلى العبد ، بل ولو كانت جزافية وتحكمية ولا صلاح فيها للعباد أصلاً ، إذ كل حكم لا بدَّ من نشوئه من منشأ وغرض لا محالة ولو لم يمكن فيه مصلحة للمكلف فمدعى صاحب الكفاية انَّ المجمع لا بدَّ وأَنْ يكون مجمعا لملاك الأمر وملاك النهي أي للحيثية الداعية إلى الأمر والحيثية الداعية إلى النهي لكي ينفتح البحث عندئذ عن إمكان اجتماع الأمر والنهي أو امتناعه فيه حتى يكون حال المجمع من حيث اشتماله على الحيثية الداعية إلى الأمر والنهي على حد سائر المصاديق ويبحث عن إمكان فعلية الأمر والنهي فيه من ناحية التضاد ، وأي ربط لهذه الشرطية بما جعلته مدرسة المحقق النائيني ( قده ) تفسيراً لكلام صاحب الكفاية ( قده ) ولعل الدافع لصاحب الكفاية في تجشم هذه الشرطية كان هو الذب عن المشهور في أحد موضعين.

الأول ـ ذهابهم إلى التعارض بين العامين من وجه في بحث تعارض الأدلة من دون بناء ذلك وتفريعه على مسألة الامتناع ، فكأنه حاول أَنْ يدفع عنهم بأنه في العامين من وجه من قبيل ( أكرم العالم ولا تكرم الفاسق ) لا يحرز أصل الملاكين في المجمع

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٣٤٥ ـ ٣٤٦


بخلاف المقام.

الثاني ـ ذهابهم إلى صحة الصلاة في المغصوب جهلا أو نسياناً بخلاف الصلاة في المانع كالصلاة فيما لا يؤكل لحمه ، فحاول أَنْ يجعل موضوع هذه المسألة ما إذا أحرز الملاكين فانه حينئذ مع الجهل أو النسيان يمكن تصحيح العبادة ووقوعها مصداقا للواجب لإحراز الملاك وإمكان التقرب به مع عدم تنجز الحرمة.

وأيّا ما كان فالمستند لهذه الشرطية يمكن أَنْ يكون أحد تقريبين :

الأول ـ انَّ تعقّل جواز الاجتماع وتصوره مبنيٌّ على أَنْ يكون مقتضي الحكمين موجوداً وثابتاً في المورد في المرتبة السابقة فلا بدَّ من افتراض وجود الملاكين في المجمع قبل البحث عن جواز اجتماع الأمر والنهي فيه وإلاّ كان الاجتماع ممتنعاً على كل حال ولو لعدم ملاك أحدهما.

وفيه : انه خلط بين الامتناع بالذات والامتناع بالغير فانَّ امتناع اجتماع الأمر والنهي لعدم ملاك أحدهما امتناع بالغير وليس هو المبحوث عنه وانما المبحوث عنه الامتناع بالذات من ناحية التضاد سواءً كان هناك مناطان أم لا ، فحيثية البحث حتى مع عدم إحراز المناطين هي هذا المعنى للامتناع وهو لا يلزم في تعقّله ثبوت المناطين بل قد يكون ثبوت الجواز في هذه الحيثية منشأ لإحراز المناطين كما يعترف به صاحب الكفاية بنفسه في موضع لاحق من كلامه.

الثاني ـ انَّ ثمرة جواز الاجتماع انما تظهر في مورد فعلية الملاكين وانْ كانت حيثية البحث غير مبتنية على ذلك فانَّ ثمرة القول بالجواز أعني فعلية الوجوب في مورد الحرام فرع تمامية المناط لكلا الحكمين في المجمع.

وفيه : انه يكفي في الثمرة عدم إحراز انتفاء أحد الملاكين في المجمع ولا يشترط إحراز ثبوتهما لأنه بمجرد عدم إحراز ارتفاع أحد الملاكين يتمسك بإطلاق دليل الأمر لإحرازه في المجمع.

على انَّه لا ينبغي أَنْ يؤخذ في موضوع مسألة ما يكون دخيلاً في ترتب الثمرة على تلك المسألة ، فترتب الثمرة على مسألة دلالة الأمر على الوجوب متوقّف على عدم وجود معارض له فهل يعني أخذ ذلك شرطاً في موضوع البحث عن دلالة الأمر على الوجوب؟.


الجهة الثانية ـ في طريق إثبات فعلية الملاكين في مورد الاجتماع ، ولا إشكال في انه لو وجد دليل خاص على ذلك أو قيل بالجواز أمكن إثبات ذلك تمسكاً بدلالة الدليل الخاصّ أو إطلاق دليل الأمر.

كما انه لو فرض انَّ مفاد دليل الوجوب هو الحكم الاقتضائي لا الفعلي أمكن التمسك به في مورد النهي لعدم المنافاة بين مدلوله مع الحرمة.

نعم يقع التزاحم بين الاقتضاءين في الفرض الأول والثالث بخلاف الفرض الثاني الّذي ليس فيه تزاحم ولا تعارض ، وهذه الحالات الثلاث ذكرها صاحب الكفاية أيضاً.

وامّا إذا كان مفاد الدليل الحكم الفعلي وقلنا بالامتناع فقد ذكر صاحب الكفاية فيه : أنّه لا سبيل إلى إثبات المناطين لوقوع التعارض بين دليل الأمر مع دليل النهي في هذه الحالة وبعد التساقط لا يبقى دليل يمكن أَنْ نثبت به الملاك.

وقد علّق على هذه الحالة المحقق الأصفهاني ( قده ) : بإمكان إثبات الملاك بأحد طريقين : (١)

الأول ـ التمسك بالدلالة الالتزامية لدليلي الأمر والنهي على الملاك بعد سقوط دلالتهما المطابقية على الخطاب في مورد الاجتماع.

وهذا الكلام مبني على أصل سيال في موارد كثيرة هو عدم تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في الحجية ، والصحيح هو التبعية على ما ذكرناه مراراً.

على انّه لو فرض ذلك لم يختص ذلك بالمقام بل صح في ساير موارد التعارض ، كما إذا قال صلِّ ولا تصلِّ ، فانه أيضاً يمكن أَنْ يكون في كل من الفعل والترك ملاك أو محبوبية ومبغوضية شأنية كمورد الاجتماع مع انّه لا يلتزم به أحد (٢).

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ٢ ، ص ٢٦٧

(٢) يمكن دعوى الفرق من ناحية انه في موارد التعارض غير المستقر يكون المخصص أو المقيد قرينة على عدم الإرادة وعدم حيثية الحكم في مورد التقييد والتخصيص أو ما بحكمها ولهذا لا ينعقد أصل الظهور في ذلك على تقدير الاتصال.

وامّا في موارد التعارض المستقر سواء كان بنحو التباين أو العموم من وجه من قبيل أكرم العالم ولا تكرم الفاسق ـ لا من قبيل أكرم عالماً ولا تكرم الفاسق فانه من الأمر بصرف الوجود والنهي عن الفرد وهو داخل في مسألتنا كما تقدم ـ فتارة : يكون التنافي بين الدليلين بنحو النفي والإثبات ، كما إذا دلَّ أحدهما على وجوب شيء والاخر على عدم وجوبه ، وأخرى : يدل أحدهما على


وكأن المحقق العراقي ( قده ) الّذي وافق الأصفهاني ( قده ) على إثبات الملاك بالدلالة الالتزامية تفطن إلى هذا النقض الّذي لا يلتزم به أحد فحاول الجواب عليه بما حاصله : ان خطاب ( صلِّ ) و( لا تصلِّ ) مثلاً انما كانا من باب التعارض لا التزاحم الملاكي ، لأنهما بالدقة يتعارضان حتى بلحاظ الدلالة الالتزامية على الملاك بخلاف ( صلِّ ) و( لا تغصب ) والوجه في ذلك انَّ لخطاب ( صلِّ ) مثلاً بحسب الحقيقة أربع دلالات :

١ ـ الدلالة على طلب المادة وهي الصلاة بالمطابقة.

٢ ـ الدلالة على النهي عن ضده العام وهو ترك الصلاة بالالتزام.

٣ ـ الدلالة على ملاك الطلب في الصلاة بالالتزام.

٤ ـ الدلالة على انَّ الضد العام فاقد لمبادئ الطلب بالالتزام.

فإذا اتضح انَّ لكل خطاب هذه الدلالات الأربع فسوف يقع في موارد التعارض التكاذب بين المدلولين الالتزاميين الثالث والرابع في كل من الدليلين مع الآخر ، أي المدلول الرابع في خطاب ( صلِّ ) يعارض المدلول الثالث في خطاب ( لا تصلِّ ) والمدلول الرابع في خطاب ( لا تصلِّ ) يعارض المدلول الثالث في خطاب ( صلِّ ) ومعه لا يبقى ما يثبت الملاك.

وهذا بخلاف موارد الاجتماع ، أعني ما إذا امر بالصلاة ونهى عن الغصب ، لأنَ

__________________

الوجوب والآخر على الحرمة.

ففي النحو الأول من الواضح انَّ دليل النفي كما ينفي الوجوب ينفي ملاك الوجوب ومقتضية التام فلا يمكن إثباته بالمدلول الالتزامي لدليل الوجوب ، نعم ذات الملاك الأعم المجامع للمانع يمكن إثباته ولكن لا فائدة تترتب عليه.

وامّا النحو الثاني فكل منهما وانْ كان دالاً على ثبوت ملاك حكمه في ذلك المورد وهو لا ينافي ثبوت ملاك الحكم الاخر إلاّ انه مع ذلك لا يمكن إثبات الملاك التام في مورد التعارض وانما الّذي يثبت ذات الملاك ، أي لا يمكن إثبات ملاك الأمر أو ملاك النهي بمعنى إحراز نفس الملاك والحيثية الّذي يدعوه إلى جعل الأمر أو النهي في مورد الافتراق بل لعلّ المولى لا يجد في مورد التعارض ولو باعتبار اجتماع ذات المصلحة مع ذات المفسدة ـ ملاكاً للإيجاب أو التحريم أصلاً. فالحاصل : في مورد التعارض لا يمكن إثبات ما هو ملاك بالفعل للوجوب أو الحرمة لأنه لا وجوب ولا حرمة يمكن أَنْ يكشفا عن ملاك لهما بالفعل في مورد التعارض وامّا الوجوب أو الحرمة في موردي الافتراق في العامين من وجه فلا يكشفان إلاّ عن الملاك في موردهما لا في مورد التعارض ، وهذا بخلاف المقام فانَّ إيجاب الطبيعة بنحو صرف الوجود يمكن أَنْ يكون ملاكه موجوداً في الطبيعة بنحو صرف الوجود وانْ كان الأمر مقيداً بغير المجمع فيسقط به الأمر رغم عدم انبساطه عليه كما يمكن التعبد به والاجزاء مع الجهل بالحرمة فالفرق واضح بين المسألتين.


هذين العنوانين امّا أَنْ يفرض تغايرهما ذاتاً أو يفرض وجود جزء مشترك بينهما ، بأَنْ كانت الصلاة عبارة عن الحركة المضافة إلى المولى والغصب عبارة عن الحركة المضافة إلى مال الغير. ففي الفرض الأول يكون من الواضح انَّ الأمر بالصلاة وإِنْ دلَّ على فقدان نقيضها من الملاك إلاّ انَّ نقيضها ليس هو عدم الغصب كما انَّ النهي عن الغصب لا يدل على فقدان الصلاة من الملاك.

وامّا في الفرض الثاني ، فالامر بالمجموع من الحركة والصلاتية يدل على وجود الملاك في هذا المجموع والنهي عن مجموع الحركة والغصبية يدل على وجود الملاك في ترك هذا المجموع ، وترك المجموع من الحركة والغصبية غير المجموع من الحركة والصلاتية فلا يتعارض الأمر بالصلاة والنهي عن الغصب بناء على الامتناع بلحاظ الملاك فيدخلان في باب التزاحم الملاكي (١).

وهذا الكلام غير تام لأنه يرد عليه :

أولاً ـ عدم التسليم بالمدلول الرابع لخطاب ( صلِّ ) أي الدلالة على فقدان ترك الصلاة للملاك ، إذ لو أُريد استفادة ذلك بالملازمة من نفس الأمر بالصلاة الّذي هو المدلول المطابقي للخطاب فمن الواضح انَّ الأمر بفعل لا يكشف عن ذلك وانما يكشف عن وجود ملاك في طرف الفعل سواءً كان تركه فاقداً لكل ملاك أو كان فيه ملاك ولكنه مغلوب لملاك الفعل ، ولو أُريد استفادته من المدلول الالتزامي الأول أعني حرمة الضد العام فمن الواضح انَّ حرمة الضد حرمة تبعية ناشئة من نفس ملاك الأمر بالفعل وليس بملاك آخر وهذا واضح.

وثانياً ـ النقض بما إذا ورد الأمر بالصلاة والنهي عن الصلاة في الحمام ، أي موارد المطلق والمقيد لأنَّ النهي يدل على حرمة المجموع الدال بالالتزام على وجود ملاك في تركه وترك المجموع غير ترك الصلاة ، مع انّه لا يظن التزامه بالتزاحم الملاكي في مثل ذلك (٢).

__________________

(١) مقالات الأصول ، ج ١ ، ص ١٣٠ ـ ١٣١

(٢) لو فرض انَّ النهي عن الصلاة في الحمام كان بمعنى تحريم الحصة فهذا داخل في بحث الاجتماع بحسب الحقيقة فيما إذا كان الأمر بصرف الوجود لا مطلق الوجود.


الثاني ـ التمسك بإطلاق المادة لإثبات الملاك في المجمع بتقريب : انَّ الموانع والمحاذير العقلية انما تقيد إطلاق الهيئة ومفادها بما إذا لم يكن شيء من المحاذير وامّا مدلول المادة الّذي هو الواجب لا الوجوب فلا موجب لتقييده بل يبقى الوجوب المقيَّد متعلِّقاً بالمادة المطلقة فيكشف عن ثبوت الملاك في مورد الاجتماع.

وهذا التقريب يختلف عن إطلاق المادة في مصطلح مدرسة المحقق النائيني ( قده ) فانَّ مراد النائيني ( قده ) انَّ المادة تقع موضوعاً لمحمولين في عرض واحد الحكم والملاك ، ولهذا كان يجاب عنه : بأنَّ المحمولين طوليان وليسا عرضيين ، بينما المحقق الأصفهاني ( قده ) يريد تصوير إطلاق المادة من حيث وقوعها متعلقا للوجوب مع قبول الطولية بين الدلالة على الملاك والدلالة على الوجوب.

والصحيح في الجواب حينئذ أَنْ يقال :

أولاً ـ هذا الكلام انما يكون له وجه فيما إذا كان المحذور يقتضي تقييد الوجوب كما في موارد العجز مثلاً لا في المقام الّذي يكون المحذور راجعاً إلى مدلول المادة مع بقاء الهيئة على إطلاقها ، فانَّ المحال هنا إطلاق الواجب للفرد المحرم بحسب الفرض.

وثانياً ـ لو تنزلنا وسلمنا بأنَّ قيود الهيئة لا ترجع إلى المادة وافترضنا بأنَّ الوجوب مقيد بفرض القدرة مثلا وامّا الواجب فمطلق الفعل حتى الصادر في حالات العجز مع ذلك قلنا ، انَّ شكنا في المقام شك في اتصاف الفعل الواقع في حال عدم الوجوب بكونه ذا مصلحة وملاك ، والإطلاق الّذي يكشف عن الاتصاف بالملاك دائماً انما هو إطلاق الوجوب وفعليته في ذلك المورد لا إطلاق المادة فانها تنفي التقيد بقيود الوجود لا قيود الاتصاف والمفروض سقوط إطلاق الهيئة وعدم إمكان التمسك به.

الجهة الثالثة ـ التزاحم الملاكي هنا وهو التزاحم في مصطلح المحقق الخراسانيّ ( قده ) يختلف عن التزاحم في مقام الامتثال ـ وهو التزاحم في مصطلح الميرزا ( قده ) ـ من حيث انه لا تنافي بين الحكمين في التزاحم الامتثالي لأن كلا منهما قد جعل مشروطاً بعدم الاشتغال بالأهم أو المساوي ولا محذور في ذلك فانه بالاشتغال به يرتفع موضوع الاخر فلا تكاذب ولا تعارض بين دليليهما ، كما انّه لا دخل للمولى ولا يجب عليه بذل عناية مولوية في مورد التزاحم وانّما المكلف يختار الأهم منهما على المهم ،


وهذا بخلاف التزاحم الملاكي فانَّ التنافي فيه بين نفس الجعلين لاستحالة اجتماعهما في موضوع واحد مما يؤدي إلى التكاذب ووقوع التعارض بين دليل كل منهما مع دليل الاخر ، كما انَّ من وظيفة المولى هنا أَنْ يبذل عنايته في ترجيح أقوى المقتضيين على أضعفهما لأنَّ تشخيص مقتضيات الحكم ومبادئه الداعية للمولى إلى جعل الحكم من وظيفة المولى لا العبد كما هو واضح.

وبعد أَنْ اتضح الفرق بين التزاحم الملاكي والتزاحم في مقام الامتثال يقع البحث في جريان أحكام كل من باب التزاحم وباب التعارض في المقام ، فنقول :

امّا مرجحات باب التزاحم فكانت عبارة عن تقديم الأهم على المهم وتقديم المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية وتقديم ما ليس له بدل على ما له بدل ، فلا بدَّ من ملاحظة انَّ هذه المرجحات الثلاثة هل تجري في المقام إذا أحرز شيئاً منها في أحد الملاكين دون الاخر أم لا؟.

الصحيح هو التفصيل بين صورتين :

الصورة الأولى ـ أَنْ يعلم من خارج دليلي الحكمين بإجماع أو نحوه انَّ أحد الحكمين محفوظ ملاكه في مورد الاجتماع وانه أهم أو غير مشروط بالقدرة الشرعية أو ليس له بدل بخلاف الاخر.

الصورة الثانية ـ أَنْ يثبت الملاك المرجح بدلالة من نفس دليل أحد الحكمين ولو بأحد التقريبين الذين تقدما عن المحقق الأصفهاني ( قده ) ففي الصورة الأولى يثبت الترجيح لا محالة ، لأنَّ ثبوت الملاك الأهم أو الّذي ليس له بدل أو الّذي ليس مشروطاً بالقدرة الشرعية معلوم من الخارج فيكون مقتضية ثابتا والمانع عنه مفقوداً ، إذ المانع انما هو دليل الحكم الاخر وهو معلوم البطلان في المقام بحسب الفرض.

وامّا في الصورة الثانية الّذي يثبت الملاك فيها بنفس دليل الحكم فيقع التعارض بينهما لا محالة ، لأنَّ دليل الحكم الاخر سوف يدل بالالتزام على نفي أصل ملاك الحكم الأول ولو فرض العلم من الخارج بأنه لو كان ثابتاً لكان أرجح ، وهذا يعني وقوع التعارض بين الدليلين في إثبات الملاك أيضاً.


ويلحق بالترجيح بالأهمية الترجيح باحتمال الأهمية في أحد الطرفين دون الاخر ، فانه لو كان هذا الاحتمال موجوداً في أحد الطرفين مفقوداً في الاخر وكان ثبوته من خارج الدليل كان مدلول الدليل الاخر ساقطاً على كل حال ، لأنه يقتضي فعلية ملاكه وأرجحيته وهذا مقطوع العدم على كل حال فلا مانع عن التمسك بدليل الحكم الأول.

نعم الترجيح بقوة احتمال الأهمية لا يتم في المقام ، فانَّ هذا الاحتمال إذا كان وارداً في كل منهما غاية الأمر كان في أحدهما أقوى منه في الاخر فسواءً كان ثبوت الملاك في المجمع معلوماً من خارج الدليلين أو داخلهما فمفاد كل من الدليلين محتمل الثبوت ، فتكون شبهة حكمية بلحاظ كل منهما بعد تساقط الدليلين ولا يسري التعارض هنا إلى المدلولين الالتزاميين المثبتين للملاك كما لا يخفى.

وامّا جريان أحكام باب التعارض في المقام فقد ذكر صاحب الكفاية ( قده ) : انَّ إحراز الملاكين وإحراز أقوائية أحدهما على الاخر بنفسه يمهد لجمع عرفي هو حمل دليل الحكم ذي الملاك الأقوى على إفادة الحكم الفعلي ودليل الحكم الاخر على إفادة الحكم الاقتضائي الشأني.

وفيه :

أولاً ـ ما اتضح مما تقدم من انّه إذا كان الملاك الأرجح مستفاداً من خارج الدليلين سقط دليل الحكم المرجوح عن الحجية في نفسه للقطع ببطلان مؤدّاه حينئذٍ ، نعم هذا الكلام له وجه فيما إذا كان ثبوت الملاك الأرجح بنفس الدليل.

وثانياً ـ انَّ هذا ليس جمعاً عرفياً باعتبار انَّ الحكم الإنشائي أو الاقتضائي ليس حكماً ، خصوصاً بحسب النّظر العرفي الّذي لا يفهم من الحكم إلاّ البعث والتحريك الفعلي فهذا بحكم إِلغاء الدليل عرفاً.

ثم انَّ هنا عبارة لصاحب الكفاية مفادها انّه إذا قدم أحد الحكمين بمرجح دلالي أو سندي فسوف يستكشف بطريق البرهان الإنِّي انه أقوى مناطاً من الآخر (١) والظاهر انَّ مقصوده

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ٢٤٢


استكشاف ذلك بعد فرض إحراز فعلية الملاكين في مورد الاجتماع فانه حينئذٍ لو ثبت ترجيح أحد الحكمين ثبت بالدلالة الالتزامية لا محالة أقوائية ملاكه ، فليس المقصود دلالة قوة الكشف والدلالة في أحد الدليلين على قوة الملاك ونحو ذلك مما جعل تفسيراً لكلامه ثم اعترض عليه بعدم التلازم بين مقام الإثبات والكشف وبين مقام الثبوت والملاك.

وأيّاًما كان فلا جمع عرفي بهذا الشكل في المقام ، بل يرجع إلى المرجحات الدلالية الأخرى أو المرجحات السندية إِنْ كانت وكان التعارض بنحو التباين ، وإلاّ فالتعارض والتساقط ، إلاّ انه لا يجوز الرجوع عندئذٍ إلى أصلٍ عملي يكون على خلاف كلا الملاكين المتزاحمين بحيث يلزم منه تفويتهما معا.

ثم انّه قد يتوهم : عدم صحة الرجوع إلى المرجحات السندية فيما إذا أمكن إثبات الملاكين بنفس الدليلين ولو بأحد التقريبين المتقدمين من المحقق الأصفهاني ( قده ) لأنَّ فرضية الرجوع إلى المرجح السندي ما إذا تكاذب الدليلان في تمام مدلولهما بحيث لم يكن يمكن الأخذ بالسند في شيء منهما ، وفي المقام يمكن الأخذ بمدلوليهما الالتزاميين بحسب الفرض فلا يسري التعارض والتكاذب إلى السندين ليرجع إلى المرجح السندي.

وفيه :

أولاً ـ انَّ مدرك الرجوع إلى المرجح السندي الروايات العلاجية وهي كما تصدق في سائر الموارد تصدق في المقام أيضاً ، لأنَّ العنوان الوارد في لسانها أَنْ يكون أحد الدليلين يأمر بشيء والاخر ينهى عنه ، وهذا يصدق ولو فرض إمكان الأخذ بشيء من مدلول الدليلين ـ على بعض المباني ـ وعدم سريان التعارض إلى السندين بمرّ الصناعة.

وثانياً ـ لو فرض كفاية ثبوت المدلول الالتزامي للخطابات المتعارضة في عدم سريان التعارض إلى السندين فسوف لن يبقى مورد معتدٌّ به لأخبار العلاج ويكون ذلك بحكم إلغائها عرفاً ، لما تقدم من انّه بناء على عدم التبعية بين الدلالتين في الحجية لا يتفق مورد التعارض لا يكون لأحد المتعارضين مدلول التزامي يسلم عن المعارضة


فمثل هذه الموارد هي القدر المتيقن لمضمون اخبار العلاج (١).

التنبيه السادس : في تصحيح الامتثال بإتيان المجمع على الأقوال في هذه المسألة

فنقول :

إذا قيل بالامتناع وتقديم جانب الأمر فلا إشكال في صحة الامتثال بالمجمع واجزائه سواءً كان الواجب توصلياً أو عبادياً ولا يوجد منشأ لشبهة البطلان ، وإذا قيل بالجواز فلا إشكال في الامتثال إذا كان الواجب توصلياً مع وجود المندوحة ، وإِنْ لم تكن مندوحة فالقول بالصحّة والاجتزاء موقوف على القول بإمكان الترتب أو كشف الملاك.

نعم إذا قيل بمبنى الميرزا ( قده ) من اختصاص متعلق التكاليف بالحصص المقدورة وافترضنا انَّ الممتنع شرعاً كالممتنع عقلا كان شمول الأمر للحصة في المجمع الممنوع شرعا أيضاً بحاجة إلى أمر ترتبي أو إحراز الملاك.

وامّا إذا كان الواجب تعبدياً فإذا كان القول بالجواز على أساس الملاك الثالث للجواز أي على أساس تعدد المعنون خارجاً فالكلام فيه هو الكلام في الواجب التوصلي ، وامّا إذا قيل بالجواز على أساس الملاك الأول أو الثاني فهناك وجه للبطلان يأتي بيانه في تخريجات الفتوى المشهورة بالتفصيل بين صورتي الجهل بالحرمة والعلم بها.

وإذا قيل بالامتناع وتقديم جانب النهي فإذا كان الواجب عبادياً فلا إشكال في البطلان وعدم الاجتزاء لعدم إمكان التقرب بالحرام ، وإِنْ كان الواجب توصلياً فالاجتزاء به موقوف على إمكان إحراز الملاك في المجمع فانْ أمكن إحرازه اجتزأ به وإلاّ فلا. هذا كله على تقدير الامتناع ووصول النهي وامّا إذا لم يصل النهي إلى المكلف فقد حكم المشهور بصحة الامتثال والاجتزاء به حتى إذا كان الواجب عبادياً.

وهذا هو الّذي وقع مورداً للإشكال المعروف والّذي طرحه في الكفاية وحاول أَنْ

__________________

(١) ويمكن أَنْ يورد ثالثاً ـ بأنَّ التعارض إذا كان بنحو التباين الّذي هو مورد المرجحات السندية لا يمكن الأخذ بمدلولهما وإبقاء سنديهما على الحجية بلحاظ محض الملاك والمصلحة ، فانَّ هذا حكم حيثي لا يمكن حمل الأدلة عليه أي خلاف ظهور نفس الخطاب في انه ليس لبيان الحكم الحيثي وهذا يؤدي إلى سريان التعارض إلى السند بالمعنى الّذي نحتاجه لتطبيق المرجحات السندية حتى إذا خرجناها على القاعدة ، كما هو كذلك في موافقة الكتاب ومخالفة العامة على ما حققناه في محله.


يعالجه في عدة مواضع منها ، فانه إذا كان المبنى جواز الاجتماع ينبغي القول بصحة الامتثال حتى مع وصول النهي ، وإذا كان المبنى امتناع الاجتماع وقع التعارض بين دليلي الأمر والنهي فمع تقديم جانب النهي لا يصح الامتثال بالمجمع ولا يجتزأ به سواءً وصل النهي أم لم يصل ، فكيف صدر التفصيل من المشهور بحيث أفتى بصحة العبادة مع الجهل بالحرمة حتى القائل بالامتناع؟

وهذه الفتوى المشهورة يمكن أَنْ تذكر بشأنها عدة تخريجات.

التخريج الأول : ما ذكره في الكفاية من انّ التضاد بين الأحكام انما هو في مرحلة فعليتها وصيرورتها بعثاً وتحريكاً أو منعاً وزجراً بالفعل والحكم ما لم يصل إلى المكلف لا يبلغ هذه المرتبة فإذا كانت الحرمة واصلة ومنجزة على المكلف أصبحت فعلية فيتنافى مع الوجوب لا محالة فيسقط الوجوب ويبطل العمل ، وإلاّ بقيت في مرحلة الإنشاء وهي بهذه المرتبة لا تكون مضادة مع الوجوب فتصح العبادة لفعلية الأمر وإمكان التقرب ، وهذا يعني اننا انما نرفع اليد عن إطلاق دليل الواجب بمقدار التمانع والتضاد وهو صورة وصول الحرمة لا أكثر (١).

وفيه : أولاً ـ النقض بسائر موارد التنافي والتعارض بين دليلين ، كما إذا ورد ( أكرم العالم ويحرم إكرام الفاسق ) فيقيد كل من الحكمين بصورة عدم وصول الاخر ويتمسك بإطلاقه لما إذا كان الاخر غير منجز على المكلف ، فيجب إكرام الفاسق الّذي لم تصل حرمة إكرامه إلى المكلف ، بل وهذا يتصور حتى فيما إذا كان دليل الحرمة أخص من دليل الوجوب مع انه لا يلتزم بذلك.

وثانياً ـ الحَلّ ، بأنَّ فعلية الحكم إِنْ أُريد بها التنجّز فهذا كما أُفيد متفرع على وصوله ، إلاّ أنَّ التضاد والتنافي بين الأحكام لا يختص بهذه المرتبة ، بل قبل هذه المرتبة أيضا يوجد تضاد بين الأحكام بلحاظ مبادئها كما شرحناه مراراً ، وإِنْ أُريد من الفعلية ما يقابل الإنشائية أي الإرادة والكراهة الحقيقيّتين فالتضاد والتنافي بين الأحكام وان كان بلحاظها إلاّ انها غير منوطة بوصول الحكم ، فلا بدَّ من تقييد الحكم حتى لو لم يتنجز

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ٢٤٩


الحكم الاخر.

التخريج الثاني ـ ما يستفاد من بعض عبائر الكفاية ويتألف من مقدمتين :

الأولى ـ انَّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد لا بما هي هي بل بما هي مؤثرة في الحسن والقبح عقلاً لأنَّ الواجبات الشرعية انعكاس للواجبات والألطاف العقلية.

الثانية ـ انَّ تأثير المصلحة والمفسدة في الحسن أو القبح العقليين فرع وصولهما لأنَّ الفعل الحسن أو القبيح لا يقع على تلك الصفة إلاّ مع العلم والالتفات من الفاعل إلي الحيثية وجهة الحسن والقبح فمع الجهل لا حسن ولا قبح ، فلا ملاك ولا فعلية للحرمة حتى يضاد الوجوب (١).

ويرد عليه :

أولاً ـ النقض ، بسائر موارد التعارض كما تقدم.

وثانياً ـ لو سلمنا ما جاء في هذا التقريب اختص بما إذا كان الجهل بالموضوع كما إذا لم يكن يعلم بغصبية الدار ـ لا بالحكم والكبرى فمن كان يعلم بغصبية الدار كان تصرفه فيه قبيحاً عقلا ولو فرض جهله بكبرى الحرمة والقبح ، فهذا التخريج لا يثبت مدعى المشهور.

وثالثاً ـ عدم صحة المبنى فانَّ الأحكام ليست تابعة للمصالح والمفاسد بما هي مؤثّرة في الحسن والقبح العقليين ، كيف وإِلاّ لزم توقفها على وصول تلك المصالح ومعرفة العباد بحيثياتها مع انَّها لا تعلم إِلاّ في طول فعلية الأحكام والعلم بها.

التخريج الثالث ـ ما يظهر من بعض عبائر الكفاية أيضاً ، وهو مبنيٌ على أصل موضوعي تقدم شرحه فيما سبق من انَّ موارد الاجتماع يكون ملاك كل من الحكمين فعلياً فيه والتمانع بين الحكمين ، فانه بناء على هذا المبنى الّذي افترضه أصلاً موضوعياً لبحث الاجتماع يقال بالتفصيل بين صورتي الجهل بالحرمة والعلم بها ، لأنه مع الجهل وعدم تنجز الحرمة يمكن للمكلف أَنْ يتقرب بالأمر فتقع العبادة صحيحة إذ لا يشترط في صحة عبادة والاجتزاء بها إلاّ اشتمالها على ملاك الأمر وإمكان التقرب بها

__________________

(١) نفس المصدر ، ص ٢٤٧


وكلاهما حاصلان في صورة الجهل بالحرمة ، بخلاف صورة العلم بها إذ سوف لا يمكن التقرب بالفعل لكونه مبغوضاً ومحرماً ولا يمكن التقرب بالمبغوض للمولى (١).

وهذا التخريج أشكل عليه الأستاذ : بأنَّ صحة التقرب بالملاك انما يكون فيما إذا كان فعلياً بأن يكون الفعل محبوباً بالفعل لدى المولى لا ما إذا كان مندكا ومغلوباً لملاك الحرمة ومبغوضاً بالفعل ولو فرض جهل المكلف بها.

وكأن هذا الكلام منه يفترض في صلاحية التقرب بالفعل شرطاً زائداً على الملاك وهو المحبوبية الفعلية.

وهذا لا مأخذ له فانه لا يشترط في فعلية التقرب أكثر من تخيل الأمر والمحبوبية ولو لم يكن إلاّ المبغوضية واقعاً كمن ينقذ عدوَّ المولى بتخيل انه ابنه أو صديقه فانه يتقرب بعمله وإِنْ كان مبغوضاً محضاً.

وعليه فلو سلمنا الأصل الموضوعي المذكور في هذا التخريج من وجدان الفعل في مورد الاجتماع لنفس ملاك الأمر بالعبادة ومصلحته فلا محالة يتم هذا التفصيل إلاّ انه قد تقدم عدم إمكان إحراز ذلك إلاّ بالتمسك بالمدلول الالتزامي بعد سقوط المطابقي أو إطلاق المادة وكلاهما كان باطلاً.

على انه لو تم شيء منهما فلما ذا لم يحكم بذلك في سائر موارد التعارض كما أشرنا فيما سبق.

التخريج الرابع ـ ما ذكره المحقق النائيني في وجه هذا التفصيل ولكن لا بناء على الامتناع ـ كما في التخريجات الثلاثة المتقدمة عن صاحب الكفاية ـ بل بناء على القول بالجواز وتوضيحه :

انه بناء على الجواز وانَّ التركيب انضمامي لا اتحادي وإِنْ لم يكن محذور التضاد إلاّ انه يوجد محذور التزاحم ، فانه يشترط أَنْ يكون متعلق الأمر الحصة المقدورة عقلاً وشرعاً ومع الحرمة لا تكون هذه الحصة مقدورة فلا يمكن الأمر بها لا عرضياً ـ لما قلنا من اشتراط القدرة في متعلّق الأمر ـ ولا طولياً وبنحو الترتب بناء على مبنى تقدّم منه في بحث

__________________

(١) نفس المصدر ، ص ٢٤٦ ـ ٢٤٧


الترتب حيث بنى على عدم إمكان الترتب في موارد اجتماع الأمر والنهي وانما يعقل في المتضادين الوجوديين كما لا يمكن الاجتزاء به بلحاظ الملاك وقصد التقرب به لأنه لو فرض إمكان اكتشافه مع سقوط الأمر فحيث انَّ المورد محرم على المكلف فيوجد فيه قبح فاعلي وهو يمنع عن التقرب ، وهكذا في صورة العلم بالحرمة لا يقع الفعل صحيحاً لا للتضاد والتعارض بل للتزاحم بنحو لا يمكن فيه إحراز الأمر ولا التقرب ، وامّا مع الجهل بالحرمة فحيث انَّ التزاحم يختص بصورة تنجز الحكمين المتزاحمين على ما تقدم مفصلاً في بحوث التزاحم فلا مانع من شمول الأمر للمورد ، كما لا إشكال في صحة التقرب به فيثبت التفصيل المشهور (١).

وهذا التخريج أيضاً غير صحيح وذلك :

أولاً ـ لما تقدم من عدم التزاحم بين الأمر بالمطلق مع النهي عن الحصة لأن ما هو الواجب وهو الجامع لا مزاحمة بينه وبين ما هو الحرام ، فعلى القول بالجواز كما لا تعارض لا تزاحم أيضاً كما قد تقدم في بحث الترتب.

وثانياً ـ لو فرضنا التزاحم كما قال الميرزا أو فيما إذا لم تكن مندوحة فالامر الترتبي معقول ، وهذا أيضاً خلاف مبنائي متروك إلى بحوث التزاحم.

وثالثاً ـ لو سلمنا عدم إمكان الأمر الترتبي ولكن افترضنا إمكان إحراز الملاك فيصح الامتثال لإمكان التقرب به عندئذ ، وما ذكر من انَّ إيجاد المجمع قبيح بقبح فاعلي إيجادي وهو ينافي التقرب غير صحيح ، لأننا نتساءل : انَّ الإيجاد والوجود امّا أَنْ يفترض اتحادهما حقيقة واختلافهما بالاعتبار والإضافة إلى طرف الفاعل والقابل أو يفترض تغايرهما حقيقة أيضاً؟.

فعلى الأول ـ إذا فرضنا انَّ التركيب في المجمع انضمامي فكما يوجد هناك وجودان في الخارج يوجد إيجادان لأنَّ تعدد الوجود تعدد للإيجاد لا محالة ، فيكون هناك إيجادان أحدهما قبيح محرم والاخر حسن وواجب فلا محذور.

وعلى الثاني ـ فيمكن أَنْ يكون هناك إيجاد واحد لوجودين باعتبار انَّ الإيجاد غير

__________________

(١) فوائد الأصول ، ج ١ ، ص ٤٢٩ ـ ٤٣٤


الوجود حقيقة إلاّ أنَّ هذا يعني انَّ فعلاً واحداً علّة لتحقق أمرين في الخارج ، فعلى فرض كون هذا الإيجاد قبيحاً ومحرماً لكونه علّة للحرام فغايته حرمة المقدمة وهو لا ينافي وجوب أحد الوجودات المترتبة عليه وإمكان التقرب به ولو فرض قبح الإيجاد ، بل لا قبح ولا مبعدية في الإيجاد بحسب الدقة لأنَّ مقدمة الحرام لا قبح ولا مبعدية فيها زائداً على مبعدية وقبح الحرام النفسيّ.

التخريج الخامس ـ ما يمكن اقتناصه من كلام الميرزا مع شيء من التغيير ، وهو نفس التخريج المتقدم مع فرق هو انه بعد سقوط الأمر في صورة العلم بالحرمة عرضياً وعدم إمكان الأمر الترتيبي طولياً لا يمكن الاجتزاء من جهة عدم إمكان إحراز الملاك في مورد الاجتماع ، لأنَّ الكاشف عنه هو الأمر وقد سقط في فرض العلم باعتبار التزاحم الّذي لا يمكن فيه الترتب ، وهذا بخلاف فرض الجهل بالحرمة.

وهذا التخريج يكون أحسن حالاً من سابقه لأنه لا يرد عليه الاعتراض الثالث من الاعتراضات المتقدمة.

التخريج السادس ـ وهو مبنيٌ على أَنْ يقال بالجواز بالملاك الأول أو الثاني من الملاكات المتقدمة للقول بالجواز ، حيث انه في فرض العلم بالحرمة سوف تبطل العبادة في مورد الاجتماع لا لعدم الأمر فانا افترضنا الجواز بل لعدم إمكان التقرب مع النهي وقبح الفعل خارجاً بناءً على ما سوف يأتي تفصيله في بحث اقتضاء النهي لفساد العبادة ، أنَّ هذا المحذور يرتفع مع الجهل بالحرمة إذ يتأتى عندئذ قصد التقرب من المكلف فيقع مصداقاً للمأمور به وجامعاً لشرائط صحته.

وهذا أحسن وجه لتخريج الفتوى المشهورة.

التخريج السابع ـ وهو مبنيٌ على القول بالامتناع على أساس ما ذكرته مدرسة المحقق النائيني ( قده ) في دفع الملاك الأول للجواز ، من انَّ لازم الأمر بالطبيعة بنحو صرف الوجود الترخيص في تطبيقه على كل فرد من افراده وهذا ينافي حرمة الفرد ، فيقال في المقام : انَّ هذا المحذور يختص بحال العلم وتنجز الحرمة وامّا مع الجهل بها يكون الترخيص في المورد ثابتاً لعدم تنجز الحرمة بحسب الفرض ، فلا مانع من التمسك بإطلاق الأمر بالصلاة في مورد الجهل بالحرمة.


هذا الوجه مبنيٌ على أَنْ لا يكون المدعى في ذلك المبنى انَّ إطلاق الأمر بالطبيعة بنحو صرف الوجود يقتضي الترخيص الواقعي بتطبيقها على كل فرد ، بأَنْ يكون الترخيص في تطبيق الجامع على كل فرد لازم إطلاق الأمر الواقعي لا نفسه ، ويكون مرادهم من هذا اللازم الترخيص العملي وعدم العقاب وامَّا إذا ادعي دلالته على الترخيص الواقعي مطابقةً أو التزاماً فهو ينافي الحرمة بوجودها الواقعي ولو لم تصل كما هو واضح.

التخريج الثامن ـ أَنْ يقال بناء على الامتناع بأنَّ الأمر يمكن أَنْ يشمل الفرد غير المعلوم حرمته ولا محذور فيه ، لأنَّ الأمر سوف يكون في رتبة متأخرة عن الحرمة لأنَّ عدم العلم بها قد أخذ في موضوعه فلا يلزم اجتماعهما في رتبة واحدة.

وفيه : لو سلم انَّ هذا يوجب الطولية وأخذ عدم العلم بالحرمة في طول الوجوب ـ وليس كذلك لما تقدّم من أنَّ الإطلاق ليس جمعاً للقيود ـ فقد تقدّم مراراً إِنّ غائلة التضاد لا ترتفع بتعدد الرتبة ، لأنَّ المحال هو اجتماع الضدين على موضوع في زمان واحد سواءً كانا في رتبتين أو رتبة واحدة.

التخريج التاسع ـ قد تقدم انه في فرض إحراز الملاك في المجمع يتم التفصيل بين صورتي الجهل بالحرمة والعلم بها ، كما تقدم عن صاحب الكفاية ( قده ) وفي هذا التخريج نريد أَنْ نوسع ذلك فنقول : حتى مع الشك وعدم إحراز الملاك في المجمع يتم هذا التفصيل ، فانه مع العلم بالحرمة لا يقع مصداقاً للعبادة لعدم إمكان التقرب على كل حال ولو فرض وجود الملاك فيه ، وامّا مع الجهل بالحرمة فيمكن التقرب من قبل المكلف فمن ناحية القربية لا إشكال وانما يحتمل عدم الاجتزاء من ناحية عدم الملاك ، إلاّ أنَّ هذا الاحتمال معناه بحسب الحقيقة الشك في تقيد الواجب بعدم الغصب ملاكاً وروحاً أي يكون من موارد الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيَّين ، لأنَّه إذا كان المجمع واجداً لملاك الأمر فلا تكليف لمن صلّى في الدار المغصوبة لأنه قد حقق ما هو الواجب فتجري البراءة عن التقييد الزائد المشكوك بلحاظ روح الحكم ، هذا إذا لاحظنا روح الحكم وهي المحبوبية وإذا لاحظنا الخطاب فيكون الأمر أوضح لأنه من الشك في أصل التكليف على ما سوف يتضح.


وهكذا يثبت الاجزاء في مورد عدم إحراز الملاك أيضاً.

لا يقال ـ نثبت عدم الملاك في المجمع بإطلاق الأمر بعد سقوطه في مورد الاجتماع خطاباً وتقييده بغير الفرد المحرم ، فانه يقتضي عدم الاجزاء إلاّ بإتيان الجامع ضمن فرد غير محرم وهو يدل على عدم وجود الملاك في مورد الاجتماع.

فانه يقال ـ محذور الامتناع بعد أَنْ كان مختصاً بالخطاب لا الملاك فكما يمكن الجمع بين الخطابين بتقييد المادة في خطاب الأمر ، وهذا يناسب عدم الملاك في المجمع ولزوم الإعادة ، كذلك يمكن الجمع بينهما بتقييد الأمر بالصلاة بمن لم يصلِّ في الغصب بنحو قيد الوجوب ، وهذا يناسب مع فرضية وجود ملاك الأمر في المجمع ، وحيث يحتمل فعلية الملاك فيه فلا معين لتقييد المادة دون الهيئة بل المقام من دوران أمر المقيد العقلي وهو الامتناع بين أَنْ يرجع إلى مدلول الهيئة أو مدلول المادة والّذي ذهب جملة من المحققين فيه إلى اختيار الإجمال وعدم تعين أحدهما في قبال الاخر ، ومعه لا يمكن التمسك بإطلاق الهيئة لإثبات عدم الاجزاء بل تجري البراءة عن كونه مكلفا بالصلاة مرة أُخرى خارج الغصب.

نعم بناء على ما تقدم من انَّ الصحيح في أمثال المقام التمسك بإطلاق الهيئة وعدم معارضته بإطلاق المادة لا يتم هذا التخريج.

التنبيه السابع ـ في تقديم دليل النهي على دليل الأمر بالنسبة إلى المجمع بناء على الامتناع بعد أَنْ كان التعارض بينهما بنحو العموم من وجه ، وقد ذكر في وجه ذلك أحد تقريبين.

التقريب الأول ـ تطبيق كبرى انه كلما تعارض إطلاقان بنحو العموم من وجه قدم في مورد الاجتماع الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي لو كان أحدهما شمولياً والاخر بدلياً ، وفي المقام الأمر بالصلاة مثلا يكون إطلاقه بدلياً إذ الواجب فرد منها لا جميع افرادها بينما إطلاق النهي عن الغصب شمولي يثبت حرمة كل غصب ، وبعبارة أخرى : إطلاق المادة في متعلق الأمر بدلي بينما إطلاقها في متعلق النهي شمولي دائماً ، على ما تقدم في بحث الأوامر فإذا وقع تعارض بينهما بنحو العموم من وجه قدم إطلاق النهي على إطلاق الأمر.


والكلام في هذا التقريب تارة : في كبرى تقديم الإطلاق الشمولي على البدلي ، وأخرى : في تنقيح صغراه وتطبيقه في المقام.

امّا البحث عن كبرى تقديم الإطلاق الشمولي على البدلي فقد تعرضنا له مفصلاً في موضعه من بحوث تعارض الأدلة وأثبتنا هناك انه لا وجه فني لهذه القاعدة المتداولة على الألسن.

نعم توجد نكتة خاصة لتقديم الإطلاق الشمولي للنهي على الإطلاق البدلي تتم على مبنى المحقق النائيني القائل بلزوم اختصاص متعلق الأمر بالحصة المقدورة عقلاً وشرعاً.

فانه بناء على هذا المبنى سوف يكون إطلاق النهي لمورد الاجتماع رافعاً لهذا الشرط ووارداً على إطلاق دليل الأمر دون العكس فانَّ الأمر حيث انَّ إطلاقه بدلي فشموله لمورد الاجتماع لا يجعل امتثال النهي غير مقدور لا عقلاً ولا شرعاً بخلاف العكس.

وهذا الوجه انما يتم في مثل دليل الحرمة والأمر ولا يتم في دليل الكراهة مع الأمر كما لا يخفى.

وامّا البحث عن تمامية صغرى هذا التقريب في المقام فلا إشكال فيها إذا كانت مندوحة ، واما إذا لم تكن مندوحة للمكلف بحيث انحصرت الصلاة بالمكان المغصوب فقد يناقش في انطباق الكبرى بأنَّ المعارضة حينئذ بين إطلاق النهي الشمولي مع أصل الأمر أي الوجوب وهو مدلول للهيئة لا للمادة وإطلاق الهيئة شمولي أيضاً وليس بدلياً.

إلاّ أنَّ الصحيح انطباق الكبرى حتى في صورة الانحصار وعدم المندوحة ، لأنَّ ارتفاع الأمر والوجوب في هذه الصورة ليس تقييداً زائداً في دليل الأمر إذ كل امر مشروط بالقدرة على متعلقه ، فإذا قيد متعلق الأمر الّذي يكون إطلاقه بدليا بغير الغصب فسوف لن يحدث بسبب ذلك تقييد لمدلول الهيئة زائداً على ما هو مقيد به من القدرة على متعلقه ، فالتعارض بحسب الحقيقة بين إطلاق المادة في الدليلين دائماً.


التقريب الثاني ـ تقديم دليل النهي باعتباره متكفلا لحكم إلزامي على إطلاق الأمر باعتباره متكفلاً لحكم ترخيصي وهو التوسعة وجواز تطبيق الجامع على المجمع ، فهذا من قبيل أَنْ يرد النهي عن الغصب ويرد جواز شرب الحليب فانَّه يقدم دليل التحريم على إطلاق دليل جواز شرب الحليب للحليب المغصوب.

وهذا التقريب يوجد تجاهه تعليقان :

الأول ـ انَّه لا يتم فيما إذا لم تكن مندوحة إذ يكون كلا الحكمين إلزامياً بعد انحصار الواجب في ذلك الفرد.

الثاني ـ عدم تماميته كبرى فانَّ كبرى أنَّ دليل الحكم الإلزامي يتقدم على دليل الحكم الترخيصي ليست صحيحة بهذا العنوان ، وانما الصحيح الأخذ بدليل الحكم الإلزامي في مورد إطلاق دليل الحكم الترخيصي بنكتة انه إعمال للدليلين معاً بعد استظهار انَّ دليل الترخيص في شيء انما يدل على انه مرخص فيه من حيث كونه ذلك الشيء ، فدليل جواز شرب الحليب يدل على انَّ الحليب بما هو حليب ليس حراماً وهذا لا ينافي ثبوت حرمة شربه بعنوان آخر ككونه مغصوباً أو مضراً أو غير ذلك.

وهذه النكتة لا يمكن تطبيقها على إطلاق دليل الأمر ودليل النهي ، لأنَّ الامتناع إذا افترضناه بين نفس الأمر بالجامع الشامل للفرد المحرم وبين حرمة ذلك الفرد فالامر واضح إذ سوف لن يكون مدلول دليل الأمر ترخيصياً أصلاً ، وإِنْ افترضنا كما جاء في تعبيرات المحقق النائيني ( قده ) من جهة استلزام الأمر بالجامع الترخيص في تطبيقه على كل فرد فرد فهذا الترخيص لا بدَّ وأَنْ يراد به الترخيص الفعلي ومن جميع الجهات لا الترخيص الحيثي ومن ناحية الصلاتية وإلاّ فمثل هذا الترخيص من الواضح أنه ترخيص وضعي لا ينافي حرمة الفرد وهذا خلف الامتناع.

والترخيص الفعلي ومن جميع الجهات في مورد يتنافى مع الحرمة جزماً ، ألا ترى انّه لو قال يجوز شرب هذا الماء بكل عنوان وقال لا يجوز شربه إذا كان غصباً كان بينهما تعارض لا محالة.


وهكذا يتضح عدم صحة هذا التقريب كسابقه فلا وجه كلي لتقديم دليل النهي على دليل الأمر بناء على الامتناع.

التنبيه الثامن ـ في كيفية تخريج العبادات المكروهة ، فانه لا إشكال في ثبوت الكراهة للعبادة في بعض الموارد كالصلاة في الحمام أو في مواضع التهمة أو صوم يوم عاشوراء ، كما لا إشكال في صحة العبادة في هذه الموارد ، ومن هنا يقع الإشكال في كيفية اجتماع الأمر مع النهي فيها وربَّما نعتبر ذلك دليلا على جواز الاجتماع لأنَّ الأحكام التكليفية الخمسة كلها متضادة فيما بينها وليس التضاد مخصوصاً بالوجوب والحرمة فقط ، فكيف يمكن أَنْ تكون عبادة مأموراً بها وصحيحة ومع ذلك تتصف بالكراهة؟

وهذا الكلام أورد عليه في الكفاية : بأنه لا يكون إشكالاً على القول بالامتناع بل لا بدَّ للقائل بالجواز أيضاً من الدفاع في المقام ، لأن القائل بالجواز انما يقول بالجواز مع تعدد العنوان لا وحدته وفي العبادات المكروهة قد تعلق النهي بنفس عنوان العبادة كالصلاة في الحمام (١).

وهذا الّذي أفاده صحيح ، بل حتى لو قلنا بالملاك الأول للجواز أيضا يرد الإشكال في العبادات المكروهة ، لأنها ليست مخصوصة بما إذا كان الأمر بصرف الوجود بل يشمل موارد الأمر بنحو مطلق الوجود ، من قبيل كراهة صوم يوم عاشوراء ، فانه مستحب لأنَّ الصوم في كل يوم مستحب مع انه مكروه في يوم عاشوراء ، فالإشكال ليس مختصاً بالقائلين بالامتناع كما انَّ ثبوت العبادات المكروهة لا يمكن أَنْ يكون دليلا على الجواز.

وأيّا ما كان ، فالبحث تارة : فيما إذا ثبتت الكراهة في عبادة لها بدل كالصلاة في الحمام ، وأخرى : فيما إذا ثبتت فيما ليس له بدل كالصوم في يوم عاشوراء.

امّا القسم الأول ـ فالقائلون بجواز الاجتماع بالملاك الأول يمكنهم التخلص عن الإشكال طبقاً لمبناهم فهم في فسحة من الإشكال ، وكذلك من يقول بالامتناع على

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ٢٥٤ ـ ٢٥٥


أساس استلزام الأمر بصرف الوجود الترخيص في الافراد فانَّ الترخيص لا ينافي الكراهة وانما ينافي الحرمة ، وانما يتجه الإشكال بناء على المسلك القائل بالامتناع على أساس منافاة النهي والحرمة مع نفس الأمر بصرف الوجود المنطبق على الفرد. وقد حاول المحقق الخراسانيّ ( قده ) دفع الإشكال بحمل النهي على الإرشاد إلى قلة الثواب ونقصان درجة غير لزومية من مصلحته لا وجود الحزازة في العبادة (١).

وقد يناقش في هذا الوجه : بأنه بناء على انَّ الأمر بشيء يقتضي النهي عن ضده العام يكون إعدام المصلحة الزائدة مبغوضا فتسري المبغوضية والحزازة إلى علّته وهو خصوصية الصلاة في الحمام.

إلاّ أنَّ هذه المبغوضية غيرية ناشئة من فقدان المحبوب والمصلحة فلا تنافي معها ، كما انها من الواضح قيامها بالخصوصية لا المتخصص إذ المتخصص لا يكون ضداً عاماً كما هو واضح.

وقد يناقش أيضاً : بأنَّ تأثير عدم الصلاة في الحمام في وقوع الصلاة على المصلحة الأتم والأكمل لا يمكن أَنْ يكون من باب تأثير العدم في الوجود فانه محال ، بل لا بدَّ وأَنْ ينتهي إلى مانعية وجود الخصوصية عن المصلحة الزائدة باعتبارها مقتضية لضد المصلحة وهو المفسدة والحزازة المبغوضة فانتهينا بالنهاية إلى فرضية وجود الحزازة والمبغوضية في متعلق الأمر فيلزم الاجتماع.

والجواب ـ أولا ـ إِنْ تم هذا بناء على بعض التفسيرات للواجب النفسيّ كتفسير صاحب الكفاية للواجب النفسيّ بأنه ما يؤمر به لمصلحة أو حسن ذاتي في نفس الفعل فيقال بأنَّ نقصانها مثلاً لا يكون إلاّ بعروض جهة قبح وحزازة ، فهذا لا يتم بناء على انَّ الواجب النفسيّ ربما يكون بحسب الملاك والغرض غيرياً أي سببا لترتب ما هو المصلحة ، وحينئذٍ قد تكون الخصوصية مانعة عن تحصيل جزء من تلك المصلحة لأنها ضد حالة أخرى في الصلاة خارج الحمام دخيلة في ترتب ذلك الجزء ، أو لأنها علّة لضد ذلك الجزء من المصلحة الوجودية فيكون مانعاً عنه ، ولا يلزم أَنْ يكون ضد

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ٢٥٦ ـ ٢٥٧


المصلحة مفسدة ومبغوضاً كما لا يخفى.

وثانياً ـ لو سلمنا الحزازة والمفسدة في الخصوصية إلاّ انها إذا كانت مندكة في قبال المصلحة والمحبوبية الغالبة كان النهي إرشادياً لا مولوياً بحسب عالم الخطاب والتكليف ولا محذور فيه.

وهكذا يتضح : انَّ جواب صاحب الكفاية ( قده ) برفع اليد عن ظهور النهي في المولوية وحمله على الإرشاد إلى قلة الثواب والمصلحة أو المحبوبية معقول في نفسه.

كما انه يمكن في مقام حلّ الإشكال أَنْ نأخذ بظهور خطاب النهي في المولوية ولكن نؤوِّله بجعله نهياً عن الخصوصية لا المتخصص أي نهياً عن تقيد الصلاة بالحمام لا عن المقيد ، فلا يجتمع الأمر والنهي على مركز واحد.

بل يمكن الحفاظ على كلا الظهورين السابقين وافتراض انَّ النهي مولوي خطاباً ومتعلق بالصلاة في الحمام لا بالتقيد ولكنَّ ملاكه اقتضائي وشأني لا فعلي ، أي انَّ ملاكه مندك في ملاك الأمر والمصلحة القائمة بالطبيعي بنحو صرف الوجود وانما أثَّرت هذه المفسدة المغلوبة في إنشاء النهي مع عدم وجود مبغوضية بالفعل في الحصة ـ بل هي محبوبة ـ باعتبار انَّ الملاك المندك إذا كان جعل الحكم على طبقه لا يؤدي إلى تضييع الملاك الغالب بل يمكن الجمع بينهما فالمولى سوف يجعل الخطاب على طبقه أيضاً لأنَّ المقتضي موجود ـ وهو أصل الملاك ـ والمانع مفقود وهو عدم تضييع الملاك الغالب ، فلا يلزم إلاّ مخالفة ظهور الخطاب في فعلية مبادئه وانه يوجد بإزائه ملاك ومبغوضية فعلية (١).

وامّا القسم الثاني من العبادات المكروهة أي ما إذا كان الأمر والنهي متعلقين معاً بالفرد كصوم عاشوراء ، فهنا لا يجري شيء من التأويلات السابقة ، لأنه لا يوجد بدل للمأمور به لكي يكون النهي عنه إرشاداً إلى قلة الملاك والثواب في هذا الفرد عن سائر الافراد أو كونه

__________________

(١) هذا بحسب روحه دليل جواز الاجتماع بالملاك الأول كما شرحناه ونقلناه عن الأستاذ ( 1 الشريف ) في أول البحث وليس وجهاً آخراً لحل الإشكال بناء على الامتناع.


مزاحما مع مفسدة ، إذ لو كانت غالبة بطلت العبادة ولو كانت مغلوبة فجعل النهي على طبقها يضيع مصلحة الأمر ، كما انَّ النهي المولوي عن الخصوصية الملازمة مع المأمور به يتنافى مع الأمر بذي الخصوصية.

ولهذا حاول صاحب الكفاية ( قده ) أَنْ يستأنف في المقام جواباً آخراً حاصله :

إن النهي في المقام ليس بملاك مبغوضية الصوم يوم عاشوراء بل روحه طلب ترك الصوم في هذا اليوم لوجود مصلحة أخرى منطبقة على الترك أهم من مصلحة الفعل فيكون من التزاحم بين الملاكين والمحبوبيتين فلا يلزم مبغوضية العبادة أو حرمتها (١).

وأشكلت مدرسة المحقق النائيني ( قده ) على هذا الجواب بعد أَنْ فسرت التزاحم فيه بالتزاحم في مقام الامتثال ـ الّذي هو مصطلح هذه المدرسة من التزاحم ـ بأنَّ هذا غير معقول لأنَّ التزاحم بين الفعل والترك غير معقول ، بل لا يعقل ذلك حتى إذا فرضنا انَّ المصلحة في عنوان آخر منطبق على الترك ، إذ لا يعقل التزاحم بين شيئين لا يرتفعان أي وجود أحدهما ضروري على كل حال ، فانه لو أُريد الأمر بهما معاً كان محالاً ولو أُريد الأمر بكل منهما على تقدير ترك الاخر فهو تحصيل للحاصل على ما بين في محله من بحوث التزاحم (٢).

وحاول السيد الأستاذ دفع هذا الاعتراض : بأنَّ المقام ليس من النقيضين أو الضدين اللذين لا ثالث لهما بل من الضدين اللذين لهما ثالث ، إذ توجد عندنا ثلاثة أمور الصوم بقصد القربة والإمساك من دون قصد الصوم والقربة وعدم الإمساك أصلاً ، والعبادة هو الأمر الأول والمصلحة الأقوى في الأمر الثالث ويمكن التزاحم بينهما لإمكان تركهما بإتيان الفعل مجرداً عن قصد القربة كما في سائر الموارد (٣).

وهذا الجواب من الأستاذ لو سلّمنا مبناه الفقهي فلا نسلم صحته أصولياً ، لأنَّ الأمر بالصوم يوم عاشوراء ككل أمر ترتبي في مقام التزاحم لا بدَّ وأَنْ يكون مشروطاً بترك الاشتغال بالأهم أو المساوي ، وهو في المقام ترك ترك الصوم أي الصوم نفسه ،

__________________

(١) نفس المصدر ، ص ٢٥٧ ـ ٢٥٩

(٢) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٣٦٤ ـ ٣٦٥

(٣) هامش المصدر السابق


فيرجع بهذا اللحاظ الأمر بالصوم بالدقة إلى الأمر بقصد القربة على تقدير الصوم ، وهذا غير معقول لأنَّ الأمر بشيء يستحيل أَنْ يكون محركا نحو متعلقه مشروطاً بتحقق متعلقه ، إذ لا يراد بقصد القربة إلاّ محركية الأمر وداعويته وفي طول وقوع الشيء خارجاً لا يعقل داعوية الأمر نحوه (١).

والصحيح : انَّ مقصود صاحب الكفاية أساساً من التزاحم في المقام التزاحم الملاكي الّذي هو مصطلحه دائماً لا التزاحم الامتثالي والأمر الترتبي ، وحيث انَّ التزاحم الملاكي يقتضي ثبوت ملاك الأمر وإِنْ سقط خطابه فأراد صاحب الكفاية أَنْ يصحح العبادة المكروهة في هذا القسم على أساس ذلك.

وقد يستشكل : بأنَّ ترك الصوم يوم عاشوراء إذا كان فيه مصلحة غالبة وأهم من مصلحة الفعل ولهذا طلب الترك فسوف يكون الصوم الضد العام للمأمور به ، وبناء على انَّ الأمر بشيء يقتضي النهي عن ضده العام سوف يكون الصوم منهياً عنه نهي كراهة ومبغوضاً تبعاً ومعه لا يقع عبادة مقربة إلى المولى.

وفيه : انَّ هذا يكفي في دفعه ما تقدم مراراً من انَّ النهي الغيري لا يوجب الفساد ، ويمكن أَنْ يكون نظر صاحب الكفاية دفع مثل هذا النقاش حينما عبَّر بوجود مصلحة تنطبق على الترك ممّا يعني انَّ المأمور به ليس هو نفس الترك وإِنَّما عنوان وجودي ينطبق عليه ، كمخالفة بني أُمية مثلاً ، فلا يكون نقيضه هو فعل الصوم حتى لو قلنا بأنَّ النهي الغيري يقتضي الفساد. وأيّا ما كان ما ذكره صاحب الكفاية في هذا القسم من العبادات المكروهة يرجع إلى حمل النهي على إرادة طلب الترك أو عنوان منطبق عليه.

__________________

(١) وامّا ما أفيد من انَّ النهي يمكن أن يكون متعلّقاً بالتعبد والأمر متعلق بذات الفعل فأحدهما موضوعه غير الآخر بل في طوله فيرد عليه بعد تسليم مبناه الفقهي :

أولا : بطلان المبنى الأصولي فان التعبد وقصد القربة مأخوذ في متعلّق الأمر العبادي.

وثانياً : انَّ محذور الاجتماع انَّما هو في عالم مبادئ الأمر وبملاك التضاد والقائل بعدم أخذ القيد في الأمر انَّما يقول به بلحاظ مرحلة تعلّق الأمر وشرطية القدرة فيه مع اعترافه بأخذه في المبادئ ولهذا افترض أمراً بالتعبد متمّماً للجعل في مرحلة الأمر فالمحذور لا يرتفع بما ذكر.

وثالثاً : إذا فرض متعلّق النهي عنواناً منطبقاً على الفعل لزم محذور الاجتماع وان فرض مبايناً معه وهو حيثية التعبد وداعوية الأمر فهذا معناه الأمر بالفعل والنهي عن داعويته وهو تهافت وتناقض بالعرض لأن داعوية الأمر من مقتضياته ولوازمه كما انه حينئذٍ لا يمكن الإتيان بمثل هذا الفعل من أجل المولى ولو كان النهي كراهة لا حرمة

.


إلاّ انَّ التحقيق : انَّ هذا لا يجدي في حلّ الإشكال باعتبار انَّ الترك لو كان مشتملاً على مصلحة غالبة على مصلحة الفعل وكان المحبوب فعلاً للمولى ترك الصوم فسوف لن يقع الصوم عبادة ومقرباً إلى المولى باعتبار انَّ الفعل الّذي يكون تركه أفضل وأحب إلى المولى لأنه بالفعل يريد تركه ، ولو فرض اشتماله على مصلحة مغلوبة ، في نفسها لا يصلح للمقربية ، أي لا يعقل أَنْ يؤتي به بداعي المولى ، إذ كيف يمكن أَنْ يكون المولى داعياً إلى ترجيح الفعل على الترك مع انه يريد ترجيح الترك على الفعل؟ وهذا بخلاف موارد التزاحم الحقيقي بحسب عالم الامتثال وهذا واضح.

والصحيح : في علاج إشكال الكراهة في هذا القسم من العبادات أَنْ تحمل هذه النواهي على الإرشادية نظير القسم الأول بلحاظ انَّ المكلف عادة لا يصوم الدهر كله بل يصوم بعض الأيام فيرد النهي للإرشاد إلى صوم سائر الأيام لا يوم عاشوراء لأنه أقل ثوابا ، فحال المكلف خارجاً وعملا هنا حاله في مثل صلِّ ولا تصلِّ في الحمام مع فعلية الأمر والمحبوبية في العبادة على كل حال ...

التنبيه التاسع ـ فيما إذا فُرض سقوط الحرمة بقطع النّظر عن الأمر من جهة الاضطرار ، كما إذا ألزم بالتوضي مثلاً بالماء المغصوب أو كان مضطراً إلى الغصب الجامع بين إراقة الماء على أعضاء وضوئه أو مكان آخر على نحو لا يكون في التوضي غصب زائد ، ففي مثل ذلك تسقط الحرمة في مادة الاجتماع ويقع الكلام في حكمها من زاوية الأمر ، فهل يمكن أَنْ ينبسط عليه الأمر؟.

والكلام عن ذلك تارة : فيما إذا كان الاضطرار لا بسوء الاختيار وأخرى فيما إذا كان بسوء الاختيار.

( الصلاة في المغصوب بالاضطرار لا بسوء الاختيار )

المقام الأول ـ إذا كان الاضطرار لا بسوءِ الاختيار والبحث فيه تارة : في كبرى حكم هذه الفرضية وأخرى : في صغرياتها.

امّا البحث في كبرى هذه الفرضية فلا إشكال في سقوط الحكم التكليفي أي الحرمة بالاضطرار المانع عن الحرمة عقلاً وشرعاً ، وانما البحث في جانب الحكم الوضعي من زاوية الأمر ، أي هل يقع الفعل صحيحاً ومجزياً أم لا؟


ذهب المشهور إلى انَّ إطلاق دليل الأمر تام إذ لم يكن مانع ومقيد له سوى الحرمة والمفروض سقوطها ، وبهذا فرقوا بين حالتين في المانعية ، إحداهما ـ المانعية المتحصلة من الحرمة التكليفية ، كما في الوضوء بماء مغصوب الّذي يكون تقيد الأمر بغيره من باب امتناع الاجتماع عقلاً ، ففي مثل ذلك لا تثبت المانعية إِلاّ في فرض ثبوت الحرمة وعدم سقوطها بالاضطرار. والثانية ـ المانعية المستفادة من النهي الإرشادي ابتداءً كما في خطاب ( لا تصلِّ في وبر ما لا يؤكل لحمه ) وفي مثل ذلك لا تسقط المانعية حتى في حالات الاضطرار فانَّ مقتضى القاعدة إطلاق المانعية وبالتالي سقوط أصل الأمر بالمركب ما لم يفرض دليل خاص على الأمر بالباقي ، كما ثبت ذلك في باب الصلاة التي لا تسقط بحال.

إلاّ انَّ المحقق النائيني ( قده ) خالف المشهور في المقام وذهب إلى انَّ المانعية من النوع الأول أيضاً لا ترتفع بالاضطرار وسقوط الحرمة بالتعذر ، فلا يحكم بالصحّة والاجزاء في المقام.

وهذه الدعوى يمكن تقريبها بأحد وجهين :

الوجه الأول ـ ما نقله عنه السيد الأستاذ في أجود التقريرات من انَّ النهي يقتضي حرمة الفعل وعدم وجوبه ـ أي المانعية ـ في عرض واحد ، والاضطرار انما ينفي المعلول الأول دون الثاني وليست المانعية من ناحية الحرمة وبعلتها ، لأنَّ الحرمة والوجوب ضدان وقد ثبت في محله استحالة توقف أحد الضدين على عدم الاخر أو بالعكس ، بل كل من الضدين مع عدم الاخر معلولان لعلّة واحدة هي مقتضي ذلك الضد وملاكه.

ثمَّ اعترض عليه باعتراضين :

أولهما ـ انّ دلالة النهي على الحرمة بالمطابقة ودلالته على عدم الوجوب بالالتزام والدلالة الالتزامية في طول المطابقية لا في عرضها ، وما ذكر في بحث الضد من عرضية كل ضد مع عدم الضد الاخر انّما كان بحسب عالم الثبوت لا الإثبات.

وكأنه بهذا أراد إبطال دعوى المحقق النائيني بعرضية المدلولين بعد أَنْ حمل كلامه على مقام الإثبات والكشف ، مع انَّ ظاهر كلامه في تقريرات فوائد الأصول النّظر إلى عالم الثبوت حيث عبَّر صريحاً بأنَّ الملاك علّة لأمرين في عرض واحد فبدَّل هناك


كلمة النهي بالملاك فيكون صغرى من صغريات ما ذكر في بحث الضد.

ثانيهما ـ انَّ الدلالة الالتزامية تسقط عن الحجية كلّما سقطت المطابقية فلا يمكن إثبات ملاك الحرمة أو المانعية بعد سقوط الحرمة (١).

ولا يخفى انَّ منهجة هذين الاعتراضين غير فنية ، فانه لو كان نظر الميرزا في العرضية إلى عالم الإثبات ـ كما افترض في الاعتراض الأول ـ فكيف يربط البحث بباب الدلالة الالتزامية وطوليتها للمطابقية ، وإِنْ فرض إِنَّ النّظر إلى عالم الثبوت فكيف يورد عليه بالاعتراض الأول؟

بل لا يصح إيراد الاعتراض الثاني أيضاً إلاَّ مبنائياً إذ المحقق النائيني ( قده ) من القائلين بعدم الطولية بين الدلالتين في الحجية.

والصحيح في ردِّ هذا التقريب لكلام المحقق النائيني ( قده ) بعد التنزل عن الاعتراض المبنائي أَنْ يقال :

أولاً ـ ما ذكر من علّية الملاك لأمرين عرضيين وجود الضد ـ وهو الحرمة ـ وعدم الضد الاخر ـ وهو الوجوب ـ غير صحيح ، لأنَّ الأمر الوجوديّ ـ وهو الملاك ـ لا يمكن أَنْ يكون علّة للأمر العدمي مستقلاً : كما انَّ العدم لا يمكن أَنْ يكون علّة للوجود على ما ذكرنا ذلك في بحث الضد ، وانما المقتضي لأحد الضدين بحسب الحقيقة علّة لإيجاد ضده المانع عن تأثير مقتضي الضد الاخر ، فبمقدار ما يقرب الملاك والمقتضي نحو الضد الأول يبعّد عن الضد الثاني للتمانع بينهما واستحالة اجتماعهما ، وهذا يعني انه لا توجد لدينا علّيتان وتأثيران بل علّية واحدة للملاك الّذي بقدر ما يقرب نحو الحرمة يبعّد عن الوجوب فإذا لم يمكنه التقريب نحو الحرمة لم يمكنه التبعيد عن الوجوب والمانعية أيضاً.

ثانياً ـ انَّ منهجة التقريب غير تامة فانه إذا سلّمنا حجية المدلول الالتزامي للخطاب بعد سقوط مدلوله المطابقي كفى ذلك في إثبات المانعية بلا حاجة إلى مسألة

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٣٧١ ـ ٣٧٢


تأثير الملاك بصورة عرضية في الحرمة والمانعية ، لأنَّ دليل النهي يدلّ على المانعية وعدم الوجوب التزاماً.

وإلاّ فالدعوى الأولى غير كافية إذ من أين نحرز الملاك بعد سقوط الخطاب إذا لم نقل بالتبعية حتى نحرز ثبوت معلوله الثاني وهو المانعية.

الوجه الثاني ـ ويتألف من مقدمتين :

إحداهما ـ إثبات ملاك الحرمة لا بالدلالة الالتزامية لدليل الحرمة بل بحديث الرفع المخصِّص لأدلة التكاليف الاضطرارية بقوله ( رفع ما اضطروا إليه ) بدعوى : انَّ المرفوع بهذا الحديث الحرمة فقط لا الملاك ، لأنَّ ما هو مقتضى الرفع الامتناني انما هو رفع الحرمة والتكليف مع ثبوت مقتضيها لا ارتفاعها من باب عدم المقتضي لها.

الثانية ـ انّ ثبوت ملاك الحرمة يمنع عن ثبوت الوجوب في مادة الاجتماع امّا إذا كان الفعل عبادياً فباعتبار عدم إمكان قصد القربة بما فيه ملاك الحرمة ، وهذا المحذور يختص بخصوص العبادات ، أو باعتبار انَّ نكتة الامتناع عندنا انما هي التنافي بين الأمر والنهي بلحاظ مبادئهما من المحبوبية والمبغوضية اللتان لا تجتمعان في مادة الاجتماع فإذا ثبت مبدأ الحرمة في مورد الاجتماع بحديث الرفع لم يكن يمكن أَنْ ينبسط الأمر عليه حينئذ ، وهذا التقريب غير تام أيضاً لعدم تمامية شيء من مقدمتيه.

امّا الأولى ـ فلأنّ ما قيل قياس للمولى الحقيقي على الموالي العرفية مع انه بلا موجب فانَّ امتنان المولى الحقيقي ليس لمصلحة له في التكاليف وانما المصالح والمفاسد كلها راجعة للعباد أنفسهم وهي تكون بملاحظة مجموع الحيثيات واختيار الأصلح لهم بعد الكسر والانكسار فيما بينها ، فليس رفع المولى الحقيقي للحكم من باب انَّ المقتضي للطلب أي المبغوضية موجود ومع هذا لا يطلب بنكتة الامتنان (١) بل من جهة اختيار

__________________

(١) ويمكن أَنْ يورد على هذه المقدمة أيضاً : بأنَّ ارتفاع التكليف في موارد الاضطرار ثابت بمقيد لبّي كالمتصل ولو لم يكن حديث الرفع موجوداً فلا إطلاق في خطاب الحرمة ذاتاً لموارد الاضطرار فيتمسك بإطلاق الأمر بلا محذور وهذا الاعتراض مشترك الورود يرد على التقرب الأول لمدعى الميرزا أيضاً حتى إذا قبلنا عدم التبعية بين الدلالتين في الحجية. ويرد على هذه المقدمة في هذا التقريب أيضاً بأنَّ حديث الرفع لا يثبت الملاك في مورد الاضطرار لأنه ككل أدلة الرفع ترفع التكاليف ولا تثبت شيئاً أي تدل على انه لو كان هناك مقتضي للإلزام في موارد التسعة قد رفعه الشارع منة على عبادة ، امّا هل هناك بالفعل مقتضٍ أم لا؟

فهذا لا تثبته أدلة الرفع وانما لا بدَّ في إثباته من التمسك بدليل الإلزام والمفروض سقوط مدلوله المطابقي ، على انَّ التعبير بالرفع


الأصلح بحال العباد والأسهل لهم.

امّا المقدمة الثانية فبكلتا صيغتيها غير تامة ، فانه بعد أَنْ كان اجتماع المصلحة والمفسدة في مادة الاجتماع ممكناً في نفسه ففي المورد الّذي يكون المكلف مضطراً إلى ارتكاب ما فيه مفسدة الحرام ـ كاستعمال الماء المغصوب ـ سوف يأمره المولى بتطبيقه على ما يكون مصداقاً للواجب ـ كالوضوء به ـ ولو فرض مبغوضيته في نفسه ، إذ في طول الاضطرار إليه يدور الأمر بين تحصيل مصلحة الواجب أو تفويتها مع وقوع المفسدة على كل حال ، ولا إشكال انَّ تحصيلها أفضل للمولى واقرب إلى نفسه فيقع مطلوباً وقابلا للتقرب به إلى المولى.

وهذا وإِنْ رجع بحسب الروح إلى ارتفاع المبغوضية الفعلية عن مادة الاجتماع في حالة الاضطرار ولكنه لا ينافي الاستظهار المزعوم في حديث الرفع.

فالصحيح : ما عليه المشهور من انَّ المانعية تسقط بسقوط الحرمة وهذا هو البحث في الكبرى.

وامّا الكلام في الصغرى أعني الصلاة في المكان المغصوب ، فتارة : يفترض ابتلائه بالمكان المغصوب في تمام الوقت ، وأخرى : يفترض خروجه منه قبل انتهاء الوقت ، وثالثة يبحث عن فرض إمكان الخروج له بعد أَنْ أُلقي اضطراراً في ذلك المكان.

امّا الحالة الأولى ـ فالمعروف انها صغرى للكبرى المتقدمة ، إذ المكلّف لا بدَّ وان يمارس عمل الغصب امّا ضمن الأفعال الصلاتية بناء على اتحادها كلاً أو بعضاً مع الغصب وإمّا ضمن تصرفات أخرى ليست مصداقاً للواجب ، فتصح منه الصلاة وتجب بعد سقوط الحرمة بالاضطرار.

وذهب بعض المحققين إلى انَّ التصرف الصلاتي يزيد على المقدار المضطر إليه من الغصب ، فانه لو بقي ساكنا من دون ركوع وسجود كان تصرفه في الغصب أقل ، وعليه تكون الزيادة محرمة حيث لا اضطرار إليها فتقع الصلاة فاسدة.

__________________

وسياق الامتنان لا يتوقفان على ثبوت مقتضي الحرمة بمعنى المبغوضية بل يكونان بلحاظ ثبوتها لو لا الرفع ملاكا وخطابا بنحو القضية الشرطية كما كان في الأمم السابقة ، أو ثبوت الملاك دون المبغوضية ، بل رفع الحرمة خطاباً وملاكاً في المقام هو الأوفق للامتنان على العبد في خصوص المقام لأنه يمكنه حينئذ تطبيق الواجب على مادة الاجتماع.


وقد ناقش في ذلك صاحب الجواهر ( قده ) : بأنَّ الغصب امّا يكون بإشغال الحيز من المكان المغصوب أو بإلقاء الثقل على الأرض المغصوبة وشيء منهما لا يزداد بصلاة المكلف ، فانَّ ما يشغله من الحيز في الفضاء محفوظ على كل حال مهما اتخذ من الإشكال الهندسية ، كما انَّ الثقل أيضاً لا يختلف بالقيام أو القعود أو السجود.

والحق مع صاحب الجواهر ، فانْ تخيل انَّ البقاء ساكنا أقل تصرفا في الغصب مبنيٌ على أحد تصورين كلاهما باطل.

الأول ـ انَّ الساكن يرتكب حراماً واحداً هو الجلوس مثلاً في المكان المغصوب وامّا إذا جلس مرة وركع أخرى وقام ثالثة ارتكب محرمات عديدة.

والجواب ـ انَّ الجلوس المستمر أيضا انشغالات عديدة في المكان المغصوب فليس حراماً واحداً بل محرمات عديدة بعدد آنات الانشغال بالجلوس ، وإلاّ لما اختلف حال الجلوس لحظة والجلوس سنة في المكان المغصوب في مقدار الحرام ، وليس ذلك إلاّ من أجل انَّ الانشغال في كل آن حرام مستقل ، وفي المقام اما أَنْ يأتي المكلف بفردين مماثلين من الانشغال في المكان المغصوب فيجلس ويجلس أو بفردين متغايرين فيقوم ويجلس فلا فرق بينهما في مقدار الحرام.

الثاني ـ انَّ الاشتغال بالصلاة يشتمل على الحركة من السكون إلى السكون وكلاهما حرام بخلاف أَنْ يجلس دائما فالكون ثابت دون حركة زائدة محرمة.

والجواب : انَّ الكون المتحرك ليس بأشد أو أكثر تصرفا من الكون الثابت.

واما الحالة الثانية ـ فبان يفرض ارتفاع الاضطرار قبل انتهاء الوقت ، وحكم هذه الحالة بناء على ما تقدم في الحالة الأولى جواز الصلاة في المكان حتى مع علمه بالخروج بعد ساعة ، إذ المفروض عدم لزوم تصرف زائد بالصلاة الاختيارية.

وامّا الحالة الثالثة ـ فيجب عليه فيها الخروج فوراً تخلّصا من الغصب وليس له أَنْ يمارس أي عمل يؤخره عن الخروج ويعطله ، فلو كان بإمكانه أَنْ يصلي حين الخروج صلاة اختيارية كما إذا كان راكباً في عربة وبإمكانه أَنْ يصلي صلاة اختيارية حال سيرها ـ جاز له أَنْ يصلي دون فرق بين ضيق الوقت وسعته ، لأنه على كل حال مضطر إلى هذا المقدار من الغصب ، وامّا إذا كانت صلاته الاختيارية تعيقه عن الخروج


سريعاً وفوراً فلا يجوز ولا تصح منه الصلاة مع سعة الوقت ، ومع ضيق الوقت عليه أَنْ يصلّي الصلاة الاضطرارية ولو بالإيماء.

« الصلاة في المغصوب اضطراراً بسوء الاختيار »

المقام الثاني : فيما إذا كان دخوله في المكان المغصوب بسوء اختياره. والكلام هنا تارة : في حكم الخروج ، وأخرى : في حكم الصلاة حين الخروج. فالبحث في مرحلتين :

المرحلة الأولى في حكم الخروج ، ولا إشكال في لزوم الخروج على المكلّف فوراً ففوراً لئلا يرتكب حراماً زائداً إِلاّ انَّه يبحث في حكم هذا الخروج من ثلاث جهات :

الجهة الأولى : في حرمة هذا الخروج ومقدارها ، ولا إشكال في تمامية مقتضي الحرمة فيه لكونه تصرفا في مال الغير بدون اذنه ، إذ لا فرق بين أَنْ يكون التصرف بحركة دخول أو بحركة خروج وكلا التصرفين كان حراماً عليه من أول الأمر وكان تحت قدرته الاجتناب عنهما إذ كان بإمكانه أَنْ لا يدخل في المكان المغصوب.

نعم لا بدَّ من الالتزام بأنَّ النهي عن الخروج وحرمته يسقط بالدخول ، لأنَّ بقاءه غير معقول ، إذ النهي والأمر انما يكونان بداعي الزجر والبعث وبعد الدخول وفي طوله يمتنع زجر المكلف ، إذ ما ذا يريد المولى من تحريم الخروج؟ هل يريد أَنْ يزجر المكلف عن الخروج ويضطره إلى عدم الخروج؟ فهذا تصرف أكثر في الغصب ، أو لا يريد توجيه المكلف وزجره بهذا النهي؟ فهذا خلف كون التكليف بداعي المحركية وتوجيه المكلف ، ولا ترد هنا قاعدة انَّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار ، فانَّ مضمون هذه القاعدة صحيح ولكن لا ربط له بما ذكرناه ، فانَّ معناها انّ تولد إيجاب أو امتناع من فعل اختياري لا ينافي كون الفعل من نتائج ذاك الاختيار ، فالمؤثرية التكوينية للاختيار غير مشروطة بعدم وجود حلقة وسطى تسمى بالإيجاب أو الامتناع ، وهذا امر واقعي لا مجال لإنكاره ، ويترتب عليه اختيارية الفعل من الناحية الفلسفية وتحمل الفاعل للمسئولية والتبعة ، إِلاّ انَّ هذا لا ربط له بأنَّ تعلق النهي بفعل في كلّ آن فرع


أَنْ يمكن للمولى أَنْ يوجه اختيار المكلّف بلحاظه في ذلك الآن ، وإِلاّ لم يكن النهي معقولاً بل لم يكن نهياً على بعض المباني.

فالصحيح : لزوم سقوط النهي عن الغصب بالخروج بعد الدخول ، إلاّ انَّ هذا السقوط سقوط عصياني ناشئ عن تفويت غرض المولى من قبل المكلف اختياراً ، ولهذا يستحق عليه العقاب ، وما ذكره الميرزا ( قده ) من عدم انطباق القاعدة في المقام بلحاظ العقاب واضح الجواب ولا يستحق التعرض إليه.

الجهة الثانية ـ في وجوب الخروج وهنا تارة : يدعى وجود مقتضٍ للوجوب النفسيّ للخروج ، وأخرى : يدعى وجود مقتضٍ للوجوب الغيري له.

امّا الدعوى الأول فتقريبها : انَّ الإنسان يجب عليه أَنْ يسلّم مال الغير إليه والخروج وإِنْ كان تصرفاً في الغصب إلاّ انه من زاوية أخرى تسليم للمال إلى صاحبه وتلخيص له ، وقد وقع النزاع بين السيد الأستاذ وشيخه في انَّ عنوان التخليص هل يصدق على الخروج أم لا؟

والصحيح : عدم تمامية هذه الدعوى سواءً صدق عنوان التخليص على الخروج أم لا ، فانَّ عناوين تسليم المال أو تخليصه أو رده إلى صاحبه ونحو ذلك كلها معرفات للزوم اجتناب الغصب وحرمته ، فليس وراء الحكم بحرمة التصرف في الغصب حكم نفسي آخر فلا مقتضي لوجوب الخروج نفسياً.

وامّا دعوى وجوبه الغيري ومن باب مقدميته لترك الحرام فتارة : يبحث عنها صغروياً ، أي في إثبات مقدمية الخروج لواجب هو ترك الحرام ، وأخرى : يبحث عنها كبروياً وانَّ مثل هذه المقدمة هل تكون واجبة أم لا؟

امّا البحث الصغروي فقد ذُكر بيانان لإثبات عدم التوقف والمقدمية.

البيان الأول ـ ما هو ظاهر تقريرات بحث الأستاذ من انَّ الخروج مقدمة للكون خارج المكان المغصوب وهذا العنوان ليس واجباً وانما هو ملازم مع الواجب الّذي هو ترك الحرام ، لأنَّ ترك الحرام أمر عدمي والكون خارج الدار أمر وجودي فيستحيل أَنْ يكون أحدهما عين الآخر.

وهذا البيان غاية ما يثبت انَّ الكون خارج الدار المغصوبة الّذي هو أمر وجودي


ليس عين ترك الحرام العدمي ، وهذا المقدار لا يمنع أَنْ يكون الخروج مقدمة لكلا الأمرين المتلازمين الوجوديّ والعدمي معاً.

البيان الثاني ـ ما ذكره المحقق الأصفهاني ( قده ) من انَّ الخروج ضد البقاء وقد تقدم في بحث الضد أنَّ أحدهما لا يمكن أَنْ يكون متوقفاً على عدم الاخر ، بل كون أحدهما مقدمة لترك الاخر أوضح بطلاناً من توهم توقف أحدهما على ترك الاخر.

وهذا البيان رغم فنيته فيه مغالطةٌ فانَّ الضدين لا مقدمية ولا توقف بينهما بلحاظ آن واحد للدور وامّا كون فعل ضد في مورد موجباً وسبباً لعدم ضده في آن اخر فيما بعد فلا موجب لاستحالته بل هو أمر معقول ، كما إذا افترضنا شخصاً مريضاً ضعيف الحال يكون فعله للإزالة الآن مانعاً عن قدرته على الصلاة حتى بعد هذا الآن وأي محذور في ذلك؟

وفي المقام المدعى انَّ الخروج الآن مقدمة لعدم الغصب في الآن اللاحق الّذي هو أيضاً واجب على المكلف.

واما ما يذكر كبرهان على المقدمية فيتألف من مقدمتين :

الأولى ـ انَّ الخروج لا إشكال في انه مقدمة للكون خارج الدار وهو ملازم مع ترك الغصب الحرام.

الثانية ـ انَّ الأمرين المتلازمين لا بدَّ وأَنْ يكون التلازم بينهما ناشئاً من علّية أحدهما للآخر أو كونهما معلولين لعلّة ثالثة ، إذ لو كان لكل منهما علّة مستقلة لزم إمكان انفكاكهما ، وفي المقام لا يمكن افتراض انَّ أحدهما علّة للآخر (١).

فلا بدَّ من فرض انهما معلولان لعلّة ثالثة وهو الخروج وهذا يعني مقدمية الخروج لترك الحرام.

وقد اعترض على هذا البرهان المحقق الأصفهاني ( قده ) باعتراضين :

الاعتراض الأول ـ انّ التلازم بين الكون خارج الدار وعدم الكون داخله لم ينشأ من علّية أحدهما للآخر أو معلوليتهما لعلّة ثالثة بل نشأ من ناحية التمانع والتضاد فيما بين

__________________

(١) ولو فرض التوقف ثبت المطلوب أيضاً وهو مقدمية الخروج ، لأنَّ مقدميته لأحدهما مسلمة بحسب الفرض.


الكونين ، حيث يضيق عالم التكوين عن استيعابهما معا في آن واحد.

وهذا الكلام كأنه استثناء عن القاعدة التي ذكرناها وانه قد ينشأ التلازم بين شيئين من ضيق خناق عالم التكوين.

والجواب : انَّ هذا غير معقول لما تقدم في بحث الضد من انَّ مقتضي أحد الضدين بنفسه مانع عن الضد الاخر وعلّة لإعدامه وبتعبير اخر : انَّ التمانع والتضاد الذاتي بين الضدين يؤدي إلى أَنْ يكون مقتضي أحدهما مزاحماً ومانعاً عن الاخر لا محالة.

الاعتراض الثاني ـ انا وإِنْ سلّمنا انَّ المتلازمين لا بدَّ وأَنْ يكون أحدهما معلولاً للآخر أو كلاهما معلولين لعلّة ثالثة لكن لا يلزم أَنْ يكون تمام اجزاء علّة أحدهما تمام اجزاء علّة الاخر بل يكفي أَنْ يكون المقتضي لأحدهما علّة تامة للآخر مع فرض انَّ هذا المقتضي بنفسه علّة للجزء الآخر من علّة الأول ، والمقام من هذا القبيل حيث انَّ الكون خارج الدار مع عدم الكون داخل الدار متلازمان ولكن علّة الأخير هو عدم إرادة البقاء في الدار لأنَّ إرادة الكون في الدار علّة له فعدمها علّة عدمه وعدم إرادة البقاء في الدار ملازم مع إرادة الكون خارج الدار المعلولين لأقوائية مصلحة الكون خارج الدار وهو مقتضي للكون خارج الدار لا علّة تامة ، إذ لا بدَّ علاوة عليه من شرط أو مقدمة إعدادية هو الخروج من الدار. وهكذا يكون الخروج مقدمة لأحد المتلازمين دون الاخر (١).

وهذا الاعتراض غير تام أيضاً فانَّ مجرد عدم إرادة الغصب ليس علّة لعدم البقاء في الدار المغصوبة لمن هو في الدار فعلاً بل لا بدَّ إضافة على ذلك أَنْ يتحرك نحو خارج الدار وإلاّ كان بحكم القواسر الطبيعية باقياً في الدار المغصوبة ، نعم من ليس في الدار فعلاً قد يكفي في حقه أَنْ لا يريد الكون في الدار بناء على انَّ الإرادة علّة للمراد فعدمها علّة عدمه. وهكذا يثبت انه لا ينبغي الإشكال في المقدمية في المقام (٢).

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ١ ، ص ٢٨٧

(٢) قد يقال : انَّ الخروج وإِنْ كان مقدمة للكون خارج الدار وكذلك لعدم الكون في الدار بقاءً إلاّ أنَّ حيثية الخروج تعني الحركة نحو خارج الدار لمن هو في الدار وهذا فعل آخر غير الحرام الّذي هو الكون في الدار المغصوبة والّذي هو ضد الكون خارجه فالمكلف سواءً تحرك أم لم يتحرك داخل الدار كان الحرام متحققاً منه وهذا يعني انَّ ما هو الحرام ليس مقدمة لترك الحرام في الآن الثاني فانَّ المكث في الدار في الآن الأول لا يكون مقدمة للكون خارج الدار أو ترك الكون داخل الدار في الآن الثاني وما هو


واما البحث عن الكبرى أعني إمكان اتصاف الخروج بالوجوب الغيري ، فقد استشكل فيه المحقق الخراسانيّ ( قده ) وروح كلامه : (١) انَّ ترشح الوجوب الغيري على المقدمة مشروط بقابلية المحل بأن يكون مباحاً ، امّا ذاتاً كما في المقدمة المباحة ، أو عرضاً وفي طول سقوط الحرمة عنها بملاك شرعي كما في موارد المقدمة المحرمة المنحصرة لواجب أهم ، وامّا إذا كانت المقدمة محرمة ولم ترتفع حرمتها بل كانت معصية ـ ولو فرض سقوط الحرمة خطاباً بالعصيان ـ فلا قابلية فيها للإباحة ومعه لا يترشح الوجوب عليها ، لأنَّ العقل انما يدرك الملازمة بين حب شيء وحب مقدمته القابلة للإباحة المولوية ، ولا يتوهم : انَّ هذا تخصيص لحكم العقل بالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدماته. فانَّ وجوب المقدمة لم يثبت ببرهان عقلي بل بالرجوع إلى الوجدان النفسيّ القاضي بأنَّ من أحبّ شيئاً أحبّ مقدمته ، ومن الواضح انَّ الوجدان لا يثبت أكثر من ترشح الحب على ما يمكن أَنْ يكون مباحاً من المقدمات لا ما يكون حراماً وعصيانا ، فيبقى الخروج في المقام مبغوضا ومحرما رغم وقوعه مقدمة للواجب (٢).

الجهة الثالثة ـ في علاج بعض المشاكل التي تثار بناء على الفراغ في الجهتين السابقتين عن تمامية مقتضي الحرمة والوجوب معاً بالنسبة إلى الخروج من الدار المغصوبة ، والمشاكل الرئيسية مشكلتان :

إحداهما ـ كيفية التوفيق بين الحرمة والوجوب في موضوع واحد.

والثانية ـ كيفية التوفيق بين حرمة الخروج ووجوب ذي المقدمة المترتب عليه وهو

__________________

المقدمة وهو التحرك نحو الخارج ليس بحرام.

نعم لو جعلنا الخروج فرداً آخراً للغصب غير المكث أمكن أَنْ يقال بأنَّ فرداً من الغصب يصبح مقدمة لترك الفرد الاخر في الآن الثاني.

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ٢٦٤

(٢) هذا منبه آخر على عدم وجوب المقدمة كما ذكرنا في محله ، فانَّ قابلية المحل للإباحة إذا أُريد بها الإباحة بقطع النّظر عن مبادئ الوجوب النفسيّ فالمقدمة المحرمة لا بسوء الاختيار أيضاً لا تكون مباحة بقطع النّظر عن الواجب النفسيّ ، وإِنْ أُريد بها الإباحة في طول مبادئ الوجوب وبلحاظ ما يترشح منها فهذا ثابت في المقام أيضاً.

نعم هنا مطلب آخر جدير بالاهتمام هو انَّه في المقام لا يوجد محبوب نفسي بل غاية الأمر توقف ترك الحرام الأهم في الآن الثاني على الخروج في الآن الأول الّذي هو حرام أيضا ، وترك الحرام محبوب تبعي ومن باب انَّه ضدّ عام ولا يترشح حبّ غيري إِلاّ من المحبوب النفسيّ ، وعليه يدور الأمر بحسب الحقيقة بين مبغوضين ويأمر المولى بأخفهما لا انَّ هناك اجتماعاً للأمر والنهي بلحاظ المبادئ.


الكون خارج الدار ، أو بتعبير أدق عدم الكون في الدار في الآن الثاني.

امّا المشكلة الأولى ـ فقد يوفق بين حرمة الخروج التي أثبتناها في الجهة الأولى ووجوبه الغيري المدعى في الجهة الثانية بأنَّ الحرمة تثبت في الآن الأول أي قبل الدخول في الدار ، وامّا بعد أَنْ دخل المكلف بسوء اختياره إلى الدار سقطت الحرمة وجاء دور الوجوب الغيري فلم يجتمعا في زمان واحد.

وفي قبال هذا البيان يوجد تقريبات للإشكال :

التقريب الأول ـ انَّ غاية ما يثبت بهذا الجواب إمكان التوفيق بين الحرمة والوجوب في مرحلة الخطاب إلاّ انَّ التنافي بين الأحكام التكليفية بحسب الحقيقة ليس بلحاظ مرحلة الخطاب بل بلحاظ مرحلة المبادئ وعالم الحب والبغض ، ومن الواضح انَّ المبغوضية وملاك الغصب ثابت في المقام إذ لم تنسخ أو تقيد حرمة الغصب بالغصب الدخولي دون الخروجيّ.

والجواب ـ انا نلتزم بأنَّ المبغوضية تقع تحت الشعاع بعد الدخول لطروّ مصلحة فيه أقوى من المفسدة بالدخول وهي مصلحة الخروج من الغصب الأكثر ، فتكون المحبوبية الغيرية هي الفعلية ـ لو قيل بها في المقام ـ وتزول المبغوضية بعد الكسر والانكسار فعلاً مع بقائها شأناً.

التقريب الثاني ـ انَّ اجتماع الوجوب والحرمة على فعل واحد في زمانين وإِنْ كان لا يلزم منه محذور اجتماع الضدين ولكنه يلزم منه الجهل مع وحدة زمان المتعلق ، فانَّ المولى من أول الأمر عند ما يلاحظ الخروج بعد الدخول فاما أَنْ يرى فيه المفسدة فيحرمه أو يرى فيه المصلحة فيوجبه ، امّا انْ يحرمه قبل الدخول ثم يوجبه بمجرد أَنْ يدخل فيلزم منه جهل المولى بواقع الحال أو عدم كون التحريم الأول جدياً ومن أجل الزجر والمنع ، وهذا هو الّذي ذكره صاحب الكفاية وشرحه الأستاذ وأفاد في توضيحه :

انَّ مثل هذا انما يعقل في الأحكام الوضعيّة كالملكية مثلاً ، فانه يمكن جعل مال لزيد يوم السبت ثم يجعل نفس ذلك المال يوم الأحد لعمرو من يوم السبت وهو المسمّى عندهم بالكشف الحكمي ـ لأنَّ الملاك والمصلحة في مثل هذه الأحكام الوضعيّة قائم بنفس الاعتبار فيمكن اعتبار معتبر سابق ، واما في الأحكام التكليفية فحيث انَ


الملاك في المجعول لا في الجعل فلا يعقل انَّ المولى يحرم شيئاً من أول الأمر ثم يوجبه بعد الابتلاء به فانَّ المولى من أول الأمر امّا ان يجد في هذا الفعل الواحد مصلحة غالبة أو يجد فيه مفسدة ، فعلى التقدير الأول لا معنى لجعل التحريم وعلى الثاني لا معنى لجعل الإيجاب.

والجواب ـ إِنَّه يرى فيه مفسدة ومصلحة غالبة مشروطاً بالدخول حيث انَّ الدخول من شرائط الاتصاف كما لا يخفى. ولكن لا في مركز واحدٍ بل في مركزين ، لأنَّ للخروج عن الدار المغصوبة بابين للعدم ، عدمه بعدم الدخول وعدمه بعد الدخول المستلزم للبقاء في الدار المغصوبة.

والمولى يرى انَّ مفسدة الغصب تقتضي فتح أحد هذين البابين ـ الجامع بينهما لكي ينعدم المبغوض بأحدهما ـ وهذا المقتضي يعين فتح باب العدم الأول أي عدم الخروج بعدم الدخول لتمامية المقتضي فيه وعدم المانع وهو معنى تحريم الخروج قبل الدخول ، ولا تزاحمه مصلحة الخروج بعد الدخول إذ لا مصلحة في غلق هذا الباب وانما المصلحة في غلق الباب الثاني لعدم الخروج الّذي يساوق البقاء في الغصب ، وباعتبار انها مصلحة غالبة على مفسدة الخروج يأمر المولى بغلقه لا محالة.

وهو معنى إيجاب الخروج على تقدير الدخول (١).

__________________

(١) ولا يقاس هذا بالأمر بشيء قبل وقته ثم إلغاؤه حينه فانّه هناك قد الغى الحكم من قبل المولى نفسه فإذا كان المولى ممن لا يعقل في حقه البداء والجهل لم يكن يعقل منه ذلك بخلاف المقام الّذي يكون سقوط النهي عن التصرف الخروجيّ من قبل المكلف بالتعجيز والدخول عصياناً لأنه يضطر حينئذ إلى هذا المقدار من التصرف في الغصب بالمكث أو الخروج على كل حال فهو يفوت على المولى اجتناب المفسدة الموجودة في هذا الجامع بالدخول في الغصب ، وهذا يعني انَّ النهي عن الخروج الثابت قبل الدخول يستوفي فاعليته المولوية في صرف المكلف عنه بصرفه عن الدخول ولا ينافيه وجوب الخروج مشروطاً بالدخول سواءً كان إيجاباً بملاك تعيين أخف الضررين أو بملاك المقدمية لترك حرام أهم أو بملاك نفسي فيه كما إذا انطبق عليه عنوان واجب كذلك ، لأنَّ هذا الإيجاب على كل حال مشروط بالدخول بنحو شرط الوجوب والاتصاف ففاعليته ومحركيته لا تقتضي تحقيق الشرط فلا تنافي فاعلية الحرمة المطلقة والتي تدعو إلى اجتناب مفسدة الخروج بترك الدخول الّذي يكون فيه ارتفاع لشرط المصلحة فلا يكون قد فوت المصلحة ولا وقع في المفسدة.

وهذا أمر واقع كثيراً عرفاً كمن يبغض شرب الدواء في نفسه ولكنه على تقدير المرض يحب شربه ولو لدفع ألم المرض وأثر كرهه للدواء التجنب عن الوقوع في المرض وهو معنى محركية كرهه للدواء.

قد يقال : كيف يعقل مبغوضية أو حرمة فعل لو حققه المكلف وقع محبوباً وواجباً إذ لو كان فرض وقوعه هو فرض عدم البغض والحرمة كما في المقام استحال أَنْ يتعلق به بغض أو حرمة.


وهكذا يتبرهن انه لا محذور ثبوتي في الجمع بين تحريم الخروج قبل الدخول وإيجابه بعده ، كما ذهب إليه صاحب الفصول ، بل هو المتعين بناء على مقدمية الخروج لواجب أهم ، كما إذا قبلنا الصغرى والكبرى في الجهة السابقة أو افترضنا انَّ الخروج وقع مقدمة صدفة لواجب أهم كما لو توقف إنقاذ الغريق على خروجه من الأرض المغصوبة التي دخلها بسوء اختياره مع وجود أرض مباحة فتأمل جيداً.

وامّا المشكلة الثانية ـ أعني المنافاة بين حرمة الخروج ووجوب الكون خارج الدار أو ترك الغصب في الآن الثاني فهذه المنافاة يمكن أَنْ تقرب بوجوه.

الوجه الأول ـ انَّ حرمة الخروج إذا تقدم على وجوب الخروج الغيري فهذا الأخير معلول لوجوب ذي المقدمة النفسيّ ، والتفكيك بين العلّة والمعلول غير ممكن فتسري المنافاة إلى وجوب ذي المقدمة.

والجواب : بما ذكرناه سابقا من انَّ الخروج وإِنْ كان مقدمة ولكنه لا يتصف بالوجوب الغيري في المقام ، ولو فرض ترشح الوجوب عليه يلتزم بسقوط الحرمة بعد الدخول كما شرحناه في دفع المشكلة الأولى.

الوجه الثاني ـ انَّ إيجاب ذي المقدمة غير معقول لاشتراط مقدوريته عقلاً وشرعاً ، أي أَنْ لا يكون ممنوعاً عنه أو عن مقدمته المنحصرة شرعاً ، وفي المقام إذا فرض حرمة الخروج فكيف يمكن إيجاب ما يترتب عليه؟.

بل هذا الوجه يجري حتى لو أنكرنا مقدمية الخروج ، فانه لو لم يكن مقدمة فعلى كل حال ملازم مع ذي المقدمة ولا يعقل الأمر بشيء والنهي عن ملازمه.

والجواب ـ أولاً ـ انَّ هذا الإيجاب من قبيل إيجاب ذي المقدمة على تقدير عصيان مقدمته المحرمة الأهم بنحو الترتب والّذي لا ينافي حرمة المقدمة ، وبعبارة أخرى :

اللازم عقلا في صحة الأمر بشيء أَنْ يكون المكلف قادراً عليه على تقدير الانقياد وفي

__________________

فانه يقال : إِن كان ذلك من جهة التضاد بين الحب والبغض والوجوب والحرمة فقد عرفت انَّ المستحيل اجتماعهما في زمان واحد أي لا بدَّ وأَنْ يكون متعلق البغض والحرمة مبغوضاً حين فعلية الحب والحرمة وهذا حاصل في المقام إذ قبل الدخول يكون الخروج مطلقاً أي حتى الخروج المقيد بالدخول مبغوضا ليس غير لأنَّ تحقق الدخول شرط في الاتصاف بالمحبوبية ، وإِنْ كان ذلك من جهة عدم الفائدة وعدم المحركية فقد عرفت انَّ النهي لا بدَّ وأَنْ يحرك نحو عدم تحقق المبغوض حين هو مبغوض أي قبل الدخول وبهذا تحفظ المصلحة برفع شرط الاتصاف بها وتجنب المفسدة.


المقام المكلف بعد أَنْ دخل الأرض المغصوبة فلو أراد أَنْ يكون منقاداً لا يكون خروجه مخالفا مع انقياده للمولى بل الخروج بعد الدخول من لوازم الانقياد وحفظ مصلحة الواجب المترتب عليه فيكون الأمر بذي المقدمة صحيحاً وإِنْ كانت مقدمته تقع معصية للنهي الثابت أولاً والساقط بعد الدخول.

وثانيا ـ ما ذكره في الكفاية من انه لو سلم انَّ ذا المقدمة غير مقدور فغايته سقوط الأمر به من باب عدم القدرة عليه ، لكن حيث انَّ عدم القدرة هذا ناشئ من سوء اختيار المكلف فلا ينافي مسئوليته تجاه ترك ذي المقدمة فيعاقب عليه كما يعاقب على المقدمة ، فالنتيجة ثابتة على كل حال.

الوجه الثالث ـ انَّ ارتفاع حرمة الخروج بعد الدخول لم يكن من باب العدول والبداء بل من قبيل الرفع العصياني ، والرفع العصياني ليس معناه انتفاء الغرض بل ثبوته وسقوط الخطاب لعدم الجدوى فيه ، وحينئذ يكون الأمر الفعلي بذي المقدمة نقضا لهذا الغرض الفعلي للحرام.

والجواب : يظهر بما أجبنا به عن الوجه السابق فانَّ الأمر بذي المقدمة لا يكون ناقصا لغرض الحرام الّذي نقضه المكلف وعصاه بسوء اختياره وانما يعيِّن أسلوب النقض وأَنْ يكون مكثه في الأرض المغصوبة خروجياً لا بقائياً ، والجامع بين المكثين ثابت على كل حال وتعيين الجامع في المكث الخروجيّ لا يكون نقضاً لغرض زائد.

المرحلة الثانية ـ في حكم الصلاة حال الخروج.

وهنا فرضيتان :

الفرضية الأولى ـ أَنْ لا يتمكن المكلف من الصلاة بعد الخروج لضيق الوقت.

الفرضية الثانية ـ أَنْ يتمكن من الصلاة خارج المكان المغصوب ولو بالإتيان بالوظيفة الاضطرارية.

امّا الفرضية الأولى : ـ فعلى القول بجواز اجتماع الأمر والنهي تقع الصلاة صحيحة على كل حال ، ولكن لو فُرض انَّ صلاته الاختيارية توجب مزيد مكث له وتصرف في الغصب تعين عليه تكليفاً الاقتصار على الصلاة الاضطرارية تقديماً لجانب الحرام وإِنْ كانت صحيحة إذا خالف بملاك الترتب.


واما على القول بالامتناع ، فتارة : يكون المجمع فعل السجود فقط من افعال الصلاة. وأخرى : يفترض الاتحاد في تمام أكوان الصلاة.

فعلى الأول يتعين على المكلف الصلاة مع الإيماء للسجود حتى إذا لم يلزم من الصلاة الاختيارية مكث زائد ، لحرمة السجود ومبغوضيته المانعة عن الصحة بحسب الفرض ، وهذا أحد الفرقين بين هذا القول والقول بالجواز ، فانّه بناء عليه كانت تجب الصلاة الاختيارية لو لم يلزم منها مكث زائد ـ كما إذا كان يصلّي في العربة ـ والفرق الاخر : انه لو جاء بالصلاة الاختيارية ـ ولو مع المكث الزائد المحرم ـ تصح على القول بالجواز ، للأمر الترتبي ، وتبطل على القول بالامتناع ، لعدم إمكان الترتب بناء عليه.

وعلى الثاني ـ مقتضى القاعدة الأولية صحة الصلاة وسقوط الأمر رأساً ، لأنَّ المكلف منذ البداية كان أمامه دليلان دليل حرمة الغصب دخولاً ومكثاً وخروجاً ودليل الأمر بالصلاة ، وبعد التعارض بلحاظ مادة الاجتماع وتقديم جانب النهي تقيد دليل الأمر بالصلاة في المكان المباح ، وحيث انَّ دخوله في المكان المغصوب كان بسوء اختياره وكان يمكنه أَنْ يصلّي في مكان مباح ويجتنب الغصب فقد عجَّز نفسه عن امتثال كلا الخطابين وسقط الخطابان سقوطاً عصيانياً هذا هو مقتضى القاعدة ، إلاّ انه دلَّ دليل خاص في باب الصلاة بالخصوص على انها لا تسقط بحال فلا بدَّ من الإتيان بها ويكون هذا الدليل الخاصّ هو دليل وجوبها وصحتها.

وقد ذكر جملة من المحققين هنا : بأنَّ هذا الدليل بنفسه يدل على عدم مبغوضيتها عندئذ ، إذ لا يعقل التقرب بما يكون مبغوضاً ولا يمكن وقوعها عبادة ، وهذا خلف الإجماع.

وفيه : انَّ الالتزام بانتفاء المبغوضية عن هذه الحصة الخاصة من الكون الصلاتي الغصبي إِنْ كان باعتبار انَّ المبغوض لا يعقل التقرب به ، فجوابه : قد اتضح مما سبق ، فانَّ المبغوض إذا كان بديله غير مبغوض فلا يمكن التقرب به فانه كيف يرجح قصد التقرب إلى المولى المبغوض على غير مبغوض ، واما لو فرضنا انَّ البديل الممكن لهذا المبغوض مبغوض أيضا ومبغوضية البديل تكون أكثر فحينئذ يعقل التقرب إلى المولى بالأقل مبغوضية ، فانَّ التقرب بشيء معناه ترجيحه على بديله لأجل المولى ، ومقامنا


من هذا القبيل فانَّ للصلاة الغصبية لا يكون إلاّ الغصب المحض الّذي يكون متمحضا في المفسدة وغير واجد للمصلحة أصلاً وهو أشد مبغوضية فيكون التقرب باختيار الأقل مبغوضية معقولا.

وإِنْ كان الالتزام بانتفاء المبغوضية لأجل عدم الوقوع في محذور اجتماع المبغوضية مع الوجوب فالجواب : اننا نلتزم بعدم المحبوبية ، فانَّ وجوب الصلاة ثبت هنا بمثل الإجماع ولا مأخذ لاشتراط المحبوبية وراء الأمر في المقام لا ثبوتا ولا إثباتا.

امّا ثبوتا فلأنَّ الأمر والإيجاب كما ينشأ من المحبوبية كذلك قد ينشأ من داعي تخفيف المبغوضية وترجيح أقل الضررين ، فلعل مقامنا من هذا القبيل.

واما إثباتاً فلأنَّ الأمر لو كان ثابتاً بالأدلة اللفظية جاء فيه الاستظهار العام فيكون ظاهره عرفا نشوء الأمر عن المحبوبية ، واما حيث يكون الدليل لبّياً كالإجماع أو التسالم فلا يثبت إلاّ أصل الوجوب والأمر مع الملاك بمعنى المصلحة أو قلة المفسدة والمبغوضية لا المحبوبية.

لا يقال ـ يوجد دليل لفظي أيضاً مثل ما دلَّ على انه ( لا تدع الصلاة على حال فانها عماد دينكم ) (١) فيدل على نشوء الوجوب والأمر من المحبوبية في هذا الحال أيضا.

فانه يقال ـ انَّ مثل هذه الأدلة اللفظية لو تمت فمدلولها انَّ المولى لا يرفع يده عن امره بالصلاة بمجرد العجز عن بعض أفعالها بحيث يبقى المكلف لا ممتثلاً ولا عاصياً ، ففي كل مورد يكون عدم الأمر معناه انَّ المكلف لا يعتبر عاصياً بترك الصلاة يمكن التمسك بهذا الخطاب لأنه جاء لإثبات الأمر من قبل المولى وانَّ المولى لا يرفع اليد عن امره من قبله ، وامّا إذا كان المولى لم يرفع يده عن امره وانما المكلف عصى امر المولى وعجز نفسه كما في المقام أو من أخَّر صلاته اختياراً إلى اخر الوقت بركعة فانه لا تشمله هذه الخطابات وانما ينحصر دليله بالإجماع وشبهه.

وهكذا يثبت وجوب الصلاة بناء على الامتناع واتحادها مع الأكوان الغصبية.

وهل تثبت عليه وظيفة المختار أو الصلاة الاضطرارية؟

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ٢ ـ ص ٦٠٥ ـ الحديث ـ ٥ ـ


الصحيح انّه إِنْ استلزمت الوظيفة الاختيارية مكثاً زائداً كانت عليه الصلاة الاضطرارية ، إذ لا موجب لرفع اليد عن دليل حرمة المكث الزائد بعد أَنْ كان دليل الوجوب لبّياً ، فتقع الصلاة الاختيارية فاسدة ، واما إذا لم تستلزم الاختيارية مكثاً زائداً محرماً فلا مانع من التمسك بإطلاق دليل جزئية الركوع والسجود وسائر الاجزاء فانها تدل على اشتراطها في كل صلاة تكون وظيفة للمكلف والصلاة هنا وظيفة له بحسب الفرض.

هذا كله بناء على المختار من وقوع الخروج محرما ومعصية للنهي السابق.

واما إذا قلنا بوجوب الخروج نفسياً أو غيرياً وعدم حرمته ، ففي كل مورد لم نكن نقول فيه بوظيفة الصلاة الاختيارية لا نقول به بناء على هذا القول أيضا ، لوضوح انَّ اختيارية الصلاة لا تكون دخيلة في الخروج حتى ترتفع عنها الحرمة وانما ترتفع الحرمة عن الحركة نحو الخروج ولا ترتفع عن تصرفات أخرى لا تكون دخيلة فيه.

وانما يختلف هذا القول عن المختار في انَّ الصلاة حال الخروج بالمقدار الّذي لا يلزم منه مكث زائد كان يثبت هناك بالدليل الخاصّ امّا هنا فيثبت بنفس دليل الأمر بالصلاة لعدم حرمة الخروج بحسب الفرض.

وامّا الفرضية الثانية ـ وهي ما إذا كان متمكنا من الصلاة خارج الدار المغصوبة ، فلو كان يتمكن خارج الدار من صلاة أكمل مما هو وظيفة في الفريضة السابقة تعين عليه ذلك.

وامّا لو لم يكن يتمكن من صلاة أكمل وأحسن حالاً مما كانت وظيفته في الفرضية السابقة أمكنه الاستعجال بل تعين عليه ذلك لو كانت الصلاة في الداخل أحسن حالاً وأكمل من الخارج لو لم يكن مقتضى القاعدة سقوط خطاب الصلاة ، واما إذا كان مقتضي القاعدة ذلك وانما ثبت الوجوب بمثل الإجماع فمن الواضح عدم ثبوت إجماع على صحة الصلاة في الداخل حتى لو فرض انَّ الصلاة في الداخل تكون أكمل منها في الخارج فضلاً عما إذا لم تكن أكمل منها ، فلا بدَّ من الصلاة في خارج المكان المغصوب.

التنبيه العاشر ـ ذكر المحقق صاحب الكفاية انَّ اختلاف الإضافة كاختلاف


العنوان فبناءً على كون الثاني موجبا لجواز الاجتماع فالأوّل أيضاً كذلك ، وقد وقع ذلك مورداً للنقد من قبل المحققين تارة : من حيث الصغرى وانَّ اختلاف الإضافة لا يعقل أَنْ يكون موجبا لاختلاف الحكم ما لم يرجع إلى اختلاف العنوان وأخرى :

من حيث الكبرى وانَّ هذا خارج عن مسألة الاجتماع.

امّا الإشكال في الصغرى فقد ذكره المحقق الأصفهاني ( قده ) بدعوى عدم إمكان دخالة اختلاف الإضافة في اختلاف الحكم لا من حيث الحسن والقبح الذاتيين ولا من حيث المصلحة والمفسدة.

اما الأول فلأنَّ حسن كل شيء وقبحه لا بدَّ وأَنْ يرجع إلى دخول الفعل تحت عنوان العدل الّذي هو حسن بالذات أو الظلم الّذي هو قبيح كذلك ، فان أوجب اختلاف الإضافة اختلاف الفرد في كونه داخلا تحت هذا العنوان أو ذاك العنوان رجع إلى اختلاف العنوان وإلاّ فلا أثر له.

واما الثاني فلأنَّ الإضافات من قبيل الشرط في تأثير المقتضي وليست جزءاً للمقتضي الّذي هو المضاف إليه الواحد بحسب الفرض ، ولا يعقل أَنْ يكون شيء واحد مقتضياً للمصلحة والمفسدة معاً.

وفيه ـ أولاً ـ انَّ ما ذكره من انَّ الحسن والقبح يتبعان عنوان العدل والظلم وإِنْ كان صحيحا على المبنى المشهور القائل بانحصار الحسن بالذات والقبيح بالذات في العدل والظلم ، إلاّ أنَّ هذا لا يعني انَّ امر الشارع ونهيه لا بدَّ وأَنْ يتعلقا بذاك العنوان بل يمكن أَنْ يكون متعلقاً بالإضافة ، والبحث في إمكان اجتماع الأمر والنهي لا الحسن والقبح.

وثانيا ـ لا استحالة في أَنْ يكون فعل واحد ذا مصلحة ومفسدة معاً بلحاظين وإضافتين خصوصا في باب مصالح الأحكام الشرعية.

فيكون إكرام إنسان من حيث كونه عالماً فيه مصلحة ومن حيث كونه فاسقا فيه مفسدة فالإشكال الصغروي لا وجه له.

وامّا المناقشة في الكبرى : فقد ذكر الأستاذ بأنَّ محل الكلام ما إذا تعلق الأمر بعنوان كالصلاة والنهي بعنوان آخر كالغصب ولكن المكلف قد جمع بينهما في مورد


واحد فيقع الكلام في انَّ التركيب انضمامي أو اتحادي ، وامّا موارد تعدد الإضافة مع وحدة العنوان فالنهي فيها يتعلق بعين ما تعلق به الأمر وهو إكرام العالم الفاسق مثلا ، غاية الأمر جهة التعلق تختلف ، ومن الواضح انَّ تعدد الجهة التعليلية لا يوجب تعدد المتعلق فالمتعلق وهو إكرام زيد العالم الفاسق واحد ، وبديهي انه لا يعقل أَنْ يكون فعل واحد واجباً ومحرماً معاً لأنَّ نفس هذا التكليف محال لا انه مجرد تكليف بالمحال وبغير المقدور.

وفيه ـ إِنْ كان نظره إلى مورد تعلق الأمر بالطبيعة بنحو مطلق الوجود ، كما إذا قال أكرم كل عالم ولا تكرم الفاسق فما أُفيد من انه خارج عن مسألة الاجتماع صحيح إلاّ أنَّ هذا لا يختص بما إذا كان الاختلاف بالإضافة بل يجري حتى إذا كان الاختلاف بالعنوان ، كما إذا امر بكل صلاة ونهي عن الغصب.

وإِنْ كان نظره إلى مورد تعلق الأمر بالطبيعة بنحو صرف الوجود ، كما إذا قال ( أكرم عالماً ويحرم إكرام الفاسق ) فأكرم عالما فاسقا فخروج ذلك عن مسألة الاجتماع غير صحيح بل هو داخل فيها أيضاً ، فانَّ كلاً من الملاك الأول والثاني للجواز جار فيه كما يجري في موارد تعدد العنوان ، غاية الأمر التحفظ الثالث الّذي ذكرناه في الملاك الثاني للجواز واضح الانطباق في هذا المقام.

وبهذا نختم البحث عن مسألة اجتماع الأمر والنهي.



بحوث النواحى

اِقْتضاءُ النَّهي لِلفِساد

ـ معني النهي في العبادات

ـ اقسام النهي التحريمي

ـ براهين اقتضاء لفساد العبادة

ـ النهي في معاملات واقتضائه للفساد على مقضى القائدة وعلى مستوى الروايات الخاصة



الفصل الثالث

اقتضاء النهي للفساد

الكلام في اقتضاء النهي للفساد يقع في مسألتين :

النهي عن العبادة

المسألة الأولى ـ في العبادات وانَّ النهي هل يقتضي فسادها أو لا؟.

والمقصود من الفساد هنا عدم الاجزاء في مقام الامتثال بنحو لا يكون مغنياً عن الإعادة أو القضاء في مقابل الصحة بمعنى انَّ العمل يكون مجزياً ومغنياً عن الإعادة والقضاء.

وليس المقصود من النهي هنا النهي الإرشادي الّذي يكون إرشاداً إلى المانعية وفساد العمل ، كالنهي عن الصلاة فيما لا يؤكل لحمه مثلا ، لوضوح انَّ مثل هذا النهي يقتضي الفساد لا محالة ويكشف عنه ما دام إرشاداً إليه فلا معنى للبحث عنه.

نعم ينبغي أَنْ يبحث بحثاً صغروياً عن انه متى يستفاد من النهي الإرشاد إلى الفساد؟ وسوف نتكلم في هذا البحث عند التعرض لبضع تنبيهات المسألة إنْ شاء الله تعالى ، فالمقصود بالنهي هنا النهي التحريمي ، فيتكلم في انَّ تحريم العبادة هل يوجب فسادها أم لا؟.

والنهي التحريمي يكون على خمسة أقسام :

القسم الأول ـ أَنْ يكون النهي نفسياً خطاباً وملاكاً ، والمقصود من كونه نفسياً خطاباً انَّ الشارع أدخل في عهدة المكلف نفس متعلق النهي لا آثاره ، من قبيل الحرمة


المستفادة من خطاب لا تشرب الخمر ، فانَّ نفس عدم شرب الخمر داخل في عهدة المكلف ، والمقصود من كون النهي نفسياً ملاكاً أَنْ يكون ملاك النهي عبارة عن نفس متعلق النهي لا أثر مترتب على متعلق النهي ، فمثلا الملاك لحرمة الخمر ليس نفسياً فانَّ نفس شرب الخمر ليس مفسدة وانما تترتب المفسدة عليه وهذا بخلاف مفسدة الشرك بالله مثلاً فانَّ المفسدة في نفس الشرك بل هو أكبر المفاسد لا انَّ المفسدة في شيء مترتب عليه.

القسم الثاني ـ أَنْ يكون النهي نفسياً خطاباً غيرياً ملاكا ، وذلك من قبيل النهي عن شرب الخمر ، فانَّ الداخل في العهدة بواسطة الخطاب نفس عدم شرب الخمر لا شيء اخر ولكن ليس نفس شرب الخمر مفسدة وانما المفسدة فيما يترتب على شرب الخمر من الآثار.

القسم الثالث ـ أَنْ يكون النهي غيرياً خطاباً وملاكاً ، وذلك كالنهي عن الصلاة المستفاد من الأمر بالإزالة ـ بناء على انَّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده الخاصّ ـ فانَّ عدم الضد الخاصّ لا يدخل في عهدة المكلف بل ما دخل في العهدة ذات الشيء المأمور به فقط وامّا النهي فيكون باعتبار الترشح من خطاب اخر. كما انَّ متعلق النهي الّذي هو الصلاة ليس بنفسه مفسدة وانما المفسدة تكون شيئاً مترتباً على إتيان الصلاة وهو فوات الإزالة الواجبة.

وفي هذه الأقسام الثلاثة يكون الملاك في متعلق النهي ولو بلحاظ آثاره.

القسم الرابع ـ أَنْ يكون الملاك والمصلحة في نفس النهي لا في متعلقه ـ بناء على إمكان ان يكون المصلحة في الجعل ـ إلاّ اننا سوف نبيّن في مسألة الجمع بين الأحكام الواقعية والأحكام الظاهرية انَّ هذا غير معقول.

القسم الخامس ـ أَنْ لا يكون الملاك لا في نفس جعل النهي ولا في العنوان المنهي عنه بل يكون الملاك في عنوان آخر منطبق على ما تعلق به النهي كما إذا كان النهي بنحو يؤدي جعله إلى انطباق عنوان فيه ملاك على متعلق النهي ، وذلك من قبيل عنوان الامتحان والاختبار فانه لا يمكن أَنْ ينطبق على ذات المنهي عنه إلاّ في طول توجه النهي إلى المكلف فلو كان ملاك النهي في مثل ذلك فالنهي يكون من هذا القسم


الخامس ، وهذا هو المعنى المعقول لنشوء النهي من ملاك في نفس الجعل.

ثم انَّ النهي الّذي يُقال انه يقتضي فساد العبادة أو لا يقتضيه هل يعم تمام هذه الأقسام الخمسة أو يختص بخصوص بعضها؟.

الصحيح : انَّ هذا مربوط بتحقيق حال كل برهان من البراهين المتعددة التي سوف تذكر لإثبات انَّ النهي يقتضي الفساد ، فلا بدَّ من التكلم بلحاظ كل واحد منها ليُرى انه هل يختص بخصوص بعض هذه الأقسام أو يعمها جميعاً؟.

ثم انَّ هذه البراهين يرجع بعضها إلى إثبات بطلان العبادة وعدم صحتها من ناحية قصورها الذاتي وعدم وجدانها للملاك.

ويرجع بعضها الآخر إلى إثبات بطلان العبادة من ناحية قصور قدرة المكلف على الإتيان بالعبادة الصحيحة الجامعة للشرائط ما دام انها منهي عنها. وفيما يلي نستعرض البراهين :

البرهان الأول ـ أَنْ يُقال بأنَّ النهي إذا تعلق بالعبادة فيكشف إنا عن ثبوت المفسدة فيها وحيث انَّ المفسدة مضادة ومنافية مع المصلحة فيكون النهي الكاشف عن المفسدة كاشفاً أيضاً عن عدم المصلحة ، فإذا ثبت انَّ هذا الفرد من العبادة ليس واجداً للملاك والمصلحة فلا يكون مجزياً لا محالة بل لا بدَّ من الإعادة أو القضاء كي يستوفى ملاك الواجب.

هذا البرهان لو تم فيثبت البطلان من ناحية القصور الذاتي في العبادة وعدم وجدانها للملاك ولو فرض قدرة المكلف على الإتيان بالعبادة على وجه قربي ، ومن هنا لا يختص هذا البرهان بخصوص باب العبادات بل يثبت البطلان حتى في الواجبات غير المشروطة بقصد القربة ، حيث يقال هناك أيضاً : إذا ثبت النهي تثبت المفسدة ومع ثبوت المفسدة لا توجد المصلحة للتضاد بينهما فلا يمكن أَنْ يكون ذلك الفرد مجزياً ومسقطاً للأمر.

وأيضاً بناء على تمامية هذا البرهان ينبغي أَنْ نقول انَّ الموجب للبطلان هو النهي بوجوده الواقعي وإِنْ لم يصل إلى المكلف ، إذ النهي الواقعي انما يكون ناشئاً من المفسدة سواءً وصل إلى المكلف أو لم يصل إليه ، والمفسدة لا تجتمع مع المصلحة سواءً


كانت المفسدة واصلة ومعلومة أولا.

ويترتب على هذا انَّ مجرد احتمال ثبوت نهي في الواقع غير واصل إلينا يكفي لعدم الجزم بصحة العبادة حتى ولو كانت الحرمة مؤمنة ، إذ المفروض انَّ صحة العبادة منوطة بعدم ثبوت النهي في الواقع لا بعدم وصوله إلى المكلف.

والصحيح : عدم تمامية هذا البرهان إلاّ في القسم الأول من أقسام النهي الّذي كان يُفترض فيه انَّ متعلق النهي بنفسه مفسدة لا انه يَترتب عليه المفسدة ، فلو فرض انَّ الأمر المترقب وجوده كان متعلقا بنفس المصلحة لا بما يترتب عليه المصلحة فحينئذ يتم هذا البرهان إذ يقال : إذا ثبت بدليل النهي انَّ الفعل متعلق النهي من القسم الأول أي بنفسه مفسدة ـ فيثبت لا محالة انه ليس بنفسه مصلحة ، إذ يستحيل أَنْ يكون الشيء الواحد مفسدة ومصلحة معاً ، وإذا لم يكن مصلحة فلا يكون مجزيا ومسقطا عن الأمر وامّا في غير القسم الأول من أقسام النهي فلا يتم هذا البرهان ، لأنَّ متعلق النهي فيها لا يكون بعينه مفسدة وانما تترتب عليه المفسدة ، أو انَّ هناك ملاكاً ومصلحة فيما بعد النهي ، ومن الواضح انَّ ما تترتب عليه المفسدة لا يستحيل أَنْ تترتب عليه المصلحة أيضا ، فما أكثر الأفعال التي تترتب عليها المفسدة والمصلحة معاً.

فبمجرد ثبوت دليل على النهي لا يمكن أَنْ يستكشف عدم ترتب المصلحة على الفعل المنهي عنه حتى يحكم بالفساد وعدم الاجتزاء.

البرهان الثاني ـ ويسلّم فيه بأنَّ النهي لا يكشف عن عدم ثبوت المصلحة رأساً ولكن يُقال : انَّ النهي يكشف لا محالة عن ثبوت مفسدة غالبة ، فلو كانت هناك مصلحة فهي مصلحة مغلوبة لا محالة ، ومن الواضح انه لا يمكن الاقتراب إلى المولى بفعل ما يكون فيه مصلحة مغلوبة للمفسدة بل هذا ابتعاد عن المولى وعن أغراضه فيتعذر وقوع العبادة على وجه صحيح من جهة عدم التمكن من التقرب. وهذا البرهان لو تم فانما يتم في غير القسم الرابع من النهي فانَّ النهي في القسم الرابع لا يكشف عن ثبوت مفسدة غالبة في المتعلق حتى لا يمكن التقرب به إلى المولى وانما يكشف عن ثبوت مصلحة غالبة في نفس جعل النهي وهذا لا يمنع أَنْ يقترب العبد إلى مولاه بالفعل المنهي عنه الّذي فيه مصلحة أيضا غاية الأمر تكون مصلحة أقل من مصلحة جعل النهي.


ثم انَّ البطلان على أساس هذا البرهان يكون من ناحية قصور قدرة المكلف وعدم صلاحية الفعل من إتيانه به على وجه قربي ـ كما أشرنا ـ لا من ناحية القصور الذاتي في العبادة ، إذ لو فرض التمكن من الاقتراب إلى المولى بالفعل الّذي تكون مصلحته مغلوبة لوقع صحيحاً وكان واجداً لمصلحة الأمر ، ومن هنا يختص هذا البرهان بخصوص العبادات ولا يشمل غيرها من الواجبات ، كما انَّ البطلان على أساس هذا البرهان يكون ناشئاً من النهي بوجوده الواقعي وإِنْ لم يصل إلى المكلف ، فانَّ النهي بوجوده الواقعي يكون ناشئاً من مفسدة غالبة فلو كانت هناك مصلحة فهي مصلحة مغلوبة ويستحيل الاقتراب إلى المولى بما تكون مصلحته مغلوبة لمفسدته.

وعلى هذا فمجرد احتمال ثبوت نهي في الواقع لم يصل إلينا يكفي لعدم الجزم بصحة العبادة حتى لو لم يكن هذا الاحتمال منجّزاً للحرمة.

والصحيح : عدم تمامية هذا البرهان وذلك لأنَّ الاقتراب إلى المولى له معنيان :

المعنى الأول ـ الاقتراب بمعنى تحقيق انبساط صدر المولى واستئناسه من ناحية تحقق أغراضه وميوله ، وذلك من قبيل أَنْ يقتل العبد عدوَّ المولى ، فانه اقتراب إلى المولى من ناحية انه حقق غرضه ولو فرض انَّ العبد كان يتخيل انه صديق المولى وتجرأ فقتله فخرج عدواً له.

المعنى الثاني ـ الاقتراب بحسب موازين العبودية والمولوية ، فقتل عدو المولى بتخيل انه صديقه ليس اقتراباً إلى المولى عقلاً بل ابتعاد عنه وقتل صديق المولى بتخيل انه عدوه يكون اقترابا إلى المولى وليس ابتعاداً عنه وإِنْ كان مفوتاً لغرض المولى ومؤثراً على نفسه.

فلو كان الشرط في العبادات الاقتراب بالمعنى الأول لكان لهذا البرهان وجاهة ، فانَّ مغلوبية المصلحة للمفسدة مساوقة لعدم إمكان التقرب بالمعنى الأول فتبطل العبادة. إلاّ أنَّ الشرط في العبادات الاقتراب بالمعنى الثاني ، ومن الواضح انَّ مجرد مغلوبية المصلحة للمفسدة لا يعني عدم إمكان التقرب بالمعنى الثاني ما لم نضف إليها نكتة زائدة ترجعنا إلى بعض البراهين التالية ، فانَّ مناط التقرب بالمعنى الثاني ليس ذات المصلحة بما هي هي بل العلم بالمصلحة أو ما بحكمه ، فيمكن أَنْ تكون المصلحة


مغلوبة أو لا توجد مصلحة أصلاً ومع ذلك يتحقق التقرب بالمعنى المطلوب ، كما إذا تخيل عدم النهي وتوهم انَّ هناك مصلحة غالبة.

البرهان الثالث ـ أَن يسلّم بأنَّ النهي لا يكشف عن عدم ثبوت المصلحة رأساً ويسلّم أيضاً بأنَّ الشرط في العبادات التقرب بالمعنى الثاني لا الأول ولكن يُقال : انَّ قصد القربة المعتبر في العبادات انما يتحقق بلحاظ الأمر أو الحب ولا يكاد يتحقق بلحاظ الملاك فإذا وصل النهي إلى المكلف فلا محالة يقطع بعدم الأمر لعدم إمكان اجتماع الأمر والنهي ، ويقطع بعدم الحب أيضا لأنَّ المفروض ثبوت النهي وغلبة المفسدة على المصلحة ، فلا يمكنه أَنْ يقصد القربة لا بلحاظ الأمر ولا بلحاظ الحب للعلم بانتفائهما ، ولا يمكنه أَنْ يقصد القربة بلحاظ المصلحة المغلوبة لأنه غير معقول لا باعتبارها مغلوبة بل باعتبار أنَّ قصد التقرب بالملاك غير معقول ، فمع ثبوت النهي لا يمكن قصد القربة فتقع العبادة باطلة ، امّا انه لما ذا لا يمكن التقرب بالملاك؟ فهذا يمكن أَنْ يُبين بأحد وجهين أحدهما ثبوتي والاخر إثباتي.

الوجه الأول ـ انَّ التقرب بالملاك بما هو هو ـ من دون لحاظ كون الفعل محبوباً للمولى أو مأموراً به من قبله ـ غير معقول ثبوتا ما لم يرجع الملاك إلى المولى ، فلو كان الملاك مصلحة للعبد كما هو كذلك في أحكام المولى الحقيقي الغني عن كل شيء فإذا فرض سقوط وجوبه لتعلق النهي به وعدم محبوبيته لغلبة مفسدته على مصلحته فكيف يعقل للعبد أَنْ يتقرب به إلي المولى بمجرد كونه ذا مصلحة راجعة إلى العبد نفسه؟ فانَّ هذا امر غير معقول نعم لو فرض المولى من الموالي العقلائية وكانت المصلحة راجعة إليه لا إلي المكلفين أمكن التقرب إليه بلحاظ نفس الملاك.

الوجه الثاني ـ انَّ التقرب بالملاك حتى لو أمكن ثبوتاً فهو غير مجزٍ إثباتا ، وذلك بدعوى : انه في باب العبادات ثبت فقهياً وجوب قصد الأمر لا قصد الملاك.

هذا البرهان لو تم فيثبت في تمام الأقسام الخمسة للنهي خلافاً للبرهانين السابقين.

