
بسم الله الرحمن
الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة على خير خلقه
محمد، وآله الطيبين. قد سألتم أيدكم الله ، املاء مختصر في أصول الفقه، يحيط بجميع
____________________________________________
بسم الله الرحمن
الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة على
سيدنا ونبينا ، وعدتنا في شدتنا محمد ، وعلى سيد الأوصياء ، وسند الأولياء ، أمير
المؤمنين ، وآلهما الطيبين الطاهرين، ولاسيما حجة الله على العالمين ، وأمينه في
أرضه وسمائه ، الحجة ابن الحسن ، الامام المنتظر ، القائم بالحق . رزقنا الله
تعالى ادراك دولته ، وحسن ملازمته ، به و بآبائه عليهمالسلام .
أما بعد : فيقول الغني بربه عما سواه ،
خليل بن الغازي القزويني ، تجاوز الله تعالى عن سياتهما ، وآتاهما كتابهما
بيمينهما . ان أكثر اخواننا في الدين من أهل زماننا ، قد رغبوا عن كتب أصول الفقه
، لاصحابنا الامامية رضوان الله عليهم ، زعماً منهم أن بعض كتب المعاصرين ، كالشرح
العضدي
أبوابه، على سبيل
الايجاز والاختصار . على ما تقتضيه مذاهبنا ، وتوجبه اصولنا . فان من صنف في هذا
الباب ، سلك كل قوم منهم
____________________________________________
للمختصر الحاجبي
، أسد تحريراً بل أتقن حجة من كتب أصحابنا .
واني كنت برهة من الزمان مشغولا
بقرائته، وبرهة اخرى مشغوفاً بمدارسته وترويجه ، بالتكلفات كما هو عادة المدرسين ،
في دفع الاشكالات المتوجهة على الكتب المقروءة عليهم ، وكان توجه الاخوان اليه
باعثاً على رواج كثير من أباطيل النواصب و برهانهم . حتى صار ذلك قادحاً في ايمان
بعض من ضعفاء العقول ، بحيث لا يشعر ، وكبرهان النواصب على صدق مقالاتهم.
ثم تنبهت ، فرأيت ان صرف طلب العلم من
أصحابنا وفقنا الله تعالى و اياهم للتقوى، عن مثل هذه الطريقة من أكرم المثوبات .
فعلقت هذه الحواشي على كتاب العدة في اصول الفقه ، لشيخ الطائفة الامامية محمد بن
الحسن الطوسي ، جزاه الله تعالى جزاء السابقين ، وبسطت بعض الحواشي بحيث يصلح لان
يجعل رسالة مفردة ، ولا سيما الحاشية الأولى
. افصاحاً عن بعض سر وجوب الائتمام بأهل البيت عليهمالسلام ،
وافضاحاً لمن لم يصف آثارهم عليهم السلام كائناً من كان .
وقصدت في أكثر المباحث التي يقع الخلاف
فيها بينه وبين المختصر
__________________
المسلك الذي اقتضاه
اصولهم، ولم يعهد لأحد من أصحابنا في هذا المعنى، الا ما ذكره شيخنا أبو عبد الله
(۱) رحمهالله ، في المختصر
____________________________________________
أو متعلقاته الى رد
المخالف ، اما بتقرير واف يظهر به على المنصف اللبيب بطلان المخالف . واما ينقله
بقيل ، والتصريح بما يرد عليه .
هذا مع ان الحق الصريح في الاصولين ،
والفقه ، والتفسير ، انما هو في الكتب الموثوق بها في أحاديث أهل البيت عليهمالسلام .
فمن وفقه الله تعالى لحسن ملازمتها ، لا
عبرة له كثيراً بغيرها من الكتب . ولكني أسففت اذ أسفوا ، وطرت اذ طاروا ، وأعوذ
بالله من التورط في الجدال والمراء لغير المغفور في الدين ، والاحتجاج فيه بما لا
يطابق كلام أهل الذكر الأئمة عليهمالسلام من
أهل البيت عليهمالسلام .
فقد روي في الكافي، في باب النهي عن
الكلام في الكيفية
، عن أبي
__________________
الذي له في أصول
الفقه ولم يستقصه . وشذ منه أشياء يحتاج الى استدراكها، وتحريرات غير ما حررها
وان سيدنا الاجل المرتضى (١) أدام الله
علوه، وان كثر في
____________________________________________
عبيدة الحذاء انه قال: قال لي أبو
جعفر عليهالسلام :
يا زياد، اياك والخصومات فانها تورث الشك، وتحبط العمل، وتردى صاحبها. وعسى أن
يتكلم بالشيء لا يغفر له . الحديث
وفيه في باب الاضطرار الى الحجة، عن يونس بن يعقوب ، عن
__________________
أماليه ، وما يقرأ
عليه ، شرح ذلك . فلم يصنف في هذا المعنى شيئاً يرجع اليه
وقلتم ان هذا فن من العلم ، لابد من شدة
الاهتمام به ، لان
____________________________________________
أبي عبد الله عليهالسلام في حديث طويل، فقلت:
جعلت فداك، اني سمعتك تنهى عن الكلام وتقول: ويل لاصحاب الكلام يقولون: هذا ينقاد،
وهذا لا ينقاد. وهذا ينساق وهذا لا ينساق. وهذا نعقله، وهذا لانعقله. فقال أبو عبد
الله عليهالسلام :
( انما قلت: ويل لهم ان تركوا ما أقول، وذهبوا الى ما يريدون). الحديث
وقد وردت تشديدات في النهي عن أمثال ذلك
في الدين، عن أهل البيت المعصومين عليهمالسلام ،
بطرق متعددة، مذكورة في كتب أصحابنا في الحديث وتوكلت على الله في
الفتق والرتق، وهو حسبي ونعم الوكيل .
__________________
الشريعة كلها مبنية
عليه (۱) . ولا
يتم العلم بشيء منها من دون احكام اصولها (۲) ومن لم يحكم اصولها
فانما يكون حاكياً
____________________________________________
(۱) قوله (لان الشريعة
كلها مبنية عليه الخ). اشارة الى دليل على وجوب شدة الاهتمام بعلم اصول الفقه،
ليتبين به فائدته والحاجة اليه .
وتحرير الدليل: ان علم المكلف بجواز كل
ما يصدر عنه، جوازاً شرعياً وأصلياً بالفعل انما هو بعلمه بجميع الواجبات الشرعية
، الواصلية بالفعل، و تميزها عما عداها . وعلمه بجميع المحظورات الشرعية الواصلية
بالفعل و تميزها عما عداها. وهما موقوفان على العلم بقواعد كلية غير معلومة، الا
بشدة الاهتمام بها .
اذ ليس هذان العلمان ضروريين ، لا
منحصراً معلوماتهما في جزئيات متناهية. وهذه القواعد، مسماة باصول الفقه ، فيجب
العلم بها وجوباً شرعياً، واصلياً ، وواقعياً
فالمراد بـ ( الشريعة) في كلام المصنف
الاحكام الشرعية الواصلية .
والمراد بـ (كلها ) جميع أقسامها ،
وجزئياتها، وانما جعله العلة مع ان العلة بناء الوجوب والحظر، وتمييز كل منهما عما
عداه عليه . لأن العلم بهما مع التمييز، لا يمكن عادة بدون العلم بالباقي .
فمبناهما مبني للجميع . ثم الايجاب
الكلي هنا مبني على الغالب ، لان بعض الواجبات والمحظورات معلوم قبل العلم باصول
الفقه اما بعلم الكلام أو بغيره كما يظهر من بيان الحاجة .
(۲) والمراد بـ (احکام
اصولها) بكسر الهمزة . العلم بالاصول . فان احكام الشيء في الاصل، اتقانه ومنعه عن
احتمال تطرق الفساد. والضمير في اصولها لـ ( الشريعة) .
ومقلداً ، (۱) ولا يكون عالماً .
وهذه منزلة يرغب أهل الفضل عنها.
____________________________________________
(۱) والمراد بكونه
(حاكياً ومقلداً) أن يعمل مثل عمل الغير بدون أن يعلم أنه لا يستحق العقاب عليه. و
أهل الفضل أهل الدين والتقوى . والرغبة عن هذه المنزلة أي الحكاية والتقليد، انما
هي لما ذكرنا من المقدمة الضرورية للدين بل للتكليف .
وهذا الدليل يدل على وجوب العلم بمسائل
اصول الفقه، وانه لا يجوز الاكتفاء فيها بالظن. ولذا ذكروا في حدها العلم وجعلوها
فناً من العلوم المدونة كما قال المصنف : هذا فن من العلم وقال : (من دون احكام
اصولها ) ومن لم يحكم اصولها وصرح المصنف وغيره، بأن المبتغي بهذه الاصول ، العلم.
كما سيجيء في آخر الفصل الاول .
لا يقال: كثيراً ما يستدل المصنف وغيره
على مسائل الاصول بظاهر القرآن وهو لا يفيد العلم بجواز التأويل، والتخصيص فيه،
وان بذل الجهد، ولم يطلع عليه .
وهذا يدل على جواز الاكتفاء فيها بالظن
كما قيل : من انه لا يشترط القطع في الاصول . لان السلف أثبتوا حجية الاجماع
والقياس بالظواهر من غیر نکیر، (انتهى) .
وهذا يعارض دليلكم، ولذا قيل : ان
اشتراط القطع في الاصول وعدمه على كل منهما دلائل واعتراضات مشكلة من الجانبين،
سواء استدل المستدل على عدم اشتراطه، أو على اشتراطه فالقوة للمعترض لضعف الادلة ،
(انتهى) .
لانا نقول: هذا خلط بين الاحكام
الأصولية الواصلية، والاحكام الاصولية الواقعية وهو كشبهة تورد في المشهور على كون
الفقه علماً، وكون طريقه في الغالب
وأنا مجيبكم الى ما
سألتم عنه، مستعيناً بالله وحوله وقوته وأسأله
____________________________________________
ظاهر القرآن، ونحوه .
وقد بينا الفرق بينهما، بيان ذلك ، ان
عمل المكلف بما علم أن وجوبه الواقعي مقتضى ظاهر القرآن، ولم يجد له تأويلا، أو
تخصيصاً، مع بذل الجهد في الطلب واجب، واصلي ثابت وجوبه سواء كان من موضوعات مسائل
الاصول أو الفروع بدليل قطعي، بل هو من ضروريات الدين .
ولذا لم يذكر المصنف في هذا الكتاب
دليلا عليه، مع بناء بعض الاستدلالات عليه .
فاذا اقتضى ظاهر القرآن الوجوب الواقعي
للعمل بخبر الواحد مثلا، كان قولنا : العمل بخبر الواحد واجب بالوجوب الواقعي، غير
مقطوع به ، و غير داخل في مسائل اصول الفقه . وكان قولنا : العمل بخبر الواحد واجب
بالوجوب الواصلي مقطوعاً به بعد بذل الجهد ، وفقد معارض للظاهر. وهو من جملة مسائل
اصول الفقه.
وقد ذكرنا ان نتيجة المسائل الاصولية ،
الاحكام الفقهية الواصلية لا الواقعية ، وقس على ذلك غير الوجوب من الاحكام . وقد
ثبت أيضاً بدليل قطعي أنه يجب العمل بخبر الواحد ، الجامع للشروط المقررة في اصول
الفقه .
فكان الوجوب الواصلي للعمل بخبر الواحد
دل على أن الأمر يقتضي وجوب المأمور به معلوماً قطعاً، لكنه لم يثبت عند أكثر
الأصوليين قالوا: لا يجوز العمل بخبر الواحد ، في مسائل اصول الفقه . لان غاية ما
يفيده الظن (انتهى) .
أن يعين على ما يقرب
من ثوابه . ويبعد من عقابه .
____________________________________________
ولا ينافي ذلك، أن يفيد خبر الواحد في
مسائل الفروع العلم، والاصوب أن محمولات مسائل اصول الفقه، اقتضاء الاحكام. كما في
قولهم : الامر يقتضي وجوب المأمور به. وسيجييء .
وحينئذ نقول: هذا خلط بين الاقتضاء الواقعي
، والاقتضاء الواصلي، و المراد بهما ظاهر بالمقايسة، وعلى هذا يندفع أيضاً ما قيل
: على الاستدلال بظاهر القرآن، على حجية الاجماع، من أنه لا يصح . لان التمسك
بالظاهر انما يثبت بالاجماع، ولولاه لوجب العمل بالدلائل المانعة من اتباع الظن،
فيكون اثباتاً للاجماع بما لا يثبت حجيته الا به فيصير دوراً .
واذا سلكنا في الاعتراض هذا الطريق، لا
انه اثبات لاصل كلي بدليل ظني، فلا يجوز. لم يرد علينا القياس، نقضاً للاحتجاج
عليه بالظواهر اذ لا يلزم دور (انتهى) .
لان جواز التمسك بظاهر القرآن في مسائل
الاصول والفروع ثابت ، ضرورة من الدين أو باجماع خاص معلوم تحققه، وافادته القطع.
وان لم يعلم حجية كل اجماع، ولا حجية كل اجماع بلغ المجمعون فيه عدد التواتر، ولا
الاجماع المختلق ، الذي ادعاه في دليله المختار عنده على حجية الاجماع من حيث أنه
اجماع من الاجماع على القطع بتخطئة المخالف، وتقديمه على القاطع كما سيتضح في فصل
في ذكر اختلاف الناس في الاجماع انشاء الله تعالى .
وقوله ( واذا سلكنا الخ) فيه مع منافات
ظاهرة لما نقلنا عنه من أن المعترض مستظهر من جانبي اشتراط العلم في الأصول وعدمه
، ولما ذكره في جواب
من استدل بالظاهر على
وجوب العمل بخبر الواحد ، ومن استدل به على المنع منه ، من أنه ظاهر في الاصل .
فلا يجدي أن التمسك بظاهر القرآن قطعي كما ذكرنا دليل مناط التمسك به الظن ، بأنه
مراد الله تعالى .
فانه قد يكون العمل واجباً مع ان الحكم
الواقعي ليس بمعلوم ، ولا مظنون فليست الادلة المانعة من اتباع الظن مانعة بظاهرها
منه كما سنذكره عند قول المصنف : (وأما القياس والاجتهاد فعندنا انهما ليسا
بدليلين) .
وبعد التنزل عن جميع ذلك نقول : قوله
ولولاه لوجب العمل بالدلائل المانعة من اتباع الظن غير محتاج اليه في الاعتراض
لانه يكفي هنا فقد الدليل على جواز التمسك بالظاهر، وانما ذكره زيادة على المتن
للاستظهار، وهو فاسد .
لان العموم المستفاد من الدلائل المانعة
ان كان قطعياً بالنسبة اليها ، مع قطع النظر عن هذا الاجماع كما هو الحق وسنبينه،
فكان تخصيصها بالاجماع ممتنعاً لاستلزامه تعارض القطعين، وان كان ظنياً فكيف يجب
العمل بالدلائل المانعة على تقدير انتفاء هذا الاجماع وهي ظاهرة . ولم يثبت بعد
جواز التمسك بالظاهر .
لا يقال: نختار الشق الأول ، نقول : لما
جعل الاجماع المذكور التمسك بالظاهر من قبيل القطعيات ، لم يشمله عموم الدلائل
المانعة حتى يحتاج الى تخصيص . كما سيذكره المصنف في (فصل في أن القياس في الشرع
لا يجوز استعماله ) .
أو نختار الشق الثاني ، ونقول :
أولا : ان ما ذكرتم ، انما يتم لو كان
المقصود ان يثبت بالظاهر جواز التمسك به. اما اذا كان المقصود أن يثبت بالظاهر حظر
التمسك به كما فيما نحن
فيه ، فلايتم ، لان
حاصل الكلام حينئذ يرجع الى قياس قطعي جامع لشروط الانتاج بأن يقال : لو جاز
التمسك بشيء من الظواهر في مسائل اصول الفقه ، لجاز التمسك بهذه الدلائل المانعة
فيها ، لانها من أقوى الظواهر . ولو جاز التمسك بهذه الدلائل لم يجز التمسك بشيء
من الظواهر. ينتج لوجاز التمسك بشيء من الظواهر ، لم يجز التمسك بشيء من الظواهر ،
ومعلوم ان ما يستلزم نقيضه باطل .
وثانياً أنه يجوز أن تكون الدلائل ظنية
في أنفسها ، وتصير بانضمام انتفاء ذلك الاجماع قطعية .
لانا نقول في الجواب عن الأول : انه ان
اريد به آن عموم الدلائل ، انما هو بالنسبة الى ظني ، ليس جواز التمسك به قطعياً ،
فهو تعسف كما يظهر من تتبع الدلائل .
وان اريد به أن قطعية جواز التمسك
بالظاهر، بجعل الحكم المدلول للظاهر قطعياً ، فهو خلط للحكم الواصلي بالواقعي، كما
سنحققه ثمة انشاء الله تعالى.
على ان هذا غير مراد ، وليس نظره اليه .
لانه حينئذ يرجع الاعتراض المرضي عنده ، الى الغير المرضي عنده . وأيضاً يصير دفع
الاعتراض الغير المرضي عنده ، بما ذكره من النقض بالقياس، للاحتجاج عليه بالظواهر
ظاهر البطلان
أيضاً قد صرح غير مرة موافقاً للماتن ،
في مباحث خبر الواحد بأن هذه الدلائل ليست قطعية ، وخولفت للاجماع المخصص لها
أحياناً .
وفي الجواب عن أول الثاني :
أولا : انا نعود فنقول : ان هذا القياس
وان كان مفيداً للقطع بالعموم ، فتخصيصه بالاجماع مستلزم لتعارض القطعيين .
قال المحقق الحلي في رسالته في أصول الفقه في بحث خبر الواحد،
في نظير هذا المقام : «لا يقال : لولا الاجماع لقلنابه لانا نقول: حيث منع الاجماع
من اطراد هذه الحجة دل على بطلانها لان الدليل العقلي لا يختلف بحسب مظانة (انتهى)
.
وذكر مثل ذلك في بحث القياس أيضاً .
والا فلم يثبت بعد جواز التمسك بالظاهر ، وان عدتم عدنا .
وفيه انه خلط للحكم الواصلي بالواقعي ،
لانه يجوز في البرهان العقلي على الحكم الواصلي، اخراج بعض موارده، بل كلها عن
كونه مورداله ببرهان آخر، بخلاف البرهان على الحكم الواقعي ، وما نحن فيه من الأول
.
وثانياً : لا نسلم كون الدلائل المانعة
من اتباع الظن من أقوى الظواهر في المنع من العمل بالظاهر والذي مرقبل التنزل منع
أصل الظهور .
وثالثاً : لوسلم فلا نسلم أنه يستلزم
صدق الشرطية الأولى، لان المتنازع فيه ظاهر، لم يعارضه ما يساويه، أو ما يكون أقوى
منه. وهذه الدلائل قد عارضها استلزامها للنقيض، لا يقال : لازمها أعم من النقيض
فلتخصص بما عدا النقيض ويكفي فيما نحن فيه .
__________________
فانا نقرر القياس هكذا : لو جاز التمسك
بأمثال هذا الظاهر ، لجاز التمسك بالدلائل المانعة من التمسك بالظاهر فيما عداها
من الظواهر، لان هذه الدلائل من أقوى الظواهر فيه. ولوجاز التمسك بالدلائل المانعة
فيه ، لم يجز التمسك بأمثال هذا الظاهر .
لانا نقول : حينئذ يكفي لنا في منع لزوم
صدق الشرطية الأولى الفرق بانه لا يحتاج أمثال هذا الظاهر الى التأويل ويحتاج
الدلائل المانعة اليه .
وعن ثاني الثاني : أولا : ان الاجماع
كاشف عن مستند اما دليل أو امارة كشف الاجماع عن أنه لاخطاء فيها .
فلو ارتفع الاجماع لم يرتفع مستنده فلا
تصير الدلائل قطعية ، اللهم الا أن يراد بارتفاع الاجماع انتفائه مع انتفاء ما
يصلح لان يكون مستنداً له ، ويلتزم أن القائل مانع في الاستظهار أيضاً فيكفيه
احتمال القطعية حينئذ .
وثانياً : أن لهذه الدلائل مدلولا
ودلالة، والاجماع مقولها من حيث الدلالة ومضعف لها من حيث المدلول والقطعية
والظنية متعلقان بها من حيث الدلالة فبارتفاع الاجماع لا يتقوى الدلالة حتى يصير
قطعياً .
ويمكن دفع ما قبل التنزل سوى منافات
ظاهر قوله (واذا سلكنا) لما نقل عنه بانا نعلم من الخارج أن مقصود المستدل التمسك
بالظاهر في الحكم بان العمل بالاجماع واجب بالوجوب الواقعي، ليتوصل به الى الحكم
بالاحكام الواقعية في المسائل الفقهية بالاجتهاد. لكن يرد على القائل، وحينئذ ان
الاجماع لم ينعقد على جواز التمسك بالظاهر فيما ذكرتم وسنبينه عند قول المصنف
(وأما القياس والاجتهاد فعندنا انهما ليسا بدليلين ) ونقول هنا لو تحقق اجماع لبلغ
الينا مستنده .
قال: صاحب الفوائد المدنية رحمهالله تعالى :(۱): وأقول بعد نطق كثيرة
من الآيات الشريفة بالمنع عن العمل بالظن في نفس الاحكام الالهية ، لوظهر نص من
النبي صلىاللهعليهوآله المخصص
لتلك الآيات بالاصول ، لتواتر الينا ، بل الى انقراض أهل الدنيا لتوفر الدواعي على
أخذ مثل ذلك، وعلى ضبطه ونشره و لم يظهر باتفاق المتخاصمين، فعلم انتفائه في
الواقع (انتهى) .
ويمكن أيضاً دفع ما بعد التنزل بان قول
القائل : ولولاه لوجب العمل بالدلائل المانعة من اتباع الظن، محتاج اليه في
الاعتراض لانه لدفع أن يتوهم انه لا حاجة في التمسك بالظاهر الى الاجماع ، لانه
مركوز في العقول انه يجوز عقلا ، الحكم بأي شيء كان بسبب ما يفيد الظن به . كما هو
المتعارف في المخاطبات . كقولنا زيد حي في بلد كذا ، ونحو ذلك، مالم يدل دليل
يساويه .
أو يكون أقوى على المنع منه نظير ما
قالوا: من أن الاصل في بعض الاشياء الاباحة، مالم يرد شرع على المنع منه .
فنقول: نختار الشق الثاني، ونقول: قولكم
ولم يثبت بعد جواز التمسك بالظاهر ، باطل لانه وان لم يثبت شرعاً ، لكنه ثابت عقلا
. والمقصود بالعمل بالدلائل المانعة، ترك الحكم بالظن، لا الحكم بحظر الحكم بالظن،
حتى يتوجه أن هذه الدلائل ضعيفة، لأنها قد عارضها استلزامها للنقيض .
لكن يرد على القائل. حينئذ ان هذه
الدلائل قطعية كما سننبه عند قول المصنف (وأما القياس والاجتهاد الى آخره .
__________________
وأبدأ في أول الكتاب
فصلا يتضمن ماهية اصول الفقه وانقسامها وكيفية ترتيب أبوابها (۱) وتعلق بعضها ببعض ،
حتى ان الناظر اذا نظر فيه وقف على الغرض المقصود بالكتاب (۲)
____________________________________________
واما الاعتراض على المستدل بأن كل من
قال بحجية الاجماع ، قائل بأنه حجة قطعية. فالتمسك بالظاهر فيه ، يستلزم جعل
الظاهر دليلا على أقوى منه فيمكن الدفع ، لان له أن يقول : انما استدل به على أصل
الحجية ، لا على القطعية أيضاً
(۱) قوله (أبدأ في أول
الكتاب فصلا يتضمن ماهية اصول الفقه، وانقسامها وكيفية ترتيب أبوابها البدء،
كالمنع الانشاء، والاحداث . وذكر في أول الكتاب، للاشعار بأن كلا من الفصول التي
بعده أيضاً بدوي، ولكنه في وسط الكتاب، أو في آخره فيمكن أن يكون التشبيه في قوله
تعالى في سورة الانبياء: كما بدأنا أول خلق نعيده للدلالة على ان هذه
الاعادة بعد فناء الدنيا بأسرها، كما في نهج البلاغة، في خطبة أولها : «ما وحده من
كيفه» قوله عليهالسلام :
وان الله سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده لاشيء معه. كما كان قبل ابتدائها الى
قوله : «
ثم يعيدها بعد الفناء ». وللرد على الفلاسفة
الزنادقة في قولهم اعادة المعدوم بعينه محال .
(۲) قوله (وتعلق بعضها
ببعض حتى ان الناظر اذا نظر فيه ، وقف على الغرض المقصود بالكتاب) أي نسبة بعضها
الى بعض بالتقديم والتأخير. وهو عطف تفسير لترتيب أبوابها .
__________________
وتبين من أوله الى
آخره . والله تعالى الموفق للصواب (۱) .
فصل
في ماهية اصول الفقه
وانقسامها وكيفية ترتيب أبوابها (٢)
اصول الفقه هي أدلة الفقه (۳) .
____________________________________________
(۱) قوله (وتبين من أوله
الى آخره والله تعالى الموفق للصواب) التبين عرفاً : العلم الحادث عن دليل . كما
سيجيء في (فصل في ذكر حقيقة البيان) و مفعوله محذوف أي : والضمير المحذوف للكتاب ،
أو للغرض المقصود منه .
(۲) قوله قدس سره فصل في
ماهية اصول الفقه ، وانقسامها ، وكيفية ترتيب أبوابها أي حدها اللفظي مضافة
ولقباً. ولنمهد لتوضيح كلام المصنف في الحدين .
مقدمه : هي أنه معلوم من الخارج ، أن
لفظ اصول الفقه منقول من معنى اضافي الى اللقبية . المسائل موضوعها ذلك المعنى
الاضافي. فيجب تعيين ذلك المعنى الاضافي ، وبيان القيد المعتبر معه ، في المعنى
اللقبي ، حتى يتضح المعنى اللقبي حق الاتضاح
(۳) قوله (اصول الفقه هي
أدلة الفقه) هذاحد اصول الفقه ، باعتبار المعنى الاضافي ، المنقول عنه .
والاصول: جمع أصل ، وهو ما يبنى عليه
شيء، واليه يرجع الراجح ، والسابق الزماني، والذاتي ، والقاعدة الكلية ، والدليل ،
وغير ذلك . لانها أقسامه ، واذا أضيف الى العلوم أو المسائل ، كما فيما نحن فيه ،
فالمتبادر منه
عرفاً الدليل .
والفقه لغة : الفهم (١) أي العلم المفضى
الى العمل بمقتضاه ، فالتفقه التفهم أي أخذ الفقه من الفقيه . ومنه قوله تعالى في
سورة التوبة : « فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا
قومهم اذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون (۲) ضمير منهم، وضمير لعلهم يحذرون .
لمنافقي الاعراب المذكورين سابقاً بقوله : «الاعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا
يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله» (۳) .
الحدود : اللوازم والمرافق ، وما أنزل
الله على رسوله ، الآيات البينات المحكمات، الناهية عن اتباع الظن في نفس أحكام
الله تعالى، وعن الاختلاف فيها عن ظن المشتملة على الوعيد بالنار على مخالفتها .
فحدود ما أنزل الله على رسوله المسائل
التي لا يمكن العمل بها الامع العلم بها ، كوجوب سؤال أهل الذكر في كل مجهول احتيج
اليه .
والفقه اصطلاحاً : الفهم في الدين . أي
فيما أنزل الله على رسوله، وفي حدوده . فالتفقه اصطلاحاً : التفهم في الدين، هذا
في المصدر السابق . وأما بعد ذلك ، فالفقه اصطلاحاً : مسائل تحمل فيها الاحكام
الشرعية العملية ، على غير التصديق . والذي يكشف عن حقيقة هذا الحد ، ان محمولات
المسائل اما من قبيل الاحكام ، كالوجوب والندب والاباحة ، وغير ذلك من الاقسام .
واما من غيره ، كالتماثل والاختلاف
والاحكام اما مأخوذة من حيث انها متلقات
من الشارع ، وهي الاحكام الشرعية . واما غير مأخوذة من هذه الحيثية ، وهي الاحكام
العقلية ، المحمولة
__________________
في مسائل فن الاخلاق
، والاداب ، والصنايع .
والاحكام الشرعية اما عملية ، يقصد
بحملها على موضوعها الكلي ، أولا معرفة أحكام الاعمال الشخصية ، ليعمل على وفقها .
نحو قولنا : حج البيت واجب على من استطاع اليه سبيلا . فان المقصود به (أولا)
معرفة حكم حج زيد في سنة كذا مثلا ، وعمله به .
واما اعتقادية، يقصد بحملها أولا معرفة
أحكام الاعمال الكلية ، أي الاحكام العملية المذكورة سابقاً . فمعرفة أحكام
الاعمال الشخصية مقصودة بها .
(ثانياً) وبواسطة ، وهي محمولات مسائل
اصول الفقه ، نحو قولنا : كل مأمور به واجب ، بشرط عدم الصارف . فان المقصود به
أولا اعتقاد وجوب الصلاة بشرط كذا ، ثم بواسطته معرفة وجوب صلاة زيد في وقت كذا ،
وعمله بها .
والتحقيق أن محمولات مسائل أصول الفقه
هي اقتضاء الاحكام ، كما في قولهم : الامر يقتضي وجوب المأمور به ، وما مر من
المثال ، تعبير عن ذلك ينبغي أن يرجع اليه .
والاحكام العملية، اما محمولة على
التصديق، بمعنى المطوع القلبي الذي يعبر عنه في الفارسية : (بگرویدن) و (گردن
نهادن) نحو وجوب التصديق بالله تعالى ، وبالنبي والامام عليهمالسلام . مما لا يثاب تار كه
على عبادة أصلا ، لان ترك تصديق واجب ، يستلزم عدم سوء سيئة ، وعدم سرور حسنة وهو
كفر ، وهي أحكام اصول الدين .
واما محمولة على غير التصديق ، وهي
الاحكام الفقهية . واشتقاق الفقيه من الفقه ، بهذا المعنى ، من قبيل النسبة ،
كالتامر ، واللابن، أي من علم قدراً صالحاً من الفقه .
ويقال : لمن علم مسألة من الفقه ، فقيه
. كما يظهر من اطلاقات الفقيه في أحاديث الائمة عليهمالسلام .
وقد يطلق الفقه ، على العلم بالمسائل ،
كسائر أسماء العلوم المدونة . وهو بعيد في لفظ اصول الفقه ، اذ الدليل انما يضاف
غالباً الى المعلوم ، لا العلم. ولذا قال المصنف : ما لا يتم العلم بالفقه دون ما
لا يتم علم الفقه .
واشتقاق الفقيه حينئذ باعتبار القيام ،
ويكفي قيام العلم بالبعض في كونه فقيهاً مطلقاً . وفقيها فيه كما مر آنفاً . لا
يقال طريق الفقه في الغالب ظواهر القرآن ، او أخبار الاحاد ، أو نحو ذلك . وهي لا
تفيد العلم بالحكم ، فكيف يجعل الفقه معلوماً ، أو علماً ؟ لانا نقول : هذا خلط
بين الحكم الواصلي و الواقعي .
ومرادنا بالحكم في حد الفقه ، أعم من
الواصلي والواقعي . والعلم بالحكم الواصلي يحصل من ظواهر القرآن ونحوها ، ولا
ينافي ذلك عدم العلم بالحكم الواقعي ، ولا عدم الظن به أيضاً.
واعلم ان مذهب المصنف ، ان العامي
المستفتي في مسألة ، لا يصير فقيهاً فيها ، ولا عالماً بها بقول المفتي . وسنبين
حقيقة الحال عند قول المصنف (و نبين أيضاً ما عندنا الخ) .
وقيل : الفقه العلم بالاحكام الشرعية
الفرعية عن أدلتها التفصيلية بالاستدلال واورد ان كان المراد البعض ، لم يطرد
الدخول المقلد . وان كان الجميع لم ينعكس ، لثبوت لا أدري.
واجيب بالبعض ويطرد لان المراد بالادلة
الامارات . وبالجميع وينعكس لان المراد تهيوئه للعلم بالجميع (انتهى) .
__________________
وفيه ان أخذ الفرعية في حد الفقه
المأخوذ في حد اصول الفقه مضافاً ، من قبيل أخذ المضايف في حد مضايفه . وأيضاً كون
المراد بالادلة محض الامارات ، من بعيد الارادة ، ولا سيما مع ذكر العلم .
واذا اول بان العلم ، علم بالحكم الشرعي
الواصلي ، والدليل دليل على الحكم الشرعي الواقعي . فهذا يزيده قبحاً آخر .
وأيضاً لو كان المراد بالادلة الامارات
، لما كان لزيادة (بالاستدلال) لاخراج
علم جبرئيل ، والرسول صلىاللهعليهوآله الام
وجه .
ثم مراده بالمقلد العامي باعتبار علمه
بالاحكام الشرعية الفرعية الضرورية للدين مثلا ، بقرينة الجواب ، اذكون المراد
بالادلة الامارات ، مناط لدفع النقض به .
وأما المتجزي ، فمناط دفع النقض به
انتفاء حصول العلم عن الامارات اذ حصول الامارات عنده معلوم للناقض أيضاً .
وظاهر الجواب الأول انه من جانب من تجوز
التجزي في الاجتهاد، و ان أمكن تطبيقه على نفي التجزي، والتوقف أيضاً. والجواب
الثاني مبني على نفي التجزي، ويؤيد ذلك أن هذا القائل من المتوقفين في مسألة التجزي هذا .
وقيل : في شرحه اورد على حد الفقه ، ان
المراد بالاحكام ان كان هو البعض، لم يطرد، لدخول المقلد ، اذا عرف بعض الاحكام
كذلك، لانا لا نريد به العامي، بل من لم يبلغ درجة الاجتهاد، وقد يكون عالماً
يمكنه ذلك مع انه ليس بفقيه اجماعاً . وان كان هو الكل لم ينعكس لخروج بعض الفقهاء
عنه لثبوت
__________________
لا أدري ممن هو فقيه
بالاجماع .
نقل ان مالكاً سئل عن أربعين مسألة
فقال في ست وثلاثين منها لا أدري .
والجواب انا نختار ان المراد البعض،
قولكم لا يطرد الدخول المقلد فيه ممنوع. اذ المراد بالادلة الامارات، ولا يعلم
شيئاً من الاحكام كذلك الا مجتهد يجزم بوجوب العمل بموجب ظنه .
وأما المقلد فانما يظنه ظناً ولا يفضي
به الى علم ، لعدم وجوب العمل بالظن عليه اجماعاً .
أو نختار أن المراد الكل، قولكم لا
ينعكس لثبوت لا أدري. قلنا: ممنوع ولا يضر ثبوت لا أدري. اذ المراد بالعلم التهيؤ
له، وهو أن يكون عنده ما يكفيه في استعلامه، بأن يرجع اليه فيحكم وعدم العلم في
الحالة الراهنة، لا ينافيه الجواز أن يكون ذلك لتعارض الادلة، أو لعدم التمكن من
الاجتهاد في الحال، لاستدعائه زماناً (انتهى) .
وفيه أنه غفلة عما ذكرنا من المراد،
وفيه أيضاً ان الأولى أن يبدل ( أو ) من قوله (هنا أو لعدم التمكن). وفي نظيره في
بحث تجزي الاجتهاد بـ (الواو) وليكون المجموع سنداً واحداً، ويوافق المتن ثمة، فان
ظاهر (أو) ان المتوقف عند تعارض الادلة في مسألة داخل في الفقيه باعتبارها
فيلزم أن لا يكون كل فقيه في مسألة
مجتهداً فيها ، اذ لاظن له حينئذ فيها أصلا، سواء حصل له العلم بالتنجيز، أم لا.
مع انه وموافقيه أخرجوا الاحكام
__________________
الشرعية الفرعية
القطعية عن الفقه لحفظ تساوق الاجتهاد والفقه
اللهم الا ان يخص عدم التمكن من
الاجتهاد، بما يكون لاجل دقة المسألة وخفائها في نفسها، دون الخفاء لتعارض الادلة
.
ثم انه يمكن تقرير كلامه في الايراد. والجواب
على ارادة البعض بوجهين :
الأول: أن يقال حاصل الايراد ان الفقه
لو كان ذلك ، لكان من لم يجمع، مع انه بلغ درجة الاجتهاد فقيها اجماعاً. أو كان
النزاع في فقاهة المتجزي لفظياً. ومعلوم انه ليس فقيهاً اجماعاً ، ولا النزاع
لفظياً .
وحاصل الجواب أنه انما يلزم كونه فقيهاً
اجماعاً على تقدير كون النزاع معنوياً. لو كان ظنه مفضياً الى العلم اجماعاً. ولم
يجمع على انه يفضي به الى علم، لعدم الاجماع على وجوب العمل عليه بالظن. فـ
(اجماعاً) في الموضعين قيد للمنفي، لا للنفي. وهذا بعيد، ومحتاج الى تقديرات كما
قررنا .
الثاني : ان يقال مراده فى الايراد ،
النقض بالمتجزي ، المتوقف في التجزي ، والنافي له . وانه غير فقيه بالاجماع . ممن
ذهب الى تجزي الاجتهاد وغيره. وحينئذ فـ (اجماعاً) قيد للنفي في الموضعين. ولا
حاجة الى تقدير .
وقيل في الحاشية: قوله (مع انه ليس
بفقيه اجماعاً) القول بانه اجتهادفي بعض الاحكام، عند من يقول بتجزيه يفضي الى
معنى ذلك الاجماع. أو كون بعض المجتهدين غير فقيه ، مع فساد ما ذكر في الجواب ،
عند ذلك القائل (انتهى) .
وفيه أنه غفلة عما ذكرنا من التقرير .
وكيف ينسب الى الشارح دعوى الاجماع، على عدم فقاهة المتجزي مطلقاً، من جانب
المورد. وليس في عبارته
فاذا تكلمنا في هذه
الادلة (١)
____________________________________________
تصريح به، مع ان
الشارح من المتوقفين في مسألة التجزي (٢). وكذا احتماله من جانب المجيب، من
أبعد البعيد .
(۱) قوله (فاذا تكلمنا.
الخ) هذا شروع فى بيان حد اصول الفقه لقباً. وحاصل الحد، مسائل يبحث فيها عن أحوال
أدلة الفقه من حيث هي أدلته اجماعاً . والفاء في (فاذا) فصيحة في جزاء شرط مقدر .
أي اذا كان معنى اصول الفقه، مضافة أدلة الفقه . فاذا تكلمنا في أحوال هذه الأدلة
، كما هو مقصود الأصولي .
ومعنى اصول الفقه لقباً، كما مهدناه .
فوجب أن يعتبر في معناه اللقبي ، الذي هو الكلام في أحوال هذه الادلة قيدان ،
كلاهما في الموضوع . أي الادلة
الأول: قيد الحيثية، أي أن يكون الكلام
في أحوال أدلة الفقه، من حيث هي أدلته بأن يكون الكلام فيما تقتضيه هذه الادلة، من
ايجاب وندب واباحة وغير ذلك من الاقسام.
الثاني: قيد الاجمال، أن يكون الكلام في
أحوال هذه الادلة، على طريق الجملة ، بأن يكون موضوع كل مسألة منها ، وصفاً جامعاً
لجملة من الادلة ، يكون ذلك الوصف جهة دلالتها .
وتوجيه ترتب الجملة الجزائية الكبرى على
الشرط المقدر . انه اذا لم يعتبر القيدان في المعنى الاضافي الذي هو منقول عنه ،
جزء المعنى اللقبي الذي هو منقول اليه لانه موضوعه، فوجب اعتبارهما على حده في حد
المعنى
__________________
فقد نتكلم فيما
تقتضيه من ايجاب (۱)
____________________________________________
اللقبي. والا يلزم أن
لا يكون حده لقباً مانعاً .
أما في القيد الأول فظاهر . وأما في
القيد الثاني، فلما أشار اليه المصنف بقوله (وليس يلزم الخ) .
ويحتمل ان يعتبر القيدان أو الاول فقط
أو الثاني فقط في محمولات المسائل .
(۱) قوله (فيما تقتضيه
الخ) الموصول اما عبارة عن محمولات المسائل فالمراد في الاحوال التي تقتضيها أدلة
الفقه ، وهي الايجاب. والمراد بكون الاحوال مما اقتضته الادلة أن تكون عوارض ذاتية
لها ، كما هو المقرر في محمولات مسائل العلوم المدونة .
والمراد بالايجاب ، هو وصف الادلة ، أي
اقتضاء الوجوب وأما عبارة عن متعلق المحمولات ، فالمراد في اقتضاء ما تقتضيه أدلة
الفقه وهو الايجاب .
والمراد بكون الايجاب مما اقتضته الادلة
، أن تكون الادلة دالة عليه والمراد بالايجاب ما هو وصف الحاكم ، وهو الله تعالى .
أي فعل الوجوب .
ولا يخفى ان نحو الايجاب أو اقتضائه ،
ليس عارضاً ذاتياً ، لادلة الفقه . الا اذا قيدت بقيد الحيثية ، أي أدلة الفقه من
حيث هي أدلته . أو من حيث هي صالحة لان تكون أدلته ، فهذا اشارة الى اعتبار قيد
الحيثية في الموضوع .
وانما لم يقل من وجوب، بدل من ايجاب .
لان الوجوب ليس محمولا على دليل لامواطاة ، ولا اشتقاقاً . أو للاشارة الى ما قيل
من أن الايجاب والوجوب متحدان بالذات ، متغايران بالاعتبار .
وندب واباحة وغير ذلك
من الاقسام (١) على طريق الجملة (۲) و ليس يلزم عليها أن تكون (۳) الادلة الموصلة الى
فروع الفقه (۴) الكلام
على ما في اصول الفقه (۵) لان
هذه الادلة (۶) أدلة
على تعيين المسائل (۷) والكلام
في الجملة غير الكلام في التفصيل (۸)
____________________________________________
(۱) قوله (وندب الخ)
الندب هنا ، مصدر مبني للفاعل، وكذا الاباحة ، و كذا ما اشير اليه بقوله (وغير ذلك
من الاقسام) .
(۲) قوله (على طريق
الجملة على نهجية ، والظرف متعلق بقوله (نتكلم). أو (تقتضيه) أو (ايجاب) . والأخير
ألصق بقوله ( والكلام في الجملة الخ)
(۳) قوله (وليس يلزم
عليها الخ) على بنائية ، والظرف متعلق بليس .
(٤) قوله ( الادلة الموصلة )
تقديره الكلام في الادلة الموصلة ، كقولهم قوله تعالى : ( أقم الصلاة ) (۹) يقتضي وجوب الصلاة ،
ونحو ذلك من خصوصيات الادلة ، على خصوصيات الاحكام .
(٥) قوله (الكلام على ما في اصول
الفقه) على نهجية ، و(ما) الموصولة عبارة عن النهج والطريق والعائد محذوف والمراد
الكلام على نهج هو في اصول الفقه . أي في مسائل اصول الفقه .
(٦) قوله لان هذه الادلة أي
الادلة الموصلة الى فروع الفقه .
(۷) قوله ( أدلة على
تعيين المسائل) أي على تفصيل مسألة مسألة من الفقه .
كما هو مذكور في كتب الفقهاء
الاستدلالية .
(۸) قوله (والكلام في
الجملة غير الكلام في التفصيل) أي الكلام في نحو الايجاب الجملي، الغير المقيد
بموضوع مسألة معينة من الفقه ، غير الكلام في
__________________
وليس المراد بذلك، ما
لا يتم العلم بالفقه الا معه (۱) لانه لو كان كذلك (۲)
____________________________________________
الايجاب التفصيلي ،
المقيد بموضوع مسألة معينة من الفقه . والأول من اصول الفقه . والثاني من
استدلالات الفقهاء .
(۱) قوله (وليس المراد
بذلك الخ) أي ليس المراد بلفظ اصول الفقه، مضافاً ما لا يتم العلم بالفقه الابه .
يعني ليس موضوع مسائل اصول الفقه ، ما يتوقف العلم بالفقه عليه. وهو معنى اصول
الفقه في أصل اللغة
(۲) قوله (لانه لو كان
كذلك) يندفع بهذا ما قيل : من انه لو حمل الاصول على معناه اللغوي ، حتى يكون
معناه ، ما يستند اليه الفقه ، لشمل الاقسام فلم يحتج الى النقل (انتهى) .
ويندفع أيضاً بمامر، من أن اضافته الى
الفقه الذي هو من جنس المسائل أو العلم قرينة عرفاً ، على كون المراد به الادلة
كما اعترف به .
واللفظ اذا كان له معنى لغوي ، ومعنى
عرفي . يجب حمله على العرفي ، وهو أقوى من اصالة عدم النقل. وأيضاً كلامه هذا على
ما قيل في الحواشي .
ويظهر من سابق كلامه ، مبني على ان أدلة
الفقه لا تشتمل الترجيح والاجتهاد فانهما استنباط حكم ، لا ما يستنبط منه ، وفيه
أن متعلق الفقه الذي هو العلم ، هو الاحكام الشرعية الواصلية ، على ما يظهر مما
ذكره هذا القائل في حد الفقه دفعاً للنقض بالمقلد ، باختيار الشق الأول . أي بعض الاحكام
.
ومتعلق الاجتهاد الذي هو مساوق الظن، هو
الاحكام الشرعية الواقعية . واذا تغاير المتعلقان ، فيجوز أن يكون شيء واحد
استنباطاً لاحدهما ، وما يستنبط منه الآخر ، كما سيتضح عند قول المصنف ( وأما
القياس والاجتهاد فعندنا انهما
لزم أن يكون الكلام
في حدوث الاجسام، واثبات الصانع (۱)
____________________________________________
ليسا بدليلين) .
وكذا الكلام في الترجيح لا يقال لعله
بنى هذا على ان المراد بالادلة ، الامارات . كما مرفي حد الفقه والاجتهاد ،
والترجيح ليسا امارتين على الفقه .
لانا نقول : لو أمكن ذلك ، فانما يمكنه
في حد الفقه . بقرينة ضم التفصيلية وأما في لفظ اصول الفقه ، فانما يتبادر من
الاضافة الدليل القطعي .
(۱) قوله ( لزم أن يكون
الخ ) المراد بالحدوث، الحدوث الزماني . والمراد بالاثبات جعل كل جسم في مكان
معين، شخصاً أو نوعاً . أو المراد به جعل كل حادث في وقت معين أو المراد به العلم
بالشيء ، كما هو حقه ، وهو مجرور معطوف على حدوث .
لا يخفى أن كون حدوث الاجسام مما يتوقف
عليه العلم بالفقه ، مبني على انه لا يمكن الوصول إلى معرفة الله تعالى الا به ،
قال المصنف في الاقتصاد : لا يمكن الوصول الى معرفة الله تعالى ، الا بالنظر في
حدوث مالا يدخل تحت مقدور المخلوقين وهو الاجسام والاعراض المخصوصة (انتهى) .
ووجهه، ان لفظ الله مشتق من الاه ، وزن
فعال ، بمعنى مفعول من أله كنصر أي استحق عبادتهم . ادخل عليه حرف التعريف للعهد ،
أي الذي يستحق عبادة كل من سواه ولا يستحق غيره عبادته . ثم حذفت الهمزة ، وادغم وليس علماً ، لان
ذاته تعالى لا يعرفه غيره ، بخصوصه . ولا يلزم منه أن لا يفيد
__________________
والعلم بصفاته،
وايجاب عدله (۱)
____________________________________________
قولنا : لا اله الا
الله ، التوحيد كما لا يخفى .
ولا شك أن معرفة هذا الاستحقاق لاحد ،
موقوف على معرفة انه صانع العالم . بمعنى انه فاعل بتدبير ، لكل ما ليس وجوده .
بفعل علاجي من فاعله بل بالملكوت . أي بمحض نفوذ الارادة . وأن يقول له كن فيكون .
كالبيضة وبياضها وصفرتها، دون حركتها من موضع الى موضع . فانها مقدورة للانسان
وبعلاج وأثر المدبر ، لا يكون الا حادثاً زماناً ، بديهة واتفاقاً من المسلمين
والزنادقة .
حتى أنه قد يقال ، ان النزاع بين
الفريقين ، في قدرة واجب الوجود ، بمعنى صحة الفعل والترك ، وعدمها . عين النزاع
بينهما في حدوث العالم زماناً . وقدمه ، وليس معنى صانع العالم ، واجب الوجود .
فمن استدل على الصانع بما لو تم ، لدل على اثبات واجب الوجود فقط
فقد وهم وخلط بين المقصود للمتكلمين ،
والمقصود للزنادقة . ثم انه يظهر بما ذكرنا بطلان تجرد النفوس ، والعقول . فان
تأثيرها في البدن ونحوه وحينئذ لا يمكن أن يكون بعلاج بل بالملكوت .
(۱) قوله (والعلم بصفاته
الخ) المراد بالصفات ، الصفات التي يتوقف عليها الاستدلال بكلامه . وسيجيء عند قول
المصنف (لان العلم به لا يتم الخ) بيان كيفية التوقف ، وأصلها استحالة النقص عليه
تعالى . وهذا ضروري اللزوم عقلا ، لصنع العالم كما مر .
ويستلزم استحالة النقص عليه تعالى ،
استحالة أن يلجأ بمصلحة الى القبيح في نفسه ، كالكذب ، أو اظهار المعجز على يد
الكاذب .
وتثبيت الرسالة ،
وتصحيح النبوة ، كلاماً في اصول الفقه (۱) .
____________________________________________
ويستلزم أيضاً استحالة النقص عليه تعالى
، علمه تفصيلا بكل من سلاسل الممكنات الخارجية ، والذهنية الغير المتناهية . بمعنى
لا تقف في جانب المنتهى ، بل بكل واحد من المفهومات مطلقاً تفصيلا، وكل من القضايا
الحقة ولو لا ذلك لم يصح الاستدلال بكلامه على الفقه .
وذكر المصنف العدل ، اما لانه من
الافعال دون الصفات ، والمراد به وضع كل شيء في موضعه . ويقابله الظلم الذي هو وضع
الشيء في غير موضعه أو هو تخصيص بعد التعميم ، للاهتمام. والمراد به حينئذ صفة
يقتضى ذلك.
(۱) قوله : ( وتثبيت
الرسالة الخ) المراد بتصحيح النبوة ، بقرينة ذكره بعد تثبيت الرسالة، اثبات صفات
يجب كون النبي صلىاللهعليهوآله عليها
، حتى يصح كونه نبياً.
ويصح الاستدلال بكلامه على الاحكام
الشرعية ، كعدم كون الاحكام الشرعية التي يؤديها الينا عن اجتهاد، وظن، وسيجيء .
وكعصمة من الذنوب والاثام التي تبعتها على فاعلها.
وأما الذنوب التي هي مغفورة لفاعلها
لانه ملجأ اليها ، وتبعتها على الملجيء اليها ، فجايزة على الانبياء .
ويمكن ان يفهم ذلك من قوله تعالى في
سورة المائدة حكاية عن هابيل : (مَا أَنَا بِبَاسِطٍ
يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ
أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ
)
فان الظاهر من احتمال
قابيل اثم هابيل، أن يكون هابيل ملجأ الى قبح ، لو لا الجأ . وهو بسط اليد . ومقصوده
الدفع ، لا البسط نفسه . باعتبار ما يقصد به في الغالب من القتل ونحوه . فالتقى
فيما أنا متوجه حينئذ الى القيد فقط
__________________
وروى البرقي
في كتاب المحاسن ، عن أبي جعفر الا في تفسير هذه الآية انه قال : من قتل مؤمناً
متعمداً أثبت الله على قاتله جميع الذنوب ، وبرأ المقتول منها
. ويمكن ان يخصص بالمؤمن الذي علم الله تعالى منه ، انه لو بقى لتاب . فقاتله
ملجىء له الى ترك التوبة، فهو كالملجى له الى صدور الذنوب عنه .
وأما اضطرار الانبياء الى الكذب في نفس
الاحكام الفقهية ، كما جوزه أصحابنا في الائمة للتقية ، فسيجيء في (فصل في ذكر ما
يجب معرفته من صفات الله تعالى). ولم يذكر المصنف اثبات الامامة ، مع انه أيضاً
مما يتوقف عليه العلم بالفقه ، عند أصحابنا القائلين بوجوب المعصوم في كل زمان .
لانه ليس في مقام الحصر أو لانه ليس عند الخصوم كذلك
والكلام مما شاة معهم أو اكتفاءاً بما
سيجيء من قوله : (لان الاجماع عندنا الخ) أو لانه لا يتوقف عليه جميع العلم بالفقه
، بخلاف المذكورات . أو لانه مما لا يستقل باثباته العقل عند بعض الاصحاب ، بخلاف
المذكورات.
ويمكن حمل تصحيح النبوة على اثبات
الامامة ، بناء على ان عدم الوصية الى الامام ، وترك الامة سدى ، مع دعوى اكمال
الدين ، وتبيان كل شيء ، وبقاء الاحتياج اليه الى يوم القيامة ، ينافي النبوة كما
تقرر في محله، بل ينافى التنبوء من غير المجنون أيضاً.
__________________
لان العلم به لا يتم
من دون العلم بجميع ذلك (۱) وذلك لا يقوله أحد. فعلم بهذه الجملة ،
ان المراد بهذه العبارة ما قلناه . والاصل في هذه الاصول (۲) الخطاب أو ما كان
طريقاً الى اثبات الخطاب، أو ما
____________________________________________
ولم يذكر أيضاً اثبات المعاد ، لانه ليس
في مقام الحصر ، أو لانه ليس مما يتوقف عليه العلم بالفقه ، لانه ليس العلم
باستحقاق العقاب الاخروي على فعل، موقوفاً على العلم بوقوع النشأة الآخرة . فانه
يكفي فيه العلم بالقضية القائلة لو وقع النشأة الآخرة ، بدون تدارك . لم يقبح فيها
العقاب عليه ، أو القائلة يستحق عليه وقوع نشأة الآخرة والعقاب .
(۱) قوله : (لان العلم به
لا يتم الخ) ربما أمكن منع ذلك ، مستنداً بأن العلم بالفقه يتوقف على اثبات
الرسالة ، دون البواقي . فان اثبات الرسالة بالمعجز ، لا يتوقف على العلم بشيء
منها ، كما سيجيء في (فصل في ذكرما يجب معرفته من صفات الله).
والجواب ان هذا مذهب الجمهور، ان حصول
العلم بسبب المعجز بطريق النظر . وقد ذهب اليه المصنف ، وسيجيء في ذلك الفصل . فان
لم يكن هذا مبنياً على مذهبه ، كان مراده انه لزم أن يكون ذلك مقولا للجمهور . لان
العلم به لا يتم عندهم من دون العلم بجميع ذلك . ولا يقوله أحد ، لا من الجمهور ،
ولا من غيرهم . على ان اثبات الصانع منها ، جزء دعوى الرسالة المدلول عليها
بالمعجز.
(۲) قوله ( والاصل في هذه
الاصول) أي ما يرجع اليه كل واحد من هذه الاصول. أي أدلة الفقه .
كان الخطاب طريقاً
اليه (١) .
____________________________________________
(۱) قوله (الخطاب أو ما
كان طريقاً الى اثبات الخطاب، أو ما كان الخطاب طريقاً اليه ) ان قلت الحصر مم لما
؟ قيل: من أن العقل مستقل ببعض الاحكام الشرعية الفرعية، على قاعدة التحسين ،
والتقبيح العقليين . قلت: قد مر ان الحكم على أربعة أقسام :
(الأول) العقلي الواصلي .
(الثاني) العقلي الواقعي .
(الثالث) الشرعي الواصلي .
(الرابع) الشرعي الواقعي .
وقد مر أن المراد بالعلم بالحكم الفرعي
، المأخوذ في حد الفقه، هو العلم به من حيث أنه متلقى من الشارع .
فنقول : العقل على القاعدة المذكورة ،
مستقل بالعلم ببعض الاحكام الفرعية العقلية الواصلية. اما ضرورة، واما كسباً ، لا
من حيث أنه متلقى من الشارع ، على تفصيل سيأتي في آخر هذا المبحث. وسيصرح به
المصنف موافقاً سيدنا الاجل المرتضى في الذريعة في فصل في الكلام على من أحال
القياس عقلا). حيث يقول : فالحكم الذي هو قبح سلوكه، ووجوب تجنبه معلوم لامظنون
(انتهى) .
وأما القسم الثاني، فلا استقلال للعقل
بالعلم بشيء منه أصلا في حقنا. وان استقل بالعلم ببعضه في حق القديم تعالى كوجوب
اللطف المزيح للعلة بشرط التكليف، وسيجيء بعيد هذا .
وحظر الكذب وأمثالهما من الواجبات في
أنفسها . والقبايح في أنفسها،
فأما الخطاب فهو الكلام الواقع على بعض
الوجوه وليس كل كلام خطاباً ، وكل خطاب كلام . والخطاب يفتقر في كونه كذلك الى
ارادة المخاطب ، لكونه خطاباً لمن هو خطاب له (۱) ومتوجه
____________________________________________
دون ما كان وجوبه أو
قبحه، باعتبار أمر خارج، وبالظن ببعضه في حقنا وذلك لان شرطه مجهول ، وهو عدم ما
يعارض وجهه المعلوم من الجهات والاعتبارات فينا ، التي لا تتناهى ولا يعلمها
الاعلام الغيوب ، لتوقفه على العلم بأسبابه وأسباب أسبابه .
وهكذا يمكن أن يحمل عليه قوله تعالى في
سورة ص : ( أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ ) فلعل الصدق النافع
حصل بعد سنين متطاولة ، ما لو كان معلوماً قبل ، لم يقدم عليه ، وأوجب الندم عليه
.
ومثله اغاثة الملهوف ، واعانة الفقير ،
وكذا الكذب الضار ، يمكن أن يحصل بعد سنين متطاولة من المصالح، مالو كان معلوماً
لا وجب الاقدام عليه، وأوجب الندم على تركه.
(۱) قوله: (فأما الخطاب
فهو الكلام الى آخره) الخطاب في اللغة: توجيه الكلام نحو الغير للافهام. ثم نقل
عرفاً الى الكلام الموجه نحو الغير للافهام. والمراد بقوله على بعض الوجوه انه
كلام خاص ، ولم يصرح بالخصوصية. لان المقصود هنا بيان النسبة بين الخطاب، والكلام
بالعموم والخصوص مطلقاً ولذا صرح بها بقوله (وليس كل الخ) .
__________________
اليه (١) لانه قد
يوافق الخطاب في جميع صفاته من وجود وحدوث وصيغة وترتيب ماليس بخطاب ، فلابد من
أمر زائد وهو ما قلناه .
والكلام في الخطاب كلام في بيان أدلة
الكتاب والسنة (۲) و
ذلك ينقسم خمسة أقسام :
أحدها : الكلام في أحكام الأوامر
والنواهي .
والثاني : الكلام في العموم والخصوص.
والثالث : الكلام فى المطلق والمقيد .
والرابع : الكلام في المجمل والمبين .
والخامس : الكلام في الناسخ والمنسوخ.
____________________________________________
واما اعتماداً على ما يذكره بقوله :
والخطاب يفتقر في كونه كذلك أي في كونه خطاباً، الى ارادة المخاطب بكسر الطاء أي
المتكلم به .
(۱) وقوله : ( ومتوجه
اليه ) تفسير لقوله خطاب له ، ولولم يفسره به ، لكان مشتملا على الدور. ولا يخفى
ان في الكلام تطويلا بلا حاجة، مع اخلال بقيد الافهام ، وهو محتاج اليه، للاحتراز
عن الكلام المتوجه الى الغير الاستفهام معناه أو نحوه .
(۲) قوله : (والسنة) يدخل
فيها عندنا سنة النبي والائمة عليهمالسلام ،
وكذا المجمع عليه .
وأما ما هو طريق الى اثبات الخطاب من
هذه الطرق (۱) فهو
قسم واحد (۲). وهو
الكلام في الاخبار وبيان أقسامها
وأما ما الخطاب طريق اليه ، فهو أيضاً
قسم واحد ، وهو الكلام في أحكام الافعال (۳) وألحق قوم بهذا القسم
الكلام في الاجماع والقياس، والاجتهاد وصفة المفتى و المستفتي والحظر والاباحة
وذلك غير صحيح على قاعدة مذاهبنا لان الاجماع عندنا (۴)
____________________________________________
(۱) قوله : (من هذه
الطرق) أي من هذه الاصول .
(۲) قوله : (فهو قسم واحد
) أى فالكلام فيه قسم واحد وكذا قوله : (فهو أيضاً) قسم واحد .
(۳) قوله : (وهو الكلام
في أحكام الافعال ) أي أفعال النبي صلىاللهعليهوآله وسيذكر
المصنف في ( فصل في ذكر معنى التأسي بالنبي صلىاللهعليهوآله
، وهل يجب اتباعه في أفعاله عقلا أو
سمعاً وكيف القول فيه ) ان قوله تعالى: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ )
وقوله تعالى ( فَاتَّبِعُوهُ
)
يدلان على ان لنا
التأسي به واتباعه فيما يصح اتباعه فيه من قول أو فعل.
(٤) قوله: (لان الاجماع عندنا
يمكن أن يكون المراد باعتبار النظر، بعين العبرة والتفتيش كما في فصل في ذكر
اختلاف الناس في الاجماع)، من قوله الاجماع الذي نحن في اعتبار كونه حجة أم لا.
__________________
اذا اعتبرناه من حيث
كان فيه معصوم لا يجوز عليه الخطأ ، ولا يخلو الزمان منه ، فطريق ذلك العقل دون
السمع ، فهو خارج عن هذا الباب .
____________________________________________
أو أن يكون المراد به القول بالحجية
وذكر كلمة الشرط، اما اشارة الى أنه قد لا يعتبر الاجماع عندنا، كما في فصل في ذكر
اختلاف الناس في الاجماع أيضاً من قوله : (قد لا يتعين لنا قول الامام في كثير من
الأوقات، فيحتاج حينئذ الى اعتبار الاجماع فنعلم باجماعهم ان قول المعصوم اللا
داخل فيهم ولو تعين لنا قول المعصوم عليهالسلام الذي
هو الحجة لقطعنا على أن قوله هو الحجة ، ولم نعتبر سواه على حال من الأحوال )
انتهى ( وحينئذ خروجه من هذا الباب ظاهر .
واما اشارة الى أنه يعتبر الاجماع عند
مخالفينا، لا من هذه الحيثية، وهو عندهم داخل في هذا الباب، وجزاء الشرط قوله:
(فهو خارج ) على نسخة الواو في قوله : ( وطريق ذلك). وأما على نسخة الفاء ،
فالجزاء. قوله: (فطريق ذلك) ، وذلك اشارة الى الاعتبار .
وحاصل الكلام، ان كون الزمان لا يخلو من
معصوم، لا يجوز عليه الخطاء من مسائل علم الكلام، وليس من اصول الفقه
واذا انضم اليه استدلال، واعتبار عقلي
سهل الحصول لكل أحد أن يثبت حجية الاجماع .
وليس يتم دليل على حجية الاجماع الا هذا
فحجية الاجماع خارجة عن مسائل اصول الفقه، التي طريقها الخطاب، بل هي داخلة في علم
الكلام، كحجية
وأما القياس والاجتهاد، فعندنا انهما
ليسا بدليلين، بل محظور استعمالهما، ونحن نبين ذلك فيما بعد. ونبين أيضاً ما عندنا
في صفة المفتى والمستفتى (۱) .
____________________________________________
خطاب الرسول صلىاللهعليهوآله .
والمراد بـ (الخطاء) هنا : الغلط في حكم
الله تعالى ، أي في الفتوى، أو القضاء، أوفي الاعتقاد .
والمراد بعدم جواز الخطاء عليه أن يصدر
عنه الحكم في كل واقعة شرعية بدون خطاء.
وينبغي تخصيص الخطاء، بما كان في نفس حكم
الله تعالى. فان الخطاء في محل الحكم، وفيما ليس نفس الحكم ولا محله، كالخطابيات،
أي القضايا التي تتداول في المكالمات العرفية بين الناس كقولنا : زيد في بلد كذا،
وعمرو حي، ونحوهما. مما يكتفى فى الخبر به بالظن، وفي الاحكام العقلية جائز على
الائمة عليهمالسلام فان أمكن عادة تحقق
الاجماع فيها ، لم يكن حجة أصلا اذ لا دليل عليه أصلا.
(۱) قوله: (ونبين أيضاً
ما عندنا فى صفة المفتي والمستفتي). المراد بالمفتي من أمر الله تعالى الناس سؤاله
عن ما لا يعلمون بقوله تعالى في سورة النحل وسورة الانبياء: ( فَاسْأَلُوا
أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) وهو الشاهد بالحق
__________________
وداعي الناس من قبل
الله تعالى، الى شفاعته أي الى الانضمام اليه واتباع أحكامه في الحلال والحرام ،
كما في سورة الزخرف : ( وَلَا يَمْلِكُ
الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ )
وهو الامين في أحكام
الله تعالی ، امانة عرضت على السموات والارض والجبال فأبين أن يحملنها كما
في سورة الاحزاب (۲) .
والمراد بالمستفتى المأمور بالسؤال عما
لا يعلم .
وعندنا ان المفتي هو الامام المفترض
الطاعة العالم بجميع القرآن، و أحكام الله تعالى. كما في الكافي ، في كتاب الحجة
في باب ان أهل الذكر الذين أمر الله الخلق بسؤالهم هم الأئمة عليهمالسلام
.
وان المستفتي: هو العالم بامامة أئمة
الهدى، وبأنهم الشاهدون بالحق قال ثقة الاسلام (۴) في خطبة الكافي: وقد
قال الله عز وجل : «الا من شهد بالحق و هم يعلمون» (۵) فصارت الشهادة مقبولة
لعلة العلم بالشهادة ، ولولا العلم
__________________
وأما الكلام فى الحظر والاباحة (۱) ، فعندنا وعند أكثر
من خالفنا، طريقه العقل. فهو أيضاً خارج من هذا الباب.
____________________________________________
بالشهادة، لم تكن
الشهادة مقبولة
(انتهى) .
فطريق ذلك العقل كما مر في الاجماع .
وعند مخالفينا ومن تبعهم ان المفتي: هو
المجتهد والمستفتى : هو المقلد للمجتهد. وطريق ذلك عندهم السمع، أي الخطاب ولا
طريق له عندنا أصلا، كمامر في القياس والاجتهاد .
(۱) قوله : (وأما الكلام
فى الحظر والاباحة الخ) يعني ان الكلام فيهما قبل ورود الشرع بخصوص شيء أو بعمومه،
هو المتنازع فيه . والمعركة بين الآراء فهو خارج عن القسم الثالث، لان دليله .
حينئذ العقل لا الخطاب
ولا يخفى أنه اذا خرج عن هذا القسم ،
خرج عن اصول الفقه مطلقاً لان محموله الحكم العقلي الواصلي، لمامر من أن العقل لا
يستقل الا به .
ومحمول اصول الفقه الحكم الشرعي. اما
الواقعي أو الواصلي، كمامر. والاقلون من المخالفين ، هم الذين سيشير المصنف ، الى
انهم خرجوا عن المتنازع فيه، في أواخر (فصل في ذكر بيان الاشياء التي يقال انها
على الحظر أو الاباحة ) بقوله : ونحن لا نمنع ان يدل دليل السمع على ان الاشياء
على الاباحة، بعد ان كانت على الوقف بل عندنا الأمر على ذلك، واليه نذهب و على هذا
سقطت المعارضة بالايات (انتهى) .
ويظهر بما ذكرنا ان ما ذهب اليه بعض
المتأخرين، من أن الكلام في حظر
__________________
والاولى في تقديم هذه الاصول (۱) ، الكلام في الاخبار،
و بيان أحكامها ، وكيفية أقسامها . لانها الطريق الى اثبات الخطاب ثم الكلام فى
أقسام الخطاب ، ثم الكلام في الافعال، لانها متأخرة عن العلم بالخطاب. ثم الكلام
فى تتبع ما عده المخالف أصلا و ليس منه .
ولما كان المبتغى (۲) بهذه الاصول العلم ،
فلا بد من أن نبين فصلا يتضمن بيان حقيقته، والفرق بينه وبين الظن وغيره .
____________________________________________
الاشياء واباحتها،
قبل ورود الشرع لغو ، كلام في محله. لكن لا لما ذكره من أنه بحث على تقدير غير
واقع بناء على ان كل حكم فيه خطاب يعلمه أهله، لانه يحتمل أن يراد بالورود البلوغ
.
وأيضاً التقدير واقع في غير المكلفين ،
نحو الاطفال المميزين ، بل لانه خارج عن اصول الفقه . فينبغي أن يقتصر في البحث
عنهما على اثبات الخروج .
ويظهر أيضاً انه ينبغي أن يبحث عن
الاباحة بالشرع العام . ويلحق بهذا القسم من اصول الفقه ، وان أمكن تركه لظهوره ،
وعدم كثرة مباحثه أو دقتها
( ۱ ) قوله . ( والأولى في
تقديم هذه الأصول ) الأولى في ترتيب هذه الاصول .
(۲) قوله : ( ولما كان
المبتغى الخ) هذا شروع في بيان الاحتياج الى ذكر الفصول الخمسة، بعد الفصل الأول،
وقبل الشروع في المقاصد على سبيل البداية ، و
وما يصح من ذلك أن
يكون مطلوباً (۱) ومالا
يصح
____________________________________________
هو معطوف على قوله
(أبدأ في أول الكتاب) والاولى بيان الاحتياج الى ما في ( فصل في ذكر أقسام أفعال
المكلف ) . لانه ذكره على سبيل المبدأية. و كأن رأي المصنف فيه كان أولا أن لا
يذكره في المبادىء، لانه ذكره في الكلام في الافعال، ثم ذكر بعضه في الكلام في
الحظر والاباحة .
والأولى أيضاً بيان الاحتياج الى ما في
فصل في ذكر الوجه الذي يجب أن يحمل عليه مراد الله بخطابه لانه ذكره على سبيل
المبدأية . وكأن راي المصنف فيه أيضاً كان أولا أن لا يذكره، ويكتفي فيه بماذكره
في أواخر (فصل في حقيقة الكلام) .
ثم يحتمل ان يراد بقوله المبتغى بهذه
الأصول العلم ان المقصود بيان مسائل الاصول العلم بتلك المسائل .
ويحتمل أن يراد أن المقصود باثبات مسائل
الاصول، العلم بالفقه. وهذا يدل على ان جل الفقه الذي هو نتيجة مسائل الاصول،
محموله الاحكام الفقهية الواصلية، اذ العلم بالواقعية غير مترتب على هذه المسائل ،
في هذا الزمان. الا الشاذ النادر، كما يظهر على المتتبع .
(۱) قوله: (وما يصح من
ذلك أن يكون مطلوباً ) المراد بكونه مطلوباً، أمر الشارع به. فيحتمل أن يكون ذلك
اشارة به، فيحتمل الى العلم، أوالى الظن، أو الى كليهما، والعلم الذي يصح أن يكون
مطلوباً للشارع هو المكتسب لانه من فعل العالم .
وقدمر أن ما يتوقف عليه ثبوت الشرع من
العلوم المكتسبة ، لا يصح أن يكون مطلوباً للشارع . فما لا يصح هو ، والضروري
أيضاً ، لانه من فعل غير
ولابد أيضاً من بيان
ما لا يتم العلم الا به (۱) من حقيقة النظر ، و شرائط الناظر ، وما
يجب أن يكون عليه (۲) وبيان
معنى الدلالة و سایر متصرفاته واختلاف العبارة عنه .
ولما كان الاصل في هذا الباب الخطاب ،
وكان ذلك كلاماً فلا بد من بيان فصل يتضمن معنى الكلام، وبيان الحقيقة منه،
والمجاز وانقسام انواعه .
ولما كان الكلام صادراً من متكلم ،
فلابد من بيان من يصح الاستدلال بكلامه ومن لا يصح ، ويدخل في ذلك الكلام فيما يجب
أن يعرف من صفات الله تعالى وما لا يجب. وصفات النبي (ص) وصفات الأئمة عليهمالسلام القائمين مقامه ،
الذين يجرى قولهم مجرى قوله صلىاللهعليهوآله .
ونحن نبين جميع ذلك في أبوابه على غاية من
____________________________________________
العالم . وألا تكليف
، الا لفعل المكلف ، والظن الذي يصح أن يكون مطلوباً ما يكون في محل الحكم ، ومالا
يصح ما يكون في نفس الحكم ، كما سيذكره في الفصل الثاني بقوله ( وأما الظن فعندنا
وان لم يكن أصلا الخ) .
(۱) قوله : ( ما لا يتم
العلم الابه) اللام للعهد والمراد اما العلم الذي يصح أن يكون مطلوباً ، وهو
المكتسب . واما علم اصول الفقه. أو اللام للجنس، وحينئذ يراد بالتمام الكمال .
(۲) قوله: ( وما يجب أن
يكون عليه) عطف تفسير بشرايط الناظر، والضمير في (يكون) للناظر ، وفي (عليه) لما .
الاختصار حسب ما
تقتضيه الحاجة اليه (۱) .
ونتقصر فيما نذكره على الاشارة الى ذكر
ما ينبغي أن يعتمد عليه ويحصل العلم به دون أن يقترن ذلك بالادلة المفضية اليه ،
لان لشرح ذلك موضعاً غير هذا . والمطلوب من هذا الكتاب بيان ما يختصه من تصحيح
اصول الفقه التي ذكرناها، وبيان الصحيح منها، والفاسد ان شاء الله تعالى .
فصل
في بيان حقيقية العلم
(۲) وأقسامه
ومعنى الدلالة
وما يتصرف منها
__________________
(۱) قوله ( حسب ما تقتضيه
الحاجة اليه) الضمير الأول لـ (ما) والثاني لـ (الجميع) .
قوله ( ويحصل العلم به منصوب معطوف على
يعتمد) وضمير المفضية اليه راجع الى (العلم) .
(۲) قوله قدس سره ( فصل
في بيان حقيقة العلم ) المشهور ان الصورة الحاصلة في الذهن، ان كان اذعاناً ،
وقبولا للنسبة ، يسمى تصديقاً ، والاتصوراً والتصديق ان كان مع تجويز نقيضه يسمى
ظناً، سواء كان مطابقاً للواقع ، أم لا . وان لم يكن مع تجويز ، يسمى جزماً
واعتقاداً .
وقد يطلاق الاعتقاد على التصديق مطلقاً
، والجزم ان لم يكن مطابقاً للواقع يسمى جهلا مركباً . وان كان مطابقاً له ، فان
كان ثابتاً ، أي ممتنع الزوال ،
حد العلم ما اقتضى سكون النفس (۱)
____________________________________________
يسمى يقيناً .
ومرادهم امتناع الزوال، بشرط بقاء كمال العقل . وتذكر ما حصل عنه من البرهان ، أو
المشاهدة ، أو نحوهما على الوجه الذي حصل عنه .
وقد يطلق اليقين على أخص من هذا ، وهو
أن يكون المعلوم بهذا العلم منظوراً للعالم . كأنه يشاهده ، فيعمل به ، ولا يخالفه
أصلا كما يظهر من الكافي في كتاب الايمان والكفر ، في باب حقيقة الايمان واليقين
.
وقد يطلق العلم على هذا ، ويمكن أن يحمل
عليه قوله تعالى : ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ
لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ )
وان لم يكن ثابتاً
يسمى تقليد .
و قد يطلق التقليد على العمل بقول الغير
مطلقاً ، كما سيظهر بقول المصنف
( وأما المقلد الخ) . والعلم يطلق على
ثلاثة معان :
الأول : عند المنطقيين ، وهو الصورة
الحاصلة في الذهن .
الثاني : عند المتكلمين ، وهو ما يتناول
اليقين والتصور مطلقاً . قال في التجريد ، في بحث الكيفيات النفسانية : منها العلم
، وهو اما تصور أو تصديق جازم مطابق ثابت (۴) (انتهى) .
الثالث : عند الاصوليين، وأهل اللغة ،
وهو اليقين. وعليه مبنى الاطلاقات في الكتاب والسنة ، مع عدم القرينة الصارفة .
واليه يرجع حد المصنف .
(۱) قوله (حد العلم ما
اقتضى سكون النفس) السكون أمر عدمي ، والعلم وجودي . فلا يتوهم اتحاد المقتضي
والمقتضى ، ولم يقل ( ما اقتضى تمييزاً لا
__________________
وهذا الحد أولى (۱) من قول من قال: انه
اعتقاد للشيء
____________________________________________
يحتمل النقيض ) كما
قيل: للزوم الاتحاد.
ولان ضمير لا يحتمل ان رجع الى التمييز
حقيقة ، كما هو الظاهر يرد أنه لا نقيض للتمييز، أوله نقيض محتمل وان رجع الى
متعلقه ، يخرج عنه العلم بما عد القضايا الضرورية . فلابد أن يرجع الى التمييز
مجازاً .
ويراد عدم احتمال متعلقه باعتبار تعلقه
به ويرجع الى عدم تحقق احتمال نقيض متعلق التمييز في ظرف التمييز وهو تكلف يجب
الاحتراز عنه في صناعة التعريف
(۱) قوله (وهذا الحد أولى
الخ) كأن ذكر الاعتقاد أولى من عدمه . ليندفع النقض باللذة ، على تقدير عدم كون
اللذة والالم نوعين من العلم . فان ارتكاب ان المراد بالسكون ، عدم تجويز النقيض ،
أو ما هو أخص منه ، تكلف لعدم دلالة اللفظ عليه. وكون اللذة والالم نوعين من العلم
، لا يغني عن قيد يخرج اللذة ، لاختلاف الحيثية باختلاف السكونين
وأما قوله (على ما هو به) فغير محتاج
اليه للتمييز .
وفي شرح رسالة العلم : ان المراد بما اقتضى
سكون النفس ، الاعتقاد الذي اقتضي سكون النفس . (انتهى) .
__________________
على ما هو به مع سكون
النفس لان الذي يبين (۱) به
العلم من غيره من الاجناس، هو سكون النفس دون كونه اعتقاداً، لان الجهل أيضاً
اعتقاد ، وكذلك التقليد (۲) ، ولا يبين أيضاً، بقولنا للشيء على ما
هو به لانه يشاركه فيه التقليد أيضاً . اذا كان معتقده على ما هو به والذي يبين به
هوسكون النفس .
____________________________________________
لا يقال فيخرج حينئذ علم الله تعالى ،
اذ لا يسمى اعتقاداً . ولا يخرج عن حد المصنف ، لانه يطلق على ذاته تعالى النفس .
كقوله تعالى: ( تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا
أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ )
.
ويتحقق فيه السكون لانا نقول : علمه
تعالى خارج عن المحدود . اذهو علم الحادث المنقسم الى الضروري والمكتسب الذين لا
يتحققان في علمه تعالى واطلاق النفس عليه تعالى مجاز من باب المشاكلة ، على انه
لاسكون فيه . اذ ليس من شأنه الاضطراب .
وبهذا خرج التصور عن حد المصنف ، اذليس
من شأن النفس الاضطراب فيه . وهذا كما ان من يحيل حركت الجسم في شيء يحيل اتصافه
بالسكون فيه.
(۱) قوله (لان الذي يبين
الخ) حاصله ان مقصود المعرفين للعلم ، ليس الا البيان، أي التمييز. فذكر الاعتقاد
لغو . وان سلم كونه جنساً أيضاً . ولا يمكن المناقشة بان التدرج في البيان أدخل
فيه . لانهم لم يعتبروا العرض العام في التعريفات .
(۲) قوله ( و كذلك
التقليد) المراد بالتقليد اعتقاد الشيء على ما هو به ، لامع
__________________
فينبغي أن يقتصر عليه
وليس من حيث (۱) ان
ما اقتضى سكون النفس لا يكون الا اعتقاداً للشيء على ما هو به ينبغي أن يذكر (۲) في الحد كما انه لابد
من أن يكون عرضاً ، وموجوداً ، ومحدثاً ، وحالا في المحل . ولا يجب (۳) ذكر ذلك في الحد من
حيث لا يبين به ، فكذلك ما قلناه. ولا يجوز أن يحد العلم بانه المعرفة، لان
المعرفة هي العلم بعينه. فلا يجوز أن يحد الشى (۴) بنفسه. ولا يجوز أن
يحد بانه اثبات، لان الاثبات فى اللغة : هو الايجاب (۵) .
_____________________________________________
سكون النفس .
(۱) قوله (وليس من حيث
الخ) هذا منع معارضة مع سند هو قوله ( كما أنه الخ) ولو جعل هذا السند دليلا على
المدعي يمكن المناقشة فيه ، بالفرق بكون الاعتقاد جنساً بخلاف البواقي . وبان ما
اقتضى سكون النفس أعم من الاعتقاد . فكان ينبغي أن يذكر في الحد كما مر .
(۲) قوله (ينبغي أن يذكر
) اشارة الى أن ما لا ينبغي فعدمه أولى .
(۳) وقوله (ولا يجب)
المراد الوجوب الاستحساني أي لا ينبغي، واياه أراد من قال بدله (لا يجوز) .
(٤) قوله (فلا يجوز أن يحد الشيء
الخ) وذلك لان التعريف بالمرادف غير جائز الافي اللفظي اذا كان أجلى ، وكلاهما
منتف فيما نحن فيه . وان امكن المناقشة في الأول .
(٥) قوله لان الاثبات في اللغة هو
الايجاب يفهم من هذا الحصر ان مراده ان الاثبات حقيقة في الايجاب فقط مجاز في غيره
، ولا يجوز استعمال
ولاجل ذلك يقولون: أثبت السهم في
القرطاس. أي: أوجبته فيه .
ويعبر أيضاً في الخبر عن وجوب الشيء كما
يقال في المجبرة (۱) انهم
مثبتة (٢) .
ثم ان ذلك ينتقض بالتقليد لانه أيضاً
اثبات للمشيء على ما هو به (۳)، ان اريد بهذه اللفظة الاعتقاد، وان
اريد بها العلم، فقد حد الشيء بنفسه .
والعلوم على ضربين : ضروری و
مكتسب . فحد الضرورى ما كان من فعل غير العالم به (۴) ، وهو انما يكون
____________________________________________
الالفاظ المجازية في
الحد ، الامع القرينة القوية . وهي منتفية هنا
والسهم : النبل ، والقرطاس : بكسر القاف
، كل أديم ينصب للنصال
(۱) قوله ( كما يقال في
المجبرة) هو بالجيم والباء الموحدة . انما سميت المجبرة مثبتة ، لاخبارهم في كل
فعل من أفعال العباد ، انه واجب ، لا يمكن لهم دفعه عن انفسهم . وهو خلاف الواقع
كما فصل في المقدمة الثانية ، من مقدمات بيان الحاجة .
(۳) قوله (اثبات للشيء
على ما هو )به الاولى اسقاط قوله (على ما هو به) ونقضه بالجهل أيضاً .
(٤) قوله ( ما كان من فعل غير
العالم به) أي ما كان باجراء الله تعالى عادته
__________________
على وجه لا يمكنه (۱) دفعه عن نفسه بشك أو
شبهة وهذا الحد أولى
____________________________________________
بفعله بحسب ما يعلمه
الله من المصلحة بدون سبب موجب يكون من فعلنا. كما يفهم مما سيجيء في بحث الخبر
المتواتر من قول المصنف (وأما الشرط الذي يختص بمراعاته الخ) وسيجيء معنى العادة .
