


عهد الإمام الحسين عليهالسلام
زياد الشرّ وحجر
الخير :
قال اليعقوبي :
كان المغيرة الثقفي إذا رقى المنبر يلعن عليّا (عليهالسلام) فإذا سمعه حجر بن عدي الكندي وعمرو بن الحمق (خفيف اللحية)
الخزاعي وأصحابهما من «شيعة عليّ» يقومون فيردون اللعن عليهم ويتكلّمون.
فلمّا قدم زياد
الكوفة بعد المغيرة وخطب خطبته المشهورة التي لم يحمد الله فيها ولم يصلّ على
محمّد ... وجّه إلى حجر فأحضره وقال له : يا حجر : أرأيت ما كنت عليه من الموالاة
والمحبّة لعلي (عليهالسلام)؟ قال : نعم! قال : فإن الله (!) قد حوّل ذلك بغضة وعداوة!
أو رأيت ما كنت عليه من البغضة والعداوة لمعاوية قال : نعم! قال : فإن الله (!) قد
حوّل ذلك محبّة وموالاة! فلا أعلمنك ذكرت أمير المؤمنين معاوية! بشرّ! أو ذكرت
عليّا بخير!
ثمّ بلغه أنهم
يجتمعون فيتكلّمون ، ويدبّرون عليه وعلى معاوية ويذكرون مساويهما ويحرّضون الناس
عليهما! فوجّه صاحب شرطه إليهم. فهرب عمرو بن الحمق الخزاعي وعدة معه إلى الموصل ،
واخذ جماعة منهم ، منهم : حجر بن عدي الكندي وثلاثة عشر رجلا من أصحابه.
وكتب فيهم إلى
معاوية : أنهم زروا على الولاة فخرجوا بذلك من الطاعة ، وخالفوا الجماعة في لعن
أبي تراب! وأنفذ الكتاب بشهادات قوم أوّلهم أبو بردة ابن أبي موسى الأشعري ...
وكان ذلك في سنة (٥٢ ه) .
هذا ، وتأخّر
المسعوديّ بها إلى سنة (٥٣ ه) ثمّ قال : وقيل : إنّ ذلك كان في سنة (٥٠ ه).
وقال : كان تسعة
من أصحابه من الكوفة وأربعة من غيرها. ولم يعقّب إلّا بنتا واحدة ، فلمّا حملوهم (ليلا)
أنشأت تقول للقمر :
ترفّع أيها القمر المنير
|
|
لعلّك أن ترى حجرا يسير
|
يسير إلى معاوية بن حرب
|
|
ليقتله ، كذا زعم الأمير!
|
ويصلبه على بابي دمشق
|
|
وتأكل من محاسنه النسور
|
ألا يا حجر ، حجر بني عديّ
|
|
تلقّتك السلامة والسرور
|
أخاف عليك ما أردى عليا
|
|
وشيخا في دمشق له زئير!
|
ألا يا ليت حجرا مات موتا
|
|
ولم ينحر كما نحر البعير
|
فإن تهلك فكل عميد قوم
|
|
إلى هلك من الدنيا يصير
|
فلما بلغوا إلى
مرج عذراء على اثني عشر ميلا (٢٤ كم) من دمشق تقدّم البريد بخبرهم إلى معاوية ،
فبعث إليهم برجل أعور مصاب بإحدى عينيه ليضرب أعناقهم هناك. فلمّا وصل وعرف حجرا
قال له : إن أمير المؤمنين! قد أمرني بقتلك ـ يا رأس الضلال ومعدن الكفر والطغيان!
والمتولى لأبي تراب ـ وقتل أصحابك ، إلّا أن ترجعوا عن كفركم وتلعنوا صاحبكم وتتبرّؤوا
منه!
__________________
فأجابه حجر : إن
الصبر على حدّ السيف لأيسر علينا مما تدعونا إليه ، ثمّ القدوم على الله وعلى نبيه
وعلى وصيّه أحبّ إلينا من دخول النار! وصدّقه جماعة ممّن كانوا معه.
ثمّ كلّم معاوية
قوم في ستّة منهم ، وهم نصف من كان مع حجر أجابوا إلى البراءة من عليّ!
فلمّا قدّم حجر
ليقتل قال : دعوني اصلّي ركعتين ، فجعل يطوّل في صلاته ، فقيل له : أجزعا من الموت!
فقال : لا ، ولكنّي ما تطهّرت للصلاة قط إلّا صلّيت وما صلّيت قط أخفّ من هذه. ثمّ
قال : وكيف لا أجزع وإنّي لأرى قبرا محفورا وسيفا مشهورا وكفنا منشورا ولو لا أن تظنّوا بي خلاف ما بي لأحببت أن تكون الركعتان
أطول ممّا هما ، وإنّي لأوّل من رمى بسهم في هذا الموضع وأوّل من اهلك فيه ، ثمّ
ضربت عنقه ، ثمّ أعناق القوم معه ، ثمّ كفّنوا ودفنوا ، وهم : حجر بن عدي الكندي ،
وشريك بن شداد الحضرمي ، وصيفي بن فسيل الشيباني ، وقبيصة ابن ضبيعة العبشمي ،
ومحرز بن شهاب التميمي ، وكدّام بن حيّان العنزي كذا في اليعقوبي ، وفي الطبري : عبد الرحمن بن حسّان
الكندي ، وقال : إن معاوية أمر بعزله عنهم فلمّا عزل قال لحجر : لا يبعدنّك الله
يا حجر فنعم أخو الإسلام كنت! وردّه معاوية إلى زياد فلم يقتله ولكن أمر فدفنوه
حيّا! وعدّ منهم كريم بن عفيف الخثعمي وقال هذا لحجر : لا تفقد ولا تبعد فقد كنت
تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر .
__________________
عمرو بن الحمق ،
وحماقة معاوية :
قال اليعقوبي :
إنّ زيادا لمّا وجّه صاحب شرطه إلى أصحاب حجر ، كان منهم عمرو بن الحمق فهرب وعدّة
معه إلى الموصل ، وبقي معه رفاعة بن شدّاد البجلي. وارتهن زياد امرأة عمرو فحبسها
ثمّ أرسلها إلى دمشق فحبسها معاوية ، فكان أول من حبس النساء بجرائر الرجال في
الإسلام!
وكان عامله على
الموصل عبد الرحمن بن أمّ الحكم الثقفي ابن اخت معاوية ، وبلغه مكان عمرو ورفاعة
فوجّه في طلبهما ، وكان عمرو قد مرض وقد اشتدّت علّته ، وخرجا هاربين فلدغته حيّة
، وكان ممّن أدرك رسول الله وسمع حديثه فقال : الله أكبر! لقد قال لي رسول الله : «يا
عمرو ليشترك في قتلك الإنس والجن» فامض لشأنك فإنّي مأخوذ مقتول. وكان رفاعة شابّا
شديدا فهرب ، ولحق القوم عمرا فأخذوه وقتلوه وطافوا برأسه على رمح ، فكان أوّل رأس
طيف به في الإسلام. وأرسله عبد الرحمن إلى زياد فأرسله إلى معاوية ، فلمّا أتاه
رأسه بعث به إلى امرأته في السجن! فقالت للرسول : أبلغ معاوية ما أقول : طالبه الله
بدمه ، وعجّل له نقمه ، فقد أتى أمرا فريّا وقتل برّا تقيّا !
ولم يذكر اليعقوبي
مدّة حبسها وتواري زوجها الصحابيّ الجليل ، ويظهر من خبر ابن طيفور الخراساني
البغدادي عن الزهري : أنه حبسها في سجن دمشق سنتين حتى ظفر عبد الرحمن بعمرو في
بعض أرض الجزيرة ، فلمّا قتله وأرسل برأسه قال معاوية للحرسي : اطرح الرأس في
حجرها ثمّ احفظ ما تتكلّم به حتّى تؤدّيه إليّ : ففعل هذا ، فارتاعت له ساعة ثمّ
وضعت يدها على رأسها وصاحت : وا حزنا لصغار في دار هوان ؛ وضيق من ضيم سلطان!
نفيتموه عنّي طويلا ،
__________________
وأهديتموه إليّ
قتيلا ، فأهلا وسهلا بمن كنت له غير قالية! وأنا له اليوم غير ناسية! ارجع به أيها
الرسول إلى معاوية فقل له ولا تطوه دونه : أيتم الله ولدك! وأوحش منك أهلك! ولا
غفر لك ذنبك!
فرجع الرسول إلى
معاوية فأخبره بما قالت. فأرسل إليها فأتته وعنده نفر من أصحابه ، فقال لها معاوية
: يا عدوة الله! أأنت صاحبة الكلام الذي بلغني؟! قالت : نعم ، غير نازعة عنه ولا
معتذرة منه ولا منكرة له ، فلعمري لقد اجتهدت في الدعاء عليك إن نفع الاجتهاد ،
وإنّ الحقّ لمن وراء العباد! وما بلغت شيئا من جزائك وإن الله بالنقمة من ورائك!
فقال إياس بن حسل
: يا أمير المؤمنين! اقتل هذه فو الله ما كان زوجها أحقّ بالقتل منها!
فالتفتت إليه
بكلام شديد قاس ، فضحك معاوية وقال لها : اخرجي من الشام! فخرجت إلى حمص فماتت بالطاعون
، وهي آمنة بنت الشريد .
متابعة معاوية
لبيعة يزيد :
قال الدينوري : لم
يلبث معاوية بعد وفاة الحسن رحمهالله إلّا يسيرا حتّى بايع ليزيد بالشام ، وكتب ببيعته إلى
الآفاق .
__________________
قال : وكتب إلى
سعيد بن العاص على المدينة يأمره أن يدعو أهل المدينة إلى البيعة ، ويكتب إليه بمن
يسارع إليها ممن لم يسارع.
فلما أتى الكتاب
إلى سعيد بن العاص دعا الناس إلى البيعة ليزيد ، وأظهر الغلظة وأخذهم بالشدّة
والعزم ... وأبطأ الناس عنها إلّا اليسير لا سيّما بني هاشم ، فإنه لم يجبه إليها
منهم أحد. فكتب سعيد بن العاص إلى معاوية :
أما بعد ، فإنّك
أمرتني أن أدعو الناس لبيعة يزيد ابن أمير المؤمنين! وأن أكتب إليك بمن سارع ممن
أبطأ. وإني أخبرك : أن الناس بطاء عن ذلك لا سيما أهل البيت من بني هاشم فإنه لم
يجبني أحد منهم وبلغني عنهم ما أكره. وأما الذي جاهر بعداوته وإبائه لهذا الأمر
فعبد الله بن الزبير ، ولست أقوى عليهم إلّا بالخيل والرجال ، أو تقدم بنفسك فترى
رأيك في ذلك ، والسلام.
فكتب معاوية إلى
الحسين بن علي ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن جعفر كتبا ، وأمر سعيد بن العاص
أن يوصلها إليهم ويبعث بجواباتها إليه .
كتب معاوية إلى
الحسين وابن عباس وابن جعفر :
كتب إلى الحسين عليهالسلام : أما بعد فقد انتهت إليّ منك أمور لم أكن أظنك بها ، رغبة
عنها. وإن أحقّ الناس بالوفاء لمن أعطى بيعته من كان مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك
التي أنزلك الله بها ؛ فلا تنازع إلى قطيعتك ، واتّق الله! ولا تردّن هذه الأمّة
في فتنة! وانظر لنفسك ودينك وأمة محمد (وَلا
يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ).
__________________
وكتب إلى ابن عباس
، أمّا بعد ، فقد بلغني إبطاؤك عن البيعة ليزيد ابن أمير المؤمنين ، وإني لو قتلتك
بعثمان لكان ذلك إليّ! لأنك ممّن ألّب عليه وأجلب ، وما معك من أمان فتطمئن به ولا
عهد فتسكن إليه ، فإذا أتاك كتابي هذا فاخرج إلى المسجد والعن قتلة عثمان! وبايع
عاملي ، فقد أعذر من أنذر وأنت بنفسك أبصر ، والسلام.
وكتب إلى عبد الله
بن جعفر : أما بعد ، فقد عرفت أثرتي إياك على من سواك ، وحسن رأيي فيك وفي أهل
بيتك ، وقد أتاني عنك ما أكره! فإن تبايع تشكر وإن تأب تجبر! والسلام.
وكتب إلى سعيد بن
العاص : أما بعد ، فقد أتاني كتابك وفهمت ما ذكرت فيه من إبطاء الناس عن البيعة
ولا سيّما بني هاشم ... وقد كتبت إلى رؤسائهم كتبا فسلّمها إليهم وتنجّز منهم
جواباتها وابعث بها إليّ حتّى أرى فيهم رأيي! ولتشدّ عزيمتك ولتصلب شكيمتك !
وقال الكشيّ : روي
أنّ مروان بن الحكم ، وكان عامل معاوية على المدينة كتب إليه :
أما بعد : فإن
عمرو بن عثمان ذكر : أنّ رجالا من وجوه أهل الحجاز وأهل العراق يختلفون إلى الحسين
بن علي. وذكر (عمرو) أنه لا يأمن وثوبه (قال مروان) : وقد بحثت عن ذلك فبلغني أنه
لا يريد الخلاف يومه هذا ، (ولكن) لست آمن أن يكون هذا لما بعده! فاكتب إليّ برأيك
في هذا ، والسلام.
__________________
فكتب إليه معاوية
: أما بعد ، فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت فيه من أمر الحسين.
فإيّاك أن تعرض
للحسين في شيء! واترك حسينا ما تركك ، فإنا لا نريد أن نعرض له في شيء ما وفي
ببيعتنا ولم ينازعنا سلطاننا ، فاكمن عليه ما لم يبدلك صفحته ، والسلام.
وكتب معاوية إلى
الحسين عليهالسلام ما ذكر .
جواب الحسين عليهالسلام ومن معه :
فلمّا وصل الكتاب
إلى الحسين عليهالسلام كتب إليه : أما بعد ، فقد بلغني كتابك ، تذكر أنه قد بلغك
عنّي أمور أنت لي عنها راغب. وأنا بغيرها عنك جدير. فإنّ الحسنات لا يهدي لها ولا
يسدّد إليها إلّا الله.
وأما ما ذكرت أنه
انتهى إليك عنّي ... فإنه إنّما رقّاه إليك الملّاقون والمشاؤون بالنميم ، فما
أريد لك حربا ولا عليك خلافا ، وايم الله إنّي لخائف الله في ترك ذلك! وما أظنّ
الله راضيا بترك ذلك ، ولا عاذرا بدون الإعذار فيه إليك وفي أوليائك القاسطين
الملحدين ، حزب الظلمة وأولياء الشياطين.
ألست القاتل حجر
بن عدي أخاكندة ، والمصلّين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ، ويستعظمون (ويستفظعون)
البدع ، ولا يخافون في الله لومة لائم ، ثمّ قتلتهم ظلما وعدوانا! من بعد ما كنت
أعطيتهم الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكّدة (أن) لا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم
، ولا بإحنة (حقد) تجدها في نفسك .
__________________
أو لست قاتل عمرو
بن الحمق صاحب رسول الله صلىاللهعليهوآله العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه واصفرّ لونه ،
بعد ما أمّنته وأعطيته من عهود الله ومواثيقه ما لو أعطيته طائرا لنزل إليك من رأس
الجبل! ثمّ قتلته جرأة على ربك واستخفافا بالعهد .
أو لست المدّعي
زياد بن سمية المولود على فراش عبيد ثقيف ، فزعمت أنه ابن أبيك! وقد قال رسول الله
صلىاللهعليهوآله : «الولد للفراش وللعاهر الحجر» فتركت سنة رسول الله تعمدا
وتبعت هواك بغير هدى من الله! ثمّ سلّطته على العراقين ، يقطع أيدي المسلمين وأرجلهم ، ويسمل أعينهم ، ويصلّبهم على جذوع النخل! كأنّك
لست من هذه الامّة وليسوا منك!
أو لست صاحب
الحضرميّين الذين كتب فيهم ابن سمية : أنّهم كانوا على دين عليّ!
فكتبت إليه : أن
اقتل كلّ من كان على دين عليّ! فقتلهم ومثّل بهم بأمرك ودين عليّ ـ والله ـ الذي كان يضرب عليه أباك ويضربك وبه
جلست مجلسك الذي جلست ، ولو لا ذلك لكان شرفك وشرف أبيك الرحلتين : رحلة الشتاء
والصيف.
__________________
وقلت ـ فيما قلت ـ
: انظر لنفسك ودينك ولأمة محمّد ، واتق شق عصا هذه الأمة وأن تردّهم إلى فتنة!
وإني لا أعلم فتنة أعظم على هذه الامة من ولايتك عليها ، ولا أعظم نظرا لنفسي
ولديني ولامة محمد صلىاللهعليهوآله من أن أجاهدك ، فإن فعلت فإنّه قربة إلى الله تعالى ، وإن
تركته فإني أستغفر الله لذنبي ، وأسأله توفيقه لإرشاد أمري.
وقلت ـ فيما قلت ـ
: إني إن أنكرتك تنكرني وإن أكدك تكدني! فكدني ما بدا لك ، فإنّي أرجو أن لا
يضرّني كيدك ، ولا يكون عليّ أحد أضرّ منه على نفسك! على أنّك قد ركبت بجهلك
وتحرّصت على نقض عهدك! ولعمري ما وفيت بشرط! ولقد نقضت عهدك بقتلك هؤلاء النفر
الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان والعهود والمواثيق ، قتلتهم مخافة أمر لعلك لو لم
تقتلهم متّ قبل أن يفعلوا ، أو ماتوا قبل أن يدركوا (عهد يزيد).
فأبشر ـ يا معاوية
ـ بالقصاص واستيقن بالحساب ، واعلم أنّ لله تعالى كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة
إلّا أحصاها ، وليس الله بناس لأخذك بالظنّة وقتلك أولياءه على التهمة ، ونفيك
أولياءه من دورهم إلى دار الغربة ، وأخذك للناس ببيعة ابنك غلام حدث يشرب الشراب
ويلعب بالكلب ، لا أعلمك إلّا وقد خسرت نفسك ، وتبرّت دينك وغششت رعيّتك ، وأخربت
أمانتك ، وسمعت مقالة السفيه الجاهل [المغيرة] وأخفت الورع التقيّ الحليم والسلام على من اتّبع الهدى .
__________________
هكذا جاهر الحسين عليهالسلام معاوية بالإنكار على منكراته هذه ، وأهمّها بيعة يزيد ،
فأطلع معاوية ابنه يزيد على ذلك وقال له : لقد كان في نفسه ضبّ (حقد) ما أشعر به!
فقال يزيد : أجبه جوابا تصغّر فيه إليه نفسه ، وتذكر فيه أباه بشرّ فعله!
وكان ذلك بعد ما
عزل عن مصر عبد الله بن عمرو بن العاص بعد عامين من أبيه ، وكان قد عاد إليه في دمشق
، فدخل عليه فأقرأه كتاب الحسين عليهالسلام ، فقال مثل قول يزيد ، فضحك معاوية وقال : وقد أشار عليّ
يزيد بمثل رأيك ، وقد أخطأتما! أرأيتما لو أنّي ذهبت لعيب عليّ حقا ما عسيت أن
أقول فيه؟! ومثلي لا يحسن أن يعيب بالباطل وما لا يعرف! ومتى ما عبت رجلا بما لا يعرفه
الناس لم يحفل به ولا يراه الناس شيئا وكذّبوه. وما عسيت أن أعيب حسينا؟! وو الله
ما أرى للعيب فيه موضعا! وقد رأيت أن أكتب إليه أتوعّده وأتهدّده (كأنّه لم يفعل)
ثمّ رأيت أن لا أفعل .
وكتب إليه ابن
عباس : أمّا بعد ، فقد جاءني كتابك وفهمت ما ذكرت : وأن ليس معي منك أمان! وإنّه ـ
والله ـ ما منك يطلب الأمان يا معاوية ، وإنّما يطلب الأمان من الله رب العالمين.
وأما قولك في قتلي! فو الله لو فعلت للقيت الله ومحمدا خصمك! فما أخاله أفلح ولا
أنجح من كان رسول الله خصمه! وأما ما ذكرت من أنّي ممّن ألبّ في عثمان وأجلب. فذلك
أمر غبت عنه ولو حضرته ما نسبت إليّ شيئا من التأليب عليه ... وأمّا قولك لي. العن
قتلة عثمان ، فلعثمان ولد وخاصّة وقرابة هم أحقّ منّي بلعنهم فإن شاؤوا فليلعنوا
أو يمسكوا والسلام.
__________________
وكتب إليه عبد
الله بن جعفر : أمّا بعد ، فقد جاءني كتابك وفهمت ما ذكرت فيه ... وأمّا ما ذكرت
من جبرك إياي على البيعة ليزيد. فلعمري لئن أجبرتني عليها فلقد أجبرناك وأباك على
الإسلام حتّى أدخلنا كما فيه كارهين غير طائعين ، والسلام .
فلمّا أجابه القوم
بالكراهية لبيعة ليزيد وخلافهم لأمره ، كتب إلى سعيد بن العاص : أن لا يحرّك هؤلاء
النفر ولا يهيّجهم ، ويأخذ سائر أهل المدينة بالبيعة ليزيد بغلظة وشدّة حتى لا يدع
أحدا من المهاجرين والأنصار وأبنائهم حتّى يبايعوا! فأخذهم بذلك فأبوا! فكتب إلى
معاوية : إنّما الناس تبع لهؤلاء النفر فلو بايعوك بايعك الناس ولم يتخلّف عنك أحد
، أمّا الآن فلم يبايعني أحد! فكتب إليه معاوية أن سيقدم عليهم بنفسه .
وقدم المدينة
حاجّا في ٥١ ه :
أو عز معاوية إلى
سعيد بحجّة لتلك السنة فأوعب سعيد الناس لاستقباله فلما دنا من المدينة ، خرجوا
إليه يتلقّونه ما بين ماش وراكب ومعهم النساء والصبيان : فقال لهم في بعض ما
يجتلبهم به : يا أهل المدينة! ما زلت أطوي حزني من وعثاء السفر بحبّي لطلعتكم حتى
لان الخشن وانطوى البعيد! وحقّ لجار رسول الله أن يتاق إليه!
__________________
وفي موضع الجرف
التقى بالحسين عليهالسلام ومعه عبد الله بن عباس ، فقال معاوية : مرحبا بابن بنت
رسول الله ، وابن صنو أبيه. ثمّ انحرف إلى الناس وقال : هذان شيخا بني عبد مناف!
وأقبل عليهما فرحّب وقرّب يواجههما ويضاحكهما ويلقاه المشاة وفيهم النساء والصبيان
يسلّمون عليه ويسايرونه حتى نزل. فانصرفا عنه.
وزار عائشة
واستأذن عليها فأذنت له وحده وعندها مولاها ذكوان ، فقالت له : يا معاوية : أكنت
تأمن أن أقعد لك رجلا يفتك بك كما قتلت أخي محمد بن أبي بكر؟! قال : ما كنت لتفعلي
ذلك فأنا في بيت أمن بيت رسول الله. فذكرت رسول الله وأباها أبا بكر وعمر فحثّته
على اتباع أثرهما والاقتداء بهما! فقال لها : أنت أهل لأن يسمع قولك ويطاع أمرك!
ولكن أمر يزيد من قضاء الله! وليس للعباد الخيرة من أمرهم! وقد أعطى الناس على ذلك
بيعتهم وأكّدوا عهودهم ومواثيقهم! أفترين أن ينقضوا عهودهم ومواثيقهم؟! فعلمت أنه
سيمضي على أمره فقالت : فاتق الله في هؤلاء الرّهط ولا تعجل فيهم فلعلّهم لا
يصنعون إلّا ما أحببت! (فكأنها تشفع لابن اختها عبد الله بن الزبير) فلمّا سمع
معاوية ذلك منها وهو رضاها وفيه رضاه قام.
فقالت له : يا
معاوية! قتلت حجرا وأصحابه العابدين المجتهدين؟!
فقال معاوية : دعي
هذا : فكيف أنا في حوائجك بيني وبينك؟! قالت : صالح!
قال : فدعينا
وإياهم حتّى نلقى ربّنا !
__________________
قالت : فأين عزب
حلمك عنهم؟ أما إنّي سمعت رسول الله يقول : «يقتل بمرج عذراء نفر يغضب لهم أهل
السماوات» فقال : يا أم المؤمنين! لم يحضرني رجل رشيد : وقال : ما أعدّ نفسي حليما
بعد قتلي حجرا وأصحابه .
وروى الطبري عن
أبي سعيد المقبري : أنّها قالت له : يا معاوية ، أما خشيت الله في قتل حجر وأصحابه؟!
فقال : لست أنا
قتلتهم ، إنّما قتلهم الذين شهدوا عليهم! وقالت عائشة : لو لا أنّا لم نغيّر شيئا
إلّا آلت بنا الأمور إلى أشدّ ممّا كنّا فيه لغيّرنا قتل حجر! أما والله إن كان ما
علمت لمسلما حجّاجا معتمرا .
وأرسل إلى الحسين عليهالسلام وابن عباس وخطب :
قال الدينوري :
لما كان صبيحة اليوم الثاني أمر بفراش وسرير فوضع له ، وسوّيت مقاعد الخاصّة من
أهله حوله وتلقاءه ، وأرسل إلى الحسين عليهالسلام وعبد الله ابن عباس ، وخرج وعليه حلّة يمانية وعمامة سوداء
دكناء وقد أسبل طرفيها بين كتفيه وقد تعطّر بعطر الغالية ، فقعد على سريره ، وأمر
بكتّابه فأجلسهم بحيث يسمعون ما يأمر به ، وأمر حاجبه أن لا يأذن لأحد من الناس
وإن قرب.
__________________
وسبق ابن عباس
فلمّا دخل وسلّم أقعده على الفراش عن يساره وقال له :
يابن عباس ، لقد
وفّر الله حظّكم من مجاورة هذا القبر الشريف ودار الرسول عليه الصلاة والسلام (صلاة
بتراء). فقال ابن عباس : نعم ، وحظّنا من القناعة بالبعض والتجافي عن الكلّ أوفر!
فجعل معاوية يحيد به عن طريق المجاوبة ويعدل إلى ذكر اختلاف الطبائع والأعمار!
وأمّا الحسين عليهالسلام فلمّا رآه معاوية جمع له وسادة عن يمينه ، فلمّا دخل وسلّم
أشار إليه فأجلسه على الوسادة عن يمينه ثمّ سأله عن حاله وحال بني أخيه الحسن
وأسنانهم وأعمارهم.
ثمّ قال : أمّا
بعد فالحمد لله وليّ النعم ومنزل النقم! وأشهد أن لا إله إلّا الله المتعالي عمّا
يقول الملحدون علوّا كبيرا ، وأنّ محمّدا عبده المختص المبعوث إلى الإنس والجن
كافة لينذرهم بقرآن (لا يَأْتِيهِ
الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ
حَمِيدٍ) فأدّى عن الله وصدع بأمره وصبر على الأذى في جنبه حتّى وضح
دين الله وعزّ أولياؤه وقمع المشركون ، وظهر أمر الله وهم كارهون ، فمضى صلوات
الله عليه (كذلك صلاة بتراء) وقد ترك من الدنيا ما بذل له ، واختار منها الترك لما
سخّر له زهادة واختيارا لله وأنفة واقتدارا على الصبر ، بغيا لما يدوم ويبقى. فهذه
صفة الرسول صلىاللهعليهوسلم (كذلك صلاة بتراء).
ثمّ خلفه رجلان
محفوظان وثالث مشكور! وبعد ذلك خوض طالما عالجناه مشاهدة ومكافحة ومعاينة وسماعا ،
وما أعلم أنا منه فوق ما تعلمان .. وقد علم الله ما أحاول به في أمر الرعيّة من
سدّ الخلل ولمّ الصدع بولاية «يزيد» بما أيقظ العين! هذا معناي في يزيد!
__________________
وفيكما فضل
القرابة وحظوة العلم وكمال المروءة! وقد أصبت من ذلك عند «يزيد» على المقابلة
والمناظرة ما أعياني مثله عندكما وعند غيركما! مع علمه بالسنة وقراءة القرآن!
والحلم الذي يرجح بالصمّ الصلاب!
وقد علمتما أنّ
الرسول المحفوظ «بعصمة الرسالة» قدّم على «الصديق والفاروق» ومن دونهما من أكابر
الصحابة وأوائل المهاجرين يوم «غزوة السلاسل» من لم يقارب القوم برتبة ، من قرابة
موصولة ولا سنّة مذكورة (عمرو بن العاص) فقادهم الرجل بأمره وجمّع بهم صلاتهم وحفظ
عليهم فيئهم (غنيمتهم!) وفي رسول الله أسوة حسنة!
فمهلا يا بني عبد
المطلب فإنا وأنتم شعبا أب وجدّ ، وما زلت أرجو الانصاف في اجتماعكما ، فما يقول
القائل إلّا بفضل قولكما ، فردّا على ذي رحم مستعتب ما يحمد به البصيرة في عتابكما
هذا ، وأستغفر الله لي ولكما. وسكت .
جواب الحسين عليهالسلام :
قال : فتيسّر ابن
عباس للكلام فأشار إليه الحسين عليهالسلام وقال له : على رسلك! فأنا المراد ونصيبي في التهمة (بالخلاف
والتخلّف) أوفر! فأمسك ابن عباس.
فقام الحسين عليهالسلام فحمد الله وصلّى على رسول الله ثمّ قال : أما بعد ـ يا
معاوية ـ فلن يؤدّي القائل وإن أطنب في صفة الرسول صلىاللهعليهوآله من جميع جزءا ، وقد فهمت ما لبست به الخلف بعد رسول الله
من إيجاز الصفة والتنكب عن استبلاغ النعت (ولا سيما عن عليّ عليهالسلام) وهيهات هيهات يا معاوية ، فضح الصبح فحمة
__________________
الدجى ، وبهرت
الشمس أنوار السرج. ولقد فضّلت حتّى أفرطت واستأثرت حتّى أجحفت ، ومنعت حتّى محلت
، وجزت حتّى جاوزت ، ما بذلت لذي حقّ من اسم حقه بنصيب ، حتّى أخذ الشيطان حظه
الأوفر ونصيبه الأكمل!
وفهمت ما ذكرت عن «يزيد»
كأنّك تصف محجوبا أو تنعت غائبا! أو تخبر عما كان ممّا احتويته بعلم خاص! وقد دلّ «يزيد»
من نفسه على موقع رأيه! فخذ «ليزيد» فيما أخذ فيه من استقرائه الكلاب المهارشة عند
التهارش ، والحمام السّبق لأترابهنّ ؛ والقيان ذوات المعازف وضرب الملاهي! تجده
باصرا ، ودع عنك ما تحاول ، فما أغناك أن تلقى الله من وزر هذا الخلق بأكثر مما
أنت لاقيه ، فو الله ما برحت تقدح باطلا في جور وحنقا في ظلم ، حتّى ملأت الأسقية!
وما بينك وبين الموت إلّا غمضة! فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود ، ولات حين مناص!
ورأيتك عرّضت بنا
بعد هذا الأمر ومنعتنا عن آبائنا تراثا ورّثناه الرسول ولادة ، وجئت لنا بما
حاججتم به القائم عند موت الرسول (من الأنصار) فأذعن للحجّة بذلك وردّه الإيمان
إلى الإنصاف ، فركبتم الأعاليل وفعلتم الأفاعيل وقلتم كان ويكون ، حتى أتاك الأمر ـ
يا معاوية ـ من طريق كان قصدها لغيرك ، فهناك فاعتبروا يا أولي الأبصار!
وذكرت قيادة الرجل
القوم بعهد رسول الله صلىاللهعليهوآله وتأميره له. وقد كان ذلك لعمرو بن العاص يومئذ فضيلة
بصحبته الرسول وبيعته له ، وما صار لعمر الله مبعثهم يومئذ حتّى أنف القوم إمرته
وكرهوا تقديمه وعدّوا عليه أفعاله فقال صلىاللهعليهوآله : «لا جرم معشر المهاجرين لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري»
فكيف تحتج بالمنسوخ من فعل الرسول في أوكد الأحكام وأولاها بالمجمع عليه من الصواب
(الخلافة؟!) أم كيف قارنت بصاحب تابعا وحولك من لا يؤمن في صحبته
ولا يعتمد في دينه
، وتتخطاهم إلى مسرف مفتون (يزيد) تريد أن تلبس الناس شبهة (إن) يسعد بها الباقي
في دنياه تشقى أنت بها في آخرتك! إنّ هذا لهو الخسران المبين! وأستغفر الله لي
ولكم.
فنظر معاوية إلى
ابن عباس وقال له : يابن عباس! ما هذا؟ ولما عندك أدهى وأمرّ!
فقال ابن عباس :
لعمرو الله إنها لذرية رسول الله ، وأحد أصحاب الكساء ، ومن البيت المطهّر ، فاله
عما تريد (من بيعة يزيد) فلك في الناس مقنعا حتّى يحكم الله بأمره وهو خير
الحاكمين. فقال معاوية : أتعوّد الحليم التحلّم؟! قال ابن عباس : وخيره التحلّم عن
الأهل.
فقال معاوية :
فانصرفا في حفظ الله .
خطبة معاوية في
المسجد النبوي :
قال الدينوري :
ثمّ احتجب معاوية عن الناس ثلاثة أيّام ثمّ أمر أن ينادى في الناس : أن يجتمعوا
لأمر جامع! فاجتمع الناس في المسجد النبوي ، وأحضر أولئك النفر الممتنعون وأقعدوا
حول المنبر ، وخرج معاوية إلى المسجد ورقى المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ
ذكر يزيد وفضله وقراءته القرآن ثمّ قال : يا أهل المدينة! لقد هممت ببيعة يزيد فما
تركت قرية ولا مدرة إلّا بعثت إليها في بيعته فبايع الناس جميعا وسلّموا ، وإنما
أخّرت المدينة ببيعته! فقلت : أصله وبيضته : ومن لا أخافهم عليه! وكان الذين أبوا
البيعة منهم من كان أجدر أن يصله! وو الله! لو علمت مكان أحد هو خير للمسلمين من
يزيد لبايعت له!
__________________
فقام الحسين عليهالسلام فقال : والله لقد تركت من هو خير منه أبا وأمّا ونفسا!
فقال معاوية :
كأنك تريد نفسك! إذا اخبرك : أما قولك : خير منه أما.
فلعمري أمّك خير
من أمّه ، ولو لم تكن إلّا أنها امرأة من «قريش» لكان لنساء قريش فضلهن! فكيف وهي
ابنة رسول الله صلىاللهعليهوسلم (صلاة بتراء) ثمّ
هي فاطمة في دينها وسابقتها ، فأمّك لعمر الله خير من أمه!
وأمّا أبوك ، فقد
حاكم أباه (يعني نفسه) إلى الله فقضى لأبيه (معاوية) على أبيك (عليّ عليهالسلام)!
فقال الحسين عليهالسلام : حسبك جهلك إذ آثرت العاجل على الآجل! فلم يجبه معاوية
وقال :
وأما ما ذكرت من
أنّك خير من يزيد نفسا. فيزيد ـ والله! ـ خير لأمة محمد منك!
فقال الحسين عليهالسلام : هذا هو الإفك والزور : يزيد شارب الخمر ومشتري اللهو خير
منّي!
فقال معاوية :
مهلا عن شتم ابن عمك! فإنك لو ذكرت عنده بسوء لم يشتمك؟
ثمّ قال للناس :
أيّها الناس ، قد علمتم أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم (صلاة بتراء) قبض
ولم يستخلف أحدا! فرأى المسلمون أن يستخلف الناس! أبا بكر ، وكانت بيعته بيعة هدى!
فلمّا حضرته الوفاة رأى أن يستخلف عمر ، فعمل عمر بكتاب الله وسنة نبيه ، فلمّا
حضرته الوفاة رأى أن يجعلها شورى بين ستّة نفر اختارهم من المسلمين. فصنع أبو بكر
ما لم يصنعه رسول الله ، وصنع عمر ما لم يصنعه أبو بكر ، وكل يصنعه نظرا للمسلمين!
فلذلك رأيت أن أبايع ليزيد لما وقع الناس فيه من الاختلاف ، ونظرا لهم بعين
الانصاف!
فقام عبد الله بن
الزبير فأكّد عليه أن يصنع كما صنع كلّ منهما حيث زووها عن أبنائهم ، فلم يتكلّم
ونزل عن المنبر وانصرف إلى منزله ، وأمر أن يحضروا إليه هؤلاء الممتنعين عن البيعة
.
قال اليعقوبي :
وقال معاوية للحسين عليهالسلام : يا أبا عبد الله ، علمت أنا قتلنا «شيعة أبيك» فحنّطناهم
وكفّناهم وصلّينا عليهم ودفنّاهم! ـ كأنّه يهدّده ويمنّ بها عليه أيضا ـ.
فقال الحسين عليهالسلام : حججتك وربّ الكعبة! لكنّا ـ والله ـ ان قتلنا «شيعتك» ما
كفّنّاهم ولا حنّطناهم ولا صلّينا عليهم ولا دفنّاهم !
ثمّ قال له : «ولقد
بلغني وقيعتك في عليّ عليهالسلام وقيامك ببغضنا واعتراضك بني هاشم بالعيوب ، فإذا فعلت ذلك
فارجع إلى نفسك ثمّ سلها الحقّ عليها ولها ، فإن لم تجدها أكثر عيبا في أصغر عيبك
فيك فقد ظلمناك يا معاوية! فلا توترن غير قوسك ، ولا ترمينّ غير غرضك ، ولا ترينا
بالعداوة من مكان قريب ، فإنّك والله لقد أطعت فينا رجلا ما قدم إسلامه ولا حدث
نفاقه (فنفاقه قديم) ولا نظر لك ، فانظر لنفسك أو دع». قال الراوي صالح بن كيسان
التابعي : يعني عمرو بن العاص .
ونقل ابن عبد ربّه
الأندلسي : أن سعد بن أبي وقاص كان ما زال حيّا وفي المدينة ومعروفا بكراهته لسبّ
علي عليهالسلام ، وعلم من معاوية أنّه يريد سبّه على منبر رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقيل له : إن هاهنا سعد بن أبي وقاص ولا نراه يرضى بهذا
، فابعث إليه وخذ رأيه!
__________________
فأرسل إليه وذكر
له ذلك فقال : إن فعلت لأخرجن من المسجد ثمّ لا أعود أبدا!
فأمسك معاوية عن
لعنه ، حتّى مات سعد ، فلمّا مات لعنه على المنبر ، فكتبت أمّ سلمة إليه : إنّكم
تلعنون علي بن أبي طالب ومن أحبّه ، وأنا أشهد أن الله أحبّه ورسوله!
فلم يلتفت معاوية
إلى كلامها ولذا لم يزرها وإنما زار عائشة.
ثمّ ارتحل فقدم
مكة :
لم يتعقّب
اليعقوبي والمسعودي أخبار إصرار معاوية على البيعة ليزيد بولاية عهده ، في المدينة
ولا مكة ، وذكرها خليفة بن الخيّاط والدينوري واتفقا على سنة ٥١ واختلفا في آخر
مرحلة هل كانت بالمدينة كما ذكر الدينوري أو كانت بمكة كما لدى خليفة بن الخيّاط :
أشار إلى خطبته بالمدينة ثمّ قال : ثمّ ارتحل فقدم مكة. وكأنّه حمل الممتنعين عن
البيعة ، على الحجّ معه.
فروى ابن الخيّاط
عن جويريّة بن أسماء عن شيوخ من المدينة قالوا : إنّ معاوية لمّا قرب من مكة وراح
من موضع بطن مرّ قال لصاحب حرسه وكان معه ألف رجل! لا تدع أحدا يسير معي إلّا من
حملته أنا! فلما كان في أوساط الأراك بعد بطن مرّ لقيه الحسين عليهالسلام فوقف وقال : مرحبا وأهلا بابن بنت رسول الله وسيد شباب
المسلمين! هاتوا لأبي عبد الله بدابة يركبها! فأتي ببرذون فتحوّل من الجمل عليه مع
معاوية ثمّ طلع عبد الرحمن بن أبي بكر فقال له : مرحبا وأهلا بشيخ قريش وابن «صدّيق»
هذه الأمة! هاتوا بدابة لأبي محمد! فأتي ببرذون فتحوّل من الجمل عليه. ثمّ طلع
عليه ابن عمر فقال له : مرحبا وأهلا بصاحب رسول الله
__________________
وابن «الفاروق»
ودعا له بدابة فركبها. ثمّ طلع ابن الزبير فقال له : مرحبا وأهلا بابن حواريّ رسول
الله وابن عمّة رسول الله وابن الصديق (من أمه أسماء) ثمّ دعا له بدابة فركبها ،
فلم يزل يسايرهم حتّى دخل مكة : فقضى طوافه وارتحل إلى منزله بذي طوى فنزله ، حتّى
قضى نسكه وترحلت أثقاله وقرب مسيره إلى الكعبة وأنيخت رواحله ، لم يعرض لهم بشيء مما
هو فيه من بيعة يزيد. ثمّ خرج آذنه إليهم فأذن لهم فتوافقوا على أن يتكلّم عنهم
ابن الزبير ثمّ دخلوا.
فتكلم معاوية فحمد
الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم : قد علمتم سيرتي فيكم وصلتي لأرحامكم وصفحي عنكم
وتحملي لما يكون منكم ، «ويزيد» ابن أمير المؤمنين أخوكم وابن عمّكم! وأحسن الناس
فيكم رأيا ، وإنما أردت أن تقدّموه باسم الخلافة وتكونون أنتم الذين تنزعون
وتؤمّرون وتجبون وتقسمون! لا يدخل عليكم في شيء من ذلك! ثمّ سكت وسكتوا فقال :
أجيبوني! فسكتوا! فقال : ألا تجيبوني؟!
فخيره ابن الزبير
أن يختار الأخذ بسيرة أبي بكر أو عمر. فقال : فهل عندك غير هذا؟ قال : لا ، قال :
فأنتم؟ قالوا : لا. فقال : أمّا لا ، فإني أحببت أن أتقدّم إليكم أنّه : قد أعذر
من أنذر! وإنه قد كان يقوم القائم منكم إليّ فيكذّبني على رؤوس الناس فأحتمل له
ذلك وأصفح عنه! وإنّي قائم اليوم بمقالة إن صدقت فلي صدقي وإن كذبت فعليّ كذبي!
وإنّي أقسم بالله لئن ردّ أحد منكم عليّ كلمة في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمته حتى
يسبق إليّ رأسه! فلا يرعينّ رجل إلّا على نفسه!
ثمّ دعا صاحب حرسه
فقال له : أقم على رأس كل رجل من هؤلاء من حرسك رجلين ، فإن ذهب رجل يردّ عليّ في
مقامي هذا بكلمة بصدق أو كذب فليضرباه بسيفهما !
__________________
ثمّ خرج معاوية
وأخرج معه هؤلاء النفر وقد ألبسهم ، فألبس الحسين حلّة صفراء ، وألبس عبد الله بن
عباس حلّة خضراء ، وألبس ابن عمر حلّة حمراء! وألبس ابن الزبير حلّة يمانية بيضاء .
ثمّ خرج وأخرجوا
معه حتى إذا رقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : إن هؤلاء الرهط سادة
المسلمين وخيارهم ، لا نستبدّ بأمر دونهم! ولا نقضي أمرا إلّا عن مشورتهم ، وإنهم
قد رضوا .
وروى خليفة عن
ذكوان مولى عائشة أنه قال : إنا وجدنا أحاديث الناس ذات عوار! زعموا أنّ ابن أبي
بكر «الصدّيق» وابن عمر وابن الزبير لم يبايعوا ليزيد ، وقد سمعوا وأطاعوا وبايعوا
له. فقال أهل الشام : لا والله لا نرضى حتّى يبايعوا على رؤوس الناس! وإلّا ضربنا
أعناقهم! وكأنه كان بإيعاز منه.
فقال لهم : مه!
سبحان الله! ما أسرع الناس بالسوء إلى «قريش» لا أسمع هذه المقالة بعد اليوم من
أحد فبايعوا باسم الله! فقام الناس وضربوا على يديه. ثمّ جلس على راحلته وانصرف.
فقال الناس لهؤلاء
: زعمتم وزعمتم ، فلما أرضيتم وحبيتم فعلتموها! فيقولون : ما فعلنا! فيقولون لهم :
فما منعكم إذ كذب الرجل أن تردّوا عليه !
__________________
وتداول الناس :
بايع ابن أبي بكر وابن عمر وابن الزبير! فيقولون : لا والله ما بايعنا ، فيقول لهم
الناس : بلى لقد بايعتم ثمّ بايع الناس من أهل المدينة. ثمّ خرج إلى الشام .
وحيث ذكر الدينوري
ذلك بالمدينة قال : ثمّ ارتحل راجعا إلى مكة (كذا) وقد أخرج لكل قبيل أعطياتهم
وجوائزهم ما عدا بني هاشم! حتى لحق بمنزل الروحاء ، فلحقه ابن عباس فلم يؤذن له!
فجلس ببابه! ومعاوية يقول : من بالباب؟ فيقال : عبد الله بن عباس! فلم يأذن له
ونام ثمّ استيقظ وسأل : من بالباب؟ فقيل : عبد الله بن عباس! فقال : أدخلوا لي
دابّتي فادخلت إليه بغلته. فركبها وخرج ، فوثب إليه ابن عباس! فأخذ بلجام البغلة
وقال : إلى أين تذهب؟ قال : إلى مكة. قال : فأين جوائزنا كما أجزت غيرنا! فقال :
والله ما لكم عندي جائزة ولا عطاء حتّى يبايع صاحبكم الحسين عليهالسلام فقال ابن عباس : فقد أبى عبد الله بن عمر وابن الزبير
وأخرجت جوائزهم! فقال معاوية : إنّكم لستم كغيركم فلا والله لا أعطيكم درهما حتّى
يبايع صاحبكم! فقال ابن عباس : فلأتركنّهم خوارج عليك! فقال معاوية : بل أعطيكم ،
وبعث بها من الروحاء ومضى إلى الشام.
ولم يلبث قليلا
حتى توفي عبد الرحمن بن أبي بكر في نومه .
__________________
وذكر الخبر الأول
الجزري عن خطبته في مكة ثمّ قال : ثمّ ركب رواحله وانصرف إلى المدينة فبايعه أهل
المدينة ثمّ انصرف إلى الشام ثمّ نقل خبر ابن عباس معه وهذا أولى وأقرب.
وحاق الشرّ بزياد
:
قال اليعقوبي :
روي أن زيادا كان قد أحضر قوما بلغه أنّهم من «شيعة علي» ليدعوهم إلى لعنه
والبراءة منه أو يضرب أعناقهم ، وهم سبعون رجلا!
فصعد المنبر وجعل
يتكلم بالوعيد والتهديد ، فنام أحد هؤلاء فقال له آخر منهم : تنام وقد احضرت لتقتل
، فقال : من عمود إلى عمود فرج! لقد رأيت في نومتي هذه عجبا ، قالوا : وما رأيت؟
قال : رأيت رجلا أسود دخل المسجد فضرب رأسه السقف! فقلت له : من أنت يا هذا؟ قال :
أنا النقاد ذو الرقبة ، قلت : وأين تريد؟ قال : أدق رقبة هذا الجبّار الذي يتكلم
على هذه الأعواد!
فبينا زياد يتكلم
على المنبر إذ قبض على خنصره اليمنى وصاح : يدي! وسقط عن المنبر مغشيّا عليه! فحمل وادخل قصر
دار الإمارة واحضر له الطبيب فقال له : أيها الأمير أخبرني عن الوجع تجده في يدك
أو في قلبك؟ قال : والله في قلبي اقطع يدي! فقال الطبيب : بل عش سويا (يعني أنه لا
يدوم).
فأملى على كاتبه
لمعاوية : إني كتبت إلى أمير المؤمنين : وأنا في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من
الآخرة ، وقد استخلفت على عملي خالد بن عبد الله بن خالد بن اسيد القرشي ، ومات
سنة (٥٤).
__________________
فلما توفي زياد
ووضع نعشه ليصلّى عليه تقدّم ابنه عبيد الله ليصلّي عليه فنحّاه خالد وتقدّم فصلّى
عليه. فلمّا فرغوا من دفنه (بثويّة الكوفة) خرج عبيد الله من ساعته إلى معاوية ،
فقال له معاوية : يا بنيّ! ما منع أباك أن يستخلفك؟ أما لو فعل لفعلت! فقال عبيد
الله : أنشدك الله أن يقولها لي أحد بعدك : ما منع أباه وعمّه أن يستعملاه! فولّاه
خراسان حتّى ثغر الهند! فصار عبيد الله إلى خراسان فقاتل خاتون ملكة بخارى حتّى
فتحها سنة (٥٥) ، ثمّ كان أول عربي قطع نهر بلخ وحارب أهل بلخ حتّى فتحها سنة (٥٦)
فولّاه معاوية البصرة وولّى على خراسان أخاه عبد الله فاستضعفه وعزله ، وولّى أخاه
عبد الرحمن فلم يحمده فعزله .
وكان زياد ولي
العراق اثنتي عشرة سنة (من ٤٢ إلى ٥٤) وكانت له رجلة وصولة ودهاء! وكان يقول :
ينبغي أن يكون كتّاب الخراج من رؤساء الأعاجم العالمين بأمور الخراج ، فأفرد كتّاب
الرسائل والدواوين من الموالي المتفصّحين بالعربية ومعهم من العرب ، وهو أول من
وضع النسخ للكتب ودوّن الدواوين في العراقين. وكان أول من بسط أرزاق عمّاله ألف
درهم ألف درهم وقرّر لنفسه خمسة وعشرين ألف درهم ! وكان موت زياد في شهر رمضان في الرابع منه .
وكان قد استقرّ
خراج العراق وما يضاف إليه مما كان في مملكة الفرس في أيام (زياد) على ستمئة ألف
ألف وخمسة وخمسين ألف ألف (٦٥٥ مليون)
__________________
درهما. وكان خراج
السواد ألف ألف وعشرين ألف ألف (١٢٠ مليون) درهما. وكان خراج كور دجلة ، عشرة آلاف
ألف (١٠ ملايين) درهما ، وخراج حلوان : عشرين ألف ألف (٢٠ مليون) درهما ، وخراج
نهاوند والدينور وهمدان وما يضاف إلى ذلك من أرض الجبل : أربعين ألف ألف (٤٠ مليون)
درهما. وخراج الريّ وما يضاف إليها : ثلاثين ألف ألف (٣٠ مليون) درهما ، وخراج
الأهواز وما يضاف إليها أربعين ألف ألف (٤٠ مليون) درهما ، وخراج فارس : سبعين ألف
ألف (٧٠ مليون) درهما ، وخراج آذربايجان ثلاثين ألف ألف (٣٠ مليون) درهما ، وخراج
الموصل وما يضاف إليها ويتّصل بها : خمسة وأربعين ألف ألف (٤٥ مليون) درهما ،
وخراج اليمامة والبحرين : خمسة عشر ألف ألف (١٥ مليون) درهما وكان صاحب العراق
يحمل إلى معاوية من صوافيه في هذه النواحي مئة ألف ألف (١٠٠ مليون) درهما ، فمنها
كانت صلاته وجوائزه .
سعيد بن عثمان
ومعاوية :
لم يكن سعيد بن
عثمان بن عفّان من أتراب أبناء الأصحاب الكبار الممتنعين عن بيعة يزيد ، إلّا أنّه
كان من أبناء الخلفاء المترشحين للخلافة ، وكان من أهل المدينة من يفضّله على يزيد
، فكان قد بلغ معاوية أنّهم يرتجزون :
والله لا ينالها يزيد
|
|
حتّى يعضّ هامه الحديد
|
إنّ الأمير بعده سعيد
|
ودخل على معاوية
فقال له : يابن أخي ما شيء يقولونه أهل المدينة وحكى له الرجز ، فقال له : وما
تنكر من ذلك يا معاوية؟! والله إن أبي لخير من
__________________
أبي يزيد ، ولأمّي
خير من أمّه ، ولأنا خير منه ، ولقد استعملناك فما عزلناك بعد ، ووصلناك فما
قطعناك ثمّ صار في يديك ما ترى فحلأتنا عنه أجمع !
فضحك معاوية وقال
له : يابن أخي أمّا قولك : إنّ أباك خير من أبيه ، فيوم من عثمان خير من معاوية
وأما قولك : إنّ أمّك خير من أمّه ، ففضل «قرشيّة» على كلبيّة فضل بيّن! وأما أن
أكون نلت ما أنا فيه بأبيك فإنّما هو الملك يؤتيه الله من يشاء! قتل أبوك فتواكلته
بنو العاص وقامت فيه بنو حرب! فنحن أعظم بذلك منّة عليك ، وأمّا أن تكون خيرا من
يزيد ، فو الله ما أحبّ أن داري مملوءة رجالا مثلك بيزيد ، ولكن دعني من هذا القول
وسلني أعطك!
فقال سعيد بن
عثمان : يا أمير المؤمنين ، لا يعدم يزيد مزكّيا ما دمت له. وما كنت لأرضى ببعض
حقّي دون بعض ، فإذا أبيت فأعطني مما أعطاك الله.
فقال معاوية : لك
خراسان! فقال : وما خراسان؟ قال : إنّها طعمة لك وصلة رحم .
وروى الطبري ، عن
النميري البصري ، عن المدائني البصري : أن سعيدا هو الذي طلب من معاوية تولية
خراسان فقال له : إن بها عبيد الله بن زياد ، وذلك في سنة (٥٦ ه) ، فلمّا عتب
عليه سعيد وردّه معاوية شفع له يزيد فقال : يا أمير المؤمنين ، ابن عمّك وأنت أحقّ
من نظر في أمره ، وقد عتب عليك فأرضه. فولّاه خراسان حربها وخراجها بعد عبد الرحمن بن زياد فقطع النهر وصار إلى بخارى وقد
تمرّدت خاتون ملكة بخارى فطلبت الصلح ثمّ حاربت فحاربها سعيد في مقتلة عظيمة حتّى ظفر
بهم ، ثمّ سار إلى سمرقند فحاصرها ، وكان معه
__________________
قثم بن العباس
فمات بها ثمّ دخل المدينة ثمّ ولّى معاوية مكانه أسلم بن زرعة ، فعاد سعيد إلى
معاوية ثمّ إلى المدينة ومعه أسراء من أولاد ملوك السغد فوثبوا عليه وقتلوه ثمّ
قتل بعضهم بعضا حتّى لم يبق منهم أحد .
خوارج بالكوفة
والبصرة :
مرّ الخبر سابقا
عن خروج المستورد بن علّفة مع بقايا خوارج النهروان على المغيرة الثقفي ، وظفر المغيرة
بنحو مئة منهم فسجنهم ، فلما مات وقبل أن يستولي زياد خرجوا من سجن الكوفة سنة (٥٣).
وفي سنة (٥٨) بعد
أن توالى على الكوفة بعد المغيرة زياد إلى (٥٣) وخليفته عبد الله بن خالد بن أسيد
إلى (٥٦) والضحّاك بن قيس الفهري إلى (٥٨) ثمّ عبد الرحمن بن عبد الله الثقفي ابن
أمّ الحكم أخت معاوية ، وبعد سنة من حكمه في الأول من ربيع الثاني تجمّعوا إلى
حيّان بن ظبيان السلمي وبايعوه للخروج عليه فخرجوا إلى بانقيا ، فبعث إليهم جيشا
فقتلوا جميعا. ثمّ طغى ابن أم الحكم فأساء السيرة فطرده أهل الكوفة فلحق بخاله
معاوية فبعثه إلى مصر فردّه عنها معاوية بن حديج الكندي .
وفي سنة (٥٦) حيث
ولّى معاوية سعيد بن عثمان بن عفّان خراسان ، أعاد عبيد الله بن زياد إلى حكم أبيه
على البصرة ، فاشتدّ بها على خوارجها منهم مرداس بن أديّة سجنه ، فاعترض أخوه عروة
بن أدية على ابن زياد قال له : خمس كنّ في الأمم قبلنا صرن فينا ثلاثة منها في
قوله سبحانه : (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ
رِيعٍ
__________________
آيَةً
تَعْبَثُونَ* وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ* وَإِذا بَطَشْتُمْ
بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) وذكر خصلتين أخريين ، فتركه ابن زياد ثمّ طلبه فهرب إلى
الكوفة فأخذ ابنه فقطع يديه ورجليه وقتل ابنته! وعزم على قتل سائر الخوارج ومنهم
أخو هذا مرداس ، فأحضره فشفع فيه سجّانه فأطلقه ، فخرج في أربعين منهم إلى قرية
آسك من الأهواز ، فبعث إليهم ابن زياد جيشا فقتل الخوارج جمعا منهم وهزموهم .
مولد الباقر عليهالسلام :
تولّى الحسين بعد
أخيه الحسن عليهماالسلام رعاية صغاره ، ومنهم ابنته أم عبد الله من أم ولد له ، فزوّجها لابنه علي السجاد عليهالسلام فولدت له ابنا ، يبدو أن جدّه الحسين عليهالسلام سمّاه باسم جدّه محمد صلىاللهعليهوآله ، ممتثلا نهيه عن الجمع بين اسمه وكنيته : أبي القاسم ،
فكنّاه بأبي جعفر سنة ثمان وخمسين في أول يوم من شهر رجب الحرام .
خطبة الحسين عليهالسلام بمنى :
لم يحفل المؤرّخون
بأمراء مكة وإنما حفلوا وذكروا امراء موسمها والمدينة ،
__________________
وغالبا كانا
متّحدين أي كان أميرها هو أمير الموسم إلّا نادرا. وعزل معاوية سعيد بن العاص
وأمّر مروان سنتين ، ثمّ عزله وأمّر الوليد بن عتبة بن أبي سفيان من سنة (٥٧) حتّى
مات معاوية سنة (٦٠). وعرف مروان بمرارة أمره مع بني هاشم على عكس الوليد.
ولعلّ خروج أولئك
الخوارج بالكوفة والبصرة أوحى أنّ أمر معاوية قد أوهى شيئا ما.
فروى سليم بن قيس
الهلالي : أنّ الحسين عليهالسلام حجّ قبل موت معاوية بسنة أو سنتين (٥٨ ه) ، ومعه ابنا
عمّيه عبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر ، فلما كانوا بمنى جمع إليه من حجّ من
بني هاشم رجالهم ونساءهم ومواليهم و «شيعتهم» ومن يعرف من أهل بيته والأنصار.
وأرسل رسلا وقال لهم : لا تدعوا أحدا ممّن حجّ العام من أصحاب رسول الله المعروفين
بالصلاح والنسك إلّا أن تجمعوهم لي : فاجتمع إليه في سرادقه نحو من مئتي رجل من
أصحاب النبي ، وأكثر من سبعمئة رجل من التابعين وغيرهم. ثمّ قام فيهم الحسين عليهالسلام خطيبا :
فحمد الله وأثنى
عليه ثمّ قال : أما بعد ، فإن هذا الطاغية (معاوية) قد فعل بنا و «شيعتنا» ما قد
رأيتم وعلمتم وشهدتم! وإني أريد أن أسألكم عن شيء فإن صدقت فصدّقوني وإن كذبت
فكذّبوني! أسألكم بحقّ الله عليكم وحقّ رسول الله وحقّ قرابتي من نبيّكم! لما
سبرتم مقامي هذا ووصفتم مقالتي ، ودعوتم من أنصاركم في قبائلكم من أمنتم من الناس
ووثقتم به ، فأدعوهم إلى ما تعلمون من حقّنا ، فإنّي أتخوّف أن يدرس هذا الأمر
ويذهب الحق ويغلب! (وَاللهُ مُتِمُّ
نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) ثمّ قال :
__________________
أتعلمون أن رسول
الله صلىاللهعليهوآله فضّل (عليا) على جعفر وحمزة حين قال لفاطمة : «زوّجتك خير أهل بيتي : أقدمهم سلما ،
وأعظمهم حلما وأكثرهم علما» قالوا : اللهم نعم.
قال : أتعلمون أنّ
رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : «أنا سيّد ولد آدم ، وأخي سيد العرب ، وفاطمة سيدة
نساء أهل الجنّة ، وابناي الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة» قالوا : اللهم نعم!
قال : أتعلمون أنه
كانت له من رسول الله صلىاللهعليهوآله كل يوم خلوة وفي كل ليلة دخلة ، إذا سأله أجابه وإذا سكت
ابتدأه؟ قالوا : اللهم نعم!
قال : أتعلمون أنّ
رسول الله صلىاللهعليهوآله قضى بينه وبين زيد وجعفر فقال له : «يا عليّ ، أنت منّي
وأنا منك ، وأنت وليّ كل مؤمن ومؤمنة بعدي»؟ قالوا : اللهم نعم.
قال : أتعلمون أن
رسول الله صلىاللهعليهوآله لم تنزل به شدّة قط إلّا قدّمه لها ثقة به ، وأنه لم يدعه
باسمه قط إلّا أن يقول : يا أخي أو ادعوا لي أخي؟ قالوا : اللهم نعم!
قال : أنشدكم الله
، أتعلمون أنه دفع إليه اللواء «يوم خيبر» وقال : «لأدفعه إلى رجل يحبّه الله
ورسوله ويحبّ الله ورسوله ، كرّار غير فرّار ، يفتحها الله على يديه»؟ قالوا :
اللهم نعم!
قال : أنشدكم الله
هل تعلمون أن رسول الله صلىاللهعليهوآله اشترى موضع مسجده ومنازله فابتناه ، ثمّ ابتنى فيه عشرة
منازل (تدريجا) تسعة له ، وجعل أوسطها لأبي ، ثمّ خطب صلىاللهعليهوآله فقال : «إن الله أمر موسى أن يبني مسجدا طاهرا لا يسكنه
غيره وغير هارون وابنيه ؛ وإن الله أمرني أن ابني مسجدا طاهرا لا يسكنه غيري
__________________
وغير أخي وابنيه»
ثمّ سدّ كل باب شارع إلى المسجد غير بابه ، فتكلم في ذلك من تكلّم فقال صلىاللهعليهوآله : «ما أنا سددت أبوابكم وفتحت بابه ، ولكن الله أمرني بسدّ
أبوابكم وفتح بابه» ثمّ نهى الناس أن يناموا في المسجد غيره ... وإنّ عمر بن
الخطاب حرص على كوّة قدر عينيه من منزله إلى المسجد ، فأبى عليه! قالوا : اللهم
نعم!