نعم لو بنينا على انَّ النهي من القسم الرابع يجتمع مع مبدأ الأمر الّذي هو الحب بأَنْ يكون المنهي عنه محبوباً مع انَّ جعل النهي أيضاً محبوب فعندئذ يمكن التقرب بمثل


هذا الحب رغم تعلق النهي به ، كما انَّ الموجب للبطلان في هذا البرهان ليس النهي بوجوده الواقعي بل بوجوده الواصل ، فانَّ النهي لو كان ثابتا في الواقع ولكن لم يصل إلى المكلف كان بإمكان المكلف أَنْ يتقرب ويقصد الأمر ، فانَّ قصد الأمر مقرب حتى لو لم يكن أمر في الواقع.

نعم لو ثبت فقهياً انَّ الشرط قصد الأمر الموجود واقعاً بأَنْ يشترط وجود الأمر في الواقع حقيقة فيقصده ، فمع ثبوت النهي في الواقع يثبت بطلان العبادة لعدم الأمر واقعاً.

والتحقيق : عدم إمكان المساعدة على هذا البرهان بكلا وجهيه.

امّا الوجه الأول ـ فلأنَّ التقرب بالمصلحة بما هي مصلحة راجعة إلى العبد وان كان غير معقول الا ان التقرب بتلك المصلحة بما ان الشارع يهتم بها وبما انها مؤثرة في نفس المولى ولو بتقليل البغض امر معقول في نفسه ما لم تبرز نكتة أخرى تمنع عن ذلك.

وامّا الوجه الثاني ـ فلأنه لا يوجد دليل على اعتبار قصد الأمر في العبادات ، بل لم يدل دليل لفظي في جلّ العبادات على اشتراط قصد القربة وانما ثبت ذلك بمثل الإجماع والارتكاز من الأدلة اللبية وهي لا تقتضي أكثر من اشتراط أصل التقرب.

البرهان الرابع ـ انه مع تعلق النهي بعبادة يسقط الأمر عنها لا محالة لعدم إمكان اجتماع الأمر والنهي ، وبعد سقوط الأمر لا يمكن أَنْ يحرز ثبوت الملاك والمصلحة في الحصة المنهي عنها من العبادة ، فانَّ ملاك الواجب انما يستكشف من نفس تعلق الأمر بالدلالة الالتزامية وهي تسقط بعد سقوط المطابقية ، ومع إحراز الملاك لا يحرز ، انَّ الحصة المنهي عنها تكون موجبة لسقوط الوجوب وبراءة الذّمّة فلا يمكن الاجتزاء بها بعد أَنْ كان الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، وهذا نتيجة الحكم ببطلان العبادة.

هذا البرهان لو تم فيثبت البطلان لا لقصور قدرة المكلف عن قصد القربة بل للقصور الذاتي في العبادة من ناحية عدم إحراز وجدانها لملاك الأمر.

ويترتب على ذلك أنه لا يختص بخصوص باب العبادات بل يأتي في الواجبات التوصلية أيضاً حيث يُقال : مع وجود النهي يسقط الأمر وبعد سقوط الأمر لا يبقى


كاشف عن الملاك فتجري أصالة الاشتغال.

إلاّ أنَّ البطلان الّذي يتوصل إليه. بهذا البرهان بطلان ظاهري ثابت بأصالة الاشتغال لا واقعي ، خلافا للبراهين السابقة ، فانها كانت تثبت انَّ العبادة باطلة مع وجود النهي حقيقة وواقعاً ، امّا لعدم وجدانها للمصلحة وامّا لعدم توفر شرطها وهو التقرب ، واما هنا فلا قطع ببطلان العبادة وانما يحتمل بطلانها وعدم صحتها مع الحكم بالاشتغال ، وحيث أنَّ هذا البطلان بطلان ظاهري مبنيٌ على جريان أصالة الاشتغال فلا محالة يكون الموجب لهذا البطلان النهي بوجوده الواصل لا الواقعي ، فانَّ النهي بوجوده الواقعي لا يصلح لرفع الحجة عن إطلاق دليل الأمر وشموله لهذا الفرد ، فإذا كان إطلاق دليل الأمر باقياً على الحجية فهو بنفسه مثبت للاجزاء والصحة.

كما اننا لو قلنا بأنَّ النهي بتمام اقسامه لا يمكن أَنْ يجتمع مع الأمر جرى البرهان في تمام أقسام النهي ، إذ مع وجود أي قسم منها يزول الأمر وبعد زواله لا يمكن إحراز الملاك فتجري أصالة الاشتغال ، وامّا لو قلنا بأنَّ امتناع اجتماع الأمر والنهي انما يكون بلحاظ امتناع اجتماع مبادئهما من الحب والبغض على متعلق واحد فلا بأس بأَنْ يجتمع القسم الرابع من أقسام النهي مع الأمر ، إذ النهي من القسم الرابع لا ينشأ من بغض في متعلقه فيمكن أَنْ يجتمع مع الأمر وهذا يعني انه لا مانع من التمسك بإطلاق الأمر للفرد المنهي عنه.

وهذا البرهان غير تام أيضاً : لأنه لا إشكال في انَّ النهي عن فرد من افراد عبادة يوجب تقييد إطلاق الواجب ببقية الافراد لكن هنا فرضيتان :

الفرضية الأولى ـ أَنْ يُفترض انَّ دليل الوجوب له إطلاق بلحاظ نفس الوجوب فيثبت الوجوب للجامع بين بقية الافراد سواءً أتى بالفرد المنهي عنه أولا.

الفرضية الثانية ـ أَنْ يُفترض عدم وجود الإطلاق لدليل الوجوب ـ كما إذا افترض انَّ الوجوب ثبت بدليل لبّي ـ ويكون القدر المتيقن منه ثبوت الوجوب على المكلف لو لم يأتِ بالفرد المنهي عنه.

فلو افترضنا الفرضية الثانية فمع الإتيان بالفرد المنهي عنه لا يكون الشك في تفريغ الذّمّة كي تجري أصالة الاشتغال ، وانما يكون الشك في أصل التكليف بالوجوب


فتجري أصالة البراءة فلا تجب الإعادة.

وامّا لو افترضنا الفرضية الأولى أي وجود إطلاق في دليل الوجوب فالنتيجة وإِنْ كانت بطلان العبادة وعدم الاجتزاء بها إلاّ أنَّ البطلان هنا ليس على أساس قاعدة الاشتغال بل على أساس انَّ نفس إطلاق دليل الوجوب يكون دليلا اجتهادياً على عدم جواز الاكتفاء بذاك الفرد المنهي عنه وعدم وجدانه للملاك والمصلحة سواءً كان الواجب توصلياً أو تعبدياً وسواءً كان النهي واصلاً أم لا.

البرهان الخامس ـ انَّ المكلف بعد توجّه النهي إليه يكون عاجزاً من أَنْ يأتي بالفعل العبادي بقصد قربي إلهي ، لأنَّ وصول النهي إليه يكشف عن تمامية مبادئ النهي وبالتالي عن كون العبادة مبغوضة بالفعل وكون تركها أرجح عند المولى من فعلها إذ لو لا ذلك لما تعلق النهي الفعلي بها ، ومع إحراز المبغوضية الفعلية يستحيل أَنْ يؤتى بالفعل لأجله تعالى ، فانَّ الإتيان بفعل لأجل المولى انما يُعقل فيما لو فُرض انَّ حال المولى مع الفعل أحسن من حاله مع عدمه واما لو فرض انَّ حاله مع الترك كان هو الأفضل فلا يعقل أَنْ يؤتى به لأجله.

وفي المقام قد فرضنا انَّ الفعل العبادي قد أصبح مبغوضاً بالفعل للمولى فيكون حال المولى عند الترك أحسن من حاله عند الفعل فلا يعقل أَنْ يؤتى به لأجل خاطره ، وهذا يعني عدم التمكن من قصد القربة فلا تقع العبادة صحيحة.

والملحوظ في هذا البرهان أَنَّ ما ينكشف بالنهي يوجب عجز المكلف من قصد القربة من دون حاجة إلى لحاظ آثار وصول النهي من قبح المعصية وانَّ فعل القبيح يبعد عن المولى وانَّ المبعّد يستحيل أَنْ يكون مقرباً ، فتمام النّظر فيه إلى انَّ النهي يكشف عن ثبوت المبغوضية الفعلية ويستحيل أَنْ يتقرب إلى شخص بما يكون مبغوضاً له ، ثم انَّ البطلان على أساس هذا البرهان يكون بملاك قصور قدرة المكلف عن التقرب لا بملاك قصور ذاتي في العبادة ، ويترتب عليه : انَّ هذا البرهان يختص بالعبادات ولا يشمل التوصليات.

كما انَّ البطلان على هذا الأساس وإِنْ كان بطلانا واقعياً لا ظاهرياً إلاّ انه منوط بالنهي بوجوده الواصل لا بوجوده الواقعي ، فانه مع عدم وصول النهي وعدم تنجزه على


المكلف يعقل قصد التقرب ولو رجاءً واحتمالاً ولو كان هناك نهي في الواقع ، ويترتب على ذلك : انه مع عدم وصول النهي يقطع بالصحّة لا انَّ الصحة تكون ظاهرية.

كما انَّ هذا البرهان يأتي في تمام أقسام النهي عدى القسم الرابع (١) ، فانّ النهي في القسم الرابع لا يكشف عن مبغوضية متعلّقه وانما يكشف عن مصلحة في جعل النهي ، فقد يكون حال المولى مع فعل المتعلّق أحسن من حاله مع عدم فعله.

كما انَّ هذا البرهان يتم حتى لو بنينا على جواز اجتماع الأمر والنهي على أساس الملاك الأول أو الثاني لجواز الاجتماع ، فانه مع تقديم جانب النهي وافتراض انَّ الفعل الخارجي مبغوض للمولى لا يمكن التقرب به. نعم لو بنينا على جواز الاجتماع على أساس الملاك الثالث فلا يتم البرهان ، فانه بناء على هذا الملاك يكون هناك وجودان في الخارج أحدهما مبغوض للمولى والاخر محبوب له ومعه يمكن التقرب بالوجود المحبوب ، بينما البراهين السابقة لو تمت فهي مختصة بخصوص فرض امتناع الاجتماع ولا تتم بناء على جواز الاجتماع سواء كان على أساس الملاك الأول أو الثاني أو الثالث ، فانَّ مقتضى القول بالجواز فعلية الأمر ووقوع الفعل مصداقاً للواجب ، وهذا يعني ثبوت المصلحة فيه فينتفي البرهان الأول ، ولا بدَّ وأَن تكون هذه المصلحة غير مندكة وغير مغلوبة في دائرتها كي يمكن نشوء الأمر منها فينتفي البرهان الثاني ، ومع وجود الأمر وفعليته يمكن التقرب فينتفي البرهان الثالث ، وكذلك تستكشف المصلحة من وجود الأمر فينتفي البرهان الرابع.

وتحقيق الحال في هذا البرهان يتوقف على ذكر مقدمة حاصلها : انَّ المقربية أو

__________________

(١) إذا جُعل المانع عن التقرب في هذا البرهان المبغوضية بوجودها الواقعي تمَّ ما ذَكر من انه يجري في تمام أقسام النهي ما عدا القسم الرابع ، إلاّ انه حينئذٍ لا يختص البطلان بصورة العلم بالنهي بل تبطل العبادة مع الجهل بالحرمة أيضاً وهذا بحسب الحقيقة رجوع إلى برهان تقدم.

وإِن جُعل المانع المبغوضية الواصلة إلى المكلف فهذا يرد عليه : مضافاً إلى ما أفاده الأستاذ ـ ١ الشريف ـ :

أولاً ـ انَّ أخذ حيثية الوصول بنفسه دليل على انَّ المانع بحسب الحقيقة ارتكاب العصيان القبيح عقلا والّذي سوف يأتي في البرهان القادم.

وثانياً ـ لا يتم فيما إذا كانت المبغوضية غيرية أي في القسم الخامس من أقسام النهي لما تقدم من انَّ التكاليف الغيرية ليست لها منجّزية ولا مبعّدية من حيث هي تكاليف غيرية.


المبعدية لا تنشأ من الفعل الخارجي وانما تنشأ من الدواعي النفسانيّة المحركة نحو الفعل ، فالداعي الإلهي يوجب القرب والداعي الشيطاني يوجب البعد ، ولهذا نرى انَّ فعلاً واحداً لو أتي به بداعٍ إلهي يكون مقرباً ولو أتي به بداعٍ شيطاني يكون مبعداً ، مثل ما إذا شرب الماء بتخيل وجوب شربه وما إذا شرب نفس الماء بإرادة عصيانه تعالى بتخيل انه مسكر فتجرأ على المولى بشربه.

وعلى هذا فلو أمكن أن يوجد فعلاً واحداً بداعيين بداعٍ إلهي وبداعٍ شيطاني معاً ثبت الاقتراب والابتعاد معاً ، لأنَّ السبب للقرب والبعد ليس الفعل حتى يقال :

كيف يعقل انَّ شيئاً واحداً يوجب القرب والبعد إلي المولى في نفس الوقت وانما السبب هو الداعي والقصد فمع تعدده يعقل التقرب والابتعاد معاً.

إذا اتضحت هذه المقدمة نقول : تارة : يفترض انَّ مصلحة العبادة قائمة بخصوص الحصة المنهي عنها ، وأخرى : يفترض انَّ المصلحة قائمة بالجامع بين الحصة المنهي عنها وبقية الحصص المباحة.

فلو افترضنا قيام المصلحة بخصوص الحصة المنهي عنها استحالة قصد التقرب بمعنى انه لا يمكن أَنْ يكون في نفس العبد داعٍ إلهي ، إذ هذا الداعي الإلهي يدعوه إلى ما ذا؟

هل يدعوه إلى الجامع بين هذه الحصة وبين الحصص الأخرى المباحة؟ فهذا غير معقول لأنَّ المصلحة غير قائمة بالجامع وانما هي قائمة بخصوص الحصة ، أو يدعوه إلى إيجاد خصوص هذه الحصة؟ فهذا أيضاً غير معقول لأنَّ ترك الحصة أحسن عند المولى من فعلها فكيف يمكنه أَنْ يأتي بها لأجله تعالى ، فثبت انه لا يعقل أَنْ يقع الفعل عبادياً فهذا الملاك الخامس يتم في هذه الفرضية.

وامّا لو افترضنا انَّ المصلحة قائمة بالجامع بين هذه الحصة وبين الحصص الأخرى المباحة ، كما هو محل الكلام عادة ، فهنا يُعقل ثبوت داعٍ إلهي في نفسه ، يدعوه إلى الجامع ، فانَّ الجامع بوجوده الإطلاقي ثبوته أحسن عند المولى من عدمه.

نعم حال المولى عند عدم هذه الحصة يكون أحسن من حاله عند ثبوت هذه الحصة ، إلاّ أنَّ هذا يمنع عن أَنْ يكون الداعي الإلهي يدعوه إلى الحصة ولا يمنع عن أَنْ يدعوه إلى إيجاد الجامع بما هو إيجاد الجامع ، فانَّ إيجاد الجامع بما هو هو وبقطع النّظر


عن شيء زائد عليه يكون أحسن عند المولى من عدم إيجاده ، وحينئذ تارة : يوجد في نفس العبد داعٍ إلهي آخر يدعوه إلى ترك هذه الحصة باعتبار حرمتها فلا محالة سوف يأتي بالجامع في ضمن حصة أخرى غير منهي عنها ، وامّا لو لم يوجد في نفسه هذا الداعي الإلهي الآخر بل كان يريد أَنْ يعصي النهي فيمكنه أَنْ يأتي بهذه الحصة المنهي عنها ، فهنا مجموع الداعيين الشيطاني والرحماني ، قد دعاه إلى الحصة أي الداعي الرحماني دعاه إلى الجامع والداعي الشيطاني دعاه إلى الحصة فيثبت الاقتراب والابتعاد معاً ، إلاّ أنَّ السبب للاقتراب والابتعاد ليس نفس الحصة حتى يُقال انَّ هذا شيء واحد والشيء الواحد يستحيل أَنْ يكون مقرّباً ومبعّداً معاً ، وانما السبب الداعي وهو متعدد في المقام فيعقل أَنْ يكون أحدهما مبعّداً والاخر مقرّباً.

البرهان السادس ـ أَنْ يُقال بأنَّ النهي عن العبادة يقتضي الفساد فيما إذا وصل إلى المكلف ، فانه بالوصول يتنجز على المكلف يعني انَّ العقل يحكم بقبح المعصية فيكون الفعل مبعّداً عن المولى ، ومع فرض كونه مبعّداً يستحيل أَنْ يكون مقرّباً لأنهما ضدان لا يجتمعان.

وهذا البرهان يتفق مع البرهان الخامس في كل خصائصه التي ذكرناها إلاّ في واحدة ، فانَّ هذا البرهان يتمَّ حتى في القسم الرابع للنهي ، لأنَّه وإِنْ كان لا ينشأ من مبغوضية في متعلقه لكن على كل حال ما دام انه نهي مولوي يقبح عصيانه عقلاً ويكون العمل مبعّداً من المولى فيستحيل أَنْ يكون مقربا (١).

والتحقيق : عدم إمكان المساعدة على هذا البرهان أيضاً ، إذ لو كان المقصود من عدم إمكان اجتماع المقربية والمبعدية انَّ الإنسان الواحد لا يمكنه أَنْ يتقرب أو يتبعد من مولاه في لحظة واحدة ولو بلحاظ شيئين فهذا واضح البطلان ، فانَّ لازمه انه لا يمكن للإنسان الواحد أَنْ يعصي ويطيع في آن واحد مع انه ممكن بالضرورة فبالإمكان أَنْ يصلّي وينظر إلى الأجنبية في لحظة واحدة.

__________________

(١) ولكن لا يتم في القسم الخامس من أقسام النهي أي ما إذا كان النهي غيرياً خطاباً ، لأنَّ مخالفة التكليف الغيري ليست معصية ولا قبح فيها ولا عقوبة عليها فلا تكون مبعدة ، واما ما يترتب عليها من مخالفة تكليف آخر نفسي فذلك لا يضر بالتقرب بلحاظ ما هو متعلق النهي الغيري كما هو واضح.


ولو كان المقصود انه يستحيل أَنْ يكون شيء واحد سبباً للاقتراب والابتعاد فهذا صحيح إلاّ انه في المقام لا يلزم من إمكان التقرب أَنْ يكون السبب واحداً ، فانه اتضح في الجواب على البرهان الخامس أَنْ المقرّب والمبعّد ليس هو الفعل الخارجي حتى يقال : لا يوجد إلاّ فعل واحد ، وانما السبب للتقرب والابتعاد هو الداعي والداعي في المقام متعدد ، إذ يوجد داعي امتثال الأمر ويوجد داعي عصيان النهي فليكن أحدهما مقرّباً والاخر مبعّداً.

البرهان السابع ـ لا إشكال في انه بعد تعلق النهي بالعبادة لا يمكن إيقاعها بداع إلهي محض بل هناك في جنبه داع عصياني شيطاني سواءً قلنا بإمكان قصد التقرب أو قلنا بعدم إمكان قصد التقرب ، وعندئذ يقال فقهياً : لا يكفي لتصحيح العبادة أَنْ تكون بداع إلهي بل لا بدَّ زائداً على ذلك أَنْ لا يَكون معه داع شيطاني ، وهذا يعني انه مع وصول النهي تقع العبادة باطلة.

هذا البرهان لو تمَّ يثبت البطلان منوطاً بوصول النهي إذ مع عدم وصوله وتنجِّزه لا يوجد داعٍ شيطاني.

كما انَّ البطلان بناء عليه راجع إلى قصور قدرة المكلف من قصد القربة محضاً من دون قصد العصيان ولا يرجع إلى قصور ذاتي في نفس العبادة ، وبهذا يختص بباب العبادات ولا يشمل الواجبات التوصلية.

وهذا البرهان لو تم فيتم حتى بناء على جواز اجتماع الأمر والنهي على أساس الملاك الأول أو الثاني دون الثالث ، فانه بناء على الملاك الثالث للجواز يوجد وجودان في الخارج أحدهما مستندٌ إلى داعٍ شيطاني محض والاخر مستندٌ إلى داعٍ رحماني محض فلا بأس بالقول بصحة العبادة حينئذ.

ومدى صحة هذا البرهان يكون منوطاً بالفقه فعلى ذمة الفقه إثباته ، ولا يبعد دعوى الجزم بأنَّ عبادية العبادة متقومة بركنين : الأول ثبوت الداعي الرحماني ، والثاني عدم ثبوت الداعي الشيطاني ، فانَّ عبادية العبادة ليست ثابتة بدليل لفظي حتى يبحث بحثاً استظهارياً وانما مهم الدليل عليه هو الارتكاز والإجماع ، ولا يبعد دعوى الجزم بأنَّ الارتكاز قائم على انَّ الله سبحانه وتعالى لا يُطاع من حيث يُعصى ، فالعبادة لا بدَّ وأَنْ


تكون بداعٍ قربي فقط ولا يكون في جانبه داعٍ شيطاني. هذا تمام الكلام في البراهين التي يمكن إقامتها على انَّ النهي عن العبادة يوجب الفساد. وقد اتضح ان ما هو الصحيح منها البرهان الرابع بصيغته المعدة له والبرهان السابع.

ويقع الكلام بعد ذلك في تنبيهات المسألة :

التنبيه الأول ـ لو بنينا على انَّ النهي التحريمي يوجب بطلان العبادة فهل النهي الكراهتي أيضاً يوجب البطلان أم لا؟.

امّا لو كان النهي الكراهتي ناشئاً من نقص محبوبية هذا الفرد من العبادة لا من مبغوضيته فلا إشكال في انه لا يقتضي البطلان سواءً كان نقص المحبوبية بنكتة قلة المصلحة فيه أو بنكتة انَّ المصلحة فيه مزاحمة بمفسدة أخف وأضعف منها بنحو تبقى المحبوبية ولكن بنحو ضعيف ، فانه على أي حال مثل هذا النهي لا يقتضي البطلان ، لأنَّه لا يعاند الأمر حتى لو افترضنا عدم إمكان اجتماع الأمر والنهي ، فانَّ النهي الّذي لا يمكن أَنْ يجتمع مع الأمر هو النهي الناشئ من البغض لا النهي الناشئ من قلة الحب ، فهذا الفرد المنهي عنه يمكن ان يشمله الأمر ، ومع شمول الأمر له لا إشكال في الصحة وإمكان التقرب به فانه لا يكون مبعّداً ولا مبغوضاً للشارع كي يُقال : كيف يقع مقرباً بل يكون محبوباً للشارع غاية الأمر يكون أقل حباً من الافراد الأخرى.

وامّا لو افترضنا انَّ النهي كان ناشئاً من مبغوضية فعلية في هذا الفرد. فتارة : نلتزم بامتناع الاجتماع حتى مع النهي الكراهتي ، وأخرى : نلتزم بإمكان اجتماع الأمر مع النهي الكراهتي.

فلو التزمنا بامتناع الاجتماع ومع هذا افترضنا وجود النهي الناشئ من مبغوضية فعلية لمتعلقه فلا بدَّ من الالتزام ببطلان العبادة على أساس البرهان الأول من البراهين المتقدمة ، لأنَّ مثل هذا النهي الناشئ من مبغوضية متعلقه يكشف لا محالة عن عدم محبوبية متعلقه لعدم إمكان اجتماع الحب والبغض في شيء واحد ، وعدم محبوبية هذا الفرد يكشف عن انَّ تلك المصلحة الالتزامية للعبادة التي تكون ثابتة في الجامع بين الافراد غير ثابتة في الجامع الشامل لهذا الفرد المنهي عنه ، إذ لو كانت ثابتة في الجامع بين هذا الفرد وبين بقية الافراد لكان هذا الجامع محبوباً بملاك إلزاميّ وبناء على


امتناع اجتماع الأمر والنهي وافتراض عدم تمامية ملاكات جواز الاجتماع لا بدَّ وأَنْ يسري هذا الحب من الجامع إلى الحصة والفرد فيقع التزاحم بين هذا الحب الّذي يكون بملاك إلزاميّ وبين بغض هذا الفرد الّذي يكون بملاك كراهتي وبعد التزاحم لا بدَّ وأَنْ يزول البغض امام الحب لأقوائية ملاك الحب بحسب الفرض ، مع انَّ المفروض أنَّ هذا الفرد المنهي عنه مبغوض بالفعل بالبغض الكراهتي.

اذن فالمبغوضية الفعلية لهذا الفرد المستكشفة من النهي تكون دليلاً على انَّ الجامع المنطبق على هذا الفرد ليس واجداً لملاك المأمور به ، وهذا يعني انَّ هذا الفرد من العبادة يقع باطلاً بنكتة قصوره الذاتي وعدم وجدانه للملاك ، وهذا في الحقيقة هو البرهان الأول من البراهين السبعة المتقدمة وهو صحيح في المقام(١).

وإِنْ لم يصح في النهي التحريمي ، فانه في النهي التحريمي كان يحتمل أَنْ يكون المنهي عنه واجداً لمصلحة المأمور به ومع هذا يكون مبغوضاً باعتبار أقوائية المفسدة على المصلحة ، لكن هنا لا يحتمل ذلك للعلم بأضعفية المفسدة فلو كان المنهي عنه واجداً لمصلحة المأمور به لزالت المبغوضية عنه حتماً.

وامّا لو التزمنا بجواز اجتماع الأمر والنهي بدعوى : انَّ الأمر متعلق بصرف الوجود والنهي متعلق بالحصة فالظاهر انَّ النهي الكراهتي لا يقتضي الفساد ، فانَّ البراهين الأربعة الأولى لاقتضاء النهي للفساد كانت مختصّة بفرض الامتناع ، والبرهان الخامس والسادس لم يكونا صحيحين في أنفسهما ، والبرهان السابع كان على أساس دعوى ارتكازية انه يشترط في صحة العبادة عدم وجود داع شيطاني ، والقدرة المتيقن

__________________

(١) هذا انما يصح في خصوص ما إذا لم تكن مندوحة للمأمور به وامّا مع وجودها فلا مانع من عدم سريان الحب الفعلي إلى الفرد المكروه رغم كون ملاك الأمر ومصلحته الالتزامية موجوداً في مورد النهي ، وهذا واضح جداً لو جعلنا الإرادة التشريعية غير الحب والشوق فانَّ المولى سوف تتعلق إرادته التشريعية بالجامع ضمن غير الفرد المكروه رغم وجدان هذا الفرد أيضاً للمصلحة حفاظا على الملاكين اللذين يمكن الجمع بينهما مولوياً.

وامّا إذا قلنا بأنَّ الإرادة هي الحب والشوق الّذي هو أمر تكويني غير اختياري فقد يُقال حينئذ بناء على الامتناع وتعلق الحب بكل فرد بنحو التخيير الشرعي ان الفرد المكروه لو كان واجداً لمصلحة المأمور به الإلزامية لسرى الحب إليه وباعتبار أقوائية ملاكه تقدم على الكراهة والبغض في مقام التزاحم.

إلاّ أنَّ هذا الكلام غير تام لأنَّ دليل هذه السراية هو الوجدان وهو يحكم في المقام بإمكان مبغوضية الفرد المكروه بالفعل رغم وجدانه لمصلحة الأمر إذا كان هناك مندوحة ، وعليه فلا يتم البرهان الأول هنا أيضا كما لم يتم في النهي التحريمي.


من هذا الارتكاز انه يشترط عدم وجود داع شيطاني عصياني بحيث يترتب على مقتضاه العقاب ولا يشمل مثل مخالفة النهي الكراهتي.

التنبيه الثاني ـ النهي كما قد يتعلق بأصل العبادة كذلك قد يتعلق بجزئها أو شرطها.

فلو تعلق النهي بجزء العبادة فحيث انَّ المفروض انَّ جزء العبادة عبادة فالنهي يقتضي فساد الجزء لو لم يتداركه فيبطل أصل العمل باعتبار نقصان جزئه ولو تداركه صح العمل ما لم يكن هناك محذور آخر كالزيادة ونحوها.

إلاّ إِنَّ الميرزا ( قده ) ذكر : بأنَّ الجزء إذا كان محرماً فيتقيد الواجب بغيره ، وهذا يعني انه يكون مانعاً عن صحة العمل فلو أتى به يبطل من ناحية المانع.

ولا أدري انه كيف صدر هذا الكلام منه ( قده ) مع جلالة قدره : فانَّ ما أُفيد من انَّ تحريم هذا الجزء يوجب تقييد الواجب بغيره صحيح إلاّ انَّ هذا لا يعني انَّ هذا الجزء لا يقع مصداقاً للواجب ولا يعني كونه مانعاً من صحة الواجب.

ولو تعلق النهي بشرط العبادة ، فلو كان الشرط في نفسه عبادة كالوضوء يبطل لا محالة (١) وببطلانه يبطل المشروط أيضاً ، ولو لم يكن الشرط عبادة فيمكن التمسك حينئذ بإطلاق دليل الشرطية لإثبات انَّ هذا مصداق للشرط ، وهنا ذكر السيد الأستاذ وجملة من الأصحاب انَّ المسألة تدخل في كبرى اجتماع الأمر والنهي ، فانَّ الفعل يكون مأموراً به باعتباره شرطاً شرعاً في الواجب ويكون أيضاً محرماً ومثاله التستر بثوب مغصوب.

إلاّ اننا قلنا في بحث الاجتماع انَّ هذا خارج عن بحث الاجتماع ، فانَّ النهي تعلق بالقيد لا بالتقيد والأمر الضمني في الشرط يتعلق بالتقيّد ولا يسري إلى القيد فمصب أحدهما غير مصب الاخر.

التنبيه الثالث ـ في انَّ الحرمة التشريعية هل توجب البطلان كالحرمة الذاتيّة أم لا؟

__________________

(١) ولكن يبقى فرق بين الشرط والجزء من حيث إمكان التمسك بإطلاق دليل الشرطية في مورد النهي عند الجهل وعدم تنجز الحرمة ، إذ لا مانع من إطلاقها له بعد ان كان النهي الواقعي متعلقاً بالقيد والأمر متعلق بالتقيد.


فنقول : لو افترضنا انَّ المكلف كان يعلم بأنَّ العبادة غير مأمور بها أصلاً فتسرَّع وأتى بها بقصد انها مأمور بها فلا إشكال في وقوع العبادة باطلة ، لا على أساس حرمة التشريع بل على أساس انَّ المفروض عدم تعلق الأمر بها في نظر هذا المكلف ليتقرب بها بقطع النّظر عن انَّ المكلف يأتي بها على نحو التشريع أولا ، فعدم تعلق الأمر لا يكون لأجل مزاحمة الحرمة التشريعية له كما هو واضح ، فيبطل العمل بالقصور الذاتي فيه.

وامّا لو افترض انَّ المكلف تسرع في مقام الإتيان بالعبادة من دون العلم بأنها غير مأمور بها رأساً ، بل كان يشك مثلا في انها مأمور بها أو لا فأتى بها بقصد انها مأمور بها من قبل الشارع ، فائضاً تقع العبادة باطلة لكن لا على أساس القصور الذاتي فيها بل على أساس انه أتى بها بقصد التشريع ، وتقريب ذلك يكون بأحد وجوه عديدة :

الوجه الأول ـ أَنْ يقال بأنَّ حرمة التشريع لا تقف على الإسناد القلبي بل تنبسط على الفعل الخارجي ـ كما هو الصحيح ـ لأنَّ التشريع يكون وجهاً وعنواناً للعمل فيحرم إذا حرم هذا العنوان ، فإذا تعلقت الحرمة بالعبادة فيصير حالها حال الحرمة الذاتيّة فتوجب البطلان بالبراهين السبعة المتقدمة.

الوجه الثاني ـ أَنْ يسلّم بأنَّ الحرمة تقف على نفس القصد والإسناد ولا تنبسط على العمل الخارجي ، لكن يُقال : انَّ حرمة التشريع تكفي لجعل القصد المحرك للعمل قصداً غير إلهي محرما ، ومعه لا يمكن أَنْ يكون مقرباً ، فانَّ القصد انما يمكن أَنْ يكون مقربا لو كان محبوباً للشارع دون ما إذا كان مبغوضاً.

فكم فرق بين الحرمة التشريعية وبين الحرمة الذاتيّة فانّه في الحرمة الذاتيّة كان مصب الحرمة والبغض العمل فكان بالإمكان أَنْ يقرب بقصد إلهي قد يتفق وجوده ، وامّا في الحرمة التشريعية فنفس القصد المحرك في العمل يكون قصداً شيطانياً فلا يمكن التقرب على أساسه.

الوجه الثالث ـ انه لو سلّمنا عدم تعلق الحرمة الشرعية لا بالفعل الخارجي ولا بنفس الإسناد والقصد بأَنْ يفترض انَّ قبح التشريع يكون من باب قبح المعصية والتجري الّذي يكون في طول حق المولى فلا يمكن أَنْ يكون موجباً لحكم شرعي لو سلَّمنا هذا فلا إشكال في قبح هذا الإسناد والقصد عقلاً لكونه موجباً لهدر حق المولى


وما يوجب هدر حق المولى وهتكه يستحيل أَنْ يكون مقرباً إلى المولى.

التنبيه الرابع ـ النزاع في اقتضاء النهي للفساد انما هو في النهي المولوي وامّا النهي الإرشادي فلا إشكال في دلالته على البطلان ، إمّا لكونه إرشاداً إلى البطلان رأساً ، وامّا لكونه إرشاداً إلى عدم المطلوبية وعدم المطلوبية لا يكون إلاّ لأجل عدم الملاك فيكون دالاً على البطلان لا محالة. وفي هذا التنبيه يبحث عن انّ النهي متى يكون مولوياً ومتى يكون إرشادياً.

فنقول تارة : يكون النهي نهياً عن عنوان ينطبق على العبادة ، مثل النهي عن الغصب وأخرى : يكون النهي متعلقاً بحسب دليله بنفس عنوان العبادة ، كالنهي عن الصلاة أو النهي عن الركوع.

ففي القسم الأول لا إشكال في ظهور النهي في المولوية ، فانَّ مقتضى القاعدة الأولية انَّ النهي مستعمل بداعي الزجر لا بداعي الاخبار.

وامّا في القسم الثاني فتوجد صور :

الصورة الأولى ـ أَنْ يكون النهي متعلقاً بأصل العبادة لا بخصوصية من خصوصياتها ، من قبيل النهي عن صوم يوم عاشوراء مثلا وهنا لا بدَّ من حمل النهي على الإرشاد وذلك لدخوله في قاعدة ورود النهي في مورد توهم الأمر ، فانَّ العبادة من حيث انها عبادة مطلب يُترقب ان يؤمر به فيحمل على الإرشاد إلى عدم الأمر.

ولو فرض إجمال النهي وعدم ظهوره في الإرشاد فائضاً يعلم ويستكشف عدم وجود الأمر بناء على امتناع اجتماع الأمر والنهي ، فانَّه لو كان إرشاداً إلى عدم الأمر ثبت المطلوب ولو كان للتحريم فهو لا يجتمع أيضا مع الأمر ، فيجري على الأقل البرهان الرابع للبطلان بصيغته المعدة له.

الصورة الثانية ـ أَنْ يكون النهي متعلقا بخصوصية من خصوصيات العبادة كجزئها أو شرطها وتكون تلك الخصوصية من الخصوصيات التي يتوهم لو لا مجيء النهي كونها جزءاً أو شرطاً للعبادة ، مثل ما إذا ورد النهي عن فاتحة الكتاب في الصلاة على الميت وافترض ارتكازية انه لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب.

وهنا أيضا لا يكون النهي ظاهراً في التحريم ، فانه نهي في مورد توهم الأمر فلا يدل


على البطلان ، بل غاية ما يدل عليه انه ليس جزءاً أو شرطاً ، أو يقال بأنه يكون مجملاً ومردداً بين النهي الإرشادي والنهي التحريمي كما تقدم.

الصورة الثالثة ـ أَنْ يتعلق النهي بخصوصية لا يترقب ثبوت الأمر بها ، مثل النهي عن الإتيان بسورة ثانية في الصلاة ، وحينئذ لا يكون النهي في مورد توهم الأمر ، لكن مع هذا لا بدَّ من حمله على الإرشاد إلى المانعية ، فانَّ الأوامر والنواهي إذا تعلقت بخصوصيات المركب تكون ظاهرة في الإرشاد إلى الشرطية والجزئية أو المانعية ، فالامر بالإتيان بالسورة في الصلاة يكون ظاهراً في جزئية السورة ، والنهي عن تكرار السورة يكون ظاهراً في الإرشاد إلى انَّ التكرار مانع عن صحة الصلاة.

هذا هو تمام الكلام في المسألة الأولى وهي دلالة النهي عن العبادة على فسادها.

« النهي عن المعاملة »

المسألة الثانية ـ في انَّ النهي عن المعاملة هل يوجب فسادها أَم لا؟ والكلام في هذه المسألة يقع في مقامين.

المقام الأول في بيان ما هو مقتضى القاعدة.

والمقام الثاني في البحث عن ثبوت دليل شرعي خاص في المسألة.

امّا المقام الأول ـ فموضوعه النهي المولوي وانه هل يوجب الفساد أم لا؟ وامّا النهي الإرشادي فلا إشكال في دلالته على الفساد ، سواءً كان إرشاداً إلى البطلان رأساً أو كان إرشاداً إلى الجزئية والمانعية ، فانَّ المركب ينتفي بانتفاء جزئه أو وجود مانعه.

والكلام في هذا المقام يقع في ثلاث جهات ، فانَّ النهي تارة : يتعلق بنفس السبب الصادر مباشرة من المكلف وهو صيغة المعاملة ، وأخرى : يتعلق بالمسبَّب وهو في البيع عبارة عن انتقال الثمن إلى ملك البائع وانتقال المثمن إلى ملك المشتري ، وثالثة : يتعلق بأثر المسبَّب مثل تصرف البائع في الثمن وتصرف المشتري في المثمن.

امّا الجهة الأولى ـ ففيما إذا تعلق النهي بنفس صيغة المعاملة وبنفس السبب

، هنا لا نكتة لتوهم البطلان ، إذ لا تهافت بين مبغوضية السبب وبين جعل السببية شرعاً ، فيكون غسل الثوب مثلا في ماء مغصوب مبغوضا ولكن مع هذا يجعل هذا الغسل سبباً


لحصول الطهارة ، والوجوه التي تذكر لكون النهي المتعلق بالمسبَّب يوجب البطلان لا تأتي هنا.

الجهة الثانية ـ فيما إذا تعلق النهي بالمسبَّب ، والكلام في هذه الجهة يقع في نقطتين :

الأولى : في الاستشكال الّذي وقع في أصل معقولية تعلق النهي بالمسبَّب والثانية : بعد الفراغ عن معقوليَّته يبحث عن انه هل يوجب البطلان أم لا؟.

امّا النقطة الأولى ـ فيمكن بيان الاستشكال فيها بأحد بيانين :

البيان الأول ـ انَّ النهي لا بدَّ وأَنْ يتعلق بما يكون فعلاً لنفس المكلف ، ولا يمكن أَنْ يوجه إلى المكلف نهي متعلق بفعل شخص آخر ، والمسبَّب في المقام ليس فعلاً للمكلف لأنَّ ما هو فعل المكلف انما هو إنشاء المعاملة فقط دون نقل الأموال من ملك شخص إلى ملك شخص آخر فانه فعل الشارع.

والجواب عن هذا البيان واضح : فانَّ المقنِّن بعد أَنْ قنَّن السببية وجعل إنشاء المعاملة سبباً لحصول الانتقال يصبح المسبَّب تابعاً لإيجاد السبب ، وهذا يعني انَّ المسبَّب يكون فعلا تسبيبياً وتوليدياً للمكلف فيمكن تعلق النهي به.

البيان الثاني ـ لو سلّم انَّ نقل المال من ملك إلى ملك ـ الّذي هو المسبَّب ـ يكون فعلاً تسبيبياً للمكلف إلاّ انه فعل مباشري له تعالى ، فلو لم يكن هذا الانتقال مبغوضاً له فلما ذا ينهى عنه؟ ولو كان مبغوضاً له فالأولى أَنْ لا يفعله بنفسه ما دام انه فعله مباشرة من دون احتياج إلى أَنْ ينهى العبد عنه ويلجئه إلى ترك السبب حتى لا يتحقق المسبَّب.

والجواب : أولاً ـ انه يمكن افتراض انَّ الشارع يحب عدم حصول الانتقال من ناحية عدم حصول السبب ولا يحب عدم حصوله من ناحية عدم جعل السببية بعد وقوع السبب خارجاً ، وذلك بأَنْ يفترض وجود مفسدة في حصول الانتقال مطلقاً سواءً وجد السبب خارجاً أو لا ، ويفترض انه على تقدير وقوع السبب في الخارج تثبت هناك مصلحة أقوى ـ من المفسدة ـ في حصول الانتقال ، وحينئذ لا بدَّ للشارع أَنْ ينهى عن إيجاد المسبَّب كي لا تقع المفسدة وفي نفس الوقت لا بدَّ وأَنْ يحكم بالانتقال عند حصول السبب ـ أي يجعل السببية ـ كي لا تفوت المصلحة.


وثانياً ـ يمكن أَنْ يفترض انَّ حصول الانتقال في نظر العقلاء يكون مبغوضاً أيضا للشارع وإِنْ لم يمضه الشارع ، فلا يكفي لعدم الوقوع في المبغوضية انَّ الشارع لا يجعل الانتقال ما دام انَّ المعاملة صحيحة عند العقلاء بل لا بدَّ وأَنْ لا يؤتى بالسبب كي لا يحصل الانتقال حتى عند العقلاء ، وبهذا الاعتبار يمكن أَنْ ينهى الشارع عن طبيعي المسبَّب وإِنْ كان مسبباً عقلائياً.

وامّا النقطة الثانية ـ أعني اقتضاء النهي بعد تعقل تعلقه بالمسبَّب للبطلان فيمكن إبرازه بوجهين.

الوجه الأول ـ انَّ النهي عن المسبَّب يكشف عن مبغوضيته شرعاً سواءً كان المنهي عنه خصوص المسبَّب الشرعي أو الجامع بينه وبين المسبَّب العقلائي ، فانَّ مبغوضية الجامع تسري إلى الافراد أيضاً باعتبار انحلاليتها ، فإذا كان المسبَّب الشرعي مبغوضاً للشارع فلا بدَّ وأَنْ لا يفعله بنفسه بأن لا يجعل السببية كي لا يثبت المسبَّب عند ثبوت السبب ، فالنهي عن المسبب يكشف عن عدم جعل السببية وهو معنى البطلان.

وهذا الوجه يمكن الإجابة عليه بعدة أجوبة :

منها ـ انه اتضح في الجواب الأول عن البيان الثاني في النقطة الأولى إمكان محبوبية المسبَّب الشرعي ومع هذا ينهى عنه ، وذلك فيما إذا فرض انَّ محبوبية المسبَّب لا تكون مطلقة بل لا تكون متوقفة على وقوع السبب خارجاً واما مع عدم وقوع السبب خارجاً فيكون المسبَّب مبغوضا لفعلية المفسدة وعدم فعلية المصلحة.

ومنها ـ انه يمكن أَنْ تكون فعلية المسبَّب خارجا مبغوضا للشارع ولهذا نهى عنه ولكن مع هذا يجعل السببية لوجود مصلحة أقوى في نفس الجعل فانَّ نشوء الحكم الوضعي من مصلحة في نفس الجعل معقول وإِن لم نتعقل نشوء الحكم التكليفي من مصلحة في نفس الجعل.

ومنها ـ انه يمكن أَن يفترض انَّ المبغوض للشارع ليس مطلق المسبَّب بل هو صرف وجوده بنحو لا ينحل إلى كل فرد فرد ، وذلك كما إذا فرض انَّ عدم وقوع طبيعي المسبَّب في الخارج الأعم من الشرعي والعقلائي هو المحبوب للشارع ، وهذا لا ينافي أَنْ يمضي الشارع السببية بأَنْ يثبت المسبَّب عند ثبوت السبب ، فانه مع ثبوت المسبَّب


العقلائي خارجا يثبت طبيعي المسبَّب لا محالة ولو في ضمن المسبب العقلائي وبعد وقوع طبيعي المسبب لا يكون وقوع فردٍ ثان منه وهو المسبَّب الشرعي مبغوضا ، فبإمكان الشارع أَنْ يجعل السببية ولكن ينهى عن المسبَّب كي لا يوجد السبب فلا يقع طبيعي المسبب خارجاً ولو في ضمن المسبب العقلائي (١).

الوجه الثاني ـ ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) وحاصله : انَّ صحة البيع مثلا يتوقف على تمامية ثلاثة أركان :

الركن الأول : أَنْ يكون طرف المعاملة كالبائع مثلا مالكا للعين أو منتهياً إلى المالك ، بأن يكون وكيلا عنه أو ولياً.

الركن الثاني ـ أَنْ يكون مسلطاً على التصرف الوضعي في العين بأَنْ لا يكون المالك مجنوناً أو محجراً عليه بنحو لا يمكنه إيجاد النقل والانتقال في أمواله.

الركن الثالث ـ أَنْ يؤتي بالصيغة المناسبة من الإيجاب والقبول أي تحقيق السبب.

فإذا اختل أحد هذه الأركان الثلاثة تصبح المعاملة باطلة وحينئذ يقال : بأنَّ النهي عن المسبَّب يوجب انهدام الركن الثاني ، فانه لو كان تمليك المصحف مثلا للكافر محرماً فلا سلطنة على هذا التصرف ، ومع انهدام الركن الثاني تبطل المعاملة لا محالة (١).

ثمَّ انه 1 أشكل بنفسه على هذا البيان بأنَّ النهي عن المسبَّب لو كان موجبا لبطلان المعاملة وعدم وقوع المسبَّب خارجاً لزم خروج المسبَّب عن قدرة المكلف ومع خروجه عن القدرة لا يعقل النهي عنه.

ثم أجاب عن الإشكال : بأنَّ النهي لو كان متعلقا بخصوص الحصة الشرعية من المسبب والتمليك الشرعي لاتجه الإشكال ، وامّا إذا فُرض النهي عن الحصة العقلائية من المسبب والتمليك العقلائي فلا يلزم المحذور ، لأنَّ النهي الشرعي لا يزيل السلطنة

__________________

(١) وهنا جواب آخر حاصله : إمكان أَنْ يكون الملاك في بقاء اختيار المكلف وقدرته على إيقاع المسبَّب في الخارج ومع ذلك يمتنع عنه ، وهذا الملاك يفوت فيما إذا لم تجعل السببية فلا بدَّ وأَنْ يجعلها الشارع مع النهي عن إيقاع المسبَّب خارجا ، وهذا يرجع بحسب الروح انَّ ملاك النهي في ترك المسبَّب وانه مشروط بالقدرة عليه بحيث تكون القدرة شرطاً للاتصاف.

(٢) أجود التقريرات ، ج ٢ ، ص ٤٠٤


العقلائية على المسبب العقلائي وانما يزيل السلطنة الشرعية فحتى بعد هذا النهي يبقى المكلف قادراً على تحقيق المسبب العقلائي.

هذا هو محصل كلامه ( قده ) ولنا حوله ثلاث كلمات :

الكلمة الأولى ـ انَّ النهي لو كان متعلقا بالمسبب العقلائي فالإشكال الّذي ذكره وإنْ كان يرتفع إلاّ انه يبطل حينئذٍ أصل الاستدلال الّذي ذكره لإثبات البطلان ، لأنَّ النهي عن المسبب العقلائي لا يزيل السلطنة على المسبب الشرعي حتى ينهدم الركن الثاني لصحة المعاملة.

ويمكن الجواب عن هذا بأحد نحوين :

الأول ـ أَنْ يُفرض الركن الثاني لصحة المعاملة السلطنة الشرعية على المسبب العقلائي أيضاً ، فيقال : بأنه مع النهي لا تثبت مثل هذه السلطنة.

الثاني ـ أَنْ يسلّم انَّ الركن هو السلطنة على المسبب الشرعي ولكن يُقال : بأنَّ النهي عن المسبب العقلائي الّذي يوجب زوال السلطنة الشرعية على المسبب العقلائي يدل بالدلالة الالتزامية العرفية على زوال السلطنة الشرعية على المسبب الشرعي أيضاً. وكان بإمكانه ( قده ) أَنْ يفترض تعلق النهي بالجامع بين المسبب الشرعي والمسبب العقلائي ، فينهى عن إيقاع الجامع بين الحصتين بأَنْ يفرض انَّ المطلوب مجموع عدم الحصة الشرعية والعقلائية ، فَتزول السلطنة على الحصة الشرعية وتبطل المعاملة من دون أَنْ يتعلق النهي بخصوص الحصة الشرعية فتصبح غير مقدورة وانما تعلّق بالجامع بين الحصتين والجامع مقدور وبتعبير آخر : المطلوب للشارع مجموع العدمين وهذا المجموع مقدور ما دام انَّ هناك قدرة على إزالة أحدهما.

الكلمة الثانية ـ انَّ الجواب الّذي بينه ( قده ) انما يحل المشكلة بلحاظ النهي الشرعي عن المسبب فما ذا يقال في النهي العقلائي عن السبب؟ إذ لا يوجد مشرع آخر قبل العقلاء كي يمكن أَن يقال بأنَّ النهي العقلائي يتعلق بالمسبب في تشريع ذاك المشرع ، فلا بدَّ وأَنْ يكون النهي العقلائي متعلقا بالمسبب العقلائي ومعه تزول السلطنة على المسبب عند العقلاء ومع زوالها يبطل المسبب العقلائي ومع بطلانه وعدم القدرة عليه كيف يعقل النهي عنه؟.


وكان بإمكانه أَنْ يجيب عن الإشكال بجواب آخر يتم بلحاظ كل مشرِّع حاصله : انَّ النهي حيث يستحيل أَنْ يتعلق بما يكون تمليكا بالفعل فلا بدَّ وأَنْ يحمل على انه نهيٌ عن التمليك اللولائي أي ما يكون تمليكا لو لا النهي ، ومن الواضح انَّ مثل هذا التمليك التقديري تحت قدرة المكلف حتى بعد ثبوت النهي.

وتوضيح ذلك : انَّ التمليك الفعلي وإِنْ كان خارجا عن قدرة المكلف بعد النهي وأيضا نفس ثبوت النهي أو عدم ثبوته خارج عن قدرته إلاّ انه قادر على أَنْ يجعل الملازمة بين عدم النهي وبين ثبوت التمليك الفعلي بأَنْ يثبت التمليك الفعلي لو لا النهي عن طريق إنشاء المعاملة.

وهذه الملازمة تحت قدرة المكلف حتى بعد النهي.

الكلمة الثالثة ـ انَّ أصل ما ذكره من الدليل على انَّ النهي يوجب البطلان غير صحيح ، فانَّ السلطنة التي قال بأنها تزول بالنهي عن المسبب لها أحد معان ثلاثة :

المعنى الأول ـ السلطنة بمعنى عدم المحرومية والممنوعية شرعاً عن إيجاد المسبب.

وهذا عبارة أخرى عن الجواز التكليفي وعدم الحرمة الشرعية وليس شيئاً آخر. فلو كان مقصوده ( قده ) من اشتراط السلطنة في صحة المعاملة اشتراط هذا المعنى فهذا عين المدعى فكيف يجعل دليلاً عليه فانَّ اشتراط السلطنة بهذا المعنى يعني اشتراط عدم النهي عن المسبب ، ومعنى أخذ عدم النهي شرطاً في صحة المعاملة انَّ النهي يوجب البطلان فانَّ النهي يصبح حينئذ مانعاً عن الصحة فهذا تلاعب بالألفاظ.

المعنى الثاني ـ السلطنة على المسبَّب بمعنى القدرة التكوينية على إيجاده ومن الواضح انَّ السلطنة بهذا المعنى يستحيل أَنْ تؤخذ في موضوع إمضاء المسبَّب ، فانَّ القدرة التكوينية على المسبَّب في طول إمضاء المسبَّب إذ مع عدم إمضاء الشارع للمسبَّب لا قدرة على إيجاده وإذا كانت القدرة في طول الإمضاء فكيف يُعقل أخذها في موضوعه؟ وإذا لم تكن السلطنة مأخوذة في موضوع الإمضاء فلا ضير في أَنْ يكون النهي عن المسبَّب مزيلا لها.

المعنى الثالث ـ أَنْ تكون السلطنة على المسبب عبارة عن مجرد الأمر الاعتباري ، أي اعتبار أَنَّ المكلف مالك لإيجاد المسبب وللتصرف الوضعي ، ومجرد اعتبار كونه مالكا


للتصرف الوضعي ولإيجاد المسبب لا يعني انَّ الشارع حقيقة أمضى المسبب وأقدره على التصرف الوضعي ، فيمكن أَنْ يفترض انَّ من شروط إمضاء الشارع للمسبب ثبوت هذا الاعتبار ولو بدليل اخر للمكلف ، فلو كان مقصوده ـ قده ـ من السلطنة هذا المعنى اتّجه عليه : أولاً ـ انه لا دليل على انه من شروط صحة المعاملة ثبوت هذا الاعتبار بل يمكن نفي احتمال الشرطية بإطلاق دليل صحة المعاملات ، وامّا فساد بيع مثل الصبي والمحجور عليه فليس باعتبار عدم ثبوت هذا الاعتبار لهما ، بل باعتبار وجود دليل خاص على الفساد يكون مقيداً للمطلقات.

وثانياً ـ لو سلم وجود دليل على اشتراط مثل هذا الاعتبار فنهي الشارع عن المسبب وتحريمه لا يوجب زواله إذ لا تنافي بين اعتبار التحريم وبين اعتبار كون المكلف مالكا لإيجاد المسبب ، لا بنحو التناقض لوضوح انَّ النسبة بين الاعتبارين ليست نسبة الوجود إلى العدم ، ولا بنحو التضاد فانَّ الاعتبار بما هو اعتبار سهل المئونة والتضاد بين الاعتبارات انما يكون بلحاظ آثارها وفي المقام لا يوجد تضاد بين أثر اعتبار التحريم وبين أثر اعتبار الملكية ، فانَّ الأول اثره استحقاق العقاب على تقدير المخالفة والثاني اثره حصول النقل والانتقال ولا تضاد بينهما ، بل لا تضاد بين هذين الاعتبارين حتى تصوراً ، فيلحظ انَّ المكلف مسلط على شيء ومالك له ولكن يطلب منه أَنْ لا يفعله. هذا تمام الكلام في الجهة الثانية.

واما الجهة الثالثة ـ ففيما إذا تعلق النهي بآثار المسبب بأَنْ ينهي البائع عن التصرف في الثمن مثلا ، ودلالة هذا النهي على بطلان المعاملة يكون بثلاثة طرق في ثلاث حالات :

الطريق الأول ـ أَنْ يكون النهي والتحريم موجباً لزوال كافة الآثار التي يترقب وجودها من ناحية المسبب ، وفي مثل ذلك يكون النهي دالاً على البطلان ، امّا باعتبار انَّ الأحكام الوضعيّة منتزعة من الأحكام التكليفية فما دام لا حكم تكليفي فلا يمكن انتزاع حكم وضعي ، وإمّا باعتبار انَّ جعل الحكم الوضعي من دون أَنْ يترتب عليه أي أثر يكون لغواً ولو لم يكن منتزعاً منه.

الطريق الثاني ـ أَنْ يكون التحريم موجباً لزوال الأثر الركني والرئيسي لا تمام


الآثار ، والمقصود بالأثر الرئيسي الأثر الّذي يكون لازماً عرفاً وعقلائياً للمسبب بنحو لا يتصور العقلاء ثبوت المسبب من دونه والنهي هنا أيضا يكون دالاً على بطلان المعاملة لكن لا بالدلالة الالتزامية العقلية ـ كما في الطريق الأول ـ بل بالدلالة الالتزامية العرفية.

الطريق الثالث ـ أَنْ يكون النهي مزيلاً لأثر غير ركني من الآثار ، هنا قد يقال بأنَّ مثل هذا النهي أيضا يوجب البطلان باعتبار انَّ المعاملة لو كانت صحيحة حتى بعد زوال الأثر لزم تخصيص دليل ذاك الأثر الدال على ترتبه على المعاملة الصحيحة فبمعونة أصالة عدم التخصيص يثبت بطلان المعاملة.

ويرد عليه : أولاً ـ انَّ المقام من دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص فلو كانت المعاملة صحيحة ومع هذا لا يترتب عليه الأثر فهذا معناه التخصيص في دليل الأثر ولو كانت المعاملة باطلة فهي خارجة عن موضوع دليل الأثر وهو معنى التخصص. والصحيح في موارد دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص عدم جريان أصالة عدم التخصيص لإثبات التخصّص.

وثانيا ـ لو سلّمنا جريان أصالة عدم التخصيص في أمثال المقام فيكون دليل الأثر دالاً لا محالة بإطلاقه على بطلان المعاملة وحينئذ لو كان هناك دليل يدل على صحة هذه المعاملة ولو بالإطلاق ـ كمطلقات أدلة الصحة ـ وقع التعارض لا محالة بين إطلاق دليل الصحة وبين إطلاق دليل الأثر فلا بدَّ من ملاحظة هذا التعارض فقد يتقدم دليل الصحة على إطلاق دليل الأثر.

هذا تمام الكلام في المقام الأول.

وامّا المقام الثاني ـ فقد يتمسك فيه ببعض الروايات لإثبات انَّ النهي عن المعاملة يوجب الفساد ، شرعا من قبيل رواية زرارة عن أبي جعفر 7 قال : سألته عن مملوك تزوج بغير اذن سيده فقال : ذاك إلى سيده إِنْ شاء أجازه وإِنْ شاء فرق بينهما.

قلت ـ أصلحك الله انَّ الحَكَم بن عيينة وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون : انَّ أصل النكاح فاسد ولا تحل إجازة السيد له.


فقال أبو جعفر 7 : انه لم يعص الله وانما عصى سيده فإذا أجازه فهو له جائز (١).

فيدّعى : انَّ ظاهر جواب الإمام انه لو كان عاصيا لله لكان النكاح باطلا من أصله ، وظاهر العصيان العصيان التكليفي لا الوضعي بمعنى الإتيان بالمعاملة الفاسدة فانَّ العصيان الوضعي ليس في الحقيقة عصيانا وتمرداً على المولى ، فلا بدَّ وأَنْ يكون المقصود انَّ العصيان التكليفي يوجب فساد النكاح وهذا يعني انَّ النكاح لو كان منهياً عنه لوقع باطلاً وهو معنى انَّ النهي عن المعاملة يوجب الفساد.

إلاّ أنَّ الصحيح : عدم إمكان المساعدة على هذا الاستدلال ، لوجود قرائن عديدة في الرواية تعيّن إرادة العصيان الوضعي والإتيان بما لم يمضه الشارع ، ولا أقل من الإجمال فلا يمكن التمسك بها.

القرينة الأولى ـ انَّ غاية ما فرض في السؤال انه تزوج بغير اذن سيده ، فحتى لو فرض انَّ سيده كان قد نهاه ومنعه عن ذلك منعاً تكليفياً أيضا حمل معصية السيد على المعصية التكليفية خلاف الظاهر ، بل لا بدَّ وأَنْ يكون المقصود المعصية الوضعيّة وانَّ سيده لم يكن يمضي هذا الزواج ولم يأذن به.

فإذا كان المقصود من عصيان السيد العصيان الوضعي فلا بدَّ وأَنْ يكون المقصود من عصيان الله أيضا العصيان الوضعي باعتبار انه جعل في قبال عصيان السيد فقيل ( انه لم يعص الله وانما عصى سيده ) ، غاية الأمر عدم عصيانه لله يكون باعتبار انَّ الله تعالى أمضى قانون النكاح كلّية وعصيانه لسيده يكون باعتبار عدم إمضائه لشخص هذا النكاح.

القرينة الثانية ـ ظاهر الرواية انَّ بطلان هذا النكاح يكون باعتبار انه عصى سيده ثم بعد ذلك قيل ( فانْ أجاز فهو له جائز ) وظاهره انه إنْ أجاز وارتفع المحذور السابق الّذي هو عصيان السيد صح النكاح ، ومن الواضح انَّ العصيان الّذي يمكن أَنْ يرتفع بعد العمل ويتبدل إلى الإجازة والاذن إنما هو العصيان الوضعي بمعنى عدم الإمضاء فانه يمكن أَنْ تكون المعاملة قبل وقوعها غير ممضاة ثم بعد ذلك تمضي. وامّا العصيان

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١٤ ـ ب ٢٤ من أبواب نكاح العبيد والإماء ص ٥٢٣


والنهي التكليفي فيستحيل أَنْ يتبدل إلى الجواز والترخيص بعد العمل ، فلا بدَّ وأَنْ يُحمل العصيان على الوضعي.

القرينة الثالثة ـ ظاهر العبارة انَّ العبد عصى سيده ولم يعصِ الله فلو حملنا المعصية على المنع الوضعي فالتفرقة بين الله والسيد معقولة ، وامّا لو كان المقصود المعصية التكليفية فمن الواضح انَّ معصية السيد تلازم معصية الله لأنَّ الله قد امر بإطاعة السيد وعدم عصيانه فمعصية السيد عصيان لهذا الأمر الشرعي ، اللهم إلاّ أَنْ تحمل عدم معصية الله على عدم معصيته بلحاظ التكليف المربوط بالنكاح بالخصوص لا بلحاظ مطلق التكاليف. ولكنه تقييد بلا موجب.

القرينة الرابعة ـ انَّ الإمام 7 فرض انَّ العبد عصى سيده وهذا لا يكون إلاّ إذا كان المقصود العصيان الوضعي لا العصيان التكليفي فانَّ النهي التكليفي للسيد لو كان متعلقا بمجرد إنشاء العقد والتلفظ بألفاظه فليس من حقه مثل هذه النواهي التحكميّة ، ومع عدم استحقاقه لا طاعة مثل هذه النواهي عقلائياً فلا تكون مخالفتها عصيانا له شرعا ، ولو كان نهيه متعلقا بالمسبب وبإيجاد العلقة النكاحية فهذا النهي بعد لم يعص لعدم وقوع المسبَب خارجا ما لم يمض السيد والمفروض انَّ الإمضاء غير ثابت اذن فالعصيان غير ثابت ، وبهذا ينتهي البحث عن اقتضاء النهي للفساد.


المباحث الدليل اللفظي

المفاهيم

ـ تعريف المفهوم

ـ ضابط اقتناص المفهوم

ـ دلالة الجملة الشرطية على المفهوم

(مفهوم الشرط)

ـ عدم دلالة الوصف على المفهوم

(مفهوم الحصر)



المفاهيم

الكلام في المفاهيم يقع في عدة جهات :

« تعريف المفهوم »

الجهة الأولى ـ في تعريف المفهوم اصطلاحاً وبيان ما هو المقصود منه في هذا البحث كي يتحدد موضوع البحث.

لا إشكال في إنَّ المفهوم يكون مدلولاً التزامياً للكلام في مقابل المدلول المطابقي ، ولكنه من الواضح انه ليس كلّ مدلول التزامي مفهوماً فمثلاً حرمة ضد الواجب تثبت بالدلالة الالتزامية لدليل الوجوب بناء على انَّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده مع انه لا إشكال في انَّ دلالة الأمر على حرمة الضد لا تكون من المفاهيم ، وهكذا بطلان العبادة أو المعاملة يكون مدلولاً التزامياً للنهي عنها ـ بناء على الاعتراف به ـ مع انه ليس من المفاهيم ، وأيضاً وجوب المقدمة يكون مدلولاً التزامياً لدليل وجوب ذي المقدمة ـ بناء على القول بالملازمة بين الوجوبين ـ مع انَّ البحث عن وجوب المقدمة لا يدخل في بحث المفاهيم.

اذن لا بدَّ وأَنْ تكون هناك نكتة أُخرى إضافية مع وجودها يصبح المدلول الالتزامي مفهوماً ، فما هي تلك النكتة الإضافية؟ ، وفي مقام بيان هذه النكتة توجد وجوه عديدة :

الوجه الأول ـ ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) على ما في تقريرات بحثه وحاصله :


انَّ المفهوم عبارة عن المدلول الالتزامي فيما إذا كان اللازم بيّناً بالمعنى الأخص ، أي يكون مجرد تصور المدلول المطابقي كافياً لتصوره ، ومن هنا لا يكون وجوب المقدمة المستفاد من دليل وجوب ذي المقدمة من المفاهيم إذ مجرد تصور وجوب ذي المقدمة لا يستدعي تصور وجوب المقدمة (١).

وهذا الوجه لا ينطبق على واقع البحث الّذي يبحثه الأصوليون في باب المفاهيم بما فيهم هذا المحقق نفسه ، فانهم طرحوا وجوهاً لإثبات المفهوم على تقدير تماميتها يثبت اللازم ولكن لا يكون بيّناً بالمعنى الأخص بل قد يكون لازماً غير بين ، فمثلاً تمسكوا لإثبات المفهوم بقاعدة فلسفية هي انَّ الواحد لا يصدر إلاّ من واحد ، امّا ببيان انَّ مقتضى إطلاق الشرط انه مؤثر في الجزاء على كل حال سواءً قارنه أو سبقه شيء آخر أم لا ، وحينئذٍ لو كان هناك شيء آخر علّة لنفس الحكم في الجزاء أيضاً فلو تحقق ذاك الشيء الاخر قبل تحقق الشرط في الخارج لكان ذاك الشيء الاخر هو الموجد للجزاء دون الشرط ، ولو تحقق ذاك الشيء مع الشرط معاً ومتقارنين كان المجموع علّة لا الشرط بخصوصه ، فبالنتيجة لا يكون الشرط بما هو هو علّة للجزاء عند سبق ذلك الشيء الاخر أو عند تقارنه معه والا لزم صدور الواحد بالشخص ـ الّذي هو الحكم بالجزاء ـ من الاثنين وهو مستحيل ، وامّا ببيان انه لو كان هناك علّة أخرى في جانب الشرط فلو كان المؤثر الشرط بعنوانه وذاك البديل بعنوانه لزم صدور الواحد بالنوع ـ وهو طبيعيّ الحكم في الجزاء ـ من الاثنين وهو مستحيل ولو كان المؤثر هو الجامع بين الشرط وذاك البديل فهذا خلاف ظهور الشرط في كونه مؤثراً بعنوانه.

فأثبتوا المفهوم في الجملة الشرطية بقانون فلسفي لا يدركه إلاّ الفلاسفة ، فكيف يكون المفهوم الثابت بمثل هذا القانون الفلسفي لازماً بيناً بالمعنى الأخص (٢).

__________________

(١) فوائد الأصول ، ج ١ ، ص ٤٧٧

(٢) لعلّ المقصود من كونه لازماً بيناً أَنْ يكون مستفاداً من داخل الجملة بلا حاجة إلى ضمّ مقدمة خارجية ، وما ذكر في تقريب دلالة الشرطية على المفهوم من التمسك بقواعد فلسفية امّا أَنْ تُحمل على تخريج ما هو مفهوم عرفاً من الشرطية بعد الفراغ عن أصل الظهور ، أو يكون خطأً في البرهنة والاستدلال على المدّعى الّذي ينبغي أَنْ يكون امراً عرفياً.

وعلى كل حال فالإشكال على هذا الوجه انه ليست كل دلالة التزامية بيّنة مستفادة من داخل الجملة مفهوماً فمثلاً استفادة ـ


الوجه الثاني ـ ما ذكره المحقق الخراسانيّ ( قده ) وحاصله : انَّ المفهوم عبارة عن حكم إنشائي أو إخباري لازم لخصوصية في المدلول المطابقي لا لأصل المدلول المطابقي ، سواءً كانت هذه الخصوصية ثابتة بالوضع أو بمقدمات الحكمة ، فمثلاً وجوب الوضوء لازم لأصل وجوب الصلاة الّذي هو المدلول المطابقي للدليل وهذا لا يكون من المفاهيم بينما مفهوم الشرط ليس لازماً لأصل الشرطية وأصل الربط وانما هو لازم لخصوصية في الربط ، وهو كون الربط بنحو العلّية الانحصارية ، وهذه الخصوصية تثبت بالإطلاق ومقدمات الحكمة على ما سوف يأتي إن شاء الله تعالى بيانه ، ثمَّ بعد هذا قال ( قده ) سواءً وافقه في الإيجاب والسلب أو خالفه ويقصد من هذا تعميم المفهوم لمفهوم الموافقة والمخالفة معاً (١).

وفيه :

أولا ـ انه بناء على التعريف السابق الّذي بينه للمفهوم لا يُعقل إدخال مفهوم الموافقة في المفاهيم فانّه لازم لأصل المدلول المطابقي لا لخصوصية فيه ، فمثلا حرمة الضرب تكون لازماً لأصل المدلول المطابقي لقوله تعالى ( ولا تقل لهما أُفٍ ) وإِنْ كان بحسب الغرض مفهوم الموافقة خارجاً عن هذا البحث المعقود لأجل مفاهيم المخالفة بالخصوص.

ثانياً ـ انَّ ما ذكره من التعريف ليس مانعاً فانه قد ينطبق على ما ليس مفهوماً كوجوب المقدمة الّذي هو لازم لوجوب ذي المقدمة ، بناء على انَّ المدلول المطابقي لصيغة الأمر ليس هو الوجوب وانَّما هو الطلب والوجوب مستفاد من الإطلاق ومقدمات الحكمة ، فانه حينئذٍ يصبح وجوب المقدمة لازماً لخصوصية في المدلول المطابقي مع انه ليس من المفاهيم حتى بناء على استفادة الوجوب من مقدمات الحكمة.

الوجه الثالث ـ ما ذكره المحقق الأصفهاني ( قده ) من انَّ المفهوم عبارة عن التابع في الانفهام مع فرض كون حيثية الانفهام مأخوذة في المنطوق ، فانَّ حيثية انفهام

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ٣٠٠ ـ ٣٠١

الوجوب من صيغة الأمر أو من الجملة الخبرية ـ بناء على بعض المسالك المتقدمة في شرحه ـ انما يستفاد بالدلالة الالتزامية ولكنه ليس مفهوماً ، وكذلك دلالة دليل مطهريّة شيء على طهارته بالملازمة.


المدلول الالتزامي من المنطوق الّذي هو المدلول المطابقي ـ سواءً كان من أصله أو من حدّه وخصوصيته كما ذكر الخراسانيّ ـ تارة : يدل عليها المنطوق أيضاً ، كما في دلالة الجملة الشرطية على الانحصار ، وأخرى : لا يدل عليها المنطوق ، كما في دلالة الأمر بشيء على وجوب مقدمته ، فانَّ حيثية الملازمة لا تُستفاد من المنطوق بل لا بدَّ من البرهنة عليها من الخارج ، فالأوّل هو المفهوم والثاني ليس بمفهوم (١).

والجواب : انَّ حيثية الانفهام لا نفهم منها إلاّ برهان الملازمة ونكتتها وهي مشتملة على كبرى وصغرى ، فلو أُريد اشتراط استفادة الصغرى من المنطوق دخل تمام موارد الدلالات الالتزامية حيث انَّ المدلول المطابقي فيها هو صغرى الملازمة أي الملزوم ، وإِنْ أُريد اشتراط استفادة كبرى الملازمة من المنطوق وهي الانتفاء عند الانتفاء فهذه غير مستفادة من منطوق الجملة الشرطية بل هو لازم المنطوق ، ولو كان مستفاداً من المنطوق لكان الانتفاء منطوقاً لا مفهوماً كما إذا دلَّ دليل على انتفاء الحكم المبيَّن فيه عند انتفاء قيده أو شرطه.

الوجه الرابع ـ ما هو الصحيح عندنا وحاصله : انَّ القضية التي تربط بين جزءين لا محالة يكون اللازم لهما امّا لازماً لنفس هذين الجزءين بنحو لو بدلنا أحد الجزءين بشيء آخر فلا يثبت اللازم ، أو لازماً للربط بين الجزءين بنحو يكون اللازم ثابتاً ما دام انَّ الربط الخاصّ ثابت وإِنْ تغير طرفاه ، فالقسم الثاني من اللازم هو المفهوم دون الأول ، مثال القسم الأول أَنْ يُقال ( صلِّ ) فانه يدل بالملازمة على وجوب مقدمة الصلاة إلاّ أنَّ وجوب المقدمة يكون لازماً للحكم في صلِّ بنحو لو غيرنا هذا الحكم وافترضنا أنِّ الصلاة مباحة لا واجبة لا يثبت وجوبها.

وكذلك لو قيل : ( أكرم ابنَ العلوية ) وافترض انَّ اللازم له وجوب إكرام نفس العلوية أيضاً بالفحوى فانَّ هذا لا يكون لازماً للربط بين الحكم والموضوع وانما يكون لازماً لنفس الموضوع ، بدليل أنه إذا غيرنا الموضوع بموضوع آخر وقلنا ( أكرم اليتيم ) فلا يثبت هذا اللازم ولا يدل على وجوب إكرام أم اليتيم مع انَّ نفس الربط السابق

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ١ ، ص ٣١٩ ـ ٣٢٠


بين الحكم والموضوع محفوظ.

ومثال القسم الثاني الجمل الشرطية ، كأنْ يقال ( إِنْ جاءك زيد فأكرمه ) فانه يدل بالملازمة على الانتفاء عند الانتفاء ، لأنَّ اللازم لازم لنفس الربط الخاصّ بين الشرط والجزاء ولا يكون لازماً لذات الشرط ولا لذات الجزاء ، بدليل إنّه لو غير الشرط والجزاء معاً أيضاً دلت الجملة على الانتفاء عند الانتفاء لو كان نفس الربط السابق محفوظاً كما إذا قيل بدلاً عن المثال السابق ( إِنْ جاءك مظلوم فأعِنْهُ ) ، فانها أيضاً تدل على الانتفاء عند الانتفاء ، غاية الأمر مع تبديل أطراف منطوق الجملة يتبدل أطراف المفهوم لا أصله (١).

« ضابطة الدلالة على المفهوم »

الجهة الثانية ـ بعد أَنْ عرفنا المقصود من المفهوم فما هو المناط في استفادة المفهوم من الجملة؟ يعني انه ما هي النكتة التي لو ثبت دلالة جملة ما ـ شرطية كانت أو وصفية أو غائية أو غير ذلك ـ عليها كانت الجملة دالة على المفهوم ، وبعبارة ثالثة : كنا نتكلم في الجهة السابقة عن تعريف نفس المفهوم فعرفنا انَّ المفهوم عبارة عن لازم الربط الخاصّ في الجملة ، وهنا نريد أَنْ نتكلم عن الموجب لثبوت لازم الربط ، فالجملة لا بدَّ وأَنْ تكون بأي شكل حتى يكون للربط فيه لازم يسمّى بالمفهوم؟.

وفي مقام تحقيق ذلك ذكر المشهور انَّ الضابط لاستفادة المفهوم من الجملة يتركب من ركنين إذا تم الركنان أصبحت للجملة مفهوم.

الركن الأول : أَنْ تكون الجملة دالة على الربط اللزومي العلّي بنحو العلّية التامة

__________________

(١) لعلّ الأوفق أَنْ يقال : بأنَّ المفهوم ما يكون لازماً لخصوصية أخذت في القضية زائداً على أصل النسبة الحكمية سواءً كانت خصوصية للموضوع والمحمول ـ كما في مفهوم الموافقة ـ أو خصوصية في ثبوت المحمول للموضوع ـ كما في مفهوم الشرط والوصف ـ.

وامّا ما أُفيد فيمكن أَنْ يورد عليه عدة ملاحظات :

(١) لا يشمل مفهوم الموافقة لو أُريد به تعريف الأعم منها ومن مفهوم المخالفة.

(٢) لا يشمل مثل مفهوم العدد الّذي يكون المدلول الالتزامي فيه لنفس العدد الّذي هو مفهوم اسمي لا للربط.

(٣) يعم دلالات ليست من المفهوم كدلالة قولنا من كان عالماً وجب إكرامه على انَّ من لا يجب إكرامه ليس بعالم ـ مع قطع النّظر عن حجيته وعدمها ـ مع انه ليس بمفهوم اصطلاحاً.


الانحصارية ، يعني لا بدَّ وأَنْ تكون الجملة الشرطية مثلا دالة على ربط الجزاء بالشرط ـ والجملة الوصفية دالة على ربط حكم الموصوف بالوصف وهكذا ـ ربطاً لزومياً لا اتفاقياً ، وعلّياً بنحو يكون الشرط علّة للجزاء لا أَنْ يكونا معلولين لعلّة ثالثة ، ولا بدَّ وأَنْ يكون بنحو العلّة التامة لا الناقصة ، وأَنْ تكون علّة انحصارية بنحو لا يكون لها بدل ، فلو ثبت هذا الركن الأول يثبت لا محالة انَّ الحكم المجعول في الجزاء سوف ينتفي بانتفاء الشرط.

الركن الثاني : أَنْ يكون هذا اللازم المربوط بالربط اللزومي العلّي الانحصاري بملزومه نوع الحكم لا شخص الحكم كي يكون المنتفي عند انتفاء الشرط نوع الحكم لا شخصه ، فانه لو كان المنتفي شخص الحكم بالوجوب مثلا فلا مفهوم إذ مع انتفاء الشرط يحتمل أَنْ يكون وجوب نفس الفعل ثابتاً لكن في شخص اخر وبملاك آخر.

والتحقيق في المقام يقتضي البحث عن نقطتين :

النقطة الأولى ـ فيما يرجع إلى الركن الأول والنقطة الثانية فيما يرجع إلى الركن الثاني.

امّا النقطة الأولى ـ فالصحيح في الركن الأول انه يكفي أَنْ يكون الحكم في الجزاء منوطاً وملصقاً بالشرط بنحو لا ينفك عنه ، أي مهما ثبت الحكم في الجزاء ثبت الشرط ، فانه حينئذ إذا انتفى الشرط سينكشف لا محالة انتفاء الجزاء سواءً فُرض انَّ الشرط والجزاء معلولان لعلّة ثالثة منحصرة أو فرض عدم ثبوت العلّية أصلاً بل كان التلازم والالتصاق على سبيل الصدفة والاتفاق ، فعلى كل حال لو كان الجزاء ملصقاً بالشرط سينكشف من عدم الشرط عدم الجزاء لا محالة (١).

__________________

(١) لا معنى للنسبة التوقفية أو الالتصاقية في المقام ، إذ لو أُريد بذلك نسبة خارجية كنسبة الظرفية في الخارج فمن المحقق في محلّه انَّ النسب الخارجية كلها نسب ناقصة تحليلية ومدلول الجملة الشرطية نسبة تامة فلا يمكن أَنْ تكون خارجية ، على انه لا توجد في الخارج نسبة توقفية تختلف عن النسبة والربط غير التوقفي وانما التوقف والالتصاق كالانحصار ينتزع من ملاحظة عدم وجود الجزاء في غير مورد وجود الشرط وهذا خارج عن مدلول الربط والنسبة.

نعم هنا مطلب اخر لا بدَّ من التوجه إليه وهو انَّ ربط الجزاء بالشرط تارة : يكون عارضاً على الجزاء بحيث يكون طبيعيّ الحكم الّذي هو الجزاء في مركز الموضوع وبمثابته ويعرض التعليق والربط بالشرط عليه ، فيكون كما لو قلنا طبيعيّ الحكم بوجوب إكرام زيد مربوط بمجيئه ، وأخرى : يجعل ما هو في مركز الموضوع وبمثابته جملة الشرط وجملة الجزاء بمثابة


ثم انه لا فرق بين أَنْ يكون هذا التلازم والالتصاق ثابتاً على مستوى المدلول التصوري للجملة أو على مستوى المدلول التصديقي.

تفصيل ذلك انه تارة ، يُقال : بأنَّ الجملة بهيئتها أو بأداتها تدل على النسبة الالتصاقية والتوقفية فكأنما قيل بدلاً عن ( إِنْ جاءك زيد فأكرمه ) ( وجوب إكرام زيد موقوف على مجيئه أو ملصق به ) وأُخرى يقال : بأنَّ الجملة تدل على النسبة الإيجادية فكأنما قيل بدلاً عن المثال السابق ، ( مجيء زيد موجب وسبب لوجوب الإكرام ) فلو فرض انَّ مفاد الهيئة أو الأداة هو النسبة الالتصاقية فيتم الركن الأول لا محالة وسينكشف من انتفاء الشرط انَّ الجزاء أيضاً منتف ، إذ لو كان الجزاء ثابتاً من دون ثبوت الشرط فهذا خلف التصاقه به وتوقفه عليه ، ولو فرض انَّ مفاد الهيئة أو الأداة النسبة الإيجادية فبمجرد هذا المدلول التصوري لا يمكن أَنْ نثبت الركن الأول من التصاق الحكم في الجزاء بالشرط إذ يمكن أَنْ يفترض انَّ الشرط موجد للحكم في الجزاء ولكن مع هذا لا يكون الحكم في الجزاء ملصقا بالشرط ، وذلك كما إذا فرض ثبوت موجدين وعلّتين في الجزاء ، فقد يثبت الحكم في الجزاء من دون أَنْ يثبت الشرط.

اذن لو فرض انَّ الهيئة أو الأداة كانت موضوعة للنسبة الإيجادية فلا يمكن إثبات

__________________

المحمول وفي مركزه والربط نسبة بينهما. فعلى الأول يتم المفهوم ولا يحتاج في اقتناصه إلى أكثر من أصل الربط لأنَّ معناه انَّ طبيعيّ الحكم مربوط بالشرط فيكون بمقتضى الإطلاق أن كل فرد من افراد الحكم يكون مربوطا بالشرط لما تقدم من انَّ الإطلاق في طرف ما هو موضوع حقيقة ولبّا انحلالي ، وعلى الثاني ، لا يمكن إثبات المفهوم ، إذ سوف يتعامل مع طبيعيّ الحكم في الجزاء كما يتعامل مع طبيعيّ الحكم في طرف المحمول فيكفي في تصادق جملتي الجزاء والشرط صدق فرد من الحكم عند تحقق الشرط.

وهذا ضابط اخر لاقتناص المفهوم ، إلاّ انَّ الوجدان العرفي يشهد بأننا حتى لو سلّمنا انَّ الجملة الشرطية تدل على الربط والنسبة التامة بين جملتي الجزاء والشرط بحيث يكون هو المنظور إليه أساساً ، وان المدلول التصديقي للجملة هو الحكاية عن هذا الربط والتلازم والتصادق مع ذلك لا نقبل انَّ ذلك عارض على الجزاء وبمثابة المحمول له ، والمنبه إلى هذا الوجدان امران :

الأول ـ لو كان الأمر كذلك لزم ثبوت المفهوم حتى للجملة الشرطية الخبرية كقولك ( إذا شربت السم تموت ) إذ يكون معناه انَّ موتك معلّق على شرب السم مع وضوح عدم استفادة المفهوم من الجمل الشرطية الخبرية.

الثاني ـ لزوم لغوية التعليق في الشرطية المسوقة لبيان الموضوع كقولك ( إذا رزقت ولداً فاختنه ) إذ يكون المعنى ختان ولدك معلّق على وجوده وهذا أشبه بالقضية بشرط المحمول.


الركن الأول من الالتصاق على أساس المدلول التصوري. نعم قد يمكن إثبات ذلك على أساس المدلول التصديقي ، وذلك كما إذا تمسكنا بقاعدة انَّ الواحد لا يصدر إلاّ من واحد بتقريب : انه لو كان للحكم في الجزاء علّة أخرى غير الشرط لزم صدور الواحد من اثنين وهو مستحيل اذن فالجزاء لا يصدر إلاّ من الشرط وهذا يعني التصاقه به فمع عدم الشرط لا بدَّ وأَنْ يكون الجزاء معدوماً أيضا.

فانْ قيل : بالإمكان أَنْ نفترض انَّ الهيئة أو الأداة موضوعة لخصوص النسبة الإيجادية الانحصارية بنحو يكون الشرط موجداً منحصراً ليس له بدل فيثبت التصاق الحكم في الجزاء بالشرط على أساس المدلول التصوري ومن دون احتياج إلى ضم المدلول التصديقي.

قلنا ـ انَّ هوية النسبة الإيجادية بين الشرط والجزاء وماهيتها لا تختلف ولا تتغير بافتراض وجود موجد اخر للجزاء أو عدم وجوده ، فعلى كل حال النسبة الإيجادية نفس النسبة الإيجادية ولا تتحصص بحصتين حتى يمكن أَنْ يقال انَّ الهيئة أو الأداة موضوعة لخصوص هذه النسبة الإيجادية دون تلك.

نعم يمكن تصنيف النسبة إلى صنفين بالتقييد بمفهوم اسمي فيقال مثلاً النسبة الانحصارية أو النسبة مع الانحصار إلاّ انَّ هذا مفهوم اسمي لا يمكن أخذه في مدلول الهيئة أو الأداة الحرفي.

النقطة الثانية ـ ذكروا أنه لا بدَّ وأَنْ يكون مدلول الجزاء ـ إذا افترض انَّ الجملة شرطية ـ طبيعيّ الحكم وسنخه لا شخصه حتى يمكن أَنْ يستكشف من انتفاء الشرط انتفاء الحكم ، وامّا استكشاف انتفاء شخص الحكم الّذي قد يثبت في كل قضية فليس هو المفهوم لاحتمال وجود شخص اخر من نفس الحكم. ولنا حول هذا الركن تعليقان :

التعليق الأول ـ انه قد يستشكل على هذا الركن بأنَّ كون الجزاء المعلّق على الشرط طبيعي الحكم له أحد معنيين ، فانَّ الطبيعة تارة : تلحظ بنحو مطلق الوجود فتشمل تمام الافراد ، وأخرى : تلحظ بنحو صرف الوجود ، فلو كان المقصود من الركن الثاني انه لا بدَّ أَنْ يكون المعلّق على الشرط تمام افراد الحكم فكأنما قيل تمام افراد


وجوب إكرام زيد يثبت عند مجيئه ،

فمن الواضح انه بناء على هذا لا احتياج إلى افتراض وجود الركن الأول بل حتى مع انتفاء الركن الأول يستفاد المفهوم ، فلو فرضنا انَّ الجملة الشرطية تدل على النسبة الإيجادية لا النسبة التوقفية وانَّ قاعدة انَّ الواحد لا يصدر إلاّ من واحد غير صحيحة كي لا يثبت الركن الأول تكون الجملة بمثابة أَنْ يقال : ( انَّ مجيء زيد موجد لتمام افراد وجوب إكرامه ، ) ومن الواضح انه يستفاد من مثل هذا انه مع عدم مجيئه لا يجب إكرامه ، إذ لو وجب إكرامه حتى مع عدم مجيئه فهذا فرد من افراد وجوب الإكرام لا يكون مجيء زيد موجداً له وهذا خلف افتراض انَّ مجيء زيد موجد لتمام افراد وجوب الإكرام.

ولو كان المقصود من الركن الثاني انَّ المعلّق على الشرط صرف وجود الطبيعة من الحكم ، فهذا يعني انَّ الوجود الأول منه يكون معلّقاً على الشرط فانَّ صرف الوجود دائماً يتحقق بالوجود الأول فيكون مفاد الجملة انَّ أول افراد وجوب الإكرام معلّق على مجيء زيد. وهذا يثبت منه نصف المفهوم لا تمامه ، فانه لو لم يجئ زيد أصلا يثبت عدم وجوب الإكرام لكن لو فرض انه جاء مرة فوجب إكرامه فأكرمناه ثم بعد ذلك مرض فشككنا انه هل يجب أيضا إكرامه بملاك مرضه أم لا؟ لا يمكن حينئذٍ نفي احتمال وجوب إكرامه بمفهوم الجملة ، فانَّ مفهوم الجملة ينفي الوجود الأول لوجوب الإكرام والمفروض انَّ الوجود الأول قد تحقق خارجاً.

فخلاصة الإشكال : انه لو كان المقصود تعليق مطلق وجود الحكم على الشرط فسوف يكفينا هذا الركن دون الحاجة إلى الركن الأول لإثبات المفهوم ، ولو كان المقصود تعليق الوجود الأول للحكم على الشرط فلا يكفي لإثبات تمام المفهوم حتى لو ضم إليه الركن الأول.

والجواب ـ انه ليس المقصود اشتراط أَنْ يكون المعلّق مطلق وجود الحكم ولا اشتراط أَنْ يكون المعلق الوجود الأول للحكم وانما المقصود اشتراط أَنْ يكون المعلّق طبيعي الحكم بما هو هو ومن دون لحاظ شيء زائد عليه ، ومن الواضح انَّ الإطلاق والشمول أحد الوجود الأول شيء زائد على نفس الطبيعة ، وقد قلنا في بحث التمييز بين


الأمر والنهي ، انه لو كان المحمول على الطبيعة مقتضياً لإيجاد الطبيعة ـ إنشاءً أو إخباراً ـ فلا يؤثر إلاّ في إيجاد فرد واحد فانَّ الطبيعة توجد بوجود فرد واحد منها ، ولو كان المحمول على الطبيعة مقتضياً لإعدام الطبيعة ـ إنشاءً أو إخباراً ـ فيؤثر في إعدام جميع الافراد فانَّ الطبيعة لا تنعدم إلاّ بانعدام جميع الافراد ، فالطبيعة في إكرام رجلا وفي لا تكرم رجلا لوحظت بما هي هي ومن دون قيد زائد والملحوظ فيهما شيء واحد ولكن مع هذا يكفي في امتثال الأمر إكرام شخص واحد ولا يكفي في امتثال النهي إلاّ ترك إكرام تمام الرّجال ، وبناء على هذا الفهم فلو افترضنا في المقام انَّ الركن الأول تم وثبت انَّ طبيعي الحكم بما هو هو ملتصق بالشرط ومحصور فيه فالالتصاق والحصر يكون من قبيل المحمول الّذي يوجب إعدام الطبيعة بشيء وحصرها فيه أي انه مع عدم ذلك لا توجد الطبيعة اذن فلا بدَّ وأَنْ تنتفي تمام افرادها وهذا هو معنى المفهوم ، وامّا لو افترضنا انَّ الركن الأول لم يتم دليله بل كان غاية ما تدل عليه الجملة انَّ طبيعي الحكم يوجد بالشرط فمن الواضح انَّ المحمول على الطبيعة حينئذ يكون مقتضياً لإيجاد الطبيعة فيكون مؤثراً في فرد واحد منها فقط ، وهذا يعني انه يحتمل أَنْ يكون هناك فرد من افراد طبيعي الحكم لا يوجد بهذا الشرط ولكن يوجد بشيء اخر وهو معنى عدم المفهوم.

التعليق الثاني ـ انَّ هذا الركن الثاني أعني اشتراط كون مدلول الجزاء سنخ الحكم لا شخصه انما يحتاج إليه لو اقتنصنا الركن الأول من المدلول التصوري للجملة فقلنا ، انَّ مدلول الجملة النسبة الالتصاقية والتعليقية ، فانه لو كان شخص الحكم هو الملتصق لا سنخ الحكم فلا يمكن أَنْ يستفاد انتفاء مطلق الحكم عند انتفاء الشرط ، واما لو اقتنصنا الركن الأول من المدلول التصديقي بواسطة قانون انَّ الواحد لا يصدر إلاّ من واحد فلا نحتاج حينئذ إلى الركن الثاني بل يمكن استفادة المفهوم حتى مع فرض انَّ مدلول الجزاء شخص الحكم لا سنخه ، فانه لو كان المقصود من انَّ الواحد لا يصدر إلاّ من واحد انّ الواحد بالنوع لا يمكن ان يصدر من اثنين بالنوع فلو كان هناك شخص آخر من نفس نوع الحكم مترتب على شيء اخر غير الشرط لزم صدور الواحد بالنوع من اثنين فلا بدَّ وأَنْ ينتفي تمام افراد النوع عند انتفاء الشرط كي لا يلزم صدور الواحد بالنوع من اثنين ، ولو كان


المقصود من ذاك القانون انَّ الواحد بالشخص لا يصدر إلاّ من واحد فائضاً يمكن استفادة المفهوم ، فانه لو كانت هناك علّة أخرى غير الشرط فامّا أَنْ تكون علّة لنفس هذا الشخص من الحكم وامّا أَنْ تكون علّة لشخص اخر من الحكم ويلزم من الأول صدور الواحد بالشخص من الاثنين ويلزم من الثاني اجتماع المثلين ، إذ يلزم أَنْ نثبت وجوبين على إكرام زيد عند تحقق كلتا العلّتين.

إلاّ انَّ الصحيح عدم صحة التمسك بهذا القانون في مقام إثبات الركن الأول على ما سوف يأتي في الجهة الثالثة المعقودة لبحث دلالة الجملة الشرطية على المفهوم. ولهذا يكون الركن الثاني شرطاً أساسياً لاستفادة المفهوم.

ثم انَّ المحقق العراقي ( قده ) قال : بأنَّ نزاع الأصحاب في بحث المفاهيم انما وقع في الركن الثاني فجعل ضابط اقتناص المفهوم أَنْ يستفاد من الجزاء تعليق سنخ الحكم.

وامّا الركن الأول ففرض انَّ ثبوته متفق عليه عندهم حتى في مثل الجملة الوصفية ، وقد استدل على ذلك باتفاق العلماء في باب المطلق والمقيد على حمل المطلق على المقيد لو أحرز وحدة الحكم ، وهذا لا يمكن أَنْ يفسر إلاّ على أساس أَنَّ القيد والوصف علّة منحصرة للحكم والحكم ملتصق به ، إذ لو فرض احتمال وجود علّة أخرى للحكم لاحتمل ثبوت الحكم مع انتفاء القيد فلا وجه لحمل المطلق على المقيّد بل لا بدَّ وأَنْ يؤخذ بالمطلق والمقيد معاً (١).

وهذا الّذي أفاده ( قده ) لا يمكن المساعدة عليه : لأنَّ المطلوب من الركن الأول في باب المفاهيم أَنْ يكون الشرط علّة منحصرة للحكم في الجزاء حتى لو فرض انَّ الحكم في الجزاء سنخ الحكم لا شخصه ، وبتعبير أصح : المطلوب من الركن الأول في باب المفهوم أَنْ يكون الحكم في الجزاء ملتصقا بالشرط لو فرض انَّ الجزاء سنخ الحكم فانَّ كون الحكم في الجزاء ملتصقا بالشرط على تقدير كونه حكماً شخصياً امر مسلم ولكنه لا يفيد في اقتناص المفهوم ما دمنا نحتاج إلى الركن الثاني ، فنحتاج في اقتناص المفهوم من الجملة إلى أَنْ يكون الحكم في الجزاء ملصقا بالشرط على كل حال يعني حتى لو

__________________

(١) مقالات الأصول ، ج ١ ، ص ١٣٨


فرض انَّ الحكم يكون سنخ الحكم لا شخص الحكم ، بينما غاية ما يستكشف من حمل المطلق على المقيد على تقدير إحراز وحدة حكمهما انَّ هذا القيد علّة منحصرة لشخص هذا الحكم وشخص هذا الحكم يكون ملتصقا بالقيد ، ولا تلازم بين القول بأنَّ الوصف والقيد علّة منحصرة لشخص الحكم ـ كما يستفاد من حمل المطلق على المقيد على تقدير وحدة الحكم ـ وبين القول بأنَّ الوصف والقيد علّة منحصرة لسنخ الحكم ، فانَّ هناك برهانا على انَّ شخص الحكم لا بدَّ وأَنْ يكون له علّة واحدة وموضوع واحد لا يأتي في سنخ الحكم ، والبرهان : انَّ الحكم انما يتشخص بالجعل مهما كانت له مجعولات متعددة ، ومن الواضح انه لا يمكن أَنْ يكون لجعل واحد موضوعان بينما يعقل أَنْ يكون لجعلين مستقلين موضوعان مستقلان ، ومن مجموع ما تقدم يتلخص انَّ ضابط اقتناص المفهوم يمكن أَنْ يكون أحد أمور ثلاثة :

الأول ـ أَنْ تدلَّ القضيّة على أنَّ المعلّق على الشرط والوصف طبيعي الحكم بمعنى مطلق وجوده ـ نظير العموم الاستغراقي ـ.

الثاني ـ أَنْ تدل القضية على انَّ طبيعي الحكم بما هو هو ـ بالمعنى الّذي شرحناه ـ معلّق ومنوط بالشرط بأَنْ تدل الجملة على النسبة التعليقية والالتصاقية.

الثالث ـ أَنْ نستفيد على مستوى المدلول التصديقي ـ أي بالإطلاق ـ العلّية الانحصارية للشرط بالنسبة للجزاء ولو كان الجزاء شخص الحكم.

« دلالة الشرطية على المفهوم »

الجهة الثالثة : في تحقيق انَّ الجملة الشرطية هل لها مفهوم أو لا؟

والكلام في ذلك يقع ضمن ثلاث نقاط ، الأولى في تحقيق مفاد الجملة الشرطية منطوقاً؟ والثانية في البحث عن الركن الثاني وانَّ المعلق على الشرط هل هو طبيعي الحكم أو شخصه ، والثالثة في حال الركن الأول بكلتا صيغتيه ، أي بصيغته على مستوى المدلول التصوري ، وبصيغته على مستوى المدلول التصديقي.

النقطة الأولى ـ في مفاد الجملة الشرطية

والكلام فيه يقع على ثلاث مراحل :

المرحلة الأولى ـ في مفاد أداة الشرط ، والمشهور بين علماء العربية والمرتكز في أذهان


أهل العرف والمحاورة انَّ أداة الشرط موضوعة لإيجاد الربط بين جملة الشرط وجملة الجزاء ذاك الربط الّذي سوف نتكلم عن هويته وانه يكون نسبة توقفية التصاقية أو يكون نسبة إيجادية.

إلاّ انَّ المحقق الأصفهاني ( قده ) خالف في ذلك وقال :

انَّ أداة الشرط ليست موضوعة للربط بين الشرط والجزاء ، وانما الدال على هذا الربط هيئة ترتيب الجزاء على الشرط التي قد تتحصل من فاء الجزاء ، وامّا أداة الشرط فهي موضوعة لإفادة انَّ مدخولها الّذي هو الشرط واقع موقع الفرض والتقدير ، فكما انَّ أداة الاستفهام موضوعة لإفادة انَّ مدخولها واقع موقع الاستفهام ، وأداة الترجي موضوعة لإفادة انَّ مدلولها واقع موقع الترجي ، كذلك أداة الشرط موضوعة لإفادة انَّ مدخولها واقع موقع الفرض والتقدير ، وقال ( قده ) : انَّ هذا هو ما ذهب إليه علماء العربية ويفهمه أهل العرف والمحاورة (١).

أقول : انَّ المحقق الأصفهاني ( قده ) (٢) لم يبرهن على ما ادعاه من انَّ أداة الشرط موضوعة لإيقاع مدخوله موقع الفرض والتقدير وليست موضوعة للربط بين الشرط والجزاء ، إلاّ اننا بإمكاننا أَنْ نبين صورة برهان على مدعاه حاصله :

اننا نلاحظ كثيرا ما تدخل أداة الاستفهام على الجزاء فيقال مثلا ( إِنْ جاءك زيد فهل تكرمه أولا ) ومع هذا يكون الاستفهام فعلياً ويترقب السائل أَنْ يجيبه المخاطب بالفعل. وفعلية الاستفهام لا يمكن أَنْ تُفسَّر على أساس مبنى المشهور من انَّ أداة الشرط موضوعة للربط بين الجزاء والشرط ، إذ بناء على هذا يكون الاستفهام معلقاً على مجيء زيد لأنَّ الجملة الاستفهامية هي بنفسها جعلت جزاء في الجملة الشرطية.

اذن فلا بدَّ وأَنْ لا يكون الاستفهام فعلياً ما دام انَّ مجيء زيد ليس بفعلي مع انه من

__________________

(١) وهذا هو المطابق مع وجداني وفهمي العرفي وسوف يأتي ذكر بعض المنبهات والشواهد عليه في التعليقات القادمة وبناء على هذا الفهم للجملة الشرطية سوف لن يكون لها مفهوم إذ غاية ما تدل عليه حينئذ تحديدٌ وتقدير وعاء صدق الجزاء وفرض تحققه أي يكون الشرط بحسب الحقيقة قيداً لوعاء النسبة الثابتة في جملة الجزاء ، ومعه لا موجب لتوهم الدلالة على المفهوم بل حاله حال الوصف والقيد غاية الأمر انَّ الوصف قيد لموضوع النسبة والشرط قيد لنفس النسبة ووعاء ثبوتها.

(٢) نهاية الدراية ، ج ١ ، ص ٣٢٠ ـ ٣٢١


البديهي جداً فعلية الاستفهام.

وامّا لو أخذنا بما يقوله المحقق الأصفهاني ( قده ) فيمكن أَنْ تفسر فعلية الاستفهام بأنَّ الاستفهام وإِنْ كان معلقاً على الشرط أيضا إلاّ أنَّ الشرط ليس واقع مجيء زيد حتى لا يكون فعلياً وانما الشرط فرض مجيئه والفرض ثابت وفعلي ببركة أداة الشرط فالمعلّق على الشرط الّذي هو الاستفهام أيضا يكون فعلياً. وحيث انه لا إشكال في فعلية الاستفهام فيتعين لا محالة مبنى المحقق الأصفهاني ( قده ) في قبال مبنى المشهور.

فان قلت : انه بالإمكان أَنْ يفترض انَّ أداة الاستفهام وإِنْ دخلت لفظاً على الجزاء إلاّ انَّ الجزاء في الحقيقة مدخول أداة الاستفهام لا نفس الاستفهام ، والاستفهام يكون لبّا عن أصل الشرطية ، فمعنى ( انْ جاء زيد فهل تكرمه ) ( هل انْ جاء زيد تكرمه ) فيكون الاستفهام فعلياً حتى لو فرض انَّ الشرط واقع المجيء لا افتراض المجيء.

قلنا : في بعض الأحيان لا يمكن أَنْ نفترض انَّ الاستفهام منحاز عن الجزاء بل لا بدَّ وانْ يكون الاستفهام جزءً من الجزاء ، وكما إذا قيل ( انْ جاء زيد فكيف حالك ) فانه إذا انحاز الاستفهام عن الجزاء في ذلك لا يبقى الا كلمة ( حالك ) مع انه لا إشكال في وجوب أَنْ يكون الجزاء جملة (١) ، اذن فلا بدَّ وأَنْ يفرض انَّ الاستفهام في مثل هذا المثال جزء للجزاء. ولنا هنا كلامان : كلام حول هذا البرهان لمدعى المحقق الأصفهاني ( قده ) وكلام حول أصل دعوى المحقق ودعوى المشهور.

امّا الكلام الأول ، فالصحيح عدم إمكان المساعدة على ما ذكر من البرهان لمدعى المحقق ( قده ) لأنَّ إشكال فعلية الاستفهام يرد حتى على هذا المبنى إذ لا بدَّ وأَنْ يعترف بأنَّ فرض المجيء وتقديره انما وقع شرطا للجزاء بما هو مرآة وفانٍ في المفروض وإلاّ للزم أَنْ يقول انَّ الجزاء لو كان متضمنا لتكليف إلزاميّ ـ مثل إِنْ جاء زيد

__________________

(١) ولا يمكن أَنْ يقال :

انَّ كلمة كيف استفهام اسمي فيمكن أَنْ نجزئه ونقدم معناه الاستفهامي على الجزاء ويبقى معناه الاسمي جزءً من الجزاء فيسأل عن كيفية الحال التي تثبت عن مجيء زيد.

فانَّ ( كيف ) على مستوى المدلول التصوري له معنى وحداني وهذا المعنى الوحدانيّ بالتجزئة والتحليل ينحل إلى معنيين وحينئذ كيف يمكن أَنْ يقال انه على مستوى المدلول التصوري يكون أحد المعنيين جزءً للجزاء دون الاخر؟


فأكرمه ـ فالتكليف يصبح فعلياً على المكلف الآن ويجب عليه امتثاله حتى لو لم يتحقق واقع الشرط في الخارج لأنَّ شرط الحكم لا يكون إلاّ الفرض والتقدير والفرض فعلي على كل حال فلا بدَّ وأَنْ يكون الحكم فعلياً مع انَّ هذا شيء لا يلتزم به أحد ، فلو اعترف بأنَّ الشرط فرض المجيء بما هو مرآة وفانٍ في المجيء عاد الإشكال عليه ، إذ يقال كيف أصبح الاستفهام فعلياً مع عدم فعلية المجيء في الخارج (١).

__________________

(١) هذا الاعتراض غير وارد إذ على مبنى المحقق الأصفهاني يكون المدلول الرئيسي الّذي بإزائه مدلول تصديقي في الجملة الشرطية هو الجزاء لا الشرطية ولا الشرط ، وعليه فيكون كل من إنشاء الاستفهام أو الإيجاب فعلياً ولكن المنشأ قد حُدّ وحُصّص في جملة الجزاء أي حصِّص وعائه بفرض وتقدير تحقق الشرط الّذي هو مفاد جملة الشرط ، وحيث انَّ الّذي يدخل في العهدة في باب التكاليف انما هو الحكم الفعلي لا الإنشائي أي المنشأ لا الإنشاء ، فلا يجب الامتثال إلاّ حين تحقق الشرط ، وحيث انَّ الّذي يحتاج إلى جواب في الاستفهام نفس إنشاء الاستفهام الفعلي كان لا بدَّ من الإجابة.

وقد يبرهن على بطلان مبنى المحقق الأصفهاني في المقام : بأنَّ الجملة الشرطية لو لم تكن بإزاء الربط بين الشرط والجزاء فكيف يسأل عنه في مثل قولنا ( هل إِنْ جاء زيد فتكرمه أو ليس إذا جاء زيد فتكرمه ) مع وضوح انَّ السؤال وكذا النفي هنا عن أصل الملازمة والربط بين الجزاء والشرط ولهذا يكفي في مقام صدقها أَنْ لا تكون ملازمة بأنْ لا يكرم زيداً ولو في بعض حالات مجيئه ، بينما إذا كانت جملة الشرط لمجرد الفرض والمدلول التصديقي بإزاء الجزاء دائماً فينبغي أَنْ يكون ذلك في قوة قولنا ( إذا جاء زيد فلا تكرمه أو هل تكرمه ) مع وضوح الفرق بينهما فانَّ الثاني لا يصدق إلاّ إذا كان لا يكرمه في تمام حالات مجيئه.

والجواب : انَّ الفرق بين الجملتين على مبنى المحقق الأصفهاني ( قده ) من ناحية انَّ تحصيص وعاء النسبة في جملة الجزاء ـ التي هي الأصل دائما ـ بالشرط تارة يكون قبل عروض النفي أو الاستفهام وأخرى يكون بعدهما ، وفي كلا التقديرين يكون الشرط من أجل التقدير وتحديد وعاء صدق النسبة التامة في جملة الجزاء ، فإذا كان تحديد الوعاء وتقديره بالشرط بعد طرو الاستفهام أو النفي كان النفي لا محالة ثابتاً في تمام حالات ذلك الفرض والتقدير ، وإِنْ كان تحديد الوعاء وتقديره بالشرط قبل طرو الاستفهام أو النفي فالنفي أو الاستفهام بحسب الحقيقة عن الجزاء المحصَّص بالشرط ، ونفي الجزاء الثابت في تقدير خاص لا يعني ثبوت النفي في ذلك التقدير فانه نفي للمقيَّد ، وكذلك الاستفهام يكون حينئذ استفهاماً عن المقيَّد لا الاستفهام المقيَّد بذلك التقدير ، فيستفاد تبعاً لذلك نفي الملازمة والتقييد أو الاستفهام عنه.

بل نستطيع أَنْ نصوغ من هذا المثال دليلاً على عدم صحة مبنى المشهور ، فانه لا إشكال كما قلنا في انَّ المستفاد من قولنا ( هل إذا جاء زيد فتكرمه ) السؤال عن الملازمة والارتباط بخلاف ( إذا جاء زيد فهل تكرمه ) فانه سؤال عن إكرامه على تقدير وفرض مجيئه لأنَّ الاستفهام دخل على الجزاء المعلَّق لا على التعليق ، كما انه لا إشكال في فعلية الاستفهام في الجملتين لا انَّ الاستفهام سوف يتحقق بعد مجيء زيد ، فلا بدَّ وأَنْ يكون المعلَّق والمرتبط بالشرط المستفهم عنه لا نفس الاستفهام ، وحينئذ بناء على مبنى المشهور نسأل انَّ الاستفهام في الجملة الثانية أعني جملة ( إذا جاء زيد فهل تكرمه ) هل هو استفهام عن التعليق والربط بين الجزاء والشرط أو الاستفهام عن الجزاء المقيَّد بالشرط؟ فانْ اختير الأول لزم عدم الفرق بين الجملتين أي عدم الفرق بين دخول أداة الاستفهام على الشرطية ودخولها على الجزاء مع وضوح الفرق بينهما ، وانْ اختير الثاني كان معناه أخذ الربط والتقييد بالشرط بنحو النسبة الناقصة طرفاً للجزاء فكأنه استفهام عن إكرامه المقيَّد بمجيئه ، وهذا أولاً ـ خلاف فرضية المشهور من انَّ النسبة التعليقية نسبة تامة في الجملة الشرطية لا ناقصة ، وثانياً ـ لو كان هذا التقييد تقييداً للنسبة في جملة الجزاء أي تحديداً وتحصصاً لظرف تحققها فهذا رجوع إلى كلام المحقق الأصفهاني ( قده ) ، وان


فلا بدَّ من حلٍّ آخر لإشكال فعلية الاستفهام على كلا المبنيين ، ويمكن أَنْ نفترض انَّ الحل الاخر عبارة عن انَّ الاستفهام في المدلول التصوري للجملة يكون جزءاً للجزاء ويكون معلَّقاً على الشرط الا انه بقرينة توجيه الخطاب يعرف انَّ مقصود المتكلم هو الاستفهام الفعلي عن التعليق أو المعلَّق ، فالمقصود الجدّي من جملة ( انْ جاء زيد فكيف حالك ) كيف حالك عند مجيء زيد.

وامّا الكلام الثاني ـ فيمكن أَن نبين برهاناً على صحة دعوى المشهور وبطلان دعوى المحقق الأصفهاني ( قده ) وإِنْ لم يتعهد المشهور ببيان ذلك وحاصل البرهان : انه لا إشكال في انَّ جملة الشرط وحدها قبل دخول أداة الشرط عليها تكون مما يصح السكوت عليها لكن بمجرد أَنْ تدخل عليها أداة الشرط لا يصح السكوت عليها ، فيمكن أَنْ يكتفي بجملة ( جاء زيد ) ولكن لا يمكن أَنْ يكتفي بجملة ( إِنْ جاء زيد ) وهذا الخروج من صحة السكوت إلى عدم صحة السكوت بمجرد ورود أداة الشرط على

__________________

كان تقيداً لطرف النسبة في الجزاء أي الموضوع أو المحمول فيه كان معناه انَّ الاستفهام عن إكرام زيد المقيَّد بأنه قد جاء أي إكرام زيد الجائي أو الاستفهام عن ثبوت الإكرام المقيَّد بالمجيء لزيد ، وكلاهما خلاف ظاهر جملة الشرط من انها نسبة تامة لا ناقصة وخلاف المقصود أيضا إذ ليس السؤال عن الإكرام المقيَّد ولا عن زيد الجائي.

وهناك شاهد آخر يمكن أَنْ يبَيَّن لنصرة ما ذهب إليه المحقق الأصفهاني ( قده ) حاصله :

انه لا إشكال في انَّ جملة ( إِنْ جاءك زيد فأكرمه ) جملة إنشائية وليست من قبيل جملة ( إِنْ جاء زيد أكرمته ) الاخبارية ، وهذا الفرق على ضوء مبنى المحقق الأصفهاني قابل للتفسير إذ المدلول الأساسي للجملة والّذي بإزائه مدلول تصديقي انما هو الجزاء لا الشرط ولا الشرطية فانهما لمجرد تحديد الفرض والتقدير فإذا كان الجزاء جملة إنشائية كانت الشرطية إنشاءً لا محالة وإذا كان الجزاء جملة خبرية كانت الشرطية اخباراً لا محالة.

وامّا على مبنى المشهور الذين يجعلون المدلول الأساسي للشرطية والّذي بإزائه مدلول تصديقي نفس التعليق والربط والملازمة بين جملتي الجزاء والشرط فلا يبقى فرق بين الجملتين ، إذ تكونان معاً اخباراً عن الملازمة بين جملتي الشرط والجزاء سواءً كان الجزاء جملة خبرية أو إنشائية ولا يمكن أَنْ يكون الجزاء إلاّ مدلولاً تصورياً لا تصديقياً لأنَّ الجملة الواحدة لا تتحمل إلاّ مدلولاً تصديقيا واحداً والمفروض انه بإزاء الربط والتعليق لا الجزاء ودعوى : استفادة الاخبار أو الإنشاء عن الجزاء حينئذ بدلالة التزامية ، خلاف الوجدان جداً.

وشاهد ثالث على صحة ما ذهب إليه المحقق الأصفهاني : اننا لا نستفيد الملازمة بين الشرط والجزاء إلاّ إذا دخل عليهما أدوات العموم فقيل ( كلّما جئتني أكرمتك ) وامّا قولك ( إذا جئتني أكرمتك ) فلا يدل على الإكرام لو جاءه مرة ثانية ، وهذا الفرق بناء على ما يقوله المشهور من دلالة الشرطية على اللزوم وانه كلّما صدقت جملة الشرط صدقت جملة الجزاء لا يمكن تفسيره ، بخلاف ما إذا حملنا الشرطية على انَّ جملة الشرط بمثابة الفرض والتقدير لمفاد الجزاء فانه حينئذ من دون دخول أداة العموم التي تدل على انَّ الفرض كل فرد من افراد المجيء لا تدل جملة الشرط إلاّ على انَّ الفرض أصل المجيء أي صرف وجوده والّذي يتحقق بالمجيء مرة واحدة فلا يمكن أَنْ تستفاد الملازمة في كل مرة.


الجملة يمكن أَنْ يفسر على مبنى المشهور بينما لا يمكن أَنْ يفسر على مبنى المحقق الأصفهاني ( قده ) وتفصيل : ذلك انَّ هناك في بداية الأمر يوجد احتمالان في تفسير هذا الخروج من صحة السكوت إلى عدم الصحة.

الاحتمال الأول ـ أَنْ يقال انَّ أداة الشرط تبدل النسبة التامة الثابتة بين الفعل والفاعل إلى النسبة الناقصة ، فتكون النسبة بعد دخول أداة الشرط مغايرة مع النسبة قبل دخولها من قبيل التغاير بين النسبة في ( جاء زيد ) والنسبة في ( مجيء زيد ) ، فبهذا الاعتبار لا يصح السكوت على الجملة بعد دخول الأداة عليها لعدم إمكان السكوت على النسبة الناقصة.

الاحتمال الثاني ـ أَنْ يقال انَّ النسبة التامة التي كانت ثابتة بين الفعل والفاعل تبقى على حالها ولا تتغير ولكن مع هذا لا يصح السكوت باعتبار انَّ أداة الشرط لها سنخ معنىً ينتظر معه مجيء شيء زائداً على الشرط ، فجملة الشرط بدون الجزاء كاملة إلاّ انَّ معنى الأداة لا يكتمل إلاّ بمجيء الجزاء ، ومن هنا لا يصح الاكتفاء بجملة الشرط لو دخل عليها أداة الشرط.

والاحتمال الأول يناسب كلا المبنيين في المقام ، بمعنى انه يمكن لكل من المشهور والمحقق ( قده ) أَنْ يدّعي انَّ النسبة تتغير وتتبدل إلى النسبة الناقصة بمجرد دخول أداة الشرط عليها ، وامّا الاحتمال الثاني فهو يناسب مع مبنى المشهور فانهم يقولون بأنَّ أداة الشرط وضعت للربط بين الشرط والجزاء ومن الواضح انَّ معنى الارتباط لا يكتمل إلاّ بثبوت كلا طرفيه بينما لا يناسب هذا الاحتمال مع مبنى المحقق الأصفهاني ( قده ) فانه لو كانت النسبة في نفسها تامة فلما ذا لا يمكن الاكتفاء بجملة الشرط بمجرد افتراض هذه النسبة وجعلها مقدَّرة الوجود؟ وليس الافتراض من قبيل الربط حتى يحتاج إلى طرف اخر وينتظر إلى شيء اخر غير متعلقه (١).

__________________

(١) الانتظار باعتبار انَّ الأداة عند ما دلّت على الفرض والتقدير أصبح مدلول النسبة التامة فرضية لا واقعية والفرض لا يفيد تصديقاً فينتظر النسبة التي يراد التصديق بها إذا كانت خبرية أو إنشاؤها إذا كانت إنشائية.

بل مدعى المشهور سوف يواجه مشكلة كيفية الربط بين نسبتين تامتين فانَّ النسبة إذا لم تكن ناقصة بل تامة فلا تتحمل ربطاً وانما تتحمل التقدير والفرض أو التصديق فانه لو أُريد من الربط الربط الناقص أي النسبة الناقصة فهذه النسبة تحليلية


وحينئذ إذا أمكننا أَنْ نثبت عدم صحة الاحتمال الأول وتعين الاحتمال الثاني فلا محالة يثبت صحة مبنى المشهور في قبال مبنى المحقق الأصفهاني ( قده ) وتوضيح عدم صحة الاحتمال الأول يكون ببيان امرين :

الأول ـ انَّ جملة الشرط لها مدلول تصديقي وهذا شيء اعترف به نفس المحقق الأصفهاني ( قده ) أيضاً ، فانه يقول بأنَّ الأداة تفيد انَّ مدخولها واقع موقع الفرض والتقدير ، ومقصودة ( قده ) انها تكشف عن ثبوت الفرض والتقدير في ذهن المتكلم وليس مقصوده انها تدل على مفهوم الفرض بنحو الدلالة التصورية.

الثاني ـ انَّ المدلول التصديقي لا يكاد يثبت إلاّ مع النسبة التامة دون الناقصة ، وهذا شيء فرغنا عنه في بحث الفرق بين النسبة التامة والنسبة الناقصة.

اذن النسبة في جملة الشرط حتى بعد دخول الأداة تكون تامة وهذا يعني صحة الاحتمال الثاني دون الأول ، فيتعين مبنى المشهور لا محالة القائل بأنَّ الأداة موضوعة للربط بين الجملتين لا لإفادة انَّ مدخولها واقع موقع الفرض والتقدير. هذا مضافا إلى انَّ الوجدان قاض بذلك في اللغة العربية وأظن انه في بقية اللغات أيضا كذلك.

المرحلة الثانية ـ بعد انَّ اتضح انَّ أداة الشرط تدل على الربط بين الشرط والجزاء لا بدَّ وأَنْ نتكلم في انها تدل على الربط بين المدلولين التصوريين للشرط والجزاء أو تدل على الربط بين المدلولين التصديقين لهما (١).

__________________

وأطرافها لا بدَّ وأَنْ تكون مفاهيم إفرادية لا نسب تامة حقيقية ، بل النسب الناقصة خلف مقصود المشهور إذ المفروض انَّ نسبة الجزاء إلى الشرط نسبة تامة يصح السكوت عليها ولو أُريد من الربط النسبة التامة فنحن لا نتعقل نسبة تامة بين نسبتين إلاّ الفرض والتقدير ، أي تكون إحداهما تحديداً لوعاء صدق الأخرى إذ لا يعقل التصادق بين نسبتين لأنهما متعددتان ذاتاً وخارجاً وانما التصادق بين مفهومين يتحدان ويتصادقان خارجاً في وجود واحد ولهذا كانت النسبة التامة وعائها وموطنها الحقيقي الذهن لا الخارج.

وامّا التلازم والارتباط والالتصاق فكل ذلك معاني خارجية إذا كانت نسبة فهي تحليلية وناقصة على ما حققناه في بحث النسب.

(١) هذا التعبير لا بدَّ وأَنْ يكون مسامحة إذ لا يمكن أَنْ يوجد للجملة الواحدة شرطية كانت أم حملية إلاّ مدلول تصديقي واحد لا مدلولان تصديقيان ، وفي الشرطية المدلول التصديقي امّا أَنْ يكون بإزاء جملة الجزاء أو بإزاء نفس الشرطية والتعليق بين الجزاء والشرط فيفرغ حينئذ كل من الجزاء والشرط عن مدلولهما التصديقي.


فمثلاً قولنا ( إِنْ جاء زيد فأكرمه ) هل كلمة الشرط تدل على انَّ النسبة الإرسالية بين الإكرام والمكلف هي المعلقة على الشرط حتى يكون المدلول التصوري للجزاء معلقا؟ أو انها تدل على انَّ الإلزام والإيجاب الثابت في نفس المولى يكون معلقا على الشرط حتى يكون المدلول التصديقي للجزاء معلقا؟ وليس المقصود من الشق الأول انَّ المدلول التصديقي للجزاء سوف لا يكون معلقا بل يمكن أَنْ يكون المدلول التصديقي أيضا معلقا لكن بتبع المدلول التصوري فأولاً وبالذات تربط الأداة بين المدلولين التصوريين ثم بعد ذلك يسري التعليق إلى المدلول التصديقي.

والصحيح : اختيار الشق الأول وانَّ الأداة تربط الجزاء بالشرط في مرحلة المدلول التصوري لا التصديقي ، والمنبه على ذلك انه قد لا يوجد هناك مدلول تصديقي بإزاء الجزاء أصلا امّا لعدم وجود مدلول تصديقي للكلام رأساً ، كما إذا صدرت الجملة الشرطية من غير العاقل الملتفت كآلة التسجيل مثلا ، وامّا لأن المدلول التصديقي موجود للكلام ولكنه ليس موازيا للجزاء بل يكون موازيا لما دخل على الجملة الشرطية وذلك كما إذا قيل : ( هل إِنْ جاء زيد فتكرمه أو ليس إذا جاء زيد فتكرمه ) فانَّ المدلول التصديقي هو الاستفهام عن الجملة أو نفي مفاد الجملة دون إثبات الإكرام بنحو الاخبار أو بنحو الإنشاء ، ومع عدم وجود مدلول تصديقي للجزاء كيف يمكن للأداة

__________________

فإذا افترض انَّ المدلول التصديقي بإزاء الجزاء ترتب على ذلك امران :

الأول ـ انَّ ربط المدلول التصديقي للجزاء بالشرط ابتداءً ومن دون ربط المدلول التصوري لجملة الجزاء بالشرط غير صحيح في نفسه ، لأنَّ التقييد ليس من قبيل الإطلاق كاشفاً ابتداءً عن تقيد المدلول التصديقي بل بتبع تقييد المدلول التصوري ، نعم إذا كان القيد ابتداءً ناظراً إلى المراد والمدلول الجدي بأَنْ قال ( أكرم زيداً ) ثم قال مرادي مقيّد بصورة مجيئه كشف ذلك عن تقييد المدلول التصديقي ابتداءً ولكن من الواضح انَّ جملة الشرط لا نظر فيها ابتداءً إلى المراد الجدي ومع تجاوز مرحلة المدلول التصوري.

الثاني ـ ربط المدلول التصديقي للجزاء بالشرط بعد فرض انَّ المدلول التصديقي للجملة الشرطية بإزاء الجزاء لا يكون إلاّ بأحد وجهين :

١ ـ أَنْ يكون التعليق على الشرط بنحو النسبة الناقصة وتكون الشرطية بحكم الوصفية ، وهذا ما تقدم انه خلاف ظاهر الشرطية وخلاف للمقصود ولا يرضى به المشهور أيضاً.

٢ ـ أَنْ تكون جملة الشرط تقييداً وتحديداً لوعاء صدق جملة الجزاء وفرض ثبوته ، وهذا هو ما قاله المحقق الأصفهاني ( قده ) وعلى كلا التقديرين فسوف لن يكون للجملة مفهوم إلاّ إذا جرى الإطلاق في الحكم بنحو مطلق الوجود الّذي لو تم في مورد ثبت المفهوم حتى للوصف فضلا عن الشرط.


أَنْ تربط بين المدلولين التصديقيين؟

نعم لو بنينا على انَّ الوضع يوجب الدلالة التصديقية لا الدلالة التصورية كما يقول السيد الأستاذ فنضطر أَنْ نقول انَّ الأداة توجب الربط بين المدلول التصديقي للجزاء والمدلول التصديقي للشرط ، إذ ليس للجزاء والشرط مدلول تصوري ناشئ من الوضع حتى يقال انَّ الأداة تدل على الربط بين المدلولين التصوريين. وحينئذ يقع مثل السيد الأستاذ في مثل قولنا ( هل إِنْ جاء زيد فتكرمه ) في إشكال ، فانه لو قال : انه لا يستفاد أي ربط بين الشرط والجزاء ، فهذا واضح البطلان فانَّ المتكلم يكون في مقام الاستفهام عن الربط فلا بدَّ من ربط حتى يسأل عنه ، ولو قال : انَّ الأداة تدل على الربط بين المدلول التصوري للجزاء والمدلول التصوري للشرط ، فهو لا يعترف بوجود مدلول تصوري لجملة الشرط أو لجملة الجزاء ، ولو قال : انَّ الأداة تدل على الربط بين مدلولين تصديقيين ، فلا يوجد مدلول تصديقي بإزاء الشرط أو الجزاء ، فيضطر أَنْ يلتزم بأنَّ مجموع الجملة الشرطية مع أداة الاستفهام موضوعة بوضع واحد مندمج للاستفهام عن الربط بين مفهوم مجيء زيد وبين النسبة الإرسالية بين الإكرام والمكلف من دون أَنْ يفترض تعدد الدال والمدلول ، يعني من دون أَنْ يفترض انَّ جملة الشرط دلت على مفهوم مجيء زيد وجملة الجزاء دلت على النسبة الإرسالية وأداة الشرط دلت على الربط بين المعنيين.

ثم انه بعد أَنْ اتضح انَّ الأداة تفيد الربط بين المدلولين التصوريين ينبغي أَنْ نبحث عن انه هل يسري الربط من المدلول التصوري إلى المدلول التصديقي أو لا؟

وهذا البحث انما يقع في مورد يكون للجملة الشرطية مدلول تصديقي لا فيما إذا كان المدلول التصديقي بإزاء الأداة الداخلة على الجملة الشرطية كأداة الاستفهام أو أداة النفي ، فانه مع عدم ثبوت المدلول التصديقي بإزاء الجملة الشرطية لا معنى للقول بأنَّ الربط يسري من المدلول التصوري إلى المدلول التصديقي.

والتحقيق في هذا المقام : انه لو كان المدلول التصديقي موازياً لمفاد هيئة الجملة الشرطية الدالة على النسبة التعليقية بأَنْ يكون المقصود الجدي للمتكلم الاخبار عن انَّ النسبة في الجزاء ـ سواء كانت نسبة تصادقية كما لو فرض الجزاء جملة خبرية


أو كانت نسبة إنشائية طلبية ـ معلّقة على الشرط فلا إشكال حينئذ في عدم سريان التعليق والربط إلى المدلول التصديقي ، لأنه عبارة عن الاخبار عن الربط والتعليق لا عبارة عن ما يوازي المعلق في المدلول التصوري فكيف يسري التعليق إليه؟ فانَّ التعليق انما يمكن أَنْ يسري إلى المدلول التصديقي فيما إذا كان المدلول التصديقي موازيا للجزاء الّذي هو المعلَّق في المدلول التصوري.

وامّا لو كان المدلول التصديقي موازيا لمفاد الجزاء في الجملة الشرطية لا موازيا لمفاد أصل الجملة الشرطية فحينئذ امّا أَنْ يكون الجزاء جملة إخبارية كما إذا قيل : ( إذا جاء زيد فأصافحه ) ، وامّا أَنْ يكون جملة إنشائية كما إذا قيل ( إذا جاء زيد فأكرمه ) ، فلو كان الجزاء جملة إخبارية فمن المعقول أَنْ يكون المدلول التصديقي معلقا أيضا ، كما إذا كان مقصود المتكلم أَنْ يخبر عن انه سوف يصافح زيداً لكن ليس مقصوده الاخبار الفعلي المطلق وانما مقصوده الاخبار المشروط والمنوط بمجيء زيد فيخبر عن المصافحة اخباراً منوطا بمجيء زيد فكأنما الاخبار على تقدير مجيء زيد ، كما انه من المعقول أَنْ لا يكون المدلول التصديقي معلقاً كما إذا قصد أَنْ يخبر بالفعل ويحكي بالفعل عن خصوص الحصة المعلقة لمفاد الجزاء فيخبر عن انه سوف أصافح تلك المصافحة التي تكون مشروطة بمجيء زيد ، وهذا لازمه انه لو لم يجئ زيد لكان هذا الشخص كاذبا إذ سوف لا يصافح تلك المصافحة التي تكون ثابتة عند مجيء زيد (١).

__________________

(١) إذا أُريد تعليق الإنشاء والجعل أو الحكاية والاخبار فمن الواضح انَّ التعليق انما يعقل في المفاهيم التي تنشأ وتعتبر أو يخبر عنها لا في نفس الإنشاء والاخبار اللذان هما الأمران التصديقيان ، وإِنْ أُريد تعليق المنشأ والمخبر به أي النسبة الحكائية التصادقية أو الإنشائية الإرسالية. فحينئذ وإِنْ كان قد يقال بأنَّ الإنشاء والجعل أو الاخبار والحكاية معلّق إلاّ انه بالعرض والمجاز وبلحاظ مجعوله ومحكيه وامّا نفس الجعل والحكاية ففعلي من غير فرق بينهما.

وامّا ما ذكر في مثال الاخبار عن المصافحة المقيدة بمجيء زيد فهو من أخذ المجيء قيداً في متعلَّق المخبر به لا نفسه أي الاخبار عن وقوع المصافحة المقيدة بالمجيء فيدل على الاخبار عن مجيء زيد فانَّ الأوصاف بعد العلم بها اخبار وليس المجيء قيداً للوقوع والنسبة التصادقية. وهكذا يتضح انَّ ربط المدلول التصديقي للجزاء بالشرط بالمعنى المعقول لتقييده لا يعقل إلاّ بأَنْ يكون المدلول الأساسي ومركز الجملة الشرطية هو الجزاء سواء كان إنشاءً واخباراً ، وهذا لا يناسب إلاّ مع مقالة المحقق الأصفهاني من انَّ الشرط لمجرد الفرض وتقدير وعاء الإنشاء والاخبار في الجزاء وانه ليس مطلقا بل في تقدير خاص ، فالجمع بين أَنْ يكون المدلول التصديقي في طرف الجزاء وفي نفس الوقت يكون مقيداً بالشرط على مبنى المشهور غير ممكن.


إلاّ إِنَّ هذا القسم الأخير خلاف الظاهر ، فانه لو كان المدلول التصديقي موازيا لمفاد الجزاء فأصالة التطابق بين مقام الثبوت ومقام الإثبات يقتضي أَن يكون المدلول التصديقي أيضا معلقا كالمدلول التصوري.

وامّا إذا كان الجزاء جملة إنشائية كما إذا قيل ( إذا جاء زيد فأكرمه ) فالمدلول التصديقي حينما يكون موازيا للجزاء كما هو المفروض والّذي هو عبارة عن إيجاب الإكرام يجب أَنْ يكون معلقا على الشرط ومقيداً به فيجعل وجوب الإكرام مشروطا بمجيء زيد ، ولا يمكن أَنْ يفترض عدم تقييده إذ لو لم يكن جعل الوجوب مقيداً بالشرط فامّا يقال : انَّ نفس الوجوب مقيد بالشرط بأَنْ يجعل الوجوب المقيد ، وهذا يرجع في الحقيقة إلى تقييد نفس الجعل إذ الصحيح انه لا واقع للمجعول في مقابل الجعل فتقييد المجعول يعني تقييد الجعل كما انَّ تقييد الجعل يعني تقييد المجعول (١).

وامّا يقال : بأنَّ نفس الوجوب أيضا غير مقيد فيجعل بالفعل وجوبا فعليا غير مقيد ، فلما ذا في مقام إبراز مثل هذا الوجوب الفعلي بيّن الجملة الشرطية بل كان ينبغي أَنْ يقتصر على الجزاء من دون ذكر الشرط ويقول ( أكرم زيداً ) فمقتضى أصالة التطابق بين مقام الثبوت والإثبات انَّ المدلول التصديقي لو كان موازيا للجزاء فلا بدَّ وأَنْ يكون معلقا على الشرط كما انَّ المدلول التصوري للجزاء معلّق عليه.

والمتلخص مما ذكرنا : انَّ المدلول التصديقي لو كان موازيا لمفاد هيئة الجملة الشرطية فلا يسري التعليق إلى المدلول التصديقي ولو كان موازيا لمفاد الجزاء فالظاهر السريان ، سواءً كان الجزاء جملة إخبارية أو إنشائية.

__________________

(١) اتضح عدم الفرق بين الجملتين الشرطيتين الإنشائية والاخبارية من هذه الناحية ، فانَّ التقييد بالشرط إِنْ كان بنحو النسبة الناقصة المأخوذة في طرف الجزاء كان الجعل مطلقا كما يكون الاخبار مطلقا ، وإِنْ كان التقييد بالشرط تقييداً للنسبة المخبر عنها أو المنشأة في جملة الجزاء كان الجعل والإنشاء وكذلك الاخبار مشروطاً بالعرض والمجاز أي بلحاظ المجعول والمخبر به.

فالحاصل : كما يمكن الاخبار عن وقوع المصافحة المقيدة بالمجيء يمكن إيجاب المصافحة المقيدة بالمجيء ولكن يكون مجيء زيد قيداً في المصافحة الواجبة في الإنشاء فيجب تحصيله وفي المصافحة المخبر عنها في الاخبار فيكون اخباراً عن تحققه بقانون انَّ الأوصاف بعد العلم بها اخبار وليس قيداً للوجوب لا بمعنى الجعل ولا المجعول كما لم يكن قيداً للاخبار لا بمعنى الاخبار ولا النسبة المخبر عنها فلا فرق بين الجملتين من هذه الناحية كما هو مقتضى الوجدان اللغوي.


وينبغي البحث في ما هو الظاهر من الاحتمالين ، فهل الظاهر هو موازاة المدلول التصديقي لمفاد هيئة الجملة الشرطية أو الظاهر موازاة المدلول التصديقي لمفاد الجزاء؟.

قد يقال : بأنَّ الظاهر الثاني لأنَّ الأول مخالف لما تقتضيه أصالة التطابق بين عالم الثبوت وعالم الإثبات ، فانه في عالم الإثبات يكون المدلول التصوري للجزاء معلقاً ويكون المدلول التصوري فيما إذا كان الجزاء جملة إنشائية عبارة عن النسبة الإرسالية بينما لو كان المدلول التصديقي موازيا لمفاد هيئة الجملة الشرطية لكان المدلول التصديقي غير معلق وكان المدلول التصديقي مخالفاً مع المدلول التصوري وهذا بخلاف ما إذا كان المدلول التصديقي موازيا لنفس الجزاء.

والصحيح : عدم إمكان المساعدة على هذا فانَّ المدلول التصديقي انما ينبغي أَنْ يكون مطابقا مع المدلول التصوري فيما إذا كان موازيا لنفس ذاك المدلول التصوري لا فيما إذا كان موازيا لمدلول تصوري آخر ، فكيف يعقل أَنْ يبرهن على لزوم أَنْ يكون المدلول التصديقي موازيا للجزاء بأصالة التطابق بين المدلول التصديقي والمدلول التصوري للجزاء ، بل الصحيح انَّ الظاهر هو الاحتمال الأول أي انَّ المدلول التصديقي موازٍ لنفس مفاد هيئة الجملة الشرطية وذلك باعتبار انه بحسب عالم المدلول التصوري تكون النسبة الإرسالية طرفا للنسبة التعليقية ، فانَّ النسبة التعليقية نسبة بين مفاد الشرط ومفاد الجزاء وليست النسبة التعليقية طرفا للنسبة الإرسالية بل النسبة الإرسالية قائمة بطرفين مستقلين لها ، وبهذا الاعتبار يكون المركز والمحور والمنظور الأساسي في المداليل التصورية هو النسبة التعليقية لا النسبة الإرسالية فكأنما جيء بالنسبة الإرسالية كي يتم أطراف النسبة التعليقية.

وحينئذ لو كان المدلول التصديقي والمنظور الأساس فيه هو النسبة التعليقية تطابق المدلول التصديقي مع المدلول التصوري ، واما لو كان المدلول التصديقي بإزاء النسبة الإرسالية فتعكس الآية ويكون المنظور الأساس هو النسبة الإرسالية وتكون النسبة التعليقية منظورة بالتبع ، ومقتضى أصالة التطابق بين مقام الثبوت والإثبات انَ


مدلول التصديقي موازٍ مع النسبة التعليقية لا النسبة الإرسالية (١).

المرحلة الثالثة ـ بعد أَنْ عرفنا انَّ التعليق يكون أولاً وبالذات بلحاظ المدلول التصوري للجزاء لا بلحاظ المدلول التصديقي له يقع البحث في انَّ المعلق هل هو المدلول التصوري للهيئة في الجزاء أو المدلول التصوري للمادة في الجزاء؟ فانَّ الجزاء مركب من هيئة تدل على النسبة الإرسالية ـ فيما إذا كان جملة إنشائية ـ ومن مادة تدل على مفهوم اسمي خاص وهو الإكرام مثلا. فهل المعلق على الشرط هو النسبة الإرسالية أو انَّ المعلق هو الإكرام؟.

