


الباب الرابع
في بيان الامتحان
باختلاف الطبائع وتباين الآراء وتفاوت
الأطوار والأفكار
اعلم أنّ اللّه عزوجل بناءً على مقتضى
حكمته البالغة ومصلحته الكاملة ، جعل ممّا امتحن العباد به أيضاً أن خَلَقهم
متفاوتة بحسب الآراء والأفهام ، متباينة بحسب الأذهان والأحلام ، حتّى أنّه قلّما
يقع اتّفاق جميع آراء رجلين ، بحيث إنّهم لو تُركوا وآراءهم وما يدركونه بأفكارهم
وأهوائهم لما اجتمعوا على حال ، ولا خرجوا عن حدّ التفرّق والاختلال ، ولما خلصوا
من العمى والضلال ، فضلاً عن الاهتداء إلى أحكام اللّه الحكيم المتعالي ، وأنّه
لأجل هذا ـ حيث أراد اللّه أن يجمعهم على الهدى ـ أنعم عليهم ـ كما سيأتي في
المقالات ـ بالأنبياء والرسل والهداة ؛ ليبيّنوا لهم ما هو طريق النجاة ، ويزول به
الشتات ، من المعارف اليقينيّات والأحكام المتقنات المتّفقات النازلات عليهم من
اللّه عزوجل .
وأمر سائر الخلق بالتسليم لهؤلاء ،
وأخذِ المعارف والأحكام منهم ،
ومتابعتهم في جميع
الأشياء ، وترك التفرّق والاختلاف ، سيّما الحاصل من متابعة الظنون والآراء ، مع
التصريح بذمّ التفرّق والاختلاف ، وكونه ضلالة من كلّ فريق وفي كلّ زمان ، الدالّ
على أنّ حكم اللّه واحد في أيّ شيء كان ، وأنّ ما سواه من خطوات الشيطان .
وفيه نذكر أنّ كلّ اُمّة من الاُمم
افترقت بعد نبيّها حتّى هذه الاُمّة ، وأنّ الحقّ في واحدة، وفيه ذكر جملة من مذاهبهم ، ويتّضح ما
فيه أيضاً في ضمن خمسة فصول :
* * *
__________________
الفصل الأوّل
في
بيان عموم تغاير الآراء في الأنام واختلاف الأذهان والأفهام ، بحيث صار سبب شتات
المذاهب والأحكام من بدء الخلقة إلى آخر الأيّام ، وذكر ما ورد في ذمّ الاختلاف
والتفرّق لا سيّما في الدين ، وأنّه علامة الهلاكة والضلالة وطريقة المبطلين ،
وأنّه لم يكن جائزاً أبداً في شريعة أحد من المرسلين ؛ ضرورةَ عدم تطرّق الاختلاف
إلى حكم اللّه المبين .
ولنذكر أوّلاً الآيات ، ثمّ الروايات ،
ثمّ سائر الشواهد والمنقولات ؛ ليتّضح صحّة هذه المذكورات مع وضوحها في نفسها ، لا
سيّما بعد ملاحظة ما في الفصول السابقة واللاّحقة وغيرها :
قال اللّه عزوجل :
( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ
أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ
رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ).
وقال سبحانه :(
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي
الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ )
إلى قوله تعالى : ( وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ
أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ).
وقال تعالى : ( يَا
أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ) إلى
__________________
قوله : (
وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ
فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ
بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّىٰ حِينٍ ).
وقال عزوجل :
( وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ).
وصراحتُه في كون الاختلافات في الدين
فعل المشركين وعلامتهم وإن زعموا كونهم مهتدين ظاهرة .
ويشهد له قوله تعالى : ( إِنَّ
الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ).
وقوله : ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ
عَلَىٰ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا ) إلى قوله : ( أَوْ
يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا ).
وقوله : ( وَمَا أَنزَلْنَا
عَلَيك الكِتَـبَ إلاَّ لِتُبيّـِن لَهُمُ الَّذِى اختَلَفُوا فِيهِ ).
وقال عزوجل :
( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدّينِ مَا وَصَّى
بِهِ نُوحاً وَالَّذِى أوحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبرَهِيمَ
وَمُوسَى وَعِيسَى أَن أَقِيمُوا الدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) إلى قوله : ( وَمَا
أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا
فِيهِ )،
الآية ، وصراحتها في منع التفرّق مطلقاً ظاهرة .
__________________
ويشهد له قوله تعالى : ( وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ).
وقوله : ( وَلَا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ).
وقوله : ( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ
فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ).
وقوله : ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ )الآية .
وقوله : ( وَأَنَّ هَٰذَا
صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ
بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ )، وغيرها .
وقال سبحانه : ( كَانَ
النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ ) إلى قوله : ( لِيَحْكُمَ
بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ
أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ).
وقال جلّ شأنه في غير موضعٍ : ( وَلَقَدْ
آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ).
وقال : ( وَلَمَّا جَاءَ
عِيسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ
__________________
وَلِأُبَيِّنَ
لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ).
وقال في بني إسرائيل : ( وَآتَيْنَاهُمْ
بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ
بَغْيًا بَيْنَهُمْ ).
وقال سبحانه : ( إِنَّ
الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ).
وقال : ( وَمَا تَفَرَّقَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ).
وقال : ( وَإِنَّ الَّذِينَ
اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ).
وقال : ( وَلَوْ كَانَ مِنْ
عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ).
وصراحة الجميع في كون الاختلاف غير
محمود ، بل مذموماً ، باطلاً ، متضمّناً لخلاف حكم اللّه ظاهرة .
وبالجملة : دلالة الآيات واضحة ، وستأتي
في الفصول الآتية شواهدها أيضاً ، بل أصل وقوع الاختلاف ممّا لا كلام فيه ، وإنّما
المراد بيان ذمّه وضلالته وبطلان منشئه ، وكونه منبع الفتنة والفساد ؛ ولهذا جعلنا
الفصول الآتية كالشرح لهذا ، وذكرنا في كلّ واحد ما ينفع للآخر أيضاً ، بحيث كأنّ
الجميع فصل واحد ، وبسطنا الكلام في الفصل الثاني لما هو ظاهر على المتأمّل ،
فلنذكر هاهنا نبذاً ممّا لا بدّ من نقله والبقيّة في البواقي .
__________________
روى الخوارزمي عن ابن عبّاس ، قال : قال
رسول اللّه صلىاللهعليهوآله :
«إنّ اللّه عزوجل منع
بني إسرائيل قطر السماء بسوء رأيهم في أنبيائهم واختلافهم في دينهم ، وإنّه أخذ
هذه الاُمّة بالسنين ، ومانِعهم قطر السماء ببغضهم عليّ ابن أبي طالب عليهالسلام ».
أقول
: دلالة هذا الخبر على ما سيظهر أيضاً
من كون أصل سبب اختلاف هذه الأُمّة سوء رأيهم في عليّ عليهالسلام ،
وتركهم متابعته ، وأنّ تركه نظير ترك الأُمم أنبياءهم ، وأنّ ذلك لبغضه ، ظاهرة ،
وممّا يؤيّده :
ما رواه أصْبَغ بن نباتةمن أنّ رجلاً قال لعليّ عليهالسلام يوم الجمل : إنّ
القوم كبّروا وكبّرنا ، وهلّلوا وهلّلنا ، وصلّى القوم وصلّينا ، فعلامَ نقاتلهم ؟
فقال عليّ عليهالسلام :
«على ما أنزل اللّه في سورة البقرة ، فقرأ عليهالسلام قوله
تعالى : ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ
عَلَىٰ بَعْضٍ )
إلى قوله : ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ
الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ
وَلَٰكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ )،
الآية ، قال : «فنحن الذين آمنّا ، وهم الذين كفروا»، الخبر ، فافهم .
وفي صحيح مسلم ، ومسند ابن حنبل : عن
أبي هريرة أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله
__________________
قال : «إنّ اللّه يرضى لكم ثلاثاً
ويكره لكم ثلاثاً ، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا بـه شيئاً ، وأن تعتصموا بحبـل
اللّه جميعاً ولا تفرّقوا»،
الخبـر .
وسيأتي ، بل ظاهر أيضاً أنّ حبل اللّه
هو القرآن ، فالخبر صريح في أنّ التمسّك به يدفع التفرّق ، وأنّ التفرّق إنّما
يحصل بتركه .
وسيأتي أيضاً بيان أنّ علم القرآن عند
العترة التي قرنهم النبيّ صلىاللهعليهوآله به
، فيظهر أنّ تركهم سبب التفرّق أيضاً ، وهذا هو معنى ما سيأتي من قوله تعالى : ( ادْخُلُوا
فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ).
ومن الشواهد أنّ الخبر المذكور رواه جمع
آخَر بحيث وصل إلى حدّ الاستفاضة ، وفيه : «وتسمعوا وتطيعوا لمن ولّى اللّه
أمركم» بعد قوله : ( وَلَا تَفَرَّقُوا )وفي
بعض النسخ أيضاً : «وأن تناصحوا وُلاة الأمر من الذين يأمرونكم بأمر اللّه»، وظاهر أن لا معنى لهما ـ بعد ملاحظة
حديث الثقلين ـ إلاّ إطاعة العترة ، كما بيّنّا ، وسيظهر أيضاً ، فافهم .
وفي صحيح مسلم وغيره : عن ابن عمر ، وفي
صحيح البخاري : عن ابن مسعود ، قال : قال النبيّ صلىاللهعليهوآله
: «إنّما هلك من كان قبلكم باختلافهم في
الكتاب».
وفي صحيح البخاري أيضاً : عن ابن مسعود
أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
في
__________________
حديثٍ له : «ولا
تَختلفوا ؛ فإنّ من كان قبلكم اختلفوا ، فهلكوا».
وفي كتاب المستدرك ، وكتاب ابن حبّان :
عن ابن مسعود أيضاً ، قال : قال النبيّ صلىاللهعليهوآله
: «إنّما أهلك من قبلكم الاختلاف».
وفي كتاب البيهقي : عن ابن عمر ، قال :
قال النبيّ صلىاللهعليهوآله :
«إنّما هلك من كان قبلكم بهذا ، ضربوا كتاب اللّه بعضه ببعض ، وإنّما نزل كتاب
اللّه يصدّق بعضه بعضاً ، ولا يكذّب بعضه بعضاً ، ما علمتم فيه فقولوا ، وما
جهلتم فكِلوه إلى عالمه».
أقول
: هذا الخبر شاهد صدقٍ على ما قلناه ـ
كما يأتي أيضاً ـ من عدم اختلافٍ في القرآن . نعم ، ليس كلّ أحد يعلمه ، وله علماء
ـ هم الذين قرنهم النبيّ صلىاللهعليهوآله به
في أخباره المتواترة الآتية ـ فالمرجع إليهم .
وفي صحيح ابن ماجة ، ومسند ابن حنبل ،
ومستدرك الحاكم : عن رجلٍ سمّوه ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله
أنّه قال : «قد تركتكم على البيضاء
ليلها كنهارها ، لا يزيغُ عنها بَعدي إلاّ هالك ، ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً
كثيراً ، فعليكم بما عرفتم من سنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديّين ، عَضّوا
عليها بالنواجذ ، وعليكم بالطاعة وإن كان عبداً حبشيّاً ؛ فإنّما المؤمن كالجمل
الأليف حيثما قيد انقاد»،
وقد ذكر ابن ماجة أنّ هذا ممّا وعظ به أصحابه في آخر عمره ، كأنّه مودّع وداع
الفراق .
__________________
أقول
: لا يخفى دلالة هذا الخبر على أشياء لم
يفهمها جمهور المخالفين ، فأيّدوا به مذهبهم ، وهو دالّ على خلافه :
أمّا
أوّلاً : فلأنّ قوله : «قد تركتكم» إلى قوله صلىاللهعليهوآله :
«هالك» صريح في توضيح النبيّ صلىاللهعليهوآله جميع
معالم الشريعة ، وإنّما الضياع حصل من بعده ، ـ كما مرّ غير مرّة ، وسيأتي أيضاً ـ
ويؤيّده قوله : «ومن يعش منكم» ، لدلالته على عدم وجود خلاف مضرّ في زمانه ، وأنّه
ممّا يحدث بعده بسبب ترك سنّته ؛ ولهذا أمرهم بالتمسّك بسنّته وسنّة خلفائه
المستنّين بسنّته ، وعدم التوجّه إلى الخلافات ؛ لضلالها .
وأمّا
ثانياً : فلأنّ قوله : «وسنّة الخلفاء» بعد قوله
: «بسنّتي» كالصريح في أنّ مراده بيان كون مأخذ السنّتين شيئاً واحداً ، وأنّه
لذلك صارت الأخيرة بحكم الاُولى في لزوم التمسّك .
ومن البيّن ـ كما مرّ ويأتي ـ أنّ سنّته صلىاللهعليهوآله لم
تكن برأيٍ ونحوه ، بل بالورود من اللّه ، فعلى هذا لا بدّ أن تكون سنّة الخلفاء
أيضاً كذلك . ولا يخفى أنّ المراد بالخلفاء حينئذٍ لا بدّ أن يكون من كان كلّ حكمه
مأخوذاً من اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله ،
وذلك منحصر في عليّ وذرّيّته الأئمّة عليهمالسلام ،
كما سيتّضح أيضاً غاية الوضوح في محلّه ، فدلّ الخبر على أنّ المراد هؤلاء دون من
زعمه المخالفون ، ويؤيّده التقييد بالرشد والمهدويّة ؛ ضرورة أنّ الحاكم بالرأي
ليس كذلك على الإطلاق ؛ لوقوع الخطأ في حكمه .
ثمّ من هذا يظهر أيضاً أنّه ينبغي حمل
ما ورد في غيره من أمثال هذه العبارة مهما يناسب على هؤلاء ، ولا أقلّ من إمكان
الحمل بحيث لا يمكن الاستدلال على كون المراد غيرهم .
وأمّا
ثالثاً : فلأنّ قوله : «وعليكم» إلى آخره ،
كالصريح في لزوم
المداراة والتقيّة ،
وترك منازعة الحُكّام وإن كان جائراً دنيئاً (غير قابل)، كما ظهر سابقاً ويظهر فيما بعد أيضاً
، لا ما زعموه من أنّ ذلك لحقّيّتهم ؛ إذ ليس في العبارة ما يشعر به ، فضلاً عن
التبادر . وعلى أيّ تقدير ، دلالته على ذمّ الاختلاف ممّا لا كلام فيه ، فافهم .
وفي كتب عديدة ، منها : صحيح الترمذي
وقال : إنّه حسن صحيح غريب،
ومنها : كتاب الحميدي وغيرهما : عن عمر ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله
أنّه قال في حديثٍ له : «عليكم بالجماعة
وإيّاكم والفرقة».
وفي كتاب الزوائد لعبد اللّه بن أحمد
بن حنبل : عن النعمان بن بشير،
قال : قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله :
«الجماعة رحمة والفرقة عذاب».
أقول
: لا يخفى أنّ بعد ملاحظة هذين الخبرين
وأمثالهما ـ ممّا سيأتي في محلّه ـ مع سائر الأخبار الصريحة في ذمّ الاختلاف لا
يبقى شكّ في أنّ المراد بالفرقة هاهنا أيضاً هو إظهار الاختلاف ، لا ما سيظهر
بطلانه من كون كلّ اتّفاق جماعةٍ حقّاً .
كيف لا ! وفي الكتاب الكبير والأوسط
للطبراني : عن ابن عمر ، عن
__________________
النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
قال : «ما اختلفت اُمّة بعد نبيّها إلاّ ظهر أهل باطلها على أهل حقّها».
وفي خطبةٍ لعليّ عليهالسلام : «ما اختلفت دعوتان
إلاّ كانت إحداهما ضلالة».
ومن هذا القبيل أيضاً ما رواه مسلم وأبو
داوُد والنسائي في صحاحهم ، وابن حنبل في مسنده ، عن عرفجة، قال : قال النبيّ صلىاللهعليهوآله :
«ستكون هَنات وهَنات ، فمن أراد أن يفرّق أمر هذه الاُمّة وهي جميع ، فاضربوه بالسيف
كائناً ما كان»؛
إذ ظاهر أنّه إذا كان الواجب على الناس ـ كما سيأتي ـ إطاعة من كان حكمه من اللّه
ورسوله صلىاللهعليهوآله وتعليمهما
من غير تحقّق اختلافٍ ، فمن أراد خلاف ذلك ممّا يؤول إلى تفرّقهم بأيّ جهة كان وجب
دفعه ، كما فعل أهل الجمل ، ومعاوية في حقّ عليّ عليهالسلام جهاراً
، بل أهل السقيفة أيضاً ولو بغير إجهار ، فافهم .
وقد مرّ في الباب السابق قول النبيّ صلىاللهعليهوآله :
«إنّ اللّه بعثني رحمةً للناس كافّة ، فأدّوا عنّي رحمكم اللّه ، ولا تختلفوا
كما اختلف الحواريّون على
__________________
عيسى ، فإنّه دعاهم
إلى مثل ما أدعوكم إليه فأبى من قرب مكانه فكرهه ، فشكى عيسى عليهالسلام إلى اللّه»، الخبر .
وفي صحيح مسلم ، وصحيحي النسائي وابن
ماجة ، ومسند أحمد : عن أبي هريرة ، قال : قال النبيّ صلىاللهعليهوآله
: «ذروني ما تركتكم ، فإنّما هلك من كان
قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم»،
الخبر .
وفي كتاب البيهقي : عن عليّ عليهالسلام ، قال : «قال رسول
اللّه صلىاللهعليهوآله :
إنّ بني إسرائيل اختلفوا فلم يزل اختلافهم بينهم حتّى بعثوا حكمين فضلاّ وأضلاّ ،
وإنّ هذه الاُمّة ستختلف فلا يزال اختلافهم بينهم حتّى يبعثوا حَكمين فيضلاّ ويضلّمن اتّبعهما».
وفي كتاب الزوائد لعبد اللّه بن أحمد
بن حنبل : عن عليّ عليهالسلام أيضاً
، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
قال : «سيكون اختلاف أو أمر ، فإن استطعت أن تكون السلم فافعل».
وفي كتاب الحكيم : عن ابن مسعود ، عن
النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
قال : «المتمسّك بسنّتي عند اختلاف اُمّتي كالقابض على الجمر».
وفي الاستيعاب : عن الحسين بن عليّ عليهماالسلام قال : «قال النبيّ صلىاللهعليهوآله :
__________________
اختلفتم وأنا بين أظهركم
، وأنتم بعدي أشدّ اختلافاً».
وقال يهوديّ لعليّ عليهالسلام : ما دفنتم نبيّكم
حتّى اختلفتم؟ فقال له : «إنّما اختلفنا عنه لا فيه ، ولكنّكم ما جفّت أرجلكم من
(ماء)البحر حتّى قُلتم
لنبيّكم : ( اجْعَلْ لَنَا إِلَٰهًا كَمَا
لَهُمْ آلِهَةٌ )»الخبر
.
والأخبار في ذمّ الاختلاف والتفرّق ،
وضلالته ، وأنّه كان سابقاً ويكون في هذه الاُمّة ، كثيرة ـ وسيأتي بعضها في الفصل
الآتي وغيره ، سوى ما سبق في الفصول السابقة أيضاً ـ وصراحة أكثرها في كون المراد
الاختلاف في المسائل الدينيّة والأحكام الشرعيّة وغيرها واضحة ؛ بحيث لا يمكن
تخصيصها بالاختلاف في الآراء والحروب ، كما زعمه بعض الجاهلين فحمل عليه بعض
الآيات ، وتوهّم أنّه يجري في غيره أيضاً ، وسخافته كما ترى .
لكن من أعجب الغرائب ، وأفضح الفضائح ما
تشبّث به عامّة علماء المخالفين ممّا هو أوهن من بيت العنكبوت في مقابل هذه الآيات
والروايات كلّها ، بل وغيرها أيضاً ، بمحض أنّهم رأوا أنفسهم واقعين في مخمصة
الاختلاف ؛ بحيثلا
منجى لهم منه إلاّ بالقول بما لا يقولون به ، فإنّهم لمّا تركوا بعد رحلة رسول
اللّه صلىاللهعليهوآله التزام
متابعة عليّ وذرّيّته عليهمالسلام الأوصياء
العلماء من اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله ـ
كما سيظهر ـ فلم يجدوا من الكتاب والسنّة المتداولة بينهم إلاّ أحكاماً قلائل ،
فألزمهم ذلك إلى أن وضعوا من عند أنفسهم ، وبحسب تحسين عقولهم ، واقتضاء آرائهم
قواعد لاستنباط
__________________
الأحكام الإلهيّة
(والمسائل الدينيّة)،
ووقعوا بذلكفي
تيه الاختلاف .
فمن قبيل : الغريق يتشبّث بكلّ حشيش ،
تشبّثوا لتجويز الاختلاف بخبر ضعيف السند عندهم ، ومع هذا لا يشفي عليلاً ولا يروي
غليلاً ، وهو ما رواه البيهقي في كتاب المدخل ، وكذا الديلمي في مسنده بإسنادٍ فيه
جويبر، عن الضحّاك، عن ابن عباس ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
قال : «مهما اُوتيتُم من كتاب اللّه فالعمل به لا عذرَ لأحد في تركه ، فإن لم يكن
في كتاب اللّه فسنّةٌ منّي ماضية ، فإن لم يكن سنّةٌ منّي فما قال أصحابي لكم ،
إنّ أصحابي بمنزلة النجوم في السماء ، فأيّما أخذتم به اهتديتم ، واختلاف أصحابي
لكم رحمة».
وقد صرّحوا بأنّ جويبراً ضعيف جدّاً ،
وأنّ الضحّاك عن ابن عبّاس
__________________
منقطع.
وقال العراقي: إنّ هذا الخبر نقله صاحب كتاب العلم
والحلم هكذا : «اختلاف أصحابي رحمة لاُمّتي» ، ثمّ قال : وإنّه ضعيف مرسل.
ثمّ إنّه أورد هذا الأخير جمع منهم
البيهقي في الرسالة الأشعريّة بغير سند ، وكذا الحليمي، وإمام الحرمين، وابن الحاجبفي بحث
__________________
القياس من مختصره
بلفظة «اختلاف اُمّتي رحمة للناس».
والظاهر أنّ مرادهم بيان ورود «اُمّتي»
بدل «أصحابي» في آخر الحديث المذكور ، ولم نجده هكذا في رواية أصلاً ، حتّى أنّ
السيوطي قال في جامعه : إنّ هذه العبارة ممّا ذكروها بغير سند ، ثمّ قال : ولعلّها
خرجت في بعض كتب الحفّاظ التي لم تصل إلينا،
ولا يخفى تكلّفه إن كان توجيهاً لكونها بقيّة الحديث ، وإلاّ فلا يبعد أن يكون
مراده ـ بل مرادهم أيضاً ـ ورودها حديثاً برأسه .
وعلى أيّ تقدير لا شكّ في اشتهار هذه
العبارة الأخيرة على الألسنة اليوم اشتهاراً زائداً ، بحيث كتب بعضهم كتاباً في
بيان مسائلهم المختلفة وسمّاه كتاب الرحمة في اختلاف الاُمّة ، مع ما عرفت ممّا
فيها عندهم ، بل ما في أصل الحديث أيضاً ؛ ولهذا قال بعضهم : إنّ كثيراً من
الأئمّة زعموا أنّ أصل الحديث لا أصل له ، حتّى أنّ بعضهم اعترض عليه : بأنّ
الاختلاف لو كان رحمة لكان الاتّفاق عذاباً.
وقد روى أيضاً ما بمضمونه ابن عساكر ،
وصاحب كتاب الإبانة بإسناد فيه ضعفاء أيضاً ، عن عمر ، عنه صلىاللهعليهوآله هكذا
قال : «سألت ربّي فيما
__________________
يختلف فيه أصحابي من
بعدي ، فأوحى اللّه إليّ : يا محمّد ، إنّ أصحابك عندي بمنزلة النجوم في السماء ،
بعضها أضوأ من بعض ، فمن أخذ بشيء ممّا هم عليه من اختلافهم فهو عندي على هدىً».
وكذلك روى الدارقطني وغيره عن عمر أيضاً
أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قال:
«أصحابي كالنجوم، فبأيّهم اقتديتم اهتديتم»(وفي
رواية : «فبأيّهم أخذتم اهتديتم ).
وقد صرّح جمع منهم بأنّ في بعض أسناده
حمزة بن أبي حمزة النصيبي،
وهو متّهم بالكذب .
وفي بعض أسناده بعض المجاهيل ، حتّى قال
البزّار : إنّه منكر لا يصحّ.
__________________
وقال ابن حزم: إنّه مكذوب موضوع باطل.
أقول
: مع قطع النظر عن كلامهم في الإسناد ،
وضوح عدم استقامة ما فهمه القوم ـ حتّى ممّا ذكروه مسنداً ، أعني هذه العبائر
الثلاث ـ عقلاً ونقلاً ، بل على مسلك القوم أيضاً كما سيظهر ، كالشمس في رابعة
النهار ، بحيث أن لا مخلص لهم عن ذلك إلاّ أن يلتزموا كونها إمّا موضوعة ، أو
المراد غير المعنى الذي فهموه منها .
أمّا
أوّلاً : فلأنّ ما فهموه منها خلاف صريح محكمات
الآيات القرآنية ، كما مرّ بعضها ويأتي بعض .
وأمّا
ثانياً : فلأنّه خلاف جميع ما مضى ويأتي من صحاح
الأخبار النبويّة وأمثالها ، التي وصلت حدّ المتواتراتالمعنوية ، لا سيّما الأخبار التي وردت
في خصوص ذمّ الاختلاف ، وما ورد في ذمّ بعض الأصحاب ولو على سبيل الإجمال ، كما
سيأتي في أحاديث الحوض وغيرها في مقالات المقصد الثاني ، بل ربّما يقال : لم نجد
حديثاً إلاّ منافياً لهذا .
وأمّا
ثالثاً : فلما ذكره صاحب كتاب الاستغاثة، حيث قال : إنّ هذا
__________________
القول لا يخلو من أن
يكون الرسول صلىاللهعليهوآله قاله
لأصحابه وغيرهم ، أو قاله لأصحابه دون غيرهم ، أو قاله لغير أصحابه .
فإن قالوا : إنّه قاله للصحابة وغيرهم ،
أو قاله للصحابة دون غيرهم ، قيل لهم : فهل يستقيم في الكلام الفصيح المحكم أن
يقول لأصحابه : «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» ، وكذا قوله : «اختلاف
أصحابي رحمة لكم» ، أما ترون ، محال هذا الكلام ما أبينه ؟ .
وإن قالوا : إنّه قاله لغير الصحابة ،
قيل لهم : هل معكم بهذا خبر معروف مجمع عليه ، فارووه ؟ أم هو شيء تتخرّصونه
بعقولكم واستدلالكم ؟ فغير مقبول ذلك منكم ؛ لأنّ الصحابة هم الذين رووه ، بل إنّما
رواه عمر وكذا ابن عباس ، فلو كان قاله لغيرهم لكان قد ذكروا ذلك الخبر ، وكانوا
يقولون أو يقول : إنّ الرسول قال لجميع من أسلم غير الصحابي : «أصحابي كالنجوم»
إلى آخره ، ولمّا لم يكن في نقلكم شيء من هذا التخصيص ، بطل ادّعاؤكم في ذلك، ثمّ ذكر إيرادات أُخَر أيضاً .
وأمّا
رابعاً : فلأنّه يلزم حينئذٍ أنّ كلّ من اتّبع
قول بعض الجهّال ، بل الفسّاق من الصحابة أو المنافقين منهم ، وترك العمل بقول بعض
العلماء الصالحين منهم ، يكون مهتدياً ومن أهل النجاة ، وهو خلاف السنّة الثابتة
ومحكم القرآن ، بل بديهيّ البطلان .
وأمّا
خامساً : فلأنّه يلزم حينئذٍ أن يكون التابع
لقتلة عثمان ، والذي قعد عن نصرته تابعاً للحقّ ومهتدياً ؛ ضرورة كون أكثرهم من
المهاجرين والأنصار ، وكذا يكون هكذا من اتّبع عثمان في امتناعه [عن] دفع مروان
__________________
إلى خصومه ، أو خلع
نفسه ، وغير ذلك ، وكذا يلزم أن يكون أتباع عائشة وطلحة ، والزبير ، ومعاوية ،
والخوارج الذين بغوا على عليّ عليهالسلام وقاتلوه
، مهتدين وعلى الحقّ ، وكذا أتباع عليّ عليهالسلام ،
حتّى لو أنّ رجلاً حارب مع معاوية ـ مثلاً ـ إلى نصف النهار ، ثمّ عاد في نصفه
الآخر فحارب مع عليّ عليهالسلام إلى
آخر النهار ، لكان في الحالين جميعاً مهتدياً تابعاً للحقّ ، بل يجري هذا بعينه في
أفعال يزيد (بن معاوية )وأتباعه
من قتل الحسين عليهالسلام ،
وسبي آل محمد عليهمالسلام ،
ونهب أهل المدينة وغيرها ممّا صدر منه ومن سائر بني أُميّة من سبّ عليّ عليهالسلام وغير ذلك ؛ حيث تبعوا
في ذلك معاوية وأمثاله من الصحابة (أنّه حقٌ)،
والتوالي بأسرها باطلة ضرورة واتّفاقاً ، بل فيه استلزام تكذيب النبيّ صلىاللهعليهوآله فيما
أخبر به : من كون بعضهم ظالماً على بعض ، ولعنه ، وذمّه ، وقدحه ، وطعنه قتلة عليّ
والحسين عليهماالسلام ،
ومن عادى أهل بيته الطاهرين ، ونحو ذلك .
ولو
قيل : إنّ بعض ما ذُكر إنّما هو خلاف صريح
القرآن وسنّة الرسول صلىاللهعليهوآله ،
ومتابعة الصحابي إنّما هي فيما لا نصّ فيه ؟
قلنا
: نحن لا نجري هذا الكلام ، إلاّ فيما لم
يكن بزعمكم خلاف الكتاب والسنّة ممّا وجّهتم فعل فاعله بالاجتهاد ، وأكثر هذه
المواضع عندكم كذلك ، وإلاّ لزمكم تضليل جماعة كثيرة من الصحابة ، لا سيّما محاربي
عليّ عليهالسلام ،
فتأمّل حتّى تفهم أنّ مع هذا أيضاً يلزم هذا القائل أن يحكم بضلال بعض الصحابة ،
وارتكابه خلاف الكتاب والسنّة ، وذلك مع هدمه كثيراً من قواعدهم يفسد عليهم عموم
هذا الحديث أيضاً ، فافهم .
__________________
وأمّا
سادساً : فلأنّه يستلزم أن لا يكون عند القوم
كلّ من لم يقل بخلافة أبي بكر وأبطل رأي أصحاب السقيفة مبطلاً ، بل يجب أن يكون
محقّاً مهتدياً ؛ لاقتدائه في ذلك بسعد بن عبادةالذي لا شكّ ولا خلاف في كونه من كبار
الصحابة ، وفي عدم بيعته لأبي بكر ولا لعمر أصلاً ، وبأمثاله ممّن سيظهر أنّه لم
يبايع يوم السقيفة ، فإذن ، لا يرد لهم عتب على منكري الثلاثة ولا اعتراض وإن
صحّحوا خلافتهم .
وأمّا
سابعاً : فلأنّه يستلزم أن لا يجوز للقوم أيضاً
عتاب على من إذا سَبّ أحداً من الصحابة ، أو أظهر عداوته ، أو تبرّأ منه ، أو شتمه
ونحو ذلك ، فإنّ جميع هذا ممّا صدر من بعض الصحابة ، كمعاداة عثمان لجمع من
الصحابة حتّى أخرج أبا ذرّ من المدينة ، وأهان غيره ، وكمعاداة جماعة كثيرة منهم
(له)بحيث انجرّ إلى قتله
ومنعه من الدفن ، حتّى أنّهم سمّوه نعثلاً ، وكسَبّ عليّ والحسنين عليهمالسلام ، وابن عبّاس ،
وعمّار ، ونظرائهم معاوية وعمرو بن العاص وغيرهما من الصحابة الذين كانوا من
مشاوريهما ، وكسبّ معاوية وعمرو ومن وافقهما من الصحابة عليّاً والحسنين عليهمالسلام
__________________
وعمّاراً وعبد اللّه
بن العبّاس ، وأمر معاوية الناس بالتبرّي من عليّ عليهالسلام ،
ولعنه جهاراً .
فعلى هذا من اقتدى بهؤلاء في التبرّي ،
والسبّ ، وعداوة الصحابي ، لا سيّما الذي ظهر عليه عيبه ولو بدخول الشبهة عليه ، لزم
أن يكون محقّاً مهتدياً عند القوم ، بحيث لا عتب عليه ولا وزر من غير استثناءٍ
لأحدٍ ؛ ضرورة عدم [وجود]
صحابيّ أزيد مناقب ولا أظهر حُسن حال من عليّ والحسنين عليهمالسلام ، وقد سبّهم من
ذكرناه ، والقوم لم يزيدوا إلاّ بالترضيةمن
الطرفين .
وأمّا
ثامناً : فلأنّه يستلزم رضا اللّه بكلّ قبيح
صدر من الصحابة ، ومشروعيّة الشيء ونقيضه جميعاً إذا استندابفعلهم ، وذلك سفسطة محضة .
وأمّا
تاسعاً : فلأنّ الصحابة لو علموا بورود مثل هذا
بهذا المعنى لكانوا أولى الناس بالعمل على وفقه ، فلا معنى حينئذٍ لما أشرنا إلى
صدوره منهم : من منازعة بعضهم بعضاً ، والمقاتلة ، واستقباح بعضهم فعل بعض ونحو
ذلك ، والتزام عدم علم عامّة أعيان الصحابة بمثل هذا حتّى من رواه أيضاً كعمر وابن
عبّاس ممّا يضحك الثكلى.
وأمّا
عاشراً : فلأنّ ما فهموه من العبائر المسندة
المذكورة ـ مع استلزامالمفاسد
المزبورة ـ لا يجديهم نفعاً ؛ ضرورة أنّ عامّة اختلافهم
__________________
من فقهائهم ، والمورد
ـ كما عرفت ـ الصحابة دون غيرهم ، ودون إثبات عدم الفرق خرط القتاد ، فانسحاب
الحكم إلى الغير تحكّم (صرف)ساقط
في مقابل الكتاب والسنّة ، وكأنّه لأجل هذا غيّر العبارة مَنْ نَقَله بقوله :
«اختلاف أُمّتي رحمة للناس» ، لكن لم يعلم أنّ هذا أكثر فساداً ، وأعظم قباحةً ، وأوضح
شناعةً ؛ لأنّه :
أوّلاً
: خلاف ما هو موجود في كتب حفّاظ الحديث
كما مرّ ، فضلاً عن حال السند ، بل الظاهر ممّا ذكرناه من الأخبار الثلاث أنّ من
روى هكذا إمّا متوهّم ، أو كاذب متعمّد ، وما مرّ من كلام السيوطي محض توجيه بعيد
لدفع الجزم بالوضع ، لا كونه قابلاً للاستدلال به أو الاعتماد عليه . نعم ، ربّما
يقال : إنّ مراده أنّه حديث آخَر وارد هكذا ، كما سيأتي مؤيّداً له عن الصادق عليهالسلام .
وثانياً
: يرد عليه جميع ما أوردناه آنفاً مع
زيادة مفاسد اُخَر عظيمة ، بحيث لا يمكن لهم التوجيه والدفع ، حتّى أنّ أدنى ما
يرد عليهم مناقضة صريحة للأحاديث التي اتّفق على نقلها وصحّتها المخالف والمؤالف ،
التي منها : إخبار النبيّ صلىاللهعليهوآله بافتراق
الاُمّة إلى نيف وسبعين فرقة ، واحدة منها ناجية والباقون كلّهم هالكون وفي النار
؛ إذ لا يتبادر من الرحمة إلاّ خلاف النقمة ، فيستلزم ترتّب الثواب وترك العقاب ،
وهو مناف للهلاكة ، بل يلزم ممّا ذكروه عدم جواز تضليلهم أحداً من طوائف الإسلام ؛
لاستناد كلٍّ منهم إلى شيء زعمه حجّة ثابتة وإن كان مخطئاً واقعاً ، بل ولو كان
مستندُه شبهة واضحة البطلان ، بل ولو كانت خلاف الضرورة الدينية واقعاً ، وعند
(كلّ)
__________________
من سواه ، كما هو
مقتضى توجيههم أفعال معاوية ، لا سيّما معاداته لعليّ عليهالسلام وسبّه
وشتمه ؛ إذ لا شبهة مطلقاً في حُسن حال عليّ عليهالسلام كتاباً
وسنّةً وإجماعاً من الصحابة وغيرهم ، كما هو ظاهر ، بل مسلّم عندهم أيضاً .
ولا يخفى أنّه حينئذٍ يلزمهم أن يحكموا
بعدم ضلالة الشيعة مطلقاً ولو صدر منهم السبّ ؛ ضرورة أنّ استنادهم في ذلك إلى ما
هو أقوى من شُبه معاوية ، بل ما هو قويّ في نفسه ؛ إذ أدنى ما هو لهم عدم كون
روايات مخالفيهم حجّة عليهم ، لا سيّما في مقابل ما تواتر عندهم من روايات أئمّتهم عليهمالسلام ، بل بعض أخبار
خصومهم أيضاً .
ثمّ إنّ المفاسد كثيرة يكفي ما ذكرناه
لصاحب البصيرة ، فإذَنْ الحقُّ الذي يجب أن يتمسّك به تارك الحميّة الجاهليّة
ومتابعة الأسلاف عدمُ الاعتناء بأمثال هذه المنقولات المناقضة للكتاب والسنّة ،
فضلاً عن استلزام المفاسد ، بل يجب طرحها أو توجيهها بما لا ينافي غيرها ، كأن
يقال فيما نحن فيه مثلاً : إنّ المراد باقتداء الأصحاب قبول ما يروونه عن النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
يعني : الثقات منهم ؛ لخروج غيرهم بآية نبأ الفاسقوغيرها ممّا ذكره أصحاب دراية الحديث، وكذا يقال : إنّ المراد بالاختلاف
التردّد والتعاشر لتحصيل المعارف ونحوها ، أو المراد قيام البعض مقام الآخَر ، كما
أنّه كذلك أئمّة الإماميّة .
__________________
ولا يخفى أنّه حينئذٍ يمكن حمل الأصحاب
على الخواصّ الكمّل منهم كعليّ والحسن والحسين عليهمالسلام ونظرائهم
الثابت صدقهم وعلمهم .
وممّا يدلّ على هذا الحمل أنّ هذا الخبر
موجود في بعض كتب الشيعة ، ككتاب «بصائر الدرجات» رواه فيه عن أبي جعفر الباقر عليهالسلام ، أنّه رواه عن
النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
وفي آخره ، قيل : ومن أصحابك يا رسول اللّه؟ فقال : «أهل بيتي».
ولا يخفى أنّه حينئذٍ يمكن أن يقال
أيضاً بأنّ المراد بالاختلاف حينئذٍ اختلاف أجوبة الأئمّة عليهمالسلام بالنسبة إلى السائلين
على جهة التقيّة ، وعلى قدر عقول السائلين وتفاوت أفهامهم ؛ حيث كانوا هُمْ ، بل
والرسول صلىاللهعليهوآله أيضاً
مكلّفين بذلك ، كما سيأتي في محلّه ، وليس المراد اختلافهم فيما بين أنفسهم ، فإنّ
أقوالهم وأفعالهم جميعاً واحدة ، كما سيظهر .
لكن لا يخفى أنّ هذا المعنى إنّما يجري
في هذا الخبر ، وأمّا خبر «اختلاف اُمّتي» فمعناه ـ إن صحّت الرواية ـ ما ذكرناه
أوّلاً في المراد بالاختلاف ، كما يدلّ عليه ما في كتاب احتجاج الطبرسي : عن عبد
المؤمن الأنصاري،
عن أبي عبداللّه الصادق عليهالسلام إنّه
قال في حديث «اختلاف أُمّتي » : «أنّه حقٌّ ، لكنّ الناس لم يفهموا معناه ؛ إذ ليس
المراد اختلافهم في
__________________
الدين ، إنّما الدين
واحد ، بل إنّما المراد اختلافهم في البلدان لتحصيل الدين ، كما قال اللّه عزوجل : ( فَلَوْلَا
نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ )»، الآية .
فتأمّل حتّى تعرف أنّ هؤلاء القوم
كثيراً ما يروون الرواية من غير فهم ما هو المراد بها ـ وسنذكر أخباراً من هذا
القبيل جميعاً أو أشتاتاً ـ وكذا قد يسقطون بعض أجزاء الحديث ليحصل به إجمال
ينفعهم . ولا تغفل عن دلالة حديث «البصائر» على عدم استبعاد حمل لفظ «الصحابة» في
بعض الأخبار على كون المراد أهل بيته ؛ حيث إنّهم أفضلهم وأمسّهم به وأطوعهم له .
واعلم أيضاً أنّ تأويل الصادق عليهالسلام في حديث اختلاف
الاُمّة يوجب الجزم بورود الخبر ؛ إذ ربّما قال عليهالسلام ذلك
مماشاةً معهم حذراً من تكذيب ما اشتهر بينهم ؛ إذ يكفي في إظهار توهّمهم فيه بيان
معناه الصحيح .
وبالجملة
: إن سلّمنا صحّة الحديث أيضاً فهذا هو
معناه قطعاً ؛ لما ذكرنا من مفاسد المعنىالذي
فهموه ، فافهم .
ثمّ إنّه قد ظهر ممّا بيّنّا عدم إمكان
التشبّث أيضاً هاهنا بالإجماع استناداً إلى اشتهار الاختلاف ، وكون المدار عليه
كما توهّمه بعضهم ؛ إذ ـ مع قطع النظر عمّا سيأتي ممّا ينادي بأن لا اعتناء أصلاً
في دعوى الإجماع إلاّ على ما ثبت اتّفاق كلّ الفِرَق عليه ـ نقول : إنّ هذا أمر
ظهر ورود النهي عنه
__________________
(واضحاً و)صريحاً في محكمات القرآن ، وثابتاًمن السنّة ، واستلزامه المفاسد التي لا
يمكن لهم التزامها ، مع ما سيأتي في محلّه أيضاً من اتّفاق عليّ والأئمّة الصادقين
من ذرّيّته عليهمالسلام ،
وكلّ أصحابهم من علماء الإماميّة على ما هو مطابق الكتاب ، وما ثبت كونه دأب أهل
عصر النبيّ صلىاللهعليهوآلهمن
لزوم أخذ الأحكام من اللّه ورسوله لا غير ، وعلى أنّ الاختلاف من البِدَع الحادثة
بسبب ترك متابعة هؤلاء الأئمّة المعيّنين لتعليم أحكام الدين ، بل إنّ حدوثه مسلّم
عند كلّ المسلمين .
فتأمّل في جميع ما ذكرناه حتّى تعلم أنّ
الاختلاف الذي وقع فيه القوم في غاية وضوح البطلان حتّى عندهم ، ومع هذا يريدون
تصحيحه ولو بالباطل ؛ حيث لا يسعهم الإقرار بالبطلان ، فافهم .
__________________
الفصل الثاني
في
بيان أنّ منشأ التفرّق والاختلاف إنّما هو تفاوت أفراد المدركات ، مع الوقوع بسبب
خطوات الشيطان وتلبيساته في الشبهات ، مثل ما مرّ من متابعة الآراء والأسلاف والهوى
والشهوات ، وكالتمسّك في الدين بالظنّ والتخمين ، ممّا يدخل تحت الاعتبارات
العقليّة والاجتهادات الظنّيّة ، وما يفيده الرأي والقياس والاستحسان ، وأمثال هذه
التخيّلات التي منها الاعتماد على ما استقرّ عليه الجمهور ، وصار من القول أو
الفعل المشهور ؛ بحيث سمّاه الأكثرون إجماعاً وتلقّوه بالقبول ، وإن كان في الأصل
بحسب خرص بعض العقول ، ونذكر فيه ما يدلّ على بطلان هذه الأشياء ، وعدم كونها من
سنن الأنبياء .
لا يخفى أن لا مجال للشبهة في كون تفاوت
مراتب الأفهام من أسباب اختلاف الخاصّ والعامّ ، وقد تبيّن ممّا سبق من البابين
الأوّلين مفصّلاً أنّ متابعة الآباء ورغبة شهوات الدنيا كذلك أيضاً ، وكذا كونهما
مذمومين بنصّ القرآن ، بل من عمدة خطوات الشيطان في إضلال الإنسان .
ولكن من أعظم خطواته ما أضلّ به زَهَدةالعلماء أيضاً ؛ حيث
__________________
زيّن لهم جواز
التعبّد بما أشرنا إليه آنفاً ويأتي تفصيله أيضاً ، من التخيّلات العقليّة
والاستنباطات الظنّيّة التي سمّوها اجتهاداً ، فإنّ عامّة من لم يأخذ مسائل دينه
من العترة المقرونين بالقرآن ـ كما سيأتي ـ تشبّثوا غصباً عليهم ـ كما ذكرنا
سابقاً ـ بالاعتماد في الدين على مقتضى دلالة الآراء والأهواء ؛ بحيث خَبطوا بذلك
في الدين خَبطَ عَشْواء ، وتفرّقوا واختلفوا بذلك في جُلّ أحكام الملّة البيضاء ،
حتّى صار كلّ واحد منهم كأنّه نبيّ شريعته ورسول (ملّته)، وحتّى كأنّ اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله قصّرا
عندهم في إكمال الدين وتبليغ أحكام المسلمين ، مع أنّ وضوح بطلان ذلك عقلاً ونقلاً
كالشمس في رابعة النهار :
أمّا
أوّلاً : فلأنّه مستلزم للتفرّق والاختلاف الذي
تبيّن فساده ، وكونه علامة الضلالة والبطالة ، وما يستلزم ذلك (فهو)كذلك .
وأمّا
ثانياً : فإنّه مستلزم لتكذيب اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله ،
وهو كفر صريح بالضرورة الدينيّة ، فالمستلزم لذلكأيضاً كذلك .
بيان الملازمة أنّهما أخبرا بإكمال
الدين وإتمام النعمة والحجّة ، وتبيان كلّ شيءٍ ، وعدم التفريط في أمرٍ ، كما
ينادي بذلك قوله تعالى : ( الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي )الآية
، وقوله فيه : ( تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ )وقوله
: ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ
شَيْءٍ )وأمثالها ممّا
__________________
سيأتي مع الأخبار
الدالّة على ذلك في محلّه ، لا سيّما ما سنذكره هاهنا من كلام عليّ عليهالسلام وغيره ، ومن البيّن
أنّ ما ادّعاه هؤلاء الجمع من بقاء أكثر الأحكام غير مبيّنةٍ يناقضه ، وهو مفاد
التكذيب .
لا
يقال : وجود أحكام كثيرة لا نعلمها نحن من
الكتاب ولا من السنّة ثابت ، بحيث وصل إلى حدّ الضرورة ، ولا يمكن إنكاره .
لأنّا
نقول : عدم علمكم بها لا يدلّ على عدم الإعلام
؛ إذ ليس بواجب على اللّه ولا على رسوله صلىاللهعليهوآله
تبيان جميع الاُمور على جميع المكلّفين
، وإلاّ لم يحتج إلى بعثة النبيّ صلىاللهعليهوآله أيضاً
.
بل يكفي في ذلك ـ كما يأتي في محلّه
مفصّلاً ـ أن يُعلّم اللّه رسوله صلىاللهعليهوآله جميع
ما تحتاج إليه أُمّته ويُفهمه جميع ما في كتابه ، ويكون الناس مأمورين بالأخذ منه
، كما قد كان كذلك في زمان نبيّنا صلىاللهعليهوآله ،
وينادي به قوله تعالى : ( وَمَا آتَاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا )،
وقوله : ( ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً )وغيرهما
من الآيات الصريحة والروايات الصحيحة . وأن يعلّم الرسولُ أيضاً كلّ ما علّمه
اللّه تعالى رجلاً قابلاً لذلك من اُمّته ؛ ليكون مرجعهم إليه في سائر أحكام
اللّه . . . وهلمّ جرّاً في كلّ عصر إلى آخر الزمان .
بل الحقّ ـ كما سيأتي أيضاً ـ أنّ هكذا
كان ما جرت عليه عادة اللّه من زمان آدم عليهالسلام ،
حيث أوصى إلى شيث ابنه وعلّمه ما علّمه ، وهكذا سائر الأنبياء إلى نبيّنا صلىاللهعليهوآله ،
فأوصى هو إلى عليّ عليهالسلام وعلّمه
ما علّمه من الاُمور وعلم الكتاب ، وأودعه الحكمة وفصل الخطاب ـ كما سيأتي هذا
أيضاً
__________________
مفصّلاً ـ ولهذا كان
عليّ عليهالسلام ينادي
على المنبر بقوله : «سلوني قبل أن تفقدوني»،
وقوله : «لو ثنّيت لي الوسادة لأفتيت أهل التّوراة بتوراتهم» إلى قوله : «وأهل
القرآن بقرآنهم»وأمثال
ذلك .
وكذا أوصى عليّ إلى ابنه الحسن عليهماالسلام وعلّمه ما علّمه ،
وهكذا نسلاً بعد نسل وكابراً بعد كابر ، كما سيأتي أيضاً ، بل قد مرّ في أخبار
أوّل الكتاب جملة مشبعة في جميع هذه المراتب المذكورة ، ومن أراد كمال الانكشاف
وتمام الاستبصار فعليه بتتبّع ما نقله الإماميّة وغيرهم من الأحوال والأقوال عن
الأئمّة الأطهارعليهمالسلام .
ولكنّ الذين تركوا بعد رسول اللّه صلىاللهعليهوآله أخذ
المعالم من عالمها ، وشرب الموارد من مناهلها ، فلم يعبأوا أبداً بشأن اُمناء
الرحمن وعلماء القرآن،
أعني : العترة المقرونين بالقرآن،
كما سيأتي واضح البيان ، وجنحوا مع هذا للّذين لم يكن لهم ضرس قاطع في الدين ،
فضلاً عن معرفة أحكام ربّ العالمين ، كأنّهم لم يسمعوا قول اللّه عزوجل : ( أَفَمَنْ
يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ
يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ )،
وقوله : ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ
وَالَّذِينَ
__________________
لَا
يَعْلَمُونَ )وما بمعناها من الآيات والروايات ،
فأمثال هؤلاء كيف يتصوّر أن لا تكثر عليهم أحكام لا يعرفونها من الكتاب والسنّة ؟
غير أنّ التقصير ليس إلاّ منهم كما تبيّن ،
فحجة اللّه تامّة عليهم ، وليسوا بمعذورين في الاجتهاد ؛ لتحصيلها من غير السبيل
الذي أمر اللّه به ، كما ينادي به ما مرّ من قوله تعالى : ( وَأَنَّ
هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ
فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ).
وقد قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله فيما
رواه عنه المخالف والمؤالف ـ كما سيأتي أيضاً ـ : «إنّ اللّه تعالى لا يقبض العلم
انتزاعاً ينتزعه إليه ، ولكنّه يقبض العلماء ، فاتّخذ الناس رؤساء جُهّالاً
فاتّبعوهم ، فضلّوا وأضلّوا».
كيف لا ! وقد نسب اللّه عزوجل في صريح القرآن إلى
الكفر والضلال والطغيان جماعةً من الاُمم التي سلكت هذا المسلك في سالف الزمان ،
كما مرّ بعض أحوالهم في الفصل الأخير من فصول الباب السابق ، حتّى أنّ من تأمّل في
الفصل المذكور عرف أنّ من شواهد بطلان هؤلاء موافقتهم لاُولئك المبطلين من الاُمم
في كثير من العقائد بسبب الاشتراك في المسالك ، بل من أعظم الشواهد وأوضح الفضائح
عليهم كون مبنى اجتهادهم هذا على (الاعتماد على)الظنّ والتخمين ، واتّخاذ الرأي
__________________
والهوى في الدين ،
وكلاهما من فسدة أعمال المبطلين حتّى من السابقين ، ومن مذامّ صريح السنّة والقرآن
، بل ممّا عدّه اللّه تعالى من خطوات الشيطان ، وجعله من علائم البطلان في كلّ
زمان .
ولنذكر هاهنا نبذاً من الآيات والروايات
الدالّة على ذلك ، سوى ما مرّ ويأتي ، فإنّ جميعها لا يحصى ، ونذكر في ضمن ذلك
أيضاً مجمل ما يدلّ على انحصار الحقّ فيما أنزل اللّه ، فإنّ لتفصيله محلاًّ آخَر
.
قال اللّه عزوجل :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ )،
وصراحته في انحصار التكليف بالأخذ من اللّه ورسوله ـ الذي هو مقتضى الدخول في
السلم دون غير ذلك ـ وأنّ ما سواه من خطوات الشيطان ، وكذا في تعميم الحكم بالنسبة
إلى كلّ مؤمن ، كما هو مقتضى عدم جواز متابعة خطوات الشيطان أبداً ظاهرة على كلّ
خبير بصير ، وستأتي في فصل الآيات أخبار في تفسير الآية ، بل غيرها أيضاً .
وقال سبحانه : ( يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ
يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ )ودلالته أيضاً على كون خطوات الشيطان ـ
التي تبيّن أنّها ما سوى الأخذ من اللّه ورسوله ـ هي من الفحشاء والمنكر ظاهرة ،
حتّى أنّ في أحاديث أهل البيت عليهمالسلام تصريحاً
بتفسير الفحشاء والمنكر بمن ليس حكمه من اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله .
__________________
وممّا يشهد لما ذكرناه قوله تعالى : ( كُلُوا
مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ) إلى قـوله : ( إِنَّمَا
يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا
تَعْلَمُونَ )وقوله : ( قُلْ إِنَّمَا
حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ )
إلى قوله : ( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا
تَعْلَمُونَ )؛ إذ لا شكّ أنّ القول بالاجتهاد
المذكور من جملة ما لا يعلمون ؛ ضرورة عدم حصول العلم لهم بكونه حكم اللّه
الواقعي ؛ إذ المعلوم هو ما لا يحتمل الخطأ .
بل ربّما يقال : إنّه مختصّ ـ فيما سوى
الضروريّات ـ بالمأخوذ من اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله
، كما يشهد له قوله تعالى : ( كَمَا
أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا
وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا
لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ )، مع ملاحظة قوله تعالى : ( قُلْ
إنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إلَىَّ مِنْ رَّبِّىِ )،
وقوله : ( إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا
يُوحَىٰ إِلَيَّ ). وقوله : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ
الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ )،
وأمثال هذه الآيات كما سيأتي ، ومن الروايات ما سيأتي أيضاً ، كقوله صلىاللهعليهوآله :
«إنّما العلم ثلاث : كتاب ناطق ، وسنّة ماضية ، ولا أدري»، وكغيره ،
__________________
فتدبّر .
وقال عزوجل :
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ
قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ
يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ).
ودلالته على كون الطاغوت من لم يحكم بما
أنزل اللّه ، وأنّ اللّه أمر بترك متابعته ، وأنّ متابعته من الشيطان للإيقاع في
الضلال واضحة .
وبمعناه قوله تعالى : ( وَلَقَدْ
بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا
الطَّاغُوتَ )؛ إذ العبادة هي الإطاعة ، كما يشهد له
قوله تعالى : ( لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ )وقوله
: ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ
وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ )،
فإنّ أخبار المخالف والمؤالف صريحة في أنّ المراد أنّهم أحلّوا لهم حراماً ،
وحرّموا عليهم حلالاً فأطاعوهم،
ومعلوم أنّ ذلك كان بآرائهم من غير الورود من اللّه . هذا ، مع أنّ الاجتناب يعمّ
التوقّي من كلّ باب ، فافهم .
وقال سبحانه : ( وَيَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا
__________________
وَمَا
لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ )ومعناه أيضاً الإطاعة ، كما هو معنى ما
سبق عليه ، فيدخل فيه متابعة أصحاب الآراء أيضاً ، ولا ينافيه النزول في عبادة
الأصنام وأمثالها ؛ فإنّ مبنى كثير من الآيات ـ كما صرّح به المفسّرون
والاُصوليّون أيضاً ـ على تعميم الحكم وإن كان سبب نزولها أمراً خاصّاً، كما أنّ هكذا أيضاً قوله تعالى : ( فَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ
بِغَيْرِ عِلْمٍ )؛ إذ لا يخفى شموله فتوى المجتهد المخطئ
أيضاً ؛ ضرورة أنّه يقول بشيء ليس من حكم اللّه : إنّه ممّا حكم اللّه ، اللّهمّ
إلاّ أن يثبت خروجه منه بدليلٍ آخَر ، ودونه خرط القتاد ، كما سيظهر .
بل من شواهد الشمول مع الدلالة على أصل
المقصود أيضاً : قوله تعالى في جواب فتاوى اليهود ، حيث قالوا : ( لَوْ
شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا )
: ( قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ
فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا
تَخْرُصُونَ )؛ لظهور أنّ فتواهم ذلك إنّما كان
بالاجتهاد والرأي دون الورود من اللّه عزوجل ؛
ولهذا عجزوا عن بيان عدم كونه ظنّيّاً ؛ حيث لم يقدروا على إثبات كونه كلام أنبيائهم
، كما قال اللّه تعالى أيضاً : ( أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ
فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ
أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ
لَمَا تَحْكُمُونَ ).
أقول
: صراحة هذا أيضاً في عـدم جواز التعبّد
بالآراء مطلقاً غير
__________________
خفيّةٍ على من له
أدنى بصيرة ، ومن هذا القبيل أيضاً قوله تعالى : ( وَإِنْ تُطِعْ
أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ )
أي : إن تقبل قولهم ( يُضِلُّوكَ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ )
؛ لأنّهم لم يزالوا في خطأ ( إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ).
فالاعتماد على الظنّ حينئذٍ يكون ضلالاً
، فلا حقّ إلاّ فيما علم وروده من اللّه ، كما يدلّ عليه أيضاً قوله تعالى : [ ( قُلْ
إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ )،
وقوله عزوجل ]
: ( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ
الْحَقَّ )الآية ، وقوله سبحانه : ( قُلِ
اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ِ )
إلى قوله : ( وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا
ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ).
وكذا قال : ( فَمَاذَا
بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ).
ومن هذا الباب أيضاً قوله عزوجل : ( اتَّبِعُوا
مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ
أَوْلِيَاءَ ).
وكذا قوله تعالى : ( أَشْرَكْتُمْ
بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا )لما
مرّ آنفاً ، وكذا قوله تعالى : ( وَلَوِ اتَّبَعَ
الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ
بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ
__________________
مُعْرِضُونَ )،
وكذا قوله سبحانه : ( وَإِنَّ كَثِيرًا
لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ )،
وقوله تعالى : ( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ
هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ )؛ ضرورة دلالته على كون ما سوى العلم
والهدى ـ الذي ظهر أنّه الأخذ من اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله
ـ من أفراد متابعة الأهواء ، وأنّها
الضلالة ، وكذا قوله تعالى : ( وَأَنْزَلْنَا
إِلَيْكَ الْكِتَابَ )
إلى قوله : ( فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ
اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقّ ِ )،
وقوله : ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ
عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ )،
وقوله تعالى : ( قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ )،
وقوله : ( قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ
مِنْ رَبِّي )، وقوله : ( فَادْعُ وَاسْتَقِمْ
كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ )، وقوله : ( فَاسْتَمْسِكْ
بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ )
إلى قوله : ( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ )،
وقوله : ( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ
شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا
يَعْلَمُونَ )، وقوله : ( وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ
الظَّالِمِينَ ).
__________________
ثمّ لا يخفى أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله إذا
لم يكن مأذوناً فغيره بالطريق الأولى ، وقد ذكرنا أنّهم غير معذورين في عدم تيسّر
حصول العلم لهم ؛ لأنّ التقصير منهم ؛ حيث تركوا العالم بأحكام اللّه .
وكذا ذكرنا عموم المراد بهذه الآيات وإن
ورد بعضها في أهواء الكفّار ؛ للاشتراك في العلّة المنصوصة ، ويشهد له أيضاً قوله
تعالى : ( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا
تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورً )؛ ضرورة أنّ الآثم الذي جعله اللّه
مقابل الكافر يشمل ما سوى المعصوم من سائر المسلمين ، فافهم .
ومن الآيات قوله عزوجل : ( لَا
تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ
ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ).
وقوله تعالى : ( فَلَا
وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) إلى قوله : ( وَيُسَلِّمُوا
تَسْلِيمًا )، وظاهر أنّ بعد النبيّ صلىاللهعليهوآله نائبه
المتعلّم منه علومه كذلك أيضاً .
وقوله سبحانه : ( وَمَنْ
يُشَاقِقِ الرَّسُولَ )
إلى قوله : ( وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ
الْمُؤْمِنِينَ )الآية ؛ إذ لا يخفى أنّ سبيل المؤمنين
في زمان النبيّ صلىاللهعليهوآله كان
السؤال منه لا غير .
وقوله تعالى : ( أَلَمْ
يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ
__________________
إِلَّا
الْحَقَّ ).
وقوله عزوجل في
مواضع : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي
اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ).
وقوله سبحانه : ( وَمَنْ
يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ
قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
مُهْتَدُونَ ).
ومن البيّن إنّ الذي ترك العالم الآخذ
علمه من اللّه ورسوله جميعاً وتمسّك بغير ذلك ، فهو من جملة أهل هذه الآية ، كما
يشهد له أيضاً قوله تعالى : ( أَفَمَنْ كَانَ
عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ
وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ )، وقوله : ( أَفَمَنْ زُيِّنَ
لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا )، الآية ، وقوله تعالى : ( أَفَمَنْ
يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا
عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )، وقوله : ( وَإِنَّ
الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ )
،
وقوله : ( وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ
أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ )،
وقوله تعالى : ( وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا
يَفْتَرُونَ ).
__________________
والآيات كثيرة ، وخلاصة جميعها بعد
ملاحظة بعضها مع بعض : بيان انحصار العلم والحقّ والهدى والإيمان ، والسبيل
المستوي ، والصراط المستقيم ، وطاعة اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله
، في أخذ جميع الاُمور كلّها صغيرها
وكبيرها ، اُصولها وفروعها ، ممّا ورد من اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله ،
دون غير ذلك بأيّ نحو كان ، وأنّ ما سوى ذلك طريق باطل وضلال وممنوع عنه وإن اتّفق
أحياناً مطابقته لأمر اللّه ، كما يتّضح غاية الوضوح فيما يأتي من الآيات
والأخبار وغيرهما ، كقوله تعالى : ( وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ
مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ )،
الآية . وقوله : ( فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ
وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ )، وقوله : ( وَمَا أَرْسَلْنَا
مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ )،
وقوله : ( اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ
رِسَالَتَهُ )، وقوله : ( وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا
يَتَّقُونَ )، وقوله : ( وَنَزَّلْنَا
عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ )،
وقوله : ( فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ
قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ )،
وقوله : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا
مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ )، وقوله : ( يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ
__________________
يَدَيِ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ )، أي : لا تقطعوا أمراً بدونهما ، وقوله
: ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ
كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ )
، وقوله : ( دْ
أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا . . . )الآية ، وغيرها من الآيات التي لا تحصى
.
وسيأتي تمام الكلام بحيث يتّضح كون
المراد بها ما ذكرناه غاية التوضيح في مواضع ممّا يأتي .
ثمّ لنذكر الأخبار أيضاً لزيادة
الاستبصار ، ولتسلم الآيات من شبه أهل الإنكار ، وقد قال اللّه تعالى : ( قُلْ
كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ
أَهْدَىٰ سَبِيلًا )، وقال عزوجل :
( كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ
فَرِحُونَ ).
روى البخاري في صحيحه : عن أبي هريرة ،
قال : قال النبيّ صلىاللهعليهوآله :
«إيّاكم والظنّ ، فإنّ الظنّ أكذب الحديث»،
الخبر .
وروى فيه : عن عقبة بن عامر أنّه قال :
«تعلّموا قبل الظانّين ، يعني : الذين يتكلّمون بالظنّ».
وروى فيه أيضاً : عن عروة، عن عبداللّه بن عمرو ، قال : سمعت
__________________
النبيّ صلىاللهعليهوآله يقول
: «إنّ اللّه لا ينتزع العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعاً ، ولكن ينتزعه مع قبض
العلماء بعلمهم ، فيبقى ناس جهّال يُستفتون فَيُفتون برأيهم فيُضلّون ويَضلّون» ،
قال عروة : فحدّثت به عائشة ، فقالت لي : انطلق إلى عبداللّه فاستثبت لي منه الذي
حدّثتني به عنه ، فجئته فسألته فحدّثني به كنحو ما حدّثني به ، فأتيت عائشة
فأخبرتها فعجبت ، فقالت : واللّه ، لقد حفظ عبداللّه بن عمرو.
وروى السيوطي في جامعه : عن كتاب أبي
يعلى، عن أبي هريرة أنّ
النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «تعمل هذه الاُمّة بُرهةً بكتاب اللّه ، ثمّ تعمل بُرهةً بسنّة رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ،
ثمّ تعمل بالرأي ، فقد ضلّوا وأضلّوا».
__________________
وروي عن الخطيب البغداديفي تاريخه ، وكذا عن الديلمي أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «ستفترق أُمّتي على بضع وسبعين فرقة ، أعظمها فتنةً على أُمّتي قوم يقيسون الأمر
، فيحرّمون الحلال ، ويحلّلون الحرام».
وقد رواه الطبراني ، وابن عدي ، وابن
عساكر ، والخطيب أيضاً ، عن عوف بن مالك عنه صلىاللهعليهوآله
هكذا : «افترقت بنو إسرائيل على ثنتين
وسبعين فرقة ، وتزيد اُمّتي عليها فرقة ، ليس فيها فرقة أضرّ على اُمّتي من قوم
يقيسون الدين بآرائهم فيحلّون ما حرّم اللّه ، ويحرّمون ما أحلّ اللّه».
وفي صحيح أبي داوُد : عن معاوية ، عن
النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
قال : «إنّ من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملّة ، وإنّ هذه
الاُمّة ستفترق على ثلاث وسبعين ملّة،
واحدة في الجنّة والباقون في النار ، وإنّه سيخرج من اُمّتي أقوام تجارى بهم تلك
الأهواء كما يتجارى الكَلَبُبصاحبه
، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلاّ دخله».
أقول
: سيأتي ما يدلّ صريحاً على كون المراد
بالأهواء ما ورد في
__________________
الخبر السابق من
الأقيسة والآراء وأمثالها ، وقد مرّت الآيات الدالّة على هذا المعنى أيضاً ، فلا
تغفل .
وفي صحيح ابن ماجة ، والكتاب الكبير
للطبراني : عن ابن عمر ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «لم يزل أمر بني إسرائيل كان معتدلاً حتّى نشأ فيهم المولدون ، وأبناء سبايا
الاُمم التي كانت بنو إسرائيل تسبيها ، فقالوا بالرأي فضلّوا وأضلّوا».
أقول
: قد صرّح بعض علماء رجال العامّة بأنّ
ربيعة الرأي الذي هو أوّل من روّج العمل بالرأي في المدينة ، وكذا غيره حتّى أبي
حنيفة كانوا من أولاد السبايا من المجوس.
وفي كتاب أبي يعلى : عن أبي بكر ، عن
النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «عليكم بلا إله إلاّ اللّه والاستغفار ؛ فإنّ الشيطان قال : أهلكت الناس
بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلاّ اللّه والاستغفار ، فلمّا رأيت ذلك أهلكتهم
بالأهواء ، وهم يحسبون أنّهم مهتدون».
وفي كتاب ابن مندة ، وكتابي ابن قانع
وابن شاهين ، وكتاب أبي نعيم وغيره : عن أفلح ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «أخاف على اُمّتي من بعدي ثلاثاً : ضلالة الأهواء ، واتّباع الشهوات ، والغفلة
بعد المعرفة».
__________________
وقد مرّ سابقاً هذا وأمثاله ، مع ذمّ
الأئمّة المضلّين ونحو ذلك ، فلا تغفل .
وفي كتب عديدة ، منها : صحيح الترمذي ،
ومستدرك الحاكم:
عن أسماء بنت عميس ، وعن نعيم بن حمّاد،
عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
قال في حديث له : «بئس العبد عبد يختل الدنيا بالدين ، وبئس العبد عبد يختل الدين
بالشبهات ، وبئس العبد عبد له هوى يضلّه»،
الخبر .
وفي كتاب الفردوس : عن عليّ عليهالسلام ، قال : «قال النبيّ صلىاللهعليهوآله :
الآخذ بالشبهات يستحلّ الخمر بالنبيذ ، والسحـت بالهدية ، والبَخْسَ
__________________
بالزكاة».
وعن حذيفة ، عنه صلىاللهعليهوآله قال
: «إذا استحلّت هذه الاُمّة الخمر بالنبيذ ، والسحت بالهدية ، واتّجروا بالزكاة ،
فعند ذلك هلاكهم ليزدادوا إثماً».
وفي الفردوس أيضاً : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
لعليّ عليهالسلام :
«يا عليّ ، إيّاك والرأي ، فإنّ الدين من اللّه والرأي من الناس».
وقال ابن أبي الحديد : قد روى كثير من
المحدّثين عن عليّ عليهالسلام أنّ
رسول اللّه صلىاللهعليهوآله قال
له : «إنّ اللّه قد كتب عليك جهاد المفتونين» ، ثمّ ذكر كلاماً طويلاً إلى قوله :
«فقلت : يا رسول اللّه ، لو بيّنت لي قليلاً ؟ فقال : إنّ اُمّتي ستفتن فتتأوّل
القرآن وتعمل بالرأي ، وتستحلّ الخمر بالنبيذ ، والسحت بالهديّة» إلى آخر الحديث، وسيأتي في محلّه .
وفي كتاب الحلية : عن ابن عمر قال : قال
النبيّ صلىاللهعليهوآله :
«كفى بالمرءفقهاً
إذا عبد اللّه ، وكفى بالمرء جهلاً إذا أعجب برأيه».
وفي كتب عديدة ، منها : كتاب أبي داوُد
الطيالسيوكتاب
الضياء
__________________
المقدسي ، وحلية
الأولياء ، وكتاب ابن شاهين في السنّة ، وكتاب ابن مردويه، وكتاب الإبانة للسجزي ، وكتابي ابن
أبي حاتموأبي
الشيخ : عن عمر بن الخطّاب أنّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
قال لعائشة : «يا عائشة إنّ الذين
فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء من هذه الاُمّة ليس لهم
توبة ، يا عائشة ، إنّ لكلّ صاحب ذنبٍ توبة غير أصحاب البدع وأصحاب الأهواء ،
فإنّه ليس لهم توبة ، أنا منهم بريء وهم منّي
__________________
براء».
وفي كتاب الحجّة لنصر المقدسي: عن عمر ، قال : قال النبيّ صلىاللهعليهوآله :
«إنّ اللّه أنزل كتاباً وافترض فرائض فلا تنقضوها ، وحدّ حدوداً فلا تغيّروها ،
وحرّم محارم فلا تقربوها ، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً كانت رحمة من
اللّه فاقبلوها ، إنّ أصحاب الرأي أعداء السنن تَفلتت منهم أن يعوها ، وأعيتهم أن
يحفظوها واستحيواأن
يقولوا : لا نعلم ، فعارضوا السنن برأيهم ، فإيّاكم وإيّاهم»، الخبر .
وفي خطبة لعليّ عليهالسلام هكذا : «إنّ اللّه
افترض عليكم فرائض فلا تضيّعوها ، وحدّ لكم حدوداً فلا تعتدوها ، ونهاكمعن أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت لكم عن
أشياء ولم يدعها نسياناً فلا تتكلّفوها».
وفي كتاب اُصول السنّة وغيره : عن ابن
شهاب، عن عمر أنّه قال :
__________________
إنّ أصحاب الرأي
أعداء السنن ، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها ، وتفلّتت منهم أن يعوها ، واستحيوا حين
سئلوا أن يقولوا : لا نعلم،
إلى آخر الخبر السابق ، ومنه يظهر أنّ أصله من النبيّ صلىاللهعليهوآله
.
ورواه الجاحظ في كتاب الفتيا أيضاً عن
عمر ، وفيه أيضاً قول عمر : إيّاكم والمكايلة ، قالوا : وما هي ؟ قال : المقايسة .
وقول أبي بكر لمّا سئل عن تفسير «الأبّ» في قوله تعالى : ( وَفَاكِهَةً
وَأَبًّا ): أيّ سماء تظلّني وأيّ أرض تقلّني إذا
قلت في كتاب اللّه برأيي.
وقول ابن مسعود : يذهب فقهاؤكم وصلحاؤكم
، ويتّخذ الناس رؤساء جهّالاً ، يقيسونالاُمور
بآرائهم.
وفي كتاب العلم لابن عبد البرّ : عن عمر
، قال : السنّة سنّة اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله ،
لا تجعلوا حظّ الرأي سنّة للاُمّة.
وفي كتب عديدة منها : كتاب الديلمي ،
والدار قطني ، وابن جرير،
__________________
وأبي نعيم ، وغيرهم :
عن عمر أنّه قال : اتّهموا الرأي على الدين . ثمّ نقل أنّ رأيه يوم أبي جندل كان
خلاف ما أمرهم به النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
ثمّ ظهر ثبوت أمره وخطأ الرأي.
وفي صحيح البخاري : عن أبي وائل، قال : قال سهل بن حنيف: أيّها الناس ، اتّهموا رأيكم على
دينكم، ثمّ نقل أنّ رأيه
أيضاً كان خلاف
__________________
ما أمرهم به النبيّ صلىاللهعليهوآله يوم
أبي جندل ، فظهر أخيراً خطؤه ، مثل ما مرّ عن عمر .
وفي كتاب شعب الإيمان للبيهقي ،
والمختارة للضياء المقدسي ، والجامع للخوارزمي : عن إبراهيم التيمي، قال : خلا عمر ذات يوم فأرسل إلى ابن
عبّاس ، فقال له : كيف تختلف هذه الاُمّة وكتابها واحد ونبيّها واحد ، وقبلتها
واحدة ؟ قال ابن عبّاس : إنّا اُنزل علينا القرآن فقرأناه وعلمنا فيمَ نزل ، وإنّه
يكون بعدنا أقوام يقرأون القرآن لا يعرفون فيمَ نزل ، فيكون لكلّ قوم فيه رأي ،
وإذا كان كذلك اختلفوا،
الخبر .
أقول
: وجوه الاختلاف عديدة ، وإنّما هذا أحد
وجوه الاختلاف حيث فسّر جماعة القرآن بآرائهم ، وأوّلوا المتشابهات بأهوائهم ـ كما
سيأتي ـ حتّى أنّ جماعة منهم : ابن عبد البرّ ، وابن النجّار ، والدارمي، والمقدسي رووا عن عمر أنّه قال :
سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن ،
__________________
فخذوهم بالسنن ، فإنّ
أصحاب السنن أعلم بكتاب اللّه.
وكذا أمر عليّ عليهالسلام ابن عبّاس لمّا أرسله
إلى مكالمة الخوارج أن يحتجّ عليهم بالسنّة ، حتّى ينحلّ بها ما تمسّكوا به من
متشابهات الآيات.
والمراد بالسنّة ما ثبت صدوره قولاً أو
فعلاً عن النبيّ صلىاللهعليهوآله ـ
كما سيظهر أيضاً ـ لا كلّ ما روي عنه وإن كان غير ثابت ، فافهم .
ولا تغفل عمّا يرد على عمر من أ نّه مع
روايته هذه الأخبار وجِدّه في إنكار الاعتماد على الرأي عمل في مواضععديدة بالرأي ، كما سيأتي ، حتّى أنّه
اعترف في بعضها بكونه رأياً محتملاً للخطأ ، بل صرّح في بعضها بأنّه بدعة ، مع
أنّه ممّن روى صريحاً كون البدعة والمحدثات ضلالة ، بل مشيراً أيضاً إلى أنّ الرأي
منها ، كما أنّه كذلك واقعاً ؛ ضرورة عدم كونه معمولاً به في زمن النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
ولا من فعله ، كما ينادي به ما مرّ ويأتي .
ولنذكر هاهنا شيئاً ممّا يوضّح ما قلناه
، مع نبذ ممّا ورد في ذمّ البدعة والاُمور المحدثة ؛ حيث إنّ الرأي منها :
روى جماعة ، منهم : مسلم في صحيحه ،
وكذا النسائي وابن ماجة في صحيحيهما ، وابن حنبل في مسنده : عن أبي موسى الأشعري ،
أنّه كان يفتي بالمتعة ، فقال له رجل : رويدك ! قد نقضفتياك ، فإنّك لا تدري ما أحدث أمير
المؤمنين في النسك بَعْدُ .
قال أبو موسى : فلقيت عمر بَعْدُ فسألته
، فقال : قد علمت أنّ
__________________
رسول اللّه صلىاللهعليهوآله فعله
وأصحابه ، ولكنّي كرهت أن يظلّوا بهنّ مُعْرِسين تحت الأراك ، ثمّ يروحون بالحجّ
تقطر رؤوسهم.
أقول
: قد ورد في كتب القوم شواهد كثيرة في
صدق هذا الخبر ، وظهور دلالته على كون صدور هذا الأمر منه بالرأي واضح ، وكذا كونه
بدعةً وإحداثاً ، حتّى أنّه صرّح فيه بكونه خلاف ما ثبت عنده وروده عن النبيّ صلىاللهعليهوآله .
وروى جماعة أيضاً منهم ، البخاري في
صحيحه ، وعبدالرزّاق،
والبيهقي ، وابن خزيمةفي
كتبهم وكذا غيرهم ، وهؤلاء منهم من روى عن نوفل بن إياس، ومنهم عن عبد الرحمن بن عبد القاري، ومنهم
__________________
عن غيرهما : إنّهم
كلّهم نقلوا خروج عمر ليلة في رمضان إلى المسجد فرأى الناس يصلّون متفرّقين ،
فأمرهم أن يجمعوا على اُبيّ بن كعب ، فخرج ليلة اُخرى بعد ذلك والناس يصلّون بصلاة
قارئهم ، فقال : لئن كانت هذه بدعة لنعمت البدعة.
هذه وأمثالها كثيرة ، حتّى أنّ البيهقي
روى عن مسروققال
: كتب رجل لعمر بن الخطاب : هذا ما أرى اللّه أمير المؤمنين عمر ، فانتهره عمر
وقال : لا ، بل اُكتب هذا ما رأى عمر ، فإن كان صواباً فمن اللّه ، وإن كان خطأً
فمن عمر.
__________________
هذا ، وقد روى أيضاً المقدسيعن موسى بن عقبةأنّه نقل خطبة طويلة عن عمر ، فيها :
إنّ شرّ الاُمور مبدعاتها ، وإنّ الاقتصاد في سنّةخير من الاجتهاد في بدعة.
وروى اللاّلكائيفي كتاب السُّنّة : عن عبد اللّه بن
عُكيم، قال : كان عمر يقول
: إنّ أصدق القيل قيل اللّه ، ألا وإنّ أحسن الهدي هدي محمّد صلىاللهعليهوآله ،
وشرّ الاُمور محدثاتها ، وكلّ محدثة ضلالة ، ألا وإنّ الناس بخير ما أخذوا العلم
عن أكابرهم ولم يقم الصغير على الكبير.
أقول : وهذا الخبر ممّا رواه ابن ماجة
في صحيحه ، وكذا غيره : عن
__________________
ابن مسعود وغيره ، عن
النبيّ هكذا : قال صلىاللهعليهوآله في
بعض مواعظه : «إنّما هما اثنتان : الكلام والهَدي ، فأحسن الكلام كلام اللّه ،
وأحسن الهَدي هدي محمّد ، ألا وإيّاكم ومحدثات الاُمور ، فإنّ شرّ الاُمور
محدثاتها ، وكلّ محدثة بدعة ، وكلّ بدعة ضلالة ، وكلّ ضلالة في النار»، الخبر ، وكان عمر أيضاً سمع ذلك من
النبيّ صلىاللهعليهوآله .
وفي كتاب الطبراني : عن أبي اُمية، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
قال : «إنّ من أشراط الساعة أن يُلتمس العلم عند الأصاغر»قال الراوي : يعني أهل البدع .
وفي كتاب حلية الأولياء : عن أنس أنّ
النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «أهل البدع شرّ الخلق والخليقة».
وفيه : عن ابن عبّاس أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «من أدّى إلى اُمّتي حديثاً لتقام به سنّة ، أو تثلمبه بدعة فهو في الجنّة».
وفي كتاب الطبراني : عن عبداللّه بن
بشر ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
قال : «من وقّر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام».
__________________
وفي صحيح البخاري : عن ابن عبّاس ، عن
النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
قال : «أبى اللّه أن يقبل عمل صاحب بدعة حتّى يدع بدعته».
وفي صحيح مسلم ، ومسند ابن حنبل ، وصحاح
أبي داوُد ، والنسائي وابن ماجة : عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «من دعا إلى هُدىً كان له من الأجر مثل اُجور من تبعه ، ومن دعا إلى ضلالة كان
عليه من الإثم مثل آثام من تبعه»،
الخبر .
والأخبار من هذا القبيل كثيرة لا نطيل
الكلام بذكرها ، بل الأخبار التي يستفاد منها ذمّ الرأي ولو ضمناً ، بل ذمّ ما سوى
الكتاب والسنّة ممّا لا تحصى كثرة ، حتّى أنّ منها ما هو من قبيل قوله صلىاللهعليهوآله :
«العلم ثلاثة : كتاب ناطق ، وسنّةماضية
، ولا أدري»،
رواه في الفردوس وغيره ، عن ابن عمر وغيره ، عنه صلىاللهعليهوآله
.
وكذا قوله : «ألا أدّلكم على الخلفاء
منّي ومن أصحابي ومن الأنبياء قبلي ؟ هم حملة القرآن والأحاديث عنّي وعنهم في
اللّه وللّه» ، رواه جمع منهم : الخوارزمي عن عليّ عليهالسلام ،
عنه صلىاللهعليهوآله .
__________________
وكذا قوله صلىاللهعليهوآله
: «لا ترجعون إلى اللّه بشيء أفضل ممّا
خرج من القرآن» ، رواه الترمذي وغيره مرسلاً.
ومنها ما هو من قبيل قوله صلىاللهعليهوآله :
« أبغض الناس إلى اللّه ثلاثة ، أحدهم مبتغ في الإسلام سنن الجاهلية . . .» ،
رواه البخاري في صحيحه عن ابن عبّاس عنه صلىاللهعليهوآله
؛
إذ كون عمل الجاهلية على آرائهم بدون قول اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله ممّا
لا شكّ فيه .
وكذا قوله صلىاللهعليهوآله
: «ليس منّا من عمل بسنّة غيرنا» ، رواه
في الفردوس عن ابن عبّاس أيضاً ، عنه صلىاللهعليهوآله
.
وكذا قوله صلىاللهعليهوآله
: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو
ردّ» ، رواه ابن حنبل في مسنده ، ومسلم في صحيحه ، عن عائشة ، عنه صلىاللهعليهوآله ،
وقد قال البخاري في صحيحه : إذا اجتهد العالم أو الحاكم فأخطأ خلافَ الرسول صلىاللهعليهوآله من
غير علم ، فحكمه مردود ؛ لقول النبيّ صلىاللهعليهوآله
: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو
ردّ». انتهى كلامه .
وكذا قوله صلىاللهعليهوآله:
«سيأتي عليكم زمان لا يكون فيه شيء أعزّ من سنّة يعمل بها» ، رواه الطبراني وغيره
عن حذيفة ، عنه صلىاللهعليهوآله .
وكذا قوله صلىاللهعليهوآله
: «المتمسّك بسنّتي عند اختلاف اُمّتي
كالقابض على
__________________
الجمر» ، وقد مرّ مع
سنده سابقاً.
وكذا قوله صلىاللهعليهوآله
: «من أخذ بسنّتي فهو منّي ، ومن رغب عن
سنّتي فليس منيّ» ، رواه ابن عساكر ، عن ابن عمر ، عنه صلىاللهعليهوآله .
ومنها ما هو من قبيل قوله صلىاللهعليهوآله :
«سيكون في اُمّتي أقوام يتعاطى فقهاؤهم عضل المسائل اُولئك شرار اُمّتي» ، رواه
الطبراني عن ثوبان ، عنه صلىاللهعليهوآله .
وكذا قوله صلىاللهعليهوآله
: «ما ضلّ قوم بعد هُدى كانوا عليه إلاّ
اُوتوا الجدل» . رواه الترمذي وابن ماجة وغيرهما عن أبي أمامةعنه صلىاللهعليهوآله
.
ومنها ما هو من قبيل قوله صلىاللهعليهوآله :
«من أفتى بغير علم لعنته ملائكة السماوات والأرض» ، رواه ابن عساكر عن عليّ عليهالسلام ، عنه صلىاللهعليهوآله .
وكذا «من أفتى بغير علم كان إثمه على من
أفتاه» ، رواه أبو داوُد وغيره عن أبي هريرة ، عنه صلىاللهعليهوآله
.
وكذا قوله صلىاللهعليهوآله
: «العلم دين ، والصلاة دين ، فانظروا
عمّن تأخذون هذا العلم» ، وفي رواية : «دينكم» ، رواه في الفردوس والمستدرك وغيرهما
، عن ابن عمر وأنس وغيرهما ، عنه صلىاللهعليهوآله .
__________________
وكذا قوله صلىاللهعليهوآله
، كما في صحيح أبي داوُد : عن بريدة، عنه صلىاللهعليهوآله
: «إنّ من البيان لسحراً ، وإنّ من
العلم لجهلاً»،
الخبر .
وبالجملة
: أمثال هذه الأخبار الدالّة على المقصود
ضمناً ممّا لا تحصى ، وقد مرّ بعض ويأتي بعض في المواضع المناسبة ، لكن لا حاجة
لنا إلى زيادة إطالة الكلام للاستدلال بها ؛ لكفاية الأدلّة الصريحة ، وقد ذكرنا
منها أيضاً ما به الكفاية ، لكن نذكر أيضاً الآن ما يتّضح به غاية الاتّضاح :
ففي خطب أمير المؤمنين عليهالسلام التي تنادي عباراتها
على كونها كلامه ، فضلاً عن الإسناد :
قوله عليهالسلام :
«إنّما بَدْءُ وقوع الفتن أهواء تُتّبع ، وأحكامُ تُبتدع يُخالف فيها كتاب اللّه»، الخبر ، وقد مرّ في الفصول السابقة .
وفيها قوله عليهالسلام :
«اللّهمّ إنّا نعوذ بك أن نذهب عن قولك ، أو نُفتتن عن دينك ، أو تتابع بنا
أهواؤنا دون الهدى الذي جاء من عندك».
وفيها قوله عليهالسلام :
«لا تركنوا إلى جهالتكم،
ولا تنقادوا لأهوائكم فإنّ النازل بهذا المنزل نازل بشفا جرف هارٍ ، ينقل الردى
على ظهره من
__________________
موضع إلى موضع لرأي
يحدثه بعد رأي يريد أن يلصق ما لا يلتصق ، ويقرّب ما لا يتقارب»، الخبر .
وفيها قوله عليهالسلام :
«فيا عجباً ! وما لي لا أعجب من خطأ هذه الفِرَق على اختلاف حججها في دينها لا
يقتصّون أثر نبيّ ، ولا يقتدون بعمل وصيّ ، ولا يؤمنون بغيب ، ولا يعفّون عن عيب ،
يعملون بالشبهات ويسيرون في الشهوات ، المعروف فيهم ما عرفوا ، والمنكر عندهم ما
أنكروا ، مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم ، وتعويلهم في المبهماتعلى آرائهم كأنّ كلّ امرئٍ منهم إمام
نفسه قد أخذ منها فيما يرى بِعُرىً وثيقات،
وأسباب محكمات».
أقول
: من تتبّع فتاوى أبي حنيفة وأمثاله لم
يبق له شكّ في كونهم مصداق هذه الصفات وأمثالها ممّا سيأتي ، كما سيتّضح ، فلا
تغفل .
وفيها قوله عليهالسلام :
«ترد على أحدهم القضيّة في حكم من الأحكام ، فيحكم فيها برأيه ، ثمّ ترد تلك
القضيّة بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف ذلك ، ثمّ يجتمع القضاة بذلك عند إمامهم
الذي استقضاهم فيصوّب آراءهم جميعاً ، وإلههم واحد ! ونبيّهم واحد ! وكتابهم واحد
! أفأمرهم اللّه بالاختلاف فأطاعوه ؟ أم نهاهم عنه فعصوه ؟ أم أنزل اللّه ديناً
ناقصاً فتمّموه ؟ أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى ؟ أم أنزل
اللّه ديناً تامّاً فقصّر الرسول صلىاللهعليهوآله عن
تبليغه وأدائه ، واللّه سبحانه يقول : ( مَا
__________________
فَرَّطْنَا
فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ )وفيه تبيان كلّ شيء ، وذكر أنّ كتابه
يصدّق بعضه بعضاً ، وأنّه لا اختلاف فيه ، فقال : ( وَلَوْ كَانَ مِنْ
عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا )وإنّ
القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق ، لا تفنى عجائبه ، ولا تنقضي غرائبه ، ولا تنكشف
الظلمات إلاّ به».
أقول
: أمّا اختلاف فتاوى أهل الخلاف وأحكامهم
، وعدم عيب بعضهم على بعض في ذلك ـ وإن كفّر بعضهم بعضاً في العقائد الاُصوليّة ـ
فمعلوم عندهم ، حتّى نُقل عن يحيى بن سعيدأنّه
قال : أهل العلم أهل توسعة ، وما برح المُفتون يختلفون فيحلُّ هذا ويحرّم هذا ،
فلا يعيب هذا على هذا ولا هذا على هذا،
حتّى أنّه سيأتي أنّ فيهم من صوّب جميع آراء هؤلاء وأنكر الخطأ فيها رأساً ، مع
أنّه من أقبح الشنائع ، كما لا يخفى على البصير .
وأمّا اشتمال القرآن على تبيان جميع
الأشياء ـ وإن لم يعلم بذلك إلاّ أهل بيتٍ اُنزل فيهمـ فممّا سيتّضح في محلّه غاية الاتّضاح
، وقد مرّت متفرّقة بل تأتي أيضاً في مواضع شواهد له كثيرة ، حتّى أنّ من الشواهد
التي
__________________
هي دليل ما نحن فيه
أيضاً :
ما رواه أحمد بن حنبل في مسنده ،
والخوارزمي أيضاً عن عليّ عليهالسلام قال
: «قال النبيّ صلىاللهعليهوآله :
أتاني جبرئيل فقال : إنّ الاُمّة مفتونة بعدك ، قلت له : فما المخرج ؟ فقال : كتاب
اللّه فيه نبأ ماقبلكم
، وخبر مابعدكم
، وحكم ما بينكم» إلى أن قال : «وإنّ هذا القرآن لا يليه من جبّار فيعمل بغيره
إلاّ قصمه اللّه ، ولا يبتغي علماً سواه إلاّ أضلّه اللّه»، الخبر .
ومن الخطب الشاهدة والدليل أيضاً قول
أمير المؤمنين عليهالسلام :
«إنّ أبغض الناس إلى اللّه تعالى رجلان : رجل وكله اللّه إلى نفسه ، فهو جائر عن
قصد السبيل ، سائر بغير علم ولا دليل ، مشغوفبكلام
بدعة ودعاء ضلالة» إلى قوله عليهالسلام :
«ورجل قمشَ جهلاً في جهّال الاُمّة» إلى قوله عليهالسلام :
«قد سمّاه أشباه الناس عالماً ولمّا
يَغْنَ في العلم يوماً سالماً» إلى قوله عليهالسلام :
«فجمع ما قلّ منه خير ممّا كثر ، حتّى
إذا ارتوى من آجن وأكثر من غير طائل ، جلس بين الناس مفتياً قاضياً ضامناً لتخليص
ما التبس على غيره» إلى قوله عليهالسلام :
«وإن نزلت به إحدى المبهمات هيّأ لها
حشواً من رأيه ثمّ قطع به ، فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت ، لا يدري
أصاب أم أخطأ ؟»
__________________
إلى قوله عليهالسلام :
«لا يحسب العلم في شيء ممّا أنكره ، ولا
يرى أنّ وراء ما بلغ منه مذهباً لغيره ، (وإن
قاس شيئاً بشيء لم يكذّب رأيه ؛ كيلا يقال : لا يعلم» إلى قوله عليهالسلام :
«يحلّل بقضائه الفرج الحرام ، ويحرّم
بقضائه الفرج الحلال» إلى قوله عليهالسلام :
«أيّها الناس ، عليكم بالطاعة والمعرفة
بمن لا تعذرون بجهالته ، وإنّ العلم الذي هبط به آدم عليهالسلام ،
وجميع ما فضّلت به النبيّون إلى خاتمهم في عترة نبيّكم ، فأَنّى يُتاه بكم ؟ بل
أين تذهبون ؟» إلى قوله عليهالسلام :
«أما بلغكم ما قال فيكم نبيّكم ، حيث
قال : إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا ، كتاب اللّه وعترتي
أهل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما
؟»
ثمّ قال عليهالسلام :
«ألا إنّ هذا عذب فرات فاشربوا ، وهذا ملح اُجاج فاجتنبوا)».
أقول
: صراحتها في جميع ما نحن فيه ظاهرة ،
وقد تقدّمت سابقاً أيضاً في أحاديث فاتحة الكتاب.
__________________
ومنها قوله عليهالسلام في
ذكر العلماء من اللّه وغيرهم ، حيث قال عليهالسلام :
«وآخَر قد يُسمّى عالماً وليس به ، فاقتبس جهائل من جهّال ، وأضاليل من ضُلاّل ،
قد حمل الكتاب على آرائه ، وعطف الحقّ على أهوائه ، يقول : أقف عند الشبهات ،
وفيها وقع ، ويقول : أعتزل البدع ، وبينها اضطجع ؛ فالصورة صورة إنسان ، والقلب
قلب حيوان ، لا يعرف باب الهدى فيتبعه ، ولا باب العمى فيصدّ عنه» إلى قوله عليهالسلام :
«فأين يُتاه بكم ؟ بل كيف تعمهون؟ وبينكم عترة نبيّكم ، وهم أزمّة الحقّ
، وألسنة الصدق فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن ، وَرِدُوهم ورود الهِيم العِطاش .