قال : أنشدكم الله
أتعلمون أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله قال له في (خروجه إلى) «غزوة تبوك» : «أنت مني بمنزلة
هارون من موسى ، وأنت وليّ كل مؤمن بعدي»؟ قالوا : اللهم نعم.
قال : أنشدكم الله
أتعلمون أن رسول الله صلىاللهعليهوآله نصبه «يوم غدير خم» فنادى له بالولاية وقال : «فليبلّغ
الشاهد الغائب»؟ قالوا : اللهم نعم.
قال : أنشدكم الله
أتعلمون أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله حين دعا النصارى من أهل «نجران» إلى «المباهلة» لم يأت
إلّا به وبصاحبته وابنيه؟ قالوا : اللهم نعم!
قال : أتعلمون أن
رسول الله صلىاللهعليهوآله قال في آخر خطبة خطبها : «أيها الناس ، إنّي تركت فيكم
الثقلين : كتاب الله وأهل بيتي ، فتمسّكوا بهما لن تضلّوا»؟ قالوا : اللهم نعم!
قال : أتعلمون أن
رسول الله صلىاللهعليهوآله أمره بغسله وأخبره : أنّ جبرئيل يعينه عليه؟ قالوا : اللهم
نعم!
فلم يدع شيئا
أنزله الله في عليّ بن أبي طالب خاصّة وفي أهل بيته من القرآن ، ولا على لسان
نبيّه صلىاللهعليهوآله ، إلّا ناشدهم فيه ، فيقول الصحابة : اللهم نعم قد سمعناه
، ويقول التابعي : اللهم نعم قد حدّثنيه من أثق به!
ثمّ ناشدهم : أنهم
هل سمعوه صلىاللهعليهوآله يقول : «من زعم أنه يحبّني ويبغض عليا فقد كذب ، ليس
يحبّني وهو يبغض عليا» فقال قائل : يا رسول الله وكيف ذلك؟ فقال : «لأنه منّي وأنا
منه ، من أحبّه فقد أحبّني ومن أحبّني فقد أحبّ الله! ومن أبغضه فقد أبغضني ، ومن
أبغضني فقد أبغض الله»!
فقالوا : اللهم
نعم قد سمعناه .
هذا ما جاء في
كتاب سليم بن قيس الهلالي.
وروى الحسن بن علي
الحرّاني عنه عليهالسلام خطبة أنسب ما تكون صدرا أو ذيلا لما مرّ قال :
اعتبروا أيّها
الناس ـ بما وعظ الله به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار إذ يقول : (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ
وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ) وقال : (لُعِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ* كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ
فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) وإنما عاب الله ذلك عليهم ؛ لأنهم كانوا يرون من الظلمة
الذين بين أظهرهم المنكر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك ، رغبة فيما كانوا ينالون
منهم ، ورهبة مما يحذرون ، والله يقول : (فَلا تَخْشَوُا
النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) وقال : (الْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة منه
لعلمه بأنّها إذا ادّيت وأقيمت استقامت الفرائض كلها هيّنها وصعبها ، وذلك أن
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام ، مع ردّ المظالم ، ومخالفة
الظالم ، وقسمة الفيء والغنائم ، وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقها.
__________________
ثمّ أنتم ـ أيتها
العصابة ـ عصابة بالعلم مشهورة ، وبالخير مذكورة ، وبالنصيحة معروفة ، وبالله في أنفس
الناس مهابة يهابكم الشريف ، ويكرمكم الضعيف ، ويؤثركم من لا فضل لكم عليه ولا
يدلكم عنده ، تشفعون في الحوائج إذا امتنعت من طلّابها ، وتمشون في الطريق بهيبة
الملوك وكرامة الأكابر! أليس كل ذلك إنما نلتموه بما يرجى عندكم من القيام بحق
الله ، وإن كنتم عن أكثر حقّه تقصّرون! إذ استخففتم بحقّ الأئمة!
فأمّا حقّ الضعفاء
فضيعتم ، وأمّا حقكم ـ بزعمكم ـ فطلبتم! فلا مالا بذلتموه ، ولا نفسا خاطرتم بها
للذي خلقها ، ولا عشيرة عاديتموها في ذات الله! وأنتم تتمنون على الله جنته
ومجاورة رسله وأمانا من عذابه!
لقد خشيت عليكم ـ
أيّها المتمنّون على الله ـ أن تحلّ بكم نقمة من نقماته! لأنكم بلغتم من كرامة
الله منزلة فضّلتم بها ، ومن يعرف بالله لا تكرمون ، وأنتم بالله في عباده تكرمون.
وترون عهود الله منقوضة فلا تفزعون ، وأنتم لبعض ذمم آبائكم تفزعون ، وذمّة رسول
الله صلىاللهعليهوآله مخفورة (فلا تنكرون) والعمى والبكم والزمنى في المدائن
مهملة لا ترحمون ، لا في منزلتكم تعملون ولا من عمل فيها تغنون ، وبالإدهان
والمصانعة عند الظلمة تأمنون. كل ذلك مما أمركم الله به من النهي والتناهي وأنتم
عنه غافلون.
وأنتم أعظم الناس
مصيبة لما غلبتم عليه من «منازل العلماء» لو كنتم تعون! ذلك لأنّ «مجاري الأمور
والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه» فأنتم المسلوبون تلك «المنزلة».
وما سلبتم ذلك إلّا بتفرقكم عن الحقّ واختلافكم في السنّة بعد البيّنة الواضحة!
ولو صبرتم على الأذى وتحمّلتم المؤونة في ذات الله كانت «أمور الله» عليكم ترد ،
وعنكم تصدر ، وإليكم ترجع! ولكنّكم مكّنتم الظلمة من «منزلتكم» وأسلمتم «أمور الله»
في أيديهم ،
يعملون بالشبهات ويسيرون بالشهوات ، سلّطهم على ذلك فراركم من الموت وإعجابكم
بالحياة التي هي مفارقتكم.
فأسلمتم الضعفاء في
أيديهم : فمن بين مستعبد مقهور ، وبين مستضعف على معيشته مغلوب ، يتقلّبون في
الملك بآرائهم ، ويستشعرون الخزي بأهوائهم ، اقتداء بالأشرار وجرأة على الجبار! في
كل بلد منهم على منبره خطيب يصقع! فالأرض لهم شاغرة وأيديهم فيها مبسوطة ، والناس
لهم خول لا يدفعون يد لامس من جبّار عنيد وذي سطوة على الضعفة شديد ومطاع لا يعرف
المبدئ المعيد!
فيا عجبا! وما لي
لا أعجب! والأرض من غاشّ غشوم ، وعامل على المؤمنين بهم غير رحيم! فالله الحاكم
فيما فيه تنازعنا ، والقاضي بحكمه فيما شجر بيننا!
اللهم إنك تعلم
أنه لم يكن ما كان منّا تنافسا في سلطان ، ولا التماس شيء من فضول الحطام ، ولكن
لنردّ المعالم من دينك ، ونظهر «الإصلاح» في بلادك ، ويأمن المظلومون من عبادك ،
ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك. وإنّكم إن لم تنصفونا وتنصرونا قوي الظلمة عليكم
وعملوا في إطفاء نور نبيّكم! وحسبنا الله عليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير .
هذا ما جاء مرسلا
منفردا في «تحف العقول» مما يتناسب صدورا من الحسين عليهالسلام ولا يتناسب خطابا إلّا لذلك الحشد المذكور في الخبر السابق
عن سليم بن قيس الهلالي في موسم الحجّ. ثمّ لم يذكر فيهما ولا في غيرهما أي عمل أو
ردّ فعل من معاوية أو عامله على مكة أو الموسم أو المدينة. ويبعد جدا أن يكون
الخبران عن خطبتين في موسمين. والأخير يستشهد به لولاية العلماء الفقهاء المعبّر
عنها فيه بمنزلة العلماء.
__________________
ثمّ وفد ابن زياد
بأشراف أهل البصرة ومعهم الأحنف بن قيس التميمي على معاوية ، فأخذ معاوية عليهم
البيعة لابنه يزيد سنة تسع وخمسين أو ستّين .
معاوية يعهد إلى
يزيد :
وفي سنة ستين مرض
معاوية. فدعا ابنه يزيد.
فأجلسه بين يديه
وقال له : يا بنيّ ، إنّي قد ذلّلت لك الرّقاب الصّعاب ، ووطّدت لك البلاد وجعلت
الملك وما فيه لك طعمة! وإنّي أخشى عليك من ثلاثة نفر يخالفون عليك بجهدهم ، وهم :
عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير ، والحسين بن علي عليهالسلام.
فأمّا عبد الله بن
عمر ؛ فهو معك ، فالزمه ولا تدعه (أي راقبه ملازما)!
وأما عبد الله بن
الزبير ، فإنّه يجثو لك كما يجثو الأسد لفريسته ، ويواربك مواربة الثعلب للكلب!
فإن ظفرت به فقطّعه إربا إربا (أي اظفر به واقتله)!
وأما الحسين عليهالسلام فقد عرفت حظّه من رسول الله (بل) هو من لحم رسول الله ودمه!
وقد علمت ـ لا محالة ـ أنّ أهل العراق سيخرجونه إليهم (لكن) ثمّ يخذلونه ويضيّعونه
، فإن ظفرت به فاعرف حقّه ومنزلته من رسول الله ولا تؤاخذه بفعله ... وإياك أن
تناله بسوء ويرى منك مكروها . (أي اظفر به ولكن لا تقتله).
وروى الطبري ، عن
الكلبي عن عوانة بن الحكم : أنّ يزيد كان غائبا عن أبيه عند موته في سنة ستّين ، فدعا
بصاحب شرطته الضحاك بن قيس الفهري ومعه مسلم بن عقبة المرّي فقال لهما : أبلغا
وصيّتي يزيد : أن انظر أهل الحجاز
__________________
فإنّهم أصلك ،
فأكرم من قدم عليك منهم وتفقّد من غاب. وانظر أهل العراق فإن سألوك أن تعزل عنهم
كلّ يوم عاملا فافعل ، فإنّ عزل عامل أحبّ إليّ من أن تشهر عليك مئة ألف سيف!
وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك ، فإن نابك شيء من عدوّك فانتصر بهم ، فإن
أصبتهم فاردد أهل الشام إلى بلادهم فإنهم إن أقاموا بغير بلادهم أخذوا بغير
أخلاقهم.
وإنّي لست أخاف من
قريش إلّا ثلاثة : الحسين بن علي ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير.
فأما الحسين بن
علي فإنّه رجل خفيف (سريع الرضا والغضب) ولا أظنّ أهل العراق تاركيه حتى يخرجوه!
وأرجو أن يكفيكه الله بمن قتل أباه وخذل أخاه (من أهل العراق) فإن قدرت عليه فاصفح
عنه .
وأما ابن عمر فرجل
قد وقذه الدين فليس ملتمسا شيئا قبلك (من الخلافة والملك).
وأما ابن الزبير ،
فإنّه خبّ ضبّ (حاقد خائن) فإذا شخص لك فالبدله ، فإن التمس صلحا فنعم .
هلاك معاوية
وأحواله :
قال اليعقوبي :
توفي في مستهل رجب سنة (٦٠) وهو ابن ثمانين سنة ، وقد كان ضعف ونحل وسقطت ثناياه.
ولما مات خرج صاحب شرطته الضحّاك بن
__________________
قيس الفهري يحمل
أكفانه فوضعها على المنبر ثمّ قال : إن معاوية كان ناب العرب وحبلها ، وقد مات
وهذه أكفانه ونحن مدرجوه فيها وموردوه قبره. وكان يزيد في ذلك الوقت غائبا فصلّى
عليه الضحّاك بن قيس ودفنه بدمشق. وله أربعة ذكور : يزيد وعبد الله ، وعبد الرحمن
، ومحمد!
وكان معاوية : جهم
الوجه ، جاحظ العينين ، وافر اللحية ، عريض الصدر ، عظيم الأليتين! قصير الفخذين
والساقين. وحجّ بالناس في ولايته سنة (٤٤) و (٥٠) واعتمر في رجب سنة (٥٦ ه) ،
وكان أوّل من كسا الكعبة الديباج واشترى لها العبيد وقفا عليها.
وسمع سعيد بن
العاص : أنه سمع معاوية يوما يقول : لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي.
ولا أضع سوطي حيث
يكفيني لساني. ولو أنّ بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت! قيل : وكيف يا أمير
المؤمنين؟ قال : كانوا إذا مدّوها خلّيتها وإذا خلّوها مددتها. فكان له حلم ودهاء
وجود بالمال ، فإذا بلغه عن رجل ما يكره قطع لسانه بالعطاء ، وربّما يحتال عليه
بأن يبعثه في حرب ويقدّمه في القتال ، وكان أكثر فعله المكر والحيلة !
قال : وكان معاوية
أول من حبس النساء بجرائر الرجال ... وأول من أقام في الإسلام الحرس والشرط
والبوّابين وأرخى الستور ، ومشي بين يديه بالحراب ، وجلس على السرير والناس تحته.
وجعل ديوان الخاتم ، واستكتب النصارى! واستصفى أموال الناس فأخذها لنفسه ، وبنى
وشيّد البناء وسخّر الناس في بنائه ولم يفعل من قبل.
__________________
ورحل إليه عبد
الله بن عمر يوما ، فقال له : يا أبا عبد الله ، كيف ترى بنياننا؟ قال : إن كان من
مال الله فأنت من الخائنين! وإن كان من مالك فأنت من المسرفين!
وكان سعيد بن
المسيّب يقول : فعل الله بمعاوية وفعل! فإنه أوّل من أعاد هذا الأمر ملكا وكان هو
يقول : أنا أوّل الملوك .
وفعل معاوية
بالشام والجزيرة واليمن مثل ما فعل بالعراق من استصفاء ما كان للملوك من الضياع
وتصييرها لنفسه خالصة ... وكان أول من كانت له الصوافي في جميع الدنيا! حتى بمكة
والمدينة فإنه كان فيهما شيء يحمل في كل سنة من أو ساق التمر والحنطة.
وكان صاحب العراق
يحمل إليه من مال صوافيه في نواحيه مئة ألف ألف (١٠٠ مليون) درهما. واستقر خراج
مصر بعد عمرو بن العاص على ثلاثة آلاف ألف (٣ ملايين) دينارا! واستقر خراج فلسطين
على أربعمئة وخمسين ألف دينار ، واستقر خراج الأردن على مئة وثمانين ألف دينار ،
وخراج دمشق على أربعمئة ألف وخمسين ألف دينار ، وخراج جند حمص على ثلاثمئة وخمسين
ألف دينار ، وخراج قنّسرين والعواصم على أربعمئة ألف وخمسين ألف دينار ، وخراج
الجزيرة وهي ديار ربيعة ومضر على خمسة وخمسين ألف ألف (٥٥ ميليون) درهما. وخراج
اليمن على ألف ألف (مليون) ومئتي ألف دينار .
__________________
ونقل ابن قتيبة ،
عن ابن إسحاق : أنه مات وله ثمان وسبعون سنة بعلّة الناقبات وهي الدبيلة وهي دمل
كبير يظهر في الجوف فيقتل صاحبه .
وروى الدينوري ،
عن نافع بن جبير : أنّه كان يزيد يوم موت معاوية غائبا فاستخلف معاوية الضحّاك
حتّى يقدم يزيد فنهى الضحّاك أن يحمل نعش معاوية غير قرشي ، فطلب إليه الشاميّون
أن يجعل لهم نصيبا فأذن لهم فازدحموا عليه حتى شقّوا البرد الذي عليه! حتى دفنوه ،
وبعد عشرة أيام قدم يزيد إلى دمشق.
وقال خليفة : كان
على ديوانه وأمره كلّه : سرجون بن منصور الرومي. ومات في آخر ولاية معاوية سنة ٥٩
: أبو هريرة ، واسامة بن زيد ، وسعيد بن العاص ، وجبير بن مطعم العدوي ، وشيبة بن
عثمان ، وعبد الله بن عامر بن كريز صهر معاوية وأبو زوجة يزيد أم كلثوم.
وقال المعتزلي
الشافعي : كان معاوية في أيام عمر يستر نفسه قليلا خوفا منه ، إلّا أنه كان يلبس
الحرير والديباج ، ويشرب في آنية الذهب والفضة ، ويركب البغلات ذوات السروج
المحلّاة بها ، وعليها جلال الديباج والوشي ، وكان حينئذ شابّا وعنده نزق الصبا
وأثر الشبيبة ، وسكر السلطان والإمرة!
ثمّ كان أيام
عثمان شديد التهتك موسوما بكل قبيح ، ونقل عنه الناس في كتب السيرة أنه كان يشرب
الخمر بالشام في أيام عثمان! ولم يتوقّر ولم يلزم قانون الرياسة إلّا منذ خرج على
أمير المؤمنين عليهالسلام واحتاج إلى السكينة والناموس!
__________________
واختلفوا فيه بعد
وفاة أمير المؤمنين عليهالسلام واستقرار الأمر له ، فقيل : إنه شرب الخمر سرّا وقيل : إنه
تركه! (ولزمه ابنه يزيد) ولا خلاف في أنه كان يسمع الغناء ويطرب به ويعطي عليه
ويصل أيضا !
وانفرد المسعودي
بذكر برنامجه اليومي نذكر جملا منه قال : كان إذا صلّى الفجر جاء قاصّ يقصّ عليه
بعض القصص ثمّ يقرأ في مصحفه ، ثمّ يدخل منزله لبعض أمره ، يخرج إلى مجلسه فيأذن
لخواصه يحدّثونه ويدخل عليه وزراؤه يكلّمونه فيما يخصّ يومهم ذلك إلى الليل ، ثمّ
يؤتى ببعض فاضل عشائه من فرخ أو جدي بارد أو ما يشبهه ، ثمّ يدخل منزله لبعض شأنه
، ثمّ يخرج فيوضع كرسيّه خلف مقصورته في المسجد ويقوم الحرس حوله فيجلس عليه لبعض
أرباب الحوائج من الأعراب والنساء وحتّى الصبيان! ثمّ يدخل قصره على سريره فيأذن
لأشراف الناس على قدر منازلهم فيقضي حوائجهم ثمّ يؤتى بغدائه ويقوم كاتبه عند رأسه
يقرأ كتبه فيأمره بأمره ويأكل ويأكلون معه ، ويتعاقبون لديه على غدائه لحوائجهم
فربما كانوا نحو أربعين شخصا ، ثمّ يدخل المنزل ولا يأذن لأحد حتى ينادى لصلاة
الظهر فيخرج فيصلي ، ثمّ يجلس فيأذن لخواصّه ، فإن كان الوقت صيفا اتي بالفواكه
الرطبة ، وإن كان الوقت شتاء أتوه بزاد الحجاج من الأخبصة اليابسة والأقراص
المعجونة باللبن والسكر والكعك المسمّن والفواكه اليابسة والخشكانج ، ويدخل إليه
وزراؤه فيؤامرونه لحوائجهم ليومهم إلى صلاة العصر فيخرج فيصلي العصر ، ثمّ يدخل
المنزل ولا يأذن لأحد ، حتى آخر أوقات العصر فيخرج فيجلس على سريره ويؤذن للناس
على منازلهم بدون أصحاب الحوائج ويؤتى بعشائه فيأكل حتى ينادى لصلاة المغرب فيخرج
فيصليها ويصلّي بعدها
__________________
أربع ركعات ، ثمّ
يدخل المنزل ولا يأذن لأحد حتى ينادى بالعشاء الآخرة فيخرج فيصلي ، ثمّ يؤذن
لخواصّه وحاشيته والوزراء فيؤامرونه صدرا من ليلتهم ، ثمّ كان له غلمان مرتّبون قد
وكّلوا بحفظ دفاتر وقراءتها ، فيحضرونها ويقرؤونها ، فيستمر معهم إلى ثلث الليل في
أخبار العرب والعجم وملوكها وسياستها لرعيتها وسيرهم وحروبهم ومكايدهم وغير ذلك من
أخبار الأمم السالفة ، فتمر بسمعه كل ليلة جمل من الأخبار والسير والآثار وأنواع
السياسات! ثمّ تأتيه من نسائه الطرف الغريبة والمآكل اللطيفة من الحلوى وغيرها ،
ثمّ يدخل فينام ثلث الليل ، ثمّ يقوم فيقعد فيحضرون له الدفاتر فيها سير الملوك
وأخبارهم وحروبهم ومكايدهم فيقرأ ذلك عليه غلمانه (بدل تهجد الليل) حتى ينادى
لصلاة الصبح فيخرج فيصلّيها ، وهكذا .
وقال السيوطي فيه
: روي له عن النبيّ صلىاللهعليهوآله مئة وثلاثة وستّون حديثا ... وورد في فضله أحاديث قلّما
تثبت وكان عنده شيء من شعر رسول الله وقلامة أظفاره فأوصى أن تجعل في فمه وعينيه!
ودفن بين باب الجابية وباب الصغير ثمّ لا يشير إلى زيارة قبره.
بينما قال
المسعودي : دفن بدمشق بباب الصغير وعليه بيت مبني يفتح كلّ يوم اثنين وخميس فيزار
إلى اليوم من سنة (٣٣٢) ولكنّه اليوم مأوى البوم! ولقد ابدع «المجدوب الشامي» إذ
خاطبه قائلا :
__________________
هذا ضريحك لو بصرت ببؤسه
|
|
لأسال مدمعك المصير الأسود
|
كتل من الترب المهين بخربة
|
|
سكر الذباب بها فراح يعربد
|
ضاعت معالمها على زوّارها
|
|
فكأنّها في مجهل لا تقصد
|
ومشى بها ركب البلى ، فتجد بها
|
|
عارا يكاد من الضراعة يسجد
|
القبة الشّماء نكّس طرفها
|
|
في كل جزء للفناء بها يد
|
تهمي السحائب من خلال سقوفها
|
|
والريح في جنباتها تتردّد
|
حتى المصلّى مظلم فكأنّه
|
|
مذ كان لم يجتز به متعبّد
|
أأبا يزيد لتلك حكمة خالق
|
|
تجلى على قلب الحكيم فيرشد
|
أرأيت عاقبة الجموح ونزوة
|
|
أودى بليلك غيّه المترصّد
|
أغررت بالدنيا فرحت تشنّها
|
|
حربا على الحقّ الصّراح وتوقد
|
تغدو بها ظلما على من حبّه
|
|
دين ، وبغضته الشقاء السرمد
|
علم الهدى وإمام كلّ مطهّر
|
|
ومثابة العلم الذي لا يجحد
|
ورثت شمائله براءة أحمد
|
|
فيكاد من برديه يشرق أحمد
|
وخلوت حتّى قد جعلت زمامها
|
|
إرثا لكل مذمّم لا يحمد
|
هتك المحارم واستباح خدورها
|
|
ومضى بغير هواه لا يتغمّد
|
فأعادها ـ بعد الهدى ـ عصبية
|
|
هو جاء تلتهم النفوس وتفسد
|
فكأنما الإسلام سلعة تاجر
|
|
وكأن أمته لآلك أعبد
|
فاسأل مرابض كربلاء ويثرب
|
|
عن تلكم النار التي لا تخمد
|
ما كان ضرك لو كففت شواظها
|
|
فسلكت نهج الحقّ وهو معبّد
|
ولزمت ظل أبي تراب وهو من
|
|
في ظله يرجى السداد ويرشد
|
ولو أن فعلت لصنت شرعة أحمد
|
|
وحميت مجدا قد بناه محمد
|
ولعاد دين الله يغمر نوره الد
|
|
نيا فلا عبد ولا مستعبد!
|
***
أأبا يزيد ساء ذلك عبرة
|
|
ماذا أقول وباب سمعك موصد
|
قم وارمق «النجف الشريف» بنظرة
|
|
يرتدّ طرفك وهو باك أرمد
|
تلك العظام أعزّ ربّك قدرها
|
|
فتكاد لو لا خوف ربّك تعبد
|
أبدا تباركها الوفود يحثّها
|
|
من كل صوب شوقها المتوقّد
|
نازعتها الدنيا ففزت بوردها
|
|
ثم انطوى ـ كالحلم ـ ذاك المورد
|
وسعت إلى الاخرى فأصبح ذكرها
|
|
في الخالدين ، وعطف ربّك أخلد
|
وهذه القصيدة
البديعة الخالدة للشاعر الدمشقي المبدع الأديب الاستاذ محمد المجدوب ، قد ألقاها
في مهرجان مولد الإمام أمير المؤمنين علي عليهالسلام في جامع الهندي في النجف الأشرف عام (١٣٧١ ه ـ ١٩٥٢ م) في
انتهاء دهاء معاوية وعاقبته.
بداية عهد يزيد :
اختار أبو مخنف
خبر هلاك معاوية لأوّل شهر رجب عام (٦٠ ه) وكان يزيد قد خرج قبل موت أبيه بيوم إلى حوران للصيد ،
وأخبر الضحّاك الفهري بمسيره وطلب منه أن يخبره بخبر أبيه. فلما مات معاوية كتب
بذلك الضحّاك إلى يزيد ، فلمّا بلغه وقرأه وثب باكيا وأمر من معه بالرجوع إلى دمشق
فوصلها بعد ثلاثة أيام ، وهو معتمّ بعمامة خزّ سوداء متقلّد سيفا.
وكان الضحاك
الفهريّ قد أخبر الناس بقدومه وأمرهم باستقباله ، فركب لذلك من أطاق الركوب وحمل
السلاح ، فلمّا قرب يزيد من دمشق تلقّوه باكين ، وأمامه راث يرثي معاوية. وكان
الفهري قد فرش له قصر القبّة الخضراء لأبيه
__________________
وفرش له فيه فرشا
كثيرا بعضه على بعض! ووضع له الكرسي وجاء به الفهريّ إلى قبر أبيه فصلّى له عنده .
ثم أتى القبّة
الخضراء وصعد على الفرش حتّى جلس على الكرسي ، وأدخل الناس عليه يعزّونه بأبيه
ويهنئونه بالخلافة ويبايعونه ثمّ خطبهم فأبّن أباه ورثاه ثمّ بشّرهم عن نفسه فقال لهم :
لقد كان معاوية يغزوكم في البحر (للروم) وأنا لا أحمل أحدكم على البحر! وكان
يشتّيكم بأرض الروم ، وأنا لا أشتّي أحدا للروم ، وكان يخرج عطاءكم أثلاثا في
السنة كلّ أربعة أشهر ، وأنا أجمعه لكم كلّه !
ثمّ أمر ففتحوا
بيوت الأموال ففرّقها عليهم ، وكتب إلى البلدان بأخذ البيعة له وعمره ثلاث وثلاثون سنة .
كتابه للبيعة إلى
المدينة :
كان معاوية ولّى
المدينة ابن أخيه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ، سنة (٥٨ ه) فولّى يزيد وابن عمّه الوليد على المدينة ، ولم يكن ليزيد
همّة إلّا بيعة الممتنعين الثلاثة وفي مقدّمتهم وعلى رأسهم الحسين عليهالسلام ، فكتب إلى الوليد
__________________
كتابا بنعي معاوية
وأردفها بصحيفة أخرى صغيرة وفيها : أمّا بعد ، فخذ حسينا وعبد الله بن عمر وعبد
الله بن الزبير بالبيعة أخذا شديدا ليست فيه رخصة حتّى يبايعوا ، والسلام فكان ذلك يعني إبقاءه على عمله ضمنا وتلويحا.
ولدى اليعقوبي :
إذا أتاك كتابي هذا فخذ الناس بالبيعة وأحضر الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير
وخذهما بالبيعة لي ، فإن امتنعا فاضرب أعناقهما وابعث إليّ برأسيهما! ومن امتنع من
الناس فأنفذ فيه الحكم ، والسلام .
وروى ابن الخياط
بسنده عن زريق مولى معاوية قال : بعثني يزيد إلى الوليد ، فقدمت المدينة ليلا وقد
دخل الوليد ، وقال حاجبه : قد دخل فلا سبيل إليه! فقلت له : إنّي قد جئته بأمر!
فدخل وأخبره فأذن لي وهو على سريره ، فلمّا قرأ الكتاب جزع وجعل يقوم على فراشه
ويرمي بنفسه على الفراش جزعا. ثمّ بعث إلى مروان ـ وناس من بني أميّة ـ فجاء وعليه
قميص أبيض وملاءة مورّدة ، فنعى له معاوية وأخبره أنّ يزيد كتب إليه أن يبعث إلى
هؤلاء الرهط فيدعوهم إلى بيعته .
وقرأ عليه كتاب
يزيد ، فاسترجع وترحّم على معاوية ، واستشاره الوليد قال : كيف نصنع؟ قال : فإنّي
أرى أن تبعث الساعة ليلا إلى هؤلاء النفر فتدعوهم إلى البيعة والدخول في الطاعة ،
فإن فعلوا قبلت منهم وكففت عنهم ، وإن أبوا قدّمتهم وضربت أعناقهم قبل أن يعلموا
بموت معاوية! فإنّهم إن علموا بموت معاوية وثب كلّ امرئ منهم في جانب وأظهر الخلاف
والمنابذة ودعا الناس إلى نفسه .
__________________
مجلس الوليد ليلا
:
فأرسل الوليد إلى
ابن الزبير والحسين عليهالسلام : عبد الله بن عمرو بن عثمان وهو إذ ذاك غلام حدث! وكأنّ
الفصل كان صيفا ، وكان ابن الزبير بعد الصلاة قد قعد لدى الحسين عليهالسلام في المسجد يتحدّثان ، فبحث عبد الله عنهما فدلّ على المسجد
ووجدهما جالسين فيه يتحدّثان ، فوقف عليهما وقال لهما : أجيبا! الأمير يدعوكما!
فقالا له : انصرف ؛ الآن نأتيه.
ثم قال ابن الزبير
للحسين عليهالسلام : ظنّ فيما تراه بعث إلينا في هذه الساعة التي لم يكن يجلس
فيها؟
فقال الحسين عليهالسلام : قد ظننت أنّ طاغيتهم قد هلك! فبعث إلينا ليأخذنا بالبيعة
قبل أن يفشوا الخبر في الناس.
فقال ابن الزبير :
وما أظنّ غيره ، فما تريد أن تصنع؟
قال الحسين عليهالسلام : أجمع فتياني الساعة ثم أمشي إليه وأحتبسهم على الباب
وأدخل عليه.
ثمّ قام فجمع إليه
أهل بيته ومواليه وأقبل بهم يمشي حتّى انتهى إلى باب الوليد فقال لهم : إنّي داخل
، فإن دعوتكم ، أو سمعتم صوته قد علا فاقتحموا بأجمعكم عليّ ، وإلّا فلا تبرحوا
حتى أخرج إليكم.
ثمّ دخل فسلّم
عليه بالإمرة ، وكان مروان قبل هذا قد قاطع الوليد وجلس عنه لا يأتيه ، ورآه
الحسين عليهالسلام الليلة عند الوليد فقال : أصلح الله ذات بينكما فالصلة خير
من القطيعة! فلم يجيباه في هذا بشيء! حتى جلس الحسين عليهالسلام فأقرأه الوليد كتاب نعي معاوية ، ثمّ دعاه إلى البيعة.
فقال الحسين عليهالسلام : (إِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ...) أمّا ما سألتني من البيعة فإنّ مثلي لا يعطي بيعته سرّا ،
ولا أراك تجتزئ بها منّي سرّا دون أن تظهرها على
رؤوس الناس علانية!
قال : أجل. قال : فإذا خرجت إلى الناس فدعوتهم إلى البيعة دعوتنا مع الناس فكان
أمرا واحدا.
وكان الوليد يحبّ
العافية من أمر الحسين عليهالسلام فقال له : فانصرف على اسم الله حتّى تأتينا مع جماعة
الناس.
فقال له مروان :
والله لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبدا! حتّى تكثر القتلى
بينكم وبينه! احبس الرجل فلا يخرج من عندك حتّى يبايع أو تضرب عنقه!
فوثب عند ذلك
الحسين عليهالسلام وقال له : يابن الزرقاء أنت تقتلني أم هو؟! كذبت ـ والله ـ وأثمت ثمّ خرج إلى أصحابه فمشى معهم إلى منزله.
فقال مروان للوليد
: عصيتني! لا والله لا يمكّنك من مثلها من نفسه أبدا.
قال الوليد : ويح
غيرك يا مروان! إنّك اخترت لي التي فيها هلاك ديني! والله ما احبّ أنّ لي ما طلعت
عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وأنّي قتلت حسينا! سبحان الله أأقتل حسينا أن قال
: لا ابايع؟! والله إنّي لأظنّ امرءا يحاسب بدم الحسين خفيف الميزان عند الله يوم
القيامة!
فقال له مروان وهو
غير حامد له رأيه : فإذا كان هذا رأيك فقد أصبت فيما صنعت !
__________________
الحسين عليهالسلام في المسجد :
جاء في الخبر
السابق عن أبي مخنف : أنّ ابن الزبير لما علم من الحسين عليهالسلام أنّه لا ينكل عن المثول عند الوليد قال له : فإنّي أخافه
عليك! قال عليهالسلام : آتيه وأنا قادر على الامتناع منه بفتياني عند الباب.
فلسان ابن الزبير هذا ترجمان عن نفسه أنّه لا يأمن من الحضور عند الأمير الأموي ، وكذلك
كان ، فلقد جاء في تمام الخبر : أنّ ابن الزبير أيضا قال للرسول : انصرف والآن
نأتيه ، إلّا أنّه أتى داره ولم يذهب إليه ، ولمّا أصبح انشغل الوليد عن الحسين عليهالسلام بطلب ابن الزبير وأخذ يلحّ عليه بكثرة الرسل والرجال في
إثر الرجال ، وبعث الوليد إليه مواليه فصاحوا به : يابن الكاهلية ؛ والله لتأتينّ
الأمير أو ليقتلنّك! فقال : لا تعجلوني حتى أبعث إلى الأمير من يأتيني بأمره ورأيه!
ثمّ بعث إليه أخاه جعفر بن الزبير يسأله أن يؤجّله إلى غد ، فأمهله ، فخرج هو
وأخوه جعفر في جوف الليل من طريق الفرع إلى مكّة. فسرّح الوليد في طلبه ثمانين
راكبا فلم يعثروا عليه فرجعوا.
وفي صبيحة جلسة
الوليد وحين انشغالهم بابن الزبير ، خرج الحسين عليهالسلام بين رجلين إلى المسجد النبويّ الشريف ، فسمعه المولى أبو
سعيد كيسان المقبري المدني ، يتمثّل ببيتين ليزيد بن المفرّغ مولى حمير يقول :
لا ذعرت السّوام في فلق الصب
|
|
ـ ح مغيرا ولا دعيت يزيدا
|
يوم اعطي من المهابة ضيما
|
|
والمنايا يرصدنني أن أحيدا
|
قال المقبري :
فقلت في نفسي : والله ما تمثّل بهذين البيتين إلّا لشيء يريده ، فما مكث إلّا
يومين حتّى بلغني أنّه سار إلى مكّة .
__________________
موقف ابن الحنفية
:
طبيعيّ أن يكون ما
فهمه المقبريّ قد فهمه غيره ولا سيّما من بني هاشم ، ومنهم أخو الحسين : محمّد بن
علي المعروف بابن الحنفيّة ، وكان يعلم بحق أخيه الحسين عليهالسلام في الخلافة بشرط أخيه الحسن عليهالسلام على معاوية في عقد الصلح ، ويعرف استنكاف الحسين عليهالسلام وإباءه البيعة ليزيد على عهد معاوية ، فما دعا أخاه الحسين
عليهالسلام إلى ذلك ، ولا إلى الإقامة بالمدينة وعدم خروجه منها ،
وكأنّه كان يرجو اجتماع الناس عليه ويخاف من الاختلاف فيه وعليه ، فجاءه وقال له :
يا أخي ؛ أنت أحبّ
الناس إليّ وأعزّهم عليّ ، فلست أدّخر النصيحة لأحد من الخلق أحق بها منك : تنحّ
ببيعتك عن يزيد ... وانزل مكّة ، فإن اطمأنّت بك الدار فسبيل ذلك ، وإن نبت لحقت
بالرمال وشعف الجبال (رؤوسها) وخرجت من بلد إلى بلد ... و (تنحّ) عن الأمصار ما
استطعت ، ثمّ ابعث رسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك وانظر إلى ما يصير أمر الناس ...
فإن بايعوك حمدت الله على ذلك ، وإن أجمعوا على غيرك ... لم ينقص الله بذلك دينك
ولا عقلك ، ولا تذهب به مروءتك ولا فضلك (فلا تنازع في الأمر؟!).
فإنّي أخاف أن
تدخل مصرا من هذه الأمصار (؟ البصرة والكوفة!) تأتي جماعة الناس فيختلفون فيما
بينهم : فطائفة معك وأخرى عليك (كما صار إليه المصران) فيقتتلون ، فتكون لأوّل
الأسنة غرضا (كما صار إليه أخونا في المدائن) فإذا خير هذه الأمّة أبا وأمّا ونفسا
أذلّها أهلا وأضيعها دما! وإنّك حين تستقبل الأمور استقبالا (قبل وقوعها مفكّرا فيها
ومدبّرا لها) تكون أصوب رأيا وأحزم عملا.
فقال له الحسين عليهالسلام : يا أخي ، قد أشفقت فنصحت ، فأرجو أن يكون رأيك سديدا
موفّقا .
بلا ذكر أيّ عذر
له لتخلّفه عنه عليهالسلام ، ولا أي إعذار من أخيه الإمام له ، ولكن بلا دعوة منه
ليكون معه.
نعي معاوية ، وابن
عباس بمكة :
نقل ابن قتيبة :
عن عتبة بن مسعود قال : كنّا بالمسجد الحرام ـ ولعلّه لعمرة رجب ـ إذ تلقّينا نعي
معاوية ، فقمنا وأتينا إلى عبد الله بن عباس ، وكان على مكّة يومئذ خالد بن الحكم.
فقلنا لابن عباس : يابن عباس أما علمت بالخبر؟ قال : ما هو؟ قلنا : هلك معاوية ...
وجاء رسول خالد بن الحكم إلى ابن عباس : أن انطلق فبايع! فقال للرسول : أقرئ
الأمير السلام وقل له : والله ما بقي فيّ ما تخافون منه (وكان قد عمي) فاقض ما أنت
قاض ... قال عتبة الراوي : فما برحنا حتّى جاء رسول خالد فقال له : يقول لك الأمير
: لا بدّ لك أن تأتينا! قال : فإن كان لا بدّ فلا بدّ مما لا بدّ منه! ثمّ نادى
الجارية : يا نوار هلمّ ثيابي. وقال : وما ينفعكم إتيان رجل إن جلس (عن البيعة) لم
يضركم؟ قال عتبة الراوي : فقلت له : أتبايع ليزيد وهو يشرب الخمر ويلهو بالقيان
ويستهتر بالفواحش؟! فقال : وكم بعده من آت ممن يشرب الخمر
__________________
أو هو شرّ من
شاربها أنتم إلى بيعته سراع فهل هو بايع كرها؟! بل نصّ عليه الدينوري والطبري عن الواقدي والله أعلم بحقيقة الحال.
أمر عمر ، وابن
عمر :
في أواخر عصر أبي
بكر لمّا تجمّع الروم لأبي عبيدة فاستغاث بأبي بكر فأمر أبو بكر خالد بن الوليد من
العراق بإغاثة أبي عبيدة في الشام ، مرّ خالد على عين التمر وواجهه بنو تغلب فقتل
منهم وسبى ، كان في السبي الصهباء بنت ربيعة التغلبيّة ، وأرسل السبي إلى أبي بكر
، فأهداها إلى علي عليهالسلام ، فرزق منها ولدا ذكرا على عهد عمر ، وبشر به الإمام وعمر
يسمع فطلب من الإمام أن يترك له تسميته فسمّاه باسمه : عمر ، ولقّب بالأطرف ، وكان في العمر بعد ابن الحنفيّة.
ونصّ نسّابة آل
أبي طالب في «عمدة الطالب» قال : كان الحسين عليهالسلام قد دعا أخاه عمر إلى الخروج معه فتخلّف عنه ولم يسر معه وقال له : حدّثني أبو محمّد الحسن عن أبينا أمير المؤمنين
: أنّك مقتول! فلو بايعت لكان خيرا لك!
فقال له الحسين عليهالسلام : وإنّ أبي حدّثني أنّ رسول الله أخبره بقتله وقتلي ، وأنّ
تربتي تكون بقرب تربته (كربلاء من النجف) أفتظنّ أنّك علمت ما لم أعلمه؟
__________________
(ولكنّي) لا اعطي
الدنيّة (البيعة) من نفسي أبدا! ولتلقينّ فاطمة أباها شاكية ممّا لقيت ذريتها من
امّته! ولا يدخل الجنة من آذاها في ذريّتها وطبيعي أن يكون عمر قد بايع.
ونحوه عبد الله بن
عمر ؛ ولذا لا نرى تشديدا عليه ، بل لعلّه مثل عمر الأطرف اقترح على الحسين عليهالسلام أن يبايع فيبقى في المدينة ولا يخرج منها ، فقال له الحسين
عليهالسلام : يا عبد الله ، أما علمت أنّ بني إسرائيل كانوا ما بين
طلوع (الفجر) إلى طلوع الشمس يقتلون سبعين نبيّا! ثم يبيعون ويشترون كأن لم يصنعوا
شيئا! وإنّ من هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريا اهدي إلى بغيّ من بغايا
بني إسرائيل ، وإنّ رأسي يهدى إلى بغيّ من بني امية !
خروجه عليهالسلام إلى مكّة :
انشغل الوليد
اليومين الأوّلين من الأسبوع : السبت والأحد : السابع والثامن والعشرين من شهر رجب
، بطلب ابن الزبير ، ولما يئس الثمانون الذين تعقّبوه فرجعوا عشاء أو مساء إلى
الوليد ، بعث رجالا عند المساء إلى الحسين عليهالسلام ، فقال لهم : أصبحوا ثمّ ترون ونرى ، فكفّوا عنه تلك
الليلة ، فخرج فيها ليومين بقيا من رجب : التاسع والعشرين والآخر منه سنة (٦٠ ه)
، ببنيه وإخوته وبني أخيه
__________________
وجلّ أهل بيته
إلّا أخويه محمد ابن الحنفية (وعمر ابن التغلبية) وابن عمّه عبد الله بن جعفر خرج
وهو يتلو هذه الآية : (فَخَرَجَ مِنْها
خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
وكان قد بلغهم
خروج ابن الزبير من غير الطريق الأعظم ، فلمّا لزم الإمام عليهالسلام الطريق الأعظم قال له بعض أهله : لو تنكّبت الطريق الأعظم
كما فعل ابن الزبير لا يلحقك الطّلب؟! فقال عليهالسلام : لا والله لا افارقه ، حتى يقضي الله ما هو أحبّ إليه.
وكان من أتراب
الإمام عليهالسلام رجل من بني عديّ قبيل الخليفة عمر ، هو عبد الله بن مطيع
العدوي سكن المدينة على عهد عمر ، ولعلّه كان في عمرة رجب راجعا من مكّة ، إذ قابل
الحسين عليهالسلام فسأله : جعلت فداك! أين تريد؟ قال عليهالسلام : أمّا الآن فإنّي اريد مكّة ، وأمّا بعدها فإنّي استخير
الله (أطلب الخير منه).
وكأنّ العدويّ رأى
الكلمة من الإمام عليهالسلام إشارة إلى إمكانية استجابته لشيعته من أهل الكوفة ، فقال
له : خار الله لك ، وجعلنا فداك! فإذا أنت أتيت مكّة فإيّاك أن تقرب الكوفة ،
فإنّها بلدة مشؤومة! بها قتل أبوك وخذل أخوك واغتيل بطعنة كادت تأتي على نفسه!
الزم الحرم ، فإنّك سيّد العرب! لا يعدل ـ والله ـ بك أهل الحجاز أحدا! ويتداعى
إليك الناس من كلّ جانب! لا تفارق الحرم! فداك عمّي وخالي! فو الله لئن هلكت
لنسترقّنّ بعدك .
ولم يذكر في الخبر
كلام الإمام عليهالسلام جوابا لهذا العدويّ على حذره وتحذيره من تغرير الكوفيين.
__________________
الإمام عليهالسلام في مكّة :
مرّ الخبر : أنّ
الإمام عليهالسلام خرج من المدينة ليلة الأحد التاسع والعشرين من شهر رجب فأقبل حتى دخل مكّة ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان أي ليلة ذكرى مولده عليهالسلام ، دخلها وهو يقرأ : (وَلَمَّا تَوَجَّهَ
تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) فأقام بمكّة شعبان ورمضان وشوّال وذا القعدة وإلى الثامن
من ذي الحجة فأقبل أهلها يختلفون إليه ويأتونه ومن كان بها من
المعتمرين وأهل الآفاق.
وكان ابن الزبير
بها قد لزم الكعبة ، فهو قائم يصلّي عامّة النهار ، ويطوف ، ويأتي حسينا عليهالسلام فيمن يأتيه ، فيأتيه اليومين المتواليين ، ويأتيه بين كلّ
يومين مرّة ؛ ولا يزال يشير عليه برأيه. وكان أثقل خلق الله عليه الإمام عليهالسلام! لأنّه عرف أنّ أهل الحجاز لا يبايعونه ولا يتابعونه أبدا
ما دام الإمام عليهالسلام بالبلد ، وأنّ حسينا عليهالسلام أعظم في أعينهم وأنفسهم وأطوع في الناس منه .
وبلغ خبر ابن
الزبير والحسين عليهالسلام إلى يزيد فتخوّف من ضعف الوليد فبعث عمرو بن سعيد بن العاص
الأشدق أميرا على المدينة ومكّة والطائف والحجّ وذلك في شهر رمضان .
__________________
وكان لابن الزبير
تسعة إخوة : جعفر ، وحمزة ، وخالد ، وعاصم ، وعبيدة ، وعروة ، وعمرو ، ومصعب ،
والمنذر وله ثمان بنون : ثابت ، وحمزة ، وخبيب ، وعامر ، وعبد الله
، وعبّاد ، وقيس ، وموسى وإنّما كان معه إلى مكّة من إخوته جعفر ، كما مرّ.
ودخل عمرو الأشدق
المدينة ، وكان عمرو بن الزبير معاديا لأخيه عبد الله ، فولّاه الأشدق شرطته. وكان
يصلّي بمكّة الحارث بن خالد بن العاص بن هشام المخزومي ولم يمنعه ابن الزبير عن الصلاة ولا الإمام عليهالسلام حتى خرج من مكة فمنعه ابن الزبير عن الصلاة .
كتب أهل الكوفة :
مرّ خبر الطبري عن
الكلبي : أن معاوية بعد هلاك زياد في الكوفة سنة (٥٣ ه) استعمل عليها الضحّاك بن
قيس الفهري لسنتين ، ثمّ ابن اخته عبد الرحمان بن عبد الله الثقفي فأساء السيرة
فيهم فطردوه عنهم سنة (٥٨ ه) فاستعمل عليها النعمان بن بشير الأنصاري وكان عثمانيا سيّئ القول في
__________________
علي عليهالسلام يجاهر ببغضه فكان عليها حين هلاك معاوية واستيلاء يزيد وأقرّه حتى عزله
بابن زياد.
فلمّا بلغ أهل
الكوفة أنّ الحسين عليهالسلام قد امتنع عن البيعة ليزيد وعاذ بمكة اجتمعوا في دار سليمان بن صرد الخزاعي وخطبهم فقال لهم :
إنّ معاوية قد هلك ، وإنّ حسينا عليهالسلام قد تقبّض عن القوم ببيعته ، وقد خرج إلى مكة ، وأنتم «شيعته
وشيعة» أبيه ، فإن كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهد وعدوّه فاكتبوا إليه. وإن خفتم
الوهل (الفزع) والفشل فلا تغرّوا الرجل من نفسه!
فقالوا : لا ، بل
نقاتل عدوّه ونقتل أنفسنا دونه! قال : فاكتبوا إليه ، فكتبوا إليه :
«بسم الله الرحمنِ الرحيم ، للحسين بن علي ، من سليمان بن صرد ، ورفاعة بن شدّاد ، وحبيب بن
مظاهر ، «وشيعته» من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة. سلام عليك ، فإنّا نحمد
إليك الله الذي لا إله إلّا هو. أمّا بعد ؛ فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبّار
العنيد (معاوية) الذي انتزى على هذه الأمّة فابتزّها وغصبها فيئها وتأمّر عليها
بغير رضى منها ، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها ، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها
وأغنيائها ، فبعدا له كما بعدت ثمود.
إنّه ليس علينا
إمام (لم نبايع) فأقبل لعلّ الله يجمعنا بك على الحقّ. والنعمان بن بشير في قصر
الأمارة ، لسنا نجمّع معه في جمعة ولا نخرج معه إلى عيد (الفطر القادم) ولو قد
بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتّى نلحقه بالشام إن شاء الله. والسلام عليك
ورحمة الله».
__________________
ولعلّ عمدتهم كان
من تميم وهمدان ؛ ولذا سرّحوا بالكتاب مع عبد الله بن سبع الهمداني ، وعبد الله بن
وال التميمي ، فخرجا مسرعين حتّى قدما مكّة للعاشر من شهر رمضان.
وانتشر خبر هذه
الرسالة فاقتدى آخرون بهم ، واجتمع كلّ اثنين أو أربعة منهم وكتبوا كتبا مماثلة
بلغت مئة وخمسين صحيفة ، ولعلّ عمدتهم كانوا أيضا من همدان وبني أسد في الكوفة ،
فسرّحوا بها مع عبد الرحمان بن الكدن الأرحبي الهمداني ، وقيس بن مسهر الصيداوي
الأسدي ، وعمارة بن عبيد السلولي ، ولعلّهم قدموا مكّة للنصف من رمضان .
وكأنّهم بعد ذلك
رأوا أن يكتبوا إليه عن عموم «شيعته» بلا تخصيص ذكر لأحد ، فكتبوا إليه :
«بسم الله الرحمنِ الرحيم ، للحسين بن علي ، من «شيعته» من المؤمنين والمسلمين ، أمّا بعد ؛
فحيّ هلّا! فإنّ الناس ينتظرونك ولا رأي لهم في غيرك! فالعجل العجل! والسلام عليك»
ثمّ سرّحوه إليه مع سعيد بن عبد الله الحنفي التميمي وهانئ بن هانئ السبيعي
الهمداني ، كذلك من تميم وهمدان ، ولعلّهما قدما مكّة للسابع عشر من رمضان ذكرى
يوم بدر الكبرى. ولعلّ هذا القول : «فإنّ الناس ينتظرونك ولا رأي لهم في غيرك»!
كان بعد علمهم بكتابة عدد من زعماء الكوفة إليه عليهالسلام :
__________________
«بسم الله الرحمنِ الرحيم ، للحسين بن علي ، أمّا بعد ؛ فقد اخضرت الجنان وأينعت الثمار (فلعلّه
كان في أواخر الربيع أو أوائل الصيف) وطمّت الجمام (ملئت الغدران بالمياه) فأقدم
على جند مجنّد لك! والسلام» من حجّار بن أبجر العجلي النصراني المسلم ، وشبث بن
ربعي اليربوعي التميمي ، ومعه محمد بن عمر التميمي ، ولعلّهما لعلمهما بتبع أكثر
بني تميم للإمام عليهالسلام ، وعزرة بن قيس الأحمسي ، وعمرو بن الحجّاج الزبيدي ،
ويزيد بن الحارث الشيباني .
جواب الإمام عليهالسلام :
حيث كان آخر رسل
الكوفة إلى الإمام عليهالسلام سعيد الحنفي التميمي وهانئ السبيعي الهمداني ، وكان عمدة
الملحّين عليه من عشيرتهما تميم وهمدان ، لذلك سألهم عن أمر الناس في الكوفة.
وكان من بني
أعمامه معه أبناء عقيل وأكبرهم صهره على أخته رقية : مسلم بن عقيل ، وكان الإمام
أعدّه ليبعثه عنه مقدّما وسفيرا إلى الكوفة ، فلمّا قدم عليه الرجلان من تميم
وهمدان كتب :
«بسم الله الرحمنِ الرحیم ، من الحسين بن علي ، إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين ، أمّا
بعد ؛ فإنّ هانئا (الهمداني) وسعيدا (التميمي) قدما عليّ بكتبكم ، وكانا آخر من
قدم عليّ من رسلكم ، وقد فهمت كلّ الذي اقتصصتم وذكرتم ، ومقالة جلّكم : إنّه ليس
علينا إمام ، فأقبل لعلّ الله أن يجمعنا بك على الهدى والحقّ ، وقد بعثت إليكم أخي
وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي : مسلم بن عقيل ، وأمرته أن يكتب إليّ بحالكم وأمركم
ورأيكم. فإن كتب إليّ : أنّه قد أجمع رأي
__________________
ملئكم وذوي الفضل
والحجى منكم على مثل ما قدمت عليّ به رسلكم وقرأت في كتبكم ؛ أقدم عليكم وشيكا إن
شاء الله ، فلعمري ما الإمام إلّا العامل بالكتاب ، والآخذ بالقسط ، والدائن
بالحقّ ، والحابس نفسه على ذات الله ، والسلام».
وبعث به مع سعيد
وهانئ ولعلّه كان في أوائل العشر الأواخر من رمضان.
سفر ابن عقيل :
وكان الرسولان
السابقان من أسد وهمدان : عبد الرحمان الأرحبي الهمداني وقيس بن مسهر الصيداوي
الأسدي باقيين ، وفضّل الإمام عليهالسلام أن يسرّح معهما سفيره ابن عقيل ، فدعاهم وأمره بتقوى الله
وكتمان أمره واللطف ، فإن رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجّل إليه بذلك ، ثمّ سرّحه
معهم. وعزم مسلم على أن يودّع بقيّة أهله بالمدينة ، ووافقه الإمام عليهالسلام والرسولان معه ، فأقبلوا إلى المدينة فصلّى في مسجد رسول
الله صلىاللهعليهوآله وزار قبره ، ثمّ ذهب إلى بقية أهله وودّعهم ، ثمّ استأجر
من بني قيس دليلين يدلّانهم سبيلهم ، فأقبلا به حتى ضلّا ، وكأنّهما تاها حتّى
عادا إلى طريق مكّة نحو بطن الخبيت فهو إلى جهة مكّة وأصابهم عطش شديد ، وكأنّهما لاحت لهما لوائح الطريق فقالا
لمسلم : هذا الطريق فخذه حتّى تنتهي إلى الماء ثمّ ماتا. ومضى مسلم ومن معه حتّى
بلغوا الماء في بطن الخبيت.
وكان العرب يومئذ
قريبي عهد بجاهليّتهم وتطيّرهم بمثل ما عرض لهؤلاء من البلاء ، وكأنّ ابن عقيل عقل
ممّن معه شيئا من ذلك ، وعرض قيس بن مسهر الصيداوي الأسدي استعداده لحمل رسالة في
ذلك من مسلم إلى الإمام عليهالسلام ، فكتب :
__________________
«بسم الله الرحمنِ الرحيم إلى الحسين بن علي ، من مسلم بن عقيل ، أمّا بعد ؛ فإنّي أقبلت من
المدينة مع دليلين ، فجارا عن الطريق وضلّا واشتدّ علينا العطش فلم يلبثا أن ماتا!
وأقبلنا حتّى انتهينا إلى الماء فلم ننج إلّا بحشاشة أنفسنا! وذلك بمكان يدعى :
المضيق من بطن الخبيت ، وقد تطيّرت من وجهي هذا ؛ فإن رأيت أعفيتني منه وبعثت غيري
، والسلام» وبعث به مع قيس بن مسهر الصيداوي ، وصبر هو ينتظر أمره عليهالسلام.
فلمّا قدم قيس
بالرسالة إلى الإمام عليهالسلام كتب إليه في جوابه : «بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من الحسين بن علي ، إلى مسلم بن عقيل ، أمّا بعد ؛ فقد خشيت أن لا
يكون حملك على الكتاب إليّ في الاستعفاء من الوجه الذي وجّهتك له إلّا الجبن! فامض
لوجهك الذي وجّهتك له ، والسلام» وردّ الكتاب إليه مع قيس ، فلمّا قدم عليه قيس
بالكتاب وقرئ عليه قال : هذا ما لست أتخوّفه على نفسي! وارتحلوا حتّى نزلوا على
بعض مياه بني طيّئ وارتحل منهم وإذا رجل أشرف له ظبي فرماه فصرعه ، فتفأل مسلم
خيرا وقال : يقتل عدوّنا إن شاء الله وذلك في أواسط العشر الأخير من رمضان.
مسلم في الكوفة :
كان عمر بن الخطاب
في السنة (١٣ ه) أوائل عهده اختار أبا عبيد بن مسعود الثقفي أبا المختار لفتوح
العراق ، فقتل يوم الجسر يوم عيد الفطر وأراد عمر تأليف بني ثقيف فخطب من المختار بن عبيد أخته
صفيّة لابنه
__________________
عبد الله بن عمر وصاهر المختار صحابيّين أنصاريّين هما : سمرة بن جندب على
ابنته امّ كلثوم والنعمان بن بشير على ابنته عمرة ، فكان صهر الوالي الأموي على الكوفة.
وكما مرّ في الخبر
لم يحضر كثير من شيعة الكوفة في صلاة عيد الفطر مع الوالي الأموي الأنصاري ، وبعد
عيد الفطر وفي الخامس من شهر شوّال وصل ابن عقيل الكوفة ومعه مرافقوه الثلاثة : عبد الرحمان الأرحبي الهمداني ،
وعمارة السلولي ، وقيس الصيداوي الأسدي ، وكأنّ ابن عقيل رأى من المعقول أن يختار
للاستتار دار المختار ولا سيّما أنّها كانت في ناحية الكوفة وليس في أوساطها ،
فدخل عليه.
وطبيعي أن يخبر
الصيداوي الأسدي قومه بني أسد ، والأرحبي الهمداني قومه همدان ، فاجتمع جمع منهم
في دار المختار وفيهم حبيب بن مظاهر الأسدي وعابس بن أبي شبيب الشاكري الهمداني
وسعيد بن عبد الله الحنفي التميمي ، فقرأ عليهم مسلم كتاب الحسين عليهالسلام فأخذوا يبكون شوقا إليه.
وقام الشاكري
الهمداني خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أمّا بعد ، فإنّي لا اخبرك عن
الناس ، ولا أعلم ما في أنفسهم! وما اغرّك منهم! والله لأحدّثنّك عمّا أنا موطّن
نفسي عليه : والله لأجيبنّكم إذا دعوتم ، ولأقاتلنّ معكم عدوّكم! ولأضربنّ بسيفي
دونكم حتّى ألقى الله! لا أريد بذلك إلّا ما عند الله!
__________________
فقام حبيب بن
مظاهر الأسدي فقال لعابس : رحمك الله ، قد قضيت ما في نفسك بواجز من قولك. ثمّ قال
: وأنا والله الذي لا إله إلّا هو على مثل ما هذا عليه. ثم جلس.
ثمّ قام سعيد
الحنفي التميمي فقال مثلهما وجلس. واستمرّت «الشيعة» تختلف إليه حتّى علم مكانه ،
فبلغ ذلك الوالي الأموي الأنصاري ، ولعلّه انتظر خطبة الجمعة ، فخطبهم فحمد الله
وأثنى عليه ثم قال :
أمّا بعد ؛
فاتّقوا الله ـ عباد الله ـ ولا تسارعوا إلى الفرقة والفتنة فإنّ بهما يهلك الرجال
، وتسفك الدماء ، وتغصب الأموال ... إنّي لا اقاتل من لا يقاتلني ولا أثب على من
لا يثب عليّ ، ولا اشاتمكم ولا أتحرّش بكم ، ولا آخذ بالقذف والظنّة والتهمة ،
ولكنّكم إن أبديتم صفحتكم لي ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم! فو الله الذي لا إله
إلّا غيره! لأضربنّكم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ولو لم يكن لي منكم ناصر! أما إنّي
لأرجو أن يكون من يعرف الحقّ (!) منكم أكثر ممّن يرديه الباطل!
وكان بعض
الحضرميّين حلفاء لبني اميّة منهم عبد الله بن مسلم الحضرمي ، وكان حاضرا فقام
وقال :
إنّه لا يصلح ما
ترى (من حركة الشيعة) إلّا الغشم (الظلم!) إنّ هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين
عدوّك ؛ رأي المستضعفين!
فقال النعمان :
لئن أكون من المستضعفين في طاعة الله! أحبّ إليّ من أن أكون من الأعزّين في معصية
الله! ثمّ نزل.
فكتب عبد الله
الحضرمي إلى يزيد : أمّا بعد ؛ فإنّ مسلم بن عقيل قد قدم الكوفة فبايعته «الشيعة»
للحسين بن علي! فإن كان لك بالكوفة حاجة فابعث إليها رجلا قويّا ينفّذ أمرك ويعمل
مثل عملك في عدوّك! فإنّ النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضعّف!
ثمّ كتب إليه عمر
بن سعد بن أبي وقّاص الزهري بمثل ذلك. وكان أخو الوليد بن عقبة بن أبي معيط الأموي
: عمارة بن عقبة مقيما بالكوفة عينا للشام ، فكتب إليه بنحو كتابهما إليه .
كتب الإمام عليهالسلام إلى أهل البصرة :
كان أبو موسى عبد
الله بن قيس الأشعري آخر عامل لعثمان على الكوفة منحرفا عن علي عليهالسلام ، وكاد أن يحرفهم ويميل بهم عنه عليهالسلام لو لا أن غلب على أمره الحسن بن علي ومعه عمّار بن ياسر
ومالك الأشتر فمالوا بهم إلى علي عليهالسلام. بينما استمال طلحة والزبير وعائشة بأكثر أهل البصرة إليهم
على علي عليهالسلام حتّى قاتلوه ناكثين بيعته اللهمّ إلّا قليلا منهم ، فغلبت
عليهم العثمانيّة ؛ ولذلك لم يكن منهم مثل ما كان من أهل الكوفة إلى الحسين عليهالسلام ، فبدأهم الإمام بذلك.