فان قيل : الادراك من فعلنا وهو موجب
للعلم الضروري بالمدرك ، كما سيجيء في قول المصنف : (والضرب الثاني ما يقف على شرط
الخ) .
قلنا : الادراك ليس بكاف لاشتراط ارتفاع
اللبس ، وهو ليس من فعلنا. أولاشتراط العقل ، فانه يحصل في البهيمة ، والعلم مرتفع
. ولو كان مولداً الحصل على كل حال . والجارفي فيه متعلق بفعل ، وضميره للعالم .
(۱) قوله (على وجه لا
يمكنه الخ) الاولى اسقاطه ، أو زيادة ما يشعر بانه خارج عن الحد . كأن يقال : وهو
انما يكون على وجه الى آخره .
اما (أولا) فلعدم مدخليته في التمييز ،
ولذا لم يذكره في حد المكتسب كما سيجيء .
واما (ثانياً) فلئلا يتوجه على هذا الحد
أيضاً ، ما سيذكره في العلاوة ، وان كان مندفعاً أولا
واما (ثالثاً) فلانه سيظهر في معنى
امكان الدفع ، ان المراد عدم امكان الدفع عن نفس العالم الكامل العقل . والعلوم
الضرورية مأخوذة في تفسير العقل في الجملة ، كما سيجيء ، فيلزم الدور .
والمراد بالشك هنا هوى النفس المذكور في
سورة النازعات : (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ
، فَإِنَّ
الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ
)
. والمراد بالشبهة بالضم : ما
__________________
مما قاله بعضهم (۱) من أنه ما لا يمكن
العالم به دفعه عن نفسه بشك
____________________________________________
شابه البرهان وليس
برهان كالمغالطة ، والخطابة ، والشعر.
(۱) قوله (وهذا الحد أولى
مما قاله بعضهم الخ) حاصله ان القوم، اختلفوا في العلم بالبلدان ، والوقايع ، وما
جرى مجراهما . هل هو من الضرورية ، أو المكتسبة ، أو على الوقف .
وهو انما يكون بعد الاتفاق على معناهما
، لئلا يكون النزاع لفظياً بأحد المعنيين . فانه معلوم البطلان فيما نحن فيه .
فالاولى تفسيرهما بما يصلح للنزاع ، وما
قاله بعضهم لا يقبل النزاع، لانه على هذا المعنى ضروري ، ضرورة . فان العقل يجد
عدم الفرق بين العلم بالبلدان ، والضروريات في ذلك ضرورة . وقس على ذلك ما ذكره في
العلاوة.
هذا ويرد مثل ذلك على حد المصنف أيضاً ،
لان الفلاسفة ذهبوا الى أن فاعلي العلوم ضروريها ، ومكتسبها ، هو المبدأ الفياض ،
لاجل الاستعداد .
والاشاعرة
ذهبوا الى أن الجميع باجراء الله تعالى عادته به ، فحد الضروري غير مطرد ، وحد
المكتسب على العكس ، وفوق عدم الانعكاس .
اللهم الا أن الانبياء بخلافهم ، لان
مسألة ايجاد العباد للافعال المنسوبة اليهم بالمباشرة ، أو التوليد ، معركة مفروغ
عنها هنا. لانها من فن الكلام المقدم على فن اصول الفقه .
ومعلوم ان الحركة الذهنية حين النظر ،
المنتهية الى النتيجة ، كساير أفعال العباد ، والاختيارية ، والعلم الحادث
بالنتيجة ، مولد عنه كما سيجيء
__________________
أو شبهة اذا انفرد (۱) لان ذلك تحرز (۲) لمن اعتقد بقول النبي
صلىاللهعليهوآله
ان زيداً في الدار ، ثم شاهده ، فانه لا يمكنه أن يدفع ذلك عن نفسه ، ومع هذا فهو
اكتساب (۳) .
____________________________________________
تحقيقه عند قول
المصنف ( والنظر في الدليل من الوجه الذي يدل يوجب العلم) .
ويمكن أن يقال في وجه الأولوية : ان
المقصود من بيان حقيقة العلم و اقسامه ، أن يظهر ما يصح من ذلك . أن يكون مكلفاً
به . وما لا يصح كما ذكره سابقاً . وانما يظهر ذلك بحد المصنف ، لانه لا تكليف الا
بفعل المكلف.
(۱) قوله (اذا انفرد) يعني
ان انفرد والمراد بالانفراد : الانفراد عن غيرما أوجبه ، مما يوجب علماً لا يمكن
دفعه عن نفسه . أو مما يوجب العلم مطلقاً أو من جميع ما عداه . والعلم الحاصل
بالبرهان اذا انضمت اليه براهين كثيرة دالة على ما تعلق به ، منفرد على الأول ، دون
الثانيين .
(۲) قوله (لان ذلك تحرز
الخ) يعنى ان قيد اذا انفرد ، فائدته ليست الا الاحتراز عن علم من اعتقد بقول
النبي ، أي البرهان شيئاً . ثم شاهده ، أي حصل ما يوجب علماً غير ممكن الدفع .
واذا لم يكن فائدته الا هذا ، فلا ينفع في دفع ما يورد .
(۳) قوله (ومع هذا فهو
اكتساب) ظاهره دعوى ضرورية ان العلم الحاصل من جهة الاكتساب ، لا يزول بالرؤية
موافقاً لما روي عن أبي الحسن الرضا عليهالسلام،
في الكافي، في كتاب التوحيد ، في ثالث باب (في ابطال الرؤية)
وينبه عليه ان العلم من الصفات المشتركة
معنى بين الله تعالى وبين خلقه
__________________
وهذا لا يصح عندنا ، لان العلم بالبلدان
والوقائع وماجري مجراهما. هذا الحد موجود فيه (۱) .
وعند كثير من أصحابنا انه مكتسب قطعاً،
وعند بعضهم هو على الوقف .
____________________________________________
فليس له افراد حقيقة
. انما له الحصص المتميز بعضها عن بعض باعتبار المحل والمتعلق فقط . كما حققناه في
الحاشية الأولى ، في ذيل الجواب عن الشك الثاني في المقام الأول من المقامات
الثلاثة . لبيان عينية صفات ذاته تعالى ، لذاته تعالى .
فلا يمكن أن يزول فرد منه ، ويحدث بدله
فرد آخر ، مع اتحاد المحل والمتعلق
(۱) قوله (هذا الحد موجود
فيه لا يقال العلم بالبلدان مثلا ، يمكن دفعه عند اخبار أقل عدد التواتر ، وعدم
امكان دفعه ، بعد انضمام الاخبار الزائدة ، لا ينفع ، لانه ليس بمنفرد .
لانا نجيب عنه اما (أولا) : فبان مادة
النقض هو العلم بالبلدان ، الحادث بعد الاخبار الزائدة ، كما جوزته ، وهو غير ممكن
الدفع للعاقل .
واما (ثانياً) : فبأن بنائه على ان
اخبار البلدان اذا صدرت عن أقل عدد التواتر ، جامعة لباقي شروطه ، لم يختص العلم
بها بسامع دون سامع . و سيصرح المصنف به في بيان اشتراط كون عدد التواتر أكثر من
أربعة و سيجينه تحقيقه ثمة .
واما (ثالثاً) : فبأنه سيصرح المصنف .
في بحث الخبر المتواتر ، بأن أخبار البلدان لا داعى للعقلاء على الشبهة فيها . فلا
يمكن دفعها بشبهة ، وفيه
فلا يصح ذلك على الوجهين معاً (١) على
ان ذلك انما يصح على مذهب من يقول ببقاء العلوم. فأما من قال: ان العلم لا يبقى
فلا معنى لهذا الكلام عنده .
____________________________________________
تأمل . لان المتبادر
من هذا الحد ، عدم امكان الدفع على تقدير وقوع الشبهة ولا يكفي في صدقه على شيء ،
مجرد عدم امكان الشبهة .
واما ( رابعاً) : فبان بناء كلامه على
أن معنى الانفراد ، هو الأول من الثلاثة السابقة ، مع عدم اشتراك المتغايرين . في
جزء . وفيه انه يمكن تغيير البحث فانه يمكن دفعه قبل الاخبار الزائدة . والمتبادر
من الحد عدم امكان الدفع في شيء من صور الانفراد ، وما ذكرناه من صوره .
(۱) قوله (فلا يصح ذلك
على الوجهين معاً على ما وجهنا به كلامه ، عند قوله وهذا الحد أولى مما قاله بعضهم
الخ) لا يرد على هذا ، ان مذهب المصنف فيه الوقف ، على ما سيجيء في بحث الخبر
المتواتر. فعدم صحته على القول بانه مكتسب قطعاً غير مضر . ولو سلم فعدم صحته على الوقف
محل بحث ، لما اشتهر من أن المعرف بالتعريف الحقيقي في حكم المانع . فما لم يعلم
تحقق مادة النقض لم يمكن الرد عليه .
ولا حاجة في الجواب عن الثاني الى جعله
تعريفاً لفظياً ، فانه بعيد . و أبعد منه الجواب عنه ، يجعل البحث عن المعرف ، لا
من حيث انه معرف . بل من انه مدع بالعرض . وكذا الجواب عن أحدهما ، بان المراد نفي
أن يكون صحيحاً على كل واحد منهما .
وأما الجواب عنهما ، بان المقصود ليس
الرد على ما قاله بعضهم . بل أولوية ما ذكره المصنف . ويكفي فيها تحقق مادة النقض
على مذهب ، ولو
لانه لا يبقى وقتين، فيصح (۱) طرو الشبهة في ذلك أو
الشك ، فيعتبر (۲) صحة
انتفائه بهما أولا (۳) وانما
يتجدد حالا بعد حال اللهم (۴) الا أن يراد بذلك (۵) انه لا يصح أن يمنع
منه ابتداءاً .
____________________________________________
كان غير مرضى .
وكذا احتمال مادة النقض على المذهب
المرضى ، سواء كان معنى الوقف الحكم بعدم الترجيح بالبرهان من احد ، وكونه من
المغيبات ، كما هو ظاهر عبارة المصنف ، فيما سيجيء .
أو كان معناه ، الحكم بعدم كون ما نقل
عن القوم في الاستدلال دليلا . اذ المعرف بهذا التعريف منهم ، ففيه أنه يأبى عن
هذا التوجيه ، لفظ لا يصح.
والأولى ابطال ما قاله بعضهم بالنقض
بكثير من القضايا الحسابية ، و الهندسية النظرية ، القليلة المقدمات ، والترتيب .
كقولنا : الثلاثة عاد الثمانية عشر، وأمثال ذلك . فانها نظرية ، ولا يمكن دفعها
بشك أو شبهة .
(۱) قوله (فيصح منصوب بان
القدرة بعد النفي . وهو لا يبقى .
(۲) وقوله (فيعتبر) منصوب
معطوف على (فيصح) .
(۳) وقوله (أولا) عطف على
صحة انتفائه، لا على ( يعتبر) كما هو الظاهر .
والمراد به ، أو يعتبر عدم صحة
انتفائهما به .
(٤) قوله (اللهم الخ) في لفظة
اللهم هنا وفيما بعد، اشعار بأن المتبادر من عدم امكان دفعه ، أن لا يمكن دفعه بعد
حصوله . فهذا التوجيه ان تم ، فلا ينافي أولوية ما ذكرنا . وفيه ان هذا دفع ، لا
دفع هذا . وعدم تكرير هذا البحث المذكور في العلاوة في المكتسب ، يشعر برجوعه عنه
تدبر .
(٥) قوله الا ان يراد بذلك ذلك هنا وفي
نظيره فيما بعد ، اشارة الى
فان اريد به ذلك، فذلك يوجد في العلم
الاستدلالي الذي لم يقارنه الضرورى (۱) ، لانه في حال حصول العلم أيضاً لا
يمكنه دفعه عن نفسه ، وان لم يكن ضرورياً . وانما يصح أن يدخل الشبهة أو الشك عليه
فيمنعا من وجود مثله في الثاني (۲) أو يدخلا في طريقه قبل حصوله فيمنعا من
توليده .
فأما حال حصوله فلا يصح على حال، فعلم
بذلك ان الصحيح ما قلناه. اللهم الا أن يراد بذلك ما أمكن (۳) ذلك فيه على وجه .
____________________________________________
صحة انتفائه بهما.
المنفية في حد الضروري، وفي قوله (فذلك) يوجد اشارة الى عدم الصحة . ففي العبارة
تفكيك الاشارة .
(۱) قوله ( الذي لم
يقارنه الضروري أي لم يقارنه ما يقتضي العلم الضروري وانما قيده به ، مع انه يوجد
في الذي قارنه الضروري أيضاً . لان ما قارنه الضروري ان كان كسبياً ، فيتوهم خروجه
عنه ، بقيد اذا انفرد . لو لا دخول ما لم يقارنه فيه . وان كان ضرورياً فلا يصلح للنقض.
وضمير عليه راجع الى العلم الاستدلالي .
والمراد بدخولهما عليه ان يكونا بعد
حصوله ونسيانه بالكلية .
(۲) قوله فيمنعا من وجود
مثله في الثاني لم يقل فيمنعا من وجوده ، أو وجود مثله في الثاني. فانه بعد
النسيان بالكلية، لا يعود الا مثله، على القول ببقاء العلوم أيضاً .
(۳) قوله (ما أمكن ذلك
فيه على وجه أي أمكن دخول الشبهة، أو الشك فيه. سواء كان حال حصوله، أي بعد تمام
النظر الصحيح في دليله ، وبعد حصول
فان اريد ذلك كان صحيحاً على مذهبه ،
ولا يصح ذلك على مذهبنا لما قلناه من العلم الحاصل بالبلدان والوقائع (۱) .
____________________________________________
شروط توليده العلم .
أو كان في طريقه قبل حصوله. أي بعد تمام النظر الصحيح في دليله ، قبل حصول بعض
شروط توليد النظر الصحيح للعلم. كالخلو عن اعتقاد الضد، أو كان بعد حصوله ونسيانه
بالكلية . واستيناف استدلال عليه، بجواز حدوث مانع عن توليده حينئذ. كاعتقاد الضد
والممكن من الشقوق ، ماعدا الأول. ولما كان المقصود هنا دفع العلاوة فقط، لا يضر
كون هذا منافياً لما سيجيء من قول المصنف وللنظر في الدليل من الوجه الذي يدل يوجب
العلم، وسنوضحه .
(۱) قوله (فان اريد ذلك
كان صحيحاً على مذهبه، ولا يصح ذلك على مذهبنا، لما قلناه من العلم الحاصل
بالبلدان والوقائع) المراد انه يصح على مذهب من قال: ان العلم لا يبقى أيضاً، في
الخلاف الثاني . ولا يصح على مذهب أصحابنا أيضاً، في الخلاف الأول. ففي كلام
المصنف هناك التفكيك .
وبالجملة حاصله على ما سيصرح به أيضاً
في قوله : (والعلوم الضرورية على ضربين الخ) ان الضروري بعد حصول مقتضية من
المشاهدة المخصوصة ونحوها ، لا يمكن أن يندفع عن كامل العقل. أي من لم يكن اقص
الغريزة، كالبله، والصبيان بالهوى أو بالعقائد المضادة الحاصلة عن الشبهة. أي ليس
انتفاء الهوى .
واعتقاد الضد شرطاً لايجاب مقتضيه له .
فلا يجب انتفاء هما قبله ، بل انما ينتفيان في مرتبة حصوله ان كانا متحققين. لان
مقتضى الضروري كما يوجبه يوجب انتفائهما. بخلاف المكتسب، فانه قد يندفع بهما. كما
في ظاهر عبارة
والعلوم الضرورية على ضربين (۱) ضرب منهما يحصل (۲) في العاقل ابتداءاً،
وهو مثل العلم بان الموجود لا يخلو من أن يكون قديماً ، أو غير قديم ، وان الجسم
الواحد لا يخلو من أن يكون في مكان، أو لا يكون فيه، وان الذات لابد من أن يكون
على صفة، أو لا يكون عليها .
____________________________________________
المصنف هنا. وهو فيما
اذا كان المكتسب كثير المقدمات والترتيب . كما في القياسات المركبة الطويلة، فانه
قد يتوسط شك في اثناء النظر فيها ، في حصول بعض اجزائه السابق ، أو شبهة نعتقد
معها عدم حصوله . فيتم جميع أجزائه في النظر الصحيح، ولا يحصل العلم لعدم تذكره
بعض أجزائه حين تمامه ، وهو شرط في توليده العلم .
(۱) قوله : (والعلوم
الضرورية على ضربين) ذكر هذا التقسيم هنا ، لبيان معنى عدم امكان الدفع وتفصيله
(۲) قوله (يحصل في العاقل
ابتداءاً) المراد بحصوله ابتداءاً أن لا يتوقف على الادراك بقرينة المقابلة ، ولا
ينافي ذلك توقفه على تصور النسبة ، أو عليه وعلى الواسطة اللازمة على القول
بضرورية المتوقف عليها .
والمراد (بالادراك) ادراك الحواس
الظاهرة والباطنة. فيدخل فيه البديهات والفطريات عند القائل بضروريتها ،
والوجدانيات من الغير ، المتوقفة على ادراك الحواس الباطنة . وهي ما نجده لا
بالالات البدنية ، كشعورنا بذواتنا وأحوالنا ، كالعلم بالعلم وغيره .
هذا وظاهر عبارة شارح المطالع (۳) وغيره ان الوجدانيات
مطلقاً ، متوقفة
__________________
وتعلق الكتابة (١) بالكاتب والبناء
بالباني، وما يجرى مجرى ذلك مما نعده فى كمال العقل وهي كثيرة .
والضرب الثاني: ما يقف على شرط، وهو
العلم بالمدركات (۲) لان
العلم بها ضرورى ، الا أنه واقف على شرط ، وهو الادراك .
____________________________________________
على ادراك الحواس
الباطنة تدبر .
والانسب أن لا تدخل الحدسيات مطلقاً على
القول بكونها ضرورية في شيء من القسمين ، لان القسم الأول كما يفهم من الاقتصاد ،
يجب أن يكون مما هو مركوز في أول العقل . وهى غير متوقفة على الادراك.
(۱) قوله (وتعلق الكتابة
الخ) أي العلم بأن لها محدثاً بعد العلم بحدوثها والحاصل احتياج الحادث الى محدث .
وليس المراد كوننا فاعلين لافعالنا الاختيارية . وان العلم به ضروري كما قال في
التجريد : ( والضرورة قاضية باستناد افعالنا الينا ) . لان المسألة معركة لاراء
العقلاء وخفاء الضروري عليهم غير جائز كذا قال المصنف في الاقتصاد .
ويمكن أن يقال ، ان النزاع لاجل الاحكام
الوهمية ، لا ينافي الاذعان والضرورة كما مر في الوسواسي في النية .
(۲) قوله (وهو العلم
بالمدركات أي العلم بوجودها في الخارج . لا يقال هو عين الادراك . فكيف جعل
مشروطاً به ؟ لانا نقول : الادراك الحاصل في البهيمة ، ولا علم لها ، فهو غير
الادراك .
__________________
مع ارتفاع اللبس (۱)، وهذا العلم واجب حصوله
مع الشرط الذي ذكرناه في العاقل (۲) لانه مما يدخل به في كونه كامل العقل
ومتى لم يحصل أخل ذلك بكمال عقله .
وزاد قوم في هذا القسم الذي يقف على شرط
، وان لم يكن ذلك واجباً (۳)، العلم بالصنائع عند الممارسة .
____________________________________________
ويدخل فيه العلم بالمحسوسات والمشاهدات
والتجربيات والمتواترات على تقدير كونها ضرورية .
(۱) قوله (مع ارتفاع
اللبس) كالبعد المفرط ، والظلمة الموهمة ، ومقابلة الشمس ونحو ذلك . والمراد أنه
مع اللبس ، لا يحصل العلم أو الجزم لا أنه يحصل العلم أو الجزم بالباطل .
(۲) قوله (في العاقل)
متعلق بـ (حصوله) وقوله (لانه) استدلال بالحد على المحدود . ثم الظاهر من عبارة
المصنف هنا ان المراد بالعقل ، وبكمال العقل واحد . وسيظهر لك ان الفرق بينهما ،
بجعل الثاني أخص من الأول ، أولى.
(۳) قوله (الذي يقف على
شرط وان لم يكن ذلك واجباً) الموصول صفة هذا القسم ، وذلك اشارة اليه . وان
الوصلية باعتبار أن الوجوب غير معتبر في مفهوم هذا القسم . وانما هو لازم من
لوازمه عند المصنف ، وليس كذلك عند القوم .
فهي مع ما في خيرها اشارة الى منظورهم
في الزيادة . يعنى جعل القسم الثاني على قسمين :
الأول : ما يحصل وجوباً مع الشرط ، وهو
كالعلم بالمدركات .
الثاني : ما يحصل لا وجوباً ، بل
بالعادة المختلفة الغير المستمرة ، كالعلم
والعلم بالحفظ عند الدرس (۱) ولنا في ذلك نظر (۲) ليس هذا موضع الكلام
فيه .
____________________________________________
بالصنائع عند
الممارسة ، والعلم بعنوان الحفظ عند تكرار الدرس ، أو بالعادة المستمرة ، كالعلم
بمخبر الاخبار المتواترة .
(۱) قوله ( والعلم بالحفظ
عند الدرس) الباء ليست صلة للعلم، هي للملابسة أي العلم محفوظاً باقياً في الذهن
بما يلقى الى المتعلم . أي الفاظه عند الدرس أي القاء المعلم .
(۲) قوله ( ولنا في ذلك
نظر ) النظر في الأول انا لانسلم كونه داخلا في الضروري ، وان كان معتبراً في
العقل ، كما سيذكره المصنف . ولوسلم فلا نسلم أنه ليس واجب الحصول عند الشرط .
انما المسلم اختلاف الشرط بحسب الاشخاص . وهو لا ينافي الوجوب عند تكامل الشرط
الذي يحصل معه العلم بالنسبة الى أدنى العقلاء أو تكامل كل شرط بالنسبة الى ما
يحصل عنده العلم فيه .
والنظر في الثاني ، انا لا نسلم كونه
ضرورياً . ولا نظرياً لانه ليس علماً بل كيفية للعلم ، وهو البقاء في الذهن .
ولوسلم فهو واجب ، وان كان شرطه مختلفاً كما مر .
هذا والمصنف في الاقتصاد جرى على ما مر
من تقسيم القوم .
وقال سيدنا الاجل المرتضى في جواب
المسائل الحلبيات : ونحن نعلم
__________________
وذكروا فيه أيضاً (۱) العلم بمخبر الاخبار
المتواترة ونحن نبين (۲) ما
عندنا فيه عند الكلام في الاخبار ان شاء الله تعالى .
____________________________________________
ان في العقلاء من
يعلم الهندسة، وكثيراً من الصنائع كالصياغة والنساجة ، ونظم الشعر، وهذه كلها علوم
ضرورية ، يفعله الله تعالى عند الممارسة بالعادة ، وان لم يكن من كمال العقل ،
وتفاوت العقلاء فيها. وزيادة بعضهم على بعض ، لا يقتضي تفاوتهم في التكليف العقلي
، ولا زيادة بعضهم على بعض فيه ، فأما الحفظ بدرس ، والفظتة بما يذكر ، وتفاوت
الناس في ذلك ، فمما لا شبهة فيه . والحفظ عند الدرس عندنا ، حاصل بالعادة من فعل
الله تعالى ، وان كانت العادة متفاوتة فيه . فمن الناس من يحفظ بالدرس اليسير
الكثير، وفي الناس من لا يحفظ بالدرس الكثير الا القليل . فدل ذلك على ان العادة
فيه متفاوتة كالتفاوت في العلم بالصنائع عند الممارسات . وليس ذلك كله من العقل ،
ولا براجع اليه . فيتفاوت التكليف العقلي فيه بزيادته أو نقصانه . (انتهى) .
(۱) قوله (وذكروا فيه
أيضاً) في القسم الذي يتوقف على شرط ، وغير واجب الحصول عنده .
(۲) قوله (ونحن نبين)
سيبين ان العلم بمخبر الاخبار المتواترة على قسمين : (أحدهما) مكتسب . و (الآخر)
متوقف فيه . ويجب حصوله في العاقل عند شرطه .
وقال سيدنا الاجل المرتضى في جواب مسائل
الحلبيات : قد اختلف في ان العلم بمخبر الاخبار من كمال العقل . فألحقه قوم بكمال
العقل ، وأخرجه آخرون منه . وهذا الخلاف فرع على القطع ، على ان العلم بمخبر
الاخبار
وأما العلم المكتسب فحده أن يكون من فعل
العالم به (۱)،
و هذا الحد أولى من حد من قال : أنه ما أمكن العالم به دفعه عن نفسه
____________________________________________
ضروري . وقد بينا في
مواضع وجوب التوقف في ذلك . ومتى كان العلم بمخبر الاخبار كسبياً ، أو غير مقطوع
على انه ضروري ، فلا شبهة في اخراجه من كمال العقل . لان العقل لا يدخل فيه الا ما
كان علمياً ضرورياً (انتهى).
(۱) قوله (فحده أن يكون
من فعل العالم به المذاهب في كيفية حصول
العلم النظري بعد النظر الصحيح خمسة :
(٢)
الأول : مذهب الأشعري ، وهو انه من
تاثير الله تعالى ، لكن باجرائه
تعالى عادته به . عقيب النظر الذي هو
أيضاً من تاثیره تعالی ، بدون لزوم للنظر
الثاني : انه من تأثير الله ، ايجاباً
ولزوماً . للاستعداد التام ، الحاصل للذهن بالنظر الذي هو أيضاً من تأثيره تعالى .
وهذا منقول عن الفلاسفة (۳) .
الثالث انه من تأثير الله تعالى
اختياراً ، ولزوماً للنظر الذي هو أيضاً من
تأثيره تعالى اختياراً . وهو منقول عن
الفخر الرازي (۴) .
__________________
ولا يخفى ان القائلين بهذه المذاهب
الثلاثة ، يحتمل أن يقولوا بأنه مقارن القدرة غير مؤثرة من العبد . كما نقل عن
الاشعري في جميع أفعال العباد الاختيارية التي منها النظر، وأن لا يقولوا أنه
بجعله كالافعال الاضطرارية للعباد كحركة المرتعش .
الرابع : وهو الذي اختاره المصنف .
وينسب الى المعتزلة (١) أيضاً . هو أنه كالنظر من أفعالنا الاختيارية التي تصدر
عنا بدون شريك ، لكن النظر صادر عنا بمباشرة ، أي بلا توسط فعل آخر. وهو صادر عنا
بتوليد . أي بتوسط فعل النظر المستلزم له عقلا ، وهو ، النظر الذي يكون شروط
توليده جزءاً منه ، أو لازمة له . وسنوضحه عند قول المصنف والنظر في الدليل من
الوجه الذي يدل يوجب العلم .
لا يقال: ينافي هذا المذهب الرابع ماروي
في الكافي . في كتاب التوحيد في باب بعد باب البيان والتعريف ولزوم الحجة ، عن أبي
عبد الله الا انه قال : ستة أشياء ليس للعباد فيها صنع : المعرفة ، والجهل ،
والرضا ، و الغضب ، والنوم ، واليقظة (٢) .
لانا نقول : المعرفة لغة : التصور ، أو
تصور البسيط . كما نقل عن أهل اللغة (۳) ، ان العلم متعد الى مفعولين ، والمعرفة
الى مفعول واحد . والمراد بالمعرفة تذكر العلم السابق بعد غيبته عن الذهن .
قالوا : لا يطلق على الله تعالى العارف
، لانه لا غفلة فيه ، ويطلق على غيره
__________________
اذا كان عالماً به
تعالى عارف ، لانه تذكر للعلم السابق في قوله تعالى : (ألست بربكم)
.
ويؤيده أن المروي في كتاب التوحيد لابن
بابويه في باب القرآن ما هو
؟ بدل الجهل ، الجحود . فان قلت فينافي ما
ذهب اليه المصنف من أن العلوم الضرورية من فعل غير العالم .
قال المصنف في الاقتصاد : والعلوم
الكسبية من فعلنا ، لوجوب وقوعها بحسب دواعينا وأحوالنا ، ففارقت بذلك العلوم
الضرورية ، التي تحصل من فعل الله تعالى (انتهى).
قلت : لعل الحصر في الستة
غير مراد .
الخامس : أنه من فعل الله تعالى بتوسط
النظر الذي هو فعل اختياري لنا وقد ينسب هذا الى الفلاسفة ، وهو ظاهر شارح المطالع
.
__________________
لشبهة في دليله أو
طريقه (۱) اذا
انفرد لان ذلك لا يصح (۲) على
مذهبنا على ما قلناه من العلم باخبار البلدان والوقائع .
والعلم المكتسب على ضربين : أحدهما لا
يقع الا متولداً عن نظر في دليل (۳) والآخر يفعله العالم في نفسه ابتداءاً (۴) .
فالقسم الأول: على ثلاثة أضرب (۵) .
____________________________________________
قوله (أن يكون من اقامة المبدأ ، مقام
المشتق وزيادة (من) هنا لدفع توهم ، أنه نفس التأثير . وفى الضروري للمطابقة ،
لظهور أن التأثير لا يقوم بغير المؤثر. فالفعل بدون (من) فيه ، لا بد أن يكون
بمعنى الاثر الحاصل بالفاعل لا نفس تأثير .
(۱) قوله ( في دليله أو
طريقه ) الترديد باعتبار تعدد الحد . و انما قيد بأحدهما ، لان الجزم يكون دليله
صحيحاً ، لا يجامع الدفع . ولا ـ يخفى أن عدم التقييد أولى ، ليقابل حد الضروري ،
و على تقدير التقييد ، فالثاني أولى .
(۲) قوله لان ذلك لا يصح
الى آخره ولانه يلزم فيه دور كما اشير اليه سابقاً
(۳) قوله عن نظر في دليل
المراد بالدليل هنا الدلالة ، لكن بحذف قيد القصد .
(٤) قوله (يفعله العالم في نفسه
ابتداءاً) أي من غير أن يتولد عن نظر، و سيجيء بيانه .
(٥) قوله على ثلاثة أضرب الحصر
المفهوم منه محل تأمل .
أحدها : أن ينظر في شيء (۱) فيحصل له العلم بغيره
نحو نظرنا في الحوادث لنعلم ان لها محدثاً ، وهذا الوجه يختص العقليات ، لانها
الطريق الى اثبات ذوات الاشياء دون الشرعيات التي هي طريق الى اثبات أحكامها .
وثانيها : (۲) أن ينظر في حكم الذات
فيحصل له العلم بصفة لها ، وذلك نحو نظرنا في صحة الفعل من زيد .
____________________________________________
(۱) قوله (أحدها أن ينظر
في شيء) الاستدلال في بوجود شيء في نفسه على وجود شيء آخر في نفسه . من قبيل القياس
الاستثنائي الاتصالي . كأن يقال : كلما تحقق حادث تحقق محدثه ، لكنه تحقق الحادث .
ولو جعل الدليل الحدوث ، لا وجود الحادث
في نفسه ، خرج عن مثاليته لهذا الضرب ، وصار القياس اقترانياً . بأن يقال : هذا
الموجود حادث ، و كل حادث له محدث.
(۲) قوله (وثانيها الخ) المراد
بالحكم ما قام بالفعل ، كالصحة ، والوجوب والحظر والاباحة . وبالصفة ما قام بغير
الفعل . كالقدرة ، والسواد ، والبياض. أو المراد بالحكم أمر عدمي قائم بغيره .
وبالصفة أمر وجودي قائم بغيره .
وانما كان صحة الفعل عدمياً لان المراد
بصحة الفعل من زيد ، عدم الوجوب السابق لصدور ذلك الفعل عنه . ولا لتركه ، كما مر
بيانه مفصلافي المقدمة الثانية ، من مقدمات بيان الحاجة ويقابله التعذر عليه .
قال المصنف في الاقتصاد : انا نجد فرقاً
بين من يصح منه الفعل ، وبين من يتعذر عليه . فلابد من أن يكون من صح منه الفعل
مختصاً بأمر ليس عليه
فيحصل لنا العلم بانه قادر . (۱) وهذا أولى مما قاله
قوم من انه ينظر في شيء فيحصل له العلم بغيره ومثل ذلك بالنظر في فعل زيد فيحصل له
العلم بانه قادر ، وانما قلنا انه أولى لان الذي يدل على كونه قادراً صحة الفعل
منه على وجه (۲) دون
وقوعه .
____________________________________________
من تعذر عليه ذلك .
والا تساويا في الصحة والتعذر، وقد علمنا خلافه .
وأهل اللغة من اختص بهذه المفارقة
يسمونه قادراً، فاثبتت المفارقة لمقتضى العقل والتسمية لاجل اللغة ، فاذا كان صانع
العالم ، صح منه الفعل ، وجب أن يكون قادراً (انتهى) .
والمناقشة مع القائل في اخراج المثال عن
الضرب الثاني ، وادخاله في الضرب الاول . وانما قال : أولى دون أن يقول : صواب .
لانه كما يمكن جعل صحة الفعل دليلا ، ووجه دلالتها ، ما نقل آنفاً ، يمكن جعل وقوع
الفعل دليلا ، ووجه دلالة اتصافه بالصحة مع الوجه كما سيجيء .
و ان كان بعيد الان دليل الشيء في
الأكثر ، انما يطلق على ما يصلح، لكونه أوسط في القياس ، الموصل اليه بلا واسطة .
وفعل زيد ليس كذلك بدون ضم الصحة اليه نعم، فعل العالم يدل على قدرة فاعله تعالى ،
لامتناع النقص عليه والتعذر ، نقص .
ويجوز أن يقال في وجه الترجيح بالاولية
، انه مناقشة في مثال .
(۱) قوله (فيحصل لنا
العلم بانه قادر ) أي بتحقق قدرته في نفسه ، ليطابق ظاهر قول القائل . وحينئذ يدخل
في الضرب الاول .
(۲) قوله (على وجه) أي
على الوجه الذي به يدل على ما يدل عليه ، و هو استلزامه لامر وجودي يعرفه كل أحد
بالوجه . ويسمى أيضاً بالطاقة ، و
__________________
فتمثيله بما قلناه
أولى (۱) .
والضرب الثالث أن ينظر في حكم لذات
فيحصل لنا العلم بكيفية صفة لها نحو نظرنا في جواز العدم على بعض الذوات فيحصل لنا
العلم بانها محدثة ، وهذا الذي ذكرناه أولى (۲) مما قاله قوم من انا
ننظر في صفة لذات فيحصل لنا العلم بصفة اخرى لها لان جواز العدم ليس هو صفة ، وانما
هو حكم من أحكامها وكونها محدثة ليس أيضاً بصفة، وانما هو كيفية في الوجود
فعلم بذلك ان ما قلناه أولى ، ومثاله في
الشرعيات ان ننظر في أن شيئاً منها واجب فيحصل لنا العلم بأن له جهة وجوب .
____________________________________________
القوة ، والقدرة .
كما مرنقله من المصنف ، فتغير القدرة في المشهورة بصحة الفعل ، والترك فيه مسامحة
.
(۱) قوله (فتمثيله بما
قلناه أولى) الأولى أن يقول بدله ، فتمثيل ما قلناه به أولى ، الا أن يقال : ضمير
تمثيله راجع الى الضرب الأول ، وما قلناة عبارة عن النظر في الحوادث ، ليعلم ان
لها محدثاً .
(۲) قوله (وهذا الذي
ذكرناه أولى الخ) هذا مناقشة في اخراج المثال عن الضرب الثالث ، وجواز العدم ليس
صفة . لانه سلب ضرورة الوجود ، و وجه كونه أولى دون الصواب ، ان الصفة قد تعمم
بحيث تتناول العدميات أيضاً ، وكما ان الحدوث يمكن أن يجعل صفة للوجود ، وهو
الظاهر يمكن أن يجعل صفة للذات ، وهو كون وجوده حادثاً .
وأما الضرب الثانى (۱) العلوم المكتسبة التي
تحصل من غير نظر فهو ما يفعله المنتبه من نومه وقد سبق له النظر في معرفة الله
تعالى فحينئذ يعقل العلم عند ذكره الادلة .
____________________________________________
(۱) قوله (وأما الضرب
الثاني الخ) اذا صدر فعل عن النفس سواء كان نظراً ، أو علماً ، أو غيرهما ،
فالتصديق بصدوره على أربعة أقسام :
الأول : حين الصدور ، وهو المشاهدة ، أي
الالتفات . ولا يكون الا ضرورياً وجدانياً .
الثاني : بعد انقضاء الصدور ، و بقاء
الصادر ملتفتاً اليه ، وهو أيضاً ضروري وجداني.
الثالث : بعد انقضاء الصادر ، وعدم
بقائه ملتفتاً اليه مع عدم كونه نسياً منسيا ، بحيث يحتاج التصديق به الى كسب وهو
أيضاً ضروري وجداني .
الرابع : بعد انقضائه وعدم بقائه
ملتفتاً اليه ، مع كونه نسياً منسيا وهو كسبي .
ولا يسمى بالتذكر الا القسم الثالث ،
فثبت بذلك ان العلم بالنظر حين تذكره من العلوم الضرورية التي ليست من فعل العبد ،
سواء كان تذكره تفصيلا أو اجمالا بخصوصه أو بعمومه ، فهو ليس بنظر، لان النظر من
فعلنا و لان العلم غير الحركة ذات الاجزاء والتدريج.
ولا يبطل ذلك بما نسب في الشرح الجديد
للتجريد (١) الى أبي هاشم (۲) من أنه صرح بأن التذكر الذي يفعله العبد
بقصده واختياره يولد العلم . لان ذلك العلم حاصل للعبد بسبب ما هو من فعله (انتهى
مضمونه) (۳) .
لان العلم بالنظر حين التذكر الذي حصل
بسبب فعل العبد وقصده و اختياره، لا يخرج عن كونه ضرورياً من الله تعالى، كحصول
مشاهدتنا جسماً أبيض بسبب سعينا اليه، وان كان كيفية، وهي الالتفات من فعل العبد ،
ومعلوم انها أيضاً ليست بنظر ، اذ ليست من جنس الحركة ، اذ لا أجزاء لها ، ولا
تدريج فيها .
ثم حين تذكر النظر ، لا يخلو المنظور
فيه، من أن يكون نسياً منسيا، أولا فعلى الثاني لا يخرج العلم به عن كونه من فعل
العبد ، لانه مكلف به. ويمكنه أن يدفعه عن نفسه بشك أو شبهة ، فهو صادر عن العبد
بمباشرة ، لا بتوليد عن نظر .
وعلى الأول يحصل العلم به بسبب تذكر
النظر فقط، اذ هو لازم بين له بالمعنى الاخص ، فليس مجامعاً للنظر ، وان كان مع
تذكر النظر تفصيلا، اذ ليس للتفصيل دخل فيه، والا لم يحصل مع تذكره اجمالا .
__________________
( ۱ ) تجريد الكلام في
تحرير عقائد الاسلام ، لسلطان الحكماء والمتكلمين الخواجه نصير الدين محمد بن محمد
بن الحسن الطوسى المتوفى سنة (٥٦٧٢) .
وشرحه الفاضل القوشجى علاء الدين على بن
محمد المتوفى سنة (۵۸۷۹)
.
(۲) أبوهاشم ، عبد السلام
بن أبى على محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي . المتكلم المشهور ، كان هو وأبوه
من كبار المعتزلة ، ولد سنة سبع وأربعين ومأتين و توفى لاثنتي عشرة ليلة بقيت من
شعبان سنة احدى وعشرين وثلثمائة ببغداد .
(۳) الشرح الجديد للتجريد
( البحث في الكيفيات النفسانية ) في شرح قول الماتن وحصول العلم عن الصحيح واجب .
وهذا العلم الحاصل عن تذكر نظر مغاير
بالشخص للعلم الذي كان حاصلا عن انشاء النظر، لاستحالة اعادة المعدوم بعينه على
المشهور، وهو كسبي لانه ليس داخلا في شيء من أقسام الضروري المشهورة .
لا يقال: لعله داخل في الحدسي، اذا كان
تذكر النظر اجمالا بخصوصه.
لانا نقول: نفرض الكلام فى تذكره اجمالا
بعمومه، أو في تذكره تفصيلا ويكفي في المقصود، ثم يمكن ان نتجاوز ونقول : كما أنه
مع تذكر النظر تفصيلا ، ليس بمنظور فيه ، لعدم مدخلية التفصيل كما مر . وليس بحدسي
لمدخلية تذكر الترتيب في الجملة فيه، بخلاف الحدسيات. وكذا مع تذكره اجمالا ليس
بحدسي لمدخلية تذكر الترتيب في الجملة .
فان قلت : انما يتوجه ما ذكرتم ، اذا
اسند جواز كونه حدسياً ، بكون الواسطة الحد الأوسط في ابتداء النظر. أما اذا اسند
بكون الواسطة حصول النظر اجمالا ، أو تفصيلا ، فلا يتوجه لانه لو احتاج الى ترتيب،
كأن يقال : هذا منظور فيه بنظر صحيح، وكل منظور فيه كذلك حق كان منظوراً فيه، والا
كان حدسياً .
قلت : يمكن الجواب بأن عدم الاحتياج الى
الترتيب بين ، لما مر من أنه لازم بين بالمعنى الاخص التذكر، وليس بحدسي أيضاً.
لان موجب العلم الضروري من حيث أنه موجب له ، أقوى من موجب الكسبي الذي يقطع على
أنه حصل بنظر من حيث أنه موجب له . وتذكر النظر ليس بأقوى من النظر ابتداءاً في
ايجاب العلم .
ويمكن الاستدلال بهذا على الكسبية
ابتداءاً. ويدل أيضاً على ان هذا العلم كسبي، ان فاعل هذا العلم هو العالم . لانه
لو كان من فعل الله لما أمكن دفع شيء منه بشك أو شبهة. ومعلوم ان كل كسبي يمكن
دفعه في ابتداء النظر بشك أو شبهة، يمكن دفعه بعد تذكر النظر أيضاً بهما .
وطريق النظر في الوجوه الثلاثة التي
قدمنا ذكرها (۱) .
وقال قوم فى العلوم التي تقع عن نظر (۲) ما يسمى استدلالا :
____________________________________________
ونقل في الشرح الجديد للتجريد عن
المعتزلة، في بيان انه ليس من فعل الله تعالى انه مكلف به ، ولا تكليف بفعل الغير
. ومرادهم انه لو كان من فعل الله لما أمكن التكليف بشيء منه . ومعلوم ان كل كسبي
يكون مكلفاً به في ابتداء النظر، فهو مكلف به استدامة وحين تذكر النظر .
ثم الموصول في قوله ( التي تحصل من غير
نظر ) ينبغي أن يكون صفة للضرب الثاني. فالاولى (الذي) بدل (التي) وكأنه من تغيير
الناسخ وانما قيد بالمنتبه احترازاً عن القسمين الأولين من الاربعة .
وينبغي أن يقيد سبق النظر بعدم صيرورته
نسياً منسيا، للاحتراز عن القسم الرابع أيضاً، وانما تر كه هنا اعتماداً على قوله
فيما بعد (عند ذكره الادلة) .
والمراد بالذكر : التذكر مطلقاً أو
التذكر الذي هو بالقصد والاختيار دون التذكر السائح للنفس، بقرينة أنه قال : (عند
ذكره الادلة) ولم يقل (عند ذكره الدلالة ( فانه اشعار بأن النظر في معرفة الله
تعالى ، يستخيل أن يكون نسياً منسياً .
(۱) وقوله (طريق النظر )
اما منصوب معطوف على مفعول الذكر، والجار والمجرور حينئذ متعلق بـ ( النظر) . واما
مرفوع على انه مبتدأ ، وخبره الجار والمجرور، ومعناه حينئذ ان تذكر النظر ليس بنظر
، فان طريق النظر . منحصر في الوجوه الثلاثة ولا يخفى ان الأولى حينئذ اسقاط الجار
.
(۲) قوله ( في العلوم
التي تقع عن نظر ) هي القسم الأول من العلم المكتسب
__________________
وهو ما يكون المستدل
به (۱) غير
المستدل عليه . ومنه ما يسمى اكتساباً فقط. واطلاق الاكتساب على جميع ذلك لا خلاف
فيه، و لا يمتنع أن يسمى أيضاً جميع ذلك (۲) استدلالا وانما يختص
(۳) بتسميته
الاكتساب ما يفعله ابتداءاً على ما بيناه عند الانتباه. فان ذلك لا يجوز أن يسمى
استدلالا ، ومن حق العلوم المكتسبة أن تتأخر عن الضرورية، لانها فرع عليها أو
كالفرع (۴) .
وأما الظن فعندنا وان لم يكن أصلا في
الشريعة تستند الاحكام اليه، فانه تقف أحكام كثيرة عليه ، نحو تنفيذ الحكم عند
الشاهدين (۵)
____________________________________________
(۱) قوله (وهو ما يكون
المستدل به الخ) هو الضرب الأول من القسم الأول ، من العلم المكتسب .
(۲) قوله (أن يسمى أيضاً
جميع ذلك) أي الضروب الثلاثة للقسم الاول .
(۳) قوله ( وانما يختص) ،
الأولى (ويختص) بالنصب عطفاً على يسمى .
(٤) قوله ( لانها فرع عليها أو
كالفرع ) لما لم يكن كل واحد من العلوم المكتسبة فرعاً على كل واحد من الضرورية ،
بل كل واحد فرع على ما كان من مقدمات دليله زاد أو كالفرع فان الفرع على شبيه علم
في الضرورية كالفرع عليه .
(٥) قوله (وأما الظن فعندنا وان
لم يكن أصلا في الشريعة تستند الاحكام اليه ، فانه تقف أحكام كثيرة عليه ، نحو
تنفيذ الحكم عند الشاهدين ) عندنا اشارة الى انه مجمع عليه بين الامامية، وان
المخالفين هم النواصب ، القائلون بصحة الاجتهاد في نفس الاحكام الفقهية ، و (الأصل)
هذا الدليل و (الاستناد)
الاعتماد الكلى .
والمراد بـ (الاحكام) الاحكام الفقهية
الواصلية . وقوله (تستند الاحكام اليه) تفسير لكونه أصلا ـ يعني كون الحكم الفقهى
الواقعي مظنوناً ـ ليس دليلا على الحكم الفقهي الواصلي أي ليس الاجتهاد من أدلة
الفقه ومستلزماً للعلم بالفقه في مسألة من المسائل كما مرفي الفصل الأول ، لكن
العمل بالعلم بالفقه كثيراً ما يتوقف عليه ، مثلا العلم بالمسألة الفقهية القائلة
ان العدلين اذا شهدا عند القاضي على طبق دعوى مالي ، يجب على القاضي الحكم على
المدعى عليه ، سواء كان صدقهما مظنوناً للقاضي أم لا ، لا يستند الى الظن بالحكم
الواقعي ، لكن تنفيذ الحكم ، أي العمل بهذه المسألة يتوقف على الظن بعدالة
الشاهدين ، لما مر من صحة الاجتهاد في محل الحكم الشرعي .
فالمراد بالحكم في قوله (تنفيذ الحكم)
القضاء والحكم الذي يقف باعتبار العمل به على الظن هنا ، هو وجوب تنفيذ القضاء على
القاضي عند الشاهدين وجوباً واصلياً ، والظن الذي يقف الحكم عليه ليس متعلقاً بنفس
الحكم ، بل متعلق بمحل الحكم . وهو عدالة الشاهدين الثابتة بالمعاشرة الباطنية أو
الشياع ، وقس عليه باقي الامثلة .
وقد يتوهم المنافاة بين ماذكره المصنف
هنا ، وما نقل عن سيدنا الاجل المرتضى من أن وجوب الحكم على القاضي بعد شهادة
العدلين ، ليس من حيث انهما يوجبان حصول الظن ، بل من حيث ان الشارع جعلهما سبباً
لوجوب الحكم على القاضي ، كما جعل دخول الوقت سبباً لوجوب الصلاة (انتهى) .
ولا منافات بينهما ، لان مراد المصنف هنا
ليس الظن بما شهدا عليه ، بل الظن بعدالة الشهود أو معدليهم . أو مراد المرتضى انه
ليس محض الظن مناطاً
ونحو جهات القبلة وما يجرى مجراها (۱) فلابد أن يذكر حده
وحده ماقوى عند الظان كون المظنون على ماظنه، ويجوز مع ذلك كونه على خلافه (۲) .
____________________________________________
والا لكان كل مظنون
واجب الاتباع بقرينة انه قال في الذريعة : اننا لو تمكنا من العلم بصدق الشهود ،
لما جاز أن نعمل في صدقهم على الظن (انتهى) .
والاول اصوب لما مر من انه يجب على
القاضي الحكم بشهادة عدلين ، وان كان نقيض ما شهدا به مظنوناً له بالتفرس .
(۱) قوله ( وما يجري
مجراها) ضابطه كما مر كل قضية لا تكون من مسائل الفقه ، وتصلح لان تكون صغرى لقياس
، تكون كبراه مسألة من مسائل الفقه، و تسمى محل الحكم لاشتمالها على الاصغر الذي
هو محل الأكبر، الذي هو محل الحكم الشرعي .
(۲) قوله ( ماقوي عند
الظان كون المظنون على ماظنه ، ويجوز مع ذلك كونه على خلافه) (ما) موصولة ، و
(قوي) من باب علم ، و (الظان) قائم مقام العائد الى (ما) كأنه قال : ما قوي عند
صاحبه . والمراد بـ (المظنون) المفعول الأول من مفعولي الظن و (على) هنا كما في
قوله تعالى في سورة القصص: ( عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ) وقوله تعالى في سورة
النحل : ( عَلَىٰ تَخَوُّفٍ ) .
و (ما) هنا أيضاً موصولة ، والضمير
المستتر في (ماظنه) لـ (الظان) ، و البارز لـ (المظنون) والعائد الى (ما) محذوف ،
والتقدير على ماظنه عليه .
__________________
والمراد بـ (ماظنه عليه) مبدأ المفعول
الثاني من مفعولي الظن . والمراد بقوة كون المظنون على ماظنه ، أن يكون كون
المظنون على ماظنه ، مستنداً الى ما يصح الاستناد اليه ، وهو القدر المشترك بين
البرهان والامارة فلا تتحقق هذه القوة مع الاعتقاد المبتدأ ، وهو ليس بظن عند
المصنف ، وسيدنا الاجل المرتضى ، كما سيجيء في فصل في الكلام على من أحال القياس
عقلا .
و (تجوز) بصيغة الماضي المعلوم ، من باب
التفعل ، عطف على قوي . و الضمير المستتر للظان القائم مقام العائد ، والتجوز : احتمال
الشيء مع بعده.
ويجوز أن يكون بصيغة المضارع من باب
التفعيل ، ويؤيده قوله (لان العالم لا يجوز وكونه بالنصب مفعول (تجوز) والضمير لـ
(المظنون) وضمير (خلافه) لماظنه .
والحاصل ان الظن ما قام بغيره وتعدى الى
مفعولين ، وقوي عند ذلك الغير كون مفعوله الأول متصفاً مفعوله الثاني ، واحتمل ذلك
الغير : أن يكون مفعوله الاول متصفاً بمنافي مفعوله الثاني .
وربما يطلق الظن على العلم الذي معه
رجاء أو خوف ، ويمكن أن يحمل عليه قوله تعالى في سورة البقرة : ( الَّذِينَ
يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ )
و قوله تعالى في سورة
يوسف : ( وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ
مِّنْهُمَا )
وقوله تعالى في سورة
الكهف : ( وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ
فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا )
.
وقد يطلق الظن على المعارضة الوهمية
المتبعة ، والعلم على ما لم يكن معه هذه المعارضة . ويجوز أن يحمل عليه قوله تعالى
في سورة الجاثية : (مَا لَهُم
__________________
وهذا أولى مماقاله قوم من انه ما أوجب
كون من وجد في قلبه ظاناً، لانه بهذا لا يتبين من غيره (۱) لانه يحتاج بعد الى
تفسير فالاولى ما ذكرناه .
ومما قلناه يتبين من العلم، لان العالم
لا يجوز كون ما علمه على خلافه، وكذلك به يتميز من الجهل. لان الجاهل يتصور نفسه
بصورة العالم فلا يجوز (۲) خلاف
ما اعتقده وان كان يضطرب عليه حاله مما يجهله من حيث لم يكن ساكن النفس .
____________________________________________
بِذَٰلِكَ
مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ )
لان العلم بالصانع
شرط التكليف كمامر كما مر . .
(۱) قوله (لا يتبين من
غيره الخ) هذا لان الدور لازم ، فان معرفة الظن من حيث انه تصديق لا ينفع في دفعه
، فيحتاج بعد الى تحديد . اما لان هذا الحد لاشتماله على الدور كالعدم، أو لانه
تحديد بالاعم ، لانه انما يعلم به ان الظن يوجد في القلب ، وهذا أولى بالاولى .
(۲) قوله (لان الجاهل
يتصور نفسه بصورة العالم فلا يجوز الخ) قد ذكرنا في حد العلم ، ان ظاهر هذا يدل
على ان الجهل المركب جزم، وان الجاهل لا يجوز خلاف ما اعتقده ، وان عدم التجويز
أعم من السكون الذي هو عدم الاضطراب ، وقد ذكرنا ما فيه أيضاً
ويمكن تأويله بأن يقال قوله (فلا يجوز)
معطوف بالمعنى على العالم ، و يكون حاصل الكلام لان الجاهل يتصور نفسه بصورة انه
يعلم فيتصور انه لا يجوز ، خلاف ما اعتقده .
__________________
ولانه اعتقاد (۱) لاعلى ما هو به وليس
كذلك الظن .
وأما المقلد (۲) فان كان يحسن الظن
بمن قلده (۳) .
____________________________________________
كما لا يجوزه العالم وان كان مجوزاً في
الواقع، ويؤيد هذا ما سيذكره المصنف في هذا الفصل بقوله لانه اذا لم يكن عالماً
بالدليل على الوجه الذي يدل عليه ، جوز أن لا يكون الدليل على الوجه الذي يدل هذا
، ولكن يأباه قوله (وكذلك به يتمييز من الجهل) لانه لا يتمييز به حينئذ ، الا أن
يراد بقوله في الحد ويجوز مع ذلك كونه على خلافه . ويعلم انه يجوز ، أو لا يكون في
وهمه معارضة داعية الى عدم التجويز . وقد مر تحقيقه في حد العلم.
(۱) قوله (ولانه اعتقاد)
كذا في النسخ ، وكأنه عطف تفسير لقوله (من حيث لم يكن ساكن النفس) والاولى ترك
الواو ، ليكون علة له .
(۲) قوله (وأما المقلد الخ)
والمراد بالتقليد العمل بقول الغير من حيث أنه قوله ، سواء كان الغير معصوماً
أولا. وعلى الثاني سواء كان مظنون الصدق أولا، وقد يطلق على نوع من التصديق ، كما
مر في حد العلم .
والمقصود بهذا الكلام بيان ان حال
المقلد ليس منحصراً في الظن بالحكم الفقهى الواقعي فيما قلد فيه ، وان كان الغالب
ذلك ، ولذا قدمه على القسمين الآخرين ، بل قديكون عالماً به وقد يكون غير ظان به ،
ولا عالم به .
(۳) قوله (فان كان يحسن
الظن بمن قلده) أي ان كان ظاناً بأن مفتيه لم يشهد الا بالحق .
وهذا الظن غير كاف في جواز التقليد ،
على ما قال ثقة الاسلام رضوان الله تعالى عليه ، في خطبة الكافي بقوله : وقد قال
الله عز وجل ( إِلَّا مَن شَهِدَ
فهو سيظن أن الأمر على ما قلده فيه (۱) واذا قلد من لا يجوز
عليه الخطأ ( ۲ ) فكذلك
لا يجوز كون ما قلده فيه على خلاف ما قلده ( ۳ ) واذا قلد من لا يقوى
فى ظنه حال ما قلده فيه (۴) ففارق الظن ، لان ذلك يكون قد سبق الى
اعتقاد لامزية لكونه ما اعتقده ،
____________________________________________
بِالْحَقِّ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ )
فصارت الشهادة
مقبولة لعلة العلم بالشهادة ، ولولا العلم بالشهادة لم تكن الشهادة مقبولة (انتهى)
.
(۱) قوله (فهو سيظن أن
الأمر على ما قلده فيه السين المحض التأكيد ، والمراد بالأمر الحق ، وعلى متعلقه
بانطباق مقدر .
(۲) قوله (واذا قلد من لا
يجوز عليه الخطأ) المراد بالخطأ العدول عن الحق المذكور في سورة الزخرف : ( إِلَّا
مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) وهو شامل لما استعمل
فيه التقية أيضاً .
(۳) قوله ( فكذلك لا يجوز
كون ما قلده فيه على خلاف ما قلده ) الاولى لا يجوز كون الأمر على خلاف ما قلده
فيه .
(٤) قوله (واذا قلد من لا يقوى في
ظنه حال ما قلده فيه الخ) الأولى (في ذهنه) بدل (في ظنه والضمير للمقلد بالكسر.
والمراد بحال ما قلده فيه كونه منطبقاً على الحق
وذلك كما اذا افتاه مفتيان بمتناقضين ،
وكان كل من المفتين جامعاً لشروط الافتاء بزعمه من غير ترجيح، وقلد أحدهما بناء
على أنه مخير والضمير المنصوب
__________________
وعلى خلافها فقد فارق
حال الظن .
وأما الشاك فهو الخالى من اعتقاد الشيء
على ما هو به ، ولا
____________________________________________
في قلده لـ (من)
وضمير فيه لـ (ما) وذلك اشارة الى من ، وهو المفتي .
والمراد بـ (الاعتقاد) المعتقد بالفتح .
والمراد بـ (الامزية) عند المقلد بالكسر، وضمير لـ (كونه ) لـ ( الاعتقاد مراداً
به المعتقد بالفتح . وقوله ( وعلى خلافها) عطف (على) على ما اعتقده ، والتقدير (
ولكونه على خلافها) والضمير المؤنث راجع الى (ما) باعتبار التأويل بالجهة ونحوها،
والأولى حذف الواووتذكير الضمير .
لا يقال : قوله (قد سبق الى اعتقاد الخ)
ممنوع ، لانه يجوز ان لا يسبق أحد المفتين في المثال المذكور الى اعتقاد ما قاله ،
ولو خصص المدعى به توجه المنع على حصر التقليد في الاقسام الثلاثة ، لان هذه
الصورة من التقليد، وليس داخلا فيها لانا نقول : هذه ليس بتقليد حقيقة ، وان كان
حكمه حكم التقليدفي جواز العمل ، اذ ليس ما هو قول المفتي في الظاهر قولا له في
نفس الامر وليعلم ان الاعتقاد قد يطلق على ماليس بجزم ، ولاظن كما سيجيء في (فصل
في كلام على من أحال القياس عقلا) من ان الاعتقاد والمبتدأ وهو الذي ليس الضرورة،
ولالبرهان ، ولالامارة ليس ظناً وعلى هذا يمكن أن يكون ذلك اشارة الى المقلد .
ويحمل قوله (لامزية) على عدم المزية في
نفس الامر ، ولعل هذا ألصق بقوله ( فقد فارق حال الظن ) لكن كان دعوى السبق الى
الاعتقاد حينئذ مبنياً على أنه أحسن أحواله ، والا لتوجه المنع على الحصر فيه.
على ما هو به (۱) مع خطوره بباله ،
وتجويزه كل واحدة من الصفتين عليه .
وأما الدلالة فهى ما أمكن الاستدلال بها
على ما هي دالة عليه الا أنها لا تسمى بذلك ، الا اذا قصد فاعلها الاستدلال (۲) .
____________________________________________
(۱) قوله ( ولا على ما هو
به ما هو به معطوف على على ماهوبه) أي والخالي من اعتقاد الشيء لا على ما هو به
وضمير هو راجع الى (الشيء) والباء متعلق باتصاف مقدر ، وضمير به راجع الى (ما)
والمراد بالشيء النسبة الحكمية و بـ (ما) كيفيتها من الايجاب أو السلب .
ولو اريد بـ (الشيء) الموضوع ، وبـ (ما)
المحمول ، كان تصحيح هذا الحد محتاجاً الى تكلف في صورتين ، فيما اذا كان ما هو
متصف به متعدداً، والمشكوك فيه واحداً منها فقط . وفيما كان الحق فيه السلب ، ثم
ضمير خطوره لـ الشيء وضمير بباله لـ ( الخالي) وكذا ضمير تجويزه .
والمراد بـ (الصفتين) ما هو به ،
ومقابلة المفهوم من قوله (لا على ما هو به) و ضمير عليه لـ (الشيء) وانما قيد
بقوله ( مع خطوره بباله) لان الغافل عن النسبة الحكمية ، لا يسمى شاكاً، وانما قيد
بقوله ( وتجويزه الخ) احترازاً عمن لا يجوز لنفسه احدى الصفتين ، ومع هذا لا يعتقد
واحدة منهما لكراهة للحق في الجملة فيصور نفسه بصورة الشاك، وليس بشاك كما ان
الذين جحدوا بالرسالة واستيقنتها أنفسهم ليسوا بجاهلين بالرسالة ، ثم ظاهر هذا
الحدان الاعتقاد المبتدأ ينافي الشك ، وقد مر أنه خارج عن الظن .
(۲) قوله (وأما الدلالة
فهي ما أمكن الاستدلال بها على ماهي دالة عليه الا انها لا تسمى بذلك الا اذا قصد
فاعلها الاستدلال) الدلالة في اللغة : كون
الشيء بحيث يعلم به
شيء آخر بالفكر. والشيء الأول ، دال . والثاني مدلول عليه .
والاستدلال في اللغة : الحكم بكون شيء
دالا على شيء بالدلالة اللغوية والدلالة في عرف الاصولى : ما فعلت ليستدل بها على
ما هي دالة عليه فلا بأس بذكر الاستدلال مثلا في حد الدلالة ، مع انه مشتق منها، و
استعمال المشتق من شيء في حد ذلك الشيء دور اذ هو مشتق من الدلالة اللغوية ،
ومستعمل في معناه اللغوي فلادور.
ويظهر بما ذكرناه ان قوله الا انها لا
تسمى (الخ) جزء الحد وقوله (على ما هي دالة عليه احترازاً عما قصد به الاستدلال
على شيء ووقع ، أو أمكن الاستدلال به على ذلك الشيء خطاءاً ، فانه لا يسمى دلالة ،
لا بالنسبة الى ذلك الشيء ، ولا بالنسبة الى غيره .
ولما كان الاستدلال بشيء على ما هو دال
عليه، لا يستعمل الا فيما هو مع العلم بالنتيجة لم يذكر قيداً على حده يحترز به عن
الامارة لا يقال لعل الامارة عند المصنف داخلة في الدلالة قال سيدنا الاجل المرتضى
في الذريعة : وما يحصل عنده الظن يسمى امارة ، وربما يسمى دلالة ، والاولى افراد
الدلالة بما يحصل عنده العلم (انتهى) .
لانا نقول : ينافي هذا ما سيذكره بقوله
(ومن شرط الناظر الخ) و بقوله (والنظر في الدليل من الوجه الذي يدل يوجب العلم)
والمراد بفاعل الدلالة أعم من موجدها ، ومن ملقيها الى الغير ، ومن مرتبها ، كما
يظهر من الاستعمالات وانما اكتفى بالامكان ، ولم يعتبر الفعلية ، لان الدلالة أعم
من المستدل به بالفعل كما سيجيء في قول المصنف (ولا تسمى بذلك قبل الاستدلال بها
).
__________________
وانما قلنا ذلك (۱) لان ما لا يمكن
الاستدلال به لا يكون دلالة ألا ترى ان طلوع الشمس من مشرقها لا يكون دلالة على
النبوة ، لانه لا يمكن ذلك فيها من حيث كان ذلك معتاداً ، (۲) وطلوعها من مغربها
يكون دلالة (۳) لامكان
ذلك فيه .
وأثر اللص لا يسمى دلالة، وان أمكن
الاستدلال به عليه من حيث لم يقصد بذلك استدلال عليه، وان سمى ذلك دلالة على بعض
الوجوه، فعلى ضرب من المجاز ، لانه لو كان حقيقة لوصف بانه دال وذلك لا يقوله أحد
.
لانا نعلم انه يجتهد في اخفاء أمره ،
وان لا يعلم به ، فكيف يجوز وصفه بأنه دال وتستعمل هذه اللفظة في العبارة عن
الدلالة .
ولهذا يقول أحد الخصمين لصاحبه، أعد دلالتك.
وانما يريد به كيفية عبارتك عنها وذلك مجاز. وانما استعير ذلك من حيث كان
____________________________________________
(۱) قوله ( وانما قلنا
ذلك) اشارة الى مجموع ما سبق، والنشر على ترتيب الليف .
(۲) قوله ( من حيث كان
ذلك معتاداً )سيجيء معنى المعتاد في (فصل في ذكر ما يجب بمعرفته من صفات الله
تعالى) عند قول المصنف (وجرى ذلك مجرى المعجز).
(۳) قوله (يكون دلالة) أي
مع مدخليته الدعوى ، كما سيجيء في ذلك الفصل أيضاً .
السامع لذلك اذا
تأمله كان أقرب الى معرفة المدلول عليه، كما انه عند النظر في الدلالة كذلك، وتوصف
الشبهة بانها دلالة مجازاً، و لهذا يقال دلالة المخالف. ومن حق الدلالة أن تكون
معلومة للمستدل بها على الوجه الذي تدل (۱) به على ما تدل عليه
حتى يمكنه الاستدلال بها، ولا فرق بين أن يعلم ذلك
____________________________________________
(۱) قوله (ومن حق الدلالة
ان تكون معلومة للمستدل بها على الوجه الذي تدل) العائد الى الموصول محذوف،
والمراد (الوجه الذي تدل به على ما تدل عليه) .
واعلم ان للدليل بالنسبة الى المدلول
عليه حالتين : (الأولى) أن يكون متحققاً مستلزماً تحققه، لتحقق المدلول عليه سواء
كان الاستلزام لذاته مع قطع النظر عما عداه، أو لاجتماعه مع شيء آخر .
والمنطقيون خصصوا الاستلزام بالاول ،
ولم يعتبروا فيه التحقق ، فبين الدليل على اصطلاحنا، والدليل على اصطلاحهم، عموم
من وجه .
(الثانية) كون العلم به موصلا الى العلم
بالمدلول عليه، اما بالنظر، و سيجييء تفسيره وانه يستلزم الصحيح منه العلم أو
لغيره، كما تكون الحركة الذهنية فيه، لا يقصد تحصيل شيء سواء كان ايصاله لذاته مع
قطع النظر عما عداه أو لاجتماعه مع العلم بشيء آخر .
والمنطقيون خصصوا ايصاله الى العلم
بالأول ، والحالة الثانية أخص مطلقاً من الأولى، لان أحد المتضايفين يستلزم تحققه،
تحقق الآخر، ولا يصلح لكونه دليلا عليه .
وما تحصل به الحالة الثانية ، هو الوجه
الذي تدل على ما تدل عليه وهو
ضرورة أو استدلالا،
ولا يجب في الادلة أن تكون موجودة ، (۱) الاستدلال (۲) بمجيء الشجرة ، (۳)
____________________________________________
جميع القضايا التي هي
مبادىء اول للمطلوب، أي الضروريات التي يتوقف العلم بالمطلوب بسبب الدليل على
العلم بها، سواء كانت من المسائل المنطقية أو غيرها .
ويحتمل أن يراد بالوجه جميع القضايا
التي هي مباد للمطلوب مطلقاً، سواء كانت ضروريات محضة، كما في دلالة الانقسام
بمتساويين على الزوجية، عند من يجعلها كسبية ، أو مركباً منها و من الكسبيات .
ويؤيده قوله (ولا فرق بين أن يعلم ذلك) أي الوجه (ضرورة، أو استدلالا) .
ولما كانت الدلالة نفسها مع قطع النظر
عن وجه دلالتها، قدتكون معلومة ضرورة، وقد تكون معلومة كسباً، قال: (ولا يجب في
الادلة أن يعلم الخ) وحينئذ فالمراد بصفتها، كونها متحققة في نفسها، أي صادقة في
نفس الامر، وكأن لفظة (تدل) في قوله على وجه الذي تدل جرد عن قصد فاعلها
الاستدلال، كما في قوله فيما بعد (والنظر في الدليل من الوجه الذي يدل الخ) ، لان
العلم بالقصد ليس شرطاً في امكان الاستدلال لها ، ثم جعل الدلالة هنا دالة مبني
على التجوز الذي هو في قوله ( وقد يتجوز في ذلك) فيعبر به عن الدلالة .
(١) قوله (أن تكون موجودة) أي حين
الاستدلال .
(۲) قوله (صح الاستدلال)
أي استدلالنا ، وظاهر هذا ان العلم الحاصل عقيب العلم بالمعجز كسبي ، ويمكن أن يخص
بما يكون العلم بالمعجز نفسه كسبياً، كما في زماننا عند من يذهب الى كسبية التواتر
.
(۳) قوله (بمجيء الشجرة )
أي حين قال صلىاللهعليهوآله :
اقبلي ، فأقبلت تخد
وحنين الجذع، (۱) على نبوة النبي صلىاللهعليهوآله وبكلامه
على الاحكام ، وان كان ذلك كله معدوماً .
ولا يجب في الادلة أن يعلم بدلالة اخرى،
ويجوز ذلك فيها الا أنها لابد أن تنتهى الى دلالة يعلم صفتها ضرورة ، والا أدى الى
مالا يتناهى من الادلة .
والدال هو من فعل الدلالة (۲) لانه مشتق منها ،
فجرى في ذلك مجرى الضارب في أنه مشتق من الضرب، وعلى هذا يصح أن يقال: ان الله
تعالى دلنا على كذا، فهو دال. وكذلك النبي صلىاللهعليهوآله
دلنا على كذا وكذا فهو دال
وقد يتجوز في ذلك فيعبر به عن الدلالة
فيقولون : قول الله تعالى وقول الرسول دال على كذا وكذا من الاحكام، وان كان الدال
في
____________________________________________
الأرض خداً، ثم قال
لها : ارجعي، فرجعت .
(۱) قوله ( وحنين الجذع)
أي حنين الجذع لما تحول صلىاللهعليهوآله الى
المنبر وكان الجذع اسطوانة في المسجد ، وكان يستند اليه اذا خطب ، ولما تحول الى
المنبر صدر عنه حنين، فلما جاء اليه والتزمه سكن .
(۲) قوله والدال هو من
فعل الدلالة ظاهرة إن الدال مشتق من الدلالة بمعناها العرفي ، فيكون المراد بفعله
أحد الوجوه الثلاثة التي ذكرناها. و القياس على الضارب يقتضي أن يكون مشتقاً من
الدلالة بمعنى المصدر ، فيكون المراد بفعله لها قيامها به كقيام سائر المصادر بالفاعلين
، والمعنيان متلازمان .
الحقيقة هو الله
تعالى ، والرسول صلىاللهعليهوآله
على ما بيناه. و كذلك يتجوز في العبارة عن الدلالة (١) .
والدليل هو الدال فى الاصل (۲). قال الشاعر : (۳) اذا الدليل استاف (۴) أخلاف الطرق (۵)
____________________________________________
(۱) قوله (وكذلك يتجوز في
العبارة عن الدلالة) أي وكذلك يتجوز فيه، فيعبر به عن العبارة عن الدلالة .
( ۲ ) قوله ( والدليل هو
الدال في الأصل ) أي في أصل اللغة قبل نقله في عرف اللغة الى الدال على الطرق ولا
شعاره بالنقل ترك الواو في ( قال الشاعر) .
(٤) قوله (استاف) هو بالسين
المهملة، أي شم، قال في القاموس : السوف الشم والصبر ، وبالضم وكصرد جمعاً سوفة
للارض ، والمساف والمسافة و السيفة بالكسر، البعد، لان الدليل اذا كان في فلاة شم
ترابها، ليعلم أعلى قصد أم لا؟ فكثر الاستعمال حتى سموا البعد مسافة (انتهى) أو هو بالشين المعجمة
أي نظر ورأى .
(٥) قوله ( اخلاف الطرق ) بالخاء
المعجمة والفاء ، كأنه جمع خلف بالكسر أو الفتح، وهو ما تغيرت ريحه أولونه. يقال:
خلف الطعام، كنصر وأخلف اذا تغيرت ريحه ولونه.
__________________
فوصف (١) الدال على الطريق بانه دليل من
حيث فعل أشياء استدل بها على الموضع المقصود (۲) .
وقد يتجوز في ذلك فيستعمل في الدلالة (۳) فيقولون في الاجسام
انها دليل على خالقها، وبأن القرآن دليل على الاحكام، ولا يمتنع أن يقال أيضاً انه
حقيقة فيهما (۴).
والمدلول هو الذي نصبت له الدلالة
ليستدل بها، وهو المكلف وقد يتجوز بذلك في المدلول عليه، فيقولون: هذا مدلول
الدلالة ، وذلك مجاز ، والمدلول عليه هو ما يؤدى النظر في الدلالة الى العلم به .
____________________________________________
(۱) قوله (فوصف) على،
ولفظ المجهول أي في عرف اللغة على طريق النقل .
(۲) قوله ( من حيث فعل
أشياء استدل الخ) بيان للمناسبة بين المعنى المنقول عنه والمعنى المنقول اليه،
وفعله أشياء كأن يقول اذا بلغتم موضوع كذا ، وفيها كذا تيامنوا وامثال ذلك ، أو هو
مشيه في الطرقات ، أمام المدلولين .
(۳) قوله (فيستعمل في
الدلالة استقر اصطلاح المتأخرين من الاصوليين على استعماله غالباً في الدلالة ،
بحذف قيد قصد فاعلها ، وكأن قول المصنف ومن شرط الناظر أن يكون عالماً بالدليل
الخ) مبني عليه .
(٤) قوله ( حقيقة فيهما) أي في
الدال على الطريق ، وفي الدلالة. والاول حقيقة عرفية لغوية . والثاني حقيقة في عرف
المتكلمين .
والمستدل هو الناظر، ولا يسمى بذلك (۱) الا اذا فعل
الاستدلال (۲) والمستدل
به هو الدلالة بعينها، ولا تسمى بذلك قبل الاستدلال بها . والمستدل عليه هو
المدلول عليه بعينه غير أنه لا يسمى بذلك قبل حصول الاستدلال
والنظر ينقسم (۳) الى تقليب الجارحة
الصحيحة، نحو المرئى طلباً لرؤيته، والى معنى الانتظار، والى معنى التعطف والرحمة،
و الى معنى الفكر، والواجب من ذلك هو الفكر (۴).
____________________________________________
(١) قوله (ولا يسمى بذلك) أي لا يسمى
الناظر بالمستدل
(۲) قوله (الا اذا فعل
الاستدلال) فيه مسامحة، والمراد اذا تأدى نظره الى العلم بالمقصود ، بشيء قصد
بفعله ذلك ، فالناظر أعم مطلقاً من المستدل من وجهين ، وكذا الدلالة أعم من
المستدل به مطلقاً. والمدلول عليه أعم من المستدل عليه مطلقاً
(۳) قوله ( والنظر ينقسم)
الانقسام هنا في الحقيقة لمفهوم المسمى بالنظر.
(٤) قوله ( والواجب من ذلك الخ)
أي الواجب من ذلك على كل مكلف هو الفكر أو الواجب لتوقف العلم المبتني بالاصول
عليه ، هو الفكر، كمامر في آخر الفصل الاول من قوله (ولابد أيضاً من بيان ما لا
يتم العلم الابه من حقيقة النظر) والفكر الذي فسربه النظر الواجب هو حركة النفس ،
متذكرة في كل حد ما سبق من أجزاء الحركة ، للاستدلال بشيء على ما يطلب العلم به
بقرينة (قوله ومن شرط الناظر) أن يكون عالماً بالدليل .
وقد يطلق الفكر على الحركة المذكورة
للمنفس لتحصيل التصديق بما
والناظر يعلم نفسه ناظراً ضرورة (۱) ويفصل بين هذا الحال
وبين سائر صفاته من كونه معتقداً، وظاناً، ومريداً، وغير ذلك من الصفات. ومن شرط
الناظر أن يكون عالماً (۲) بالدليل
على الوجه
____________________________________________
يطلب التصديق به سواء
كان علماً أو ظناً ، وعلى ما يكون لطلب التصديق أو التصور . وقال في الاقتصاد :
الفكر هو التأمل في الشيء المفكر فيه ، والتمثيل بينه وبين غيره (انتهى) .
وقد يطلق على الترتيب اللازم لها وعلى
مجموع حركتين ، حركة في المعلومات لوجدان ما يصلح لكونه موصلا ، وحركة لتحصيل
العلم بالمطلوب وعلى الحركة الأولى منهما ، وعلى حركة النفس في المعقولات ، أي
حركة كانت . وهذا هو الفكر الذى يعد من خواص الانسان ، ويقابله التخيل ، وهو
حركتها في المحسوسات ، ولا يسمى الفكر بالمعنى الاخير نظراً .
(۱) قوله (ضرورة) أو هو
من الوجدانيات ، وهي معلومة مع كمال العقل كم امر، وسيجيء .
وأما كونه فاعلا للنظر فليس عند المصنف
مما يجد نفسه عليه ضرورة ، صرح به في الاقتصاد .
(۲) قوله (ومن شرط الناظر
أن يكون عالماً الخ) أي عالماً به وبوجه دلالته ، وقد مر معناه . وربما يتوهم انه
تكرار لقوله سابقاً ( ومن حق الدلالة الخ) وليس كذلك ، لان السابق مذكور لبيان حال
الاستدلال ، وهذا لبيان حال النظر . وقد مر أن الناظر أعم من المستدل مطلقاً ،
فالنظر والاستدلال معنيان متغايران .
__________________
الذي يدل على ما يدل
عليه، حتى يصح (۱) أن
يولد نظره العلم .
ولاجل ذلك نقول: ان من لا يعلم صحة
الفعل (۲) من
زيد لا يعلمه قادراً ، ومن لا يعلم وقوع الفعل محكماً منه ، لا يمكنه أن يستدل على
كونه عالماً ، لما لم يكن عالماً بالجهة التي لكونه عليها يدل .
____________________________________________
(۱) قوله (حتى يصح) انما
قال ذلك لانه ليس شرطاً للنظر مطلقاً ، بل للنظر الذي يتأدى الى المقصود ، كما
يصرح به في قوله : (و هذه العلوم التي) .
(۲) قوله ( من لا يعلم
صحة الفعل) ظاهره نظراً الى قوله ( لما لم يكن عالماً بالجهة التي لكونه عليها يدل
ان هذا أيضاً كالذي بعده من عدم العلم بوقوع الفعل محكماً ، مثال للعلم بالدليل مع
عدم العلم بجهة دلالته ، بناء على أن يكون الدليل على قدرته ، فعله وصحته من جهة
دلالته ، فما لم نعلم الصحة لم يمكن الاستدلال بفعله على قدرته وقس عليه الامثلة
الباقية وهذا مناف بظاهره لما مر من قوله (وانما قلنا انه أولى لان الذي يدل على
كونه قادراً صحة الفعل عنه على وجه دون وقوعه) .
ووجه التوفيق ما مر من أن الأولى جعل
الصحة دليلا ، وان أمكن جعل أصل الفعل دليلا والصحة من وجه الدلالة ان قلت :
المراد بصحة الفعل كون الفعل تابعاً للدواعي ، أي ان شاء فعل ، وان لم يشأ لم يفعل
.
ويقابله التعذر، وقد استدل القوم على
قدرة الله تعالى بما ليس نفس صحة الفعل بهذا المعنى، ولا موقوفاً علمه على العلم
بها ، بل الأمر بالعكس، كحدوث معلوله الأول زماناً عند بعض ، وكحدوث شيء ما من
الحوادث اليومية، بانضمام
ولهذا نقول: ان من لا يعلم ان قوله
تعالى : ( وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا
الزَّكَاةَ )
(١) كلام الله، وان الله لا يجوز عليه القبيح (۲) ولا التعمية والالغاز
في الكلام ، لا يمكنه الاستدلال به على وجوب الصلاة والزكاة .
____________________________________________
ما يرى انه يستلزمه
من جواز الترجيح بلا مرجح على رأي الاشعري، وكاستحالة النقص عليه تعالى ، وكون
التعذر نقصاً ، وكاخبار النبي صلىاللهعليهوآله به
، وكدلالة المعجز على صدقة ، ضرورة بدون توقف على العلم بالقدرة وان كان متوقفاً
على نفس القدرة كما سيجيء .
قلت : المقصود اثبات قدرة العبد كما
يشعر به ذكر زيد ، ولما كان دلالة الحدوث على القدرة واستلزامه للترجيح بلا مرجح
باطلا ، كما مرفي المقدمة الثانية ، في آخر ذيل الجواب عن الشك الرابع ، وكان ما
عداه غير جائز في العبد ، حكم بأنه لا يمكن العلم بقدرة العبد بدون العلم بصحة
فعله ، على أنه يمكن أن يقال : ان التمثيل في صورة عدم العلم بدليل آخر في العبد .
( ۲ ) قوله (لا يجوز عليه
القبيح ) أي لا يجوز عقلا ، و المراد بالقبيح القبيح في نفسه من دون ملاحظة شيء
آخر ، كالكذب المحض ، وبالتعمية اخفاء المراد عن المخاطب يقال : عمي عليه اذا
التبس والتعمية التلبيس ، وبالالغاز جعل الكلام ذا وجهين ، ظاهر وخفي. والمراد الخفي
عند المخاطب أو ذا وجهين كلما اعترض عليه من وجه، تخلص عنه بالوجه الآخر. والالغاز
من اللغز ، وهي جحر اليرابيع، تكون ذات جهتين ، تدخل من جهة وتخرج من اخرى،
فاستعير
__________________
ولذلك ألزمنا المجبرة أن لا يمكنهم
الاستدلال بكلام الله تعالى من حيث جوزوا (۱) عليه القبائح كلها (۲). وكذلك من لا يعلم ان
النبي صلىاللهعليهوآله
صادق ، وانه لا يجوز عليه الكذب ، (۳) ولا التعمية، والالغاز في الكلام، لا
يصح له أن يستدل بقوله صلى الله عليه و آله وسلم على شيء من الاحكام .
____________________________________________
المعاريض الكلام ،
وملاحنه . وقد ألغز في كلامه يلغز الغازاً اذا ورى فيه ، وعرض ليخفى ، وانما
أفردهما عن القبيح ، لان الكلام المشتمل عليهما ليس قبيحاً في نفسه ، بل لانضمام
أمر عدمي اليه ، هو عدم القرينة الدالة على المراد فالقبيح المجموع المركب منهما
بخلاف الكذب ، ولا ينافي الزام المجبرة عدم توقف دلالة المعجزة على صدق النبي
(صلوات الله عليه) على العلم بعدم جواز القبيح عليه تعالى ، كما سنوضحه في (فصل في
ذكر ما يجب معرفته من صفات الله تعالى) .
(۱) قوله (من حيث جوزوا)
أي عقلا، وان لم يجوزه بخبر النبي صلىاللهعليهوآله .
(۲) قوله (القبائح كلها )
لا يقال : ليسوا قائلين بقبحها ، لانا نقول : المراد بالقبائح الكذب، أو تصديق
الكاذب بالمعجز ونحو ذلك. ولما كانت هذه الاشياء قبيحة عند أهل الحق ، عبر
بالقبائح عنها والمقصود ذواتها .