فلو قيل : انَّ المعلق الإكرام كما ذهب إليه الشيخ الأعظم ( قده ) استشكل عليه :

بأنه حينئذ لا يبقى فرق بين قيد الوجوب وقيد الواجب لأنّ الشرط يصبح بناء على هذا قيداً للواجب مع انه لا إشكال في انه لا يجب تحقيق الشرط في مقام امتثال الجملة الشرطية فلو قيل ( إِنْ جاء زيد فأكرمه ) لا يجب أَنْ نأتي بزيد كي نكرمه فكيف يقال انَّ المجيء قيد للإكرام الواجب؟ ولو قيل : انَّ المعلق نفس النسبة الإرسالية قلنا انَّ النسبة معنى حرفي آلي والمعنى الحرفي يستحيل أَنْ يُعلَّق على شيء ويُقيد به ، وذلك أولاً : لأنَّ تعليقه وتقيده فرع أَنْ يلحظ استقلالاً والمعنى الحرفي لا يكون ملحوظا بالاستقلال. وثانياً : المعنى الحرفي أمر جزئي لا يقبل التقييد فكيف يقيد بالشرط؟

ومن هنا وقع التحير في انَّ المعلق على الشرط ما هو هل هو مفاد المادة أو الهيئة؟

__________________

(١) أشرنا فيما سبق إلى انَّ النسبة التعليقية كالنسبة التصادقية نسبة خبرية فيلزم على هذا عدم الفرق بين ( إِنْ جاء زيد فأكرمه وإِنْ جاء زيد أكرمه عمرو ) مع وضوح إنشائية الأول وخبرية الثاني.

كما انه كيف نثبت الإنشاء وإيجاب الإكرام بعد أَنْ لم يكن المدلول التصديقي بإزاء النسبة الإرسالية اللهم إلاّ بدلالة التزامية وهو خلاف الظاهر جداً.

مضافاً : إلى انه بناء على انَّ أدوات الإنشاء كصيغ الأمر والنهي موضوعة لإيجاد المعنى باللفظ بالمعنى المعقول في محله للإيجادية ، لا يعقل أَنْ يكون المدلول التصديقي بإزاء النسبة التعليقية بل لا بدَّ وأَنْ يكون بإزاء أدوات الإيجاد والإنشاء التي هي مدلول الجزاء ، وكذلك إذا كان الجزاء جملة إنشائية بالمعنى المقصود في الاعتباريات كقولك ( إِنْ كان هذا الكتاب لي وهبتك إياه ) إنشاءً لا اخباراً. فانه بعد وضوح انَّ الجملة الشرطية أي النسبة التعليقية بين الجزاء والشرط ليست مدلولاً إنشائياً بل حكائي ففي مثل هذه الجمل لو فرض انه يوجد إنشاء في طرف الجزاء يلزم أَنْ يكون للشرطية مدلولان تصديقيان ، وقد ذكرنا انَّ الجملة الواحدة لا تتحمل أكثر من مدلول تصديقي واحد ، وان فرض انَّ الجزاء مفرّغ عن الإنشاء وإيجاد المعنى الحقيقي أو الاعتباري كان خلاف الظاهر ، ألا ترى الفرق بين وهبتك الكتاب إنشاءً في الشرطية وبين الاخبار عن انه يهبه الكتاب؟ وهذا أيضا منبه اخر على صحة مبنى المحقق الأصفهاني ( قده ) في تحليل الجملة الشرطية.


وقد تقدم الكلام في ذلك مفصلاً في بحث الواجب المطلق والمشروط.

وهنا بنحو الاختصار نقول : انه يمكن أَنْ يتخذ أحد مواقف ثلاثة للتغلب على هذا الإشكال.

الموقف الأول ـ ما ذهب إليه المحقق الأصفهاني ( قده ) وحاصله : إنكار التعليق رأساً فلا تكون هناك نسبة إرسالية في عالم الذهن تامة الأركان في المرتبة السابقة على الشرط بل في الذهن نسبة واحدة يكون الشرط من أول الأمر داخلا في تصميمها وبنائها الذهني وتكون ذات ثلاث أطراف ، الطرف الأول والثاني هما الطرفان في الجزاء والطرف الثالث هو الشرط ، وهذه الأطراف عرضية لهذه النسبة وبذلك تنحل المشكلة ، إذ من الأول تنعقد النسبة بأطراف ثلاثة وهو معنى الجزئية في المعاني الحرفية لا الجزئية المصداقية.

الموقف الثاني ـ ما ذهب إليه المحقق النائيني ( قده ) وحاصله : اختيار انَّ مفاد المادة هو المعلق لا مفاد الهيئة. فمفاد المادة بناء على هذا يكون طرفا لنسبتين للنسبة الإرسالية وللنسبة التعليقية ، (١) وفي مقام تنظيم العلاقة بين هاتين النسبتين يتصور ثلاثة أنحاء :

النحو الأول ـ أَنْ تُقيد المادة أولاً بالشرط ثم هي بما انها مقيدة تجعل طرفا للنسبة الإرسالية.

وهذا النحو ساقط وغير محتمل فانه بناءً على هذا يصير معنى قولنا ( إِنْ جاء زيد فأكرمه ) انه يجب أَنْ تكرم زيداً إكراماً مقيداً بمجيئه فيكون المجيء قيداً للواجب لا الوجوب وهو خلاف المقصود.

النحو الثاني ـ أَنْ تطرأ النسبتان الإرسالية التعليقية على مفاد المادة في عرض واحد. وهذا النحو أيضا ساقط فانه بناء عليه لا يثبت التقييد لا في الوجوب ولا في الواجب ، ولازمه انه يجب على المكلف بالفعل أَنْ يكرم زيدا وإِنْ لم يجئ ، فانَ

__________________

(١) فوائد الأصول ، ج ١ ، ص ٤٧٩


المفروض انَّ الوجوب لم يعرض على القيد كما انَّ المفروض انَّ التقيد ليس في طول الوجوب.

وهذا النحو وإِنْ كان هو ظاهر عبارة تقريرات بحث الميرزا ( قده ) الا اني أظن انه قصور في التعبير ومقصوده هو النحو الثالث.

النحو الثالث ـ أَنْ تكون المادة بما هي معروضه للوجوب وللنسبة الإرسالية طرفا للنسبة التعليقية فيكون الإكرام بما هو واجب معلقا على الشرط ، وليس المقصود من هذا انَّ الشرط قيد لنسبة الإكرام إلى الوجوب كما فهم السيد الأستاذ فأشكل عليه :

بأنَّ هذا رجوع إلى المشكلة ، وانما المقصود انَّ الشرط قيد لحصة خاصة من الإكرام وهي ذاك الإكرام الّذي يكون معروضا للنسبة الإرسالية وللوجوب (١).

وبعد بطلان النحوين السابقين يتعين هذا النحو وبه تنحل المشكلة.

الموقف الثالث ـ ما ذهبنا نحن إليه واخترناه وحاصله :

انَّ المعلق هو مفاد الهيئة لكن لا مباشرة بل بتوسط مفهوم اسمي مشار إليه كمفهوم هذه النسبة مثلا فكأنما قيل أكرم زيداً وهذه النسبة الإرسالية معلقة على الشرط (٢).

__________________

(١) ولكن تقيد المادة بما هي معروضة للنسبة الإرسالية لا يعقل الا بأحد نحوين :

الأول ـ انتزاع مفهوم اسمي من جملة الجزاء وتقييده بالشرط وهذا هو الموقف الثالث القادم. الثاني ـ جعل الشرط قيداً لنفس النسبة الإنشائية أو الاخبارية التامة في طرف الجزاء فيكون تحديداً وتقديراً لوعاء صدق الجزاء فان النسبة التامة قابلة للتقدير والتقييد من حيث الوعاء وهذا هو روح مقصود المحقق الأصفهاني ( قده ).

(٢) أقول : لازم هذا الموقف وموقف الميرزا ( قده ) هو إرجاع الجملة الشرطية إلى جملتين مستقلتين بأَن تجعل جملة ( أكرمه ) جملة مستقلة وليست هي الجزاء بل الجزاء مفهوم اسمي مقدر منتزع منها. وحسب الظاهر هذا شيء لا يفهمه العرف فانَّ العرف يفهم من جملة ( إِنْ جاء زيد فأكرمه ) انها جملة وحدانية ترتبط بعضها مع بعض ، بل الأنسب بناء على مبنى المشهور في تفسير الشرطية أَنْ يقال : بأنَّ الجملة الشرطية تدل على النسبة التعليقية كنسبة تامة حقيقية نظير النسبة التصادقية في الجملة والنسبة التامة الحقيقة كما يمكن أَنْ تقوم بين مفهومين إفراديين يمكن أَنْ تقوم بين نسبتين تامتين ويكون معنى ذلك تلازمهما في الصدق خارجاً فكأنه قيل إذا صدقت جملة الشرط صدقت جملة الجزاء ولعل سيدنا الأستاذ ( ١ الشريف ) انما لم يلتزم هذا الجواب لوضوح انَّ النسبة التعليقية والارتباط أو التلازم بين مفاد الجزاء والشرط أمر خارجي حقيقي كالنسب الخارجية وليست من قبيل النسبة التصادقية التي لا حقيقة لها في الخارج.

إلاّ انَّ هذا الاعتراف بنفسه يقتضي إنكار مبنى المشهور واختيار ما ذهب إليه المحقق الأصفهاني من انَّ الشرطية ليست إلاّ لتحديد الجزاء وتخصيص مفاده بفرض تحقق الشرط ...


وهذا يرجع في الحقيقة إلى روح ما قاله الميرزا ( قده ) من انَّ المادة بما هي معروضة للنسبة تكون معلقة فانَّ هذا يعني انه اتخاذ مفهوم اسمي مشير إلى النسبة وتعليق ذاك المفهوم الاسمي على الشرط.

هذا هو تمام الكلام في المرحلة الثالثة وبذلك انتهى الكلام في النقطة الأولى ..

النقطة الثانية : في البحث عن الركن الأول في ضابط المفهوم وهو على حسب تعبير المشهور وتفكيرهم دلالة الجملة الشرطية على الوجوب الكلّي الانحصاري ، وقد أشرنا فيما سبق إِنَّ انتزاع المفهوم تارة : يكون بحسب المفهوم ومرحلة الدلالة التصورية للكلام ، وأخرى : يكون بحسب المدلول التصديقي ومرحلة الدلالة التصديقية للكلام وانتزاعه بلحاظ المرحلة الأولى ميزانه أَنْ تدل الجملة الشرطية على النسبة التوقفية ، وانتزاعه بلحاظ المرحلة الثانية ميزانه أَنْ تدل على انَّ الربط بين الشرط والجزاء على نحو الربط بين المعلول وعلّته المنحصرة ، ومن هنا بالإمكان تصنيف التقريبات المذكورة لتخريج مفهوم الشرط إلى صنفين فمنها ما يثبت المفهوم بحسب المدلول التصوري للجملة الشرطية ، ومنها ما يثبته بحسب المدلول التصديقي لها والتقريبات التي تحاول إثبات المفهوم عن طريق دعوى الانسباق والتبادر تكون من الصنف الأول ، والتقريبات المبتنية على التمسك بالإطلاق ومقدمات الحكمة التي تكشف عن المدلول التصديقي من وراء اللفظ ترجع إلى الصنف الثاني.

وأيّا ما كان فما ذكر لتخريج المفهوم في الجملة الشرطية خمسة تقريبات نذكرها فيما يلي تباعا مع التعليق على كل واحد منها.

التقريب الأول : دعوى انَّ هيئة الشرط أو أداته موضوعة للربط بنحو اللزوم العلّي الانحصاري ـ أي النسبة التوقفية بحسب اصطلاحنا ـ وذلك بشهادة التبادر الّذي يكون علامة الحقيقة. وهذا التقريب إِنْ تم فهو يثبت المفهوم للجملة الشرطية في مرحلة المدلول التصوري الوضعي.

وقد لوحظ على هذا التقريب : أنَّ لازمه الالتزام بالتجوز والعناية في موارد عدم إرادة المفهوم من الجملة مع انَّ الوجدان قاض بعدمها في جملة من موارد عدم المفهوم كما في قولك ( إذا أغرقت تموت )


وسوف يأتي تعليقنا على هذه الملاحظة وعلى أصل هذا التقريب بعد الانتهاء من التقريبات المشهورة.

التقريب الثاني : انَّ الجملة الشرطية وإِنْ لم تكن موضوعة للزوم العلّي الانحصاري بالخصوص لكنها تنصرف إليه باعتباره الفرد الأكمل والأجلى من افراد اللزوم ، وهذا التقريب كسابقه أيضا يثبت المفهوم على مستوى مرحلة المدلول التصوري للكلام.

وفيه : منع الصغرى والكبرى معاً ، إذ ليس اللزوم الانحصاري بأكمل أو بأشد استحكاماً في اللزوم من غير الانحصاري فانَّ وحدة العلّة أو تعددها لا تؤثر في درجة الإيجاد والاستلزام الموجودة بين العلّة ومعلولها وانما تختلف درجة حاجة المعلول إلى العلّة بوجود علّة أخرى أو عدمه وتوقفه عليها ، نعم لو استفيد من الشرطية النسبة التوقفية ثبت المفهوم حينئذ ولكنه غير موقوف حينئذ على إثبات العلّية الانحصارية للشرط كما تقدم.

كما أنَّ الانصراف لا يكون على أساس الأكملية أو أشدية بعض حصص المعنى ثبوتاً ولذلك لا تنصرف كلمة الإنسان إلى أكمل

أفراده ، وانما ينشأ الانصراف من مزيد علاقة وربط بين اللفظ وبعض حصص معناه لعوامل وأسباب خارج الوضع تجعل علاقته ببعض الحصص من المعنى الموضوع له أكثر وآكد من علاقته بالبعض الآخر ، وهذا راجع إلى المناسبات والاستعمالات الخارجية لا مجرد الأكملية الثبوتية.

التقريب الثالث : انَّ هناك فقرات لا بدَّ من إثباتها للتوصل إلى المفهوم في الجملة الشرطية.

الفقرة الأولى : الاستلزام بين الشرط والجزاء الفقرة الثانية : كون الاستلزام بينهما على أساس العلّية.

الفقرة الثالثة : كون العلّية انحصارية.

الفقرة الأولى من هذه الفقرات تثبت بالوضع في مرحلة المدلول التصوري للجملة الشرطية لأنها مدلول الهيئة الشرطية أو أداتها بعد أَنْ كان استعمالها في موارد الصدفة بعناية وتكلف وجدانا.

وامّا العلّية ـ الفقرة الثانية ـ والانحصارية ، ـ الفقرة الثالثة ـ فبثبتهما بالإطلاق ، وذلك


امّا بالنسبة إلى العلّية فلأنه مقتضى التطابق بين مقام الإثبات والثبوت للكلام إذ كما يكون الجزاء بحسب مقام الإثبات متأخراً ومترتباً على الشرط كذلك يكون الأمر بينهما ثبوتا وإلاّ لم تكن مرحلة الإثبات مطابقة مع عالم الثبوت وهو خلاف الإطلاق.

وامّا الانحصارية فلأنها مقتضى الإطلاق الأحوالي للشرط فانَّ مقتضى الجملة الشرطية ثبوت الاستلزام والعلّية للشرط مطلقاً سواء اقترن بشيء آخر أو سبقه شيء آخر أولا ، وهذا لا يكون إلاّ مع افتراض الشرط علّة منحصرة. وبعبارة أخرى : في حالة اجتماع الشرط مع شيء آخر يحتمل علّيته اما أَنْ يكون كل منهما علة مستقلة لحكم واحد ، أو يكون كل منهما علّة مستقلة لفرد من الحكم غير الآخر ، أو ويكون كل منهما جزء العلّة للحكم الواحد ، وكل هذه الاحتمالات مستحيلة إذ يلزم من الأول اجتماع علّتين مستقلتين على معلول واحد ، ويلزم من الثاني اجتماع الحكمين المثلين على متعلق واحد (١) ويلزم من الثالث مخالفة ظهور الشرطية في انَّ الشرط تمام السبب لترتب الجزاء كما يعترف به المنكر للمفهوم أيضاً.

وهذا التقريب لو تم ثبت المفهوم بلحاظ مرحلة المدلول التصديقي للكلام المستكشف بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

إلاّ انَّه غير تام. وذلك :

أولا ـ انَّ ما جاء في الفقرة الثانية من إمكان إثبات العلّية بأصالة التطابق بين

__________________

(١) ليس اجتماع حكمين مثلين على متعلق واحد محالاً دائماً فان وجه هذه الاستحالة ليس هو اجتماع المثلين بالمعنى المحال بالدقة ، بل وجهه لغوية جعل وجوبين أو تحريمين على متعلق واحد وهذا لا يجري في جملة من الأحكام التي يمكن اجتماع فردين منهما على متعلق واحد كحق الفسخ فانه يمكن ان يكون هنالك حقان لفسخ معاملة واحدة أحدهما من جهة العيب والآخر من جهة المجلس مثلاً ، وأثره إمكان إسقاط أحدهما دون الآخر ، ففي مثل هذه الأحكام لا يتم أيضاً هذا التقريب.

كما انه ظهر مما ذكرنا : ان تمامية هذا التقريب موقوف على إطلاق متعلق الحكم في الجزاء كي يلزم من فرض وجود سبب آخر للحكم اجتماعهما على متعلق واحد ، والا فلو كان كل واحد منهما متعلقاً بفرد غير الآخر فلا يلزم اجتماع حكمين مثلين على متعلق واحد ، الا ان هذا خلاف إطلاق المتعلق في الجزاء فلو لم يكن للجزاء إطلاق من هذه الناحية لم يثبت المفهوم.

وهذه نقطة ضعف مخصوص بهذا التقريب دون التقريبات الأخرى ، لأن ثبوت فرد آخر للحكم ولو كان متعلقاً بفرد آخر ، غير ما يتعلق به الحكم الأول ينافي انحصار طبيعي الحكم بالشرط المستفاد وضعاً أو انصرافاً كما ينافي قانون امتناع صدور الواحد بالنوع من واحد وينافي الإطلاق المقابل لأو بالنسبة إلى طبيعي الحكم فتأمل جيداً.


مقام الإثبات والثبوت يرد عليه : بأنَّ غاية ما يقتضيه مقام الإثبات ترتب الجزاء على الشرط من دون تعيين ذلك في الترتب العلّي الرتبي فلعلّه ترتب زماني من دون علّية ومعلولية.

وثانياً ـ ما جاء في الفقرة الثالثة من إمكان إثبات العلّية الانحصارية بالإطلاق الأحوالي للشرط انما يجدي في علّة محتملة يمكن أَنْ تجتمع مع الشرط في الجملة الشرطية ، واما إذا كانت العلّة المحتملة مما لا يمكن اجتماعها مع الشرط فلا معنى للتمسك بالإطلاق الأحوالي المذكور حينئذ ، إذ يمكن اختيار الشق الثاني من الشقوق الثلاثة في ذلك التقريب أعني احتمال كون العلّة الأخرى علّة مستقلة أيضاً لحصة أخرى من الحكم إذ لا يلزم منه اجتماع حكمين مثلين على موضوع واحد بعد أَنْ افترضنا عدم اجتماع الشرطين معاً.

وثالثا ـ إمكان اختيار الشق الثالث من الشقوق المتقدمة في التقريب ، أعني احتمال كون الشرط حين اجتماعه مع العلّة الأخرى المحتملة كل منهما جزء العلة لإيجاد الجزاء الواحد ، لأنَّ هذه الجزئية ليست ناشئة عن القصور الذاتي للشرط كي يكون خلاف ظاهر الجملة الشرطية في كفاية الشرط لإيجاد الجزاء وانما هو قصور بالعرض ونتيجة الاقتران بين علّتين مستقلتين في نفسهما ومثل هذه الجزئية غير منفية بالإطلاق لأنَّ الترتب والعلّية بين الشرط والجزاء محفوظ في هذه الحالة أيضاً غاية ما هنالك وجود فرق في كيفية تخريج هذه العلّية فلسفياً وحلّ إشكال عقلي في كيفية استناد المعلول إلى علّته ولا ربط لذلك بالدلالة.

التقريب الرابع : وهو كسابقه في الفقرات الثلاث ولكنه يختلف عنه في كيفية البرهنة على الفقرة الثالثة. فانَّه يتمسك هنا بظهور آخر في الجملة الشرطية لإثبات الانحصارية وهو ظهورها في كون الشرط بعنوانه دخيلا في مقام التأثير في الجزاء لا بعنوان آخر ملازم أو مقارن ، وهذا لا يكون إِلاّ حيثما يكون الشرط علّة منحصرة للجزاء إذ لو كان هناك علّة أخرى ، فاما أَنْ يكون كل من العلّتين بخصوصيته علّة للجزاء أو بالجامع بينهما ، والأول مستحيل لأنه يلزم منه صدور الواحد بالنوع من الكثير ، والثاني خلاف ظاهر الشرطية في دخل خصوصية الشرط في الحكم أيضا.


وهذا التقريب غير تام أيضاً ، لأنه يمكن أَنْ يختار الشق الأول ولا يلزم منه محذور ، اما على القول باختصاص قانون ( الواحد لا يصدر إلاّ من واحد ) بالواحد الشخصي ، فواضح ، وامّا على القول بعمومها للواحد النوعيّ أيضا فلأنَّ الواحد بالنوع في المقام إِنْ أُريد به الوجوب فإِن أريد به المجعول فهو ليس امراً حقيقياً تصديقياً كي يطبق عليه قوانين العلّية وانما هو امر فرضي حالي تصوري على ما تقدم توضيحه مراراً ، ولو أُريد به الجعل فهو صادر عن الجاعل ومعلول له وليس معلولاً للشرط أصلا ودور الشرط بحسب الحقيقة دور التحصيص والتقييد ، وإنْ أُريد بالواحد النوعيّ الملاك فلا موجب لافتراض وحدته بالنوع في الوجوبين المستندين إلى العلّتين.

التقريب الخامس : ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) وهو مؤلف من الفقرات الثلاث المتقدمة أيضا وانما يختلف عن التقريبين السابقين في كيفية البرهنة على الفقرة الثالثة منها ، حيث يبرهن على إثبات الانحصار في هذا التقريب ببيان جديد حاصله : انَّ الجزاء لو نسب إلى الشرط فيما إذا كان الشرط امراً زائداً على الموضوع وليس مسوقاً لتحققه ، فيعقل فيه ثبوتا احتمالان لا ثالث لهما ، امّا إطلاق الجزاء من ناحية الشرط أو تقيّده به لاستحالة الإهمال. والإطلاق غير صحيح لأنَّه خلاف الشرطية فيتعين تقييد الجزاء بالشرط وحينئذ يقال : انَّ هذا التقييد يواجه سؤالين وتشكيكين.

الأول : انه هل يكون الشرط كل العلّة أو جزؤها.

الثاني : انه هل يكون الشرط علّة تعيينية أو بدلية بحيث يوجد هناك امر آخر يصلح أَنْ ينوب مقامها.

والتشكيك الأول ينفى بالإطلاق المقابل للواو ، فانّه لو كان الشرط جزء العلّة والمولى في مقام بيان تمام علّة حكمه وموضوعه كان ينبغي عطف الجزء الآخر عليه وجعلها معاً شرطاً وهو خلاف الإطلاق.

والتشكيك الثاني ينفى بالإطلاق المقابل لأو ، إذ لو كان الشرط علّة بدلية كان ينبغي عطف العلّة الأخرى عليه بأو فيكون مقتضى السكوت عنه عدم البدل


وبالتالي كون الشرط علّة بنحو التعيين والانحصار (١).

وهذا التقريب أيضا غير تام ، لأنَّ المراد من تقيد الجزاء بالشرط إِنْ كان معنى يساوق مع التوقف والنسبة التوقفية فمن الواضح حينئذٍ انَّ هذه النسبة إذا ثبت دلالة الشرطية عليها فسوف يكون لها مفهوم بلا كلام إذ مقتضى الإطلاق الأحوالي لهذا التوقف هو الانحصار لأنه لازم التوقف المطلق وفي جميع الأحوال ، إلاّ انَّ هذا المعنى لا يمكن إثباته بصورة برهان لوضوح انَّ التوقف امر زائد على التقييد ، فليس مجرد عدم الإطلاق في الجزاء من ناحية الشرط مساوقا مع تقيده به بهذا النحو ، وإِنْ أراد بالتقييد معنى يلائم عدم التوقف ، أي مجرد الإيجاد والاستلزام ، فلا يمكن أَنْ نثبت بإطلاق التقييد الانحصار إذ ليس كل ما لم يذكر في الكلام يستكشف من عدم ذكره عدم وجوده ثبوتا بل ذلك المطلب الّذي لو كان موجوداً لكان مقيداً لدائرة مدلول ما قال ومحدداً له هو المستكشف عدمه ثبوتا من عدمه إثباتا ، ومن الواضح انَّ عدم العطف بأو لو كان هناك علّة أخرى ليس من هذا الباب إذ لا يؤثر وجوده ولا يغير من مدلول المنطوق في الشرطية الدال على الاستلزام أو العلّية بين الجزاء والشرط ، لأنه يكون استلزاما آخر غير هذا الاستلزام المدلول عليه بالمنطوق بتمامه. ولا يقاس هذا بالتقييد بأو في طرف الحكم ـ كما في إثبات الوجوب التعييني بالإطلاق ـ لأنَّ وجود عدل آخر للواجب هناك يكون مقيداً لمدلول الكلام ، لأنه امّا أَنْ يكون تقييداً للوجوب وجعله مشروطا بعدم تحقق العدل الاخر ، وهذا تحديد لمفاد الهيئة منفي بالإطلاق ، أو يكون متعلق الوجوب هو الجامع بين العدلين وهذا تغيير في المادة المتعلق بها الوجوب وكلاهما تصرف في مدلول الكلام فيكون منفياً بالإطلاق ، وأين هذا من وجود استلزامين مستقلين في موارد الجمل الشرطية. والشاهد على عدم تمامية مثل هذا الإطلاق انا إذا حولنا الربط إلى معنى اسمي فقلنا ( مجيء زيد علّة لوجوب إكرامه ) لم يكن مقتضى الإطلاق وعدم العطف بأو كونه علّة منحصرة كما هو واضح.

وامّا الفقرة الثانية المشتركة بين التقريبات الثلاث وهي محاولة إثبات العلّية

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٤١٨


بالإطلاق الّذي وجهنا عليها اعتراضا فيما سبق ، فنضيف عليه هنا اعتراضا أساسياً حاصله : انَّ تطبيق فكرة التطابق بين مقام الإثبات والثبوت بتلك الصيغة خطأ ، لأنَّ مقام الإثبات والثبوت له معنيان.

الأول : مرحلة المدلول التصوري للكلام ومرحلة المدلول التصديقي فيراد بأصالة التطابق بينهما إِنَّ كل ما ورد على لسان المتكلم في مرحلة المدلول الوضعي التصوري للكلام الأصل أَنْ يكون المتكلم قاصداً له واقعاً ، وهذا المعنى لا يمكن افتراضه هنا لأنه يقتضي أَنْ يكون الترتب أو العلّية مأخوذاً في المدلول التصوري الوضعي بحيث يلزم التجوز إذا استعملت الشرطية من دون علّية مع انه واضح البطلان.

الثاني : أَنْ يراد بمقام الإثبات عالم نفس الألفاظ بما هي دوال لا عالم المدلول ، فيقال انَّ تركيب الكلام وبنائه اللفظي والترتيب المقرر نحوياً ولغوياً بين مفرداته وفقراته الأصل فيه أَنْ يكون مطابقاً مع مقام الثبوت والمراد التصديقي من ورائه ، فالشرط مثلا باعتباره مقدما على الجزاء بحسب الرتبة في عالم اللفظ ينبغي ان يكون كذلك بحسب عالم الثبوت أيضاً بمقتضى أصالة التطابق.

إلاّ انَّ هذا المعنى غير صحيح إذ لا يوجد أي أصل عقلائي يقتضي مثل هذه المطابقة ، وأصالة التطابق المعروفة انما هي ظهور حالي للمتكلم يراد به المعنى الأول وانَّ ما يذكره المتكلم من مداليل تصورية ينبغي أن يكون قاصداً لها وليس هازلاً. ومما يبرهن على عدم صحة هذا المعنى الأخير للمطابقة بين مقام الإثبات والثبوت ما نجده مثلا من انَّ الفعل متقدم على الفاعل بحسب تركيبه اللفظي ورتبته النحوية فهل يمكن أَنْ يُدّعى انَّ مقتضى التطابق بين عالم الإثبات والثبوت أَنْ يكون الفعل متقدما على الفاعل بحسب عالم الثبوت ومرحلة المدلول التصديقي أيضاً؟

وتحقيق الحال في مسألة مفهوم الشرط بعد أَنْ اتضح مما تقدم فشل كل المحاولات التي كانت ترمي إلى الاستدلال على وجود مفهوم للجملة الشرطية أَنْ نقول :

انَّ الاستدلال على وجود ظهور ودلالة في كلام يكون بأحد أنحاء.

١ ـ الاستدلال عليه بتطبيق كبرى من كبريات الدلالة وقرينة عامة مفروغ عنها


على محل الكلام كما هو الحال في تطبيق قرينة الحكمة العامة في مورد من الموارد لإثبات معنى معين.

٢ ـ الاستدلال على الملازمة بين ما يفرغ عن كونه معنى اللفظ مع معنى آخر فيثبت تبعاً لذلك دلالته على المعنى الثاني.

٣ ـ إبراز الحيثية التعليلية للاستظهار بنحو يكون قابلاً للإدراك المباشر ، كما في موارد يكون الاستظهار فيها ناشئاً من قرينة اما لفظية غفل عنها أو معنوية قائمة على أساس مناسبات الحكم والموضوع ، وجامع القسمين هو إثبات الدلالة والظهور على أساس إبراز القرينة الشخصية القابلة للإدراك المباشر.

وحيث لا يمكن إثبات ظهور ودلالة في مورد على أساس أحد هذه الأنحاء الثلاثة فلا يبقى طريق إلاّ دعوى الوجدان القائم على أساس التبادر والانسباق الّذي هو الطريق الساذج الاعتيادي لإثبات الدلالات الوضعيّة.

والّذي أريد قوله بالنسبة لمفهوم الجملة الشرطية إثباتاً أو نفيا اننا لا يمكننا البرهنة والاستدلال عليه بشيء من الطرق الثلاثة المتقدمة ، لأنَّ المحاولات التي كانت تحاول إثباته على أساس قرينة الحكمة العامة قد عرفت المناقشة فيها طراً ، ولا برهان على الملازمة بين ما هو المدلول الوضعي للجملة أو الأداة مع المفهوم ، والطريق الثالث لا يتم إلاّ في الموارد الخاصة التي يتعين فيها مفاد الكلام بحكم معين له مناسبات وقرائن معينة فلا يمكن إعمالها في المداليل الكلية اللا بشرط من حيث محتوى معين كما في مداليل الهيئات بقطع النّظر عن مدخولاتها والتي منها هيئة الشرطية أو أداة الشرط ، فلا محالة لا يبقى طريق إلاّ دعوى الوجدان العرفي والانسباق الّذي لا نشك فيه ، ومن هنا أرى انه لا بدَّ في أمثال هذه المسائل من مباحث هذا العلم أَنْ نغير من منهج البحث فبدلاً من أَنْ يفكر في صياغة البراهين العقلية والاستعانة بالقواعد الفلسفية التي هي أبعد ما تكون عن الفهم العرفي للاستدلال بها على إثبات معنى معين للكلام لا بدَّ وأَنْ يبحث عن تنسيق الوجدانات العرفية التي نحس ويحس بها كلُّ إنسان عرفي ضمن نظرية موحدة قابلة لتفسيرها جميعاً ، وفي المقام لنا عدة وجدانات عرفية لا بدَّ من التفكير في تخريج نظري موحد لها يمكن أَنْ ينسّق على أساسه كل هذه الوجدانات.


فمن ناحية نحس وجداناً بثبوت المفهوم للجمل الشرطية التي يكون الجزاء فيها إنشائياً ولم يكن الشرط مقوما لموضوعه.

ومن ناحية ثانية نرى انَّ دلالتها على المفهوم ليست بنحو بحيث لو لم يكن لها المفهوم كان استعمال أداة الشرط في ذلك المورد مجازاً وبعناية كما أدرك ذلك الأصوليون أنفسهم.

ومن ناحية ثالثة لا بدَّ وأَنْ نلحظ بأنَّ دلالة الجملة الشرطية على المفهوم سنخ دلالة قابلة للتبعيض والتجزئة بمعنى انه إذا ثبت وجود علّة أخرى بدليل خارج غير الشرط المصرح به في الجملة الشرطية لا يلغو المفهوم بذلك رأساً بل يتبعض ويثبت المفهوم بلحاظ ما عدا العلّتين ولو فرض انَّ الانحصار في ذلك الشرط قد انتقض على كل حال.

ومن ناحية رابعة نرى بوجداننا العرفي انه لا مفهوم للجمل الشرطية التي يكون الجزاء فيها جملة خبرية ، كما إذا قيل ( إذا أكلتَ السمَّ مُتّ ) فانه لا يدل على عدم الموت إذا لم يأكل السم. فلا بدَّ من وضع تخريج نظري فني لدلالة الجملة الشرطية على المفهوم بنحو تفي بتفسير كل هذه الوجدانات الأربعة ، والظاهر انَّ المنكرين للمفهوم انما أنكروه لأنهم لم يستطيعوا التوفيق بين هذه الوجدانات فشككوا في أصل ثبوت مفهوم للجملة الشرطية.

وثمرة هذا البحث رغم انه بحث تفسيري وليس استدلالياً تظهر في نقطتين :

الأولى : انه إذا عجزنا عن وضع نظرية موحدة لتفسير هذه الوجدانات بمجموعها نكتشف انَّ بعضها خطأ وغير موضوعي لأنها متهافتة وغير قابلة للتنسيق.

الثانية : اننا من خلال هذا البحث النظريّ التفسيري سوف نكتشف جوهر الدلالة المبحوث عنها ومرتبتها وقيمتها الدلالية مما يساعدنا في تشخيص حكمها من حيث لزوم أخذها أو تأويلها في موارد التعارض بينها وبين غيرها من الدلالات ، تماما من قبيل ما أشرنا إليه في بحث دلالة الأمر على الوجوب والّذي قلنا فيه انه لا إشكال عند أحد في أصل الدلالة وانما لا بدَّ من البحث عن تحديد كنهها وجوهرها وهل انها بالوضع ـ كما يقول صاحب المعالم ـ أو بالإطلاق والقرينة العامة ـ كما يقول


صاحب الكفاية ـ أو بحكم العقل ـ كما تقول مدرسة الميرزا ، ولكل من هذه الدلالات رتبتها وقيمتها الخاصة في مجال التعارض كما لا يخفى.

وامّا تفسير هذه الوجدانات في صياغة نظرية موحدة في المقام فيكون بالنحو التالي :

انَّ الجملة الشرطية تتضمن ثلاث دلالات مختلفة ينتج من مجموعها الدلالة على المفهوم بنحو لا يتهافت مع ما يقتضيه الوجدان من الخصائص المذكورة لهذه الجملة ، وتلك الدلالات على ما يلي :

١ ـ الدلالة الوضعيّة على الربط بين الجزاء والشرط بنحو النسبة التوقفية ولا نريد بالنسبة التوقفية الترتب العلّي الفلسفي ، بل لا نريد حتى اللزوم الفلسفي وانما معنى أوسع من كل ذلك وهو مطلق الالتصاق العرفي وعدم الانفكاك بين الجزاء والشرط ، ولو كان ذلك من جهة الصدفة والاتفاق وهذه دلالة ندّعي انها مأخوذة في مدلول أداة الشرط وضعاً بشهادة الانسباق والتبادر العرفي.

٢ ـ الدلالة الإطلاقية على انَّ المعلّق على الشرط انما هو طبيعي الحكم لا شخصه بالنحو المتقدم شرحه.

٣ ـ الإطلاق الأحوالي للنسبة التوقفية وانها ثابتة في جميع حالات الشرط وليست مخصوصة بحالة دون أخرى فقولنا ( أكرم زيداً إِنْ جاءك ) يتضمن إطلاقا أحوالياً دالاً على ثبوت توقف وجوب الإكرام على مجيء زيد في جميع الحالات في قبال ما إذا قيّد بحال صحته مثلا فقال ( أكرمه إذا جاءك ما دام صحيحاً ) (١).

__________________

(١) لا إشكال في ان الشرطية تختلف عن الجملة الوصفية من حيث ان النسبة الحكمية فيها ملحوظة بصورة مستقلة عن الشرط بمعنى ان الشرط لم يؤخذ قيداً في المرتبة السابقة لنفس النسبة الحكمية في طرف الجزاء ، وهذا بخلاف الوصف في الجملة الوصفية فلا يلحظ الحكم بصورة منفصلة عنه وهذه الخصيصة هي منشأ دعوى المفهوم للجملة الشرطية لأنها تفسح المجال لجريان الإطلاق في الحكم لإثبات ان المعلق طبيعي الحكم وسنخه لا الحكم المقيد بالشرط ، الا ان هذه النسبة بين الشرط والحكم لا بد من تحليلها وكشف حقيقتها ، فان كانت نسبة تامة توقفية أمكن إجراء الإطلاق وإثبات المفهوم وان كانت نسبة ذهنية حقيقتها تحديد فرض صدق الجزاء فلا مفهوم ، ونحن لا نستفيد أكثر من هذا المقدار وذلك. أولاً : ـ لأن معنى التوقف كالانحصار أجنبي عن مفاد الشرطية ولا يوجد دال عليه فيها ، وانما المتبادر منها مجرد الترتب والتقدير.

وثانياً ـ ما أشرنا إليه فيما سبق من لزوم بعض المفارقات التي لا يمكن الالتزام بها ، فان التوقف إذا كان مدلولاً كنسبة ناقصة تحليلية فلا يمكن استفادة المفهوم حينئذٍ وان كان مدلولاً تاماً وبإزائه المدلول التصديقي للجملة الشرطية لزمت محاذير تقدمت الإشارة إليها.


وعلى ضوء هذه الظهورات الثلاثة في الجملة الشرطية نستطيع تفسير كل النقاط الوجدانية المتقدمة.

فالوجدان الأول الّذي كان يقضي بعدم مجازية استعمال الشرطية في غير موارد العلّية والّذي اعترف به المشهور الّذي حاولوا إثبات المفهوم عن طريق إثبات دلالتها على العلّية الانحصارية ، هذا الوجدان الّذي أضفنا إليه عدم التجوز حتى في حالة عدم اللزوم فضلا عن العلّية الانحصارية مع الوجدان الثاني القاضي بثبوت المفهوم للجملة الشرطية هما اللذان أوقعا المحققين فيما يشبه التناقض ، إذ لو لم تكن الشرطية دالة على العلّية الانحصارية بشهادة عدم العناية حين عدمها فكيف يستفاد المفهوم الّذي ضابطه الدلالة على العلّية الانحصارية؟ ومن هذا الموقف المحير انطلق اتجاهان. اتجاه ضَحى بوجدانه الثاني فأنكر الدلالة على المفهوم أصولياً رغم اعترافه به فقهياً ويمثل هذا الاتجاه صاحب الكفاية ( قده ) ، واتجاه آخر حاول إثبات انَّ خصوصية العلّية الانحصارية غير مفادة بالدلالة الوضعيّة للجملة الشرطية وانما مستفادة بالإطلاق ومقدمات الحكمة بأحد التقريبات المتقدمة والتي رأينا مدى التكلف والغرابة فيها.

ولكن في ضوء ما ذكرناه يتضح عدم التهافت بين هذين الوجدانين فانَّ الجملة الشرطية لم يؤخذ في مدلولها وضعاً الدلالة على اللزوم فضلا عن العلّية أو الانحصارية وانما المأخوذ في مدلولها الربط بنحو النسبة التوقفية المساوقة مع عدم الانفكاك عرفا ولذلك كان استعماله في غير موارد اللزوم فضلاً عن غير موارد العلّية بلا عناية المجاز وانَّما نشعر بعناية المجاز في استعماله لموارد لا ربط فيها بين الشرط والجزاء كما في قولنا ( إذا كان الإنسان ناطقاً فالحمار ناهق ) حيث يكون الجزاء في نفسه مع قطع النّظر عن الشرط ومن دون التصاق به ثابتاً في الوقت الّذي يتمّ الوجدان الثاني حيث انَّ المفهوم

__________________

وثالثاً ـ النسبة التوقفية بين الجزاء والشرط بمعنى عدم الانفكاك بينهما له معنيان. أحدهما ـ ان الشرط لا ينفك عن الجزاء في الصدق ، والثاني ـ ان الجزاء لا ينفك عن الشرط ، فإذا أريد استفادة الأول فهذا لا يثبت المفهوم ، وإذا أريد الثاني لا يمكن إثباته بالإطلاقين المذكورين فانهما يثبتان التوقف بالمعنى الأول أي ثبوت الجزاء في تمام حالات الشرط دون استثناء واما المعنى الثاني للتوقف وعدم الانفكاك فيحتاج استفادته إلي دعوى دلالة الجملة عليه وضعاً فيلزم المجاز لو ثبت في مورد عدم التوقف تماماً كما يلزم ذلك إذا أبدلنا الجملة إلى مكافئها الاسمي فقلنا ( وجوب إكرام زيد متوقف على مجيئه ).


لازم الدلالة على النسبة التوقفية ولذلك نجده أيضا فيما إذا أبدلنا الجملة إلى مكافئها الاسمي فقلنا ( طبيعي وجوب إكرام زيد متوقف على مجيئه ).

وامّا الوجدان القائل بعدم التجوز في موارد عدم المفهوم وعدم العلّية الانحصارية للشرط كما إذا كان له عدل آخر والّذي اتفق عليه المحققون المتأخرون ، فالوجه فيه واضح أيضا إذ استفادة المفهوم لم تكن على أساس الظهور الأول الوضعي للجملة الشرطية فانَّ النسبة التوقفية وحدها لا تكفي لإثبات المفهوم وانما يستفاد ذلك منها بعد ضم الدلالتين الإطلاقيتين. إذ لو كان بعض حصص الحكم متوقفا على الشرط لم يكن يستلزم الانتفاء المطلق عند الانتفاء وكذلك لو كان توقف طبيعيّ الحكم على الشرط في حال دون حال من أحوال الشرط ، وهذا يعني انه كلما ثبتت علّة بديلة كلفنا ذلك رفع اليد عن إطلاق المعلّق أو الإطلاق الأحوالي للشرط لا رفع اليد عن الدلالة الوضعيّة على النسبة التوقفية الربطية فلا يكون مجازاً.

وامّا وجدان إمكان التجزئة في المفهوم فهذا أيضا يفسر بما فسر به الوجدان السابق دون أَنْ يورث التحير أو التهافت مع الوجدان القاضي بالمفهوم ودلالة الجملة الشرطية على النسبة التوقفية ، حيث عرفنا انَّ المفهوم انما كان يستفاد من مدلول الأداة بعد ضم إطلاق المعلّق وإطلاق التعليق وهذا يعني انَّ ثبوت عدل آخر يرجع إلى تقييد في أحد هذين الإطلاقين ولا يلزم منه تغيير المدلول الوضعي للأداة وانه استعمل في غير ما وضع له حتى لا يمكن الرجوع إليه ، ومن الواضح انه إذا كانت الدلالة على المفهوم متوقفة على الإطلاق ، فهو أمر قابل للتجزئة والتبعيض لأنَّ الإطلاق يعني عدم ذكر القيد ، وبقدر ما لم يذكر من القيود توجد إطلاقات لا محالة وثبوت قيد في مورد لا يهدم إلاّ الإطلاق المقابل له خاصة على ما هو محقق في بحوث المطلق والمقيد.

وامّا الوجدان القاضي بعدم المفهوم للجملة الشرطية الخبرية كقولنا ( إذا شرب زيد السم فسوف يموت ) ، والتي لا تدل على المفهوم جزما ، ولذلك لا يستفيد أحد من مثل هذه الجملة الدلالة على خلود زيد وعدم موته أبداً إذا ما لم يشرب السم ، فهذا الوجدان بحسب الحقيقة من أهم المصادرات الوجدانية في باب الجمل الشرطية الداعية إلى إنكار المفهوم لها فالتنسيق بين هذا الوجدان ووجدانية المفهوم في الجملة


الشرطية الإنشائية أمر يبدو صعباً جداً على مستوى النظرية ، إذ أيّ فرق بين أداة الشرط الداخلة على الجملة الخبرية أو الداخلة على الجملة الإنشائية بعد أَنْ كانت الأوضاع في الهيئات نوعية لا شخصية؟

وتحقيق حال هذه النقطة التي تعتبر أدق مراحل البحث عن مفهوم الشرط متفرع على استذكار المباني التي حققناها في بحث الوضع في التفرقة بين مفاد الجملة الخبرية والجملة الإنشائية وبين النسبة التامة والنسبة الناقصة ، ذلك انَّ هذا التهافت مبنيٌّ على تخيل انَّ مفاد الجملة الشرطية الخبرية إذا كان على وزان الجملة الشرطية الإنشائية من حيث الدلالة على الانتفاء عند الانتفاء وتعليق النسبة الواقعية بين المخبر والمخبر به على الشرط فلا بدَّ وأَنْ يكون المثال السابق على تقدير وجود المفهوم مكافئا مع قولنا ( موت زيد معلّق على شربه السم ) الدال بمقتضى إطلاقه على عدم موته إذا لم يشرب السم. في حين انّا حققنا في محله انَّ مفاد الجملة الخبرية ليس هو النسبة الواقعية الخارجية وانما النسبة الحكمية التصادقية التي لا موطن لها إلاّ في الذهن وهي نسبة هذا ذاك ، التي هي نسبة غير خارجية بل في الخارج لا توجد إلاّ وحدة وعينية بين هذا وذاك وامّا النسبة الخارجية فتأتي في الذهن بصورها التي لا تكون نسبةً حقيقة في الذهن بل تحليلة ومختزلة أي صورة نسبة ، وقد برهنا هناك انَّ جميع النسب الخارجية كالظرفية أو الابتدائية أو غيرهما ومما وضع بإزائها الحروف والهيئات الناقصة ، يكون ما بإزائها في الذهن نسبة ناقصة تحليلية وكل النسب التي موطنها في الذهن وتكون نشأتها فيه فهي نسب تامة. وتوضع بإزائها الجمل التامة ، وعلى هذا الأساس يتضح انَّ المعلَّق على الشرط في قولنا ( إذا شرب زيد السم سوف يموت ) ليس هو موت زيد المتضمن لنسبة خارجية ناقصة هي نسبة عروض الموت إلى زيد بل المعلّق هو النسبة التصادقية الذهنية بين الذات التي عرض عليها الموت وبين زيد التي هي مدلول الجملة التامة في الجزاء ، أي النسبة الحكمية الاخبارية فيكون المعلّق هو اخباره بالموت لا واقع الموت فيكون الناتج من دلالة الجملة على التعليق انتفاء النسبة الحكمية والاخبار عن موته عند انتفاء الشرط لا انتفاء موته الخارجي.


وامّا الجملة الشرطية الإنشائية فهي وإِنْ كانت متضمنة لنسبة تامة إنشائية هي النسبة الإرسالية مثلا وتكون هي المعلَّقة على الشرط لا النسبة الإرسالية الخارجية ، ولكن حيث انَّ الحكم لا واقع ولا حقيقة له وراء الإنشاء والنسبة الحكمية فلا محالة يدل انتفاء هذه النسبة الحكمية الإنشائية عند انتفاء الشرط على انتفاء الحكم واقعا إذ لا واقع له في غير أفق الإنشاء المنتفي بحسب الفرض ، وهذا بخلاف الاخبار الّذي يبقى واقع المخبر به محفوظا مع انتفاء الاخبار أيضا (١).

وهكذا ينتهي البحث عن أصل مسألة دلالة الشرطية على المفهوم ، وينبغي أَنْ تعالج بعد هذا المشاكل التي تواجهنا في تنبيهات هذه المسألة.

التنبيه الأول : ونعالج فيه مشكلة الفرق بين الجملة الشرطية المسوقة لتحقيق الموضوع التي اشتهر بين الألسنة عدم دلالتها على المفهوم والجمل الشرطية الأخرى وتحقيق الحال في هذه النقطة مرتبط بتحليل مفاد الجملة الشرطية فنقول : الحكم المفروض في الجزاء من الجملة الشرطية كوجوب إكرام زيد على تقدير مجيئه يتصور له تقييدان ، أحدهما التقييد بموضوعه ، والآخر التقييد بالشرط ، والتقييد الأول تستبطنه جملة الجزاء بينما التقييد الثاني تدل عليه أداة الشرط ، وهذان التقييدان طوليان بحسب الفهم العرفي وبحسب التخريج الصناعي والفني أيضا ، بمعنى انَّ التقييد بالشرط يطرأ على وجوب الإكرام المفروغ عن تقيده بموضوعه فالمقيد بالشرط هو وجوب إكرام زيد لا ذات وجوب الإكرام ، وذلك باعتبار انَّ التقييد الأول مرجعه إلى النسبة الناقصة بين المادة وهو الإكرام في المثال وبين الموضوع ، لأن الموضوع في الجزاء طرف لنسبة

__________________

(١) يمكن ان تثار هنا مناقشتان. إحداهما : ـ يلزم من هذا التخريج إنكار المفهوم في الجمل الخبرية التي يكون جزاؤها اخباراً عن حكم شرعي كما في الأوامر الإرشادية أو في مثل قولك ( إذا سافرت وجب عليك قصر الصلاة ) مع ان القائلين بالمفهوم لا يفرقون بينها وبين الجمل الإنشائية ، وتأويل مدلول الجزاء فيها من الحكاية والاخبار إلي الإنشاء تكلف ظاهر.

الثاني ـ كما ان انتفاء الاخبار عن نسبة لا يستلزم انتفاء النسبة والاخبار عنها في مورد آخر كذلك انتفاء إنشاء نسبة لا يستلزم انتفاء إنشاء آخر لتلك النسبة في مورد آخر لأن المعلق على الشرط إذا كان هو الإنشاء والاخبار لا النسبة المنشأة أو المخبر عنها فهذان مدلولان تصديقيان جزئيان وحينئذ لا معنى لإجراء الإطلاق فيها لإثبات ان المعلق طبيعي الحكم لا شخصه فان هذا انما يصح إذا كان المعلق هو المجعول والمنشأ لا الجعل والإنشاء فهذا التفسير يهدم أحد شروط الدلالة على المفهوم حتى في الجملة الإنشائية.


ناقصة بينه وبين المادة فتكون النسبة الإرسالية ( أي الوجوب ) أيضاً متقيدة بالموضوع لأنَّ الموضوع تحصيص لمتعلق الحكم وتكون النسبة بينه وبين المادة بحسب الروح نسبة الإضافة الناقصة وإِنْ كان المتعلق بحسب القواعد النحوية مفعولاً به. واما التقييد الثاني أعني تقيد الجزاء بالشرط فهو نسبة توقفية تامة كما تقدم ، وكلما اجتمعت نسبتان إحداهما تامة والأخرى ناقصة كانت النسبة الناقصة مأخوذة في طرف النسبة التامة لكي تتم بها إذ لو كانت في عرضها كان الكلام ناقصاً وبحاجة إلى تتمة وهذا هو معنى الطولية المقصودة.

وفي ضوء هذا التحليل لمفاد الجملة الشرطية نقول : انَّ المفهوم في الجملة الشرطية من شئون التقييد الثاني أي من شئون الدلالة على النسبة التوقفية ، إلاّ إِنَّ هذا التقييد لا يقتضي أكثر من انتفاء ما عُلق على الشرط الّذي هو الحكم المفروغ عن تقيده بموضوعه وحينئذ إذا كان الشرط مغايراً مع الموضوع وتحققه غير مساوق لتحققه كما في ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) كان مقتضى إطلاق النسبة التوقفية انتفاء وجوب إكرام زيد عند انتفاء الشرط الّذي هو المجيء فيدل لا محالة على المفهوم المطلوب ، وامّا إذا كان الشرط مساوقا مع الموضوع بحيث كان انتفائه مستلزما لانتفاء الموضوع أيضا كما في مثال ( إذا رُزقت ولداً فاختنه ) فلا تدل الجملة على المفهوم ، لأنّها وإِنْ كانت دالة على انتفاء الحكم المقيد بموضوعه عند انتفاء الشرط إلاّ انَّ انتفائه بحسب الفرض يساوق انتفاء موضوع الحكم الّذي يكون انتفاء الحكم به ثابتاً في نفسه عقلا بقطع النّظر عن الشرطية ، نعم لو أُريد نفي الحكم بقطع النّظر عن تقييده أي نفي مطلق وجوب الختان ولو عن ولد آخر في المثال فهذا امر لم يكن منتفياً عقلا ، إلاّ انه لا يمكن استفادته لأنه خلاف الطولية بين التقييدين كما هو واضح (١).

__________________

(١) هذا النحو من الجمل الشرطية أيضا يمكن اتخاذها دليلاً على صحة مسلك المحقق الأصفهاني في تفسير الشرطية إذ لو كانت تدل على التعليق كان المعنى ( ختانك لولدك معلق على مجيء الولد ) ومثل هذا تعليق مستهجن عرفاً لثبوته عقلاً فيكون أشبه بالقضية بشرط المحمول. بخلاف ما إذا فسرنا الشرطية بان الشرط فيها لمجرد التقدير وتحديد فرض صدق الجزاء من دون تعليق إذ تكون النسبة التامة والمدلول التصديقي حينئذ بإزاء الجزاء فلا تستبطن الجملة للتكرار أو القضية بشرط المحمول فتأمّل جيداً.


هذا ولكن فيما إذا كان الشرط مساوقا مع تحقق موضوع الحكم ولكنه ليس هو الأسلوب الوحيد لتحقق الموضوع أي يمكن انتفائه مع بقاء الموضوع كما في آية النبأ إذا رجعت إلى قولنا ( النبأ إِنْ جاءكم به الفاسق فتبينوا ) فانَّ مجيء الفاسق محقق للنبإ الموضوع للحكم بالتبين الا انه مع ذلك يمكن افتراض النبأ من غير ناحيته فلا يكون انتفائه مساوقا مع انتفاء مصب الحكم وموضوعه دائما فيكون مقتضى إطلاق التعليق ثبوت المفهوم أيضا.

التنبيه الثاني : لا إشكال في انَّ جملة الجزاء في الشرطية مطلقة فقولنا إذا جاءك زيد فأكرمه يدل على وجوب مطلق الإكرام لزيد إذا جاء ، وحينئذ قد يستشكل في دلالة الشرطية على المفهوم بأنَّ الجزاء المعلق على الشرط إِنْ كان هو وجوب مطلق الإكرام فغاية ما تقتضيه دلالة الشرطية على الانتفاء عند الانتفاء هو انتفاء هذا الوجوب ، فلا ينافي ثبوت وجوب إكرام مقيد كالإكرام بنحو الضيافة مثلا وانما الّذي ينافيه انتفاء مطلق وجوب الإكرام.

والجواب : انا ذكرنا فيما سبق انَّ مفاد الجملة الشرطية ومدلولها التصديقي هو ربط الجزاء بالشرط أي النسبة التوقفية وليس هو النسبة الإرسالية الحكمية ، بل مدلول الجزاء وهو الوجوب ـ بالمعنى الحرفي ـ ليس إلاّ مفهوما أخذ في موضوع التعليق من قبيل قولنا ( وجوب إكرام زيد معلق على مجيئه ) وحينئذ نقول : يوجد في المقام إطلاقان :

أحدهما ـ الإطلاق في نفس الوجوب المأخوذ بنحو المعنى الحرفي موضوعاً للحكم بالتعليق لأنَّ الوجوب له حصتان حصة وجوب مطلق الإكرام وحصة أخرى وجوب الإكرام الخاصّ ، وهذا الإطلاق هو الّذي يكون مأخوذاً في موضوع التعليق ويكون التعليق طارئا عليه وهو الّذي على أساسه يكون للجملة الشرطية مفهوم لأنَّ تعليق مطلق الوجوب على شيء يستلزم انتفاء الوجوب بكل حصصه عند انتفاء المعلق عليه ولا يضر بهذا الإطلاق كون مصاديق الوجوب من موجودات عالم الذهن لا الخارج فانَّ كل مفهوم يكون له إطلاق بلحاظ حصص مصاديقه في العالم المناسب لها سواءً كان عالم الخارج أو النّفس ، كما انَّ الوجوب مأخوذ بنحو المفهوم أي المدلول التصوري في طرف الجزاء لا بنحو المدلول التصديقي الّذي هو واقع الوجوب كي لا يتصور كونه طبيعيّ


الوجوب الجامع بين الحصتين بل امّا وجوب الإكرام المطلق أو وجوب الإكرام الخاصّ.

الثاني : الإطلاق في متعلق الوجوب وهو الإكرام ، فانه لا إشكال ولا ريب في انَّ المستفاد من منطوق الجملة الشرطية ثبوت وجوب مطلق الإكرام على تقدير المجيء وهذا الإطلاق لا يكون مأخوذاً في موضوع التعليق ولا يكون التعليق طارئاً عليه بل هو في طول التعليق وطارئ على الحكم المعلق ولو كان مأخوذاً في موضوعه لما كانت الشرطية تدل على المفهوم إذ معناه انَّ المعلق ليس هو مطلق الوجوب بل وجوب مطلق الإكرام الّذي هو إحدى حصتي الوجوب ، ومنه يظهر انَّ إطلاق متعلق الوجوب يساوق التقييد في نفس الوجوب.

وليس المبرر لهذه الدعوى منحصراً في وجدانية ثبوت المفهوم للجمل الشرطية وهو لا يكون إلاّ مع افتراض انَّ المأخوذ في موضوع التعليق هو الإطلاق الأول لا الثاني بل البرهان يقتضيه أيضاً.

وتوضيح ذلك : انه يستحيل أَنْ يجري الإطلاق ومقدمات الحكمة في متعلق الجزاء في المرتبة السابقة على التعليق لأننا ذكرنا فيما سبق انَّ المدلول التصديقي بإزاء الجملة الشرطية ليس هو النسبة الإرسالية في طرف الجزاء بل النسبة الربطية والتوقفية وامّا الجزاء فمأخوذ كمفهوم طرفا لتلك النسبة الربطية ، ومعه لا معنى لإجراء الإطلاق في متعلق الجزاء ـ وهو الإكرام ـ لإثبات انَّ الوجوب قد تعلق بمطلقه ، فانَّ هذا فرع أَنْ يكون الوجوب مدلولاً تصديقياً لا مفهوما تصوريا ، لأنَّ الإطلاق انما هو بملاك التطابق بين المدلول التصوري والتصديقي ، لإثبات انَّ طرف المدلول التصديقي لا قيد فيه واما إذا لم يكن طرفا لمدلول تصديقي ، كما هو الحال في المقام ، يكون المأخوذ فيه مدلوله التصوري وهو الماهية طالما لم يؤخذ الإطلاق كمفهوم تصوري فيه. وبهذا يتبرهن : انَّ الإطلاق ومقدمات الحكمة لا تجري في المرتبة السابقة على التعليق وانما تجري في المرتبة اللاحقة عليه ، والمبرر لجريانه كذلك انَّ الجملة الشرطية متكفلة لإثبات التصاق الجزاء بالشرط في طرف المنطوق وبيان حدوده وليست لبيان النسبة التوقفية الفلسفية كي يتوهم عدم الموجب لإجراء الإطلاق حينئذ في طول التعليق.


ومن مجموع ذلك يتضح : انه يستفاد من الجملة الشرطية من جهة انتفاء مطلق وجوب الإكرام الأعم من وجوب مطلق الإكرام أو الإكرام الخاصّ ، حيث أخذ وجوب الإكرام بنحو المدلول التصوري الحرفي موضوعاً للحكم بالتعليق والمفروض معقولية الإطلاق والتقييد في المعاني الحرفية المصحح لرجوع الشرائط إلى مدلول الهيئة لا المادة ، ويستفاد منها من جهة ثانية انَّ الثابت على تقدير الشرط هو وجوب مطلق الإكرام ببركة إجراء مقدمات الحكمة في طول التعليق (١).

التنبيه الثالث : فيما إذا كان الحكم في الجزاء عاماً بلحاظ موضوع الحكم كما إذا قال ( إِنْ رُزقت ولداً فأكرم كل فقير ) فهل يثبت في طرف المفهوم انتفاء العموم أو عموم الانتفاء؟ فنقول تارة يفرض العموم في موضوع الحكم بالوجوب في طرف الجزاء مجموعياً ، وأخرى : استغراقياً.

امّا الأول : فلا إشكال انَّ المفهوم حينئذ انتفاء العموم المجموعي لأنه بحسب الحقيقة ليس إلاّ حكماً واحداً متعلقا بمجموع الافراد كموضوع واحد والمفهوم ينفي به ثبت في طرف المنطوق لا غير.

وامّا الثاني : الّذي يكون فيه أحكام عديدة بعدد افراد العام ، فالصحيح فيه انه بحسب عالم الثبوت تارة : يكون المعلق صفة العموم ، وأخرى يكون المعلق ذات العام أي الافراد المستوعبة مع افتراض انها ملحوظة بنحو الاستغراق ، وثالثة يكون المعلق ذات العام مع ملاحظة الافراد بنحو المجموعية والوحدة.

فعلى الأول يثبت انتفاء العموم فلا تثبت السالبة الكلية بلحاظ موضوع الحكم ففي المثال لا يثبت أكثر من عدم وجوب إكرام جميع العلماء فيما إذا لم يُرزق ولداً ، ولعله يجب إكرام الفقيه منهم خاصة.

__________________

(١) إِنْ قيل ـ على هذا إذا فرض تقييد الإكرام بقرينة متصلة ولكن لا بأَنْ يؤخذ قيداً تصوريا مع الإكرام بل بنحو الجملة المستقلة بأَنْ يقول إِنْ جاءك زيد فأكرمه وليكن إكرامك بالضيافة. فإطلاق المفهوم ينبغي ان يبقى على حاله مع كون مفاد المنطوق هو وجوب الإكرام الخاصّ.

قلنا ـ انَّ التقييد المذكور إِنْ لم نستظهر رجوعه إلى تحديد المدلول الاستعمالي للإكرام المأخوذ في الجزاء فلا أقل انَّه يمنع عن انعقاد الإطلاق فيه بلا إشكال ، ولو فرض قيام قرينة على اختصاص التقييد لطرف المنطوق فقط التزمنا بإطلاق المفهوم بلا كلام.


وعلى الثاني يكون مقتضى المفهوم عموم الانتفاء أي السالبة الكلية لا من جهة ما ينقل عن الميرزا ـ قده ـ في بعض المقامات من انَّ النقيض العرفي للموجبة الكلية السالبة الكلية خلافا للنقيض المنطقي ، فانَّ هذا الكلام غير تام إذا العرف أيضا يفهم التناقض بمجرد ثبوت السلب الجزئي بلا حاجة إلى أَنْ يكون كليا كما إذا قلت له ( كل من في العسكر مات وبعضهم لم يمت ) وانما باعتبار كون المعلق في هذا الفرض ذات العام أي الأحكام الملحوظة بنحو الاستغراق والكثرة تنتفي جميعا إذا انتفى الشرط.

وعلى الثالث الّذي لوحظ فيه مجموع الأحكام كمركب واحد لا يثبت بالمفهوم أكثر من انتفاء هذا المجموع فلا ينافي ثبوت البعض. نعم بناء على بعض المباني في استفادة المفهوم قد يقال باستفادة عموم الانتفاء في طرف المفهوم أيضا وهو المبنى القائل بالمفهوم على أساس استفادة العلّية المنحصرة بضميمة الإطلاق الأحوالي للشرط بلحاظ اقترانه مع علّة أخرى محتملة وعدمه ، فانَّ مقتضاه كون الشرط علّة مستقلة في جميع الأحوال فيقال انَّ مقتضى الإطلاق الأحوالي كون الشرط علّة تامة مستقلة للمجموع سواءً اقترن بتحمل العلّيّة أم لا وهذا ينفي وجود علّة أخرى حتى للبعض إذ لو كان موجوداً لكان الشرط في حال الاقتران بها علّة غير مستقلة بلحاظ ذلك البعض فلم تصبح علّة مستقلة لذات العام.

واما بحسب مقام الإثبات. فإذا فُرض انَّ الدال على العموم كان بنحو المعنى الاسمي ككلمة ( كلّ ) و( جميع ) فكأنه قال ( إذا جاءك زيد فأكرم عموم الفقراء ) فالمستظهر حينئذ هو الفرضية الأولى أي تعليق العموم على الشرط ، وهذا لا ينافي كون الحكم منحلا في طرف المنطوق إلى عدة أحكام فانَّ هذا الانحلال بلحاظ المنطوق ومناسباته إذ لا معنى لثبوته على عنوان العموم بنحو الموضوعية فلا محالة تكون مرآة للافراد بنحو الانحلال ، وامّا بلحاظ الحكم بالتعليق فالمعلق انما هو وجوب العموم بعنوانه. وإِنْ شئت قلت : انَّ هذا عرفاً في قوة أَنْ نقول عموم الوجوبات متوقفة على الشرط. واما إذا كان العموم بنحو المعنى الحرفي كالجمع المحلّى باللام بناءً على دلالته على الاستغراق فمقتضى القاعدة هو الفرضية الثانية لانحلال الحكم الّذي هو موضوع التعليق إلى أحكام عديدة ومقتضى الإطلاق تعليقها جميعا بنحو الاستغراق إلاّ أَنْ


تقوم قرينة على ملاحظة التركيب والمجموعية فتثبت الفرضية الثالثة.

التنبيه الرابع : لا إشكال فيما إذا تعدد الشرط في الجملة فقيل ( إذا رزقت ولداً ذكراً فتصدق ) انَّ تكثر الشرط يستوجب ضيق دائرة المنطوق واتساع دائرة المفهوم وانما الكلام في صورة العكس كما إذا قيل ( لو رزقت ولداً فتصدق على الفقير وصلِّ ركعتين ) فهل تدل الشرطية حينئذ على انتفاء جميع الأحكام المذكورة في الجزاء عند انتفاء الشرط أو انتفاء المجموع فلا ينافي ثبوت بعضها؟

الصحيح انه بحسب الثبوت نتصور ثلاث فرضيات :

الأولى : أَنْ يكون العطف في طول التعليق أي علق الحكم الأول على الشرط ثم عطف عليه الحكم الثاني فيرجع إلى تشريكه مع الأول في التعليق ومقتضاها انتفاء الجميع بانتفاء الشرط.

الثانية : أَنْ يكون التعليق في طول العطف بأَنْ يجمع بين الحكمين في مرتبة سابقة على التعليق ويوحّد بينها ثم يعلق المجموع بما هو مجموع على الشرط ومقتضاها انتفاء المجموع.

الثالثة : أَنْ يكون التعليق في طول العطف ولكن من دون افتراض الوحدة والتركيب بين الحكمين في مقام التعليق. ومقتضاه انتفاء الجميع أيضا كالأول.

وبحسب مقام الإثبات قد يقال بتعين الفرضية الثالثة دون الأولى والثانية : لأنَّ الثانية فيها افتراض مئونة المجموعية وهي بحاجة إلى قرينة ومجرد العطف لا يقتضيه لأنه لا يدل على المعية والاقتران الخارجي كي يكون مأخوذاً في المدلول اللفظي ، وامّا الأولى فباعتبار ما قد يتصور من انَّ العطف معنى حرفي فيكون نسبة ناقصة ومعه يستحيل أَنْ تكون في طول التعليق الّذي هو النسبة التامة في الجملة لما تقدم من انَّ النسب الناقصة تؤخذ دائما في أطراف النسب التامة ولا تكون في عرضها أو في طولها وإلاّ لبقي الكلام غير تام ، ولهذا لا يكون قولنا ( زيد وعمرو ) مما يصح السكوت عليه ، وهذه النتيجة وإِنْ كانت صحيحة إلاّ انَّ إبطال الفرضية الأولى المشتركة مع الثالثة في النتيجة مبنيٌّ على أَنْ يكون المعطف ، معنىً حرفياً ونسبة ناقصة ، وامّا إذا قلنا بأنها نسبة تامة لكونه نسبة غير خارجية بل ذهنية من أجل إخطار المعنى الاخر إلى الذهن


وتشريكه في الحكم فلا يتم الكلام المزبور ، والنقص الملحوظ في قولنا ( زيد وعمرو ) ليس من ناحية نقصان نسبة العطف وانما من جهة عدم وجود ما يشترك به زيد وعمرو هو الحكم في الكلام ، والشاهد على عدم كون العطف نسبة ناقصة صحة عطف الجملة على الجملة ، وعليه فيرجع العطف لبّا إلى تشريك الحكم الثاني مع الحكم الأول في التعليق فكأنه كرر الشرط فقيل ( إذا رزقت ولداً فتصدق وإذا رزقت ولدا فصلِّ ركعتين ) ولعل هذا هو المنشأ الفطري لما قيل من انَّ العطف في قوة التكرار ، وبهذا يعرف أيضاً انَّ الفرضية الأولى والثالثة ترجع إلى فرضية واحدة بمعنى انه لو جعلنا العطف نسبة تامة ذهنية ـ كما هو المحقّق عندنا في مباحث المعنى الحرفي ـ فلا يتصور أكثر من فرضية واحدة هما تشريك الحكمين في التعليق كأنه قد كرر.

التنبيه الخامس : إذا ورد قيد على مفاد الأمر بغير سياق الشرط كما إذا قال ( أكرم زيدا عنه مجيئه ) فلا إشكال بحسب الوجدان في عدم دلالته على المفهوم وانتفاء طبيعيّ الحكم بانتفاء القيد ولم تقع من قبل أحد من مدعي المفهوم للجملة الشرطية فيما نعلم دعوى دلالته عليه ، وانما الكلام في كيفية تخريج الفرق بينه وبين ما إذا وقع نفس القيد في سياق الشرط ، وكل تخريج من تخريجات المفهوم المتقدمة لجملة الشرط لو كان جارياً في هذا النحو من التقييد أيضاً كان ذلك نقضاً عليه.

والصحيح في المقام أَنْ يقال : انَّ ثبوت المفهوم للجملة الشرطية كما تقدم يتوقف على إثبات انَّ المعلَق طبيعيّ الحكم لا شخصه وطريقة إثبات ذلك هو إجراء مقدمات الحكمة فيه ، وإجراء مقدمات الحكمة في مفاد الجزاء يتوقف على أَنْ لا يكون المدلول التصديقي في الجملة الشرطية بإزاء جملة الجزاء لكي يبقي مفادها مدلولا تصورياً بحتاً صالحا للإطلاق والتقييد باعتباره يقع طرفا للمدلول التصديقي الّذي هو التعليق ، وهذا يتوقف على أَنْ تكون النسبة الربطية نسبة تامة يعقل أَنْ يقع بإزائها مدلول تصديقي كما هو كذلك في الربط بين النسبة الحكمية في طرف جملة الجزاء والنسبة في طرف جملة الشرط المدلول عليها بالأداة فانَّ هذا الربط نسبة تامة على ضوء ما تقدم من البرهان عليه في مناقشة مسلك المحقق الأصفهاني ( قده ) ، بل هذه نسبة ذهنية لا موطن لها في الخارج فانَّ فحوى هذا الربط كفحوى النسبة التصادقية عبارة أخرى عن قولنا


كلّما صدقت النسبة في طرف الشرط صدقت النسبة في طرف الجزاء أي النسبة الصدقية والصدق والتصادق من شئون المفاهيم ، فتكون من النسب في عالم الذهن ، وقد ذكرنا مراراً انَّ النسب الذهنية تكون تامة ، وعليه فيتفرع مفاد الجزاء عن المدلول التصديقي ويكون مدلولاً تصورياً طرفا للنسبة الربطية التامة فيجري فيه الإطلاق حينئذ على حدِّ جريانه في أطراف سائر النسب الحكمية التامة ، وهذا التخريج لا يجري إلاّ في مورد تكون فيه النسبة بين القيد والحكم نسبة تامة كالنسبة الشرطية الالتصاقية ، وامّا إذا كانت ناقصة كما في التقييد في المثال المذكور الّذي يدل على نسبة الربط الخارجي بين وجوب الإكرام ومجيء زيد فلا يمكن إجراء الإطلاق فيه لإثبات ان المقيد به طبيعي الحكم ، وهذه نكتة عامة تجري في تمام موارد عدم المفهوم على ما سوف يتضح.

ثم انَّ الركن الأول للمفهوم عندنا أيضا غير موجود في هذا النحو من الجمل المقيدة وهو الدلالة على النسبة التوقفية لأنَّ التقييد بـ ( عند ) ونحوه لا يدل على أكثر من التخصيص والتقييد فلا تدل على التوقف أو التعليق كي يدل على الانتفاء عند انتفاء القيد.

التنبيه السادس : إذا كانت أداة الشرط اسماً يقع نفسه موضوعا للحكم كقولنا ( من أكرمك أكرمه ) فالصحيح عدم دلالة الشرطية حينئذ على المفهوم ، والوجه في ذلك ما ذكرناه في التنبيه الأول لتخريج عدم دلالة الشرطية المسوقة لتحقق الموضوع على المفهوم ، لأنَّ انتفاء الشرط في المقام يساوق انتفاء موضوع الحكم في الجزاء والمفروض انَّ المعلق على الشرط انما هو الحكم المقيد بموضوعه لا طبيعيّ الحكم وانتفائه بانتفاء الموضوع عقلي ثابت في الجمل الحملية أيضا.

التنبيه السابع : إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء في جملتين شرطيتين بأَنْ علق حكم واحد على كل من الشرطين كما في المثال المعروف ( إذا خفي الأذان فقصر ، وإذا خفيت الجدران فقصر ). فسوف يقع التعارض بين إطلاق المفهوم في كل منهما فيلتزم بوجود علّتين مستقلتين لوجوب التقصير وهذا رفع لليد عن الإطلاق المقابل بأو المثبت


للانحصار ، أو يرفع اليد عن إطلاق المنطوق لكل منهما المقابل للعطف بالواو فيثبت انَّ مجموعهما علّة واحدة لوجوب التقصير.

وقد أفاد المحقق النائيني ( قده ) في المقام : انه يقع التعارض والتساقط بين الدليلين لأنه من التعارض بين إطلاقين ، ثم أشكل على نفسه بأنه قد يقال بتعين الإطلاق المقابل للتقييد بأو للسقوط لأنه متفرع على الإطلاق المقابل للعطف بالواو ، لأنَّ الانحصار في العلّةِ في طول إثبات أصل العلّية (١).

وأجاب عنه بجواب قد اختلف المقرران لكلام الميرزا في بيانه ، ونحن نعتمد على أحدهما (٢) ، وحاصله : انَّ التعارض بملاك العلم الإجمالي بكذب أحد الإطلاقين ، ونسبته إلى كلّ منهما على حد سواء وإِنْ فرض وجود طولية بينهما في الرتبة فيسقطان معاً عن الحجيّة ، ويرجع بعد ذلك إلى الأصل العملي الّذي يقتضي رفع اليد عن الإطلاق المقابل للعطف بالواو إذ يشك في وجوب القصر عند تحقق أحد الشرطين منفرداً عن الآخر فتجري البراءة عنه.

وهذا الّذي أفاده يحتوي على ثلاثة مقاطع لا بدَّ من إفرازها والتعليق على كل منها مستقلا.

المقطع الأول : انَّ مقتضى الأصل العملي بعد التساقط هو التقييد بالواو أي رفع اليد عن إطلاق المنطوق.

وهذا الكلام إذا أُريد به انَّ مقتضى الأصل العملي هو ذلك في خصوص هذا المثال ورد عليه.

أولا ـ انَّ مقتضى القاعدة بعد التساقط الرجوع إلى العموم الفوقاني الدال على وجوب التقصير في السفر الصادق قبل خفاء الجدران أو الأذان ، لأنَّ دليل التقييد المتمثل في هاتين الشرطيتين أجمل بالتعارض فيقتصر على قدره المتيقن وهو ما إذا خفي الجدران والأذان معاً. ولو فرض الشك في صدق مفهوم السفر مع خفاء أحدهما كان

__________________

(١) فوائد الأصول ، ج ١ ، ص ٤٨٤ ـ ٤٨٩

(٢) وهو ( أجود التقريرات ) لوجود تشويش في فوائد الأصول ، ج ١ ، ص ٤٢٥ ـ ٤٢٦


المرجع عمومات أقيموا الصلاة الدالة على وجوب الصلاة تماماً إذا فرض الإطلاق فيها.

وثانياً ـ لو فرض عدم العموم الفوقي مع ذلك لا تجري أصالة البراءة إذ لو أُريد به أصالة البراءة عن وجوب القصر فهو طرف لعلم إجمالي ، ولو أُريد استصحاب بقاء وجوب التمام فهذا أصل تعليقي في كثير من الأحيان حيث لا يكون الوجوب فيها فعليا قبل بلوغ حد الترخص.

وانْ أُريد تطبيقه بشكل كلي في تمام موارد التعارض بين شرطيتين من هذا القبيل فالإشكال أوضح ، إذ قد لا يكون الحكم المعلق إلزامياً بل ترخيصي ، فيكون مقتضى أصالة البراءة العكس وكفاية أحد الشرطين في رفع الإلزام ، وعلى كل حال لا يوجد هناك ضابط عام للأصل العملي الجاري بعد التساقط بل يختلف الحال من مسألة إلى أخرى فلا بدَّ من ملاحظة كل مورد بخصوصه.

المقطع الثاني : ما أُجيب به على الشبهة القائلة بتعيين الإطلاق المقابل لأو للسقوط ، وهذه الشبهة قد يحاول دفعها بأنَّ الإطلاق المقابل لأو في كل منهما انما يعارض الإطلاق المقابل للواو في الآخر لا في نفس الطرف فلا طولية بين المتعارضين ، إلاّ انَّ هذا الكلام غير تام لأنَّ تقييد منطوق أحدهما بالواو الّذي يعني افتراض الشرط جزء العلّة للجزاء يستلزم لا محالة تقييد منطوق الآخر أيضاً بالواو وإلاّ كانت الشرطية الأولى لغواً ، فالشرطان متلازمان في الجزئية والتمامية ثبوتا إذ لا يعقل جعل الشارع أحدهما جزء الموضوع مع كون الآخر موضوعا مستقلا فيكون المفهوم لأحدهما بعد فرض ثبوت أصل الترتب بالقطع أو بالظهور الوضعي مثبتا لجزئية الشرط فيهما معاً وهذا معنى سريان التعارض إلى منطوق نفس المفهوم.

وامّا ما أفيد في الجواب على الشبهة من قبل الميرزا ( قده ) ، فأيضا غير تام لأنه لو سلمت الطولية بين المدلولين بمعنى أَنْ كانت الدلالة الإطلاقية المثبتة للانحصار تثبت انحصار ما هو العلّة التامة ، فالعلم الإجمالي بكذب هذا الإطلاق أو الإطلاق المقابل بالواو منحل إلى العلم التفصيليّ بكذب الإطلاق المقابل بأو بهذا المعنى ، إذ نعلم وجدانا بعدم كون الشرط علّة تامة منحصرة اما لعدم كونه علّة تامة أو لكونه غير


منحصرة والشك البدوي في كذب الإطلاق المقابل للواو (١).

والصحيح في مقام الجواب عن هذه الشبهة انه لا طولية بين الإطلاقين لا بلحاظ الدال ولا بلحاظ المدلول ، فانَّ السكوت عن الواو يثبت كون الشرط علّة تامة والسكوت عن أو يثبت أنَّ ما وقع شرطاً لا عدل له بحيث إذا انتفى ينتفي الجزء سواءً كان علّة تامّة أم لا ، ويعلم إجمالاً بكذب أحدهما في المقام فيتعارضان.

والمقطع الثالث ـ ما أُفيد من تكافؤ الظهورين المتعارضين لأنَّ كلاًّ منهما بالإطلاق ومقدمات الحكمة فيحكم بالتساقط.

وقد علق على هذا المقطع السيد الأستاذ ، بما يلي :

( الظاهر انه لا بدَّ في محل الكلام من رفع اليد عن خصوص الإطلاق المقابل للعطف بكلمة ( أو ) وإبقاء الإطلاق المقابل للعطف بالواو على حاله ، والسر في ذلك انَّ الموجب لوقوع المعارضة بين الدليلين في المقام انما هو ظهور كل من القضيتين في المفهوم وظهور القضية الأخرى في ثبوت الجزاء عند تحقق الشرط المذكور فيها مع قطع النّظر عن دلالتها على المفهوم وعدم دلالتها عليه ، فلو كان الوارد في الدليلين إذا خفي الأذان فقصر ويجب تقصير الصلاة عند خفاء الجدران ، كان ظهور القضية الأولى في المفهوم وظهور القضية الثانية في ثبوت وجوب التقصير عند خفاء الجدران متعارضين لا محالة ، وعليه فالمعارضة في محل الكلام انما هي بين مفهوم كل من القضيتين ومنطوق

__________________

(١) واما ما جاء في أصل الشبهة وجوابها في تقريرات ( فوائد الأصول ) من دعوى الطولية بين نفس الإطلاقين وانَّ الأمر دائر بين تقييد أو تقييدين ، والجواب عنه بالقياس بباب دوران الأمر بين تقييد الهيئة أو المادة من كون الأول رافعاً لموضوع الثاني فليس تقييداً بل تخصصا فأوضح فساداً ، إذ يرد عليه :

أولا ـ عدم الطولية بين نفس الإطلاقين في المقام وانما الطولية بين المدلولين ، نعم لو كان الدال على الانحصار ثبوت كون الشرط علّة تامة بأَنْ افترض انَّ الإطلاق المقابل لأو لا يجري إلاّ في العلّة التامة كان من الطولية بين الدالين ولكنه بلا موجب ، وانما الموجب هو عدم العطف بأو ولهذا يبقى المفهوم بالنسبة إلى ما عدا الشرطين حتى لو اعتبرنا كل واحد منهما جزء العلّة ثابتاً.

وثانيا ـ انَّ الصحيح بناء على الطولية بين الإطلاقين التمسك بالإطلاق الأول كإطلاق الهيئة ، لدوران الثاني بين التخصيص والتخصص ولا يمكن التمسك بأصالة عدم التخصيص لإثبات التخصص على ما تقدم في بحث الدوران بين تقييد الهيئة أو المادة.


الأخرى الدال على ثبوت الجزاء عند تحقق شرطه ، وبما انَّ نسبة كل من المنطوقين بالإضافة إلى مفهوم القضية الأخرى نسبة الخاصّ إلى العام لا بدَّ من رفع اليد عن عموم المفهوم في مورد المعارضة ، وبما انه يستحيل التصرف في المفهوم نفسه لأنه مدلول تبعي ولازم عقلي للمنطوق لا بدَّ من رفع اليد عن ملزوم المفهوم بمقدار يرتفع به التعارض ولا يكون ذلك إلاّ بتقييد المنطوق ورفع اليد عن إطلاقه المقابل للتقييد بكلمة أو ، واما رفع اليد عن الإطلاق المقابل للتقييد بالواو لتكون نتيجة ذلك اشتراط الجزاء بمجموع الأمرين المذكورين في الشرطيتين فهو وإِنْ كان موجباً لارتفاع المعارضة بين الدليلين الا انه بلا موجب ضرورة انه لا مقتضي لرفع اليد عن ظهور دليل ما مع عدم كونه طرفا للمعارضة بظهور آخر ولو ارتفع بذلك أيضا التعارض بين الدليلين اتفاقا ، ونظير ذلك ما إذا ورد الأمر بإكرام العلماء ، الظاهر في وجوب إكرامهم ثم ورد في دليل آخر انه لا يجب إكرام زيد العالم فانه وإِنْ كان يرتفع التعارض بينهما بحمل الأمر في الدليل الأول على الاستحباب الا انه بلا موجب يقتضيه إذ ما هو الموجب للتعارض بينهما انما هو ظهور الدليل الأول في العموم فلا بدَّ من رفع اليد عنه وتخصيصه بالدليل الثاني وإبقاء ظهور الأمر في الوجوب على حاله مع انَّ ظهور العام في العموم أقوى من ظهور الأمر في الوجوب ، وهذا هو الميزان في جميع موارد تعارض بعض الظهورات ببعضها الآخر ) (١).

ويستخلص منه ضابطا عاما وتطبيقا له على المقام. وكلاهما مما لا يمكن المساعدة عليه.

امّا الضابط فلأنه إذا فرض وجود ظهور ثالث يكون رفع اليد عنه مستوجبا لارتفاع التعارض بين الدليلين المتعارضين فلا محالة يكون التعارض ثلاثيا لأنَّ المتعارضين بمجموعهما ينفيان ذلك الظهور ، وبتعبير آخر : اما أَنْ يفرض إمكان صدق الظهورين المتعارضين مطلقا أي سواء صدق الظهور الثالث أم لا.

أو يفرض عدم إمكان صدقهما مطلقا أو يفرض إمكان صدقهما معا على تقدير

__________________

(١) هامش أجود التقريرات : ص ٤٢٤ ـ ٤٢٥


كذب الثالث وعدم صدقهما معاً على تقدير صدقه ، والأول خلف التعارض والثاني خلف ما افترض من كون رفع اليد عن الظهور الثالث موجبا لارتفاع التعارض بينهما فيتعين الثالث الّذي يعني وقوع التعارض بين مجموعهما وبين الظهور الثالث أي يدل الظهور الثالث على كذب أحدهما على الأقل فيكون كل اثنين منهما يكذب الثالث ، وبهذا يتبرهن استحالة ما ادعي في الضابط من إمكان رفع التعارض بين الدليلين برفع اليد عن ظهور ثالث غير معارض فانَّ مثل هذا غير معقول في نفسه. نعم نستثني من ذلك حالة واحدة وهي ما إذا كان مجموع الاثنين لا يمكنهما نفي المفاد الثالث بالالتزام لعدم حجية المدلول الالتزامي لهما وذلك فيما إذا ورد ( أكرم كل فقير ) وورد ( لا يجب إكرام زيد ) الّذي يشك في كونه فقيراً وورد دليل ثالث يدل على ( انَّ زيداً فقير ) فانه لو لا الدليل الثالث لما كان تعارض بين الأولين ولكنه مع ذلك لا يسري التعارض إليه الأبناء على حجية أصالة عدم التخصيص لإثبات التخصص وهو غير تام كما هو محقق في محله ومنه يظهر انَّ ما ذكره من المثال ليس مصداقا لهذا الضابط فانَّ التعارض فيه بين مجموع ظهور صيغة الأمر في الوجوب وظهور ( كلّ ) في عموم ( أكرم كلَّ عالم ) وبين ( لا يجب إكرام زيد العالم ) ولذلك يكون رفع اليد عن أحدهما كافيا في رفع التعارض ، وانما يتعين التخصيص عرفا لنكات ترجع إلى تشخيص القرينية بين الدليلين على ما حققناه مبسوطاً في محله من أبحاث تعارض الأدلة.

وامّا تطبيق الضابط على الجملتين الشرطيتين فكأنه يفترض انَّ التعارض بين مفهوم كل منهما ومنطوق الآخر فلا بدّ من ملاحظة النسبة بينهما ولا يجوز علاج التعارض بالتصرف في ظهور ثالث ليس بمعارض وهو ظهور منطوق الأول بحمله على انه جزء العلّة المكمل للشرط في منطوق الثاني.

إلاَّ انَّ هذا التطبيق غير تام إذ يرد عليه :

أولاً ـ ما تقدم من سريان التعارض الواقع أولا بين مفهوم كل منهما ومنطوق الاخر إلى منطوق الأول أيضا ، لأنَّ حمل أحد الشرطين على انه جزء العلّة يستلزم حمل الشرط في المنطوق الاخر على ذلك أيضا للتلازم بينهما في الجزئية والتمامية على ما تقدم ، فليس الظهور الثالث خارجا عن المعارضة.


وثانياً ـ انَّ التصرف في الظهور الثالث بحمله على الجزئية لا يرفع التعارض بين مفهومه ومنطوق الاخر فليس إعماله من هذا الباب بل باعتباره نتيجة ملازمة لتقييد منطوق الاخر بمفهوم الأول.

وامَّا ما أفاده من انَّ النسبة بين منطوق كل منهما ومفهوم الاخر العموم والخصوص المطلق فهو غريب جداً ، وكأنه تصور أنَّ دلالة المنطوق في كل من الشرطيتين على الترتب يساوق الدلالة على كون الشرط علّة تامة للجزاء ، مع وضوح انَّ ما هو مدلول الشرطية وضعاً أصل الترتب وهو لا ينافي مفهوم الاخر ، واما كونه علّة تامة فبالإطلاق المقابل للتقييد بالواو كما هو واضح.

فالصحيح ما عليه المحقق النائيني ( قده ) ، من انَّ النسبة بينهما العموم من وجه لأنهما يتعارضان في حالة وجود أحد الشرطين دون الاخر ، حيث انَّ منطوق الأول يثبت الجزاء ومفهوم الآخر ينفيه ، ويفترق المنطوق عن المفهوم فيما إذا اجتمع الشرطان معاً فانَّ المنطوق يثبت الحكم والمفهوم لا ينفيه ، ويفترق المفهوم عن المنطوق في حالة فقدان كلا الشرطين كما هو واضح.

هذا كله فيما إذا كان الجزاء المرتب على الشرطين في الشرطيتين حكم شخصي واحد كما في مسألة التقصير ، وامّا إذا كان طبيعي الحكم بحيث كان يمكن تعدد الجزاء بتعدد الشرط فسوف يدخل إطلاق الجزاء في المعارضة أيضاً ، حيث يمكن التحفظ على كلا الإطلاقين الأولين ـ الإطلاق المقابل لأو والمقابل للواو ـ مع تقييد إطلاق الجزاء بشخص آخر من الحكم ، الا انَّ النتيجة نفس النتيجة من كون التعارض بين إطلاقات وظهورات حكمية فلا يثبت لا تعدد الحكم ولا المفهوم ولا العلّية التامة (١). نعم في فرض اجتماع الشرطين معاً يعلم بوجود حكم واحد على

__________________

(١) الإطلاق في الجزاء تارة : يكون بلحاظ متعلق الحكم كطبيعي الإكرام في قبال تقييده بفرد آخر منه ، وأخرى : يكون بلحاظ نفس الحكم ولو مع وحدة المتعلق كما في حق الخيار وفسخ معاملة واحدة فانه يمكن ان يجتمع للعاقد خياران للفسخ الواحد كما تقدم فيكون كل منهما خياراً مقيداً بغير الخيار الناشئ من السبب الآخر ، لا محالة وفي المقام الدال على الانحصار ـ وهو الإطلاق المقابل لأو ونحوه ـ إذا كان يدل على انحصار ما هو المراد من الجزاء لزم إجراء الإطلاق في المرتبة السابقة في الجزاء حكماً ومتعلقاً ثم إضافة الانحصار إليه ، وحينئذ يتم ما قيل من أن تقييد الجزاء بلحاظ متعلقه أو نفسه يرفع التعارض بين المفهوم والمنطوق ، ولكن يلزم من ذلك :


الأقل ، وفي فرض انتفائهما معاً أيضاً يعلم بعدم الحكم ، واما في غير ذلك فالمرجع إلى الأصول العملية التي تختلف باختلاف الموارد.

والنتيجة نفسها تثبت على مسلكنا في تخريج المفهوم للجملة الشرطية حيث اننا أيضا كنا نستفيده بإجراء الإطلاق ومقدمات الحكمة في مدلول الهيئة الشرطية الدالة وضعاً على التوقف ، فانَّ أصل التوقف لا يستلزم المفهوم كما قلنا فيما سبق وانما كنا نحتاج إلى ضم الإطلاق إليه لنثبته ، فيكون معارضاً مع إطلاق منطوق الاخر المثبت

__________________

أولاً ـ ان تكون المعارضة بين المفهوم والمنطوق في طول المعارضة بين إطلاق منطوق كل منهما مع إطلاق الجزاء ، في بحث التداخل القادم ، لأن الإطلاق المفهومي لا يعارض ، إطلاق منطوق الآخر الا في طول تمامية الإطلاق في الجزاء ، وهذا الإطلاق معارض على كل حال مع إطلاق المنطوق ولو لم يكن للجملتين مفهوم وهذا خلاف ما سوف يأتي من عرضية المعارضتين.

وثانياً ـ انه خلاف القاعدة ، فان الحكم ومتعلقه في طرف الجزاء يلحظان كمفهوم وماهية فيضاف الدال على الانحصار إليه ، أي يجري الإطلاق بلحاظ تعليق المدلول التصوري للجزاء على الشرط لإثبات ان هذا المعلق وهو ذات الحكم المتعلق بذات الطبيعة ليس لشرطه عدل أو بدل ، وهذا يعني ان ثبوت فرد آخر للجزاء ـ سواء تعلق بنفس المتعلق أم بغيره ـ يكون منفيا بنفس هذا الإطلاق بلا حاجة إلى إجراء الإطلاق في الرتبة السابقة في طرف الجزاء ، ولهذا لم نشترط في تقريبات الدلالة على المفهوم جريان الإطلاق في الجزاء.

وإذا كان الدال على الانحصار يدل على انحصار المدلول التصوري للجزاء في الشرط ـ كما ذكرنا ـ كانت المعارضة بين إطلاق المفهوم وإطلاق المنطوق ـ أي الإطلاق المقابل لأو والمقابل للواو ـ ولم يكن إطلاق الجزاء طرفاً في هذه المعارضة.

ثم انه لو اختير الأول لزم تقديم إطلاق المنطوق على المفهوم وبالتالي تعدد العلة وتعدد الحكم وذلك لوجهين الأول ـ لما سوف يأتي في البحث القادم من تقدم ظهور المنطوق المثبت لتمامية العلة على إطلاق الجزاء ومعه يرتفع موضوع المعارضة مع إطلاق مفهوم الآخر حيث يتقيد جزاء كل منهما بفرد غير الآخر.

الثاني ـ ان إطلاق الجزاء للفرد الحاصل بالشرط الآخر يعلم بسقوطه على كل حال اما تخصيصاً أو تخصصاً لأنه في طول إطلاق المفهوم المثبت للانحصار فان المعارضة على هذا التقدير ليس بين إطلاق المفهوم والمنطوق ابتداءً بل بعد إجراء الإطلاق في الجزاء وهذا الإطلاق في الجزاء انما تصل النوبة إليه لو أريد نفي الفرد الحاصل من الحكم بالشرط الآخر بعد تمامية الدلالة على الانحصار والا كان هذا الإطلاق لغواً لا أثر له بالنسبة إلى نفي الحكم الحاصل بالشرط الآخر.

وان اختير الثاني أيضاً أمكن إثبات تقديم إطلاق المنطوق على إطلاق المفهوم ، لأن إطلاق المنطوق بعد ان كان مقدماً على إطلاق الجزاء فهو يثبت لا محالة وجود فرد آخر من الحكم بالشرط سواءً في مورد اجتماعه مع الشرط الآخر أو افتراقه عنه وهذا الفرد الآخر من الحكم ينفيه إطلاق مفهوم الآخر والنسبة بينهما نسبة الخاصّ إلى العام وان كان هذا المدلول الخاصّ ثابتاً بالإطلاق ومقدمات الحكمة أيضاً ، لأن المعيار بنتيجة الإطلاق فإذا كانت نتيجة أحد الإطلاقين أخص من الآخر قدم عليه ، ولهذا يقدم دليل الآمر الخاصّ على دليل الترخيص العام حتى على مبنى القائل بان دلالة الأمر على الوجوب يكون بالإطلاق ومقدمات الحكمة. ولعل الوجدان العرفي يشهد بصحة هذا الفهم خصوصاً فيما إذا اتصلت الشرطيتان في خطاب واحد وهذا ان لم يدل على عدم أصل الدلالة على المفهوم في جمل الشرط فلا أقل من انها تدل على ان نكتة الدلالة على المفهوم أضعف من إطلاق المنطوق في التمامية.


لكون موضوعه تمام الموضوع لترتب الحكم ، والنتيجة نفس النتيجة.

وامّا المسالك الأخرى فنقتصر على اثنين منها ، فالمسلك الّذي كان يقول أصحابه بالمفهوم على أساس انصراف الشرطية الدالة وضعا على اللزوم إلى أكمل افراد اللزوم ، وهو اللزوم العلّي الانحصاري ، يتوجب على أصحابه انْ يرجّحوا المنطوقين على المفهومين ، والوجه في ذلك انَّ هذا الظهور مما يعلم بسقوطه تفصيلا بعد ورود الشرطيتين إذ يعلم بعدم العلّية التامة الانحصارية لكل منهما امّا لعدم التمامية وامّا لعدم الانحصار فيبقى إطلاق المنطوق المقابل للواو المثبت لكون الشرط تمام الموضوع على حاله ، نعم لو فرض إطلاق الجزاء واحتمال تعدد الحكم فلا يعلم تفصيلا بسقوط هذا الظهور ، فلو فرض انه في قوة الإطلاق وقع التعارض بينه وبين إطلاق الجزاء (١) ، ولو فرض انه أقوى من الدلالة الإطلاقية تعين تقييد إطلاق الجزاء لا محالة. وامّا إطلاق المنطوق المقابل للتقييد بالواو المثبت كون الشرط تمام الموضوع فلا معارض له على كل حال ، نعم لو فرض انَّ أكملية اللزوم بالانحصارية فقط لا بالتمامية كانت النتيجة كما كانت على مسلك المحقق النائيني ( قده ).

والمسلك الّذي كان يقول أصحابه بالمفهوم على أساس الإطلاق الأحوالي للشرط لحال الاجتماع مع غيره المثبت كونه علّة تامة حتى في هذا الحال وهو يلازم انحصار العلّة به ، يتوجب على أصحابه أَنْ يقدموا المنطوق على المفهوم لأنَّ هذا الإطلاق يعلم بسقوطه ، إذ يعلم انه في حال اجتماع الشرطين معاً لا يكون كل واحد منهما إِلاَّ جزء العلّة ، اما لكونهما كذلك بالأصل أو في حال الاجتماع فقط من باب استحالة اجتماع علّتين مستقلتين على معلول واحد ، الا إذا كان الجزاء مطلقا واحتمل تعدد الحكم ، كما

__________________

(٢) تقدم ان قابلية الحكم لتعدد لا يغير من أطراف المعارضة شيئاً كما انه على تقدير دخول إطلاق الجزاء طرقاً للمعارضة يتعين للسقوط لكونه يعلم بسقوطه وتقيده اما تخصيصاً أو تخصّصاً. نعم هنا مطلب تجدر الإشارة إليه وهو انه:

بناءً على هذا المسلك يعلم بسقوط الظهور في العلية التامة الانحصارية ومعه ينتفي أصل المفهوم لا إطلاقه فلا يمكن إثبات انتفاء الحكم حتى في فرض انتفاء الشرطين معاً ، لأنَّ المثبت للمفهوم هنا ظهور واحد وقد سقط وليس من قبيل الإطلاق لكي يقبل التخصيص التبعيض في دلالته الضمنية. وان شئت قلت : إذا ثبت عدم إرادة الفرد الأكمل للعلة وهي المنحصرة فلا فرق حينئذٍ بين وجود عدل واحد أو أكثر ، إذ لا يلزم منه مخالفة زائدة. وهذا أحد الفروق بين هذا التقريب المثبت للانحصار بالظهور الوضعي أو الانصرافي وبين سائر التقريبات.


انَّ الدلالة على تمامية العلّة على هذا المسلك لا بدَّ وأنْ تكون وضعية كي يتمسك بإطلاقها لحال الاجتماع مع شيء آخر ، ولو فرض كونها بالإطلاق الواوي أيضاً كان في منجى عن المعارضة ، بمعنى صحة التمسك بإطلاق الترتب لحال فقدان الشرط الآخر في إثبات الحكم وهو معنى الإطلاق الواوي ، فالنتيجة على هذين المسلكين واحدة أيضاً (١).

التنبيه الثامن : في بيان حال الشرطيتين المتحدتين جزاءً والمختلفتين شرطا في فرض اجتماع الشرطين من حيث اقتضائهما تداخل الأسباب وعدمه وتداخل المسببات وعدمه.

والمقصود من التداخل في الأسباب اقتضاء الشرطين معاً لحكم واحد لا حكمين فلا تكون إلاَّ سببية واحدة لمجموعهما ، ويمكن أَنْ نصطلح عليه بالتداخل في عالم الجعل ، والمقصود من التداخل في المسببات انه بعد افتراض تعدد الحكم هل يكفي في مقام الامتثال الإتيان بفرد واحد من الطبيعة أم لا ويمكن أنْ نصطلح عليه بالتداخل في عالم الامتثال؟

وقد ذكر صاحب الكفاية ( قده ) في المقام : ( إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء فلا إشكال على الوجه الثالث ـ أي ما إذا قيد إطلاق المنطوق في الشرطيتين ـ واما على سائر الوجوه فهل اللازم لزوم الإتيان بالجزاء متعدداً حسب تعدد الشروط؟ ... ( إلى ان قال ) والتحقيق : انه لما كان ظاهر الجملة الشرطية حدوث الجزاء عند حدوث الشرط بسببه أو بكشفه عن سببه وكان قضيته تعدد الجزاء عند تعدد الشرط كان الأخذ بظاهرها إذا تعدد الشرط حقيقة أو وجوداً محالاً ضرورة ان لازمه ان يكون الحقيقة الواحدة مثل الوضوء بما هي واحدة في مثل إذا بلت فتوضأ وإذا نمت فتوضأ أو فيما إذا

__________________

(١) ذكر السيد الأستاذ ـ 1 الشريف ـ في دورته الأولى : انه بناء على التقريب الرابع من التقريبات المتقدمة لاقتناص المفهوم والمنسوب إلي المحقق الأصفهاني ( قده ) والّذي يثبت الانحصار بظهور الشرطية في ان الشرط بعنوانه شرط لا بجامعه بضميمة كبرى استحالة صدور الواحد بالنوع من الكثير ، يتعين تقييد إطلاق المنطوق وافتراض ان مجموعهما شرط في تحقق الحكم لا كل واحد منهما الّذي يعني شرطية الجامع بينهما ، لأن أصالة التطابق الّذي هو منشأ الظهور المذكور بلحاظ ما هو مذكور في مقام الإثبات أقوى منها بلحاظ ما هو مسكوت عنه فيكون الظهور الأول أقوى من الإطلاق في المنطوق فتكون العلة مجموعهما لا محالة.


بال مكرراً أو نام كذلك محكوماً بحكمين متماثلين وهو واضح الاستحالة كالمتضادين فلا بد على القول بالتداخل من التصرف فيه اما بالالتزام بعدم دلالتها في هذا الحال على الحدوث عند الحدوث بل على مجرد الثبوت أو الالتزام بكون متعلق الجزاء وان كان واحداً صورة الا انه حقائق متعددة حسب تعدد الشرط متصادقة على واحد فالذمة وان اشتغلت بتكاليف متعددة حسب تعدد الشروط الا ان الاجتزاء بواحد ) (١).

وهذا الكلام صحيح الا انه ربما يفهم منه الطولية بين المسألتين ولكن لم يظهر من كلامه هذا إرادة الطولية. وانما مجرد دعوى انَّ البحث في هذه المسألة في طول عدم التصرف في منطوق الشرطيتين. وتوضيح ذلك :

انَّ هناك معارضتين مستقلتين تعالج إحداهما في المسألة السابقة والأخرى في هذه المسألة ، والمعارضتان عرضيتان طرفاً ومورداً وعلاجاً. اما عرضيتهما طرفا فباعتبار انَّ المعارضة الأولى معارضة بين الإطلاق المثبت للمفهوم والإطلاق المقابل للواو في المنطوق وإذا أدخلنا إطلاق الحكم في الجزاء كانت الأطراف ثلاثة على ما تقدم ، والمعارضة الثانية هي المعارضة بين ظهور الشرطية في كون الشرط علّة لأصل الحكم لا لمرتبة شدته ـ على ما سوف يأتي ـ وبين إطلاق المتعلق في الجزاء المقتضي لتعلق الحكم بشيء واحد فيهما (١) ، حيث يلزم من التحفظ عليهما معاً اجتماع حكمين على موضوع واحد وهو مستحيل ، إِلاَّ انَّ هذه المعارضة انما تكون بعد افتراض إطلاق المنطوق المثبت كون الشرط علّة تامة وإِلاَّ أمكن الأخذ بكلا الظهورين السابقين ، وهذا يعني بأنَّ هذه المعارضة ثلاثية الأطراف ويكون طرفها الثالث مشتركا بين المعارضتين ، وانحلالها برفع اليد عن إطلاق المنطوق انما هو من جهة رفع اليد عن أحد الأطراف المتعارضة لا من جهة الطولية بين المعارضتين.

وامّا العرضية بينهما مورداً فلأنّه ربما تجتمع المعارضتان في مورد وربما يفترقان فتوجد إحداهما دون الأخرى ، فإذا كانت الجملتان الشرطيتان دالتين على المفهوم

__________________

(١) كفاية الأصول : ج ١ ـ ص ٣١٤ ، ( ط ، مشكيني )

(٢) هذا إذا كان تعدد الحكم بتعدد متعلقه كمثال وجوب الإكرام ، واما إذا كان يمكن تعدده مع وحدة المتعلق كحق الفسخ فلا بدّ من تقييد إطلاق نفس الحكم بغير الحكم الناشئ من السبب الآخر.


وكان الجزاء قابلاً للتعدد ثبوتاً وإثباتاً اجتمعت المعارضتان فيه لا محالة ، وإِنْ كانتا حمليتين أو شرطيتين ولكن لا مفهوم لهما فالمعارضة الثانية وحدها موجودة دون الأولى ، وإذا كانتا شرطيتين لهما مفهوم ولكن كان الجزاء حكما واحداً لا يقبل التعدد كوجوب التقصير مثلاً ، فالمعارضة الثانية غير موجودة للعلم على كل حال بعدم تعدد الحكم في مورد اجتماع الشرطين معاً.

واما العرضية بينهما علاجاً فلأنَّ كلاً من المعارضتين بعد أنْ كانت لها أطرافها الخاصة بها وانّها قد تجتمع في مورد وقد تفترقان كان لا بدَّ من ملاحظة الحال في كل مورد ، فإذا كانت إحداهما موجودة دون الأخرى ، عولجت المعارضة الموجودة ، وان كانتا مجتمعتين ـ الّذي يعني كون إطلاق المنطوق طرفا مشتركاً في معارضتين ـ فاللازم في مقام العلاج ملاحظته فيهما معاً لا ملاحظته في إحداهما في رتبة أسبق من الأخرى.

والضابط العام في مثل هذه الحالات انَّ الطرف المشترك تارة : يفترض كونه أضعف من طرفه في كلتا المعارضتين ، وفي مثله يتعين التصرف فيه وتقديم طرفه المعارض له عليه في كل من المعارضتين ، وأخرى ، يفترض انه مساو مع طرفه في القوة والضعف في كلتا المعارضتين وفي مثله يحكم بالتساقط في الجميع ، وثالثة : يفترض انه أضعف من طرفه في إحداهما وأضعف منه أو مساو في الأخرى ، وحكمه تقديم الطرف الأقوى عليه فيتصرف فيه ومعه يبقى الطرف الاخر المساوي أو الأضعف بلا معارض فيرجع إليه لا محالة فتكون النتيجة كما هي في الحالة الأولى ، ورابعة : يفترض كونه أقوى من طرفه في إحداهما ومساو لطرفه في الأخرى وحكمه التساقط مع الطرف المساوي والرجوع إلى الطرف الأضعف باعتبار سقوط ما يتقدم عليه فيرجع إليه بنكتة الرجوع إلى المرجع الفوقاني وخامسة : يفترض كونه أقوى من طرفه في كلتا المعارضتين فيؤخذ به ويقع التعارض بين طرفه إذا كان متعدداً ويتقدم عليه إذا كان واحداً في كلتا المعارضتين ، وعلى أي حال فالكلام يقع في هذا التنبيه عن مسألتين

المسألة الأولى : في تداخل الأسباب في مورد يعقل فيه تعدد الحكم اما بتعدد متعلقه كما في وجوب الإكرام مرتين أو بتعدده مع وحدة المتعلق كما في حق الفسخ ، والبحث فيها تارة : عن وجود دلالة تقتضي عدم التداخل في الأسباب ، وأخرى : فيما يقتضي


عدم التداخل ، وثالثة : في كيفية العلاج بينهما. أما البحث عما يقتضي الدلالة على عدم التداخل فيمكن تقريبه بأحد نحوين التقريب الأول : انَّ المنطوق يحتوي على ظهورين بمجموعهما يقتضيان عدم التداخل.

الظهور الأول : ظهوره في كون الشرط علّة تامة مستقلة للجزاء.

الظهور الثاني : ظهوره في كون الشرط علّة لأصل الحكم لا لمرتبة تأكده وشدته.

وينتج من هذين الظهورين عدم التداخل إذ يستحيل أنْ تجتمع علّتان تامتان مستقلتان على معلول واحد.

وهذا التقريب غير تام ، لأنَّ الثاني من الظهورين وإِنْ كان تاماً إِلاَّ انَّ الظهور الأول ليس كما قيل ، بمعنى انَّ المنطوق لا يدل على علّية الشرط التامة بهذا العنوان وانما يستفاد ذلك بالإطلاق المقابل للواو بحسب تعبير الميرزا وبإطلاق الترتب بحسب تعبيرنا. أي بإطلاقه لحالة فقدان الشرط آخر ، وهذا غاية ما يلزم منه هو إثبات تمامية الشرط في حالة انفراده ولا يثبت تماميته في حالة اجتماعه فكونه جزء العلّة في حالة الاجتماع لا ينافي هذا الظهور.

التقريب الثاني : ما ذكره صاحب الكفاية ( قده ) ، ولعله كان متفطناً إلى عدم تمامية الظهور الأول في التقريب السابق فاستبدله بتقريب آخر يتفق مع السابق في الظهور الثاني ولكن يختلف عنه في الظهور الأول حيث يدعى هنا : انَّ الشرطية ظاهرة في حدوث الجزاء عند حدوث الشرط لا مجرد الثبوت ، وهذا الاستظهار قد يدعى في باب الأفعال كفعل الأمر فيكون مقتضى الشرطيتين حدوث أصل الحكم حين حدوث كل من الشرطين وهو ينافي التداخل إِلاَّ انَّ هذا التقريب بحاجة إلى عدة افتراضات.

فأولاً ـ لا بدَّ وأَنْ يكون الجزاء جملة فعلية ليدل على الحدوث فلا يجري فيما إذا كانت جملة اسمية كقولنا ( إذا جاءك زيد فإكرامه واجب ) (١).

__________________

(١) ظاهر الجملة ان الشرط سبب لترتب الحكم بمعنى استلزامه واقتضاؤه لفعليته فإذا كان الجزاء سنخ حكمٍ يقبل التعدد


وثانياً ـ لا بدَّ من افتراض تعاقب الشرطين وعدم اقترانهما في التحقق وإِلاَّ كان الحدوث عند الحدوث حاصلاً بناءً على التداخل أيضاً.

وثالثاً ـ التسليم بالإطلاق الأزماني للشرطية التي تحقق شرطها أولا لإثبات بقاء الحكم بعد تحقق الشرط الثاني وعدم تبدله وارتفاعه وحدوث حكم آخر مماثل بالشرط الثاني.

وأما ما يدل على التداخل فهو انَّ هذا الظهور ـ أي الظهور في الحدوث عند الحدوث يقابل ظهوران ١ ـ ظهور مادة الجزاء في أنَّ متعلق الحكم ـ أي مادة الأمر ـ هو الإكرام مثلاً بما هو لا بعنوان آخر.

٢ ـ إطلاق المادة وعدم تقيدها بفرد من الطبيعة غير الفرد الّذي انطبق عليه الواجب الآخر ، ومقتضى التحفظ على هذين الظهورين التداخل في الأسباب إذ لا يعقل حدوث مطلق وجوبين متعلقين بطبيعي الإكرام ، فلا بدَّ اما من تقييد أحدهما بعدم الاخر أو افتراض انَّ متعلق أحدهما على الأقل ليس هو عنوان الإكرام بل عنوان آخر ينطبق عليه فهو مجمع عنوانين ، وهو مبنى التداخل في المسببات التي هي المسألة الثانية.

وأما كيفية علاج التعارض بين هاتين الدلالتين فباعتبار انَّ الظهور في الحدوث عند الحدوث والظهور في انَّ الإكرام بعنوانه واجب ظهوران وضعيان أي من باب أصالة المطابقة بين ما يذكر إثباتا وما يكون مأخوذاً ثبوتا بينما الظهور الثالث حكمي أي من باب أصالة التطابق بين ما لم يذكر إثباتاً وما لم يؤخذ ثبوتاً ، فيقدم الظهوران الأولان

__________________

ـ في نفسه كان ظاهر الجملة تعدده بتعدد السبب سواءً كانا من سنخ واحد ، كما إذا نام مرتين في جملة ( إذا نمت فتوضأ ) مع فرض ان الشرط انحلالي لا صرف وجود النوم والا لم يكن يقبل التعدد ، أو كانا من سنخين كما إذا نام وبال. وهذا ظهور وضعي أو سياقي أقوى من الظهور الإطلاقي المقتضي للتداخل ووحدة الحكم سواء أريد به إطلاق الحكم نفسه أو إطلاق متعلقه ، كما انه لا يتوقف على دلالة الجزاء على الحدوث وان يكون جملة فعلية ، نعم إذا كان الجزاء إرشاداً ومدلولاً خبرياً لا إنشائيا فلا يقبل التعدد ولو كان جملة فعلية كما في مثل قولك ( إذا تكلمت في الصلاة فأعد صلاتك وإذا استدبرت القبلة فأعد الصلاة )


على الأخير وتكون النتيجة عدم التداخل لا في الأسباب ولا في المسببات.

نعم ذكر المحقق النائيني ( قده ) ، في المقام كلاما متيناً حاصله : أنْ لا تقييد أصلا في المادة في المرتبة السابقة على عروض مفاد الهيئة لأنَّ تعدد الوجوب الّذي يعني تعدد النسبة الإرسالية يستلزم بنفسه تعدد المرسل إليه فانَّ الإرسال والبعث مضايف مع الانبعاث فيتعدد بتعدده لا محالة فتقييد المادة بفرد آخر تقييد يثبت في طول عروض مفاد الهيئة فلا ينافي إطلاقها في المرتبة السابقة ولا حاجة إلى تقييدها لكي يكون خلاف الظاهر.

المسألة الثانية : ـ في تداخل المسببات أي في مرحلة الامتثال وهذا انما يعقل بعد الفراغ في المسألة السابقة عن تعدد الحكم وقد عرفت ان مبنى ذلك افتراض وجود تكليفين قد تعلق كل منهما بعنوان غير عنوان الآخر والإلزام اما اجتماع المثلين المحال أو تقييد كل منهما بفرد آخر الّذي يعني عدم التداخل في المسبب ، وعلى هذا الأساس يكون من الواضح ان مقتضى القاعدة في الشرطيتين المتحدتين جزاءً عدم التداخل في المسببات إذ حمل عنوان الإكرام مثلاً على إرادة عنوان آخر منطبق عليه خلاف الظاهر (١).

« مفهوم الوصف »

قد اتضح مما سبق انَّ اقتناص المفهوم من الجملة له أحد طريقين.

١ ـ الدلالة على الانتفاء عند الانتفاء بحسب مرحلة المدلول التصوري للكلام ، وهي متوقفة على ركنين :

الركن الأول : دلالة الجملة على مثل النسبة التوقفية والالتصاقية بين الحكم وبين

__________________

(١) بل هذا مستحيل ثبوتاً حتى إذا قيل بجواز اجتماع وجوبين على عنوانين متطابقين في معنون واحد خارجاً كما هو كذلك على بعض المباني المتقدمة في بحث اجتماع الأمر والنهي لأن المفروض ان ذلك العنوان الآخر الواجب متطابق مع عنوان الإكرام بحسب الفرض في المقام فيلزم عند تحقق السببين تعلق وجوبين بعنوانين متطابقين صدقاً وهذا في قوة تعلق وجوبين بعنوان واحد من حيث الاستحالة ، اللهم الا ان يفترض ان ذلك العنوان الآخر أوسع صدقاً من عنوان الإكرام فتكون المخالفة عندئذٍ أوضح وأظهر.


الشرط أو الوصف بحسب مرحلة مدلولها التصوري.

الركن الثاني : إثبات كون المعلق والمتوقف طبيعيّ الحكم لا شخصه.

٢ ـ الدلالة على المفهوم بحسب مرحلة المدلول التصديقي للكلام بأنْ يقوم برهان عقلي أو استنتاج عرفي يقتضي كون الشرط أو الوصف مثلا علّة منحصرة لطبيعي الحكم بنحو يستلزم عقلاً انتفاء نوع الحكم من انتفاء الشرط أو الوصف.

وقد تقدم شرح كلا الطريقين وما يحتاجه كل منهما من شرائط ومقومات في الأبحاث السابقة ، وعلى ضوء ذلك لا بدَّ من ملاحظة جملة الوصف والموصوف ليرى هل يمكن سلوك شيء من الطريقين فيها أم لا (١)؟

وقبل البدء بذلك ينبغي الإشارة إلى أمر حاصله : انَّ الجملة الوصفية لا إشكال في دلالتها على انتفاء شخص الحكم بانتفاء الوصف ، وذلك باعتبار أصالة التطابق بين مرحلة الإثبات والثبوت ، ومرحلة المدلول التصوري والتصديقي ، ومرحلة الخطاب والجعل الكامن من ورائه ، القاضية بأنَّ ما هو ظاهر الجملة من تقيد الحكم المبرز فيها بالوصف ثابت في مرحلة المدلول التصديقي والجدّي أيضاً ، فكما انَّ وجوب إكرام العالم مثلاً مقيد بحسب عالم الإثبات بالعادل بحيث لا إطلاق له لغيره كذلك الجعل المبرز به مقيد ثبوتا بذلك ، إلاّ انَّ هذا لا يجدي في إثبات المفهوم الكلّي الّذي هو المقصود في المقام بل يثبت المفهوم الجزئي الّذي هو انتفاء شخص هذا الحكم والّذي لا ينافي ثبوت حكم آخر مماثل على حصة أخرى من العالم الا فيما إذا عرف من الخارج وحدة الجعل ثبوتا ، وعلى هذا الأساس يحمل المطلق على المقيد حتى عند القائلين بعدم المفهوم للوصف ، نعم لو لم تحرز وحدة الحكم كان الحمل على المقيد موقوفا على ثبوت المفهوم للجملة الوصفية.

وبهذا يعرف انَّ التسالم على حمل المطلق على المقيد لا يمكن جعله نقضاً على إنكار المفهوم

__________________

(١) وهناك طريق ثالث لاقتناص المفهوم تقدمت الإشارة إليه فيما سبق ولعله قد اضرب عنه سيدنا الأستاذ لوضوح عدم تماميته في الشرطية فضلاً عن الجملة الوصفية ، وحاصله : جريان الإطلاق بمعنى مطلق الوجود في الحكم المرتب على الوصف لإثبات ان كل حصص الحكم مقيد بالوصف ، وهذا واضح البطلان لأن الإطلاق بهذا المعنى لا يمكن إجراؤه الا إذا وقع الحكم موضوعاً في القضية.


للجملة الوصفية كما قد يتوهم.

وأيّا ما كان ، لا بدَّ في إثبات المفهوم للجملة الوصفية من سلوك أحد الطريقين المشار إليهما. فنقول :

امّا الطريق الأول فالصحيح عدم توفره في الجملة الوصفية لأنه ـ كما أشرنا ـ موقوف على ركنين لا يتم شيء منهما في المقام.

امّا الركن الثاني وهو إثبات كون المعلق والمتوقف طبيعي الحكم لا شخصه ، فلأنَّ المفروض تقيد الحكم المبرز بالجملة الوصفية بالوصف بحسب مرحلة المدلول التصوري لأنَّ الوصف طرف للنسبة التقييدية الناقصة مع الموضوع الّذي هو طرف لنسبة تقييدية مع المادة ـ كالإكرام مثلا ـ والتي هي طرف للنسبة الإرسالية الحكمية ، فلا محالة يكون الحكم في الجملة الوصفية حكماً شخصياً ، (١) نظير ما تقدم بيانه في وجه عدم المفهوم للجملة الشرطية المسوقة لتحقق الموضوع.

وامّا الركن الأول فلأنّهُ : أولا من الواضح وجداناً عدم دلالة الجملة الوصفية على التوقف والنسبة التوقفية بين الحكم والوصف وإِنّما تدل على نسبة إرسالية بين الموضوع المقيد بالوصف مع المخاطب المأمور.

وثانياً ـ عدم وجود دال يمكن ان يدل على النسبة التوقفية ، إذ هيئة التوصيف تدل على النسبة الوصفية التي هي نسبة تقييدية ناقصة تقتضي تقييد شخص الحكم بالوصف ، وهيئة الفعل تدل على النسبة الإرسالية ، فلو أُريد استفادة ذلك من إحداهما فهو خلاف المداليل الوضعيّة اللغوية لهما وإِنْ أُريد استفادته من هيئة مجموع الجملة الوصفية فان كان ذلك بدلاً عن

__________________

(١) لا يقال : تشخيص حال هذا الركن مربوط بتشخيص حال الركن الأول في المرتبة السابقة ، فانه إذا افترضنا دلالة الجملة الوصفية على النسبة الالتصاقية والتوقفية بين الحكم والوصف تمَّ إجراء الإطلاق فيها لإثبات ان طبيعي الحكم متوقف على الوصف كما تقدم في الجملة الشرطية ، لأن الوصف في هذا الحال لن يكون قيداً في موضوع الحكم بل طرف النسبة التوقفية بينه وبين الحكم المرتب على ذات الموصوف ، فكأنه قيل ( إكرام الإنسان متوقف على ان يكون عالماً ) فلا فرق بين الجملتين الشرطية والوصفية فيما يرتبط بهذا الركن وانما تختلفان في الركن الثاني حيث ان الوصف من الواضح عدم دلالته على النسبة التوقفية.

فانه يقال : هناك فرق آخر أساسي بين الشرطية والوصفية هو ان النسبة الحكمية في الشرطية مستقلة عن الشرط فيعقل إجراء الإطلاق فيها بلحاظ الشرط وهذا بخلاف الوصف فانه قيد لنفس الحكم أي جزء وطرف للنسبة الحكمية فالحكم مقيد به فلا تكون النسبة الحكمية ملحوظة بصورة مستقلة عنه ليجري الإطلاق فيه بلحاظه فتأمل جيداً.


مفاد الهيئة الوصفية الناقصة فهو خلف ما تقدم ، وإِنْ أُريد استفادته مضافا إلى مفاد المفردات الأخرى ، فان ادعي دلالة هيئة المجموع على النسبة التوقفية بين شخص ذلك الحكم المقيد بالوصف وبين الوصف الأمر الّذي كان مستفاداً من النسبة التوصيفية نفسها كان لغواً ، وإِنْ أُريد استفادة توقف سنخ الحكم وطبيعيّه على الوصف فليس في الكلام ـ بناءً على اقتناص المعاني المركبة بنحو تعدد الدال والمدلول ـ ما يدلّ على طبيعيّ الحكم كي يعلق على الوصف.

وثالثاً ـ انَّ النسبة التوقفية التي يدعى دلالة الهيئة عليها إِنْ افترضت نسبة ناقصة فلا تنفع في اقتناص المفهوم كما برهنا عليه في بحث الجملة الشرطية من انَّ النسبة الشرطية لا بدَّ وأنْ تكون تامة لكي يكون المدلول التصديقي بإزائها ، وإِنْ فُرضت تامة لزم من ذلك سلخ النسبة الإرسالية في الجملة الوصفية عن التمامية وجعلها مدلولا تصوريا وهو خلاف الوجدان البديهي القاضي بكون النسبة الإرسالية الطلبية هي النسبة الحكمية التامة في الجملة الوصفية بخلاف الحال في الجملة الشرطية.

واما الطريق الثاني لاقتناص المفهوم فتوضيح الحال فيه وتحقيقه أنْ يقال : انَّ ما يراد نفيه في مرحلة المدلول التصديقي أحد أمور ثلاثة :

١ ـ أنْ يراد نفي احتمال ثبوت الحكم بنحو الموجبة الكلية على ذات الموصوف فجملة أكرم العالم الفقيه مثلاً يطلب بالمفهوم فيها نفي احتمال وجوب إكرام مطلق العالم بنحو الموجبة الكلية.

٢ ـ أنْ يراد نفي احتمال وجوب إكرام أي صنف من أصناف العلماء غير مورد الوصف أي نفي الكلية والجزئية معاً.

٣ ـ أنْ يراد نفي احتمال وجوب إكرام مطلق العالم بنحو الموجبة الكلية كما في التقدير الأول ولكن مع افتراض انَّ هذا الوجوب وجوب آخر ينطبق على ما هو مورد الخطاب ويجتمع معه كجعل آخر لا انه في مورد الخطاب عينه كما في الأول.

امَّا الاحتمال الأول : فيمكن نفيه بالنظر إلى المدلول التصديقي للجملة الوصفية بأحد تقريبين :

الأول : ما هو المشهور والمعروف من انَّ ثبوت وجوب إكرام مطلق العالم بنحو


الموجبة الكلية مرجعه إلى انَّ مناط وجوب الإكرام وملاكه ذات العالم بلا دخل لخصوصية وصف الفقاهة فيه ، وهذا معناه انَّ قيد الفقيه الوارد في الخطاب غير مربوط بالحكم بحسب مقام الثبوت مع انه قد تقدم انَّ هذا المقدار يثبت بمقتضى أصالة التطابق بين مقامي الإثبات والثبوت بلا كلام ، وبعبارة أخرى : انَّ هذا الجعل الكلّي المحتمل إِنْ فرض انَّ القيد دخيل فيه كان خلف كونه كلياً وإِلاَّ كان خلف ظهور التقييد إثباتاً في كونه دخيلاً ثبوتاً.

وهذا المقدار من البيان يمكن دفعه : بأنه لو فرض وحدة الجعل المستكشف بالخطاب تمَّ هذا البرهان لنفي احتمال كون الحكم ثابتا بنحو الموجبة الكلية ولكن لا موجب لافتراض ذلك ، إذ يعقل أنْ يكون واقع الأمر ثبوت جعول متعددة بعدد أصناف العلماء بحيث ينتج الموجبة الكلية نتيجة دخل خصوصية كل صنف في الملاك مستقلا ، فلا يكون ثبوت وجوب الإكرام للأصناف الأخرى من العلماء منافيا مع ظهور الخطاب في دخل قيد الفقاهة في الحكم المجعول فيه.

الثاني : أنْ يقال بأنَّ المولى العرفي عادة إذا ابتلي بتشريع من هذا القبيل بحيث كان يرى انَّ كل صنف من العلماء له ملاك خاص لجعل الحكم عليه فلا يجعل جعولاً متعددة بل يكتفي بجعل واحد على نهج القضية الكلية دفعاً لمحذور اللغوية العرفية بعد أنْ كان يمكن أن يتوصل بذلك إلى نفس النتيجة العملية المطلوبة من الجعل المتعدد.

فباعتبار هذه العناية والقرينة العرفية ينفي احتمال ثبوت الحكم على القضية الكلية ، إذ لو كان ذلك بنحو الجعول المتعددة كان خلف قرينة عدم اللغوية العرفية وإِنْ كان بنحو الجعل الواحد كان خلف ظهور الخطاب في دخل القيد في الحكم المجعول به.

وامّا الاحتمال الثاني أعني نفي جعل الحكم بنحو الموجبة الجزئية على غير مورد الوصف ـ الّذي هو المنتج للمفهوم المطلوب في المقام ـ فلا يمكن نفيه بالنظر إلى المدلول التصديقي للجملة الوصفية كما لم يكن يمكن ذلك بالنظر إلى مدلولها التصوري ، إذ لا يلزم من ثبوته محذور مخالفة ظهور دخل القيد المأخوذ في الحكم المبرز بالخطاب ، ولا محذور اللغوية العرفية. ومثله نفي الاحتمال الثالث أعني ثبوت حكم آخر على طبيعيّ العالم بنحو يكون مجتمعا مع هذا الحكم بناءً على إمكان اجتماعهما ـ كما إذا فرض احتمال انَ


كلاً من طبيعي العلم وخصوصية الفقاهة له ميزة خاصة تقتضي الإكرام مستقلاً ـ فانَّ هذا لا ينافي ظهور القيد في الدخالة كما لا يستلزم اللغوية العرفية.

فالصحيح على ضوء مجموع ما تقدم عدم المفهوم للجملة الوصفية لعدم تمامية انطباق شيء من طريقي اقتناص المفهوم عليها.

ولنشرع بعد ذلك في استعراض كلمات الاعلام في المقام فنقول : ذكر المحقق العراقي ( قده ) ، في المقام كلاما يمكن توضيحه ضمن ثلاث نقاط :

النقطة الأولى : ما تقدم منه في بحث مفهوم الشرط من موافقة المشهور في ركنية استفادة العلّية الانحصارية للشرط والوصف في اقتناص المفهوم من الجملة إِلاَّ انه يدعي ثبوت هذه الدلالة والتسالم عليها حتى في الجملة الوصفية بشهادة التسالم على حمل المطلق على المقيد فيما إذا أحرز وحدة الحكم حتى من المنكرين للمفهوم ، فتمام البحث لا بدَّ وأَنْ ينصب على ملاحظة الركن الاخر الّذي يتوقف عليه اقتناص المفهوم من الجملة وهو كون المعلق المترتب على الشرط أو الوصف سنخ الحكم لا شخصه.

النقطة الثانية : لا إشكال في انَّ مقتضى مقدمات الحكمة والإطلاق إثبات كون المعلق انما هو طبيعيّ الحكم وسنخه لا الشخص ، إلا إذا قامت قرينة ـ ولو عامة ـ على خلاف ذلك ، والمدعى انَّ الحكم بلحاظ موضوعه يلحظ مهملا بحسب البناء العرفي واللغوي لا مطلقا ولا مقيدا ولهذا لا يجري الإطلاق فيه بلحاظه وهذا هو السر في عدم المفهوم للجملة اللقبية كقولنا ( أكرم زيداً ) أو ( إكرام زيد واجب ) مع انه لو كانت تجري مقدمات الحكمة فيه بلحاظه كان لها مفهوم بلا إشكال كما إذا قلنا ( إكرام زيد كل الواجب ) وهذا البناء العرفي هو الّذي دعى أرسطو ـ واضع علم المنطق ـ إلى عدم تقسيم القضية إلى كلية وجزئية بلحاظ محمولها تأثيراً بالوضع اللغوي والعرفي وخلطا بين اللغة والمنطق. وامَّا بلحاظ غير الموضوع كالشرط مثلا فلا مانع من إجراء الإطلاق ومقدمات الحكمة فيقال انَّ سنخ الحكم معلق على الشرط ، لأنَّ هناك بحسب الحقيقة نسبتين في الجملة الشرطية نسبة للحكم إلى موضوعه وهو زيد الواجب إكرامه ونسبة له إلى شرطه ، والبناء النوعيّ المتقدم لا يقتضي إهمال المحمول بلحاظ النسبة الثانية كما كان يقتضيه بلحاظ النسبة الأولى فيحكم بأنّ مطلق وجوب إكرام زيد معلق على الشرط.


النقطة الثالثة : انَّ الجملة الوصفية وإِنْ كانت متضمنة بالدقة على نسبتين نسبة الحكم إلى الموضوع وهو الموصوف ونسبته إلى الوصف باعتبار انَّ ما هو طرف الإضافة الموصوف بما هو موصوف وهو ينحل عقلاً ودقة إلى ذات وصفة ، إِلاَّ انه بحسب النّظر العرفي ليس هناك إِلاَّ نسبة واحدة بين الحكم وموضوعه المقيد ، وقد قلنا انه لا يمكن إجراء الإطلاق في الحكم بلحاظ موضوعه لكونه مهملاً من ناحيته وهذا هو السر في عدم ثبوت المفهوم للوصف (٢).

وهذه النقاط الثلاث كلها موقع نظر وتأمل :

امّا الأولى : فلما تقدم من المناقشة فيها في بحث مفهوم الشرط ومحصله : انْ لا تسالم على استفادة الركن الأول من الجملة ولا تلازم بين استفادتهُ بلحاظ شخص الحكم واستفادته بلحاظ سنخ الحكم ، لأنَّ برهان تلك الاستفادة هو استحالة قيام الحكم الشخصي المبرز بالخطاب بموضوعين وقيامه بالجامع خلف أخذ القيد في مقام الإثبات المقتضي لدخله في مقام الثبوت بمقتضى أصالة التطابق بين مقام الإثبات والثبوت أي بين المدلول التصوري والتصديقي (٢).

__________________

(١) مقالات الأصول ، ج ١ ، ص ١٤٢ ـ ١٤٣

(٢) ان قلت : قد يكون المقصود انَّ كل شرط أو قيد يؤخذ في حكم يستفاد كونه علّة منحصرة في الحكم المحمول على ذلك الموضوع بنكتة ظهور المدلول التصوري للكلام في دخله فيه ومقتضى أصالة التطابق بين عالمي الإثبات والثبوت دخله ثبوتاً أيضاً فيما تدخل فيه إثباتا ، فلو كان الحكم المترتب على الموضوع هو السنخ لا الشخص يثبت المفهوم حينئذٍ فتمام النكتة للمفهوم ترتبط بالركن الثاني إثباتاً أو نفياً.

قلنا : معنى أصالة التطابق هو انَّ أطراف المدلول التصديقي الواحد والشخصي في كل خطاب ـ سواء كان هو قصد الاخبار أو الإنشاء ـ ثبوتا نفس ما أُخذ في ظاهر اللفظ إثباتاً ، وهذا يعني انَّ الجزء المقابل للمدلول التصديقي من ظاهر اللفظ وهو النسبة التامة في الجملة لا معنى لإجراء الإطلاق فيه لكونه جزئياً على كل حال وانما يجري الإطلاق في أطرافه ، وأصالة التطابق بين مقامي الإثبات والثبوت يثبت وحدة المقامين في أطراف هذا الوجود الشخصي إطلاقاً وتقييداً ، وحينئذٍ انتفاء شخص الحكم بانتفاء القيد واضح عقلا إذ لو لم ينتف بانتفائه يلزم اما قيام الحكم الشخصي بموضوعين وهو مستحيل أو قيامه بالجامع وهو خلاف أصالة التطابق بالمعنى المتقدم واما إذا كان المعلق طبيعي الحكم فطبيعي الحكم يكون مفهوماً لا محالة ولا يكون بإزائه المدلول التصديقي إذ ليس المدلول التصديقي إلا وجوداً شخصياً واحداً كما قلنا ، فلا معنى لإجراء أصالة التطابق بلحاظه حينئذٍ لإثبات كون طرفه هو القيد المأخوذ في مقام الإثبات. وإِنْ شئت قلت : انَّ استفادة انتفاء شخص الحكم بانتفاء القيد لم يكن بلحاظ المدلول التصوري للجملة إذ ليس فيها بحسب هذه المرحلة ما يدل على أكثر من ثبوت المحمول والحكم عند ثبوت الموضوع المقيد سواءً كان القيد دخيلاً واقعاً أم لا ولم يرد فيه عنوان العلّية الانحصارية أيضاً وانما نستفيد ذلك بالنظر إلي مرحلة المدلول التصديقي للجملة بدلالة تصديقية وذلك بأَنْ نقول : انَّ المدلول التصديقي الثابت وراء هذا الخطاب ينتفي شخصه بانتفاء القيد جزما ، إذ لو بقي كان لازمه


وبتعبير أدق وأشمل ، انَّ الإطلاق في الحكم يمكن أَنْ يراد به أَحد معان ثلاثة :

الأول : أَنْ يراد به كون المعلق مطلق حصص الحكم بنحو الاستغراق.

الثاني : أَنْ يراد به كون المعلق صرف وجوده الناقض للعدم الكلي والمنطبق على الوجود الأول.

الثالث : أَنْ يراد به الطبيعة بما هي هي من دون أخذ قيد معها ، أي لا يلحظ فناؤها في الوجودات الخارجية المتكثرة ولا في أول وجودها فانَّ كل ذلك شئون زائدة على ملاحظة ذات الطبيعة بما هي هي خارجية ولهذا قلنا مراراً انَّ ملاحظة كون الطبيعة ملحوظة بنحو صرف الوجود ـ كما في متعلق الوجوب ـ أو بنحو الاستغراق ـ كما في متعلق التحريم ـ انما يكون بنكتة زائدة على أصل الإطلاق ومقدمات الحكمة.

فإذا اتضحت هذه المعاني الثلاثة قلنا :

إِنْ أراد المحقق العراقي ( قده ) ، بالإطلاق في الحكم أي سنخ الحكم الّذي هو الركن الثاني لاقتناص المفهوم عنده وعند المشهور والّذي هو المبحوث عنه والمختلف فيه عند القائلين بالمفهوم والمنكرين له المعنى الأول من هذه المعاني أعني كون المعلق مطلق حصص الحكم فمن الواضح ان هذا المعنى كافٍ وحده لإثبات المفهوم بلا حاجة للركن الأول أصلا ، سواءً أُريد من الركن الأول استفادة عنوان العلّية الانحصارية للشرط أو الوصف أو أريد استفادة دخالتهما بخصوصهما في الحكم بمقتضى أصالة التطابق بين عالم الإثبات والثبوت الّذي به أثبتنا انتفاء شخص الحكم عند انتفاء القيد ، لأنَّ اللفظ سوف يكون بحسب مدلوله التصوري دالاً على انَّ تمام حصص الحكم تثبت عند ثبوت الموضوع المقيد وهذا لا يصدق الا مع انتفاء طبيعي الحكم بانتفاء القيد.