ولعلّه لاستمالة
بعضهم كان الحسين عليهالسلام قد تزوّج أمّ إسحاق بنت طلحة التيمي ، وهي أمّ فاطمة ابنة
الحسين عليهالسلام وقد أخدمها من جواريه كبشة ، وزوّج مولاته كبشة لمولاه أبي
رزين فولدت له ابنا سمّاه سليمان وكان سليمان هذا مع مولاه الإمام عليهالسلام بمكّة ، فكتب معه بنسخة واحدة إلى أشراف البصرة من رؤوس
أخماسها وغيرهم وهم : الأحنف بن قيس السعدي التميمي ، وعمرو بن عبيد الله ابن معمر
، وقيس بن الهيثم السلمي ، ومالك بن مسمع الجحدري من بكر بن وائل ، ومسعود بن عمرو
الأزدي ، والمنذر بن الجارود العبدي من عبد قيس ، وكان عبيد الله بن زياد صاهره
على ابنته بحريّة !
__________________
وكانت نسخة الكتاب
: أمّا بعد ، فإنّ الله اصطفى محمدا صلىاللهعليهوآله على خلقه ، وأكرمه بنبوّته واختاره لرسالته ، ثمّ قبضه
الله إليه وقد نصح لعباده وبلّغ ما ارسل به صلىاللهعليهوآله. وكنّا أهله وأولياءه وأوصياءه وورثته وأحقّ الناس بمقامه
في الناس ، فاستأثر علينا قومنا بذلك! فرضينا وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية ،
ونحن نعلم أنّا أحقّ بذلك الحقّ المستحقّ علينا ممّن تولّاه ، وقد أحسنوا وأصلحوا
وتحرّوا الحقّ .
وقد بعثت إليكم
رسولي بهذا الكتاب ، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه صلىاللهعليهوآله ، فإنّ السنّة قد اميتت وإنّ البدعة قد احييت! وإن تسمعوا
قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد! والسلام عليكم ورحمة الله.
فلمّا وصل سليمان
مولى الحسين عليهالسلام بكتابه إلى اولئك النفر وقرؤوه كتموه ، إلّا المنذر العبدي
فإنّه خشي أن يكون صهره ابن زياد قد دسّ إليه ذلك ليختبره ، وكان ابن زياد قد
تلقّى أمر يزيد ليرحل إلى الكوفة ، وكان وصول المولى إليهم قبيل رحيله ، فأسر
المنذر المولى سليمان وسلّمه وكتابه إليه إلى صهره ابن زياد ، فقدّمه لجلاوزته
لقتله ، وصعد المنبر .
جمع العراقيين
لابن زياد :
كان يزيد عاتبا
على ابن زياد ، وكان لمعاوية مولى (روميّ) يدعى سرجون يستشيره ، فلمّا أتت كتب
الثلاثة من الأمويّين في الكوفة إلى يزيد دعا مولاه سرجون وأقرأه كتبهم ثمّ قال له
: فما ترى؟ من استعمل على الكوفة؟
__________________
فقال له سرجون :
أرأيت معاوية لو نشر لك أكنت آخذا برأيه؟ قال : نعم ، فقال له : فإنّ معاوية قد
أمر بكتاب عهد لعبيد الله على الكوفة فهو رأيه ، وأخرج له العهد وقال : هذا رأي
معاوية ومات عليه.
وكانت قبيلة باهلة
البصرة عثمانية أموية وكان منهم مسلم بن عمرو الباهلي عند يزيد ، فدعا به وكتب إلى
ابن زياد : أمّا بعد ، فإنّه كتب إليّ «شيعتي» من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن
عقيل بالكوفة يجمع الجموع لشقّ عصا المسلمين ، فسر ـ حين تقرأ كتابي هذا ـ حتى
تأتي أهل الكوفة ، فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة حتّى تثقفه (تظفر به) فتوثقه أو
تقتله أو تنفيه ، والسلام.
ثمّ سلّم الكتاب
والعهد إلى الباهليّ وأرسله إليه ، فأقبل حتى قدم على ابن زياد بالبصرة ، فلمّا
قرأ الكتاب والعهد أمر جهازه بالتهيّؤ للمسير إلى الكوفة فورا ، وجاءه المنذر برسول الإمام فقتله وخطب فقال : أمّا بعد ؛
فو الله ما تقرن بي الصعبة ولا يقعقع لي بالشّنان وإنّي لنكل لمن عاداني وسمّ لمن حاربني «أنصف القارّة من
راماها» .
يا أهل البصرة ؛
إنّ أمير المؤمنين (يزيد) ولّاني الكوفة وأنا غاد إليها الغداة ، وقد استخلفت
عليكم (أخي) عثمان بن زياد بن أبي سفيان! فإياكم
__________________
والخلاف والإرجاف!
فو الذي لا إله غيره لئن بلغني عن رجل منكم خلاف لأقتلنّه وعرّيفه ووليّه! ولآخذنّ
الأدنى بالأقصى حتّى تسمعوا قولي! ولا يكون فيكم مخالف ولا مشاقّ!
أنا ابن زياد
أشبهه من بين من وطأ الحصى! ولم ينتزعني شبه خال ولا ابن عمّ .
ابن زياد في
الكوفة :
حيث كان عرّيف بني
باهلة : مسلم بن عمرو الباهلي حامل حكم يزيد لابن زياد على الكوفة ، لذلك حمله ابن
زياد معه إلى الكوفة مع أهل بيته وحشمه بضعة عشر رجلا. وكان من زعماء الشيعة
بالبصرة من همدان : شريك بن الأعور الحارثي ، وكان شديد التشيع ومع ذلك كريما على
الامراء وحتى على ابن زياد نفسه ، وكان ابن زياد قد ولّاه كرمان وعاد منها إليه . فحمله معه أيضا. هذا ما جاء عن أبي مخنف .
وروى الطبري عن
النميري البصري بسنده : أنه حمل معه من أهل البصرة خمسمئة اختارهم حتى دخل الكوفة وعليه عمامة سوداء وهو متلثّم ، والناس قد
بلغهم إقبال الحسين عليهالسلام إليهم فهم كانوا ينتظرون قدومه ، فحين قدم عليهم عبيد الله
ظنّوا أنه الحسين عليهالسلام ، فأخذ لا يمرّ على جماعة من الناس إلّا سلّموا عليه
__________________
وقالوا : مرحبا بك
يابن رسول الله قدمت خير مقدم! فرأى من تباشرهم بالحسين عليهالسلام ما ساءه وغاضه ما سمع منهم. فلما أكثروا عليه من ذلك قال
الباهلي معه للناس : تأخّروا هذا الأمير عبيد الله بن زياد! هذا ما جاء عن أبي
مخنف .
وفي خبر النميري
البصري عن عيسى الكناني : أن ابن زياد قبل دخول الكوفة نزل فأخرج ثيابا وعمامة
يمانية وركب بغلة ، فكل من نظر إليه لم يشك أنه الحسين عليهالسلام فيقولون : مرحبا بك يابن رسول الله! فلا يكلّمهم! وسمع بهم
النعمان الأنصاري فدخل قصره مع خاصّته وغلّق عليه بابه. وانتهى إليه ابن زياد ومعه
الخلق يضجّون ، فلم يشك الأنصاري أنه الحسين عليهالسلام ، فتدلّى الأنصاري بين شرفتين وناداه : انشدك الله الا
تنحّيت عنّي! فما أنا بمسلم إليك أمانتي! وابن زياد لا يكلّمه ودنا منه فقال له :
افتح لا فتحت! فقد طال ليلك! فسمعها رجل خلفه فنادى الناس : أي قوم! ابن مرجانة!
والذي لا إله غيره! وفتح النعمان له البيبان فدخل وغلّقوا الباب بوجه الناس
فانفضّوا .
فلمّا دخل القصر
وعلم الناس أنّه ابن زياد دخلهم من ذلك كآبة وحزن شديد .
خطاب ابن زياد :
طبيعيّ والحال هذه
أن لا يبادر ابن زياد لصلاة صبح غد ، بل يستمرّ الأنصاري في ذلك قبل أن يخرج من
الكوفة. نعم ، في ضحى الغد ولصلاة الظهر نادى منادي القصر بالصلاة جامعة ، فاجتمع
الناس وخرج ابن زياد فصعد المنبر
__________________
وحمد الله وأثنى
عليه ثمّ قال : أمّا بعد ؛ فإنّ أمير المؤمنين أصلحه الله! ولّاني مصركم وثغركم ،
وأمرني بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم ، وبالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم ، وبالشدّة
على مريبكم وعاصيكم! وأنا متّبع فيكم أمره ومنفّذ فيكم عهده ، فأنا لمحسنكم
ومطيعكم كالوالد البرّ ، وسوطي وسيفي على من ترك أمري وخالف عهدي! فليبق امرؤ على
نفسه! الصدق ينبئ عنك لا الوعيد! ثمّ نزل.
وأحضر العرفاء إلى
القصر وقال لهم : اكتبوا إليّ الغرباء ومن فيكم من طلبة أمير المؤمنين! ومن فيكم
من الحرورية (الخوارج) وأهل الريب ، الذين رأيهم الخلاف والشقاق ، فمن كتبهم لنا
فبرئ ، ومن لم يكتب لنا أحدا فيضمن لنا ما في عرافته أن لا يخالفنا منهم مخالف ،
ولا يبغي علينا منهم باغ ، فمن لم يفعل برئت منه الذمّة وحلال لنا ماله وسفك دمه!
وأيّما عريف وجد في عرافته من بغية أمير المؤمنين! أحد لم يرفعه إلينا صلب على باب
داره! والقيت تلك العرافة من العطاء! وسيّر إلى موضع من عمان الزّارة (عمان الخليج)
واخبر أن ابن عقيل قد قدم إلى الكوفة قبله بليلة فيكون دخول ابن زياد في السادس من شوال ، وبقاء مسلم في
دار المختار لليلتين أو ثلاث فقط.
فانتقل ابن عقيل
عن المختار إلى هانئ :
مرّ أن المختار
الثقفي كان قد صاهر الأمير النعمان الأنصاري فكان ذلك خير ساتر على ابن عقيل ولذا
اختار داره ، أمّا الآن بعد عزل النعمان وسماع ابن زياد بمحل ابن عقيل ، وسماع
مسلم بأنّ ابن زياد قد علم به ، فقد اختار مسلم أن
__________________
خرج لوحده من دار
المختار حتّى انتهى إلى دار هانئ بن عروة المرادي ، فدخل بابه وأرسل إليه : أن
اخرج إليّ ، بلا إعلام عن نفسه ، وخرج إليه هانئ وحين رآه وعرفه كره لجوءه إليه ؛
وقال له مسلم : أتيتك لتجيرني وتضيّفني! فقال له هانئ : رحمك الله! لقد كلّفتني
شططا! ولكنّه كان قد دخل داره فعار عليه ـ عربيّا ـ أن يخرجه فقال له : ولو لا
دخولك داري وثقتك لأحببت ولسألتك أن تخرج عنّي! غير أنّه يأخذني من ذلك ذمام! وليس
(مقبولا عند الناس) أن يكون ردّ مثلي على مثلك عن جهل بك ، ادخل! فآواه ومعه مرافقه عمارة بن عبيد السلولي .
وكان أبو هانئ :
عروة بن نمران أسلم ورأى النبيّ صلىاللهعليهوآله وسمع حديثه ، ثمّ صحب عليا عليهالسلام في حروبه الثلاثة ، ثمّ خرج مع حجر الكندي ، وكان زياد
مصادقا له فشفع فيه وأطلقه ، وكان شيخ مراد ، وبعده كان ابنه هانئ شيخ مراد ، وكان
منهم كثير بن شهاب المذحجي على بعض كور خراسان لمعاوية فاختان المال فطلبه معاوية
فلجأ إلى هانئ ، فحمله معه إلى معاوية بالشام وشفع له فشفّعه فيه فلم يزل زياد يحسن صحبته ويوصي به خليفته على الكوفة ويكتب
إليه : إنّ من حاجتي قبلك هانئ .
وقد مرّ أن ابن
زياد حمل معه من زعماء الشيعة بالبصرة : شريك بن الأعور الحارثي ، وأنّه تمارض ،
بل مرض قبل القادسية رجاء أن يتريث له ابن زياد فيسبقه الحسين عليهالسلام إلى الكوفة ، فلم يلتفت إليه ومضى حيث امر وقدم شريك
__________________
الكوفة مريضا ونزل
على هانئ وقال له : مر مسلما يكن عندي ، فإنّ عبيد الله بن زياد يعودني .
وحين نرى في الخبر
أنّ شريكا بعد ذلك لبث ثلاثا ثمّ مات يرجح أنّه لم يتمارض وإنّما مرض حتّى مات ، فهو دخل دار
هانئ مريضا ، وقد ذكر في الخبر أوّلا مرض هانئ وعيادة ابن زياد له ، فما مكث إلّا
جمعة (اسبوعا) حتّى مرض شريك فعاده ابن زياد! بينما الطبيعي عكس ذلك ، وأن تكون العدوى
سرت من شريك إلى هانئ ، وعيادته لشريك قبل عيادته لهانئ.
شريك وعمارة
يعرضان للمؤامرة :
نزل شريك بن
الأعور الحارثي الهمداني البصري على هانئ بن عروة المرادي ، مريضا ، وكان كريما
على ابن زياد وهو الذي حمله معه من البصرة إلى الكوفة ، فأرسل إليه ابن زياد : إني
رائح إليك العشية (قبيل المغرب).
فقال شريك لمسلم :
إنّ هذا الفاجر يعودني عشيّة اليوم ، فإذا جلس فاخرج إليه فاقتله! ثمّ اقعد في
القصر فإنّه لا يحول أحد بينك وبينه! فإذا برئت من وجعي هذا أيّامي هذه سرت إلى
البصرة وكفيتك أمرها! وعلم هانئ المرادي بمرادهم هذا ولم يقل الآن شيئا.
فلما كانت العشيّة
(قبل المغرب) أقبل ابن زياد لعيادة شريك ، فقام مسلم ليدخل المخبأ ، وقال له شريك
مؤكّدا : لا يفوتنّك إذا جلس! فكأنّ هانئا استقبح أن يقتل أحد في داره فقام إلى
مسلم وقال له : إني لا احبّ أن يقتل في داري! ودخل مسلم ، وخرج هانئ لاستقبال ابن
زياد.
__________________
ودخل ابن زياد
وجلس إلى شريك وأخذ يسائله عن شكواه وعن وجعه وما الذي يجد ، وطال تساؤله له. ورأى
شريك أن مسلما لم يخرج فخشى أن تفوته الفرصة فأخذ يكرّر مرّتين أو ثلاثا : «ما
تنظرون بسلمى أن تحيّوها» اسقنيها وإن كانت نفسي فيها!
فالتفت ابن زياد
إلى هانئ وسأله : ما شأنه؟ أترونه يهجر؟
فاغتنمها هانئ
وأجابه : نعم! أصلحك الله! ما زال هذا ديدنه منذ قبيل عماية الصبح حتّى هذه الساعة!
فقام ابن زياد وانصرف.
وخرج مسلم ، فسأله
شريك : ما منعك من قتله؟ فقال مسلم : خصلتان :
أمّا أحدهما :
فكراهة هانئ أن يقتل في داره!
وأمّا الأخرى :
فحديث حدّثه الناس عن النبيّ صلىاللهعليهوآله : «إنّ الإيمان قيد الفتك ؛ ولا يفتك مؤمن» .
فقال هانئ : أما
والله لو قتلته لقتلت فاسقا فاجرا كافرا غادرا! ولكن كرهت أن يقتل في داري.
ولبث شريك بعد ذلك
ثلاثا ثمّ مات ، فصلّى عليه ابن زياد.
فما مكث إلّا جمعة
حتى مرض هانئ ، وبلغ خبره إلى ابن زياد فأرسل إليه : إني رائح إليك العشيّة (قبيل
المغرب) هذا ومسلم ومرافقه عمارة بن عبيد السلولي معه في دار هانئ ، وحيث رأى
عمارة أنّ المانع من قتل ابن زياد هو هانئ وكان
__________________
السّلولي يرجو أن
يكون قد بدا لهانئ في قتل ابن زياد في داره فقال له : إنّما جماعتنا وكيدنا قتل هذا
الطاغية! وقد أمكنك الله منه ؛ فاقتله! إلّا أنّ هانئا كان مصرّا على ما كان عليه
فكرّر قولته : ما احبّ أن يقتل في داري! فجاء ابن زياد عائدا له وخرج.
والتزم هانئ بلازم
إجارة مسلم في داره من اختلاف الشيعة إليه ، فأخذت «الشيعة» تختلف إلى مسلم في دار
هانئ حتّى بايعه ثمانية عشر ألفا من أهل الكوفة ، فقدّم كتابا إلى الإمام عليهالسلام مع عابس بن أبي شبيب الشاكري الهمداني جاء فيه :
«أمّا بعد ؛ فإنّ
الرائد لا يكذب أهله ، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفا! فعجّل الإقبال
حين يأتيك كتابي! فإنّ الناس كلّهم معك ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى! والسلام»
.
وكان ذلك قبل أن
يقتل بسبع وعشرين ليلة أي في العاشر من ذي القعدة بعد قدومه بأكثر من شهر.
عين ابن زياد على
ابن عقيل :
مرّ عن المسعودي :
أنّ ابن عقيل قدم الكوفة لخمس خلون من شوال وعن النميري البصري : أنّه قدمها قبل ابن زياد بليلة واحدة
، فدعا مولى
__________________
لبني تميم يقال له : معقل ، فقال له : خذ ثلاثة آلاف درهم ... واطلب
أصحاب مسلم بن عقيل وأعلمهم أنّك منهم ، وأعطهم هذه الثلاثة آلاف وقل لهم :
استعينوا بها على حرب عدوّكم! فإنّك لو أعطيتها إيّاهم اطمأنّوا إليك ووثقوا بك
ولم يكتموك شيئا من أخبارهم ، ثمّ اغد عليهم ورح حتى تطلب مسلم بن عقيل.
فخرج إلى المسجد
الأعظم ، وكان فيه مسلم بن عوسجة الأسدي يصلّي ، وسمع الناس يشيرون إليه ويقولون :
إنّ هذا يبايع للحسين عليهالسلام فجاء إليه وانتظره حتى فرغ من صلاته فجاءه وقال له : يا
عبد الله! إنّي امرؤ من أهل الشام مولى لذي الكلاع الحميري ، وقد أنعم الله عليّ
بحبّ أهل هذا البيت وحبّ من أحبّهم! وبلغني أنّ رجلا منهم قدم الكوفة يبايع لابن
بنت رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وهذه ثلاثة آلاف درهم أردت بها لقاءه فلم أجد أحدا يعرف
مكانه ويدلّني عليه ، فإنّي لجالس في المسجد آنفا إذ سمعت نفرا من المسلمين (يشيرون
إليك) ويقولون : هذا رجل له علم بأهل هذا البيت ، فأتيتك لتقبض هذا المال وتدخلني
على صاحبك فابايعه ، أو إن شئت أخذت بيعتي له قبل لقائه!
فقال له مسلم
الأسدي : لقد ساءني معرفتك إيّاي بهذا الأمر من قبل أن يتم! مخافة هذا الطاغية
وسطوته! ولقد سرّني ذلك لتنال ما تحبّ ولينصر الله بك «أهل بيت» نبيه ، فأحمد الله
على لقائك إيّاي! ثمّ أخذ عليه المواثيق المغلّظة ليكتمنّ وليناصحنّ! فأعطاه من
ذلك ما أرضاه به ، فأخذ منه بيعته ثمّ دلّه على منزله وقال له : اختلف إليّ في
منزلي أيّاما حتى أحصل لك الإذن على صاحبنا. ولم يقبض منه المال ، فأخذ يختلف إليه
مع الناس أيّاما ليدخله على ابن عقيل ، وبعد موت
__________________
شريك بن الأعور
جاء به حتّى أدخله على مسلم وأخبره خبره ، فأخذ ابن عقيل بيعته ، وكان أبو ثمامة
الصائدي الهمداني بصيرا بالسلاح ، فكان يقبض ما يعين به بعضهم لبعض ويشتري لهم
السلاح ، فأمره مسلم فقبض المال الذي جاء به معقل ، ثمّ أخذ معقل يختلف إليهم فهو
أول داخل وآخر خارج يسمع أخبارهم ويعلم أسرارهم ويسرّها إلى ابن زياد .
هانئ عند ابن زياد
:
بعد عيادة ابن
زياد لابن الأعور الحارثي الهمداني ثمّ موته ، وعيادته ثانية لهانئ المرادي وبرئه
كأنّه كان هو على المطلوب من الأشراف يغدو إلى ابن زياد ويروح إليه ، ثمّ تمارض
هذه المرّة وبه انقطع عن ابن زياد.
وكان هانئ مصاهرا
لعمرو بن الحجّاج الزبيدي على اخته روعة ، فدعاه ابن زياد ومعه أسماء بن خارجة
الفزاري ومحمد بن الأشعث الكندي وقال لهم : قد بلغني أنّ هانئا قد برأ من مرضه فهو
يجلس على باب داره! فما يمنعه من إتياننا؟! القوه ومروه أن لا يدع ما عليه من
الحقّ في ذلك! فإنّي لا احبّ أن يفسد عندي مثله من أشراف العرب!
فلمّا كانت
العشيّة (قبيل المغرب) أتى هؤلاء ومع أسماء ابنه حسّان إلى دار هانئ ، وإذا به ـ
كما قال ابن زياد ـ جالس على باب داره ، فوقفوا عليه وأخبروه : أنّ الأمير قد ذكرك
، فما يمنعك من لقائه؟ قال : تمنعني الشكوى (المرض). قالوا : إنّه قد بلغه أنّك في
كلّ عشيّة تجلس على باب دارك ، فاستبطأك والسلطان لا يحتمل الإبطاء والجفاء ،
فنقسم عليك إلّا ما ركبت معنا!
__________________
فدعا بثيابه
فلبسها ودعا ببغلته فركبها ومضى معهم إلى دار الإمارة ، فلمّا دنا منه كأنّه أحسّ
ببعض الذي كان وكان يواكبه حسّان بن أسماء الفزاري فقال له : يابن أخي : إنّي
والله لخائف من هذا الرجل ، فما ترى؟ قال : أي عمّ ، والله ما أتخوّف عليك شيئا ،
ولم تجعل على نفسك شيئا وأنت بريء!
ووصلوا إلى القصر
ودخلوه ومعهم هانئ ، فلمّا طلع على ابن زياد تمثّل ابن زياد بالمثل القائل : «أتتك
بحائن رجلاه» وكان عند ابن زياد شريح بن الحارث الكندي القاضي ، فالتفت
ابن زياد إليه وتمثّل بقول عمرو بن معدي كرب الزبيدي :
اريد حباءه ويريد قتلي
|
|
عذيرك من خليلك من مراد
|
وسمعه هانئ
المرادي فقال : وما ذاك أيّها الأمير؟ قال : إيه يا هانئ بن عروة! ما هذه الأمور
التي تربّص في دورك لأمير المؤمنين (يزيد) ولعامّة المسلمين! جئت بمسلم بن عقيل
فأدخلته دارك! وجمعت له السلاح والرجال في الدور حولك! وظننت أنّ ذلك يخفى عليّ!
فقعد هانئ وقال : ما فعلت وما مسلم عندي! قال ابن زياد : بلى قد فعلت! قال هانئ :
ما فعلت ، قال ابن زياد : بلى! فلمّا كثر ذلك بينهما وأبى هانئ إلّا مجاحدته
ومناكرته دعا ابن زياد معقلا فجاء حتى وقف بين يديه. فأشار إليه ابن زياد وقال
لهانئ : أتعرف هذا؟
فلمّا رآه هانئ
علم أنّه كان عينا عليهم وأنّه قد أتاه بأخبارهم ، فقال : نعم ، ثمّ قال له : اسمع
منّي وصدّق مقالتي فو الله ما أكذبك ، والله الذي لا إله غيره ما دعوته إلى منزلي
ولا علمت بشيء من أمره حتى رأيته على باب داري ،
__________________
فسألني النزول
عليّ فاستحييت من ردّه ودخلني من ذلك ذمام فأدخلته داري وآويته وضفته ، وقد كان من
أمره الذي بلغك! فإن شئت أعطيتك الآن موثقا مغلّظا وما تطمئن إليه أن لا أبغيك
سوءا ، وإن شئت أعطيتك رهينة تكون في يدك وأنطلق إليه فآمره أن يخرج من داري إلى
حيث شاء من الأرض فأخرج من ذمامه وجواره! وآتيك. فقال ابن زياد : لا والله لا
تفارقني حتّى تأتيني به! فقال هانئ : لا والله لا أجيئك به أبدا! أنا أجيئك بضيفي
تقتله! قال ابن زياد : والله لتأتينّي به! قال هانئ : والله لا آتيك به!
وكان مسلم بن عمرو
الباهلي البصري جالسا فقام وقال لابن زياد : أصلح الله الأمير خلّني وإيّاه حتى
اكلّمه. وقال لهانئ : قم إلى هاهنا حتّى اكلّمك. فقام هانئ إليه فخلا به ناحية
قريبة يراهما ابن زياد ويسمع صوتهما العالي ويخفى عليه الخافض ، فقال الباهلي
لهانئ : يا هانئ! والله إني لأنفس بك على القتل! فانشدك الله أن تقتل نفسك وتدخل
البلاء على قومك وعشيرتك! إنّ ابن عقيل ابن عمّ القوم! فليسوا قاتليه ولا ضائريه!
فادفعه إليه! فإنّه ليس عليك مخزاة ولا منقصة! إنّما تدفعه إلى السلطان!
فقال هانئ : بلى
والله! إنّ عليّ في ذلك للخزي والعار! أنا أدفع جاري وضيفي وأنا حيّ صحيح أسمع
وأرى شديد الساعد كثير الأعوان! والله لو لم أكن إلّا واحدا ليس لي ناصر لم أدفعه
إليه حتّى أموت دونه! وسمع ابن زياد ذلك فقال : أدنوه مني! فأدنوه منه. فقال له
ابن زياد : والله لتأتينّي به أو لأضربنّ عنقك! قال : إذا تكثر (السيوف) البارقة
حول دارك! قال ابن زياد : وا لهفاه عليك! أبالبارقة تخوّفني! أدنوه منّي! فادني ،
فاستعرض وجهه بالقضيب! فلم يزل يضرب أنفه وجبينه وخدّه حتّى كسر أنفه وسيّل الدماء
على ثيابه ونثر لحم خدّيه وجبينه على لحيته وحتّى كسر القضيب! وكان قد أمسك به
لابن زياد شرطته ومعهم سيوفهم ، فمدّ هانئ يده إلى قائم سيف شرطيّ منهم وجاذبه
سيفه! فقال له
ابن زياد : قد حلّ
لنا قتلك! أمسيت حروريا خذوه فألقوه في بيت من بيوت الدار وأغلقوا عليه بابه
واجعلوا عليه حرسا! فأخذوه وحبسوه.
فقام إليه أسماء
بن خارجة الفزاري فقال : أنحن رسل غدر اليوم! أمرتنا أن نجيئك بالرجل ، حتّى إذا
جئناك به وأدخلناه عليك هشّمت وجهه وسيّلت دمه على لحيته وزعمت أنّك تقتله! فقال
له ابن زياد : وإنّك لهاهنا! فأمر فدفعوا في صدره ودفعوه حتى حبسوه كذلك!
فقام محمّد بن
الأشعث الكندي إلى ابن زياد وهو يقول : إنّما الأمير مؤدّب! وقد رضينا بما يراه ،
لنا كان أم علينا! ثمّ قال : ولكنّك قد عرفت منزلة هانئ بن عروة وبيته في العشيرة
... وهم عمدة عدد أهل اليمن وأعزّ أهل هذا المصر (الكوفة) وقد علم قومه أني وصاحبي
(أسماء) سقناه إليك ، فانشدك الله لما وهبته لي فإنّي أكره عداوة قومه (مذحج ومراد)
فلم يهبه له فورا إلّا أنّه وعده أن يفعل ذلك!
وشاع في مذحج أنّ
ابن زياد قد قتل هانئا ، فجمع عمرو بن الحجاج الزبيدي جمعا عظيما من مذحج وأقبل
بهم حتى أحاطوا بالقصر ، ونادى ابن الحجّاج : أنا عمرو بن الحجّاج! وهذه فرسان
مذحج ووجوهها لم تخلع طاعة ولم تفارق جماعة! و (إنّما) بلغهم أنّ صاحبهم (هانئا)
يقتل فأعظموا ذلك!
وكان شريح القاضي
ما زال عند ابن زياد فقال له ابن زياد : قم وادخل على صاحبهم فانظر إليه ثمّ اخرج
فأعلمهم أنّك قد رأيته وأنّه حيّ لم يقتل!
وكان من عبيد أهل
الشام مع زياد حميد بن بكير الأحمري ، وكان حينئذ من شرطة ابن زياد الذين يقفون
عند رأسه ، فأرسله ابن زياد مع شريح القاضي يفتح له ويسمع إليه!
__________________
فقام شريح ومعه
حميد الشامي ودخل على هانئ والدماء تسيل على لحيته! فلمّا رأى هانئ شريحا نادى :
يا لله يا للمسلمين! أهلكت عشيرتي؟! فأين أهل المصر؟! تفاقدوا؟! ويخلّوني وعدوّهم
وابن عدوّهم! ثمّ سمع الضجّة على باب القصر فقام إلى شريح وناداه : يا شريح! إنّي
لأظنّها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين ؛ إن دخل عليّ عشرة منهم أنقذوني!
وخرج شريح إليهم
وقال لهم : إنّ الأمير لمّا بلغه مكانكم ومقالتكم في صاحبكم أمرني بالدخول إليه
وأن ألقاكم وأن أعلمكم أنّه حيّ وأنّ الذي بلغكم من قتله كان باطلا ، وقد أتيته
ونظرت إليه.
فقال ابن الحجاج :
فأمّا إذا لم يقتل فالحمد لله! ثمّ انصرفوا .
موقف مسلم بن عقيل
:
لم يكن لابن عقيل
أن يبقى ساكتا لا يحرّك ساكنا ، وجاءه من بني كثير من الأزد عبد الله بن خازم ، فأرسله إلى القصر لينظر إلى ما يصير أمر هانئ فركب فرسا
وسار قال : فلمّا ضرب هانئ وحبس ركبت فرسي وانصرفت فإذا بنسوة من مراد مجتمعات
ينادين : يا عشيرتاه! يا ثكلاه! فدخلت على مسلم بن عقيل بالخبر.
وكان قد بايعه
ثمانية عشر ألفا ، وقد ملأ الدور حوله بأربعة آلاف رجل منهم ، وأوصاهم بشعار
الأنصار يوم بدر : يا منصور أمت! فأمرني أن انادي به فيهم.
__________________
في هذه الأثناء
وبعد ردّ ابن زياد لقبيلة مراد مع ابن الحجّاج الزبيدي ، خشي أن يثب ويثور عليه
الناس ، فجمع إليه بعض أشرافهم مع حشمه وشرطه وخرج بهم إلى المسجد الجامع ، ولعلّه
قبيل المغرب للصلاة ، وقبلها صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أمّا بعد
، أيّها الناس ؛ فاعتصموا بطاعة الله وطاعة أئمتكم ، ولا تختلفوا ولا تفرّقوا ،
فتهلكوا وتذلّوا ، وتقتلوا وتجفوا وتحرموا (من العطاء) ثمّ تمثل بالمثل : إنّ أخاك
من صدقك! وقد أعذر من أنذر.
قال ابن خازم
الأزدي : فناديت بشعار الأنصار : يا منصور أمت! فتنادى الرجال حول دار هانئ
واجتمعوا إلى مسلم ، فعقد لعبيد الله بن عمرو الكندي على ربع كندة وربيعة في الخيل
مقدّمة له ، ثمّ عقد لمسلم بن عوسجة الأسدي على ربع أسد ومعهم مذحج (دون مراد) في
الرجال ، وعقد لأبي ثمامة الصيداوي الهمداني على ربع همدان ومعهم تميم ، وعقد
لعباس بن جعدة الجدلي على ربع أهل المدينة في الكوفة ، وأقبل يسير مسلم في بني
مراد.
هذا وابن زياد على
المنبر في المسجد الجامع ما نزل عن المنبر حتّى دخلت النظّارة المسجد من قبل سوق
التمّارين يشتدّون وينادون : قد جاء ابن عقيل! قد جاء ابن عقيل! فنزل ابن زياد
مسرعا إلى القصر فدخله وأغلق أبوابه وتحصّن فيه! وأقبل مسلم يسير في بني مراد حتّى
أحاط بالقصر .
ونفيد من خبر ركوب
هانئ ومن معه إلى القصر ، وركوب رسول مسلم إليه ذهابا وإيابا ، وملأ مسلم الدور
حول دار هانئ بأربعة آلاف رجل ممّن بايعه وتسلّح له ، يعرف عرفا أنّ دار هانئ ودور
مذحج ومراد لم تكن قرب القصر ، بل كانت بعيدة عنه إجمالا ، وبلا تفصيل في ذلك.
__________________
ويتجدّد الإجمال
فيما مرّ من عقد الألوية على القبائل بلا تفصيل أعداد إلّا الإجمال بأربعة آلاف ،
في خبر رسول مسلم : عبد الله بن خازم ، ثمّ أمير ربع أهل المدينة : عباس بن جعدة
الجدلي وهذا قال : خرجنا مع ابن عقيل في أربعة آلاف ، وأقبل مسلم يسير ببني مراد
حتى أحاط بالقصر ، فما بلغنا القصر إلّا ونحن ثلاثمئة! وكأنه لأنه من أهل المدينة
في الكوفة ينحى عليهم بلائمة الخذلة والتذبذب واضطراب الفكر والرأي ، فيقول : ثمّ
إنّهم تداعوا إلينا واجتمعوا ، فو الله ما لبثنا إلّا قليلا حتّى امتلأ السوق
والمسجد من الناس! وما زالوا يثوبون حتّى المساء!
هذا وليس مع ابن
زياد في القصر إلّا ثلاثون من الشرطة أكثر همّه أن يمسكوا أبواب القصر ، وعشرون
رجلا من الأشراف ، وهم يشرفون على الناس فينظرون إليهم ويتقونهم أن يرموهم
بالحجارة ! ومع ابن زياد أهل بيته ومواليه ، فأرسلهم إلى من نأى عنه
من الأشراف من الباب الذي يلي دور الروميين (النصارى فلذا لم يكن هذا الباب داخلا
في إحاطة أصحاب مسلم) فأقبل الأشراف يأتون ابن زياد من قبل ذلك الباب .
خروج الأشراف
برايات الأمان :
دعا ابن زياد
الأشراف : كثير بن شهاب الحارثي الهمداني! ومحمد بن
__________________
الأشعث الكندي ،
والقعقاع بن شور الذّهلي ، وشبث بن ربعي التميمي ، وحجّار بن أبجر العجلي ، وشمر
بن ذي الجوشن العامري الكلابي الضّبابي ، وقال لهم : أشرفوا على الناس فمنّوا أهل
الطاعة بالزيادة والكرامة! وخوّفوا أهل المعصية من الحرمان والعقوبة! وأعلموهم
فصول الجنود إليهم من الشام! وأمر ابن الأشعث أن يخرج في من يطيعه من كندة وحضر
موت فيرفع راية أمان لمن يجيئه من الناس! وقال مثل ذلك لسائرهم وأمر كثير الحارثي
الهمداني أن يخرج في من يطيعه من مذحج فيسير بالكوفة فيخذّل سائرهم عن ابن عقيل
ويحذّرهم عقوبة السلطان والحرب! وحبس سائر وجوه الناس عنده استيحاشا لقلة عدد من
معه من الناس!
فخرج اولئك
الأشراف برايات الأمان ، وتكلّم أوّلهم كثير بن شهاب فقال : أيّها الناس الحقوا
بأهاليكم ولا تعجّلوا الشرّ ، ولا تعرّضوا أنفسكم للقتل ، فإنّ هذه جنود أمير
المؤمنين يزيد! قد أقبلت! وقد أعطى الله الأمير عهدا لئن أتممتم على حربه ولم
تنصرفوا من عشيّتكم (هذه) أن يحرّم ذريّتكم من العطاء! ويفرّق مقاتلتكم في المغازي!
حتّى لا تبقى فيكم بقيّة من أهل المعصية إلّا أذاقها وبال ما جرّت أيديها! وتكلّم
سائرهم بنحوه ومثله ، فكان الرجل يجيء إلى أخيه أو ابنه فيقول له : غدا يأتيك أهل
الشام فما تصنع بالحرب والشرّ! انصرف ، فيذهب به! والمرأة تأتي أخاها أو ابنها
فتقول : انصرف ، يكفونك الناس! وأخذ الناس يتفرّقون.
وكان شبث بن ربعي
يقاتلهم وهو يقول : انتظروا بهم الليل يتفرّقوا! فقال له القعقاع بن شور الذهلي
فأفرج لهم يتسرّبوا! ففعل فكان كما قال ... فما زالوا يتفرّقون ويتصدّعون حتّى
أمسى ابن عقيل في المسجد وما معه إلّا ثلاثون نفسا! وصلّى المغرب فما صلّى معه
إلّا ثلاثون نفسا!
فلمّا رأى أنّه قد
أمسى وليس معه إلّا اولئك النفر خرج متوجّها نحو أبواب كندة حتّى بلغها ومعه منهم
عشرة! ثمّ خرج من الباب والتفت فإذا هو لا يحسّ أحدا يواسيه بنفسه إن عرض له عدو ،
ولا يدلّه على منزل ولا يدلّه على الطريق! فمضى على وجهه متلدّدا يتلفّت في أزقة
الكوفة لا يدري أين يذهب .
مسلم في دار طوعة
:
كان للأشعث بن قيس
الكندي أمّ ولد تدعى طوعة ، وكان قد أعتقها ، فتزوّجها اسيد بن مالك الحضرمي فولدت
له بلالا ، وكان بلال الحضرمي قد خرج مع الناس وامّه قائمة تنتظره. وخرج مسلم إلى
دور بني كندة ومشى حتّى انتهى إلى باب دار هذه المرأة ، فلمّا رآها مسلم سلّم
عليها! فردّت عليهالسلام ، فكأنّه عرفها من لفظها أنّها أمة ، فقال لها : يا أمة
الله اسقيني ماء. فدخلت ورجعت إليه بماء فسقته فشرب وجلس ، فدخلت وأدخلت الإناء
ثمّ خرجت فرأته جالسا! فقالت له : يا عبد الله! ألم تشرب! قال : بلى! قالت : فاذهب
إلى أهلك! فسكت! فعادت وقالت مثل القول الأول! فسكت ، فقالت له : (اتّق) فيّ الله!
سبحان الله! يا عبد الله! مرّ إلى أهلك عافاك الله ، فإنّه لا يصلح لك الجلوس على
بابي ولا احلّه لك!
فلمّا سمع بذلك
قام وقال لها : يا أمة الله! ما لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة! فهل لك إلى أجر
ومعروف! ولعلّي مكافئك به بعد اليوم؟! فقالت : وما ذاك يا عبد الله؟! قال : أنا
مسلم بن عقيل! كذبني هؤلاء القوم وغرّوني! قالت : أنت مسلم؟! قال : نعم! قالت :
فادخل. فأدخلته بيتا في دارها ـ غير البيت الذي تكون هي فيه وابنها ـ وفرشت له ،
وعرضت عليه العشاء ، فلم يتعشّ.
__________________
ولم يكن بأسرع من
أن جاء ابنها فرآها تكثر الدخول في ذلك البيت والخروج منه ، وذلك للفراش والعشاء ،
فقال لها : والله إنّه ليريبني كثرة دخولك هذه الليلة في هذا البيت وخروجك منه فلك
شأن فيه؟! فقالت له : يا بني اله عن هذا. قال : والله لتخبرنّي! قالت : أقبل على
شأنك ولا تسألني عن شيء! فألحّ عليها. فقالت له : يا بني لا تحدّثن أحدا من الناس بما
اخبرك به! وأخذت عليه الأيمان فحلف لها ، فأخبرته! فاضطجع وسكت .
وموقف ابن زياد
وخطبته :
كانت دار الإمارة
في جهة قبلة المسجد الجامع بالكوفة كما هما اليوم ، وكانت أصوات أصحاب مسلم تسمع
في القصر ، والآن طال سكوتهم ، فقال ابن زياد لمواليه : أشرفوا فانظروا هل ترون
منهم أحدا ولعلّهم تحت السقوف قد كمنوا لكم! فأشرفوا فلم يروا أحدا ، فحملوا شعل
النار وجعلوا يخفضونها بأيديهم فلم يروا أحدا ، فشدّوا أحزمة القصب بالحبال
وأشعلوا فيها النار ودلّوها إلى المسجد والسقيفة التي فيها المنبر والمحراب فلم
يروا شيئا ، فأخبروا بذلك ابن زياد.
فأمر كاتبه عمرو
بن نافع فنادى : ألا برئت الذمة من رجل من الشرطة والعرفاء والمقاتلة لا يصلّي
العتمة (العشاء) في المسجد! فلم يكن إلّا ساعة حتى امتلأ المسجد من الناس!
وكان أمير شرطه
الحصين بن تميم التميمي حاضرا فقال له : لو يصلّي بهم غيرك فإنّي لا آمن أن يغتالك
بعض أعدائك! فقال ابن زياد : مر حرسي فليقفوا ورائي ودر أنت عليهم. ثمّ فتحوا باب
القصر إلى سدّة المسجد فخرجوا به إليه فصلّى بالناس ، ثمّ صعد المنبر فحمد الله
وأثنى عليه ثمّ قال :
__________________
أمّا بعد ، فإنّ
ابن عقيل السفيه الجاهل! قد أتى ما قد رأيتم من الخلاف والشقاق! فبرئت ذمّة الله
من رجل وجدناه في داره! ومن جاء به فله ديته! اتّقوا الله ـ عباد الله ـ والزموا
بيعتكم وطاعتكم ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا! ثمّ التفت إلى أمير الشرطة وناداه :
يا حصين بن تميم! ثكلتك أمّك إن صاح باب سكة من سكك الكوفة أو خرج هذا الرجل ولم
تأتني به! فابعث مراصدة على أفواه السكك! وقد سلّطتك على دور أهل الكوفة! فأصبح
واستبر الدور وجس خلالها حتّى تأتيني بهذا الرجل! ثمّ نزل ابن زياد ودخل القصر .
راية ابن حريث ،
والمختار :
وكان عمرو بن حريث
المخزومي مع ابن زياد ، فعقد له ابن زياد راية على الناس ، وأمره أن يقعد لهم في
المسجد. ولمّا دخل ابن زياد الكوفة ودار مسلم عن دار المختار إلى دار هانئ ، كان
المختار قد خرج من داره بالكوفة إلى داره في قرية لقفا من قرى الكوفة ، وبلغه خبر
ظهور ابن عقيل بالكوفة ، فأقبل في مواليه إلى الكوفة فما انتهى إلى باب الفيل إلّا
بعد الغروب ، بل بعد العشاء إذ عقد ابن زياد لابن حريث رايته على الناس ، فلم يعلم
بمسلم ولم يلتحق براية ابن حريث.
فمرّ به هانئ
الوداعي فسأله عن حاله ووقوفه؟ فقال المختار : أصبح رأيي مرتجا (مقفلا) لعظم
خطيئتكم! فأقبل الوداعي إلى ابن حريث فأخبره عنه ، وكان عنده عبد الرحمن الثقفي من
قبيلة المختار فقال له ابن حريث : قم إلى عمّك فأخبره أنّ صاحبه (يعني مسلما) لا
يدرى أين هو ، فلا يجعلنّ على نفسه سبيلا!
__________________
وكان زائدة بن
قدامة الثقفي أيضا حاضرا فقام إلى ابن حريث وقال له : يأتيك على أنّه آمن؟! فقال
ابن حريث : أمّا منّي فهو آمن ، وإن رقّي إلى الأمير عبيد الله شيء من أمره أقمت
له الشهادة وشفعت له أحسن الشفاعة! فخرجا إليه وناشداه أن لا يجعل على نفسه سبيلا
، وأخبراه بقول ابن حريث ، فقبل منهم المختار ونزل بمن معه إلى راية ابن حريث حتى
الصباح.
ولكن عين
الأمويّين عمارة بن عقبة أخو الوليد بن عقبة سمع من الناس أمر المختار فرفع خبره
إلى ابن زياد ، فلمّا أصبح ودخل عليه المختار دعاه فقال له : أنت المقبل في الجموع!
لتنصر ابن عقيل؟! قال : لكنّي أقبلت حتّى نزلت تحت راية عمرو بن حريث وبتّ معه!
فصدّقه ابن حريث ، ولكنّ ابن زياد رفع قضيبه وضرب به وجه المختار فشتر عينه وأمر
به إلى الحبس فحبسوه !
الكشف عن مسلم
وقتاله :
بات مسلم في بيت
طوعة ، وبات ابنها بلال بن اسيد الحضرمي حتى أصبح صباح يوم التروية الثامن من ذي
الحجة الحرام لعام (٦٠ ه) ، ولعلّ بلالا سمع تطميع ابن زياد لمن يكشف عن مسلم
بإعطائه ديته ، فسارع إلى مواليه بني الأشعث فالتقى بعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث
فأخبره بمكان ابن عقيل عند أمّه طوعة. وكان أبوه محمد بن الأشعث قد سارع إلى أميره
ابن زياد فأقعده إلى جنبه ، فسارع ابنه عبد الرحمن إلى أبيه فسارّه بشيء ، فبادره
ابن زياد فسأله : ما قال لك؟ قال : أخبرني أنّ ابن عقيل في دار من دورنا! فنخس
بقضيبه في جنبه وقال له : قم الساعة فأتني به!
__________________
وكان يعلم ابن
زياد أنّ كل قوم يكرهون أن يصاب فيهم مثل ابن عقيل فلم يبعث معه من كندة ، بل بعث
صاحبه الشامي بكير بن حمران الأحمري إلى صاحب رايته عمرو بن حريث : أن ابعث مع ابن
الأشعث سبعين رجلا من قيس! فدعا عمرو المخزومي بعمرو السلمي وبعث معه بسبعين فارسا
من قيس مع ابن الأشعث إلى دار مولاتهم طوعة التي فيها ابن عقيل ، ومعهم بكير
الأحمري الشامي.
فلمّا قربوا منه
سمع وقع الخيل وأصوات الرجال فعرف أنّهم أتوه واقتحموا الدار عليه ، فخرج إليهم
بسيفه وشدّ عليهم حتى أخرجهم منه ، وعادوا إليه فشدّ عليهم كذلك. فشدّ عليه بكير
الأحمري بسيفه على وجهه فقطع شفته وثناياه العليا ، وضربه مسلم على رأسه وأخرى على
حبل عاتقه فجرحتاه ولم يقتل. وأشرفوا على مسلم من فوق البيوت يلهبون النار في
أحزمة القصب ويرمونه بها وبالحجارة! فخرج بسيفه إلى السكّة. فناداه ابن الأشعث :
يا فتى! لك الأمان لا تقتل نفسك! فأجابهم مرتجزا :
أقسمت لا اقتل إلّا حرّا
|
|
وإن رأيت الموت شيئا نكرا
|
كل امرئ يوما ملاق شرّا
|
|
ويخلط البارد سخنا مرّا
|
ردّ شعاع النفس فاستقرّا
|
|
أخاف أن أخدع أو
أغرّا
|
فناداه ابن الأشعث
: إنّك لا تكذب ولا تخدع ولا تغرّ! فإن القوم بنو عمّك! وليسوا بقاتليك ولا ضائريك!
وكان يقاتل فعجز عن القتال مما اثخن جراحا بالحجارة! فأسند ظهره إلى حائط تلك
الدار ، فدنا منه ابن الأشعث وكرّر عليه القول : لك الأمان! فقال مسلم : أنا آمن؟!
قال : نعم وقال من معه : نعم أنت آمن!
__________________
فقال ابن عقيل :
أما لو لم تؤمّنوني ما وضعت يدي في أيديكم! فعلموا أنه استسلم. فدنوا منه وانتزعوا
منه سيفه وأتوه ببغلة فحملوه عليها ، فدمعت عيناه وقال : هذا أوّل الغدر! يعني
نزعه سيفه. فقال ابن الأشعث : أرجو أن لا يكون عليك بأس! فقال : ما هو إلّا الرجاء!
فأين أمانكم؟! واسترجع وبكى. فقال له أميرهم السّلمي : إن من جاء يطلب مثل الذي
تطلب لا يبكي إذا نزل به مثل الذي نزل بك!
فأجابه مسلم : إني
وإن كنت لم أحبّ لنفسي تلفا طرفة عين ، ولكنّي والله ما لها أبكي ولا لها من القتل
أرثي ، ولكن أبكي لأهلي المقبلين إليّ! أبكي لحسين وآل حسين!
ثمّ التفت عن
السّلمي إلى ابن الأشعث فقال له : يا عبد الله ، إنّي ـ والله ـ أراك ستعجز عن
أماني! فهل عندك خير؟ إني لا أرى حسينا إلّا قد خرج هو وأهل بيته مقبلا إليكم
اليوم أو هو خارج إليكم غدا! وإنّ ما ترى من جزعي لذلك! فهل تستطيع أن تبعث من
عندك رجلا يبلّغ حسينا عن لساني فيقول له : إنّ ابن عقيل بعثني إليك ـ وهو أسير في
أيدي القوم لا يرى أن يمسي حتّى يقتل ـ وهو يقول لك : ارجع بأهل بيتك! ولا يغرّك
أهل الكوفة! فإنّهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنّى فراقهم بالموت أو القتل! إنّ أهل
الكوفة كذبوك وكذبوني ، وليس لمكذّب رأي!
فقال له ابن
الأشعث : والله لأفعلن ذلك ، ولأعلمنّ ابن زياد أني قد أمّنتك .
__________________
مسلم في دار
الإمارة ، ووصيّته :
اجتمع على باب دار
الإمارة عمارة بن عقبة الأموي أخو الوليد ، وصاحب راية ابن زياد على الناس عمرو بن
حريث المخزومي ، ومن أمرائه كثير بن شهاب الحارثي الهمداني ومسلم بن عمرو الباهلي
، وكأنّ ابن زياد حجبهم ينتظر خبر مسلم ، وأقبل محمّد بن الأشعث بابن عقيل إلى باب
القصر ، وعلى الباب قلّة ماء بارد ، وكان مسلم جريحا عطشانا فلمّا رأى الماء قال
لهم : اسقوني من هذا الماء. فقال له الباهلي البصري : أتراها! ما أبردها! لا والله
لا تذوق منها قطرة أبدا حتى تذوق الحميم في نار جهنّم! فقال له ابن عقيل : ويحك من
أنت؟ قال : أنا من عرف الحقّ إذ أنكرته! ونصح لإمامه إذ غششته! وسمع وأطاع إذ
عصيته وخالفته! أنا مسلم بن عمرو الباهلي.
فقال مسلم : لأمّك
الثكل ما أجفاك وما أفظّك وأقسى قلبك وأغلظك! أنت ـ يابن باهلة ـ أولى بالحميم
والخلود في نار جهنّم منّي! ثمّ جلس واستند إلى الحائط.
وكان مع عمرو
المخزومي غلامه سليمان فبعثه ليأتيه بماء ، فذهب وجاءه بقلّة ماء عليها منديل ومعه
قدح ، فأمره أن يسقي مسلما فصبّ ماء في القدح وناوله ، فلمّا أراد أن يشرب منه
امتلأ القدح دما ، فأراقه وملأ له القدح ، فامتلأ دما ، فأراقه وملأ له القدح
ثالثة وذهب مسلم ليشرب فسقطت ثناياه فيه ، فكأنّه اكتفى ببلل شفاهه وقال : الحمد
لله ، لو كان لي من الرزق المقسوم شربته.
واستأذن محمّد بن
الأشعث على ابن زياد فأذن له ، فدخل عليه وأخبره خبر مسلم وجرحه وما كان منه ومن
أمانه له! فقال ابن زياد : بعدا له! وما أنت والأمان! كأنّا أرسلناك تؤمّنه ،
إنّما أرسلناك لتأتينا به!
ثمّ أمر بإدخال
مسلم عليه ، فأدخله الحرسيّ حتى أوقفه بين يدي ابن زياد ، فلم يسلّم عليه ، فقال
له الحرسيّ : ألا تسلّم على الأمير؟ قال :
إن كان يريد قتلي
فما سلامي عليه؟! وإن كان لا يريد قتلي فلعمري ليكثرنّ سلامي عليه! فقال ابن زياد
: فلعمري لتقتلنّ! قال : كذلك؟! قال : نعم! قال : فدعني اوصي إلى بعض قومي.
وكان عمر بن سعد
بن أبي وقّاص الزهري قد دخل قبلهم وهو جالس مع ابن زياد ، وكان مسلم يعرفه من قبل
، فلمّا نظر إليه مسلم ناداه : يا عمر! إن بيني وبينك قرابة (قرشيّة) ولي إليك
حاجة ، وقد يجب لي عليك إنجاح حاجتي ، وهو سرّ! فلم يقم إليه حتى قال له ابن زياد
: لا تمتنع أن تنظر في حاجة ابن عمّك! فقام عمر إلى مسلم وتنحّيا إلى حيث يراهما
ابن زياد ، فقال مسلم لابن سعد :
إنّ عليّ دينا
استدنته منذ قدمت الكوفة سبعمئة درهم ، فاقضها عنّي.
وانظر جثّتي
فاستوهبها من ابن زياد فوارها.
وابعث إلى حسين من
يردّه ، فإني كتبت إليه اعلمه أنّ الناس معه ، ولا أراه إلّا مقبلا.
وقاما فاعيد مسلم
إلى ما بين يدي ابن زياد ، ودنا ابن سعد إلى ابن زياد فقال له : أتدري ما قال لي؟
ثمّ ذكر له وصاياه الثلاثة. فقال ابن زياد : إنّه لا يخونك الأمين ولكن قد يؤتمن
الخائن! فاتّهمه بالخيانة! ثمّ قال له : أمّا مالك ؛ فهو لك ، ولسنا نمنعك أن تصنع
فيه ما أحببت (من قضاء دين مسلم) وأما حسين ؛ فإنّه إن لم يردنا لم نرده ، وإن
أرادنا لم نكفّ عنه! (وسكت عن وصيّة مسلم) ثمّ قال : وأمّا جثّته ؛ فإنّا لن
نشفّعك فيها! إنّه ليس بأهل منّا لذلك. قد جاهدنا وخالفنا وجهد على هلاكنا !
__________________
ابن زياد وابن
عقيل ومقتله :
ثمّ التفت ابن
زياد إلى ابن عقيل وقال له : إيه يابن عقيل : أتيت الناس وأمرهم جميع وكلمتهم
واحدة لتشتّتهم وتفرّق كلمتهم ، وتحمل بعضهم على بعض!
قال : كلّا! لست (أنا)
أتيت ، ولكن أهل (هذا) المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم ، وعمل فيهم
أعمال كسرى وقيصر ، فأتيناهم (إجابة) لنأمر بالعدل وندعو إلى حكم الكتاب.
وكأنّ ابن زياد لم
يجد جوابا له إلّا أن يباهته باتّهامه بالفسق فقال له : وما أنت وذاك! أو لم نكن
نعمل فيهم بذلك (بالعدل والكتاب) إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر!
قال : أنا أشرب
الخمر! والله ، إنّ الله ليعلم أنّك غير صادق! وأنّك قلت بغير علم! وأنّي لست كما
ذكرت ، وأنّك أحقّ مني بشرب الخمر وأولى بها من يلغ في دماء المسلمين ولغا فيقتل
النفس التي حرّم الله قتلها! ويقتل النفس بغير النفس! ويسفك الدم الحرام! ويقتل
على الغضب والعداوة وسوء الظن وهو يلهو ويلعب كأن لم يصنع شيئا!
قال ابن زياد : يا
فاسق! إنّ نفسك (كانت) تمنّيك ما حال الله دونه ولم يرك أهله!
قال : فمن أهله
يابن زياد؟ قال : أمير المؤمنين يزيد! فقال مسلم : الحمد لله على كل حال ، رضينا
بالله حكما بيننا وبينكم! قال : كأنّك تظنّ أنّ لكم بها شيئا! قال : والله ما هو
بالظنّ ولكنّه اليقين! قال : قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام!
قال : أما إنّك أحقّ من أحدث في الإسلام ما لم يكن فيه! أما إنّك لا تدع سوء
القتلة وقبح المثلة! وخبث السيرة ولؤم الغلبة! ولا أحد من الناس أحقّ بها منك!
فأقبل ابن سمية
يشتمه ويشتم حسينا وعليّا وعقيلا! فسكت مسلم عليهالسلام.
ثمّ فسّر ابن زياد
ما هدّده به من القتل المحدث المبتدع في الإسلام فقال لجلاوزته : اصعدوا به فوق
القصر فاضربوا عنقه (وارموا برأسه إلى الأرض) ثمّ أتبعوا جسده رأسه!
فالتفت مسلم إلى
ابن الأشعث وقال له : أما والله لو لا أنّك آمنتني ما استسلمت ؛ قم بسيفك دوني فقد
أخفرت ذمّتك! فلم يجبه ابن الأشعث. فعاد إلى ابن زياد وقال له : أما والله لو كانت
بيني وبينك قرابة ما قتلتني!
ونادى ابن زياد :
أين هذا الذي ضرب ابن عقيل بالسيف رأسه وعاتقه؟ يريد بكير الأحمري الشامي فدعي له
فقال له : اصعدا (مع مسلم) فكن أنت الذي تضرب عنقه!
فجرّ الحرس مسلما
ليصعدوا به وقال : اللهم احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكذبونا وأذلّونا! وصعدوا به
وهو يكبّر ويستغفر ويصلّي على ملائكة الله ورسله. وأشرفوا به من فوق القصر على
موضع الجزّارين فضرب بكير الأحمري عنقه ورموا برأسه إلى الأرض ثمّ أتبعوا جسده
رأسه.
ونزل بكير الأحمري
ورآه ابن زياد فسأله : قتلته؟ قال : نعم! قال : فما كان يقول وأنتم تصعدون به؟ قال
: كان يكبّر ويسبّح ويستغفر ، فلما أدنيته لأقتله قال : اللهم احكم بيننا وبين قوم
كذبونا وغرّونا وخذلونا وقتلونا! فقلت له : الحمد لله الذي أقادني منك! ثمّ ضربته
ضربة لم تغن شيئا ثم ضربته الثانية فقتلته !
ومصير هانئ ورجال
آخرين :
مرّ الخبر : أنّ
ابن الأشعث وابن خارجة الفزاري حملا هانئا إلى ابن زياد ، فلمّا ضربه ابن زياد حتى
أدماه وحبسه خاف ابن الأشعث من عداوة مراد
__________________
ومذحج فاستوهبه من
ابن زياد ، فوعده أن يفعل. وكأنّه رأى أنّ ذلك جرّأه على منح الأمان لمسلم فما وفى
له بذلك ولا بما وعده في هانئ ، بل قال لجلاوزته : أخرجوا هانئا إلى السوق فاضربوا
عنقه!
فدخلوا إليه
وكتّفوه وأخرجوه إلى موقف الغنم في السوق! وأخذ ينادي : وا مذحجاه! ثمّ يجيب نفسه
: وأين مني مذحج ولا مذحج لي اليوم! ثمّ جذب يده فنزعها من الكتاف ونادى : أما من
عصا أو سكّين أو حجر أو عظم يدافع به رجل عن نفسه! فاكبّوا عليه وشدّوا وثاقه ثمّ
قالوا له : امدد عنقك! وكان معهم مولى تركيّ لابن زياد فضربه بسيفه فلم يصنع شيئا!
ونادى هانئ : إلى الله المعاد! اللهمّ إلى رحمتك ورضوانك! فضربه المولى التركي
اخرى فقتله .
وإذ أبى ابن زياد
أن يشفّع ابن سعد في جسد مسلم بل أمر برميه من فوق القصر إلى الأرض ، لم يجرؤ ابن
سعد ولا غيره على حمله ودفنه ، بل عرف عرف الناس أنّه يأبى ذلك ، فروى أبو مخنف عن
رجل من بني أسد قال : لم أخرج من الكوفة حتى رأيت مسلما وهانئا يجرّان بأرجلهما في
السوق وزاد ابن الأعثم عنه أيضا قال : رأيتهما مصلوبين منكّسين في سوق القصّابين .
وكان قد حبس من
أنصار مسلم بعد هانئ : المختار الثقفي ، وعبد الأعلى الكلبي وعمارة الأزدي ، فأمر
بإخراج الأزدي وسأله : ممّن أنت؟ قال : من الأزد. قال لجلاوزته : فانطلقوا به إلى
قومه. فضربوا عنقه فيهم. وأخرجوا إليه الكلبيّ فقال له : أخبرني بأمرك. فقال :
خرجت لأنظر ما يصنع الناس فأخذوني.
__________________
فحلّفه فأبى أن
يحلف ، فقال لجلاوزته : انطلقوا بهذا إلى جبّانة (مقبرة) السبيع فاضربوا عنقه بها
، فقتلوه هناك وقال للمختار : لو لا شهادة عمرو بن حريث لضربت عنقك .
وبعث بالرؤوس إلى
الرئيس :
ثمّ اختار ابن
زياد رجلين من تميم وهمدان : الزبير بن الأروح التميمي وهانئ بن أبي حية الهمداني
ليبعثهما برأسي مسلم وهانئ إلى يزيد ، ودعا كاتبه عمرو بن نافع أن يكتب إلى يزيد
بما كان من مسلم وهانئ ، فكتب كتابا مطوّلا ، فلما رآه ابن زياد قال : ما هذا
التطويل وهذا الفضول؟! ثمّ قال له : اكتب : أما بعد ؛ فالحمد لله الذي أخذ لأمير
المؤمنين بحقّه! وكفاه مؤونة عدوّه. أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله! أنّ مسلم بن
عقيل لجأ إلى دار هانئ بن عروة المرادي ، وإني جعلت عليهما العيون ودسست إليهما
الرجال وكدتهما حتى استخرجتهما وأمكن الله منهما! فقدّمتهما وضربت أعناقهما. وقد
بعثت إليك برؤوسهما مع هانئ بن أبي حيّة الهمداني والزبير بن الأروح التميمي ،
وهما من أهل السمع والطاعة والنصيحة! فليسألهما أمير المؤمنين! عمّا أحبّ من أمر ،
فإنّ عندهما علما وصدقا ، وفهما وورعا! والسلام.