أيّها الناس ، خذوها عن خاتم النبيّين :
إنّه يموت من يموت منّا وليس بميّت ، ويبلى من بَلِيَ منّا وليس ببال ، فلا تقولوا
ما لا تعرفون ، فإنّ أكثر الحقّ فيما تنكرون» إلى قوله عليهالسلام :
«فلا تستعملوا الرأي فيما لا يدرك قعره
البصر ، ولا يتقلقل إليه الفكر».
ومنها قوله عليهالسلام في
جواب من سأله عن صفات اللّه ، فذكر خطبة مشتملة على صفات اللّه ، ثمّ قال عليهالسلام : «فانظر أيّها
السائل ، فما دلّك القرآن عليه في صفته فائتمَّ به واستضِئ بنور هدايته ، وما
كلّفك الشيطان علمه ممّا ليس في الكتاب عليك فرضه ، ولا في سنّة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوأئمّة
الهدى أثره، فَكِلْ علمه إلى اللّه سبحانه فإنّ ذلك منتهى حقّ اللّه عليك» ،
الخبر ، إلى قوله عليهالسلام :
«فلا تقدّر عظمة اللّه سبحانه على قدر
عقلك فتكون من الهالكين».
__________________
ومنها قوله عليهالسلام :
«واردُدْ إلى اللّه ورسوله ما يضلعكمن
الخطوب ، ويشتبه عليك من الاُمور ، فقد قال سبحانه لقومٍ أحبّ إرشادهم : (
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى
اللَّهِ وَالرَّسُولِ )، فالرادّ إلى اللّه : الآخذ بمحكم
كتابه ، والرادّ إلى الرسول : الآخذ بسنّته الجامعة غير المتفرّقة».
أقول
: صراحة هذا في انحصار الحجّيّة مطلقاً
في محكمات القرآن وثابتات السنّة لا غير ذلك ـ أيّ شيء كان ـ وكذا في نفي حكم لم
يكن فيهما واضحة ؛ ضرورة أنّ الأمر بالرجوع إلى الشيء يقتضي وجوده . نعم ، هو عند
أهله ، كما مرّ غير مرّة ويتّضح حقّ الاتّضاح ؛ ولهذا كلّ من ضلّ عن أهله فاته ذلك
فلم يجد إليه سبيلاً .
وقد قال عليهالسلام في
بعض خطبه أيضاً : «تاللّه ، لقد علّمت تبليغ الرسالات وإتمام العِدات وتمام
الكلمات ، وعندنا أهل البيت أبواب الحكم وضياء الأمر ، ألا وإنّ الشرائع واحدة
وسُبله وحيدة ، من أخذ بها لحق وغنم ، ومن وقف عنها ضلّ وندم».
وقال عليهالسلام لمعاوية
: «سبحان اللّه ! ما أشدّ لزومك الأهواء المبتدعة ، والحيرة المتّبعة ، مع تضييع
الحقائق واطّراح الوثائق»،
الخبر .
ومنه يظهر صريح كون معاوية من أهل البدع
.
__________________
وقد سأله رجل أيضاً بعد دخوله البصرة
بأيّام وهو على المنبر يخطب ، فقال : أخبرني يا أمير المؤمنين ، مَن أهل الجماعة ؟
ومَن أهل الفِرقة ؟ومن
أهل السنّة ؟ ومَن أهل البِدعة ؟
فقال له : «ويحك ! إذا سألتني فافهم :
أمّا أهل الجماعة ، أنا ومن اتّبعني وإن قلّوا ، وذلك الحقّ عن أمر اللّه تعالى
وعن أمر رسوله صلىاللهعليهوآله .
وأمّا أهل الفرقة ، فهم المخالفون لي
ولمن اتّبعني وإن كثروا .
وأمّا أهل السنّة ، فالمتمسّكون بما
سنّه اللّه لهم وإن قلّوا .
وأمّا أهل البِدعة ، فالمخالفون لأمر
اللّه تعالى ولكتابه ولرسوله ، العاملون بآرائهم وأهوائهم وإن كثروا».
أقول
: يظهر من هذا الخبر أشياء ، ولا أقلّ من
كون العامل بالآراء مصداق أهل البدعة ، وقد مرّ ما يدلّ عليه أيضاً ، وسيأتي في
نقل فِرَق هذه الاُمّة اختصاص الفرقة الإماميّة من بين سائر الفِرَق بعدم تجويز
استعمال الرأي مطلقاً ، وأنّه لا يجوز عندهم الاعتماد إلاّ على ما ورد من اللّه ،
ومع هذا سمّاهم أعداؤهم : أهل البدعة ، وسمّوا القوم الذين مدار أحكامهم على الرأي
: أهل السنّة ، وهل هذا إلاّ غاية التعصّب ومحض العناد ؟!
وما أشبه حالهم هذا بما ورد في خبر رواه
صاحب كتاب دولة الأشرار عن أبي موسى المديني،
ومالك بن أنس ، جميعاً عن عمر بن
__________________
الخطاب ، مرسلاً عن
النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
قال في حديث له : «يأتي زمان على الناس أكثرهم وجوههم وجوه الآدميّين وقلوبهم قلوب
الذئاب» ، ثمّ نقل صلىاللهعليهوآله قبائح
أفعالهم وعدّ منها أنّه قال : «السنّة عندهم بدعة ، والبدعة فيهم سنّة»، الخبر ، وسيأتي أيضاً هذا المبحث
مفصّلاً في المقالة الموضوعة له من مقالات المقصد الثاني .
ثمّ ممّا يدلّ صريحاً على أصل المقصود
ما في صحيح أبي داوُد ، وكتابي ابن أبي شيبة وعبد الرزّاق : عن عليّ عليهالسلام أنّه قال : «لو كان
الدين بالرأي لكان باطن القدمين أحقّ بالمسح من ظاهرهما ، ولكنّي رأيت رسول اللّه صلىاللهعليهوآله مسح
ظاهرهما».
وقد نقل نحوه الشافعي في مسنده بإسناد
معتبر عن عبد خير،
__________________
عنه عليهالسلام ،
وقد رواه الإماميّة أيضاً عن أئمّة أهل البيت عليهمالسلام .
وأخبارهم في بطلان الرأي والقياس
وأمثالهما ـ ممّا لم يكن في الكتاب والسنّة ـ بحدّ لا يحصى ، ولنذكر هاهنا منها
شيئاً ، ذكره عنهم غير الإمامية أيضاً ، كما روى جمع عن الصادق عليهالسلام أنّه قال : «إيّاك أن
تفتي الناس برأيك أو تدين بما لا تعلم ، ففيهما هلك من هلك».
وعنه عليهالسلام ،
أنّه سأله زنديق عن مسائل وفيها أنّه قال له : إنّ قوماً قالوا : إنّ الأشياء
أزليّة . قال : «هذه مقالة قوم جحدوا مدبّر الأشياء ، وكذّبوا الرسل ، ووضعوا
لأنفسهم ديناً بآرائهم واستحسانهم».
وروى بشير بن يحيى العامريعن ابن أبي ليلىقاضي الكوفة ، قال : دخلت أنا وأبو
حنيفة على جعفر بن محمّد عليهماالسلام فرحّب
بنا وقال : «يابن أبي ليلى ، من هذا الرجل ؟» قلت : جعلت فداك من أهل الكوفة ، له
رأي وبصيرة ونفاذ .
__________________
قال : «فلعلّه الذي يقيس الأشياء برأيه»
، ثمّ قال : «يا نعمان ، هل تحسن أن تقيس رأسك ؟ » قال : لا .
قال : «فهل عرفت الملوحة في العينين ،
والمرارة في الاُذنين ، والبرودة في المنخرين ، والعذوبة في الفم ؟ » قال : لا .
قال : «فهل عرفت كلمة أوّلها كفر وآخرها
إيمان ؟ » قال : لا .
قال أبو ليلى : فقلت : جعلت فداك لا
تدعنا في عمى ممّا وصفت ؟
قال : «نعم ، حدّثني أبي عن آبائي أنّ
رسول اللّه صلىاللهعليهوآله قال
. . .» ووصف أسرار جميع ما ذكر ، ثمّ قال : «فأمّا كلمة أوّلها كفر وآخرها إيمان
فقول : لا إله إلاّ اللّه » .
ثمّ قال : «يا نعمان ، إيّاك والقياس ؛
فإنّ أبي حدّثني عن آبائه عليهمالسلام أنّ
رسول اللّه صلىاللهعليهوآله قال
: من قال شيئاً من الدين برأيه قرنه اللّه تعالى مع إبليس ، فإنّه أوّل من قاس ،
حيث قال : ( خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ
مِنْ طِينٍ )فدعوا الرأي والقياس ؛ فإنّ دين اللّه
لم يوضع على ذلك».
وفي رواية اُخرى أنّه قال لأبي حنيفة :
«أنت مفتي أهل العراق ؟ » .
قال : نعم .
قال : «بمَ تفتيهم ؟ » قال : بكتاب
اللّه .
قال : «إنّك عالم بكتاب اللّه ؟ » قال
: نعم ، فسأله عن آيات منه لم يقدر أن يفسّرها على وجهها .
فقال أبو حنيفة : إنّما أنا صاحب قياس .
فقال الصادق عليهالسلام : «أيّما أعظم عند
اللّه القتل أو الزنا ؟ » قال : بل القتل .
__________________
فقال عليهالسلام :
«فكيف رضي اللّه في القتل بشاهدين ولم يرض في الزنا إلاّ بأربعة ؟ ».
ثمّ قال له : «الصلاة أفضل أو الصوم ؟ »
قال : بل الصلاة أفضل .
قال عليهالسلام :
«فيجب على قياس قولك على الحائض قضاء الصلاة دون الصوم ، وقد أوجب اللّه عليها
قضاء الصوم دون الصلاة ؟ » .
ثمّ قال له : «البول أقذر أم المَنيّ ؟
» قال : البول أقذر .
فقال عليهالسلام :
«فيجب على قياسك أن يجب الغسل من البول دون المَنيّ ، وقد أوجب اللّه عكس ذلك » .
فقال أبو حنيفة : إنّما أنا صاحب رأي .
فقال عليهالسلام :
«فما ترى في رجل كان له عبد فتزوّج وزوّج عبده في ليلة واحدة ، فدخلا في امرأتيهما
في ليلة واحدة ، ثمّ سافرا وجعلا امرأتيهما في بيت واحد ، فولدتا غلامين فسقط
البيت عليهم فقتل المرأتين وبقي الغلامان ، أيّهما في رأيك المالك ؟ وأيّهما
المملوك ؟ وأيّهما الوارث ؟ وأيّهما المورّث ؟ » فقال أبو حنيفة : إنّما أنا صاحب
حدود .
قال : «فما ترى في رجل أعمى أفقأ عين
صحيح ، ورجل أقطع قطع يد رجل ، كيف يقام عليهما الحدّ ؟ » قال أبو حنيفة : إنّما
أنا رجل عالم بمباعث الأنبياء .
قال : «فأخبرني عن قوله تعالى لموسى
وهارون عليهماالسلام حين
بعثهما إلى فرعون : ( لَّعَلَّهُ
يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى )، لعلّ منك شكّ ؟ » قال : نعم . قال :
«وكذلك من اللّه شكّ إذ قال «لعلّه» ؟ » ، قال أبو حنيفة : لا علم لي .
فقال عليهالسلام :
«تزعم أنّك تفتي بكتاب اللّه ولست ممّن ورثه ، وتزعم
__________________
أنّك صاحب قياس وأوّل
من قاس إبليس ، ولم يُبنَ دين الإسلام على القياس ، وتزعم أنّك صاحب رأي وكان
الرأي من رسول اللّه عليهالسلام صواباً
ومن دونه خطأ ؛ لأنّ اللّه قال : «فاحكم بينهم بما أَرَكَ اللّه»، ولم يقل ذلك لغيره ، وتزعم أنّك صاحب
حدود ، ومن اُنزلت عليه أولى بعلمها منك ، وتزعم أنّك عالم بمباعث الأنبياء ،
ولَخاتم الأنبياء أعلم بمباعثهم ؟ »
قال له أبو حنيفة : لا تكلّمت بالرأي
والقياس في دين [اللّه]
بعد هذا المجلس .
فقال الإمام عليهالسلام : «كلاّ ! إنّ حبّ
الرئاسة غير تاركك كما لم يترك (من كان قبلك)».
أقول : أخبار أهل البيت عليهمالسلام في هذا الباب كثيرة ،
بحيث صارت المسألة عند الإماميّة من الضروريّات الدينيّة ، كما سيتّضح أيضاً .
ثمّ إنّ قول الإمام عليهالسلام : «كان الرأي من
النبيّ صلىاللهعليهوآله صواباً»
إنّما المراد به ـ كما ينادي به استشهاده عليهالسلام بقوله
تعالى : «بِمَا أَرَكَ اللّه» ـ أنّ كلام النبيّ صلىاللهعليهوآله
قد كان من الوحي والإلهام ، وذلك خطور
بال ووصول خيال من اللّه بلا تطرّق للخطأ إليه ولا اختلاف ، بخلاف غيره ممّن ليس
بنبيّ ولا وصيّ ، وإلاّ فالحقّ أنّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
لم يكن أيضاً يحكم برأي لم يكن من
اللّه تعالى ؛ ضرورة عدم احتياجه إلى ذلك ، كما سيأتي في محلّه ، ومن
__________________
قال غير ذلك فقد افترى
، حتّى أنّ أبا بكر صرّح بهذا ، كمافي
كتاب ابن حنبل وغيره على ما سيأتي ، فقال : لأن أخذتموني بسنّة نبيّكم ما اُطيقها
، إنّه كان لمعصوماً من الشيطان ، وكان ينزل عليه الوحي ويعصم به ، وكان له مَلَك
وإنّ لي شيطاناً يعتريني.
وفي مسند الشافعي : عن ابن عيينة أنّه
روى بإسناد له أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: « لا يمسكنّ الناس عليّ شيئاً ، فإنّي لا اُحلّ لهم إلاّ ما أحلّ اللّه لهم ،
ولا اُحرّم عليهم إلاّ ما حرّم اللّه عليهم».
وقد قال البخاري ـ الذي هو حجّة عندهم ـ
في صحيحه : باب ما كان النبيّ صلىاللهعليهوآله يُسأل
عمّا لم ينزل عليه من الوحي ، فيقول : لا أدري ، أو لم يجب حتّى ينزل اللّه عليه
الوحي ، ولم يقل برأي ولا بقياس ؛ لقوله تعالى : ( بِمَا أَرَاكَ
اللَّهُ )، ثمّ روى في هذا الباب حديثاً في أنّ
النبيّ صلىاللهعليهوآله سُئل
عن الروح ، فسكت حتّى نزلت الآية.
وكذا روى حديثاً آخَر في أنّ جابراً مرض
، فقال للنبيّ صلىاللهعليهوآله :
كيف أقضي في مالي ؟ فما أجابه النبيّ صلىاللهعليهوآله
بشيء حتّى نزلت آية الميراث.
__________________
ثمّ قال في موضع آخَر من صحيحه أيضاً :
باب تعليم النبيّ صلىاللهعليهوآله اُمّته
من الرجال والنساء ممّا علّمه اللّه ليس برأي ولا تمثيل ولا قياس ، ثمّ روى أيضاً
ما يدلّ عليه من الأخبار.
وقال القاضي عياض في كتاب الشفا ما
خلاصته ـ كما سيأتي مفصّلاً في محلّه ـ : إنّ علوم الأنبياء كلّها كانت جبلّيّةً
بغير اكتساب لا كسائر الناس ، كما ينادي به ظهور وجود العلم في بعض منهم من زمن
الصبا ، كيحيى بن زكريا وعيسى عليهماالسلام ،
وغيرهما ، وإنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله كان
كذلك وكان عنده علم ما كان وما يكون ، كما أخبر عن أكثر الأشياء الآتية والماضية ،
وكما قال سبحانه : ( وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ
تَكُنْ تَعْلَمُ )، وإنّه من هذه الجهة لم يُتصوّر في
حكمهم اجتهاد ، ولم يكن في أحكامهم خطأ ولا اختلاف ، وذكر مثل هذا الكلام كثيراً ،
كما سيأتي .
وهذا كلّه صريح في عدم احتياج النبيّ صلىاللهعليهوآله إلى
التعبّد بالرأي ونحوه ، وأنّه كان منزّهاً عن ذلك .
وهذا بعينه مذهب الإماميّة فيه وفي
أوصيائه الأئمّة عليهمالسلام بنصّ
أئمّتهم على ذلك ، ويشهد لهم ما هو معلوم ثابت من انتقال الإمامة إلى بعض الأئمّة
في صغر سنّه ، كأبي جعفر الجواد عليهالسلام وغيره
، وهو يومئذٍ في أكمل مراتب العلم ، وسيأتي في محلّه توضيح سبب اختلاف بعض أجوبتهم
لبعض الناس، وقد مرّت سابقاً أيضاً الإشارة إلى أنّ ذلك لم يكن لأجل العمل بالرأي،
فافهم.
ولنذكر أيضاً نبذاً من نصوص بعض علماء
القوم في ذمّ الرأي والقياس ، وبطلان التعبّد بذلك مع ابتلائهم به :
__________________
نقل في تاريخ الإسلام : عن حمّاد بن زيدقال : سمعت أيّوب السجستانيوقد قيل له : ما لك لا تنظر في الرأي ؟
فقال : قيل للحمار : ألا تجترّ ؟ قال : أكره مضغ الباطل.
وفيه وفي غيره عن مالك قال : قال ابن
أبي سلمة بن هرمزـ
وهو شيخ مالك ـ لعبداللّه بن يزيد بن هرمزـ
وهو من أكابر علماء المدينة ـ :
__________________
الرجل يستفتيني
فأفتيه برأيي ، قال : لا واللّه ، حتّى تعلم ، لو جاز ذلك لجاز للسقّائين.
أقول : هذا صريح أيضاً في أنّ المستفاد
من الرأي ليس بعلم حتّى عندهم أيضاً ، كما ظهر ممّا مرّ من الآيات والأخبار آنفاً
، ويؤيّده ما ذكره محمّد بن شعيبعن
الأوزاعي ، أنّه كان يقول : من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام ، وإنّ العلم ما
جاء عن أصحاب محمّد صلىاللهعليهوآله ،
وما لم يجئ من الصحابة فليس بعلم . ويقول : الذي كان عليه الصحابة لزوم الجماعة
واتّباع السنّة.
أقول : ولم يكن كلّ الصحابة أيضاً على
اتّباع السنّة كما ظهر وسيظهر ، فليس العلم إلاّ ما ظهر أنّه من الكتاب أو السنّة
.
وفي التاريخ المذكور أيضاً : عن مالك
أنّه قال : قال لي ابن هرمز : يا مالك ، لا تمسك بشيء من هذا الرأي الذي أخذت منّي
، فإنّي واللّه ، وربيعة الرأي فجرنا ذلك.
__________________
وفيه : عن مالك أنّه كان يقول : إنّما
أنا بشر أُخطئ وأُصيب ، فانظروا في رأيي ، فكلّ ما وافق الكتاب والسنّة فخذوه
وإلاّ فاتركوه . وسأله رجل عن البتّة،
فقال : هي ثلاث ، فأراد الرجل أن يكتب ذلك في لوحه ، فقال : لا تكتب فعسى في
العشيّ أن أقول : إنّها واحدة.
وفيه : عن الوليد بن مزيدأنّه قال : سمعت الأوزاعي يقول : عليك
بآثار من سلف ولو رفضك الناس ، وإيّاك وآراء الرجال وإن زخرفوها لك بالقول ، فإنّ
الأمر ينجلي وأنت على طريق مستقيم.
وكان يقول : إنّا لا ننقم على أبي حنيفةأنّه رأى ، بل كلّنا نرى ،
__________________
ولكنّا ننقم عليه
أنّه رأى الشيء عن النبيّ صلىاللهعليهوآله فخالفه.
وكان يقول : إنّا نتحدّث أن ما ابتدع
أحد بدعة إلاّ سُلب وَرعه.
أقول
: انظر إلى هذا الرجل الذي يذمّ الرأي
مطلقاً ، ثمّ يعترف بأنّه قد يعمل به .
وأمّا ما نسبه إلى أبي حنيفة ، فقد ذكر
الزمخشري أنّه خالف الرسول صلىاللهعليهوآله في
فتاويه أزيد من أربعمائة موضع.
وقد نقل ابن عبد البرّ أنّ أبا حنيفة لم
يكن يعتمد على الحديث إذا لم يكن موافقاً للقرآن أو إجماع الاُمّة ، وكان يسمّيه
الخبر الشاذّ ، وأنّه لأجل هذا أيضاً وقع في الرأي والقياس.
ومع هذا نقل الذهبيعن ابن حزم أنّه قال : جميع الحنفيّة
مجمعون على أنّ مذهب أبي حنيفة أنّ ضعيف الحديث أولى عنده من القياس والرأي، حتى نقل الذهبي أنّ وكيعاًقال : سمعت أبا حنيفة
__________________
يقول : البول في
المسجد أحسن من بعض القياس).
ونقل أنّ زفر بن الهذيلـ من أصحاب أبي حنيفة ـ رجع عن الرأي
وأقبل على العبادة.
ونقل أيضاً عن داوُد الطائيأنّه كان من أصحاب الرأي ، وكان يجالس
أبا حنيفة ، ثمّ عمد إلى كتبه فغرّقها في الفرات ، وعمد إلى العبادة ، وتخلّى عن
الناس.
__________________
أقول
: قد نقل جماعة عن رجل من أصحاب الصادق عليهالسلام أنّه قال : دخلت على
أبي حنيفة ، فرأيت حوله كتباً عظيمة ، فقال : هذه كلّها في الطلاق ، فقلت : ما
فعلت شيئاً ، قد ذكر اللّه ما كفى في قوله عزوجل :
( الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ).
فقال لي : إذا ادّعيت هذا فأخبرني عن
رجل زنى تسعة وتسعين زنيةجزء
منه حرّ وجزء منه رقّ ، فكيف يحدّ ؟
قلت : لقد روى لنا الصادق جعفر بن محمّد
عليهماالسلام عن
أمير المؤمنين عليهالسلام أنّه
كان يضرب بتمام السَّوْط وبنصفه وبثلثه وبربعه ، وهكذا على قدر الحاجة .
قال الرجل : فلمّا سمع أبو حنيفة ذلك
منّي غضب ، وقال : سأسألك عمّا لا تقدر على جوابه ولو بعد حين : أيّ شيء تقول في
سمكة اُخرجت من البحر فكان رأسها كذا وكذا وجسدها كذا وكذا ؟
فقلت : أيّ شيء تريد تكون ؟ روى لنا
الصادق عليهالسلام أنّ
رسول اللّه صلىاللهعليهوآله قال
: «كلّ ما كان له فلس فكلوه ، وما لم يكن له فلس فاجتنبوه» فسكت ولم يحر جواباً.
وفي التاريخ المذكور أيضاً: أنّ الشعبي
كان يذمّ الرأي ويفتي بالنصّ.
ونقل فيه : عن مجالدأنّه قال : سمعت الشعبي يقول : لعن
اللّه
__________________
أرأيت.
وعن الهذليأنّه قال : قال الشعبي : أرأيتم لو قُتل
الأحنف بن قيسوقُتل
طفل كانت ديتهما سواء ، أم يفضّل الأحنف لعقله وفضله ؟ قلت : بل سواء ، فقال :
فليس القياس بشيء.
وكان يقول أيضاً : إن أخذتم بالقياس
أحللتم الحرام وحرّمتم
__________________
الحلال.
وسأله رجل عن شيء فلم يكن عنده فيه شيء
، فقيل له : قل فيه برأيك ، فقال : وما تصنع برأيي ؟ بُلْ على رأيي.
وفيه : إنّ أبا حصين عثمان بن عاصم ـ من
أعاظم علمائهم ـ قال شاكياً عن أهل الرأي : إنّ أحدهم ليفتي في المسألة التي لو
وردت على عمر لجمع لها أهل بدر.
وفيه أيضاً : إنّ يونس بن عبيدكان يقول : لأن ألقى اللّه بالزنا
والسرقة أحبّ إليّ من أن ألقى اللّه برأي عمرو بن عبيد.
وفيه وفي غيره : عن سعيد بن عبدالعزيزأنّ مكحولاً كان إذا سئل يقول : لا حول
ولا قوّة إلاّ باللّه ، هذا رأيي والرأي يخطئ ويصيب . وكثيراً ما كان يسئل عن شيء
فيقول : لا أدري . وكان يقول : لأن اُقدّم فيضرب
__________________
عنقي أحبّ إليَّ من
أن أليَ القضاء.
وفي كتاب الجاحظ : عن مسروق أنّه قال :
لا أقيس شيئاً بشيء ، أخاف أن تزلّ قدمي بعد ثبوتها.
ثمّ قال الجاحظ : إنّ العمل بالآراء ليس
كالعمل باليقين ؛ لأنّها تصيب وتخطئ ؛ لأنّ الاُمّة أجمعت على أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله يوم
بدر شاور أصحابه في الأسرى ، واتّفق رأيهم على قبول الفداء منهم ، فأنزل اللّه
تعالى : ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ
أَسْرَىٰ )الآية ، فقد بانَ من ذلك أنّ الرأي يصيب
ويخطئ ، فلا يعطي اليقين ، فليس الحجّة إلاّ الطاعة للّه ولرسوله ، وما أجمعت
عليه الاُمّة من كتاب اللّه وسنّة نبيّها،
انتهى كلامه .
وقد روى الضياء المقدسي أيضاً في كتابه
عن عمر ، أنّه قال : ما رأيت مثل من قضى بين اثنين بعد ورود هؤلاء الثلاثة : ( وَمَن لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَـفِرُونَ
)،
ومن قوله : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )،
وقوله : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ).
__________________
ونقل السخاوي في كتاب المقاصد الحسنة
أنّ الشافعي قال : لقد ألّفت هذه الكتب ولم آل فيهاولا بدّ أن يوجد فيها الخطأ ؛ لأنّ
اللّه يقول : ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ
اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا )،
فما وجدتم في كتبي هذه ممّا يخالف الكتاب والسنّة فقد رجعت عنه.
أقول
: إنّ أكثر هؤلاء لم يخافوا إلاّ عمّا
يخالف الكتاب والسنّة ، وغفلوا عن الذي ينادي به الكتاب والسنّة ، كما ظهر من عدم
جواز الاعتماد على الرأي مطلقاً ، وإن كان في شيء لم نجد مخالفته ولا موافقته لما
في الكتاب والسنّة ، فافهم .
وقد نقل الذهبي : أنّ المهديّ العبّاسي
كتب إلى الأمصار يزجر أن يتكلّم أحد من أهل الأهواء في شيء منها.
ونقل أيضاً عن ابن سفيانأنّه قال : سألت هُشيماًعن التفسير ،
__________________
كيف صار فيه اختلاف ؟
فقال : قالوا فيه برأيهم (فاختلفوا.
أقول
: هذا صريح في أنّهم أدخلوا الرأي في
الدين بحيث فسّروا القرآن على وفقه ، ولم يبالوا باستلزامه التحريف والتغيير في
كلام اللّه ومراده ، حتّى روى جمع أنّ رجلاً سأل ابن عمر ، فقال له : ما تقول في
مولاكم زيد بن أسلم؟
فقال : ما نعلم به بأساً إلاّ أنّه يفسّر القرآن برأيه، ومن تتبّع تفاسير القوم وجد أكثرها من
هذا القبيل ، وإلى ردّ هذا وبيان ضلالته ورد ما رواه النسائي والترمذي وأبو داوُد
في صحاحهم : عن جندب،
عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
قال : «من قال بالقرآن برأيه فأصاب الحقّ
__________________
فقد أخطأ».
وقد مرّ غيره من الأخبار الصريحة ،
وسيأتي أيضاً ، ومنه يظهر أن لا اعتماد على أقوال مفسّريهم ما لم يكن منوطاً بحديث
معتمد عليه ؛ حيث يأتي ما يدلّ على وضعهم روايات في تفسير بعض الآيات .
وقد روى جمع : أنّ قتادة المفسّر دخل
على أبي عبد اللّه الصادق عليهالسلام فسأله
الإمام عليهالسلام عن
تفسير بعض الآيات ، فلميكن
عنده صواب جواب ، ففسّر له الإمام عليهالسلام إيّاها
على ما أخذه من آبائه الكرام عن النبيّ صلىاللهعليهوآله
العالم العلاّم ، ثمّ قال : «يا قتادة ،
إن كنت قدفسّرت
القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت ، وإن كنت آخذهمن أفواه الرجال فقد هلكت وأهلكت»، الخبر ، وغيره أيضاً كثير .
وقال الشهرستانيفي كتاب «الملل والنحل» عند ذكر اختلاف
الناس والشُبه التي توقعهم فيه ، ما خلاصته : إنّ مبنى جميع الاختلافات على إضلال
الشيطان ، وأنّ الشُبه الواقعة لبني آدم فإنّما هي من وساوس الشيطان ، التي نشأت
من شبهاته.
__________________
ثمّ نقل : أنّ أوّل شبهة (وقعت في
الخليقة)شُبهة
إبليس ، ومصدرها استبداده في الرأي في مقابلة النصّ ، واختياره الهوى في معارضة
الأمر ، واستكباره بالمادّة التي خلق منها ـ وهي النار ـ على مادّة آدم ـ وهي
الطين ـ وقياسه شيئاً بشيء .
قال : ومن هذه الشبهة انشعبت سبع شبهات
وصارت في الخلق وسرت في أذهان الناس حتّى صارت مذاهب بدعة وضلال .
ثمّ قال : وتلك الشبهات مذكورة في شروح
الأناجيل الأربعة وبعض مواضع التوراة على شكل مناظرة بينه وبين الملائكة بعد الأمر
بالسجود وامتناعه منه هكذا .
قال الشيطان للملائكة : إنّي سلّمت أنّ
البارئ تعالى إلهي وإله الخلق عالم قادر لا يُسأل عن قدرته وإرادته ومشيئته ،
وأنّه مهما أراد شيئاً قال له : كن فيكون ، وهو حكيم إلاّ أنّه يتوجّه على مساق
حكمته أسئلة ، قالت الملائكة : ما هي ؟ قال : إنّها سبع :
الأوّل
: إنّه قد علم قبل خلقي أيّ شيء يصدر
عنّي ويحصل فَلِمَ خلقني أوّلاً ؟ وما الحكمة في ذلك ؟
الثاني
: إنّه إذ خلقني على مقتضى مشيئته
وإرادته فلِمَ كلّفني بمعرفته وطاعته ؟ وما الحكمة فيه بعد أن لا ينتفع بطاعة ،
ولا يتضرّر بمعصية ؟
الثالث
: إذ خلقني وكلّفني بالمعرفة والطاعة
فالتزمت هذا التكليف فعرفت وأطعت فَلِمَ كلّفني بطاعة آدم والسجود له ؟ وما الحكمة
في هذا التكليف بالخصوص بعد أن لا يزيد هذا في معرفتي وطاعتي ؟
الرابع
: إنّه إذ خلقني وكلّفني على الإطلاق وبخصوص
هذا التكليف ،
__________________
فإذا لم أسجد فَلِمَ
لعنني وأخرجني من الجنّة ؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لم أرتكب قبيحاً إلاّ قولي :
لا أسجد إلاّ لك ؟
الخامس
: إنّه إذ خلقني وكلّفني مطلقاً وخصوصاً
فلم أطع فلعنني وطردني فلِمَ طرّقني إلى آدم حتّى دخلت الجنّة ثانياً ، وغررت آدم
وحوّاء حتّى أكلا من الشجرة وأخرجهما من الجنّة ؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لو
منعني من دخول الجنّة لاستراح آدم منّي وبقي خالداً في الجنّة ؟
السادس
: إنّه إذ خلقني وكلّفني عموماً وخصوصاً
ولعنني وطردني ، ثمّ طرّقني إلى الجنّة ، وكانت الخصومة بيني وبين آدم فَلِمَ
سلّطني على أولاده هذا النحو من التسلّط الكامل ؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لو
خلقهم على الفطرة دون من يحتالهمعنها
، فيعيشوا سامعين مطيعين طاهرين ، كان أليق بالحكمة ؟
السابع
: سلّمت هذه كلّها لِمَ إذا استمهلته
أمهلني ؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لو أهلكني في الحال استراح منّي الخلق ، وما
بقي شرّ في العالم ؟ أليس بقاء العالم على نظام الخير خيراً من امتزاجه بالشرّ ؟.
قال الشهرستاني : قال شارح الإنجيل :
إنّ اللّه أوحى إلى الملائكة قولوا له : أمّا تسليمك الأوّل أنّي إلهك وإله الخلق
، فأنت فيه غير صادق ولا مخلص ؛ إذ لو صدقت في ذلك ما حكمت عليَّ بـ (لِمَ) فأنا
اللّه الذي لا إله إلاّ أنا لا اُسأل عمّا أفعل والخلق مسؤولون.
أقول
: ليس المراد بهذا الكلام ما توهّمه
الأشاعرةوالجبريّة
من أنّ
__________________
المعنى : إنّ اللّه
لا يُسأل عمّا يفعل حيث لا حكم عليه ولو جبّر،
بل المراد : أنّ اللّه عزوجل حكيم
عليم لا يفعل إلاّ ما فيه المصالح العظيمة ، والحِكم الجسيمة وإنْ لم نعلم نحن
بذلك ؛ لِجهلنا وعجزنا ، ولا كلام للجاهل على العالم ، بل يجب علينا أن نقطع بأنّ
جميع أفعاله على وجه العدل والحكمة والصواب وإن لم ندرك نحن من تلك الوجوه شيئاً .
فلو كان الشيطان صادقاً في دعواه تسليم
علم اللّه وقدرته ، وأنّه الإله الحكيم الذي لا يفعل إلاّ ما هو الأحسن الأصوب ،
لَعلم أنّ كلّ ما فعله ربّه جلّ شأنه هو الحقّ الذي فيه المصالح العظيمة ، وأنّ
عدم إدراكه لها ليس لعدمها ، بل لخفائها عليه ، لقصوره عن كمال العلم، فلم يكن
يتكلّم بما تكلّم.
هذا ، مع أنّه من تأمّل صادقاً علم أنّ
شُبهه كلّها مبنيّة على آراء استحسانية وقياسات خيالية ، يظهر كمال سخافتها عند
معرفة حكمة إيجاد الخلق والاطّلاع على مصالح وضع التكليف ، فإنّ مجمل ذلك ـ كما يستفاد
على ما سيأتي ، بل مرّ أيضاً من كلام علماء أهل البيت الذين أخذوا علومهم من
الرسول صلىاللهعليهوآله الآخذ
من اللّه عزوجل ـ
أنّمن عمدة أسباب إيجاد
هذا العالم ووضع دار التكليف : أن يتبيّن ـ تبياناً تماماً ـ المطيع لإرادة ربّه
فيما خلقه اللّه عزوجل لأجله
من إجابة ما أمره به على مقتضى حكمته ومشيئته من العاصي عن ذلك ، يتميّز عياناً
الطيّب المستحقّ للطيّبات من المثوبات
__________________
التي جعلها اللّه
بإزاء إطاعة ذلك المطيع من الخبيث الذي ليس كذلك .
وظاهر أنّ ذلك إنّما يكون بأنواع من
الامتحان التي منها وضع دار الامتحان وتهيئة أسبابها ، مثلاً : لو لم يخلق اللّه
الشيطان لم يكن تتهيّأ بعض أسباب الامتحان ، ولا يتيسّر استدراجه بأنواع الامتنان
بحيث ارتفع إلى ذلك المكان ، فلم يكن يظهر حينئذٍ تمام الحجّة عليه بإكمال النعمة
عليه ، ولو لم يأمره بالسجود لم يظهر ما في صميم قلبه من خبائث الحسد والكبر
والجحود ، ولم يتبيّن استحقاقه لنار الخلود ، ولا عدم كون صدور الخيرات ولا الوصول
ـ بحسب الظاهر ـ إلى أرفع الدرجات دليلاً على القطع بالنجاة ، فإنّ في مكامن
القلوب ومجاري النيّات ما لا يظهر إلاّ بعد الامتحانات ، كما ينادي بذلك ما مرّ
ويأتي من أخبار حسن الخاتمة ، وقوله تعالى : ( فَمُسْتَقَرٌّ
وَمُسْتَوْدَعٌ )، وأمثاله من الآيات .
ثمّ إنّ اللّعن والطرد كان جزاءه حيث
امتنع ممّا وجب عليه أداؤه ؛ إذ ليس للعبد أن يؤثر هوى نفسه على رضا ربّه ، ويرجّح
استحسان رأيه حتّى يضادّ اللّه في مخالفة أمره .
وكذا لو لم يجعل له طريقاً إلى دخول
الجنّة ثانياً فاتت بعض أسباب امتحان آدم عليهالسلام أيضاً
، وكذا الحال لو لم يسلّطعلى
أولاده ، على أنّ ذلك كان من كمال عدل اللّه وكرمه ولطيف أفعاله ؛ حيث إنّه :
أوّلاً : لم يجعله محروماً عمّا سأله
بإزاء أعماله وطلبه من بلوغ آماله .
وثانياً : أعطى بني آدم في مقابل تسلّطه
عليهم ووصول ضرر وساوسه إليهم ما لم يخطر ببال أحد ، ممّا لم يكونوا يستحقّونه بدون
ذلك ، كما ورد
__________________
في أحاديث أهل البيت
العلماء من اللّه : «إنّ آدم شكى ذلك التسلّط إلى ربّه عزوجل ، فأعطاه أشياء عظيمة
، منها : أنّه قرّر لمن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ، ومن جاء بالسيّئة لا يجزى
إلاّ مثلها ، ومنها : أنّه فتح باب التوبة لهم إلى حين الموت» .
وبالجملة
: ذكر له تفصيلات عظيمة ولم يكن آدم
يكتفي بها إلى أن قال له : «أغفر لهم ولا اُبالي ، فقال آدم : إذاً حسبي».
ولا يخفى أنّه لو لم يكن ذلك التسلّط ،
لم تكن أيضاً تلك التفضّلات ، ولا أقلّ من تفاوت الدرجات وحصول المثوبات التي
إنّما هي بإزاء ترك متابعة)ذلك
العدوّ في حين تسلّطه ، فتأمّل بصيراً حتّى يتبيّن لك أنّ هذا هو أيضاً من أسرار
حِكم خلقة الشيطان واستدراجه إلى حالة إظهار الطغيان .
هذا كلّه ، مع ما في جميع ذلك من الحِكم
التي لا ندرك نحن أصلها ولا نصل إلى حدّ غورها ، بل لا يعلمها إلاّ هو .
لكنّ ذلك الشقيّ ؛ حيث غلب عليه الحسد
الناشئ من الاستكبار الذي كان فيه من قلّة المعرفة والإخلاص ـ كما تبيّن ممّا مرّ
ـ عميت عين بصيرته ؛ بحيث لم ينظر إلى قبح مخالفة ربّه ، وكفر منازعته في أمره ،
فضلاً عن ملاحظة الحِكم وفهم الأسرار ، فشرع في المجادلة باستحسان رأيه والقياسات
التي رتّبها بجهله ، حتّى في مقابل صريح أمر اللّه عزوجل ،
فكان ذلك اُمّ الفساد في العالم ؛ لأنّه أهلك به نفسه أوّلاً كما هو ظاهر ، ثمّ
أضرّ به بني آدم ثانياً ؛ بحيث أهلك عالماً كثيراً منهم بإغوائه إيّاهم عن الحقّ
__________________
من جهة إلقاء ما هو
مفاد شُبهه ، ومن قبيلها في ذهنهم ، كما يشير إليه قوله تعالى : ( وَإِنَّ
الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ )،
الآية .
حتّى أنّ الشهرستاني قال : إذا تأمّلت
شُبه العالم عرفت أنّ كلّها من قبيل هذه الشبه ، وأنّها بالنسبة إلى أنواع
الضلالات كالبذور ، فإنّ مرجع جملتها إلى إنكار الأمر والجحود بعد الاعتراف
بالخلق، وإلى الهوى في مقابلة النصّ.
قال : وكلّ مجادلات أقوام الأنبياء من
نوح إلى محمّد صلّى اللّه عليه وعلى آله وعليهم السلام منسوج على هذا المنوال ؛
إذ لا فرق بين قولهم : ( أَبَشَرٌ
يَهْدُونَنَا )، وقولهم : ( أَبَعَثَ
اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا )، وقوله : ( أَأَسْجُدُ لِمَنْ
خَلَقْتَ طِينًا )، وكذا لا فرق بين قوله : ( أَنَا
خَيْرٌ مِنْهُ )، وبين قول من قال : ( أَنَا
خَيْرٌ مِنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ) ،
وكذا سائر شبههم .
ثمّ إنّه ذكر وجوه تشابه الشُبه ، لكن
على غير بيانٍ شافٍ ، فنحن نشرح ما أجمله من الكلام ، بحيث يظهر منه حال المرام
ولو بإدخال بعض ما ذكره في هذا المقام .
فاعلم أنّه ـ كما ظهر آنفاً ـ كان مبدأ
الضلال ما صدر من الشيطان بسبب الاستبداد بالرأي واستعمال القياس في الدين ، كما
مرّ قوله عليهالسلام :
__________________
«أوّل من قاس إبليس»وظاهر أنّ مثل ذلك خطأ وضلال .
أمّا
أوّلاً : فلما مرّ من عدم مدخلية للعبد في تفتيش
حكمة أمر ربّه ، فضلاً عن المجادلة فيما أمر به ، بل على اللّه الأمر وعليه
الإطاعة أيّ شيء كان ، لا يُسأل عمّا يفعل وهم يسألون .
وأمّا
ثانياً: فلأنّ إدخال العبد رأيه في أمر ربّه
بمنزلة ادّعاء مشاركة نفسه في إرادات ربّه ، وفي حكم دعوى وصول فهمه إلى مراتب علم
ربّه ، وذلك مع كونه كفراً في نفسه ـ كما هو ظاهر ـ مورث للغلوّ والتشبيه ، كما
سيظهر .
وأمّا
ثالثاً : فلكثرة وقوع الخطأ في الرأي ؛ لظهور
قصور فهم العباد عن إدراك حكمة الأشياء وأسباب الأوامر والنواهي ، وهيهات أن يصل
عقل أحد إلى قطرة من بحار علم اللّه وحكمته .
قال أبو عبد اللّه الصادق عليهالسلام : «يابن آدم لو أكل
قلبك طائر لم يُشبعه ، وبصرك لو وضع عليه خرق إبرة لغطّاه ، تريد أن تعرف بها
ملكوت السماوات والأرض ! »الخبر
، ولا ريب في كون الأمر على ما ذكره عليهالسلام ،
حتّى أنّ مبنى قياس الشيطان أيضاً كان على خطأ .
كما روي عن الصادق عليهالسلام أيضاً أنّه قال :
«إنّ إبليس قاس نفسه بآدم ، فقال : ( خَلَقْتَنِي مِنْ
نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ )، فلو قاس الجوهر الذي خلق اللّه منه
آدم عليهالسلام بالنار
كان ذلك أكثر نوراً وضياءً من النار».
وفي رواية اُخرى : أنّ أبا حنيفة دخل
على الصادق عليهالسلام ،
فقال ( عليهالسلام ): «بلغني أنّك تقيس ؟» فقال : نعم ، قال
: «لا تقس ، فإنّ أوّل
__________________
من قاس إبليس حين قال
: ( خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ
مِنْ طِينٍ )
فقاس ما بين النار والطين ، ولو قاس نوريّة آدم بنوريّة النار عرف فضل ما بين
النورين ، وصفاء أحدهما على الآخَر».
أقول
: مراد الإمام عليهالسلام الإشارة إلى ما صحّت
روايته عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
أخبر : «بأنّ اللّه تعالى خلقه قبل سائر الخلق مع عليّ عليهالسلام من نور عظمته»؛ ولهذا قال ـ فيما صحّ روايته عنه عند
المخالف والمؤالف ـ : «خُلقت أنا وعليّ عليهالسلام من
نور واحد».
ثمّ إنّه خلق أرواح الأنبياء والأوصياء
من النور أيضاً ، ثمّ أودع نور النبيّ وعليّ عليهماالسلام صلب
آدم عليهالسلام ،
فالأمر بالسجود كان لذلك النور ، مع ما كان في آدم من الكمالات الباهرة التي ذهل
عنها ذهن إبليس فوقع في تيه التلبيس ، كالعلوم الكاملة المأخوذة من اللّه ، كما
أشار إليه بقوله سبحانه : ( وَعَلَّمَ آدَمَ
الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا )، ولا شكّ أنّ الأعلم أفضل ، وكالطينة
الطيّبة التي كان أصلها من علّيّين ـ كما سيأتي في نقل حال طينة النبيّين ـ
وكالنيّة الصادقة والإخلاص الخالص الذي كان له في طاعة ربّه ، كما أشار إليه عزوجل في أمثال قوله : ( إِنَّ
اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا )، وكغيرها من الصفات الحسنة التي لا
يعلم بها إلاّ خالقها ؛ ولهذا اختصّ الخالق جلّ شأنه
__________________
بتعيين النبيّ
والوصيّ من بين الخلائق ، كما سيأتي في محلّه .
لكنّ ذلك اللعين لفرط جهله بحقيقة الحال
جهـلاً بسيطاً ومركّباً أيضاً ـ كما يلوح من جداله بلا رجوع أصلاً ـ عاند في قبول
أمر اللّه وإطاعة حُكمه بمحض ما رآه بهواه وقاسه بقياسه ، بحيث كان فاسداً ولم
يتفطّن لفساده ، حتّى صار من المرجومين وهلك أبد الآبدين.
هذا ، مع أنّه كان في صميم ضميره أيضاً
ما دعاه إلى الحسد لآدم والتعامي عن قبول حُكم خالق العالم ممّا بيّنّاه سابقاً من
مرض الاستكبار وحبّ الارتفاع والاشتهار ، حتّى أنّه يظهر من بعض الأخبار أنّ أصل
قصده في عباداته أيضاً كان الاشتهار من دون الخلوص للّه الواحد القهّار ، وأنّه
لهذا حُرم عن الثواب الاُخروي ، ورضي بالجزاء الدنيوي .
ولا يخفى أنّ هذا أيضاً من أعظم عيوب
الاعتماد على الرأي ؛ إذ كثيراً ما يكون شيء في صميم القلب فيدعوه ذلك إلى الميل
إليه والاستدلال ـ ولو بالشبهة ـ عليه وإن لم يتفطّن له صاحب هذا الحال في وقت
الميل والاستدلال .
وهذا ممّا نُقل وشوهد في كثير من آراء
علماء الأعصار ، لا سيّما ما كان له مدخل في حصول الاعتبار والاشتهار ، وكيف
يمكنهم إنكار ذلك وأوّلهم كان كذلك ؟ كما أنّهم لا يقدرون على جحد كثرة وقوع الخطأ
في الرأي والقياس ، مع ظهور وجود ما في قياس معلّمهم ، كما ظهر من الاشتباه
والالتباس ، وسنبيّن بعض ما هو من هذا القبيل إن شاء اللّه تعالى .
ومن شواهد صدق ذلك في الشيطان : عدم
توجّه الشيطان إلى سجود الملائكة لآدم عليهالسلام ،
مع ظهور كون مادّة خلقتهم خيراً من مادّة خلقة الجنّ .
ثمّ إنّ الشيطان لمّا وقع لأجل ما
ذكرناه في غضب الرحمن ، وعادى
لذلك نوع بني الإنسان
شرع في إغواء كلٌّ بما يناسب قبوله من أنواع العصيان ؛ ولهذا لمّا كان الأنسب بحال
أهل العقل والعلم الدخول عليهم من باب العلم ، زرع في قلوبهم من بذور شُبهه
المتقدّمة أنواع الشبه والضلالات ، وفتح لهم أبواب الآراء والقياسات ، فأهلك بذلك
بها كافّة بني آدم إلاّ قليلاً ممّن نجا باقتفاء آثار الأنبياء ؛ ضرورة متابعة
العوامّ للخواصّ والكبراء ، وعسر قبول الحقّ حتّى على العلماء ، فصار الناس من هذه
الجهة على آراء عديدة مختلفة وأهواء شتيتة متفاوتة ، لكنّ جملتها من سنخ الغواية
التي ضلّ بها الشيطان الذي هو أوّلهم ، المعلّم لهم ، وعلى شكل نتائجها وشعبها
التي أشرنا إليها .
فمنهم الأكثرون الذين أبوا عن قبول أمر
اللّه في أصل إطاعة الأنبياء على حذو أصل قياس إبليس ـ كما مرّ مجملاً ويأتي
مفصّلاً ـ فإنّهم أيضاً لم يتوجّهوا إلى حقيقة وجوه تفاضل الأنبياء والأوصياء
عليهم من العلم والكمالات التي خصّهم اللّه بها ، بل نظروا إلى ظاهر الاشتراك في
البشريّة ، بل إلى تفوّقهم أيضاً بحسب الزخارف الدنيويّة ، مع أنّه لم يكن عليهم
غير قبول أمر اللّه فيهم بالتسليم للأنبياء وأوصيائهم ، بعد ظهور صدقهم بما خصّهم
اللّه به من المعجزات وغيرها بعين ما مرّ في شبهة الشيطان ، وما صدر منه بها من
القياس والعصيان طابق النعل بالنعل ، فتأمّل تفهم .
ثمّ منهم من ذكره الشهرستاني أيضاً من
أصحاب الملل قديماً وحديثاً ، فإنّ ما سوى الفِرَق التي ذكرنا إنكارهم نبوّة
الأنبياء ، فمن حيث إنّهم قبلوا أمر اللّه في أصل طاعة الأنبياء ولم يعبأوا
بمادّة شبهة أصل قياس الشيطان ـ حيث أبصروا فضائلهم وعرفوا خصائصهم ـ رماهم
الشيطان في ضلالة بعض شُعب أصل شبهته ؛ لأنّه لمّا حكم أوّلاً بالعقل على اللّه
الذي
لا يُحكم عليه ، صار
كالمدّعي لبعض مشاركة له معه ، وذلك يستلزم ـ كما أشرنا إليه ـ أن يجري حكم
المخلوق في الخالق أو بالعكس ، فأغوى جماعة من هذه الاُمّة وغيرها بالأوّل ،
فقاسوا الخالق بالمخلوق فنزّلوه عن مرتبته ، حتّى شبّهوه بخلقه في صفات عديدة
مذكورة بتفصيلها في الكتب الكلاميّة .
ومنهم : الحلوليّة، والمشبّهة، والمجسّمة ، والجبريّة ، والقدريّة ،
وبعض التناسخيّةومن
قال بالرؤية ونحوها ، سواء كانوا في هذه الاُمّة أو في الأُمم السابقة ، فإنّا قد
بيّنّا سابقاً وجود هذه المذاهب فيها أيضاً .
وأغوى جماعة أيضاً بالثاني ، فقاسوا
المخلوق بالخالق بأن رفعوا
__________________
بعض المخلوقين عن
مرتبته ، بحيث ادّعوا فيهم بعض خصائص الخالق .
ومنهم : الغُلاة بأجمعهم ، حتّى أنّه
يدخل فيهم أيضاً نفاة الصفات ، بل الحقّ أنّ كلّ من جعل للرأي مدخلاً في أمر من
الاُمور الدينيّة ، فهو داخل تحت مصداق الغلوّ عياناً ، بل التشبيه أيضاً أحياناً
وإن لم يكن ذلك في حقّ الخالق والمخلوق ؛ ضرورة تحقّق الغلوّ أيضاً برفع مخلوق إلى
مرتبة مخلوق أعلى منه ، كدعوى النبوّة ـ مثلاً ـ لمن ليس بنبيّ ، أو ادّعاء فضيلة
أو مرتبة جليلة كالإمامة ـ مثلاً ـ لمن ليست له ، لا سيّما إذا كانت تلك الدعوى
لدفع من له تلك الحالة ؛ إذ جميع ذلك مثل ما صدر من إبليس من القياس والشبهة
والتلبيس .
ولا بأس إن بيّنّا بعض أفراد هذا المرام
، فإنّه لازم البيان في هذا المقام ، حيث يظهر منه زلّة أقدام كثير من الأعلام ،
حتّى الشهرستاني الذي نطق أوّلاً بذكر أصل مادّة الكلام ، ثمّ رأى الإجمال خيراً
له ، حيث تفطّن بدخول الضرر عليه ، لا سيّما في تعيينهم الإمام ، فلهج فيما بَعْدُ
على نهج لا يخرج عن الإبهام ، كما هو دأبهم فيما يضرّهم من تفصيل الكلام وتبيين
المرام .
فاعلم أنّ الناس في أمر الدين على
مسلكين : رحمانيّ ، وشيطانيّ ، لا ثالث لهما :
فأحدهما
: ترك الاستبداد بالرأي وإدخال الخيالات
العقليّة في الدين بالكلّيّة ؛ حيث إنّ مناط التديّن عند أصحاب هذا المسلك في جميع
الاُمور صغيرها وكبيرها ، اُصولاً وفروعاً ، من أحوال الواجب إلى أرش الخدش ليس
إلاّ الأخذ من اللّه عزوجل ولو
بواسطة بشر معيّن من اللّه تعالى ، كنبيّ أو وصيّ بالشروط الآتية في محلّها ، من
غير لزوم ملاحظة كونه موافقاً للنظر
والاستدلال العقلي أم
لا ، بل ضرب كلّ ما يخالفه من نتائج العقل عرض الحائط إن لم يقبل التأويل ، فالعلم
عندهم ـ كما مرّ في الحديث ـ منحصر في ثلاثة : «آية محكمة من اللّه ، وسنّة ثابتة
من النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
ولا أدري».
وسيأتي تفصيل بيان هذا المسلك وأهله
وسائر ما تعلّق به بحيث أن لا يبقى غبار عليه في فصل نقل المذاهب وبعض المقالات
الآتية ، بل والفصل الآتي أيضاً .
ولا ريب في أن لا مخدش في مثل هذا
المسلك ، ضرورة عدم تطرّق احتمال الخطأ إلى ما هو من اللّه ، فلا ضلال فيه ولا
جدال ولا جهالة ولا اختلاف،
فهذا هو الطريق الرحمانيّ الخالص الذي يجب أن يكون شعار المطيعين ، كما قال سبحانه
: ( أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا
فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ )،
بل ـ كما سيظهر ـ كان على هذا جميع الملائكة والنبيّين والوصيّين وخُلَّص المؤمنين
، كما قال عزوجل :
( عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا
يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ).
ألا ترى أنّ الملائكة كيف سجدوا لآدم عليهالسلام حين
اُمروا به من غير جدال ، بل ولا طلب حكمة ولا سؤال عن حال ؟
وثانيهما
: عكس الأوّل ، أي : إدخال الرأي وأمثاله
في المعالم الدينيّة ، والاعتماد فيها على ما تسوق إليه الخيالات العقليّة .
والحقّ كما ظهر ويظهر أنّ هذا المسلك
بجميع أقسامه شيطانيّ غير
__________________
رحمانيّ ولو من بعض
الجهات وفي بعض الأقسام ؛ حيث إنّ أصل مبناه على جواز الاستبداد بالرأي الذي هو من
إبداع الشيطان وخطواته التي منع اللّه عنها في الآية السابقة .
بل ربّما يقال : إنّ في الآية إشارة
أيضاً إلى المسلكين المذكورين ، كما يشعر به تعبير الأوّل بالسِّلم والثاني
بالخطوات جمعاً ، فإنّ أصحاب هذا الحال على أنواع شتّى بحسب اختلاف آرائهم في هذا
المقال ، فمن هؤلاء الطوائف الذين مدار اعتمادهم في جميع ما يتعلّق بأديانهم على
ما تدلّ عليه سوانح عقولهم وأوهامهم ، وتدعو إليه نتائج أفكارهم وأذهانهم ، وأكثر
أهل هذا النوع ممّن لا يقول بربّ العالمين ، ولا يؤمن بنبيّ ولا كتاب مبين ولا
يدين بشريعة المرسلين .
وذكر الشهرستاني بعضاً منهم ؛ حيث قال :
إنّ منهم من ألِف المحسوس وركن إليه ولا يهتدي إلى معاد ، بل يظنّ أن لا عالَم
إلاّ ما هو فيه من مطعم شهيّ ، ومنظر بهيّ ، ولا عالَم وراءه وهم الدهريّونوالطبيعيّونوأمثالهم ، كجمع من المشركين والكفّار
وكبعض التناسخيّة
__________________
وغيرهم ممّن لا حاجة
إلى ذكره ، كما حكى اللّه عزوجل مراراً
أنّهم قالوا : ( إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا
نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ).
قال : ومنهم من ترقّى عن المحسوس وأثبت
المعقول لكن لا يقول بحدود وأحكام وشريعة وإسلام ، بل يزعم أنّه إذا حصل المعقول
وثبت أنّ للعالم مبدأً ومعاداً ، فيكون سعادته على قدر إحاطته وعلمه ، وشقاوته
بقدر سفاهته وجهله ، وأنّ عقله هو المستبدّ بتحصيل هذه السعادة ، ووضعه هو
المستعدّ لقبول تلك الشقاوة .
قال : وعند بعض منهم أنّ الشرائع وإن
وردت فإنّما هي اُمور مصلحيّة عامّية ، وأنّ الحدود والأحكام والحلال والحرام
اُمور وضعيّة ، وأنّ فيهم من يقول بحدود وأحكام عقليّة ، قال : وهم الفلاسفة
الإلهيّونوأشباههم
من فِرَق الكفر ، كبعض التناسخيّة ، والبراهمة والصابئة والمشركين وغيرهم .
وقد أشرنا في آخر الفصل الأخير من الباب
السابق إلى بعض ما زعموه مستنداً لهم في ترك متابعة الأنبياء مع جوابه ، حتّى قال
بعضهم : إنّ العقل قد دلّ على وجود صانع حكيم ، وإنّ الحكيم لا يتعبّد الخلق بما
يقبح في العقول ، وقد ورد أصحاب الشرائع بمستقبحات من حيث العقل من الطواف حول
الأحجار ، وتقبيل الحجر ، ورمي الجمار وغير ذلكممّا
ذكروه ، وأنّه دليل على كذبهم وجهلهم ، وقد مرّ فيما أشرنا إليه من الفصل المذكور
ما هو جوابه .
وبالجملة
: هؤلاء بأسرهم من تلامذة الشيطان من أصل
أساس
__________________
البنيان ، حيث تبعوه
في جميع أوامر ربّهم بالمخالفة والمجادلة على حذو أوّل ما استبدّ به من ترجيح
إفادة الرأي والعقل بقياسه ، وما أتبعه به من شبهه على إطاعة أمر الربّ ، كما حكى
اللّه سبحانه عن جماعة منهم أنّهم قالوا لنبيّهم : ( مَا نَرَاكَ إِلَّا
بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا
بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ )،
الآية ، وأمثال ذلك كثيرة ، منها : قول فرعون : ( أَمْ أَنَا خَيْرٌ
مِنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ )، الآية وغيرها.
فإنّ هؤلاء أيضاً استكبروا فجادلوا بمثل
قياس إبليس ، حيث قالوا حينما دعوا إلى إجابة أمر اللّه بالانقياد للأنبياء : بأنّهم
بشر مثلنا ، بل نحن خير منهم فيما نرى من الدنيا ، فلا إطاعة لهم علينا ولا حاجة
لنا إليهم ؛ لكفاية ما فينا من كمال العقل وقدرة الاستدلال به والاستنباط منه عن
الرجوع إليهم ، حتّى نُقل عن بعض الفلاسفة أنّه لمّا سمع ببعثة عيسى عليهالسلام وإحيائه الميّت العتيق
، قال : قولوا بنبوّته فإنّه صادق في دعواه ، فقيل له : ألا تؤمن أنت به ؟ قال :
هو مبعوث عليكم لا على مثلي الماهر في مناهل العلم ! ولا يخفى أنّه بعينه قول
إبليس في ترك السجود لآدم عليهالسلام .
ثمّ إنّ أكثر هؤلاء أيضاً تبعوا إبليس
فيما مرّ من شُعب أصل شبهته ، كمطالبة العلل ، وتفتيش الحِكم ، ونقضها وتقريرها
على وفق أفهامهم ، واستحسان عقولهم ، كما هو معلوم من كتبهم ، وكقياس الخالق
بالمخلوق وبالعكس ، وكذا بعضهم ببعض ، حتّى دخلوا في الغلوّ والتشبيه جميعاً كلاًّ
من جهةٍ.
__________________
أمّا
أوّلاً : فلأنّ جميعهم شاركوا في ادّعاء التساوي
مع الأنبياء ، بل تفوّق بعضهم عليهم ، حتّى في فهم حقائق الأشياء كما تقدّم آنفاً
، بل اللاّزم من كلام بعضهم دعوى المساواة في ذلك مع ربّهم أيضاً ، وظاهر أنّ في
هذا دخولاً في إفراط الغلوّ ؛ من حيث رفعهم بعضهم إلى ما ليس له من رتبة غيره ،
حتّى في معرفة العلوم الإلهيّة ، مع الدخول في تفريط التشبيه أيضاً ؛ من حيث
توهّمهم كون علم البارئ من قبيل علومهم ، وأنّ حالات الأنبياء من قبيل أحوالهم ،
كما ينادي به قولهم : إن هم إلاّ بشر مثلنا،
حتّى نزّلوهم بذلك عن مراتبهم التي رتّبهم اللّه فيها ، ودفعوهم عن مقامهم ،
واستكبروا عن إطاعتهم ، بل رجّحوا ـ كما ظهر ـ في الطاعة عليهم غيرهم ممّن لم يكن
لهمذلك ، كما في قولهم :
( إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا
وَكُبَرَاءَنَا )الآية .
وأمّا
ثانياً : فلأنّ في عقائد كثير من أرباب هذه
المذاهب ـ مع شدّة اختلافها ـ أشياء مستلزمة للغلوّ والتشبيه صريحاً ، كأقوال
المتفلسفة الذين زعموا وجود العقول العشرة في قِدَمها وتجرّدها ومدخليّتها في
الإيجاد بالعلّيّة الفاعليّة ، وأمثال ذلك ممّا هو مختصّ باللّه لا شريك له ، وفي
دعوى كون الواجب فاعلاً موجباً غير مختار ، لا سيّما في خلق العقل ونحو ذلك ممّا
هو ناشئ من توهّم التشبيه في الذات أو الصفات ، وكفى في ذلك قولهم : ( مَنْ
يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ).
ولو حاولنا نقل شرذمة ممّا لهم من أمثال
هذه الأوهام لطال الكلام
__________________
بغير طائل في هذا
المقام ، فلنرجع إلى بيان سائر أقسام ما مرّ من المسلك الشيطاني .
فاعلم أنّ من اُولئك الذين على هذا
المسلك أيضاً الطوائف الذين آمنوا بربّهم وصدّقوا نبيّهم ودخلوا في الدين ـ حيث لم
يتشوّشوا في ذلك بما مرّ من خطوات الشيطان وشبهات ذلك اللعين ، كأكثر أهل الملل
السابقة وعامّة المسلمين ـ لكن وقعوا فيما بَعْدُ من بعض الجهات وببعض أسباب
الجهالات في مصائد خدائع غروره المذكور ، بحيث استوثقهم بها وثاقاً لم يمكنهم به
الفرار من هفوات قول الزور ، فكم من سابح في بحر ضلال آرائه الغريق ! وكم من محترق
بنار خيال قياسه الحريق !
فإنّ فريقاً منهم احترقوا بنار شبهة
قياسه في حقّ الذين قاموا مقام الأنبياء من بعدهم ، وفي معرفة صفاتهم ، بل بعض
صفات الأنبياء أيضاً ، وبعضهم غرق في بحر ضلالة التفكّر في ذات اللّه وصفاته
وأفعاله ، وبعضهم وقع في ذلك بالنسبة إلى تكليفات العباد ، وبعضهم بالنسبة إلى
أحوال المعاد ، بل الحقّ أنّ مدار ضلال هؤلاء أيضاً يدور على طبق شُبه سابقيهم ،
وبنحو ما ألقى الشيطان من الرأي والقياس فيهم ، كما هو مفاد ما مرّ في فصول الباب
السابق من قوله تعالى : ( لَتَرْكَبُنَّ
طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ )، وما بمعناه من الأخبار وغيرها.
وخلاصة توضيح ذلك : أنّ كلّ اُمّة من
هؤلاء وإن اهتدوا في تسليم نبوّة نبيّهم بدلالات النصوص والفضائل التي كانت من
اللّه فيهم من غير توجّه إلى ما تبيّن أنّه من خطوات الشيطان إلاّ أنّهم بعد
نبيّهم صاروا
__________________
بالعكس ، فاستكبروا ـ
كإبليس ـ متشبّثين بنحو ما تشبّث به هو وتلامذته ـ الذين سبق النقل عنهم ـ من
الشُبه والتلبيس عن الانقياد لمن كان [في]
مقام ذلك النبيّ من اللّه على العباد ، حتّى ضلّ أكثرهم بذلك في تيه اختلافات
الآراء ، ودرك ابتلاء الشقاء إلى يوم الجزاء ، كما مرّ في أخير فصول الباب السابق، ويأتي أيضاً أنّ عامّة اُمّة موسى عليهالسلام استكبروا بعده عن
تمكين يوشع بن نون عليهالسلام وصيّه
من أمره ، فأدخلوا في ذلك غيره من أصحاب موسى عليهالسلام بآرائهم
، فنزّلوا يوشع عن مرتبته ، وشبّهوه بغيره الذي غلوا فيه ، حيث جعلوه في درجة
القيام بمقام موسى عليهالسلام كليم
اللّه ؛ بقياس الاشتراك في صحبة موسى عليهالسلام والنسبة
إلى إسرائيل ونحوهما من غير التوجّه إلى ما كان في يوشع من النصّ والفضائل وكمال
العقل والعلموغيره
ممّا خصّه اللّه به ، بعين ما مرّ في قياس إبليس وأقيسة تلامذته الفلاسفة وغيرهم
من منكري الأنبياء،
فشوّشوا الأمر حينئذٍ على يوشع ، ووقع بذلك الاختلافُ بينهم ، حتّى صاروا بضعةً
وسبعين فرقة فيهم : المجبّرة ، والمشبّهة ، والمرجئة ، والقدرية ، وغيرهم ممّا
أشرنا سابقاً إلى بعض منهم،
وسنشير أيضاً فيما يأتي ، حتّى الغُلاة صريحاً ، كما أخبر اللّه تعالى بقولهم في
عزير ، واتّخاذهم أحبارهم أرباباًبالتزام
إطاعتهم فيما قالوا لهم بآرائهم .
__________________
وكذا مرّ أيضاً صدور مثله من اُمّة عيسى عليهالسلام بالنسبة إلى شمعون
الصفا ، من إدخالهم بعض الحواريّين في أمره بمقتضى رأيهم من غير التوجّه إلى ما
خصّه اللّه به من النصّ وغيره ، وحصول التشويش بذلك ، واختلاف الآراء والمذاهب
بينهم أيضاً ، كما كان في اليهود ، حتّى الغُلاة صريحاً ، كقولهم ما قالوا في عيسى عليهالسلام كما مرّ أيضاً ،
واتّخاذهم رهبانهم ـ كما أخبر اللّه سبحانه ـ ربّاً.
وهكذا حال سائر السابقين من المليّين ،
كما نقله جمع ممّن ذكر الملل ، ولا حاجة لنا إلى بيان ذلك أزيد ممّا بيّنّاه ، حيث
أن لا غرض لنا مهمّاً في ذلك ، فلنذكر نبذاً ممّا وقع من قبيل ذلك في الإسلام من
نحو قياس إبليس وشعبه التي مرّ بيان استمرارها في تلامذته وعبّاده باتّباع خطواته
وشبهاته .
اعلم أنّ الشهرستاني بعد أن ذكر ما مرّ
من أنّ أصل الشبهات كلّها من قياس الشيطان وشبهاته ، ونقل أنّ الشبهات التي وقعت
في آخر الزمان كلّها هي بعينها تلك الشبهات التي وقعت في أوّل الزمان ، وأنّه كذلك
كلّ شبهة من شبهات اُمّة كلّ نبيّ في آخر زمانه ناشئة من شبهات خصماء أوّل زمانه
من الكفّار والمنافقين ، وأكثرها من المنافقين .
قال : وذلك غير خفيّ لنا من هذه الاُمّة
وإن خفي من غيرها ، فإنّ شبهاتها كلّها نشأت من شبهات منافقي زمن النبيّ صلىاللهعليهوآله ؛
إذ لم يرضوا بحكمه فيما كان يأمر وينهى ، وشرعوا فيما لا مسرح فيه للفكر ولا مسرى
، وسألوا عمّا مُنعوا من الخوض فيه والسؤال عنه ، وجادلوا بالباطل فيما لا يجوز
الجدال فيه ، وإنّ ذلك ليس إلاّ عملاً باستحسان العقل ، وحكماً
__________________
بالهوى حتّى في
مقابلة النصّ ، واستكباراً على الأمر بقياس العقل .
ثمّ قال مؤيّداً لما ذكره : أما تعتبر
اعتراض ذي الخويصرةـ
من رؤساء الخوارج بنهروانـ
على النبيّ صلىاللهعليهوآله حيث
قال له : ألا تعدل يا رسول اللّه ؟ فلمّا قال له النبيّ صلىاللهعليهوآله :
«إذا لم أعدل فمن يعدل ؟».
قال : هذه قسمة ما اُريد بها وجه اللّه
؛ إذ ليس ذلك إلاّ قولاً بالتحسين العقلي في مقابل النصّ ، واستكباراً على الأمر
بقياس العقل .
قال : ثمّ اعتبر حال طائفة اُخرى من
المنافقين يوم أُحد إذ قالوا : ( هَلْ لَنَا مِنَ
الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ )وقولهم : ( لَوْ كَانَ لَنَا
مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا )،
ونحو ذلك ممّا فيهتصريح
بالقدر ، وقول طائفة من المشركين : ( لَوْ شَاءَ اللَّهُ
مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ )، ونحو ذلك ممّا فيهتصريح بالجبر .
واعتبر أيضاً حال أمثالهم من الذين
جادلوا في ذات اللّه تفكّراً في جلاله وتصرّفاً في أفعاله ، حتّى خوّفهم اللّه
تعالى في قوله : ( وَيُرْسِلُ
__________________
الصَّوَاعِقَ
فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ )،
الآية .
قال : فهذه التي كانت في زمن النبيّ صلىاللهعليهوآله وهو
على شوكته وقوّته وصحّة بدنه ، والمنافقون يخادعون ويظهرون الإسلام ، وإنّما كان
يظهر نفاقهم في كلّ وقت بالاعتراض على حركاته وسكناته وكلماته ، حتّى صارت تلك
الاعتراضات كالبذور ، وظهرت منه الشبهات بعده كالزروع.
هذا كلامه هاهنا ، وظاهر أنّه حجّة على
القوم ، حيث إنّه مع كون الرجل من أعيانهم ، كلام متين مبين في نفسه ، ينطبق على
ما مرّ من مسالك السابقين ، وينطبق عليه ما صدر من اللاّحقين ، كما سنبيّن نحن
نُبَذاً منه ، فإنّ هذا الرجل وكذا غيره مع تنصيصهم أحياناً بما يظهر منه حقيقة
الحال تغافلوا كثيراً عن تبيان ما يضرّهم من حقّ المقال عند تفصيل الأحوال .
فاعلم أنّ ما ذكره كما ذكره ، بل إنّ
جمّة من الاعتراضات الناشئة ممّا ذكره صدرت من الصحابة أيضاً ، بل ممّن هو من
أعيانهم عند القوم ، وكفى في هذا ما ذكروه هم من منازعات عمر بن الخطّاب ، لا
سيّما ما هو المسلّم المشهور من جداله ونزاعه يومالحديبية ، بمحض الاستحسان العقلي في
مقابل صريح أمر النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
حتّى نقل جمع من أتباعه عنه أنّه اعترف صريحاً بأنّه شكّ ذلك اليوم ، وكذا في يوم
عمرة المتعة ، كما هو مذكور في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما، وسيأتي كثير منها كلٌّ في محلّه ،
حتّى
__________________
أنّه مرّ في ضمن نقل
الأخبار رواية عن عمر وغيره في المعارضة بالرأي يوم أبي جندل ، أي الحديبية ،
فتذكّر .
لكن ما دام كان النبيّ صلىاللهعليهوآله في
صحّته وشوكته ، لم يقدر أحد على صريح المخالفة ، وكان المرجع إلى أمره ولو على رغم
أنف بعضهم ؛ ولهذا لم يؤثّر يومئذٍ خلاف ولا اختلاف ، ولا ترتّب عليه فساد في
الدين ، ولا ضرر على المسلمين .
نعم ، كان مبدأ ظهور تأثير ضرر المجادلة
بالآراء ، والاختلاف بالأهواء من زمن مرض النبيّ صلىاللهعليهوآله
؛ حيث جسر بعض الناس حينئذٍ على
المخالفة بآرائهم ، وتمشية مقتضى إرادتهم بأهوائهم ؛ لاشتغال النبيّ صلىاللهعليهوآله بما
به من العلّة ، وفتور الناس مِن همّ ذلك عمّا كان بهم في إنفاذ أمره من الهمّة ،
ثمّ زاد فزاد حتّى انتشر الفساد ، وكلٌّ من ذلك على نهج قياس إبليس وتلامذته
ومنازعتهم في قبول الحقّ ومتابعته ، وبنحو الشُّبه المترتّبة على ذلك ، ولوازمه
وأسبابه التي أصلها التكبّر عن الانقياد والحسد والعناد .
وها نحن نذكر هاهنا ـ على طبق نقل
الشهرستاني وأمثاله ـ من مخالفات الصحابة المتّصفة بما ذكر بعضَ ما هو من أعظمها
فساداً على طوائف المسلمين ، وأوفقها طباقاً بما مرّ صدوره عن إبليس وتلامذته
الكفّار والمنافقين وفاقاً تماماً ، حتّى من الجهات الموجبة للفساد في الدين ، وإن
تغافل هؤلاء عن ملاحظة ما يضرّهم هاهنا من وجوه الموافقة ، وبيان ما هو الحقّ
المبين ، فاستمع لما يتلى عليك .
قال ( الشهرستاني : إنّ أوّل تنازع وقع
في مرض النبيّ صلىاللهعليهوآله ما
رواه
البخاري في صحيحه :
عن ابن عبّاس ـ ونقل الحديث المشهور ، وهو ـ أنّ )رسول اللّه صلىاللهعليهوآله لمّا
حُضِرَ وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطّاب ـ وفي رواية : لمّا اشتدّ بالنبيّ صلىاللهعليهوآله مرضه
الذي مات فيهـ
، قال : «هلمّوا ، أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده»، وفي رواية : «بعدي»، وفي اُخرى : «ائتوني بكتف ودواة»بدل «هلمّوا» .
فقال عمر : إنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قد
غلبه الوجع ، وعندكم القرآن ، فحسبنا كتاب اللّه ! فاختلف أهل البيت واختصموا ،
فمنهم من يقول : قرّبوا يكتب لكم النبيّ صلىاللهعليهوآله
كتاباً لن تضلّوا بعده ، ومنهم من يقول
ما قال عمر .
فلمّا كثر اللَغَطُ والاختلاف عنده صلىاللهعليهوآله قال
: «قوموا عنّي».
أقول
: قد ذكر الآمديأيضاً مثله.
__________________
وهذه الحكاية مشهورة مسلّمة نقلها جماعة
غير البخاري أيضاً ، مثل : مسلم في صحيحه ، والحميدي في جامعه ، وابن حنبل في
مسنده ، والطبري ، والبلاذريوغيرهم.
حتّى أنّ في بعض طرقها مرويّة عن جابر
أيضاً، وفي بعضها مكان قول
عمر : إنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله غلبه
الوجع ، قوله : إنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله يهجر، وفي رواية : هجر، وفي اُخرى : ما شأنه ؟ أَهجر ؟ !، بل في آخر الحديث ـ على ما في صحيح
البخاري وغيره ـ فكان ابن عبّاس يقول : إنّ الرزيّة كلّ الرزيّة ! ما حال بين رسول
اللّه صلىاللهعليهوآله وبين
أن يكتب لهم ذلك الكتاب،
__________________
وسيأتي نقلها مفصّلاً
في محلّه إن شاء اللّه تعالى .
وإذا عرفت هذا ، فاعلم : أوّلاً : أنْ
لا خلاف ولا كلام ـ كما صرّح به القاضي عياض في كتاب الشفا ، وكذا جمع آخر ـ في
عصمة النبيّ صلىاللهعليهوآله في
أقواله في جميع أحواله ، وأنّه لا يصحّ منه فيها خلف ولا اضطراب في عمد ولا سهو ،
ولا صحّة ولا مرض ، ولا جدّ ولا مزح ، ولا رضا ولا غضب ، وأنّه وإن لم يكن معصوماً
من الأمراض وعوارضها من شدّة الوجع والغشي ونحوهممّا يطرأ على جسمه إلاّ أنّه معصوم من
أن يكون منه القول في أثناء ذلك بما يطعن في معجزته ، ويؤدّي إلى فساد شريعته من
هذيان ، أو اختلالفي
كلام.
وكذا لا كلام ولا مِرية في كون النبيّ صلىاللهعليهوآله أعلم
الناس بكتاب اللّه عالماً بجميع ما فيه ، وكذا بأحوال الناس وما سيجري عليهم ولو
فيما بَعْدُ ، حتّى أنّه كان يعلم من هذا وغيره ما لم يعلم غيره ، كما هو صريح ما
تواتر عنه ؛ بحيث صار من مسلّمات كافّة الاُمّة من إخباره بكثير ممّا يأتي وما
يجري على اُمّته .
وكذا لا شكّ في كونه أرحم وأشفق على
اُمّته من كلّ أحد ، وأشدّ رأفة من غيره عليهم ، وأكثر سعياً وأعظم جهداً ممّن
سواه في جمعهم على الحقّ وسوق الخير إليهم ، وأعرف بطرق جمع شملهم وحفظ دينهم وما
يضرّهم وما ينفعهم .
وبالجملة
: كان هو أكمل بكلّ وجه من غيره ، وأعرف
من كلّ اُمّته
__________________
بهم ، وأحرص من جميع
الوجوه عليهم .
ثمّ اعلم أيضاً أنّ الأصل في أوامر
اللّه ورسوله الوجوب ، كما حقّق في محلّه ، ومع هذا أمره المذكور هاهنا يجب أن
يُحمل على الوجوب قطعاً ؛ لقيام القرينة عليه ، وهي وجوب المحافظة من الوقوع في
الضلال ، حتّى أنّ الحقّ وجوب المحافظة ولو كان الوقوع على سبيل الاحتمال ، مع أنّ
وقوعهم في الضلال بدون ذلك الكتاب كان عنده معلوماً ؛ إذ أخبرهم مراراً بذلك في
أخباره الموجودة المسلّمة الورود منه،
لا سيّما الأخبار الدالّة على تفرّقهم بضعةً وسبعين فرقة ، كلّها في النار إلاّ
واحدة، وأحاديث الحوض، وأمثالهما .
بل الحقّ أنّه كان معلوماً أيضاً على
كثير من الصحابة لا سيّما الخواصّ منهم ؛ لقرائن ، منها : كونهم من رواة تلك
الأخبار ، ومنها : ظهوره من القرآن أيضاً ـ كما سيأتي في محلّه ـ من قوله تعالى : ( وَمَا
مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ )
إلى قوله : ( انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ
أَعْقَابِكُمْ )وغير ذلك ، وأيضاً حصول النجاة من
الضلال بالكتاب المذكور لا بُدّ أن يكون معلوماً عنده ، كما ينادي به قوله صلىاللهعليهوآله :
«لن تضلّوا بعده» لا سيّما بلفظة «لن» التأبيديّة ؛ فالأمر
__________________
للوجوب حينئذٍ ولو
كان الوقوع في الضلال بدونه على سبيل الاحتمال .
وبالجملة
: صُوَر الحال هاهنا منحصرة عقلاً في
أربع :
أوّلها : كون كلٍّ من الوقوع في الضلال
بدون الكتاب وعدمه معلوماً عنده ، وهي التي ينادي بأنّها الصورة الواقعة ظاهر
عبارة الحديث والمتبادر منه ، وما هو معلوم من علم النبيّ صلىاللهعليهوآله به
وبغيره ، وأنّه لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى ، وغير ذلك من الوجوه
الكثيرة ، وحينئذٍ لا شكّ في كون الأمر للوجوب قطعاً .
وثانيها : ما هو أبعد الكلّ من كونهما
معاً محتملاً .
والثالثة والرابعة : احتمال الأوّل مع
العلم بالثاني وبالعكس ، وهما أيضاً بعيدان ، ومع هذا لا يصلح حتّى في الصورة
الثانية غير الحمل على الوجوب ؛ ضرورة لزوم دفع الضرر المحتمل أيضاً ولو بما يحتمل
دفعه به ، هذا كلّه مع قوله تعالى : ( وَمَا آتَاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا )وأمثال
ذلك ممّا يدلّ على عدم جواز ترك الأخذ والمسامحة في المتابعة فضلاً عن إجهار
المخالفة والتصريح بالمنع من إجراء أمره والاهتمام في دفع إنفاذ قوله ؛ إذ لا شكّ
لأحد في كون مثل هذا حراماً ، بل مشتملاً على الاستخفاف بقول اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله ولو
كان ورود الأمر منهما على غير سبيل الوجوب .
وكذا اعلم أيضاً أنّ من ترك قول الرسول صلىاللهعليهوآله فقد
خالف أمر اللّه عزوجل صريحاً
؛ لوجوه عديدة ، منها : قوله تعالى : ( وَمَا آتَاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ )، الآية . فإنّه صريح في أمر اللّه
بأخذ ما جاء به النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
__________________
فمن لم يأخذ به فقدخالف أمر اللّه سبحانه ، وأمثال هذه
الآية بل وأصرح منها أيضاً كثيرة في القرآن ، كما سيأتي أيضاً .
ثمّ إذا عرفت هذا كلّه ، فاعلم : أنّ
هذه القضيّة أيضاً من قبيل ما مرّ من قياسات إبليس وتلامذته وشبهات آرائهم ، بل ما
تركت مثلها شيئاً من لوازم الحكم بالهوى في مقابل النصّ :
أمّا
أوّلاً : فلأنّ الذي منع من الكتاب ذلك اليوم قد
خالف ما أمره اللّه به من إجابة قول نبيّه ، حيث أبى عن ذلك ، لا سيّما باستنادٍ
له إلى خيال باطل مضلّ ـ كما سيظهر ـ مركّب من قياسين :
أحدهما : قياس أمر رسول اللّه صلىاللهعليهوآله بل
أمر اللّه بأمر غيره ، وحالة نبيّ اللّه بحالة نفسه وأمثاله من الخالين من نور
العصمة في احتمال الخلل الذي أشرنا إلى تنزّه النبيّ صلىاللهعليهوآله
عنه قطعاً ولو في حال شدّة المرض ، كما
ينادي به أصل الإباء من إجابة أمره فضلاً عن نسبة الهجر وغيره .
ولا يخفى أنّ هذا مع كونه فاسداً ينطبقعلى حذو أصل قياس الشيطان ، كما ظهر
وسيتّضح ، ومستلزم لتنزيلالنبيّ صلىاللهعليهوآله عن
مرتبته وتشبيهه برعيّته فيما هو منزّه عنه .
وثانيهما : قياس نفسه بل غيره أيضاً
بالنبيّ صلىاللهعليهوآله في
الاطّلاع على ما في القرآن إلى حدّ كمال القدرة على الاستنباط منه ، حتّى الذي
أراد النبيّ صلىاللهعليهوآله كتابته
لهم من غير احتمال الغفلة عن ذلك ، فإنّ الظاهر البيّن أنّ عزم النبيّ صلىاللهعليهوآله على
ما أراد ذلك اليوم كان إمّا لكونهم عنده غير عالمين به
__________________
وبفهمه من القرآن ،
أو لخوف غفلتهم عن ذلك ، أو صدور استنكار من أحد فيه .
وعلى أيّ تقدير يكون منع المانع عن ذلك
ـ لا سيّما مع استظهاره فيه بقوله : حسبنا كتاب اللّه ـ كالتصريح منه بأنّ الأمر
ليس كذلك ، فكأنّه قال : لا حاجة لنا إلى بيان ما أردته لنا ؛ حيث إنّا من
المنزّهين عمّا خفت علينا ، والعالمين بالكتاب والاستنباط منه .
ولا يخفى أنّه عين الغلوّ والارتفاع على
حذو ما مرّ من القياس ، والكلام من تلامذة إبليس في جواب دعوة الأنبياء مع كونه
فاسداً أيضاً ، كما هو ظاهر وسيتّضح كمال الوضوح .
وأمّا
ثانياً : فلأنّ المنع الذي صدر من ذلك المانع كان
في نفسه خطأً وضلالاً ، ناشئاً من خطأ وضلال ، موقِعاً في الخطأ والضلال والإضلال
، مستعقباً لشُبهٍ في ضلال ، كما كان كذلك بعينه إباء إبليس عن سجدة آدم عليهالسلام ، وتلامذته عن قبول
الأنبياء ، وقد مرّ بيان وجوه ضلال ما صدر من الشيطان وتلامذته ، وسنبيّن هنا وجوه
ضلال هذا المنع بحيث يظهر على من لاحظها جهة انطباقها ، فنقول :
أمّا كون ذلك المنع خطأً وضلالاً ، فمن
وجوه ، منها : ما مرّ آنفاً .
ومنها : ما مرّ سابقاً في حكاية الشيطان
من أنّ العباد مكلّفون بالتسليم للّه ولرسوله في كلّ شيء ، من غير جواز سؤال سببه
وحكمته أو خيال سقمه وصحّته ، قال عزوجل :
( ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا
تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ )، وقال : ( ا يُسْأَلُ عَمَّا
يَفْعَلُ )وأمثالهما كثيرة .
__________________
مع ما في خلاف التسليم من الدلالة على
ضعف الاعتقاد باللّه ورسوله ، كما هو ظاهر في نفسه ، وصريح ما مرّ في جواب شبهات
إبليس من عند اللّه عزوجل ،
بل بداهة كلّ عقل يحكم بقباحة المواجهة بمثل هذا بالنسبة إلى أوساط الناس ، فضلاً
عن المطاعين ، لا سيّما بالنسبة إلى اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله
، خصوصاً على رواية قوله : إنّ النبيّ
يهجر، أي : يهذي ولا
يتكلّم من عقله ! فافهم .
ومنها : ما سيظهر من كونه من الخطأ
والضلال وموقعاً فيه ، ونحو ذلك ممّا يستلزم كونه خطأ وضلالاً .
وأمّا كونه ناشئاً من الخطأ والضلال فمن
وجوه أيضاً :
أحدها
: كون منشئه الرأي والقياس مطلقاً ، كما
هو مفاد الاقتصار في الاعتذار عن المنع على قوله : قد غلبه الوجع ! وحسبنا كتاب
اللّه ؛ إذ لو كان له عذر غير ذلك لذكره ، ولو ذكر لنُقل إلينا ، لا سيّما أتباعه
الذين بذلوا جهدهم في توجيه ما صدر منه ، وقد تبيّن بطلان الاعتماد على مقتضى
الرأي والقياس مطلقاً ، وكونهما ضلالاً ، لا سيّما في مقابل النصّ .
لا يقال : لعلّ أصل مبنى كلامه كان على
حجّيّة ما في القرآن ، وليس ذلك برأي .
لأنّا نقول : لو كان له أو لأمثاله علم
بشيء من القرآن نافع في الصيانة عن الوقوع فيما كان النبيّ صلىاللهعليهوآله خائفاً
منه من الخطأ والضلال ، لأمكن التوجيه المذكور ، لكن ليس الأمر كذلك ؛ ضرورة أنّهم
لو علموا ذلك لنادوا به، ولما وقعوا بالتمسّك به فيما خاف منه النبيّ صلىاللهعليهوآله عليهم
من أنواع الضلال التي سنذكر شيوعها لديهم . هذا ، مع ما سيأتي من شواهد فساد هذا
الخيال .
__________________
وثانيها
: كون خصوص هذا المنشأ أمراً فاسداً ، مع
قطع النظر عن بطلان مطلق الرأي والقياس ؛ وذلك لأنّ وجود الفارق في أقيسته واضح ؛
لما هو بيّن ضرورة ، وقد بيّنّا آنفاً شيئاً منه أيضاً ، ويأتي في محلّه مفصّلاً
من وجود صفات كمال وحالات جلال لرسول صلىاللهعليهوآله
ـ لا سيّما من نوع لوازم العصمة وغزارة
العلم والحكمة ، سيّما فيما يتعلّق بأحوال الاُمّة ـ ما لا يوجد في غيره ممّن لم
يكن من أهل مرتبته ، لا سيّما مثل هذا الرجل الذي لم يكن يعلم مثل هذا الفرق
الواضح ، حتّى وقع في مثل هذا القياس الفاضح ، حتّى أنّه مع استظهاره في ردّ قول
النبيّ صلىاللهعليهوآله وتقوية
قياسه بقوله : حسبنا كتاب اللّه ، كان جاهلاً بكثير من واضحات آيات القرآن ،
فضلاً عن الغامضات ، كما اعترف بذلك صريحاً في مواضع سنذكر كلاًّ منها في محلّه
على وفق نقل أتباعه ، لا سيّما في الخاتمة والختام .
مثل ما سيأتي في نقل حكاية وفاة النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
من إنكاره موته زعماً منه أنّه لا يموت ، فلمّا قرأواعليه قوله تعالى : ( إِنَّكَ
مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ )، وقوله : ( وَمَا مُحَمَّدٌ
إِلَّا رَسُولٌ )
إلى قوله : ( أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ
انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ )الآية
، رجع عن قوله وقال : كأنّي ما سمعت بهما أبداً!
!
وكذا مثل ما سيأتي من أنّه منع في
خلافته عن غلاء المهر ، وقال : كلّ ما زاد من المهر عن خمسمائة درهم أخذته ووضعته
في بيت المال ،
__________________
فقامت امرأة ، وقالت
: أتمنعنا ممّا جعل اللّه لنا ؟ وتلت قوله تعالى : ( وَإِنْ أَرَدْتُمُ ) إلى قوله : ( وَآتَيْتُمْ
إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ
بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا )، فقال : كلّ الناس أفقه من عمر حتّى
النسوان!
! وفي رواية : حتّى المخدّرات.
ومثل ما سيأتي أيضاً من أنّه منع من
عمرة المتعة ؛ مستدلاًّ بتقديم اللّه الحجّ في قوله تعالى : ( وَأَتِمُّوا
الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ )، بعد اعترافه بأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله أمر
بها ، فلمّا سمع ابن عبّاس بذلك قال : وقد قال سبحانه أيضاً في الميراث : ( مِنْ
بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَا أَوْ دَيْنٍ )،
مع أنّ الدَّيْن مقدّم على الوصيّة عند كافّة الاُمّة .
وأمثال ما ذكر ممّا يدلّ على كمال نقص
فقاهته ، واعتماده كثيراً على استحسان عقله ولو في مقابل النصّ كثيرة موجودة في
كتب القوم وإن لم يفهموا مفادها ، حتّى أنّ من عجيب أمرهم أنّهم استدلّوا بمحض
قوله في الحديث المذكور : حسبنا كتاب اللّه ، على أنّه كان كاملاً في العلم بما
في القرآن من غير النظر إلى مناداة ما ذكرنا صدوره منه وأمثال ذلك بخلافه ، فلو
أنّهم وجّهوا قوله ذلك بأنّه قال ذلك اعتماداً على وجود من يعلم
__________________
كعليّ عليهالسلام مثلاً ، لكان أولى
وأجمل وإن لم ينفع فيما نحن فيه ؛ إذ لا أقلّ من ورود الاعتراض بأنّك إذا عرفت
الاحتياج إلى الغير الذي ليس علمه كعلم النبيّ صلىاللهعليهوآله
، لوجب عليك إطاعة النبيّ صلىاللهعليهوآله في
أمره بالتعلّم منه .
وثالثها
: كون استناده إلى دفع ضرر الضلال
بالقرآن محض ادّعاء وقول بلا عمل ، كما هو ظاهر ممّا سيأتي صريحاً من وقوع أقوام
في الضلال حتّى من الصحابة من غير دفع لذلك المانع بل ولا لغيره عنهم ، ولا نفع
لكتاب اللّه لهم ، بل كثيراً ما استدلّ كلٌّ منهم به على مذهبه ، كما قال اللّه عزوجل : ( مِنْهُ
آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ )
إلى قوله : ( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ )حتّى
أنّه قد مرّ غير بعيد عن عمر أنّه قال صريحاً : إنّه يأتي ناس يجادلون بشبهات
القرآن فخذوهم بالسنن،
الخبر .
وكأنّه للإشارة إلى هذا وأمثاله ورد ما
رواه الشافعي في مسنده عن عبيد اللّه بن أبي رافع، عن أبيه أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «لا ألفينّ أحدكم متّكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري ممّا أمرت به أو نهيت
عنه ، فيقول : لا أدري ، وما وجدنا في كتاب اللّه اتّبعناه»، فتأمّل .
وأمّا كونه ـ أي المنع المذكور ـ موقعاً
في الخطأ والضلال والإضلال
__________________
مستعقباً لشُبه في
ضلال ، فظاهر ؛ إذ لا شكّ أوّلاً في صدق أخبار النبيّ صلىاللهعليهوآله
وأقواله جميعاً ، ومعلوم أيضاً أنّ مفاد
منطوق قوله صلىاللهعليهوآله :
«لن تضلّوا بعده» هو نجاتهم عن الضلال إذا كتب ذلك لهم، فمفهومه عدم النجاة إذا لم
يكتب ، ومع هذا قد ورد جزماً أنّه أخبر بما مرّ ويأتي من افتراق اُمّته على فِرَق
أكثرها هالكة ، وأنّ جمعاً من أصحابه يساقون يوم القيامة إلى النار لارتدادهم بعده
، وأمثال ذلك ، مع ما قد ترى أيضاً من تفرّقهم بعده إلى يومنا هذا ، بما أخبر به
من مذاهب (كثيرة
مختلفة ، حتّى على طرفي نقيض ؛ بحيث لا يمكن الجمع بينهما أصلاً ، ولا الحكم
بصحّتهما معاً ، بل كثير منهم يكفّر بعضهم بعضاً ، ويحكم بقتله وخلوده في النار
صريحاً ، مثلاً :
قال قوم منهم بخلافة من تقدّم على عليّ عليهالسلام وكفر من كفّرهم .
وقد قال قوم أيضاً بكفرهم وكفر من لم
يكفّرهم.
وقالت طائفة باُلوهيّة عليّ عليهالسلام ،
وطائفة بإمامته،
وطائفة بكفره.