(۳) قوله (وانه لا يجوز
عليه الكذب) وانما لم يقل لا يجوز عليه القبيح لعدم الدليل عليه في النبي صلىاللهعليهوآله وعدم
الحاجة اليه أيضاً لانه مبلغ فقط . نعم المعجز دال على صدقه في نفس الاحكام
الفقهية ، وهي التي بعث لتبليغها، والدليل الدال على عصمته دال على عدم القبائح
الشرعية عليه ، وقد يتوهم ان تجويز الكذب
وهذه العلوم التي ذكرناها شرط في توليد
النظر للعلم، لا في صحة وجوده ، لان من اعتقد الدليل أو ظنه (۱) على الوجه الذي
____________________________________________
في كلام الله غير
مانع من الاستدلال بكلامه ، بخلاف القبائح الآخر. والنبي صلىاللهعليهوآله بالعكس
وذلك لان تجويز الكذب في كلام النبي صلىاللهعليهوآله
لا مانع من الاستدلال بكلامه ، لانه
ناقل مبلغ بخلاف تجويزه في كلام الله ، فانه آمر ، ناه ، حقيقة .
فالمراد بالقبيح في قول المصنف (وان
الله لا يجوز عليه القبيح ما عدا الكذب أو الاعم لا للاحتياج الى نفي الكذب، بل
لان تجويز الكذب عليه يستلزم تجويز ما عداه من القبائح. ويرد بأن الأمر والنهي
انما يدلان على استحقاق الذم بالمخالفة بمعونة مقدمات اخر من كون الأمر مستحقاً
للاطاعة ونحوه .
وأما كون المأمور به بحيث لو ترك استحق
العقاب الاخروي والمنهي عنه بحيث لو فعل استحق العقاب الاخروي كما هو المراد من
الوجوب و الحرمة الشرعيين الواقعيين، فمما لا يعلم بالأمر والنهي الامع انضمام
الوعيد كما بيناه في أول المقدمة الثانية من مقدمات بيان الحاجة، وهو خبر وليس
بانشاء على أنه يلزم أن لا يكون تجويز القبائح عليه تعالى سوى التعمية و الالغاز
مانعاً من الاستدلال بكلامه ، لان من يجوزها فانما يجوزها بناءاً على عدم قبح شيء
وحسنه بالنسبة اليه ، بناءاً على ابطال قاعدة التحسين والتقبيح العقليين، فالواجب
ما أمر به ، والحرام مانهى عنه، ولو عكس الامركان جائزاً عندهم .
(۱) قوله (لان من اعتقد
الدليل أو ظنه) المراد بالاعتقاد، التقليد . أي : التصديق المطابق الشبيه بالجزم
أو المراد الاعتقاد المبتدأ الحاصل لا بامارة الشبيه بالظن ، أو الاعم منهما. وكذا
الناظر في الشبهة أو الامارة ، والناظر
يدل ، (۱) وان لم يكن عالماً به
جاز منه فعل النظر ، وان لم يولد العلم .
وانما قلنا : انه متى لم يكن عالماً ،
لا يولد نظره العلم ، لانه اذا لم يكن عالماً بالدليل على الوجه الذي يدل عليه ،
جوز أن لا يكون الدليل على الوجه الذى يدل ، فكيف يجوز حصول العلم عن الدليل مع
تجويز ما قلناه فيه .
والنظر في الدليل من الوجه الذى يدل
يوجب العلم (۲)
____________________________________________
في الدليل بالنظر
الفاسد ، أو بالنظر الغير التام ، يقع منهم النظر ولا يولد العلم .
(۱) قوله (على الوجه الذي
يدل) متعلق بكل واحد من اعتقد وظن ، و ظاهره ان المراد به ، من علم تحقق الدليل ،
وأعتقد وجهه ، وكونه دليلا ، أوظنه ، فانه في صورة الاعتقاد ، يحصل اعتقاد النتيجة
، وفي صورة الظن يحصل الظن بها ، ولا يخرج بذلك عن حد الدليل الى حد الامارة كما
سيجيء في حد الامارة .
وأما عكسه وهو من اعتقد تحقيق الدليل،
أوظنه ، وعلم كونه دليلا . أي استلزامه للمطلوب على تقدير تحققه في صورة الاعتقاد
الشبيه بالجزم ، يحصل الاعتقاد بالنتيجه . وفي صورة الظن قد يحصل الظن بالمطلوب ،
وقد لا يحصل كما سيأتي في (فصل في أن الاخبار قد يحصل عندها العلم) وكذا اذا
اعتقدهما أوظنهما . ويمكن أن تحمل عبارة المصنف على ما يشمل جميع الصور .
(۲) قوله (و النظر في
الدليل من الوجه الذي يدل يوجب العلم) لفظة (من)
في قوله ( من الوجه
الذي يدل) للابتداء . أي أخذاً ، أو شارحاً من الوجه الذي يدل في الحركة العودية
التي هي من المبادىء الى المطلوب ، ولا ينافي ذلك انتهاؤه الى الوجه الذي يدل في
الحركة الأولى ، التي هي من المطلوب ، الى المبادىء وقد مر عند قول المصنف ( ومن
حق الدلالة الخ) ان معنى (الوجه الذي يدل) جميع القضايا التي هي مباد اول للمطلوب
. أي الضروريات التي يتوقف العلم بالمطلوب بسبب الدليل على العلم بها .
والنظر في الدليل من الوجه المذكور ،
بعض أفراد النظر الصحيح ، لان نظر من يعلم مقدمتي الدليل بالكسب فيهما نظر صحيح
وليس نظراً من الوجه المذكور بل هو جزء له . وتحرير الدعوى هنا يمكن على وجهين :
الأول : وهو الاظهر ، ان النظر في
الدليل من الوجه المذكور قد يولد العلم ، وان كان بعض أفراده لا يولد العلم .
ومعنى توليده العلم أن يوجبه عقلا من حيث أنه نظر ، أي بدون توقف على شيء خارج عن
حقيقة النظر ، ليس من جنس النظر، ولا لازماً لما هو من جنس النظر .
أما النظر المولد ، فهو النظر في الدليل
الذي وجه دلالته لا يكون الامن القسم الأول من قسمي الضروري ، وهو الذي يحصل في
العاقل ابتداءاً .
ويظهر بذلك أنه لا ينافي توليده العلم
توقف العلم على تذكر أجزاء النظر السابقة في كل حدمنه ، وقصد تحصيل المجهول ، وذلك
لانهما جزءان الحقيقة النظر ، كمامر .
ولا توقفه في القياس المركب الكثير
المقدمات على حركات ذهنية كثيرة غير معتبرة في حقيقة النظر ، لانها لا توجد في
القياس المفرد ، مع وجود النظر فيه . وذلك لان هذه الحركات الذهنية من جنس النظر،
لان جزء النظر نظر يصدق حده عليه .
ولا توقفه على العلم بالمقدمات الخارج
عن حقيقة النظر ، وعن جنسه أيضاً، لانه لا يوجد في القياس الغير المعلوم مقدماته ،
مع وجود النظر فيه وليس أيضاً من جنس الحركة الذهنية .
وذلك لان العلم بالمقدمات التي هي من
المبادىء الأول فيما يدعى توليده لازم لما هو من جنس النظر ، وهو الحركة الأولى
التي هي من المطلوب الى المبادىء، لانها ضروريات أولية ، يمتنع تخلف العلم بها بعد
الوصول اليها عن العقل اللازم للنظر، والعلم بالمقدمات المتوسطة الكسبية في القياس
المركب لازم لما هو من جنس النظر أيضاً، وهو الحركة الثانية العودية على هيأت
الشكل الأول .
وأما النظر الغير المولد للعلم ، وهو
النظر في الدليل الذي بعض وجهه من جملة مباديه الاول ، وليس من القسم الأول من قسم
الضروري .
ويظهر بما ذكرنا عدم توليده العلم ، وان
كان مستلزماً للعلم بشرط العلم بالمبادىء الأول فيه .
الثاني : أن يراد بالايجاب ظاهره ، وهو
الاستلزام في الجملة ، ويحمل الحكم المذكور على دعوى الكلية ، كما هو الظاهر .
فيكون المراد : ان كل نظر في الدليل من الوجه المذكور يستلزم العلم في الجملة ،
سواء كان من حيث انه نظر كمامر ، وسواء كان بشرط وجودي غير لازم للنظر مجامع له ،
يكون جزءاً من المقتضي ، وان كان من فعل غير الناظر ، كالعلم بالمدركات ، الذي هو
من القسم الثاني من قسم الضروري .
ويؤيد الوجه الأول ، قول المصنف، فعلم
بوجوب هذه المطابقة انه متولد عن النظر . وقوله (وقد بينا ان النظر في الدليل يولد
العلم) لان المعنى الذي سبق ذكره للتوليد، لا يجري في كل نظر في الدليل من الوجه
المذكور. وسيظهر
لانه يكثر بكثرته ،
ويقل بقلته (۱) .
____________________________________________
أنه لا يتحقق التوليد
بدونه عند المصنف
ويؤيده أنه قال في النظر المفضي الى
الجهل أنه (لا يولد الجهل) ولم يقل انه لا يوجبه لما يظهر مما بيناه ان النظر في
الشبهة يوجب الجهل بشرط الاعتقاد الفاسد الذي هو جزء من المقتضي له ، وان لم يولده
. لان معنى التوليد كما مر لا يتحقق فيه . ولذا قال المصنف في النظر المفضي الى
الظن انه لا يوجبه لان ما ينضم اليه لافضائه الى الظن أمر عدمي، لا يصلح لكونه جزء
من المقتضي له فالمقتضى له غير تام الاقتضاء ، فلا يقال أنه مستلزم ، لانه انما
يقتضي بمعاونة أمر عدمي ، هو عدم المانع ، وهو الاطلاع على المعارض .
(۱) قوله (لانه يكثر
بكثرته ويقل بقلته) الضمير المرفوع للعلم، والمجرور للنظر، أي يحصل عقيبه كلياً،
ولا يحصل مع عدم تقدمه ، فلا يتوهم كون التوليد بالعكس .
والمراد بالكثرة والقلة أعم من أن يكون
باعتبار الناظر، أو باعتبار المسائل والدلائل . قال المصنف في الاقتصاد في نظير
هذا الاستدلال .
فان قيل : ما أنكرتم أن يكون ذلك
بالعادة دون أن يكون واجباً .
قلنا : ذلك يبطل الفرق بين الواجب
والمعتاد فيؤدي الى أنه لا فرق بينهما وأن يقول قائل: انتفاء السواد بالبياض
بالعادة، وحاجة العلم الى الحياة بالعادة وغير ذلك من الواجبات ، فبأي شيء فرقوا
بينهما فهو فرقنا بين أن يكون ذلك واجباً أو معتاداً (انتهى)
.
ويمكن أن يقال هنا : انه يؤدي الى أن
يقال عدم تخلف النتيجة نفسها عن
__________________
الدليل الكائن على
وجه الدلالة بالعادة ، وهو أشد انطباقاً بما نحن فيه .
لا يقال : هذا الاستدلال صورته صورة
الدوران وهو يفيد الظن
لانا نقول : الدوران وجود شيء مع شيء في
صورة ، وانتفاؤه مع انتفائه فيها ، ولا يعتبر فيه الضرورة الكلية ، لا العادية ،
ولا العقلية ، ولا القدر المشترك بينهما .
فان قلت : الضمير المرفوع في (يكثر
ويقل) اما راجع الى شخص العلم الكسبي ، أو الى نوعه ، أو الى العلم مطلقاً ، كما
هو ظاهر العبارة لاسبيل الى الأول ، لانه لا يجري في الشخص كثرة ولا قلة . فما
قاله بعض في حد النظر بما يتوقف على النظر، من أن المراد توقف شخص العلم لا يجري
هنا، ولورجع الى النوع أو الى العلم مطلقاً لتوجه المنع على قوله (ويقل بقلته)
لجواز حصول العلم الكسبي بدون نظر .
كما اذا علم أحد كون زيد في الدار
بالاستدلال ، وعلمه آخر بالمشاهدة واثبات الاختلاف النوعي بين العلم بشيء اذا حصل
ضرورة ، والعلم به اذا حصل كسباً ، دونه خرط القتاد . وأيضاً كون العلم يقل بقلة
النظر لغو في الاستدلال لانه يكفي في اثبات الايجاب كونه يكثر بكثرته لان اللازم
أعم من الاعم و المساوي .
قلنا : الضمير راجع الى العلم الكسبي ،
أي العلم الذي هو من فعلنا ، سواء كان نوعاً من العلم أو صنفاً . والمقصود هنا
اثبات انه ليس صادراً عنا بلا فعل موجب له ، وانما احتاج الى زيادة ، ويقل بقلته
لدفع حكم الوهم بكون عدم الانفاك المفهوم من قوله (يكثر) اتفاقياً لا عقلياً كما
مر الاشارة اليه .
فان قيل : لا نسلم كثرة العلم بكثرة
النظر لانه يشترط في افادة النظر الصحيح
العلم ، شروط غير
لازمة للمنظر الصحيح . قال المحقق الطوسي في التجريد : و حصول
العلم عن الصحيح واجب ولاحاجة الى المعلم . نعم لا بد من الجزء الصوري ، وشرطه عدم
الغاية وضدها وحضورها (انتهى) .
وجعل بعضهم ضمير شرطه راجعاً إلى حصول
العلم لا الى الصحيح كما ذهب اليه الشارح الجديد للتجريد
.
قلت : ضمير شرطه راجع الى الجزء الصوري
، كما يدل عليه الاستدراك في (نعم) والمراد بالجزء الصوري فصل النظر . فان حد
النظر ، الحركة الذهنية بقصد تحصيل مجهول . فالحركة الذهنية جنس له ، بمنزلة الجزء
المادي ، وبقصد تحصيل مجهول ، فصل له بمنزلة الجزء الصوري .
والحاصل ان النظر ، مجموع الحركة
الذهنية ، والقصد بها الى تحصيل المجهول ، ومعلوم اشتراط الامور الثلاثة فيه .
فالمعنى ان حصول العلم عن النظر الصحيح واجب ، أي ليس له شرط غير لازم للنظر
الصحيح، فان الشرط اللازم لا ينافي وجوب العلم عنه ، نعم يشترط في حصول النظر نفسه
امور باعتبار جزئه الصوري . وانما ذكر هذه الشروط مع ان الحصول النظر في نفسه
شروطاً غير ذلك ، كالعقل والعلم بالضروريات الأولية لان هذه الثلاثة مما كثر التوهم
__________________
ولانه يقع العلم عنده
مطابقاً لما يطلبه بالدليل (۱) .
ألا ترى ان من نظر في صحة الفعل من زيد
، لا يصح أن يقع له العلم بان عمرواً قادر ، وكذلك من نظر في أحكام الفعل ، لا يصح
أن يقع له العلم بالهندسة وغيرها . فعلم بوجوب هذه المطابقة انه متولد عن النظر.
____________________________________________
في كونها شروطاً
للافادة ، لا للنظر نفسه . ولا ينافي ذلك ما ذكره المصنف بقوله ( وهذه العلوم التي
ذكرناها شرط في توليد النظر للعلم لا في صحة وجوده الخ) لان المراد انها ليست
شروطاً لوجود النظر مطلقاً ولا ينافي ذلك كونها شروطاً لوجود النظر الصحيح في نفسه
.
(۱) قوله (ولانه يقع
العلم عنده مطابقاً لما يطلبه بالدليل) المطلوب بالدليل هو الواقع من طرفي النقيض
في قضية بدون العلم بخصوصه، والدليل يوجب علماً متعلقاً به بخصوصه .
والمراد بـ (المطابقة) المطابقة باعتبار
الموضوع والمحمول الذين بينهما النسبة الحكمية ، دون كيفية النسبة الحكمية ، من
الايجاب الواقع أو السلب الواقع ، فان المطابقة للواقع من لوازم العلم ولا دخل لها
في هذا الاستدلال وعدم المطابقة في العلم بأن عمراً قادراً باعتبار الموضوع وفي
العلم بالهندسة باعتبار المحمول ان اريد به العلم بهندسة زيد أي مقداره في النظر
في احكام الفعل بكسر الهمزة أي احكام فعل زيد . والهندسة في اللغة : معرب (أندازة)
__________________
والنظر لا يولد الجهل
(۱)
____________________________________________
ولو اريد بالهندسة
مسائل علم الهندسة كان عدم المطابقة باعتبار الموضوع و المحمول معاد .
حاصل الدليل انه لو كان حصول العلم عقيب
النظر الجامع للشروط اتفاقياً بدون ايجاب ، لكان نسبة النظر الى جميع العلوم على
السوية ، فيستحيل أن يكون مطابقاً لما يطلبه دائماً . وهذا نظير الاستدلال بمطابقة
كلام زيد للغة العرب في كل ما يتكلم به ، في بيان أغراضه على أنه عارف باللغة
العربية ، بناء على استحالة أن يكون الاتفاقى بهذا الاستمرار والمطابقة الا ولم
يبق فرق بين الواجب والاتفاقي أصلا كما في تقرير الدليل الأول .
لا يقال : لوتم هذا الدليل لكانت
الامارة موجبة للظن، لان الظن الحاصل بها لا يكون الا مطابقاً .
لانا نقول : المراد بقوله (يقع) انه يقع
دائماً ، فلا يستدل بمحض المطابقة بل بدوامه مع المطابقة .
أو نقول : تقرير الدليل هكذا ، لو كان
العلم عقيب النظر اتفاقياً وبدون ايجاب ، لكان اما لعدم المقتضي ، أو لوجود المانع
. والثاني باطل ، اذ لا يتصور مانع الا المعارض ، وهو محال . لان تعارض الدليلين
محال، والامارة تضمحل بمعارضة الدليل ، وكذا الأول لاستحالة المطابقة كما مر .
وفيه انا لا نسلم انحصار المانع فيما يعارض الدليل ، فان مانع العلم أعم من مانع
المعلوم .
(۱) قوله (والنظر لا يولد
الجهل) أي ليس شيء من النظر موجباً عقلا للجهل المركب بشيء من حيث أنه نظر، أي
بدون أن ينضم اليه شيء خارج
عن حقيقة النظر ليس
من جنس النظر ولا لازماً لما هو من جنس النظر كالاعتقاد الباطل ونحو ذلك .
واعلم ان الذين قالوا : النظر الصحيح
يستلزم العلم ، قد اختلفوا في النظر الفاسد هل يستلزم الجهل ؟ على مذاهب ثلاثة :
أحدها : واختاره الفخر الرازي ، انه
يستلزمه مطلقاً، سواء كان فساده من جهة المادة ، أو من جهة الصورة . لان من اعتقد
ان العالم قديم ، وكل قديم غني عن العلة ، امتنع أن لا يعتقد ان العالم غني عن
العلة ضرورة وهو جهل و مراده تحقق الاستلزام في القسمين في الجملة ، لان كل نظر
فاسد يستلزمه بقرينة دعواه الجزئية ، في استلزام النظر الصحيح للعلم ، وقد مرما
فيه .
وقال شارح المواقف : قد يقال ان دليله هذا
يرشد الى ان المختار عنده هو المذهب الثالث ، أعني التفصيل . كيف والقول بأن
الفاسد من جهة الصورة يستلزمه ظاهر البطلان .
وقال شارح المقاصد : التحقيق أنه لا نزاع
، لان الفاسد صورة لا يستلزم بالاتفاق ، والفاسد مادة فقط ، قد يستلزم وقد لا
يستلزم (انتهى) .
وأنت خبير بعد ما حررناه بفساد دليله ،
ان أراد ايجاب النظر من حيث أنه نظر . وصحته ان أراد الاستلزام في الجملة ، وبانه
لافرق بين فساد المادة، و
__________________
فساد الصورة ، فانه
قد تكون المادة صحيحة ، والصورة من الضروب الغير المنتجة للمطلوب مع الاعتقاد جهلا
بأنه منتج له .
ألا يرى الى ان شارح المواقف توهم في
حاشية المطالع تبعاً لظاهر عبارة
شرح المطالع ، في بحث تقسيم اللازم الخارج عن الماهية، بانه اما بوسط أو غيره ، ان
الاكبر لو كان ذاتياً للوسط ، والوسط عرضاً مفارقاً شاملا للاصغر في الشكل الاول ،
كانت النتيجة ضرورية . لان القياس من الصغرى المطلقة ، و الكبرى الضرورية في الشكل
الاول ، ينتج الضرورية وهو ظاهر البطلان . لان الأكبر لو كان ذاتياً ، والوسط
عرضاً مفارقاً عن الاصغر ، كانت الكبرى مشروطة عامة مؤلفة مع صغرى مطلقة ، وهما لا
ينتجان ضرورية ، بل النتيجة هي المطلقة لو أراد كون الاكبر ذاتياً لافراد الوسط ،
لا كونه ذاتياً لمفهومه فقط لخرج عن المبحث الذي هو فيه من تقسيم اللازم الخارج عن
الماهية .
فاعتقاد من يعتقد الضرورية في النتيجة
جهلا لفساد الصورة فقط ، وان كان توهم محشي المطالع الفساد المادة ، وهي صغرى
القياس المشار اليه بقوله (لان القياس من الصغرى المطلقة الخ) .
ثم الفرق فيه بين الدليل على اصطلاح من
جعل المفرد دليلا كالاصولين و اصطلاح من يجعل القول المؤلف من القضايا دليلا
كالمنطقيين، وجعل النظر في الدليل المفرد من وجه دلالته مستلزماً للعلم ، وفي
الشبهة المفردة غير مستلزم للجهل أصلا . وجعل المؤلف سواء كان شبهة أو دليلا
مستلزماً للاعتقاد بالنتيجة كما توهمه شارح المواقف باطل .
__________________
على وجه لانه لو ولده
لم يخل أن يكون (۱) النظر
في الدليل يولده (۲) أو
النظر في الشبهة.
__________________
لان النظر فى الشبهة المفردة والمؤلفة
من حيث انها شبهة ، يوجب الجهل و استلزام الدليل المفرد للمدلول عليه غير استلزام
النظر فيه ، للعلم به كما مر فلا يصلح للفرق .
ويظهر بما حررنا انه لا فرق بين المفرد
والمركب في الدليل والشبهة. فان النظر في الدليل المفرد والمركب يستلزم العلم
كمامر. والنظر في الشبهة المفردة ، والمركبة يستلزم الجهل .
وثانيها : انه لا يستلزمه مطلقاً ، وهو
المختار عند الجمهور ، وقد مر ما يكفي في ابطاله .
وثالثها : ان الفساد ان كان في المادة
استلزمه ، والمقصود الجزئية كمامر والا فلا . اذ الضروب الغير المنتجة لا يستلزم
اعتقاداً أصلا ، لاخطأ ولا صواباً وفيه ما مر .
فان قيل : النظر في الضروب الغير
المنتجة لا يستلزم الخطأ بذاته ، بل بما يقارنها من اعتقاد الانتاج .
قلت : فحينئذ لا فرق بين المادة والصورة
كما مر .
(۱) قوله (لم يخل الخ)
الحصر مبني على أن المراد في الشق الثاني النظر فيما عدا الدليل ، على الوجه الذي
يدل ، وانما سماه شبهة لان افضاءه الى الجهل انما يكون لاشتباهه بالدليل عليه ، في
ذهن من يقضيه اليه .
(۲) قوله (النظر في الدليل
يولده) أي النظر في الدليل من الوجه الذي يدل كما مر بيانه .
ولا يجوز أن يولد النظر فى الدليل الجهل
، لانا قد بينا ان النظر في الدليل يولد العلم ، ولا يجوز في شيء أن يولد الشيء و
ضده . ولو ولد النظر في الشبهة الجهل لكان يجب ان كل من نظر فيها أن يولد له الجهل
(۱) . كما
ان كل من نظر في الدليل ولد له
____________________________________________
(۱) قوله (لكان يجب ان كل
من نظر فيها أن يولده الخ) أي على أن يولد أو حاله أن يولد قال في المواقف : لوصح
هذا لم يكن النظر الصحيح مفيداً للعلم ، والا لكان نظر المبطل في حجة المحق يفيده
العلم .
فان قلت : شرط افادة العلم اعتقاد
المقدمات ، والمبطل لا يعتقدها .
قلنا : هو مشترك ، اذ شرط افادته للجهل
اعتقادها (انتهى) .
وأنت بما حررنا به محل النزاع عالم
ببطلانه . قال المصنف في الاقتصاد: فان قيل : لوولد النظر العلم ، لولده لمخالفيكم
مع انهم ينظرون كنظر كم .
قلنا : لو نظروا كنظرنا ، لولد لهم
العلم ، كما ولد لنا . فاذا لم يحصل لهم العلم ، علمنا انهم اخلوا بشرط من شرائطه
. ومتى فرضنا انهم لم يخلو بشيء من ذلك ، فهم عالمون الا أنهم مكابرون (انتهى) .
ومراده بقوله لو نظر و اكنظرنا أن لا
يزيدوا على النظر ، الاماهو من جنس . النظر والحركة الذهنية، الى أن يبلغوا جميع
المواد الضرورية الأولية للمطلوب، ويرجعوا منها الى المطلوب رجوعاً مخصوصاً كما مر
تفصيله .
ويندفع ما اعترض الفخر الرازي على هذا
الدليل، بان عدم حصول الجهل
__________________
العلم ، ونحن نعلم
انا ننظر في شبة المخالفين فلا يتولد لنا الجهل، ولانه لو كان شيء من النظر يولد
الجهل ، لادى الى قبح كل نظر (۱) لان الانسان لا يفرق بين النظر الذي
يولد العلم ، والنظر الذي يولد الجهل ، ولا بين الدليل والشبهة .
وانما يعلم كون الدليل دليلا اذا حصل له
العلم (۲) بالمدلول.
فاما قبل حصوله ، فلا يعلمه دليلا .
وما أدى الى قبح كل نظر ينبغى أن يحكم
بفساده ، لانا نعلم
____________________________________________
للمحق الناظر في شبهة
المبطل ، يجوز أن يكون بناء على عدم اطلاعه على ما فيها من جهة الاستلزام ، أو عدم
اعتقاد حقيقة المقدمات ، كما ان نظر المبطل في دليل المحق لا يستلزم العلم لذلك
(۱) قوله (ولانه لو كان
شيء من النظر يولد الجهل الخ) قد ظهر بما حررنابه المتنازع فيه ، ان النظر لو كان
مولداً للجهل لم يكن ذلك لاعتقاد فاسد ،لافي المادة، ولافي الصورة ، بل للحركة
الذهنية من حيث أنها حركة ذهنية . أي بدون انضمام ماليس بحركة ذهنية اليه . ومعلوم
ان الحركة لو كانت قبيحة بما هي حركة مخصوصة ، ولا نعلم الخصوصية قبل انتهائها
كانت كل حركة قبيحة .
(۲) قوله (اذا حصل له
العلم أي في زمان حصوله أو بعده .
فان قيل : العلم بالدليل مقدم على العلم
بالمدلول زماناً .
قلت : المقدم زماناً هو العلم بذات
الدليل لانه قبل الترتيب الذي يتوقف عليه العلم بالمدلول زماناً ، والترتيب قبل العلم
بالمطلوب زماناً . وأما وصف كونه دليلا فهواما بعد العلم بالمطلوب زماناً أو معه .
ضرورة حسن نظر كثير (۱) من أمر الدين والدنيا
معاً.
والنظر الذي ذكرناه (۲) لا يصح الا من كامل
العقل (۳) فلابد
____________________________________________
(۱) قوله (حسن نظر كثير )
فيه اشارة بالمفهوم الى قبح بعض الانظار المعلومة خصوصيتها قبل انتهائها كالنظر
فيما لا ينفع في الدنيا والدين ، أو ينفع مع ترك الاحوج الانفع .
(۲) قوله (والنظر الذي
ذكرناه أي الحركة الذهنية المخصوصة بقصد تحصيل مجهول ، التي تولد العلم . ويمكن أن
يراد جنس النظر .
(۳) قوله (لا يصح الامن
كامل العقل) أي لا يتحقق ولا يصدر الأمن كامل العقل ويمكن أن يراد انه لا يخلو عن
الفساد الامن كامل العقل .
المرادبـ ( كامل العقل) العاقل، وهذا
اشارة الى رد ما ذهب اليه ابن سینا (۴) واتباعه من انه يشترط
في افادة النظر في الدليل من الوجه الذي يدل تفطن الاندراج ، أي اندراج الاصغر تحت
الأوسط حين الحكم في الكبرى . فان المتناهي في البلادة قد يرتب المقدمتين
البديهيتين الأوليتين على هيأة الشكل الأول ، بقصد تحصيل مجهول ، ولا يحصل له
العلم بالمطلوب فلا يكون النظر مولداً للعلم ، لاحتياجه في حصول العلم عقيبة الى
انضمام ماليس بنظر اليه . ووجه الرد ان النظر لا يمكن وجوده من غير العاقل والعاقل
لا يكون الامتفطناً
__________________
أن نبين ماهية العقل
(۱) ،
والعقل هو مجموع علوم اذا حصلت كان الانسان عاقلا (۲) مثل أن يجب أن يعلم
المدركات اذا أدركها .
____________________________________________
للاندراج .
فقولكم : ( ان المتناهي في البلادة قدير
تب الخ ) باطل فان كل من يرتب كذلك يعلم المطلوب لانه عاقل ، وكل من لا يعلم لا
يقدر أن يرتب كذلك ، لانه غير عاقل. فتفطن الاندراج شرط لوجود النظر أولازم
لوجوده، لانه شرط لافادته العلم بعد وجوده. وكذا الكلام لو جعل العلم بالضروريات
الأولية شرط الافادة النظر العلم .
(۱) قوله (فلا بد أن نبين
الخ) ذلك ليتضح أنه لا يمكن صدور النظر المذكور الأمن العاقل .
(۲) قوله (والعقل هو
مجموع علوم اذا حصلت كان الانسان عاقلا) العقل يطلق بالاشتراك على معان منها : ما
هو مناط التكاليف الشرعية والعقلية ويفسر بغريزة يلزمها العلم بالضروريات عند
سلامة الآلات . وهذا غير مانع ، لان المجنون ليس جهله الالعدم سلامة الآلة .
وأيضاً معرفة الضروري والنظري قبل معرفة
العقل مما يتعسر أو يتعذر وقريب منه تفسيره بالوصف الذي يفارق به الانسان ساير
البهائم، أو غريزة يتهيأ بها درك العلوم النظرية ، لانه يرد على الأول الأول ، وعلى
الثاني الثاني .
فالاولى أن يفسر بغريزة يكشف عنها مجموع
علوم ذكرها المصنف . و ضابطها العلم بنحو قولنا : الموجود اما قديم أو حادث ، أي
بعد التوجه اليه والعلم بنحو قولنا : هذا الثوب أبيض مع ارتفاع اللبس كالبعد
المفرط ، و الرمد . والعلم بنحو وجود مكة بعد تواتره اليه . وهذا يستلزم العلم
بقسمي
الضروريات وبالنظريات
التي تجري مجراها .
ولو اكتفي بواحد من الثلاثة لكفى ،
لانها متلازمة . هذا ولكن ظاهر الاقتصاد عدم التلازم حيث قال (واذا حصل بعضها أو
لم يحصل شيء أصلا لم يكن عاقلا) .
وقد أشار المصنف الى أن هذه العلوم ليست
نفس العقل بل هي كاشفة عن الغريزة التي لا يمكن حدها الا بها بقوله (اذا حصلت كان
الانسان عاقلا) فانه لولا أن المراد ما ذكرنا لكان ذكره لغواً ومشتملا على الدور .
ولو رد عليه أيضاً ، ان الغافل عن
العلوم والنائم يسميان عاقلين مع فقد العلوم المذكورة ، ويظهر بذلك ان كون العلوم
الضرورية نفسها أحمد معاني العقل ، كما توهم الغزالي في الاحياء باطل .
ومنها : كون الشخص مستفيداً لعلوم
تستفاد من التجارب بمجاري الاحوال فان من حكمته التجارب ، وهذبته المذاهب ، يقال
أنه عاقل في العادة ، ومن لا يتصف به يقال انه غبي ، غمر ، جاهل .
ومنها : النفس الناطقة باعتبار مراتبها
الاربع في استكمالها بزعم الفلاسفة وموافقيهم ، وتطلق على نفس تلك المراتب ، وعلى
قواها في تلك المراتب.
ومنها : ملكة أعمال العقل ، الذي هنا
مناط التكليف ، فيما خلق لاجله ، كما روي عن أبي عبد الله الا انه قال : (العقل ما
عبد به الرحمن واكتسب به الجنان) وعليه
اطلاقات الكتاب والسنة في نحو قوله تعالى نقلا عن الكفار :
__________________
وارتفع عنها اللبس ،
وأن يعلم أن الموجود لا يخلو من قدم أو حدوث، وان المعلوم لا يخلو (۱) من وجود أو عدم ،
ويعلم وجوب كثير من الواجبات (۲) وحسن كثير من المحسنات ، مثل وجوب رد
الوديعة، وشكر النعمة، وحسن الاحسان .
____________________________________________
( لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ
أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) وقوله
: ( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن
وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ
)
.
(۱) قوله (وان المعلوم لا
يخلو) لا ينا في ذلك ذهاب بعض العقلاء الى الواسطة لانهم خصصوا المعدوم بما هو أخص
من نقيض الموجود .
(۲) قوله (ويعلم وجوب
كثير من الواجبات) أي وجوبها العقلي الواصلي وكذا المراد بحسن كثير من المحسنات ،
وبقبح كثير من المقبحات ، والضابط لهذا الكثير ما كان وجه وجوبه أو حسنه أو قبحه
فيه لا يتعداه الى غيره ، بأن يكون لطفاً فيه ، وسيجيء بيانه في (فصل في ذكر ما
يصح معنى النسخ فيه) وفي (فصل في ان العبادة لم ترد بوجوب العمل بالقياس) وفي آخر
فصول الكتاب .
ولا ينافي ذلك انكار بعض العقلاء قاعدة
التحسين والتقبيح العقليين (اما أولا) فلانه محض اتباع هوى المعارضة وهمية ناشئة
عن أمرين :
الأول : شبهة لا يقدرون على دفعها ، وقد
بينا الحق في دفعها ، في المقدمة الثانية ، من مقدمات بيان الحاجة .
الثاني : حبهم حوالة ذنوبهم على الغير .
( و اما ثانياً ) فلان بعضهم أقروا
باستحقاق الذم على الترك ، وانكروا استحقاق
__________________
ويعلم قبح كثير من المقبحات مثل: الظلم
المحض، والكذب العارى من نفع، ودفع ضرر، وغير ما عددناه (۱) ويعلم تعلق الفعل
بالفاعل (۲)،
وقصد المخاطبين (۳) .
____________________________________________
العقاب وتوهموا
اشتمال القاعدة عليه .
وبعضهم أقروا باستحقاق الذم على الترك ،
وانكرواكونه نفس الفعل بدون ملاحظة العادات والشرايع . ومقصود المصنف أصل استحقاق
الذم على الترك ولم ينكره أحد . واحترز بقوله ( كثير ) عن الواجبات الشرعية
والتجربية والعادية فان العلم بوجوبها لا يلزم العقل المبحوث عنه هنا .
(۱) قوله (وغير ما
عددناه) أي من المحسنات والمقبحات الداخلة في ضابطة (الكثير) المذكورة .
(۲) قوله (و يعلم تعلق
الفعل بالفاعل) أي كون حادث له محدث ، اما بلا واسطة أو بواسطة ما هو موجب ، فلا
ينافي هذا ذهاب بعض العقلاء الى كون الافعال المولدة حوادث ، لا محدث لها ، كثمامة
بن أشرس .
(۳) قوله (وقصد المخاطبين)
بكسر الطاء أي المتكلمين . والمراد العلم بالمتداول من اللغة التي فشابين أهلها ،
ويمكن أن يدخل فيه العلم بعدم حمل اللفظ على محض منطوقه فيما يعلم بمجرى العادة
الى القصد ، الى زائد مع معاشرة أهل العرف والعادة ، كأن يقول السيد لعبده المعاشر
للناس : ارفع
__________________
هذا الكوز من عندي ،
فيرفعه ثم يضعه في موضعه الأول ، ويعتل بانك ما أمرتني الا بالرفع وأنا رفعته .
فان قيل : بعض العقلاء يفعلون مثل ذلك
كما في الحيل التي يتخلص بها المشتاق الى اقراض الربا واقراضه ، والمشتاق الى منع
الخمس والزكاة عن ظاهرها ، كأن يباع ما يعلم البائع والمشتري انه لا يسوى الابدرهم
بالف دينار بملاحظة ما يقرضه البائع، أو يقصد انه يحسب الألف دينار من الخمس
والزكاة وانه ليس الالتغيير الصورة لا الحقيقية .
قلنا : بعض من يفعل ذلك ، لم يباشر أهل
العرف بقدر ما يعلم به ذلك ، وبعضهم يعملون ويفعلون بمققضى هواهم . قال تعالى في
سورة يونس: ( وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً
مِّن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ
أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ) .
عبر عن ارسال الكتبة لاعمالهم، أو عن
خذلانهم باعطائهم المال ، مع علمه تعالى بانه يفضي الى مكرهم بالمكر ، ومن عجيب
مكرهم في آيات الله تعالى ما مكروا في آية سورة البقرة : ( الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ
الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ
مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ
مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى
اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ ) .
فان هذه الآية تسمى في أحاديث أهل البيت
عليهمالسلام بينة
كما في الكافي في كتاب الايمان والكفر ، في الثالث ، والثامن ، والعاشر من كتاب
الكبائر، وفي کتاب المعيشه في الأول من باب السحت فانهم عليهمالسلام عدوا في تلك الاحاديث
__________________
من الكبائر الربا بعد
البينة ، ووجه التسمية انها موعظه صريحة الدلالة على تحريم البيع المشتمل على هذه
الحيل ، باعتبار أن المراد بالقيام في قوله : « لا يقومون » القيام بالحجة والعذر
في استحلال البيع المشتمل على الحيلة ، للتخلص عن الربا .
و المراد بـ « الذي يتخبطه الشيطان من
المس » من يشرب الخمر ويسكر بحيث كلما قام سقط ، و (من) للسببيه والظرف متعلق بـ (يتخبطه)
و (المس) كناية عن الجماع وذلك اشارة الى التشبيه في السقوط و ( اللام ) في البيع
للعهد الخارجي ، وهو الذي شاع وذاع بين آكلي الربا من البيع المشتمل على الحيلة .
والمراد بـ (مثل الربا) انه ليس ربا ،
بل هو شبه الربا ، بقرينة زيادة لفظة (أنما) وبقرينة أنه لم يقل ان الربا مثل
البيع وقوله (
وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا
)
عطف على الاقرب ، وهو
قوله (
إِنَّمَا
الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا
)
فهو تتمة كلام آكلي
الربا .
ومرادهم ان الله أحل أحد المثلين وحرم
الآخر ، ومع ذلك أهل المكر قالوا في تأويل هذه الآية اموراً عجيبة خارجة عن سياق
هذه الآية وعن قواعد العربية منها : انهم جعلوا قوله (
أَحَلَّ
اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا
)
من قول الله تعالی
رداً على قول آكلي الربا . اما عطفاً على (قالوا) واما حالا عن ضميره ، واما نحو
ذلك .
وقالوا : انه لم يقل انما الربا مثل
البيع ، لارادة المبالغة في استحلالهم الربا وهذا عجيب مبني على الغفلة ، أو
التغافل عن ان المبالغة في المنهي عنه
__________________
و يمكنه معرفة ما يمارسه من الصنائع ،
ويمكنه أيضاً معرفة مخبر الاخبار وغير ذلك
فاذا حصلت هذه العلوم فيه كان كامل
العقل يصح منه الاستدلال على الله تعالى، وعلى صفاته ، وعلى صدق الانبياء عليهم
السلام . ووصفت هذه العلوم (۱) التي ذكرناها بالعقل لوجهين .
أحدهما : انه لما كان العلم بقبح كثير
من المقبحات صارفاً له عن فعلها (۲) و علمه لوجوب كثير من الواجبات داعياً له
الى فعلها
____________________________________________
يستلزم ضعف النهي ،
والتخصيص في العلة مع عموم المعلل يوجب قصور التعليل ولاسيما تخصيصها بأمر نادر
جداً أو غير متحقق أصلا .
ومثل هذه الركاكة لا تليق بكلام أوساط
الناس ، فضلا عن القرآن المعجز وفي نهج البلاغة في ذيل ، ومن كلام له عليهالسلام خاطب به أهل البصرة
على جهة اقتصاص الملاحم عن النبي صلىاللهعليهوآله انه
قال : ( يا علي ان القوم سيفتنون بأموالهم ) الى قوله صلىاللهعليهوآله :
(ويستحلون حرامه بالشبهات الكاذبة والاهواء الساهية ، فيستحلون الخمر بالنبيذ ،
والسحت بالهدية ، والربا بالبيع) .
(۱) قوله (ووصفت هذه
العلوم) هى مسامحة كما ذكرنا ، والمقصود وصفتها هذه العلوم كاشفة عنه .
(۲) قوله (صارفاً له عن
فعلها) ليس المرادانه لا يقع معها شيء من المقبحات للعلم بصدورها عن كثير من
العقلاء ، بل المراد انه يقتضي عدم فعلها اقتضاء
__________________
وصارفاً عن الاخلال
بها ، سمى عقلا تشبيهاً بعقال الناقة التي يمنعها من السير .
والثاني: انه لما كانت العلوم
الاستدلالية لا تثبت (۱) الامع
ثبوت هذه العلوم سميت عقلا تشبيهاً أيضاً بعقال الناقة . ولاجل ما قلناه (۲) لا يصح وصف القديم
تعالى بانه عاقل ، لان هذا المعنى لا يصح فيه (۳) .
وأما الامارة فليست موجبة للظن (۴) بل يختار الناظر فيها
عندها الظن ابتداءاً لانا نعلم انه ينظر جماعة كثيرة في امارة واحدة من جهة واحدة
، فلا يحصل لجميعهم الظن ، فلو كانت مولدة لوجب ذلك، كما يجب ذلك في الدليل.
____________________________________________
هداية ، وكذا الكلام
في الداعي والتشبيه بالعقال ، لا يجب أن يكون تشبيها له من جميع الوجوه .
(۱) قوله (لا تثبت) أي لا
يحصل شيء منها ، ولما كان حصول العلم ممتنعاً بدون ثبوته ورسوخه قال (لا تثبت) .
(۲) قوله (ولاجل ما قلناه)
أي في الوجه الثاني .
(۳) قوله (لان هذا المعنى
الخ) أي لان كون بعض العلوم لا يثبت الا ببعض آخر ، لا يصح فيه تعالى .
(٤) قوله (وأما الامارة فليست
موجبة للظن الخ) يعني ان النظر في الامارة ليس موجباً للظن ، ويظهر مما حررناه في
استلزام النظر في الدليل العلم ، و عدم استلزام النظر في الشبهة الجهل . ان
المقصود هنا ان النظر في الامارة لا يصل الى حد يستلزم بدون انضمام شيء آخر ، خارج
عن حقيقته ، ليس من
جنس النظر ، ولا
لازماً له الظن بشيء .
والمراد بالامارة أمر معلوم تحققه ،
وانه يكون الغالب مع تحققه تحقق شيء آخر، هو امارة له . وانه لا يستلزم عقلا تحققه
من حيث انه كذلك ، فقولنا معلوم تحققه ، احتراز عن قول من يقول بالاجتهاد ،
والسلام واجب في الصلاة والغالب في الواجب فيها ان تر که مبطل لها ، فانه ليس
امارة للابطال بتركه انما الامارة لما هو امارة لوجوبه ان لم يضعف ، بحيث ينتفي
الظن بابطال الترك كما سيجيء بيانه بعيد هذا .
وقولنا : وانه يكون الغالب معه تحقق ما
هو امارة له ، احترازاً عما يفيد الاعتقاد المبتداء ، كاتباع الهوى والميل
الشهواني، فانه ليس الغالب معه وجود المعتقد ، وان كان الغالب معه وقوع الاعتقاد .
بل ان فرضنا انه يستلزم الاعتقاد .
وقولنا : وانه لا يستلزم عقلا ، احتراز
عن الدليل ، سواء علم كونه على الوجه الذي يدل ، أو ظن ، أو اعتقد ، أو لم يصدق به
أصلا .
وفي الأول يحصل العلم بالنتيجة ، وفي
الثاني الظن ، لكن امارته امارة الظن الأول ، وفي الثالث الاعتقاد ، وفي الرابع لا
يحصل تصديق بها أصلا . ولو اكتفي عن هذا القيد بسابقه كان ممكناً ، لان الغالب
يشعر بتحقق مغلوب .
وقولنا من حيث انه كذلك احتراز عما يصلح
، لكونه امارة بالنسبة الى من لم يعلم تحققه أو كونه مستتبعاً لما هو امارة له في
الغالب ، أو اعتقد استلزامه له عقلا، فانه ليس امارة ولا شبهة، بالنسبة الى
الأولين، وهو شبهة بالنسبة الى الأخير.
والمنطقيون يجعلون ذات الامارة : مجموع
قضايا دالة على تحقق القيود التي اعتبرناها في الامارة قبل الحيثية ، وقولنا : زيد
يطوف بالليل ، والغالب دون اللازم في الطائف بالليل انه سارق . فمفهوم الامارة ،
أي حدها عندهم، قول مؤلف من قضايا متى سلمت غلب عنها قول آخر ، ولا يستلزمه عقلا،
من
حيث انه كذلك .
وليعلم ان قول من يحكم بالظن والاجتهاد ، بان السلام واجب في الصلاة ، وكل واجب
فيها فتركه فيها مبطل لها ، ليس بامارة عند المنطقيين لكون ترك السلام مبطلا لها ،
بل هو دليل لانه يصدق عليه حد الدليل عندهم الزيادة قيد متى سلمت في الحد عندهم .
وليس امارة له عند الاصوليين أيضاً ، بل
الامارة المجموع المركب من امارة الصغرى ، وامارة الكبرى ، ان اقتضى الظن بالنتيجة
بتوسطهما . والا فلاظن ولا امارة هنا . بيان ذلك ان الظن بالصغرى والكبرى ،
المترتبتين على الشكل الأول ، لا يستلزم عقلا الظن بالنتيجة ، لجواز أن يكون كل
واحد من الظنين في الضعف بحيث لا يورثان الظن بالنتيجة. ولنبين ذلك بوجه، هو أن
الصغرى لو كانت مظنونة بأضعف الظنون ، بحيث لا يمكن أضعف منه ، وكانت الكبرى
معلومة قطعاً كان الظن بالنتيجة ، كالظن بالصغرى في القوة .
ولا شك انه كلما تطرق الضعف في الاعتقاد
، باحدى المقدمتين ، مع بقاء الأخرى على ما كانت عليه ، تطرق الضعف بالنتيجة .
فاذا كانت الكبرى في الصورة المذكورة ظنية لم تكن النتيجة مظنونة ، اذ لا يمكن
الاضعف من الاضعف المذكور .
ولو قال قائل : ان الظن في قوته قابل
للقسمة الى غير النهاية ، فلا يوجد أضعف بحيث لا يمكن أضعف منه .
قلنا : أولا : انه مكابرة .
وثانياً : انا نجري الكلام في أضعف ما
تحقق بالفعل في أحد الازمنة الثلاثة ، و فيه انه لا يتعلق بمقدمة الاحين كون
الأخرى معلومة ، وهو بحيث لو تعلق بها مع كون الأخرى مظنونة ، لوجد أضعف منه .
وثالثاً : ان المقصود القدح فيما قيل من
أن قولنا ( فلان يطوف بالليل ،
وكل من يطوف بالليل
فهو سارق) امارة يستلزم الظن به الظن بالنتيجة قطعاً ويكفي الاحتمال . ولا يخفى ان
الظن في كبرى هذا المثال غير متحقق فيمن يظن بالسرقة لامارة الطواف بالليل . بل
العلم بكذ بها حاصل له . ولا ينافي ذلك علمه ، بأن الغالب في الطائف بالليل انه سارق
. فالأولى جعل الامارة ما قلناه ، واستلزام الظن بالملزوم للظن باللازم كلياً
ممنوع كما سيجيء في (فصل في أن الاخبار قد يحصل عندها العلم).
ثم لو فرضنا ان الظن بهما مستلزم للظن
بالنتيجة، فليس النظر فيهما مستلزماً له كما يظهر مما حررنا سابقاً ، لان الظن
بهما خارج عن حقيقة النظر ، وليس من جنسه ولا لازماً له . ولذا قد ينظر جماعة في
امارة واحدة ، من جهة واحدة بدون تفاوت فيما يرجع الى النظر ، ويحصل لاحدهم الظن
دون الآخرين . كما ذكره المصنف .
قال سيدنا الاجل المرتضى رحمهالله تعالى في الذريعة :
ويمضي في الكتب كثيراً ان حصول الظن عند النظر في الامارة ليس بموجب عن النظر كما
نقوله في العلم الحاصل عند النظر في الدلالة بل يختاره الناظر في الامارة لا محالة
لقوة الداعي ، وليس ذلك بواضح ، لانهم انما يعتمدون في ذلك على اختلاف الظنون من
العقلاء والامارة واحدة ، وهذا يبطل باختلاف العقلاء في الاعتقادات ، والدلالة
واحدة . فان ذكروا اختلال الشروط وعند تكاملها يجب العلم أمكن أن يقال مثل ذلك
بعينه في النظر في الامارة . (انتهى) .
وفيه : ان الفرق بين الدليل والامارة ،
ان الدليل اذا نظر فيه من الوجه الذي يدل لم يكن انظمام أمر من الخارج اليه يصرف
الناظر عن العلم بالمدلول ولا يحتاج استلزامه للعلم الى عدم المانع كما مر عند قول
المصنف والنظر في
__________________
الدليل الى آخره) لان
تعارض القطعيين محال ، والامارة لا تصلح المعارضة الدليل ، وهذا بخلاف الامارة ،
لانها اذا علمت من الوجه الذي هي امارة ، و نظر فيها نظراً صحيحاً ، يمكن انظمام
أمر من الخارج اليه ، يصرف ما يترتب عليه ، عن الترتب عليه ، لان تعارض الامارتين
ممكن ، فيحصل التوقف ، و اذا عارض الدليل الامارة غلب عليها فقول المصنف (من جهة
واحدة) أي من الوجه الذي هي امارة عليها .
وقوله (فلا يحصل لجميعهم الظن) مبني على
أن بعضهم يطلع على معارض لها ، اما مساو أو أقوى ، الا يرى انه ربما ينتفي الظن
بعد حصوله بالامارة ، مع تذكر ما حصل عنه بخلاف العلم الحاصل بالدليل ، فلا يرد
هذا الاعتراض على من يدعي أن النظر الصحيح في الدليل من الوجه الذي يدل مطلقاً
موجب للعلم، بخلاف النظر الصحيح بالامارة، فانه ليس شيء منه موجباً للظن كمامر .
ولا على من يدعي أن بعض النظر الصحيح في
الدليل مولد للعلم، بخلاف النظر الصحيح في الامارة ، فانه ليس شيء منه مولداً للظن
نعم يرد هذا على من يحكم بان النظر الصحيح في الدليل مطلقاً مولد للعلم ، وذلك
لتخلف التوليد عن النظر الصحيح في المدركات ، وعن النظر في الكبرى والصغرى
الكسبيتين بدون كسبهما كما مر .
ويرد أيضاً على من يدعي ان النظر الصحيح
في الدليل من الوجه الذي يدل مطلقاً مولد للعلم ، ولا يكتفي بالايجاب ، ويجعل
الشرط في التوليد ما نقلناه عن المصنف ، وذلك لتخلف التوليد عن النظر في المدركات
وان كان صحيحاً ، ومن الوجه الذي يدل .
ألا ترى ان الجماعة اذا نظرت في الدليل
من الوجه الذي يدل حصل لجميعهم العلم ولم يحصل لبعضهم دون بعض وليس كذلك الظن .
فصل
في ذكر أقسام أفعال
المكلف (۱)
أفعال المكلف (۲)
____________________________________________
(۱) قوله قدس سره (فصل في
ذكر أقسام أفعال المكلف) سيكرر هذا الفصل لطول العهد عند الاحتياج اليه ، في
الكلام في الافعال في (فصل في ذكر جملة من أحكام الافعال) ثم بعضه في (الكلام في
الحظر والاباحة) وكان ذكره هنا في المباديء أي حادث بعد ذكره ثمة كما مر .
(۲) قوله ( أفعال المكلف
هذا يشعر بأن المقصود بيان أقسام الحكم الشرعي دون العقلي، وحينئذ يراد بالمدح
والذم ما يساوق الثواب والعقاب الاخرويين فانه لا تخصيص للحكم العقلي بفعل المكلف
لجريانه في أفعال الصبيان المراهقين ونحوهم . اللهم الا أن يقال التكليف شامل للتكليف
العقلي أيضاً . ويؤيده أنه أخذ المصنف في حد القبيح في (فصل في ذكر جملة من أحكام
الافعال) استحقاق الذم من العقلاء بل اكتفى به ثمة ، وفيه أنه مع كونه تكلفاً
يخدشه ، ان الظاهر من العبارة حينئذ ، ولاسيما من اكتفائه ثمة ، تساوي النظاير في
الاقسام ، وليس كذلك ، لان الواجب العقلي قد لا يكون واجباً شرعياً .
قال المصنف في آخر مبحث الوقت من تهذيب
الاحكام : الوجوب على
اذا كان عالماً بها،
أو متمكناً من العلم بها (۱)
____________________________________________
ضروب عندنا منها : ما
يستحق بتركه العقاب ، ومنها ما يكون الأولى فعله ولا يستحق الاخلال به العقاب و ان
كان يستحق به ضرب من اللوم والعتب (انتهى) (۲) .
وأيضاً سيحكم المصنف بعد اعادة هذا
المبحث في فصل في ذكر في أحكام الافعال بانه لا يجوز ان يقع شيء من القبح من
الانبياء والرسل والأئمة عليهمالسلام الحافظين
للشرع ، ولا يصح هذا الا اذا خص القبيح بالقبيح الشرعي ، وجعل الكلام فيه لما مر
من وقوع العتب على الانبياء عليهمالسلام .
وأيضاً لا يتحقق فيها المباح كما مر
برهانه في الفصل الأول عند قول المصنف (الخطاب أو ما كان طريقاً الخ) وفيه : ان
مذهب المصنف تحقق المباح فيها، كما مرهناك مع ما فيه . والمتبادر لغة من فعل
المكلف ما كان المكلف موجداً له ، سواء كان اختيارياً ، أو ايجابياً محضاً ، أو
ايجابياً شبيهاً بالاختياري . كفعل احدنا للداعي الموجب ، بكسر الجيم ، واطلاق
الفعل على نحو الموت أو نحو مات في ( مات زيد ) مجرد اصطلاح من النحويين ، ولا
ينافي ذلك كون الاسناد في (مات زيد) حقيقة لغة .
ولو خص الفعل بما كان مقدوراً كما ذكره
المصنف في (فصل في ذكر جملة من أحكام الافعال) كان ذكر الشروط الثلاثة لغواً ،
ويظهر بذلك انه ليس المقصود باضافة الافعال الى المكلف ، أفعاله من حيث أنه مكلف .
(۱) قوله (اذا كان عالماً
بها، أو متمكناً من العلم بها) أي بجهاتها التي تعلم بها الاحكام الواصلية. واعلم
ان ظاهر كلام المصنف هنا عدم تمييزه بين الاحكام
__________________
وهو غير ساه عنها (۱) ، ولا ملجأ اليها (۲)
____________________________________________
الواصلية والواقعية
ويؤيده حكمه بعدم جواز الاجماع ، وقد اعترض عليه ثمة المحقق الحلي في رسالته في
الأصول بما حاصله ذلك . وأيضاً ظاهره عدم تمییزه بين الاحكام العقلية
والشرعية ، وقد بينا التميزين في الحاشية الأولى .
(۱) قوله (وهو غير ساه
عنها) المرادان المسهو عنه لا تكليف فيه من حيث هو مسهو عنه لا أنه قبيح . ولا
ينافي ذلك كون التكليف حاصلا في مباديء السهو كما في ظاهر قوله تعالى : ( فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ
عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ )
.
(۲) قوله (ولا ملجأ اليها)
ليس المراد بالالجاء ما تجري فيه التقية ونحوها فانه قد يكون واجباً كما اشتهر من
جواز أكل الميتة في المخمصة ، وقد يكون محظوراً كما في ارتكاب الدم المعصوم ، بل
المراد ما يكون فعل العبدمعه صادراً عنه بالايجاب المحض ، أو تابعاً لداع موجب
باعتبار مجامعته مع أمر خلقي ، أو نحوه حاصل من غير العبيد فيه يمنع المجموع من
الترك ، فانه حينئذ فعل اضطراري شبيه بالاختياري ، وليس من شأنه أن يتصف بالحسن
والقبح ، ولا يصح التكليف به . وذلك كما ان العاقل مادام عاقلا يغمض عينه، كلما
قرب ابرة من عينه بقصد الغمز فيها من غير تخلف ، مع انه فعل له ، تابع لداعيه في
الجملة ، حتى أنه قال بعضهم : أنه انما يغمضه بالاختيار، وامتناع ترك الاغماض بسبب
كونه عالماً بضرر الترك ، لا ينافي الاختيار (انتهى) .
ولاشك ان عدم الالجاء شرط لانه لا فرق
بين فعل الغير في حقنا ، وفعلنا الغير الاختياري . فاذا جوز اتصاف الثاني بشيء من
أقسام الواقعي ، حتى
__________________
لا تخلو من أن تكون
حسنة أو قبيحة (۱) ،
وانما قلنا ذلك لان فعل
____________________________________________
الاباحة ، فليجوز في
الأول أيضاً وهو سفسطة .
فان قلت : أي سر في الفرق بين الجهل
والسهو ، وبين الالجاء .
قلنا : سره جواز خطاب زيد في الوجوب بأن
يقال : افعل هذا الا أن تكون ملجاءاً فانه لا تكليف لك به ، وفي الاباحة هذا مباح
لك ، أي ان شئت فعلت، وان شئت أن تفعل الا ان تلجاء فانه لا تجري فيه الاباحة)
وذلك لانه لا تنافى بين كون زيد ملجاءاً وفهمه الخطاب الاستثنائى ، وهذا بخلاف
الجاهل و الساهي ، فانهما لا يصح خطابهما بالاستثناء للمنافاة بين الجهل والسهو ،
وبين فهم الاستثناء المأخوذ بشرطهما ، أما الجهل فظاهر ، وأما السهو فباعتبار وقت
تعلق الخطاب ، وتحقق فائدته وهو وقت الفعل ، فلا ينافي ذلك جواز فهمه قبل فعل
المسهو عنه ، وهذا لا يجري في أصل الخطاب قبل الاستثناء ، فانه لم يوجد فيه شرط
الجهل والسهو. فيجوز خطاب الجاهل والساهى به ، في ضمن خطاب عام يعلمه بعض
المخاطبين ، بخلاف الخطاب الاستثنائي ، فانه لا يخاطب به الا غير العالم به ، من
حيث انه غير عالم أو الساهى عنه من حيث انه ساه عنه.
(۱) قوله (لا تخلوا من أن
تكون حسنة أو قبيحة) الحصر يدل على أن المكروه داخل في الحسن لكنه لم يذكره في
أقسامه . واستدرك ذكره بعد ذلك لانه أخس أقسامه ، فكأنه ليس بحسن . والقرينة انه
لم يحصر الحسن في الاقسام المذكورة له أولا هنا ، وفي (فصل في ذكر جملة من أحكام الافعال)
فالحسن ما لا يكون فاعله مستحقاً للذم . و المراد بـ ( ما ) المقسم ، والقبيح ما يستحق
فاعله الذم ، فلا يرد ان هذا الحصر ينافى ما سيجيء بعيد هذا من أن المكروه ليس
بقبيح .
الساهي والنائم لا
يوصف بذلك (۱) .
وقال قوم: يوصف بذلك اذا كان فيه جهة
الحسن أو القبح (۲)
____________________________________________
(۱) قوله (لان فعل الساهي
والنائم الخ) وكذا فعل الجاهل الغير المتمكن من العلم ، والظاهر انه انما لم يذكره
لان القوم لم يخالفوا فيه ، والظاهر ان النائم مثال للملجاء فقط ، ويحتمل أن يكون
مثالا للجاهل أيضاً فالخلاف في الجميع .
(۲) قوله ( اذا كان فيه
جهة الحسن أو القبح ( ان اراد بجهة الحسن أو القبح) ما يكون معه الفعل حسناً أو
قبيحاً ، فلاشك في أن أفعال الجاهل الغير المقصر، والساهي، والملجاء فيها جهة
الحسن أو القبح، بمعنى صفة الكمال أو النقصان ، ولافي أنه ليس فيهما جهة الحسن أو
القبح ، بمعنى استحقاق التحسين أو التشريب الا تقديراً ، ولافي أن الجاهل والساهي
حين الجهل و السهو مخاطبان بخطاب تكليفي ، ليس فيه استثناء حالهما بخلاف الملجاء
كما مر .
فالاحسن أن يجعل فعل الاولين داخلا في
الحسن والقبح، بجعل الحسن والقبح على قسمين : (الأول) الواقعي (والثاني) الواصلي،
وجعل فعلهما د اخلا في الأول دون الثاني كمامر مراراً بخلاف فعل الأخير، وان أراد
بجهة الحسن أو القبح ما يقتضي الاتصاف بأحدهما، ان لم يمنع مانع فلاشك في اتصاف
أفعال الجاهل ، والساهي ، والملجأ بهما اذا لم يكن معه الجهل والسهو، و الالجاء
لكانت حسنة أو قبيحة بمعنى استحقاق التحسين والتشريب، وانه ليس فيها استحقاق
أحدهما بالفعل ، ويظهر بذلك ان العبارة المنقولة عن القوم غير منقحة .
فالحسن على ضربين:
ضرب منه ليس له صفة زائدة على حسنه (۱) وذلك يوصف بأنه مباح (۲)
____________________________________________
اللهم الا أن يكون (اذا) ظرفاً لـ (قال)
ولا يكون من تتمة عبارة القوم، و يكون اشارة الى اعتراض عليهم ، بناءاً على
الاحتمال الثاني، وهذا النزاع يشبه النزاع في مدلولات الالفاظ.
(۱) قوله ضرب منه ليس له
صفة زائدة على حسنه المتبادر منه كونه في أقل مراتب الحسن ، وفيه أنه ينافي الحصر
في الحسن والقبيح، وجعل المكروه خارجاً عن القبيح كما سيذكره . ويحتمل أن يكون
المراد عدم استحقاق المدح على فعله وتركه، ويلزمه عدم استحقاق الذم على فعله وتركه
.
(۲) قوله ( وذلك يوصف
بأنه مباح ) قدمر " سابقاً امتناع تحقق المباح العقلي في حق الله تعالى للزوم
العبث، وهو ممتنع في حق العباد أيضاً كذلك لان العبث وان كان لا يذم العباد عليه
مطلقاً بل اذا كان في حصوله مشقة ، فانه لا يذم العباد عرفاً على تحريك أنملة بدون
نفع، أو لحظة زائدة، ولو ذمهم ذام على ذلك، لاستحق الذام الذم. لكن لاشك أن تركه
أولى من فعله، فيمدح تار كه وان لم تكن فيه مشقة فيدخل في المكروه لافي المباح .
تحققه في حق العباد، وخلاف الكعبي ليس فيه، فانه انما
توهم ان كل مباح باعتبار واجب باعتبار آخر. وربما نقل عنه انه قال: كل مباح مأمور
به واستدل عليه على ما قيل: بأن كل مباح
__________________
اذا دل فاعله على
حسنه ( ۱ ) ،
و يوصف أيضاً في الشرع بأنه
____________________________________________
ترك حرام وترك الحرام
واجب، وما لايتم الواجب الا به فهو واجب .
ويمكن تقريره بأن كل مباح ترك حرام، أي
سبب ترك حرام، بمعنى انه يتوقف عليه ترك حرام، وهو مستلزم له . اذ الأمر بالقيام ،
أو النهي عنه ترك للقذف. وتناول الطعام ترك القتل، ونحو ذلك. وكل ترك حرام، أي كل
ما هو فرد حقيقة لترك الحرام ونفسه واجب. وهذا ينتج كل مباح يتوقف عليه واجب وهو
سبب له ، فنحتاج أن نظم اليه قولنا : وكل ما يتوقف عليه الواجب وهو مقدور واجب،
ولاسيما السبب المستلزم كما سيجيء، وحينئذ ينتج كل مباح واجب. فهو مركب من قياسيين
والأول منهما قياس المساوات
ويمكن تقريره يجعل المراد بترك الحرام
في المقدمة الثانية، أيضاً ما هو سبب له، وحينئذ فالمقدمة الثالثة دليل على
الكبرى. ويخدشه الواو ، كما يخدش الاول لزوم استعمال لفظ واحد في القياس مرتين
بمعنيين متغايرين. اللهم الا أن يقال انه بمعنى واحد، لكن يقدر في الأول مضاف، والتقدير
كل مباح علة ترك حرام أو سببه أو نحو ذلك. واختص التقدير به لظهور عدم صحته الا به
بخلاف الثاني .
(۱) قوله (اذا دل فاعله
على حسنه سيجيء في فصل في ذكر جملة من أحكام الافعال انه للاحتراز عن فعل القديم
تعالى العقاب بالعصاة، فانه بصفة المباح وليس بمباح وفيه :
اولا : مامر من انه ليس بصفة المباح
أيضاً .
وثانياً : انه لاحاجة اليه ، لعدم دخوله
في مقسم القسم هنا . وهو فعل المكلف. اللهم الا أن يقال : ان المقصود هنا تقسيم
الحسن مطلقاً ، وتعريف
حلال وطلق وغير ذلك (۲) .
____________________________________________
أقسامه، وهو قيد
القسم هنا لانفس القسم. وظاهر العبارة ان الجاهل المتمكن من العلم مدلول بالفعل،
فالدلالة لاستلزام العلم بالمدلول عليه .
(۱) قوله : (وغير ذلك)
كالممكن والجائز وانهما كما يطلقان على المباح يطلقان على معان اخرى فان الامكان
في اللغة : الاقدار والتمكين. والجواز في اللغة : النفوذ والمضي . ثم الامكان
والجواز اطلاقا على الاباحة وعلى أربعة معان اخرى .
فانهما قد يطلقان على رفع وجوب الطرف
المقابل، ويسمى في الأكثر امكاناً عاماً، وقد يسمى جوازاً عاماً .
وقد يطلقان على رفع وجوب الطرفين ويسمى
امكاناً خاصاً وجوازاً خاصاً .
وكل منهما اما بحسب نفس الأمر ، ويسمى
امكاناً وجوازاً واقعياً أو بحسب الذهن ، ويسمى امكاناً وجوازاً ذهنياً . وأكثر ما
يطلق عليه التجويز الذهني فهذه أربعة معان والوجوب المأخوذ في كل منها أعم من
الوجوب شرعاً، ومن الوجوب عقلا .
والوجوب عقلا عندنا أعم من استحقاق الذم
على الترك، ومن الوجوب بالذات الذي هو أحد المواد الثلاث أو أعم منه ، ومما
بالغير. وليس المراد برفع الوجوب رفع القدر المشترك حتى يتخصص الجواز ، بل المراد
المفهوم المردد بين رفع هذا الوجوب ورفع ذاك الوجوب، فيعم الامكان حسب تعميم
الوجوب .
قيل: يطلق الجائز على المباح، وعلى ما
لا يمتنع شرعاً أو عقلا، وعلى ما
استوى الأمران فيه،
وعلى المشكوك فيه فيهما بالاعتبارين (انتهى) .
ومقصوده ما ذكرنا الا في عدم تعميم
الوجوب عقلا، المعبر عنه بالامتناع عقلا .
فالمعنى الأول: ما لا يمتنع، أي ما لاضرورة
في طرفه المقابل في نفس الأمر شرعاً أو عقلا ، وليس مراده بقوله (عقلا) ما يشمل
عدم الحرج العقلي لانه لا يتصور عنده حرج عقلي . نعم لو وقع هذا في كلام من يذهب
الى التحسين والتقبيح العقليين ، لكان مراده الاعم . فان تعميم الجواز بحسب تعميم
الوجوب كمامر " آنفاً . بل مراده عدم الوجوب بالذات، الذي هو أحد المواد
الثلاث، أو عدم الوجوب أعم من أن يكون الواجب بالذات أو بالغير بناءاً على مذهب من
يقول بانه يتصور الامكان بالغير المقابل للوجوب بالغير .
والمعنى الثاني: ما استوى الأمران فيه
في نفس الامر، أي شرعاً أو عقلا، وليس الاستواء شرعاً هنا مخصوصاً بالمباح لان رفع
ضرورة الطرفين شرعاً يتناول الندب والكراهة .
ألا ترى الى رفع ضرورة الطرفين عقلا ،
وانه لا ينافي الرجحان بالعلة، كما في جميع الممكنات العقلية الموجودة في الخارج،
ثم ليس فعل الصبي مطلقاً مثالا لما استوى طرفاه عقلا ، ان فرضنا انه اريد به
الاستواء في رفع الحرج العقلي، لانه قد يكون قبيحاً عقلا يؤنب علية كمامر مراراً .
والمعنى الثالث: المشكوك فيه في الشرع
أو العقل باعتبار عدم الامتناع أي ما جوز العقل وقوعه ، ولم يمتنع عنده شرعاً أو
عقلا. وهذه العبارة مبنية على ان الشك قد يطلق على ما يقابل العلم بالطرف المقابل،
وهو ظاهر البطلان لان اليقيني لا يسمى مشكوكاً فيه أصلا .
والظني انما يسمى مشكوكاً فيه في قولهم
في العلميات من العقليات
والضرب الاخر له صفة
زائدة على حسنه وهو على ضربين : أحدهما : أن يستحق المدح بفعله ، ولا يستحق الذم
بتركه (۱)
____________________________________________
والنقليات وان غلب
على الظن بعد فيه شك بالمعنى المقابل كما يدل عليه لفظة بعد، فمعناه انه فيه بعد
احتمال للعدم .
ولوقيل : معناه انه فيه بعد احتمال
الوجود، أو عدم الجزم بالعدم لعد سخافة وجنوناً ، وكذا الكلام في متساوي الطرفين
عند الذهن والموهوم فانه لا يطلق على شيء منهما المشكوك فيه بالمعنى المقابل للعلم
بالطرف المقابل .
والمعنى الرابع: المشكوك فيه في الشرع
أو العقل باعتبار استواء الامرين فيه، أي ماجوز العقل الطرفين واستويا عنده، بمعنى
انه لم يكن لشيء منهما ضرورة ووجوب في ذهنه شرعاً أو عقلا. وهذه العبارة مبنية على
ان الشك قد يطلق على ما يقابل العلم بأحد الطرفين ، و المشهور اطلاقه على ما يقابل
التصديق بأحد الطرفين ، وكون المراد بالتساوي ، عدم تعلق التصديق بشيء منهما ممكن
لفظاً بعيد معنى بالنظر الى لفظ الجواز، فانه رفع الضرورة كما مرت الاشارة اليه .
والقرينة على ان الأول معنى واحد
لامعنيان باعتبار فردية لفظه، أودون الواو، ووحدة لفظه (على) فيه. والقرينة على ان
الثالث والرابع ليس معنى واحداً باعتبار القدر المشترك بينهما قوله بالاعتبارين
بعد تكرار (على) في الاول والثاني .
(۱) قوله ( ان يستحق
المدح بفعله ولا يستحق الذم بتركه ) قدمر ان المراد بالمدح الثواب الاخروي ،
وبالذم العقاب الاخروي ، فانه لولا ان
فيوصف بأنه مرغب فيه
ومندوب اليه ونفل وتطوع، وهذا الضرب اذا تعدى الى الغير سمى بأنه احسان و انعام .
والضرب الثاني: هو ما يستحق الذم بتركه
(۱) وهو
أيضاً على ضربين (أحدهما) : انه متى لم يفعله بعينه استحق الذم وذلك مثل رد
الوديعة ، والصلوات المعينة المفروضة (٢) ، فيوصف بأنه واجب مضيق .
( والضرب الثاني ) : هو ما اذا لم يفعله
ولا ما يقوم مقامه (۳)
____________________________________________
المراد ذلك لكان
استحقاق المدح على الفعل مستلزماً لاستحقاق الذم على الترك ، لان تفويت المنافع
مذموم عقلا .
(۱) قوله (والضرب الثاني
هو ما يستحق الذم بتركه) أي يستحق العقاب الاخروى بتر که کمامر. والمراد بتر كه ما
يشمل تر كه بعينه ، وتركه وترك ما يقوم مقامه بقرينة التقسيم.
(۲) قوله (والصلوات
المعينة المفروضة) المراد بها الصلوات المفروضة التي يتضيق وقتها ولم يبق من الوقت
الامقدار فعلها .
(۳) قوله ( ولا ما يقوم
مقامه ) المشهور ان الواجب المخير فيه في الاصطلاح يشترط فيه كون الترديد بينه
وبين بذله في نفس الخطاب الشرعي التكليفي كما في الكفارات . وظاهر عبارة المصنف
يدل على انه لا يشترط فيه ذلك، فان الصلوات في الأوقات الموسعة لا ترديد فيه من
الشارع .
فان قلت : التخيير فيها بين الصلاة
والعزم على الفعل في ثاني الوقت كما ذهب اليه المصنف. والترديد فيه في حكم الترديد
في نفس الخطاب كما
استحق الذم فيوصف
بانه واجب مخير فيه ، وذلك نحو الكفارات في الشريعة ، واداء الصلوات في الأوقات
المخير فيها ، وقضاء الدين من أي درهم شاء، وما شاكل ذلك .
ومن الواجب ما يقوم فعل الغير فيه مقامه
(۱) . وذلك
نحو الجهاد والصلاة على الاموات ، ودفنهم وغسلهم ومواراتهم ،
____________________________________________
سيجيء في فصل الأمر
الموقت) وحينئذ فالمراد بالتخيير في قوله ( الاوقات المخيرة فيها) التخيير اللغوي
لا الاصطلاحي .
قلت : لا يجري مثل ذلك في مثال قضاء
الدين من أي درهم شاء .
(۱) قوله ( ومن الواجب ما
يقوم فعل الغير فيه مقامه) هذا يسمى بالواجب الكفائي.
وظاهر عبارة المصنف ليس ضرباً ثالثاً
لما يستحق الذم بتركه، بل هوجار في كل من الضربين المذكورين سابقاً، وهذا انما يتم
اذا قيل ان الواجب الكفائي لا يتصف بالوجوب الا مع العلم أو الظن بترك الباقين ،
كما هو ظاهر حد المصنف للواجب .
وحينئذ اما مضيق واما موسع ففعله مع
الآخر أو بعده أو قبله، عالماً أو ظاناً انه سيفعله الآخر نفل وتطوع والمشهور ان
الواجب الكفائي ضرب ثالث للواجب ، فيفسر حينئذ بما يشمله .
وفائدة الخلاف في التفسير انما يظهر لو
دل دليل على وجوب نية الوجه أي نية الوجوب والندب في العبادات، أو استحبابها
وحينئذ ينبغي ان يفسر على طبق اقتضاء الدليل، وظاهر قيام فعل الغير مقامه ما ذهب
اليه سيدنا الاجل المرتضى من أن مجرد فعل الغير بدون نية قربة يقوم مقام فعل
المكلف في الكفائي
فيوصف بانه فرض على
الكفاية .
وأما القبيح فلا ينقسم انقسام الحسن ،
بل هو قسم واحد ، وهو كل فعل يستحق فاعله الذم على بعض الوجوه (۱) ويوصف في الشرع بانه
محظور ومحرم . اذا دل فاعله عليه (۲) أو اعلمه (۳) .
وفي الافعال ما يوصف بأنه مكروه، وان لم
يكن قبيحاً (۴) ،
وهو كل فعل كان الاولى تركه واجتنابه وان لم يكن قبيحاً يستحق بفعله الذم فيوصف
بانه مكروه .
__________________
(۱) قوله (على بعض الوجوه)
على بنائه ، أي من حيث ان معه وجهاً يوجب استحقاق الذم دون وجه آخر كلطمة اليتيم
ظلماً لا تأديباً تأمل ، فهذا بمنزلة قيد الحيثية في التعريف ، ولو كان المراد اذا
لم يكن ساهياً و لا ملجاءاً كان الأولى اسقاط هذا القيد، لانه يصدق التعريف حينئذ
على فعل الساهي والملجأ، مع أن أول الفصل يدل على خروجهما عن القبيح والحسن .
(۲) قوله ( اذا دل فاعله
عليه ) بصيغة مجهول باب نصر، وهذا في صورة علم الفاعل علماً مكتسباً.
(۳) قوله (أو أعلمه)
بصيغة مجهول باب الافعال ، وهذا في صورة علم الفاعل علماً ضرورياً ، وقد مر تقسيم
العلم الى المكتسب والضروري وحدهما والمقصودان الظلم مثلا قبيح من الله تعالى، ولا
يقال محرم عليه ولا محظور.
(٤) قوله (وفي الافعال ما يوصف
بانه مكروه وان لم يكن قبيحاً) فيه ان حصر الافعال حينئذ في الحسن والقبيح مع حصر
الحسن في الاقسام المذكورة محل تأمل ، ويمكن أن يجاب بأن حصر الحسن في الاقسام
المذكورة سابقاً
وفي افعال الشريعة ما يوجب على غير
فاعلها حكماً (۱) كفعل
الطفل والمجنون وما أشبههما ، فانه يلزم المكلف أن يأخذ من مال الطفل والمجنون عوض
ما أتلفه ، و يرده على صاحبه ، ويأخذ الزكاة مما يجب فيه من جملة ماله (۲) عند من قال بذلك .
وفي الافعال ما يوجب على فاعلها أحكاماً
(۳) وذلك
على أقسام منها : قولهم أن الصلاة باطلة فمعناه انه يجب عليه اعادتها وقولهم: ان
الشهادة باطلة، انه لا يجوز للحاكم تنفيذ الحكم عندها (۴) واذا قالوا : انها
صحيحة معناه انه يجوز تنفيذ الحكم عندها .
وقول من قال : ان الوضوء بالماء المغصوب
غير جائز انه يجب عليه اعادته ثانياً بماء مطلق، وعند من قال: انه جائز معناه انه
____________________________________________
غير مراد ، وانما لم
يذكر المكروه فيه ، مع انه من أقسامه ، لانه أخس أقسامه فكأنه ليس بحسن .
(۱) قوله (على غير فاعلها
حكماً) الأولى : تذكير الضمير، والمراد بالحكم الحكم الشرعي المنقسم الى الاقسام
المذكورة قبل ذلك.
(۲) قوله من جملة ماله أي
ماله المكتسب له ينطبق المثال.
(۳) قوله ( ما يوجب على
فاعلها أحكاماً) الأولى فاعله حكماً.
(٤) قوله (انه لا يجوز للحاكم
الخ) هذا المثال انما ينطبق لو اريد بنفي الجواز للحاكم تنفيذ الحكم وجوب اعادة
الشاهد الشهادة ، وبجواز التنفيذ نفي وجوب الاعادة الراجع هنا الى الاباحة .
وقع موقع الصحيح (۱) وقولهم : ان البيع
صحيح معناه ان التمليك وقع به (۲) وقولهم : انه فاسد خلاف ذلك وانه لا يصح
التملك به ولا استباحة التصرف به (۳) وهذه الالفاظ (۴) اذا تؤملت يرجع
معناها الى ما قدمناه من الاقسام ( ۵ ) غير ان لها فوائد في الشريعة ( ۶ ) تكشف عن أسباب
أحكامها ، فهذه الجملة كافية في هذا الفصل .
واذ قد بينا ما أردناه من حقيقة العلم،
والنظر، والدليل ، وصفة الناظر، وغير ذلك ، وحقيقة الافعال (۷) فلابد من أن نبين
حقيقة الكلام، وشرح أقسامه، وما ينقسم اليه من حقيقة أو مجاز .
____________________________________________
(۱) قوله (وقع موقع
الصحيح) انما لم يصرح بالحكم لانه قد يكون الاعادة حراماً، وقد يكون مندوباً .
(۲) قوله (ان التمليك وقع
به) أي يحرم تصرف البايع فيه بعد ذلك.
(۳) قوله (وانه لا يصح التملك
به الخ) انما ينطبق مثالا لواريد اباحة تصرف البايع فيه أو جعل البيع أعم من
الاشتراء.
(٤) قوله (وهذه الالفاظ) أي الصحة
والبطلان وأمثالهما .
(٥) قوله ( ما قدمناه من الاقسام)
أي اقسام الحكم ، من الحرمة والوجوب وغيرهما .
(٦) قوله (غير أن الخ) مثلا بطلان
الصلاة كما ان معناه وجوب الاعادة ففائدته ان سبب الوجوب انما هو وقوع الأول ، لا
على الوجه المطلوب ، و قس عليه الباقي.
(۷) قوله ( وحقيقة
الافعال) أي وحقيقة أقسام الافعال.
ثم نبين الاسماء اللغوية، والعرفية
والشرعية وكيفية ترتيبها (۱) فاذا فعلنا ذلك بينا صفات من يصح أن
يستدل بخطابه ومن لا يصح (۲) .
ثم نشرع فيما ذكرناه من ترتيب الاصول
على ما قدمنا القول فيه ان شاء الله تعالى .
فصل
في حقيقة الكلام
وبيان أقسامه
وجملة من أحكامه
وترتيب الاسماء (۳)
حقيقة الكلام ما انتظم من حرفين فصاعداً
من هذه الحروف
____________________________________________
(۱) قوله (وكيفية ترتيبها
) أي بيان ان الحمل على أيها أولى مع الاجتماع في لفظ واحد.
(۲) قوله (بينا صفات الخ)
هذا البيان لابطال قول من قال: ان شيئاً من الخطاب لا يفيد العلم با المراد ، بل
انما يفيد الظن فما يحصل بالدليل العقلي المحض أو بالرياضة أقوى ، وانفع مما يحصل
بالخطاب المتلقى عن الانبياء عليهم السلام، وهذا القول الحاد .
(۳) قوله قدس سره (فصل في
حقيقة الكلام وبيان أقسامه وجملة من أحكامه وترتيب الاسماء) هذا الفصل الرابع من
فصول الكتاب ، وهو لبيان المباديء اللغوية لفن اصول الفقه.
المعقولة اذا وقع (۱) ممن يصح منه ، أو من
قبيله (۲) الافادة
وهو على ضربين: مهمل ومفيد. فالمهمل: هو الذي لم يوضع ليفيد في اللغة شيئاً (۳) .
والمفيد على ضربين، ضرب منهما له معناً
صحيح (۴) وان
____________________________________________
(۱) قوله (اذا وقع) هذا
الاخراج ما انتظم من حرفين اذا صدر عن الطير مثلا.
(۲) قوله ( أو من قبيله )
انما ذكره ليدخل نحو كلام النائم حال نومه .
(۳) قوله ( ليفيد في
اللغة ) يدخل في المهمل الالفاظ المخترعة المستحدثة سوى الاعلام، فانها موضوعة في
اللغة وضعاً نوعياً لتجويز الواضع استعمالها في اللغة ، و ان كانت من موضوعات
العجم للضرورة المحوجة الى اعتبار نوعها .