وراح ابن الأروح
وابن أبي حيّة بهذا الكتاب وبرأسي مسلم وهانئ إلى يزيد في دمشق الشام فكتب إلى ابن
زياد :
أمّا بعد ؛ فإنّك
لم تعد أن كنت كما احب! عملت عمل الحازم وصلت صولة الشجاع الرابط الجأش! فقد أغنيت
وكفيت وصدّقت ظنّي بك ورأيي فيك!
__________________
ودعوت رسوليك
فسألتهما وناجيتهما فوجدتهما في رأيهما وفضلهما كما ذكرت ، فاستوص بهما خيرا.
وإنّه قد بلغني
أنّ الحسين بن علي توجّه نحو العراق! فضع المناظر والمسالح ، واحترس على الظنّ وخذ
على التهمة! غير أن لا تقتل إلّا من قاتلك! واكتب إليّ في كلّ ما يحدث من الخبر ،
والسلام عليك ورحمة الله.
وكان مخرج مسلم
بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان ليال مضين من ذي الحجة سنة ستين .
خروج الإمام إلى
المصير ، وابن عباس وابن الزبير :
كان ابن الزبير
يزور الإمام عليهالسلام غبّا ، ولم يغيّب عنه الإمام كتب أهل الكوفة لمّا سأله ابن
الزبير : خبّرني ما تريد أن تصنع؟ فقال عليهالسلام : لقد كتب إليّ «شيعتي» بالكوفة وأشراف أهلها ، ولقد حدّثت
نفسي بإتيان الكوفة ، واستخير الله (أطلب الخير منه) فقال ابن الزبير : أما لو كان
لي بها مثل «شيعتك» ما عدلت بها! ثمّ خرج. فقال الحسين عليهالسلام لمن حضر : إنّ هذا قد علم أنّه ليس له من الأمر معي شيء
وأنّ الناس لا يعدلونه بي ، فودّ أنّي خرجت منها لتخلو له! وليس شيء يؤتاه من الدنيا
أحبّ إليه من أن أخرج من الحجاز إلى العراق .
ولمّا عزم الإمام عليهالسلام على المسير إلى الكوفة شاع في الناس فبلغ ابن عباس فأتى
إلى الإمام عليهالسلام وقال له : يابن عمّ ؛ قد أرجف الناس أنّك سائر إلى العراق!
فبيّن لي ما أنت صانع؟
__________________
قال : إنّي قد
أجمعت المسير في أحد يوميّ هذين (السابع أو الثامن لذي الحجة) إن شاء الله.
فقال ابن عباس :
فإنّي اعيذك بالله من ذلك! أخبرني ـ رحمك الله ـ أتسير إلى قوم قد قتلوا أميرهم
ونفوا عدوّهم وضبطوا بلادهم؟! فإن كانوا قد فعلوا ذلك فسر إليهم ، وإن كانوا إنما
دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهر لهم ، وعمّاله تجبى بلادهم ، فإنهم إنّما دعوك إلى
الحرب والقتال! ولا آمن عليك أن يغرّوك ويكذّبوك! ويخالفوك ويخذلوك! وأن يستنفروا
إليك فيكونوا أشدّ الناس عليك !
فقال الإمام عليهالسلام : وإنّي أستخير الله (أطلب الخير منه) وأنظر ما يكون.
وعلى هذا الوعد
بعد ابن عباس عن ابن عمّه الحسين عليهالسلام يوما أو بعض يوم ، ولكنّه لم يتمالك نفسه على الصبر دون أن
عاد إليه وقال له : يابن عمّ ؛ إنّي أتصبّر وما أصبر! فإنّي أخاف عليك في هذا
الوجه (العراق) الهلاك والاستئصال! فإنّ (أهل) العراق قوم غدر فلا تقربنّهم! أقم
بهذا البلد فإنّك سيّد أهل الحجاز. فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا ، فاكتب
إليهم فلينفوا عدوّهم ثمّ أقدم عليهم. فإن أبيت إلّا أن تخرج فسر إلى اليمن ، فإنّ
بها حصونا وشعابا ، وهي أرض عريضة طويلة ، وتبث دعاتك ، فإنّي أرجو أن يأتيك عند
ذلك الذي تحبّ (!) في عافية!
فقال له الحسين عليهالسلام : يابن عمّ ؛ إنّي والله لأعلم أنّك ناصح مشفق ، ولكنّي
أزمعت على المسير!
فقال ابن عباس :
فإن كنت سائرا فلا تسر بنسائك وصبيتك! فو الله إنّي لخائف أن تقتل فلم يتكلّم الإمام عليهالسلام!
__________________
وجاءه رجل من بني
مخزوم يدعى عمر بن عبد الرحمن وقال له : يابن عمّ! أتيتك لحاجة في ذكر نصيحة فإن
كنت تستنصحني وإلّا كففت عمّا اريد أن أقول؟ فقال الإمام عليهالسلام : قل فو الله ما أظنّك بسيّئ الرأي ... فقال : قد بلغني
أنّك تريد المسير إلى العراق ، وإني مشفق عليك من مسيرك ، إنّك تأتي بلدا فيه
عمّاله وامراؤه ومعهم بيوت الأموال ، وإنّما الناس عبيد لهذا الدرهم والدينار! فلا
آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره ومن أنت أحبّ إليه ممّن هو يقاتلك معه!
فقال الإمام عليهالسلام : جزاك الله خيرا يابن عمّ! ومهما يقض من أمر يكن! أخذت
برأيك أو تركته فلا مفرّ منه!
وفي يوم التروية
عند ارتفاع الضحى في ما بين حجر إسماعيل وباب الكعبة التقى بالإمام عليهالسلام ابن الزبير فقال له :
إن شئت أن تقيم
أقمت فوليت هذا الأمر ، فآزرناك وساعدناك ونصحنا لك وبايعناك؟
فقال الإمام عليهالسلام : إنّ أبي حدّثني : أن بها كبشا يستحلّ حرمتها! فما أحبّ
أن أكون ذلك الكبش! والله لئن اقتل خارجا منها بشبر أحبّ إليّ من أن اقتل داخلا
فيها بشبر! وايم الله لو كنت في جحر هامّة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا فيّ
حاجتهم! والله ليعتدنّ عليّ كما اعتدت اليهود في السبت!
ثمّ طاف الحسين عليهالسلام بالبيت وصلّى وسعى وقصّ من شعره فحلّ من عمرته ، ثمّ توجّه
نحو العراق والناس متوجّهون إلى منى عند الظهر ويظهر أنّه عليهالسلام تعمّد ذلك تعمية لخروجه واختاره ستارا.
__________________
وروى الكليني عن
الصادق عليهالسلام قال : اعتمر الحسين عليهالسلام في ذي الحجّة ثمّ راح يوم التروية إلى العراق وقال المفيد : أحلّ من إحرامه عمرة ولم يتمكّن من تمام
الحجّ مخافة أن يقبض عليه بمكّة فينفذ إلى يزيد ، فخرج مبادرا بأهله وولده ومن
انضمّ إليه من شيعته ، يوم خروج مسلم في الكوفة.
وفي حدود الحرم :
وجاءت هذه المخافة
بصراحة الإمام عليهالسلام لهمّام بن غالب التميمي البصري الشاعر المعروف بالفرزدق ،
لمّا لقيه حين دخل الحرم فرأى قافلة تخرج فسأل عنها : لمن هذا القطار؟ فقيل :
للحسين بن علي عليهالسلام وكان الفرزدق يسوق بعير أمّه ، وكانت له مسائل في المناسك
، فتركها وأتى الإمام فسلّم عليه وهو على راحلته وقال : يابن رسول الله بأبي أنت
وأمّي ما أعجلك عن الحجّ؟! فقال : لو لم أعجل لاخذت! ثمّ قال له : أخبرني عن الناس
خلفك؟ فقال له : الخبير سألت ؛ قلوب الناس معك وأسيافهم عليك ، والقضاء ينزل من
السماء والله يفعل ما يشاء!
فقال عليهالسلام : صدقت ، لله الأمر ، وكلّ يوم ربّنا في شأن ، فإن نزل
القضاء بما نحبّ نحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر ، وإن حال
القضاء
__________________
دون الرجاء فلم
يبعد من كان الحقّ نيّته والتقوى سريرته! ثمّ سأله الفرزدق عن أشياء من المناسك
ثمّ حرّك الإمام راحلته وقال : السلام عليك .
وحاولوا منعه فلم
ينفع :
مرّ الخبر عن
استضعاف يزيد للوليد الأموي وعزله بعمرو بن سعيد الأموي الأشدق فقدم المدينة في
شهر رمضان سنة (٦٠) وأمّره على الموسم بمكّة فقدمها في ذي القعدة فكان هذا مما أعجل الإمام للخروج من مكّة إلى العراق مخافة
أن يقبض عليه بمكّة فينفذ إلى يزيد ، كما مرّ عن المفيد ، مبادرا بأهله وولده وشيعته
، عند الظهر والناس متوجّهون إلى منى ، متمنيّا انشغال عمّال الأمويين بإمارتهم
للحجّ والحجّاج.
هذا ، وما أفاد
ذلك كثيرا حتّى بلغ خبره الأمير الأشدق فدعا أخاه يحيى
__________________
والصفاح بعد أنصاب الحرم إلى حنين ،
وتسمّى اليوم بالشرائع الجديدة وهي مدينة حديثة ولها أسواق وبلدية بعد المغمّس
باتّجاه وادي عرنة بعد عرفات ، كما في كتاب معجم معالم مكّة لعاتق بن غيث البلادي
، فهل يعقل أن يكون هذان قد قضيا مناسكهما من يوم عرفة إلى ما بعد الزوال من اليوم
الثاني عشر من ذي الحجّة : أربعة أيام ، ثمّ وصلوا إلى الإمام في منزل الصفاح؟!
فلذا تبعنا هنا ما رجّحه المفيد في إرشاده.
وجعل معه جمعا من
شرطه وأمرهم أن يعترضوا الحسين عليهالسلام فيردّوه ولو بضرب السياط! فاعترضوه واعترضوا عليه خروجه
فأبى ، فناداه مناديهم : يا حسين! ألا تتّقي الله! تخرج من الجماعة وتفرّق بين هذه
الأمة!
فاختار الإمام عليهالسلام أن يجيبهم بقوله سبحانه : (لِي عَمَلِي وَلَكُمْ
عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا
تَعْمَلُونَ) وتدافعوا وتضاربوا بالسياط! فلم يقووا على ردّهم ومضوا .
هذا وقد تخلّف عن
الإمام عليهالسلام ابن عمّ أبيه عبد الله بن العباس لعماه ، وابن عمّه عبد
الله بن جعفر ، وكأنّه كان يرى أنّ خروج الإمام من مكّة إنما هو مخافة أن يقبض
عليه بمكّة فينفذ إلى يزيد ، كما مرّ عن المفيد ، فحاول أن يشفع له عند الأمير
الأموي لمنحه الأمان ، فبادر برسالة إلى الإمام مع ابنيه عون ومحمّد ، وفيه : أمّا
بعد ؛ فإنّي أسألك بالله لما انصرفت حين تنظر في كتابي ، فإنّي مشفق عليك من الوجه
الذي تتوجّه له أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك ، وإن هلكت اليوم طفئ نور الأرض
، فإنّك علم المهتدين ورجاء المؤمنين ، فلا تعجل بالسير فإني في إثر الكتاب ،
والسلام.
وقام ابن جعفر إلى
عمرو الأشدق وقال له : اكتب إلى الحسين كتابا تجعل له فيه الأمان وتمنّيه فيه
البرّ والصلة! وتوثّق له في كتابك وتسأله الرجوع لعلّه يطمئن إلى ذلك فيرجع! وابعث
به مع أخيك يحيى بن سعيد ، فإنّه أحرى أن تطمئن نفسه إليه ويعلم أنّه الجدّ منك!
__________________
فقال عمرو بن سعيد
: اكتب ما شئت وائتني به حتّى أختمه. فكتب عبد الله الكتاب : بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من عمرو بن سعيد إلى الحسين بن علي ، أمّا بعد ؛ فإني أسأل الله أن
يصرفك عمّا يوبقك! وأن يهديك لما يرشدك! بلغني أنّك قد توجّهت إلى العراق ، وإني
أعيذك من الشقاق ، فإنّي أخاف عليك فيه الهلاك! وقد بعثت إليك عبد الله بن جعفر
ويحيى بن سعيد ، فأقبل إليّ معهما ، فإنّ لك عندي الأمان والصلة والبرّ وحسن
الجوار ، لك الله بذلك شهيد وكفيل ، ومراع ووكيل ، والسلام عليك.
ثمّ أتى به إلى
عمرو بن سعيد فختمه ، وكان يحيى بن سعيد قد عاد فرجع مع ابن جعفر حتّى لحقا
بالإمام عليهالسلام فناوله يحيى الكتاب ، فلمّا قرأه كتب إليه جوابه : أمّا
بعد ، فإنّه لم يشاقق الله ورسوله من (دَعا إِلَى اللهِ
وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) وقد دعوت إلى الأمان والبرّ والصلة ، فخير الأمان أمان
الله! ولن يؤمّن الله يوم القيامة من لم يخفه في الدنيا ، فنسأل الله مخافة في
الدنيا توجب لنا أمانه يوم القيامة! فإن كنت نويت بالكتاب صلتي وبرّي فجزيت خيرا
في الدنيا والآخرة! والسلام.
وكان ممّا اعتذر
به إليهما أن قال لهما : إنّي رأيت رؤيا فيها رسول الله صلىاللهعليهوآله وامرت فيها بأمر أنا ماض له ، كان لي أو عليّ! فقالا له :
فما تلك الرؤيا؟ قال : ما حدّثت بها أحدا ، وما أنا محدّث بها حتّى ألقى ربّي!
فانصرفا إلى عمرو
الأشدق وقالا له : أقرأناه الكتاب وجهدنا به ، فأبى ، وحدّثاه بما أخبرهم من رؤياه
لجدّه رسول الله صلىاللهعليهوآله وأمره له بأمر هو يمضي له سواء كان له أو عليه ، وأنّه لم
يحدّثهم برؤياه أكثر من هذا وأعان عبد الله
__________________
الإمام بابنيه عون
ومحمد ، مع أمّهما أخت الحسين زينب عليهاالسلام وما دعاه الإمام ليكون معه. وكان كلّ ذلك قبل منزل التنعيم
الذي هو اليوم داخل مكّة وعن الكعبة بست كيلومترات.
وفي منزل التنعيم
:
كان الوالي الأموي
على اليمن بحير بن ريسان الحميري ، وكان طريق اليمن إلى الشام عن مكّة فالمدينة ،
وكان باليمن نبات كالسمسم يصنع منه غمرة وأدام يسمّى الورس لا يكون إلّا باليمن ،
فكان ابن ريسان قد حمّل منه قافلة إلى يزيد ومعهم حلل والتقى بهم الإمام عليهالسلام في منزل التنعيم ، فكأنّه رأى أن يعلن إنكاره ومعارضته
لحكم يزيد بمصادرة القافلة ، فأوقفها وقال لأصحاب الإبل فيها : من أجاب أن يمضي
معنا إلى العراق أوفينا كراءه وأحسنّا صحبته ، ومن أحبّ أن يفارقنا من مكاننا هذا
أعطيناه من الكراء على قدر ما قطع من الأرض. فمن أراد الانصراف اوفي حقّه ، ومن
مضى منهم معه أعطاه كراءه وكساه .
ابن مسهر من
الحاجر إلى الكوفة :
مرّ الخبر عن حمل
قيس بن مسهر الصيداوي الأسدي مع رفيقيه الأرحبي الهمداني والسلمي نحوا من مئة
وخمسين صحيفة من أهل الكوفة إلى الإمام عليهالسلام ،
__________________
ثمّ سرّحه الإمام
مع مسلم بن عقيل إلى الكوفة ، ثمّ حمل كتاب مسلم إلى الإمام من بطن الخبيت ، وحمل
جواب الإمام إليه ، ثمّ دخل معه الكوفة دار المختار ، ثمّ نفتقده في الكوفة حتّى
نجده مرّة أخرى مع الإمام في منزل الحاجر من بطن الرمّة ، وهو مفترق طرق المدينة
إلى الكوفة والبصرة ، فهنا كتب إلى أهل الكوفة :
بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من الحسين بن علي ، إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين ، سلام عليكم
، فإنّي أحمد إليكم الله الذي لا إله إلّا هو. أما بعد ؛ فإنّ كتاب مسلم بن عقيل
جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم ، واجتماع ملئكم على نصرنا والطلب بحقّنا ، فسألت
الله أن يحسن لنا الصنع ، وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر.
وقد شخصت إليكم من
مكّة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية.
فإذا قدم عليكم
رسولي [الصيداوي] فأكمشوا أمركم وجدّوا ، فإنّي قادم عليكم في أيّامي هذه إن شاء
الله ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
وكان إقبال الإمام
عليهالسلام من مكّة إلى الكوفة قد بلغ إلى ابن زياد ، وكان صاحب شرطته
الحصين بن تميم التميمي فأمره أن يرحل بخيله إلى القادسية في ثغر العراق فينظمّ
الخيل بينها إلى القطقطانة وإلى خفّان وإلى لعلع .
فلما انتهى قيس بن
مسهر الأسدي إلى القادسية أخذه الحصين التميمي فبعث به إلى ابن زياد ، فأمره أن يصعد
القصر فيسبّ الإمام عليهالسلام بلقب الكذّاب ابن الكذّاب ، فتظاهر بالقبول ، فأصعدوه
وأشرفوا به على الناس ، فناداهم : أيّها
__________________
الناس! إنّ هذا
الحسين بن علي خير خلق الله ابن فاطمة بنت رسول الله ، وأنا رسوله إليكم ، وقد
فارقته بالحاجر فأجيبوه! ثمّ استغفر لعلي عليهالسلام ولعن ابن زياد وأباه! فلمّا بلغه ذلك أمر أن يرمى به من
فوق القصر! فرموا به فمات شهيدا رحمهالله .
وخبر ابن بقطر :
كان من حمير اليمن
رجل بالمدينة يدعى بقطر الحميري وله ولد يدعى عبد الله ، وكانت أمّ عبد الله حضنت
الحسين عليهالسلام مع ابنها عبد الله فقيل إنّه رضيع الحسين عليهالسلام ، وخرج هذا معه فسرّح به من بعض الطريق (بلا تعيين) إلى
مسلم بالكوفة ، ويبدو أنّ ذلك كان بعد ابن مسهر ، فكذلك تلقته خيل الحصين التميمي بالقادسية
فسرّحوا به إلى ابن زياد ، فكذلك أمره أن يصعد القصر ويلعن الإمام عليهالسلام بلقب الكذّاب ابن الكذّاب ، فكذلك تظاهر بالقبول فأصعدوه
وأشرفوا به على الناس ، فناداهم : أيها الناس ، إنّي رسول الحسين ابن فاطمة بنت
رسول الله لتنصروه وتوازروه على ابن مرجانة وابن سميّة الدّعي! فلمّا بلغه ذلك أمر
فألقى من فوق القصر إلى الأرض ، وبقي به رمق فذبحه عبد الملك بن عمير اللخمي ،
فعيّره الناس فقال : أردت أن أريحه !
والتحق ابن القين
بالحسين عليهالسلام :
كان من القبائل
اليمنيّة المسلمة بنو بجيلة بن أنمار ابن خثعم ، والنسبة إليها البجلي تخفيفا ،
ومن أشرافهم جرير بن عبد الله واستعمله عثمان على همدان فكان
__________________
عليها يوم البصرة
ولم يحضر فيها مع قومه ، فكان عليهم فيها رفاعة بن شدّاد ثمّ استقدمه علي عليهالسلام فأرسله إلى معاوية ليدعوه إلى بيعته ، فتطاول معه بلا
نتيجة فاتّهمه الأشتر فاعتزل الإمام بجمع من قومه فهدم الإمام داره بالكوفة. وعاد
على من بقي منهم في صفّين رفاعة بن شدّاد ولقلّتهم كانوا مع الأزد براية مخنف بن سليم وكان جمع منهم مع معاوية ، قيل كانوا قليلا ، وقيل قاتلوا
همدان في يوم القتال الأعظم فقتلوا منهم في ذلك اليوم ثلاثة آلاف رجل !
وكان في سنة (٣٣ ه)
على عهد عثمان غزا الصحابيّ سلمان بن ربيعة الباهلي مدينة الخزر : بلنجر عند باب الأبواب (دربند) ومعهم زهير
بن القين بن قيس البجلي ، ففتح الله عليهم وأصابوا فيها غنائم فرحوا بها ، فلمّا
رأى ذلك قال لهم : أفرحتم بما فتح الله عليكم وأصبتم من الغنائم؟ قالوا : نعم ،
فقال لهم : إذا أدركتم شباب آل محمد صلىاللهعليهوآله فكونوا أشدّ فرحا بقتالكم معهم ، منكم بما أصبتم اليوم من
الغنائم ! ورفعه بلا إسناد ، ويبدو أنّه عن النبيّ صلىاللهعليهوآله.
وكان زهير بن
القين بن قيس يعرف بأنّه عثماني الرأي والهوى ، وحجّ من الكوفة بامرأته دلهم بنت
عمرو ، وابن عمّه سلمان بن مضارب بن قيس وآخرين
__________________
من بني فزارة مثله
في العثمانية ، فلمّا علموا بمسير الحسين عليهالسلام أسرعوا في قضاء مناسكهم ليعودوا فيكونوا من الحسين عليهالسلام على كثب لينظروا إلى ماذا يصير أمره ، ولحقوا به ولكنهم
كانوا يكرهون أن ينزلوا معه أو يسايروه! فتقدّم زهير ومن معه فنزل وسار الإمام عليهالسلام فتخلّف زهير ومن معه ، ثمّ لم يجدوا بدّا أن ينزلوا مع
الإمام عليهالسلام ظهرا وجلسوا يتغدّون.
فدخل عليهم رسول
الإمام وقال لزهير : يا زهير بن القين ؛ إنّ أبا عبد الله الحسين بن علي بعثني
إليك لتأتيه! وسمعت ذلك امرأته ورأت منه كراهة فقالت له : أيبعث إليك ابن رسول
الله ثمّ لا تأتيه! سبحان الله! لو أتيته فسمعت كلامه ثمّ انصرفت.
فذهب زهير إلى
الحسين عليهالسلام وعاد مستبشرا وقال لأصحابه : من أحبّ منكم أن يتبعني (فليتّبعن)
وإلّا فإنّه آخر العهد! ثمّ حدّثهم بحديث سلمان الباهلي عن النبي صلىاللهعليهوآله.
ثمّ التفت إلى
امرأته وقال لها : الحقي بأهلك فإنّي لا احبّ أن يصيبك بسببي إلّا خير ، فأنت طالق
وكأنّه أعلمه الإمام عليهالسلام بأنّه سيصيبه شرّ في الدنيا لخير الآخرة!
وكان ذلك في منزل
الخزيمية قبل زرود بأكثر من خمسة عشر ميلا.
وفي زرود :
ظهر للإمام عليهالسلام رجل من جانب الكوفة فوقف يريده ، وكأنّ الرجل ظنّ أنّه
الحسين عليهالسلام فعدل عن الطريق ، فلمّا رأى الإمام ذلك تركه ومضى. وكان
رجلان
__________________
من بني أسد الكوفة
: عبد الله بن سليم والمذري بن المشمعلّ قضيا حجّهما ولحقا بالإمام هنا ، فلمّا
رأيا ذلك توافقا ليلحقا بالرجل فيسألانه عن الكوفة ، ومضيا حتى انتهيا إليه وسلّما
عليه وتعارفا معه فإذا هو بكير بن المثعبة الأسدي أيضا وقال : لم أخرج من الكوفة
حتّى رأيت مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة مقتولين يجرّان بأرجلهما في السوق! فتركاه
ولحقا بالإمام عليهالسلام .
وفي الثعلبية :
وعند المساء وصل
الإمام عليهالسلام منزل الثعلبية فنزلها ، فجاءه الأسديان الكوفيان وسلّما
عليه وقالا له : يرحمك الله ، إنّ عندنا خبرا ، فإن شئت حدّثنا علانية وإن شئت
سرّا؟ فنظر إلى أصحابه وقال : ما دون هؤلاء سر. فقالا له : أرأيت الراكب الذي
استقبلك عشاء أمس؟ (كذا) قال : نعم وقد أردت مسألته. فقالا : قد كفيناك مسألته
واستبرأنا لك خبره ، وإنّه امرؤ منّا من بني أسد ذو رأي وصدق وفضل وعقل ، وإنّه
حدّثنا أنّه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وحتى رآهما يجرّان
في السوق بأرجلهما!
فتلا الحسين عليهالسلام : (إِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ)! ثمّ ردّد مرارا : رحمة الله عليهما.
فقالا له : إنّه
ليس لك بالكوفة «شيعة» فنحن نتخوّف أن تكون عليك ، فننشدك الله في نفسك وأهل بيتك
إلّا انصرفت من مكانك هذا! فلمّا سمع بنو عقيل ذلك وثبوا وقالوا : لا والله لا
نبرح حتّى ندرك ثأرنا أو نذوق ما ذاق أخونا!
__________________
فنظر الإمام عليهالسلام إلى الأسديّين وقال لهما : لا خير في العيش بعد هؤلاء!
فقالا له : خار الله لك. فقال : رحمكما الله.
وعلم أنّه قد عزم
على المسير قدما ، ولم يعلم أنّه أعلن خبر مقتل مسلم إعلانا عامّا. وانتظر حتّى
إذا كان السحر قال لفتيانه وغلمانه : أكثروا من حمل الماء. فاستقوا وأكثروا. ثمّ
ساروا .
وفي زبالة :
وكان عليهالسلام لا يمرّ بأهل ماء من مياه العرب إلّا اتّبعه الأعراب منهم
، وإنّما كانوا يتّبعونه ؛ لأنّهم ظنّوا أنّه عليهالسلام سيقدم بلدا قد استقامت له طاعة أهله ، وقد علم أنّه إذا
بيّن لهم الأمر لم يصحبه إلّا من يريد مواساته والموت معه! فكره أن يسيروا معه إلّا
وهم يعلمون علام يقدمون.
ولم يعلم كيف بلغه
عليهالسلام خبر مقتل رسوله عبد الله بن بقطر ، إلّا أنّه أوقف الناس
وأخرج لهم كتابا وخطبهم فقال : أما بعد ؛ فقد أتانا خبر فضيع قتل مسلم بن عقيل
وهانئ بن عروة وعبد الله بن بقطر ، وقد خذلتنا «شيعتنا»! فمن أحبّ منكم الانصراف
فلينصرف ، ليس عليه منّا ذمام!
فتفرّق الناس
تفرّقا فأخذوا يمينا وشمالا حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة.
ولما كان السحر
أمر فتيانه فاستقوا وأكثروا ، ثمّ سار عليهالسلام .
__________________
وفي بطن العقبة :
واجهه رجل من بني
عكرمة فقال له : إنّ هؤلاء الذين بعثوا إليك (لتأتيهم) لو كانوا وطّؤوا لك الأشياء
وكفوك مؤونة القتال فقدمت عليهم كان ذلك رأيا ، فأمّا على هذه الحال التي تذكرها
فإنّي لا أرى لك أن تفعل ، فأنشدك الله لمّا انصرفت!
فقال له : يا عبد
الله ؛ إنّه ليس يخفى عليّ ، الرأي ما رأيت! ولكنّ الله لا يغلب على أمره !
وأقبل الإمام عليهالسلام حتى بلغ منزل شراف وفيها آبار كبار كثيرة عذبة ، فنزل ،
فلمّا كان السحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء وأكثروا ، ثمّ ساروا .
لقاء الحرّ ، وخطب
الإمام عليهالسلام :
وقبيل الزوال قبيل
جبل ذي حسم لبني طيّئ كبّر رجل ممّن مع الإمام عليهالسلام ، وسمعه الإمام فكبّر ثمّ قال له : ممّ كبّرت؟ قال : رأيت
النخل! وكان معه الأسديّان الكوفيّان فقالا : ما رأينا في هذا المكان نخلة قط!
فسألهما الإمام : فما تريانه رأى؟ قالا : نرى رأى رؤوس الخيل! فصدّقهما الرجل.
فقال الإمام عليهالسلام : أما لنا (هنا) ملجأ نجعله في ظهورنا ونستقبل القوم من
وجه واحد؟ قال الأسديّان : بلى هذا جبل ذي حسم عن يسارك فهو كما تريد. فأخذ الإمام
إليه ذات يساره ومالوا معه فاستبقوا إليه قبل القوم ، وهم لما رأوا أنّ هؤلاء
عدلوا عن الطريق عدلوا إليهم ، فنزل الإمام عليهالسلام وأمر فضربوا الخيم.
فما كان بأسرع من
أن طلع القوم عليهم وهم ألف فارس مع الحرّ بن يزيد التميمي اليربوعي ، حتّى وقف هو
وخيله مقابل الحسين عليهالسلام في حرّ الظهر ،
__________________
والحسين وأصحابه
معتمّون متقلّدون أسيافهم. فقال الحسين لفتيانه : اسقوا القوم وارووهم من الماء
ورشّفوا الخيل ترشيفا .
فقام فتيانه وسقوا
القوم حتى أرووهم ، وأقبلوا يملؤون القصاع والطساس من الماء ويدنونها من الأفراس
تعبّ منها ثلاثا أو أربعا أو خمسا حتى سقوا كلّ الخيل.
وحضر الظهر فأمر
الإمام مؤذّنه الحجّاج بن مسروق الجعفي أن يؤذّن فأذّن ، ثمّ خرج الإمام بنعليه في
إزار ورداء فوقف يخطبهم فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم : أيّها الناس ، إنّها
معذرة إلى الله عزوجل وإليكم ، إنّي لم آتكم حتى أتتني كتبكم وقدمت عليّ رسلكم ،
أن أقدم علينا فإنّه ليس لنا إمام ، ولعلّ الله يجمعنا بك على الهدى. فإن كنتم على
ذلك فقد جئتكم ، فإن تعطوني ما أطمئنّ إليه من عهودكم ومواثيقكم ؛ أقدم مصركم ؛
وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه إليكم!
وسكت.
فسكتوا ولم يردّوا
جوابا بل قالوا للمؤذّن : أقم الصلاة ، فأقام ، فالتفت الحسين عليهالسلام إلى الحرّ وقال له : أتريد أن تصلّي بأصحابك؟ قال : لا ،
بل تصلّي ونصلّي بصلاتك. فصلّى بهم الحسين عليهالسلام ثمّ عاد إلى رحله مع أصحابه.
وانصرف الحرّ إلى
خيمة ضربت له مع أصحابه ، وعاد سائرهم إلى صفوفهم فجلسوا في ظلال الخيول حتى كان
وقت العصر ، وتهيّأ أصحاب الحسين عليهالسلام للرحيل ، ثمّ خرج وأمر مؤذّنه فأذّن للعصر ثمّ أقام ، ثمّ
استقدم الإمام فصلّى بهم وسلّم ثمّ انصرف بوجهه إلى القوم خطيبا فحمد الله وأثنى
عليه ثمّ قال لهم :
أما بعد ـ أيّها
الناس ـ فإنّكم إن تتّقوا وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى لله ، ونحن «أهل البيت»
أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس
__________________
لهم! والسائرين
فيكم بالجور والعدوان! وإن أنتم كرهتمونا وجهلتم حقّنا وكان رأيكم على غير ما
أتتني به كتبكم وقدمت عليّ به رسلكم انصرفت عنكم!
فقال الحرّ : إنّا
ـ والله ـ ما ندري ما هذه الكتب التي تذكرها!
فالتفت الإمام إلى
غلامه عقبة بن سمعان وقال له : يا عقبة ؛ أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إليّ!
فأخرج خرجين مملوءين صحفا فنثرها بين أيديهم. فلمّا رآها الحرّ قال : فإنّا لسنا
من هؤلاء الذين كتبوا إليك ، وقد أمرنا أن إذا نحن لقيناك أن لا نفارقك حتى نقدمك
على عبيد الله بن زياد! فقال له الحسين عليهالسلام : الموت أدنى إليك من ذلك! ثمّ التفت إلى أصحابه وقال لهم
: قوموا فاركبوا. فقاموا وركبوا وركبت نساؤهم ، وذهبوا لينصرفوا راجعين وتوقّف الحرّ
بخيله بينهم وبين الرجوع! فقال له الحسين عليهالسلام : ثكلتك أمّك ما تريد؟!
فقال الحرّ : أما
والله لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر
أمّه بالثكل كائنا من كان! ولكن ـ والله ـ ما لي إلى ذكر أمّك من سبيل إلّا بأحسن
ما نقدر عليه! فقال له الحسين عليهالسلام : فما تريد؟ قال الحرّ : أريد ـ والله ـ أن أنطلق بك إلى
عبيد الله بن زياد! قال له الحسين عليهالسلام : إذن ـ والله ـ لا أتّبعك! فقال الحر : إذن ـ والله ـ لا
أدعك!
ولما كثر الكلام
بينهما قال له الحرّ : إنّي لم اؤمر بقتالك ، وإنّما أمرت أن لا افارقك حتى أقدمك
الكوفة ، فإذ أبيت فخذ طريقا تكون نصفا بيني وبينك : لا تدخلك الكوفة ولا تردّك
إلى المدينة ، حتّى أكتب إلى ابن زياد ... فلعلّ الله أن يأتيني بأمر يرزقني فيه
العافية من أن أبتلي بشيء من أمرك! فتياسر عن طريق العذيب والقادسية. هذا وبينه
وبين العذيب : ثمانية وثلاثون ميلا (٧٧ كم تقريبا).
__________________
وخطبهم فقال :
«إنّه قد نزل بنا
من الأمر ما قد ترون ، وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفها واستمرّت جدّا
(حذّاء) ولم يبق منها إلّا صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل (الهالك)
ألا ترون إلى الحقّ لا يعمل به! وإلى الباطل لا يتناهى عنه! ليرغب المؤمن في لقاء
ربّه محقا! فإنّي لا أرى الموت إلّا شهادة والحياة مع الظالمين إلّا برما» ثمّ سار الإمام ويسايره الحرّ.
وخطبة أخرى
بالبيضة :
وقبل العذيب وصلوا
إلى البيضة فخطبهم الإمام عليهالسلام فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال :
أيّها الناس ؛ إنّ
رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : «من رأى سلطانا جائرا ، مستحلّا لحرام الله ، ناكثا
لعهد الله ، مخالفا لسنّة رسول الله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، فلم
يغيّر عليه بفعل ولا قول ، كان حقا على الله أن يدخله مدخله» ألا وإنّ هؤلاء قد
لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمان! وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود!
واستأثروا بالفيء! وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلال الله! وأنا أحقّ من غيّر!
وقد أتتني كتبكم
وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم أنّكم لا تسلموني ولا تخذلوني! فإن تممتم على بيعتكم
تصيبوا رشدكم ، فأنا الحسين بن علي وابن
__________________
فاطمة بنت رسول
الله صلىاللهعليهوآله ، نفسي مع أنفسكم وأهلي مع أهليكم ، ولكم فيّ أسوة. وإن لم
تفعلوا ، ونقضتم عهدكم ، وخلعتم بيعتي من أعناقكم ، فلعمري ما هي لكم بنكر! لقد
فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مسلم! والمغرور من اغترّبكم! فحظّكم أخطأتم ونصيبكم
ضيّعتم (فَمَنْ نَكَثَ
فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) وسيغني الله عنكم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
ثمّ سار وأخذ
الحرّ يسايره وقال له : يا حسين! إنّي اذكّرك الله في نفسك! فإنّي أشهد (أرى) لئن
قاتلت لتقاتلن ، ولئن قوتلت لتهلكنّ فيما أرى!
فقال له الحسين عليهالسلام : أفبالموت تخوّفني! وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني! ما
أدري ما أقول لك! ولكن أقول كما قال أخو الأوس (؟) لابن عمّه (؟) لقيه وهو يريد
نصرة رسول الله صلىاللهعليهوآله فقال له أين تذهب؟ فإنّك مقتول! فقال له :
سأمضي وما بالموت عار على الفتى
|
|
إذا ما نوى حقّا وجاهد مسلما
|
وآسى الرجال الصالحين بنفسه
|
|
وفارق مثبورا يغشّ ويرغما
|
فإن عشت لم أندم
، وإن متّ لم ألم
|
|
كفى بك ذلّا أن
تعيش وترغما
|
فلمّا سمع الحرّ
ذلك منه كأنّه أيس منه فتنحّى عنه بأصحابه ناحية ، متّجهين إلى :
__________________
عذيب الهجانات :
مرّ الخبر عن
تفادي قيس بن مسهر الصيداوي الأسدي ليخبر أهل الكوفة بقدوم الإمام إليهم ، فكأنّه
انبعث منه ومن شهادته ابن عمّه عمر بن خالد الصيداوي الأسدي ومعه مولاه سعد وجابر
بن الحارث السلماني ومجمّع بن عبد الله العائذي ، وبعث معهم نافع بن هلال الجملي
فرسه على أن يلحقهم ، وكان الطرماح الطائي قد قدم من قومه طيّئ إلى الكوفة ليشتري
لهم ، فصادفه هؤلاء وسألوه أن يصحبوه فيدلّهم على طريق تخلّصهم من شرطة ابن زياد
والحصين بن تميم التميمي ، فخلّصهم منهم حتّى انتهوا إلى ما بين عسكر الحرّ
والإمام عليهالسلام ، فتقدّم الحرّ إلى الإمام وأشار إلى هؤلاء النفر وقال :
إنّ هؤلاء الذين هم من أهل الكوفة ليسوا ممّن أقبل معك ، فأنا رادّهم أو حابسهم!
فقال الإمام عليهالسلام : لأمنعنّهم مما أمنع منه نفسي ، إنّما هؤلاء أعواني
وأنصاري ، وقد كنت أعطيتني أن لا تعرض لي بشيء حتى يأتيك كتاب من ابن زياد. فقال
الحر : أجل ، ولكن لم يأتوا معك ، فقال الحسين عليهالسلام : هم أصحابي وبمنزلة من جاء معي ، فإن تممت على ما كان
بيني وبينك وإلّا ناجزتك! فكفّ الحرّ عنهم. فأنشده بعضهم :
يا ناقتي لا تذعري من زجري
|
|
وشمّري قبل طلوع الفجر
|
بخير ركبان وخير سفر
|
|
حتّى تحلّي بكريم النّجر
|
الماجد الحرّ رحيب الصدر
|
|
أتى به الله لخير أمر
|
ثمّة أبقاه بقاء الدهر
|
__________________
فقال الإمام عليهالسلام : أما والله إني لأرجو أن يكون ما أراد الله بنا خيرا ،
ظفرنا أم قتلنا! ثمّ سألهم : أخبروني خبر الناس وراءكم؟
وكأنّ العائذي كان
أكبرهم فتقدّم وقال له : أمّا الأشراف فقد أعظمت رشوتهم وملئت غرائرهم (أحمالهم)
يستمال ودّهم ويستخلص به نصيحتهم ، فهم ألبّ واحد عليك! وأمّا سائر الناس بعد فإنّ
أفئدتهم تهوى إليك و (لكن) سيوفهم غدا مشهورة عليك!
وكأنّه عليهالسلام عرف فيهم عمر بن خالد الصيداوي فقال لهم : أخبروني هل لكم (علم)
برسولي إليكم؟ قالوا : من هو؟ قال : قيس بن مسهر الصيداوي. قالوا : نعم ، أخذه
الحصين بن تميم فبعث به إلى ابن زياد ، فأمره ابن زياد أن يلعنك ويلعن أباك! فصلّى
عليك وعلى أبيك ، ولعن ابن زياد وأباه! وأخبرهم بقدومك ودعا إلى نصرتك فأمر به ابن
زياد فألقي من أعلى القصر!
فلم يملك الإمام عليهالسلام دمعه ثمّ تلا : (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى
نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) اللهمّ اجعل لنا ولهم الجنة نزلا ، واجمع بيننا وبينهم في
مستقرّ رحمتك ورغائب مذخور ثوابك.
ثمّ تقدّم
الطرمّاح الطائي إلى الإمام وقال له : والله إني لأنظر فما أرى معك أحدا ، ولو لم
يقاتلك إلّا هؤلاء الذين أراهم ملازميك لكان كفى بهم. وقبل خروجي من الكوفة بيوم
رأيت ظهر الكوفة وفيه من الناس ما لم تر عيناي جمعا أكثر منه في صعيد واحد ، فسألت
عنهم فقيل لي : جمعوا ليعرضوا ثمّ يسرّحون إلى الحسين! فانشدك أن لا تقدم عليهم
شبرا. وإن أردت أن تنزل بلدا يمنعك الله به حتى ترى رأيك ويستبين لك ما أنت صانع ،
فسر حتّى أنزلك في منعة من جبلنا أجا!
__________________
فقال له الإمام :
جزاك الله وقومك خيرا! إنّه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم (عسكر الحرّ) قول لسنا
نقدر معه على الانصراف (عنهم) ولا ندري علام تنصرف الأمور بنا وبهم في العاقبة!
فقال الطرمّاح :
إنّي قد امترت من الكوفة ميرة لأهلي ومعي نفقة لهم ، فآتيهم فأضع ذلك فيهم ثمّ
اقبل إليك إن شاء الله ، فإن ألحقك فو الله لأكوننّ من أنصارك.
فقال الحسين عليهالسلام : فإن كنت فاعلا فعجّل رحمك الله. فقال : دفع الله عنك شرّ
الجنّ والإنس.
ثمّ مضى الحسين عليهالسلام حتى انتهى إلى ...
قصر بني مقاتل :
فلمّا بلغه نزل به
، وكان به فسطاط سأل عنه فقيل : هو لعبيد الله بن الحرّ الجعفي ، وكان من عثمانية
الكوفة ؛ ولذلك لحق بالشام وعاد معهم إلى الكوفة إلّا أنّه لما قبض زياد على حجر وأصحابه العشرة ، أخذ
يتمنّى لو كان معه عشرة لاستنقذهم ولكنّه لم يكن ممّن كتب إلى الحسين عليهالسلام ولا ممّن بايع مسلما له ، ولما علم بقدوم الإمام إلى
الكوفة كره أن يدخلها الحسين عليهالسلام وهو بها فيبتلي بأمره! فخرج منها إلى قصر بني مقاتل
متنحّيا عن طريق الحجاز إلى الكوفة ، ولا يدرى كيف تخلّص من شرطة ابن زياد. ولكن
تنكّب الإمام عن الطريق أدّى إليه.
__________________
فبعث إليه رسولا
وقال له : ادعوه لي. فلمّا أتاه الرسول قال له : هذا الحسين بن علي يدعوك. فاسترجع
الجعفي وقال : والله ما خرجت من الكوفة إلّا كراهة أن يدخلها الحسين وأنا بها!
والله ما أريد أن أراه ولا يراني! فعاد الرسول وأخبر الإمام بذلك ، إلّا أنّ
الإمام عليهالسلام أبى إلّا أن يأتيه! فأخذ نعليه فانتعل ثمّ قام فجاءه حتى
دخل فسلّم عليه ثمّ جلس ، ثمّ دعاه إلى الخروج معه ، فأعاد ابن الحرّ مقالته
السابقة! فقال الإمام عليهالسلام : فإن كنت لا تنصرنا فاتّق الله أن تكون ممّن يقاتلنا ، فو
الله لا يسمع واعيتنا أحد ثمّ لا ينصرنا إلّا هلك! ثمّ قام من عنده وعاد إلى رحله .
ألسنا على الحقّ :
وفي آخر الليل أمر
الإمام عليهالسلام أصحابه بالاستقاء من الماء ، فلمّا استقوا أمرهم بالرحيل
فارتحلوا من قصر بني مقاتل وساروا ساعة ، وخفق الإمام عليهالسلام برأسه خفقة ثمّ انتبه فقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ،
والحمد لله رب العالمين. قال ذلك مرّتين أو ثلاثا ، وكان إلى جانبه إبنه عليّ عليهالسلام على فرسه فأقبل إليه وقال مثل قوله ثمّ قال : يا أبة جعلت
فداك ممّ حمدت الله واسترجعت؟ فقال عليهالسلام : يا بنيّ : إنّي خفقت برأسي خفقة ، فعنّ (ظهر) لي فارس
على فرس فقال : القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم! فعلمت أنّها أنفسنا نعيت إلينا!
فقال علي : يا أبت لا أراك الله سوءا ، ألسنا على الحق؟! قال : بلى ، والذي إليه
مرجع العباد! فقال عليّ : يا أبت إذن لا نبالي أن نموت محقّين! فقال له : جزاك
الله من ولد خير ما جزى ولدا عن والده .
__________________
ثمّ لما أصبح نزل
فصلّى ثمّ عجّل الركوب ، وأخذ يتياسر بأصحابه عن الكوفة يريد أن يفارق الحرّ
وأصحابه ، فيأتيه الحرّ وأصحابه فيردّونهم إلى جهة الكوفة ، فإذا اشتدّوا في ردّهم
امتنعوا عليهم فارتفعوا فلم يزالوا يتياسرون ، حتّى انتهو إلى قرية من قرى الطفّ
تسمّى :
نينوى :
مرّ الخبر عن
الحرّ أنّه قال للإمام عليهالسلام : حتّى أكتب إلى ابن زياد. فيعلم أنّه قد كتب إليه فأجابه
:
أمّا بعد ؛ فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي ، فلا تنزله
إلّا بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء ، وقد أمرت رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتّى
يأتيني بإنفاذك أمري ، والسلام. ودعا مالك بن النسير البدّي الكندي وأرسله به.
وركب هذا الرسول
على نجيب له وعليه سلاحه وقوسه ، وخرج من الكوفة ، ولا يدرى كيف اهتدى إلى موضعهم؟
إلّا أنّهم لما انتهوا إلى نينوى إذا بهم يرون راكبا مقبلا من الكوفة ، فوقفوا
جميعا ينتظرونه ، حتّى انتهى إلى الحرّ فسلّم عليه وعلى من معه من أصحابه ثمّ دفع
إلى الحرّ الكتاب من ابن زياد. وقرأ الحرّ الكتاب ، ثمّ التفت إلى الإمام وأصحابه
وقال لهم : هذا كتاب الأمير عبيد الله بن زياد يأمرني فيه أن أجعجع بكم في المكان
الذي يأتيني فيه كتابه ، وهذا رسوله وقد أمره أن لا يفارقني حتّى انفّذ رأيه
وأمره.
وكان من قوم
الرسول من كندة مع الإمام : أبو الشعثاء يزيد بن زياد المهاصر البهدلي الكندي ،
نظر إلى الرسول وعنّ إليه وناداه : أمالك بن النسير
__________________
البدّي؟ قال : نعم
، فقال له يزيد بن زياد : ثكلتك أمّك! ماذا جئت فيه؟! قال : وما جئت فيه؟ أطعت
إمامي ووفيت ببيعتي! فقال له أبو الشعثاء : عصيت ربّك وأطعت إمامك في هلاك نفسك!
كسبت العار والنار! قال الله عزوجل : (وَجَعَلْناهُمْ
أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) فهو إمامك.
وكانوا بين كور
بابل (كربلاء) : نينوى ، والغاضرية وشفيّة ، فلمّا ألزمهم الحرّ وأصحابه بالنزول
في ذلك المكان على غير ماء ولا في قرية ، قالوا له : دعنا ننزل عند نينوى أو عند
الغاضرية أو عند شفيّة. فقال : لا والله لا أستطيع ذلك ، هذا رجل قد بعث عينا عليّ!
فالتفت ابن القين
إلى الحسين عليهالسلام وقال له : يابن رسول الله ، إنّ قتال هؤلاء أهون علينا من
قتال من يأتينا من بعدهم! فلعمري ليأتينا من بعد من ترى ما لا قبل لنا به!
فقال له الحسين عليهالسلام : ما كنت لأبدأهم بالقتال!
وكان من القرى
هناك على شاطئ الفرات قرية حصينة يعرفها زهير البجلي فقال للإمام عليهالسلام :
سر بنا إلى هذه
القرية فإنّها حصينة على شاطئ الفرات فننزلها ، فإن منعونا قاتلناهم! فقتالهم أهون
علينا من قتال من يجيء من بعدهم! مصرّا على ما قال من قبل. فسأله الإمام قال :
وأيّة قرية هي؟ قال : هي العقر. فقال الحسين عليهالسلام : اللهمّ إنّي أعوذ بك من العقر! ثمّ نزل.
وكان ذلك يوم
الخميس الثاني من المحرّم سنة إحدى وستين .
__________________
خروج ابن سعد إلى
كربلاء :
من همدان إلى
الريّ كانت تابعة للكوفة ، وبينهما كورة كبيرة كانت تسمّى : دشتبي أي الواحة
الحسناء ، وكان فلول الجيوش الفارسيّة وكثير منهم من جبال ديلمان في شمال إيران ،
إذا شعروا بضعف في أي ناحية يخرجون إليها فيغلبون المسلمين عليها ، وكأنّهم شعروا
بضعف الدولة بعد هلاك معاوية فخرجوا وغلبوا على دشتبي.
فكان ابن زياد بعد
أن جهّز الحصين بن تميم التميمي بأكثر من ألف معه لسدّ الطرق على الحسين عليهالسلام ، فجهّز هذا ألفا سواهم مع الحرّ الرياحي التميمي وقدّمه
لتلقّي الإمام عليهالسلام ، كتب لعمر بن سعد بن أبي وقّاص الزهري عهده على الرّي
وبعثه على أربعة آلاف من أهل الكوفة يسير بهم إلى دشتبي وأمره بالخروج إليها. وكان
لابن سعد حمّام في قرية من قرى الكوفة بيد مولاه أعين فكانت القرية تسمّى به : حمّام
أعين ، وخرج ابن سعد بعسكره إليها.
فلمّا بلغ ابن
زياد خبر وصول الإمام عليهالسلام إلى العراق دعا عمر بن سعد وقال له : سر إلى الحسين ، فإذا
فرغنا ممّا بيننا وبينه سرت إلى عملك.
فقال ابن سعد : إن
رأيت أن تعفيني فافعل. فقال ابن زياد : نعم ، على أن تردّ إلينا عهدنا! فقال عمر :
فأمهلني اليوم أنظر! فأمهله. فانصرف عمر يستشير نصحاءه ، فنهاه كلّهم.
وكان المغيرة
الثقفي في عهده على الكوفة قد تزوّج بأخت ابن سعد وله منها ابن يدعى حمزة ، فجاء
حمزة هذا إلى خاله ابن سعد وقال له : يا خال : انشدك الله أن تسير إلى الحسين
فتأثم بربّك وتقطع رحمك! فو الله لئن تخرج من دنياك ومالك وسلطان الأرض كلّها لو
كان لك ، فهو خير لك من أن تلقى الله بدم الحسين!
فقال عمر : فإنّي
أفعل إن شاء الله !
ولكنّه عاد إلى
ابن زياد فقال له : أصلحك الله! إنّك ولّيتني هذا العمل وكتبت لي العهد وسمع الناس
به ، فإن رأيت أن تنفّذ ذلك لي فافعل ، وابعث إلى الحسين في هذا الجيش من أشراف
الكوفة من لست بأغنى ولا أجزى عنك في الحرب منه ، وسمّى له أناسا.
فقال ابن زياد :
لا تعلّمني بأشراف أهل الكوفة ، ولست أستأمرك فيمن أريد أن أبعث! إن سرت بجندنا
وإلّا فابعث إلينا بعهدنا! فلمّا رأى عمر أن ابن زياد قد لجّ في أمره ، قبل أن
يسير بالجيش لحرب الحسين عليهالسلام.
وأبلغه ابن زياد
نزول الإمام بكربلاء ، فأسرع السير بهم إليها حتّى نزل بها في الغد من نزول الحسين
عليهالسلام في نينوى ، أي في يوم الجمعة الثالث من المحرم .
ما الذي جاء
بالإمام عليهالسلام :
مرّ الخبر عن
كتابة جمع من المنافقين إلى الحسين عليهالسلام لمّا رأوا كثرة من
__________________
كتب إليه من شيعته
، وكان منهم عزرة بن قيس الأحمسي ، وهو اليوم مع ابن سعد ، وما كان عمر منهم ولا
يعرفهم ، فدعا عزرة الأحمسي وقال له : ائت الحسين فسله : ما الذي جاء به وماذا
يريد؟ فاعتذر من ذلك.
وما كان هذا هو
الوحيد منهم فيمن مع عمر ، فإنّه استعرض جمعا من الرؤساء الذين كاتبوا الإمام
فكلّهم أبى وكرهه واستحيا منه أن يأتيه واعتذر! حتّى قام إليه كثير بن عبد الله
الشعبي الهمداني فقال : أنا أذهب إليه. ثمّ أضاف : والله لو شئت لأفتكنّ به! فقال
عمر : ما اريد أن تفتك به ، ولكن ائته فسله ما الذي جاء به؟
وكان الرجل من
همدان وكان منهم مع الإمام عليهالسلام : أبو ثمامة الصائدي الهمداني فهو يعرف الرجل ، فلمّا رآه
مقبلا إلى الإمام قال له : أبا عبد الله ؛ أصلحك الله ، قد جاءك شرّ أهل الأرض
وأجرأهم على الدم وأفتكهم! ثمّ قام إلى الرجل وقال له : ضع سيفك! قال : لا ، ولا
كرامة! إنّما أنا رسول ، فإن سمعتم منّي أبلغتكم ما ارسلت به إليكم ، وإن أبيتم
انصرفت عنكم! فقال له : فإنّي آخذ بقائم سيفك ثمّ تكلّم بحاجتك. قال : لا والله
ولا تمسّه! فقال له : أخبرني ما جئت به وأنا أبلّغه عنك ، ولا أدعك تدنو منه فإنّك
فاجر! فسبّه الشعبي فاستبّا ، ثمّ انصرف إلى عمر وأخبره الخبر.
فدعا عمر بقرّة بن
قيس الحنظلي التميمي وقال له : ويحك يا قرّة! الق حسينا فسله ما جاء به وماذا يريد؟
وهنا لأوّل مرّة نرى ذكر حبيب بن مظاهر الأسدي مع الإمام عليهالسلام بلا خبر عن كيفيّة وصوله إليه ، فلمّا رأى الإمام الرجل
مقبلا إليه قال لمن معه : أتعرفون هذا؟ فقال حبيب : نعم ، هذا رجل تميمي من حنظلة
، وهو ابن اختنا ، ولقد كنت أعرفه بحسن الرأي (والعقيدة) وما كنت أراه يحضر هذا
المحضر!
وجاء الرجل حتّى
سلّم على الحسين عليهالسلام وأبلغه رسالة عمر بن سعد إليه.
فقال الحسين عليهالسلام : كتب إليّ أهل مصركم هذا : أن أقدم. فأمّا إذ كرهوني فأنا
أنصرف عنهم!
فانصرف الرجل إلى
عمر فأخبره الخبر ، فقال عمر : إني لأرجو أن يعافيني الله من حربه وقتاله!
ثمّ كتب بذلك إلى
ابن زياد وفيه : «بسم الله الرحمنِ الرحيم ، أمّا بعد ، فإنّي حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسولي فسألته : عمّا
أقدمه وماذا يطلب ويسأل؟ فقال : كتب إليّ أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم فسألوني
القدوم ففعلت ، فأمّا إذ كرهوني وبدا لهم غير ما أتتني رسلهم فأنا منصرف عنهم»
فلمّا قرئ الكتاب قال ابن زياد :
الآن إذ علقت مخالبنا به
|
|
يرجو النجاة ولات حين مناص
|
ثمّ كتب ابن زياد
إلى ابن سعد : بسم الله الرحمنِ الرحيم ، أمّا
بعد ، فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت ، فاعرض على الحسين : أن يبايع ليزيد بن
معاوية هو وجميع أصحابه ، فإذا فعل ذلك رأينا رأينا ، والسلام. فلمّا أتى عمر بن
سعد الكتاب قال : قد حسبت أن لا يقبل ابن زياد العافية .
لقاء ابن سعد
بالإمام عليهالسلام :
كان قرظة بن كعب
من الخزرج من أنصار النبيّ ثمّ الوصيّ حتّى مات بالكوفة سنة إحدى وخمسين وترك ابنين : عليّا وعمرا ، والتحق عليّ بعمر بن
__________________
سعد! ولا نتحقّق
كيف التحق أخوه عمرو بالإمام عليهالسلام. وعزم الإمام على أن يلقى ابن سعد عسى ولعلّه يسعده
بإنقاذه له ، فدعا عمرو بن قرظة وأمره أن يلقى ابن سعد فيقول له عن الإمام عليهالسلام : أن القني الليل بين عسكري وعسكرك. فلقيه وعاد بقبوله.
فلمّا كان الليل
بعد العشاء خرج ابن سعد في نحو من عشرين فارسا ، وأقبل الإمام عليهالسلام في مثل ذلك ، فلمّا التقوا أمر الحسين عليهالسلام أصحابه أن يتنحّوا عنه ، وأمر عمر أصحابه بمثل ذلك. ثمّ
طال كلامهما حتّى ذهب هزيع منه ، ثمّ افترقا ، من غير أن يكون أصحابهما سمعوا من
ذلك شيئا ولا علموه .
وعاد ابن سعد ، وكان
يأمل في إطفاء النائرة ، فأساء الاستفادة من جهل الناس بما دار بينه وبين الحسين عليهالسلام ، وذلك بالافتراء على الإمام فيما كتب به إلى ابن زياد قال
: أمّا بعد ، فإنّ الله قد أطفأ النائرة وجمع الكلمة وأصلح أمر الأمة : هذا حسين
قد أعطاني :
ـ أن يرجع إلى المكان
الذي منه أتى.
ـ أو أن نسيّره
إلى أيّ ثغر من ثغور المسلمين شئنا ، فيكون رجلا من المسلمين له ما لهم وعليه ما
عليهم.
ـ أو أن يأتي يزيد
أمير المؤمنين (!) فيضع يده في يده ، فيرى رأيه فيما بينه وبينه! وفي هذا لكم رضا
وللأمّة صلاح!
وأشاع هذا فتحدّث
الناس أن الحسين عليهالسلام قال لابن سعد : اختاروا منّي خصالا ثلاثا :
ـ إمّا أن أرجع
إلى المكان الذي أقبلت منه.
__________________
ـ وإمّا أن
تسيّروني إلى أيّ ثغر من ثغور المسلمين شئتم ، فأكون رجلا من أهله لي ما لهم وعليّ
ما عليهم.
ـ وإمّا أن أضع
يدي في يد يزيد بن معاوية فيرى رأيه فيما بيني وبينه!
وتحدّث الناس
يزعمون أنّ حسينا عليهالسلام قال لابن سعد : اخرج معي إلى يزيد بن معاوية وندع العسكرين!
فقال عمر : إذن
تهدم داري! قال : أنا أبنيها لك! قال : وتؤخذ ضياعي! قال : إذن اعطيك خيرا منها من
مالي بالحجاز! فتكرّه عمر ذلك.
تحدّث الناس بذلك
وشاع فيهم من غير أن يكونوا قد سمعوا من ذلك شيئا ولا علموه .
وبعد مقتل الإمام عليهالسلام لما كان مولاه الذي أفلت من القتل معه : عقبة بن سمعان
يسمع ذلك يقول : لقد خرجت مع الحسين من المدينة إلى مكّة ومن مكّة إلى العراق ولم
افارقه حتّى قتل ، وليس من مخاطبة الناس له بكلمة بالمدينة ولا بمكّة ولا في
الطريق ولا بالعراق ولا في عسكره إلى يوم مقتله ، إلّا سمعتها! ألا والله ما
أعطاهم ما يتذاكر الناس وما يزعمون : من أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية ، ولا أن
يسيّروه إلى ثغر من ثغور المسلمين! ولكنّه قال : دعوني فلأذهب في هذه الأرض
العريضة ، حتّى ننظر إلى ما يصير أمر الناس .
جواب ابن زياد
لابن سعد :
وتحدّث بعض الناس
: أن حسينا عليهالسلام وابن سعد يجلسان بين العسكرين فيتحدّثان كلّ الليل! وبلغ
ذلك إلى شمر بن ذي الجوشن الضّبابي الكلابي ،
__________________
وكان حتّى ذلك
الحين من جلساء ابن زياد ومشاوريه ، وكان عند ابن زياد لما قرأ كتاب ابن سعد وقال
: هذا كتاب رجل ناصح لأميره مشفق على قومه (من القتال) نعم قد قبلت!
فقام إليه شمر
وقال له : أتقبل هذا منه؟! وقد نزل بأرضك إلى جنبك! والله لئن لم يضع يده في يدك
ورحل من بلدك ليكوننّ أولى بالقوة والعزّة! ولتكوننّ أولى بالضعف والعجز! فلا تعط
هذه المنزلة! فإنّها من الوهن! ولكن ينزل على حكمك هو وأصحابه ، فإن عاقبت فأنت
وليّ العقوبة! وإن غفرت كان لك ذلك! والله لقد بلغني أنّ حسينا وعمر بن سعد يجلسان
بين العسكرين فيتحدّثان عامّة الليل! فأثّر ذلك في ابن زياد حتّى عطف رأيه إلى رأي
شمر وقال له : نعم ما رأيت ، الرأي رأيك ! وكأنه سأله : هل هو مستعدّ لتنفيذ ذلك في الحسين عليهالسلام؟ فقال : نعم.
فبدل أن يكتب إلى
ابن سعد بقبوله بما كتب إليه ، كتب إليه بأشدّ القول : أمّا بعد ، فإنّي لم أبعثك
إلى حسين لتكفّ عنه ، ولا لتطاوله ، ولا لتمنّيه السلامة والبقاء ، ولا لتقعد له
شافعا عندي ... انظر فإن نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم إليّ
سلما! وإن أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم ، ومثّل بهم! فإنّهم لذلك مستحقّون! وإن
قتل حسين فأوطئ الخيل صدره وظهره! فإنّه عاقّ شاقّ! قاطع ظلوم! وليس دهري في هذا
أن يضرّ شيئا بعد الموت ؛ ولكن عليّ قول : لو قد قتلته فعلت به هذا! فإن أنت مضيت
لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع المطيع! وإن أبيت فاعتزل عملنا وجندنا! وخلّ بين
شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر ، فإنّا قد أمرناه بأمرنا! والسلام فأفاد من عامل المسابقة بينهما في طاعته وجزائه!