وقال جمع بالجبر ، والتشبيه ، والرؤية
وأمثالها مكفّرين من لم يقل بذلك ، وقد كفّرهم جماعة وقالوا بالعدل ، واستحالة
الرؤية والتشبيه ونحو ذلك ، حتّى قالت فرقة بنفي الصفات عن اللّه بالكلّيّة، وفرقة بثبوت
__________________
جميعها له حتّى
اللّحية ! .
ألا ترى إلى ما سيأتي من كثرة المرجئة
والقدريّة ، مع كثرة ما ينادي بكفرهم من الأخبار النبويّة ؟ ! .
وبالجملة
: كثرة وجود أهل الضلال في هذه الاُمّة
ممّا لا شكّ فيه ، وإنكاره سفسطة محضة .
ثمّ لا ريب أيضاً في أنّ هذا الاختلاف
كلّه من متفرّعات ذلك الإباء والمنع ؛ إذ لو تُرك النبيّ صلىاللهعليهوآله وإرادته
لكتب لهم ما يصونهم أبداً من الوقوع في الضلال ، كما أخبرهم به في صريح المقال ،
ولأجل هذا قال ابن عبّاس في آخر الخبر : الرزيّة كلّ الرزيّة، إلى آخره ، وفي بعض الروايات أنّه بكى
حتّى ابتلّت لحيته ، وقال : يوم الخميس وما يوم الخميس، فسئل عن ذلك فنقل الحديث .
لا يقال : إنّ كثرة اختلاف الاُمّة طول
المدّة قد وصل إلى حدٍّ لا يمكن تمييز الحقّ من ذلك عن الباطل ـ بحيث يظهر للناس حال
كلّ ضالّ من غيره ـ إلاّ بتسويد كثارمن
الكتب والدفاتر ، فضلاً عن مثل الكتف وغيره ، فكيف يمكن حينئذ أن يدّعى أنّ قصد
النبيّ صلىاللهعليهوآله كان
كتابة دفع
__________________
جميع ذلك حتّى يلزم
منه كون مانعه سبباً في الجميع ؟ هذا مع حدوث جلّ ذلك بعد زمان الصحابة بسنين
وأعوام .
لأنّا نقول : إنّما كان قصد النبيّ صلىاللهعليهوآله كتابة
خلاصة شيء يندفع به جميع ذلك ، لا تفصيل دفع الجميع واحداً واحداً ، وذلك قد يكون
بكلمتين أيضاً ، فإنّه لو كتب النبيّ صلىاللهعليهوآله
ـ مثلاً ـ ما ادّعى الإماميّة أنّه كان
يريد أن يكتبه من التصريح بأسامي أوصيائه المعصومين المعيّنين من اللّه لتعليم
جميع اُمور الدين كعليّ عليهالسلام وأحد
عشر من ذرّيّته العلماء الحكماء المسلّمين في كلّ كمال ، كجدّهم عند كافّة
المسلمين ، وإيجاب الاُمّة إطاعتهم ، والحثّ على عدم التخلّف عن أمرهم ، وبالجملة
: لو كتب تعيين أسامي اُولي الأمر الذين قرنهم اللّه في كتابه بنفسه وبرسوله في
وجوب الطاعة ؛ حيث قال : «أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِى
الأَمْرِ مِنْكُمْ»،
وتشخيص أشخاص العترة الذين قرنهم اللّه والنبيّ بكتاب اللّه في وجوب التمسّك ؛
حيث قال : «إنّي تارك فيكم الثقلين» ـ وفي رواية «خليفتين»ـ ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا : كتاب
اللّه ، وعترتي أهل بيتي»،
الخبر ، وتصريح ما بيّنه يوم
__________________
الغدير من معنى الولاية
في قوله : «من كنت مولاه فعليٌّ مولاه» ، حيث قال أوّلاً : «ألست أولى بكم من
أنفسكم»لكفىذلك من غير شكّ ؛ لأنّ الناس لو اجتمعوا
على إطاعة عليّ عليهالسلام كما
اجتمعوا على إطاعة النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
لما حصل اختلاف ولا فساد ، ولما احتاجوا إلى رأي ولا اجتهاد ، لما سيتّضح تمام
(الموضوع بتمام)الوضوح
من علمه بجميع الأشياء ، آخذاً من اللّه ورسوله . وهكذا في عصر كلّ واحد من سائر
الأوصياء المذكورين ، كما أنّه كذلك حالهم في عصر المهديّ عليهالسلام باتّفاق المؤالف
والمخالف ؛ لما هو ميسّر له من الحكم المسلّم له على كافّة الناس .
فعلى هذا ، مَنْ مَنَع النبيّ صلىاللهعليهوآله من
ذلك الكتاب ليس إلاّ هو السبب لما ذكرناه من الضلال والفساد .
نعم ، إذا قيل : إنّ مراده كان كتابة
غير هـذا ، لورد ما ذكرتم ؛ لما هو ظاهر مسلّم من عدم كون علوم غيرهم بهذه المثابة
، ولا من هذا الطريق ، فلا أقلّ من حصول الخطأ الذي هو مصداق الضلال أيضاً ـ شرعاً
وعرفاً ـ في بعض الأحكام والعقائد التي لم تكن مأخوذة من اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله ،
ألا تـرى إلى هـذا العالم المملوء بما ذكرناه مـن أنواع الاختلافات
__________________
وأقسام)الضلالات ، مع أنّ عند القوم كان تمام
إصلاح الناس في خلافة أبي بكر ، التي هي أساس ما ترى ، ولو من جهة اعتياد الناس
منها على اختيارهم الخليفة والإمام من عندهم ، حتّى انجرّ إلى تسلّط يزيد وأمثاله
الفجرة اللّئام ، وقمع أعلام العلماء الكرام ، فاتّخذ الناس حينئذٍ رؤساء جهّالاً
، فضلّوا وأضلّوا ، كما مرّ صريحاً في صحيح الحديث عن سيّد الأنام عليه وآله
الصلاة والسلام .
ثمّ ممّا يؤكّد هذا الذي ذكرناه أنّه
كان قصد النبيّ صلىاللهعليهوآله ما
سيأتي في محلّه مفصّلاً من كتاب «تاريخ بغداد» المشهور ، عن ابن عبّاس أنّه قال ما
خلاصته : إنّ عمر بن الخطّاب سأله يوماً في أوائل خلافته عن عليّ عليهالسلام ، وقال : أَبقي في
نفسه شيء من الخلافة يزعم أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله
جعلها له ؟ فأجابه بقوله : فقلت له :
نعم ، وغير ذلك أيضاً ، إنّي سمعت أبي يحكي تصديقه ، قال : وإنّ عمر لمّا سمع ذلك
منه قال كلاماً فيه تصديق أيضاً ، حتّى أنّه قال صريحاً : أراد ـ يعني النبيّ صلىاللهعليهوآله ـ
في مرضه أن يصرّح بإسمه فمنعت [من ذلك]
اشفاقاًعلى
الإسلام ، وعلم النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّي
علمت ما في نفسه فأمسك.
وسيأتي أيضاً بعض المؤيّدات من الروايات .
فافهم ما ذكرناه في هذا المقام في شرح
الحديث المذكور بالتمام ، حتّى يظهر لك ـ مع ما ظهر ـ ركاكة تأويلات نتجت من خطوات
شياطين المخالفين في هذا المقام ، وسخافة تسويلات نسجت عليها تخيّلات أتباع
__________________
هذا الرجل في تحقّق
هذا الكلام ، ولنذكر خلاصة نبذ منها :
قال شارح المواقف في أواخر شرحه ، عن
الآمدي ، إنّه قال : كان المسلمون إلى عند وفاة النبيّ صلىاللهعليهوآله على
عقيدة واحدة وطريقة واحدة إلاّ من كان يبطن النفاق ويظهر الوفاق ، ثمّ نشأ الخلافبينهم أوّلاً في اُمور اجتهادية لا توجب
إيماناً ولا كفراً ، وكان غرضهم منها إقامة مراسم الدين وإدامة مناهج الشرع القويم
، وذلك كاختلافهم عند قول النبيّ صلىاللهعليهوآله في
مرض موته : «ائتوني بقرطاس أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعدي» ، حتّى قال عمر : إنّ
النبيّ صلىاللهعليهوآله قد
غلبه الوجع.
وذكر مضمون الحديث المذكور ، وكذا ما سيأتي من تخلّفجيش اُسامة .
وهكذا الشهرستاني بعد ذكره ما نقلناه
عنه من المطاعن البليغة على أهل الجدال بالرأي والقياس في كلّ زمان حتّى في عصر
النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
وأنّه من أفعال المنافقين ، وأنّ أصله من شبهات قياس إبليس وخطوات الشيطانقال :
وأمّا الاختلافات الواقعة في حال مرض
النبيّ صلىاللهعليهوآله وبعد
وفاته بين الصحابة ، فهي اختلافات اجتهادية ، كما قيل : إنّ غرضهم كان فيها إقامة
مراسم الشرع وإدامة مناهج الدين ، ثمّ نقل ما ذكرناه عنه من أنّ أوّل تنازع وقع في
مرضه ما رواه البخاري،
وذكر الحديث.
__________________
وقد قال أيضاً غيرهما مثل قولهما.
وقد تبيّن ممّا ذكرنا سخافته ، بل كونه
محض التحكّم في الدعوى والتكلّم بالهوى ، كيف لا ؟ ! وقد تبيّن كالشمس عدم فرق بين
ما في هذه الحكاية وبين غيرها من سائر الخصومات التي قد مرّ ذكرها ، مع أنّ هؤلاء
ـ بل وغيرهم أيضاً ـ يسلّمون ضلالة تلك الخصومات ، وكذا الانطباق على ما جعلوه
أصلاً في الضلالات من أقيسة إبليس وتلامذته ، وشبهاتهم في مقابل أوامر اللّه
ورسوله صلىاللهعليهوآله ،
كما تبيّن ممّا مرّ مراراً وكراراً ، حتّى أنّ كثيراً من تلك الخصومات المذكورات
كانت من بعض أصحاب الأنبياء ، بل من بعض صحابة نبيّنا صلىاللهعليهوآله
أيضاً ، كحكاية يوم الحديبية مثلاً .
فهل هذا الاستثناء هاهنا إلاّ محض
الدعوى على وفق مقتضى الهوى ؟ بل مع المنادي بنقيض المدّعى ؛ إذ قد تبيّن أوّلاً :
أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله أظهر
لهم أنّ مراده دفع الضلال عنهم بالكتابة ، والمانع لم يرض بذلك ، مع ظهور ما تبيّن
أيضاً من كون النبيّ صلىاللهعليهوآله أعلم
بجميع الأحوال وأشفق وأحرص على اُمّته من سائر الرجال ، وأنّه معصوم عن الخطأ في
أقواله في جميع الأحوال ، بل لا ينطق إلاّ بوحي من اللّه المتعال ، ويجب اتّباعه
بلا سؤال ولا جدال .
وتبيّن ثانياً : أنّ الناس واقعون
صريحاً (حتّى إلى الآن في أنواع)من
الضلالات التي كان النبيّ صلىاللهعليهوآله يخاف
عليهم من أدناها بمنع ذلك المانع . هذا ، مع سائر ما ذكرناه من مفاسد هذا المنع ،
فعلى هذا كيف يخفى على
__________________
ذي عقل نبيه كون مثل
هذا التوجيه عين التحكّم ومحض التمويه !
نعم ، إن كان مرادهم أنّ صدور هذه
الأشياء من بعض أعيان الصحابة لم يكن لنفاق منهم ولا تعمّد في الإضلال ، بل كان
سببه أنّهم ـ بحسب اعتقادهم متانة آرائهم الكاسدة ، وجهلهم بأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله لا
يتكلّم أبداً إلاّ بما فيه تمام المصلحة مأخوذاً من اللّه على وفق حكمته الكاملة ،
وأنّ قوله هو الصواب دون خلافه ـ زعموا أنّ ما وافق رأيهم إنّما هوصلاح المسلمين والخير في الدين ،
فارتكبوا المخالفة ، وإن كان ذلك غلطاً واقعاً ، لا سيّما إذا كان صدوره من عمر
أوّلاً ، حيث لم يكن هذا منه أوّل قارورة كسرت ، بل كان من ديدن هذا الرجل ـ كما
ظهر في مواضع كثيرة ، التي منها ما مرّ آنفاً ـ أنّه كان يشاجر ويكابر بمحض
استحسان عقله شيئاً وميل هواه إلى أمر حتّى مع النبيّ صلىاللهعليهوآله
، بل في أوامر اللّه الشرعيّة الصريحة
جهلاً أو تجاهلاً ؛ لما كان فيه من الغلظة والجلافة والكبر والعناد .
فحينئذٍ يصير ما ذكروه من دعواهم
المذكورة توجيهاً لدفع من استدلّ بصدور هذه الأشياء منهم على نفاقهم ، وهو شيء
آخَر اللّه أعلم به ، وسيأتي الكلام فيه في موضعه .
ولكن لا يندفع به ما نحن فيه من الدلالة
على وقوع هؤلاء أيضاً في مثل ما وقع فيه الشيطان وتلامذته الكفرة والمنافقون من
الضلال والإضلال ، لأجل التمسّك بالرأي والقياس حتّى في مقابل النصّ ، فإذا سلّموا
ذلك كفانا في هذا المقام ، سواء كان سبب ذلك نفاقهم أو جهالتهم .
هذا ، مع صدور الاعتراف من بعض هؤلاء
الموجّهين بكون الاعتراض على كلام النبيّ صلىاللهعليهوآله
علامة النفاق ـ كما مرّ ويأتي ـ ومع
دلالة ما
__________________
مرّ في هذا الفصل
وفصل الاختلاف وما سبق عليه من الآيات على أنّ أكثر الاختلافات كانت مع العلم
بالحقّ بحسب البغي والعناد ، ومن الروايات على اقتفاء هذه الاُمّة سنن من كان
قبلهم ، سوى ما مرّ ويأتي من سائر قرائن شيوع النفاق في الصحابة ، وعدم الاعتماد
على كثير منهم .
على أنَّ الحقّ أنَّ مثل هذه الجهالة ،
لا سيّما في مثل هذه الحكاية بالنسبة إلى أعيان الصحابة في غاية القبح والفضيحة ،
بل اُخت النفاق وبمنزلة الكفر ، وأصل منشئها الكبر والعناد ، كما هو ظاهر على
المتأمّل الصادق في تمييز الفساد عن السداد ، لا سيّما مع ملاحظة ما ذكرناه من
حديث تاريخ بغداد ، خصوصاً قوله : وعلم النبيّ صلىاللهعليهوآله
أنّي علمت ما في نفسه فأمسك، الدالّ على إخفاء النبيّ صلىاللهعليهوآله عن
عمر اهتمامه في تعيين عليّ عليهالسلام ؛
بحيث لمّا علم اطّلاعه على ذلك كفّ عنه ، كما كان كذلك دأبه في المداراة معهم ـ
كما سيأتي ـ ضرورة صراحة ملاحظة الجميع في كمال انحراف لعمرعن خلافة عليّ عليهالسلام ، وسعيه في دفعها عنه
إلى حدّ منعه النبيّ صلىاللهعليهوآله عن
التصريح به ، وارتكابه التمحّلات الباطلة لدفع ذلك ، كما ينادي به قوله : إنّ
النبيّ صلىاللهعليهوآله غلبه
الوجع أو يهجر ! وحسبنا كتاب اللّه ! وغير ذلك ، بل إلى حدّ ادّعائه أنّه كان
أشفق على الإسلام من النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
وأنّ في خلافة عليّ عليهالسلام ـ
التي كان فيها رضا اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله ،
بل أمرهما ـ لم يكن صلاح الإسلام ، مع أنّه كما ترى ؛ ضرورة أن لا أحد أشفق على
الإسلام ولا أعرف بما يصلح له من النبيّ صلىاللهعليهوآله
، كما مرّ بيانه .
هذا ، مع ما أشرنا إليه آنفاً ، وسيأتي
مفصّلاً من وضوح وجود
__________________
المفاسد التي ترتّبت
على ما أراده عمر ، فافهم حتّى تعلم أنّ هذه الأشياء التي اعترف بها هؤلاء القوم
في رواياتهم وغيرها ، ممّا يوجب اتّهام عمر في فعله يوم السقيفة أيضاً ، كما ورد
في أحاديث الشيعة صريحاً،
وتعلم مع هذا أنّهم عند العصبيّة بحيث إنّهم يتكلّمون في موضع بشيء ، وفي آخَر
بنقيضه صريحاً من غير إدراك منافاتهما أصلاً .
أما سمعت قُبيل هذا ما نقلناه عن
الشهرستاني في تحقيقه شبهات أهل الدنيا إلى هذه الاُمّة من كلامه المشتمل على كون
منشأ شبهات هذه الاُمّةمن
المنافقين في زمن النبيّ صلىاللهعليهوآله ؟
حتّى أنّه صرّح في بيان علّة ذلك بقوله : إذ لم يرضوا بحكمه فيما كان يأمر وينهى ،
وشرعوا في المجادلة فيما لا يجوز الجدال فيه عملاً باستحسان العقل ، وحكماً بالهوى
في مقابل النصّ ، إلى أن صرّح بقوله هذا : إنّ المنافقين كانوا يخادعون ويظهرون
الإسلام ، وإنّما كان يظهر نفاقهم في كلّ وقت بالاعتراض على حركات النبيّ صلىاللهعليهوآله وسكناته
وكلماته،
ومع هذا في هذا المقام ذهل عن تحقّق وجوه الانطباق ، ووجود قرائن دخوله تحت
المصداق ، فقال تحكّماً : إنّ هذا ليس من ذلك ، مع ما فيه ممّا ذكرنا وبيّنّا ،
فتدبّر .
ثمّ إنّ من تلك التأويلات الركيكة ما
قاله بعض علماء القوم من أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله إنّما
أراد أن يكتب خلافة أبي بكر ! فإنّ
سخافته واضحة ممّا مرّ وغيره من جهات عديدة ، ولا أقلّ من كون عامّة أهل الاختلاف
__________________
والضلالات من
القائلين بخلافة أبي بكر ، كما ظهر ويظهر ، على أنّهلا يندفع به كون عمر سبب الضلالة بالمنع
من ذلك ؛ ضرورة كون ذلك حينئذٍ سبباً لضلالة منكري خلافة أبي بكر وأمثاله .
ومنها : ما نقله القاضي عياض من توجيه
بعض منهم المنع من كتابة الكتاب بأنّه : ربّما كان أمر النبيّ صلىاللهعليهوآله بذلك
على سبيل الندب ، ولمّا أن رأى اختلافهم وصواب رأي عمر كفّ عنه.
وسخافته أوضح من أن يحتاج إلى البيان ؛
إذ قد بيّنّا آنفاً أنّ مثل هذا الأمر ليس ممّا يتطرّق إليه جواز المخالفة ، وأنّ
ممّا ينادي به قوله صلىاللهعليهوآله :
«لن تضلّوا».
ثمّ لا يخفى أنّ اللازم من قول هذا
القائل : ولمّا رأى الاختلاف وصواب رأي عمر كفّ عنه ، كون وقوع الناس في الضلال
صواباً ؛ إذ قد تبيّن أنّ هذا هو مآل مقتضى رأي عمر ، مع أنّ عمر نفسه أشعر في
رواية البغداديبأنّ
إمساك النبيّ صلىاللهعليهوآله عمّا
أراد أوّلاً إنّما كان لحسن مداراته معهم ، وخوفه من إجهارهم بمخالفته ، لا تصويب
رأيهم ، كما ينادي به أيضاً قوله صلىاللهعليهوآله :
«قوموا عنّي»فافهم
.
ومنها : ما ذكره القاضي أيضاً ، وكذا
العسقلانيشارح
البخاري ، عن
__________________
النووي، من التوجيه : بأنّ عمر خشي أن يكتب
النبيّ صلىاللهعليهوآله اُموراً
يعجزون عنها فيخالفوه صريحاً فاستحقّواالعقوبة
بترك المنصوص،
ورأى أنّ الأرفق بالأُمّة في تلك الاُمور سعة الاجتهاد ، وعدم سدّ بابه على
العلماء .
ولا يخفى أنّ هذا الكلام مع ما فيه من
المفاسد الجليّة عين ادّعاء مزيد علم عمر وفهمه على علم النبيّ صلىاللهعليهوآله وفهمه
، حيث أدرك ما لم يدركه ! وصريح الاعتراف بصحّة ما تبيّن كون فساده واضحاً مسلّماً
عند الكلّ ، وأنّه من شبهات إبليس وأتباعه في كلّ زمان من الحكم بالهوى في مقابل
النصّ ، بل مخالفة اللّه ورسوله صريحاً بمحض خيال عقلي ، بل خرص احتمالي ، وقد
قال عزوجل :
(
وَمَا
كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ
__________________
أَمْرًا
أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ).
نعم ، سكوت النبيّ صلىاللهعليهوآله عمّا
أراد لمّا رأى القال والقيل منهم يمكن أن يكون خوفاً من إجهارهم بمخالفته ـ كما
ذكرناه آنفاً ـ واستحقاقهم نزول العذاب عليهم ـ كما سيأتي تحقيقه في الباب الخامس
ـ مع إتمامه الحجّة عليهم ، وتبليغه الحقّ بما أخبرهم أوّلاً وأراد لهم دفعه بما
لم يرضوا به ، بل مع حصول ما مرّ في التبيان سابقاً من إرادة اللّه امتحان العباد
أيضاً .
وأمّا عمر الذي لا مدخل له في تأسيس
الشرع ، ولا شراكة له مع الرسول صلىاللهعليهوآله ولا
العلم بما يكون ، بل كان هو أصل وقوع فتنة هذا الجدال ، وأوّل من أبدى صفحته
بالمخالفة لهذا المقال ، كيف يجوز (فيه هذا التوجيه )، لا سيّما بعد بروز ما ذكرنا من سرّ
منعه ومفاسد رأيه؟
فافهم .
ومنها : ما ذكره القاضي من التوجيه
أيضاً : بأنّ منع عمر كان إشفاقاً على النبيّ صلىاللهعليهوآله
من تكليفه في تلك الحال إملاء الكتاب ،
وأن يدخل عليه مشقّة من ذلك.
وسخافته أظهر من غيره ؛ إذ لا أقلّ من
كمال ظهور أنّ تحمّل مثل هذه المشقّة كان أسهل وأحسن وأولى وأحرى لا سيّما عند
النبيّ الرؤوف الشفيق الحريص على خير اُمّته من ترك الناس حتّى يقعوا في الضلال .
ومنها : ما ذكره هو أيضاً بقوله : وقد
قيل : إنّ عمر خشي تطرّقالمنافقين
ومَن في قلبه مرض لمّا كتب ذلك الكتاب في الخلوة ، وأن
__________________
يتقوّلوا في ذلك
الأقاويل ، كادّعاء الرافضة الوصيّة وغير ذلك.
وهو أيضاً كغيره ؛ إذ لا أقلّ من إمكان
علاج هذا بأن يأمر بقراءته على الناس ولو على المنبر ، ونحو ذلك .
وأمّا ما نسبه إلى الرافضة ، فقد تبيّن
ـ ويظهر أيضاً في محلّه ـ أنّه ليس بتقوّلٍ ، كما يقوّل هؤلاء القوم بأنّه أراد أن
يكتب خلافة أبي بكر ، كما ذكرناه مع بيان سخافته ، بل هو ممّا دلّ الدليل عليه ،
وأخبر به كلّ أهل البيت وغيرهم حتّى عمر ، كما مرّ آنفاً .
هذا ، مع أنّه قد ذكر النووي في شرح
صحيح مسلم ، وكذا القاضي عياض : أنّ طائفة من العلماء ذكروا في توجيه منع عمر :
أنّه لم يكن ردّاً على النبيّ ؛ لأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله
لم يبدأ هو بالأمر بذلك ، بـل بعض أصحاب
النبيّ صلىاللهعليهوآله طلب
منه كتابة الكتاب ، فأجابه بما قال ، فمنعه عمر من الإجابة ؛ لبعض هذه الوجوه التي
مرّت ، فقبل كلامه،
ويظهر من كلام بعض منهم أنّ الطالب له كان العبّاس .
ولا يخفى أنّه أيضاً وإن كان توجيهاً
ظاهر السخافة ؛ لما مرّ في قباحة الردّ مطلقاً ، وسخافة كلّ الوجوه المذكورة إلاّ
أنّه يؤيّد إرادة الوصيّة ؛ إذ في أخبار القوم أيضاً ما يدلّ على أنّ العبّاس كان
يسعى أن يصدر من النبيّ صلىاللهعليهوآله تصريح
بالأمر ، وكان يقول ما يدلّ على سوء ظنّه بالناس حتّى كان يقول لعليّ عليهالسلام : أنت بعد ثلاث عبد
العصا.
__________________
وبالجملة
: هذه الوجوه التي ذكروها ـ بل غيرها
أيضاً ـ لا تدفع عمّا نحن فيه من إباء عمر شيئاً ممّا أوردنا عليه من البشاعة من
حيث الرأي والقياس وترتّب الفساد منه والضرر على الناس ، لا سيّما إذا لوحظ كون
ذلك الإباء في قبال تصريح النبيّ صلىاللهعليهوآله بأنّه
يريد بما أمرهم أن يجمعهم على أمر لا يتطرّق به الضلال إليهم أبداً ، كما هو ظاهر
على من له أدنى فهم وبصيرة .
بل بعد هذه الملاحظة مع التدبّر في
خلاصة ما ذكرناه ، حتّى من لسان القوم أيضاً في أصل منشأ القياس وشُبهه يتّضح كمال
الوضوح أنّ هذا الإباء ما ترك في المطابقة والمشابهة شيئاً ممّا مرّ في أقيسة
السابقين ، لا سيّما قياس إبليس وشُبهه ، حتّى أنّه كما أنّ إباء ذلك عن السجود صار
سبباً لوقوع بني آدم في الخطأ والضلال ، صار إباء هذا أيضاً سبباً لوقوع هذه
الاُمّة في الخطأ والضلال .
هذا ، مع أنّه كانت هاهنا زيادة تأكيد
وبيان في الأمر لم تكن هناك ، أعني التصريح بعلّة التكليف ، ونفع قبول الأمر ،
وضرر الخلاف ، كما هو مفاد قوله : «لن تضلّوا» ، فتأمّل في جميع ما ذكرناه هاهنا
حقّ التأمّل ، حتّى تظهر لك دلالة هذا الحديث على فضائح عظيمة تعدّى المخالفون
عنها بالتغافل .
ثمّ إنّ الشهرستاني ، وكذا الآمدي
وغيرهما قالوا : ومن جملة اختلاف الصحابة ونزاعهم ما كان في مرض النبيّ صلىاللهعليهوآله أيضاً
، فنقلوا حكاية التخلّف عن جيش اُسامة،
وهي حكاية مشهورة مسلّمة ، نقلها المخالف والمؤالف ، وستأتي في محلّها ، وخلاصتها
:
__________________
إنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله
في مرض موته أمر اُسامة بن زيد على جيش
فيه جُلّ المهاجرين والأنصار، منهم أبو بكر على ما رواه الأكثر كالبلاذري،
والواقدي،
والجوهري،
والزهري،
وهلال بن عامر،
ومحمّد بن اُسامة،
__________________
ومحمّد بن إسحاق، وعروة بن الزبير وغيرهم ، وهو الذي في
روايات أئمّة أهل البيت عليهمالسلام ،
وإن أنكر كونه منهم بعض أهل الخلاف غصباً عليه ، ومنهم : عمر ، وأبو عبيدة بن
الجرّاح،
وعبد الرحمن بن عوف،
وطلحة ، والزبير ، وغيرهم من المهاجرين ، وأسيد بن حضير، وبشير بن سعد، وجماعة من أمثالهما من أكابر الأنصار
، وأمره أن يغير على مؤتة ،
__________________
حيث قُتل أبوه زيد ،
فخرج اُسامة ومعه بعض منهم ، وتخلّف جمع معتذراً بعضهم بالاشتغال في التجهيز ،
وبعضهم بالتشويش من جهة النبيّ صلىاللهعليهوآله ونحو
ذلك ، حتّى أنّ جمعاً منهم كرهوا تأميره ، لا سيّما من جهة حداثة سنّه ، فتكلّم
النبيّ صلىاللهعليهوآله في
ذلك عليهم وأوصى به إليهم وأمرهم بالتجهيز والسير معه ، وكان يقول مراراً :
«أَنفِذُوا جيشَ اُسامة ، لعن اللّه من تخلّف عنه»فبقي
اُسامة خارج المدينة ليلحق به البقيّة وقد كان فيهم من يقول : يجب إطاعة قول
النبيّ صلىاللهعليهوآله وإجابة
أمره ، ومن يقول : اصبروا حتّى نشوفكيف
يكون ، فجاءه الخبر من اُمّه بأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله
قد حضر موته ، فرجعوا من فورهم إلى
المدينة ، فوافوا ساعة وفاته صلىاللهعليهوآله ،
فركض من ركض إلى السقيفة ، فاشتغلوا بأمر الخلافة وبايعوا أبا بكر ، ثمّ لم يسر
معه فيما بَعْدُ أصلاً بعض منهم أبو بكر وعمر.
ولا يخفى أنّ هذه القضية من قبيل ما مرّ
في مخالفة الأمر المحتوم المؤكّد باللعن ، كما هو مسلّم ثابت ، بمحض الحكم بالرأي
ومقتضى الهوى
__________________
واستحسان عقلهم
وقياسهم ؛ إذ غاية ما أظهروا من العذر فيه التشويش من جهة مفارقة النبيّ صلىاللهعليهوآله على
تلك الحالة ، وذلك محض استحسان عقلي في مقابل صريح الأمر ، كما استحسن الشيطان عدم
سجوده لآدم عليهالسلام بأنّه
لا يسجد لغير اللّه ، كما ذكره في الشبهة الرابعة من شُبهه السبع التي أوردناها
سابقاً، وكذا ما ظهر في بدو
الأمر من كراهة تأميره هو بعينه من قبيل أقيسة إبليس وتلامذته في الاستكبار عن
الأمر .
وأمّا ما برز أخيراً من حكاية الخلافة
والسعي فيها فهو من علائم مدخلية الهوى أيضاً ، (كما سيظهر)حتّى أنّه لو وجد أو فرض هناك سبب آخَر
لكانكذلك أيضاً ؛ إذ لا
أقلّ من كون مخالفة أمر الرحمن من خطوات الشيطان ، كما مرّ بيانه مبسوطاً .
لكن مع هذا صرّح الشهرستاني وكذا غيره ـ
ممّن نقل هذه الحكاية والسابقة ـ بما نقلناه عنهم من كون غرض هؤلاء إقامة مراسم
الدين وصلاح المسلين.
ولا يخفى أنّ هذا أيضاً ـ كما مرّ بيانه
سابقاً ـ محض قول بلا هدى ، ودعوى على مقتضى الهوى ، بل إنّ الحقّ أنّ هذهالقضيّة ينبغي أن تعدّ من باب صريح
مخالفة أمر اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله المؤكّد
باللعن بمحض الرأي الناشئ من اقتضاء الهوى ، لا سيّما الذي ترك الأمر رأساً فلم
يخرج مع الجيش أخيراً ؛ إذ لا كلام ـ كما لا مِرية أيضاً ـ في عدم سقوط أوامر
__________________
النبيّ صلىاللهعليهوآله بموته
من وجوه :
منها : كونها أمر اللّه بصريح الآيات
والروايات ، لا سيّما في الأمر بالجهاد الذي من أعظم الطاعات ، خصوصاً في حقّ من
كان من المأمورين بعينه كعمر بالاتّفاق وكذا أبي بكر على تصريح الأكثر ؛ إذ معلوم
أنّ مثلهما من الأعيان لم يكن يتحرّك أمثال هذه الحركة إلاّ عند التعيين ، مع أنّ
في رواية الحكاية تصريحاً بأنّهما مع جماعة من الأعيان كانوا معيّنين بالخروج مع
الجيش ، حتّى أنّ هذا الأمر كان بحيث سألوه الرخصة عنه ولو محض تأخير أيّام ، فلم
يرض أبداً ، بل أكّد عليهم بتعجيل التجهيز ولعن المتخلّف عنه.
ومن موضحات القرائن ، بل الدليل القاطع
على كون مبنى هذه المخالفة على الهوى لا غير ـ سوى ما مرّ ـ أنّ أوّلاً :
معلوم أنّ معظم أعيان الجيش ـ كما مرّت
أساميهم ـ كانوا أهل أساس حكاية السقيفة ، وعلى أيديهم استقامت خلافة أبي بكر .
ثمّ معلوم أيضاً أنّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآله كان
عالماً ـ كما أخبر مراراً ـ بارتحاله عن الدنيا في تلك الأوقات ولو على سبيل
الاحتمال ، وكان المرض أيضاً كالرسول لذلك ، ومع هذا كان عالماً أيضاً باحتياج
الناس إلى تعيين الخليفة ، وأنّ لهؤلاء القوم مدخلاً في ذلك ولو في تحقّقه على نحوخاصّ ، وأنّهم إذا رحلوا عن المدينة
ربّما لم يحضروا وفاته ولم يحصل ذلك كما كان الظاهر ، فلو كان يعلم أنّ إصلاح
الاُمّة وقوام الدين إنّما هو فيما جرى على أيديهم من أمر الخلافة وعلائقها ، أو
غير ذلك ممّا أمكن
__________________
فرض كونه سبب
المخالفة ، لما أمر بشيء ممّا ذكر ، لا سيّما اللعن على المتخلّف ؛ لما هو معلوم
من إشفاقه على اُمّته وسعيه في جمعهم على الحقّ وما فيه صلاحهم والأصلح بحالهم ،
واستخلاصهم عن موجبات الضلالة ومرجوحات الجهالة ، بل كلّ ذلك كان واجباً عليه ،
فلمّا لم يفعل ذلك ، بل جدّ ـ كما ظهر ـ في خلاف ذلك ، مع ما ذكر من علمه وإشفاقه
ولطفه وسعيه وتمام تبليغه ، وأنّه (
وَمَا
يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ
)ثبت
بالضرورة عدم انحصار الصلاح عنده في ذلك .
فحينئذٍ وجب القول إمّا بعلمه بعدم كون
ذلك صلاحاً للدين والاُمّة ، كما هو الظاهر من جِدّه في خلاف ذلك ، كالأمر الأكيد
بخروجهم وعدم حضورهم ، ومن المفاسد التي ترتّبت على تلك المخالفة ولا أقلّ ممّا
نحن فيه من الضلالة الحاصلة من الاختلافات المتناقضة ، كما مرّ غير مرّة ، أو
بعلمه بعدم كون ذلك أصلح ولو بالنسبة إلى ذهابهم .
وعلى التقديرين لا يستقيم التوجيه بكون
مراد الصحابة في ذلك الاختلاف ، ـ بل المخالفة ـ مراعاة صلاح المسلمين وإقامة
مراسم الدين بنحو ما لهج به الشهرستاني وأمثاله ، كما مرّ؛ ضرورة أنّ الصحابة لم يكونوا أعرف من
النبيّ صلىاللهعليهوآله بالحال
، ولا كانوا جاهلين بكون النبيّ أعلم بالحال والمآل ، وأنّه لم يقل إلاّ ما هو
الأصلح للعباد وأوفق لمرضاة اللّه وأقرب إلى السداد ومع هذا خالفوا ، ولا معنى
لمتابعة الهوى إلاّ مثل هذا ، لا سيّما بعد ملاحظة ما صدر منهم بعد تلك المخالفة
من إغفالهم عن
__________________
تجهيز خير الخليقة ،
وركضاتهم إلى السقيفة ، وقالاتهمفي
تقمّص الخلافة ، مع التأمّل فيما ترتّب عليها من المفاسد التي منها : ما نحن فيه ،
كما تبيّن من حصول الاختلافات والوقوع في أنواع الضلالات ، وسيأتي غير ذلك أيضاً
في محلّه من المفاسد العظام .
فتأمّل جدّاً حتّى يظهر لك مشاركة هذه
القضيّة مع سابقتها في كون المخالفة في كلٍّ منهما اُمّ الفساد في هذه الاُمّة ،
ومبنيّة على تمحّلات في هوى تحصيل الخلافة ، وسبباً لوقوع الناس في الضلالة ، وفي
التطبيق على ما سنّه إبليس من القياس والتلبيس ، وغير ذلك حتّى الاشتراك في طرق
إثبات هذه المطالب ، وكذا يظهر لك أنّ مراد رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ـ
كما كان في الحكاية السابقة ـ تمهيد خلافة عليّ عليهالسلام ،
ودفع طمع غيره على ما بيّنّاه ، حتّى باعتراف من عمر ، كذلك هاهنا يستفاد ممّا
يلوح من إرسال مثل هذا الجيش الخاصّ المشتمل على هؤلاء الجماعة المخصوصين في هذا
الوقت المخصوص مع ذلك التأكيد الخاصّ في التعجيل ، وعدم تخلّف أحد ، وجِدّهم مع
هذا في التخلّف ، أنّ مراد النبيّ صلىاللهعليهوآله كان
منه أيضاً تمهيد خلافة عليّ عليهالسلام ،
ودفع المانعين منها عن المدينة ، كما ورد التصريح بهذا في روايات أئمّة أهل البيت عليهمالسلام ؛
لما هو معلوم من عدم اقتضاء المصلحة تصريح النبيّ صلىاللهعليهوآله
بما في قلبه وقلوبهم ، وإلزامهم ببعض
الاُمور التي كان يعرف منهم الإجهار بالمخالفة إن لم يُدارِ معهم .
__________________
كما يظهر كلّ هذا من الذي ذكرناه في
التبيان من جريان عادة اللّه بالامتحان ، ومن الذي يأتي في الباب الخامس من
اقتضاء مصلحة رفع عذاب الاستئصال لزوم عدم التصريح والإلزام بالشيء في بعض الأحوال
، ومن الذي يأتي أيضاً في بحث المداراة والتقيّة وغير ذلك ، وكذا يظهر لك غاية تعسّف
المخالفين في التمحّل والتمويه مهما رأوا شيئاً يلوح منه خلاف ما هم عليه ، حتّى
أنّهم حينئذٍ يصيرون كأنّهم سكارى يلهجون بما هو مثل دعوى غروب الشمس في رابعة
النهار .
ألا ترى إلى هؤلاء الذين قصدوا توجيه
مثل هاتين الحكايتين اللّتين فيهما ما بيّنّاه علانية من أقسام المفاسد التي منها
مخالفة اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله جهاراً
فيما أخبرهم النبيّ صلىاللهعليهوآله مرّة
بوقوع المخالف في الضلال ، واُخرىبإصابة
اللعن والنكال ؟ ! كيف قالوا صريحاً : إنّ غرض هؤلاء المخالفين كان إقامة مراسم
الدين ؟ أكان دين ذلك اليوم غير تسليم ما فيه إطاعة اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله ،
أم كان المبعوث رحمة للعالمين يلعن مَن غرضه ترويج الشرع المبين ؟
اللّهمّ إلاّ أن يقال : مراد هؤلاء
بالشرع والدين : خصوص خلافة من سُعي ذلك اليومفي
خلافته لا مطلق ما جاء به سيّد المرسلين ، بل وإن استلزم مخالفته ، وقد نُقل عن
أبي هاشم شيخ المعتزلة أنّه قال في كتابه الذي سمّاه بالجامع : فإن قيل : أفيجوز
أن يخالف النبيّ صلىاللهعليهوآله فيما
يأمر به ؟ قيل له : أمّا ما كان من ذلك من طريق الوحي فليس يجوز مخالفته على وجه
من الوجوه ، وأمّا ما كان من ذلك على طريق الرأي فسبيله فيه سبيل
__________________
الاُمّة من أنّه لا
يجوز أن يخالف في ذلك في حال حياته ، وأمّا بعد وفاته فقد يجوز أن يخالف ؛ يدلّك
على ذلك أنّه قد أمر اُسامة بأن يخرج بأصحابه في الوجه الذي بعث فيهم ، فأقام
اُسامة عليه وقال : لم أكن لأسأل عنك الركب ! ثمّ إنّ أبا بكر استرجع عمر وقد كان
في أصحابه ، ولو كان ذلك بوحي لم يكن لاُسامة أن يقيم ويقول ما قال ، ولا كان لأبي
بكر استرجاع عمر،
انتهى .
فانظر إلى ما صدر من هذا الرجل عند اضطرابه
تعصّباً من الهفوات التي تضحك منها الثكلى ؛ حيث ادّعى أوّلاً استعمال الرأي
والحكم بغير أمر اللّه على الرسول الذي شهد اللّه عزوجل له
في محكمات كتابه مراراً وكراراً بأنّه لا ينطق عن الهوى ، ولا يتكلّم إلاّ بما
يوحى إليه،
ولا يتّبع ظنّاً ، ولا يقول بخلاف الهدى ، ونحو ذلك ممّا مرّ ويأتي من دلائل
تنزيهه عن تلك الحال التي تبيّن عياناً كونها مطلقاً علامة أهل الباطل وأصل الوقوع
في الضلال ، ثمّ أفتى بجواز مخالفته بمحض هذا الافتراء ، وهو خلاف صريح نصوص
محكمات الكتاب وثابتات السنّة ، كما مرّ مجملاً ويأتي مفصّلاً مع كفاية ما مرّ من
قوله تعالى : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ )،
وقوله : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا
مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ )، وقوله : ( أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ )،
__________________
وقوله : ( إِنْ
كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي )وأمثالها
.
ثمّ جعل تلك القضيّة (ممّا كان)بغير أمر اللّه وجائز المخالفة رجماً
بالغيب ، مع كونها هي الأمر بالجهاد الذي هو من أعظم أركان الدين وأجلّ أحكام ربّ
العالمين ، لا سيّما في خصوص هذا الموضع الذي أكّده بما مرّ من التعجيل وغيره ، حتّى
اللعن على من تخلّف عنه ، وهل يجوز على ذي عقل وبصيرة ـ بل على عامّة من العوام ـ
أن يصدّق بصدور اللعن من مثل رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
أكمل المخلوقين ورحمة اللّه على
العالمين بالنسبة إلى جمع من المؤمنين ، بل من أصحابه الكاملين بمحض أن صدر منهم
ما خالف رأيه ممّا كان جائزاً لهم مخالفتهفيه
شرعاً ، بل راجحاً أيضاً ؛ لكون غرضهم ـ بزعم الموجّه ـ إقامة مراسم الدين ؟ !
ثمّ استند هذا الرجل في جّلّ تلك
الدعاوي والفتاوى التي تبيّن حالها بما هو ـ مع سخافته ـ عين المصادرة من صدور
المخالفة من اُسامة وأبي بكر وعمر ، فإنّ خلاصة مآل كلامه إلى التزام جواز مخالفة
قول النبيّ صلىاللهعليهوآله وأمره
مهما لم يسنده حاضراً إلى وحي خاصّ وإن أكّده بالتأكيدات الشديدة ، بل وإن احتمل
احتمالاً ظاهراً قويّاً دخوله تحت الأوامر التي وردت وحياً صريحاً كالجهاد مثلاً ؛
استناداً إلى محض مخالفة بعض الصحابة له ، كما في القضيّة المذكورة ، مع وجود
الآيات والروايات وغيرها الصريحة في عدم جواز المخالفة مطلقاً ، وقيام احتمال كون
صدور الذي صدر جهالة ؛ لعدم عصمة الصحابي ولا كون فعله حجّة .
__________________
هذا ، مع توهّم هذا الرجل بالتطبيق
أيضاً ؛ لأنّ مدّعاه جواز المخالفة بعد الوفاة ، كما صرّح به في عبارته ، كما
قالوا في سائر المجتهدين ، مع أنّ مخالفة أُسامة التي هي سنده كانت في حياته أيضاً
، إلاّ أن يلتزم كون أُسامة في الاجتهاد مثل النبيّ صلىاللهعليهوآله
؛ ولهذا خالفه في حياته أيضاً !
فاعتبروا يا اُولي الأبصار ! !
وقد كتب بعض العلماء الأجلّة من
الإماميّة رسالة منفردة في شرح هذا الحديث بما لا مزيد عليه ، وسنذكر بعض إفاداته
في محلّه .
ثمّ من التمويهات أنّ هذا الرجل نسب
المخالفة إلى اُسامة ، وليس كذلك ، بل كان أصلها من غيره ـ وإن تكلّم هو أيضاً
ببعض ما يدلّ على إرادة الرخصة فلمّا لم يحصل عزم وخرج ، كما هو ظاهر حديثهـ حتّى عن بعض ما سيأتي في محلّه : أنّ
المجتهد في هذه المخالفة هو المجتهد في الحكاية السابقة أيضاً .
ثمّ قد صدر مثل هذا التمويه في الحكاية
السابقة أيضاً عن بعضٍ منهم ، كما مرّ في
نقل صاحب المواقف قول الآمدي من التعبير الذي ذكره ، فإنّه ـ كما نقلنا عنه ـ يوهم
ظاهراً أنّ أصل الاختلاف ذلك اليوم كان من جمع من الصحابة إلى أن قال عمر ما قال
وليس كذلك ، بل ابتداء الردّ والكلام كان من عمر ، كما هو صريح حديثه ، فتأمّل
تفهم .
ثمّ اعلم أيضاً أنّ الشهرستاني وكذا
غيره ، بعد أن ذكروا بعض اختلافات اُخَر جزئيّة لا حاجة لنا إلى نقلها ، قالوا :
وأمّا الخلاف بعد موت النبيّ صلىاللهعليهوآله فهو
الذي وقع أوّلاً في الإمامة .
__________________
قال الشهرستاني : وأعظم خلاف بين
الاُمّة خلاف الإمامة ؛ إذ ما سلّ سيـف في الإسلام على قاعـدة دينيّة مثـل ما سـلّ
على الإمامة في كـلّ زمان .
ثمّ نقل مجملاً من حكاية السقيفة وخلافة
أبي بكر ، وما جرى بين الصحابة في تلك القضيّةـ
وسيأتي تفصيلها في مقالات المقصد الثاني لا سيّما الرابعة منها ـ وهي أيضاً بعينها
من قبيل ما سبق من حكايتي الكتاب والجيش ، وغيرهما في المشابهة بأقيسة إبليس
وتلامذته وشُبههم وتلبيساتهم ، لا سيّما من حيث كون البناء على أساس استحسان الرأي
واقتضاء الهوى وقياس العقل ، حتّى في مقابل الأمر وفي استلزام الضلال والإضلال .
فإنّ خلاصتها ـ على ما هو مفاد صحاح
أخبار القوم والجمع بينها وملاحظة بعضها مع بعض ـ أنّه لمّا توفّي رسول اللّه صلىاللهعليهوآله اشتغل
عليّ عليهالسلام مع
بعض الخواصّ بغسله وتجهيزه بأمره ووصيّته ، ولزوم تعجيل التجهيز الذي هو من أعظم
حقّ الميّت ، لا سيّما مثل رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
، وبقي اُناس حيارى في همّ وغمّ عظيم
بإصابة تلك المصيبة العظمى ، واغتنم الفرصة من لم يشتغل بذاك ولم يضطرب بذا ، فذهب
أبو بكر وعمر مع أبي عبيدة بن الجرّاح فوراً إلى جماعة من الأنصار بسقيفة بني
ساعدة ، وشرعوا في إظهار لزوم تعيين الأمير والخليفة ، أي : رئيس للناس يكون في
مقام النبيّ صلىاللهعليهوآله وإماماً
لهم ، بحيث زعم الناس منهم أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله
لم يعيّن أحداً لذلك ، بل ترك الاُمّة
ورأيها ليختاروا من أرادوا ، وأنّ هذا أمر فوريّ لا بُدّ من تعجيل لتشخيصه، فطمع فيها كلّ طامع ، ومدّ عينه إليها
كلّ رطب ويابس ، وكان
__________________
ممّن طمع فيها من
الأنصار سعد بن عبادة رئيس الخزرج ، فدار الكلام بل المخاصمة بينهم ، وشرع كلٌّ
يجرّ إلى جانبه حتّى انجرّ إلى العمل بما رآه عمر وأبو عبيدة من استخلاف أبي بكر ،
فبايعه عامّة من حضر هناك بإعانة بعض من حسد سعداً من بني عمّه وأعيان الأوس .
وقد كانت تلك البيعة حينئذٍ بدون حضور
كثير من الصحابة ، لا سيّما المهاجرين ، بل ولا واحد من بني هاشم ، بل ولا باطّلاعمنهم ؛ حيث لم يتوجّه بل لم يتفطّن أحد
من القوم لعجلتهم وللالتهاء (في القيل والقال)وغير
ذلك إلى تكليف تأخير ذلك حتّى يفرغوا من تجهيز نبيّهم ، ويحضر سائر أعيان الصحابة
وبنو هاشم وغيرهم جميعاً ، فقام حينئذٍ أبو بكر وعمر ومن معهما من اُولئك القوم
بعد البيعة ، فدخلوا المسجد وهمفي
أخذ البيعة من كلّ من يلاقونه طوعاً أو كرهاً .
وهكذا كان عملهم إلى أن مضت أيّام
ودبّروا تدبيرات حتّى استقرّ الأمر عليهم بإطاعة عامّة الناس ، من غير مشاورة
اختيارية مع بقيّة أهل الشور من الصحابة والعترة ، بل بقوّة جبريّة مبنيّة على
بيعة ذلك الحين ؛ ولهذا قال عمر : كانت بيعة أبي بكر فلتة، على ما سيأتي تفصيل جميع ذلك في محلّه
.
__________________
ثمّ لا ريب كما لا كلام في أنّ أحداً
منهم لا ينسب شيئاً ممّا صدر منهم قولاً أو فعلاً ذلك اليوم إلى الورود من اللّه
ورسوله صلىاللهعليهوآله ،
سوى ما أوردوه في دفع الأنصار عنها من قوله صلىاللهعليهوآله
: «الأئمّة من قريش»، وهذا مع ملاحظة جزئيّات مقالاتهم
يومئذٍ ينادي بأن لم يكن مناط ما استقرّ عليه أمرهم ، بل لم يكن دائراً بينهم ذلك
اليوم ما سوى مرجّحات الرأي واستحسانات العقل ، وما فيه هوى غالبهم .
ولهذا لما اتّفق غالب من حضر ذلك الحين
على خلافة أبي بكر ، واستحسنوا ما زعموه فيه من شيبته وقِدَم صحبته أو غير ذلك
أيضاً ممّا سنذكره مع قرشيّته بايعوه وإن كان دخول جمع منهم لا سيّما من الأنصار
في ذلك خوفاً من وصول الخلافة إلى من كانوا يحسدونه، كما هو اللائح من فلتات ألسنة بعضهم
وخبطات أعمال غير واحد منهم ، كما سيظهر في محلّه .
ثمّ إذا لوحظ هذامع ما ورد ثابتاً مسلّماً في عليّ عليهالسلام بنقل المؤالف
والمخالف عن اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله والصحابة
وغيرهم حتّى أعاديه عقلاً ونقلاً من المناقب العظيمة التي لا تخفى كثرةً المنادية
بفضله على من سواه من الاُمّة ، حسباً ونسباً ، وباختصاصه بمزايا جليلة خلى عنها
غيره ، كما سنذكر جملةمنها
مفصّلّة في فصول المقالة الأخيرة من المقصد الأوّل ، حيث لا
__________________
يمكن إحصاؤها جميعاً
، لا سيّما ما يدلّ على كمال غزارة علمه بكتاب اللّه وغيره بنحو علوم النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
واطّلاعه على جميع الأحكام من اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله
، حتّى صار من البيّنات المسلّمة أنّ
غيره احتاج إلى الرجوع إليه مراراً وكراراً ، حتّى أبي بكر وعمر ، ولم يحتج هو إلى
أحد منهم سوى النبيّ صلىاللهعليهوآله .
قال عمر : تسعة أعشار العلم في عليّ عليهالسلام ، وهو شريك الناس في
العشر العاشر.
وقال : لولا عليّ لهلكنا.
ومع هذا قد سُئل عن غوامض أنواع العلوم
والحِكَم كراراً فأجاب بما هو الصواب دائماً ، حتّى أنّه أخبر في مواضع بما يكون ،
ونادى على المنابر باطّلاعه على سائر كتب الأنبياء وعلى كلّ ما سُئلعنه ، كما كان يقول : «سلوني قبل أن
تفقدوني»،
الخبر .
وبالجملة
: كان حاله في هذا الباب كالحالة
المختصّة بالأنبياء والأوصياء .
وكذا ما دلّ على تمام يقينه في دينه بحيث
قال جهاراً : «لو كُشِفَ
__________________
الغطاءُ مَا ازدَدْتُ
يَقيناً»،
ولم يقدر غيره على هذا ، حتّى أنّ عمر قال صريحاً : شككت يوم الحديبية.
وما يدلّ على شدّة تورّعه عن المعاصي ،
وطهارته عن الأرجاس والأدناس ، وامتياز صلاحه ، وسداده عن سائر الناس ؛ بحيث خصّه
اللّه تعالى بمقارنة النبيّ صلىاللهعليهوآله في
آية التطهير،
وبمشاركته معه في المباهلة ، وبتوفيق مماثلته له في عدم الشرك باللّه أبداً ،
وبما أنزل له خاصّة في سورة ( هَلْ أَتَىٰ )من
مدح إيثار الطعام الذي لم يصدر من غيره خالصاً للّه عزوجل ،
ومن التصريح بأنّه محفوظ من شرّ يوم القيامة قطعاً ، ووجبت له الجنّة جزماً ،
وأنّه من ملوكها ، مع عدم ورود مثل ذلك في غيره أصلاً ، حتّى استدلّ بهذا جمع على
اختصاصه بالعصمة التي في الأنبياء والأوصياء ، كما سيأتي في بيان ما هو الحقّ من
كونه معصوماً من جميع أنواع الخطأ والزلل ، وكفى في هذا ثبوت قول رسول اللّه صلىاللهعليهوآله فيه
: «عليّ مع الحقّ ، والحقّ مع عليّ ، يدور معه أينما دار»وسائر ما يفيد هذا المفاد ممّا سيأتي في
محلّه .
وكذا اتّفاق الألسن على ارتفاع ساحة
جلال حاله علماً وعملاً عن
__________________
وصول ما فيه أدنى
شائبة من الخلل والزلل ، بحيث لم يصحّ فيه زلل في كلمة ، ولا خطأ في درهم ، ولا
مسامحة في صغير أو كبير ، حتّى أنّه لم يأت أحد فيه بشيء يريد أن ينقصه به إلاّ
وقد أظهر اللّه كذبه بشهادة كلّ أحد على فريته ، أو بظهور وجود خلافه فيه ، أو
بتحقّق مثله في رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ،
كما سيأتي بيان كلّ شيء في محلّه .
إذ لا شكّ في أنّ أقصى ما اعتذر به الذي
دفع الخلافة عنه بعد الاعتراف باستئهاله لها ، كما صرّح به عمر ، حيث قال في
خلافته : لو ولي هذا الأصلع لمشى بهم على المحجّة البيضاء [ إلاّ] أنّ فيه دعابةـ يعني : المزاح ـ وحبّ بني عبد المطّلب
، ولا ريب في وجود كليهما في رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
، وليسا بنقصٍ إن لم يخالف الشرع فيهما
.
وكذا ما اعتذروا به من حداثة سنّه ،
وبغض طوائف العرب له والمنافقين ؛ لدماءأراقها
منهم في سبيل اللّه ؛ إذ معلوم أنّه لا نقص في الأوّلبعد [وجود] القابليّة ، كماكان فيمن قبله من جمع من الأوصياء ، ومع
هذا قد أمّره رسول اللّه صلىاللهعليهوآله كراراً
ومراراً على شيوخ الصحابة الذين منهم أبو بكر ، ولم يؤمّر عليه أحداً أبداً ، حتّى
أنّ هذا من خصائصه المنادية بأولوّيته للخلافة ، وكفى في هذا ما سيأتي من حكاية
__________________
سورة براءة ، وما
تقدّم من تأمير اُسامة مع غاية حداثة سنّه على أبي بكر وعمر وأمثالهما ، حتّى
أنّهما حين أخذا الإمارة كانا مأمورين بأمر اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله تحت
يد اُسامة .
وكذا لا نقص في الثاني ؛ إذ (ظاهر أنّه)من الكمال الذي كان شريكه الأعظم رسول
اللّه صلىاللهعليهوآله ،
واندفع ضرره عنه بإعانة اللّه وإطاعة المسلمين له ، وكان يندفع هنا أيضاً لو أطاعوه
، ثمّ لا يخفى ما في هذا العذر من دخول نقص على أبي بكر ، فافهم .
وكذلك ما اعترض به الخوارجعليه من رضاه بالتحكيم ، فهو أيضاً ممّا
يطابق فعل النبيّ صلىاللهعليهوآله في
عمرة الحديبية حذو النعل بالنعل ، كما سيأتي بيانه ومرّ أيضاً مجمل بيانٍ له .
وأمّا سائر ما شهّرهبه بنو أُمية في زمنهم ، وما ادّعاه
معاوية وغيره من مقاتليه فلا شكّ في كون الجميع فرية باتّفاق المسلمين ، حتّى
حكموا صريحاً بخطئهم جميعاً . وقد زالت أكثرها لذلك مع كمال شهرتها بين أعدائه ،
حتّى إن وجد شيء في بعض الكتب من ذلك القبيل فهو من الغفلة عن حقيقة الحال .
__________________
وكذلك إذا لوحظ أيضاً ـ مع ما ذكرنا ـ
استجماع جميع تلك الصفات فيه ، مع ما فيه أيضاً من الاختصاصبقرابته القريبة من النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
حتّى أنّه من جهةٍ أقرب من العبّاس أيضاً ، وبتزويج فاطمة عليهاالسلام سيّدة نساء
العالمين ، وبانحصار نسل رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
في صلبه ، لا سيّما الأئمّة الطاهرين
الذين أوّلهم سيّدا شباب أهل الجنّة وآخرهم مهدي هذه الاُمّة ، وبتشرّف تربية
النبيّ صلىاللهعليهوآله له عليهالسلام من حين ولادته ،
وملازمة كلٍّ للآخَر إلى حين الموت ، وبالمحبّة الخاصّة التي كانت بينه وبين
اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله لم
تكن لغيره ، كما ينادي به ما سيأتي ثابتاً من حديث الطير، ويوم خيبروغيرهما ، حتّى أنّ اللّه تعالى لأجل
هذا ـ مع وفائه للنبيّ صلىاللهعليهوآله من
كلّ جهة ، لا سيّما بيعة الرضوان التي سيظهر أنّه لم يفِ بها أحد مثله ؛ حيث لم
يفرّ من حرب أبداً ـ خصّه من بين جميع الاُمّة باُخوّة النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
بل جعله بمنزلة النفس منه ، بل خلقه مع رسوله صلىاللهعليهوآله
من نور واحد وطينة واحدة ، حتّى صار
كشجرة واحدةٍ أصلها ثابت وفرعها في السماء ، فشرّف أحدهما بالنبوّة والآخَر
بالوصاية والوزارة ، كما سيأتي اشتراكهما وإثباتهما معاً فيما جعله لنفسه أوّلاً
من ولاية المؤمنين ، كما تنادي به آية تصدّق الخاتم، وحكاية يوم الغدير .
__________________
هذا ، مع قطع النظر عمّا ورد من الصراحة
في الإمامة ووجوب الإطاعة ، والإغماض عن سائر ما سيأتي من نصوصها .
وكذا إذا لوحظ أيضاً ـ مع هذا كلّه ـ ما
ورد متواتراً مسلّماً بين كافّة الأمّة ـ كما سيأتي مفصّلاً ـ من أمر النبيّ صلىاللهعليهوآله صريحاً
بالتمسّك بعده بكتاب اللّه وعترته أهل بيته الذين أصلهم وأوّلهم علي بن أبي طالب عليهالسلام ، وأنّهمإن تمسّكوا بهما لن يضلّوا ، وأنّهما لن
يفترقا حتّى يردا عليه الحوض،
حتّى في بعض رواياته : «لا تقدّموا عليهم ولا تعلّموهم ؛ فإنّهم أعلم منكم». وفي بعضها : «اُوصيكم بأهل بيتي» ثلاث
مرّات.
تبيّنحينئذٍ عياناً وبياناً ـ بحيث لا يبقى
وجه شكّ ولا مجال شبهة لكلّ ذي بصر وإنصاف ـ أنّ في هذه القضيّة أيضاً كان صريح
مخالفة الأمر ؛ إذ لا أقلّ من لزوم التمسّك بالعترة ولو في المشاورة ، فضلاً عن
النصوص الصحيحة والأوامر الصريحة الآتية في وجوب إطاعة عليّ عليهالسلام ، وكذا صريح كون تلك
المخالفة لأجل قياس فاسد بمحض استحسان عقل بعضهم رأي بعض بهوى نفوسهم ، فإنّهم حيث
اختاروا في السقيفة أبا بكر بنحو ما بيّناه ، فكأنّهم في الحقيقة قاسوه بسائر
الصحابة حتّى بعليّ عليهالسلام ،
فرجّحوه بما ذكرناه من قرشيّته على الأنصار وسائر من لم يكن من قريش ، وبقِدَم
صحبته على من لم يكن كذلك ، وبشيبته أو غيره أيضاً ممّا سيأتي
__________________
على عليّ عليهالسلام وغيره من أكابر
الصحابة .
ولا يخفى أنّه بعينه من قبيل قياس إبليس
وتلامذته ـ الذين ذكرناهم على وفق ذكر الشهرستاني وأمثاله من القائلين بصحّة هذه
البيعة ـ إذ كما أنّه قاس نفسه في مقابل أمر ربّه بآدم عليهالسلام فرجّحه عليه من جهة
الخلقة من النار ، والكبر في العمر الذي صرفه في عبادة الجبّار ، بحيث اشتهر بين
الملائكة الأجلّة الكبار ، من غير ملاحظة أن لابدّ أن يكون في آدم عليهالسلام من النورانيّة وغيرها
من الحالات ما رفعه اللّه بها عليهم أجمعين ، فأمرهم بالسجود له لأجلها وإن لم
يعلموا بها .
فكذا هاهنا قاسوا أبا بكر في مقابل صريح
الأمر بالتمسّك بالكتاب والعترة الذي هو عين إطاعة عليّ عليهالسلام ، كما هو ظاهر وسيظهر
، فضلاً عن سائر الأوامر بسائر الصحابة حتّى العترة ، فرجّحوه عليهم جميعاً بما
ذكرناه آنفاً ، أو بغيره ممّا سيأتي أيضاً من غير ملاحظة ما كان ظاهراً في عليّ عليهالسلام من الحالات المتقدّمة
وغيرها التي قدّمه اللّه بها عليهم ، فأمرهم بالتمسّك به ولو في ضمن لفظة
«العترة» ، حتّى أنّه لو لم يظهر فيه شيء ممّا ذكر إلاّ محض كونهمصداق العترة المعهودة ، لكان عليهم
ملاحظة أن لا بدّ في أمر اللّه سائر الأُمّة بالتمسّك به من وجود مزيّة موجبة
لذلك وإن لم يعلم بها غير اللّه ، مع أنّه عزوجل لا
يُسأل عمّا يفعلبنحو
ما تقدّمفي
جواب شُبه الشيطان ، فلا أقلّ من إحضار عليّ عليهالسلام والتمسّك
بشوره وترك القياس فيه كما مرّفي
إبليس ، بل ولا أقلّ من الاستشارة بغيره من العترة .
__________________
على أنّ الحقّ انحصار العترة هاهنا فيه
وفي ولده بقرينة تقييدها في الخبر بقوله : «أهل بيتي» ، وانحصار أهل البيت بحسب
أخبار آية التطهير في الخمسة.
ومن هذا يظهر أنّ عملهم بالقياس هذا
أقبح من قياس إبليس ؛ لعدم علمه بأكثر ما في آدم من الكمال ، بخلاف هؤلاء
المطّلعين على عليّ عليهالسلام ـ
كما تبيّن ـ على أكثر الأحوال.
وكما كان مبنى مخالفة إبليس وقياسه على
محض رأيه واستحسان عقله ، حتّى أنّ أصل باعثه على هذا واقعاً كان الاستكبار والحسد
ومتابعة هواه المرغّب له في عدم السجود ، كذلك هاهنا كان أصل مبنى ما صدر منهم ذلك
اليوم ـ كما هو واضح من نقلهم قصّة ذلك اليوم ، كما أشرنا إلى خلاصتها آنفاً
وستأتي في محلّها مفصّلة ـ على استحسان جمع منهم ـ لا سيّما بعض الأنصار ـ ما
لفّقه بعض أعوان أبي بكر ممّا كان على مقتضى رأيهم بحسب ما كان هواهم فيه ، من دون
ملاحظة غير ما هو من هذا القبيل ، كدلالة آية محكمة ، أو سنّة قائمة ، أو حجّة
قاطعة ؛ بحيث إنّهم لم يتذكّروا وجود كتاب أو سنّة ، فضلاً عن ورود الأمر بالأخذ
بهما ، مع صياح عمر يوم منع النبيّ صلىاللهعليهوآله عن
الكتابة : حسبنا كتاب اللّه !
بل لم يتركوا فرصة لأحد في تذكّر الكتاب
أو الرجوع إليه ، حتّى أنّهم لم يفعلوا أن يصبروا حتّى يفرغ الناس من تجهيز رسول
اللّه صلىاللهعليهوآله ،
فيجتمع جميع من حضر المدينة من بني هاشم والمهاجرين والأنصار ، ولا أقلّ من عليّ عليهالسلام والعبّاس وسائر أعيان
الصحابة الكبار من قبيل : سلمان ،
__________________
وأبي ذرّ ، وحذيفة ،
والمقداد ، وعمّار وأمثالهم المسلّمين في العلم والأمانة والخيريّة والاعتبار عند
الرسول المختار ، فيستشيرونهم ويستفهمون ما عندهم ، فيعملون بما يستقرّ عليه قول
الجميع ؛ إذ لا أقلّ من احتمال أن يكون عند بعض منهم شيء في ذلك من الكتاب أو النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
كما كان هذا دأبهم في سائر الاُمور ، حتّى أبي بكر وعمر في خلافتهم .
وأيّ شيء أخرج هذا من سائر الأحكام ؟
أما كان عمر يصيح ـ كما ذكرناـ
لمّا أراد النبيّ صلىاللهعليهوآله الكتابة
: حسبنا كتاب اللّه ؟
أما أمرهم النبيّ صلىاللهعليهوآله بالتمسّك
بالكتاب والعترة ـ كما بيّنّا ـ فأيّ شيء أنساهم عن جمع العترة والأصحاب والتمسّك
بما ظهر من العترة والكتاب ؟ وأيّ شيء دلّهم على نسخ وجوب التمسّك بالكتاب والعترة
، وصيرورة حكم اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله مطلقاً
أو في هذه المقدّمة مع عظمها منوطاً برأي خصوص هؤلاء الجماعة ، لا سيّما أبي بكر
وعمر اللَّذَيْن هما هاهنا لا أقلّ بمنزلة المدّعي ، وفي مقام التهمة ، لا سيّما
في هوى الرئاسة التي تقمّصوها ، وحسد الانتقال إلى الغير ؛ ضرورة شمولهما ما سوى
المعصوم ، كما تنادي به التجربة حتّى في زهّاد الأخيار ؟
هذا ، مع دلالة ما مرّ في حكاية منع
النبيّ صلىاللهعليهوآله عن
الكتاب من خبر تاريخ بغداد وغيره،
وما سيأتي في شكايا عليّ عليهالسلام وغيرها
على عدم إرادة الشيخين ، بل بعض آخَر أيضاً ، لا سيّما عمر ، استخلافَ عليّ عليهالسلام ، فتدبّر .
__________________
وأمّا حسد بعض الأنصار ابن عمّه سعد بن
عبادة في إعانتهم فظاهر ، كما سيأتي مفصّلاً في حكاية السقيفة .
ومن صريح الشواهد على هذا ، بل أوضح
القبائح : ما أشرنا إليه آنفاًمن
أنّ هؤلاء بعد بيعتهم الخاصّة في ذلك الموضع ومجيئهم إلى المسجد لم يفعلوا أيضاً
أن يجمعوا فيما بعد الذين ذكرناهم ، ويستشيروهم في أمرهم على سبيل الشور والاختيار
، حتّى يتيسّر لمن كان عنده شيء من العلم والمصلحة في ذلك أن يبرز ما في قلبه إلى
حدّ الإظهار ، بل مضوا على إجراء تلك البيعة على الصغار والكبار ولو على سبيل
الحكم والإجبار ، بحيث لم يقدر أكثر الناس على التفوّه إلاّ بما لم يكن فيه شيء من
روائح الإنكار ، حتّى أنّه لمّا تكلّم بعضهم ولو بما كان فيه من إظهار خطئهم نوع
إشعار ، زجروه وأهانوه بما قدروا عليه حتّى سكت وأطاعهم ظاهراً ولو كان عندهم من
كبار الأخيار .
وسيأتي في مقالات المقصد الثاني بيان ما
ينادي بجميع ذلك مفصّلاً ، وأنّ هذا هو حقيقة حال ما تشبّث به الجمهور في تصحيح
أمر السقيفة ، وبيعة الخلافة من دعوى الإجماع ، مع بيان تحقيق معنى ما هو المراد
بالإجماع الذي روي عن النبيّ صلىاللهعليهوآله من
أنّ المراد به اجتماع جميع الاُمّة ، بحيث لم يبق أحد حتّى يقطع بدخول المحقّين
فيه ، وتوضيح أنّ هذا ليس منه في شيء ، بل إنّأصل
مبناه على محض ما ذكرناه من رأي هؤلاء الجمع حتّى في مقابل الأمر ، بل ولم يكن من
رأي جميع اُولئك
__________________
الجمع أيضاً ؛ لما
سيأتي في محلّه من عدم بيعة سعد بن عبادة الذي كان رئيس الخزرج ، ومن نقباء
الصحابة الكبار الذين كانوا عند النبيّ صلىاللهعليهوآله
في كمال الاعتبار ، وكذا نفر من رَبعهذلك الوقت ، حيث لم يرضوا بذلك الرأي ،
حتّى أنّ سعداً لم يبايع أبا بكر فيما بَعْدُ أيضاً .
هذا ، مع ظهور كون رأيهم هذا فاسداً في
نفسه كرأي إبليس وتلامذته ؛ لما ذكرناه من بطلان أصل الرأي مطلقاً ، لا سيّما في
مقابل الأمر ، وبطلان ما مرّ ويأتي من الوجوه التي ذكروها في ترجيح خصوص هذا الرأي
أيضاً .
وكذا مع ظهور ما مرّ بيانه مجملاً
سابقاً ، ويأتي بيان تفصيله في محلّه صريحاً واضحاً ، من الفسادات والضلالات التي
ترتّبت على العمل بمقتضى هذا الرأي ، التي منها حصول الاختلافات التي هلكت بها
بالوقوع في الضلالة اثنتان وسبعون فرقة عظيمة من هذه الاُمّة ـ كما سيأتي بيانه
إلى حدّ العيان في الفصل الخامس الآتي ـ كما كان كذلك بعينه ما ترتّب على عمل
إبليس برأيه من هلاكة نفسه وشياطينه وعامّة الجنّ والإنس ، حتّى أنّ هذا أحد
القرائن الواضحة على عدم كون تلك البيعة لأجل ما ادّعوه من الإجماع الذي روي عن
النبيّ صلىاللهعليهوآله ؛ ضرورة أنّ ترتّب الفسادات والضلالات
المذكورة على تلك البيعة يستلزم كونها خطأً في نفسها ، وقد
__________________
صرّح النبيّ صلىاللهعليهوآله على
أنّ مثل ذلك الإجماع لا يكون على فساد ولا خطأ ، فكيف يمكن دعوى كون تلك البيعة من
ذلك الإجماع ، لا سيّما بعد ملاحظة ما بيّنّاه أيضاً من أنّ الذي ينادي به تفحّص
حقيقة الحال أنّ مبنى هذه البيعة إنّما كان على محض الاستبداد بالرأي والقياس من
بعض الناس على مثل استبداد إبليس .
حتّى أنّه يظهر أنّ هذا مثل قياس إبليس
أيضاً فيما مرّفي
قياسه من استلزام الغلوّ والتشبيه وغير ذلك ؛ حيث إنّهم غلوا في أبي بكر حتّى
جعلوه في المرتبة التي سيأتي في محلّه أنّها مرتبة الأنبياء والأوصياء المعصومين
العلماء بجميع الاُمور من اللّه ربّ العالمين ، حتّى أنّهم قدّموه وفضّلوه على
عليّ عليهالسلام الذي
كان من أعلمالأوصياء؛ باستجماعه الكمالات المتقدّمة والآتية
بنصّخاتم النبيّين ، حتّى
أنّه ربّما يقال : باستلزام تفضيلهم هذا أن يفضّلوهعلى النبيّ صلىاللهعليهوآله
ولو
فيما سوى النبوّة ؛ لما مرّ من كون عليّ عليهالسلام بمنزلة
النفس من النبيّ صلىاللهعليهوآله وخلقِهما
من نور واحد،
وأمثال ذلك ممّا سيأتي .
ثمّ إنّهم لم يخصّوا ذلك بأبي بكر ، بل
جعلوا عمر وعثمان أيضاً كذلك ، حتّى أنّهم غلوا في أنفسهم أيضاً ؛ حيث اتّخذوا
مرتبة النبوّة بل
__________________
الاُلوهيّة في تعيين
الإمام الذي سيأتي كونه مختصّاً بهما ، بل لا يكون إلاّ بأمر مناللّه وتعيينه ، حتّى من دون مدخليّة
الأنبياء أيضاً .
وكذا نقصوا حقّ عليّ عليهالسلام وأنزلوه عن مرتبته ،
وشبّهوه بسائر الناس فيما لا يشبههم كما هو ظاهر ؛ ولهذا كان عليّ عليهالسلام يقول : «الدهر أنزلني
وأنزلني حتّى قيل : قال عليّ وقال معاوية».
بل إنّهم شبّهوا الإمامة الإلهيّة
والقيام مقام الأنبياء بسائر الرئاسات المتعارفة ، ونقصـوا حالة الإمامـة عـن
مرتبتها التي هي تالية النبوّة عنـد اللّه عزوجل ،
بل نقصوا رتبة النبوّة عمّا هي عليه أيضاً ، وكذا حقّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ،
وشبّهوه أيضاً بسائر الناسمن
جهاتٍ التي منها ما يلزم من تنقيص عليّ عليهالسلام كما
أشرنا إليه ، ومنها ما يلزم من تنقيص رتبة الإمامة التي مثل النبوّة في سائر
الصفات ؛ إذ استئهالهم أبا بكر لها مع ظهور كونها من قبيل النبوّة أدلّ دليل على
أنّهم لم يزعموا في النبوّة وكذا النبيّ تلك المرتبة العالية التي لهما واقعاً .
ومنه يظهر وجه التنقيص الذي يلزم من أصل
مدخليّتهم في تعيين الخليفة ؛ حيث يدلّ ذلك على أنّهم زعموا أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله من
حيث عرف أنّ تعيينهم أصلح للاُمّة فوّض ذلك إليهم ، وذلك إنّما يكون إذا لم يعلم
النبيّ صلىاللهعليهوآله ما
علموا من وجه الصلاح ، أو علم عجزه عن إجراء ذلك مثلهم ، وإلاّ لفعل مثل ما فعلوا
حتّى يكون ألزم كما هو واضح ، بل يلزم أن لا يعلم
__________________
هو من بيده تجري
المصلحة أيضاً ؛ لأنّه جعل أخيراً هؤلاء الذين جرت هذه المصلحة على أيديهم تحت جيش
اُسامة ، حتّى أنّه لم يرخّصهم في التأخير أبداً ، لكنّهم ـ بزعم أتباعهم كما مرّ
ـ من حيث علمهم بصلاح الاُمّة في تأخيرهم تخلّفوا حتّى جرت هذه المصلحة على أيديهم
. وهذا مع كونه ظاهر السخافة ، يستلزم التنقيص على اللّه عزوجل أيضاً ، كما هو ظاهر
.
فتأمّل في جميع ذلك حقّ التأمّل ، حتّى
تعرف أيضاً سخافة سائر التوجيهات من التمحّلات التي ذكرها جمع منهم في هذا المقام
؛ لتصحيح التعيين المذكور ، والتعجيل فيه ـ ممّا سيأتي كلٌّ مع جوابه الشافي في
محلّه ـ التي عمدتها ما ذكروه في قِدَم صحبته من اختصاصه بمرافقة الغار ونزول
الآية فيها ، وما ادّعاه جماعة أيضاً من أمر النبيّ صلىاللهعليهوآله
أبا بكر بالإمامة في الصلاة ، ومن كون
ميل أكثر الناس إليه وانحرافهم عن بني هاشم ، لا سيّما عليّ عليهالسلام ، ومن كونه كالوالد
للنبيّ صلىاللهعليهوآله وعليّ عليهالسلام كالولد ، ودخوله في
المشاورات ، وإمارته في بعض الأسفار ، وممّا نقلوا فيه من بعض الآيات والأخبار ،
حتّى اعتذر بعضهم عن التعجيل في تعيينه بخوف الناس من هجوم الأعراب ـ كمسيلمة
وأمثاله ـ على المدينة ، وعن صرف ذلك عن عليّ عليهالسلام إلى
هؤلاء بإرادتهم إعلام أنّ هذا الأمر ليس كسلطنة سائر الملوك والحُكّام في التوريث
بها ، وأمثال ذلك .
فإنّ أوّل ما يقلع أساس جميع ما بنوا
عليه من أصله أن يقال أوّلاً: لا شكّ فيما مرّت الإشارة إليه مراراً
وسيأتي بيانه مع وضوحه كراراً ، من أن
__________________
ليس على العباد في
جميع ما ورد عن اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله ـ
الذي لا ينطق عن الهوى ، لا سيّما المعلوم أنّهمن
وحي يوحى ـ إلاّ الطاعة والقبول والانقياد ، حتّى لا يجوز لهم السؤال عن وجه
الحكمة في الأمر ، فضلاً عن التصرّف فيه بالردّ والاستنقاد ، ولا سيّما ترجيح
الاستبداد بالرأي عليه الذي قد ظهر عياناً بطلانه مطلقاً ، واستلزامه الضلال
والإضلال أبداً ، وكونه فعل الشيطان أوّلاً ، ودأب أهل الكفر والطغيان سابقاً ولاحقاً
، وأصل الشُبه المتولّدة من عدم الإذعان بحكمة اللّه الناشئ من ذلك أيضاً كما هو
ظاهر ، وينادي به ما نقله الشهرستاني ـ كما مرّ بيانه ـ في شُبه إبليس من أنّ
اللّه سبحانه أجابه عن جميع ما أورده من شُبهه : بأنّك لو كنت صادقاً في دعوى
اعتقادك بأنّي ربٌّ حكيم ، مخلصاً بأنّي إلهك وإله الخلق أجمعين ، لما خالفت أمري
وحكمتعليَّ بـ : لِمَ ،
فأنا اللّه الذي لا إله إلاّ أنا ، لا أُسأل عمّا أفعل والخلق مسؤولون.
وإنّ حال هؤلاء في فعلهم المذكور كان
بعينه مثل ذلك ، فإنّهم لو اعتقدوا صدق النبيّ صلىاللهعليهوآله
في أمره ، وأنّه لم ينطق عن الهوى ؛ حيث
أمرهم بالتمسّك بعده بالكتاب والعترة دون غيرهما ، حتّى صرّح بانحصار الخلاص من
الضلالة فيهما ، وعلموا أنّ ربّهم الذي أمرهم صريحاً بأخذ ما آتاهم الرسول وترك ما
نهاهم عنه ، حكيم عليم مختار في أمره لا يُسأل عمّا يفعل ، وكانوا موقنين بصدق
قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا
مُؤْمِنَةٍ
__________________
إِذَا
قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ
أَمْرِهِمْ )، لَما فعلوا ما فعلوا ممّا هو بيّنٌ
صريحاً أنّه عين الترجيح بالرأي في مقابل أمر اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله بالتمسّك
المذكور ؛ ضرورة أنّ الواجب عليهمحينئذٍ
كان أنْ لا يفعل أحد منهم شيئاً غير أن يحضروا عند العترة ويأتوا بالكتاب ، فيبنوا
الأمر في شوراهم على ما اتّفق عليه دلالة الكتاب وشور العترة لا غير ذلك ، وإن
رجّحه رأي ما سوى العترة وسائر الوجوه المرجّحة .
هذا ، مع أنّهم ـ كما أوضحناه ويتّضح
أيضاً عياناً بحيث لا يتطرّق إليه الإنكار ـ لم يعبأوا بشأن الكتاب في السقيفة ولا
العترة ، حتّى أنّهم لم يتوجّهوا إلى واحد منهما ، فضلاً عن التمسّك بهما معاً .
أمّا الكتاب فظاهر ـ كما مرّ صريحاً ـ
أنّه لم يتفوّه أحد منهم ذلك الحين باسم الكتاب ، فضلاً عن المراجعة إليه أو الأمر
به ، حتّى أنّ الذي كان يصيح يوم منع النبيّ صلىاللهعليهوآله
عن الكتابة : حسبنا كتاب اللّه ، لم
يتذكّر ذلك الحيـن بوجـود كتاب مـن اللّه ، وفيـه مالا يخفى على الناقد البصير ،
حتّى أنّه لا يمكنهم الاعتذار باحتمال عدم وجود هذا الأمر أو ظهوره من القرآن ؛
لما سيأتي في محلّه واضحاً بيّناً من وجود كلّ شيء في الكتاب وظهور استنباطه على
أهل العلم به ، وكفى في هذا مطلق أمر الناس بالتمسّك بالكتاب والعترة ، على أنّ
هذا الاعتذار يشين الأمر شديداً على من منع النبيّ صلىاللهعليهوآله
عن استخلاص الناس من الضلال بقوله :
حسبنا كتاب اللّه ! فافهم .
__________________
هذا ، مع أنّ الحقّ الواضح ـ كما سيأتي
مفصّلاً في محلّه ـ أنّ في القرآن آيات كثيرة دالّة على خطئهم ذلك اليوم ، لا
سيّما من جهة ما قالوا من تفويض اختيار الإمام إلى الاُمّة ، كقوله تعالى : ( لْ
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ )
إلى قوله : ( وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا
أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ )، وأمثال ذلك ممّا يأتي ، وكذا من جهة
الدلالة على اختصاص عليّ عليهالسلام بالخلافة
، وهي أكثرها ، وتأتي أيضاً في فصول نقل فضائله وغيرها .
نعم ، عدم ظهور ما يدلّ على صحّة ما
بنوا عليه أمرهم ، بل عدم وجوده فيه مسلّم ، وكان هذا هو وجه سكوتهم عن الكتاب ؛
إذ من البيّن أنّهم لو وجدوا ملجأً صحيحاً فيه ولو آية محكمة صريحة في أمرهم
لتمسّكوا به حتّى يخلصوا عن التشبّث برأيهم ، بل لصاحوا به على المنابر ، كما
ينادون بآية الغار مع أنّها ـ كما ستأتي في محلّها ـ لا تفيد لأبي بكر إلاّ العار
والشنار .
وأمّا العترة ، فحالها في الترك أظهر من
الكتاب ؛ ضرورة أنّ أهل التمسّك منهم ذلك اليوم كان منحصراً عرفاً في عليّ عليهالسلام والعبّاس وواقعاً ـ
لما سيأتي ـ في عليّ عليهالسلام ،
وعدم حضورهما في السقيفة واضح ؛ إذ لم يجز عندهما ترك تجهيز النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
بل لم يخطر ببالهما ما فعل هؤلاء ، وأمّا هم ، فلم يخطر ببالهم حينئذٍ وجود العترة
في الدنيا ، بل ربّما يقال بأنّه لم يُرد بعضهم حضورهما إن لم نجزم بذلك ، وكفى
شاهداً أنّه لم يتكلّم أحد منهم بأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله
أمرنا بالتمسّك بالعترة ، فأين العترة ؟
__________________
وبالجملة
: عدم مدخليّة العترة ذلك الحين في
البيعة ولا في الشَّوْر لا شكّ فيه ، ولا يمكنهم إنكاره ، بل لم ينكروا أيضاً ،
فإذاً لا يبقى مجال شكّ في عدم تمسّكهم حينئذٍ بالعترة ، وعدم تحقّق الإجماع الذي
يأتي أنّه مجزوم الصحّة ، ولا أقلّ من عدم الجزم بتحقّقه .
ثمّ إنّهم بعد ذلك ـ كما أشرنا إليه
آنفاً ويأتي مفصّلاً ـ لم يتعرّضوا أيضاً بما كان عليهم من التمسّك المذكور ، ولا
أقلّ من تحقيق صحّة ما بنوا عليه أمرهم وسقمه منهما ولو على سبيل الاستشارة
والاستفادة ، بل كان مبنى أمرهم على صحّة فعلهم المبتني على رأي بعضهم ، ومنتهى
همّتهم على دعوة الناس إلى بيعتهم طوعاً أو كرهاً ، فتركوا ذكر الرجوع إلى ما في
الكتاب بالمرّة ، بل رُدع من استمسك به ، كما ينادي به ما ذكروه في مشاجراتهم مع
بعض مَنْ عارضهم ؛ حيث لم يجدوا فيه ما ينفعهم من المحكمات ، كما ذكرنا آنفاً .
وأمّا العترة ، فما نقله هم في كتبهم
المعتبرة عندهم من مشاجراتعليّ عليهالسلام ، حتّى بعـض من تبعه
أيضاً كالعبّاس والزبير وغيرهما معهم ، مـن أوّل الحال إلى أن انتهى إلى حدّ
الإلجاء إلى الإطاعة ظاهراً من قلّة الأنصار وعدم الاقتدار وغير ذلك ـ كما سيأتي
مفصّلاً ـ واضح الدلالة على ما هو خلاف شرط التمسّك ، فضلاً عمّا نقله أئمّة أهل
البيت عليهمالسلام وبعض
الصحابة ممّا يدلّ صريحاً على أنّهم آذوا عليّاً عليهالسلام حتّى
بايع قهراً.
__________________
مع أنّه يكفي هاهنا في صدق تركهم
التمسّك ما هو مسلّم قطعاً من صدور الإباء من عليّ عليهالسلام بأيّ
نهج كان ، ومن أيّ جهة صدر ؛ إذ لا أقلّ من دلالة ذلك على عدم طيبة خاطرٍ له ، بل
وجود كُرْهٍ منه ؛ إذ لو تحقّق التمسّك ولو في الشور لم يكن ذلك أصلاً ، بل الحقّ
أنّ عدم إسراعه إلى الدخول معهم حجّة عليهم ؛ إذ شأنه أعلى من نسبة أدنى مداهنة
إليه فيما فيه صلاح المسلمين ورضا اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله
ورواج الدين ، ولا يمكنهم الاعتذار
باشتغاله بأشغال اُخَر ؛ إذ عندهم أنّ هذا كان أعظم حتّى من تجهيز النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
ومع هذا كان يمكن أن يحضرهم لحظة ويصوّب أمرهم ويرجع إلى شغله ، لا سيّما بعد
الفراغ من التجهيز . نعم ، الحقّ ـ كما سيظهر ـ أنّ ما ورد من اعتذاره فإنّما هو
دفاع منه عن الدخول معهم .
وبالجملة
: لا يمكن إنكار عدم رضاه ، بل ولا عدم
رضا جماعة من الأعيان بفعلهم ، كما سيظهر عياناً ، وبه يتحقّق تركهم الاستمساك
المذكور ، فضلاً عن سائر ما نقل في هذا المقام .
وأمّا الإطاعة أخيراً فلا حجّيّة فيها
أصلاً ، كما هو ظاهر ؛ ضرورة عدم استلزام ذلك رضاه عنهم باطناً . بل الحقّ ـ كما
يظهر من فعله أوّلاً وشكاياته أخيراً ، وأمثال ذلك ممّا سيأتي مفصّلاً ـ عدم رضاه
عنهم ، وعدم تصويبه فعلهم أصلاً ، وأنّ الإطاعة ظاهراً كانت لبعض المصالح
والمداراة ونحوهما بعد إتمام الحجّة وبيان الحقّ بما فَعَل أوّلاً ، على أنّه يكفي
لنا فيما نحن فيه كون أصل مبنى فعلهم على محض الرأي بدون التمسّك بالكتاب والعترة
، مع أنّ حقّ التمسّك بالعترة أن يجعلوا الخلافة لعليّ عليهالسلام ، كما سيأتي أيضاً ،
فتأمّل .
ثمّ إنّ لنا أن نرجع إلى أصل الجواب
القالعأساس بنيانهم ، فنقول
ثانياً
: إنّ جوابنا الأوّل كان على سبيل
المماشاة معهم في ادّعاء عدم صدور تعيين الإمام من اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله ،
وإلاّ فالحقّ أنّ اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله عيّنا
عليّاً عليهالسلام وصيّاً
لرسول اللّه صلىاللهعليهوآله ،
وإماماً للمسلمين ، ومعلّماً لأحكام الدين ، وأنّ هؤلاء الجماعة خالفوا اللّه
ورسوله صلىاللهعليهوآله في
فعلهم المذكور ، واستبدّوا برأيهم في مقابل أمر اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله بعين
ما مرّ من أفعال الشيطان وتلامذته وسائر أتباعه من أهل الملل السالفة حذو النعل
بالنعل ، التي منها حكاية هارون والعِجْل ، ومن دخل في وصاية أوصياء موسى وعيسى عليهماالسلام مثلاً ، كما مرّ
سابقاً .
وذلك لأنّه لا شكّ في أنّه قد ورد في
عليّ عليهالسلام مع
استجماعه ـ كما ذكرنا مجملاً ـ الكمالات التي خصّت به أو عمّت خصوص من يأتي كونه
مثله من نسله ما هو ثابت ، حتّى من نَقْل منكري خلافته ، بل مع اعترافهم أيضاً
بصحّته ، ممّا ينادي بأنّه كان متعيّناً من اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله لهذا
الأمر ، حتّى النصوص الصحيحة الصريحة في ذلك بالنسبة إليه خاصّة ، أو مع مشاركة
بقيّة الأئمّة عليهمالسلام من
نسله معه أيضاً ، حتّى مع نفي مدخليّة غيرهم ، كما سيأتي جميع ذلك مفصّلاً ، لا
سيّما في فصول اُخَر من مقالات المقصد الأوّل ، بحيث إنّ بعد التأمّل فيها سنداً
وكثرةً ودلالةً ، وبحسب القرائن الحاليّة والمقاليّة وملاحظة بعضها مع بعض لا يبقى
لمن فيه شائبة من الإنصاف شكّ ولا شبهة في وصولها إلى حدّ القطع بالورود ، والجزم
بالدلالة على المقصود ، لا سيّما مع إضافة ما سيتّضح في سائر مقالات المقصد
__________________
المذكور وغيرها من
ثبوت لزوم ورود جميع الأحكام من اللّه تعالى ، ووجود المعلّم طول بقاء التكليف ،
وكونه إمّا نبيّاً أو وصيّاً متّصفاً بصفات النبيّ صلىاللهعليهوآله
، لا سيّما العلم والعصمة واليقين ،
وكون ذلك كذلك أبداً من زمان آدم عليهالسلام .
هذا كلّه مع ادّعاء عليّ عليهالسلام ذلك كلّه ، وأنّه
الإمام في عصره ، مع كونه مسلّماً في العلم بحيث لا يحتمل توهّمه في دعواه ، وفي
الصدق بحيث لا يمكن تكذيبه ، فافهم .
وإن تشبّث أحد بأنّ اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله إذا
كانا معيّنَين عليّاً عليهالسلام للإمامة
، فلِمَ لم يحتّما على الاُمّة حتماً صريحاً ، بحيث لا يتمشّى لهم فيه الخلف
والتبديل ، ولا يحتمل الاستنكار ؟
فجوابه
: أوّلاً : إنّ هذا الكلام
بعينه في مقابل ما ورد من الأدلّة من قبيل شُبهة إبليس وحكمه على اللّه بـ : لِمَ
، وسؤاله عن الحكمة ، كما مرّ،
وكذا أمثال ذلك من الشبهات التي أصلها من شُبهة الشيطان التي ذكرناها سابقاً مع
جوابها .
وثانياً
: بأنّ إرادة اللّه تعالى ما مرّ سابقاً
من امتحان العباد ، وتمييز الطيّب من الخبيث،
وكذا ما سيأتي من عدم تعذيب هذه الاُمّة بمثل عذاب الاستئصال ، وأمثالهما من سائر
الحِكَم البالغة اقتضت ذلك النوع من البيان ، فصار ذلك ـ كما مرّ في حكاية الشيطان
ـ سبب شبهة أهل الضلال ، الجاهلين بأسرار حكم اللّه المتعالي ، المعترضين لذلك
على ربّهم في ضمن السؤال ، بل هذا هو أدلّ دليل أيضاً على أنّ الاعتماد على مقتضى
الرأي
__________________
يوقع في الضلال ،
فتدبّر .
وإذا تبيّن هذا ، فاعلم أيضاً أنّ لكلّ
واحدٍ من التمحّلات التي ذكرناها عنهم جواباً متفرّداً أيضاً مذكوراً في محلّه ،
ولا بأس إن أشرنا إلى جُمل من ذلك لزيادة الاستبصار ، فنقول:
أوّلاً : جميع ما ذكروا في أبي بكر ممّا
لا يعادل بعض ما كان في عليّ عليهالسلام ،
فضلاً عن الكلّ ، كما هو واضح على من له أدنى تمييز وإنصاف ومعرفة بأحوال الصحابة
، لا سيّما عليّ عليهالسلام ،
لا كابن حجرالذي
قلبه كالحجر ؛ حيث قال : لمّا لم ير الناس تحت أديم السماء خيراً من أبي بكر جعلوه
خليفة! ! ولم يتفطّن من
شدّة تعصّبه بأنّ أقلّ ما يرد عليه قوله تعالى : ( هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ).
ثمّ نقول : أمّا حكاية الغار والصلاة
فسيأتي في الخاتمة بيانهما ، مع بيان أنْ لا فضل فيهما ، لا سيّما في مقابل فضائل
عليّ عليهالسلام ؛
إذ لا أقلّ ممّا في آية الغار من الدلالة على حرمان أبي بكر عن إنزال اللّه
السكينة عليه التي صرّح اللّه تعالى في مواضع بإنزاله إيّاها على المؤمنين ، ولا
يخفى أنّ فيه تمام العار .