واما المعرب نحو (سجيل) فان اريد باللغة
التي يقع عليها التخاطب فداخل في المهمل والافخارج . اللهم الا أن يقال : بتجويز
نوعه كالعلم ولا يقتصر في التجويز على الفاظ خاصة متلقاة من الواضع ، فلا يخرج على
الأول أيضاً ثم الظاهر اعتبار قيد الحيثية كما هو مراد في أكثر التعريفات فنحو رجل
مفيد بالنسبة الى معناه مهمل بالنسبة الى جدار .
(۱) قوله : (له معنى صحيح
الخ) أي له معنى اذا استعمل فيه اللفظ كان حقيقة في اصطلاح التخاطب ، وان كان
اللفظ لا يفيد هذا المعنى فيما وضع له أي في اللغة ، وفيه مسامحة . والمراد انه
ليس معنى لغوياً له نحو أسماء الالقاب فانها منقولة الى العلمية وهي غير مفادة منه
في اللغة وكذا غير الالقاب من المنقولات العرفية والشرعية .
كان لا يفيد فيما وضع
له (۱) وذلك
نحو أسماء الالقاب وغيرها. والضرب الثاني : يفيد فيما وضع له وهو على ضربين (۲) حقيقة و مجاز .
فحد الحقيقة ما أفيد به ما وضع في اللغة
، ومن حقه أن يكون لفظه منتظماً لمعناه من غير زيادة ولا نقصان ولا نقل الى غير
موضعه (۳) وذلك
مثل قوله تعالى : (۴) ( وَلَا تَقْتُلُوا
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ
____________________________________________
(۱) قوله ( يفيد فيما وضع
له) أي له معنى صحيح كان يفيده فيما وضع له في اللغة
(۲) قوله (وهو على ضربين
الخ) هذا يدل على ان المنقولات العرفية والشرعية ليست بحقائق ولا مجازات .
(۳) قوله من غير زيادة
ولا نقصان الخ) فيه دلالة على أن الحقيقة والمجاز كما يتحققان في المفردات يتحققان
في المركبات . ففي نحو (
وَاسْأَلِ
الْقَرْيَةَ )
اسأل مستعملة في معناها الحقيقي ، والقرية مستعملة في معناها الحقيقي وبتقدير
الاهل صار المجموع مستعملا في غير ما وضع له وهو معنى (اسأل أهل القرية).
فان قلت : هل نحو (ضرب) أو (زيد ضرب) من
هذا القبيل باعتبار تقدير الضمير .
قلت : لا ، فان المقدر اذا كان محذوفاً
كان الكلام مجاز النقصان ، ولا حذف ولا نقصان فيهما والتقدير انما هو لرعاية ظاهر
قوانين النحو كما قالوا في اعتبار الذات في المشتقات
(٤) قوله ( وذلك مثل قوله تعالى)
يحتمل ان يقال بأنه مجازاً بالنقصان لان معناه
__________________
اللَّهُ
إِلَّا بِالْحَقِّ )
(۱) الى
ما شاكل ذلك من الحقائق .
وأما المجاز (۲) فهو ما افيد به مالم
يوضع له في اللغة ، ومن حقه أن يكون لفظه لا ينتظم معناه ، اما بزيادة، أو نقصان،
أو بوضعه في غير موضعه، والمجاز الذي دخلته الزيادة نحو قوله تعالى: «ليس كمثله
شيء لان معناه ليس مثله شيء» (۳)، فالكاف زائدة .
____________________________________________
حرمها الله بناء على
أن يكون المراد بالتحريم جعل الشيء ذا حرمة ، نحو (
عِنْدَ
بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ )
أو معناه حرم قتلها
بناء على أن يكون المراد بالتحريم الحظر والاستثناء ، على الاول متصل ، وعلى
الثاني منقطع .
(۲) قوله (واما المجاز
الخ) فيدخل في هذا التعريف المجاز العقلي واللغوي المشهور تعريفهما
(۳) قوله (لان معناه ليس
مثله شيء) فيه مناقشة لانه انما يقال : ليس مثله شيء في المعروف بشخصه أو بذاته ،
ويراد نفي الشريك له في ذاته أو أخص صفاته . وأما ما لم يعرف الاباخص صفاته كصانع
شيء بقول كن ، فانما يقال فيه ليس كمثله شيء ، ويراد بـ (المثل أخص صفاته ، ويراد
بـ (الكاف) الشبيه بماله هذه الصفة للاشعار بأنه غير معروف بشخصه ولا بذاته فليست
(الكاف) زائدة
قال ابن هشام (٥) في مغني اللبيب
في معاني الكاف والخامس التوكيد
__________________
والمجاز بالنقصان نحو
قوله تعالى : (
وَاسْأَلِ
الْقَرْيَةَ ) (۱) و ( اسئل العير ) (۲) لان معناه واسئل أهل
القرية وأهل العير ، فحذف ذلك
____________________________________________
وهي الزائدة نحو (ليس
كمثله شيء) قال الاكثرون التقدير ليس شيء مثله اذ لو لم تقدر زائدة صار المعنى :
ليس شيء مثل مثله ، فيلزم المحال ، وهو اثبات المثل وانما زيدت لتوكيد نفي المثل
لان زيادة الحرف بمنزلة اعادة الجملة ثانياً قاله ابن جني ولانهم اذا بالغوا في
نفي الفعل عن أحد قالوا ( مثلك لا يفعل كذا) ومرادهم انما هوا النفي عن ذاته
ولكنهم اذا نفوه عمن هو على أخص أوصافه فقد نفوه عنه .
وقيل : الكاف في الاية غير زائدة ثم
اختلف فقيل : الزائد (مثل) كما زيدت في (
فَإِنْ
آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ )
قالوا : و انما زیدت
هنا التفصل الكاف من الضمير ( انتهى )
.
ثم قال : [ وفي الآية الأولى قول ثالث :
وهو أن (الكاف) و(مثلا) لازائد منهما ثم اختلف فقيل: مثل بمعنى الذات وقيل : بمعنى
الصفة ، وقيل : الكاف اسم مؤكد بـ (مثل)] .
(۲) قوله (واسال العير)
العير ـ بالكسر ـ الابل التي تحمل الميرة ، أي
__________________
اختصاراً ومجازاً
ونحو قوله تعالى: (
إِلَىٰ
رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (۱) على تأويل من قال الى
ثواب ربها ناظرة، ( وَجَاءَ رَبُّكَ
)
(۲) لان
معناه وجاء أمر ربك وما أشبه ذلك .
والمجاز الثالث نحو قوله تعالى: ( وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ) (۳) فنسبة اليه من حيث
دعاهم وان كانوا هم ضلوا في الحقيقة ، لا انه فعل فيهم الضلال. ويجب حمل الحقيقة
على ظاهرها ، ولا يتوقع في ذلك دليل يدل على ذلك، والمجاز لا يجوز حمله عليه الا
ان يدل دليل على كونه مجازاً .
والحقيقة اذا عقل فائدتها (۴) ، فيجب حملها على ما
عقل من
____________________________________________
الطعام الذي يمتاره
الانسان ، ويجلبه من بلد الى بلد .
(٤) قوله ( والحقيقة اذا عقل
فائدتها) المراد بالفائدة مجموع الوصف المعتبر في استعمال أهل اللغة له لا مجموع
ما وضع له ، سواء كان وصفاً أوذاتاً ، والا فلا معنى لاستثناء نحو الخل ، والبلق
وانما ذكر الفائدة مع انه لوذكر مجموع ما وضع له لما احتاج الى الاستثناء المذكور
تلميحاً الى أن خصوصية الذات غير معتبرة في اكثر الالفاظ وهي المشقات وما يجري
مجراها .
والاظهر ان العدول ، لان هذا لا يتحقق
في المجاز ، انما المتحقق فيه الفائدة . مثلا ما استعمل فيه الاسد مجازاً الرجل
الشجاع ، وفائدته هي كون
__________________
المعنى ذا علاقة
بالموضوع له ، بدون اعتبار خصوصية الموضوع له، ولا خصوصية العلاقة . فانهما لم
يعتبرا في مصحح استعمال أهل اللغة ومقتضيه . ولا ينافي هذا كون الاستعمال السابق
الصادر من أهل اللغة معتبراً في صحة استعمالنا كما سيجيء .
وكذا ما وضع له الضارب ، ما قام به
الضرب وفائدته ما قام به المصدر بدون خصوصية المصدر . فعدم اطلاق السخي على الله
تعالى لو كان لعدم المقتضي لدل على عدم اطراد الضارب الموضوع وضعاً نوعياً في
فائدته ، وكذا عدم اطلاق النخلة على طويل غير الانسان ، يدل على عدم اطراد الاسد
في فائدته تدبر . فاندفع ماقيل : من ان عدم الاطراد ان يستعمل لفظ في محل لوجود
معنى ولا يستعمل ذلك اللفظ في محل آخر مع وجود ذلك المعنى فيه ، لان الايستعمل
نظيره فيه (انتهى) .
و حاصل الفرق بين الحقيقة والمجاز في
عدم الاطراد ، ان عدم اطراد الحقيقة انما يكون لوجود المانع ، وعدم اطراد المجاز
قد يكون لعدم المقتضي فان مقتضي الاستعمال المجازي هو العلاقة مع استعمال أهل
اللغة، وهذا مبني على وجوب النقل في أحاد المجازات كما يدل عليه قوله (وينبغي أن
يقر حيث استعمل الخ) .
والظاهر انهما مبنيان على عدم كون
المجاز موضوعاً بالوضع النوعي، فان الواضع لو وضع كل لفظ لمعناه ، ووضعه لما له
علاقة بمعناه، وشرط أن لا يكون الاستعمال فيه الامع ملاحظة العلاقة ، ونصب القرينة
لما وجب النقل في احاد المجازات ولكانت مطردة فيما ليس له مانع وسيجيء في هذا
الفصل تحقيق كون عدم الاطراد علامة للمجازية .
فائدتها أين وجدت ولا
يخص به موضع دون آخر ويطرد ذلك فيها الالمانع من سمع (۱) أو عرف (۲) أو غير ذلك، الا أن
يكون وضعه ليفيد في معنى جنس دون جنس ، فحينئذ يجب أن يخص ذلك الجنس به نحو قولهم
: خل (۳) انه
يفيد الحموضة في جنس مخصوص وقولهم : بلق، يفيد. اجتماع اللونين في جنس دون جنس .
وعلى هذا المعنى يقال ان الحقائق يقاس
عليها . واما المجاز فلايقاس عليه، وينبغى أن يقر حيث استعمل، ولذلك لا يقال: سل
الحمير، ويراد مالكها كما قيل : سل القرية، واريد أهلها ، لان ذلك لم يتعارف فيه .
____________________________________________
(۱) قوله (من سمع) المراد
به نص من الواضع أو أهل اللغة كما في اطلاق الرحمن على غير الله تعالى ، والمراد
ورود الشرع بالمنع كما في اطلاق السخي على الله بناء على كون أسمائه تعالى
توقيفية، أو المراد بالسمع عرف الشرع ، كما في لفظ الصلاة . ويؤيده ما سيذكره في
بحث جعل عدم الاطرد علامة للمجازية .
(۲) قوله (أو عرف) المراد
العرف العام الناقل للفظ عما وضع له الى معنى آخر كما في لفظة الدابة . والمراد
بغير ذلك العرف الخاص، أو المراد بالعرف الاعم من الخاص والعام ، وبغير ذلك قبح
الاستعمال لعارض ، كالخطاب للملوك بمساويك جمعاً للمسواك ونحو ذلك.
(۳) قوله: (نحو قولهم خل)
الخل ما يتخذ من العنب أو التمر أو نحوهما من الحامض، ولا يطلق على الاجاص مثلا
والبلق سواد والبياض في الفرس.
والحقيقة لا يمتنع أن يقل استعمالها (۱) فتصير كالمجاز مثل
قولنا : الصلاة في الدعاء وغير ذلك. وكذلك لا يمتنع في المجاز أن يكثر استعماله
فيصير حقيقة في العرف نحو قولنا : الغائط في الحدث المخصوص وقولنا : دابة فى
الحيوان المخصوص . وما هذا حكمه حكم له بحكم الحقيقة .
والمفيد من الكلام لا يكون الاجملة من
اسم واسم، أو فعل واسم. وما عداهما لا يفيد الابتقدير واحد من القسمين فيه ولاجل
ذلك قلنا يازيد في النداء انما يفيد لان معنى (يا) ادعو فصار معنى هذا الحرف معنى
الفعل فلاجل ذلك أفاد، فينقسم ذلك الى أقسام الى الأمر وما معناه (۲) معنى الأمر من السؤال
والطلب والدعاء والى
____________________________________________
(۱) قوله : (والحقيقة لا
يمتنع أن يقل الخ) ظاهره ان قلة استعمال الحقيقة بالنسبة الى المجاز ، وكثرته
بالنسبة اليها يصير الحقيقة مجازاً . والمجاز حقيقة وهو محل بحث ، لان مجرد الكثره
لا يصير المجاز مستغنياً في الاستعمال عن ملاحظة العلاقة . نعم قد يبلغ الكثرة والقلة
الى هذا الحد ، وكان مراد المصنف بالقلة والكثرة اما هذا الحد أو المطلق ، ويجعل
الفاء في (فيصير ) للتعقيب لا للتفريع .
(۲) قوله (الى الأمر وما
معناه الخ) سيجيء في (فصل في ذكر حقيقة الأمر) ان هذه الصيغة التي هي قول القائل :
( افعل ) وضعها أهل اللغة لاستدعاء الفعل . وخالفوا بين معانيها باعتبار الرتبة
فسموها اذا كان القائل فوق المقول له أمراً ، واذا كان دونه سؤالا وطلباً ودعاءاً
، ولم يذكرهنا ولائمة الالتماس
النهى والى الخبر.
ويدخل في ذلك الجحود (۱)،
والقسم، والامثال والتشبيه وما شاكله والاستخبار والاستفهام والتمنى والترجى شبهة
بالاخبار ، هذا ما قسمه أهل اللغة وطول كثير من الفقهاء في اقسام الكلام .
وقال قوم: الاصل فى ذلك كله الخبر لان
الامر معناه معنى الخبر ، لان معناه اريد منك أن تفعل وذلك خبر ، والنهي معناه
اكره منك الفعل وذلك أيضاً خبر ، وكذلك القول في سائر الاقسام.
____________________________________________
وهو فيما كان القائل
مساوياً للمقول له في الرتبة ، وارجاع ضمير دونه إلى الفوق ، وجعل الطلب بمعنى
الالتماس بعيد .
(۱) قوله : ( ويدخل في
ذلك الجحود) أي يدخل في الخبر النفي ، نحو ما ضرب زيد . و القسم أي الجملة المجاب
بها القسم ، نحو (الافعلن كذا) في قوله ( والله لا فعلن كذا) أو الامثال جمع (مثل)
بفتحتين ، وهو تشبيه هيأة منتزعة من جملة بهيأة اخرى مثلها ، واستعمال الجملة المشبهة
بها في المشبهة نحو ( كل الصيد في جانب الفرا) والتشبيه ، نحو زيد كالاسد) وما
شاكل ما ذكر مما يدل على أوصاف الخبر نحو المطابقة والجناس وغير ذلك مما هو مذكور
في فن العربية ، والاستخبار والاستفهام بمعنى واحد ، وهو التمني و الترجي انشاات
شبيهة بالاخبار ، لان أدواتها تدخل على الجمل الخبرية ، و تفيد معانيها ، ولم يذكر
نفس القسم ، نحو (والله ) ولنداء نحو (يازيد) لعدم صر احتهما في كونهما جملة كمامر
في النداء وفي النسخ هنا ، والى الاستخبار والظاهران لفظة (الى) من زيادة الكتاب ،
والعلم عند الله .
والاسامي المفيدة على ضربين (۱) اما أن تكون مفيدة
لعين واحدة ، أو تفيد أكثر من ذلك. فما أفاد الفائدة في عين واحدة، فهو أسماء
الاجناس. وما أفاد أكثر من ذلك على ضربين :
أحدهما : نحو قولنا : لون، فانه لا يفيد
في عين واحدة ، بل يفيد في أعيان فائدة واحدة .
والضرب الثاني : يفيد معاني مختلفة ،
وهو جميع الاسماء المشتركة ، نحو قولنا : قرؤ ، وجون ، وعين، وغير ذلك . وفي الناس
من دفع ذلك وقال: ليس فى اللغة اسم واحد لمعنيين مختلفين، وهذا خلاف حادث لا يلتفت
اليه ، لان الظاهر من مذهب أهل اللغة خلافه .
ويدخل على الجمل حروف تغير معانيها
وتحدث فيها فوائد لم تكن قبل ذلك وهي كثيرة ، قد ذكرها أهل اللغة، ولا نحتاج الى
ذكر جميعها ، ونحن نذكر منها ماله تعلق بهذا الباب .
فمنها : (الواو فذهب قوم الى انها توجب
الترتيب، وهو المحكى
__________________
(۱) قوله : (والاسامي
المفيدة علي ضربين الخ) ظاهره الحصر ، وفيه مافيه الخروج نحو زيد ، والذي ، وهذا
ونحوها فانها لا تسمى أسماء أجناس ، وسيجيء في فصل في ذكر الفاظ الجمع والجنس ما
ظاهره ان المشتقات أيضاً خارجة عن أسماء الاجناس ، والمشهور ان اسم الجنس ما وضع للحقيقة
ملغى فيه اعتبار الفردية والتعدد، وهو غالب فيما يفرق بينه وبين واحده بالتاء ،
كتمرة
عن الفراء (۱) وأبي عبيدة (۲) ، واحتج كثير من
الفقهاء به (۳) و
الصحيح انها لا تفيد الترتيب بمقتضى اللغة (٤) .
____________________________________________
وتمر ، وعكسه كمأة ،
وجنأة ، كما في شرح ألفية ابن مالك لابن مصنفها (٥) في بحث الجمع المذكر
السالم (۶) .
(۳) قوله (واحتج كثير من
الفقهاء) به أي بكونه محكياً عن الفراء ، وأبي عبيدة على انها للترتيب ، أو بكونها
للترتيب على الاحكام الشرعية المتفرعة عليه .
(٤) قوله (والصحيح انها لا تفيد
الترتيب الخ) في مغني اللبيب:
(الواو المفردة) انتهى مجموع ما ذكر من
أقسامها الى أحد عشر :
__________________
الأول : العاطفة ، ومعناها مطلق الجمع،
فتعطف الشيء على مصاحبه نحو (
فَأَنْجَيْنَاهُ
وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ )
وعلى سابقه نحو ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا
وَإِبْرَاهِيمَ )
وعلى لاحقه نحو (
كَذَٰلِكَ
يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ ) وقد اجتمع هذان في ( وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ
وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
)
فعلى هذا اذا قيل قام
زيد وعمرو احتمل ثلاثة معان ، قال ابن مالك : وكونها للمعية راجح ، وللترتيب كثير
، ولعكسه قليل الخ .
ويجوز أن يكون بين متعاطفيها تقارب أو
تراخ نحو (
إِنَّا
رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) فان الرد بعيد القائه
في اليم والارسال على رأس أربعين سنة ، وقول بعضهم ان معناها الجمع المطلق غير
سديد ، لتقييد الجمع بقيد الاطلاق ، وانما هي للجمع الا بقيد ، وقول السيرافي : ان النحويين
واللغويين أجمعوا على انها لا تفيد الترتيب . مردود ، بل قال بافادتها اياه
__________________
قطرب والربعي والفراء ، وثعلب وأبو عمر والزاهد وهشام والشافعي ونقل الامام في البرهان عن بعض
الحنفية أنها للمعية ـ (انتهى)] .
وظاهر قوله (وقوله بعضهم الخ) انها
مشتركة لفظاً بين أفراد الجمع، فان الاشتراك اللغوى يصير معناه الجمع المطلق صيره
مطلق كما الجمع ، كما لا يخفى وهو بعيد .
__________________
ولا يمتنع أن يقال انها تفيد ذلك بعرف
الشرع بدلالة ماروى عن النبي صلىاللهعليهوآله
انه قال لمن خطب فقال : من يطع الله ورسوله فقد هدى ومن يعصهما فقد غوى: «بئس خطيب
القوم أنت» فقال : يا رسول الله كيف أقول؟ فقال صلىاللهعليهوآله
: «قل ومن يعص الله ورسوله فقد غوى. فلولا الترتيب (١) لما كان لهذا الكلام معنى،
ولكان يفيد قوله : ومن يعصهما ما أفاد ومن يعص الله ورسوله عند من قال بانها تفيد
الجمع، وقد علمنا خلاف ذلك.
ومنها ان القائل اذا قال لزوجته التي لم
يدخل بها : أنت طالق وطالق ، لا خلاف بين الفقهاء انه لا يقع الا طلقة واحدة، فلو
كانت الواو (۲) تفيد
الجمع لجرى مجرى قوله أنت طالق طلقتين، وقد علمنا خلاف ذلك
____________________________________________
(۱) قوله (فلولا الترتيب
الخ) فيه ان المتنازع فيه الترتيب في الحكم لافي الذكر ، فانه لازم للو او قطعاً ،
ومعنى كلامة كلامه صلىاللهعليهوآله انه
ينبغي أن يلاحظ الترتيب في الذكر لانه أقرب الى الأدب، كيف لا و معلوم ان معصية
الله ورسوله اذا حصلنا على المعية أو على أي ترتيب، كان ان أمكن حصلت الغواية ،
وكذا في اطاعة الله ورسوله .
(۲) قوله (فلو كانت الواو
الخ) فيه ان الفرق بين قوله أنت طالق وطالق وبين قوله أنت طالق طلقتين، ان الأول
في حكم جملتين، في كل منهما اسناد على حده، فوجب الترتيب الذكري كاف في صحة الأول
، وبطلان الثاني ، ولا حاجة الى الترتيب في الحكم . كيف لا والترتيب الغير الذكري
في
وقال قوم: ان الواو تفيد الجمع
والاشتراك ، (۱) وهو
الظاهر في اللغة، نحو قولهم: رأيت زيداً وعمرواً، ومعناه رأيتهما.
وتستعمل بمعنى استيناف جملة من الكلام
وان لم تكن معطوفة على الأول في الحكم نحو قوله تعالى: ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ
يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ
)
(۲) على
قول من قال: ان المراد به الاخبار عن الراسخين بانهم يقولون آمنا به، لانهم يعلمون
تأويل ذلك .
وقد تستعمل بمعنى (أو) كقوله تعالى في
وصف الملائكة: (۳) ( أُولِي أَجْنِحَةٍ
مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ
)
(۴) وكقوله
: (
فَانْكِحُوا
مَا طَابَ
____________________________________________
الانشائيات لا يمكن،
أو لغو افادته بخلاف أنت طالق طلقتين، فانها جملة واحدة لا تتم الا بعد ذكر طلقتين
، والاسناد بعد التقييد كما سيجيء في الاستثناء في فصل في أن العموم اذا خص كان
(مجازاً) .
(۱) قوله : (تفيد الجمع
والاشتراك) أي تفيدهما في اللغة بدون ترتيب.
(۳) قوله ( في وصف
الملائكة ) الاقرب جعل الواو في آية الملائكة بمعناه الحقيقي، وجعل العطف
انسحابياً ، فان الموصوف مجموع الملائكة. وكذا في آية النساء ، لان الأمر هنا
بمعنى الاباحة ، وكل واحد من الثلاثة يجتمع اباحته مع اباحة الآخرين بالنسبة الى
كل واحد من المخاطبين ، و اجتماع الاباحة لا يستلزم اباحة الجمع، ولا امكانه . ولو
جعلت بمعنى (أو) لم يفهم منه جواز كل واحد بالنسبة الى كل واحد .
__________________
لَكُمْ
مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ) (۱) والمراد بذلك أو
والاشبه في ذلك أن يكون مجازاً لانه لا يطرد في كل موضع (۲)
ومنها (الفاء) ومعناها الترتيب (۳) والتعقيب نحو قول
القائل : رأيت زيداً فعمرواً ، فانه يفيدان رؤيته له عقيب رؤيته لزيد مع انه بعده
.
ولذلك ادخل الفاء في جواب الشرط (۴) لما كان من حق
____________________________________________
(۲) قوله (لا يطرد في كل
موضع) أي مع العلم بأنها انما استعملت في الايتين في معنى ، أو بدون اعتبار خصوصية
يوجد فيهما دون غيرهما مما لم يستعمل فيه ، لعدم السماع من أهل اللغة ، كمامر
تحقيقه في هذا الفصل عند قوله والحقيقة اذا عقل فائدتها الخ) وتبادر الغير أيضا علامة
كونها مجازاً في ( أو ) .
(۳) قوله (ومعناها
الترتيب ) أي افادة كون المعطوف بالفاء بعد المعطوف عليه بها، وهو على قسمين :
الأول : الزماني ، نحو شرب مريضي الدواء
فصح .
الثاني: الذكرى، وهو في شيء من حقه أن
يذكر بعد شيء آخر باعتبار ككونه مدلولا له نحو وجد زيد فاوجد و ككونه تفصيلا له
نحو ، (
وَنَادَىٰ
نُوحٌ رَبَّهُ ) فقال: و ككونه فرعاً
عليه نحو (حرك اليد فتحرك المفتاح) .
(٤) قوله (ولذلك ادخل الفاء في
جواب الشرط) لا تدخل الفاء في جواب
__________________
الجزاء أن يلحق
بالشرط من غير تراخ .
____________________________________________
الشرط وجوباً الا في
ستة مواضع لربط ماليس جواباً حقيقة بالشرط ، ولا تفيد التعقيب.
الأول : أن يكون الجواب جملة اسمية ،
نحو (
وَإِنْ
يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
)
الثاني: أن تكون جملة فعلية كالاسمية،
وهي التي فعلها جامد ، نحو (
إِنْ
تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَىٰ رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ
)
الثالث: أن يكون فعلها انشائياً نحو ( إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ
فَاتَّبِعُونِي )
.
الرابع: أن يكون فعلها ماضياً لفظاً
ومعناً ، اما حقيقة نحو (
إِنْ
يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ) واما مجازاً نحو ( وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ
وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ )
نزل هذا الفعل لتحقق
وقوعه منزلة ما قد وقع .
الخامس : أن يقترن بحرف الاستقبال نحو ( مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ
فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ
)
السادس: أن يقترن بحرف له الصدر نحو ان
ضربتني فرب ظالم ضرب مظلوماً» .
__________________
وقلنا (۱): ان قوله تعالى: ( إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا
أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
)
(۲) ان
ظاهر الكلام يقتضى كون المكون عقيب (كن) لموضع الفاء . وهذا يوجب ان (كن) محدثة ،
لان ما تقدم المحدث بوقت واحد لا يكون قديماً ، وذلك يدل على حدوث الكلام بالضد
مما يتعلقون به (۳) .
وذهب المرتضى الى أنها تفيد الترتيب،
وخالف في أنها تفيد التعقيب من غير تراخ، بل قال : ذلك موقوف على الدليل (۴)، ويجب
____________________________________________
(۱) قوله (وقلنا) عطف على
(أدخل) والفاء في (فيكون) ليس داخلا على الجزاء بل هي على قرائة النصب للعطف على (
نقول ) وعلى قرائة الرفع للعطف على جملة (انما قلنا ) بتقدير فهو يكون وعلى
التقديرين (الفاء) للتعقيب الذكري الذي لا ينافي أن لا يكون بين المعطوف والمعطوف
عليه تقدم وتأخر أصلا، لا زماناً ولا ذاتاً. فلا ينافي مامر في الحاشية الأولى في
ذيل الجواب عن الشك الرابع ، من عدم تقدم الايجاد على الوجود ، لا زماناً ولا
ذاتاً .
(۳) قوله (بالضد مما
يتعلقون به) الظاهر ان الاشاعرة تعلقوا به في أن كلامه تعالى قديم، لان قوله (كن)
حين الارادة وهي قديمة بزعمهم، أو لان الكلام لو كان حادثاً لكان شيئاً مراداً
مسبوقاً يقول (كن) ، ويلزم الدور أو التسلسل . وفي هذا الكلام اشارة الى أن ما ذكر
ليس استدلالا مستقلا على حدوث الكلام، بل هو نقض اجمالي لتعلقهم به فلا يرد ان لا
كلام هنا حقيقة ، بل هو استعارة تمثيلية لنفوذ ارادته تعالى .
(٤) قوله ( موقوف على الدليل)
لانها موضوعة للقدر المشترك بين التعقيب
__________________
التوقف فيه، وخالف فى
جميع ما يمثل به في هذا الباب .
وأما (ثم) فانها تفيد الترتيب والتراخي،
فهي مشاركة للفاء في الترتيب، وتضادها فى التراخي. وقد استعملت (ثم) بمعنى الواو (۱) في قوله تعالى: ( فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ
شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ
)
(۲) لان
معناه والله شهيد، وذلك مجاز .
وأما (بعد) فانها تفيد الترتيب من غير
تراخ ولا تعقيب .
وأما (الى) فهى للحد ، وقد يدخل الحد في
المحدود تارة ، و تارة لا يدخل ، فهو موقوف على الدليل (۳) وان كان الاقوى انه
لا
____________________________________________
والتراخي عنده بناءاً
على انها استعملت فيهما بالقرائن، والاصل في الاستعمال الحقيقة بدون اشتراك لفظي .
(۱) قوله (بمعنى الواو)
لا ينافي ذلك كونها للتراخي في الرتبة والتعجب لانه ليس معنى ( ثم) حقيقة. فهو
علاقة استعمالها في معنى الواو .
وفي جوامع الجامع للطبرسي رحمهالله
ذكر الشهادة، والمراد مقتضي الشهادة، وهو العقاب ، فكأنه قال : ثم الله معاقب على
ما يفعلون (انتهى) و على هذا في (ثم) في
معناه الحقيقي .
(۳) قوله (فهو موقوف على
الدليل) أي باعتبار أصل الاستعمال ، بقرينة
__________________
يدخل فيه .
و أما (من) فان لها أربعة أقسام :
أحدها : التبعيض (۱) نحو قولهم أكلت من
الخبز واللحم . يعنى أكلت بعضهما، ونحو قولهم : هذا باب من حديد ، وخاتم من فضة ،
لان المراد به أنه من هذا الجنس .
وثانيها : معنى ابتداء الغاية (۲) نحو قولهم : هذا
الكتاب من فلان الى فلان، أى ابتداء غايته منه، وعلى هذا حمل قوله تعالى: (
نُودِيَ
____________________________________________
الوصل وهو قوله (وان
كان الأقوى الخ) .
وفي مغني اللبيب : [ اذ ادلت قرينة على
دخول ما بعدها نحو (قرأت القرآن من أوله الى آخره أو خروجه نحو ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى
اللَّيْلِ )
ونحو ( فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ ) عمل بها، والا فقيل :
يدخل ان كان من الجنس وقيل : مطلقاً وقيل: لا يدخل مطلقاً وهو الصحيح، لان الاكثر مع
القرينة عدم الدخول فيجب الحمل عليه عند التردد ]
(۱) قوله (التبعيض أعم من
أن يكون من البعض بمعنى الجزء ، كما في المثال الأول، أو بمعنى الجزئي كما في
الباقي .
(۲) قوله (ابتداء الغاية)
الغاية المدى، أي الامتداد، سواء كان زمانياً أو مكانياً
__________________
مِنْ
شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ
أَنْ يَا مُوسَىٰ )
(۱) وان
معناه ان ابتداء النداء كان من الشجرة ، فذلك دلیل (۲) على حدوث النداء .
وثالثها: أن تكون زائدة مثل قولهم :
ماجائني من أحد ، معناه ما جائني أحد .
ورابعها : أن تبين تبيين الصفة (۳) نحو قوله تعالى : ( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ
الْأَوْثَانِ )
(۴) معناه
اجتنبوا الرجس الذي هو الاوثان . ذكر ذلك أبو على الفارسى النحوى (۵) ، وقال بعضهم ان
معناها في جميع المواضع ابتداء الغاية، وأنكر ماعدا ذلك من الاقسام
وأما (الباء) فتستعمل على وجهين :
____________________________________________
(۲) قوله (فذلك دليل) لا
خلاف بين القائلين بقدم الكلام، وبين القائلين بحدوثه في أن النداء بمعنى الصوت
واللفظ حادث .
(۳) قوله تبيين الصفة هي
لبيان الجنس [ وهي ومخفوضها في ذلك في موضع نصب على الحال] قاله في المغنى .
__________________
أحدهما : التبعيض ، وهو اذا استعملت في
موضع يتعدى (۱) الفعل
الى المفعول به بنفسه ، ولاجل هذا (۲) قلنا : ان قوله : ( و امسحوا برؤسكم ) (۳) يقتضى المسح ببعض
الرأس لانه لو كان
____________________________________________
(۱) قوله (في موضع يتعدى
الأولى أن يقيد بما لا يحتمل افادة الالصاق لئلا يرد النقض بـ (أمسكته) أي منعته
من التصرف، و (أمسكت به) أي قبضت على شيء من جسمه، أو على ما يحبسه من ثوب ونحوه .
(۲) قوله (ولاجل هذا الخ)
فصله المصنف رحمهالله
في تهذيب الاحكام بل هو ظاهر المروي عن الباقر عليهالسلام
في آية الوضوء، فلا عبرة بانكار سيبويه مجيء الباء للتبعيض
في سبعة عشر موضعاً من الكتاب، ولا بتجويز كون الباء فيها، وفي قوله تعالى: «عيناً
يشرب بها عباد الله للالصاق، أو
للاستعانة بتضمين شرب معنى يروي ، ولا بقول الزمخشري ان معناه يشرب بها
الخمر ، كما تقول شربت الماء بالعسل ، ويتكرر هذا في فصل فيما الحق بالمجمل وليس
منه .
__________________
المراد به مسح الرأس
كله لقال : امسحوا رؤسكم ، لان الفعل يتعدى بنفسه الى الرؤس
والثاني: أن تكون للالصاق ، وهو اذا كان
الفعل لا يتعدى (۱) الى
المفعول بنفسه مثل قولهم: مررت بزید (۲) لانه لو قال : مررت
زيداً، لم يكن كلاماً (۳) .
وأما (أو) فالاصل فيها التخيير كقولهم :
جالس الحسن (۴) أو
ابن سيرين (۵) وعلى
هذا حملت آية الكفارة ، وتستعمل بمعنى
____________________________________________
(۱) قوله (اذا كان الفعل
لا يتعدى) يشعر بأن باء الالصاق والتعدية واحدة وبأن ماعدا الالصاق والتبعيض من
المعاني، اما راجعة الى أحدهما لمصاحبة أو مجازية .
وفي المغني [أول معانيها الالصاق قيل :
وهو معنى لا يفارقها فلهذا اقتصر عليه سيبويه ] (انتهى) .
(۲) قوله (مررت بزيد)
الالصاق فيه مجازي ، أي ألصقت مروري بمكان يقرب من زيد، والحقيقي نحو : أمسكت بزيد
.
(۳) قوله ( كلاماً) أي
كلاماً صحيحاً .
__________________
الشك، كقول القائل :
أكلت كذا أو كذا ، ورأيت فلاناً أو فلاناً، الا أن هذا القسم لا يجوز في كلام الله
تعالى .
وقد تستعمل بمعنى الواو كما قال تعالى :
(
وَأَرْسَلْنَاهُ
إِلَىٰ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) (۱) وانما أراد به
ويزيدون. وقد تستعمل بمعنى الابهام مثل قول القائل : فعلت كذا أو كذا ، اذا كان
عالماً بما فعله وانما يريد ابهامه على المخاطب به .
وأما (في) فانها تفيد الظرف نحو قولهم:
زيد في الدار ، وان استعملت فى غير ذلك فعلى ضرب من المجاز .
واذ قد بينا ان الكلام ينقسم الى حقيقة
ومجاز فلابد من اثباته لان في الناس من دفع أن يكون في الكلام مجاز أصلا ، وهذا
قول شاذ لا يلتفت اليه لان من المعلوم من دين أهل اللغة (۲) ان استعمالهم لفظة
الحمار في البليد والاسد في الشجاع مجاز دون حقيقة ، و كذا قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ) (۳) بمعنى يؤذون أولياء
الله و :
____________________________________________
(۲) قوله : (لان من
المعلوم الخ) فاندفع ما قاله بعض من : أن الاستعارة مجاز عقلي، بمعنى ان التصرف في
امر عقلي لالغوي، لانها لما لم تستعمل في المشبه الا بعد دخوله ادعاء في جنس
المشبه به ، كان استعمالها فيما وضعت له، لان الادعاء لا يقتضي كونها مستعملة فيما
وضعت له العلم الضروري ، بأن
__________________
(
جَاءَ
رَبُّكَ )
(۱) بمعنى
جاء أمر ربك، وقوله : (
وَاسْأَلِ
الْقَرْيَةَ ) (۲) بمعنى أهل القرية، ان
كل ذلك مجاز .
فان دفع ذلك استعمالا ، فما ذكرناه
دلالة عليه وان قال : لا أدفعه استعمالا ، الا أنى أقول انه حقيقة كان مخالفاً
لاستعمال أهل اللغة واطلاقهم ، ويحتج عليه بالرجوع الى الكتب المصنفة في المجاز
والوجه الذي يستعمل عليه المجاز كثير ولا ينضبط ، قد ذكر بعضه في الكتب، ولا يجوز
أن يكون مجاز ولا حقيقة له، وانما قلنا ذلك لما بيناه من ان المجاز هو ما استعمل
في غير ما وضع له ، واذا لم يكن له حقيقة لم يثبت هذا المعنى فيه ، ويجوز أن تكون
حقيقة ولا مجاز لها .
و من حق الحقيقة أن يعلم المراد بها
بظاهرها، ومن حق المجاز أن يعلم المراد به بدليل غير الظاهر ، والله تعالى قد خاطب
بالمجاز كما خاطب بالحقيقة، وكذلك الرسول عليه وآله السلام .
ومن دفع ذلك لا يلتفت الى قوله ، وليس
ذلك بمؤدى الى الحاجة ، لان الله تعالى استعمل ذلك على عادة العرب في خطابها في
استعمال الحقيقة والمجاز ، كما استعمل الاطالة تارة والايجاز اخرى، كما استعملت هي
فاذا جاز أحدهما جاز الآخر .
__________________
فأما لفظ الاستعارة فالاولى أن لا يطلق
على كلام الله تعالى من حيث انه يوهم ان فاعلها استعارها لحاجة ، وان اريد بذلك
(١) ما ذكره بعضهم من أن التخاطب بتلك اللغة يقتضى حسن استعمالها في المجاز ، كحسن
ذلك في الحقيقة فعلى هذا لا يمتنع اطلاق هذه اللفظة على كلام الله تعالى واذا ثبت
ان الله تعالى خاطب بالحقيقة والمجاز معاً ، فلابد من أن يدل على الفصل بينهما ،
والا أدى الى تكليف ما يطاق . كما لابد من أن يدل على الفصل بين الالفاظ
____________________________________________
الاسد مثلا مستعمل في
الرجل الشجاع، والموضوع له هو السبع المخصوص .
(۱) قوله (وان اريد بذلك)
الظاهر (ان) ان وصيلة وان قوله فعلى هذا لا يمتنع الخ) من تتمة قول بعضهم، وان
مراد هذا البعض ان التخاطب باللغة العربية يقتضي عدم قبح استعمال الاستعارة في
المجاز، كالاستعارة المصرحة كعدم قبح استعمال الاستعارة في الحقيقة ، كالاستعارة
المكنى عنها عند غير السكاكي (۲) فعلى هذا أي فعلى اقتضاء التخاطب باللغة
العربية ، عدم قبح الاستعمال المذكور لا يمتنع اطلاق الاستعارة على كلام الله
تعالى مجازه و حقيقته، أو مراده ان لفظ الاستعارة اذا استعمل في المعنى الحقيقي
المأخوذ من العار دل على حاجته بخلاف استعماله في المعنى المجازي المتداول بين أهل
العربية. ولما كان عدم القبح والامتناع لا ينافي كونه خلاف الأولى كمامر في (فصل
في ذكر أقسام أفعال المكلف) قال المصنف (و ان اريد الخ) أيوان
__________________
المختلفة لتعرف
معانيها. والفصل بين الحقيقة والمجاز (۱) يقع من وجوه :
منها : أن يوجد نص من أهل اللغة أو
دلالة على أنه مجاز
ومنها : أن يعلم أنهم وضعوا تلك اللفظة
لشيء، ثم استعملوها في غيرها على وجه التشبيه (۲) .
____________________________________________
كان المنظور في
الاستعمال ما ذكره بعضهم .
(۱) قوله ( والفصل بين
الحقيقة والمجاز الخ) في السياق شيء فان هذا الفصل ليس عين الفصل الذي لا بد من أن
يدل عليه ، لدفع التكليف بما لا يطاق فان فائدة هذا بعد معرفة المراد . وفائده ذاك
قبل معرفته فان بعد معرفة المراد لا يتصور تكليف بما لا يطاق، وان لم يعرف كون
اللفظ حقيقة أو مجازاً ولم يذكر في جملة الفصل بين الحقيقة والمجاز كون الحقيقة
متبادراً والمجاز خلاف المتبادر ، اكتفاء بما ذكره بقوله ( ومن حق الحقيقة أن يعلم
المراد الخ) .
(۲) قوله (ثم استعملوها
في غيرها على وجه التشبيه) الأولى أن يقول: ثم استعملوها في غيره للعلاقة ، أي
يعلم أن المنظور حين الاستعمال ، العلاقة بين المستعمل فيه وبين غيره ، سواء كان
للتشبيه ، أولانه جزء له ، أولانه مفض اليه أو غير ذلك . فلا حاجة حينئذ الى قوله
( ومنها أن يستعمل في الشيء من حيث كان) الى قوله (أو هو منه بسبب) لانه لم ينحصر
العلاقة فيما ذكر ، ويمكن جعل قوله (فانها تنبيه على ما عداها) اشارة الى عدم
الانحصار ، ثم الظاهر ان ذكر العلم بموضوع له تصوير مثال .
ومنها : أن يعلم انها تطرد (۱) في موضع ، ولا تطرد
في آخر و
____________________________________________
(۱) قوله ( أن يعلم انها
تطرد) لما كان الاطراد بلامانع لازماً للحقيقة كمامر في هذا الفصل، وعدم اللازم
يدل على عدم الملزوم، كان عدم الاطراد بلامانع علامة للمجازية، كما فرع .
فان قيل : انما يدل عدم اللازم ، على
عدم الملزوم ، لو كان العلم به قبله وما نحن فيه ليس كذلك لما قيل . وحاصله : ان
عدم الاطراد أمر ممكن غير محسوس بذاته، ولا بحسب آثاره وصفاته وكل ما هو كذلك لا
يعلم الا بسببه كما حقق في موضعه وسبب عدم الاطراد اما عدم المقتضي للاطراد، واما
وجود المانع عنه. اذ علته عدم الشيء، عدم علة وجوده، وقد فرض ان لامانع، فعدم
الاطراد انما هو لعدم مقتضي الاطراد، وهو انما يعلم بعدم الوضع .
فاذا يعلم عدم الاطراد بعدم الوضع لما
ذكرنا، وعدم الوضع بعدم الاطراد لانه جعل علامة، لانه مجازاً .
قلنا : بعد عدم تسليم ما حقق ، وبعد ما
قيل من أن الظن قد يحصل بدون العلم بالسبب، وان عدم الاطراد محسوس لمن يتتبع
اللغة، كعدم كون النصب علامة للفاعل، وعدم جبال شاهقة بحضرتنا ، وأيضاً قوله (وهو
انما يعلم بعدم الوضع ممنوع لان الوضع) مصحح لا مقتض ، انما المقتضي دواعي أهل
اللسان في محاوراتهم في صدر الزمان هذا وليعلم ان العلم بعدم الاطراد بلا مانع
يتوقف على شيئين :
الأول : العلم بأن الاطلاق فيما يجوز
اطلاقه انما هو على معنى مشترك بينه وبين ما لا يجوز اطلاقه عليه، كما في السخي
والفاضل، والواو العاطفة في معنى ( أو ) كمامر . والأمر بمعنى الفعل كما سيجيء في
(فصل في ذكر
لا مانع فيعلم انها
مجاز فى الموضع الذى لا تطرد فيه ، وانما شرطنا المانع ، لان الحقيقة قد لا تطرد
لمانع عرفي أو شرعى ، ألا ترى ان لفظة الدابة وضعت في الاصل لكل مادب ، ثم اختصت
في العرف بشيء بعينها .
وكذلك لفظ الصلاة (۱) في الاصل للدعاء ثم
اختصت في الشرع بأفعال بعينها، وكذلك لفظة النكاح وماجرى مجرى ذلك ،
____________________________________________
حقيقة الأمر) مثلا
(السخي) انما يطلق فيما يطلق على ذات متصفة بالجود، و لیست خصوصية الذات
داخلة في المستعمل فيه، بل وقعت موافقة له .
ونظيره انهم صرحوا : بأنه اذا اطلق لفظ
العام على الخاص لا باعتبار خصوصه بل باعتبار عمومه، فهو ليس من المجاز في شيء .
كما اذا رأيت زيداً فقلت: رأيت انساناً، أو رأيت رجلا فلفظ انسان، أو رجل لم
يستعمل الا فيما وضع له، لكنه قد وقع في الخارج على زيد، فلوجوز كون الخصوصية
داخلة في المستعمل فيه، لم يكن العلم بعدم الاطراد بلامانع. وان أمكن العلم بعدم
الاطراد للمانع كما في الدابة، فان الظاهر انها مستعملة في الخاص من حيث خصوصه،
ولذا يحكم بأنه مجاز لغوي حقيقة عرفية .
والثاني العلم بعدم المانع وهو حاصل بعد
التتبع ، فانه حينئذ يعلم ان لا مانع شرعي أو عرفي يكون ناقلا للفظ من معناه الى
معنى خاص كما في الامثلة التي ذكرها المصنف، ويحصل من الأول أيضاً كما لا يخفى،
وقد مر بعض ما يتعلق بهذا البحث في هذا الفصل عند قول المصنف (والحقيقة اذا عقل
فائدتها الخ) .
(۱) قوله (وكذلك لفظ
الصلاة) انما يتضح كون الصلاة والنكاح مثالين
فيعلم أنه حقيقة، وان
لم يطرد لما بيناه من العرف والشرع .
ومنها : أن يعلم ان اللفظة حكماً (۱) وتصرفاً من اشتقاق أو
تثنية ، أو جمع ، أو تعلق بالغير (۲) فاذا استعملت في موضع وهذه احكام منتفية
عنه علم انه مجازاً ، ولذلك قلنا : ان لفظة الامر حقيقة في القول ومجاز في الفعل،
لان الاشتقاق لا يصح في الفعل ويصح في القول .
ومنها : أن يعلم ان تعلقها بالمذكور لا
يصح فيحكم ان هناك
____________________________________________
لما نحن فيه اذا كان
المنقول اليه، وهو الافعال بعينها. والعقد فرداً من المعنى الموضوع له فيهما، وهو
للدعاء والوطي .
(۱) قوله: (ان اللفظة
حكماً الخ) كما ان من حق الحقيقة أن تطرد كذلك من حقها أن لا تنفك عن أحكامها
لانها حقائق أيضاً، فانفكاك أحكامها عنها يدل على انتفائها، فيكون اللفظ مجازاً .
وينبغي أن يقيد هذا أيضاً بعدم المانع،
لئلا ينتقض بـ (يدع، ويذر) فان عدم استعمال ماضيهما مع وجود المقتضي وهو الوضع
انما هو لمانع. وهو اماتتهم اياهما، أي المنع من استعمالهما المعلوم من التتبع لا
السكوت، حتى يتوهم انه لعدم المقتضي . ويمكن أن يوجه بانه امارة فلاينافي التخلف
في قليل من الصور ، وهذا أظهر ، لان العلم بأن عدم الاستعمال ليس للمانع مشكل .
(۲) قوله (أو تعلق بالغير)
كالفاعل والمفعول ونحوهما .
حذفاً وان اللفظ مجاز
ولذلك قلنا : (
وَاسْأَلِ
الْقَرْيَةَ ) (۱) مجاز ، و كذلك قوله: ( إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (۲) على أحد التأويلات .
ومنها: أن يستعمل في الشيء من حيث كان
جزاءاً لغيره نحو قوله تعالى : (
وَجَزَاءُ
سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا
)
(۳) لان
الجزاء في الحقيقة لا يكون سيئة ولهذا قال أهل اللغة: (۴) الجزاء بالجزاء،
ومعلوم ان الاول ليس جزاء ولذلك نظائر كثيرة .
ومنها : ان يستعمل في الشيء لانه يفضى
الى غيره كقولهم: حضره الموت (۵) اذا خيف عليه من مرضه. ونحو قولنا: ان
النكاح
____________________________________________
(٤) قوله (ولهذا قال أهل اللغة)
الجزاء بالجزاء العلاقة فيه عكس السابق فالاولى أن يعمم ليشملهما ، أو يقول من حيث
كان بينه وبين غيره نوع بدلية مع المصاحبة في الذكر، ليشمل العلاقة في مطلق مجاز
المشاكلة، نحو قوله (قالوا: اقترح شيئاً تجد لك طبخة قلت: اطبخوا لي جبة وقميصاً)
وقيل : كأنهم جعلوا المصاحبة في الذكر علاقة في مجاز المشاكلة .
(٥) قوله ( كقولهم حضره الموت)
فان الموت مجاز في المرض الشديد وكذا النكاح مجاز لغة في العقد . فلو استعمل فيه
لغة ، لكان العلاقة انه يفضي الى الوطي .
__________________
اسم للوطى حقيقة
ومجاز في العقد ، لانه موصل اليه ، وان كان بعرف الشرع قد اختص بالعقد كلفظة
الصلاة وغيرها. وقد يستعمل اللفظ في الشيء لانه مجاور لغيره أو هو منه بسبب (۱) .
وهذه الجملة كافية في هذا الباب ، فانها
تنبه على ما عداها وقد انتقلت اسماء كثيرة عما كانت عليه فى اللغة الى العرف تارة
والى الشريعة اخرى ، فما انتقل منه الى العرف نحو قولنا : دابة ، وغائط فان هذا
وان كان اسماً فى اللغة لكل ما يدب، وللمكان المطمئن من الارض منه صار بالعرف
عبارة عن حيوان مخصوص ، وحدث مخصوص، ونظائر ذلك كثيرة لا فائدة فى ذكر جميعها،
وانما اردنا المثال .
واما ما انتقل منه الى الشرع فنحو قولنا
: الصلاة ، فانها في اللغة موضوعة للدعاء ، وقد صارت في الشريعة عبارة عن أفعال
____________________________________________
(۱) قوله (أو هو منه بسبب)
ضمير هو للشيء ، وضمير منه للغير ، و من للنسبة مثل (أنت مني بمنزلة هارون من موسى)
(۲) والباء
المصاحبة، والسبب الحبل والرابطة . والمراد أو كان بينه وبين الغير علاقة اخرى .
__________________
مخصوصة، وكذلك الزكاة
في اللغة عبارة عن النمو، وفي الشريعة عبارة عن أخذ شيء (۱) مخصوص ونظائر ذلك
كثيرة .
واما لفظة الايمان فعند قوم انها منتقلة
، وعند آخرين انها على ما كانت عليه وليس هذا الكتاب موضوعاً لاعيان الاسماء التي
انتقلت والتي لم تنتقل فان شرح ذلك يطول، وانما كان غرضنا أن نبين ثبوت ذلك .
والسبب في استعمال ذلك، انه حدثت أحكام
في الشريعة لم تكن معروفة في اللغة ، فلابد من العبارة عنها. فلا فرق (۲) بين أن يوضع لها
عبارة مبداءة لا تعرف، وبين أن ينقل بعض الاسماء المستعملة في غير ذلك، كما ان من
يرزق ولداً يجوز له أن يضع له اسماً لا يعرف ، ويجوز أن ينقل بعض الاسماء
المستعملة اليه .
الا أن الامروان كان على ما قلناه (۳) ، فمتى نقل الاسم من
مقتضى اللغة الى شيء لا يعرف فيها، لا يكون المتكلم به (۴) متكلماً باللغة
____________________________________________
بل يكون متكلماً
بالشرع وان سمى متكلماً باللغة مجازاً، من حيث انه استعمل ما كانوا استعملوه، وان
كان قد استعملوه في غير ذلك. ومتى لم نقل ذلك لزم أن يكون من تكلم باللغة المعروفة
، ووافق بعض أسمائها أسماء العجم أن لا يكون متكلماً بالعجمية، وذلك لا يقوله أحد،
فعلم ان الصحيح ما قلناه .
واذا ثبتت هذه الجملة ، فمتى ورد خطاب
من الله تعالى، أو من النبي صلى الله عليه و آله نظر فيه، فان كان استعماله في
اللغة، و العرف، والشرع سواء حمل على مقتضى اللغة وان كان له حقيقة في اللغة، وصار
في العرف حقيقة في غيره وجب حمله على ما تعورف في العرف .
وكذلك ان كان له حقيقة في اللغة أو
العرف وقدصار بالشرع حقيقة لغيره وجب حمله على ما تعورف فى الشرع وكذلك ان كانت
اللفظة (۱) منتقلة
من اللغة الى العرف ثم استعملت في الشرع على
____________________________________________
ينافي كون الكلام
عربياً للنظم أو للاغلبية أو نحوهما كما يشعر به قوله (ومتى لم نقل ذلك الخ).
(۱) قوله (وكذلك اذا كانت
اللفظة . الخ) هذا تصريح بما يفهم من قوله (أو العرف) فانه انما يكون بأن يكون له
حقيقة في اللغة ، أو هو بناء على ما مر من عدم الفرق بين أن يوضع عبارة مبتدأة ،
وبين أن ينقل اسم من اللغة وقد مر ما فيه .
خلاف العرف. وجب حمله
على ما تقرر في الشرع، لان خطاب الله تعالى وخطاب النبي صلىاللهعليهوآله ينبغي أن يحملا على
ما تقتضيه الشريعة لانه المستفاد (۱) من هاتين الجهتين .
ومتى نقل الله تعالى أو رسوله صلىاللهعليهوآله اسماً من اللغة الى
الشرع ، وجب عليه أن يبينه لمن هو مخاطب به (۲) دون من لم يخاطب به،
لان من ليس بمخاطب به (۳) لا
يجب بيانه له .
ولاجل هذا لا يجب أن يبين الله تعالى
لنا مراده بالكتب السالفة لما لم نكن مخاطبين بها وهذا وان لم يجب ، فانه يحسن أن
يبين لغير المخاطب كما يبين الله تعالى أحكام الحيض لمن ليس هو مخاطب بها من
الرجال، وذلك جائز غير واجب على ما قلناه .
وانما قلنا ذلك لانه كما لم يجب أن يقدر
(۴) من
ليس
____________________________________________
(۱) قوله (لانه المستفاد)
الضمير لما يقتضيه ، و الجهتان جهة الله وجهة الرسول .
(۲) قوله (لمن هو مخاطب
به) المراد بالمخاطب أعم من المكلف ومن توجه اليه الكلام.
(۳) قوله (لان من ليس
بمخاطب به) صورته استدلال الحد على المحدود اشارة الى بداهة المدعي .
(٤) قوله ( كما لم يجب أن يقدر
الخ) فيه ان غير المكلف بفعل مخصوص قد لا يقدر على الفعل ، وهو مكلف بالعلم
بالخطاب للتبليغ الى المكلف، كما
بمخاطب به، فكذلك لا
يجب أن يعلمه لان القدرة أكد من العلم لان الفعل يستحيل من دونها أصلا، (۱) فاذا لم تجب القدرة
فكذلك لا يجب العلم على ما بيناه .
فصل
في ذكر ما يجب معرفته
من صفات الله تعالى
وصفات النبى صلىاللهعليهوآله
وصفات الأئمة عليهمالسلام
حتى يصح معرفة مرادهم
اعلم انه لا يمكن معرفة المراد بخطاب
الله تعالى الا بعد ثبوت العلم باشياء :
منها : أن نعلم أن الخطاب خطاب له ،
لانا متى لم نعلم انه خطاب له لم يمكنا أن نستدل على معرفة مراده .
ومنها : أن نعلم أنه لا يجوز أن لا يفيد
بخطابه شيئاً أصلا (۲) .
____________________________________________
في الامام عليهالسلام الا و كما في المفتي
عند جواز فتواه ، و الاحتياج اليه في الاحكام التي لم يكلف بها .
(۱) قوله (لان الفعل
يستحيل من دونها اصلا) فيه دلالة على بطلان الافعال الطبيعية كما مر في الحاشية
الأولى ، في ذيل الجواب عن الشك الرابع .
(۲) قوله (قدس سره) (لا
يفيد بخطابه شيئاً أصلا) المراد أن لا يريد به معنى يكون مستعملا فيه .
ومنها : أن نعلم أنه لا يجوز أن يخاطب
بخطابه على وجه يقبح (١) .
ومنها : أنه لا يجوز أن يريد بخطابه غير
ما وضع له ولا يدل عليه فمتى حصلت هذه العلوم صح الاستدلال بخطابه على مراده ، و
متى لم يحصل جميعها أو لم يحصل بعضها لم يصح ذلك ، ولذلك ألزمنا المجبرة (۲) ان لا يعرفوا بخطابه
شيئاً ولا مراده أصلا، من حيث جوزوا على الله تعالى القبائح ، ولشرح هذه الاشياء
موضع غير هذا يحتمل أن نبسط الكلام فيه ، غير انا نشير الى جمل منه الى العلم .
انما قلنا: أنه لا يجوز أن يخاطب، ولا يفيد
بخطابه شيئاً أصلا،
____________________________________________
(۱) قوله (على وجه يقبح )
ان قيل : هذا يغني عن سابقه و لاحقه ، لان عدم الافادة قبيح ، وكذا عدم الدلالة
على المراد .
قلنا : المراد بكون الخطاب على وجه يقبح
أن يكون خبراً كاذباً أو انشاءاً يكون أمراً بما ليس بواجب عقلي واقعي ، أو نحو
ذلك مما يجد العقل قبحه في نفسه ضرورة ، لا استدلالا آنياً على القبح، ولا في نفسه
كما سيجيء .
(۲) قوله (المجبرة) هم
القائلون بان أفعال العباد صادرة عن الله تعالى ، سواء كانوا قائلين بالكسب ، وهم
جمهور الاشاعرة أم لا ، وهم الجهمية (۳).
__________________
لان ذلك عبث لا فائدة
فيه تعالى الله عن ذلك. وليس لاحد أن يقول يجوز أن لا يفيد بخطابه شيئاً أصلا ،
ويكون وجه حسنه المصلحة ، لان ذلك يؤدى الى أن لا يكون طريق الى معرفة المراد
بخطابه أصلا (۱) .
__________________
(۱) قوله لان ذلك يؤدي
الى أن لا يكون طريق الى معرفة المراد بخطابه اصلا الخ) اشارة الى ضابطة هي : ان
كل قضية يحصل لنا العلم القطعي بها بطريق من الطرق، فيمكن لنا أن نستدل عقلا
بالعلم بصدقها، على استحالة ما ينافي حصول ذلك العلم من ذلك الطريق، وان لم يكن
جهة الاستحالة معلومة لنا، وذلك لان العلم سواء كان ضرورياً أو كسبياً لابد له من
موجب مخصوص يمتنع عقلا تحققه بدون ذلك العلم، ولابد المتعلقه في تعلقه به من موجب
مخصوص يمتنع تحقق ذلك الموجب بدون صدق متعلق العلم مما ينافي العلم اما مناف لاحد
الموجبين ، واما مناف لايجابه واستلزامه .
فالاول: يستحيل عقلا اجتماعه مع الموجب
.
والثاني: يستحيل عقلا تحققه مطلقاً،
وعلى هذا يبطل ما يتوهم من كون العاديات، أي نحو عدم انقلاب الجبل ذهباً علوماً،
لان خرق العادة ممكن من الفاعل المختار، وهو مناف لاستلزام العلم بكون شيء عادياً
للعلم بتحققه وقد مر تفصيله في حد العلم .
ويبطل أيضاً ما مثلوا به كون العاديات
علوماً ، من انا اذا شاهدنا زيداً في مكان علمنا وقوعه فيه، مع امكان عدم وقوعه
فيه في نفسه، وذلك لان عدم وقوعه فيه لا ينافي استلزام المشاهدة له فيه للعلم انما
ينافي وقوعه فيه ، فهو مستحيل الاجتماع عقلا معه، لا مستحيل في نفسه عقلا .
ويتبين من ذلك ، انه لو كانت العاديات
علوماً لكان خرق العادة للاعجاز محالا في نفسه عقلا، فلم يمكن اثبات النبوات به
کمامر. فنقول: فيما نحن فيه نعلم يقيناً انه قد يحصل لنا العلم القطعي بمراد الله
بخطابه، وجواز كونه تعالى مخاطباً بشيء لا يريد به شيئاً أصلا، بأن يكون للمصلحة
ينافي استلزام موجب ذلك العلم له ، يعنى يستلزم أن يكون ذلك التصديق علماً ، فيحصل
العلم باستحالته عقلا .
وكذلك القول في المعجز ، فانا نعلم
قطعاً انه اذا ظهر المهدي عليهالسلام
و ادعى الامامة ، وقال : معجزتي أن أقلع جبل الصفا من موضعه ، وأضعه في موضع كذا
ففعل ، يحصل العلم القطعي بصدق دعواه . فكل ما ينافي تحققه استلزام المعجز للعلم
بالصدق ككونه صادراً عن الله تعالى، لا لاجل التصديق بل لمصلحة اخرى هي الابتلاء
مثلا ، أو لا لمصلحة، أو لاجل التصديق كذباً بناء على بطلان قاعدة التحسين
والتقبيح العقليين ، وكونه صادراً عن العبد على وفق العادة القريبة، أو خارقاً
للعادة من الجن أو من الملك ، وكونه مما يمكن أن يعارض وأمثال ذلك مما ينافي تحققه
استلزام المعجز للعلم بالصدق يعلم استحالته عقلا، فهو دليل آني عليها .
وكذا نقول الاخبار عن الغيب معجز، يعلم
به صدق مدعى النبوة. وكون العلم بالغيب مما يحصل عادة بالرياضة وصفاء الباطن، وكون
بعض العلوم مما يمكن أن يكون ضرورياً بالنسبة الى شخص كصاحب نفس قدسية ونحوه، و
كسبياً بالنسبة الى آخر ونحو ذلك مما ينافي استلزام ذلك للعلم بالصدق ، فيحكم
باستحالته عقلا، وهذا دليل عقلي آني على استحالته لا سمعي ، لانه لاحاجة فيه الى
أخبار النبي صلىاللهعليهوآله بذلك
.
نظيره انا لا نعلم في أول الملاحظة انه
هل يمكن عقلا أن يخلق الله تعالى
شخصاً غير زيد، على
مثل هيئة زيد وشكله، وتخطيطه من جميع الوجوه، بحيث لا تفرق حاسة البصر بينهما أصلا
، وان كان مع قرب العهد بزيد ، وتكرار المشاهدة له في كل يوم ، وفي كل ساعة أم لا
يمكن ذلك عقلا في نفس الأمر ؟ .
ثم اذا استدللنا على استحالته بانا
نشاهد زيد أو نعلم يقيناً أنه زيد كما في قوله تعالى في سورة البقرة، وسورة
الانعام: «الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم » (۱) وكون الشخص المذكور
ممكناً في نفسه، ينافي استلزام المشاهدة لذلك العلم، كان الاستدلال حقاً برهانياً
.
ويظهر بما قررنا انه يمكن الاستدلال
العقلي بالمعجز، وافادته العلم على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين، وعلى امتناع
كذبه تعالى لمصلحة معارضة تكون أقوى من مفسدة الكذب، وعلى انه لا مؤثر في خارق
العادة الا الله تعالى وعلى انه لا يمكن معارضته ، وعلى انه لا يجوز اظهار خارق
العادة على يد الكاذب، وأمثال ذلك. وهو ليس باستدلال سمعي كما قررناه، وان كان
الاولان لا حاجة لثبوتهما الى استلزام المعجز للعلم بالصدق .
أما الأول: فظاهر مشهور .
وأما الثاني: فلان الاضطرار الى القبيح
في نفسه لاجل المصلحة يستلزم النقص تعالى الله عنه الضرورية استحالته على الفاعل
بقول (كن) ولا يكفي في اثبات عدم كذبه تعالى قاعدة التحسين والتقبيح العقليين، كما
قد توهمه بعض لما يظهر مما مر في الفصل الأول من عدم استقلال العقل بالاحكام
العقلية الواقعية فينا ، و يمكن الاستدلال على جميع ذلك باخبار النبي صلىاللهعليهوآله أيضاً
، ولا دور .
__________________
فان قلت: انما يتسم ما ذكرتم ان كان
العلم بالصدق الحاصل بعد اظهار المعجز ضرورياً، واما اذا كان كسبياً فيتوقف على
العلم بجميع ذلك فيشمل الدليل العقلي و السمعي على الجميع على الدور ، فهل هو
ضروري أو كسبي ؟ .
قلت: قد اختلفت عبارات العلماء فيه
فصاحب الموافق، وصاحب المقاصد جعلاه من الضروريات العادية .
قال صاحب المواقف اذا أتى يعنى مدعى
النبوة بما يعلم بالضرورة أنه خارق العادة وعجز من في قطره عن المعارضة، علم ضرورة
صدقه (انتهى) .
وقال صاحب المقاصد وشرحه ، في البحث على
من استدل بالسمعيات على ان فاعل أفعال العباد هو الله .
والجواب عنه : فان قيل : التمسك في
الكتاب والسنة يتوقف على العلم بصدق كلام الله تعالى، و كلام الرسول صلىاللهعليهوآله ،
ودلالة المعجزة ، وهذا لا ينافي مع القول بأنه خالق لكل شيء حتى الشرور والقبائح،
وانه لا يقبح منه التلبيس والتدليس والكذب واظهار المعجزة على يد الكاذب ونحوذلك،
مما يقدح في وجوب صدق كلامه، وثبوت النبوة، ودلالة المعجزات .
قلنا : العلم بانتفاء تلك القوادح، وان
كانت ممكنة في نفسها من العاديات الملحقة بالضروريات ، على ان هذا الاحتجاج انما
هو على المعترفين بحجية الكتاب والسنة والمتمسكين بهما في نفس كونه تعالى خالقاً
للشرور والقبائح و أفعال العباد ، فلو توقف حجيتهما على ذلك كان دوراً (انتهى) وأنت
__________________
تعرف بما ذكرنا مافيه
وقال : وأما وجه دلالتها أي
وجه دلالة المعجزة على صدق مدعي الرسالة انها عند التحقيق بمنزلة صريح التصديق لما
جرت به العادة بني ان الله تعالى يخلق عقيبها العلم الضروري بالصدق .
وقال فيه : وهو يعني الكذب محال على
الله تعالى . اما أولا : فباجماع العلماء، واما ثانياً : فيما تواتر من اخبار
الانبياء الثابت صدقهم بدلالة المعجزات من غير توقف على ثبوت الله تعالى فضلا عن
صدقة (انتهى) .
وقد خالف هذا في بحث قدرة الله تعالى
حيث قال : و قد يتمسك في اثبات كون الباري تعالى قادراً عالماً بالاجماع والنصوص
القطعية من الكتاب والسنة .
ثم قال في الجواب عنه: مرجع الادلة
السمعية الى الكتاب ودلالة المعجزات وهل يتم الاقرار بها والاذعان لها قبل التصديق
بكون الباري قادراً عالماً ؟ فيه تردد وتأمل (انتهى) (۳) .
والظاهر من المصنف أيضاً ، انه ضروري،
قال في الاقتصاد: قد أجبت عن سؤال الجن ـ يعني على اعجاز القرآن ـ بان قلت : فان
ذلك يؤدي الى ان انشقاق القمر وطلوع الشمس من مغربها و قلع الجبال من أما كنها
وطفر البحار العظام وفلق البحر لا يكون شيء من ذلك معجزاً ، لان جنسه داخل تحت
مقدور القدر ولا يمتنع أن يكون جميع ذلك من فعل بعض الجن. ومن ارتكب فقال : جميع
__________________
ذلك لا يدل على
النبوة كفاه ما فيه من الشناعة (انتهى) .
ولكن ظاهر ما مر في (فصل في بيان حقيقة
العلم) من قوله (صح الاستدلال بمجيء الشجرة الخ) انه نظري وظاهر من مذهب المعتزلة
انه نظري مبني على العلم بقاعدة التحسين والتقبيح العقليين .
وقال صاحب المواقف ، في عداد المذاهب ،
في كيفية دلالة المعجزة على الصدق : وقالت المعتزلة ، خلق المعجزة على يد الكاذب
ممتنع ، لان فيه ايهام صدقه ، وهو اضلال قبيح من الله تعالى (انتهى) .
والظاهر أيضاً مما نقل شارح المقاصد عن
جمع انه نظري عندهم حيث قال : ومنا من قال باستحالته عقلا ـ يعني استحالة ظهور
المعجزة على يد الكاذب ـ فالشيخ لافضائه الى التعجيز
عن اقامة الدلالة على صدق دعوى الرسالة ، والامام وكثير من المتكلمين ،
لان الصدق مدلول لها لازم بمنزلة العلم لاتيان الفعل، فلو ظهرت من الكاذب لزم كونه
صادقاً وهو محال (انتهى) .
وصرح الدواني في شرح العقائد
العضدية بأنه نظري فقال فيه : اثبات
__________________
ارسال الرسول يتوقف
على اثبات شمول القدرة ، اذ طريق اثباته ان المعجزة فعل الله خارق للعادة ، وقد
صدر عنه حال دعوى النبوة ، واذا خالف الفاعل المختار عادته حين استدعاء النبي صلىاللهعليهوآله للتصديقه
بأمر يخالف عادته ، دل ذلك الامر على تصديقه ، وهذا متوقف على اثبات كونه فعلا له
، وكونه فعلا له يثبت بشمول القدرة . اذ لا دليل لنا على ان خصوص المعجزة فعل الله
ومقدوره ، وان زعمت المعتزلة
.
و احتمال وجوده لا يجدي ، فلا يتم ما
قيل ان الأولى في اثبات هذا المطلب يعني في شمول القدرة ـ بل سائر المطالب التي
يتوقف ارسال الرسول عليه ان يتمسك بالدلائل السمعية ، فيستدل على شمول القدرة
بقوله تعالى : (
إِنَّ
اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
)
وعلى شمول العلم بقوله تعالى : (
وَاللَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )
وأمثاله (انتهى) .
والحق أن العلم بصدق الدعوى الموافق
الخارق العادة ضروري بمعنى انه لا يمكن للعاقل دفعه عن نفسه بشك أو شبهة ، كالعلم
باخبار البلدان المتواترة فيجري فيه ما يجري فيه من التوقف ، وهذا كاف فيما نحن
فيه .
فان كان كونه خارقاً للعادة أيضاً
ضرورياً بهذا المعنى ، كان العلم بأن فاعله هو الله تعالى ، و انه مقارن للصدق
ضرورياً بهذا المعنى ، لانه يحصل العلم بالصدق عقيبه لكل عاقل ، وان لم يعتقد
شيئاً مما يتوقف عليه ، بل وان
__________________
كان منكراً لجميعها
أو معرضاً عن النظر .
فلو كان العلم بالصدق موقوفاً على العلم
بها أو النظر كما يتوقف على نفسها كما مر لم يحصل له، ومن ارتكب ذلك كفاه ما فيه
من الشناعة كما ذكره المصنف ولذا لم يقر فرعون لموسى انما ظهر على طبق دعواه خارق
للعادة وادعى انه سحر ، أي موافق المعادة خفي مأخذه كما سيجيء .
وان كان عالماً بكذبه ضرورة أيضاً كما
في قوله تعالى في سورة بني اسرائيل: (
لَقَدْ
عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَٰؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
بَصَائِرَ )
على قراءة فتح التاء
في علمت .
وروى علي بن ابراهيم ، عن أبي الجارود ، عن أبي جعفر عليهالسلام قال : وقد علم فرعون
وقومه ما أنزل تلك الآيات الا الله (انتهى) .
و كذا كفار قريش لنبينا صلىاللهعليهوآله ،
وقد روى ابن بابويه في كتاب التوحيد في باب (في انه عز وجل لا يعرف الا به) عن
أمير المؤمنين عليهالسلام انه
قال : ما عرفت الله عز وجل بمحمد صلىاللهعليهوآله ،
ولكن عرفت محمد صلىاللهعليهوآله بالله
عز وجل حين خلقه وأحدث فيه الحدود من طول وعرض، فعرفت انه مدبر مصنوع باستدلال
__________________
والهام منه وارادة،
كما ألهم الملائكة طاعته ، وعر فهم نفسه بلاشبهة ولا كيف (الحديث) .
وهذا يدل على انه كسبي . وقوله عليهالسلام : باستدلال و الهام
منه اشارة الى انه غير واجب شرعاً على المكلفين ، بل يجب على الله أن يلهمهم النظر
، و يفعل بهم الدواعي اليه ، حتى يريدوه . و قد مر بيانه في الفصل الأول ، فلا
ينافي الضرورة بالمعنى الذي ذكرناه . ينافي الضرورة بالمعنى الذي ذكرناه .
و حاصل استدلاله عليهالسلام : انه مدبر مصنوع ،
وكل مدير مصنوع ظهر المعجز على يده مقارناً لدعواه فهو فعل من ليس بمدير مصنوع
لتصديقه بناءاً على ان المدير المصنوع لا يقدر على فعل مثله ما هو بمحض قول (كن) .
ومعنى قوله : ما عرفت الله بمحمد ، ان
معرفة وجود الفاعل بمحض قول (كن) لا تتوقف على تبليغ رسول ، بل تحصل بالنظر في
ملكوت السموات و الأرض ، وما خلق الله من شيء كما في الكافي ، في كتاب التوحيد ،
في باب (في انه تعالى لا يعرف الا به) .
ثم من ذهب الى أنه ضروري عادي ليس مذهبه
انه يحصل من تكرر المشاهدة حتى يعترض عليه بانه لا يجري في النبي الأول فلا يجري
في نبي أصلا اذ العادة فرع العلم بتكرر الوقوع ، بل مراده ان الله تعالى أجرى
عادته بخلق العلم الضروري عقيبه بدون لزوم .
فان قلت : شرط العلماء في المعجز شروطاً
كعدم كونه من فعل المدعي وعدم امكان معارضته ، ونحو ذلك.
قلت : تحقيقها في أنفسها شرط للاعجاز
وافادة العلم ، لا أن العلم بها شرط
__________________
لانه لا خطاب الا
وذلك مجوز فيه ، وذلك فاسد ، وجرى ذلك مجرى المعجزات (۱) الدالة على نبوة
الانبياء عليهم السلام في أنه
__________________
لافادة المعجز العلم
.
فان قلت : يلزم على هذا أن لا يكون
معرفة النبي والتصديق به واجباً حين كونه ضرورياً ، لان العلم الضروري من فعل الله
تعالى ولا تكليف بفعل الغير .
قلت الأمر على ذلك فان الواجب هو قول :
محمد رسول الله طوعاً لا نفاقاً واطاعته عليهالسلام ،
وقد مر تحقيقه في بحث أول الواجبات في الفصل الاول عند قول المصنف (والاصل في هذه
الأصول الخطاب أو ما كان طريقاً الى اثبات الخطاب أو ما كان الخطاب طريقاً اليه).
فان قلت : فهذا العلم ليس من الاقسام
السنة للضروريات .
قلت : لم يقم دليل على الحصر على انه
يمكن ادخاله في الحدسيات .
(۱) قوله (وجرى ذلك مجرى
المعجزات) المراد بالمعجز أمر خارق للعادة، حادث لاجل دعوى ، وعلى طبقة والمراد
بالعادة عادة الله تعالى، وهي ما خلق الله الاجسام عليه لانتظام امور المعاش ،
كحرارة النار ، وبرودة الجمد، ونحو ذلك لو لم يتحقق صارف ، وهي التي يراها الدهرية
الطبيعيون بزعمهم الفاسد في حوادث العالم واجبة، اما بتأثير الطبيعة أو بمدخليتهما
كما قرروه في فن الطبيعي وفروعه ، مثلا اذا أرسل حجر من الجو فتحرك نحو السماء ،
فان كان بلحوق أمر من امور الطبيعة ، كريح أو جذب جاذب . وان كان غريباً بحيث لم
يره أحد قط ، كان عادياً والا كان خارقاً للعادة . وان راى كل يوم باعجاز نبي
__________________
ونحوه .
واحترز بقيد خارق للعادة عن السحر،
والمراد به أمر غريب خفي مأخذه، ويكون على وفق العادة بالمعنى المذكور آنفا ، مع
دعوى صاحبه انه ومعجزات الانبياء من قبيل واحد في خرق العادة وعدمه، ويظهر منه
آثار غريبة في الوجوه.
وقول من يقول : ان السحر لا حقيقة له ،
معناه ذلك أي انه مفارق لمعجزات الانبياء لكونه غير خارق للعادة بخلافها ، لا أنه
لا يظهر له اثر أصلا (۱) .
وروى الطبرسي في كتاب الاحتجاج عن أبي
عبد الله عليهالسلام في
حديث طويل انه لما سأله الزنديق وقال : فأخبرني عن السحر ما أصله ، وكيف يقدر
الساحر على ما يوصف من عجائبه وما يفعل ؟ قال : ان السحر على وجوة شتى
وجه منها بمنزلة الطب ، كما ان الاطباء
وضعوا لكل داء دواء ، فكذلك علم السحر . احتالوا لكل صحة آفة ، ولكل آفة عاهة ،
ولكل معنى حيلة .
ونوع آخر منه خطفة وسرعة ، ومخاريق وخفة
ونوع آخر ما يأخذ أولياء الشياطين عنهم
.
قال : فمن أين علم الشياطين السحر ؟
قال : من حيث عرف الاطباء الطب ، بعضه
تجربة ، وبعضه علاج .
وفي هذا الحديث قال ـ يعني الزنديق ـ :
أفقيدر الساحر أن يجعل
الانسان بسحره في صورة الكلب أو الحمار
أو غير ذلك ؟
قال عليهالسلام :
هو أعجز من ذلك وأضعف . ـ الى قوله عليهالسلام ـ
: وان من أكبر
السحر النميمة ، يفرق بها جمع المتحابين
. الحديث .
__________________
وفي نهاية ابن الأثير العضيهة ، وهي
البهتان والكذب، وقد عضبهه بعضهه عضها، ومنه الحديث ألا انبئكم ما العضة ؟ هي
النميمة القالة بين الناس ثم قال : ومنه الحديث « انه لعن العاضهة والمستعضهة »
قيل : هي الساحرة والمستسحرة، وسمي السحر عضها لانه كذب وتخييل لا حقيقة له
(انتهى)
.
واحترز به أيضاً عن الكهانة ، وهي
الاخبار عن الأمور الخفية ، مع دعوى صاحبه انه وأخبار الانبياء بالغيب من قبيل
واحد ، في خرق العادة وعدمه وفي كونه عن علم أو ظن . وبناء الكهانة على تفرس أحوال
السائل، ويكون مع فطنة ودقة نظر كما صرح به الزمخشري والبيضاوي في تفسير سورة الطور
.
واحترز به أيضاً عن الطلسم وهو غريب
عادي بالمعنى المذكور ، يراعي صاحبه في اصداره الساعة ، أي الوقت الذي يعتقده
المنجمون موافقاً له .
وعن الشعوذة وهو غريب عادي ليس معه دعوى
انه كالمعجز ولا رعاية الساعة والقول بكون السحر خارقاً للعادة ، والفرق بينه وبين
المعجز بشرارة نفس صاحبه بخلاف صاحب المعجز كما ذهب اليه البيضاوي في سورة البقرة
تبعاً لابن سينا في الاشارات ، أو بامكان المعارضة في السحردون المعجز كما ذهب
اليه الشارح الجديد للتجريد ظاهر البطلان . اذ لو سلمنا عدم قبح خرق
__________________
العادة من الله تعالى
لاجل دعوى شرير لم يعلم النبوة اذ الفرق بين الخير و الشرير المتصنع جداً مما لا
يعلم الا بالوحي وهو دور ، و كذا عدم امكان المعارضة .
ويمكن أن يحمل على الاشارة الى أن السحر
غير خارق للعادة ، لقوله تعالى في سورة الاعراف حكاية عن السحر العظيم الصادر عن
كل سحار عليم (
فَلَمَّا
أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ
)
،
وقوله تعالى في سورة طه حكاية عنه : (
فَإِذَا
حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا
تَسْعَىٰ )
.
وقال الغزالي في الاحياء : وهـو يعني
علم السحر والطلسمات ، حق اذ شهد القرآن له وانه سبب يتوصل به الى التفرقة بين
الزوجين، وقد سحر رسول الله صلىاللهعليهوآله ومرض
بسببه حتى أخبره جبرئيل عليهالسلام
بذلك وأخرج السحر من تحت حجر في قعر بئر ، وهو نوع يستفاد من العلم بخواص الجواهر
وبامور حسابية في مطالع النجوم ، فيتخذ من تلك الجواهر هيكل على صورة الشخص
المسحور ، ويرصد به وقت مخصوص من المطالع، وتقرن به كلمات يتلفظ بها من الكفر
والفحش المخالف للشرع، ويتوصل بسببها الى الاستعانة بالشياطين ويحصل من مجموع ذلك
بحكم اجراء الله تعالى العادة أحوال غريبة في الشخص المسحور (انتهى) (۳) ولا يخفى مافيه بعد
ما حررناه .
و احترز بقيد حادث لاجل دعوى عن الخوارق
المستمرة ، فانه رب عادي بالعين المذكور ، لم يقع من أول العالم الى الان الا مرة
واحدة كما برى في نحو الخط والتصوير بما يكمل في واحد يعجز جميع من سواه عن
__________________
الاتيان بمثله .
ورب خارق للعادة يكون مستمراً دائماً
كفلق الصبح الأول، كذنب السرحان القائم ، فانه ليس من تأثير الشمس وقربه ، كما ظنه
الدهرية ومن تبعهم والا لكان عريضاً . فان اليمين واليسار من محيط مخروط الظل أقرب
الى الناظر حينئذ من الفوق والتحت . ومن هذا القبيل انفلاق البيضة عن الطاووس على
اختلاف الالوان .
وأما علم تعبير الرؤيا ، وعلم الرمل
وامثالهما . فالمشهور عند العوام ان كل واحد منهما مما استفيد من جهة الانبياء
العالمين به من جهة الوحي الالهي وتييسر لكل أحد مارسه تعلمه ، مع انه من الغيب .
ألم تر ان رجلا اذا ادعى النبوة عند رجل
لم يسمع بعض آيات القرآن وجعل ذلك البعض معجزاً لنفسه ، وألقاه اليه، لم يفده
العلم وما هو الالتجويزه أن يكون مستفاداً من وحي سابق ان كان العلم نظرياً ، أو
لنفس كونه مستفاداً ان كان ضرورياً . فلو اتبعه بمجرد ذلك فقد اتى من قبل نفسه .
وعند المحققين كسيدنا الاجل المرتضى ان
الرسل وتعبير الرؤيا و النجوم والكهانة وصفاء الباطن بالرياضة وامثالها مما لا أصل
له ، وهي حيل المنحرفين لكسب المعاش ، ولا ينافي ذلك أن يكون تعبير الرؤيا واقعاً
في القرآن ، لان المقصود انه لا يعرفه الا صاحب المعجز والله أعلم .