__________________
ثمّ قال لشمر :
اخرج بهذا الكتاب إلى عمر بن سعد ، فليعرض على الحسين وأصحابه النزول على حكمي!
فإن فعلوا فليبعث بهم إليّ سلما! وإن هم أبوا فليقاتلهم ، فإن فعل فاسمع له وأطع ،
وإن هو أبى فقاتلهم فأنت أمير الناس! وثب عليه فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه !
وكان من الكلابيين
الحاضرين عبد الله بن أبي المجل (بالجيم) حزام الكلابي خال العباس بن علي وإخوته
من أم البنين بنت حزام فاتّفق مع ابن ذي الجوشن وقاما إلى ابن زياد فقال له عبد
الله : أصلح الله الأمير! إنّ بني اختنا مع الحسين ، فإن رأيت أن تكتب لهم أمانا
فعلت! فقال ابن زياد : نعم ، ونعمة عين! ثمّ أمر كاتبه أن يكتب لهم أمانا ففعل
وأعطاه لابن حزام ، فبعث به مع مولاه كزمان مع ابن ذي الجوشن .
قدوم الكلابي إلى
كربلاء :
أقبل شمر بكتاب
ابن زياد إلى ابن سعد ، فلمّا قدم عليه وقدّم له الكتاب وقرأه قال له : ويلك! ما
لك؟! لا قرّب الله دارك! وقبّح الله ما قدمت به عليّ! والله لأظنّك أنت ثنيته أن
يقبل ما كتبت به إليه ، وأفسدت علينا أمرا كنّا رجونا أن يصلح ، والله إنّ حسينا
لا يستسلم! إن نفسا أبيّة لبين جنبيه!
وكانت مظنّة ابن
سعد صادقة في شمر فلم يردّ عليه في ذلك بل قال له : أخبرني ما أنت صانع؟! أتمضي
لأمر أميرك وتقتل عدوّه؟! وإلّا فخلّ بيني وبين
__________________
الجند والعسكر!
فقال ابن سعد : لا ولا كرامة لك! أنا أتولّى ذلك! ولكنّه جعله المباشر دونه فقال
له : كن أنت على الرجّالة ، فكان هو وهم مباشري القتال.
ثمّ خرج شمر مع
كزمان مولى ابن حزام إلى أصحاب الحسين عليهالسلام حتّى وقف إليهم ونادى : أين بنو أختنا؟! وكأنّهم عرفوه من
كلاب فخرج إليه العباس وجعفر وعثمان بنو علي من امّ البنين الكلابيّة فقالوا له :
ما لك وما تريد؟ قال : أنتم يا بني اختي آمنون! وتقدّم إليهم كزمان بكتاب ابن زياد
وقال لهم : هذا أمان بعث به خالكم!
قال الفتية لشمر :
لعنك الله ولعن أمانك لئن كنت خالنا! أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له! وقالوا
لكزمان : أقرئ خالنا السلام وقل له : لا حاجة لنا في أمانكم ، فأمان الله خير من
أمان ابن سميّة فانصرفا عنهم آئبين خائبين.
منع الإمام
وأصحابه عن الماء :
مرّ الخبر عن كتاب
ابن زياد للحرّ الرياحي أن : ينزل الإمام بالعراء على غير ماء! فأخذ الحرّ القوم
بالنزول على غير ماء ولا عند قرية ، إلّا أنّه لم يمنعهم عن الماء ، حتّى حضر شمر
، فيظهر أنّه أخبر بذلك ابن زياد يتزلّف به إليه دون ابن سعد. وكان بنو امية
يتّهمون عليّا عليهالسلام ومعه بني هاشم بخذلان عثمان حتّى قتل عطشانا! ولذلك سبق
معاوية في صفّين إلى مورد الفرات فمنعه عن علي عليهالسلام ، وعاد اليوم ابن زياد الدعيّ لهم فكتب إلى ابن سعد : أمّا
بعد ، فحل بين الحسين وأصحابه وبين الماء! فلا يذوقوا منه قطرة! كما صنع بالتقيّ
الزكيّ المظلوم أمير المؤمنين عثمان بن عفّان!
__________________
فدعا عمر بعمرو بن
الحجّاج الزبيدي على خمسمئة فارس ، لينزلوا على شريعة الفرات ، فيحولوا بين حسين عليهالسلام وأصحابه وبين الماء أن يستقوا منه قطرة! وكان ذلك قبل قتله
بثلاث ليال .
وكان فصل الصيف
وكثرة الحاجة إلى الماء ، فدعا الحسين عليهالسلام أخاه العباس ابن عليّ ليلا وندب معه ثلاثين فارسا وعشرين
راجلا يحملون القرب ، وأمامهم نافع بن هلال الجملي يحمل لواءهم ، فذهبوا نحو
الشريعة حتّى دنوا من الماء ، ليلة السابع من المحرم ، وضوء القمر ضعيف ، وأبصر
عمرو بن الحجاج شبح نافع فنادى : من الرجل؟ فقال نافع : أنا نافع بن هلال. فقال :
ما جاء بك؟ قال : جئنا لنشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه! قال : فاشرب هنيئا!
قال : لا والله لا أشرب منه قطرة وحسين عطشان ومن ترى من أصحابه! وأشار إلى أصحابه
فطلعوا عليه! فقال عمرو : لا سبيل إلى سقي هؤلاء! إنّما وضعنا بهذا المكان لنمنعهم
الماء! ونادى نافع أصحاب القرب قال : املؤوا قربكم. فملؤوا قربهم. فثار إليهم عمرو
وأصحابه ، فحمل عليهم نافع والعباس وأصحابهم فكفّوهم عنهم حتّى عاد أصحاب القرب
إليهم فقالوا لهم : امضوا ، ووقفوا دونهم ، وتطارد الحجّاج وأصحابه مع أصحاب
الحسين ، وجاء أصحاب القرب فأدخلوها على الحسين وأصحابه. وإنّما طعن نافع رجلا من
أصحاب عمرو بن الحجّاج ، وانتقضت طعنته بعد ذلك فمات منها ، فهو أوّل جريح من القوم تلك الليلة.
زحف ابن سعد عصر
التاسع :
عصر التاسع من
المحرم صلّى ابن سعد العصر ثمّ نادى : يا خيل الله اركبي
__________________
وأبشري! فنادى
مناديه بذلك ، وتنادى الناس وركبوا ، ثمّ زحف بهم نحو بيوت الحسين عليهالسلام.
وكان الإمام عليهالسلام بعد صلاة العصر قد احتبى بسيفه جالسا أمام بيته ، وقد خفق
برأسه على ركبته.
وسمعت أخته زينب
ابنة علي الضجّة ، فدنت من أخيها وقالت له : يا أخي أما تسمع الأصوات قد اقتربت!
فرفع الحسين عليهالسلام رأسه فقال : إني رأيت رسول الله صلىاللهعليهوآله في المنام فقال لي : إنّك تروح إلينا! فلطمت اخته زينب
وجهها وقالت : يا ويلتا! فقال : ليس لك الويل يا أخيّة اسكتي رحمك الرحمن.
وسمعهم العباس
ودنا فقال له : يا أخي أتاك القوم! فنهض الإمام وقال له : يا عباس ، اركب بنفسي
أنت ـ يا أخي ـ حتّى تلقاهم فتقول لهم : ما لكم؟ وما بدا لكم؟ وتسألهم عمّا جاء
بهم.
فانتدب معه عشرون
فارسا منهم حبيب بن مظاهر الأسدي ، وزهير بن القين البجلي ، واستقبلوهم.
فناداهم العباس :
ما بدا لكم؟ وماذا تريدون؟
قالوا : جاء أمر
الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو ننازلكم!
فقال العباس : فلا
تعجلوا حتّى أرجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم.
فقالوا : القه
فأعلمه ذلك ثمّ القنا بما يقول. فانصرف العباس يركض فرسه إلى أخيه يخبره ، ووقف
أصحابه ، ووقف القوم. فقال حبيب بن مظاهر لزهير بن القين : كلّم القوم إن شئت وإن
شئت كلّمتهم. قال له زهير : أنت بدأت بهذا فكن أنت تكلّمهم.
فرفع حبيب صوته
يخاطب زهيرا قال : أما والله لبئس القوم غدا عند الله قوم يقدمون عليه وقد قتلوا
ذريّة نبيّه عليهمالسلام وعترته وأهل بيته صلىاللهعليهوآله وعبّاد أهل هذا المصر (الكوفة) المجتهدين بالأسحار
والذاكرين الله كثيرا.
وكان عزرة بن قيس
البجلي أمام القوم قريبا من حبيب فسمعه فقال له : إنّك لتزكّي نفسك ما استطعت! حيث
وصف أصحاب الحسين بالمجتهدين بالأسحار والذاكرين الله كثيرا.
فأجابه زهير
البجلي قال : يا عزرة! إنّ الله قد زكّاها وهداها ، فاتّق الله يا عزرة ، فإني لك
من الناصحين ، أنشدك الله يا عزرة أن تكون ممّن يعين الضلّال على قتل النفوس
الزكية!
فقال له عزرة
البجلي : يا زهير! ما كنت عندنا من «شيعة» أهل هذا البيت! إنّما كنت عثمانيا!
فأجابه زهير
البجلي : أفلست تستدلّ بموقفي هذا أنّي منهم! أما والله ما كتبت إليه كتابا قط!
ولا أرسلت إليه رسولا قطّ! ولا وعدته نصرتي قطّ! ولكنّ الطريق جمع بيني وبينه ،
فلمّا رأيته ذكرت به رسول الله صلىاللهعليهوآله ومكانه منه ، وعرفت ما يقدم عليه من عدوّه وحزبكم ، فرأيت
أن أكون في حزبه وأنصره وأجعل نفسي دون نفسه ، حفظا لما ضيّعتم من حقّ الله وحقّ
رسوله.
ولمّا عاد العباس
إلى الحسين عليهالسلام بما عرض عليه عمر بن سعد ، قال الحسين : ارجع إليهم فإن
استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة وتدفعهم عنّا العشيّة ، لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة
وندعوه ونستغفره ، فهو يعلم أنّي كنت احبّ الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء
والاستغفار!
فعاد العباس يركض
فرسه حتّى انتهى إليهم فقال لهم : يا هؤلاء! إنّ أبا عبد الله يسألكم أن تنصرفوا
هذه العشيّة حتّى ينظر في هذا الأمر ، فإنّ هذا أمر لم يجر بينكم وبينه فيه منطق ،
فإذا أصبحنا التقينا إن شاء الله ، فإمّا رضيناه
فأتينا بالأمر
الذي تسألونه وتسومونه ، أو كرهنا فرددناه. وإنّما أراد بذلك أن يردّهم عنه تلك
العشيّة حتّى يأمر بأمره ويوصي أهله.
وحيث كان شمر هو
الذي جاء بالإسراع ، وأصبح هو المباشر للقتال قال له عمر : يا شمر ما ترى؟
فقال شمر : أنت
الأمير والرأي رأيك! فأقبل عمر على سائر الناس وقال لهم : ماذا ترون؟
وكان عمرو بن
الحجاج معه فقال له : سبحان الله! والله لو كانوا من الديلم ثمّ سألوك هذه المنزلة
لكان ينبغي لك أن تجيبهم إليها!
وقال قيس بن
الأشعث بن قيس الكندي لعمر : أجبهم إلى ما سألوك ، فلعمري ليصبحنّك غدوة بالقتال!
فدعا ابن سعد رجلا وأمره أن يتقدّم إلى أصحاب الحسين عليهالسلام ويسمعهم قوله : إنا قد أجّلناكم إلى غد ، فإن استسلمتم
سرّحنا بكم إلى أميرنا عبيد الله بن زياد ، وإن أبيتم فلسنا بتاركيكم! فأتاهم وقام
بحيث يسمع صوته وناداهم به وانصرف .
خطبة الإمام مساء
التاسع :
ما عاد ابن سعد عن
الحسين وأصحابه إلّا قرب المساء ، فبعد ما رجع عمر عنه جمع الحسين عليهالسلام أصحابه ليخطبهم ، وكان عليّ بن الحسين السجّاد مريضا فرووا
عنه قال : دنوت منه لأسمع أبي فسمعته يقول لهم :
أثني على الله ـ
تبارك وتعالى ـ أحسن الثناء ، وأحمده على السرّاء والضرّاء. اللهم إني أحمدك على
أن أكرمتنا بالنبوّة ، وعلّمتنا القرآن ، وفقّهتنا في الدين ، وجعلت لنا أسماعا
وأبصارا وأفئدة ولم تجعلنا من المشركين.
__________________
أما بعد ، فإني لا
أعلم أصحابا أولى ولا خيرا من أصحابي! ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي!
فجزاكم الله عنّي جميعا خيرا.
ألا وإني أظنّ
يومنا من هؤلاء القوم غدا ، ألا وإنّي قد رأيت لكم ، فانطلقوا جميعا في حلّ ليس
عليكم منّي ذمام ، هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملا!
ثمّ ليأخذ كلّ رجل
منكم بيد رجل من أهل بيتي [و] تفرّقوا في سوادكم ومدائنكم حتّى يفرّج الله! فإنّ
القوم إنّما يطلبوني ، ولو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري.
فقال له أخوه
العباس : لم نفعل [ذلك] ألنبقى بعدك؟! لا أرانا الله ذلك أبدا! ثمّ تكلّم بهذا
ونحوه إخوته وابنه عليّ ، وبنو أخيه الحسن ، وابنا عبد الله بن جعفر. وكأنما لم
يسمع الإمام عليهالسلام من بني عمّه عقيل مثل ذلك فقال لهم : يا بني عقيل! حسبكم
من القتل بمسلم ، اذهبوا قد أذنت لكم!
فقالوا : فما يقول
الناس؟! يقولون : إنا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ولم نرم معهم
بسهم ولم نطعن معهم برمح ولم نضرب معهم بسيف! ولا ندري ما صنعوا! لا والله لا نفعل!
ولكن تفديك أنفسنا وأموالنا وأهلونا! ونقاتل معك حتّى نرد موردك! فقبّح الله العيش
بعدك!
وكان مسلم بن
عوسجة الأسدي قد التحق بالإمام عليهالسلام من الكوفة قبل اليوم بلا خبر في كيفية ذلك ، فقام وقال :
أنحن نخلّي عنك! ولمّا نعذر إلى الله في أداء حقّك! أما والله حتّى أكسر في صدورهم
رمحي ، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي! ولا افارقك ، ولو لم يكن معي سلاح
اقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتّى أموت معك!
وكان سعيد بن عبد
الله الحنفي أيضا قد التحق بالإمام عليهالسلام بلا خبر في كيفية ذلك ، فقام وقال : والله لا نخلّيك حتّى
يعلم الله أنّا حفظنا غيبة رسول الله صلىاللهعليهوآله فيك ،
والله لو علمت أني
اقتل ثمّ أحيا ثمّ احرق حيّا ثمّ اذرّ! يفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتّى
ألقى حمامي دونك! فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ، ثمّ هي الكرامة التي لا
انقضاء لها أبدا!
وقام زهير بن
القين وقال : والله ليت أني قتلت ثمّ نشرت ثمّ قتلت ، حتّى اقتل كذا ألف قتلة ،
وأنّ الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك!
وقال آخرون من
أصحابه : والله لا نفارقك! ولكنّ أنفسنا لك الفداء! نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا
، فإذا نحن قتلنا كنّا وفينا وقضينا ما علينا!
وتكلّم جماعة
أصحابه في وجه واحد بكلام يشبه بعضه بعضا .
الإمام وزينب ليلة
عاشوراء :
كان لأبي ذر
الغفاري مولى يدعى حوي كان انتهى بعد وفاة أبي ذر إلى دار عليّ ثمّ الحسنين عليهمالسلام ، فكان اليوم مع الحسين عليهالسلام وانصرف الإمام بعد خطبته إلى خيمته وناول سيفه إلى حويّ
هذا فكان يعالجه ويصلحه ، والإمام يقول :
يا دهر افّ لك من خليل
|
|
كم لك بالإشراق والأصيل
|
من صاحب أو طالب قتيل
|
|
والدهر لا يقنع بالبديل
|
وإنّما الأمر إلى الجليل
|
|
وكلّ حيّ سالك سبيلي
|
وأعادها مرّتين أو
ثلاثا. فروى أبو مخنف عن السجّاد عليهالسلام : أنّه كان جالسا عندئذ في خيمة مجاورة وعنده عمّته زينب
تمرّضه وهي حاسرة ، وفهم هو
__________________
كلام أبيه وعرف ما
أراد وعلم أنّ البلاء قد نزل! وخنقته عبرته ولكنّه ردّها ولزم السكون.
قال : فأمّا عمّتي
فإنّها ـ وهي امرأة وفي النساء الرقّة والجزع ـ لمّا سمعت ما سمعت لم تملك نفسها
دون أن وثبت إليه تجرّ ثوبها حتّى انتهت إليه (في خيمته ، ولعل المولى خرج) فنادت
: وا ثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة! اليوم ماتت فاطمة امّي! وعليّ أبي ، وحسن
أخي ، يا خليفة الماضي وثمال الباقي!
فقال لها الحسين عليهالسلام : يا اخيّة! لا يذهبنّ بحلمك الشيطان!
فقالت : بأبي أنت
وأمي يا أبا عبد الله! استقتلت نفسي فداك!
فقال لها : «لو
ترك القطا لنام»!
فقالت : يا ويلتى!
أفتغصب نفسك اغتصابا! فذلك أقرح لقلبي وأشدّ على نفسي!
ولطمت وجهها!
وأهوت إلى جيبها فشقّته وخرّت مغشيا عليها!
فقام إليها الحسين
عليهالسلام فصبّ على وجهها الماء (كذا ولمّا أفاقت) قال لها :
يا اخيّة! اتّقي
الله! وتعزّي بعزاء الله! واعلمي أنّ أهل الأرض يموتون ، وأنّ أهل السماء لا يبقون
، وأنّ كلّ شيء هالك إلّا وجه الله ، الذي خلق الأرض بقدرته ويبعث الخلق فيعودون
وهو فرد وحده. أبي خير منّي وأمّي خير منّي ، وأخي خير منّي ، ولي ولكلّ مسلم
برسول الله اسوة! يا اخيّة! إنّي اقسم عليك فأبرّي قسمي : لا تشقّي عليّ جيبا! ولا
تخمشي عليّ وجها! ولا تدعي عليّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت! ثمّ (أخذ بيدها)
وجاء بها حتّى أجلسها عندي .
__________________
الإمام وأصحابه
ليلة عاشوراء :
ثمّ خرج الإمام عليهالسلام إلى أصحابه فأمرهم أن يقلعوا الخيم ويقرّبوا بعضها من بعض
حتّى تتداخل أطناب بعضها في بعض ويجعلوا موقفهم بينها من وجه عدوهم.
وأن يجمعوا ما
أمكنهم من حطب وقصب إلى ماورائهم ، وكان وراءهم مكان منخفض كساقية ، فأمرهم أن
يحفروه في ساعة من الليل حتّى يجعلوه كالخندق ، ثمّ يلقوا فيه ذلك الحطب والقصب ،
حتّى إذا عدا عليهم الأعداء يلقون فيه النار كي لا يؤتوا من ورائهم ويقاتلوا القوم
من وجه واحد .
ثمّ قاموا الليل
كلّه يصلّون ويستغفرون ويدعون ويتضرّعون ، ويقرؤون القرآن.
وكان ابن سعد قد
جعل عليهم خيلا تحرسهم (لئلّا يفرّوا!) وارتفع صوت الإمام عليهالسلام بهذه الآيات : (وَلا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي
لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ* ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ
الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ
الطَّيِّبِ ...) وكان صوته عاليا بحيث يسمعه القوم ، فسمعه منهم أبو حرب
عبد الله بن شهر الهمداني السبيعي وكان بطّالا فاتكا مضحاكا حتّى أنّه حبس سابقا
في جناية ، فرفع صوته قائلا : نحن وربّ الكعبة الطيّبون ميّزنا منكم!
وحيث كان من همدان
عرفه الضحّاك بن عبد الله المشرقي الهمداني فعرّفه لابن عمّه برير بن حضير
الهمداني ـ وكان التحق بالإمام عليهالسلام من الكوفة بلا خبر في
__________________
كيفيته ـ فناداه
برير : يا فاسق! أنت يجعلك الله في الطّيبين؟! فسأله أبو حرب : من أنت؟ قال : أنا
برير بن حضير! قال أبو حرب : إنّا لله! عزّ عليّ! هلكت والله يا برير! قال برير :
يا أبا حرب هل لك أن تتوب إلى الله من ذنوبك العظام! فو الله إنّا لنحن الطيّبون
ولكنّكم لأنتم الخبيثون! فقال أبو حرب : وأنا على ذلك من الشاهدين! قال برير :
قبّح الله رأيك! أنت سفيه على كل حال! وانصرف الرجل .
__________________
أخبار عاشوراء
(١)
مقاتل أنصار سيد الشهداء عليهالسلام
صبيحة يوم عاشوراء
:
في يوم عاشوراء في
كربلاء كان ربع تميم ومعهم همدان مع الحرّ بن يزيد الرياحي اليربوعي التميمي ،
وربع كندة ومعهم ربيعة مع قيس بن الأشعث الكندي ، وربع مذحج ومعهم بنو أسد مع عبد
الرحمن بن أبي سبرة الجعفي المذحجي ، وربع أهل المدينة مع عبد الله بن زهير
الأزدي.
وجعل ابن سعد على
الخيل عزرة بن قيس الأحمسي ، وعلى الرّجالة شبث بن ربعي الرياحي التميمي ، وجعل
على ميمنته عمرو بن الحجّاج الزبيدي ، وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن الكلابي
الضبابي ، وكانت راية ابن سعد بيد مولاه ذويد وصلّى صلاة الغداة (الصبح) وخرج فيمن معه من الناس .
فروى عن عليّ بن
الحسين زين العابدين عليهالسلام قال : لمّا صبّحت الخيل الحسين عليهالسلام رفع يديه فقال :
__________________
«اللهمّ أنت ثقتي
في كلّ كرب ، ورجائي في كلّ شدّة ، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة وعدّة ، كم من
أمر يضعف فيه الفؤاد وتقلّ فيه الحيلة ، ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدو ،
أنزلته بك وشكوته إليك ، رغبة منّي عن من سواك ، ففرّجته وكشفته ، فأنت وليّ كلّ
نعمة وصاحب كلّ حسنة ومنتهى كلّ رغبة» .
وأمر الإمام عليهالسلام أن يضرموا النار في الحطب في الخندق خلفهم فأضرموها ،
وبادر شمر الكلابي وهو كامل الأداة يركض فرسه حتّى دنا من معسكر الإمام فإذا هو لا
يرى إلّا حطبا تلتهب فيه النار ، فرجع ونادى بأعلى صوته : يا حسين! استعجلت النار
في الدنيا قبل يوم القيامة!
فقال الحسين عليهالسلام لأصحابه : كأنّه شمر بن ذي الجوشن! فقالوا : نعم ، أصلحك
الله ، هو هو.
فأجابه الإمام :
يابن راعية المعزى! أنت أولى بها صليّا!
فقال مسلم بن
عوسجة : يابن رسول الله ، جعلت فداك ، ألا أرميه بسهم فإنّه قد أمكنني والفاسق من
أعظم الجبّارين! فقال له الحسين عليهالسلام : لا ترمه ؛ فإنّي أكره أن أبدأهم .
وكان الحسين عليهالسلام بعد أن صلّى بأصحابه صلاة الغداة (الفجر) ومعه اثنان
وثلاثون فارسا وأربعون راجلا ، فأعطى رايته أخاه العباس ، وجعل على ميمنته زهير بن
القين البجلي ، وعلى ميسرته حبيب بن مظاهر الأسدي .
__________________
الخطبة الأولى
للإمام عليهالسلام :
ولمّا دنا القوم
من الإمام عليهالسلام دعا براحلته (الناقة) فركبها ، ثمّ دنا منهم بين أخيه
العباس وابنه علي الأكبر ، ثمّ ناداهم بأعلى صوته :
أيّها الناس ،
اسمعوا قولي ، ولا تعجلوني حتّى أعظكم بما يحقّ لكم عليّ ؛ وحتّى أعتذر إليكم من
مقدمي عليكم! فإن قبلتم عذري وصدّقتم قولي ، وأعطيتموني النصف ، كنتم بذلك أسعد ،
ولم يكن لكم عليّ سبيل ، وإن لم تقبلوا منّي العذر ، ولم تعطوا النصف من أنفسكم (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ
ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا
تُنْظِرُونِ) ، (إِنَّ وَلِيِّيَ
اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ).
ولما كان نداؤه
بأعلى صوته سمعه جلّ الناس ، وسمعه أخواته وبناته فارتفعت أصواتهن حتّى بلغته ،
فالتفت إلى أخيه العباس وابنه عليّ وقال لهما : سكّتاهنّ فلعمري ليكثرنّ بكاؤهن ؛
فذهبا فسكّتاهن.
ثمّ حمد الله
وأثنى عليه وذكر الله بما هو أهله ، وصلّى على محمد صلىاللهعليهوآله ، وعلى ملائكته وأنبيائه ثمّ قال : أمّا بعد ، فانسبوني
فانظروا من أنا؟ ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها ، فانظروا هل يحلّ لكم قتلي
وانتهاك حرمتي؟! ألست ابن بنت نبيّكم صلىاللهعليهوآله؟ وابن «وصيّه» وابن عمّه ، وأوّل المؤمنين بالله والمصدّق
لرسوله بما جاء به من عند ربّه؟! أو ليس حمزة سيد الشهداء عمّ أبي؟! أو ليس جعفر
الشهيد الطيار ذو الجناحين عمّي؟!
__________________
أو لم يبلغكم قول
مستفيض فيكم : أن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال لي ولأخي : «هذان سيّدا شباب أهل الجنة»؟! فإن
صدّقتموني بما أقول ، وهو الحق ، فو الله ما تعمّدت كذبا مذ علمت أنّ الله يمقت
عليه أهله ويضرّ به من اختلقه ... وإن كذّبتموني! فإنّ فيكم من إن سألتموه عن ذلك
أخبركم :
سلوا : جابر بن
عبد الله الأنصاري ، أو أبا سعيد الخدري ، أو سهل بن سعد الساعدي ، أو زيد بن أرقم
، أو أنس بن مالك ، يخبروكم ، أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله صلىاللهعليهوآله لي ولأخي ، أفما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟!
وكان شمر بن ذي
الجوشن متقدّما نحو الإمام عليهالسلام وخاف أن يتأثّر الناس بكلامه فقطعه يقول : من كان يدري ما
تقول فهو ممّن يعبد الله على حرف (طرف) فتظاهر بهذا بعدم فهمه لكلام الإمام عليهالسلام.
ولذلك أجابه حبيب
بن مظاهر الأسدي بقوله : وأنا أشهد أنك صادق ما تدري ما يقول (إذ) قد طبع الله على
قلبك!
فقال الإمام عليهالسلام : فإن كنتم في شكّ من هذا القول! أفتشكّون أثرا بعد؟! أما
إنّي ابن بنت نبيّكم؟! فو الله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري ، منكم
ولا من غيركم ، أنا ابن بنت نبيّكم خاصة.
أخبروني أتطلبوني
بقتيل منكم قتلته؟! أو مال استهلكته؟! أو بقصاص من جراحة؟! فأخذوا لا يكلّمونه ...
ورأى الإمام عليهالسلام قوّادهم متقدّمين أمامه يسمعونه : شبث بن ربعي اليربوعي
التميمي ، وحجّار بن أبجر العجلي ، وقيس بن الأشعث الكندي ، ويزيد بن الحارث
الشيباني ، وكانوا ممّن كتبوا إليه أن يقدم إليهم وهو يعرفهم ، فخصّهم بالنداء
وقال : ألم تكتبوا إليّ : أن «قد أينعت الثمار واخضّر الجناب ، وطمّت الجمام (ارتفعت
مياه الحفر) وإنّما تقدم على جند لك مجنّد ، فأقبل»؟! فتنكّروا وانكروا وقالوا :
لم نفعل! فقال : سبحان الله! بلى والله لقد فعلتم! ثمّ التفت إلى الناس وقال :
أيّها الناس! إذ
كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض.
فقال له قيس
الكندي : أو لا تنزل على حكم بني عمّك! فإنّهم لن يروك إلّا ما تحبّ! ولن يصل إليك
منهم مكروه!
وكان الإمام عليهالسلام يعرفه وقد بلغه قول أخيه محمّد مثل هذا القول لمسلم بن
عقيل ، فقال له : أنت أخو أخيك (محمد) أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم
بن عقيل؟! لا والله ، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أقرّ إقرار العبيد !
عباد الله! (إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ
أَنْ تَرْجُمُونِ) ، أعوذ (بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ
مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ).
ثمّ انصرف عنهم
وأناخ راحلته وأمر عقبة بن سمعان أن يعقل الناقة فعقلها .
وبهذا الكلام أتمّ
الإمام عليهالسلام حجّته عليهم أنّه لا يقرّ لهم كإقرار العبيد ولا يعطيهم
إعطاء الذليل لمن هو متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب! وإنّما أجاب دعوتهم ، فليتركوه
ليرجع عنهم إلى موضع يأمن فيه ، فهو يطالب بالأمان منهم دون الإخلال بأمنهم. أجل
يقول هذا ـ إتماما للحجّة ـ وهو يعلم أنّهم لا يتركونه بأمان ، فقد أخبر وأخبر
بذلك كما مرّ.
__________________
خطبة زهير بن
القين البجلي :
مرّ الخبر أنّ
الإمام عليهالسلام جعل زهير بن القين على ميمنته ، وسمع زهير كلام الإمام عليهالسلام ، ورأى عدم تأثيره في القوم وجوابهم له ، ولكن ابن القين
لم ييأس منهم ، وبإذن من الإمام عليهالسلام وهو شاك في السلاح ركب فرسه وخرج إليهم حتّى وقف أمامهم
وناداهم :
يا أهل الكوفة!
نذار لكم من عذاب الله نذار! إنّ حقا على المسلم نصيحة أخيه المسلم ، ونحن (وأنتم)
حتّى الآن إخوة وعلى دين واحد وملّة واحدة ما لم يقع بيننا وبينكم السيف ، وأنتم
أهل للنصيحة منّا ، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة (الرابطة) وكنّا امّة وأنتم
أمّة.
إنّ الله قد
ابتلانا (واختبرنا) وإياكم بذريّة نبيّه محمّد صلىاللهعليهوآله ، لينظر ما نحن وأنتم عاملون! إنّا ندعوكم إلى نصرهم
وخذلان الطاغية عبيد الله بن زياد! فإنّكم لا تدركون منهما [من ابن زياد ويزيد]
إلّا سوءا ، عمر سلطانهما كلّه : ليسملان أعينكم! ويقطّعان أيديكم وأرجلكم!
ويمثّلان بكم! ويرفعانكم على جذوع النخل! ويقتّلان أماثلكم وقرّاءكم أمثال : حجر
بن عدي وأصحابه ، وهانئ بن عروة وأشباهه!
فكرّروا عليه
قولهم : والله لا نبرح حتّى نقتل صاحبك ومن معه! أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير
عبيد الله سلما!
فقال لهم : عباد
الله! إنّ ولد فاطمة (رضوان الله عليها) أحقّ بالودّ والنصر من ابن سميّة! فإن لم
تنصروهم فأعيذكم بالله أن تقتلوهم! فخلّوا بين الرجل وبين ابن عمّه يزيد بن معاوية!
فلعمري إنّ يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين.
وهنا مرّة ثانية
خاف شمر بن ذي الجوشن من تأثير كلام زهير في القوم فبدأ برميه بأوّل سهم للقتال
وقال : اسكت ، أسكت الله نأمتك (نغمتك) أبرمتنا بكثرة كلامك!
فأجابه زهير :
يابن البوّال على عقبيه! ما إيّاك أخاطب ، إنّما أنت بهيمة! والله ما أظنّك تحكم
من كتاب الله آيتين! فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم!
فأجابه شمر : إنّ
الله قاتلك وصاحبك عن ساعة!
فأجابه زهير :
أفبالموت تخوّفني! فو الله للموت معه أحبّ إليّ من الخلد معكم! ثمّ التفت إلى
الناس وقال رافعا صوته : عباد الله! لا يغرّنكم عن دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه!
فو الله لا تنال شفاعة محمّد صلىاللهعليهوآله قوما هراقوا دماء ذريّته و «أهل بيته» وقتلوا من نصرهم
وذبّ عن حريمهم.
ورأى الإمام عليهالسلام في هذا الكلام كفاية لإتمام الحجّة عليهم ، فأمر رجلا من
أصحابه فنادى زهيرا من خلفه قال : إنّ أبا عبد الله يقول لك : أقبل ، فلعمري لئن
كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ في الدعاء ، فلقد نصحت لهؤلاء وأبلغت ، لو
نفع النصح والإبلاغ .
توبة الحرّ
الرياحي وخطبته :
كان الحرّ الرياحي
قد سمع بالخصال التي عرضها الإمام عليهالسلام على القوم ، وكان لا يرى أنّ الأمر ينتهي بهم إلى قتال
الحسين عليهالسلام ، فلما زحف ابن سعد للقتال تقدّم إليه وسأله : أصلحك الله
، أمقاتل أنت هذا الرجل (الحسين)؟! قال عمر : إي والله قتالا أيسره أن تسقط الرؤوس
وتطيح الأيدي!
فقال الحرّ : أما
لكم رضا في واحدة من الخصال التي عرض عليكم؟!
__________________
قال عمر : أما
والله لو كان الأمر إليّ لفعلت ، ولكنّ أميرك قد أبى! فانصرف الحرّ عنه وعاد إلى
موقفه ، وكان معه قرّة بن قيس التميمي من قوم الحرّ ، فسأله الحرّ : هل سقيت فرسك
اليوم؟ قال : لا ، فقال الحرّ : أما تريد أن تسقيه؟ فقال قرّة : لم أسقه وأنا
منطلق فساقيه ، وابتعد عن الحرّ ، وإنّما ظنّ أنّ الحرّ يريد أن يتنحّى فلا يشهد
قتال الحسين عليهالسلام فخاف أن يرفع تقريرا عليه!
ثمّ أخذ الحرّ
يدنو من الحسين عليهالسلام قليلا قليلا وهو يرتجف! ورآه المهاجر بن أوس التميمي من
قومه فسأله : يابن يزيد ماذا تريد؟ أتريد أن تحمل؟! فما أجابه ، فقال له : يابن
يزيد ؛ والله إنّ أمرك لمريب! والله ما رأيت منك في موقف قطّ مثل شيء أراه الآن ،
ولو قيل لي : من أشجع رجل من أهل الكوفة لما عدوتك؟ فما هذا الذي أرى منك؟!
فأجابه الحرّ :
والله إني اخيّر نفسي بين الجنة والنار! وو الله لا أختار على الجنّة شيئا ولو
قطّعت وحرّقت! ثمّ ضرب فرسه فلحق بالحسين عليهالسلام.
فلمّا دنا منه وهو
راكب فرسه شاك في السلاح لم يعرف ، وقال للإمام : يابن رسول الله ، جعلني الله
فداك! أنا صاحبك الذي حبسك عن الرجوع ، وسايرتك في الطريق ، وجعجعت بك في هذا
المكان ، والله الذي لا إله إلّا هو ما ظننت أبدا أنّ القوم يردّون عليك ما عرضت
عليهم ، ولا أن يبلغوا منك هذه المنزلة ، فقلت (حينئذ) في نفسي : لا ابالي أن أطيع
القوم في بعض أمرهم فلا يرون أنّي خرجت من طاعتهم ، وأما هم فسيقبلون من حسين هذه
الخصال التي يعرض عليهم ، وو الله لو ظننت أنّهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك.
وإنّي قد جئتك
تائبا إلى ربّي ممّا كان منّي ، ومواسيا لك بنفسي حتّى أموت بين يديك! أفترى ذلك
لي توبة!
فقال الإمام عليهالسلام : نعم يتوب الله عليك ويغفر لك. وحيث لم يعرّف بنفسه وكان
شاكيا في السلاح ما عرف فسأله : ما اسمك؟ قال : أنا الحرّ بن يزيد!
قال : أنت الحرّ
كما سمّتك أمّك ، أنت الحرّ إن شاء الله في الدنيا والآخرة ، انزل. قال : أنا لك
فارسا خير منّي راجلا ، اقاتلهم على فرسي ساعة وإلى النزول يصير آخر أمري. فقال
الحسين : فاصنع ما بدا لك. فبدا له أن يخطبهم فعاد إليهم ، وكان ابن سعد متقدّما
فكلّمه بمثل ما كلّمه من قبل فقال عمر : قد حرصت ، ولو وجدت إلى ذلك سبيلا لفعلت!
فالتفت إلى الناس وقال لهم :
يا أهل الكوفة!
لأمّكم الهبل والعبر (الهلاك) إذ دعوتموه حتّى إذا أتاكم أسلمتموه! وزعمتم أنّكم
قاتلو أنفسكم دونه ثمّ عدوتم عليه لتقتلوه! أمسكتم بنفسه! وأخذتم بكظمه (حلقومه)
وأحطتم به من كلّ جانب! فمنعتموه التوجّه في بلاد الله العريضة حيث يأمن ويأمن
أهله! فأصبح في أيديكم كالأسير لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع ضرّا! وحلأتموه ونساءه
وصبيته وأصحابه عن ماء الفرات الجاري ، الذي يشربه اليهوديّ والمجوسيّ والنصرانيّ!
وتتمرّغ فيه خنازير السواد وكلابه! وها هم أولاء صرعهم العطش ، بئسما خلفتم محمّدا
في ذرّيته! لا سقاكم الله يوم الظمأ إن لم تتوبوا وتنزعوا عمّا أنتم عليه في يومكم
هذا وفي ساعتكم هذه!
فرماه رجّالتهم
بالنبال ، فتراجع حتّى وقف أمام الإمام كلّ ذلك قبل بدء القتال.
بدء القتال
ومبارزة الكلبي :
كان عبد الله بن
عمير الكلبي نازلا في الكوفة عند بئر الجعد من همدان ، ورأى الناس يعرضون ليسرّحوا
للقتال فسأل عنهم فقيل له : يسرّحون إلى حسين بن فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوآله فقال : والله لقد كنت حريصا على جهاد أهل
__________________
الشرك ، وإني
لأرجو أن لا يكون جهاد هؤلاء الذين يغزون ابن بنت نبيّهم أيسر ثوابا عند الله من
ثوابه لي في جهاد المشركين! ثمّ دخل داره إلى امرأته امّ وهب وأخبرها بما سمع ثمّ
أعلمها بما يريد ، فقالت له : أصبت أصاب الله بك أرشد أمورك! افعل وأخرجني معك ،
فلمّا كان الليل خرج وأخرجها معه حتّى التحق بالحسين عليهالسلام.
وكان لزياد بن
أبيه مولى يدعى يسار ، ولابن زياد مولى يدعى سالم ، وكانا قد خرجا مع ابن سعد ،
ومعه مولاه ذويد وقد أعطاه رايته ، فناداه وقال : أدن رايتك ، أي قدّمها ، فقدّمها
وتقدّم معها ابن سعد ثمّ وضع سهما في كبد قوسه ورمى وقال : اشهدوا أنّي أوّل من
رمى! فترامى الرّماة ، إعلاما ببدء القتال.
ثمّ خرج يسار
وسالم وقالا : من يبارز؟ ليخرج إلينا بعضكم. فوثب حبيب بن مظاهر الأسدي وبرير بن
حضير الهمداني ليبارزاهما ، فلم يأذن لهما الإمام عليهالسلام. فقام عبد الله بن عمير الكلبي وقال : يا أبا عبد الله
رحمك الله ، ائذن لي فلأخرج إليهما. وكان رجلا طويلا شديد الساعدين بعيد ما بين
المنكبين ، فقال الحسين : إنّي لأحسبه قتّالا للأقران ، إن شئت فاخرج. فخرج إليهما.
فقالا : ليخرج
إلينا زهير بن القين أو حبيب بن مظاهر أو برير بن حضير ، فقال الكلبي ليسار! يابن
الزانية! وبك رغبة عن مبارزة أحد من الناس؟ ولا يخرج إليك أحد من الناس إلّا وهو
خير منك! ثمّ شدّ عليه فضربه بسيفه ، فشدّ عليه سالم حتّى غشيه فبدره بضربة ، فاتّقاه
الكلبي بيساره فأطار أصابعه ، ثمّ مال عليه الكلبي فضربه فقتله ، وعاد وهو يقول :
إن تنكروني فأنا ابن كلب
|
|
حسبي بيتي في عليم حسبي
|
إنّي امرؤ ذو مرّة وعضب
|
|
ولست بالخوّار عند النكب
|
إنّي زعيم لك امّ وهب
|
|
بالطعن فيهم مقدما والضّرب
|
ضرب غلام مؤمن بالربّ
|
فلمّا سمعته
امرأته أمّ وهب أخذت عمودا من الخيمة وأقبلت نحوه تقول له : فداك أبي وأمي! قاتل
دون الطّيبين ذريّة محمّد فأقبل عليها ليردّها إلى النساء فأخذت تجاذبه وتقول :
إنّي لن أدعك دون أن أموت معك! فناداها الإمام عليهالسلام : جزيتم عن أهل بيت خيرا! ارجعي رحمك الله إلى النساء
فاجلسي معهنّ ، فإنّه يحرم على النساء قتال. فانصرفت إلى النساء .
الحملة الأولى :
وكان عمرو بن
الحجّاج الزبيدي على ميمنة ابن سعد ، فمال بها على ميسرة الحسين عليهالسلام وعليها حبيب بن مظاهر الأسدي ، فلمّا دنوا من أصحاب الحسين
عليهالسلام جثوا على ركبهم وأشرعوا رماحهم نحوهم ، فلم تقدم خيلهم على
الرماح وتراجعت ، فرشقهم أصحاب الحسين عليهالسلام فصرعوا منهم رجالا وجرحوا آخرين .
وكرامة وهداية :
وكان من
الحضرميّين مع ابن سعد أخوان هما : عبد الجبار ومسروق ابنا وائل الحضرمي ، وكان
ابن زياد زاد في تطميع من يطيعه في قتل الحسين عليهالسلام. فيروي عبد الجبار عن أخيه مسروق قال : قلت في نفسي : أكون
في أوائل الخيل الذي سار إلى الحسين لعلّي أصيب رأسه فأصيب به منزلة عند ابن زياد!
فلمّا
__________________
انتهينا إلى
الحسين تقدّم عبد الله بن حوزة التميمي ينادي أصحاب الحسين : أفيكم حسين؟! فلا
يجيبونه حتّى قالها الثالثة ، فقال الحسين لهم : قولوا له : نعم ، هذا حسين ، فما
حاجتك؟ فلما قالوا له ذلك قال : يا حسين! أبشر بالنار! فقال الحسين عليهالسلام : كذبت ، بل أقدم على ربّ غفور وشفيع مطاع ، فمن أنت؟ قال
: أنا ابن حوزة. فرفع الحسين يديه وقال : اللهمّ حزه إلى النار! فغضب الرجل وأقحم
فرسه إليه ، فعلقت قدمه بالركاب وجالت به الفرس فسقط عنها فانقطعت قدمه وساقه
وفخذه ، وبقي جانبه الآخر معلّقا بالركاب! ووقع رأسه في الأرض ونفر الفرس ، فأخذ
يمرّ به فيضرب رأسه بكلّ حجر وشجر حتّى مات!
فلما رأى مسروق
ذلك تراجع عن أوائل الخيل إلى ما ورائه ، فلما سأله أخوه عبد الجبار عن ذلك قال :
لقد رأيت من أهل هذا البيت شيئا لا اقاتلهم أبدا !
مباهلة برير
ومقتله :
كان برير بن حضير
الهمداني علويّ الرأي والهوى ، وكان في أيّام معاوية في بني دودان في الكوفة يماشي
يزيد بن معقل العبدي ويقول له : إنّ عثمان بن عفان كان مسرفا على نفسه ، وإنّ إمام
الحق والهدى عليّ بن أبي طالب ، وإنّ معاوية بن أبي سفيان ضالّ مضلّ.
وخرج يزيد بن معقل
العبديّ من عسكر ابن سعد اليوم إلى أصحاب الحسين عليهالسلام ونادى بريرا وقال له : كيف ترى صنع الله بك؟ قال برير :
والله إنّ الله قد صنع بي خيرا وصنع الله بك شرّا!
__________________
فذكّره ابن معقل
بمقالته السابقة ، فقال برير : أشهد أنّ هذا رأيي وقولي! فقال ابن معقل : فإنّي
أشهد أنّك من الضالّين! فدعاه برير إلى المباهلة : يدعوان الله أن يلعن الكاذب ،
وأن يقتل المحقّ المبطل منهما ، ثمّ يبرزان للقتال ، فأجابه ابن معقل ، فخرجا من
صفّيهما وتقابلا ورفعا أيديهما إلى الله يدعوانه : أن يلعن الكاذب وأن يقتل المحقّ
المبطل ، ثمّ برز كلّ واحد منهما لصاحبه ، فبادر ابن معقل فضرب بريرا ضربة لم
تضرّه شيئا ، ثمّ ضربه برير ضربة شديدة قدّت مغفرة وبلغت دماغه ، فخرّ وسيف برير
ثابت في رأسه.
فلما رأى ذلك ابن
عمّه رضيّ بن منقذ العبدي برز إلى برير واعتركا ساعة حتّى غلبه برير فصرعه وقعد
على صدره ، فاستغاث ابن منقذ بأصحابه ، فبرز إليه كعب بن جابر الأزدي برمحه وبرير
على صدر ابن معقل العبدي ، حتّى طعن كعب الأزدي برمحه على ظهر برير حتّى ألقاه عن
العبدي وقد غيّب السنان في ظهر برير ، ثمّ أقبل يضربه بسيفه حتّى قتله رحمة الله عليه.
ابنا قرظة بن كعب
الأنصاري :
كان قرظة بن كعب
الأنصاري مع عليّ عليهالسلام في مشاهده وحروبه حتّى توفي في الكوفة في الخمسين للهجرة ،
وله ابنان : عليّ وعمرو ، خرج عليّ بن قرظة مع ابن سعد ، والتحق أخوه عمرو بالحسين
عليهالسلام بلا خبر في كيفيّة ذلك ، واليوم برز بعد مقتل برير يقاتل
دون الحسين عليهالسلام وهو يقول :
قد علمت كتيبة الأنصار
|
|
أنّي سأحمي حوزة الذّمار
|
ضرب غلام غير نكس شاري
|
|
دون حسين مهجتي وداري
|
__________________
ثمّ قاتل حتّى قتل
رحمة الله عليه ، فلما رأى أخوه عليّ ذلك نادى : يا حسين! يا كذّاب ابن الكذّاب!
أظللت أخي وغررته حتّى قتلته! فأجابه الإمام عليهالسلام : إنّ الله لم يضلّ أخاك ولكنّه هدى أخاك وأضلّك! قال :
قتلني الله إن لم أقتلك أو أموت دونك! ثمّ حمل على جانب الإمام عليهالسلام.
فبرز إليه نافع بن
هلال المراديّ الجمليّ فطعنه فصرعه فاستنقذه أصحابه .
وكان نافع بن هلال
يقاتل وهو يقول : أنا الجملي أنا على دين عليّ! فبرز إليه مزاحم بن حريث يقول :
أنا على دين عثمان! فأجابه نافع : أنت على دين شيطان! ثمّ حمل عليه فقتله .
ولمّا خرج الحرّ
الرياحي التميمي إلى الحسين عليهالسلام ، كان يزيد بن سنان التميمي إلى جانب الحصين بن تميم
التميمي وقال : أما والله لو أنّي رأيت الحرّ بن يزيد حين خرج إلى الحسين لأتبعته
بالسنان في ظهره. وبرز الحرّ يحمل على القوم حتّى ضرب على حاجب فرسه وعلى اذنيه
ودماؤه تسيل ، فتمثل الحرّ بقول عنترة في فرسه :
ما زلت أرميهم بثغرة نحره
|
|
ولبانه ، حتّى تسربل بالدم
|
فقال الحصين
التميمي ليزيد بن سنان التميمي : هذا الحرّ بن يزيد الذي كنت تتمنّى! قال : نعم ،
ثمّ خرج إليه وناداه يا حرّ بن يزيد هل لك في المبارزة؟ فأجابه : نعم ، ثمّ ما لبث
الحرّ حين خرج إليه يزيد التميمي حتّى قتله .
__________________
فلمّا رأى ذلك
عمرو بن الحجّاج الزبيدي ناداهم : يا حمقى! أتدرون من تقاتلون؟! تقاتلون فرسان
المصر وقوما مستميتين ، فلا يبرزنّ إليهم أحد منكم ، فإنّهم قليل ، وقلّما يبقون ،
والله لو لم ترموهم إلّا بالحجارة لقتلتموهم! وسمعه ابن سعد فصدّقه وقال : صدقت ،
الرأي ما رأيت ، ثمّ عزم على الناس أن : لا يبارز رجل منكم رجلا منهم .
الحملة الثانية :
ونادى عمرو بن
الحجّاج بأصحابه يقول لهم : يا أهل الكوفة! الزموا طاعتكم وجماعتكم ، ولا ترتابوا
في قتل من خالف الإمام! ومرق من الدين!
وسمعه الحسين عليهالسلام وعرفه فناداه : يا عمرو بن الحجّاج! أعليّ تحرّض الناس!
أنحن مرقنا (من الدين) وأنتم ثبتّم عليه! أما والله لو قد قبضت أرواحكم ومتّم على
أعمالكم ، لتعلمنّ أيّنا مرق من الدين ومن هو أولى بصلي النار!
ثمّ حمل عمرو بن
الحجّاج في ميمنة ابن سعد من نحو الفرات على ميسرة الحسين عليهالسلام فاضطربوا ساعة ، فصرع جمع من أصحاب الحسين عليهالسلام منهم :
مسلم بن عوسجة
الأسدي :
وتنادى أصحاب
الحجّاج : قتلنا مسلم بن عوسجة الأسدي! فلمّا سمعهم شبث بن ربعي التميمي قال لمن
حوله : ثكلتكم أمهاتكم! إنّما تقتلون أنفسكم بأيديكم! وتذلّلون أنفسكم لغيركم!
أتفرحون أن يقتل مثل مسلم بن عوسجة! أما والذي أسلمت له لربّ موقف له في المسلمين
كريم.
__________________
وانصرف عمرو بن
الحجاج وأصحابه وارتفعت الغبرة فإذا بمسلم بن عوسجة صريع ، ومشى إليه الحسين عليهالسلام ومعه حبيب بن مظاهر الأسدي فإذا به رمق ، فقال : رحمك ربّك
يا مسلم بن عوسجة! ثمّ تلا قوله سبحانه : (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى
نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً).
ودنا منه حبيب بن
مظاهر وقال له : يا مسلم عزّ عليّ مصرعك ، أبشر بالجنة. فأجابه مسلم بصوت ضعيف :
بشّرك الله بخير! فقال حبيب : لو لا أنّي أعلم أنّي في إثرك لا حق بك من ساعتي هذه
، لأحببت أن توصيني بكلّ ما أهمّك حتّى أحفظك في كلّ ذلك بما أنت أهل له في
القرابة والدين.
فرفع مسلم بن
عوسجة يده وأشار إلى الحسين عليهالسلام وقال لحبيب : بل أنا اوصيك بهذا رحمك الله أن تموت دونه!
فقال له حبيب : أفعل وربّ الكعبة! ثمّ مات مسلم في أيديهم رحمهالله.
وكانت مع مسلم
الأسدي جارية له فصاحت : يا سيّداه! يابن عوسجتاه !
الحملة الثالثة :
وكان شمر بن ذي
الجوشن الكلابي على ميسرة ابن سعد ، فحمل بهم على ميمنة الحسين عليهالسلام ، فثبتوا له وطاعنوه وأصحابه ، وقتل في الحملة من أصحاب
الإمام عبد الله بن عمير الكلبي رحمهالله ، تعاون على قتله هانئ بن ثبيت الحضرمي ، وبكير بن حيّ
التميمي وخرجت إليه امرأته حتّى جلست عند رأسه وأخذت
__________________
تمسح عنه التراب
وتقول : هنيئا لك الجنة! فأمر شمر غلامه رستم فضرب رأسها فماتت إلى جانبه .
وإنما كان فرسان
أصحاب الإمام اثنتين وثلاثين فارسا فأخذوا يحملون على جوانب من خيل أهل الكوفة فلا
يحملون على جانب منهم إلّا كشفوه وهزموهم. وكان على خيل أهل الكوفة عزرة بن قيس
التميمي ، فلما رأى أنّ خيله تنكشف من كلّ جانب ، بعث إلى ابن سعد أن ابعث على
أصحاب الحسين الرجّالة والرماة.
فعرض ابن سعد على
شبث بن ربعي التميمي أن يتقدم بالرّماة إليهم ، فتمرّد شبث وقال : سبحان الله!
أتعمد إلى شيخ مضر بل شيخ أهل المصر عامة تبعثه في الرّماة! ألا تجد غيري من تندبه
لهذا ويجزي عنك؟!
فدعا ابن سعد
الحصين بن تميم التميمي فبعث معه خمسمئة من الرّماة ولا بسي التجافيف من الرجّالة.
فلما دنوا من الحسين عليهالسلام رشقهم أصحابه بالنبال ، فعقرت النبال خيولهم وترجّلوا عنها
، وتراجعوا .
وقاتلهم أصحاب
الحسين عليهالسلام أشدّ القتال ، وأعداؤهم لا يقدرون على أن يأتوهم إلّا من
وجه واحد ، لاجتماع خيمهم وتقارب بعضها من بعض.
فلما رأى ذلك عمر
بن سعد أرسل رجالا يقوّضون الخيم يمينا وشمالا ليحيطوا بهم ، فتفرق أصحاب الحسين عليهالسلام ثلاثة وأربعة بين الخيم يشدّون على المقوّضين للخيم
يرمونهم فيعقرونهم ويقتلون منهم فنادى بهم ابن سعد قال : أحرقوها بالنار!
__________________
فحمل شمر بن ذي
الجوشن ونادى : عليّ بالنار احرق هذا البيت على من فيه! وطعن الخيمة برمحه وكان
فيها نساء فصحن وخرجن منها.
وصاح به الحسين عليهالسلام : يابن ذي الجوشن! أنت تدعو بالنار لتحرق بيتي على أهلي!
أحرقك الله بالنار !
وجاءه شبث بن ربعي
التميمي وقال له : ما رأيت مقالا أسوأ من قولك! ولا موقفا أقبح من موقفك! أصرت
مرعبا للنساء!
وحمل عليه زهير بن
القين في عشرة رجال من أصحابه فشدّ على شمر وأصحابه حتّى كشفهم عن البيوت وتراجعوا
.
الاستعداد لصلاة
الظهر :
وزالت الشمس ،
فتقدّم أبو ثمامة عمرو بن عبد الله الصائدي الهمداني إلى الإمام عليهالسلام وقال له :
يا أبا عبد الله!
نفسي لك الفداء ، إنّي أرى هؤلاء قد اقتربوا منك! ولا والله لا تقتل حتّى اقتل
دونك إن شاء الله ، وأحبّ أن ألقى ربّي وقد صلّيت هذه الصلاة التي دنا وقتها.
فرفع الحسين عليهالسلام رأسه إلى السماء وقال له : ذكرت الصلاة جعلك الله من
المصلّين الذاكرين ، نعم ، هذا أوّل وقتها. ثمّ قال لهم : سلوهم أن يكفّوا عنّا
حتّى نصلّي.
__________________
فسألوهم ، وكان
الحصين بن تميم التميمي قريبا منهم فأجابهم : إنّها لا تقبل! فأجابه حبيب بن مظاهر
الأسدي : زعمت أنّ الصلاة لا تقبل من آل رسول الله صلىاللهعليهوآله وتقبل منك يا حمار !
مقتل حبيب بن
مظاهر :
فغضب الحصين من
كلام حبيب وحمل عليه ، فخرج حبيب إليه وهو يرتجز ويقول :
أنا حبيب وأبي مظاهر
|
|
فارس هيجاء وحرب تسعر
|
أنتم أعدّ عدة وأكثر
|
|
ونحن أوفى منكم وأصبر
|
ونحن أعلى حجّة وأظهر
|
|
حقّا ، وأتقى منكم ، وأعذر
|
أقسم لو كنّا لكم أعدادا
|
|
أو شطركم ، ولّيتم أكدادا
|
وضرب وجه فرس
الحصين بسيفه فشبّ ووقع الحصين واستنقذه أصحابه ، وقاتل قتالا شديدا حتّى حمل عليه
بديل بن صريم التميمي فضربه بسيفه على رأسه وطعنه تميمي آخر برمحه فوقع فعاد إليه
الحصين وضربه بسيفه على رأسه ثمّ نزل إليه وحزّ رأسه ونادى الإمام عليهالسلام : (عند الله) أحتسب نفسي وحماة أصحابي !
مقتل الحرّ
الرياحي :
وأصاب أيّوب
الخيواني فرس الحرّ بسهم دخل في جوفه فاضطرب وأرعد وكبا لوجهه ، فوثب عنه الحرّ
كأنّه ليث وهو ينادي :
__________________
إن تعقروا بي فأنا ابن الحرّ
|
|
أشجع من ذي لبد هزبر
|
وأخذ يفري الناس
فريا وهو راجل ، ولما قتل حبيب وهدّ قتله الحسين عليهالسلام أخذ الحرّ يرتجز ويقول :
آليت لا اقتل حتّى أقتلا
|
|
ولن أصاب اليوم إلّا مقبلا
|
أضربهم بالسيف ضربا مقصلا
|
|
لانا كلا عنهم ولا مهلّلا
|
أضرب في أعناقهم بالسيف
|
|
عن خير من حلّ منى والخيف
|
وبرز معه زهير بن
القين فقاتلا قتالا شديدا ، فكان إذا شدّ أحدهما واستلحم في الأعداء شدّ صاحبه
حتّى يخلّصه ، ثمّ شدّ جمع من الرجّالة على الحرّ وتكاثروا عليه حتّى قتل رحمة الله عليه وعاد زهير إلى الحسين عليهالسلام ليصلّي معه الزوال.
صلاة الحسين عليهالسلام :
ما استجاب أصحاب
ابن سعد لإمهال الإمام عليهالسلام لصلاة الظهر واستمرّوا في رميهم بالنبال ، وتقدّم الإمام عليهالسلام للصلاة ، فتقدّم أمامه سعيد بن عبد الله الحنفي التميمي
يقيه النبال يمينا وشمالا ، فما زال قائما بين يديه يرمى حتّى سقط شهيدا رحمة الله
عليه ، وصلّى الحسين عليهالسلام بمن معه صلاة الخوف أي صلاة الحرب ركعتين ، معه في كلّ ركعة نصف من بقي من
أصحابه وآخرون يقاومون الأعداء ، وتناوبوا.
__________________
مقتل زهير البجلي
:
وإنّما عاد زهير
البجلي ليصلّي مع الإمام عليهالسلام ، فلمّا فرغ من صلاته ضرب بيده على منكب الإمام وقال له :
أقدم هديت راشدا مهديّا
|
|
فاليوم نلقى جدّك النبيّا
|
وحسنا والمرتضى عليّا
|
|
وذا الجناحين الفتى الكميّا
|
وأسد الله الشهيد الحيّا
|
وبرز يرتجز ويقول
:
أنا زهير وأنا ابن القين
|
|
أذودهم بالسيف عن حسين
|
فقاتل قتالا شديدا
حتّى شدّ عليه مهاجرين أوس التميمي وكثير بن عبد الله الشعبي الهمداني فقتلاه رحمة الله عليه.
مقتل نافع الجملي
:
وكأنّ نافع الجملي
بعد مبارزاته الأولى آثر أن يكتفي بالرّمي بسهامه ، وكانت له سهام كتب اسمه عليها
، فجعل يرمي بها فكلّما قتل بها رجلا منهم يقول : أنا الجملي أنا على دين علي!
حتّى قتل اثني عشر رجلا منهم.
ثمّ جرح وكسرت
عضداه وأخذه أصحاب شمر أسيرا وساقوه مع شمر إلى ابن سعد والدماء تسيل على لحيته ،
فلمّا أوقفوه أمامه وكان يعرفه قال له : ويحك يا نافع ما حملك على ما صنعت بنفسك؟!
قال : إنّ ربي
يعلم ما أردت ، والله لقد قتلت منكم اثني عشر رجلا سوى من جرحت ، وما ألوم نفسي
على الجهد ، ولو بقيت لي عضد وساعد ما أسرتموني!
__________________
ثمّ انتضى شمر
سيفه ليقتله ، فقال له نافع : أما والله لو كنت من المسلمين لعظم عليك أن تلقى
الله بدمائنا! فالحمد لله الذي جعل منايانا على يدي شرار خلقه! ثمّ قتله شمر ، فرحمة الله على نافع الجملي.
الأخوان الغفاريان
:
وكان مع الحسين عليهالسلام أخوان غفاريان هما : عبد الله وعبد الرحمان ابنا عزرة ،
فتقدّما إلى الإمام وقالا له : يا أبا عبد الله! حازنا العدوّ إليك فأحببنا أن
نقتل بين يديك ، نمنع وندفع عنك ، فعليك السلام. فأجابهما الإمام عليهالسلام : مرحبا بكما.
فجعلا يقاتلان
وأحدهما يقول :
قد علمت حقّا بنو غفار
|
|
وخندف بعد بني نزار
|
لنضربنّ معشر الفجّار
|
|
بكلّ عضب صارم بتّار
|
يا قوم ذودوا عن بني الأحرار
|
|
بالمشرفي والقنا الخطّار
|
فقاتلا بين يديه
قتالا شديدا حتّى قتلا رحمة الله عليهما.