__________________
وكذا لو ثبتت حكاية الصلاة ، وأنّ الأمر
بها كان من النبيّ صلىاللهعليهوآله،
لا كما هو الحقّ من عدم اطّلاع النبيّ صلىاللهعليهوآله
بذلك ـ كما يؤيدّهما ورد من عزله ، وما مرّ من كونه تحت
جيش اُسامة ـ لا يفيد كمال الاعتبار :
أمّا
أوّلاً : فلعدم دخول عليّ عليهالسلام تحت مأموميّته ؛
لكونه مشغولاً حينئذٍ ـ كما ورد صريحاً ـ ببعض اُمور النبيّ صلىاللهعليهوآله ومعالجاته
، حتّى أنّه لأجل هذا أيضاً لم يأمره بالإمامة.
وأمّا
ثانياً : فلأنّه لا كلام عندهم في جواز الصلاة
خلف الفجّار والأبرار .
وأمّا الاعتذار بميل أكثر الناس إلى أبي
بكر وانحرافهم عن عليّ عليهالسلام ـ
بل مطلق بني هاشم ـ فقد تبيّن سابقاً أنّ ميل الأكثر يكون إلى الباطل دائماً ، لا
سيّما إذا ضمّ معه عداوة عليّ عليهالسلام ؛
فإنّها ـ كما هو ثابت ـ علامة النفاق .
فحاصل اعتذارهم هذا يرجع إلى أنّهم لا
حظوا مراعاة المنافقين وأهل الميل إلى الباطل ، فقدّموا محبوبهم على مبغوضهم مع
عدم الاحتياج إليه ؛ لما مرّ من عدم احتمال صدور فساد منهم عند اتّفاق المسلمين
على إطاعة عليّ عليهالسلام ،
كما كان كذلك حال النبيّ صلىاللهعليهوآله .
هذا ، مع ما في ميل مثل هؤلاء إلى أبي
بكر من النقص العظيم ؛ ضرورة أنّ ذلك لا يحصل إلاّ بالمداهنة في الدين ، وإلاّ
لكانوا إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله أميل
؛ لكون حسن خلقه أكمل ، فافهم .
__________________
وأمّا الاعتذار بالوالديّة والولديّة
فمعلوم أنّ عمدة الميراث للولد ، مع أنّ أبا سفيانأيضاً كانت له هذه الوالديّة ، فافهم !
!
وأمّا دخول الشَّوْر والإمارة فأكثرهم
كانوا كذلك إلاّ أنّ عليّاً عليهالسلام لم
يأتمر عليه أحد غير النبيّ صلىاللهعليهوآله بخلاف
من سواه ، حتّى أنّ الحقّ المشهور أنّ أبا بكر حين أخذ الخلافة كان تحت إمارة
اُسامة .
وأمّا الآيات والروايات فسيأتي في
الخاتمة وغيرها بيان أنّها لا تفيدهم أصلاً .
وأمّا الاعتذار بأنّهم أرادوا أن لا
تكون الخلافة بالتوريث كغيرها ، فهو مع كونه سخيفاً في نفسه ؛ إذ هم لم يأخذوا
الخلافة من الأنصار إلاّ بالتوريث ، كما سيأتي مفصّلاً ، خلاف صريح الكتاب والسنّة
؛ ضرورة كون الأنبياء والأوصياء بعضهم من بعض ، كآدم وشيث إلى إدريس ونوح وولده
سام إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وهارون ويوشع وداوُد
وسليمان وزكريّا ويحيى وهلمّ جرّاً ، كما سيأتي مفصّلاً ، ودلالة القرآن لا تحتاج إلى
البيان ، وكفى قوله تعالى بعد ذكر أسامي الأنبياء : «ذُرِّيَّةَ بَعْضُهَا مِنْ
بَعْضٍ»،
فافهم.
__________________
فظهر أنّ هذا أيضاً عمل بالرأي في مقابل
الكتاب والسنّة ، نعم لم يكن نبيّ ولا وصيّ إلاّ من لم يُشرك أبداً ، وسيأتي
مفصّلاً ، فافهم .
وأمّا اعتذارهم عن التعجيل بما ذكروا
فمن الواضحات البيّنة أنّهم لم يكونوا أعلم بحقيقة الحال من النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
ولا أشفق منه على الإسلام ؛ ضرورة أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله
لو لم يكن مطمئنّاً من ذلك لما جيّش في
عين مرضه جيش اُسامة ، بحيث جعل أكثر أعيان الصحابة معه حتّى هؤلاء الجمع الذين
ادّعى لهم أتباعهم كونهم أشفق من غيرهم على حفظ بيضة الإسلام ، ولما عجّل عليهم
أيضاً ذلك التعجيل ؛ إذ لا أقلّ من احتمال فوته بعد فراغ المدينة وبُعْد الجيش ،
حتّى أنّه لا يمكن دعوى حدوث الخوف حين الفوت ؛ لوضوح كون حزم النبيّ صلىاللهعليهوآله أكثرمن التغافل أو الغفلة عن هذا الاحتمال ،
مع عدم نقل أحد ذلك الحدوث في ذلك الحين .
نعم ، سيأتي في المقصد الثاني والختام
ما يستفاد منه ، بل يظهر أنّ سبب استعجالهم كان خوفهم من فراغ بني هاشم عن تجهيز
النبيّ صلىاللهعليهوآله قبل
البيعة ، وادّعاءهم الخلافة لعليّ عليهالسلام كما
ادّعوا فيما بَعْدُ ، فاعتذر الأكثر بأنّ الأمر قد فات ، وقد مرّ من كتاب تاريخ
بغداد وغيرهبعض
ما يؤيّد هذا ، بحيث يشعر بانحراف عمر عن خلافة عليّ عليهالسلام ،
فافهم .
واعلم أنّ الشهرستاني وكذا غيرهذكروا اختلافات اُخَر أيضاً كلّها
متفرّعة على هذه الخلافة ، وضلالتها ناشئة من ضلالتها ؛ ضرورة أنّه لو لم تكن هذه
لم تكن تلك أيضاً ، كما مرّ بيانه مراراً ويأتي أيضاً مع ظهوره
__________________
في نفسه ، فمن
الاختلاف الذي ذكروه : الاختلاف في حكاية فدكفاطمة
عليهاالسلام ، وقتال طائفة مالك بن نويرة ، وتعيين أبي بكر عمر ، وأمر الشورى الذي
قرّره عمر ، ثمّ ذكر الشهرستاني وقوع اختلافات اُخَر في زمانهما أيضاً .
ثمّ ذكروا خلاف طلحة والزبير وعائشة
ومعاوية ، والخوارج وأمر التحكيم وخروجهم على عليّ عليهالسلام مصرّحين
بكون الحقّ مع عليّ عليهالسلام في
جميع ذلك .
ثمّ ذكروا اختلاف الناس في مسائل اُصول
الدين وفروعه وتشتّت المذاهب ممّا لا حاجة لنا إلى بيان تفصيلها هاهنا ؛ إذ يكفي
هاهنا ظهور كون جميعها على وفق الرأي والقياس الذي ظهر بطلانه مطلقاً ، وكونه
ضلالاً مستلزماً للضلال ، وكون جميع ذلك متفرّعاً عن بيعة السقيفة ، كما سيأتي
مفصّلاً .
فليكن هذا آخر ما أردنا إيراده في هذا
الفصل ، فإنّ حكاية تحقيق الإجماع الصحيح الذي هو اتّفاق الكلّ ، والفاسد الذي هو
هذه المشهورات ، وتوضيح أنّ الأخير من أقسام الرأي ، وكذا بعض ما استند به أهل
الرأي في مقابل ما ذكرناه هاهنا مع جوابه ، يأتي جميعاً في المقالتين
__________________
الأوّلتين من المقصد
الثاني .
مع أنّا قد أطنبنا في هذا الفصل أيضاً
حتّى كرّرنا فيه ذكر بعض الأشياء ، حيث كان المراد توضيح بطلان مطلق الرأي أوّلاً
، ثمّ بيان أنّ جميع ما صدر من غير أمر اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله
من هذا الباب ثانياً ، حتّى حكاية
السقيفة وقد بيّنّاه ـ بحمد اللّه ـ على الوجه البيّن الراسخ الموقن لطالب الحقّ
، بحيث إن تأمّل أحد صادقاً عرف أنّ هذا وحده كافٍ في بطلان مذاهب المخالفين
جميعاً حتّى بيعة السقيفة ، بحيث لا حاجة إلى ضمّ شيء آخَر ، فاحفظ هذا حفظاً
ينفعك في سائر المواضع ، واللّه الموفّق والمعين .
الفصل الثالث
في
بيان أنّ دأب الأنبياء صلّى اللّه عليهم ، وأتباعهم إنّما كان التسليم لأمر
اللّه وأخذ العلوم والأحكام جميعها من اللّه : (
لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ )
، دون ما سوى ذلك ممّا بيّنّا بطلانه .
اعلم أنّ من تأمّل مع الاتّصاف بالإنصاف
فيما تقدّم في الفصول السابقة ـ لا سيّما الأخيرين ـ لم يبق له مجال شبهة في أنّ
حال الأنبياء وأتباعهم يجب أن يكون على هذا المنوال دائماً ، بل لم يزل دأب
الأنبياء عليهمالسلام من
زمان آدم عليهالسلام ،
وكذا دأب أتباعهم الذين لم يحصل منهم ما يخالف مسلك أنبيائهم ، كأوصيائهم
وأوليائهم كان كذلك من غير تخلّف عن ذلك ؛ ولهذا لم يكن خلاف ولا اختلاف ، اللّهمّ
إلاّ بالنسخ مثلاً ، وإنّ هذه الحالة كانت لهم أيضاً بأمر اللّه عزوجل ، بحيث لم يجز لهم
غير ذلك ، اللّهمّ إلاّ بتفويض من اللّه في بعض الأشياء ، وسيأتي في المقالات
الآتية مزيد بيان لهذا أيضاً .
ومع هذا نذكر هاهنا بعض الآيات
والروايات وغيرها الدالّة على هذا المطلب ، فإنّ أكثر الآيات قد مضت في الفصلين
الأخيرين ، كما هو غير خفيٍّ على المتأمّل فيها ، وربّما نعيد ذكر بعضها هاهنا :
__________________
قال اللّه عزوجل وعلا
: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ) إلى قوله : ( قَالَ
يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ
أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ ).
وقوله حكاية عن الملائكة : ( سُبْحَانَكَ
لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ).
وقال عزوجل :
( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا
بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ
النَّاسُ بِالْقِسْطِ ).
وقال : ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ
الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا
وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ
وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ )، الآية .
وقال : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا
نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ
فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ).
وقال : ( وَوَهَبْنَا لَهُ
إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ )
إلى قوله : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ
بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ )الآية
.
وقال : ( وَقَالُوا اتَّخَذَ
الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ
بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ).
__________________
وقال : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا
مُوسَى الْهُدَىٰ وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ * هُدًى
وَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ).
وقال : ( وَآتَيْنَا مُوسَى
الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ )،
الآية .
وقال : ( ثُمَّ آتَيْنَا
مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ
وَهُدًى وَرَحْمَةً )، الآية .
وقال في موسى عليهالسلام أيضاً : ( وَلَمَّا
بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا )،
الآية .
وقال عزوجل حكايةً
عن عيسى عليهالسلام :
( سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ
أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ )
إلى قوله : ( مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا
أَمَرْتَنِي بِهِ )، الآية .
وقال سبحانه في نقل قول يعقوب لبنيه : ( أَلَمْ
أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ).
وقال حكايةً عن يوسف : ( رَبِّ
قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ).
__________________
وقال في الخضر : ( وَعَلَّمْنَاهُ
مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ).
وقال في آصف : ( قَالَ
الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ )الآية .
وقال حكايةً عن سليمان عليهالسلام : ( يَا
أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ )،
الآية .
وقال فيه وفي داوُد أبيه عليهماالسلام : ( وَكُلًّا
آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا )، الآية .
وقال في طالوت : ( إِنَّ
اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ )،
الآية ، وغيرها .
وقال تعالى : ( وَمَا
كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِِ ).
وقال : ( وَمَا أَرْسَلْنَا
مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ
إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ).
وقال : ( وَأَنزَلْنَا
إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ).
أقول : ملاحظة هاتين الآيتين جميعاً
يرشد إلى ما تواتر عن أئمّة أهل البيت عليهمالسلام أنّ
المراد بالاُولى لزوم أخذ العلوم من الأئمّة العالِمين بما في القرآن ، فإنّهم أهل
الذكر الذين علّمهم النبيّ صلىاللهعليهوآله جميع
ما في القرآن ،
__________________
وهم المراد بمن عنده
علم الكتاب ، كما سيأتي مفصّلاً في فصل الآيات من المقالة الأخيرة من المقصد
الأوّل .
وقال سبحانه : ( وَنَزَّلْنَا
عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً
وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ ).
وقال : ( وَأَنزَلْنَا
إِلَيْكَ الْكِتَابَ )
إلى قوله : ( فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ
اللَّهُ ).
وقال أيضاً : ( لِتَحْكُمَ
بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ )، الآيات وأمثالها ممّا تقدّم بعضها .
وقال عزوجل :
( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ
اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا )الآية.
وقال : ( وَأَنزَلَ اللَّهُ
عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ )،
الآية .
وقال : ( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ
لَكَ بِهِ عِلْمٌ ).
وقال لنوح عليهالسلام :
( فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ
عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ).
وقال عزوجل :
( قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي
خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ
__________________
الْغَيْبَ ) إلى قوله : ( إِنْ
أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ )،
الآية .
وقال : ( قُلْ إِنِّي لَا
أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا )
إلى قوله : ( إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ
وَرِسَالَاتِهِ ).
وقال : ( قُلْ هَٰذِهِ
سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي )،
الآية .
وقال : ( قُلْ إِنَّمَا
أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ )، الآية .
وأمثالها كثيرة كقوله : ( وَأُوحِيَ
إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ).
وقوله : ( كَذَٰلِكَ
أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ
عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ).
وقوله : ( وَمَا أَنزَلْنَا
عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى
وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ).
وقوله : ( وَاتْلُ مَا أُوحِيَ
إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن
دُونِهِ مُلْتَحَدًا ).
وقوله : (إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلًا * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ
__________________
رَبِّكَ
وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا ).
وقوله : ( وَقُلِ الْحَقُّ مِن
رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ).
وقوله : ( وَبِالْحَقِّ
أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا
وَنَذِيرًا )، الآية .
وقوله : ( قَدْ جَاءَكُم مِّنَ
اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ
السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ )،
الآية .
وغيرها من الآيات التي ذكرنا بعضها
سابقاً ، وما لم نذكر منها أكثر ؛ لكفاية ما ذكرناه ، مع ما مرّ سابقاً من قوله
تعالى : ( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي
إِمَامٍ مُّبِينٍ )، وقوله : ( وَلَا رَطْبٍ وَلَا
يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ )، وأمثالهما ممّا يدلّ على دلالة القرآن
على كلّ شيء ، بحيث لا حاجة إلى غيره ، وأنّه لأجل هذا لم يكن رسول اللّه صلىاللهعليهوآله مأموراً
إلاّ به ، ولم يحتج إلى رأي ولا قياس ولا غيرهما ، كما أنّه هكذا كان حال كلّ نبيّ
ووصيّ ، لعلمهما بما في كتابهما ، فهكذا حال من يعلم كتاب اللّه من هذه الاُمّة ،
قال سبحانه : ( وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ )،
وسيأتي العالم
__________________
بالكتاب وعلاماته ،
لا سيّما في فصل الآيات من المقالة الأخيرة من المقصد الأوّل .
وممّا يدلّ على أنّ المراد بالكتاب
القرآن ، وكذا بالكتاب المبين وأمثالهما قوله تعالى : ( حم
* وَالْكِتَابِ
الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ ).
وقوله : ( حم * وَالْكِتَابِ
الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ )؛
إذ المتبادر الظاهر رجوع الضمير إلى الكتاب ، مع وجود شواهد اُخَر من الآيات
المذكورة وغيرها ممّا لا تخفى على المتأمّل الصادق .
وهذا هو الذي ادّعاه عليّ عليهالسلام وذرّيّته الأئمّة عليهمالسلام ـ كما سيأتي مفصّلاً
ـ من أنّ كلّ شيء في القرآن ، وأنّ عندهم علمه بتعليم اللّه لرسوله صلىاللهعليهوآله ،
كما قال : ( فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ
قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) ،
ثمّ بتعليم النبيّ صلىاللهعليهوآله لعليّ عليهالسلام وهكذا ، لا ما توهّمه
بعض المتأوّلينالجاهلين
بالحال ، ففسّر أمثال (الكتاب المبين) بما لم يفهم هو معناه باللّوح، واللّه الهادي .
__________________
ولنذكر هاهنا أيضاً بعض الروايات وغيرها
ليتّضح بها مفاد الآيات ، لكن ليعلم أوّلاً : أنّ توضيح أصل المدّعى هاهنا ـ أعني
: انحصار كون كلّ علوم الأنبياء وأتباعهم الأوصياء فيما يكون وارداً من اللّه عزوجل دون غير ذلك من
التصرّفات الخيالية التي مضت ـ موقوف أوّلاً : على أن يعلم أنّ وصول العلم من
اللّه إليهم إنّما هو من وجوه عديدة معلومة عندهم ، كلٌّ على حسب قابليّته ،
كالوحي بالنسبة إلى خصوص الأنبياء ، وكالإلهام ، والمنام ، والتعلّم من الأنبياء ،
وإخبار الملك حتّى من روح القدس الذي كان مع نبيّنا صلىاللهعليهوآله
وأوصيائه عليهمالسلام ،
وكالرجوع إلى الكتب الإلهيّة ولو على سبيل الاستنباط ، وبعض القواعد الواردة من
اللّه منصوصاً ، ونحو ذلك بالنسبة إلى الكلّ ، حتّى أنّ من ذلك ما فوّض اللّه
إلى بعضهم خصوصاً ولو في بعض الأشياء ، كما سيأتي بيان ذلك كلّه مفصّلاً في مقالات
المقصد الأوّل ، لا سيّما في أوّل فصول المقالة الأخيرة .
وخلاصة مفاد الجميع ـ كما هو معلوم على
من لاحظها ـ أنّ جميع تلك الطرق على جهة العلم والقطع واليقين في أنّها مع مفادها
من اللّه ربّ العالمين ، من غير احتمال تطرّق شكّ أو خطأ في ذلك ، أو كونه على
وجه الظنّ والتخمين ؛ ولهذا حكى اللّه عنهم في مواضع بقوله : ( إِنِّي
عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي )، وأمثال ذلك ممّا هو صريح في إفادة
اليقين .
ثمّ موقوف أيضاً : على ملاحظة الآيات
المذكورة وأمثالها بعضاً مع
__________________
بعض ، ثمّ موازنتها
مع غيرها من الأخبار وما ورد في سيرة الأنبياء والأوصياء الأبرار ، وملاحظة بعض من
هذه أيضاً مع بعض ، ثمّ ملاحظة الجميع مع ما مضى ، لا سيّما في الفصلين السابقين
في ذمّ الاختلاف والمنع منه ، وبطلان العمل بالرأي والاعتماد على الظنّ وضلالهما
وأمثال ذلك .
وإنّما قلنا ذلك ؛ لأنّ دلالة الآيات
والروايات المرويّة من طرقالمخالفين
على ما نحن فيه فإنّما أكثرها على سبيل الإطلاق والإجمال الذي لا ينقطع لسان
المعترض المجادل بملاحظة كلّ واحد واحد ، حتّى أنّه وإن ورد من طريق آل محمّد
صلوات اللّه عليهم ما فيه التصريح الصريح ، لكن يشكل الإلزام به وحده على المخالف
المجادل ؛ لأنّ دأب القوم ـ كما ذكرنا غير مرّة ـ أنّهم قد يسقطون في بعض الأخبار
ما أدركوا فيه منافاة لطريقتهم ، أو يغيّروه بحيث يحصل فيه نوع إجمالٍ ، وإذا جيء
بما يعارضه من أهل البيت عليهمالسلام أنكروه
وكذّبوه .
فالعلاج حينئذٍ إنّما هو في أن لوحظ
الجميع مجموعاً حتّى ما ورد عن أهل البيت عليهمالسلام ؛
ليكون (بعض منها لبعض مفسّراً أو مقوّياً مؤيّداً)أو دافعاً لشبهة أو تشكيك وأمثال ذلك ؛
إذ لا محالة حينئذٍ يحصل القطع بحيث لا يمكن القدح ؛ ولأجل هذا أيضاً نحن نسرد
الكلام في هذا المقام ، بحيث يفهم البصير تفسير ما يحتاج إلى التفسير ، ويرتفع عنه
الإشكال عمّا فيه الإجمال ، حتّى يتّضح ما هو أصل المرام بتوفيق الملك العلاّم :
قد مرّ في آخر الفصل الأخير من الباب
السابق من كتاب الشهرستاني
__________________
كلامٌ شافٍ من
الأنبياء عليهمالسلام في
جواب أقوام أنكروهم ؛ استناداً إلى كفاية الاعتماد في فهم الأشياء على الدلالات
العقليّة ، وفيه قولهم : إنّ حكمة اللّه اقتضت أن يرفع بعض الناس فوق بعضٍ درجات
، وأن يصطفي منهم رجالاً يعلم بعلمه الكامل قابليّتهم لأن يطلعهم على حقائق أمره
وحِكَمه ، فيلقي إليهم ويعلّمهم جميع ما هو على وفق إرادته ، ومقتضى حكمته ومصلحته
؛ ليوصلوا ذلك إلى سائر من ليس كذلك ، فيجمعوهم فيما أراد منهم على كلمة واحدة ،
ويكونوا بذلك على يقين من أمرهم وبصيرة في شأنهم.
وفي كتاب الشهرستاني أيضاً : أنّ اليهود
قالوا : كان التوراة مشتملاً على أسفار ، وأنّ في سفر منه كان ذكر مبتدأ الخلق ،
وكانت الأحكام والحدود والأحوال والقصص والمواعظ والأذكار في سفر سفر ، وأنزل
اللّه على موسى الألواح على شبه مختصر ما في التوراة يشتمل على الأقسام العلمية
والعملية ، كما قال عزوجل :
(وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الاْءَلْوَاحِ
مِنْ كُلِّ شَىْءٍ مَّوْعِظَةً) إشارة
إلى تمام القسم العلمي ، (وَتَفْصِيلاً
لِّكُلِّ شَىْءٍ)إشارة إلى تمام القسم العملي .
وقالوا : كان موسى عليهالسلام قد أوصى بأسرار
التوراة والألواح إلى يوشع ابن نون وصيّه من بعده ، وعلّمه جميع ذلك ، وأمره أن
يوصي بذلك بعده إلى شُبّر وشُبير أولاد هارون ؛ إذ الوصيّ كان هارون ، فلمّا مات
قبل موسى عليهالسلام انتقلت
الوصاية إلى يوشع وديعةً ليوصلها إلى مقرّها ، وهو ابنا هارون.
__________________
أقول
: ويظهر من بعض ما رأينا من الكتب التي
نقل فيها عن اليهود أنّ العلوم والوصاية المذكورة انتقلت بوصيّة موسى ويوشع من
شُبّر إلى شُبير ، ثمّ إلى ابن شُبير وهلمّ جرّاً ، حتّى لم تكن في نسل شبّر أصلاً
.
ثمّ ذكر الشهرستاني أنّ اليهود قالوا :
إنّ الشريعة لا تكون إلاّ واحدة ، لكنّهم زعموا أنّها ابتدأت بموسى عليهالسلام وتمّت به ، وأنّه لم
يكن قبله إلاّ حدود عقليّة وأحكام مصلحيّة،
وهو باطل خلاف صريح القرآن وغيره ، كما سيظهر .
ثمّ ذكر أيضاً : أنّ في التوراة أنّ
الأسباط من بني إسرائيل كانوا يراجعون علماء بني إسماعيل ، ويعلمون أنّ في ذلك
الشعب علماً لدُنّيّاً وإن لم يشتمل التوراة عليه.
أقول
: ولعلّ حكاية موسى والخضرعليهماالسلام أيضاً
من هذه الجهة .
ثمّ إنّه أيضاً قال : وقد نقل في
التاريخ أنّ بني إسماعيل كانوا يُسمَّون : آل اللّه ، أي : أهـل اللّه ، وأولاد
إسرائيل : آل موسى وهارون عليهماالسلام ، انتهى .
وقال القاضي عياض في كتاب الشفا : كان
فيما ذكر المحقّقون أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله وكذا
سائر الأنبياء كانوا مجبولين على العلوم الكاملة والصفات الحسنة في أصل خلقتهم
وأوّل فطرتهم ، لم تحصل لهم تلك باكتساب ولا برياضةإلاّ بجود إلهي وخصوصية ربّانيّة ، وأنّ
علم النبيّ صلىاللهعليهوآله وعقله
كان كاملاً جبلّيّاً من عطاء اللّه تفضّلاً ، وأنّه عالم العلوم تماماً .
__________________
وقال : ومن طالع سِيَرهم منذ صباهم إلى
مبعثهم حقّق ذلك ، كما عرف من حال موسى وعيسى ويحيى وسليمان وغيرهم ، بل غرزت فيهم
هذه الأخلاق في الجبلَّة ، واُودعوا العلم والحكمة في الفطرة ، قال اللّه تعالى :
( وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ).
قال المفسّرون : أعطى اللّه يحيى العلم
بكتاب اللّه في حال صباه.
وصدّق بعيسى عليهالسلام وهو
ابن ثلاث سنين.
قال : وقد نصّ اللّه على كلام عيسى
لاُمّه عليهماالسلام عند
ولادتها إيّاه ، ونصّ على كلامه في مهده فقال : ( إِنِّي عَبْدُ
اللَّهِ )، الآية . وكذا سليمان ، فقال سبحانه : ( فَفَهَّمْنَاهَا
سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ).
قال : وقد ذكر من حكم سليمان وهو صبيّ
في قصّة المرجومة ، وفي قصّة الصبيّ وغيرهما ما اقتدى به داوُد أباه .
قال : وقال المفسّرون في قوله تعالى : ( وَلَقَدْ
آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ )، الآية ، أي : هديناه صغيراً ، قاله
مجاهد وغيره،
وقال
__________________
ابن عطاءأي : اصطفيناه قبل إبداء خلقه.
قال : وقيل : إنّ استدلال إبراهيم عليهالسلام بالكواكب والقمر
والشمس كان وهو ابن خمسة عشر سنة ، وإلقاءه في النار كان وهو ابن ستّة عشر سنة ،
وإنّ ابتلاء إسحاق أو إسماعيل بالذبح كان وهو ابن سبع سنين.
قال : وقيل : أوحى اللّه إلى يوسف عليهالسلام وهو صبيٌّ عند ما همّ
إخوته بإلقائه في الجبّ ، بقوله : ( وَأَوْحَيْنَا
إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا )،
الآية ، إلى غير ذلك من أخبار سائر الأنبياء.
قال : وقد حكى أهل السير أنّ آمنة بنت
وهب أخبرت أنّ نبيّنا صلىاللهعليهوآله وُلد
حين وُلد باسطاً يديه إلى الأرض ، رافعاً رأسه إلى السماء.
ثمّ ذكر شاهداً لما ذكره جملة من كمالات
النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
فذكر في ذلك علمه بما في التوراة والإنجيل والكتب المنزلة ، وحكم الأنبياء ، وسير
الاُمم الخالية ، وما كان وما يكون ، وقال : وإنّ كلّ ذلك ممّا علّمه اللّه إيّاه
وأطلعه عليه مع سائر عجائب قدرته وعظيم ملكوته ، كما قال سبحانه : ( وَعَلَّمَكَ
مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ )، الآية ، من دون تعلّم من أحد ، ولا
مدارسة ،
__________________
ولا مطالعة كتب من
تقدّم ، ولا الجلوس إلى علمائهم.
ثمّ قال أيضاً : ومن معجزاته الباهرة ما
جمعه اللّه تعالى له من المعارف والعلوم والاطّلاع على جميع مصالح الدّنيا
والدّين،
ومعرفته باُمور شرائعهوقوانين
دينه وسياسة الاُمّة ، وما كان في الاُمم قبله ، وقصص الأنبياء والرسل والجبابرة
والقرون الماضية من لدن آدم عليهالسلام إلى
زمانه ، وحفظ شرائعهم وكتبهم ، وسائر صنوف العلوم ، كما تبيّن كلّ ذلك من محاجّته
مع أهل الملل ، وتتبّع مجاري أحواله وأخباره بما أخبر ممّا مضى ويأتي ، وغير ذلك
ممّا تواتر فيه.
أقول
: سيأتي في المقالات ما يوضّح ما ذكره ،
وأنّ جميع هذه الحالات ما سوى نزول الملائكة بالوحي كانت في عليّ وذرّيّته الأئمّة عليهمالسلام حتّى بنقل المخالفين
وإقرارهم ، فافهم .
وقد مرّ في ضمن نقل الأخبار والأقوال في
الفصل السابق تصريح جمعٍ ، لا سيّما البخاري في صحيحه بأنّ علم النبيّ صلىاللهعليهوآله إنّما
كان من اللّه ، بحيث مهما سئل عن شيء لم يكن يجيب حتّى ينزل عليه حكمه، كما أنّ هذا كان دأب سائر الأنبياء .
وقد تقدّم في أحاديث فاتحة هذا الكتاب
بعض روايات صريحة فيما نحن فيه ، ولا سيّما في ضمن الحديث الثالث عشر ، بل الثاني
عشر
__________________
والحادي عشر أيضاً ،
فلا بدّ من الرجوع إليها.
وفيما تواتر عن أئمّة أهل البيت عليهمالسلام ما رواه جماعة من
الثقات عن أبي جعفر الباقر عليهالسلام ،
وأبي عبداللّه الصادق عليهالسلام بأسانيد
عديدة ، أنّهما قالا : «إنّ العلم الذي نزل مع آدم عليهالسلام لم
يرفع ، وما مات عالم إلاّ وقد ورّث علمه»وفي
بعض الروايات : «إلاّ وترك من يعلم مثل علمه أو ما شاء اللّه»، «إنّ الأرض لا تبقى بغير عالم»، «والعلم يتوارث».
وفي رواية اُخرى : «إنّ اللّه تعالى
جمع لمحمّد صلىاللهعليهوآله سنن
النبيّين من آدم عليهالسلام وهلّم
جرّاً» ، قيل : وما تلك السنن ؟ قال : «علم النبيّين بأسره ، وأنّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآله صيّر
ذلك كلّه عند أمير المؤمنين عليهالسلام».
وفي روايات اُخَر عنهم أيضاً : «إنّ
داوُد ورث علم الأنبياء ، وإنّ سليمان ورث داوُد ، وإنّ محمّداً صلىاللهعليهوآله ورث
سليمان، وإنّا ورثنا محمّداً صلىاللهعليهوآله ».
و«إنّ اللّه لم يعط الأنبياء شيئاً
إلاّ وقد أعطاه محمّداً صلىاللهعليهوآله».
__________________
« وإنّ عندنا علم التوراة والإنجيل
والزبور والفرقان ، وتبيان ما في الألواح».
«وما في صحف آدم عليهالسلام وإبراهيم عليهالسلام ».
«وإنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله كان
أعلم من جميع الأنبياء».
«وكلّ كتاب نزل فهو عند أهل العلم ونحن
هم ، ولكنّ الناس لا خير فيهم».
وفي رواية : «إنّ الناس يمصّون الثمادويدعون النهر العظيم الذي هو رسول
اللّه صلىاللهعليهوآله ،
والعلم الذي أعطاه اللّه».
وفي بعض خطب عليّ عليهالسلام كما في نهج البلاغة
وغيره أنّه قال بعد ذكر خلق السموات والأرض : «ولمّا مهّد أرضه اختار آدم عليهالسلام خيرةً من خلقه ،
وجعله أوّل جبلّته» إلى قوله عليهالسلام :
«فأهبطهُ بعد التوبة ليعمر أرضه بنسله ، وليقيم الحجّة به على عباده ، ولم يخلهم
بعد أن قبضه ، ممّا يؤكّد عليهم حجّة ربوبيّته ، ويصل بينهم وبين معرفته ، بل
تعاهدهم بالحجج
__________________
البوالغ على ألسن
الخيرة من أنبيائه ، ومتحمّلي ودائع رسالاته قرناً فقرناً ؛ حتّى تمّت بنبيّنا
محمّد صلىاللهعليهوآلهحجّته»، الخبر .
وأمثال ذلك من الأخبار كثيرة سيأتي في
بحث علوم النبيّ صلىاللهعليهوآله والأئمّة عليهمالسلام ، ويؤيّدها ما رواه
المؤالف والمخالف من قول النبيّ صلىاللهعليهوآله :
«إنّ اللّه لا ينزع العلم بعد ما أنزله انتزاعاً ينتزعه إليه ، ولكن يقبض العلماء
فيتّخذ الناسُ رؤساء جهّالاً [ استُفتوا فأفتوا بغير علم ] ، فضلّوا وأضلّوا».
وما رواه كلّ هؤلاء أيضاً ـ كما سيأتي ـ
بأسانيد عن عليّ عليهالسلام أنّه
قال : «تعلّمت من رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ألف
باب من العلم ، ينفتح لي من كلّ باب ألف باب».
وكذا ما سيأتي أيضاً من قول عليّ عليهالسلام الثابت المقطوع به :
«سلوني قبل أن تفقدوني ، فإنّي بطرق السماء أعلم منّي بطرق الأرض».
«سلوني عن كتاب اللّه ، فواللّه ، ما
من آية إلاّ وأعلم حيث نزلت».
«ولو ثُنّيت لي الوسادة لأفتيت أهل
التوارة بتوراتهم ، وأهل الإنجيل
__________________
بإنجيلهم ، وأهل
القرآن بقرآنهم».
مع ما سيأتي أيضاً متواتراً من إخبار
النبيّ صلىاللهعليهوآله وكذا
عليّ عليهالسلام كلّ
من سألهما من أهل الملل السابقة عمّا في كتبهم ، وما حفظوه عن أنبيائهم بنحو ما
كان عندهم ، بحيث لم يقدر أحد منهم إلاّ على الاعتراف بأنّه كذلك ، وهكذا سائر
الأئمّة عليهمالسلام .
حتّى أنّ المخالفين ذكروا مثل ذلك عن
الرضا عليهالسلام في
مجالس مناظرات المأمون ، وسيأتي تفصيل جميع ذلك مع سائر الشواهد في مواضعها ، بحيث
يحصل الجزم بكون علومهم لدنّيّاً من اللّه (لا من رأي)ولا قياس .
حتّى ورد في رواية صحيحة أنّ رجلاً سأل
أبا عبد اللّه الصادق عليهالسلام عن
مسألة فأجابه فيها ، فقال الرجل : أرأيت إن كان كذا وكذا ما يكون القول فيها ؟
فقال له : «مه ! ما أجبتك فيه من شيء
فهو عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ،
لسنا من أرأيت في شيء».
ولنذكر هاهنا نبذاً ممّا ورد من طرق
المخالفين في كون علوم النبيّ صلىاللهعليهوآله وعليّ عليهالسلام بالتوارث وبالتعلّم
من اللّه ولو في ضمن الكتب الإلهيّة ، لا سيّما القرآن ، بحيث يظهر كون سائر
الأنبياء والأئمّةعلى
هذا
__________________
المنوال ، وأنّ هذا
هو مصداق العلم لا غير ذلك من نتائج الآراء والأهواء ، وسائر ما لم يكن مأخوذاً من
اللّه عزوجل :
ففي مسند ابن حنبل : عن زيد بن أبي أوفى، بأسانيد عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
قال لعليّ عليهالسلام في
حديث له : «أنت أخي ووارثي» ، فقال عليّ عليهالسلام :
«وما أرث منك يا رسول اللّه ؟» فقال : «ما وَرّث الأنبياء قبلي» ، قال : «وما
وَرّث الأنبياء قبلك ؟» قال : «كتاب اللّه وسنّة نبيّهم».
وفي كتاب ابن سعد : عن عائشة ، عن
النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
قال : «(أيّها الناس ،)لا
تعلّقوا عليَّ بواحدة ، ما أحللت إلاّ ما أحلّ اللّه ، وما حرّمت إلاّ ما حرّم
اللّه».
وقد قال عليّ عليهالسلام ، كما في النهج وغيره
: «اعلموا أنّ اللّه تعالى لن يرضى عنكم بشيء سخطه على من كان قبلكم ، ولن يسخط
عليكم بشيء رضيه ممّن كان قبلكم»،
الخبر .
وفي كبير الطبراني : عن ابن عمر ، عن
النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «اُوتيت مفاتيح كلّ شيء إلاّ خمس» ، ثمّ قرأ قوله تعالى : ( إِنَّ
اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ
__________________
السَّاعَةِ )،
إلى آخر الآيات .
وفي أوسط الطبراني وحلية الأولياء
وكتابي ابن عدي والخطيب وغير ذلك : عن عائشة ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
قال : «إذا أتى عليَّ يوم لا أزداد فيه علماً يقرّبني إلى اللّه فلا بورك في طلوع
شمس ذلك اليوم».
وقد ورد في أخبار أهل بيته أيضاً أنّهم
يزدادون علماً في كلّ يوم وفي ليالي الجمعة ونحو ذلك.
ولا يخفى أنّ رواية هؤلاء جميعاً أدّل
دليل على توهّم ابن الجوزي حيث عدّه من الموضوعات.
وفي مناقب ابن المغازلي : عن أنس ، عن
النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
قال : «من أراد أن ينظر إلى علم آدم وفقه نوح عليهماالسلام فلينظر
إلى عليّ بن أبي طالب عليهالسلام ».
وفي حلية الأولياء : عن ابن عبّاس ، قال
: إنّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآله عهد
إلى عليّ عليهالسلام سبعين
عهداً لم يعهده إلى غيره.
وفي كتاب نهاية الطلب لإبراهيم بن عليّ
الحنبلي:
عن ابن عبّاس
__________________
أنّه قال في حديث له
: إنّ العبّاس والنبيّ صلىاللهعليهوآله في
أوّل نبوّته جاءا إلى أبي طالب وأخبره النبيّ صلىاللهعليهوآله
بخبره ، فحثّه أبو طالب على أمره ، وقال
في جملة كلامه : ولقد كان أبي يقرأ الكتب جميعاً ، ولقد قال : إنّ من صلبي لنبيّاً
، ولوددت أنّي أدركت ذلك الزمان فآمنت به،
الخبر ، وأمثاله كثيرة ستأتي في بحث علائم نبوّته .
وفي تفسير الرازي : قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله لعليّ عليهالسلام أشياء من جملتها أنّه
قال له : «استعمل العلم فإنّه ميراثي».
وفي تفسير الثعلبي، والواحديوغيرهما : عن جمعٍ منهم بريدة الأسلمي ،
قال : قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله لعليّ عليهالسلام : «إنّ اللّه أمرني
أن أُدنيك ولا أقصيك ، وأن اُعلّمك وأن تعي ، وحقّ على اللّه أن تعي» ، قال :
فنزل
__________________
قوله تعالى : ( وَتَعِيَهَا
أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ).
وفي مناقب ابن المغازلي ، وكتاب
الخوارزمي : عن ابن عبّاس ، قال : قال النبيّ صلىاللهعليهوآله
في حديث له : «قُسّمت الحكمة عشرة أجزاء
، فاُعطي عليّ عليهالسلام تسعة
أجزاء ، والناس جزءاً واحداً».
ثمّ قال : «أتاني جبرئيل بدُرْنُوكٍمن الجنّة فجلست عليه ، فلمّا صرت بين
يدي ربّي كلّمني وناجاني ، فما علمت شيئاً إلاّ علّمته عليّاً عليهالسلام ، فهو باب مدينة
علمي».
وفي مناقب ابن مردويه بإسناده عن اُمّ
سلمة ، قالت في حديث لها : إنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله
قال لها : «إنّ جبرئيل أتاني من اللّه
بما هو كائنٌ بعدي ، وأمرني أن اُوصي به عليّاً عليهالسلام واُعلّمه
جميع ذلك ، فعلّمته».
وفي مناقب الخوارزمي أيضاً : عن أنس ،
قال : قال النبيّ صلىاللهعليهوآله في
__________________
حديث له لعليّ عليهالسلام : «أنت أخي ووزيري
وخير من اُخلّفبعدي»
إلى أن قال : «وتبيّن لاُمّتي ما اختلفوا فيه من بعدي ، وتعلّمهم من تأويل القرآن
ما لم يعلموا»،
الخبر .
وفيه أيضاً : عن جابر ، قال : قال
النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
وذكر الحديث ، إلى أن قال : «ثمّ خلق اللّه الخلق وفوّض إلينا أمر الدين ،
فالسعيد من سعد بنا ، والشقيّ مـن شقي بنا ، نحـن المحلّلون لحلال اللّه
والمحرّمون لحرام اللّه».
وفيه أيضاً : بأسانيد عنه صلىاللهعليهوآله أنّه
قال في حكاية المعراج : «قال اللّه عزوجل لي
: يا محمّد ، هل اتّخذت لنفسك خليفة يؤدّي عنك ، ويعلّم عبادي من كتابي ما لا
يعلمون ؟ فقلت : أنت اختر لي ، فقال : اخترت لك عليّاً عليهالسلام » إلى قوله عزوجل : «ونحلته علمي
وحلمي»، الخبر .
وفيه أيضاً : عن ابن عبّاس وغيره : أنّ
«وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ»عليّ عليهالسلام .
__________________
وفي كتاب ابن أبي شيبة : عن عمير بن عبد
الملك، قال : قال عليّ عليهالسلام في خطبته : «كنت إذا
سكتُّ عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ابتدأني
، وإن سألته أنبأني ، وإنّه حدّثني عن ربّه»،
الخبر ، وهو طويل صريح في كون جميع العلوم والأحكام من اللّه عزوجل ، وسيأتي مفصّلاً في
محلّه من كتاب نهج البلاغة .
وقد روى الترمذي أيضاً ما ذكرناه من هذا
الخبر.
وفيه : «واللّه ما اُنزلت آية إلاّ وقد
علمت فيمَ نزلت وأين نزلت ؛ إنّ ربّي وهب لي قلباً عقولاً ولساناً سؤولاً».
وقد روى هذا الخبر الأخير غير الترمذي
أيضاً منفرداً.
وفي صحيح النسائي ، وكتاب البيهقي
وغيرهما : عن عليّ عليهالسلام قال
: «بعثني رسول اللّه صلىاللهعليهوآله إلى
اليمن قاضياً ، فقلت : بعثتني وأنا شابّ لا أدري ما القضاء ؟ فضرب في صدري ، فقال
: اللّهمّ اهدِ قلبه وثبّت لسانه ، ثمّ قال لي : انطلق فإنّ اللّه سيهدي قلبك
ويثبّت لسانك ، فواللّه الذي فلق الحبّة ،
__________________
ما شككت بعده في
قضاءٍ بين اثنين».
وفي كتاب السخاوي وغيره : عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
قال : «إنّ هذا العلم دين ، فانظروا عمّن تأخذون دينكم».
وفي صحيح البخاري : عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
قال في حديث له : «إنّما العلم بالتعلّم ، وإنّ العلماء ورثة الأنبياء».
وفيه : عن أبي هريرة أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «إذا اُضيعت الأمانة فانتظروا الساعة» ، قيل : كيف إضاعتها ؟ قال : «إذا وُسِّد
الأمر إلى غير أهله»،
الخبـر .
وفي كبير الطبراني : عن ابن عبّاس قال :
قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله :
«إنّ اللّه أعطى كلّ ذي حقّ حقّه ، ألا إنّ اللّه قد فرض فرائض ، وسنّسُنناً ، وحدّ حدوداً ، وأحلّ حلالاً ،
وحرّم حراماً ، وشرّع الدين»،
الخبر .
وفي إحياء الغزالي : عن ابن مسعود ، عن
النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «ثوّرواالقرآن
والتمسوا غرائبه ، ففيه علم الأوّلين والآخرين».
__________________
وفيه : عنه صلىاللهعليهوآله
أنّه قال : «من لم يستغنِ بآيات اللّه
فلا أغناه اللّه».
وفيه وفي غيره : عن عليّ عليهالسلام : «إنّ القرآن ظاهره
أنيق وباطنه عميق ، لا تفنى عجائبه ، ولا تنكشف الظلمات إلاّ به».
وفي المستدرك : عن حذيفة قال : قال النبيّ صلىاللهعليهوآله :
(«دُوروا مع القرآن حيث دار».
وفي كتاب السجزي وكتابي الخوارزمي
والديلمي وغيرها : عن عليّ عليهالسلام قال
: «قال النبيّ :)ألا
أدلّكم على الخلفاء منّي ومن أصحابي ومن الأنبياء قبلي ؟ هم حملة القرآن ،
والأحاديث عنّي وعنهم ، في اللّه وللّه».
وفي تفسير الثعلبي : عن ابن مسعود قال :
إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف ما منها حرف إلاّ وله ظهر وبطن ، وإنّ عليّ بن أبي
طالب عنده علم الظاهر والباطن.
وفي الإحياء ، والنهج وغيرهما : أنّ
عليّاً عليهالسلام قال
لكميلفي
__________________
حديث له : «إنّ الناس
ثلاثة : عالم ربّانيّ ، ومتعلّم على سبيل نجاة ، وهَمَج رَعاع أتباع كلّ ناعق ،
يميلون مع كلّ ريح لم يستضيؤوا بنور اللّه،
ولم يلجؤوا إلى ركنٍ وثيق» إلى أن قال : «إنّ هاهنا ـ وأشار إلى صدره ـ لعلماً
جمّاً لو وجدت له أهلاً» إلى أن قال في آخر كلامه : «بلى ! لا تخلوالأرض من قائم للّه بحجّة إمّا ظاهراً
مشهوداً ، أو خائفاً مغموراً ؛ لئلاّ تبطل حجج اللّه وبيّناته .
اُولئك هم الأقلّون عدداً ، والأعظمون
عند اللّه قدراً ، يحفظ اللّه بهم حججه وبيّناته حتّى يودعوها نظراءهم ،
ويزرعوها في قلوب أشباههم . هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة ، وباشروا أرواح
اليقين ، وأنِسوا بما استوحش منه الجاهلون» إلى قوله : «اُولئك خلفاء اللّه في
أرضه والدعاة إلى دينه»،
الخبر .
وقال عليهالسلام في
بعض خطبه ـ كما في النهج وغيره ـ : «أيّها الناس !
__________________
إنّي قد بثثت فيكم
المواعظ التي وعظ بها الأنبياء اُممهم ، وأدّيت إليكم ما أدّت الأوصياء إلى مَن
بعدهم»، الخبر .
وقال أيضاً : «إنّ أولى الناس بالأنبياء
أعلمهم بما جاؤوا به» ، ثمّ تلى قوله تعالى : ( إِنَّ أَوْلَى
النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا )».
وقال أيضاً : «إنّ اللّه عزوجل بعث رسله بما خصّهم
به من وحيه ، وجعلهم حجّة له على خلقه ؛ لئلاّ تجب الحجّة لهم بترك الأعذار إليهم
، فدعاهم بلسان الصدق إلى سبيل الحقّ» إلى قوله عليهالسلام :
«أين الذين زعموا أنّهم الراسخون في العلم دوننا ، كذباً وبغياً علينا ؟»الخبر .
وقال عليهالسلام أيضاً
: «فبعث اللّه محمّداً صلىاللهعليهوآله بالحقّ
؛ ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته ، ومن طاعة الشيطان إلى طاعته بقرآن قد
بيّنه وأحكمه ؛ ليعلم العباد بربّهم» إلى قوله عليهالسلام :
«فالتمسوا ذلك من عند أهله ؛ فإنّهم عَيش العلم وموت الجهل ، لا يخالفون الدين ولا
يختلفون فيه ، فهو بينهم شاهد صادق وصامت ناطق».
وقال أيضاً في ذكر الرسول صلىاللهعليهوآله :
« أرسله اللّه بالدين المشهور ، والعلم المأثور ، والكتاب المسطور ، والنور
الساطع ، والضياء اللامع ؛ إزاحةً
__________________
للشبهات ، واحتجاجاً
بالبيّنات»،
الخبر .
وقال عليهالسلام أيضاً
: «وإنّي على بيّنة من ربّي ومنهاج من نبيّي ، وإنّي لعلى الطريق الواضح ألقطه
لَقطاً. انظروا أهل بيت
نبيّكم فالزموا سَمْتَهم واتّبعوا أثرهم ، فلن يخرجوكم من هدىً ، ولن يعيدوكم في
ردىً ، ولا تسبقوهم فتضلّوا ، ولا تتأخّروا عنهم فتهلكوا»، الخبر .
وقال أيضاً : «تاللّه ، لقد عُلِّمت
تبليغ الرسالات ، وإتمام العِدات ، وتمام الكلمات ، وعندنا أهل البيت أبواب الحُكم
وضياء الأمر ، ألا وإنّ شرائع الدين واحدة ، وسبله وحيدة ، من أخذ بها لحق وغنم ،
ومن وقف عنها ضلّ وندم»،
الخبر .
وفي رواية عن أئمّة أهل البيت عليهمالسلام ، ممّا روى مثله بعض
علماء المخالفين أيضاً ـ كما يأتي في محلّه ـ عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
قال : «إنّ عند كلّ بدعة تكون من بعدي يُكاد بها الإيمان وليّاً من أهل بيتي
موكّلاً به يذبّ عنه ، ينطق بإلهام من اللّه ، ويعلن الحقّ وينوّره ، ويردّ كيد
الكائدين ، يعبّر عن الضعفاء»،
الخبر .
وفي رواية اُخرى التي روى مثلها أيضاً
بعض المخالفين : «فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه ، فإنّ فينا أهل البيت في كلّ
خَلف عدولاً ،
__________________
ينفون عن العلم تحريف
الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين».
وقد رواها المخالفون هكذا ، كما في
الصواعق ، وكتاب شرف النبيّ ، قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
: «في كلّ خلف من اُمَّتي عدول من أهل
بيتي ينفون عن هذا الدين تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ،
ألا وإنّ أئمّتكم وفدكم إلى اللّه عزوجل ،
فانظروا من توفدون».
وقد ذكر الغزالي وغيره : أنّه حُكي
لعليّ عليهالسلام عن
عهد موسى عليهالسلام أنّ
شرح كتابه كان أربعين حملاً ، فقال عليّ عليهالسلام :
«لو أذن اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله لأشرح
في شرح الفاتحة حتّى يبلغ أربعين وِقْراً»
.
ثمّ قال الغزالي : هذه السعة في العلم
لا تكون إلاّ بعلم لدنّي.
وأقول
: من أوضح الواضحات كون علوم الأنبياء
والأوصياء ، لا سيّما نبيّنا صلىاللهعليهوآله وعليّ
والأئمّة من ذرّيّتهما عليهمالسلام لدُنّيّاً
، بالقرائن الصريحة في ذلك ، حيث أخبروا كثيراً بما ينادي بذلك ، كما سيأتي
مفصّلاً في المقالات الآتية ، ولم يرد أصلاً عمل منهم بالرأي والقياس وأمثالهما ،
بل صرّحوا ببطلانهما ، كما مرّ .
__________________
وهذا كلّه مع ما ذكرناه هاهنا يكفي
بالجزم بالمقصود لمن مراده فهم الحقّ دون العصبيّة ، فلا حاجة إذن إلى إطالة
الكلام هاهنا ، لا سيّما مع اتّضاحه ممّا سيأتي غاية الاتّضاح ، واللّه الهادي .
الفصل الرابع
في
بيان نبذ ممّا ورد في اختلاف الاُمم السّالفة وتفرّقها عقيب أنبيائها من بعد ما
جاءهم العلم إلى فِرَق كثيرة ، وأنّ فرقة واحدة منها ناجية والباقون هالكون ، مع
بيان شرذمة من مذاهب تلك الفِرَق ، وتوضيح كون كلّ اختلافها بسبب متابعة الأهواء
والآراء ، وفيه أيضاً ما اشتمل من الأخبار على تفرّق هذه الاُمّة إلى نيّف وسبعين
أيضاً ، وكون واحدة منها ناجية ، وبعض علائم الناجية ، ولكن تشخيص الناجية في
الفصل الآتي ؛ لكونه موضوعاً لذلك ، وإنّما سبب ذكر الأخبار هاهنا تضمّنها تفرّق
الاُمم أيضاً .
فاعلم أنّ علماء الإسلام قاطبة اتّفقوا
على أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «افترقت اُمَّة موسى عليهالسلام على
إحدى وسبعين فرقة كلّها في النار إلاّ واحدة ، وافترقت اُمَّة عيسى عليهالسلام على اثنتين وسبعين
فرقة كلّها في النار إلاّ واحدة ، وستفترق اُمّتي على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في
النار إلاّ واحدة» ، وقد رواه كلّ من المؤالف والمخالف بأسانيد كثيرة متضافرة ،
بحيث لم يوجد له منكر ، بل يدلّ على أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله
ذكره في مواضع عديدة ، وأنّه لأجل هذا
ورد بأنحاء من التعبير ، وبعض زيادات في بعض الروايات ، ولنبيّن نبذاً منها :
فالّذي ذكره الشيعة في بعض رواياتهم من
أئمّتهم المعلومين عليهمالسلام
عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
قال : «افترقت اُمَّة موسى عليهالسلام على
إحدى وسبعين فرقة كلّها في النار إلاّ واحدة ، وهي التي اتّبعت وصيّه يوشع عليهالسلام ، وافترقت اُمّة عيسى عليهالسلام على اثنتين وسبعين
فرقة كلّها في النار إلاّ واحدة ، وهي التي اتّبعت وصيّه شمعون عليهالسلام ، وستفترق اُمَّتي
على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النار إلاّ واحدة ، وهي التي تتّبع وصيّي عليّاً عليهالسلام ».
والذي ذكره غيرهم : فمنه ما رواه جمع ،
منهم : الحافظ محمّد بن مؤمن الشيرازيفي
التفسير الذي استخرجه من اثني عشر تفسيراً من تفاسير القوم ، كتفسير ابن جريج ،
وتفسير مقاتل،
وتفسير قتادة ، وتفسير السدّي ، ومجاهد وغيرهم ، عن أنس قال : كنّا جلوساً عند
رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ،
فتذاكرنا رجلاً يصلّي ويصوم ويتصدّق ، فقال النبيّ صلىاللهعليهوآله
: «لا أعرفه» . فقلنا : يا رسول اللّه
، إنّه ليعبد اللّه ويسبّحه ويقدّسه ويهلّله ، فقال : «لا أعرفه» ، فبينا نحن في
ذكر الرجل إذ طلع علينا ، فقلنا : هو ذا ، فنظر إليه
__________________
النبيّ صلىاللهعليهوآله وقال
لأبي بكر : «خذ سيفي هذا وامض إليه واضرب عنقه ، فإنّه أوّل من يأتي في حزب
الشيطان » فدخل أبو بكر المسجد فرآه راكعاً ، فقال : واللّه ، لا أقتله ، فإنّ
رسول اللّه نهانا عن قتل المصلّين ، فرجع !
فقال له رسول اللّه صلىاللهعليهوآله :
«اجلس فلست بصاحبه ، قم يا عمر ، فخذ سيفي وادخل المسجد واضرب عنقه» .
قال عمر : أخذت السيف ودخلت المسجد
فرأيت الرجل ساجداً ، فقلت : لا واللّه ، لا أقتله ؛ إذ لم يقتله من هو خير منّي
، فرجع وقال : رأيته ساجداً .
فقال النبيّ صلىاللهعليهوآله :
«اجلس فلست بصاحبه ، قم يا عليّ ، فإنّك قاتله ، فإن وجدته فاقتله ؛ فإنّك إن
قتلته لم يبق بين اُمّتي اختلاف » ، فلمّا دخل عليّ عليهالسلام المسجد
لم يره ، فرجع إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله وقال
: «ما رأيته» .
فقال : «يا أبا الحسن ، إنّ اُمّة موسى عليهالسلام افترقت على إحدى
وسبعين فرقة ، فرقة ناجية والباقون في النار ، وإنّ اُمّة عيسى عليهالسلام افترقت على اثنتين
وسبعين فرقة ، فرقة ناجية والباقون في النار ، وستفترق اُمّتي على ثلاث وسبعين
فرقة ، فرقة ناجية والباقون في النار» .
فقال عليّ عليهالسلام :
«فما الناجية ؟» ، قال : «المتمسّك بما أنت عليه وأصحابك» ، الخبر ، وفي آخره قال
ابن عبّاس : واللّه ، ما قتل ذلك الرجل إلاّ عليّ عليهالسلام يوم
صفّين.
وبمعناه ما رواه الترمذي في صحيحه عن
ابن عمر ، قال : قال النبيّ صلىاللهعليهوآله :
«ليأتينّ على اُمّتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النّعل بالنّعل ،
__________________
حتّى أن لو كان منهم
من أتى اُمّه علانية لكان في اُمّتي من يصنع ذلك ، وإنّ بني إسرائيل تفرّقت على
ثنتين وسبعين ملّة ، وتفترق اُمّتي على ثلاث وسبعين ملّة كلّهم في النّار إلاّ
ملّة واحدة» ، قيل : ومن هم؟ قال : «الذين هم على ما أنا عليه وأصحابي ».
أقول
: وإنّما قلنا هذا بمعنى ذلك ؛ لأنّ
الحقّ أنّ مفاد هذه الأخبار الثلاثة شيء واحد ، وهو كون الفرقة الناجية من اقتصر
في دينه على قول اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله لا
غير ؛ ضرورة أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله وأصحابه
في زمانه إنّما كانوا على هذه الطريقة فقط ولم يكن غيرها معهوداً عندهم أصلاً ،
وإنّما حدث الرأي فيما بعده ، كما بيّنّاه غير مرّة فيما تقدّم مفصّلاً .
وظاهر أنّ مراد النبيّ صلىاللهعليهوآله ما
عليه أصحابه في زمانه الذي هو وقت إخباره ، كما هو المتبادر أيضاً من سياق الكلام
والمقام ، بل في رواية : أنّه قال : «ما أنا عليه اليوم وأصحابي»، وهو صريح فيما ذكرناه .
وكذا معلوم أنّ هذا بعينه كان طريقة
عليّ عليهالسلام وأصحابه
الذين هم المتمسّكون به ، التابعون لمسلكه ، القائلون بوصايته ، كسلمان ، وأبي ذرّ
، وعمّار ، والمقداد ، ونظرائهم .
فخرج حينئذٍ عن هذه الفرقة كلّ عامل
بالرأي ، تارك لاقتفاء النبيّ صلىاللهعليهوآله والوصيّ
في أخذ اُمور الدين ، كما يشهد لهذا صريحاً ما مرّ سابقاً في بطلان الرأي مطلقاً، لا سيّما ما تقدّم أيضاً من كتابي
الخوارزمي والديلمي : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «ستفترق اُمَّتي على بضع وسبعين فرقة ،
__________________
أعظمها فتنةً على
اُمّتي قوم يقيسون الأمر ، فيحرّمون الحلال ، ويحلّلون الحرام».
وما رواه أبو داوُد في صحيحه : عن
معاوية ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
قال : «ألا إنّ من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملّة ، وإنّ
هذه الاُمّة ستفترق على ثلاث وسبعين ملّة ، ثنتان وسبعون في النار ، وواحدة في
الجنّة ، وإنّه سيخرج من اُمّتي أقوام تَجَارى بهم تلك الأهواء كما يَتجارى الكَلب
بصاحبه ، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلاّ دخله»،
الخبر .
هذا ، مع ما سبق أيضاً ممّا يدلّ على
أنّ اختلاف الاُمم السابقة أيضاً كان بسبب ترك متابعة الأوصياء ، والاعتماد على
الآراء .
ثمّ لا يخفى عليك أنّك إذا أحطت خبراً
بما بيّنّاه ، ظهر لك بطلان ما توهّمه المخالفون في الحديث الأخير ، حيث زعموا ـ
بناءً على رسوخهم في حسن حال كلّ الصحابة ـ أنّ في قوله صلىاللهعليهوآله :
«هم ما أنا عليه وأصحابي»دلالةً
على صحّة جميع ما صدر من الصحابة بعده ولو بحسب الرأي ، من غير أن يلاحظوا ـ كما
هو دأبهم ـ ما أوضحناه من دلائل خلافه ، لا سيّما قوله صلىاللهعليهوآله :
«ما أنا عليه . . . » ، وملاحظة بعض الأخبار مع بعض ، وكون مدار الصحابة في زمانه
ـ الذي وقت ورود الخبر ـ على محض إطاعة ما ورد عن اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله ،
وظهور كون الرأي منشأ الاختلافات كلّها ،
__________________
كيف لا ؟ وقد مرّ
ويأتي في كثير من الصحابة من الذموم التي لا يمكن إنكارها ولا توجيهها ، حتّى أنّه
يظهر منها أنّ المراد بالصحابة في هذه المواضع هم الخواصّ منهم ، كعليّ عليهالسلام ونظرائه ممّن بقي على
الحالة التي كان عليها في زمان النبيّ صلىاللهعليهوآله
.
وممّا يشهد ، بل ينادي بما في هذا
المقام ما رواه ابن مردويه والخوارزمي في كتابيهما ، وكذا رواه أبو الفرج المعافى
بن زكريّاشيخ
البخاري ، كلٌّ بإسناده : عن سلمان وأبي ذرّ والمقداد ، قالوا : كنّا قعوداً عند
رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ما
معنا غيرنا ، إذ أقبل ثلاثة رهط من المهاجرين البدريّين ، فقال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله :
«تفترق اُمّتي بعدي ثلاث فِرَق : فرقة أهل حقّ لا يشوبونه بباطل ـ وفي رواية : لا
يشوبه باطل ـ مَثلهم كمثل الذهب كلّما فتنته بالنار ازداد جودةً وطيباً ، وإمامهم
هذا لأحد الثلاثة ، وهو الذي أمر اللّه به في كتابه : ( إِمَامًا وَرَحْمَةً ).
وفرقة أهل باطل لا يشوبونه بحقّ ـ وفي
رواية : لا يشوبه حقّ ـ مَثلهم كمثـل خبث الحديث كلّما فتنته بالنار ازداد خبثاً ،
وإمامهم هذا لأحـد الثلاثة .
__________________
(وفرقة أهل ضلال مذبذبين بين ذلك ، لا
إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، وإمامهم هذا لأحد الثلاثة»)، قال الراوي : فسألتهم عن أهل الحقّ
وإمامهم ؟ فقالوا : هذا عليّ بن أبي طالب عليهالسلام إمام
المتّقين ، وأمسكوا عن الاثنين ، فجهدت أن يسمّوهما ، فلم يفعلوا.
وكذا من الشواهد ما سيأتي في محلّه من
قول النبيّ صلىاللهعليهوآله المسلَّم
بين المخالف والمؤالف : «لا يزال طائفة من اُمّتي على الحقّ لا يضرّهم خذلان من
خذلهم».
وكذا سائر ما مرّ ويأتي ممّا يدلّ على
كون هذه الفرقة قليلين مقهورين.
ولهذا يظهر حينئذٍ عدم الاعتماد على
ظاهر ما رواه الطبراني والمقدسي عن أبي اُمامة ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهأنّه
قال : «إنّ بني إسرائيل تفرّقت على إحـدى وسبعين فرقة ، وإنّ هـذه الاُمَّة ستزيـد
عليهم فرقة كلّها في النار إلاّ السـواد الأعظم»؛ لأنّه لا يمكـن حمل السواد الأعظم على
ما هو المتعارف من معظم الناس وعامّتهم ؛ إذ قد بيّنّا لا سيّما في الباب الثالث
بالآيات والروايات والدرايات ذموماً فيهم ، وأنّ دأبهم الميل إلى خلاف الحـقّ
والصواب ، وأنّ أهـل الحقّ في عامّة الأوقات قليلون مقهورون
__________________
بينهم .
هذا ، مع كون هذه الأخبار أيضاً
كالصريحة في ذلك ، كيف لا ؟ وقد كفى تصريح النبيّ صلىاللهعليهوآله
: بأنّ الفرقة الناجية إنّما تكون في
كلّ اُمّة جزءاً من بضع وسبعين جزءاً من الاُمّة.
فعلى هذا لا بُدّ من حمل السواد الأعظم
على غير ما هو المتعارف ، كالقرآن مثلاً ، بأن يكون المراد أهل علم القرآن الذين
قرنهم اللّه ورسوله به في التمسّك ، واتّباعهم ، أو يقال بكون هذه اللّفظة من
تحريفات المحرّفين عمداً أو غير متعمّدين؛ إذ سيأتي في محلّه كثرة وقوع أمثال ذلك
، لا سيّما في زمن بني اُميّة ، ويؤيّده التوهّم أيضاً في إيراد لفظة : «إحدى» بدل
«ثنتين» .
وقد ذكر بعض الأفاضل في قوله صلىاللهعليهوآله :
«هم ما أنا عليه وأصحابي»كلاماً
موضّحاً لما ذكرناه في هذا المقام ، بل نافعاً في غيره أيضاً ، ولنذكر خلاصةً منه
.
قال : المراد بالأصحاب هاهنا : إمّا كلّ
الصحابة جميعاً ، أو أفراداً ، أو بعض مبهم ، أو معيّن ، لا سبيل إلى الأوّل ؛
لأنّ معنى العبارة يكون حينئذٍ : إنّ كلّ من اتّبع ما اتّفق عليه مجموع أصحابي فهو
الناجي ، وهذا هو معنى الإجماع الصحيح ، فيكون هذا دليل ما لا نزاع في صحّته من
لزوم اتّباع ما اجتمع عليه كلّ الصحابة ، بحيث لا يشذّ منهم أحد ، ولا مدخل له
حينئذٍ في الدلالة على تعيين الفرقة الناجية ، بل يلزم على هذا التقدير أنّ من
اتّبع قول بعض الصحابة وترك العمل بقول البعض الآخَر لم يكن من أهل النجاة ،
__________________
وهو خلاف ما ذهب إليه
أكثر أهل السنّة من كون قول الخلفاء الثلاثة حجّةً ، وأيضاً يلزم من أنّ من قال
بإمامة أبي بكر يكون خارجاً من أهل النجاة ؛ ضرورة تخلّف جمع منهم عن بيعته ولا
أقلّ من سعد بن عبادة ومن معه ، كما سيأتي في محلّه .
ولا سبيل إلى الثاني أيضاً ؛ لأنّ
المراد إن كان متابعةَ كلّ فرد فرد من الصحابة استحال المتابعة؛ ضرورة استحالة
متابعة المتخالفين والجمع بين الأضداد .
وإن كان المراد أيّ فرد كان ، لزم تأخير
البيان عن وقت الحاجة ؛ لعدم بيان الترجيح عند الاختلاف الواقع بينهم ، بل يرجع
هذا حينئذٍ إلى الشقّ الثالث الذي لا سبيل إليه أيضاً ، حيث يلزم منه أنّ كلّ من
اتّبع قول الجهّال ، بل الفسّاق من الصحابة أو المنافقين منهم ، وترك العمل بقول
بعض العلماء الصالحين يكون من أهل النجاة ، وهو بديهيّ البطلان ، كما مرّ سابقاً
في بيان ما رووه من قوله : «اختلاف أصحابي رحمة»، ومع هذا لا يستقيم أيضاً انحصار
الناجيفي واحدة .
فتعيّن الرابع ، وهو أن يكون المراد
بعضاً معيّناً ، ولا شكّ حينئذٍ أن لا بُدّ أن يكون ذلك المعيّن متّصفاً بمزايا
العلم والكمال ؛ لتكون متابعته وسيلةً إلى النجاة ؛ إذ لا على تقدير التساوي يلزم
الترجيح من غير مرجّح ، والمخصوص بهذه الصفات هو عليّ عليهالسلام ،
كما تضمّنه صريحاً الحديث الآخر.
انتهى ما ذكره .
__________________
ويؤيّد توجيهه المذكور أخبار ( التمسّك
)بالثقلين ، وما ذكره
ابن حجر ، حيث ارتكب مثل هذا التخصيص في قوله صلىاللهعليهوآله
: «النجوم أمان لأهل السماء ، وأهل بيتي
أمان لاُمّتي»،
فقال : الظاهر أنّ المراد بأهل البيت الذين هم أمانٌ علماؤهم ؛ لأنّهم الذين يهتدى
بهم كالنجوم،
فافهم .
واعلم أيضاً أنّ ظاهر التعبير أن لا
نجاة لغير تلك الفرقة مطلقاً ، كما هو المتبادر من تعليق صفة النجاة على الواحدة ؛
إذ لو نجا أحد من الِفَرق ولو بعد حين ، لصدق عليه الناجي أيضاً ، فنفي ذلك عن
الباقين يدلّ على خلودهم ، وهو مفاد صريح ما ثبت عن أئمّة أهل البيت عليهمالسلام من : «أنّ مَن أنكر
ولو واحداً من الأوصياء المعلومين فهو كافر مشرك مخلّد في النار»؛ حيثاستدلّ الإمام عليهالسلام على ذلك بقوله تعالى
: ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ
الطَّاغُوتُ )
إلى قوله : ( هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )،
وسيأتي في الفصل الآتي ما يدلّ على أنّ سائر الفرق كلّهم ممّن أنكر ولو بعض
الأوصياء .
ومعلوم أيضاً أنّ كلمة الشهادتين إنّما
تنفع بشروطها ، وأعظم شروطها الإقرار بإمامة الأئمّة المعصومين كلّهم ، كما هو
مفاد حديث : «من مات ولم
__________________
يعرف إمام زمانه مات
ميتة جاهلية»،
وأمثاله من الروايات الكثيرة الصريحة.
وقد أوضحنا تحقيق هذه المسألة ، وبيّنّا
أنّ كلّ واحد من التوحيد والنبوّة والولاية لا ينفع بدون الآخَرين في تفسير مرآة
الأنوار،
وسيظهر من تضاعيف هذا الكتاب أيضاً .
فما ذكره الأكثر من أنّ الفرقة الناجية
هي التي لا تعذَّب أبداً ، وأنّ فيما سواها من يعذّب غير مخلّد ، ليس بموجّه في
الجزء الأخير وإن أمكن توجيه الجزء الأوّل ، بل ما قال بعض العامّة من عدم خلود
كلّ مقرّ بالشهادتينباطل
، حتّى أنّ أحاديثهم صريحة في كفر مبغضي آل محمّد صلىاللهعليهوآله
.
ثمّ إنّ الشهرستاني ذكر في توجيه ما
تضمّنته الروايات ـ كما مرّ ـ من كون الحقّ والنجاة في واحدة : أنّ الحقّ من
القضيّتين المتقابلتين في واحدة ، ولا يجوز أن يكون قضيّتان متناقضتان متقابلتان
على شروط التقابل إلاّ وأن تقتسما الصدق والكذب ، فيكون الحقّ في إحداهما دون
الاُخرى . ومن المحال الحكم على المتخاصمين المتضادَّين في اُصول المعقولات
بأنّهما محقّان صادقان ، وإذاكان
الحقّ في كلّ مسألة عقليّة واحداً ، فالحقّ
__________________
في جميع المسائل يجب
أن يكون مع فرقة واحدة .
قال : وإنّما عرفنا هذا بالتتبّع ، وعنه
أخبر التنزيل في قوله تعالى : ( وَمِمَّنْ خَلَقْنَا
أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ )،
وأخبر النبيّ صلىاللهعليهوآله حيث
قال : «ستفترق اُمّتي . . .»،
الخبر ، وقال صلىاللهعليهوآله :
«لا تزال طائفة من اُمّتي ظاهرين على الحقّ إلى يوم القيامة»، وقال صلىاللهعليهوآله
: «لا تجتمع اُمّتي على الضلالة». انتهى كلامه . ولا يخفى متانته ، فلا
تغفل .
وإذ قد عرفت هذا ، فاعلم أنّا قد بيّنّا
سابقاً ـ لا سيّما في الفصل الثاني من هذا الباب والفصل الأخير من الباب السابق ـ
أنّ مناط اختلافاليهود
والنصارى ـ بل سائر الاُمم ـ كان على الاعتماد بالرأي وترك متابعة الأوصياء
الحافظين لشرائعهم ، حيث تبيّن أنّ سبب الضلالة في كلّ طائفة ، إنّما هو الاعتماد
على الرأي ، حتّى أنّا ذكرنا في الفصل الأخير من الباب السابق
__________________
تفصيل بعض مذاهب
اليهود والنصارى ، وأنّ كلاًّ منهما اختلفوا ، حيث لم يقتصر اليهود بعد موسى عليهالسلام على متابعة يوشع بن
نون الذي أوصى إليه موسى وأودعه العلوم والتوراة ، فأدخلوا في أمره غيره حتّى
تشوّشت الأحوال واختلف الرجال ، وكذا بعينه النصارى لم يقتصروا بعد عيسى عليهالسلام على متابعة شمعون
وصيّه وعالم اُمّته ، فأدخلوا في أمره غيره من الحواريّين حتّى صار ما صار من
الاختلاف .
ولنذكر ها هنانبذاً من ذلك الاختلاف ، حيث لا حاجة
إلى الإطالة بالاستقصاء:
فمن اليهود من أنكر النسخ ومن جوّزه ،
ومن أنكر البداء ومن أجازه ، ومن قال بالتشبيه ومن نفاه ، ومن قال بالقدر ، ومن
قال بالجبر ، ومن قال بالجسم والرؤية ومن أنكرها ، وفيهم من قال : كلّ ما يدلّ على
الرؤية والكلام ونحو ذلك ، فالمراد رؤية الملك وكلامه ونحوهما ؛ إذ قال : إنّ
اللّه اختار ملكاً وخاطب الأنبياء بواسطته ، حتّى قال : إنّ المراد بالشجرة أيضاً
ذلك الملك ، وفيهم من أجاز الرجعة ومن أنكرها ، ومن أنكر بعض أنبيائهم. وأكثرهم جعلوا بناء تديّنهم على
الآراء ومتابعة الآباء والكبراء ، حتّى ادّعوا الإجماع في كثير من البدع بمحض
الشهرة عند أهـل تلك البدع .
وخلاصة نقل أحوالهم ، كما يظهر من كلام
بعض الناقلين ، لا سيّما من أسلم منهم ونقل بعض أحوالهم ، وكذا من روايات آل محمّد
العلماء الصادقين صلوات اللّه عليهم أجمعين : أنّ موسى عليهالسلام لمّا ذهب إلى الطور
__________________
في حياته ، ومضى عن
ميعاد رجوعه إلى قومه أيّاماً قلائل أغواهم السّامري فاجتمع عامّتهم ـ قيل : هم
ستّمائة ألف نفسـ
على عبادة العجل ، وتركوا إطاعة هارون إلاّ قوم قليل ، قيل : كانوا اثني عشر ألف، وكان هذا الاختلاف بينهم إلى أن رجع
موسى عليهالسلام وظهر
الحقّ من الباطل .
وكذا لمّا دعاهم موسى عليهالسلام إلى قتال العمالقة
واختلفوا وأجمعوا ـ ما سوى هارون ويوشع وكالوب وقليل ممّن معهم ـ على مخالفة موسى عليهالسلام وترك المحاربة ؛
ولهذا وقعوا في التيه أربعين سنة .
ثمّ لمّا مات موسى عليهالسلام وأوصى ـ كما مرّ ـ
إلى يوشع بن نون وأمرهم بعدم مخالفته ما دام حيّاً ، ثمّ إطاعة أولاد هارون
اختلفوا أيضاً ، فبقي شرذمة قليلة على ما أمر به موسى عليهالسلام من
التمسّك بيوشع والأوصياء بعده من بني هارون عليهالسلام ،
كان يقال لهم : الهارونيّون والكَهنة ؛ لاطّلاعهم على العلوم الإلـهيّة ، واجتمع
الباقون على إدخال غيره في أمره بآرائهم ، فشوّشوا عليه أمره ، بحيث لم يتمكّن منجمعهم على التوراة ، حتّى تفرّقوا بمرور
الأيّام على مذاهب شتّى .
بل خرج عليه بعضهم وأخرج معه صفوراء بنت
شعيب زوجة موسى عليهالسلام ،
وضاعت من بينهم أسفار التوراة وما في الألواح وغيرها ، حتّى أنّهم صرّحوا بأنّ هذه
التوراة التي في أيديهم من بعض محفوظات رجل من ولد هارون ، وقيل : إنّه عزير ،
وقيل غيره ، وأنّها ليست كتاب اللّه ، بل وقع
__________________
فيها التغيير
والتبديلوالتحريف
لفظاً ومعنىً ؛ ولهذا تسلّط عليهم الأجانب والجبّارون كبخت نصّر وغيره ، ووقعت
بينهم مقاتلات عظيمة ، حتّى قُتل في بعض حروب بعضهم مع بعض خمسمائة ألف رجل ، وهو
محاربة ياربغام بن نباط الذي خرج على ولد سليمان بن داوُد عليهماالسلام ، وتبعه تسعة من
الأسباط ونصف ، وبقي مع ولد سليمان سبطان ونصف ، وكان الرجل يدعوهم إلى العكوف على
عبادة كبشين صنعهما من الذهب .
ولأجل هذه الفسادات قتلوا كثيراً من
الأنبياء والأوصياء ، حتّى أنّهم قتلوا سبعين نبيّاً في يوم واحد ؛ حيث كانوا
يكفّرونهم ويحكمون بضلالتهم وبطلان ما كان عليه مبنى أديانهم من البدع والعقائد
الفاسدة التي اتّخذوها بآرائهم ، وترك متابعة أنبيائهم .
فمن مشاهير فِرَقهم الدائرة بينهم ـ كما
صرّح به الشهرستاني وغيره ـ أربع فِرَق ، هم الكبار ، وانشعبت منهم أكثر سائر
الفِرَق على حسب اختلاف آرائهم في اُمرائهم واُصولهم وفروعهم .
فمنها : السامرة
، وهم من سكّان بيت المقدس وبعض القرى من أعمال مصر ، أثبتوا نبوّة موسى وهارون
ويوشع بن نون عليهمالسلام ،
وأنكروا نبوّة من بعدهم رأساً إلاّ نبيّاً واحداً ، وقالوا : التوراة ما بشّرت
إلاّ بنبيّ واحد يأتي من بعد موسى عليهالسلام يصدّق
ما بين يديه من التوراة،
ولهم أحكام لا حاجة لنا إلى ذكرها .
ومنها : العِنانيّة ،
نُسبوا إلى رجل يقال له : عنان بن داوُد رأس الجالوت ، وهم يخالفون اليهود في
السبت ، ويصدّقون عيسى عليهالسلام في
__________________
مواعظه وإشاراته ،
ويقولون : إنّه لم يخالف التوراة ، وإنّه من المتعبّدين العارفين المخلصين ، لكنّه
ليس بنبيّ ، بل لم يدَّعِ النبوّة ، وإنّ الإنجيل ليس كتاباً منزلاً عليه وحياً من
اللّه ، بل هو مجمع أحواله جمعه من جمعه من الحواريّين ، ويقولون : إنّ اليهود
ظلموه ، حيث كذّبوه أوّلاً ولم يعرفوا بعد دعواه ، وقتلوه أخيراً ولم يعرفوا بعد
محلّه ، ويقولون : إنّ المسيح ورد في التوراة فارقليطا ، وهو الرجل العالم ، فلا
يدلّ على النبوة،
ولهم أيضاً قواعد وأحكام تركناها .
منها : العيسويّة ،
نُسبوا إلى رجل اسمه أبو عيسى ، وهم يخالفون أكثر اليهود في بعض أحكامهم ، حتّى لا
يأكلون الذبائح كلّها ، ويوجبون تصديق المسيح عليهالسلام ،
بل يفضّلونه على ولد آدم ، وزعم أبو عيسى أنّه نبيّ ، وأنّه رسول النبيّ المنتظر
الذي هو المسيح بزعمهم ، وأنّه أرسله قبله.
ومنها : اليوذعانيّة
، نُسبوا إلى رجل يقال له : يوذعان ، وقيل : كان اسمه يهوذا، كان في همدان ونواحيه ، وكان يحثّ على
الزّهد ، ويكثر الصلاة ، وينهى عن اللحوم ، وكان يقول للتوراة : إنّ لها ظهراً
وبطناً وتنزيلاً وتأويلاً ، وخالف اليهود في التشبيه ، وأصحابه تفرّقوا إلى
المقاربةوالموشكانية
، وأثبتوا نبوّة نبيّنا صلىاللهعليهوآله إلى
العرب وسائر الناس دون اليهود،
ولهم أحكام لا حاجة إلى ذكرها ، ولكن كلّ هؤلاء وغيرهم
__________________
معترفون بما في
التوراة من البشارة بنبيٍّ بعد موسى عليهالسلام هو
الكوكب المضيء الذي يشرق الأرض بنوره ، وإنّما اختلافهم في تعيينه وأنّه من هو؟
وفي روايات صحيحة عن أئمّة أهل البيت عليهمالسلام ، وما صرّح به العالم
الذي أسلم من أهل الكتاب ، وصنّف كتاباً كبيراً في مذاهب اليهود والنصارى ردّاً
عليهم : أنّ الفرقة المحقّة من اليهود كانوا ـ لم يزل بعد موسى ـ تابعين ليوشع عليهماالسلام وصيّه ، من غير
مدخليّة أحد معه ، وبعد يوشع تبعوا وصيّه شبّر بن هارون ، ثمّ شبيراً أخاه بوصيّته
، ثمّ واحداً بعد واحد من نسل شبير ، كلّ ذلك بوصيّة موسى ويوشع عليهماالسلام إلى بعث عيسى عليهالسلام .
وقال : إنّ أصل التوراة كانت عندهم
فسلّموها مع سائر صحف الأنبياء بيد عيسى عليهالسلام ،
وكذا ذكر الرجل .
ويظهر من أخبار آل محمّد صلىاللهعليهوآله أيضاً
أنّ الفرقة المحقّة من النصارى تبعوا بعد عيسى وصيّه شمعون بن حمون من دون إدخال
غيره معه ، ثمّ هلمّ جرّاً كانوا تبعاً للأوصياء واحداً بعد واحد إلى أن انتهت
الوصاية إلى آخرهم ، وهو خالد بن حنظلة،
فكان في زمانه بعثة النبيّ صلىاللهعليهوآله فسلّمه
الكتب والصحف وآمن به ، بل الذي يظهر ـ كما سيأتي في فصل الوصاية ـ أنّ هذه الحالة
كانت من زمان شيث بن آدم ووصيّه .
وكذا يظهر وقد ذكر هذا العالِم أيضاًأنّ هؤلاء الأوصياء كلّهم ـ بل أتباعهم
أيضاً ـ كانوا يخفون أمرهم عن مخالفيهم وجبّاري أزمنتهم ؛ حيث إنّ الدنيا والدولة
والكثرة كانت معهم ؛ ولهذا لمّا أسلم هذا العالِم اختار
__________________
مذهب الإماميّة ،
حتّى أنّه ذكر مواضع من الكتابين تدلّ على البشارة بالنبيّ وأوصيائه الأئمّة
الاثني عشر عليهمالسلام ، وقد ذكرنا بعض ذلك في فاتحة كتابنا
هذا ، ونذكر أيضاً غيره في محلّه إن شاء اللّه تعالى .
ثمّ إنّ النصارى اشتهرت بينهم ثلاثة
مذاهب بل أربعة ، كاليهود ، وتشعّبت إلى سائر الفِرَق .
فمنها : النسطورية
، أصحاب نسطور الحكيم ، وقد مرّ في الفصل الأخير من الباب السابق بعض عقائده ،
وأنّه تصرّف في الإنجيل بحكم رأيه ، وقال : اتَّحدت الكلمة بجسد عيسى عليهالسلام على طريق ظهور النقش
في الخاتم وكإشراق الشمس على بلّور ، وذكرنا أنّ من أتباعه من قال : إذا اجتهد
الرجل في العبادة ، وترك التغذّي باللحم والدسم ، ورفض الشهوات النفسانيّة يصفو
جوهره ، حتّى يبلغ ملكوت السماء فيرى اللّه جهرة ، ويكشف له ما في الغيب، ونحو ذلك من المزخرفات .
ومنها : الملكانيّة ،
أصحاب ملكا ، وهو الذي ظهر في الروم ، قالوا : إنّ الكلمة اتّحدت بجسم المسيح وتدرّعت
بناسوته ، وامتزجت به امتزاج اللّبن بالدهن،
ولا حاجة إلى ذكر سائر مزخرفاتهم .
ومنها : اليعقوبيّة
، أصحاب يعقوب ، قالوا : إنّ الكلمة انقلبت لحماً ودماً فصار الإله هو المسيح وهو
الظاهر بجسده ، بل هو هو ، وهؤلاء الذين حكى اللّه عنهم بقوله : ( قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ
ابْنُ مَرْيَمَ )، وغيرهم
__________________
كانوا يعتقدون
الاُبوّة والبُنوّة،
ولهم أيضاً أحكام ومزخرفات .
ومنها : البوطينوسية
، أصحاب بطينوس ، ومذهبهم قريب إلى النسطوريّة إلاّ أنّهم يقولون : إنّ الإله واحد
وإنّ المسيح عليهالسلام ابتدأ
من مريم عليهاالسلام ، وإنّه عبد صالح مخلوق شرّفه اللّه وأكرمه بطاعته ، وسمّاه
ابناً على الثناء لا على الولادة والاتّحاد.
وبالجملة
: لم يأت قوم من زمان آدم عليهالسلام وهلّم جراً إلاّ أن
ألقى الشيطان بينهم الاختلاف بحسب الآراء واستحسان عقولهم ، ولم يزل كانأهل الحقّ بينهم قليلين خائفين مَخفيّين
مقهورين ، وكان الأكثر مجتمعين على الباطل ومع أرباب الدول الدنيويّة ، كما قيل :
الناس على دين ملوكهم.
فمن أراد الاطّلاع على حقيقة الحال
مفصّلاً فليراجع التاريخ وغيرها ، حتّى يعلم أنّ هذه الاُمّة أيضاً كذلك ، ولمّا
لم يكن لنا حاجة إلى تفصيل تلك المذاهب اكتفينا بما ذكرناه هاهنا وفي الفصل الأخير
من الباب السابق ، فتأمّل .
__________________
الفصل الخامس
في
بيان ما أشرنا إليه سابقاً من اختلاف هذه الاُمَّة أيضاً ، حتّى من بدو الأمر إلى
فِرَق أزيد من سابقيهم ، وأنّ كلّهم هالكون إلاّ فرقة واحدة فإنّها ناجية .
مع
تبيين ما ورد من كونها «طائفة لا تزال ظاهرين على الحقّ» لا يضرّهم خذلان من
خذلهم ، لا يكفرون ولا يرتدّون إلى يوم القيامة ، وأنّ بهم يتحقّق معنى ما ورد في
هذه الاُمّة من أنّها «لا تجتمع على الخطأ والضلال» ومع توضيح أنّ أهل
البيت عليهمالسلام منها بل إنّهم
أساسها .
ثمّ
بيان جمّة مذاهب هذه الاُمّة لا سيّما في الأئمّة ، وأنّ أصل سبب هذه المفاسد
كلّها متابعة الآراء والأهواء ، وذكر شيء من وجوه تشابه هؤلاء بسابقيهم ، فإنّ
أكثرها قد ذكرت سابقاً ، وفيه أيضاً توضيح ما يختصّ به الإماميّة الاثنا عشريّة من
الاقتصار على التمسّك بما ورد عن اللّه وترك الاعتماد على ما سوى ذلك ، أيّ شيء
كان .
اعلم أنّه قد تقدّم ـ لا سيّما في
الأوّل والثاني من فصـول هـذا الباب ورابعها ـ ما دلّ صريحاً على اختلاف هذه
الاُمّة . هذا ، مع عدم الشكّ في
__________________
وجود أصل الاختلاف
بينهم بحيث لا يحتاج إلى البيان ، ولقد كانت أكثر أخبار الفصل الرابع مشتملة على
كثرة الفِرَق المختلفة منها ، بحيث تصـل إلى ثلاث وسبعين ، وأنّ الحقّ في واحدة
منها ، مع بعض علائم تلك الواحدة .
وقد تبيّن لا سيّما في الفصلين الثاني
والثالث ويتّضح هاهنا أيضاً أنّ معظم منشأ هذا الاختلاف متابعة الرأي والهوى ،
الذي بيّنّا سابقاً أنّه مضلٌّ ممنوع في الدين ، وأنّ الحقّ البيّن إنّما يكون
واحداً وارداً من اللّه ربّ العالمين ، فعلى هذا لا يبقى شكّ في أنّ الفرقة
الناجية هم الذين يكون مناط تديّنهم من جميع الوجوه مقصوراً على الكتاب والسنّة ،
اللّذين لا شكّ في أنّ الوارد من اللّه إنّما يكون فيهما ، دون غير ذلك ممّا ليس
بهذه المثابة ، كما يدلّ عليه حديث الثقلين وغيره أيضاً .
وأيضاً : من البيّن أنّ الفرقة الناجية
ينبغي أن تكون متفرّدة عمّا سواها من سائر الفِرَق بأجمعها في معظم اُصول الدين
وعمدة مناطه ، حتّى يستقيم وجه تخصيص النجاة بالواحدة ، فلا بُدّ أن يكون ذلك
الأمر الذي به امتيازها عن غيرها أمراً لا يتطرّق إليه البطلان والضلال أصلاً ،
ولا يكونمبنى
فرقة من سائر الفِرَق عليه أيضاً .
ولا يخفى أنّ توضيح هذا يحتاج إلى بيان
جمّة من مذاهب هذه الاُمّة ، وقاعدة مضبوطة ؛ حتّى تتشخّص التي هي المتفرّدة بما
ذكرناه من بينها ، فنحن نذكر هاهنا من جميع فِرَق هذه الاُمَّة ما به الكفاية في
تبيّنها وتشخيص التي هي الناجية منها ، مع بيان نبذ ممّا يتعلّق بذلك ممّا ينفع
__________________
الذي يأتي ، فنقول :
إنّ هذه الاُمّة ينقسمون أوّلاً إلى قسمين :
أحدهما
: ـ وعليه الأكثرون ، بل عامّة الاُمّة ـ
قوم يقولون : إنّ الإمام بعد رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
هو أبو بكر ثمّ عمر .
وثانيهما
: الذين يقولون : إنّه عليّ بن أبي طالب عليهالسلام .
فأمّا القسم الأوّل : فكافّتهمجميعاً ـ مع تفرّقهم إلى مذاهب شتّى كما
سيظهر ـ متشاركون في أنّ أمر الإمامة عندهم مبنيّ على رأي الناس وتعيينهم ولو برأي
الإمام السابق وتعيينه ، بل ومن غير حاجة إلى تعيين من اللّه وإخبار من رسوله صلىاللهعليهوآله ،
ولا إلى كون الإمام عالماً من اللّه ـ كالنبيّ ـ بالأحكام ، معصوماً من الخطأ
والآثام ؛ ولأجل هذا وقعوا جميعاً فيما مرّ بطلانه سابقاً ويأتي أيضاً من تجويز
الاعتماد على الرأي والقياس ولو ظنّيّاً محضاً ، والاجتهاد فيما لم يعلم الإنسان
من الكتاب والسنّة عليه أثراً ، وقد اختلفوا لذلك اختلافاً عظيماً ، اُصولاً
وفروعاً ، وفي الأئمّة أيضاً :
فمنهم من قال بعد أبي بكر وعمر بخلافة
عثمان ، ثمّ عليّ عليهالسلام .
ومنهم من أبطلهما.
ومنهم من أبطل عثمان.
ومنهم من أبطل عليّاً عليهالسلام .
ومنهم من قال بخلافة معاوية ، بل سائر
بني اُميّةأيضاً
.
__________________
ومنهم من قال بالحسن بعد عليّ عليهماالسلام ثمّ معاوية.
ومنهم من أجاز إمامة غير القرشي أيضاً.
ومنهم من يعدّ الأربعة الاُوَل خلفاء والبقيّة
ملوكاً جبابرة.
ومنهم من ساق الإمامة إلى بني العبّاس. ومنهم إلى غيرهم وهلّم جرّاً .
ثمّ هكذا اختلفوا في اُصول الدين وفروعه
، ومعظم اختلافهم اُصولاً في ثلاث مسائل :
إحداها
: في صفات اللّه تعالى الأزليّة إثباتاً
عند جماعة ، ونفياً عند جماعة ، وفي صفات الذات وصفات الفعل وما يتعلّق بذلك .
والثانية
: في العدل والجبر والقضاء والقدر وما
يتعلّق به .
والثالثة
: في الوعد والوعيد وما يتعلّق به.
وأمّا فروعاً فقد وصلوا إلى حدّ عدم
الإحصاء ، لكن اجتمعوا أخيراً على أربعة مذاهب : الحنفيّة ، والشافعيّة ،
والمالكيّة ، والحنبليّة ، لكن مدار الجميع ـ بل أصل سبب كلّ الاختلافات فيما
بينهم ـ العمل بالرأي والاستناد إلى الخيالات العقليّة ، والأقيسة الظنّيّة ، كما
سيظهر ، هذا مجمل اختلافهم ، وأمّا تفصيل ذلك فكما سنذكره .
__________________
وبالجملة
: ترتقي أنواع مذاهب هذا القسم بحسب معظم
اختلافاتهم ـ ولو في غير الأئمّة أيضاً ـ إلى ستّين فرقة فيها ما يتشعّب إلى فِرَق
شتّى .
وأمّا القسم الثاني ، فهو على نوعين :
أحدهما
: الذين شاركوا القسم الأوّل في الاعتماد
على الرأي والاجتهاد وأمثال ذلك ، حتّى أنّه يلزم بعضهم القول بعدم لزوم كون تعيين
الإمام من اللّه ورسوله ، ولا كونه كالنبيّ في العلم والعصمة وإن قالوا بكون
إمامة عليّ والحسنين عليهمالسلام من
اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله ؛
لما فيهم من الأولويّة والنصّ ؛ ولهذا صار هؤلاء أيضاً فِرَقاً شتّى كما سنذكرها ،
ولعلّ معظمها يرتقي إلى ما أخبر به أمير المؤمنين عليهالسلام ،
حيث روى عنه جماعة أنّه ذكر اختلاف هذه الاُمّة إلى ثلاث وسبعين فرقة ، فقال :
«ثلاث عشرة فرقة منها من ينتحل ولايتي ويعترف بإمامتي ، واثنتا عشرة منها في النار
، وواحدة في الجنّة».
ومنه يظهر توهّم من قال : إنّ الثلاث
والسبعين فرقة كلّها من الشيعة باحتساب شعبها الجزئيّة أيضاً، والحقّ ما ذكرناه .