وذهب ابن سينا في أو آخر الاشارات ، الى
أن الرؤيا نفسها من الاطلاع لغير النبي على الغيب في النوم بدون واسطة نبي بل
بالاتصال بالعقول المجردة ذاتاً وفعلا العالمة بجميع الاشياء ، ثم جعل ذلك سنداً
لاحتمال اطلاع غير النبي على الغيب في اليقظة بلا واسطة
وفيه ان العقول والنفوس الانسانية بعد
الاقرار بتوحيد الواجب الوجود
ناش من عدم العقل
لضرورة ان الفاعل بقول ( كن ) في فعل ما كأول تأثير النفس الانسانية في بدنها بريء
من كل نقص ، وان الامكان الذاتي نقص .
ولكمال وضوح هذا اكتفى أبو عبد الله
الصادق عليهالسلام بالدعوى
فيما روي في الكافي ، في كتاب التوحيد ، في الحديث الثالث من الباب الأول عنه عليهالسلام انه قال في حديث طويل
: اذا عجزت حواسنا عن ادراكه أيقنا انه ربنا بخلاف شيء من الاشياء (الحديث) .
وهذا على طبق قوله تعالى في سورة البقرة
(
وَانْظُرْ
إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ
لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
)
.
وفيه أيضاً ان التصديقات الحاصلة للنائم
بسبب الرؤيا كلها كاذبة ، فهو ليس علماً بالغيب ، ولولاه لما اختلف تعبيرها . وقد
روي اشتهار الرؤيا لأول عابر وكون بعضها دالا على وقوع مثل المصدق به، وبعضها على
وقوع نقيضه أو ضده بتوقيف من الله تعالى على انبيائه لا يلحقه بالعلم بالغيب
بلاواسطة .
وأما الاستدلال على استحالته في اليقظة
فهوانه ضروري لدين نبينا صلوات الله عليه و آله انه لا يعلم الغيب غير الله ، سواء
كان عقلا أو نفساً الا باطلاعه رسوله .
وابن سينا مصدق لنبوته عليهالسلام ظاهراً بما يكفى لنا
في اثبات هذا المرام ، وان كان منكراً له في الحقيقة ، حيث جعل علومه حاصلة باتصال
بالعقول لا بالوحي الالهي .
واحترز بقيد كونه على طبقه عما يحدث عند
الدعوى من الخوارق تكذيباً له .
__________________
لا يجوز أن تفعل
للمصلحة دون التصديق (۱) لان
ذلك يؤدى الى انسداد الطريق علينا من الفرق بين الصادق والكاذب ، ولاجل ذلك (۲) قلنا : أنه لا يجوز
فعل المعجز الا للتصديق (۳) فكذلك القول في الخطاب انه لا يجوز أن
يصدر منه الا للافادة .
____________________________________________
(۱) قوله (في انه لا يجوز
أن تفعل للمصلحة دون التصديق) ينبغي أن يقرأ تفعل مبيناً للمجهول ، والمراد ان
العقل يحكم باتباع صدور المعجز عن الله لا للتصديق بل لمصلحة اخرى ، وهذا العلم
اما ضروري للمكلف ، كالعلم بأنه يمتنع صدور خرق العادة عن غير الله تعالى، أو كسبي
يلهم الله المكلف النظر في دليله ، وهو انه قبيح في نفسه، ويمتنع اضطراره تعالى
الى القبيح في نفسه للمصلحة كما مر .
(۲) قوله ( ولاجل ذلك)
اشارة الى ما يفهم من قوله (لا يجوز أن تفعل للمصلحة دون التصديق) من انه يمتنع
صدور القبيح في نفسه عن الله تعالى اضطرار اليه للمصلحة فانه دليل لمي عليه ،
والانسب بقوله (لان ذلك يؤدي الخ) أن يشار به الى التادية، أي الانسداد فانه دليل
آني عليه بعد اثبات النبوات.
(۳) قوله (لا يجوز فعل
المعجز الا للتصديق) فيه رد على من زعم ان العيان أو البرهان اذا دل على شيء ، جاز
فعل المعجز على طبق دعوى خلافه، اعتماداً على العلم . ولعله ربما تمسك في ذلك ،
باحتياج نبينا صلىاللهعليهوآله الى
التحدي والتمسك بعدم امكان المعارضة ، وهذا لا يتوجه على مذهب من قال: ان اعجاز
القرآن للصرفة، فان خارق العادة على مذهبه هو نفس عجزهم عن المعارضة، لا أنه تتميم
لدلالة خارق العادة على الصدق . أو بقوله تعالى في سورة طه :
(
أَفَلَا
يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا
نَفْعًا )
الآية وقبح هذا في
نفسه معلوم ، كقبح الخبر بمعلوم الكذب اعتماداً على علم المخاطب.
فما روي في كتب السير من ان فرعون دعا
الى الله في اطاعة النيل له و استجاب الله دعائه ، وأطاعه النيل مقارناً لدعواه
الباطل ، فتصديقه أو تجويزه يستلزم الكفر بالله ورسوله .
قال الفخر الرازي في التفسير الكبير في
تفسير سورة طه: وأما قوله تعالى (
فَأَخْرَجَ
لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ )
فاختلفوا في أنه هل
كان ذلك الجسد حياً أم لا ؟ .
فالقول الأول: لا لانه لا يجوز اظهار
خرق العادة على يد الضال بل السامري صور صورة على شكل العجل وجعل فيها منافذ
ومخارق ، بحيث تدخل فيها الرياح فيخرج صوت يشبه صوت العجل .
والقول الثاني : انه صار حياً وخار كما
يخور العجل ، واحتجوا عليه بوجوه :
أحدهما : قوله (فقبضت قبضة من أثر
الرسول ) ولولم يصر حياً لما بقي لهذا الكلام فائدة
وثانيها : أنه تعالى سماه عجلا، والعجل
حقيقة في الحيوان ، وسماه جسداً، وهو انما يتناول الحي ..
وثالثها : أنه أثبت له الخوار .
وأجابوا عن حجة الاولين بان ظهور خوارق
العادة على يد مدعي الالهية
__________________
جائز، لانه لا يحصل
الالتباس، وههنا كذلك، فوجب أن لا يمتنع .
وروى عكرمة
عن ابن عباس ان هارون عليهالسلام بالسامري وهو يصنع
العجل فقال: وما تصنع ؟ قال: أصنع ما ينفع ولا يضر فادع لي، فقال : أللهم اعطه ما
سأل . فلما مضى هارون قال السامري : أللهم اني أسألك أن يخور فخار. وعلى هذا
التقدير يكون ذلك معجزاً للنبي صلىاللهعليهوآله (انتهى)
.
والحق انه لو جعل خوار عجل السامري
خواراً حقيقياً، أمكن أن يقال: أنه مستمر التبعية لشرط معلوم بتوقيف سابق وقد مر
عند قول المصنف (و جرى ذلك مجرى المعجزات) أنه ليس امثال ذلك من المعجز ، ولو كان
غير مستمر التبعية ، لشرط معلوم بتوقيف سابق لم يجز عقلا أن يكون بعد دعواه
الباطل، بل ولا بعد قصده الى الباطل أيضاً .
وحينئذ يمكن أن يحمل قوله تعالى : ( قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ *
قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ
الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي * قَالَ
فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ
) الآية، على ان المراد
: اني أخذت علم احياء الجماد من الانبياء، فانه قد أوحى اليهم انه كل من فعل كذا
وكذا بشروط كذا وكذا ، صار الجماد كذا وكذاحياً، وأخذت ذلك منهم، وهذا في الحقيقة
معجزة للرسول الذي أوحى اليه ذلك .
__________________
فالمراد بقوله: بصرت علمت وبالاثر ما
أتى به الرسول من الله تعالى، و بالرسول اما الجنس أو العهد ، ونبذ تلك القبضة عدم
الوفاء بالواجب في حقها وهي عدم الاضلال بها .
ثم يمكن أن يكون المراد بقوله : ( فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ )
الآية انك لا تعذب في الدنيا ، فلك ان تقول انه لم يمسني عذاب، ولكن لك موعد وهذه
احتمالات غير مرضية ، لكنها في مقابلة الاحتمالات التي ذكرها المفسرون ، وما ذكروه
من أن السامري لم يلق فيه من الاوزار بل القى فيه تراب موطى فرس جبرئيل، فمع بعده
مما يأباه ظاهر قوله حكاية عنهم وكذلك القى السامري والعلم عند الله وأهل الذكر صلىاللهعليهوآله .
واما ارادة الله تعالى القليل كثيراً ،
أو الكثير قليلا كما في آيات واقعة بدر، فليس بصفات المعجز، لان الاغراء بالجهل
قبيح على الله تعالى. فيحتمل أن يكون المراد تمكينهم من جهلهم بمجرى العادة، أو
القاء الرعب في قلوبهم أو الطمأنينة بمحض الخوف أو التشجيع، لا للتصديق بالباطل.
وقوله تعالى في سورة آل عمران: (
يَرَوْنَهُمْ
مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ )
يحتمل أن يكون المفعول المطلق فيه للتشبيه، ووجه الشبه الرعب منهم، أو نحوه، أو
للمنوع .
والمراد محض رأي العين بدون تفرس
الاحوال للاضطراب ونحوه كرؤيتنا الكواكب صغيرة مع عظمها في أنفسها، كما ذكروه في
اتحاد زاوية الجليدية في المرئي العظيم البعيد، والصغير القريب .
__________________
وليس لهم أيضاً (۱) أن يقولوا أنه متعبد
بتلاوته، فيكون ذلك وجه الحسن ، فانه لا طريق الى أن يعرف انه تعبد بتلاوته الا
بخطاب آخر، والكلام فى ذلك الخطاب كالكلام فيه، وذلك يؤدى
____________________________________________
(۱) قوله ( وليس لهم
أيضاً الخ) لا فرق بين هذه الشبهة وبين سابقتها الا بتعيين المصلحة فيها دون
السابقة . واجاب المصنف عنها بأربعة أجوبة :
الاول : (قوله لا طريق الخ) وحاصله انه
لا يصلح التعبد بالتلاوة وجهاً للمصلحة ، لانه انما يمكن ، اذا امكن معرفة العباد
اياه ، ولا يمكن وسيجيء تحقيقه .
والثاني : (قوله وذلك يؤدي الخ) وهو عين
ما أجاب به عن الشبهة الاولى يحتمل بعيداً جعله تتمة للجواب الأول .
الثالث : ان التعبد بتلاوته لو أمكن
معرفته للعباد أيضاً لا يصلح وجهاً للمصلحة لانه عبث ، وبين كونه عبثاً بوجهين
(الاول) : قياسه العقلي على التعبد
بالتصويب .
(الثاني) : العلم بان التعبد انما يجوز
مع امكان معرفة المراد . فقوله (ولان التعبد به الخ) معطوف على قوله (لانه يجر
الخ) ولو حذف الواو في (ولان التعبد) ليكون بياناً لجامع عقلي لقوله (يجري مجرى
التعبد الخ) لسكان أظهر ، وسيتكرر الاستدلال بالقياس العقلي ، وسيجيء حجيته في
الكلام في القياس .
الرابع : ان التعبد بالتلاوة لوسلم جواز
معرفته وعدم كونه عبثاً ، انما يجوز اذا لم يجعل بعضه أمراً وبعضه نهياً لانه لا
يحسن اذا كان المقصود مجرد التلاوة .
الى أن لا نعلم
بخطابه شيئاً أصلا على ان التعبد بتلاوة ما لا يفهم عبث، لانه يجرى مجرى التعبد
بالتصويت من الصراخ .
ولان التعبد به انما يجوز اذا كان
للمتعبد به طريق الى معرفة مراده، فيدعوه ذلك الى فعل الواجب، أو يصرفه عن فعل
القبيح ، فأما اذا لم يكن كذلك فلا يحسن العبادة بالتلاوة ، وأيضاً فلوكان لمجرد
التلاوة، لم يحسن أن يجعل بعضه أمراً، وبعضه نهياً، وبعضه خبراً ، وبعضه وعداً ،
وبعضه وعيداً ، ولا أن يكون خطاباً لقوم بأولى من أن يكون خطاباً لغيرهم ، وكل ذلك
يبين انه لا يحسن لما قالوه (۱) .
فأما الذى يدل على انه لا يجوز أن يخاطب
على وجه يقبح ما ثبت من كونه عالماً بقبحه ، ومن انه غنى عنه، ومن هذه صفته لا
يجوز أن يفعل القبيح . ألا ترى أن من علم أنه اذا صدق توصل الى مراده ، وكذلك اذا
كذب وصل اليه على حد ما كان (۲) يصل
____________________________________________
(۱) قوله (لما قالوه وهو
مجرد التعبد بالتلاوة .
(۲) قوله : (على حد ما
كان الخ) أي بدون تفاوت خارجي في شيء من الاشياء ، من دفع ضرر ، وجلب نفع .
فالمراد بقوله (لم يجز أن يختار) عدم الجواز العقلي. أي يمتنع عقلا اختيار الكذب .
ونظيره العلم القطعي بأن العاقل مادام عاقلا يمتنع أن يفعل ما يفعله المجانين ، من
دون مصلحة تنضم اليه من خارج .
اليه لو صدق من غير
زيادة لم يجز أن يختار الكذب على الصدق ولا وجه في ذلك الا لعلمه بقبح الكذب وبأنه
غنى عنه بالصدق ، فكذلك القديم تعالى .
وأما الذي يدل (۱) على أنه لا يجوز أن
يريد بخطابه غير ما وضع له، ولا يدل عليه. فان ذلك يؤدى الى أن لا نعلم بخطابه
شيئاً أصلا لانه لا خطاب الا وذلك يجوز فيه ، ولا يمكن أن يدعى (٢) العلم
بقصده ضرورة في بعض خطابه، لان ذلك يمنع من التكليف وليس لهم أن يقولوا انه (۳) يؤكد ذلك الخطاب
فيعلم به مراده، وان كان هذا عارياً منه لان التأكيد أيضاً خطاب فيلزم فيه ما لزم
في
____________________________________________
(۱) قوله (وأما الذي يدل
الخ) قد عرفت تحقيق الدليل على مثله .
(۲) قوله ( ولا يمكن أن
يدعى الخ) أن يقال ان مراد المصنف ، ان هذه الشبهة توجه الى هذا الدليل ، ودليل
انه لا يجوز أن يخاطب ولا يفيد بخطابه شيئاً كما أشرنا اليه ، وأن يقال : انه
وجهها الى هذا الدليل ، واكتفى بها عن توجيهها الى السابق ، لانه يعلم بالمقايسة.
وأن يقال: انه زعم أنه لا يتوجه الى
السابق ، ثم دفع المصنف الشبهة بأنا نعلم انا مكلفون بالعلم بالمراد بخطابه ،
والعلم الضروري من فعل الغير كما مر ، ولا تكليف بفعل الغير .
ويمكن أن يقال : التكليف انما هو بما
يوجبه ، كما اذا أمر السيد عبده بمعرفة لون جسم مع انها من الضروريات ، فانه في
الحقيقة تكليف بالنظر اليه.
(۳) قوله (وليس لهم أن
يقولوا انه الخ) أي لا يمكن أن يدعي العلم بقصد بالاكتساب من تأكيد لان التاكيد
يجري فيه ما يجري في المؤكد ، ولا
المؤكد، وأن يكون فعل
لمثل ما فعل له التكليف المؤكد
وليس يمكن أن يقال : (۱) انه وان لم يعلم
مراده في الحال، فانه يمكن أن يعلم مراده في المستقبل ضرورة ، بأن نضطر الى قصده.
لان ذلك لا يخلو (۲) اما
أن يكون وقت الحاجة الى ما
____________________________________________
يخفى ان قوله لان
التأكيد خطاب ممنوع لانه يمكن تأكيد القصد بنصب دلالة عليه غير الخطاب تأمل فيه
ولو سلم فقوله : (فيلزم فيه الخ) ممنوع لانه يجوز أن يكون فرق فيما نحن فيه ، بين
ما يكون ظاهراً في شيء ، وبين ما يكون حكماً فيه غير محتمل بغيره . وسند المنعين ،
انا نجوز على كل فرد من الانسان أن لا يدل على مراده بالخطاب لضرورة ومصلحة دعته
اليه ، ومع هذا نعلم قطعاً في بعض خطابه القصد .
(۱) قوله (وليس يمكن ان
يقال الخ ) حاصله انا وان جو زنا ارادة غير الموضوع له مع عدم الدلالة عليه ، لم
يجوزه مطلقاً بل بشرط أن يدل عليه في المستقبل . فلا يلزم أن لا يعلم بخطابه شيئاً
أصلا بل أن لا يعلم في الجملة .
(۲) قوله ( لان ذلك لا
يخلو) يعني ان هذا التجويز مع هذا الشرط ، ان كان في جميع الصور ، أي سواء كان وقت
الحاجة الى البيان أم لا، فتجويزه في وقت الحاجة يلزم ما قلناه ، وهو أن لا يعلم
بخطابه شيئاً أصلا ، لان الدلالة أيضاً خطاب، فيلزم فيه ما يلزم فى المدلول عليه ،
كما يظهر مما ذكره بقوله (لان التأكيد) أو لان تجويز ذلك في الخطاب يستلزم تجويزه
نحوه في الدلالة وان لم يكن خطاباً .
وان كان هذا التجويز في بعض الصور وهو
صورة عدم الحاجة الى البيان فهو وان لم يكن ابطاله ، بأنه قبيح لاستلزامه أن لا
يعلم بخطابه شيئاً أصلا ،
تضمنه الخطاب، أو لا
يكون كذلك . فان كان وقت الحاجة ، فانه يؤدى الى ما قلناه، وان لم يكن وقت الحاجة،
فلا يجوز أيضاً ، لان فيه التنفير عن قبول قوله ، لانه متى جوز عليه التعمية
والالغاز في كلامه . وان أمكن معرفة المراد في الحالة الاخرى نفر ذلك عن قبول
قوله، ولا يقبح هذا الوجه للاول، بل لما قلناه .
فأما ما لا تعلق له بالشريعة فيجوز أن
يعمى فيه من مصالحه الدنياوية، وعلى هذا يتأول قوله عليهالسلام
لما سأله الاعرابي في مسيره الى بدر مم أنتم ؟ قال : من ماء. فورى في نفسه (۱) ، ولم
____________________________________________
لكنه يمكن ابطاله
بأنه قبيح ، لاستلزامه التنفير . وانما لا يلزم التنفير على الشق الأول ، لان
التنفير عن قبول القول فرع معرفة المراد به .
وقد مر التحقيق في مثله من انه قبيح مع
عدم المصلحة الموجبة لفعله المضطرة اليه ، لانه اغراء بالجهل . ومع وجود المصلحة
نقص وهو محال على الله تعالى ، والنقص وان جاز على النبي صلىاللهعليهوآله لانه
ليس مستجمعاً لجميع صفات الكمال ، لكنه غير واقع في ضمن هذا النقص في الشرعيات
لدلالة الكتاب عليه كما مر ، والاجماع متحقق عليه .
وذكر المصنف في الدليل على عدم وقوعه عن
النبي صلىاللهعليهوآله في
الشرعيات انه يستلزم التنفير عن قبول قوله ، وجعل شروط الامام وشروط النبي واحدة
وهو مشكل مع تحقق أحاديث التقية عن الأئمة عليهمالسلام الطاهرين
ووجوب التورية في نحوها .
(۱) قوله (فورى في نفسه)
أي أراد غير الظاهر ، ولم يدل عليه . فانه
يصرح، وذلك لا يجوز
في الشرعيات .
وليس هذا من جواز تأخير بيان المجمل عن
وقت الخطاب في شيء على ما نذهب اليه لان المجمل له ظاهر مقصود مستفاد ففارق ذلك
حال المعمى الذى يوهم به شیء علی حال (۱)
وانما قلنا : انه لا يجوز أن يؤدى الينا
على وجه يقتضى التنفير لان الغرض في بعثه اذا كان القبول منه ، فما أدى الى
التنفير عن ذلك يجب أن يجنب ولاجل ما قلناه جنبه الله تعالى الفظاظة، و الغلظة،
وفعل القبائح، لما في ذلك من التنفير .
فاذا ثبتت الجملة التي ذكرناها ، فمتى
ورد من الرسول صلىاللهعليهوآله خطاب،
وجب حمله على ظاهره، الا أن يدل دليل على ان المراد به غیر ظاهره فيحمل
عليه، وعلى هذا يعلم مراد الرسول صلىاللهعليهوآله
.
وأما ما يجب أن يكون الامام عليهالسلام عليه حتى يصح أن
يعلم مراده بخطابه فيما لا يعلم الا من جهته ، فجميع الشرائط التي شرطناها في
النبي صلىاللهعليهوآله لابد
أن تكون حاصلة
____________________________________________
اراد انهم مخلوقون من
الماء، أي من النطفة، وظاهره انهم من العراق ، فانهم كانوا يسمون أهل العراق أهل
الماء لكثرة الماء في ناحيتهم .
(۱) قوله (على حال) بل
حال غير واقعة .
في الامام عليهالسلام ، فالطريقة فيهما
واحدة ، فلامعنى لاعادة القول فيه .
فصل
في ذكر الوجه الذي
يجب أن يحمل
عليه مراد الله
بخطابه
اذا ورد خطاب عن الله تعالى، فلا يخلو
من أن يكون محتملا أو غير محتمل. فان كان غير محتمل، بأن يكون خاصاً أو عاماً، وجب
أن نحمله على ما يقتضيه ظاهره ، الا أن يدل على أنه أراد به غير ظاهره دليل فيحمل
عليه .
فان دل دلیل (۱) على أنه اراد بالخاص
غيره (۲)،
وجب حمله
____________________________________________
(۱) قوله قدس سره فان دل
دليل السخ اذا اطلق الخاص فاما أن يعلم عدم ارادة معناه الموضوع له أم لا .
فعلى الأول : اما أن يعلم بظاهر اللفظ
ارادة معنى معين غير الموضوع له أم لا .
وعلى الثاني : وهو أن لا يعلم عدم ارادة
معناه الموضوع له، اما ان يعلم ارادة غير الموضوع له معه أم لا .
فهذه أربعة احتمالات تصدى المصنف لبيان
حالها الا ان الرابع فانه معلوم مما مر ، وهو قوله وجب أن نحمله على ما يقتضيه
ظاهره .
(۲) قوله (أراد بالخاص
غيره أي بأن يكون في الظاهر شيء دال عليه
على مادل عليه ، وان
دل على أنه لم يرد الخاص (۱) نظر فيه ، فان كان ذلك الخاص مما لا
يتسع الا فى وجه واحد، وجب أن يحمل على انه مراد به، والا أدى ذلك الى أن يكون ما
أراد بالخطاب شيئاً أصلا. وان كان ذلك مما لا يتسع به في وجوه كثيرة ، وجب التوقف
فيه، ولا يقطع على انه اريد به البعض، لعدم الدليل، ولانه اريد به الجميع لانه لا
دليل أيضاً عليه.
____________________________________________
نحو : رأيت أسداً في
الحمام، ليحصل فرق بينه وبين قوله (فان كان ذلك الخاص مما لا يتسع الخ) والمراد
بالخاص هذا اللفظ، وبضميره معناه الحقيقي . وكذا بالخاص في قوله (لم يرد الخاص)
معناه الحقيقي، والمراد بالخاص في قوله (فان كان ذلك الخاص اللفظ .
(۱) قوله (لم يرد الخاص)
أي بدون أن يكون في ظاهر اللفظ ما يدل على تعيين المراد والتوسع الاتيان بالمجاز .
ومثال التوسع في وجه واحد (
حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) ( حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ )
عند بعض .
فان الأول يتوسع في وجه واحد وهو كلها .
والثاني انما يتوسع في ملامستهن . وعند
بعض آخر هذان المثالان مما يتوسع في وجوه كثيرة ، فيجب التوقف ان كان قبل الحاجة ،
على ما ذهب اليه المصنف . أو يجب حمل الأول مثلا على حرمة أكل الميتة واشترائها
والانتفاع بها وكل ما يتعلق بها على ما قاله قوم .
__________________
وهذا أولى مما قاله قوم من أنه يجب حمله
على انه اريد به جميع تلك الوجوه، لانه لا يمتنع أن يكون أرادبه بعض تلك الوجوه،
وأخر بيانه الى وقت الحاجة على ما نذهب اليه في جواز تأخير بيان المجمل عن وقت
الخطاب .
وقولهم : انه لو أراد به بعض الوجوه
لبينه، ينعكس عليهم ، بأن يقال: ولو أراد به جميع الوجوه لبينه وليس أحد القولين
أولى من الآخر، فالاولى الوقف. فان فرضنا ان الوقت وقت حاجة، ولم يبين المراد من
تلك الوجوه، وجب حمله على جميعه ، (۱) لانه ليس حمله على بعضه بأولى من بعض
فان دل الدليل على أنه أراد بعض تلك
الوجوه (۲) وجب
حمله
__________________
(۱) قوله (وجب حمله على
جميعه الخ) الفرق بين كون الوقت قبل وقت الحاجة، وبين كونه وقت الحاجة . بأن أحد
القولين ليس في الأول أولى من الاخر ، بخلاف الثاني . لان التعارض في الاول انما
هو بين كونه للجميع وبين كونه لبعض غير معين عند المخاطب. وفي الثاني انما هو بين
الجميع وبين بعض معين معلوم عند المخاطب، والمفروض انه لم يدل دليل على تعيين
البعض ، فالحمل على بعض معين دون بعض معين آخر ترجيح بلا مرجح فيجب حمله على
الجميع .
(۲) قوله (بعض تلك الوجوه
أي لا بشرط ارادة بعض آخر، ولا يشترط عدم ارادته .
عليه (۱) ، والقطع على انه لم
يرد غيره. لانه لا ظاهر هناك يمكن حمله على جميعه بخلاف ما نقوله فى العموم، أو
ماله ظاهر. ومتى دل على انه أراد به الخاص وغيره، وجب القطع على أنه اراد الخاص
باللفظ، وما عداه مراد بدليل ، وذلك نحو قوله تعالى: «يا أيها النبي اذا طلقتم
النساء» (۴) الآية
. فانه قد علم أن النبي صلى الله عليه و آله مراد باللفظ ، ومن عداه من الامة مراد
بدليل
وأما العام فاذا ورد (۲) ينبغى حمله على
ظاهره. فان دل الدليل على انه أراد غير ما اقتضاه الظاهر وجب حمله عليه، وان دل
الدليل على انه أراد بعض ما تناوله اللفظ لم يكن ذلك مانعاً من أن يريد
____________________________________________
(۱) قوله (وجب حمله عليه
(الخ) أي على ذلك البعض، سواء كان وقت الحاجة أم قبله .
(۲) قوله ( وأما العام
فاذا ورد الخ) اذا ورد العام ، فاما أن يقارنه دليل من خارج على حال من أحواله
باعتبار دلالته أم لا .
فعلى الأول: اما ان يدل الدليل على انه
ما اريد به شيء مما يدل عليه بظاهره أم لا .
وعلى الثاني: اما أن يدل على ارادة بعض
منه أو على عدم ارادة بعض منه. فهذه أربعة صور من صور العام تصدى المصنف لبيان
أحوالها ولم يتصد لبيان صور اخرى محتملة لوضوح حالها .
__________________
الباقي، ووجب على انه
أراد به الكل بحكم اللفظ
وان دل الدليل على انه ما اراد به بعض
ما تناوله اللفظ فينبغي أن يخرج ذلك منه ، ويقطع على ان الباقي مراد بحكم اللفظ ،
ولا يجب التوقف فيه، لان له ظاهراً بخلاف ما تقدم في الخاص .
ومتى ورد لفظ مشترك (۱) بين شيئين ، أو أشياء
. فان دل الدليل على انه أراد جميع تلك الاشياء وجب حمله عليها ، وان دل الدليل
على انه أراد بعضها ، وجب القطع على انه مراد، وما عداه
____________________________________________
(۱) قوله ومتى ورد لفظ
مشترك الخ) اذا ورد لفظ مشترك لفظي ، اما أن يقترن به دليل على حال من أحواله
باعتبار دلالته، أم لا .
فعلى الأول: اما أن يدل الدليل على
ارادة جميع معانيه، أو يدل على ارادة بعض معين لا بشرط، لانه ليس حمله على بعضه
بأولى من بعض، فان دل الدليل على أنه أراد بعض تلك الوجوه، وجب حمله عليه، على أنه
لم يرد غيره لانه لا ظاهر هناك، يمكن حمله على جميعه أو يدل على ارادة بعض معين لا
بشرط أو يدل على عدم ارادة بعض معين لا بشرط .
فعلى الثالث: اما أن يكون مشتركاً بين شيئين،
أو يكون مشتركاً بين أكثر. وعلى الثاني، من التقسيم الأول: وهو أن لا يقترن به
دليل على حال من أحواله باعتبار دلالته، اما أن لا يكون الوقت وقت الحاجة، أو يكون
.
فعلى الثاني: اما أن يصح ارادة الجميع
على وجه الجمع أولا. فعلى الثاني: اما أن يصح ارادة الجميع على وجه التخيير أولا.
فهذه ثمانية صور من صور المشترك تصدى المصنف لبيان أحوالها .
متوقف فيه، لان كون
أحدها مراداً لا يمنع من أن يريد به الاخر على ما سنبينه فيما بعد (۱) .
وان دل الدليل على انه لم يرد أحدهما
وكان اللفظ مشتركاً بين شيئين وجب القطع على انه أراد به الآخر ، والا خلا الخطاب
من أن يكون اريد به شيء أصلا. وان كان مشتركاً بين أشياء قطع على انه لم يرد ما
خصه بانه غير مراد ، وتوقف في الباقي وانتظر البيان .
ومتى كان اللفظ مشتركاً ولم يقرن به
دلالة أصلا وكان مطلقاً وجب التوقف فيه وانتظر البيان لانه ليس بأن يحمل على بعضه
بأولى من أن يحمل على جميعه، وتأخير البيان عن وقت الخطاب فان كان الوقت وقت
الحاجة (۲) ،
واطلق اللفظ ، وجب حمله على جميعه. لانه ليس بأن يحمل على بعضه بأولى من بعض، ولو
كان أراد بعضه لبينه ، لان الوقت وقت الحاجة .
__________________
(۱) قوله (على ما سنبينه
فيما بعد) بينه في هذا الفصل بقوله (وان كان القسم الثاني فقد اختلف العلماء الخ)
ونحن نبين عنده الحق بحيث يظهر منه حكم هذه الصور .
(۲) قوله (فان كان الوقت
وقت الحاجة) قدمر الفرق بين وقت الحاجة وما قبله في هذا الفصل في الخاص .
وهذا الذي ذكرناه أولى مما ذهب اليه قوم
من أنه اذا أطلق اللفظ وجب حمله على جميعه على كل حال (۱) ، لانه لو أراد بعضه
لبينه لان القائل أن يقول : لو أراد الجميع لبينه فيجب حمله على بعضه، ويتعارض
القولان ويسقطان وانما حملهم على هذا قولهم : ان تأخير بيان المجمل لا يجوز عن وقت
الخطاب. وعندنا ان ذلك جائز على ما سندل عليه فيما بعد (۲) .
فمتى كان الوقت وقت الحاجة (۳) وجب حمل اللفظ على
انه أراد به الجميع ، ثم ينظر فيه. فان أمكن الجمع بينها وجب القطع على انه أراد
ذلك على طريق الجمع بينها، وان لم يكن الجمع بينها وجب القطع على انه أراد به
الجميع على وجه التخيير .
وذهب قوم الى انه يجوز أن يريد من كل
مكلف ما يؤديه اجتهاده اليه ، وهذا يتم لمن قال ان كل مجتهد مصيب (۴) ، وعندنا
____________________________________________
(۱) قوله (على كل حال) أي
سواء كان وقت الحاجة أو قبله .
(۲) قوله (فيما بعد) أي
في (فصل في ذكر جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب) .
(۳) قوله (فمتى كان الوقت
وقت الحاجة وجب الخ) هذا تكرار ما سبق لتقسيمه الى ممكن الجمع وممكن التخيير وما
لا يمكنان فيه ، وهذا التقسيم جار في الصورة الأولى أيضاً، وهي أن يدل الدليل على
أنه أراد الجميع .
(٤) قوله (لمن قال ان كل مجتهد
مصيب) انما يتم لمن قال به ، على ما
ان ذلك باطل، فلاوجه
غير التخيير .
وعلى هذا ينبغى ان تحمل القرائتين
المختلفتي المعنى، اذا لم يكن هناك دليل على انه اراد أحدهما، وكذلك القول في
الخبرين المتعارضين اذا لم يكن هناك ما يرجح أحدهما على الآخر ، ولا ما يقتضى نسخ
أحدهما للآخر من التاريخ . وهذا الذي ذكرناه كله فيما يصح أن يراد باللفظ الواحد (۱) ، فأما ما لا يصح أن
يراد باللفظ الواحد ، فانه لابد فيه من اقتران بیان به لان الوقت وقت الحاجة
على ما فرضناه .
ومتى كان اللفظ شرعياً منقولا عما كان
عليه في اللغة ، وجب حمله على ما تقرر في الشرع ، فان دل الدليل على انه لم يرد به
ما وضع له في الشرع نظر فيما عداه ، فان كانت الوجوه التي يمكن حمل الخطاب عليها
محصورة، وكان الوقت وقت الحاجة، وجب حمله على جميعها لانه ليس حمله على بعضها
بأولى من حمله على جميعها .
ولو كان المراد بعضها لبينه لان الوقت
وقت الحاجة ، وان لم يكن الوقت وقت الحاجة ، توقف في ذلك الى أن يرد البيان
____________________________________________
ذهب اليه شذوذ من
العامة ، واما على ما سيجيء من تفسيره في الكلام في الاجتهاد وحقيقة الخلاف فيه
عند أصحابنا فلايتم .
(۱) قوله (فيما يصح أن
يراد باللفظ الواحد) أي على سبيل التخيير .
حسب ما قدمناه في
الالفاظ المشتركة (۱) سواء
، وان دل الدليل على انه أراد بعض تلك الوجوه ، يكن ذلك مانعاً من أن تراد به
الوجوه الآخر ، فان كان الوقت وقت الحاجة ، وجب حمله على ان المراد به جميعه ، وان
لم يكن وقت الحاجة اوقف على ما بيناه .
فاما كيفية المراد باللفظ الواحد
للمعانى المختلفة، فالذي ينبغى أن يحصل في ذلك أن نقول : لا يخلو اللفظ من أن يكون
يتناول الاشياء على الحقيقة، ويفيد في جميعها معناً واحداً (۲) أو يفيد في كل واحد
منها خلاف (۳) ما
يفيده في الاخر فان كان الاول فلاخلاف بين أهل العلم في انه يجوز أن يراد باللفظ
ذلك كله (۴) .
____________________________________________
(۱) قوله (في الالفاظ
المشتركة) الأولى في الالفاظ الخاصة والمشتركة بل الأولى في الالفاظ الخاصة ،
لانها أقدم وأقرب من حيث الاشتراك في الاستعمال في غير الموضوع له، ويظهر مما
ذكرنا ان قوله (لم يكن) ذلك ما نعاً من أن يراد به الوجوه الآخر محل بحث ، وكذا
قوله (فان كان الوقت وقت الحاجة الخ) محل بحث .
(۲) قوله (و يفيد في
جميعها معناً واحداً ) بأن يكون مشتركاً معنوياً بينها.
(۳) قوله (أو يفيد في كل
منها خلاف الخ) بأن يكون مشتركاً لفظياً بينها أو حقيقة في بعض ومجازاً في آخر ،
أو مجازاً في كل واحد على حده . و ظاهر قوله (وقالوا في الحقيقة والمجاز الخ) يدل
على أن الكلام مفروض أولا في المشترك .
(٤) قوله (يجوز أن يراد باللفظ
ذلك كله) بأن يكون كل واحد من افراد
وان كان القسم الثاني فقد اختلف العلماء
في ذلك
فذهب أبو هاشم، وأبو عبد الله (۱) ومن تبعهما الى أنه
لا يجوز أن يراد المعنيان المختلفان (۲) بلفظ واحد. فان دل الدليل على
____________________________________________
الكل مراداً من حيث
عمومه لامن حيث الخصوص ، فانه يصير اللفظ مجازاً كما بيناه في فصل في حقيقة الكلام
عند قول المصنف (ومنها أن يعلم انها تطرد) .
(۲) قوله (لا يجوز أن
يراد المعنيان المختلفان الخ) الذي يفهم من أحاديث أهل البيت عليهمالسلام الواردة في تعدد
معانى القرآن : انه لا يجوز لغة ارادة المعنيين المختلفين من القسم الثاني ، فيكون
في حكم أن يتكلم باللفظ مرتين، ويراد كل مرة منهما معنى واحد ، فيكون اما حقيقتين
متغايرتين بالاعتبار ، واما حقيقة ومجازاً كذلك ، واما مجازين كذلك لعلاقتين .
لان المفروض في الأول الاستعمال للوضع
لا للعلاقة والمجاز ، ولا بدفيه
من ملاحظة العلاقة حين الاستعمال .
من ملاحظة العلاقة حين الاستعمال .
والمفروض في الثاني الاستعمال في أحدهما
للموضع ، وفي الآخر للعلاقة.
وفي الثالث الاستعمال في كل منهما
لعلاقة على حدة
مثاله أن يقال في قوله تعالى في سورة
الانعام : « قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً و بالوالدين
احساناً » ،
__________________
(١) أبو عبد الله الحسين بن على بن
ابراهيم البصرى المعروف بالكاغذى المعتزلي كان على مذهب أبى هاشم واليه انتهت رئاسة
اصحابه في عصره . توفى بمدينة السلام سنة ( ٣٩٩ هـ .) .
(۳) الانعام :
١٥١ .
ان (ما) موصولة
باعتبار ، ومصدرية باعتبار آخر ، واستفهامية باعتبار ثالث و عليكم) ظرف متعلق بحرم
باعتبار ، واسم فعل باعتبار آخر ، و (ان) مفسرة باعتبار ، ومصدرية باعتبار آخر .
وبـ (الوالدين احسانا) عطف على جملة لا تشركوا به شيئاً باعتبار ، وعلى به شيئاً
باعتبار آخر و (الباء) للسببيه باعتبار وصلة لا تشركوا باعتبار آخر. و (الوالدين)
رسول الله وأمير المؤمنين عليهما الصلاة والسلام باعتبار ، والاب والام النسبيان
باعتبار آخر . و ( احساناً ) منصوب بالاغراء بتقدير ادر) كوا ونحوه باعتبار و
بالعطف على (شيئاً) باعتبار آخر . و (الاحسان) العبادة المقبولة وهو المبنية على
العلم باعتبار، ونعمة الله تعالى باعتبار آخر . تبارك الذي لا يشغله بيان عن بيان
، ولا شأن عن شأن .
وهذا الدليل أقوى من معارضه ، وهو دعوى
تبادر الخلاف في الاول كما قيل . ثم في رسالة المحقق الحلي رحمهالله في الاصول، المسماة
بالمعارج الفرع الثاني : يجوز أن يراد باللفظ الواحد كلا معنييه حقيقة كان فيهما
أو مجازاً أو في أحدهما نظراً الى الامكان لا الى اللغة ، وأحال أبو هاشم ، وأبو
عبد الله ذلك ، وشرط أبو عبد الله في المنع شروطاً أربعة : اتحاد المتكلم ، و
العبارة والوقت ، وكون المعنيين لا ينضمهما فائدة واحدة. وقال القاضي (۱) ذلك جائز مالم
يتنافيا، كاستعمال لفظة ( افعل ) في الامر و التهديد والوجوب والندب (۲)
ثم قال المحقق : واما بالنظر الى اللغة
فتنزيل المشترك على معنيبه باطل لانه لو نزل على ذلك لكان استعمالا له في غير ما
وضع له ، لان اللغوي لم يضعه للمجموع ، بل لهذا وحده ، أو لذاك وحده ، فلونزل
عليهما معاً لكان
__________________
(۱) هو القاضي عبد الجبار
بن أحمد بن عبد الجبار ، أبو الحسن الاسدآبادی المعتزلى الشافعى المتوفى سنة
( ٤١٥ هـ . ) .
(۲) المعارج : ٨
الباب الأول (المسألة الثالثة ، الفائدة الثالثة ، الفرع الثاني).
أنه أرادهما جميعاً
قالوا : لابد من أن نفرض انه تكلم باللفظ مرتين أراد كل مرة منهما معناً واحداً،
وعلى هذا حملوا آية القرء » بأن قالوا : لمادل الدليل على انه أرادهما جميعاً بحسب
ما يؤدى (۱) اجتهاد
المجتهد اليه ، علمنا انه تكلم بالاية مرتين ، ثم انزله على النبي صلىاللهعليهوآله .
وقالوا في الحقيقة والمجاز والكناية
والصريح مثل ذلك (۲).
____________________________________________
ذلك عدولا عن وضع
اللغة (انتهى)
ولا يخفى ما فيه ، فان النزاع في
الاستعمال في كل واحد منهما لا في المجموع من حيث المجموع .
(۱) قوله (بحسب ما يؤدى
الخ) هذا بناء على القول بالتصويب على تفسير بعض العامة، وسيجيء بطلان القول به في
الكلام في الاجتهاد ان شاء الله تعالى.
(۲) قوله (وقالوا في
الحقيقة والمجاز والكناية والصريح مثل ذلك الفرق بين المجاز والكناية ، ان المجاز
مستعمل في غير الموضوع له بقرينة، والكناية ما يستعمل في الموضوع له . لكن المقصود
الاصلي أن ينتقل ذهن السامع الى لازم له ، لا لان اللازم مستعمل فيه . لان اخراج
الكلام عن حقيقتة لا يجوز الا مع صارف . وهم قد صرحوا بأنه لاصارف في الكناية ، و
انه يجوز أن يكون مستعملا في الموضوع له ، ومعلوم ان الجواز هنا يستلزم الوجوب ،
لان المراد بالجواز الجواز بالنسبة الى كل فرد من الكناية ، لا بالنسبة الى نوعه .
والا لم يتحقق التباين الكلي بين المجاز والكناية ، وهم بصدده
قال في المطول : الكناية كثيراً ما تخلو
عن ارادة المعنى الحقيقي، وان
__________________
وقالوا: لا يجوز أن
يريد بقوله : (
أَوْ
لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ ) (۱ –۲) الجماع
____________________________________________
كانت جائزة للقطع
بصحة قولنا : فلان طويل النجاد ، وان لم يكن له نجاد قط . وقولنا : جبان الكلب،
ومهزول الفصيل ، وان لم يكن له كلب ولافصيل (انتهى) .
وهو مدفوع بان هذه الصور مجازات الصدق
حده عليها ، لا كنايات كما يدل عليه الخلاف في جواز استعمال اللفظ في الحقيقة
والمجاز معاً، فاندفع ما توهمه من التدافع بين قول صاحب المفتاح : : ان الكناية لا ينافي
ارادة الحقيقة ، وبين تصريحه بأن المراد في الكناية هو المعنى ، ولازمه جميعاً . و
كذا بين كلامي صاحب التخليص
: لان ارادة الشيء باللفظ أعم من استعمال اللفظ فيه ، ومن قصد افهامه بدون استعمال
فيه ، بل في ملزومه فقط تدبر .
وجعل الكناية والصريح مما نحن فيه، بأن
يكون اللفظ مشتركاً بين معنيين يستعمل في أحدهما صريحاً وفى الآخر كناية، وهذا قسم
من المشترك . فيظهر حكمه من حكمه ، أو يكون له معنى واحد يستعمل فيه صريحاً وكناية
، و كون هذه الصورة داخلة في المتنازع فيه بعيد ، وقد عرفت ان المجاز في معنيين
على حده أيضاً ، كالحقيقة والمجاز في عدم الجواز .
(۱) قوله (أو لامستم النساء)
الملامسة كناية عن الجماع، وصريح في اللمس
__________________
واللمس باليد.
وبقوله: (
وَلَا
تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ
)
(۱) العقد
و الوطيء .
وقال: (۲) لا يجوز أن يريد
باللفظ الواحد الاقتصار على الشيء و تجاوزه (۳) وقال في قوله تعالى :
(
وَإِنْ
كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا )
(۴): لا
يجوز ان يريد به الغسل والوضوء وقال أيضاً : لا يجوز أن يريد باللفظ الواحد نفى
الاجزاء والكمال. وقال في قوله : (۵) ( لاصلاة الا بفاتحة الكتاب) (۶) لا ينبيء عن نفى
الاجزاء، وانه اذا جاز أن يريد به نفى الاجزاء ونفى الكمال، وثبت ان كليهما لا يصح
أن يراد بعبارة واحدة، فيجب أن لا يدل الظاهر على نفى الاجزاء .
____________________________________________
باليد، واللزوم عرفى
والنكاح حقيقة في الوطى ، مجاز في العقد كما سيجيء .
(۲) قوله (وقال) هذا الضمير
والضمائر التي بعده في نظائره لابي عبد الله على ما يظهر من قول المصنف بعد ذلك (واما
ماذكره أبو عبد الله الخ) .
(۳) قوله (الاقتصار على
الشيء وتجاوزه) هذا يتصور في اللفظ المستعمل في الجزء وفي الكل .
(٥) قوله (وقال في قوله : لاصلاة
الا بفاتحة الكتاب) ظاهر الكلام انه توهم ان ارادة نفي الاجزاء يستلزم ارادة نفي
الكمال، فيستلزم ان يكون كلاهما
__________________
وقال : يصح أن يريد عز وجل بقوله : ( فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا
)
(۱) الماء
والنبيذ ، لانهما يتفقان (۲) فيما يفيده هذا الاسم ، وان كان شرعياً
والآخر لغوياً .
وقال: قولنا بان النص الدال على أن
الفخذ عورة ، المراد به الفخذ والركبة لا ينقض هذا ، لان ذلك علمناه بغير اللفظ، (۳) بل بدلیل آخر (۴) .
____________________________________________
مرادا ، فلا يجوز أن
يكون المراد نفي الاجزاء ، وارادة نفي الكمال لا يستلزم ارادة نفى الاجزاء فهو
المراد وفيه ما فيه للفرق بين ارادة شيء و بين لزومه للمراد كما سيجيء في الفخذ
والركبة هذا وسيجيء من المصنف في هذا الفصل توجيه آخر له بعيد عنه .
(۲) قوله (لانهما يتفقان
الخ) ظاهر الكلام ان الماء مستعمل فيه في القدر المشترك بين الماء والنبيذ، وهو
حقيقة شرعية فيه، وان النبيذ ماء شرعا فقط، والماء ماء لغة وشرعاً فهو خارج عن
المتنازع فيه. ولا يخفى انه لو استعمل فيه مجازاً لغة ، ويكون من باب عموم المجاز،
بناءاً على ان الماء ماء حقيقة والنبيذ ماء مجازاً لكان ايضاً خارجاً عن المتنازع
فيه .
(۳) قوله ( بغير اللفظ )
اي ليس المراد كون الركبة مراداً استعمال لفظ الفخذ فيها ايضاً .
(٤) قوله (بل بدليل آخر) هو ان
ستر الفخذ لا يتم الابستر الركبة، وسيجيء التحقيق فيه في (فصل في أن بالشيء هل هو
أمر بما لايتم الا به أم لا) .
__________________
واعتل فى ذلك (۱) بأن قال : لا يصح أن
يقصد المعبر باللفظ الواحد استعماله فيما وضع له ، والعدول به عن ذلك (۲) فكذلك لم يصح (۳) أن يريد باللفظ
الواحد الحقيقة والمجاز . وذكر ان تعذر ذلك (۴) معلوم لنا ، وان
الواحد منا اذا قصده لم يصح منه فدل على ان جميع ذلك غير صحيح .
وذهب أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد (۵) الى : أنه يجب أن
____________________________________________
(۱) قوله (واعتل في ذلك الخ)
ظاهره ان ذلك اشارة الى ما ذكر من كون الحقيقة والمجاز مثل ذلك، بقوله : وقالوا : (في
الحقيقة .. الى آخره) فيكون قوله : (وقال لا يجوز .. الى آخره ) بل سبقه ايضا تفصیلاله
ويكون كل الامثلة له ويمكن جعله اشارة الى انه لا يجوزان يراد المعنيان المختلفان
بلفظ واحد وهو بعيد لان الأولى حينئذ عدم الاكتفاء في بيان الاعتلال بالحقيقة
والمجاز ان كان يرد على الأول المصنف مثل ذلك لان الأولى ذكر اعتلال لماعد الحقيقة
والمجاز.
(۲) قوله (العدول به عن
ذلك) أي عدم استعماله فيما وضع له .
(۳) قوله (فكذلك لم يصح
الخ) انما يتم ذلك لو كان استعماله في المعنى المجازي مستلزماً عقلا بعدم استعماله
في المعنى الحقيقي، وقد مر أنه لا يستلزمه عقلا وان كان مستلزماً له لغة .
(٤) قوله (تعذر ذلك) اى عقلا .
__________________
يعيير (١) العبارة ،
ويعتبر ما به (۲) صارت
عبارة عنه . فان كانت مشتركة بين الشيئين المختلفين ، ومتى أراد أحدهما لم يصح (۳) ان يريد الشيء الآخر،
ويستحيل ذلك فيه قطع به (۴) وان لم يمنع من ذلك جوز (۵) أن يراد بها المعنيان
معاً ، لانه اذا كان المخاطب يصح أن يريد كل واحد منهما بالعبارة، ولا مانع يمنع
من أن يريدهما جميعاً، فيجب أن يصح أن يريدهما معاً .
قال: وقد علمنا ان القائل اذا قال
لصاحبه لا تنكح ما نكح أبوك يصح أن يريد بذلك العقد والوطىء (۶) وارادته لاحد الامرين
، لا
____________________________________________
(۱) قوله (ان يعيير) أي
يزن من عبير الدنانير اذا وزنها واحداً بعد واحد.
(۲) قوله (ويعتبر ما به
الخ من قبيل أعجبني زيد كرمه ، والمراد ان ينظر فيه بعين العبرة.
(۳) قوله (لم يصح) أي
عقلا .
(٤) قوله (قطع به) أي بعدم الصحة
القطعية .
(٥) قوله (وان لم يمنع من ذلك جوز
الخ) ظاهر مقابلة مذهب عبد الجبار لمذهب ابي هاشم وابي عبد الله القائلين بعدم
الجواز عقلا، قابل بجوازه عقلا وليس في عبارته المنقولة تصريح بالجواز لغة. لكن
المصنف ذهب الى الجواز لغة ايضا، كما سيصرح به (بقوله قبل له لا يخلو ان يكون
اللفظ حقيقة .. الى آخره) والظاهر من المصنف ان عبد الجبار ايضا ذهب اليه، وكذا
الظاهر مما قيل ان القاضي وهو عبد الجبار والمعتزلة ذهبا اليه .
(٦) قوله (ان يريد بذلك العقد
والوطى) اي كلا على حدة، كما هو المتنازع فيه ، فيكون معقودة الأب حراما وان لم
توطأ، وكذا موطوثة وان لم
يمنع (۱) من ارادته للاخر .
وانما قلنا : انه لا يجوز أن يريد بلفظ
الأمر، الامر والتهديد ، لان ما به يصير أمراً ، وهى ارادة المأمور به (۲) يضاد ما به يصير
تهديداً و هي كراهية ذلك . ويستحيل أن يريد الشيء الواحد، في الوقت الواحد، على
وجه واحد من مكلف واحد، ويكرهه على هذه الوجوه .
وقلنا : انه لا يصح أن يريد بالعبارة ،
الاقتصار على الشيء و تجاوزه، لانه يتنافى (۳) أن يريد الزيادة على
ذلك الشيء، وألا يريده ولذلك استحال ذلك .
وانما نقول : انه لا يريد بالعبارة مالم
يوضع له على وجه، لانه
____________________________________________
يعقد عليها، ولواريد
مجموع المعنيين لم يكن المعقودة فقط حراما، ولا الموطوثة.
(۱) قوله : (لا يمنع)
تحميل ان يراد انه لا يمنع عقلا، وان كان ما نعالغة كما مر .
(۲) قوله (وهي ارادة
المامور به الخ) لم يصرح بما يرد عليه اعتماداً على ما سيذكره في ( فصل في ذكر
حقيقة الامر و بما به يصير أمراً) بقوله (واعلم ان هذه الصيغة التي هي قول القائل
افعل الخ) ولانه مناقشة في تطبيق مثال ، فيقال فيه على مذهب المصنف هكذا ، لان ما
به يصير الأمر أمراً ، وهو استعماله في استدعاء الفعل ، يضاد ما به يصير تهديداً ،
وهو نهيه عنه .
(۳) قوله (لانه يتنافى
الخ) فيه منع لجواز أن يريد الزيادة باعتبار ، وأن لا يريدها باعتبار آخر، فليس
فيه مانع عقلي .
لا يصح أن يستعمل (۱) العبارة في الشيء،
الا بأن يفيده في الحقيقة أو المجاز، لا لانه يتنافى أن يريدهما جميعاً. لانه يصح
أن يريد بقوله : (
وَلَا
تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ
)
(۲) قتل
النفس ، والاحسان الى الناس، ولا يتنافى ذلك .
وانما لا يصح أن يراد ذلك به، لان
العبارة لم يوضع له، واذا صح ذلك ، ووجدنا عبارة قد وضعت لمعنيين مختلفين، نحو
القرء فانه موضوع للطهر والحيض لا يتنافى من المخاطب أن يريدهما جميعاً، فلا وجه
لاحالة القول في ذلك .
وقد وضع قولنا : النكاح للوطى حقيقة،
والعقد مجازاً، وارادة أحدهما لا تمنع من ارادة الآخر، فلا مانع من أن يرادا
جميعاً بالنكاح.
فان قيل : (۳) الذى يمنع من ذلك انه
لا يجوز استعمال العبارة
____________________________________________
(۱) قوله (لانه لا يصح أن
يستعمل الخ) يحتمل أن يراد، ان المانع فيه لغوي لاعقلي، فليس جارياً على ما نحن
فيه. هذا وظاهر قوله (واذا صح ذلك ووجدنا الخ)، ان القائل يذهب الى الجواز لغة
فيما وضع لمعنيين ، ويحتمل أن يأول بما يرجع الى ما ذكرنا ، بأن يقال انه لبيان ان
المانع اللغوي في الأول أمران، وفي الثاني واحد ، ويؤيد هذا قوله (فلاوجه لاحالة
القول في ذلك، لان المتبادر من الاحالة الاحالة العقلية).
(۳) قوله فان قيل الخ)
هذا بعينه ما اعتل به أبو عبد الله ، وقدمر بيانه ، والجواب الحق عنه .
__________________
فيما وضعت له،
والعدول بها عما وضعت له في اللغة، فلذلك منعت من أن يرادا جميعاً بها ، لان ذلك
يتنافى استعمالها في ما وضعت له .
قيل له : ان العبارة تستعمل فيما وضعت
له اذا قصد بها افادة
ذلك ، وان لم يقصر المعبر على ان
يستعملها فيما وضعت له (۱) .
فان قيل : فان ارادة الوطى والعقد بهذه
الكلمة يتعذر، ونجد تعذر ذلك من أنفسنا ، فلذلك منعت من أن يرادا جميعاً بها .
قيل له : انه ان ما ادعيت تعذره نحن
نجده منا متأتياً، فلا معنى لتعلقك به . هذه الفاظه بعينها قد سقناها على ما ذكرها
في كتابه العمد .
وهذا المذهب أقرب الى الصواب (۲) من مذهب أبي عبد الله
وأبي هاشم، وما ذكره سديد واقع موقعه، والقول في الكناية (۳) و
____________________________________________
(۱) قوله ( وان لم يقصر
المعتبر على أن يستعملها فيما وضعت له) أي لم يكتف المتكلم باستعمالها فيما وضعت
له، وحاصله انه ان اريد بالعدول بها عما وضعت له عدم استعمالها فيما وضعت له ، فهو
ليس بلازم ، وان اريد به عدم الاكتفاء باستعمالها فيما وضعت له ، فهوليس بمحال .
(۲) قوله (وهذا المذهب
الخ) أي القول بالجواز العقلي، أوبه وبالجواز اللغوي أقرب الى الصواب ، والمراد
بقوله ( و ما ذكره سديد) ما ذكره من المذهب الصحيح ، لا تفصيل ما ذكره . فلا يرد
على المصنف ما أوردنا على ما ذكره أبو الحسن .
(۳) قوله (والقول في
الكناية .. الخ) الجريان في هذا المنهاج، أي الجواز
الصريح يجرى أيضاً
على هذا المنهاج، وقوله: (
أَوْ
لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ ) (۱) ما كان يمتنع أن يريد
به الجماع واللمس باليد ، لكن علمنا بالدليل (۲) انه أراد أحدهما وهو
الجماع .
فأما ما ذكره أبو عبد الله من قوله صلىاللهعليهوآله : (لا صلاة الا
بفاتحة الكتاب) (۳) وان
ذلك لا يمكن حمله على نفى الاجزاء والكمال من حيث كان (۴) نفى أحدهما يقتضى
ثبوت الآخر ، فليس على ما ذكره لانه متى نفى الاجزاء ، فقد نفى أيضاً الكمال، لانه
اذا لم يكن مجزياً كيف يثبت كونها كاملة، فكيف يدعى ان في نفى أحدهما اثباتاً
للاخر، وكذلك اذا نفى الكمال لا يمتنع أن ينفى معه الاجزاء أيضاً، لانه ليس فى
نفيه اثبات الاجزاء ، فلا يمكن
____________________________________________
العقلي في احدى
صورتيها السابقتين أظهر منه في الاخرى ، وقوله (أولا مستم) مثال للكناية والصريح
كما مر .
(۲) قوله (علمنا بالدليل
الخ) أراد بالدليل ما يدل على عدم الجواز لغة أو القرينة الدالة على عدم ارادة
الصريح ، ويؤيد الاخير قوله (وهو الجماع).
(٤) قوله (من حيث كان الخ) لم
يصريح أبو عبد الله بهذا فيما مر ، وقد مر بیان مراده و ما يرد عليه . نعم
سيجيء في (فصل فيما الحق بالمجمل وليس منه) ما هو قريب من هذا بتوجيه لا يرد عليه
شيء .
__________________
ادعاء ذلك فيه ،
وينبغى أن يكون الكلام في ذلك مثل الكلام فيما تقدم (۱) .
وأما ما ذكره عبد الجبار من انه لا يجوز
أن يريد باللفظ الواحد الاقتصار على الشيء وتجاوزه ، لانه يتنافى أن يريد الزيادة
وألا يريدها، فالذي يليق بما ذكره من المذهب الصحيح غير ذلك، وهو أن يقال ان ذلك
غير ممتنع ، لانه لا يمتنع أن يريد الاقتصار على الشيء . ويريد أيضاً مازاد على
ذلك على وجه التخيير (۲) وليس
بينهما تناف ، وليس ذلك بأكثر من ارادة الطهر والحيض باللفظ
__________________
(۱) قوله (فيما تقدم) أي
لا يشتمل على مانع آخر ، سوى ما اشتمل عليه ما تقدم. واستعمال اطهروا) في الغسل
والوضوء ، أو جميع الامثلة المتقدمة. ويخدش الاخير اشتمال ارادة الاقتصار على
الشيء وتجاوزه على مانع زائد على زعمه ظاهراً، الا أن يبني على نفس الامر ، ويعتمد
على بيانه عدم المانع الزائد فيها أيضاً بعيد ذلك .
(۲) قوله (على وجه
التخيير الخ) التخيير بين الجزء والكل يرجع الى اباحة الزيادة ، ففي نحو الأمر لا
يجوز عقلا ، هذا وتوجيه الجواز بأنه لا يمتنع عقلا ان يريد الاقتصار على الشيء .
ويريد أيضاً مازاد على ذلك بالنسبة الى
مكلفين كمامر في (القرء) بالنسبة الى الطهر والحيض عند أبي هاشم وأبي عبد الله فيه
انه حينئذ يكون استعمال لفظ في الأمر والتهديد أيضاً جائزاً . فيجب أن يبين
استحالتهما بالنسبة الى مكلف واحد كما قيد في الأمر والتهديد بقوله (من مكلف واحد)
.
الواحد، وقد أجاز ذلك
فكذلك القول في هذا .
ومتى كان اللفظ يفيد في اللغة شيئاً ،
وفي العرف شيئاً آخر ، لا يمتنع أن يريدهما معاً ، وكذلك القول في الحقيقة،
والمجاز، و الكناية، والصريح .
فان قيل : اذا كان جميع ماذكرتموه (۱) غير ممتنع أن يكون
مراداً باللفظ ، فكيف الطريق الى القطع ؟ على ان الجميع مراد بظاهره (۲) أم بدليل، وكيف القول
فيه ؟ .
قيل له : لا يخلو اما أن يكون اللفظ
حقيقة في الأمرين، أو حقيقة في أحدهما ومجازاً في الآخر .
فان كان اللفظ حقيقة في الأمرين، فلا
يخلو اما أن يكون وقت الخطاب وقت الحاجة الى الفعل أو لا يكون كذلك .
فان كان الوقت وقت الحاجة ولم يقترن به
ما يدل (۳) على
انه
____________________________________________
(۱) قوله ( جميع ما
ذكرتموه الخ ) أي استعمال اللفظ في المعنيين الحقيقيين ، وفي الحقيقي والمجازي ،
وفي الكناية والصريح ، و في المعنى اللغوي والعرفي والشرعي ، وغير ذلك من الصور
الاتية في قوله ( وكذلك ان كان اللفظ يفيد في اللغة شيئاً الخ) وتداخل الصور غير
مضر .
(۲) قوله (بظاهره) حرف
الاستفهام محذوف ، أي (أبظاهره) وهو بيان لقوله فكيف الطريق) فـ (الباء) متعلق
بالقطع ، لا بمراد .
(۳) قوله (ولم يقترن به
ما يدل الخ) على ما حققناه من عدم الجواز لغة ، لا يتحقق هذا القسم
أراد أحدهما ، وجب القطع
على انه أرادهما باللفظ . وان اقترن به ما يدل على انه اراد أحدهما ، قطع به وحكم
بأنه لم يرد الآخر. و كذلك ان دل على انه لم يرد أحدهما ، قطع على انه اراد الاخر
كل ذلك باللفظ (۱) .
وان لم يكن الوقت وقت الحاجة (۲) توقف في ذلك، وجوز كل
واحد من الأمرين (۳) وانتظر
البيان على ما نذهب اليه من جواز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب .
وان كان اللفظ حقيقة في أحدهما، ومجازاً
في الاخر ، قطع على انه أراد الحقيقة، الا أن يدل دليل على انه أراد المجاز، أو
أراد الحقيقة والمجاز، فيحكم بذلك
فان دل الدليل على انه أراد المجاز لم
يمنع ذلك من أن يكون (۴)
____________________________________________
(۱) قوله ( كل ذلك باللفظ)
أي بصريح اللفظ لا الكناية، كفحوى الخطاب
ودليل الخطاب .
(۲) قوله (وان لم يكن
الوقت وقت الحاجة) أي ولم يقترن به ما يدل على انه أرادهما أو أحدهما .
(۳) قوله (وجوز كل واحد
من الأمرين) أي ارادتهما و ارادة أحدهما وعلى ما حققناه من عدم الجواز لغة لا يجوز
ارادتهما ، بل يقطع بارادة أحدهما ويتوقف في تعيينه
(٤) قوله (لم يمنع ذلك من أن يكون
الخ) قد مر ما فيه .
أراد الحقيقة أيضاً .
فينبغي أن يحمل عليهما الا أن يدل دليل على انه لم يرد الحقيقة ، أو لا يمكن الجمع
بينهما، فيحمل حينئذ على انه أراد المجاز لاغير. وكذلك ان كان اللفظ يفيد في اللغة
شيئاً ، وفي الشرع شيئاً آخر ، وجب القطع على انه اراد ما اقتضاه الشرع الا أن يدل
دليل على انه أراد ما وضع له في اللغة أو أرادهما جميعاً (۱) فيحكم بذلك ، وكذلك
القول في الكناية والصريح، ينبغي أن يقطع على انه اراد الصريح الا أن يدل دليل على
أنه اراد الكناية أو ارادهما جميعاً. هذا اذا لم يكن اللفظ حقيقة في الكناية
والصريح
فاما اذا كان اللفظ حقيقة فيهما على ما
نذهب اليه (۲) في
فحوى
____________________________________________
(۱) قوله (أو أرادهما
جميعاً) مقتضى ما ذكره سابقاً ، انه ان دل الدليل على انه أراد ما وضع له في اللغة
، لم يمنع ذلك من أن يكون أراد ما وضع له في الشرع أيضاً . فان المعنى اللغوي
مجازي في الالفاظ الشرعية .
(۲) قوله (على ما نذهب
اليه الخ مراده ان نحو (
لَا
تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ) مثلا مستعمل في لا
تضر بهما ولا تؤذهما ونحو ذلك ، ومع هذا كناية وحقيقة . وفيه ان الكناية مستلزم في
الملزوم لا فى اللازم وحده ، أو مع الملزوم وان كان افهام اللازم مقصوداً للمتكلم
.
ولو سلم فليس كل كناية كذلك ، ولو سلم
فليس كل كناية حقيقة كذلك .
__________________
الخطاب ودليل الخطاب،
فينبغي أن يكون الحكم حكم الحقيقتين على التفصيل الذي قدمنا.
والقول في الاسم اللغوى والعرفى ، أو
العرفي والشرعي (۱) مثل
القول فى اللغوى والشرعى على ما قدمنا القول فيه .
واعلم ان الدليل اذا دل على وجوب حكم من
الاحكام، ثم يرد نص يتناول ذلك الحكم فلا يخلو من أحد أمرين: اما أن يتناوله حقيقة
أو مجازاً . فان كان متناولا له حقيقة وجب القطع على انه مراد بالنص لانه يقتضى
ظاهره. ولو أراد غيره لبينه. فمتى لم يبين وجب القطع على انه مراد به والا خلا
اللفظ من فائدة .
ولهذا نقول : اذا دل الدليل على وجوب
الصلاة، ثم وردقو له
____________________________________________
ويمكن أن يقال : ان
مراده ان نحو : (
لَا
تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ) مستعمل في منطوقة
وليس فحواه ، وهو نحو لا تضربهما داخلا فيما استعمل فيه ، وان كان مقصوداً افهامه
كما بيناه في الفرق بين الكناية والمجازفى هذا الفصل عند قول المصنف (وقالوا في
الحقيقة والمجاز والكناية والصريح مثل ذلك وسيجيء تحقيق الحق فيه في فصل في القول
في دليل الخطاب) ان شاء الله تعالى .
(۱) قوله (أو العرفي
والشرعي) في تحقق هذا القسم بدون أن يكون اسماً لغوياً أيضاً اشكال ، لما مر من حد
المهمل و المفيد في (فصل في حقيقة الكلام) .
__________________
تعالى: ( أَقِيمُوا الصَّلَاةَ
)
(۱) وجب
القطع على انها مرادة (۲) بالنص
لتناول اللفظ لها . وان كان اللفظ متناولا لذلك الحكم على جهة المجاز لم يجب القطع
على انه مراد (۳) لان
الخطاب يجب حمله على ظاهره الا أن يدل دليل على ان المراد به المجاز ، وليس ثبوت
الدليل على وجوب حكم يتناوله اللفظ على جهة المجاز موجب للقطع على انه مراد باللفظ
.
ولذلك قلنا : انه لا يمكن ابطال مذهب
الشافعي في تعلقه بقوله تعالى (۴): ( أَوْ
لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا ) (۵) بأن يقال المادل
الدليل على ان الحكم المذكور في الآية يتعلق بالجماع ، وجب حمل الآية على انه
المراد به دون غيره (۶) من
وجهين :
____________________________________________
(۲) قوله (وجب القطع على
انها مرادة الخ) أي لا يجب كون النص مفيداً فائدة جديدة لم يعلم قبله .
(۳) قوله (لم يجب القطع
على انه مراد) أي لا يجب كون النص منطبقاً على ما علم قبله .
(٤) قوله (في تعلقه بقوله تعالى)
أي على ان لمس النساء بمعناه الحقيقي لا يوجب التيمم مع عدم الماء .
(٦) قوله (على انه المراد به دون غيره )
لا يخفى ان تعلق الشافعي يندفع بكونه كناية عن الجماع، كما يندفع بكونه مجازاً
فيه. لكن ظاهر قول المعترض
__________________
أحدهما : انا قد بينا (۱) ان اللفظ اذا تناول
شيئين فليس في ثبوت كون أحدهما مراداً ما ينافي أن يكون الآخر أيضاً مراداً . و
الذي يقتضيه عندنا الوقف ان لم يكن الوقت وقت الحاجة ، وان كان الوقت وقت الحاجة
وجب حمله عليهما جميعاً .
والوجه الثاني: ان تسمية الجماع باللمس
انما هو على طريق المجاز دون الحقيقة ، وقد بينا ان اللفظ يجب حمله على الحقيقة ،
____________________________________________
انه يجب حمل الآية
على ان الجماع هو المراد به بطريق المجاز دون غيره. أي معناه الحقيقي، ليكون كناية
أو صريحاً فلا يرد على قول المصنف بعيد ذلك ان تسمية الجماع باللمس، انما هو على
طريق المجاز دون الحقيقة. وان المفهوم مما سبق ان اللمس كناية عن الجماع، والكناية
قسم من الحقيقة، فان ما ذكره مبني على ظاهر كلام المعترض .
(۱) قوله : (أحدهما انا
قد بينا الخ) الأولى في الترتيب تقديم الوجه الثاني على الأول، وبيان الوجهين هكذا
.
أحدهما: ان تسمية الجماع باللمس انما هو
على طريق المجاز الخ .
والثاني: انه لوسلم انه حقيقة فيه
أيضاً، فالذي يقتضيه عندنا التوقف ان لم يكن الوقت وقت الحاجة، وان كان الوقت وقت
الحاجة وجب حمله عليهما جميعاً ، لما لم يدل فيما نحن فيه دليل على ارادة أحدهما
اذ ليس الموافقة للدليل الخارجي دليلا ولودل الدليل أيضاً على ارادة أحدهما . فليس
في ثبوت كون أحدهما مراداً ما ينافي أن يكون الآخر أيضاً مراداً، الا أن يكون
الوقت وقت الحاجة، وقدمر تحقيق الحال فيه .
الا أن يدل دليل على
انه أراد المجاز ، ولودل أيضاً الدليل على انه أراد المجاز، لم يكن ذلك مانعاً من
أن يريد به ما تقتضيه حقيقته الا أن يدل دليل على انه لم يرد حقيقته على ما قدمنا
القول فيه .
وكذلك القول في قوله تعالى : ( وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ
مِنَ النِّسَاءِ ) (۱) ان ثبوت الوطى (۲) مراداً بالاية ، لا
يمنع من ارادة العقد بها أيضاً على ما قدمناه ، فينبغي أن يجرى الباب على ما
حررناه، فان أعيان المسائل لا تنحصر ، واصولها ما حررناه، ونعود الان الى الترتيب
الذي وعدنا به في أبواب اصول الفقه على ما قررناه ان شاء الله تعالى
____________________________________________
(۲) قوله (ان ثبوت الوطي
الخ) الأولى ان يقال ان ثبوت العقد مراداً بالاية لا يمنع من ارادة الوطي، كما مر
من قول المصنف وقد وضع قولنا النكاح للوطي حقيقة والعقد (مجازاً) اللهم الا أن
يراد (ان ثبوت الوطي مراداً بالاية لا يمنع من ارادة العقد بهما) أيضاً بدليل لا بالظاهر.
ويبقى الكلام حينئذ في مناسبة ذكر المصنف هذا الكلام هنا .
__________________
الكلام في الاخبار
فصل
في حقيقة الخبر، وما
به يصير خبراً، وبيان أقسامه
حد الخبر ماصح فيه الصدق أو الكذب ،
وهذا أولى مما قاله بعضهم من : انه ماصح فيه الصدق والكذب ، لان ذلك محال ، لانه
لا يجوز أن يكون خبر واحد صدقاً وكذباً ، لانه لا يخلو أن يكون مخبره على ما
تناوله الخبر (۱) فيكون
صدقاً (۲) أو
لا يكون على ما تناوله الخبر فيكون كذباً .
فاما احتمالهما جميعاً فمحال على ما
بينا ، ثم لوصح (۳) لكان
منتقضاً ، لان ههنا مخبرات كثيرة لا يصح فيها الكذب، ومخبرات كثيرة لا يصح فيها
الصدق، نحو الاخبار عن توحيد الله وصفاته ، فان جميع ذلك لا يصح فيها الكذب
والاخبار عن ثان معه، وثالث لا يصح فيها الصدق أصلا، فعلم ان الاولى ما قلناه .
____________________________________________
(۱) قوله ( مخبره على ما
تناوله الخبر المراد بالمخبر) بفتح الباء ـ هنا المحكوم عليه، وبما تناوله الخبر
المحكوم به .
(۲) قوله (فيكون صدقاً
الخ) أي دائماً بناءاً على ما حقق في موضعه من ان صدق المطلقة دائمية وان لم يكن
تحققها دائمياً .
(۳) قوله (ثم لوصح) بأن
يراد بالصدق التحقق
اللهم الا أن يراد (۱) بهذه اللفظة أن يحتمل
الصدق والكذب ، انه يحتمل أحدهما . فان اريد ذلك كان مثل ما قلناه ، وينبغى ان يذكر
في اللفظ ما يزيل الابهام ، لان الحدود مبنية على الالفاظ دون المعاني .
وقد حد قوم بأنه ما احتمل التصديق
والتكذيب، وهذا صحيح غير ان ما ذكرناه أولى من حيث ان التصديق و التكذيب يرجع الى
غير الخبر . وينبغى أن يحد الشيء (۲) بصفة هو عليها، لا بما يرجع الى غيره .
وتوصف الاشارة والدلالة، بأنهما جز آن ،
وذلك مجاز (۳)،
وانما يدخل في كونه خبراً بقصد المخاطب الى ايقاع كونه خبراً، و انما قلنا ذلك،
لانه لا توجد الصيغة، ولا تكون خبراً. فلابد من أن يكون هناك أمر خصصه .
____________________________________________
(۱) قوله (اللهم الا أن
يراد ) وكذا ان اريد احتمالهما بالنظر الى نفس الخبر، من حيث انه خبر، مع قطع
النظر عن المتكلم وخصوصية الطرفين كان اخراجاً للكلام عن الوضوح الى الابهام في
الحدود .
(۲) قوله (وينبغي أن يحد
الشيء الخ) أي الأولى أن يكون كل ما يذكر فيه من أوصافه، سواء كان محمولا عليه في
الحد ، كاحتمال فيما نحن فيه. أو متعلقاً للمحمول، كالصدق والكذب فيه .
( ۳ ) قوله ( وذلك مجاز )
هذا مبني على تفسير الصدق بمطابقة نسبة
ومن الناس من جعل القصد (۱) من قبيل الارادة ،
ومنهم من جعله من قبيل الداعى، وليس هذا موضع تصحيح أحدهما .
والخبر لا يخلو من أن يكون مخبره على ما
هو به (۲) فيكون
صدقاً ، أو لا يكون مخبره على ما هو به فيكون كذباً . وهذا أولى مما قاله بعضهم فى
الكذب. أن يكون مخبره على خلاف ما هو به، لان ذلك بعض الكذب .
وقد يكون الخبر كذباً ، وان لم يكن
متناولا للشيء على
____________________________________________
الكلام للواقع ، أو
كون المراد بالموصول في قولنا : ماصح فيه الصدق أو الكذب الكلام .
(۱) قوله (ومن الناس من
جعل القصد الخ) قد بينا في المقدمة الثانية من الحاشية الأولى ان الارادة التي
تتحقق في كل فعل اختياري، هو الايجاد و الايقاع تبعاً للداعي، وان الداعي هو العلم
بجهة مرجحة، وانه تطلق الارادة على ميل في النفس بلافتور ولا تسويف، وانه ليس شرطاً
في كل فعل اختياري وانه ذهب أبو الحسن البصري الى اتحاد الارادة والداعي ،
والتحقيق ان القصد الى ايقاع كونه خبراً، هو الايقاع للخبر تبعاً لداع خاص، هو
ترتب فهم المخاطب مضمونه .
(۲) قوله ( مخبره على ما
هو )به المراد بالمخبر ـ بفتح الباء هنا أيضاً المحكوم عليه، وضمير هو لـ (الخبر)
يدل عليه قوله ( بعد ذلك ليس مخبره على ما تناوله الخبر الخ) وضمير به لـ (ما) أي
ما يكون موضوعه في الواقع على ما وقع الخبر به ، وما وقع الخبربة هو المخبر به
والمحكوم به .
خلاف ما هو به (۱) . ألا ترى (۲) ان القائل اذا قال:
ليس زيد قاعداً وهو قاعد، يكون خبره كذباً وان لم يكن قد أخبر بصفة تخالف كونه
قاعداً ، فعلم ان الحد بما ذكرناه أولى، لانه أعم .
وعلى هذا التحرير يكون قول القائل :
محمد بن عبدالله صلىاللهعليهوآله ومسيلمة
صادقان أو كاذبان ، ينبغي أن يكون كذباً، لانه في الحالين جميعاً ليس مخبره على ما
تناوله الخبر، لانه ان أخبر عنهما بالصدق، فأحدهما كاذب، وان أخبر عنهما بالكذب
فأحدهما صادق. فعلى الوجهين جميعاً يكون الخبر كذباً .
وهذا أولى مما قاله أبوهاشم من ان تقدير
هذا الكلام تقدير خبرين، أحدهما يكون صدقاً، والآخر يكون كذباً، لان ظاهر ذلك انه
خبر واحد (۳) فتقدير
كون الخبرين فيه ترك الظاهر ، وليس
____________________________________________
(۱) قوله ( متناولا للشيء
على خلاف ما هو به ) المراد بالشيء المحكوم عليه، والجار في قوله على خلاف تتعلق
بالتناول ، وضمير هو هنا للشيء، وضمیر به لما ولا اختلاف بينه وبين أن يكون
مخبره على خلاف ما هو بـه، بأن يكون ضمير هو راجعاً الى الخبر في التعبير.
(۲) قوله (ألا ترى الخ)
هذا بناء على ان الخلافين عند المتكلمين، هما وجوديان ليسا بمثلين ولا ضدين ، وسلب
القعود ليس وجودياً ، والمراد بالخلاف هنا ما يعم الضد
(۳) قوله (لان ظاهر ذلك
انه خبر واحد) لا ينافي ذلك انحلاله الى خبرين والالكان نحو : كل انسان ، أو كل
واحد من العشرة ضاحك ، اخباراً كثيرة
من شرط كون الخبر
صدقاً أو كذباً ، علم المخبر بما أخبر به (۱) وانما ذلك شرط في حسن
اخباره ( ۲ ) به
و يفارق ذلك (۳) حال
العلم، لان الاعتقاد قديخلو من أن يكون علماً أوجهلا بأن يكون تقليداً ليس معه
سكون النفس .
والخبر على ضربين : أحدهما ، يعلم ان
مخبره على ما تناوله الخبر. والآخر ، لا يعلم ذلك فيه. وهو على ضربين : أحدهما،
يعلم انه على خلاف ما تناوله الخبر . (۴) والآخر متوقف فيه .
____________________________________________
بعدة الاشخاص .
(۱) قوله (علم المخبر بما
أخبر به ) أي علمه بكونه مطابقاً للواقع في الصدق ، وعلمه بكونه غير مطابق في
الكذب ، فتتحقق واسطة بين الصدق و الكذب .
(۲) قوله ( شرط في حسن
أخباره ) هذا يدل على ان الاخبار بما يكون مظنوناً ليس بحسن، وسيجيء في آخر فصل في
ذكر الدلالة على ان العموم له صيغة في اللغة ما يدل على ان نفس الظن قبيح .
(۳) قوله (ويفارق ذلك
الخ) أي يفارق حال قسمي الخبر، أعني الصدق والكذب حال قسمي الاعتقاد ـ أعني العلم
والجهل ـ فانه يتحقق الواسطة بين العلم والجهل ، وهي التقليد، أي الاعتقاد المطابق
للواقع مع عدم سكون النفس، فقوله ليس معه سكون ليس قيداً مخصوصاً .
(٤) قوله ( يعلم انه خلاف ما
تناوله الخبر) المراد يعلم انه ليس على مسا تناوله الخبر، وتسامح فيه اعتماداً على
ما سبق .
فأما الخبر الذى يعلم (۱) ان مخبره على ما
تناوله الخبر، فعلى ضربين : أحدهما ، يعلم ذلك ، ويجوز (۲) أن يكون ضرورة أو
اكتساباً. والآخر : يقطع على انه يعلم ذلك بالاستدلال
فالاول : نحو العلم بالبلدان ، والوقائع
، والملوك ، ومبعث النبي صلىاللهعليهوآله ،
وهجرته ، وغزواته ، وما يجرى مجرى ذلك ، فان كل واحد من الأمرين جائز فيه على ما
سنبينه فيما بعد.
وأما ما يعلم مخبره بالاستدلال فعلى ضروب
:
منها : خبر الله تعالى، وخبر الرسول،
وخبر الامام عليهما السلام.
ومنها : خبر الامة اذا اعتبرنا (۳) كونها حجة
__________________
(۱) قوله (فاما الخبر
الذي يعلم الخ) حصر هذا في القسمين مع تحقق نحو الخبر بان الواحد نصف الاثنين،
مبني على ان المراد بهذا ما يعلم صدقه بالخبر ، ولذا لم يذكر في أقسامه ما اقترن
بالقرائن الدالة على صدق الخبر كما سيجيء في (فصل في ذكر القرائن التي تدل على صحة
أخبار الاحاد أو على بطلانها) .
(۲) قوله ( ويجوز ) بصيغة
المعلوم المجرد ، من جواز الشيء في الذهن الراجع الى تجويز الذهن اياه .
(۳) قوله ( اذا اعتبرنا
الخ ) أي نظرنا اليه بعين الاعتبار ، وعلمنا جهة حجيته بالدليل، وهو تعريض
بالمخالفين، بأنهم لا يعلمون صدقه لعدم وصولهم الى دليل صدقه، كما سيجيء في (الكلام
في الاجماع) .
ومنها : خبر من أخبر بحضرة جماعة كثيرة
لا يجوز على مثله الكتمان، والتواطؤ ، وما يجرى مجرى ذلك، وادعى عليهم المشاهدة
ولا صارف لهم عن تكذيبه، فيعلم ان خبره صدق.
ومنها : خبر المخبر اذا أخبر بحضرة
النبي صلىاللهعليهوآله
وادعى عليه العلم بذلك فلم ينكره .
ومنها : خبر المتواترين ( ۱ ) الذين يعلم خبرهم اذا
حصلت الشرائط فيهم
ومنها : ان تجتمع الامة أو الفرقة
المحقة على العمل بخبر الواحد، وعلم انه لا دليل على ذلك الحكم، الا ذلك الخبر،
فيعلم انه صدق .
ومنها : خبر تلقته الامة أو الطائفة
المحقة بالقبول وان كان الاصل فيه واحداً .