وإِنْ شئت قلت : انَّ انتفاء الطبيعي بهذا المعنى لا يكون محتاجاً حينئذٍ حتى إلى الظهور الّذي كنا نحتاجه في إثبات انتفاء الشخص وهو ظهور دخل القيد بخصوصه في

__________________

أحد امرين امّا قيام الشخص بموضوعين وهو محال أو قيامه بالجامع بين الواجد للقيد وفاقده وهذا خلاف ظهور حالي تصديقي مقتنص من ذكر المتكلم ، للقيد في مدلول كلامه ـ سواءً كان بنكتة كون الأصل في القيود الاحترازية ولغوية ذكرها مع عدم دخلها أو بأصالة التطابق بين المقامين ـ ومثل هذا لا يمكن إجرائه بلحاظ مرحلة المدلول التصديقي لطبيعي الحكم إذ لا يلزم من قيام أحد فرديه بموضوع وفرده الاخر بموضوع آخر قيام الواحد بالاثنين نعم قيامه بالجامع خلاف الظهور المتقدم.


الحكم ، إذ لو لم ينتف كان معناه انَّ المتكلم قد كذب في ترتيبه لتمام حصص الحكم على المقيد حتى لو لم يكن القيد بخصوصه دخيلاً فيه بل المراد به ذات المقيد في مورده ، لأنَّ ذات المقيد أيضاً ليس ثبوته مساوقاً مع ثبوت تمام الحصص كما كان كذلك فيما إذا كان المرتب شخص الحكم ، وبالجملة عدم الانتفاء بناءً على هذا المعنى للطبيعي يكون مكذباً لنفس هذا الإطلاق بلا حاجة إلى ضم ظهور آخر.

ونفس الشيء يقال لو أراد المحقق العراقي ( قده ) ، المعنى الثاني للإطلاق وهو الطبيعة الملحوظة بنحو صرف الوجود المنطبق على أول الوجود لو قيل بكفايته في نفسه لاقتناص المفهوم ـ وقد تقدم الإشكال فيه عند البحث عن مفهوم الشرط ـ وإِنْ أراد المعنى الثالث أي انَّ المترتب هو ذات الطبيعة فمن الواضح انَّ القائل بالمفهوم بحاجة إلى إثبات الركن الأول ، وهو العلّية الانحصارية ولا يكفي فيه مجرد ظهور أخذ القيد في الموضوع في دخله بخصوصه في الحكم فان ترتب الطبيعة بهذا المعنى على المقيد لا يقتضي انتفائه بانتفاء القيد إذ لعله يترتب مع وجود قيد آخر أيضاً بأنْ يكون هناك علّتان وموضوعان كل منهما يختص بحصة من الطبيعي ، ولا يكون الالتزام بذلك مستلزما للالتزام بعدم انتفاء شخص الحكم بانتفاء القيد لأنَّ شخص الحكم لا يمكن أَنْ يقوم بموضوعين كما هو واضح.

وامَّا النقطة الثانية في كلامه ( قده ) ، فالتحقيق في الجواب عليها : انه إِنْ أراد من إهمال المحمول وهو الحكم ما يقابل الإطلاق بالمعنى الأول أو الثاني من المعاني الثلاثة المتقدمة ، فيرد عليه : ما تقدم مراراً من انَّ الإطلاق بهذين المعنيين مئونة زائدة لا تقتضيه مقدمات الحكمة وانما لا بدَّ من اقتناصه في كل مورد بحسب القرائن الخاصة ، وإِنْ أراد منه ما يقابل الإطلاق بالمعنى الثالث الّذي هو مقتضى مقدمات الحكمة ، فنقول : انَّ الإهمال بهذا المعنى غير ثابت في المحمول لا في الجمل الخبرية ولا في الجمل الإنشائية ، بل الثابت في محمول الجملة الخبرية الإطلاق أي انَّ المستفاد منها حمل ذات طبيعة المفهوم في طرف المحمول على الموضوع فقولنا إكرام العالم واجب يكون المحمول فيه هو طبيعي الواجب الّذي لا يقتضي ثبوته له انتفاء سنخ الوجوب عند انتفاء الموضوع ، وامَّا في الجملة الإنشائية كقولنا ( أكرم العالم ) فباعتبار وجود نسبة


إرسالية تامة فيها متعلقة بالإكرام المقيد بموضوعه وهو العالم فسوف يكون الحكم الثابت لا محالة نسبة إرسالية مقيدة ويستحيل إجراء الإطلاق فيها بلحاظ موضوعها وقيوده ، إذ النسبة متقومة بطرفها فإذا فرض كون طرفها المقيد ـ كما تقدم البرهان عليه فيما سبق ـ فلا معنى لإجراء الإطلاق فيها بلحاظ طرفها ، اذن فيتعين كون الحكم في الجملة الإنشائية هو المقيد بالموضوع لا المطلق ولا المهمل.

واما النقطة الثالثة في كلامه ( قده ) ، فيرد عليها :

أولاً ـ انَّ النسبة الثانية التحليلية بحسب دعواه في الجملة الوصفية إِنْ أُريد بها نسبة المحمول إلى التقيد بالوصف الّذي هو جزء تحليلي عقلاً للموضوع وإِنْ كان الموضوع واحداً عرفا فمن الواضح انَّ نسبة المحمول إلى موضوعه مهمل بحسب مبناه ولا فرق في الموضوع بين جزء فهذه النسبة بين الحكم والوصف لا تفيد في إثبات المفهوم ، لأنه كالنسبة إلى ذات الموصوف من حيث عدم إمكان إجراء الإطلاق فيها.

وإِنْ أريد بها النسبة الثابتة بين المجموع المركب من المحمول وموضوعه إلى الوصف نظير نسبة الجزاء بما هو حكم وموضوع إلى الشرط وإِنْ شئت قلت : نسبة الموضوع بما هو موضوع إلى وصفه وبهذا يكون طرف هذه النسبة القيد لا التقيد أي وجوب إكرام العالم مقيد بعدالته.

فهذه النسبة ليست بتحليلية بل عرفية أيضاً لدلالة الهيئة الناقصة عليها بحسب الفرض الا انها لا يمكن إجراء الإطلاق بلحاظها لأنها نسبة تقييدية ناقصة بين ذات الموضوع أو الموضوع بما هو موضوع مع الوصف ، وقد أوضحنا في مفهوم الشرط انَّ المحمول انما يمكن إجراء الإطلاق فيه إذا فرض وقوعه طرفا للنسبة التامة وإِلاَّ لم يجز فيه ذلك حتى في الشرطية كقولنا ( أكرم زيداً عند مجيئه ) والسر فيه : انَّ طرف النسبة الناقصة ليس شيئاً مستقلاً في مقابل الطرف الاخر لكي يلحظ مطلقا في مقام الانتساب إليه تارة ومقيداً أخرى ، بل مرجع ذلك إلى التحصيص وملاحظة حصة خاصة من المفهوم ينحل عقلا إلى طرفين ونسبة.

وثانياً ـ انَّ هذه النسبة بحسب قواعد العربية نسبة بين ذات الموضوع والوصف لا المحمول المنتسب إلى موضوعه هذا إذا تعقلنا أصل إمكان إيقاع النسبة الناقصة بين


طرفين إحداهما نسبة تامة في نفسها ، والّذي يجدي في إثبات كون المعلق مطلق الحكم انما هو نسبة الحكم إلى القيد أي تقييد الحكم كما في الجملة الشرطية لا تقييد موضوع الحكم كما هو واضح.

وثالثاً ـ انَّ دعوى وحدة النسبة في المقام قد ينافي ما تقدم منه من مسلمية دلالة الجملة الوصفية على العلّية الانحصارية للقيد ، فانَّ هذا يعنى وجود نسبة توقفية بين الحكم المنتسب إلى موضوعه وبين الوصف تفيده الجملة سواءً كانت وصفية أو شرطية فإنكار وجود أكثر من نسبة واحدة يناقض تلك الدعوى.

اللهم إلاَّ أنْ يكون مراده استفادة العلّية الانحصارية بالدلالة التصديقية الحالية بمقتضى أصالة التطابق بان ما أخذ إثباتاً مأخوذ ثبوتا لا الدلالة التصورية المستفادة من هيئة التوصيف ، ولكن حينئذٍ يكون من الواضح انَّ هذا المقدار من الدلالة لا يقتضي أكثر من انتفاء شخص الحكم لا سنخه بالبيان المتقدم.

وامَّا المحقق النائيني ( قده ) ، فقد أفاد في المقام كلاما يظهر من بدايته مطلب ومن نهايته مطلب آخر ، بحيث يفهم وجود ضابطين لإثبات المفهوم للوصف.

امَّا المطلب الأول الّذي استهل به كلامه فمحصله : انَّ ثبوت المفهوم للوصف منوط بتحقيق انَّ الوصف هل أخذ قيداً للموضوع والمتعلق أو أخذ قيداً للحكم مباشرة ، فعلى الأول لا مفهوم للجملة إذ معناه وجود مفهوم افرادي هو الحصة الخاصة قد وقع موضوعاً للحكم فيكون نظير اللقب الّذي لا يدل على أكثر من ثبوت الحكم فيه ، وعلى الثاني ـ بناءً على إمكان تقييد الحكم ومفاد الهيئة ـ يثبت المفهوم لا محالة لأنَّ الحكم إذا كان مقيداً فالمقيد عدم عند عدم قيده وهو المفهوم.

وباعتبار انَّ الظاهر عرفا من القضايا الوصفية رجوع القيد فيها إلى الموضوع أو المتعلق فلا مجال لتوهم المفهوم فيها (١).

وقد ظهرت المناقشة في هذا البيان الّذي تنبته مدرسة المحقق النائيني ( قده ) ، لنفي المفهوم عن الجملة الوصفية على ضوء ما بينا سابقا في تخريج ضابط المفهوم كلية ، فانه

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٤٣٣ ـ ٤٣٥


لا بدّ من إثبات كون المعلق سنخ الحكم ولا يكفي مجرد تقييد شخص الحكم لتتميم المفهوم ، وقد ذكرنا انَّ الإطلاق وكون المعلق سنخ الحكم مبنيٌ على أمور أحدها أَنْ تكون النسبة تامة لا ناقصة كما في الوصف ولهذا قلنا انه لا مفهوم لجملة ( أكرم زيداً عند مجيئه ) ولو كان القيد راجعاً إلى الحكم.

وامّا المطلب الّذي بيّنه في ذيل كلامه فهو انه لو قامت قرينة على انَّ الوصف علّة للحكم ثبت المفهوم. وقد استدرك عليه السيد الأستاذ بأنه لا بدّ من الدلالة على انحصاريتها أيضا.

ويرد عليه ما تقدم : من انَّ استفادة العلية الانحصارية وحدها لا يكفي لإثبات المفهوم بل لا بدّ من أَنْ يكون المعلق سنخ الحكم وهو متعذر في المقام بعد أَنْ كانت النسبة الإرسالية متعلقة بالمقيد.

وللمحقق الأصفهاني ( قده ) ، في المقام بيان لا يخلو من قلق واضطراب (١) الا انه يمكن أَنْ يكون نظره إلى أحد كلامين.

الكلام الأول : دعوى انا كلما أمكننا استفادة علّية الوصف للحكم من الجملة الوصفية ولو بقرينة خاصة أمكننا إثبات انحصارها بنحو ينتج المفهوم ، وذلك لأنه لو فرض وجود علّة أخرى للحكم لزم منه محذور ثبوتي أو إثباتي ، إذ لو كان الجامع بينهما علّة كان خلاف ظهور الجملة الوصفية في دخل الوصف بخصوصه في الحكم أي خلاف أصالة التطابق بين مقام الإثبات والثبوت ، ولو كان كل منهما بخصوصه علّة لزم صدور الواحد بالنوع من الكثير وهو مستحيل. ثم نبه ( قده ) على عدم موافقته على تعميم قاعدة الواحدة للواحد بالنوع.

وهذا الكلام قد استعرضنا ما يماثله في بحث مفهوم الشرط وقلنا انه لا محذور ثبوتي في اختيار الشق الأول حتى على القول بعموم القاعدة للواحد النوعيّ إذ لا يصح تطبيقها على الحكم وموضوعه ، فانه لو أريد بالحكم الجعل فهو معلول للجاعل لا للموضوع وانما الموضوع وقيوده محصصات للجعل ، وإِنْ أُريد بالحكم المجعول الفعلي فهو أمر وهمي

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ١ ، ص ٣٣٠ ـ ٣٣١


تصوري وليس وجوداً فلسفياً حقيقياً كما أشرنا إليه مراراً ، وَإِنْ أُريد بالحكم روح الحكم ومبادئه أَعني الملاك الّذي يكون حصوله معلولاً للموضوع وقيوده فلا دليل على وحدته سنخاً فلعلهما متباينان ولكنهما مع ذلك مطلوبان لزوميان للمولى.

الكلام الثاني : ويراد فيه التعويض عما افترض في الكلام السابق من الاحتياج إلى القرينة الخاصة على استفادة علّية الوصف للحكم ، والتعويض عن القاعدة الفلسفية ، فيقال باستفادة علّية الوصف من الظهور العرفي القاضي بان الأصل في القيود أَنْ تكون احترازية الّذي مرجعه إلى التطابق بين مقامي الإثبات والثبوت وان الوصف مأخوذ في موضوع الحكم ثبوتا كما هو مأخوذ إثباتا ولا يراد بالعلّية هنا أكثر من هذا المعنى وحينئذٍ يضم إلى ذلك مجموع ظهورين ، أحدهما ظهور الخطاب في كون الوصف بخصوصه علّة. وثانيهما ظهور المعلول في كونه طبيعي الحكم لا شخصه.

وبذلك تتم الدلالة على المفهوم ، لأنَّ ثبوت علّتين وموضوعين عرضيين للجعل الواحد مستحيل لعدم تحمل كل جعلٍ لأكثر من موضوع واحد ، وثبوت موضوعين كذلك لطبيعيّ الحكم بلحاظ حصتين منه خلاف الظهور الثاني ، وثبوت موضوع واحد وهو الجامع بين العلّتين لطبيعي الحكم خلاف الظهور الأول ، وهذا يعني انَّ أي حصة تفترض للحكم لا بدّ وأَنْ تكون علّته منحصرة في الوصف المأخوذ في الجملة وهو المطلوب.

ولنا على هذا الكلام ثلاث تعليقات :

إذ يرد عليه :

أولاً ـ انَّ الجمع بين إثبات العلّية للوصف بمقتضى ظهور القيد في الاحترازية وبين إثبات كون المترتب طبيعي الحكم لا شخصه متهافت ، لأنَّ الأول ظهور تصديقي غير مأخوذ في مرحلة المدلول التصوري للكلام أي اكتشاف كون المدلول التصديقي قد أخذ في موضوعه الوصف أيضاً ، ومن الواضح انَّ المدلول التصديقي يكون الحكم فيه جزئياً لأنه جعل واحد لا جعلين فلا معنى لإجراء الإطلاق فيه ، نعم لو كانت العلّية مستفادة بحسب المدلول التصوري للكلام أمكن أَنْ يقال مثلاً انَّ مدلول الأمر طبيعي النسبة الإرسالية بالنحو المناسب مع المعاني الحرفية ولكن الأمر ليس كذلك.


وثانياً ـ انَّ الإطلاق المنتج للمفهوم فيما إذا كان الوصف علّة منحصرة بالمعنى المتقدم للعلّية أي مجرد كونه مأخوذاً في الموضوع ثبوتاً انما هو الإطلاق بمعنى تمام الحصص لا الطبيعة بما هي ، وهذا على ما تقدم مئونة زائدة لا تثبتها مقدمات الحكمة.

وثالثاً ـ لو افترضنا انَّ العلّية الانحصارية قد استفيدت بلحاظ مرحلة المدلول التصوري للكلام فيرجع هذا الكلام إلى ما أفاده الميرزا ( قده ) من انه لو كان الوصف مقيداً للحكم تمَّ المفهوم في الجملة ، وقد علقنا فيما سبق على ذلك بأنه ممنوع كبرى وصغرى.

إذ ليس الوصف قيداً للحكم بحسب المدلول التصوري ، وليس يكفي ذلك للمفهوم على تقدير ثبوته.

مفهوم الغاية

الغاية تارة : تكون راجعة إلى موضوع الحكم كما في قوله تعالى : ( واغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ) ، وأخرى إلى متعلق الحكم في قولنا ( صُمْ إلى الليلِ ) ، وثالثة : إلى نفس الحكم المستفاد من مدلول الهيئة والنسبة التامة كما في قولنا ( صُمْ حتى تصبح شيخا ) ، ورابعة : ترجع إلى الحكم المستفاد من مفهوم اسمي افرادي كما في قولنا ( الصوم واجب إلى الليلِ ) أي وجوبا مستمراً إلى الليل.

ومدرسة المحقق النائيني ( قده ) ، تفصل بين هذه الأنحاء فترى ثبوت المفهوم في بعضها دون بعض على خلاف بين ظاهر كلام الميرزا نفسه وكلام السيد الأستاذ ، فالظاهر من كلام المحقق النائيني انَّ المفهوم ثابت فيما إذا كانت الغاية راجعة إلى مدلول الهيئة التامة في الجملة الإنشائية وهو النحو الثالث من الأقسام فقط ، وظاهر كلام السيد الأستاذ ثبوته فيما إذا كانت الغاية راجعة إلى الحكم سواءً كان مفاداً بنحو المعنى الاسمي أو النسبي.

وما بيّنته هذه المدرسة في توضيح مدعاها ـ على الخلاف المذكور ـ انَّ الغاية إذا كانت ترجع إلى الحكم كان معناه انتهاء الحكم وانتفائه بحصول الغاية ولا يراد بالمفهوم أكثر من ذلك. وهذا بخلاف ما إذا كانت غاية للموضوع أو المتعلق فانها لا تدل حينئذٍ على أكثر من تحديد ما هو موضوع الحكم في المرتبة السابقة على طرو


الحكم فيصير حاله حال الوصف وقيود الموضوع الأخرى (١).

وهذا الكلام كأنه بدائي إذ تقدم انَّ ثبوت المفهوم مرتبط بركنين أحدهما ـ استفادة العلّية الانحصارية من الجملة.

الثاني ـ إثبات انَّ المعلق سنخ الحكم لا شخصه.

والجملة المشتملة على الغاية وإِنْ كانت تدل على الركن الأول باعتبار مساوقة الغائية للعلّية الانحصارية من طرف العدم لا الوجود ، الا انَّ الركن الثاني لا يمكن إثباته الا بالإطلاق ومقدمات الحكمة وهي لا تجري في المقام كما لم تجرِ في الوصف ، وتوضيحه وإِنْ كان فيه نحو تكرار موقوف على صغرى وكبرى.

امّا الصغرى : فهي انَّ النسبة المفادة بالغاية مدلول ناقص وهذا ما يمكن إثباته لمّا وإِنّا.

امّا لمّا : فبالرجوع إلى ما تقدم من بحث المعاني الحرفية والهيئات الناقصة من انَّ كل نسبة خارجية تكون ناقصة في الذهن والنسبة الغائية تحكي عن ربط خارجي نفس الأمري بين المعنى والغاية وهو الانتهاء الخارجي.

وامّا إِنّا : وبحسب النتائج فلوضوح نقصان جملة الغاية وحدها كقولنا الصوم إلى الليل ، كنقصان جملة الوصف أو الإضافة ، فانَّ هذا يصلح أَنْ يكون منبهاً في المقام.

وامّا الكبرى : فلأنَّ النسبة الناقصة لا يمكن إجراء الإطلاق ومقدمات الحكمة في طرفها ثم إيقاعها بل يجري الإطلاق في طرف النسبة التامة فقط وهذا أيضاً يمكن إثباته لمّا تارة وإِنّا أخرى.

امَّا لمّا : فبالرجوع إلى ميزان نقصان النسبة وتماميتها فانَّ النسبة الناقصة عبارة أخرى عن التحصيص وإرجاع المفهومين إلى مفهوم واحد ولا تتضمن ربطاً حقيقياً بين مفهومين في الذهن كما في النسبة التامة ، والإطلاق عبارة عن تحديد كيفية لحاظ المولى للمفهوم الواقع طرفا للنسبة الحقيقية التامة في ذهنه من حيث كونه مطلقاً أو مقيداً.

وامَّا إِنّا : فلوضوح الفرق بين قولنا وجوب الصوم مغياً بالليل الّذي يمكن إجراء

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٤٣٦ ـ ٤٣٧


الإطلاق في مفهوم الوجوب فيه الواقع طرفا للنسبة التامة وبالتالي إثبات المفهوم وبين قولنا وجوب الصوم المغيا بالليل ثابت الّذي وقع فيه الوجوب طرفاً للنسبة الناقصة مع غايته ولذلك لم يكن يدل على المفهوم وانَّ كل وجوب صوم مغياً بالليل.

ويشهد على هذه الدعوى وضوح عدم المعارضة عرفا بين قولنا ( صُمْ حتى تصبح شيخا ) ، وقولنا : ( صُمْ لداء المعدة ) مثلاً الشامل بإطلاقه حتى للشيخ وليس ذلك الا من جهة كون الغاية راجعة إلى شخص الحكم لا سنخه.

نعم تدل الغاية على المفهوم الجزئي بالمقدار الّذي كان يدل عليه جملة الوصف بنفس النكتة المتقدمة هناك.

« مفهوم الاستثناء »

تارة يكون الاستثناء راجعاً إلى موضوع الحكم كما في الاستثناء في مثل قولنا ( العالم غير العادل ) ، وأخرى يكون راجعاً إلى الحكم أي المدلول التام للجملة كما هو الظاهر في أغلب موارد استعمالات ( إلا ) مثل قولنا ( أكرم العلماء إِلاَّ الفساق منهم ).

ولا إشكال في عدم المفهوم للنحو الأول باعتباره كالوصف بل هو هو حقيقة إذ يدل على توصيف المفهوم الأفرادي وتحصيصه بقسم خاص.

وامّا الثاني : فالصحيح فيه ثبوت المفهوم في الجملة سواءً كانت سالبة كقولنا ( لا يجب تصديق المخبر إِلاَّ الثقة ) أو موجبة كما في المثال المتقدم وان كان ثبوته في السالبة أوضح ، والوجه في ذلك على ضوء الموازين المتقدمة انَّ الاستثناء يعني الاقتطاع وهو لا يكون إِلاَّ من شئون النسب التامة الحقيقية في الذهن ، واما في الخارج فلا اقتطاع ولا حكم فهي كالعطف والإضراب ونحو ذلك نسب ثانوية ذهنية وليست أولية خارجية كي تكون ناقصة ، وحينئذٍ يكون من المعقول إجراء الإطلاق في طرفها وهو الحكم لإثبات انَّ طرفها السنخ لا الشخص والمفروض دلالته وضعاً على الحصر فيتم بذلك كلا ركني المفهوم. ودعوى : وجدانية عدم تمامية جملة المستثنى من دون المستثنى منه ، جوابه : ان عدم التمامية هنا ليس باعتبار نقصان النسبة نفسها بل باعتبار عدم ذكر أطرافها فانَّ الاستثناء والاقتطاع فرع وجود حكم مسبق فلا معنى له


من دون سبق حكم في الجملة كما هو واضح (١).

وهذه النسبة التامة أيضاً بإزائها مدلول تصديقي فيصح إجراء الإطلاق في طرفها الّذي هو النسبة الحكمية نفسها.

وإِنْ شئت قلت : الموضوع بما هو موضوع للحكم ، وهذا يعني انه بحسب الحقيقة تتضمن الجملة الاستثنائية على نسبتين تامتين ومدلولين تصديقيين إحداهما النسبة التامة في طرف المستثنى منه وبإزائه المدلول التصديقي الّذي هو الجعل في الجملة الإنشائية ، والثانية النسبة الاستثنائية الاقتطاعية وبإزائه مدلول تصديقي آخر ، ويشهد على ذلك الوجدان القاضي بأنَّ المتكلم إذا خالف الواقع في جملة المستثنى والمستثنى منه معاً كما إذا قال ( كُل إِنسان أسود إِلاَّ الزنجي ) كان بذلك قد كذب كذبتين.

وامّا وجه أوضحية المفهوم في الجملة الاستثنائية النافية كقولنا ( لا يجب إكرام العلماء إِلاَّ العدول ) فلأنَّ اقتناصه منها ليس بحاجة إلى إجراء مقدمات الحكمة في الحكم المسلوب بل حتى إذا كان شخصياً فاستثناؤه عن السلب إثبات له لا محالة في طرف المستثنى على أي حال وإِنْ شئت قلت : انَّ نفي الطبيعة لا يكون عقلاً إِلاَّ بانتفاء تمام حصصها فيكون الاستثناء منها إثباتا لا محالة واما إثبات الطبيعة فقد يكون بحصة خاصة ويكون الاستثناء بلحاظ شخص تلك الحصة الخاصة.

ثم انَّ المفهوم المدّعى في الاستثناء هو انتفاء طبيعيّ الحكم الثابت لعنوان المستثنى منه في المستثنى فلا ينافي مع ثبوت حكم مماثل له بعنوان آخر غير عنوان المستثنى منه ، كما لو ورد وجوب التصدق على الفقير الفاسق فانه لا يعارض مع مفهوم أكرم كل العلماء إِلاَّ الفساق ، لأنَّ طرف النسبة الاستثنائية التامة انما هو وجوب إكرام العالم وهو لا يصدق على وجوب إكرام الفقير ، وإِنْ شئت فقل : المستثنى منه

__________________

(١) الاستثناء إخراج عن الحكم المثبت في المستثنى منه كما أن الغاية انتهاء للحكم المثبت في المغيا وكلاهما من شئون النسبة التامة الملحوظة في طرف المستثنى منه والمغيا ولكنهما كما ذكرنا في الشرط لا يدلان على أكثر من تحديد تلك النسبة التامة وتشخيص مقدار صدقها فلا مفهوم بوجه أصلا ، ولكن لو فرض قبول المفهوم في الشرط لزم قبوله في تمام هذه الموارد التي يرجع القيد فيها إلى النسبة الحكمية التامة سواءً كان على نحو الشرط أو الغاية أو الاستثناء ، إذ سوف يكون الحكم ملحوظاً بنحو مستقل عن القيد فيمكن إجراء الإطلاق فيه لإثبات توقف طبيعي ذلك الحكم عليه وبالتالي انتفاء مطلق الحكم بانتفائه. ولعل هذا هو الوجه فيما افادته مدرسة المحقق النائيني ( قده ) من جعل الميزان في المفهوم رجوع القيود إلى الحكم.


عنوان العلماء بما هو موضوع للحكم بوجوب الإكرام وامّا الفقير الّذي هو موضوع آخر لوجوب الإكرام فلم يستثن منه شيء ، نعم لو ثبت حكم بوجوب الإكرام على فاسق عالم مع دخل علمه في الموضوعية ولو بنحو جزء الموضوع كان معارضا مع مفهوم الاستثناء لأنه خلف الاستثناء عن العلماء بما هو موضوع لوجوب الإكرام (١).

مفهوم الحصر

ومن جملة ماله مفهوم أدوات الحصر وأساليبه كأنما وتقديم ما حقه التأخير ، والوجه في دلالتها على المفهوم اشتمالها على ركنيه :

امّا الركن الأول وهو الدلالة على العلّية بمعنى الموضوعية الانحصارية ، فلأنّه مدلول أداة الحصر بحسب الفرض وهذا يعني توفر هذا الركن في جملة الحصر بحسب مدلولها التصوري.

وامّا الركن الثاني ـ وهو إثبات انَّ المحصور سنخ الحكم لا شخصه فهو ثابت أيضاً في جملة الحصر بلا حاجة إلى مقدمات الحكمة أو الظهور الإطلاقي ، لأنَّ حصر شخص الحكم أمرٌ كان ثابتا بقطع النّظر عن الحصر وظاهر الإتيان بأداة الحصر تأسيس مطلب جديد لا تأكيد ما كان ، مضافا إلى لغوية حصر الشخص مع عدم انحصار السنخ عرفا ، فبالجملة الحصر بنفسه يكون قرينة على انَّ المحصور سنخ الحكم لا شخصه.

__________________

(١) قد يقال : انَّ هذا من جهة مناسبات الحكم والموضوع القاضية بأنَّ وجوب إكرام العالم أُخذ فيه العالم بنحو الحيثية التقييدية فكأنه قيل وجوب إكرام العلم يستثنى منه الفاسق وهذا جار في كل جملة حكمية فيها مفهوم وإِلاَّ فمقتضى الصناعة انحلالية عنوان وجوب إكرام العالم وشموله لتمام حصص وجوب الإكرام الفعلية في حق العالم الفاسق بأي عنوان كان ولذلك لا نجد لمثل هذا التفصيل مجالاً في الجملة التي لا يكون محمولها حكماً شرعياً بل امر خارجي ، كما إذا قلنا مثلاً ( كُلُّ فقيه يعرف علم الأصول إلا الاخباري ) ولعله بهذا أيضاً يمكن أَنْ نفسر نكتة ما تقدم من أظهرية المفهوم في الجملة الاستثنائية السالبة منه في الجملة الموجبة ، فإنَّ الاستثناء من السلب يكون إثباتا لا محالة بخلاف الاستثناء من الإثبات فانه يكون سلبا لذلك الحكم فلا ينافي مع ثبوت حكم بعنوان آخر ، ولذلك لا نجد مثل هذا الفرق في الجمل التي يكون المحمول فيها امراً خارجياً ، وامّا التحليل المتقدم فقد يناقش فيه بأنه كما يكون الاستثناء عن نفي الطبيعة إثباتاً لها كذلك الاستثناء عن إثبات الطبيعة نفي لها وكون الملحوظ ذات الطبيعة بلا خصوصية زائدة في النفي والإثبات كلاهما بمقدمات الحكمة والإطلاق كما هو المقرر في بحث النكرة في سياق النفي أو النهي.


وبذلك يظهر وجه ما يذكر من أقوائية مفهوم الحصر من جميع المفاهيم الأخرى فانَّ كلا ركني المفهوم يكون ثابتا في جملة الحصر بظهور تصوري أو ما بحكمه.

وامّا العدد واللقب فلا نكتة خاصة فيهما بل يظهر حالهما مما تقدم في مفهوم الوصف ، نعم في العدد إذا فرض انَّ المولى كان في مقام التحديد فهذا بنفسه يصبح قرينة على المفهوم كالقرائن الشخصية الأخرى.


مباحث الدليل اللفظي

العام والخاص

ـ العموم « معني العموم ـ القسامه ـ ادواته »

ـ التخصيص.

« حجية العام في الباقي ـ موارد واقسام

اجمال المخصّص ـ استصحاب العدم الازلي

كتويض عن العام ـ التمسك

بالعام لاثبات التخصُّص

ـ وجوب الفحص عن المخصص

ـاختصاص الخطاب بالممشافهين وعدمه



« العام والخاصّ »

ويقع البحث عنهما في فصول :

« الفصل الأول ـ في العام »

ويبحث فيه عن جهتين : إحداهما في معنى العموم وأقسامه والأُخرى في أدواته

الجهة الأولى

: عرف العموم في الكفاية (١) بأنه عبارة عن استيعاب المفهوم لما ينطبق عليه من الافراد ، وتحقيق حال هذا التعريف يتضح من خلال نقاط :

النقطة الأولى : انّ الاستيعاب تارة يفاد بحسب مرحلة المدلول اللفظي للدليل كما في ( إكرام كلَّ عالم ) بناءً على وضع كلمة ( كلّ ) لغة للاستيعاب ، وأخرى يفاد بحسب مرحلة التحليل العقلي ونقصد بها ... مرحلة تطبيق العنوان على معنونه خارجاً كما في قولنا ( أكرم العالم ) حيث انَّ اللفظ لا يدل وضعاً ولغة على أكثر من جعل الحكم على طبيعيّ العالم بحسب مرحلة الجعل إلاّ انه بلحاظ الخارج ومرحلة المجعول يطبق الحكم على كل مورد يتحقق فيه العالم خارجا ، والعموم هو النوع الأول من الاستيعاب لا الثاني.

النقطة الثانية : انَّ الاستيعاب المدلول للفظ وضعاً تارة : يكون مفاداً بنحو المعنى الاسمي كما في مثل ( كلّ وجميع وكافة وعموم ) ونحوها من الألفاظ الموضوعة لغة

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ٣٣١


لنفس معنى الاستيعاب والشمول والعموم بشهادة المعاملة معها معاملة الاسم كجعلها مبتدأ مثلا في الجملة وأخرى : يكون مفاداً بنحو المعنى الحرفي كما في هيئة الجمع المحلّى باللام بناءً على دلالتها على العموم فانها كغيرها من الهيئات والأدوات وضعت لمعانٍ غير مستقلة.

والتعريف المتقدم يحتمل فيه أحد وجهين :

الأول : أَنْ يكون المقصود من استيعاب المفهوم لافراده أَنْ يلحظ المفهوم الواحد مرآة لتمام افراده كأن يلحظ مفهوم العالم فانياً في تمام افراده بنحو الشمولية أو البدلية فالعام هو الّذي يدل وضعاً على انَّ المفهوم قد لوحظ بهذا النحو.

وهذا الوجه غير معقول لنكتة أوضحناها في بحث الوضع وحاصلها : انَّ العنوان ـ أيّ عنوان كان ـ لا يمكن أَنْ يكون فانيا إلاّ في الحيثية المشتركة التي يكون حاكيا عنها والتي لا تزيد على ذات الطبيعة شيئا ، وامّا الكثرة والتعدد والافراد فلا يعقل أَن ترى بمفهوم الطبيعة ، ومن هنا قلنا باستحالة الوضع العام والموضوع له الخاصّ من دون استعمال مفهوم زائد على الطبيعة التي يراد وضع اللفظ بإزاء افرادها ، ولذلك قلنا في النقطة السابقة انَّ ما يدل على ذات الطبيعة كاسم الجنس ليس بعام لأنه لا يدل إلاّ على ذات الطبيعة وإِنْ كانت الطبيعة بحسب نفس الأمر ومرحلة التطبيق منطبقة على افرادها.

نعم من جملة الطبائع نفس طبيعة التعدد والتكثر والجمع وهي وإِنْ كان حالها حال سائر المفاهيم الأخرى التي لها افراد متعددة من حيث انه لا يمكن أَنْ يرى بها كثرات متعددة بل يرى بها نفس طبيعة الكثرة إلاّ انها بإضافتها إلى مفهوم آخر تفصيلي كمفهوم العالم مثلا ترينا افراد ذلك المفهوم ، فانه بالإضافة إليها يستفاد كثرة ذلك المفهوم التفصيليّ وافرادها فلا يصح أَنْ يقال انّ مفهوما استوعب افراد نفسه وانما الصحيح أَنْ يقال في موارد العموم الاسمي انَّ مفهوما استوعب افراد مفهوم آخر ، نعم لو لوحظ المفهومان كمفهوم واحد مسامحة تطابق مع ما في التعريف المذكور (١).

__________________

(١) قد يقال هذا المقدار لا يكفي لإثبات الاستيعاب لأنَّ مفهوم الافراد والتكثر لو أُضيف إلي مفهوم آخر لا يعطينا الاستيعاب لتمام افراد ذلك المفهوم بل لا بدَّ من استعمال كلّ أو عموم أو جميع أو كافة أو نحوها حتى نستفيد العموم ، وهذه الأدوات على قسمين منها ما لا يدخل إلاّ على الجمع حقيقة أو حكما كاسم الجمع ( قوم وناس ) ، وهذا من قبيل عموم وكافة


الثاني : أَنْ يكون المقصود من استيعاب المفهوم لافراد نفسه افتراض نسبة استيعابية في مرحلة المدلول اللفظي قائمة بين المفهوم وافراده ، وهذا الوجه يستدعي

__________________

وجميع فانها لا تدخل على المفرد فلا تقول كافة إنسان أو عموم عالم بل كافة الناس وعموم العلماء وهذا القسم بناء على المنهجة المذكورة يجب إلحاقها بالجمع المحلّى باللاّم من الدلالة على النسبة الاستيعابية بين الطبيعة المفاد عليها بمادة الجمع وبين الافراد والجمع المفاد بهيئة الجمع. والقسم الثاني ( كلّ ) الّذي يدخل على المفرد والجمع معاً إلاّ انَّ هذا أيضا من الواضح÷ عدم أخذ مفهوم التكثر والافراد فيه بنحو المعنى الاسمي بشهادة صحة إضافته إلى الفرد فيقال كل فرد من الإنسان دون أَنْ يلزم تناقض من ذلك أصلاً بل ( كلّ إنسان ) أيضا يدل على وحدة مدخول كل لمكان التنوين ولعلّه لذلك نجد عدم دخول كلّ على الجنس بل يدخل امّا على المفرد المنون أو على الجمع ، والحاصل انَّ مفهوم التكثر والافراد الاسمي غير مأخوذ لا في القسم الأول بشهادة احتياجه إلى مدخول يكون جمعاً أو ما بحكمه ولا يكفي أَنْ يكون مدخوله نفس الطبيعة ولا في القسم الثاني بشهادة صحة إضافته إلى مفهوم مناقض مع مفهوم التكثر والافراد. كما وإِنَّ دعوى أخذ مفهوم الاستيعاب فقط في مدلول العموم الاسمي بعيد أيضاً وإلاّ كان ينبغي إمكان تحصيل نفس المعنى بقولنا استيعاب العلماء ، أضف إلى ذلك انَّ كلّ عالم على هذا الأساس لا يكون فيه ما يدل على الافراد مع انه يفيد استيعابها بلا إشكال.

هذا ولعل الأوفق أَنْ يقال : بأنَّ أدوات العموم الاسمية على قسمين :

١ ـ ما يكون اسماً للمقدار وهو التمام في مقابل البعض من قبيل جميع وعموم وكافة ونحو ذلك فانها كأسماء المقادير يكون بمعنى التمام ولذلك تكون بحاجة إلى مضاف إليه يعين المتقدر بذلك المقدار دائما ويشترط أَن يكون الملحوظ فيه المتكثر امّا بلحاظ الافراد أو الاجزاء ولهذا يشترط ان يكون جمعاً أو بحكمه.

٢ ـ ما يكون كاسم الإشارة يشار به إلى واقع المصداق الخارجي للمدخول تارة على سبيل البدل كما في ( أي ) وأخرى في عرض واحد كما في ( كلّ ) على أحد معنييه فانَّ له إطلاقاً آخر يكون فيه من القسم السابق وذلك عند ما يضاف إلى الجمع أو إلى الاجزاء كما في قولك ( أكلت كلَّ السمكة ) ولهذا لم يكن يدخل هذا القسم على اسم الجنس ولا الجمع بل على المفرد المنكر فانَّ الإشارة لا تكون للجنس الدال على الطبيعة بما هي هي ، أو للجمع الّذي له مراتب متعددة بلا تعيين. ومما يؤيد ما نقول ملاحظة انَّ مرادف القسم الأول في الفارسية كلمة ( همه ) ومرادف القسم الثاني كلمة ( هر ) ، فيقال ( همه مردم وهر مردي ).

والجواب : الصحيح والّذي هو المقصود مما ذكر في المتن انه لا بدَّ من مفهوم آخر يدل على شمول افراد المفهوم الأول وهذا المفهوم في مثل جميع وكافة وعموم هو التمام المقابل للبعض ولكن باعتبار انَّ التمامية لا تتعقل بلحاظ الطبيعة بما هي هي فلا بدَّ من إضافتها إليها امّا بلحاظ اجزائها أو بلحاظ أفرادها ولذلك كان بحاجة إلى ما يدلّ على ذلك من هيئة الجمع أو إطلاق الطبيعة بلحاظ اجزاء نفسها.

وامّا ( كلّ ) فهي موضوعة للاستيعاب ومدخول هذا الاستيعاب إِنْ كان معرّفاً سواء كان مفرداً أو جمعاً فسوف يستفاد استيعاب تمام اجزاء المدخول من إطلاقه لاجزاء نفسه ، وإِنْ كان مفرداً منكراً فالتنكير يدل على الإشارة إلى فرد ما على سبيل البدل بين الافراد وكل يدل حينئذ على استيعاب تمام هذه الإشارات البدلية ومن هنا تستفاد الإشارة إلى تمام الافراد فلو كانت موضوعة للإشارة كيف تدخل على اسم الإشارة كما في مثل ( كلّ هذه الكتب )؟

إِنْ قلت : لو كانت كلمة ( كلّ ) موضوعة بإزاء مفهوم الاستيعاب الاسمي لأمكن تبديلها به مع وضوح عدم اقتناص نفس المعنى بذلك فلا يصح أَنْ نقول استيعاب رجل بدلاً عن كل رجل؟

قلنا : انَّ مفهوم الاستيعاب مفهوم كلي على حد أسماء الأجناس الأخرى بينما الملحوظ في ( كلّ ) واقع الاستيعاب الّذي هو من أطوار الوجود المشار إليه لا من أطوار الطبائع ولذلك لا يدخل على المضاف إليه الا بلحاظ وجوده الواقعي الأفرادي أو الأجزائي.


أطرافا ثلاثة في مرحلة اللفظ طرفا يدل على المفهوم وآخر على الافراد وثالث على النسبة الاستيعابية بينهما كما هو الحال في كل معنى اسمي وهذا هو الّذي سوف يأتي توضيحه في الجمع المحلّى باللام بناءً على افادته العموم ، ولذلك يختص هذا التفسير بالعموم بنحو المعنى الحرفي لا الاسمي فانه لا يوجد فيه أكثر من دالين والاستيعاب ملحوظ فيه بنحو المعنى الاسمي في الاسم المتمثل في كلّ أو جميع أو كافة.

فالصحيح أَنْ يقال في تعريف العموم : انه عبارة عن استيعاب مفهوم وضعا لافراد مفهوم آخر سواء كان الاستيعاب ذاتيا في المفهوم المستوعب أو بدال ثالث.

النقطة الثالثة ـ في أقسام العموم ، وقد قسم إلى ثلاثة أقسام :

العام الاستغراقي ـ وهو الّذي يكون الحكم فيه شاملا لجميع الافراد في عرض واحد.

والعام البدلي ـ وهو الّذي يثبت فيه الحكم على جميع الافراد بدلاً لا في عرض واحد.

والعام المجموعي ـ وهو الّذي يثبت فيه الحكم على الجميع كموضوع واحد مركب له حكم واحد.

وهناك عدة نظريات في تفسير هذه الأقسام من حيث كونها أقسام لكيفية العموم ثبوتا أو لا ـ مع قطع النّظر عن مرحلة ما وضع للدلالة على كل قسم لغة ـ وهي على ما يلي :

١ ـ نظرية صاحب الكفاية ( قده ) الّذي ادّعى فيها وحدة معنى العموم في الأقسام الثلاثة وهو الاستيعاب والشمول وامّا خصوصية الاستغراقية أو البدلية أو المجموعية فهي خارجة عن العموم بما هو عموم وتابعة لكيفية تعلق الحكم بموضوعه من كونه في عرض واحد أو على سبيل البدل أو كونه حكما واحداً لا أكثر (١).

__________________

وإنْ شئت قلت : انَّ ( كلّ ) يختلف عن ( جميع وعموم ) و( لام الجمع ) ، من حيث انَّ ( جميع وعموم ) وضع لمفهوم اسمي محدد هو مفهوم العموم ، وامّا ( كلّ ) فموضوع لمفهوم فارغ نظير ( دالة القضية ) في مصطلح الرياضيات ونظير أسماء الإشارة والموصولات فيحتاج إلى ملئه بمفهوم آخر هو المدخول وامّا اللازم فهو مفهوم نسبي لمدخوله لا انَّه بنفسه مفهوم مستقل بشهادة الوجدان وانَّ كل يعامل معها كأسماء الإشارة والموصولات من حيث انها هي التي تقع موضوعاً أو محمولاً في الكلام بخلاف اللام فان ما يقع موضوعاً مدخولها لا نفسها كما إذا كان مستعملاً بلا لام.

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ٣٣٢


وهذه النظرية مما لا يمكن المساعدة عليها لوضوح ثبوت الفرق بين العموم الاستغراقي في مثل ( كلّ عالم ) والعموم البدلي في مثل ( أي عالم ) بقطع النّظر عن تعلق الحكم بل بلحاظ مرحلة المدلول التصوري والأفرادي للجملة ، واما الفرق بين العموم الاستغراقي والمجموعي فسوف يتضح من خلال مناقشة النظرية الثانية التي تشترك مع هذه النظرية في هذا الجزء.

٢ ـ نظرية المحقق العراقي ( قده ) ، وقد حاول أَنْ يفرق فيها بين العموم البدلي والاستغراقي بأنَّ الفارق بينهما ثابت بقطع النّظر عن الحكم وتعلقه ولكنه خارج عن مدلول أداة العموم وراجع إلى كيفية ملاحظة مدخول الأداة ، حيث انه إذا كان المدخول الجنس دلت أداة العموم على الاستغراقية وامّا إذا كان المدخول النكرة فحيث انَّ التنكير ناشئ من أخذ قيد الوحدة فيه فلا محالة يكون العموم بدليا لا شمولياً وإلاّ كان خلف أخذ الوحدة. وهكذا جعل الاستغراقية والبدلية خارجتين عن العموم بما هو عموم وراجعتين إلى شئون مدخول العام. نعم المجموعية من شئون كيفية تعلق الحكم عنده كما ذكره أستاذه الخراسانيّ ( قده ) (١).

إلاّ انَّ هذه النظرية أيضاً مما لا يمكن المساعدة عليها في كلا جزأيها.

امّا الجزء الأول منها ، فكأنه مبنيٌّ على افتراض انَّ العموم هو استيعاب مفهوم لافراد نفسه ، وامّا إذا كان بمعنى استيعاب مفهوم لافراد مفهوم آخر فلا مانع من افتراض استيعاب مفهوم لتمام افراد مدخوله ولو كان منكراً بنحو الشمولية أو البدلية ، فكون المدخول قد أخذ فيه قيد الوحدة أو لا ، لا ينافي استيعاب الأداة لتمام افراد الآحاد بنحو الشمول أو استيعابها لها على البدل ، كما تقول كلّ واحد من الرّجال أو كل رجل بناءً على انَّ تنوينها للتنكير وكما تقول أيّاً من العلماء رغم انَّ مدخولها ليس منكَّراً.

وامّا الجزء الثاني ، فلأنه لو أُريد من وحدة الحكم وتعدده الموجب لصيرورة العام مجموعياً أو استغراقيا وحدة الحكم بمعنى الجعل فهو واحد فيهما ، وإِنْ أُريد وحدة المجعول فمن

__________________

(١) مقالات الأصول ، ج ١ ، ص ١٤٦


الواضح انَّ المجعول تابع في وحدته وتعدده لما جعل موضوعا له فإذا كان موضوعه واحداً بالنوع ومنحلاً إلى افراد عديدة تعدد المجعول وإِنْ كان موضوعه واحداً بالشخص بأَنْ لوحظت الافراد كمركب واحد كل فرد جزء منه كان المجعول واحداً لا محالة ، فالوحدة والتعدد في الحكم تابع لكيفية موضوع الحكم من حيث كونه مجموع الافراد كمركب واحد أم لا.

٣ ـ فالصحيح النظرية الثالثة ، وهي النظرية القائلة بأنَّ هذه الأقسام متصورة ثبوتا للعام بما هو عام فالبدلية في ( أي عالمٍ ) والشمولية في ( كل عالمٍ ) مستفادتان من أداة العموم لا مدخولها فانه واحد فيها (١).

النقطة الرابعة : وربما يتصور انَّ أسماء الاعداد كعشرة مثلا من حيث استيعابها لما تحتها من الوحدات تكون من أدوات العموم ، وقد حاول المحقق الخراسانيّ رفع هذا التوهم بأنَّ العموم هو استيعاب الافراد لا الاجزاء والوحدات في أسماء العدد اجزاء لها لا افراد (١).

وفيه : انَّ العموم ـ كما تقدم ـ هو الاستيعاب وهو كما يكون بلحاظ الافراد كذلك يكون بلحاظ الاجزاء كما في قولك اقرأ كلَّ الكتاب.

والصحيح في الجواب أَنْ يقال : امّا على ما تقدم من انَّ العموم ما دل على استيعاب افراد مفهوم آخر فمن الواضح انَّ أسماء العدد لا تدل على استيعاب افراد مدخولها بل على استيعاب افراد نفسها فحرفية التعريف غير منطبقة في المقام.

وامّا بناءً على عدم اعتبار ذلك في التعريف فائضا لا تكون أسماء الاعداد من العموم لأنها لا تدل على الاستيعاب أصلا بل تدل على مفهوم مركب هو العدد ـ مهما كانت حقيقته ـ نظير سائر المركبات التي لا يتوهم كونها من العموم ، وحيثية شمول كل عدد لما يحتوي عليه من الوحدات حيثية واقعية في ذلك المفهوم المركب لا انَ

__________________

(١) لا ينبغي الإشكال في أنَّ المجموعية مستفادة من كيفية لحاظ مدخول أداة العموم في مثل ( كل العلماء ) وأنه يلحظ المجموع كأمر وحداني أو كأفراد للطبيعة فهذه الخصوصية خارجة عن مدلول أدوات العموم وراجعة إلي كيفية المدخول ، نعم مفهومي ( الجميع ) و( المجموع ) متغايران إلا أنهما مفهومان اسميان ينتزعان عن العموم المجموعي والعموم الاستغراقي.

(٢) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ٢٣٢


الاحتواء والاستيعاب مدلول للفظ كما هو الحال في أدوات العموم. ويشهد لذلك دخول أدوات العموم عليها على حد سائر الطبائع فنقول ( أكرم كلَّ عشرة من العلماء دفعة واحدة) كما تقول ( أكرم كلَّ رجل و( أكرم كلَّ العشرة ) كما تقول ( اقرأ كلَّ السورة ).

النقطة الخامسة : لا إشكال في استعمال ( كلّ ) لاستيعاب الاجزاء تارة واستيعاب الافراد أخرى. والأداة موضوعة في المقامين لمعنى واحد هو واقع الاستيعاب وخصوصية كونه بلحاظ الاجزاء أو الافراد انما تستفاد بلحاظ المدخول.

وعلى هذا الضوء نقول : هناك ظاهرة واضحة هي انَّ ( كلّ ) كلما دخلت على المنكر إفادة الاستيعاب بلحاظ افراد الطبيعة بخلاف ما إذا دخلت على المعرف فانها تفيد استيعاب الاجزاء كما تقول ( اقرأ كل السورة ) ، وقد حاول المحقق العراقي ( قده ) ، على ما يستفاد من كلامه أَنْ يفسر ذلك على أساس انَّ اللام وضعت بطبعها للعهد والتعيين وهو ينافي التعدد الأفرادي ولذلك إذا ما انسلخ اسم الجنس عنها أمكن إفادة استيعاب الافراد.

وفيه :

أولاً ـ انَّ الملحوظ هو استيعاب الافراد دائما في موارد دخول كل على المنكر مع انَّ المانع لو كان هو اللام كان اللازم وقوع كلا الاستيعابين فيه.

وثانياً ـ انَّ المراد من التعيين إِنْ كان مطلق التعيين المساوق مع التعريف فمن الواضح انه لا ينافي مع التعدد الأفرادي كما في المعرف بلام الجنس ، وإِنْ كان المراد التعيين العهدي خاصة فاستفادة الاستيعاب الأجزائي ليست مختصة به بل هو جار في كل موارد المعرفة كما في قولك ( قرأت كلَّ كتابك ).

والصحيح في تعليل هذه الظاهرة أَنْ يقال : بأنَّ الأصل الأولى يقتضي أَنْ يستفاد من كل الاستيعاب بلحاظ اجزاء المدخول لأنَّ المفهوم المدخول عليه كل سواءً كان مفرداً أو جمعا تكون دلالته على اجزائه ثابتة بمقتضى إطلاقه الأولي ، وامّا ملاحظة الافراد منه فبحاجة إلى مئونة دال آخر ولو من قبيل تنوين التنكير الدال على البدلية المساوق مع الانتشار والإشارة إلى الافراد على سبيل البدل ولهذا كان قرينة على انَّ التكثر الملحوظ


فيه والّذي يراد إفادة الاستيعاب بلحاظه ببركة الأداة انما هو الافراد لا الاجزاء.

ومنه يعرف : انَّ دخول كل على الجمع أو ما بحكمه كما في اسم الجمع يمكن أَنْ يكون العموم فيه باعتبار استيعابه لتمام اجزاء المدخول حيث تكون مراتب الجمع اجزاء فيه ، ويمكن أَنْ يكون باعتبار استيعابه لتمام افراد المدخول ، ولكن لا يبعد أَنْ يكون الأظهر فيه الأول ، كما هو الحال فيما إذا دخل على اسم العدد المعرف من قبيل كل العشرة. ودعوى : انَّ هذا ينافي صحة استثناء أحد الافراد فيقال ( قرأت كلّ الكتب أو الكتب العشرة إلاّ هذا الكتاب ) وعدم صحة أَنْ يقال ( إلاّ هذا الجزء من الكتاب ) مما يعني انَّ الاستيعاب افرادي لا أجزائي ، مدفوعة : بأنَّ اجزاء العشرة أو الجمع بما هو جمع انما هو مراتبه لا اجزاء آحاده والمفروض انَّ المدخول هو الجمع بما هو جمع.

نعم لو دخل كل على المثنى كما في قولك قرأت كل الكتابين أو كل هذين الاثنين كان ظاهرا في استيعاب اجزاء كل منهما لعدم مناسبة الاثنين مع التكثر والاستيعاب ، فيكون هذا بنفسه قرينة على النّظر إلى اجزاء كل منهما (١).

الجهة الثانية : في أدوات العموم والبحث عنها تارة : في أصل دلالتها على العموم والاستيعاب ، وأخرى في كيفيته من حيث الاستغراقية أو البدلية أو المجموعية.

__________________

(١) لعل الأوفق ان يقال : ( كل ) تدل على الاستيعاب الكمي لمدخوله في تمام الموارد بنحو واحد ، غاية الأمر إذا كان لمدخوله مصداق واحد مشخص في الخارج كان الاستيعاب بلحاظ اجزاء ذلك الوجود المشخص لا محالة ، وان كان لمدخوله وجودات متعددة كما في الطبيعة ذات الأفراد والمصاديق العرضية المتعددة كان الاستيعاب الوجوديّ بلحاظها لا محالة لأن استيعاب وجود الطبيعة في الخارج لا يكون الا بذلك سواء كان المدخول نكرة فيه تنوين أو معرفة ، ومن هنا نستفيد الاستيعاب الأفرادي من مثل قوله تعالى ( كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل ). ومنه يعرف ان ( كل ) التي تدخل على الجمع والمفرد بمعنى واحد ، وان دخولها على الجميع ليس الا بمعنى استيعاب الوجودات والمصاديق المتعددة لطبيعي الجمع أي الثلاثة لا بشرط من حيث الزيادة كدخولها على المفرد ومن هنا يكون الاستيعاب المستفاد منه أفرادياً بخلاف دخولها على العدد المعرف مثل ( كل العشرة ) كما يشهد بذلك الوجدان العرفي فليست مراتب الجمع ملحوظة كأجزاء في مثل قولنا ( أكرم كل العلماء أو كل علماء البلد ) وانما الملحوظ افراد العلماء ومصاديقهم ، بل لو كان الاستيعاب أجزائياً بلحاظ مراتب الجمع فما هو المحدد للجمع في المرتبة العليا دون غيرها من المراتب فان الاستيعاب الأجزائي لا يقتضي ذلك كما لا يخفى.


« أسماء العموم »

وأول هذه الأدوات وأوضحها ( كلّ ) ولا إشكال في دلالتها على العموم وإِنْ أُثير تشكيك موهوم حول افادتها العموم من قبل بعض قدماء الأصوليين إلاّ انه تشكيك لا ينبغي الالتفات إليه ، وانما الّذي ينبغي البحث عنه تكييف هذه الدلالة وتخريجها لغوياً ، حيث انه وقع الخلاف بين الاعلام في ذلك ، وقد ذكر صاحب الكفاية ( قده ) تكييفين معقولين لإفادة ( كلّ ) لعموم مدخوله.

أحدهما : أَنْ تدل على استيعاب ما يراد من مدخوله.

الثاني : أَنْ تدل على استيعاب ما ينطبق عليه مدخوله.

والتكييف الأول يستلزم توقف العموم على تمامية الإطلاق ومقدمات الحكمة في المدخول مسبقاً لتحديد ما هو المراد منه ثم استيعاب افراده بخلاف التكييف الثاني الّذي يفترض فيه إفادة العموم والاستيعاب لتمام دائرة المدخول بنفس أداة العموم.

وقد اختار جملة من الأصوليين منهم المحقق النائيني ( قده ) (١). التكييف الأول ولا يبعد أَنْ يكون المشهور هو الثاني ، فوجد قولان.

اما القول الأول : وهو أَنْ يكون العموم في طول الإطلاق وتكون أداته موضوعة لاستيعاب افراد ما يراد من مدخولها ، فما ذكر أو يمكن أَنْ يذكر في سبيل نفيه عدة وجوه :

١ ـ ما ذكره السيد الأستاذ ، من لزوم لغوية الوضع والاستعمال لأنَّ المدخول إِنْ جرى فيه الإطلاق لم تكن بحاجة إلى العموم وإلاّ لم يجد دخول الأداة عليه شيئا ، فلا تبقى فائدة فيها حتى التأكيد فانَّ التأكيد انما يكون في دالين عرضيين لا طوليين بحيث لو ارتفع ملاك الأول يرتفع مقتضي الثاني (٢).

وهذا الوجه غير فني إذ يرد عليه :

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٤٤١

(٢) هامش المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٤٤١


أولاً ـ انَّ الإطلاق ومقدمات الحكمة لا تقتضي أكثر من إثبات انَّ ما أُخذ موضوعا انما هو ذات الطبيعة بلا قيد وامّا التكثر الأفرادي فلا يُرى في مرحلة المدلول اللفظي بالإطلاق أصلاً ، على ما تقدمت الإشارة إليه في الجهة الأولى من الفصل الأول من هذا البحث ، وانما يفاد ذلك بأداة العموم حيث يفاد بها صورة ذهنية أخرى هي ملاحظة الافراد بما هي متكثرة (١) ولا يحتاج في تبرير الوضع أو الاستعمال إلى أكثر من تنويع الصور الذهنية في مقام المحاورة وإخطار المعاني إلي الذهن ولو فرض عدم الفرق بينهما بلحاظ أحكام الشارع ، على انَّ هذا قد يترتب عليه الأثر الشرعي باستظهار انَّ مركز الحكم المجعول وموضوعه انما هو الفرد بما هو فرد لا الطبيعة.

وثانيا ـ انَّ الطولية انما هي بين الاستيعاب والإطلاق أي كون المدخول غير مقيد ، وامّا خصوصية شمولية الإطلاق فهي مستفادة بدال آخر ولو كان قرينة عامة من قبيل وقوعه موضوعا للحكم مثلا ، وبالجملة خصوصيتي البدلية أو الشمولية انما تستفاد في المطلقات من دال آخر عقلي أو عرفي على ما أشرنا إليه مراراً ، والاستيعاب المفاد بالأداة ليس في طول الدال على هذه الخصوصية بل في عرضه فيمكن أَنْ تكون مؤكدة له وبذلك ترتفع اللغوية.

وثالثا ـ إذا كان المقصود توقف العموم على تحديد ما يراد من مدخوله في نفسه وبلحاظ العموم لا ما يراد من الحكم جداً المستفاد بالإطلاق ومقدمات الحكمة ولو لم تدخل الأداة فلا طولية بين مفاد الإطلاق ومقدمات الحكمة وبين الأداة ليكون لغواً فانه وإِنْ كان فيه تطويل للمسافة ولكنه صورة ذهنية أخرى يكون موضوع الحكم فيه هو العموم ولكن لوحظ الإطلاق في مدخوله بلحاظ ، وهذا في الواقع جانب آخر لعدم اللغوية في الوضع والاستعمال بلحاظ ما هو غرض الوضع والاستعمال كما ذكرنا

__________________

(١) في هذا التعبير مسامحة فان حقيقة العموم ليست بالدلالة على التكثر الأفرادي بدليل عدم وجوده في الاستيعاب الأجزائي في جملة ( أكلت كل السمكة ) وبدليل وجود التكثر الأفرادي في المطلق أيضاً كما في الجمع المضاف من قبيل « أكرم علماء البلد » وانما المقصود ان هناك مدلولاً تصورياً زائداً يفاد بأدوات العموم هو مفهوم الاستيعاب لتمام وجود مدخولها في الخارج وهذا المفهوم لا يستفاد بالإطلاق ومقدمات الحكمة في مرحلة المدلول التصوري وان افترض ان النتيجة بحسب المدلول الجدي والظهور التصديقي واحدة.


أولاً ، فهذا الجواب مع الجواب الأول بروح واحدة (١).

ورابعا ـ انَّ ( كلّ ) تدل على عرضية الاستيعاب وعدم بدليته وهي تدخل على ما لا يستفاد منه عرضية الاستيعاب لولاه بالإطلاق ومقدمات الحكمة كما في كلّ رجل بناءً على انَّ تنوينه للتنكير وإِنْ كان قد تدخل على ما يستفاد منه ذلك كما في كل العلماء ، فالحاصل الاستيعاب المفاد بكلّ ليس في طول الاستيعاب الحكمي دائماً لكي يكون لغواً ، ومثله يقال في الأداة الموضوعة للاستيعاب البدلي من أدوات العموم.

٢ ـ ما ذكره المحقق الأصفهاني ، من استلزامه دخول الاستيعاب على المستوعب وهو مستحيل لأنه من قبول المماثل لمماثله وهو غير معقول (١).

وهذا الوجه غير صحيح أيضا إذ يرد عليه :

أولا ـ ما اتضح من خلال مناقشة الوجه السابق من انَّ الشمولية والاستيعاب المستفادة من الإطلاق ومقدمات الحكمة شمولية بلحاظ مرحلة التطبيق والتحليل لا بلحاظ مرحلة التصور ، بل بلحاظ هذه المرحلة لا يستفاد من الإطلاق إلاّ كون الموضوع ذات الطبيعة بلا قيد ، وهذا بخلاف الاستيعاب الأداتي فليس الاستيعابان من سنخ واحد كي يقال بأنه من قبول المماثل لمماثله.

وثانيا ـ ليكن هذا من قبيل ( كلّ العلماء ) بناءً على إفادة الجمع المحلّى باللام للعموم في نفسه وكذلك ( كلّ الكتاب ) بلحاظ اجزائه ، والحل بأنَّ مركز أحد الاستيعابين غير مركز الاستيعاب الاخر فانَّ الاستيعاب الأول مركزه المدخول والثاني مركزه نفس أداة العموم الاسمي.

وثالثا ـ انَّ الاستيعاب مدلول الدالين ، أحدهما الأداة والثاني الإطلاق ولا مانع منه والطولية وإِنْ كانت إلاّ انها طولية بين الدالين لا المدلولين فلا يلزم تعدد في الاستيعاب

__________________

(١) قد يقال : انه لا معنى لإجراء الإطلاق في المدخول بلحاظ العموم لأنه انما يجري بلحاظ الحكم الّذي هو مدلول تصديقي ولا معنى لإجرائه بلحاظ المداليل التصورية الإفرادية.

الجواب : انَّ هذا التفات إلى إبطال أصل هذا القول وعلى كل حال فهذا الجواب مبنيٌّ على التغاضي عن هذاا لإشكال.

(٢) نهاية الدراية ، ج ١ ، ص ٣٣٥


أصلا حتى يكون من اجتماع المثلين.

٣ ـ ما ذكره السيد الأستاذ ، من انَّ هذا القول له لازم باطل وهو عدم إمكان التصريح بالعموم أصلا لكونه دائما في طول الإطلاق ومقدمات الحكمة وهو خلاف الوجدان العرفي (١).

وفيه : انه إِنْ أُريد دعوى عدم إمكان التصريح بالعموم بمجرد أداة العموم من قبيل ( كل عالم ) لكونه موقوفا على مقدمات الحكمة فيكون في قوتها فهذا هو مدّعى أصحاب هذا القول بحسب الفرض ، وإِن أُريد عدم إمكان التصريح بالعموم والاستيعاب أصلا وبأي وجه فمن الواضح انه يمكن ذلك عن طريق النّظر إلى موضوع الحكم لإفادة انه غير مقيد وانه مطلق كما إذا قال موضوع حكمي هو العالم بلا قيد ومطلقا فتكون الدلالة على عدم القيد دلالة لفظية لا سكوتية حكمية.

ومن المحتمل أَنْ يكون مراده مجرد دعوى وضوح صراحة العموم في الاستيعاب بخلاف الإطلاق وهذا ما سوف نبينه إن شاء الله تعالى فيما يأتي ، إلاّ انَّ عبارته لا تساعد على إرادة هذا المعنى.

٤ ـ ما هو الاعتراض الصحيح والمختار على هذه الفرضية وحاصله :

انَّ المقصود من استيعاب المراد من المدخول يمكن أَنْ يكون أحد الاحتمالات التالية :

١ ـ أَنْ يقصد استيعاب تمام المراد الجدي من المدخول ، وباعتبار انَّ المراد الجدّي يحدد بالإطلاق ومقدمات الحكمة كان العموم في طوله.

وهذا الاحتمال يلزم منه توال فاسدة عديدة.

منها ـ أَنْ لا يكون لأداة العموم مدلول حيث لا يكون مراد جدي للمتكلم كما في موارد الهزل مع انه لا إشكال في انحفاظ المدلول فيه.

ومنها ـ أَنْ لا يكون ارتباط بين معنى مدخول الأداة وبين سائر مفردات الجملة بحسب مرحلة المدلول التصوري والاستعمالي للكلام ، وهذا يعني تفكك الجملة وعدم

__________________

(١) هامش أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٤٤١


الترابط بين مفرداتها بحسب هذه المرحلة وهو واضح البطلان.

ومنها ـ التهافت في اللحاظ وذلك باعتبار انَّ مدخول الأداة إذا ما كان هو المراد الجدي لما يقع بعدها فالمراد الجدي منه يكون في طول مدلول الجملة التامة ـ لأنه طرف فيه والمراد جعله بما هو طرف للإرادة الجدية مدخولاً للأداة ـ مع انه بحسب مرحلة المدلول التصوري للفظ يراد مدلول الجملة التامة ـ كالنسبة الإرسالية في أكرم كل عالم ـ في طول مدلول أداة العموم ومتأخراً عنه ، والطولية الأولى وان كانت ثبوتية تصديقية بينما الطولية الثانية تصورية إثباتية الا انه باعتبار حضور المدلول التصديقي وتعلق الإرادة الجدية في نفس المتكلم بهذا المعنى يلزم التهافت في اللحاظ.

٢ ـ أَنْ يراد دلالة الأداة على استيعاب افراد تمام المراد الاستعمالي للمدخول.

ويرد عليه : انَّ المراد الاستعمالي يتحدد بأصالة الحقيقة فانَّ مقتضاها انه لم يستعمل اللفظ في المقيد وإلاّ كان مجازاً ، لاتفاقهم على انَّ استعمال العام في الخاصّ بما هو خاص مجاز فإذا انتفى ذلك تعين أَنْ يكون قد استعمله في ذات الطبيعة ـ التي هي المدلول الوضعي لاسم الجنس ـ وتكون مطلقة بالحمل الشائع فتكون الأداة دالة على استيعاب تمام الافراد بلا حاجة إلى الإطلاق ومقدمات الحكمة. وبكلمة موجزة :

المراد الاستعمالي بمقتضى عدم المجازية هو نفس المدلول الوضعي فترجع هذه الفرضية على هذا الاحتمال إلى فرضية المحقق الخراسانيّ لا محالة.

٣ ـ أَنْ يراد دلالة الأداة على استيعاب ما يتصوره المتكلم من المدخول في مقام الاستعمال ، وحيث انَّ اسم الجنس موضوع للطبيعة المهملة والمتكلم لا يمكن أَنْ يتصورها الا مطلقا أو مع القيد فيحتاج إلى مقدمات الحكمة لإحراز انه تصور القيد مع الطبيعة أم لا.

وفيه :

١ ـ انه يؤدي إلى أخذ مفهوم غريب عن معنى الأداة في مدلولها لأن عندنا في المقام ثلاثة دوال الأداة واسم الجنس المدخول لها وهيئة الإضافة وبعد وضوح عدم وضع المدخول إلاّ لذات الطبيعة وهيئة الإضافة إلاّ للنسبة الناقصة كان لا بدَّ وأَنْ تستفاد


خصوصية تحديد ما هو تصور المتكلم عن المدخول من حيث الإطلاق والتقييد من الأداة بأخذه في معناها وهو واضح البطلان.

٢ ـ لا يوجد أصل عقلائي يقضي بتحديد ما هي تصورات المتكلم عن اللفظ في مقام الاستعمال وانما الموجود أصالة الحقيقة التي يحدد على ضوئها انَّ المتكلم يقصد المعنى الموضوع له اللفظ وأصالة الإطلاق التي يحدد على ضوئها المدلول التصديقي ، ثم ان هذه الاحتمالات كلها تشترك في افتراض أخذ خصوصية في مدلول الأداة الوضعي والاستعمالي زائداً على مفهوم الاستيعاب مع الاختلاف في تحديد واقع تلك الخصوصية بالمراد الجدي تارة والاستعمالي أخرى وتصور المتكلم ثالثة.

٤ ـ وهناك احتمال رابع يقابل كل تلك الاحتمالات حيث لا يشاركها في الافتراض المذكور ، وهو أَنْ يقال : بأنَّ الأداة وإِنْ كانت غير موضوعة إلاّ بإزاء الاستيعاب المضاف إلى مدلول مدخوله فبلحاظ المدلول الاستعمالي المعنى محدد ومتعين بلا حاجة إلى إجراء مقدمات الحكمة إلاّ انَّ تحديد المدلول التصديقي والاقتناع بأنَّ حكم المولى في عالم الثبوت عام ومستوعب لتمام الافراد لا يمكن إلاّ بأَنْ نجري الإطلاق حيث يحتمل أَنْ يكون موضوع استيعاب الحكم ثبوتا هو المقيد وهذا الاحتمال لا رافع له إلاّ مقدمات الحكمة.

والجواب : انه بعد تسليم دلالة الأداة على الاستيعاب فبإضافة هذا المفهوم إلى مدلول المدخول سوف يستفاد بحسب مرحلة المدلول التصوري والاستعمالي للكلام الدلالة على استيعاب الحكم لتمام الافراد فلو كان المراد الجدي والمدلول التصديقي مقيداً كان منافياً لأصالة الجد التي هي ظهور ثابت في تمام موارد الدلالات الوضعيّة للكلام بنكتة انّ المتكلم يريد ما يقوله وهذا غير أصالة الإطلاق التي يشكِّل ظهوراً بنكتة انَّ المتكلم لا يريد ما لا يقوله ـ والّذي هو أضعف درجةً ـ فانه في موارد الإطلاق حيث انَّ اللفظ لا يدل على أكثر من ذات الطبيعة وهي مرادة للمتكلم على كل حال فلا بدَّ في نفي إرادته للمقيد من التمسك بالظهور السكوتي المذكور ولا يكفي الظهور الأول وهذا بخلاف المقام وسائر موارد الدلالات الوضعيّة.

وهكذا يتضح عدم الحاجة إلى إجراء الإطلاق ومقدمات الحكمة في مدخول الأداة.


لكن يبقى الكلام عن الدليل الّذي ساق المحقق النائيني ( قده ) إلى القول بهذه الفرضية والّذي لو تم يكون اعتراضا على القول الآخر.

وحاصل ما يمكن جعله دليلاً فنياً على مقالة الميرزا :

انَّ اسم الجنس موضوع للطبيعة المهملة الجامع بين المطلقة والمقيدة والبشرط لا ـ ويقصد بالأخير الماهية المجردة عن الخصوصيات الخارجية التي تقع موضوعا في المعقولات الثانوية كقولنا الإنسان نوع ـ والطبيعة المهملة بهذا المعنى يستحيل أَنْ تنطبق على الافراد الخارجية لكونها جامعة بين ما يقبل الانطباق وهي المطلقة وما لا يقبل الانطباق على جميع الافراد وهي المقيدة فضلا عن المجردة والجامع بين ما يقبل الانطباق وما لا يقبل الانطباق لا يقبل الانطباق ، وأداة العموم لا يمكنها أَن تدل على العموم إلاّ إذا كان مدخولها مما يقبل الانطباق والصدق على تمام الافراد الخارجية وهذا واضح.

وعلى هذا الأساس فانْ ادّعي دلالة الأداة على استيعاب المدلول الوضعي للمدخول فهو مستحيل كما قلنا ، وإِنْ ادّعي دلالتها على استيعاب افراد المدخول بعد الدلالة على تحديده في الطبيعة المطلقة فانْ أُريد دلالتها على ذلك جمعا فهو واضح البطلان إذ لا يوجد للأداة إلاّ ما يوجد لغيرها من معنى واحد لا معنيين طوليين أحدهما إطلاق المدخول والآخر استيعاب افراده ، وإِنْ أُريد دلالتها فقط على انَّ مدخولها الطبيعة المطلقة فهو خلف استفادة مفهوم الاستيعاب والعموم منها ، فيتعين أَنْ يكون تحديد المدخول في الطبيعة المطلقة القابلة للانطباق على جميع الافراد بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

وبهذا التقرير يظهر انَّ ما أفاده السيد الأستاذ في محاولة لإبطال مستند هذه الفرضية من انَّ الأداة هي التي تدل على انَّ مدخولها عبارة عن الطبيعة المطلقة غير تام (١).

__________________

(١) مضافا : إلى انها لو جعلت قرينة على ان مدخولها مستعمل في الطبيعة المطلقة لزم المجاز ، ولو جعلت قرينة على أن المدلول التصديقي ذلك معناه عدم وجود مدلول تصوري لها وعدم الفرق في هذه المرحلة بين العمومات والمطلقات وهو واضح الفساد كما تقدم.


والصحيح في الجواب على هذه الشبهة : ما أشرنا إليه من خلال ما تقدم من انَّ المدلول الوضعي الاستعمالي لاسم الجنس وإِنْ لم يؤخذ فيه الإطلاق ولا التقييد إلاّ انه تكون مطلقة بالحمل الشائع عند ما لا يتعقبه قيد إذ لا يراد بالمطلقة إلاّ أَنْ تتصور الطبيعة ولا يتصور معها قيد لا أَنْ يتصور معها عدم القيد ، وهذا يحصل من نفس إطلاق اسم الجنس من دون قيد بعد إحراز عدم استعماله في المقيد بأصالة الحقيقة وبهذا يكون مدخول الأداة قابلا للانطباق على الافراد بذاته بلا حاجة إلى إجراء مقدمات الحكمة فيمكن أَنْ تدل الأداة على استيعاب تمام ما ينطبق عليه.

وربما يحاول الجواب على هذا البيان بتقريب آخر حاصله : انَّ ذات الطبيعة المعبر عنها بالطبيعة المهملة والموضوع بإزائها اسم الجنس هي المعنى المستعمل فيه اللفظ ، وهي باعتبارها جامعا بين المطلقة وغيرها والمطلقة منطبقة على الافراد تكون منطبقة على الافراد أيضا فانَّ الجامع بين ما ينطبق ولا ينطبق لا بد وأن ينطبق ببرهان : انَّ الجامع موجود ضمن فرده وهو المطلقة فإذا كان الفرد ينطبق في مورد كان الجامع منطبقا عليه أيضاً فتدل أداة العموم على استيعاب تمام الافراد بلا حاجة إلى تحديد المدخول في الطبيعة المطلقة وإلاّ لورد النقض بعملية الوضع فانَّ العلقة الوضعيّة أيضا حكم من قبل الواضع يربط فيه بين اللفظ وذات الطبيعة المهملة مع انَّ هذا الحكم يسري إلى تمام الحصص ، فكذلك يقال في المقام انَّ الاستيعاب حكم للطبيعة المهملة التي هي المدلول الوضعي ويسري بذلك إلى تمام الافراد.

والجواب على هذا البيان بنحو تتضح حقيقة المقصود في المقام يتوقف على توضيح حقيقة الطبيعة المطلقة والطبيعة المقيدة ونسبة الطبيعة المهملة إليهما ، فنقول : الطبيعة المطلقة عبارة عن رؤية ذات طبيعة مع عدم رؤية القيد معها وخصوصية عدم لحاظ الخصوصية خصوصية للرؤية لا للمرئي ـ كيف وهو أمر تصديقي وليس تصورياً ، إذ المقصود عدم اللحاظ حقيقة لا تصور عدم اللحاظ ـ ولكنها حيثية تعليلية لأنْ يكون المرئي بالرؤية الإطلاقية موسعا منطبقا على تمام الافراد ، وهذا يعني انَّ الإطلاق خصوصية في اللحاظ والرؤية الذهنية تؤدي إلى أَنْ يكون المرئي والملحوظ بتلك الرؤية منطبقا على الافراد.


وامّا الطبيعة المقيدة فهي عبارة عن رؤية الطبيعة مع القيد أي مع لحاظه ، ولحاظ القيد وإِنْ كان خصوصية واقعية كعدم اللحاظ ولكنه في نفس الوقت له ملحوظ ومرئي إذ كل رؤية تستلزم وجود مرئي لا محالة ، ولذلك يتقيد انطباق المرئي بهذه الرؤية بمورد وجود القيد وهذا يعني انَّ الطبيعة المقيدة وإِنْ كان واقعها رؤية ذهنية مباينة مع الرؤية الإطلاقية ولكن بلحاظ مرئيها بينهما نسبة الأقل إلى الأكثر.

وامّا الطبيعة المهملة فهي عبارة عن ذات الطبيعة معرّاة عن خصوصية الإطلاق أيضا فضلا عن القيود ، ولكنك قد عرفت انَّ الإطلاق خصوصية في الرؤية واللحاظ لا في المرئي وهذا يعني انَّ الطبيعة المهملة هي عين الطبيعة المطلقة والمقيدة لا انها جامعة بينهما نظير جامعية الحيوان للإنسان والفرس ، وانما لا تنطبق على الافراد مع انها عين المطلقة المنطبقة عليها باعتبار فقدانها لخصوصية النظرة الإطلاقية حيث تقدم انَّ هذه الخصوصية هي الحيثية التعليلية المستوجبة لسعة الطبيعة وانطباقها على كلّ الأفراد ، وهكذا يتّضح انَّ جامعية الطبيعة المهملة ليست بمعنى الكلّي والفرد لكي يرد فيه البرهان المتقدّم.

وامّا النقض فجوابه قد اتضح على ضوء ما تقدم ، فانَّ الوضع حاله حال أيّ حكم آخر على الطبيعة من حيث انَّ موضوعه حين الحكم وإِنْ كان الطبيعة المطلقة غير انَّ خصوصية الإطلاق ليست جزء من المحكوم عليه وإلاّ لم يكن ينطبق على الخارج إذ لا يمكن أَنْ يوجد فيه الطبيعة بقيد الإطلاق وانما هي خصوصية في النّظر والرؤية تصبح حيثية تعليلية لسعة الطبيعة وامّا المرئي والمحكوم عليه فهو ذات الطبيعة ، وكذلك الحال في المقام فانَّ موضوع الاستيعاب هو الطبيعة المطلقة ولكن لا بأن تكون حيثية الإطلاق جزء من المدلول الاستعمالي فانها ليست من شئون المرئي والمتصور لكي تكون كذلك بل من شئون نفس اللحاظ والرؤية الذهنية واما المحكوم عليه بالاستيعاب فذات الطبيعة المرئية والمنطبقة على الافراد الخارجية.

وهكذا يتضح : انه لا معنى لدلالة الأداة على استيعاب مدخوله وهو مدلول اسم الجنس الّذي هو ذات الطبيعة إلاّ بأَنْ يكون الملحوظ الطبيعة المطلقة بالحمل الشائع فانه بهذه الرؤية نستطيع الحكم بالاستيعاب على ذات الطبيعة وامّا الطبيعة بما هي


مجردة عن الرؤية الإطلاقية والتقييدية ـ المسمّى بالطبيعة المهملة ـ فليست مرئية لكي يعقل أَنْ تقع موضوعا لحكم سواءً كان ذلك الحكم الوضع أو الاستيعاب أو غير ذلك من الأحكام ، وأيّ طبيعة تفترض رؤيتها فهي ليست إلاّ المطلقة بالحمل الشائع أو المقيدة وإلاّ كان من ارتفاع النقيضين المحال كما هو واضح ، فالصحيح في الاعتراض على المحقق النائيني ( قده ) ما ذكرناه من انَّ إثبات كون مدخول الأداة هو الطبيعة المطلقة بالحمل الشائع لا يحتاج إلى الإطلاق ومقدمات الحكمة وانما يكفي نفس ذكر اسم الجنس وعدم ذكر القيد معه فإذا أضيف إليه مدلول الأداة تمت الدلالة اللفظية على استيعاب تمام الافراد التي تنطبق عليها الطبيعة فتكون إرادة الخاصّ ثبوتاً خلاف الظهور الإثباتي الّذي هو ملاك جميع الدلالات الوضعيّة لا الظهور السلبي السكوتي الّذي هو ملاك الدلالات الإطلاقية ، صحيح انَّ المتكلم لو كان قد قيّدَ مدخول الأداة وأفاد الخصوص إثباتاً لم يكن بذلك قد استعمل الأداة مجازاً في غير ما وضعت له إلاّ انَّ الدلالة الإثباتية الوضعيّة ليست بملاك أَنْ تكون إفادة غيرها بذلك اللفظ منحصراً بالمجاز ، وانما بملاك إفادة المعنى المطلوب بحسب مرحلة الدلالة اللفظية التصورية التي تحصل في المقام من إضافة مدلول الأداة إلى مدلول مدخولها حيث يفاد بذلك تصور العموم واستيعاب تمام افراد الطبيعة ، كيف ولو كان ملاك الدلالة الإثباتية ذلك لكان التصريح بالإطلاق والاستيعاب وعدم القيد دلالة إطلاقية لا إثباتية وضعية كما إذا قال ( أكرم مطلق العلماء ) لعدم المجازية فيما لو قيده بالعدول مع انه لا إشكال في انَّ هذا ليس من الإطلاق ولا متوقف على مقدماته. كما هو واضح ولعل التباس هذه النقطة هو مبرر نشوء الفرضية التي تبناها المحقق النائيني ( قده ) ثم أن هناك بحثاً حول نوعية العموم المستفاد من كلمة ( كل ) أهي العموم الاستغراقي أم المجموعي بعد وضوح عدم وضعها بإزاء العموم البدلي؟ فقد يقال : بان مقتضى الأصل في ( كل ) إفادة العموم الاستغراقي وامّا المجموعي فبحاجة إلى عناية زائدة منفية بالإطلاق بدعوى ان المجموعية ـ على ما تقدم ـ تتوقف على ملاحظة أمر زائد على ذات الافراد يكون به مركباً وحدانيا يمثل كل فرد جزءاً فيه.

وقد يقال بالعكس وانَّ العموم المجموعي هو المفاد الأولي لأداة ( كلّ ) باعتبار انه


لا بدَّ من افتراض وجود معنى وحداني للأداة توحد فيه الافراد المتكثرة ، وامّا الدلالة على الافراد المتكثرة بما هي متكثرة فهي معانٍ متكثرة لا يمكن أَنْ تكون مدلولاً للأداة الواحدة.

والتحقيق أَنْ يقال : بأنَّ مدلول أداة العموم وإِنْ كان يقتضي توحيد المتكثرات في معنى وحداني يكون هو موضوع النسبة أو الحكم في الكلام ، إلاّ انَّ هذا التّوحد انما هو من شئون الاستعمال وإراءة المعنى وليس حيثية مأخوذة في المراد ولذلك لا يقتضي أصالة الجدّ والتطابق بين الثبوت والإثبات دخلها في موضوع الحكم ، وانما لا بدَّ من ملاحظة ما هو الملحوظ من خلال هذا المعنى الوحدانيّ المتمثل في مدخول ( كلّ ) فان كان امراً واحداً ولو باعتبار ثابت في مرحلة أسبق بقطع النّظر عن طروّ الأداة كان مقتضى الأصل كونه هو موضوع الحكم كما في ( كلّ العسكر وكلّ القوم ) وإِنْ لم يكن كذلك كان مقتضى الأصل أَن يكون كل فرد موضوعاً مستقلاً فيكون العموم استغراقياً كما في ( كلّ عالم ) وامّا ( كلّ العلماء ) فاستفادة الاستغراقية منه مبتنية على النكتة التي سوف نثبت بها دلالة الجمع المحلّى باللام على العموم.

وعلى هذا الأساس يمكن أَنْ نفسر وجه الفرق بين دخول ( كلّ ) على المفرد النكرة من قبيل ( كلّ كتاب ) ودخوله على المفرد المعرف باللام كما في ( كل الكتاب ) حيث انه في الحالة الأولى يكون ظاهراً في الاستغراقية بلحاظ الافراد بحيث يكون كل فرد موضوعا مستقلا للحكم بينما في الحالة الثانية لا يكون كل جزء من الكتاب موضوعا مستقلا للحكم بل المجموع الّذي له وحدة بقطع النّظر عن دخول أداة العموم موضوع واحد للحكم.

ولعله يشهد على هذا التمييز ما ذكره النحاة من انَّ كلمة ( كلّ ) إذا دخلت على النكرة كانت في الافراد والجمع والتأنيث والتذكير تابعة لمدخولها بخلاف ما إذا دخلت على المعرفة فيجوز فيها الوجهان حينئذ ، فانه إذا كانت داخلة على النكرة كانت ظاهرة في الاستغراقية التي لا تلحظ فيها توحد المتكثرات وإِنْ كان هناك وحدة في مرحلة الاستعمال والرؤية ، بخلاف ما إذا كانت داخلة على المعرفة فتكون ظاهرة في كون المجموع ملحوظا كشيء واحد على أساس النكتة المتقدمة.


« الجمع المحلّى باللام »

ومن جملة ما ادّعي افادته للعموم دخول اللام على الجمع.

والبحث عن ذلك يقع أولاً في كيفية إمكان تصوير دلالة الجمع المحلّى باللام على العموم ثبوتا ، وثانيا في تحقيق دلالته على ذلك إثباتا ، وثالثا في نوعية العموم المدّعى استفادته منه هل انه استغراقي أو مجموعي؟

اما البحث الثبوتي ، فتارة : يقع الحديث على ضوء تفسير المحقق الخراسانيّ ( قده ) ، للعموم بأنه استيعاب مفهوم لافراد نفسه ، وأخرى على ضوء ما حققناه من انه استيعاب مفهوم لافراد مفهوم آخر.

امّا على التفسير الأول فلا إشكال في انَّ الجمع المحلّى يشتمل على ثلاث دوال ، مادة الجمع وهيئته واللام ، ولا كلام في مدلول مادة الجمع وانما البحث في المقام عن مدلول الدالين الآخرين ، وحينئذ يقال : انَّ هيئة الجمع تارة يفترض انَّ مدلولها معنى اسمي هو المتعدد من افراد المادة وأخرى : يفرض انَّ مدلولها معنى حرفي فقط شأن جميع الهيئات ، امّا على الفرض الأول فيمكن تصوير كيفية دلالة الجمع المحلّى باللام على استيعاب الجمع لافراد نفسه بعدة وجوه.

١ ـ أَنْ يقال باستيعابه تمام الافراد باعتبار اندراج كل فرد تحت الجمع.

وفيه : انَّ العموم بحسب الفرض استيعاب المفهوم لمصاديق نفسه والفرد ليس مصداقا للجمع كي يكون مقتضى استيعاب الجمع لتمام مصاديق نفسه شموله لكل فرد.

٢ ـ أَنْ يقال بدلالته على استيعاب كل ثلاثة ثلاثة فيكون كل فرد داخلا باعتباره جزء للثلاثة.

وفيه : انَّ الثلاثة أحد مراتب الجمع ومصاديقه ومقتضى العموم استيعاب جميع الافراد التي منها الأربعة أربعة والخمسة خمسة وهكذا.

٣ ـ أَنْ يقال بدلالته على استيعاب تمام مراتب الجمع المتمثل خارجا في المرتبة العليا المشتملة على جميع الافراد ، وهذا بحسب الحقيقة والدقة وإِنْ لم يكن استيعابا لتمام


مصاديق الجمع لأنَّ المرتبة العليا هي إحدى المصاديق لا جميعها ولكن باعتبار دخول المراتب الأخرى تحتها فكأنها جميع تلك المراتب أي ان اللام تكون قرينة على إرادة هذه المرتبة من مدخولها الجمع.

٤ ـ أَنْ يقال بدلالته على استيعاب تمام المراتب بحسب المدلول التصوري أي كل ثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، وخمسة خمسة مع حذف المتكرّرات بحسب المدلول الجدّي بنكتة ارتكازية انَّ كل فرد لا تثبت له أحكام متعددة باعتبار إمكانية دخوله تحت مجاميع متعددة.

وامّا على الفرض الآخر الّذي يفترض فيه انَّ مدلول هيئة الجمع معنى حرفي بحت كما في الهيئات الأخرى أي تدل على استيعاب المادة لأفرادها فيمكن تصوير استيعاب الجمع لافراد نفسه بعدة أنحاء.

١ ـ أَنْ يقال بطرو اللام وهيئة الجمع على مادته كالعالم في عرض واحد فيدل كل منهما على استيعابها لافراد نفسها بنحو المعنى الحرفي النسبي إلاّ انَّ هيئة الجمع تدل على استيعاب ثلاثة فصاعداً من دون تعيين بخلاف اللام.

وهذا يبعده اننا لا نفهم استيعاب مادة الجمع لشيء من افراده مرتين في عرض واحد (١).

٢ ـ أَنْ يكون كل من اللام وهيئة الجمع بمجموعهما دالاً على استيعاب المادة لتمام افرادها بنحو المعنى الحرفي.

وهذا يبعده لزوم تعدد الوضع لهيئة الجمع واختلاف مدلولها في موارد دخول اللام عليها عن موارد عدم دخوله.

٣ ـ أَنْ يكون الدالان الحرفيان طوليين بحسب المعنى كما هما كذلك بحسب الترتيب والتنسيق اللفظي فتدل اللام على النسبة الاستيعابية بين مدلول مادة الجمع المستوعبة ببركة مدلول هيئة الجمع استيعابا ثلاثيا وبين الافراد بأحد الوجوه المتقدمة

__________________

(١) هذا مضافا إلى لزوم دعوى كون اللام تفيد استيعاب مدخولها ولو لم يكن جمعاً لأنَّ المفروض بحسب المعنى عدم كون مدلول هيئة الجمع جزءً من مدخول اللام بل هو دال آخر له مدلول آخر عرضي نظير سائر النسب والتقييدات المفادة بدوال أخرى.


بناءً على كون مدلول هيئة الجمع اسمياً لا حرفيا.

وعلى كل حال يرد على كل هذه الوجوه فساد المبنى ، حيث تبيّن مما تقدم انَّ المفهوم الواحد لا يمكنه أَنْ يستوعب افراد نفسه وانَّ دعوى كون الطبيعة تارة تلحظ بما هي هي وأخرى بما هي فانية في افرادها لا أساس لها.

فالصحيح هو المسلك الّذي اخترناه من انَّ العموم هو استيعاب مفهوم لمفهوم آخر وهذا المفهوم المستوعب في ( كلّ ) ، هو الأداة باعتبارها اسماً يتضمن الاستيعاب حيث كان الاستيعاب مدلولاً ذاتيا له بمعنى تقدم شرحه وتوضيحه في أول هذا الفصل ، وامّا في المقام فالاستيعاب يمكن أَنْ يستفاد بمجموع دوال ثلاثة لا دالين ، أحدها مادة الجمع الدالة على الطبيعة وهو المفهوم المستوعب والثاني هيئة الجمع الدالة على معنى اسمي هو المتعدد من افراد المادة المستوعب لثلاثة لا بشرط من حيث الزيادة ، ولا غرو فقد أثبتنا في بحث المشتق دلالة كثير من الهيئات على معانٍ اسمية ، والثالث هو اللام الدال على انَّ مدلول الجمع الّذي هو المفهوم المستوعب ـ بالكسر ـ يستوعب جميع افراد المادة ولو من جهة دلالته على معنى يلازم ذلك من قبيل كون هذه المرتبة هي المتعينة من مراتب الجمع على ما سوف يأتي التعرض لذلك في المقام الثاني.

المقام الثاني : في تحقيق دلالة الجمع المحلّى باللام على العموم إثباتا فنقول : هناك مسلكان لتخريج دلالة الجمع المحلى على العموم.

١ ـ أَنْ يُدّعى دلالة اللام الداخلة عليه على العموم واستيعاب تمام الافراد ، وهذا المسلك يفترض لا محالة وجود وضعين للاّم حيث يقتضي أَن تكون اللام الداخلة على الجمع موضوعة للعموم بخلاف الداخلة على المفرد (١).

__________________

(١) العموم يختلف عن الإطلاق في ناحيتين. إحداهما ـ الدلالة على الاستيعاب لتمام مدخوله إجزاءً أو افراداً. ثانيتهما ـ الدلالة على ان موضوع الحكم هو الفرد بما هو فرد لا الطبيعة إذا كان العموم أفرادياً لا أجزائياً. ومنه يظهر ان حقيقة العموم هو الدلالة على الاستيعاب والتمامية لا ملاحظة الافراد كما أشرنا إلى ذلك في تعليق متقدم. وعليه في الجمع المحلّى باللام يمكن دعوى وجود الخصيصة الثانية بان تدل اللام على الإشارة إلى افراد مادة الجمع المفادة بهيئة الجمع فانها تدل على التكثر الأفرادي فتلحظ الافراد ويشار إليها باللام دون ان يكون هناك ما يدل على الاستيعاب والتمامية لا بنحو المعنى الاسمي ولا الحرفي هذا إذا تصورنا معنى معقولاً للاستيعاب الحرفي فان مفهوم الاستيعاب والتمامية مفهوم اسمي بحسب طبعه فالصحيح عدم دلالته على العموم بوجه أصلاً.


٢ ـ أَن يُدّعى دلالة اللام في الموردين على معنى واحد وهو التعيين والتعيين في الجمع لا يكون الا في المرتبة العليا وهي المرتبة المستوعبة لجميع الافراد إذ أي مرتبة أخرى غيرها تكون مرددة لا محالة.

وفيما يلي نتحدث أولاً عن الفوارق بين المسلكين ثم المناقشات التي يمكن توجيهها إلى كل منهما.

امّا الفوارق ، فقد يقال : بأنه على المسلك الأول يكون استفادة العموم وضعيا ثابتاً بمقتضى أصالة الحقيقة في استعمال اللام بينما على الثاني لا تقتضي أصالة الحقيقة إلاّ كون مدخول اللام متعينا وهو أعم من إرادة العموم إذ لعله متعين في جماعة معهودة منهم.

إلاّ إِنَّ الصحيح عدم ترتب هذا الفرق بين المسلكين لأنَّ صاحب المسلك الأول يعترف أيضا ـ كما أشرنا ـ بأنَّ من معاني اللام التعيين لوضوح عدم استفادة العموم منها في غير موارد الجمع ، فيكون مشتركا لفظيا بين التعيين والعموم ، ودخولها على الجمع كما يناسب العموم يناسب أيضا إرادة التعيين في جماعة معهودة فلا يمكن إثبات العموم بأصالة الحقيقة ليجدي في موارد الإجمال واحتمال التعيين فانّ الاستعمال حقيقي على كل حال ، كما انه على المسلك الثاني أيضا لا يمكن رفع الشك في موارد احتمال العهد بالإطلاق ومقدمات الحكمة لأنه من موارد احتمال القرينية والبيان (١).

وقد يقال بالفرق بين المسلكين من حيث ان الثاني منهما لا يقتضي تحديد نوعية العموم من حيث كونه استغراقيا أو مجموعيا لأنّها لم تدل على العموم وانما دلت على

__________________

(١) قد يقال : بناءً على المسلك الثاني يكون اللام مشتركا معنويا بمعنى انَّ المدلول الوضعي إرادة مجموعة متعينة من العلماء وخصوصية المتعين لا بدَّ من إثباته بدال آخر وحينئذ يقال انَّ التعين العهدي في جماعة خاصة بحاجة إلى مئونة بيان زائد بخلاف التعين في جميع الافراد فيكون مقتضى الإطلاق وعدم بيان ما يعنى جماعة خاصة إرادة ما هو متعين بالطبع وهو الجميع فتكون الدلالة على العموم دلالة إطلاقية في موارد عدم وجود ما يصلح للقرينية على الخلاف ، وهذا بخلافه على المسلك الأول فانه على القول باختصاص اللام الداخلة على الجمع بالعموم فقط كان مقتضى أصالة الحقيقة العموم ، وعلى القول بالاشتراك اللفظي يكون الإجمال ثابتا مع عدم قرينة معينة على كل حال كما هو الحال في استعمال كل مشترك لفظي من دون قرينة ، ولا يمكن إثبات العموم حتى بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

اللهم إلاّ أَنْ يقال : انَّ عدم وجود ما يعنى المعهود بنفسه يكون قرينة على إرادة المعنى الاخر لا محالة ، فلا يظهر فرق بين المسلكين.


التعيين الملازم للعموم أي دلت على انَّ المراد من الجمع المرتبة المتعينة المتمثلة في الجميع وامّا سائر الجهات والتي منها الاستغراقية أو المجموعية فتبقى على ما كان يقتضيه طبيعة الجمع وهي تقتضي المجموعية على ضوء الضابط المتقدم في المقام الأول لأنَّ الجمع كالعدد يدل على معنى اسمي موحد في نفسه غاية الأمر انه في الجمع مأخوذ لا بشرط من حيث الزيادة على الثلاثة ، وهذا المعنى الوحدانيّ سواءً قيل بكونه امراً حقيقيا مقوليا كما يقوله الفلاسفة حيث يجعلون العدد من مقولة الكم المنفصل ، أو امراً اعتباريا لا إشكال في كون وحدانيته الاعتبارية امراً مطابقا مع المرتكزات العرفية ، بمعنى انَّ هذا الأمر الاعتباري يعتبر في مرتكز العقلاء والعرف شيئا ثابتا في الخارج على حد ثبوت الأمور الحقيقية ويقع موضوعا للأحكام والآثار كما تقع تلك موضوعا لها ، فانَّ أرسطو ان فرض خطأه في تحليل الأمور الواقعية وحقائق الخالق والمخلوق فلا أقل من انه أصاب في تحليل المفاهيم العرفية والإلهامات الفطرية للإنسان ، فمقولة الجمع والعدد التي عبر عنها بالكمّ المنفصل يعد امراً وحدانيا ثابتا في صقع الخارج ويقع موضوعا للأحكام وليس من الاعتبارات الذهنية التي تكون من شئون الاستعمال والإفهام فقط كما قلناه في وحدة معنى العام الاستغراقي ، ويشهد على هذا المعنى فهم الفقهاء في الأبواب الفقهية المختلفة وحدة الحكم المجعول على العدد ، من قبيل ما ورد في أدلة استحباب الأذكار أو الأدعية أو التسبيحات كذا مرّة أو الصلاة الف ركعة فانها جميعا يستفاد منها انَّ هناك حكما واحدا موضوعه مجموع ذلك الكم المعين لا انَّ كل فرد منه له استحباب مستقل ، وعليه فلا يقتضي دخول اللام على المسلك الثاني استغراقية العموم المستفاد من الجمع بل يبقى على مجموعيته ، وهذا بخلافه على المسلك الأول إذ قد يقال انَّ اللام الداخلة على الجمع موضوعة ابتداءً لإفادة العموم واستيعاب تمام الافراد بنحو الاستغراق لا المجموعية أو بنحو المزج بين الاستغراقية والمجموعية بناءً على بعض الوجوه المتقدمة في تصوير دلالة الجمع المحلى باللام على العموم ، بأَنْ تدل مثلا على الاستغراقية بلحاظ كل ثلاثة ثلاثة التي تكون مجموعية في نفسها.

ولكنَّ الصحيح مع ذلك عدم تمامية الفارق المذكور أيضاً لأنَّ المسلك الثاني وإِنْ


كان يعترف بأنَّ الجمع والعدد له اعتبار ثابت في نفسه إلاّ انه حيث اقتضى دخول اللام على الجمع إرادة ما هو المتعين من الجمع في الصدق الخارجي وهو جميع الافراد الخارجية وهي غير متعينة من حيث الكمّ ومرتبة العدد إذ يمكن أَنْ تكون ثلاثة أو أربعة أو عشرة أو أي عدد آخر ، فلا محالة يرى بهذا الاعتبار كأنه ألغيت خصوصية الكمّ الّذي هو اعتبار ثابت في نفسه بقطع النّظر عن مرحلة الاستعمال وانما لوحظت خصوصية الاستيعاب والكثرة وما تقتضيه من الوحدة الاعتبارية في مقام الاستعمال (١) وهذا لا ينافي مع كون الكمّ من طرف القلة والحد الأدنى ملحوظا حيث يشترط أَنْ لا يكون مجموع الافراد أقل من ثلاثة ولكن هذا الاعتبار مندك في الاستيعاب والكثرة الملحوظة باعتبار وحداني في مجال الاستعمال ، وان شئت قلت : انَّ خصوصية الاستيعاب وعموم جميع الافراد لم تؤخذ فيها مقولة الكم المنفصل وانما الملحوظ واقع الافراد الخارجية المتعيِّنة شريطة أَنْ لا تكون أقل من ثلاثة ، فتلاحظ تلك الافراد المتكثرة في مقام الاستعمال ضمن معنى اعتباري واحد كالمعنى الاعتباري الوحدانيّ الملحوظ في موارد العموم الاستغراقي والّذي قلنا انه من شئون مرحلة الاستعمال.

والصحيح : أَنْ يقال بالفرق بين المسلكين في موارد وجود تعين خارجي لعدد أقل من مجموع الافراد امّا لوجود قرينة لبيّة متصلة على التعيين كما إذا قال ( اصعد الطوابق ) وكانت عشرة خارجا واحتملنا إرادة التسعة منها التي هي متعينة خارجا في غير العاشر باعتبار وضوح استحالة صعود العاشر من دون صعود التاسع ، فالتسعة كالجميع غير مترددة بين مصاديق متعددة للتسعة ، أو لكونه القدر المتيقن في مقام التخاطب كما فيما إذا كان مورد سؤال السائل وجوب إكرام تسعة علماء معينين ذكرهم السائل فأجاب بوجوب إكرام العلماء حيث لو كان مقصوده التسعة كانوا متعينين في أولئك أيضا باعتبارهم قدراً متيقنا لا يمكن إخراجهم عن الحكم ، وامّا لكونه قدراً متيقنا من خارج مقام التخاطب كما إذا كان أحد العشرة أقلهم شأنا عند المولى بحيث لا يحتمل دخوله

__________________

(١) إلغاء خصوصية الكم والمرتبة العددية لا تستلزم إلغاء خصوصية المجموعية الخارجية مهما بلغ كمُّها العددي ، وقياس ذلك على الوحدة الاعتبارية للمعنى في مجال الاستعمال مع الفارق لأن هذه وحدة موضوعية خارجية بخلاف الوحدة الاعتبارية من أجل الاستعمال كما هو واضح.


وخروج غيره.

فانه في هذه الحالات الثلاث بناءً على المسلك الأول الّذي يدعى فيه وضع لام الجماعة بإزاء العموم تثبت إرادة العموم بأصالة الحقيقة حتى لو قيل باشتراكه لفظا بين العموم والعهد حيث لا عهد في البين بحسب الفرض ، وانما الموجود مجرد التعين في الصدق خارجا (١).

وامّا بناءً على المسلك الثاني فلا يمكن إثبات العموم في الحالات كلّها أو في الحالتين الأولى والثانية لو قيل باشتراط ما يعين مدخول اللام من داخل الخطاب ولا يكفي تعينه بقرينة خارجية منفصلة ، وذلك لأنَّ اللفظ نسبته إلى إرادة كل من المقدارين المتعينين في الخارج على حد سواء ، فلا معين لأحدهما ، وهذا الفارق بنفسه يكون منبها وجدانيا على بطلان المسلك الثاني عند من يرى بوجدانه دلالة الجمع المحلى باللام على العموم حتى في موارد هذه الحالات الثلاث.

هذه هي الفوارق بين المسلكين ، وامّا المناقشة فيهما :

فقد ناقش السيد الأستاذ في صحة المسلك الأول بدعوى : استلزامه مجازية استعمال لام الجماعة في موارد العهد وإرادة جماعة معهودين وهو خلاف الوجدان (١).

وفيه : انه مبنيٌّ ـ كما أشرنا ـ إلى القول باختصاص اللام الداخل على الجمع بوضع واحد للعموم وامّا لو قيل بأنَّ اللام موضوع مطلقا للتعيين وخصوص الداخل على الجمع موضوع أيضا للعموم فلا محالة يكون للام الجماعة وضعان عرضيان فلا يلزم المجاز من

__________________

(١) قد يقال : لا محيص من الالتزام بالإجمال على المسلك الأول أيضا في الحالة الثانية لأنَّ ذكر السائل للتسعة المعينين بنفسه يصلح أَنْ يكون قرينة على إرادة الإشارة إليهم ، نعم الحالة الأولى تبقى فارقة بين المسلكين لأنَّ دلالة اللام على إرادة كم ومجموعة متعينة خارجا لا يستلزم العموم إذ كما انه متعين التسعة أيضا متعينة والثمانية متعينة وهكذا إلى الثلاثة كل منها يكون جمعا متعيناً في الصدق خارجا مع انه لا إشكال في استفادة العموم. ولكن يمكن أَنْ يقال : انَّ اللازم تعين الجمع المدخول للأداة لا تعين المرتبة كالتسعة والثمانية ، وأية مجموعة لا تعين لها كجمع إذ يوجد في قبالها مرتبة أخرى تكون جمعاً أيضاً باستثناء العموم فانها وان كانت بالدقة مصداقاً واحداً للجمع في قبال المصاديق الأخرى الأقل والتي يصدق عليها الجمع في نفسه الا أن هذا المصداق عرفاً لا يرى أنه في عرض سائر المصاديق بل يرى احتوائه لها فكأنه صدق عليها جميعاً فلا تردد ولا عرضية في الصدق ومن هنا جاء التعين فيه دون المرتبة الأدنى أو سائر المراتب.

(٢) هامش نفس المصدر ، ص ٤٤٥


استعماله للعهد (١).

وقد ناقش صاحب الكفاية ( قده ) في صحة المسلك الثاني بأنه كما تكون المرتبة العليا المتمثلة في جميع الافراد متعينة كذلك المرتبة الدنيا وهي الثلاثة متعينة فلا وجه لاستفادة العموم بالملازمة من مجرد دلالة اللام على التعيين (٢).

وقد أجابت مدرسة المحقق النائيني ( قده ) ، على المناقشة بأنَّ المراد بالتعيين التعيين في الصدق الخارجي لا التعيين الماهوي وعدد الثلاثة وإِنْ كان متعينا بحسب الماهية لكنه ليس بمتعين بحسب الصدق في الخارج لإمكان انطباقه على هذه الثلاثة أو تلك وهكذا سائر المراتب (٢).

هذا ولكن يمكن تقرير مدعى صاحب الكفاية ( قده ) ، ببيان آخر فني لا يرد عليه هذا الجواب وحاصله : انَّ اللام موضوع لجامع التعيين وهو كما قد يكون خارجيا كما في موارد العهد كذلك قد يكون ذهنيا وقد يكون ماهويا أي تعيينا للجنس والطبيعة في وعائها النّفس الأمري كما هو الحال في موارد دخول اللام على الجنس في مثل قولك ( الرّجل خير من المرأة ) وعليه : فكما يمكن أَنْ يكون المراد من لام الجماعة التعيين الخارجي بحسب الصدق الملازم مع إرادة العموم كذلك يمكن أَنْ يكون المراد منه التعيين الجنسي بأَنْ يكون المقصود جنس الجمع والكثرة فيكون نظير ما إذا قلت ( انَّ العالمين أو العلماء خير من عالم واحد ) ، حيث تقصد بذلك انَّ جنس عالمين أو العلماء أفضل من جنس عالم واحد. وبهذا التقرير يندفع الجواب الّذي ذكرته مدرسة المحقق النائيني ( قده ) على مدّعى صاحب الكفاية ( قده ) ، كما هو واضح.

أضف إلى ذلك انَّ إرادة مرتبة أخرى من الجمع غير مرتبة الاستيعاب كالتسعة مثلا بدلاً عن العشرة أيضا لا ينافي التعيين المفاد عليه باللام فيما إذا أُريد كلّي التسعة الصادق على سبيل البدل على مصاديق خارجية متعددة بحيث يكون كل واحد منها

__________________

(١) الإنصاف انَّ المصير إلى الاشتراك اللفظي في مدلول اللام بين معنيين لا رابط بينهما خلاف الوجدان جدّاً.

(٢) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ٣٨١

(٣) هامش أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٤٤٥


محققا للكلّي في مقام الامتثال والمفروض انَّ اللام موضوع لطبيعي التعيين (١).

ثم انه قد يناقش في أصل دلالة الجمع المحلى باللام على العموم ـ على أيّ من المسلكين ـ بأنه لا إشكال في صحة دخول أدوات العموم الاسمية على الجمع المحلّى كما في قولنا كلّ العلماء وجميعهم فلو كان بنفسه دالا على العموم أيضا لزم امّا محذور إثباتي وهو استفادة العموم بنحو التأكيد والتكرار وامّا محذور ثبوتي وهو قبول المماثل للمماثل حيث انَّ المدخول يكون مستوعبا فلا يعقل أَنْ يطرأ عليه الاستيعاب من الأداة مرة أخرى.

الا انَّ هذه المناقشة قابلة للدفع على ضوء ما تقدم في التمييز بين العموم المجموعي والاستغراقي ، حيث ذكرنا انَّ أداة العموم إذا دخلت على المعرف باللام تدل على الاستيعاب الأجزائي ، وفي المقام أيضا تدل الأداة على الاستيعاب الأجزائي لمدخولها وهو الجمع المحلّى ، لأنَّ الافراد التي قد استوعبها الجمع واستغرقها ببركة دخول اللام عليه يصبح كلّ منها بمثابة جزء من ذلك المعنى الواحد فتدل الأداة على استيعاب تمام تلك الاجزاء ، فالاستيعاب المستفاد من الجمع المحلّى المدخول عليه الأداة غير الاستيعاب المستفاد من دخول الأداة ولهذا لا يلزم التكرار ولا المحذور الثبوتي من دخول الأداة على الجمع المحلّى (٢).

__________________

(١) قد يجاب على كلا هذين الإشكالين امّا على الأول فبأنَّ التعيين الجنسي وإِنْ كان صحيحا ومستعملا عرفا إلاّ انَّ ارتكازية كون النّظر في الجمع والتثنية إلى مرحلة التعدد والوجود الخارجي للطبيعة تصرف الكلام عن هذا الاحتمال ، وإِنْ شئت فقل : انَّ هيئة الجمع موضوعة لواقع الجمع والتكثر لا لعنوانه فلا يكون الملحوظ بها جنس الجمع.

وامّا الثاني : فلأن المدخول ليس هو مرتبة عددية خاصة وانما الجمع فلا بدّ من تعيّنه بما هو جمع ومتكثر وهذا لا يعقل الا بالتعين في الصدق خارجاً هذا ويمكن المناقشة في المسلك الثاني بأنَّ غاية ما يستلزمه دلالة لام الجماعة على العموم بدلالة الاقتضاء القائمة على أساس الملازمة بحيث يستكشف إرادة العموم في مرحلة المدلول التصديقي من دون أَنْ يكون العموم مستفاداً في مرحلة المدلول الاستعمالي والوضعي حيث يستكشف من عدم تعين مرتبة أخرى انَّ المتكلم يشير إلى المرتبة المستوعبة المتعينة إلاّ انَّ هذه الدلالة إطلاقية بحسب روحها. إلاّ انَّ هذا بحسب الحقيقة ليس إشكالا على المسلك المذكور فلعله يلتزم به ، وبه يمكن ان يفسر وجه دخول ( كلّ ) على الجمع المحلّى دون شعور بتكرر معنى العموم.

(٢) قد تقدم أن الإفرادية والأجزائية ليستا خصوصيتين مدلولتين لأدوات العموم بل أداة العموم تدل على الاستيعاب الوجوديّ والخصوصية الوجودية التي يريد ان يستوعبها العموم من حيث كونها جزاءً لوجود واحد أو افراد لطبيعة واحدة تستفاد من المدخول ، وعليه لو فرض دلالة الجمع المحلّى باللام على العموم والاستيعاب لزم التكرار لا محالة فهذا خير منبّه على عدم استفادة العموم منه وانما المستفاد كما أشرنا في تعليق سابق مجرد النّظر إلي الافراد والتكثرات فتدخل أداة العموم عليه لإفادة استيعاب تمام تلك الافراد.


ثم انه يمكن أَنْ يستدل على دلالة الجمع المحلّى باللام على العموم بوجوه أخرى.

منها ـ صحة الاستثناء عنه كما في قولك أكرم العلماء إلاّ زيداً ، والاستثناء كما قالوا إخراج ما كان داخلا وهو يعني دخول زيد في مدلول العلماء وهكذا أي فرد آخر منهم ، ولا يحتمل أَنْ يكون دخوله بلحاظ المدلول الإطلاقي الحكمي للجمع بل بلحاظ المدلول الوضعي لما تقدم بيانه من انَّ المدلول الحكمي مدلول تصديقي جدّي لا يكون إلاّ في موارد وجود الإرادة التصديقية وصحة الاستثناء المذكور غير موقوف على ذلك كما هو واضح.

وهذا الوجه يمكن الجواب عليه والمناقشة فيه نقضاً وحلاًّ.

امّا نقضاً ، فبما ورد من الاستثناء عن المفرد كما في قوله تعالى ( انَّ الإنسان لفي خسر إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) ، مع انَّ المفروض عند المشهور عدم دلالة المفرد المعرف باللام على العموم.

اللهم الا أَنْ يدّعى وجدانا الفرق وانَّ الاستثناء من المفرد لا يخلو من عناية مفقودة في الجمع ، وحينئذ يمكن النقض بالجمع المضاف كما في مثل أكرم علماء البلد ، فانه لا إشكال في صحة الاستثناء منه بلا عناية مع انَّ المشهور عدم دلالتها على العموم.

وامّا حلاًّ ، (١) فبأنَّ الاستثناء وإِنْ كان إخراجا لما كان داخلا إلاّ انّ الأمر لا يدور في الدخول بين الدخول تحت المدلول التصوري الوضعي للمستثنى منه أو المدلول الجدي ، بل هناك شق ثالث وهو الدخول تحت المدلول الاستعمالي للجمع حيث انه لا إشكال في انَّ الجمع يصح استعماله في كل مرتبة من مراتب الجمع بتمامه فكما يكون الثلاثة مصداقاً له بتمامه كذلك الأربعة مصداق له والخمسة مصداق له وهكذا فيكون صدقه عليها على حد واحد لا باعتبار وجود الثلاثة فيها ، وعليه فغاية ما يلزم من صحة الاستثناء هو دخول المستثنى في المراد الاستعمالي من المستثنى منه وهو الجمع المحلّى فيكشف عن انه قد استعمله في العشرة المشتملة على المستثنى

__________________

(١) يمكن تقرير الجواب الحلي بنحو آخر حاصله : ان الاستثناء يدل على دلالة الجمع على التكثر الأفرادي وليست هذه الخصوصية حقيقة العموم بل هي مستفادة من الجمع.


لا التسعة ، وهذا لا كلام في صحته وكونه استعمالا حقيقيا حتى عند المنكرين لدلالة الجمع على العموم ، وانما الكلام في انه هل يتعين استعماله فيه كي يمكننا إثباته بأصالة الحقيقة أو لا يتعين فيه بل يمكن استعماله كذلك في الأقل كما هو واضح.

ومنها ـ انه لا إشكال ولا ريب في استفادة العموم من الجمع المحلّى باللام عند دخول أداة من قبيل ( كلّ ) عليه وقد ذكرنا فيما سبق انَّ العموم المستفاد من كل حينما تدخل على المعرفة هو الاستيعاب الأجزائي ، ولا إشكال انَّ الأداة لا تعين ما هي اجزاء مدخولها بحسب الوضع وانما تدل على استيعاب تمامها بعد ما يتعين بحسب المدلول الاستعمالي للفظ المدخول. وإِنْ شئت قلت : انَّ الأداة في موارد العموم الأجزائي تكون مؤكدة لما يدل عليه المدخول من الاجزاء وليست مؤسسة لاستيعابها كما في موارد العموم الاستغراقي فإذا كان المدخول موضوعا بنحو العام والموضوع له الخاصّ كما في المقام ، كان لا بدَّ من تحديد إرادة المرتبة العليا من تلك الاجزاء بقطع النّظر عن دخول الأداة لكي يمكن استفادة العموم الأجزائي لتمام تلك الافراد ، فلا بدَّ من افتراض دلالة المدخول في المقام وهو الجمع المحلى باللام على إرادة مرتبة العموم لكي يكون كل فرد جزءً من مدلوله فتشمله الأداة بعمومها الأجزائي ، (١) وهذا الوجه أيضا يمكن إبطاله نقضا وحلاّ.

امّا النقض فبما تقدم في النقض على الوجه السابق من لزوم دعوى دلالة الجمع المضاف على العموم أيضا إذ لا إشكال في استفادة العموم منه عند دخول الأداة عليه كما في قولك أكرم كلَّ علماء البلد.

وامّا الحلّ فبأحد بيانين.

البيان الأول ـ أَنْ يقال بأنَّ استفادة العموم عند دخول الأداة انما يكون بدلالة الاقتضاء التي هي من الدلالات العرفية البيّنة ، فانَّ استعمال الأداة مع عدم إرادة العموم يكون أشبه باللغو عرفا.

__________________

(١) هذا مبني على استفادة العموم والاستيعاب الأجزائي كمدلول ثان لنفس أداة العموم وقد تقدمت المناقشة فيه ، كما تقدم ان المستظهر استفادة العموم والاستيعاب بلحاظ الافراد والتكثرات الفردية المفادة بالجمع في موارد دخول الأداة على الجمع سواء كان محلّى باللام أم لا.


البيان الثاني : دعوى انَّ الأداة كما تدل على استيعاب تمام ما ينطبق عليه المدخول وضعا في موارد العموم الأفرادي كذلك تدل على استيعاب تمام ما يمكن أَنْ يكون جزء من مدلول المدخول وضعا لا ما وقع جزء منه بحسب المعنى المستعمل فيه فعلا ، وفي المقام وإِنْ كان استعمال الجمع المحلّى في مرتبة غير العموم حقيقيا وصحيحا إلاّ انه لا إشكال في انَّ أي فرد يفترض من الافراد يمكن أَنْ يكون جزء من مدلول الجمع لأنه موضوع بإزاء المراتب ما فوق الاثنين بنحو الوضع العام والموضوع له الخاصّ الّذي يكون استعماله في كل مرتبة بحده صحيحا وحقيقيا. وهذا وإِنْ كان معناه تحديد الأداة لمدلول مدخولها في إرادة المرتبة المستوعبة منه بناءً على الوضع العام والموضوع له الخاصّ فليس بالدقة استيعابا لتمام ما هو جزء لمدلول المدخول الوضعي في نفسه ، إلاّ انه يدعى بأنَّ العرف يستفيد ذلك من دخول الأداة على الجمع ولو باعتبار معاملته مع الجمع معاملة الموضوع بالوضع العام والموضوع له العام باعتبار عدم اختصاصه بإحدى المراتب دون الأخرى ، هذا إذا قلنا بأنه من الوضع العام والموضوع له الخاصّ بأَنْ يكون صيغة الجمع موضوعة بإزاء مراتب العدد بحدودها التي يمتاز كل منها عن الباقي بما به الامتياز لكل مرتبة ، وامّا إذا قلنا بأنه من الوضع العام والموضوع له العام إلاّ انَّ الموضوع له سنخ معنى تشكيكي ينطبق على الكثير بحده والقليل بحده كعنوان العدد فالامر أسهل وأوضح إذ لا يلزم أَنْ يُطعم أداة العموم حينئذ بمطلب زائد على ما هو مدلوله في سائر المقامات ، وبهذا البيان نستطيع تفسير استفادة العموم من الجمع المحلى عند دخول الأداة عليه حتى في موارد عدم وجود إرادة استعمالية في الكلام بخلافه على البيان السابق كما هو واضح.

ومنها ـ محاولة تصحيح المسلك الثاني المتقدم في دلالة الجمع المحلى على العموم ، حيث يقال بأنَّ اللام لا إشكال عرفا وبتنصيص علماء العربية في دلالتها على التعيين ، والتعيين المحتمل في مورد دخول اللام على الجمع يتصور بأحد أنحاء.

١ ـ أَنْ يكون تعيينا عهديا وهذا التعيين لو فرض وجوده بأَنْ كان هناك علماء معهودين فلا إشكال في عدم استفادة العموم فعدم التعيين العهدي يؤخذ في موضوع دلالة الجمع المحلى باللام على العموم كمصادرة.


٢ ـ أَنْ يكون تعييناً جنسيا حيث قلنا فيما تقدم انَّ جنس الجمع أيضا قد يكون هو متعلق الحكم كما في التعيين الجنسي للمفرد.

وهذا الاحتمال وإِنْ كان معقولاً إلاّ انَّ هناك قرينة نوعية على خلافه باعتبار انَّ الغالب في موارد الجمع إرادة واقع الافراد لا عنوان الجمع والجماعة ولهذا قلنا باستفادة الاستغراقية من الجمع المحلى باللام بناءً على استفادة العموم منها.

٣ ـ أَنْ يكون تعييناً للكلي الملحوظ بدليا وهذا التعيين في الواقع تعيين أُصولي وليس عرفياً لأنَّ البدلية لا تقتضي لا التعيين الصدقي الخارجي ولا الماهوي إذ لا نضيف شيئا ماهويا إلى المعنى كما هو واضح.

٤ ـ أَنْ يكون التعيين بلحاظ الصدق ، وبعد استبعاد الاحتمالات الثلاثة يتعين لا محالة هذا الاحتمال فيدل دخول اللام على الجمع إرادة المرتبة المتعينة صدقا من مدلول المادة وهي الجميع ، لأنَّ أي مرتبة أخرى غيرها لا تكون متعينة كذلك.

وهذا الوجه أيضا غير تام في إثبات العموم ، لأنَّ غاية ما يثبت به انَّ اللام تدل على استيعاب الطبيعة للمرتبة المستوعبة من الافراد باعتبارها هي المتعينة صدقا ، ولكن هل انَّ الطبيعة المستوعبة هي المطلقة أو الحصة المقيدة منها؟ فهذا لا يمكن أَنْ تعينها اللام لأنه كما تكون جميع افراد الطبيعة المطلقة متعينة صدقا كذلك جميع افراد الطبيعة المقيدة ـ كالعلماء العدول ـ متعينة صدقا أيضاً فنحتاج في إثبات كون الطبيعة المستوعبة المستغرقة هي المطلقة لا المقيدة إلى دال آخر.

وإِنْ شئت قلت انَّ هناك ثلاثة احتمالات ـ

١ ـ أَنْ يراد استيعاب بعض افراد الطبيعة المطلقة.

٢ ـ أَنْ يراد استيعاب تمام افراد الطبيعة المقيدة.

٣ ـ أَنْ يراد استيعاب تمام افراد الطبيعة المطلقة.

والعموم هو الثالث من هذه الاحتمالات واللام الدالة على التعيين لا تقتضي إلاّ نفي الاحتمال الأول دون الثاني فلا يثبت العموم ، وانما نحتاج في استفادته إلى إجراء مقدمات الحكمة أو إضافة مدلول جديد إلى اللام غير المسلمات المتقدمة.

لا يقال : انا نثبت كون المدخول هو الطبيعة المطلقة لا المقيدة بأصالة الحقيقة التي


قلنا في الأبحاث السابقة انها جديرة بإثبات الإطلاق بالحمل الشائع ، وبإضافة مدلول اللام إلى المدلول الوضعي الاستعمالي لمدخولها بنحو تعدد الدال والمدلول نستفيد انَّ الطبيعة المستوعبة انما هي المطلقة بالحمل الشائع لا المقيدة كما كنّا نستفيد في أداة العموم تماما.

فانه يقال : انَّ تعين افراد الطبيعة المقيدة أيضا تعين للطبيعة المطلقة كما لو أريد افراد العالم العادل بالخصوص ، فانَّ هذا تعين للطبيعة من ناحية ، والمفروض دلالة اللام على أصل التعيين.

وإِنْ شئت قلت : انَّ الجمع موضوع بإزاء الكثرات ما فوق الثلاثة بنحو الوضع العام والموضوع له الخاصّ بحيث يصح أَنْ تكون كل مرتبة منها بما هي مدلولا له ومراتب هذه الكثرات لها قسمان من المحددات ، محددات كمية متمثلة في الاعداد الصحيحة كالثلاثة والأربعة والعشرة أو الكسرية كنصف العلماء وربعهم وعشرهم ، ومحددات نوعية متمثلة في العدول من العلماء أو المؤلفين منهم أو غير ذلك فانَّ هذه المحددات وإِنْ كانت بلحاظ نوع المعدود والمتكثر إلاّ انها لا محالة تكون محددة للعدد والكمّ أيضا بحيث لو لا ذلك النوع لما كانت الكثرة محدودة بذلك الحد والمقدار ، والجمع المجرد عن اللام كما يمكن استعماله في مرتبة من مراتب الكثرات المحددة تحديداً كميّاً كعشرة منهم كذلك يمكن استعماله وإرادة مرتبة العدول منهم خارجا فانه يكون استعمالا حقيقيا أيضا على حد الأول ، واللام تدل على إرادة مرتبة متعينة صدقا من الجمع ، وهذا غاية ما يقتضيه نفي إرادة أي مرتبة من مراتب التكثر المحدودة بمحدد كمّي باستثناء المرتبة المستغرقة لأنَّ أي مرتبة من مراتب المحددات الكمية لا تكون متعينة صدقا وإِنْ كانت متعينة ذاتا وامّا المراتب المحددة بمحدد نوعي فلا تنفيها اللام لأنها بخلاف المراتب المحددة بمحدد كمّي لها تعين صدقا فانَّ افراد العدول أو المؤلفين من العلماء متعينة من حيث الصدق خارجا ، نعم نفس تلك المراتب النوعية لا تعين لها إلاّ انَّ اللام نسبتها إليها على حد سواء بحسب الفرض ، والحاصل : انَّ اللام تقتضي إلغاء احتمال إرادة مرتبة متناهية من العدد كما غير متعينة صدقاً وامّا احتمال إرادة مرتبة من المراتب المحددة نوعا المتعينة صدقا فلا يمكن نفيه باللام وانما ينفيها دال آخر فلا بدَّ في نفي


احتمال إرادتها من التمسك بمثل الإطلاق ومقدمات الحكمة ، فلو قال ( أكرم العلماء ) وكان مراده مرتبة المؤلفين منهم بالخصوص المتعينة من حيث الكمّ في المرتبة المستوعبة لم يكن بذلك قد استعمل مجازاً (١).

ومنها ـ انَّ استفادة العموم والاستغراق من الجمع المحلى مما لا إشكال فيه وانما الكلام في كون منشأ هذه الدلالة الوضع أو الإطلاق ومقدمات الحكمة ، فإذا برهنا على عدم استناد هذه الدلالة إلى مقدمات الحكمة يتعين لا محالة استنادها إلى الوضع وهو معنى العموم ، وفيما يلي نبرهن على ذلك بأحد بيانين.

__________________

(١) يمكن ان يناقش في هذا البيان بوجهين :

الأول : لا موجب لافتراض انَّ مدلول الجمع هو الكثرات بنحو الوضع العام والموضوع له الخاصّ فانْ كان الموجب هو صحة استعماله وصدقه على كل مرتبة بحدها ، فهذا لا يعين هذا النحو من الوضع بدليل انَّ لفظة ( العدد ) أيضا صادقة على كل مرتبة بحدها مع انها على حدّ أسماء الأجناس الأخرى ، وليكن تصوير ذلك بالوضع بإزاء معنى جامع مشترك منتزع عن كل مرتبة بحدها وقد تقدم في أبحاث سابقة تصوير مثل هذا المعنى في بعض المداليل كمدلول الكلمة الصادق على ما زاد على حرف أو حرفين بنحو يكون الزائد على فرض وجوده داخلا وجزء وعلى فرض عدمه غير مانع.

ومما يشهد على انَّ الجمع من هذا القبيل معاملة العرف معه معاملة أسماء الأجناس من حيث دخول التنوين عليه لإفادة البدلية كما في مثل ( جئني بكتب ) فانه إذا جاء بأيّ عدد منها كان كلّه امتثالا دون أَنْ يكون هناك إجمال في المدلول المستعمل فيه وبهذا نستطيع الجواب على الوجه المتقدم ـ الوجه الثاني ـ لإثبات العموم دون الوقوع في تحميل أداة العموم مدلولا زائداً عما وضعت له في سائر الموارد.

الثاني : انَّ المحدد النوعيّ ليس مرتبة من مراتب الجمع والكثرات ببرهان انه قد يكون مساويا مع كل الكثرات فتكون المرتبة المحددة بالمحدد النوعيّ من الكثرة كالكثرة غير المحددة وذلك فيما إذا كان تمام الافراد واحدة لذلك القيد كما إذا فرض كل العلماء عدولا أو مؤلفين وهذا يعنى انَّ هذا القيد والتحديد حد للمتكثر لا للكثرة نفسها والجمع موضوع بهيئته بإزاء الكثرات والتعدد ، وكون الجمع المحدد بمادته له مرتبة من التحدد وإِنْ كان مسلماً إِلاّ أن هذا بحسب الحقيقة من نتائج إضافة هيئة الجمع إلى المادة لا انّه مرتبة ثابتة في رتبة سابقة على إضافة مدلول الهيئة إلى مدلول المادة كما هو مقتضى قانون تعدد الدال والمدلول.

هذا كله مضافا إلى شهادة الوجدان بأنَّ استعمال علماء أو العلماء في خصوص العدول منهم بما هم عدول لا بما هم كمّ معين كاستعمال العالم في العالم العادل يكون مجازاً من حيث مادة الجمع.

أضف إلى ذلك : انَّ المراتب للمحدد النوعيّ وإِنْ كان كل منها متعينا صدقا إلاّ انَّ تعينها في طول تعين نفس المحدد وإلاّ فباعتبار تعدد نفس المحددات النوعية وعدم تعينها لا محالة لا بدَّ لكي تشبع حاجة اللام في التعيين الصدقي من افتراض محدد نوعي معين في المرتبة السابقة على مدلول اللام لأنها موضوعة لواقع التعيين والإشارة لا لمفهوم التعين وهذا يعني انَّ استعمال اللام دائما يكون في طول تعيين المحدد النوعيّ بمادة الجمع لكي يمكن أَنْ يستعمل اللام في التعيين الصدقي.

فالحاصل اللام كأسماء الإشارة تشير إلى ما هو المتعين من مدلول مدخولها وهذا لا يكون إلاّ بعد افتراض تحدد مدلول المدخول تصوراً ووضعا كمّا ونوعا ، كمّاً في مرتبة الاستغراق ونوعاً في مدلول مادة الجمع ومن دونه لا يمكن الإشارة والتعيين إذ لا يمكن تعيين شيء متعين صدقا وخارجا من دون تحديد المفهوم المتعين تصوراً في المرتبة السابقة.


البيان الأول : انَّ غاية ما تثبت بمقدمات الحكمة ، كون الطبيعة هي تمام موضوع الحكم وامّا سريان الحكم إلى الافراد ومصاديق الطبيعة فلا تثبت في مرحلة المدلول الوضعي والاستعمالي للكلام وانما تثبت في مرحلة الانحلال والتطبيق العقلي بقانون انطباق الطبيعة على كل فرد من افرادها. ومن هنا تكون ميزة الدلالة الإطلاقية وعلامتها الفارقة اننا لا نرى فيها ثبوت الحكم على الافراد بما هي افراد بل على الطبيعة بما هي هي ، بخلاف العمومات الوضعيّة ـ كما تقدم شرح ذلك في مستهل هذا الفصل ـ ولا ينبغي الإشكال وجدانا في دلالة الجمع المحلى باللام على ثبوت الحكم على الافراد بما هي افراد فأكرم العلماء لا يفهم منه ثبوت الحكم لطبيعة الجمع كما في أكرم العالم الدال على ثبوت الحكم لطبيعة العالم ، بل يفهم منه ثبوت الحكم على افراد العلماء وقد قلنا انَّ مثل هذه الدلالة لا يمكن أَنْ تكون من شئون الإطلاق ومقدمات الحكمة.

وهذا البيان يمكن الجواب عليه نقضا وحلاًّ.

امّا نقضا ، فبالجمع المضاف بناءً على مسلك المحققين من عدم دلالته على العموم مع انَّ لحاظ الافراد محسوس فيها وجدانا أيضا.

وثانيا : انه يمكن لمنكر العموم الوضعي أَنْ يدّعي استناد الدلالة على الافراد إلي اللام المقتضية للتعيين الصدقي ـ على ما تقدم في إبطال الوجه السابق ـ بنحو يلغي احتمال إرادة التكثرات الكمية اللامتعينة صدقا ويعين الاستغراق في افراد إحدى المحدّدات النوعية وبهذا تكون الافراد ملحوظة إلاّ انه مع ذلك لا يكفي ذلك لإفادة العموم المطلوب ما دام لا يعين المحدد النوعيّ في المرتبة العامة الواسعة فيحتاج إلى مقدمات الحكمة لتعيين انَّ المحدد النوعيّ هو مدلول مادة الجمع لا غير. هذا إلاّ انَّ هذا البيان لا يكفي لحل الإشكال في مورد النقض بالجمع المضاف وسوف يأتي مزيد توضيح لهذه النقطة (١).

البيان الثاني : انَّ مقدمات الحكمة والإطلاق انما تجري في مورد يكون المدلول

__________________

(١) قد تقدم ان استفادة التكثر الأفرادي منشأ هيئة الجمع ، الا أن هذه الخصوصية ليست حقيقة العموم وانما العموم هو الاستيعاب لتمام وجود الشيء أو الطبيعة.


الوضعي المستعمل فيه اللفظ مبينا غاية الأمر يشك في وجود قيد زائدٍ عليه لم يذكر في مقام الإثبات وليست وظيفة مقدمات الحكمة تعيين مدلول اللفظ.

وفي المقام بناءً على ما تقدم من انَّ الجمع موضوع بنحو الوضع العام والموضوع له الخاصّ يكون كل مرتبة من مراتب الكثرة بحدها مدلولا للفظ فيكون اللفظ من مشترك المعنى غاية الأمر بوضع واحد ويكون الشك في إرادة إحدى تلك المراتب معناها الإجمال بلحاظ ما هو مدلول اللفظ والتردد بين إرادة المعنى الأوسع أو الأضيق ، ومجرد كون أحدهما أوسع من الآخر لا يمكن تعيينه بمقدمات الحكمة بعد فرض كون كلّ منهما معنى مستقلا ، ولهذا لو فرض وضع لفظ ( بني هاشم ) مثلاً بوضعين ، تارة : لِمَنْ تولد من هاشم من طرف الأب بالخصوص ، وأخرى : لمطلق من تولد منه سواءً من طرف الأب أو الأم ، فلا يمكن عند الشك في مراد المستعمل تعيين إرادة المعنى الأوسع بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، فانَّ مقدمات الحكمة تقتضي نفي وجود قيد زائد على المعنى المطلق المبرز باللفظ لم يذكر عليه دال ولا تقتضي إثبات إرادة المعنى الأوسع من معنيي اللفظ المشترك.

وهذا البيان مبنيٌّ على أَنْ يكون الموضوع له في صيغة الجمع خاصا أي كل مرتبة من مراتب العدد والكثرة بحدها وامتيازها ، وامّا إذا قيل بوضعها للجامع الّذي به اشتراك كل تلك المراتب والّذي ينطبق على كل مرتبة بحدها ـ كما حقق في محله في بحث المقولات التشكيكية ـ فيكون من الوضع العام والموضوع له العام ويكون جريان مقدمات الحكمة بلا محذور.