وأمّا
النوع الثاني : فهم الذين خالفوا
جميع ما ذكرنا من الفِرَق كلّها ، فقالوا : إنّ التديّن بالرأي والقياس ونحوهما
ليس بجائز مطلقاً ، ولم يكن من طريقة الأنبياء (أبداً ، ولا أوصيائهم)أيضاً ، لا سيّما في تعيين الخليفة من
النبيّ والوصيّ ، الذي به قوام الدين ونظام المسلمين ، بل إنّما هو من
__________________
خطوات الشيطان
الجارية بين أتباعه من أهل الكفر والضلال والبطلان ، ولم يكن عادة اللّه جرت في
كلّ ملّة وجميع الأديان إلاّ بالتكليف بما بيّنه بوساطة الأنبياء والأوصياء على
أهل ذلك الزمان ؛ ولهذا أرسل إليهم الأنبياء وعيّن لهم الأوصياء ، حتّى أنّه في
هذه الاُمّة أحصى كلّ شيء في (كتابه المبين)مبيّناً
جميع ذلك لسيّد المرسلين ، آمراً غيره جميعاً بالأخذ منه والانتهاء إليه ، كما كان
كذلك في زمانه بلا خلاف ولا اختلاف .
ثمّ أمره أن يعلّم جميع ذلك عليّاً عليهالسلام ، وأن يتّخذه وصيّاً
، ويأمر اُمّته بالتمسّك به والأخذ منه ، وأنّه هو الذي يكون مع الكتاب والحقّ قريناً
سويّاً ، حتّى أنّه أوحى إليه في الكتاب صريحاً بأنّه هو الذي يكون بعده للناس
وليّاً ، وكذا سائر ما يدلّ على كونه إماماً معيّناً من اللّه ورسوله ، وهلمّ
جرّاً بنحو ما سيأتي إلى تكملة اثني عشر وصيّاً معلومين معيّنين من اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله ونصّ
الإمام السابق عليه ، أكمل الناس علماً وعملاً ، حسباً ونسباً عند المؤالف
والمخالف ، كما سيأتي بالطول والتفصيل .
وهؤلاء الطائفة هم الذين يقال لهم :
الإماميّة الاثنا عشريّة ، وهم فرقة واحدة لا يجوز عندهم الاعتماد في الدين أصلاً
إلاّ على ما يكون وارداً من اللّه بالوسائط المذكورة ؛ ولهذا لا اختلاف بينهم
إلاّ في بعض الجزئيّات الفروعيّة ، ومنشأ ذلك أيضاً مخالفوهم كما سيظهر .
وها نحن نذكر خلاصة تفاصيل أحوال كلّ
واحدة واحدة من مشاهير هذه الفِرَق ، لا سيّما الاثني عشريّة ، حتّى يتّضح
انفرادها عمّا سواها جميعاً ، بل يتبيّن عند أهل البصيرة أنّها هي الفرقة الناجية
حقّاً ؛ ولهذا لا نكتفي فيما
__________________
لا ينبغي الإهمال فيه
بإجمال بعض الناقلين ، ولا نتغافل عن التمويهات والتمحّلات والتوهّمات التي في نقل
المخالفين ، فإنّ أكثرهم في هذا المقام ـ كما مرّ غير مرّة أنّه دأبهم في كثير من
المواضع ـ أغمضوا كثيراً عن التصريح بما فيه التلويح إلى ما هو الحقّ الصحيح ،
حذراً عن التضرّر بذكره ، بل كثيراً ما توهّموا في النقل فنسبوا إلى بعض المذاهب ،
لا سيّما الإماميّة ما ليس فيها ، وإذا عرفت هذا ، فاستمع لما يتلى عليك ، وأعط
الإنصاف حقّه حتّى يظهر الحقّ لديك :
فاعلم أوّلاً أنّ تبيان المرام في هذا
المقام إنّما هو في ضمن بيان مقدّمة ونقل مطالب ثلاثة :
أمّا
المقدّمة : فاعلم أنّ نقلة
المذاهب قد ينسبون الفرقة الذاهبة إلى (مذهبٍ إلى)أصل من اُصول ذلك المذهب ، كما يقولون :
الجبريّة والمشبّهة ونحو ذلك ؛ لكون مذهبهم الجبر والتشبيه ، وقد ينسبونها إلى
كبيرهم الذي قال به ، فيقولون : الأشعريّة ؛ لكون كبيرهم أبا الحسن الأشعري، والجهميّة ؛ لكون كبيرهم جهم بن صفوان، وهكذا .
__________________
ثمّ إنّ لهم تفاسير مختلفة في بعض ألقاب
المذاهب التي ذكروها ، بحيث تبرّأ كلٌّ منهم عن المذموم منها ونسبه إلى غيره
مفسّراً ذلك بما يناسبه ، وفعلوا عكس ذلك في الممدوح .
ولا بأس إن بيّنّا بعض ذلك هاهنا ليتّضح
ما هو الحقّ أيضاً ، فمن تلك الألقاب التلقّب بأهل السنّة والجماعة .
وقد روى بعض منهم ما يدلّ على مدحه كما
هو المتبادر من اللفظ أيضاً ، فمن ذلك أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله
لمّا أخبر «بتفرّق اُمتّه إلى ثلاث
وسبعين فرقة واحدة منها ناجية» قيل له : ومن الناجية ؟ قال : «أهل السنّة
والجماعة»،
الخبر .
وقد انتحل هذا اللقب أوّلاً الذين قالوا
بخلافة أبي بكر وعمر ، واتّخذوه لأنفسهم في مقابل الشيعة ؛ لادّعائهم أنّهم على
سنّة رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وما
عليه جماعة المسلمين ومعظمهم ، ولقّبوا الشيعة الذين تمسّكوا بالكتاب والعترة
وقالوا بخلافة عليّ عليهالسلام بعد
النبيّ صلىاللهعليهوآله بأهل
البدعة والفرقة ! حيث ادّعوا أنّ مذهبهم مستحدث مخالف لما كان عليه عامّة الصحابة
، ثمّ بعد ذلك انتحله من بينهم معظم الفِرَق المقابلة للعدليّة ، فسمّوا أنفسهم به
؛ لادّعائهم أنّهم على مذهب سلفهم من أهل زمان الصحابة والتابعين ، وأهل العدل
منهم يسمّون هؤلاء جبريّة .
__________________
والحقّ أنّ مصداق هذا اللقب هم الذين
يكون مناط دينهم مقصوراً على محض الأخذ (بما علم أنّه)من اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله ،
المنحصر فيما يدلّ عليه محكمات كتاب اللّه ، وما نقله الثقات عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ،
دون غير ذلك أيّ شيء كان ؛ لوجوه كثيرة مرّ بعضها ، لا سيّما في بيان ذمّ الرأي
والاختلاف ، ويأتي كثير منها .
كيف لا ؟ وإنّ آخر الحديث المذكور
كالصريح في ذلك ؛ إذ تتمّة الحديث ـ كما صرّح به الشهرستاني وغيره ـ هكذا : قيل :
يا رسول اللّه وما السنّة والجماعة؟ فقال : «ما أنا عليه اليوم وأصحابي»؛ إذ قد بيّنّا أنّ في زمان النبيّ صلىاللهعليهوآله وآله
لم يكن معمولاً ، بل ولا جائزاً إلاّ ما ذكرناه .
والذي هو مقطوع به أنّ عليّاً عليهالسلام كان كذلك ، ولم
يتخلّف بعد النبيّ صلىاللهعليهوآله عن
ذلك ؛ حيث كان عنده كمال العلم بذلك ، وأمّا غيره فلم يكن أحد بتلك المثابة حتّى
باعتراف أعاديه .
ولقد كفى في هذا ما ظهر من غيره من
الاختلافات والجهالات والرجوع إلى ما لم يكن في زمان النبيّ صلىاللهعليهوآله من
أنواع الآراء والاجتهادات ، حتّى من أبي بكر وعمر كما مرّ نبذ منها ويأتي أيضاً ،
حتّى أنّ أحمد بن حنبل روى في مسنده عن أبي بكر : أنّه قام على المنبر بعد وفاة
النبيّ صلىاللهعليهوآله بشهر
، فقال ـ وذكر كلامه إلى أن قال ـ : ولئن أخذتموني بسنّة نبيّكم صلىاللهعليهوآله ما
اُطيقها ؛ إنّه كان معصوماً من الشيطان ، وكان ينزل عليه الوحي.
__________________
وفي كتابي الهرويوابن راهويهأنّه قال : أَفتَظنّون أنّي أعمل بسنّة
رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ؟
إذن لا أقوم لها،
الخبر .
وفي صحيح النسائي : عن ابن عبّاس قال :
سمعت عمر يقول : واللّه ، لأنهاكم عن المتعة ، وإنّها لفي كتاب اللّه ولقد فعلها
رسول اللّه صلىاللهعليهوآله !.
وفي مسند ابن حنبل ، وصحيح مسلم
والنسائي والترمذي وغيرها : عن أبي موسى الأشعري أنّه كان يفتي بالمتعة ، فقال له
رجل : رويدك نقضفتياك!
فإنّك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك . . قال : فلقيته بَعْدُفسألته ، فقال عمر : قد علمت أنّ رسول
اللّه صلىاللهعليهوآله فعله
وأصحابه ولكنّي كرهت أن يظلّوا بهنّ مُعْرِسينتحت
الأراك ، ثمّ
__________________
يروحون إلى عرفات
تقطر رؤوسهم،
وقد مرّ تصريحه في صلاة التراويح جماعةً بأنّها بدعة ، ونعم البدعة! فإذا كان حال هذين الجليلين عندهم
هكذا فكيف غيرهما ؟ !
فإذن ليس من أهل تلك الصفة إلاّ من
اتّبع عليّاً عليهالسلام في
جميع العقائد والأفعال والأقوال ، ومن لم يكن كذلك فهو من أهل البدعة والفرقة .
وممّا ينادي بهذا ما تواتر من حديثي
التمسّك بالثقلين،
«وأنّ الحقّ مع عليّ عليهالسلام يدور
معه حيثما دار».
وما في نهج البلاغة وغيره من أنّ رجلاً
سأل عليّاً عليهالسلام وهو
يخطب على المنبر بالبصرة ، فقال : أخبرني يا أمير المؤمنين ! من أهل الجماعة ومن
أهل الفرقة ؟ ومن أهل السنّة ومن أهل البدعة ؟ فقال له : «ويحك إذا سألتني فافهم :
أمّا أهل الجماعة فأناومن
اتّبعني وإن قلّوا ، وذلك الحقّ عن أمر اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله
، وأمّا أهل الفرقة فهم المخالفون لي
ولمن تبعني وإن كثروا ، وأمّا أهل السنّة فالمتمسّكون بما سنّه اللّه لهم وإن
قلّوا ، وأمّا أهل البدعة فالمخالفون لأمر اللّه وكتابه ولرسوله صلىاللهعليهوآله ،
العاملون بآرائهم وأهوائهم وإن كثروا».
__________________
فعلى هذا إن ادّعى هؤلاء الذين اتّخذوا
هذا اللقب لأنفسهم أنّهم على هذه الطريقة كذبوا صريحاً ؛ إذ أوّل ما يكذّبهم أنّه
كالشمس في الظهور كون مدار هؤلاء على الآراء والأقيسة ، التي تبيّن أنّها من سنّة
إبليس ومادّة الاختلاف والضلال ، وأنّ حكم اللّه منزّه عن ذلك ، حتّى أنّهم
معترفون بأنّ أكثر المقالات الدائرة بينهم حدثت فيما بَعْدُ بحسب الرأي ، وصارت
سبب الاختلاف ، وإلاّ لم يكن خلاف في زمان النبيّ صلىاللهعليهوآله
ولا اختلاف .
فإن زعموا أنّ استعمال الرأي عندهم
إنّما هو بعد عدم وجدان الدليل من الكتاب والسنّة .
قلنا : بعد تسليم صدق دعواهم هذا ـ إذ
قرائن كذبه كثيرة لا حاجة إلى الإطالة بذكرها ، لو اتّبعتم عليّاً عليهالسلام من كلّ جهة لم يكن
هذا أيضاً ، لما هو بيّن ـ وظهر وسيتّضح أيضاً ـ من علم عليّ عليهالسلام بكلّ ذلك من اللّه
ورسوله صلىاللهعليهوآله ؛
ولهذا ليس بين من اتّبعه وأوصيائه كالإماميّة اختلاف ، ولا لهم إلى الرأي احتياج ،
كما هو معلوم على من تتبّع اُصول عقائدهم المأخوذة عن أئمّتهم .
فإن قالوا : نحن لا نخالف عليّاً عليهالسلام أصلاً فيما وصل منه
إلينا .
قلنا : هذا أيضاً كذب صريح ؛ إذ لا أقلّ
من أنّ كتبهم مشحونة بأشياء كثيرة منه عليهالسلام في
العقائد وغيرها ، وهم لم يعبأوا بها ، بل خالفوها صريحاً وإن وافقت الآيات
والأخبار النبويّة أيضاً بمحض عدم موافقتها لآرائهم الناقصة التي من سنّة إبليس
ومشوبة بما يوافق هواهم .
__________________
وكفى في هذا أنّ عامّتهم يحبوّن كثيراً
من جاهربعداوته
ومخالفته ومنازعته ، بل تضليله ولعنه ، كيف لا؟ وهذا معاوية قد عاداه وقاتله ولعنه
هو وبنو اُميّة على رؤوس المنابر.
وبعد مسامحتهم في هذا أيضاً نقول : قد
ثبت عندنا وعندهم ـ بل صار كالشمس في رابعة النهار ـ أنّ عليّاً عليهالسلام لعن معاوية وأمر
أصحابه بذلك ، وأحلّ قتله ، وحكم بفسقه وكفره ونفاقه وضلاله وظلمه وكذبه. وقد لعن اللّه أيضاً الكاذبين
والظالمين لا سيّما لآل محمّد عليهمالسلام ،
وكذا ورد غير ذلك من اللعن وغيره عن النبيّ صلىاللهعليهوآله
في ذلك الرجل ، كما سيأتي في المقالة السادسة
من المقصد الثاني .
ومع هذا أكثر هؤلاء الجماعة يحرّمون
لعنه ، بل يحكمون بأنّه كان خيراً مؤمناً من أهل الجنّة ! ! وهل هذا إلاّ مخالفة
عليّ عليهالسلام صرحياً
، بلتكذيبه أيضاً حتّى
فيما وافق فيه قوله قول اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله
؟ فأين المتابعة ؟ وأنّى لهم المحبّة
والموافقة ؟
على أنّهم لو كانوا صادقين في متابعة
عليّ عليهالسلام ومحبّته
كالإماميّة لنقلوا مثلهم أخباره ، وتتبّعوا آثاره حتّى استغنوا بذلك عن غيره ، ولا
أقلّ في رؤوس مسائل دينهم ، مع أنّهم لم ينقلوا عنه ، حتّى في رواياتهم إلاّ أقلّ
قليل ، بل أكثر رواياتهم عن أعاديه ومن لم يكن بشأنه ، كما يظهر من ملاحظة
رواياتهم .
وأمّا تركهم سائر الأوصياء من العترة ،
مع اعترافهم بمزيد علمهم وكمالهم وعقلهم وصدقهم وصلاحهم وعظم شأنهم عند اللّه ،
بحيث
__________________
لم ينقلوا عنهم ولابقدر أدنى شيخ من مشايخهم ، فكالشمس في
رابعة النهار ، كما سيظهر في فصل التمسّك بالثقلين .
وبالجملة
: الحقّ أنّ هؤلاء بالتلقّب بأهل البدعة
والفرقة أولى وأنسب ، كما قد صرّح بعضهم بأنّ أكثر العقائد المشهورة عند عامّة هذه
الفِرَق ممّا هو حادث بعد زمان الصحابة،
وستأتي أخبار منهم عن النبيّ صلىاللهعليهوآله تدلّ
على كونهم أهل الفرقة ؛ لكثرة الاختلاف فيهم .
وفي الحديث أنّ رجلاً سأل عليّاً عليهالسلام عن السنّة والبدعة ،
فقال : «السنّة ما سنّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ،
والبدعة ما اُحدث بعده»،
وقد مرّ ويأتي من كتب القوم ما يدلّ صريحاً على هذا ممّا رووه عن النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
حتّى نقل الزمخشري في تفسيره عن النبيّ صلىاللهعليهوآله
أنّه قال : «من مات على حبّ آل محمّد صلىاللهعليهوآله مات
على السنّة والجماعة»،
وقد بيّنّا سابقاً في محلّه أنّ محبّتهم عند إطاعتهم .
ومنه يظهر أنّ اتّخاذهم هذا اللّقب من
قبيل تسمية الزنجي بالكافور ، كما روى صاحب كتاب دولة الأشرار عن مالك بن أنس ، عن
عمر ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
قال في حديث له ذمّ فيهبعض
من سيأتي بعده : «السنّة عندهم بدعة والبدعة فيهم سنّة»، الخبر .
__________________
نعم ، إنّما يمكن أن يكونوا مصداق هذا
اللقب إن فسّروه بغير هذا المعنى ، كأن يكون مرادهم ـ مثلاً ـ بالسنّة : طريقة
عامّة الصحابة بعد النبيّ صلىاللهعليهوآله ؛
حيث أنّهم كما تركوا التمسّك بالعترة علماء التنزيل والتأويل ، ولم يفهموا من
الكتاب إلاّ الشيء القليل ، شرعوا في الاعتماد على ما استحسنه عقلهم العليل ،
فقالوا في دين اللّه ما قالوا ، وتبعهم هؤلاء ، والجماعةِ : اجتماعهم يوم السقيفة
، أو مطلق جماعة الصحابة ، بل مطلق جماعة الاُمّة ، أي أكثرهم .
وممّا يؤيّد هذا ما سيأتي في بيان مذهب
الجبريّة ، وما نقله أكثر أهل الكتب ومؤرّخيهم : أنّ بني اُميّة جدّوا في سبّ عليّ عليهالسلام وسمّوه سُنّة حتّى
اشتهر بهذا الاسم بين الناس اشتهاراً زائداً ؛ بحيث إنّ عمر بن عبد العزيز لمّا
منع الخطباء عن السبّ ، فأوّل ما خطبوا ولم يسبّوا صاح الناس : أين السنّة! أين
السنّة! لِمَ ضيّعتم السنّة ؟.
وبالجملة
: لا كلام في تسميتهم السبّ سُنّة ،
ولعلّ أصل اشتهار هذا اللقب كان أوّلاً لهذا ، ثمّ لمّا ارتفع ذلك وبقي هذا اللقب
حملوه على غير ذلك المعنى !
ومن العجائب أنّ جمعاً من معتزلة بغداد
من حيث إنّهم قالوا بضلال معاوية وأصحابه ، وبتفضيل عليّ عليهالسلام على سائر الصحابة
اتّخذوا لأنفسهم إطلاق لفظ الشيعة ، وقالوا : إنّما الشيعة نحن ، وسمّوا الإماميّة
بالرافضة! ولم يعلموا أنّ الإماميّة من حيث متابعتهم عليّاً وذرّيّته الأوصياء عليهمالسلام من كلّ جهة ، لا
سيّما مع قولهم بما قال هؤلاء أولى بهذا اللقب وأحقّ ، كما قال
__________________
عليّ عليهالسلام : « إنّ شيعتي» كذا
وكذا ، وذكر صفاتٍ كلّها في الإماميّة ، بل في خواصّهم ، حتّى ورد أنّ من لم تكن
فيه تلك الخصال ممّن اعتقد بإمامتهم فهو من الموالين والمحبّين ، وإنّما الشيعة من
استجمع فيه تلك الخصال ، وسيأتي الحديث في محلّه .
وأمّا الرافضة فإن كان مرادهم رفض الحقّ
فهم أولى به ، كما هو بيّن ممّا مرّ ويأتي ، وكفى تركهم العترة التي اُمروا
بالتمسّك بها ، وتمسّكهم بالرأي الذي اُمروا بتركه بل يظهر من حديث رواه في حلية
الأولياء أنّ أصل مصداق هذا اللقب بهذا المعنى هم الخوارج (الذين خرجوا)على عليّ عليهالسلام بعد
كونهم من أصحابه ، والخبر هكذا :
قال عليّ عليهالسلام :
«قال لي النبيّ صلىاللهعليهوآله :
إنّك وشيعتك في الجنّة ، وسيأتي قوم لهم نبزيقال
لهم : الرافضة ، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فإنّهم مشركون»، الخبر .
فإنّه إذا لوحظ هذا مع ما مرّ ويأتي من
حديث الخوارج ، وما فيه أيضاً من التصريح بوجود النبز فيهم ، والأمر بقتلهم وكونهم
مشركين ، لا يبقى شكّ في أنّ المراد هاهنا أيضاً هم ، لا سيّما مع التأييد بإيراد
كلمة «إذا» الدالّة على الجزم بالوقوع في قوله : «فإذا لقيتموهم» ، وبالإشعار
بكونهم من جملة المدّعين بأنّهم من شيعته ، وبانحصار القوم الذين ادّعوا أوّلاً
كونهم من شيعته ، ثمّ تركوا ذلك وخرجوا عليه فيهم ، ومنه يظهر أنّ مراده صلىاللهعليهوآله برفضهم
: تركهم عليّاً عليهالسلام .
__________________
وقد ذكر بعض المؤرّخين أنّ بعض عسكر
عليّ عليهالسلام كانوا
يذكرون هؤلاء بهذا اللقب،
هذا ، مع ظهور كونهم مصداقه قطعاً ، بل لا يبعد أن يقال : المراد بما نقله بعض
المخالفين في بعض أخبارهم من توصيف النبيّ صلىاللهعليهوآله
الرافضة بسبّ صحابته : سبّهم عليّاً عليهالسلام ومن كان معه من
الصحابة .
إلاّ أنّ الحقّ أنّ تلك الأخبار إمّا
موضوعة من أصلها ، أو محرّفة بإدخال ما ليس منها ، كما سيأتي في المقصد الثاني
وغيره .
وإن كان مرادهم بهذا اللّقب : رفض
الباطل ، فلا شكّ أنّ الإماميّة هم مصداقه ، بل يفتخرون بذلك ، حتّى نقل أنّ
القاضي ابن أبي ليلى قال يوماً لرجلٍ من أصحاب جعفر بن محمّد الصادق عليهماالسلام لمّا شهد عنده بشهادة
: كيف أقبل شهادتك وأنت جعفري رافضي؟! فبكى الرجل .
فقال القاضي : لِمَ تكون كذلك حتّى
تتعيّر به فتبكي؟
فقال : واللّه ، ما بكيت إلاّ لأنّك
نسبتني إلى قوم طال ما أتمنّى أن يجعلني اللّه منهم ، وأخاف أن لا يقبلوني
ويتبرّؤوا منّي بسوء أعمالي.
وستأتي أخبار عن الصادق عليهالسلام ، وأبيه ، وغيرهما من
الأئمّة الأوصياء عليهمالسلام في
هذا اللقب ، وأنّه ممّا سمّى به قوم فرعون من آمن بموسى وهارون عليهماالسلام من بني إسرائيل ،
وترك طاعة فرعون وقومه،
حتّى ورد أنّه كان أيضاً في زمان إدريس عليهالسلام ومن
بعده من الأنبياء ، حيث إنّ
__________________
أتباع جبّاري كلّ
نبيّ كانوا يلقّبون أتباع الأنبياء والأوصياء بهذا اللقب ، حتّى ورد صريحاً أنّهم
قالوا لشيعتهم : إنّكم رفضتم الباطل وتمسّكتم بكتاب اللّه وعترة نبيّكم كما أمركم
به ، وهؤلاء رفضوا الحقّ وهو إطاعة عليّ عليهالسلام والتمسّك
بالعترة ، بل محكمات الكتاب أيضاً ، وتمسّكوا بمتابعة آراء كبرائهم وأسلافهم .
وقد ذكر الشهرستاني وغيره من نقلة
المذاهب : أنّ جماعة من شيعة الكوفة لمّا خرج زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن
أبي طالب عليهمالسلام رفضوه وتركوا إطاعته والخروج معه ،
وقالوا : إنّه خالف مذهب آبائه وتابع آراء واصل بن عطاء ، ولم يتبرّأ من الذي
تبرّؤوا منه ، ولم يطع أخاه الباقر عليهالسلام ؛
فلهذا سمّوا رافضة،
وهذا أيضاً مؤيّد لكون أصل وجه التسمية تركهم الباطل .
لكنّ الحقّ أنّ نقل هذه الحكاية بهذا
النحو من التعبير لا يخلو من نوع تمويه وتحريف ؛ فإنّ الذي هو صريح كلام الذين
فارقوا زيداً أنّ سبب المفارقة لم يكن إلاّ أنّهم زعموا أنّه يدّعي الإمامة لنفسه
، وأنّ ذلك علّة
__________________
مخالفته لأخيه في ترك
الخروج ، وقد كان ثابتاً عندهم أنّ الإمامة للباقر عليهالسلام دونه
؛ لما سيأتي من علائم الإمامة ، دون غير ذلك من ملفّقات العامّة .
إلاّ أنّ الذي يظهر من أخبار الصادقَين عليهماالسلام أنّ زيداً ـ بخصوصه
من بين أئمّة الزيديّة ـ لم يكن يدّعي الإمامة لنفسه ، بل يعدّ نفسه من الدعاة إلى
آل محمّد عليهمالسلام ،
وكان في نفسه أنّ الأمر إن استقام له وغلب على بني اُميّة وسائر مخالفي العترة
وأعداء أهل البيت عليهمالسلام ،
سلّم الأمر إلى أخيه الإمام من اللّه عزوجل ، ولكنّه لمّا لم يكن ليظهر هذا الأمر
صريحاً لعدم اقتضاء المصلحة ، توهّم الناس أنّه مُدّعٍ للإمامة ، فرفضه من الشيعة
من كان عالماً بشرائط الإمامة الآتية ، وقال بإمامته من لم يعلم بالحالة ، فافهم .
ثمّ إنّ من تلك الألقاب التلقّب
بالقدريّة ، والمرجئة ، فإنّ صريح أخبار النبيّ صلىاللهعليهوآله
في ذمّ المرجئ والقدريّ ، فقد روى
السيوطي في جامعه من صحيحي الترمذي وابن ماجة عن ابن عبّاس ، ومن صحيح ابن ماجة
أيضاً : عن جابر ، ومن كتاب الخوارزمي : عن ابن عمر ، ومن كتاب أوسط الطبراني : عن
أبي سعيد الخدري ، كلّهم عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
قال : «صنفان من اُمّتي ليس لهما في الإسلام نصيب : المرجئة ، والقدريّة».
ومن كتاب الأوسط أيضاً ، وكتاب الحلية :
عن واثلة،
وعن جابر ،
__________________
عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
قال : «صنفان من اُمّتي لن تنالهما شفاعتي يوم القيامة : المرجئة ، والقدريّة ».
ومن كتاب الأوسط أيضاً : عن أنس بن مالك
، قال : قال النبيّ صلىاللهعليهوآله :
«صنفان من اُمّتي لا يردان عليّ الحوض ولا يدخلان الجنّة : المرجئة والقدريّة».
وروى أيضاً من كتاب الخوارزمي : عن ابن
عمر ، ومن كتاب ابن عدي : عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله
أنّه قال : «عزمت على اُمّتي أن لا
يتكلّموا في القدر».
وفي رواية اُخرى عن أبي هريرة عنه صلىاللهعليهوآله مثله
، مع زيادة قوله صلىاللهعليهوآله :
«ولا يتكلّم في القدر إلاّ شرار اُمّتي في آخر الزمان».
حتّى روى بعضهم كالشهرستاني وغيره عنه صلىاللهعليهوآله أنّه
قال : «القدريّة خصماء اللّه في القدر».
ورووا أيضاً ، كما في صحيح أبي داوُد ،
ومستدرك الحاكم : عن ابن
__________________
عمر ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
قال : «القدريّة مجوس هذه الاُمة».
وفي رواية : «المرجئة يهود هذه الاُمّة».
وفي مسند أحمد بن حنبل : عن ابن عمر ،
عنالنبيّ صلىاللهعليهوآله :
«لكلّ اُمّة مجوس ، ومجوس هذه الاُمّة الذين يقولون : لا قدر ، إن مرضوا فلا
تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوهم».
وفي صحيح ابن ماجة ، وكتابي ابن عدي
والضياء المقدسي وغيرهما : عن جابر ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله
أنّه قال ـ وذكر نحو الخبر هكذاـ : «إنّ
مجوس هذه الاُمّة المكذّبون بأقدار اللّه إن مرضوا» إلى أن قال : «وإن لقيتموهم
فلا تسلّموا عليهم».
وفي كتاب الدارقطني : عن عليّ عليهالسلام قال : «قال النبيّ صلىاللهعليهوآله :
لعنت القدريّة على لسان سبعين نبيّاً».
ولأجل هذا اختلفوا في تفسير هذين
اللقبين .
أمّا
المرجئة . فقال الشهرستاني : الإرجاء على
معنيين :
أحدهما : التأخير ، قال اللّه تعالى : ( أَرْجِهْ وَأَخَاهُ )،
الآية ، أي : أمهله وأخّره.
__________________
والثاني : إعطاء الرجاء.
ولا يخفى أنّ المتبادر منه الأوّل ، وهو
المشهور .
ثمّ ذكر الأقوال في تعيين أهل هذا اللقب
، فقال : قيل : الإرجاء هو تأخير عليّ عليهالسلام من
الدرجة الاُولى إلى الرابعة ؛ فعلى هذا الشيعة والمرجئة فرقتان متقابلتان.
أقول
: هذا الكلام له معنيان :
أحدهما : أن يكون المراد بالمرجئة مَن
قدّم خلافة الثلاثة على عليّ عليهالسلام .
والثاني : أن يكون المراد مَن فضّلهم
عليه ، بأن يكون الذمّ من جهة التفضيل دون الخلافة .
والظاهر أنّ هذا هو مرادهم ؛ لأنّه هو
الأنسب بطريقتهم ؛ ضرورة أنّ القائل بخلافة الثلاثة لا يحمل هذا على ما ينافي
طريقته .
نعم ، القول بتفضيل عليّ عليهالسلام ـ كما سيأتي في محلّه
ـ كان دائراً بين الصحابة ، وهو كلام جماعة من المعتزلة الذين يدّعون أنّهم هم
المراد بالشيعة كما مرّ،
وإنّما اشتهر خلافه من زمان بني اُميّة المجاهرين بعداوة عليّ عليهالسلام وتنقيصه .
ثمّ قال الشهرستاني : وقيل : الإرجاء
تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى القيامة ، فلا يقضى عليه بحكمٍ في الدنيا من كونه من
أهل الجنّة ، أو من
__________________
أهل النار.
وقال صاحب المغرب: المرجئون هم الذين لا يقطعون على أهل
الكبائر بشيء من عفو أو عقوبة ، بل يرجئون الحكم في ذلك ، أي : يؤخّرون إلى يوم
القيامة ، يقال : أرجأت الأمر ، بالهمزة ، وأرجيته ، بالياء ، إذا أخّرته .
ثمّ قال : وقد تفرّد مقاتل بن سليمان من
هؤلاء بأنّ اللّه تعالى لا يُدخل أحداً في النار بارتكاب الكبائر ، وأنّه تعالى
يغفر ما دون الكفر لا محالة ، وأنّ المؤمن العاصي ربّه يعذّب يوم القيامة على
الصراط ، وهو على متن جهنّم يصيبه فيح النار ولهيبها ، فيتألّم بذلك على مقدار
المعصية ، ثمّ يدخل الجنّة.
والمشهور بين الناس ـ وقد ذكره
الشهرستانيوغيره
أيضاً ـ أنّ المرجئة هم الذين يقولون : لا يضرّ مع الإيمان معصية ، كما لا ينفع مع
الكفر طاعة ، لكن لهم في تفصيل بيان هذا المعنى أقوال سنذكرها . وخلاصة أقوالهم
راجعة إلى عدم مدخليّة العمل في الإيمان ، بل يدخل أيضاً فيها القول الأخير الذي
ذكرناه آنفاً ، فعلى هذا يكون المرجئة مقابل
__________________
الوعيديّةالذين سيأتي أيضاً بيان مقالتهم .
وعلى أيّ تقدير ، ليس أحد من كلّ هؤلاء
الفِرَق موافقاً لقول الإماميّة كما سيظهر ، ومنه يتبيّن توهّم من احتمل كون
الإماميّة مصداق المرجئة بمعنى إعطاء الرجاء؛ إذ لو فرض كون الإرجاء بهذا المعنى
دون التأخير ، فلا شكّ في عدم وجـود قائلٍ في الإماميّة بلزوم ذلـك على اللّه
مطلقاً ، كما هو قول هؤلاء القائلين بعدم مدخليّة العمل في الإيمان بوجـه . نعم ،
إنّهم يقولون : إنّ اللّه عزوجل لمّا
وعـد أن يتفضّل على مـن يشاء من المؤمنين بالعتـق مـن العقاب؛ إنّه لا يخلف
الميعاد ، فنحن نرجـو أن يدخلنا في ذلـك بفضله ، وهذا ممّا لا شكّ في صحّته كتاباً
وسنّةً ، بل إجماعاً أيضاً ، فافهـم .
وأمّا
القدريّة : فقد ذكروا للقدر
تفسيرَين يشمل أحدهما المفوّضة الذين هم المعتزلة وأشباههم ، والآخَر الجبريّة
الذين هم الأشاعرة وأمثالهم ، كما سيأتي ، وقد نسب كلّ واحدٍ الآخَر إلى هذا اللقب
وبرّأ نفسه منه مع أنّ كلاًّ منهما واقع فيه من حيث لا يشعر ؛ لأنّ الحقّ الذي
بيّنه اللّه لرسوله صلىاللهعليهوآله وهو
قد علّم به وصيّه عليّاً والأوصياء الأئمّة عليهمالسلام ،
كما صرّح به كلّ واحد منهم في أخبارهم المتواترة أن «لا جبر ولا تفويض ، بل أمرٌ
بين
__________________
الأمرين»، بنحو ما سيأتي بيانه في ذكر مذهب
الإماميّة ؛ إذ على هذا يكون القول بالقدر ـ بالتفسير الذي مآله إلى كون الخير
والشرّ كلّه من اللّه من غير ثبوت استطاعةٍ للعبد ، وأنّ أفعال العباد كلّها
بالقضاء الحتم والقدر اللازم ، كما سيأتي في بيان مذاهب الأشاعرة وأمثالهم من
الجبريّة ـ باطلاً ، وكذا يكون باطلاً بالتفسير الذي ـ يأتي في بيان مذاهب
المعتزلة وأشباههم من المفوّضة المنكرين لقضاء اللّه وقدره في أفعال العباد ـ
مآله إلى كون الخير والشرّ كلّه إلى العبد ، من غير مدخليّة للّه عزوجل في شيء من ذلـك .
ولعلّ هذا هو السرّ في تعبير النبيّ صلىاللهعليهوآله بلفظة
«القدريّة» لاشتمالها ـ بحسب تعدّد تفسيرها ـ سائر المذاهب الباطلة ، كما أنّ
المرجئة أيضاً كذلك ، كما قال صلىاللهعليهوآله :
«اُعطيت جوامع الكلم»،
وأخبر بهلاكة ما سوى الواحدة من البضع والسبعين .
لكنّ الذي يظهر من بعض ما مرّ من
الأخبار مشعر بصدقها على القائل بالتفويض المذكور ، كما هو المشهور الوارد في أكثر
أخبار أهل البيت عليهمالسلام ،
إلاّ أنّه لا ينافي صدقها على الجبريّة أيضاً ، كما يظهر من بعضٍ آخَر من أخبارهم
، كما رواه محمود الخوارزمي في كتاب الفائق وكذا غيره : عن جابر ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
قال : «يكون في آخر الزمان قوم يعملون بالمعاصي ويقولون : إنّ اللّه قدّرها عليهم
، الرادّ عليهم كالشاهر
__________________
سيفه في سبيل اللّه».
وفي الكتاب المذكور وغيره أيضاً : عن
محمّد بن عليّ المكيّبإسناده
قال : إنّ رجلاً قدم على النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
فقال له : أخبرني يا رسول اللّه بأعجب شيء رأيت ، فإنّي رأيت قوماً ينكحون
اُمّهاتهم وبناتهم وأخواتهم ، فإذا قيل لهم : لِمَ تفعلون هذا؟ قالوا : قضاه
اللّه علينا وقدّره ؟ ! فقال النبيّ صلىاللهعليهوآله
: «سيكون في اُمّتي أقوام يقولون مثل
مقالتهم ، اُولئك مجوس اُمّتي».
وسيأتي بعض أخبار أهل البيت عليهمالسلام أيضاً في إطلاقها
بهذا المعنى .
فالحقّ إذن ما ذكرناه من دخول كلٍّ
منهما في ذلك بوجهٍ ، فافهم .
وإذ قد تبيّن هذا ، فلنذكر أوّلاً خلاصة
كلّ واحد واحد ممّا اشتهر من المذاهب الآرائية ، ثمّ المذاهب الإماميّة الاثني
عشريّة ، وحيث إنّ عمدة أسباب افتراق تلك الفِرَق الآرائية اختلافهم فيما سوى
الإمامة من سائر اُصول العقائد ، حيث اتّخذوها بالآراء دون الأخذ من اللّه تعالى
، جعلنا مناط تميّزهم ذلك ، نعم ، إذا كان خلاف بعض منهم بحسب الإمامة بيّنّاه
أيضاً ، ولم نتعرّض لعامّة عقائد أكثرهم ، ولا اختلافهم في الفروع ، احترازاً من
__________________
الإطالة بلا طائل ،
بل نكتفي بذكر خلاصة ممّا لا بدّ من ذكره ، فهاهنا ثلاثة مطالب :
المطلب الأوّل :
في بيان الفِرَق التي معدودة من القسم
الأوّل ، وهم على أصناف شتّى : كالمفوّضة ، والجبريّة ، والمشبّهة ، والمرجئة ،
والوعيديّة ، والخوارج وغيرها ؛ بحيث يشتمل كلّ صنف أيضاً على فِرَق عديدة يرتقي
ما اشتهر منها وتميّز عن غيره ـ ولو بحسب بعض اُصول العقائد ـ إلى ستّين فرقة ،
وها نحن نبيّن ما يحتاج إلى البيان من فِرَق كلّ صنف في ضمن أربعة مباحث :
المبحث
الأول : في بيان الفِرَق المعدودة من صنف
المفوّضة الملقّبة عند الأكثر بالقدريّة؛ لاجتماع عامّتهم على أنّ اللّه تعالى
فوّض جميع اُمور العباد إليهم ومكّنهم عليها ، حتّى صاروا مستقلّين في أفعالهم ؛
بحيث لا حاجة لهم في شيء منها إليه ، وليس له تعالى فيها صنع ، لا بالتوفيق
والعصمة والخذلان وأمثالها ، ولا بالمشيئة والإرادة والقضاء والقدر ونحوها .
قالوا : ولأجل هذا صار العباد يستحقّون
على ما يفعلون الثواب والعقاب في الآخرة على وفق وعد اللّه ووعيده عدلاً منه
سبحانه ؛ ولهذا يقال لهم : العدليّة أيضاً ، لكن كما قال الصادق جعفر بن محمّد عليهماالسلام : «إنّ هؤلاء الجماعة
أرادوا أن يصفوا اللّه بعدله فأخرجوه من سلطانه».
وقد قال الرضا عليهالسلام : «إنّ هؤلاء
القدريّة لم يقولوا بقول اللّه ولا بقول
__________________
أهل الجنّة ، ولا
بقول أهل النار ، ولا بقول إبليس ؛ فإنّ اللّه عزوجل قال
: ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ
اللَّهُ )، وإنّ أهل الجنّة قالوا : ( الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ
هَدَانَا اللَّهُ )، وقال أهل النار : ( رَبَّنَا
غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ )،
وقال إبليس : ( رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي )،
الخبر .
وقد قيل : إنّ مآل كلام هؤلاء أن يكون
ما شاء إبليس ولا يكون ما شاء اللّه ، كما أخبر اللّه مثله عن اليهود بقوله
تعالى : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ
مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ )، الآية .
ثمّ إنّ هؤلاء قد يسمّون بأهل التوحيد
وبالمعتزلة ، بل إنّهم اشتهروا بالأخير :
أمّا الأوّل : فلأنّهم ينفون وجود قديمٍ
غير اللّه عزوجل ،
وينزّهونه عمّا ادّعاه الأشاعرة وأتباعهم من التشبيه والرؤية بالأبصار وأمثال ذلك
، ومن الصفات القديمة الزائدة على الذات المقدّسة ؛ ولهذا اتّفقوا على أنّ كلامه
حادث ليس بقديم .
وأمّا الأخيـر : فلأنّ هـذا المذهب ـ
بـل أصـل الاختـلاف والكـلام في الاُصـول ، كما صرّح بـه الشهرستاني وغيره ـ حدث
في زمان عبد الملك
__________________
ابن مروانبدعة من معبد الجهني، وغيلان الدمشقيوغيرهما، وكان منهم واصل بن عطاء الغزالي مولى
بني مخزوم ، وقيل : مولى بني ضبّة،
وكان أوّلاً تلميذاً لعبد اللّه بن محمّد بن الحنفيّة ، المشتهر بأبي هاشم، ثمّ صار تلميذاً للحسن البصري، ثمّ اعتزل عنه وعن أصحابه ،
__________________
واختار في بعض
المسائل رأياً غير رأيه ، فسُمّي هو وأصحابه : معتزلة ثمّ غلب على سائر المفوّضة
التي ذكرنا اعتقادها .
ويقال لأصحاب واصل المذكور : «الواصلية»
أيضاً انتساباً إلى كبيرهم ، وهم عمدة القائلين بما مرّ من التفويض والقدر .
قال الشهرستاني : ومن مذهبهم ـ أي :
الواصلية ـ أنّ صاحب الكبيرة لا مؤمن مطلقاً ولا كافر مطلقاً ، بل هو في منزلة بين
المنزلتين ، لكنّه إذا خرج من الدنيا ولو على كبيرة بلا توبة فهو من أهل النار
خالداً فيها إلاّ أنّه يخفّف عنه العذاب وتكون دركته فوق دركة الكفّار.
قال : ومن مذهبهم أيضاً أنّ أحد
الفريقين من أصحاب الجمل مخطئ لا بعينه ، يعني أنّ أحدهما على الخطأ في نفس الأمر
، لكن نحن لا نعلم أنّه أيّهما ؟ ! ولهذا قالوا : لو شهد عندنا عليّ عليهالسلام وطلحة والزبير وعائشة
على باقة بقلٍ لم نحكم بشهادتهم ، وكذا قالوا في عثمان وقاتليه وخاذليه : إنّ أحد
الفريقين فاسق لا محالة ، كما أنّ أحد المتلاعنين فاسق لا محالة لكن لا بعينه .
قال : ويجوّزون أن يكون عليّ عليهالسلام وعثمان على الخطأ .
قال : وقد وافق هؤلاء في المذهب عمرو بن
عبيد ، وكان تلميذ واصل ، لكن زاد عليهم في تفسيق أحد الفريقين لا بعينه من أهل
الجمل وصفّين.
__________________
أقول
: كفى في بطلان هؤلاء وضلالتهم ما هو
الثابت بالآيات المحكمة والأخبار المتواترة ، بحيث صار من ضروريّات دين الإسلام من
حسن حال عليّ عليهالسلام علماً
وعملاً ، وأنّه مع الحقّ والحقّ معه يدور أينما دار، فافهم .
قال : واعلم أيضاً إنّ هؤلاء الشيوخ
ممّن صرّح بجرحهم جماعة منهم ، فقالوا في عمرو بن عبيد : إنّه مبتدع قدريٌ كاذب ،
كان أوّلاً شرطيّاً للحجّاج،
حتّى قال بعضهم : إنّه كان من الدهرية.
وذكر الذهبي أنّ واصلاً كان يحرّف
الكلمات من القرآن ؛ لأنّه لم يكن قادراً على إفصاح الراء بل كان يبدله بالغين ،
حتّى قيل له يوماً : اقرأ أوّل سورة البراءة؟ فقال : عهد من اللّه ونبيّه إلى
الذين عاهدتم من الفاسقين ، فسيحوا في البسيطة هلالين وهلالين . ثمّ قال الذهبي :
هذا جرأة على الكتاب العزيز.
وكذا ذكروا أشياء في معبد ، وغيلان ،
والحسن وغيرهم من أصحاب المذاهب الآتية ممّا لا نطيل الكلام بذكره ، حتّى نقلوا
أنّ ابن سيرينما
__________________
صلّى على جنازة الحسن.
هذا خلاصة ما ذكر بعضهم في بعضٍ من
الذمّ ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتب التواريخ .
ثمّ إنّ من المفوّضة : الهذليّة ، وهم
أصحاب أبي الهذيل العلاّف،
وهو من شيوخ المعتزلة وكان تلميذ تلميذ واصل ، ثمّ انفرد عنهم بمسائل أخذ بعضها من
الفلاسفة .
ومن أقرب أقواله إلى الحقّ قوله بأنّ
الأرض لا تخلو عن جماعة ، هم أولياء اللّه معصومون ، لا يكذبون ولا يرتكبون
الكبائر ، فيهم الحجّة.
ولا حاجة إلى ذكر سائر أقواله .
ثمّ إنّ منهم : النظاميّة ، أصحاب
النظام إبراهيم بن سيّار،
وهو وإن قيل : إنّه قائل بإمامة الأئمّة الاثني عشر ، لكن في الواقع ليس من
أتباعهم ،
__________________
لأنّهابتُلي بكتب الفلاسفة ، وخلط بين كلامهم
وكلام المعتزلة ، ولم يجعل مناط دينه كلام أئمّته ؛ ولهذا صار في معزل عنهم ، حتّى
قال بأنّ اللّه تعالى ليس بقادر على فعل القبيح ، لا أنّه قادر ولم يفعل ولا يفعل
.
وقال : إنّه لا يقدر على أن يزيد في
عذاب أهل النار ، ولا أن ينقص منه شيئاً ، ولا على أن ينقص شيئاً من نعيم الجنّة ،
وهكذا نفى قدرته على فعل ما ليس بصلاح.
وبالجملة
: يلزمهأن يكون البارئ تعالى عنده مطبوعاً
مجبوراً على ما يفعله .
وله أقوال سخيفة أخذها من الفلاسفة ،
وأبدع هو بعضاً منها ، وأقوال صحيحة أخذها من الإماميّة ، ولا حاجة إلى الإطالة
بذكرها .
ثمّ منهم : الخابطيّة وهم أصحاب أحمد بن
خابط.
والحدثية : وهم أصحاب الفضل بن الحدثي.
وهما من أصحاب النظام ، لكن اختار كلٌّ
منهما مذاهب هي الكفر الصريح .
قال الشهرستاني نقلاً عن ابن الراوندي: إنّهما كانا يزعمان أنّ
__________________
للخلق خالقين :
أحدهما قديم وهو البارئ تعالى ، والآخَر محدَث وهو المسيح ، وقالا في المسيح بعض
ما قاله النصارى فيه.
وقال : إنّهما كانا يقولان بالتناسخ، وذكر لهما عقائد سخيفةلا حاجة إلى ذكرها .
وقد عدّ من هذه الجماعة ، الإسكافيّة :
أصحاب أبي جعفر الإسكافي.
والجعفريّة: أصحاب جعفر بن مبشّر، وأصحاب جعفر بن حرب؛
__________________
لقرب مذهب بعضهم من
بعض ، وقد قدح في هؤلاء قوم بحسب رواية الحديث أيضاً .
ثمّ منهم : البشريّة أصحاب بشر بن
المعتمر،
وقد تفرّدوا عن أصحابهم بمسائل لا حاجة إلى ذكرها .
ثمّ منهم : المرداريّةأصحاب عيسى بن صبيحالمشهور بالمردار، وكان يقال له : راهب المعتزلة ، من
تزهّده ، وكان من تلامذة بشر بن المعتمر ، ثمّ خالفه في مسائللا حاجة إلى ذكرها .
ثمّ منهم : المعمّريّة أصحاب معمّر بن
عبّاد السلمي.
__________________
قال الشهرستاني : هو من أعظم القدريّة ،
وإنّ من أقواله : إنّ اللّه تعالى لم يخلق شيئاً غير الأجسام ، وأمّا الأعراض
فإنّها من اختراعات الأجسام ، وإنّ اللّه عزوجل محال
أن يعلم نفسه ولا غيره،
ونقل عنه أقوالاً سخيفة اُخرى تركنا ذكرها .
ثمّ منهم : الثُمامية أصحاب ثمامة بن
أشرس، وذكروا لهم أيضاً
أقوالاً سخيفة تركنا ذكرها ، حتّى نسبوا إليه أنّ من أقواله : إنّ الفاسق المسلم
مخلّد في النار إذا مات بغير توبة ، والكفّار من المشركين ، واليهود ، والمجوس ،
والنصارى ، والزنادقة ، والدهريّة يصيرون في القيامة تراباً كالبهائم والطيور.
ثمّ منهم : الهشاميّة أصحاب هشام بن
عمرو الفوطي.
__________________
قال الشهرستاني : مبالغته في القدر أشدّ
من مبالغة أصحابه ، وكان يمنع من إطلاق إضافات الأفعال إلى اللّه تعالى وإن ورد
به التنزيل ، فكان يقول : إنّ اللّه لا يؤلّف بين قلوب المؤمنين ، بل هم
المؤلّفون ، وإنّ اللّه لا يحبّب الإيمان إلى المؤمنين ، ولا يزيّنه في قلوبهم
وأمثال ذلك .
قال : ومن بدعته قوله بأنّ الإمامة لا
تنعقد في أيّام الفتنة واختلاف الناس ، بل إنّما يجوز عقدها في حال الاتّفاق
والسلامة .
قال : وإنّما أراد بذلك الطعن في إمامة
عليّ عليهالسلام بعد
قتل عثمان .
قال : ومن بدعته أنّ الجنّة والنار
ليستا مخلوقتين الآن.
ومنهم : العبّادية أصحاب عبّاد، وهم من الطائفة السابقة ، لكن زادوا
عليهم في بعض الأشياء ، حتّى كانوا يمنعون من إطلاق القول بأنّ اللّه تعالى خلق
الكافر ؛ لأنّ الكافر كفر وإنسان ، واللّه تعالى لا يخلق الكفر .
ثمّ منهم : الجاحظيّة ، وهم أصحاب عمرو
بن بحر الجاحظ المشهور ، ونقلوا عنهم مذاهب سخيفة أيضاً ، كقولهم بأنّ أهل النار
لا يخلّدون فيها
__________________
معذّبين ، بل يصيرون
إلى طبيعة النار ، وأمثال ذلك ، حتّى نقل عنهم : أنّهم يزعمون أنّ القرآن جسم
مخلوق وجسد ، يجوز أن يقلب مرّة رجلاً ومرّة حيواناً ، وهكذا .
قال الشهرستاني : أكثر مذاهب الجاحظ على
وفق الطبيعيّين من الفلاسفة.
ثمّ إنّ منهم : الخيّاطيّة أصحاب أبي
الحسين الخيّاطاُستاد
الكعبي.
قال الشهرستاني : هما ـ يعني الخيّاط
والكعبي ـ من معتزلة بغداد ، وهما على مذهب واحد إلاّ في بعض المسائل ، ومن مذهبهم
القول بثبوت المعدومات.
ثمّ منهم : الجبّائيّة والهاشميّة أصحاب
أبي عليّ محمّد بن عبد الوهّاب
__________________
الجبّائي، وابنه أبي هاشم عبد السلام ، وهما من
معتزلة البصرة .
قال الشهرستاني : هما انفردا عن
أصحابهما بمسائل ، وانفرد أحدهما عن الآخَر بمسائل، ثمّ ذكر بعضها ، بل أكثرها ، وليس هاهنا
موضع ذكرها .
وقد مرّ في أخير فصول الباب السابق
تشابه هذه المذاهب ـ لا سيّما مذهب أبي هاشم ـ بمذهب نسطور الحكيممن النصارى ، وبعض مذاهب اليهود
والفلاسفة .
ثمّ إنّ من المعتزلة القريبة من أواخرهم
: أبو الحسين البصري،
__________________
والزمخشري ، وابن أبي
الحديد ، والقاضي عبد الجبّاروأمثالهم
، وأكثرهم من معتزلة بغداد ، وهم خالفوا بعض مشايخهم السلف في بعض المسائل ، حتّى
أنّ جمعاً منهم قالوا بعصمة الأنبياء ، بل إنّ بعضاً منهم ـ بل من سلفهم أيضاً ـ
قالوا بأفضليّة عليّ بن أبي طالب عليهالسلام على
سائر الصحابة أجمعين ، حتّى أنّهم صرّحوا بضلالة معاوية وأصحابه، بل منهم من صرّح بأنّ الخلافة كانت
حقّاً لعليّ عليهالسلام من
وجوه ، منها : ورود الأمر من النبيّ صلىاللهعليهوآله تعريضاً
إلاّ أنّ عليّاً عليهالسلام رضي
بما صدر من غيره في أخذ الخلافة منه ، فثبتت لهم.
وقال جمع منهم : إنّ عليّاً عليهالسلام هو الإمام والمقتدى
في الدين بعد سيّد المرسلين ، وإنّما كانت خلافة من تقدّم عليه في جباية الخراج ،
وإجراء الحدود ، وانتظام ضبط المسلمين من قبيل سائر السلاطين.
وبالجملة
: أكثر هؤلاء الجماعة ادّعوا أنّهم هم
المراد بالشيعة ، كما قد سبقت الإشارة إليه ، ولكن كما قال أئمّة الإمامّيّة
الصادقون : «كذب من ادّعى أنّه من شيعتنا وهو متمسّك بعروة غيرنا»، وسيأتي مثله عن النبيّ صلىاللهعليهوآله
__________________
أيضاً من كتب القوم .
فهؤلاء كلّهم من المشهورين بالتفويضيّة
والقدريّة والعدليّة ، ويقال لهم : المعتزلة أيضاً ، كما مرّ ، وقد ارتقى عدد معظم
مذاهبهم المختلفة إلى عشرين كما ظهر ، وليس أحد منهم ـ على ما سيأتي ـ من مسلك
الإماميّة ؛ حيث تركوا التمسّك بأذيال عترة نبيّهم العلماء بعلم اللّه الصادقين ،
بل جعلوا مناط دينهم الاعتماد على الرأي والخيالات الكاسدة التي تبيّن ويتّضح
أيضاً أن لا مدخل لها في شريعة سيّد المرسلين ، فقالوا ما قالوا بآرائهم وأهوائهم
فاختلفوا وتفرّقوا .
نعم ، اتّفق لهم بعض كلام حقٍّ في ضمن
سائر مقالاتهم السخيفة ، كنفي الجبر والتشبيه والصفات الزائدة القديمة عن اللّه عزوجل ، وكقول بعضهم بعصمة
الأنبياء ، وتفضيل عليّ عليهالسلام ،
والحكم بضلالة مخالفيه ونحو ذلك ؛ ولهذا صاروا أقرب من غيرهم إلى مذهب الإماميّة ،
فتوهّم بعض الغافلين عن حقيقة الحال ، فقال : إنّ بعض ما ذهب إليه الإماميّة مأخوذ
من هؤلاء ! وليس كذلك ؛ لما مرّ ويأتي من أنّ مناط مذهب الإماميّة ليس إلاّ الأخذ
بما ثبت عندهم أنّه من أئمّتهم ، فافهم ولا تغفل عن لزوم الحكم بعدم كون الطائفة
التي ورد أنّها ناجية فيهم من جهات اُخَر أيضاً .
منها : أنّ معظم تمييزهم عن سائر
الفِرَق بالتفويض الذي قالوا به ، وهو ممّا لو اُغمض أيضاً عن بطلانه يرد عليه
أنّه أمر مشترك بين فِرَق عديدة ، بحيث لا يتأتّى جعله مناط التمييز إلاّ بضميمة
عقيدة غير مبتدعة تكون كاملة المدخلية في الدين ، ثابتة الحقّيّة بالأدلّة
القطعيّة ، كمحكمات الكتاب وثابتات السنّة ، مختصّة بفرقة واحدة موجودة ، أي :
فرقة لا يشاركها
غيرها من الفِرَق
الموجودة في تلك العقيدة . ودون إثبات وجود مثل هذه في أحد منهم خرط القتاد ، كما
هو ظاهر على المتأمّل الصادق في مقالاتهم ، المتتبّع لسائر العقائد ، ولولا خوف
التطويل لذكرنا التفصيل ، فتأمّل .
المبحث
الثاني: في بيان الفِرَق الذين لم يعدّوهم من
صنف المعتزلة السابقة وإن شاركهم بعضهم في بعض المسائل ، بل عدّوهم من الأصناف
المشتهرة بالأشاعرة ، والصفاتيّة ، والمجبّرة ، والمشبّهة ، والمسمّين عندهم بأهل
السنّة وإن كان مرجع عامّتهم إلى القول بالجبر ؛ فإنّ مصداق القول بالجبر واقعاً ـ
كما قدّمنا الإشارة إليه ـ هو نفي استطاعة الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلى الربّ عزوجل ؛ ولهذا أكثر
المعتزلة يسمّون من لم يُثبت للقدرة الحادثة أثراً في الإحداث والإبداع استقلالاً
جبريّاً ، وهؤلاء كلّهم شركاء في ذلك ، إلاّ أنّ منهم : من لا يُثبت للعبد فعلاً
ولا قدرةً على الفعل أصلاً ، ومنهم : من يُثبت للعباد قدرةً ، لكن غير مؤثّرة أصلاً
، ومنهم : من يُثبت لقدرتهم أثراً ما في الفعل ويسمّيه كسباً ، ويقول بأنّ
القدرتين مؤثّرتان جميعاً.
لكن بعض الأشاعرة التجأ من الرمضاء إلى
النار ، فأنكر كون الأخير جبريّاً وسمّاهم صفاتيّة؛ بناءً على ما عليه أيضاً عامّة هؤلاء
الطوائف المذكورة من القول بكون صفات البارئ تعالى كلّها حتّى الكلام وغيره من
صفات الفعل ، قديمة أزليّة زائدة على الذات المقدّسة ، بعكس المعتزلة ؛ حيث نفوا
زيادة الصفات القديمة ، فقالوا بعينيّة صفات الذات وحدوث
__________________
صفات الفعل، حتّى أنّ جمعاً من هؤلاء الطوائف
نسبوا مذهبهم المذكورإلى
أكثر سلفهم من الصحابة والتابعين ؛ ولهذا أشرنا سابقاً إلى أنّ الظاهر أنّ هؤلاء
لأجل هذا خصّوا أنفسهم بأهل السنّة والجماعة ، بل إنّهم ادّعوا أيضاً على سلفهم :
أنّهم كانوا يثبتون له تعالى صفات اُخرى أيضاً ، مثل اليدين والوجه ونحو ذلك؛
بناءً على ظواهر بعض الآيات والأخبار ، وأنّهم كانوا يقولون بالرؤية؛ ولهذا قال
عامّتهم بهذا أيضاً وصاروا مشبّهةً حقيقةً ، كما مرّ أنّه مذهب جماعة من اليهود .
إلاّ أنّ منهم من رجع فقال : إنّا عرفنا
بمقتضى العقل أنّ اللّه تعالى ليس كمثله شيء فقلنا بذلك ، إلاّ أنّا لا نعرف معنى
اللفظ الوارد في تلك الآيات والأخبار.
ومنهم : من أوّلها لكن بما يرجع إلى
التشبيه أيضاً،
كما هو مذكور في كتبهم .
ومنهم : من قال : لا بدّ من إجرائها على
ظاهرها من غير تعرّض للتأويل ، وهم المشبّهة الصرفة عندهم.
وقد أشرناأيضاً إلى أنّ من مذهب هؤلاء ـ حيث نفوا
استقلال العبد في الفعل ـ كون جميع أفعال العباد بالقضاء الحتم والقدر اللازم ،
وأنّه
__________________
لهذا سمّوا قدريّة
أيضاً .
ثمّ لهم مذاهب سخيفة اُخرى تركناها
حذراً من الإطالة بلا طائل ؛ لما سيظهر من ضلالتهم والمطاعن الواردة عليهم ، حتّى
أنّهم أنكروا الحسن والقبح العقليّين ، وحاصل كلامهم في ذلك : أنّ الفعل في نفسه
لا له حسن ولا قبح ، بل هما تابعان للشرع ، بحيث لو أمر الشارع بالكذب المضرّ ،
وأذيّة صاحب الإحسان ، ومَنَع عن الصدق النافع ، وشكر المنعم ، صار الأوّل حسناً
واقعاً والآخر قبيحاً ، حتّى أنّه لو أثاب الكافر وعذّب المؤمن صار ذلك حسناً ؛
ولهذا يلزمهم تجويز أن يعذّب اللّه سيّد المرسلين على طاعته ، ويثيب إبليس على
معصيته ، ويُدخل موسى عليهالسلام النار
وفرعون الجنّة ! ومنه يلزم سفاهة من أتعب نفسه في الطاعة ، كما لا يخفى .
فمن هؤلاء : الجهميّة أصحاب جهم بن
صفوان .
قال الشهرستاني : هو من الجبريّة
الخالصة ، ظهرت بدعته بـ «ترمذ» في زمن بني اُميّة ، لكنّه موافق للمعتزلة في نفي
الصفات القديمة الزائدة ، بل زاد عليهم بحيث لم يجوّز اتّصاف البارئ بوصف يوصف به
خلقه ؛ استناداً إلى دعوى كونه تشبيهاً ، مثلاً : نفي كونه حيّاً عالماً ، وأثبت
كونه قادراً فاعلاً خالقاً .
قال : ومن مذهبه نفي علم البارئ بالشيء
قبل خلقه .
وقال : ومن مذهبه أنّ الإنسان لا يقدر
على شيء ولا يوصف بالاستطاعة ، وإنّما هو مجبور في أفعاله ، لا قدرة له ولا إرادة
ولا اختيار ، وإنّما يخلق اللّه تعالى الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر
الجمادات ، ونُسبت الأفعال إليه مجازاً ، كما تُنسب إلى الجمادات ، فيقال : أثمرت
الشجرة ، وجرى الماء
، وتحرّك الحجر ، إلى غير ذلك .
قال : وقال : إنّ الثواب والعقاب جبر ،
كما أنّ الأفعال جبر .
وكذا قال : وإذا ثبت الجبر فالتكليف
أيضاً كان جبراً .
قال : ومن مذهبه فناء الجنّة والنار بعد
دخول أهلهما فيهما ، وتلذّذ أهل الجنّة بنعيمها ، وتألّم أهل النار بحميمها ، وقد
أوّل ما ورد من الخلود بالمكث الطويل ، كما هو مذهب جماعة من اليهود .
وقال:
ومن مذهبه أنّ من حصل له المعرفة ، ثمّ جحد بلسانه لم يكفر ، بل كان مؤمناً ، وأنّ
إيمان الأنبياء عليهمالسلام وإيمان
الاُمَّة على نمط واحد ، والإيمان لا يتبعّض.
أقول
: ولا بأس إن ذكرنا هاهنا نبذاً ممّا ورد
على أصحاب أمثال هذا المذهب القائلين بالجبر ، كما سيأتي بيان مذهب بعضهم من
الإلزامات المسكتةوالحكايات
المفضحة ، والكفر الصريح والضلال الشنيع .
فمنها : ما رواه جماعة عن الصادق عليهالسلام أنّه قال يوماً لبعض
المجبّرة : «هل يكون أحد أقبل للعذر الصحيح من اللّه تعالى ؟» فقال : لا .
فقال له : «فما تقول فيمن قال : ما أقدر
وهو لا يقدر ، أيكون معذوراً أم لا ؟» فقال المجبّر : يكون معذوراً .
قال له : «فإذا كان اللّه تعالى يعلم
من عباده أنّهم ما قدروا على طاعته ، وقال لسان حالهم أو مقالهم يوم القيامة : يا
ربّ ، ما قدرنا على طاعتك ؛ لأنّك منعتنا منها ، أما يكون قولهم وعذرهم صحيحاً على
قول المجبّرة ؟»
__________________
قال : بلى واللّه !
قال : «فيجب على قولك أنّ اللّه يقبل
هذا العذر الصحيح ولا يؤاخذ أحداً أبداً ، وهذا خلاف قول أهل الملل كلّهم» ، فتاب
المجبّر من قوله بالجبر في الحال.
وقد ذكر الديلمي أنّ هذا الكلام قاله
الصادق عليهالسلام لطاووس
اليماني،
فلمّا تمّ كلام الصادق عليهالسلام قام
طاووس وهو يقول : ليس بيني وبين الحقّ عداوة ، اللّه أعلم حيث يجعل رسالته ، فقد
قبلت نصيحتك.
وروى جمع أيضاً أنّ أبا حنيفة دخل مع
عبداللّه بن مسلمةعلى
جعفر بن محمّد عليهماالسلام ،
فإذا بجماعة من شيعته ينتظرون خروجه ، فبينما هم كذلك إذ خرج غلام حدث ، فقام
الناس هيبةً له ، فالتفت أبو حنيفة فقال :
__________________
يابن مسلمة ! من هذا
؟ فقال : موسى ابنه ، فقال : لأجبهنّهبين
يدي شيعته ! !
فقال عبد اللّه : مه ، لن تقدر على ذلك
، فقال : واللّه ، لأفعلنّ ، ثمّ التفت إلى موسى عليهالسلام ،
فقال : يا غلام ، ممّن المعصية ؟
قال : «يا شيخ ، لا تخلو من ثلاث : إمّا
أن تكون من اللّه وليس من العبد شيء ، فليس للحكيم أن يأخذ عبده بما لم يفعله ،
وإمّا أن تكون من العبد ومن اللّه ؛ واللّه أقوى الشريكين ، فليس للشريك الأكبر
أن يأخذ الشريك الأصغر بذنبه ، وإمّا أن تكون من العبد وليس من اللّه شيء ، فإن
شاء عفا وإن شاء عاقب» .
قال : فأصابت أبا حنيفة سكتة كأنّما
اُلقم في فيه حجر ، فقال له عبداللّه : ألم أقل لك : لا تتعرّض لأولاد رسول
اللّه صلىاللهعليهوآله ،
ذرّيّة بعضها من بعض.
أقول
: وفي ذلك قال الشاعر :
لَم تَخلُ أفعالُنا اللاتي نُذمُّ
بِها
|
|
إحدى ثلاثِ معانٍ حينَ نأتيها
|
إِمَّا تَفرُّد بارينا بصنعتِها
|
|
فَيسقط اللَّومُ عَنَّا حينَ ننشيها
|
أو كانَ يُشركُنا فِيها فَيَلحقُهُ
|
|
مَا سوفَ يَلحقُنا مِن لائمٍ فيها
|
__________________
أو لم يَكن لإلهي في جِنايتِها
|
|
ذَنبٌ فَما الذنبُ إلاَّ ذنبُ جانيها
|
وقد روي أنّ بعض أهل العدل وقف على
جماعة من المجبّرة ، فقال لهم : أنا ما أعرف المجادلة والإطالة ، ولكنّي أسمع في
القرآن قوله تعالى : ( كُلَّمَا أَوْقَدُوا
نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ )ومفهوم هذا الكلام عند كلّ عاقل أنّ
الموقد للنار غير اللّه ، وأنّ المطفئ للنار هو اللّه ، فكيف تقبل العقول أنّ
الكلّ منه ، وأنّ الموقد للنار هو المطفئ لها ؟ ! فانقطعوا ولم يردّوا جواباً.
وقال عدليٌّ أيضاً للمجبّر : إنّ اللّه
تعالى حكى في كتابه عن أهل المعاصي أنّهم يقولون في القيامة : ( وَقَالُوا
رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا
آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا )،
وكذا يقولون في النار : ( رَبَّنَا أَرِنَا
اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا )وأمثال
ذلك من الآيات ، فلو كان كما تقولون فعلى من كانوا يدعون ؟ ولمن يلعنون ؟ ومن الذي
يجعلون تحت أقدامهم ؟ وعلى من هذا التظلّم وممّن هذا التألّم ؟.
نعم ، لو كنتم على بصيرة لعرفتم أنّكم
من جملة مصداق هذه الآيات ؛ حيث ادّعيتم أنّ مذهبكم هذا أخذتموه من بعض سلفكم
الذين
__________________
مثلكم في احتمال
الوقوع في الخطأ والضلال .
ونعم ما قال رجل لبشر المريسيمن أعيان الجبريّة ، حيث قال له : حمارك
أفهم منك وأعقل ؛ لأنّه إذا رأى جدولاً ووجد أنّه يقدر أن يطفره طفره ، وإلاّ فلا
، فهو يفرّق بين مقدوره وغير مقدوره وأنت لا تفرّق !.
وقال رجل آخَر لجبريٍّ أيضاً : إنّك
تقول بالقدر إذا ناظرت أحداً ، وإذا رجعت إلى منزلك فوجدت جاريتك قد كسرت كوزاً
يساوي فلساً شتمتها وضربتها ، وتركت مذهبك لأجل فلس واحد !.
ورأى مجبّر غلامه يفجر بجاريته فأراد أن
يضربه ، فقال له : إنّ القضاء ساقنا ، فرضي عنه !.
ونقل مثله عن جبريّ رأى رجلاً يفجر
بامرأته.
ونقل أيضاً مثله عن قاض جبريٍّ سمع
رجلاً يسبّ الخلفاء.
وقال رجل لجبريٍّ : ممّن الحقّ ؟ قال :
من اللّه .
قال له : فمن هو المحقّ ؟ قال : هو
اللّه .
__________________
قال فممّن الباطل ؟ قال : من اللّه .
فقال له : فمن هو المبطل ؟ فانقطع ولم
يحر جواباً.
ونقل أيضاً أنّ جبريّاً استأذن من
المأمون أن يناظر ثمامة ـ وكان عدليّاً ـ فأذن له ، فحرّك الجبريّ يده وقال : من
حرّك هذه ؟ فقال ثمامة : حرّكها مَنْ اُمّه زانية ، فقال الجبريّ : شتمني يا مأمون
في مجلسك ! فقال ثمامة : ترك هذا مذهبه يا مأمون ؛ لأنّه زعم أنّ اللّه حرّكها
فلأيّ سبب غضب وليس للّه اُمّ ؟ فانقطع الجبريّ.
وأمثال هذه المَلازم على المجبّرة كثيرة
بحيث لا يمكن إحصاؤها .
وقد ذكر بعض العلماء ما يزيد على سبعين
نقضاً بيّناً واضحاً ليس هاهنا موضع ذكرها ، حتّى أنّه ذكر منها : أنّه يلزم على
مذهبهم انقطاع حجّة الأنبياء عليهمالسلام ؛
لأنّ النبيّ إذا قال للكافر : آمِن بي لما أظهره اللّه من المعجزة على يدي ، يقول
الكافر : إذا جاز أن يخلق اللّه فيّ الكفر ويعذّبني من غير جرم ، فلِمَ لا يجوز
أن يُظهر المعجزة في يدك وأنت كاذب ؟
وبعبارة اُخرى ، يقول الكافر للنبيّ حين
دعوته : قل للّذي بعثك يخلق فيّ الإيمان والقدرة المؤثّرة فيه حتّى أتمكّن من
الإيمان واُؤمن بك ، وإلاّ فكيف تكلّفني الإيمان ولا قدرة لي عليه ، بل خلق فيَّ
الكفر وأنا لا أتمكن من مقاهرة اللّه تعالى ؟
ومن العجائب أنّ المجبّرة زعموا أنّ
اعتقاد كون أفعال العباد منهم مستلزم لكون العباد شركاء للّه ، وأنّ تعظيم الإله
يقتضي أن تكون الأفعال
__________________
كلّها من اللّه. ولم يدركوا أنّ أيّ تعظيم للّه في
نسبة خسائس العبيد ورذائلهم إليه ! وأيّ نسبة بين جلال اللّه الخالق وحقارة العبد
المخلوق ؛ حتّى يتكمّل سبحانه بنسبة أفعالهم القاصرة وتدبيراتهم الناقصة إليه !
وكيف يتصوّر لعاقل أن يجوّز احتمال لزوم المشاركة المذكورة بين المخلوق وخالقه
الذي في غاية الجلالة ، مع أنّ أدنى ذي فهم لا يرضى أن يحكم بأنّ سائس الملك شريك
له في السياسة ؟ !
وأعجب من هذا أنّهم زعموا أيضاً أنّ
الاعتقاد بأنّ العباد يقدرون أن يفعلوا أشياء باختيارهم يقتضي عجز اللّه تعالى عن
العباد ، حيث يقع منهم ما لا يريد من المعاصي،
ولم يدركوا أنّ أيّ عجز يلحق بالمالك إذا جعل عبده مختاراً لأفعاله ، سواء فعل
العبد ما يكره المولى أو ما يحبّ ؛ إذ معلوم أنّ المولى إن أراد قهر عبده لقهره ،
ولقد كفى في هذا قوله تعالى : ( وَلَوْ شَاءَ
لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ )، وكذا ما مرّ في التبيان ، فافهم .
ثمّ إنّ من هؤلاء المذكورين :
النجّاريّة،
أصحاب الحسين بن محمّد النجّاروبشر
المريسي ، ومحمّد بن عيسى الملقّب بالبرغوث.
__________________
والضراريّة : أصحاب
ضرار بن عمرو،
وحفص الفرد،
وهؤلاء وافقوا المعتزلة في بعض المسائل ، كنفي الصفات الزائدة القديمة ، ووافقوا
المجبّرة في القول بأنّ اللّه خالق أعمال العباد كلّها خيرها وشرّها وحسنها
وقبيحها ، وقالوا : إنّ العبد مكتسب لها ، كما هو مذهب الأشعري ، وجوّزوا حصول فعل
بين فاعلين ، ولهم مذاهب اُخرى في سائر المسائل ، حتّى أنّ من مذهب ضرار وحفص :
أنّ الحجّة بعد رسول اللّه صلىاللهعليهوآله في
الإجماع فقط ، وأنّ كلّ ما نقل عن النبيّ صلىاللهعليهوآله
في أحكام الدين من أخبار الآحاد فغير
مقبول ، وأنّ الإمامة تكون في غير قريش أيضاً ، حتّى قال ضرار : إذا اجتمع قرشيٌّ
ونبطيٌّ يقدّم النبطيّ في الإمامة على القرشيّ ؛ لكونه أقلّ عدداً وأضعف وسيلةً ،
فيسهل عزله إذا خالف الشرع .
ومن العجائب أنّهم زعموا أنّ للإنسان
حاسّةً سادسةً يرى بها البارئ
__________________
تعالى في الجنّة.
وأمثال هذه الخيالات الآرائيّة فيهم
كثيرة .
ثمّ إنّ من الأصناف المذكورة الأشعريّة
: أصحاب أبيالحسن عليّ بن إسماعيل الأشعريّ (من ولد أبي موسى الأشعري)، وأكثر من يسمّي نفسه بأهل السنَّة
اليوم على طريقته في كثير من العقائد .
ومن مذهبه ما مرّ في بيان الصفاتيّة من
إثبات الصفات الزائدة القديمة ، فقال : إنّ البارئ تعالى عالم بعلم ، قادر بقدرة ،
حيّ بحياة ، مريد بإرادة ، متكلّم بكلام ، سميع بسمع ، بصير ببصر ، وإنّ هذه صفات
أزليّة قائمة بذاته تعالى ، لا يقال : هي هو أو غيره ، ولا لا هو ولا غيره .
قال : والعبارات والألفاظ المنزلة على
لسان الملائكة إلى الأنبياء دلالات على الكلام الأزلي ، والدلالة مخلوقة محدثة
والمدلول قديم أزليّ .
قال الشهرستاني : وخالف في هذا جماعة
الحشويّة من الصفاتيّة ؛ إذ حكموا بكون الحروف والكلمات قديمة .
قال : والكلام عند الأشعري معنى قائم
بالنفس سوى العبارة ، وإطلاقه على العبارة عنده مجاز ، أو على سبيل الاشتراك
اللفظي ، قال : فالمتكلّم عنده من قام به الكلام ، وعند المعتزلة من فعل الكلام .
ومذهبه في أفعال العباد أنّ للّه قدرةً
وللعبد قدرةً إذا كان صحيحاً ، ولكن قدرة العبد واستطاعته تكون مع الفعل ولا تكون
قبل الفعل ، وقدرته التي تكون مع الفعل ليس لها تأثير في الفعل ، بل الفعل يصدر
بقدرة اللّه
__________________
الغالبة ، ويسمّى هذا
الفعل من العبد كسباً.
وقد قال هذا فراراً عمّا يلزم الجبريّة
المحضة كما مرّ ، لكن لا ينفعه واقعاً ؛ ضرورة أنّ وجود القدرة التي لا تأثير لها
لا ينفع ، ولا يخرجه من الجبر إلى الاختيار .
وأمّا الباقلاّنيفقد تخطّى عن هذا القدر قليلاً فقال :
إنّ ذات الفعل من اللّه ، إلاّ أنّه بالقياس إلى العبد يصير طاعة أو معصية.
وحاصل كلامه أنّ الصلاة والزنا يشتركان
في أنّ كلّ واحد منهما حركة ، ولكن تتّصف حركات الزنا بالزنا ، وحركات الصلاة
بالصلاة ، وأصل الحركة بقدرة اللّه ، وصفتها بقدرة العبد .
وركاكته وعدم خلوصه عمّا يلزم غيره
أيضاً ظاهرة على من له أدنى بصيرة .
ومن مذهب الأشعري أيضاً : أنّ إرادة
اللّه واحدة أزليّة متعلّقة بجميع (المرادات من أفعاله)الخاصّة وأفعال عباده ، من حيث إنّها
مخلوقة ، لا من حيث إنّها مكتسبة لهم ؛ ولهذا قال : أراد الجميع خيرها وشرّها
ونفعها وضرّها ، وكما أراد وعلم أراد من العباد ما علم ، وأمر القلم حتّى كتب في
__________________
اللوح المحفوظ ، فذلك
حكمه وقضاؤه وقدره الذي لا يتغيّر ولا يتبدّل.
ومن مذهبه : جواز تكليف ما لا يطاق.
ومن مذهبه : أنّ كلّ موجود يصحّ أن يرى
؛ لأنّ المصحّح للرؤية إنّما هو الوجود ، والبارئ تعالى موجود فيصحّ أن يرى ، ولكن
لا يجوز أن تتعلّق به الرؤية على جهة ومكان وصورة ومقابلة واتّصال شعاع أو على
سبيل الانطباع ، فإنّ ذلك مستحيل،
ولهذا قال الشهرستاني : إنّ له قولين في ماهيّة الرؤية :
أحدهما : أنّه علم مخصوص ، قال : ويعني
بالخصوص أنّه متعلّق بالوجود دون العدم .
والثاني : أنّه إدراك وراء العلم لا
يقتضي تأثيراً في المدرك ولا تأثّراً عنه .
وقال : إنّه أثبت له اليدين والوجه
ونحوهما ممّا ورد به السمع من غير تأويل .
قال : وله قول في التأويل أيضاً.
ومن مذهبه أيضاً على ما نقل عنه
الشهرستاني : أنّ الإيمان والطاعة بتوفيق اللّه ، والكفر والمعصية بخذلانه ، لكن
فسّر التوفيق بخلق القدرة على الطاعة ، والخذلان بخلق القدرة على المعصية ، بنحو
ما يرجع إلى ما مرّ عنه في أفعال العباد ، وعند بعض أصحابه التوفيق هو : تيسّر
أسباب الخير ، وضدّه الخذلان.
__________________
ومذهبه في الإمامة :
أنّها تثبت بالاتّفاق والاختيار دون النصّ والتعيين ، قال : إذ لو كان ثمّة نصٌّ
لما خفي ، والدواعي تتوفّر على نقله .
قال : ولا نقول في عائشة وطلحة والزبير
إلاّ أنّهم رجعوا عن الخطأ ، ولا نقول في معاوية وعمرو بن العاص إلاّ أنّهما بغيا
على الإمام الحقّ فقاتلهم (علي)مقاتلة
أهل البغي.
قال : وأمّا أهل النهروان فهم الشراة
المارقون عن الدين ؛ للخبر عن النبيّ صلىاللهعليهوآله
.
قال : «وكان عليّ كرّم اللّه وجهه على
الحقّ في جميع أحواله يدور معه الحقّ حيث ما دار»بموجب دعاء النبيّ صلىاللهعليهوآله له.
أقول
: سيظهر فساد عامّة ما ادّعاه هاهنا لا
سيّما دعوى عدم نقل التعيين مع توفّر دواعيه ، لما سيتّضح من كمال ظهور خلافه ، أي
: كثرة نقل التعيين مع توفّر دواعي الإخفاء ، فتأمّل .
ثمّ إنّ من اُولئك الأصناف : الكرّاميّة
، أصحاب محمّد بن كرّام،
__________________
وهو مع كونه من الصفاتيّة
ينتهي كلامه إلى القول بالتجسيم والتشبيه صريحاً ، وقد شاركه في القول بالتجسيم
والتشبيه طوائف اُخرى أيضاً ما عدا الغُلاة الآتية .
قال الشهرستاني : يبلغ عدد تلك الطوائف
إلى اثنتي عشرةفرقة
، واُصولها ستّة ، منهم : الهيصميّة ، والواحديّة ، والإسحاقيّة ، والعابديّة ،
والمضريّة ، والكهمشيّة ، وأصحاب أحمد الجهميوغيرهم
، حتّى أنّ كثيراً من قدماء الحنابلة في بغداد كانوا على التجسيم ، حتّى نقلوا عن
مضر وكهمش وغيرهما : أنّهم أجازوا على ربّهم الملامسة والمصافحة ، وأنّ المخلصين
من المؤمنين يعانقونه في الدنيا والآخرة ، إذا بلغوا في الرياضة إلى حدّ الإخلاص
والاتّحاد المحض.
ونقل الكعبي عن بعضهم أنّه كان يجوّز
الرؤية في الدنيا ، وأن يزورهم يزوره.
وحكي عن داوُدأنّه قال : اعفوني عن الفرج واللحية
وسلوني عمّا وراء ذلك ! !
__________________
وقال : إنّ معبوده جسم ولحم ودم ، وله
جوارح وأعضاء من يد ورجل ورأس ولسان وعين واُذن ، ومع ذلك جسم لا كالأجسام ، ولحم
لا كاللحوم ، ودم لا كالدماء ، وكذلك سائر الصفات ، ولا يشبه شيئاً من المخلوقات ،
ولا يشبهه شيء.
وحكي عنه أنّه قال : هو أجوف من أعلاه
إلى صدره ، مصمت ما وراء ذلك ، وله شعر قطط.
وأكثر هذه الأقوال مأخوذة من اليهود ،
كما مرّ أنّ التشبيه قول معظمهم ، حتّى قالوا : إنّه بكى في الطوفان حتّى رمدت
عيناه فعادته الملائكة.
وقد نصّ محمّد بن كرَّام على أنّ معبوده
على العرش استقراراً ، وعلى أنّه في جهة فوق ذاتاً ، وأطلق عليه اسم الجوهر ،
وأنّه مماسٌ للعرش .
وقال بعضهم : امتلأ العرش به ! وصار
المتأخرون منهم إلى أنّه تعالى بجهة الفوق ومحاذاة للعرش .
وقالت العابديّة : أنّه بينه وبين العرش
من البعد والمباينة والمسافة ما لا ينتهي .
وقال محمّد بن الهيصم: إنّ بينه وبين العرش بُعْداً لا
يتناهى ، وإنّه
__________________
مباين للعالم بينونة
أزليّة ، ونفى التحيّز والمحاذاة ، وأثبت الفوقية والمباينة ، وأطلق أكثرهم لفظ
الجسم عليه.
وقال بعضهم : نعني بكونه جسماً أنّه
قائم بذاته .
ثمّ إنّ منهم من أثبت له النهاية من ستّ
جهات .
ومنهم من أثبت له النهاية من جهة تحت .
ومنهم من أنكر النهاية وقال : هو عظيم ،
ولهم في معنى العِظَم خلاف .
فقال بعضهم : معنى عظمته هو أنّه مع
وحدته على جميع أجزاء العرش ، والعرش تحته ، وهو فوق كلّه على الوجه الذي هو فوق
جزءٍ منه .
وقال بعضهم : معنى عظمته أنّه يلاقي مع
وحدته من جهة واحدة أكثر من واحد ، وهو يلاقي جميع أجزاء العرش ، وهو العليّ
العظيم.
وأمثال هذه الأقوال السخيفة عندهم كثيرة
لا نطيل الكلام بذكرها .
وأكثرهم قالوا : نحن نُثبت القدر خيره
وشرّه من اللّه تعالى ، وأنّه أراد الكائنات كلّها خيرها وشرّها ، وخلق الموجودات
كلّها حسنها وقبيحها ، ونُثبت للعبد فعلاً بالقدرة الحادثة يسمّى ذلك كسباً ،
والقدرة الحادثة مؤثّرة في إثبات فائدة زائدة على كونه مفعولاً مخلوقاً للبارئ تعالى
، وتلك الفائدة
__________________
هي مورد التكليف ،
والمورد هو المقابل بالثواب والعقاب.
ومن عقائد هؤلاء : أنّ الإيمان هو
الإقرار باللسان فقط دون التصديق بالقلب ودون سائر الأعمال ، وفرّقوا بين تسمية المؤمن
مؤمناً فيما يرجع إلى أحكام الظاهر والتكليف ، وفيما يرجع إلى أحكام الآخرة
والجزاء ، فالمنافق عندهم مؤمن في الدنيا حقيقة ، مستحقٌّ للعقاب الأبدي في الآخرة
.
ومن عقائدهم في الإمامة : أنّها تثبت
بالإجماع دون النصّ والتعيين ، حتّى أنّهم جوّزوا عقد البيعة لإمامين في قُطرين.
قال الشهرستاني : إنّ غرضهم إثبات إمامة
معاوية في الشام باتّفاق جماعة من الصحابة ، وإثبات إمامة أمير المؤمنين عليّ عليهالسلام بالمدينة والعراقين
باتّفاق عامّة الصحابة .
قال : ومذهبهم اتّهام عليّ عليهالسلام في الصبر على ما جرى
بعثمان والسكوت عنه ، وتصويب معاوية فيما استند به في قتال عليّ عليهالسلام من طلب قتلة عثمان، ولهم أيضاً مقالات سخاف لا طائل في
ذكرها .
فهؤلاء الذين ذكرناهم مع الذين قدّمنا
ذكرهم من طوائف المعتزلة يرتقون ـ أي أعاظمهم ـ إلى ما يزيد على ثلاثين فرقة ،
وأكثر عقائدهم فسادها ظاهر ، بل بالبداهة لكلّ ذي مسكة ، وحاشا أن يكون مبنى دين
اللّه على أمثال هذه السخافات الفاضحة ، ومع هذا يجري هاهنا أيضاً ما ذكرناه في
المعتزلة ممّا ينادي بعدم كون الفرقة الناجية فيهم ، فلا تغفل .
__________________
المبحث
الثالث : في بيان الفِرَق الذين عدّوهم من صنفي
الخوارج والوعيديّة ؛ لاشتراكهم في تكفير صاحب الكبيرة وتخليده في النار ، وكذا
بيان الفِرَق الذين عدّوا من المرجئة ؛ لموافقتهم الخوارج في بعض المسائل
المتعلّقة بالإمامة ، وهؤلاء يرتقي أعاظم طوائفهم وفِرَقهم إلى أزيد من عشرين فرقة
، كما سيظهر ، فيكون مع ما سبق بضعاً وخمسينفرقة
:
فمن هؤلاء الطوائف :
المحكّمة : وهم الخوارج الذين خرجوا على
عليّ عليهالسلام حين
جرى أمر الحَكَمينوقاتلهم
في نهروان ، ورأسهم كان : عبداللّه بن الكوّاءوحُرقوص
بن زهير المعروف بذي الثدية،
وعروة بن جريروغيرهم
،
__________________
وتابعوا أوّلاً
عبداللّه بن وهب الراسبي.
وقد أشرنا إلى أنّهم يكفّرون أصحاب
الكبار .
ومن بدعهم في الإمامة جوّزوا أن يكون
الإمام من غير قريش ، وكلّ من ينصبونه برأيهم بشرط معاشرته الناس بالعدل واجتناب
الجور ، وإلاّ وجب عزله أو قتله .
قيل : وهؤلاء أشدّ الناس قولاً بالقياس
، وتجويز أن لا يكون إمام في العالم أصلاً .
ومن صريح ما يدلّ على كفرهم تكفيرهم
عليّاً عليهالسلام ،
حتّى أنّهم لعنوه بسبب التحكيم الذي هم ألجأوه إليه ، ثمّ قالوا : لا حكم إلاّ
للّه ، فلِمَ رضيت بتحكيم الرجال ؟ ! هذا ، مع أنّهم هم الحاكمون في هذه المسألة
وهم رجال.
وتفصيل حكاياتهم وتبيان كفرهم وفسادهم
مذكورة في كتب السير .
وبالجملة : بطلان مذاهب الخوارج
وأتباعهم من ضروريّات سائر طوائف الإسلام .
ومنهم : الأزارقة أصحاب نافع بن الأزرق، وهم الذين خرجوا في
__________________
الأهواز وفارس في
أيّام عبداللّه بن الزبير والحجّاج .
ومن بدعهم ـ زائداً على سابقيهم ـ أنّهم
صرّحوا بتصويب قاتل عليّ عليهالسلام ،
وكفّروا كثيراً من المسلمين كابن عبّاس وسائر أصحاب عليّ عليهالسلام .
ومن مذهبهم تكفير عائشة وعثمان
وأمثالهما أيضاً ، وكفّروا كلّ من لم يهاجر إليهم ، وأباحوا قتل أطفال مخالفيهم
ونسوانهم ، وأسقطوا الرجم عن الزاني وسائر الأحكام التي لم يفهموها من القرآن .
ومن مذهبهم عدم جواز التقيّة في قول ولا
عمل ، وجواز أن يبعث اللّه نبيّاً يعلم أنّه يكفر بعد نبوّته ، أو كان كافراً قبل
بعثته ، وأجمعوا على أنّ من ارتكب كبيرة من الكبائر كفر وخرج به عن الإسلام جملةً
، ويكون مخلّداً في النار مع سائر الكفّار ، واستندوا في ذلك إلى كفر إبليس ،
فقالوا : ما ارتكب إلاّ كبيرة من الكبائر حيث اُمر بالسجود فامتنع ، وإلاّ فهو كان
عارفاً بوحدانيّة اللّه سبحانه.
ثمّ منهم : النجداتأصحاب نجدة بن عامر الحنفي، وقيل :
__________________
عاصم ، وهؤلاء كانوا
أيضاً في زمان الأزارقة ، واختصّوا أيضاً بمذاهب ، فإنّهم قالوا بكون الجاهل فيما
سوى معرفة اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله ،
والإقرار بما جاء به النبيّ صلىاللهعليهوآله من
اللّه معذوراً إلى أن تقوم الحجّة عليه ؛ ولهذا يقال لهم : العاذريّة لأنّهم عذروا
بالجهالات في الأحكام الفروعيّة .
وقالوا : من نظر نظرة أو كذب كذبة صغيرة
وأصرّ عليها فهو مشرك ، ومن زنى وشرب وسرق غير مصرٍّ عليه فهو غير مشرك .
ونقل عنهم : أنّهم قالوا بجواز التقيّة
في القول والعمل كلّه وإن كان في قتل النفس .
وقيل : إنّهم أجمعوا على أنّه لا حاجة
إلى إمام قطّ.
ثمّ إنّ منهم : البيهسيّة أصحاب أبي
البيهس الهيصم بن جابر،
وكانوا في زمان الحجّاج أيضاً ، ومنهم الشبيبالمشهور
بالشجاعة ،
__________________
وأكثرهم يقولون : لا
محرّم سوى ما في قوله تعالى : «قُلْ لاَ أَجِدُ فىِ مَا أُوحِىَ إِلَىَّ
مُحَرَّماً»الآية
، وإنّ ما سوى ذلك كلّه حلال .
وقال بعض فِرَقهم : إنّ الإمام إذا كفر
كفرت الرعيّة الغائب منهم والشاهد ، وإنّ الرجل إذا أوقع حراماً ولم يعلم تحريمه
فقد كفر .
وكذا قال هؤلاء البعض منهم بما مرّ في
المفوّضيّة من قولهم : إنّ اللّه تعالى فوّض إلى العباد ، وليس له في أعمال
العباد مشيئة .
وفيهم مذاهب اُخرى متناقضات بحيث تبرّأ
بعضهم من بعض ، حتّى قال بعضهم بتكفير من حصل له السكر ولو بالشراب الحلال.
ثمّ إنّ منهم : العجاردة أصحاب عبد
الكريم بن عجرد،
وهؤلاء كالنجدات في مذاهبهم وبدعهم إلاّ أنّهم تفرّدوا ببعض الأشياء كإنكارهم كون
سورة يوسف من القرآن ، وتكفير الأطفال حتّى يدعى إلى الإسلام ، ووجوب الدعاء إليه
إذا بلغ ، وأمثال ذلك.
__________________
ومنهم : الميمونيّة أصحاب ميمونمن العجاردة ، وتفرّدوا عنهم بأشياء :
منها : تجويز نكاح بنات البنات وبنات
أولاد الإخوة والأخوات ، وأنّ اللّه ليس له مشيئة في معاصي العباد ، وأنّ الخير
والشرّ كلّه من العبيد.
ومنهم : الحمزيّة أصحاب حمزة بن أدرك، وهم أيضاً من العجاردة ، وتفرّدوا
عنهم بأشياء :
منها : جواز وجود إمامين في عصر واحد ما
لم يجمع الكلمة ، ولم يقهر الأعداء.
ومنهم : الخلفيّة أصحاب خلف الخارجي، وهم من خوارج كرمان ومكران ، وخالفوا
الحمزيّة من العجاردة في القدر ، وأضافوا القدر خيره وشرّه إلى اللّه ، ولهم
مخالفات اُخَر أيضاً.
__________________
ومنهم : الحازميّة أصحاب حازم بن عليّ، وهم أيضاً من العجاردة ، لكنهم
تفرّدوا عنهم بأشياء :
منها : أنّهم يتوقّفون في أمر عليّ عليهالسلام ، ولا يصرّحون
بالبراءة عنه ، ولا يصرّحون بالبراءة في حقّ غيره.
ومنهم : الأخنسيّة أصحاب أخنس بن قيس، وهم من جملة الثعالبةأيضاً إلاّ أنّهم تفرّدوا عنهم في أشياء
:
منها : التوقّف عن جميع من كان في دار
التقيّة إلاّ من عرف أنّه على طريقتهم أو على خلاف طريقتهم .
ومنها : تزويج المسلمات من مشركي قومهم
أصحاب الكبائر.
ومنهم : السنانيّة أصحاب سنان الخارجي، وهم خالفوا قومهم في مسائل ، منها :
أنّهم قالوا بالجبر ونفي قدرة العبد صريحاً على وفق ما مرّ من مذهب الجهميّة .