وأما ما يعلم ان مخبره (۲) على خلاف ما تناوله
فعلی ضربین أيضاً :
____________________________________________
(۱) قوله (خبر
المتواترين) أي غير نحو خبر البلدان والوقائع بقرينة ذكره قبل .
(۲) قوله ( واما ما يعلم
ان مخبره الخ) حصره في القسمين محل اشكال ، لجواز أن يعلم ان مخبره على خلاف ما
تناوله ضرورة، نحو قولنا : الواحد ليس نصف الاثنين .
أحدهما: يعلم ذلك من حاله، ويجوز كونه
ضرورياً ومكتسباً مثل ما قلناه فيما يعلم صحته. وذلك مثل ما يعلم انه ليس بين
بغداد والبصرة بلد أكبر منهما، وانه لم يكن مع النبي صلىاللهعليهوآله
نبي آخر، ولا أن له هجرة الى خراسان، وماجرى مجرى ذلك.
والثاني: يعلم انه على خلاف ما تناوله
بضرب من الاستدلال وهو على ضروب :
منها : أن يعلم بدليل عقلى أو شرعى (۱) انه على خلاف ما
تناوله
ومنها : أن يعلم ان مخبره لو كان
صحيحاً، لوجب نقله على خلاف الوجه الذى نقل عليه ، بل على وجه يقوم به الحجة، فاذا
لم ينقل كذلك علم انه كذب
ومنها : أن يكون مخبره مما لوفتش عنه من
يلزمه العمل به لوجب أن يعلمه، فاذا لم تكن هذه حاله علم انه كذب .
ومنها : أن يكون مخبر الخبر حادثة عظيمة
مما لو كانت الدواعي الى نقلها يقتضى ظهور نقلها اذا لم يكن هناك مانع، فمتى لم
ينقل علم انه كذب .
____________________________________________
(۱) قوله (منها أن يعلم
بدليل عقلي أو شرعي الخ) ظاهره يشمل جميع الضروب المذكورة بعده ، فيجب تخصيصه بما
عداها. وكذا الضرب الثاني بالنسبة الى الباقية .
ومنها : أن يعلم ان نقله ليس كنقل نظيره
، والاحوال فيهما متساويه فيعلم حينئذ انه كذب .
وأما ما لا يعلم ان مخبره على ما تناوله
، ولا انه على خلافه ، فعلی ضربین :
( أحدهما ) يجب العمل به . (والاخر) لا
يجب العمل به . فما يجب العمل به على ضربين : ( أحدهما ) يجب العمل به عقلا.
(والاخر) يجب ذلك فيه سمعاً . فما يجب العمل به عقلا نحو الاخبار المتعلقة
بالمنافع (۱) والمضار
الدنيوية ، فانه يجب العمل بها عقلا. وما يجب العمل به شرعاً كالشهادات والاخبار
الواردة في فروع الدين اذا كانت من طرق مخصوصة، ورواها من له صفة مخصوصة.
والضرب الثاني من الضربين الأولين، وهو
ما لا يجب العمل به فعلى ضربين : (أحدهما) يقتضى ظاهره الرد. (والثاني) يجب التوقف
فيه ، ويجوز كونه كذباً وصدقاً على حد واحد ، ونحن نبين (۲) شرح ذلك فيما بعد ان
شاء الله تعالى .
____________________________________________
(۱) قوله (الاخبار
المتعلقة بالمنافع الخ) سيجيء تحقيق ما يدل العقل على وجوب العمل به من الاخبار
المتعلقة بالمنافع و المضار الدنيوية في (فصل في ذكر خبر الواحد) .
(۲) قوله (ونحن نبين الخ)
بينه في ثلاثة فصول .
__________________
فصل
في أن الاخبار قد
يحصل عندها العلم
وكيفية حصوله، وأقسام
ذلك
حكى عن قوم يعرفون بالسمنية (۱) انهم أنكروا وقوع
العلم بالاخبار (۲) عندها
، وخصوا العلم بالادراكات دون غيرها ، وهذا
____________________________________________
(۲) قوله قدس سره (حكي عن
قوم يعرفون بالسمنية الخ) أقوى ما قيل من شكوكهم : انه يجوز الكذب على كل واحد،
فيجوز على الجملة ، اذ لا ينافي كذب واحد كذب الآخرين قطعاً ولاعينا مركبة منها بل
هي نفس الاحاد، فاذا فرض كذب كل واحد فقد كذب الجميع قطعاً ، ومع جوازه لا يحصل
العلم .
وقيل في الجواب: انه قد يخالف حكم
الجملة حكم الاحاد، فان الواحد جزء العشرة بخلاف العشرة . والعسكر يتألف من
الاشخاص ، وهو يغلب و يفتح البلاد دون كل شخص على انفراده (انتهى) .
وفيه ان مراد المشكك بمقدم الشرطية، أي
جواز الكذب على كل واحد جوازه عليه بانفراده مع قطع النظر عن انضمام باقي الأفراد
، أي صدق
__________________
القضايا الشخصية
القائلة هذا كاذب، وذاك كاذب الخ) ومراده بتالي الشرطية أي جوازه على الجملة جوازه
على كل واحد مع انضمام الباقي اليه . أي صدق القضية الموجبة القائلة : كل واحد
منها كاذب .
واستدل على الشرطية بدليلين :
الأول: لو لم يجز كذب كل واحد
بالاجتماع، لكان للمنافاة بين كذب واحد وكذب الآخرين، والتالي باطل، فالمقدم مثله
.
الثاني : ان صدق القضايا الشخصية مستلزم
لصدق القضية الكلية ، اذ لا فرق بينهما الا بالاجمال والتفصيل، وتجويز الملزوم
يستلزم تجويز اللازم .
فتجويز صدق القضايا الشخصية يستلزم
تجويز صدق القضية الكلية ، ومع جوازه لا يحصل العلم. وليس مراده بجوازه على الجملة
جوازه على المجموع من حيث المجموع، لان كذب المجموع بمعنى مخالفة الاعتقاد لا
ينافي افادة العلم، اما في الجملة واما مطابقاً على ما قيل، وسيجيء مع ما عليه
لجواز تحققه في ضمن كذب واحد .
والاستعانة بتحققه هنا في ضمن كذب كل
واحد لا يخفى قبحه، ولان قوله (اذ لا ينافي الخ) لا يرتبط به كما لا يخفى. اذ مع
المنافاة أيضاً يلزم كذب المجموع بكذب واحد، على ان الجواب الذي ذكره مع انه منع
المدعى لا يدفعه، لان كذب واحد يستلزم كذب المجموع ولا ينفع كون حكم الافراد
مخالفاً لحكم المجموع في بعض الصور، اذ البديهية تحكم بالاتحاد في الحكم فيما نحن
فيه .
وقد يوجه ماقيل في الجواب بأن المراد
بحكم الجملة، حكم كل واحد كما في القضية الموجبة الكلية، وبحكم الاحاد الشخصيات .
والمناقشة في مثال الواحد والعشرة سهلة
، فلا يخفى ما في هذا التوجيه من التعسف ومن الشاهد على ما ذكرنا عبارته في
المواقف حيث قال في مبحث النبوات : وجواب الأول منع مساواة حكم الكل لحكم كل واحد
، لما يرى من قوة العشرة على تحريك ما لا يقوى عليه كل واحد .
وقال شارحه عند قوله (حكم الكل): من حيث
هو كل .
فالتحقيق في الجواب عن الدليل الأول على
الشرطية أن يقال : لم لا يجوز أن يكون عدم جواز كذب كل واحد لمنافاة وقوع خبر واحد
كذب الآخرين، ان كان العلم الحاصل بالتواتر نظرياً أو لاجراء الله تعالى عادته
بفعل العلم عقيب انضمام الاخبار على الشروط الاتيه ان كان بديهياً .
أو يقال : لا نسلم انتفاء المنافاة بين
كذب واحد وكذب الاخرين ، و هذا السند ينطبق على زعم من يجوز كذب بعض أقل عدد
التواتر وسيجيء ما فيه .
وفي الجواب عن الدليل الثاني على
الشرطية أن يقال لا نسلم ان تجويز الملزوم مطلقاً يستلزم تجويز اللازم، انما
المسلم ان تجويز الملزوم بالتجويز الواحد يستلزم تجويز اللازم ، وتجويز الملزوم
هنا تجويزات متعددة موزعة على اجزائه ملحوظاً كل واحد منها بانفراده .
نعم لو جعل التجويز جزء من المحمول وجعل
الشرطية هكذا: لو صدق هذا الخبر جائز الكذب في الجملة ، وهذا الخبر جائز الكذب في
الجملة ،
__________________
مذهب ظاهر البطلان ،
لا معنى للتشاغل بابطاله والاكثار في رده ، لان
____________________________________________
لصدق كل واحد من
الاخبار جائز الكذب في الجملة ، لتم الدليل على الشرطية .
ولكنه لا يفيد المشكك، انما يفيده كون
كل خبر كاذباً بالامكان ، بأن يكون الامكان العقلي جهة القضية الكلية ، وبهذا يخرج
الجواب عن شبهة التصديق بالنقيضين في الأواني المشتبهة تدبر .
فان قلت في الجواب عن الدليل الثاني :
ان الذي يستلزم تجويز اللازم انما هو تجويز الملزوم بحسب نفس الأمر ، والمتحقق هنا
تجويز الملزوم باعتباره مع قطع النظر عن غيره وكما في تجويز عدم العقل الأول نظراً
الى ذاته مع عدم تجويز عدم الواجب اللازم له، كما في تجويز صدق مفهوم واجب الوجود
على كثيرين .
قلت المتحقق فيما نحن فيه التجويز بحسب
نفس الأمر، اما على ماقيل من جواز كون بعض أقل عدد التواتر كاذباً ، فظاهر. واما
على التحقيق فيظهر اذا فرض الكلام فيما اذا كان عدد المخبرين أكثر من أقل عدد
التواتر بكثير فانا قد نجوز بحسب نفس الأمر على بعض المخبرين الكذب بمعنى مخالفة
الاعتقاد، ويحصل لنا الاشتباه في تعيينه .
لا يقال: لا يفيد هذا السمنية لدعواهم
الكلية .
لانا نقول : يمكن الاستعانة في التعميم
بالقياس العقلي ، اما مع دعوى الأولوية .
بأن يقال: لولم يحصل من الأكثر ، فان لا
يحصل من الاقل أولى، وأما مع عدمها فتدبر .
المشكك فيما يحصل من
العلم عند الاخبار ، كالمشكك فيما يحصل عند المشاهدة وغيرها من ضروب الادراكات من
السوفسطائية وأصحاب العنود ومدخل
الشبهات في هذا ، كمدخل الشبهات في ذلك . لان نفوسنا تسكن الى وجود البلدان التي
لم نشاهدها، مثل الصين، والهند، والروم، وغير ذلك مما لم نشاهدها، والى وجود
الملوك وغيرهم، والى هجرة النبى صلىاللهعليهوآله،
والى وقوع المغازى ، وحصول الوقائع الحادثة فى الايام الماضية، كما تسكن الى العلم
بالمشاهدات فمن ادعى فيما يحصل عند الاخبار انه ظن وحسبان ، كمن ادعى ذلك فى
المشاهدات، وهذا القدر كاف في ابطال هذا المذهب، لانه ظاهر البطلان .
فأما كيفية حصول هذا العلم ، فقد اختلف
العلماء في ذلك.
فذهب أبو القاسم البلخي ومن تبعه، الى
أن الاخبار المتواترة التي تحصل عندها العلوم لكل عاقل كلها مكتسبة . والى ذلك
يذهب شيخنا أبو عبد الله رحمهالله
وذهب أبو على وأبو هاشم ، والبصريون، وأكثر الفقهاء،
و
__________________
أصحاب الاشعرى الى أن
العلم بهذه الاخبار، يحصل ضرورة من فعل الله تعالى، لا صنع للعباد فيها .
وذهب سيدنا المرتضى أدام الله علوه (۱) الى تقسيم ذلك فقال
ان أخبار البلدان والوقائع والملوك وهجرة النبي صلى الله عليه و آله ومغازيه وما
يجرى هذا المجرى، يجوز أن يكون ضرورة من فعل الله تعالى، ويجوز أن تكون مكتسبة من
فعل العباد .
وأما ماعدا أخبار البلدان وما ذكرناه
مثل : العلم بمعجزات النبي صلىاللهعليهوآله ،
وكثير من أحكام الشريعة ، والنص الحاصل على الأئمة عليهمالسلام ،
فيقطع على انه مستدل عليه
وهذا المذهب عندى أوضح من المذهبين
جميعاً. وانما قلنا بهذا المذهب، لانه لا دليل هاهنا يقطع به على صحة أحد المذهبين
____________________________________________
(۱) قوله ( وذهب سيدنا
المرتضى أدام الله علوه الخ ) السيد ذهب الى تقسيم الاخبار المتواترة مطلقاً، لا
تقسيم الاخبار المتواترة التي يحصل عندها العلوم لكل عاقل، كما تدل العبارة
المنقولة من الذخيرة بعد ذلك، بل الظاهر من الذريعة ان المرتضى توقف في القسم
الأول. ثم بعد تسليم كونها ضرورية توقف في القسم الأخير، وان كان عبارته في الشرط
المختص ظاهرها يدل على عدم توقفه في الاخير وكذا الظاهر منها أن أبا هاشم جعل
القسم الأول ضرورياً ، وتوقف في الاخير .
__________________
دون الآخر ، فالادلة
فيها كالمتكافئة (۲) واذا
كان كذلك وجب الوقف ، وتجويز كل واحد من الموهبين. ونحن نعترض ما استدل به كل فريق
من الفئتين ، ونبين ما في ذلك .
ولانه أيضاً لا يمتنع أن يكون العالم
بهذه الاخبار قد يقدم له على الجملة العلم بصفة الجماعة التي لا يجوز أن يتفق منها
الكذب ، ولا يجوز على مثلها أيضاً التواطؤ ، لان علم ذلك مستند الى العبادة، فجائز
أن يكون قد عرف ذلك ، وتقدر في نفسه ، فلما أخبره عن البلدان وأخبار الملوك
والوقائع من هو على تلك الصفة، فعل لنفسه اعتقاد الصدق لهذه الاخبار ، وكان ذلك
الاعتقاد علماً للجملة المتقدمة ، فيكون كسبياً له لا ضرورياً فيه .
وليس لاحد أن يقول : ان ادخال التفصيل
في الجملة ، انما يكون فيما له أصل ضرورى على سبيل الجملة ، كما نقول: ان من شأن
الظلم أن يكون قبيحاً ، علم على الجملة ضروري. فاذا علمنا في ضرر بعينه انه ظلم
فعلنا اعتقاداً لقبحة وكان علماً لمطابقته للجملة المتقررة ، وانتم قد جعلتم علم
الجملة مكتسباً والتفصيل كذلك. وذلك انه لا فرق بين أن يكون علم الجملة حاصلا
بالضرورة أو الاكتساب في جواز ان يبنى عليه التفصيل، لان من علم منا
____________________________________________
(۲) قوله ( كالمتكافئة)
لعله اشارة الى رجحان دليل النظرية ، لكن لا بحيث يفيد القطع .
بالاكتساب ، ان من صح
منه الفعل يجب أن يكون قادراً ، ثم علم في ذات بعينها ، انه يصح منها الفعل فعل
اعتقاداً لكونها قادرة فيكون ذلك الاعتقاد علماً لمطابقته للجملة المتقدمة وان
كانت تلك الجملة مكتسبة .
وكذلك اذا علم بالاكتساب ، ان من شأن
القادر أن يكون حياً ، ثم علم فى ذات بعينها انها قادرة فعل اعتقاداً لكونها حية،
فيكون علماً لمطابقته للجملة المتقررة ، فلا فرق اذاً في ادخال التفصيل في الجملة
المتقدمة بين الضرورى والمكتسب .
وكما ان ما ذكرناه ممكن ، يمكن أيضاً أن
يكون الله تعالى أجرى العادة ، بأن يفعل العلم فينا عند سماع الاخبار عن البلدان
وما شاكلها على ما ذهب اليه آخرون ، وليس في العقل دليل على أحد القولين ، فلا يخل
الشك في ذلك بشيء من شرائط التكليف ، فيجب أن يجوز كلا الامرين .
ونحن نتتبع أدلة كل فرقة من الفريقين
ليتم لنا ما قصدناه .
فما استدل به أبو القاسم البلخي ومن
تبعه على ان هذه العلوم مكتسبة أن قال : لا يجوز أن يقع العلم الضروري بماليس
بمدرك و مخبر الاخبار عن البلدان أمر غائب عن الادراك، فلا يجوز أن يكون
ذلك ضرورياً، لانه لو
جاز (۱) كون
العلم بالغائبات ضرورياً، جاز أن يكون العلم بالمشاهدات مستدلا عليه .
واستدل أيضاً بأن العلم بمخبر الاخبار،
انما يحصل بعد تأمل أحوال المخبرين بها وصفاتهم، فدل ذلك على انه مكتسب .
فيقال له فيما ذكره أولا : لم زعمت ان
العلم بالغائب عن الحس لا يكون ضرورياً ، أوليس الله تعالى قادراً على فعل العلم
بالغائب مع غيبته، فما المنكر من أن يفعل بمجرى العادة عند اخبار جماعة مخصوصة ،
وليس له أن يدعى ان ذلك غير مقدور له تعالى كما يقول : ان العلم بذاته تعالى (۲) لا يوصف بالقدرة عليه
.
لانه يذهب الى أن العلم بالمدركات قد
يكون من فعل الله تعالى على بعض الوجوه وليس يفعل العلم بذلك الا وهو في مقدورة
وليس كذلك على مذهبه العلم بذاته تعالى، لانه لا يصح وقوعه منه على وجه من الوجوه
، وعلى هذا أي فرق بين أن يفعل العلم
____________________________________________
(۱) قوله (لانه لوجاز
الخ) ظاهره انه استدلال على الشرطية ، فيتوجه عليه منع ظاهر، ويمكن أن يكون تنظيراً
للشرطية، والمصنف رحمهالله
راعى في الجواب كلا الاحتمالين لان قوله (فيقال الى قوله وانما لم يجز ناظر) الى
الاحتمال الثاني. وقوله (وانما لم الخ) ناظر الى الاحتمال الاول .
(۲) قوله ( كما يقول: ان
العلم بذاته) أي علم غيره بكنه ذاته، وفيه اشارة الى توجه المنع على دليل امتناع
العلم .
بالمدرك عند ادراكه ،
وبين أن يفعل هذا العلم بعينه عند بعض الاخبار عنه ؟ .
وانما لم يجز أن يكون المشاهد مستدلا
عليه ، لان المشاهد معلوم ضرورة للكامل العقل، فلا يصح ان يستدل وينظر فيما يعلمه
لان من شرط صحة النظر ارتفاع العلم بالمنظور اليه .
وأما الشبهة الثانية فبعيدة عن الصواب ،
لانها مبنية على الدعوى (۱) لان خصومه لا يسلمون ان العلم بمخبر
الاخبار عن البلدان، وماجرى مجراها يقع عقيب التأمل لصفات المخبرين. بل يقولون:
انه يقع من غير تأمل لاحوال المخبرين ، وانه انما يعلم أحوال المخبرين بعد حصول العلم
( ۲ ) الضرورى
له بما أخبروا عنه .
وتعلق من ذهب الى أن هذا العلم ضرورى
بأشياء :
منها : ان العلم بمخبر هذه الاخبار لو
كان مكتسباً وواقعاً عن تأمل حال المخبرين وبلوغهم الى الحد الذي لا يجوز أن
يكذبوا، لوجب أن يكون من لم يستدل على ذلك، ولم ينظر فيه من العوام
____________________________________________
(۱) قوله (مبنية على
الدعوى) أي على ما هو في حكم الدعوى، في انه مسلم للخضم مثله .
(۲) قوله (بعد حصول الخ)
لاحاجة الى دعوى البعدية، بل يكفي المعية بل يكفي القبلية أيضاً بدون الترتيب .
والمقلدين وضروب من
الناس لا يعلمون البلدان والحوادث العظام ومعلوم ضرورة الاشتراك في ذلك (۱) .
ومنها : ان حد العلم الضرورى قائم في
العلم بمخبر الاخبار لانا لا نتمكن من ازالة ذلك عن نفوسنا ، ولا التشكيك فيه ،
وهذا حد العلم الضروري .
ومنها : ان اعتقاد من ذهب الى أن هذا
العلم ضرورى صارف عن النظر فيه والاستدلال عليه، فكان يجب أن يكون كل من اعتقد ان
هذا العلم ضرورى غير عالم بمخبر هذه الاخبار ، لان اعتقاده يصرفه عن النظر ، فكان
يجب خلو جماعتنا من العلم بالبلدان وما اشبهها، ومعلوم ضرورة خلاف ذلك .
فيقال لهم فيما تعلقوا به أولا : ان
طريق اكتساب العلم بالفرق بين الجماعة التي لا يجوز أن تكذب في خبرها وبين من يجوز
ذلك عليه قريب لا يحتاج الى دقيق النظر (۲) وطويل التأمل، وكل
____________________________________________
(۱) قوله (ومعلوم ضرورة
الاشتراك الخ) انما يتم في القسم الأول من المتواتر، فهو مؤيد لما مر من أباهاشم
انما ادعى الضرورة في القسم الأول، وكذا الدليل الثاني، وأما الثالث فيجري في
القسم الثاني أيضاً، ألا أن يمنع عدم خلو من يعتقد الضرورة في القسم الثاني عن
العلم .
(۲) قوله (قريب لا يحتاج
الى دقيق النظر الخ) وبهذا يبطل ما قيل من أنه لو كان نظرياً لافتقر الى توسط
المقدمتين ، واللازم منتف. لانا نعلم قطعاً
عاقل يعرف بالعادات
الفرق بين الجماعة التي قضت العادات بامتناع الكذب عليها فيما ترويه، وبين من ليس
كذلك، والمنافع الدنيوية من التجارات وضروب التصرفات مبنية على حصول هذا العلم فهو
مستند الى العادة ويسير التأمل كاف في ذلك، فلا يجب في المقلدين والعامة ألا يعلموا
مخبر هذه الاخبار، من حيث لم يكونوا أهل تحقيق وتدقيق لما ذكرناه .
و يقال لهم فيما تعلقوا به ثانياً : لا
نسلم لكم ، ان حد العلم الضرورى هو ما يمتنع على العالم دفعه عن نفسه ، بل حده ما
فعله فينا من هو أقدر منا، على وجه لا يمكننا دفعه عن انفسنا ، ولا ينبغى أن
يجعلوا ما تفردوا به من الحد دليلا على موضع الخلاف .
ويقال لهم فيما تعلقوا به ثالثاً : ان
العالم بالفرق بين صفة الجماعة التي لا يجوز عليها الكذب لامتناع التواطؤ عليها ،
واستحالة الكذب منها ، كالملجأ عند كمال عقله . وحاجته الى التفتيش و التصرف الى
العلم بذلك (۱) ،
والدواعى اليه قوية ، والبواعث
____________________________________________
على علمنا بما ذكرنا
من المتواترات مع انتفاء ذلك . وأيضاً لو كان نظرياً لساغ الخلاف فيه، ولوادعى ذلك
مدع لم يعد بهتاً ومكابرة كغيره من النظريات ، واللازم منتف ضرورة (انتهى) وذلك
لان من النظريات ما هو بين لا يجوز الخلاف فيه بين العقلاء المزاولين له كبعض الهندسيات
.
(۱) قوله (الى العلم بذلك
أي بمخبر هذه الاخبار ، وجعله اشارة الى الفرق بعيد .
[ الى هنا سقط من النسخة المطبوعة ]
فعله متوفرة .
و قد حصل للعقلاء هذا العلم ، وهذا
الفرق قبل أن يختص بعضهم بالاعتقاد الذى ذكروه انه صارف لهم ، فاذن لا يجب خلوا
مخالفينا من هذه العلوم ، لاجل ما ادعى من الاعتقاد .
وقيل : أنه صارف ، لانا قد بينا انه غير
ممتنع أن يكون العلم بما قلناه قد سبقه ، وتقدم عليه . ويلزم على هذا الوجه ، أن
لا يكون أبو القاسم البلخي عالماً بأن المحدثات تفتقر الى محدث ، لانه يعتقد ان
العلم بذلك ضرورى . واعتقاده ذلك صارف له عن النظر فيجب أن لا يكون (۱) عالماً بذلك ، و يجوز
(۲) أن
يكون غير عارف بالله تعالى وصفاته وأحواله . فأى شيء قالوه فيه ، قلنا مثله فيما
تعلقوا به .
وفي الناس من قال : ان العلم الحاصل عند
الاخبار ، متولد عنها ، وهو من فعل فاعل الاخبار .
والذي يدل على بطلان هذا المذهب انه لو
كان العلم الحاصل
____________________________________________
(۱) قوله (فيجب أن يكون
الخ) لانه نظري عندنا وعندكم، لتوقفه على ابطال الترجيح من غير مرجح المتوقف على
نفي الأولوية الذاتية .
(۲) قوله (ويجوز) بصيغة
المعلوم المجرد من جواز الشيء في الذهن الراجع الى تجويز الذهن اياه، وهو معطوف
على (لا يكون) .
عند الاخبار متولداً
، لوجب ان يتولد عن خبر آخر المخبرين (۱) لان العلم عند ذلك
يحصل ، فلو كان كذلك ، لوجب أن يكون لو اخبرنا (۲) ابتداءاً ، أن يحصل
لنا العلم بخبره . لان خبره هو الموجب للعلم وكان يجب اذا أخبرنا عما يعلم
باستدلال أيضاً ، أن يحصل لنا العلم به .
كما يحصل لنا العلم بما يعلم ضرورة ،
لان خبره هو الموجب و اختلاف حاله في كونه عالما ضرورة واستدلالا ، لا يؤثر في ذلك
. فاذا بطل ذلك ، ثبت ما قلناه .
فان قيل : اذا جوزتم حصول هذا العلم
ضرورة فما شرائطه (۳) وهل
هي التي راعاها البصريون أم لا ؟
قيل : الشرائط التي اعتبروها نحن
نعتبرها ، و نعتبر شرطاً
____________________________________________
(۱) قوله (لوجب ان يتولد
عن خبر آخر المخبرين) لانه لو تولد من المجموع، لكان فاعله مجموع المخبرين، وهو
باطل. لانه لو أخبر المخبر الأول ومات ، ثم أخبر الباقون يحصل العلم مع أن الفاعل
يجب وجوده في زمان حدوث الأثر بالاتفاق .
(۲) قوله (لوجب أن يكون
لو أخبرنا الخ) هذا مبني على ما ذهبوا اليه، من أن شخص الفعل المولد ـ بالكسر لو
وجد، وجد الفعل المولد ـ بالفتح ـ من غير توقف على شرط منتظر، أو معد خارج عن مشخصات
المولد ـ بالكسر .
(۳) قوله ( فما شرائطه )
أي على تقدير كونه ضرورياً ، واما على تقدير كونه نظرياً، فشرائطه بعينها شرائط ما
قطع على نظريته كما سيجيء .
آخراً لا يعتبرونه .
فالشرائط التي اعتبروها هي :
أن يكون المخبرون أكثر من أربعة، ولا
يقطعون على عدد منهم دون عدد .
ومنها : أن يكونوا عالمين بما يخبرونه
ضرورة .
ومنها : أن يكونوا ممن اذا وقع العلم
بخبر عدد منهم، أن يقع العلم بكل عدد مثلهم .
وأما ما نختص به (۱) فهو أن نقول: لا
يمتنع أن يكون من شرطه
____________________________________________
(۱) قوله ( وأما ما نختص
به الخ ) هذا كسابقه انما هو شرط عند المصنف والسيد المرتضى رحمهما الله تعالى،
لافادة العلم الضروري في الجملة، كما سيجيء، لا لافادته العلم مطلقاً كما توهم
الشيخ حسن رحمهالله
تعالى، في معالم الدين ،
ونسبه الى السيد المرتضى أعلى درجته .
__________________
أن يكون من يسمع
الخبر لا يكون قد سبق (۱) الى
اعتقاد يخالف ما تضمنه الخبر بشبهة أو تقليد . ونحن ندل على وجوب جميع ذلك ان شاء
الله تعالى .
انما قلنا : انه لابد أن يكونوا أكثر من
أربعة ، لانه لو جاز أن يقع العلم بخبر أربعة ، لكان شهود الزنا اذا شهدوا بالزنا
وهم أربعة كان يجب أن يحصل العلم للحاكم بصحة ما شهدوا به ، ان كانوا صادقين (۳) ومتى لم يحصل له
العلم ، علم انهم كاذبون ، فكان يجب
____________________________________________
(۲) قوله (أن يكون من
يسمع الخبر لا يكون قد سبق الخ) ينبغي أن يراجع الى ماذكره في حد الضروري، من أنه
لا يمكن دفعه عن النفس بشك أو شبهة ويتأمل في الجمع بينهما، بأن يقال: المراد هنا
اشتراط عدم امكان الدفع بشبهة في تجويز الضرورية، أو اشتراط عدم وقوع الشبهة، أو
عدم امكانه كما يظهر من قوله بعد ذلك (وذلك انه يمكن أن يقال: ان المعلوم الخ)
فانه لو اندفع بها، ظهرت نظريته فتأمل .
(۳) قوله (ان كانوا
صادقين) أي ان وجد فيهم الشرط الثاني، وهو العلم الضروري، اذ المفروض وجود باقي
الشروط. فالمراد بقوله (علم انهم كاذبون) انه علم انتفاء الشرط الثاني، ولا ينتقض
هذا بالخمسة ، لجواز كون عدم العلم فيهم، لانتفاء العلم الضروري في واحد، فيبقى
نصاب الشهادة سليماً .
ويتوجه عليه ان انتفاء الشرط الثاني، لا
يوجب اقامة الحد في الاربعة أيضاً، لجواز انتفائه بانتفاء العلم الضروري عن واحد
منهم، الا اذا ثبت انه يجب اقامة الحد في هذه الصورة أيضاً على المجموع، والأولى
الاقتصار على
ان برد شهادتهم ،
ويقيم حد القذف عليهم ، وان كان ظاهرهم ظاهر العدالة مزكين . وقد أجمع المسلمون
على خلاف ذلك
وليس لاحد (۱) أن يقول : انهم لا
يأتون بلفظ الخبر ، فلذلك لا يقع العلم بشهادتهم ، لانه لا اعتبار عندنا بالالفاظ
، لانه لو أخبر المخبر بالعجمية أو النبطية ، لكان كاخباره بالعربية ، بل لو عرف
قصد المشير ، لكان حاله حال المخبر في وجوب العلم عنده ، فما ذكروه لا يصح .
____________________________________________
رد الشهادة كما فعله
المرتضى رحمه
(۱) قوله (وليس لاحد الخ)
قال سيدنا المرتضى أعلى الله درجته في الذريعة ويمكن الطعن على هذه الطريقة ، بأن
يقال: لفظ الشهادة وان كان خبراً في المعنى، فهو يخالف لفظ الخبر الذي ليس بشهادة،
فألا جاز أن يجري الله تعالى العادة بفعل العلم الضروري عند الخبر الذي ليس فيه
لفظ الشهادة، ولا يفعله عند لفظ الشهادة، وان كان لفظ الكل اخباراً، كما انه تعالى
أجرى العادة عندهم، بأن يفعله عند خبر من أخبر عن مشاهدة، ولا يفعله عند خبر من
أخبر عن علم استدلالي، وان كان الكل علوماً ويقيناً (انتهى)
.
وحاصله منع انحصار الشروط فيما ذكر مع
سند على تقدير الضرورية وما ذكره المصنف رحمهالله
فى الجواب لو تم على تقدير الضرورية، لكان دفعاً للسند الاخص، وكذا في الثاني
.
__________________
و ليس لهم أيضاً أن يقولوا : ان الشهود
يشهدون مجتمعين غير متفرقين، وكونهم كذلك يوجب أن يكونوا في حكم من تواطىء وعلى ما
اخبر به ، ومن شرط من يقع العلم بخبرهم أن لا يتواطؤا ، فلذلك لا نعلم بشهادتهم ،
وذلك ان هذا فاسد من وجهين :
أحدهما : انالو فرقنا (۱) الشهود وهو الافضل
عندنا ، لما وقع العلم بخبرهم ، فكونهم مجتمعين ككونهم متفرقين في انتفاء العلم
عند شهادتهم .
والوجه الآخر : انا لا نجعل (۲) من شرط من يقع العلم
بخبره أن لا يتواطؤا ، فان ذلك انما يشترط في الخبر الذي يستدل على صحة مخبره دون
ما يقع العلم عنده ضرورة ، ولا فرق فيما يخبرون به بين أن يكونوا مجتمعين ، أو
متفرقين، أو متواطئين ، أو غير ذلك اذا علموا ما أخبروا به ضرورة في وجوب حصول
العلم عند خبرهم.
ولولا هذا الدليل لما وقف على أربعة
أيضاً فكان يجوز أن يحصل العلم عند كل عدد دون ذلك كما ، ان ما زاد على أربعة لم
____________________________________________
(۱) قوله (لوفرقنا الشهود
الخ) تفريقهم في الاقامة بعد الاجتماع، لا ينافي مظنة التواطؤ بالكلية .
(۲) قوله (لا نجعل الخ)
لأحد أن يمنع عدم اشراط عدم التواطؤ ، بل له أن يجوز اشتراط امتناع التواطؤ عادة .
نعم لا يشترط العلم بعدم التواطؤ، أو بامتناع التواطؤ على تقدير الضرورية ، انما
هو شرط على تقدير الكسبية .
يقف على عدد دون عدد
، بل جوزنا أن يحصل العلم عند كل عدد زاد على الاربعة ، فنظير هذا أن نجوز حصول
العلم عند كل عدد دون الاربعة، لانه ليس هاهنا دليل على وجوب مراعاة هذا العدد
المدعاة فلما لم نقطع على عدد زاد على الاربعة، لفقد الدليل على ذلك، فكذلك هاهنا
.
وقول من قال: انهم عشرون تعلقاً بقوله
تعالى (
إِنْ
يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ
)
(۱) وانه
لما أوجب الجهاد عليهم، وجب أن يكونوا ممن اذا دعوا الى الدين علم ما دعوا اليه،
لا يصح من وجهين :
أحدهما : ان البغية بالاية، التنبيه على
وجوب ثبات الواحد للعشرة، لا ايجاب الجهاد على هذا العدد بل قد اتفقت الامة على
وجوب الجهاد على الواحد اذا كان له غناً، ولم يوجب وقوع العلم بخبره .
والوجه الثاني : (۲) ان ما يدعون اليه من
الدين معلوم باستدلال ونحن نبين ان ما يعلم بالدليل لا يقع العلم بخبرهم وان
كثروا، ولابد من أن يكون عالمين به ضرورة .
____________________________________________
(۲) قوله (والوجه الثاني)
هذا سند لمنع أن يكون وجوب الجهات عليهم لاجل كون عند خبرهم مفيداً للعلم ، فلا
يضره ان بعض ما يدعونه اليه كصدور المعجزات عنه صلىاللهعليهوآله
ضروري .
__________________
وأما من قال: انهم سبعون مثل عدد الذين
أحضرهم موسى عليهالسلام
عند الميقات ، لانه انما أحضرهم ليقوم بخبرهم حجة على غيرهم، لا يصح أيضاً لاخر
الوجهين الذين ذكر ناهما في الشبهة الاولى، ولانه لا يمنع أن يكون من دونهم
بمنزلتهم، سيما وخبر موسى عليهالسلام
عن ربه كان يغنى عن خبرهم فاذا اجاز أن يختاروا مع خبره يغنى عن خبرهم، فيجب أن
يكون اختيار السبعين وان وقع العلم بمن دونهم ، أولم يقع العلم بخبرهم أصلا كذلك ،
فمن أين ان سبب اختيارهم كان ما ادعاه السائل .
فأما من اعتبر الثلاثمائة، لانهم العدد
الذين جاهد بهم النبي صلىاللهعليهوآله
في غزوة بدر (۱) فليس
له تعلق بوقوع العلم بخبرهم، والكلام عليه يقارب الكلام على الوجهين الأولين .
وأما الشرط الثاني: وهو انه يجب أن
يكونوا عالمين بما اخبروا به ضرورة. فانما اعتبرناه ، لان جماعة من المسلمين
يخبرون الملحدة، بأن الله تعالى أحد، ويخبرون اليهود والنصارى بنبوة نبينا صلىاللهعليهوآله، فلا يحصل لهم العلم
بصحة ذلك، ويخبر
__________________
(۱) بدر : ماء مشهور بين
مكة والمدينة ، أسفل وادى الصفراء بينه وبين الجار ، وهو ساحل البحر ليلة، وبهذا
الماء كانت الوقعة المشهورة التي أظهر الله بها الاسلام ، وفرق بين الحق والباطل ،
فكانت وقعة بدر يوم الجمعة . صبيحة سبع عشرة من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة
النبوية .
بعضهم عن البلدان وما
اشبهها، فيحصل العلم بخبرهم .
والعلة في ذلك على التقريب (۱) ان العلم الضروري لو
وقع بذلك، لادى الى أن يكون حال المخبر (۲) أقوى من حال المخبر (۳) وهذا لا يجوز
(٤) واذا لم يقع العلم بخبر من يعلم ما اخبر عنه باكتساب فبان لا يقع بخبر
من لا يعلم المخبر عنه أصلا، من المقلدين والمبختين أولى وأحرى .
وأما الشرط الثالث: وهو ان كل عدد وقع
العلم عند خبرهم، فيجب أن تطرد العادة فيه، فيقع العلم عند كل عدد مثله اذا ساووهم
في الاخبار بما علموه ضرورة .
____________________________________________
(۱) قوله ( على التقريب )
أي بحيث يقرب الى الفهم بدون تكثير المقدمات
(۲) قوله (حال المخبر )
على لفظ اسم المفعول ، أي السامع .
(۳) قوله (من حال المخبر
على لفظ اسم الفاعل ، أي المتكلم
.
(٤) قوله (وهذا لا يجوز) لان
الكلام في علم أقل عدد التواتر ، ويفرض التساوي في جميع ماعدا كون أحدهما مخبراً ،
والآخر مخبراً ، كما في المخبر الاخير اذا سمع الاخبار المتقدمة ، و هذا يدل على
اشتراط العلم مطلقاً في الخبر الذي يعلم مخبره استدلالا ، وانما لم يذكره فيه
للزومه لما ذكر فيه فبطل ما قيل : من ان شرط كونهم عالمين ، باطل ان اريد وجوب علم
الكل به لانه لا يمتنع أن يكون بعض المخبرين مقلداً فيه ، أو ظاناً أو مجازفاً .
__________________
وانما قلنا ذلك، لانا لو جوزنا خلاف ذلك
لم نأمن أن يكون في الناس (۱) من تخبره الجماعة الكثيرة ولا يعلم
بخبرها، وهذا يوجب
____________________________________________
(۱) قوله (لم نأمن أن
يكون في الناس الخ) هذا على تقدير تمام أدلة من ذهب الى ضرورية العلم ، فلا يرد
عليه ان من النظريات ما لا نجوز الخلاف فيه بين العقلاء ، لكن يرد عليه أن هذا يدل
على ان بعض الاعداد التي وقع عند خبرهم العلم تطرد العادة فيه ، فيقع العلم الضروري
بكل عدد مثله، وهو العدد الذي يحصل خبرهم لكل من كان في الناس بوجود مكة مثلا ، أو
الجانب الغربي ، ولا يدل على أن كل عدد يفيد العلم في شخص ، أو واقعة ، وان كان
أقل من مخبري مثل مكة تطرد فيه العادة في كل شخص ، وكل واقعة .
نعم اختلاف الاعداد والوقائع باعتبار
القرائن ، انما يتأتى على تقدير الكسبية ، لا على تقدير الضرورية، فبطل ما قيل على
تقدير الضرورية ، من انه يختلف بالقرائن التي تتفق في التعريف غير زائدة على المحتاج
اليها في ذلك عادة من الجزم ، و تفرس آثار الصدق ، و باختلاف اطلاع المخبرين على
مثلها عادة ، كد خاليل الملك بأحواله الباطلة وباختلاف ادراك المستمعين وفطنتهم ،
وباختلاف الوقائع وتفاوت كل واحد منهما يوجب العلم بخبر عدد أكثر أو أقل لا يمكن
ضبطه ، فكيف اذا تركبت الاسباب (انتهى) .
وأما اختلافها لا باعتبار القرائن، بل
بحسب ما يعلمه الله تعالى من المصلحة فلا دليل على نفيه ، كما يدل عليه ظاهر قوله (انما
قلنا انه لا يمتنع الخ) اللهم الا ان يقال : المراد الاطراد مع استجماع الشرائط
فيما هي شرايط فيه، وحاصله عدم الاختلاف بالقرائن .
أن يصدق من أخبر عن
نفسه، مع مخالطته الناس، انه لا يعلم ان في الدنيا مكة، بل يجب أن يصدق المقيم في
الجانب الشرقي ان لا يعلم الجانب الغربي اذا لم يعبر اليه وذلك سفسطة لا يصير اليه
عاقل.
وأما الشرط الذي نختص بمراعاته، فانما
قلنا : انه لا يمتنع ، لانه اذا كان هذا العلم مستنداً الى العادة، وليس بموجب عن
سبب جاز وقوعه على شروط زائدة وناقصة (۱) بحسب ما يعلمه الله
تعالى من المصلحة، وأجرى به العادة .
وانما احتجنا الى زيادة هذا الشرط، لئلا
يقال: أي فرق (۲) بين
خبر البلدان، والاخبار الواردة بمعجزات النبي صلى الله عليه
____________________________________________
(۱) قوله (على شروط زائدة
وناقصة الخ) يدل بظاهره على ان هذا الشرط ليس شرطاً في جميع صور افادة التواتر
للعلم الضروري ، بل قد يكون شرطاً بحسب مصلحة فيزيد به الشروط كما في أقل عدد
التواتر المفيد للعلم الضروري وما في حكم الأقل . وقد لا يكون شرطاً فتنقص الشروط
به كما في الاعداد الزائدة على أقل حد التواتر المفيدة للعلم الضروري بكثير .
(۲) قوله (أي فرق) يدل
على أنه تكامل في اخبار المعجزات عدد التواتر المفيد للعلم الضروري ، ولا احتياج
الى هذا الشرط ، وانه اذا لم يتكامل العدد الذي أجرى الله تعالى أن يفصل عنده
العلم الضروري ، كان نظرياً بدون هذا الشرط .
و آله سوى القرآن (۱) كحنين الجذع ،
وانشقاق القمر، وتسبيح الحصى وغير ذلك ؟
وأى فرق أيضاً بين أخبار البلدان، وبين
خبر النص الجلي الذي يتفرد بنقله الامامية ؟ وألا أجزتم أن يكون العلم بذلك كله
ضرورياً كما أجزتموه في أخبار البلدان وما أشبهها، وليس يمتنع أن يكون السبق الى
اعتقاد مانعاً من فعل العلم الضروري بالعادة، كما ان السبق الى الاعتقاد بخلاف ما
يولده النظر عند مخالفينا مانع من توليد النظر العلم، واذا أجاز ذلك فيما هو سبب
موجب فأولى أن يجوز فيما طريقه العادة .
وليس لاحد (۲) أن يقول: فيجب على
هذا أن لا يفعل العلم الضرورى لمن سبق الى اعتقاد، لنفى ذلك المعلوم. ويفعل لمن لم
____________________________________________
(۱) قوله (سوى القرآن)
امالان الشبهة انما يتطرق في وجود المعجزات ووجود القرآن ضروري لا يتطرق اليه شبهة
، و صدوره عن النبي صلىاللهعليهوآله
أيضاً لا يتطرق اليه شبهة تدل على عدمه ، اذ معلوم عندهم انه لم يصدر عن انبيائهم
واما لان عدد المخبرين فيه، زاد على أقل عدد التواتر المفيد للعلم الضروري يكثر
بحيث لم يحتج الى وجود هذا الشرط في افادة العلم الضروري .
(۲) قوله (وليس لاحد)
ظاهره انه نقص لدليل الاشتراط . فالجواب توجيه للاشتراط بحيث لا يرد على دليله
النقض والبحث الثاني نقض للدليل على التوجيه المذكور في الجواب ، و جوابه منع فيه
استظهار بدعوى ضرورة .
يسبق. وهذا يقتضى أن
يفعل العلم الضروري بالنص الجلى للشيعة لانهم لم يسبقوا الى اعتقاد يخالفه، وكذلك
المسلمون في المعجزات التي ذكرناها .
وذلك انه يمكن أن يقال : ان المعلوم في
نفسه اذا كان من باب ما يمكن السبق الى الاعتقاد لنفيه ، أما لشبهة أو تقليد، لم
يجر الله تعالى العادة بفعل العلم الضرورى به. وان كان ممالا يجوز أن يدعوا
العقلاء داع الى اعتقاد نفيه ، ولا تعرض لشبهة في مثله ، كالخبر عن البلدان ، جاز
أن يكون العلم به ضرورياً عند الخبر على ما ذكرناه .
وليس لاحد أن يقول: اجيزوا (۱) أن يكون في العقلاء
المخالطين لنا، السامعين للاخبار، من سبق الى اعتقاد منع بالعادة، من فعل العلم
الضرورى له. فاذا أخبركم بأنه لا يعرف بعض البلدان الكبار، والحوادث العظام، مع
سماعه الاخبار، وكمال عقله ، كان صادقاً
وذلك انا نعلم ضرورة انه لاداعى للعقلاء
(۲) يدعوهم
الى
____________________________________________
(۱) قوله (اجيزوا الخ)
يمكن المناقشة بأن السبق الى الشبهة ليس مانعاً من فعل العلم الضروري مطلقاً كما
مر .
(۲) قوله (لاداعي
للعقلاء) قد يناقش فيه بالمنع وهو غير متجه ، ودعوى حصول شبهة لبعض العقلاء لوسلم،
يندفع بأن المراد انه ليس بمتعارف ، بل هو
سبق اعتقاد نفى بلد
من البلدان أو حادث عظيم من الحوادث ، ولا شبهة تدخل في مثل ذلك. ففارق هذا الباب
أخبار المعجزات والنص، لان كل ذلك مما يجوز السبق فيه الى الاعتقادات الفاسدة
للدواعي المختلفة .
وليس من شرط المخبرين أن يكونوا مؤمنين،
ولا أن يكون فيهم حجة حتى يقع العلم بخبرهم. لان الكفار (۱) قد يخبرون عن أشياء
يعلمونها ضرورة، فيحصل لنا العلم عند خبرهم ، ولو كان ذلك شرطاً صحيحاً لاستحال
ذلك .
وليس أيضاً من شرط وقوع العلم تصديق
جميع الناس لخبرهم لان العلم بتصديقهم كلهم لا يقع الا بمشاهدتهم، وذلك متعذراً ،
وبالخبر عن حالهم (۲) وذلك
يوجب (۳) وقوع
العلم بخبر طائفة ،
____________________________________________
نادر في حكم العدم .
(۱) قوله (لان الكفار)
هذا يدل على نفي الاشتراط في افادة التواتر، العلم الضروري في جميع الصور .
(۲) قوله (أو بالخبر عن
حالهم) بأن يجيء من كل فرقه من الناس طائفة ، ويخبرونا بتصديق قولهم .
(۳) قوله (وذلك يوجب الخ)
قد يناقش فيه بأنه يجوز أن يكون العلم بخبر الطائفة التي لم يعلم ان غيرهم مصدقون
لهم نظرياً ، يتوقف عليه علم ضروري كالعلم بالقضايا البديهية النظرية الاطراف .
وان لم يعلم ان غيرهم
مصدقون لهم .
وهذه الجملة كافية في جواز أن يعلم مخبر
الاخبار ضرورة واكتساباً .
فأما الاخبار التي نعلم مخبرها استدلالا
(۱) فقد
ذكر سيدنا المرتضى أدام الله علوه، جملة وجيزة في هذا الباب في كتابه الذخيرة أنا
أذكرها بالفاظه لانها كافية في هذا الباب ، والزيادة عليها يطول به الكتاب .
قال: الخبر اذا لم يكن من باب (۲) ما يجب وقوع العلم
عنده واشتراك العقلاء فيه، وجاز وقوع الشبهة فيه، فهو أن يرويه جماعة
____________________________________________
ويمكن الجواب بأن المراد نفي الاشتراط
في افادة التواتر للعلم مطلقاً لا العلم الضروري فقط . ويمكن ابطال الشق الثاني
بأن التواترفيه لا يفيد العلم أصلا، لان التصديق من الامور الباطنة، فاحتمال اللبس
قائم ، والعلم الضروري منتف ، الا أن يريد المشترط بالتصديق اللفظ الدال عليه ،
كما ذكروه في الاجماع المنقول بالتوائر.
(۱) قرله (تعلم مخبرها
استدلالا) المخبر هنا على اسم المفعول من باب الافعال ، أي الواقعة، وكذا في قوله (عن
المخبر الواحد) وكذا في قوله (بلا واسطة عن المخبر) وكذا في قوله (نفس المخبر) .
(۲) قوله (اذا لم يكن من
باب الخ) اما لعدم تكامل العدد الذي اجرى الله تعالى عادته بفعل العلم الضروري
عنده ، أو لكون المخبر مما يتطرق اليه شبهة .
قد بلغت من الكثرة
الى حد لا يصح معه أن يتفق الكذب (۱) منها عن المخبر الواحد .
وأن يعلم مضافاً الى ذلك انه لم يجمعها
على الكذب جامع ، كالتواطؤ وما يقوم مقامه .
ويعلم أيضاً (۲) ان اللبس والشبهة
زائلان عما خبروا عنه ، هذا اذا كانت الجماعة تخبر بلاواسطة عن المخبر. فان كان
بينهما واسطة، وجب اعتبار هذه الشروط المذكورة في جميع من خبرت من المتوسطات عنه
من الجماعات، حتى يقع الانتهاء الى نفس المخبر .
وتأثير هذه الشروط المذكورة في العلم
بصحة هذا الخبر
____________________________________________
(۱) قوله (لا يصح معه أن
يتفق الكذب) أي بدون تواطوء ، وهذا الشرط لابد منه ، وهو غير عدم التواطؤ ، فما
قيل في شرح قولهم : وشرط التواتر تعدد المخبرين تعدداً يمنع الاتفاق والتواطؤ من ان
أحد شرائط التواتر تعددهم تعدداً يبلغ في الكثرة الى أن يمنع الاتفاق بينهم ، والتواطؤ
على الكذب عادة باطل لان عدم التواطؤ لا يغني عن عدم الاتفاق .
(۲) قوله (ويعلم أيضاً
الخ) هذا هو الصواب ، وقيل : في بدل هذا الشرط كونهم مستندين لذلك الخبر الى الحسن
، وهذا لا يفيد . كما يتضح ذلك في مثال صلب المسيح عليهالسلام .
__________________
ظاهر، لان الجماعة
اذا لم تبلغ من الكثرة الى الحد الذي يعلم معه انه لا يجوز أن يتفق الكذب منها عن
المخبر الواحد ، لم نأمن أن تكون كذبت على سبيل الاتفاق ، كما يجوز ذلك في الواحد
والاثنين .
واذا لم يعلم ان التواطؤ ، وما يقوم
مقامه مرتفع عنها، جوزنا أن يكون الكذب وقع منها على سبيل التواطؤ .
والشبهة أيضاً تدعوا الى الكذب، وتجمع
عليه، كأخبار الخلق الكثير من المبطلين عن مذاهبهم الباطلة لاجل الشبهة الداخلة
عليهم فيها، وان لم يكن هناك تواطؤ منهم .
ولا فصل فيما اشترطناه من ارتفاع اللبس
والشبهة بين أن يكون المخبر عنه مشاهداً ، أو غير مشاهد في أن الشبهة قد يصح
اعتراضها في الأمرين
ألا ترى ان اليهود والنصارى مع كثرتهم
نقلوا صلب المسيح عليهالسلام
وقتله، لما التبس عليهم الامر فيه، وظنوا ان الشخص الذي رأوه مصلوباً هو المسيح عليهالسلام .
ودخلت الشبهة عليهم، لان المصلوب قد
تتغير حليته، وتتبدل صورته، فلا يعرفه كثير ممن كان عارفاً به ، ولبعد المصلوب
أيضاً عن التأمل ، تقوى الشبهة في أمره.
والوجه اشتراط هذه الشروط فى كل
الجماعات المتوسطة
بيننا وبين المخبر،
لان ذلك لو لم يكن معلوماً في جميعهم، جوزنا كون من ولينا من المخبرين صادقاً عمن
أخبر عنه من الجماعات وان كان الخبر في الاصل باطلا من حيث لم تتكامل الشرائط في
الجميع.
ومتى تكاملت هذه الشروط ، فلابد من كون
الخبر صدقاً ، لانه لا ينفك عن كونه صدقاً أو كذباً . ومتى كان كذباً، فلابد أن
يكون وقع اتفاقاً، أولتواطؤ، أو لاجل شبهة .
واذا قطعنا على فقد ذلك كله، فلابد من
كونه صدقاً . فأما الطريق الى العلم بثبوت الشرائط فنحن نبينه .
أما اتفاق الكذب عن المخبر الواحد، فلا
يجوز أن يقع من الجماعات، والعلم بحال الجماعة، وان ذلك لا يتفق منها، وانها
مخالفة للواحد والاثنين ضرورى لا يدخل على عاقل فيه شبهة ، ولهذا أجزنا أن يخبر
واحد ممن حضر الجامع يوم الجمعة ، بأن الامام تنكس على ام رأسه من المنبر كاذباً.
ولا نجوز أن يخبر عن مثل ذلك على سبيل الكذب جميع من حضر المسجد الجامع أو جماعة
منهم كثيرة الا لتواطؤ، أو ما يقوم مقامه .
وقد شبه امتناع ما ذكرناه من الجماعات
باستحالة اجتماع الجماعة الكثيرة على نظم شعر على صفة واحدة، واجتماعهم على
تصرف مخصوص، وأكل شيء
معين من غير سبب جامع .
وشبه أيضاً بما علمناه من استحالة أن
يخبر الواحد أو الجماعة من غير علم عن امور كثيرة ، فيقع الخبر بالاتفاق صدقاً .
وجواز اخبار جماعة كثيرة بالصدق من غير تواطؤ ، مفارق لاخبارها بالكذب من غير سبب
جامع .
لان الصدق يجرى فى العادة مجرى ما حصل
فيه سبب جامع من تواطؤ ، أو ما يقوم مقامه، وعلم المخبر بكون الخبر صدقاً داع اليه
، وباعث عليه . وليس كذلك الكذب ، لان الكذب لابد في اجتماع الجماعة عليه، من أمر
جامع لها، ولم يستحل أن يخبروا بذلك وهم صادقون من غير تواطؤ .
وأما الطريق الى العلم بفقد التواطؤ على
الجماعة ، فربما كان كثرة الجماعات، يستحيل معها التواطؤ عليها مراسلة أو مكاتبة
وعلى كل وجه وسبب. لانا نعلم ضرورة ان جميع أهل بغداد لا يجوز أن يواطؤوا جميع أهل
الشام، لا باجتماع ومشافهة ، ولا مكاتبة و مراسلة، على أن التواطؤ فيمن يجوز ذلك
عليه من الجماعة بمشافهة أو مكاتبة أو مراسلة، لابد بمجرى العادة من أن يظهر لمن
خالطهم ظهوراً يشترك كل من خالطهم في علمه ، وهذا حكم مستند الى العادات لا يمكن
دفعه .
وأما ما يقوم مقام التواطؤ من الاسباب
الجامعة، كتخويف السلطان وما يجرى مجراه ، فلابد أيضاً من ظهوره، وعلم الناس به ،
لان الجماعة لا تجتمع على الأمر الواحد لاجل خوف السلطان الا بعد أن يظهر لهم غاية
الظهور، وما هذه حاله لابد من العلم به والقطع على فقده اذا لم يعثر عليه (۱) .
وأما ما به يعلم ارتفاع اللبس والشبهة
عن مخبر الخبر الذي خبرت به الجماعة ، فهو أن تخبر الجماعة عن أمر مدرك ، اما
بمشاهدة أو بسماع، ويعلم انتفاء اسباب اللبس والشبهة عن ذلك المخبر ، فان أسباب
التباس المدركات معلومة محصورة ، يعلم انتفاؤها حيث ينتفى ضرورة .
فأما ما به يعلم ثبوت الشرائط التي
ذكرناها في الطبقات التي تروى الخبر، فهو ان العادات جارية بأن المذاهب والاقوال
التي تقوى بعد ضعف، وتظهر بعد خفاء ، وتوجد بعد فقد ، لا بد أن يعرف ذلك من حالها،
ويفرق العقلاء المخالطون لاهلها بين زمانی فقدها ووجودها ، وضعفها وقوتها،
ولهذا علم الناس كلهم ابتداء حال الخوارج، وظهور مقالة الجهمية والنجارية (۲) ومن جرى
____________________________________________
(۱) قوله (اذا لم يعثر
عليه) أي لم يعثر عليه من خالطهم .
(۲) قوله ( مقالة الجهمية
، والنجارية) الجهمية منسوبة الى جهم بن
مجراهم، وفرق العقلاء
من سامعى الاخبار بين زمان حدوث مقالتهم وبين ما تقدمها .
واذا صحت هذه الجملة التي ذكرناها في
صفة الخبر الذي لا بد أن يكون المخبر به صادقاً من طريق الاستدلال، بنينا عليها
صحة ذلك، المعجزات والنصوص على الأئمة عليهمالسلام على
ما نذهب اليه، وغير ذلك من أحكام الشريعة وغيرها (۱)
فأما خبر الله تعالى، فانما يعلم صدقه
اذا علم أولا انه لا يلغز في أخباره، ولا يريد بها غير ظاهرها ولا يدل عليه (۲) وانه لا يجوز
____________________________________________
صفوان . ذكروا ان
ظهوره أولا كان بترصد في زمان التابعين ، وقتله ابن احوز المازني في آخر ملك بني
اميه ، ومن مقالاته : ان الله تعالى خلق شيئاً وسماه الرحمن ، ثم قال : ( الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ
اسْتَوَىٰ )
، أي المخلوق .
والنجارية منسوبة الى حسين النجار، ومن
مقالاته القول بالجبر والنجارية على ثلاث فرق : البرغوثية ، والزعفرانية ،
والمستدركة . ولكل منهم مقالات خارجة عن العقل والشرع .
(۱) قوله ( من أحكام
الشريعة وغيرها) هذا آخر ما نقل من كلام سيدنا
المرتضى في الذخيرة .
(۲) قوله (ولا يدل عليه)
حال عن فاعل يريد ، لا لا يريد .
__________________
عليه الكذب ولا يعلم
ذلك من حاله الا من علم انه عالم بقبح القبيح وغنى عن فعله وانه اذا كان كذلك لا
يجوز أن يختار القبيح، وقدبينا جملة من القول فيه .
وأما خبر الرسول صلىاللهعليهوآله فانه يعلم به صدقه
لان العلم المعجز (۱) قد
دل على انه رسول الله صلىاللهعليهوآله،
ولا يجوز أن يرسل الله من يكذب فيما يؤديه عنه وقد أمرنا بتصديقه في كل أخباره،
فيجب أن يكون صدقاً ، لان تصديق الكذاب قبيح، والله يتعالى عن ذلك، فعلم عند ذلك
ان أخباره صلىاللهعليهوآله
صدق .
والقول فى أخبار الامام القائم مقامه ،
كالقول في أخباره . لان الدليل الدال على وجوب عصمته امننا من وقوع القبيح من
____________________________________________
(۱) قوله (العلم المعجز)
بفتح العين واللام بمعنى العلامة ، يؤيده أن يجمع على اعلام كما سيجيء . ويحتمل ان
يكون بكسر العين وسكون اللام. قال الطبرسي رحمهالله
في قوله تعالى : (
وَإِنَّهُ
لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ )
وان عيسى البلا لشرط من اشراطها ، يعلم به قسمي الشرط ، علماً لحصول العلم به،
وقرأ ابن عباس «العلم أي علامة (انتهى) .
__________________
جهته، وفي ذلك امان
من أن يكون خبره كذباً .
وأما خبر الامة (۱) اذا اعتبرناه (۲) فانما نعلم مخبره لما
تقدم لنا من العلم بكون المعصوم فيها .
وأما خبر الواحد بمحضر من الجماعة
الكثيرة وادعاؤه عليهم المشاهدة، كنحو من ينصرف من الجامع ويخبر بوقوع الامام من
المنبر، ويدعى على جميع المنصرفين من الجامع مشاهدة ذلك ، ويعلم انه لا صارف لهم
عن تكذيبه ، فمتى لم يكذبوه ، علمنا انه صادق. لانه لولم يكن صادقاً لانكروه على
مقتضى العادة .
فأما خبر المخبر بحضرة النبى صلى الله
عليه و آله عن الشيء، اذا لم ينكر عليه، فان كان هذا المخبر يدعى المشاهدة لذلك،
ولم ينكر عليه، فذلك دليل على صدقه وان أطلق الخبر اطلاقاً، فانه لا يدل على ذلك .
____________________________________________
(۱) قوله (وأما خبر الامة)
أراد به الاجماع ، وانما اطلق عليه الخبر لان الافتاء خبر عن ان المفتي به حكم
الله .
(۲) قوله (اذا اعتبرناه)
أي نظرنا اليه بعين الاعتبار والتفتيش ، أو قلنا بحجيته وهو حينئذ احتراز عما اذا
تعين شخص الامام منهم فانه ليس بمعتبر، انما المعتبر قول الامام ، وقد مر نظير هذه
العبارة في الفصل الأول من الكتاب.
فأما الامة اذا تلقت الخبر بالقبول (۱) وصدقت به (۲)، فذلك دليل على
صحته، لانه لو لم يكن صحيحاً لادى الى اجتماعها على خطأ، وذلك لا يجوز مع كون
المعصوم فيها .
ومتى تلقت الخبر بالقبول ولم تصدق به (۳) فذلك لا يدل على
صدقه، لان هذا حكم أكثر أخبار الاحاد .
وأما الخبر اذاروى وعلمت الامة بأجمعها
بموجبه لاجله فعند من قال: لا يجوز العمل بخبر الواحد (٤) ينبغى أن يكون
دلالة على صحته ، لانه لو لم يكن صحيحاً لادى الى اجماعهم على العمل به وهو خطأ
وذلك غير جائز عليهم .
____________________________________________
(۱) قوله (اذا تلقت الخبر
بالقبول) أي عملت بمضمونه ، ولا يعتبر في مفهوم التلقي بالقبول أن يكون العمل
لاجله .
(۲) قوله (وصدقت به) أي
قالت ان هذا صدق أو شبهه ، وهذا القول انما يجوز عند المصنف بعد حصول العلم بالصدق
كما سيجيء في قوله تعالى : (
وَأَنْ
تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ
)
.
(۳) قوله ( ومتى تلقت
الخبر بالقبول ولم تصدق به) هذا اذا لم يعلم منهم العمل لاجله بقرينة ذكره بعد هذا
.
(٤) قوله (فعند من قال : لا يجوز
العمل بخبر الواحد) المراد عدم جواز عمل جميع الامة بخبر الواحد ، أي على القول
بوجود المعصوم القاطع في جميع أحكامه .
__________________
وأما من قال: يجوز العمل بخبر الواحد،
فلا يمكنه أن يقول ان ذلك دلالة على صحته ، لانهم اذا اعتقدوا جواز العمل بخبر
الواحد (۱) جاز
أن يجمعوا عليه وان لم يكن صحيحاً (۲) في الاصل كما انهم يجوز أن يجمعوا على
شيء من طريق الاجتهاد عندهم وان لم يكن طريق ذلك العلم .
وأما الخبر اذا ظهر بين الطائفة المحقة
وعمل به أكثرهم ، وأنكروا على من لم يعمل به ، فان كان الذي لم يعمل به، علم انه
امام، أو الامام داخل في جملتهم ، علم ان الخبر باطل. وان علم انه ليس بامام، ولا
هو داخل معهم ، علم ان الخبر صحيح ، لان الامام داخل في الفرقة التي عملت بالخبر،
وهذه جملة كافية في هذا الباب .
____________________________________________
(۱) قوله (اذا اعتقدوا
جواز العمل بخبر الواحد) أي عمل جميع الامة بأن لا يقولوا بوجود المعصوم .
(۲) قوله (جاز أن يجمعوا
عليه وان لم يكن صحيحاً) هذا مبنى على ما سيجيء في بحث الاجماع من عدم تمام أدلة
حجية الاجماع من حيث انه اجماع من غير ملاحظة دخول المعصوم وسيجيء بسط الكلام فيه
ان شاء الله تعالى .
فصل
في أن في الاخبار
المروية ما هو كذب
والطريق الذي يعلم به
ذلك من المعلوم الذى لا يتخالج فيه شك ،
ان في الاخبار المروية عن النبي صلىاللهعليهوآله
كذباً، كما ان فيها صدقا ، فمن قال: ان جميعها صدق، فقد أبعد (۱) القول فيه. ومن قال :
انها كلها كذب فكذلك لفقد الدلالة على كلا القولين .
وقد توعد (۲) النبى صلىاللهعليهوآله على الكذب عليه
بقوله :
____________________________________________
(۱) قوله قدس سره (فقد
أبعد الخ) أي جعل القول بعيداً عن الحق .
(۲) قوله (وقد توعد الخ)
ظاهره انه دلالة على ما تقدم من ان في الاخبار المروية عن النبي صلىاللهعليهوآله كذباً .
وقال سيدنا المرتضى أعلى الله درجته :
وليس ذلك بمعتمد لانه يتضمن الوعيد ، ولا يعلم وقوع الفعل (انتهى) .
وفي كتاب فضل العلم من الكافي ، في باب
اختلاف الحديث ، عن أمير المؤمنين الا انه قال في حديث طويل : وقد كذب على رسول
الله صلىاللهعليهوآله على
عهده ، حتى قام خطيباً فقال: «أيها الناس قد كثرت علي الكذابة ، فمن كذب علي
متعمداً فليتبوأ مقعده من النار» .
__________________
« من كذب على متعمداً
فليتبوأ (۱) مقعده
من النار » (۲) .
وتجنب كثير من أصحابه الرواية نحو
الزبير (۳) والبراء
بن عازب (٤) لما تبينوا انه وقع فيها الكذب. فروى عن البراء انه قال: سمعنا
كما سمعوا لكنهم رووا ما لم يسمعوا .
وروى عن شعبة (٥) انه قال : نصف
الحديث كذب .
ولاجل ما قلنا ، حمل أصحاب الحديث
نفوسهم على فقد الحديث، وتمييز الصحيح منها من الفاسد .
____________________________________________
(۱) قوله (فليتبوأ ) تبؤ
المكان حله وأقام فيه ، والمقعد المجلس .
__________________
وليس لاحد أن يقول : ان ما يتعلق بالدين
اذا لم يقم به الحجة وجب القطع على كذبه كما نعلم (۱) كذب المدعى للنبوة
اذا لم يظهر عليه المعجز، وذلك انه لا يمتنع أن يتعبد (۲) بالخبر وان لم تقم
بــه الحجة كما تعبد بالشهادات (۳) وان لم تعلم صحتها .
ولا يجوز أن يتعبد (٤) بتصديق نبى
ولا علم له ، أو بتصديق كذاب، فلذلك كذبنا المدعى للنبوة اذا لم يكن له معجزة.
وغاية ما في هذا ألا يجب العمل به .
وليس اذا لم يجب العمل به وجب القطع على
كذبه ، بل ينبغى أن يتوقف فيه الى أن يدل دليل عقلى أو شرعى على كذبه، أو كذب بعضه
.
____________________________________________
(۱) قوله (وجب القطع على
كذبه كما نعلم الخ) ظاهره انه ادعى البداهة وذكر له نظيراً ، لانه قاسه به .
(۲) قوله (لا يمتنع أن يتعبد)
هذا منع لما ادعى بداهته ، و انما ذكر في السند جواز التعبد مع انه غير محتاج اليه
استظهاراً ، ولذا تنزل عنه بقوله وغاية ما في هذا الخ) وسيجيء الكلام في جواز
التعبد به .
(۳) قوله (كما تعبد
بالشهادات الخ) سيجيء الفرق بين التعبد بالخبر وبين التعبد بالشهادات
(٤) قوله (ولا يجوز ان يتعبد)
تسليم للبداهة في النظير، وسكوت عن بيان الفرق اعتماداً على ما سيجيء من الفرق بين
ما طريقه العلم ، وبين ما طريقه العمل ، وسيجيء الكلام فيه ان شاء الله تعالى .
فأما الطريق الذى به يعلم كذب الخبر،
فلا يجوز أن يكون الخبر سواء أوجب (۱) العلم ضرورة أو اكتساباً. ويفارق الكذب
في هذا الباب الصدق، لانا بالخبر نعلم صدق الخبر ولا نعلم به كذبه، بل العلم بكذبه
يحتاج الى امور اخر .
والاخبار على ضربين أحدهما : يعلم كونه
كذباً ضرورة، وهو أن يعلم ضرورة ان مخبره على خلاف ما تناوله فيعلم انه كذب ،
ولذلك قلنا : ان المخبر عن كون فيل بحضرتنا، يعلم بطلان خبره بالاضطرار، لانه لو
كان هناك فيل لرأيناه .
والضرب الاخر يعلم كونه كذباً باكتساب،
وهو كل خبر نعلم ان مخبره على خلاف ما تناوله بدلیل عقلى، أو بالكتاب، أو
السنة أو الاجماع .
وقد يعلم ذلك بأن يكون لو كان صحيحاً،
لوجب قيام الحجة به على المكلفين أو بعضهم. فاذا لم تقم به الحجة، علم انه باطل .
والعلة في ذلك ، ان الله تعالى لا يجوز
أن يكلف عباده فعلا ولا يزيح (۲) علتهم (۳) في معرفته، فاذا صح
ذلك، وكان ذلك الفعل
____________________________________________
(۱) قوله (أن يكون الخبر
سواء أوجب) ضمير يكون واجب للطريق .
(۲) قوله ( ولا يزيح) من
الازاحة ، أي لا يزيل .
(۳) قوله (علتهم) أي
عذرهم .
مما طريقه العلم لا
العمل (۱)،
أو مما علم بالدليل ، انه مما يجب أن يعلمه المكلف، وان كان طريقه العمل، فيجب
ورود الخبر به على وجه يعلم مخبره ، اذا لم يعرض من جهة المكلفين ، مما يمنع من
وروده. فاذا لم يكن ذلك حاله علم بطلانه .
أللهم الا أن يكون هناك طريق آخر يعلم
به صحة ما تضمنه ذلك الخبر ، فيستغنى بذلك الطريق عن الخبر ، ولا يقطع على كذبه
ولذلك نقول : ان الخبر اذا صار بحيث لا
تقوم به الحجة، قام قول الامام في ذلك مقامه اذا اوجب العلم، وصارت الحجة به قوله
دون الخبر .
والعلة في ذلك ان ما تضمنه الخبر اذا
كان من باب الدين (۲) .
ومصلحة المكلف ، فلا بد من أن يكون
للمكلف طريق الى العلم به فان كان حاصلا من طريق النقل ، والا فما ذكرناه من قول
الامام ، لانه ان لم يكن أحد هذين، أدى الى أن لا يكون للمكلف طريق يعلم به ما هو
مصلحة له، وذلك لا يجوز .
ومنها : أن يكون المخبر عنه مما لو كان
على ما تناوله الخبر،
____________________________________________
(۱) قوله (لا العمل)
سيجيء ما في الفرق بين العلم والعمل .
(۲) قوله (اذا كان من باب
الدين) أي من باب العلم ، والذي هو من باب العمل سيذكره بقوله (فاما الاخبار التي
هي من باب العمل الخ) .
لكانت الدواعى تقوى
الى نقله، وقد جرت العادة بتعذر كتمانه. فاذا لم ينقل ذلك ، نقل مثله علم كذبه وهو
أن يخبر المخبر بحادثة عظيمة وقعت في الجامع، ورؤية الهلال والسماء مصحية (۱) في انه اذا لم يظهر
النقل فيه علم انه كذب
ومنها : أن تكون الحاجة في باب الدين
الى نقله ماسة ، فاذا لم ينقل نقل نظيره في هذا الباب ، علم انه كذب. نحو ما نقول:
ان العرب لو عارضت القرآن لوجب نقله كنقل نظيره، لان الحاجة الى نقله كالحاجة الى
نقل القرآن، وحالهما في قرب العهد سواء (۲) ولذلك نقول : انه لا
يجوز أن يكون للنبي صلى الله عليه و آله شرائع اخر لم تنقل الينا، لانها لو كانت
لنقلت نقل نظيرها لمساواتها لها في الحاجة اليها وقرب العهدبها. هذا اذا فرضنا ان
الموانع والصوارف عن نقله كلها مرتفعة يجب ذلك
فأما اذا جوزنا أن يمنع من نقل بعض
الاخبار مانع من خوف و ما يجرى مجراه، فلم يجب القطع على كذب ذلك الخبر، لان هذا
الذي ذكرناه حكم أكثر الفضائل المروية لامير المؤمنين عليهالسلام والنص عليه. والعلة فيها
ما قلناه من اعتراض موانع من خوف وتقية
____________________________________________
(۱) قوله (والسماء مصحية)
أي لاغيم فيها . ويجب أن يقيد بنظر جمع كثير، بحيث تحكم العادة برؤيتهم معه لو رأى
.
(۲) قوله (سواء) أو
المعارض أقرب .
وغير ذلك .
فأما ما يعم البلوى به (۱) أو ما وقع في الاصل
شائعاً ذائعاً (۲) فيجب
نقله على وجه يوجب العلم ما لم يعرض فيه ما يمنع من نقله. فمتى لم يعرض هناك ما
يمنع من نقله، وكان في الاصل شائعاً ذائعاً علم انه باطل .
والخبر اذا كان ظاهره يقتضى الجبر
والتشبيه، أو أمراً علم بالدليل بطلانه ولا يمكن تأويله على وجه يطابق الحق غير
متعسف ولا بعيد من الاستعمال، وجب القطع على كذبه . فان أمكن تأويله على وجه قريب،
أو على ضرب من المجاز، جرت العادة باستعماله، لم يقطع على كذبه .
فأما ما تكلفه محمد بن شجاع البلخي (۳) من تأويل الاخبار
____________________________________________
(۱) قوله (فأما ما يعم
البلوى به) كعدد الصلوات اليومية ، وانما غير الاسلوب لدخولهما في السابق عليهما .
(۲) قوله (أو ما وقع في
الاصل شائعاً) اما باخبار المخبر عن وقوع المخبر شائعاً ، أو تكون الواقعة مما اذا
وقعت وقعت شائعة ، كالنص على خلافة من تمكن من الخلافة بلامنازع غالب .
__________________
الواردة من الجبر
والتشبيه من التعسف والخروج عن حد الاستعمال فلا يحتاج اليه ، لانه لوساغ ذلك لم
يكن لنا طريق نقطع على كذب أحد، وذلك باطل .
والفائدة في نقل ما علم كذبه ، هو أن
ينحصر المنقول من الاحاديث ليعلم ان ما ادخل فيه معمول (۱) كما خص الخلاف في
الفقه ليعلم به الخلاف الحادث، فيطرح ولا يلتفت اليه
وليس لاحد أن يقول ان في تجويز الكذب
على هذه الاخبار أو فى بعضها طعناً على الصحابة، لان ذلك يوجب تعمدهم الكذب وذلك
انه لا يمتنع أن يكون وقع الغلط (۲) من بعض الصحابة، لانه
____________________________________________
(۱) قوله (معمول) أي
مخترع للمتأخرين .
(۲) قوله (وقع الغلط) أى
تعمد الكذب ، بقرينة ذكر وجوه الخطأ بعد ذلك، ويؤيده ما في الكافي، في باب اختلاف
الحديث (۳)،
وما في نهج البلاغة في جواب السائل عن احاديث البدع ، وعما في أيدي الناس من
اختلاف الخبر (۴) .
ويجوز أن يراد بالغلط، الخطأ. ويؤيده ما
سيجيء من قوله (وهذه الوجوه التي ذكرناها أو أكثرها الخ ) فان الظاهر ان الأول
مبني على جواز نقل الحديث بالمعنى ، والثاني على عدم الجواز . وأيضاً يؤيده قوله (
وأما من تأخر الخ) .
__________________
ليس كل واحد منهم
معصوماً لا يجوز عليه الغلط ، وانما يمنع من اجماعهم على الخطأ، دون أن يكون ذلك
ممتنعاً من آحادهم .
وأيضاً فانهم كانوا يسمعون الحديث من
النبي صلى الله عليه و آله ولا يكتبونه، ويسهون عنه أو عن بعضه فيقع الغلط في نقله
.
وأيضاً انهم كانوا يحضرونه صلىاللهعليهوآله وقد ابتدأ الحديث،
فيلحقه بعضهم فينقلونه با نفراده فيتغير معناه لذلك. ولذلك كان صلىاللهعليهوآله اذا أحسن برجل داخل
ابتداء الحديث ، ولهذا أنكرت عائشة على من روى عن النبي صلىاللهعليهوآله أنه قال : الشؤم في
ثلاث : فى الفرس ، والمرأة، والدار (۱) وذكرت أنه صلىاللهعليهوآله
كان حاكياً لذلك ، فلم يسمع الراوى أول كلامه.
وكذلك خطأت من روى عنه صلىاللهعليهوآله أن قال : «التاجر
فاجر» (۲) وان
«ولد الزنا شر الثلاثة» (۳) وذكرت ان كلامه خرج على تاجر قد دلس،
وولد زنا قد سب لامه .
__________________
وعلى هذا الوجه أنكرت، وابن عباس جميعاً
ما رواه ابن عمر ان الميت ليعذب ببكاء أهله عليه ) (۱) وغير ذلك، فقالا :
وهل ـ ابن عمرـ انما قال صلى الله عليه و آله : ان صاحب هذا ليعذب، وأهله يبكون
عليه (۲) .
وقد كان منهم من ينقل الحديث بالمعنى
دون اللفظ ، فيقع الغلط فيه من هذا الوجه وهذه الوجوه التي ذكرناها، أو أكثرها
تنقى الطعن عن ناقل الخبر وان كان كذباً .
فأما من تأخر عن زمان الصحابة والتابعين
، فلا يمنع من أن يكون فيهم من يدخل في الاحاديث الكذب عمداً، ويكون غرضه الافساد
في الدين كماروى عن عبد الكريم بن أبي العوجاء (۳) انه لما صلب
(٤) وقتل قال: اما انكم ان قتلتموني ، لقد أدخلت في أحاديثكم أربعة آلاف حديث
مكذوبة. وهذا واحد من الزنادقة والملحدين، فكيف الصورة في الباقين؟ .
____________________________________________
(٤) قوله (لما صلب الخ) أشرف
عليهما .
__________________
فأما الاخبار التى هى من باب العمل،
كالاخبار الواردة في فروع الدين، فسنذكر القول فيها ان شاء الله تعالى في الفصل
الذي يليه .
فصل
في ذكر الخبر الواحد،
وجملة من القول في أحكامه
اختلف الناس في خبر الواحد (۱) ، فحكى عن النظام (۲) أنه كان يقول: انه
يوجب العلم الضرورى اذا قارنه سبب. وكان يجوز في الطائفة الكثيرة ألا يحصل العلم
بخبرها .
وحكى عن قوم من أهل الظاهر انه يوجب
العلم مطلقاً، وربما سموا ذلك علما ظاهراً.
____________________________________________
( ۱ ) قوله ( اختلف الناس
في خبر الواحد ) الذي يخرج من التقسيم السابق في تعريف خبر الواحد، هو انه خبر لا
يعلم ان مخبره على ما تناوله ، ولا انه على خلافه، وهذا لا يصلح للنزاع في افادته
العلم. نعم يظهر من حصر الخبر الذي يعلم صدقه في الاقسام المذكورة فيه ، وحصر
الخبر الذي يعلم كذبه في الاقسام المذكورة فيه، ان خبر الواحد مالا يكون شيئاً من
الاخبار المذكورة، فبهذا الاعتبار يصلح للنزاع .
__________________
وذهب الباقون من العلماء، من المتكلمين
والفقهاء، الى انه لا يوجب العلم، ثم اختلفوا .
فمنهم من قال: لا يجوز العمل به (۱) .
____________________________________________
(۱) قوله (فمنهم من قال:
لا يجوز العمل )به ان أرادوا انه لا يجوز العمل به في نفس أحكام الله تعالى
بالافتاء بمضمونه، أو القضاء به. فهذا المذهب قوي متين يدل عليه العقل والنقل من
القرآن والاحاديث المتواترة معنى من أصحاب العصمة سلام الله عليهم ..
أما العقل فان جواز العمل بالظن فيها
يفضي الى أن يتخذ الناس رؤساء جهالا ضالين مضلين، يدعو كل رئيس تبعه وعوامه الى
مخالفة الآخر ، ويتقرب في دعاويه الى حكام الجور، ويتسلط به حكام الجور على
المتسمين بالعلماء، ويهين العلم في نظر الخلائق، وربما وقع بينهم فتن وحروب، كما
وقع بين الصحابة والتابعين من المخالفات والحروب .
وكل عاقل يعرف ان الشرع الالهي لم يبين
على امثال هذه الظنون المنقولة المتسمين بالمجتهدين، وهذا دليل قاطع على الاحتياج
في كل زمان الى وجود من لا يخطىء في نفس أحكام الله تعالى، سواء كانت علمية أو
عملية خذل الله من حرمنا عن الاستفاضة منهم صلىاللهعليهوآله
مشافهة .
ولا ينتقض هذا بالتعبد بالشهادات،
وبالظن الحاصل بجهة القبلة ، وبقيم المتلقات ومقادير الجراحات الموجبة للديات،
فانها ليست ظنوناً في نفس أحكامه تعالى ، فلا يستتبع هذه المفاسد المذكورة من
الحروب ، من طالبي الرئاسة وغيرها، وما يترتب عليها من المناقشات يندفع بوجود
الحاكم بالحق واليقين في جميع احكام الله تعالى على انه سيجيء قبيل (فصل في ذكر
ألفاظ
الجمع والجنس) ما يدل
على كون الظن مطلقاً قبيحاً عقلا، وانه لا يجوز على الحكيم اباحته.
وأما القرآن، فالايات المانعة عن اتباع
الظن وتخصيصها باصول الدين ظاهر البطلان، لان التخصيص ان كان بقاطع، فاما اجماع
أوسنة متواترة أو كتاب، فلم يثبت. واما دليل العقل فكذلك. نعم العقل يخرج ما لا
يمكن للمكلف العلم به كما سيجيء. لكن لا يحكم بوقوع هذا الفرد في الشرعيات على
فرضنا وهو ما اذا لم يعترض من جهة المكلفين ما يمنع العلم به، وظاهر الآيات يمنع
وقوعه، وهو يفيد القطع عند المصنف كمامر وسيجيء .
والادلة التي ذكروها على جواز العمل به
مدخولة في فرضنا كما سيجيء وان كان بطني فلا يجوز عند المصنف كما سيجيء في مسألة
تخصيص الكتاب بخبر الواحد .
والحق انا لو جوزنا تخصيص الكتاب بالظني
أيضاً لا يجوز تخصيص هذه الآيات به ، لان المنع من اتباع الظن مع تجويز تخصیصه
به بدلیل مثلا كالمتناقض، ويصير الكلام به خارجاً عن طور كلام الحكيم .