هذا ولكن مع ذلك يمكن تصحيح إجراء مقدمات الحكمة بدعوى انَّ الوضع العام والموضوع له الخاصّ يستدعي على المسالك المشهورة ـ ان يتصور الواضع في مقام الوضع عنوانا جامعا يشير به إلى الخواصّ ، وهذا العنوان إذا فرض كونه بنفسه كأحد الخواصّ من ناحية تلك الحيثية الملحوظة أي كان بحسب مصطلح المنطقي من العناوين التي تنطبق على نفسها ـ كعنوان الكلّي وعنوان المفهوم لا كعنوان الجزئي وعنوان النسبة ـ إِذن فسوف تنشأ العلقة الوضعيّة بين اللفظ وبين نفس العنوان الجامع أيضا بل تكون العلقة معه أشد وآكد باعتباره هو المتصور للواضع في مقام الوضع بحيث ينصرف إليه


اللفظ في الإطلاق بلا حاجة إلى قرينة معينة ، والمقام من هذا القبيل فانَّ صيغة الجمع موضوعة بإزاء كل معنى يكون حاويا لمرتبة من مراتب الكثرة المتعينة كمّاً أو نوعاً ونفس عنوان الجمع والكثرة أيضا حاوٍ للتكثر مهملا من حيث الكمّ والمقدار فينصرف اللفظ عند عدم قرينة على إرادة إحدى المراتب المتعينة كمّاً أو نوعا إلى إرادة نفس الجمع والكثرة الجامع بين المراتب فيجري حينئذ بلحاظ هذا المعنى الجامع الإطلاق ومقدمات الحكمة فيثبت إرادة الجميع.

ولنعد إلى ما أوعدنا به في التعليق على التقريب الأول من إمكان تصوير جريان الإطلاق ومقدمات الحكمة بنحو لا ينافي مع رؤية الافراد من خلال الجمع المعرف باللام أو المضاف فنقول : انَّ مقدمات الحكمة ، تارة : تنصب على كل فرد من افراد الجمع لتحديد ما أَخذ فيه من الصفات والقيود وحينئذ تفيد نفي القيود بمعنى انَّ ما هو تمام الموضوع ثبوتا هو ذات العالم لا العالم العادل مثلا ، وأخرى : تنصب مقدمات الحكمة على الكثرة المدلول عليها بالجمع نفسها فتفيد حينئذ نفي أخذ أيّ محدد عن المحددات الكمية أو النوعية غير المحدد النوعيّ المدلول عليه بمادة الجمع وهذا مساوق مع الاستغراق ورؤية الافراد لا محالة.

وهكذا يتبين انَّ وجدانية رؤية الافراد في باب الجمع المحلى باللام بالإمكان تفسيرها بلا حاجة إلى افتراض دلالة وضعية على العموم مما يعني انه لا يوجد مقتضٍ لمثل هذا الافتراض ، لأنه امّا يكون على أساس قول اللغة الّذي هو دليل لميّ وامّا يكون على أساس الإحساس بوجدان لا يمكن تفسيره إلاّ بالالتزام بدلالة وضعية ، والأول غير موجود حيث لم ينقل عن لغوي دعوى وضع اللام بإزاء العموم ، والثاني أيضا قد عرفت عدم وجوده وإِنَّ استفادة ما يرى من استيعاب الأفراد يمكن أَنْ تكون على أساس مقدمات الحكمة لا الوضع.

بل نضيف هنا علاوة على ما تقدم انَّ الدلالة على العموم ـ كما أشرنا ـ امّا أَنْ تكون من جهة دلالة اللام على التعيين بالتقريب الفني المتقدم في الوجه الثالث وامّا ان تكون من جهة وضع لام الجماعة للعموم ابتداء.

والأول ، يبطله إضافة إلى ما تقدم : انَّ التعين الصدقي المساوق للاستغراق ليس


متعينا بل هناك التعين الجنسي المعقول في الجمع ، وما تقدم في الوجه الثاني من انَّ الجمع يلحظ فانيا في الافراد مسلم ولكنه لا يضر بإرادة الجنس لأنَّ الفاني في الافراد هو المعنى الاستعمالي فلا بدَّ من تحديد ما هو المعنى الاستعمالي مسبقا ثم فرضه فانيا في واقعه ومعنونه ، واللام إذا حددت المعنى الاستعمالي في جنس الجمع فلا محالة يلحظ فانياً في معنونه وهو الجنس لا الافراد.

ومما يشهد أو يدل على صحة إرادة التعيين الجنسي من اللام الداخلة على الجمع دخولها على ما يرادف مدلول هيئة الجمع من الأسماء كما في قولنا أكرم الكثير أو العديد من العلماء فانه لا إشكال في كون اللام هنا لتعيين جنس الكثرة لا الافراد (١).

وامّا الثاني ، فأيضا بعيد إذ مضافا إلى استبعاد الاشتراك اللفظي في معنى اللام بأَنْ تكون موضوعة للعموم وللتعيين في عرض واحد ، بالإمكان إبراز منبه لهذا الاستبعاد وهو انه لا إشكال في عدم العناية في موارد تقييد الجمع المحلى باللام بمثل ( أكرم العلماء العدول ) فانه على حد تقييد المفرد المحلّى بها كما في أكرم العالم العادل من حيث عدم العناية أو المجازية ، مع انه لو كان اللام قد دلت على إرادة عموم افراد مادة العالم لزمت المخالفة مع القيد لأنَّ مدخول اللام قد تم قبل مجيئه إذ مدخوله هو ( علماء ) لا ( علماء العدول ) ، كما كنا نقوله في كل عالم عادل ، فانَّ العدول وصف للعلماء بعد دخول اللام عليه لا قبله ولهذا يلزم ان يكون معرفا.

والحاصل : انَّ هنا احتمالات ثلاثة كلها بعيدة غير محتملة إثباتا.

١ ـ أَنْ يكون القيد جزءً من مدخول اللام ، وهو بعيد جدا بحسب المنهج العرفي للتراكيب اللفظية وبحسب نصّ علماء العربية.

٢ ـ أَنْ يكون القيد خارجا عن مدخول اللام ويكون القيد منافيا مع عموم المقيد ولكنه يقدم عليه في مقام الكشف عن المراد ، وهذا أيضا خلاف الوجدان العرفي الشاهد بعدم العناية في مرحلة المدلول التصوري الوضعي قبل مرحلة كشف المدلول التصديقي.

__________________

(١) هذا مبنيٌّ على أَنْ يكون الموضوع له هيئة الجمع عنوان الكثرة والجمع لا واقعهما ومصداقهما أي أنْ لا تكون للإشارة إلى مصداق المتعدد من افراد المادة وإلاّ كان القياس مع الفارق والوجدان يقضي بالعناية في موارد إرادة جنس الجمع من اللام الداخلة على الجمع.


٣ ـ أَنْ يكون المدخول هو العلماء بشرط أَنْ لا يأتي بعد ذلك بما يقيده ويضيق منه ، وهذا أيضا خلاف الوجدان القاضي بأنَّ الإتيان بالقيد تقييد لسعة المقيد كما في المفرد لا انه تقيد بحيث وجد مقيداً كما هو مقتضى هذا (١).

نعم هذا المبعد لا يمكن جعله إبطالاً للقائلين بالعموم من جهة دلالة اللام على التعيين ، لوضوح انَّ التقييد بالعدول أو بغير ذلك لا ينافي مع التعين الصدقي الّذي لا بدَّ منه لإشباع حاجة اللام الوضعيّة ، ولذلك جعلنا هذا المنبه إبطالا للمسلك الآخر.

هذا تمام الكلام في المقام الثاني الّذي عقدناه للبحث عن دلالة الجمع المحلّى باللام على العموم وضعا.

وامّا المقام الثالث : وهو تحقيق كون العموم على تقدير استفادته منه استغراقياً أو مجموعياً فقد اتضح الحال فيه مما تقدم حيث تقدم انَّ مقتضى الطبع الأولي وإِنْ كان دلالة الجمع على امر موحد ثابت في مرتبة سابقة على دخول اللام إلاّ انه مع ذلك لنكتة زائدة تلغى هذه الوحدة ويكون المستفاد هو العموم الاستغراقي على القول باستفادة أصل العموم منه.

« النكرة في سياق النفي أو النهي »

ومما قد يدّعى افادته للعموم وقوع النكرة في سياق النفي أو النهي ، بدعوى : انَّ انتفاء الطبيعة لا يكون إلاّ بانتفاء جميع افرادها بخلاف إيجادها في موارد وقوعها في سياق الإثبات ، فبهذه القرينة العقلية يستفاد العموم من وقوع النكرة في هذا السياق.

وفيما يلي تعلق على هذه الدعوى في نقاط :

النقطة الأولى : انّ هذه الاستغراقية المستفادة من وقوع النكرة في سياق النهي أو النفي ليست مرتبطة بالنكرة وانما ترتبط بسياق النهي والنفي ، فحتى لو كان الواقع فيه معرفة استفيد ذلك كما إذا قال لا تكرم النحوي فانه كقولنا لا تكرم نحويا. وقد تقدم

__________________

(١) بل هذا لازمه بقاء المدلول التصوري للجمع المحلّى الّذي هو المدلول الوضعي ـ بناءً على التحقيق ـ مراعى حتّى ينتهي المتكلم من كلامه ولا يأتي بالقيد وهذا واضح البطلان.


في مبحث الأوامر تفصيل هذه القرينة العقلية وما تقتضيه من الفرق بين وقوع الطبيعة في سياق الأمر ووقوعها في سياق النهي.

النقطة الثانية : انَّ هذه الاستغراقية المستفادة على أساس القرينة العقلية ليست استغراقية في مرحلة الحكم بل في مرحلة الامتثال ، إذ القرينة المذكورة لا تقتضي إثبات تعدد الحكم وانما تقتضي انَّ النهي أو النفي إذا تعلقا بالطبيعة على حد تعلق الأمر بها ، ففي مرحلة امتثال هذا الحكم الواحد لا يمكن امتثال النهي الّذي هو عبارة عن الزجر من أجل الانزجار إلاّ بترك جميع الافراد ، وهذا بخلاف الأمر بالطبيعة الّذي هو بعث من أجل الانبعاث نحو الطبيعة ، فانه يحصل بتحقيق فرد واحد منها.

فلا يمكن إثبات استغراقية الحكم وانحلاله إلى أحكام عديدة بعدد الافراد بمثل هذه القرينة العقلية ، بل لو فرض استفادة ذلك من النواهي فذلك بقرينة أخرى تقدم بيانها وتفصيل الكلام فيها في بحوث النواهي.

النقطة الثالثة : انَّ هذه الاستغراقية ليست عموما بل هو عبارة عن الشمولية المقابل للبدلية فانَّ الطبيعة في متعلق النهي أو الأمر قد تكون شمولية وقد تكون بدلية وهذا ليس عموماً لأنَّ العموم عبارة عن الدلالة على استيعاب افراد الطبيعة وضعا لا مجرد كون الطبيعة ملحوظة بنحو الشمولية كما هو الحال في موارد وقوع الطبيعة موضوعا أي متعلق المتعلق للأمر في مثل قولنا ( أكرم العالم ).

النقطة الرابعة : انَّ إفادة هذه الشمولية والاستغراق موقوفة على تمامية الإطلاق ومقدمات الحكمة ـ كما قاله المحقق الخراسانيّ ( قده ) (١) ـ لوضوح انَّ القرينة العقلية المذكورة غاية ما تقتضيه انَّ ما هو متعلق النهي أو النفي من الطبائع لا تنعدم إلاّ بانعدام تمام افرادها خارجا وامّا تحديد الطبيعة المتعلق بها النهي أو النفي هل انها الطبيعة المطلقة أو المقيدة فهذا خارج عن عهدتها وانما يتكفل بإثباته الإطلاق ومقدمات الحكمة كما هو واضح.

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ٣٣٤


النقطة الخامسة : قد ناقش الأصفهاني (١) والسيد الأستاذ في صحة ما يدعى في الكلام المشهور من انَّ وقوع الطبيعة في سياق النفي أو النهي يختلف عقلا عن وقوعها في سياق الأمر والإيجاد ، بدعوى انَّ الطبيعة نسبتها إلى الوجود والعدم على حد واحد بمعنى انَّ الطبيعي إذا كانت نسبته إلى الافراد الخارجية نسبة الآباء إلى أبناء ـ كما هو الصحيح ـ لا نسبة الأب الواحد إلى أبنائه ـ كما هو مدعى الرّجل الهمداني ـ فكما انَّ هناك وجودات عديدة للطبيعة بعدد الافراد كذلك هنا إعدام عديدة للطبيعة بعدد الافراد لا محالة ، وكما انَّ الأمر الواحد يتعلق بوجود واحد كذلك النهي الواحد لا يتعلق إلاّ بعدم واحد من تلك الاعدام وبهذا حاولوا إبطال القاعدة العقلية المشهورة وجعلها مبنية على مسلك الرّجل الهمداني.

إلاّ انه قد تقدم منّا في بحوث النواهي الدفاع عن مقالة المشهور وانَّ هذه المناقشة خلط بين المسألة الفلسفية في النزاع المعروف بين ابن سينا والرّجل الهمداني وبين ما هو الملحوظ في المسألة الأصولية في تحديد المفاهيم الواقعة متعلقات للأوامر والنواهي في عالم الذهن. وتفصيل الكلام موكول إلى محله.

وبهذا ينتهي البحث في هذا الفصل الّذي عقدناه للحديث عن العموم.

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ١ ، ص ٣٣٦



« الفصل الثاني ـ في التخصيص »

والبحث عنه يقع في عدة جهات :

( حجية العام في غير مورد التخصيص )

الجهة الأولى ـ في حجية العام في تمام الباقي بعد التخصيص فان هناك مشكلتين تطرحان في موارد التخصيص :

إحداهما ـ التساؤل عن وجه تقديم ظهور الخاصّ على ظهور العام مع انَّ كلاً منهما ظهور في نفسه مشمول لدليل حجية الظهور. وكما يمكن التصرف في العام بإرادة الخصوص منه كذلك يمكن العكس والتصرف في ظهور الخاصّ في كثير من الأحيان كما إذا قال ( لا يجب إكرام أي عالم وأكرم الفقيه ) حيث يمكن حمل الأمر في الخاصّ على الاستحباب مع انّه لا إشكال في التخصيص وتقديم ظهور الخاصّ على العموم.

الثانية ـ بعد الفراغ عن تقديم الخاصّ والالتزام بتخصيص العام يَتساءل عن وجه حجية العام في تمام الباقي مع انَّه بحسب الفرض لم يرد العموم الّذي هو الموضوع له في العام ، ونسبة تمام الباقي إلى المعنى الحقيقي للفظ كنسبة أي مرتبة أخرى من مراتب الباقي إليه فلما ذا يُلتزم بحجية العام بعد التخصيص في تمام الباقي؟

وكلتا المشكلتين موردهما ما إذا لم يكن التخصيص متصلا بنحو انصبَّ فيه العموم والاستيعاب على الخاصّ ابتداءً بأَنْ وُجد مخصَّصاً وذلك فيما إذا كان التخصيص وارداً كتقييد لمدخول الأداة مثل ( أكرم كل العلماء العدول ، أو أكرم كل عالم عادل )


إذ في مثل ذلك لا موضوع للمشكلة الأولى باعتبار انَّه لا يوجد من أول الأمر ظهوران ودلالتان عام وخاص ليقع التنافي بينهما ثمّ يفتش عن وجه تقديم أحدهما على الآخر.

كما انّه لا موضوع للمشكلة الثانية باعتبار كون الخاصّ هو تمام العام المستوعب بأداة العموم لأنها موضوعة كما تقدم لاستيعاب تمام ما ينطبق عليه مدخولها لا ما ينطبق عليه جزء المدخول ، اذن ففي أمثال هذه الحالات لا تخصيص من أول الأمر بل تخصص لورود التقييد في رتبة سابقة على العموم.

فالمشكلتان انَّما تبرزان على صعيد البحث فيما إذا كان قد انعقدت الدلالة على العموم ، بأَنْ استكمل العام مدخوله ورود الخاصّ مستقلا عنه سواءً كان متصلا بخطابه أم منفصلا عنه.

والبحث عن المشكلة الأولى موضوعه بحوث تعارض الأدلة حيث يفتش هناك عن نكتة يخرج على أساسها تقديم الخاصّ على العام امّا بالورود أو بالحكومة أو القرينية أو غير ذلك من المحاولات التي ذكرناها مفصلاً في بحوث التعادل والتراجيح.

وانّما المناسب هنا البحث عن المشكلة الثانية التي تبحث عن وجه حجية العام في تمام الباقي مع تساوي نسبته إلى مراتبه الأخرى.

وهذه المشكلة لها طرحتان لا بدَّ من التمييز بينهما لكي لا تختلط حيثيات البحث لكل طرحة عن حيثيات الأخرى.

ذلك انّه تارة : يطرح هذا البحث تحت عنوان التشكيك في كبرى حجية العام في الباقي بحيث لا بدَّ في رفع هذا الشك حقيقة من إبراز منبهات تثبت أنَّ مدرك الحجية المتمثل في سيرة العقلاء وبنائهم العملي موجود في المقام أيضاً.

وأخرى : يطرح البحث بعد التسليم بحجية العام المخصص في تمام الباقي عقلائيا وعملياً عن تخريج هذه الحجية وبيان نكتتها الفنية بعد وضوح أنَّ العقلاء ليست لهم قرارات تعبدية بحتة بل الحجية عندهم انّما تكون بملاك الكاشفية والطريقية المتمثلة بالدلالات والظهورات.

وفيما يلي نستعرض المحاولات التي ذُكرت أو يمكن أَنْ تذكر بشأن علاج هذه


المشكلة بكلتا طرحتيها مع الإشارة في كل منها إلى صلاحيته لعلاج أيّ من الطرحتين للإشكال فنقول :

المحاولة الأولى ـ ويقصد بها إثبات حجية العام المخصص في تمام الباقي بملاك أنَّ التخصيص يكون من باب التخصص دائما على حد موارد ورود التخصيص على مدخول الأداة التي قلنا فيما سبق انّه خارج عن موضوع المشكلتين ، وهذا ما يمكن تقريبه بوجوه ثلاثة :

الوجه الأول ـ دعوى انَّ أدوات العموم موضوعة للدلالة على استيعاب المدلول والظهور المتحصل ببركة إجراء مقدمات الحكمة في المدخول لا كل ما ينطبق عليه المدخول وضعا ، فإذا ضممنا إلى ذلك المبنى القائل بأنَّ من جملة مقدمات الحكمة عدم بيان القيد مطلقا ، أي سواءً كان القيد متصلاً أو منفصلاً ـ كما هو مبنى مدرسة المحقق النائيني ( قده ) في باب الإطلاق ـ نتج من ذلك انَّ أداة العموم في موارد التخصيص تدل ابتداءً على استيعاب تمام الباقي لأنَّ ورود المخصص سواءً كان متصلاً أو منفصلاً يكون مقيداً لما هو بمثابة مدخول الأداة الّذي هو في رتبة سابقة على العموم فيكون على حد موارد تقييد المدخول بالمتصل ولا إشكال في ورود العموم فيها على المقيد.

الوجه الثاني ـ دعوى أنَّ أدوات العموم موضوعة لاستيعاب ما هو المراد الجدي من المدخول واقعاً وتكون مقدمات الحكمة مجرد كاشفة ومحددة للمراد الجدي الواقعي لا قيداً في مدلول الأداة كما كان على الوجه السابق ، ويترتب على هذا الفرق عدم الحاجة في هذا الوجه لتخريج حجية العام في تمام الباقي إلى المبنى القائل بأنَّ من مقدمات الحكمة عدم البيان المنفصل ، إذ لا إشكال في أنَّ المخصص أو المقيد ولو كان منفصلاً يكشف ـ بعد فرض تقدمه على العام أو المطلق عن انَّ المراد الجدي مقيد وليس بمطلق ، والأداة موضوعة بحسب الفرض لاستيعاب ما هو المراد الجدي واقعاً فكل ما يحدد المراد الجدي يكون تحديداً وتضييقاً في مرحلة مدخول العام لا نفسه.

وكلا هذين الوجهين مبنيان على مسلك غير صحيح في باب العمومات هو كون العموم في طول جريان مقدمات الحكمة.


وقد تقدم الحديث عن إبطال هذا المسلك مُفصّلاً.

الوجه الثالث ـ دعوى أنَّ الأداة موضوعة لاستيعاب ما ينطبق عليه المدخول عدا ما يستثنيه المتكلم ـ ولو بدليل منفصل ـ فيكون هذا قيداً ثابتاً في مقام الوضع ، بأَنْ يكون الواضع قد استثنى عن دلالة أداة العموم على الاستيعاب ما يخرج عنه بالمخصص.

وهذا الوجه واضح الفساد إذ يرد عليه : مضافا إلى بداهة عدم وضع أدوات العموم لمثل هذا المعنى الغريب المصطنع ،(١) مناقشات عديدة أهمّها :

انَّه لو أُريد بما عدا ما يستثنيه المتكلم واقع ما يستثنيه ولو لم يصل لزم الإجمال في العمومات كلَّما احتمل وجود استثناء واقعي ، لأنَّه تمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية له ، ولا يمكن التمسك بأصالة عدم المخصص لأنّها بملاك حجية الظهور وقد انثلم بحسب الفرض ، وإِنْ أُريد ما يستثنيه بشرط وصوله إلي المكلفين فإِنْ اشترط وصوله إلى الجميع لزم عدم حجية المخصص حين وصوله إلى البعض فقط ، وإِنْ اشترط وصوله إلى بعض لزم الإجمال في موارد احتمال وجود مخصص وأصل إلى البعض ، وإِنْ اشترط وصول المخصص إلى كل مكلف شرطا في ارتفاع العموم في حقه ، فمن الواضح انَّه لا يوجد هناك مرادات متعددة بعدد المكلفين العالمين والجاهلين من الخطاب الواحد بل كل خطاب يتضمن مرادا واحدا امّا العام أو الخاصّ ، فاختلاف المكلفين في العلم والجهل بالخصوص لا يمكن أَنْ يكون مؤثراً في تحديد مراد المتكلم وانّما يعقل أَنْ يكون دخيلا في الحجية والكلام بعد في نكتة الحجية.

ثمَّ أنَّ هذه المحاولة بتقريباتها المختلفة لو تمت فهي تفي بعلاج المشكلة بكلتا طرحتيها المتقدمتين. لأنّها تثبت أنَّ تمام الظهور من أول الأمر ينعقد بمقدار الباقي بحيث يكون هو المعنى الحقيقي للفظ وكبرى حجية الظهور مما لا إشكال فيها ولا نزاع في هذا البحث ، فلا يبقى وجه للتشكيك في الحجية ، كما لا يبقى تساؤل عن نكتة الحجية وملاكها إذ يكون التخصيص على أساس من هذه المحاولة من التخصص دائما.

__________________

(١) ويلزم منه ربط المدلول الوضعي التصوري ـ بناءً على ما هو التحقيق ـ بقيد تصديقي بحيث يبقى المدلول التصوري مراعى وهو مستحيل بناءً على المبنى المختار في حقيقة الوضع.


المحاولة الثانية ـ ما يستخلص من كلمات صاحب الكفاية ( قده ) (١) وحاصله ببيان فني : ان الكلام يحتوي على ثلاث دلالات :

١ ـ الدلالة التصورية للفظ على المعنى المحفوظة حتى في موارد صدور اللفظ من غير ذي شعور وقصد.

٢ ـ الدلالة التصديقية في مرحلة المراد الاستعمالي ، وهو الظهور الكاشف عن ان المتكلم يقصد إخطار المعنى وافهامه للسامع ، وهذه دلالة تصديقية باعتبار انها تكشف عن ثبوت القصد والإرادة التي هي امر حقيقي تصديقي وليس تصورا بحتا.

٣ ـ الدلالة التصديقية في مرحلة المراد الجدي ، وهو الظهور الكاشف عن انَّ المتكلم جاد في كلامه وليس بهازل ، بمعنى ان ما قصد افهامه للمخاطب مراد له حقيقة ولهذا قد تنثلم هذه الدلالة مع بقاء الأولى كما في موارد الهزل ، فان المدلول الاستعمالي وقصد إخطار المعنى إلى الذهن محفوظ فيها لأنه لو لا قصد الإخطار لما تحقق الهزل أيضاً ولكن لا جدية من وراء قصد الإخطار.

وهذه الدلالات الثلاث تختلف في الملاك والنكتة ، فان الدلالة الأولى التصورية البحتة ملاكها الوضع والعلقة الحاصلة بين اللفظ ومعناه ، وملاك الدلالة الثانية التصديقية في مرحلة المدلول الاستعمالي الظهور الكاشف عن ان المتكلم يقصد باللفظ إخطار معناه التصوري إلى ذهن المخاطب ، ومقوم هذه الدلالة ومحددها هو ما يعبر عنه بأصالة الحقيقة أي ظهور حال المستعمل في انه يقصد إخطار المعنى الحقيقي من اللفظ ، وملاك الدلالة الثالثة على المراد الجدي أصالة التطابق بين مقام الإثبات والثبوت وان كلما يذكره المستعمل إثباتا مراد ثبوتا.

وفي موارد التخصيص يكون المنثلم من هذه الدلالات ذاتا ـ فيما إذا كان المخصص متصلا ـ أو حجية ـ فيما إذا كان منفصلاً ـ الدلالة الثالثة لا الثانية فضلا عن الأولى ، لما تقدم من ان المراد الاستعمالي يمكن انحفاظه حتى مع الهزل وعدم الجد فلا موجب لرفع اليد عن أصالة الحقيقة التي هي ملاك تلك الدلالة.

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ٣٣٥ ـ ٣٣٦


فإذا اتضح هذا أمكن علاج المشكلة بكلا طرحيها ، إذ لو أريد وجه فني لتخريج نكتة الحجية في تمام الباقي مع كونه مجازا كبعضه قلنا : بان أصالة الحقيقة لم تنثلم أصلا لكي يكون هناك مجازية وانما المنثلم الظهور في الجدية ، وهذا منحل بمقدار ما دل عليه الكلام إثباتا لأن هذا الظهور ليس ملاكه أصالة الحقيقة ليكون امراً حديا دائراً بين الوجود والعدم وغير قابل للتبعيض ، حيث ان اللفظ اما يستعمل في المعنى الحقيقي أو لا فالاستعمال في تمام الباقي كالاستعمال في جزئه مجاز ، بل الملاك على ما تقدم عبارة عن أصالة التطابق بين المقامين الّذي يرجع إلى ظهور حال المتكلم في ان كل ما ذكره إثباتا يريده جدا وثبوتا ، ومن الواضح ان ما ذكره إثباتا متعدد بمقتضى العموم والاستيعاب ، فينحل هذا الظهور موضوعا إلى ظهور بلحاظ مورد التخصيص وظهور بلحاظ غير مورد التخصيص والساقط من هذين الظهورين ذاتا أو حجية هو الأول فيبقى الثاني على حجيته.

ولو أريد رفع التشكيك في حجية العام في تمام الباقي أمكن ذلك بهذا البيان أيضا ، باعتبار ان كبرى حجية الظهور مما لا إشكال فيه ولا نزاع عند أحد. وبهذا البيان يتضح ان الظهور الكاشف عن المراد الاستعمالي والجدي بلحاظ تمام الباقي محفوظ لا محالة فيكون حجة فيه.

والتحقيق : ان هذا البيان لا يمكن ان يكون علاجا للمشكلة ـ بأي من الطرحين.

اما الطرحة الأولى ـ وهي ما إذا أريد رفع الشك والتشكيك من الخصم في أصل حجية العام في الباقي فيمكن توضيح عدم صلاحية هذه المحاولة لعلاجها في نقطتين :

النقطة الأولى ـ ان هذه المحاولة من دون ان يرجع في تصحيحها إلى السيرة العقلائية في العمومات بعد التخصيص لا يتم ومع الرجوع إليها لا فائدة لها.

اما انه بالرجوع إلى السيرة لا جدوى لها فلوضوح انه مع الرجوع إلى السيرة العقلائية يتبين حجية العام في الباقي ومعه يكون قد ثبت ما هو المطلوب في هذه الطرحة.

واما عدم تمامية هذه المحاولة من دون الرجوع إلى السيرة العقلائية وبدلا عنها ، فلان الكبرى المسلمة انما هي حجية الظهور وهذه المحاولة غاية ما تصنع إثبات وجود


ظهور فعلي في الباقي على مستوى مرحلة المدلول الجدي وهو لا ينثلم بورود التخصيص باعتبار انحلالية الظهور في هذه المرحلة ، الا ان هذا وحده لا يكفي وذلك :

أولا ـ لأنه يوجد في المقام ظهوران حاليان قد علم بعد التخصيص بانثلام أحدهما ، الظهور الحالي في جدية المدلول الاستعمالي العام ، والظهور الحالي في استعمال اللفظ في معناه الحقيقي المعبر عنه بأصالة الحقيقة ، وهذه المحاولة تحاول الحفاظ على الظهور الأخير وتوجيه المخالفة إلى الظهور الأول الّذي يكون انحلالياً بحسب طبعه وليس وحدانيا كالظهور الثاني ليمكنه التمسك بالباقي ، ولكن كما يمكن ذلك يمكن العكس بافتراض ان المتكلم قد خالف الظهور في استعمال العام في العموم بل

يكون قد استعمله في الباقي ولو مجازا وبذلك يحفظ الظهور الأول حيث يثبت التطابق بين عالم الإثبات والثبوت ولا يكون المتكلم قد استعمل الكلام في معنى لا يريده جدا.

فالحاصل : لا معين لافتراض ان المنثلم حجيته بعد ثبوت التخصيص أصالة الجد لا أصالة الحقيقة بعد توضيح ان مرجع أصالة الجد إلى ظهور حال المتكلم في قضية شرطية هي ان كلما يكون مراده استعمالاً يكون مراده جدّاً لا القضية التنجيزية المتوقفة على إثبات ما مراده الاستعمالي فعلاً لكي يكون متوقفاً على أصالة الحقيقة.

وهذا الاعتراض أحسن ما يمكن ان يذكر في دفعه انتصارا لصاحب المحاولة ـ وهو المحقق الخراسانيّ ـ ان ظهور التطابق بين الثبوت والإثبات ـ المراد الجدي والاستعمالي ـ يعلم بسقوطه في المقام على كل حال فلا يمكن التمسك به وإيقاع المعارضة بينه وبين أصالة الحقيقة وذلك : أما على القول بان هذا الظهور يثبت التطابق ابتداءً بين المدلول الأول للكلام ـ المدلول الوضعي التصوري ـ وبين المراد الجدي بحيث يكون في عرض أصالة الحقيقة المثبت للتطابق بين المدلول الوضعي والاستعمالي ، فالامر واضح ، حيث ان الظهور يعلم تفصيلا بسقوطه عن الحجية على كل حال بعد ورود المخصص.

وأما على القول بأن موضوع هذا الظهور ما يكون مرادا استعماليا من الكلام بحيث يكون في طول مدلول الظهور الاستعمالي كما هو الصحيح ـ على ما يأتي في بحث حجية الظهور ـ فلأنه وان كان على تقدير خروج مورد التخصيص عن المراد


الاستعمالي فلا عناية ولا مخالفة لظهور التطابق بين المرادين الاستعمالي والجدي الا انه يعلم بعدم جدية مورد التخصيص أي خروجه عن موضوع هذا الظهور اما تخصيصا أو تخصصا ولا يمكن التمسك بأصالة الظهور وعدم التخصيص لإثبات التخصص.

ولكن الصحيح مع ذلك عدم تمامية هذا التوجيه في المقام لوجوه :

١ ـ ان ملاك عدم التمسك بأصالة عدم التخصيص لإثبات التخصص ونكتته غير جار في المقام الا بالرجوع إلى السيرة العقلائية لتوسيع تلك النكتة بنحو يشمل المقام ، توضيح ذلك :

ان الوجه في عدم إثبات التخصص بأصالة عدم التخصيص مع انه لازم منطقي للظهور ـ بقانون عكس النقيض ـ اما أَنْ يكون عدم نظر الخطاب إلى عقد الموضوع ومصاديقه في الخارج ، لأنه ليس من شئون المولى بما هو مولى النّظر إليه بل تمام النّظر إلى الحكم بعد الفراغ عن ثبوت موضوعه فلا يمكن التمسك به لإثبات حال المصداق المشتبه واندراجه تحت الموضوع المعلوم عدم شمول الحكم له ـ وهذا هو مسلك المحقق العراقي ( قده ) على ما سوف يأتي الحديث عنه ـ وامَّا أن يكون باعتبار دعوى قصور دليل الحجية عن شمول مورد لا يترتب على التمسك بالظهور أثر عملي بلحاظ تحديد المراد من شخص ذلك الخطاب ، للعلم بسقوط اثره على كل حال ـ وهذا هو مسلك المحقق الخراسانيّ ( قده ) ـ ومن الواضح ان الاقتصار على حرفية النكتة في كلا هذين المسلكين لا يستلزم سريانها في المقام ، اما الأول فلوضوح ان التمسك بالظهور المذكور مؤثر في تحديد المراد الاستعمالي للمتكلم من شخص الخطاب العام ، وتحديد المراد من شئون المولى بيانه والتصدي لتحديده وليس حاله حال تشخيص المصاديق الخارجية ، واما الثاني فلأنه لو أريد كفاية تحديد مطلق المراد ولو الاستعمالي في حجية الظهور ففي المقام يحصل تحديد المراد الاستعمالي للمتكلم من الخطاب كما ذكرناه وهذا بخلاف موارد العلم بخروج فرد عن حكم العام يشك في خروجه الموضوعي ، فانه في تلك الموارد يعلم بالمراد الجدي والاستعمالي معا إذ يعلم بعدم شمول الحكم لهذا الفرد كما يعلم بإرادة العموم من العام استعمالا لأن التخصيص لا يستلزم المجازية فان هذه المسألة تؤخذ


هناك أصلا موضوعا لذلك البحث حيث يفرغ فيها عن كبرى حجية العام في الباقي ويبحث عن نكتة لعدم حجية العموم في إثبات التخصص بعكس النقيض ، وذاك الأصل الموضوعي لا يمكن افتراضه هنا لأنَّ البحث فيها بحسب الفرض ، فافتراضها كمصادرة يعني الرجوع إلى السيرة العقلائية في إثبات حجية العام في تمام الباقي ابتداءً.

ولو أريد لزوم تأثير التمسك بالظهور في إثبات أو تحديد المراد الجدي من الخطاب ولا يكفي مجرد تحديد المراد الاستعمالي من دون ترتب المراد الجدي عليه في حجيته ، فمثل هذه النكتة منطبقة في المقام لأن المفروض العلم بعدم جدية مقدار التخصيص ، الا ان إثبات هذه النكتة الموسعة فرع الرجوع إلى العقلاء في مورد افتراقها عن النكتتين المتقدمتين ، وليس هناك مورد للافتراق الا مسألتنا هذه فلا بدّ وان نرجع بحسب النتيجة إلى السيرة العقلائية في تحديد حجية العام في تمام الباقي بحيث من دونه لا يمكن إثبات الحجية (١).

٢ ـ ان هذا كله مبني على القول بعدم جواز التمسك بأصالة عدم التخصيص لإثبات التخصيص في العمومات والصحيح عندنا هو التفصيل بين العمومات والمطلقات فيصح التمسك بالعامّ لإثبات التخصص ولا يصح التمسك بالمطلق لنفي التقييد وإثبات التقييد على تفصيل سوف يأتي في محله إن شاء الله ...

٣ ـ لو سلم عدم جريان أصالة عدم التخصيص لإثبات التخصص فذاك انما يجدي فيما إذا كان الكلام في حجية العام المخصص بالمنفصل ، حيث يكون كل من الظهورين الكاشفين عن المراد الاستعمالي والجدي محفوظا ذاتا ويراد إيقاع التعارض بينهما حجية فيقال مثلا ان أحدهما ساقط اما تخصيصا أو تخصصا فلا يمكن التمسك به ، واما فيما إذا فرض المخصص متصلا بخطاب العام وان كان مستقلا عنه وليس جزء من

__________________

(١) قد يقال : ان النكتة في ذلك وجه رابع هو ان كل ظهور حجة عقلائيا في تحديد عالم الثبوت على ضوء عالم الإثبات أي ان مرحلة الثبوت الأصل فيه ان تكون مطابقة مع مرحلة الإثبات لا العكس ، وبما ان المراد الجدي يكون بمثابة مرحلة ثبوت للمراد الاستعمالي فلا يمكن تحديد الأخير على ضوء الأول وهذه نكتة عقلائية يمكن الجزم بها بقطع النّظر عن مسألة حجية العام في الباقي وان كانت هي صالحة أيضا لإثباتها ...


مدخوله ، فلا محالة يحصل الإجمال في الظهورين ذاتا لكون المخصص المتصل رافعا لأصل الظهور ، فيقع التعارض بين ذاتي الظهورين الحاليين الكاشفين عن المرادين الاستعمالي والجدي ، لأنَّ لازم أصالة الجد الراجعة إلى قضية شرطية مفادها ان كلما ليس بمراد جدا لا يكون مرادا استعمالا ينافي أصالة الحقيقة والعموم ما لم يدع أقوائية الظهور الاستعمالي (١).

وثانياً ـ ان التمسك بأصالة الحقيقة في المقام فرع مراجعة السيرة العقلائية ليرى هل تقتضي حجية الظهور وإرادة المعنى الحقيقي في مورد لا يترتب عليها كون المعنى الحقيقي مرادا جدا وانما يترتب عليها إرادة جزء من مدلوله أم لا؟ فان هذه خصوصية في المقام تجعل هذا الظهور مشابها إلى حد كبير بموارد الدوران بين التخصيص والتخصص ون اختلف عنها في ترتب المراد الجدي بلحاظ جزء من مدلول منطوق الخطاب نفسه ، وهي خصوصية لا نواجهها الا في مسألة حجية العام في تمام الباقي بعد

__________________

(١) هذا الاعتراض بتفاصيله إلى هنا كما أشير إليه مبني على ان يكون مفاد أصالة الجد التي هي من الظهورات السياقية التصديقية قضية شرطية ، واما إذا كان مفادها قضية تنجيزية راجعة إلى دلالة نفس قصد المتكلم لشيء استعمالا على تعلق إرادته الجدية به بحيث يكون الدال والكاشف نفس تعلق القصد الاستعمالي الّذي هو من دلالة الفعل نظير دلالة الأفعال الصادرة من الإنسان بل الحيوان أيضا على قصده امرا معينا وتكون الدلالة فيها طبعية أو عقلية ، فحينئذ لا يتم هذا الاعتراض من الأساس ، لأن التعارض بين أصالة الحقيقة وأصالة الجد انما يعقل حينئذ لو فرض ان موضوع كل منهما كان محرزا حقيقة ، كما إذا كانا في كلامين ، وليس الأمر كذلك في المقام بل أصالة الحقيقة هي التي تحرز لنا موضوع أصالة الجد أي هي التي تثبت الكاشف عن الجدية فيستحيل ان تكون الأخيرة معارضة معها إذ يلزم من وجودها عدمها ، وان شئت قلت : ان أصالة الحقيقة في المقام بمثابة الأصل الموضوعي المرتب لآثار أصالة الجد فيترتب منها المقدار الّذي لا جزم بعدم ترتبه وهو جدية الباقي ، وليس في المقام أصلان لكي يقع تناف بينهما ذاتا فيما إذا كان المخصص متصلا وحجيةً فيما إذا كان منفصلا.

ونحن إذا خرجنا الظهورات التصديقية على أساس تعهدات عقلائية عامة أو غلبة نوعية أمكن ان تكون القضية المستحصلة منهما قضية شرطية تكون هي الحجة ، باعتبار تعلق التعهد بها وأصالة وفاء العقلاء بتعهداتهم ، أو باعتبار الغلبة والظن الحاصل منهما. وانْ فسرناها على أساس ظهور الفعل ودلالته الطبيعة أو العقلية على القصد والإرادة كان مفادها قضية تنجيزية لا محالة ويكون وجود الفعل الكاشف شرطا في تحقق الدلالة وتكونها. وما يمكن ان يذكر في تقريب هذا التفسير إلى الذهن ان فرضية التعهد يبعدها عدم انعكاس أي أثر أو نقل أو اختلاف في حدود هذا التعهد أو صياغته العقلائية مع انه يقع مثل ذلك كثيرا في التعهدات والالتزامات العقلائية ، كما هو كذلك في باب المعاملات ونكاتها المختلف بشأنها ، والغلبة النوعية وان كانت ثابتة الا انها في طول وجود نكتة أسبق للحجية إذ لا يعقل ان تكون هذه الغلبة ناشئة جزافا وصدفة عند العقلاء بل هي بملاك الكاشفية التصديقية الطبعية أو العقلية الموجودة للافعال والحركات التي يستكشف من خلالها غايات الفاعل ومقاصده ، وبهذا يمكن ان ينتصر لصاحب هذه المحاولة.


التخصيص وليست تظهر في مورد آخر لكي يمكن ان يعرف بناء العقلاء بمراجعة ذلك المورد ونستغني بذلك عن مراجعة السيرة العقلائية في المقام ، والحاصل : ان هذا الظهور ليس على حد الظهورات الأخرى المسلم حجيتها كبرويا لنستغني بالمحاولة المذكورة عن مراجعة السيرة العقلائية بل يحتوي على خصوصية لا يمكن اكتشاف موقف العقلاء منها الا بمراجعة بنائهم في شخص هذه المسألة.

النقطة الثانية ـ ان هذه المحاولة لا يمكن ان تكون دليلا على حجية العام في تمام الباقي الا في العمومات الاستغراقية واما العمومات المجموعية فلا تجري فيها الفذلكة المذكورة ، لأن الحكم فيها حكم واحد قد رتب على موضوع واحد هو المركب من المجموع ، وهذا يعنى ان الظهور الثاني أعني أصالة الجد أيضا يكون على حد الظهور الأول ـ أصالة الحقيقة ـ ظهورا واحدا يدور امره بين الوجود والعدم ، فإذا علم بعدم إرادته فلا يوجد ما يثبت إرادة مجموع الباقي إذ لم يكن مجموع الباقي موضوعا لحكم مستقل من أول الأمر لكي يبقى العام على الحجية فيه.

وان شئت قلت : ان انحلالية الظهور الثاني فرع انحلالية الخطاب نفسه بأن يكون متكفلا لإثبات أحكام عديدة بعدد افراد العام ، واما إذا كان متكفلا لإثبات حكم واحد على موضوع واحد فلا يكون بلحاظ المراد الجدي الا ظهور واحد أيضا وهو الّذي قد علم بورود المخصص عدم حجيته ، وحينئذ ان أريد إثبات حكم استقلالي على مجموع الباقي فهذا موضوع آخر مباين مع موضوع العام ولم يكن الكلام دالا عليه من أول الأمر ، وان أريد إثبات الحكم الضمني الّذي كان ثابتا على الباقي فهو معلوم الانتفاء بعد ورود التخصيص فيكون خلفا. هذا كله لو أريد علاج الطرحة الأولى بهذه المحاولة.

واما لو أريد علاج الطرحة الثانية بها ، أي بعد الفراغ عن حجية العام في الباقي عند العقلاء وصحة المؤاخذة لدى الموالي العقلائية بعدم امتثال الباقي ، يراد إعطاء تفسير فني لهذه الحجية العقلائية حيث انها لا بد وان تكون على حد سائر الأمارات العقلائية على أساس الكشف والظهور لا تعبدات بحتة ، فيدعى : بأن ملاك حجية العام في الباقي هو بقاء المدلول الاستعمالي على حاله سواءً كان التخصيص متصلا أو


منفصلا ، فلا مجازية في البين وانما الّذي ينتفي ذاتا أو حجية مقدار من الظهور التصديقي الجدي الّذي هو ظهور انحلالي ، وبهذه الطرحة لا نواجه شيئا من المفارقات السابقة ، لأن دعوى المعارضة بين الظهورين يقال في جوابها أن العقلاء مثلا لا يرون حجية الظهور في موارد الدوران بين التخصيص والتخصص ، وأصالة الحقيقة يرون كاشفيتها وجريانها كلما ترتب عليها بلحاظ منطوق الكلام إثبات مراد جدي ولو جزئي ، نعم بالنسبة للعام المجموعي لا بد وان نضيف دعوى ان العرف يتعامل معه معاملة الاستغراقي ولو باعتبار التسامح العرفي في تبعيض دلالتها الجدية.

ولكن يبقى على عهدة هذه الطرحة إثبات عدم وجود تفسير اخر لنكتة حجية العام في الباقي صالح للاعتماد عليه ـ كالتفسير الّذي يأتي في جواب الشيخ ( قده ) وقد ذكره المحقق الخراسانيّ وحاول تفنيده على ما سوف يأتي الحديث عنه ـ والا فلا معين لهذا التخريج فلا بدّ من المقارنة بين هذه المحاولة واية محاولة أخرى تذكر ليرى أيها أوفق بالمرتكزات العقلائية في باب الظهورات.

ثم ان لنا كلاما على هذه المحاولة سواءً لوحظت علاجا للمشكلة بطرحتها الأولى أو الثانية حاصلها :

ان هذه المحاولة تفترض أصلا موضوعيا في علاج المشكلة هو ان الظهور التصديقي الجدي على خلاف الظهور الاستعمالي منحل إلى ظهورات عديدة ـ اما حقيقة أو مسامحة ـ والتخصيص وارد عليها ، ولذلك أمكن ان يكون العام حجة في تمام الباقي من دون ان يستلزم المجازية بحسب المدلول الاستعمالي.

وهذا الأصل الموضوعي يمكن ان يناقش فيه نقضا وحلا.

اما النقض فبموارد العدد وأشباهه إذا قال ( أكرم هؤلاء الأربعة ) التي من جملتهم زيد ، ثم ورد بعد ذلك ما يدل على عدم وجوب إكرام زيد منهم ، فانه في مثل ذلك لا إشكال في التنافي وجدانا بين الدليلين واستحكام التعارض بينهما ، مع ان النكتة المذكورة في المحاولة جارية فيه أيضا ، فلو كان المخصص لا يتصرف الا في الظهور الثاني الجدي للكلام فهو هنا متعدد أيضا حقيقة إذا كان الحكم انحلاليا ومسامحة إذا كان مجموعيا ، فلما ذا لا يلتزم فيه ببقاء المدلول الاستعمالي على حاله وسقوط أحد


الظهورات الجدية عن الحجية؟ والحاصل : معاملة العرف مع مثل هذين الدليلين معاملة المتعارضين دليل على عدم تمامية ما أفيد من انحلالية الظهور الثاني أعني أصالة الجد بل هو وحداني كالظهور الأول ، أي ان ما هو المدلول الاستعمالي للكلام هو المراد الجدي منه وبما انه لا يمكن في المقام جعل الدليل الثاني قرينة على استعمال الأربعة في ثلاثة ولذلك لا يمكن الجمع المذكور.

وقديما عند ما كنا نورد بهذا النقض على من كان يوافق صاحب الكفاية ( قده ) في محاولته هذه كان يلتزم بالتخصيص في العدد أيضا كالمثال المذكور ، فكنا نصعِّد النقض إلى مثل أكرمهما واحدهما زيد ثم يقول في دليل ثان لا تكرم زيدا ، فان إرادة وجوب إكرام أحدهما من أكرمهما أوضح فسادا ، وعلى كل حال فالنقض المذكور يتجه بعد الفراغ عن وجدانية التعارض عرفا في هذه الأمثلة.

واما الحلّ ، فبان أصالة الجد انما تجري بلحاظ ما هو كلام المتكلم كالصدق والكذب ، لأن الجد والهزل من شئون ما هو فعل المكلف وما هو فعله انما هو نفس الكلام لا المعنى والمحكي بالعرض ولذلك لا يتعدد الهزل ، ولا الكذب ولا يزدادان بعدم جدية العام وعدم إرادته في تمام مدلوله أو بعضه. فالحاصل : لا بد من التمييز بين ما يكون من شئون معنى الكلام ومحكيه كالغيبة مثلا التي هي بلحاظ المحكي فكلما كان الكلام يكشف عن غيبة افراد أكثر كانت الغيبة أكثر لأن الكشف أكثر ، وبين ما يكون من شئون الكلام نفسه كالجد والهزل والصدق والكذب فانهما لا يتعددان ولا يزدادان الا حيثما يتعدد فعل المكلف وهو كلامه لا حيثما يزداد ويتعدد مدلول كلامه الواحد.

هذا ولكن الإنصاف مع ذلك صحة ما ذهب إليه المحقق الخراسانيّ ( قده ) من انحلالية الظهور في الجد.

والدليل على ذلك : وضوح زيادة المئونة والمخالفة في موارد دوران الأمر بين تخصيص الأقل أو الأكثر كما إذا دار الأمر بين إخراج زيد فقط من خطاب أكرم كل عالم أو إخراجه ضمن نصف العلماء مثلا ، فان الوجدان والعرف قاضيان بزيادة العناية والمئونة في الثاني بالنسبة إلي الأول ولذلك يقتصر فيه على المتيقن وهو خروج


زيد ويتمسك في الباقي بظهور العام ، وهذا الوجدان أعني الشعور بالدوران بين العناية الأخف والعناية الأشد لا يمكن ان يفسر الا على أساس انحلالية الظهور الجدي والا فبلحاظ الظهور الاستعمالي لا فرق بينهما من حيث المجازية واستعمال العام في غير ما وضع له وهو العموم.

واما حل الإشكال الحلي المتقدم فيمكن أن يقال بهذا الصدد : ان الجد وان كان من شئون ما هو فعل الإنسان وهو نفس الكلام لا معناه الا ان فعل الإنسان يراد به الأعم من الفعل الوجوديّ والعدمي إذ كما يمكن ان يصدر الفعل الوجوديّ عن جد تارة وهزل أخرى كذلك الحال في الفعل العدمي كالسكوت ، وفي المقام وان كان العام دالا بنفسه على العموم الا ان ذلك بحسب الحقيقة ببركة سكوت المتكلم وعدم تقييد مدخول العام ، وهذا يعني ان الموجود بحسب الحقيقة افعال متعددة للمتكلم أحدها أصل النطق بالعامّ ـ وهذا فعل وجودي والباقي السكوت عن التخصيص المتصل ، وهذا منحل بعدد الافراد المسكوت عنها القابلة للتخصيص ، وما ينكشف بعد مجيء المخصص انما هو عدم جديّة السكوت عنه وهو لا ينافي جدية سكوته عن الافراد الأخرى.

لا يقال : بل المستكشف بالمخصص أكثر من ذلك ، إذ لا بد من افتراض عدم الجدية في ذكر العام لأنه يدل بالوضع على شمول الافراد وليس كالمطلق ـ بناء على غير مسلك الميرزا ( قده ) ـ وبعد سقوط الكلام عن الجدية لا يوجد عام آخر بمقدار تمام الباقي ليؤخذ بجديته كما هو مطلوب القائل بحجية العام في الباقي.

فانه يقال : يكفي في إشباع جدّية أصل الكلام ـ الفعل الوجوديّ ـ ثبوت شيء من مدلوله جداً ، فالمقدار الّذي يستكشف بالمخصص عدم جديته السكوت عن المخصص وهو الفعل السلبي فقط وهو منحل بحسب الفرض إلى أفعال سلبية عديدة.

هذا ولكن هذا البيان غير تام ، إذ لا إشكال في إمكان اتصاف الكلام الواحد أعني الفعل الوجوديّ بالجد والهزل من ناحيتين ، كما إذا فرضنا ان العام كان صريحا في العموم بحيث لم يكن يقبل التخصيص فيكون مستفادا من نفس الكلام لا من


السكوت مع فرض كون عمومه غير مراد جدا.

والصحيح ان يقال : بان الجد والهزل ليسا من شئون ذات المعنى بما هو ولا من شئون ذات الكلام بقطع النّظر عن معناه أي بما هو فعل ملحوظ كموضوع ، بل من شئون الكلام بما له من الكشف والدلالة ، وهذه حيثية تتعدد وتتكثر بتعدد المدلول وتكثره ، فالكلام الواحد العام من قبيل ( أكرم كل عالم ) من حيث انه يكشف عن ثبوت الحكم في العالم العادل يكون جديا ، ومن حيث انه يكشف عن ثبوته في العالم الفاسق يكون هزلا. وان شئت قلت : ان الفعل الّذي يضاف إليه الجد والهزل ليس هو الكلام بما هو تلفظ بل بما هو سبب للكشف عن ثبوت مدلوله ، فإذا كان له مداليل متعددة بمقتضى انحلالية العموم فلا محالة هناك تسببات عديدة من قبل المتكلم ، وظاهر حاله ان كل واحد منها انما صدر منه على وجه الجد وثبوت ذلك المدلول واقعا بحسب نظره سواءً كان مدلولا إنشائيا أو إخباريا.

وهذا الكلام وان لم يكن برهانا على الانحلالية ولكنه يكفي لإبطال الإشكال الحلي المتقدم وتخريج ما نحس به وجدانا من انحلالية الظهور في الجدية ، ومنبه هذا الوجدان ما نستشعره من مزيد العناية والمخالفة للظهور فيما إذا لم يكن المتكلم جادا في شيء من مدلول كلامه ، فانه لا إشكال في انه أكثر مخالفة للجدية عما إذا كان جادا في جزء من مدلول كلامه.

واما النقض بالأعداد وشبهها فيمكن ان يدعى في وجه التفرقة بينها وبين العمومات ان الظهور في الجدية يبتلي بالإجمال في أمثال هذه الموارد باعتبار شيء يشبه إلى حد ما مسألة وحدة السياق ، فان كون تمام العدد أو كلا الفردين في المثنى ملحوظا بذاته وبنحو صريح في سياق واحد يؤدي إلي سريان الهزل الثابت في بعضها إلى الباقي بحيث لا يبقى أصالة الجد على حجيتها في نظر العقلاء لازدياد درجة احتمال الهزل بذلك كما هو واضح.

وهذا انما يصح في موارد يكون الكلام فيها كالصريح في العموم وشمول هذا الفرد لا مجرد ظهور في العموم بحيث يحتمل فيه أن يكون عدم استثناء ذلك الفرد المخصص من جهة الغفلة عنه ، وإلاّ تبقى أصالة الجد على حجيتها ولا تضر معه وحدة السياق بالمعنى المتقدم ، إذ


لا تتضاعف درجة احتمال الهزل وعدم الجدية في باقي المدلول بالنحو الثابت في مورد نظر الكلام إلى ذلك الفرد صراحة ، لوجود احتمال ان يكون عدم استثنائه من جهة الغفلة ونحوها ، والحاصل : احتمال الهزل وعدم الجديّة في موارد نظر الكلام وصراحته في شمول الفردين كما في المثنى أو الافراد كما في الأربعة أقوى وآكد منه في موارد العمومات ، ومعه يمكن ان يجعل ذلك هو الفارق بينها وبين مورد النقض ، حيث يحصل هناك إجمال في جدية أصل دليل العدد على تقدير عدم جديته في أحد الفردين أو الأفراد الأربعة بخلاف دليل العام.

المحاولة الثالثة ـ ما نسب إلى الشيخ الأعظم ( قده ) من ان الخاصّ يكون قرينة على عدم استعمال العام في العموم حيث يوجب سقوط الظهور الكاشف عن إرادة العموم في مرحلة المدلول الاستعمالي اما ذاتا أو حجية ، واما حجية العام في تمام الباقي فباعتبار انها كانت مدلولا ومراداً ضمنا ولا موجب لرفع اليد عن حجية هذه الدلالة فان المخصص انما يقتضي عدم شمول الحكم لمورد التخصيص لا أكثر.

وهذه المحاولة إذا تمت أمكن على ضوئها تفسير النقض الّذي وجهناه إلى المحاولة السابقة بسهولة ، حيث يكون الجواب : ان الموارد المذكورة في النقض انما يتعامل فيها مع الدليلين معاملة المتعارضين لعدم صحة افتراض ان يكون المراد الاستعمالي فيها خلاف ما هو مدلول اللفظ ، فان استعمال الأربعة في الثلاثة مثلا أو ضمير المثنى في الواحد غلط لا انه مجاز الا بعنايات شديدة وفي موارد خاصة ، وهذا بخلاف استعمال العام في الخاصّ.

وقد نوقش في هذه المحاولة من قبل صاحب الكفاية ( قده ) ومن تأخر عنه : بأن هذا الظهور ظهور وحداني يقضي بأن المتكلم قد استعمل اللفظ في معناه الحقيقي وهو العموم في المقام فإذا سقط هذا العموم بمقتضى ثبوت التخصيص وعلم بأنه لم يستعمل اللفظ في معناه الحقيقي فأي مرتبة من مراتب الباقي يكون معنى مجازيا لم يكن يقتضي اللفظ الدلالة على شيء منها ليكون باقيا على حجيته فيها ، واما الدلالة التضمنية فقد كانت دلالة ضمنية ثابتة على تقدير استعمال العام في العموم وهو قد ثبت عدمه


بحسب الفرض (١).

والتحقيق في المقام ان يقال اننا تارة : نبني على مسلك التعهد في حقيقة الوضع الّذي يقتضي كون الدلالة على المراد الاستعمالي دلالة وضعية بملاك التزام العقلاء وتعهدهم بعدم استعمال اللفظ الا حيث يقصدون افهام معناه المعين.

وأخرى : نبني على المسلك المشهور والمختار من ان الدلالة الوضعيّة دلالة تصورية بحتة ، واما الدلالة التصديقية سواءً كانت في مرحلة المدلول الاستعمالي أو الجدي فهي بملاك ظهور حالي سياقي.

فعلى الأول يتم ما وجهه المحقق الخراسانيّ ( قده ) من وحدة الظهور الكاشف عن المراد الاستعمالي وعدم انحلاليته ، لوضوح انه ليس هناك الا تعهد واحد بإرادة المعنى الموضوع له حين الاستعمال والا كان اللفظ مشتركا بين المعنيين العموم والخصوص وهو خلف.

واما على الثاني ، فالصحيح انحلالية الظهور الحالي المذكور لأن نكتته ان المتكلم عند ما يستعمل اللفظ فلا بد وان يكون له قصد افهام معنى معين وإخطاره في ذهن السامع ، وهذا المعنى الّذي يتقصده باللفظ ان كان غير المعنى الحقيقي الّذي قد حصلت علقة تصورية بينه وبين اللفظ ببركة الوضع فهو امر لا يليق بحال المتكلم العاقل لأنه لا يحقق غرضه ، إذ ذلك المعنى غير الحقيقي ليس مما يخطر في الذهن من اللفظ المجرد قانونا وعادة وان كان قد يخطر صدفة واتفاقا ، اذن فمقتضى القاعدة واللياقة بحال المتكلم العاقل ان يقصد إخطار المعنى الموضوع له اللفظ بالاستعمال وهذا هو معنى أصالة الحقيقة ، الا ان هذه الأصالة لها جنبتان ، وان شئت فقل : تحتوي على ظهورين أحدهما ـ الظهور في انه يقصد باللفظ إخطار ما هو مدلوله التصوري الوضعي لا المعنى الأجنبي عن مدلوله ، وهذا الظهور بهذا المقدار لا يكفي الا لنفي احتمال إرادة المعنى الأجنبي عن اللفظ تماما ، واما احتمال إرادة جزء مما هو مدلول اللفظ كالحصة من العام فلا يمكن نفيه به ، إذ لو كان قصده إخطار جزء من المعنى لا بشرط من حيث

__________________

(١) نفس المصدر ، ص ٣٣٨


الزيادة أي ذات الجزء لا الجزء بما هو منفصل عن الكل الّذي هو مباين مع الكل وجاء باللفظ لم يكن مخالفا لغرضه ومرتكبا لما لا يليق به إذ قد حقق ما يريد بذلك.

ثانيهما ـ الظهور في ان ما أخطره باللفظ ليس بأزيد مما يريده ويقصد إخطاره ، وبهذا الظهور ينفى احتمال إرادة جزء المعنى ، فان المتكلم كما لا يليق به ان يخطر غير ما يريده كذلك لا يخطر أكثر مما هو مراده ومتعلق غرضه ولو بنكتة الغلبة ، وفي موارد المجازات إذا كان المجاز بعلاقة المشابهة ونحوه يكون المنثلم بحسب الحقيقة الظهور الأول من هذين وإذا كان المجاز بعلاقة الكل والجزء أي استعمال اسم الكل في الجزء يكون المنثلم الظهور الثاني منهما إذا استعمل في ذات الجزء لا الجزء المستقل بحده.

وهذا الظهور الثاني الّذي يرجع إلى ظهور التطابق بين المدلول التصوري والاستعمالي يمكن ان يدعى انحلاليته على حد انحلالية ظهور التطابق بين المراد الاستعمالي والمراد الجدي في المحاولة السابقة ، بحيث يكون بمقدار كل جزء من المدلول التصوري يوجد ما يوازيه في المدلول الاستعمالي بمقتضى أصالة عدم زيادة المدلول التصوري على التصديقي الاستعمالي فيكون كل زيادة مخالفة مستقلة على حد ما كان يقال بلحاظ الظهور الجدي في المحاولة السابقة.

اذن فالمسألة ليست كما أفيد في كلمات صاحب الكفاية ( قده ) ومن تأخر عنه من ان أصالة الحقيقة ظهور واحد فلا معنى للتبعيض فيه (١).

__________________

(١) قد يقال :

أولا ـ ان وجدانية عدم الانحلالية في المقام سواءً بلحاظ الظهور الإيجابي أو السلبي واضح ، لأن القصد الاستعمالي متعلق بإخطار التصور وواضح ان اللفظ الواحد ليس له الا معنى واحد وصورة ذهنية واحدة مهما تكثرت وتعددت محكياتها الخارجية فيكون قصدها وحدانياً أيضاً ولا يقاس بأصالة الجد التي تجري بلحاظ الانكشافات المتعددة وان شئت قلت :

الكشف عن أصل قصد الإخطار وان كان تصديقياً وبظهور حالي الا أن المعنى المراد : إخطاره باللفظ مسبب تكويني فيكون قصد إخطاره باللفظ لا مباشرة كما في الإرادة الجدّية المتعلقة بالمعنى ابتداءً ، وعلى هذا فإما ان يتصور المتكلم في مرحلة الاستعمال نفس المعنى الّذي وضع له اللفظ بقصد إخطاره به أو يتصور معنى آخر سواءً كان معنىً مبايناً أو جزءً من المعنى الأول فالأوّل هو الحقيقة والثاني هو المجاز وتكون النسبة بين القصدين الاستعماليين التباين حينئذٍ وان كانت النسبة بين المتصورين الأقل والأكثر.

وثانياً ـ لو كان المخصص كاشفاً عن استعمال المتكلّم للعام في الخاصّ بحده فهذه مخالفة للظهور الأول الّذي هو غير انحلالي بحسب الفرض فيكون من الاستعمال في معنى غير موضوع له وهو متعدد وإِنْ كاشفا عن استعماله في ذات الخاصّ فسوف يكون نظير استعمال أسماء الأجناس في ذات الطبيعة ولكن من الواضح حينئذ انَّه لا يكون في موارد التخصيص من استعمال العام في


والصحيح انَّ هذه المحاولة إِنْ أُريد بها علاج المشكلة بطرحتها الأولى وهي إثبات أصل حجية العام في الباقي لمن يشكك فيها وبهذا يكون بحثا عمليا منتجا فقهيا ، فيرد عليه : انَّ طريقة إثبات ذلك منحصر في الرجوع إلى السيرة العقلائية كما أشرنا إلى ذلك لدى التعليق على المحاولة السابقة ، إذ ليس البحث عن إثبات وجود ظهور عرفي بنكتة من النكات العامة كما هو الحال في سائر البحوث اللفظية بقدر ما يكون البحث عن تحقيق انَّ ظهور العام انحلالي في نظر العقلاء أو غير انحلالي بنحو لا يمكن تشخيص نكتة ذلك الا بالرجوع إليهم في شخص هذه المسألة.

__________________

الخاصّ أو اسم الكل في الجزء الّذي هو أحد المجازات لكي يرتب على ذلك ما سوف يأتي من حمل بعض الظواهر وتخريجها كمسألة تخصيص الأكثر أو استعمال الأربعة في الثلاثة.

وثالثا لو سلمنا المجازية فنتساءل هل انها في مدلول الأداة وانَّ كلمة ( كلّ ) غير مستعملة في الاستيعاب أو انها في مدخولها وهو اسم الجنس؟ امّا الأول فيلزم منه ان تكون كلمة كل غير مستعملة في مفهوم الاستيعاب والتمامية لأن المفروض ان اقتناص العموم يكون من باب تعدد الدال والمدلول وإضافة مفهوم الاستيعاب المفاد بأدوات العموم إلى مدلول مدخولها فيلزم المجازية بالنحو الأول بالنسبة لأداة العموم ، بل يلزم عدم إمكان استفادة العموم بلحاظ الباقي بعد ان انسلخ الدال على مفهوم الاستيعاب عن مدلوله. واما الثاني فواضح البطلان ، لأن المدخول وهو اسم الجنس مستعمل في معناه على كل حال سواءً أريد المطلق أو المقيد.

والّذي أفهمه بوجداني انَّ التخصيص لا يستلزم المجازية كما يقول المحقق الخراسانيّ ( قده ) ولكن لا بمعنى انه لا يتصرف إلاّ في الظهور التصديقي الثاني أي أصالة الجد بل بمعنى اخر وهو انَّ المتكلم كأنه بالتخصيص يستدرك ويقتطع من كلامه السابق شيئا والاستدراك فرع أَنْ يكون المستعمل فيه المقتطع منه هو العموم ومن هنا كان العام باقيا على دلالته بالنسبة إلى الباقي في الوقت الّذي يكون الاستدراك ملحوظا في مرحلة المدلول الاستعمالي من مجموع الكلامين أيضا وبهذا العلّة يمكن تفسير جميع المفارقات المذكورة والقادمة ، إذ التخصيص حتى المنفصل منه ليس إلاّ استدراكا مع بقاء المدلول الاستعمالي للعام على حاله غاية الأمر انَّ هذا الفصل في مقام الاستدراك خلاف الظهور والطبع الأولى فيكون قد خالف المخصص بحسب الحقيقة هذا الظهور ، أي انه قصد الإفهام بمجموع كلامه المتصل والمنفصل دون أَنْ يستلزم ذلك المجازية في العام فيكون المقصود افهامه النهائيّ من مجموع كلاميه هو الخاصّ من دون الوقوع في محذور المجازية فلا يحتاج مع ذلك إلى تجشم دعوى الانحلال بلحاظ الظهورات التصديقية.

ثم انه كان ينبغي أَنْ يذكر أيضاً ما ذكر في بحوث التعارض من إمكان افتراض المخصص قرينة على الجانبين السلبي والإيجابي فكما انه ينفي حكم العام عن مورد التخصيص كذلك هو قرينة على إرادة تمام الباقي وهذا غير كلامي الشيخ وصاحب الكفاية ولا يكون موقوفا على دعوى الانحلالية في شيء إلاّ انه يرد عليه :

انَّ حجية العام في الباقي غير موقوفة على القرينية بل ثابتة حتى في موارد التعارض بين العام مع عام اخر بنحو العموم من وجه فلا بدَّ من افتراض وجود جواب اخر.

وهذا الاعتراض غير متجه على التخريج الّذي ذكرناه الآن ، إذ غاية ما يلزم منه انه يعلم بوجود استدراك للمتكلم بلحاظ موردي الاجتماع لأحد العامين إجمالاً أي انَّ الظهور الثالث في مورد التعارض منثلم لا الظهور الاستعمالي ولا ظهور جدية المقصود بالإفهام النهائيّ بلحاظ غير مورد الاستدراك الإجمالي الّذي يكون تمام الباقي داخلا فيه على كل حال ...


وان أُريد بها علاج المشكلة بالطرحة الثانية التي يَكون البحث بناءً عليها صناعياً بحتاً ، أي بعد الفراغ عن الحجية في تمام الباقي عملياً يبحث عن تفسير هذه الظاهرة العقلائية علمياً فحينئذ لا بدَّ من المقارنة بين هذه المحاولة والمحاولة السابقة فانه مبدئياً كما يمكن أَنْ يكون تفسير الظاهرة العقلائية المذكورة على أساس انحلالية ظهور التطابق بين المدلول الوضعي والمراد الاستعمالي كذلك يمكن تفسيرها على أساس انحلالية ظهور التطابق بين المدلول الاستعمالي والجدّي ، ومقتضى المنهجية الصحيحة في مثل هذا البحث حينئذ ملاحظة التفسيرين والمقارنة بينهما ليُرى أنَّ أيّهما أوفق بالمرتكزات العقلائية وأقدر على حلّ النقوض المثارة على صعيد هذا البحث بحيث يمكنه أَنْ يخرج بنظرية متناسقة منسجمة مع المصادرات الثابتة في باب الدلالات والظواهر.

وعلى هذا الأساس نقول :

تارة : نقارن بين المحاولتين لمّياً ، أي على ضوء النكات النوعية العقلائية للظهورات لنرى هل تقتضي انحلالية الظهور الجدي ـ كما يقوله صاحب الكفاية ( قده ) ـ أو انحلالية الظهور الاستعمالي ـ كما جاء في تقريرات الشيخ ( قده ) ـ وأخرى نقارن بينهما إِنّياً ، أي نلحظ المعلومات والنتائج المسلمة في باب العام والخاصّ وما يلحق به لنرى انها تنسجم مع أي من النظريتين والمحاولتين بنحو أوفق.

امّا الأول فقد تقدم انه لا برهان يثبت الانحلالية في مرحلة الظهور الجدي أو الظهور الاستعمالي بشكل حاسم وانما كنا ودعوى الوجدان ، فانْ حكم الوجدان بانحلالية الظهورات الجدية بالخصوص دون الظهور الاستعمالي تعين المصير إلى فرضية المحقق الخراسانيّ ( قده ) وإِنَّ المخصص يسقط الظهور الجدي في العام.

وإِنْ حكم الوجدان بانحلالية الظهور الاستعمالي أيضا تعين لا محالة المصير إلى فرضية الشيخ ( قده ) ولا يمكن معه الالتزام باستعمال العام في عمومه وكون التخصيص مسقطا للظهور الجدي ، لأنه على هذا التقدير يكون إثبات الاستعمال في العموم بأصالة الحقيقة في غاية الإشكال إذ لا يترتب عليه أي أثر بعد فرض انحلالية الظهور الاستعمالي وحجيته في الباقي سواءً كان الاستعمال في العموم أو لا ، وإِنْ شئت قلت : انَّ أصالة الحقيقة على هذا المبنى تنحل إلى أصالات عديدة بعدد اجزاء


المدلول الاستعمالي وبعد ثبوت التخصيص بلحاظ شيء منها لا معنى لإجراء أصالة الحقيقة في العام بلحاظ المدلول المخصص لعدم ترتب المراد الجدي عليه بحسب الفرض.

وامّا البحث الثاني ـ فيمكن أَنْ نذكر لتأييد فرضية الشيخ ( قده ) عدة مؤيدات :

المؤيد الأول ـ النقض المتقدم بموارد العدد ونحوه فانَّه لا يمكن تفسير التعارض فيها بناءً على محاولة صاحب الكفاية ( قده ) إلاّ بتمحلات وادعاءات تقدمت الإشارة إليها ، وهذا بخلاف ما إذا بنينا على محاولة الشيخ ( قده ) فانها ـ كما أشرنا ـ تستطيع أَنْ تفسر ذلك بكل وضوح ، لأنَّ استعمال الأربعة في الثلاثة مثلاً أو ضمير المثنى في المفرد لا يصح عرفا ولو على سبيل المجاز فلا يمكن فرض المخصص دليلا على إرادة ذلك من دليل العدد ولهذا يقع التعارض بينهما فيه (١).

المؤيد الثاني ـ انه بناءً على محاولة الشيخ ( قده ) يكون من الواضح تفسير وجه عدم إمكان تخصيص الأكثر من افراد العام إذ يمكن تفسيره بأنه يلزم استعمال العام في الأقل من افراده وهذا وإِنْ كان جزءً من مدلول العام إلاّ انَّ استعمال اسم الكل في الجزء انما يصح مجازاً فيما إذا كان الجزء مهمّاً معتداً به ، وهذا بخلاف محاولة صاحب الكفاية فانها لا تستطيع تفسير ذلك إلاّ على أساس تمحل أُشير إليه أيضا فيما سبق (٢)المؤيد الثالث ـ انَّ تخصيص العام المجموعي وحجيته في الباقي بعد التخصيص بالإمكان تفسيره على ضوء نظرية الشيخ ( قده ) إذ يكون المخصص قرينة على استعمال العام في مجموع الباقي (٣) ، بينما بناءً على محاولة المحقق الخراسانيّ ( قده ) لم يكن

__________________

(١) استعمال الأربعة أو أي عدد آخر في غيره من الاعداد انما لا يصح ولو مجازاً باعتبار ان كل عدد بحدّه مباين مع العدد الآخر وليس جزءً منه لتكون بينهما علاقة الجزء والكل ، والمفروض في محاولة الشيخ ( قده ) كشف المخصّص عن استعمال العام في ذات الخاصّ لا بما هو خاص والا كان مبايناً مع العام وهذا يؤدي إلي لزوم صحة استعمال الأربعة أيضاً في ذات الثلاثة لا بحدّها فنحتاج إلي جواب آخر لا محالة كما هو على مبنى المحقق الخراسانيّ قده.

(٢) يمكنه أَنْ يجيب عنه بما يخرج به استهجان تقييد المطلق في أكثر افراده مع انه ليس بمجاز على كل المسالك ، والظاهر انَّ النكتة العرفية واحدة في البابين.

(٣) ولكن مجموع الباقي ليس نسبته إلى مجموع العام نسبة الأقل إلى الأكثر في العام المجموعي بل نسبة المباين إلى مباينه ، فكلتا النظريتين بحاجة إلى تمحل لتفسير حجية العام المجموعي في تمام الباقي وكأنه في كل هذه المؤيدات افترض انَّ محاولة الشيخ ( قده ) ترجع إلى دعوى قرينية المخصص على إرادة تمام الباقي من العام مع انَّ هذه محاولة مستقلة غير مسألة الانحلال في الظهور الاستعمالي.


يمكن تفسيره إلاّ بتمحل تقدم بيانه فيما سبق.

المؤيد الرابع ـ انَّ محاولة الشيخ ( قده ) بافتراض انَّ المخصص يتصرف في مرحلة المدلول الاستعمالي من العام تنسجم مع نظرية القرينية العامة في سائر الموارد ، من قبيل موارد حمل الأمر الظاهر في الوجوب على الاستحباب بورود الترخيص في الترك ، وكذلك النهي الظاهر في الحرمة يحمل على الكراهة بورود الترخيص في الفعل ، فانه لا إشكال في حملهما بلحاظ مرحلة المدلول الاستعمالي على إرادة الاستحباب والكراهة لا بلحاظ مرحلة المدلول الجدّي بالحمل على التقيّة أو عدم الجدّ كما هو واضح ، بينما يبقى في ذمة نظرية المحقق الخراسانيّ ( قده ) أَنْ تفسر وجه الفرق بين الموارد الأُخرى وموارد التخصيص التي افترض فيها انَّ المخصص يتصرّف في الظهور الجدّي من العام دون الاستعمالي.

ويمكن للمحقق الخراسانيّ ( قده ) أَنْ يدّعي في المقام بأنَّ الحمل على الاستحباب انما كان باعتبار انه مقتضى الجمع بين الدليل المنفصل الترخيصي ودليل الأمر في سياق واحد ، والقرينة المنفصلة تهدم حجية نفس الظهور الّذي كان ينهدم باتصال القرينة فلا محالة يكون الظهور الاستعمالي لدليل الأمر هو الساقط عن الحجية بورود الترخيص المنفصل ، وامّا في التخصيص فلو كان دليله متصلاً بدليل العام في سياق واحد لم يكن هناك مجازية بناءً على مبناه من انَّ التخصيص المتصل من التخصص من باب ضيق فم الركيّة دائما ـ وسيأتي الحديث عن هذه النقطة ـ ومعه فلا موجب لجعله في فرض الانفصال رافعاً لحجية أصالة الحقيقة نظير باب الإطلاق والتقييد فانَّ دليل المقيد لا يكون كاشفا عن استعمال المطلق في المقيد مجازاً بل القدر المتيقن هو عدم إرادته جدّاً.

هذه هي أهم المؤيدات التي يمكن أَنْ تذكر لترجيح المحاولة التي ذهب إليها الشيخ ( قد ) على المحاولة المتبناة من قبل صاحب الكفاية ( قده ) وقد عرفت انها لا تعدو مجرد أوضحية في تفسير بعض الظواهر والمفارقات ولا تشكل برهانا حاسما لدحض نظرية صاحب الكفاية ( قده ).

وهناك مؤيد واحد في قبال تلك مؤيدات تعزز محاولة صاحب الكفاية ( قده ) هو


انَّ نظرية الشيخ ( قده ) تعجز عن تخريج حجية العام في الباقي في موارد العموم المستفاد بنحو المعنى الحرفي كالجمع المحلّى باللام بناءً على دلالتها على العموم وذلك بأحد تقريبين.

١ ـ بناءً على أَنْ تكون دلالة الجمع المحلّى باللام على العموم من جهة دلالة اللام على التعيين ولا تعيين إلاّ في مرتبة العموم. فانه إذا فرض كون المخصص كاشفا عن عدم الاستعمال في العموم كان معنى ذلك عدم إرادة المرتبة العليا من الجمع وهو يعني عدم استعمال اللام في التعيين بل في التزيين مثلا ، ومعه فكيف نثبت إرادة تمام الباقي ، وهذا بخلاف ما إذا قلنا بأنَّ الخاصّ يهدم حجية الظهور الجدي مع بقاء المدلول الاستعمالي للعام على حاله.

٢ ـ بناءً على أَنْ تكون لام الجماعة دالة على النسبة الاستيعابية ابتداءً بين الطبيعة وافرادها. فانه يقال انه بعد ثبوت التخصيص يستكشف عدم استعمالها في ذلك ومعه لا يمكن إثبات استعمالها في النسبة الاستيعابية لأفراد العالم العادل مثلاً.

لأنَّ كل نسبة ومعنى حرفي مباين مع غيرها بحسب المفهوم وإِنْ كان من حيث النتيجة النسبة بين محصول كل منهما خارجا ومحصول الاخر الأقل والأكثر ، وهذا بخلاف ما إذا كان العموم والاستيعاب بنحو المعنى الاسمي ، أو قلنا بأنَّ المنثلم حجيته هو الظهور الجدي لا الاستعمالي.

وبعد هذا السير الطويل نقول : قد يصار في التخصيص المتصل إلى ما ذهب إليه صاحب الكفاية ( قده ) وتبعه عليه مشهور المحققين المتأخرين من عدم المجازية باعتبار مجموع امرين :

الأول ـ عدم الشعور بالعناية في موارد التخصيص المتصل بأقسامه المتعددة.

الثاني ـ تطبيق المحاولة الأولى المتقدمة بافتراض انَّ أداة العموم تدل على استيعاب تمام افراد المدخول ، ويراد بالمدخول معنى أوسع يشمل جميع ما يمكن أَنْ يضيفه المتكلم من القيود والمخصصات في مجموع كلامه أي ما لم يخرجه بالتخصيص وبذلك يكون التخصيص بالمتصل بأقسامه من التخصص من باب عدم انعقاد العموم من أول الأمر بلحاظ المدلول التصوري إلاّ في الباقي.


والأمر الأول من هذين الأمرين صحيح لا غبار عليه وجدانا إلاّ انَّ الأمر الثاني غير صحيح لما ذكرناه مفصلاً في بحوث تعارض الأدلة وتوضيح ذلك :

انَّ التخصيص الّذي يكون من باب ضيق فم الركيّة والتخصص انما يكون فيما إذا كان تضييق العام ثابتا في مرحلة مدلوله التصوري وذلك انما يكون في موردين ، أحدهما ـ ما إذا كان هناك تقييد في مدخول أداة العموم مباشرة كقولنا ( أكرم كلَّ فقير عادل ) والاخر ـ ما إذا كان هناك ما يدل على التخصيص والإخراج تصورا كأدوات الاستثناء والاستدراك نظير قولنا ( أكرم كلَّ الفقراء إلاّ فساقهم ) فانه في هذين القسمين من التخصيص المتصل يكون تضيق العام ثابتا في مرحلة المدلول التصوري للكلام ولهذا لا تكون هناك عناية ولا مخالفة بلحاظ المدلول التصديقي الاستعمالي أو الجدي (١).

وامّا إذا كان التخصيص المتصل متمثلا في جملة مستقلة أتي بها عقيب العام كما إذا قال ( أكرم كلَّ فقير ، ولا يجب إكرام فساقهم ) ففي مثل ذلك لا يكون تضييق العام ثابتا في مرحلة المدلول التصوري للكلام لوضوح عدم تقييد الفقير الّذي هو مدخول الأداة بنسبة تقييدية وعدم ذكر ما يدل على الاستثناء أو الاستدراك تصوراً ، فلا محالة يكون التخصيص بملاك التناقض بين مدلول الجملتين المتعاقبتين لكون إحداهما موجبة كلية والأخرى سالبة جزئية وهما لا يجتمعان ثبوتاً فلا بدَّ وأَنْ يكون المقصود هو الخصوص لا العموم. الا انه من الواضح انَّ هذا الملاك للتخصيص يكون بلحاظ المدلول التصديقي للكلام لا التصوري لأنَّ مبدأ عدم التناقض من شئون هذه المرحلة بمعنى انَّ مركز هذا التنافي انما هو مرحلة المدلول التصديقي وامّا مرحلة المدلول التصوري للجملة السالبة الكلية والموجبة الجزئية فمن الواضح انه لا يكون أحد التصورين مناقضا ومنافيا مع الاخر بما هما تصوران ساذجان ولهذا لو سمعناهما من جدار انتقش في ذهننا التصوران معاً على حد واحد وهذا يعني انَّ هذا الملاك للتخصيص انما يقتضي ثبوت

__________________

(١) مع وجود فرق بين القسمين من حيث انَّ العام في مورد الاستثناء مستعمل في عمومه الشامل للمستثنى غاية الأمر قد استعمل الاستثناء أيضاً في معناه وهو الاقتطاع تصوراً فتكون حصيلة المستثنى منه والمستثنى إرادة الخاصّ نتيجة بخلاف القسم الأول الّذي يكون التخصيص وارداً على مدخول الأداة.


التخصيص في مرحلة المدلول التصديقي وحينئذ لا يمكن أَنْ يربط مدلول الأداة الوضعي بعدم التخصيص بهذا النحو فانه ربط للمدلول التصوري الوضعي بمدلول تصديقي وقد تقدم فيما سبق انَّ هذه مغالطة نشأت من الخلط بين مرحلتين وعالمين (١).

وعليه فالمحاولة الأولى من المحاولات الثلاث لا تثبت في تمام أقسام التخصيص المتصل كما ذهب إليه صاحب الكفاية ( قده ) ومن تبعه ، بل في خصوص القسمين الأولين.

وامّا القسم الثالث وهو المخصص المتصل في جملة مستقلة فهو ليس من باب ضيق فم الركيّة بل من باب التخصيص حقيقة بلحاظ المدلول الاستعمالي أو الجدي بعد ثبوت العموم بلحاظ المدلول التصوري الوضعي. وحينئذ قد يقال بأنه لا بدَّ من افتراض العناية في هذا القسم من التخصيص المتصل امّا بلحاظ الظهور الاستعمالي بأَنْ يكون مستعملا في الباقي مجازاً أو الظهور الجدي ـ أصالة التطابق بين عالم الثبوت والإثبات ـ فكيف التزمتم بعدم العناية وفاقا مع صاحب الكفاية ( قده ).

والجواب : انَّ الصحيح مع ذلك عدم العناية في هذا القسم من التخصيص المتصل أيضا ، امّا بلحاظ الظهور الاستعمالي فلأنَّ العام مستعمل في العموم حقيقة ، وامّا بلحاظ الظهور الجدي فلأنَّ موضوع هذا الظهور ليس هو كل جملة من الكلام بل مجموع الكلام الواحد للمتكلم ، لأنَّ الشيء الّذي لا يليق بالمتكلم أَنْ يسكت على كلام غير جدي لا أَنْ يذكر شيئا مع الدلالة في نفس الكلام بقرينة حال أو مقال علي انه جاد في مقدار منه ، فانَّ هذا لا يكون منافيا مع الظهور الحالي المذكور فالتخصص ثابت في الواقع بلحاظ هذه المرحلة من الظهور للعام.

وامّا التخصيص المنفصل فلا تتم فيه هذه المحاولة كما تقدم بيانه عند التعليق عليها فيدور الأمر بين المحاولتين الثانية والثالثة. وقد اتضح مما تقدم انَّ جميع ما ذكر من المؤيدات والشواهد الإنّية أو اللميّة لإحداهما في مقابل الأخرى لا تكون برهانا حاسما

__________________

(١) هذا لو أُريد انَّ أداة العموم تدل على استيعاب ما لم يخصصه المتكلم ولو بجملة مستقلة ، وامّا إذا أُريد من هذه الدعوى ثبوت التخصيص في مرحلة المدلول التصوري على غرار الاستثناء والاستدراك كما لو ادّعى انَّ نفس تعقب الخاصّ بما هو خاص يدل على الاستدراك تصوراً ومن أساليبه فلا إشكال من هذه الناحية.


بحيث يعجز صاحب الفرضية المتبناة في المحاولة الأخرى عن تفسيرها بشكل أو بآخر ، وعليه فتبقى المسألة في ذمة وجدان كل أحد من انَّ المخصص المنفصل هل يكون كاشفا عن انثلام الظهور الاستعمالي من العام أو الظهور الجدّي منه.

بقي في المقام التنبيه إلى شيء وهو انَّ ما تقدم من الحديث انما هو حول حجية العام في الباقي في الجمل الإنشائية أعني المستعملة في مقام الإنشاء.

وامّا الجملة الخبرية المخصصة ، فقد يقال فيها بأنه لا تنافي فيها بين دليل التخصيص ودليل العام والوجه في ذلك انَّ المدلول الجدي في الجملة الخبرية هو قصد الحكاية والاخبار لا الجعل والإنشاء ، ومن الواضح انه يمكن أَنْ يكون للمتكلم قصد الحكاية عن العموم جداً وحقيقة لمصلحة فيه مع عدم ثبوت العموم واقعا كما يقتضيه المخصص ، والحاصل : انَّ المخصص انما يدل على عدم ثبوت مدلول العام في مورد التخصيص ولا يكشف عن عدم قصد الحكاية عن العموم في الجملة الخبرية المخصصة ، غاية الأمر يلزم الكذب بناء على تقوم الكذب بأَن يقصد الحكاية عن شيء خلاف الواقع كما هو المشهور ، وامّا بناء على مبنانا من انَّ الكذب متقوم بكشف شيء خلاف الواقع فهو حاصل حتى لو لم يكن قاصداً الحكاية كما في موارد التورية عندهم فانه قد كشف بذلك ما هو خلاف الواقع ولذلك نبني فقهياً على حرمة التورية وكونها كذبا أيضا إلاّ في حالة واحدة لا مجال للتعرض لها هنا ، ولكن هذا ليس من التعارض بين الكلامين لا بلحاظ المدلول الاستعمالي وهو قصد إخطار العموم ولا بلحاظ المدلول الجدي وهو قصد الحكاية عنه ، نعم المخصص مخالف لأمر ثالث وهو مطابقة تلك الحكاية مع الواقع ـ وقد يعبر عنها بأصالة الجد ـ إلاّ انَّ هذا الظهور ليس من ظهورات الكلام ولا من مدلولاته بوجه وانما هو مرتبط بوثاقة الحاكي وكونه صادقاً لا يخطأ وهذا هو معنى عدم التنافي بين الكلامين العام الخبري والمخصص.

ولكن الصحيح وجود التنافي بين العام الخبري ومخصصه بلحاظ ظهور حالي ، ذلك انَّ عدم مطابقة الحكاية مع الواقع تارة : تكون اختيارية من جهة كذب المتكلم ، وأخرى : تكون اضطرارية من جهة التقية ونحوه ، وظاهر المتكلم بكلام انه يحكي عنه بالحرية والاختيار لا بالاضطرار والجبر فإذا فرضنا المتكلم صادقا كالمعصوم الّذي


يستحيل منه عدم المطابقة الاختياري فلا محالة كان المخصص منافيا مع ظهور العام الخبري في الجدية ، فانَّ مقتضى ظهوره الحالي في كون حكايته اختيارية وصادرة عنه بحرية صدور الكذب من المعصوم وهو مستحيل فلا محالة يقع التنافي بين المخصص والعام الخبري ولو بلحاظ ظهوره الثالث.

« حجية العام مع المخصّص المجمل »

الجهة الثانية ـ في انه إذا فرض إجمال المخصص فهل يكون العام حجة في عام يعلم شموله للمخصص أم لا؟

وهذه المسألة بحسب الواقع امتداد للمسألة السابقة حيث انه بعد أَنْ ثبت هناك حجية العام بعد التخصيص في تمام الباقي يبحث عن حدود ما يكون العام حجة فيه :

فهل هو ما لم يعلم دخوله في المخصص أم خصوص ما علم عدم دخوله فيه؟

والبحث عن هذه الجهة يقع في مقامين ، لأنَّ ، إجمال المخصص امّا مفهومي أو مصداقي وفي كل من المقامين توجد فروع أربعة ، إذ المخصص المجمل امّا متصل بالعامّ أو منفصل عنه ، وعلى كل من التقديرين امّا أَنْ يكون الدوران بين الأقل والأكثر أو بين متباينين.

وقبل الشروع في الحديث عن هذه المسائل لا بدَّ من التعرض إلى نكتة مرتبطة ببحوث تعارض الأدلة ولها دخل كبير في المقام ، وهي الكلمة المشهورة القائلة بأنَّ المخصص المنفصل يرفع حجية العام والمخصص المتصل يهدم ظهور العام فنقول :

امّا دعوى كون المخصص المنفصل رافعا لحجية العام دون ظهوره فلأنَّ العام بعد أَنْ انعقدت دلالته على العموم وتمت فيستحيل أَنْ ينقلب عما وقعت عليه ، لأنها كانت دلالة تنجيزية غير معلقة على عدم التخصيص المنفصل ببرهان نفي احتمال التخصيص بنفس هذا الظهور وإلاّ لابتلى الظهور بالإجمال كلّما احتملنا وجود مخصص منفصل واقعا ، فلا محالة عند ثبوت المخصص أيضا تكون أصل الدلالة والظهور باقيا في العام على حاله وانما ترتفع حجيته امّا بملاك الأظهرية والأقوائية كما سلكه صاحب الكفاية ( قده ) أو بملاك القرينية كما أفاده المحقق النائيني ( قده ) وقد حققنا


ذلك مفصلا في بحوث التعارض.

وامّا دعوى كون المخصص المتصل رافعا للظهور فهي بالنسبة إلى التخصيص المتصل بنحو التقييد أو الاستثناء والاستدراك واضحة ، لأنَّ التخصيص في هذين القسمين ثابت في مرحلة المدلول التصوري الوضعي للكلام فلا ينعقد ظهور في العموم ذاتا لعدم انعقاد دلالة عليه في مرحلة الدلالة التصورية.

وامّا المخصص المتصل المستقل فرافعيته لأصل الظهور تتضح على ضوء النكتة التي ذكرناها فيما سبق لتفسير عدم العناية في التخصيص به ، حيث قلنا بأنَّ العام وإِنْ كان بحسب مدلوله التصوري بل الاستعمالي ظاهراً في العموم إلاّ انه بحسب المدلول الجدي لا ظهور في إرادته بل الظهور يقضي بإرادة الخصوص جدا ، باعتبار انَّ الظهور الحالي في الجدية يقتضي انَّ المتكلم جاد في كلامه في مقابل أَنْ يكون هازلا في مجموع كلامه بأَنْ يسكت على الهزل فما دام لم ينته من كلامه الواحد لا يمكن اقتناص مراده الجدي منه ، فأصالة الجد انما تجري بلحاظ مجموع الكلام لإثبات الجد ونفي الهزل الفعلي بالكلام ولا تجري بلحاظ كل جزء جزء من الكلام الواحد لإثبات الجد التحليلي والحيثي من ناحيته.

فإذا اتضحت هذه المقدمة نعود إلى الحديث عن مسائل إجمال المخصص فنقول :


( المقام الأول ـ في المخصص المجمل مفهوماً )

( وهو يحتوي على فروع أربعة كما أشرنا :)

الفرع الأول ـ ما إذا كان المخصص المجمل مفهوما متصلا بالعامّ ومرددا بين الأقل والأكثر ، كما إذا ورد ( أكرم كلَّ فقير ولا يجب إكرام الفاسق من الفقراء ) وافترضنا تردد مفهوم الفاسق بين فاعل الذنب الكبيرة بالخصوص ـ الأقل ـ أو مرتكب مطلق الذنب ـ الأكثر ـ.

وفي هذا الفرع لا إشكال ولا ريب في سريان الإجمال من المخصص إلى العام بحيث لا يمكن التمسك به في إثبات حكمه لمورد الإجمال.

والصياغة المعروفة لهذه الدعوى : انَّ الحجية موضوعها الظهور وفي المقام يكون أصل ظهور العام بلحاظ مورد الإجمال من المخصص مجملا باعتباره متصلا وقد تقدم انَّ المخصص المتصل يهدم أصل الظهور ، فلو كان مدلول المخصص هو الأكثر كان معناه عدم انعقاد ظهور العام بلحاظ فاعل الصغيرة لكي يمكن التمسك به ، وبكلمة موجزة : يكون المقام من الشبهة المصداقية لدليل حجية الظهور والعموم فكيف يمكن التمسك به؟ وهذه الصياغة في التخصيص بالمتصل الثابت في مرحلة المدلول التصوري للعام ـ كالتخصيص بنحو تقييد مدخول أداة العموم أو بالاستثناء ـ واضح لا غبار عليه ، إذ لا يمكن أَنْ يحرز فيه المدلول التصوري الوضعي للعام بلحاظ مورد إجمال المخصص لكي


يكون حجة في الكشف عن المراد الاستعمالي والجدي لأنَّ الكاشف عن ذلك انما هو الفهم الشخصي للمتكلم على ما حققناه في بحوث حجية الظواهر ، والمفروض هنا الإجمال في نظره هذا إذا كان الإجمال بحسب نظره ، واما إذا كان الإجمال بحسب نظر العرف العام أيضا كما في موارد استعمال المشتركات أو المجملات ذاتا فالامر أوضح.

وامّا في التخصيص المتصل المستقل الّذي قلنا فيما سبق ان التخصيص فيه يثبت بملاك تصديقي ولذلك لا يكون ثابتا إلاّ بلحاظ المراد الجدي فقد يقال بأنه لا تتم فيه الصيغة المذكورة لأنَّ المفروض انعقاد الدلالة التصورية والاستعمالية على العموم الشامل لفاعل الكبيرة فضلا عن الصغيرة وانما يشك ويحتمل عدم جدية المتكلم فيه ولكن احتمال الهزل هذا منفيٌ بأصالة الجد ، لأنَّ المقدار الثابت لدى السامع من الهزل انما هو بالنسبة لفاعل الذنب الكبيرة وامّا مرتكب الصغيرة فلم يثبت هزل المتكلم فيه فيكون مقتضى الأصل والظهور الحالي الجدية فيه كما هو كذلك بلحاظ سائر افراد العام.

إلاّ انَّ الصحيح مع ذلك سريان الإجمال إلى العام في هذا القسم أيضاً ، وذلك لأننا ذكرنا فيما سبق في معنى انثلام الظهور الجدي بالمخصص المستقل المتصل بأنَّ الهزل الّذي يكون على خلاف ظاهر المتكلم انما هو الهزل الّذي يسكت عليه المتكلم.

وحينئذ فتارة : يراد بالسكوت ما يقابل إعلام السامع وجعله يفهم بالفعل الهزل ، وأخرى : يراد بالسكوت ما يقابل البيان بحسب ما هو نظام اللغة والمحاورة العام ، فان قصد الأول تمَّ ما ذكر من عدم انثلام أصل الظهور في هذا القسم لأنَّ السامع لم يثبت لديه الهزلية إلاّ بمقدار فاعل الكبيرة فقط ، وإِنْ قصد الثاني فالصحيح ما ذكر في الكلام المعروف من إجمال العموم لأنه على تقدير كون المخصص بحسب النظام اللغوي العام شاملا لفاعل الصغيرة لم يكن المتكلم قد سكت عن هزلية العام بلحاظه فلا يحرز موضوع الظهور الجدي بالنسبة إليه. ولا إشكال في انَّ الصحيح هو التقدير الثاني لوضوح انَّ المتكلم ليس مسئولاً عن أكثر من متابعة النظام اللغوي العام في مقام المحاورة والتخاطب وإبراز جده وهزله.

إِنْ قلت : فما ذا يقال في الموارد التي يكون الإجمال فيها ذاتيا ثابتا بحسب النظام


اللغوي العام أيضا كما إذا كان المخصص مشتركا لفظيا بين الأقل والأكثر ولم ينصب المتكلم قرينة.

قلنا : بعد افتراض صحة الاستعمال في تلك الموارد وكونه منسجما مع النظام العام بحيث يكون استعماله وإرادته لأحد المعنيين من دون نصب القرينة صحيحا عرفا.

لا يكون المتكلم ساكتا عن الهزل المذكور بحسب النظام العام على تقدير إرادته التخصيص بالأكثر فلا يمكن نفي احتمال هذا الهزل أيضا لاحتمال كونه مما لم يسكت عنه.

وهكذا يتبين صحة الدعوى المذكورة في هذا الفرع من سريان الإجمال من المخصص إلى العام.

نعم انَّ هنا إشكالاً قد يوجه على دعوى الإجمال في هذا الفرع وحاصله : انه سلمنا الإجمال وعدم إحراز صغرى الظهور في العام بالنسبة لمورد إجمال المخصص ولكن أليس هذا الشك مسبباً عن الشك في القرينة المتمثلة في المخصص فيمكن نفيه بأصالة عدم القرينة وبه يرتفع الشك المسببي ويحرز الظهور في العام أيضا؟

والجواب على هذا الكلام واضح ، فانه لو أُريد من أصالة عدم القرينة هذا أصل تعبدي شرعي هو استصحاب عدم القرينة فالتمسك به في المقام مثبت لوضوح انَّ الظهور لازم تكويني عقلي وليس أثراً شرعياً مترتباً على عدم القرينة وإِنْ كان يترتب عليه الحجية التي هي حكم شرعي. وإِنْ أُريد الأصل العقلائي فهو انما يجري في مورد تحفظ فيه نكتة كاشفية وأمارية يُنفى بها وجود القرينة ، على ما شرحنا ذلك في بحث حجية الظواهر ، وذلك يكون في إحدى حالتين ليس المقام واحدا منهما :

الحالة الأولى ـ ما إذا كان الشك في القرينة مسببا عن احتمال الغفلة بان كان ذكره المتكلم وغفل عن سماعها المتكلم فيكون منفيا بملاك أصالة عدم الغفلة من العاقل الملتفت.

والحالة الثانية ـ ما إذا كان الشك في وجود القرينة المنفصلة فيكون منفيا بملاك كاشفية الظهور المنعقد في ذي القرينة ذاتا. وفي المقام ليس الشك من باب احتمال الغفلة بل الجهل والإجمال وليس الأصل عدم الجهل ، كما انَّ المحتمل هو القرينة


المتصلة الهادمة على تقدير ثبوتها لأصل الظهور لا المنفصلة التي يحفظ معها الظهور (١).

الفرع الثاني ـ ما إذا كان المخصص متصلا ومجملا دائراً بين متباينين.كما إذا قال ( أكرم كلَّ فقير ولا تكرم الأولياء منهم ) ودار أمر الولي بين العبد وابن العم مثلاً ، أو قال ( لا تكرم زيداً ) ودار أمره بين زيد بن عمر وزيد بن بكر.

والبحث في هذا الفرع يقع في ثلاث نقاط :

النقطة الأولى ـ في عدم جواز التمسك بالعامّ في الفردين المتباينين معاً ، وذلك لوجهين :

الأول ـ ما تقدم في الوجه السابق من انَّ المخصص المتصل يهدم أصل الظهور في العام فانه على هذا الأساس لا يوجد ظهور بلحاظ الفردين معاً كي يتمسك به.

الثاني ـ لو تنزلنا وافترضنا وجود الظهور فيكون المخصص المتصل كالمنفصل رافعا للحجية فقط مع ذلك لا يمكن التمسك بالعامّ كما لا يمكن في فرض انفصال المخصص ، وذلك لأنَّ الظهورين وإِنْ فُرض انعقادهما ذاتاً إلاّ انَّ أحدهما ساقط عن

الحجية بحسب الفرض لثبوت المخصص لأحدهما على كل حال ومعه لا يمكن التمسك بالظهور فيهما معاً فانه خلف التخصيص.

النقطة الثانية ـ في عدم جواز التمسك بالعامّ في أحد الفردين بالخصوص وذلك لوجهين أيضا :

الأول بناء على ما تقدم من انهدام أصل الظهور فيما إذا كان المخصص متصلا لا يحرز أصل الظهور بالنسبة إلي كل من الفردين بالخصوص فيكون شبهة مصداقية لكبرى حجية الظهور.

الثاني لو فرض عدم انثلام أصل الظهور مع ذلك لا يجوز التمسك بالعامّ لإثبات الحكم في أحد الفردين بالخصوص لأنه لو أُريد التمسك به مع التمسك بالعامّ في الفرد الآخر جميعاً فهو خلف التخصيص كما تقدم ، ولو أريد التمسك به بدلاً عن الاخر فهو

__________________

(١) هذا إذا أرجعنا أصالة عدم القرينة في هذه الحالة إلي أصالة الظهور واما إذا لم تكن من باب حجية الظهور عند العقلاء بل من باب أصالة الحقيقة والعموم ابتداءً مع ذلك لم يجز التمسك بها في المقام فيما إذا كان المخصص المجمل ثابتا في مرحلة المدلول التصوري للكلام لعدم انعقاد أصل الدلالة التصورية والاستعمالية بالنسبة إلى مورد الإجمال.


ترجيح بلا مرجح ، وإِنْ شئت قلت : انَّ الظهور إذا كان منعقداً وإِنْ كان ينفي احتمال التخصيص وفي المقام بلحاظ أحد الفردين بالخصوص لا يقطع بالتخصيص إلاّ انَّ هذا الظهور في كل منهما معارض معه في الاخر فيسقطان عن الحجية كما هو الحال في تمام موارد التعارض.

النقطة الثالثة ـ في إمكان التمسك بالعامّ لإثبات الحكم في الفرد غير الخارج بالتخصيص واقعا على إجماله ، واثره تشكيل علم إجمالي منجز إذا كان العام متكفلا لإثبات حكم إلزاميّ فيكون من موارد العلم الإجمالي بالحجية الّذي هو كالعلم الإجمالي بالواقع في التنجيز ، بل وقد يتصور الأثر أيضا في مورد العام غير الإلزامي أحيانا.

والصحيح إمكان ذلك بتقريب : انَّ غير ما هو المخصص واقعاً يكون ظهور العام شاملاً له على إجماله ولا موجب لرفع اليد عن حجيته لأَنَّ المقتضي وهو أصل الظهور محفوظ بالنسبة إليه وإِنْ كنّا في مقام الإشارة إليه نشير إليه بالعنوان الإجمالي المذكور والمانع مفقود حيث لم يثبت تخصيص آخر زائداً على المخصص المجمل (١).

وبهذا لا يرد شيء من الوجهين المتقدمين في النقطتين السابقتين هنا كما هو واضح ، هذا إذا لم يكن يعلم بعدم التخصيص الزائد ثبوتاً وإِلاَّ كان ثبوته بالعلم الوجداني بإرادة غير المخصص.

إِلاّ انَّ هنا إشكالاً لا بدَّ من حلّه ، وهو انَّ غير ما هو المخصص واقعاً قد يكون لا تعين له واقعاً وذلك فيما إذا كان المخصص لا تعين واقعي له كما إذا كان المخصص عقلياً بمثابة المتصل يقتضي عدم اجتماع الحكم على الفردين المتباينين معاً بحيث لا بدَّ من خروج أحدهما عقلاً ، فانه في حالة من هذا القبيل

__________________

(١) قد يقال انَّ هذا البيان انما يتم فيما إذا لم يكن المخصص ثابتاً في مرحلة المدلول التصوري للكلام وكان الإجمال ثابتاً بحسب النظام العام كما في استعمال المشترك أو الإجمال في نفس الاستعمال وامّا في ذلك فلا تنعقد الدلالة الفعلية التصورية على شمول شيء من المتباينين وامّا الدلالة الشأنية التي كانت تحصل بالفعل لو لا المخصص المجمل فليست هي موضوع الحجية.

ولكن الجواب : بأنَّ الحجة ليست الدلالة التصورية بل الظهور الحالي الكاشف عن قصد المتكلم للإفهام والجد ، وفي المقام يعلم على كل حال بأنَّ المتكلم يقصد أحد المعنيين المترددين في مرحلة الدلالة التصورية كما هو الحال في استعمال المشترك ابتداءً كما إذا قال ( أكرم الموالي ) مثلاً.


لو فرض خروج كلا الفردين لم يكن يتعين المخصَّص ـ بالفتح ـ في أحدهما المعين بل كانت نسبته إليهما على حد واحد ، فإذا لم يكن المخصَّص متعيناً فلا محالة غير المخصَّص أيضاً لا يكون متعيناً لأَنَّ نقيض اللامتعين لا متعين لا محالة ، ومعه لا يمكن التمسك بالعامّ حتى بعنوان غير الخارج بالتخصيص واقعاً لأَنَّ المقصود من التمسك به إثبات حكمه في ذلك المورد ولا يعقل جعل الحكم على موضوع غير متعين واقعاً.

اذن فالصيغة المذكورة لتقريب الحجية لا بدَّ من تطويرها وتصعيدها بعد افتراض انَّ العمل عقلائياً وفقهياً على بقاء العام على حجيته في غير ما هو خارج بالتخصيص واقعاً من دون فرق بين حالة تعين الخارج في لوح الواقع وعدم تعينه.

وقد يقال : انَّ غاية ما يثبت بالمخصص في هذه الحالة عدم إمكان شمول العام للفردين معاً وامّا شموله لأحدهما لا بعينه فلا مانع منه بحسب الفرض فيتمسك بالعامّ لإثبات حكمه في أحدهما لا بعينه.

وفيه : أولاً ـ انَّ عنوان أحدهما ليس فرداً من افراد العام ليكون مشمولاً له بدلالة مستقلة بل هو جامع انتزاعي بين الفردين والدلالتين ، لأنَّ العام انما يدل على شمول كل فرد بعنوانه التعييني فتتشكل دلالتان تعينيتان يعلم بسقوط إحداهما لا بعينها والجامع بين الدلالتين ليس دلالة ، نظير ما قلناه في باب التعارض بين الخبرين عند ما أُريد إثبات الحجية لأحدهما لا بعينه.

وثانياً ـ انَّ هذا ينتج الوجوب التخييري الثابت لعنوان أحدهما مع انَّ العام بحسب الفرض يثبت الحكم التعييني في كل فرد ولهذا قلنا بتشكل علم إجمالي مقتضٍ للاحتياط.

والصحيح في علاج هذا الإشكال أَنْ يقال : إِنَّ الحالة المذكورة انما تكون في الموارد التي يكون التخصيص فيها بملاك استحالة اجتماع الفردين تحت العام من دون خصوصية في أحدهما وإِلاَّ كان إخراجه متعينا ثبوتاً في نظر المولى فانه كما لا يعقل أَنْ يكون موضوع حكم المولى غير متعين ثبوتاً كذلك لا يعقل أَنْ يقصد المولى تخصيصاً وإخراجا لأحدهما اللامعين ثبوتاً فانَّ الإخراج والتخصيص حكم أيضاً فلا بدَّ من تعينه ثبوتاً.


وحينئذٍ يقال : بأنَّ المحذور العقلي المذكور سوف يؤدي إلى وقوع التعارض بين الدليلين المتمثلين هنا في عموم العام بلحاظ هذا الفرد وعمومه بلحاظ الفرد الاخر ، وهذا التعارض انما يكون فيما لو أُريد التحفظ على الظهورين في الفردين مطلقاً بحيث نثبت في كل منهما حكم العام بالفعل ، وبما انَّ هذه المشكلة مجرد مشكلة فنية نظرية وليست عملية باعتبار انَّ السيرة العملية العقلائية لا تفرق على كل حال في حجية العام لنفي التخصيص الزائد على إجماله سواءً كان له تعين واقعي على تقدير ثبوته أَم لا ، فالمسألة في مرحلة الإثبات محلولة بحسب الفرض وانما نريد أَنْ نلتمس صياغة فنية لها ثبوتاً.

ويمكن علاج الإشكال فنياً بافتراض انَّ الساقط بالمخصص المذكور في المقام هو عموم العام لكل من الفردين مطلقاً وَامَّا ثبوت حكمه لكل منهما مشروطاً بخروج الاخر فلا محذور فيه ، وبما انه يعلم بخروج أحدهما على كل حال فيكون القدر المتيقن فعلية الشرط في إحدى الشرطيتين وبالتالي العلم الإجمالي بالحجة على الحكم وهو منجز كالعلم الإجمالي بالواقع.

هذه هي الصياغة الإجمالية للحل ، وامَّا تفصيل ذلك أَنْ يقال : انَّ الجمع بين الظهورين المتعارضين في المقام بنحو لا نقع في المحذور العقلي للمخصص يتصور بدواً على أحد أنحاء أربعة.

١ ـ أنْ نجمع بينهما بتقييد الحكم المنكشف في كل منهما بحالة خاصة هي ما إذا لم يكن الحكم ثابتاً للآخر وبذلك نستحصل وجوبين مشروطين في الفردين كل منهما مشروط بعدم ثبوت الحكم على الاخر.

وهذا الوجه غير صحيح إثباتاً وغير معقول ثبوتاً ، فانَّ إثبات كون الحكم المجعول المنكشف بالدليل مقيد ومشروط بحاجة إلى قرينة على ذلك ومجرد التعارض بين إطلاقي الدليلين لا يقتضي ذلك ، هذا مضافاً إلى استحالة ثبوت هذين الحكمين المشروطين في المقام كالحكمين المطلقين ، لأنه لو كان الشرط في كل منهما عدم الوجود المطلق لحكم الاخر فهو دور إذ يستلزم توقف كل منهما على عدم الاخر ، ولو أُريد عدم الوجود اللولائي له أي لو لا الأول فالشرط غير محفوظ في شيء منهما إذ لو لا أحدهما


لم يكن محذور في جعل الحكم على الاخر كما هو واضح.

٢ ـ أَنْ يفترض التعارض بين الإطلاقين ويكون المقدار الثابت منهما بعد التعارض إطلاق العام لكل من الفردين على تقدير عدم الحكم للفرد الاخر ، فيكون المقدار الثابت ظاهراً هو المقدار المردد بين المطلق والمشروط ، نظير ما إذا تعارض ( أكرم الفقير ) مع ( لا تكرم الفاسق ) وتساقطاً فكان المقدار الثابت بالحجة نتيجة هو وجوب إكرام الفقير العادل المردد ثبوتاً بين كونه مخصوصاً به أو مطلقاً من ناحية قيد العدالة.

فيقال في المقام : انّ مقتضى حجية إطلاق العام لكل من الفردين في حال خروج الاخر وعدم ثبوت الحكم له ، ثبوت حكمين على الفردين مرددين بين المشروط والمطلق وإِنْ كان يعلم بان أحدهما لا بدَّ وأَنْ يكون مطلقاً لاستحالة كونهما معاً مشروطين ثبوتاً.

وهذا الجمع أيضاً غير صحيح لعدم معقوليته ثبوتاً إِذ الجعل المشروط لأحدهما مع كونه في الاخر مطلقاً يكون لغواً لأنَّ الشرط بحسب الحقيقة انما هو عدم جعل الحكم على الاخر لا عدم امتثاله كما في باب التزاحم ، والمفروض انَّ عدم الاخر منتفٍ فالجعل المشروط لا يكون محركاً ومن أجل الامتثال فيكون لغواً ، وهذا يعني وقوع التعارض بين الإطلاقين المزبورين أيضاً حيث يعلم بأنَّ أحدهما ساقط يقيناً على كل حال وبما انه غير متعين فلا يعقل التمسك بالاخر بعنوانه.

٣ ـ أَنْ يقال بالحجية المشروطة لكل من الظهورين المتعارضين ، نظير ما ذكرناه في بحث التعارض من إمكان استفادة نفي الثالث على القاعدة من دليل الحجية العام تمسكاً بإطلاقه لكل من الخبرين المتعارضين مشروطاً بكذب الاخر ، ففي المقام أيضاً يقال : انَّ العقلاء يجعلون الحجية لكل من الدلالتين العموميتين في العام ولكن لا مطلقاً بل مشروطاً بكذب الاخر بمعنى عدم ثبوت مدلوله وبما انه يتيقن انَّ أحدهما على كل حال غير ثابت فتكون إحدى الحجيتين فعلية لا محالة ، ولا محذور في أَنْ يكون واقعاً كلاهما غير ثابت المستلزم لفعلية الشرطين والحجتين لأنَّ هذا التقدير غير واصل للمكلف على كل حال بل لو وصل إليه فسوف ينتفي موضوع الحجية فيهما معاً باعتبار العلم التفصيليّ بكذب العموم فيهما معاً ، وكون الحجة المعلومة بالإجمال نسبته إلى


الطرفين على حد واحد لو فرض فعلية شرطهما واقعاً بحيث لا تتعين في أحدهما المعين لا ضير فيه ، فانَّ عدم تعين العلم الإجمالي واقعاً لا محذور فيه بلحاظ المنجزية العقلية وانما المحذور في عدم تعين موضوع الجعل والحكم الشرعي أو العقلائي كما هو واضح وهو متعين في المقام في أحد الفردين أو كليهما فلا إهمال فيما هو المجعول.

وهذا الوجه صحيح ومعقول طالما افترض تمامية المقتضي له في مرحلة الإثبات وانَّ السيرة العقلائية قاضية بنفي التخصيص الزائد كما أشرنا إليه. إِلاّ انه لا يتمّ إِلاّ في المخصص المنفصل الّذي يحفظ فيه أصل الظهور وتنثلم حجيته ، وامَّا إذا كان المخصص المذكور متصلاً وهادماً لأصل الظهور فلا بدَّ من تعين ما يهدم وما لا يهدم ولا معنى للهدم المشروط كالحجية المشروطة كما هو واضح.

٤ ـ أَنْ يقال بالتبعيض في الكشف والدلالة نفسها بدعوى انَّ كلاً من الدليلين له كشف عن مدلوله وهو ثبوت الحكم على أحد الفردين مطلقاً من حيث كذب الكاشف الاخر أو صدقه ، فتكون الحجة خصوص الكشف الثابت على تقدير كذب الاخر لا بأَنْ يكون كذب الاخر مأخوذاً في موضوع المنكشف بل في موضوع الكشف نفسه ، نظير ما إذا أخبر المعصوم بكذب إحدى الأمارتين حيث يكون لكل منهما كشفاً عن مدلوله على تقدير كذب الاخر من دون أَنْ يكون كذب مدلول الاخر مأخوذاً في موضوع مدلول الأول ، فيقال في المقام انَّ المخصص العقلي المذكور لا يقتضي أكثر من إثبات كذب إحدى الدلالتين والكشفين فيكون التقييد في الكاشفين ، أي يكون كل من الظهورين كاشفاً عن مدلوله وهو ثبوت حكم موضوعه ولكن كشفه المقيد بكذب الظهور الاخر هو الحجة ، وبما انه يعلم بحصول القيد في أحدهما على الأقل فتحرز فعلية أحد الكشفين على الأقل ولعلّه واقعاً كلاهما فعلي إِلاَّ انه لا يضر كما أشرنا ، باعتبار عدم العلم بذلك ومقتضى حجية الكشف المعلوم بالإجمال التنجيز (١).

__________________

(١) الظاهر أنَّ هذا النحو من التقييد في الكاشفية انما هو في الملازمات الثبوتية كما إذا أخبر عن أحد الضدين فيكشف عن صدقه على تقدير كذب الاخر وامّا الكواشف الفعلية كالكلام الكاشف عن المراد فلا يعقل هذا النحو من التقييد فيها لأنها امر جزئي وكاشفيّته فعلية فلا يعقل أَنْ تكون موقوفة على كذب الاخر ثبوتاً أو عدم كذبه بل هي كاشفة عن كذب ذاك بالفعل ، فلا تعليق ولا تعدد في الدلالة والكشف ، نعم يعقل توصيف هذه الدلالة والكشف بأنها توأمة مع كذب الدلالة والكاشف


وهكذا نستطيع أَن نخرج بصياغة فنية لتخريج حجية العام في غير الخارج بالتخصيص على إجماله ، وقد عرفت انَّ المشكلة صياغية فنية وليست عملية إذ لا إشكال عندنا في انَّ السيرة العملية العقلائية قائمة على حجية العام في نفي التخصيص الزائد على المقدار المعلوم بالإجمال سواء كان له تعين واقعي أم لا.

ثم انَّ من تطبيقات هذه الفكرة ما إذا علمنا بنجاسة أحد الثوبين أو الترابين واحتملنا نجاسة الاخر ، فانَّ دليل كل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر مقيد بمقتضى مخصص لبيّ متصل أو منفصل بعدم إمكان الترخيص في المخالفة العملية القطعية فلا يمكن أَنْ يشمل كلا طرفي العلم الإجمالي وامَّا شموله لغير ما علم إجمالاً بنجاسته مع احتمال كونه غير متعين في الواقع ـ كما لو فرض نجاستهما معاً من دون مائز ثبوتي ـ فمبنيٌّ على ما ذكرناه من إمكان التمسك بالعامّ لنفي التخصيص الزائد ، إذ المخصص العقلي أو العقلائي المذكور لا يقتضي أكثر من عدم إمكان اجتماع الموضوعين معاً تحت دليل الأصل وامَّا شموله لأحدهما فلا محذور فيه.

وأثر التمسك بدليل الأصل في غير المعلوم بالإجمال مع كونه متكفلاً لحكم ترخيصي جواز تكرار الصلاة بهما مرتين حيث يحرز بالتعبد الطهارة الظاهرية وهذا بخلاف ما إذا قيل بعدم جواز التمسك بالعامّ في ذلك.

الفرع الثالث ـ ما إذا كان المخصص المجمل منفصلاً دائراً بين الأقل والأكثر كما إذا ورد ( أكرم كل فقير ) وورد في دليل منفصل ( لا يجب إكرام فساق الفقراء ) مع تردد مفهوم الفاسق بين مطلق مرتكب الذنب وبين خصوص من ارتكب الكبيرة.

__________________

والآخر كما انها قد تكون مقرونة بأمور واقعية أخرى من قبيل صدق مضمونه أيضاً وتحققه واقعاً إِلاَّ انه من الواضح ان الحجية المجعولة عقلائياً أو شرعاً على الكواشف لا تجعل لها مقيدة بمثل هذه القيود الواقعية المرتبطة بالمدلول المنكشف من حيث صدقه أو كذب ضده فتمامية مقام الإثبات عقلائياً محل تأمل وإِلاَّ فكان ينبغي المصير إليه في تمام موارد التعارض بين إطلاقي دليلين بملاك العلم الإجمالي كما إذا علم إجمالاً بتخصيص أحدهما ـ كما إذا جرى استصحاب الطهارة في طرف وأصالة الطهارة في طرف اخر مثلاً ـ بل وفي موارد التعارض من باب التنافي بين مدلوليهما بنحو العموم من وجه فيما إذا كان كلاهما يتضمن حكماً إلزامياً ويظهر اثره العملي في موارد تعدد الواقعة مع انه من البعيد الالتزام بذلك فقهياً بل ذهب المشهور إلى عدم نفي الثالث في موارد التعارض ، نعم في خصوص الأصول العملية يمكن إجرائها في عنوان غير المعلوم بالإجمال لأن موضوع الأصل هو الشك ومع وجود عنوان إجمالي يتحقق فرد ثالث للشك يكون موضوعاً مستقلاً لدليل الأصل غير الشك المتعلق بالعنوانين التفصيليين.


والصحيح في هذا الفرع صحة التمسك بالعامّ في مورد إجمال المخصص وعدم سريانه إلى العام.

والصيغة المدرسيّة لتخريج ذلك : انَّ مقتضي الحجية وهو ظهور العام في العموم بالنسبة لمورد الإجمال موجود والمانع مفقود.

امَّا وجود المقتضي ، فلما تقدم من انَّ المخصص المنفصل لا يهدم الظهور وانما يتقدم عليه في الحجية بملاك الأظهرية أو القرينية.

وامَّا عدم المانع ، فلأنَّ الثابت من المانع عن حجية العموم انما هو بمقدار فاعل الكبيرة من الذنب وامَّا فاعل الصغيرة فلم يثبت بحسب الفرض خروجه بالتخصيص فيبقى العام على حجيته لما تقدم من انَّ ظهور العام بنفسه حجة في نفي التخصيص المحتمل.

وهذه الصياغة صحيحة لا غبار عليها ، إِلاَّ هنالك شبهات يمكن أَنْ تثار في مقابلها لا بدَّ من دفعها ، وهي يمكن ان تذكر بتقريبات عديدة :

التقريب الأول ـ أَنْ يقال بأنَّ هذا تمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية لمخصصه الّذي سوف يأتي في المقام الثاني عدم صحته وذلك لأنَّ المخصص قد اخرج عن العام بحسب الفرض ما هو مدلول عنوان الفاسق من الفقراء وبذلك أصبح ظهور العام منقسماً إلى ما يكون حجة فيه ، وهو الفقير الّذي لا يكون مشمولاً لمدلول الفاسق ، وما لا يكون حجة فيه وهو الفقير المشمول لمدلول الفاسق ، والمفروض انَّ فاعل الصغيرة ممن يشك في كونه مشمولاً لمدلول الفاسق أم لا فيكون بالنسبة إلى الظهور الباقي على ممن يشك في كونه مشمولاً لمدلول الفاسق أم لا فيكون بالنسبة إلى الظهور الباقي على حجيته من العام شبهة مصداقية ولا يجوز التمسك فيها بالظهور.

والجواب : انَّ التخصيص إذا كان بعنوان من هو مدلول كلمة الفاسق بحيث أخذت كلمة الفاسق في دليل التخصيص بنحو الموضوعية بحيث يكون التخصيص بعنوان مسمَّى الفاسق فلا إشكال عندئذٍ في عدم إمكان التمسك بالعامّ في مورد الإجمال وهو فاعل الصغيرة إِلاَّ انَّ هذا بحسب الحقيقية من إجمال المخصص مصداقاً لا مفهوماً لأن مفهوم مسمى الفاسق لا إجمال فيه وانما الإجمال في مصداقه لا محالة ، وامَّا إذا كان التخصيص بعنوان من يكون فاسقاً واقعاً بحيث يكون مفهوم الفاسق ملحوظاً بما هو


مرآة عن واقعه كما هو الحال في كل مفهوم فلا محالة يكون التخصيص بمقدار محكي هذا العنوان المردد بحسب الفرض بين الأقل والأكثر ويكون المتيقن منه هو الأقل وامَّا الأكثر فينفي احتمال تخصيصه بعموم العام دون أَنْ يكون شبهة مصداقية له ، لأنَّ ظهوره انما انقسم بمقدار ما ثبت فيه التخصيص وهو فاعل الكبيرة فقط كما هو واضح.

التقريب الثاني ـ انَّ البناء العقلائي قاض بمعاملة الأدلة والقرائن المنفصلة معاملة المتصلات بتنزيلها منزلة المتصلة في مقام استكشاف المراد النهائيّ من مجموع كلمات المتكلم الواحد وهذا البناء يقضي في المقام أيضاً أَنْ نعطي للمخصص المنفصل المجمل حكم المخصص المتصل المجمل وقد تقدم في الفرع الأول انه يوجب سريان الإجمال إلى العام فكذلك الحال فيما ينزل منزلته ، غاية الأمر انَّ الإجمال هناك تكويني حقيقي وهنا تنزيلي حكمي.

الجواب : انَّ المقصود من البناء العقلائي المذكور انَّ الدليل المنفصل بما هو منفصل وما ينجم عن ذلك من استقرار ظهورات ودلالات يفرض كأنه متصل فإذا كان هناك ظهور يتولد من نفس حيثية الانفصال وانتهاء الكلام الأول فلا بدَّ وأَنْ يحافظ عليه أيضاً في مقام التعامل ، وليس معنى التنزيل المذكور في البناء العقلائي افتراض إلغاء هذا الظهور حكماً. وإِنْ شئت قلت : انَّ فحوى هذا البناء انَّ الدليل الّذي يكون على تقدير اتصاله قرينة مفسِّرة ومحددة لمراد المتكلم يكون على تقدير انفصاله كذلك حكماً وبلحاظ الحجية مع افتراض انحفاظ تمام ما هنالك من ظهورات ودلالات في مجموع الكلامين ، فلا يراد بهذا البناء إلغاء الظهورات الكلامية المتولدة نتيجة انتهاء الكلام الأول كالظهور في العموم في المقام.

نعم يتم هذا التقريب إذا تمت إحدى فرضيتين :

الأولى ـ أَنْ يكون الدليل المنفصل متصلاً بحسب عالم اقتناص المراد وفهمه من الكلام وإِنْ كان منفصلاً عنه بحسب السماع وتعاقب الألفاظ. وذلك فيما إذا فرض انَّ الجلسة مفتوحة بعد ، وانَّ الكلام لم ينتهِ معنوياً وإِنْ انتهى سماعاً ، كالأستاذ المحاضر الّذي يلقي مطالبه تدريجاً ، فانه لا يكون انتهاء كلامه في محاضرته الأولى موجباً لاستقرار الظهور النهائيّ الكاشف عن مراده لأنَّ مجموع كلامه لا يعتبر منتهياً بعد.


ففي هذه الفرضية يكون المخصص المنفصل بحسب السماع متصلاً بحسب مرحلة اكتشاف المراد النهائيّ للمتكلم ولذلك يسري إجماله إلى العام لا محالة.

الثانية ـ أَنْ يرد تعبد من المتكلم على إعطاء حكم الاتصال للمخصصات المنفصلة فيكون مقتضى إطلاق هذا التنزيل عدم حجية العام في مورد إجمال المخصص المنفصل أيضاً ، إلا انَّ كلتا هاتين الفرضيتين غير ثابت في حق الشارع الأقدس ، امّا الأولى منهما فلوضوح انَّ الأئمة المعصومين وإِنْ كانوا يفصحون جميعاً عن مصدر واحد إِلاَّ انَّ ذلك لا يعني انَّ كلماتهم المتباعدة منذ عهد النبي 6 إلى عهد الإمام العسكري 7 كلها جلسة واحدة مفتوحة كما هو واضح.

وامّا الثانية فلأنه لم يرد دليل على التنزيل المذكور ، وانما الثابت هو اتباع الشارع للطريقة العرفية العامة في مقام اقتناص المراد من مجموع كلمات المتكلم الواحد وقد عرفت انها لا تساعد على إلغاء ظهور منعقد في العموم.

التقريب الثالث ـ انه بناء على مسالك مدرسة المحقق النائيني ( قده ) ، من انَّ العموم في طول الإطلاق وجريان مقدمات الحكمة وانَّ الإطلاق موقوف على عدم البيان المنفصل أيضاً سوف يسري إجمال المخصص المنفصل إلى العام لا محالة ، لأنه صالح للتقييد ورافع للإطلاق ذاتاً كالمتصل تماماً ومعه لا يمكن التمسك بالعامّ في مورد الإجمال لأنه في طول الإطلاق ومقدمات الحكمة وهي لا تجري لكون المورد شبهة مصداقية لها حينئذٍ.

بل قد أشرنا فيما سبق انَّ الإجمال حاصل بمجرد احتمال التخصيص المنفصل وهذه من التوالي الفاسدة لمجموع ذينك المبنيين ولا مخلص عنها إِلاَّ دعوى التمسك باستصحاب الظهور الموضوع للحجية ، إِلاّ انَّ هذا مضافاً إلى كونه لا يتم في موارد احتمال وجود مخصص متقدم أو مقارن ، لا ينتج ما هو المقصود من إثبات الحكم بدليل اجتهادي لا بأصل عملي.

فالصحيح في إبطال هذا التقريب عدم تمامية المبنى في المسلكين المذكورين وقد تقدم إبطال أحدهما في بحث العموم ويأتي إبطال ثانيهما في موضعه من بحوث المطلق والمقيد.


وهكذا يتضح صحة ما ذهب إليه المشهور في هذا الفرع من عدم سريان إجمال المخصص إلى العام وصحة التمسك به في مورد إجمال المخصص لتمامية المقتضي وفقدان المانع.

الفرع الرابع ـ ما إذا كان المخصص المجمل منفصلاً ومردداً بين متباينين كما إذا قال ( أكرم كلَّ فقير ) وورد في دليل منفصل ( لا تكرم زيداً الفقير ) وقد تردد بين زيدين.

وفي هذا الفرع أيضاً نتبع نفس المنهجة المتقدمة في الفرع الثاني لأنهما يشتركان في الدوران بين متباينين ، فنقول : يقع البحث عن حكم هذا الفرع في ثلاث نقاط :

النقطة الأولى ـ عدم صحة التمسك بالعامّ في الفردين معاً ، ووجه ذلك واضح فانه بالرغم من فعلية دلالة العام وشموله للزيدين معاً ـ خلافاً لما تقدم في الفرع الثاني ـ لكون المخصص المنفصل على ما تقدم في الأصل الموضوعي لا يهدم أصل ظهور العام. إِلاَّ انَّ حجية أحد الظهورين ساقطة بحسب الفرض ومعه لا يمكن التمسك بهما معاً ، فانه يعني التمسك بالعامّ فيما يقطع بعدم حجيته فيه وهو غير معقول.

النقطة الثانية ـ عدم جواز التمسك بالعامّ في أحد الفردين بالخصوص ، والوجه فيه واضح أيضاً فانَّ ظهور العام في كل منهما وإِنْ كان فعلياً فالمقتضى تام كما انه لا يعلم بتخصيصه بالخصوص فالمانع مفقود أيضاً لو لوحظ كل من الظهورين مستقلاً إلا انه باعتبار العلم بالتخصيص في أحدهما لا محالة يقع التعارض بينهما في الحجية بالعرض ويكون شمول دليل الحجية لأحدهما دون الاخر ترجيحاً بلا مرجح ، هذا لو أُريد التمسك بأحدهما بالخصوص بدلاً عن الاخر وامَّا التمسك به وبالآخر جمعاً فهو رجوع إلى النقطة السابقة وقد عرفت عدم معقوليته.

النقطة الثالثة ـ في جواز التمسك بالعامّ لنفي التخصيص الزائد المحتمل في الفرد الآخر غير الخارج بالتخصيص على نحو الإجمال إذا ترتب على ذلك أثر شرعي.

والصحيح : في هذه النقطة هو الجواز أيضاً كما كان الأمر كذلك في الفرع الثاني رغم انَّ الشبهة التي آثرناها هناك تجري في المقام أيضاً فيما إذا كان الخارج لا تعين له ثبوتاً.

بل الإشكال هنا أعوص منه هناك إذ يرد أيضاً في مورد تعين الفرد المخصص واقعاً


كما في مثال الزيدين وذلك بتقريب انه إِنْ أُريد التمسك بالعامّ في عنوان غير الخارج بالتخصيص بما انه فرد ثالث للعام فهو واضح البطلان إذ ليس هناك إلا فردان هما زيد الأول وزيد الثاني وبالتالي لا يكون للعام إلا ظهوران تعينيان في كل واحد من الزيدين.

وإنْ أُريد جعل هذا العنوان مشيراً إلى ما هو مصب الظهور الّذي واقعه أحد الظهورين التعينيين فالمفروض وقوع التعارض بين هذين الظهورين نتيجة العلم الإجمالي بخروج أحدهما الموجب لوقوع التعارض بينهما بالعرض (١).

والجواب على هذه الشبهة صناعياً نفس ما تقدم في الجواب عليها في الفرع الثاني علاوة على جريان الوجه الثالث من وجوه التصرف هنا بخلافه هناك كما نبهنا عليه.

وقبل أَنْ نختم البحث في هذا المقام لا بأس بالتنبيه على أمور :

التنبيه الأول ـ انه قد اتضح في ضوء ما تقدم وجود فارق نظري وعملي في موارد إجمال المخصص المردد بين الأقل والأكثر بين ما إذا كان متصلاً أو منفصلاً وهو إجمال العام على التقدير الأول دون الثاني.

وعلى هذا الأساس لو فرض الشك في كون المخصص المحرز أصل مخصصيته صدر متصلاً بالعامّ أو منفصلاً عنه أصبح المقام صغرى من صغريات احتمال وجود القرينة المتصلة ، فإذا قيل هناك بمقالة المشهور من التفصيل بين احتمال وجود القرينة واحتمال قرينية الموجود ، أمكن التمسك بحجية العام في مورد الإجمال ، وذلك لإمكان إحراز عمومه بأصالة عدم وجود المخصص المتصل ، فانَّ أصل المخصص وإِنْ كان محرزاً إلاّ انَّ اتصاله به غير محرز فالشك في أصل وجود القرينة المتصلة لا محالة فتجري أصالة عدم القرينة ولا تعارض بأصالة عدم القرينة المنفصلة لأنها لا أثر لها بعد فرض إحراز أصل المخصص.

__________________

(١) لا يقال ـ بأنَّ التمسك بالعامّ في غير ما خرج بالتخصيص إذا كان متعيِّناً واقعاً لا معارض له لأنه بهذا العنوان الإجمالي لا يكون له معارض وانما المعارضة بلحاظ العنوانين التفصيليين حيث بلحاظهما يوجد علم إجمالي بكذب أحدهما ، وهذا نظير ما يقال في موارد تعارض الأصلين العمليين من إمكان التمسك بدليل الأصل في غير المعلوم بالإجمال من دون معارض. فانه يقال : انَّ موضوع الأصل هو الشك وباختلاف العنوان من التفصيل إلى الإجمال يتولد شك ثالث يكون موضوعاً ثالثاً لدليل الأصل غير العنوانين التفصيليين وهذا بخلاف المقام حيث انَّ ما هو موضوع العام انما هو واقع الفردين والمفروض انَّ الظهور في كل منهما معارض والعنوان الإجمالي المشير لا يشير إلى فرد ثالث كما هو واضح.


وامَّا بناءً على ما هو المختار عندنا في بحث حجية الظهور من عدم الفرق بين احتمال وجود القرينة واحتمال قرينية من حيث عدم جريان أصالة عدم القرينة لكونها أصلاً عقلائياً قائماً على أساس نكتة الكشف والظهور ولا يكون ذلك إلا في موارد انعقاد أصل الظهور كما في موارد احتمال القرينة المنفصلة التي يحرز فيها ظهور ذي القرينة ففي موارد احتمال القرينة المتصلة التي على تقدير ثبوتها تكون هادمة للظهور في ذي القرينة لا كاشف فعلي لكي يتمسّك به فلا يمكن نفي إجمال العام بأصالة عدم القرينة ، نعم يمكن نفيه بأمارة أخرى لو فرض قيامها على ذلك كشهادة الراوي السلبية ، فانَّ سكوته عن نقل ما يكون مغيراً لمعنى الكلام المنقول بنفسه شهادة سلبية بعدم القرينة وإلاّ كان ينبغي أنْ يذكرها بمقتضى تعهده بنقل الواقعة المنقولة بتمام ماله دخل فيها.

إلا انَّ هذه الأمارة أيضا انما تتم في خصوص دائرة القرائن الحادثة في مجلس المخاطبة لا القرائن النوعية الارتكازية التي هي مناسبات عامة معاشة في الأذهان العرفية ، فانَّ الراوي متعهد بنقل الواقعة في مجلس المخاطبة وليس متعهداً بنقل الإطار الذهني والاجتماعي العام في ذلك العصر والتي على أساسها قد تتغير مداليل الكلمات ، فمثل هذه القرائن لو احتملت انحصر طريق نفيها بمراجعة تاريخ صدور النص وملاحظة الملابسات والظروف التي كانت معاشة آنذاك لتشخيص حال القرينة المحتملة سلباً أو إيجاباً وتفصيل الكلام في هذه الجهات موكول إلى محله من بحوث حجية الظهور.

التنبيه الثاني ـ انه في موارد دوران المخصص المجمل بين متباينين قد يتصور عدم الفرق العملي بين ما إذا كان متصلاً بالعامّ أو منفصلاً وإِنْ كان بينهما فارق نظري من حيث كون المتصل موجباً لإجمال نفس الظهور والمنفصل موجباً لإجمال حجيته ، لأنه على كلا التقديرين لا يمكن التمسك بالعامّ في الفردين معاً أو في أحدهما المعين كما أنه على كلا التقديرين يمكن التمسك به في العنوان الإجمالي غير المعلوم خروجه فلا ثمرة عملية بينهما.

ولكن الصحيح وجود الثمرة العملية بينهما أيضاً. ويمكن تصويرها بأحد نحوين.

الأول ـ ما إذا فرضنا ثبوت مخصص تعييني لأحد الفردين بالخصوص زائداً على


المخصص المجمل فانه لو فرض انفصال المخصص المجمل أمكن التمسك بالعامّ في الفرد الاخر لأنَّ المحذور في التمسك به انما كان وجود العلم الإجمالي بالتخصيص المستلزم لعدم جواز التمسك بالعامّ في أحد طرفيه بالخصوص لكونه ترجيحاً بلا مرجح إلا انَّ هذا المحذور ينحل بمجيء المخصص التعييني ومعه يصح التمسك بالعامّ في الفرد الاخر لتمامية المقتضي وهو الظهور وفقدان المانع.

وامَّا إذا فرض اتصال المخصص المجمل فبما انَّ الإجمال حينئذٍ في أصل الظهور فلا يحرز المقتضي في الفرد الاخر ليتمسك به ولو فرض انحلال العلم الإجمالي بالتخصيص لأنَّ المفروض اتصال المخصص ومعه يكون احتمال التخصيص كافياً في إجمال الظهور كما هو واضح.