وقال بعضهم : إنّ اللّه تعالى لم يعلم
حتّى خلق لنفسه علماً ، وإنّ الأشياء إنّما تصير معلومة عند حدوثها ووجودها.
__________________
ثمّ إنّ منهم : الأباضيّة أصحاب عبد
اللّه بن إباض،
وهم اليوم في عُمان .
قالوا : إنّ مخالفيهم من أهل القبلة
كفّار غير مشركين ، ومناكحتهم جائزة ، ومواريثهم حلال ، وغنائم أموالهم عند الحرب
من الخيل والكراع والسلاح حلال ، وما سواه حرام ، وإنّ قتلهم وسبيهم سرّاً وغيلةً
حرام إلاّ بعد نصب القتال وإقامة الحجّة .
وقالوا : إنّ دار مخالفيهم من أهل
الإسلام دار توحيد إلاّ معسكر السلطان فإنّه دار بغي ، وأجازوا شهادة مخالفيهم على
أوليائهم .
وقالوا في أصحاب الكبائر : إنّهم
موحّدون لا مؤمنون ، وإنّ من ارتكب كبيرة كَفَرَ كُفرَ النعمة لا كُفرَ الملّة ،
وإنّ أفعال العباد مخلوقة للّه تعالى إحداثاً وإبداعاً ومكتسبة للعبد حقيقةً لا
مجازاً ، ولا يسمّون إمامهم أمير المؤمنين ولا أنفسهم مهاجرين، ولهم أقوال غير ما ذُكر أيضاً ، وفي
أكثر سائر العقائد كالعجاردة .
ومنهم : الحارثيّة أصحاب الحارث الأباضي، إلاّ أنّهم خالفوهم في
__________________
مسائل ، منها : أنّهم
اختاروا مذهب المعتزلة في القدر.
ومنهم : اليزيديّة أصحاب يزيد بن أنيسة، وهم الذين يتولّون بعض الخوارج
ويتبرّأون عن بعضهم ، ومن مذهبهم أنّهم زعموا أنّ اللّه سيبعث رسولاً من العجم
ويترك شريعة المصطفى صلىاللهعليهوآله ويكون
على ملّة الصابئة المذكورة في القرآن ، وقالوا : إنّ كلّ ذنب من صغيرة أو كبيرة
فهو شرك.
ومنهم : الأصفريّة أصحاب زياد بن الأصفر، وهم خالفوا الأزارقة والنجدات
والأباضيّة في كثير من عقائدهم لا حاجة إلى ذكرها .
وقد نُقل عنهم أنّهم قالوا : نحن مؤمنون
عند أنفسنا ولا ندري لعلّنا خرجنا عن الإيمان عند اللّه عزوجل .
ولعمري لقد صدقوا في هذا فقط .
ثمّ إنّ هؤلاء كلّهم من الخوارج ، وقد
ظهر أنّ عامّتهم وعيديّة ، فلنذكر
__________________
الآن بقيّة الفِرَق
التي أكثرها من المرجئة ، وقد مرّ معناها فتذكّر .
فمن هؤلاء : اليونسيّة أصحاب يونس
النميري،
وخلاصة مذهبهم : أنّ الإيمان هو معرفة اللّه والخضوع له ، وترك الاستكبار عليه
دون غير ذلك ، وأنّه إذا كان الإيمان خالصاً واليقين صادقاً لا يضرّ ترك العبادات
ولا يعذّب عليها ، وزعموا أنّ إبليس كان عارفاً لكنّه كفر باستكباره على اللّه.
ومنهم : العبيديّة أصحاب عبيد المُكْتِب، ومن مذهبهم : أنّ ما دون الشرك مغفور
لا محالة ، وأن العبد إذا مات على توحيده لا يضرّه ما اقترف من الآثام ، ومن
مذهبهم أيضاً أنّ علم اللّه تعالى لم يزل وهو شيء غيره ، وكذا كلامه ودينه وهكذا
، وقالوا : إنّ ربّهم على صورة إنسان.
ومنهم : الغسّانيّة أصحاب غسّان الكوفي، ومن مذهبهم : أنّ
__________________
الإيمان هو المعرفة
باللّه وبرسوله صلىاللهعليهوآله ،
والإقرار بما جاء به النبيّ صلىاللهعليهوآله مجملاً
بلا تفسير ولا تفصيل ، وأنّ من كان كذلك لا يبالي ممّا سوى ذلك ؛ إذ لا مدخل للغير
في الإيمان فلا ضرر ، حتّى أنّ عنده إن قال رجل : أعلم أنّ اللّه فرض الحجّ إلى
الكعبة ولكن لا أدري أين الكعبة ولعلّها كانت في الهند ؟ لكان مؤمناً.
ومنهم : الثوبانيّة أصحاب أبي ثوبان المرجئ، وهم الذين زعموا أنّ الإيمان هو
المعرفة والإقرار باللّه وبرسله[ عليهمالسلام ] وبكلّ ما لا يجوز
في العقل أن يفعله ، وأنّ ما جاز في العقل تركه فليس من الإيمان ، وأخّروا العمل
كلّه عن الإيمان .
ومن هؤلاء : الغيلانيّة أصحاب أبي مروان
بن غيلان الدمشقي،
__________________
وهم كانوا يقولون
بالقدر خيره وشرّه من العبد ، وأنّ الإمامة تصلح في غير قريش ممّن كان قائماً
بالكتاب والسنّة ، وأنّها لا تثبت إلاّ بالإجماع .
وقد اعتُرض عليهم بأنّ الاُمّة أجمعت
على أنّ الإمامة لا تصلح لغير قريش ، وهؤلاء كلّهم زعموا أنّ اللّه تعالى إن عفا
عن عاصٍ في القيامة عفا عن كلّ مؤمنٍ عاصٍ هو في مثل حاله ، وكذا إن أخرج من النار
أحداً.
ومنهم : التومنيّة أصحاب أبي معاذ
التومني،
وهم الذين زعموا أنّ الإيمان هو ما عصم من الكفر ، وهو اسم الخصال التي إذا تركها
التارك كفر ولو خصلة واحدة منها ، ثمّ قالوا : وتلك الخصال هي المعرفة ، والتصديق
، والمحبّة ، والإخلاص ، والإقرار بما جاء به الرسول صلىاللهعليهوآله
، وعلى مذهبهم إن أتى رجل بالمعاصي التي
لا تنافي الإخلاص لا تضرّه.
ومنهم : الصالحيّة أصحاب صالح بن عمرو، وهم الذين جمعوا
__________________
بين القدر والإرجاء ،
ومن مذهبهم أنّ الإيمان هو المعرفة باللّه على الإطلاق ، وهو أنّ للعالم صانعاً
فقط ، والكفر هو الجهل به على الإطلاق ، قالوا : وقول القائل : ثالث ثلاثة ، ليس
بكفر ، لكنّه لا يظهر إلاّ من كافر ، وزعموا أنّ معرفة اللّه هو المحبّة والخضوع
، ويصحّ ذلك مع جحد الرسول .
وقالوا : يصحّ في العقل أن يؤمن باللّه
ولا يؤمن برسوله ، غير أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: «من لا يؤمن بي فليس بمؤمن باللّه تعالى».
وزعموا أنّ الصلاة ليست بعبادة اللّه ،
وأنّه لا عبادة إلاّ الإيمان به ، وهو معرفته ، وهو خصلة واحدة لا يزيد ولا ينقص ،
وكذلك الكفر.
وممّا ينادي بأنّ الفرقة الناجية ليست
منهم ـ سوى ما ذكرناه في إخوتهم ـ ما ورد من روايات ذمّ المرجئة وبطلان طريقتهم ؛
إذ لا شكّ أنّ هؤلاء مصداقها بأيّ معنى كانت مع اشتهارهم حتّى فيما بينهم بهذا
الاسم .
وإذ تبيّن هذا ، فلنذكر سائر الفِرَق
الذين هم أيضاً من القسم الأوّل ، وإن عدّهم جمع من فِرَق الشيعة .
المبحث
الرابع : في بيان بقيّة الفِرَق الذين [هم] من
القسم الأوّل .
اعلم أنّه قد نقل جمع أنّ جماعة قالوا
بخلافة العبّاس عمّ النبيّ صلىاللهعليهوآله بعده
بلا واسطة ، وانقرضوا،
فإن ثبت ذلك فهم أيضاً فرقة ، وإلاّ فالظاهر
__________________
أنّه لا أصل له .
واتّفق أهل السير وغيرهم أنّ من المذاهب
أيضاً : الكيسانيّة ، وهم أصحاب المختار بن أبي عبيدة الثقفي، سمّوا بذلك لأنّ أمير المؤمنين عليهالسلام مسح يده على رأس
المختار في صغره وقال : «يا كيّس يا كيّس»،
وقيل : كان كيسان من موالي عليّ عليهالسلام .
وهم أيضاً كانوا فِرَقاً عديدة كما
سنذكرهم ، ولكن صرّح جمع : بأنّهم انقطعوا وانقرضوا ولم يبق اليوم أحد على مذهبهم
، وهو كافٍ في بطلانهم .
ثمّ إنّ جمعاً عدّوهم من القسم الثاني
دون الأوّل .
والظاهر أنّ هذه النسبة إلى جميعهم
توهّم ، ضرورة كون عامّة الناس في زمانهم من القائلين بخلافة الشيخين ، بل يظهر من
بعض أخبار أهل البيت عليهمالسلام أنّ
المختار كان في قلبه حبّ الشيخين،
حتّى نقل بعض
__________________
العامّة هذا المعنى بدون إدراك المراد
به ، حيث روى عن بعض أهل البيت عليهمالسلام أنّه
قال : كان في قلب المختار حبّ الجبت والطاغوت.
نعم يظهر من بعض الأخبار أيضاً : أنّه
كان عارفاً بالحقّ ، لكن أظهر ما أظهر من إمامة ابن الحنفيّة مصلحةً .
وأيضاً يحتمل (أنّ المختار كان هو
وخواصّ أصحابه)،
بل سائر الكيسانية أيضاً من القسم الثاني القائلين بإمامة عليّ عليهالسلام بعد النبيّّ صلىاللهعليهوآله بلا
فصل ، وبإمامة محمّد بن الحنفية بعده أو بعد الحسنين عليهماالسلام ،
وأنّ سائر أصحابه وأتباعه وجنوده الكوفيّين وغيرهم كانوا من القسم الأوّل ،
ويؤيّده ما نُقل أنّ مذهب الكيسانية : أنّ الإمامة بالوصاية والتعيين ولو كنايةً .
وبالجملة
: لا يبعد كون بعضهم من فِرَق الشيعة
إلاّ أنّ الأصل فيهم عدّهم من القسم الأوّل ، وإنّما كان اشتهارهم بالشيعة من حيث
تبرُّئهم من بني اُميّة لا لغير ذلك ، ولهذا لم نذكرهم في المطلب الآتي ، ويجمعهم
القول بإمامة محمّد بن الحنفيّة بعد عليّ عليهالسلام قبل
الحسنين ، أو بعدهما عليهماالسلام ،
فمن فِرَقهم :
المختاريّة : أصحاب المختار المذكور ،
وهو الذي طلب بثأر الحسين عليهالسلام ،
وقتل قَتلته من أهل الكوفة ، ورأس عسكره إبراهيم بن مالك الأشتر، وهو قاتل ابن زياد لعنه اللّه .
__________________
والحقّ أنّه كان يقول واقعاً أو ظاهراً
بإمامة محمّد بن الحنفيّة بعد الحسن والحسين عليهماالسلام ، ومن ادّعى أنّه كان قائلاً بإمامة
محمّد بعد أمير المؤمنين عليهالسلام مقدّماً
على الحسنين عليهماالسلام فقد
توهّم .
نعم ، من الكيسانيّة فرقة يقال لهم :
الحنّانيّة أصحاب حنّان بن زيد السراج،
وهم الذين قدّموا محمّداً في الإمامة على الحسنين عليهماالسلام ،
وقالوا : إنّهما كانا داعيين إليه وأميرين من قِبَله ، وإنّ الحسن إنّما دعا إليه
في باطن الدعوة بأمره ، وإنّ الحسين عليهالسلام ظهر
بالسيف بإذنه .
وعمدة استنادهم في إمامة محمّد مطلقاً
ما نقلوه من أنّ عليّاً عليهالسلام قال
له يوم الجمل : «أنت ابني حقّاً»،
وكذا أعطاه الراية ذلك اليوم .
قالوا : وكلاهما آية الإمامة ؛ لكون
أمير المؤمنين عليهالسلام صاحب
راية النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
ولأنّ قوله له : «أنت ابني حقّاً» بمعنى : أنت الإمام بعدي ، أي أنت شبيه لي في
هذا.
ولا يخفى سخافة الوجهين جميعاً ؛ لوجوه
كثيرة :
منها : إنّ عليّاً عليهالسلام إنّما قال ذلك له
مدحاً لما تبيّن منهمن
الشجاعة ، تداركاً لتوبيخه إيّاه أوّلاً حين قصّر في الجهد ، ويدلّ على هذا
__________________
أنّه عليهالسلام لمّا
قال له ذلك رأى في الحسنين عليهماالسلام نوع
انكسار بذلك الكلام ، قال : «وأنتما ابنا رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
»،
فلو كان ما قال لمحمّد نصّاً في الإمامة لزم أن يكون ما قال فيهما نصّاً في
النبوّة.
وأمّا إعطاء الراية وقياسهم إيّاه
بإعطاء النبيّ صلىاللهعليهوآله الراية
عليّاً عليهالسلام فمن
البيّن أنّ حمل راية النبيّ صلىاللهعليهوآله لم
يكن نصّ الإمامة ؛ ضرورة أنّه قد حمل رايته أيضاً جماعة لم يقل أحد بإمامتهم .
وبالجملة
: وجوه بطلان شُبههم واضحة ، فتأمّل .
ثمّ إنّ الكيسانيّة صاروا بعد انتقال
محمّد إلى دار البقاء فرقتين :
إحداهما
: الكربيّة ، أصحاب أبي كرب الضرير، فإنّهم زعموا أنّ ابن الحنفيّة حيّ لم
يمت ولا يموت ، وأنّه هو المهديّ المنتظر ، وأنّه في جبل رضوى بين أسد ونمر
يحفظانه ، وعنده عينان نضّاختان تجريان بماء وعسل ، وأنّه يعود بالغيبة فيملأ
الأرض عدلاً كما ملئت جوراً.
وثانيتهما
: الهاشميّة ، أصحاب أبي هاشم بن محمّد
بن الحنفيّة،
قالوا بموت ابن الحنفيّة ، وانتقال الإمامة بعده إلى ابنه أبي هاشم بدعوى
__________________
وصيّة أبيه إليه وتعليمه
العلوم والأسرار.
ثمّ اختلفوا بعد موت أبي هاشم إلى فِرَق
:
فمنهم من قال بإمامة محمّد بن عليّ بن
عبد اللّه بن العبّاس،
وإنّها جرت في أولاد محمّد إلى أبي العبّاس السفّاحأوّل خلفاء بني العباس.
ومنهم من قال إنّ الإمامة انتقلت بعد
أبي هاشم إلى عليّ بن الحسين زين العابدين عليهماالسلام .
ومنهم من قال بانتقال الإمامة إلى زين
العابدين من ابن الحنفيّة.
ومنهم من قال بانتقالها من أبي هاشم إلى
ابن أخيه الحسن بن عليّ
__________________
ابن محمّد بن
الحنفيّة.
ومنهم من قال بانتقالها من أبي هاشم إلى
أخيه عليّ،
ومن عليّ إلى ابنه الحسن.
ومنهم من قال بانتقالها من أبي هاشم إلى
عليّ بن عبداللّه بن العبّاس،
ثمّ إلى ابنه محمّد ، وهؤلاء يقال لهم : الرزّاميّة ؛ إذ كان اسم كبيرهم رزّاماً.
ومنهم من قال بانتقالها من أبي هاشم إلى
عبد اللّه بن عمرو بن الحرب الكنديبوصيّة
أبي هاشم ، ومن هؤلاء من رجع عن هذا القول ،
__________________
وقال بإمامة عبد
اللّه بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب.
ومنهم من قال : بانتقال الإمامة من أبي
هاشم إلى بيان بن سمعانالذي
كان يقول باُلوهيّة أمير المؤمنين عليهالسلام .
وبالجملة
: أعاظمهم يرتقي إلى خمس فِرَق ، لكن لم
يبق من أهل هذه المذاهب كلّها أحد ، مع أنّ عامّتهم كانوا يقولون بما سيأتي في
الفرقة الباطنيّة ، من أنّ الدين طاعة رجل وهو الإمام ، وأنّ المراد بالصلاة
والصيام وسائر الأركان الشرعيّة معرفة الرجل ، فإذا عرفه إنسان سقطت عنه تلك
الأحكام ، وأكثرهم كانوا تناسخيّة وحلوليّة ، وأمثال ذلك ممّا هو صريح الكفر
والطغيان ، ولا حاجة إلى تفصيلها لوضوح بطلانها .
__________________
وقد نُقل أنّ السيّد الحميريكان من الكيسانيّة ، وقال في ذلك
أشعاراً،
ثمّ اهتدى بإرشاد الصادق عليهالسلام ،
فقال :
تَجعفرتُ باسمِ اللّه وَاللّه أكبرُ
|
|
وأيقنتُ أَنَ اللّه يَعفُو ويَغفرُ
|
وَدنتُ بِدين غير ما كنتُ دايناً
|
|
ولما نَهاني سَيّد الناسِ جَعفرُ
|
إلى آخر الأبيات.
__________________
ثمّ إنّ من بقيّة المذاهب التي من القسم
الأوّل صريحاً البتريّة ، والسليمانيّة ، ومنهم الصالحيّة ، وهما فرقتان من الزيديّة
الآتية ، إلاّ أنّ البتريّة قد تقال ويراد بها مقابل الجاروديّة الآتية ، أي :
الزيديّة الذين لم ينكروا خلافة الشيخين ، سواء أنكروا عثمان أم لا ؟ وقد يقال
ويراد بهم الذين يقولون بخلافة الثلاثة وحسن حالهم جميعاً ، ثمّ بخلافة عليّ
والحسنين عليهمالسلام ،
ثمّ زيد بن عليّ بن الحسين ، ثمّ كلّ فاطميٍّ عالم شجاع عدل خرج بالسيف ، وهؤلاء
هم أصحاب كثير النوّاء.
قيل: إنّ زيد بن عليّ لمّا سمعهم قالوا
: نتولّى عليّاً والحسنين عليهمالسلام ،
ونتبرّأ من أعدائهم ، وكذا نتولّى أبا بكر وعمر ونتبرّأ من أعدائهما ، قال لهم :
أتتبرّؤون من فاطمة عليهاالسلام بترتم بتّركم اللّه، فيومئذٍ سمّوا البتريّة، أي
: الأبترون.
وأمّا السليمانيّة : وهُمأصحاب سليمان بن جرير،
__________________
كفّرواعثمان للأحداث التي صدرت منه ، وكذا
كفّروا عائشة وطلحة والزبير بسبب إقدامهم على قتال عليّ عليهالسلام .
والصالحيّة : وهُم أصحاب الحسن بن صالح
بن حيّ الثوري،
من المتوقّفين في عثمان .
وكلّهم مشتركون في صحّة كون الخلافة
بالمشورة ، وتجويز العمل بالرأي،
حتّى أنّ سليماناً قال : يجوز أن تنعقد الخلافة بشوراثنين من خيار المسلمين ، وإنّها تصحّ
في المفضول مع وجود الفاضل.
وقال بعضهم : يجوز ذلك بشرط رضا الفاضل
، وقالوا : هكذا كان حالخلافة
من تقدّم على عليّ عليهالسلام ،
فإنّه كان أفضل وأكمل ، بل صرّح
__________________
أكثرهم بأنّ الاُمّة
أخطأت في بيعة من قدّموه على عليّ عليهالسلام خطأً
لم ينته إلى درجة الفسق ، لكنّ الأوّلين ممّن صحّت إمامتهما ؛ حيث انعقد به الشور
ورضي به عليّ عليهالسلام .
وقد جوّز بعضهم أن يكون الإمام غير
مجتهد أيضاً ، بل جوّز بعضهم أن يكون الإمام جاهلاً ، لكن بشرط أن يكون عنده عالم
يرجع إليه .
ويجوز عند أكثرهم وجود إمامين في قُطرين
، ومن العجائب أنّهم يصوّبون جميع فتاوى كلّ واحد من الإمامين ولو كان في قتل
الإمام الآخَر .
وأكثـر هـؤلاء اُصولهم اُصـول المعتزلة
، وفروعهم فـروع أبي حنيفة إلاّ قليلاً من المسائل التي تبعوا فيها الشافعي؛ إذ كما صرّح صاحب الكشّاف وصاحب
الاستيعاب وغيرهما : كان أبو حنيفة بتريّاً،
وكذا جماعة من علماء المخالفين الذين كانوا في أواخر بني اُميّـة وأوائل بني
العبّاس كمغيرة بن سعيد،
وسالم بن أبي حفصة،
والحكم بن
__________________
عتيبة، وسلمة بن كُهيل، وأبي المقدام ثابت الحدّادوغيرهم.
فهؤلاء تمام الستّين فرقة ، الذين عدّوا
من القسم الأوّل ، اللّهمّ إلاّ إذا قيل بكون الكيسانيّة من القسم الثاني كما
بيّنّاه ، فإنّه حينئذٍ تكون الفِرَق الذين من القسم الأوّل دون الستّين ، والذين
من القسم الثاني فوق الثلاث عشرة .
ولقد نقلنا ما نقلناه من عقائد أكثرهم
لا سيّما في المباحث الثلاثة
__________________
السابقة على وفق نقل
الشهرستاني ؛ لشهرة كونه من عرفاء الملل ، لا سيّما الفِرَق التيمن صنف أهل مذهبه ، وإلاّ فعلائم
التوهّم لائحة من بعض منقولاته ، لا سيّما الذي ينسب إلى الشيعة ، ولهذا لا نعتني
ولم نعبأببعض
كلامه ، والعهدة في البواقي عليه .
المطلب الثاني :
في بيان الفِرَق التي هي من النوع
الأوّل من القسم الثاني،
أَي ما سوى الفرقة الاثني عشريّة من سائر الفِرَق التي عُدَّت من الشيعة القائلين
بخلافة عليّ عليهالسلام بعد
النبيّ صلىاللهعليهوآله بلا
فصل ، وقد يقال لهم : الإماميّة أيضاً ، إلاّ أنَّ الحقّ أنّ الإماميّة منهم هم
الذين كانوا يقولون بوجوب الإمامة والعصمة ، ووجوب ورود النصّ من اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله ،
والظاهر أنّه لم يبق اليوم أحد منهم ما سوى الاثني عشريّة الآتية في المطلب الآتي
؛ ولهذا ترى كثيراً ما نقول : الإماميّة ، ومرادنا خصوص الاثني عشريّة .
ثمّ إنّ معظم هذه الفِرَق اثنتا عشرة
فرقة ، وإن لم يكن بعضها خالٍ عن شعب ، ولنذكر أصل تلك الفِرَق مع نبذ من شواهد
بطلانها سوى ما نحن فيه من اشتراك الجميع في استعمال الرأي .
فالاُولى منهم : الجاروديّة من الزيديّة
، أصحاب أبي الجارود زياد بن
__________________
المنذر، ويقال له : سرحوب أيضاً ، وقيل : منهم
أبو خالد الواسطي،
وفضيل الرسّان،
وهؤلاء يقولون بالنصّ على أمير المؤمنين عليهالسلام وصفاً
لا تسميةً ، وإنّ الصحابة كفروا بمخالفته وتركهم الاقتداء به بعد النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
وإنّ الإمامة بعد الحسن والحسين عليهماالسلام سواء
في أولادهما ، فمن خرج منهم بالسيف ، وكان عالماً زاهداً شجاعاً سخيّاً فهو إمام، ولم يشترطوا العصمة في الإمامة ، ولا
النصّ لا سيّما الصريح .
وعند أكثرهم أنّ الإمام بعد الحسين
عليُّ بن الحسين عليهماالسلام ،
ثمّ زيد ابنه،
وعند بعضهم أَنَّ زيداً هو الإمام بعد الحسين عليهالسلام ؛
لخروجه
__________________
بالسيف، ثمّ يحيى بن زيدعند بعضهم، ثمّ محمّد بن عبد اللّه بن الحسنالذي خرج بالمدينة وقتله عسكر الدوانيقي، وأكثرهم على إمامة محمّد المذكور بعد
زيد ، ثمّ اختلفوا ، فقال بعضهم بأنّ محمّداً هذا هو المهديّ المنتظر ، وزعموا
أنّه حيٌّ لم يُقتل.
وقال بعضهم : إنّ المنتظر هو محمّد بن
القاسم بن عليّ بن الحسين
__________________
صاحب طالقان الذي
حبسه المعتصمحتّى
مات وهم أنكروا موته.
وقيل : إنّ المنتظر هو يحيى بن عمر بن
يحيى بن الحسين بن زيدصاحب
الكوفة الذي دعا الناس إلى نفسه ، واجتمع عليه خلق كثير ، وقُتل في أيّام المستعين، وهم أيضاً منكرون لقتله.
__________________
وفي بعض كتب الجاروديّة ـ وهو كتاب «شرح
الاُصول» للناصر للحقّ الحسن بن عليّ من أحفاد عمر بن زين العابدين عليهالسلام ، وهو من أئمّة
الزيديّة ـ أنّ أوّل الأئمّة بعد النبيّ صلىاللهعليهوآله
عندنا عليّ بن أبي طالب ، ثمّ ابنه
الحسن ، ثمّ أخوه الحسين ، ثمّ عليّ بن الحسين عليهمالسلام ،
ثمّ ابنه زيد بن عليّ ، ثمّ محمّد بن عبداللّه بن الحسن ، ثمّ أخوه إبراهيم ، ثمّ
الحسين بن علي صاحب الفخّ ، ثمّ يحيى بن عبداللّه بن الحسن ، ثمّ محمّد بن
إسماعيل ابن إبراهيم بن الحسن ، ثمّ القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيمبن الحسن ، ثمّ الناصر للحقّ الحسن بن
عليّ بن الحسن بن عليّ بن عمر بن عليّ بن الحسين عليهماالسلام ،
ثمّ يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن الحسن ، ثمّ محمّد بن يحيى
بن الحسين ، ثمّ أحمد بن يحيى ابن الحسين ، ثمّ محمّد بن الحسن بن القاسم بن الحسن
بن عليّ بن عبد الرحمن بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن الزكيّ ، ثمّ ابنه
الحسن ، ثمّ أخوه عليّ بن محمّد ، ثمّ أحمد بن الحسين بن هارون من أولاد زيد بن
الحسن ، ثمّ أخوه يحيى ، ثمّ سائر أهل البيت الذين دعوا إلى الحقّ، انتهى ما فيه .
ويظهر منه عدم تعيين المهدي عند من قال
بقوله ، بل عدم تعداد محمّد بن القاسم ولا يحيى بن عمر ـ اللّذين سبق ذكرهما ـ من
الأئمّة .
وبالجملة
: هؤلاء أيضاً اُصولهم اُصول المعتزلة ،
ويجوز عندهم وجود إمامين في قُطرين ، وكذا تجويز إمامة المفضول مع وجود الأفضل
__________________
والأعلم إذا لم يخرج
الأعلم بالسيف وخرج غيره ، كالذين خرجوا في زمان الباقر والصادق عليهماالسلام مع اعترافهم
بأعلميّتهما وأفضليّتهما .
وعمدة ما تمسّكوا به في مذهبهم حديث
الثقلين ، والأمر بالتمسّك بالكتاب والعترة ، ثمّ أجاب أكثرهم عن كون دلالة دليلهم
هذا على حقّيّة الطائفة الاثني عشريّة أظهر ولا أقلّ من الاشتراك : بأنّ تلك
الطائفة يقولون بالجبر والتشبيه . وهذا محض الفرية عليهم .
وممّا ينادي ببطلانهم ـ مع قطع النظر عن
سائر الأدلّة الآتية في محلّها من لزوم العصمة والعدد الخاصّ وغير ذلك ـ اشتراكهم
مع سائر المذاهب في الاعتماد في الدين على الآراء التي مرّ حالها ، واشتراكهم في
معظم اُصولهم مع المعتزلة ، وفي بعض المسائل مع الخوارج ، وفي سائرها اُصولاً
وفروعاً لا سيّما في إمامة ذرّيّة فاطمة عليهاالسلام مع البتريّة الذين معهم على
طرفي نقيض في أمر الخلافة ، بحيث يضلّل ، بل يكفّر بعضهم بعضاً ، فتأمّل .
وأمّا الفرقة الثانية من الذين ذكرناهم
في أوّل المطلب : الناووسيّة أصحاب عبداللّه بن ناووس البصريالذي كان قائلاً بإمامة أئمّة الإماميّة
إلى أبي عبداللّه جعفر بن محمّد الصادق عليهماالسلام ،
ثمّ فارقهم بأن قال : إنّ جعفراً حيٌّ لم يمت ولا يموت حتّى يظهر ويملأ الأرض
قسطاً وعدلاً ، وأنّه هو المهديّ القائم المنتظر.
__________________
وعمدة استنادهم ما نقلوه عن عنبسة بن
مصعب الناووسيأيضاً
أنَّ الصادق عليهالسلام قال
له : «إن جاءكم من يخبركم عنّي بأنّه غسّلني وكفَّنني ودفنني فلا تصدّقوه».
ولقد كفى مؤونة الاستدلال على بطلانهم ـ
مع كثرة أدلّة البطلان ـ انقراضهم رأساً ، بحيث لم يبق منهم أحد ، مع كونهم أوّلاً
أيضاً آحاداً قلائل عاملين بالرأي .
وأمّا الفرقة الثالثة ، فهم الذين يقال
لهم : الإسماعيليّة ، حيث قالوا بإمامة إسماعيل بن أبي عبداللّه الصادق عليهالسلام ؛
استناداً إلى كونه أكبر أولاده ، مع دعوى لزوم كون الإمامة للأكبر ، وإلى ادّعائهم
اتّفاق أصحاب الصادق عليهالسلام على
أَنّه نصَّ عليه ، وأَنّ من أنكر إمامته ادَّعى وقوع البداء فيه ، وأنَّه دعوى غير
مقبولة وهُم صاروا ثلاث شعب :
فشعبة منهم الذين قالوا بأنّ إسماعيل هو
الإمام بعد وفاة أبيه الصادق عليهالسلام ،
وأنّه حيٌّ لم يمت ، وهو القائم المنتظر ، وإنّما لُبس على الناس في أمره مصلحةً
وتقيّةً من اُمراء بني العبّاس.
__________________
وشعبتان منهم الذين أقرّوا بموته في
حياة أبيه ، لكن بدعوى كون المـوت بعـد ورود النصّ من أبيه فيـه ؛ فلهذا قال بعـض
منهم ـ وهُم الذين يقال لهم : القرامطة،
والمباركيّة؛
لنسبتهم إلى رجل يسمّى المبارك،
مولى إسماعيل بن جعفر ـ بأنّ إسماعيل قبل موته نصّ على ابنه محمّد،
__________________
فهو الإمام بعده.
وبعضهم قال بأنَّ الصادق عليهالسلام هو الذي نصَّ على
محمّد بن إسماعيل بعد موتإسماعيل
؛ لأنَّ ذلك كان الواجب عليه لكونه أحقّ بالأمر بعد أبيه من غيره ، ولأنّ الإمامة
لا تكون في أخوين بعد الحسن والحسين عليهماالسلام .
ثمّ من هؤلاء من وقف على محمّد بن
إسماعيل وقال برجعته بعد غيبته.
ومنهم من ساق الإمامة في سائر أَولاد
إسماعيل وقال بكونهم مستورين ، وأنّ لهم دعاة ظاهرين ، ويقال لهؤلاء : الباطنيّة.
__________________
وأصل مبنى عقائد هذه الفرقة بشعبها
جميعاً على الآراء المتّخذة من خيالات الملاحدة والمتفلسفة ، حتّى أَنّهم ـ لا
سيّما الباطنيّة ، بل القرامطة أيضاً ـ شاركوا التناسخيّة والغُلاة ـ كما سيأتي ـ
في إسقاط العبادات وتحليل المحرَّمات ، حتّى نكاح الأخوات والبنات والاُمّهات ،
وسائر الأشياء التي هي خلاف ضرورة الدين وما عليه كافّة المسلمين .
فإنّ خلاصة مزخرفاتهم ـ التي ذكروها
مفصّلة ممّا لا حاجة لنا إلى بيانها ـ : أنّ الإنسان إذا كمل حتّىعرف الإمام سقطت عنه التكاليف الواردة
في ظاهر الشريعة ؛ لأنّ المراد بكلّ واحد منها ـ بحسب البطن ـ إنّما هو الإمام
وفعله معرفته كالصلاة مثلاً ، فإنّهم قالوا : إنّها اسم للإمام حقيقةً ، وإنّما
أمر بالهيئة المخصوصة بحسب الشرع الظاهر حين لم يصل إلى معناها الباطن والمسمّى
الحقيقي وهو الإمام ، وعلى هذا فإقامتها حقيقةً عرفانه فإذا عرفه أحد سقطت عنه
الصلاة الظاهريّة ، وهكذا سائر الأحكام .
وعمدة استنادهم في هذا نقلاً ما رووه عن
الأئمّة عليهمالسلام من
قولهم : «إذا عرفت إمامك فاعمل ما شئت» فحملوه على ما فهموه بحسب مزخرفاتهم
الخياليّة الفلسفيّة ، مع أنّ الإمام عليهالسلام فسَّره
لبعض من سأله عن هذا الخبر ، فقال : «إنّما المراد أنّ من لم يعرف إمام زمانه فهو
ضالٌّ جاهل لا يقبل اللّه منه ما فعل من العبادات والطاعات ، فإذا عرفت إمامك
فحينئذٍ اعمل ما شئت من العبادات فإنّها مقبولة عند اللّه» ثمّ قال عليهالسلام : «من قال بهذا
السقوط فهو كافر».
__________________
وبالجملة
: مشاركتهم مع سائر الفِرَق في الاعتماد
على الآراء العقليّة ، ومع أكثر فِرَق الملاحدة والغُلاة في اعتقاد سقوط التكاليف
الشرعيّة ، بل ومع أكثر الفِرَق في نفي لزوم كمال العلم والعصمة ولو عن بعض
أئمّتهم واضحة .
وما ادّعوه من اتّفاق أصحاب الصادق عليهالسلام على أنّه نصّ على
إسماعيل ، لا أصل له ، بل الأمر بالعكس ، فإنّه سيأتي في محلّه أنّ الصادق عليهالسلام لم ينصّ إلاّ على
موسى الكاظم عليهالسلام ،
ولم نجد أحداً من أصحابه نقل نصّاً على إسماعيل ولا ولده ، حتّى أنّه لم يروه أحدٌ
في شواذّ الأخبار فضلاً عن معروفها ، بل روى جماعة ما يدلّ على نفي إمامته ، وكذا
إمامة ابنه ، بل على ذمّ ابنه ذمّاً شديداً .
نعم ، كان الناس في حياة إسماعيل يظنّون
أنّ أبا عبداللّه عليهالسلام ينصّ
عليه ؛ حيث كان أكبر أولاده ، وكانوا يرون ما يناسبه من تعظيمه له وحبّه إيّاه ،
فلمّا مات زالت ظنونهم ، وعلموا أنّ الإمامة في غيره ، فتعلّق هؤلاء المبطلون بذلك
الظنّ وجعلوه أصلاً ، وادّعوا وقوع النصّ ، وليس معهم في ذلك خبر ولا أثر يعرفه
أحدٌ من نقلة الشيعة .
وكذا ما قالوا من أنّ أصحاب الصادق عليهالسلام بعد اعترافهم بالنصّ
على إسماعيل ادّعوا وقوع البداء فيه كذب وفرية وتمويه ؛ إذ لم يقل أحد منهم
بالبداء بعد النصّ لا في إسماعيل ولا في غيره ، بل إجماع علماء الإماميّة على عدم
وقوع البداء من اللّه في أمر الإمامة ، حتّى رووا عن أئمّتهم عليهمالسلام أنّهم قالوا : «مهما
بدا للّه في شيء فلا يبدو له في نقل نبيّ عن نبوّته ، ولا
إمام عن إمامته ، ولا
مؤمن قد أخذ عهده بالإيمان عن إيمانه».
نعم ، روي في بعض الكتب عن الصادق عليهالسلام أنّه قال : «ما بدا
للّه في شيء كما بدا له في إسماعيل»،
وهذه الرواية إن صحّت وصحّ ورودها في إسماعيل هذا دون إسماعيل بن إبراهيم الذبيح عليهالسلام ، فمعناه ما ذكرناه :
من أنّ الناس حيث ظنّوا إمامته بيّن اللّه تعالى فساد ظنّهم بموته ، مع أنّه قد
روي أيضاً عن الصادق عليهالسلام أنّه
قال : «إنّ اللّه عزوجل كتب
القتل على ابني إسماعيل مرّتين ، فسألته فيه فصرفه عنه ، فما بدا له في شيء كما
بدا له في إسماعيل»،
وعلى هذا فمعنى الخبر ما ذكره عليهالسلام من
أنّ القتل الذي كان مكتوباً عليه صرفه اللّه عنه بمسألة أبي عبداللّه عليهالسلام .
وأمّا دعوى لزوم كون الولد الأكبر
إماماً ، فإنّما هو مهما بقي بعد أبيه ولم يكن فيه عيب ولا نقص ، لا إذا مات أيضاً
في حياة أبيه ، وقد مات إسماعيل في حياة الصادق عليهالسلام باتّفاق
الأصحاب .
نعم ، ادّعى بعض هؤلاء الفرقة ـ كما مرّـ أنّ ما تبيّن من موته كان تلبيساً ولم
يمت واقعاً ، وذلك محض دعوى في مقابل أمر محسوس رجماً بالغيب ؛ ولهذا لم يبق على
هذه الدعوى إلاّ آحاد قلائل لا يعبأ بشأنهم ، ورجع الباقون إلى الاعتراف بموته ،
بل صرّح بعض أهل السير بعدم بقاء أحد منهم على هذه العقيدة .
__________________
ثمّ إذا تبيّن عدم نصّ ولا إمامة في
إسماعيل ، ظهر بطلان ما ذكروه في إمامة ابنه رأساً ، كما هو واضح ، حتّى أنّه لو
كان النصّ على إسماعيل ثابتاً لم يوجب ذلك أن يكون ابنه أيضاً كذلك (كما توهّموا)؛ إذ ليست الإمامة والنصوص من قبيل
ميراث الأموال إرثاً على كلّ حال ، بل لم يكن إسماعيل أيضاً إماماً بالفعل في حياة
الصادق عليهالسلام حتّى
يمكن أن يصحّ نصّه على ابنه أو يتشبّث بأنّه حينئذٍ يصير ابنه ألزم وأولى ؛ حيث لم
يمكن تعلّق الإمامة بالكاظم عليهالسلام ؛
لعدم تحقّقها في أخوين بعد الحسنين عليهماالسلام ؛
لأنّ وجود إمامين بعد نبيّنا صلىاللهعليهوآله في
زمان واحد ممّا لم يكن ولا يكون ولم يعهد ، بل لا يجوز ، كما تبيّن في محلّه ، على
أنّ إمامة إسماعيل في حياة الصادق عليهالسلام كانت
عبثاً وبلا فائدة ، كما هو ظاهر .
ومحمّد بن إسماعيل في غاية الجرح والقدح
، بحيث أخرجه الصادق عليهالسلام من
بيته إلى بيت عبداللّه الأفطح مع صغر سنّه ووفاة أبيه ، وقال : «إنّه ملّني سفهاً
، إنّه شرك شيطان».
وحكاية وشائهفي عمّه الكاظم عليهالسلام عند الرشيد مع كثرة
إحسانه إليه ، وأنّ اللّه قطع عمره بذلك ، حتّى مات في يوم الوشاء بالبلاء الذي
أصابه أيضاً في ذلك اليوم مشهورة ، وقد نقلها ثقات عن عمّه عليّ بن جعفر الثقة
الجليل.
هذا ، كلّه مع ما سيأتي من دلائل إمامة
الكاظم عليهالسلام ،
وحينئذٍ تنقطع
__________________
مادّة شُبههم رأساً ،
فافهم .
وأمّا الفرقة الرابعة ، فهم الذين يقال
لهم : الفطحيّة ، وهم الذين قالوا بأنّ الإمام بعد أبي عبداللّه الصادق عليهالسلام ابنه عبداللّه
الأفطح؛ لأنّه كان أفطح
الرأس ، أي : عريضه ، وقيل : كان أفطح الرجلين . وهو كان أخا إسماعيل من الأب
والاُمّ ، وكان هو الولد الأكبر عند وفاة الصادق عليهالسلام ،
ولهذا قال بإمامته جماعة من أصحاب الصادق عليهالسلام بتوهّم
كونه أكبر الأولاد،
من غير نصّ ولا مستند سوى ما رووه من كون الإمامة في الأكبر، مع أنّ هذا الحديث لم يُرو قطّ إلاّ
مشروطاً بما إذا لم يكن به عاهة ، وهذا الرجل كان فيه العاهة البدنية ، كما ظهر ،
والعاهة الدينيّة أيضاً ؛ لأنّه مع قلّةعلمه
ـ كما تواتر النقل عنه عند دعواه الإمامة ـ كان مرجئيّاً ، حتّى روي عن الصادق عليهالسلام أنّه قال فيه : «إنّه
مرجئ كبير»،
على أنّه يكفي في بطلانهم سوى عدم النصّ فيه وورود النصوص في موسىأخيه المقرونة بالمعاجز والفضائل وسائر
أنواع آيات الإمامة انقراضهم ؛ فإنّ هذا الرجل لم يبق بعد أبيه عليهالسلام إلاّ سبعين يوماً
ومات بلا خلف ، ولهذا رجع
__________________
عامّة من قال بإمامته
إلى إمامة الكاظم عليهالسلام ،
بل جماعة كثيرة رجعوا عنه لمّا امتحنوه بما كانوايمتحنون به الإمام من امتحانه في العلم
والعمل ، فلم يجدوا فيه شيئاً من ذلك . نعم ، بقي شرذمة جمعوا بين إمامته وإمامة
الكاظم عليهالسلام ؛
لعدم اطّلاعهم على عدم اجتماع (الإمامة في الأخوين)بعد الحسنين عليهماالسلام . وتلك الفرقة أيضاً
انقرضوا ولو بعد مدّة ، ولم يبق منهم من يُعرف أو يُذكر، فتأمّل .
وأمّا الفرقة الخامسة ، فهم الذين قالوا
بأنّ محمّد بن جعفر الصادق عليهالسلام الملقّب
بديباجةإمام
بعد والده الصادق عليهالسلام ،
واستندوا في ذلك بما رووه من أنّ أبا عبداللّه عليهالسلام كان
جالساً في داره فدخل عليه محمّد ، وهو صبيّ صغير فعدا إليه فكبا في قميصه لوجهه
فقام إليه أبو عبداللّه عليهالسلام فقبّله
ومسح التراب عن وجهه وضمّه إلى صدره وقال : «سمعت أبي يقول : إذا ولد لك ولد
يشبهني فسمّه باسمي ، فهذا الولد شبيهه وشبيه رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وعلى
سنّته».
__________________
وهذا الحديث ممّا اختصّوا هم في روايته
ولم يروه غيرهم ، حتّى أنّه لو ثبتت صحّته وسُلّم وروده لا دلالة في ألفاظه على
نصّ الإمامة ، بل ولا دلالة فيه على ذلك بوجه لا سيّما في مقابل ما سيأتي في محلّه
من نصوص الكاظم عليهالسلام وغيرها
، كما هو ظاهر على الخبير البصير .
وممّا ينادي ببطلان هذه الفرقة : زوالهم
وانقراضهم ، بحيث لم يبق منهم أحد بعد مدّة يسيرة ، مع أنّهم كانوا أوّلاً أيضاً
آحاد قلائل أحدثوا ما أحدثوا عند ما خرج صاحبهم محمّد بن جعفر بعد أبيه بمدّةٍ
بالسيف ، وادّعى الإمامة ، وتسمّى بإمرة المؤمنين فأنكر عليه عامّة الشيعة ذلك ؛
لما كان بيّناً عندهم من اختصاص هذا اللقب بعليّ عليهالسلام ،
وعدم جواز إطلاقه على غيره ؛ ولهذا لم يتسمّ بهذا غيره أحد من قدماء آل أبي طالب ،
بل هذا أيضاً من علائم وَهْم الراوي في الحديث ، أو تعمّده الكذب ؛ حيث ذكر كونه
على سنّة النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
فافهم .
وأمّا الفرقة السادسة : فهم المشهورون
بالواقفة ، أي الذين وقفوا على أبي الحسن موسى بن جعفر عليهماالسلام ، وأنكروا إمامة أبي
الحسن الرضا عليهالسلام ومَن
بعده ، وهم بين قولين في ذلك :
فمنهم من قال : إنّه لم يمت بل هو حيّ ،
وهو المهديّ المنتظر .
ومنهم من قال : بأنّهمات وسيبعث بعد الموت ، وهو القائم
المهديّ.
ثمّ إنّهم اختلفوا أيضاً في أبي الحسن
الرضا عليهالسلام ومن
قام بعده بالإمامة من آل محمّد صلىاللهعليهوآله .
فمنهم من قال : إنّ هؤلاء خلفاء أبي
الحسن موسى عليهالسلام واُمراؤه
__________________
وقُضاته إلى أوان
خروجه ، وليسوا بأئمّة ، بل قال : لم يدّعها أحد منهم قطّ .
وقال الباقون : إنّهم ضالّون مخطئون
ظالمون حتّى أنّهم كفّروهم،
ولهذا سمّت الشيعة هذه الطائفة بالممطورة ، أي أنّهم كانوا في خباثتهم وتحيّرهم
كالكلاب الممطورة.
وقد كان أصل سبب إحداث هذا المذهب أنّه
اجتمعت عند جماعة من الوكلاء أموال عظيمة من حقوق الإمام التي أرسلها شيعة الأطراف
إليهم في أيّام حبس الإمام عليهالسلام ،
فطمع فيها بعض منهم ، واشتروا بها دوراً وغلاّت وغيرها ، ولمّا انتهى إليهم خبر
وفاة الكاظم عليهالسلام أنكروا
وفاته خوفاً من مطالبة الرضا (وسائر ورّاث الإمام) عليهالسلام إيّاهم
بتلك الأموال ، فأذاعوا في الشيعة أنّ موسىلم
يمت ؛ لأنّه هو القائم ، فانتشر قولهم في الناس ، واعتمد عليه طائفة من الشيعة لكن
على غير نهج اليقين ، بل كما يظهر من أحوالهم أنّ أكثرهم كانوا شكّاكاً متحيّرين ،
حتّى أنّ بعضاً من هؤلاء المنكرين أوصى عند موته بدفع ذلك المال إلى ورثة موسى عليهالسلام ، ومنه استبان على
جمع منهم أنّ إنكار المنكرين كان حرصاً على المال، وبقي الباقون كما كانوا على ذلك
الضلال مدّة إلى أن زالوا وانقرضوا ، وكفى هذا في المناداة ببطلانهم كما هو بيّن .
ومع هذا ، عمدة ما اعتلّوا به في مذهبهم
بعض شواذّ من الأخبار التي
__________________
رووها عن الصادق عليهالسلام ممّا
لا دلالة فيها على مرادهم لا نصّاً ولا ظاهراً ، مع معارضتها لما هو ثابت متواتر ،
ويضادّها صريحاً ممّا سيأتي في محلّه عند بيان النصوص والمعجزات في الرضا عليهالسلام وفيمن بعده من
الأئمّة عليهمالسلام ،
وفي بيان كون الأئمّة اثني عشر ، ولغير ذلك من دلائل بطلانهم ، وما ورد عن الصادق
والكاظم والرضا عليهمالسلام في
كفرهم وإلحادهم وضلالهم،
ممّا لا حاجة لنا إلى الإطالة بالبيان ، حتّى نقل بعض أعيانهم في حقّ نفسه أنّ
الصادق عليهالسلام قال
له : «أنت من حمير الشيعة»،
وقد روى جمع أنّ الرضا عليهالسلام قال
: «الواقفة أشباه الحمير حيارى ، كفّار زنادقة»،
فتأمّل .
__________________
وأمّا الفرقة السابعة : فهم الذين قالوا
بعد عليّ الرضا عليهالسلام بإمامة
أخيه أحمد بن موسى عليهالسلام ، الذي خرج مع أبي السرايا، حيث شكّوا في تعلّق الإمامة بأبي جعفر
محمّد بن علي الجواد عليهالسلام ؛
استناداً إلى صغر سنّه ، فإنّ عمره كان يوم وفاة والده الرضا عليهالسلام سبع سنين على المشهور
، فقالوا بعدم جواز أن يكون الإمام صبيّاً لم يبلغ الحلم، وغفلوا عمّا ورد في كتاب اللّه من
حكاية عيسى ويحيى عليهماالسلام وتعلّق
النبوّة بهما في أقلّ من سنّ الجواد عليهالسلام ،
وعن حكاية تخصيص النبيّ صلىاللهعليهوآله عليّاً عليهالسلام بدعوته إلى الإسلام
قبل البلوغ ، والحسنين عليهماالسلام بالمباهلة
، وأمثال ذلك ممّا ينادي باختصاص النبيّ والإمام بحالاتٍ مِنحةً من اللّه تعالى
لا توجد في غيرهما ، بل الحقّ الواضح على من له أدنى بصيرة أنّ حصول الجزم بتعلّق
الإمامة بالصغير الذي يظهر منه كمال العلم والحلم ، والفضائل ، والمعجزات أسهل
__________________
وأظهر ، وأوكد وأبعد
من الشكّ ، كما سيأتي في فصل ذكر أحوال الجواد عليهالسلام .
ولقد كفى في بطلان هؤلاء أيضاً زوالهم
وانقراضهم ، مع ثبوت عدم اجتماع الإمامة في الأخوين بعد الحسنين عليهماالسلام ، ونحو ذلك .
وأمّا الفرقة الثامنة : فهم الذين قالوا
بعد وفاة أبي الحسن الهادي عليّ ابن محمّد الرضا عليهمالسلام بإمامة
ولده الذي توفّي في زمان أبيه ، وكان اسمه محمّداً، وادّعوا أنّه لم يمت ، وأنّه حيّ ،
وأنّه الإمام المنتظر ؛ استناداً إلى دعوى نصّ أبيه عليه.
وهؤلاء الفرقة ، مع كمال قلّتهم وشذوذهم
حتّى في زمنهم ، وعجزهم عن إثبات نصّهم ، وثبوت تواتر موته في حياة أبيه ، قد
زالوا وانقرضوا بالكلّيّة ، حتّى أنّ بعضاً منهم أقرّ بموته ، وقال بانتقال
الإمامة منه إلى أخيه جعفر بن عليّ المعروف بالكذّاب، وهم أيضاً انقرضوا رأساً .
وأمّا الفرقة التاسعة : فهم الذين قالوا
بعد وفاة الهادي عليهالسلام بإمامة
ابنه أبي محمّد الحسن بن عليّ العسكري عليهماالسلام ،
لكن أنكروا وفاة أبي محمّد ، وقالوا : إنّه حيّ لم يمت ، (وإنّما غاب)، وهو القائم المنتظر .
ومن هؤلاء من قال : إنّه مات ، لكن عاش
بعد موته ؛ استناداً إلى ما
__________________
رووه من أنّ القائم
إنّما سمّي بذلك لأنّه يقوم بعد الموت.
وهذه الفرقة بقسميها انقرضت أيضاً وزالت
ولم يبق منهم أحد ، مع شذوذهم أوّلاً ، بحيث لم يُذكر فيهم عالم ولا أحد خاصّ
معتمد عليه ، ولا كتاب ، ولا دليل ، بل نقل بعض الناس عن بعض سلفهم على سبيل
الإجمال والحكاية : أنّ جماعة كانوا على هذا القول ، واللّه أعلم أنّ أصل وجودهم
كان صدقاً أم لا ، بل لا يبعد كون أصل النقل من الأراجيف ، وهكذا حال أكثر سائر
الفِرَق التي مضى بيان انقراضها ، والتي سنذكرها هاهنا ، فلا تغفل .
وأمّا الفرقة العاشرة : فهم الذين
أقرّوا صريحاً بوفاة أبي محمّد الحسن عليهالسلام ،
لكن قالوا بعده بإمامة أخيه جعفر المشهور بالكذّاب ، واعتلّوا في ذلك بالرواية عن
الصادق عليهالسلام :
«أنّ الإمام هو الذي لا يوجد منه ملجأ إلاّ إليه»، قالوا : فلمّا لم نر للحسن عليهالسلام ولداً ظاهراً التجأنا
إلى القول بإمامة جعفر أخيه.
ومنهم من رجع عن إمامة أبي محمّد عليهالسلام عند وفاته ؛ لتوهّم
عدم الولد وقال بإمامة جعفر بعد أبيه.
ومنهم من ادَّعى النصّ من الحسن عليهالسلام لأخيه جعفر.
__________________
ومنهم من قال غير ذلك من الأقوال
السخيفة التي لا حاجة لنا إلى ذكرها ؛ لظهور بطلان الجميع ما ذكرناه وما لم نذكر ؛
ضرورة كون انقراض الكلّ وزوالهم بالكلّيّة أدلَّ دليل على البطلان ، فضلاً عن ظهور
سخافة شُبههم ، لا سيّما بعد ظهور فسوق جعفر وسفاهته ؛ ولهذا لم يمل إليه أحد من
علماء ذلك الزمان .
وما ذكره الشهرستاني من نسبة الحسن بن
عليّ بن فضّالإلى
هذا المذهبغلط
صريح وتوهُّم فضيح ، كما ينادي [به] ما ذكره العلماء من أحوال ابن فضّال ، حتّى
أنّ هذا الرجل قد توهَّم في مواضع عديدة عند نقل فِرَق الشيعة ونسب إليهم ما ليس
فيهم ممّا يستفاد منه أنّه كان عارياً عن الاطّلاع على أحوال هؤلاء القوم .
وكفى في هذا أنّه ذكر أنّ عليّاً الهادي عليهالسلام مشهده بقمّ، مع أنّه من أوضح الواضحات أنّه في
سامرّاء ، فمن لم يعرف مثل هذا كيف لا يخفى عليه غيره ؟ ! ولهذا نحن لم نعتمد في
هذا المطلب على ما نقله ، حيث ظهرت لناتوهّماته
، وإنّما اكتفينا بما نقله في المطالب السابقة لكونهم من
__________________
أهل نحلته ، ومع هذا
لا نبرئه عن التوهُّم هناك أيضاً ، فافهم .
وأما الفرقة الحادية عشرة فهم الذين
قالوا بأنّ الإمامة بطلت بعد أبي محمّد الحسن عليهالسلام ،
حيث لم يظهر له ولد ، وارتفعت الأئمّة ، وليس في أرض اللّه حجّة من آل محمّد عليهمالسلام ، وإنّما الحجّة
الأخبار الواردة عن الأئمّة المتقدّمين عليهم ، وزعموا أنّ ذلك سائغ إذا غضب
اللّه على العباد فجعله عقوبةً لهم.
ومنهم : من أقرَّ بوجود الولد ، لكن قال
: إنّه مات وسيجييء ، ويقوم بالسيف والعدل.
وهذه الفرقة قد زالت أيضاً بنوعيها
وانقرضت بالكلّيّة ، لا سيّما حيث ظهرت فيما بعد آثار وجود القائم بن الحسن عليهماالسلام في عرض مدّة الغيبة
الصغرى ، مع ظهور كون مبناها على أمر واضح البطلان ، وتوهّم ضعيف البنيان ، مخالف
لما سيأتي في محلّه من دلالة صريح العقل والنقل على لزوم وجود الإمام والمعلّم ما
دام التكليف .
وأمّا الفرقة الثانية عشرة : فهم الذين
يقال لهم : الغُلاة ، وقد ذكرنا تقريباً فيما سبق في الفصل الثاني من هذا البابأنّ حقيقة الغلوّ إنّما هي توصيف شخص
بما ليس له ذلك ، ولا هو في تلك المرتبة ، حتّى أنّ من ذلك ادّعاء إمامة من ليس
بإمام .
غير أنّ المقصود في هذا المقام بيان
طوائف الذين غلوا في حقّ
__________________
بعضٍ من أئمّة الهدى عليهماالسلام أو غيرهم ، فأخرجوهم
عن حدّ العبوديّة إلى حدّ الاُلوهيّة ، أو ادَّعوا لهم بعض خصائص النبوّة كنزول
الوحي ، أو خصائص الربّ جلّ شأنه كالقول بتفويض الخلق والرزق إليهم ، أو افتروا
على اللّه بالحلول فيهم ، أو الاتّحاد معهم ، أو نحو ذلك ممّا هو دائر على ألسنة
كثير من ملاحدة الصوفيّة وأمثالهم الذين بنوا أساس عقائدهم على الآراء الظنّيّة
والخيالات الهوائيّة ، كما مرّ نظيره في بعض أهل الملل السابقة والملاحدة الباطنية
، حتّى أنّهم قالوا صريحاً بسقوط العبادات وتحليل المحرَّمات وأمثال ذلك ممّا هو
خلاف ضرورة الدين وما جاء به النبيّ صلىاللهعليهوآله بإجماع
كافّة المسلمين ، وقالوا في النبيّ والأئمّة عليهمالسلام ما
لم يقله أحد منهم لا لنفسه ولا لغيره ، بل قالوا في غيرهم أيضاً ما لم يتجرّأ
بدعواه نبيّ ولا وصيّ .
وبالجملة
: في هذه الفرقة طوائف عديدة ظاهرة الكفر
واضحة البطلان ، بحيث لا حاجة إلى الإطالة بالبيان ، من أراد تفصيل الحال وغاية
كشف بطلان المقال ، فليرجع إلى كتب السير والرجال .
فمنهم السبائيّة : أصحاب عبداللّه بن
سبأاليهودي الذي قال في
__________________
عليّ عليهالسلام بالاُلوهية ، حيث قال
له : أنت أنت يعني الإله ، وادّعى لنفسه النبوّة فأحرقه عليّ عليهالسلام بالنار، ثمّ انشعب أصحابه في عليّ عليهالسلام إلى أقوال سخيفة على
حسب الخيالات الوهميّة المأخوذة من قول بعض غُلاة اليهود في يوشع ، وغُلاة النصارى
في عيسى عليهالسلام .
ومنهم المخمّسة: الذين قالوا باُلوهية النبيّ ورسالة
سلمان ، ثمّ بانتقال الاُلوهيّة إلى فاطمة وعليّ عليهماالسلام ،
ثمّ إلى الحسن والحسين عليهماالسلام .
ومنهم العلبائيّة : الذين أنكروا
ربوبيّة النبيّ صلىاللهعليهوآله وقالوا
بذلك في عليّ عليهالسلام ،
وزعموا أنّه الذي أرسل النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
وقال بعضهم : إنّه ظهر مرّة بصورة محمّد ومرّة بصورته.
ومنهم الخطّابيّة : أصحاب أبي الخطّاب
محمّد بن أبي زينب الأجدع الأسديالذي
قال في الصادق عليهالسلام بالاُلوهيّة
، فلعنه ودعا عليه فقُتل هو
__________________
وأصحابه.
ومنهم غير هؤلاء كأصحاب بنانالذي كذب على عليّ بن الحسين ، والمغيرة
بن سعيد الذي كذب على أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليهالسلام ،
ومحمّد بن بشيرالذي
كذب على موسى بن جعفر عليهالسلام ،
وأصحاب عليّ ابن حسكة،
وفارس بن حاتم القزويني،
ومحمّد بن نصير الفهري،
__________________
ونظرائهم الذين غلوا
في بقيّة الأئمّة .
وكلّهم متشاركون في إباحة المحرّمات
وترك العبادات والقول بالتناسخ وأمثال ذلك،
حتّى أنّ أكثر هؤلاء ادّعوا لأنفسهم النبوّة أيضاً ، وقد زال وانقرض عامّتهم بحيث
لا يُعرف ، بل لا يوجد من نُسب إلى أحد منهم غير الحلاّجيّة المنسوبين إلى حسين بن
منصور الحلاّج الصوفيالذي
كان يتخصّص بإظهار التشيّع ، لكن قد صرّح جماعة بأنّ أصحابه كانوا ملاحدة زنادقة
يموّهون بمظاهرة كلّ فرقة بدينهم ، ويدّعون للحلاّج الأباطيل ، ويجرون في ذلك مجرى
المجوس في دعواهم لزردشت المعجزات ، وكانوا يدّعون التحلّي بالعبادات مع تركهم الفرائض
والصلوات ، ويدّعون انطباع الحقّ لهم ، حتّى أنّ فيهم من قال بأنّ اللّه فوّض أمر
الخلق والرزق والإماتة والإحياء إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله
والأئمّة عليهمالسلام بعد
أن خلقهم هو واصطفاهم ، مع استفاضة الأخبار المنقولة عن الأئمّة ، بل تواترها
__________________
في تكفير القائل بهذا، كما سيظهر .
وبالجملة
: اشتراك طوائف هذه الفرقة فيما هو خلاف
ضرورةالدين ، لا سيّما
دعوى سقوط ما جاء به سيّد المرسلين ممّا لا شكّ فيه ، فافهم .
المطلب الثالث :
في بيان الفرقة الموجودة التي بيّنّا
سابقاً أنّها هي من النوع الثاني من القسم الثاني الذي سبق ذكره ، أي : الذين
خالفوا ـ كما مرّ ـ جميع ما ذُكر من الفِرَق كلّها لا سيّما الموجودة منها ، بحيث
لا توجد فرقة واحدة من فِرَق الاُمّة تشاركها في أصل أساس دينها ، أعني : الذين
يقال لهم اليوم : الشيعة الإماميّة الاثنا عشريّة ، واشتهروا بذلكعند المخالف والمؤالف .
أمّا تسميتهم بالشيعة ؛ فلأنّهم يعتقدون
ـ كما مرّ ويأتي ـ وجوب موالاة عليّ عليهالسلام ومشايعته
من كلّ وجه ، وعلى أيّ حال ، بمعنى : أنّه لم يزل من حين وفاة النبيّ صلىاللهعليهوآله يجب
التمسك بعليّ عليهالسلام ومتابعته
في كلّ شيء ، ولم يجز مخالفته مطلقاً وإن اتّفق كلّ الصحابة على خلافه ؛ ولهذا
يوجبون التبرّي من كلّ من خالفه وعانده ، لا سيّما من عاداه ومن حاربه ، وهكذا حال
سائر أئمّتهم المعلومين عندهم .
وأمّا تسميتهم بالإماميّة ؛ فلاعتقادهم
لزوم وجود إمام معصوم
__________________
مفروض الطاعة من
اللّه ، ونصٍّ من الرسول صلىاللهعليهوآله في
كلّ زمان مادام التكليف .
وأمّا تسميتهم بالإثني عشريّة ؛ فلما هو
ظاهر من كون عدد أئمّتهم اثني عشر .
وخلاصة تفصيل مذهبهم ـ بحيث يتبيّن منه
مواضع تفرّدهم عن جميع ما سواهم لا سيّما الفِرَق الموجودة ، حتّى يظهر منه كونهم
هم الفرقة الناجية ؛ لما ظهر سابقاً من لزوم كون الفرقة الناجية كذلك ؛ حيث إنّ
ذلك هو مناط التمييز دون المشتركات ـ أنّهم يقولون أوّلاً : أن لا مدخل للرأي في
الدين مطلقاً ؛ حيث إنّ أصله ـ كما تبيّن سابقاً ـ كان من الشيطان ، ثمّ دار بين
أتباعه في كلّ زمان ولم يثبت ، بل لم يكن عليه اعتماد نبيّ ولا وصيّ ، بل صريح
القرآن ومنقولات أهل الأديان يناديان بأنّه هو سبب كثرة الاختلاف بين الناس ، وكان
أهل الحقّ لم يزالوا يتبرّؤون منه في دينهم حذراً من الالتباس ؛ ولهذا صريح مذهب
هذه الفرقة أنّ اللّه تعالى لمّا أرسل رسوله محمّداً صلىاللهعليهوآله
حجّةً على الأنام أنزل عليه في كتابه
جميع الأحكام ، وبيّن له كلّ اُمور الشريعة صغيرها وكبيرها بالتمام ، بحيث لم يحتج
بسبب ذلك العلم والتبيين إلى رأي ولا ظنّ ولا تخمين ، كما أخبر بذلك في أمثال قوله
سبحانه : (
وَمَا
يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ).
ثمّ لـم يجـوّز للخلائق ، ولم يأمرهم في
إطاعة الخالق إلاّ بالتسليم له ، والأخذ منه ، والانتهاء إليه دون غير هذا ، حتّى
أنّه قد عدّ غيره من خطوات الشيطان في آيات من القرآن ، كما نادى بكلّ ذلك في
أمثال قوله
__________________
عزوجل :
( ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا
تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ )، وقوله سبحانه : ( وَمَا
آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ).
وقد صار من ضروريّات الدين أنّ هذا كان
طريق علم صحيح دائراً بين المسلمين في عصر خاتم النبيّين صلىاللهعليهوآله ؛
ولهذا لم يكن بينهم بسبب ذلك خلاف ولا اختلاف ، وكانوا جميعاً على مذهب واحد مأخوذ
من اللّه ورسوله من غير التفات إلى المطالبة بدليل من خارج ، ولا المعارضة ببرهان
جارح ، بل كان هو عليهم حجّةً ناطقاً ، وقوله برهاناً قاطعاً .
وأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قد
بلّغ أيضاً ما دام حيّاً كلّ مّا احتاجت إليه اُمّته في زمانه على طبق ما وصل إليه
من ربّه ، وبعين ما تعلّمه من اللّه عزوجل إلى
أن كملت أيّامه ، وقربت رحلته ، وبقيت ممّا لم يصل إلى الخلائق من أحكام الخالق ؛
لعدم مسيس حاجتهم إلى السؤال والتعلّم أشياءَ مستورة عن عامّة أهل الإيمان ،
مطويّة تحت خبايا القرآن ، محتاجاً بيانها إلى الترجمان ، فعلّمها جميعاً بأمر من
اللّه حتماً ـ حيث كان إتمام التبليغ عليه واجباً (
لِّيَهْلِكَ
مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ )ـ
أكمل الاُمّة ، وأقربهم إليه من كلّ جهة ، أعني : عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه
عليه نحو ما تعلّم هو من اللّه عزوجل ؛
ولهذا أفرده من بين كافّة اُمّته بالأسرار والعلوم التي أقرّ كلّ أحد حتّى أعدائه
بخلوّ غيره عنها ، وبأن جعله في الدعاء يوم
__________________
المباهلة شريكاً ،
واتّخذه وصيّاً لهووزيراً
، وسلّمه الكتب السماويّة وسائر مواريث الرسل ـ التي يأتي أنّها كانت عنده بتسليم
بعضهم بعضاً ، وكان كذلك دأب سائر الأنبياء والمرسلين ـ ونصبه يوم الغدير لمّا
بيّن أوّلاً لاُمّته أنّه من خصائص نفسه من كونه مولى للمؤمنين ، وجعله أحد
الثقلين المقترنين ، والخليفتين الغير مفترقتين ، والمستمسكين المنجيين اللّذين قد
ألزم رقاب الناس باتّفاق الناس أن يتمسّكوا بهما جميعاً ؛ لكيلا يضلّوا بعده أبداً
، حتّى أنّه عبّر عنههاهنا
بالعترة لفظاً ؛ لتبيين مدخلية سائر الأوصياء المعلومين أيضاً ، وإشعار لزوم هذا
التمسّك ما دام التكليف باقياً . هذا ، مع سائر النصوص والفضائل الدالّة على
إمامته ، كما سيأتي مفصّلاً .
ولهذا لم يكن عليّ عليهالسلام طول مدّة تعلّق الأمر
إليه محتاجاً إلى غيره أبداً ، ولا إلى العمل بالرأيفي شيء من اُمور الدين ومعالم المسلمين
، كما ينادي بذلك قوله : « سلوني قبل أن تفقدوني »ورجوع سائر الخلفاء وغيرهم إليه دون
العكس ، حتّى أنّ عمر بن الخطّاب كان ينادي كراراً ومراراً بقوله : لولا عليّ لهلك
عمر.
__________________
ثمّ إنّ من مذهبهم أنّ هذا لم يكن
منحصراً بزمانوجود
عليّ عليهالسلام حتّى
تحتاج الاُمّة فيما بعد إلى التعبّد بالرأي وأمثاله ، بل إنّ اللّه عزوجل كما أمر النبيّ صلىاللهعليهوآله أن
يعلّم عليّاً كلّ ما تعلّم هو منه لا سيّما ما كانت الاُمّة تحتاج إليه ، وأن
يتّخذه وصيّاً له وإماماً لاُمّته ، كذا أمره أن يأمر عليّاً عليهالسلام أن يعلّم ولده الحسن
، وكذا الحسين عليهماالسلام كلّ
ما تعلّم هو من النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
وأن يتّخذ الحسن عليهالسلام بعده
وصيّاً له وإماماً للخلق ، ويسلّمه ما سلّمه النبيّ صلىاللهعليهوآله
من الكتب وسائر مواريث الأنبياء ، وأن
يتّخذ الحسن أخاه الحسين عليهماالسلام وصيّاً
له وإماماً للخلق بعده ، وأن يفعل الحسين عليهالسلام مثل
ذلك بولده عليّ ابن الحسين زين العابدين عليهماالسلام ،
وكذا زين العابدين بالنسبة إلى ولده محمّد بن عليّ الباقر عليهالسلام ، والباقر بالنسبة
إلى ولده جعفر بن محمّد الصادق عليهماالسلام ،
والصادق بالنسبة إلى ولده موسى بن جعفر الكاظم عليهماالسلام ،
والكاظم بالنسبة إلى ولده عليّ بن موسى الرضا عليهماالسلام ،
والرضا بالنسبة إلى ولده محمّد بن عليّ الجواد عليهماالسلام ،
والجواد بالنسبة إلى ولده عليّ بن محمّد الهادي عليهماالسلام ،
والهادي بالنسبة إلى ولده الحسن بن عليّ العسكري عليهماالسلام ،
والعسكري بالنسبة إلى ولده الحجّة بن الحسن محمّد المهديّ الذي هو الإمام الثاني
عشر وهو القائم المنتظر صاحب هذا الزمان .
وقد فعل النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
فأخبر عليّاً عليهالسلام بالحال
، وأمره أن يعمل بهذا المنوال ، حتّى أنّه قام بالناس مراراً ، وأخبرهم بلزوم وجود
خصوص اثني عشر أئمّة الهدى في هذه الاُمّة ، كما يشعر بتعدّدهم حديث العترة ،
__________________
وذكر أنّهم من قريش ،
بل من عترته ، وأنّهم الأعلم والأتقى ، وأنّ المهدي منهم ، بل ذكر لبعضهم ـ كما
سيأتي بيانه مفصّلاً ، لا سيّما في الفصل الحادي عشر من المقالة الأخيرة من المقصد
الأوّل ـ أنّهم من نسل الحسين عليهالسلام ،
حتّى يأتي فيه أنّ بعض الثقات المتديّنين من خواصّ الصحابة والتابعين ، بل غيرهم
أيضاً نقلوا تصريحه أيضاً بأساميهم .
وكذلك عليّ عليهالسلام ائتمر
بما أمره النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
فأخبر الحسن عليهالسلام ومن
لا بُدَّ من إخباره من الخواصّ بما أخبر به النبيّ صلىاللهعليهوآله
فأمره وأكدّ عليه وأوصى إليه ، وأرشدهم
وأشهدهم عليه ، وعلّمه ، وسلّمه جميع ما تعلّم وتسلّم من النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
بل أخبر عامّة الناس أيضاً ببعض هذه الأحوال ولو على سبيل الإجمال ، وهكذا بعينه
فعل الحسن وكذا الحسين عليهماالسلام ،
وكذا كلّ واحد واحد من هؤلاء الأئمّة والأوصياء المذكورين ، كما سيأتي في فصل
الوصيّة ؛ ولهذا لم يحتج أحد منهم طول مدّته أبداً إلى العمل بالرأي والقياس ،
والاعتمادعلى
الظنّ واجتهادات الناس ، بل كان مآل مستند كـلام كـلّ واحـد : أخبرني آبائي عـن
رسول اللّه صلىاللهعليهوآله عن
اللّه عزوجل ،
حتّى أنّه قيـل لبعض منهم : أرأيت إن كان كذا وكذا ما كان القول فيها ؟ ، فقال : «
مه ، لسنا من أرأيت في شيء ، كلّ ما قلنا لكم فهو قول اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله ».
__________________
وقال الباقر عليهالسلام : « لو كنّا نفتي
الناس برأينا لكنّا من الهالكين ، ولكنّا نفتيهم بآثار من رسول اللّه صلىاللهعليهوآله يتوارثها
كابر عن كابر »،
وما بهذا المعنى كثير فوق التواتر .
وبالجملة
: كان مناط جميع أقوالهم وأفعالهم علماً
قطعيّاً ، واصلاً إليهم من اللّه تعالى كتاباً وسماعاً ، على ما سيأتي بيانه في
فصل علومهم وغيره ، ولهذا ليس لأحد شبهة في أنّ كلّ واحد منهم كان طول زمانه
فائقاً على جميع أهل عصره في العلم والورع والصدق والسداد ، بحيث كان مرجع العلماء
في كلّ مكان ، ولم يعجز عن مناظرة وسؤال كلّ ما كان ، حتّى أنّه قد كتب المخالف
والمؤالف في مناقبهم ، مع كثرة أعدائهم وحُسّادهم من الخلفاء وغيرهم ما ملأ الخافقين
، وكثرت أتباعهم ورُواة الأخبار عنهم ، مع شدّة الخوف والتقيّة من مخالفيهم ،
وإخفاء مذهبهم عن أعاديهم ، بحيث لم يبق موضع خالياً عنهم فيما بين المشرقين.
وفي الحقيقة هذه معجزة ظاهرة ، وآية
باهرة عند أصحاب البصيرة ، حيث لم يتّفق أبداً في غيرهم دوام هذه الفضائل الجليلة
بالخصوص بمثل هذا الترتيب المخصوص ، ومن ثَمَّ صار صريح خلاصة مذهب الفرقة
المذكورة أنّ هؤلاء الأئمّة الأوصياء المعلومين كلّهم حجج اللّه على الخلق أجمعين
إلى يوم الدين ، بمثل ما كان كذلك جدّهم سيّد المرسلين صلىاللهعليهوآله لا
يجوز إلاّ الأخذ منهم وأتباعهم في القول والفعل والتقرير ، وعدم مخالفتهم بوجه ولو
في أمر صغير ، بل ولو قال بخلافهم كلّ صاحب قيل مستمسكاً بزعمه بأقوى كلّ دليل ؛
إذ لا رأي بعد البيان ، ولا ظنّ كالعيان ؛
__________________
ولهذا قالوا عليهمالسلام : « كلّ ما لم يخرج
من هذا البيت فهو باطل »،
« وكلّ حقٍّ عند الناس فهو المأخوذ منّا أهل البيت ».
وصار اتّفاق هذه الفرقة على عدم تحقّق
الإيمان إلاّ بعد اعتقاد أنّ الحقّ إنّما هو ما حقّقوه ، أي : الأئمّة ، والباطل
ما أبطلوه وإن لم يعلم وجهه ، بل وإن لم يعرف حال الحكم فيه ؛ لكفاية هذا الإجمال
عند الجهل بالحال ، ولهذا ورد عن الأئمّة عليهمالسلام أنّهم
قالوا : يكفي للمؤمن أن يقول قولي : قول آل محمّد عليهمالسلام فيما
وصل إليّ وفيما لم يصل.
واتّفقوا أيضاً على أن لا اختلاف عند
أئمّتهم في شيء من أمر الدين ؛ إذ لا خلاف فيما كان وارداً من اللّه على نهج
اليقين ، وأنّ حكم اللّه واحد لا يختلف ، فحلال محمّد صلىاللهعليهوآله حلال
إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة،
لا يكون غيره ولا يجوز .
وإنّما منشأ الاختلاف الحاصل بين الناس
هو : أنّه لمّا ترك عامّة الاُمّة اتّباع أهل البيت الطاهرين ، ولم يتوجّهوا إلى
اقتفائهم في استكمال اُمور الدين ، فلم يتمسّكوا برأس العترة ورئيسهم الذي هو عليّ عليهالسلام أمير المؤمنين ، ولا
ببقيّة الأئمّة المذكورين الذين كانوا ـ كما ذكرنا ـ مستودعي علوم سيّد المرسلين ،
واتّخذوا من عند أنفسهم خلفاء جُهّالاً ، ورؤساء ضلاّلاً ، ومع هذا صرفوا عامّة
أوقاتهم من حين وفاة النبيّ صلىاللهعليهوآله
__________________
على فتح البلاد ،
وتسخير العباد ، وحيازة الأموال ، والدخول في الأعمال وأمثالها من الأشغال ، منعهم
ذلك ، لا سيّما بعد زوال جمّة من عرفاء الصحابة بسبب الحروب وغيرها عن محافظة كثير
من سنن النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
بل أكثرها وعامّة الأحكام المأخوذة منه ، كما ينادي بذلك كلام نقلة أحوال الصحابة
والتابعين ، بل كفى في هذا اختلافهم في أكثر متعلّقات أمثال الصلاة والأذان
ونحوهما التي كانت تصدر منه كلّ يوم مراراً على رؤوس الأشهاد ، حتّى نقل جمع من
المخالفين صريحاً أنّ أنس بن مالك كان يبكي في الأواخر ويقول : لم يبق ممّا كان في
زمن النبيّ صلىاللهعليهوآله غير
هذه الصلاة ، وهي أيضاً قد ضُيّعت وغيّرت.
ولهذا لمّا التفتوا أخيراً إلى تنقيح
المسائل الشرعيّة ، وتحقيق المعالم الدينيّة ، لم يجدوا إلاّ قليلاً من المسائل
المعلومة من محكمات القرآن والسنّة الثابتة من سيّد الإنس والجانّ ، فاضطرّ جماعة
ممّن زعم أنّه من أهل العلم والفهم إلى استنباط سائر المسائل الواردة عليهم ـ ممّا
لم يجدوا منه بُدّاً ، فظنّوه مستنداً ـ من محتملات المتشابهات ، ومفترعات
الروايات ، ومخترعات أوهامهم الكاسدة ، وآرائهم الفاسدة ، وقياسات عقولهم الناقصة
الشيطانيّة التي لا مدخل لشيء منها ـ كما مرّ ويأتي ـ في الاُمور الشرعيّة ، وكلّ
واحد منها بمعزل عن استعلام الأحكام الإلهيّة السماعيّة ، فاختار كلّ فريق منهم
برأيه طريقاً ، وزعموه ركناً وثيقاً ، فحصل بذلك ما هو دائر بين الناس من الاختلاف
، وشاع بينهم النزاع والخلاف ؛ بحيث انجرّ إلى تضليل بعضهم بعضاً ، بل تكفيرهم ،
كما في الحديث الذي مرّ سابقاً ممّا رواه
__________________
المخالف والمؤالف من
أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: « إنّ اللّه تعالى لا يرفع العلم الذي أنزله انتراعاً ينتزعه إليه ، ولكن يقبض
العلماء فاتّخذ الناس رؤساء جُهّالاً فأفتوهم على غير علم فضلّوا وأضلّوا ».
نعم ، شرذمة قليلة من الاُمّة تمسّكوا
بعد نبيّهم بوصيّه أمير المؤمنين رئيس العترة وأعلم الاُمّة ، كسلمان ، وأبي ذرّ ،
والمقداد ، وعمّار ، وحذيفة ، وجابر ، ومالك،
وحارثونظرائهم ممّن ستأتي
أسماؤهم ، وأخذوا منه سماعاً كلّ ما احتاجوا إليه من أحكامهم ، كما سمع هو من
النبيّ صلىاللهعليهوآله عن
اللّه عزوجل بعين
ما كان دأبهم في زمان النبيّ صلىاللهعليهوآله،
فبقوا على حالتهم
__________________
السابقة من العمل
بالعلم الوارد من اللّه عزوجل بلا
وقوع في الخلاف ، ولا حاجة إلى التشبّث بالرأي الموجب للاختلاف .
وكذا تمسّك من بقي من هؤلاء ومن تبعهم
في طريقتهم هذه من حين وفاةعليّ عليهالسلام بوصيّه الحسن عليهالسلام ، وكانوا يأخذون منه
ما احتاجوا إليه سماعاً منه عن أبيه ، عن جدّه ، عن اللّه عزوجل ، وهكذا كان بعينه
حال الموجودين من هؤلاء ، ومن كان يتبعهم بعد الحسن عليهالسلام من
التمسّك بوصيّه الحسين عليهالسلام ،
وبعد الحسين من التمسّك بوصيّه وولده عليّ بن الحسين عليهالسلام ،
وبعده من التمسّك بوصيّه وولده محمّد بن عليّ الباقر عليهالسلام ،
وهلمّ جرّاً إلى آخرهم وقائمهم المهديّ المنتظر (عجّ) .
ولم يكن يجوز الاعتماد عند هؤلاء القوم
في كلّ عصر أبداً إلاّ على المأخوذ المسموع من الوصيّ الإمام عليهالسلام ، الآخذ عن آبائه ،
عن النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
عن اللّه عزوجل ؛
ولهذا لمّا اطّلع أهل البصيرة على حقيقة هذه الطريقة عرفوا حقّيّتها ، وجزموا أنّ
أهلها هم الفرقة الناجية ؛ لما بيّنّاه من اختصاصهم بالتمسّك في كلّ شيء بما ورد
من اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله لا
غير ، وإن اتّفق عليه رأي جميع ما سواهما ، فشرعوا يدخلون في دين اللّه أفواجاً
مع مصادمتهم من بحار ضلالة مخالفيهم ، وظلمات جور أعاديهم أمواجاً ، بحيث لم يكن
يمكنهم الوصول إلى الإمام عليهالسلام إلاّ
بعد تمهيدات من خوف الطغاة اللئام إلى أن انكسرت شوكة بني اُميّة ، وذلك في أواخر
زمان الباقر عليهالسلام ،
فشرع علماء هؤلاء القوم بإكثار الوصول إلى خدمة أئمّتهم عليهمالسلام ، وسؤال المسائل منهم
، وشرع الأئمّة عليهمالسلام أيضاً
في إنفاذ الأحكام إليهم ، وبيان معالم الدين
__________________
لهم ، وربّوهم كمال التربية مع وجود بعض
حالات الخوف والتقيّة .
وقد كان دأب هؤلاء العلماء في كلّ عصر
أنّ كلّ من وصل منهم في موسم الحجّ وغيره إلى خدمة إمامه عليهالسلام ، وتعلّم من علومه ما
تعلّم كتبه فرجع إلى بلاده وروى ما تعلّم لأصحابه ، حتّى انتشرت أخبارهم في البلاد
، وشاعت علوم الأئمّة وآثارهم بين العباد ، حتّى أنّه كُتبت من عصر الصادق عليهالسلام ـ الذي راج العلم في
أوانه لضعف شوكة أهل جور زمانه ـ أربعة آلاف كتاب حديث إلى عصر أبي محمّد الحسن
العسكري عليهالسلام ،
كلّ كتاب لمؤلّف واحد من رواتهم ، وزاد عدد ثقات الرواة منهم عن الاُلوف ، حتّى أنّ
فيهم مثل أبان بن تغلب،
وزرارة بن أعين،
وحمران بن
__________________
أعين ، ومحمّد بن
مسلم ، وجابر بن يزيد ونظرائهم ممّن صرّح علماء : المؤالف والمخالف بتوثيقهم وكمال
علمهم ، مع نصّ المخالف بتشيّعهم ، بل غلوّهم فيه ، كما سيأتي مفصّلاً من كتاب
ميزان الاعتدال وغيره .
وقد روى أبان هذا ثلاثين ألف حديث عن
الصادق عليهالسلام ، وروى جابر عنه وعن أبيه أزيد من خمسين
ألف حديث،
وأمّا زرارة وأمثاله فلا تحصى رواياتهم ، حتّى أنّ كثيراً من علماء المخالفين كأبي
حنيفة ، والثوري ، والأعمش وأمثالهم داروايراجعون
هؤلاء الأئمّة ، ويقتبسون من أنوار علومهم ، ويروون عنهم ، بل عن بعض أصحابهم
أيضاً ؛ ولهذا صارت غزارة علوم كلّ واحد واحد من هؤلاء الأئمّة عليهمالسلام مسلّمة عند كلّ علماء
الاُمّة ، وطارت فضائل أحوالهم وغرائب آثارهم ونقلة أخبارهم شرقاً وغرباً ، بحيث
صنّف جمّ غفير من أصحاب هؤلاء الأئمّة وسائر من تأخّر عنهم من علماء الأُمّة كتباً
كباراً في الاُصول والفروع من متعلّقات التوحيد والنبوّة والإمامة والعدل والمعاد
، وخلق الأرواح والأجساد ، والحلال والحرام ، والفرائض والأحكام ، والتفسير
والدعاء ، والقصص والمواعظ ، والآداب والأخلاق وغيرها من أنواع العلوم ، وأنحاء
الحجج ، وحلّ المشكلات ، وأقسام أحوال ما في الأرضين والسماوات ، وقد نقلوا في تلك
الكتب لكلّ مبحث من الاُمور المذكورة أدلّة علميّة مأخوذة من ألسنة
__________________
اُولئك الأئمّة عليهمالسلام من غير حاجة لهم إلى
الاستناد إلى الخيالات الظّنيّة المأخوذة من الرأي والقياس الذي بيّنّا غير مرّة
أنّ أصل ذلك من الشيطان الموقع في الوسواس ، ثمّ اشتهر منه بين سائر أصناف الناس .
ومن هذا ظهر أيضاً أنّهم هم مصداق ما
مرّ من قول النبيّ صلىاللهعليهوآله:
« لا تزال طائفة من اُمّتي ظاهرين على الحقّ ، لا يضرّهم خذلان من خذلهم »؛ إذ من البيِّن أنّ مراده صلىاللهعليهوآله بهذه
الطائفة إنّما هو الطائفة المحقّة التي ذكرنا في حديث الثلاث والسبعين.
وقد تبيّن ممّا ذكرنا وجود جميع
خصوصيّات كلّ واحد من الخبرين في هؤلاء الجماعة دون غيرهم ، كما هو ظاهر من ملاحظة
أحوالهم وأحوال من سواهم ، كما ذكرنا مجملاً منها ، ومن أراد تحقيق صدق ما ذكرناه
وتفصيل مقالاتهم يكفيه الرجوع إلى واحد من تلك الكتب الذي هو مسمّى بـ : بحار
الأنوار ، فإنّه سيجده مشتملاً على بيان جميع ما أشرنا إليه على النهج المأخوذ من
الأئمّة أهل بيت العلم والنبوّة ، وفيه من الآيات القرآنيّة والأخبار النبويّة لا
سيّما المأخوذة من العترة الهادية ما لا يحصى عدداً بحيث صار ما فيه من روايات
الإماميّة فقط أضعاف مضاعفة جميع الروايات التي حوتها كتب مخالفيهم ، حتّى أنّه لم
يكتب كتاب مثله في الإسلام ، والشاهد على هذا تتبّع ما فيه .
وبالجملة
: مدار هذه الطائفة إنّما هو على متابعة
قول هؤلاء
__________________
الأئمّة عليهمالسلام ، حيث إنّه قول
النبيّ صلىاللهعليهوآله المأخوذ
من اللّه عزوجل ؛
إذ نصوص كتاب اللّه التي هي حجّة ـ بدون الحاجة إلى تحقيق المراد بها ـ قليلة ،
والبواقي ممّا لا بُدَّ فيها من سماع تفسيرها وتأويلها من هؤلاء العلماء الذين نزل
الكتاب في بيتهم ، وتعلّموا معناه من جدّهم ـ كما سيأتي مفصّلاً ـ وما سوى ذلك ليس
بحجّة عندهم أصلاً .
نعم ، الإجماع الذي عُلم دخول قول هؤلاء
الأئمّة فيه ، فهو حجّة عندهم أيضاً ، لكن لا من حيث كونه إجماعاً ، كما توهّمه
مخالفوهم ؛ حيث لم يفهموا معنى الحديث الآتي ، بل من جهة كون قول أئمّتهم الداخل
فيه حجّة ؛ لما هو ظاهر ممّا مرّ وسيأتي أيضاً ؛ لأنّ الحقّ أنّ هذا هو معنى قول
النبيّ صلىاللهعليهوآله :
« لا تجتمع اُمّتي على الخطأ »؛
لأنّه مهما اجتمعت جميع طوائف الاُمّة دخلت فيهم الطائفة المحقّة التي لا تزال
ظاهرين على الحقّ ، فلزم كون مثل هذا المجتمع عليه حقّاً ، وإذ قد ظهر أنّ هؤلاء
هم أهل الحديثين المذكورين ظهر أنّ صدق هذا الاجتماع لأجل دخول قول هؤلاء . وقد
بيّنّا ويتّضح أيضاً أنّ قول هؤلاء حجّة ، فظهر أنّ حجّيّة الاجماع لأجل حجّيّة
قول هؤلاء الداخل في الأقوال ؛ ولهذا قال بعض المحقّقين : إذا اجتمع اثنان وعرفنا
دخول قول الإمام المعصوم في قولهما فهو حجّة وإلاّ فلا وإن اجتمع عليه جميع ما سوى
الإمام عليهالسلام .
وليس معناه أنّ كلّ اجتماع من الاُمّة
حجّة وإن لم تكن الطائفة المحقّة من جملتهم ؛ إذ لا دليل على هذا ، بل دليل بطلانه
موجود ، كما يأتي في
__________________
بحث الإجماع مفصّلاً
، فافهم حتّى تعلم أنّ الإماميّة لأجل جميع هذه الاُمور المذكورة صرّحوا بأنّ
الدليل الشرعي منحصر في الكتاب والسنّة ، أي : الآيات والروايات المعلومة الحجّيّة
، وماسواهما من خطوات الشيطان ، كسائر ما هو متداول بين سائر الطوائف من الآراء
والتخيّلات الظنّيّة .
وأمّا ما يوجد في بعض كتب هذه الطائفة
من المكالمات الخياليّة والمناظرات العقليّة ، وكذا ما هو موجود بينهم أيضاً من
الخلاف في بعض المسائل ، لا سيّما الفرعيّةـ
فإنّ عمدة المسائل الاُصوليّة ممّا لم يختلف فيه علماء الإماميّة ببركةالعترة الطاهرة ـ فليس بمناقض لما عليه
أساس مذهبهم أصلاً ، ولا منافٍ لأصل طريقتهم بوجه أبداً ، ولا يلزم عليهم بذلك
توهّم مشاركتهم مع غيرهم من سائر الطوائف في وجود الاختلاف المذموم بينهم
والافتراق واستعمال الرأي والظنّ الممنوع الذي سبب الخطأ والشقاق ؛ لأنّ الحقّ
الصحيح والبيّن الصريح ـ كما ينادي به تفحّص أحوالهم وتصفّح أقوالهم ـ أنّ ذلك ليس
لأجل ما زعمه بعض المتوهّمين من دلالته على كون اعتقادهم مدخلية الرأي في الدين ،
بل إنّما هو أمر حادث عرضهم اضطراراً ، وابتلوا به من جهة المخالفين .
ولا بأس في تبيين ذلك هاهنا ؛ لنفعه في
غير موضع ممّا سيأتي في ضمن نقل بعض المقال ، ودفعه أوهامَ جماعةٍ ممّن جهل حقيقة
الأحوال ، فاستمع لما يتلى عليك ، واقبل الحقّ الذي يظهر لديك .
اعلم أنّه لمّا استقام بناء حكاية
السقيفة ، حتّى انجرّ الأمر إلى تعيين
__________________
كلّ اُناس الخليفة
انتهى ذلك إلى تسلّط حُكّام الجور والظلم المستشعرين لعداوة آل محمّد عليهمالسلام ، لا سيّما أعيان أهل
البيت عليهمالسلام الذين
كان يظهر منهم ادّعاء الإمامة أو آثارها ، على الخصوص هؤلاء الأئمّة المعلومين
المشتهر في العالم حالهم وكمالهم وجلالة شأنهم ، بحيث كثر حُسّادهم ، وانتشر بغاة
الشرّ لهم ، وطلاّب ما يُنفّر الطباع عنهم ، لا سيّما من العلماء الذين كانوا على
خلاف مذهبهم متمسّكين بضدّ مسلكهم ، على الخصوص الذين كان لهم مصاحبة مع السلاطين
والحُكّام ، وشهرة بين الأنام ، ورغبة في الأمانيّ والآمال ، وتملّقات إلى أرباب
الدول لتحصيل الجاه والمال ؛ ضرورة أنّ ميل أكثر الناس إلى أهل الدّول وطلب الدنيا
ورفاه الحال ـ وإن كان مضرّاً لهم بحسب العاقبة والمآل ـ فلم يزل كان أمثال هؤلاء
في كلّ عصر يتجسّسون عن أحوال علماء أهل البيت عليهمالسلام وطريقتهم
حتّى فتاويهم ، لا سيّما هؤلاء الأئمّة وشيعتهم ، حتّى من كان يدخل فيهم ، ومهما
وقفوا على شيء منهم مخالف لما عليه الحُكّام أو عامّة الأنام ، شهروه بين الخاصّ
والعامّ ، لا سيّما مجالس الحُكّام ، ليشتدّ بذلك بغضهم وعداوتهم والطعن عليهم ،
بل وصول أشدّ الأذى والإهانة إليهم ، بحيث سمّوهم الرفضة ، ونسبوهم إلى البدعة
وأمثال ذلك ، حتّى افتروا عليهم بأشياء خسيسة ومذاهب سخيفة لم يرض بها أحمق الناس
.
وكفى في الجزم بشيوع ما ذكرناه بينهم
تصفّح ما نقله عرفاء أهل السير في ضمن ذكر أحوال العلماء والخلفاء وعُمّالهم ، بل
أحوال سائر أهل زمانهم ، كما قد أشرنا سابقاً إلى نبذ من ذلك ، وكذا تتبّع ما صدر
من الأذى والوشي ، والسعاية والطعن ، والإهانة من الحُكّام وأتباعهم بالنسبة إلى
هؤلاء الأئمّة
وأصحابهم وأشياعهم ، حتّى قتلوا جماعة من الشيعة ، وسمّوا كثيراً من الأئمّة عليهمالسلام ، ونهبوا أموالهم ،
وحرّقوا كتبهم وأمثال ذلك ممّا مرّ ويأتي بعض منها .