الأخوان
الجابريّان :
ثمّ تقدّم الأخوان
الجابريان : سيف بن الحارث ومالك بن عبد وهما أخوان من أمّهما ، تقدما إلى الحسين عليهالسلام وهما يبكيان! فسألهما قال : أي ابني أخي ما يبكيكما؟ فو
الله أنا لأرجو أن تكونا قريري عين عن ساعة. فقالا له : جعلنا الله فداك! لا والله
ما على أنفسنا نبكي ، ولكنّا نبكي عليك! نراك قد احيط بك ولا نقدر
__________________
على أن نمنعهم عنك!
فقال عليهالسلام : فجزاكما الله يا ابني أخي بوجدكما من ذلك ومواساتكما
إياي بأنفسكما أحسن جزاء المتقين. فقالا له : السلام عليك يابن رسول الله. فقال
لهما : وعليكما السلام ورحمة الله. فقاتلا حتّى قتلا رحمة الله عليهما .
مقتل حنظلة
الشبامي :
ثمّ تقدّم حنظلة
بن أسعد الشبامي بين يدي الإمام عليهالسلام ورفع صوته بتلاوة الآيات التالية على عسكر ابن سعد :
(يا قَوْمِ إِنِّي
أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ* مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ
وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ*
وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ* يَوْمَ تُوَلُّونَ
مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ
مِنْ هادٍ) ثمّ نادى : يا قوم لا تقتلوا حسينا فيسحتكم الله بعذاب!
فناداه حسين عليهالسلام : يابن أسعد! رحمك الله! إنّهم قد استوجبوا العذاب حيث
ردّوا عليك ما دعوتهم إليه من الحقّ ونهضوا إليك ليستبيحوك وأصحابك ، فكيف بهم
الآن وقد قتلوا إخوانك الصالحين! فقال حنظلة : صدقت جعلت فداك! أنت أفقه منّي
وأحقّ بذلك ، أفلا نروح إلى الآخرة ونلحق بإخواننا؟ فقال : رح إلى خير من الدنيا
وما فيها وإلى ملك لا يبلى.
فقال : السلام
عليك أبا عبد الله ، صلّى الله عليك وعلى أهل بيتك ، وعرّف بيننا وبينك في جنّته.
فقال عليهالسلام : آمين آمين. فاستقدم حنظلة وقاتل حتّى قتل رحمة الله عليه
.
__________________
مقتل عابس الشاكري
ومولاه :
وكان عابس بن أبي
شبيب الشاكري الهمداني الكوفي توافق مع شوذب أحد موالي بني شاكر أن يلتحقا بالإمام
عليهالسلام ، فالتحقا بالإمام ، بلا خبر في كيفية ذلك. فاليوم التفت
عابس إلى شوذب وقال له : يا شوذب ، ما في نفسك أن تصنع؟ قال : اقاتل معك دون ابن
بنت رسول الله صلىاللهعليهوآله حتّى اقتل! قال عابس : ذلك الظنّ بك! فتقدّم بين يدي أبي
عبد الله حتّى يحتسبك كما احتسب غيرك من أصحابه وحتّى أحتسبك أنا ، فإنّه لو كان
معي الساعة أحد أنا أولى به منّي بك لسرّني أن يتقدّم بين يديّ حتّى أحتسبه ، فإنّ
هذا يوم ينبغي لنا أن نطلب الأجر بكلّ ما قدرنا عليه ، فإنّه لا عمل بعد اليوم ،
وإنّما هو الحساب.
فتقدّم شوذب فسلم
على الحسين عليهالسلام ثمّ مضى فقاتل حتّى قتل رحمة الله عليه.
ثمّ قال عابس بن
أبي شبيب : يا أبا عبد الله! أما والله ما أمسى على وجه الأرض قريب ولا بعيد أعزّ
عليّ ولا أحبّ إليّ منك ، ولو قدرت على أن أدفع عنك الضيم والقتل بشيء أعزّ عليّ
من نفسي ودمي لعملته ، السلام عليك يا أبا عبد الله ، اشهد الله أني على هديك وهدي
أبيك.
ثمّ مشى بالسيف
مصلتا نحوهم وبه ضربة على جبينه من قبل ، وأخذ ينادي : ألا رجل لرجل؟! فقال عمر بن سعد : ارضخوه
بالحجارة! فرموه بها من كل جانب! فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفره ثمّ شدّ على الناس
، فكان يطرد بين يديه أكثر من مئتين من الناس! ثمّ تعطّفوا عليه من كلّ جانب حتّى
قتل رحمة الله عليه .
__________________
مقتل أبي الشعثاء
الكندي :
وكان أبو الشعثاء
يزيد بن زياد الكندي الكوفي ممّن التحق بالإمام عليهالسلام من الكوفة وكان راميا ، فجثى على ركبتيه بين يدي الإمام عليهالسلام فرمى بمئة سهم ، ما سقط منها سوى خمسة أسهم ، وكلّما رمى
قال : أنا ابن بهدلة ، فرسان العرجلة. وكان الإمام يقول : اللهمّ سدّد رميته واجعل
ثوابه الجنة.
ثمّ برز وارتجز
يقول :
أنا يزيد وأبي مهاصر
|
|
أشجع من ليث ـ بغيل ـ خادر
|
يا ربّ إنّي
للحسين ناصر
|
|
ولابن سعد تارك
وهاجر
|
وقاتل قتالا شديدا
حتّى قتل رحمة الله عليه.
مقتل الرجال
الأربعة :
التحق بالإمام عليهالسلام بعد لقائه بالحرّ ، مع الطرماح بن عدي الطائي من الكوفة : جابر
بن الحارث السلماني ، ومجمّع بن عبد الله العائذي ، وعمر بن خالد الصيداوي الأسدي
ومعه مولاه سعد ، فاليوم شدّ هؤلاء الأربعة بأسيافهم على عسكر ابن سعد وأوغلوا
فيهم ، فعطفوا عليهم حتّى قطعوهم عن أصحابهم ، فحمل عليهم العباس بن عليّ حتّى
استنقذهم وأخرجهم ، ثمّ شدّوا بأسيافهم ثانية وقاتلوهم قتالا شديدا حتّى قتلوا في
مكان واحد رحمة الله عليهم.
وتقدّم بعدهم بشير
بن عمرو الحضرمي فقاتل قتالا شديدا حتّى قتل رحمة الله عليه.
__________________
وتقدّم بعده سويد
بن عمرو الخثعمي فقاتل قتالا شديدا حتّى أثخن بالجراح وصرع مثخنا بالجراح بين
القتلى من أصحاب الحسين عليهالسلام .
__________________
أخبار عاشوراء
(٢)
مقاتل الهاشميين
من أنصار الحسين عليهالسلام
مقتل عليّ الأكبر
:
مرّ الخبر عن مولد
عليّ بن الحسين السجاد عليهالسلام في منتصف شهر جمادى الأولى يوم انتصار جدّه الأمير عليهالسلام بالبصرة سنة (٣٦ ه) وكانت أمه إحدى ابنتي يزدجرد الساساني اللتين أهداهما
عثمان للحسنين عليهماالسلام عام (٣١ ه) ويبدو أنّ الحسين عليهالسلام كان قد تزوج قبلها بليلى ابنة أبي مرّة بن عروة بن مسعود
الثقفي فولدت له عليّا الأكبر في الحادي عشر من شعبان سنة (٣٣ ه) فكان عمره يوم عاشوراء سبعا وعشرين سنة ، وكان قد تزوّج
جارية ولم يعرف له عقب .
__________________
وكان أوّل قتيل من
بني أبي طالب .
فلمّا برز يوم
عاشوراء إلى الأعداء أرخى الحسين عليهالسلام عينيه فبكى ثمّ قال : اللهمّ كن أنت الشهيد عليهم ، فقد
برز إليهم غلام أشبه الخلق برسول الله صلىاللهعليهوآله خلقا وخلقا ومنطقا .
فناداه رجل من أهل
الكوفة : إنّ لك رحما بأمير المؤمنين يزيد ، فإن شئت أمّناك! يريد أمّ ليلى وهي
ميمونة بنت أبي سفيان ، فأجابه : ويلك لقرابة رسول الله أحقّ أن ترعى أو قال : إن رحم رسول الله أحرى أن ترعى من رحم ابن آكلة
الأكباد أو قرابة أبي سفيان ثمّ شدّ عليهم وهو يرتجز ويقول :
أنا عليّ بن الحسين بن علي
|
|
نحن ـ وبيت الله ـ أولى بالنبي
|
من شبث هذا ومن شمر الدني!
|
|
أضربكم بالسيف حتّى يلتوي
|
ضرب غلام هاشميّ علوي
|
|
ولا أزال اليوم أحمي عن أبي
|
والله لا يحكم فينا ابن الدعي
|
فجعل يشدّ عليهم ،
ثمّ يرجع إلى أبيه فيقول : يا أبة العطش! فيقول له
__________________
الحسين : اصبر
حبيبي فإنّك لا تمسي حتّى يسقيك رسول الله بكأسه فجعل يكرّ كرة بعد
كرّة حتّى رمي بسهم وقع في حلقه فخرقه .
وبصر به مرّة بن
منقذ بن النعمان العبدي ، وكان صاحب راية عبد القيس في صفّين مع عليّ عليهالسلام فقال لمن حوله : عليّ آثام العرب إن مرّ بي هذا يفعل مثل
ما يفعل إن لم أثكله أباه! فمرّ يشدّ على الناس بسيفه ، فاعترضه مرّة بن منقذ
العبدي فطعنه فصرع ، وأخذ يتقلّب في دمه ، ثمّ نادى : يا أبتاه! عليك السلام
، هذا جدّي رسول الله يقرئك السلام ويقول : عجّل القدوم إلينا واحتواه الناس فقطّعوه بأسيافهم! حتّى شهق شهقة وفارق
الدنيا.
فجاء الحسين عليهالسلام حتى وقف عليه فقال : قتل الله قوما قتلوك يا بنيّ! ما
أجرأهم على الرحمان وعلى انتهاك حرمة الرسول؟ وانهملت عيناه بالدموع ثمّ قال : على
الدنيا بعدك العفاء!
وخرجت زينب أخت
الحسين مسرعة تنادي : يا اخيّاه! وابن اخيّاه! وجاءت حتّى أكبّت عليه! فأخذ الحسين
بيدها فردّها إلى الفسطاط ، وعاد إلى ابنه وسارع إليه فتيانه فقال لهم : احملوا
أخاكم! فحملوه من مصرعه حتى وضعوه بين يدي الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه !
__________________
القاسم بن الحسن عليهالسلام :
روى أبو مخنف عن
حميد بن مسلم قال : خرج إلينا غلام كأنّ وجهه شقّة قمر ، في يده السيف ، عليه قميص
وإزار ونعلان قد انقطع شسع أحدهما ما أنسى أنّها اليسرى. فقال لي عمرو بن سعد بن
نفيل الأزدي : والله لأشدن عليه! فقلت له : سبحان الله! وما تريد إلى ذلك! يكفيك
هؤلاء الذين تراهم قد احتووه. فقال : والله لأشدنّ عليه! ثمّ شدّ عليه ، فما ولّى
حتّى ضرب رأسه بالسيف ، فوقع الغلام لوجهه وقال : يا عمّاه!
فجلّى الحسين كما
يجلّي الصقر ثمّ شدّ شدّة ليث اغضب ، فضرب عمرا بالسيف فاتقاه بالساعد فأطنّها من
لدن المرفق ، وجالت الخيل فوطئته حتّى مات! وانجلت الغبرة فإذا بالحسين قائم على
رأس الغلام ، والغلام يفحص برجليه ، وحسين عليهالسلام يقول : بعدا لقوم قتلوك ، ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدك!
عزّ والله على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك ثم لا ينفعك! صوت والله كثر
واتره وقلّ ناصره! ثمّ احتمله. قال حميد بن مسلم : فكأنّي أنظر إلى رجلي الغلام
يخطّان في الأرض ، وقد وضع الحسين صدره على صدره ، فجاء به حتّى ألقاه مع ابنه
عليّ بن الحسين ، وحوله قتلى من أهل بيته! فسألت عن الغلام فقيل : هو القاسم بن
الحسن بن عليّ بن أبي طالب .
مقتل العباس
وإخوته :
ثمّ إنّ العباس بن
علي عليهالسلام قال لإخوته من أمّه : عبد الله وجعفر وعثمان : يا بني امّي
تقدّموا حتّى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله ، فإنّه لا ولد لكم.
__________________
فتقدّم عبد الله
فقاتل قتالا شديدا حتّى برز إليه هانئ بن ثبيت الحضرمي فاختلفا بضربتين! وضربه
هانئ الحضرمي فقتله رحمة الله عليه.
وتقدّم بعده جعفر
بن علي رحمهالله فصمد إليه هانئ الحضرمي فقتله رحمة الله عليه.
وقام بعدهما عثمان
بن عليّ رضى الله عنه ، فتعمّده خوليّ بن يزيد الأصبحي بسهم فصرعه ، فاشتدّ إليه
رجل من بني دارم فاحتزّ رأسه رضوان الله عليه.
واشتدّ العطش
بالحسين عليهالسلام فركب على المسنّاة المنتهية إلى الفرات وبين يديه أخوه
العباس ، فنادى الرجل الدارمي فيمن معه من خيل ابن سعد قال لهم : ويلكم حولوا بينه
وبين الفرات ولا تمكّنوه من الماء! ثمّ رمى الحسين عليهالسلام بسهم فأثبته في حنكه ، فانتزع الحسين عليهالسلام السهم وبسط يده تحت حنكه فامتلأت راحتاه بالدم فرمى به
وقال : اللهمّ إنّي أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيّك! وأحاط القوم بالعباس
فاقتطعوه عن أخيه الحسين عليهالسلام ، فرجع الحسين إلى مكانه.
وجعل العباس
يقاتلهم وحده ، حتّى أثخن بالجراح فلم يستطع حراكا ، وبرز إليه حكيم بن الطفيل
السنبسي وزيد بن ورقاء الحنفي التميمي فاشتركا في قتله رضوان الله عليه .
مقتل الطفل الرضيع
:
وجلس الحسين عليهالسلام أمام الفسطاط ، فأتي بابنه عبد الله بن الحسين وهو طفل
فأجلسه في حجره ، فهو في حجره إذ رماه أحد بني أسد بسهم فذبحه ، فتلقّى الحسين عليهالسلام دمه ، فلمّا ملأكفّه صبّه في الأرض ثمّ قال : ربّ إن تكن
__________________
حبست عنّا النصر
من السماء فاجعل ذلك لما هو خير ، وانتقم لنا من هؤلاء الظالمين! ثمّ حمله حتّى
وضعه مع قتلى أهل بيته .
مقتل بني جعفر
وبني عقيل وبني الحسن عليهالسلام :
ثمّ اعتورهم الناس
من كلّ جانب ، فحمل عبد الله بن قطبة النبهاني الطائي على عون بن عبد الله بن جعفر
، فقتله رحمة الله عليه وحمل عامر بن نهشل التيمي على محمّد بن عبد
الله بن جعفر فقتله رحمة الله عليه.
وشدّ عثمان بن
خالد بن اسير الجهني وبشر بن حوط القائضي الهمداني على عبد الرحمن بن عقيل بن أبي
طالب فقتلاه واشتركا في سلبه. ورمى عبد الله بن عزرة الخثعمي : جعفر بن عقيل فقتله
رحمة الله عليه. ثمّ إن عمرو بن صبيح الصدّائي رمى عبد الله بن مسلم بن عقيل بسهم
على جبهته ثمّ بسهم آخر ففلق قلبه فقتله. وقتل لقيط بن ياسر الجهني : محمّد بن أبي
سعيد بن عقيل رحمة الله عليه.
ورمى عبد الله بن
عقبة الغنوي : أبا بكر بن الحسن بن عليّ بسهم فقتله رحمة الله عليه .
__________________
مقتل الحسين عليهالسلام :
لمّا بقي الحسين عليهالسلام في ثلاثة رهط أو أربعة ، دعا بسراويل يمانية محقّقة يلمع
فيها البصر ، فنكثه وفرزه لكي لا يسلب منه بعد قتله ثمّ أقبل على القوم يدفعهم عن نفسه والثلاثة الباقون من
أهله يحمونه حتّى قتل اولئك الثلاثة .
وبقي الإمام عليهالسلام وحده ، وقد أثخن بالجراح في رأسه وبدنه ، فجعل يضاربهم
بسيفه وهم يتفرّقون عنه يمينا وشمالا .
وأتاه مالك بن
النسير البدّي الكندي فضربه بسيفه على رأسه ، فقطع البرنس الذي عليه وأصاب رأسه
فأدماه وامتلأ البرنس ، دما ، فقال له الإمام عليهالسلام : لا أكلت بها ولا شربت وحشرك الله مع الظالمين! ثمّ ألقى
ذلك البرنس ودعا بقلنسوة فلبسها واعتمّ عليها بالخزّ الأسود ، وعليه قميص أو جبة من خزّ ، وكان مخضوبا
بالوسمة. وهو يقاتل قتال الفارس الشجاع : يتقي الرّمية ويفترص العورة ويشدّ على
الخيل .
وأقبل شمر بن ذي
الجوشن الضبابي الكلابي في نحو عشرة من رجّالة أهل الكوفة إلى خيمة الإمام التي
فيها عياله وثقله حتّى حالوا بينها وبين الحسين عليهالسلام ، فناداهم : ويلكم! إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون يوم
المعاد ، فكونوا في أمر دنياكم أحرارا ذوي أحساب! امنعوا رحلي وأهلي من طغامكم
وجهّالكم!
__________________
فقال ابن ذي
الجوشن : ذلك لك يابن فاطمة! وتوجّه بالرجّالة نحوه ، وأخذ الحسين عليهالسلام يشدّ عليهم فينكشفون عنه .
وروى أبو مخنف عن
عبد الله بن عمّار البارقي الهمداني قال : شدّت الرجّالة عليه عن يمينه وشماله ،
فحمل على من عن يمينه حتّى ذعروا وعلى من عن شماله حتّى ذعروا ، فو الله ما رأيت
مكسورا قطّ ـ وقد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه ـ أربط جأشا ولا أمضى جنانا ولا أجرأ
مقدما منه! والله ما رأيت مثله قبله ولا بعده! إن كانت الرجّالة لتنكشف من عن
يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب!
ودنا منه عمر بن
سعد فخرجت إليه اخت الحسين زينب ابنة فاطمة فنادته ـ وكانت تعرفه منذ كانت في
الكوفة ـ قالت : يا عمر بن سعد! أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه! فصرف بوجهه
عنها وهو يبكي فانصرف إلى فسطاطه!
هذا وهو عليهالسلام يشدّ على الخيل ويناديهم : أعلى قتلي تحاثّون؟! أما والله
لا تقتلون بعدي عبدا من عباد الله أسخط عليكم لقتله منّي! وايم الله إنّي لأرجو أن
يكرمني الله بهوانكم ثمّ ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون! أما والله لو قد
قتلتموني لقد ألقى الله بأسكم بينكم وسفك دماءكم ، ثمّ لا يرضى لكم حتّى يضاعف لكم
العذاب الأليم .
ثمّ إنّ شمر بن ذي
الجوشن الضّبابي الكلابي أقبل في الرجّالة نحو الحسين عليهالسلام وفيهم سنان بن أنس النخعي الهمداني ، وخوليّ بن يزيد
الأصبحي
__________________
الكندي ، وصالح بن
وهب اليزني ، والقشعم بن عمرو الجعفي الهمداني ، وعبد الرحمان الجعفي الهمداني.
فجعل شمر بن ذي الجوشن يحرّضهم حتّى أحاطوا بالحسين عليهالسلام إحاطة !
فخرج إليهم عبد
الله بن الحسن بن عليّ عليهماالسلام وهو غلام لم يراهق بعد ، خرج من بين النساء يشتدّ إلى عمّه
الحسين عليهالسلام ولحقته عمّته زينب ابنة عليّ عليهماالسلام لتحبسه ، ورآهما الحسين عليهالسلام فناداها : احبسيه يا اختي ، فأرادت ذلك فقال : والله لا
افارق عمّي وأبى وامتنع امتناعا شديدا ، واشتدّ حتّى وقف إلى جانب عمّه الحسين عليهالسلام وأهوى بحر بن كعب التميمي إلى الحسين عليهالسلام بالسيف ، فصاح به الغلام : ويلك يابن الخبيثة! أتقتل عمّي!
واتّقى ضربة سيفه بيده ، وأهوى بحر بسيفه فأصاب يد الغلام فأطنّها إلى الجلدة فإذا
يده معلّقة! ونادى الغلام : يا امّتاه! فضمّه عمّه الحسين عليهالسلام إلى صدره وقال له : يابن أخي : اصبر على ما نزل بك واحتسب
في ذلك الخير ، فإنّ الله يلحقك بآبائك الصالحين : رسول الله وعليّ بن أبي طالب
وحمزة وجعفر والحسن بن عليّ صلّى الله عليهم أجمعين! ثمّ رفع الحسين عليهالسلام يده وقال : اللهمّ أمسك عنهم قطر السماء ، وامنعهم بركات
الأرض! اللهمّ فإن متّعتهم إلى حين ففرّقهم تفريقا واجعلهم طرائق قددا ؛ ولا ترض
عنهم الولاة أبدا! فإنّهم دعونا لينصرونا فعدوا علينا فقتلونا .
ولقد مكث طويلا من
النهار ولو شاء الناس أن يقتلوه لفعلوا ، ولكنّهم كان يتّقي بعضهم ببعض ، ويحبّ
هؤلاء أن يكفيهم أولئك! ومكث طويلا من النهار كلما انتهى إليه من الناس رجل انصرف
عنه وكره أن يتولّى قتله وعظيم إثمه عليه!
__________________
فنادى فيهم شمر :
ويحكم! ماذا تنظرون بالرجل؟! ثكلتكم امّهاتكم! اقتلوه! فحملوا عليه من كلّ جانب :
فضربه زرعة بن شريك التميمي ضربة على كتفه اليسرى ، وضربه اخرى على عاتقه ، فأخذ
ينوء ويكبوا على وجهه ، وحمل عليه سنان بن أنس النخعي الهمداني وكانت به لوثة عقل
فطعنه بالرمح فوقع ، ثمّ نزل إليه فذبحه واحتزّ رأسه ، ودفعه إلى خوليّ بن يزيد
الأصبحي الهمداني وقال له : احمله إلى الأمير عمر بن سعد .
سلب الإمام
والقتيل والأسير بعده :
ودنا من الحسين عليهالسلام رجل من بني نهشل من تميم فأخذ سيف الحسين وأخذ قيس بن
الأشعث الكندي قطيفته وسلب إسحاق بن حيوة الحضرمي قميصه وأخذ بحر بن كعب التميمي
سراويله وتركه مجرّدا .
وأخذ الناس
يتنادون : قتل الحسين! قتل الحسين! وكان سويد بن عمرو من أصحاب الإمام عليهالسلام قد نصره حتّى أثخن بالجراح ووقع مثخنا بالجراح بين القتلى
من أصحابه ، فلما قتل الحسين عليهالسلام وجد في نفسه إفاقة وسمع الناس يقولون : قتل الحسين! قتل
الحسين! وكان معه سكّين فقام وأخذ يقاتلهم
__________________
حتّى تعاون عليه
زيد بن رقاد الجنبي وعروة بن بطّار التغلبي فقتلاه رحمة الله عليه ، فكان آخر قتيل من أنصار الإمام عليهالسلام.
والمرقّع بن ثمامة
الأسدي جثا على ركبتيه ونثر نبله وأخذ يرميهم ، فجاءه نفر من قومه بني أسد وقالوا
له : اخرج إلينا فأنت آمن! فخرج إليهم ، فأخذوه إلى ابن سعد .
وكان ابن سعد
آنذاك قد انصرف إلى فسطاطه ، وكانت في سنان بن أنس لوثة عقل فقال له بعض الناس :
إنك قتلت الحسين بن علي بن فاطمة ابنة رسول الله! قتلت أعظم العرب خطرا جاء إلى
هؤلاء يريد أن يزيلهم عن ملكهم! فأت أمراءك فاطلب منهم ثوابك ، ولو أعطوك في قتل
الحسين بيوت أموالهم كان قليلا! فأقبل على فرسه إلى فسطاط ابن سعد حتّى وقف عليه
ورفع صوته يقول :
أوقر ركابي فضّة وذهبا
|
|
أنا قتلت الملك المحجّبا
|
قتلت خير الناس امّا وأبا
|
|
وخيرهم إذ ينسبون نسبا
|
وسمعه ابن سعد
فقال لمن حوله : أدخلوه عليّ فلمّا أدخلوه خذفه بقضيبه ثمّ قال له : يا مجنون!
أشهد أنّك لمجنون ما صححت قط! أتتكلّم بهذا الكلام! أما والله لو سمعك ابن زياد
لضرب عنقك !
نهب خيام الإمام عليهالسلام :
كان رجل الميدان
في كلّ ذلك شمر الضبابي الكلابي ، وكان سنان النخعي الهمداني من أصحابه ، فلمّا
فرغ من قتل الإمام عليهالسلام وأرسل برأسه إلى أميره
__________________
ابن سعد في فسطاطه
مع خوليّ الأصبحي الهمداني من أصحابه ، حمل في رجّالة معه على ثقل الحسين فانتهوا
إلى عليّ بن الحسين الأصغر وهو مريض منبسط على فراش له ، فقال له بعض الرجّالة معه
: ألا نقتل هذا؟!
وكان معهم حميد بن
مسلم الأزدي فقال : سبحان الله! إنّما هذا صبيّ! أنقتل الصبيان ! فاستصغر فلم يقتل ، واستصغر معه ابنا عمّه الحسن : الحسن
المثنّى ابن الحسن وأخوه عمر بن الحسن فلم يقتلا وتركا .
ومال الناس على
نساء الحسين عليهالسلام وثقله ومتاعه والحلل والإبل ، فانتهبوها .
قال حميد بن مسلم
الأزدي : فو الله لقد كنت أرى المرأة من نسائه وبناته وأهله تنازع على ثوبها عن
ظهرها حتّى تغلب عليه فيذهب به منها !
وكان عقبة بن
سمعان مولى الحسين عليهالسلام قد اختفى في الخيم فاخذ إلى عمر بن سعد فقال له : ما أنت؟
فقال : أنا عبد مملوك ، فخلّى سبيله وجاء إلى خيام الإمام عليهالسلام وكان بعض النساء يعرفنه من الكوفة فصحن في وجهه وسألنه
ليسترجع من عسكره ما اخذ منهنّ ليتستّرن به!
قال حميد بن مسلم
الأزدي : فنادى ابن سعد : ألا لا يدخل أحد منكم بيوت هؤلاء النسوة! ومن أخذ من
متاعهم شيئا فليردّه عليهم! فما ردّ أحد شيئا!
__________________
وقال : ولا
تعرّضوا لهذا الغلام المريض! أو : ألا لا يعرضنّ لهذا الغلام المريض أحد! ثمّ قال
لجماعة ممّن كانوا معه : احفظوهم لئلّا يخرج منهم أحد! ولا تسيئنّ إليهم ؛ ثمّ عاد
إلى مضاربه وفسطاطه .
وطء الخيل جسد
الإمام عليهالسلام :
مرّ الخبر عن ابن
زياد أنّه كتب إلى ابن سعد : «فإن قتل الحسين فأوطئ الخيل صدره وظهره! فإنّه عاقّ
شاقّ قاطع ظلوم! وليس دهري في هذا أن يضرّ بعد الموت شيئا! ولكن عليّ قول لو قد
قتلته فعلت به هذا» .
ولذا نادى ابن سعد
في أصحابه : من ينتدب للحسين ويوطئه فرسه!
فانتدب عشرة ،
منهم إسحاق بن حيوة ، وأحبش بن مرثد الحضرميّان ، فداسوا الحسين عليهالسلام بخيولهم حتّى رضّوا ظهره وصدره !
__________________
وحيث بعث سنان بن
أنس النخعي الهمداني مع خوليّ بن يزيد الأصبحي الهمداني برأس الإمام عليهالسلام إلى ابن سعد ، سرّحه ابن سعد من يومه ذلك إلى ابن زياد
وسرّح معه حميد بن زياد الأزدي وقال : سرّحني لأبشر أهله بعافيته وبفتح الله عليه !
حمل الرؤوس وعيال
الإمام إلى الكوفة :
وأقام ابن سعد
يومه ذلك والغد إلى زوال الشمس حتّى صلّى على من قتل من أصحابه ودفنوهم. وقطفت رؤوس
الباقين من أصحاب الحسين وأهل بيته فكانت اثنين وسبعين رأسا .
وتقاسمت القبائل
الرؤوس وفقا لمن برز منهم وقاتل وقتل ، وكانت هوازن
__________________
مع شمر بن ذي
الجوشن الضبابي الكلابي وكان لهم عشرون رأسا ، وكان لبني تميم سبعة عشر رأسا ،
وكان لكندة ثلاثة عشر رأسا وصاحبهم قيس بن الأشعث الكندي ، وكان لمذحج سبعة رؤوس ،
وكان لبني أسد ستة رؤوس ، وكان لسائر الجيش سبعة رؤوس .
ثمّ أمر حميد بن
بكير الأحمري أن يؤذن الناس بالرحيل إلى الكوفة.
وأمر بحمل عليّ بن
الحسين مريضا ، وحمل معه بنات الحسين وأخواته ومن بقي من الصبيان !
فروى أبو مخنف عن
قرّة بن قيس التميمي : أنّ زينب ابنة فاطمة مرّوا بها على أخيها الحسين وهو صريع ،
قال : لا أنساها وهي تقول : يا محمّداه! يا محمّداه! صلّى عليك ملائكة السماء ،
هذا حسين بالعراء مرمّل بالدماء! مقطّع الأعضاء! يا محمّداه! وبناتك سبايا!
وذرّيتك مقتّلة تسفى عليها الصّبا! قال قرّة : فأبكت والله كلّ عدوّ وصديق! وصحن
النسوة ولطمن وجوههنّ !
دفن الأجساد
الطاهرة :
وبعدها خرج أهل
الغاضرية من بني أسد فدفنوا الحسين وأصحابه ، بعد ما قفلوا بيوم دفنوا الحسين عليهالسلام حيث قبره الآن ، ودفنوا ابنه عليّ بن الحسين ...
__________________
عند رجليه ،
وحفروا للشهداء من أهل بيته ، وأصحابه الذين صرعوا معه ، حوله ممّا يلي رجلي
الحسين عليهالسلام وجمعوهم فدفنوهم معا جميعا إلّا العباس بن عليّ عليهماالسلام فإنّهم دفنوه في موضعه الذي قتل فيه على طريق الغاضرية حيث
قبره الآن وبنو هاشم : إخوة الحسين وبنو أخيه وبنو عمّيه جعفر وعقيل
، كلّهم مدفونون فيما يلي رجلي الحسين عليهالسلام في مشهده ، حفرت لهم حفيرة ثمّ ألقوا فيها جميعا وسوّي
عليهم التراب ـ إلّا العباس بن عليّ رضوان الله عليه فإنّه دفن في موضع قتله على
المسنّاة في طريق الغاضرية ، وقبره ظاهر ـ وليس لقبور إخوته وأهله أثر وإنّما
يزورهم الزائر فيومي بالسلام إلى الأرض التي نحو رجلي الحسين عليهالسلام ، ويقال : إنّ عليّ بن الحسين أقربهم إليه .
رأس الإمام عند
ابن زياد :
مرّ الخبر عن حمل
خوليّ الأصبحي الهمداني رأس الإمام عليهالسلام بعد مقتله يوم عاشوراء إلى الكوفة ، فوصلها ليلا فبات في
أهله. فلمّا أصبح غدا بالرأس إلى ابن زياد وكان معه حميد بن مسلم الأزدي .
فروى أبو مخنف
الأزدي عن حميد بن مسلم الأزدي قال : سرّحني ابن سعد إلى أهله لأبشّرهم بعافيته
وبفتح الله عليه! فأعلمتهم (وبتّ ليلتي) ثمّ أقبلت إلى القصر فوجدت وفد (الرؤوس)
قد قدموا عليه فأدخلهم ، وأذن للناس ، فدخلت فيمن دخل ، فإذا رأس الحسين عليهالسلام موضوع بين يديه (قدم به خوليّ).
__________________
وكان عنده زيد بن
أرقم (الأنصاري) وإذا بابن زياد ينكت بقضيبه بين ثنيّتي الحسين عليهالسلام ولا ينجم عن نكته بقضيبه! فقال له ابن الأرقم : اعل بهذا
القضيب عن هاتين الثنيتين! فو الذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله صلىاللهعليهوآله على هاتين الشفتين يقبّلهما! ثمّ انفضخ الشيخ يبكي.
فقال له ابن زياد
: أبكى الله عينيك! فو الله لو لا أنّك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك!
فنهض زيد بن أرقم
وخرج وهو يقول : ملّك عبد عبدا فاتّخذهم تلدا! أنتم يا معشر العرب العبيد بعد
اليوم! قتلتم ابن فاطمة وأمّرتم ابن مرجانة! فهو يقتل خياركم ويستعبد شراركم!
فرضيتم بالذّل! فبعدا لمن رضي بالذل !
والتفت إلى ابن
زياد وقال له : يابن زياد : لأحدثنّك بحديث أغلظ عليك من هذا! رأيت رسول الله صلىاللهعليهوآله وقد أقعد حسنا على فخذه اليمنى وحسينا على فخذه اليسرى ،
ثمّ وضع يده على يا فوخيهما ثمّ قال : «اللهمّ إنّي أستودعك إيّاهما وصالح
المؤمنين»! فكيف كانت وديعة رسول الله صلىاللهعليهوآله عندك يابن زياد !
وكان عنده قيس بن
عبّاد البكري من التابعين فسأله ابن زياد : ما تقول فيّ وفي الحسين؟!
__________________
فأجابه : يأتي يوم
القيامة جدّه وأبوه وأمّه فيشفعون فيه ، ويأتي جدّك وأبوك وأمّك فيشفعون فيك! فغضب
ابن زياد وأقامه من المجلس .
السبايا في مجلس
ابن زياد :
ثمّ أدخلوا عيال
الحسين عليهالسلام ، أخواته ونساءه وصبيانه على ابن زياد ، وكانت زينب ابنة
فاطمة تنكّرت بأن لبست أرذل ثيابها ، وكان لها معها إماء حففن بها حولها فدخلت
وجلست بينهنّ وهنّ قمن حولها ، ورآها كذلك ابن زياد فقال : من هذه الجالسة؟ فلم
تكلّمه ولا إماؤها حتّى قال ذلك ثلاثا ، فقال بعض إمائها : هذه زينب بنت فاطمة!
فقال لها ابن زياد
: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم! وأكذب احدوثتكم!
فأجابته : الحمد
لله الذي أكرمنا بمحمّد صلىاللهعليهوآله وطهّرنا تطهيرا ، لا كما تقول أنت! إنّما يفتضح الفاسق! ويكذّب الفاجر!
فسألها : فكيف
رأيت صنع الله بأهل بيتك؟!
فأجابته : كتب
عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجّون إليه وتخاصمون عنده !
فغضب ابن زياد
واستشاط غضبا وقال لها : قد أشفى الله نفسي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك!
__________________
فبكت ، ثمّ قالت :
لعمري لقد قتلت كهلي! وأبرت أهلي! وقطعت فرعي (أولادي) واجتثثت أصلي! فإن يشفك هذا
فقد اشتفيت!
فقال ابن زياد :
هذه سجّاعة ! ولعمري قد كان أبوها شاعرا سجّاعا!
فأجابته : ما
للمرأة والسجاعة! إنّ لي عن السجاعة لشغلا ، ولكنّي نفثى بما أقول.
ثمّ نظر ابن زياد
إلى عليّ بن الحسين فقال له : ما اسمك؟ قال : أنا عليّ بن الحسين!
فقال : أو لم يقتل
الله! عليّ بن الحسين! فسكت. فقال : ما لك لا تتكلّم؟! قال : قد كان لي أخ يقال له
أيضا : عليّ ، فقتله الناس ! قال : إنّ الله قتله! فسكت الإمام السجاد عليهالسلام ، فقال له : ما لك لا تتكلّم؟! فتلا عليه آيتين من القرآن
: (اللهُ يَتَوَفَّى
الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) ، (وَما كانَ لِنَفْسٍ
أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ).
فقال له ابن زياد
: أنت والله منهم ! وبك جرأة لردّ جوابي! وفيك بقيّة للردّ عليّ ! ثمّ التفت إلى المرّي بن معاذ الأحمري من جلاوزته وقال له
: ويحك اقتله! فتعلّقت به عمّته زينب وقالت له :
__________________
يابن زياد! حسبك
منّا! أما رويت من دمائنا! وهل أبقيت منّا أحدا! واعتنقته وقالت لابن زياد : أسألك
بالله ـ إن كنت مؤمنا ـ إن قتلته لمّا قتلتني معه!
وناداه عليّ بن
الحسين عليهالسلام : إن كانت بينك وبينهنّ قرابة (من قريش) فابعث معهن رجلا
تقيّا يصحبهنّ بصحبة الإسلام!
فنظر إليهما ثمّ
قال : عجبا للرحم! والله لودّت لو أني قتلته أنّي قتلتها معه! دعوا الغلام ! فإنّي أراه لما به .
ثمّ أمر ابن زياد
أن ينصب رأس الحسين عليهالسلام على رمح ويدار به في الكوفة ! في سككها كلّها وقبائلها.
فروى عن زيد بن
أرقم قال : مرّ به عليّ وهو على رمح وأنا في غرفة (فوقانية) فلمّا حاذاني سمعته
يقرأ : (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ
أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) فقفّ شعري والله وناديته : رأسك والله ـ يابن رسول الله ـ
أعجب وأعجب !
موقف ابن عفيف :
وأمر ابن زياد
فنادوا : الصلاة جامعة! فاجتمع الناس في المسجد الأعظم ، فخرج ابن زياد وصعد
المنبر وقال :
__________________
الحمد لله الذي
أظهر الحقّ وأهله ونصر أمير المؤمنين يزيد بن معاوية وحزبه ، وقتل الكذّاب ابن
الكذّاب : الحسين بن عليّ و «شيعته»!
وكان عبد الله بن
عفيف الأزدي الغامدي من «شيعة علي كرّم الله وجهه» وكان أعمى لا يكاد يفارق المسجد الأعظم يصلّي فيه إلى
الليل ، فلمّا سمع هذه المقالة من ابن زياد وثب إليه وناداه : إنّ الكذّاب ابن
الكذّاب أنت وأبوك والذي ولّاك وأبوه يابن مرجانة! أتقتلون أبناء النبيين
وتتكلّمون بكلام الصدّيقين!
فنادى ابن زياد
بجلاوزته : عليّ به! فوثبوا عليه حتّى أخذوه ، فنادى بشعار الأزد : يا مبرور! فوثب
إليه فتية منهم فانتزعوه من أيدي الجلاوزة وذهبوا به إلى أهله. فأرسل إليه ابن
زياد من أتاه به (ليلا) فقتله وأمر بصلبه في السبخة! فصلب هناك رحمهالله .
الرؤوس بين يدي
يزيد :
لم يمنع ابن زياد
وثبة ابن عفيف الأزدي عليه من أن يدعو أبا بردة بن عوف وطارق بن أبي ظبيان
الأزديّين ليكونوا مع زحر بن قيس الجعفي الكندي ، ليسرّحهم برأس الإمام عليهالسلام ورؤوس أصحابه إلى يزيد بن معاوية .
فروى السبط عن
الزهري قال : لما جاءت الرؤوس كان يزيد في منظره على جبل جيرون بدمشق فأنشد :
__________________
لمّا بدت تلك الحمول وأشرقت
|
|
تلك الشموس على ربى جيرون
|
نعق الغراب فقلت : نح أو لا تنح
|
|
فلقد قضيت من النبيّ ديوني
|
فروى الكلبي عن
الغاز بن ربيعة الحميري الجرشيّ أنّه كان عند يزيد بدمشق إذ دخل عليه زحر بن قيس
الجعفي الكندي ، فقال له يزيد : ويلك ما وراءك؟ وما عندك؟ فقال له : أبشر يا أمير
المؤمنين! بفتح الله ونصره! ورد علينا الحسين بن عليّ في ثمانية عشر من أهل بيته
وستين من «شيعته» فسرنا إليهم فسألناهم أن يستسلموا وينزلوا على حكم الأمير عبيد
الله بن زياد ، أو القتال! فاختاروا القتال على الاستسلام! فعدونا عليهم مع شروق
الشمس فأحطنا بهم من كلّ ناحية ، حتّى إذا أخذت السيوف مأخذها من هام القوم حتّى
أتينا على آخرهم ، فهاتيك أجسادهم مجرّدة! وثيابهم مرمّلة! وخدودهم معفّرة! تصهرهم
الشمس ، وتسفى عليهم الريح ، زوّارهم العقبان والرّخم بقيّ سبسب .
ووضع الرأس بين
يدي يزيد في طست فجعل ينكت على ثناياه بقضيبه! وتمثّل بقول عبد الله بن الزّبعري :
ليت أشياخي ببدر ، شهدوا
|
|
جزع الخزرج من وقع الأسل
|
قد قتلنا القرم من أشياخهم
|
|
وعدلناه ببدر فاعتدل !
|
وقال سبط ابن
الجوزي : والمشهور عن يزيد في جميع الروايات : أنّه لمّا احضر الرأس بين يديه كان
قد جمع جمعا من أهل الشام ، وجعل ينكته بالخيزرانة
__________________
ويقرأ الأبيات ...
حتّى جاء في «كتاب الوجهين والروايتين» للقاضي أبي يعلى عن أحمد بن حنبل أنّه قال
: إن صحّ ذلك عن يزيد فقد فسق! وقال مجاهد : فقد نافق. وقال الشعبي : وزاد فيها
يزيد قال :
لعبت هاشم بالملك فلا
|
|
خبر جاء ولا وحي نزل
|
لست من خندف إن لم أنتقم
|
|
من بني أحمد ما كان فعل
|
ولمّا وضعت رؤوس
أهل بيت الحسين وأصحابه بين يدي يزيد تمثل بقول المرّي :
يفلّقن هاما من رجال أعزّة
|
|
علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما!
|
وكان يحيى بن
الحكم أخو مروان حاضرا فقال :
لهام بجنب الطفّ ، أدنى قرابة
|
|
من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل
|
سميّة أمسى نسلها عدد الحصى
|
|
وبنت رسول الله ليس لها نسل!
|
فضرب يزيد في صدر
يحيى وقال له : اسكت .
ثمّ أذن للناس
فدخلوا والرأس بين يديه ، وبيده قضيب ينكت به في ثغره!
وكان ممّن دخل
عليه الصحابيّ أبو برزة الأسلمي الأنصاري من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فلمّا رأى يزيد يفعل ذلك أنكره وقال : أتنكت بقضيبك في
ثغر الحسين! أما لقد أخذ قضيبك من ثغره مأخذا لربّما رأيت رسول الله صلىاللهعليهوآله يرشفه! أما إنّك يا يزيد (كذا بدون لقب) تجيء يوم القيامة
وشفيعك ابن زياد! ويجيء هذا يوم القيامة وشفيعه محمّد صلىاللهعليهوآله! ثمّ قام فولّى.
__________________
وسمعت دور الحديث
هند بنت عبد الله بن عامر بن كريز زوجة يزيد ، فتقنّعت بثوبها وخرجت فقالت :
يا أمير المؤمنين!
أرأس الحسين بن فاطمة بنت رسول الله!
قال : نعم! فأعولي
عليه وحدّي على ابن بنت رسول الله! وصريخة قريش! عجّل عليه ابن زياد فقتله .
أم سلمة ونعي
الحسين عليهالسلام :
روى اليعقوبي عن
ام سلمة زوج رسول الله صلىاللهعليهوآله : أنّه كان قد دفع إليها قارورة فيها تربة وقال لها : إنّ
جبرئيل أعلمني أنّ أمّتي تقتل الحسين! وأعطاني هذه التربة. وقال النبيّ لي : إذا
صارت دما عبيطا فاعلمي أنّ الحسين قد قتل! فلمّا (خرج الحسين عليهالسلام إلى العراق) جعلت تنظر إلى القارورة في كلّ (يوم) فلمّا
رأتها قد صارت دما صاحت وا حسيناه! وا ابن رسول الله !
فروي عن سلمى بنت
أبي رافع القبطي قالت : ارتفعت واعية من حجرة امّ سلمة ، فكنت أوّل من أتاها ورأيت
بين يديها قارورة تفور دما فقلت لها : يا امّ المؤمنين ما دهاك؟! قالت : رأيت رسول
الله صلىاللهعليهوآله في المنام والتراب على رأسه! فقلت له : ما لك؟ فقال : وثب
الناس على ابني فقتلوه ، وقد شهدته الساعة قتيلا! فاقشعرّ جلدي! فوثبت إلى هذه
القارورة التي دفعها رسول الله إليّ وفيها رمل من الطفّ وقال لي : إذا تحوّل هذا
دما عبيطا فعند ذلك يقتل الحسين. فوجدتها تفور دما !
__________________
وروى الطوسي بسنده
عن ابن عباس قال : بينا أنا راقد في منزلي (بالمدينة) إذ سمعت من بيت امّ سلمة زوج
النبيّ صلىاللهعليهوآله صراخا عاليا! فقلت لقائدي يقودني إليها فخرج بي ، وأقبلت
إليها النساء الهاشميّات ، فهي أقبلت عليهنّ وقالت لهنّ : يا بنات عبد المطلب
أسعدنني وابكين معي ، فقد قتل والله سيّدكنّ وسيّد شباب أهل الجنة! قد والله قتل
سبط رسول الله وريحانته الحسين! فقلت لها : يا امّ المؤمنين ومن أين علمت ذلك؟
قالت : رأيت رسول الله في المنام الساعة شعثا مذعورا! فسألته عن شأنه ذلك؟ فقال :
قتل ابني الحسين وأهل بيته اليوم ، والساعة فرغت من دفنهم!
قالت : فقمت حتّى
دخلت البيت وأنا لا أكاد أن أعقل ، فنظرت فإذا بتربة الحسين التي أتى بها جبرئيل
من كربلاء وقال : إذا صارت هذه التربة دما فقد قتل ابنك! وأعطانيها النبيّ فقال :
اجعلي هذه التربة في قارورة أو زجاجة ولتكن عندك ، فإذا صارت دما عبيطا فقد قتل
الحسين! فرأيت القارورة الآن وقد صارت تفور دما عبيطا! وكانت امّ سلمة قد لطّخت
بذلك الدم وجهها ، واتّخذت ذلك اليوم مأتما ومناحة على الحسين عليهالسلام .
واختار شيخه
المفيد خبرا آخر عن امّ سلمة قالت : خرج رسول الله صلىاللهعليهوآله من عندنا ذات ليلة فغاب عنّا طويلا ، ثمّ جاءنا ويده
مضمومة وهو أشعث أغبر! فقلت له : يا رسول الله ما لي أراك شعثا مغبرّا؟! فقال :
اسري بي في هذا الوقت إلى موضع من العراق يقال له : كربلاء ، فاريت فيه مصرع
الحسين ابني وجماعة من ولدي وأهل بيتي! فلم أزل ألقط (من) دمائهم! فها هي في يدي.
وبسطها إليّ
__________________
وقال : خذيها
واحتفظي بها. فأخذتها فإذا هي شبه تراب أحمر! فوضعتها في قارورة وشددت رأسها
واحتفظت بها.
فلمّا خرج الحسين
من مكّة متوجّها نحو العراق كنت اخرج القارورة في كلّ يوم وليلة وأنظر إليها
وأشمّها ثمّ أبكي لمصابه! فلمّا كان اليوم العاشر من المحرّم أخرجتها أوّل النهار
فكانت بحالها ، ثمّ عدت إليها آخر النهار فإذا هي دم عبيط! فصحت وبكيت.
قالت : (ولكنّي)
كتمت غيظي مخافة أن يسمع أعداؤهم بالمدينة فيسرعوا بالشماتة! ولم أزل حافظة للوقت
حتّى جاء الناعي ينعاه ، فحقّق ما رأيت .
قال : ولمّا أنفذ
ابن زياد برأس الحسين عليهالسلام إلى يزيد دعا عبد الملك بن أبي الحديث السلمي .
وفي الطبري عن
الكلبي : عبد الملك بن أبي الحارث السّلمي ، وأعطاه دنانير وقال له : انطلق ولا
تعتلّ ولا يسبقك الخبر ، وإن قامت بك راحلتك فاشتر راحلة ، حتّى تقدم المدينة على
أميرها عمرو بن سعيد بن العاص فتبشّره بقتل الحسين !
قال عبد الملك :
فركبت راحلتي وسرت حتّى دخلت المدينة ، فلقيني قرشيّ فسألني ما الخبر؟ فقلت له :
تسمعه عند الأمير! فاسترجع وقال : قتل والله الحسين! ودخلت على عمرو بن سعيد فقال
لي : ما وراءك؟ قلت له : ما يسرّ الأمير : قتل الحسين بن عليّ! فقال : فاخرج فناد
بقتله! فخرجت فناديت بقتله!
__________________
فو الله لم أسمع
قطّ واعية مثل واعية نساء بني هاشم حين سمعوا النداء بقتله! فعدت إلى عمرو بن سعيد
فلمّا رآني تبسّم ضاحكا ثمّ تمثل بقول عمرو بن معدي كرب الزبيدي :
عجّت نساء بني زياد عجّة
|
|
كعجيج نسوتنا غداة الأرنب
|
ثمّ قال : هذه
واعية بواعية عثمان بن عفّان .
وروى المعتزلي عن «المثالب»
لأبي عبيد القاسم بن سلّام البصري قال :
كتب ابن زياد إلى
عمرو بن سعيد يبشّره بقتل الحسين عليهالسلام ، فقرأ كتابه على المنبر ثمّ أنشد :
يا حبّذا بردك في اليدين
|
|
وحمرة تجري على الخدّين
|
كأنّما بتّ بمحشدين!
|
ثمّ أومأ إلى القبر
الشريف قائلا : يوم بيوم بدر! فأنكر عليه ذلك قوم من الأنصار !
وحين سمعت نعي
الحسين عليهالسلام أمّ لقمان بنت عقيل بن أبي طالب خرجت ومعها نساؤها وهي
حاسرة وتلوي بثوبها على رأسها وهي تقول :
ماذا تقولون إن قال النبيّ لكم :
|
|
ماذا فعلتم! وأنتم آخر الأمم
|
بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي
|
|
منهم اسارى ومنهم ضرّجوا بدم
|
ما كان هذا
جزائي إذ نصحت لكم
|
|
أن تخلفوني بسوء
في ذوي رحمي
|
__________________
ولمّا علم الناس
بقتل ابني عبد الله بن جعفر (محمّد وعون) مع الحسين عليهالسلام دخلوا عليه يعزّونه ، وكان له مولى يدعى أبا اللسلاس فقال
: هذا ما دخل علينا من الحسين! فخذفه عبد الله بن جعفر بنعاله وقال له : يابن
اللخنا! أللحسين تقول هذا؟! والله لو شهدته لأحببت أن لا افارقه حتّى اقتل معه!
والله إنّه لمما يسخّي بنفسي عنهما ويهوّن عليّ المصاب بهما : أنهما اصيبا مع أخي
وابن عمّي مواسيين له صابرين معه. ثمّ أقبل على جلسائه وقال : الحمد لله عزوجل على مصرع الحسين ، إن لا تكن يديّ آست حسينا فقد آساه
ولديّ أو قال : إن لا أكن آسيت حسينا بيدي فقد آساه ولدي .
السبايا في الشام
:
روى الصدوق بسنده
عن حاجب ابن زياد عن من صحب السبايا إلى الشام قالوا : دخلنا دمشق بالنساء السبايا
بالنهار مكشّفات الوجوه! فقال بعض أهل الشام : ما رأينا سبايا أحسن من هؤلاء! فمن
أنتم؟ فقالت سكينة بنت الحسين : نحن سبايا آل محمّد.
وكانوا من قبل
يوقفون السبايا على درج المسجد الجامع بدمشق ليراهم الناس ، فأقاموهم عليه.
فأتاهم شيخ من أهل
الشام فقال لهم : الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم وقطع قرن الفتنة! وما زال يشتمهم.
فلما انقضى كلامه
قال له عليّ بن الحسين : أما قرأت كتاب الله عزوجل؟
__________________
قال : بلى قد
قرأت. قال : أما قرأت هذه الآية : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى)؟ قال : بلى. قال : فنحن أولئك!
ثمّ قال : أما
قرأت : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى
حَقَّهُ)؟ قال : بلى. قال : فنحن هم!
ثمّ قال : فهل
قرأت هذه الآية : (إِنَّما يُرِيدُ
اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)؟ قال : بلى. قال : فنحن هم!
فرفع الشيخ الشامي
يده إلى السماء وقال ثلاثا : اللهمّ إنّي أتوب إليك. ثمّ قال : اللهمّ إنّي أبرأ
إليك من عدوّ آل محمّد ومن قتلة أهل بيت محمّد. لقد قرأت القرآن فما شعرت بهذا قبل
اليوم.
ثمّ أدخل نساء
الحسين عليهالسلام على يزيد بن معاوية .
السبايا والسجاد عليهالسلام عند يزيد :
وجلس يزيد بن
معاوية وقد دعا أشراف أهل الشام وأجلسهم حوله ، ثمّ دعا بعليّ بن الحسين عليهالسلام وصبيانه ونسائه فأدخلوا عليه والناس ينظرون .. فرأى هيئته
قبيحة فقال : قبّح الله ابن مرجانة! لو كانت بينه وبينكم رحم أو قرابة ما فعل هذا
بكم ، ولا بعث بكم هكذا! فرقّ لهم وأمر لهم بشيء من الألطاف!
وقال لعليّ بن
الحسين عليهالسلام : يا عليّ! أبوك الذي قطع رحمي! وجهل حقي! ونازعني سلطاني!
فصنع الله! به ما قد رأيت! فتلا الإمام عليه قوله سبحانه : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ
وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها).
__________________
وكان خالد بن يزيد
عند أبيه فقال له أبوه يزيد : اردد عليه! فما درى خالد بماذا يردّ عليه؟ فقال يزيد
: قل : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ
مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) ثمّ سكت.
فقام إليه رجل
أحمر من أهل الشام وقال له : يا أمير المؤمنين! هب لي هذه الجارية ، وأشار إلى
فاطمة بنت الحسين عليهالسلام! فخافت وأخذت بثياب عمّتها زينب ، فالتفتت إليه زينب وقالت
له : كذبت ـ والله ـ ولؤمت! ما ذلك لك ولا له!
فغضب يزيد وقال
لها : كذبت والله! إنّ ذلك لي! ولو شئت أن أفعله لفعلت!
فقالت زينب : كلّا
ـ والله ـ ما جعل الله ذلك لك! إلّا أن تخرج من ملّتنا وتدين بغير ديننا!
فغضب يزيد واستطار
غضبا وقال : أإياي تستقبلين بهذا! إنّما خرج من الدين أبوك وأخوك!
فقالت زينب : بدين
الله ودين أبي وأخي وجدّي اهتديت أنت وأبوك وجدّك!
فقال لها : كذبت
يا عدوّة الله!
فقالت : أنت أمير
مسلّط تشتم ظالما وتقهر بسلطانك! فسكت!
فعاد الشامي فقال
: يا أمير المؤمنين! هب لي هذه الجارية!
فقال له يزيد :
اعزب! وهب الله لك حتفا قاضيا !
__________________
خطبة العقيلة في
مجلس يزيد :
أرسل ابن أبي
طيفور البغدادي قال : لما جعل يزيد ينكت ثنايا الحسين عليهالسلام بقضيبه وهو ينشد شعره ...
قالت زينب : «صدق
الله ورسوله يا يزيد (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ
الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها
يَسْتَهْزِؤُنَ) أظننت يا يزيد أنه حين أخذ علينا بأطراف الأرض وأكناف
السماء ، فأصبحنا نساق كما يساق الأسارى : أنّ بنا هوانا على الله وبك عليه كرامة!
وأنّ هذا لعظيم خطرك! فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك جذلان فرحا! حين رأيت الدنيا
مستوسقة لك والأمور متّسقة عليك ، وقد أمهلت ونفّست! وهو قول الله تبارك وتعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ
لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ).
أمن العدل ـ يابن
الطلقاء ـ تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا! قد هتكت ستورهن ،
وأصحت أصواتهن! مكتئبات! تخدي بهنّ الأباعر ، ويحدو بهنّ الأعادي من بلد إلى بلد ،
لا يراقبن ولا يؤوين ، ويتشوّفهنّ القريب والبعيد ، ليس معهنّ وليّ من رجالهنّ.
وكيف يستبطأ في
بغضتنا من نظر إلينا بالشنف والشنآن والإحن والأظغان؟! وتقول : «ليت أشياخي ببدر
شهدوا» غير متأثّم ولا مستعظم! وأنت تنكت ثنايا أبي عبد الله بمخصرتك!
ولم لا تكون كذلك
وقد نكأت القرحة واستأصلت الشأفة ، بإهراقك دماء ذريّة رسول الله صلىاللهعليهوآله ، ونجوم الأرض من آل عبد المطلب ، ولتردنّ على الله وشيكا
موردهم ، ولتودّنّ أنّك عميت وبكمت وأنّك لم تقل : «لأهلّوا واستهلّوا فرحا»!
__________________
والله ما فريت
إلّا جلدك ، ولا حززت إلّا لحمك ، وسترد على رسول الله صلىاللهعليهوآله برغمك ... يوم يجمع الله شمل لحمته وعترته في حظيرة القدس
ملمومين من الشعث ، وذلك قول الله تبارك وتعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ).
وسيعلم من بوّأك
ومكّنك من رقاب المؤمنين ، إذا كان الحكم الله والخصم محمّد صلىاللهعليهوآله ، وجوارحك شاهدة عليك! فبئس للظالمين بدلا ولتعلمنّ أيّكم (شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً).
مع أنّي ـ والله
يا عدوّ الله وابن عدوّه ـ استصغر قدرك واستعظم تقريعك! غير أنّ العيون عبرى
والصدور حرّى! وما يجزي ذلك أو يغني عنّا وقد قتل الحسين عليهالسلام ... يعطوهم أموال الله على انتهاك محارم الله! فهذه الأيدي
تنطف من دمائنا ، وهذه الأفواه تتحلّب من لحومنا ، وتلك الجثث الزواكي يعتامها
عسلان الفلوات! فلئن اتّخذتنا مغنما فلتجدنّ مغرما ، حين لا تجد إلّا ما قدّمت
يداك ، تستصرخ بابن مرجانة ويستصرخ بك! وتتعاوى وأتباعك عند الميزان ، وقد وجدت
أفضل زاد زوّدك معاوية قتلك ذريّة محمّد صلىاللهعليهوآله!
فو الله ما اتّقيت
الله ، ولا شكواي إلّا إلى الله. فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك! فو الله لا ترحض
عنك عار ما أتيت إلينا أبدا.
والحمد لله الذي
ختم بالسعادة والمغفرة لسادات شبّان الجنان وأوجب لهم الجنة ، وأسأل الله أن يرفع
لهم الدرجات وأن يوجب لهم المزيد من فضله ، فإنّه وليّ قدير» .
__________________
واسكت يزيد حتّى
سكتت زينب ثمّ تمثّل بقول القائل :
يا صيحة تحمد من صوائح
|
|
ما أهون النوح على النوائح
|
ثمّ أمر بالنسوة
أن ينزّلن في دار على حدة متّصلة بدار يزيد ، فأفردت لهم ، ومعهم عليّ بن الحسين عليهالسلام ومعهم ما يصلحهم ، فاخرجوا إلى تلك الدار ، واجتمع نساء آل
معاوية فاستقبلنهنّ بالبكاء والنوح على الحسين عليهالسلام ثلاثة أيام .
ورأس الحسين عليهالسلام إلى المدينة :
نقل البلاذري عن
الكلبي قال : بعث يزيد رأس الحسين عليهالسلام إلى المدينة . فصرخت نسوة آل أبي طالب ، فسمعهنّ مروان بن الحكم فتمثّل
وقال :
__________________
عجّت نساء بني زياد عجّة
|
|
كعجيج نسوتنا غداة الأرنب
|
ثمّ تمثل بقول ابن
منقذ العدوي في كتيبة «دوسر» للنعمان بن المنذر :
ضربت دوسر فيهم ضربة
|
|
أثبتت أركان ملك ، فاستقر
|
وقال عمرو بن سعيد
: وددت أنّ أمير المؤمنين! لم يبعث إلينا برأسه! فقال له مروان : بئسما قلت! هاته!
ثمّ تناول منه الرأس فوضعه بين يديه ثمّ أخذ بأرنبة أنفه وقال :
يا حبّذا بردك في اليدين
|
|
ولونك الأحمر في الخدّين
|
لكأني انظر إلى
أيام عثمان .
وخطب عمرو الأشدق
فتشدّق بقتل الحسين عليهالسلام فقام ابن أبي حبيش الأسدي القرشي فقال : رحم الله فاطمة!
فقال له عمرو : وما أنت وفاطمة؟ قال : أمّها خديجة ـ يريد أنّها أسدية من قومه ـ
فقال عمرو : نعم والله ، وابنة محمّد! أخذتها يمينا وأخذتها شمالا! ووددت والله
أنّ أمير المؤمنين! كان نحّاه عنّي ولم يرسل به إليّ! ووددت والله أنّ رأس حسين
كان على عاتقه ، وروحه كان في جسده .
ونصب الرأس على
خشبة ، ثمّ ردّ إلى دمشق .
__________________
خطبة السجّاد عليهالسلام بالشام :
كان يزيد راوية
للشعر وشاعرا كما مرّ ، ولم نجد له فيما بأيدينا خطبة. وقد مرّ الخبر عن خطبة ابن
زياد في المسجد الجامع بالكوفة بعد جلسة القصر ، وكأنّ يزيد بدل ذلك أحضر الإمام
السجّاد عليهالسلام إلى المسجد الجامع بالشام ضحى قبيل الزوال ، واستحضر الناس
، وخطيبا أمره أن يخطبهم فيذكر للناس مساوئ الحسين وأبيه عليّ عليهماالسلام ويقرّظ معاوية ويزيد.
فصعد الخطيب
المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ أطنب في تقريظ معاوية ويزيد وأكثر الوقيعة في
عليّ والحسين عليهماالسلام! وكان الإمام السجّاد عليهالسلام في هذه الفترة قد تماثل للشفاء ، فصاح به :
ويلك أيّها الخاطب!