والمثال من الفقه الّذي يمكن أَنْ نسوقه لهذه الثمرة ما إذا فرضنا جريان استصحاب النجاسة في أحد طرفي العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين فانَّ دليل الاستصحاب يكون بمثابة مخصص لعموم دليل قاعدة الطهارة في ذلك الطرف المبتلى بمخصص إجمالي وهو حكم العقل أو العقلاء بعدم جواز الترخيص في المخالفة القطعية ، فانَّ هذا المخصص إذا فرض حكماً عقلياً نظرياً ـ كما هو المشهور ـ فيكون مخصصاً منفصلاً مجملاً دائراً بين متباينين ، وإِنْ فرض حكماً عقلائياً أو عقلياً بديهياً كان بمثابة المخصص المتصل المجمل. فحينئذٍ قد يقال بأنه على التقدير الثاني لا يمكن إجراء قاعدة الطهارة في الطرف الاخر لعدم تمامية مقتضي دليل الأصل فيه لإجمال الظهور ذاتاً.

ولكن الصحيح عدم تمامية هذه الثمرة وجريان القاعدة في الطرف الاخر من المثال الفقهي المذكور على كل حال وذلك بناءً على ما تقدم من صحة التمسك بالعامّ في موارد إجمال المخصص وتردده بين المتباينين بعنوان غير معلوم التخصيص بالإجمال (١).

__________________

(١) هذا العنوان مجرد مشير إلى واقع الظهور وليس ظهوراً ثالثاً وهو محتمل الانطباق على ما خرج بالمخصص التفصيليّ المتصل أو المنفصل فيكون على الأول تمسكاً بظهور محتمل وعلى الثاني تمسكاً بظهور مردد بين ما هو حجة وما ليس بحجة وكلاهما غير جائز فلا يقاس بما إذا لم يكن إلا المخصص الإجمالي ، وعليه فيتعين أنْ يكون الحجية في هذه الحالة بالنحو المتقدم في حالة عدم التعين الواقعي أي التبعيض في الكاشفية فإذا لم نتعقله أصبحت هذه الثمرة صحيحة تامة.

ثم انه يمكن تصوير هذه الثمرة فيما إذا فرضنا اتصال المخصص التفصيليّ فانه إِنْ كان المخصص التفصيليّ فانه إنْ كان المخصص الإجمالي متصلاً أوجب الإجمال لكونه من مصاديق احتفاف الكلام بما يحتمل قرينيته وإخراج الفرد الاخر ولا يوجد ظهوران لكي يبعض في الحجية بينهما بخلاف ما إذا كان منفصلاً.


ولازم حجية هذا العموم مع حجية دليل الاستصحاب في الطرف الاخر ثبوت القاعدة والحكم الظاهري في الطرف الأول لا محالة ولوازم الظهورات والدلالات حجة.

هذا إذا كان المخصص المجمل له تعين في الواقع وإلا فالصيغة الفنية للتمسك بالعامّ هي ما تقدم من حجيته في كل من الطرفين مشروطاً بخروج الطرف الاخر وبما انَّ هذا الشرط قد أحرز بالمخصص التعييني فلا محالة يحرز الجزاء فيه.

الثاني ـ أَنْ نفرض وجود معارض لظهور العام في أحد الفردين المتباينين تعييناً لا مخصص سواءً كانت المعارضة بملاك تنافيهما حكماً ، كما إذا دلَّ دليل على وجوب إكرام كل فقير وافترضنا خروج زيد المردد بين الأول والثاني ودل دليل ثالث بعمومه على عدم وجوب إكرام زيد الأول ، ومثال آخر ما إذا افترضنا وجود أصل يثبت النجاسة في أحد طرفي العلم الإجمالي غير مقدم على قاعدة الطهارة بل في رتبته أو كانت المعارضة بملاك نفس المخصص الإجمالي كما إذا فرضنا جريان استصحاب الطهارة في أحد الطرفين المذكورين فانه وإِنْ كان موافقاً مع دليل القاعدة في ذلك الطرف ولكنه معارض مع دليل القاعدة في الطرف الاخر لا محالة.

وعلى كل حال ففي هذه الحالة تظهر الثمرة بين فرضيتي اتصال المخصص المجمل وانفصاله ، فانه على تقدير الانفصال يكون عندنا ظهورات ثلاثة فعلية متعارضة فيما بينها بمعارضتين مستقلتين فتسقط الجميع ، وامَّا على تقدير الاتصال فلا ظهور فعلي للعام الأول في أحد الطرفين بعد ضم حجيته في العنوان الإجمالي إلى ذلك بنفس التقريب المتقدم. ولهذا حكمنا في المثال المذكور بجريان استصحاب الطهارة في أحد الطرفين من دون أَنْ يعارضه قاعدة الطهارة في الطرف الآخر لكونه مجملاً بالتعارض الداخليّ الموجب لإجماله.

التنبيه الثالث ـ بعد أَنْ عرفت الفارق بين دوران المخصص المجمل بين الأقل والأكثر ودورانه بين المتباينين يقع البحث حول تشخيص ميزان كون المخصص المجمل


دائراً بين متباينين أو أقل وأكثر ، فهل الميزان في ذلك ملاحظة النسبة بين طرفي الإجمال في مرحلة المفهوم فقط أو في مرحلة المصداق؟ وتفصيل ذلك انَّ هناك صوراً عديدة.

١ ـ أَنْ يكون المخصص مردداً بين المطلق والمقيد كما إذا تردد مدلول كلمة الفاسق بين مطلق فاعل الذنب أو خصوص فاعل الذنب الكبيرة ، ولا إشكال في انه من الدوران بين الأقل والأكثر.

٢ ـ أَنْ يكون المخصص مردداً بين مفهومين متباينين بحسب المفهوم وبحسب المصداق معاً ، كما إذا تردد كلمة المولى بين القريب والعبد ولم يكن أحد من الأقرباء بعبد ، وهذا لا إشكال في انه من الدوران بين المتباينين.

٣ ـ أَنْ يكون المخصص مردداً بين مفهومين متباينين بحسب المفهوم ولكن بينهما العموم من وجه بحسب المصداق كما إذا فرضنا في المثال السابق نفسه انَّ بعض الأقرباء عبد ، وهذا أيضاً من المردد بين متباينين وإِنْ كان بلحاظ مورد الاجتماع بالخصوص يقطع بالتخصيص على كل حال.

٤ ـ أَنْ يكون الدوران بين مفهومين متباينين بحسب المفهوم ولكن النسبة بين مصاديقهما الخارجية عموم وخصوص مطلق أي أقل وأكثر كما إذا دار مدلول المخصص بين إخراج عنوان الكافر أو غير المختون مثلاً وفرض ان الأول أعم مصداقاً من الثاني.

فهل الميزان في هذا القسم ملاحظة الخارج فيتعامل مع العام معاملة العام المخصَّص بالمجمل المردد بين الأقل والأكثر أو يتعامل معه معاملة العام المخصَّص بالمجمل المردد بين متباينين؟.

قد يقال : انَّ تشخيص ذلك مرتبط بالبحث القادم من الخلاف بين مدرسة المحقق النائيني ( قده ) ، ومدرسة المحقق العراقي ( قده ) في انَّ العام هل يتعنون ما هو الحجة منه بعد التخصيص بنقيض عنوان الخاصّ أَم لا؟

فعلى الأول يكون المقام من الدوران بين المتباينين ولا يصح التمسك فيه بالعامّ بالنسبة إلى غير المتيقن خروجه من الافراد الخارجية ، لأنَّ عنوان العام الحجة مردد بين الفقير غير المختون أو غير الكافر مثلاً فلا يحرز صدق ما هو الحجة من العام على الكافر المختون ليتمسك به.


وهذا بخلاف ما إذا قلنا بمقالة مدرسة المحقق العراقي ( قده ) فانَّ العام على هذا التقدير لا يتعنون بشيء بل يبقى شاملاً لكل فرد فرد من افراد الفقير غاية الأمر انَّ ظهوره لشمول الفرد غير المختون ليس بحجة واما ظهوره في شمول الافراد الأخرى فلا وجه لرفع اليد عن حجيته بعد أَنْ كان موضوع دلالة العام الحجة هو كل فرد فرد.

هذا ولكن الصحيح مع ذلك انَّ المقام من الدوران بين الأقل والأكثر على كلا المسلكين في ذلك البحث وانه يصح التمسك بالعامّ في الكافر المختون إذا كان المخصص منفصلاً على كل حال ، والوجه في ذلك انَّ العام وإِنْ كان يتعنون بنقيض عنوان الخاصّ مثلاً. إِلاَّ انَّ هذا لا ينافي مع كون العام حجة في نفسه في نفي تقييده وتعنونه بأي عنوان أي نفي تقيده بعدم الكفر وبالمختون غاية الأمر انه علم إجمالاً بثبوت أحد التقييدين ولكن دلالته على نفي التقييد بالمختون ـ وهو نقيض الأخص ـ لا تكون بحجة لأنه لا يترتب عليه أثر عملي بعد العلم بخروج غير المختون على كل حال وهذا بخلاف دلالته على نفي التقييد بغير الكافر ـ وهو نقيض الأعم ـ فانه يثبت سعة العام وثبوت حكمه على الكافر المختون ، وامّا تصوير الأثر لنفي التقييد بالمختون بلحاظ نفس إيقاع المعارضة بينه وبين الدلالة على نفي القيد الاخر فهذا لا يكفي لتصحيح حجية الدلالة والظهور عقلائياً وهذه نكتة عامة عقلائية كما لا يخفى.

المقام الثاني ـ في المخصص المجمل مصداقاً

وهذا البحث ينقسم أيضاً إلى أربعة فروع ، لأنَّ المخصص المجمل امَّا أَنْ يكون متصلاً بالعامّ أو منفصلاً عنه وعلى كل تقدير امّا أَنْ يكون الإجمال والدوران بين الأقل والأكثر أو بين المتباينين ، إِلاَّ انَّ الفرع الرئيسي الّذي من أجله عقد هذا المقام ما إذا كان المخصص منفصلاً دائراً بين الأقل والأكثر ، لأنَّ هذا البحث انما عقد كتتميم للبحث في المقام السابق عن المخصص المجمل مفهوماً وقد عرفت انَّ الفرع الوحيد في ذلك المقام الّذي كان يظهر فيه صحة التمسك بالعامّ ما إذا كان المخصص المجمل منفصلاً ودائراً بين الأقل والأكثر فيعقد حينئذٍ بحث عما إذا كان إجمال المخصص مصداقياً وانه هل يمكن فيه أيضاً التمسك بالعامّ أَم لا؟ فالفرع الرئيسي في


هذا المقام ما إذا كان المخصص منفصلاً ودائراً بين الأقل والأكثر وامَّا الفروع الأخرى فقد عرفت بأنَّ التمسك بالعامّ فيه في المجمل المفهومي غير صحيح فما ظنك بالمصداقي.

وأيّاً ما كان فنتحدث أولا عن الفروع الثلاثة الأخرى ثم نبحث عن الفرع الرئيسي فنقول :

امَّا إذا كان المخصص متصلاً ودائراً بين الأقل والأكثر فلا يمكن التمسك فيه بالعامّ ، وملخص الوجه فيه على ضوء ما يأتي في الفرع الرئيسي انَّ التمسك بالعامّ في هذا الفرع تمسك به في مورد الشبهة المصداقية لنفسه لأنَّ المخصص المتصل على ما تقدم يوجب تضييق ظهور العام ذاتاً لا حجية فحسب فينعقد ظهور العام من أول الأمر في غير مقدار التخصيص ، نعم يختلف حال هذا الفرع في هذا المقام عنه في المقام السابق بأنه يمكن هنا إثبات الحكم المشروط على الفرد المشكوك فيثبت انَّ زيداً الفقير مثلاً يجب إكرامه مشروطاً بكونه عادلاً إذا كان لهذا الوجوب المشروط أثر عملي لدى الفقيه.

وامَّا إذا كان المخصص مردداً بين المتباينين كما إذا علمنا بأنَّ أحد الفقيرين فاسق والاخر عالم وكان متصلاً بالعامّ أو منفصلاً عنه فالحال فيه هو الحال في المقام السابق من عدم إمكان التمسك بالعامّ في الفردين معاً لأنه خلف ثبوت التخصيص ولا في أحدهما بعينه لأنه ترجيح بلا مرجح ، وصحة التمسك به في أحدهما إجمالاً بل هذا التمسك هنا أوضح منه في المقام السابق لأنَّ غير الخارج بالتخصيص دائماً يكون متعيناً في موارد الدوران بين المتباينين وإِلاَّ لم يكن من الدوران بين المتباينين ، كما انَّ ما ذكر في المخصص المنفصل في المقام السابق من إشكال التعارض بين الظهورين التعيينيين في الفردين وتساقطهما غير جار هنا لأنَّ العام في المقام لا مقتضي له في كل من الفردين تعييناً لكونه شبهة مصداقية له وسوف يأتي انه لا مقتضي للعام فيه ، وانما مقتضية من أول الأمر في الفرد غير الخارج بالتخصيص فيكون حجة بلا كلام.

وامَّا البحث عن الفرع الرئيسي وهو ما إذا كان المخصص المجمل مصداقاً مردداً بين الأقل والأكثر فنتدرج في عرضه ضمن خطوات عديدة.

الخطوة الأولى ـ انه قد يقال بصيغة ساذجة انه يمكن التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية لمخصصه وذلك لأنَّ مقتضي التمسّك بالعامّ تام والمانع مفقود.


امَّا المقتضي فلأنَّ المفروض انفصال المخصص وعدم انثلام ظهور العام الشامل لكل فرد من افراد الفقير مثلاً حتى الفرد المشكوك فسقه. وامَّا فقدان المانع فلأنَّ المانع المتوهم هو المخصص ولكنه لا يمكن التمسك به في الفقير المشكوك فسقه لأنه لا يحرز انطباقه عليه فكيف يمكن التمسك به فإذا لم يكن الخاصّ حجة في مورد الإجمال مع فعلية ظهور العام كان المتعين حجية العام لا محالة.

الخطوة الثانية ـ وهي مناقشة في الخطوة السابقة وحاصلها : انَّ ظهور العام بعد ورود المخصص يصنف إلى صنفين صنف يكون حجة وهو ظهوره في الفقراء غير الفساق وصنف لا يكون حجة وهو ظهوره في الفقراء الفساق ، ومورد الشك المصداقي لا يدرى هل انَّه ينتسب إلى الفئة الأولى أو الثانية ،؟ فيكون الشك في أصل المقتضي وشمول الظهور الحجة من العام لمورد الإجمال.

الخطوة الثالثة ـ وهي مناقشة فيما ذكر في الخطوة السابقة وتصحيح للمدعى في الخطوة الأولى وحاصلها : انَّ التصنيف المذكور اعتباطي لا موجب له لأنَّ ظهور العام انما يقتضي شمول كل فرد فرد من مصاديقه وهم الفقراء في المثال ـ على ما تقدم شرحه في بحوث أدوات العموم ـ حيث قلنا بأنها تدلّ على انَّ كلّ فرد موضوع للحكم ، فالمقتضي انَّما هو الظهور الجزئي في كلّ فرد وهذا محرز في الفرد المشكوك وانَّما يشك في وجود المانع عنه وهو شمول المخصص وقد عرفت انَّه لا يمكن التمسّك به فلا يعقل أَنْ يكون مانعاً ، وامَّا تصنيف ظهور العام إلى صنفين وفئتين فمجرد انتزاع عقلي عما هو واقع ظهور العام ودلالته فلا عبرة به.

الخطوة الرابعة ـ وتتكفل عرض مقالة المحقق النائيني ( قده ) التي تحاول إبطال ما انتهينا إليه من مجموع الخطوات السابقة ببيان فني يتوقف على مقدمة حاصلها : انَّ الحكم له مرحلتان مرحلة الجعل الّذي يفرض فيه الموضوع مقدر الوجود في أفق الجعل ويحكم عليه بالحكم ، ومرحلة المجعول وفعلية الحكم باعتبار انطباق موضوعه على الخارج.

وانحصار الحكم الفعلي بقسم من الافراد تارة ، يكون من جهة انحصار موضوع الحكم بذلك القسم ، كما إذا مات الفقراء الفساق مثلاً ولم يبق في الخارج إِلاَّ الفقير


العادل. وأخرى : يكون من جهة تحديد في مرحلة الجعل تخصيصاً أو تقييداً أو نسخاً ، وبين الانحصارين فرق جلي ذلك انَّ الأول لا يوجب تعنون العام بخصوص ذلك القسم المتبقي من الافراد بل ثبوت وجوب الإكرام في الفقير العادل انما هو باعتباره فقيراً من دون دخل لخصوصية عدالته فيه لأنَّ موت بعض مصاديق موضوع الجعل لا يؤثر على الجعل نفسه الّذي يكون الموضوع مقدراً فيه كما لا يخفى ، بل حتى لو فرض عدم وجود شيء من موضوع الجعل فالجعل ثابت على موضوعه المفروض في أفق الجعل ، ولهذا لا يعقل أَنْ يكون انعدام بعض مصاديق الموضوع خارجاً موجباً لتعنون موضوع الجعل بغيره بل الموضوع نفس الموضوع وانما لا يجد مصداقاً ينطبق عليه غيره.

وامَّا في الثاني فلا محالة يتحدد العام ويتعنون بغير مورد التخصيص لأنَّ التحديد الوارد منصب على الجعل نفسه ليضيِّق منه تخصيصاً أو نسخاً ، ومن الواضح انه بلحاظ هذه المرحلة امَّا أَنْ يكون هناك تقييد أو إطلاق لاستحالة الإهمال ثبوتاً فإذا فرض ثبوت المخصص جداً وعن مصلحة وملاك كما هو حال الأحكام الشرعية كان لا محالة دليلاً على التقييد وتعنون الجعل ثبوتاً بالفقير الفاسق لأنَّ الإهمال مستحيل والإطلاق خلف ثبوت التخصيص.

وبهذا يتضح انَّ نقض المحقق العراقي ( قده ) على مقالة المحقق النائيني (١) بموارد موت الفقراء الفساق من الغرائب المعدودة التي وقع فيها هذا المحقق فانَّ الفارق بين النحوين مما لا يكاد يخفى.

وعلى ضوء هذه المقدمة يقال في موارد الشبهة المصداقية للمخصص إِنْ أُريد التمسك بالعامّ لإثبات الحكم المطلق فهو مقطوع البطلان بعد ورود المخصص ، وإنْ أُريد التمسك به لإثبات الحكم المشروط بالعدالة فهذا صحيح لكنه غير مفيد لأنَّ المقصود التمسك بالحجة والدليل لإثبات حكم فعلي نستغني ببركته عن الرجوع إلى الأصول العملية وامَّا الحكم المشروط المشكوك تحقق شرطه فلا يفيد ذلك.

الخطوة الخامسة ـ ونناقش في هذه الخطوة مقالة المحقق النائيني ( قده ) فنقول : انَ

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٤٥٨ ـ ٤٥٩


الشبهة في المقام التي يراد علاجها بالعامّ شبهة موضوعية وليست حكمية بحسب الفرض ، وعلى هذا الأساس إذا فرض تمامية مقتضي العام وظهوره في نفسه للفرد المشكوك أمكن التمسك به لإثبات وجوب إكرامه بالفعل ولو كان يلزم منه كونه عادلاً ، فليس التمسك بالعامّ في الموارد مستلزماً لإثبات حكم مطلق حتى يقال بأنه مقطوع الكذب بعد ورود المخصص الدال على التقييد إذ ليست الشبهة حكمية ليراد إثبات الحكم المطلق وانما الشبهة موضوعية ومقتضى العام إثبات الحكم الفعلي على كل فرد من افراده فيكون معنى التمسك به في الفقير المشكوك إثبات وجوب إكرامه لأنه عادل تماماً نظير ما إذا قام دليل خاص في زيد الفقير المشكوك في عدالته على وجوب إكرامه فكما كنا نتمسك به وبالملازمة نثبت انّه غير فاسق كذلك الحال في دلالة العام وشموله لزيد فانه يثبت وجوب إكرامه الفعلي لأنه غير فاسق ، ووجوب الإكرام لكونه غير فاسق لا يكون معارضاً مع التخصيص كما هو واضح فالحاصل : المعارض مع التخصيص دلالة العام في الشبهة الحكمية على نفي التقييد لا دلالته في الشبهة الموضوعية ومجرد تعنون الجعل المدلول عليه بالعامّ ثبوتاً بنقيض عنوان الخاصّ لا يكفي لإبطال شبهة التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية لمخصصه بعد أَنْ كان ظهوره في إثبات الحكم الفعلي بوجوب الإكرام على كل فرد تاماً في نفسه.

نعم لو ضمننا إلى هذا المبنى مبنى آخر كأنَّ مدرسة المحقق النائيني ( قده ) قد أضمرته ولم تصرح به وهو انَّ العام يدلّ على ثبوت حكمه في كلّ فرد بالعنوان المأخوذ فيه أي ثبوت وجوب الإكرام على كلّ فرد بما هو فقير فقط. تمَّ ما ترمي إليه إذ يقال عندئذٍ بأنه لو أُريد من التمسك بالعامّ إثبات وجوب إكرام زيد بما هو فقير غير فاسق فلا مقتضي بعد ورود المخصص وإِنْ أُريد إثبات وجوب إكرامه بما هو فقير غير فاسق فلا مقتضي للعام في ذلك إذ لا ظهور فيه على انَّ زيد بما انه غير فاسق يجب إكرامه ، ومن هنا نعلم انَّ تمامية مقالة الميرزا ( قده ) وبرهانه في المقام مبنيٌ على الاعتراف بأمرين :

أحدهما ـ تعنون العام ثبوتاً بغير عنوان الخاصّ.

والثاني ـ دلالة العام إثباتاً على ثبوت حكمه في كل فرد بما انه معنون بعنوان العام.

ونحن نوافق مدرسة الميرزا ( قده ) في الأمر الأول واما في الثاني فلا نعترف بدلالة


العام على ثبوت حكمه في كل فرد بما هو معنون عنوان العام وانما العام يدل على ثبوت حكمه الفعلي في كل فرد من افراد عنوان العام مهملاً من حيث كونه بذلك العنوان فقط أو من جهة دخل عنوان اخر فيه أيضاً.

نعم عمومه للفرد الفاقد للقيد ينفي دخل ذلك القيد في موضوع الحكم إِلاَّ انَّ هذا لا يعني انَّ عمومه لكل فرد وشموله له لكونه مصداقاً للعنوان المأخوذ فيه لا غير ، فعمومه لكل فرد لا يقتضي إِلاَّ إثبات الحكم الفعلي فيه مهملاً من ناحية ما هو مناط ثبوت الحكم ، واستفادة عدم دخالة غير العنوان المأخوذ في مدخول العموم في الحكم انما يكون ببركة عمومه للفرد الفاقد ـ وهو الفقير الفاسق ـ الّذي علم بكذبه بعد ورود المخصص لا انها شرط في دلالته وشموله لكل فرد ، فمقتضي العام بلحاظ الفرد المشكوك فعلي والشك في وجود المانع عنه ، لما تقدم في الخطوة الثالثة من انَّ العموم ينحل إلى دلالات عديدة بعدد كل فرد فرد فإخراج أي فرد حتى الفرد المشكوك يكون تخصيصاً زائداً على العام فلا يقاس بباب المطلقات كما هو واضح (١).

__________________

(١) يفهم من هذا البيان ان هناك فرقاً بين المطلق والعام فالمطلق لا مجال لتوهم حجيته في الشبهة المصداقية لمقيّده ، وهذا يمكن ان يبين في وجهه أحد أمرين الأول ـ ان المطلق لا نظر فيه إلى الافراد وانما يكشف الإطلاق عن ان تمام الموضوع للحكم ثبوتاً ذات الطبيعة وبعد ورود المقيد علم بأنها ليست تمام الموضوع وانما الموضوع هو المقيد والمفروض الشك فيه وهذا بخلاف العام الّذي يكون الحكم فيه ثابتاً على كل فرد فرد.

وهذا المقدار من البيان يمكن الإجابة عليه بأنَّ الفرق بين العام والمطلق ليس من ناحية رؤية الافراد في العام دون المطلق كيف وان المطلق أيضاً قد يكون ناظراً إلى الافراد كما في الجمع المضاف في مثل قولك « أكرم علماء البلد » كما ان العام ربما يكون الاستيعاب فيه أجزائياً أو مجموعياً وانما الفرق من ناحية دلالة العام على الاستيعاب باللفظ بخلاف المطلق الّذي تكون الدلالة فيه بالسكوت وعدم البيان.

الثاني ـ ان العام حيث يدل فيه اللفظ على الاستيعاب وشمول الحكم لكل فرد فرد فيكون مقتضى التمسك بالعموم فيه لكل فرد نفي خروجه عن الحكم بأي عنوان من العناوين بخلاف المطلق فانه لا يوجد فيه ما يدل على هذا النفي الا بمقدار ما يسكت عنه من القيود فإذا ثبت التقييد بقيد كالعادل فمع الشك في انطباقه لا يوجد ما ينفى به عدم خروج ذلك الفرد بذلك العنوان لا باللفظ كما هو واضح ولا بالسكوت لأن المفروض العلم بالتقييد. واما العام فعمومه للفرد المشكوك بنفسه يدل على استيعاب الحكم له لفظاً أي يدل على نفي انطباق أي عنوان مخرج له عن العام وهذه الدلالة في الشبهة الحكمية تقتضي نفي التخصيص بعنوان آخر وفي الشبهة المصداقية بعد فرض ثبوت التقييد بالعدالة تقتضي نفي انطباق ذلك العنوان على المصداق المشكوك فيه. فالحاصل : ان المطلق وان كان يمكن التمسك بإطلاقه في الفرد المشكوك لنفي أخذ عدمه قيداً في الجعل وإثبات سعة الجعل من ناحية إلا ان هذا لا ينفي احتمال خروجه بقيد آخر غير مسكوت عنه ومعلوم الحصول. وهذا بخلاف العام فان عمومه للفرد يدل باللفظ على عدم خروجه بأي عنوان فيدل بالملازمة على عدم خروجه بالقيد المعلوم أيضاً.


ومما يدل على عدم تمامية الأمر الثاني المتوقف عليه برهان الميرزا ( قده ) انا لو فرضنا انَّ دلالة العام على وجوب إكرام كل فقير انما هي باعتبار كونه فقيراً لا غير ، لزم عدم حجية العام في الباقي بعد ثبوت التخصيص فضلاً عن الشبهة المصداقية لمخصصة للعلم بكذب دلالته هذه ولا مقتضي لظهور آخر فيه كما هو واضح.

الخطوة السادسة ـ في بيان البرهان الفني المختار على عدم جواز التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية لمخصصه.

والصحيح في وجه عدم صحة التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية للمخصص هو أَنْ يقال لا إشكال في توقف التمسك بالعامّ في ذلك على دلالة العام على الحكم في الشبهة الموضوعية ولا يكفي ملاحظة دلالته في الشبهة الحكمية إذ بلحاظها فقط لا يمكن إثبات حكم الفرد المشكوك لأنَّ الحكم المطلق يعلم بخلافه بعد ثبوت المخصص والحكم المقيد لا يجدي مع الشك في شرطه فلا محيص من التمسك بدلالة العام بلحاظ الفرد المشكوك بنحو الشبهة الموضوعية لإثبات وجوب إكرامه بالفعل الدال بالالتزام على انه عادل. وهذه الدلالة يمكن تخريجها بأحد طريقين :

الطريق الأول ـ أَنْ نتمسك بدلالة العام في الفرد المشكوك لإثبات وجوب إكرامه واقعاً من باب انه عادل واقعاً.

وهذا الطريق غير تام لأنَّ الخطاب المولوي لا يتكفل إثبات حكم ليس من شئون المولى بما هو مولى الكشف عنه بل هو من شئونه بما هو عالم للغيب أو عالم به صدفة ، ومن هذا القبيل وجوب إكرام زيد لكونه عادلاً واقعاً فانَّ هذه الحصة من وجوب الإكرام كأصل عدالة زيد نسبتها إلى المولى بما هو مولى وإلى العبد على حد سواء فلا تكون الخطابات المولوية الصادرة من المشرع بما هو مشرع كاشفة عرفاً عنها.

فالحاصل : إِنْ أُريد إثبات وجوب إكرام زيد حتى لو كان فاسقاً واقعاً فهذا مقطوع الكذب بعد ورود المخصص وإِنْ أُريد إثبات وجوب إكرامه من باب كونه عادلاً فهذا ليس من شأن المولى بما هو مشرع الكشف عنه فلا طاقة في خطاباته الصادرة عنه بما هو مشرع ومولى لإثباته نعم لو تصدى المولى بنفسه لبيان وجوب إكرام زيد بالخصوص كان ظاهر تصديه انه قد أحرز تحقق القيد خارجاً.


الطريق الثاني ـ هو التمسك بدلالة العام في الفرد المشكوك لإثبات وجوب إكرامه الظاهري ولو من باب انَّ الشارع جعل الفقر ـ العنوان المأخوذ في العام ـ أمارة على العدالة ـ القيد المنكشف بالمخصص ـ وذلك تحفظاً على دلالة العام وشموله للفرد المشكوك فيكون وجوب إكرامه لكونه عادلاً ظاهراً وهذا ليس كالعدالة الواقعية خارجاً عن شئون المولى بما هو مولى بيانه بل جعل الأمارية كسائر الأحكام من شغل المولى بما هو مشرع.

وهذا الطريق أيضاً غير تام وذلك لأنَّ الحكم الظاهري بوجوب إكرام زيد المشكوك فرع ثبوت وجوب الإكرام له واقعاً على تقدير عدالته الواقعية ، لأنَّ الحكم الظاهري في طول الشك واحتمال ثبوت الحكم الواقعي ، وحينئذٍ إِنْ أُريد التمسك بالعامّ في الفرد المشكوك مرتين مرة لإثبات وجوب إكرامه الواقعي مشروطاً بعدالته الواقعية ومرة أُخرى لإثبات وجوب إكرامه الظاهري فهو واضح الفساد ، فانَّ الدليل لا يتكفّل إِلاّ إثبات وجوب إكرام واحد على كلّ فرد ، وإِنْ أُريد التمسك به لإثبات الوجوب الواقعي فقط المشروط بالعدالة فهو لا يفيد ، وإِنْ أُريد التمسك به لإثبات الوجوب الظاهري فقط فهو غير معقول لأنه كما أشرنا في طول ثبوت الوجوب الواقعي فلا يعقل ثبوته من دون ثبوت الوجوب الواقعي المشروط.

ودعوى انَّ المدلول المطابقي انما هو الوجوب الظاهري وليكن ثبوت الوجوب الواقعي المشروط مستكشفاً بالدلالة الالتزامية ، مدفوعة : بأنَّ الوجوب الظاهري ليس في طول ثبوت الوجوب الواقعي في لوح الواقع بل في طول وصول الحكم الواقعي واحتماله فلا يمكن أَنْ يكون وصوله بنفس وصول الحكم الظاهري أو في طوله كما هو واضح (١).

__________________

(١) قد يقال لا يكون جعل الحكم الظاهري في طول وصول الواقعي وانما فعلية مجعوله في الشبهة الموضوعية في طول وصول الجعل الواقعي في الشبهة الحكمية وعموم العام في الفرد المشكوك يثبت جعل الحكم الظاهري في الشبهة الموضوعية فيكون بنفسه كاشفاً بالملازمة عن جعل الحكم الواقعي في الشبهة الحكمية.

والجواب : اللغوية المذكورة عرفية وامّا بالدقة العقلية فلا لغوية كما ذكر ولكن اللغوية العرفية كافية للمنع عن انعقاد العموم نعم لو كان الدليل وارداً في خصوص المورد فمقتضى قرينة الحكمة وصوناً للكلام عن اللغوية ثبوت اللازم.


وقد يتوهم ورود هذا الجواب على الطريقة الأولى بدعوى انَّ التمسك بالعامّ لإثبات الحكم الفعلي على زيد أي المجعول فرع ثبوت الجعل له على تقدير كونه عادلاً فانَّ المجعول أيضاً في طول الجعل فانْ أُريد التمسك بالعامّ لإثبات الجعل لزيد والمجعول معاً فهو غير ممكن لعدم وجود دلالة واحدة في العام بالنسبة إلى زيد ، وإِنْ أُريد التمسك به لإثبات الجعل المشروط فهو لا يجدي ، وإِنْ أُريد إثبات المجعول فقط من دون جعل فهو غير معقول.

إِلاَّ انَّ هذا التوهم غير صحيح لأننا نتمسك بالعامّ لإثبات الحكم الفعلي بالمطابقة ونثبت الجعل بالالتزام وليس فعلية المجعول في طول وصول الجعل بل في طول ثبوته الواقعي.

ثم انَّ هناك إشكالاً رئيسياً مشتركاً على الطريقتين معاً وحاصله : انَّ ظهور العام لا يساعد على إثبات وجوب الإكرام في الفرد المشكوك لا بالطريقة الأولى ولا بالطريقة الثانية.

امَّا الأول فلأنَّ إثبات الحكم الفعلي بالعامّ على الفرد المشكوك معناه صيرورة مدلول العام إخباراً في هذا الفرد لأنَّ فعلية مجعول جعل ثابت بدليل آخر قضية خبرية لا محالة ، فانْ أُريد جعل الخطاب العام في تمام مدلوله إخباراً عن فعلية جعل ثابت في مرتبة سابقة فهو واضح البطلان بل خلف لأنَّ الكلام في التمسك بدليل الجعل في الشبهة المصداقية ، وإِنْ أُريد جعل خصوص هذه الدلالة منه إخباراً فهو أشنع لأنَّ الدال على الحكم في العام واحد فهو امَّا أَنْ يكون إخباراً أو إنشاءً فجعله إخباراً بلحاظ بعض الافراد وإنشاء بلحاظ الباقي إِنْ لم يكن مستحيلاً فلا أقل من انه غير صحيح إثباتاً.

ولا يقاس ذلك بما إذا ورد دليل خاص على وجوب إكرام زيد المشكوك في عدالته فانه لو علم انَّ ملاك الإكرام هو العدالة لا إشكال في كون القضية إنشائية وليست إخبارية ومع ذلك يستفاد انتفاء الفسق ، وذلك لأنه في مثل هذه الحالة يكون الخطاب كاشفاً عن جعل شخصي ويكون المولى بنفسه قد تصدى إلى إحراز موضوعه فلا تكون عدالته المشكوكة مأخوذة في موضوع الجعل الشخصي وإِنْ كان الملاك مقيداً بها بل


يكون حالها حال أصل الملاك من حيث عدم تقييد الخطاب به لكون المولى متصدياً لإحرازه في موضوع جعله ، ومثل هذا لا يعقل افتراضه في المقام فانَّ استفادة جعل شخصي في زيد بالخصوص يلزم منه أَنْ يكون خطاب العام متكفلاً جعلين أحدهما جعل وجوب الإكرام على الفقراء العدول بتوسط عنوان كل فقير عادل والاخر جعل شخصي لوجوب إكرام زيد على كل حال وهو واضح البطلان فانَّ خطاب العام لا يتكفل إِلاّ جعلاً واحداً بتوسط عنوان العام على نهج القضية الحقيقية اللهم إِلاّ أَنْ نرجع الجملة إلى خبرية فيمكن أَنْ تكون إخباراً عن جعول متعددة وقد عرفت فساد ذلك أيضا.

وامَّا الثاني فلأنَّ الحكم الظاهري يختلف عن الحكم الواقعي في مرحلة الجعل حيث يكون موضوعه الشك في الحكم الواقعي ، وحينئذٍ لا يعقل أَنْ يكون عموم العام في الفرد المشكوك كونه من افراد المخصص دالاًّ على وجوب إكرامه الظاهري لأنه لو دل على وجوب ظاهري فعلي فيه كان إخباراً وإِنْ كشف عن جعله فيه على حد جعل الوجوب الواقعي في الفقير العادل فهو غير معقول لأنَّ كل خطاب لا يتحمل إِلاَّ الكشف عن جعل واحد وهو امّا أَنْ يكون واقعياً لم يؤخذ في موضوعه الشك أو يكون ظاهرياً أخذ في موضوعه ذلك.

ويمكننا أَنْ نستخلص من مجموع ما تقدم انَّ التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية لمخصصه غير صحيح لأنَّ ذلك انما يتصور بأحد أنحاء أربعة كلها غير تامة.

النحو الأول ـ أَنْ يراد التمسك بالعامّ في الفرد المشكوك بلحاظ الشبهة الحكمية أَي لإثبات جعل يمكن تطبيقه على الفرد المشكوك وهذا هو النحو الّذي عالجه المحقق النائيني ( قده ) مبنياً على تعنون العام ثبوتاً بغير عنوان الخاصّ بالبرهان المتقدم شرحه حيث انه لو أُريد التمسك به لإثبات الجعل المطلق فهو خلف التخصيص وإِنْ أُريد التمسك به لا ثبات الجعل المقيد فلا يحرز انطباقه على الفرد المشكوك.

وقد ناقش المحقق العراقي ( قده ) في التعنون المذكور بنقاش نقضي وحلّي (١).

__________________

(١) مقالات الأصول ، ج ١ ، ص ١٤٩ ـ ١٥٠


امَّا النقض فبموارد موت بعض افراد العام خارجاً وقد عرفت انَّ هذا منه ( قده ) خلط غريب بين مرحلة الجعل ومرحلة المجعول.

وأمَّا الحلّ ، فبدعوى : انَّ المخصص انَّما يدلّ على تضييق حكم العام في مورد التخصيص وحكم العام متأخرٌ رتبة عن موضوعه فان أُريد جعل هذا التضيق سبباً في تضيق الموضوع فهو مستحيل لأنَّ الحكم المتأخر عن موضوعه لا يمكن أَنْ يؤثر في تجديد موضوعه ، وإِنْ أُريد تضييق الموضوع في المرتبة السابقة بقطع النّظر عن المخصص فهو بلا موجب كما هو واضح.

وهذه المناقشة أيضاً غريب منه ( قده ) فانَّ المخصص وإِنْ كان تضييقاً لحكم العام إِلاّ انَّ مدّعي التعنون لا يدعي انَّ تضييق حكم العام واسطة ثبوتية لتضييق موضوعه ليقال بأنه مستحيل وانما يدّعي انه واسطة في الإثبات تكشف إِنّا عن تضييق موضوع حكم العام ببرهان استحالة الإهمال ثبوتاً ، وكأَنَّ المحقق العراقي ( قده ) قاس العمومات المجعول فيها الحكم على الافراد من خلال عنوان العام على نهج القضايا الحقيقية بالقضية الخارجية التي يجعل فيها الحكم على الأشخاص الخارجية مطلقاً كما فيما إذا أشار إلى اشخاص معينين وقال ( أكرم هؤلاء ) فانه في مثل ذلك لا إشكال في انه لو اخرج بالتخصيص زيداً الفاسق منهم مثلاً لا يتعنون موضوع الحكم في الباقي بعنوان العادل لأنَّ المولى بنفسه قد أحرز وشخص موضوع حكمه في كل شخص من أولئك سواءً كان لعنوان العدالة دخل في الحكم ثبوتاً أم لا.

وقد تقدم انَّ هذا القياس في غير محله وإِنَّ الحكم إذا كان مجعولاً بتوسط عنوان ـ ولو كان مصبه الفرد لا الطبيعة ـ فلا محالة يتعنون موضوع الحكم بنقيض ما يطرأ على ذلك الخطاب من قيود لكون القضية حقيقية لا خارجية وإِنَّ المولى لا يتكفل إحراز ذلك العنوان في المصاديق وانما يجعل حكمه على كل فرد ينطبق عليه ذلك العنوان وبتوسطه فإذا كان لا يريد القضية المطلقة فلا محالة يكون موضوع حكمه المجعول على نهج القضية الحقيقية المقيد بغير العنوان الخاصّ.

بل هذا التعنون يثبت في القضية الخارجية أيضاً إذا كان المخصص للعام اخرج الافراد بتوسط عنوان كما إذا قال في المثال المتقدم ( لا يجب إكرام فساقهم ) ، حيث


يستكشف منه انَّ المولى لم يتصد بنفسه إلى إحراز فسقهم وعدالتهم بل أوكل ذلك إلى المكلف وجعل حكمه بوجوب الإكرام على العادل منهم فهذه القضية من ناحية فسقهم وعدالتهم كالقضية الحقيقية من حيث أنَّ موضوع الجعل المستكشف بالخطاب مقيد بالعدالة.

النحو الثاني ـ أَنْ يتمسك بالعامّ في الفرد المشكوك بلحاظ الشبهة الموضوعية لإثبات فعلية المجعول بالجعل الواقعي لوجوب الإكرام وهذا هو الّذي قلنا انَّ البرهان المتقدم من الميرزا ( قده ) لا يجدي في إبطاله ولكنه غير صحيح أيضاً لوجوه :

الأول ـ ما تقدم من انَّ بيان فعلية المجعول من باب فعلية موضوعه الواقعي ليس من شأن المولى بما هو مولى عرفاً فلا يكون خطابه كاشفاً عن ذلك ليتمسك به (١).

الثاني ـ انه يلزم منه انقلاب خطاب العام الإنشائي إلى جملة خبرية في الفرد المشكوك لأنَّ الكشف عن فعلية وتحقق مجعول جعل كلّي في فردٍ مفاد خبري وليس إنشائياً كما تقدم ، فحينئذٍ لو فرض إرجاع مفاد العام في تمام الافراد إلى جملة خبرية

__________________

(١) بل الأوفق ان يقال : ان الحكم الفعلي بمعنى المجعول خارج عن مدلول الخطاب سواءً في العام أو المطلق وانما هو من باب تطبيق الجعل المنكشف بالخطاب على مصاديقه وإحراز صغراه المستلزم لتولد الحكم الفعلي بمعنى المجعول ـ وهو وجود وهمي غير حقيقي على ما تقدم مراراً ـ فتمام دور الظهورات في باب القضايا الحقيقية الكشف عن الجعل وحدوده سعة وضيقاً ولا مساس لها بعالم المجعول ومرحلة التطبيق ، نعم إذا كان الخطاب قضية خارجية كان ناظراً إلى مرحلة التطبيق والمجعول لا محالة إلاّ انَّ هذا غير جعل الحكم على كلّ فرد فرد فانّ هذا يتصور في القضية الخارجية والحقيقية معاً كما انَّه غير دلالة اللفظ على الاستيعاب المتصورة في القضيتين أيضا لأنَّها تنفي التخصيص بنحو الشبهة الحكمية فقط.

وهكذا يتضح : ان الخطاب المجعول على نهج القضية الحقيقية لا يمكن أن نثبت به الحكم في الشبهة المصداقية ، إذ لو أريد التمسك به لإثبات الحكم الفعلي بمعنى المجعول فهو خارج عن مدلول الخطاب ، وان أريد التمسك به لإثبات سعة الجعل وعدم خروج هذا الفرد منه فالمفروض أنْ الجعل قضية حقيقية فسعته وشموله لهذا الفرد أيضاً لا بد وان يكون على نهج القضية الحقيقية لا الخارجية أي ينفي أخذ أي قيد يوجب عدم شمول القضية الحقيقية بما هي حقيقية لهذا الفرد لا أنه يثبت شموله له بما هو فرد خارجي فان هذا خلف كون الجعل المستكشف بالعامّ ـ مهما ورد عليه قيود حقيقية أو خارجية ـ يبقى قضية حقيقية ، فالعموم لا يمكن ان يثبت الا انَّ الجعل غير مقيد بعدم هذا الفرد ولا يمكن ان يثبت ان هذا الفرد الخارجي واجب الإكرام وانما يثبت ذلك في مرحلة التطبيق بعد إحراز الجعل وحدوده والمفروض ان الجعل قد أخذ في موضوعه قيد العدالة فلا يحرز انطباقه على الفرد المشكوك وقد ظهر بهذا البيان : ان تمام فذلكة الموقف مرتبطة بهذه النكتة لا بمسألة مولوية المولى وشأنه بما هو مولى ، ولا بكون الجملة إنشائية لا خبرية فان الخطاب لو كان بنحو القضية الخارجية وناظراً إلى مرحلة التطبيق كان يصح التمسك به بلا كلام ولم يكن ذلك منافياً مع شأن المولى بما هو مولى ولا انقلاب الإنشاء إخباراً بل يبقى الخطاب إنشاءً ولكنه يدل بالملازمة على مدلول إخباري ولا محذور فيه.

كما ظهر : ان ما أفيد في دفع الإشكال الثالث من ان نتمسك بالعموم لإثبات فعلية المجعول بالمطابقة ويكون دالاً بالالتزام على الجعل غير سديد ، فان الخطاب لا يمكن ان يثبت المجعول إلا إذا كان بنحو القضية الخارجية ، ولعل هذا هو روح مقصود الميرزا ( قده ).


تحكي عن فعلية المجعول بفعلية موضوعه فهذا واضح الشناعة ، إذ مضافاً إلى وضوح كون الخطاب جملة إنشائية في مقام الجعل بحسب الفرض ، كيف يمكن أَنْ يفرض اخبار المولى عن عدالة كل فقير مع وضوح انقسامه إلى فاسق وغير فاسق؟

وإِنْ بقي مفاد العام في سائر الافراد على إنشائيته فهذا فيه شناعتان ، إذ من ناحية يلزم أَنْ تكون القضية الواحدة ملفقة من إنشائية وإخبارية وهو إِنْ لم يُفرض استحالته فلا أقل من انه لا يقع خارجاً في باب الاستعمالات ، ومن ناحية أخرى لا يوجد تمايز بين الفرد المشكوك في الشبهة الموضوعية مع الفرد الواقعي بل كلاهما فردٌ من الفقير المأخوذ في موضوع الخطاب العام اللهم إِلاَّ أَنْ يعمل المولى علمه الغيبي فيقصد بخطابه الاخبار بلحاظ الافراد التي يعلم بعلمه الغيبي انه سوف يقع شك مصداقي فيها وهذا أيضا واضح الفساد والشناعة.

الثالث ـ ما تقدم من انَّ التمسك بالعامّ لإثبات الحكم الفعلي في الشبهة الموضوعية فرع ثبوت الجعل له في الشبهة الحكمية فانْ أُريد إثباتهما معاً فهو غير معقول إذ الخطاب لا يتكفل إِلاّ إثبات حكم واحد ، وان شئت قلت : انَّ العام لا يشمل كلّ فرد إِلاّ مرة واحدة لإثبات الحكم فيه امَّا بلحاظ مرحلة الجعل أو المجعول.

وإِنْ أُريد إثبات المجعول بلا جعل فغير معقول لتوقفه عليه وإِنْ أريد إثبات الجعل بلا مجعول فغير مفيد لكونه مشروطاً.

وقد تقدم الجواب عن هذا الوجه وانه يمكن اختيار الشق الثاني وانه بالعامّ نثبت بالمطابقة فعلية المجعول ويكون دالاً بالالتزام على الجعل فيكون استفادة الجعل بلحاظ الفرد المشكوك بدلالة التزامية للعام لا مطابقية.

الرابع ـ ما يستفاد من بعض كلمات المحقق العراقي ( قده ) وحاصله : انَّ دليل حجية العام لا تشمل العام إِلاَّ مرة واحدة لا مرتين مع انه في المقام لا بدَّ من إلغاء احتمال عدم وجوب إكرام الفرد المشكوك مرتين مرة بلحاظ الشبهة الحكمية لنفي احتمال تخصيص زائد فيه وأخرى بلحاظ الشبهة الموضوعية. وقد حاول الجواب عليه ، بأنه لا مانع من التمسك بدليل حجية العام أولا لإلغاء احتمال الخلاف في الفرد المشكوك بلحاظ الشبهة الموضوعية لإثبات الموضوع فيتمسك بدليل الحجية فيه مرة أخرى بلحاظ الشبهة


الحكمية لأنَّ الحجية وإِنْ كانت واحدة جعلاً إِلاَّ انها منحلة في مرحلة التطبيق ولا محذور في أَنْ يتحقق فرد في طول شمول الحجية لفرد آخر كما هو الحال في الاخبار مع الواسطة.

وهذا الجواب مع أصل الإشكال غير الصحيح لأنَّ الحجية ليست مجعولة على عنوان الشك واحتمال الخلاف وانما مجعولة على موضوع هو دلالة الدليل العام فانها الحجة وحينئذٍ فلا بدَّ من ملاحظة انه هل يمكن افتراض دلالتين في دليل العام بلحاظ الشبهتين أم لا فانْ أمكن تحصيل ذلك كان التمسك بدليل الحجية فيهما عرضياً وإِلاَّ فلا مجال للتمسك بدليل الحجية حتى بنحو طولي لعدم موضوع له ، وقد عرفت انه يمكن افتراض دلالة العام مطابقة على فعلية المجعول في الفرد المشكوك والتزاماً على ثبوت جعل له على تقدير كونه عادلاً واقعاً.

النحو الثالث ـ أَنْ يتمسك بالعامّ لإثبات حكم ظاهري لوجوب الإكرام في الفقير المشكوك عدالته وفسقه.

وهذا النحو لا يرد عليه الاعتراض الأول المتقدم على النحو الثاني كما هو واضح ولكن يرد عليه ما أشير إليه سابقاً :

أولاً ـ انَّ الحكم الظاهري في طول وصول الحكم الواقعي عقلائياً فضلاً عن ثبوته الواقعي فلو أُريد إثبات الحكم الظاهري من دون إثبات الحكم الواقعي بوجوب الإكرام على تقدير العدالة فهو غير معقول ، وإِنْ أُريد إثباتهما معاً في عرض واحد للفرد المشكوك فهو خارج عن قدرة العام الّذي لا يثبت في كل فرد إِلاَّ حكماً واحد ، وإِنْ أُريد إثبات الحكم الظاهري بالمطابقة والواقعي بالالتزام كان دوراً لما عرفت من انه في طول وصول الحكم الواقعي فلا يعقل أَنْ يكون وصول الحكم الواقعي بتوسطه.

وثانياً ـ انَّ الجعل الواقعي مع الجعل الظاهري متباينان لتباين موضوعيهما فانْ أُريد التمسك بدليل العام لإثبات الجعل الظاهري في الفرد المشكوك فهو غير معقول لأنَّ الدليل الواحد لا يتكفل إِلاَّ جعلاً واحداً وهو الجعل الواقعي بحسب الفرض ، وإِنْ أُريد التمسك به لإثبات فعلية المجعول الظاهري كانت الجملة خبرية فترجع المحاذير المتقدمة في التقدير المتقدم.


النحو الرابع ـ أَنْ يراد التمسك بالعامّ لإثبات جعل مطلق في الفرد المشكوك غير مقيد بالعدالة لكونها محرزة من قبل المولى نفسه نظير موارد الجعل الشخصي بنحو القضية الخارجية لوجوب إكرام زيد مع العلم بأنَّ الملاك مقيد لبّا بعدالته.

وهذا النحو من التمسك أيضاً غير صحيح وتوضيح ذلك يتوقف على تقديم امرين :

١ ـ إذا ثبت دخل قيد في الملاك بنحو قيود الوجوب لا الواجب فالتحفظ المولوي عليه يمكن أَنْ يكون بأحد وجهين ، امّا التقييد بأَنْ يجعل المولى خطابه مقيداً بحال وجود ذلك القيد وبذلك يكون الموضوع مقيداً بذلك القيد لا محالة ويكون على عاتق المكلف إحرازه ولا يمكن إحرازه من كلام المولى ، وامَّا أَنْ يجعل الحكم مطلقاً غير مقيد بذلك القيد لكونه بنفسه قد ضمن تحقق ذلك القيد ووجوده في تمام تلك الموارد وبذلك لا يضر عدم تقييد الجعل رغم كون الملاك مقيداً.

٢ ـ انَّ الحكم المشروع تارة : يكون مجعولاً على وجه كلّي أي على نهج القضايا الحقيقية التي مرجعها إلى افتراض وجود الموضوع وتقديره وجعل الحكم عليه ، وأخرى :

يجعل الحكم على وجه شخصي أي على نهج القضايا الخارجية فيشير إلى افراد خارجية ويقول أكرم هؤلاء ، وحينئذٍ في موارد ثبوت دخل قيد في الملاك إِنْ كان الجعل من القسم الأول فيتعين على المولى حفظ التقييد بالوجه الأول أي بتقييد الجعل به ولا يمكنه أَنْ يتحفظ على القيد بالنحو الثاني فانَّ القضية الحقيقية موضوعها أعم من الافراد الموجودة والمحققة فعلاً في الخارج أو المعدومة فلا يمكن التحفظ على القيد عن طريق إحراز تحققه في الافراد الخارجية مِنْ قبل المولى نفسه نعم يستثنى من ذلك حالة واحدة سوف نشير إليها.

وامَّا إذا كان الجعل على النهج الثاني فهنا يمكن للمولى أَنْ يتحفظ على القيد بكلا الوجهين من تقييد الجعل به أَو تضمينه بنفسه لإحرازه وجعل الحكم على الأشخاص مطلقاً ويكون حال هذا القيد حال أصل المصلحة من حيث عدم تقيد الحكم به.

إذا اتضح هذان الأمران فنقول :

يوجد هنا جعل كلّي على نهج القضية الحقيقية وهو وجوب الإكرام على كل فقير وقد ثبت بالمخصص المنفصل انَّ قيد العدالة دخيل في الملاك وهذا الجعل لا يمكن أَنْ


يحفظ ملاكه المذكور إِلاَّ بأنْ يؤخذ العدالة قيداً فيه أيضاً لكونه قضية حقيقية بحسب الفرض ، فلا يمكن افتراض إطلاق الحكم من ناحيته على أساس تضمين المولى تحققه في تمام الافراد المحققة والمقدرة وهذا هو التعنون الّذي ذكره الميرزا ( قده ) فلا يمكن التمسك بهذا الجعل في الفرد المشكوك ، ولكن يفترض وجود جعل اخر شخصي على نحو القضية الشخصية في خصوص زيد وحيث انه جعل شخصي فيمكن أَنْ يفرض انَّ القيد يحفظ فيه بالوجه الثاني فلا يؤخذ قيد العدالة في موضوع الوجوب بل يستكشف من جعل الوجوب عليه إحراز المولى بنفسه لوجود القيد. وهذا النحو يتم لو ورد خطاب خاص في زيد فقيل ( أكرم زيداً الفقير ) ولا يقال بأنَّ إثبات عدالة زيد أجنبي عن المولى فانَّ هذا المولى الّذي جعل الوجوب على زيد مباشرة من شأنه أَنْ يحرز قيود ملاك حكمه فيه وإلا لكان عليه أَنْ يجعل بنحو القضية الحقيقية فنفس تصديه إلى جعل القضية الشخصية ظاهر في تعهده بنفسه لضمان مصب حكمه وملاكه بتمام قيوده وشرائطه.

لكن المقام لا يوجد فيه خطاب شخصي في الفرد المشكوك خاصة وانما الموجود خطاب عام متضمن لجعل كلّي ، وحينئذٍ مرجع هذا المدعى إلى انَّ بإزاء الدليل العام يوجد جعلان ، جعلي كلّي بنحو القضية الحقيقية وجعل شخصي بنحو القضية الخارجية للفرد المشكوك ومثل هذا واضح البطلان فانَّ دليل العام لا يبرز إِلاَّ جعلاً واحداً. نعم لو كانت القضية إخبارية أمكن أَنْ تكون اخباراً عن جعول عديدة لكنها ليست كذلك (١).

وهكذا ثبت عدم إمكان التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية ومن نفس هذا التحليل يتضح انَّ هناك حالتين يجوز فيهما التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية لمخصصه.

الحالة الأولى ـ وتتوقف على توفر ثلاثة شروط :

١ ـ أَنْ تكون القضية المجعولة خارجية أي موضوعها افراد محققة الوجود متعينة بالفعل في الخارج لكي يعقل فيها افتراض انَّ المولى قد تصدّى بنفسه ضمان وجود القيد فيها.

__________________

(١) بل لا تفيد حتى إذا كانت القضية إخبارية ما لم تكن اخباراً عن المجعول والقضية الخارجية فتأمل جيداً.


٢ ـ أَنْ لا يستفاد من دليل التخصيص عدم تعهد المولى بإحراز القيد وإيكاله إلى المكلف ، كما إذا لم يكن الدليل بلسان التخصيص بل بلسان التعارض بنحو العموم من وجه ولكن قدم على العام لصراحته في العموم بحيث لا يمكن رفع اليد عنه وإِلاَّ ففي أدلة التخصيص ربما يدعى ظهور نفس الدليل المخصص المخرج لعنوان في انَّ المولى لا يتعهد بوجود ذلك القيد في افراد العام وإنْ كانت خارجية لا حقيقية فانَّ نفس تصدي المولى لإبراز التخصيص قرينة عرفية على ذلك.

٣ ـ أَنْ لا يثبت من الخارج فقدان بعض افراد العام للقيد. فإذا تمت هذه الشروط صح التمسك بالعامّ في الفرد المشكوك ولعل من أمثلة ذلك قولهم : ( لعن الله بني أُمية قاطبة ) حيث انَّ القضية ظاهرة في الخارجية وانه لم يثبت بمخصص لفظي انَّ المراد غير المؤمنين منهم بنحو يستكشف منه تخلي المولى عن إحراز القيد في تمام الافراد وانما ثبت ذلك بحكم العقل أو استفيد من ذوق الشارع بنحو عام كما انه لا يعلم بوجود أموي مؤمن في الخارج ، ففي مثل ذلك يجوز التمسك بالعموم لتجويز لعن كل أموي ولو شك في إيمانه.

والوجه في صحة التمسك واضح فانَّ مجرد العلم بدخل قيد الإيمان في الملاك لا يوجب انثلام ظهور الخطاب العام من عمومه بعد أَنْ كان حفظ القيد المذكور بالنحو الثاني المتقدم شرحه ، فيكون مقتضي التمسك بعموم العام ذلك.

وهذا بحسب الروح وإِنْ كانت شبهة مصداقية ولكن بحسب حرفية الشبهة المصداقية ليست شبهة مصداقية فانَّ القيد لم يؤخذ في عالم الجعل وإن كان مأخوذاً في الملاك فيكون الشك في أصل التخصيص.

نعم لو فرض انثلام شيء من الشروط المذكورة بأنْ كانت القضية مما لا يعقل فيها إحراز المولى بنفسه للقيد أو كان المخصص قرينة على عدم تعهد المولى بإحرازه أو ثبت وجود فرد في الخارج فاقد للقيد فلا محالة يستكشف انَّ المولى لم يتصد لإحراز القيد في الافراد الخارجية وإلا كيف وجد فرد في الخارج فاقد له فيكون ذلك قرينة على انَّ الجعل مقيد وليس مطلقاً.

الحالة الثانية ـ أَنْ تكون الشبهة المصداقية في نفسها شبهة حكمية بحيث كان القيد


امراً تشريعياً راجعاً إلى الشارع نفسه ، كما إذا ورد دليل على انَّ كل ماء مطهر ثم بمخصص منفصل علمنا بأنَّ الماء النجس لا يطهر ثم شك في وجود ماء نجس وعدمه (١)، فهنا لو أمكن التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية أمكن إثبات انَّ كل ماء طاهر لا محالة.

والصحيح جواز التمسك بالعامّ في مثل ذلك حتى إذا كانت القضية حقيقية لا خارجية وهذه هي الحالة التي أشرنا إليها فيما سبق. والوجه في ذلك انَّ القيد حيث انَّه سنخ قيد يرجع إلى الشارع لكونه امراً تشريعياً أمكن للمولى أَنْ يتعهد بإحرازه حتى في القضية الحقيقية وذلك بجعله كذلك على تمام الافراد ومعه لا موجب لرفع اليد عن ظاهر العام في ثبوت حكمه على تمام الافراد من دون قيد في مقام الجعل. إِلاَّ انَّ التمسك بالعامّ في هذه الحالة أيضاً مشروط بالشرطين الأخيرين في الحالة السابقة أي أَنْ لا يعرف من دليل التخصيص تقييد الجعل وعدم تعهد المولى بإحراز القيد ، وانْ لا نعلم بفقدان القيد في بعض افراد العام (٢).

ثم انه نسب إلى الشيخ الأعظم ( قده ) التفصيل بين ما إذا كان المخصص المنفصل لبياً فيجوز التمسك بالعامّ في شبهته المصداقية وبين ما إذا كان لفظياً فلا يجوز.

__________________

(١) يلاحظ هنا : أولاً ـ عدم اختصاصه بالعامّ بل حتى إذا كان الدليل مطلقاً كما إذا قال « الماء مطهر » وشك في نجاسة ماء البحر مثلاً أمكن التمسّك به لإثبات مطهريته وطهارته لأنَّ النكتة المذكورة تقتضي جعل الحكم على تمام الأفراد سواءً كان ذلك بالعموم أو بالإطلاق.

وثانياً ـ إذا فرض العلم بالتخصيص بمعنى أخذ طهارة الماء قيداً في موضوع جعل المطهرية للماء بنحو القضية الحقيقية كما إذا علم بوجود الماء النجس خارجاً فلا يمكن التمسك. لا بالعامّ ولا المطلق في الشبهة المصداقية لما تقدم من ان تطبيق الجعل على مصاديقه خارج عن مرحلة المدلول ، وان لم يؤخذ ذلك قيداً بأن جعل المطهرية للماء واحتملنا ان الجعل عام أو مطلق وان كنّا نعلم بأنه لو كان هناك ماء نجس فلا محالة يكون الجعل مقيداً بعدمه ، فهذا معناه بالدقة الشك في أصل تخصيص الجعل خطاباً وان كان يعلم بتقييد الحكم ملاكاً فيكون خارجاً عن محل الكلام على أنَّه خلاف جديّة الخطاب بلحاظ روح الحكم إذا كانت القضية حقيقية وان لم يلزم منه نقض الغرض.

(٢) بالنسبة للشرط الثاني في الحالتين ربما يناقش : بأنه غير لازم ، وذلك لأنه إذا ثبت مثلاً انَّ ماء البحر نجس فلا دليل على انَّ جعل المطهرية لكل ماء ـ أو طبيعته كما في المطلق ـ مقيد بغير النجس بل لعله مقيد بغير ماء البحر الّذي هو أضيق تقييداً من الأول فيبقى العام أو المطلق شاملين للفرد المشكوك نجاسته من الماء من غير ماء البحر ما دام يحتمل تكفل المولى بإحراز تحقق قيد عدم النجاسة في سائر الافراد ، فتحفظا على عموم كلام المولى أو إطلاقه حيث لا يعلم تقيد الجعل بأكثر من ذلك نثبت إحراز المولى للقيد بنفسه في الموارد الأخرى.

والجواب : إنَّ التبعيض في القضية الواحدة بلحاظ الافراد بحيث تكون حقيقية بلحاظ بعض الافراد وخارجية بلحاظ البعض الاخر أي يكون المولى محرزاً للقيد بلحاظ بعض وغير محرز بلحاظ البعض الاخر بل مخرجاً له بنحو التقييد خلاف الظاهر.


وقد حاول المحققون المتأخرون أَنْ يخرجوا ذلك على أساس انَّ المخصص اللفظي باعتباره يصنف ظهور العام إلى صنفين فلا محالة يشك في انطباق ما هو الحجة من ظهور العام على الفرد المشكوك لاحتمال اندراجه تحت ظهور المخصص وهذا بخلاف ما إذا كان المخصص لبياً لأنَّ ما هو المخصص حينئذٍ انما هو القطع واليقين ومن الواضح اختصاصه بخصوص الفرد المتيقن خروجه واما المشكوك فيعلم بعدم اليقين فيه فيعلم بعدم شمول المخصص له.

وهذا التوجيه واضح الضعف إذ لا فرق ، بين المخصص اللبّي واللفظي من ناحية معقولية الشك والشبهة المصداقية لهما فيما إذا كان التخصيص ثباتاً بعنوان كلّي كبروي سواءً كان الدليل عليه لفظياً أو لبياً ، كما إذا حكم العقل بعدم جواز لعن المؤمن مثلاً وكان الشك في مصداق ذلك العنوان الخارج بالتخصيص فافتراض إضافة المخصص اللفظي إلى العنوان الكلّي دون المخصص اللبي جزاف.

نعم يمكن أَن يكون هذا التفصيل صحيحاً في إطار الحالتين اللتين استثنيناهما بمعنى أَنَّ كون المخصص لبياً يكون محققاً للشرط الثاني في الحالة الأولى والأول في الحالة الثانية ، حيث انَّ المخصص اللبي من الواضح عدم كونه ناظراً إلى العام وكاشفاً عن تخلي المولى عن ضمان تحقق القيد بخلاف المخصص اللفظي حيث قلنا انه يكون عرفاً قرينة على تقيد الجعل العام وتخلي المولى عن ضمان وجود ذلك القيد في افراده خارجاً.


« التعويض عن العام باستصحاب العدم الأزلي »

تذييل :

بعد الفراغ عن عدم جواز التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية لمخصصه وقع الكلام بينهم في إمكان التعويض عنه بأصل موضوعي يُنقح موضوع العام وهو استصحاب عدم عنوان الخاصّ ، حيث ان موضوع العام أصبح ببركة التخصيص مركباً من جزءين أحدهما العنوان المأخوذ في العام المحرز انطباقه على المشكوك وجدانا ، والاخر عدم العنوان الخاصّ الخارج من حكم العام فإذا أمكن إحرازه بالأصل تمّ الموضوع المركب لا محالة.

وهذا الكلام لا إشكال فيه ولا جدال فيما إذا فرض انَّ العنوان الخارج بالتخصيص سنخ عنوان له حالة سابقة في الفرد المشكوك من قبيل عنوان الفاسق المسبوق بالعدم ولو في حال صغر الإنسان. وانما النزاع والبحث في العناوين التي تكون ملازمة في وجودها مع موضوع الوصف من قبيل ما إذا خرج بالتخصيص مثل ( أكرم كل فقير إِلاَّ الفقير الأموي ) حيث انَّ الأموية وصف على تقدير ثبوته فهو موجود مع موصوفه منذ وجوده لا انه يعرض عليه فيما بعد كالفسق ، وهذا يعني انه لا توجد حالة سابقة لعدمه إِلاَّ بعدم موضوعه ، وهو المصطلح عليه بالعدم الأزلي ، فوقع النزاع بينهم في انه هل يجري مثل هذا الاستصحاب العدمي أم لا؟


والواقع انَّ هذا الاستصحاب تارة : يراد تطبيقه لإثبات حكم العام بتنقيح موضوعه ، وأخرى : يراد تطبيقه لنفي حكم الخاصّ في نفسه لو كان إلزامياً ولو فرض عدم إمكان إحراز موضوع العام به ، وثالثة : يكون المراد منه نفي العنوان المسبوق بالعدم بنحو العدم الأزلي لنفي حكمه ولو لم يكن ذلك الحكم تخصيصاً لحكم اخر بل حكم رتب على ذلك الموضوع في دليله.

وكلمات المحققين في هذه المسألة ليست منصبة على مركز واحد من البحث.

فالبرهان المنقول عن المحقق النائيني ( قده ) والّذي أنكر على أساسه جريان هذا الاستصحاب يختص بالموضع الأول من المواضع الثلاثة ولا يشمل الموضعين الأخيرين ، بينما المحقق العراقي ( قده ) الّذي أشكل في جريان هذا الاستصحاب أيضا على تقدير دون تقدير لا يختص اشكاله بالموضع الأول بل يجري في المواضع الثلاثة كلّها ، كما انَّ للمحقق النائيني ( قده ) بياناً يذكره بنفسه في رسالته المعروفة في اللباس المشكوك لو تم يشكل إشكالاً على جريان الاستصحاب المذكور في الموضعين الأخيرين الّذي يراد فيهما نفي الحكم باستصحاب العدم الأزلي.

هذه فروق في كلمات الاعلام المذكورة في هذا الصدد سوف نشير إليها من خلال البحث عن الموضع الأول الّذي هو الموضع الرئيسي للبحث عن جريان هذا الاستصحاب وعدم جريانه ، فنقول :

ذهب المحقق الخراسانيّ ( قده ) إلى جريان استصحاب العدم الأزلي مطلقاً وخالفه في ذلك المحقق النائيني ( قده ) فأنكر جريانه مطلقاً وذهب المحقق العراقي ( قده ) إلى تفصيل في جريانه وذهب السيد الأستاذ إلى جريانه مطلقاً تبعاً لصاحب الكفاية ( قده ).

وقبل البدء بذكر أدلة المثبتين والنافين لا بأس بإشارة إلى بحث حاصله : انه لا إشكال في جريان البحث المذكور بناء على المسلك القائل بتعنون العام بعد ورود التخصيص ، حيث يصبح موضوع الحكم مركباً من جزءين فيمكن أَنْ يحرزا معاً أحدهما بالوجدان والآخر بالأصل والتعبّد وبذلك يرتب حكم العام.

وامَّا إذا قيل بعدم تعنون العام فلا معنى حينئذٍ لإجراء الاستصحاب المذكور


لتنقيح حكم العام ، نعم يمكن إجراءه لنفي حكم الخاصّ لو قيل به.

إِلاَّ انَّ المحقق الخراسانيّ ( قده ) على ما يبدو من قوله ( انَّ الباقي تحت العام بعد تخصيصه بالمنفصل أو كالاستثناء من المتصل لما كان غير معنون بعنوان خاص بل بكل عنوان لم يكن بعنوان الخاصّ كان إحراز المشتبه منه بالأصل الموضوعي في غالب الموارد إِلاَّ ما شذ ممكناً فبذلك يحكم عليه بحكم العام ) (١) يذهب إلى جريان البحث المذكور حتى على القول بعدم تعنون العام.

وكأنَّ نظره في هذا الكلام إلى دعوى : انَّ العام وإنْ لم يتعنون بنقيض عنوان الخاصّ إِلاَّ انه لما كان الدليل العام يثبت حكمه على الافراد بكل عنوان عدا العنوان الخارج بالمخصص أصبح كل عنوان من تلك العناوين مشمولاً له ، ففي المثال المتقدم كان العام دالاً على وجوب إكرام الفقير الأموي وغير الأموي والفقير القرشي والفقير الّذي لا يكون أموياً وهذا وإِنْ كان ملازماً مع الفقير غير الأموي إِلاَّ انه عنوان آخر غيره والّذي خرج بالمخصص هو الأول واما الأخير فباقٍ تحت العام وباستصحاب عدم الأموية بنحو العدم الأزلي يحرز هذا العنوان فيرتب عليه حكم العام لا محالة.

وهذا الكلام غير تام لوضوح انَّ العموم لا يعني جمع القيود والعناوين بحيث يكون كل عنوان من العناوين المنطبقة على الأفراد موضوعاً للحكم ، كيف ولو كان كذلك لزم تعدد الجعل وقد تقدّم انَّ الدليل العام لا يتكفّل إلاّ جعلاً واحداً.

بل العموم يعني عدم الاختصاص بعنوان واحد أو بافراد عنوان واحد فالعام كالمطلق من حيث انهما معاً رفض للقيود والعناوين وليس تجميعاً لها ، وبناء عليه فان أمكن إثبات حكم العام بالتمسك بأصالة العموم فهو وإِلاَّ فباستصحاب عدم عنوان الخاصّ لا يمكن إثبات حكم العام بناءً على عدم التعنون

وأيّا ما كان فلنرجع إلى مسألتنا الرئيسية فنقول :

انَّ الأقوال في جريان استصحاب العدم الأزلي ثلاثة كما عرفت ، ونبدأ فيما يلي باستعراض أدلة القول بعدم جريانه مطلقاً الّذي ذهب إليه المحقق النائيني ( قده ) مع

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ٣٤٦


مناقشات أصحاب القول بجريانه مطلقاً كالسيد الأستاذ ثم نتعرض لتفصيل المحقق العراقي ( قده ).

والمحقق النائيني ( قده ) له كلامان في إثبات ما ذهب إليه.

أحدهما ـ الكلام المنقول عنه في الأصول والّذي يقتضي البرهنة على عدم جريان الاستصحاب المذكور في خصوص المورد الأول من الموارد الثلاثة المتقدمة ، أي ما إذا أُريد تنقيح موضوع العام المخصص به ، ولأجل ذلك ذكر الأستاذ في الردّ على مناقشات المحقق العراقي ( قده ) مع الميرزا بأنها كلها في واد غير ما أنكر فيه الشيخ النائيني ( قده ) جريان استصحاب العدم الأزلي ، حيث افترض انَّ نظر الشيخ النائيني في هذه الكلام إلى المورد الأول فقط من تلك الموارد.

والثاني ـ ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) بنفسه في رسالته الخاصة باللباس المشكوك والّذي هو برهان خاص بالموردين الثاني والثالث من الموارد الثلاثة.

امَّا الكلام الأول المنقول عنه في تقريرات بحثه فلمزيد توضيحه وتحديد نقاط الخلاف والنفي والإثبات بينه وبين أصحاب القول الثاني كالسيد الأستاذ نستعرضه من خلال نقاط (١).

النقطة الأولى : انَّ الموضوع لحكم شرعي إذا كان مركباً من جزءين ، فتارة : يلحظ كل جزء منهما بحياله وبما هو هو موضوعاً للحكم ، وأُخرى : يلحظ أحدهما بما هو مضاف إلى الاخر ونعت له موضوعاً للحكم.

فعلى التقدير الأول يمكن إحراز ذلك الجزء إثباتاً أو نفياً فيما إذا كانت حالة سابقة لذلك الجزء بما هو هو وبحيال نفسه. وامَّا في التقدير الثاني فلا يمكن ذلك إِلاّ فيما إذا فرض انَّ حيثية النعتية والإضافة إلى ذلك الجزء أيضا كانت ثابتة في الحالة السابقة وامَّا ملاحظة الحالة السابقة لنفس الجزء بما هو هو فلا تكفي لإثبات الموضوع لأنَّه وإِنْ كان يلزم من وجوده الآن تحقق تلك الإضافة إِلاَّ انَّ هذه ملازمة عقلية لا تثبت بالأصول الشرعية كما هو واضح.

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٤٦٥ ـ ٤٧٢


وهذه نقطة واضحة لا خلاف فيها.

النقطة الثانية ـ وهي بمثابة تحقيق صغرى ما ذكر في النقطة السابقة ، انَّ الجزءين المأخوذين في الموضوع المركب إذا فرض انهما جوهران أو عرضان أو جوهر وعرض لجوهر آخر فلا يعقل افتراض النعتية بينهما إلا بافتراض أخذ عناية زائدة كأخذ عنوان التقارن بينهما وهذا خارج عن هذا البحث ، فلا يعقل في هذه الأنحاء الثلاثة إلا التركيب على النحو الأول أي أن يكون كل من الجزءين مأخوذاً بما هو هو وبحيال نفسه في الموضوع المركب ، إذ يستحيل أَنْ يكون الجوهر نعتاً لجوهر أو العرض نعتاً لعرضٍ أو عرض جوهر نعتاً لغير جوهره ومحله. وهذا بخلاف ما إذا كان الجزءان جوهراً وعرضه أي محلاً وعرضه.

وهذه النقطة أيضاً محل وفاق بين المحقق النائيني ( قده ) والسيد الأستاذ.

النقطة الثالثة ـ انَّ الجزءين إذا كان جوهراً وعرضه فإذا كان العرض بوجوده جزءاً كالفقير والعدالة مثلاً فالبرهان قائم على انَّه لا بدَّ وأَنْ يكون مأخوذاً بما هو نعت لا بما هو هو وبحياله وسوف يأتي التعرض لذلك البرهان.

وهذه النقطة أيضاً من حيث الفتوى والنتيجة محل وفاق بين المحقق النائيني والسيد الأستاذ ولكن يختلفان في الطريقة والمدرك عليه كما سوف يأتي الحديث عنه.

النقطة الرابعة ـ انَّ الجزءين المشتملين على عرض ومحله لو فرض أخذ عدم العرض جزءً للموضوع المركب ، فائضاً لا بدَّ وأَنْ يكون مأخوذاً بنحو التوصيف والنعتية أي اتصاف المحل بعدم ذاك العرض في موضوع الحكم لنفس البرهان المتقدم في النقطة السابقة ، ولهذا لم يجز عند الميرزا ( قده ) إجراء استصحاب عدم القرشية لأنَّ عدم قرشية المرأة كقرشيتها بمقتضى ذلك البرهان يكون جزءً من الموضوع لا بما هو هو وبحياله المسمّى بالعدم المحمولي لكي يثبت باستصحاب العدم الأزلي الثابت قبل تحقق الموضوع بل بما هو وصف ونعت للمرأة ، وهذا لا حالة سابقة له وانما الحالة السابقة لعدم الاتصاف واستصحابه لا يثبت الاتصاف بالعدم.

وهذه النقطة هي التي قد خالف فيها السيد الأستاذ شيخه النائيني وأنكر ضرورة أخذ عدم العرض بنحو التوصيف والناعتية لمحله ، لعدم تمامية البرهان الّذي يعرضه


المحقق النائيني ( قده ) ولذلك لم يَر بأساً في إجراء استصحاب العدم الأزلي لإثبات حكم العام فيما إذا استظهر انَّ عدم عنوان الخاصّ المأخوذ جزءً لموضوعه كان محمولياً لا نعتياً ـ كما هو كذلك على ما سوف يأتي الحديث عنه ـ وبهذا يتضح : انَّ الخلاف بين العلَمين صغروي وليس كبرويا ، بمعنى انهما يتفقان في كبرى إمكان إثبات جزء الموضوع المركب لحكم سواءً كان وجودياً أو عدمياً باستصحاب ذلك الجزء بحياله إذا كان جزءً بهذا الاعتبار وعدم إمكان إثباته إذا كان مأخوذاً بنحو ناعت كما يدعيه المحقق النائيني ( قده ) أو لا كما يدعيه السيد الأستاذ.

ثم انه قبل أَنْ ندخل في النقطة القادمة المتضمنة لاستعراض أدلة الطرفين فيما اختلفا فيه من هذه النقطة والنقطة السابقة ينبغي أَنْ نفهم معنى أخذ العرض إثباتاً أو نفياً بنحو نعتي تارة ومحمولي أخرى ، وهل هذا معقول في نفسه في طرف وجود العرض وعدمه أو لا؟ فانه إذا ثبت عدم معقولية أَنْ يكون عدم العرض نعتاً لمحله فلا تصل النوبة إلى ما ادعي في النقطة الأخيرة من إمكان أو ضرورة كون عدم العرض ملحوظاً بنحو نعتي لمحله ، وبهذا الصدد نقول :

يمكن أَنْ يراد بالنعتية أَحد معانٍ :

الأول ـ ما ذكره السيد الأستاذ في رسالته المعقودة في حكم اللباس المشكوك من انَّ المراد بنعتية العرض لمحله أخذ الوجود الرابط وهو الوجود في غيره الّذي هو أخسّ أنواع الوجود الأربعة في الموضوع.

وفرّع على ذلك عدم معقولية النعتية في طرف عدم العرض ومحله إذ لا يعقل الوجود الرابط بين العدم والمحل لأنَّ الوجود الرابط لا بدَّ وأَنْ يكون بين وجودين لا بين عدم ووجود فانه يعني تقوم الأمر الوجوديّ بالعدمي وهو محال ، فلا تعقل النعتية في طرف العدم إِلاَّ بإرجاعه إلى ملازمات العدم من الأمور الوجودية الأخرى التي يعقل افتراض الوجود الرابط بينها وبين المحل ، فأخذ عدم عرض بنحو ناعت لمحله يعني أخذ الصفة الوجودية المضادة والتي يمكن ان يكون بينهما وبين ذلك المحل وجود رابط في الموضوع.


وهذا الوجه مما لا يمكن المساعدة عليه سواءً قبلنا فكرة الوجود الرابط ـ كما هو ظاهر كلامه هنا ـ أو أنكرناها ـ كما هو صريح كلامه المتقدم في بحث المعاني الحرفية في مناقشة شيخه المحقق الأصفهاني ( قده ) ـ وذلك لأنَّه :

أولاً ـ الوجود الرابط انما يعقل حقيقة في باب الاعراض المقولية الحقيقية كالبياض مثلاً مع محله مع انَّ الاعراض الناعتة لمحلها لا تنحصر بذلك بل هناك أعراض انتزاعية وأعراض اعتبارية كالزوجية والطهارة ونحوهما التي لا وجود خارجي للعرض فيها أصلاً وهي في ناعتيتها على حد ناعتية الاعراض المقولية من حيث إضافتها إلى محلها مما يعني انَّ النعتية لا يمكن أَنْ يراد بها اعتبار الوجود الرابط الخارجي.

وثانياً ـ ما ذا يقال في العرض الّذي لا يوجد ضد وجودي له فانه لا بدَّ وأَنْ يلتزم بعدم تعقل العدم النعتيّ فيه أصلاً حتى بالعناية المذكورة مع انه بحسب الوجدان لا إشكال في اتصاف المحل بعدمه النعتيّ حين انعدامه ولا فرق بينه وبين عدم عرض له ضد من ناحية إمكان إضافة العدمين إلى محلهما على حدّ سواء.

الثاني ـ ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) في رسالته المعقودة أيضاً في حكم اللباس المشكوك من انَّ المراد بالنعتية ملاحظة العرض بما هو وجود رابطي لموضوعه ، توضيح ذلك انَّ العرض وإِنْ كان في مرحلة التعقل كالجوهر موجود في نفسه بمعنى انه يتعقل مستقلاً ولكنه بلحاظ مرحلة التحقق والتعين في الخارج وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه خلافاً للجوهر ولهذا كان نعتاً له ، فالنعتية تعني ملاحظة مرحلة تحقق العرض في الخارج ليرى بهذه النظرة انه موجود لغيره ومظهر من مظاهرة.

وهذا الوجه أيضاً مما لا يمكن المساعدة عليه ، فانه مضافاً : إلى كونه على خلاف فرض المحقق النائيني ( قده ) حيث ينتج عدم معقولية النعتية في طرف عدم العرض حيث لا يكون وجوده العيني عين وجوده لغيره إذ لا وجود له لكي يكون كذلك ، يختص كالوجه السابق بالاعراض المقولية الحقيقية في الخارج ولا يستطيع أَنْ يفسر النعتية في الاعراض الانتزاعية أو الاعتبارية التي ليس فيها وجود رابط ولا رابطي في الخارج.

الثالث ـ انَّ النعتية يراد بها النسبة التحصيصية القائمة في عالم المفاهيم بين العرض


ومحله ، كما في قولنا عدالة العالم المنتزعة بلحاظ الاتصاف والربط الواقعي الثابت بينهما في لوح الواقع قبل لوح الوجود وانما يعرض الوجود على المتصف ومفهوم النعتية والصفتية مفاهيم اسمية منتزعة عن تلك المعاني النسبية بحسب الحقيقة شأنه في ذلك شأن سائر المفاهيم الاسمية المنتزعة عن النسب الخارجية كمفهوم الظرفية والابتدائية والمعيّة والتقارن وغيرها ، فأخذ أحد جزئي الموضوع نعتاً للآخر يعني أخذ هذه النسبة بينهما في موضوع الحكم لا أخذ كل منهما بحياله.

وهذا معنى لا يعقل بين غير العرض ومحله ، نعم يتعقل بينهما أنواع أخرى من النسب والإضافات التي هي أمور واقعية كنسبة الظرفية مثلاً بين الماء والكوز وانْ كانت نفس الظرفية أو المظروفية من الاعراض النسبية للكوز أو الماء كما هو واضح.

ولا يرد على هذا الوجه النقض بالاعراض الانتزاعية أو الاعتبارية ، امَّا الأول فلأنها أمور واقعية ثابتة في لوح الواقع الّذي هو أوسع من لوح الوجود فيكون الربط الواقعي بينهما ثابتاً أيضاً ، وامَّا الثاني فلأنَّ الأمر الاعتباري وإِنْ كان نفس المنشأ فيه كالطهارة والطلاق اعتبارياً فرضياً إِلاَّ انه في طول لحاظ هذا الاعتبار ولحاظ واقعيته وهماً يكون الربط بينه وبين الموضوع ثابتاً أيضاً من خلال منظار ذلك الاعتبار فيرى الجسم متصفاً بالطهارة والمرأة متصفة بأنها مطلّقة.

وهذا المعنى للنعتية صحيح ، بل يمكن إرجاع المعنيين الأوليين إليه أيضاً بعد تعديل ما ورد فيهما من التعبير بالوجود الرابط أو الرابطي إلى الواقع الرابط أو الرابطي لكي لا يرد النقض بالاعراض غير الوجودية. وهو كما ذكر لا يتصور إِلاَّ بين العرض ومحله لا الجوهرين ولا العرضين ولا الجوهر وعرض جوهر آخر ، حيث لا يمكن أَنْ توجد الإضافة والربط والتحصيص بينهما.

ولكن لا موجب لتخصيص البحث عن استصحاب العدم الأزلي بذلك فانه جار في كل جزءين لموضوع مركب أُخذ بينهما ربط مخصوص سواءً كان ربطاً نعتياً أو غيره فيبحث عن انَّ استصحاب مفاد كان التامة في أحد ذينك الجزءين أو مفاد ليس التامة هل يجري ، أو لا يجري لأنه لا يثبت الربط الخاصّ بينهما؟ وليست القيود الثابتة لموضوعات الأحكام بأدلة التخصيص أو غيرها تكون دائماً من قبيل العرض والمحل بل


قد يكون من قبيل الجوهرين أو العرضين أو الجوهر وعرض محل اخر المأخوذ بينهما إحدى النسب التحصيصية الممكنة بينهما ، نعم يشترط في الربط المذكور أَنْ لا يكون مجرد ربط إنشائي اعتباطي في مقام التعبير فحسب بحيث ليس له ما بإزاء خارجي فانه حينئذٍ تحكم المناسبات العرفية بإلغائه وعدم دخله في ما هو موضوع الحكم المراد إثباته بالاستصحاب ويترتب على هذا التفسير مطلبان :

المطلب الأول ـ انَّ النعتية بهذا المعنى بين عدم العرض ومحله غير معقول بل مطلق الربط بينهما غير معقول.

والوجه في ذلك : انَّ الربط النعتيّ كما قلنا يعني تحصيص أحد الأمرين بالاخر وعدم العرض لا يمكن أَنْ يحصص بالموضوع وانما التحصيص دائماً في طرف المعدوم الّذي هو صفة للموضوع ومنتسب إليه في لوح الواقع لا العدم نفسه فيكون العدم دائماً عدماً للمحصص لا عدماً محصصاً ، فقيد العالم في عدالة العالم تحصيص للعدالة لا لعدمها وكذلك عدم قرشية المرأة فيكون العدم محمولياً دائماً والربط والتقييد في جانب المعدوم ، وهذا المطلب وإِنْ أرسله الحكماء إرسال المسلمات ولم يبرهنوا عليه ولكن بالإمكان لنا أَنْ نبرهن عليه بما يلي :

انَّ عدم العدالة إذا فرض تحصيصها إلى حصتين حصة مربوطة بالعالم وحصة مربوطة بالجاهل فنتساءل هل انَّ للمعدوم وهو العدالة المضاف إليها العدم حصتان أو حصة واحدة أي عدالتان أو عدالة واحدة؟ فانْ قيل بالأول استحال التحصيص مرة ثانية في جانب العدم لأنَّ عدم تلك الحصة من العدالة وهي عدالة العالم مثلاً لا تصدق على غير مورده كعدم عدالة الجاهل لكي يقبل التحصيص بل هو منحصر فيه فان تحصيص المعدوم تحصيص لعدمه تبعاً ومعه لا يتعقل تحصيصه مرة أخرى ، وإِنْ فرض انَّ المعدوم حصة واحدة وهي جامع العدالة وطبيعيّه فيلزم :

أولاً ـ عدم وحدة النقيض بمعنى عدم انحفاظ التقابل الموجود بين النقيضين ، إذ سوف يكون مقابل حصتين من العدم أي عدمين وجود واحد ونقيض واحد وهو محال.

وثانياً ـ انَّ عدم جامع العدالة يعني عدم كل افراده وهذا يعني أخذ عدم عدالة الجاهل أيضاً نعتاً للعالم وهو محال لأنَّ عدالة الجاهل عرض جوهر اخر وعدمها على


تقدير كونه نعتاً فهو نعت له لا للعالم.

ولا يقاس ذلك بالوجود فانَّ وجود العدالة باعتباره خارجاً عين الموجود فلا محالة كان متحصصاً إلى حصتين تبعاً له وامّا عدم العدالة فهي نقيضها ومقابل لها مصداقاً (١).

وهكذا يثبت انَّ عدم العرض لا يكون إِلاَّ محمولياً ولا يعقل أَنْ يكون نعتاً للموضوع ومرتبطاً به إِلاَّ بنسبة ذهنية إنشائية لا تكون موضوعاً للأثر شرعاً.

نعم الأوصاف الوجودية المساوقة والملازمة مع عدم العرض يمكن أَنْ تكون نعتاً للموضوع وإلى ذلك يرجع كل ما ثبت من النسب التقييدية بين موضوع وعدم عرضه كقوله تعالى ( بقرة لا فارض ولا بكر ) وقوله ( وفدت عليه بغير زاد ) وهكذا.

المطلب الثاني ـ لو تنزلنا وتصورنا النعتية بين عدم العرض والموضوع قلنا مع ذلك انَّه لا يمنع عن جريان استصحاب العدم الأزلي بنحو يثبت العدم النعتيّ فيما إذا كان عدم العرض مضافاً إلى ذات الموضوع لا إلى الموضوع الموجود في الخارج بما هو موجود ، وذلك لأنَّ هذا العدم النعتيّ يكون ثابتاً في الأزل أيضاً بثبوت العدم المحمولي فانَّ ذات هذه المرأة لا المرأة الموجودة بما هي موجودة ـ كما انها في الأزل لم تكن بقرشية وهذه سالبة محصلة ـ كانت لا محالة متصفة بعدم القرشية اتصافاً ثابتاً في لوح الواقع الأوسع من لوح الوجود. ودعوى : انَّ العدم النعتيّ قضية موجبة معدولة فيستدعي وجود موضوعها

__________________

(١) قد يقال : لا إشكال في ان الوجود والعدم مفهومان عرضيان وليسا كالمقولات الماهوية بل يعرضان على الماهية المطلقة أو المقيدة المتحصّصة فالتحصيص ابتداءً بين الماهيات ، كما انه لا ينبغي الإشكال في ان وجود الماهية المتحصصة كعدالة العالم نقيضها عدم عدالة العالم لأن نقيض المقيد رفع المقيّد لا الرفع المقيّد ، إِلاَّ أَنْ هذا لا يعني عدم معقولية الرفع المقيد بالموضوع الّذي هو المراد بالعدم النعتيّ لأن الذهن كما ينتزع المفاهيم المقولية عن الخارج كذلك ينتزع مفهوم الوجود والعدم ويتعامل معها تعامل المفاهيم المقولية من حيث التحصيص لأن التحصيص من شئون المفاهيم بما هي مفاهيم لا من شئون الواقع الخارجي ومن هنا يقال ( زيد موجود ) كما يقال ( زيد عالم ) ويقال ( العنقاء معدوم ) كما يقال ( العالم عادل ) ولا يراد بالعدم النعتيّ إِلاَّ تحصيص مفهوم بمفهوم العدم فالعالم له حصتان حصة مع العدالة وحصة بلا عدالة ، كما يشهد بذلك الوجدان القاضي بأنه لم يؤخذ في مفهوم العالم غير العادل إِلاّ مفهومي العالم وعدم العدالة مع النسبة بينهما.

والجواب : ان تحصيص العالم وتقييده بعدم العدالة ليس إِلاّ مجرد تحصيص ذهني منتزع بالتبع من إضافة العدالة إلى العالم ، أي هي نسبة تحصيصية ذهنية بحتة ولا تحكي نسبة واقعية خارجية إذ لا نسبة حقيقةً بين المحل وعدم العرض ، بخلاف وجود العرض فان هناك حقيقة ثالثة غير وجود المحل ووجود العرض وهي النسبة الواقعية بينهما.


كما يقول المناطقة لأنَّ ثبوت شيء فرع ثبوت المثبت له ، صحيحة إِلاّ أن ثبوت شيء لشيء انَّما يكون بالنحو الّذي يفرض في جانب ما يثبت من اللوح المناسب لذلك الثبوت وقد قلنا ان لوح الواقع أوسع من لوح الوجود الخارجي ، فلو كانت النعتية والنسبة بين عدم العرض والمحمل كالنسبة بين العرض والمحل ثابتاً فلا محالة ثابت في لوح أسبق من مرحلة الوجود لصدق عدم عدالة زيد قبل وجوده وهذا يعني انَّ عدم العدالة مضاف إلى ذات زيد لا زيد الموجود فلا يشترط إِلاَّ ثبوت موضوعه في هذا الصقع واللوح الّذي هو أسبق من مرحلة الوجود.

فالعالم قبل وجوده يكون متصفاً بعدم العدالة لكونه معدوماً فعدالته أيضاً معدومة في لوح الواقع ولو أخبر عنه بعدم نفسه أو عدم عدالته كان الخبر صادقاً (١).

وهذا نظير صدق الاخبار عن الإنسان بأنه ممكن أو شريك الباري بأنه ممتنع من حيث عدم ثبوت الموضوع إِلاَّ في صقع ثبوت المحمول لا في صقع الوجود الخارجي.

النقطة الرابعة ـ فيما استدل به العلمان لإثبات ما تقدم في النقطة الثالثة والثانية المتقدمتين أي إثبات كون عدم العرض المأخوذ في الموضوع يكون نعتياً أو محمولياً.

والبحث هنا في مقام الثبوت تارة وفيه نستعرض الأدلة الثبوتية التي قد يستدل بها لإثبات النعتية ، وفي مقام الإثبات أخرى وفيه نستعرض ما يمكن أَنْ يكون هو المستظهر من الأدلة الدالة على تركيب موضوع الحكم وكون العدم محمولياً لا نعتياً.

امَّا المقام الأول فقد ذكرنا انَّ السيد الأستاذ قد وافق الشيخ النائيني ( قده ) في ضرورة نعتية العرض المأخوذ وجوده جزءً للموضوع وانما خالفه في ضرورية ذلك في طرف عدم العرض.

وقد برهن على مدعاه بأنَّ العرض لو كان وجوده جزءً في الموضوع فلا محالة لا بدَّ من افتراض أخذه بنحو نعتي مرتبط بالموضوع الّذي هو الجزء الاخر فتكون قرشية المرأة موضوعاً لا ذات القرشية مع ذات المرأة لأنه يستلزم منه فعلية الحكم حتى إذا كانت

__________________

(١) القائل بنعتية العدم انما يقول بنعتية تلك الحصة من عدم العرض المقارن مع وجود الموضوع وفي طوله المعبر عنه بالقضية المعدولة لا مطلق عدم العرض ولو من باب السالبة بانتفاء الموضوع لأن انتزاع الذهن لمفهوم العالم غير العادل كانتزاعه للعالم العادل يكون الاتصاف والنعتية فيه في طول الموضوع فليس مطلق العدم المتحقق خارجاً نعتاً للموضوع.


المرأة غير قرشية فيما إذا وجدت قرشية ما في الخارج ولو في موضوع اخر وهو خلف التقييد المقصود للمولى

وهذا انما يصح في جانب الوجود لا العدم إذ فيه كما يمكن تقييد العدم بالموضوع يمكن تقييد المعدوم به وأخذ نفس العدم محمولياً غير مرتبط بالموضوع.

وامَّا الشيخ النائيني ( قده ) فقد استدل على مدعاه ـ على ما جاء في تقريرات بحثه ـ بأنَّ انقسام الموضوع بلحاظ صفاته ونعوته يكون متقدماً رتبة على انقسامه بلحاظ مقارناته الخارجية فلا بدَّ وأَنْ تلحظ أوصاف الموضوع في مقام الجعل في مرتبة أسبق ، ومن الواضح انَّ العدم النعتيّ وكذا الوجود النعتيّ يكون من الانقسامات الأولية المتقدمة في الرتبة على الانقسام بلحاظ العدم المحمولي الملازم والمقارن خارجاً مع العدم النعتيّ فلا محالة يكون موضوع الحكم في الرتبة السابقة مقيداً بالعدم النعتيّ ، حيث ان الإهمال ثبوتاً مستحيل والإطلاق خلف الغرض ومستلزم للتهافت مع التقييد بالعدم المحمولي. ومع ثبوت التقييد في تلك المرتبة كان تقييد الحكم بعد ذلك بالعدم المحمولي لغواً وغير مجدٍ في إجراء الاستصحاب أيضاً.

وهذا البيان بهذا المقدار قد أورد عليه من قبل السيد الأستاذ بإنكار أصله الموضوعي الّذي افترض وكأنه امر بديهي وهو انَّ الانقسامات الأولية للموضوع متقدمة في مقام جعل الحكم من الانقسام بلحاظ المقارنات. فانه لا برهان على ذلك ولا بداهة تقتضيه ، فكما يمكن للمولى أَنْ يأخذ العدم النعتيّ الّذي هو من الانقسامات الأولية كذلك يمكنه أَنْ يأخذ العدم المحمولي المساوق من حيث الصدق مع العدم النعتيّ فالتقيد بأي واحد منهما يغني عن الاخر نظير التقييد باستقبال القبلة أو استدبار الجدي لأهل العراق ولكن في كلام الشيخ النائيني ( قده ) في رسالته التي وضعها في حكم اللباس المشكوك قد جاء التعبير بأنَّ هذا ـ أي تقدم انقسام الموضوع بلحاظ صفاته على انقسامه بلحاظ مقارناته ـ من نتائج عدم معقولية الإهمال في لبّ الواقع.

وهذا التعبير يمكن أَنْ يكون إشارة إلى برهان حاصله : انَّ هناك فرقاً بين التقييد بالعدم النعتيّ والتقييد بالعدم المحمولي من حيث انَّ الأول تقييد للموضوع باعتباره وصفا له


بينما الثاني تقييد للحكم ابتداءً وليس قيداً محصصاً للموضوع وهو ذات المرأة وإلاّ كان خلفاً فهما أمران متقارنان قيد بهما الحكم. وكلّ قيد لموضوع الحكم يسري لا محالة إلى الحكم نفسه حيث يكون قيداً فيه أيضاً لأنَّ الحكم مقيد بموضوعه فإذا كان موضوعه مقيداً بقيد كان الحكم مقيداً به أيضاً وهذا بخلاف ما يكون قيداً للحكم ابتداءً ـ كالعدم المحمولي ـ فانه لا موجب لسريانه إلى الموضوع وتقيده به.

وفي ضوء هذه المقدمة يتضح : انَّ تقييد الموضوع بالعدم النعتيّ يغني عن تقييد الحكم بالعدم المحمولي لأنه يرجع بالواسطة إلى تقييد الحكم به أيضاً لسريان قيود الموضوع إلى الحكم ، وامّا تقييد الحكم بالعدم المحمولي فلا يغني عن تقييد الموضوع بالعدم النعتيّ لأنَّ قيود الحكم لا تسري إلى الموضوع ، والمفروض انَّ الإهمال في لبّ الواقع محال فلا بدَّ من أَنْ يكون الموضوع الملحوظ في عالم اللبّ امّا مطلقاً أو مقيداً فان كان مطلقاً وقع التهافت وإنْ كان مقيداً كان التقييد بالعدم المحمولي لغواً ، فظهر انه لا بدَّ من ملاحظة موضوع الحكم مقيداً بالعدم النعتيّ لكي لا يلزم التهافت أو الإهمال في عالم اللب وكلاهما محال.

والبرهان بهذه الصياغة ينحصر جوابه : بأنَّا نختار أَنَّ الموضوع في عالم اللب مطلق بمعنى انه ذات الطبيعة بلا قيد ـ حيث يستحيل الإهمال وأنْ لا يكون الملحوظ ثبوتاً لا المطلق ولا المقيد ـ إِلاَّ انَّ هذا لا يلزم منه التهافت فانَّ الإطلاق ليس جمعاً للقيود ولحاظ ثبوت الحكم مع كل قيد من قيود الموضوع وانما هو رفض القيود وملاحظة ذات الطبيعة وسريان الحكم على كل فرد انما يكون بحكم العقل المستنتج من انطباق الطبيعة على الافراد ، ومن الواضح انَّ إطلاق الطبيعة في الرتبة السابقة انما يوجب السراية إلى تمام الافراد إذا لم يقيد الحكم في الرتبة المتأخرة بما ينافي ذلك كما في التقييد بالعدم المحمولي.

وهكذا يثبت انه بحسب مقام الثبوت لا برهان يقتضي أخذ عدم العرض بنحو النعتية لو تصورنا النعتية في عدم العرض.

وامَّا المقام الثاني ـ أي بحسب مقام الإثبات فقد ذكر المحقق النائيني ( قده ) انه


لا بدَّ من إثبات كون العدم مأخوذاً بنحو محمولي وإِلاَّ فحتى لو أمكن ذلك ثبوتاً فاحتمال العدم النعتيّ كافٍ في عدم إمكان إجراء استصحاب العدم الأزلي إذ لا يمكن أَنْ يحرز به موضوع الحكم المحتمل كونه نعتياً.

وما يمكن أَنْ يذكر في تقريب انَّ العدم مأخوذ في موضوع العام بعد ثبوت المخصص بنحو محمولي لا نعتي أحد وجوه :

الوجه الأوّل ـ التمسك بأصالة العموم باعتبار انَّ المقام من موارد الدوران بين الأقل والأكثر بحسب المفهوم ، حيث انَّ العدم المحمولي والنعتيّ وإِنْ كانا متلازمين من حيث الصدق الخارجي ولكنهما أقل وأكثر من حيث المفهوم لأنَّ العدم النعتيّ عبارة عن العدم المحمولي زائداً النعتية التي تعني إضافته إلى الموضوع فإذا دار الأمر بينهما كان اعتبار أصل العدم معلوماً وانما الشك في اعتبار النعتية زائداً على ذلك فينفى بأصالة العموم.

وهذا الوجه موقوف على إمكان تصوير العدم النعتيّ بنحو لا يرجع إلى نعتية صفة وجودية أخرى مضادة مع ما أخذ عدمه النعتيّ وإِلاَّ كان بينهما التباين المفهومي كما هو واضح (١).

ودعوى : انَّ العنوانين متباينان على كل حال لكون كل من المحمولية والنعتية حدين وجوديين للعدم ، مدفوعة : بأنَّ الصورتين واللحاظين الذهنيين للعدم وإِنْ كان بينهما التباين إِلاَّ انَّ المقياس ملاحظة الملحوظين لهما ، ومن الواضح انَّ النسبة بين ما هو الملحوظ في العدم المحمولي مع ما هو الملحوظ في العدم النعتيّ الأقل والأكثر فالتباين بين اللحاظين لا الملحوظين كما هو الحال بين المطلق والمقيد.

وقد يقال : انَّ هذا الوجه موقوف على أَنْ يكون المخصص منفصلاً لا متصلاً وإِلاَّ فقد عرفت من البحوث السابقة سريان الإجمال والتردد في موارد التخصيص المتصل إلى العام نفسه فلا يمكن التمسك به.

__________________

(١) قد تقدم ان عدم قيام نسبة واقعية بين عدم العرض وموضوعه لا يعني عدم إمكان تحصيص موضوع بعدم عرضه في عالم المفاهيم الّذي ينتزعها الذهن من الخارج من دون إقحام عنصر مفهومي غريب ، وعليه تكون النسبة بين العدم المحمولي والعدم النعتيّ بلحاظ الملحوظين الأقل والأكثر لا محالة.


ولكن الصحيح تماميته حتى إذا كان المخصص متصلاً إذ مفاد المخصص واضح لا إجمال فيه ولا تردد وهو خروج مورد التخصيص من دون أَنْ يكون فيه نظر إلى نوعية العدم المأخوذ في موضوع العام لبّا وانما يستكشف ثبوتاً من خروج مورد الخاصّ انَّ الجعل المدلول عليه بالعامّ لا بدَّ وأَنْ يكون مقيداً لبّا ، ومن الواضح أَنَّ تقيد حكم العام بعدم العنوان الخاصّ معلوم على كل حال وانما الشك في تقيد موضوعه الّذي هو معنى العدم النعتيّ فيكون منفياً بأصالة العموم.

وقد يقال : بعدم إمكان التمسك بالعامّ لنفي العدم النعتيّ حتى إذا كان المخصص منفصلاً وذلك باعتبار التلازم بينهما صدقاً في الخارج فلا يلزم من كون العدم نعتياً خروج فرد زائد لكي يكون تخصيصاً زائداً.

والجواب : انَّ العدم النعتيّ وإِنْ لم يستلزم التخصيص الزائد وإخراج فرد لم يكن يخرج بالعدم المحمولي ، إِلاَّ انه يستلزم تقييداً زائداً فيكون منفياً بالإطلاق ، وأَثره الشرعي جريان الاستصحاب في مورد الشك والحاصل : إِنْ كان الإشكال من ناحية اللغوية وعدم الأثر فيكفي ترتب الأثر في مورد الشك بلحاظ الاستصحاب وإِنْ كان الإشكال من ناحية انه ليس تخصيصاً زائداً فالجواب انه تقييد زائد فيكون منفياً بالإطلاق ومقدمات الحكمة (١).

الوجه الثاني ـ انَّ المخصص سواءً كان متصلاً أو منفصلاً لا إجمال فيه لكونه ظاهراً عرفاً في العدم المحمولي إذا لم يكن بنفسه دالاً على أخذ العدم النعتيّ في موضوع العام كما هو المفروض ، فإنَّ قوله ( أكرم كل فقير إِلاَّ الفساق ) أو ( لا تكرم الفاسق منهم )

__________________

(١) قد يقال : انَّ الإطلاق انما يكون بملاك نقض الغرض حيث ان المولى لو كان مراده المقيد ولم يذكر القيد كان نقضاً لغرضه وهذا غير لازم في المقام بلحاظ حكم العام وامَّا الأثر التنجيزي والتعذيري بلحاظ الاستصحاب فهو لا يكون مصححاً لنقض الغرض في حكم العام أو المطلق وإنْ شئت قلت : انَّ الإطلاق انَّما يكون لبيان حدود الحكم الواقعي المجعول في الخطاب المطلق فلو لم يكن فرق بلحاظه فلا تجري أصالة الإطلاق.

والجواب : ليس الإطلاق بملاك نقض الغرض بهذا المعنى بل بملاك نقض الغرض العرفي.

وان شئت قلت : ان السكوت عن بيان قيد ثابت جداً ولباً بنفسه نقض للغرض العرفي في مقام التخاطب والمحاورة وان فرض تساوي المطلق مع المقيد خارجاً ، نظير ما يقال من ظهور الخطاب في موضوعية العنوان المأخوذ فيه لا طريقيته ومشيريته لعنوان آخر وان فرض تساويهما مصداقاً.


لا يستفاد منه عرفاً أكثر من إخراج الخاصّ عن العام وهذا لا يستفاد منه عرفاً أكثر من تقييد الحكم بما إذا لم يكن عنوان الخاصّ منطبقاً وامّا خصوصية النعتية فأمر زائد بحاجة إلى مئونة بيان فيكون منفياً بالإطلاق ومقدمات الحكمة أي انه خلاف أصالة التطابق بين مقام الإثبات ومقام الثبوت.

وهذا الوجه كما ترى لا يفرق فيه بين المخصص المتصل أو المنفصل لعدم إجمال المخصص كما انه لا يفرق فيه إرجاع العدم النعتيّ إلى امر مباين مفهوماً مع العدم المحمولي أو إلى أمر بينهما الأقل والأكثر فانه على كل تقدير بعد أَنْ كان المستظهر عرفاً التقييد بالعدم الّذي يكون محمولياً فمقتضى التطابق بين المقامين انه هو المأخوذ في موضوع حكم العام لا إرادة عنوان وجودي من العنوان العدمي.

الوجه الثالث ـ لو فرضنا انَّ النسبة بين التقييدين نسبة المتباينين وفرضنا انَّ الخطاب مجمل غير ظاهر في انَّ التقييد بنحو العدم المحمولي لا النعتيّ مع ذلك يمكن إثبات العدم المحمولي ، وذلك باعتبار انَّ أصالة الإطلاق النافي للتقييد بنحو العدم النعتيّ جار من دون معارض إذ لا يترتب على معارضه وهو أصالة الإطلاق لنفي التقييد بالعدم المحمولي أثر عملي إذ لو أُريد به إثبات الحكم للمرأة القرشية فهذا معلوم العدم على كل حال ولا يترتب على نفي العدم المحمولي أثر وهذا بخلاف نفي العدم النعتيّ فانه يترتب عليه أثر عملي وهو جريان الاستصحاب وتنجيز حكم العام.

وهذا الوجه موقوف أولاً : على أَنْ يكون المخصص منفصلاً لا متصلاً وإِلاَّ كان الإجمال سارياً إلى ذات الإطلاقين.

وثانياً : على أَنْ يكون الأثر العملي المذكور أثراً عرفياً واضحاً صالحاً لأنْ يكون إطلاق الخطاب مسوقاً من أجله.

لا يقال : يترتب على الإطلاق النافي للتقييد بالعدم المحمولي أثر بلحاظ لازمه حيث يترتب عليه بالملازمة التقييد بالعدم النعتيّ وبالتالي ينفي جريان الاستصحاب ولوازم الأصول اللفظية حجة فلا يقاس ذلك بما إذا كان الأصلان عمليين.

فانه يقال : كون الإطلاق المقابل للتقييد بالعدم النعتيّ مسوقاً لبيان هذا الاعتبار


مقطوع العدم لعدم إمكان بيان التقييد بالعدم النعتيّ عرفاً بإطلاق من هذا القبيل معارض مع إطلاق آخر في نفس ذلك الكلام يقتضي خلافه (١).

الوجه الرابع ـ وهو يتألف من مقدمتين :

أولاهما ـ أَنْ يستظهر من مجموع دليل العام والمخصص انَّ العلاقة بين عنوان العام والمخصص علاقة المقتضي والمانع بأَنْ يكون العنوان المخصَّص كالأموية مثلاً مانعاً عن اقتضاء عنوان العام ـ كالفقير مثلاً ـ لوجوب الإكرام ، لا انَّ عدمه أو ضده شرط في ترتب ذلك الحكم ، وهذا امَّا أَنْ يدعى استظهاره عرفاً من نفس دليلي العام والمخصص إذا كان العنوان فيهما معاً امراً وجودياً ، أو يفترض كمصادرة في ذمة الفقيه استظهاره في كل مورد.

الثانية ـ انه لا يشترط في ترتب المعلول والمقتضى ـ بالفتح ـ عند وجود مقتضية إِلاَّ انتفاء المانع الّذي هو العدم المحمولي من دون حاجة إلى اعتبار أي أمر ثبوتي اخر.

وبما انَّ الأحكام والجعول من أجل غرض وملاك في نفس المولى فيكون المأخوذ في موضوع جعله وحكمه على غرار ذلك أي لا يؤخذ فيه أكثر من العدم المحمولي فظهور التطابق بين الجعل والغرض من ورائه بنفسه يصبح قرينة على انَّ القيد هو العدم النعتيّ لا المحمولي.

وهذا الوجه أيضاً لا يفرق فيه بين أَنْ يكون المخصص متصلاً بالعامّ أو منفصلاً

__________________

(١) الإطلاق فيهما معاً بل في كل مورد انما هو لبيان عدم أخذ القيد والمفروض في المقام انَّ المخصص منفصل فكل من الإطلاقين ظهورهما منعقد في نفي القيد المقابل له غاية الأمر علم من المخصص وجود تقييد بالآخر في البين ، فليس الظهور الإطلاقي فيهما من أجل بيان التقييد ليقال انَّ هذا غير عرفي وانما كان الإشكال من ناحية لغوية حجية هذا الظهور الإطلاقي لأنَّ الحجية بحاجة إلى أثر شرعي في موردها ، وحينئذٍ يقال : بأنه كما يترتب على نفي التقييد بالعدم النعتيّ جريان الاستصحاب أي تنجيز حكم العام كذلك يترتب على نفي التقييد بالعدم المحمولي عدم تنجيزه بل التعذير عنه بالبراءة الشرعية مثلاً. ودعوى : انَّ هذا الأثر مترتب على لازم هذا الإطلاق ، يدفعه :

أولاً ـ عدم قدح ذلك بعد أَنْ كان المحذور هو اللغوية في الحجية فانه يكفي في حجية الأصل اللفظي ترتب أثر على لازمه.

وثانياً ـ انه لو اشترطنا ترتب الأثر على المدلول المطابقي ـ كما في الأصول العملية ـ مع ذلك قلنا انَّ أثر نفي التقييد بالعدم المحمولي المفروض مباينته مع النعتيّ هو نفي جريان الاستصحاب المنجز لحكم العام فانَّ جريانه موقوف على ثبوت العدم المحمولي جزء من موضوع حكم العام فنفي التنجيز من ناحية الاستصحاب أيضاً أثر شرعي.


عنه. ولا بين ان يكون العدم المحمولي مبايناً مع النعتيّ أو بينهما الأقل والأكثر.

هذا كله ما يتعلق بالكلام الأول من المحقق النائيني ( قده ) والّذي لو تم فهو يقتضي عدم إمكان التمسك بالاستصحاب الأزلي في الموضع الأول من المواضع الثلاثة حيث يراد إحراز موضوع حكم العام بالاستصحاب ، وامّا في الموضعين الثاني والثالث الّذي يراد فيهما نفي الحكم المرتب في الدليل الخاصّ أو في دليل مستقل على العنوان المقيد فلا يتم ، إذ لم يؤخذ العدم قيداً فيهما لموضوع حكم يراد إثباته بل يراد نفي الحكم المرتب على الموضوع الوجوديّ بنفي جزء ذلك الموضوع ولو باستصحاب العدم الأزلي.

وامَّا الكلام الثاني له 1 الّذي ذكره في رسالته المعقودة لبيان حكم اللباس المشكوك ، والّذي لو تم كان دليلاً على المنع عن جريان استصحاب العدم الأزلي في الموضع الثاني والثالث من المواضع الثلاثة المتقدمة أي ما إذا أُريد بالاستصحاب نفي الحكم الخاصّ فيتألف من مقدمتين :

الأولى ـ انَّ الربطية والناعتية طور في وجود ماهية العرض وليس شأناً من شئون نفس الماهية ، لأنَّ ماهية العرض كالبياض مثلاً من حيث هي لا ربط ولا ناعتية لها بل ماهية مستقلة في نفسها إِلاّ انَّ طرز وجودها في الخارج وجود ربطي خلافاً للجواهر التي يكون وجودها في الخارج مستقلاً وفي نفسه.

الثانية ـ انَّ الوجود والعدم متقابلان والمتقابلان لا يقبل أحدهما الاخر ولا يعرض عليه بل يعرضان على موضوع ومحل هو الماهية فانها تتصف بالوجود تارة والعدم أخرى وامَّا نفس الوجود فلا يعرض عليه العدم كما انَّ العدم لا يعرض عليه الوجود.

والمستنتج من مجموع المقدمتين اننا في استصحاب العدم الأزلي لوصف القرشية مثلاً إنْ أردنا استصحاب عدم الوجود الرابط والناعتية التي هي طرز من الوجود الخارجي للعرض فهو غير معقول بحكم ما تقدم في المقدمة الثانية ، حيث قلنا انَّ العدم لا يعرض على الوجود بل يضاف إلى الماهية ، وإِنْ أُريد استصحاب عدم ماهية القرشية فانْ أُريد عدمها الناعت المقابل لوجودها كذلك في الخارج فهذا


لا حالة سابقة له ، وإِنْ أُريد عدمها المحمولي فهو ليس نقيضاً ومقابلاً للوجود الناعت المأخوذ في موضوع الحكم بحسب الفرض ليكون استصحابه مجدياً في نفي حكمه بل هو مقابل لأخذ الوجود المحمولي للقرشية.

وهذا الكلام مما لا محصل له ، إذ يرد عليه :

أولاً ـ انه قد اتضح في ضوء ما تقدم انَّ النعتية والربطية ليست إِلاَّ عبارة عن ملاحظة مفهوم محصصاً بمفهوم اخر ، فانه تارة : يلحظ مفهوم البياض مطلقاً وبلا قيد فيكون مفهوماً مستقلاً ، وأخرى : يلحظ بياض الكتاب وقرشية المرأة فيكون مرتبطاً بموضوع ، وهذا التحصيص والربط ثابت في مرحلة المفاهيم وبقطع النّظر عن الوجود ، وهذا هو المأخوذ أيضا في موضوع الجعل الشرعي بما هو مرآة عن معنونه الخارجي ، فليس المأخوذ في موضوع الجعل وجود خارجي معين بل أخذ النعتية في الجعل يعني أخذ الحصة الخاصة موضوعاً والاستصحاب أيضاً لا بدَّ من إجرائه بلحاظ هذا المركز نفياً أو إثباتاً ، أي بلحاظ ما أخذ في الجعل الشرعي بما هو حاكٍ ومرآة عن الخارج.

ومن الواضح انَّ العدم يضاف إلى النعتية بهذا المعنى حيث انَّ قرشية المرأة كانت معدومة في الأزل فيكون مجرى للاستصحاب.

وإِنْ شئت قلت : انَّ أخذ القرشية بنحو الناعتية لا يعني أخذ طرز الوجود الخارجي المعين قيداً في الموضوع ، لوضوح انَّ ما يؤخذ في موضوع الجعل ليس إِلاَّ المفاهيم الاسمية أو الربطية بما هي حاكية عن الخارج ، فانْ أُريد من الكلام المذكور هذا المعنى فهو واضح البطلان ، وإنْ أُريد أخذ مفهوم منتزع من ذلك الطرز من الوجود الخارجي المعبر عنه بالوجود الرابط فمن الواضح انَّ الوجود والعدم يضافان إلى هذا المفهوم مهما كانت حقيقته حتى لو كان مفهوم الوجود مأخوذاً فيه ، فانَّ التقابل بين الوجود والعدم والمستوجب لعدم إضافة أحدهما إلى الاخر انما هو بلحاظ واقعهما لا بلحاظ مفهوميهما فمفهوم الوجود يمكن أَنْ يضاف إليه الوجود أو العدم فيقال الوجود موجود أو معدوم.

ثانياً ـ انه لو سلمنا انَّ العدم المحمولي للقرشية لا يصطلح عليه بنقيض الموجود


الناعت للقرشية إِلاَّ انه لا إشكال في انَّ عدم القرشية المحمولي رافع لموضوع الحكم بحيث لو فرض محالاً وجود المرأة مع العدم المحمولي لقرشيتها لم يكن الحكم ثابتاً إذ يكفي فيه انتفاء أحد اجزاء موضوعه سواءً كان هذا الانتفاء مع ذلك الوجود بحسب مصطلح الفلاسفة يسميان بالنقيضين أم لا ، فانَّ العقل لا يشترط في انتفاء الحكم صدق هذا المصطلح ، فأركان الاستصحاب النافي تام إذ لم ترد آية أو رواية على اشتراط أَنْ يكون مصب الاستصحاب ما يكون نقيضاً بمصطلح المناطقة.

هذا كله في مدرك القول الأول وهو قول المحقق النائيني ( قده ). وامّا القول الثاني المنسوب إلى المحقق العراقي ( قده ) وهو التفصيل في جريان استصحاب العدم الأزلي ، فقد جاء تقريره في الكلمات المنسوبة إلى المحقق العراقي وفي رسالته المؤلفة في اللباس المشكوك بنحو يختلف عنه في رسالته التي ألّفها في استصحاب العدم الأزلي خاصة حيث أضاف فيها جملة من النكات والتعميقات فجاء تفصيله بنحو آخر ، وفيما يلي نذكر كلا التقريرين للتفصيل.

امَّا ما جاء في رسالة اللباس المشكوك والّذي هو التفصيل المشهور نسبته إليه فبيانه بالنحو التالي :

إنَّ الأوصاف المعارضة على موضوع تكون متأخرة بالطبع عن ذلك الموضوع بحسب الرتبة ، فالقرشية في المرأة متأخرة عن ذات المرأة تأخر المعلول عن علته أو جزء علته ، وإذا كان الأمر كذلك في طرف وجود الوصف كان عدمه أيضاً متأخراً عن ذلك الموضوع لأنَّ النقيضين بحكم تقابلهما وتواردهما على محل واحد يكونان في رتبة واحدة ويستحيل أَنْ يكونا في رتبتين ، وعلى هذا الأساس إذا كان موضوع الحكم مركباً من المرأة وقرشيتها فما هو نقيض الجزء الثاني لهذا الموضوع الّذي لا بدَّ من إحرازه بالاستصحاب أيضاً يكون متأخراً عن ذات المرأة رتبة ، ومن الواضح انَّ المتأخر عنها كذلك انما هو العدم النعتيّ لقرشية المرأة لا العدم المحمولي الأزلي والّذي كان ثابتاً قبل وجود المرأة فكيف يكون متأخراً عنها.

وهذا البيان قد يتبادر منه أدائه إلى إنكار جريان الاستصحاب الأزلية مطلقاً


فكيف يصير منشأ للقول بالتفصيل في المسألة؟ إِلاَّ انَّ الصحيح انه منشأ للتفصيل بين ما إذا كان كيفية أخذ الوصف كالقرشية في موضوع الجعل بنحو عرضي لثبوت الموضوع أو بنحو طولي ، فانَّ الوصف بوجوده الخارجي وإِنْ كان طولياً دائماً إِلاَّ انَّ الميزان ليس هو ملاحظة الخارج بل ملاحظة ما هو الموضوع نفياً وإثباتاً بحسب عالم الجعل لأنَّ مصب الاستصحاب ومركزه ذلك بحسب الحقيقة لا الخارج ، فالميزان أَنْ يلاحظ كيفية أخذ القرشية في موضوع الجعل الشرعي فانْ كانت مأخوذة في طول افتراض وجود المرأة كما إذا قيل ( إذا وجدت امرأة وكانت قرشية حين وجودها فهي تحيض إلى الستين ) بحيث يكون ما هو موضوع الحكم القرشية الثابتة في رتبة وجود المرأة خارجاً لم يجر فيها استصحاب العدم الأزلي لأنَّ نقيض هذا الموضوع عدم القرشية في هذه المرتبة أي العدم الخاصّ في رتبة وجود المرأة وهذا لا يثبت باستصحاب مطلق العدم ، وإِنْ كانت مأخوذة بنحو عرضي أي قيل ( إذا وجدت امرأة قرشية ) بحيث فرض أخذ المرأة المتصفة بالقرشية في مرتبة ذاتها موضوعاً جرى الاستصحاب المذكور وإِنْ كان بحسب الواقع تحقق الوصف في طول الموصوف إِلاَّ انَّ ذلك غير دخيل في الحكم بحسب موضوع الجعل فلا يكون الترتب المذكور مأخوذاً في طرف عدم الوصف بل ما هو جزء الموضوع إثباتاً ونفياً نفس القرشية فإذا كان عدمها ثابتاً في الأزل جرى الاستصحاب فيه لا محالة.

وهذا محصل التفصيل المشهور نسبته إلى المحقق العراقي ( قده ).

وفيه أولاً ـ عدم تمامية الأصل الموضوعي الّذي افترضه ( قده ) من انَّ النقيضين في رتبة واحدة فإذا كان الوصف متأخراً عن الموصوف كان عدمه متأخراً عنه أيضاً ، ذلك انَّ المقصود من كون النقيضين في رتبة واحدة إِنْ كان بمعنى عدم تقدم أحدهما على الاخر لعدم كونه علّته أو جزء علّته فهذا صحيح ولكنه لا يقتضي أنْ يكون تأخر أحدهما عن شيء ثالث لكونه معلولاً له مستوجباً لتأخر الاخر عنه أيضاً إذ الرتبة بهذا المعنى يراد بها العلّية ولا علّية إِلاَّ مع أحد النقيضين لا كليهما.

وإِنْ أُريد من ذلك انهما متلازمان في الرتبة كالمعلولين لعلّة ثالثة فمن الواضح بطلانه لأنَّ النقيضين لا يكونان معلولين لعلّة واحدة بل علّة أحدهما منافرة مع الاخر


ولا تجتمع معه كما هو واضح.

وقد أوضحنا ذلك مفصلاً في بحوث الضد. وعليه فالعدم المحمولي الأزلي أيضاً نقيض للوصف.

وثانياً ـ ما أشرنا إليه في التعليق الاخر على كلام المحقق النائيني ( قده ) فانه لم يردد دليل على اشتراط أَنْ يكون مركز الاستصحاب النافي هو عنوان نقيض الموضوع بل كلّما يراه العقل موجباً لانتفاء الحكم المجعول شرعاً لا بدَّ أَنْ يكون هو مجرى الاستصحاب النافي سواءً سمّاه المنطقي بالنقيض أم لا ، ومن الواضح انَّ العقل يرى انه إذا رتب الشارع حكمه على جزءين المرأة وأنْ تكون القرشية فبانتفاء أحد هذين الجزءين ينتفي الحكم لا محالة سواءً كانت حالة الانتفاء تلك تسمى بالنقيض أَمْ لا والعدم المحمولي الأزلي لقرشية المرأة أيضاً من حالات انتفاء أحد جزئي هذا الموضوع بحيث لو فرض محالاً وجود المرأة فيها لم يكن الحكم المجعول فعلياً ، فيجري الاستصحاب بهذا الاعتبار.

ثم انَّ المحقق المذكور حاول في رسالته في استصحاب العدم الأزلي إبطال هذا البيان للتفصيل مع تسليم نفس الأصول الموضوعية وطرز التفكير الموجود فيه ، وذلك بدعوى : انَّ العدم المحمولي الأزلي للقرشية أيضا في طول وجود المرأة فيكون نقيضاً لقرشيتها لأنَّ العدم الأزلي للقرشية معلول لعدم نفس المرأة وعدم المرأة في رتبة وجودها بحكم وحدة رتبة النقيضين فيكون عدم القرشية في طول وجود المرأة أيضاً فلو كان هذا هو الإشكال لما صح التفصيل بل جرى الاستصحاب في التقديرين.

إِلاَّ انَّ هذا الكلام غير صحيح فاننا إذا قبلنا الطرز المذكور من التفكير أمكننا أَنْ نقول بأنَّ العدم الأزلي للقرشية انما هو معلول لعدم المرأة في الأزل لا في الآن الّذي يراد إجراء الاستصحاب وتطبيقه ، ببرهان ثبوت ذلك العدم حتى مع وجود المرأة فعلاً.

وعدم المرأة في الأزل نقيض لوجودها في الأزل أيضاً لا مطلقاً لاشتراط وحدة الزمان في النقيضين فيكون عدم القرشية الأزلي في طول وجود المرأة في الأزل لا في طول وجودها في زمن تطبيق الاستصحاب على المصداق الخارجي ، مع أَنَّ جزئي الموضوع الطوليين في


كل مصداق لا بدَّ وأَنْ تحفظ الطولية بينهما بلحاظ ذلك المصداق لا مصداق اخر ، فانَّ ترتب الحكم إثباتاً أو نفياً في كل زمان منوط بانحفاظ ما أخذ في موضوع الحكم في ذلك الزمان فلا بدَّ وأَنْ يكون المستصحب عدم القرشية الّذي هو في طول وجود المرأة الآن وهذا لا حالة سابقة له.

وامَّا ما ذكره المحقق العراقي ( قده ) في رسالته المعقودة لاستصحاب العدم الأزلي فحاصله : انَّ القرشية بما هي موضوع للحكم متأخرة عن المرأة برتبتين لأنها في طول تقيد الموضوع بها إذ لو لا ذلك لما كانت القرشية جزءً لموضوع الحكم وتقيد الموضوع ـ وهو المرأة ـ في طول المرأة لكونها من عوارضه وأطواره فتكون القرشية متأخرة عن المرأة برتبتين فلا بدَّ وأَنْ يكون عدم القرشية أيضاً متأخراً عن المرأة برتبتين. وحينئذٍ إذا فرض انَّ المأخوذ في موضوع الحكم تقيد ذات المرأة بالوصف بقطع النّظر عن وجودها بحيث تكون النسبة والاتصاف ثابتين بين الذاتين صح إجراء الاستصحاب في الاعدام الأزلية ، لأنَّ في ظرف عدم الذات كان التقيد القائم بالطرفين ثابتاً ولا يوجب عدم الذات في الخارج سلب التقيد والنسبة لما عرفت من انَّ معروض التقيد ليس إِلاَّ نفس الذات المحفوظ بين طرفي الوجود والعدم فيصدق على عدم الوصف حتى في ظرف عدم الذات عدم ذات القيد الّذي هو نقيض موضوع الأثر فإذا جرَّ هذا العدم بالاستصحاب إلى حين الوجود يصدق نقيض القيد في هذا الظرف فيترتب عليه رفع الحكم ، وامّا لو كان التقيد والاتصاف ثابتاً لوجود المرأة ومنوطاً به ففي ظرف عدم هذا الوجود لا يكون تقيد أصلاً ، ففي هذا الظرف وإِنْ صدق عدم الوصف الناشئ من عدم الموضوع لكن مثل هذا العدم ليس موضوعاً للأثر لا بنفسه كما هو واضح ولا بمناط المناقضة لأنَّ ذات العدم في ظرف عدم الموضوع ليس نقيض الوجود المأخوذ في الرتبة المتأخرة عن التقيد المتأخر عن وجود الموضوع الّذي هو ظرف ثبوت التقيد وهذا هو العدم النعتيّ لا الأزلي.

وفيه : أولاً ـ انَّ المستصحب انما هو ذات الموضوع لا الموضوع بما هو موضوع فانَّ استصحاب الموضوع بما هو موضوع على ما حقق في محله يرجع إلى استصحاب الحكم


وذات الموضوع هي القرشية وهي ليست متأخرة عن الذات إِلاَّ برتبة واحدة.

وثانياً ـ انَّ التقيد امَّا أَنْ يراد به تقيد الموضوع في عالم الجعل أو يراد به وجود التقيد والنسبة بين المرأة والقرشية خارجاً ، فعلى الأول وإِنْ كانت القرشية بما هي ذات أثر متأخرة عن التقيد إِلاَّ انَّ التقيد المذكور ليس متأخراً عن الموضوع وهو الإنسان خارجاً لوضوح انَّ الجعل والتقيد الملحوظ في موضوعه ثابتان قبل أَنْ يوجد في الخارج موضوعه ، وعلى الثاني فالتقيد وإِنْ كان متأخراً عن وجود موضوعه خارجاً إِلاَّ انَّ القرشية ذات الأثر ليست في طول هذا التقيد بل في طول التقيد بالمعنى الأول ، وامَّا التقيد بهذا المعنى فهي نسبة تكون في طول طرفيها لأن انَّ طرفيها في طولها ، هذا كله مضافاً إلى عدم تمامية الأصول الموضوعية لأصل هذا الطرز من الاستدلال كما عرفت في إبطال البيان الأول لتفصيله.

وهكذا يتضح انَّ الصحيح جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية مطلقاً ، نعم لو فرض انَّ الوصف المشكوك كان من لوازم ذات الموصوف الثابتة له في مرتبة ذاته بقطع النّظر عن وجوده وعدمه في الخارج كزوجية الأربعة فلا يجري في مثله استصحاب عدمه الأزلي إِلاَّ انَّ هذا في الحقيقة ليس إشكالاً على جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية بل عدم جريانه هنا من باب ارتفاع الموضوع لعدم ثبوت عدم أزلي للوصف على ما حققناه مفصلاً في شرح العروة الوثقى حيث حاول السيد الأستاذ هناك اعتباره تفصيلاً في الاستصحابات الأزلية وجعَله التفصيل المنسوب إلى المحقق العراقي ( قده ) ثم حاول تفنيده ولتفصيل ذلك تراجع بحوثنا في شرح العروة الوثقى.

« فصل : الدوران بين العام واستصحاب حكم المخصص ».

إذا خرج عن العام عنوان بالتخصيص ثم شك بقاءً في الحكم هل هو على طبق حكم الخاصّ أو العام فهل المرجع العموم أو استصحاب حكم المخصِّص؟

تارة : يفرض الشبهة حكمية غير مفهومية ، وأخرى يفرض الشبهة مفهومية ، فإذا فرضت الشبهة حكمية غير مفهومية كما إذا دل دليل على وجوب الخمس في كل فائدة خرج منه بالتخصيص ما يكون مئونة للشخص ولعياله فكان ربح ما مئونة إلى مدة ثم


خرج عن كونه مئونة لانتفاء حاجة الشخص إليه فهل يرجع فيه إلى عموم العام فيجب تخميسه أم استصحاب حكم المخصص ، والصحيح انَّ الرجوع إلى عموم العام انما يصح فيما إذا كان للعام إطلاق أزماني بلحاظ كل فرد من افراده فيكون حجة ومقدماً على استصحاب حكم المخصِّص وامّا إذا لم يكن له إطلاق أزماني كذلك فالمرجع هو الاستصحاب إذا ما تمت أركانه أي لم يكن العنوان الخارج بالتخصيص حيثية تقييدية وإِلاَّ كان من تبدل الموضوع فيرجع إلى الأصول الأخرى.

واما إذا كانت الشبهة مفهومية كما في تخصيص عمومات الأحكام الإلزامية بالبالغين وإخراج غير البالغين وهو من لم تظهر فيه إحدى علامات البلوغ ـ كنبات الشعر الخشن مثلاً ـ فشك في مرتبة من الشعر هل يعتبر خشناً أم لا بنحو الشبهة المفهومية ، فهل يرجع فيه إلى عمومات التكليف أو يستصحب حكم الخاصّ بعدم التكليف؟.

وتفصيل الكلام في ذلك انه قد يتوهم في المقام.

أولاً ـ انَّ الاستصحاب المذكور يجري ويكون مقدماً على أصالة العموم ونافياً لموضوعه المختص بمن له شعر خشن والاستصحاب ينفي ذلك في الفرد المشكوك.

وقد يتخيل ثانياً ـ العكس فانَّ الاستصحاب لا ينفي موضوع العام حقيقة والمفروض انَّ موضوعه واقع من ينبت عنده الشعر الخشن وقد فرضنا جواز التمسك به في مورد الشبهة المفهومية لتحقق ظهوره فيه وبذلك يحكم على الاستصحاب الموضوعي لكونه بالملازمة يثبت كون الفرد المشكوك ذو شعر خشن فيرتفع موضوع الاستصحاب الموضوعي.

وقد يتخيل ثالثاً ـ بجريان كلا الأصلين ـ أصالة العموم والاستصحاب الموضوعي ـ من دون تقدم أحدهما على الاخر فيكون من التعارض بينهما بمعنى وقوع التعارض بين إطلاقي دليلي الحجية الشامل لكل منهما في نفسه. وذلك بتقريب انَّ أصالة العموم وإِنْ صح التمسك به في الشبهة المفهومية للمخصص إلا انه لا يمكن أَنْ نثبت به إِلاَّ الحكم وهو وجوب الصلاة وامَّا الموضوع وهو كون الفرد المشكوك ذا شعر خشن فإثباته موقوف على ثبوت الملازمة بين وجوب الصلاة على فرد وكون شعره خشناً وهذا انما يثبت ببركة التمسك بإطلاق دليل التخصيص الدال على انَّ كل من لم ينبت عنده


شعر خشن لا تجب الصلاة عليه للفرد المشكوك لإثبات انه إذا لم يكن شعره خشناً فلا تجب الصلاة عليه وبما أنه تجب عليه بمقتضى العموم فشعره خشن. ومثل هذا الإطلاق غير جار لأنَّه من موارد الدوران بين التخصيص والتخصص وإثبات عكس النقيض لما هو مفاد الدليل به وهو غير صحيح عند المشهور كما تقدم ، ومعه فلا يمكن بأصالة العموم إثبات حال الفرد المشكوك من حيث كون شعره خشنا أم لا ليرتفع موضوع الاستصحاب الموضوعي فيكون الاستصحاب جاريا لا محالة ومنافيا بحسب اثره العملي مع أصالة العموم فيتعارضان.

ولكن الصحيح ان الجمع بين فرض جريان الاستصحاب في الشبهة المفهومية وفرض التمسّك بالعامّ فيها في نفسه متهافت لأنَّ كلاً منهما مبتنٍ على نقيض ما يبتني عليه الآخر ، لأنَّ العام إِن كان قد تعنون بعنوان غير مدلول اللفظ الوارد في دليل التخصيص فالشبهة مصداقية حينئذٍ بالنسبة للعام لا مفهومية على ما تقدم شرحه مفصلاً في أبحاث العام والخاصّ ، ولا يجوز حينئذٍ التمسك بالعامّ بل يجري الاستصحاب الموضوعي فقط. وإِنْ كان التعنون بواقع المدلول الخاصّ وقلنا ان هذا التعنون في موارد الإجمال المفهومي يثبت بمقدار عدم القدر المتيقن من الخاصّ فأصالة العموم جارية ولا أثر للاستصحاب الموضوعي لأنه لو أريد استصحاب عدم مدلول اللفظ بما هو مدلول اللفظ فليس هو موضوع الأثر الشرعي وإِنْ أريد استصحاب عدم واقع المدلول فلا شك فيما هو الواقع كما هو واضح.