وبالجملة
: كان مدار أئمّة الضلال بل ورؤساء سائر
طوائف الاُمّة على الاهتمام في استبطال آثار هذه الطائفة ، وإطفاء أنوار هؤلاء
الأئمّة ، لكن أبى اللّه إلاّ أن يتمّ نوره ، ولأجل هذا صارت التقيّة والإخفاء من
الأعداء عند الشيعة وأئمّتهم شايعة ، كما سيأتي مفصّلاً ، فكان مدار الأئمّة
الطاهرين عليهمالسلام على
التقيّة والوصيّة بها في كثير من اُمور الدين ، بحيث إنّهم كانوا كثيراً ما يفتون
أصحابهم ورُواة الحديث منهمحتّى
الخواصّ منهم على ما يوافق مذهب المخالفين ، أو ما هو المشهور عندهم ، أو ما عليه
حُكّامهم وقُضاتهم في ذلك الوقت إمّا لكون السائل أو أحد من حُضّار مجلسه من
المخالفين ، أو ممّن كان يروي لهم ، أو ممّن كان تصل روايته إليهم ، أو إلى
حُكّامهم ولو بوسائط ، أو ممّن كان له المعاشرة معهم ، أو مع حُكّامهم ولو غصباً
عليه ، أو كان يعلم الإمام من حال السائل ، أو أحد من الحضور أنّه من المبتلين
بالعمل على وفق مذهب المخالفين ولو في بعض حين مستلزم للضرر عليه أو على غيره من
إخوانه المؤمنين ، أو لغير ذلك من الوجوه المستلزمة للتقيّة أو الاتّقاء ، حتّى
أنّهم عليهمالسلام كانوا
لأجل ما ذكرنا قد يورّون في الكلام ، ويجملون في نقل الأحكام على حسب مقتضى المقام
، بحيث كان يفهم كلّ مستمع منه نوعاً من المرام .
ولهذا اختلفت أخبارهم والرواية عنهم ،
وتخالفت فتاويهم وما ورد
__________________
منهم ، فنقل وروى كلّ
مستمع عن إمامه ما سمع منه على وفق فهمه وسماعه وإن لم يعلم كون صدوره على جهة
التقيّة ، أو نهج مرّ الحقّ ، فصار هذا النوع من الاختلاف سبب حدوث الخلاف الذي
بين أصحاب الأئمّة عليهمالسلام ،
وكذا علماء الإماميّة .
ومن البيّنات الواضحة أنّ هذا ليس من
قبيل الاختلاف الذي بين سائر الطوائف ؛ ضرورة وجود بون بعيد بين هذا وبين ما عليه
اختلاف سائر الطوائف من الاستنباط بالآراء والأهواء الظنّيّة الخياليّة ، وادّعاء
كون ذلك المستنبط حكم اللّه رجماً بالغيب ؛ إذ خلاصة كلام هؤلاء الطائفة أنّه
لمّا ثبت بالكتاب والسنّة وسائر الأدلّة القاطعة إنّا مكلّفون بإطاعة هؤلاء
الأئمّة فيما قالوا وفعلوا إلاّ أن يظهر لنا أنّ ذلك الصادر منهم كان على جهة
التقيّة والدفاع عنّا وعنهم ، ولم يكن لنا حاجة إلى العمل بذلك ، فمهما لم يتبيّن
هذا لنا لا بأس علينا في الأخذ بذلك الصادر ، كما وردت الرخصة بذلك في صريح أخبار
الأئمّة ، منها قوله عليهالسلام :
«لا يسع الناس حتّى يسألوا ويتفقّهوا ويعرفوا إمامهم ، ويسعهم أن يأخذوا بما يقول
وإن كان تقيّة».
فعلى هذا إذا حصل الاختلاف بيننا في مثل
هذا الصادر بأن عمل به بعضنا حيث لم يدر بالحال ، وعمل بخلافه البعض الآخَر الذي
عرف حقيقته واطّلع على وجه وروده ولو بحسب القرائن التي ظهرت عليه ، لا طعن على
أحد منهما بوجه من الوجوه ؛ ضرورة أنّ كلّ واحد متمسّك بما ورد عن إمامه على وفق
فهمه المأمور به ؛ إذ ليس التقصير منهما
__________________
ولا أحد منهما سبب
الاختلاف ، حتّى لا يكونا معذورين ، بل إنّما سبب ذلك والتقصير التامّ من الذين
صاروا سبب ضعف الإمام عليهالسلام ،
حتّى ألجأوا إلى هذا النوع من الكلام .
ولهذا قال من قال من الإماميّة : إنّ
اختلاف أصحابنا ليس باختلاف حقيقةً ، بل لا خلاف بينهم أصلاً ؛ إذ كلٌّ منهم
متمسّك بما هو حجّة في حقّه قطعاً،
كما أنّ مثله كان متداولاً في زمان النبيّ صلىاللهعليهوآله
بلا طعن ولا كلام ؛ إذ كثيراً ما كان
ينزل حكماً ، ثمّ ينسخ إلى غيره ، فكان من لم يدر بالناسخ عاملاً بالمنسوخ ، وغيره
بالناسخ ، وكذلك كان النبيّ صلىاللهعليهوآله قد
يجيب سائلاً (عن شيء)على
وفق مقتضى حال ذلك السائل ، أو على وجه الرخصة ، أو نحو ذلك ، ويجيب غيره في ذلك
الشيء بعينه بخلاف الأوّل ؛ لملاحظة حال هذا الغير ، أو على جهة الأفضليّة أو نحو
ذلك ، وكان كلٌّ يعمل على وفق جوابه ولم يُعدّ أحد منهما مخالفاً للحقّ ، حتّى
أنّه ربّما كان بعض من السائلين أو الحاضرين يفهم من اللفظ ما لم يروه سيّد
المرسلين ، فكان يعمل على وفق فهمه إلى أن يظهر عليه خلافه من غير مؤاخذة على ذلك
ولا معاتبة .
نعم ، كانت المعاتبة والمخالفة في العمل
بعد ظهور الحال ، أو بمحض الرأي من غير سؤال ، فهكذا أيضاً شأن الأئمّة عليهمالسلام وأصحابهم وسائر فقهائهم
في هذه الأحوال .
فتأمّل صادقاً ، لا سيّما فيما ذكرناه
آنفاً ، حتّى يتبيّن لك عياناً عدم
__________________
ورود طعن على الإماميّة
أصلاً من جهة السبب الآخر الذي وقع به الاختلاف بينهم أيضاً ، أي : من حيث فهم
معاني الأخبار ومحاملها ، والجمع بينها ، والتفحّص عن مواردها سنداً ومتناً ،
وعموماً وخصوصاً ، ومطلقاً ومقيّداً ، ومجملاً ومفصّلاً، وأمثال ذلك ممّا ذُكر في علم الدراية
.
ثمّ تدبّر متبصّراً وتفكّر جدّاً فيما
بيّنّاه من المرام في هذا المقام ، حتّى يظهر لك أيضاً معنى الحديث الذي ذكره
المخالفون في كتبهم ، واستندوا إليه في ترويج ضلالهم وبدعهم ، حيث رووا عن النبيّ صلىاللهعليهوآله ـ
كما سيأتي ـ أنّه قال : « إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإن أخطأ فله أجر
واحد »فإنّ الحقّ إن كان
الخبر صحيحاً أن يحمل المراد بالاجتهاد بذل الجهد في فهم ما ورد عن اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله ،
حتّى يفهمه على ما هو حقّه بنحو ما أشرنا إليه ، دون أن يكون المراد أنّ كلّ من
اختار شيئاً بخياله وأفتى في الدين برأيه فله الأجر ، فافهم .
على أنّ الأئمّة عليهمالسلام قنّنوا لشيعتهم
قانوناً ضابطاً للعمل بما ورد من رواياتهم ، رافعاً لما يتوهّم من نقص الاختلاف عن
رُواتهم ، رحمةً من اللّه تعالى ولطفاً على هذه الطائفة التي اقتضت حكمة اللّه عزوجل أن يكونوا هم
وأئمّتهم في مدّة مديدة مبتلين بمخالطة مخالفيهم ، وحسن ظاهر السلوك فيهم ، وستر
الدين عن أعاديهم ، وبالمداراة معهم بالتقيّة والكتمان ، والصبر على الأذى ،
وإخفاء معالم الإيمان ، كما كان كذلك حال بني إسرائيل وقوم فرعون وهامان ، بل كان
هكذا شأن أهل الحقّ والباطل في كلّ
__________________
زمان كما بيّنّاه
سابقاً بأبين تبيين ، حتّى ظهر أنّه هكذا كانت سيرة النبيّ صلىاللهعليهوآله وأصحابه
في أوائل الإسلام مع المشركين ، بل في المدينة أيضاً مع بعض المخالفين المنافقين .
ثمّ إنّ ذلك القانون هو مضمون الأخبار
التي رواها عنهم جمع من أجلّة أصحابهم منهم عمر بن حنظلةفي روايته المقبولة عند كلّ الإماميّة ،
قال : سألت أبا عبداللّه عليهالسلام عن
رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دَيْن أو ميراث ، فتحاكما إلى السلطان أو إلى
القُضاة ، أيحلّ ذلك ؟ قال : « من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى
الطاغوت ، وما يحكم له فإنّما يأخذ سحتاً وإن كان حقّاً ثابتاً له ؛ لأنّه أخذه
بحكم الطاغوت ، وقد أمر اللّه أن يُكفر به ، قال اللّه عزوجل : ( يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى
الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ
)
» .
قلت : فكيف يصنعان ؟
قال : « ينظران إلى من كان منكم ممّن قد
روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا ، فليرضوا به حَكَماً فإنّي قد
جعلته عليكم حاكماً ، فإذا حكم بحكمنا ، فلم يقبله منه فإنّما استخفّ بحكم اللّه
، وعلينا ردَّ ، والرادّ علينا رادٌّ على اللّه ، وهو على حدّ الشرك باللّه » .
قلت : فإن كان كلّ واحد اختار رجلاً من
أصحابنا ، فرضيا أن يكونا
__________________
الناظرَيْن في حقّهما
واختلفا فيما حكما وكلاهما اختلف في حديثكم ؟
قال : « الحكم ما حكم به أعدلهما
وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخَر » .
قال : قلت : فإنّهما عدلان مرضيّان عند
أصحابنا لا يفضّل واحد منهما على صاحبه ؟
قال : فقال : « ينظر إلى ما كان من
روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المُجمع عليه من أصحابك ، فيؤخذ به من حكمنا
ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المُجمع عليه لا ريب فيه ، وإنّما
الاُمور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيُتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيُجتنب ، وأمر مشكل
يُردّ علمه إلى اللّه وإلى رسوله صلىاللهعليهوآله ،
قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله :
حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشُبهات نجا من المحرّمات ، ومن
أخذ بالشُبهات ارتكب المحرّمات ، وهلك من حيث لا يعلم » .
قلت : فإن كان الخبران عنكم مشهورين ،
قد رواهما الثقات عنكم ؟
قال : « يُنظر فما وافق حكمه حكم الكتاب
والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ، ويُترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق
العامّة » .
قلت : جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان
عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ، ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامّة والآخَر
مخالفاً لهم ، بأيّ الخبرين يؤخذ ؟
قال : « ما خالف العامّة ففيه الرشاد »
.
فقلت : جعلت فداك فإن وافقها الخبران
جميعاً ؟
قال : « يُنظر إلى ما إليه أميل حُكّامهم
وقُضاتهم فيُترك ، ويؤخذ
بالآخَر » .
قلت : فإن وافق حُكّامهم الخبرين جميعاً
؟
قال : «إذا كان ذلك فأرجه حتّى تلقى
إمامك ، فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات ».
ومنهم : سَماعةفي روايته المقبولة عند الأكثر ، قال :
سألت أبا عبداللّه عليهالسلام عن
رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه كلاهما يرويه ، أحدهما يأمره والآخَر ينهاه عنه
، كيف يصنع ؟
قال : « يُرجئه حتّى يلقى من يُخبره فهو
في سعة حتّى يلقاه » . وفي رواية اُخرى : « بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك ».
حتّى أنّ هذا الأخير رواه الحسن بن
الجهمعن الرضا عليهالسلام
__________________
صريحاً ، وقبله ثقات
رؤساء الإماميّة أيضاً ، حيث قال في آخر حديثٍ له ذكره الطبرسي في كتاب الاحتجاج ،
وكذا غيره : قلت له : جعلت فداك يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين فلا
نعلم أيّهما الحقّ ؟
قال : « إذا لم تعلم فموسّع عليك
بأيّهما أخذت ».
ومنهم : زرارة في روايته المسلّمة عند
الإماميّة ، قال : سألت أبا جعفر الباقر عليهالسلام فقلت
: جعلت فداك يأتي منكم الخبران المتعارضان فبأيّهما آخذ ؟
فقال : « يا زرارة خُذْ بما اشتهر بين
أصحابك » ثمّ ذكر سائر الصٌّور إلى أن قال أخيراً : « فخُذْ بما فيه الحائطة لدينك
».
أقول
: خلاصة الحال أنّ هذا القانون الذي يظهر
من هذه الأخبار وغيرها إنّما وُضع لأجل أنّه مهما وجد أحد اختلافاً فيما روي عن
هؤلاء الأئمّة عليهمالسلام في
شيء وجد أيضاً طريق الأخذ فيه بأحد الوجوه المرجِّحة المرويّة عنهم أيضاً ، حتّى
لا يضرّه هذا الاختلاف رأساً ، حيث إن عمله حينئذٍ على قول الإمام عليهالسلام أبداً من دون مدخليّة
رأي فيه أصلاً ؛ ضرورة عدم الفرق في لزوم العمل بين ما ورد عنهم في خصوص حكم من
الأحكام ، وبين ما ورد عنهم في باب اختلاف الحكم الوارد عن الإمام عليهالسلام .
وخلاصة مضمون أصل هذا القانون أنّ
الواجب ترجيح العمل بالخبر الذي يكون موافقاً لما يدلّ عليه محكم القرآن أو السنّة
الثابتة من النبي صلىاللهعليهوآله
__________________
سيّد الإنس والجانّ ـ
والوجه في هذا ظاهر واضح لا سترة فيه ـ أو يكون مخالفاً لما عليه فقهاء العامّة أو
حُكّامهم وقُضاتهم كلّهم ، أو أكثرهم أو أشهرهم ، لا سيّما في زمان ورود الحديث ،
وإنّما السبب في هذا الأخير ليس ما هو دأب المخالفين من تركهم بعض الاُمور
الشرعيّة عندهم ، بل المرغوبة لأجل محض صيرورتها من شعار الشيعة ، كالتختّم
باليمين ، وتربيع القبور وغيرهما ؛ لأنّ هذا من الحميّة الجاهليّة ، بل السبب ما
سبق من أنّ القوم لمّا ضيّعوا السبيل الذي هو الرحماني اتّبعوا السبل التي هي طرق
الاستنباط بألرأي الذي هو الشيطاني ، فصار مدارهم على هذا الحال ، والظاهر أنّه
عين موقع الخطأ والضلال . فلا محالة عامّة أحكامهم خلاف حكم اللّه المتعال ؛
ولهذا قال الرضا عليهالسلام لمن
سأله أنّه لم يجد شيعةً يستفتيه : «ائت فقيه البلد واستفته في أمرك فإذا أفتاك
بشيء فخُذْ بخلافه فإنّ الحقّ فيه»وقد
كان الأئمّة أيضاً يفتون على ما يوافقهم ـ كما مرّ ـ غصباً عليهم .
وأمّا كثرة التقيّة وشيوعها ، لا سيّما
في زمان الأئمّة عليهمالسلام فواضحة
؛ ولهذا قال أبو عبداللّه الصادق عليهالسلام لعبيد
بن زرارة:
« ما سمعتَ منّي يشبه
__________________
قول الناس ففيه
التقيّة ، وما سمعتُ منّي لا يشبه قول الناس فلا تقيّة فيه».
وفي صحيحة أبان بن تغلب قال : سمعت
الصادق عليهالسلام يقول
: « كان أبي يفتي في زمان بني اُميّة : أنّ ما قتل البازي والصَقر فهو حلال ، وكان
يتّقيهم ، وأنا لا أتّقي الآن ، فهو حرام »،
ونحوه موجود بسند صحيح في كتاب صفوان عن الحلبي ، عنه عليهالسلام .
ولأجل هذا مهما يتتبّع الماهر في الحديث
يزداد علماً بأنّ أكثر اختلاف الروايات من هذا القبيل ، ومن ثَمَّ قد يقدّم هذا
على سائر الوجوه ، فلا تغفل .
ثمّ إنّ من وجوه الترجيح : أن يختار
العمل بالخبر الذي يكون مسلّم الثبوت صدوره عن الإمام عليهالسلام إمّا
بكثرة روايته أو رُواته أو بزيادة ورعهم وعلمهم وصدقهم والوثوق بهم أو بغير ذلك ،
على الخبر الذي لم يكن بهذه المثابة .
لكنّ الحقّ أنّ أكثر موارد هذا الوجه من
الترجيح مهما لم يحتمل الورود على نهج التقيّة ، كما هو واضح ممّا مرّ .
ومنها : ما هو من جملة دراية الحديث
وفهم معناه ، بأن يجمع بين العمل بالخبرين جميعاً بنوع من التوجيه والتأويل ، كحمل
أحدهما ـ مثلاً ـ
__________________
على الفضل ، والآخَر
على الرخصة أو على تقييد أحدهما بالآخَر ، أو على معنى يجتمع مع الآخَر ، أو نحو
ذلك ممّا يعلمه الماهر في فهم الحديث .
لكن هذا أيضاً بشرط ظهور ذلك الحمل ، بل
مع التأييد بدلالة حديثٍ ثالثٍ عليه ، كما كان كذلك دأب أكثر قدماء المحدّثين من
الإماميّة ، كالكليني والطوسيوغيرهما
، فإنّ هذا الخبر الثالث في الحقيقة قول من يخبر عمّا في الأوّلين ، فيدخل تحت ما
مرّمن قوله عليهالسلام : « يُرجئه حتّى يلقى
من يُخبره » .
ثمّ إن لم يمكن اختيار العمل بأحد
الوجوه المذكورة وأمكن التوقّف والإرجاء ، أو العمل بما فيه الاحتياط ، كما مرّ في
الأحاديث السابقة ، وإلاّ فيختار العمل بأحدهما من باب التسليم ووسعه . هذا ، كما
هو نصّ الحديث .
وظاهر أنّ بناءً على هذا ، إن حصل بعض
اختلاف من اختيار بعض
__________________
الوجوه المذكورة ، أو
المعاني المستفادة على بعض بسبب العذر الذي بيّنّاه ، لا يقاس بذلك الاختلاف
الآرائي الذي بين غيرهم ، بل الحقّ أنّ هذا لا ينبغي أن يُعدّ اختلافاً ، كما
بيّنّا وجهه سابقاً .
نعم ، شواذّ من المتأخّرين عن أزمنة
الأئمّة وأرباب النصوص من الإماميّة ، حيث إنّهم ابتلوا من بدو تحصيلهم بمعاشرة
مخالفيهم ومخالطتهم وممارسة كتبهم ومذاكرتهم اكتسبوا نبذاً من روائج طريقتهم ،
فزعموا صحّة بعض ما هو من نتائج قواعدهم (ومع هذا لم يجدوا جمّةمن الروايات التي كانت متداولة في زمان
أرباب النصوص على حالها في الكثرة والاعتبار بسبب ضياع بعض الكتب ، وعدم بقاء
الاطمئنان في بعضها بكونها هي تلك الكتب المعتبرة في تلك الأعصار ؛ لما هو كالشمس
في رابعة النهار من كثرة ورود الأذيّة على الإماميّة والإضرار ، بحيث لم يمكنهم
الاجتماع مدّة ، بل ولا ما سوى كمال الاختفاء من خوف الأشرار ، فبنى هؤلاء وهماًمنهم أن يستدلّوا أحياناً بما هو من ذلك
القبيل غفلةً عن عدم كون ذلك من أفراد حقّ الدليل على مذهب الإماميّة ، المأخوذ من
الأئمّة الهداة عليهمالسلام إلى
خير السبيل ، فتورّطوابذلك
مثل اُولئك حتّى وقعوا معهم في مهوى الخطأ والاختلاف والتضليل .
لكن هذا ممّا لا يقدح في أصل مذهب
الإماميّة وطريقتهم المأخوذة عن الأئمّة عليهمالسلام ،
بل إنّ القدح إنّما هو في مثل هذا المقال الصادر من هؤلاء
__________________
الرجال ، كما أنّ خطأ
الطوائف المعدودة من المسلمين لا يقدح في أصل الدين المأخوذ من سيّد المرسلين ،
ومن نسب مثل هذا إلى مطلق متأخّري الإماميّة ، كشارح المواقف ومن تبعه ـ حيث قال :
إنّ الإماميّة كانت أوّلاً على مذهب أئمّتهم عليهمالسلام ،
حتّى تمادى بهم الزمان واختلفوا في الروايات عن أئمّتهم ، فاختلفوا وتشعّب
متأخّروهمـ
فقد أخطأ في تلك النسبة وتوهّم ، إذ لا شكّ في عدم صدور مثل ما ذكرناه من
الاستدلال إلاّ عن بعضهم .
وعلى هذا ، غاية ما يلزم من هذا على
الإماميّة أنّ فيهم من ضلّ عن طريقتهم ، وأخطأ في أدلّتهم ، وصار من أهل الخلاف
عليهم والاختلاف عنهم ، بحيث صار سبب توهّم وجود الاختلاف فيهم .
وهذا ممّا لا ينكروه ولا يضرهّم ، كما
قال اللّه عزوجل :
( عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم
مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ )ولهذا لم يعتمد على كلام هؤلاء ، ولم
يعبأ بكتبهم وتصانيفهم من عرف حالهم واطّلع على منشأ مقالهم من محقّقي المحدّثين
الذين تمسّكوا في جميع مسائل الدين بما ورد عن الأئمّة المعصومين صلوات اللّه
عليهم أجمعين .
على أنّ الذي يظهر من كلام بعض هؤلاء ،
بل غيرهم أيضاً ، كما أومأ إليه الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمهالله في مبسوطه، وذكره العلاّمة الحلّي في بعض فوائده
: أنّ ارتكاب الذين ارتكبوا ما ذكرناه آنفاً ليس محض ما مرّ ،
__________________
بل إنّما عمدة علّة
ذلك إرادتهم بيان بطلان أكثر المسائل ـ التي هي مختار مخالفيهم ـ على النهج ، الذي
هو المعمول فيهم ، دفاعاً عن أنفسهم ما كان به يطعن بعض مخالفيهم عليهم ، حيث صرّح
بأنّ الإماميّة إنّما التجأوا إلى ما ادّعوه من انحصار الحجّيّة فيما كان وارداً
من الشارع سمعاً ، لأجل عجزهم ـ بسبب قلّة قوّة عقلهم وفكرهم ـ عن استنباط المسائل
عقلاً ، وإسكات الخصم وردّه بمثل ما استدلّ به ممّا جعله عليهم حجّة ، فسهّلوا
الأمر على أنفسهم في كلّ مسألة بنقل رواية ولو لم يجدوا لما نقلوه أصلاً ؛ فلهذا
جرى هؤلاء الرهط في أكثر الأدلّة على تلك الطريقة ليبيّنوا كذب تلك النسبة على من
ربّما يتوهّم صدق تلك الفرية .
ولا يخفى أنّ من هذا يظهر وجه ما ذكرناه
سابقاً أيضاً من وجدان بعض المكالمات الخياليّة ، والمناظرات العقليّة في بعض من
كتب الإماميّة لا سيّما في المسائل الاُصوليّة ، (فإنّ الوجه فيه ما ذكرناه هاهنا
، لا سيّما الوجه الأخير ؛ إذ كثيراً ما يحتاج الإنسان في إسكات الخصم وإلزامه
وردّ شُبهه إلى التكلّم معه بما هو من الطرق التي هي المقبولة عنده وإن كان أصل
اعتماد المتكلّم على غيره)،
فافهم ولا تتوهّم .
وبالجملة
: خلاصة ما أشرنا إليه من مذهب الإماميّة
أنّهم يقولون : إذا ثبتت نبوّة نبيّنا محمّد صلىاللهعليهوآله
(وصدق كلامه)وكتابه بالمعجزات وغيرها ممّا سيأتي ،
وكذا وصاية المعلومين من آله وإمامتهم ، وكون قولهم حجّةً كقوله ـ كما سيظهر أيضاً
ـ كفانا ما ثبت عنهم عندنا (حتّى في التوحيد
__________________
والصفات والعدل
والمعاد ، وسائر ما يتعلّق بوجود الواجب بالذات ، وكذا في كلّ ما يتعلّق بعباده من
الأنبياء والأوصياء وسائر المخلوقات ، وكذلك فيما يتعلّق بأحكامه وأوامره ونواهيه
وسائر الأحكام
والأخلاق والمعاصي والقربات)من
غير حاجة لنا ، بل من غير أن يكون جائزاً علينا أن نتشبّث بما تشبّث به غيرنا ممّا
حصل به عندهم ما مرّ من الاختلافات،
وإنّ هذا هو مناط تفرّدنا عن غيرنا من سائر أصحاب المقالات .
(وهذا هو مراد شارح المواقف ، حيث قال :
إنّ طائفة من العلماء ذهبوا إلى أنّه يجب أخذ اُصول الدين وفروعه من أصحاب العصمة
، وإلى أنّه لا يستقلّ العقل بتحصيلها كما ينبغي ، وقد صرّح بمثله شارح المقاصدأيضاً . وفيهما ما لا يخفى من المناداة
بتكذيب من ادّعى كون هذا المذهب من الحادثات ، كما سيأتي في محلّه ، فتدبر).
ولنشر أيضاً إلى جملة من العقائد التي
تفرّدت بها هذه الطائفة ببركة التمسّك بأصحاب العصمة .
فاعلم أنّ الذي هو خلاصة مذهب هذه
الطائفة في معرفة اللّه عزوجل واكتساب
العلم بالذات والتوحيد والصفات أنّ إدراك حقيقة الذات المقدّسة ، والعلم بكنه
صفاته الذاتيّة ـ التي سيظهر أنّها عين الذات ـ ممّا لا مطمع فيه للملائكة
المقرّبين والأنبياء المرسلين ، فضلاً عن غيرهم ، كما
__________________
ينادي به صريح الآيات
والروايات التي منها قوله تعالى : ( وَلَا يُحِيطُونَ
بِهِ عِلْمًا )، وقول رسوله صلىاللهعليهوآله :
« ما عرفناك حقّ معرفتك »،
وقول حجّته أبي عبداللّه الصادق عليهالسلام :
« كلّ ما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه مخلوق مصنوع مثلكم ، مردود إليكم ،
ولعلّ النمل الصغار تتوهمّ أنّ للّه تعالى زبانتين ، فإنّ ذلك كمالها ، وتتوهّم
أنّ عدمها نقصان لمن لا يتّصف بهما ، وهكذا حال العقلاء فيما يصفون اللّه تعالى »وقال أيضاً : « إنّ اللّه لا يوصف ،
وكيف يوصف وقد قال في كتابه : (
وَمَا
قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ )فلا يوصف بقدر إلاّ كان أعظم من ذلك »وقال في معنى كلمة «اللّه أكبر»
و«سبحان ربّي الأعلى»ونحو
ذلك : « إنّ المراد اللّه أكبر وأعلى وأجل وأعظم من أن يقدر العباد على صفته أو
يبلغوا كنه عظمته »،
الخبر .
ولهذا لا يجوز عندهم ما ورد النهي
الصريح فيه من التفكّر في ذاته تعالى ، والتكلّم في حقيقته ، كما في الخبر
المتواتر بين المؤالف والمخالف الذي رواه من المخالفين الطبراني ، وابن عدي ،
والبيهقي ، والحافظ الاصفهاني وغيرهم : عن ابن عبّاس وغيره ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال
: « تفكّروا في خلق اللّه ولا تفكّروا في اللّه فتهلكوا »ورواه أيضاً من الإماميّة جمع .
__________________
منهم : محمّد بن مسلم عن الباقر عليهالسلام قال : « إيّاكم
والتفكّر في اللّه ، ولكن إذا أردتم أن تنظروا إلى عظمته فانظروا إلى عظم خلقه ».
ومنهم : أبو بصير وغيره عنه عليهالسلام قال : « تكلّموا في
خلق اللّه ولا تكلّموا في اللّه ، فإنّ الكلام في اللّه لا يزداد صاحبه إلاّ
تحيّراً ».
وعن الصادق عليهالسلام أنّه
قال : « من نظر في اللّه كيف هو ؟ هلك ».
وقال في قوله تعالى : ( وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ
الْمُنتَهَىٰ )«إنّ المعنى : أنّه إذا انتهى الكلام
إلى اللّه تعالى فأمسكوا ».
وفي رواية عن الباقر عليهالسلام قال : « إنّه كان
فيما مضى قوم تركوا علم ما وكلوا به ، وطلبوا علم ما كفوه ، حتّى انتهى كلامهم إلى
اللّه عزوجل فتحيّروا
، حتّى كان الرجل ليُدعى من بين يديه فيجيب من خلفه » ، وبالعكس، وفي رواية : « حتّى تاهُوا في الأرض ».
بل كمال المعرفة عندهم أن تعرف أنّك لا
تقدر على كنه المعرفة ،
__________________
وأنّ اللّه تعالى
غير كلّ ما تتعقّله ، فلا تصفه إلاّ بما وصف هو به نفسه بأن تنزّهه عنالمشابهة بشيءكلّيّاً ، ولا تخرجه إلى حدّ التعطيل
أيضاً ، وتعتقد فيه ما ذكر لنفسه من جميع الكمالات مع سلب النقائص التي هي في
المخلوقات ، فتقول مثلاً : إنّه تعالى شيء بحقيقة الشيئيّة لكن لا كالأشياء ؛ إذ
لا يشبهه شيء منها بوجه أبداً ، وليس كمثله شيء أصلاً ، وتقول : إنّه عزوجل موجود ثابت عيناً لا
كوجود المخلوقات الحادث المتنزّل العارض لها من الخارج ، وكذا تقول : إنّه جلّ وعلا
قادر عالم لكن لا كقدرة سائر الموجودات وعلمها الحادثين ، الناقصين ، العارضين لها
من غيرها ، وهلّم جرّاً في سائر صفات الذات الآتية .
وبالجملة
: تقول : إنّه إله متعالٍ عن احتمال
تطرّق نقص إليه في حال ، أو عجز من صفة كمال ، أو درك كنه حال من أحواله بتخيّل بال، كلّ ذلك لأجل ما بيّنّاه من نفي
التشبيه والتعطيل عنه ، وأنّه خلاف ما يتوهّم ويتصوّر ، كما ينادي به ـ سوى ما مرّ
أيضاً ـ أخبار .
منها : صحيحة عبدالرحمن بن أبي نجران، قال : سألت أبا جعفر الثاني عليهالسلام عن التوحيد ، فقلت :
أتوهّم شيئاً ؟ فقال : « نعم غير معقول ولا محدود ، فما وقع وهمك عليه من شيء فهو
خلافه ، ولا يُشبهه شيء
__________________
ولا تدركه الأوهام ،
كيف تدركه الأوهام وهو خلاف ما يعقل وخلاف ما يتصوّر ؟ إنّما يتوهّم شيء غير معقول
ولا محدود ».
(وفي رواية اُخرى : أنّه قيل له عليهالسلام : يجوز أن يقال للّه
: إنّه شيء ؟ قال : « نعم يخرجه من الحدّين حدّ التعطيل وحدّ التشبيه ».
وقال الصادق عليهالسلام حين سئل عن اللّه عزوجل : « هو شيء بخلاف
الأشياء » ، ثمّ قال للسائل : « ارجع بقولي إلى إثبات معنىً ، وأنّه شيء بحقيقة
الشيئيّة غير أنّه لا جسم ولا صورة ، ولا يُحسّ ، ولا يُجسّ ، ولا يُدرك بالحواسّ
الخمس ، لا تُدركه الأوهام ، ولا تنقصه الدهور ، ولا تُغيّره الأزمان » ، ثمّ قال عليهالسلام : « لا بُدَّ من
الخروج من جهة التعطيل والتشبيه ؛ لأنّ من نفاه فقد أنكره ودفع ربوبيّته وأبطله ،
ومن شبّهه بغيره فقد أثبته بصفة المخلوقين الذين لا يستحقّون الربوبيّة فلابُد من
إثبات أنّ له (ذاتاً بلا)كيفيّة
، لا يستحقّها غيره ، ولا يشارك فيها ، ولا يحاط بها ، ولا يعلمها غيره ».
وقال عليهالسلام أيضاً
: « من شبّه اللّه بخلقه فهو مشرك ، إنّ اللّه تعالى لا يشبه شيئاً ولا يشبهه
شيء ، وكلّ ما وقع في الوهم فهو بخلافه »).
وقال الرضا عليهالسلام :
« ما توهّمتم من شيء فتوهّموا اللّه غيره » ، قال :
__________________
« اللّهمّ لا أصفك
إلاّ بما وصفت به نفسك ، ولا اُشبّهك بخلقك ، أنت أهل لكلّ خير ، فلا تجعلني من
القوم الظالمين ».
وقال الكاظم عليهالسلام : « إنّ اللّه أعلى
وأجلّ وأعظم من أن يبلغ كنهُ صفته ، فصفوه بما وصف به نفسه ، وكفّوا عمّا سوى ذلك
».
وعنهم عليهمالسلام في
أخبار ـ أخذنا من كلّ موضعٍ الحاجة ـ أنّهم قالوا : « سبحان من لا يعلم أحد كيف هو
إلاّ هو ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، الذي لا يُحدّ ولا يُحسّ ولا يُجسّ
ولا تُدركه الحواسّ ولا يحيط به شيء (لا تحويه أرضه ولا تقلّهسماواته) ، ولا جسم ولا صورة ولا تخطيط
ولا تحديد ».
وقالوا أيضاً : « لا تضبطه العقول ، ولا
تبلغه الأوهام ، ولا تدركه الأبصار ، ولا يحيط به مقدار ».
وقالوا «ولا يوصف بكيفٍ ولا أينٍ ولا
حيث ، وكيف يوصف بذلك وهو الذي كَيَّفَ الكيف حتّى صار كيفاً وأَيَّنَ الأين حتّى
صار أيناً وحيّث
__________________
الحيث حتّى صار حيثاً
».
وقالوا : « عجزت دونه العِبارة ، وكلّت
دونه الأبصار ، وضلّ فيه تصاريف الصفات ».
وقالوا : « داخل في كلّ مكان ، وخارج من
كلّ شيء»،
«قريب في بُعْده بعيد في قُربه»،
«لا خلقه فيه ولا هو في خلقه».
وفي رواية : « داخل في الأشياء لا كشيء
في شيء داخل ، وخارج من الأشياء لا كشيء خارج من شيء ، سبحان من هو هكذا ولا هكذا
غيره ».
وقالوا : « احتجب بغير حجاب محجوب ،
واستتر بغير ستر مستور ، عُرف بغير رؤية ، ووُصف بغير صورة ، ونُعت بغير جسم ، لا
إله إلاّ هو الكبير المتعال ».
وقد قيل للرضا عليهالسلام : إذا لم يُدرَك
اللّه بحاسّة من الحواسّ ، فإذن أنّه لا شيء .
__________________
فقال : « ويلك لمّا عَجَزَتْ حواسّك عن
إدراكه أنكرت ربوبيّته ، ونحن إذا عَجَزَت حواسّنا عن إدراكه أيقنّا أنّه ربّنا
بخلاف شيء من الأشياء ».
والأخبار من هذا القبيل كثيرة ، وكفى ما
ذكرناه لكشف الحقّ على مَنْ له أدنى بصيرة ، وموضع التفصيل كتب الحديث ، ولا يمكن
هاهنا استقصاء نقلها وبيان متنها ، فلنكتف إذاً ببيان خلاصة قول هذه الطائفة في
التوحيد والصفات ، المأخوذ من جميع ما عندهم من روايات الأئمّة السادات عليهمالسلام حتّى ينكشف الحال
أيضاً في معرفة الذات أوضح ممّا ظهر في ضمن هذه الروايات .
اعلم أنّ عندهم كمال التوحيد أن تعتقد
أنّ اللّه تعالى فرد واحد متفرّد بالوحدانيّة من جميع الجهات ، بمعنى أن تعلم
أنّه أحديّ الذات ليست له أجزاء عقليّة ولا خارجيّة ولا وهميّة ، بل هو الذي لا
يتطرّق إليه التركيب أصلاً ، وأنّه أحديّ المعنى ، ليست له صفات زائدة ، بل صفاته
ـ كما سيظهر ـ عين ذاته ، بحيث لا يحتمل فيه التعدّد مطلقاً ، وأنّه أحديّ في المالك
والخلق ، ليس له شريك في شيء رأساً ، ولا ندّ ولا ضدّ ولا صاحبة ولا ولد أبداً ،
فهو الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد .
وبالجملة
: التوحيد الكامل عندهم أن تصفه بجميع ما
له من صفات الكمال وتنزّهه عمّا لا يليق به تعالى في الذات والصفات والأفعال ، بل
__________________
لا تطيع إلاّ إيّاه ،
ولا تشرك في عبادتك له ما سواه ؛ ولهذا قالوا : بأنّ أكمل أهل المعرفة والتوحيد ،
بل الموحّد الحقيقي إنّما همأرباب
العصمة ، ثمّ خُلّص المؤمنين ، وذلك أيضاً على حسب ما سيأتي من تفاوت درجات
الإيمان ، وتغاير مراتب الناس في العرفان .
وهذا هو عمدة أسباب ما قطعوا به من كون
نبيّنا صلىاللهعليهوآله أفضل
المخلوقين ؛ لما هو ثابت عندهم من كونه أوّل الخلق خلقةً وإطاعةً ، حيث فطره
اللّه عزوجل قبل
كلّ شيء من نور العظمة والمعرفة ؛ ولهذا لم يخالفه أبداً حتّى في ترك الأولى أيضاً
، ثمّ عليّ أمير المؤمنين عليهالسلام ؛
لكونهما من نور واحد ، ثمّ الأئمّة المعصومين من ذرّيّتهما الأوصياء المعلومين ؛
لكونهم أيضاً من ذلك النور وتلك الخلقة ، ثمّ بقيّة اُولوا العزم من النبيّين ،
ثمّ سائر المعصومين من الأنبياء والأوصياء والمرسلين والملائكة أجمعين ولو على
تفاوت مبيّن ، ثمّ خُلّص سائر المؤمنين وهلمّ جرّاً بنحو ما أشرنا إليه مجملاً
ويأتي مفصّلاً إلى ما هو أدنى المراتب .
ثمّ إنّ عندهم أنّ صفاته سبحانه على
قسمين : سلبيّة ، كعدم الجسميّة مثلاً ، وثبوتيّة ، ككونه عالماً مثلاً .
والثبوتيّة على نوعين ؛ لأنّها إمّا
إضافيّة محضة كالرازقيّة مثلاً ، وتسمّى صفات الفعل ، وإمّا حقيقيّة سواء كانت ذات
إضافة ككونه عالماً وقادراً مثلاً ، أو لا كالحياة والبقاء ، وتسمّى الجميع صفات
الذات .
ومجمل الفرق بينها وبين صفات الفعل :
إنّ كلّ صفة وجوديّة يكون
__________________
لها مقابل وجوديّ
يمكن اتّصافه تعالى به كالرضا والسخط مثلاً ، فهي من صفات الفعل لا من صفات الذات
؛ لأنّها ـ كما سيظهر ـ عين الذات ، وذاته ممّا لا ضدّ له ، فصفات الفعل ممّا لا
كلام عندهم ، ولا شبهة في كونها زائدة حادثة خارجة عن الذات ؛ ولهذا لمّا قيل
للصادق عليهالسلام :
لم يزل اللّه متكلّماً ، قال : « إنّ الكلام صفة محدثة ليست بأزليّة ، كان اللّه عزوجل ولا متكلّم »أي : لم يوجد بعد الأصوات ولا النقوش ،
ولا ألقى الكلام إلى قلب أحد ؛ ضرورة أنّ هذا إنّما هو المراد بكلامه تعالى
وتكلّمه ، فكذا الحال فيما هو واضح من أنّ اللّه كان ولا خلق ولا رزق ولا سخط ولا
رضا ولا غيرها من أمثالها التي لا بُدَّ أن تُعدّ من صفات الفعل ؛ لما ذكرنا ،
حتّى الإرادة على ما هو صريح كلام الأئمّة عليهمالسلام ،
فإنّ عامّة المتكلّمين فسّروا إرادة اللّه : بأنّها العلم بالخير والنفع وما هو
الأصلح ، فهي عندهم قديمة ومرجعها إلى العلم .
ولكنّ الذي ثبت عن الأئمّة عليهمالسلام أنّها وردت بمعان
كلّها من صفات الفعل ، فإنّ مفاد كلامهم : أنّها قد تطلق بمعنى الأمر والرضا وما
يقابل الكراهة ، وهذا مهما كانت متعلّقة بأفعال العباد ، يقال : يريد الصلاح
والطاعة ، ويكره الفساد والمعصية ، أي : يأمر وينهى ، كما يقال : يحبّ ويرضى ، أي
: يأمر ويثيب ، ويقال : يبغض ويسخط ، أي : ينهى ويعاقب .
قال عمرو بن عبيد للباقر عليهالسلام : ما معنى قوله تعالى
: (
وَمَن
يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ
)
؟ فقال عليهالسلام : « الغضب هو العقاب
، يا عمرو ،
__________________
إنّه من زعم أنّ
اللّه عزوجل زال
من شيء إلى شيء فقد وصفه صفةَ مخلوق ، إنّ اللّه لا يستفزّه شيء ولا يغيّره ».
وسيأتي إطلاقها أيضاً على تهيئة أسباب
الفعل ، وعلى ما سيجيء من الخذلان ، وعلى بعض مراتب التقدير والكتابة في اللوح .
وقد تطلق ، وهي ما إذا كانت متعلّقة
بأفعال نفسه بمعنى الإحداث والإيجاد في وقت تكون المصلحة فيه ، كما قال الكاظم عليهالسلام : « إنّ الإرادة من
الخلق الضمير ، وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل ، وأمّا من اللّه فإرادته إحداثه
لا غير ذلك ؛ لأنّه لا يُروّي ولا يَهمُّ ولا يتفكّر ، وهذه الصفات منفيّة عنه وهي
صفات الخلق ، فإرادة اللّه الفعل لا غير ذلك ».
وقال الرضا عليهالسلام :
« المشيئة والإرادة من صفات الأفعال ، فمن زعم أنّ اللّه لم يزل شائياً مريداً
فليس بموحّد »،
الخبر .
وقال الصادق عليهالسلام : « العلم ليس هو
المشيئة ، ألا ترى أنّك تقول : سأفعل كذا إن شاء اللّه ، ولا تقول : سأفعل كذا إن
علم اللّه ، فقولك : إن شاء اللّه ، دليل على أنّه لم يشأ ، فإذا شاء كان الذي
كما شاء ، وعِلْمُ اللّه سابق للمشيئة »،
الخبر .
ولهذا لم يعبأ بكلام المتكلّمين أرباب
النصوص من علماء الإماميّة ،
__________________
وسيأتي أيضاً أنّ
القضاء والقدر وأمثالهما أيضاً كذلك بمعانيها المتعدّدة .
وأمّا صفات الذات كالقدرة والعلم
والحياة وأمثالها ممّا لا اتّصاف للذات المقدّسة بضدّه ، فلا شكّ عندهم ـ كما هو
مفاد متواتر أخبارهم ـ أنّها عين الذات ، لكن لا بالمعنى المفهوم بادئ الرأي ، بل
بمعنى أنّه يترتّب على مجرّد الذات (البسيطة ما يترتّب على الذات)والوصف في غيره تعالى مثل أن (يقولوا :
إنّه)تعالى قادر بذاته بلا
صفة زائدة ، ولا كيفيّة حادثة ، وبلا آلة ، أي : ذاته البسيطة كافية في إيجاد كلّ
معدوم ، وإعدام كلّ موجود ، وفعل كلّ شيء كائناً ما كان على حسب إرادته واختياره ،
بحيث لا يتطرّق إلى ساحة كمال قدرته شائبة العجز مطلقاً .
قالوا : وأمّا عدم تعلّق القدرة
بالممتنع ، فإنّما هو لقصور الممتنع عن التكيّف بكيفيّة الوجود ـ مثلاً ـ لا غير ،
ولهذا لمّا قيل للصادق عليهالسلام :
هل يقدر ربّك أن يُدخل الدنيا في بيضة من غير أن يكبّر البيضة ولا يصغّر الدنيا ؟
قال : « إنّ اللّه عزوجل لا
ينسب إلى العجز ، والذي سألتني لا يكون ».
وكذا يقولون : إنّه تعالى عالم بذاته
بلا صفة زائدة ، ولا كيفيّة حادثة ، وبلا آلة ، ولا حدوث صورة ولا غير ذلك ، أي :
ذاته البسيطة كافية في الاطّلاع على جميع الاُمور جزئيّاتها وكلّيّاتها ، بحيث لا
يجهل شيئاً أصلاً ، ولا يتغيّر علمه بتفاوت ـ مثلاً ـ بالنسبة إلى ما كان أو يكون
، أو لغير ذلك
__________________
مطلقاً .
وكذا يقولون : إنّه تعالى حيّ بذاته بلا
صفة زائدة ، ولا كيفيّة حادثة ولا آلة ، أي : ذاته البسيطة كافية في إدراك كلّ
الاُمور ، وإنشاء جميع الأشياء ، وصدور كلّ ما لم يصدر من غيره إلاّ بانضمام صفة
الوجود ، ولهذا هو الموجود القائم بذاته الذي لا يجوز عليه الموت والفناء ،
والواجب الوجود الذي ليس له بدء ولا انتهاء فهو قديم بذاته ، أزليٌّ لا ابتداء
لوجوده ، أبديٌّ لا انتهاء لبقائه ، سرمديٌّ يمتنع عليه الفناء والعدم والتغيّر
والتحوّل من حال إلى حال ، وهو الأوّل والآخر ، والسابق على العدم ، وما عداه
مسبوق به ، فهو المتفرّد بالقِدَم .
قال الصادق عليهالسلام لمّا
سئل عن الأوّل والآخر : « هو الأوّل لا عن أوّلٍ قبله ولا عن بَدءٍ سبقه ، والآخرلا عن نهاية كما يُعقل من صفة
المخلوقين، ولكن قديمٌ أوّلٌ آخرٌ لم يزل ولا يزول بلا بَدءٍ ولا نهاية ، لا يقع
عليه الحدوث ، ولا يحول من حال إلى حال ، خالق كلّ شيء »، الخبر .
وهكذا عندهم حال سائر صفات الذات التي
إن تأمّلت عرفت أنّ القدرة أصلها وأساسها ، ويتفرّع على إثباتها إثباتها .
قيل للرضا عليهالسلام :
إنّ قوماً يقولون : إنّ اللّه عزوجل لم
يزل عالماً بعلم ، قادراً بقدرة ، وحيّاً بحياة ، وقديماً بقِدَم ، وسميعاً بسمع ،
وبصيراً ببصر ، فقال عليهالسلام :
« من قال ذلك ودان به فقد اتّخذ مع اللّه آلهةً اُخرى ، وليس من ولايتنا على شيء
» ، ثمّ قال عليهالسلام :
« لم يزل اللّه عليماً قادراً حيّاً
__________________
سميعاً بصيراً لذاته
، تعالى عمّا يقول المشركون علوّاً كبيراً ».
ثمّ على هذا لا تبقى شبهة في صحّة ما
ذكرناه عن الإماميّة من أنّه يمتنع الاطّلاع على حقيقة هذه الصفات وكيفيّتها ؛
لامتناع الاطّلاع على كنه الذات وحقيقتها ، فإذاً إثباتك صفةً منها له ليس إلاّ
بنفي ضدّها عنه مثلاً تقول : إنّه عالم ليس بجاهل أصلاً ، وقادر ، أي : ليس بعاجز
مطلقاً ، وهكذا هلمّ جرّاً ، وهذا هو معنى ما ورد في الحديث من أنّ : «كمال
التوحيد نفي الصفات عنه» ) ،
لا ما توهّمه أكثر المخالفين .
فافهم حتّى تعلم أنّ عامّة ما سوى
الإماميّة ، حيث إنّهم لم يعملوا بما عندهم من نهي النبيّ صلىاللهعليهوآله عن
التفكّر في ذات اللّه تعالى،
ومع هذا لم يأخذوا أيضاً هذا العلم ممّن تعلّمه من النبيّ صلىاللهعليهوآله الذي
وصل إليه من اللّه جلّ وعلا ، بل اكتفوا بالاعتماد على مقتضى الرأي والاستحسان ،
وتوهّموا في فهم أكثر الصفات ، بحيث وقعوا في أنواع تيه الضلالات فتفرّقوا بذلك
إلى ما ذكرناه عنهم سابقاً من أقوال سخيفات تمسّكوا فيها ببعض المتشابهات ، حتّى
أوّلوا بها الآيات المحكمات .
ألا ترى أنّ فيهم من فرّط جدّاً ، بحيث
شبّهه بخلقه من جهات ، حتّى قال بعضهم فيه بالجسميّة ، بل الجسميّة المركّبة من
لحم ودم،
وبعضهم
__________________
بالحلول والاتّحاد
ولو مع بعض الآحاد،
وبعضهم بالرؤية عياناً ولو أحياناً،
بل القول بالرؤية بالأبصار عندهم ـ كما مرّ ـ في غاية الاشتهار ، وبعضهم نفى عنه
بعض أقسام العلم ، كمن قال بعدم علمه بالجزئيّات أو عدم علمه بغير ذاته أو بذاته
أو عدم علمه بالشيء قبل وجوده،
حتّى أنّ بعضهم نفى عنه بعض أقسام القدرةأيضاً
، وأمثال ذلك من الأقوال الناشئة من التشبيه عندهم كثيرة .
وكذا إنّ فيهم من أراد أن ينفي عنه
التشبيه فأفرط ، بحيث وقع في القول بتعطيله من جهات ، حتّى نفى عنه الوجود
والتشبيه فضلاً عن العلم والقدرة وغيرهما ؛ استناداً إلى أنّه لو كان شيئاً ـ
مثلاً ـ شارك الأشياء في مفهوم الشيئيّة ، وهلمّ جرّاً ، ولم يعلم أنّ ذلك مستلزم
لنفي ذاته ، وأنّ الفرق واضح بين مفهوم الأمر وما صدق عليه ، والمفهومات
الاعتباريّة ، والحقائق الموجودة ؛ ضرورة أنّ مفهوم الشيء ، والموجود ، والمخبر
عنه وأمثالها مفهومات عامّة لا يخرج منها شيء من الأشياء لا ذهناً ولا خارجاً ،
ومعان اعتباريّة يعتبرها العقل لكلّ شيء أيضاً ، فذات الواجب وإن لم يكن معقولاً
لغيره ولا محدوداً بحدٍّ ولا مشتركاً مع غيره في حدّ ذاته إلاّ أنّه ممّا يصدق
عليه مفهوم شيء وأمثاله .
__________________
قال الرضا عليهالسلام لبعض أصحابه : « ما
تقول إذا قيل لك : أخبرني عن اللّه عزوجل أشيء
هو أم لا شيء ؟» قال : فقلت له : قد أثبت عزوجل نفسه
شيئاً حيث يقول : ( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً
قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ )فأقول
: إنّه شيء لا كالأشياء ؛ إذ في نفي الأشياء إبطاله ونفيه ، فقال لي : « صدقت
وأصبت » ، ثمّ قال الرضا عليهالسلام :
« للناس في التوحيد ثلاثة مذاهب : نفي ، وتشبيه ، وإثبات بغير تشبيه ، فمذهب النفي
لا يجوز ، ومذهب التشبيه لا يجوز ؛ لأنّ اللّه لا يشبهه شيء ، والسبيل في الطريقة
الثالثة إثبات بلا تشبيه ».
أقول
: إلاّ أنّ مبنى كلامالجمهور على التشبيه كما مرّ ، بل الحقّ
أنّ مدار معرفة عامّة الجّهّال على هذا ، بل ربّما يقال : لا ضلالة حتّى في غير
معرفة اللّه أيضاً إلاّ وفيها مدخليّة نوع تشبيه ، كأنواع القياسات ونحوها ؛
ولهذا مهما تأمّل صاحب البصيرة وجد مناط كلام الأئمّة عليهمالسلام ،
لا سيّما في باب المعرفة على التنزيه من التشبيه ، كما هو واضح ممّا ذكرناه من
أخبارهم فضلاً عن غيرها ، حتّى في رواية أنّ الصادق عليهالسلام قال
: « سبحان اللّه الذي لم يلدلأنّ
الوليد يشبه أباه ، ولم يولد فيشبه من كان قبله ، ولم يكن معه من خلقه كفواً أحد ،
تعالى عن صفة من سواه علوّاً كبيراً ».
__________________
ولنختم هذا بذكر خبر مشتمل صريحاً على
كون مدار المخالفين في ترويج باطلهم حتّى في المعرفة على التمسّك بالمتشابهات
وتأويل المحكمات :
قال صفوان بن يحيى: سألني أبو قرّة: المحدّث ـ وهو من علماء المخالفين ـ
أن اُدخله على أبي الحسن الرضا عليهالسلام ،
فاستأذنته في ذلك فأذن لي ، فدخل عليه فسأله عن الحلال والحرام والأحكام حتّى بلغ
سؤاله إلى التوحيد ، فقال أبو قرّة : إنّا رُوينا أنّ اللّه قسّم الرؤية والكلام
بين نبيَّيْن ، فقسّم الكلام لموسى عليهالسلام ،
ولمحمّد صلىاللهعليهوآله الرؤية
، فقال أبو الحسن الرضا عليهالسلام :
« فمن المبلّغ عن اللّه إلى الجنّ والإنس ( لَّا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصَارُ )، ( وَلَا يُحِيطُونَ
بِهِ عِلْمًا )و( لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ )،
أليس محمّد صلىاللهعليهوآله قال
: بلى ؟» قال : «كيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً
__________________
فيُخبرهم أنّه جاء من
عند اللّه ، وأنّه يدعوهم إلى اللّه بأمر اللّه ويقول : ( لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ) (
وَلَا
يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا
)
و(
لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) ثمّ يقول : أنا رأيته بعيني ، وأحطتُ
به وهو على صورة البشر ؟ أما تستحيون ؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون
يأتي من عند اللّه بشيء ، ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخَر ! ! » .
قال أبو قرّة : فإنّه يقول : ( وَلَقَدْ
رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ )، فقال أبو الحسن عليهالسلام : « إنّ بعد هذه
الآية ما يدلّ على ما رأى ، حيث قال : ( مَا كَذَبَ
الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ )، أي : ما كذب فؤاد محمّد صلىاللهعليهوآله ما
رأت عيناه ، ثمّ أخبر بما رأى فقال : ( لَقَدْ رَأَىٰ
مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ )فآيات اللّه غير اللّه ، وقد قال
اللّه : ( وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا )فإذا
رأته الأبصار فقد أحاطت به علم ووقعت المعرفة » ، فقال أبو قرّة : فتُكذّب
بالروايات ؟ فقال أبو الحسن عليهالسلام :
« إذا كانت الروايات مخالفةً للقرآن كذّبتها »،
الخبر.
ودلالته على المطلوب ، مع الدلالة أيضاً
على كثرة توهّمهم في فهم الآيات ، والاعتماد على الموضوعات ، وإنّ علم الكتاب
وتأويل المتشابهات فإنّما هو عند هؤلاء الأئمّة السادات صلوات اللّه عليهم ،
وإنّهم أعلم بما هو حقّ المراد في كلّ موضع من مواقع استعمال الكلمات ، فمن
الواضحات ؛
__________________
ولهذا يوجد منهم في
كلّ متشابه سألوهم عنه ما هو من أجلّ التأويلات .
فمن ذلك ما يظهر من بعض الأخبار من
تأويل ما يدلّ على الرؤية برؤية القلب ، أي : كمال المعرفة واليقين ، أو رؤية
ثوابه وعظمة صنائعه ، كما في الحديث أنّ الصادق عليهالسلام سئل
عن قوله : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ *
إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ )فقال : « إنّما المراد إلى ثواب ربّها ».
وعن عليّ عليهالسلام أنّه
قال : « إنّ المعنى منتظرة لثواب ربّها ».
وقيل لأبي محمّد العسكري عليهالسلام : هل رأى رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ربّه
؟ فقال : « إنّ اللّه تعالى أرى رسوله صلىاللهعليهوآله
بقلبه من نور عظمته ما أحبّ ».
وقيل لعليّ عليهالسلام :
يا أمير المؤمنين ، هل رأيت ربّك حين عبدته ؟ فقال : « ويلك ! ما كنت أعبد ربّاً
لم أره » ، فقيل له : وكيف رأيته ؟ فقال : « ويلك ، لا تدركه العيون في مشاهدة
الأبصار ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان ».
هذا هو خلاصة مذهب الإماميّة في باب
التوحيد ، ومعرفة الذات والصفات على نحو ما ورد عن أئمّتهم عليهمالسلام في متواتر الروايات .
فأمّا ما نُسب إلى بعضٍ من الإماميّة ،
بل من أصحاب الأئمّة عليهمالسلام
__________________
كالهشامَين ـ مثلاً ـ
من القول بالجسم والصورة ونحو ذلك ، فإنّما هو إمّا تهمة عليهم ، وإمّا أنّه كان
قولهم قبل استبصارهم ودخولهم في مذهب الإماميّة ، ولا بأس أن بيّنّا هاهنا تفصيل
ما هو حقيقة الحال في أمثال هذا المقال ، حتّى يظهر شأن ما سيأتي أيضاً من سائر ما
نسب الناس إلى بعض الإماميّة من فاسدات الأقوال .
فاعلم أوّلاً أنّ أيّ شخص كان لا يخلو
من حاسد يعين على شيوع ما ينقصه ويشينه في كلّ أوان ولو كان ذلك كذباً عليه وفرية
، وعلى وجه العدوان ، بل ربّما يتعمّد هو نفسه بالتهمة عليه ، ونقل السوء عنه
صريحاً لا سيّما إذا كان مخالفاً له في المذهب أيضاً ، فإنّه حينئذٍ لا يتأنّى
أصلاً عن قبول السوء فيه ، وتشهير نسبته إليه ولو من غير تحقيق ولا تفتيش مطلقاً ،
بل ومع وجود قرائن الكذب أيضاً ؛ إذ لا عداوة كعداوة الدين .
وأيضاً كثيراً ما يتّفق أن يعتقد
الإنسان بشيء باطل وقتاً من الأوقات ، ثمّ ينتقل عنه إلى الحقّ إلى حين الممات ،
حتّى أنّه بنفسه أو غيره عنه قد ينقل ما ينادي بتغييره عمّا كان عليه من الفاسدات
، ومع هذا لا يعدل الجاهل بالحال ، أو الحُسّاد والأعادي الذين يريدون سوء الحال
عن نسبته عمّا كان عليه أوّلاً من المقال .
ثمّ اعلم أيضاً أنّ في الناس من لا يفهم
حقّ المراد من كلام الناس لا سيّما الوارد من العلماء الأعلام ، خصوصاً عند إجمالٍ
في الكلام ، أو دقّةٍ في المرام ، أو بُعْدٍ عمّا هو مقتضى المقام ، فمثل هذا أيضاً
يتوهّم كثيراً ، حيث ينسب إلى شخص شيئاً يزعم أنّه هو المفهوم من كلامه زعماً
وليس ذلك كذلك واقعاً
.
وقد قال الصادق عليهالسلام : « ومنهم من يسمع
الكلام منّي فلم يخرج من عندي حتّى يأوّله على غير تأويله ».
وإذ قد عرفت هذا كلّه فاعلم أنّ أكثر
علماء الإماميّة ، لا سيّما المشهورين منهم المعتبرين ، كانوا دائماً محسودين ،
حتّى من بعض أمثالهم وأقرانهم من إخوانهم المؤمنين ، فمن كان من الحُسّاد عليهم
غير متديّن جرى على الفرية وغيرها ، فظاهر ـ كما ذكرنا ـ أنّ مثله ما هو مقصّر في
الإزراء عليهم ، ونسبة النقائص إليهم ولو بالكذب والافتراء ، حتّى أنّ كلّ من
تتبّع التواريخ بنظر الاعتبار ، وكذا كتب الرجال ـ التي ذُكر فيها أحوال علماء
الأعصار ـ وجد صحّة ما ذكرناه ، بل تحقّقه كراراً ومراراً ، بحيث لا يمكن فيه
الإنكار ، بل يستفاد منها أيضاً أنّ من كان منهم كاملاً في الشيطنة والنكراء لم
يكن يتكلّم أيضاً إلاّ بوضع اغترّ به كلّ سامع له ، بحيث جزم بصدق ذلك الافتراء ،
لا سيّما الذي كان مخالفاً لهم في دينهم راغباً في تشيينهم ، وأمّا من لم يكن بتلك
المثابة من الجرأة ، فهو وإن تجنّب عن مثل التهم والفرية إلاّ أنّه بعلّة ما في
قلبه على صاحبه لم يزل في قبول كلّ ما سمع عنه وقيل فيه ، وذكر نسبته إليه ولو
سمعاً من أعاديه .
ولأجل هذه الوجوه كلّها اشتهر عن جمع من
علماء الدين ، لاسيّما بين المخالفين من الأقوال والعقائد ما ينادي صريح كلامهم
بكونهم منها بريئين .
__________________
فمن هذا القبيل ما نُسب إلى هشام بن
الحكم ، وابن سالم ، بل مؤمن الطاق أيضاً ـ الذين هم من ثقات أجلّة أصحاب الأئمّة
، المشهورين في كثرة إلزامهم علماء العامّة وإفحامهم كلّ من تكلّم معهم ، لا سيّما
في التوحيد والإمامة ـ من القول بالتجسيم والتصوير، وإلى جماعة كثيرة من القمّيّين ـ
الذين أكثرهم من ثقات ، رواة الأخبار الممدوحين بنصّ الأئمّة الأطهار عليهمالسلام ، فضلاً عن توثيق
العلماء الأخيار ـ من القول بالجبر والتشبيه ، وإلى جمعٍ من الشيعة الكوفيّين ـ
الذين كان لهم تمام إخلاص وكمال اختصاص بأئمّة الدين صلوات اللّه عليهم أجمعين ـ
من القول بالغلوّ والتفويض ، حتّى جعلوا منهم محمّد بن سنان، والمفضّل بن عمر، ويونس بن عبد الرحمن، وأمثالهم من الفضلاء الذين جهدوا أكثر
من
__________________
غيرهم في ذكر فضائل
أئمّتهم عليهمالسلام ،
مع أنّ يونس ممّن نُسب إليه التشبيهأيضاً
، وإلى زرارة بن أعين الكامل من كلّ الجهات من القول بحدوث العلم والقدرة والحياة
وأمثالها من صفات الذات،
وكذا أشباه ما ذُكر ممّا نُسب إلى بعض العلماء من الأفعال والأقوال والعقائد التي
لا يبقى شكّ بعد التتبّع في كونهم منها برآء .
إذ لا كلام أوّلاً : في وجود أخبار
عديدة في مشاهير كتب العلماء المعتبرين ، مرويّة بالطريق الذي فيه واحد أو أكثر من
هؤلاء الجماعة المذكورين ، ومع هذا هي مشتملة على ما هو صريح في كون خلاف ما نُسب
إليهم حقّاً ، بل كون ما نُسب إليهم كفراً .
ومن المعلوم بديهة أنّ الرجل الذي يعتقد
بشيء قطعاً لا يروي صحّة خلافه أصلاً ، ولا أقلّ من روايته ما هو معتقده أيضاً
فضلاً عن روايته ما يدلّ على كون معتقده كفراً ، ومن أراد ملاحظة تلك الأخبار كفاه
الرجوع إلى اُصول الكافي ، وتوحيد الصدوق القمّي ، وقد ألّفنا سابقاً أيضاً رسالة
منفردة في هذا الباب ، سمّيناها «تنزيه القمّيّين»، وهي مجمع ما أشرنا إليه من روايات
هؤلاء المذكورين .
ثمّ إنّه لا ريب ثانياً : في وجود أخبار
صحيحة عن الأئمّة عليهمالسلام صريحة
في مدح هؤلاء الجماعة وحسن حالهم عند الأئمّة عليهمالسلام ،
بل جلالة
__________________
شأنهم يوم القيامة، ولا محالة أنّ من كان فيه مثل هذا ليس
بفاسد العقيدة ، هذا ، مع أنّ في أخبار الأئمّة عليهمالسلام أيضاً
ما يدلّ على كون تلك النسبة إليهم تهمة ، كما سيظهر .
ثمّ إنّه لا شكّ ثالثاً : في أنّ أكثر
أعيان علماء الرجال وأرباب السير نصّوا فيهم أيضاً بكمال حسن الحال وبرئهم عن مثل
هذا المقال ، بل ذكروا ما يدلّ على أنّ أصل ما نُسب إليهم فرية من كلام الحُسّاد
عليهم ، لا سيّما المخالفين لهم في الدين .
قال الصدوق ابن بابويه في مفتتح كتابه
في التوحيد : إنّ الذي دعاني إلى تأليف كتابي هذا أنّي وجدت قوماً من المخالفين
لنا ينسبون عصابتنا إلى القول بالتشبيه والجبر تهمة، إلى آخر كلامه .
ويؤيّده ما ذكره بعض أئمّة الزيديّة في
كتابه المسمّى بـ : «البحر الزاخر» وهو من الجاروديّة ، حيث قال ـ بعد أن استدلّ
على مذهبه بحديث التمسّك بالثقلين ، ثمّ اعترض بأنّ دلالته على مذهب الإماميّة
أظهر ـ : إنّ الإماميّة حيث قالوا بالجبر والتشبيه خرجوا عن الحقّ .
بل قد ذكر مثله من المخالفين، وكفى ما ذكره الشهرستاني ، حيث قال :
إنّ الإماميّة صارت بعضها معتزلة إمّا وعيديّة ، وإمّا تفضيليّة ، وبعضها إخباريّة
إمّا مشبّهة ، وإمّا سلفيّة ، ثمّ قال : ومن ضلّ الطريق وتاه لم يبال اللّه
__________________
في أيّ واد (أهلكه)، ثمّ شرع في نقل تفصيل ما نسب إلى
الجماعة المذكورين ، ـ كما (ذكرنا ـ بل زاد)أيضاً
بعض الزيادات فيهم ممّا لم يذكره غيره من سائر مخالفيهم.
وروى الكشّي وغيره عن الحسن بن خالد
البرقي أنّه قال للرضا عليهالسلام :
إنّ الناس ينسبونا إلى القول بالتشبيه والجبر ؛ لما رُوي من الأخبار في ذلك . فقال عليهالسلام بعد كلام له : « من
قال بالجبر والتشبيه فهو كافر مشرك ، ونحن منه برآء . . . وإنّما وضع الأخبار عنّا
في ذلك الغُلاة الذين صغّروا عظمة اللّه تعالى »، الخبر .
وكذا غيره من الأخبار الصريحة في أنّ
أمثال هذه النسبة إلى العلماء الأجلّة سيّما خصوص هؤلاء من الحسد والعداوة
الدينيّة أو الدنيويّة ، كما صرّح به الرضا عليهالسلام ،
حيث سأله بعض أصحابه عن هشام بن الحكم ، فقال : « رحمه اللّه ، كان عبداً ناصحاً
أُوذي من قِبَل أصحابه ، حسداً منهم له ».
وكذلك حين قال له عليهالسلام جعفر بن عيسى بن
يقطين: يا سيّدي ،
__________________
نشكو إلى اللّه
وإليك ممّا نحن فيه من أصحابنا ، فقال : « وما أنتم فيه منهم ؟» فقال جعفر : هم
واللّه ، يا سيّدي يزندقونا ويكفّرونا ويبرّؤن منّا ، فقال عليهالسلام : « هكذا كان أصحاب
آبائي ، ولقد كان أصحاب زرارة يكفّرون غيرهم ، وكذلك غيرهم كانوا يكفّرونهم » ،
ثمّ قال عليهالسلام :
«أرأيتك لو كنت زنديقاً فقيل لك : هو مؤمن ما كان ينفعك ذلك ، ولو كنت مؤمناً فقيل
: إنّه زنديق ما كان يضرّك ».
وكذلك حين بكى يونس بن عبد الرحمن عنده
لمّا سمع بوقيعة بعض الناس فيه بمجلسه وسكوته عنهم ، فقال : جعلني اللّه فداك ،
إنّي اُحامي عن أصحابي ، وهذا حالي عندهم ، قال له الإمام عليهالسلام : « يا يونس ، ما
عليك ممّا يقولون إذا كنت على الصواب وكان إمامك عنك راضياً ! يا يونس ، حدّث
الناس بما يعرفون »،
وفي رواية اُخرى أنّه قال له : « دارهم يا يونس فإنّ عقولهم لا تبلغ ».
وفي رواية عن الكاظم عليهالسلام أنّه قال له عند
شكواه عنده من أصحابه : « يا يونس ، ارفق بهم ، فإنّ كلامك يدقّ عليهم ، وما يضرّك
طعنهم عليك
يا يونس ، لا يضرّك إذا كان بيدك لؤلؤة
فقيل : هي حصاة ».
وكما صرّح الصادق عليهالسلام أيضاً ، حيث روى بعض
أصحابه أنّه عليهالسلام قال
له : « ما تقول في مفضّل ؟» قلت : وما عسيت أن أقول فيه بعد
__________________
ما سمعت منك ، فقال :
« رحمه اللّه ، ولكن عامر بن جذاعةوحجر
بن زائدةأتياني
فعاباه عندي فسألتهما الكفّ عنه فلم يفعلا ، ثمّ سألتهما الكفّ عنه وأخبرتهما
بسروري بذلك فلم يفعلا ، فلا غفر اللّه لهما ».
وكذلك روى جميل بن درّاجقال : دخلت على أبي عبداللّه عليهالسلام ، فاستقبلني رجل خارج
من عنده من أصحابنا الكوفيّين ، فلمّا دخلت عليه قال [لي] : « لقيت الرجل الخارج من عندي ؟ »
قلت : بلى ، هو رجل من أصحابنا ، فقال : « لا قدّس اللّه روحه و لا قدّس مثله ،
إنّه ذكر أقواماً كان أبي ائتمنهم على حلال اللّه وحرامه ، وكانوا عيبة علمه ،
وكذلك اليوم هم عندي» ، وذكر لهم مناقب عظيمة ، ثمّ بكى ، فقلت ، مَنْ هم ؟ فقال :
«مَنْ
__________________
عليهم صلوات اللّه
ورحمته أحياءً وأمواتاً : بُريد العجلي،
وزرارة ، وأبو بصير ، ومحمّد بن مسلم ، أما إنّه يا جميل ، سيستبين لك أمر هذا
الرجل عن قريب » ، قال جميل : فو اللّه ، ما كان إلاّ قليلاً حتّى رأيت ذلك الرجل
ينسب إلى أصحاب أبي الخطّاب ، فقلت : اللّه يعلم حيث يجعل رسالته ، قال جميل :
وكنّا نعرف أصحاب أبي الخطّاب ببغض هؤلاء.
وقال الحسين بن زرارة: قلت لأبي عبداللّه عليهالسلام : إنّ أبي يقرأ عليك
السلام ويقول لك : جعلت فداك إنّه لا يزال الرجل والرجلان يقومان فيذكران أنّك
ذكرتني وقلت فيّ ، فقال لي : « إقرأ أباك السلام ، وقل له : أنا واللّه ، اُحبّ
لك الخير في الدنيا والآخرة ، وأنا واللّه ، عنك راضٍ ، فما تبالي ما قال الناس
بعد هذا ».
وفي رواية اُخرى عن عبداللّه بن زرارةأنّ الصادق عليهالسلام قال
له
__________________
ما خلاصته : « إقرأ
منّي على أبيك السلام وقل له : إنّي إنّما أعيبك دفاعاً عنك ؛ لأنّ الناس يريدون
الأذى على من يحبّنا ونحبّه ويكون مقرّباً عندنا ، وأنّك رجل اشتهرت بنا ، ولميلك
إلينا أنت مذموم عند الناس غير محمود الأثر ، فأحببت أن أعيبك ليحمدوا أمرك في
الدين ، فيكون عيبي لك دافع شرّهم عنك ، وقد قال اللّه تعالى : ( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ
لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا )الآية
، فواللّه ، ما أعابها إلاّ لكي تسلم من الملك، وإنّك واللّه، أحبّ الناس إليّ
وأحبّ أصحاب أبي حيّاً وميّتاً، وإنّك من أفضل سفن ذلك البحر القمقام الزاخر ،
وأنّ من ورائك ملكاً ظلوماً غصوباً يرقب عبور كلّ سفينة صالحة ترد من بحر الهدى
ليغصبها وأهلها ».
وفي رواية اُخرى عن حمزة بن حمران، قال : قلت لأبي عبداللّه عليهالسلام : بلغني عنك أنّك
برئت من عمّي زرارة ولعنته ؟ ، فقال : «لا واللّه ، ما قلت ، ولم أبرأ من زرارة ،
ولكنّهم يجيؤون ويذكرون ويروون عنه
__________________
بأشياء ، فلو سكت
ألزمونيه فأقول : من قال هذا فأنا إلى اللّه منه بريء ».
وأمثال هذه الأخبار ، وما نُقل أيضاً عن
العلماء الأخيار كثيرة ، وأكثرها ـ كما هو ظاهر ـ صريحة في أنّ عمدة مناط نسبة السوء
إلى أكثر العلماء الحسد والافتراء حتّى من أهل مذهبهم .
وفي بعضها ـ كما مرّمن قول الرضا عليهالسلام ليونس وغيره ـ دلالة
على أنّ مناط ذلك قد يكون ما أشرنا إليه سابقاً من عدم فهم كلام ذلك العالم كما
يُرىكثيراً أنّه قد يجيء
رجل فيسأل عالماً عن شيء ، فيتوهّم في فهم جوابه فيروح ويحكي عنه مثل ما فهمه
توهّماً إلى أن يصل ذلك إلى سائر العلماء ، فيجعلوا ذلك مناط الطعن عليه من غير
تحقيق الحال ، لا سيّما من كان في قلبه بعض شيء على ذلك العالم ؛ ولهذا قال الإمام عليهالسلام ليونس : « حدّث الناس
بما يعرفون »،
وفي الأخبار : « نحن نكلّم الناس على قدر عقولهم ».
مثلاً فيما نحن فيه يمكن أنّ جماعة من
هؤلاء ـ بناءً على ما هو الحقّ الذي بيّنّاه من عينيّة صفات الذات ـ نطقوا في بيان
العينيّة بكلام توهّم منه غيرهم التشبيه ، كقولهم مثلاً : إنّه شيء بحقيقة الشيئيّة
، موجود عينيّ ثابت ؛ إذ لا يخفى أنّ أمثال الذين ذكرنا أنّهم أفرطوا في نفي
التشبيه ، بحيث
__________________
وصلوا إلى حدّ
التعطيل ، لا يفهمون من مثل هذا الكلام غير التشبيه ، مع أنّه ليس من التشبيه في
شيء ، كما مرّ بيانه ، وأمثلة هذا كثيرة ، ومثل هذا التوهّم شائع جدّاً ، بل أكثر
مواقع طعن الصلحاء المتورّعين من هذا الباب .
ثمّ قد بيّنّاسابقاً أيضاً أنّه قد يكون المناط في
نسبة السوء إلى شخص كونه قائلاً به ، أو متّصفاً به وقتاً ما وإن كان قد رجع عنه
أخيراً .
وممّا يدلّ على قرب هذا الاحتمال هاهنا
ما يدلّ على أنّ أكثر هؤلاء الجماعة كانوا أوّلاً من غير الإماميّة ، ثمّ حصل لهم
الاستبصار ببركة التشرّف بخدمة الأئمّة عليهمالسلام .
فمن ذلك ما رواه الكشّي عن عمر بن يزيدوكان ابن أخي هشام ابن الحكم ، وخلاصته
أنّه قال : كان هشام يذهب في الدين مذهب الجهميّة خبيثاً فيهم ، فسألني أن اُدخله
على أبي عبداللّه عليهالسلام ليناظره
، فاستأذنت أبا عبداللّه عليهالسلام فيه
، فأذن لي حتّى نقلت له رداءته وخبثه ، فقال عليهالسلام :
« تتخوّف عليَّ » ، فأعلمت هشاماً بالإذن ، فبادر واستأذن ودخل ودخلت معه ، فسأله
الإمام عليهالسلام عن
مسألة فحار هشام ، فاستمهله في الجواب فأمهله ، وبقي هشام أيّاماً في طلب الجواب
فلم يقف عليه ، فرجع إلى الإمام عليهالسلام واعترف
بالعجز عنده ، فأخبره الإمام عليهالسلام ،
وسأله عن مسألة اُخرى ، فيها فساد أصله وعقيدته ، فاغتمّ هشام لذلك وبقي متحيّراً
في الجواب أيّاماً ، ثمّ انصرف إلى الإمام عليهالسلام وترك
مذهبه ودان بدين الحقّ ،
__________________
وفاق أصحاب أبي
عبداللّه عليهالسلام كلّهم.
فعلى هذا يمكن أن يكون ما نُسب إليه
قوله في ذلك الوقت ، ثمّ تركه بعد استبصاره ، وبعض الناس حسداً أو جهلاً أو
تجاهلاً نسبوا ذلك إليه على وجه الإطلاق ، وهلمّ جرّاً في غيره ، فتأمّل ولا تغفل
عمّا ظهر أيضاً من الأخبار التي ذكرناها أخيراً من أنّ الأئمّة عليهمالسلام كانوا قد يقدحون في
شخصٍ أيضاً ، لكن دفاعاً عنه وعنهم ومداراةً ، حتّى أنّه كان قد يكون جمع ينسبون
عندهم رجلاً إلى سوءٍ كانوا يعلمون أنّه بريء من ذلك ، ومع هذا لم يُظهروا براءته
، بل كانوا يبرؤون من القائل به من قبيل التورية إذا لم يكن تقتضي المصلحة ردعهم
بالتكذيب .
وعلى هذا ، فليس لأحد من المعاندين أو
القاصرين أن يتشبّث لإثبات صدق ما نُسب إلى بعض هؤلاء بعدم تكذيب الإمام عليهالسلام من ذُكر له تلك
النسبة .
وإذ قد أحطت خبراً بما ذكرناه وحقّقناه
، تبيّن لك أنّ أكثر ما نسب المخالفون إلى الإماميّة بعضهم أو كلّهم تشنيعاً عليهم
، أم بمحض النقل عنهم من الأقوال والعقائد والأعمال التي لا تخلو من نقص على دينهم
أو نقص على طريقتهم ، فمبناه على أحد هذه الوجوه المذكورة ، لا سيّما التوهّم في
النسبة والتعمّد في الفرية ، كما ينادي بذلك ما يظهر عند تتبّع كتبهم على كلّ ماهر
بمذهب الإماميّة من الجزم بأنّ شدّة حنقهم في العداوة ، وتوهّمهم في النسبة بحيث
إنّهم كثيراً ما نسبوا إلى هذه الطائفة ما هو معلوم على أدنى متتبّع أنّه من مذاهب
غيرهم ، كالزيديّة مثلاً ، أو الإسماعيليّة ، أو
__________________
الغُلاة وأمثالهم ،
حتّى أنّ جمعاً منهم نسبوا إليهم ما لا أصل له مطلقاً ، كما هو المشهور إلى اليوم
عندهم ، والجاري على ألسنتهم شائعاً ذائعاً بينهم من كون هذه الطائفة من أتباع الحسن
الكاشي، وأنّه الذي ابتدع
لهم هذا المذهب بدعاً ، حتّى أنّ عند بعض منهم بياناً غريباً وحكايةً عجيبةً في
هذه الدعوى ، مع أنّه من أجلى البديهيّات : أنّ الحسن لم يكن له كمال غير أنّه كان
شاعراً جيّداً في الشعر ، لا سيّما فيما مدح فيه عليّاً عليهالسلام ، وكذا ما ذمّ به
الثاني ، ولم يكن معدوداً عند الإماميّة ولا غيرهم من أهل العلم مطلقاً فضلاً عن
التقدّم في المذهب ، حتّى أنّ أحداً منهم ولا من غيرهم لم يتوجّه إلى ذكر اسم هذا
الرجل ، لا بالزين ولا بالشين ؛ حيث إنّه لم يكن بوجه ممّن يعبأ بشأنه .
وكذا ما هو المذكور في بعض كتب القوم ،
بل المشهور عندهم أيضاً من كون عامّة أخبار هذه الطائفة من موضوعات ابن الراوندي، مع أنّ
__________________
رواة الأخبار من هذه
الطائفة لم يعرفوا هذا الرجل ، فإنّه كان من المتكلّمين الذين كانوا يناظرون
المخالفين على طريقتهم التي هي عند المحدّثين غير متينة .
لكن كأنّه كان قاهراً على خصومه ، بحيث
وجدوا عليه فاتّهموه بما نسبوا إليه ، وإلاّ فهو ليس معدوداً من رواة الحديث ، ولا
من شيوخ الإجازة عند أرباب الحديث ، حتّى أنّ الحقّ أنّ هذا الرجل الذي هم ذكروه ـ
أعني : من اسمه أحمد بن يحيى الراوندي ـ كان من المعتزلة لا من الشيعة ، بل ليس
فيهم من يُنسب إلى هذه النسبة غير السيّد الجليل فضل اللّه بن عليّ بن عبيداللّه
الحسني الراونديالذي
هو من الفقهاء الذين كانوا بعد زمان الشيخ الطوسي ، وأين له هذا وقد صُنّف قبل
ميلاده ما لا يحصى من كتب الحديث ، كما هو واضح من أنّ أخبارهم مُعنعنة مضبوطة
أحسن من ضبط مخالفيهم ، بحيث لا يمكن دخول مدلّس فيهم كما هو من أوضح الواضحات عند
كلّ من تصفّح كتبهم ، وتفحّص عن حال الأخبار المذكورة فيها ، بل من هذا يظهر أيضاً
أنّ من هذا القبيل عياناً ما هو مدار أكثر المخالفين عليه من القدح في جملة أخبار
الإماميّة مصرّحين بكونها موضوعةً عن الأئمّة مع وضوح اقتران أكثرها بقرائن الصحّة
، وتصريح
__________________
معظم علماء القوم
بتوثيق عمدة رُواتها ، لا سيّما عن الأئمة عليهمالسلام ،
كزرارة ، ومحمّد بن مسلم ، وجابر ، وأبان ، وأمثالهم ، كما سيأتي مفصّلاً في محلّه
في المقالة العاشرة من المقصد الثاني .
وأمّا ما هو من هذا القبيل أيضاً من
العقائد التي نسبوها إلى الإماميّة ولا أصل لها مطلقاً فكثيرة جدّاً ، كقولهم بأنّ
الإماميّة يعتقدون بأنّ المهديّ غائب طول زمان غيبته عليهالسلام في
سرداب سامرّاء ، وأنّهم يعتقدون فيه صفات الاُلوهيّة ، وأنّهم يقذفون عائشة ،
ويسبّون جملة الصحابة ، وأمثال ذلك من سائر فريتهم على هذه الطائفة ، وقد مرّ بعض
منها سابقاً ، ويأتي كثير منها أيضاً ، كلّ واحدة فيما يناسبها من المقام .
ثمّ إنّ الذي هو خلاصة مذهب هذه الطائفة
في الجبر والتفويض ـ الذي مرّ سابقاً أنّ الأوّل هو مذهب الأشاعرة ، والثاني مذهب
المعتزلة ـ أن لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين ، بمعنى أنّ لهداية اللّه
تعالى وتوفيقاته مدخلاً تامّاً في أفعال العباد ، لكن بحيث لا يصل إلى حدّ الإلجاء
والاضطرار .
(ومجمل
بيان ذلك : إنّ اللّه تعالى لمّا خلق العباد وأمرهم بالعبادات والخيرات ، ونهاهم
عن الشرور والسيّئات ، وقرّر للمطيع الثواب وللعاصي العقاب وأخبرهم بذلك جعل فيهم
استطاعة الفعل والترك ، وهيّأ لهم أسباب ذلك ، بحيث يكون كلّ واحد قادراً على ما
يختاره من الفعل والترك ، لئلاّ يبطل استحقاق الثواب والعقاب ، لا كما مرّ أنّه
مآل كلام الجبريّة ، لكن لم يعزل أيضاً نفسه عن المدخليّة رأساً ، لا كما هو مآل
قول المفوّضة ، بل
__________________
تفضّل عليهم بالتوفيق
والهداية ، وسائر أنواع الإعانة على فعل الخير وترك الشرّ ، حتّى أنّه قرّر
ملائكةً يحثّونه مع عقله ، بل مع روح الإيمان التي في المؤمن أيضاً إذا أراد خيراً
، ويعظونه وينصحونه عند إرادة الشرّ ، لكن كلّ ذلك بحيث لا يخرج عن حالة الاختيار
، ولا يصل إلى حد الاضطرار ، بل ما بين ذلك من قسم الإعانة، حتّى أنّه مهما لم يتأثّر فيه شيء
ممّا ذُكر فحينئذٍ تُرك هو وهواه ، وهذا هو ما مرّ في (أوّل فصول الباب الثالث من
معنى)الخذلان الذي عبّر
عنه في الآيات بالإضلال ، بناءً على أنّه إذا تُرك إذاً توقّعه نفسه وهواه سيّما
مع إغواء الشيطان فيما أراده من الضلال ؛ لارتفاع المانع ووجود الداعي ، فلا جبر
حينئذٍ ولا التفويض الذي ذهب إليه من عزل اللّه من سلطانه ، كما أنّه )مثلاً : إذا أمر سيّد عبده بشيءٍ يقدر
على فعله وفهّمه ذلك ، ووعده على فعله شيئاً من الثواب ، وعلى تركه شيئاً من
العقاب ، فلو اكتفى من تكليف عبده بذلك ولم يزد عليه مع علمه بأنّه لا يفعل الفعل
بمحض ذلك ، لم يكن ملوماً عند العقلاء لو عاقبه على تركه ، ولا يقول عاقل أنّه
أجبره على ترك الفعل ، وكذا لو لم يكتف السيّد بذلك ، بل زاد في ألطافه ، والوعد
بإكرامه ، والوعيد على تركه ، وأكّد ذلك ببعث من يحثّه على الفعل ويرغّبه فيه ،
ولكن لا بحيث أن يجبره ، بل بحيث يتركه اختياراً عند جِدّه على المخالفة ، ثمّ فعل
العبد حينئذٍ بقدرته واختياره ذلك الفعل ، فلا يقول عاقل بأنّه جبره على ذلك الفعل
، وكذا إن لم يفعل
__________________
مع عدم نسبة عجزٍ إلى
السيّد أيضاً .
قال الصادق عليهالسلام : « لا جبر ولا تفويض
ولكن أمرٌ بين أمرين » ، فقيل وما أمر بين أمرين ؟ قال عليهالسلام : « مثل ذلك رجل
رأيته على معصية فنهيته فلم ينته فتركته ففعل تلك المعصية ، فليس حيث لم يقبل منك
فتركته كنت أنت الذي أمرته بالمعصية ».
وفي رواية اُخرى قال : « معنى الأمر بين
أمرين : وجود السبيل إلى إتيان ما اُمروا به ، وترك ما نهوا عنه ».
وفي اُخرى كما مرّ في الخبر العاشر من
فاتحة هذا الكتاب ، قال عليهالسلام :
« ما نهى اللّه عبداً عن شيء إلاّ وقد علم أنّه يطيق تركه ، ولا أمره بشيء إلاّ
وقد علم أنّه يستطيع فعله ».
وقال الباقر عليهالسلام : « في التوراة مكتوب
يا موسى ، إنّي خلقتك واصطفيتك وقوّيتك ، وأمرتك بطاعتي ونهيتك عن معصيتي ، فإن
أطعتني أعنتك على طاعتي ، وإن عصيتني لم أعنك على معصيتي ، ولي المنّة عليك في
طاعتك ، ولي الحجّة عليك في معصيتك لي ».
وسئل الرضا عليهالسلام عن
قوله تعالى : ( وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ
__________________
لَّا
يُبْصِرُونَ )، فقال : « إنّ اللّه تعالى لا يوصف
بالترك كما يوصف خلقه ، ولكنّه متى علم أنّهم لا يرجعون عن الكفر والضلال منعهم
المعاونة واللطف ، وخلّى بينهم وبين اختيارهم ».
وقال عليهالسلام :
« إن اللّه عزوجل لم
يُطع بإكراه ، ولم يُعص بغلبة ، ولم يُهمل العباد سدىً في ملكه ، بل هو المالك
لِما ملّكهم ، والقادر على ما أقدرهم عليه ، فإن ائتمر العباد بطاعة لم يكن اللّه
لهم عنها صادّاً ولا منها مانعاً ، و إن ائتمروا بمعصية فشاء أن يمنّ عليهم فيحول
بينهم وبين ذلك فعل ، وإن لم يحلّ وفعلوه ، فليس هو الذي أدخلهم فيه ».
وقد روي هذا الخبر عن الحسن المجتبى عليهالسلام أيضاً ، وفي آخره بدل
قوله : «وإن لم يحلّ» : «وإن لم يفعل فليس هو الذي حملهم عليها إجباراً ، ولا
ألزمهم بها إكراهاً ، بل احتجاجه سبحانه عليهم أن عرّفهم وبصّرهم وحذّرهم وأمرهم
ونهاهم ، لا جبلاًّ لهم على ما أمرهم به فيكونوا كالملائكة ، ولا جبراً لهم على ما
نهاهم عنه ، بل جعل لهم السبيل إلى فعل ما دعاهم إليه ، وترك ما نهاهم عنه وللّه
الحجة البالغة ».
وفي رواية عن أمير المؤمنين عليهالسلام أنّه سئل عن
الاستطاعة ، فقال : « تملكها باللّه الذي يملكها من دونك ، فإن ملّككها كان ذلك
من عطائه ، وإن سلبكها كان ذلك من بلائه ، وهو المالك لما ملّكك ، والمالك لما
عليه
__________________
أقدرك ، أما سمعت
الناس يسألون الحول والقوّة حيث يقولون : لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه » فقيل :
وما تأويلها يا أمير المؤمنين ؟ قال : «لا حول بنا عن معاصي اللّه إلاّ بعصمة
اللّه ، ولا قوّة لنا على طاعة اللّه إلاّ بعون اللّه »
.
والأخبار في هذا الباب لا تحصى .
ومنها يظهر أيضاً ما هو اعتقاد
الإماميّة في القضاء والقدر ، والإرادة والمشيئة ، وأمثالها من أسباب الفعل كالإذن
مثلاً ، فإنّ الذي هو مذهبهم في هذا الباب ـ كما هو صريح ما هو متواتر عندهم من
أحاديث الأئمّة الأطياب ـ أنّه لا يكون شيء إلاّ بإرادة اللّه تعالى ومشيئته
وقضائه وقدره ، وغير ذلك من سائر أسباب الفعل ، وأنّ كلّ ذلك لا ينافي عدم الجبر ،
فإنّ في صريح الأخبار الثابتة عندهم أنّ كلّ واحد من هذه المذكورات على نوعين :
حتميٌّ ، وغير حتميٍّ يسمّى عزميّاً ، وهو الذي في الاُمور التكليفيّة ، وممّا لا
ينافي اختيار العبد مطلقاً ، ولا يستلزم شيء من معانيه الجبر أصلاً .
وجملة بيان ذلك : أمّا في الإرادة
والمشيئة ، فبأن يقال : كما أنّها وردت بنحو ما مرّ سابقاً ، أي : ما بمعنى
الإحداث والإيجاد الذي هو من نوع الإرادة الحتميّة ، كذلك قد يراد بها ولو تجوّزاً
ما بمعنى تهيئة أسباب أفعال العباد ، وخلق الآلات التي لها مدخل في صدور بعض
الأشياء منهم لاقتضاء المصلحة التي في ذلك ، ويسمّى هذا بالعزميّة ، مثلاً : خلق
اللّه عزوجل القوّة
الشهوانيّة وآلات الجماع ، وهيّأ جميع أسباب ذلك في الإنسان ، لكي يجامع حلاله
ويحصل منه الولد والنسل ، فمهما جامع الإنسان أهله فذلك الذي صرفها في محلّها ،
ويقال له : جامع بإرادة اللّه ولو بهذا المعنى ،
__________________
وكذا إذا لم يصرفها
في محلّها ، كما إذا صرفها إنسان في الزنا ، فذلك أيضاً بإرادة اللّه ومشيئته ،
بمعنى أنّه هيّأ له أسباب ذلك ، لكن لا ليصرفها في الزنا ، بل ليصرفها في الحلال ،
حتّى أنّه لو جعلها بحيث لم تؤثّر في الحرام لزم كون ذلك الإنسان على ترك الزنا
حينئذٍ مضطرّاً مجبوراً غير مستحقٍّ لشيء ، كما أنّ رجلاً إذا أعطى عبده سيفاً من
سيوفه وقال له : اُخرج إلى فلان صديقي وفلان عدوّي ، فاقتل ذلك العدوّ ولا تتعرّض
لصديقي وإلاّ قتلتك ، فخرج العبد وقتل الصديق ، فحينئذٍ لا شبهة في أنّه لا يقول
أحد إنّ المولى جبر العبد على هذا القتل أو له شركة فيه ، بل يحكم كلّ عاقل بأنّ
العبد يستحق غاية العقوبة على فعله المذكور ، وأنّه عاصٍ لمولاه باختياره .
قال الرضا عليهالسلام «قال
اللّه تعالى : يابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء ، وبقوّتي أدّيت إليّ فرائضي ،
وبنعمتي قوّيت على معصيتي ، وجعلتك سميعاً بصيراً قويّاً ، فما أصابك من حسنة
فمنّي ، وما أصابك من سيّئة فمن نفسك ، وذلك أنّي لا اُسأل عمّا أفعل وهم يُسألون
»الخبر ، فافهم ، وسيأتي
بعض ما يدلّ عليه صريحاً فانتظر .