اشتريت رضا المخلوق بسخط الخالق! فتبوّأ مقعدك من النار!
ثمّ التفت إلى
يزيد وقال له : يا يزيد (كذا بدون لقب) إئذن لي حتّى أصعد هذه الأعواد فاتكلّم
بكلمات فيهنّ لله رضا ، ولهؤلاء الجالسين أجر وثواب! فأبى يزيد. فقال له بعض الناس
: يا أمير المؤمنين! ائذن له ليصعد فلعلّنا نسمع منه شيئا. فقال لهم : إن صعد
المنبر هذا لم ينزل إلّا بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان! فقالوا : وما قدر ما يحسن
هذا؟! فقال : إنّه من أهل بيت قد زقّوا العلم زقّا! فلم يزالوا به حتّى أذن له
بالصعود .
وقال الإصفهاني
الأموي : أمره أن يصعد المنبر فيخطب فيعتذر إلى الناس ممّا كان من أبيه! فصعد
المنبر وخطب خطبة طويلة منها :
__________________
«أيّها الناس! من
عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا اعرّفه بنفسي : أنا عليّ بن الحسين ، أنا
ابن البشير النذير ، أنا ابن الداعي إلى الله بإذنه ، أنا ابن السراج المنير» ثمّ
قال : وهي خطبة طويلة كرهت الإكثار بذكرها ونظائرها ونقلها الحلبي عن الأوزاعي في الكتاب الأحمر : أنّه لما
نزل الخطيب قام عليّ بن الحسين فقال وذكرها الخوارزمي أنّه قال :
أيّها الناس!
أعطينا ستّا وفضّلنا بسبع :
اعطينا : العلم ،
والحلم ، والسماحة ، والفصاحة ، والشجاعة ، والمحبّة في قلوب المؤمنين.
وفضّلنا : بأنّ
منّا النبيّ المختار محمّدا صلىاللهعليهوآله ، ومنّا الصدّيق ، ومنّا الطيّار ، ومنّا أسد الله وأسد
الرسول ، ومنّا سيّدة نساء العالمين فاطمة البتول ، ومنّا سبطا هذه الأمّة وسيّدا
شباب أهل الجنة.
أيّها الناس! من
عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي :
أنا ابن مكّة ومنى
، أنا ابن زمزم والصفا ، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الرداء ، أنا ابن خير من
ائتزر وارتدى ، أنا ابن خير من انتعل واحتفى ، أنا ابن خير من طاف وسعى ، أنا ابن
خير من حجّ ولبّى ، أنا ابن من حمل على البراق في الهواء ، أنا ابن من اسري به من
المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، فسبحان من أسرى! أنا ابن من بلغ به جبرائيل إلى
سدرة المنتهى ، أنا ابن من دنا فتدلّى فكان من ربّه قاب قوسين أو أدنى! أنا ابن من
صلّى بملائكة السماء ، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى.
أنا ابن محمّد
المصطفى ، أنا ابن عليّ المرتضى ، أنا ابن من ضرب خراطيم
__________________
الخلق حتى قالوا :
لا إله إلّا الله! أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله بسيفين (ذي الفقار وغيره)
وهاجر الهجرتين (إلى المدينة واليمن؟!) وبايع البيعتين (يوم الدار والرضوان) وصلّى
إلى القبلتين (الكعبة وبيت المقدس) وقاتل ببدر وحنين ، ولم يكفر بالله طرفة عين.
أنا ابن «صالح
المؤمنين» و «يعسوب الدين» ونور المجاهدين ، وزين العابدين ، وتاج البكّائين ،
وأصبر الصابرين ، وأفضل القائمين من آله طه وياسين ورسول ربّ العالمين.
أنا ابن المؤيّد
بجبرائيل ، والمنصور بميكائيل.
أنا ابن المحامي
عن حريم المسلمين ، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين! والمجاهد أعداءه الناصبين!
وأفضل من مشى من قريش أجمعين ، وأوّل من أجاب واستجاب لله من المؤمنين ، وأقدم
السابقين ، وقاصم المعتدين ، ومبير المشركين ، وسهم من مرامي الله على المنافقين ،
ولسان حكمة العابدين ، ناصر دين الله ، ووليّ أمر الله ، ولسان حكمة الله ، وعيبة
علم الله. سمح سخيّ ، بهلول زكيّ أبطحي ، رضيّ مرضيّ ، مقدام همام ، صابر صوّام ،
مهذّب قوّام ، شجاع قمقام. قاطع الأصلاب ، ومفرّق الأحزاب. أربطهم جنانا ، وأطلقهم
عنانا ، وأجرأهم لسانا. وأمضاهم عزيمة ، وأشدّهم شكيمة. أسد باسل وغيث هاطل. إذا
ازدلفت في الحروب الأسنة وقربت الأعنّة يطحنهم طحن الرحى ، ويذروهم ذرو الريح
الهشيم! ليث الحجاز! وصاحب الإعجاز ، وكبش العراق والإمام بالنصّ والاستحقاق. مكّي
مدني ، أبطحي تهامي ، خيفي عقبي ، بدري احدي ، مهاجري شجري (بيعة الشجرة). من العرب
سيّدها ، ومن الوغى ليثها. وارث المشعرين (الحرام المزدلفة ، والحلال عرفات) وأبو
السبطين الحسن والحسين عليهمالسلام. مظهر العجائب ، ومفرّق الكتائب ، والشهاب الثاقب ، والنور
العاقب (المتعاقب) أسد الله الغالب ، مطلوب كلّ طالب ، وغالب كلّ غالب. ذاك جدّي
عليّ بن أبي طالب عليهالسلام.
أنا ابن فاطمة
الزهراء ، أنا ابن سيّدة النساء أنا ابن الطهر البتول ، أنا ابن بضعة الرسول».
ثمّ لم يزل يقول
أنا أنا ، حتّى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب ، وخشى يزيد أن تكون فتنة (وآن أوان
الأذان) فأمر المؤذّن أن يؤذّن ، فرفع المؤذّن صوته وقال : الله أكبر! فقال عليّ
بن الحسين : كبّرت كبيرا لا يقاس ولا يدرك بالحواس! لا شيء أكبر من الله! فلمّا
قال المؤذّن : أشهد أن لا إله إلّا الله ، قال عليّ : شهد بها شعري وبشري ولحمي
ودمي ومخّي وعظمي! فلمّا قال المؤذّن : أشهد أنّ محمّدا رسول الله ، ولم يزل عليّ
على المنبر فالتفت إلى يزيد وقال له : يا يزيد (بدون لقب) محمّد هذا جدّي أم جدّك؟!
فإن زعمت أنّه جدّك فقد كذبت! وإن قلت : إنّه جدّي ، فلم قتلت عترته؟! وأكمل
المؤذّن الأذان والإقامة فتقدّم يزيد وصلّى بهم الظهر وإنّما صلّى معه بعضهم وتفرّق آخرون فلم يصلّوا معه .
ثمّ قام إليه
المنهال بن عمرو الطائي الكوفي وكان حاضرا بدمشق الشام فقال له : كيف أمسيت يابن
رسول الله؟
فقال له : ويحك
كيف أمسيت؟ أمسينا فيكم كهيئة بني إسرائيل في آل فرعون : يذبّحون أبناءهم ويستحيون
نساءهم! وقد أمست العرب تفتخر على العجم بأنّ محمّدا منها! وأمست قريش تفتخر على
سائر العرب بأن محمّدا منها ، وأمسى آل محمّد مقهورين مخذولين! فإلى الله نشكو
كثرة عدوّنا وتظاهر الأعداء علينا وتفرّق ذات بيننا .
__________________
وكأن يزيد أراد
استعادة هيبة حكمه فأمر بحمل رأس الحسين عليهالسلام والتطواف به في دمشق ، وأمامه قارئ يقرأ من القرآن سورة
الكهف حتّى بلغ قوله : (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ
أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) وكان المنهال الطائي الكوفي حاضرا قال : فأنطق الله الرأس
فقال بلسان ذلق ذرب : أعجب من أصحاب الكهف قتلي وحملي .
ردّهم إلى أوطانهم
:
مرّ الخبر عن
تساهل النعمان بن بشير الأنصاري في التشديد على «شيعة» الحسين عليهالسلام في الكوفة ، فعزله يزيد بابن زياد ، فعاد النعمان إلى
أحضان حفيد أبي سفيان يزيد ، فكأنّما اليوم أراد تأنيبه على ذلك فدعاه ، فلمّا جاء
قال له : كيف رأيت ما فعل عبيد الله بن زياد؟ فقال : الحرب دول! وكأنّه يريد أن
الأمر لم يكن مضمونا لهم. فقال يزيد : الحمد لله الذي قتله! فأراد النعمان أن
يبرّر تساهله فقال : قد كان أمير المؤمنين (معاوية!) يكره قتله!
فقال يزيد : ذلك
قبل أن يخرج! ولو خرج على أمير المؤمنين (معاوية!) لقتله ـ والله ـ إن قدر عليه!
فقال النعمان : ما كنت أدري ما كان يصنع !
__________________
ثمّ لما تبنّى
يزيد على التظاهر بعدم التبنّي والالتزام بإجرام ابن زياد بقتل الحسين عليهالسلام ، تمايل إلى جانب النعمان يشاوره فيمن حضره من أهل الشام
قال لهم : يا أهل الشام ما ترون في هؤلاء؟
فقال النعمان :
انظر ما كان يصنعه بهم رسول الله صلىاللهعليهوآله لو رآهم في هذه الحالة ، فاصنعه بهم! فقال : صدقت ، خلّوا
عنهم ، وكساهم وأمر بردّهم إلى المدينة وقال له : يا نعمان بن بشير! جهّزهم بما يصلحهم ، وابعث
معهم من أهل الشام رجلا صالحا أمينا! وابعث معه أعوانا وخيلا ، فيسير بهم إلى
المدينة وسمح لهم أن يحملوا معهم الرؤوس ولا سيما رأس الإمام عليهالسلام فكان عليهم أن يمرّوا بكربلاء في الراجح.
فخرج بهم ، وكان
يسايرهم من خلفهم وهم أمامه بحيث لا يفوتون طرفه ، فإذا نزلوا تنحّى عنهم ، وتفرّق
هو وأصحابه حولهم يحرسونهم ، بحيث إذا أراد أحدهم قضاء حاجة لم يحتشم ، فلم يزل
هكذا ينازلهم في الطريق ويسألهم عن حوائجهم .
فزاروا الحسين عليهالسلام في أربعينه :
على ما مرّ من
موافقة يزيد على حملهم معهم الرؤوس ولا سيّما رأس الحسين عليهالسلام ، كان من الراجح في غالب الظن أن يحملوها إلى مدفنهم
بكربلاء ،
__________________
ولمّا كانوا
يسألونهم عن حوائجهم كما مرّ خبره ، قالوا لدليلهم : مرّ بنا على طريق العراق إلى
كربلاء. فزاروا قبور الحسين وأهل بيته وأصحابه عليهمالسلام ودفنوا رؤوسهم عندهم ، ثمّ عرّجوا على مدينة جدّهم رسول
الله صلىاللهعليهوآله .
وأرسل ابن نما قال
: ولما ورد عيال الحسين عليهالسلام إلى كربلاء وجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري وجماعة من بني
هاشم قدموا لزيارته في وقت واحد ، فتلاقوا بالحزن والاكتئاب والنوح على ذلك المصاب
ولعلّه عنه أخذ ابن طاووس وزاد : فتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم ، وأقاموا
المآتم المقرّحة للأكباد ، واجتمع إليهم نساء ذلك السواد فأقاموا على ذلك أيّاما .
ولعلّه لذلك أمر
الصادق عليهالسلام صفوان بن مهران الجمّال بأن يزور الحسين عليهالسلام في الأربعين ضحى .
وعدّها العسكري عليهالسلام من علامات المؤمنين .
__________________
ثمّ انفصلوا من
كربلاء نحو المدينة حتّى قربوا منها فنزلوا.
لم يعرف من الرجال
الذين أرسلهم يزيد مع آل الحسين عليهالسلام ومع النعمان بن بشير الأنصاري المدني إلى المدينة ، وأمرهم
بالرفق بهم وباتّباعهم للإمام السجاد عليهالسلام ، لم يعرف منهم سوى من سمّاه ابن طاووس ببشير بن حذام ،
ويظهر من الخبر أنّه كان قد تقرّب إلى الإمام وعرّفه بنفسه وأنّ أباه كان شاعرا ،
فهنا يقول : إنّ الإمام قال له : يا بشير ، رحم الله أباك لقد كان شاعرا فهل تقدر
على شيء منه؟ قال : بلى يابن رسول الله إنيّ لشاعر. فقال له : فادخل المدينة وانع
أبا عبد الله عليهالسلام ويظهر أنّ أمير ذلك الخيل والنعمان الأنصاري لم يأبيا ذلك
عليه ، فركب فرسه إلى المدينة حتّى بلغ المسجد النبويّ الشريف فرفع صوته قائلا :
يا أهل يثرب لا مقام لكم بها
|
|
قتل الحسين! فأدمعي مدرار
|
الجسم منه بكربلاء مضرّج
|
|
والرأس منه على القناة يدار
|
ويظهر أنه كرّر
ذلك حتّى اجتمع الناس حوله فقال لهم : هذا عليّ بن الحسين مع عمّاته وأخواته قد حلّوا
بساحتكم ونزلوا بفنائكم ، وأنا رسوله إليكم اعرّفكم مكانه. قال : فلم أر يوما أمرّ
على المسلمين منه! ولم أر باكيا أكثر من ذلك اليوم! وخرجن النساء يدعون بالويل
والثبور ، ويضربن الخدود ويخمشن الوجوه ، وفيهنّ جواري نائحات ينحن على الحسين عليهالسلام. ثمّ عرّفهم مكان نزولهم ، فبادروه.
قال : فضربت فرسي
ورجعت إليهم ، فوجدت الناس قد أخذوا الطرق والمواضع ، فنزلت عن فرسي وتخطّيتهم
حتّى قربت من فسطاط عليّ بن الحسين عليهالسلام وكأنّهم كانوا قد تجهّزوا بكرسيّ معهم ، وبعض الموالي أو
الخدم ، فخرج الإمام وهو يمسح دموعه بخرقة معه ، وخلفه خادم يحمل معه كرسيّا وضعه
له فجلس عليه ، ولمّا رآه الناس ارتفعت أصواتهم بالبكاء ، وحنين النسوان
والجواري ، وتقدّم
إليه الناس من كلّ ناحية يعزّونه بأبيه. ثمّ أومأ إليهم بيده أن اسكتوا ثمّ قال :
الحمد لله رب
العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ، بارئ الخلائق أجمعين ، الذي بعد فارتفع
في السماوات العلى ، وقرب فشهد النجوى. نحمده على عظائم الأمور وفجائع الدهور ،
وألم الفجايع ومضاضة اللواذع ، وجليل الرزء وعظيم المصائب ، الفاجعة الكاظّة ،
الفادحة الجانحة.
أيّها القوم! إنّ
الله ـ وله الحمد ـ ابتلانا بمصائب جليلة ، وثلمة في الإسلام عظيمة : قتل أبو عبد
الله الحسين وعترته ، وسبيت نساؤه وصبيته! وداروا برأسه في البلدان ، من فوق عالي
السنان! وهذه الرزيّة التي لا مثلها رزيّة!
أيّها الناس! فأيّ
رجالات منكم يسرّون بعد قتله؟! أم أيّة عين تحبس دمعها وتضنّ (تبخل) عن انهمالها؟!
فلقد بكت السبع الشداد لقتله ، وبكت البحار بأمواجها ، والسماوات بأركانها ،
والأرض بأرجائها ، والأشجار بأغصانها ، والحيتان في لجج البحار والملائكة
المقرّبون وأهل السماوات أجمعون.
يا أيّها الناس!
أيّ قلب لا ينصدع لقتله؟! أم أيّ فؤاد لا يحنّ إليه؟! أم أيّ سمع يسمع هذه الثلمة
التي ثلمت في الإسلام ولا يصمّ؟!
أيّها الناس!
أصبحنا مطرودين مشرّدين مذودين ، وشاسعين عن الأمصار ، كأنّا أولاد ترك وكابل من
غير جرم اجترمناه ، ولا مكروه ارتكبناه ، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ
الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) والله لو أنّ النبيّ تقدّم إليهم في قتالنا كما تقدّم
إليهم في الوصاية بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا! فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ،
من مصيبة ما أعظمها ، وأوجعها وأفجعها ،
__________________
وأكظّها وأفضعها ،
وأمرّها وأفدحها! فعند الله نحتسب ما أصابنا وما بلغ بنا ، فإنّه عزيز ذو انتقام .
وكأنّ الوصي عليهالسلام كان قد رأى من اقتدائه بالنبيّ صلىاللهعليهوآله في زيجاته الائتلافية أن يصاهر أولاد الزبير وطلحة ، فزوّج
الحسن عليهالسلام ابنته أمّ الحسن لعبد الله بن الزبير! وتزوّج هو ابنة طلحة
امّ إسحاق ورزق منها طلحة لكنّه مات صغيرا ، وكانت امّ إسحاق حسنة السلوك مع الحسن عليهالسلام فأوصى أخاه الحسين عليهالسلام أن يتزوّجها فتزوّجها بعده ، فرزق منها ابنته فاطمة .
وكانت في السبايا
، فلمّا عادت إلى المدينة زارها أخوها إبراهيم بن طلحة ، وكأنّه اغتنمها فرصة
للشماتة بعليّ بن الحسين عليهماالسلام فتجرّأ بسوء الأدب وقال له : يا عليّ بن الحسين ، من غلب؟!
فذكّره الإمام بما ذكّر به يزيد في كلامه له بالشام قال : إذا أردت أن تعلم من غلب
فإذا دخل وقت الصلاة فأذّن وأقم فيعرف الغالب بالباقي ذكره فيهما!
ابن الزبير وقتل
الحسين عليهالسلام :
روى الطبري عن أبي
مخنف قال :
__________________
كان ابن الزبير
يظهر أنّه عائذ بالبيت ويبايع الناس سرّا ، فلمّا قتل الحسين عليهالسلام قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على محمّد صلىاللهعليهوآله ثمّ قال : إنّ أهل العراق غدر فجر إلّا قليلا ، وإنّ أهل
الكوفة شرار أهل العراق ؛ فإنّهم دعوا حسينا لينصروه ويولّوه عليهم ، فلمّا قدم
عليهم ثاروا إليه وقالوا له : إمّا أن تضع يدك في أيدينا فنبعث بك إلى ابن زياد بن
سمية سلما فيمضي فيك حكمه ؛ وإمّا أن تحارب! فرأى أنّه هو وأصحابه قليل في كثير ...
ولكنّه اختار الميتة الكريمة على الحياة الذميمة. فرحم الله حسينا ، وأخزى قاتل
حسين!
ثمّ قال : أفبعد
الحسين نطمئن إلى هؤلاء القوم ونصدّق قولهم ونقبل لهم عهدا؟! لا ولا نراهم أهلا
لذلك! أما والله لقد قتلوه طويلا بالليل قيامه كثيرا في النهار صيامه ، أحقّ بما
هم فيه منهم وأولى به ، في الدين والفضل! أما والله ما كان يبدّل بالقرآن الغناء!
ولا بالبكاء من خشية الله الحداء! ولا بالصيام شرب الحرام! ولا بالمجالس في حلق
الذكر الرّكض في تطلاب الصيد! فسوف يلقون غيّا! يعرّض بيزيد.
وثار إليه أصحابه
وقالوا له : أيّها الرجل ؛ إذ هلك حسين فإنّه لم يبق أحد ينازعك هذا الأمر! فأظهر
بيعتك! فقال لهم : لا تعجلوا.
ولما استقرّ عند
يزيد ما جمع ابن الزبير حوله بمكّة ، عاهد الله ليوثقنّه في سلسلة ، ثمّ أعدّ
سلسلة من فضة وبرنس خزّ ودعا ابن عضاه الأشعري ومسعدة ومعهما جمع وأرسلهم إليه
ليأتوا به إليه في جامعة فضة ليبرّ يمينه ، فمرّوا بالمدينة فبعث معهم مروان
بابنيه عبد الملك وعبد العزيز ، فردّهم ردّا رفيقا .
وقال اليعقوبي :
إنّ ابن الزبير أجاب ابن عضاه الأشعري بجواب غليظ! فقال له ابن عضاه : إنّ الحسين
بن عليّ كان أجلّ قدرا في الإسلام وأهله من قبل
__________________
وقد رأيت حاله!
يهدّده بمصير الحسين ، فقال له ابن الزبير : إنّ الحسين بن عليّ خرج إلى من لا
يعرف حقّه! وإنّ المسلمين قد اجتمعوا عليّ! فقال له : فهذا ابن عباس وابن عمر لم
يبايعاك. وانصرف عنه .
وعمرو بن سعيد
يومئذ عامل مكّة والمدينة ، فكان مع شدّته عليه يداريه ويرفق به. فوفد الوليد بن
عتبة وناس معه إلى يزيد وقالوا له : لو شاء عمرو بن سعيد لأخذ ابن الزبير وبعث به
إليك. فسرّح الوليد أميرا على الحجاز وعزل عمرا لهلال ذي الحجة موسم سنة إحدى
وستين .
وكما تمرّد ابن
الزبير بعد قتل الحسين عليهالسلام كذلك تمرّد باليمامة نجدة بن عامر الحنفي في بني حنيفة من
تميم ، وحجّ بهم ، وحجّ ابن الزبير بأصحابه ، وحجّ الوليد ، ولم يتّبعاه في الموسم
.
يزيد ، بعد الحسين
الشهيد :
قال السيوطي
الشافعي : لما قتل ابن زياد الحسين وبني أبيه وبعث برؤوسهم إلى يزيد سرّ بقتلهم
أوّلا ، ثمّ لمّا مقته المسلمون وأبغضه الناس على ذلك ندم. ثمّ نقل عن «مسند أبي
يعلى» عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال : «لا يزال أمر أمّتي قائما بالقسط حتّى يكون أوّل من
يثلمه رجل من بني أميّة يقال له : يزيد» وضعّف سنده ولكنّه قال : لعن الله قاتل الحسين وابن زياد معه ويزيد
أيضا .
__________________
وروى البلاذري قال
: كتب يزيد إلى ابن زياد : أمّا بعد ، فزد أهل الكوفة أهل السمع والطاعة في
اعطياتهم مئة مئة .
وحكى المسعودي :
أنه بعد قتل الحسين عليهالسلام جلس ذات يوم على شرابه وقد دعا إليه ابن زياد فأجلسه عن
يمينه وأقبل على ساقيه وقال له :
اسقني شربة تروّي مشاشي
|
|
ثمّ مر فاسق مثلها ابن زياد
|
صاحب السرّ والأمانة عندي
|
|
ولتسديد مغنمي وجهادي
|
ثمّ أمر المغنّين
فغنّوا له بها. وغلب على أصحاب يزيد وعمّاله ما كان يفعله من الفسوق ، وفي أيّامه
ظهر الغناء بمكّة والمدينة واستعملت الملاهي وأظهر الناس شرب الشراب!
وكان يزيد صاحب
جوارح وكلاب ، وفهود وقرود! وكان له قرد يكنّيه بأبي قيس! يحضره مجلس منادمته
ويطرح له متّكئا! وكان قردا خبيثا ، وكان يحمله على أتان وحشيّة قد ريّضت وذلّلت
لذلك بسرج ولجام ، ويسابق بها الخيل يوم حلبة السباق ، وكان يلبس قرده أبا قيس
قباء مشمّرا من الحرير الأحمر والأصفر ، ويجعل على رأسه قلنسوة بشقائق من الحرير
ذات ألوان ، وعلى الأتان سرج من الحرير الأحمر منقوش ملمّع بألوان ، فسبق يوما على
الخيل فتناول قصب السباق ودخل في الحجرة ، فقال في ذلك اليوم بعض شعراء الشام :
تمسّك أبا قيس بفضل عنانها
|
|
فليس عليها إن سقطت ضمان!
|
ألا من رأى القرد الذي سبقت به
|
|
جياد أمير المؤمنين! أتان
|
__________________
ومع هذا لم يعدم
من تملّق له فنقل لعمر بن عبد العزيز قولا عن يزيد ولقّبه بأمير المؤمنين! فأنكر
عليه عمر وقال له : أتقول له أمير المؤمنين؟! ثمّ أمر أن يضرب عشرين سوطا! فضرب .
يزيد ، وبنو زياد
:
إزداد زياد من
الأزواج والأولاد ، فقد ذكروا له أكثر من أربعين : أكثر من عشرين بنتا وعشرين بنين
عبيد الله على العراقين ، وأخوه عبد الرحمان على خراسان ، وأخوه عبّاد على
سجستان في ثغر البلاد. وقد مرّ الخبر عن تولية عبيد الله البصرة لمّا وفد على
معاوية ، فاليوم وفد أخوه سلم على يزيد بعد قتل الحسين عليهالسلام ، وهو ابن أربع وعشرين سنة ، وكأنّ يزيد أحبّ أن يلقي
بأسهم بينهم فقال له : اولّيك عمل أخويك عبد الرحمان وعبّاد؟ فقال : ما أحبّ أمير
المؤمنين! فولّاه خراسان وسجستان.
وكان ابن زياد
كأنّه عاد من الشام بعد الكوفة إلى البصرة ، فقدم عليه أخوه سلم بكتاب يزيد إليه
بنخبة ألفي رجل ـ إلى ستة آلاف ـ لسلم ، فكان سلم ينتخب الوجوه والفرسان لديوانه
خلقا كثيرا من فرسان البصرة وأشرافهم. ووجّه أخاه يزيد بن زياد إلى سجستان ، وكان
عبيد الله يحبّ عبّادا فكتب إليه يخبره بولاية سلم ، فقسّم عبّاد ما في بيت ماله
وخرج من سجستان وخرج منها إلى جيرفت ثمّ إلى فارس حتّى قدم على يزيد بن معاوية
وأخبره بتقسيمه ما أصاب بين الناس ، فلم يؤاخذه!
__________________
وتجهّز سلم وسار
إلى خراسان ، فأخذ الحارث بن قيس السّلمي عامل أخيه عبد الرحمان بن زياد وأقامه في
سراويله يطالبه بالمال! وكان عمّال خراسان إذا دخل الشتاء عادوا من مغازيهم إلى
بلدة مرو ، ويجتمع ملوك خراسان في بلد من بلاد خوارزم ، وكان مع سلم المهلّب بن
أبي صفرة ، فسأله أن يوجّهه إليهم فوجّهه في أربعة آلاف ، فحاصرهم وصالحهم على
نيّف وعشرين ألف ألف ، فبلغ قيمة ما أخذ منهم خمسين ألف ألف ، فاصطفى سلم منه ما
أعجبه وبعث بعمدته مع مرزبان مرو في وفد إلى يزيد بالشام ، ثمّ عبر إلى سمرقند
فصالحه أهلها .
ولعلّه لهذا قال
الأحوص الشاعر في تملّك يزيد وانقياد الناس لملكه وتجبّره :
ملك تدين له الملوك ، مبارك!
|
|
كادت لهيبته الجبال تزول
|
تجبى له بلخ ، ودجلة كلّها
|
|
وله الفرات وما سقى ، والنيل
|
وفي اليعقوبي :
ولّى يزيد : سلم بن زياد خراسان فصار إليها ومعه عدة من أشراف (البصرة) وأقام
بنيسابور ثمّ صار إلى خوارزم ففتحها ، ثمّ صار إلى بخارى.
وكان ملكهم امرأة
تدعى خاتون ، فلمّا رأت كثرة جمع سلم هالها ذلك فكتبت إلى ملك السغد طرخون : أقبل
إليّ لتملك بخارى وتتزوّجني! فأقبل إليها في مئة وعشرين ألفا ، فلمّا بلغ سلم بن
زياد إقبال طرخون وجّه المهلّب بن أبي صفرة طليعة له فخرج إليهم ، فلمّا أشرفوا
على عسكر طرخون زحف أصحاب طرخون إليهم والتحم القتال ، فرشقهم المسلمون بالنبال
فأصابوا طرخون فقتل
__________________
وانهزموا فقتل
منهم كثير ، وغنم المسلمون كثيرا ، حتّى بلغت سهامهم للفارس ألفان وأربعمئة
وللراجل ألف ومئتان.
ولم يزل سلم
بخراسان حتّى بلغه موت يزيد (في ٦٤ ه) فكتمه حتّى ذاع فاستخلف على خراسان عبد
الله بن خازم السلمي وعاد ، وأقام ابن خازم بخراسان يفعل الأعاجيب! وسار سليمان
إلى هراة ، ووثب أوس بن ثعلبة بالطالقان يحاربهم وينتصر عليهم .
إجلاء زينب
ووفاتها :
لمّا عادت زينب
بنت عليّ عليهالسلام إلى المدينة من الشام مع النساء والأيتام ، كانت تؤلّب
الناس بالمدينة على القيام بأخذ ثار الحسين عليهالسلام فلمّا بدأ ابن الزبير بمكّة بحمل الناس على خلع يزيد
والأخذ بثار الحسين عليهالسلام وبلغ ذلك إلى أهل المدينة ، أخذت زينب تخطبهم وتؤلّبهم على
القيام بأخذ الثار ، وبلغ ذلك عمرو بن سعيد الأشدق ، فثارت فتنة بينها وبين الأشدق
والي المدينة من قبل يزيد ، فكتب إلى يزيد يعلمه بالخبر ويشير عليه بنقلها من
المدينة. فكتب يزيد إليه أن فرّق بينها وبينهم.
فأمر الأشدق أن
ينادى عليها بالخروج من المدينة إلى حيث تشاء!
فأبت زينب وقالت :
قد علم الله ما صار إلينا : قتل خيرنا ، وسقنا كما تساق الأنعام! وحملنا على
الأقتاب! فو الله لا خرجنا وإن اهرقت دماؤنا!
فاجتمع إليها نساء
بني هاشم وتلطّفن معها في الكلام وواسينها ، وكلّمتها منهنّ زينب بنت عقيل بن أبي
طالب قالت لها : يا ابنة عمّاه ؛ قد صدقنا الله وعده ، وأورثنا الأرض نتبوّأ منها
حيث نشاء ، فطيبي نفسا وقرّي عينا ، وسيجزي الله
__________________
الظالمين! أتريدين
هوانا بعد هذا! فاجلي إلى بلد آمن (؟) وواسى معها للخروج والجلاء ابنتا أخيها
الحسين عليهالسلام : سكينة وفاطمة.
فجهّز الأشدق لها
ولمن أراد السفر معها من نساء بني هاشم ، وتعيّن المصير إلى مصر. ولم يورّخ
لخروجها وإنّما جاء : فقدمت (الفسطاط ـ القاهرة القديمة) لأيّام بقين من ذي الحجة
الحرام لآخر عام إحدى وستين ، وسيأتي عزل الأشدق لهلال ذي الحجّة فيعلم أنّ
إخراجها كان قبله.
وروى العبيدلي
الأعرجي الحسيني (م ٢٧٧ ه) بسنده عن رقيّة بنت عقبة ابن نافع الفهري أنّها كانت
فيمن استقبل زينبا عليهاالسلام لمّا قدمت مصر ، فتقدّم إليها مسلمة بن مخلّد الأنصاري
الخزرجي (قاتل ابن أبي بكر) وعبد الله بن الحارث وأبو عميرة المزني ، وعزّاها
مسلمة وبكى فبكت وبكى الحاضرون وتلت قوله سبحانه : (هذا ما وَعَدَ
الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) ثمّ احتملها مسلمة الوالي إلى داره بالحمراء القصوى.
فأقامت به أحد عشر شهرا وخمسة عشر يوما ثمّ توفّيت ، وصلّى عليها مسلمة بن مخلّد
في جمع بالجامع ، وكانت قد أوصت أن يدفنوها في مخدعها من دار مسلمة ، ونفّذ مسلمة
الوصية فرجعوا بها حتّى دفنوها بمخدعها من الدار بالحمراء القصوى بوصيّتها ، حيث
بساتين عبد الله بن عبد الرحمان بن عوف الزهري.
وكان وفاتها عشية
يوم الأحد لخمسة عشر يوما مضت من رجب سنة (٦٢) من الهجرة .
__________________
الوليد وعمرو بن
سعيد :
ثمّ إنّ الوليد بن
عتبة وناسا معه من بني أميّة قالوا ليزيد : لو شاء عمرو بن سعيد لأخذ ابن الزبير ،
فلموسم الحجّ لسنة إحدى وستين عيّن يزيد الوليد بن عتبة فحجّ ولم يتّبعه فيه ابن
الزبير وأصحابه ونجدة الحنفي وأصحابه. ورجع من الحجّ إلى المدينة وخرج عمرو بن
سعيد إلى بعد ليلتين منها ، وكان مواليه وغلمانه نحوا من ثلاثمئة رجل! فأخذهم
الوليد وحبسهم وأبى أن يخلّيهم! فبعث عمرو رسولا إلى المدينة بأموال ليشتري لكلّ
رجل منهم جملا وأداة وحقيبة فينيخ الجمال في السوق ثمّ يخبرهم فيكسروا باب سجنهم
ويركبوا الجمال إلى عمرو ، ففعل رسوله ذلك وخرجوا إليه ، فخرج بهم إلى يزيد في
الشام ، واعتذر إليه فقبل عذره .
يزيد ، وابن عباس
:
مرّ الخبر عن بيعة
ابن عباس ليزيد فلعلّ ذلك هو الذي أطمع ابن الزبير فيها منه ولا سيّما بعد
مقتل الحسين عليهالسلام ، فأرسل إليه : أنا أولى من يزيد الفاسق الفاجر وقد علمت
سيرته وسوابق معاوية ، وعلمت سيرتي وسوابق أبي الزبير مع رسول الله! ودعاه إلى
بيعته. فقال ابن عباس : ما لي ولهذا وإنّما أنا رجل من المسلمين ، والفتنة قائمة
وباب الدماء مفتوح! وامتنع عليه.
وبلغ ذلك إلى يزيد
فكتب إليه : أمّا بعد ؛ فقد بلغني أنّ الملحد في حرم الله دعاك لتبايعه فأبيت عليه
وفاء منك لنا! فانظر من بحضرتك من أهل بيتك ومن يرد عليك من البلاد فأعلمهم حسن
رأيك فينا وفي ابن الزبير! وأنّ ابن الزبير إنّما
__________________
دعاك إلى طاعته
والدخول في بيعته لتكون له على الباطل ظهيرا وفي المأثم شريكا! وقد اعتصمت ببيعتنا
طاعة منك لنا ولما تعرف من حقّنا! فجزاك الله من ذي رحم خير ما جزى به الواصلين
أرحامهم والموفين بعهدهم! فما أنس من الأشياء فما أنا بناس برّك وتعجيل صلتك بالذي
أنت أهله! فانظر من يطلع عليك من الآفاق فحذّرهم زخارف ابن الزبير وجنّبهم لقلقة
لسانه! فإنّهم منك أسمع ولك أطوع ، والسلام .
جواب ابن عباس
ليزيد :
فكتب إليه ابن
عباس : من عبد الله بن عباس إلى يزيد بن معاوية. أما بعد ؛ فقد بلغني كتابك تذكر
دعاء ابن الزبير إياي إلى نفسه وامتناعي عليه في الذي دعاني إليه من بيعته. فإن يك
ذلك كما بلغك ، فلست أردت حمدك ولا ودّك ، والله بما أنوي عليم.
وزعمت أنّك لست
بناس ودّي! فلعمري ما تؤتينا ممّا في يديك من حقّنا إلّا القليل ، وإنّك لتحبس
عنّا منه العريض الطويل.
وسألتني أن أحثّ
الناس عليك وأخذّلهم عن ابن الزبير. فلا ، ولا سرورا ولا حبورا! وأنت قتلت الحسين
بن عليّ ، بفيك الكثكث ولك الأثلب إنّك ـ إن تمنّك نفسك ذلك ـ لعازب الرأي! وإنّك لأنت
المفنّد المتهوّر! لا تحسبني ـ لا أبالك ـ نسيت قتلك حسينا وفتيان بني عبد المطلب
: مصابيح الدجى ونجوم
__________________
الأعلام ، غادرهم
جنودك مصرّعين في صعيد ، مرمّلين بالتراب ، مسلوبين بالعراء لا مكفّنين ، تسفى
عليهم الرياح ، وتعاورهم الذئاب ، وتنشي بهم عرج الضّباع! حتّى أتاح الله لهم
أقواما لم يشتركوا في دمائهم ، فأجنّوهم (ستروهم) في أكفانهم ، وبي ـ والله ـ وبهم
عززت وجلست مجلسك الذي جلست يا يزيد!
وما أنس من
الأشياء فلست بناس تسليطك عليهم الدّعيّ العاهر ابن العاهر ، البعيد رحما ، اللئيم
أبا وأمّا ، الذي في ادّعاء أبيك إيّاه ما اكتسب أبوك به إلّا العار والخزي
والمذلّة في الآخرة والأولى ، وفي الممات والمحيا ؛ فإنّ نبيّ الله قال : «الولد
للفراش وللعاهر الحجر» فألحقه بأبيه كما يلحق بالعفيف النقيّ ولده الرشيد! وقد
أمات أبوك السنّة جهلا ، وأحيا البدع والأحداث المضلّة عمدا!
وما أنس من
الأشياء فلست بناس اطّرادك الحسين بن عليّ من حرم رسول الله إلى حرم الله ، ودسّك
إليه الرجال تغتاله ، فأشخصته من حرم الله إلى الكوفة ، فخرج منها خائفا يترقّب ،
وقد كان أعزّ أهل البطحاء بالبطحاء قديما ، وأعزّ أهلها بها حديثا ، وأطوع أهل
الحرمين بالحرمين لو تبوّأ بها مقاما واستحلّ بها قتالا ، ولكن كره أن يكون هو
الذي يستحلّ حرمة البيت وحرمة الحرم ، فأكبر من ذلك ما لم تكبر حيث دسست إليه
الرجال فيها ليقاتل في الحرم ، وما لم يكبر ابن الزبير ، حيث ألحد بالبيت الحرام ،
وعرّضه للعائر وأراقل العالم ، وأنت ـ لأنت ـ المستحلّ فيما أظنّ بل لا شك فيه :
أنّك للمحرّف العريف ، فإنّك حليف نسوة وصاحب ملاه! فلما رأى (الحسين) سوء رأيك
شخص إلى العراق ولم يبتغك ضرابا! وكان أمر الله قدرا مقدورا.
ثمّ إنك الكاتب
إلى ابن مرجانة أن يستقبل حسينا بالرجال ، وأمرته بمعاجلته ـ وترك مطاولته ـ
والإلحاح عليه حتّى يقتله ومن معه من بني عبد المطلب : أهل البيت الذين أذهب الله
عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا! فنحن أولئك ، لسنا كآبائك الأجلاف الجفاة الأكباد ،
الحمير.
ثمّ طلب الحسين بن
علي إليه (ابن مرجانة) الموادعة والرجعة ، فاغتنمتم قلّة أنصاره واستئصال أهل بيته
، فعدوتم عليهم ، فقتلوهم كأنّما قتلوا أهل بيت من الترك والكفر!
فلا شيء أعجب عندي
من طلبك ودّي ونصري وقد قتلت بني أبي وسيفك يقطر من دمي ، وأنت مأخذ ثأري ، فإن
يشأ الله لا يطلّ لديك دمي ولا تسبقني بثأري ، وإن سبقتني به في الدنيا فقبلنا ما
قتل النبيّون وآل النبيّين ، وكان الله الموعد ، وكفى به للمظلومين ناصرا ومن
الظالمين منتقما ، فلا يعجبنّك إن ظفرت بنا اليوم فو الله لنظفرنّ بك يوما!
وأمّا ما ذكرت من
وفائي وما زعمت من حقّي ؛ فإن يك ذلك كذلك فقد والله بايعت أباك وإنّي لأعلم أن
ابني عمّي (الحسنين) وجميع بني أبي أحقّ بهذا الأمر من أبيك! ولكنّكم ـ معاشر قريش
ـ كاثرتمونا فاستأثرتم علينا سلطاننا ودفعتمونا عن حقّنا ، فبعدا لمن تحرّى ظلمنا
واستغوى السفهاء علينا وتولّى الأمر دوننا ، بعدا لهم كما بعدت ثمود وقوم لوط
وأصحاب مدين ومكذّبوا المرسلين.
ألا ومن أعجب
العجب ـ وما عشت أراك الدهر العجيب ـ حملك بنات عبد المطلب وغلمة صغارا من ولده
إليك بالشام ، كالسبي المجلوب! تري الناس أنّك قهرتنا وأنت تمنّ علينا! ولعمري لئن
كنت تصبح وتمسي آمنا من جرح يدي إنّي لأرجو أن يعظم جراحك بلساني ونقضي وإبرامي ،
فلا يستمرّ بك الجذل (الفرح) ولا يمهلك الله بعد قتلك عترة رسول الله إلّا قليلا
حتّى يأخذك أخذا أليما فيخرجك الله من الدنيا ذميما أثيما! فعش لا أبالك! فقد ـ
والله ـ أرداك عند الله ما اقترفت! والسلام على من أطاع الله .
__________________
وزاد السبط عن
الواقدي قال : فلما قرأ كتابه يزيد أخذته العزّة بالإثم وهمّ بقتل ابن عباس ،
ولكنّه شغله عنه أمر ابن الزبير .
يزيد ، وابن
الحنفية :
وطمع يزيد بعد
اليأس من ابن عباس في محمّد بن الحنفية ، وكان بالمدينة ، فكتب إليه :
أمّا بعد ، فإنّي
أسأل الله لي ولك عملا صالحا يرضى به عنّا! فإنّي ما أعرف اليوم في بني هاشم رجلا
هو أرجح منك علما وحلما! ولا أحضر منك فهما وحكما ، ولا أبعد منك عن كلّ سفه ودنس
وطيش! وليس من يتخلّق بالخير تخلّقا وينتحل بالخير تنحّلا كمن جبله الله على الخير
جبلا ، وقد عرفنا ذلك كلّه منك قديما وحديثا شاهدا وغائبا.
غير أنّي قد أحببت
زيارتك والأخذ بالحظّ من رويتك! فإذا نظرت في كتابي هذا فأقبل إليّ آمنا مطمئنا.
أرشدك الله أمرك. وغفر لك ذنبك! والسلام عليك ورحمة الله وبركاته .
وكان لابن
الحنفيّة عشرة بنين لم يحضر أحد منهم مع عمّهم الحسين عليهالسلام! سمّي أحدهم باسم جدّه لأمّه جعفر ، والآخر عبد الله.
فلمّا جاءه الكتاب وقرأه استشارهما في ذلك.
فقال له ابنه جعفر
: يا أبة إنّه قد طمأنك وألطفك في كتابه إليك!
__________________
ولا أظنّه يكتب
إلى أحد من قريش بأن «أرشدك الله أمرك وغفر ذنبك» فأنا أرجو أن يكفّ الله شرّه
عنك.
فسار ابن الحنفية (ببنيه)
حتّى قدم الشام على يزيد ، فلمّا استأذن أذن له وقرّبه وأدناه حتّى أجلسه معه على
سريره ، ثمّ أقبل عليه بوجهه وقال له : يا أبا القاسم ؛ آجرك الله وإيّاك في أبي
عبد الله الحسين! فو الله لئن كان أوجعك فقد أوجعني! ولو كنت أنا المتولّي لحربه
لما قتلته بل لدفعت القتل عنه ولو بجزّ أصابعي وذهاب بصري! ولفديته بجميع ما ملكت
يدي! وإن كان نازعني حقّي وقطع رحمي وظلمني! ولكن عبيد الله بن زياد لم يعلم رأيي
فيه من ذلك فعجّل عليه وقتله ولم يستدرك ما فات! وبعد فإنّه لم يكن يجب (يجوز!)
على أخيك أن ينازعنا في أمر خصّنا الله به دون غيرنا! وليس يجب علينا أن نرضى
بالدنيّة في حقّنا! وعزيز عليّ ما ناله! وهات ما عندك الآن يا أبا القاسم!
فحمد الله وأثنى
عليه ثمّ قال : قد سمعت كلامك ، ورحم الله حسينا وبارك الله له فيما صار إليه من
ثواب ربّه والخلد الدائم الطويل في جوار الملك الجليل. وقد علمنا أنّ ما عرانا من
ترح فقد عراك وأنّ ما نقصنا فقد نقصك! وكذا أظنّ أن لو شهدت ذلك بنفسك لاخترت أفضل
الرأي والعمل! ولجانبت أسوأ الفعل والخطل!
والآن فإنّ حاجتي
إليك أن لا تسمعني فيه ما أكره ؛ فإنّه ابن أبي وأخي وشقيقي ؛ وإن زعمت أنّه كان
عدوّا لك وظالمك كما تقول!
فقال له يزيد :
فإنّك لا تسمع منّي فيه إلّا خيرا ، ولكن هلمّ فبايعني! ثمّ اذكر ما عليك من
الدّين حتى أقضيه لك!
فقال محمّد : أمّا
البيعة فقد بايعتك! وأما ما ذكرت من أمر الدّين فما عليّ بحمد الله دين ، فإنّي من
الله تبارك وتعالى في كلّ نعمة سابغة لا أقوم بشكرها!
وكان خالد بن يزيد
بن معاوية عند أبيه فالتفت يزيد إليه وقال له : يا بني إنّ ابن عمّك هذا! بعيد من
الدنس والخبّ واللؤم والكذب ، ولو كان غيره كبعض من عرفت لقال : عليّ من الدّين
كذا وكذا ، ليستغنم أخذ أموالنا! ثمّ أقبل يزيد على ابن الحنفيّة وقال له :
بايعتني يا أبا القاسم؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين! قال : فإنّي أمرت لك بثلاثمئة
ألف درهم! فقال محمّد : لا حاجة لي في هذا المال ولا جئت له! فقال يزيد : لا عليك
أن تقبضه فتفرّقه فيمن أحببت من أهل بيتك! قال : قد قبلته يا أمير المؤمنين !
وفد المدينة عند
يزيد :
وفي موسم الحجّ
لسنة اثنتين وستّين حجّ بالناس الوليد بن عتبة وكان يماكره ابن الزبير فمكر به وكتب إلى يزيد : أنّك بعثت
إلينا رجلا أخرق ، لا يتّجه لأمر رشد ، ولا يرعوي لعظة الحكيم! ولو بعثت إلينا
رجلا سهل الخلق ليّن الكتف رجوت أن يسهل من الأمور ما استوعر منها! وأن يجتمع ما
تفرّق ، فانظر في ذلك ، فإنّ فيه صلاح خواصّنا وعوامّنا إن شاء الله ، والسلام.
فدعا يزيد ابن
عمّه الآخر : عثمان بن محمّد بن أبي سفيان ، وبعث به إلى المدينة وعزل عنها الوليد
، وكان عثمان فتى لم يحنّكه السنّ ولم يجرّب الأمور حدثا غرّا.
فدعا عثمان بن
محمّد رجالا كثيرين من الأشراف فيهم عبد الله بن حنظلة الغسيل الأنصاري ، والمنذر
بن الزبير ، وعبد الله بن أبي عمرو المخزومي وبعث
__________________
بهم وفدا إلى يزيد
وزاد الخوارزمي : عبد الله بن عمر ، فأقاموا عنده أيّاما ، وقد أنزل ابن
الحنفيّة في بعض منازله ، ويلتقي بهم صباحا ومساء ، وأجاز كلّ واحد منهم بخمسين
ألف درهم! والمنذر بن الزبير بمئة ألف!
فلما أرادوا
الانصراف استأذنه ابن الحنفية ليكون معهم ، فوصله بمئتي ألف درهم مع عروض بمئة ألف
أخرى وقال له : كنت أحبّ أن لا تفارقني وتأمرني بما فيه حظّي ورشدي! والله ما احبّ
أن تنصرف عنّي وأنت ذامّ لشيء من أخلاقي؟
فقال له محمّد :
أمّا ما كان منك إلى الحسين عليهالسلام فذلك شيء لا يستدرك! وأمّا الآن ... فلو رأيت منك خصلة
أكرهها لما وسعني السكوت دون أن أنهاك عنها واخبرك بما يحقّ لله عليك منها (وذلك)
للذي أخذ الله تبارك وتعالى على العلماء في علمهم أن يبيّنوه للناس ولا يكتموه ...
فأنا أنهاك عن شرب هذا المسكر! فإنّه رجس من عمل الشيطان! وليس من ولي أمور الأمة
ودعي له بالخلافة فوق المنابر على رؤوس الأشهاد كغيره من الناس! فاتّق الله في
نفسك ، وتدارك ما سلف من ذنبك!
فقال له يزيد :
فإنّي قابل منك ما أمرتني به! ثمّ ودّعه وخرج معهم إلى المدينة ففرّق كلّ ذلك
المال في الرجال والنساء والذريّة والموالي من بني هاشم وقريش ، ثمّ خرج إلى مكّة
مجاورا محاذرا أمرهم.
وزاد الطبري قال :
ولمّا عاد الوفد إلى المدينة قالوا لهم : إنّا قدمنا من عند رجل لا دين له ، يشرب
الخمر ويعزف بالطنابير ويضرب عنده القيان ، ويلعب بالكلاب ، ويسامر الخرّاب
والفتيان! فنحن نشهدكم أنّا قد خلعناه!
__________________
وكان المنذر بن
الزبير صديقا لابن زياد فقدم عليه بالبصرة ، فلمّا بلغ يزيد أمر أصحابه بالمدينة
كتب إلى ابن زياد بحبس المنذر ، فأنذره ابن زياد فخرج إلى المدينة وأخذ يقول لهم :
والله لقد أجازني يزيد بمئة ألف درهم ولا يمنعني ذلك أن اخبركم خبره صادقا : والله
إنّه ليشرب الخمر ، وإنّه ليسكر حتّى يدع الصلاة! فاشتدّ عليه أكثر من أصحابه.
فدعا يزيد النعمان
بن بشير الأنصاري وقال له : إنّ بالمدينة من عشيرتي من لا أحب أن ينهض في فتنتهم
فيهلك ، وقومك (الأنصار) إن لم ينهضوا في هذا الأمر لم يجترئ الناس على خلافي! فاذهب
إليهم وفتّرهم عمّا يريدون. فجاءهم النعمان ودعاهم إلى لزوم الطاعة والجماعة وقال
لهم : إنّه لا طاقة لكم بأهل الشام! فعصاه الناس فانصرف عنهم إلى الشام.
__________________
مقدّمات واقعة الحرّة
تمرّد أهل المدينة
على يزيد :
وكان معاوية قد
اكتسب أموالا ونخيلا بالمدينة ، وعليها قيّم يجبيها لهم يدعى ابن ميثاء ، وكانت له
نوق وجمال لذلك في حرّة المدينة ، فأقبل بها يريد جباية الأموال ليزيد ، وكانت
نخيلا يجذّ منها كلّ سنة مئة وستّين ألف وسق تمرا!
فاجتمع نفر من
قريش والأنصار ودخلوا على عثمان بن محمّد فقالوا له : إنّ معاوية آثر علينا في
عطائنا فلم يعطنا درهما فما فوقه قطّ! حتّى مضّنا الزمان ونالتنا المجاعة! فاشترى
منّا أموالنا بجزء من مئة من ثمنها! فهذه الأموال كلّها لنا!
فقال لهم عثمان :
لأكتبنّ إلى أمير المؤمنين بسوء رأيكم وما أنتم عليه من الضغون القديمة والأحقاد
التي لم تزل في صدوركم! فتفرّقوا عنه ، ثمّ اجتمع رأيهم على منع ابن ميثاء القيّم
عليها. فكتب عثمان بن محمّد بأمرهم إلى يزيد.
فكتب يزيد كتابا
خطابا لأهل المدينة وأمر عثمان بن محمّد أن يقرأه عليهم فقرأه فإذا فيه :
«وايم الله لئن
آثرت أن أضعكم تحت قدمي فلأطأنّكم وطأة أقلّ منها عددكم ، وأترككم أحاديث تتناسخ
كأحاديث عاد وثمود! فلا أفلح من ندم!
__________________
فلمّا قرئ الكتاب
على أهل المدينة بدر عبد الله بن المطيع العدوي القرشي بكلام قبيح وأيّده رجال
آخرون.
وأمّل يزيد في
وساطة عبد الله بن جعفر وكان عنده ، فأرسل إليه وقال له : إنّ ابن الزبير حيث علمت
من مكّة ، وهو زعم أنّه قد نصب الحرب ، فأنا أبعث جيوشا وآمر صاحب أوّل جيش أبعثه
أن يتّخذ المدينة طريقا ، فإن نزعوا عن غيّهم وضلالهم وأقرّوا بالطاعة فلهم عليّ
عهد الله وميثاقه أنّ لهم في كلّ عام عطاءين : عطاء في الشتاء وعطاء في الصيف ، ما
لا أفعله لأحد من الناس طول حياتي ؛ ولهم عليّ عهد أن أجعل الحنطة عندهم كسعر
الحنطة عندنا! والعطاء الذي يذكرون أنّه احتبس عنهم في زمان معاوية فهو عليّ أن
اخرجه لهم وافرا كاملا! فإن قبلوا ذلك وأنابوا جاوزهم إلى ابن الزبير ، وإن أبوا
قاتلهم ، ثمّ إن ظفر بها أنهبها ثلاثا!
فروى ابن قتيبة عن
ابن جعفر قال : فرجعت إلى منزلي ليلا وكتبت إليهم كتابا اعلمهم فيه بقول يزيد
وأحضّهم على القبول بما بذله لهم ، وأنهاهم أن يتعرّضوا لجيوشه! وسلّمت الكتاب
لرسولي وطلبت إليه أن يجهد السير إليهم فوصل إليهم في عشرة أيام ، فما قبلوه» .
إخراج بني امية من
المدينة :
قال ابن قتيبة :
فلمّا استبان لهم أنّ يزيد سيبعث إليهم بجيوشه اتّفقوا على تمرّدهم واختلفوا في
رياستهم ، فمنهم من قال : ابن مطيع ، وقائل : إبراهيم بن
__________________
نعيم ، ثمّ
اجتمعوا على عبد الله بن حنظلة فبايعوه . وكان له ثمانية بنين كانوا معه في وفودهم على يزيد ،
فأعطى كلّ واحد منهم عشرة آلاف درهم وأعطى أباه مئة ألف فلمّا عاد وسأله الناس ما
وراءك؟ قال لهم : أتيتكم من عند رجل لو لم أجد إلّا بنيّ هؤلاء لجاهدته بهم!
فقالوا : فقد بلغنا أنّه أكرمك وأعطاك! قال : أجل قد فعل ولكنّي ما قبلت ذلك منه
إلّا أن أتقوّى به عليه فلمّا بايعوه للخروج على يزيد قال لهم : والله ما خرجنا
على يزيد حتّى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء! إنّه رجل ينكح أمهات الأولاد (أي
أمّهات أولاد أبيه!) والأخوات والبنات! ويشرب الخمر حتّى يدع الصلاة .
وكان ابن زياد
لمّا قتل الحسين عليهالسلام قالت له أمّه مرجانة : ويلك ماذا ركبت وماذا صنعت! فلمّا
كتب يزيد إليه أن يغزو مكّة أبى عليه وقال : لا أجمعهما للفاسق أبدا! أقتل ابن بنت
رسول الله وأغزو البيت ! ولعلّه كان قد بلغه إلقاء يزيد عليه قتله عليهالسلام.
وتأهّب أهل
المدينة لإخراج الأمويّين منها وبلغهم ذلك فاجتمعوا إلى مروان بن الحكم وقالوا له
: يا أبا عبد الملك ما الرأي؟ فقال لهم : إنّما الخوف على الحريم فمن يقدر منكم أن
يغيّب حريمه فليفعل! وبلغه أنّ عبد الله بن عمر يريد الخروج إلى مكّة ليغيب عن
أمرهم هذا ، فأتاه وقال له : احبّ أن اوجّه عيالي معك ، وهي عائشة بنت عثمان بن
عفّان. فقال : إنّي لا أقدر على مصاحبة النساء!
__________________
قال : فاجعلهم مع
حرمك في منزلك! قال : فلا آمن أن يدخل على حريمي لمكانكم معهم !
فروى الطبري عن
الواقدي نحوه وقال : فلجأ إلى عليّ بن الحسين عليهالسلام وقال له : يا أبا الحسن ؛ إنّ لي رحما! فتكون حرمي مع حرمك؟!
قال : افعل! فبعث بحرمه إلى عليّ بن الحسين ، فخرج بحرمه وحرم مروان إلى ينبع ،
فكان مروان شاكرا ذلك له .
ثمّ وثب أهل
المدينة على واليهم عثمان بن محمّد بن أبي سفيان ومن بالمدينة من بني أميّة
ومواليهم ومن كان معهم من قريش ، فأخرجوهم حتّى أنزلوهم دار مروان بن الحكم وكانوا
نحو ألف رجل! وحاصروهم حصارا ضعيفا وذلك ليخرجوهم من المدينة. فقالوا : نحن نريد الشام فالشقة
بعيدة ولنا عيال وصبية ولا بدّ لنا ممّا يصلحنا. فاستنظروهم عشرة أيام ، فأنظروا.
ثمّ أخرجوا
كبراءهم إلى منبر رسول الله صلىاللهعليهوآله فحلّفوهم . قالوا لهم : والله لا نكفّ عنكم حتّى نستنزلكم ونضرب
أعناقكم أو تعطونا عهد الله وميثاقه أن لا تبغونا غائلة ولا تدلّوا لنا على عورة ،
ولا تظاهروا علينا عدوّا ، فنكفّ عنكم ونخرجكم عنّا. فأعطوهم عهد الله وميثاقه ، وشرطوا عليهم أن يخرجوا فيقيموا عشرة أيّام بذي خشب.
فأخرجوهم من المدينة ، وتبعهم السفهاء والصبيان يرمونهم بالحجارة حتّى انتهوا إلى
ذي خشب .
__________________
فبعث مروان إلى
حبيب بن كرّة وكتب كتابا إلى يزيد وسلّمه إلى ابنه عبد الملك فخرج مع ابن كرّة إلى
ثنيّة الوداع فسلّم الكتاب إليه وقال له : قد أجّلتك اثنتي عشرة ليلة ذاهبا واثنتي
عشرة ليلة مقبلا ، فوافني لأربع وعشرين ليلة في هذا المكان في هذه الساعة تجدني
جالسا أنتظرك.
قال ابن كرّة :
أخذت الكتاب ومضيت به حتّى دخلت به على يزيد وهو على كرسيّه وقدماه في ماء في طست
من وجع النقرس ، فقرأه فإذا فيه : أما بعد ، فإنّه قد حصرنا في دار مروان ، ورمينا
بالجبوب (الأرض الغليظة) ومنعنا العذب! فيا غوثاه يا غوثاه! فلمّا قرأه قال لي :
أما يكون بنو أمية ومواليهم ألف رجل؟ قلت : بلى وأكثر! قال : فما استطاعوا أن
يقاتلوا ساعة من نهار! قلت : أجمع الناس كلّهم عليهم فلم يكن لهم طاقة على الناس .
جيش الشام إلى
المدينة :
فبعث يزيد ـ بعد
إباء ابن زياد ـ إلى عمرو بن سعيد الأشدق وكان في الشام فأقرأه الكتاب ، وطلب إليه
أن يسير بالناس إليهم. فقال : إنّما هي دماء قريش فلا احبّ أن أتولّى أنا ذلك.
فروى الطبري عن
حبيب بن كرّة قال : فبعثني يزيد بالكتاب إلى مسلم بن عقبة المرّي القرشي (في
فلسطين) فسلّمت الكتاب إليه وهو شيخ كبير مريض ، فقرأه وأخبرته الخبر فجاء حتّى
دخل على يزيد.
فقال له : ويحك!
إنّه لا خير في العيش بعدهم ، فاخرج وسر بالناس.
__________________
فخرج مناديه ينادي
: أن سيروا إلى الحجاز على أخذ اعطياتكم كاملة ، ومعونة مئة دينار توضع في يد
الرجل فورا! فانتدب له اثنا عشر ألف رجل .
وخرج يزيد وخطب
فقال : يا أهل الشام ، إنّ أهل المدينة أخرجوا قومنا منها ، والله لئن تقع الخضراء
على الغبراء أحبّ إليّ من ذلك وأمر بقبّة ضربت له خارج قصره ، وقطع البعوث على أهل الشام
، فلم تمض أيام ثلاثة حتّى فرغ وعرضت الكتائب عليه في اليوم الثالث .
وخرج مسلم وهو
أعور فاستعرض الجنود فلم يخرج معه أصغر من ابن عشرين ولا أكبر من ابن خمسين ، على
خيل عراب وأدوات كاملة ، ووجّه يزيد معه عشرة آلاف بعير تحمل زاده.
وخرج إليه يزيد
يودّعه فقال له : إن شئت أعفيتك ، فإنّي أراك مدنفا منهوكا!
فقال الأعور :
نشدتك الله أن لا تحرمني أجرا ساقه الله إليّ! أو تبعث غيري!
فقال يزيد : فإن
حدث بك حدث فأمر الجيوش إلى الحصين بن نمير السّكوني ، فانهض بسم الله إلى ابن
الزبير ، واتّخذ المدينة طريقا إليه ، فإن صدّوك فاقتل من ظفرت به منهم ، وأنهبها
ثلاثا ... فإذا قدمت المدينة فمن عاقك عن دخولها أو نصب لك الحرب فالسيف السيف ،
أجهز على جريحهم واتّبع مدبرهم وإيّاك أن تبقي عليهم! وإن لم يتعرّضوا لك فامض إلى
ابن الزبير .
__________________
فأمره بقتال أهل
المدينة ، فإن ظفر بها أباحها للجند ثلاثة أيّام يسفكون فيها الدماء ويأخذون
أموالهم ، وأن يبايعهم على أنّهم خول وعبيد ليزيد ، فإذا مضت الثلاث فاكفف عن الناس. وانظر عليّ بن الحسين
فاكفف عنه واستوص به خيرا وأدن مجلسه ، فإنّه لم يدخل في شيء ممّا دخلوا فيه .