فصل : ( في جواز التمسك بالعامّ لإثبات التخصص )

بعد الفراغ عن حجية العام في نفسه وجواز التمسك بأصالة العموم لإثبات حكمه في ما يحرز دخوله تحته موضوعاً ، يقع البحث فيما إذا علم عدم ثبوت حكمه في مورد ولكن شك في كونه خارجاً عنه موضوعاً فلا يكون تخصيص في البين أولا فيكون تخصيصاً ، فهل يصحّ التمسك بالعامّ لنفي التخصيص وإثبات التخصص ـ الخروج الموضوعي ـ أم لا؟

وهذا البحث لا يختص بباب العمومات بل يجري في المطلقات أيضا في


موارد الدوران بين التقييد والتقيّد لعدم الفرق في ملاك البحث ، فانَّ ملاكه إمكان التمسك بالأصل اللفظي وهو الظهور في الدليل المتكفّل لقضية كلية لإثبات عكس نقيضه وهذا لا يفرق فيه بين أَنْ يكون الظهور وضعياً أو حكمياً.

وقد مال جملة من العلماء في بعض التطبيقات والاستدلالات إلى التمسك بالظهورات في مثل هذه الموارد فمثلاً قد وقع من قبل بعض الأصوليين الاستدلال على عدم كون الاستحباب امراً بعموم قوله تعالى ( فليحذر الذين يخالفون عن امره ) حيث يعلم بعدم لزوم الحذر في الطلب الاستحبابي فيكون مقتضى عموم الآية عدم صدق مادة الأمر عليه.

ومن قبيل ما ورد من الاستدلال في الفقه على عدم نجاسة ماء الاستنجاء الّذي ثبت عدم نجاسة ملاقيه تمسكاً بعموم أو إطلاق أدلة تنجيس المائع المتنجس وكلا هذين الموردين من موارد التمسك بالعامّ أو المطلق لإثبات التخصص كما هو واضح.

والتقريب الّذي يخطر في الأذهان لإثبات حجية العام أو المطلق لإثبات التخصص أو التقيّد واضح ، حيث انَّ مقتضى أصالة العموم أو الإطلاق في القضية الكلية ثبوت عكس نقيضها وهو انتفاء موضوعها عند انتفاء محمولها فإذا ثبت بدليل انتفاء المحمول في مورد ثبت بالملازمة انتفاء الموضوع وهو معنى التخصص.

وإِنْ شئت قلت : انَّ كل قضية حقيقية وإِنْ كانت حملية إِلاَّ انها في قوة قضية شرطية مفادها انه كلّما صدق الموضوع ثبت المحمول وانتفاء الشرط عند انتفاء الجزاء لازم عقلي لا محالة. فإذا ثبت بدليل انتفائه ثبت انتفاء الموضوع.

وهذا المدلول وإِنْ كان التزامياً بالنسبة لظهور العام أو المطلق إِلاَّ انَّ المفروض حجية مثبتات الظهور لكونه من الأمارات وعدم اختصاص حجيته بالمداليل المطابقية خاصة.

إِلاَّ انَّ جمهور المحققين من علماء الأصول عند تحريرهم لهذه المسألة بنوا على عدم حجية الأصول اللفظية في أمثال المقام ، وقد حاول صاحب الكفاية ( قده ) أَنْ يُخرج هذا الموقف على أساس انَّ مدرك حجية الأصول اللفظية هو السيرة العقلائية وهو دليل لبّي يقتصر فيه على المقدار المتيقن من مورده الّذي هو صورة الجزم بدخول الفرد


تحت موضوع العام أو المطلق والشك في خروجه عن حكمه لا صورة عكسه.

إِلاَّ انه من الواضح انَّ الحجية عند العقلاء لا تكون على أساس التعبد البحث ليقال بأنَّ مورد هذا التعبد إِما جزماً احتمالاً مضيق بل تكون على أساس الكاشفية والطريقة إلى الواقع ومن الواضح انَّ نفس الدرجة من الكشف والطريقية الثابتة للعام أو المطلق بلحاظ إثبات حكمه ومدلوله المطابقي أو الالتزامي من سائر النواحي ثابت بلحاظ دلالته على نفي التخصص أيضاً ، فلا بدَّ من التفتيش عن نكتة هذا الضيق المدّعى في كبرى حجية الظهور لتكون هي ملاك التفصيل (١).

ومن هنا حاول أحد تلامذة هذا العلم وهو المحقق العراقي ( قده ) أَنْ يبرز هذه النكتة بما حاصله :

انَّ العقلاء يفككون في حجية الظهور بين الشبهة الحكمية التي يراد فيها تعيين حكم الفرد وبين الشبهة المصداقية التي يراد فيها تعيين عنوان الفرد مع العلم بحكمه وذلك لعدم نظر الخطاب إلى تعيين صغرى الحكم نفياً أو إثباتاً وانما نظره تماماً إلى إثبات الكبرى وهو الحكم على تقدير تحقق موضوعه ، وقد جعل هذه النكتة منشأ لأمرين عدم حجية العام في الشبهة المصداقية وعدم حجيته في نفي التخصيص وإثبات التخصص ، ومن هنا يتحد في نظره ملاك هذا البحث والبحث السابق فانه لا فرق بينهما إِلاَّ من ناحية انَّ المقصود من أصالة العموم في السابق إدخال المشكوك في العام وفي المقام إخراجه عنه مصداقاً وهذا ليس بفارق (٢).

وهذا الكلام غير تام فانَّ عدم نظر الدليل إلى إثبات الصغرى نفياً وإثباتاً انما يجدي في عدم حجية أصالة العموم في المسألة السابقة لإثبات حكم العام في الفرد المشكوك بتقريب تقدم لا في المقام وحاصل ذلك التقريب : انَّ التمسك بالعامّ في الفرد المشكوك انْ أُريد به إثبات الحكم فيه مطلقاً أي عدم خروج ذلك الفرد عن عموم الجعل بالتخصيص فهذا خلف ثبوت التخصيص ، وإِنْ أُريد به إثبات الحكم فيه

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ٣٥١ ـ ٣٥٢

(٢) مقالات الأصول ، ج ١ ، ص ١٥٤


لكونه من غير الافراد المخصصة أي لثبوت موضوع العام فيه فالحكم بهذا المعنى هو المجعول والدليل مفاده الجعل لا المجعول.

وواضح انَّ هذا البيان لا يجري في المقام إذ ما يراد نفيه بأصالة العموم فيه انما هو التخصيص الزائد وهو من شئون الجعل الّذي هو مفاد الخطاب لا المجعول ، فلا يبقى إِلاَّ دعوى : انَّ هذا المدلول الالتزامي في المقام أمر خارجي تكويني وليس حكماً شرعياً. ومن الواضح انَّ مجرد هذا الأمر لا يمكن أن يشكل محذوراً عن التمسك بالأصول اللفظية ولذلك لا يتوقّف أحد في حجية أصالة العموم فيما إذا ترتب عليه لوازم خارجية ولا يشترط في حجيتها أَنْ تكون أحكاماً شرعية.

والصحيح في المقام أَنْ يقال : انه اتضح مما سبق وجود بيانين في تقريب دلالة العام أو المطلق على الخروج الموضوعي للفرد.

أحدهما ؛ انه مقتضى عكس نقيض الموجبة الكلية ، والاخر : انحلال مفاد الدليل إلى قضايا شرطية بعدد الافراد ، شرطها تحقق الموضوع وجزائها ثبوت الحكم فإذا انتفى الجزاء انتفى الشرط لا محالة.

وهذان البيانان بينهما اختلاف ، فانَّ البيان الثاني لا يتم فيما إذا كان العام أو المطلق على نهج القضية الخارجية لا الحقيقية إذ لا يرجع مفاد العام أو المطلق حينئذٍ إلى قضية شرطية لأنَّ القضية شرطية فرع كون الموضوع ملحوظاً مقدَّر الوجود وهو انَّما يكون في القضايا الحقيقية لا الخارجية التي يتكفّل فيها المولى بنفسه إحراز موضوع حكمه في افراد معينة مشخصة في الخارج سواءً كانت الافراد الملحوظة هي الموجودة بالفعل أو الأعم منها ومما سيوجد في المستقبل فانَّ طرز القضية الخارجية فيهما واحد بحيث يبقى الفرق النظريّ والمدلول بين القضية الخارجية والقضية الحقيقية محفوظاً ، فانه لو فرض ـ ولو فرضا لا يقع خارجاً ـ انَّ شيئاً ما انطبق عليه الموضوع المأخوذ في الجعل على النهج الأول أي القضية الحقيقية انطبق عليه الحكم وشمله لاندراج ذلك الشيء تحت القضية الشرطية المفادة في القضايا الحقيقية بخلاف ما إذا كان الجعل على نهج القضية الخارجية ولو الأعم من الفعلية والاستقبالية فانها باعتبار عدم رجوعها إلى قضية شرطية بل فعلية لا يمكن أَنْ يستفاد من مفادها أكثر من القضايا الفعلية بعدد


الافراد الملحوظة في الخارج ، وهذا أحد الفوارق بين نهج القضيتين التي تترتب على أساسها آثار منطقية وأصولية تقدمت الإشارة إلى بعضها في بحوث سابقة.

وعلى هذا الأساس لا يصح البيان الثاني لتقريب دلالة العام أو المطلق على الخروج الموضوعي في ما إذا كان العام أو المطلق مجعولين على نهج القضايا الخارجية.

كما انَّ البيان الأول موقوف على أَنْ يكون المفاد بالخطاب قضية موجبة كلية ، أي لا بدَّ من دلالة الخطاب على الكلية والاستيعاب في طرف الموضوع ولا يكفي فيه ثبوت واقع القضايا المنحلة بعدد الافراد لتوقف عكس النقيض على ذلك وهذا بخلاف البيان الثاني فانه يكفي فيه ثبوت مفاد القضية الشرطية في الفرد المشكوك خروجه موضوعاً ، ولهذا يكون البيان الثاني اقرب في باب المطلقات من البيان الأول.

وكلا البيانين غير تامين في موارد الخطابات المجعولة على نهج القضايا الحقيقية.

توضيح ذلك ، انه تارة : يفرض انَّ كلاً من الخطاب العام والخطاب الخاصّ الدال على عدم ثبوت حكم العام في الفرد المشكوك مجعول على نهج القضايا الحقيقية ، وأخرى : يفرض انَّ كليهما من القضايا الخارجية ، وثالثة : يفترض الاختلاف ، ونحن قد عرفنا فيما سبق انَّ من جملة الفوارق بين النهجين انَّ العنوان المأخوذ في القضية الحقيقية يكون ملقى إلى المكلفين أنفسهم ولا يتكفل المولى إحرازه نفياً أو إثباتاً وانما يقدر وجوده في مقام الحكم ولهذا كانت القضايا الحقيقية قضايا شرطية في روحها. وهذا بخلاف القضية الخارجية التي يتكفل المولى فيها بنفسه إحراز ما هو موضوع حكمه لبّا في الخارج ليجعل الحكم الفعلي النهائيّ عليه.

وعلى هذا الأساس نقول : إذا كانت الخطابات مجعولة على نهج القضايا الحقيقية كما هو كذلك ـ أي كان كل من الدليل العام والدليل الخاصّ على نهج القضايا الحقيقية ـ فلا يصح التمسك بأصالة العموم لإثبات الخروج الموضوعي للفرد المشكوك ، إذ في هذه الحالة يكون مفاد كل من الدليلين منحلاً إلى قضايا شرطية فمفاد ( أكرم كلَّ قرشي ) انَّ زيداً إذا كان قرشياً وجب إكرامه ومفاد ( لا يجب إكرام زيد ) انه لا يجب إكرامه سواءً كان قرشياً أولا ، أي إذا كان قرشياً فائضاً لا يجب إكرامه ، ومن الواضح التنافي بين مثل هذين الجعلين بمعنى انه يستلزم تخصيص الدليل العام


بالقرشي الّذي لا يكون زيداً لا محالة إذ لا يمكن أَنْ تجتمع القضية الشرطية المستفادة من عموم العام بالنسبة لهذا الفرد مع القضية الشرطية المستفادة من إطلاق الدليل الخاصّ لما إذا كان هذا الفرد قرشياً ، وبما انَّ الدليل الخاصّ مقدم على العام فلا محالة يكون التخصيص متعيناً ومعه لا يمكن التمسك بأصالة العموم لنفيه.

وهكذا يتضح انه لا دلالة للعام أو المطلق بحسب الحقيقة على نفي التخصيص في الخطابات المتعارفة ، نعم إذا كان الخطابان أو أحدهما مجعولين على نهج القضايا الخارجية فلا يبعد صحة التمسّك بالدلالة المنعقدة حينئذٍ لكون الخطاب ناظراً إلى الوضع الخارجي للأفراد فلو قال ( أكرم كلّ جيراني ) وثبت بعد ذلك عدم وجوب إكرام زيد فلا يبعد صحة استكشاف عدم كونه من جيرانه عرفاً وترتيب آثار ذلك عليه من نفس الخطاب العام (١).

__________________

(١) هذا لا يتم في موردين حينئذٍ بحيث لا بد من استثنائهما.

ألف ـ ما إذا كان العنوان الوارد في الخطاب العام امراً شرعياً في نفسه كعنوان النجاسة في منجسية الماء المتنجس فانه في مثل ذلك لا ينعقد إطلاق لدليل عدم انفعال ملاقي ماء الاستنجاء لما إذا كان الماء نجساً أيضاً واقعاً إذ لعل الخطاب الخاصّ من هذه الناحية قضية خارجية لا حقيقية إذ لعل المولى انما أطلق الخطاب من هذه الناحية لإحرازه كون ماء الاستنجاء طاهراً ، وهذا عين الاستثناء الّذي تقدم في بحث عدم جواز التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية.

ب ـ أَنْ يكون موضوع العام من الأمور التي على تقدير تحققها في موضوع تكون ثابتة ولا تكون متغيرة ومتواردة كعنوان القرشية مثلاً فانَّ قرشية زيد إذا كانت ثابتة فهي ثابتة منذ البداية وإلى النهاية فانه في مثل هذه العناوين لا ينعقد إطلاق في دليل نفي الحكم عن زيد لما إذا كان قرشياً أو لم يكن إذ ليست حالتي القرشية وعدمها كالعلم والجهل أو العدالة والفسق حالتين متواردتين على زيد لكي ينعقد إطلاق في الدليل بنحو القضية الحقيقية من ناحيتهما إذ لا حاجة إلى البيان لكي يجب أَنْ يبين على تقدير التقييد ثبوتاً ومع عدم انعقاد الإطلاق المذكور لا يثبت التخصيص كما هو واضح والحاصل الدليل الخاصّ في مثل هذين الموردين لا يكون فيه ظهور عادة في كونه على نهج القضية الحقيقية لا الخارجية وهذان موردان شائعان في الفقه وليس خلاف المتعارف فالإشكال باقٍ على حاله بحيث لا بدَّ له من حلّ آخر بعد وضوح ان العرف لا يرجع إلى العموم فضلاً عن الإطلاق لإثبات التخصيص ، ولعل الوجه في ذلك ان الخطابات انما تجعل الحكم على تقدير تحقق الموضوع لا أنها تجعل الملازمة بين الحكم والموضوع كقضية خبرية وظاهر المتكلم في الخطابات الإنشائية انه يتصدّى جعل الحكم على تقدير الموضوع فيكون هذا نكتة لجعل الحجية له في الكشف عن الحكم لا عن الموضوع نفياً أو إثباتاً مع فرض معلومية الحكم ، ومن هنا يمكن ان يقال بعدم حجية العام في الخطابات لإثبات التخصص سواءً كانت بنحو القضايا الحقيقية أو الخارجية ، وانما يصح إثبات التخصّص في الخطابات الاخبارية التي تحكي ابتداءً الملازمة بين موضوعين.


( فصل : في اشتراط الفحص قبل التمسك بأصالة العموم ).

والبحث تارة في أصل وجوب الفحص وأخرى في مقداره ؛

أمَّا المقام الأول ـ فقد استدل على وجوب الفحص بمعنى عدم حجية العام قبل الفحص بوجوه.

الوجه الأول ـ ما استدلّ به المحقق العراقي ( قده ) (١) والسيد الأستاذ من التمسك بأخبار وجوب التعلم والتفقه في الدين

وهذا نظير الاستدلال الواقع بهذه الأخبار على وجوب الفحص قبل الرجوع إلى الأصول العملية والمؤمنة.

ولكن الصحيح عدم صحة الاستدلال المذكور ، فانَّ هذه الروايات على طوائف ثلاث :

منها ـ ما دلَّ على لزوم التفقه في الدين وتعلم أحكام الشرع المبين (٢) ومن الواضح انَّ هذا اللسان لا يدل على وجوب الفحص بمعنى عدم حجية العام قبله بل انما يدل على وجوب الفحص بعد الفراغ عن عدم حجية العام قبل الفحص وإِلاَّ كان الأخذ بالعامّ بنفسه تعلماً للدين وتفقها إذ لا يراد من التعلم والتفقه تحصيل العلم الوجداني بواقع الحكم الشرعي الإلهي بحيث يشترط فيه أَنْ يكون الدليل قطعياً سنداً ودلالة وجهة ، وانما المقصود انه لا يمكن للمكلف أَنْ يجلس في بيته ويترك تعلم الأحكام الشرعية بطرقها المتعارفة العقلائية والتي من أهمها التعويل على الظهورات والعمومات فإثبات وجوب الفحص بالمعنى المطلوب في المقام بهذه الأخبار دوري.

ومنها ـ ما ورد بلسان الذم واللوم على ترك السؤال كما ورد فيمن غسل مجدوراً اصابته جنابة فكزَّ فمات قتلوه قتلهم الله الا سألوا إلا ييمّموه (٣).

وهذا اللسان أيضاً حال اللسان السابق لوضوح عدم صدق عدم السؤال فيما لو فرض حجية العام في نفسه فلا يمكن أَنْ يكون دليلاً على عدم حجيته.

__________________

(١) مقالات الأصول ، ج ١ ، ص ١٥٤.

(٢) الكافي ، ج ١ ، ص ٣١.

(٣) الكافي ، ج ١ ، ص ٤٠


ومنها ـ ما ورد بلسان هلاّ تعلمت وهو ما ورد في الرواية المعروفة من انه يقال يوم القيامة للعبد هل علمت؟ فانْ قال نعم قيل فهلا عملت؟ وإِنْ قال لا قيل فهلا تعلمت حتى تعمل؟

وهذا اللسان أيضاً لا يمكن الاستدلال به في المقام لأنَّ التعلم لا يراد منه أكثر من تحصيل دليل يبين ما هو الحكم الشرعي الواقعي والعام بناء على حجيته يكون كذلك ، نعم في الأصول العملية قبل الفحص يصح مثل هذا الاستدلال لكون هذه الأخبار مسوقة مساق إلغاء معذرية الشك من دون التفحص عن أدلة الأحكام من الكتاب والسّنة.

فقياس المقام بباب الأصول العملية في الاستدلال بهذه الروايات في غير محله.

الوجه الثاني ـ التمسك بالعلم الإجمالي بوجود المخصصات والمقيدات للعمومات ومعه لا يمكن التمسك بشيء منها لوقوع الإجمال والتعارض فيما بينها.

وقد اعترض على هذا الوجه بإيرادين :

الأول ـ انَّ الفحص حينئذٍ لا يكون رافعاً لأثر هذا العلم الإجمالي أعني عدم جواز العمل بالعامّ إذ بعد الفحص والظفر بمقدار من المخصصات لا يحصل أيضاً القطع بعدم وجود مخصص آخر لم يصل إلينا فباقي العمومات لا تسقط عن الطرفية للعلم الإجمالي المذكور ، فهذا الوجه ينتج عدم حجية العمومات رأساً.

وقد أُجيب عنه : بأنَّ العلم الإجمالي بوجود مخصصات لمجموع العمومات منحل بالعلم الإجمالي بوجود مخصصات ضمن ما وصلت إلينا في الكتب الأربعة من الروايات إذ لا موجب لافتراض العلم بوجود مخصصات أكثر مما يعلم إجمالاً بوجوده ضمن ما في الكتب الأربعة فينحل العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير من أول الأمر لتساوي المعلومين بالإجمال فيهما فيكون مرجعه إلى العلم الإجمالي بوجود مخصصات في الكتب الأربعة والشك البدوي بوجود مخصص آخر وراءها فإذا لم نجد في حق عموم مخصصاً في الكتب الأربعة خرج بذلك عن الطرفية للعلم الإجمالي.

الثاني ـ ما ذكره المحقق الخراسانيّ ( قده ) من انَّ هذا الوجه غاية ما يقتضيه وجوب الفحص عن المخصصات حتى يظفر بها بمقدار المعلوم بالإجمال ، وامّا بعد ذلك فلا يجب


الفحص لانحلال العلم الإجمالي حينئذٍ مع ان المطلوب إثباته وجوب الفحص مطلقاً (١).

وقد استشكل في هذا الكلام المحقق العراقي ( قده ) في المقام وفي بحث البراءة حيث كان يستدل الأخباري على الاحتياط بالعلم الإجمالي بالتكاليف ويجيب عنه الأصولي بانحلاله بعد الظفر بما في موارد الأدلة والروايات ففي المقامين للمحقق المذكور ( قده ) مناقشة حاصلها : انَّ العلم الإجمالي انما ينحل بالعلم التفصيليّ ـ أو الإجمالي الصغير ـ حقيقة فيما إذا كان العلم التفصيليّ ناظراً إلى العلم الإجمالي ومتعلقاً بنفس ما تعلَّق به بحيث يعلم تفصيلاً انَّ نفس ما علم إجمالاً أولا ثابت في هذا الطرف وامَّا إذا لم يكن كذلك فليس الانحلال حقيقياً حتى إذا كان متعلق العلمين عنواناً واحداً قابلاً للتطابق ، كما إذا علم إجمالاً بنجاسة من دم في أحد الإناءين وعلم تفصيلاً بنجاسة من دم في الإناء الغربي مثلاً مع احتمال تطابق المعلومين ، فضلاً عما إذا كان المعلوم بالعلم الإجمالي مقيداً بقيد زائد ، فانه حكم في كل ذلك بأنَّ الانحلال حكمي لا حقيقي وقد اشترط في الانحلال الحكمي أَنْ يكون العلم التفصيليّ أو غيره مما يستوجب الانحلال الحكمي حاصلاً معاصراً مع حصول العلم الإجمالي الكبير وامّا إذا حصل العلم الإجمالي الكبير أولاً ونجز تمام أطرافه وبعد ذلك حصل ما يوجب الانحلال الحكمي في بعض الأطراف فذلك لا يجدي في حل العلم الإجمالي الأول وإحياء الأصول في الأطراف الأخرى فانَّ الأصل بعد أَنْ مات لا يعود حيّاً (٢).

ونحن لا نوافق معه ( قده ) في كلا هذين المطلبين في المقام فانه :

أولاً ـ لا نسلم عدم انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيليّ فيما إذا كان متعلقهما عنواناً واحداً يحتمل تطابقهما بل الصحيح انَّ هذه الصورة من صور الانحلال الحقيقي للعلم الإجمالي على تفصيل وتحقيق موكول إلى محله.

ومقامنا أيضاً من هذا القبيل لأنَّ ما يعلم إجمالاً من المخصصات لا يمتاز بقيد زائد على صرف وجود المخصص والّذي علم تفصيلاً بمقدار منه.

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ٣٥٢ ـ ٣٥٣

(٢) مقالات الأصول ، ج ١ ، ص ١٥٤ ـ ١٥٥


وثانياً ـ انَّ اشتراط أَنْ يكون الموجب للانحلال الحكمي معاصراً زماناً مع العلم الإجمالي لو سلمناه كبروياً ـ وتحقيقه موكول إلى محله ـ لا يمكن تطبيقه في المقام وتوضيح ذلك :

انَّ ملاك هذا التفصيل سواءً كان عبارة عن انَّ العلم الإجمالي حدوثاً بعد أَنْ أوجب تساقط الأصول في الأطراف لا يمكن التمسك بدليل الأصل في بعضها لأنَّ الأصل بعد موته لا يعود حياً لبرهان يأتي في محله. ـ وهذا هو المناسب مع مباني الاقتضاء في تنجيز العلم الإجمالي ـ أو كان عبارة عن انَّ العلم الإجمالي انما يكون علّة للتنجيز فيهما إذا أمكن أَنْ يكون طريقاً إلى الواقع المعلوم بالإجمال بحيث ينجزه في أيٍّ كان وهذا فرع أَنْ يكون تمام أطرافه قابلاً للتنجيز به فإذا كان منذ البداية في بعض الأطراف ما يمنع عن التنجيز ولو لوجود منجز تفصيلي آخر فلا يعود العلم الإجمالي صالحاً لتنجيز الطرف الاخر وهذا انما يكون في حال معاصرة الموجب للانحلال الحكمي مع العلم الإجمالي وامّا إذا كان متأخراً زماناً فالعلم الإجمالي صالح لتنجيز الطرفين غاية الأمر ينجز أحدهما لفترة قصيرة مثلاً وهي فترة عدم وجود المنجز التفصيليّ.

أقول : كلا هذين البيانين لو تم فهو مخصوص بغير المقام أعني بموارد الأصول العملية دون اللفظية ، إذ الأصول اللفظية يمكننا أَنْ ندعي فيها انَّ مقتضي الحجية فيها من أول الأمر مشروط بعدم العلم بالمخصص لها تفصيلاً أو إجمالاً فالعام الّذي يكون مخصصه واصلاً واقعاً ولو بعلم إجمالي ليس موضوعاً للحجية أساساً ، وهذا يعني انَّه بحصول العلم الإجمالي بالمخصص يكون حال المعمومات من باب اشتباه الحجة باللاحجة لا من باب التنافي في الحجيات بعد ثبوت مقتضياتها في كلّ طرف في نفسه ـ كما في الأصول العلمية حيث انَّ أدلتها مطلقة تشمل أطراف العلم الإجمالي في نفسها فليس هناك سقوط عن الحجية لكي يقال بعدم الرجوع إلى الحياة بعد ذلك أو غير ذلك من التقريبات بل اشتباه بين ما هو حجة وما ليس بحجة فإذا علم تفصيلاً بالمخصصات بمقدار المعلوم بالإجمال فسوف يعلم بعدم حجية هذه العمومات المخصصة بها تفصيلاً من أول الأمر وحجية غيرها فلا مانع عقلائياً من الرجوع إلى أصالة العموم في العمومات الباقية وإِنْ كان العلم الإجمالي غير منحل حقيقة ، فانَّ هذا نظير الرجوع إليها فيما إذا كان العلم الإجمالي مقارناً زماناً مع


العلم التفصيليّ الموجب للانحلال الحكمي الّذي لا إشكال فيه حتى عند المحقق المذكور في ثبوت الانحلال حكماً وجواز الرجوع إلى العمومات.

والحاصل ليس ما نحن فيه من قبيل تعارض أصلين بل من قبيل ما لو قال المولى :

( أكرم كلَّ عالم ) وعلمنا إجمالاً بأنَّ أحد الرجلين مثلاً جاهل فلم نتمكن من التمسك بكلام المولى للعلم بانتفاء موضوعه في أحدهما ثم علمنا تفصيلاً انَّ هذا جاهل والاخر عالم.

ثم انَّ هنا جواباً اخر للتفرقة بين المقامين حاصله : انَّ التساقط في المقام ليس بملاك تنجيز العلم الإجمالي بل بملاك وقوع التعارض بين العمومات بالملازمة حيث انَّ مثبتات الأصول اللفظية حجة وليست كمثبتات الأصول العلمية ، ومن الواضح انَّ ملاك التعارض انَّما يوجب التساقط ما دام هناك تعارض بين الدليلين فمتى ارتفع التعارض بسقوط أحد المتعارضين عن الحجية فعلاً عاد الاخر إلى حجيته كما هو واضح. وفي المقام بعد حصول العلم بمخصصات تفصيلية بقدر المعلوم بالإجمال يرتفع ملاك التعارض بين العمومات لارتفاع مقتضى الحجية في العمومات التي علم تفصيلاً بمخصص لها.

إِلاَّ انَّ هذا الوجه لا يعالج الإشكال في العمومات الترخيصية التي أيضاً يعلم إجمالاً بوجود مخصصات إلزامية لها فانَّ ملاك التساقط فيها غير منحصر فيما ذكر بل تتساقط العمومات بملاك تنجيز العلم الإجمالي أيضاً.

الثالث ـ أَنْ يقال بقصور المقتضي للحجية عن شمول العمومات قبل الفحص لمعرضيتها للتخصيص بحكم ما عرف من ديدن الشارع وطريقته في إلقاء أحكامه الشرعية وبيانها للناس ، كما أشار إليه المحقق الخراسانيّ ( قده ).

وهذا الوجه يمكن تقريبه بأحد نحوين :

١ ـ انَّ المدرك لحجية الظهورات السيرة العقلائية المنعقدة على حجية الظهور بين الموالي والعبيد بحيث يشكل ظهور كلام المولى عنصراً صالحاً للإدانة والاحتجاج بينهما وكذلك السيرة المتشرعية على العمل بالظهورات تبعاً لطريقة العقلاء وإمضاء الشارع لذلك وحينئذٍ يقال : انَّ السيرة العقلائية مخصوصة بما إذا لم يكن العام في


معرض التخصيص فانَّ التخصيص بالمنفصل والاعتماد على القرائن المنفصلة وإِنْ كان امراً عرفياً إِلاَّ انه على خلاف الأصل بحيث يكون احتماله عادة ضعيفاً لا ما إذا كانت طريقة المتكلم في مقام البيان اعتماد القرائن المنفصلة غالباً أو كثيراً. وإلا فلم ينعقد منهم سيرة على العمل بالعامّ لكي يكون دليلاً على ذلك ، والسيرة المتشرعية وإِنْ كانت على العمل بالعمومات الصادرة من الشارع إِلاَّ انه لم يعلم قيامها على العمل بها قبل الفحص عن المخصصات إِنْ لم يدَّع الجزم بعدم العمل بها كذلك فالقدر المتيقن منها هو العمل بعد الفحص وعدم الظفر بالمخصص ، نعم الشخص المخاطب بالعامّ في مجلس الإمام 7 كان العام حجه له على كلّ حال لكونه وظيفته الفعلية ولو للمصلحة ثانوية ، وبما انَّ السيرة دليل لبّي فيقتصر فيه على القدر المتيقن وهو ما ذكرناه.

وهذا التقريب مبني على إثبات الأصل الموضوعي المفترض فيه وهو قصور السيرة العقلائية عن شمول العمومات قبل الفحص إذا كانت في معرض التخصيص وهذا ما يمكن أَنْ يذكر في سبيل إثباته تارة : بأنَّ المستفاد من طريقة الشارع وديدنه إلغاء الفواصل الزمنية بين العام والمخصصات بحيث يُعَد المخصص المنفصل متصلاً بالعامّ وقد تقدم انه مع احتمال المخصص المتصل لا يكون العام حجة ما لم ينف ذلك بشهادة الراوي وهي لا يمكن أَنْ تكون عادة إِلاَّ بلحاظ ما يصدر من الكلام في مجلس واحد ومعه سوف يبتلي العام بالإجمال كلما احتمل في حقه وجود مخصص منفصل من هذا القبيل.

إلا انَّ هذا الكلام غير تام ، لأنَّ مجرد كثرة ورود المخصصات وكون ديدن الشارع على ذلك لا يعني تنزيل المخصص المنفصل منزلة المخصص المتصل في الآثار كما لا يوجب إلغاء الفواصل الزمنية حقيقة ، فلا محالة ينعقد الظهور العرفي في العموم. على انَّ تلك المرتبة المفترضة من المعرضية للتخصيص قابل للمناقشة في حصولها بالنسبة لكلمات وبيانات الشارع نفسه إذ لعلّ كثيراً مما نجده من المخصصات المنفصلة نشأت نتيجة عدم دقة النقل أو كونه بالمعنى لا باللفظ فهذا البيان مخدوش كبرى وصغرى.

وأخرى يقرب ذلك : بأنه يكفي في قصور المقتضي للحجية عقلائياً وإِنْ كان


الظهور موجوداً ومنعقداً عدم معهودية هذا النحو من الظهورات لدى العقلاء بحيث يعتمد صاحبه على قرائن منفصلة ومعه لا يبقى دليل غير السيرة المتشرعية وقد عرفت اختصاصها بما بعد الفحص.

وهذا الكلام أيضاً كأنه يتناسب مع مسلك المحقق الأصفهاني ( قده ) وتفسيره لمعنى السيرة العقلائية : حيث يفترض انَّ الدليل اللبّي ما وقع خارجاً وسلكه العقلاء في مقام العمل بنحو القضية الخارجية الفعلية ولم يردعهم الشارع ، وامّا بناء على ما هو الصحيح من انَّ الإمضاء وعدم الردع ينصب على المضمون والمحتوى العقلائي لسلوك العقلاء والّذي قد يفترض انه أوسع مما أُتيح لهم سلوكه خارجاً فالدليل يكون هو النكتة والمنظور العقلائي المستكشف من خلال تلك السيرة فمجرد أن العقلاء خارجاً لم يعتمدوا التخصيص المنفصل كثيراً أو لم يجزم بذلك في حقّهم لا يكفي لإثبات قصور المقتضي بعد ان كان الظهور الّذي هو ملاك الحجية العقلائية محفوظاً في المقام.

وثالثة يقرب ذلك : بأنَّ ملاك الحجية العقلائية ينثلم بمعرضية العام لورود المخصص عليه لحصول وهن وضعف في درجة الكاشفية والإدانة والمسئولية في أمثال ذلك.

وهذا البيان لو أريد منه دعوى ينتج عدم الحجية قبل الفحص فقط بحيث يعود ملاك الحجية العقلائية بعد أَنْ فحص ولم يجد مخصصاً كان رجوعاً إلى الوجه القادم ، وإِنْ أُريد منه انَّ المعرضية توجب ارتفاع الملاك رأساً بحيث لا يبقى حجة عند العقلاء حتى بعد أَنْ يفحص ولا يجد مخصصاً ، ولهذا يحتاج في ذلك إلى الرجوع للسيرة المتشرعية فهذا غير صحيح بحسب الظاهر فانَّ ملاك الحجية العقلائية كما أشرنا إليه عبارة عن انعقاد ظهور في كلام المولى بنحو يجعله مسئولاً في عالم المولوية والعبودية عمّا قاله وهذا محفوظ حتى إذا احتمل المخاطب ورود مخصص لم يجده فمجرد هذا الاحتمال لا يزيل ملاك الحجية العقلائية.

٢ ـ النحو الثاني لتقريب هذا الوجه أَنْ يقال ابتداءً بأنَّ السيرة العقلائية لا تقتضي أكثر من حجية العمومات بعد الفحص عن مخصصاتها إذا كانت في معرض التخصيص لتمامية ملاك الحجية بعده ـ كما أشرنا إليه الآن ـ بخلاف ما قبل الفحص


لأنَّ معرضيتها لذلك تمنع عقلائياً عن الحجية من دون فحص وبحث عن مظان وجود المخصص. نعم بعد أَنْ فحص ولم يجد يبني العقلاء على الحجية ولا ينتظرون شيئاً آخر وهذا هو الّذي يقتضيه وجداننا العقلائي في المقام.

ثم انه ربما يقال بأنَّ مراجعة وضع أصحاب الأئمة ورواة الأحاديث تدلنا على انهم لم يكونوا في مقام الفحص عن الأدلة والمخصصات المنفصلة والتي يحتمل صدورها في عرض ما ينقلونه في أصولهم إلى الآخرين ، أي انَّ زرارة مثلاً لم يكن يفحص عن وجود مخصصات فيما نقله محمد بن مسلم مثلاً ، نعم طولياً وبلحاظ من تأخر عنهم كالفضل بن شاذان ربما كان يفحص عمّا ينقله محمد بن مسلم من المخصصات والقرائن ولم يكن يقتصر على نقل ما في أصل زرارة فقط.

إِلاَّ انَّ الفحص والبحث فيما بين الرّواة المباشرين والذين هم في عرض واحد لم يكن موجوداً وإِلاَّ لانعكس ذلك وألفت الأنظار ولاستوجب نشوء حركة الاستنساخ والتبادل والتباحث فيما بينهم ، وهذا مما يقطع بعدمه عادة مما يكشف عن عدم وجوب الفحص عليهم على الأقل فربما يجعل ذلك دليلاً على عدم وجوب الفحص حتى مع المعرضية للتخصيص على الأقل بالنسبة لهم الذين كانوا مشافهين بالعمومات أو كانت الخطابات قطعية الصدور في حقهم.

إِلاَّ انَّ هذه الظاهرة لا يمكن الاستفادة منها في المقام شيئاً لأنها تحتمل وجوهاً مختلفة بحيث لا يمكن أَنْ يستفاد منها مطلب محدد ، فانه يمكن أَنْ تفسر تارة : على أساس عدم وضوح المعرضية للتخصيص في حقهم ، امّا لثبوت جملة من المخصصات ومعلوميتها لديهم ولو بملاحظة مجموع ما هو مسجل أو معلوم ولو ارتكازاً عند كل واحد منهم وانما هذه المعرضية ثابتة في حقنا نحن اليوم نتيجة التقطيع والضياع في كثير من تلك الأصول ، وامّا لعدم وضوح ثبوت هذه المرتبة من كثرة المخصصات عندهم بعدُ وانما اتضحت ذلك بعد تجميع تلك الروايات. وأخرى : تفسر على أساس احتمال وجود ظروف حرجة وصعبة ولو من ناحية التقية كانت تمنعهم من التعرض والبحث والفحص عن المخصصات فيما بينهم إذ قد يستكشف من ذلك حركة علمية تلفت الأنظار وتجلب الخطر عليهم.


وثالثة : تفسر على أساس احتمال انَّ عدم الفحص باعتبار انَّ كل راو خوطب بالعامّ يكون هو القدر المتيقن منه على كل حال أي سواءً كان العام مخصصاً واقعاً أم لا ، إِلاَّ انَّ هذا الاحتمال يدفعه انَّ هؤلاء الرّواة لم يكونوا يقتصرون في سماع الأحاديث لعملهم فحسب بل كانوا يفتون بمضمون الحديث للآخرين بل كثيراً ما كانوا ينقلون أحاديث وأحكاماً قد لا تتعلق بهم ولا تدخل في دائرة ابتلائهم الشرعي.

ورابعة : تفسر على أساس احتمال ثبوت حكم العام في حقهم ولو كحكم ظاهري ولظروف التقية وإِنْ كان الحكم الواقعي مخصصاً ، فانَّ مصلحة الظاهر ربما تكون ثابتة حتى في الإظهار والإفتاء لا العمل فحسب (١) كما يؤيد ذلك روايات الأخذ بالأحاديث على ما شرحناه في تعارض الأدلة.

وامّا المقام الثاني ـ أعني البحث عن مقدار الفحص اللازم ، فاللازم هو الفحص بمقدار تنتفي به المعرضية للتخصيص كما ذكره صاحب الكفاية ، هذا إذا كان مدرك لزوم الفحص الوجه الثالث واما إذا كان المدرك العلم الإجمالي بالتخصيص فيما وصل بأيدينا من الأحاديث فلا بد من الفحص عن المخصص فيها والّذي به أيضاً تنتفي المعرضية عادة.

فصل : في شمول الخطابات لغير المشافهين من الغائبين بل المعدومين زمن صدورها.

وقد أفاد المحقق النائيني ( قده ) بأنَّ هذا البحث ينحل إلى نزاعين نزاع عقلي واخر لفظي.

__________________

(١) هذا بعيد في حق جملة من الرّواة الذين قد استودع الأئمة علم الحلال والحرام عندهم كزرارة ومحمد بن مسلم.

ثم انَّ وجدانية حجية العام بعد الفحص عند العقلاء رغم بقاء احتمال المخصص الّذي كان العام في معرضه غير واضحة ، فانَّ هذا يعني انَّ حكم العقلاء بحجية العام كأنه أعم من كونه بملاك كاشفية العموم وصلاحيته للإدانة أو كونه بملاك الوظيفة العملية والعذر الناشئ من عدم إمكان الوصول إلى المخصص ، وهذا بعيد بل الوجدان قاضي بأنَّ المعرضية إذا ثبتت فالعام يسقط عن الحجية حتى بعد الفحص فلا بدَّ من نفي هذه المعرضية بالقرائن والشواهد ، كما انَّ سيرة المتشرعة أيضاً غير واضحة الشمول لذلك من دون نفي المعرضية بلحاظ مجموع القرائن والشواهد والفحوص.


امّا النزاع العقلي فهو في إمكان مخاطبة الغائب والمعدوم ثبوتاً وعدمه وهذا بحث عقلي وليس لغوياً ، وامّا النزاع اللغوي ففي شمول أدوات الخطاب لغة وعرفاً لهما.

وعلّق عليه السيد الأستاذ بأنه لو أُريد بالمخاطبة معناها الحقيقي الخارجي فمن الواضح عند كل أحد انه لا يعقل مخاطبة الغائب عن مجلس المخاطبة فضلاً عن المعدوم فكيف يعقل أَنْ يتنازع في امتناع هذا الأمر؟ وإِنْ أُريد المخاطبة الإنشائية التصورية فمن الواضح إمكانه حتى في حق الجمادات فضلاً عن غيرها كما يظهر بمراجعة الشعر والأدب فكيف يعقل أَنْ يتنازع في إمكانه؟

ومن هنا قد جعل هذا النزاع لغوياً بحتاً أي جعل البحث عن تحديد مفاد أدوات الخطاب وانها وضعت بإزاء الخطاب الحقيقي أو الإنشائي ، واختار الأخير.

أقول ـ امّا الجانب السلبي من كلامه فصحيح (١) فانه لا معنى لوقوع البحث عن إمكان التخاطب وامتناعه.

وامّا الجانب الإثباتي في كلامه من انَّ البحث والنزاع انما هو في تحديد مفاد أدوات الخطاب وانها وضعت للخطاب الحقيقي أو الإنشائي فبحاجة إلى تمحيص.

ذلك انَّ هذا يعني انَّ القائلين باختصاص الخطاب بالمشافهين انما ذهبوا إلى ذلك على أساس دعوى وضع أدوات الخطاب للخطاب الحقيقي وانَّ القائلين بالتعميم ذهبوا إلى وضعها بإزاء الخطاب الإنشائي ، وهو الصحيح عنده. وهذا التفريع غير صحيح.

إذ فيما يرجع إلى القسم الأول من هذا التفريع يرد عليه بأنَّ المدلول الوضعي عند المشهور مدلول تصوري لا تصديقي والمخاطبة الحقيقية أو قصد التفهيم مدلول تصديقي وليس تصورياً فلا يعقل انَّ من يدعي الاختصاص انما يقول به على أساس دعوى وضع أدوات الخطاب للمخاطبة الحقيقية.

وفيما يرجع إلى القسم الثاني منه يرد عليه :

__________________

(١) بل قابل للبحث وذلك بالبحث عن المقصود بالمخاطبة فانه لو أُريد به سماع اللفظ والكلام أو ما يكون بمثابته فمن الواضح امتناعه في حق غير الحاضر ، وإِنْ أُريد بها قصد التفهم فلو أُريد قصد الإفهام والاعداد الفعلي للفهم فهو أيضاً مخصوص بالحاضر ولو أُريد قصد افهام كل من يراد افهامه بحسبه فهذا لا يختص بالحاضر بل يعقل في حق المعدوم أيضاً.


بأنَّ المراد بالخطاب الإنشائي إِنْ كان هو قصد التفهيم وتوجيه الكلام إلى المخاطب فهذا عين المخاطبة الحقيقية التي قد أنكر السيد الأستاذ وضع أداة الخطاب بإزائها.

وإِنْ أُريد به إيجاد الخطاب والمخاطبة بالكلام نظير إيجاد التمني وإيجاد الاستفهام به وهكذا سائر الأمور الإنشائية فهذا ينسجم مع مسالك صاحب الكفاية ( قده ) في باب الإنشاء من انه إيجاد للمعنى باللفظ ولا ينسجم مع مسلكه من عدم معقولية إيجاد المعنى باللفظ (١).

والصحيح : انَّ أدوات الخطاب كسائر أدوات الإنشاء موضوعة بإزاء نسبة تصورية خاصة بين المُخاطِب والمُخاطَب كالنسبة الطلبية والاستفهامية وغيرها والتي نعبر عنها بمفهوم اسمي هو المخاطبة والنسبة الخطابية ، وامّا قصد المخاطبة فمدلول تصديقي وليس مدلولاً وضعياً لأدوات الخطاب لأنَّ المدلول الوضعي كما عرفت في بحوث الوضع تصوري بحت وامّا المدلول التصديقي فيثبت بدلالة السياق والظهور الحالي ، فكما انَّ ظاهر حال المتكلم إذا استعمل الأمر أو النهي انه في مقام الجد وبداعي الطلب الحقيقي كذلك في المقام يكون مقتضى الظهور السياقي انه يستعمل أدوات الخطاب بداعي المخاطبة الحقيقية وقصد التفهيم ، فالعناية الحاصلة في موارد الخطابات غير الحقيقية كخطاب الليل أو الطير ليست من ناحية تخلف المدلول الوضعي وعدم استعمال أدوات الخطاب فيما وضعت له بل من باب تخلف المدلول السياقي ونظير استعمال الأمر في موارد السخرية أو التعجيز أو التهديد ونحوها (٢).

__________________

(١) بل هناك معنى معقول لإيجاد المعنى باللفظ لعله نتعرض له في بحوث الخبر والإنشاء ، ولكن هذا المعنى الإنشائي أيضاً يختص بالمخاطب الحقيقي ، فليست الإنشائية تساوق التعميم دائماً.

(٢) ولكن يبقى البحث عن ان هذه النسبة التصورية في معنى أدوات المخاطبة طرفها المشافه الحاضر بالخصوص أو الأعم منه ومن الغائب والمعدوم وهذا يبتني أولاً على تحقيق أن حقيقة المخاطبة ما هي وأَنْ هذه النسبة هل يمكن ان تتصور مع الأعم من الحاظر أم لا. ويتوقف ثانياً على تشخيص ان أدوات الخطاب هل هي موضوعة لذلك المعنى بعد فرض معقوليته أم لا؟ والصحيح كما أشرنا معقولية مخاطبة الغائب أو المعدوم بالمعنى الّذي تقدم للمخاطبة وقصد الإفهام كما ان أدوات الخطاب ليست موضوعة للنسبة القائمة بين المتكلم والمخاطب الحاضر بالخصوص بل يتحدد طرف النسبة في كل مورد بحسب ما وقع موضوعاً لها أو تشخصه القرائن والمناسبات بنحو تعدد الدال والمدلول ، واما الظهور الحالي الكاشف عن قصد التفهيم فهو يتحدد في طول تحديد المدلول التصوري وانه النسبة الخطابية بين المتكلم والحاضر بالخصوص أو الأعم منه ، لأن ملاك هذا الظهور ما أشير إليه من ان ظاهر حال كل متكلم إرادة مدلول كلامه جداً فإذا كان المدلول المعنى الأعم كان المقصود ذلك أيضاً.


وبهذا اتضح : انَّ مجرد تصوير معنى وضعي لأدوات الخطاب بحيث تصلح بناءً عليه أَنْ تكون شاملة للغائبين والمعدومين ـ كما صنعه السيد الأستاذ ـ لا يكفي لإثبات شمول الخطابات لهم فانَّ ما هو المهم والمفيد انَّما هو شمول المدلول التصديقي للكلام وهو قصد التفهيم والمخاطبة للغائبين والمعدومين فإذا فرض اختصاصه بالمشافهين بمقتضى الظهور السياقي والحالي كان الخطاب خاصاً بهم لا محالة.

وهذا هو الصحيح فانَّ الخطابات تكون ظاهرة في الاختصاص بالحاضرين ما لم تقم قرينة عامة أو خاصة على التوسعة.

ثم انَّ المحقق النائيني ( قده ) قد فصل في المقام بين ما إذا كان الخطاب مجعولاً على نهج القضية الخارجية فيختص بالمشافهين وما إذا كان مجعولاً على نهج القضية الحقيقية فيعم الغائبين والمعدومين لأنَّ القضية الحقيقية تستبطن بنفسها تقدير وجود الغائبين والمعدومين وتنزيلهم منزلة الموجودين فيشملهم الخطاب.

وفيه :

أولاً ـ انَّ تقدير الموضوع في القضية الحقيقية لا يعني تقدير وجود الافراد بالفعل وفي مقام المخاطبة ، بل يعني تقديرهم موضوعاً للحكم كل في ظرف وجوده فهذا خلط بين تقدير الغائب والمعدوم موضوعاً للحكم في القضية الحقيقية المفادة بالخطاب وبين تقديرهما موجودين ومخاطبين بالخطاب بما هو كلام.

وثانياً ـ لو سلمنا استبطان القضية الحقيقية تنزيل الافراد المعدومين والغائبين منزلة الموجودين في مقام المخاطبة مع ذلك لم يجدِ في شمول الخطاب لهم ، لأنَّ التنزيل انما يجدي في ترتيب الآثار الشرعية المترتبة على المنزل عليه والمخاطبة أمر تكويني لا يقبل الترتب بالتنزيل (١).

بقي في المقام البحث عن الثمرة المترتبة على القول باختصاص الخطاب فنقول قد ذكر لهذا البحث ثمرتان.

__________________

(١) لو كان مقصود المحقق النائيني ( قده ) ان سياق القضية الحقيقية بلحاظ كل مكلف يدل على ان المدلول التصديقي للخطاب يعم الغائبين أيضاً وانَّ المقصود بالإفهام كل من يبلغه الخطاب لم يرد عليه شيء من الاعتراضين.


الأولى ـ وتترتب على مبنى المحقق القمي ( قده ) في حجيّة الظهورات من دعوى اختصاصها بمن قصد افهامه ، حيث يقال بأنه على القول بعموم الخطاب لنا نكون ممن قُصد افهامه فيصح لنا التمسك بالظهورات لإثبات مفادها وامّا على القول بالاختصاص بالمشافهين فلا يعلم دخولنا فيمن يقصد افهامه لكي يكون الخطاب حجة في حقنا.

إِلاَّ انَّ المبنى المذكور غير تام عندنا على ما سيأتي في محله من بحث حجية الظهور.

الثانية ـ إذا فرض انَّ الخطاب لم يكن على نهج بحيث يفهم منه انَّ الحكم فيه عام يشمل المعدومين والغائبين أيضاً كما إذا كان الحكم وارداً بلسان المخاطبة مثل ( يا أيها الناس تجب عليكم الصدقة ) بحيث كان موضوع الحكم من يشمله الخطاب فيتحدد الموضوع بحدود من قصد بالخطاب.

ففي مثل ذلك بناءً على القول بالاختصاص لا يثبت الحكم للمعدومين والغائبين لاختصاص موضوعه بالمخاطبين فلا يثبت الحكم في حقهم بخلاف ما إذا كان الخطاب شاملاً للمعدوم والغائب فانهم سوف يدرجون في موضوع الحكم لا محالة فيمكنهم التمسك به لإثبات حكمهم.

ودعوى : انَّ خصوصية الخطاب والمخاطبة ملغية عرفاً ومحمولة على المثالية بحسب مناسبات الحكم والموضوع العرفية والارتكازية.

مدفوعة : بأنَّ احتمال الاختصاص إِنْ كان من جهة احتمال كون الحكم خاصاً بالمخاطبين كأشخاص فهذا منفي بارتكازية عدم اشتمال الشريعة على أحكام شخصية لافراد معينين بما هو افراد معينون وإِنْ كان من جهة احتمال كون الحكم خاصاً بهم لاشتمالهم على صفة وعنوان تخصهم كعنوان فقرهم مثلاً حيث كان أصحاب رسول الله 6 فقراء في أوّل الأمر حتى نقل عن عائشة انهم لم يشبعوا من تمر حتى فتح الله لهم خيبر ، فيحتمل الاختصاص حينئذٍ باعتبار احتمال دخالة ذلك العنوان في الحكم فانْ كان ذلك العنوان عنواناً زائداً متغيراً أيضاً أمكن نفي ذلك بالإطلاق الأحوالي بالنسبة إلى أولئك المخاطبين لما إذا زال عنهم الفقر مثلاً.


وامّا إذا كان احتمال الاختصاص من ناحية احتمال دخالة عنوان مخصوص بهم ثابت في حقهم كعنوان مصاحبة الرسول أو كونهم في عصر الغيبة فمثل هذا الاحتمال لا يمكن إِلغاؤه ولا نفيه بالإطلاق ، امّا الأول فواضح وامّا الثاني فلأنَّ إطلاق الدليل انما يجدي بلحاظ الحالات الزائلة المتغيرة عليهم لا الحالة الثابتة فانه لا يكون حينئذٍ إطلاق في الخطاب لفرض فقد ان تلك الحالة لكي نستطيع أَنْ ندفع به هذا الاحتمال ، فاحتمال الاختصاص ليس من جهة احتمال دخل خصوصية المخاطبة في الحكم ليقال بإلغائه عرفاً بل من جهة احتمال دخل خصوصية ثابتة في المخاطبين الذين اختص بهم الموضوع في القضية المجعولة نتيجة المخاطبة وتوجيه الكلام إليهم فلا عموم لفظي في القضية ولا مناسبات تقتضي التعدي والتعميم كما هو واضح.

« تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض مدلوله »

فصل : إذا تعقب العام ضمير يرجع إلى بعض مدلوله كما في قوله تعالى ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهنَّ ان يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إِنْ كن يؤمن بالله واليوم الاخر وبعولتهن أحق بردهن ان أرادوا بذلك إصلاحاً ) (١) حيث يعلم انَّ الضمير في بعولتهن راجع إلى خصوص الرجعيات من المطلقات ، فهل يؤدي ذلك إلى انثلام العموم في المطلقات بالنسبة إلى الحكم الأول المذكور في الكلام أي وجوب التربص ثلاثة قروء أم لا؟

وحاصل العنوان انه كلما كان هناك عام وقد علق عليه حكمان وكان الموضوع في أحد الحكمين ضميراً يرجع إلى بعض ذلك العام فهل يستوجب ذلك تخصيص العام بخصوص ذلك البعض في كلا الحكمين أم لا؟

وهذا المطلب بحسب الحقيقة له فرضان :

الفرض الأول ـ ما إذا فرض العلم بكون المراد الاستعمالي من الضمير خصوص البعض ، كما إذا قيل بأنَّ التخصيص تصرف في المراد الاستعمالي من العام.

__________________

(١) سورة البقرة ، آية ٢٢٨


الفرض الثاني ـ أَنْ يفرض العلم بكون المراد الجدي من الضمير الخصوص مع احتمال كون المراد الاستعمالي منه العموم.

وانما وقع البحث عن تمامية العموم في المقام وعدمه باعتبار توهم معارضته بأصل آخر هو أصالة عدم الاستخدام فانَّ العام لو كان المراد منه عمومه لزم أَنْ يكون الضمير راجعاً إلى بعض مدلوله وهو أحد أنحاء الاستخدام الّذي يكون خلاف الأصل فانَّه يقتضي التطابق بين الضمير ومرجعه.

وأيّاً ما كان فالبحث يقع في مقامين :

المقام الأول ـ في ما إذا علمنا بأنَّ المراد الاستعمالي من الضمير الخصوص لا العموم.

فيقال بأنَّ مقتضى التطابق حينئذ بين المراد الاستعمالي للضمير ومرجعه استعمال العام في الخاصّ وإِلاَّ يلزم الاستخدام نظير ما ذا قال ( رأيت أسداً وضربته ) وأريد بالضمير الرّجل الشجاع وبالأسد الحيوان المفترس فانه خلاف الأصل جدّاً ، فيكون أصالة العموم في المقام مبتلى بالمعارض في مرحلة المدلول الاستعمالي للكلام.

وقد منع من إجراء كل من أصالة عدم الاستخدام في الضمير وأصالة العموم في العام في نفسه.

امّا المنع عن إجراء أصالة عدم الاستخدام فبتطبيق دعوى عامة هي : انَّ الأصول اللفظية لا تكون حجة إِلاَّ في مقام الكشف عن المراد عند الشك فيه مع العلم بالاستناد دون ما إذا كان الشك في الاستناد مع العلم بالمراد ، وهذه كبرى كلية طبقت من قبل المحققين في موارد عديدة :

منها ـ موارد استدلالات السيد المرتضى ( قده ) على الوضع بالاستعمالات الواردة في كتب الأدب واللغة حيث أُجيب عنها بأنها من التمسك بأصالة الحقيقة في مورد يعلم فيه بالمراد الاستعمالي للمتكلم ولكن يشك في انه كيف اراده هل على وجه الحقيقة أو المجاز أي هل استند في إرادته إلى الوضع لكونه معنى حقيقياً أو إلى القرينة والمناسبة لكونه مجازاً.


ومنها ـ المقام حيث انَّ المراد الاستعمالي من الضمير معلوم بحسب الفرض لكنه يشك في انه هل يكون على وجه الاستخدام الّذي هو كالمجاز من حيث كونه خلاف أصالة الظهور التي منها تتشعب الأصول اللفظية الأخرى أم لا؟ فيقال بعدم حجية أصالة الظهور في مثل ذلك.

ومنها ـ موارد الدوران بين التخصيص والتخصص بناءً على انَّ التخصيص يثبت بلحاظ مرحلة المدلول الاستعمالي للعام لا المدلول الجدي منه.

وقد حاول المحقق الخراسانيّ ( قده ) أَنْ يبرِّر هذه الكبرى بتقريب : انَّ مدرك حجية الظهور هو السيرة والبناء العقلائي وهو دليل لبّي يقتصر فيه على القدر المتيقن منه وهو ما إذا أُريد بالظهور إثبات المراد لا الاستناد.

هذا وقد أشرنا نحن في بعض البحوث السابقة انَّ مثل هذا البيان لا يمكن أَنْ يقبل في كل دليل لبّي ، نعم في مثل الإجماع لا بأس بدعوى عدم الإطلاق في معقده ، وامّا إذا كان الدليل اللبّي متمثلاً في السيرة العقلائية فلا بدَّ من إبراز نكتة للتفصيل عقلائياً فانَّ المراد بالعقلاء ليس جماعة خاصة كانوا في غير أعرافنا وأوضاعنا بل نحن وأعرافنا امتداد لهم فلا بدَّ لأيّ تفصيل يذكر لحجة عقلائية أَنْ نحس نحن أيضاً ولو ارتكازاً بوجداننا العقلائي ثبوته وثبوت نكتة له إجمالاً فانَّ العقلاء ليس لهم أحكام تعبدية بحتة كما هو واضح.

والنكتة المفترضة للتفصيل امّا أَنْ تكون راجعة إلى ضعف في درجة الكاشفية والأمارية التي هي ملاك الحجية عند العقلاء فتكون نكتة طريقية ، وامّا أَنْ تكون نفسية فانه ربما يفترض أخذ نكتة نفسية في موضوع الحجية العقلائية كما هو الحال في حجية الظهور ، فانه قد يفترض وجود كاشفية لأمر غير الظهور لا تقل عن كاشفية الظهور إِلاَّ انه مع ذلك لا يكون ذلك الكاشف حجة عند العقلاء بخلاف الظهور باعتبار انَّ فيه نحواً من إمكانية التحميل والتسجيل والإدانة للمتكلم مثلاً مفقودة في دلالة وكاشفية أخرى. والحاصل : انَّ الحجج العقلائية في غير الاطمئنان تبتني على مجموع امرين الكاشفية والأمارية الثابتة على أساس حسابات الاحتمال والمنطق الاستقرائي ، ونكتة نفسية موضوعية ولو من أجل ضبط الكاشف ونوعيته أو خصوصية


أخرى فيه كالإدانة ولهذا لم يكن كل ظن حاصل من حسابات الاحتمال حجة.

ومن هنا فلا بدَّ لنا إذا أردنا تبرير هذه الكبرى وإثبات صحتها من أَنْ نبرز نكتة للفرق امّا من النوع الأول أو الثاني تقتضي عدم إمكان التمسك بأصالة الحقيقة أو غيرها من شعب أصالة الظهور لإثبات الاستناد ، ونحن يمكننا أَنْ نتصور نكتتين لذلك ، إحداهما طريقية ، والأخرى نفسية تقتضيان اختصاص الأصل بغير موارد الشك في الاستناد ، إِلاَّ انَّ كلتيهما على ما سوف يظهر انما تتمان في المورد الأول أي موارد الاستدلال بالاستعمال في معنى على كونه حقيقة كما صنع السيد المرتضى ( قده ) ولا تجريان في المقام.

النكتة الأولى ـ وهي النكتة الطريقية وحاصلها :

انَّ أمارية الظهور في مقام الكشف عن المراد أقوى وأكثر قيمة احتمالية من أماريته في مقام الكشف عن الاستناد وإثبات قضية لغوية من قبيل إثبات وضع كلمة الأسد للرجل الشجاع مثلاً فيما إذا رأينا المتكلم قد استعملها فيه ، وذلك لأنَّ هذه الأمارية قائمة على أساس الغلبة النوعية في انَّ المتكلم لا يستعمل اللفظ خصوصاً مع عدم القرينة إِلاَّ في معناه الحقيقي ولنفرض انَّ هذه الغلبة بنسبة ٢ / ٣ بحيث في كل ثلاثة استعمالات كذلك يكون اثنان منها في المعنى الحقيقي ، وهذه الأمارية الناشئة من الغلبة لا معارض نوعي لها في مجال الأول أي الكشف عن المراد ، إِلاَّ انها معارضة بأمارة نوعية مخالفة في المجال الثاني أي إثبات القضية اللغوية لأنَّ القضية اللغوية قيمة الاحتمال فيها في نفسها ـ المسمى بقيمة الاحتمال القبلي ـ ضعيفة بمعنى انَّ احتمال أَنْ يكون اللفظ المخصوص حقيقة في المعنى المخصوص أضعف من احتمال العكس لكثرة المعاني وقلة الألفاظ بالنسبة إليها فانه ليس بإزاء جميع المعاني توجد ألفاظ موضوعة بإزائها ولو فرض ، ذلك أيضاً فليس احتمال وضع شخص هذا اللفظ إِلاَّ ضعيفاً جداً.

بل نسبة الوضع في مجموع المعاني أقل من النصف ولنفرضها ١ / ٣ فيكون مقتضى حسابات الاحتمال في مقام استنتاج النتيجة النهائيّة لقيمة احتمال ثبوت القضية اللغوية أقلّ من ٢ / ٣ لا محالة حسب ما هو واضح وجداناً ومبرهن عليه في كتاب الأُسس المنطقية


للاستقراء ، حيث برهن هناك على انَّه في موارد من هذا القبيل تحسب القيمة النهائيّة على أساس ضرب أطراف العلم الإجمالي المتشكل في الدائرة الأولى في أطراف العلم الإجمالي المتشكل في الدائرة الثانية واستثناء الصور الممتنعة وملاحظة الصور الباقية ونسبة ما يكون منها بصالح المطلوب

ويكون في المثال المتقدم احتمال ثبوت القضية اللغوية النصف على ما هو مشروح في محله.

لا يقال ـ هذه المعارضة ربما تفترض في إثبات المراد أيضاً فيما إذا كان المراد في مورد ما في نفسه قضية من المستبعد إرادة المتكلم لها.

فانه يقال ـ الميزان وجود أمارة نوعية معارضة لا أمارة شخصية ولو فرض في مورد وجود كاشف نوعي على عدم إرادة المتكلم لمعنى معين لا يبعد صيرورته قرينة على عدم إرادة ذلك المعنى الحقيقي أو يوجب الإجمال على أقل تقدير.

وهذه النكتة من الواضح عدم تماميتها في المقام ، حيث انه بأصالة عدم الاستخدام لا يراد إثبات قضية لغوية بل يراد إثبات انَّ المراد الاستعمالي من العام أيضاً هو الخصوص لا العموم ، كما انها لا تجري في موارد الدوران بين التخصيص والتخصص.

النكتة الثانية ـ افتراض أخذ نكتة نفسية في موضوع الظهور الحجة عند العقلاء بأن يكون موضوع الحجية مقيداً بقيد موضوعي مفقود في موارد الشك في الاستناد فيكون عدم الحجيّة من باب عدم ثبوت ذات الحجّة لا انَّ الظهور محفوظ ولكنه ليس بحجة كما أفاد المحقق الخراسانيّ ( قده ) وهذا التفسير لموضوع الحجية العقلائية يمكن تقريبه ببيانين لعلهما يرجعان إلى روح واحدة :

١ ـ أَنْ يقال : بأنَّ العقلاء انما يبنون على حجية الظهورات التصديقية الكاشفة عن المرادات لإحراز صغرى ما أخبر به المتكلم وتشخيصها فيكون محققاً لعنوان الاخبار الّذي يكون حجة امّا باعتباره من إنسان معصوم لا يكذب أو يقطع بصدقة أو من إنسان قوله حجة لكونه ثقة أو لكونه إقراراً فينفذ فيما عليه أو غير ذلك ، والمقام ليس من هذا القبيل لأن ما أخبر به المتكلم معلوم بحسب الفرض وانما يراد التمسك بالظهور المذكور


لإثبات أمر وراء ذلك وهو القضية اللغوية ، ولهذا لو قال لنا بعد ذلك كنت قد استعملت كلمة الأسد في الرّجل الشجاع بنحو المجاز لا الحقيقة لا يكون كاذباً.

وهذا يعني انه لا يوجد في موارد استدلالات السيد المرتضى ( قده ) موضوع الحجة العقلائية وهذا بخلاف موارد الدوران بين التخصيص والتخصص أو موارد الشك في الاستخدام فانَّ الغاية فيها تشخيص المراد من العام وإحراز قصده منه وحدود اخباره.

٢ ـ أَنْ يقال بأنَّ الحجة عند العقلاء انما هو ظهور التطابق بين ما هو المدلول التصوري للكلام وما هو المدلول الاستعمالي أو الجدي ولوازمه ، فلا بدَّ من الانتقال من المدلول التصوري للكلام دائماً في مقام الاستكشاف وهذا لا يكون إِلاَّ في موارد الشك في المراد مع وجود مدلول تصوري للكلام لا الشك في الاستناد.

وهكذا ثبت انَّ هذه الكبرى على إطلاقها ليست بصحيحة وانما تصح في مورد استدلالات السيد المرتضى ( قده ) لا لتخصيص دليل حجية الظهور فيها بل للتخصص وعدم ثبوت موضوع ما هو الحجة العقلائية في باب الظهورات ، وامّا في محل الكلام فالظهور المذكور أعني أصالة عدم الاستخدام تام فيكون حجة ومعارضاً مع أصالة عموم العام إِنْ كان العلم بالتخصيص في الضمير منفصلاً عن الكلام أو موجباً لإجمال الظهور في العموم إِنْ كان العلم بالتخصيص بقرينة متصلة.

ثم انه لو تنزلنا وافترضنا عدم جريان أصالة عدم الاستخدام في المقام مع ذلك ندعي وجود معارض آخر للعموم وهو ظهور تطابق مرجع الضمير مع الضمير فانَّ هذا ظهور اخر متفرع على الظهور الأول أعني تطابق الضمير مع المرجع ، وإِنْ شئت قلت : انَّ ظهور التطابق بين الضمير ومرجعه الّذي هو ظهور سياقي تارة : ينظر إليه بالعين اليسرى من طرف الضمير ، وأخرى : ينظر إليه بالعين اليمنى من طرف المرجع فانَّ المطابقة ذات طرفين لا محالة فلو فرض عدم حجيته باللحاظ الأول لكون المراد من الضمير معلوماً فلا مانع من حجيته باللحاظ الثاني ، وهو بهذا اللحاظ ليس من الشك في الاستناد بل في المراد من المرجع كما هو واضح (١).

__________________

(١) ظهور التطابق بين الضمير ومرجعه ليس سياقياً بل وضعي بدليل استفادته حتى إذا كان اللافظ غير ذي شعور كما إذا


ثم انَّ المحقق الخراسانيّ ( قده ) بعد إبطاله لحجية أصالة عدم الاستخدام لكونه من الشك في الاستناد حاول إبطال التمسك بأصالة العموم أيضاً بأنها وإِنْ لم يَكن معارضها حجة إِلاَّ انَّ ثبوت ذات الظهور في عدم الاستخدام ولو لم يكن حجة كافٍ في ابتلاء العام بالإجمال وعدم انعقاد العموم فيه لاحتفافه بما يصلح للقرينة على إرادة الخصوص.

والصحيح ـ أَنْ يقال : بأنَّ صلاحية ظهور التطابق بين الضمير والمرجع للمنع عن انعقاد العموم انما يكون فيما إذا كان المخصص لحكم الضمير بمثابة المتصل المغيّر للمدلول الاستعمالي منه لا ما إذا كان منفصلاً إذ الظهور في العموم يكون منعقداً حينئذٍ لأنَّ المخصص المنفصل لا يرفع أصل ظهور الضمير في إرادة العموم منه.

هذا تمام الكلام في المقام الأول.

المقام الثاني ـ فيما إذا علم انَّ المراد الجدي من الضمير هو الخصوص ولم يعلم المراد الاستعمالي منه.

وقد ذكر المشهور هنا بقاء العام على عمومه وعدم معارضته بشيء لأنَّ المعارض المتوهم انما هو أصالة عدم الاستخدام والمطابقة بين الضمير والمرجع وهي في المقام لا تعارض أصالة العموم إذ غاية ما تقتضيه هو استعمال الضمير في العموم مع العلم بعدم إرادته جداً وهو لا يوجب تخصيص حكم العام.

والصحيح إجمال العام في المقام أيضاً وذلك بأحد بيانين أحدهما فني والاخر ذوقي :

امَّا البيان الفنّي ـ فهو انَّ المفروض على ضوء ما تقدّم في المقام السابق صلاحية خصوصية الضمير للقرينية على المراد من العام ببركة ظهور التطابق بين مرجع الضمير مع الضمير أو أصالة عدم الاستخدام ، وفي المقام وإِنْ كان إرادة الخصوص من الضمير في مقام الاستعمال غير معلوم إِلاّ انَّ خلافه أيضا غير معلوم فمن المحتمل كون المراد

__________________

سمعناه من جدار ، ولعل منشأه ان الضمير موضوع للإشارة به إلى المرجع فكأن هناك موضوعاً واحداً تصوراً يربط به حكمان أحدهما مباشرة والآخر بتوسط الضمير على ما سوف يأتي اختيار سيدنا الأستاذ ( قده ) لذلك أيضا ، وعلى هذا الأساس لا معنى لفرض وجود ظهورين أحدهما التطابق بين الضمير ومرجعه والآخر التطابق بين المرجع مع الضمير فان ذا انَّما يكون له مجال فيما إذا فرض هذا التطابق ظهوراً تصديقياً لا تصورياً وضعياً وبالملاك المذكور ، اللهم إِلاّ أن يراد ظهور آخر في وحدة المدلولين التصديقين للجملتين من حيث الموضوع ولكنه لا موجب له ، نعم قد يدعى الإجمال وعدم استقرار مدلول تصوري.


الاستعمالي منه الخصوص فيدخل ما نحن فيه في باب احتمال قرينية المتصل وهو يوجب الإجمال (١).

ودعوى : التمسّك بأصالة الحقيقة في العام وأصالة عدم الاستخدام في الضمير لنفي هذا الاحتمال وإثبات كون المراد من الضمير استعمالاً هو العموم ، حيث يترتب عليه أثر بلحاظ عموم العام وإِنْ لم يكن له أثر بلحاظ الضمير.

مدفوعة : بمعارضة هذا الظهور بظهور آخر هو التطابق بين المراد الاستعمالي والمراد الجدّي وهو ظهور سياقي قائم على أساس الغلبة والتي نسبته إلى إثبات المراد الاستعمالي بالمراد الجدّي وبالعكس واحدة ومعه لا يمكن إحراز عدم استعمال الضمير في الخصوص بل يكون المقام من موارد احتمال قرينية المتصل الموجب للإجمال كما أشرنا (٢).

وامّا البيان الذوقي ـ فهو دعوى انَّ أصالة التطابق التي ذكرناها في المقام السابق بين المراد الاستعمالي من الضمير والمراد الاستعمالي لمرجعه ثابتة بلحاظ المراد الجدي منهما أيضا أي انَّ التطابق المذكور ثابت في مرحلة الاستعمال والجد معاً فإذا ثبت عدم جدية إرادة العموم من الضمير ثبت بمقتضى هذا الظهور عدم جديته في المرجع أيضاً.

بقي هنا تنبيهان :

الأول ـ انه إذا فرضنا رجوع الضمير إلى المطلق بدلاً عن العام وأُريد منه المقيد فقد يقال علي ضوء ما تقدّم إلى هنا انَّه لا يلزم من ذلك انثلام الإطلاق في المطلق لعدم استلزام الاستخدام من إرادة المقيد من الضمير لأنَّ الإطلاق ليس مدلولاً وضعياً للمطلق لكي يلزم إرجاع الضمير إلى غير معنى مرجعه بل مرجعه مستعمل في الطبيعة المهملة والضمير أيضا راجع إليها غاية الأمر كان المراد الجدّي من الضمير الطبيعة مع

__________________

(١) هذا مبني على ان يكون ظهور التطابق بين الضمير ومرجعه سياقياً تصديقياً لا تصورياً بالنحو الّذي تقدم شرحه.

(٢) الظاهر انَّ هذا الكلام انما يصح فيما إذا كان المخصص للمراد الجدّي من الضمير متصلاً لا ما إذا كان منفصلاً فانَّ القرينة ليست هي واقع المراد الاستعمالي من الضمير وإلا كان لازمه انَّ تخصيص الضمير بالمنفصل يستوجب ما لا يستوجبه تخصيص العام نفسه بالمنفصل وهو واضح البطلان ، ولازمه أَنْ يكون إحراز ظهور العام في العموم بالتعبد أي في طول إحراز المراد الاستعمالي للضمير وهو أيضاً خلاف الوجدان العرفي ..


القيد فظهور التطابق بين الضمير ومرجعه أو بين المرجع والضمير لا يختل في هذا الفرع ، وهذا يؤدي بنا إلى نتيجة غريبة مرفوضة وهي أَنْ يكون الظهور الإطلاقي أقوى من العموم حيث انَّ رجوع الضمير الّذي يراد منه الخصوص إلى العام يوجب إجماله وعدم انعقاد عمومه بخلاف رجوعه إلى المطلق فلا ينثلم إطلاقه ، كما انَّ لازمه عدم عناية ولا استخدام في أَنْ يراد بالمطلق حصة من افراده وبالضمير حصة أُخرى كما إذا قال قلد العالم وأكرمه فيراد بالأول المجتهد وبالثاني غيره مثلاً مع وضوح العناية في ذلك.

وهذا يكشف لا محالة عن اختلال في الحسابات بحيث يؤدي إلى نشوء هذه المشكلة الغريبة. ويمكن في مقام حل هذه المشكلة ذكر أمور :

الأول ـ أَنْ يقال بأنَّ الضمير موضوع بإزاء ما هو المراد الجدي من مرجعه فإذا اختلف المراد الجدي من المرجع عما يراد بالضمير حصل الاستخدام واستعمال الضمير في غير ما وضع له.

وفيه : انه خلاف ما هو التحقيق والمختار في باب حقيقة الوضع لأنَّ لازمه إناطة المدلول الوضعي للضمير بمدلول تصديقي فيكون مدلوله تصديقاً وهو خلاف نظام اللغة ، فانَّ العلقة اللغوية تصورية دائماً وإِلاَّ لزم عدم وجود مدلول للجملة المشتملة على الضمير في موارد لا يوجد فيها مدلول جدي للمتكلم كموارد الهزل.

الثاني ـ أَنْ يقال بأنَّ الضمير يرجع إلى الطبيعة المهملة وهي المعنى المستعمل فيه المرجع المطلق ولكن هناك ظهور تصديقي في التطابق بين المراد الجدي من الضمير والمراد الجدي من المرجع وهذا الظهور ـ الّذي ذكرناه فيما سبق ـ هو المستلزم لتقييد المطلق إذا ما رجع إليه ضمير يراد به الخصوص.

وهذا الوجه أيضاً لا يعالج الإشكال لأنَّ لازمه عدم ثبوت عناية ومئونة فيما إذا لم يكن هناك مراد جدي للمتكلم كما في موارد الهزل وإِنْ شئت قلت هذا الحل غاية ما صنعه دفع المشكلة الأولى وهي عدم أقوائية الإطلاق من العموم وامّا المشكلة الثانية وهي العناية فيما إذا أريد بالمطلق حصة وبالضمير حصة أخرى فلا يمكن تفسيرها على هذا الأساس إذ المفروض في ذلك استعمال كل من الضمير ومرجعه فيما وضع له حيث انَّ المراد الاستعمالي منهما معاً واحد وهو الطبيعة المهملة وانما أفيد التخصيص بدال


اخر مما يكشف عن ثبوت المحذور في مستوى المدلول الوضعي المستعمل فيه كل من الضمير ومرجعه.

الثالث ـ أَنْ يقال بأنَّ الضمير موضوع لما يطابق المدلول التصوّري من مرجعه ولكن بما انَّ المرجع اسم الجنس ومدلوله الوضعي هو الطبيعة المهملة وهي عند ما تأتي إلى الذهن في مقام الاستعمال لا محالة تكون مطلقة بالحمل الشائع.

فالضمير يرجع إلى الطبيعة المهملة بما لها من الحد الواقعي المتمثل في المطلق تارة والمقيد أخرى ، فإذا كان المدلول المستعمل فيه المرجع الطبيعة المطلقة بالحمل الشائع وإِنْ كان حده الإطلاقي خارجاً عن مدلول اللفظ كان هو مدلول الضمير أيضاً وهذا الاقتراح أيضاً غير تام إذ الحد الإطلاقي بالمعنى المذكور أيضاً مدلول تصديقي ولكنه مدلول تصديقي استعمالي لا جدي فإناطة المدلول الوضعي للضمير به خلاف النظام اللغوي العام في حقيقة العلقة الوضعيّة الّذي يقتضي انحفاظ مداليل مفردات الكلام في مرحلة التصور على نحو واحد بحيث ينحفظ لمجموع الكلام مدلوله التصوري ولو سمع اللفظ من الجدار. فلا بدَّ من افتراض وضع الضمير للرجوع إلى نفس المدلول التصوري الوضعي لمرجعه بلا أخذ أي قيد تصديقي زائد لا على مستوى المدلول التصديقي الاستعمالي ولا على مستوى المدلول التصديقي الجدي.

وحينئذٍ يعود المحذور والإشكال في موارد المرجع المطلق حيث لا يلزم من إرجاع الضمير إليه وإرادة حصة خاصة منه بنحو تعدد الدال والمدلول استخدام ولا عناية لوحدة المعنى الموضوع له والمستعمل فيه كل من المرجع والضمير وهو الطبيعة المهملة ، من دون أَنْ يكون ذلك منافياً مع إجراء الإطلاق ومقدمات الحكمة في المرجع لكون مدلوله تصديقيّاً أو تقييده بحجة بدال اخر إذ كل ذلك ينبغي أَنْ لا يكون فيه محذور وعناية مع وضوح المحذور فيه ووضوح انَّ الإطلاق الحكمي ليس بأقوى من العموم الوضعي.

بل يمكن ان يضاف فيقال : بأنَّ الضمير لو كان موضوعاً للرجوع إلى ما هو المدلول التصوري الّذي هو المدلول الوضعي اللغوي للمرجع فلا عناية ولا استخدام حتى إذا استعمل الضمير في معنى غير ما استعمل فيه المرجع كما إذا كان للمرجع معنيان حقيقيان أو معنى حقيقي ومعنى مجازي فأُريد به أحدهما وبالضمير الاخر ، إذ المفروض


انَّ كلاً منهما مدلول تصوري للمرجع في اللغة ـ بنحو عرضي أو طولي ـ والمفروض انَّ الضمير وضع لكي يرجع إلى ما هو المدلول التصوري اللغوي وهذا محفوظ في تمام موارد الاستخدام. فالحاصل : لو قيل بوضع الضمير للرجوع إلى ما يراد من مدلوله جداً أو استعمالاً لزم محذور إناطة المدلول الوضعي التصوري بأمر تصديقي ، وإِنْ قيل بوضعه للرجوع إلى ما هو مدلول تصوري لمرجعه فلا يتعقل حينئذٍ التطابق وعدمه بينهما طالما انَّ معنى الضمير أيضا مدلول تصوري للمرجع فما معنى الاستخدام واستعمال الضمير في غير ما وضع له؟.

وحلّ الإشكال بنحو يتضح به الجواب على كل هذه المفارقات المثارة يكون بالالتفات إلى انَّ رجوع الضمير إلى مرجعه ليس بمعنى تكرار معنى المرجع بالضمير مرة ثانية كما إذا قيل ( قلد العالم وأكرم العالم ) فانَّ الأمر لو كان كذلك صح أَنْ يقال بعدم العناية ـ اللهمَّ إِلاَّ بلحاظ الظهور السياقي في تطابق المدلولين الجديين لهما لو قيل به المخصوص بموارد ثبوت مدلول جدي للكلام ـ إِلاَّ انَّ الصحيح انَّ الضمير وضع لمفهوم مبهم هو الإشارة إلى نفس المعنى التصوري للمرجع بنحو لا دور له إِلاَّ إيصال ما بعده من النسبة إلى نفس ما تقدم من المعنى المنسبق إلى الذهن بالمرجع فقولنا ( قلد العالم وأكرمه ) مدلوله الذهني نفس مدلول قولنا ( قلد وأكرم العالم ) غاية الأمر انَّ إيصال الفعل الثاني ـ وهو الإكرام في التعبير الأول ـ كان ببركة الضمير وفي هذا التعبير ببركة هيئة تقدم الفعل على المفعول ، وبناءً على ذلك سوف لا يكون في الذهن إِلاَّ صورة واحدة لمعنى المرجع لا صورتان متكررتان ، ومن الواضح انَّ الصورة الواحدة لا تقبل إِلاَّ إطلاقاً واحداً أو تقييداً واحداً لا إطلاقين أو تقييدين ولذلك فلو فرض وجود دال بعد الضمير يدل على تقييد تلك الصورة الواحدة في الذهن من الطبيعة فلا محالة تكون صورة الطبيعة المفادة بالمرجع مقيدة فيكون الحكم الأول مقيداً لا محالة.

ومما يشهد على هذا اننا نجد نفس الشيء فيما إذا كان هناك ضمير ان بأنْ قال العالم أكرمه وقلده فانه أيضاً لا يمكن أَنْ يراد بأحد الضمير الحصة أو المطلق وبالضمير الآخر الحصة الأخرى فلو كان الضمير في قوة تكرار المعنى الراجع إليه وإيجاده في


الذهن ثانية فأي محذور في تكراره تارة مع القيد وأخرى بلا قيد بعد أَنْ لم يكن يرجع أحد الضميرين إلى الآخر.

وبهذا يتضح انَّ الاستخدام حقيقته عبارة عن سلخ الضمير عن كونه لمجرد الإشارة والإيصال إلى معنى متقدم وتضمينه إفادة معنى وصورة أخرى وإِنْ كانت هي كالصورة الأولى ولكنها مكررة بأَنْ تكون صورة للطبيعة المهملة أيضاً ومن هنا ينشأ الاستخدام إذا أُريد من الضمير الحصة الخاصة من الطبيعة ولو بدال اخر لأنَّ هذا يستلزم وجود صورة الطبيعة لكي ينضم إليها القيد فإذا كانت صورة الطبيعة المتقدمة بالمرجع مطلقة كان لا بدَّ من تكرارها بالضمير لا محالة لكي يفاد به الطبيعة المقيدة وهو خلف وضع الضمير اللغوي لأنه قد ضمن تأسيس المعنى في الذهن لا الإشارة إلى معنى موجود سلفاً ولو كان المعنى المؤسس به مشابهاً للمعنى المتقدم فضلاً عما إذا لم يكن مشابهاً وانما يشترك معه في كونه مدلول اللفظ.

التنبيه الثاني ـ قد علق المحقق النائيني ( قده ) على ما ذكره صاحب الكفاية في وجه منع الرجوع إلى العام بعد العلم برجوع الضمير إلى بعضه لابتلائه بالإجمال والاحتفاف بما يصلح للقرينة ، بأنَّ هذا غير تام لأنَّ سقوط عموم العام انما يكون بأحد سببين امّا وجود معارض له أو وجود ما يكون قرينة على التخصيص بحسب مقام الإثبات وكلا الأمرين غير موجود في المقام.

امّا الأول فلأنَّ المفروض عدم حجية أصالة عدم الاستخدام وامّا الثاني فلأنَّ الضمير بحسب الفرض يتكفل حكماً اخر غير الحكم المرتب على العام أولا فتخصيصه لا ربط له بتخصيص العام.

وهذا الكلام غير تام ، لأنَّ المنع عن ظهور العام في إرادة العموم أو أي ظهور اخر ـ الّذي هو ظهور تصديقي ـ يكون بأحد ملاكين :

١ ـ ملاك القرينية ـ بمعنى أَنْ ينصب المتكلم في مقام التخاطب وقبل أَنْ يفرغ من كلامه ما يكون موضحاً ومحدداً لمرامه من اللفظ المتقدم ، وهذا الملاك لا يبقي ظهوراً في إرادة المعنى المخالف للقرينة ذاتاً لأنَّ الظهور التصديقي انما هو بملاك أصالة التطابق بين ما هو ظاهر كلام المتكلم إثباتاً وما هو مراده ثبوتاً وهذا لا يكون أكثر من انَّ المتكلم


بحسب ظاهر حاله لا بدَّ وأَنْ لا يختلف مرامه ثبوتاً مع ما يستفاد من مجموع كلامه إثباتاً لا المطابقة مع كل كلمة كلمة منه ، فإذا نصب قرينة متصلاً فقد انحفظ هذا الظهور ولهذا يكون ظهور القرينة المتصلة وارداً على ظهور ذيها ورافعاً لموضوعه ، وفي حال الإجمال وعدم علم المخاطب بمعنى القرينة أيضاً لا ينعقد الظهور باعتبار انَّ الميزان هو الظهور بحسب نظام العرف واللغة وفي مورد إجمال ما هو الظهور النوعيّ للقرينة في نظر المتكلم لا محالة يجمل ويتردد ما هو الظهور النوعيّ لذيها في نظره أيضاً.

وكأن المحقق النائيني ( قده ) يرى انحصار ملاك ارتفاع الظهور بالقرينة المتصلة يقيناً أو احتمالاً بهذا الملاك وعلى أساسه اعترض على صاحب الكفاية بعدم مقتضٍ لافتراض إجمال العام بعد أَنْ كان الضمير يتكفل حكماً مستقلاً وليس بنفسه قرينة على تخصيص العام بحسب مرحلة الإثبات.

٢ ـ الملاك الثاني ـ وجود مزاحم للظهور متمثل في ظهور سياقي تصديقي اخر ولو لم يكن ذلك الظهور بحجة ، بمعنى ان ذلك الظهور لو لوحظ بمفرده فليس بحجة في إثبات المرام ولا قرينة بحسب النظام العام للمحاورة للتحديد المراد من لفظ متقدم ولكنه على أي حال كاشف ظني عن المراد إثباتاً أو نفياً ، وفي مثل ذلك يقال بأنَّ هذه المزاحمة تمنع من بناء العقلاء على حجية ذلك الظهور المزاحم لكونه مزاحماً بظهور آخر وإِنْ كان ذات الظهور الكاشف بحسب النوع محفوظاً فيه ، وهذا يرجع بحسب الحقيقة إلى دعوى زائدة في دليل حجية الظهور وهي اختصاصها بغير موارد المزاحمة بظهور آخر ومحل الكلام من هذا القبيل كما لا يخفى (١).

فصل : تخصيص العام بالمفهوم

ويظهر من بعض عبائر الأصوليين انَّ هذا البحث انما نشأ لدفع شبهة عدم إمكان تخصيص العام بالمفهوم ووجوب تقديم العام عليه لكونه منطوقاً والمنطوق أقوى من

__________________

(١) ولكن لو فرض عدم الإجمال بلحاظ المدلول التصوري فلا نكتة لافتراض الإجمال بلحاظ المدلولين التصديقيين لجملة العام وجملة الظهور بعد ان كان كل منهما حكماً مستقلاً عن الآخر.


المفهوم. وقد يظهر من عبائر أخرى انَّ البحث معقود لعلاج شبهة معاكسة هي انَّ العام لا بدَّ وأَنْ يخصص بالمفهوم ـ مفهوم الموافقة بالخصوص ـ إذ لو لم يخصص به لزم إلغاء منطوقه أيضاً بحكم التلازم بينهما وعدم إمكان التفكيك بين المتلازمين وهذا إلغاء للدليل بلا موجب.

وعلى كل حال تندفع الشبهة الأولى بأنَّ الميزان في التقديم ليس بكون الدلالة منطوقية أو مفهومية بل هناك موازين أُخرى لعلاج التعارض غير المستقر بين الأدلة من الورود والحكومة والقرينية والأظهرية والتخصيص ونحوها على ما هو مبحوث في بحوث التعارض.

وتندفع الشبهة الثانية بأنَّ المعارضة تسري لا محالة من العام والمفهوم إلى العام والمنطوق لأنَّ النافي للازم ينفي الملزوم أيضاً فلو فرض وجود ملاك لتقديم العام عن المنطوق فإسقاط المنطوق لا يكون بلا موجب كما ذكر وهذا واضح.

ثم انَّ البحث يقع في مقامين لأنَّ المفهوم امّا أَنْ يكون مفهوم موافقة أو مفهوم مخالفة:

المقام الأول ـ في معارضة مفهوم الموافقة مع العام ، ونريد بمفهوم الموافقة ما يستفاد من الدليل مشاركته مع حكم الموضوع المذكور في الدليل امّا لكون ثبوته فيه أولى من ثبوته في ملزومه أو لكونه مساوياً لاشتراكهما في علّة الحكم ومناطه ويشترط فيه أَنْ تكون الملازمة عرفية فلا يكفي ثبوت الملازمة بعنايات عقلية.

ومفهوم الموافقة بحسب الحقيقة من دلالة المدلول على المدلول لا من دلالة اللفظ ابتداءً كما في مفهوم المخالفة ولهذا تكون هذه الدلالة قطعية دائماً لأنها قائمة على أساس القطع بالملازمة بين حكم المنطوق وحكم المفهوم ولا يعقل فيها الظنية حتى لو فرض كونها قضية مطلقة عامة إذ لو لم يقطع بالملازمة بين تلك القضية ومفاد المنطوق فلا دلالة وإِلاَّ فالدلالة قطعية لا محالة ، نعم منشأ الدلالة المفهومية أعني دلالة المنطوق على الملزوم قد تكون صريحة قطعية وقد تكون ظنية كما لو كان مستفاداً من الإطلاق أو العموم ، وامّا الدلالة المفهومية فهي قطعية دائماً لكونها بملاك الملازمة القطعية نعم يشترط في صيرورة الدلالة على أساس الملازمة أو الأولوية مفهوماً أَنْ تكون الملازمة التي هي


ملاك انعقاد هذه الدلالة عرفية أيضا مستفادة بحسب مقام الإثبات من نفس الخطاب ولا يكفي مجرد ثبوت ملازمة عقلية وببراهين أو عنايات فائقة لصيرورة الدلالة المذكورة مفهوم موافقة ، وسوف يظهر ترتب فرق عملي بين القسمين :

وعلى ضوء هذا التفسير لمفهوم الموافقة تتضح أمور :

١ ـ انَّ المعارضة تسري دائماً من العام والمفهوم إلى العام والمنطوق لأنَّ المفروض كون المفهوم من لوازم ثبوت مفاد المنطوق ومدلوله فيستحيل اجتماع مدلول العام مع مدلول المنطوق لاستلزامه ثبوت المفهوم لا محالة.

وهذا بخلاف مفهوم المخالفة فانَّ المعارضة بينه وبين العام لا تسري إلى الحكم المنطوقي لعدم كونه من دلالة المدلول على المدلول بل نفس الكلام أو خصوصية فيه يدل على الحكم المفهومي في عرض دلالته على الحكم المنطوقي.

٢ ـ انَّ أخصية المفهوم من العام لا قيمة لها في مقام تقديمه عليه ، لأنَّ الخاصّ الّذي يتقدم على العام انما يتقدم على العام فيما إذا كان مفاداً للكلام أي المفاد الخاصّ بما هو مفاد للكلام يكون قرينة ومقدماً على العام لا مطلق المدلول الخاصّ وقد عرفت انَّ المفهوم ليس مدلولاً ومفاداً للكلام مباشرة بل هو مدلول للمدلول وهذا بخلاف مفهوم المخالفة فانه إذا كان أخص من العام يتقدم عليه بلا كلام لكونه مدلولاً مباشراً للكلام.

وعلى هذا الأساس فلو كان مفهوم الموافقة الأخص لازماً لإطلاق الحكم المنطوقي لا لأصله لم يجز تخصيص العام به ، لأنَّ هذا المدلول لم يثبت بدلالة كلامية أخص وانما ثبت بدلالة كلامية إطلاقية والنتيجة تتبع أخس المقدمتين لا محالة فتكون الدلالة المفهومية ثابتة بالإطلاق أيضا.

٣ ـ انَّ النسبة لا بدَّ وأَنْ تلحظ دائماً في موارد مفهوم الموافقة بين العام والمنطوق لا المفهوم لأنَّ الدلالة المفهومية كما عرفت ليست من دلالة الكلام بل من دلالة مدلول الكلام ومفاده وهي دلالة قطعية ثابتة على أساس الملازمة فلا معنى للتصرف فيها بما هي بل لا بدَّ من ملاحظة دلالة الكلام على ذلك المدلول المنطوقي المستلزم للمدلول المفهومي ، فانْ كان هناك ملاك يقتضي تقديم هذه الدلالة على دلالة العام قدمت


عليه وإِنْ كان العكس فبالعكس وإِنْ لم يكن ملاك لتقديم أَيّ منهما على الاخر وقع التعارض بينهما لا محالة.

ثم انه في موارد مفهوم الموافقة تارة : لا يكون هناك معارضة مستقلة بين العام وبين المنطوق ، وأخرى يكون ذلك فهنا موردان :

المورد الأول ـ ما ذا كانت معارضة المنطوق مع العام بلحاظ استلزامه للمفهوم فقط ، وهنا تارة : يفرض كون المفهوم لازماً لأصل المنطوق ، وأُخرى : يكون لازماً لإطلاقه.

ففي الفرض الأول يتقدم المنطوق على العام لأنَّ المعارضة بحسب الحقيقية بين عموم العام وبين أصل المنطوق بحيث لو علمنا بالعامّ سقط المنطوق في تمام الموارد لأنَّ ثبوت مفاده ولو في مورد يستلزم المفهوم ، فيكون بحكم الأخص لا محالة سواءً كانت النسبة بين العام والمفهوم لو لوحظ مستقلاً العموم والخصوص المطلق بأَنْ كان المفهوم أخص ، أو من وجه ما لم يلزم من تقديم المفهوم إلغاء العام أو ما بحكمه.

وفي الفرض الثاني ـ لا وجه لتقديم المفهوم على العام ولو كان أخص لكونه متوقفاً على إطلاق المنطوق بحسب الفرض والنتيجة تتبع أخس المقدمات فتكون الدلالة المفهومية في قوة الإطلاق لا محالة فيكون معارضاً مع عموم العام فلو لم يفرض ميزة لأحد الإطلاقين على الاخر كانا متساقطين.

المورد الثاني ـ ما إذا كان المنطوق في نفسه معارضاً أيضاً مع العام وهذا ينقسم إلى ثلاثة أقسام :

١ ـ أَنْ يكون المنطوق أخص من العام.

٢ ـ أَنْ يكون أعم منه.

٣ ـ أَنْ يكون بينهما عموم من وجه.

امّا القسم الأوّل : فالصحيح فيه تخصيص العام بالمنطوق سواءً كان المفهوم أخص من العام أو بينهما عموم من وجه وسواءً كان المفهوم لازماً لأصل المنطوق أو لإطلاقه فانَّ إطلاق الأخص مقدم أيضاً على الأعم.

ونستثني من هذا القسم ثلاث حالات :

١ ـ أَنْ يكون المفهوم أعم من العام أو مساوياً بحيث يلزم من العمل به إلغاء العام


وكان لازماً لإطلاق المنطوق فانه في هذه الحالة يسقط إطلاق المنطوق المستلزم لمثل هذا المفهوم باعتبار كون العام بالنسبة إلى هذه المعارضة كالأخص ويثبت التخصيص بمقدار ما عدا المقدار الساقط من إطلاق المنطوق ففي هذه الحالة كل من المنطوق والعام يخصص الاخر بسبب المفهوم.

٢ ـ أَنْ يكون المفهوم أعم أو بحكمه وكان لازماً لأصل المنطوق.

٣ ـ أَنْ يكون المفهوم أخص ولكنه مستوعب لجزء من مورد افتراق العام عن المنطوق بحيث لا يمكن تخصيص العام بالمنطوق والمفهوم معاً.

ففي هاتين الحالتين لا يمكن تخصيص العام بالمنطوق لاستلزامه إلغائه بل يكون التعارض بين العام والمنطوق بنحو التباين.

وقد يفرق بين هاتين الحالتين بأنَّ العام في الحالة الأولى يبقى حجة في مورد اجتماعه مع المنطوق بينما يسقط في تمام مدلوله في الحالة الثانية.

والوجه في ذلك انَّ المنطوق يكون حاكماً على العام في معارضته المباشرة معه لكونه قرينة عليه فتكون حجية العام مقيدة بعدمها وانما المنطوق يعارض حجية العام في مورد افتراقه عنه وبعد تساقط حجية المنطوق وحجية العام في مورد الافتراق يرجع إلى حجية العام في مورد اجتماعه لارتفاع الحاكم عليه نظير ما يقال في موارد الرجوع إلى العمومات الفوقانية.

وهذا بخلاف الحالة الثانية فانَّ المنطوق فيها صالح للقرينة على العام بلحاظ كل من مورد اجتماعه عنه ومورد افتراقه لكون المفهوم لا يلزم منه بحسب الفرض إلغاء العام فتكون الدلالة المنطوقية المستلزمة له مقدمة على العام بالقرينية في نفسه ولكنها قرينية متعارضة مع قرينية المنطوق على العام بلحاظ مورد الاجتماع.

وفيه : ـ انَّ طرف المعارضة الثانية الناشئة بتبع المفهوم ليس هو مورد الافتراض للعام فحسب بل تمام مفاده بحسب الفرض وإِلاَّ لكان المنطوق أيضاً مقدماً عليه في نفسه لأنَّ إطلاق الخاصّ مقدم على العام فدلالة العام في مورد اجتماعه مع الخاصّ يتعارض معه بمعارضتين وهي في إحداهما تكون محكومة وفي أخرى تكون متكافئة فتسقط لا محالة.


وامّا القسم الثاني ـ وهو ما إذا كان العام أخص من المنطوق فهنا ثلاث صور :

١ ـ أَنْ يكون المفهوم لازماً لإطلاق المنطوق المعارض مع العام. وفي مثله لا إشكال في تخصيص المنطوق بالعامّ فيرتفع إطلاقه المعارض معه.

وبذلك يسقط المفهوم أيضاً سواءً كان أخص من العام أم لا فحال هذه الصورة حال ما إذا لم يكن في البين مفهوم أصلاً.

٢ ـ أَنْ يكون المفهوم لازماً لإطلاق المنطوق المفترق عن العام وفي هذه الحالة سوف يكون العام الأخص من المنطوق معارضاً معه في تمام دلالته المجتمعة معه والمفترقة إحداهما بالمباشرة والأخرى بالملازمة ومعه لا يصلح للتخصيص بل يكون التعارض بنحو التباين والتساقط لا محالة.

٣ ـ أَنْ يكون المفهوم لازماً لأصل المنطوق أي لثبوت مفاده ولو في مورد واحد.

وفي هذه الصورة يحكم بتخصيص العام بالمفهوم أولا ـ ولو لم يكن أخص مطلقاً منه ـ ثم تخصيص المنطوق بما تبقى من مفاد العام ، وذلك باعتبار انَّ المفهوم بحسب الفرض ملازم لأصل مفاد المنطوق فيكون بمثابة تصريح الدليل به فانه قد تقدم في تعريفنا لمفهوم الموافقة انه قائم على أساس أولوية أو ملازمة عرفية للخطاب. فيكون في قوة التصريح به فيتقدم على إطلاق العام ما لم يلزم منه محذور كالتخصيص المستهجن.

وامّا القسم الثالث ـ وهو أَنْ يكون بين المنطوق والعام عموم من وجه فهنا صور :

١ ـ أَنْ يكون المفهوم لازماً لأصل المنطوق أي لثبوته ولو في مورد واحد وهذه الصورة تحتها حالتان :

الأولى ـ أَنْ يكون المفهوم مستوعباً لمورد افتراق العام عن مورد التعارض مع المنطوق بحيث لا يمكن تخصيص العام بمجموع المفهوم والمنطوق معاً.

والحكم في هذه الحالة تخصيص العام بالمفهوم أولا ثم تخصيص المنطوق بالعامّ.

ويمكن أَنْ يذكر في تقريب ذلك وجهان :

الوجه الأول ـ أَنْ إطلاق المنطوق في مورد اجتماعه مع العام وإطلاق العام في مورد افتراقه عن المنطوق يعلم بسقوطهما على كل حال لاستلزامهما إلغاء الدليل الاخر رأساً فيكون الدليل الاخر بحكم الأخص منه من هذه الناحية.


الوجه الثاني ـ ويتوقف على مقدمة هي دعوى قرينية الأخص من وجه للتخصيص في نفسه وانما لا يخصص به لكونها قرينية متكافئة في العامين من وجه ، ولعلّه لذلك يتقدّم أحد العامين من وجه على الآخر ويخصص فيما إذا كان قدراً متيقناً مثلاً أو غير قابل للتخصيص بمورد الافتراق ، وبناءً عليه يقال : بأنَّ إطلاق المنطوق في مورد اجتماعه مع العام غير صالح للقرينية في المقام لكونه مستلزماً لإلغاء العام بالملازمة بخلاف العكس فيتخصص بالعامّ ، وامّا تخصيص العام بالمفهوم فلأنَّ دليل المنطوق من هذه الناحية يكون بحكم الأخص وإِلاَّ يلزم إلغائه في تمام المفاد.

الثانية ـ أَنْ لا يكون المفهوم مستوعباً لتمام مورد الافتراق من العام بحيث كان تخصيصه بغير موارد شمول المنطوق والمفهوم معاً.

وحكم هذه الحالة تخصيص العام بالمنطوق والمفهوم معاً ، لأنَّ معناه انَّ عموم العام منافٍ مع تمام مدلول المنطوق في المعارضة بسبب استلزام المفهوم وإِنْ لم يكن كذلك في المعارضة بلحاظ المفهوم مباشرة.

٢ ـ أَنْ يكون المفهوم لازماً لإطلاق المنطوق في مورد تعارضه مع العام.

وحكم هذه الصورة حكم ما إذا لم يكن مفهوم أصلاً حيث يتعارض الدليلان في مورد الاجتماع ويتساقطان ويرتفع المفهوم موضوعاً بالتبع.

٣ ـ أَنْ يكون لازماً لإطلاق المنطوق في مورد افتراقه عن العام وهنا أيضا حالات :

الأولى ـ أَنْ يكون المفهوم مستوعباً لتمام مورد افتراقه للعام من المنطوق فيكون التعارض بينهما بنحو التباين إِلاَّ إذا كان المفهوم لازماً لإطلاق المنطوق في مورد معين بحيث يمكن تخصيص المنطوق بغيره فيخصص المنطوق بتمام مدلول العام لأنَّ دليل المنطوق يكون ملغياً للعام بخلاف العكس.

الثانية ـ أَنْ يكون المفهوم غير مستوعب لتمام مورد افتراق العام ، بحيث كان يمكن تخصيصه به وحكم هذه الحالة تخصيص العام بالمنطوق والمفهوم معاً إِلاَّ إذا كان يمكن تخصيص المنطوق بمورد لا يستلزم منه المفهوم فيكون التعارض بينهما بنحو العموم من وجه باقياً على حاله.


وهكذا اتضح عدم صحة ما ذكرته مدرسة المحقق النائيني ( قده ) من انه في موارد مفهوم الموافقة لا بدَّ من ملاحظة النسبة بين المنطوق والعام ولا أثر للمفهوم ، فانَّ هذا انما يصح في خصوص ما إذا كان المفهوم لازماً لإطلاق المنطوق في مورد معارضته مع العام لا مطلقاً كما عرفت.

المقام الثاني ـ في تخصيص العام بمفهوم المخالفة ، والبحث عن ذلك تارة : فيما إذا كان العام معارضاً مع إطلاق المفهوم ، وأخرى : فيما إذا كان معارضاً مع أصله.

امّا إذا كان معارضاً مع إطلاق المفهوم ، فتارة : يفرض كون دلالة العام بالإطلاق ومقدمات الحكمة أيضاً ، وأخرى : يفرض كونهما بالوضع والأداة.

ففي الأول لا إشكال في تساقط الإطلاقين ذاتاً كما إذا كانا متصلين ، أو حجية كما إذا كانا منفصلين ما لم تفرض نكتة إضافية تقتضي تقديم أحدهما على الاخر لكونه أظهر أو أقوى مثلاً.

ودعوى : تقديم المنطوق على المفهوم ، كلام ظاهري فانَّ خصوصية المفهومية والمنطوقية ليست ميزاناً في التقديم فانَّ المفهوم أيضاً ناشئ من خصوصية مأخوذة في الكلام ، كما انَّ دعوى : عدم معقولية أظهرية أحد الإطلاقين المتعارضين لكون الإطلاق دلالة سكوتية وليست لفظية لكي يفترض لها مراتب مختلفة في الشدة والضعف ، مدفوعة : بأنَّ الأقوائية تنشأ من ظهور حال المتكلم في كونه في مقام بيان مرامه بشخص كلامه وهذا الظهور له درجات لا محالة سواءً في العام أو المطلق.

وفي الثاني لو فرض اتصال العام بالمفهوم فلا إشكال في تقدمه عليه لكون ظهوره تنجيزياً وظهور إطلاق المفهوم تعليقياً أي متوقف على عدم بيان القيد والعام بيان بحسب الفرض فيكون وارداً لا محالة على الإطلاق ورافعاً لموضوعه.

وامّا لو فرض انفصاله فتخريج تقديم عموم العام على إطلاق المفهوم يكون بأحد وجوه ثلاثة :

١ ـ أَنْ يقال بمقالة مدرسة المحقق النائيني ( قده ) من توقف الإطلاق على عدم بيان القيد ولو منفصلاً والعام بحسب الفرض بيان فيكون وارداً عليه.

إِلاَّ انَّ هذا المسلك مرفوض عندنا على ما سوف يأتي في محله.


٢ ـ أَنْ نطبق القاعدة الميرزائية في باب القرينية وكيفية تشخيص ما هو القرينة عن ذي القرينة القائلة بأن كل ما يفرض على تقدير اتصاله رافعاً للظهور فهو على تقدير انفصاله رافع للحجية.

وهذه القاعدة رغم كونها من أبدع ما أنتجه الفكر الأصولي في مباحث الألفاظ إِلاَّ انها انما تصح في موارد لا يكون لنفس خصوصية الاتصال والانفصال دخل في تكوّن أحد الظهورين كما هو الحال في الظهورات الوضعيّة التنجيزية ليكون تقدم أحدهما على الآخر في فرض الاتصال قائماً على أساس القرينة.

وامّا إذا كان ارتفاع تقديم أحد الظهورين على الاخر في فرض الاتصال بملاك ارتفاع أحدهما موضوعاً في تلك الحال كما هو في محل الكلام فلا معنى لتسرية حكم ذلك إلى فرض انفصالهما وهذا واضح.

٣ ـ أَنْ يقدم عموم العام على إطلاق المفهوم لكونه أظهر منه وأقوى تطبيقاً لكبرى تقديم أظهر الظهورين وأقواهما في مقام الجمع العرفي.

امّا كبرى هذا الجمع العرفي فتحقيقها موكول إلى محله. واما الصغرى فلأنَّ عموم العام بعد أَنْ كان بالوضع يكون أقوى لا محالة من إطلاق المفهوم الّذي هو بمقدمات الحكمة ، وذلك لما أشرنا إليه مراراً من انَّ منشأ هذه الظهورات التصديقية ظاهر حال المتكلم في مقام المحاورة وواضح انَّ ظهور حال المتكلم في إرادة ما قاله الّذي هو منشأ الظهورات التصديقية في موارد الدلالات الوضعيّة أقوى من ظهور حاله في عدم إرادة ما لم يقله الّذي هو منشأ الظهورات التصديقية الحكمية ـ الإطلاقية ـ لأنَّ غرابة تخلف المراد في الأول أكثر منها في الثاني كما هو واضح.

فالصحيح تقديم عموم العام على إطلاق المفهوم ما لم تفرض نكتة زائدة تقتضي العكس أو التعارض والتساقط وذاك أمر من شغل الفقيه تشخيصه لا الأصولي لأنه يتبع الموارد الخاصة.

وامّا إذا كان العام معارضاً مع أصل مفهوم المخالفة بحيث يلزم من العمل به إلغاء المفهوم رأساً ، فلا إشكال في تقديم المفهوم على العام وتخصيصه به سواءً كان عمومه بالوضع أو بالإطلاق كما إذا قال ( أكرم العلماء ) وقال ( أكرم العالم إذا كان عادلاً ).


وتخريج هذا التقديم فنيّاً مع كون استفادة المفهوم بنحو السالبة الكلية أيضاً بالإطلاق ومقدمات الحكمة يمكن أَنْ يكون بأحد وجوه :

١ ـ انَّ تقديم العام على المفهوم يلزم منه إلغاء ظهور القيد أو الشرط في أصل القيدية أو التوقف وهذه دلالة وضعية في الجملة المشتملة على أداة المفهوم فتكون مقدمة على العام وصالحة لتخصيصه لا محالة.

وهذا الوجه لا يبرر تقديم المفهوم على العام وتخصيصه به ، بل غاية ما يقتضيه عدم ثبوت الجعل بنحو العموم بل هناك مخصص له إجمالاً لكي لا يلزم لغوية القيد لا اختصاص الحكم بمورد القيد أو الشرط ولهذا لو فرض وجود قدر متيقن للانتفاء لم يلزم من حجية العام في الباقي مخالفة الظهور الوضعي المذكور ، بل الظهور الوضعي المذكور لا يقتضي التقييد حتى بهذا المقدار وانما يقتضي الالتزام بتعدد الحكم إِنْ لم يفرض برهان أو إجماع أو استظهار يقتضي وحدة الحكم وإلا ثبت التقييد ولو لم يكن للجملة مفهوم.

٢ ـ انَّ المفهوم وإِنْ كان ثابتاً بالإطلاق ومقدمات الحكمة إِلاَّ انه إطلاق في طرف الحكم لا الموضوع لأنه إطلاق في العلّية أو التوقف المقتضي لكون الترتب مطلقاً أي منحصراً مثلاً أو كون التوقف في تمام الحالات وامّا موضوع القضية بالمعنى الأصولي للموضوع أي ما أُخذ مفروض الوجود فهو خاص لأنَّ الشرط قيد للموضوع بحسب اللّب ، وهذا بخلاف العموم في العام فانه ثابت في طرف موضوع الحكم ، ويدعى :

انه كلما وقع تعارض بين إطلاق في طرف الحكم مع إطلاق في طرف الموضوع قدم الأول على الثاني وخصص الأعم موضوعاً بالأخص موضوعاً.

وهذا الوجه غير تام أيضاً ، لأنَّ مجرد كون مركز الإطلاق الحكم أو الموضوع لا يكون ملاكاً للتقديم عرفاً.

٣ ـ انَّ الإطلاق في طرف المفهوم يقتضي التضييق والتعيين بخلاف الإطلاق في العام فانه يقتضي التوسعة وكلما كان أحد الإطلاقين المتعارضين كذلك قدم الأول على الثاني نظير ما إذا كان مقتضى الإطلاق في ( أكرم العالم ) الانصراف إلى زيد لكونه أشهر الافراد مثلاً فانه مقدم على إطلاق ( لا تكرم بني فلان ) الّذي أحدهم


زيد لكون الأول يقتضي التعيين والتضييق والثاني يقتضي التوسعة.

ونكتته بحسب الحقيقة هو الأخصية فان الميزان في الأخصية ان تكون النتيجة النهائيّة المتحصلة من مجموع الكلام أخص من النتيجة النهائيّة المتحصلة من الاخر لا الأخصية بلحاظ كل ظهور تحليلي في الكلام الواحد ولهذا يقدم الخاصّ الدال على الوجوب بإطلاق الأمر ـ بناءً على ان دلالة الأمر على الوجوب بالإطلاق لا الوضع ـ على العام النافي للوجوب بالوضع.

وهذا الوجه انما يتم فيما إذا كان الإطلاق المثبت للمفهوم بالتقريب الّذي ذكره في الكفاية من ان إطلاق الترتب والعلية ينصرف إلى العلية الانحصارية لا بالتقريبات الأخرى ، كتقريب ان مقتضى الإطلاق بلحاظ تقدم علة أخرى وعدمه أو إطلاق التعليق والتوقف في تمام الحالات ثبوت المفهوم فان مثل هذه التقريبات للإطلاق لا تنتج التعيين والضيق بل التوسعة كالعام.

٤ ـ ان يقال بان المفهوم وان كان بالإطلاق ومقدمات الحكمة إِلاّ ان هذا الإطلاق يكون حاكماً على العام لكونه ناظراً إليه لأن الحكمين في ( أكرم كل عالم ، وأكرم العالم إذا كان عادلاً ) اما ان يفترض العلم بوحدة الجعل فيهما أو يفرض احتمال التعدد ، فعلى الأول يكون الشرط بحسب الفرض تقييداً للحكم المجعول في الخطاب الثاني باعتباره ناظراً إليه ومقيداً له والمفروض ان هذا الجعل هو نفس الجعل المنكشف بالعامّ فيكون تقييده تقييداً لهما لا محالة.

وعلى الثاني يتمسك بإطلاق الحكم المعلق على الشرط لإثبات ان الشرط شرط لطبيعي وجوب إكرام العالم. وهذا وإِنْ كان إطلاقاً إِلاَّ انه إطلاق في الحاكم والناظر إلى الحكم فيكون مقدماً على إطلاق العام المقتضي لثبوت وجوب إكرام غير مقيد بذلك الشرط فكأنه قال وجوب إكرام العالم معلق على العدالة فكما يتقدم إطلاق هذه الجملة على عموم العام كذلك المفهوم (١).

__________________

(١) رجوع الجملة الشرطية إلى هذا المفاد خلاف الظاهر جداً لأنه يستلزم أخذ وجوب الإكرام في الشرطية بنحو النسبة الناقصة المفروغ عنها مع انه لا إشكال في انَّ الجملة الشرطية بنفسها في مقام جعل الحكم بحيث يكون مدلولها التصديقي جعل الحكم المشروط لا الاخبار عن تعليق حكم مجعول بجعل آخر ومما يشهد على هذا انه لو كانت الشرطية ناظرة إلى ذلك لزم تقديم إطلاق


فصل : تعقب الاستثناء لجمل متعددة

إذا تعقب الاستثناء جملاً متعددة فهل يرجع إلى الأخيرة بالخصوص أو إلى الجميع مع فرض عدم قرينة خاصة على تعيين أحد الاحتمالين؟

المعروف بين المحققين هو التفصيل بين ما إذا تعددت الجمل موضوعاً ومحمولاً كما إذا قال ( أكرم العلماء وأكرم الشيوخ وأكرم الهاشميين إِلاَّ الفساق ) ، وبين ما إذا لم يكن كذلك بأَنْ تعدد المحمول فقط كما إذا قال ( أكرم العلماء وقلدهم إِلاَّ الفساق ) أو تعدد الموضوع فقط كما إذا قال ( أكرم العلماء والشيوخ والهاشميين إِلاَّ الفساق ) ففي المثال الأول يرجع إلى الأخيرة فقط إِنْ لم تفرض عناية تقتضي العكس. وحكموا في الأخيرين بالرجوع إلى الجميع ولو باعتبار الإجمال واحتمال قرينية المتصل.

وهذه النتائج بالإمكان تخريجها فنياً بالنحو التالي :

امّا في الموضع الأول : فلأنَّ رجوع الاستثناء إلى الجميع امّا أَنْ يكون على أساس رجوعه إلى كل واحدة من تلك الجمل مستقلاً وهذا يستلزم محذور استعمال أداة الاستثناء الموضوعية للنسبة الاستثنائية الإخراجية في أكثر من معنى فانَّ كل نسبة استثنائية بلحاظ كل واحد من تلك الجمل يشكل معنى مستقلاً لا محالة (١) ، واما أَنْ يكون على أساس استعماله في جامع الاستثناء وهذا أيضاً غير معقول على ضوء ما تقدم من جزئية معاني الحروف وأدواتها والتي منها أداة الاستثناء ، لا بمعنى الجزئية الخارجية أو الذهنية بل بمعنى الجزئية الطرفية وهي النسبة المتقومة والمتشخصة

__________________

على المفهوم العام حتى لو لم يلزم من العمل بالعامّ إلغاء المفهوم كما إذا كانا عامين من وجه ، كما إذا ورد « أكرم كل فقير » و « أكرم زيداً إذا جاءكَ » فانه على القول بالمفهوم للشرطية يتعامل معهما معاملة المتعارضين بنحو العموم من وجه ولا يقدم إطلاق المفهوم على عموم العام.

(١) كون هذا من الاستعمال في أكثر من معنى محل تأمل بشهادة الوجدان على إمكان رجوع الاستثناء إلى الجميع بلا العناية الموجودة في موارد استعمال لفظ واحد في معنيين بل هو يشبه قولنا ( عند الزوال تصدق على الفقير واقرأ القرآن وصلِّ الظهر ) الّذي يرجع فيه الوقت إلى الجميع من دون أن نشعر بعناية التوحيد الاعتباري والاستعمال في أكثر من معنى. ولعلَّ وجهه انَّ النسبة إذا كانت ذهنية واقعية فلا محذور في ان يقع مفهوم واحد طرفاً لنسبتين مع مفهومين آخرين في عرض واحد كما في الاخبار عن موضوع واحد بمحمولين أو اسناد فعلين إلى فاعل واحد والنسبة الاستثنائية وما شاكلها نسبة واقعية بمعنى انَّ الإخراج والاقتطاع من شئون النسبة الحكمية الواقعية.


بأطرافها ولا جامع ذاتي لها ، وامّا أَنْ يكون على أساس استعماله في نسبة إخراجية واحدة عن مجموع ما تقدم من الموضوعات في الجمل المتعددة بعد توحيدها اعتباراً ، وهذا وإِنْ كان معقولاً ولا محذور فيه ثبوتاً إِلاَّ انه خلاف الظاهر إثباتاً حيث يكون بحاجة إلى عناية التوحيد الاعتباري بين موضوعات تلك الجمل ومقتضى الإطلاق عدمها.

وهكذا لا يبقى وجه معقول ثبوتاً وغير منفي إثباتاً لرجوع الاستثناء إلى الجميع إِلاَّ انَّ هذا انما يتم في الاستثناء بالأداة أي الاستثناء الحرفي لا الاسمي أو الاستثناء بالفعل كما لو قال ( واستثني الفساق منهم ) فانَّ ذلك يعقل فيه الوجه الثاني من الوجوه الثلاثة بأَنْ يكون مستعملاً في جامع الاستثناء الاسمي ويكون مقتضى الإطلاق مثلاً ثبوته في الجميع ، فلا محذور ثبوتي فيه غير انه يبقى دعوى إثباتية وهي استظهار رجوعه للأخيرة بالخصوص ولو بقرينية التأخير أو بنكتة أخرى. وهذه القرينية لو تمت كانت مدركاً إثباتياً في الاستثناء الحرفي أيضاً على حد سواء.

وامّا الموضع الثاني : ـ فلأنَّ رجوع الاستثناء فيه إلى الأخيرة بالخصوص يستلزم أَنْ يكون الضمير قد استعمل في تكرار الموضوع وإعطاء صورة مستقلة جديدة له وقد تقدم انَّ هذا خلاف وضع الضمير فانه لمجرد الإشارة إلى الصورة الذهنية الأولى المعطاة بالمرجع فلا محالة يرجع الاستثناء إليه وبذلك يتخصص الجميع.

وامّا الموضع الثالث : ـ فتخريج رجوع الاستثناء فيه إلى الجميع يظهر بملاحظة ما قلناه في الموضع الأول فانَّ تعدد الموضوعات مع كون المحمول واحداً لا يكون في نفسه إِلاَّ في طول توحيد اعتباري فيما بينها ليكون ذلك الأمر الواحد هو طرف النسبة في الجملة ومعه يكون رجوع الاستثناء إليه أيضاً وإِلاَّ لزم إلغاء تلك الوحدة الملحوظة وهو بحاجة إلى قرينة وعناية (١) ..

لا يقال : انَّ ( واو ) العطف في قوة التكرار ومعه لا مانع من رجوع الاستثناء إلى الجميع حتى في الصورة الأولى.

__________________

(١) الظاهر انَّ المأخذ إثباتي لا ثبوتي لأن الاستثناء إخراج عن الحكم والنسبة فإذا قال أكرم العلماء والشيوخ إلا الفساق كان الظاهر رجوع الاستثناء إلى نسبة الحكم وهو الإكرام إلى موضوعه والمفروض انه استعمل مرة واحدة ونسب إلى كل من العلماء والشيوخ بنسبة واحدة إليها معاً وهذا بخلاف الموضع الأول.


فانه يقال : كونه دالاً على التكرار انما يعقل بعد فرض ثبوت الحكم على المعطوف عليه قبل مجيء حرف العطف ليدل العطف على إلغاء الحاجة إلى تكرار الدال على الحكم وهذا لا يعقل في الصورة الأولى التي قد اكتملت الجمل المتعددة موضوعاً ومحمولاً.

نعم يعقل ذلك في الصورة الثالثة وحينئذٍ قد يعكس الاستدلال فيقال بأنه لا يبقى فرق بين الصورتين الأولى والثالثة لأنَّ العطف في قوة تكرار حكم المعطوف عليه فكأنه قال أكرم العلماء وأكرم الشيوخ وأكرم الهاشميين إِلاَّ الفساق وكما لا يرجع الاستثناء إلى الجميع في الصورة الأولى كذلك لا نكتة للرجوع إليها في الثالثة.

ولكن الصحيح مع ذلك الرجوع إلى الجميع بنكتة انَّ العطف وإِنْ كان في قوة التكرار إِلاَّ انه لا يعطي المعنى المكرر صريحاً بل تقديراً فيكون رجوع الاستثناء إلى الأخير أيضاً تقديرياً فلو أُريد إرجاعه إليه بالخصوص كان خلاف التقديرية المذكورة.

هذا كلّه لو سُلم انَّ قولهم العطف في قوة التكرار أُريد به ظاهرة حقيقة لا انه مجرد تخريج نحوي في مقام الإعراب.

ثم انَّ للمحقق العراقي ( قده ) في المقام كلمات ثلاث نذكرها فيما يلي مع التعليق عليها.

الكلام الأول ـ انه حكم بصحة رجوع الاستثناء في نفسه إلى جميع الجمل من دون فرق بين الاستثناء الحرفي أو الاسمي ، وامّا الإشكال بأنَّ المعنى الحرفي جزئي فلا يمكن إرجاع حرف الاستثناء إلى الجميع فهو فاسد مبنى لأنَّ الصحيح كلية المعاني الحرفية عنده ، وبناءً لأنَّ الاستثناء من الجميع غير منافٍ لجزئية المعنى الحرفي لأنَّ الاستثناء من الجميع فرد من افراد الاستثناء كالاستثناء من الأخيرة فقط.

وفيه : انَّ الاستثناء من الجميع إِنْ أُريد به الاستثناء منها بعد إسباغ طابع الوحدة عليها اعتباراً فهذا وإِنْ كان فرداً جزئياً من الاستثناء كالاستثناء من الأخيرة ولكنه قد عرفت انَّه خلاف مقام الإثبات ، وإِنْ أُريد منه الاستثناء منها بلا توحيد اعتباري فلا يكون جزئياً لما عرفت من انَّ المراد بالجزئية الجزئية الطرفية فمع تعدد الطرف يتعدد المعنى لا محالة.


وامّا إنكار المبنى فمع عدم صحته على ما حققناه في محله غير مجد في المقام ، لأنه ( قده ) يعترف بأنَّ المعاني الحرفية وإِنْ كان لها جامع حقيقي كالمعاني الاسمية إِلاَّ انها لا ترد في الذهن إِلاَّ جزئية وضمن أطرافها فالمعنى الموضوع له وإِنْ كان كلياً في نفسه إِلاَّ انه لا يأتي إلى الذهن إِلاَّ بعد تشخيص أطرافها بدوال أخرى وبهذا يكون إفادة المعنى الخاصّ من باب تعدد الدال والمدلول لا بدال واحد كما هو على مسلك جزئية المعنى الحرفي ذاتاً ، وهذا المقدار من الاعتراف بالجزئية كافٍ في عدم صلاحية إرجاع أداة الاستثناء الحرفي إلى الجميع بما هي أمور متعددة ، لأنه في مقام الاستعمال لا بدَّ للمستعمِل أَنْ يتصور المعنى الحرفي ضمن خصوصية الطرفين ومع تعدد الطرف لا يمكن ذلك إِلاَّ بأَنْ يتصور حصصاً متعددة من ذلك المعنى فيكون من استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد. نعم من يقول بكلية المعاني الحرفية ذهناً وخارجاً يمكن له في المقام دعوى رجوع الاستثناء إلى الجميع بما هي أمور متعددة.

الكلام الثاني ـ للمحقق العراقي ( قده ) انَّ مقتضى الإطلاق في عقد المستثنى وهو الفساق مثلاً الرجوع إلى الجميع وهذا الإطلاق معارض مع إطلاق ما عدا الجملة الأخيرة بنحو العموم من وجه بعد فرض الرجوع إلى الأخيرة على كل حال ، فانَّ فرض الإطلاق في ما عدا الجملة الأخيرة بالعموم والوضع قدم على إطلاق الاستثناء وإِلاّ وقع بينهما التعارض والتساقط.

وهذا الكلام منه ( قده ) غريب فانّه يرد عليه :

أولاً ـ انَّ إطلاق المستثنى لشمول ما عدا الجملة الأخيرة فرع أَنْ يكون راجعاً إليه أيضا ، فانْ أُريد إجراء الإطلاق فيه مع قطع النّظر عن إضافته إلى المستثنى منه فهذا غير معقول لأنَّه من دون إضافته إليه لا يتحصل منه مفهوم محدد ، وإنْ أُريد إجراء الإطلاق بعد تحصيل مفهوم معين له بوقوعه صفة للمستثنى منه ومضافاً إليه فالشك انَّما هو في نفس ذلك المفهوم وانه الجملة الأخيرة فقط أو المجموع والإطلاق لا يثبت ذلك. والحاصل :

انَّ إطلاق المستثنى لما يشمله الجملة الأولى فرع رجوع الاستثناء إليها أيضاً فمع الشك في ذلك لا موضوع لإطلاق المستثنى.

وثانياً ـ انه لو قطعنا النّظر عن ذلك وافترضنا معقولية إجراء الإطلاق في عقد


المستثنى في نفسه فهو حاكم على العموم أو الإطلاق في عقد المستثنى منه لأن إطلاق المخصص ناظر إلى المخصَّص فلو فرض شمول المستثنى لشيء من افراد موضوع الجملة الأولى كان حاكماً على دلالة عقد المستثنى منه.

الكلام الثالث ـ للمحقق العراقي ( قده ) ما أفاده فيما إذا فرض كون الإطلاقين معاً حكمياً لا وضعياً من إجمال الإطلاق في الجمل المتعددة لعدم قرينية كل منهما على الآخر فانَّ قرينية كلّ منهما فرع تمامية ظهوره بتمامية مقدمات الحكمة بالنسبة إليه ولا تتم في خصوص المقام وإِلاّ لزم الدور.

وهذا الكلام أيضاً غير صحيح وقد وقع نظيره في جملة من الموارد فانَّ محذور الدور لا يندفع بالمنع عن وجود الشيء الدائر خارجاً أعني بالمنع عن تحقق الموقوف والموقوف عليه خارجاً وانما لا بدَّ من إبطال أحد التوقفين في نفسهما ، فانَّ المستحيل هو علّيّة الشيء لنفسه في عالم العلّية والملازمات أعني في لوح الواقع الّذي هو أوسع من لوح الوجود الخارجي فليست استحالة الدور من شئون عالم الوجود الخارجي لكي يكفي في دفع غائلة الدور في المقام أَنْ يمنع عن انعقاد الإطلاقين خارجاً في مورد تصادمهما بل لا بدَّ من إبطال أحد التوقفين.

والصحيح ـ في المقام أَنْ يقال بأنَّ فعلية الدلالة الإطلاقية في كل من المتعارضين ليس موقوفاً على عدم فعلية الاخر بل على عدم الإطلاق الشأني في الاخر وهو غير موقوف على فعلية الإطلاق ، ومرادنا من الإطلاق الشأني الإطلاق اللولائي أي لو لا المعارض معه ، ومن الواضح انه مع عدم كل منهما بالخصوص كان الاخر فعلياً في المقام لتمامية مقتضية وانما المحذور انَّ فعلية كلا المقتضيين ـ بالفتح ـ يستوجب التناقض مثلاً ، وهذا نظير ما يقال في كل ضدين من انه موقوف على عدم مقتضى الاخر.

هذا كله من ناحية قابلية نفس الاستثناء للرجوع إلى الجميع وامّا من ناحية قابلية المستثنى للرجوع إلى الجميع وعدمه فنقول انَّ ذلك على أنحاء :

١ ـ أَنْ يكون قابلاً للرجوع إلى الجميع كما لو قال ( أكرم العلماء والتجار إِلاَّ الفسّاق ) فانه من ناحية المستثنى يجوز الرجوع إلى الجميع وانما لا بدَّ من ملاحظة حال الاستثناء نفسه على ضوء الأبحاث المتقدمة.


٢ ـ أَنْ لا يكون قابلاً للرجوع إلى الجميع كما لو استثني في المثال الجهال بمعنى من ليس بعالم ، وهنا لا إشكال في الاختصاص بالأخيرة حتى في الموارد التي استظهرنا فيها الرجوع إلى الجميع لأنَّ ذلك فرع إمكان الإرجاع إليه.

٣ ـ أَنْ يكون مشتركاً لفظاً بين معنيين على تقدير أحدهما يختص بالأخيرة وعلى تقدير الآخر يمكن إرجاعه إلى الجميع ، كما إذا فرضنا انَّ عنوان الجهال مشترك لفظي بين المعنى المقابل للعالم والمعنى المقابل للرشيد العاقل والمفروض عدم القرينة على تعيين إرادة أحد المعنيين. وفي مثله إِنْ فرض المورد من الموارد التي استظهرنا فيها رجوعه إلى الأخيرة فقط كما في الموضع الأول من المواضع الثلاثة فلا يظهر أثر عملي بلحاظ غير الجملة الأخيرة حيث يبقى على إطلاقها سواءً أُريد المعنى الأول أو الثاني ، وإِنْ فرض انه من الموارد التي استظهر فيها الرجوع إلى الجميع كالموضوع الثالث فسوف يبتلي ما عدا الأخيرة بالإجمال ويكون بالنتيجة كما لو رجع إليه الاستثناء.

لا يقال : ـ ظهور السياق في الرجوع إلى الجميع بنفسه يعين إرادة المعنى الصالح للرجوع إلى الجميع وإِلاَّ كان مخالفاً لمقتضى الظهور المذكور.

فانه يقال : ـ الظهور المذكور فرع عدم كون المستثنى في نفسه مما لا يمكن إرجاعه إلى الجميع وإِلاَّ كان بنفسه قرينة رافعة للظهور المذكور فمع احتمال ذلك يكون المورد من موارد احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية.

٤ ـ نفس الصورة السابقة مع فرض أحد المعنيين مجازاً والاخر حقيقة فانْ فرض المعنى الحقيقي يصلح للرجوع إلى الجميع والمعنى المجازي يختص بالأخيرة فلا فرق في النتائج التي فرغنا عنها في الصورة الأولى من التفصيل بين الموضع الأول والموضعين الثاني والثالث.

وإِنْ فرض العكس وأنْ المعنى الحقيقي لا يصلح للرجوع إلى الجميع فبإجراء أصالة الحقيقة يحرز الرجوع إلى الأخيرة فقط حتى في المورد الّذي حكمنا فيه بالرجوع إلى الجميع ، لأنَّ عدم صلاحية رجوع المستثنى بما له من المعنى الحقيقي بنفسه قرينة على الاختصاص.


فصل : تخصيص العام الكتابي بخبر الواحد

هذا الفصل انما يعقد بعد الفراغ عن كبرى قرينية الخاصّ وتقدمه على العام بلحاظ كبرى حجية الظهور ، كما إذا كانا معاً قطعيين سنداً ، وانما جهة البحث والإشكال ما إذا كان الخاصّ ظنياً من حيث السند والعام قطعياً. ومنشأ الإشكال يكون من ناحيتين :

الأولى ـ دعوى قصور المقتضي لحجية السند في مورد معارضة الخاصّ الظني مع الكتاب الكريم بل مع أي دليل قطعي السند ، امّا بتقريب : انَّ دليل حجية السند دليل لبّي متمثل في الإجماع أو سيرة المتشرعة والقدر المتيقن منه غير مورد التعارض مع الدليل القطعي. وامَّا بتقريب انَّ اخبار الطرح الآمرة بطرح ما خالف الكتاب تقيّد كبرى حجية الخبر بما إذا لم يكن مخالفاً مع الدليل القطعي ولو كانت المعارضة بينهما من التعارض غير المستقر. وتفصيل البحث عن هذه الناحية من الإشكال موكول إلى محله في باب تعارض الأدلة وباب حجية خبر الثقة ، حيث تعرضنا في هذين الموردين إلى البحث من هذه الناحية لمناسبته معها حيث انَّ هذا ينتج التفصيل في حجية خبر الثقة وتخصيصه بما إذا لم يكن معارضاً مع الدليل القطعي فناسب التعرض له في بحث حجية الخبر وعند التعرض لاخبار العلاج في بحوث تعارض الأدلة.

الثانية ـ بعد الفراغ عن تمامية مقتضي الحجية في المقام يدعى بأنَّ مركز التعارض لا ينحصر بلحاظ كبرى حجية الظهور ليقال بتقدم الخاصّ لكونه قرينة بل يسري التعارض إلى كبرى حجية السند أيضاً بمعنى ان كبرى حجية الظهور الشامل للعموم يكون معارضاً مع كبرى حجية السند الشامل لسند الخاصّ ولا قرينية لدليل إحدى الكبريين على الاخر ، فان القرينية بين مفاد الخاصّ ومفاد العام لا بين مفاد دليل حجية الظهور ودليل حجية السند.

وهذا البحث أيضاً مذكور مفصلاً في بحوث تعارض الأدلة لدى التعرض إلى حالات ظنية سند القرينة وهو أنسب بذلك الباب منه بالمقام.


مباحث الدليل اللفظي

المطلق والمقيد

١ـ الاطلاق اعتبارات الماهية

ـ معاني اسماء الاجناس مقدمات الحمكة

ـ تنبيهات

ـ حالات اسم الجنس

٢ـ التقيد المجمل والمبين.

المجمل بالذات ـ المجمل بالعرض



١ ـ الإطلاق

وفيه فصول :

الفصل الأول ـ في أسماء الأجناس :

وقع الكلام بين المحققين في انَّ اسم الجنس هل هو موضوع بإزاء الماهية المطلقة بنحو يكون الإطلاق مستفاداً من نفس المعنى الموضوع له أو للجامع بين الماهية المطلقة والماهية المقيدة بحيث نحتاج في استفادة الإطلاق إلى تأسيس قرينة عامة تسمى بمقدمات الحكمة؟ وقبل الخوض في ذلك ينبغي عقد بحث تمهيدي في اعتبارات الماهية وأنحاء لحاظها ليُرى انَّ وضع أسماء الأجناس يكون مبنياً على أيّ منها فنقول :

الماهية بوجودها الخارجي تنقسم إلى قسمين لأنها امّا متصفة بوصف وامّا غير متصفة به ، فالإنسان الخارجي مثلاً امّا عالم وامّا ليس بعالم ولا يمكن أَنْ يكون هناك إنسان في الخارج لا يكون عالماً ولا غير عالم لأنَّ ارتفاع النقيضين محال ، كما انَّ الجامع بين الإنسان العالم والإنسان اللاعالم وإِنْ كان موجوداً في الخارج ولكنه موجود ضمن أحد فرديه لا انه موجود بوجود مستقل وإِلاَّ لما كان جامعاً ، فالماهية بوجودها الخارجي تنقسم إلى قسمين فقط وليس لهما ثالث.

وامّا الماهية بوجودها الذهني المنتزعة من الخارج مباشرة فلها ثلاثة أقسام ، لأنَّ مفهوم الإنسان تارة يلحظ في الذهن بما هو متصف بالعلم ، وأخرى يلحظ بما هو متصف بعدم العلم ، وثالثة يلحظ من دون أَنْ يتّصف بشيء أيْ تارة يلحظ مفهوم


الإنسان العام وأُخرى مفهوم الإنسان غير العالم وثالثة مفهوم الإنسان بما هو هو ، والأول هو المسمّى بالماهية بشرط شيء والثاني بالماهية بشرط لا والثالث باللابشرط القِسمي. والقسم الثالث ليس جامعاً بين القسمين الأولين في عالم الذهن وإِنْ كان جامعاً بلحاظ الوجودات الخارجية بل هو موجود بوجودٍ ذهني مستقل في عرض وجود الماهيتين المشروطة بشيء أو بعدمه. وهذه الأقسام الثلاثة تسمّى بالمعقولات الأولية لأنَّها منتزعة من الخارج ابتداءً.