وكذلك قد يراد بها ولو تجوّزاً ما مرّ
من الخذلان الذي ذكرنا أنّه هو بمعنى ترك الإنسان ونفسه ، والتخلية بينه وبين ما
فيه هواه عند عدم تأثير النصائح التي ذكرناها فيه ، فيقال : إنّ فعل المعصية
بإرادة اللّه ، أي : بخذلانه المذكور ، ولعلّه بهذا المعنى ورد ما روي عن الصادق عليهالسلام أنّه قال : « إنّ
للّه إرادتين ومشيئتين : إرادة حتم وإرادة عزم ، ينهى وهو يشاء ، ويأمر
__________________
ولا يشاء ، أَوَما
رأيت أنّ اللّه تعالى نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة وهو شاء ذلك ، ولو لم
يشأ لم يأكلا ، ولو أكلا لغَلبت مشيئتهما مشيئة اللّه ، وأمر إبراهيم بذبح ابنه
وشاء أن لا يذبحه ، ولو لم يشأ أن يذبحه لغلبت مشيئة إبراهيم مشيئة اللّه تعالى »الخبر .
فإنّ الأظهر أنّ معناه أنّه تعالى لم
يصرف آدم وحوّاء عن إرادتهما ولو قسراً ، ووكلهما إلى اختيارهما للمصالح العظيمة ،
فكأنّه شاء ذلك .
ويحتمل أيضاً على بُعدٍ كون المراد ما
هو بمعنى تهيئة الأسباب ، بل التقدير أيضاً ؛ لأنّه قد يراد بها أيضاً ما بمعنى
التقدير والكتابة في الألواح الإلهيّة ومراتب ذلك بنحو ما سيظهر ، فكلّ شيء بإرادة
اللّه ومشيئته ، أي : على وفق تقديره وما كتبه في اللوح .
ولا يخفى أنّه من كلّ هذه المعاني لا
يلزم الجبر ، كما هو ظاهر فيما سوى الأخير ، وأمّا فيه ، فمعلوم أنّ تقديره ليس
علّة للفعل ، بل الحقّ أنّه تعالى لمّا علم بعلمه الكامل الأزليّ أنّ العبد
الفلاني ـ مثلاً ـ يفعل كذا وكذا باختياره وقدرته كتب ذلك في اللوح وبيّنه ، وأينهذا من الجبر ؟ ولهذا قال الصادق عليهالسلام : « كما أنّ بادئ
النعم من اللّه عزوجل وقد
نحلكموه ، كذلك الشرّ من أنفسكم وإن جرى به قدره ».
وأمّا في القضاء والقدر ، فنقول : إنّ
القضاء مثل غيره أيضاً قد ورد صريحاً بمعاني عديدة ولو في بعضها يسمّى عزميّاً
ويكون بالنسبة إلى الاُمور التكليفيّة .
__________________
فمنها : ما هو بمعنى الخلق والفعل ،
كقوله تعالى : (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ )،
أي : خلقهنّ ، وقوله سبحانه : «فَاقْضِ مَآ أنْتَ قَاضٍ»،
أي : إفعل ما أنت فاعل ، وأمثالهما
عديدة ، ولا بُعْد في بعض المواضع كون المراد بالخلق ونحوه التقدير ، أو ما يعمّه
والتكوين ، كما سيظهر .
ومنها : ما هو بمعنى الأمر ، بل الحكم
والإلزام أيضاً ، والحتم والإيجاب ، كقوله تعالى : (وَقَضَىٰ
رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ )،
وقوله : (وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ )،
وقوله : ( فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ )،
ونحوها .
ومنها : ما هو بمعنى الإعلام والبيان
ونحو ذلك ، كقوله تعالى : ( وَقَضَيْنَا
إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ )ونحوه .
وكذلك القدر أيضاً كما يظهر من آيات .
منها : قوله تعالى : ( وَقَدَّرَ
فِيهَا أَقْوَاتَهَا )، أي : خلقنا .
ومنها : قوله سبحانه في حكاية لوط : ( إِلَّا
امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ )،
أي : كتبنا وبيّنا وأخبرنا . وأمثال ذلك من سائر الآيات .
وقال الشاعر :
__________________
وَاعلَمْ بِأَنَّ ذَا
الجَلاَلقدْقَــدَرْ
|
|
في الصُحُـفِ الأُولى التي كان
سَطَـرَ
|
بل قد تواتر في الأخبار أيضاً ، بحيث
وصل إلى حدّ الضرورة الدينيّة وجود تقدير من اللّه وكتابة في الألواح بالنسبة إلى
كلّ شيء قبل كونه ، فعن رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
أنّه قال : « قدّر المقادير قبل أن يخلق
السماوات والأرضين بخمسين ألف عام »
.
وأكثرها كالصريح في أنّ لذلك مراتب
متفاوتة بحسب الكتابة والبيان والثبت والتشخيص ، وأنّ كلّ واحد من المشيئة
والإرادة والقضاء والقدر بل الإذن وغيره أيضاً قد يطلق على مرتبة من تلك المراتب
وإن لم نعلم تفاصيلها ، حيث لم نكلّف بذلك ، بل نُهينا عنه ، كما قال عليّ عليهالسلام لمّا سئل عن القدر :
« سرّ اللّه فلا تفشوه » ، ثمّ سئل أيضاً ، فقال : « بحر عميق فلا تلجوه » ، ثمّ
سئل ثالثاً ، فقال : « ما يفتح اللّه للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا
مرسل له»،
وسأل جميل الصادقَ عليهالسلام عن
المشيئة ، فقال : « لا اُجيبك فيها ».
فمن تلك الأخبار ما مرّ ذكره ، ومنها :
ما رواه جماعة عن الباقر والصادق والكاظم عليهمالسلام ،
قالوا : «لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ بسبع : بمشيئة ، وإرادة ، وقدر
، وقضاء ، وإذن ، وكتاب ، وأجل ، فمن زعم غير هذا فقد كذب على اللّه ».
__________________
وفي روايات اُخَر عنهم عليهمالسلام : «
علم وشاء ، وأراد وقضى وأمضى » الخبر ، إلى أن قال عليهالسلام :
« فبالعلم علم الأشياء قبل كونها ، وبالمشيئة عرف صفاتها وحدودها وأنشأها قبل
إظهارها ، وبالإرادة ميّز أنفسها في ألوانها وصفاتها وحدودها ، وبالتقدير قدّر
أقواتها
وعرف أوّلها وآخرها ، وبالقضاء أبان للناس أماكنها ودلّهم عليها ، وبالإمضاء شرح
عللها وأبان أمرها ، وذلك تقدير العزيز العليم »
.
وقيل للرضا عليهالسلام : لا يكون إلاّ ما
شاء اللّه وأراد وقضى وقدّر ، فقال : « ليس هكذا أقول ، بل أقول : لا يكون إلاّ ما
شاء اللّه وأراد وقدّر وقضى » .
فقيل ما معنى «شاء» ؟
قال : « ابتداء الفعل » ، وفي رواية : «
هو الذكر الأوّل » .
قيل : فما معنى «أراد »؟
قال : « الثبوت عليه » ، وفي رواية : «
هو العزيمة على ما شاء » .
قيل : فما معنى «قدّر» ؟
قال : « تقدير الشيء من طوله وعرضه » ،
وفي رواية : « هو وضع الحدود من الآجال والأرزاق والبقاء والفناء » .
قيل : فما معنى «مضى» ؟
قال : « إذا قضاه أمضاه » ، وفي رواية :
« هو إقامة العين ولا يكون إلاّ ما شاء اللّه في الذكر الأوّل ».
__________________
وبالجملة
: ورود هذه الأشياء بهذه المعاني (ثابت
مسلّم)عند الإماميّة بنصوص
الأئمّة من أهل البيت عليهمالسلام ،
حتّى أنّه ورد إطلاق الإذن أيضاً على ما هو بمعنى الأمر ، والعلم والإعلام ،
والتوفيق والتيسير ، وبعض مراتب التقدير ونحو ذلك .
وظاهر أنّ جملة تلك المعاني التي لها مناسبة
وتعلّق بالاُمور التكليفيّة التي هي بالنسبة إلى أفعال العباد ممّا لا تستلزم
الجبر .
أمّا ما بمعنى العلم ومراتب التقدير ،
فقد بيّنّا آنفاً عدم كون علم اللّه وتقديره علّةً للفعل ، كما إذا علم المولى
فرار عبد له فكتب ذلك في موضع ، كما علم مفصّلاً أو مجملاً ، فلا يقول أحد : كان
هذا العلم والكتابة سبباً لفراره ، سيّما إذا لم يعلم به العبد ، ومنه يظهر عدم
منافاة ما هو بمعنى البيان والإعلام ، بل الأمر أيضاً ؛ إذ كثيراً ما يأمر المولى
ويبيّن ، والعبد لا يسمع ولا يأتمر .
ومن الواضحات أنّ اللّه قضى في أفعال العباد
الحسنة بالأمر بها ، وفي أفعالهم القبيحة بالنهي عنها ، كما أنّه قضى في أنفسهم
بالخلق لها وفيما فعله هو فيهم بالإيجاد له .
وأمّا ما بمعنى الحكم ونحوه ، فهو أيضاً
ممّا له معنى مناسب ، حتّى أنّه يمكن تعميم ما ورد بمعنى الخلق أيضاً حتّى يشمل
التقدير ، كما أشرنا سابقاً .
ولنذكر هاهنا بعض الأخبار ممّا يتّضح
منها ما ذكرناه ، بحيث لا يبقى غبار على ما نحن فيه عند أهل الاستبصار .
__________________
قيل للرضا عليهالسلام :
هل للّه عزوجل مشيئة
وإرادة في أفعال العباد ؟
فقال : « أمّا الطاعات فإرادة اللّه عزوجل ومشيئته فيها الأمر
بها والرضا لها والمعاونة عليها ، وإرادته ومشيئته في المعاصي النهي عنها والسخط
لها والخذلان عليها » .
قيل : فهل للّه عزوجل فيها القضاء ؟
قال : « نعم ، ما من فعل يفعله العباد
من خير أو شرّ إلاّ وللّه فيه قضاء » .
قيل : فما معنى هذا القضاء ؟
قال : « الحكم عليهم بما يستحقّونه على
أفعالهم من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة ».
أقول
: كلامه عليهالسلام هاهنا
في الإرادة شاهد لما ذكرناه من أنّه قد يراد بها الخذلان بالنسبة إلى العصيان .
وسئل عليّ عليهالسلام عن
القضاء والقدر ، فقال : « لا تقولوا : وكلهم اللّه إلى أنفسهم فتوهنوه ، ولا
تقولوا : أجبرهمعلى
المعاصي فتظلموه ، ولكن قولوا : الخير بتوفيق اللّه ، والشرّ بخذلان اللّه ،
وكلّ سابق في علم اللّه ».
وقد روى جماعة من المؤالف والمخالف منهم
: ابن أبي الحديد من كتاب «الغرر» لشيخه أبي الحسين، عن الأصبغ بن نباتة ، ومنهم محمّد
__________________
ابن عمر الحافظ
بإسناده عن ابن عبّاس وكذا غيرهما كلّهم عن أمير المؤمنين عليهالسلام أنّه قام إليه رجل
بعد انصرافه من صفّين .
فقال : يا أمير المؤمنين ، أخبرنا عن
خروجنا إلى الشام ، أبقضاءٍ وقدرٍ ؟
فقال له أمير المؤمنين : « نعم ، يا شيخ
، ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن وادٍ إلاّ بقضاءٍ من اللّه وقدره » .
فقال الرجل : عند اللّه أحتسب عنائي ،
واللّه ، ما أرى لي من الأجر شئياً .
فقال علي عليهالسلام :
« مه يا شيخ،
قد عظّم اللّه لكم الأجر في مسيركم وأنتم ذاهبون ، وعلى منصرفكم وأنتم منقلبون ،
ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ، ولا إليها مضطرّين » .
فقال الرجل : فكيف لا نكون مضطرّين
والقضاء والقدر ساقانا ، وعنهما كان مسيرنا ؟
فقال عليّ عليهالسلام :
« ويحك ، لعلّك ظننت قضاءً لازماً ، وقدراً حتماً ، لو كان كذلك لبطل الثواب
والعقاب ، وسقط الوعد والوعيد ، والأمر من اللّه والنهي والزجر ، ولم تأت لائمة
من اللّه لمذنب ، ولا محمدة لمحسن ، ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء ، ولا
المسيء أولى بالذمّ من المحسن ، تلك مقالة عبدة الأوثان ، وجنود الشيطان ، وخصماء
الرحمن ،
__________________
وشهداءالزور والبهتان ، وأهل العمىوالطغيان ، وهم قدريّة هذه الاُمّة ومجوسها
، يا شيخ ، إنّ اللّه تعالى أمر تخييراً ، ونهى تحذيراً ، وكلّف يسيراً ، وأعطى
على القليل كثيراً ، ولم يعص مغلوباً ، ولم يطع مكرهاً ، ولم يرسل الرسل عبثاً ،
ولم يخلق السماوات والأرضين وما بينهما باطلاً ، ذلك ظنّ الذين كفروا ، فويل
للّذين كفروا من النار » .
فقال الشيخ : فما القضاء والقدر اللّذان
ما سرنا إلاّ بهما ؟
قال : « الأمر من اللّه ، والحكم
بالطاعة ، والنهي عن المعصية ، والتمكين من فعل الحسنة وترك المعصية ، والمعونة
على القربة إليه ، والخذلان لمن عصاه ، والوعد والوعيد ، والترغيب والترهيب ، كلّ ذلك
قضاء اللّه في أفعالنا ، وقدره لأعمالنا ، أمّا غير ذلك فلا تظنّه ، فإنّ الظنّ
له محبط للأعمال » ، ثمّ تلا قوله تعالى : (
وَقَضَى
رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ
)،
الآية .
فنهض الرجل مسروراً وقال : فرّجت عنّي
يا أمير المؤمنين فرّج اللّه عنك ، ثمّ شرع يقول هذا الشعر :
أنت الإمام الذي نرجو بطاعته
|
|
يوم النشور من الرحمن رضواناً
|
أوضحت من ديننا ما كان ملتبساً
|
|
جزاك ربّك عنّا فيه إحساناً
|
إلى آخر الأبيات.
__________________
وهذا الخبر ممّا نقص منه (بعض من رواه)بعض الكلمات ، ونحن ذكرناه تماماً بجمع
جميع ما ورد فيه .
وقد روى هشام بن الحكم أنّ زنديقاً دخل
على أبي عبداللّه الصادق عليهالسلام فسأله
عن مسائل في التوحيد ، وذكر السؤال والجواب بما هو صريح في أنّ ما ذكرناه من نسبة
القول بالتشبيه إلى هشام كان تهمةً وتوهّماً ، إلى أن قال : فقال الزنديق : أخبرني
عن اللّه كيف لم يخلق الخلق كلّهم مطيعين موحّدين وكان على ذلك قادراً ؟
فقال عليهالسلام :
« لو خلقهم مطيعين لم يكن لهم ثواب ؛ لأنّ الطاعة إذا لم تكن فعلهم لم تكن جنّة
ولا نار ، ولكن خلق خلقه فأمرهم بطاعته ، ونهاهم عن معصيته ، واحتجّ عليهم برسله ،
وقطع عذرهم بكتبه ؛ ليكونوا هم الذين يطيعون ويعصون ويستوجبون بطاعتهم له الثواب
وبمعصيتهم إيّاه العقاب » .
قال : فالعمل الصالح من العبد هو فعله ،
والعمل الشرّ من العبد هو فعله ؟
قال : « العمل الصالح من العبد يفعله
واللّه به أمره ، والعمل الشرّ من العبد يفعله واللّه عنه نهاه » .
قال : أليس فعله بالآلة التي ركبها فيه
؟
قال : « نعم ، ولكن بالآلة التي عمل بها
الخير قدر بها على الشرّ الذي نهاه عنه » .
__________________
قال : فإلى العبد من الأمر شيء ؟
قال : « ما نهاه اللّه عن شيء إلاّ وقد
علم أنّه يطيق تركه ، ولا أمره بشيء إلاّ وقد علم أنّه يستطيع فعله ؛ لأنّه ليس من
صفته الجور ، والعبث ، والظلم ، وتكليف العباد ما لا يطيقون » .
قال : فمن خلقه اللّه كافراً يستطيع
الإيمان وله عليه بتركه الإيمان حجّة ؟
قال عليهالسلام :
« إنّ اللّه خلق خلقه جميعاً مسلمين ، أمرهم ونهاهم ، والكفر اسم يلحق الفعل حين
يفعله العبد ، ولم يخلق اللّه العبد حين خلقه كافراً ، إنّه إنّما كفر من بعد أن
بلغ وقتاً لزمته الحجّة من اللّه فعرض عليه الحقّ فجحده ، فبإنكاره الحقّ صار
كافراً » .
قال : فيجوز أن يقدر على العبد الشرّ ،
ويأمره بالخير وهو لا يستطيع الخير أن يعمله ، ويعذّبه عليه ؟
قال : « إنّه لا يليق بعدل اللّه
ورأفته أن يُقدّر على العبد الشرّ ويريده منه ، ثمّ يأمره بما يعلم أنّه لا يستطيع
أخذه ، والإنزاع عمّا لا يقدر على تركه ، ثمّ يعذّبه على تركه الذي علم أنّه لا
يستطيع أخذه »،
الخبر فافهم .
وإذ قد عرفت هذا ، علمت تمام معنى الأمر
بين الأمرين الذي هو مذهب الإماميّة ، المأخوذ من أهل بيت الإمامة والنبوّة ، ووضح
لك أنّه هو الحقّ الذي لا فساد فيه ، ولا منافاة له مع المعاني التي ذكرناها
للإرادة والقضاء وأمثالهما ، ومنه يتبيّن أنّ مبنى توهّم غيرهم ـ الذين وقعوا في
الجبر والقدر وضلّوا من حيث لا يعلمون ـ على حملهم هذه الأشياء
__________________
على خصوص المعنى
الحتمي في جميع المواضع ، حيث جهلوا الفرق بين ما يتعلّق بالاُمور التكليفيّة
كالعبادات والمعاصي والطاعات ونحوها ، وبين ما يتعلّق بغيرها كالخلق والرزق
والصحّة والسقم والحياة والممات ونحوها ، فقاسوا أحدهما بالآخَر من غير بصيرة
بالحال ، حيث لم يرتووا من مناهل علوم الآل ، واللّه يهدي من يشاء إلى صراط
مستقيم .
ثمّ اعلم ، أنّ للتفويض معنيين آخَرين
أيضاً قال بأحدهما الإماميّة وأنكروا الآخَر .
فأمّا الثاني : فهو الذي قال به جمع من
الغُلاة ، حيث قالوا : إنّ اللّه عزوجل خلق
النبيّ والأئمّة صلوات اللّه عليهم وفوّض إليهم أمر الخلق ، فهم يخلقون ويرزقون
ويحييون ويميتون.
وممّا يدلّ على كون القول به كفراً صريح
أخبار الأئمّة عليهمالسلام .
منها : قول الرضا عليهالسلام في حديث له : « من
زعم أنّ اللّه عزوجل فوّض
أمر الخلق والرزق إلى حججه عليهمالسلام ،
فقد قال بالتفويض ، والقائل به مشرك ».
ولهذا أنكره علماء الإماميّة قاطبة ،
ومن نسبه إليهم فقد افترى عليهم مثل سائر التُّهم التي اتّهموهم بها .
نعم ، هم يقولون : إنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله والأئمّة عليهمالسلام قد يسألون اللّه
تعالى ذلك شفاعة ، أو لإظهار المعجزة فيستجيب لهم إعظاماً لشأنهم، كما ورد
__________________
مثله في بعض الأنبياء
صريحاً .
ومن العجائب أنّ طوائف الصوفيّة من
المخالفين نسبوا إلى بعض مشايخهم مثل هذا ، بل أزيد ، ومع هذا طعنوا على الإماميّة
بالغلوّ ، حيث نقلوا وقوع بعض الأشياء من الأئمّة عليهمالسلام على
سبيل الشفاعة أو إظهار المعجزة ، وهل هذا إلاّ عين الحميّة والعصبيّة ؟ و : كأنّ
هذا هو موضع شعر الشاعر حيث قال بالفارسية :
روا باشد أنا الحقّ ازدرختى
|
|
چرا نبود روا از نيك بختى
|
وأمّا الأوّل ـ أعني التفويض الذي قال
به الإماميّة ـ فهو إنّهم يقولون : إنّ اللّه عزوجل سيوفّض
يوم القيامة إلى نبيّنا صلىاللهعليهوآله وأوصيائه
الأئمّة عليهمالسلام ما
لا يفوّض إلى أحدٍ غيرهم من الشفاعة والأمر والنهي والأخذ والعطاء وإدخال الجنّة
والنار ، كما دلّت عليه متواتر الأخبار ، إرغاماً لأنف من عاندهم بالإنكار ، حتّى
ورد في تفسير قوله تعالى : (إِنَّ إِلَيْنَا
إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم ):
إنّ اللّه عبّر بصيغة المتكلّم مع الغير حيث جعل لهؤلاء مدخليّةً في الحساب.
وكذا يقولون : قد فوّض اللّه تعالى إلى
هؤلاء في الدنيا أيضاً بعض أنواع التفويض .
وخلاصة بيان ذلك : أنّ اللّه تعالى
لمّا أدّب نبيّه صلىاللهعليهوآله مع
عصمته بكمال الآداب وأكمله ، حتّى قوّمه على ما أراد من كلّ باب ، وأيّده بروح
__________________
القدس الذي كان به
مسدّداً موفّقاً معلّماً ، بحيث لم يكن يختار من الاُمور شيئاً إلاّ ما يوافق
الحقّ والصواب ، بل جعل قلبه بدوام الإلهام ـ الذي لا زلل فيه ولا خلل ـ وعاءً
لمشيئته ، بحيث لم يكن يخطر بباله ما يخالف مشيئته تعالى بسبب من الأسباب ، كما
قال سبحانه : ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ
اللَّهُُ )( وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ
عَظِيمٍ )ونحو ذلك ، فوّض إليه تفويضاً في بعض
الأشياء ، فقال : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ
وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ).
فمن ذلك : تفويض تعيين بعض اُمور الخير
إليه ولو بمحض الإلهام من غير حاجة إلى انتظار الوحي الصريح إظهاراً لشرفه وكرامته
عنده ، وسلامته عن احتمال الخطأ والزلل ، وليعلم من يطع الرسول ممّن يعصيه ،
كإضافة الركعتين الأخيرتين في الصلاة ، وتعيين النوافل فيها ، وصوم شعبان وبعض
الأيّام المخصوصة ندباً ، وتحريم كلّ مسكر غير الخمر المحرّم بالوحي الصريح ،
وطعمة الجدّ،
وغيرها ممّا هو مذكور في محلّه.
ولا يتوهّم منافاة هذا لقوله تعالى : ( وَمَا
يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ )؛
لوضوح أنّ ما ذكرناه ليس من الهوى ، بل هو من
__________________
الإلهام الذي هو شعبة
من الوحي كما بيّنّا ، ولم نقل : إنّه كان له أن يحرّم ما شاء ، ويحلّل ما شاء من
غير وحي ولا إلهام ، أو بغير ما اُوحي إليه برأيه حاشاه عن ذلك ، فافهم .
ومن ذلك : تفويض اُمور الخلق إليه من
سياستهم وتأديبهم وتكميلهم ، وأمر الخلق بإطاعته فيما أحبّوا وكرهوا ، وفيما علموا
جهة المصلحة فيه وما لم يعلموا .
ومن ذلك أيضاً : تفويض بيان العلوم
والأحكام وأنواع المعارف والتفسير والتأويل وأمثال ذلك ، بحسب اقتضاء صلاح الوقت ،
وعلى نحو ما أراه اللّه المصلحة فيه ولو بالإلهام بسبب اختلاف عقول الناس ومراتب
تحمّلهم وقبولهم ، ولما كان مأموراً به من التقيّة والمداراة ـ التي بيّنّاها سابقاً
، وفيما يأتي من المقالة التاسعة من المقصد الثاني ـ حتّى أنّه كان له أيضاً أن
يسكت عن الجواب أحياناً ، أو يورّي في الكلام توريةً ، قال اللّه عزوجل : ( إِنَّا
أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا
أَرَاكَ اللَّهُ )، أي : بما ألهمك اللّه وفهّمك ورخّصك
به ، دون ما بالرأي والهوى ، كما في صريح الحديث عن أهل البيت عليهمالسلام ، ولهذا كان له
الاختيار أيضاً أن يحكم أحياناً بما يلهمه اللّه تعالى ويعلّمه من الواقع ومُخّ
الحقّ كما كان له أن يحكم بظاهر الشريعة .
ثمّ من ذلك أيضاً : التفويض في العطاء ،
فإنّه كان له أن يعطي من شاء ما شاء ، ويمنع من شاء عمّا شاء ، وإن كان هذا أيضاً
بحسب المصالح الإلهاميّة ، مع أنّ الحقّ الذي بيّن في موضعه أنّ الأرض وما فيها
كلّها لمن
__________________
هو الخليفة من اللّه
فيها من آدم عليهالسلام وهلّم
جرّاً إلى المهديّ عليهالسلام ،
قال اللّه عزوجل :
( هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ
أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ).
وهذا الذي ذكرناه كلّه مع كونه معلوماً
من سيرته صلىاللهعليهوآله ،
حتّى بنقل بعض المخالفين أيضاً ، كما هو غير خفيٍّ على المتتبّع منصوص صريحاً في
أحاديث أهل بيته الأئمّة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين.
وقد تواترت أخبارهم أيضاً بأنّ ما فوّض
إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله فقد
فوّض أيضاً إلى أوصيائه الأئمّة عليهمالسلام ؛ لاتّصافهم أيضاً بما كان فيه ، ما سوى
نزول الوحي المختصّ بمنصب النبوّة ، فهم أيضاً كذلك وإن لم يخالفوا ما هو من سنّته
؛ ضرورة أنّ منصبهم حفظ شريعته .
هذا خلاصة قول الإماميّة في التفويض إلى
النبيّ صلىاللهعليهوآله والأئمّة عليهمالسلام ، فمن نسب إليهم غير
هذا فقد افترى ، ومن أنكر عليهم هذا فقد افترى ، والسلام على من اتّبع الهدى.
ثمّ إنّ ممّا تفرّدتبه الإماميّة القول بوقوع البداء ،
بمعنى : أنّ اللّه عزوجل قد
يغيّر ما قدّره ولو بعد ما أخبر به أيضاً ، فيمحوه ويثبت غيره ، سواء كان ذلك من
الأحكام ويُسمّى ذلك نسخاً ، أو من غيرها كالآجال والأرزاق والبلايا والأعراض
والأمراض والشقاوة والسعادة والإيمان والكفر وغيرها ، أيّ شيء كان وعلى أيّ نحو
أراد أن يكون ، كما قال سبحانه :
__________________
( يَمْحُو اللَّهُ مَا
يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ )، وقال : ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ
فِي شَأْنٍ ).
وقد تواترت فيه أخبار الأئمّة الأطهار ،
بحيث وردت فيها المبالغة الأكيدة في وقوعه ، والزجر لمن مال إلى الإنكار ، حتّى
قالوا صريحاً : « ما عُبد اللّه بشيء مثل البداء »، و« ما عُظّم اللّه بمثل البداء »، و«ما بُعث نبيّ إلاّ بالإقرار
بالعبوديّة ، وخلع الأنداد ، وأنّ اللّه يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء »، و« أنّ الناس لو علموا ما في القول
بالبداء من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه ».
بل كثير من منقولات العامّة وقصص
الأنبياء تدلّ عليه أيضاً ، كخبر دعاء النبيّ صلىاللهعليهوآله
على يهوديٍّ بالموت، وإخبار عيسى عليهالسلام بموت رجل ثمّ لم يمت، وأنّ الصدقة والدعاء يغيّران القضاء ،
وغير ذلك.
وبالجملة
: هذا من ضروريّات مذهب الإماميّة ، لكن
ليس مرادهم به ما يستلزم تغيير علم اللّه تعالى وحدوث علم له بشيء بعد ما لم يكن
، كما
__________________
يتوهّم بادئ الرأي من
ظاهر لفظة البداء حيث إنّه ممدوداً ، بمعنى : ظهور رأي لم يكن ، حتّى قال الجوهري
وغيره : بدى له في هذا الأمر بداءٌ ممدودٌ ، أي : نشأ له فيه رأي؛ إذ لا شكّ في أنّ ذلك كفر وضلال ،
وادّعاء لما هو في حقّ اللّه محال ، لا سيّما عند الإماميّة الذين بيّنّا خلاصة
اعتقادهم في علم اللّه تعالى ، وتفسيرهم إيّاه بأنّه لا يجهل شيئاً ، واتّفاقهم
على كونه عين الذات قديماً لا يتغيّر ولا يزول ، بل عندهم أنّ إطلاق هذا وأمثاله
على نوع من التجوّز ، كالوجه واليد والاستهزاء والمكر وغيرها ، كما سيأتي بيانه ،
وكفى هاهنا شاهداً قوله تعالى : ( يَعْلَمُ مَا فِي
قُلُوبِكُمْ )وأشباهه .
وقال الصادق عليهالسلام : « ليس شيء يبدو
للّه تعالى إلاّ وقد كان في علمه ، إنّ اللّه لا يبدو له عن جهل ».
وقال عليهالسلام :
« من زعم أنّ اللّه عزوجل يبدو
له في شيء لم يعلمه أمس فأبرؤوا منه ».
وقد صرّح جماعة أيضاً من قدماء علماء
الإماميّة وأرباب نصوصهم بهذا ، حيث قالوا : ليس البداء كما يظنّه جُهّال الناس
بأنّه بداء ندامةٍ ، تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً، بل كما أنّ نسخه بعض الأحكام ليس من
جهل
__________________
ولا ندامة ، بل
لمصالح عائدة إلى الخلق فكذلك هذا .
وقالوا أيضاً : من قال بأنّ اللّه
تعالى لا يعلم الشيء إلاّ بعد كونه ، فقد كفر وخرج عن التوحيد.
نعم ، قد وقع بعض اختلاف بين الإماميّة
في بيان المراد به ، ونحن نكتفي هاهنا بذكر ما فهمه عمدة علماء الإماميّة من ظواهر
الآيات والأخبار المرويّة عن الأئمّة عليهمالسلام ،
بل تدلّ عليه النصوص الصريحة ، ولا تأبى عنه العقول الصحيحة .
فاعلم أوّلاً أنّ الأئمّة عليهمالسلام إنّما بالغوا في
البداء ردّاً على أقوام ، منهم : اليهود الذين يقولون : إنّ اللّه قد فرغ من
الأمر ، كما روي بأسانيد عديدة عن الصادق عليهالسلام أنّه
قال في قوله تعالى : « ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ
يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ) لم يعنوا أنّه هكذا ، وقال بيده إلى
عنقه ، ولكنّهم قالوا : قد فرغ اللّه من الأمر لا يحدث اللّه غير ما قدّره في
التقدير الأوّل ، فلا يزيد ولا ينقص ، فقال اللّه جلّ جلاله تكذيباً لقولهم : ( غُلَّتْ
أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ
يَشَاءُ )أي : يقدّم ويؤخّر ، ويزيد وينقص ، وله
البداء والمشيئة » ، ثمّ قال عليهالسلام :
« ألم تسمع اللّه تعالى يقول : ( يَمْحُو اللَّهُ مَا
يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ )».
ومنهم : النظام وبعض المعتزلة الذين
يقولون : إنّ اللّه عزوجل خلق
__________________
الموجودات دفعةً
واحدة على ما هي عليه الآن معدناً ونباتاً وحيواناً وإنساناً ، ولم يتقدّم خلق آدم
على خلق أولاده ، وأنّ التقدّم إنّما يقع في ظهورها لا حدوثها ووجودها ، وإنّما
أخذوا هذه المقالة من أصحاب الكمون والبروز من كفرة الفلاسفة.
وكذا منهم : بعض كفّار الفلاسفة
وأتباعهم القائلين بالعقول العشرة والنفوس الفلكيّة ، وبأنّ اللّه تعالى لم يؤثّر
حقيقة إلاّ في العقل الأوّل ، وأنّ تأثيره فيه أيضاً على سبيل الإيجاب ، فإنّ
هؤلاء يعزلونه تعالى عن ملكه ، وينسبون الحوادث إلى هؤلاء، حتّى أنّ الفخر الرازيجعل هذا من جملة الوجوه التي ذكرها في
تفسير قوله تعالى : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ
يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ )الآية ، حيث قال : الوجه الرابع : لعلّه
كان في اليهود من كان على مذهب الفلسفة ، وهو أنّه تعالى موجب لذاته ، وأنّ حدوث
الحوادث عنه لا يمكن إلاّ على نهج واحد ، وأنّه تعالى غير قادر على إحداث الحوادث
على غير الوجوه التي عليها تقع ، فعبّروا عن عدم الاقتدار على التغيير والتبديل
بغلّ اليد،
انتهى .
__________________
فلأجل نفي تلك الأقوال بالغ الأئمّة في
وقوع البداء ، وبيان أنّه تعالى كلّ يوم في شأن من إعدام شيء وإحداث آخَر ، وإماتة
شخص وإحياء آخَر ، إلى غير ذلك ؛ لئلاّ يترك العباد التضرّع إلى اللّه ومسألته، وطاعته والتقرّب إليه بما يصلح به
اُمور دنياهم وعقباهم ، وليرجوا عند التصدّق على الفقراء وصلة الأرحام وبرّ
الوالدين والمعروف والإحسان ما وعدوا عليها من طول العمر وزيادة الرزق ، وغير ذلك
من المصالح والحِكَم العظيمة التي هو أعلم بها ، بل ربّما يظهر بعضها بإلهام من
اللّه على من تأمّل صادقاً فيها .
ثمّ اعلم ثانياً أنّ الآيات والروايات
تدلّ على أنّ اللّه تعالى خلق لوحين أثبت فيهما ما يحدث من الكائنات ، أحدهما :
اللوح المحفوظ الذي لا تغيير فيه أصلاً ، وهو مطابق لعلمه تعالى ، والآخَر : لوح
المحو والإثبات ، فيثبت فيه شيئاً ، ثمّ يمحوه ؛ للحِكَم الكثيرة التي أشرنا إلى
بعضها ، مثلاً : يكتب في هذا اللوح أنّ عمر زيد خمسون سنة ، ومعناه مقتضى الحكمة
أن يكون عمره كذا إذا لم يفعل ما يقتضي طوله أو قصره ، فإذا وصل الرحم مثلاً ،
يمحي «الخمسون» ويكتب مكانه «ستّون» ، وإذا قطعها يكتب مكانه «أربعون» ، وفي اللوح
المحفوظ أنّه يصل ـ مثلاً ـ وعمره ستّون ، كما أنّ الطبيب الحاذق إذا اطّلع على
مزاج شخص فحكم بأنّ عمره بحسب هذا المزاج يكون ستّين سنة ، فإذا شرب سمّاً ومات أو
قتله إنسان فنقص عن ذلك ، أو استعمل دواءً قوي مزاجه به فزاد عليه لم يخالف قول
الطبيب .
فهذا التغيير الواقع في هذا اللوح
يُسمّى بالبداء تجوّزاً ، كما أشرنا إليه ،
__________________
إمّا لأنّه يشبه
بالبَداء بمعناه الظاهر ، كما في سائر ما يطلق عليه تعالى من الابتلاء والاستهزاء
والمكر وأمثالها ، وإمّا لأنّه يظهر للملائكة أو للخلق خلاف ما علموا أوّلاً إذا
كان لهم علم بالأوّل بسبب قراءة اللوح أو إخبار العالم به كالنبيّ أو الإمام مثلاً.
وقد ورد في القرآن ما يرشد إلى هذا ،
كقوله تعالى : ( وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ
يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ )وأمثاله ، ولعلّ قوله تعالى : ( وَعِندَهُ
أُمُّ الْكِتَابِ )إشارة إلى رفع توهّم تغيير علمه تعالى ،
بأن يكون معناه عنده أصل الكتاب الذي لا يتغيّر ، فيكون المراد به اللوح المحفوظ .
كما قال الصادق عليهالسلام أيضاً : « إنّ للّه
علمين : علم مكنون مخزون لا يعلمه إلاّ هو (ولم يطّلع عليه أحداً من خلقه) من ذلك
يكون البداء ، وعلم علّمه ملائكته وأنبياءه ورسله ونحن نعلمه »، فإنّ مفاد ظاهره كما ترشد إليه كلمة
«من» في قوله « من ذلك » : إنّ البداء الذي قد يكون في العلم الثاني فإنّما هو على
وفق العلم المخزون المكنون في اللوح المحفوظ ، حتّى أنّه ورد تفسير قوله تعالى : ( عَالِمُ
الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا )بذلك
العلم المخزون ، وقوله : ( إِلَّا مَنِ
ارْتَضَىٰ مِن
__________________
رَّسُولٍ
)بتعليم
العلم الثاني.
وممّا يدلّ عليه أيضاً : ما ثبت وروده
عن أمير المؤمنين ، بل وغيره من الأئمّة عليهمالسلام أيضاً
من قولهم : « لولا آية في كتاب اللّه لأخبرتكم بما هو كائن وبما يكون إلى يوم
القيامة ، وهي قوله عزوجل :
( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ
)الآية».
وفي روايات صحيحة الأسانيد من الإمام عليهالسلام أنّه قال : « إذا
كانت ليلة القدر نزلت الملائكة والروح والكَتَبةُ إلى سماء الدنيا ، فيكتبون ما
يكون من قضاء اللّه في تلك السنة ، فإذا أراد اللّه أن يقدّم شيئاً أو يؤخّره أو
ينقص منه أو يزيد أمر الملك أن يمحو ما يشاء ، ثمّ أثبت الذي أراد » قيل : فكلّ
شيء يكون فهو عند اللّه في كتاب ؟ قال : « نعم »الخبر.
وعن ابن عبّاس في قوله تعالى : ( ثُمَّ
قَضَىٰ أَجَلًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ )،
أنّه قال : قضى أجلاً من مولده إلى مماته ، وأجل مسمّى عنده من الممات إلى البعث
لا يعلم أحد ميقاته سواه ، فإذا كان الرجل صالحاً واصلاً لرحمه زاد اللّه في أجل
الحياة من أجل الممات إلى البعث ، وإذا كان
__________________
غير صالح ولا واصل
نقصه اللّه من أجل الحياة وزاد على أجل البعث،
قال : وذلك قوله تعالى : ( وَمَا يُعَمَّرُ مِن
مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ )،
والأخبار من هذا القبيل كثيرة .
وما يكون ظاهره على خلاف هذا فهو مأوّل
، كقوله عليهالسلام :
« فأمّا ما جاءت به الرسل فهي كائنة لا يكذّب نفسه ولا نبيّه ولا ملائكته »؛ إذ الظاهر أنّ المراد هاهنا ما أخبروه
على سبيل الحتم ، فإنّ الذي يستفاد من ملاحظة الروايات بعضها مع بعض أنّ أخبارهم
على قسمين :
أحدهما : ما وصل إليهم من اللّه عزوجل بقيد أنّه من الاُمور
المحتومة ، فهُم كانوا يخبرون كذلك ، فهذا الذي قال عليهالسلام :
إنّه كائن لا محالة ؛ ولهذا قال الإمام عليهالسلام عند
إخباره بخروج السفياني : « إنّه من المحتوم الذي لا بداء فيه ».
وثانيهما : ما وصل إليهم لا على هذا
الوجه ، فهُم أيضاً كانوا يخبرون به كذلك ، وربّما أشعروا أيضاً باحتمال وقوع
البداء فيه ، كما قال عليّ عليهالسلام بعد
ما أخبر عن بعض الأشياء : ( يَمْحُو اللَّهُ مَا
يَشَاءُ )، الآية.
وكفى لما ذكرناه شاهداً ما ورد أنّه سأل
رجل أبا جعفر عليهالسلام أخبرني
__________________
عمّا أخبرت به الرسل
عن ربّها أيكون للّه البداء فيه ؟ قال : « أما إنّي لا أقول لك : إنّه يفعل ،
ولكن إن شاء فعل ».
وقد ورد في الأخبار أيضاً أنّ البداء
إنّما يكون فيما يكون إذا كان الشيء في مرتبة المشيئة والإرادة والقدر على ما مرّفي ذكر مراتب التقدير والكتابة في اللوح
، وأمّا إذا انتهى إلى حدّ إمضاء القضاء فلا بداء .
هذا خلاصة قول الإماميّة المأخوذ من
الأئمّة عليهمالسلام في
البداء ، ومعناه وموضعه ، ومن أراد تفصيل ذلك أزيد ممّا ذكرناه فعليه بالرجوع إلى
بعض كتبهم المفصّلة،
فتأمّل حتّى تعلم أنّ مخالفيهم اتّخذوا مذهب اليهود والفلاسفة في إنكار البداء .
ومع هذا طعنوا على الإماميّة بل بعضهم
على الأئمّة عليهمالسلام أيضاً
ـ مع كونهم مسلَّمين في كلّ فضل علماً وعملاً عند كافّة الاُمّة ـ بما هو فرية
صريحة عليهم ، فإنّ أكثرهم قالوا : قالت الرافضة : البداء جائز على اللّه ، وهو
أن يعتقد شيئاً ، ثمّ يظهر له أنّ الأمر بخلاف ما اعتقده ، وتمسّكوا فيه بقوله
تعالى : ( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ )،
وفيه ما لا يخفى من ادّعاء جهله تعالى ببعض الأشياء : انتهى كلامهم .
وقد ظهر أنّه محض الافتراء على هذه
الطائفة المنزّهة ربّهم عن جميع النقائص ، بل هم الذين نسبوا في كثير من الموارد
إلى ربّهم
__________________
ما لا يليق ، حتّى
نفى جماعة منهم عنه تعالى بعض العلوم ، كما مرّفي
بيان مذاهبهم ، وهل البهتان والفرية إلاّ دأب العاجزين ؟
وأقبح من هذا وأفضح ما نقله الرازي عن
سليمان بن جرير ، حيث حكى عنه أنّه قال : إنّ أئمّة الرافضة وضعوا القول بالبداء
لشيعتهم ، فإذا قالوا : إنّه سيكون لهم أمر وشوكة ثمّ لا يكون الأمر على ما أخبروه
، قالوا : بدا للّه تعالى فيه.
انتهى .
ولا يخفى ما فيه من النصب والعداوة ،
حتّى اجترأ عليهم بافتراء ما نزّههم عنه سائر علمائهم من نسبة الكذب في الدين
إليهم ، وستُكتب شهادتهم ويُسألون .
ثمّ إنّ الذي هو خلاصة مذهب هذه الطائفة
الإماميّة في خصوصيّات أحوال النبيّ صلىاللهعليهوآله والأئمّة عليهمالسلام وسائر الأنبياء
والأوصياء والمؤمنين وغيرهم ، وما يتعلّق بالكفر والإيمان والثواب والعقاب ،
ولوازمها ولواحقها بناءً على ما تواتر عندهم من أخبارهم ، بل يدلّ عليه بعض
منقولات غيرهم أيضاً كما سيأتي بعض ذلك : أنّهم يقولون : إنّ نبيّنا صلىاللهعليهوآله والأئمّة
الاثني عشر المعلومين عليهمالسلام كلّهم
خُلقوا من نور واحد وسنخ واحد ، وكلٌّ بمنزلة نفس الآخَر ذريّة بعضها من بعض ، ومن
عادى أو جحد حقّ واحد منهم فقد عادى الجميع وجحد حقّهم جميعاً ، حتّى أنّهم
متشاركون على التساوي في سائر ما آتاهم اللّه تعالى من الكمال والحكمة ، والعلم
__________________
والمعرفة ، والحلم
والزهادة ، وسائر لوازم العصمة ووجوب الإطاعة ، حتّى في محادثة الملك ولو بغير
الرؤية المختصّة بالنبيّ صلىاللهعليهوآله إلاّ
أنّ لرسول اللّه صلىاللهعليهوآله زيادة
فضله ، وعلوّ رتبته عليهم بما اختصّ به من النبوّة وسبق الخَلق والخُلق ، والقدوة
، ونزول الوحي وأمثال ذلك ممّا لا يخفى على الخبير البصير .
ثمّ لعليّ عليهالسلام ذلك
بعده بما اختصّ به أيضاً من السبق المذكور ، حتّى في الجهد والجهاد ، وحماية
الإسلام ، وكسر الأصنام ، وإعانة سيّد الأنام وأمثال ذلك ممّا سيأتي ، حتّى أنّه
اختصّ لذلك بإمارة المؤمنين التي مرّ ويأتي أنّها لم تكن ولا تكون لأحد غيره .
ثمّ للحسنين عليهماالسلام لما لهما من المزايا
التي منها : مزيد اتّحاد مع النبيّ صلىاللهعليهوآله ،
بحيث تصدّى الرسول بنفسه لتربيتهما ، وغير ذلك ممّا سيأتي أيضاً .
ثمّ للتسعة البقيّة من ذرّيّة الحسين
المعلومين عليهمالسلام ،
لا سيّما القائم المهديّ عليهالسلام الذي
يملك الأرض شرقاً وغرباً ، ويملأها قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً ، على
الأظهرلما ورد صريحاً من
أنّ آخرهم قائمهم ، وهو أفضلهم . واللّه أعلم .
وكذلك فاطمة عليها صلوات اللّه ، لها
ما لهم ما سوى منصب الإمامة ، فإنّ اللّه جعلها سيّدة النساء في الدنيا والآخرة ،
حتّى أنّها أفضل من مريم اُمّ عيسى عليهماالسلام،
كما سيظهر .
__________________
وكذا يقولون ـ بحسب النصوص المتواترة
عندهم المعتضدة بما رواه غيرهم ـ : إنّ اللّه عزوجل لمّا
يعلم بعلمه الكامل الأزليّ كمال قابليّة نبيّنا صلىاللهعليهوآله
والأوصياء من ذرّيّته المعلومين أزيد من
سائر المخلوقين ، حتّى الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربّين للارتقاء إلى أعلى
مدارج القرب والكمال ، واستحقاق إعلاء شأنهم على سائر عبيده المشرّفين بالعزّ
والإجلال ، حيث علم من حالهم أنّهم إذا خُلقوا يمتازون عن سائر عبيده بمزيد
المعرفة والإخلاص والطاعة وسائر لوازم العبوديّة ، حتّى ورد : أنّه عزوجل حين خلق أرواحهم من
النور الذي خلقهم منه سبّحوا اللّه ومجّدوه ، وذلك قبل خلق (الخلق والسماوات
والأرض)،
ثمّ تعلّم من سواهم التسبيح والتقديس منهم ، فاقتضى عدله ولطفه وحكمته أن يتفضّل
عليهم بما ينبغي أن يكونوا عليه ، فمنحهم ما منحهم ، حتّى أعطاهم ما لم يعط أحداً
من العالمين ، فهُم أوّل كافّة الخلق إيجاداً ، وأقدمهم تنزيهاً للّه تعالى
وتوحيداً ، وأسبقهم لأمر ربّهم إيجاباً ، وأعرفهم عرفاناً ، واْكملهم إيماناً ،
وأفضلهم عند ربّهم مكاناً ، وأعلاهم شأناً ، وأقربهم منزلةً وقرباناً ، بحيث إنّ
اللّه عزوجل لم
يخلق خلقاً إلاّ أوجب عليه حبّهم وولايتهم والتصديق لهم ، كما أوجب عليه توحيده
والإيمان به ، فمن أقرّ كان مؤمناً طيّب اللّه ولادته ، ومن أنكر صار كافراً خبيث
الانعقاد نطفته ، حتّى أنّ سائر الأنبياء والأوصياء والاُمم السابقين كانوا بهذا
الأمر ـ أي : التزام حبّهم وتصديق قولهم ـ مكلّفين ، كما يستفاد من كتبهم أيضاً .
__________________
ولهذا أعطاهم اللّه تعالى جميع كمالات
الأنبياء ، وفضائل كلّ الأولياء والأوصياء ، وما كان عندهم من أعاظم الأسماء
الحسنى ، والودائع التي في الكتب التي نزلت من السماء ، وأورثهم سائر مواريثهم مع
زيادة الكمالات التي قرّرها اللّه فيهم ، حيث أشهدهم على خلق الأشياء ، وأطلعهم
على أسرار ما في الأرض والسماء ، وأخبرهم بما مضى وما هو آتٍ ، وأيّدهم بروح القدس
وأملاك السماوات ، وأذن لهم في أنواع الشفاعات ، بل رخّصهم في كثير من اُمور أهل
العرصات ، حتّى قسمة أصحاب النيران والجنّات ، بل قرّر لهم في هذه الدنيا التي
جعلها دار محنة لهم وابتلاء أوّلاً أن يكون لهم فيها أيضاً تمام الدولة والشوكة
أخيراً ؛ ولهذا جعل لهم ولأوليائهم الرجوع إلى الدنيا ؛ لانتقامهم من أعاديهم فيها
قبل عذاب العقبى .
وتدلّ على جميع ما ذكرناه النصوص
المتواترة عن العترة الطاهرة ، كما أشرنا آنفاً ، ما سوى ما مرّ في أوائل هذا
الكتاب ، وما سيأتي في بيان فضائلهم .
وكذا يقولون ، أي الإماميّة : إنّ
الأنبياء والأوصياء من لدن آدم عليهالسلام وهلمّ
جرّاً كلّهم كانوا معصومين كالملائكة المقرّبين لا يعصون اللّه ما أمرهم ،
ويفعلون ما يؤمرون ، وأنّ ما ثبت صدوره عن بعض منهم فإنّما هو ترك الأولى لا غير
ذلك ، كما حقّق في محلّه ، ككتاب تنزيه الأنبياء وغيره، ومن أراد التفصيل فليرجع إليه ،
وسيأتي فيما بَعْدُ أيضاً بعض بيان له ، مع أنّ نبيّنا صلىاللهعليهوآله مع
أوصيائه جميعاً كانوا من هذا أيضاً سالمين .
__________________
وكذا يقولون في جميع الأنبياء والأوصياء عليهمالسلام : إنّ كلّ متأخّرٍ
منهم كان منصوباً ، لا سيّما بالوصاية بنصّ المتقدّم عليه في أمر الدين ، بل
بإخبار أكثر السابقين على وفق تعيين ربّ العالمين ، وإنّ الأرض لا تخلو من حجّةٍ
معيّنٍ من اللّه عزوجل من
آدم عليهالسلام إلى
آخر العالَم ظاهراً كان أو مستوراً ، وسيأتي بيان نبذٍ من منافعه حال الستر التي
منها : بقاء أهل الأرض بوجوده ، وانتفاعهم من ثمراتها ببركته .
وبالجملة
: حيث إنّ اللّه عزوجل علم بعلمه الكامل
الأزلي كمال قابليّة الأنبياء والأوصياء ، لا سيّما نبيّنا وأوصيائه الاُمناء
صلوات اللّه عليهم أجمعين ، وتمام استحقاقهم لمزيد الالتفات إليهم ، واللطف عليهم
، وتفوّقهم على من سواهم ، والإيصال إلى أعلى مراتب القرب والمنزلة ؛ لِما وجد
فيهم من كمال الإخلاص والطاعة فعل بهم ذلك ، فاصطفاهم من بين سائر عبيده ومخلوقيه
بما ذكرناه من العطايا الجزيلة ، والمراتب الجليلة مع تفضيل بعضهم على بعض بحسب
القابليّة والاستحقاق ، وعلَّمهم جميع ما لا بُدَّ أن يعلموا ، بل زاد لبعضهم ما
به يتفاضلون .
ثمّ جعلهم حجّةً منه على الخلق ، وقدوة
أئمّة يهدون بالحقّ وبه يعدلون .
ثمّ أمر الخلائق بولايتهم ومتابعتهم
والأخذ عنهم ، وترك مخالفتهم ، لم يرض بغير ذلك ، ولم يقبل إلاّ ذلك ؛ ولهذا جعل
إطاعتهم إطاعته ، ومخالفتهم مخالفته ، حتّى أنّه جعل ذلك مناط الإيمان والكفر .
ومن البيّن الواضح أنّ هذا كلّه ممّا لا
يخرجهم عن حدّ العبوديّة ، ولا ربط له بما هو من خصائص الاُلوهيّة ، بل إنّما هم
عبيد مربوبون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ، فمن رام غير ذلك فهو عند
الإماميّة
غالٍ ، كافر ، مفتر
كذّاب ، كما أنّه كذلك من نزّلهم عن ذلك ، وهذا هو معنى قول عليّ عليهالسلام حيث قال : « هلك فيّ
اثنان : مفرط غالٍ ، ومفرط قالٍ »،
وفي رواية : « محبّ غَالٍ ، ومبغض قَالٍ ».
وليس كما توهّمه الجُهّال الذين لم
يعرفوا حالتهم ، حيث أنكروا إمامتهم ، ولم يتوجّهوا إلى ما ورد فيهم وصدر عنهم ،
فافتروا على من عرفهم حقّ المعرفة من الإماميّة ، بأنّهم يزعمون في أئمّتهم خواصّ
الاُلوهيّة ، وأنّهم الذين قال عليهالسلام :
« إنّه المفرط الغال » .
وقد بيّنّا سابقاً أنّ مدار أقوام من
العامّة على نسبة الإماميّة إلى ما هو معلوم عند كلّ عارف بحالهم أنّه محض التهمة
والفرية ، حتّى أنّه سيأتي في آخر الفصل الرابع من المقالة الأخيرة من المقصد
الأوّل ادّعاء ابن حجر في صواعقه أنّ الشيعة الإماميّة من المفرطين الوارد في هذا
الخبر ، قال : لأنّهم أفرطوا في محبّة عليّ عليهالسلام ،
حتّى جرّهم ذلك إلى تكفير الصحابة ، وتضليل الاُمّة.
ولا يخفى أنّ هذا ممّا تضحك منه الثكلى
، كما سيأتي تمامه في محلّه ، إذ ـ مع قطع النظر عن كلّ شيء ـ لا كلام في كون مورد
الخبر الغُلاة ، كما هو صريح فيما رواه أحمد بن حنبل وغيره عن عليّ عليهالسلام ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه
قال : « يا عليّ ، إنّ فيك مثلاً من عيسى عليهالسلام أبغضته
اليهود حتّى بهتوا اُمّه وأحبّته النصارى حتّى أنزلوه المنزل الذي ليس له » ، قال
__________________
الراوي : ثمّ قال عليّ عليهالسلام : «ولهذا يهلك فيّ
رجلان : محبّ يقرظني بما ليس فيّ ، ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني ».
وذلك لأنّ النصارى إنّما قالوا في عيسى عليهالسلام : إنّه إله ، وابن
إله ، ونحو ذلك ممّا هو داخل في الغلوّ ، كما قيل مثله في عليّ عليهالسلام أيضاً ، وأين هذا من
المعنى الذي ذكره ذلك الرجل ؟ وممّا ينادي بما ذكرناه أنّ عليّاً عليهالسلام قال في آخر قوله هذا
ـ على ما في بعض الروايات ـ : « ألا إنّي لست بنبيّ ولا يوحى إليّ »، الخبر ، فلا تغفل .
ثمّ إنّ الإيمان عند أهل العرفان لا
يكون إلاّ بتصديق إمام الزمان ، نبيّاً كان أو وصيّاً ، كما هو معنى قوله صلىاللهعليهوآله :
« من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة »إلاّ أنّ له مراتب كثيرة بحسب القوّة
والضعف علماً ، والنقص والكمال عملاً إلى أن ينتهي إلى ما صرّح به عليّ عليهالسلام ، حيث قال : « لو
كُشف الغِطاء ما ازددتُ يقيناً »،
وفي صريح روايات الأئمّة السادات :
__________________
« إنّ الإيمان عشر
درجات ».
وإذ قد عرفت هذا ، فاعلم أنّ الناس عند
أرباب النصوص من الإماميّة الماهرين في فهم أحاديث الأئمّة عليهمالسلام بحسب مقتضى الجمع
بينها على قسمين : مؤمن ، وغير مؤمن ، والمراد بالمؤمن في بعض موارده من يستحقّ بكمال
إيمانه الجنّة الموعود بها من اللّه عزوجل ،
وفي بعضها من أمكن في حقّه دخول الجنّة ولو لم يستحقّها ، ففي الحديث ما خلاصته :
أنّ المؤمن مؤمنان ، مؤمن صدق بعهد اللّه عزوجل ووفى
بشروطه ، وهو ممّن يشفع ولا يُشفع له ، ومؤمن كخامة الزرع يعوّج أحياناً ويقوّم
أحياناً ، وكيفما كفتهالريح
انكفأ وذلك ممّن يشفع له،
الخبر . وفي رواية : «إنّ الجنّة لو كانت مقصورة على أهل العرفان لخلت كثير من
مواضعها ، إنّ الجنّة يدخلها من يحلف بعليّ بن أبي طالب عليهالسلام ولايعرفه»، يعني : كمال المعرفة .
وبالجملة
: الظاهر أنّ الأخير هو صاحب أدنى مراتب
الإيمان ، فحينئذٍ غير المؤمن ـ الذي في مقابله ـ إنّما يكون كافراً ، أي : من هو
خالداً
__________________
في النار ، غير قابل
للجنّة بوجه ، سواء كان جاحداً ناصباً أم لا ، ولا يرد الاستشكال حينئذٍ بمن لم
يسمع بالحقّ ، فإنّه ـ كما سيظهر ـ في حكم غير المكلّفين الذين هم تحت مشيئة
اللّه تعالى ؛ ولهذا قيل : إنّ اللّه تعالى يعامل معه يوم القيامة بعلمه بإيمانه
لو كان يسمع أو بكفره .
وأمّا على الأوّل ، وهو الأكثر مورداً ،
لا سيّما في الكتاب والسنّة ، والأظهر إطلاقاً ، والأوضح معنىً ، والأضبط أفراداً
ـ فغير المؤمن ـ الذي في مقابله ـ على قسمين أيضاً :
أحدهما
: الكافر الذي يستحقّ خلود النار ، ولا
يحلّ له دخول الجنّة أبداً .
وثانيهما
: من لم يكن مثل هذا الكافر ولا مثل ذلك
المؤمن ، بل واسطة بينهما ، وفي الحديث ـ كما سيأتي ـ أنّه يُسمّى ضالاًّ ، يعني :
بالمعنى الأخصّ ، وإلاّ فكلّ كافر أيضاً ضالٌّ ؛ ولهذا قال عليهالسلام : إنّه لا مؤمن
يستحقّ الجنّة ولا كافر يستحقّ خلود النار ، بل مثل هذا من المرجون لأمر اللّه
وتحت مشيئته ، أي : أمره إلى اللّه تعالى إن شاء أدخله بعدله النار وإن شاء أدخله
الجنّة برحمته ، وقد قسّمه الإمام عليهالسلام ـ
كما سيأتي ـ على أربعة أصناف :
أحدها
: ضعفاء العقول ومن بحكمهم من الذين لا
يهتدون إلى الإيمان ؛ لعدم كمال استطاعتهم كالصبيان والمجانين والبلهاء من الرجال
والنساء ، ومن لم تصل الدعوة إليه .
وثانيها
: ضعفاء الدين ، أي : الذين دخلوا في
الدين ، لكن من غير استقراره في قلوبهم واطمئنانهم إليه ، كالمؤلّفة قلوبهم ، ومن
يعبد اللّه على
حرف ، وأشباههما ،
وقد عبّر عنهم الإمام بالمرجون لأمر اللّه ، كما سيظهر ، أي : المؤخّر أمرهم إلى
مشيئة اللّه فيهم ، وذلك من قبيل تسمية الخاصّ باسم العامّ ، وإلاّ فكلّ الضالّ
المذكور هاهنا كذلك .
وثالثها
: ضعفاء الأعمال ، أي : فُسّاق المؤمنين
الذين أذنبوا واعترفوا بذنبهم وخلطوا الصالح بالسيّء .
ورابعها
: المتساوي في الحسنات والسيّئات ، بحيث
لا يرجّح أحدهما على الآخَر .
ففي أحاديثٍ عن الصادق عليهالسلام أنّه قال ما خلاصته :
« الناس على ستّة فَرِق يؤولون كلّهم إلى ثلاث فِرَق : الإيمان والكفر والضلال ،
وهم أهل الوعيدين الذين وعدهم اللّه الجنّة والنار ، المؤمنون والكافرون
والمستضعفون الذين قال اللّه : ( إِلَّا
الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ
)
الذين ( لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً ) إلى الكفر ( وَلَا
يَهْتَدُونَ سَبِيلًا )
إلى الإيمان ( فَأُولَٰئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن
يَعْفُوَ عَنْهُمْ )والمرجون لأمر اللّه إمّا يعذّبهم
وإمّا يتوب عليهم ، والمعترفون بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخَر سيّئاً ، وأهل
الأعراف» قيل : من هم ؟ قال : « قوم استوت حسناتهم وسيّئاتهم ، فإن أدخلهم النار
فبذنوبهم ، وإن أدخلهم الجنّة فبرحمته ».
أقول
: والظاهر أنّ قوله تعالى في آخر سورة
الحمد من قوله : ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ )إلى
آخر السورة إشارة إلى هذا ، بأن
__________________
يكون معناه أرشدنا
إلى طريق كُمل الشيعة العدول الذين أنعمت عليهم في الدنيا بكمال معرفة النبيّ صلىاللهعليهوآله والأئمّة
الأوصياء من ولده ، ومتابعتهم ، وعدم مخالفتهم ، وفي الآخرة باستحقاق دخول الجنّة
ورفع درجاتهم ، ولا تجعلنا من الذين جحدوهم ، وأنكروا حقّهم ، حتّى استوجبوا سخطك
وعذابك وخلود النار ، ولا من الذين حرموا عن حقّ معرفتهم ، وكمال متابعتهم ،
ووقعوا بذلك في الضلالة وإن لم يجحدوا ولم ينكروا ولم يكفروا ، فافهم .
واعلم أنّ إطلاق لفظة الشيعة من هذا
القبيل أيضاً ، فإنّ أكثر استعمالها في عرف الأحاديث بمعنى المؤمن الكامل ، وقد
يطلق على مطلق الإماميّ ، كما هو كذلك في العرف العامّ ، وأمّا ما بمعنى مطلق من
قدّم عليّاً عليهالسلام على
الثلاثة فهو في العرف العامّ فقط .
وأمّا المسلم الحقيقي فهو عند الإماميّة
بالمعنيين اللَّذَيْن ذكرناهما في المؤمن ، ومجازاً ما يشمل سائر أهل القبلة .
وبالجملة
: مآل مذهب الإماميّة إلى وجوب إطاعة
الأئمّة الاثني عشرعليهمالسلام وجوب
إطاعة اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله ،
والإذعان بأنّ قولهم هو قول اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله
، وأنّ ما لم يخرج منهم فهو باطل إلاّ
أن يكون أصله منهم ، وأنّ كلّ ما علم أنّه منهم يجب التمسّك به ، ولا تجوز
المخالفة بوجه ، وإلاّ فليقل ، قولي في هذه المسألة قول الأئمّة عليهمالسلام وإن لم يصل إليّ ، لا
يجوز غير ذلك عندهم ولا يكون لا سيّما الرأي والقياس وأمثالهما .
وهذا خلاصة ما ذكرناه في هذا المطلب من
مذهب هؤلاء الطائفة وما تفرّدوا به من سائر الطوائف كلّهم ، فيجب ملاحظته حتّى
يتبيّن على المنصف اللبيب أنّهم كما ذكرنا ، هم الطائفة المحقّة والفرقة الناجية ،
وأنّهم
المراد بقول رسول
اللّه صلىاللهعليهوآله :
« لا تزال طائفة من اُمّتي ظاهرين على الحقّ لا يضرّهم خذلان من خذلهم » كما مرّأيضاً ، وأنّه لأجل دخول مثل هؤلاء في
إجماع جميع طوائف الاُمّة قطعاً ، قال النبيّ صلىاللهعليهوآله
: « لا تجتمع اُمّتي على الخطأ »كما بيّنّاه مجملاً ، وسيأتي في محلّه
مفصّلاً ، ومن أراد تفصيل أقوالهم فعليه بتتبّع سائر الكتب مع ما سيأتي في هذا
الكتاب من بيان بعضٍ من ذلك .
ومع هذا كلّه ، لا يخفى أنّ هؤلاء
الطائفة أعذر عند اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله يوم
القيامة في كلّ شيء ممّا اعتقدوه وتمسّكوا به من سائر الطوائف ، مع قطع النظر عن
سائر الأدلّة .
فإنّه إذا قيل لهم : من أين لكم جواز
اتّخاذ هذه العقائد ، وبأيّ وجه حكمتم بصحّتها وتركتم غيرها ؟
قالوا : إنّك أرسلت نبيّاً وكتاباً ،
وقلت فيه : ( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ
وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا )فتمسّكنا بقوله ، ثمّ ممّا أتانا الرسول
جزماً وقطعاً أنّه قال : « إنّي تارك فيكم الثقلين اللَّذَيْن إن تمسّكتم بهما لن
تضلّوا : كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي »،
الخبر .
فتمسّكنا بعده بهما وانتخبنا هؤلاء
الاثني عشر ؛ للنصّ الثابت
__________________
من الرسول صلىاللهعليهوآله على
هذا العدد ، ولما تبيّن لنا من دعواهم الإمامة والوصاية ، وتوصية كلّ واحد ونصّه
على الآخَر .
مع ما وجدنا فيهم من الفضائل والكمالات
، حتّى الكرامات والمعجزات الدالّة على صدق دعواهم ، ومن اتّفاق المخالف والمؤالف
والصديق والعدوّ بل تصريح أهل سائر المذاهب جميعاً على كونهم أعلم وأصلح وأصدق
وأوثق من غيرهم ، ومع ما وجدنا في غيرهم من النقص في العلم والعمل ، والحسب والنسب
، لا سيّما بالنسبة إليهم ، ومن الاختلاف والعمل بالآراء وغير ذلك ممّا وجدناه
مذموماً في الكتاب غير معمول بهفي
زمن النبيّ صلىاللهعليهوآله مع
ما كان ثابتاً عن النبيّ صلىاللهعليهوآله من
أنّ الحقّ في واحدٍ من المذاهب ، وما كان ظاهراً من تفرّد هؤلاءالجماعة عمّا سواهم جميعاً بأشياء ،
منها : ترك العمل بالرأي الذي كان هوأساس
الاختلاف والمعمول عند غيرهم جميعاً ؛ ولهذا تمسّكنا بهم وصدّقناهم وقدّمناهم
واتّبعناهم .
فإن قيل : من أين تبيّن لكم أنّهم قالوا
ما وصل منهم إليكم ؟
قالوا : من أخبار آلاف من الرجال
الراوين عنهم بواسطة وبغير واسطة ، بحيث تعدّى عن مرتبة التواتر بأضعاف مضاعفة ،
مع كون كثير منهم ممّن شهد له جماعة بالتوثيق حتّى من أهل الخلاف عليهم ، وكذا من
الكتب الكثيرة جدّاً التي كُتبت في زمانهم ومن بعدهم المشتملة على ما نُقل
__________________
عنهم ، لا سيّما ممّا
ينادي بصحّة صدورذلك
وصدقه وصحّته من فصاحة عبارته ، وموافقته لكتاب اللّه وسنّة رسوله صلىاللهعليهوآله ،
ومطابقته لما نقل عنهم مخالفوهم وغير ذلك من الاشتمال على ما فيه الحِكَم العظيمة
، والإخبار بما سيأتي وبما كان في الأزمنة السابقة والكتب السماويّة ما هو مسلّم
عند أهلها ، بل معلوم أنّه ممّا لم يقدر عليه غيرهم .
وبالجملة
: صار مجموع ما نُقل عنهم بحيث لو قيل
بكذبه وجب أن يقال بكذب ما نُقل عن غيرهم بالطريق الأولى ؛ لما بينهما من التفاوت
بحسب الكثرة والقرائن مثل البحر والقطرة .
وأمّا غير الإماميّة فإذا قيل لهم :
لأيّ شيء تركتم متابعة هؤلاء الجماعة الذين مع كونهم من العترة الذين كنتم مأمورين
بالتمسّك بهم ، كانوا عندكم مسلّمين بالتفوّق علماً وعملاً وحسباً ونسباً وغيرها
على غيرهم ، ولم يكونوا يخبروكم إلاّ من كتاب اللّه وسنّة رسوله صلىاللهعليهوآله وتمسّكتم
بمَنْ لم يكن بهذه المثابة من المعتمدين على الآراء والأهواء المذمومة الباعثة على
الاختلاف والتفرّق المنهيّ عنه صريحاً ؟ وهلاّ تفحّصتم عمّا كان عند هؤلاء الجماعة
، كما تفحّص الإماميّة ، فرجّحتم تفحّص أحوال غيرهم والتمسّك بها على اقتفاء آثار
هؤلاء المسلّم عندكم بل عند كلّ أحد حسن حالهم ، وصحّة أقوالهم مع كون غيرهم
مقدوحين من جهات عند غيركم ، ولا أقلّ من كون ذلك الغير مختلفاً فيه وهؤلاء
متّفقاً عليهم ؟ ومن أيّ جهة حكمتم بكذب جميع أصحاب هؤلاء ونقلة أخبارهم في كلّ ما
نقلوا عن هؤلاء رأساً ولمّا تطلّعوا على مقالهم أصلاً ، فضلاً عن تفحّص أحوالهم اللازم
__________________
عليكم أيضاً ؛ إذ لا
أقلّ من كونهم فرقة من الاُمّة المختلفة ، وممّا يمكن أن يكون الحقّ معهم ؟
فحينئذٍ ، لا شكّ أنّ مآل جوابهم ليس
إلاّ إلى أنّا عرفنا جلالة العترة وما ورد فيهم ، لكن لمّا وجدنا أكثر الصحابة
وتابعيهم والاُمراء والمشايخ على ترك متابعة العترة ، وتقديم غيرهم عليهم وإن
انجرّ إلى التعبّد بالرأي والاختلاف في الدين ، فاقتدينا بهم وتبعناهم في هذا
الأمر ؛ اعتماداً على كثرتهم ، ثمّ اقتفينا من بينهم في سائر العقائد والأعمال
طريقة الشيخ الذي كان عليها آباؤنا أو اُستادنا أو سلطاننا أو أكثر الناس ، فإن
كان باطلاً فعلى رقابهم ، فافهم واللّه الهادي .
الباب الخامس
في
بيان ما فيه نوع امتحان أيضاً ممّا خصّ اللّه به هذه الاُمّة ، وهو : أنّ اللّه عزوجل
لمّا فضّل حبيبه محمّداً صلىاللهعليهوآله على جميع النبيّين ،
وأرسله رحمةً للعالمين ، وأراد أن يكون دينه ناسخاً لسائر الأديان ، وباقياً إلى
يوم الدين ، رفع بفضل إحسانه عن اُمّته عذاب الاستئصال الذي كان قد يصيب الاُمم
الماضين ، وأنّه لمّا كان ذلك مقتضياً لعدم تصريحه بطائفة من أوامره العظام التي
كان يعلم بعلمه الكامل أنّه إن صرّح بها وحصلت المخالفة ، ولو من بعضهم استوجبوا
عذاب الاستئصال الذي لم يكن يريده لهم ، جعل في بيان تلك الأوامر نوع إجمال ،
وذكرها على سبيل التعريض دون التصريح ، موضّحاً لها على اُولي البصائر بالقرائن
الظواهر ، وجعل سبب بقاء من خالف فيها ولو مع التعريض وجود الطائفة المحقّة التي
تلقّوها بالقبول الذي به يتحقّق معنى ما ورد في هذه الاُمّة من عدم اجتماعهم على
الخطأ والضلال ، كما حقّقناه عن قريب .
وفيه
ذكر ما يوضّح أنّ أمر إمامة عليّ عليهالسلام كان من هذا القبيل ،
بل هو في ملاحظة هذه العلّة هو الأصل الأصيل .
اعلم أنّ كلّ من تأمّل صادقاً في أكثر
ما نُقل من سيرة رسول اللّه صلىاللهعليهوآله مع
أهل زمانه ، حتّى عامّة أصحابه ، وتدبّر في مضامين كثير من الآيات القرآنيّة ،
تبيّن له تبياناً واضحاً أنّ مدار النبيّ صلىاللهعليهوآله
كان على الصبر والمداراة في أكثر
المواضع التي يجد فيها مخالفةً بل كراهةً من قوم بجهة من
الجهات ، كما ذكرنا
جُملاً من ذلك في الفصل الرابع من الباب الثالث ، ويأتي مفصّلاً في المقالة
التاسعة من المقصد الثاني ، وكفى في ذلك ما مرّ من سكوته عن كتابة الكتاب الذي
أراد أن يكتب في مرضه لمّا رأى معارضة بعض أصحابه ، وكذا غير ذلك ممّا سيأتي في
المقالة المذكورة ، وكذا سلوكه مع المنافقين وأشباههم ، وكمال جهده في عدم بروز
بواطن أحوالهم ، بحيث لم يكاشفهم ولم يتعرّض لتعيين أشخاصهم وإلزامهم بتصحيح بواطن
عقائدهم المستلزم للقتل أو النفي أو نزول العذاب عليهم عند المخالفة .
حتّى أنّه كان لم يزل يصبر على أذاهم ،
ويحشّمهم ويقرّبهم ويسمع كلامهم ويُجمل معهم بالكلام والمواجهة ونحو ذلك ، كما هو
صريح قوله تعالى : ( وَإِن يَقُولُوا
تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ) ، وقد قال أيضاً : ( وَلَوْ
نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي
لَحْنِ الْقَوْلِ )وأمثال ذلك ممّا ينادي بأنّ اللّه
تعالى لم يكن يريد مكاشفتهم أيضاً دفعاً للتعذيب في الدنيا ، حتّى أنّه لمّا أمره
اللّه تعالى في الأواخر بترك مراعاتهم قال له : ( وَاهْجُرْهُمْ
هَجْرًا جَمِيلًا )، ومنعه عن الصلاة عليهم إذا مات أحد
منهم، ونحو ذلك ممّا يدلّ
على عدم إرادة المكاشفة معهم ما داموا معاشرين معه .
ألا ترى أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله لم
يدعُ عليهم ولا على غيرهم من الكفّار بالاستئصال ، حتّى على أهل نجران يوم
المباهلة ، ورضي عنهم بالمصالحة ،
__________________
ولمّا طلب الفهري العذاب
أمره أن يخرج من بين المسلمين ؛ ولهذا أنزل اللّه تعالى : ( وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ )،
( وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ
عَظِيمٍ )ونحو ذلك ، وكلّفه بالستر والتأليف
والعفو ، والإعراض عن الاعتراض ، كقوله تعالى : ( فَاعْفُ عَنْهُمْ )وقوله
: ( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ )
.
وقوله : ( وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )وأمثالها
من الآيات التي مضى بعضها في الفصل الذي أشرنا إليه .
ولا يخفى أنّ هذا كلّه يقتضي أن لا
يصرّح بشيء يعلم من حالهم عدم قبولهم إيّاه ، وإجهارهم بالمخالفة والمعاداة
والارتداد بإلزامه صريحاً عليهم ، لا سيّما في أمر الإمامة لعليّ عليهالسلام ؛ لكمال عداوة أكثرهم
له ، كما صرّح به المخالفون أيضاً ، وكفى فيه حكاية الفهري ، وقوله تعالى : ( وَاللَّهُ
يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) وغير ذلك .
وممّا يدلّ على ما ذكرناه صريحاً ما
رواه جمع في جملة احتجاج أمير المؤمنين عليهالسلام على
الزنديق الذي جاء إليه مستدلاًّ بآيات من القرآن متشابهة تحتاج إلى البيان ،
فقالوا : إنّه كان من جملة سؤاله أنّه قال : إنّي أجد اللّه يقول : ( وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ )وقد
أرى مخالفي الإسلام معتكفين على باطلهم ، غير مقلعين عنه ، وأرى غيرهم من أهل
__________________
الفساد مختلفين في
مذاهبهم ، يلعن بعضهم بعضاً ، فأيّ موضع للرحمة العامّة لهم ، المشتملة عليهم ؟.
فقال أمير المؤمنين عليهالسلام : « إنّ اللّه تبارك
اسمه إنّما عنى بذلك أنّه جعله سبيلاً لإنظار أهل هذه الدار ؛ لأنّ الأنبياء قبله
بُعثوا بالتصريح لا بالتعريض ، فكان النبيّ صلىاللهعليهوآله
منهم ، إذا صدع بأمر اللّه وأجابه قومه
سلِموا ، وإن خالفوه هلكوا بالآفة التي كان نبيّهم يتوعّدهم بها من خسف ، أو قذف،
أو رجف ، أو غير ذلك من أصناف العذاب التي هلكت بها الاُمم الخالية .
وإنّ اللّه علِم من نبيّنا ومن الحجج
في الأرض الصبر على ما لم يطق مَنْ تقدّمهم من الأنبياء الصبر على مثله ، فبعثه
اللّه بالتعريض لا بالتصريح ، وأثبت حجّة اللّه تعريضاً لا تصريحاً بقوله في
وصيّته : من كنت مولاه فهذا مولاه» و هو منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا
نبيّ بعدي ؛ إذ ليس من خليقة النبيّ صلىاللهعليهوآله ولا
من شيمته أن يقول قولاً لا معنى له ، فلزم الاُمّة أن تعلم أنّه لمّا كانت النبوّة
والأُخوّة موجودتين في خلقة هارون ، ومعدومتين فيمن جعله النبيّ صلىاللهعليهوآله بمنزلته
، أنّه قد استخلفه بمنزلته على اُمّته كما استخلف موسى هارون عليهماالسلام ، حيث قال له : ( اخْلُفْنِي
فِي قَوْمِي )ولو قال لهم رسول اللّه صلىاللهعليهوآله :
لا تقلّدوا الإمامة إلاّ فلاناً بعينه وإلاّ نزل بكم العذاب ، لأتاهم العذاب وزال
باب الإنظار والإمهال »،
الخبر .
وحاصله : أنّ المراد بالرحمة في الآية
إنّما هو الحفظ عن عذاب الاستئصال في الدنيا الذي كان في اُمم سائر الأنبياء ، حيث
كان في علم اللّه
__________________
تعالى أن تحمّل
نبيّنا صلىاللهعليهوآله وأوصيائه عليهمالسلام ، وسعة خلقهم وصبرهم
أزيد من سائر الأنبياء ، بحيث لم يرتضوا أبداً باستئصال قومهم ؛ لكي يهتدوا عقـب
ذلك هم أو ذرّيّتهم ولو بعد حين ؛ ولهذا لم يبعثه اللّه بالتصريح الذي يستوجب
مخالفته عذاب الاستئصال ، كما كان في زمن سائر الأنبياء ، حتّى أنّه كان كذلك
حكاية الخلافة ؛ ولهـذا لم يقـل كـذا ، بـل قال كذا وكذا .
فتأملّ جدّاً حتّى لا تتوهّم تنافي هذا
لما هو ثابت عند الإماميّة من كون إمامة عليّ عليهالسلام بالنصّ
الجليّ ؛ إذ من البيّن أنّه لا يلزم من نفي هذا النوع الخاصّ من التصريح نفي مطلق
التصريح ؛ لجواز تحقّقه في ضمن نوع مشتمل على التأكيد والتهديد تعريضاً .
وبالجملة
: المنفي هو قوله ، هذا فلان معيّن
للخلافة وإنّما هو إمامكم بعدي فلا تقلّدوها غيره وإلاّ فتكفرون وتعذّبون ،
والثابت هو قوله : « من كنت مولاه فعليٌّ مولاه ، اللّهمّ وال من والاه وعاد من
عاداه »ونحو
ذلك من النصوص التي تظهر صراحتها في المطلوب بأدنى عناية بحسب ملاحظة القرائن ،
واقتضاء المقام ، وغير ذلك .
فافهم حتّى تعلم أنّ ما ذكرناه سابقاً
من حكمة الامتحان أيضاً تقتضي البيان بهذه الكيفيّة دون ما مرّ من ذلك النوع من
التصريح ، ومعلوم أنّ اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله لم
يفعلا إلاّ ما فيه الحِكَم العديدة .
والظاهر أنّ ما ذكرناه في هذا المقام
كافٍ لبيان هذا المرام ، ومن أراد
__________________
الزيادة فعليه بتتبّع
ما مرّ ويأتي من المواضع المناسبة لذكر موضّحاته ، لا سيّما في الختام ، فإنّها
كثيرة ، واللّه الهادي ، وليكن هذا آخر ما أردنا إيراده في المقدّمة .
وقد جعلناه المجلّد الأوّلمن ثلاث مجلّدات كتابنا هذا الموسوم
بضياء العالمين في بيان إمامة الأئمّة المصطفين وفضائلهم ، وسيأتي في المجلّد
الثانيبيان المقصد الأوّل
منه بمقالاته وفصوله في ذكر أحوال النبيّ صلىاللهعليهوآله
والأئمّة عليهمالسلام ودلائل
الإمامة وفضائل هؤلاء الأئمّة عليهمالسلام وسائر
ما أردناه في شرح أصل الدليل الذي بيّنّاه وجعلناه أصلاً ، وذكرناه مجملاً في أوّل
فاتحة كتابنا هذا.
وأصل المراد وإن كان ما في المجلّد
الثاني ، إلاّ أنّ ما في هذا المجلّد رافع لعمدة شبهات أهل الضلال والجُهّال الذين
لم يدركوا حقيقة الحال كما هو ظاهر .
وقد فرغنا من تسويده في شهر شعبان من
سنة أربع وثلاثين ومائة بعد الألف الهجريّة ، حامداً مصلّياً مسلماً راجياً من
اللّه عزوجل أن
يجعله خالصاً لوجهه الكريم ، موجباً لرضائه إنّه رؤوفكريم رحيم .
والحمد للّه ربّ
العالمين.
__________________
فهرس الموضوعات
الباب الرابع
في بيان الامتحان باختلاف الطبائع
وتباين الآراء وتفاوت الأطوار والأفكار ٥
الفصل الأوّل: في بيان عموم تغاير
الآراء في الأنام وذمّ الاختلاف.................... ٧
نبذ من الآيات القرآنية......................................................... ٧
نبذ من الأحاديث النبويّة..................................................... ١٠
حديث : اختلاف أصحابي لكم رحمة.......................................... ١٩
الفصل الثاني: في بيان منشأ التفرّق
والاختلاف.................................. ٣٣
الاعتماد على التخيّلات العقلية من
إغواء الشيطان............................... ٣٤
نبذ من الآيات والأحاديث الناهية عن
اتّباع الظن والرأي.......................... ٣٨
انحصار الحجّيّة في محكمات الكتاب
وثوابت السنّة............................... ٧٢
علم الأنبياء لدنّيٌّ وليس من الرأي
والقياس....................................... ٨٠
ما ذكره علماء العامّة في ذمّ القياس
ورجوع بعضهم عنه............................ ٨٠
حرمة تفسير القرآن بالرأي.................................................... ٩١
مبنى الاختلافات : إضلال الشيطان............................................ ٩٢
شبهة الشيطان واعتراضه على الملائكة.......................................... ٩٣
توهّم الأشاعرة في تفسير «فأنا اللّه
الذي ... لا اُسأل عمّا أفعل».................. ٩٤
سبب التكليف في دار الدنيا.................................................. ٩٥
أساس الشبه : شبهة إبليس................................................... ٩٨
الأمر بالسجود إنّما كان لنور محمّد
وعلي عليهماالسلام
في صلب آدم................... ١٠٠
تمرّد الشيطان
حاصل من العمل بالقياس والرأي................................. ١٠١
الحسد والتكبّر من عوامل تمرّد الشيطان
وعدم سجوده........................... ١٠١
انتقام الشيطان من آدم وبنيه بإغوائهم
وإضلالهم بالقياس......................... ١٠٢
اختلاف الناس في الدين على مسلكين :...................................... ١٠٤
المسلك الرحماني وخواصّه.................................................... ١٠٤
المسلك الشيطاني وميزاته.................................................... ١٠٥
التعليل والاستحسان من إيحاءات الشيطان.................................... ١٠٨
الغلوّ والتشبيه من مفاسد الشيطان............................................ ١٠٩
الاستكبار من إيحاءات إبليس................................................ ١١٠
أثر المنافقين في إشاعة شبهة الشيطان......................................... ١١٢
مخالفة الصحابة لرسول اللّه صلىاللهعليهوآله واتّباعهم في ذلك
قياس الشيطان................ ١١٥
ركاكة التوجيهات للمنع من الوصيّة........................................... ١٣١
جيش أُسامة وتوجيه التخلٌّف عنه............................................ ١٤١
حكاية السقيفة وتبريراتها.................................................... ١٥٣
أحقية الإمام عليّ عليهالسلام بالخلافة............................................. ١٥٥
انحصار العترة في عليّ عليهالسلام وأولاده........................................... ١٦٣
وجه الشبه بين السقيفة وقياس الشيطان....................................... ١٦٣
ردُّ تمحّلات أصحاب السقيفة على نحو
الإجمال................................ ١٦٥
الفصل الثالث: في بيان أنّ دأب الأنبياء
وأتباعهم التسليم لأمر اللّه تعالى.......... ١٨٣
نبذ من الآيات والروايات.................................................... ١٨٤
الروايات الدالّة على انحصار علوم
الأنبياء والأوصياء من اللّه...................... ١٩١
الأنبياء وأوصياؤهم مجبولون على العلم
والخير................................... ١٩٤
نبذ من الروايات الواردة في علم النبيّ
وأهل بيته عليهمالسلام
........................... ١٩٨
الفصل الرابع: في بيان نبذ ممّا ورد في
اختلاف الأُمم السابقة بعد أنبيائها........... ٢١٥
حديث : «ستفترق أُمتي . . .»............................................. ٢١٥
الخطأ في تفسير قوله صلىاللهعليهوآله : «هم ما أنا عليه
وأصحابي»........................ ٢١٩
توضيح المراد من قوله صلىاللهعليهوآله : «هم ما أنا عليه
وأصحابي»....................... ٢٢٢
اختصاص النّجاة والحقّ في طائفة واحدة....................................... ٢٢٤
أساس الاختلاف الحاصل بين الطوائف
والمذاهب............................... ٢٢٦
اختلاف اليهود وبعض فِرَقِهم................................................ ٢٢٧
اختلاف النصارى وبعض فِرَقِهم.............................................. ٢٣١
الفصل الخامس : في بيان اختلاف هذه
الاُمّة إلى فِرَقٍ أكثر من الأُمم السابقة...... ٢٣٥
انقسام الأُمّة الإسلامية إلى طائفتين :......................................... ٢٣٧
الرأي والقياس للقائلين (بإمامة أبي بكر
وعمر بعد رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
).............. ٢٣٧
بطلان القياس وحرمته للقائلين بإمامة
عليّ عليهالسلام
بعد رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
............. ٢٣٩
خلاصة أحوال الفِرَق الإسلامية ومنشأ
تسميتها................................ ٢٤٠
تقمّص البعض اسم : أهل السنّة والجماعة..................................... ٢٤٢
مخالفة من انتحل لقب : أهل السنّة
والجماعة للسنّة............................ ٢٤٣
بيان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهالسلام من هم أهل السنّة.................... ٢٤٥
المراد من السنّة عند منتحلي لقب : أهل
السنّة................................. ٢٤٩
لقب الرافضة والمراد منه..................................................... ٢٥٠
القدريّة والمرجئة............................................................ ٢٥٣
الاختلاف في المراد من المرجئة................................................ ٢٥٥
الاختلاف في المراد من القدريّة............................................... ٢٥٨
المطلب الأوّل : في بيان الفِرَق
المعتمدة على الرأي والقياس....................... ٢٦١
المبحث الأوّل
: في بيان فِرَق القدريّة ـ المعتزلة ـ............................. ٢٦١
الواصليّة.................................................................. ٢٦٤
الهذليّة.................................................................... ٢٦٦
النّظاميّة................................................................... ٢٦٦
الخابطيّة................................................................... ٢٦٧
الحديثيّة................................................................... ٢٦٧
الإسكافيّة................................................................. ٢٦٨
الجعفريّة................................................................... ٢٦٨
البِشْرِيّة................................................................... ٢٦٩
المُرداريّة................................................................... ٢٦٩
المعمريّة................................................................... ٢٦٩
الثماميّة................................................................... ٢٧٠
الهشاميّة.................................................................. ٢٧٠
العباديّة................................................................... ٢٧١
الجاحظيّة.................................................................. ٢٧١
الخياطيّة................................................................... ٢٧٢
الجبّائيّة................................................................... ٢٧٢
الهاشميّة................................................................... ٢٧٢
انتحال فِرَق القدريّة لقب الشيعة............................................. ٢٧٤
المعتزلة وهم : التفويضيّة والقدريّة
والعدليّة...................................... ٢٧٥
المبحث الثاني : في بيان فِرَق الأشاعرة
والصفاتيّة والمجبّرة والمشبّهة............. ٢٧٦
الجهميّة هم الجبريّة الخالصة.................................................. ٢٧٨
بعض ما يرد على الجبريّة.................................................... ٢٧٩
النجّاريّة أصحاب الحسين بن محمّد
النجار..................................... ٢٨٥
الضراريّة : أصحاب ضرار بن عمرو........................................... ٢٨٦
الأشعريّة ومجمل آرائهم...................................................... ٢٨٧
الكراميّة : أصحاب محمّد بن كرام............................................ ٢٩٠
المبحث الثالث : في بيان فِرَق الخوارج والوعيديّة........................... ٢٩٥
المحكّمة هم : الخوارج....................................................... ٢٩٥
الأزارقة : أصحاب نافع
بن الأزرق............................................ ٢٩٦
النجدات : أصحاب نجدة
بن عامر........................................... ٢٩٧
البيهسيّة أصحاب
الهيصم بن جابر........................................... ٢٩٨
العجاردة : أصحاب
عبدالكريم بن عجرد...................................... ٢٩٩
الميمونيّة ـ قسم من
العجاردة ـ أصحاب ميمون بن خالد.......................... ٣٠٠
الحمزيّة : أصحاب حمزة
بن أدرك............................................. ٣٠٠
الخلفيّة : أصحاب خلف
الخارجي............................................ ٣٠٠
الحازميّة : أصحاب
حازم بن عليّ............................................. ٣٠١
الأخنسيّة : أصحاب
أخنس بن قيس......................................... ٣٠١
السنانيّة : أصحاب
سنان الخارجي........................................... ٣٠١
الأباضيّة : أصحاب
عبداللّه بن أباض......................................... ٣٠٢
الحارثية : أصحاب حارث
الأباضي........................................... ٣٠٢
اليزيديّة : أصحاب يزيد
بن أنيسة............................................ ٣٠٣
الأصفريّة : أصحاب
زياد بن الأصفر......................................... ٣٠٣
فِرَق المرجئة................................................................ ٣٠٤
اليونسيّة : أصحاب
يونس النميري........................................... ٣٠٤
العبيديّة : أصحاب
عبيد المُكْتِب............................................. ٣٠٤
الغسّانيّة : أصحاب
غسّان الكوفي............................................ ٣٠٤
الثوبانيّة : أصحاب
ثوبان المرجئ............................................. ٣٠٥
الغيلانيّة : أصحاب
أبي مروان بن غيلان...................................... ٣٠٥
التومنيّة : أصحاب أبي
معاذ التومني.......................................... ٣٠٦
الصالحيّة : أصحاب
صالح بن عمرو.......................................... ٣٠٦
المبحث الرابع : في بيان بقيّة الفِرَق من أصحاب الرأي..................... ٣٠٧
الكيسانيّة وفِرَقها........................................................... ٣٠٨
المختاريّة : أصحاب
المختار.................................................. ٣٠٩
الحنّانيّة : أصحاب
حنّان بن يزيد............................................. ٣١٠
الكربيّة : أصحاب أبي
كرب الضرير.......................................... ٣١١
الهاشميّة : أصحاب أبي
هاشم................................................ ٣١١
انقراض فِرَق
الكيسانيّة...................................................... ٣١٤
البتريّة في مقابل
الجاروديّة.................................................... ٣١٦
السليمانيّة : أصحاب
سليمان بن جرير....................................... ٣١٦
الصالحيّة : أصحاب
الحسن بن صالح......................................... ٣١٧
المطلب الثاني : في بيان فِرَق الشيعة غير الإماميّة الاثني عشرية.................... ٣٢٠
الزيديّة وفِرَقهم............................................................. ٣٢٠
الجاروديّة : أصحاب
أبي الجارود ـ سرحوب ـ................................... ٣٢٠
الناووسيّة : أصحاب
عبداللّه بن ناووس........................................ ٣٢٥
الإسماعيليّة
وشُعَبِهم......................................................... ٣٢٦
الفطحيّة.................................................................. ٣٣٣
الديباجيّة................................................................. ٣٣٤
الواقفيّة................................................................... ٣٣٥
القائلون بإمامة أحمد
بن موسى بن جعفر عليهالسلام................................. ٣٣٨
القائلون بإمامة محمّد
بن الإمام الهادي عليهالسلام................................... ٣٣٩
من ادّعى بأنّ الإمام
المنتظر هو الإمام الهادي عليهالسلام ............................ ٣٣٩
من ذهب إلى إمامة جعفر
أخ الإمام العسكري عليهالسلام........................... ٣٤٠
من ادّعى بطلان
الإمامة بعد الإمام العسكري عليهالسلام............................ ٣٤٢
الغُلاة وفِرَقهم.............................................................. ٣٤٢
السبائيّة : أصحاب عبداللّه بن سبأ........................................... ٣٤٣
المخمّسة.................................................................. ٣٤٤
العلبائيّة................................................................... ٣٤٤
الخطّابيّة................................................................... ٣٤٤
المطلب الثالث : في بيان أحوال الشيعة
الإماميّة................................ ٣٤٧
سبب تسميتهم بالإماميّة والاثني عشرية....................................... ٣٤٧
خلاصة مذهبهم........................................................... ٣٤٨
ترك الرأي والقياس والاقتصار على الكتاب
والسنّة.............................. ٣٤٨
التقيّة والمداراة شعار الطائفة المحقّة............................................. ٣٧٢
خلاصة عقيدة الإماميّة في معرفة ذات
وصفات اللّه عزوجل....................... ٣٧٨
افتراءات عقائديّة على مذهب الإماميّة........................................ ٣٩٦
خلاصة عقيدة الإماميّة في الجبر
والتفويض..................................... ٤١٢
عقيدة الإماميّة في القضاء والقدر
والإرادة والمشيئة............................... ٤١٦
رأي الإماميّة في التفويض.................................................... ٤٢٨
خلاصة عقيدة الإماميّة في البداء............................................. ٤٣٢
السبب في تأكيد الأئمة عليهمالسلام على مسألة البداء............................... ٤٣٤
خلاصة عقيدة الإماميّة في أحوال النبيّ
والأئمّة صلوات اللّه عليهم................. ٤٤١
الكفر والإيمان في رأي الإماميّة............................................... ٤٤٨
حجة الإماميّة الاثني عشرية.................................................. ٤٥٣
الباب الخامس
في بيان نوع امتحانٍ خصّ اللّه به هذه
الأُمّة.................................... ٤٥٧
فهرس الموضوعات.......................................................... ٤٦٣
|