نعم يجوز العقل تخصيصه بقاطع صار بعد
تمادي الزمان، وانقطاع العلم عن الرعية ظنياً عند الرعية ، وهذا انما يقدح في
افادة ظاهر القرآن القطع عند الرعية في كل زمان ولا يدل على جواز تخصیصه به
فيما نحن فيه، لانه مع انه خارج عن فرضنا لا يدل على جواز العمل بهذا التخصيص، كما
اذا جوز العقل تخصيصه بأمر موهوم كان قطعياً .
وأما الاحاديث فظاهر تواترها مضى على من
تتبع كتب الاصحاب في الحديث كالكافي ، ونهج البلاغة ، والفقيه وغيرها ، على انها
لو لم يكن متواترة أيضاً، أمكن الاستدلال بها بأن يقال: لو كان الظن متبعاً لوجب
اتباع
ومنهم من قال: يجب العمل به .
واختلف من قال لا يجوز العمل به فقال
قوم: لا يجوز العمل به عقلا .
وقال آخرون انه لا يجوز العمل به، لان
العبادة لم تردبه ، وان كان جائزاً في العقل ورودها به وربما قالوا: وقد ورد السمع
بالمنع من العمل به .
واختلف من قال يجب العمل به، فمنهم من
قال: يجب العمل به عقلا وحكى هذا المذهب عن ابن سريج (۱) وغيره .
وقال آخرون: انما يجب العمل به شرعاً
والعقل لا يدل عليه ، وهو مذهب أكثر الفقهاء والمتكلمين ممن خالفنا
ثم اختلفوا، فمنهم من قال: يجب العمل به
، ولم يراع في ذلك عدداً
____________________________________________
الظن الحاصل منها،
لانها من أقوى الظنون . والمنع بالفرق في اتباع الظن بين المسائل الاصولية
والفروعية، سيجيء تحقيقه وبيان الحق فيه. وان أرادوا أنه لا يجوز العمل به مطلقاً،
فالادلة الدالة على جواز العمل به في الجملة حجة عليهم كما سيجيء .
__________________
ومنهم من راعى فى ذلك العدد وهو أن يكون
رواته أكثر من واحد. وهذا المذهب هو المحكى عن أبي على (۱)
والذي أذهب اليه ان خبر الواحد لا يوجب
العلم (۲)،
وان كان يجوز أن ترد العبادة بالعمل به عقلا (۳). وقد ورد جواز العمل
به في الشرع (٤) ، الا أن ذلك موقوف على طريق مخصوص، وهو
____________________________________________
(۲) قوله (ان) خبر الواحد
لا يوجب العلم أي وان قارنه سبب، والمراد انه لا يجوز أن يكون للخبر دخل في افادة
العلم ، بحيث لولم ينضم الى السبب لم يفد ذلك السبب العلم ، لا انه لا يجوز أن
يفيد بعض الاسباب العلم، لما سيجيء من بيان القرائن المفيدة للمعلم .
(۳) قوله : وان كان يجوز
ان ترد العبادة بالعمل به عقلا ذهب اليه السيد المرتضى أيضاً ، والظاهر ان مراده ان العقل لا يجد
مستقلا عن الشرع مفسدة في العمل به، لا أنه ليس في نفس الامر مفسدة في العمل به ،
لان الدليل الذي سيذكره ظاهر انه لا يدل عليه ، وأيضاً ينافي القول بعدم جواز
العمل به شرعاً على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين كما ذهب اليه سيدنا المرتضى .
(٤) قوله (وقد ورد جواز العمل به
في الشرع) المراد العمل بدون فتوى بمضمونه ، والقضاء به ، والقرينة عليه اكتفاؤه
فيما سيجيء من جواب من استدل على العمل بقياسه على الاستفتاء بما سيجيء من
الجوابين بقوله (لان لاصحابنا في هذه المسألة مذهبين : أحدهما الخ) وأيضاً اشترط
في المفتي
__________________
ما يرويه من كان من
الطائفة المحقة (۱) ،
ويختص بروايته (۲)،
ويكون على صفة (۳) يجوز
معها قبول خبره من العدالة وغيرها .
وأنا أبتدىء أولا ، فادل على فساد هذه
المذاهب التي حكيتها ثم ادل على صحة ما ذهبت اليه .
أما الذي يدل على ان خبر الواحد لا يوجب
العلم (٤)، فهوانه
____________________________________________
العلم كما سيجيء في (فصل في صفات المفتي
والمستفتي) .
(۱) قوله يرويه من كان من
الطائفة المحقة أي كل من كان من الطائفة المحقة ، لكن اما تحقيقاً أو تقديراً ،
بأن لا يرويه لكن قرر الرواية أو عمل بها أو صححها لما سيجيء من تجويز العمل
بأخبار الواقفة ونحوها تمسكاً بالاجماع .
(۲) قوله (ويختص بروايته)
الضمير المرفوع راجع الى من كان ، أي لا يروي ما يضاد تلك الرواية .
(۳) قوله (ويكون على صفة)
المناسب لما سيجيء من جعل العدالة مرجحة لاحد الخبرين على الاخر لا شرطاً في أصل
القبول بناءاً على تجويز العمل بخبر الفاسق الثقة في الرواية أن يقول أو يكون
ليكون معادلا لقوله (ويختص بروايته) .
(٤) قوله (لا يوجب العلم) أي
الضروري بقرينة قوله ( ولو كان يوجب العلم الضروري لما صح ذلك ) فتوضيح قوله (لو
أوجب العلم لكان الخ) ان المراد بالسبب ان كان القرينة التي اذا علمت افاد الخبر
العلم لزم أن يكون العلم الحاصل بها نظرياً و ان كان أمراً أجرى الله تعالى عادته
باحداث العلم عقيبه ، فهو فيما نحن فيه ليس الا صدق المخبر وكونه الى ما أخبر به
مضطراً
لو أوجب العلم، لكان
يوجبه كل خبر واحد اذا كان المخبر صادقاً والى ما أخبر به مضطراً، ولو كان كذلك
لوجب أن يعلم صدق أحد المتلاعنين وكذب الآخر ، وكان يجب أن لا يصح الشك في خبر
النبي صلى الله عليه و آله انه اسرى به الى السماء، وقد علمنا خلاف ذلك. لانا لا
نعلم صدق أحد المتلاعنين .
ونجوز أن تدخل الشبهة فى نبوة النبي صلىاللهعليهوآله، فلا يعتقد صحة
نبوته، فيشك فى خبره عن الاسراء به، ولو كان يوجب العلم الضرورى لما صح ذلك ،
ولكان يجب أيضاً أن يحصل لنا العلم بصدق كل رسول ادعى رسالة بعضنا الى بعض ، لان
ذلك يعلمه ضرورة، فكان يجب حصول العلم به، وقد علمنا خلاف ذلك فاذا بطل جميع ذلك،
علم انه لا يوجب العلم .
فأما ما اعتبره النظام (۱) من اقتران السبب به،
فليس يخلو (۲)
____________________________________________
كما يعلم مما مر في
شروط افادة التواتر العلم الضروري ( ولو كان كذلك لوجب أن يعلم الخ) تأمل .
(۱) قوله (فأما ما اعتبره
النظام الخ) هذا ابطال لاعتبار السبب ، كما اعتبره النظام . أي في التواتر والاحاد
جميعاً مطلقاً ، بعد ابطال اعتباره في الاحاد لافادة العلم الضروري .
(۲) قوله (فليس يخلو الخ)
المراد بالشق الأول أن يكون العلم بالسبب شرطاً ، وبالثاني أن يكون السبب باعتبار
تحققه في الواقع شرطاً ، والثالث
من أن يقول : يقع
العلم به وبالسبب جميعاً. أو يقول: ان العلم يقع به بشرط أن يقارنه السبب. أو
يقول: ان العلم يقع به الا أن لا يكون السبب حاصلا .
وكل هذه الوجوه تبطل ، لانه يوجب أن لا
يمتنع أن يخبر الجماعة العظيمة عن الشيء ولا يقترن بها ذلك السبب، فلا يحصل عند
خبرها العلم وهذا يؤدى الى تجويز أن نصدق من يخبرنا عن نفسه بأنه لا يعلم ان فى
الدنيا مكة مع اختلاطه بالناس ونشوءه بينهم وقد علمنا خلاف ذلك .
فأما ما يذكره (۱) من مشاهدة من رأى
مخرق الثياب يلطم
____________________________________________
أن يكون السبب
باعتبار تحققه في الواقع كاشفاً عن عدم المانع الذي هو ضد السبب ويمكن أن يراد
بالاول أن يكون السبب جزءاً من المؤثر وفيه بعد.
(۱) قوله (فأما ما يذكره
الخ) كان يجب على المصنف أن يدل على عدم افادة الخبر الواحد العلم مطلقاً، أي سواء
كان نظرياً أو ضرورياً ، وسواء قارنه سبب أم لا ، لانه داخل فيما اختاره . وانما
اكتفى فيه بابطال مثال مشاهدة مخرق الثياب مع الضمائم التي ذكرها النظام ، اشارة
الى أن كل مثال يتصور فيما نحن فيه ليس أقوى من المذكور ، وكذا السيد في الذريعة (۲) اشار اليه ، وقال
المحقق الحلي في الرسالة المسماة بالمعارج في اصول الفقه ، ولا احيل في بعض
الاخبار انضمام قرائن قوية كثيرة تبلغ الى حد يفيد معها العلم (٣) ،
__________________
على وجهه، وقد كان
علم أن له عليلا ويخبر بموته، انا نعلم عند خبره انه ميت ، فدعوى لا برهان عليها ،
لان مثل ذلك قد يفعله العقلاء لاغراض كثيرة، ثم ينكشف الامر خلاف ذلك. فمن أين ان
الذي يعتقده عند خبره علم لا يجوز التشكيك فيه ؟
فأما من قال : انه لو لم يوجب العلم (۱) لما صح أن يتعبد به،
لان
____________________________________________
وفيه ان القرائن ان
افادة العلم وان لم ينضم اليها الخبر فهو خارج عما نحن فيه كما مر، وان لم تفد
فالانكشاف عن باطل محتمل مع انضمام الخبر أيضاً يجده العقل ، مع تعوده الفرق بين
الظن الغالب والعلم ، فبطل ما قيل من أنه حصل العلم بضميمة القرائن، اذ لولا الخبر
لجوز موت شخص آخر، ويمكن جعل مختار المصنف من انه لا يوجب العلم مقابلا لجعل العلم
تابعاً للعمل لا العكس ، وسيجيء الدلالة بقوله ( ولو كان الخ) .
(۱) قوله (فأما من قال
انه لو لم يوجب العلم الخ) ذكر السيد في الذريعة ان النظام يجعل العمل تابعاً
للعلم فهما لم يحصل علم فلا عمل. ثم قال : وفي الناس من يقول : ان كل خبر وجب
العمل به فلابد من ايجابه العلم ، ويجعل العلم تابعاً للعمل (انتهى) (۲).
ولا يخفى ان مقصود رد كلام هذا ،
والظاهر ان هذا قائل بجواز العمل بخبر الواحد على ما يذهب اليه مخالفونا من جواز
الافتاء والقضاء ، وكون المعيار حصول الظن والاجتهاد ، وقد مرمافيه في الفصل الأول
، ولذا قال المصنف (ولم يثبت لهذا القائل واحد من الأمرين) وسيفصل المصنف في (فصل
في الكلام على من أحال القياس عقلا) بطلان الامر الاول .
__________________
العبادة لا تصح الا
بما نعلمه دون ما لا نعلمه، فانما كان يدل لو ثبت ان
__________________
وتوهم بعض الاصحاب من كلام المصنف هذا ،
انه ينكر جواز العمل بالخبر المظنون ، ويدعي افادة الاخبار المروية في التهذيب ، و
الاستبصار ، والكافي ، والفقيه وأمثالها العلم القطعي ، وعاضده بأن الطائفة
اعتمدوا في الاصول التي يشترط فيها العلم على أخبار الاحاد المذكورة ، وفيه مافيه،
لانه ينافي سابق كلامه ولاحقه .
وأما اعتماد الاصحاب على أخبار الاحاد
في الاصول فغير معلوم ، وما ظاهره ذلك مأول . مثلا قد روي ان زرارة (۱) بعث ابنه عبيداً (۲) بعد وفات أبي عبد
الله ليعرف الخبر.
وقد روى الصدوق في كمال الدين وتمام
النعمة عن الرضا عليهالسلام
انه قال : ان زرارة كان يعرف أمر أبي عليهالسلام
ونص أبيه عليه، وانما بعث ليتعرف من أبي عليهالسلام
هل يجوز له أن يرفع التقية في اظهار أمره ونص أبيه عليه ، وانه لما أبطأ عنه ابنه
طولب باظهار قوله في أبي عليهالسلام
، فلم يحب أن يقدم على ذلك دون أمره ، فرفع المصحف وقال : اللهم ان امامي من اثبت
هذا المصحف امامتة من ولد جعفر بن محمد صلىاللهعليهوآله
(۳).
__________________
(۱) قال ابن النديم زرارة
لقب ، واسمه عبد ربه بن أعين بن سنبس ، أبو على أكبر رجال الشيعة فقهاً وحديثاً
ومعرفة بالكلام والتشيع . وقال النجاشي: شيخ أصحابنا فی زمانه ومتقدمهم ،
وكان قارئاً فقيهاً متكلماً شاعراً أديباً ، اجتمعت فيه خلال الفضل والدين صادقاً
فيما يرويه مات سنة ( ١٥٠ هـ .) .
(۲) قال النجاشي عبيد بن
زرارة بن أعين الشيباني . روى عن أبي عبد الله عليهالسلام
ثقة ثقة ، عين ، لاليس فيه ولاشك .
(۳) كمال الدين وتمام
النعمة ١ : ٧٥ .
في العقل لا يجوز
العبادة بما طريقه الظن، ثم يثبت انه تعبد به، ولم يثبت لهذا القائل واحد من
الأمرين، فلا يصح التعلق به .
فأما تعلقه بقوله: وأن تقولوا على الله
ما لا تعلمون (۱) فهو
لا يدل على ايجاب خبر الواحد العلم ، لان معنى الآية النهى عن الكذب على الله
تعالى ، وليس من عمل بخبر الواحد يضيف اليه (۲) ان الله تعالى قد قال
ما تضمنه الخبر، وانما يضيف اليه انه تعبده بالعمل بما تضمنه الخبر، وذلك معلوم
عنده بدليل دل عليه، فيسقط بجميع ذلك هذا المذهب .
ولو كان خبر الواحد يوجب العلم (۳)، لما كان اختلاف
الناس في قبوله وشكهم في صحته صحيحاً ، ولا صح التعارض في الاخبار (٤)
____________________________________________
(۲) قوله (وليس من عمل
بخبر الواحد يضيف اليه) من الاضافة بمعنى الضم والضمير في اليه راجع الى العمل ،
والمقصود ان العامل بخبر الواحد لا يجوز أن يفتى غيره بمضمونه حتى يحتمل كونه
كاذباً ، بل انما يعمل به ويخبر عن وجوب العمل عليه نفسه تدبر.
(۳) قوله (ولو كان خبر
الواحد يوجب العلم) هذا ابطال لقول من يجعل العلم تابعاً للعمل، كما يذهب اليه
مخالفونا .
(٤) قوله ( ولا صح التعارض في
الاخبار) بأن يكون صدق أحد الخبرين مستلزماً لكذب الآخر، لا أن يكون مخبريهما
نقيضين لجو از ذلك في أخبار الأئمة عليهمالسلام
__________________
ولا احتيج الى اعتبار
صفات الراوى (۱)،
ولا ترجيح بعض الاخبار على بعض، وكل ذلك يبين فساد هذا المذهب .
فأما تسمية من سماه علماً ظاهراً، فربما
عبر عن الظن بأنه علم، لان العلم لا يختلف حاله الى أن يكون ظاهراً وباطناً. فان
أراد ذلك، فهو خلاف في العبارة لا اعتبار به .
فأما من قال لا يجوز العمل به عقلا (۲)، فالذي يدل على
بطلان قوله ان يقال : اذا تعبد الله تعالى بالشيء، فانما يتعبد به لانه مصلحة لنا،
وينبغي أن يدلنا عليه وعلى صفته التي اذا علمناه عليها كان مصلحة لنا، وصح منا
أداؤه على ذلك الوجه، ولا يمتنع ان تختلف
____________________________________________
عليهم السلام للنقيسة
ونحوه. ويمكن أن يخصص قوله (الاخبار) بأخبار النبي صلىاللهعليهوآله
.
(۱) قوله (ولا احتيج الى
اعتبار صفات الراوي الخ) أي كما اعتبروه ، ولا ينافي هذا جواز الاحتياج الى اعتبار
صفات الراوي من حيث كون بعض الرواة أبعد من التقية من بعض، وكذا الكلام في قوله
(ولا ترجيح بعض الاخبار على بعض) .
(۲) قوله (فأما من قال لا
يجوز العمل به عقلا الخ ) ان أراد هذا الفائل عدم الجواز في نفس الاحكام اذا لم
يعترض من جهة المكلفين ما يمنع عنه ، فابطاله بما ذكره ظاهر الدفع تدبر ، وكذا
يظهر مما ذكرنا بطلان ماقيل في هذا البحث
الطرق (۱) التي بها يعلم ان
الله سبحانه تعبدنا به، كما لا يمتنع اختلاف الادلة (۲) التي بها يعلم صحة
ذلك .
فاذا صحت هذه الجملة لم يمتنع أن يدلنا
على انه قد أمرنا بأن نفعل ما ورد به خبر الواحد اذا علمناه على صفة ظننا انه صادق
كعلمنا انه تعبدنا بما أنزله من القرآن ، وان كان أحدهما قد علق بشرط (۳) والآخر لم يعلق به.
واذا صح هذا ، وكان صورة خبر الواحد هذه الصورة، فيجب أن لا يمتنع ورود العبادة
بالعمل به .
__________________
(۱) قوله (ولا يمتنع أن
تختلف الطرق) ان أراد صحة الاختلاف في نفس الأمر بالظن والعلم مطلقاً وهو ممنوع ،
واسند مامر من مفاسد العمل بالظن في نفس أحكام الله تعالى، وان أراد عدم وجدان
العقول مفسدة في العمل به مطلقاً، فغاية ماله عدم وجدانه مفسدة فيه، لا عدم وجدان جميع
العقول وحينئذ لا يتم التقريب .
وان أراد عدم المفسدة أو عدم وجدانها في
غيبة الامام عليهالسلام بعد
الضرورة فهو مسلم وممكن، فليكتف في جواز العمل بموضع الضرورة، وحيث لا يمكن فيه
الاحتياط تدبر .
(۲) قوله ( كمالا يمتنع
اختلاف الادلة الخ ) اشارة الى تعدد الادلة على صحة الاختلاف بالظن والعلم في طرق
الاحكام، وهو موضع نظر وتأمل .
(۳) قوله: (قد علق بشرط)
هو علمنا اياه صفة ظننا أنه صادق ، ويحتمل غیره ککونه غیر مخالف لكتاب
مثلا .
والذي يبين ذلك (۱) أيضاً ورود العبادة
بالشهادات وان لم يعلم صدقهم ، وجرى وجوب الحكم بقولهم في أنه معلوم مجرى الحكم
بما علمناه بقول الرسول صلىاللهعليهوآله
.
وليس لاحد أن يقول : اذا لم يصح ان
يتعبد الله تعالى بالقبول من النبي صلىاللهعليهوآله
بلا علم معجز يظهر عليه، فبان لا يجوز القبول من غيره أولى (۲) .
وذلك ان فقد ظهور العلم على الرسول صلىاللهعليهوآله يقتضى الجهل
بالمصالح التي لا يعلم الا من جهته، وليس في فقد الدلالة على صدق خبر الواحد ذلك،
لانه يصح أن يعلم بقول النبي صلىاللهعليهوآله
وجوب ما أخبر به الواحد، فيصير في حكم علم قد ظهر عليه، وان جوزنا كونه كاذباً فيه
، لانه لا يمتنع أن تكون المصلحة لنا في العمل به وان كان هو كاذباً. كما لا يمتنع
أن يكون الواجب علينا ترك سلوك الطريق اذا خوفنا الواحد من سبع فيه أو لص وان كان
كاذباً .
____________________________________________
(۱) قوله ( والذي يبين
ذلك الخ ) هذا قياس في العقليات ، ومع هذا فالفارق متحقق كمامر .
(۲) قوله (أولى) الاولوية
انما تظهر بعد ثبوت النبوة ، والكلام مفروض قبل اثباته، بل هي منعكسة لان شأن
النبوة أرفع وأعلى، فهوقياس مع الفارق وملخص جواب المصنف يرجع الى هذا .
ثم هذا يوجب (۱) عليه ألا يحكم بشهادة
الشهود، مع تجويز أن يكونوا كذبه، كما لا تقبل من الرسول صلى الله عليه و آله
الشريعة الا بعلم يدل على نبوته .
فان قالوا: ولم لا يجوز ان يعلم أيضاً
بقول نبي متقدم وجوب تصدیق نبی آخر يجيء بعده ، والعمل بما معه مثل ما
قلتموه في خبر الواحد من أنه يعلم وجوب العمل به بقول الرسول صلىاللهعليهوآله .
قيل له : ان كان سؤالك (۲) عن وجوب العمل بما
يجيء به انسان في المستقبل فهذا هو معنى قبول خبر الواحد وجواز العمل به بعينه،
فذلك جائز .
وان كان سؤالك عن تصديق نبى يجيء. فذلك
طريقه العلم لا العمل، فلا يجوز أن يعمل بقوله لانا بينا ان خبر الواحد لا يوجب
العلم .
____________________________________________
(۱) قوله (ثم هذا يوجب
الخ ) الأولى تقديمه على قوله ( وذلك الخ ) ثم لا يرد نقضاً على القياس الأول، لان
الاول مشتمل على جامع هو الجهل بنفس الاحكام، وليس هذا في الحكم بشهادة الشهود .
(۲) قوله ( قيل له ان كان
سؤلك ) الشق الأول من الترديد غير محتمل ، والثاني تسليم للبحث على السند الأول ، وعدول
الى سند آخر، ولا حجر فيه لانه فن من الكلام حسن .
أللهم الا أن يفرض المسألة فيقال: ان
النبي المتقدم، ينص على صفة من يدعى النبوة ويقول : من كان عليها ، وادعى النبوة
فاعلموا انه صادق، فان ذلك جائز ، ويكون ذلك نصاً على نبوته ، ومادل على صدقه دال
على تصديق هذا ، وان كان بواسطة فبطل بهذا التجويز جميع ما تعلق به في هذا الباب .
فان قالوا: لو جاز قبول خبر الواحد في
الفروع لجاز ذلك في الاصول (۱) وفى ثبوت القرآن، لان جميع ذلك من مصالح
الدين، فاذا لم يصح ذلك في بعضه، لم يصح في سائره .
قيل له: انه ما كان يمتنع ان يتعبد
بقبول خبر الواحد في اصول الدين كما تعبدنا الان بقبوله في فروعه، وان كان لابد من
قيام الحجة ببعض الشرائع (۲)
فأما اثبات القرآن ، فان كان ما يرد على
مثل القرآن وعلى صفته في الاعجاز ، صح أن يتعبد به، لان كونه على هذه الصفة
____________________________________________
(۱) قوله (لجاز ذلك في
الأصول الخ) هذا قياس مع الفارق ، لان شأن الأصول أرفع، وتسليم المصنف في الجواب
كونه غير ممتنع التعبد فيه بخبر الواحد، مشعر باعتقاده صحة دليله على جواز العمل
بخبر الواحد في الفروع مع جريانه في غيرها أيضاً من الاصول والقرآن وفيه مامر .
(۲) قوله (ببعض الشرائع )كتصديق
النبي صلىاللهعليهوآله ،
والذي يستند اليه باقي اصول الدين بعد اثبات الواجب وعلمه وقدرته بالعقل
يوجب العلم وان كان
ما يرد لا يكون بصفة القرآن في الاعجاز، فانه لا يمتنع أيضاً
وورود العبادة بالعمل به من غير قطع على
انه قرآن مثل ما قلناه في خبر الواحد ، وكذلك ما كان يمتنع أن يتعبد بتخصيص عموم
القرآن ونسخه بخبر الواحد، وان كان لم يقع ذلك أصلا، لان الكلام فيما يجوز من ذلك،
وما لا يجوز .
فليس لاحد أن يقول : أوجبوا العمل به
كما أجزتموه، لان ايجاب العمل يحتاج الى دليل منفصل من دليل الجواز .
فأما من ذهب الى أن العبادة لم ترد به،
فان أراد انها لم ترد به بالاطلاق، فهو مذهبنا الذي اخترناه .
وان أراد انها لم ترد على التفصيل الذي
فصلناه، فسندل نحن
فيما بعد على ورود العبادة به اذا
انتهينا الى الدلالة على صحة ما اخترناه .
وأما من قال: ان العبادة منعت منه
وتعلقهم في ذلك بقوله : (
وَأَنْ
تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) وبقوله : ( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ
عِلْمٌ )
وما أشبه ذلك من
الايات. فقد بينا تأويل الآية الأولى .
__________________
فأما قوله تعالى : ( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ
عِلْمٌ )
(۱) فلايدل
على ذلك أيضاً ، لان من عمل بخبر الواحد، فانما يعمل به اذا دله دلیل (۲) على وجوب العمل به .
اما من الكتاب أو السنة أو
____________________________________________
(۲) قوله (فانما يعمل به
اذا دله دليل يريد أن يبين انه لا تنافي بين ظاهر الآية وبين العمل بخبر الواحد ،
بناءاً على أن الباء في ( به ) للسببية كما هو الاظهر. أو صلة علم .
وعلى الأول ظاهر الآية المنهى عن اتباع
القرائن المفيدة للظن دون الادلة المفيدة للعلم ، ومن يعمل بخبر الواحد لا يجب
عليه أن يجعل مناط العمل به حصول الظن بمضمونه عن القرائن .
وعلى الثاني ظاهر الآية النهي عن ارتكاب
ما لا يعلم جواز ارتكابه جوازاً عقلياً واصلياً، أو جوازاً شرعياً واصلياً. ويرجع
حينئذ الى ماذكرنا في بيان الحاجة من أن كل عامل أو تارك يجب عليه أن يعلم ان فعله
أو تركه مما يجوز له بالجواز الشرعي الواصلي .
واذا دل الدليل على جواز العمل بخبر
الواحد بشروط مقررة عند الاخباريين، وهم النافون للاجتهاد، بمعنى استفراغ الوسع في
تحصيل الظن بحكم شرعي. أو بشروط مقررة عند الاصوليين، وهم المثبتون للاجتهاد. كان
العمل به قفوا لما علم جواز قفوه وسيكرره المصنف في (فصل في أن القياس في الشرع لا
يجوز استعماله) بقوله ( وللمخالف أن يقول ما قلنا بالقياس الا بالعلم وعن العلم
الخ ) .
__________________
الاجماع ، فلا يكون
قد عمل بغير علم ، وانما الآية مانعة من العمل بغير علم أصلا (۲) ، وقد بينا انا لا
نقول ذلك ، لان من علم وجوب العمل بخبر الواحد، فهو عالم بما يعمل به ، فسقط
التعلق بهذه الاية أيضاً.
وأما من أوجب العمل به عقلا ، فالذي يدل
على بطلان قوله انه ليس في العقل ما يدل على وجوب ذلك وقدسبرنا أدلة العقل، فلم
نجد (۱) فيها
ما يدل على وجوبه فينبغي أن لا يكون واجباً وأن
____________________________________________
ويندفع بهذا التحرير ماقيل في مسألة
مجهول الحال لنا ، الادلة نحو (
وَلَا
تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ
)
دلت على المنع من
اتباع الظن في المعلوم عدالته وفسقه والمجهول، فخولف في المعلوم عدالته بدليل هو
الاجماع، فيبقى فيما عداه معمولا به (انتهى) .
فانه لا يوافق مذهب الاخباريين ولا مذهب
الاصوليين، ويمكن العلم عند الله تعالى وأهله، أن يستدل بهذه الآية على وجوب كون
الامام منصوصاً ، فانه لولاه لكان بينه أول المبايعين له، قفوا لما لم يعلم جواز
قفوه ، لانه لم ينقطع بعد احتمال كونه منافقاً أو مرتداً أو فاسقاً أو نحو ذلك،
فكذا بيعة الباقين .
(۲) قوله ( أصلا ) أي لا
بالحكم الواقعي ولا بالحكم الواصلي .
(۳) قوله (فلم نجد الخ)
عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، ثم لا نسلم ان عدم الدليل دليل العدم، فالذي
ينبغي هو أن لا يكون معلوم الوجوب، لا أن
__________________
يكون مبقى على ما كان
عليه.
وأيضاً (۱) فان الشريعة مبنية
على المصالح، فاذا لم نجد ما يدل على قبول خبر الواحد في العقل، فينبغي أن يكون
مبقى على ما كان عليه في العقل، من الحظر أو الاباحة (۲).
وليس لاحد أن يقول (۳): ان فى العقل وجوب
التحرز من
____________________________________________
لا يكون واجباً الا
أن يراد بالثاني الأول .
(١) قوله (وأيضاً كذا في النسخة) وهو لا
يزيد على ما تقدمه الا بما ليس له مزيد دخل فيما نحن فيه .
(۲) قوله ( من الحظر أو
الاباحة ) لم يذكر التوقف لرجوعه الى الحظر.
(۳) قوله (وليس لاحد أن
يقول الخ ) لا يخفى ان هذا دليل عقلى على وجوب العمل بخبر الواحد المفيد للظن بحكم
الله الواقعي فيما استفرغ الوسع فيه ، ولا يجرى فيه الاحتياط الخالي عن الضرر بحيث
يعارض، سواء كان في الاصول أو الفروع ، وسواء كان في الأمور الاخروية أو الدنيوية
.
وتقريره ان العقل يحكم بأن الاقدام على
ما فيه ضرر مظنون قبيح، فيجب اما تحصيل القطع والعمل بمقتضاه ، أو الاحتياط ان لم
يسكن فيه ظن ضرر يساوي ما في ترك العمل بخبر الواحد ظناً وضرراً، أو يكون أزيد.
وقوله (كما انه يجب علينا تمثيل ) للتوضيح لا انه قياس ، اذيتم الدليل بدونه .
ولواراد المستدل اثبات وجوب العمل بخبر الواحد كما يذهب اليه المخالفون ، أو كما
ذهب اليه المصنف لم يتم ، لانهم لا يوجبون الاحتياط فيما يمكن .
بقي الكلام في ان هذا يوجب جواز العمل
بالقياس في الجملة، ولا بأس
المضار، واذا لم نأ
من عند خبر الواحد، أن يكون الامر على ما تضمنه الخبر، يجب علينا التحرز منه ،
والعمل بموجبه. كما انه يجب علينا اذا أردنا سلوك طريق، أو تجارة وغير ذلك، فخبرنا
مخبر أن في الطريق سبعاً أو لصاً، أو يخبرنا بالخسران الظاهر، وجب علينا أن نتوقف
فيه ونمتنع من السلوك فيه، فحكم خبر الواحد في الشريعة هذا الحكم .
وذلك ان الذي ذكروه غير صحيح من وجوه :
أحدها : ان الاعتبار الذي اعتبروه يوجب
عليهم قبول خبر من يدعى النبوة (١) من غير علم يدل على نبوته ، لان العلة قائمة
فيه ، وهي وجوب التحرز من المضار، فأى فرق فرقوا في ذلك، فرقنا بمثله في خبر
الواحد.
والثاني: ان الذي ذكروه انما يسوغ فيما
طريقه (۲) المنافع
____________________________________________
به مع وجوب الاحتياط
فيما يمكن .
(۱) قوله (يوجب عليهم
قبول خبر من يدعي النبوة الخ ) لقائل أن يقول لعل مادة النقض غير متحققة ، لان كل
من يدعي النبوة ولا يظهر المعجزة بعد الطلب يعلم كذبه قطعاً. ولو فرضنا جواز
تحققها فنلتزم وجوب الاتباع ان لم يكن تحصيل القطع فيها بأحد الطرفين .
(۲) قوله ( انما يسوغ
فيما طريقه الخ) لا فرق بين الدنيوية والأخروية في ان الاقدام على مظنون الضر
رقبيح، وفي انه اذا امكن تحصيل القطع أو الاحتياط
والمضار الدنيوية،
فأما ما يتعلق بالمصالح الدينية، فلا يجوز أن يسلك فيها الا طريق العلم (۱) ولهذه العلة أوجبنا
بعثة الانبياء واظهار الاعلام (۲) على أيديهم، ولولا ذلك لما وجب ذلك كله
والثالث: ان خبر الواحد لا يخلو أن يكون
وارداً بالحظر أو الاباحة، فان ورد بالحظر لا نأ من أن يكون المصلحة (۳) في اباحته وان كونه
محظوراً يكون مفسدة لنا ، وكذلك ان ورد بالاباحة جوزنا أن يكون المصلحة تقتضى
حظره، وأن تكون اباحته مفسدة لنا ، فنقدم على ما لا نأ من أن يكون مفسدة لنا، لان
الخبر ليس بموجب العلم، فنقطع به على أحد الامرين، وذلك لا يجوز في العقول .
____________________________________________
بشروطه فالعمل
بالمظنون قبيح ، لانه اقدام على ما لا يؤمن ضرره وهو قبيح ، وان كان انتفاء الضرر
مظنوناً .
(۱) قوله (فلا يجوز أن
يسلك فيها الاطريق العلم) هذا مسلم بحسب أصل الشرع ، لوجوب نصب الانبياء أو
الاوصياء المعصومين في لطف الله تعالى وأما مع التقية وفقد العلم والاحتياط
فالجواز معلوم .
ولا يخفى ان هذا الكلام من المصنف على
سبيل المنع ، والافلا يطابق اعتقاده من جواز العمل بخبر الواحد في الفروع على
التحصيل الذي ذكره اذ غاية ما يفيده الظن تدبر .
(۲) قوله ( واظهار
الاعلام) أي المعجزات .
(۳) قوله (لا نأمن أن
يكون المصلحة الخ) هذا مندفع فيما لا يمكن تحصيل القطع فيه ، ولا الاحتياط بشروطه
، لان الاقدام على مظنون الضرر قبح ، من
وليس لاحد أن يقول : اذا لم يكن فى
السمع (۱) دلالة
على الحادثة الاما تضمنه خبر الواحد، وجب العمل به بحكم العقل. لانا متى لم نعمل
به أدى الى أن تكون الحادثة لاحكم لها، وذلك لا يجوز. لانه اذا لم يكن في الشرع
دليل على حكم تلك الحادثة وجب تبقيتها على مقتضى العقل (۲) من الحظر، أو
الاباحة، أو الوقف. ولا يحتاج الى خبر الواحد، فعلم بهذه الجملة بطلان هذا المذهب
.
وأما من أوجب العمل به على ما يذهب اليه
مخالفونا في الاحكام فالذي يبطله أن نقول : اذا لم يكن فى العقل ما يدل على ذلك ،
فالطريق الى ايجابه السمع، وليس فى السمع دليل على وجوب العمل بخبر الواحد على ما
يذهبون اليه، لان جميع ما يدعونه دليلا ليس في شيء منه دليل على وجه ونحن نذكر
شبههم في ذلك
____________________________________________
الاقدام على مالا
يؤمن ضرره بحسب العقل وارتكاب أقل القبحين واجب في نظر العقل .
(۱) قوله (اذا لم يكن في
السمع) هذا يدل على ان مطلوب المستدل اثبات التعبد به فيما لا يمكن تحصيل القطع لا
مطلقاً .
(۲) قوله ( وجب تبقيتها
على مقتضى العقل الخ ) لا يخفى ان العقل انما يحكم بالاباحة أو الحظر أو الوقف
فيما لا يترجح عنده أحد الطرفين بحسب الظن ، كما سيجيء ان شاء الله تعالى في مبحثه
، لكن المصنف انما ذكر هذا سنداً لمنع خلو الحادثة عن الحكم وهو متوجه .
ونتكلم عليها بموجز
من القول .
أحدها : استدلوا به على وجوب العمل بخبر
الواحد قوله تعالى (
فَلَوْلَا
نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ
وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ )
(۱) قالوا
فحث الله تعالى كل طائفة على التفقه، وأوجب عليهم الانذار. والطائفة يعبر بها (۲) عن عدد قليل لا يوجب
خبرهم العلم، فلولا أنه يجب العمل بخبرهم لما أوجب عليهم الانذار، لانه لا فائدة
فيه .
وربما قووا ذلك بأن قالوا: لما أوجب
الله تعالى على النبي صلىاللهعليهوآله
الانذار، وجب علينا القبول. ولو لم يجب علينا القبول لما وجب عليه الانذار
____________________________________________
(۲) قوله (والطائفة يعبر
بها الخ) قال سيدنا المرتضى في الذريعة : و ربما قالوا : ان
معنى الآية ( ولينذر كل واحد منهم قومه ) واذا صح لهم ذلك استغنوا عن التشاغل ،
بان اسم الطائفة يقع على الواحد كما يقع على الجماعة وتعقلهم في ذلك بقوله تعالى ( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ )
وقوله تعالى ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ) .
__________________
وهذه الآية لادلالة فيها (۱) لان الذى يقتضيه ظاهر
الآية
____________________________________________
(۱) قوله (وهذه الآية
لادلالة فيها) قيل لان المراد الفتوى في الفروع سلمنا لكنه ظاهر، فلا يجدي في
الاصول. وفيه ان لفظ الانذار والتحذير لا يجريان في الفتوى في الفروع الا بتأويل
بعيد .
وأما كونه ظاهراً في أصل فعند المصنف ان
ظاهر القرآن يفيد القطع ان لم ينصب قرينة على خلافه . هذا ونحن بينا انه لا فرق
بين الاصول والفروع في وجوب اتباع الظن لولا الادلة المانعة من اتباع الظن في شيء
منهما، كما هو عند هذا القائل في غير العامي .
ثم الصواب في هذا المقام أن يقال ان
ظاهر هذه الآية في سورة التوبة عدم جواز العمل بخبر الواحد على ما يذهب اليه
فخالفونا، وهو أن يكون مناط العمل الظن بحكم الله الواقعي .
وأن يكون هذا الظن مجوزاً للافتاء
والقضاء، وذلك لان الآية تدل على ان كل فرقة من الاعراب المذكورين في سابق الآية
بقوله (
الْأَعْرَابُ
أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ
اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ )
تواتر
اليهم المحكمات القرآنية الناهية عن اتباع الظن والتفرق في الدين بالاجتهادات
الظنية ونحوذلك، ودخلت في قلوبهم الشبهة والمعارضة الوهمية، وهو ان ذلك تكليف بما
لا يطاق . فيجب عليهم ان يبعثوا الى دار الهجرة والفقه ، طائفة لدفع هذه الشبهة
كما فعله مؤمنوا الاعراب المذكورون في سابق الآية، بقوله ( وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ )
وهم
المراد بقوله في صدر
__________________
وجوب الانذار على
الطائفة وليس في وجوب الانذار عليهم وجوب
____________________________________________
الآية : ( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ
لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ
) ويظهر بذلك ان قوله :
فلولا » لتوبيخ منافقي الاعراب بأن مؤمني الاعراب ما نفروا كافة لدفع هذه الشبهة
حتى يتوهم لزوم الحرج والتكليف بما لا يطاق ، بل نفر طائفة منهم و دفعوا عن الباقين
الشبهة .
ويكفى في هذا الدفع اظهار الاحتمال ،
فضلا عن الاستدلال بالايات القرآنية المتواترة الدالة على وجود الامام العالم
بجميع نفس أحكام الله تعالى جليلها ودقيقها في كل زمان ، الى انقراض الدنيا .
فالمراد بالتفقه في الدين تفهم ما يجتنب
به عن اتباع الظن في طاعة الله تعالى مثل التصديق اليقين بوجود الاوصياء العالمين
المصححين لتلك الآيات المحكمات الى انقراض الدنيا ، وبأنهم أهل الذكر المأمور
بسؤالهم لقوله في سورة النحل، والانبياء : (
فَاسْأَلُوا
أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ )
وبأنه كيف يصنع في الاجتناب عن اتباع الظن من كان غائبا عن الامام في زمان غيبة
الامام أو زمان ظهوره ، مع عدم تيسر السؤال بلاواسطة .
فالمراد بالانذار التخوف من العذاب
المذكور في القرآن المتواتر على مخالفة تلك المحكمات ، والمراد بالحذر الاجتناب في
يوم القيامة عن ذلك العذاب المترتب على مخالفة تلك المحكمات .
__________________
القبول منهم ، لانه
غير ممتنع (۱) ان
تتعلق المصلحة بوجوب الانذار عليهم، ولا تتعلق بوجوب القبول منهم، الا اذا انضاف
اليه شيء آخر. ألا ترى انه قد يجب التحذير (۲) والانذار من ترك
معرفة الله ، ومعرفة صفاته. وان لم يجب القبول من المخبر في ذلك، بل يجب الرجوع
الى أدلة العقل وما يقتضيه.
وكذلك يجب على النبى صلىاللهعليهوآله الانذار، وان لم يجب
القبول منه الا اذا دل العلم المعجز على صدقه، فيجب حينئذ القبول منه .
فكذلك القول في تحذير الطائفة انه يجب
عليهم التحذير، ويجب على المنذر الرجوع الى طرق العلم.
وأيضاً يجب على أحد الشاهدين اقامة
الشهادة، ولا يجب على الحاكم تنفيذ الحكم بشهادته الا اذا انضاف اليه من يتكامل
الشهادة به. ثم يعتبر أيضاً بعد تكاملهم صفاتهم، وهل هم عدول أولا؟ حتى يجب عليه
الحكم بشهادتهم .
وكذلك يجب على آحاد المتواترين النقل
فيما طريقه العلم ،
____________________________________________
(۱) قوله : (لانه غير
ممتنع الخ) هذا كما اذا تعلقت المصلحة بالتدريس ولا تتعلق المصلحة بقبول التلميذ ،
قول المدرس بدون دليل .
(۲) قوله : ( ألا ترى انه
قد يجب التحذير الخ ) لولم يجب طلب المعرفة عقلا لما أمكن التحذير والانذار من
تركه .
وان كان لا يحصل
العلم بخبره، ولا يجب علينا أن نعتقد صحة ما أخبر به الا بعد أن ينضاف من يتكامل
به التواتر اليهم. فحينئذ يوجب العلم، ولذلك نظائر كثيرة في العقليات (۱) .
ألا ترى انه قد يجب على الواحد منا
العطية الى غيره، وان كان ذلك الغير لا يجوز له أخذها ، ألا ترى ان من ألجاء غيره
ظلماً بتخويف القتل الى اعطائه المال أو الثياب، يجب عليه اعطائه بحكم العقل خوفاً
من القتل، ولا يجوز للظالم الملجيء أخذ ذلك على وجه من الوجوه .
وليس لاحد أن يقول : ان هذا يبطل فائدة
الانذار، لانه متى لم يجب القبول فلا وجه لوجوب الانذار عليهم. وذلك انا قدبينا
انه قد يجب الانذار في مواضع ذكرناها، وان لم يجب القبول من المنذر لما بيناه،
فكذلك القول فيما قالوه .
فأما حملهم (۲) ذلك على النبي صلىاللهعليهوآله فذلك دليلنا (۳) لانا قدبينا أنه لا
يجب القبول منه الا بعد أن يدل العلم
____________________________________________
(۱) قوله : (في العقليات )
المراد بالعقليات ما يعلم ترتب ضرر دنیوی أو نفع دنيوى عليه بالعادة،
من حيث هو كذلك . أو الأمور التي يعلم وجوبها أو حرمتها بالعقل ، بدون اخبار
الشارع من حيث هي كذلك .
(۲) قوله : ( فأما حملهم
) أي قياسهم .
(۳) قوله : (دليلنا )
المراد سند لمنعنا ، يمكننا أن نستدل به على بطلان
المعجز على صدقه،
فحينئذ يجب القول منه. فنظير هذا (١) أن يدل دليل على وجوب العمل بما انذروا به
حتى يجب علينا العمل به. وفي هذا القدر كفاية فى ابطال التعلق بهذه الآية .
واستدلوا أيضاً بقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا
عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ )
(۲) قالوا
: أوجب علينا التوقف عند خبر الفاسق، فينبغي أن يكون خبر العدل بخلافه، وأن يجب
العمل به وترك التوقف فيه .
وهذا أيضاً لا دلالة فيه لان هذا أولا
استدلال بدليل الخطاب (۳) ومن
أصحابنا من قال ان دليل الخطاب ليس بدليل ، فعلى هذا المذهب لا يمكن الاستدلال
بالاية. وأما من قال بدليل الخطاب فانه
____________________________________________
المقدمة الممنوعة
تبرعاً واستظهاراً .
(۱) قوله : ( فنظير هذا
الخ ) أي انما كان ما نحن فيه نظيراً لهذا ، أي النبي لو كان فيما نحن فيه دليل
يدل على وجوب العمل بما أنذر الطائفة به حتى يجب على الفرقة العمل به وهو مفقود
فيما نحن فيه ، لانه عين المتنازع فيه ، فلا يمكن القياس عليه عند مجوزي القياس لعدم
التماثل .
(۳) قوله : (استدلال
بدليل الخطاب) دليل الخطاب مفهوم المخالفة، وهو فيما نحن فيه مفهوم الصفة ، وربما
يقال : انه مفهوم الشرط . بأن يقال مفهومه ان جاءكم عادل بنباء فلا تتبينوا .
__________________
يقول لا يصح أيضاً
الاستدلال بها من وجوه (۱)
أحدها : ان هذه الآية نزلت في فاسق أخبر
بردة قوم (۲) وذلك
____________________________________________
(۱) قوله : ( لا يصح
أيضاً الاستدلال بها من وجوه ) اشارة الى انه يمكن الدفع بوجه آخر غير الوجهين
المذكورين في الكتاب ويمكن بيانه بأن من شرط حجية دليل الخطاب ، ان لا يعلم من
الخارج بدليل مساواة المسكوت عنه المذكور في الحكم . وهاهنا ليس كذلك ، لان التبين
هو التعرف ، وتطلب البيان ، أي العلم الحادث عن دليل كما سيجيء في ( فصل في ذكر
حقيقة البيان ) .
فلو كان خبر الفاسق موجباً لطلب العلم ،
والتوقف مالم يحصل علم دون خبر العدل ، لكان خبر العدل على طبق خبر الفاسق وبعده
غير مسموع ، وكان قبله مسموعاً مع ان الأول أقوى من الثاني، ولعله لم يذكر المصنف
هذا الوجه صريحاً ، لانه مما يمكن ان يستنبط من الوجه الثاني .
وها هنا وجه رابع هو الاستدلال على
المساوات بين المسكوت عنه والمذكور بقوله : (
فَتُصْبِحُوا
عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ
) لان جواز الندم حاصل
في خبر العدل أيضاً، وهو أيضاً مثل الثالث في أنه يمكن أن يستنبط من الثاني .
(۲) قوله : ( في فاسق
أخبر بردة قوم ) نزلت في الوليد بن عقبة كما قال الزمخشري
وغيره في تفسير سورة الحجرات قال : بعث رسول الله صلى
__________________
الله عليه وآله وسلم
الوليد بن عقبة أخا عثمان لامه، وهو الذي ولاه
عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص ، فصلى بالناس وهو
سكران صلاة الفجر أربعاً ، ثم قال : هل ازيدكم ؟ فعزله عثمان عنهم مصدقاً الى بني
المصطلق ، و كانت بينه وبينهم احنة ، فلما شارف ديارهم ركبوا مستقبلين له فحسبهم
مقاتليه ، فرجع وقال الرسول الله صلىاللهعليهوآله :
قد ارتدوا ومنعوا الزكاة فغضب رسول الله صلىاللهعليهوآله
وهم أن يغزوهم فباغ القوم ، فوردوا
وقالوا : نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله فاتهمهم . فقال : لتنتهن أولا بعثن اليكم
رجلا هو عندي كنفسي ، يقاتل مقاتليكم ، ويسبي ذراريكم . ثم ضرب بيده على كتف علي رضی
الله عنه ( انتهى .)
والظاهر مما بعد هذان الأمران الغضب
والهم بالغزو، انما صدر عن بعض من في ظاهر الايمان ممن يحامي الوليد ، وان الآية
نزلت لدفعهم عن رسول الله في حثهم اياه على من يغزوهم.
وحاصل كلام المصنف ، ان من شرط حجية
دليل الخطاب عند القائلين به ، أن لا يعلم بدليل خارج مساواة المسكوت عنه للمذكور
في الحكم المعلق به .
والمساواة فيما نحن فيه معلوم في المورد
، أي فيما نزلت الآية فيه بين خبر الفاسق ، وخبر العدل في جزئي مفهوم وجوب التبين
، أعني التوقف ،
__________________
وتطلب البيان
والمساواة في المورد في الحكم ، في حكم المساواة مطلقاً .
أما المساواة في التوقف فلما ذكره
المصنف من أنه لاخلاف انه لا يقبل فيه أيضاً خبر العدل الخ .
واما المساواة في وجوب تطلب البيان لانه
تجسس عن عيب فيما نحن فيه وهو مخصص لاية النهي عن التجسس ووجوبه ، لاجل ان التغافل
عنه مخل بحفظ بيضة الاسلام ، فلو وجب التجسس بخبر الفاسق ، ولا يجب بخبر العدل
لكان خبر الفاسق أشد اعتباراً من خبر العدل وأقوى .
ويظهر بذلك ان الامر بالتبين قرينة
باعتبار جزئه الثاني، على ان الحكم في المسكوت عنه أولى من المذكور في المورد .
فان قلت : فما فائدة التعليق على صفة
الفسق ؟
قلت : يمكن أن يكون خارجاً مخرج الغالب
، كما قيل في قوله تعالى : (
وَرَبَائِبُكُمُ
اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ
)
.
ويمكن أن يكون لبيان الحكم في المدعى ،
بأن يجيب الحكم بحسب الظاهر بفسق من يخبر عن غيره من المسلمين بسوء حاله، وان كان
صادقاً في نفس الامر. فانه فاسق ظاهراً وفي حكم الله، كما قالوا في قوله تعالى: ( فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ
فَأُولَٰئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ) .
ويمكن أن يكون للتنصيص على فسق الوليد
بن عقبة ليظهر حال من يوليه على المسلمين ، مع انه مطلع على حاله ومعاشر له ، لانه
أخوه لامه عكس ما ذكرنا في آية التطهير، في الفصل الأول عند قول المصنف : لا يجوز
عليه الخطاء ولا يخلو الزمان منه .
__________________
لا خلاف انه لا يقبل
فيه أيضاً خبر العدل، لانه لا يجوز أن يحكم بارتداد أقوام بخبر الواحد العدل .
والثاني: ان تعليل الآية يمنع من الاستدلال
بها، لان الله تعالى علل خبر الفاسق، فقال: (
أَنْ
تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ
)
وذلك قائم في خبر
العدل، لان خبره اذا كان لا يوجب العلم، فالتجويز في خبره حاصل مثل التجويز في خبر
الفاسق .
وليس لاحد أن يقول : اني أمنع من تجويز
ذلك في العدل ، لانه لو كان ذلك جائزاً لما علق تجويز الجهالة بالفاسق، لان ذلك لا
يصح من وجهين :
أحدهما : ان هذا يقتضى أن يقطع على انه
يعلم بخبر العدل، لان الجهل لا يرتفع الا ويحصل العلم، وذلك لا يقوله أحد .
____________________________________________
(۱) قوله (والثاني ان
تعليل الآية الخ) حاصله ان الجهالة في الآية مقابل للعلم كما هو ظاهر اللغة وعرف
الاصوليين ، وبقرينة قوله : (
فَتُصْبِحُوا
عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ
)
وليس مقابلا للاعم من
العلم والظن . ولا يخفى انه لو جعلت مقابلا للاعم أيضاً لتم الجواب بأن خبر العدل
ليس مفيداً للظن كلياً ولاخبر الفاسق مما لا يفيد الظن كلياً .
__________________
والثاني: انه ليس من يمنع (۱) من تجويز الجهالة في
خبر العدل من حيث علق الحكم بخبر الفاسق بأولى ممن قال: أنا أمنع بحكم التعليل من
دليل الخطاب في تعليق الحكم بخبر الفاسق ، لانه لا يمتنع ترك دليل الخطاب لدليل،
والتعليل دليل، فيسقط على كل حال التعلق بالاية.
واستدل قوم بقوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا
أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ ) الآية وقالوا حظر
الكتمان يقتضى وجوب الاظهار ، ووجوب ذلك يقتضى وجوب القبول والا فلا فائدة في
الآية .
وهذه الآية أيضاً لا دلالة فيها من وجوه
:
منها : ما قدمناه في الآية الأولى من ان
ها هنا مواضع كثيرة يجب الانذار فيها والتخويف، وان لم يجب القبول على المنذر الا
أن ينضاف اليه امر آخر فكذلك القول في الاظهار .
ومنها انه ليس في الآية الا تحريم كتمان
ما أنزله الله تعالى في الكتاب، وظاهر ذلك يقتضى ان المراد به القرآن، وذلك يوجب
__________________
(۱) قوله (والثاني انه
ليس من يمنع الخ) حاصله لوجو زنا حصول العلم بخير العدل، لا نجعله أقرب من المنع
من دليل الخطاب ، قلنا المنع للمعارض.
__________________
العلم (۱) دون خبر الواحد الذي
لا يوجبه
____________________________________________
(۱) قوله (وذلك يوجب
العلم) للتواتر ويحتمل أن يراد انه يوجب العلم بظاهره ، بناءاً على ما مر من مذهبه
. ثم الصواب في هذا المقام أيضاً أن يقال ان قوله تعالى في سورة البقرة : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا
مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي
الْكِتَابِ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا
الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَٰئِكَ أَتُوبُ
عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) يدل بظاهره على عدم
جواز العمل بخبر الواحد على ما يذهب اليه مخالفونا وهو أن يكون مناط العمل الظن
بحكم الله الواقعي، وذلك بأن يكون المراد بالبينات المحكمات الناهية صريحاً عن
اتباع الظن ، وعن الاختلاف عن الظن أو الاعم منها ومن سائر المحكمات. وعلى الأول
من بيانه، وعلى الثاني تبعيضه .
والمراد بكتمان ما أنزل الله من البينات
تأويله أو تخصيصه اتباعاً للهوى وحبا للاجتهاد الظني ، كما هو دأب المفسرين
المخالفين .
والهدى عطف على (ما) والمراد به الامام
العالم بجميع أحكام الله تعالى المعصوم عن الخطاء . ذلك ذكر الله ، ذلك هدى الله
يهدى به من يشاء، ومن يضلل الله فماله من هاد.
وضمير بيتناه للهدى ، والمراد ان تلك
البينات صريحة الدلالة للناس على وجود الهدى في كل زمان الى انقراض الدنيا ، فمن
كتمه كان مكابر النفسه كما في قوله تعالى : (
وَجَحَدُوا
بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ
)
.
__________________
وليس لاحد أن يقول : فقد قال بعد ذلك
والهدى» فيدخل فيه سائر الادلة، لان ذلك لا يصح من وجهين :
أحدهما: انه قال بعد ذلك من بعد ما
بيناه للناس في الكتاب فقد عاد الامر الى أنه أراد به الكتاب.
والثاني: انه يقتضى وجوب اظهار ما هو
دليل، ويحتاج أن يثبت أولا: ان خبر الواحد دليل بغير الآية حتى يتناوله قوله
والهدى» فاذا لم يثبت دليل لا يمكن حمل الآية عليه، واذا اثبت استغنى عن الاستدلال
بالاية .
وقد استدل الخلق منهم من الفقهاء
والمتكلمين باجماع الصحابة بأن قالوا: وجدنا الصحابة قد عملت بأخبار لاحاد وشاع
ذلك فيما بينهم، نحو ماروى عن عمر (۱) انه قبل خبر حمل بن
__________________
مالك (۱) في الجنين (۲) وقال: كدنا أن نقضى
فيه برأينا ، وخبر الضحاك (۳) في توريث المرأة من دية زوجها، وخبر عبد
الرحمن (٤) في أخذ الجزية من المجوس .
____________________________________________
(۲) قوله ( في الجنين )
بوجوب غرة عبد أو أمة (٥)
(۳) قوله ( وخبر الضحاك )
هو الضحاك بن سفيان العامري (۶) عداده في أهل المدينة ، وكان ينزل بنجد،
ولاه النبي صلىاللهعليهوآله على
من أسلم من قومه . وروى انه كتب اليه النبي صلىاللهعليهوآله
ليورث امرأة
__________________
وكانوا في ذلك بين طائفتين، طائفة تعمل
بهذه الاخبار، و الاخرى لا تنكر عليهم. فلولا ان العمل بها كان صحيحاً جائزاً والا
كانوا (۱) قد
أجمعوا على الخطاء وذلك لا يجوز .
والاستدلال بهذه الطريقة لا يصح من وجوه
:
أحدها : ان هذه الاخبار التي رووها (۲) كلها أخبار آحاد،
والطريق الى أنهم عملوا بها أيضاً أخبار آحاد، لانها لو كانت متواترة لكانت توجب
العلم الضرورى عندهم، ونحن لا نعلم ضرورة أن الصحابة عملت بأخبار الاحاد، فاذا لا
يصح الاعتماد على هذه الاخبار، لان المعتمد عليها يكون أوجب العمل بخبر الواحد
وذلك لا يجوز (۳).
____________________________________________
أشيم الضبابي من دية زوجها. كذا في
جامع الاصول لا بن الاثير
.
(۱) قوله ( والا كانوا )
فيه تكرار معنى الشرط في النفي كما هو عادة المصنف رحمهالله
.
(۲) قوله ( هذه الاخبار
التي رووها ) أي ماروي من عمل عمر بما ذكر ويحتمل أن يراد بهذه الاخبار، خبر حمل،
وخبر الضحاك ، وخبر عبد الرحمن قوله (و الطريق الى انهم عملوا أي الى ان الطائفة
من الاصحاب عملوا بها.
(۳) قوله ( وذلك لا يجوز
) لاشتماله على الدور .
__________________
ولا خلاف أيضاً (۱) بين الاصوليين في أن
وجوب العمل بأخبار الاحاد طريقة العلم دون الظن واخبار الاحاد. وقدد للناعلى انها
لا توجب العلم، فسقط من هذا الوجه الاحتجاج بهذه الطريقة.
والثاني : انا لو سلمنا (۲) انهم عملوا بهذه
الاخبار، من أين لهم انهم عملوا بها من حيث كانت اخبار آحاد، ومن أجلها وما ينكرون
على من قال: انهم عملوا لدليل دلهم على صحة ما تضمنته هذه الاخبار أو قرينة اقترنت
اليها (۳) أوجبت
صحتها، أو يكون العامل بها كان قد سمع كما يسمع الراوى، فلما روى له ذلك تذكر ما
كان
____________________________________________
(۱) قوله ( ولا خلاف
أيضاً ) بحث آخر حاصله ان الاستدلال بما يفيد الظن بالحكم الاصولي الافادته الظن
بالحكم الفروعي، ولا يفيد القطع بالحكم الأصولي ، لعدم قيام دليل قطعي على حجيته
كالقياس وخبر الواحد على ما اعتبره العامة لا يكفي فيما نحن فيه وسيجيء تحقيق كون
خبر الواحد على ما اعتبره العامة والقياس مفيدين للظن والفرق بينهما وبين ظاهر
الكتاب في ذلك في ( فصل في تحقيق العموم باخبار الاحاد ) وقد مر أيضاً في أوائل
هذه الحواشي ما يظهر منه .
(۲) قوله (والثاني انا لو
سلمنا الخ) دعوى القطع في دلالة سياقها على ان العمل بها كما قيل محض اقتراح .
(۳) قوله (أو قرينة
اقترنت اليها) الظاهر انه بناء على اعتقاد الحق الخلق المستدلين بهذه الطريقة أو
عطف التفسير بأو بقرينة ما سبق في ابطال مذهب النظام من أن خبر الواحد لا يفيد
العلم وان انضم اليه القرائن .
نسیه فعمل به
لاجل علمه لا لاجل روايته .
وليس لاحد أن يقول اذا عملوا عند سماع
هذه الاخبار، ولم يعملوا قبل ذلك، علم ان عملهم لاجلها دون أمر آخر ويبين ذلك قول
عمر في خبر الجنين كدنا أن نقضى فيه برأينا. وفي خبر آخر لولا هذا لقضيا فيه
برأينا . فنبه انه عدل عن الرأى الى ما عمل به لاجل الخبر لا لاجل علمه أو أمر آخر
.
وكذلك روى عنه انه كان ممن يرى المفاضلة
في دية الاصابع حتى اخبر عن كتاب عمر و بن حزم (۱) ان النبي صلىاللهعليهوآله قال: «في كل اصبع
عشرة من الابل (۲) فسوى
بين الكل وفي ذلك ابطال قول من قال جوزوا أن يكونوا عملوا بهذه الاخبار لامر آخر .
وذلك انه لا يمتنع انهم قبل رواية هذه
الاخبار لم يعملوا لانهم كانوا ناسين لذلك فلما روى لهم الخبر ذكروا ما كانوا نسوه
فعملوا به لاجل الذكر لا لاجل الخبر. فأما قول عمر : كدنا ان نقضى فيه برأينا فلا
يمتنع أيضاً أن يكون لما كان نسى الخبر وبعد عهده بـه
__________________
(۱) عمرو بن حازم بن زيد
بن لوذان الخررجى النجارى من بني مالك بن النجار . استعمله رسول الله صلىاللهعليهوآله على أهل نجران ، وهم
بنو الحارث بن كعب ليفقههم في الدين ويعلمهم القرآن، وكتب له كتاباً فيه الفرائض
والسنن والصدقات والديات . مات بالمدينة سنة (٥١) هـ . وقيل غير ذلك .
(۲) جامع الاصول ٥
: ١٦٤ وفيه : (وفى كل اصبع مما هنالك عشر من الابل) .
أراد أن يقضى برأيه
فيه ، فلما روى له الخبر تذكر ما تضمنه الخبر فرجع الى ما علمه، واخبر انه لولا
هذا الخبر الذي كان سبباً لتذكاره كاد أن يقضى برأيه.
وأما رجوعه الى كتاب عمر و بن حزم في
الدية، فان كتاب عمرو بن حزم كان معلوماً بين الصحابة ، وانه من املاء رسول الله صلىاللهعليهوآله، ولم يكن طريق ذلك
خبر الواحد، فلاجل ذلك رجع اليه.
والثالث: انا لو سلمنا انهم عملوا بهذه
الاخبار لاجلها لم يكن أيضاً فيه دلالة ، لانه ليس جميع الصحابة عمل بها، وانما
عمل بها بعضهم وليس فعل بعضهم حجة ، وانما الحجة في فعل جميعهم .
وليس لهم أن يقولوا انهم بين طائفتين
طائفة عملت بها وطائفة لم تنكر عليهم العمل بها، فلو لم يكن صحيحاً لكانوا قد
أجمعوا على الخطاء، وذلك ان هذا لا يصح من وجهين :
أحدهما : أنه من أين لهم حيث لم ينكروا
كانوا راضين بأفعالهم مصوبين لهم ما عملوا. وما المانع من أن يكونوا كارهين لذلك
منكرين بقلوبهم، ومنع من اظهار ذلك بعض الموانع، وانما يمكن الاعتماد على سكوتهم ،
اذا لم يكن لسكوتهم وجه غير الرضا فحينئذ يحمل عليه فاما ويمكن غير ذلك فينبغي أن
لا يقطع به على الرضا.
وأيضاً فانما يجب عليهم انكار ذلك اذا
علموا انهم عملوا بهذه
الاخبار لاجلها وغير
ممتنع أن يكونوا شاكين في حال العاملين بها مجوزين، لانهم عملوا بها لدليل دلهم
على صحة هذه الاخبار أو لتذكرهم، فلاجل ذلك لم ينكروهم .
والوجه الثاني: انهم قد أنكروا اجمع
العمل بخبر الاحاد، ألا ترى الى ماروى عن أبى بكر (۱) انه لم يقبل خبر
المغيرة بن شعبة (۲) في
الجدة (۳) حتى
شهد معه محمد بن مسلمة (٤)
__________________
(١) أبو بكر بن أبي قحافة ، واسمه عتيق
، واسم أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة . واسم أبي
بكر في الجاهلية عبد الكعبة، وسماه رسول الله صلىاللهعليهوآله
عبد الله أول من ولى الخلافة بعد رسول الله صلىاللهعليهوآله
. ومات سنة (۱۳
هـ .).
(۲) المغيرة بن شعبة بن
أبي عامر بن مسعود بن معتب بن مالك بن قيس الثقفي أسلم قبل عمرة الحديبية ، وولى
الكوفة من قبل عمر، وأقره عثمان في أول خلافته ثم عزله ، ثم ولاه معاوية الكوفة
حتى مات سنة ( ٥٠ هـ . ) .
(۳) رواه ابن الأثير فى
جامع الاصول ۱۰ :
۳۷۱ .
(٤) محمد بن مسلمة بن سلمة بن
خالد بن عدي بن مجذعة بن حارثة بن الحارث . مات بالمدينة سنة (٤٣هـ ).
وقيل غير ذلك ، وصلى عليه مروان بن الحكم وهو يومئذ أمير على المدينة .
و ماروى عن عمر (۱) انه لم يقبل خبر أبي
موسى ( ۲ ) في
الاستئذان (۳) حتى
شهد معه أبو سعيد (٤) .
وماروى عن على عليهالسلام انه لم يقبل خبر ابن
سنان الاشجعي
____________________________________________
(۱) قوله ( وما روي عن
عمر ( ذكر بعض العاملين أو جميعهم في المنكرين ليس رجوعاً عن التسليم ، لان هذا في
مقام المعارضة أو النقض الاجمالي ، أو لان انكار العاملين في وقت آخر أشد دلالة
على عدم الاجماع على جواز عملهم .
فالمراد لا نسلم ، عدم النكير حتى ان
العاملين أيضاً أنكروا على أنفسهم في وقت آخر .
(۳) قوله (في الاستئذان)
هو ما قال أبو موسى الاشعرى : سمعت رسول الله صلى عليه وآله وسلم يقول : اذا
استأذن أحدكم على صاحبه ثلاثأفلم يؤذن له فاليرجع ) (۵) فانكر عمر حتى رواه
أبو سعيد الخدري .
__________________
(۲) أبو موسى ، عبد الله
بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب بن عامر بن بكر الاشعرى . ولاه عمر بن الخطاب
البصرة اذ عزل عنها المغيرة ، ولم يزل على البصرة الى صدر من خلافة عثمان . ثم أقر
ولايته على الكوفة ، فلم يزل على الكوفة حتى مات عثمان ، ثم كان منه بصفين وفي التحكيم
ما كان . قال ابن عبد البرفي الاستيعاب : وكان منحرفاً عن على رضى الله عنه لانه
عزله و لم يستعمله مات سنة (٤٢هـ .) وقيل غير ذلك .
(٤) أبو سعيد ، سعد بن مالك بن
سنان بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر الخدري . صحب النبي صلىاللهعليهوآله
وروى عنه . مات سنة (٧٤ هـ .) .
(٥) سنن أبى داود ٤ :
٣٤٥ الحديث ٥١٨٠ .
وغير ذلك مما لا يحصى
كثرة ، ورد هذه الاخبار ظاهر بينهم (۱) كما ظهر بينهم العمل بما ذكروه من
الاخبار .
فان كان عملهم بما عملوه دليلا على
جوازه، فردهم لماردوه يجب أن يكون دليلا على المنع منه، ولا فرق بينهما على حال.
وليس لاحد أن يقول: نحن لا ننكر ردكثير
من الاخبار اذا لم يكن شرط وجوب القبول فيه ثابتاً، وذلك ان هذا التأويل في رد هذه
الاخبار، انما يسوغ اذا ثبت انهم عملوا بخبر الواحد (۲) فاما ولما يثبت ذلك
بل نحن في سبر ذلك، فلا يمكن تأويل ذلك، ولا فرق بين (۱) تأول هذه الاخبار.
وقال انهم ردوها لبعض العلل، ليسلم
____________________________________________
(۱) قوله (ظاهر بينهم) أي
بين المخالفين .
(۲) قوله (اذا ثبت انهم
عملوا بخبر الواحد) أي جميع الاصحاب ، اما صريحاً أو بترك النكير بحيث يحصل الاجماع
، وليس المراد الطائفة التي ذكر انهم عاملون ، لانه رجوع عن التسليم .
(۳) قوله (ولا فرق بين
الخ) لا يقال بينهما فرق باعتبار التسليم ، لانا نقول المسلم عملهم بها لاجلها ،
باعتبار دلالة الظاهر عليه لا مطلقاً . وهذا الظاهر قائم في رد هذه الاخبار ، فبعد
التسليم أيضاً لو اول الرد اول القبول ، لعدم الفرق بينهما في دلالة الظاهر الحال
تسليماً تاماً .
والتفاوت في قوة دلالة الظاهر في أحدهما
دون الآخر لا يضر، لان المراد عدم الفرق في أصل الدلالة ، و هذا الكلام مع ما قبله
مذكور في السند
له العمل بتلك
الاخبار وبين من عكس ذلك فقال: انهم عملوا بتلك الاخبار لقيام دليل دلهم على ذلك
غير نفس الاخبار، لتسلم له ظواهره هذه الاخبار .
ولا فرق بينهما على حال على ان هذه
الطريقة التي اعتمدوها يوجب عليهم وجوب النسخ بخبر الواحد، لانهم نسخوا القبلة
بخبر الواحد ، لانه روى ان أهل قباء كانوا في الصلاة ، متوجهين الى بيت المقدس
فجائهم مخبر فقال لهم : ان النبي صلى الله عليه و آله وسلم حول قبلته الى الكعبة،
فداروا الى التوجه الى الكعبة، وكان ذلك في عصر النبي صلىاللهعليهوآله ولم نجده صلىاللهعليهوآله أنكر عليهم ذلك،
فينبغى أن يكون على قانون طريقتهم يجوز النسخ بخبر الواحد، وذلك لا يقوله أحد .
وليس لهم أن يقولوا: ان أهل قبا كانوا
قد علموا نسخ القبلة
____________________________________________
استظهاراً ، أو يكفي
لمنع عدم وقوع النكير احتمال عدم تأويل أخبار الرد ، وان كان احتمالا مرجوحاً ، اذ
طريق وجوب العمل باخبار الاحاد العلم دون الظن كما مر .
والقول بأن انضمام واحد لا يخرجه عن
أخبار الاحاد ، ولا يضر، لانا بعد التسليم لا ننكر عملهم ، بل سندنا انكارهم له في
بعض الاحيان . فانه يدل ظاهراً على عدم الاجماع على ما ادعى عليه الاجماع في الدليل
، لان احتمال اشتراط العدد لا يحتاجه ، لانه لم ينضم اليه أحد .
بغير ذلك الخبر،
فلاجل ذلك عملوا به، لان عليهم فيما استدلوا به من الاخبار مثله، بأن يقال: وانما
عملوا بتلك الاخبار، لانه كان سبق لهم العلم بما تضمنته تلك الاخبار، فذكروه عند
حصولها، كما قلتموه في أهل قباء حذو النعل بالنعل .
واستدلوا أيضاً بما كان من النبى صلىاللهعليهوآله من بعثه رسله الى
الاطراف ، وعماله ، وسعاته الى النواحي. وأمره اياهم بالدعاء الى الله تعالى والى
رسوله وشريعته ، فلولا ان القبول كان واجباً منهم، والا لم يكن لذلك فائدة .
وهذا لا يمكن الاعتماد عليه، لان النبى صلىاللهعليهوآله كان يبعث برسله
ويأمرهم أولا بالدعاء الى الله تعالى والى رسوله صلى الله عليه و آله.
ولا خلاف ان ذلك طريقه الدليل، وانه لا
يجوز قبول خبر الواحد فيه ، بل يجب الرجوع في ذلك الى الادلة الواضحة فيه فكذلك القول
في الاحكام الشرعية .
فان قالوا: انهم كانوا يدعونهم الى
معرفة الله تعالى وينبهونهم على ما هو مركوز في عقولهم من الادلة الدالة على
توحيده وعدله وكذلك يدعونهم الى النبوة والاقرار به، ويقرؤن عليهم القرآن الدال
على صدقه في دعواه .
قيل لهم : فاذا قد صار لدعائهم الى ما
يدعون اليه فائدة غير
وجوب القبول منهم،
واذا جاز ذلك فى المعرفة والنبوة، جاز له أن يقول في أحكام الشريعة مثله . بأن
يقول انهم كانوا ينبهونهم على الطرق الدالة على أحكام الشريعة من الكتاب والسنة
المتواترة بها ويجب عليهم النظر فيها، ليحصل لهم العلم بصحة ما يتضمنه
ثم يقال لهم : طريق التعبد بخبر الواحد
ووجوب العمل به الشرع، لان العقل قد بينا انه لا يدل على ذلك، فمن اين يعلمون انهم
قد تعبدوا وجوب القبول من الرسل والعمال وغيرهم ، حتى يجب عليهم القبول منهم ؟ فان
أحالوا على جهة من الجهات من تواتر اوغير ذلك ، قلنا مثله في سائر الاحكام ، وسقط
التعلق بهذه الطريقة.
فان قيل : فما قولكم في المواضع النائية
التي يقطع على انه لا تواتر اتصل بهم بأحكام الشريعة ، أليس كان يجب عليهم القبول
من الرسل والعمال ، وليس هناك طريق يعلمون به أحكام الشريعة .
قيل له: اذا فرضت المسألة في الموضع
الذي ذكر في السؤال فلاصحابنا عن ذلك جوابان :
أحدهما : انه لا يجب عليهم القبول منهم،
وينبغي أن يكونوا (۲)
____________________________________________
(۲) قوله (وينبغي أن
يكونوا الخ) قد مر ما فيه ، فيجب عليهم ان لم يمكن لهم تحصيل العلم القبول فيما لا
يجري فيه احتياط .
متمسكين بحكم العقل
الى أن ينقطع عذرهم بأحكام الشريعة فحينئذ يجب عليهم العمل به.
والجواب الثانى (۱): انه اذا كان القوم
بحيث لم يتصل بهم الشريعة على وجه ينقطع العذر، وكانت المصلحة لهم في العمل بتلك
الشريعة ، فانه لا يجوز ان يبعث اليهم الا معصوماً لا يجوز عليه التغير والتبديل،
ويظهر على يده علم معجز يستدلون به على صدقه، فاذا علموا صدقه، وجب عليهم القبول
منه، وعلى الوجهين جميعاً سقط السؤال .
ثم يقال لهم : اذا كان القوم، بحيث
فرضتم من البعد، من أين يعلمون انهم متعبدون بوجوب قبول قول الرسل، والرجوع الى ما
يقولونه في أحكام الشريعة؟ فلابد لهم من أن يحيلوا على جهة اخرى غير مجرد أقوالهم.
فنقول لهم مثل ذلك في سائر الاحكام، وسقط السؤال .
واستدلوا أيضاً بأن قالوا : لا خلاف فى
أنه يجب على المستفتي الرجوع الى المفتى مع تجويزه الغلط عليه، فكذلك أيضاً يجب
الرجوع الى خبر الواحد، وان جوز على المخبر الغلط.
____________________________________________
(۱) قوله (والجواب الثاني
الخ) هو الحق بحسب أصل الشريعة ، بناءاً علی مامر من ادلة العقل والنقل على
عدم اتباع الظن، مع عدم حدث من الناس.
وهذا أيضاً لا يصح الاستدلال به لان
لاصحابنا في هذه المسألة مذهبين :
أحدهما : انه لا يجوز (۱) للمستفتى القبول من
المفتى، بل يلزمه طلب الدليل. كما لزم المفتى، فعلى هذا سقط السؤال .
والمذهب الآخر : انه يجوز ذلك .
والجواب عنه على هذا المذهب: ان هذا
قياس، ولا خلاف ان هذه المسألة لا تثبت بالقياس لان طريقها العلم (۲) ولم اذا
____________________________________________
(۱) قوله (أحدهما : انه
لا يجوز الخ) هذا اشارة الى منع قول المستدل لاخلاف الخ).
والثاني : اشارة الى منع قول المستدل (فكذلك
أيضاً الخ) . وانما ذكر الجوابين بعنوان النقل لعدم ارتضائه الأول منهما ، كما
سيجيء في (فصل في صفات المفتي والمستفتي) .
واكتفاؤه في الجوب بهذين يدل على انه
جعل المتنازع فيه، جواز العمل بخبر الواحد بدون الافتاء بمضمونه ، والقضاء به والا
فالفرق بين المقيس والمقيس عليه يصير ظاهر آلانه لا يجوز للمستفتي الافتاء والقضاء
بما استفتى فيه.
هذا وظاهر ابن بابويه جعل العمل بخبر
الواحد فرداً من العمل بالفتوى حيث سمى كتابه (كتاب من لا يحضره الفقيه) وأدخل في
جملة كتابه رسالة أبيه اليه، لحسن ظنه به انه لا يفتي الا عن علم وتدبر .
(۲) قوله (لا تثبت
بالقياس لان طريقها العلم) يعني ان القياس انما يفيد الظن ، وسيجيء معنى افادة
القياس وخبر الواحد على ما اعتبرته العامة مفيداً
وجب ذلك في المستفتى
والمفتى يجب مثل ذلك في خبر الواحد ؟ فان جمعوا بينهما بعلة انه يجوز (۱) على كل واحد منهما
الخطأ كان ذلك قياساً، وقد اتفقنا على ان طريق وجوب العمل بخبر الواحد العلم دون
القياس على ان ذلك انما يمكن أن يستدل به على جواز ورود العبادة بخبر الواحد دون
أن يجعل طريقاً الى وجوب ذلك، وهذه الجملة كافية في ابطال الشبهة .
وقد استدلوا باشياء تجرى مجرى ما ذكر
نساه مثل حملهم ذلك على الشهادة وغير ذلك، والجملة التي ذكرناها تنبه على طريقة
الكلام على جميع ذلك، فلافائدة في التطويل
فأما من راعى أن يكون الراوى أكثر من
واحد، واستدلاله
____________________________________________
للظن فقط في (فصل في
تخصيص العموم بأخبار الاحاد) .
(۱) قوله (بعلة انه يجوز
الخ) لا يتوهم العلية في جواز الخطاء بل انما يتوهم في الظن الصدق المشتمل على
جواز الخطاء ، ولذا قال: (على ان ذلك الخ) يعني جواز الخطأ مع ورود التعبد يدل على
عدم مانعية جواز الخطأ عن التعبد ولا يعلم مانع عقلي غير هذا في خبر الواحد فيجوز
التعبد به عقلا
فهذه العلاوة بحث في الحقيقة على ظاهر
التقرير، وأما جعله اشارة الى الفرق الذي ذكرنا بحمل قوله دون أن يجعل طريقاً الى
وجوب ذلك ، على أن يكون المراد دون أن يجعل خبر الواحد دليلا على ثبوت الاحكام في
نفسها يفتي بها ويقضي عليها فمن بعيد الحمل .
على ذلك بخبر أبى بكر
فى الجدة وخبر عمر في الاستئذان، وحديث ذي اليدين (۱) في سهو النبي صلىاللهعليهوآله وانه لم يقبل منه
حتى سأل غيره من الصحابة (۲) وحمله ذلك على الشهادة وغير ذلك، فما
ذكرناه من الكلام على من لم يراع العدد كلام عليه .
لانا اعتبرنا المنع (۳) من كل خبر لا يوجب
العلم ، فلا وجه لاعتبار هذا العدد .
وقلنا : ان هذه الاخبار كلها أخبار آحاد
لا يصح التعلق بها ، و منعنا من انهم عملوا بها لاجلها، ومنعنا أيضاً من أن يكونوا
كلهم عملوا بها. وبينا ايضاً (٤) انهم انكروا أيضاً العمل باخبار الاحاد في
مواضع، فالطريق الى ابطال ذلك واحد .
فأما ما اخترته من المذهب، فهو ان خبر
الواحد اذا كان وارداً
____________________________________________
(۱) قوله (لانا اعتبرنا
المنع الخ) هنا محمول على الاصطلاحي، وقوله (وقلنا) الى قوله (فالطريق الى ابطال
ذلك واحد) تفسير لاعتبار المنع .
(۲) قوله ( وبينا أيضاً
الخ) لم يبين بما سبق انكارهم العمل بأخبار الاحاد اذا كان الراوي أكثر من واحد .
__________________
من طريق أصحابنا
القائلين بالامامة ، وكان ذلك مروياً عن النبي صلىاللهعليهوآله،
أو عن واحد من الأئمة عليهمالسلام .
وكان ممن لا يطعن في روايته (۱) ويكون سديداً في نقله
(۲) ولم
تكن هناك قرينة (۳) تدل
على صحة ما تضمنه الخبر، لانه ان كان هناك قرينة تدل على صحة ذلك كان الاعتبار
بالقرينة، وكان ذلك موجباً للعلم. ونحن نذكر القرائن فيما بعد التي جاز العمل بها
.
والذي يدل على ذلك (٤) اجماع
الفرقة المحقة، فاني وجدتها
____________________________________________
(۱) قوله ( وكان ممن لا
يطعن في روايته ضمير (كان ) لخبر الواحد ، والظرف في (ممن) متعلق بوارد ، و (لا
يطعن) بصيغة مجهول باب منع، والظرف نائب الفاعل ، وضمير ( روايته ) لـ ( من )
ويجيء أقسام الطعن في ذيل هذا الفصل في قوله وقالوا فلان متهم في حديثه ، وفلان كذاب
، وفلان مخلط الخ ) .
(۲) قوله ( ويكون سديداً
في نقله عطف على (يطعن) فالضمير لـ (من) والمراد أن يكون مستقيماً في نقل خبر
الواحد، بأن لا يكون في متن خبره فساد، كاخبار الجبر والتشبيه ونحو ذلك .
(۳) قوله (ولم تكن هناك
قرينة الخ) انما لم يذكر هذا الشرط فيما سبق في صدر البحث لظهوره ، فالظاهر ان
المصنف لا يحوز العمل به فيما يمكن تحصيل العلم به ، ويجوز فيما لا يمكن ، ولا
يوجب الاحتياط فيما يمكن فيه الاحتياط .
(٤) قوله (والذي يدل على ذلك الخ)
يمكن الاستدلال على جواز العمل
مجمعة على العمل بهذه
الاخبار التي رووها في تصانيفهم ودونوها في اصولهم، لا يتناكرون ذلك ولا
يتدافعونه، حتى ان واحداً منهم اذا أفتى بشيء لا يعرفونه (۱) سألوه من أين قلت هذا
؟ فاذا أحالهم على كتاب معروف، أو أصل مشهور، وكان راويه ثقة لا ينكر حديثه سكتوا
وسلموا الامر في ذلك، وقبلوا قوله، وهذه عادتهم وسجيتهم من عهد النبي صلىاللهعليهوآله ومن بعده من الأئمة عليهمالسلام ومن زمن الصادق جعفر
بن محمد عليهالسلام
الذي انتشر العلم عنه وكثرت الرواية من جهته، فلولا ان العمل بهذه الاخبار كان
جائزاً لما أجمعوا على ذلك ولا نكروه، لان اجماعهم فيه معصوم لا يجوز عليه الغلط
والسهو .