والذهن حيثما يتصور مفهوماً من هذه المفاهيم الثلاثة يمكنه أَنْ يمشي خطوة أخرى فيلتفت إلى نفس ما انتزعه فينتزع منه مفهوماً آخر وهذا ما يسمّى بالمعقول الثاني ، فمثلاً ينتزع من مفهوم الإنسان العالم مفهوم الإنسان المقيد بمفهوم العالمية وينتزع من مفهوم الإنسان اللاعالم مفهوم الإنسان المقيد بعدم العالمية وينتزع من مفهوم الإنسان مفهوم الإنسان الخالي عن قيد العالمية وقيد اللاعالمية ، وهناك في المعقول الثاني قسم رابع وهو مفهوم الإنسان الجامع بين الإنسان العالم والإنسان اللاعالم والإنسان ، فالإنسان الجامع بين هذه المفاهيم يعتبر قسماً رابعاً في المعقول الثاني ولا بأس بأَنْ يكون له وجود مستقل في قبال الإنسان العالم والإنسان اللاعالم والإنسان ما دام انَّ له وعاءً آخر غير وعاء افراده ، فانَّ الجامع انما لا يمكن أَنْ يوجد بوجود مستقل في صقع وجود افراده لا في صقع آخر من الوجود وفي المقام افراد هذا الجامع توجد في صقع المعقول الأولي للذهن وهذا الجامع المتصور بحده موجود في المعقول الثاني وهذا هو المسمّى بالماهية اللابشرط المقسمي.

ثم انه قد يتخيل انَّ القسم الثالث في التعقل الأول ، ليس عبارة عن نفس لحاظ الماهية من دون أَنْ يلحظ معها وجود القيد ولا عدم القيد وانما القسم الثالث الّذي هو اللابشرط القسمي عبارة عن أَنْ يلحظ الماهية ويلحظ معها عدم دخل القيد وجوداً وعدماً فيؤخذ لحاظ عدم التقيد بالوجود والعدم شرطاً في اللابشرط القسمي كما ذهب إليه السيد الأستاذ وقد يتصور انَّ هذا قسم رابع في التعقل الأول وليس هو عين القسم الثالث.

إِلاَّ انَّ الصحيح انَّ هذا لا يمكن جعله من أقسام لحاظ الماهية في التعقل الأول إِذ


ما هو المقصود من أخذ لحاظ عدم التقييد وعدم دخل القيد؟ فلو كان المقصود لحاظ انَّ القيد غير دخيل في ترتب الحكم على الماهية فحينما يقال ( الإنسان يحرم قتله ) يقال بأنه لوحظ عدم دخل العلم في ترتب الحكم بحرمة القتل فيرد عليه :

أولاً ـ انَّ هذا أجنبي عن محل الكلام بالمرة ، فاننا نتكلم عن اعتبارات الماهية في نفسها وبقطع النّظر عن كيفية ترتب الحكم عليها.

وثانياً ـ انَّ لحاظ عدم دخل القيد مستدرك حتى في مقام ترتب الحكم ، إذ من الواضح انَّ ترتب الحكم على تمام افراد موضوعه من نتائج عدم لحاظ القيد لا من نتائج لحاظ عدم القيد ، فانَّ الطبيعة في نفسها صادقة على كل افرادها إذا لم يلحظ معها قيد.

ولو كان القصد لحاظ عدم تقييد الماهية بما هي هي وبقطع النّظر عن ثبوت حكم لها فحينئذٍ نسأل ما هو المقصود من لحاظ عدم التقييد؟ لو كان المقصود التصديق بأنَّ هذه الماهية التي تصورناها قد وجدت في ذهننا غير مقيدة ، فمن الواضح انَّ هذا خارج عن محل البحث فاننا نتكلم عن أطوار اللحاظ التصوري للماهية كيف واللحاظ التصديقي في طول اللحاظ التصوري فكيف يمكن ان يكون من أطواره وبلحاظ واحد.

ولو كان المقصود اللحاظ التصوري لعدم التقييد بأَنْ يتصور مفهوم الإنسان الّذي لم يقيد بالقيد وجوداً وعدماً فمن الواضح انَّ هذا يكون من التعقل الثاني لا من التعقل الأول فانَّ دخل القيد وعدم دخله من شئون نفس اللحاظ لا من شئون الملحوظ فهو في طول أصل اللحاظ فيكون من التعقل الثاني ويرجع هذا في الحقيقة إلى القسم الثالث في التعقل الثاني.

هذا تمام الكلام حول اعتبارات الماهية.

بعد ذلك يقع البحث حول نقاط ثلاث :

١ ـ انَّ الكلي الطبيعي ينطبق على أيّ من هذه اللحاظات ، فهل ينطبق على اللابشرط القسمي أو اللابشرط المقسمي أو ينطبق على شيء ثالث مثل الماهية المهملة؟

٢ ـ انَّ الماهية المهملة هل هي عبارة عن اللابشرط المقسمي أو غير ذلك؟


٣ ـ انَّ أسماء الأجناس موضوعة لأيّ من هذه اللحاظات؟

امّا النقطة الأولى ـ فالصحيح انَّ الكلي الطبيعي عبارة عن نفس الملحوظ في اللابشرط القسمي ، فانَّ الكلي الطبيعي كما يفسّرونه عبارة عن المفهوم المنتزع من الخارج ابتداءً أو الّذي هو موجود في الخارج ضمن الافراد وهذا هو عين ما فسرنا به اللابشرط القسمي ، حيث قلنا بأنَّ اللابشرط القسمي يكون موازياً للجامع بين الافراد الخارجية. نعم لو بنينا على ما ذهب إليه السيد الأستاذ من انَّ اللابشرط القسمي عبارة عن المفهوم المقيد بعدم القيد بنحو يكون التقييد مأخوذاً في الملحوظ باللابشرط القسمي فالكلي الطبيعي مغاير مع الملحوظ في اللابشرط القسمي. وامّا بناءً على ما هو الصحيح من انَّ عدم التقييد بقيد يكون مأخوذاً في اللحاظ لا في الملحوظ فلا يبقى أيّ فرق بين الكلي الطبيعي وبين الملحوظ في اللابشرط القسمي.

وقد أشكل السيد الأستاذ على القول بأنَّ الكلي الطبيعي عين اللابشرط القسمي بأنَّ الكلي الطبيعي يكون صالحاً للانطباق على كل افراده بينما اللابشرط القسمي يكون منطبقاً وفانياً بالفعل في تمام الافراد اذن كيف يكون أحدهما عين الاخر؟

وفيه : انه إِنْ أراد بفعلية الفناء في تمام الافراد انَّ الافراد ترى بالنظر التصوري ولو إجمالاً كما في العموم فهذا خلط بين المطلق والعام ، فانَّ اللابشرط القسمي ينتج الإطلاق لا العموم وفي المطلق لا يرى إِلاَّ الطبيعة والحيثية المشتركة دون الافراد وإِنْ أراد بفعلية الفناء انه لو علّق عليه حكم لسرى إلى تمام الافراد فمن الواضح انَّ مثل هذا موجود أيضاً في الكلي الطبيعي فأيّ فعلية تكون موجودة في اللابشرط القسمي ولا تكون موجودة في الكلي الطبيعي؟

وقد ذهب المحقق السبزواري إلى انَّ الكلي الطبيعي عبارة عن الماهية اللابشرط المقسمي ، وهذا أيضاً مما لا يمكن المساعدة عليه بعد ما عرفنا من انَّ اللابشرط المقسمي يكون من التعقل الثاني بينما يكون الكلي الطبيعي من التعقل الأول كما يتضح من تفسيره المتقدم فكأن هذا التوهم نشأ من الخلط بين التعقلين.

وامّا النقطة الثانية ـ فالماهية المهملة هي التي تتميز بخاصيتين :


الأولى ـ انها منتزعة من الخارج ابتداءً فهي من التعقل الأول.

الثانية ـ انها ملحوظة بلا إضافة قيد وحدّ إليها حتى قيد عدم القيد وعدم الحدّ وهذا هو معنى انَّ النّظر في الماهية المهملة مقصور على ذاتها وذاتياتها.

وحينئذٍ يقع الكلام في انَّ هذه الماهية هل هي اللابشرط القسمي أو المقسمي أو شيء ثالث؟.

وكأنَّهم اتفقوا على انها ليست اللابشرط القسمي واختلفوا بعد ذلك في انها اللابشرط المقسمي ـ كما ذهب إليه صاحب الكفاية ( قده ) ـ أو غير ذلك كما ذهب إليه المحقق الأصفهاني ( قده ) وتابعه السيد الأستاذ.

أقول ـ امّا انها غير اللابشرط المقسمي فهذا صحيح لما تقدم من انَّ الماهية المهملة من التعقل الأول بينما اللابشرط المقسمي من التعقل الثاني فكيف يكون أحدهما عين الاخر.

وامّا انَّ الماهية المهملة غير اللابشرط القسمي فالذي يتحصل من مجموع كلماتهم في تقرير ذلك أحد تقريبين :

١ ـ انَّ الماهية اللابشرط القسمي فيها حدّ وقيد وهو حدّ الإطلاق وعدم التقييد وبهذا صار في قبال المقيد بينما الماهية المهملة عارية عن القيود حتى قيد التعرية عن القيد ولهذا كان جامعاً بين المطلق والمقيد.

وهذا التقريب غير تام بناءً على ما سلكناه في معنى الماهية اللابشرط القسمي من انَّ حدّ الإطلاق وعدم القيد فيها حدّ للحاظ وليس من شئون ذات الماهية الملحوظة بهذا اللحاظ ولا يكون داخلاً في مرحلة المنظور والمرئي به ، فلا مانع من القول بأنَّ الماهية المهملة هي نفس المفهوم المنظور والمرئي باللابشرط القسمي فانَّ المرئي بهذه النظارة يكون عارياً عن كل قيد ويكون مقصوراً على ذات الماهية. نعم بناءً على مسلك السيد الأستاذ القائل بأنَّ اللابشرط القسمي عبارة عن لحاظ الماهية ولحاظ عدم القيد فيها لا إشكال في التغاير بينه وبين الماهية المهملة ، لأنَّ عدم دخل القيد أصبح قيداً في المرئي بنظارة اللابشرط القسمي وهو أمر زائد على الماهية.

٢ ـ انَّ الماهية المهملة هي التي قصر النّظر فيها على ذاتها وذاتياتها كما بينا في


الخاصية الثانية لها وحينئذٍ لا يمكن أَنْ يحكم عليها بشيء خارج عن ذاتها وذاتياتها مع اننا نرى وجداناً انَّ في اللابشرط القسمي نحكم على الماهية بأشياء كثيرة خارجة عن ذاتها وذاتياتها.

وهذا التقريب غير صحيح أيضاً ، فانَّ قصر النّظر على الذات والذاتيات لا يستلزم عدم جواز الحكم بشيء خارج عن نطاق الذات لوضوح انَّ أيّ موضوع في قضية عند ما يلحظ يقصر النّظر في عقد الوضع من تلك القضية على ذات الموضوع نعم في طرف الحكم إذا لوحظ انَّ الحكم محمول على الموضوع في مرتبة ذاته أو ذاتياته فلا يكون أجنبياً عن الموضوع وإذا لم يلحظ ذلك كان أجنبياً عن الموضوع ، وهذا أيضاً لا فرق فيه بين فرض الموضوع الماهية المهملة أو اللابشرط القسمي فالصحيح انَّ الماهية المهملة عبارة عن نفس الملحوظ باللابشرط القسمي.

وامّا النقطة الثالثة ـ ففي تحقيق معنى أسماء الأجناس ، ولا إشكال في انها غير موضوعة للماهية المقيدة انما الخلاف في وضعها لخصوص المطلقة أو للجامع بين المطلقة والمقيدة وعلى الأول يكون الإطلاق مدلولاً وضعياً بخلافه على الثاني.

والكلام في ذلك يقع في مقامين.

المقام الأول ـ في عالم الثبوت وإمكان أَنْ تكون أسماء الأجناس مطلقة ويمكن أَنْ يذكر إشكالان ثبوتيان بهذا الصدد :

أولهما ـ وهو يناقش فرضية الوضع للماهية المطلقة كما هو ظاهر عبارة المحقق الخراسانيّ ( قده ) من انَّ الإطلاق قيد ثانوي ومن شئون اللحاظ والصورة لا الملحوظ وذي الصورة ، فلو كان قيداً في معنى اسم الجنس لامتنع انطباقه على الخارج لأنَّ المقيد بالأمر الذهني لا محالة.

وفيه : انَّ كون اللفظ موضوعاً بإزاء الصور والمفاهيم لا الوجود الذهني أو الخارجي صحيح فانَّ العلقة الوضعيّة علقة تصورية كما تقدم إِلاَّ انَّ ذلك المفهوم المستلزم للفظ لا بدَّ وأَنْ يكون ملحوظاً ذهناً لا محالة بمعنى انَّ سماع اللفظ يكون مثيراً له في أذهاننا وهو لحاظ لا يكون معه قيد ولا يقصد بالإطلاق أكثر من هذا ، فانَّ المقصود انَّ أسماء الأجناس تثير في الذهن صورة مفهوم ليس معها قيد لا انها تثير مفهوم الماهية التي


لم يلحظ معها قيد بنحو يكون الإطلاق بمفهومه الاسمي ملحوظاً في المعنى الموضوع له حتى يقال بأنه امر ذهني فلا ينطبق على الخارجيات.

ثانيهما ـ وهو يناقش فرضية الوضع للجامع بين المطلق والمقيد على عكس الإشكال الأول انَّ الماهية المقيدة هي التي لوحظ معها القيد والماهية المطلقة هي التي لم يلحظ معها قيد والجامع بين المطلق والمقيد ذات الماهية بما هي هي سواءً لوحظ معها قيد أم لا وواضح انَّ هذا الجامع لا يمكن أَنْ يلحظ بحده انه إذا لوحظت الماهية فاما أَنْ يلحظ معها القيد فتكون مقيدة أو لا يلحظ فتكون مطلقة ومعه كيف يمكن الوضع بإزاء جامع لا يمكن تصوره ولحاظه بحده؟.

وفيه : أولاً ـ انَّ الماهية حينما نلحظها وإِنْ كانت امّا مطلقة أو مقيدة ولكن حينما لا يلحظ معها قيد فعدم لحاظنا هذا لا يكون بنفسه ملحوظاً مع لحاظ الماهية وانما هو من كيفيات لحاظنا للماهية فالملحوظ ليس إِلاّ ذات الماهية الجامعة بين المطلقة والمقيدة ، فلو فرض انَّ الواضع حينما لاحظ الماهية ولم يلحظ معها أي قيد وضع اسم الجنس لذات ملحوظه فقد وضع اللفظ للطبيعة المهملة الجامعة بين المطلقة والمقيدة ولو فرض انه وضعه للملحوظ بمثل هذا اللحاظ الخالي من لحاظ القيد فقد وضع بإزاء الطبيعة بقيد الإطلاق.

وثانياً ـ لو فرض عدم إمكان لحاظ ذات الماهية الجامع بين المطلق والمقيد بحده الجامعي مع ذلك لا يستعصي الوضع بإزائه عن طريق توسيط عنوان مشير إليه من قبيل عنوان الجامع بين المطلق والمقيد كما في موارد الوضع العام والموضوع له الخاصّ.

المقام الثاني ـ في مرحلة الإثبات بعد الفراغ عن إمكان الوضع ثبوتاً للماهية المطلقة أو الجامعة بينها وبين المقيدة فهل أسماء الأجناس موضوعة بإزاء الأول أو الثاني؟ وهذا بحث استظهاري بحت. والصحيح فيه انها موضوعة للماهية المهملة الجامعة بين المطلقة والمقيدة بشهادة الوجدان القاضي بعدم عناية في موارد استعمال اسم الجنس مع القيد إِلاَّ إذا كان على خلاف مقدمات الحكمة ، فلو فرض في مورد اختلال مقدمات الحكمة كما في موارد كون المتكلم في مقام الإهمال والإجمال لا البيان فلا نحس بأيّ عناية من استعمال اسم الجنس مع لحاظ القيد مع انه لو كان موضوعاً


للمطلق لكان فيه عناية المجاز.

بقي أَنْ نشير في خاتمة البحث إلى التقابل بين الإطلاق والتقييد الثبوتيين ، أي بحسب عالم اللحاظ وانه من أيّ أقسام التقابل وامّا التقابل الإثباتي بينهما أي بحسب عالم الدلالة فهو من توابع بحث مقدمات الحكمة.

ذكر السيد الأستاذ انَّ التقابل بينهما تقابل التضاد وهذا مبنى منه على انَّ الإطلاق واللابشرط القسمي عبارة عن لحاظ عدم دخل القيد كما انَّ التقييد عبارة عن لحاظ دخله فهما امران وجوديان لا يجتمعان وهو معنى التضاد ، ولكنك عرفت فساد المبنى.

وأفاد المحقق النائيني ( قده ) انَّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة فهو يسلّم انَّ الإطلاق عدم القيد ولكنه يقول بأنه عبارة عن عدم التقييد في مورد قابل للتقييد.

وفيه : انَّ الإطلاق الثبوتي للماهية لا يشترط فيه أنْ تكون الماهية قابلة للتقييد ، فانَّ سعة الماهية وانطباقها على تمام الافراد أمر ذاتي لها ما لم يثبت إضافة القيد في مقام اللحاظ ، نعم الإطلاق الإثباتي في مقام الدلالة الثابت بمقدمات الحكمة منوط بقابلية المورد للتقييد فانه مع عدم إمكانه لا تتم مقدمات الحكمة. إِلاَّ انَّ هذا خارج عن محل الكلام فكأنه وقع خلط بين عالمي الثبوت والإثبات.

وهكذا يتعين القول الثالث في التقابل بين الإطلاق والتقييد وهو تقابل السلب والإيجاب فانه يكفي في الإطلاق عدم التقييد.

نعم بالدقة التقييد يصنع مفهوماً وحدانياً جديداً بناءً على ما تقدم في بحث النسب الناقصة من المعاني الحرفية وليس نسبته إلى المطلق نسبة الأكثر إلى الأقل ليكون التقابل بينهما بنحو السلب والإيجاب في المقدار الزائد ، فهناك مفهومان أحدهما المطلق وهو الأوسع والاخر المقيد وهو الأضيق صدقاً والمفهوم المطلق دائماً يكون مطلقاً والمقيد دائماً كذلك أيضاً لا انَّ أحدهما يعرض على الاخر ، إِلاَّ انه حيث كان مجرد عدم التقييد يساوق ثبوت الإطلاق ولو كان التقييد يوجب تبدل المفهوم الأول إلى مفهوم آخر أمكن أَنْ يقال بنحو التسامح انَّ التقابل بينهما تقابل السلب والإيجاب.

وهناك بعض الثمرات العملية المترتبة بين الأقوال


منها ـ انه بناءً على القول الثالث لا يتصور شق ثالث في قبال المطلق والمقيد بينما لا موجب لافتراض استحالة الشق الثالث بناءً على القولين الآخرين فيسمى بالماهية المهملة مثلاً ومن هنا انجر الكلام عندهم إلى التكلم في إمكان الشق الثالث واستحالته فذهب بعضهم إلى استحالته ثبوتاً وذهب اخر إلى إمكانه ثم انجر الكلام إلى انه ما هي نتيجة هذا الشق فهل هو يعني ثبوت الحكم للمقيد أو لمطلق الافراد؟ فقال بعضهم بأنَّ نتيجته الإطلاق وسماه بالإطلاق الذاتي وسمى المطلق بالمطلق اللحاظي.

ومنها ـ انه بناءً على القول باستحالة التقييد بما يكون في طول الحكم ـ أي القيود الثانية ـ يتعين الإطلاق لو اخترنا القول الثالث ويستحيل الإطلاق بناءً على القول الثاني فانَّ الإطلاق بناءً عليه معقول في مورد قابل للتقييد والمفروض استحالته.

الفصل الثاني : ـ

في مقدمات الحكمة : ـ

عرفنا في الفصل السابق انَّ اسم الجنس لا دلالة له بالوضع على الإطلاق إذ انه لم يوضع لخصوص المطلق بل انما وضع للجامع بين المطلق والمقيد. لكن لا إشكال في دلالته على ذلك ولو في الجملة وضمن شروط معينة ، فلا بدَّ من أَنْ تكون هذه الدلالة مبنية على أساس قرينة عامة تقتضي الإطلاق وهذه القرينة العامة هي التي تسمى بمقدمات الحكمة.

وفي مقدمات الحكمة مسلكان :

المسلك الأول ـ هو انَّ الإطلاق وإِنْ لم يكن مدلولاً وضعاً لاسم الجنس لكنه مدلول التزامي لظهور حالي سياقي ينعقد عادة في كلام المتكلم. وهذا الظهور الحالي السياقي عبارة عن ظهور حال المتكلم في انه بصدد بيان تمام مرامه بكلامه. فانَّ هذا الظهور الحالي يدل بالالتزام على انَّ هذا المتكلم قد قصد المطلق لا المقيد ، فانه إِنْ كان قد قصد المقيد كان معنى ذلك انه لم يبين تمام مرامه بكلامه إذ انه جاء بلفظ يدل على الماهية ولم يأتِ بلفظ يدل على القيد ـ أو على التقييد بالتعبير الأصح ـ فيكون قد بين بكلامه بعض مرامه لا تمام مرامه ، وهذا خلف الظهور الحالي السياقي المذكور فمقتضى


الدلالة الالتزامية لهذا الظهور الحالي انه أراد المطلق.

وهنا قد يبدو اعتراض حاصله : انَّ هذا الخلف لازم على كلا التقديرين أعني سواء كان مراده المطلق أو كان مراده المقيد ، لأنَّ خصوصية الإطلاق ـ كما ظهر في الفصل السابق ـ غير داخلة في المعنى الموضوع له اسم الجنس ، فكما انه إذا أراد المقيد فهو لم يبين تمام مرامه بكلامه كذلك لو أراد المطلق لم يبين تمام مرامه بكلامه أيضا لأنَّ اسم الجنس لا يدلّ إِلاَّ على ذات الإطلاق دون خصوصية الإطلاق والتقييد.

ويمكن التخلص عن هذا الاعتراض بأحد أجوبة ثلاثة :

الجواب الأول ـ انَّ خصوصية الإطلاق ـ كما شرحناه سابقاً ـ غير داخلة تحت اللحاظ بل انما هي من شئون اللحاظ ذاته والظهور الحالي السياقي المذكور انما يقتضي كون المتكلم بصدد بيان كل ما يدخل تحت لحاظه لا كل ما هو في ذهنه حتى ما يرتبط بذات اللحاظ. وحينئذٍ إِنْ كان مرامه المطلق فما يدخل تحت لحاظه لا يزيد على ذات الماهية فليس عليه بمقتضى الظهور المذكور إِلاَّ أَنْ يأتي بما يدل على ذات الماهية ويكفي ذلك للاجتناب عن مخالفة هذا الظهور ، وامّا إِنْ كان مراده المقيد فمن الواضح انَّ ما يدخل تحت لحاظه يزيد على ذات الماهية لأنه حينئذٍ انما يرى الماهية المقيدة لا خصوص ذات الماهية فيجب عليه أَنْ يأتي بما يدل على القيد وإِلاَّ خالف الظهور المذكور. وهكذا يظهر انه لا يلزم الخلف على كلا التقديرين بل انما يلزم الخلف في فرض إرادة المقيد فحسب وبهذا يتم الدلالة الالتزامية على إرادة الإطلاق.

ولا يخفى انَّ هذا الجواب انما يتم بناءً على ما ذهبنا إليه من انَّ خصوصية الإطلاق في المطلقات غير داخلة تحت اللحاظ بل انما هي من شئون اللحاظ ذاته. وامّا بناءً على ما ذهب إليه السيد الأستاذ من انَّ المطلق ما لوحظ فيه عدم القيد بحيث تكون خصوصية الإطلاق داخلة تحت اللحاظ. فلا يتم الجواب المذكور ، إذ يقال حينئذٍ بأنه في فرض إرادة الإطلاق أيضاً يوجد تحت لحاظ المتكلم امر زائد على ذات الماهية لم يبيّنه في كلامه وهذا خلف الظهور الحالي المذكور.

الجواب الثاني ـ اننا لو سلمنا بأنَّ خصوصية الإطلاق داخلة تحت اللحاظ وفاقاً للسيد الأستاذ فنقول بأنَّ خصوصية الإطلاق انما تدخل تحت اللحاظ في مرحلة


المدلول التصوري للفظ وامّا في مرحلة المدلول الجدي أعني مرحلة الإسناد والحكم فلا يمكن أَنْ تكون خصوصية الإطلاق ملحوظة وداخلة ضمن المراد الجدي للمتكلم إذ انه يستلزم حينئذٍ حمل المحمول لا على ذات الموضوع بما هو فانٍ في الخارج بل على ذات الموضوع بما هو مطلق ومجرد عن القيد وهذا لازم فاسد إذ من الواضح انه ليس من افراد هذا الموضوع في الخارج ما يكون مطلقاً ومجرداً عن القيد كي يكون هو المقصود بالمحمل. إذاً فخصوصية الإطلاق على فرض إرادة المطلق إِنْ كان داخلاً تحت اللحاظ فانما هو من شئون الاستعمال للفظ وامَّا بلحاظ المدلول الجدي فلا شك في انَّ ما هو المقصود انما هو ذات الماهية دون لحاظ خصوصية الإطلاق فيها. وما ذكر من ظهور حال المتكلم في انه في مقام بيانه تمام مرامه بكلامه انما هو بلحاظ المدلول الجدي للكلام أي انَّ مقتضى حال المتكلم انَّ كل ما يدخل في مراده الجدي يبينه بكلامه.

فهو حينئذٍ إِنْ كان يريد المطلق فليس في مراده الجدي أمر زائد على ذات الماهية كما وضحناه ، وإِنْ كان يريد المقيد فيوجد في مراده الجدّي أمر زائد على ذات الماهية لا بدَّ من بيانه. وبذلك يكون قد خالف الظهور الحالي المذكور على الفرض الثاني دون الفرض الأول.

الجواب الثالث ـ اننا لو تنازلنا عن الجوابين السابقين وافترضنا انَّ خصوصية الإطلاق داخلة تحت اللحاظ حتى في مرحلة المراد الجدي مع ذلك نقول : انَّ إرادة المطلق وإِنْ كان خلفاً أيضاً للظهور الحالي المذكور كإرادة المقيد لكن يمكن تعيين المطلق في مقابل المقيد بأصالة عدم العناية الزائدة بناءً على دعوى انَّ خصوصية الإطلاق أقل مئونة من خصوصية التقييد ، فانَّ زيادة المطلق على ذات الماهية وإِنْ لم تكن تقل بالنظر الدّقيق عن زيادة المقيد لأنَّ هذا يزيد على ذات الماهية بلحاظ عدم دخل القيد وذاك قيد وذاك يزيد عليها بلحاظ دخل القيد ، لكن النّظر العرفي يقضي بأقلية زيادة المطلق عن زيادة المقيد ، لأنَّ زيادة المطلق عبارة عن لحاظ العدم وزيادة المقيد عبارة عن لحاظ الوجود فإرادة المطلق تصبح أقل عناية وأقلّ مخالفة للظهور الحالي المذكور من إرادة المقيد بحسب هذا النّظر فيتعيّن الأول بالأظهرية.


هذه ثلاثة أجوبة يمكن أَنْ يُجاب بها عن الاعتراض المذكور على المسلك الأول في مقدمات الحكمة.

وهذا المسلك تام وصحيح وبه تظهر النكتة فيما نقوله دائماً من انَّ الإطلاق الحكمي انما يرتبط بالمدلول التصديقي للكلام لا بالمدلول التصوري ، لأنه كما أوضحنا فرع الظهور الحالي السياقي المذكور وهو انما يعين المدلول التصديقي للكلام لأنه ـ كما سبق ـ عبارة عن ظهور حال المتكلم في انه بصدد بيان تمام ماله دخل في حكمه الجدي بكلامه والمدلول الالتزامي لهذا الظهور انَّ هذا المتكلم الّذي اقتصر في كلامه بما يدل على ذات الماهية ليس في مراده الجدي قيد زائد على ما دل عليه كلامه وهذا كما تراه إطلاق في مرحلة المراد الجدي للمتكلم مهما اخترنا من الأجوبة الثلاثة على الاعتراض الّذي سبق ذكره.

وهنا قد يقال بأن الوجدان قاض بان الإطلاق ثابت في مرحلة المدلول التصوري فاننا متى ما سمعنا ( أحلّ الله البيع ) مثلاً نجد انّ ما ينطبع في أذهاننا من كلمة ( البيع ) انما هي صورة ذهنية عن ماهية البيع من دون أَنْ يكون إلى جنبها صورة عن القيد ، إذاً فقد تصورنا الماهية من دون قيد وهو معنى الإطلاق ـ بناءً على ما اخترناه من انَّ الإطلاق عبارة عن عدم لحاظ القيد لا لحاظ عدم القيد ـ وهذا معناه انَّ كلمة ( البيع ) دلّت دلالة تصورية وبقطع النّظر عن مرحلة المراد الجدّي على الماهية المطلقة للبيع.

والجواب : انه لا إشكال في حصول الصورة المطلقة عن الماهية في ذهن السامع بناءً على ما نحن عليه من انَّ الإطلاق هو عدم لحاظ القيد. لكن هذا لا يعني انَّ هذه الصورة المطلقة قد حصلت بتأثير اللفظ بكلا عنصريها فانَّ العنصر الوجوديّ في هذه الصورة الّذي يساوق ذات الماهية لا شك في حصوله بتأثير اللفظ فهو إذاً مدلولٌ للّفظ لكن العنصر العدمي منها الّذي هو عبارة عن عدم القيد غير حاصل بتأثير اللفظ بل انما هو أثر تكويني لعدم وجود ما يدل على القيد ضرورة انَّ ( عدم الشيء معلول لعدم علّته ) فعدم حصول صورة القيد في ذهن السامع معلول لعدم اشتمال كلام المتكلم على ما يوجب حصول ذلك في ذهنه. وبهذا يظهر انَّ الإطلاق الّذي نشعر به وجداناً عقيب اللفظ غير ناشئ من دلالة اللفظ عليه بل انما هو ناشئ من عدم دلالة اللفظ على


القيد ، إذاً فهو امر تكويني لا يمكن تحميله على المتكلم إذ ليس المتكلم هو الّذي كوّن هذا الإطلاق في ذهن المخاطب بكلامه فليس في هذا الإطلاق التكويني أيّ كشف عن مراد المتكلم ليمكن التمسك به لإثبات إرادة الإطلاق. وهذا بخلاف ما إذا كان الإطلاق التصوري مدلولاً عليه باللفظ فانه حينئذٍ يكشف عن مراد المتكلم ويمكن التمسك به لإثبات إرادة الإطلاق.

إذاً فقد ظهر انَّ الإطلاق بناءً على هذا المسلك الأول انما هو في مرحلة مراد المتكلم وليس داخلاً في المدلول التصوري لكلامه وإِنْ كان الحاصل تكويناً في ذهن السامع عند إطلاق اللفظ هي الصورة المطلقة عن الماهية بناءً على انَّ الإطلاق عدم لحاظ القيد لا لحاظ عدم القيد.

المسلك الثاني ـ أَنْ يقال بأنَّ اسم الجنس وإِنْ كان موضوعاً للطبيعة المهملة بحيث لو استعمل في المقيد لم يكن مجازاً ، لكن عدم ذكر القيد بنفسه يدل على الإطلاق من دون حاجة إلى التمسك بذاك الظهور الحالي السياقي المذكور في المسلك الأول ، وهذا الكلام له تقريبان :

التقريب الأول ـ أَنْ يقال بأنَّ اسم الجنس في حدِّ ذاته موضوع للطبيعة المهملة لكن عدم ذكر القيد موضوع بوضع آخر لخصوصية الإطلاق بحيث يكون هذا الوضع الثاني منصباً امّا على مجرد ( عدم ذكر القيد ) أو على اسم الجنس ذاته مع خصوصية عدم القيد ليكون اسم الجنس موضوعاً بوضعين أحدهما لا بشرط تجاه ذكر القيد وعدمه والثاني مشروط بعدم ذكر القيد ، والموضوع في الوضع الأول هو ذات الطبيعة المهملة وفي الوضع الثاني هو خصوص الطبيعة المطلقة ، وحينئذٍ سواءً كان الوضع الثاني منصباً على مجرد ( عدم ذكر القيد ) أو على اسم الجنس ذاته مع هذه الخصوصية ، فانَّ اسم الجنس لو استعمل وحده من دون قيد استفيد من ذلك الإطلاق ببركة الوضع الثاني وامَّا إذا استعمل مع القيد استفيد منه المقيد من دون أنْ يلزم المجازية ، لأنَّ اسم الجنس لو استعمل مع القيد فليس له حينئذٍ إِلاّ وضعٌ واحد للطبيعة المهملة فيدل هو مع القيد ـ بنحو تعدد الدال والمدلول ـ على الطبيعة المقيدة. وبهذا نستطيع أنْ نجتنب المجازية في موارد التقييد في حين نستفيد المطلق في موارد الإطلاق.


قد يقال : انه بناءً على كون الوضع الثاني منصباً على اسم الجنس مع خصوصية التجرد عن ذكر القيد سوف يكون اسم الجنس مشتركاً لفظياً عند استعماله مجرداً عن القيد وحينئذٍ ما المعيّن للوضع الثاني في مقابل الوضع الأول حتى نستفيد الإطلاق بالوضع الثاني.

وقد يجاب على هذا : بأنَّ الأصل في المشترك اللفظي أَنْ يكون مستعملاً في جميع معانيه وانما نرفع اليد عن ذلك لاستلزامه تعدد اللحاظ وهو هنا لا يستلزم ذلك لأنَّ الموضوع له بالوضع الأول هي الطبيعة المهملة والموضوع له بالوضع الثاني هي الطبيعة المطلقة والطبيعة المهملة موجودة ضمن الطبيعة المطلقة إذاً فبإمكان المتكلم أَنْ يلحظ الطبيعة المهملة ضمن الحصة المطلقة منها وبذلك يكون قد لاحظ كلا المعنيين بلحاظ واحد فيستعمل اللفظ فيهما وطالما لا توجد غائلة تعدد اللحاظ في المقام فالمتعين حمل اللفظ على كلا المعنيين ـ بالنحو الّذي ذكرنا ـ والنتيجة هي الإطلاق لأنّه قد قصد الطبيعة المهملة ضمن الحصة المطلقة.

هذا ما قد يجاب به على الاعتراض المذكور فانْ تم فهو وإِلاَّ فالمتعين في هذا التقريب هو القول بأنَّ اسم الجنس في حدِّ ذاته موضوع بوضع واحد فقط وهو للطبيعة المهملة لكن خصوصية تجرده عن ذكر القيد موضوعة بوضع مستقل لخصوصية الإطلاق.

هذا هو التقريب الأول لاستفادة الإطلاق من عدم ذكر القيد بلا حاجة إلى التمسك بالظهور الحالي المذكور في المسلك الأول.

ويرد على هذا التقريب ـ بعد الاعتراف بمعقوليته ثبوتاً ـ انه خلاف الاستظهار العرفي ، فانَّ الملحوظ خارجاً ـ في موارد عدم تمامية ذاك الظهور الحالي السياقي المذكور في المسلك الأول ـ اننا لا نستفيد الإطلاق بمجرد عدم ذكر القيد. وهذا منبه وجداني لعدم إمكان الاستغناء عن ذاك الظهور الحالي وعدم كفاية تجرد الكلام عن القيد للدلالة على الإطلاق.

التقريب الثاني ـ أَنْ يقال بأنَّ العقلاء تعهدوا وتبانوا على انه متى ما لم يذكروا القيد فهم يريدون الإطلاق وهذا التعهد يوجب انصراف الذهن إلى ذلك بالرغم من انَ


اسم الجنس في حد ذاته ليس موضوعاً للماهية المطلقة بل للماهية المهملة ولهذا لو استعمل مع القيد وأُريد به المقيد لم يكن مجازاً.

وهذا التقريب انما يكون تقريباً مستقلاً في قبال التقريب الأول إذا بنينا على انَّ التعهد ليس هو معنى الوضع ـ كما هو الصحيح ـ امّا إذا بنينا على انَّ التعهد هو معنى الوضع فحينئذٍ من الواضح انَّ مرجع هذين التقريبين سوف يكون إلى شيء واحد.

ويرد على هذا التقريب أيضاً ما أوردناه على التقريب السابق من انه يستلزم استفادة الإطلاق حتى في موارد عدم تمامية ذاك الظهور الحالي في حين انه لا يستفاد ذلك في تلك الموارد. هذا بالإضافة إلى ما يرد على مثل هذه التعهدات مما سبق ذكره في باب الوضع.

إذاً فالصحيح في هذا الباب هو المسلك الأول القائل بأنَّ الإطلاق مدلول التزامي لظهور حالي سياقي يقتضي كون المتكلم بصدد بيان تمام مرامه بكلامه.

وما ذكرناه في هذا المسلك عبارة عن صياغة فنية لمقدمات الحكمة التي يعددها الأصحاب فلنبدأ بتطبيق ذلك على تلك المقدمات.

وقد ذكر المحقق الخراسانيّ ( قده ) في مقام بيان مقدمات الحكمة ثلاث مقدمات هي :

أولاً ـ أَنْ يكون المتكلم في مقام البيان لا في مقام الإهمال والإجمال.

ثانياً ـ أَنْ لا ينصب قرينة متصلة على التقييد.

ثالثاً ـ أَنْ لا يكون بين الافراد قدر متيقن في مقام التخاطب.

امّا المقدمة الأولى فقيل بأنها تثبت بالأصل فانَّ الأصل في حق كل متكلم أَنْ يكون في مقام البيان لا في مقام الإهمال والإجمال ، وهذا الأصل إِنْ أرادوا به الظهور فهو ما قلناه من انَّ ظاهر حال كل متكلم انه في مقام بيان تمام مرامه بكلامه ، وإِنْ أرادوا به الحجية العقلائية بمعنى انَّ العقلاء تبانوا على حمل كلام المتكلم على انه صادر في مقام البيان بحيث يكون كل كلام حجة تعبداً على انَّ صاحبه في مقام البيان ، فجوابه : انه لا يوجد في المقام أصل عقلائي تعبدي ما عدى أصالة الظهور فليس تباني العقلاء على الحمل المذكور إِلاَّ صغرى من صغريات أصالة الظهور. والخلاصة


انه لا يوجد في المقام إِلاَّ الظهور الحالي المذكور مع كبرى حجية الظهور وهذا هو جوهر القضية في المقدمة الأولى وإِنْ كانت كلمات الأصحاب غائمة في المقام.

ثم انَّ هذا الظهور الّذي ترمز إليه المقدمة الأولى لا يعيّن انَّ المتكلم في مقام بيان أي شيء وانما يعيّن انَّ الشيء الّذي هو في مقام بيانه يكون هو بصدد بيان تمامه ، فانَّ كل كلام يصدر من المتكلم لا بدَّ وأَنْ يكون بصدد معنى وبعد أَنْ يتعين ذلك المعنى بالظهورات اللفظية يأتي دور ظهور حال المتكلم في انه في مقام بيان تمام ذلك المعنى فمثلاً عند ما يقول المولى. « كلوا مما افترسه الكلب » يجب أَنْ نعيّن أولاً انه هل بصدد الإرشاد إلى تذكية فريسته أو إلى طهارة فريسته وبعد استظهار المعنى الأول مثلاً يأتي دور ظهور حال المولى في انه بصدد بيان كل ماله دخل في المعنى الّذي عيناه بالاستظهار ، والمدلول الالتزامي لهذا الظهور حينئذٍ انه لا يقصد نوعاً معيناً من ماهية الكلب وإِلاَّ لكان تركه لذكر القيد الّذي يعيّن ذلك النوع خلفاً للظهور المذكور.

والخلاصة انَّ دور المقدمة الأولى انما يبدأ بعد تعيين أصل المرام. وهذا هو المعنى بكلمات الفقهاء في الاستدلالات الفقهية من المنع أحياناً عن التمسك بدلالة إطلاقية بدعوى عدم كون المطلق مسوقاً لبيان هذه الجهة مع اعترافهم بان مقتضى الأصل كون المتكلم في مقام البيان وامّا المقدمة الثانية فقد جاءت بصياغتين :

الصياغة الأولى : ما نقلناها عن المحقق الخراسانيّ ( قده ) وهي ( عدم نصب قرينة متصلة على التقييد ).

الصياغة الثانية : ما جرى عليها رأي مدرسة المحقق النائيني ( قده ) وهي ( عدم نصب قرينة متصلة أو منفصلة على التقييد ).

وهاتان الصياغتان مشتركتان في اشتراط عدم نصب قرينة متصلة على التقييد وتمتاز الصياغة الثانية باشتراط عدم نصب قرينة منفصلة على التقييد أيضا. فنتكلّم أولا فيما به الاشتراك بين الصياغتين وثانياً فيما امتازت به الصياغة الثانية.

امّا فما به الاشتراك بين الصياغتين أعني اشتراط عدم نصب قرينة متصلة على التقييد. ففيه ثلاثة احتمالات :


الاحتمال الأول ـ أَنْ يكون المقصود بالقرينة خصوص ما يصلح للقرينية حتى في فرض كون الاستيعاب وضعياً ، كأن يصرح بالقيد على نحو التوصيف فيقول مثلاً ( أكرم العالم العادل ) أو يكون المقيد في جملة أخرى متصلة وصالحة للقرينية امّا بالأخصية كأن يقول ( أكرم العالم ولا تكرم فساق العلماء ) أو بالنظر كأن يقول ( أكرم العالم وليكن العالم عادلاً ). فانَّ القرينة في مثل هذه الموارد صالحة للقرينية ـ على ما هو الصحيح ـ حتى لو أبدلنا الإطلاق بالعموم الوضعي فقلنا مثلاً ( أكرم كل عالم عادل ) و( أكرم كل عالم ولا تكرم فساق العلماء ) و( أكرم كل عالم وليكن عادلاً ) ومقتضى هذا الاحتمال انَّ ما ينافي الدلالة الإطلاقية انما هو مثل هذه القرينة ، وامّا إذا اكتفى في مقام نصب القرينة بإبراز نفي الحكم عن الحصة غير الواجدة للقيد ضمن مطلق آخر أو ضمن عام فلا ينافي ذلك الدلالة الإطلاقية لأنَّ هذا العام أو المطلق الاخر لا يصلح للقرينية حتى في فرض تبديل ذلك المطلق بالعموم الوضعي ، ضرورة انَّ النسبة حينئذٍ بين العامين أو بين العام والمطلق تكون هي العموم من وجه ، وحينئذٍ تتم الدلالة الإطلاقية في هذا المطلق غاية الأمر انه يكون مزاحماً بالدلالة الإطلاقية في المطلق الاخر أو بالدلالة الوضعيّة في العام. فمثلاً إذا قال ( أكرم العالم ولا تكرم الفاسق ) أو ( أكرم العالم ولا تكرم كل فاسق ) فبناءً على الاحتمال المذكور ليست الجملة الثانية منافية لمقتضى الإطلاق في ( أكرم العالم ) وإِنْ كانت مزاحمة له.

الاحتمال الثاني ـ أَنْ يكون المقصود بالقرينة ما يشمل نفي الحكم عن الحصة غير الواجدة للقيد ضمن عام وضعي نسبته إلى هذا المطلق نسبة العموم من وجه كما في ( أكرم العالم ولا تكرم كل فاسق ) لا ضمن مطلق آخر نسبته كذلك. ومقتضى هذا الاحتمال انَّ ما ينافي الدلالة الإطلاقية لا يختص بما كان ينافيها بناءً على الاحتمال الأول بل يشمل ما كان ضمن العموم بالنحو الّذي بيّنا دون ما كان ضمن الإطلاق وعليه فقوله : ( لا تكرم كل فاسق ) عقيب ( أكرم العالم ) ينافي أصل انعقاد الإطلاق في أكرم العالم لا انه ينعقد الإطلاق ويزاحمه. بخلاف ما إذا قال ( لا تكرم الفاسق ) عقيب قوله ( أكرم العالم ) فانَّ مقتضي الإطلاق حينئذٍ في كلّ من الجملتين بناءً على هذا الاحتمال تام ولكنهما متزاحمان.


الاحتمال الثالث ـ أَنْ يكون المقصود بالقرينة ما يكون بياناً في نفسه لو لا المطلق فيشمل نفي الحكم عن الحصة غير الواجدة للقيد ضمن مطلق آخر أيضاً بحيث لا يتم مقتضي الإطلاق في قوله ( أكرم العالم ولا تكرم الفاسق ) لا بلحاظ ( العالم ) في الجملة

الأولى ولا بلحاظ ( الفاسق ) في الجملة الثانية.

هذه ثلاثة احتمالات فيما به الاشتراك بين الصياغتين المذكورتين للمقدمة الثانية من مقدمات الحكمة. وما به الاشتراك بين هذه الاحتمالات الثلاث عبارة عن اشتراط عدم ذكر ما يصلح للقرينية بالنحو المذكور في الاحتمال الأول ، ولا شك في مساهمة ذلك في تكوين الدلالة الإطلاقية إذ بدونه لا تتم الملازمة بين إرادة الإطلاق وبين مقتضى ظهور حال المتكلم في انه بصدد بيان تمام مرامه ، فانه إِنْ كان يريد المقيد وقد نصب القرينة على التقييد بالنحو المذكور في الاحتمال الأول فبيانه حينئذٍ يفي بتمام مرامه حتماً فيكون قد عمل بمقتضى ظهور حاله. ولكي تتم الملازمة بين إرادة الإطلاق وبين مقتضى الظهور الحالي المذكور نكون بحاجة إلى اشتراط عدم وجود قرينة يكون الكلام معها وافياً بتمام المرام في فرض إرادة التقييد ولا شك في انَّ وجود القرينة بالنحو المذكور في الاحتمال الأول يوجب وفاء الكلام بتمام المرام في فرض إرادة التقييد إذاً فلا تتم معها الملازمة بين مقتضى ظهور حال المتكلم في انَّ كلامه يفي بتمام مرامه وبين كون مرامه هو المطلق لا المقيد. وبهذا يظهر انَّ القدر المتيقن الّذي لا شك في مساهمته في تكوين الدلالة الإطلاقية هو عدم نصب ما يصلح للقرينية حتى في فرض تبديل المطلق بالعموم الوضعي بالنحو المذكور في الاحتمال الأول.

وامّا ما يمتاز به الاحتمال الثاني على الاحتمال الأول وما يمتاز به الاحتمال الثالث على الاحتمال الثاني فيجب أَنْ نرجع فيهما أيضاً إلى ذلك الظهور الحالي السياقي لنرى انَّ دلالته الالتزامية على الإطلاق هل تتوقف أيضاً على شيء منهما أم لا؟ وامّا ما يمتاز به الاحتمال الثالث على الاحتمال الثاني وهو عبارة عن عدم بيان التقييد ضمن مطلق اخر نسبته إلى هذا المطلق نسبة العموم من وجه. فلا ينبغي الشك في انه لا يساهم في تمامية الدلالة الالتزامية المذكورة لأنَّ الملازمة موجودة حتى مع


نصب إطلاق من هذا القبيل في مقابل هذا المطلق ، ضرورة انَّ كلاً من هذين المطلقين وإِنْ كان لو خلي وطبعه لشمل بإطلاقه مورد الاجتماع لكنهما يتزاحمان عند الاقتران ويصبحان مجملين بلحاظ مورد الاجتماع وحينئذٍ لا يكون المطلق الثاني بياناً لنفي الحكم عن الحصة غير الواجدة للقيد ـ التي هي مورد الاجتماع ـ حتى يجتمع إرادة المقيد مع وفاء كلامه بتمام مرامه فلا يكون كلامه وافياً بتمام مرامه إِلاَّ إذا كان مرامه المطلق وهذا معنى الملازمة بين مقتضى الظهور الحالي المذكور وبين إرادة المطلق ولم تنثلم هذه الملازمة بوجود المطلق الثاني فيتم مقتضي الإطلاق في كل منهما غاية الأمر انهما يتزاحمان.

وامّا ما يمتاز به الاحتمال الثاني على الاحتمال الأول وهو عدم بيان التقييد ضمن عام نسبته إلى هذا المطلق نسبة العموم من وجه فقد يقال بأنه يساهم في تكوين الملازمة المذكورة لأنَّ هذا العام بيان للقيد عند العرف فعلى تقدير وجود هذا العام لا ملازمة بين وفاء كلامه بتمام مرامه وبين إرادته المطلق بل انه حينئذٍ يريد المقيد ومع ذلك يكون كلامه وافياً بتمام مرامه ، فلكي يكون وفاء الكلام بتمام المرام ملازماً لإرادة المطلق يجب اشتراط عدم نصب المتكلم القرينة على التقييد ولو ضمن العام.

وقد يقال : انَّ هذا العام ليس بياناً للتقييد بالنحو الّذي يقتضيه ظهور حال المتكلم ، لأنَّ ظاهر حال المتكلم لا يقتضي وفاء كلامه بتمام مرامه بأيّ نحو كان بل انما يقتضي وفائه به مع مراعاة التطابق بين مرامه وكلامه بلحاظ الكيفية فانَّ ما يدعى كونه مذكوراً في كلام المتكلم ضمن العموم لو كان مقصوداً له لبّا فهو مقصود له على نحو القيدية بحيث تضيق دائرة مفاد المطلق وهذه الكيفية غير محفوظة في العام وإِنْ كان الكلام وافياً بذات المقيد وذات القيد وإِنْ شئت قلت : انَّ ظاهر حال المتكلم بيان الحكم إثباتاً كما هو عليه ثبوتاً فكما ان الحكم لباً مجعول على نحو التقييد لا على نحو قضيتين كليتين متعارضتين فكذلك في مقام الإثبات لا بدَّ وان يكون بيان القيد بلسان التقييد فمثل هذا البيان لا يكفي لسد حاجة الظهور الحالي المذكور بل يبقى هذا الظهور مقتضياً لإرادة المطلق حتى مع وجود العام ، غاية الأمر انه يزاحم حينئذٍ مدلول العام. فما يمتاز به الاحتمال الثاني على الاحتمال الأول ليس شرطاً في تمامية الدلالة الإطلاقية.


هذا كله بالنسبة إلى ما به الاشتراك بين الصياغتين المذكورتين للمقدمة الثانية من مقدمات الحكمة.

وامّا ما تمتاز به الصياغة الثانية التي اختارتها مدرسة المحقق النائيني ( قده ) وهو اشتراط عدم نصب قرينة ولو منفصلة على التقييد. ففيه فرضيّتان :

الفرضية الأولى : أَنْ يقال باشتراط ذلك على نحو الشرط المتأخر. بمعنى انَّ تمامية الدلالة الإطلاقية لكلام المتكلم من أول الأمر مشروطة بعدم مجيء القرينة المنفصلة بعد ذلك بحيث لو جاءت القرينة المنفصلة بعد ذلك كشفت عن انَّ كلام المتكلم لم تكن فيه الدلالة الإطلاقية من أول الأمر.

وهذه الفرضية باطلة ويمكن الإيراد عليها حلاًّ ونقصاً :

امّا حلاًّ فهو خلاف الوجدان إذا انَّ الوجدان قاض بأنَّ الظهور الحالي السياقي المذكور يدلّ بالالتزام على الإطلاق منذ البداية والعقلاء يأخذون بهذا الظهور ولا ينتظرون احتمال حدوث القرينة المنفصلة في المستقبل.

وامّا نقصاً ، فلأنها تستلزم عدم إمكان التمسك بالإطلاق ما دمنا نحتمل حدوث القرينة المنفصلة في المستقبل فضلاً عن صورة احتمال كونها حادثة فعلاً ، ولا يتوهم جريان أصالة عدم القرينة لأنه إِنْ أُريد بها الأصل العقلائي فلا شك في انَّ العقلاء انما ينفون احتمال وجود القرينة في طول وجود ظهور فعلي منجز ، وإِنْ أُريد بها الاستصحاب الشرعي فمن الواضح انَّ إثبات الظهور به حينئذٍ أخذ بلوازم الأصول.

الفرضية الثانية ـ أَنْ يقال باشتراط ذلك على نحو الشرط المقارن لا على نحو الشرط المتأخر بمعنى أَنْ الدلالة الإطلاقية لكلام المتكلم في كل آن متوقفة على عدم حدوث القرينة المنفصلة منه إلى حين ذلك الآن بحيث لو جاءت القرينية المنفصلة لم تكشف عن عدم الدلالة الإطلاقية من أول الأمر بل أسقطت تلك الدلالة من حينها أي حين حدوث تلك القرينة.

وقد تبنت هذه الفرضية مدرسة الميرزا ( قده ) ظناً منها بأنها تعالج النقص المذكور في الفرضية الأولى لكنها أيضاً لا تسلم من الاعتراض حلاًّ ونقضاً.

امّا نقضا ، فلأنه وإِنْ أمكن حينئذٍ التمسك بالإطلاق قبل مجيء القيد المنفصل


حتى مع احتمال مجيئه في المستقبل لكنه يصحّح التمسّك به عند احتمال كون المقيد المنفصل قد جاء فعلاً ولم يصل إِلينا لأنَّنا حينئذٍ لا نتأكد من الظهور الإطلاقي.

وامّا حلاًّ ، فلأنَّ هذه الفرضية وإِنْ لم يرد عليها الوجدان الّذي ادعيناه في الفرضية الأولى لأنها لا تنافي عمل العقلاء بذاك الظهور الحالي السياقي من أول الأمر دون انتظار لاحتمال مجيء المقيد المنفصل لكنها غير معقولة في نفسها ثبوتاً لأنَّ ظاهر حال المتكلم يمكن افتراضه على شكلين :

الشكل الأول ـ أَنْ يقال بأنَّ ظاهر حال المتكلم يقتضي كونه بصدد بيان تمام مرامه بشخص هذا الكلام الّذي يتكلمه فعلاً.

الشكل الثاني ـ أَنْ يقال بأنَّ ظاهر حال المتكلم يقتضي كونه بصدد بيان تمام مرامه لا بشخص كلامه بل بمجموع ما يصدر منه في شخص كلامه وفي المستقبل.

فإذا بنينا على الشكل الأول انتج انَّ مقتضى الظهور الحالي المذكور انما يستلزم إرادة الإطلاق عند انتفاء القرينة المتصلة سواءً كانت القرينة المنفصلة موجودة أو منتفية لأنَّ القرينة المنفصلة حينئذٍ لا تلبي مقتضى الظهور الحالي المذكور على فرض إرادة التقييد فيتعين إرادة الإطلاق فلا يشترط في الدلالة الإطلاقية عدم نصب قرينة منفصلة على التقييد.

وامّا إذا بنينا على الشكل الثاني وقلنا بأنَّ ظاهر حال المتكلم انه بصدد بيان تمام مرامه لا بشخص كلامه بل بمجموع ما يصدر منه الآن وفي المستقبل ، فهذا ينتج انَّ هذا الظهور الحالي انما يستلزم إرادة الإطلاق عند انتفاء القرينة المتصلة والمنفصلة معاً بحيث ما لم نتأكد بذلك لا نستطيع التمسك بالإطلاق وهذا يعني انَّ الدلالة الإطلاقية مشروطة على نحو الشرط المتأخر بعدم نصب قرينة منفصلة. وقد أشرنا إلى أنَّ هذا الشكل الثاني منافٍ للوجدان لأنَّ ظهور الحال المذكور يمكن الأخذ به وجداناً من أول الأمر دون انتظار لاحتمال مجيء القرينة المنفصلة.

وامّا فرضية كون الدلالة الإطلاقية مشروطة بعدم نصب القرينة المنفصلة على نحو الشرط المقارن. فهي تستدعي افتراض شكل ثالث للظهور الحالي المذكور وهو أَنْ يقال بأنَّ ظاهر حال المتكلم انه في مقام بيان تمام مرامه في كل آنٍ بمجموع ما يصدر منه إلى


ذلك الآن لكن الظهور الحالي المذكور بهذا الشكل غير معقول ثبوتا ، لأنه يستلزم انقلاب نفس الظهور الحالي وعدم وجود أساس له بل الظهور الحالي السياقي في كلامه يقتضي كونه مريدا للإطلاق إلى حين صدور القرينة المنفصلة ، ومريدا للتقييد في ذلك الحين وهذا واضح البطلان.

وهكذا يتضح انَّ الدلالة الإطلاقية غير مشروطة بعدم نصب قرينة منفصلة على التقييد لا على نحو الشرط المتأخر ولا على نحو الشرط المقارن فإذا صدرت القرينة المنفصلة فانما هي ترفع حجية الدلالة الإطلاقية في المطلق ولا ترفع أصل دلالته على الإطلاق فالصحيح في المقدمة الثانية من مقدمات الحكمة الصياغة الأولى التي اختارها المحقق الخراسانيّ ( قده ) من عدم نصب قرينة متصلة على التقييد.

وقد ظهر من خلال مجموع ما ذكرناه انَّ المقدمة الثانية من مقدمات الحكمة انما تساهم في أصل تكوين الدلالة الإطلاقية وليس دورها مجرد رفع المانع ، وبتعبير آخر : مع وجود القرينة المتصلة لا مقتضي للإطلاق لا انَّ المقتضي موجود لكن القرينة المتصلة تمنع عن تأثير ذلك فعدم نصب القرينة المتصلة شرط في تكوين أصل مقتضي الإطلاق ، والنكتة في ذلك فعدم نصب القرينة المتصلة شرط في تكوين أصل مقتضي الإطلاق ، والنكتة في ذلك ما قلناه من انَّ الإطلاق مدلول التزامي للظهور الحالي السياقي المذكور فمقتضي الإطلاق يتكوّن من ثبوت المقدمة الأولى ـ ويحصل الثاني بعدم نصب القرينة على القيد ـ المقدمة الثانية ـ الملزوم والملازمة ويحصل الأول بالظهور الحالي ـ.

وامّا المقدمة الثالثة التي أضافها صاحب الكفاية ( قده ) إلى مقدمات الحكمة وهي ( عدم وجود قدر متيقن في مقام التخاطب ) فقد ذكر انَّ من شرائط انعقاد الإطلاق عدم وجود قدر متيقن بأَن يكون بعض حصص المطلق أولى بثبوت حكم المطلق فيه بحيث لا يحتمل ثبوته في غيره دون ثبوته فيه.

وذكر في تقريب شرطية هذه المقدمة انه لو كان بعض حصص المطلق قدرا متيقنا كان ثبوت الحكم فيه معلوما ومبينا للمخاطب لا محالة. ومعه لو كان تمام مراد المتكلم هو المقيد أي تلك الحصة لا المطلق لم يلزم منه الخلف ونقض الغرض الّذي هو مقتضي ذلك الظهور الحالي للمتكلم من كونه في مقام البيان على ما تقدم في شرح


الإطلاق ، ومعه لا يبقى كاشف عن إرادة الإطلاق لأنَّ الكاشف عنه كان هذا الظهور وما يقتضيه من نقض الغرض لو كان تمام مراده المقيد.

ثم استدرك على ذلك بما إذا أُريد بكون المتكلم في مقام بيان تمام مراده انه في مقام إفادة تمام مراده للمتكلم مع إفادة انه تمام المراد. فانه على هذا مجرد كون بعض حصص المطلق متيقنا لا ينافي الإطلاق إذ لو كان مقصوده المقيد المتيقن فتمام المراد وإِن كان بينا ومعلوما لدى المكلف واقعا لكنه لا يعلم انه التمام وقد افترضنا انَّ اللازم ذلك.

والصحيح انَّ وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب لا يضر بانعقاد الإطلاق

وذلك ـ أولا ـ لأنَّ المقصود من بيان تمام المراد بيان تمام ما هو مأخوذ في موضوع الحكم من القيود في مرحلة الجعل لأنَّ هذا هو مدلول الخطاب وليس المراد بيان تمام ما هو مصداق لموضوع الحكم في الخارج ، وكم فرق بين المطلبين فانه بلحاظ مرحلة الجعل يكون التقييد هو الأكثر والزائد على الإطلاق والطبيعة المهملة بينما بلحاظ مرحلة التطبيق الخارجي تكون الحصة هي الأقل والإطلاق هو الأكثر والأزيد ، ومن الواضح انه في موارد وجود القدر المتيقن وإِن كان المقيد مبيّنا إِلاَّ انَّ المبيّن هو ثبوت الحكم عليه واندراجه تحته على كل حال. واما موضوع الجعل وتقيّده بالقيد فغير مبين.

فلو كان ثابتا واقعا وجدّاً كان خلاف الظهور الحالي المذكور.

وثانيا ـ لو سلمنا انَّ الميزان بيان تمام ما هو المراد بلحاظ المصاديق الخارجية لا بالقياس إلى مرحلة الجعل ، فلا فرق حينئذٍ بين أن يكون القدر المتيقن ثابتا من نفس الخطاب أو من الخارج ، فانه على كلا التقديرين لا يلزم الخلف لو كان مقصود المتكلم هو المقيد المتيقن لأنه تمام المراد ومبين أيضا ولو في ضمن المطلق ، نعم لو لم يكن في البين قدر متيقن أصلا كان الإطلاق منعقدا لأنَّ إرادة كل حصة خاصة وإِن كانت في نفسها لو لوحظت فهي مبينة ولو في ضمن المطلق إِلاَّ انه باعتبار تعارض ذلك مع احتمال إرادة حصة أخرى مقابلة فلا يكون شيء من الحصص المتقابلة مبنية لا محالة وهذا بخلاف ما إذا كان هناك قدر متيقن ولو من الخارج ، اللهُمَّ إِلاَّ أَن يدّعى عنايات إضافية.


وثالثا ـ انه لا فرق أيضا بناء على هذا الطرز من التفكير والتفسير للإطلاق بين أَن يكون المتكلم في مقام بيان تمام المراد واقعا أو انه زائدا على ذلك في مقام بيان انه التمام. فانَّ غاية ما يلزم من ذلك أَن يكون هناك ظهوران حاليان للمتكلم ، أحدهما انه في مقام بيان تمام المراد ، والآخر انه في مقام بيان كونه تمام المراد أيضا أي انه ليس غيره مراد ، إِلاَّ انَّ إضافة هذا الظهور لا يجدي نفعا في إثبات الإطلاق بل بمقتضى الظهور الأول نفسه نثبت انَّ المقيد المتيقن هو التمام لأنَّ ثبوت الحكم على جميع الافراد غير معلوم فلا يكون مبينا بتمامه لو كان هو المراد وبمقتضى كونه في مقام بيان تمام المراد نستكشف انه ليس مرادا وأَنَّ تمام المراد هو المقيد المتيقن.

ورابعا ـ انَّ هذا الطرز من التفكير لا ينسجم مع طبيعة الدلالة الإطلاقية وملاك دلالة مقدمات الحكمة ، فانَّ جوهر هذه الدلالة قائمة كما تقدم على انَّ اسم الجنس وحده لا يفي بالدلالة على إرادة المقيد وانما يفي بالدلالة قائمة كما تقدم على انَّ اسم الجنس وحده لا يفي بالدلالة على إرادة المقيد وانما يفي بالدلالة على إرادة المطلق لكون المقيد مركبا من الطبيعة الجامعة مع زيادة التقييد فإفادته بحاجة إلى مزيد بيان ، وهذا انما يكون على تقدير التصور الأول المتقدم في فهم وتفسير الإطلاق أي أَن يكون النّظر إلى مرحلة الجعل الّذي يكون فيه التقييد أزيد من الإطلاق لا بلحاظ مرحلة المجعول والمصاديق الخارجية التي يكون فيها الإطلاق أزيد من الحصة ، فانه بهذا اللحاظ لا يكون هناك ما يفي بإثبات الإطلاق لأنَّ اسم الجنس لا يفي بإرادة جميع الافراد كما هو واضح وإثبات ذلك بالإطلاق ومقدمات الحكمة دوري إِذ الكلام في نفس هذه المقدمات الموقوفة على وفاء اللفظ في نفسه بإرادته.

وهكذا اتضح انَّ وجود قدر متيقن بحسب مقام التخاطب فضلا عن ثبوته من الخارج لا يضر بانعقاد الإطلاق وتمامية مقدمات الحكمة.

« تنبيهات »

التنبيه الأول ـ انه على ضوء ما تقدم في تفسير الإطلاق ومقدمات الحكمة تتضح أمور وكلمات كثيرا ما تتردد على الألسن.

منها ـ انَّ الإطلاق مدلول تصديقي لا تصوري ، ووجه ذلك واضح على ضوء ما تقدم فانَّ ملاك


الإطلاق هو الظهور الحالي للمتكلم في انه بصدد بيان تمام ما هو دخيل في مراده التصديقي وهو الجعل والحكم وهذا لا ينتج أكثر من إثبات ما هو المدلول التصديقي أي الحكم وحدوده.

ومنها ـ انَّ المطلق لا يثبت الحكم على الافراد بل على ذات الطبيعة خلافا للعام ووجهه ظاهر أيضا ، فانَّ الإطلاق عبارة عن إحراز عدم دخل القيد في موضوع الحكم زائدا على الطبيعة وهذا غاية ما يقتضيه إثبات انَّ موضوع الحكم ذات الطبيعة وامَّا سراية الحكم إلى كل فرد من افراد الطبيعة فبحكم العقل بانحلال الطبيعة وأحكامها بعدد الافراد في مرحلة التطبيق وهذا بخلاف العام حيث تكون الافراد ولو إجمالا متصورة ومدلولة للكلام (١).

ومنها ـ انَّ الإطلاق رفض للقيود لا جمع لها ووجهه ظاهر أيضا فانَّ الإطلاق انما يعني استكشاف عدم دخل القيد في المرام ثبوتا لعدم ذكره في موضوع الحكم إثباتا فهو انتقال من عدم القيد إثباتا إلى عدم دخله ثبوتا لا إلى دخل القيود جميعا في الحكم فانَّ هذا امر زائد لا تقتضيه مقدمات الحكمة بوجه كما لا يخفى.

ومنها ـ انَّ التقابل بين الإطلاق والتقييد إثباتا من التقابل بين العدم والملكة أي انَّ عدم نصب القرينة على القيد انما ينتج الإطلاق ويكشف عنه في مورد يكون المتكلم قادرا على ذكر القيد أي لا يكون ممنوعا عنه لتقية أو عجز أو ضيق وقت أو غير ذلك وإِلاَّ فلا تنشأ الدلالة الالتزامية من مجرد عدم ذكر القيد على إرادة الإطلاق كما هو واضح ، وهذا غير ما يذكر في بحث التعبدي والتوصلي من إمكان الإطلاق وعدمه بلحاظ القيود الثانوية والتقسيمات الثانوية للحكم فانَّ الملحوظ هناك التقابل بين الإطلاق والتقييد ثبوتا لا إثباتا.

التنبيه الثاني ـ انه اتضح على ضوء ما تقدم انَّ الإطلاق ومقدمات الحكمة انما تجري بلحاظ المدلول التصديقي للكلام وهو النسبة التامة الحكمية وأطرافها ولا تجري بلحاظ النسبة الناقصة التقييدية لأنها ليست إِلاَّ مدلول تصوريا بحتا. وقد تقدم انَّ مقدمات الحكم لا تشخص ما هو تصور المتكلم في مقام الاستعمال فانَّ ذلك يؤخذ من نظام

__________________

(١) تقدّم الإشكال في ذلك في بحوث العموم فراجع


اللغة والعلاقة اللغوية بين الألفاظ التي يستعملها المتكلم ومعانيها. نعم بالنسبة إلى إمكان إجراء الإطلاق في مدلول نفسي النسبة التامة التي بإزائها مدلول تصديقي هناك بحث تقدم التعرض له في مبحث الواجب المطلق والواجب المشروط ، حيث كان يدعى انَّ حرفية معنى النسبة تمنع عن إمكان إجراء الإطلاق فيه وقد أجيب عليه مفصلا هناك.

التنبيه الثالث ـ في شمولية الإطلاق وبدليته. ولا إشكال انَّ الإطلاق قد يكون شموليا كما في ( أحلّ الله البيع ) وقد يكون بدليا كما في ( أعتق رقبة ) بل قد يكون الإطلاق في حكم واحد بلحاظ موضوعه شموليا وبلحاظ متعلقه بدليا كما في ( أكرم العالم ) فانه بلحاظ افراد العالم يكون الحكم شموليا ولكن بلحاظ أقسام الإكرام لا يجب إِلاَّ تحقيق مسماه ولا يلزم تحقيق كل أنواع الإكرام ، كما انه قد يكون في مورد بلحاظ المتعلق أيضا شموليا كما في ( لا تكذب ) مثلا. ومن هنا يأتي السؤال عن منشأ الشمولية والبدلية مع كون الدال على الإطلاق في تمام الموارد شيئا واحدا وهو مقدمات الحكمة ، فكيف اختلفت النتيجة مع وحدة المقدمة؟.

وقد عولجت هذه النقطة في كلمات المحققين بوجوه عديدة :

الوجه الأول ـ ما أفاده السيد الأستاذ من انَّ مقدمات الحكمة في جميع الموارد لا تثبت إِلاَّ مطلبا واحدا وهو انَّ موضوع الحكم أو متعلقه ذات الطبيعة وامّا الشمولية والبدلية فتثبت بلحاظ قرينة عقلية أو عرفية تعين البدلية تارة والشمولية أخرى ، فمثلا قولك ( لا تكذب ) انما أصبح النهي بلحاظ متعلقه ـ وهو الكذب ـ شموليا لأنَّ البدلية غير معقولة ، لأنَّ النهي عن كذب ما لغو محض فانَّ الكذاب مهما يكون كذابا فهو لا يكذب بجميع الأكاذيب لكي يطلب منه ترك كذب ما ، وهذا بخلاف المتعلق في الأوامر ( كصلِّ ) مثلا فانه لا يحتمل فيه الشمولية إذ لا يعقل أَن يجب على المكلف الإتيان بجميع افراد الصلاة فانه غير مقدور له فيتعين أَن يكون الإطلاق بدليا فيه.

وهذا الجواب لا يضع يده على فذلكة الموقف لوضوح انَّ ملاك استفادة البدلية ليست في قيام قرينة على امتناع الشمولية وكذلك في طرف العكس بشهادة استفادة البدلية أو الشمولية في موارد يعقل فيها كلا الأمرين كما في ( أكرم العالم ) فانه كما يمكن جعل وجوب الإكرام على طبيعي العالم بنحو الشمول كذلك يمكن جعله على


فرد منهم كما في ( أكرم عالما ) مثلا (١).

الوجه الثاني ـ ما أفاده المحقق العراقي ( قده ) من انَّ مقتضى الأصل في المطلق أَن يكون بدليا وامّا الشمولية فبحاجة إلى مئونة زائدة تثبتها ، وذلك لأنَّ مقتضى مقدمات الحكمة انَّ موضوع الحكم هو الطبيعة الجامعة بين القليل والكثير والفرد والافراد والجامع يتحقق بتحقق فرد فيكون بدليا لا محالة وامّا الشمولية فلا بدَّ في استفادتها من عناية إضافية وهي ملاحظة جميع الافراد وسريان الحكم إليها.

وفيه ـ أولا ـ ثبوتا ليست الشمولية فيه عناية زائدة على البدلية وما أُفيد نشأ من الخلط بين العموم والإطلاق ، فانَّ ملاحظة الأفراد انَّما هو في باب العموم لا الإطلاق وإِن كان شموليا كما تقدّم بيان ذلك غير مرّة.

وثانيا ـ إثباتا نحن لا نجد أي عناية إضافية في استفادة الإطلاق الشمولي كما في ( أكرم العالم ) فانه ليس فيه عدا اسم الجنس الدال على الطبيعة واللام الدال على الجنس وشيء منهما لا يتضمن عناية إضافية تقتضي الشمولية ولو توهم دلالة اللام مثلا على الشمولية غيّرنا المثال إلى موارد الإضافة كقولك ( احترم عالم البلد ) مثلا.

الوجه الثالث ـ ما أفاده المحقق الأصفهاني ( قده ) وهو عكس ما تقدم من المحقق العراقي ( قده ) ، حيث ادعى انَّ مقتضى الأصل في الإطلاق الشمولية لأنَّ الإطلاق يثبت انَّ الطبيعة هي المأخوذة لبّا وبما انَّها مأخوذة بما هي فانية في الخارج لا بما هي هي أي الموضوع والمناط هو الوجود الخارجي للطبيعة وبما انَّ كل فرد هو وجود للطبيعة لا محالة أي انَّ الطبيعة نسبتها إلى الافراد نسبة الآباء إلى الأبناء فلا محالة يكون مقتضى الأصل ثبوت حكمها على كل مورد تثبت فيها الطبيعة وهو معنى المشمولية. وامّا البدلية فبحاجة إلى أخذ قيد الوحدة أو الوجود الأول من الطبيعة مثلا معها لكي لا يصدق على الوجود الثاني والثالث مثلا.

وهذا الوجه أيضا كسابقه غير صحيح ثبوتا ولا إثباتا على ما تقدم في بحوث انحلالية

__________________

(١) بل لو كان هذا الّذي أفاده هو الملاك فهو لا يقتضي تعين البدلية دائما فمثلا عدم مقدورية تمام افراد الصلاة لا يستلزم جعله بدليا فليكن شموليا في حدود المقدور منها كما هو كذلك بالنسبة إلى كل خطاب وتكليف حيث يكون مقيدا موضوعا ومحمولا بالمقدور من افرادها.


النواهي بلحاظ متعلقاتها.

والصحيح أَن يقال : انَّ الشمولية والبدلية لهما معنيان :

١ ـ الشمولية والبدلية بلحاظ الحكم بمعنى كون الحكم منحلا إلى أحكام عديدة بعدد افراد الموضوع خارجا بنحو يكون هناك أحكام عديدة لكل منها امتثاله وعصيانه الخاصّ فيكون شموليا أو وجود حكم واحد له امتثال واحد وعصيان واحد فيكون بدليا.

٢ ـ الشمولية والبدلية في مرحلة الامتثال بمعنى انَّه بعد فرض وحدة الحكم فهل انه يمتثل ضمن فرد واحد أو افراد عديدة. فيقال انه في الأوامر يكون الإطلاق في المتعلق بدليا وفي النواهي يكون شموليا ، إِلاَّ انَّ هذا المعنى الثاني للشمولية والبدلية ليس بحسب الحقيقة من شئون الإطلاق ومقدمات الحكمة الجارية في مدلول الكلام بل هو كما قال صاحب الكفاية بنكتة عقلية هي انَّ الطبيعة توجد بوجود فرد منها ولا تنعدم إِلاَّ بانعدام افرادها وبما انَّ الأمر طلب الإيجاد والنهي طلب الترك من هنا كان الأول يمتثل بإتيان فرد والثاني لا يمتثل إلا بترك تمام الافراد.

وامّا المعنى الأول من الشمولية والبدلية فالصحيح فيه التفصيل بين موضوع الحكم في القضية المجعولة وبين المتعلق فالحكم بلحاظ موضوعه الأصل فيه أَن يكون شموليا ما لم تفرض فيه عناية على الخلاف وهو بلحاظ متعلقه يكون بدليا أي لا ينحل إلى أحكام ما لم يفرض عناية على الخلاف أيضا.

وقد شرحنا هذا المدعى في بحوث الأوامر. وملخصه : انَّ موضوع الحكم يؤخذ في القضية المجعولة مفروغا عنه ومقدر الوجود ولهذا ترجع القضايا الحقيقية إلى شرطية وهذا بخلاف المتعلق فانه يطلب تحقيقه بالحكم فلو كان مفروغا عنه كان الأمر به لغوا ، وحينئذٍ يقال : انَّ الطبيعة المفروغ عنها في المرتبة السابقة على الحكم يستتبع لا محالة انطباقها على جميع ما يصلح أَن يكون مصداقا لها لأنَّ كلّ فرد من تلك الأفراد نسبته إليها على حدّ واحد فيكون له حظ منها لا محالة وممّا يترتب عليها من الآثار والأحكام وهو معنى انحلال الحكم بلحاظ الموضوع وشموليته. وامَّا بلحاظ المتعلّق فالقاعدة تقتضي العكس لأنَّ المتعلق لم يفرض وجوده مفروغا عنه كي يتعدد الحكم في مرحلة التطبيق ويوجد لهذه القاعدة استثناء ان :


أحدهما ـ بلحاظ الموضوع حيث انَّ الأصل في طرف الموضوعات أَن يكون الحكم شموليا بلحاظها إِلاَّ إذا كان الموضوع منونا فيصير الإطلاق بدليا حينئذٍ من جهة دلالة التنوين على قيد الوحدة.

الثاني ـ بلحاظ المتعلق حيث انَّ الأصل فيه أَن يكون الحكم بدليا إِلاَّ في متعلقات النواهي حيث يستفاد منها انَّ كل فرد من المتعلق موضوع مستقل للحرمة بحيث توجد أحكام عديدة بلحاظ كل واحد منها فلو عصى وشرب خمرا معينا بقيت الحرمة على الافراد الأخرى. وهذه الدلالة بحسب الحقيقة دلالة تصديقية قائمة على أساس مناسبة عرفية وهي غلبة انحلالية المفسدة بحيث يكون كل فرد من الحرام واجدا للمفسدة مستقلا عن فعل الاخر وتركه.

التنبيه الرابع ـ في الانصراف وهو عبارة عن أنس الذهن بمعنى معين مما ينطبق عليه اللفظ ، وهو على أقسام ثلاثة :

١ ـ الانصراف الناشئ من غلبة الوجود كما إذا كان بعض افراد المطلق وحصصه أغلب وجودا من حصصه الأخرى ، فقد توجب هذه الغلبة في الوجود أنس الذهن مع تلك الحصة الغالبة. وهذا النحو من الانصراف انصراف بدوي لا أثر له ولا يهدم الإطلاق لأنَّ فهم ذلك المعنى الخاصّ ليس مسببا عن اللفظ ومستندا إليه لكي يكون مشمولا لدليل حجية الظهور وانما هو بسبب غلبة خارجية ولا دليل على حجيته. اللهم إِلاَّ إذا كانت الندرة بدرجة بحيث يرى ما وضع له اللفظ ليس مقسما شاملا لما ينصرف عنه ويكون هذا بحسب الحقيقة من نشوء ضيق وتحديد في المدلول.

٢ ـ الانصراف الناشئ من كثرة استعمال اللفظ في حصة معينة مجازا أو على نحو تعدد الدال والمدلول فانَّ ذلك قد يوجب شدة علاقة وأنس بين اللفظ وبين تلك الحصة وهذا أنس لفظي لا خارجي لأنه ناشئ من استعمال اللفظ في المعنى وإفادة المعنى به وهو الّذي يؤدي إلى الوضع التعيني إذا بلغ مرتبة عالية كما في المنقول أو المشترك وامّا إذا لم يبلغ تلك المرتبة فلا يتحقق وضع بل مجرد أنس وعلاقة شديدة ، وهذا قد يكون صالحا للاعتماد عليه في مقام البيان فالانصراف بهذا المعنى قد يوجب الإجمال وعدم تمامية الإطلاق.


٣ ـ الانصراف الناشئ من مناسبات عرفية أو عقلائية كما في التشريعات التي لها جذور عرفية مركوزة عرفا أو عقلائيا فانها قد توجب التقييد أيضا كما إذا قال « الماء مطهر » فانه ينصرف إلى الماء الطاهر لمركوزية عدم مطهرية النجس.

التنبيه الخامس ـ في التمييز بين الإطلاق الحكمي والإطلاق المقامي فانهما مختلفان جوهرا ، وذلك لأن التقييد المحتمل والمراد نفيه بالإطلاق الحكمي على فرض ثبوته يكون قيدا في المراد من اللفظ وموجبا لضيق دائرة مدلوله فإذا قال ( أكرم الفقير ) وأراد الفقير العادل كان ذلك تضييقا في مدلول أكرم الفقير اللفظي ، وامّا الإطلاق المقامي فالتقييد المحتمل في مورده لا يكون قيدا فيما ذكر في الكلام بل هو مراد آخر علاوة على المرام المدلول عليه باللفظ كما إذا قال ( أَلا أعلمكم وضوء رسول الله ) فذكر انه غسل الوجه واليدين ومسح الرّأس والقدمين فانه يستفاد بمقتضى الإطلاق المقامي عدم جزئية المضمضة أو الاستنشاق مثلا ، ولهذا يكون الإطلاق الحكمي ظهورا عاما ليس بحاجة إلى عناية خاصة لأنَّ مقتضى ظهور حال كل متكلم ذكر كلاما انه في مقام بيان تمام موضوع الحكم المدلول بكلامه ، وامّا الإطلاق المقامي فباعتبار كونه مرتبطا بمرام آخر علاوة على مدلول اللفظ فالاستفادة منه مبتنية على عناية زائدة ومقام بيان خاص أكثر مما قد أبرزه الكلام الّذي تكلم به المتكلم ولذلك لم يكن الإطلاق المقامي ظهورا قانونيا عاما بل بحاجة إلى قرينة خاصة وهذه القرينة على قسمين :

١ ـ لفظية صريحة أو ظاهرة كما في المثال المتقدم.

٢ ـ دلالة الاقتضاء المناسبة مع شأن الشارع الأقدس وذلك فيما يفرض انَّ جزء من اجزاء الوظيفة كان مما يغفل عنه عادة بحيث لو لا تعرض الشارع بنفسه له لم يلتفت إليه عامة الناس لكون احتماله لا يخطر على الأذهان العادية فانه في مثل ذلك ينفي بسكوت المولى ولو في مجموع خطاباته احتمال دخله وقيديته. كما يقال ذلك في مثل نفي احتمال دخل القيود الثانوية في التكليف كقصد الوجه والتمييز.


« حالات اسم الجنس »

تارة يكون اسم الجنس نكرة ، وأخرى معرفا باللام أو مضافا إلى المعرف به ، وثالثا لا يطرأ عليها شيء من التنوين أو اللام. ولا إشكال في القسم الثالث من حيث صلاحيته للإطلاق والتقييد وصلاحيته للتعين صدقا وانطباقا في تمام الافراد بنحو الشمول ببركة الإطلاق ومقدمات الحكمة أو بدلا وفي فرد معين ببركة الدال على التقييد. وانما البحث عن ما يتغير من مدلوله بدخول التنوين أو اللام عليه ومن هنا يقع الكلام في مقامين :

المقام الأول : دخول التنوين على اسم الجنس ـ ولا إشكال في انه بذلك ينسلخ اسم الجنس عن الصلاحية للتعين الاستغراقي وللتعين في فرد خاص لأنَّ التنوين يدل على الإبهام والنكارة فيتعذَّر في حقه التعيين ومن هنا ينقلب الإطلاق فيه من الشمولية إلى البدلية.

امّا انسلاخه عن التعيين الاستغراقي فقد ذكر في تقريبه وتفسيره انَّ التنوين الدال على التنكير يلحق قيد الوحدة بمدلول اسم الجنس فيصبح قولنا ( أكرم عالما ) في قوة قولنا ( أكرم واحدا من العلماء ) ومعه يستحيل في حقه الشمولية لأنه يستوجب استيعاب تمام الآحاد وهو خلف الوحدة.

وهذا البيان يتعرض عادة إلى إشكالين حَلّي ونقضي :

امّا الإشكال الحَلّيّ فحاصله : انَّ الوحدة والواحد أيضا من أسماء الأجناس وصالح للاستغراقية ولهذا يمكن أَن يدخل عليه أداة العموم كقولنا ( أكرم كل واحد من العلماء ) الدال على الاستغراقية الأداتية فضلا عن الحكمية. فكيف يكون تقييد اسم جنس أخرجه موجبا لانسلاخه عن القابلية للاستغراقية.

وامّا النقض فبالنكرة الواقعة في سياق النهي والنفي كقولك ( لا تشتم مؤمنا ) فانها تدل على الاستغراقية مع وجود التنوين.

والجواب : امّا عن الحلّ فبان قيد الوحدة له ثلاث معان :

١ ـ الواحد في مقابل الكثير والّذي هو موجود ضمن الكثير ، وواضح انَّ هذا


المعنى على حد سائر أسماء الأجناس مفهوم كلّي صالح للشمولية وليس مرادنا من قيد الوحدة هذا المعنى.

٢ ـ الواحد فقط أي الواحد بشرط لا عن الزائد ، وفي مثل ذلك يستحيل الإطلاق الشمولي لأنه خلف حد الوحدة إِلاَّ ان هذا المعنى ليس مقصوداً أيضاً على ما سوف يظهر.

٣ ـ الواحد بحده لكن لا في نفس الأمر بل من ناحية هذا الكلام أي الواحد فقط إثباتاً لا ثبوتاً ، وهذا هو المقصود في المقام بمعنى انَّ اسم الجنس بعد دخول التنوين عليه من ناحية نفسه لا يصدق إِلاّ على الواحد فقط من دون أَن ينفي ثبوت الأكثر في الواقع ونفس الأمر وبهذا يختلف هذا المعنى عن المعنى السابق ولهذا لو أكرم عالمين دفعة واحدة كان ممتثلاً (١).

وامّا الجواب عن النقض فبما تقدم فيما سبق من انَّ استفادة الاستغراقية في موارد النهي والنفي إِن أُريد بها الاستغراقية بلحاظ مرحلة الامتثال فهي بقانون عقلي يقضي بأنَّ الطبيعة لا تنتفي إِلاَّ بانتفاء تمام افرادها وإِن أُريد بها الاستغراقية في نفس الحكم فهو بدلالة سياقية خارجية وهي دلالة تصديقية على انَّ المفسدة انحلالية (٢).

__________________

(١) جعل هذه الأمور معانٍ لمفهوم الواحد لا يخلو من إشكال ، فانه ليس له إِلاَّ معنى واحد بل أخذ مثل هذه الاعتبارات في المدلول التصوري مشكل تصويره ثبوتاً.

ويمكن ان يقال : انَّ المفاهيم بما انها منتزعة من الخارج فتكون ملحوظة في الذهن بما هي فانية في الخارج بحيث يشار بها إلى الخارج ومن هنا كان لا بدَّ مع لحاظ الطبيعة من امر آخر وهو بمثابة تكية للاسم على ما عبر به في كلمات اللغويين وهو التنوين أو اللام ، وهذا معناه انَّه باللام يلحظ المفهوم فانياً امَّا في فرد معيَّن معهود أو في الجنس حيث انَّ الإفناء في الجنس والإشارة إليه بما هو أمر خارجي معقول أيضا ، وبالتنوين يفنى المفهوم في فرد لا معين الّذي هو معنى البدلية. ولعله إذا أمكن إثبات هذا المعنى تحلّ على أساسه مشاكل عديدة في أمثال المقام فالمسألة بحاجة إلى مزيد تأمّل.

(٢) كيف يمكن ذلك مع فرض وجود التنوين الدال على الوحدة؟ ولما ذا لا يكون قرينة على عدم الانحلالية في خصوص ذلك؟

وإِن شئت قلت : انَّ فناء الطبيعة بفناء افرادها صحيح ولكن الكلام في تحديد تلك الطبيعة وهل هي شرب خمر واحد أو شرب كل خمر فاستفادة تعلق الحرمة الواحدة بشرب كل خمر فيه مطلب زائد على ما يقتضيه القانون العقلي لا بدَّ في إثباته من التماس تخريج لفظي أو عرفي. ويمكن أن يقال في حلّ الإشكال : بأنَّ التنوين يدلّ على الإشارة بالطبيعة إلى فرد لا بعينه بناء على ما تقدّم من انَّ التنوين أو اللام يرتبطان بكيفية إفناء المفهوم والطبيعة في الخارج وحينئذٍ إيجاد الفرد لا بعينه يكون بإيجاد فرد واحد وامّا انتفاءه فلا يكون إِلاَّ بفناء تمام الافراد ولهذا نجد الشمولية حتى إذا دخل في سياق النهي أداة البدلية كقولك لا تشرب أي خمر ولعل هذا هو مقصود السيد الأستاذ.


وبهذا يتضح الوجه في انسلاخ اسم الجنس بعد تنكيره عن التعين في فرد معين فانه مقتضى الإبهام والتنكير المستفاد من التنوين فهو من ناحية نفسه لا يكون معيّناً وإِن فرض تعينه ثبوتاً كما في قوله تعالى ( وجاء رجل من أقصى المدينة ). وبهذا نستنتج انَّ كل تنوين نراه في اسم جنس متعين من ناحية نفس الكلام استغراقياً أو شخصياً فليس بتنوين تنكير بل تمكين من قبيل أكرم كل رجل (١). ومن قبيل أكرم رجلاً زارك بالأمس إذا أُريد به الإشارة إلى رجل معين معهود.

المقام الثاني : دخول اللام على اسم الجنس ـ ولا إشكال في انه بذلك يخرج اسم الجنس عن الإبهام والإهمال إلى التعيين ، وقد فسر المشهور ذلك على أساس انَّ اللام موضوعة للتعيين ومن هنا يفيد التعريف ، والتعيين محفوظ حتى في موارد الجنس ، فانَّ الجنس أيضاً له تعين ذهني ، وإِن شئت عبرت عنه بالتعين الجنسي.

وقد استشكل في ذلك صاحب الكفاية ( قده ) بأنه إِن أُريد دلالة اللام على التعيين الخارجي فمن الواضح عدم وجود تعين خارجي في موارد لام الجنس ، وإِن أُريد التعين الذهني أي تعين الطبيعة في الذهن فمن الواضح أنَّه إِن أُخذ هذا التعين في مدلول اللفظ صار ذهنياً وبذلك يخرج عن الصلاحية للانطباق على الخارجيات إِلاّ بالمجاز والتجريد وبطلانه واضح.

ومن هنا التزم ( قده ) بأنَّ اللام موضوعة للتزيين كما هو كذلك في موارد دخولها على الاعلام. وانَّ معاملة اللغة مع المزين به معاملة التعريف لكونه معرفة باللفظ نظير التأنيث اللفظي الّذي قد أعطي حكم التأنيث الحقيقي فلا غرابة.

وقد حاول بعض المحققين التخلص عن إشكال صاحب الكفاية ( قده ) مع الالتزام بمقالة المشهور من دلالة اللام على التعيين فذكروا محاولات نقتصر فيما يلي على ما أفاده المحقق الأصفهاني ( قده ) بهذا الصدد. فقد أفاد بأنَّ الإشكال المذكور مبني على تخيل إرادة التعيين الذهني للجنس بينما المقصود التعيين الجنسي فانَّ كل ماهية

__________________

(١) الاستغراقية هنا ليست مستفادة من نفس اسم الجنس بل مستفادة من كل وهي مضافة إلى النكرة الدالة على فرد من الطبيعة لا بعينه فتدلّ على استيعاب كلّ الأفراد.


بحسب شئونها وحدودها وتشخصها الماهوي متميزة عن غيرها ومتعينة واقعاً والمراد إفادة هذا اللون من التعين ولا يلزم منه ذهنية المعنى.

وفيه ـ انه إِن أُريد مفهوم التعين الماهوي فمن الواضح انه كسائر المفاهيم في أسماء الأجناس مفهوم غير معين واقعاً فضمه إلى مفهوم غير معين لا يفيد تعريفاً بل تحصيص ، وإِن أُريد منشأ انتزاع التعين أي ما به تتعين الماهية فهي في الماهيات حدودها وهي داخلة في مدلول اسم الجنس المدخول للاّم فلم تزد اللام شيئاً على مدخولها.

والصحيح في الجواب ما حققناه سابقاً حينما كان لصاحب الكفاية ( قده ) إشكال مشابه على أخذ الإطلاق قيداً في المعنى الموضوع له اسم الجنس من استلزام ذهنية المعنى وعدم انطباقه على الخارج. وحاصل الجواب : انه لو كان المقصود أخذ مفهوم التعين الذهني أو المتعين في الذهن قيداً فهو غير صالح للحكاية إِلاَّ عن الذهن لا الخارج لكونه معقولاً ثانوياً انتزع عما في الذهن ، ولكن هذا ليس هو المدعى كيف ومفهوم التعين نكرة بنفسه سواءً أُريد به التعين في الذهن أو الخارج ، وانما المأخوذ واقع التعين الذهني بمعنى انَّ الواضع حينما وضع اللفظ كان لا بدَّ له أَن يتصور المعنى ليقرن بينه وبين اللفظ وامّا المعنى بلا تصور فلا يمكن قرنه باللفظ وفي المقام قد قرن بين اللفظ وبين الصورة الذهنية بما هي متعينة ولا يلزم منه عدم انطباقه على الخارج فانَّ هذه الصورة المتعينة بطبيعتها حاكية عن الخارج لأنها منتزعة عنه ، وكأنه وقع خلط بين أخذ مفهوم من المعقولات الثانوية في مدلول اللفظ وبين أخذ مفهوم من المعقولات الأولية بما له من الشئون والخصوصيات في العقل الأول في مدلول اللفظ (١) ،

__________________

(١) هذه الخصوصيات والشئون إذا كانت راجعة إلى اللحاظ والوجود الذهني في المعقول الأول فلا يمكن أخذها في مدلول اللفظ الّذي هو امر تصوري لأنَّ الموضوع له ذات المعنى لا المعنى المقيد بالوجود أو ما هو شأن من شئون الوجود لا ذهناً ولا خارجاً وان كانت راجعة إلى المتصور والملحوظ فلا معهودية ولا تعين للماهية الملحوظة زائداً على تعينها الذاتي المفاد باسم الجنس والأولى على ضوء ما تقدم ان يقال : بأنَّ المفهوم تارة لا يضاف في الذهن إلى الخارج وهذا هو اسم الجنس من دون تنوين ولا لام ، وأخرى يشار به إلى الخارج ولكن إلى خارج غير متعين أي إشارة بنحو بدلي وهذا هو اسم الجنس مع التنوين ، وثالثة يشار به إلى الجنس الموجود في الخارج فيما إذا كان هو محط الغرض لا الخصوصيات وهذا هو موارد لام الجنس ، فالتعيين يراد به الإشارة إلى الخارج المعين وهذا محفوظ في لام الجنس وانَّما الاختلاف عن موارد التعين الخارجي في طبيعة المشار إليه لا في الإشارة نفسها فانَّها حاصلة في المقامين ولعل هذا مقصود المحقق الأصفهاني ( قده ).


فانه بذلك لا يخرج عن كون مدلول اللفظ معقولاً أولياً لا ثانوياً. فالصحيح ما عليه المشهور والمتطابق مع الوجدان العرفي القاضي بدلالة اللام على التعين حتى في موارد لام الجنس. ولكن ليس المراد من هذا التعيين الذهني محض الوجود في الذهن لوضوح انه بذلك لا يصبح المعنى معرفة ولهذا لم يتوهم انقلاب الكلمات إلى معارف من ادعى وضعها للمعنى المقيد باللحاظ الاستقلالي أو الآلي ذهنا. وانَّما المراد من التعين هنا تطبيق الصورة الذهنية على الانطباقات المألوفة سابقاً للذهن فالأسد له انطباعات معيّنة في ذهن الإنسان مثلاً واللام تدلّ على ماهية الأسد ومعناه بذلك النحو المعروف المألوف في الانطباعات السابقة وهذا كأنَّه يشبه العهد الذهني ولكنه في المقام نوعي وليس شخصياً.

وهناك حالة أخرى لاسم الجنس وهي حالة العلمية وتسمى بعلم الجنس كأسامة. والوجدان العرفي على إبهامه وإجماله يحس بالفرق بينه وبين اسم الجنس فهناك فرق بين أسد وبين أسامة ، فما هو حقيقة هذا الفرق؟ يمكن أَن نذكر بشأنه احتمالات ثلاثة :

١ ـ ولعله أقربها ، انَّ التعين الذهني الجنسي الّذي تدل عليه لام الجنس حينما تدخل على اسم الجنس مستبطن في نفس مدلول علم الجنس ومن أجل أخذ هذا التعين في مدلوله أصبحت الكلمة معرفة لأنها في قوة المعرف باللام ولكن بوضع واحد لا بوضعين.

٢ ـ ولعله أضعفها ، انَّ علم الجنس قد أخذ فيه الإطلاق وتجرد الطبيعة عن القيد وهذا نحو تعين في الماهية وتقليل في إهمالها.

وهذا الاحتمال بعيد لأنَّ مجرد أخذ الإطلاق لا يجعله معرفة فانَّ الطبيعة التي تلحظ بلا قيد لا تكون معرفة ولهذا لم يقل أحد من القائلين بأخذ الإطلاق في مدلول اسم الجنس بأنه يصبح معرفة ولم ينقض أحد عليهم بذلك فكأن المسلّم بينهم انَّ هذا المقدار لا يصيّر الكلمة معرفة ولا يخرجها عن إهمالها.

٣ ـ انَّ أعلام الأجناس في بداية نشوئها في اللغة كانت أعلاماً لحيوانات شخصية طوطمية معينة كانت مقدسة لدى قبيلة أو قوم وبعد أَن انتهت ظروف التقديس بقي


الاسم مشيرا إلى ماهية ذلك الحيوان محتفظاً بعلميته لغة باعتبار انَّ الخصائص اللغوية لا تزول بسرعة.

وهذا الاحتمال أيضاً يبعده امران :

١ ـ انَّ أعلام الأجناس لا تختص في اللغة بخصوص الحيوانات التي كانت مقدسة في التاريخ بل قد تكون لحيوانات تافهة كأم عريط للعقرب.

٢ ـ انَّ العرب لم يعهد منهم تاريخياً الاعتقاد بمثل هذه القضايا وأعلام الأجناس كلمات عربية وليست دخيلة.

وبهذا ينتهي البحث عن الإطلاق.

٢ ـ التقييد

والقصد منه البحث عن موارد حمل المطلق على المقيد وهو بحيث يناسب باب التعارض نجمله هنا فنقول : انَّ المقيد تارة يكون متصلاً بالمطلق ، وأخرى منفصلاً عنه.

فهنا مقامان.

المقام الأول ـ في المقيد المتصل بالمطلق ، وله أقسام ثلاثة :

١ ـ أَن يكون جزءً لنفس جملة المطلق ( كأعتق رقبة مؤمنة ). ولا إشكال في هذا القسم من حيث عدم انعقاد الإطلاق ذاتاً ومن أول الأمر لوروده مقيداً.

٢ ـ أَن يكون المقيد جملة مستقلة عن جملة المطلق ولكنه بلسان التقييد بحيث انصب الحكم فيه على التقييد لا المقيد كما إذا قال ( أعتق رقبة ولتكن تلك الرقبة مؤمنة ) ، أو ( إيّاك أَن تعتقها كافرة ) ولا إشكال في هذا القسم أيضا من حيث عدم ثبوت الإطلاق لأنَّ ظاهر دليل التقييد حينئذٍ الشرطية أو المانعية وهو حاكم على دليل المشروط.

٣ ـ أَن يكون المقيد جملة مستقلة ناهية وقد انصب النهي فيها على المقيد لا التقييد كما إذا قال ( أعتق رقبة ) و( لا تعتق رقبة كافرة ) وهنا إذا استظهرنا من لسان الدليل انَّ النهي إرشاد أيضاً إلى المانعية فلا إشكال في التقييد وعدم انعقاد الإطلاق ومقدمات للحكمة بنفس النكتة المقدمة وإلا فان احتمل ذلك فائضاً لا ينعقد


الإطلاق للإجمال واحتمال قرينية الموجود ، وان لم يحتمل ذلك بأَن استظهر انه حكم نفسي مستقل على حد حكم المطلق ، فان قيل بإمكان اجتماع الأمر والنهي حتى في أمثال المقام فلا إشكال لعدم التنافي حينئذٍ ، وإِن بني على الامتناع ولو في مثل المقام الّذي يكون العنوانان من المطلق والمقيد ، فان فرض انَّ هذا الامتناع امر بديهي واضح عرفاً كان التنافي بين الدليلين داخلياً متصلاً وحينئذٍ يتشكل للمقيد دلالة التزامية عرفية على عدم إرادة الإطلاق من المطلق فيتقيد به لا محالة لو لم يفرض انَّ دلالة المقيد ولو من جهة أخرى بالإطلاق ومقدمات الحكمة أيضاً ، وإذا فرض انَّ برهان الامتناع عقلي وليس بديهياً واضحاً عرفاً فلا معارض متصل بل بعد ضم ذلك البرهان فحكمه حكم التعارض المنفصل ، هذا كلّه إذا فرض انَّ الأمر كان بدليّاً كأعتق رقبة ولا تعتق رقبة كافرة ، واما إذا كان انحلالياً كأكرم العالم ولا تكرم العالم الفاسق فلا إشكال في التنافي حينئذٍ على كل حال ويتعين تقييد المطلق لكونه قرينة على التقييد على كل حال ، ومثل هذا أيضاً ما إذا كان التنافي بين المطلق وجملة المقيد بنحو السلب والإيجاب من قبيل لا يجب إكرام العالم وأكرم الفقيه.

٤ ـ أَن يكون جملة المقيد مستقلة آمرة من قبيل ( أعتق رقبة ) و( أعتق رقبة مؤمنة ) وهنا تارة : يفترض استظهار وحدة الحكم في الجملتين ولو باعتبار مناسبات الحكم والموضوع ، وأخرى : يفترض استظهار التعدد ، وثالثة : يفترض عدم وجود ما يدلّ على ذلك بحيث يحتمل فيه كلا الأمرين ، فإذا استظهرنا وحدة الحكمين فلا إشكال في لزوم التقييد حينئذٍ من جهة انَّ الحكم الواحد امّا مطلق أو المقيد ، وإذا استظهر التعدد فلا تعارض حينئذٍ ، وإذا لم يستظهر شيء منهما فقد يقال انَّ مقتضى القاعدة العمل بهما معاً ما دام لم يحرز الوحدة الموجبة للتعارض ونثبت في طول ذلك تعدد الحكم.

وفيه : إذا فرض إجمال الجملة الثانية من ناحية كونها معبرة عن حكم آخر أو نفس الحكم فيكون مما يحتمل قرينيتهُ ومعه لا يحرز أصل الظهور الإطلاقي لكونه متصلاً به.

وهكذا يثبت لزوم التقييد في الأقسام الأربعة ورفع اليد عن الظهور الإطلاقي أو سقوطه ، أي انَّ الظهور الإطلاقي ساقط فيها تخصصاً لعدم الموضوع له لا تخصيصاً


واقتضاءً لا لمانع لما أشرنا إليه في مقدمات الحكمة من انَّ الإطلاق نتيجة عدم وجود ما يكون بياناً للقيد. إِلاَّ انَّ هذا التخصيص تارة لا يحتاج إلى مصادرة ، وأخرى يحتاج إلى مصادرة وعلاوة ، ومن هنا تختلف الأقسام المتقدمة. ففي القسم الأول وهو ما إذا كان القيد وارداً في نفس جملة المطلق انهدام الإطلاق ومقدمات الحكمة لا يحتاج إلى مصادرة على ما تقدّم في بيان مقدمات الحكمة وكيفية اقتضائها للإطلاق ، لأنَّ اسم الجنس لم يأتِ مجرداً عن القيد لكي ينعقد فيه إطلاق ، وامّا في الأقسام الأخرى فان بني في المقدمة الثانية من مقدمات الحكمة انَّ عدم بيان القيد يراد به عدم مطلق ما يكون بياناً للقيد فهنا أيضاً لا نحتاج إلى المصادرة الإضافية في تمام الأقسام التي حكمنا فيها بحمل المطلق على المقيد لثبوت ما يدل على القيد ، وامّا إذا كان المراد بيان ما يكون قرينة على التقييد وبلسان التقييد والقرينة فانهدام الإطلاق موقوف في هذه الأقسام على مصادرة زائدة هي انَّ طرز بيان القيد في جملة المقيد هو طرز القرينية امّا بنحو الحكومة كما في القسم الثاني أو بنحو القرينية النوعية كما في الثالث والرابع لكي يحرز بذلك انثلام مقدمات الحكمة.

ثم انَّ هذا المقيد قد يفرض انه يتدخل في إثبات مفاده إِطلاق من الإطلاقات بحيث لولاه لم يكن موجب للتقيد ، كما إذا قال ( لا يجب عتق الرقبة ) و( أعتق رقبة مؤمنة ) فانَّ التقييد في المقام فرع استفادة الوجوب من ظهور صيغة الأمر وامّا لو حمل على الاستحباب فلا تنافي ، فلو قيل مثلاً انَّ دلالة الأمر على الوجوب بالإطلاق ومقدمات الحكمة لا بالوضع وقع التنافي بين الإطلاقين لا محالة. وفي مثل ذلك نحتاج إلى المصادرة المتقدمة على كل حال حتى لو بنينا على انَّ المقدمة الثانية هي عدم مطلق ما يكون بياناً للقيد فانه من دون فرض مصادرة القرينية وانّ الإطلاق إذا كان في موضوع أخص عُدَّ قرينة عرفاً لم يكن وجه لترجيح أحد الإطلاقين على الاخر.

المقام الثاني ـ في المقيد المنفصل وقد ذكروا في هذا المقام انه إِن لم يكن بين المطلق والمقيد تناف أخذ بهما وإِلاَّ حمل المطلق على المقيد ، وتحقيق حال هذه الفتوى بالكلام في موضوعين :

١ ـ انه متى يكون تناف وتعارض بين المطلق والمقيد؟


٢ ـ لما ذا يقيد المطلق بالمقيد ولا يتصرف في ظهور المقيد؟.

امّا الموضع الأول فهنا صور عديدة :

١ ـ أَن يفرض انَّ المقيد المنفصل ناظر إلى المطلق وشارح للمرام منه ، وواضح انه في مثل ذلك يكون حال التقييد حال أدلة الشرطية والمانعية ويكون دليله معارضاً مع دليل المطلق إذ لا يعقل إطلاق المشروح مع العمل بالدليل الشارح.

٢ ـ أَن لا يكون ناظراً إليه ولكنه بنحو السلب والإيجاب كما في ( أكرم العالم ) و( لا تكرم الفاسق ) ولا إِشكال فيه أيضاً في التنافي والتعارض امّا مع ضم مسألة الامتناع إذا كان الأمر بدلياً أو من دونه إذا كان شمولياً أو كان التنافي بنحو السلب والإيجاب.

٣ ـ أَن يكون كلاهما موجباً أو كلاهما سالباً وهنا فروض :

أحدهما ـ أَن يكون كلاهما شمولياً وسالباً أي نافياً للحكم من قبيل ( لا يجب إكرام العالم ) و( لا يجب إكرام الفقيه ) ولا تعارض هنا يقيناً.

الثاني ـ أَن يكون كلاهما شمولياً مثبتاً كما إذا ورد ( أكرم العالم ) و( أكرم العالم العادل ) وهنا أيضاً لا تعارض لو لم نقل بمفهوم الوصف وامّا لو قلنا به ولو بنحو القضية الموجبة الجزئية لا القضية الكلية يقع التنافي بينهما لا محالة. ومثله ما إذا كانا نهيين أحدهما عن المطلق والآخر عن المقيد.

الثالث ـ أن يكون المطلق مع المقيد مثبتين ولم يكونا شموليين بل أحدهما أو كلاهما بدليين من قبيل ( أعتق رقبة ) و( أعتق رقبة مؤمنة ) ، وهنا إِن أحرز وحدة الحكم فلا إشكال في التنافي والتعارض بينهما لأنَّ الحكم الواحد كما تقدّم امَّا مطلق أو مقيد ، وإِن لم يحرز وحدة الحكم فلا تعارض ولا إجمال لكون المقيد منفصلاً. ولكن وقع النزاع في انّه كيف يمكن إحراز وحدة الحكم؟ فالمشهور ويمثلهم صاحب الكفاية ( قده ) ينكرون إمكان إحرازها من ناحية نفس الخطابين وانما قد يفرض العلم بذلك من الخارج ، ولكن المحقق النائيني ( قده ) يدعي إمكان إحراز ذلك من نفس الخطابين ببرهان : انه لو كانا حكمين أحدهما وجوب المطلق والآخر المقيد اذن كانت النتيجة التخيير بين الأقل والأكثر فانَّ امر المكلف يدور بين أَن يعتق رقبة مؤمنة أو يعتق رقبة


كافرة أولا ثم يعتق رقبة مؤمنة ، وهذا تخيير بين الأقل والأكثر وهو بلا عناية باطل لكونه غير معقول ثبوتاً على ما قرر في محله ، ومع العناية وأخذ الأقل بحده وإِن كان معقولاً ثبوتاً فيما إذا لم يكن حد الأقل والأكثر كالضدين اللذين لا ثالث لهما ولكنه خلاف الظاهر إثباتاً.

وفيه : انه إِن أُريد لزوم التخيير بينهما في عالم الجعل فهو واضح الجواب لأنَّ الجعل بحسب الفرض وظاهر الدليل متعدد تعلق أحدهما بالجامع والآخر بالحصة ، وإِن أُريد لزوم ذلك بحسب عالم الامتثال لمن حيث انَّ النتيجة العملية للجعلين في مرحلة الامتثال كجعل واحد بالجامع بين الأقل والأكثر ، فهذا غير صحيح لأنَّ الجعل الواحد بالجامع كذلك لا يحفظ الإتيان بالأكثر وهذا بخلاف المقام حيث يكون الأمر بالأكثر تعييناً ، وإِن أُريد انَّ الأمر الاخر بالجامع لغو بلحاظ مرحلة الامتثال حينئذٍ ففيه انه قد يفرض تحرك مكلف نحو الجامع دون الحصة فلما ذا يفوت عليه ذلك لو فرض وجود مصلحة لزومية فيه أيضاً فتحفظ بمثل هذا الجعل. فالحاصل معقولية الجعلين في المقام مما لا يكاد يخفى فالتشكيك في إمكانهما مما لا ينبغي. فالصحيح ما عليه المشهور من انّه حيث لم يحرز من الخارج وحدة الحكمين فلا تعارض بين المطلق والمقيد في هذه الصورة.

وامّا الموضوع الثاني ، ففي بيان حكم التعارض للاقسام السابقة وهذا بحث من بحوث تعارض الأدلة الشرعية وقوانين الجمع العرفي المقررة لموارد التعارض غير المستقر ، ومحصله بنحو يناسب المقام : اننا إِن بنينا في مقدمات الحكمة على انَّ من جملتها عدم بيان القيد ولو منفصلاً فلا نحتاج في تخريج تقدم المقيد على المطلق إلى مئونة ومصادرة زائداً على ما تقدم في المقيد المتصل بالمطلق ويكون الإطلاق ساقطاً حينئذٍ تخصّصاً واقتضاءً لا تخصيصاً وللمزاحم ، وإِن بنينا على ما هو المختار والمشهور من انَّ ما يتوقف عليه الظهور الإطلاقي هو البيان المتصل لا المنفصل فالظهور الإطلاقي يبقى محفوظاً حتى بعد ورود المقيد المنفصل فالتعارض بحسب الحقيقة انما يكون بين ظهورين حاليين فعليين للمتكلم أحدهما ظهور حاله في انَّ تمام ما يرومه ويريده يقوله ، والآخر ظهور حاله في انَّ تمام ما يقوله يريده جداً ، فلا بدَّ امّا من رفع اليد عن الأول وهو لازم تقييد المطلق أو عن الثاني وهو لازم حمل القيد في المقيد على انه غير جدي وانه من باب المثال أو نحو


ذلك ، فنحتاج إلى مصادرة إضافية وراء مقدمات الحكمة لترجيح الظهور الثاني على الأول وتلك المصادرة الإضافية يختلف الحال بالنسبة إليها بين حالتين :

١ ـ أَن يكون المقيد ناظراً إلى المطلق ولسانه لسان أدلة الشرطية والمانعية كما إذا قال ( ولتكن الرقبة التي تعتقها مؤمنة ) وفي هذه الحالة نحتاج إلى مصادرة نظرية الحكومة التي مفادها انَّ لكل متكلم أَن يجعل قرينة شخصية على تعيين مراده وتحديده ولو بكلامه الاخر.

٢ ـ أَن لا يكون المقيد ناظراً إلى المطلق بل كل منهما بيان مستقل ، وهنا نحتاج إلى مصادرة أخرى يمكن صياغتها بأحد وجوه ثلاثة :

١ ـ أَن يدّعى تقييد حجية الظهور كبروياً بعدم معارضة ظهور أقوى ويدعى كون الظهور الثاني أقوى من الأول ، لأنَّ ظهور حال المتكلم في إرادة ما يقول أشد وآكد من عدم إرادة مالا يقول فلا يكون الإطلاق حجة في معارضته مع المقيد.

٢ ـ أَن يدعى تقيّد حجية الظهور كبروياً بعدم القرينة على الخلاف والمقصود بالقرينة ما يجعله العرف والعقلاء بحسب الموازين النوعية تفسيراً للمرام من الخطاب الاخر ولو كان منفصلاً عنه ، ويدعى بأنَّ أحد موازين القرينية هو الأظهرية المحفوظة في جانب ظهور المقيد بالنسبة للمطلق فينتهى بذلك إلى نفس النتيجة السابقة ولكن مع فرق في الصياغة والتخريج.

٣ ـ أَن يستغنى عن الأظهرية نهائياً مع التحفظ على المصادرة الكبروية في حجية الظهور من إناطتها بعدم القرينة على الخلاف وتتميم الصغرى بدعوى انَّ المقيد باعتباره أخص موضوعاً يُعد قرينة عرفاً ، وفرق هذه الصياغة عن السابقتين في عدم الحاجة فيها إلى مسألة أظهرية ظهور المقيد في التقييد من ظهور المطلق في الإطلاق ، ويترتب على ذلك عمليّاً انه يلتزم بناءً عليه بالتقييد حتى إذا لم يكن المقيد أظهر في مورد من موارد أو كان ثبوت مفاده النهائيّ بحاجة إلى إجراء الإطلاق ومقدمات الحكمة في الحكم المقيد من جهة أُخرى كما إذا كان المقيد أمراً وقيل بكون دلالة الأمر على الوجوب بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

وهذه الصياغة هي المختارة لدى المحقق النائيني ( قده ) بينما المتراءى من عبائر المحقق


الخراسانيّ ( قده ) إحدى الأوليين ، والصحيح ما عليه المحقق النائيني ( قده ) وتفصيل ذلك وتحقيق الحال في نكاته وخصوصياته موكول إلى بحوث التعارض غير المستقر.

المجمل والمبين

ليس مهم الأصولي هو البحث عن انَّ اللفظ الفلاني مجمل أو مبين ، فانَّ هذا وظيفة اللغوي لا الأصولي ، وانما المهم هو البحث عن موازين رفع الإجمال في الدليل المجمل بالدليل المبين ، ومقصودنا من المجمل ما ليس له معنى ظاهر يمكن العمل به وهو على قسمين ، لأنه تارة : يكون مجملاً بالذات أي ليس له معنى ظاهر في نفسه بالنسبة إلينا من قبيل إجمال كلمة ( الرطل ) وتردده بين العراقي والمكي والمدني ، وأخرى :

يكون مجملاً بالعرض وهو ما كان له معنى ظاهر في نفسه لغة وعرفاً ولكنه ثبت عدم إرادته فتعذر العمل بظاهره فأصبح المراد منه مجملاً. وفيما يلي نبحث عن كل من القسمين.

١ ـ المجمل بالذات

وهو على نوعين أيضاً ، لأنَّ المجمل امّا أن يكون في قباله دليل مبين بالذات ويراد رفع إجمال المجمل به كما إذا ورد ( الكر ستمائة رطل ) وهو مردد مجمل بين العراقي والمكي الّذي هو ضعفه ، وورد ( الكر الف ومائتا رطل بالعراقي ) فيبحث عن إمكان رفع إجمال الدليل الأول بالثاني ، وأخرى يفرض انَّ كلا الدليلين مجمل كما إذا ورد في الدليل الثاني انَّ الكر الف ومائتا رطل من دون تعيينه في العراقي ، فيقع الكلام في إمكان رفع إجمال كل منهما بالاخر.

اما النوع الأول ـ فتحته صورتان :

١ ـ أَن يفرض انَّ إجمال المجمل بمعنى انَّ مفاده الجامع بين امرين من دون تعيين للخصوصية والدليل المبين يتعرض للخصوصية ، كما إذا فرض دلالة على انَّ صلاة الليل مطلوبة ودل دليل آخر على كونها مستحباً أو ليست واجبة وفي هذا الفرض لا إشكال في ارتفاع إجمال المجمل بالمبين لأنه بحسب الحقيقة لا إجمال في ما هو مدلول


المجمل ولا تردد فيه وانما مدلوله الجامع فبضمه إلى الدليل الاخر تتعين الخصوصية لا محالة.

٢ ـ أن يفرض انَّ مفاد المجمل إحدى الحصتين والخصوصيّتين بالذات مع التردد عندنا كما في مثال الكرّ فهل يمكن رفع إجمال المجمل بالمبين؟.

الصحيح : انه تارة يفرض قطعية أصالة الجد في المجمل بحيث لا يحتمل في حقه صدوره تقية ونحو ذلك كما إذا كان الحديث نبوياً مثلاً ، وأخرى يفرض ظنيتها بحيث نحتاج في نفي هذا الاحتمال إلى التمسك بالأصل العقلائي المعبر عنه بأصالة الجد.

فعلى الأول يقال بحمل المجمل على المبين ففي المثال يمكن تعيين انَّ المراد من ستمائة رطل هو المكي منه ، لأنَّ احتمال إرادة العراقي منه جدّاً ينفيه الدليل المبين واحتمال إرادته تقية منفي بقطعية الجهة ، كما انَّ احتمال عدم صدوره منفي بدليل السند.

وامّا على الثاني فقد كنا نستشكل في رفع الإجمال فيه بأنَّ أصالة الجد تعني جدية ما هو المراد الاستعمالي للكلام وهو في المقام مردد بين جعل الكريمة ستمائة بالرطل المكي أو جعله بالرطل العراقي فإذا كان المراد الرطل العراقي فليس جعل الكرية للرطل المكي مدلولاً لأصالة الجد لا بالمطابقة ولا بالالتزام كما هو واضح ، والجامع بين المدلولين ليس مدلولاً للكلام لكي نجري بلحاظه أصالة الجد ، وان شئت قلت : انَّ أصالة الجد مفادها انَّ ما هو المدلول الاستعمالي للكلام مراد جدّاً حقيقة وفي المقام المدلول الاستعمالي للكلام ـ أي مفاد الكلام ـ مردد بين معنيين يقطع بعدم جدية أحدهما على تقدير كونه مفاد الكلام ويحتمل جدية الاخر على تقدير كونه المفاد فان أُريد إجراء أصالة الجد بلحاظ ما يحتمل جديته فلا محرز لكونه هو مفاد الكلام ، وإِن أُريد إجرائه في الجامع لإثبات جديته فالجامع ليس مدلولاً وإِن أُريد إجرائه في واقع ما هو المدلول على إجماله بأن نشير بهذا العنوان الإجمالي إلى واقع ما هو مفاد الدليل في علم الله ونقول انه جدي ويكون العنوان الإجمالي مجرد مشير إلى ما هو المفاد لا انه المفاد فهذا أيضاً غير صحيح لأنَّ المشار إليه بهذه الإشارة مردد بين ما هو مقطوع البطلان وعدم الجدية على تقدير وغير محرز الوجود على تقدير آخر فيكون من الأصل في الفرد


المردد أَي انَّ الظهور في الجدية المشار إليه بهذا العنوان مردد بين ما يقطع ببطلانه وما لا يحرز وجوده وإحراز مثل هذا الظهور لا يكون إحرازاً لظهور حجة لكي تثبت على أساسه لوازمه.

إِلاَّ انَّ هذا الإشكال غير تام رغم انا كنا نبني عليه فيما سبق ، وذلك لأنَّ الظهور في الجدية وعدم التقية صفة مضافة إلى نفس الكلام لا إلى المدلول الاستعمالي له بمعنى انَّ الدال على الجدية وعدم التقية انما هو ظهور حال المتكلم في انَّ كلامه الّذي يتكلم به ليس فارغاً وتقية لا انَّ الدال عليه هو نفس المدلول الاستعمالي ليقال انه مردد بين مقطوع البطلان وغير محرز الثبوت ، بل المدلول الاستعمال طرف الدال وهو ظهور حال المتكلم في انَّ كلامه ليس فارغاً وهزلاً بل له مراد جدي على طبق ظاهره وهذا الظهور محرز وجداناً وبما انه يحرز ببركة الدليل المبين عدم جدية جعل الكرية لستمائة رطل عراقي فيحرز بالملازمة انَّ مفاد المجمل هو جعل الكرية لستمائة بالمكي لا محالة.

لا يقال : قد تقدم في بحوث العام والخاصّ انه لا يمكن إحراز المدلول استعمالي للدليل بأصالة الجد بعد معلومية المراد الجدّي لأنَّ الأصل المذكور انما يرجع إليه عقلائياً لتشخيص المراد الجدي عند الشك فيه من المراد الاستعمالي المعلوم لا العكس ولهذا لا يتمسك به لإثبات استعمال العام في الخصوص بعد ثبوت التخصيص بلحاظ المراد الجدي.

فانه يقال : لو فرض وجود تخصيص في حجية الظهورات ففي المقام لا يراد إثبات ما هو المدلول الاستعمالي من المجمل بل إثبات جدية المعنى الآخر ابتداءً باعتباره لازماً لحجية الظهور المذكور من دون أَن نتعبد بما هو المراد الاستعمالي له وإِن كان ذلك أيضا لازماً.

النوع الثاني ـ ما إذا كان الدليلان معاً مجملين بالذات فإذا لم يكن شيء من المحتملات في أحدهما منسجماً مع بعض محتملات الآخر بنحو يصلح لرفع إجماله وتعيينه فلا طريق لرفع الإجمال حينئذٍ ، وأمَّا إِذا كان بعض محتملات كلّ منهما متطابقاً مع بعض محتملات الآخر كما في مثال الكرّ حيث ورد تحديده تارة بستمائة رطل وأُخرى بألف


ومائتي رطل وعلى تقدير إرادة المكي من الأول والعراقي من الثاني يكونان متطابقين فحينئذٍ يمكن رفع الإجمال في ذلك بإحدى طريقتين :

١ ـ الطريقة المتقدمة في النوع المتقدم حيث يقال بأنَّ مقتضى أصالة الجهة في كل منهما تعيين مفاد كل منهما في معنى واحد وهو جعل الكرية لستمائة رطل بالمكي الّذي هو الألف ومائتان بالعراقي لأنَّ أي حمل اخر ينافي جريان أصالة الجد فيهما ، وهذا التقريب كما عرفت موقوف على جريان أصالة الجهة في أمثال المقام وقد تقدم انَّ الصحيح جريانها.

٢ ـ انَّ مقتضى القاعدة حجية كل من الدليلين حيث لا يحرز التعارض بينهما لاحتمال انَّ المراد بكل منهما ما يوافق الاخر فنثبت بذلك قضيتين مجملتين إحداهما ( انَّ الكر ستمائة رطل ) والأخرى ( انه الف ومائتا رطل ) ولا بأس بثبوت هاتين القضيتين المجملتين على إجمالهما لو كان يترتب عليهما أثر عملي كما في المقام حيث انَّ لازم صدقهما عقلاً انَّ الكر هو ستمائة رطل عراقي الّذي هو الف ومائتا رطل مكي ، وإِن شئت قلت : انَّ الدليلين في المقام ليس إجمالهما إجمالاً مطلقاً بل إجمال كل منهما تقارنه دلالة لا إجمال فيها في الأُخرى فرواية الستمائة تدل على انَّ الكرّ ليس بأكثر من ستمائة رطل مكي على جميع محتملاتها ورواية الألف ومائتين تدل على انه ليس بأقل من الف ومائتين بالعراقي وهاتان الدلالتان لا يعلم بكذبهما لتوافقهما فيؤخذ بهما لا محالة وبه يثبت المطلوب(١).

__________________

(١) لا يقال : هذه الدلالة في كل منهما لازم لمفاد الدليل المردد بين العراقي والمكّي فإذا لم يكن يجري في المدلول المطابقي للمفاد أصالة الجهة والجد بناءً على الإشكال المتقدم لكونه مردداً بين مقطوع البطلان ومشكوك الثبوت فلا يمكن إثبات هذا اللازم أيضاً وامّا صدق القضيتين المجملتين فإذا أُريد به صدق الجامع في كل منهما فالمفاد والمدلول لكل منهما ليس هو الجامع بل كل منهما بخصوصه ، وإِن أُريد الفرد المردد ورد الإشكال المتقدم فهذا البيان امّا أَن يرجع إلى البيان الأول أو لا يكون تاماً.

فانه يقال : إنَّ كل ظهور ودلالة أُحرز ولو بالالتزام وللجامع المردد فالأصل حجيته ما لم يعلم بطلانه أو وجود المعارض له ، ولا يقاس بالأصول العملية فانه باعتبار أخذ عنوان الشك في موضوع أدلتها لا تكون جارية في موارد الفرد المردد. إِلاَّ انَّ هذا انما يجدي فيما إذا كان هناك مدلول للظهور ولو بالالتزام كما في المقام فلا يجدي في المورد السابق لما قلناه من انَّ المعنى المراد إثباته على أحد التقديرين ليس مدلولاً للفظ لا مطابقة ولا التزاماً ، بخلاف المقام حيث انَّ الحد الأقصى والحد الأدنى مدلول لكل من الروايتين على كل المحتملات فهو ظهور متعين محرز يشك في وجود المعارض له.


٢ ـ المجمل بالعرض

وهو ما إذا كان الدليل ظاهراً في معناه في نفسه ولكن تعذر العمل بظاهره لمجيء ما يكون دالاً على خلافه فكيف يعمل بالدليل الأول؟ وهنا توجد طرق عديدة تختلف بحسب اختلاف الموارد الكيفية العمل بالدليل الأول الّذي تعذر العمل بظاهره.

١ ـ أَن يعين مفاد الدليل بنفس الظهور الأولي ، وهذا انما يكون في موارد التخصيص والتقييد حيث يتعين العام أو المطلق في تمام الباقي بمقتضى نفس الظهور الأول فيهما باعتباره انحلالياً على تفصيل تقدم في بحوث العام والخاصّ.

٢ ـ أَن يتعين مفاده بظهوره ثانوي طولي وذلك كما يقال في الأمر انه له ظهور ثانوي في الاستحباب في طول عدم إرادة الوجوب ولذلك يتعين فيه بعد ورود ما يدل على نفي الوجوب.

٣ ـ تعيين مفاده بالظهور المطابقي للدليل الهادم وذلك فيما إذا فرضنا انه كان حاكماً على الدليل الأول ومفسراً للمراد منه في الوقت الّذي يهدم ظهوره.

٤ ـ تعيين مفاده بنفس الدليل الهادم ولكن لا باعتبار ظهور مدلوله المطابقي في ذلك بل بقرار نوعي ، وذلك فيما إذا فرض انه كان بنفسه قرينة عرفاً وعقلائياً على هدم ظهور الدليل من ناحية وتعيين مفاده في امر آخر ، نظير ما قد يدعى في المخصصات والمقيدات من حيث انها قرائن على السلب والإيجاب أي تعيين إرادة تمام الباقي.

٥ ـ أَن يعين مفاد المجمل بالدلالة الالتزامية للدليل الهادم وذلك فيما إذا كانت الجهة في الدليل المجمل قطعية بحيث لا يحتمل فيه عدم الجدية ، فانه حينئذٍ يكون لازم الدليل الهادم الدال على عدم وجوب صلاة الليل مثلاً أَن يكون المراد من دليل الأمر بصلاة الليل الاستحباب إذا كان غير الوجوب منحصراً فيه ، كما هو كذلك في مثال الأمر بصلاة الليل وإِلاَّ ثبت جامع غير الوجوب فيترتب عليه الأثر المشترك.

٦ ـ أَن يعين مفاد المجمل بالدلالة الالتزامية لمجموع امرين الدليل الهادم وأصالة الجد وذلك في نفس الصورة المتقدمة فيما إذا افترضنا عدم قطعية الجهة في الدليل المجمل.


وفي هذه الصورة قد يستشكل بأنَّ أصالة الجد هنا في الدليل المجمل معارضة بأصالة الحقيقة ، إذ كما انَّ ظاهر حال المتكلم انَّ كلامه ليس فارغاً وهزلاً كذلك ظاهره انه يستعمل اللفظ في معناه الحقيقي الموضوع له وفي المقام يعلم بعد مجيء الدليل الهادم انثلام أحد هذين الظهورين فيقع التعارض بينهما.

ولكن هذا الإشكال غير تام فيما إذا كان الدليل الهادم منفصلاً ، لأنَّ كلا من الظهورين الحاليين المذكورين يكون منعقداً في الدليل المجمل إِلاَّ انه يعلم بكذب أحدهما ، ولكن حيث انه لا أثر لحجية الظهور الثاني منهما إِلاَّ المعارضة وإسقاط الظهور الأول عن الحجية لأنه يعلم بعدم جدية المعنى الحقيقي على كل حال فلا يكون حجة لأن العقلاء انما يبنون على أصالة الحقيقة لإثبات المراد لا في نفسه كما لا يخفى.

وامّا إذا كان الدليل الهادم متصلاً بالدليل المجمل وكان المورد بحسب مناسبات الحكم وخصوصياته مما يحتمل في شأنه التقية وعدم الجد فسوف يجمل الكلام ويتردد بين كونه صادراً تقية أو أَن يراد به معنى ينسجم مع الدليل الهادم ، ولا يجدي في مثله ما تقدم من عدم جريان أصالة الحقيقة لعدم ترتب أثر عليه فانَّ هذا انَّما ينفع في مورد انفصال الدليل الهادم وامّا في مورد الاتصال الّذي هو المفروض في المقام فلا ينعقد الظهور الحالي في الجدية وعدم التقية حتى يكون حجة.

وبهذا ينتهي ما أردنا إيراده من مباحث الألفاظ وبه ينتهي الجزء الثالث من مباحث الدليل اللفظي ؛ والحمد لله أولا وآخراً وصلّى الله على محمد وعلى آله الطيّبين الطاهرين.



فهرست الموضوعات



مباحث الدليل اللفظي ـ ٣ ـ................................................... ١ ـ ٤٤٩

المقدمة..................................................................................... ٥

بحوث النواهي..................................................................... ٧ ـ ١٣٤

دلالات صيغة النهي................................................................. ٩ ـ ٢٢

مدلول صيغة النهي ............................................................... ١١ـ ١٥

دلالة النهي على الاستغراق ...................................................... ١٥ ـ ٢٠

كيفية امتثال النهي. ............................................................. ٢٠ ـ ٢١

النواهي المتعلقة بالجامع الانتزاعي. ....................................................... ٢٢

اجمتاع الامر والنهي............................................................. ٢٣ ـ ١٠٣

فذلكة القول بالامتناع. ......................................................... ٢٥ ـ ٢٧

امتناع الامر بالجامع والنهي عن فرده............................................. ٢٧ ـ ٣٢

امتناع الامر بعنوان جامع والنهي عن عنوان آخر ينطبق على فرد ذلك الجامع ................ ٣٢ ـ ٣٨

ملاكات ثلاثة لجواز الاجتماع. ................................................. ٣٨ ـ ٤١

البحث عن صغرى انّ تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون. ....................... ٤١ ـ ٤٧

التطبيق المعروف لمسألة الاجنماع. ............................................... ٤٧ ـ ٥٠

تنبيهات مسألة الاجتماع. ..................................................... ٥١ ـ ١٠٣

اقتضاء النهي للفساد ......................................................... ١٠٥ ـ ١٣٤

النهي عن العبادة. ........................................................... ١٠٧ ـ ١٢٥

معني النهي عن العبادات. .................................................... ١٠٧ ـ ١٠٩

اقسام النهي التحريمي................................................................... ١٠٧


براهين اقتضاء النهي لفساد العبادة. .......................................... ١٠٩ ـ ١٢٠

تنبيهات المسألة. ............................................................. ١٢٠ ـ ١٢٥

النهي عن المعاملة............................................................. ١٢٥ ـ ١٣٤

المفاهيم. ...................................................................... ١٣٥ ـ ٢١٦

تعريف المفهوم. ............................................................... ١٣٧ ـ ١٤١

ضابطة الدلالة على المفهوم. .................................................. ١٤١ ـ ١٤٨

دلالة الجملة الشرطية على المفهوم ( مفهوم الشرط ).......................... ١٤٨ ـ ١٧٦

تنبيهات مفهوم الشرط....................................................... ١٧٦ ـ ١٩٨

مفهوم الوصف. ............................................................. ١٩٨ ـ ٢١١

مفهوم الغاية. ............................................................... ٢١١ ـ ٢١٣

مفهوم الاستثناء. ............................................................ ٢١٣ ـ ٢١٥

مفهوم الحصر................................................................. ٢١٥ ـ ٢١٦

العام والخاص.................................................................. ٢١٧ ـ ٤٠٠

الفصل الاول : العام. ........................................................ ٢١٩ ـ ٢٥٩

الجهة الاولى : تعريف العموم. ................................................ ٢١٩ ـ ٢٢٢

اقسام العموم................................................................. ٢٢٢ ـ ٢٢٦

الجهة الثانية : ادوات العموم. ................................................ ٢٢٦ ـ ٢٥٩

اسماء العموم. ................................................................ ٢٢٧ ـ ٢٣٧

الجمع المحلي باللام............................................................ ٢٣٨ ـ ٢٥٧

النكرة في سياق النفي. ...................................................... ٢٥٧ ـ ٢٥٩

الفصل الثاني : التخصيص..................................................... ٢٦١ ـ ٣٢٦

حجية العام في غير مورد التخصيص. ......................................... ٢٦١ ـ ٣٢٦

الجهة الاولى : حجية العام في تمام الباقي بعد التخصيص. ..................... ٢٦١ ـ ٢٨٧

الجهة الثانية : حجية العام مع المخصص المجمل. ............................... ٢٨٧ ـ ٣٢٦

المقام الاول : المخصص المجمل مفهوما. ....................................... ٢٨٩ ـ ٣٠٨

الفرع الاول : اذا كان المخصص المجمل متصلا بالعام ومرددا بين الاقل الاكثر. ٢٨٩ ـ ٢٩٢

الفرع الثاني : اذا كان المخصص المجمل متصلا بالعام ودائراً بين متبائين. ..... ٢٩٢ ـ ٢٩٨

الفرع الثالث : اذا كان المخصص المجمل منفصلا ودائراً بين الاقل والاكثر.... ٢٩٨ ـ ٣٠٢

الفرع الرابع : اذا كان المخصص المجمل منفصلا ودائرا بين متبائين. .......... ٣٠٢ ـ ٣٠٣

المقام الثاني : المخصص المجمل مصداقا......................................... ٣٠٨ ـ ٣٢٦


فصل : التعويض عن العام باستصحاب العدم الازلي........................... ٣٢٧ ـ ٣٥٠

فصل : الدوران بين العام واستصحاب حكم المخصص........................ ٣٥٠ ـ ٣٥٢

فصل : جواز التمسك بالعام لإثبات التخصص. ............................. ٣٥٢ ـ ٣٥٧

فصل : اشتراط الفحص قبل التمسك باصلة العموم........................... ٣٥٨ ـ ٣٦٦

فصل : اختصاص الخطاب بالمشافهين وعدمه.................................. ٣٦٦ ـ ٣٧١

فصل : تعقب العام بضمير يرجع الى بعض مدلوله. .......................... ٣٧١ ـ ٣٨٣

فصل : تخصيص العام بمفهوم. ............................................... ٣٨٣ ـ ٣٩٣

المقام الاول : تخصيص العام بمفهوم الموافقة................................... ٣٨٤ ـ ٣٩٠

المقام الثاني : تخصيص العام بفهوم المخالفة. .................................. ٣٩٠ ـ ٣٩٣

فصل : تعقب الاستثاء لجمل متعددة.......................................... ٣٩٤ ـ ٣٩٩

فصل : تخصيص العام الكتابي بخبر الواحد. ............................................. ٤٠٠

المطلق والمفيد ................................................................. ٤٠١ ـ ٤٤٤

١ ـ الاطلاق. .............................................................. ٤٠٣ ـ ٤٣٨

الفصل الاول : اعتبارات الماهية ـ معاني اسماء الاجناس...................... ٤٠٣ ـ ٤١١

الفصل الثاني : مقدمات الحمكة. .............................................. ٤١١ ـ ٤٢٦

تنبيهات...................................................................... ٤٢٦ ـ ٤٣٢

حالات اسم الجنس. .......................................................... ٤٣٢ ـ ٤٣٨

٢ ـ التقييد. ............................................................... ٤٣٨ ـ ٤٤٤

المقام الاول : المقيد المتصل. ................................................. ٤٣٨ ـ ٤٤٠

المقام الثاني : المقيد المنفصل. ................................................. ٤٤٠ ـ ٤٤٤

المجمل والمبين. ................................................................. ٤٤٤ ـ ٤٤٩

١ ـ المجمل بالذات ......................................................... ٤٤٤ ـ ٤٤٧

٢ ـ المجمل باالعرض ........................................................ ٤٤٨ ـ ٤٤٩

بحوث في علم الأصول - ٣

المؤلف:
الصفحات: 455