____________________________________________
بخبر الواحد في
الجملة دون الفتوى والقضاء به ، بأنه لو لم يجز لكان الامر في عصر النبي صلىاللهعليهوآله والأئمة
عليهمالسلام ضيقاً
جداً على من لم يحضر مجلسهم، والعادة قاضية بأن الأمر لو كان بهذا الضيق في مثل
هذا الامر العام البلوى ، لتواتر الينا من النبي والأئمة عليهمالسلام وأصحابهم المنع من
العمل به والتضيقات فيه، ولم يبلغ الينا ذلك دون التواتر فضلا عن التواتر .
(۱) قوله (اذا افتى بشيء
لا يعرفونه) ذكر الافتاء مسامحة ، والمراد رواية الفتوى ، أو الاخبار عن عمله بشيء
للتبنية على طريقه ، والقرينة ما سيجيء في (فصل في صفات المفتي والمستفتي من
اشتراط العلم في الافتاء ، فلو حمل على الظاهر لكان هذا داخلا فيما فيه قرينة
موجبة للعلم .
والذي يكشف عن ذلك انه لما كان العمل
بالقياس محظوراً في الشريعة عندهم لم يعملوا به أصلا، واذا شذ منهم واحد عمل به في
بعض المسائل، أو استعمله على وجه المحاجة لخصمه، وان لم يعلم اعتقاده تركوا قوله
أو أنكروا عليه وتبرأوا من قوله ، حتى انهم يتركون تصانيف من وصفناه ورواياته لما
كان عاملا بالقياس فلو كان العمل بخبر الواحد يجرى ذلك المجرى، لوجب أيضاً فيه مثل
ذلك وقد علمنا خلافه .
فان قيل : كيف تدعون الاجماع على الفرقة
المحقة في العمل بخبر الواحد، والمعلوم من حالها انها لاترى العمل بخبر الواحد،
كما ان المعلوم من حالها انها لا ترى العمل بالقياس، فان جاز ادعاء أحدهما جاز
ادعاء الآخر .
يقال لهم: من حالها الذى لا ينكر ولا
يدفع انهم لا يرون العمل بخبر الواحد الذي يرويه مخالفهم في الاعتقاد ويختصون
بطريقه فأما ما يكون راويه منهم، وطريقه أصحابهم ، فقد بينا ان المعلوم خلاف ذلك،
وبينا الفرق بين ذلك وبين القياس أيضاً. وانه لو كان معلوماً حظر العمل بخبر
الواحد، لجرى مجرى العلم بحظر القياس وقد علم خلاف ذلك .
فان قيل : أليس شيوخكم لاتزال يناظرون
خصومهم في ان خبر الواحد لا يعمل به، ويدفعونهم عن صحة ذلك، حتى ان منهم
من يقول: لا يجوز ذلك
عقلا. ومنهم من يقول : لا يجوز ذلك، لان السمع لم يرد به. وما رأينا أحداً منهم
تكلم في جواز ذلك ، ولا صنف فيه كتاباً ، ولا أملا فيه مسألة ، فكيف تدعون أنتم
خلاف ذلك ؟
قيل له : الذين أشرت اليهم من المنكرين
لاخبار الاحاد، انما كلموا من خالفهم في الاعتقاد، ودفعوهم عن وجوب العمل بما
يروونه من الاخبار المتضمنة الاحكام التي يروون هم خلافها ، وذلك صحيح على ما
قدمناه ولم نجدهم اختلفوا فيما بينهم وأنكر بعضهم على بعض بما يروونه، الا مسائل
دل الدليل الموجب للعلم على صحتها ، فاذا خالفوهم فيها ، أنكروا عليهم لمكان
الادلة الموجبة للعلم، والاخبار المتواترة بخلافه .
فأما من أحال ذلك عقلا، فقد دللنا فيما
مضى على بطلان قوله وبينا ان ذلك جائز . فمن أنكره كان محجوجاً بذلك، على ان الذين
اشير اليهم فى السؤال، أقوالهم متميزة من بين أقوال الطائفة المحقة، وعلمنا انهم
لم يكونوا أئمة معصومين وكل قول علم قائله، وعرف نسبه، وتميز من أقاويل سائر
الفرقة المحقة، لم يعتد بذلك القول. لان قول الطائفة انما كان حجة من حيث كان فيها
معصوم فاذا كان القول صادراً من غير معصوم، علم ان قول المعصوم داخل في باقي
الاقوال، ووجب المصير اليه على ما نبينه في باب الاجماع.
فان قيل : اذا كان العقل يجوز العمل
بخبر الواحد، والشرع قدورد به، ما الذى حملكم على الفرق بين ما يرويه الطائفة
المحقة وبين ما يرويه أصحاب الحديث من العامة عن النبي صلىاللهعليهوآله وهلا عملتم بالجميع،
أو منعتم من الكل .
قيل : العمل بخبر الواحد اذا كان دليلا
شرعياً فينبغي أن نستعمله بحيث قررته الشريعة، والشرع يرى العمل بما يرويه طائفة
مخصوصة فليس لنا أن نتعدى الى غيرها ، كما انه ليس لنا ان نتعدى (۱) من رواية العدل الى
رواية الفاسق وان كان العقل مجوزاً لذلك أجمع على ان من شرط العمل بخبر الواحد، أن
يكون راويه عدلا بلا خلاف (۲) وكل من اسند اليه ممن خالف الحق (۳) لم يثبت عدالته ،
____________________________________________
(۱) قوله ( كما انه ليس
لنا أن نتعدى) المراد بالتعدي، ضم رواية الفاسق الى رواية العدل في جواز العمل بكل
منهما . فالمراد بالفاسق ، الفاسق في الرواية ، والمراد ليس لنا على رأيكم . ويجوز
أن يراد بالتعدي ترك رواية العدل ، والعمل برواية الفاسق حين التعارض . لكن كون
العقل بمجردهما مجوزاً لذلك محل بحث .
(۲) قوله (أن يكون راويه
عدلا بلا خلاف) المراد العدالة في الرواية ، أو المراد بلا خلاف لديكم .
(۳) قوله ( من اسند اليه
ممن خالف الحق ) أي العامة الذين لم يدخل أحاديثهم في جملة أحاديث أصحابناً ، وأما
من دخل حديثه فيها كحفص بن
بل ثبت فسقه، فلاجل
ذلك لم يجيز العمل بخبره .
فان قيل : هذا القول يؤدى الى أن يكون
الحق في جهتين (۱) مختلفتين
اذا عملوا بخبرين مختلفين، والمعلوم من حال أئمتكم وشيوخكم خلاف ذلك .
قيل له : المعلوم (۲) من ذلك انه لا يكون
الحق في جهتهم
____________________________________________
غياث ونظرائه ، فسيجي جواز
العمل بروايته، لانه ثقة في الرواية .
(۱) قوله (أن يكون الحق
في جهتين هذا هو القول بالتصويب ، وليس معنى التصويب هنا ما توهم بعض من ان الله
تعالى حكمين في نفس الامر متناقضين كل بالنسبة الى واحد ، بل معناه ان الله تعالى
حكماً واحداً في نفس الأمر من وجده كان محقاً ، ومن أخطأه كان مبطلا ، لكن المبطل
معذور في بطلانه غير معاقب عليه ، بل ربما قالوا انه مأجور. فالتخطئة هو القول بأن
من لم يجد حكم الله فليس بمعذور في جهله ، لان الادلة القطعية منصوبة في الأكثر
وما ليس فيه دليل قطعي يجب عليه الاحتياط والارجاء حتى يلقى امامه ، الا في موضع
الضرورة فليستبصر ، وسيجيء في الكلام في الاجتهاد التصريح من المصنف على هذا
المعنى للتصويب والتخطئة .
(۲) قوله (قيل له المعلوم
الخ) هذا قول بالتصويب باعتبار وبالتخطئة باعتبار آخر .
__________________
وجهة من خالفهم في
الاعتقاد، فاما أن يكون المعلوم انه لا يكون الحق في جهتين، اذا كان ذلك صادراً من
خبرين مختلفين، فقد بينا ان المعلوم خلافه ، والذى يكشف عن ذلك أيضاً ان من منع من
العمل بخبر الواحد يقول : ان ها هنا أخباراً كثيرة (١) لا ترجيح (۲) لبعضها على بعض ،
والانسان فيها مخير، فلو أن اثنين اختار كل واحد منهما العمل بواحد من الخبرين،
أليس كانا يكونان مختلفين؟ وقو لهما حق على مذهب هذا القائل، فكيف يدعى أن المعلوم
خلاف ذلك .
ويبين ذلك (۳) أيضاً انه قدروى عن
الصادق عليهالسلام
انه سئل عن اختلاف أصحابه في المواقيت وغير ذلك، فقال عليهالسلام: انا خالفت بينهم
فترك الانكار لاختلافهم، ثم أضاف الاختلاف الى انه أمرهم به ، فلولا ان ذلك كان
جائزاً لما جاز ذلك منه عليهالسلام
.
فان قيل : اعتباركم الطريقة التي
ذكرتموها في وجوب العمل
____________________________________________
(۱) قوله ( أخباراً
كثيرة) أي متواترة متعارضة .
(۲) قوله (لا ترجيح الخ)
بأن لا يعلم ان التقية مثلا في أي المتعارضين .
(۳) قوله (ويبين ذلك الخ)
هذا سند للمنع الورد على النقض مع استظهار، فلا يلزم المصادرة ، ولاحاجة الى دعوى
تواتر هذه الرواية .
بخبر الواحد يوجب
عليكم قبولها فيما طريقه العلم، لان الذين اشرتم اليهم اذا قالوا قولا طريقه العلم
من التوحيد ، والعدل، والنبوة ، والامامة، وغير ذلك فسألوا عن الدلالة على صحته،
أحالوا على هذه الاخبار بعينها. فان كان هذا القدر حجة، فينبغي أن يكون حجة في
وجوب قبولهما فيما طريقه العلم، وقد أقررتم بخلاف ذلك .
قيل له : نحن لا نسلم ان جميع الطائفة
تحيل على أخبار الاحاد فيما طريقه العلم مما عددتموه، وكيف نسلم ذلك، وقد علمنا
بالادلة الواضحة العقلية ان طريق هذه الامور العقل، أو ما يوجب العلم من أدلة
الشرع، فيما يمكن ذلك فيه.
وعلمنا أيضاً ان الامام المعصوم لابد أن
يكون قائلا به (۱) فنحن
لا نجوز أن يكون المعصوم داخلا في قول العاملين في هذه المسائل بالاخبار، واذا لم
يكن قوله داخلا في جملة أقوالهم، فلا اعتبار بها، وكانت أقوالهم في ذلك مطرحة،
وليس كذلك القول في أخبار الاحاد، لانه لم يدل دليل على ان قول الامام داخل في
جملة أقوال المنكرين لها ، بل بينا ان قوله عليهالسلام
داخل في جملة أقوال العاملين بها، وعلى هذا سقط السؤال .
على ان الذي ذكروه مجرد الدعوى من الذى
(۲) اشير
اليه،
____________________________________________
(۱) قوله (قائلا (به) أي
بما قاله جميع الطائفة المحققة
(۲) قوله (من الذي) استفهام
انكار .
ممن يرجع الى الاخبار
في هذه المسائل، فلا يمكن اسناد ذلك الى قوم علماء متميزين ، وان قال ذلك غفلة بعض
أصحاب الحديث ، فذلك لا يلتفت اليه على ما بيناه .
فان قيل : كيف تعملون بهذه الاخبار،
ونحن نعلم ان رواتها أكثرهم كمارووها رووا أيضاً أخبار الجبر (۱) والتشبيه، وغير ذلك
من الغلو والتناسخ، وغير ذلك من المناكير، فكيف يجوز الاعتماد على ما يرويه أمثال
هؤلاء؟
قيل لهم ليس كل الثقات (۲) نقل حديث الجبر
والتشبيه وغير ذلك مما ذكر في السؤال، ولو صح انه نقله لم يدل على انه كان معتقداً
لما تضمنه الخبر ولا يمتنع أن يكون انما رواه ليعلم انه لم يشذ عنه شيء من
الروايات، لا لانه يعتقد ذلك. ونحن لم نعتمد على مجرد نقلهم، بل اعتمادنا على
العمل الصادر من جهتهم، وارتفاع النزاع فيما بينهم، فأما مجرد الرواية فلاحجة فيه
على حال .
____________________________________________
(۱) قوله (أخبار الجبر)
الظاهر ان الجبر هنا مقابل اختيار العبد لما مر في كلامه رحمهالله من اطلاق المجبرة
على ما يشمل الاشاعرة، ويحتمل بعيداً أن یراد به ما يقابل اختيار العبد
وكسبه ، وأبعد منه أن يراد مقابل قدرة الله
(۲) قوله (قيل لهم : ليس
كل الثقات) الظاهر ان (ليس كل) هاهنا مستعمل في السلب الكلي .
فان قيل : كيف تعولون (۱) على هذه الاخبار
وأكثر رواتها المجبرة، (۲) والمشبهة،
(۳) والمقلدة،
(٤) والغلاة، (۵) والواقفة
(٦) والفطحية، (۷) وغير
هؤلاء من فرق الشيعة المخالفة اعتقادهم للاعتقاد
____________________________________________
(۱) قوله (فان قيل : كيف
تعولون الخ) الأولى درج السؤال المقدم عليه في هذا .
__________________
الصحيح . ومن شرط خبر
الواحد أن يكون راويه عدلا عند من أوجب العمل به، وهذا مفقود فى هؤلاء. وان عولتم
على عملهم دون روايتهم، فقد وجدناهم عملوا بما طريقه هؤلاء الذين ذكرناهم وهل ذلك
لا يدل (۱) على
جواز العمل بأخبار الكفار والفساق .
قيل لهم : لسنا نقول ان جميع أخبار
الاحاد يجوز العمل بها ، بل لها شرائط نحن نذكرها فيما بعد (۲) ونشير هاهنا الى جملة
من القول فيه .
فأما ما يرويه العلماء (۳) المعتقدون للحق ،
فلاطعن على ذلك بهذا السؤال .
وأما ما يرويه قوم من المقلدة ، فالصحيح
الذي اعتقده ان المقلد للحق وان كان مخطئاً (٤) في الاصل معفو عنه، ولا أحكم
____________________________________________
(۱) قوله (وذلك يدل) كذا
في نسختين وكأنه بتقدير استفهام انكار ، أي وهل ذلك لا يدل ؟ .
( ۲ ) قوله ( نحن نذكرها
فيما بعد ) عند ذكر الاخبار اذا تعارضت ، والعدالة المراعاة في ترجيح أحد الخبرين
على الآخر .
(۳) قوله ( فأما ما يرويه
العلماء ) هذا القسم لم يذكره السائل ، وانما ذكره المصنف لحصر الاقسام .
(٤) قوله (وان كان مخطئاً) سيجيء
ان شاء الله تعالى تحقيق الحق، وبيان انه لا يلزم فيه الاغراء بالقبح في (فصل في
ذكر صفات المفتي والمستفتي) .
فيه بحكم الفساق. فلا
يلزم على هذا ترك ما نقلوه، على ان من اشاروا اليه لا نسلم انهم كلهم (۱) مقلدة، بل لا يمتنع
أن يكونوا عالمين بالدليل على سبيل الجملة، كما تقوله جماعة أهل العدل (۲) في كثير من أهل
الاسواق والعامة، وليس من حيث يتعذر عليهم ايراد الحجج في ذلك، ينبغى أن يكونوا
غير عالمين ، لان ايراد الحجج والمناظرة صناعة، وليس يقف حصول المعرفة على حصولها
كما قلناه في أصحاب الجمل (۳) .
وليس لاحد أن يقول : أن هؤلاء ليسوا من
أصحاب الجمل لانهم اذا سئلوا عن التوحيد أو العدل أوصفات الله تعالى أو صحة
النبوة، قالوا: كذا روينا ويروون في ذلك كله الاخبار، وليس هذا طريقة أصحاب الجمل
(٤) .
____________________________________________
(۱) قوله (لانسلم انهم
كلهم) كأنه ينبغي أن يراد به السلب الكلي .
(۲) قوله (أهل العدل) هم
القائلون بالتحسين والتقبيح العقليين .
(۳) قوله (أصحاب الجمل)
الجمل بفتح الجيم وسكون الميم: الجمع ومعناه عدم التفصيل .
(٤) قوله (وليس هذا طريقة أصحاب
الجمل) فان طريقتهم انهم عملوا الدليل الصحيح الدال على المطلوب وما قدروا على
تفصيله، وهؤلاء يستدلون بدليل غير موصل الى المطلوب الذي هو القطع بالاصول .
__________________
وذلك انه لا يمتنع أن يكون هؤلاء أصحاب
الجمل وقد حصلت لهم المعارف بالله تعالى ، غيرانهم لما تعذر عليهم ايراد الحجج في
ذلك، أحالوا على ما كان سهلا عليهم، وليس يلزمهم (١) أن يعلموا ان ذلك لا يصح أن
يكون دليلا الا بعد أن يتقدم المعرفة بالله، وانما الواجب عليهم أن يكونوا عالمين،
وهم عالمون على الجملة كما قررناه ، فما يتفرع عليه الخطأ فيه (۲) لا يوجب التكفير ولا
التضليل .
وأما الفرق الذين اشاروا اليهم من
الواقفة، والفطحية، وغير ذلك، فعن ذلك جوابان (۳) :
____________________________________________
(۱) قوله ( وليس يلزمهم
الخ ) يعني لا يشترط في كونهم مؤمنين و خارجين عن التقليد علمهم، بأن الاستدلال
بالروايات على شيء انما يصح بعد المعرفة بالله على ما هو المشهور، فالاستدلال بها
على المعرفة دور، وان كانت متواترة أو مشافهة .
( ۲ ) قوله ( فما يتفرع
عليه الخطأ فيه ) أي فالاستدلال الذي يتفرع عليه الخطأ في ان ذلك لا يصح أن يكون
دليلا الا بعد المعرفة لا يوجب تكفيرهم لانه ليس من الأصول .
(۳) قوله ( فعن ذلك
جوابان ) لعل المراد ان الاصحاب مختلفون في الجواب عن ذلك، وكلام المصنف في آخر
الدليل الثاني يدل على ان مرتضاه والجواب الثاني، وكلامه في بحث العدالة المراعاة
في ترجيح أحد الخبرين على الآخر، يدل على ان مرتضاه الجواب الأول فليتأمل فيه .
أحدهما: ان ما يرويه هؤلاء يجوز العمل
به اذا كانوا ثقات في النقل وان كانوا مخطئين في الاعتقاد، اذا علم من اعتقادهم
تمسكهم بالدين ، وتحرجهم من الكذب ووضع الاحاديث، وهذه كانت طريقة جماعة عاصروا الأئمة
عليهمالسلام ،
نحو عبد الله بن بكير (۱) وسماعة
بن مهران (۲) ونحو
بنى فضال من المتأخرين عنهم (۳) وبنى سماعة (٤) ومن شاكلهم، فاذا
علمنا ان هؤلاء الذين أشرنا اليهم وان
____________________________________________
لا يقال: ان المانع لا يجب أن يكون
معتقداً ، لانه يجب أن لا يكون منكراً ويمكن بعيداً أن يقال كل رواية من روايات
هؤلاء لها معاضد من جهة الموثوقين، أو مخالف من جهتهم ، فعمل الطائفة بروايات
هؤلاء، المجردة عن المعارض يحتمل الوجهين . وما سيجيء في الدليل الثاني وفي بحث
العدالة مبني على الفرض والتقدير، وبيان للاحتمالين على هذا الفرض، ولا يجب أن
يكون انفرادها عن المعاضد والمخالف واقعاً .
__________________
كانوا مخطئين في
الاعتقاد من القول بالوقف وغير ذلك، كانوا ثقات في النقل. فما يكون طريقه هؤلاء
جاز العمل به .
والجواب الثاني: ان جميع ما يرويه هؤلاء
اذا اختصوا بروايته لا يعمل به و انما يعمل به اذا انضاف الى روايتهم رواية من هو
على الطريقة المستقية والاعتقاد الصحيح ، فحينئذ يجوز العمل به . فأما اذا انفرد ،
فلا يجوز ذلك فيه على حال ، وعلى هذا سقط الاعتراض .
فأما ما رواه الغلاة، ومن هو مطعون عليه
في روايته، ومتهم في وضع الاحاديث، فلا يجوز العمل (۱) بروايته اذا انفرد،
فاذا انضاف الى روايته رواية بعض الثقات جاز ذلك، ويكون ذلك لاجل رواية الثقة دون
روايته .
وأما المجبرة والمشبهة فأول ما فى ذلك ،
انا لا نعلم انهم مجبرة ولا مشبهة، وأكثر ما معنا (۲) انهم كانوا يروون ما
يتضمن الجبر و
____________________________________________
(۱) قوله (فلا يجوز العمل
الخ) يعنى لا نسلم ان الطائفة عملوا بروايتهم اذا انفردت .
(۲) قوله (وأكثر ما معنا)
اشارة الى انه يمكن أن يكون مع أحد من الذين عملت الطائفة برواياتهم روى ما يتضمن
الجبر والتشبيه كمامر .
__________________
التشبيه، وليس
روايتهم لها دليلا على انهم كانوا معتقدين لصحتها، بل بينا الوجه (۱) في روايتهم لها ،
وانه غير الاعتقاد المتضمنها ، ولو كانوا معتقدين للجبر والتشبيه، كان الكلام على
ما يرونه كالكلام على ما ترويه الفرق المتقدم ذكرها (۲) وقد بينا ما عندنا في
ذلك وهذه جملة كافية في ابطال هذا السؤال .
فان قيل : ما أنكرتم أن يكون الذين
أشرتم اليهم لم يعملوا بهذه الاخبار بمجردها، بل انما عملوا بها لقرائن اقترنت بها
دلتهم على صحتها، لاجلها عملوا بها. ولو تجردت لما عملوا بها واذا جاز ذلك لم يكن
الاعتماد على عملهم بها .
قيل له : القرآئن التي تقترن بالخبر،
وتدل على صحته أشياء مخصوصة، نذكرها فيما بعد من الكتاب (۳) والسنة، والاجماع
والتواتر. ونحن نعلم انه ليس في جميع المسائل التي استعملوا فيها أخبار الاحاد
ذلك، لانها أكثر من أن تحصى موجودة في كتبهم
____________________________________________
( ۱ ) قوله ( بل بينا الوجه
) هو العلم بأنه لم يشذ عنهم شيء من الروايات .
(۲) قوله ( الفرق المتقدم
ذكرها ) الظاهر الحاقهم بالغلاة، وهو مطعون عليه في سند المنع، لانهم في الكفر
نظراؤهم .
(۳) قوله ( من الكتاب الخ
) الأولى من الكتاب والسنة المتواترة والاجماع ودليل العقل.
وتصانيفهم وفتاويهم ،
لانه ليس (۱) في
جميعها يمكن الاستدلال بالقرآن، لعدم ذكر ذلك في صريحه وفحواه، أو دليله ومعناه،
ولا في السنة (۲) المتواترة
لعدم ذلك في أكثر الاحكام (۳) بل لوجودها (٤) في مسائل معدودة ،
ولا فى الاجماع (ه) لوجود الاختلاف في ذلك (٦) فعلم ان ادعاء القرائن في
جميع هذه المسائل دعوى محالة (۷) .
ومن ادعى القرائن في جميع ما ذكرناه،
وكان السبر بيننا وبينه بل كان معولا على ما يعلم ضرورة خلافه، مدافعاً لما يعلم
من نفسه
____________________________________________
(۱) قوله ( لانه ليس )
الاولى وانه ليس ، وسيجيء في ( فصل في ذكر جملة ما يحتاج الى البيان وما لا يحتاج)
تفسير صريح الخطاب وفحواه ودليله ومعناه .
(۲) قوله (ولا في السنة)
الأولى ولا بالسنة ليكون عطفاً على (بالقرآن) .
(۳) قوله (في أكثر
الاحكام ) أي الاحكام التي لم تذكر في القرآن .
(٤) قوله (بل لوجودها) الأولى بل
وجودها .
(٥) قوله ( ولا في الاجماع ) الأولى ولا
بالاجماع .
(٦) قوله (في ذلك أي في أكثر
الاحكام التي لم يذكر في القرآن ولا
في السنة المتواترة، والمراد انه ليس في
جميعها يمكن الاستدلال اما بالقرآن أو بالسنة المتواترة أو بالاجماع لعدم ذكر أكثر
الاحكام في القرآن ولا في السنة المتواترة ولا في الاجماع .
(۷) قوله (دعوى محالة)
مبالغة في كون المستدعى محالا .
ضده (۱) ونقيضه، ومن قال عند
ذلك انى متى عدمت شيئاً من القرائن حكمت بما كان يقتضيه العقل (۲) ، يلزمه أن يترك أكثر
الاخبار ، وأكثر الاحكام، ولا يحكم فيها بشيء ورد الشرع به وهذا حد يرغب أهل العلم
عنه، ومن صاراليه لا يحسن مكالمته ، لانه يكون معولا على ما يعلم ضرورة من الشرع
خلافه .
ومما يدل أيضاً على جواز العمل بهذه
الاخبار التي اشرنا اليها ما ظهر بين الفرقة المحقة من الاختلاف الصادر عن العمل
بها فاني وجدتها مختلفة المذاهب فى الاحكام، يفتى أحدهم بما لا يفتي به صاحبه في
جميع أبواب الفقه، من الطهارات الى باب الديات ، العبادات، والاحكام والمعاملات،
والفرائض وغير ذلك، مثل
____________________________________________
(۱) قوله ( مدافعاً لما
يعلم من نفسه ضده ) قد تكرر مثل هذه العبارة في هذا الكتاب كما في فصل في ذكر
الشروط التي يحسن معها الأمر وفي (فصل في ان النهي يدل على فساد المنهي عنه أم لا
) ولا يخفى ما فيها. والاوجه أن يجعل (اللام) بمعنى باء السببية، ويمكن أن يجعل
المدافعة أو الدفع بمعنى المكابرة و ( ما ) مصدرية .
(۲) قوله (بما كان يقتضيه
العقل) أي الحظر أو الاباحة أو التوقف، وتوهم بعض المتاخرين ان المراد القرائن
العقلية الدالة على صحة متضمن تلك الاخبار ، وقال مراده بقوله (يلزمه أن يترك أكثر
الاحكام الخ ) انه يلزم من ذلك استقلال العقل بأكثر الفروع الفقهية ، وهذا مما لا
يقول به أحد وفيه ما فيه .
اختلافهم في العدد
والرؤية (۱) في
الصوم، واختلافهم في أن التلفظ بثلاث تطليقات هل يقع واحدة أم لا ؟ ومثل اختلافهم
في باب الطهارة وفي مقدار الماء (۲) الذى لا ينجسه شيء، ونحو اختلافهم في حد
الكر، ونحو اختلافهم في استيناف الماء (۳) الجديد لمسح الرأس
والرجلين، واختلافهم في اعتبار أقصى مدة النفاس ، و اختلافهم في عدد فصول الاذان
والاقامة (٤) وغير ذلك في سائر
__________________
(۱) قوله (في العدد
والرؤية ) حيث ذهب بعض الاصحاب الى أن هلال رمضان يثبت بالرؤية لا بالعدد ، وبعضهم
الى انه يثبت بكل منهما، واعتبار العدد له معنيان .
الاول: عد شعبان تسعة وعشرين أبداً،
ورمضان ثلاثين أبداً .
والمعنى الثاني: عد خمسة من أيام رمضان
الماضي وصوم الخامس من الحاضر .
(۲) قوله ( في مقدار
الماء الخ ) حيث ذهب بعض الاصحاب الى أنه يشترط في عدم انفعال الماء مقدار يسمى
بالكر . وذهب بعض آخر كابن أبي عقيل (٥) الى عدم الاشتراط ، وقال بأن القليل
لا ينجس بالملاقاة والذاهبون الى الاشتراط اختلفوا في مقدار الكر .
(۳) قوله ( في استيناف
الماء الخ ) حيث جوز بعضهم الاستيناف ولم يجوزه الأكثر .
(٤) قولة (في عدد فصول الاذان
والاقامة ) حيث ذهب أكثر الاصحاب
__________________
أبواب الفقه حتى ان
باباً منه لا يسلم الا وجدت العلماء من الطائفة مختلفة في مسائل منه أو مسألة
متفاوتة الفتاوى .
وقد ذكرت ما ورد عنهم عليهم السلام من
الاحاديث المختلفة التي تختص بالفقه في كتابى المعروف بالاستبصار ، وفي كتاب تهذيب
الاحكام ما يزيد على خمسة آلاف حديث، وذكرت في أكثرها اختلاف الطائفة في العمل
بها، وذلك أشهر من أن يخفى حتى انك لو تأملت اختلافهم في هذه الاحكام، وجدته يزيد
على اختلاف أبي حنيفة (۱)
____________________________________________
الى أن التكبير في
أول الاذان أربع ، وفي آواخره اثنان . وذهب بعض الاصحاب الى تربيع التكبير في
أواخره حكاه المصنف في الخلاف (۲) .
والمشهور في الاقامة انها كالاذان الا
أن فصولها مثنى ، ويزاد فيها قد قامت الصلاة مرتين ، ويسقط التهليل من آخره مرة.
وحكى المصنف في الخلاف عن بعض الاصحاب انه جعل فصول الاقامة مثل فصول الاذان ،
ويزاد فيها قد قامت الصلاة مرتين (۲) .
(۱) قوله (يزيد على
اختلاف أبي حنيفة الخ) ليس المقصود ان اختلاف الفرقة المحقة واختلاف مخالفيهم من
قبيل واحد، وهو الاختلاف في الافتاء والقضاء الحقيقيين، وذلك لانه متضمن للقول على
الله بغير علم ، وهو منهي
__________________
عنه في محكمات كثيرة
من الكتاب والسنة ، تدل على انه كان منهياً عنه في كل شريعة، فلم بصدر عن الفرقة
المحقة ، بل المقصود ان اختلاف الفرقة المحقة في الافتاء والقضاء الغير الحقيقيين
أكثر من اختلاف المخالفين في الافتاء والقضاء الحقيقيين .
والمراد بالافتاء بغير الحقيقي، رواية
الحديث الجامع لشروط الصحة ليعمل به أحد في نفسه كما في العبادات .
والمراد بالقضاء الغير الحقيقي، رواية
الحديث الجامع لشروط الصحة ليعمل به المتعاملان في دين أو ميراث أو نحوهما .
فاختلاف الفرقة المحقة يرجع الى
الاختلاف في استجماع الحديث الشروط الصحة فقط كعدالة راويه، وهو ليس نفس حكم الله
تعالى بل هو محل حكمه تعالى .
وأما اختلاف المخالفين لنا فيرجع الى
الاختلاف في نفس حكمه تعالى وبهذا التحرير يندفع ما رأيت في رسالة من المخالفين
مصنفة في مطاعن الشيعة الامامية، وهو ان من مطاعنهم انهم ينكرون علينا اختلاف
الفقهاء الاربعة ، مع ان الاختلاف لا يدل على فساد . وفقهاؤهم أشد اختلافاً من
الفقهاء الأربعة .
والجواب بعد التسليم ان الاختلافين من
قبيل واحد ان اختلاف الفقهاء الاربعة مع قربهم من زمان النبي صلىاللهعليهوآله ،
حتى يروى ان أبا حنيفة أدرك بعض الاصحاب يدل على عدم اتباع الاصحاب العمل النبي صلىاللهعليهوآله واخفاء
بعض الاصحاب الحق عمداً وسكوت النبي صلىاللهعليهوآله
كما سطر في مواضعه .
كيف اختلفوا في عمل النبي صلىاللهعليهوآله ولم
يختلف أصحاب أبي حنيفة أو غيره في عمله مع بعدهم من زمانه اختلافهم في عمل النبي
هل كان النبي قصر ولم
والشافعي، ومالك.
ووجدتهم مع هذا الاختلاف العظيم لم يقطع أحد منهم موالاة صاحبه، ولم ينته الى
تضليله وتفسيقه والبراءة من مخالفه ، فلولا ان العمل بهذه الاخبار كان جائزاً لما
جاز ذلك، و
____________________________________________
يبين الاحكام كأبي
حنيفة أو لم يقصر وبين واضاعها الاصحاب ، وهل اتكل على القرآن مع ان القرآن يتمسك
به كل مخالف للحق ويجادل حتى كاد ان يغلب المحق، أو وصى أن يتمسك الناس بأهل بيته
في بيان القرآن بقوله صلىاللهعليهوآله
«اني تارك فيكم الثقلين ... الحديث » (۱) فلم يلتفت اليه
الاصحاب وتاهوا في أودية الضلالة ، ورجعوا القهقرى ، ولم يقدروا أهل البيت وأصحابهم
على قلتهم . ينبغي للعاقل أن لا يدخل نفسه النار لاتباع الاباء والملوك، أو ظاهر
الرياسة، وكثرة الاعوان، أو كثرة فتح البلاد وادخال أهلها في الاسلام، فانه روى
البخارى (۲) عن
النبي صلىاللهعليهوآله انه
قال : «ان الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» (۳) فهذا قدح في قولهم
(الصحابة كلهم عدول) مع علمهم بأنهم تركوا النبي صلىاللهعليهوآله
ذاهبين الى التجارة والى اللهو .
وأما اختلاف شيعة أهل البيت، فهو لاجل
السابقين حيث كفوا أيدي أهل البيت عن التصرف في حقهم وقهروهم على الاختفاء ،
واخفاء الاحكام و اختلاف الفتاوى. «ونعم الحكم الله ان يوم الفصل كان ميقاتا»
(٢) .
__________________
كان يكون من عمل بخبر
عنده انه صحيح يكون مخالفه مخطئاً مرتكباً للقبيح (۱) يستحق التفسيق بذلك.
وفى تركهم ذلك والعدول عنه، دليل على جواز العمل بما عملوا به من الاخبار .
فان تجاسر متجاسر الى أن يقول : كل
مسألة مما اختلفوا فيه عليه دليل قاطع، ومن خالفه مخطىء فاسق. يلزمه أن يفسق
الطائفة بأجمعها ، ويضلل الشيوخ المتقدمين كلهم، فانه لا يمكن أن يدعى على أحد
موافقته في جميع أحكام الشرع، ومن بلغ الى هذا الحد لا يحسن مكالمته، ويجب التغافل
عنه بالسكوت ، وان امتنع من تفسيقهم وتضليلهم ، فلا يمكنه الا أن العمل بما عملوا
به كان حسناً جائزاً خاصه .
وعلى اصولنا (۲) ان كل خطأ وقبيح (۳) كبير، فلا يمكن أن
____________________________________________
(۱) قوله (مرتكباً للقبيح
) لانه مخالف للقاطع على هذا الفرض .
(۲) قوله (خاصة وعلى
اصولنا الخ) اشارة الى انه على اصول المعتزلة أيضاً لا يمكن أن يقال ان خطأهم
منخبط لانه وان كان صغيراً يصير مع الاصرار كبيراً عندهم ، ولاشك ان الاصرار فيما
نحن فيه متحقق .
(۳) قوله (ان كل خطأ
وقبيح الخ) قال الطبرسي في تفسير سورة النساء في قوله تعالى: (
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ
سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا )
قال أصحابنا رضى الله عنهم المعاصي كلها كبيرة من حيث
__________________
كانت قبائح ، لكن
بعضها أكبر من بعض وليس في الذنوب صغيرة وانما يكون صغيراً بالاضافة الى ما هو
أكبر منه. ويستحق العقاب عليه أكثر .
و نحوه قول ابن عباس كل ما نهى الله عنه
فهو كبير. ثم قال ومعنى الآية ان تجتنبوا كبائر ما نهيتم عنه في هذه السورة من
المناكح وأكل الأموال بالباطل وغيره من المحرمات من أول السورة الى هذا الموضع.
وتركتموها في المستقبل كفرنا عنكم ما كان منكم من ارتكابها فيما سلف . ويعضده قوله
سبحانه « ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف » . ثم قال : وروي ان رجلا قال لابن عباس
كم الكبائر ، سبع هي؟ فقال: هي الى سبعمائة أقرب منها الى سبع غير انه لا كبيرة مع
استغفار ولا صغيرة مع الاصرار (انتهى)
.
ويمكن ان يسمى على اصولنا ما تعلق به
نهي التحريم الشرعي كبائر ما نهى عنه، وما تعلق به نهي التنزيه أو نهي التحريم
العقلي فقط صغائر ما ينهى عنه ، أو سيئات مكفرة لا يقال تكفير المكروهات واجب ، سواء
اجتنب عن المحرمات الشرعية أو لا، وكذا القبائح العقلية المحضة لقوله تعالى: ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ
حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا )
.
فما معنى الشرط في الآية، لانا نقول :
اطلاق السيئات ليس على المكروهات أو القبائح العقلية فقط، بل على القدر المشترك بينها
وبين المحرمات الشرعية فمعنى الآية ان تجتنبوا المحرمات الشرعية فكان سيآتكم
منحصرة في المكروهات أو القبائح العقلية، نكفر عنكم سيآتكم، لانحصارها حينئذ في
المكروهات أو القبائح العقلية، وان لم تجتنبوا وكان من جملة سيئاتكم المحرمات
الشرعية، فالتكفير متعلق بالمشية
__________________
ثم ما ورد من الاثار الظاهرة في خلاف
هذا ينبغي أن يأول بما يوافقه ، كما قاله أمير المؤمنين اللا في نهج البلاغة في
الخطبة التي أولها انتفعوا ببيان الله، ألا وان الظلم ثلاثة، فظلم لا يغفر، وظلم
لا يترك، وظلم مغفور لا يطلب . فأما الظلم الذي لا يغفر فالشرك بالله قال الله
تعالى : (
إِنَّ
اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ
)
به
وأما الظلم الذي يغفر فظلم العبد نفسه
عند بعض الهنات .
وأما الظلم لا يترك، فظلم العباد بعضهم
بعضاً .
القصاص هناك شديد. الخطبة
.
وبالجملة ان المعتزلة يقولون: ان بعض
القبائح المحرمة يرتفع استحقاق العقاب ، عن مرتكبها بدون التوبة ، بسبب الاجتناب
عن بعض آخر ، ولذا يسمونه صغيرة، ويسمون عدم العقاب عليه تكفيراً أو احباطاً
أيضاً. ويقولون : انه يصير فاعله كمن لم يفعله في عدم الاستحقاق للعقاب ، فلا يجوز
اطلاق الفاسق عليه .
وأصحابنا الامامية يقولون: كل من فعل
قبيحاً يبقى رهيناً بما كسب، ولا ينتفي عنه استحقاق العقاب عليه بدون التوبة ، أو
ما يجري مجرها ، كفعل الطاعات بعده لقوله تعالى: (
إِنَّ
الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ )
ولا ينفع اجتنابه عن
الباقي، وليس فاعله كمن لم يفعله على حال ، والا لزم الاغراء بالقبيح في المتنازع
فيه ، وهو ما عدا ذنب المقلد للحق كمامر ، وسيجيء تحقيقه ، وما عداها مافعل مع
المبالاة كما سيجيء أيضاً ، فيجوز اطلاق الفاسق واجراء
__________________
يقال : ان خطأهم كان
صغيراً فانحبط على ما تذهب اليه المعتزلة فلاجل ذلك لم يقطعوا لموالاة وتركوا
التفسيق فيه و التضليل .
فان قال قائل (۱): أكثر ما في هذا
الاعتبار أن يدل على انهم غير مؤاخذين بالعمل بهذه الاخبار ، وانه قد عفى عنهم ،
وذلك لا يدل على صوابهم ، لانه لا يمتنع أن يكون من خالف الدليل منهم أخطأ وأثم
واستحق العقاب، الا انه عفى له عن خطائه واسقط عنه ما استحقه من العقاب .
قيل له : الجواب عن ذلك من وجهين :
أحدهما : ان غرضنا (۲) بما اخترناه من
المذهب هو هذا، وان
____________________________________________
أحكام الفساق عليه،
لا يقال ارتفاع الاستحقاق للعقاب بسبب التوبة مثلا، أيضاً اغراء بالقبيح، فان
التائب من الذنب كمن لا ذنب له فيذنب المكلف اتكالا على انه سيتوب .
لانا نقول: الاتكال غير معقول بجواز
الاحترام، وهذا كاف في الخوف على انه يمكن أن يقال في التوبة : انه يمتنع اجتماع
العزم على القبيح مع العزم على التوبة عنه، ومن يقول سأتوب فانما يقوله بمحض اللفظ
.
( ۱ ) قوله ( فان قال قائل
الخ ) حاصله ان ما ذكرتم انما يدل على عدم ارتفاع استحقاق العقاب، وهو لا ينافي
العفو، فيمكن أن يكون عدم تفسيقهم، لانه معفو عنهم لا عدم استحقاقهم العقاب .
(۲) قوله ( أحدهما ان
غرضنا الخ ) حاصله ان التفسيق لازم لاستحقاق العقاب وان كان معفواً عنه فبقاء
استحقاق العقاب كاف في غرضنا، فان نسبة
من عمل بهذه الاخبار
لا يكون فاسقاً مستحقاً للعقاب، فاذا سلم لنا ذلك، ثبت لنا ما هو الغرض المقصود .
والثاني: (۱) ان ذلك لا يجوز ،
لانه لو كان قد عفى لهم عن
____________________________________________
جميع الشيوخ
المتقدمين استحقاق العقاب، وهو المراد بالفسق قبيح .
(۱) قوله (والثاني الخ)
حاصله ان العفو وان كان جائزاً فليس يجوز أن يعلم المكلفون التزام الله تعالى اياه
في نوع مخصوص من الذنب سوى ما استثنى فيمتنعوا من تفسيق مرتكبه لاجل علمهم بالعفو
لانه اغراء بالقبيح .
وقال بعض المتاخرين : لا يقال خلاصة الدليل
جارية فيما اعترفتم به من انه تعالى التزم العفو عن الصغائر، لانا نقول الاجتراء
على الصغيرة كبيرة كما تقرر في موضعه، ولم يلتزم العفو عن الكبائر (انتهى) .
ولا يخفى ان اصحابنا لم يعترفوا بما نسب
اليهم كمامر في صريح كلام المصنف والمعتزلة أيضاً لم يقولوا به، اذ هم قائلون
بارتفاع الاستحقاق للعقاب لا بالعفو، وان كان ارتفاع الاستحقاق ووجود العفو شريكين
في جريان خلاصة الدليل فيهما .
ثم اعلم ان معنى الاصرار عند أصحابنا،
ترك الاستغفار. كما مر الاشارة اليه في كلام ابن عباس .
وقال الطبرسي رحمهالله في تفسير سورة آل
عمران في قوله: (
وَلَمْ
يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) وفي الحديث (ما أصر
من استغفر ولوعاد في اليوم سبعين مرة ) ثم قال : وفي هذا بيان ان المؤمنين ثلاث
طبقات متقون و
__________________
العمل بذلك مع انه
قبيح يستحق به العقاب، واسقط عقابهم، لكانوا مغرين بالقبيح ، وذلك لا يجوز . لانهم
اذا علموا انهم اذا عملوا بهذه الاخبار لا يستحقون العقاب، لم يصرفهم عن العمل بها
صارف فلو كان فيها ما هو قبيح العمل به، لما جاز ذلك على حال .
فان قيل : لو كانت هذه الطريقة دالة على
جواز العمل بما اختلف من الاخبار المتعلقة بالشرع من حيث لم ينكر بعضهم على بعض
ولم يفسق بعضهم بعضاً ينبغى أن تكون دالة على صوابهم فيما طريقه العلم فانهم قد
اختلفوا في الجبر، والتشبيه، والتجسيم، والصورة وغير ذلك، واختلفوا في أعيان الأئمة
عليهمالسلام ولم
نرهم قطعوا لمولاة ، ولا
____________________________________________
تائبون، ومصرون، وان
للمتقين والتائبين منهم الجنة والمغفرة (انتهى) (۱).
فان اراد به هذا فالجواب يرجع الى عدم
التزام العفو عن الصغائر في الحقيقة، وظاهر جوابه تصحيح التزام العفو، وبالجملة نعم
الوفاق. وان أراد به ماذكره بعض فقهائنا من أنه العزم على فعلها بعد الفراغ منها
وفي معناه المداومة على نوع واحد منها بلاتوبة، فلا ينفى الاغراء بالقبيح ، لانه
يلزم حينئذ أن يكون من فعلها مرة جاز ما عدم فعلها بعده كمن لم يفعل .
فينبغي أن يريد بالاصرار فعلها مع عدم
المبالاة ، سواء كان عدم المبالاة الغلبة الهوى أو لتمني العفو أو اعتقاده ، سواء
كان مع العزم على العود أو مع الجزم بعدم العود. ويندفع الاغراء لانه يمكن أن يقال
بالعفو عمن فعل مع المبالاة، وعدم العفو عمن فعل مع عدم المبالاة اعتماداً على
العفو أو غيره.
__________________
أنكروا على من
خالفهم، وذلك يبطل ما اعتمدتموه .
قيل : جميع ما عدد تموه من الاختلاف
الواقع بين الطائفة ، فان النكير واقع فيه من الطائفة والتفسيق حاصل فيه، وربما
تجاوز ا ذلك أيضاً الى التكفير، وذلك أشهر من أن يخفى، حتى ان كثيراً منهم جعل ذلك
طعناً على رواية من خالفه في المذاهب التي ذكرت في السؤال وصنفوا في ذلك الكتب
وصدر عن الأئمة عليهمالسلام أيضاً
النكير عليهم، نحو أفكارهم على من يقول بالتجسيم والتشبيه ، و الصورة، والغلو وغير
ذلك .
وكذلك من خالف في أعيان الأئمة عليهمالسلام لانهم جعلوا (۱) ما يختص الفطيحة،
والواقفة، والناووسية (۲) وغيرهم
من الفرق المختلفة بروايته لا يقبلونه ولا يلتفتون اليه.
فلو كان اختلافهم في العمل باخبار
الاحاد يجرى مجرى اختلافهم فى المذاهب التي أشرنا اليها، لوجب أن يجروا فيها ذلك
المجرى، ومن نظر فى الكتب وسبر أحوال الطائفة وأقاويلها، وجد
____________________________________________
(۱) قوله (لانهم جعلوا)
قد مر ما يتعلق بهذا في الدليل الأول فتذكر .
(۲) قوله (الناووسية) هم
أتباع رجل يقال له ناووس، وقيل : نسبوا الى قرية ناووسا. قالوا : ان الصادق عليهالسلام حي بعد، ولن يموت حتى
يظهر، فيظهر أمره وهو القائم المهدي .
__________________
الأمر بخلاف ذلك،
وهذه أيضاً طريقة معتمدة في هذا الباب .
ومما يدل أيضاً على صحة ما ذهبنا اليه
انا وجدنا الطائفة ميزت الرجال الناقلة لهذه الاخبار، فوثقت الثقات منهم، وضعفت
الضعفاء و فرقوا بين من يعتمد على حديثه وروايته، ومن لا يعتمد على خبره ومدحوا
الممدوح منهم، وذموا المذموم .
وقالوا: فلان متهم في حديثه، وفلان كذاب
، وفلان مخلط ، وفلان مخالف فى المذهب والاعتقاد، وفلان واقفی، و فلان فطحی
وغير ذلك من الطعون التي ذكروها .
وصنفوا في ذلك الكتب، واستثنوا الرجال (۱) من جملة مارووه من
التصانيف في فهارستهم، حتى ان واحداً منهم اذا أنكر حديثاً نظر في اسناده ، وضعفه
بروايته هذه عادتهم على قديم الوقت، و
____________________________________________
(۱) قوله ( واستثنوا
الرجال ) أي التصانيف التي رواها الرجال، مثل ما روى عن ابن الوليد انه قال: ما تفرد به
محمد بن عیسی من كتب يونس لا يعتمد عليه .
__________________
حديثه لا تيحرم .
فلولا ان العمل بمن يسلم من الطعن، ويرويه من هو موثوق به جائز ، لما كان بينه
وبين غيره فرق، وكان يكون خبره مطروحاً مثل خبر غيره ، فلايكون فائدة لشروعهم فيما
شرعوا فيه من التضعيف والتوثيق وترجيح الاخبار بعضها على بعض ، وفي ثبوت ذلك دليل
على صحة ما اخترناه
فصل
في ذكر القرائن التي
تدل على صحة أخبار الاحاد (١)
أو على بطلانها ، وما
يرجح به الاخبار بعضها
على بعض ، وحكم
المراسيل
القرائن التي تدل على صحة متضمن الاخبار
التي لا توجب العلم أشياء أربعة :
منها : أن تكون موافقة لادلة العقل وما
اقتضاه ، لان الاشياء
____________________________________________
(۱) قوله (على صحة أخبار
الاحاد الخ) أي على صحة متضمنها مستقلة تلك القرائن بدون مدخلية الاخبار في العلم
بالصدق ، وهذا فيما ليس له معارض من الاخبار، بقرينة ذكر حكم التعارض على حده،
ولذا لم يذكر في صورة التعارض الترجيح بأدلة العقل كما سيجيء .
__________________
في العقل اذا كانت
اما على الحظر أو الاباحة على مذهب قوم، أو الوقف على ما نذهب اليه، فمتى ورد
الخبر متضمناً (۱) للحظر
أو الاباحة، ولا يكون هناك (۲) ما يدل على العمل بخلافه، وجب أن يكون
ذلك دليلا على صحة متضمنه عند من اختار ذلك .
وأما على مذهبنا الذي نختاره فى الوقف،
فمتى ورد الخبر موافقاً لذلك، وتضمن وجوب التوقف، كان ذلك دليلا أيضاً على صحة
متضمنه ، الا أن يدل دليل (۳) على العمل بأحدهما، فيترك
____________________________________________
(۱) قوله (فمتى ورد الخبر
متضمناً الخ) المراد وروده على قاعدة كلية يشمل حظر جميع ما لم يعلم حاله، لاوروده
على حظر أمر مخصوص كالكذب مثلا ، أوهمه .
(۲) قوله : ( ولا يكون
هناك الخ ) فالمراد انه يعمل تلك القاعدة في الموارد لا في مادة يدل دليل على
خلافه .
وهذا في تحقيقه ليس منافياً للقاعدة ،
لان اشتراط عدم دليل يدل على خلاف الحظر مثلا متضمن في القاعدة ، ولا بأس
بالمسامحة في اللفظ مع وضوح المعنى .
(۳) قوله (الا أن يدل)
فيه أيضاً المسامحة المذكورة، فالمراد بترك الخبر والاصل عدم اعمالهما في شيء ليس
من جزئياتهما ، ومن الاخبار الواردة على الوقف، ماروي انه صلىاللهعليهوآله قال:
(ان الحلال بين ، وان الحرام بين وبينهما امور متشابهات) .
__________________
الخبر والاصل .
ومتى كان الخبر متناولا للحظر (۱) ولم يكن هناك دليل
يدل على الاباحة، فينبغي أيضاً المصير اليه ، ولا يجوز العمل بخلافه ، الا أن يدل
دليل (۲) يوجب
العمل بخلافه، لان هذا حكم (۳) مستفاد بالعقل ، ولا ينبغي أن يقطع على
حظر ما تضمنه (٤) ذلك الخبر، لانه خبر واحد لا يوجب العلم فنقطع به، ولا هو
موجب العمل (۵) فنعمل
به
____________________________________________
(ومن وقع حول الحمى
يوشك أن يقع فيه) ومنها : ( دع ما
يريبك الى ما لا يريبك) .
(۱) قوله ( متناولا للحظر
) أي في أمر مخصوص كشرب النبيذ مثلا .
( ۲ ) قوله ( الا أن يدل
دليل الخ ) تكرار لمعنى قوله ( ولم يكن هناك السخ ) .
(۳) قوله (لان هذا حكم
الخ) يعنى دليل العقل وهذا الخبر متوافقان في مقتضاهما من حيث العمل .
(٤) قوله (ولا ينبغي أن يقطع على
حظر ما تضمنه) أي حظره، ولانه متعلق للنهي بخصوصه لاحظره لعدم الاذن .
(٥) قوله (ولا هو موجب العمل) أي
ليس القطع بحظره من باب العمل حتى يكون هذا الخبر موجبه فيعمل به ، فالتقدير ولا
هو موجب العمل من
__________________
وان كان الخبر
متضمناً للاباحة (۱) ولا
يكون هناك خبر آخر أو دليل شرعى يدل على خلافه، وجب الانتقال اليه، والعمل به ،
وترك ما اقتضاه الاصل (۲) لان
هذا فائدة العمل باخبار الاحاد ، ولا ينبغي أن يقطع على ما تضمنه لما قدمنا من
وروده مورداً لا يوجب العلم .
ومنها : أن يكون الخبر مطابقاً لنص
الكتاب (۳)،
اما خصوصه أو عمومه، أو دليله، أو فحواه. فان جميع ذلك دليل على صحة متضمنه الا أن
يدل دليل يوجب العلم (٤) يقترن بذلك الخبر (۵) يدل على جواز تخصيص
العموم به، أو ترك دليل الخطاب. فيجب حينئذ
____________________________________________
هذه الحيثية فيعمل به
.
(۱) قوله (متضمناً
للاباحة) أي في أمر مخصوص .
( ۲ ) قوله ( وترك ما
اقتضاه الاصل ) أي عدم اعماله ، لانه ليس من جزئياته .
(۳) قوله (لنص الكتاب)
المراد بالنص المتواتر دون القراءة الشاذة ، فهو القدر المشترك بين الصريح والظاهر
.
(٤) قوله ( الا أن يدل دليل يوجب
العلم ) أي العلم بجواز العمل به ، سواء أوجب العلم يكون متضمنة حكم الله في
الواقع ، فيجوز الفتوى بــه أيضاً أم لا ؟
(٥) قوله ( يقترن بذلك الخبر ) أي
يكون مخالفاً ومقترناً به .
المصير اليه .
وانما قلنا ذلك لما نبينه فيما بعد من
المنع من جواز تخصيص العموم بأخبار الاحاد ان شاء الله تعالى .
ومنها : أن يكون الخبر موافقاً للسنة
المقطوع بها من جهة التواتر، فان ما يتضمنه الخبر الواحد اذا وافقه مقطوع على صحته
أيضاً، وجواز العمل به (۱) وان
لم يكن ذلك دليلا على صحة نفس الخبر ، لجواز أن يكون الخبر كذباً وان وافق السنة
المقطوع بها
ومنها : أن يكون موافقاً لما أجمعت
الفرقة المحقة عليه، فانه متى كان كذلك دل أيضاً على صحة متضمنه ، ولا يمكننا
أيضاً أن نجعل اجماعهم دليلا على صحة نفس الخبر ، لانهم يجوز أن
____________________________________________
(۱) قوله (فان ما يتضمنه
الخبر الواحد اذا وافقه مقطوع على صحته أيضاً و جواز العمل به الخ كذا في النسخ
والظاهر ( جاز ) بدل ( وجواز ) وعلى ما في النسخ اسم (ان) ما الموصولة، والخبر
مقطوع، والضمير المستتر في وافقه الخبر الواحد والبارز المنصوب للتواتر أو للسنة باعتبار
انه متواتر، و (اذا) اما مجرد عن معنى الشرط بمعنى حين ، أو متوسط بين أجزاء
الجزاء ، أو يقدر مثل المقدم مؤخراً نحو قوله تعالى : ( ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
آمِنِينَ )
وجواز العمل به عطف
على صحته .
__________________
يكونوا أجمعوا على
ذلك عن دليل غير هذا الخبر، أو خبر غير هذا الخبر ولم ينقلوه استغناءاً بإجماعهم
على العمل به ، ولا يدل ذلك على صحة نفس هذا الخبر .
فهذه القرائن كلها تدل على صحة متضمن
أخبار الاحاد، ولا يدل على صحتها أنفسها لما بينا من جواز أن تكون الاخبار مصنوعة
وان وافقت هذه الادلة. فمتى تجرد الخبر عن واحد من هذه القرائن كان خبر واحد محضاً
.
ثم ينظر فيه فان كان ما تضمنه هذا الخبر
هناك ما يدل على خلاف متضمنه من كتاب أوسنة، أو اجماع وجب اطراحه والعمل بمادل
الدليل عليه. وان كان ما تضمنه ليس هناك ما يدل على العمل بخلافه ولا يعرف فتوى
الطائفة فيه نظرفان كان هناك خبر آخر يعارضه مما يجرى مجراه وجب ترجيح أحدهما على
الاخر (۱)،
وسنبين من بعدما يرجح به الاخبار بعضها على بعض .
____________________________________________
(۱) قوله (وجب ترجيح
أحدهما على الآخر الخ) انما يجب الترجيح اذا كانا في دين أو ميراث أو نحوهما، وأما
العبادات المحضة ، فروى فيها ثقة الاسلام أبو جعفر الكليني في أوائل الكافي، وفي
باب اختلاف الحديث من كتاب العقل : بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك (٢).
ومعنى الاخذ بشيء من باب التسليم العمل به بدون افتاء به .
__________________
وان لم يكن هناك خبر آخر يخالفه، وجب
العمل به لان ذلك اجماع منهم على نقله (۱) فاذا أجمعوا على نقله
وليس هناك دليل على العمل بخلافه، فينبغى أن يكون العمل به مقطوعاً عليه .
وكذلك ان وجد هناك فتاوى مختلفة من
الطائفة، وليس القول المخالف له مستنداً الى خبر آخر ، ولا الى دليل يوجب العلم ،
وجب اطراح القول الآخر والعمل بالقول الموافق لهذا الخبر ، لان ذلك القول لابد أن
يكون عليه دليل، فاذا لم يكن هناك دليل يدل على صحته، ولسنا نقول بالاجتهاد (۲) والقياس يسند ذلك
القول . اليه، ولا هناك خبر آخر يضاف اليه ، وجب أن يكون ذلك القول مطروحاً، ووجب
العمل بهذا الخبر، والاخذ بالقول الذي يوافقه.
وأما القرائن التي تدل على العمل بخلاف
ما يتضمنه الخبر الواحد، فهو أن يكون هناك دليل مقطوع به (۳) من كتاب، أوسنة
____________________________________________
(۱) قوله ( اجماع منهم
على نقله ) أي نقله للعمل به على وجه، وهذا اشارة الى الدليل الأول من الادلة الثلاثة
التي ذكرها على مختاره في العمل بخبر الواحد .
(۲) قوله ( ولسنا نقول
بالاجتهاد الخ) أي لا يجب علينا أن ننظر في أنه هل يمكن الاستدلال عليه بالاجتهاد
والقياس أم لا ؟ ثم نطرح ان لم يمكن لانا لا نقول بالاجتهاد والقياس فوجودهما
كعدمهما .
(۳) قوله ( دلیل مقطوع
به ) المراد القطع بجواز العمل به لا بالحكم
مقطوع بها ، أو اجماع
من الفرقة المحقة على العمل بخلاف ما تضمنه ، فان جميع ذلك يوجب ترك العمل به .
وانما قلنا ذلك لان هذه الادلة توجب
العلم، والخبر الواحد لا يوجب العلم ، وانما يقتضى غالب الظن ( ۱ ) والظن لا يقابل العلم
(۲) .
وأيضاً فقد روى (۳) عنهم عليهم السلام
انهم قالوا : اذا جائكم عنا حديثان فاعرضوهما على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله
عليه و
____________________________________________
المستفاد منه، لا
يقال : فخبر الواحد أيضاً مقطوع به بهذا المعنى كمامر، لانا نقول: لا قطع على عمل
الطائفة بخبر الواحد في تخصيص الكتاب ونحوه، وسيصرح المصنف بهذا السؤال والجواب في
( فصل في ذكر تخصيص العموم بالاخبار الاحاد) .
(۱) قوله ( وانما يقتضي
غالب الظن ) أي مع قطع النظر عن المعارض أومع المعارض أيضاً .
(۲) قوله (لا يقابل العلم)
يعنى لا عبرة بما يقتضيه مع عدم المعارض أو معه أيضاً اذا عارضه ما يقتضى العلم .
( ۳ ) قوله ( وأيضاً فقد
روي الخ ) التمسك بهذا الخبر يعنى اما على اعتقاده تواتره، أو على اجماع الامامية
على طبقه ، ومن البعيد أن يكون مبنياً على جواز التمسك في بعض مسائل الاصول ، وهي
المسائل التي لا يعذب المخطىء فيها وليس في اثباتها بالادلة الظنية دور بالادلة
الظنية بعد اثبات حجيتها ، أو في جميعها بعد التمسك بما يفيد العلم .
آله فان وافقهما
فخذوا به، ومالم يوافقهما فردوه الينا (۱) ، فلاجل ذلك رددنا
هذا الخبر، ولا يجب على هذا أن نقطع على بطلانه في نفسه لانه لا يمتنع أن يكون
الخبر في نفسه صحيحاً ، وله وجه من التأويل لا نقف عليه، أو خرج على سبب خفى علينا
الحال فيه أو تناول شخصاً بعينه، أو خرج مخرج التقية وغير ذلك من الوجوه ، فلا
يمكننا أن نقطع على كذبه ، وانما يجب الامتناع من العمل به حسب ما قدمنا .
فأما الاخبار اذا تعارضت وتقابلت ، فانه
يحتاج في العمل ببعضها الى الترجيح، والترجيح يكون باشياء (۲) :
____________________________________________
(١) قوله (فردوه الينا) جعل الصلة (الى)
دون (على) تنبيه على ما فصله المصنف بقوله ( ولا يجب الخ) .
(۲) قوله (والترجيح يكون
بأشياء ) الترجيح بين الاخبار عند الامامية ليس مناطه افادة زيادة الظن ، بل
المناط الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام في باب الترجيح، واستقرار
اجماعهم عليه .
ويجب على المتدين أن يتتبع كتب وأحاديث
أصحابنا كالكافي وغيره في ذلك، وان يتتبع عمل الامامية فيه ليحصل له العلم به، وفي
الفصل التاسع من كتاب الفوائد المدنية رحم الله مصنفه جملة من الاحاديث في ذلك
(٥) ، فاندفع ما أورده العامة وتبعه بعض الخاصة في باب الترجيح من الترجيحات
بغير ما ذكره المصنف هنا .
__________________
منها : أن يكون أحد الخبرين موافقاً
للكتاب أو السنة المقطوع بها، والآخر مخالفاً لها، فانه يجب العمل بما وافقهما،
وترك العمل بما خالفهما. وكذلك ان وافق (۱) أحدهما اجماع الفرقة
المحقة ، والاخر يخالفه وجب العمل بما يوافق اجماعهم، وترك العمل بما يخالفه.
فان لم يكن مع أحد الخبرين شيء من ذلك،
وكانت فتيا الطائفة مختلفة، نظر في حال رواتهما، فما كان راويه عدلا (۲) وجب العمل به وترك
العمل بمالم يروه العدل، وسنبين القول في العدالة المراعاة في هذا الباب .
فان كان رواتهما جميعاً عدلين ، نظر في
أكثرهما رواة ، و عمل به، وترك العمل بقليل الرواة ، فان كان رواتهما متساويين في
____________________________________________
(۱) قوله (منها أن يكون
أحد الخبرين ـ الى قوله ـ وكذلك ان وافق) اشارة الى أن موافقة الكتاب وموافقة
السنة المقطوع بها وموافقة الاجماع لا ينفك بعضها عن بعض ، ولا يقع فيها تعارض .
(۲) قوله (فما كان راويه
عدلا) قد مر أن مستند الترجيح في هذا وأمثاله الروايات والاجماع، فان الترجيح
بافادة زيادة الظن فيه خدشة كما ظهر من دفع المصنف كلام القائلين بوجوب العمل بخبر
الواحد عقلا وغير ذلك، والفرق بين أن يكون وجوب العمل بخبر الواحد ثابتاً وبين أن
لا يكون ثابتاً وتجويز الترجيح بالظن في الصورة الأولى دون الثانية ممنوع .
العدد والعدالة ، عمل
بأبعدهما (۱) من
قول العامة ، ويترك العمل بما يوافقهم .
____________________________________________
(۱) قوله (عمل بأبعدهما
الخ) قال المحقق : والظاهر ان احتجاجه في ذلك برواية رويت عن الصادق عليهالسلام وهو اثبات لمسألة
علمية بخبر واحد، ولا يخفى عليك ما فيه، مع انه قدطعن فيه فضلاء من الشيعة كالمفيد
وغيره.
فان احتج بان الابعد لا يحتمل الا الفتوى،
والموافق للعامة يحتمل التقية فوجب الرجوع الى ما لا يحتمل .
قلنا لا نسلم انه لا يحتمل الا الفتوى،
لانه كما جاز الفتوى لمصلحة يراها الامام كذلك تجوز الفتوى بما يحتمل التأويل،
مراعاة لمصلحة يعلمها الامام وان كنا لا نعلمها .
فان قال ذلك يسد باب العمل بالحديث .
قلنا: انما نصير الى ذلك على تقدير
التعارض ، وحصول مانع يمنع من العمل لا مطلقاً، فلم يلزم سد باب العمل (انتهى) .
ولا يخفى مما مر فيه على ان المحقق يجوز
الاستدلال في الترجيح بافادة زيادة الظن، كما صرح به في صورة كون أحد الراويين
أعلم وأضبط من الآخر بعد نقل دعوى الاجماع عن الشيخ على الترجيح حيث قال: ويمكن أن
يحتج لذلك بأن رواية العالم والاعلم أبعد من احتمال الخطأ، وأنسب بنقل الحديث على
وجهه، فكانت أولى (انتهى) .
ولاشك ان احتمال التقية فيما نحن فيه
أقرب من احتمال التأويل، وان
__________________
وان كان الخبران
يوافقان العامة، أو يخالفانها جميعاً نظر في حالهما فان كان متى عمل بأحد الخبرين
، أمكن العمل بالخبر الاخر على وجه من الوجوه، وضرب من التأويل، واذا عمل بالخبر
الاخر لا يمكن العمل بهذا الخبر، وجب العمل بالخبر الذي يمكن مع العمل به العمل
بالخبر الاخر ، لان الخبرين جميعاً منقولان مجمع على نقلهما (۱)، وليس هناك قرينة
تدل على صحة أحدهما، ولا ما يرجح أحدهما به على الآخر، فينبغي أن يعمل بهما اذا
أمكن ، ولا يعمل بالخبر الذي اذا عمل وجب اطراح العمل بالخبر الآخر ، وان لم يمكن
العمل بهما جميعاً لتضادهما وتنافيهما، وأمكن (۲) حمل كل واحد منهما
على ما يوافق الخبر الاخر على وجه ، كان الانسان مخيراً (۳) في العمل بأيهما شاء
.
____________________________________________
حمل كلامه هنا على
التأييد بعد الدليل، فلا يمكن في صورة عمل أكثر الطائفة باحدى الروايتين فانه
اكتفى فيها بأن الكثرة امارة الرجحان، والعمل بالراجح واجب تدبر .
(۱) قوله (مجمع على
نقلهما) قد مر معناه فتذكر .
(۲) قوله ( وأمكن الخ)
الأولى أو أمكن .
(۳) قوله ( كان الانسان
مخيراً الخ) هذا مبني على ان تعارض الخبرين لا يوجب تساقطهما والرجوع الى ما
يقتضيه العقل ، وانما اطلق هذا اعتماداً على ما سيجيء من الترجيح من بعض الوجوه .
وأما العدالة المراعاة فى ترجيح أحد
الخبرين على الآخر، فهو أن يكون الراوى معتقداً للحق، مستبصراً ثقة في دينه،
متحرجاً من الكذب غيرمتهم فيما يرويه. فأما اذا كان مخالفاً في الاعتقاد لاصل
المذهب، وروى مع ذلك عن الأئمة عليهمالسلام نظر
فيما يرويه ، فان كان هناك من طرق الموثوق بهم ما يخالفه، وجب اطراح خبره وان لم
يكن هناك ما يوجب اطراح خبره ويكون هناك ما يوافقه ، وجب العمل به. وان لم يكن
هناك من الفرقة المحقة خبر يوافق ذلك ولا يخالفه، ولا يعرف لهم قول فيه ، وجب
أيضاً العمل به، لما روى عن الصادق (ع) انه قال: اذا انزلت بكم حادثة لا تجدون
حكمها فيما روى عنا (۱) فانظروا
الى مارووه عن على عليهالسلام
فاعملوا به .
____________________________________________
والذي يفهم من أوائل الكافي، وفي كتاب
العقل منه ، في باب اختلاف الحديث، ان عمل الطائفة بالتخيير في العبادات المحضة
وبالترجيح في التنازع في دين أو ميراث أونحوهما على ترتيب فصل في مقبولة عمر بن
حنظلة (٢) الى ان ينتهي الى التوقف (۳) .
(۱) قوله (فيما روي عنا
الخ) أي برواية الثقات، وضمير رووه، راجع الى العامة، وهذا مبني على ان أكثر
الرواة عن علي عليهالسلام عامة،
وأكثر الرواة
__________________
ولاجل ما قلناه عملت الطائفة بما رواه
حفص بن غياث، وغياث ابن كلوب (۱)، ونوح بن دراج (۲)، والسكوني (۳)، وغيرهم من العامة
عن ائمتنا عليهم السلام فيما لم ينكروه ولم يكن عندهم خلافه (٤) .
وأما اذا كان الراوى من فرق الشيعة مثل
الفطحية، والواقفة والناووسية وغيرهم، نظر فيما يرويه ، فان كان هناك قرنية تعضده
أو خبر آخر من جهة الموثوقين بهم ، وجب العمل به. وان كان هناك خبر آخر يخالفه من
طريق الموثوقين، وجب اطراح ما اختصوا
____________________________________________
عن باقي الأئمة عليهمالسلام ثقات، فاعطي الأكثر
حكم الكل، وينبغي ان يخص مارووه عن علي الا بما تحقق فيه الشروط السابقة في العمل
بخبر الواحد على ما اختاره المصنف .
(۲) قوله ( ونوح بن دراج )
في الخلاصة : نوح بن دراج كان من الشيعة .
(٤) قوله (ولم يكن عندهم خلافه)
عطف تفسير لقوله (لم ينكروه) .
__________________
بروايته، والعمل بما
رواه الثقة. وان كان ما رووه ليس هناك ما يخالفه ولا يعرف من الطائفة العمل بخلافه
، وجب أيضاً العمل به ، اذا كان متحرجاً في روايته موثوقاً في امانته ، وان كان
مخطئاً في أصل الاعتقاد فلاجل ما قلناه عملت الطائفة بأخبار الفطحية، مثل عبدالله
بن بكير وغيره، وأخبار الواقفة مثل سماعة بن مهران، وعلى بن أبي حمزة (۱)، وعثمان بن عيسى (۲)، ومن بعد هؤلاء بما
رواه بنو فضال وبنو سماعة والطاطريون (۳) وغيرهم، فيما لم يكن
عندهم فيه خلافه.
وأما ما ترويه الغلاة والمتهمون
والمضعفون وغير هؤلاء، فما يختص الغلاة بروايته، فان كانوا ممن عرف لهم حال
استقامة و حال غلو، عمل بما رووه فى حال الاستقامة، وترك مارووه في حال تخليطهم ،
ولاجل ذلك عملت الطائفة بما رواه أبو الخطاب محمد
____________________________________________
ابن أبي زينب في حال
استقامته وتركوا ما رواه في حال تخليطه. و كذلك القول في أحمد بن هلال العبرتائي ،
وابن أبي عذافر وغير هؤلاء .
فأما ما يرويه في حال تخليطهم، فلا يجوز
العمل به على كل حال وكذلك القول فيما ترويه المتهمون والمضعفون، وان كان هناك ما
يعضد روايتهم ويدل على صحتها وجب العمل به ، وان لم يكن هناك ما يشهد لروايتهم
بالصحة وجب التوقف في اخبارهم، فلاجل ذلك توقف المشايخ عن أخبار كثيرة هذه صورتها،
ولم يرووها و استثنوها في فهارسهم من جملة ما يروونه من التصنيفات .
فأما من كان مخطئاً في بعض الافعال أو
فاسقاً بافعال الجوارح وكان ثقة في روايته متحرزاً فيها، فان ذلك لا يوجب رد خبره
، ويجوز العمل به، لان العدالة المطلوبة فى الرواية حاصلة فيه، وانما الفسق بافعال
الجوارح يمنع من قبول شهادته، وليس بمانع من قبول خبره ، ولاجل ذلك قبلت ( ۱ ) الطائفة أخبار جماعة
هذه صفتهم .
____________________________________________
(۱) قوله ( ولاجل ذلك
قبلت الخ) قال المحقق: ونحن نمنع هذه الدعوى ونطالب بدليلها، ولو سلمناها لاقتصرنا
على المواضع التي عملت فيها بأخبار خاصة ولم نجز التعدي في العمل الى غيرها، ودعوى
التحرز عن الكذب مع ظهور الفسوق مستبعد، اذ الذي يظهر فسوقه لا يوثق بما يظهر من
تحرجه عن
فأما ترجيح الخبرين على الآخر من حيث ان
أحدهما يقتضى الحظر والآخر الاباحة والاخذ بما يقتضى الحظر أولى أو الاباحة ، فلا
يمكن الاعتماد عليه على ما نذهب اليه في الوقف، لان الحظر والاباحة جميعاً عندنا
مستفادان بالشرع ، فلا ترجيح بذلك، وينبغى لنا التوقف (۱) فيهما جميعاً ، أو
يكون الانسان فيهما مخيراً في العمل بأيهما شاء .
واذا كان أحد الراوبين يروى الخبر بلفظه
، والآخر بمعناه ، ينظر في حال الذي يرويه بالمعنى ، فان كان ضابطاً عارفاً بذلك ،
فلا ترجيح لاحدهما على الآخر، لانه قد ابيح (۲) له الرواية بالمعنى
واللفظ معاً فأيهما كان أسهل عليه رواه، وان كان الذي يروى الخبر بالمعنى لا يكون
ضابطاً للمعنى أو يجوز أن يكون غالطاً فيه، ينبغى
____________________________________________
الكذب .
(۱) قوله (وينبغي لنا
التوقف الخ) التوقف مبني على ان التعارض يوجب اسقاط الخبرين والرجوع الى ما يقتضيه
العقل ، والتخيير مبني على ان التعارض انما يقتضي اسقاط تعين العمل بأحدهما لا
اسقاط جواز العمل. وقد مر ان مختار المصنف التخيير، وهذا يؤيد عدم الترجيح بافادة
زيادة الظن والا فالاباحة عدمي وهو موافق للاصل .
(۲) قوله (لانه قد ابيح
الخ) هذا أيضاً يؤيد عدم جواز الاستدلال على الترجيح بافادة زيادة الظن تدبر .
أن يؤخذ بخبر من رواه
باللفظ.
واذا كان أحد الراويين أعلم (۱) ، وأفقه ، وأضبط من
الآخر، فينبغي أن يقدم خبره على خبر الآخر ، ويرجح عليه . ولاجل ذلك قدمت الطائفة
ما يرويه زرارة، ومحمد بن مسلم (۲) ، وبريد (۳) ، وأبو بصير
(٤) والفضيل بن يسار (۵) ونظراؤهم من الحفاظ الضابطين على رواية
من ليس له تلك الحال.
ومتى كان أحد الراويين متيقظاً في
روايته، والآخر ممن يلحقه غفله ونسيان في بعض الاوقات، فينبغي أن يرجح خبر الضابط
____________________________________________
(۱) قوله (واذا كان أحد
الراويين أعلم الخ) والظاهر انه اذا كان كل من الراويين نقل بالمعنى ، فينبغي حمل
قوله ( واضبط ) على ما يرجع الى ضبط المعنى. وقوله (ومتى كان) في صورة النقل
باللفظ .
__________________
المتيقظ على خبر
صاحبه ، لانه لا يؤمن أن يكون قدسها أو دخل عليه شبهة أو غلط في روايته، وان كان
عدلا لم يتعمد ذلك، وذلك لا ينافي العدالة على حال .
واذا كان أحد الراويين يروى سماعاً
وقراءة، والآخر يرويه اجازة، فينبغي أن يقدم رواية السامع على رواية المستجيز،
اللهم الا أن يروى المستجيز باجازته أصلا معروفاً ، أو مصنفاً مشهوراً ، فيسقط
حينئذ الترجيح .
واذا كان أحد الراويين يذكر جميع ما
يرويه، ويقول انه سمعه وهو ذاكر لسماعه، والآخر يرويه من كتابه ، نظر في حال
الراوي من كتابه، فان ذكر ان جميع ما في كتابه سماعه، فلا ترجيح لرواية غيره على
روايته، لانه ذكر على الجملة انه سمع جميع ما في دفتره وان لم يذكر تفاصيله ، وان
لم يذكر انه سمع جميع ما في دفتره وان وجده بخطه، أو وجد سماعه عليه في حواشيه
بغير خطه، فلا يجوز له أولا أن يرويه ويرجح خبر غيره عليه .
واذا كان أحد الراويين معروفاً والآخر
مجهولا ، قدم خبر المعروف على خبر المجهول، لانه لا يؤمن أن يكون المجهول على صفة
لا يجوز معها قبول خبره (۱) .
____________________________________________
(۱) قوله (قبول خبره) اما
مطلقاً أو في صورة معارضة خبر المعروف اياه والثاني أظهر.
واذا كان أحد الراويين مصرحاً والآخر
مدلساً، فليس ذلك مما يرجح به خبره، لان التدليس (۱) هو أن يذكره باسم
أوصفة غريبة أو ينسبه الى قبيلة أو صناعة وهو بغير ذلك معروف ، فكل ذلك لا يوجب
ترك خبره .
واذا كان أحد الراويين مسنداً والاخر
مرسلا ، نظر في حال المرسل، فان كان ممن يعلم انه لا يرسل الا عن ثقة موثوق به،
فلا ترجح لخبر غيره على خبره، ولاجل ذلك سوت الطائفة بين ما يرويه محمد بن أبي
عمير (۲) وصفوان
بن يحيى (۳) ،
وأحمد بن محمد
____________________________________________
(۱) قوله (لان التدليس
الخ) كما يعتبر عن الكاظم عليهالسلام بالفقيه،
أو العالم أو الرجل لاجل التقية . واما (التدليس) بايهام خلاف الواقع عمداً بدون
مصلحة شرعية، موجب لرد الرواية .
__________________
ابن أبي نصر (۱) وغيرهم من الثقات
الذين عرفوا بأنهم لا يروون ولا يرسلون الا ممن يوثق به ، وبين ما اسنده غيرهم،
ولذلك عملوا بمرسلهم، اذا انفرد عن رواية غيرهم .
فاما اذا لم يكن كذلك، ويكون ممن يرسل
عن ثقة وعن غير ثقة ، فانه يقدم خبر غيره عليه. واذا انفرد وجب التوقف في خبره الى
أن يدل دليل على وجوب العمل به .
فاما اذا انفردت المراسيل، فيجوز العمل
بها على الشرط الذي ذكرناه . ودليلنا على ذلك الادلة التي قدمناها على جواز العمل
بأخبار الاحاد، فان الطائفة كما عملت بالمسانيد عملت بالمراسيل فما يطعن في واحد
منهما يطعن في الآخر ، وما أجاز أحدهما الآخر، فلا فرق بينهما على حال .
واذا كان احدى الروايتين أزيد من
الرواية الأخرى، كان العمل بالرواية الزائدة أولى ، لان تلك الزيادة (۲) في حكم خبر آخر
____________________________________________
(۲) قوله (لان تلك
الزيادة الخ) قال المحقق : ولقائل أن يقول: أتعني بذلك انه يعمل بالزيادة كما يعمل
بالاصل ؟ أم تعني مع التعارض يكون أرجح ان أردت الأول فمسلم، وان أردت الثاني
فممنوع (انتهى) .
__________________
ينضاف الى المزيد
عليه .
فاذا كان مع أحدى الروايتين عمل الطائفة
بأجمعها، فذلك خارج عن الترجيح (۱) بل هو دليل قاطع على صحته وابطال الآخر
.
فان كان مع أحد الخبرين عمل أكثر
الطائفة، ينبغي أن يرجح على الخبر الذي عمل به قليل منهم .
واذا كان احد المرسلين متناولا للحظر
والآخر متناولا للاباحة فعلى مذهبنا الذي اخترناه فى الوقف يقتضى التوقف فيهما ،
لان الحكمين جميعاً مستفادان شرعاً، وليس احدهما بالعمل اولى من الآخر، وان قلنا
انه لم يكن هناك ما يترجح به احدهما على الآخر (۲) كنا مخيرين كان ذلك
ايضاً جائزاً (۳) كما
قلناه في الخبرين المسندين سواء، وهذه جملة كافية في هذا الباب .
____________________________________________
ومنعه ساقط بناءاً
على ان الغفلة في اسقاط البعض أكثر من الغفلة في الزيادة، وهو مجوز لامثال هذا
الترجيح كمامر" .
(۱) قوله (خارج عن
الترجيح) أي عن الترجيح الذي نحن فيه، فانه قد مر انه أيضاً ترجيح، وتكراره لتمهيد
قوله (فان كان مع أحد الخبرين عمل أكثر الطائفة) .
( ۲ ) قوله (ما يترجح به
أحدهما على الآخر) أي ترجيحاً قطعياً لما مر .
(۳) قوله ( كان ذلك أيضاً
جائزاً) بل هو مختار المصنف كمامر " .
تم المجلد الأول من الجزء الأول ويليه
المجلد
الثاني أوله ( الكلام في الأوامر ) وذلك في غرة
ذي القعدة الحرام من السنة الثالثة بعد
الاربعمائة
والالف للهجرة النبوية على مهاجرها وآله الطيبين
الطاهرين آلاف التحية والسلام والحمد لله أولا
و آخراً وظاهراً وباطناً
المحتوى
المقدمة
مقدمة المؤلف................................................................ ١
فصل في ماهية اصول
الفقه وانقسامها وكيفية أبوابها.............................. ١٨
فصل في بيان حقيقة
العلم واقسامه ومعنى الدلالة وما يتصرف منها................ ٤٥
فصل في ذكر أقسام
أفعال المكلف.......................................... ١٢٣
فصل في حقيقة الكلام
وبيان أقسامه وجملة من أحكامه وترتيب الاسماء........... ١٣٨
فصل في ذكر ما يجب
معرفته من صفات الله تعالى وصفات النبي صلىاللهعليهوآله
وصفات الأئمة عليهمالسلام حتى
يصح معرفة مرادهم ١٧٤
فصل في ذكر الوجه الذي
يجب أن يحمل عليه مراد الله بخطابه.................. ٢٠١
« الكلام في الاخبار »
فصل في حقيقة الخبر
وما به يصير خبراً وبيان أقسامه.......................... ٢٣٠
فصل في ان الاخبار قد
يحصل عندها العلم وكيفية حصوله وأقسام ذلك ......... ٢٣٩
في كيفية حصول العلم..................................................... ٢٤٣
فصل في ان الاخبار
المروية ما هو كذب والطريق الذي يعلم به................... ٢٧٦
فصل في ذكر الخبر
الواحد وجملة من القول في أحكامه......................... ٢٨٦
رد أدلة من أوجب العمل
بخبر الواحد........................................ ٣٠٧
مذهب المصنف في الخبر
الواحد............................................. ٣٣٦
فصل في ذكر القرائن
التي تدل على صحة أخبار الاحاد أو على بطلانها وما يرجح به الاخبار بعضها على بعض
وحكم المراسيل (التعادل والتراجيح)............................................................... ٣٦٧
|