وقال اليعقوبي :
كان جيشه خمسة آلاف رجل : من فلسطين ألف رجل عليهم روح بن زنباغ الجذامي ، ومن
الأردن ألف رجل عليهم حبيش بن دلجة القيني ، ومن دمشق ألف رجل عليهم عبد الله بن
مسعدة الفزاري ، ومن أهل حمص ألف رجل عليهم الحصين بن نمير السكوني ، ومن قنّسرين
ألف رجل عليهم زفر بن الحارث الكلابي .
لقاؤهم بالأمويين
:
ولمّا أيقن أهل
المدينة بقدوم الجيوش إليهم ، قال بعضهم : لقد خندق رسول الله ، فتشاوروا في ذلك
وخندقوا المدينة من كلّ نواحيها أو في جانب منها وهو خندق النبيّ وواصلوا سائرها بالحيطان .
__________________
وخرج بنو أميّة
بأثقالهم حتّى انتهوا إلى وادي القرى قرب خيبر في طريق الشام فالتقوا بجيش مسلم
المرّي ، وسمع أنّ فيهم عمرو بن عثمان بن عفّان فدعا به أوّل الناس وقال له :
أخبرني خبر ما وراءك وأشر عليّ. فقال عمرو : لقد أخذ علينا العهود والمواثيق أن لا
ندلّ على عورة ولا نظاهر عدوّا! فقال المرّي : والله لو لا أنّك ابن عثمان لضربت
عنقك! وأيم الله لا أقيلها بعدك قرشيّا! وانتهره! فخرج إلى أصحابه وأخبرهم بما لقي
عنده.
فدخل عليه عبد
الملك بن مروان فقال له : أخبرني خبر الناس وكيف ترى؟ فقال له : أرى أن تسير بمن
معك حتّى إذا انتهيت إلى أدنى نخل للمدينة نزلت ، حتّى إذا أصبحت وصلّيت مضيت
وتركت المدينة على يسارك ودرت حولها إلى الحرّة في مشرقها فتستدبر المشرق وتستقبل
القوم فتشرق الشمس عليهم وبين أكتاف أصحابك فلا تؤذيهم ، وتقع في وجوههم فيؤذيهم
حرّها وأذاها ، وما دمتم مشرّقين فهم يرون من بيضكم وحرابكم وأسنة رماحكم وسيوفكم
ودروعكم وسواعدكم ما لا ترونه أنتم من شيء من سلاحهم ماداموا مغرّبين!
ثمّ دخل عليه مروان
فأقنعه بولده عبد الملك واقتنع به . هذا ما رواه الطبري ، وزاد ابن قتيبة ، قال :
قال له مروان :
عددهم أكثر من الجيش الذي جئت به ولكن فيهم قوم قليل لهم نية وبصيرة وعامّتهم ليس
لهم نيّات ولا بصائر ، ولا بقاء لهم مع السيف ، وليس لهم سلاح ولا كراع ، ولكنّهم
قد خندقوا عليهم وحصّنوا! فقال مسلم : ولكنّا نردم عليهم خندقهم ونقطع عنهم مشربهم!
فلم يرجع منهم مع مسلم غير مروان وابنه عبد الملك ، وكان قد أصابه الجدري فخلّفه
بذي خشب.
__________________
وجمع عبد الله بن
حنظلة أهل المدينة عند المنبر فقال لهم : تبايعوني على الموت! وإلّا فلا حاجة في
بيعتكم! فبايعوه على الموت ، ثمّ صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم :
أيّها الناس ، إنّكم إنّما خرجتم غضبا لدينكم ، فأبلوا إلى الله بلاء حسنا ليوجب
لكم به جنّته ومغفرته ، ويحلّ بكم رضوانه. واستعدوا بأحسن عدتكم ، وتأهّبوا بأكمل
اهبتكم ، فقد اخبرت أنّ القوم قد نزلوا بذي خشب ومعهم مروان بن الحكم ، والله إن
شاء مهلكه بنقضه العهد والميثاق (ما أعطاه) عند منبر رسول الله صلىاللهعليهوآله. فتصايح الناس بسبّه والنيل منه. فرفع عبد الله يديه إلى
السماء وقال : اللهمّ إنّا بك واثقون وعليك متوكّلون ، وإليك ألجأنا ظهورنا! ونزل.
وكان صائما ولا يزيد على شربة من سويق يفطر عليها إلى مثلها في غد ، ولا يبيت إلّا
في المسجد الشريف .
وقعة الحرّة :
ولما انتهى الجيش
إلى المدينة عسكر بالحرّة وخرج أهلها لحربه وعليهم عبد الله بن حنظلة الأنصاري
الأوسي (على الأنصار) وعبد الله بن المطيع العدوي القرشي (على قريش) .
فلمّا نزل مسلم
المرّي أرسل إلى أهل المدينة قال لهم : إنّ أمير المؤمنين! يقرأ عليكم السلام
ويقول لكم :
أنتم الأهل
والعشيرة ، فاتّقوا الله واسمعوا وأطيعوا ، فإنّ لكم عندي في عهد الله وميثاقه
عطاءين في كلّ سنة : عطاء في الصيف وعطاء في الشتاء! ولكم عندي
__________________
عهد الله وميثاقه
أن أجعل سعر الحنطة عندكم كسعر الحنطة عندنا (في الشام) وكان عمرو بن سعيد قد أخذ
عطاءهم واشترى به لنفسه عبيدا فقال لهم : وأمّا العطاء الذي ذهب به عمرو بن سعيد
فعليّ أن أخرجه لكم!
فقالوا له : لقد
خلعنا يزيد كما خلع نعالنا أو عمائمنا .
فقال لهم : يا أهل
المدينة ؛ إنّ أمير المؤمنين يزيد بن معاوية! يزعم أنكم الأهل ، فأنا أكره إهراق
دمائكم (ولذا) فإنّي اؤجّلكم ثلاثا ، فمن ارعوى وراجع الحقّ قبلنا منه ، وانصرفت
عنكم إلى هذا الملحد الذي بمكّة! وإن أبيتم كنّا قد أعذرنا إليكم!
ولمّا مضت الأيام
الثلاثة ناداهم : يا أهل المدينة ؛ قد مضت الأيّام الثلاثة فما تصنعون؟ أتسالمون
أم تحاربون؟ قالوا : بل نحارب! قال : بل ادخلوا في الطاعة ونجعل حدّنا وشوكتنا على
هذا الملحد الذي قد جمع إليه المرّاق والفسّاق من كلّ أوب!
فقالوا لهم : يا
أعداء الله ، والله لو أردتم أن تجوزوا إليهم ما تركناكم حتّى نقاتلكم ، أنحن
ندعكم أن تأتوا بيت الله الحرام وتخيفوا أهله وتلحدوا فيه وتستحلّوا حرمته! لا
والله لا نفعل !
قتال يوم الحرّة :
فأقبل مسلم المرّي
من الحرّة بجمعه إلى طريق العراق حتّى ضرب فسطاطه هناك ، ثمّ أوقف خمسمئة من حاملي
الأسنّة الرجّالة دونه ، وكان له غلام روميّ شجاع كان صاحب رايته. ووجّه بخيله نحو
ابن حنظلة ، فحمل ابن حنظلة
__________________
في الرجال الذين
معه عليهم حتّى انتهوا إلى ابن عقبة ، فنهض برجاله في وجوههم وصاح بهم فانصرفوا
إلى قتال شديد.
وكان مع الفضل بن
العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي عشرون فارسا فقاتل بهم قتالا
شديدا ، ثمّ قال لابن حنظلة : مر الفرسان معك ليقفوا معي فإذا حملت فليحملوا فو
الله لا أنتهي حتّى أبلغ مسلم المرّي. فأمر ابن حنظلة رجلا أن ينادي في الخيل بذلك
، فنادى فيهم وجمعهم إلى الفضل الهاشمي ، فلمّا اجتمعت إليه الخيل حمل بهم على أهل
الشام فكشفهم. ثمّ قال لهم : احملوا اخرى ، ثمّ حمل وحمل معه أصحابه حتّى بلغوا
الخمسمئة الرجالة جاثين على ركبهم شارعين أسنتهم نحو القوم ، يقدمهم الغلام
الروميّ حامل راية ابن عقبة ، فمضى الفضل الهاشمي نحو حامل الراية وعلى رأسه
المغفر ، فكان الفضل يظنّه مسلم المرّي ، فضرب بسيفه على مغفره فقطّ المغفر وفلق
هامته ، ونادى : خذها وأنا ابن عبد المطلب! قتلت طاغية القوم وربّ الكعبة!
وبادر مسلم المرّي
فأخذ رايته بيده ونادى أهل الشام بالملام وقال لهم : شدّوا مع هذه الراية ، ثمّ
مشى برايته وشدّت رجاله أمامه.
وقال عوانة بن
الحكم : بل كان مسلم المرّي لا زال مريضا على سريره ، وأمرهم فحملوه ووضعوه في
الصفّ أمام فسطاطه ، فلمّا حمل عليه الفضل الهاشمي وأصحابه وانتهوا إلى سريره نادى
ابن عقبة : أين أنتم يا بني الحرائر اشجروه بالرماح ، فطعنوه بالرماح حتّى سقط.
هذا وبينه وبين أطناب مسلم المرّي نحو من عشرة أذرع ، وقتل معه رجال كثير من أهل
المدينة فيهم إبراهيم بن نعيم العدوي وزيد بن عبد الرحمان بن عوف.
ثمّ ركب مسلم
المرّي فرسه وأخذ يسير في أهل الشام ويحرّضهم ، وأمر الخيل أن تقدم على ابن حنظلة
، فأقبلت خيل مسلم المرّي ورجاله نحو ابن حنظلة الغسيل ورجاله ، فإذا أقدمت الخيل
على الرجال ثاروا في وجوههم برماحهم
وسيوفهم ، فتنفر
خيولهم وتحجم. فأمر ابن عقبة الحصين بن نمير السكوني أن ينزل بجنده من أهل حمص ،
فمشى براياتهم إليهم ، ثمّ أمر مسلم المرّي عبد الله الأشعري أن يدنو برماته
الخمسمئة نحو ابن حنظلة الغسيل وأصحابه فأخذوا ينضحونهم بنبالهم.
فنادى ابن الغسيل
: من أراد التعجّل إلى الجنة فليلزم هذه الراية ، فقام إليه المستميتون منهم ،
فاقتتلوا أشدّ قتال ساعة ، وأخذ يقدّم بنيه أمامه واحدا فواحدا حتّى قتل ثمانيتهم
بين يديه ، وهو يقاتلهم بسيفه حتّى قتل هو وأخوه لأمّه محمّد بن ثابت بن قيس بن
شماس خطيب الأنصار ، ومعهما محمّد بن عمرو بن حزم الأنصاري.
وانهزم الناس ، وأخذ
محمّد بن سعد بن أبي وقاص يقاتلهم حتّى غلبت الهزيمة فذهب مع الناس .
ولمّا دارت رحا
الموت بين الفريقين توارى عبد الله بن المطيع العدوي وسئل عن ذلك فقال : رأيت ما
رأيت من غلبة أهل الشام ، وصنع بني حارثة الذي صنعوا من إدخالهم علينا (كما يلي)
وولي الناس ... وعلمت أنّه لا يضرّ عدوي مشهدي (حضوري) ولا ينفعهم ولّتي (فراري)
فتواريت ، ثمّ لحقت بابن الزبير .
اقتحام خندق
المدينة :
وهكذا ذكر الطبري
خبر الحرّة بلا اختراق للخندق ، بينما اختزل الدينوري خبر القتال في الحرّة إلى
خبر اختراق الخندق عليهم فقال : لمّا انتهوا إلى المدينة عسكروا بالحرّة ، ثمّ مشى
رجال منهم فأطافوا بالمدينة من كلّ ناحية فلا يجدون
__________________
مدخلا ، والناس
متلبّسون السلاح قد قاموا على أفواه الخنادق ، فجعل أهل الشام يطوفون بها والناس
يرمونهم بالنبل والحجارة من فوق الآكام والبيوت حتّى جرحوا منهم وفي خيلهم.
فخرج مروان إلى
رجل من بني حارثة في ضيعته فقال له : افتح لنا طريقا وأنا اكتب بذلك إلى أمير
المؤمنين (يزيد) وأضمن لك عنه شطر ما كان بذل لأهل المدينة من العطاء وتضعيفه.
فرغب فيما بذل له وقبل ما ضمن له عن يزيد ، وفتح له طريقا ، فاقتحمت الخيل المدينة
ولذا كان بنو حارثة آمنين ما قتل أحد منهم ، وكان قصرهم أمانا لمن أراد أهل
الشام أن يؤمّنوه ، وكلّ من نادى باسم الأمان لأحدهم أمّنوه ثمّ ذبّوا عنه حتّى
يبلّغوه قصر بني حارثة ، فاجير يومئذ رجال كثير ونساء ، لم يزالوا في قصرهم حتّى
انقضت الثلاث .
وكان ابن حنظلة في
ناحية الطورين لمّا جاءه خبر دخولهم المدينة ، فأقبل إليهم ، وكان عبد الله بن
مطيع العدوي في ناحية ذناب فأقبل إليهم ، فاجتمعوا بمن معهم حيث اقتحم عليهم أهل
الشام ، فاقتتلوا حتّى عاينوا الموت ؛ والنساء والصبيان يصيحون ويبكون على قتلاهم.
وجعل مسلم المرّي
ينادي : من جاء برأس رجل فله كذا وكذا يغري بهم قوما لا دين لهم ، حتّى جاءهم ما
لا طاقة لهم به ، وظهروا على أكثر المدينة.
وكان على بشر بن
حنظلة الغسيل درعان ، فلمّا هزم القوم طرحهما ثمّ جعل يقاتلهم حاسرا حتّى ضربه
شاميّ بسيفه على منكبه فوقع قتيلا. فلمّا قتل ابن حنظلة الأمير صار أهل المدينة
كالنعم شرودا بلا راع يقتلهم الشاميون في كلّ وجه.
__________________
وأقبل محمّد بن
عمرو بن حزم الأنصاري فارسا يقاتل جريحا فيحمل على كردوس من أهل الشام فيفضّ
جماعتهم ، فاجتمع جمع من أصحاب الرماح وحملوا عليه حملة واحدة وطعنوه برماحهم حتّى
مال قتيلا. فلمّا قتل انهزم باقي الناس في كلّ وجه ، ودخل القوم المدينة تجول
خيولهم فيها يقتلون وينهبون!
وقيل لعبد الله بن
زيد بن عاصم : لو علم القوم باسمك وصحبتك لم يهيجوك بأذى فلو أعلمتهم! فقال : لا
أفلح من ندم ، لا والله لا أبرح حتّى اقتل ولا أقبل لهم أمانا! وكان أصلع حاسرا ،
فضربه شامي بفأس على رأسه فسقط قتيلا صائما .
نهب المدينة
وإباحتها :
وأوّل دور انتهبت
والحرب قائمة : دور بني عبد الأشهل ، فما تركوا في المنازل من أثاث ولا حليّ ولا
فراش إلّا نقض صوفه ، وحتّى أنّهم كانوا يذبحون الدجاج والحمام!
ودخل عشرة منهم
دار محمّد بن مسلمة الأنصاري فتصايحت النسوة ، فسمعهنّ زيد بن محمّد ففزع لهنّ
ومعه رجلان من أهله حتّى قتل جميع الشاميين ، ثمّ أقبل نفر آخرون منهم فقاتلوهم
أيضا حتّى ضربه أربعة منهم بسيوفهم في وجهه فقتلوه بعد أن قتل أربعة عشر رجلا منهم.
ولزم خدره أبو
سعيد الخدري فهتكوا ستره وسألوه : من أنت أيها الشيخ؟ قال : أنا أبو سعيد الخدري
صاحب رسول الله صلىاللهعليهوآله! قالوا : ما زلنا نسمع عنك ، فبحظّك أخذت في ترك قتالنا
وكفّك عنّا ولزوم بيتك ، ولكن أخرج إلينا ما عندك! قال : والله ما عندي مال.
فضربوه حتّى نتفوا لحيته ثمّ أخذوا كلّ ما وجدوه في بيته حتّى الصواع والحمام!
__________________
ولزم سعيد بن
المسيّب المسجد فكان لا يخرج منه إلّا ليلا ، وأمن. وخرج جابر بن عبد الله
الأنصاري وهو يومئذ أعمى إلى بعض زقاق المدينة وهو يقول : تعس من أخاف الله ورسوله!
فسئل : ومن أخاف الله ورسوله؟! قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : من أخاف المدينة فقد أخاف ما بين جنبيّ! فسمعه
شاميّ فحمل عليه بسيفه ليقتله ، وكان مروان بن الحكم حاضرا فترامى بنفسه عليه
وأجاره وأدخله منزله وأغلق عليه بابه ، فسلم ، وأسروا كثيرا فغلّوهم .
وأنهبها ثلاثا
فنهبت الأموال وافتضحت النساء .
وقال اليعقوبي
وأباح مسلم المرّي المدينة لجنده فلم يبق بها كثير أحد نجا من القتل ، وحتّى حملت
الأبكار لا يعرف لمن وروى البيهقي عن الحسن البصري أنّه ذكر الحرّة فقال :
والله ما كاد ينجو منهم أحد ، ونهبت المدينة ؛ وافتضّ فيها ألف عذراء ، فإنّا لله
وإنّا إليه راجعون .
ودخل شاميّ على
امرأة ابن أبي كبشة الأنصاري ، قالت : لقد بايعت معه رسول الله صلىاللهعليهوآله يوم الشجرة على أن لا أزني ولا أسرق ولا أقتل ولدي ، ولا
آتي ببهتان أفتريه ، وكانت قد نفست حديثا بصبيّ ، فقال الشامي لها : هل من مال؟ قالت
: لا والله ما تركوا لي شيئا! فقال لها : والله لتخرجنّ إليّ شيئا أو لأقتلنّك
وصبيّك هذا! فقالت له : ويحك إنه ولد ابن أبي كبشة الأنصاري صاحب
__________________
رسول الله ...
فاتّق الله! ثمّ التفتت إلى الصبي وهي ترضعه وقالت له : يا بني! والله لو كان عندي
شيء لافتديتك به. وكان الصبيّ في حجرها وثديها في فمه ، فأخذ برجله وجذبه من حجرها
وضرب به الحائط فانتثر دماغه على الأرض! ثمّ خرج من البيت ولكنّه اسودّ وجهه نصفيا
، وصار يضرب به المثل .
أعداد القتلى في
الحرّة :
قال المسعودي :
وكانت وقعة عظيمة ، قتل فيها خلق كثير من الناس ، من بني هاشم وسائر قريش والأنصار
وغيرهم من سائر الناس. فممّن قتل من آل أبي طالب : اثنان : جعفر بن محمّد بن علي (ابن
الحنفية) وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب (كذا! وهو وهم) ومن بني هاشم : الفضل بن
العباس بن ربيعة ، وحمزة بن عبد الله بن نوفل ، والعباس بن عتبة بن أبي لهب. ومن
سائر قريش بضع وتسعون رجلا ، ومثلهم من الأنصار ، ومن سائر الناس ممّن أدركه
الإحصاء : أربعة آلاف .
ويبدو أنّ أقدم
قائمة بتسميتهم هي قائمة الليثي العصفري البصري (م ٢٤٠ ه) وهذا بدأ ببني هاشم
وبدأ منهم بعبد الله بن جعفر كما مرّ ، وهو وهم ، ثمّ سمّى سائر قريش حتّى قال :
فجميع من أصيب من قريش سبعة وتسعون رجلا ، ثمّ سمّى الأوس ثمّ الخزرج حتّى قال :
فجميع من اصيب من الأنصار مئة وثلاثة وسبعون رجلا! وجميع من اصيب من قريش والأنصار
: نحو ثلاثمئة رجل واكتفى بهذا.
__________________
وزاد المسعودي
ثانيا عن الواقدي قال : قتل عبد الله بن حنظلة الغسيل الأنصاري الأوسي في عدّة من
المهاجرين والأنصار وأبنائهم ومواليهم وحلفائهم وغيرهم من قريش نحو من سبعمئة رجل
، ومن سائر الناس من الرجال والنساء والصبيان! نحو من عشرة آلاف ... فكان ذلك من
أعظم الأحداث في الإسلام وأجلّها وأفضعها رزءا بعد قتل الحسين بن عليّ عليهالسلام .
وقال الدينوري :
فبلغ عدة قتلى الحرّة يومئذ من قريش والمهاجرين والأنصار ووجوه الناس ألفا وسبعمئة
، ومن سائر الناس عشرة آلاف ، سوى النساء والصبيان .
وقال ثانيا :
وذكروا أنه قتل يوم الحرّة من أصحاب النبيّ صلىاللهعليهوآله ثمانون رجلا حتّى لم يبق بدري منهم بعد ذلك أبدا ، وقتل من
قريش والأنصار سبعمئة ، ومن سائر الناس من التابعين والعرب والموالي عشرة آلاف .
وقال ثالثا : قال
الزهري : بلغ القتلى يوم الحرّة من قريش والأنصار ومهاجرة العرب ووجوه الناس
سبعمئة ، ومن سائر الناس من الأخلاط والموالي والعبيد عشرة آلاف ، واصيب نساء
وصبيان. وقتل بها من أصحاب النبيّ ثمانون رجلا ولم يبق بدريّ بعد ذلك. وكان قدومهم
المدينة لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين ، فانتهبوها ثلاثا حتّى رأوا هلال
المحرم فأمسكوا .
وقال رابعا : عن
محمّد بن عمرو بن حزم : قتل بضعة وسبعون رجلا من قريش منهم ابنان لعبد الله بن جعفر
، وبضعة وسبعون رجلا من الأنصار
__________________
منهم خمسة أو
أربعة من صلب زيد بن ثابت الأنصاري ، ومن سائر الناس نحو من أربعة آلاف والأخير أولى.
وفي الجزري : كان
في من قتل يوم الحرّة : ابنان لزينب بنت أبي سلمة المخزومية (بنت امّ سلمة) فحملا
مقتولين فوضعا بين يديها ، فاسترجعت وقالت : والله إنّ المصيبة فيهما عليّ لكبيرة
، وهي عليّ في هذا أكبر من ذاك ؛ لأنّه جلس في بيته فدخل عليه فقتل مظلوما! وأمّا
الآخر فإنّه بسط يده وقاتل ، فلا أدري على ما هو ؟
وقالوا : لقد مكث
النوح على أهل الحرّة في الدور سنة لا يهدؤون! وقال الأعرج : كان الناس قبل الحرّة
لا يلبسون المصبوغ (الأسود) من الثياب فلمّا قتل الناس بالحرّة استحبّوا أن
يلبسوها .
كتاب ابن عقبة إلى
ابن معاوية :
مرّ عن الدينوري
أنّه خالف المعروف في تسمية قتال أهل المدينة بالحرّة ، فلم يذكر في الحرّة إلّا
نزول جيش الشام ، ثمّ إحاطتهم بخندق المدينة ثمّ اقتحامه بدلالة رجل من بني حارثة
، وانفرد ـ فيما نجد ـ بذكر كتاب لمسلم المرّي إلى أميره يزيد مع هذا الرجل
الحارثي ، وفيه أيضا لم يذكر إلّا مثل ذلك : «لعبد الله يزيد بن معاوية أمير
المؤمنين! من مسلم بن عقبة ، سلام عليك يا أمير المؤمنين! ورحمة الله وبركاته ،
فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو. أمّا بعد تولّي الله حفظ أمير المؤمنين!
والكفاية له : فإنّي اخبر أمير المؤمنين! أبقاه الله :
__________________
أنّي خرجت من دمشق
ونحن على التعبئة التي رأى أمير المؤمنين! يوم فارقنا بالعافية ، فلقينا أهل بيت
أمير المؤمنين! بوادي القرى فرجع معنا مروان بن الحكم ، وكان لنا عونا على عدوّنا.
وإنّا انتهينا إلى المدينة فإذا أهلها خندقوا عليها الخنادق ، وأقاموا على أنقابها
الرجال بالسلاح ، وأدخلوا ماشيتهم وما يحتاجون لحصارهم سنة! فيما يقولون.
وإنّا أعذرنا
إليهم وأخبرناهم بعهد أمير المؤمنين! وما بذل لهم ، فأبوا ، ففرّقت أصحابي على
أفواه الخنادق : فولّيت الحصين بن نمير ناحية الذناب وما والاها ، ووجّهت جيش دلجة
على الموالي (كذا) إلى ناحية بني سلمة ، ووجّهت عبد الله ابن مسعدة إلى ناحية بقيع
الغرقد ، وكنت ـ ومن معي من قوّاد أمير المؤمنين ورجاله في وجوه بني حارثة (ثمّ)
بطريق فتحه لنا رجل منهم بما دعاه مروان بن الحكم إلى صنيع أمير المؤمنين! وما
تضمّن له عنه من قرب المكانة وجزيل العطاء وإيجاب الحقّ وقضاء الذّمام ، وقد بعثت
به إلى أمير المؤمنين! وأرجو من الله أن يلهم خليفته وعبده عرفان ما أولى من الصنع
وأسدى من الفضل! وكان من محمود مقام مروان بن الحكم وجميل مشهده وسديد بأسه وعظيم
نكايته لعدوّ أمير المؤمنين! ما لا إخال ذلك ضائعا عند إمام المسلمين وخليفة ربّ
العالمين إن شاء الله! فأدخلنا الخيل عليهم حين ارتفع النهار من ناحية بني عبد
الأشهل ... وسلّم الله رجال أمير المؤمنين! فلم يصب أحد منهم بمكروه! ولم يقم لهم
عدوّهم من ساعات نهارهم أربع ساعات. فما صلّيت الظهر ـ أصلح الله أمير المؤمنين ـ
إلّا في مسجدهم! بعد القتل الذريع والانتهاب العظيم! وأوقعنا بهم السيوف وقتلنا من
أشرف لنا منهم! وأتبعنا مدبرهم! وأجهزنا على جريحهم! وانتهبناهم ثلاثا كما قال
أمير المؤمنين! أعزّ الله نصره. وجعلت دور بني الشهيد المظلوم عثمان بن عفّان في
حرز وأمان!
فالحمد لله الذي
شفى صدري من قتل أهل الخلاف القديم والنفاق العظيم! فطالما عتوا وقديما ما طغوا.
وكتبت إلى أمير
المؤمنين! وأنا في منزل سعيد بن العاص مدنفا مريضا ما أراني إلّا لما بي ، وما
ابالي متى متّ بعد يومي هذا! وكتب لهلال المحرم سنة ثلاث وستين».
جاءه الكتاب وعبد
الله بن جعفر لا زال عنده بدمشق ، فأرسل إليه وعنده ولده معاوية بن يزيد فأقرأهما
الكتاب ، فاسترجع ابن جعفر وأكثر ، فقال له يزيد : ألم اجبك إلى ما طلبت وأسعفتك
فيما سألت ، فبذلت لهم العطاء وأجزلت لهم الإحسان ، وأعطيت العهود والمواثيق على
ذلك؟!
فقال عبد الله بن
جعفر : فمن هنا استرجعت وتأسّفت عليهم إذ اختاروا البلاء على العافية والفاقة على
النعمة ، ورضوا بالحرمان دون العطاء!
وبكى ابنه معاوية
فقال له : وما بكاؤك يا بنيّ؟! قال : أبكي على من قتل من قريش! وإنّما قتلنا بهم
أنفسنا! فقال يزيد : هو ذاك قتلت بهم نفسي وشفيتها !
أخذه البيعة ليزيد
:
روى خليفة قال :
ثمّ دعا الناس الباقين إلى البيعة على أنّهم خول ليزيد بن معاوية! يحكم في أموالهم
وأهليهم ودمائهم ما شاء! حتّى أتي بعبد الله بن زمعة (القرشي الأسدي من قوم ابن
الزبير) وكان من قبل من أصفياء أصدقاء يزيد ، فقال له المرّي : بايع على أنّك خول
لأمير المؤمنين! يحكم في مالك وأهلك ودمك! قال : ابايعك على أنّي ابن عمّ أمير
المؤمنين! يحكم في دمي وأهلي
__________________
ومالي! قال :
اضربوا عنقه! وكان مروان حاضرا فوثب وضمه إليه وقال لمسلم : يبايعك على ما أحببت!
قال : لا والله! لا أقيلها إيّاه أبدا ، ثمّ قال لجلاوزته : إن تنحّى مروان وإلّا
فاقتلوهما جميعا! فتركه مروان فضربوا عنقه!
ثمّ أتي بابنه
يزيد بن عبد الله بن زمعة (وكان عبد الله زوج زينب بنت امّ سلمة زوج النبيّ ،
فيزيد ابن بنتها) فقال له مسلم : بايع وقال : ابايعك على كتاب الله وسنّة نبيّه!
فأمر بقتله! فقتلوه !
وعاد بنو امية إلى
المدينة. وقال ابن قتيبة : وانتقل مسلم من منزله (بالحرّة) إلى قصر بني عامر في
دومة (من المدينة) ودعا من بقي من أهل المدينة للبيعة وكان بنو امية أول من دعاهم إلى بيعة يزيد ، وأوّلهم مروان
بن الحكم ، ثمّ سائر أكابرهم .
وأتي بعمرو بن
عثمان بن عفّان (وكان كاظما غيظه عليه لوفائه بحلفه لأهل المدينة) ولا يعرفه من
حضره من أهل الشام ، فقال لهم : تعرفون هذا؟ قالوا : لا ، قال : هذا الخبيث ابن
الطيّب : هذا عمرو بن عثمان أمير المؤمنين! ثمّ قال له : هيه يا عمرو ؛ إذا ظهر
أهل المدينة قلت : أنا رجل منكم! وإن ظهر أهل الشام قلت : أنا ابن أمير المؤمنين
عثمان! (وكانت امّ عمرو دوسية) فقال : وإن امّ هذا كانت تدخل الجعل في فيها! ثمّ
تقول لأبيه : يا أمير المؤمنين حاجيتك! ما في فيّ؟ وفي فيها ما أساءها! ثمّ أمر
مسلم أن تنتف لحية عمرو فنتفوها! ثمّ خلّى سبيله .
__________________
قال ابن قتيبة :
بايع عمرو بن عثمان ثمّ ذهب إلى امّ سلمة زوج النبيّ صلىاللهعليهوآله (فكانت حيّة يومئذ)
وقال لها : أرسلي معي ابن بنتك يزيد بن عبد الله بن زمعة (القرشي الأسدي وكأنّه
كان لاجئا مستجيرا بجدّته امّ سلمة) فجاء به إلى مسلم المرّي.
فلمّا تقدّم يزيد
قال له مسلم : تبايع لعبد الله يزيد أمير المؤمنين! على أنّكم ممّا أفاء الله عليه
بأسياف المسلمين! خول له فإن شاء وهب وإن شاء أعتق وإن شاء استرق! فقال يزيد :
لأنا أقرب إلى أمير المؤمنين منك! فقال مسلم : والله لا تستقيلها أبدا!
وكان مسلم قد أكرم
عمرو بن عثمان هذه المرّة فأجلسه معه على سريره فقال لمسلم : أنشدك الله! فإنّي
أخذته من امّ سلمة بعهد الله وميثاقه أن أردّه عليها! فركضه مسلم برجله فرماه من
سريره! وأمر بقتل يزيد .
ولعلّ مروان كان
حاضرا فوثب وضمّه إليه فكان ما مرّ من الخبر السابق.
ثمّ اتي بمعقل بن
سنان الأشجعي حامل لوائهم يوم فتح مكّة ، وكان معقل على الاستراحة إلى مسلم المرّي
قد طعن بعض الطعن على يزيد قبل هذا ، فلمّا أدخل عليه قال له : يا معقل أعطشت؟ قال
: نعم ، أصلح الله الأمير! قال لهم : حيسوا له شربة من سويق اللوز الذي زوّدنا به
أمير المؤمنين! فلمّا شربها قال له : رويت؟ قال : نعم ، قال مسلم : أما والله لا
تبولها أبدا! ما كنت لأدعك بعد كلام سمعته منك تطعن به على إمامك ، فقدّم فضربت
عنقه .
__________________
ثمّ اتي بعبد الله
بن الحارث مغلولا ، فقال له مسلم : أنت القائل : اقتلوا سبعة عشر رجلا من بني
اميّة لا تروا شرّا أبدا! قال : قد قلتها ، ولكن لا يسمع لأسير أمر ، أرسل يدي وقد
برئت منّي الذمة ، إنّما نزلت بعهد الله وميثاقه ، وايم الله لو أطاعوني وقبلوا
منّي ما أشرت به عليهم ما تحكّمت أنت فيهم أبدا! فأمر به فضربت عنقه .
ثمّ أمر بمحمّد بن
أبي الجهم وجماعة من وجوه قريش والأنصار من خيار الصحابة والتابعين ... فجعل مروان
يعتذر إلى القرشيين منهم يقول : والله لقد أساءني قتل من قتل منكم!
فقالت له قريش :
أنت والله الذي قتلتنا ، ما عذرك الله والناس ، لقد خرجت من عندنا وقد حلفت لنا
عند منبر رسول الله صلىاللهعليهوآله لتردّنهم عنّا فإن لم تستطع لتمضينّ ولا ترجع معهم ، فرجعت
ودللت على العورة وأعنت على الهلكة ، فالله لك بالجزاء.
فقال مروان للمرّي
: قد والله شفيتني من دماء هؤلاء القوم إلّا ما كان من قريش! فإنّك أفنيتها
وأثخنتها! فقال مسلم : والله لا أعلم عند أحد غشّا لأمير المؤمنين إلّا سألت الله
أن يسقيني دمه! فقال مروان : إنّ عند أمير المؤمنين! عفوا لهم وحلما عنهم ليس عندك
!
__________________
وفي اليعقوبي :
ثمّ أخذ الناس على أن يبايعوا على أنّهم عبيد يزيد بن معاوية ، فكان الرجل من قريش
يؤتى به فيقال له : بايع أنك عبد قنّ ليزيد ، فيقول : لا. فتضرب عنقه .
وقال المسعودي :
بايع من بقي من أهلها على أنهم قنّ ليزيد! والقنّ : العبد الذي ملك أبواه. والذي
ملك في نفسه دون أبويه فهو عبد مملكة وقال : وبايع الناس على أنهم عبيد ليزيد ، ومن أبى ذلك
أمرّ على السيف .
الإمام السجاد
ويزيد :
قال ابن قتيبة :
لم يكن أحد من بني هاشم نصب للحرب ، ولزموا بيوتهم فسلموا ، إلّا ثلاثة منهم
تعرضوا للقتال فأصيبوا.
وقبل أن يرتحل
مسلم بن عقبة عن المدينة (لشهر صفر) سأل عن علي بن الحسين عليهالسلام أحاضر هو؟ فقيل : نعم (فقيل لعليّ) فأتاه عليّ بن الحسين
مع ابنيه (؟) فرحّب وسهّل ، وقرّبهم ، وقال : إنّ أمير المؤمنين! أوصاني بك.
فقال عليّ بن
الحسين : وصله الله وأحسن جزاءه! ثمّ انصرف عنه .
ولم يتحقق
اليعقوبي في النقل فقال : أتاه عليّ بن الحسين عليهماالسلام فقال : علام يريد يزيد (كذا بلا لقب) أن ابايعك؟! قال :
على أنّك أخ وابن عمّ! فقال : وإن أردت أن ابايعك على أني عبد قنّ فعلت! فقال : ما
اجشّمك هذا! فلمّا رأى
__________________
الناس ذلك قالوا :
هذا ابن رسول الله بايعه على ما يريد فبايعوه على ما أراد !
بينما جاء في
المسعودي : كان عليّ بن الحسين السجاد عليهالسلام قد لاذ بقبر (رسول الله) وهو يدعو ، فاتي به إلى المسرف
وهو مغتاظ عليه يبرأ منه ومن آبائه! ولكنّه لمّا أشرف عليه ورآه ارتعد وقام له
وأقعده إلى جانبه وقال له : سلني حوائجك ، فلم يسأله في أحد ممّن قدّم إلّا شفّعه
فيه ، ثمّ انصرف عنه!
فقيل لمسلم :
رأيناك تسبّ هذا الغلام وسلفه فلمّا اتي به إليك رفعت منزلته؟!
فقال : ما كان ذلك
لرأي منّي! لقد ملئ قلبي رعبا منه!
وقيل لعليّ عليهالسلام : رأيناك تحرك شفتيك فما الذي قلت؟ قال : قلت : «اللهمّ
ربّ السماوات السبع وما أظللن ، والأرضين السبع وما أقللن ، وربّ العرش العظيم ،
ربّ محمّد وآله الطاهرين ، أعوذ بك من شرّه وأدرأبك في نحره ، وأسألك أن تؤتيني
خيره وتكفيني شرّه» .
هذا ما ذكره أوّلا
، ثمّ قال ثانيا : وبايع من بقي على أنّهم قنّ ليزيد ... غير عليّ بن الحسين بن
عليّ عليهمالسلام لأنّه لم يدخل فيما دخل فيه أهل المدينة. وعليّ بن عبد
الله بن العباس فإنّ أخواله من كندة في جيش مسلم منعوه وقد مرّ عن الطبري عن الكلبي عن الأزدي عن حبيب بن كرّة
الراوي الأموي : أنّ يزيد استوصى المرّي به خيرا وقال له : فإنّه لم يدخل في شيء
ممّا دخلوا فيه. وقد كان عليّ بن الحسين لا يعلم بشيء ممّا أوصى به يزيد فلا ينافي ما رواه المسعودي من دعائه وإجابته عليهالسلام.
__________________
وأفاد المفيد :
أنّه عليهالسلام بلغه توجّه مسرف بن عقبة إلى المدينة فحفظوا عنه دعاء في
ذلك وذكره أكثر ممّا مرّ ثمّ قال : فقدم مسرف بن عقبة المدينة وقيل : لا يريد غير
عليّ بن الحسين عليهالسلام فسلم منه وأكرمه وحباه ووصله .
وعبّر عن الخبر
الحلبي بقوله : انهي إليه عليهالسلام أن مسرفا استعمل على المدينة وأنّه يتوعّده! فجعل يكثر من
الدعاء لما اتّصل به عن المسرف. ثمّ ذكر الدعاء ثمّ قال : فلمّا قدم المسرف
المدينة (كذا) اعتنقه وقبّل رأسه وجعل يسأل عن حاله وحال أهله وعن حوائجه ، وأمر
أن تقدّم له دابّته وعزم عليه أن يركبها فركب وانصرف إلى أهله .
وأفاد المفيد أيضا
بأن : جاء الحديث من غير وجه : أنّ مسرف بن عقبة لمّا قدم المدينة (كذا) أرسل إلى
عليّ بن الحسين عليهماالسلام فأتاه! فلمّا صار إليه قرّبه وأكرمه وقال له : وصّاني أمير
المؤمنين! ببرّك وتمييزك من غيرك! فجزّاه خيرا! ثمّ قال : أسرجوا له بغلتي ، وقال
له : انصرف إلى أهلك فإنّي أرى أن قد أفزعناهم! وأتعبناك بمشيك إلينا ، ولو كان
بأيدينا ما نقوى به على صلتك بقدر حقّك لوصلناك! فقال له عليّ بن الحسين عليهماالسلام : ما أعذرني للأمير (أي ما أقبلني لقبول عذره) ثمّ ركب.
فقال المرّي
لجلسائه : هذا الخير لا شرّ فيه! مع موضعه من رسول الله ومكانه منه . وروى الطبري عن الكلبي عن عوانة قال : لما اتي بعليّ بن
الحسين عليهالسلام إلى مسلم قال : من هذا؟! قالوا : هذا عليّ بن الحسين. فقال
: أهلا
__________________
ومرحبا ، ثمّ
أجلسه على طنفسته على السرير ثمّ قال : إنّ أمير المؤمنين! أوصاني قبلا بك وهو
يقول لك : إنّ هؤلاء الخبثاء شغلوني عنك وعن صلتك! ثمّ قال له : لعلّ أهلك فزعوا؟!
قال : إي والله! فأمر بدابّته فاسرجت فردّه عليها .
ولعلّه مختصر
الخبر السابق فيه عن الكلبي عن أبي مخنف ، وهو الوحيد المتضمّن لذكر من أتى به عليهالسلام ، وفيه : أنّ مروان ومعه ابنه عبد الملك أراد أن يشكر له عليهالسلام إيواءه أهلهم ، فجاء بعليّ بن الحسين يمشي بينه وبين ابنه
عبد الملك حتّى جلسوا عنده كذلك ، ثمّ دعا مروان بماء ليشربوا منه فيتحرّموا به
منه فاتي به له فشرب منه يسيرا ثمّ ناوله عليّا عليهالسلام ولكنّه لمّا أمسك بالقدح ليشرب منه قال له مسلم : لا تشرب
من شرابنا! فأمسك لا يشربه ولا يضعه ، فقال له : إنّك إنّما جئت (كذا) تمشي بين
هؤلاء لتأمن عندي! وو الله لو كان هذا الأمر إليهما لقتلتك! ولكنّ أمير المؤمنين
أوصاني بك ... فذلك نافعك عندي! ثمّ قال له : فإن شئت فاشرب شرابك وإن شئت دعونا
لك بغيره. فشربها ، ثمّ قال له : إليّ هاهنا. فأجلسه معه وهو كما ترى أجمع الأخبار.
وهنا ـ قال
المقرّم ـ يسأل عن قعود السجّاد عليهالسلام عن المشاركة مع الثائرين الناقمين على يزيد ، ويجيب عنه وأكثر منه تحليلا وتفصيلا السيد الحسينيّ الجلالي .
__________________
ولما فرغ مسلم
المرّي من أمر المدينة خلّف عليها روح بن زنباغ الجذامي ، ثمّ شخص بمن معه من جنده
إلى مكّة .
خوارج البصرة :
مع تمرّد ابن
الزبير بمكّة وابن الغسيل بالمدينة ، تمرّد مرداس بن اديّة من البصرة فخرج على
ولاية ابن زياد بها في أربعين رجلا. فبعث إليهم ابن زياد جيشا عليهم عبد الله بن
حصن الثعلبي ، فقتله الخوارج في أصحابه وهزموهم ، فبعث إليهم جيشا آخر عليهم عبّاد
بن أخضر فقاتلهم على شاطئ ميسان فقتلهم أجمعين.
فخرج بعده نافع بن
الأزرق في نحو من خمسمئة سموا الأزارقة ، فخرج إليهم ابن عبيس في ألفين ، والتقوهم
في موضع يدعى دستواء ، فتقاتلوا ، فقتل الأميران من العسكرين وأمسوا فأمسكوا ،
ووصلهم من اليمامة أمداد ورأّس الخوارج الزبير بن ماحوز ، فهزموا أهل البصرة
وساروا إلى المدائن ، ثمّ غلبوا على الأهواز وفارس ، وجبوا الأموال .
__________________
حوادث
السنة الرابعة والستّين
مسير ابن النمير
إلى ابن الزبير :
انتهى مسلم المرّي
من أمر المدينة مع آخر ذي الحجّة من آخر السنة الثالثة والستين ، إلى أواسط شهر
المحرم من أوّل السنة الرابعة والستّين ، ثمّ خرج منها بجنده إلى مكّة متفرّغا
لأمر ابن الزبير.
قال خليفة : سار
بالناس نحو مكّة ، حتّى إذا خرج من الأبواء ثقل بالأوباء والأدواء ، ولمّا عرف أنّ
الموت نازل به دعا الحصين بن نمير الكندي السّكوني فقال له : قد دعوتك وما أدري
اقدّمك فأضرب عنقك أو أستخلفك على الجيش! قال : أصلحك الله ، سهمك فارم بي حيث شئت!
قال : إنّك أعرابي
جلف جاف ، وإنّ هذا الحيّ من قريش لم يمكّنهم أحد من اذنيه إلّا غلبوه على رأيه!
فسر بهذا الجيش ، فإذا لقيت القوم فإيّاك أن تمكّنهم من اذنيك ، لا يكوننّ إلّا
الوقاف ثمّ الثقاف ثمّ الانصراف .
__________________
وقال اليعقوبي :
لمّا صار في ثنيّة المشلّل احتضر فأحضر الحصين بن نمير وقال له :
يا برذعة الحمار!
لو لا (وصيّة) حبيش بن دلجة القيني لما ولّيتك! فإذا قدمت مكّة فلا يكونّن عملك
إلّا الوقاف ثمّ الثقاف ثمّ الانصراف! ثمّ قال : اللهمّ إن عذّبتني بعد طاعتي
لخليفتك يزيد بن معاوية وقتل أهل الحرّة! فإنّي إذن لشقيّ؟ ثمّ خرجت نفسه ، فدفن
هناك. وتقدّم الحصين بهم إلى مكّة.
وجاءت امّ ولد
ليزيد بن عبد الله بن زمعة فنبشت قبره وأخرجته وصلبته ، وجاءه ناس فرجموه! وبلغ
الخبر الحصين بن نمير فرجع ودفنه ، ودفن معه جماعة من أهل ذلك الموضع ، وقيل : لم
يدع أحدا منهم ! فأثبت جدارته! وكان ذلك في منتصف شهر محرم لسنة (٦٤ ه).
حصار الحصين على
مكّة :
وسمع ابن الزبير
بإقبال ابن نمير إليه ، فأحكم مراصد مكّة وجعل عليها المقاتلين. ونزل ابن نمير على
مكّة فأرسل خيلا إلى أسفلها ، ونصب عليها العرّادات والمجانيق ، وفرض على أصحابه
أن يرموا مكّة كلّ يوم بعشرة آلاف صخرة! وبدأ الحصار للعشرين من المحرّم ،
فحاصروهم بقيّة المحرم وصفر وشهري الربيع يغدون للقتال ويروحون .
وتغلّب الحصين على
مكّة تدريجا حتّى نصب مجانيقه على جبل قعيقعان وعلى جبل أبي قبيس ، فأشكل على
الطائفين ، وكان طول الكعبة في السماء ثمانية عشر ذراعا ، فأسند ابن الزبير ألواحا
من الساج إلى البيت وألقى عليها فرشا
__________________
وقطائف فكانوا
يطوفون تحت تلك الألواح ، فكان إذا وقع عليها الحجر نباعن البيت ، وكان الطائفون
إذا سمعوا صوت الحجر على الفرش والقطائف يكبّرون. وكان ابن الزبير قد ضرب فسطاطا
في ناحية المسجد فكلّما جرح أحدهم حمل إلى ذلك الفسطاط.
وكان مع ابن
الزبير من وجوه قريش : أخوه المنذر بن الزبير وأخوان آخران ، ومصعب بن عبد الرحمان
بن عوف ، والمسور بن مخرمة بن نوفل ، وعبد الله بن المطيع العدوي ، والمختار بن
أبي عبيد الثقفي في آخرين منهم وكان ابن نمير قد غلب على مكّة إلّا المسجد ، وهبّت رياح ،
فقال المختار : والله إنّي لأجد النصر في هذه الريح فاحملوا عليهم ، فحملوا عليهم
وقتل المختار رجلا وقتل ابن المطيع آخر حتّى أخرجوهم من مكّة.
وفي الثالث من
ربيع الأول وقعت النيران على الكعبة فاحترقت الفرش والقطائف والخشب وأستار الكعبة
وتساقطت إلى الأرض وانصدع الحجر الأسود فالتحمت الحرب مرّة ثانية عند باب بني شيبة
فقتل المنذر بن الزبير واثنان من إخوته ، ومصعب بن عبد الرحمان بن عوف والمسور بن
مخرمة .
وفي اليعقوبي :
وأراد ابن الزبير أن يغضب المسلمون للكعبة لذلك لمّا قال له أصحابه : نطفئ النار؟
منعهم! وكان ابن الزبير قد نصب عبد الله بن عمير الليثي للقضاء بمكّة ، فكان إذا
تواقف الفريقان قام على الكعبة ونادى بأعلى صوته : يا أهل الشام! هذا حرم الله
الذي كان مأمنا في الجاهلية يأمن فيه الطير والصيد ،
__________________
فاتّقوا الله ،
فيجيبه الشاميون : الطاعة الطاعة! الكرّة الكرّة! ولمّا أحرقوا الكعبة قالوا :
اجتمعت الحرمة والطاعة فغلبت الطاعة الحرمة !
وقال المسعودي :
تواردت أحجار المجانيق والعرّادات على البيت ملفوفة بخرق الكتان مغمّسة بالنفط
مشعلة بالنار ، فاحترقت البنية وانهدمت الكعبة وذلك يوم السبت لثلاث خلون من شهر
ربيع الأوّل من السنة المذكورة ، ووقعت صاعقة فأحرقت من أصحاب المجانيق أحد عشر
رجلا ، وقيل أكثر من ذلك .
وحاول الواقدي أن
ينسب الحريق إلى إيقاد النار من قبل الزبيريين أنفسهم .
هلاك يزيد وتبدّد
الجنود :
كان ابن الزبير قبل
حريق البيت العتيق يجلس بأصحابه في فسطاطه ، واحترق فسطاط بلاطه مع احتراق المطاف
، فأخذوا يجلسون في ناحية حجر إسماعيل يحتمون بالبيت أو بما بقي منه ، وكان
الشاميّون لا يتركون أن يرموهم بالنبال ، ووقعت نبلة بين يدي الزبير فأخذوها
ووجدوها مكتوبة كذا : مات يزيد بن معاوية يوم الخميس لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع
الأوّل.
__________________
فلما قرأها ابن
الزبير قام يناديهم : يا أهل الشام! يا مستحلّي حرم الله! يا محرقي بيت الله!
علامّ تقاتلون وقد مات طاغيتكم يزيد بن معاوية ؟!
ووافق هذا الخبر
سائر الأخبار في سبق خبر موت يزيد إلى ابن الزبير دون ابن النمير بلا ذكر كيفية
وصوله إليه. وإنّما جاء في خبر عوانة : أنّه أخذ يناديهم :
علام تقاتلون وقد
هلك طاغيتكم؟! وهم لا يصدّقونه. وكان لابن النمير مصاهرة مع ثابت بن قيس النخعي
الهمداني الكوفي ، وكان يلتقي به عند معاوية ، فقدم هذا من الكوفة إلى مكّة فأخبره
بهلاك يزيد ، فصدّقه.
ثمّ بعث ابن
النمير إلى ابن الزبير قال له : موعد ما بيننا وبينك الليلة الأبطح. فالتقيا ،
فقال له الحصين : إن يك هذا الرجل قد هلك فأنت أحقّ الناس بهذا الأمر! فهلمّ
فلنبايعك ثمّ اخرج معي إلى الشام ، فإنّ هذا الجند الذين معي هم وجوه أهل الشام
وفرسانهم ، فو الله لا يختلف عليك اثنان ، وتؤمن الناس ، وتهدر هذه الدماء التي
كانت بيننا وبينك والتي كانت بيننا وبين أهل الحرّة.
فقال ابن الزبير :
أنا اهدر تلك الدماء! أما والله لا أرضى أن أقتل بكلّ رجل منهم عشرة! وأخذ الحصين
يكلّمه سرّا وهو يجهر جهرا : لا والله لا أفعل! فقال له الحصين : قبّح الله من
يعدّك بعد هذه داهيا أو أديبا ، قد كنت أظنّ أنّ لك رأيا ، ألا أراني اكلّمك سرّا
وتكلّمني جهرا وأدعوك إلى الخلافة وتعدني القتل والهلكة!
ثمّ قام وانصرف
إلى جمعه ... وأقبل بهم نحو المدينة وهو يقول : من أين نجد هنا علفا لدوابّنا؟!
فاستقبله عليّ بن الحسين عليهالسلام ومعه شعير وعلف رطب ، فسلّم على الحصين وقال له : هذا علف
عندنا فاعلف منه دابّتك! ثمّ أمر له بما كان من علف معه وعنده!
__________________
واجترأ أهل
المدينة والحجاز على جند الشام وهم ذلّوا حتّى كان لا ينفرد رجل منهم إلّا أخذوا
بلجام دابته ونكسوه عنها! فكانوا يجتمعون ولا يفترقون خوفا. وخاف بنو اميّة فقالوا
لهم : لا تبرحوا حتّى تحملونا معكم إلى الشام ، ففعلوا ، ومضوا حتّى بلغوا الشام ،
وقد أوصى يزيد بالبيعة لابنه معاوية .
وفي اليعقوبي :
توفي يزيد بموضع يقال له حوّارين (من بلاد حمص) وحمل إلى دمشق وصلّى عليه ابنه
معاوية بن يزيد (وله عشرون سنة) وله ثلاثة إخوة : خالد وأبو سفيان وعبد الله. وبلغ
الخبر إلى مكّة وذاع في العسكر فانكسرت شوكتهم ، وأرسل الحصين بن نمير إلى ابن
الزبير أن نلتقي الليلة على الأمان. فالتقيا. فقال له الحصين : إنّ يزيد قد مات
وابنه صبيّ ، فهل لك أن أحملك إلى الشام فليس به أحد! فابايع لك فليس يختلف عليك
اثنان؟!
فرفع ابن الزبير
صوته : لا والذي لا إله إلّا هو ، أو نقتل بقتلى الحرّة أمثالهم من أهل الشام!
فقال له الحصين : من زعم أنّك داهية فهو أحمق! أقول لك ما هو لك سرّا ؛ وتقول لي
ما هو عليك علانية! ثمّ انصرف بجنوده نحو المدينة ثمّ الشام.
__________________
موت يزيد واستخلاف
معاوية وموته :
قال خليفة : في
ليلة البدر من شهر ربيع الأول من سنة (٦٤) مات يزيد بن معاوية بحوّارين من بلاد
حمص ، وهو ابن ثمان وثلاثين سنة ، وصلّى عليه واستخلفه ابنه معاوية بن يزيد مريضا
وهو ابن عشرين سنة ، إلى أربعين يوما أو شهرا ونصفا إلى آخر شهر ربيع الآخر. وروى البلاذري : أنّه خرج يتصيّد
بحوّارين وهو سكران ، وحمل قرده على أتان وركب يطاردها فسقط فاندقت عنقه فمات .
وقال المسعودي :
هلك يزيد بحوارين من أرض دمشق مما يلي قارا والقطيفة في طريق حمص .. وكان أدم شديد
الأدمة عظيم الهامة ، بوجهه أثر جدريّ بيّن ، يبادر بلذّته ويجاهر بمعصيته ؛
ويستحسن خطأه ، ويهوّن الأمور على نفسه في دينه إذا صحّت له دنياه. وكتب له كاتب
أبيه سرجون بن منصور الرومي وآخرون ... وبويع لابنه معاوية بن يزيد لأربعين يوما.
وكان رجلا ربعة نحيفا به صفار ، وكتب له كاتب أبيه سرجون الرومي .
وكأنّ ابن زياد لم
يرض بمعاوية بن يزيد فلم يدع إليه ، وكان بالبصرة فخطب الناس ونعى إليهم يزيد وقال
: اختاروا لأنفسكم. فبادر الأحنف بن قيس التميمي وقال له : نحن بك راضون حتّى
يجتمع الناس! وشكرهم ابن زياد فقال : اغدو على اعطياتكم. فوضع ديوان العطاء وأعطى .
__________________
ثمّ أرسل رسولا
إلى الكوفة يدعوهم إلى مثل ما فعل أهل البصرة فحصبوه وأبوا عليه ، فلما بلغ ذلك
أهل البصرة خالفوه كذلك فهاجت بها فتنة على ابن زياد .
وإلى ما بعد (٤٥)
يوما من هلاك يزيد أي في آخر شهر ربيع الآخر تأخّر لحوق ابنه معاوية بأبيه.
قال المسعودي :
ولمّا حضرته الوفاة اجتمعت إليه بنو اميّة فقالوا له : اعهد إلى من ترى من أهل
بيتك! فقال : لا والله ما ذقت حلاوة خلافتكم فكيف أتقلّد وزرها وتتعجّلون أنتم
حلاوتها وأتعجل مرارتها؟! اللهمّ إني بريء منها ومتخلّ عنها ، اللهمّ إنّي لا أجد
نفرا كأهل الشورى فأجعلها إليهم ، ينصبون لها من يرونه أهلا لها.
وكانت امّه ابنة
خال أبيه : امّ هاشم بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس واقفة تسمعه فقالت
له : ليت أنّي خرقة حيضة ولم أسمع منك هذا الكلام!
فقال لها : يا
امّاه! وليتني كنت خرقة حيض ولم أتقلّد هذا الأمر ، أتفوز بنو أميّة بحلاوتها
وأبوء أنا بوزرها ومنعها عن أهلها؟! كلّا إنّي لبريء منها !
إلّا أنّ ابن
قتيبة قال : جمع الناس فخرج إليهم ، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم : أيّها
الناس ، إنّي نظرت لكم فيما صار إليّ من أمركم وتقلّدته من ولايتكم ، فوجدت فيما
بيني وبين ربّي أنّه لا يسعني أن أتقدّم على قوم فيهم من هو خير منّي وأحقهم بذلك
وأقوى على ما تقلّدته. فاختاروا منّي إحدى خصلتين :
__________________
إمّا أن أخرج منها
واستخلف عليكم من أراه رضا لكم ومقنعا ، ولكم عليّ الله أن لا آلوكم نصحا في الدين
والدنيا.
وإمّا أن تختاروا
لأنفسكم وتخرجوني منها.
قال : فخافت بنو
أميّة أن تزول الخلافة منهم فقالوا له : ننظر في ذلك يا أمير المؤمنين ونستخير
الله ، فأمهلنا. فقال لهم : لكم ذلك وعجّلوا عليّ.
فلم يلبثوا بعدها
إلّا أيّاما حتّى طعن ، فدخلوا عليه فقالوا : استخلف على الناس من تراه لهم رضا.
فقال لهم : عند الموت تريدون ذلك؟! لا والله لا أتزوّدها ، ما سعدت بحلاوتها فكيف
أشقى بمرارتها؟! فهلك ولم يستخلف أحدا .
هذا ، وانفرد
اليعقوبي بخطبة اخرى تختلف كلّ الاختلاف عمّا سلف ، قال : خطب فقال :
أمّا بعد حمد الله
والثناء عليه ، أيّها الناس ، فإنّا قد بلينا بكم وبليتم بنا ، فما نجهل كراهتكم
لنا وطعنكم علينا! ألا وإنّ جدّي معاوية بن أبي سفيان نازع الأمر من كان أولى به
منه في القرابة برسول الله وأحقّ في الإسلام ، سابق المسلمين وأوّل المؤمنين وابن
عمّ رسول ربّ العالمين وأبا بقيّة خاتم المرسلين! ركب منكم ما تعلمون وركبتم ما لا
تنكرون ، حتّى أتته منيّته وصار رهنا بعمله.
ثمّ قلّد أبي ،
وكان غير خليق للخير! فركب هواه! واستحسن خطاه ، وعظم رجاؤه ، فأخلفه الأمل وقصر
عنه الأجل ، فقلّت منعته وانقطعت مدّته ، وصار في حفرته رهنا بذنبه وأسيرا بجرمه!
وإن أعظم الأمور علينا علمنا بسوء مصرعه وقبح منقلبه ، وقد قتل عترة الرسول ،
وأباح الحرمة ، وحرّق الكعبة!
__________________
فما أنا المتقلّد
أموركم ولا المتحمّل تبعاتكم! فشأنكم أمركم! فو الله لئن كانت الدنيا مغنما لقد
نلنا منها حظّا ، وإن تكن شرّا فحسب آل أبي سفيان ما أصابوا منها!
وكان مروان حاضرا
فناداه : سنّها فينا عمريّة!
فقال : ما كنت
أتقلّدكم حيّا وميّتا ، ومتى صار يزيد بن معاوية مثل عمر؟! ومن لي برجال مثل رجال
عمر ؟! أجل ، هذا ما قاله اليعقوبي.
وقريب منه بل أقرب
إلى التصديق ما رواه الورّام بن أبي فرّاس المالكي الحلّي (٦٠٥ ه) في مجموعته :
أنّه لمّا نزع معاوية بن يزيد نفسه من الخلافة قام خطيبا فقال :
أيّها الناس ما
أنا الراغب في التأمّر عليكم ، ولا بالآمن من كرهتكم ، بل بلينا بكم وبليتم بنا ،
ألا إنّ جدّي معاوية نازع الأمر من كان أولى بالأمر منه في قدمه وسابقته : عليّ بن
أبي طالب فركب جدّي منه ما تعلمون ، وركبتم معه ما لا تجهلون ، حتّى صار رهين عمله
وضجيع حفرته (تجاوز الله عنه).
ثمّ صار الأمر إلى
أبي ، ولقد كان خليقا أن لا يركب سننه ، إذ كان غير خليق بالخلافة ، فركب ردعه
واستحسن خطأه ، فقلّت مدّته وانقطعت آثاره وخمدت ناره! ولقد أنسانا الحزن به الحزن
عليه! فإنّا لله وإنّا إليه راجعون! ثمّ أخفت يترحّم على أبيه! ثمّ قال :
وصرت أنا الثالث
من القوم ، الزاهد في ما لديّ أكثر من الراغب ، وما كنت لأتحمّل اثامكم ، شأنكم
وأمركم فخذوه ، ومن شئتم ولايته فولّوه!
فقام إليه مروان
بن الحكم وقال له : يا أبا ليلى! أفسنّة عمر سيّئة؟!
__________________
فقال له : يا
مروان! أتخدعني عن ديني! ائتني برجال كرجال عمر أجعلها شورى.
ثمّ قال : والله
إن كانت الخلافة مغنما لقد أصبنا منها حظّا ، ولئن كانت شرّا فحسب آل أبي سفيان ما
أصابوا منها. ثمّ نزل ، فلما دخل ...
قالت له امّه :
ليتك كنت حيضة! فقال : وأنا وددت ذلك ولم أعلم أن لله نارا يعذّب بها من عصاه وأخذ
غير حقّه !
وهذا كما ترى أنسب
به وأقرب إلى تصديق صدوره من مثله في تلك البيئة والجوّ والمحيط.
قال المسعودي :
ثمّ قبض وهو ابن اثنتين وعشرين سنة ، وتقدّم للصلاة عليه الوليد بن عتبة بن أبي
سفيان على أمل أن يكون له الأمر بعده ، ولكنّه لمّا كبّر الثانية طعن أيضا فسقط
قتيلا!
وتقدّم أخوه عثمان
بن عتبة بن أبي سفيان فصلّى عليه فقالوا له : نبايعك؟! قال : على أن لا اباشر
قتالا ولا احارب! فأبوا عليه ، فلحق بابن الزبير .
وقال ابن قتيبة :
فلما دفن معاوية بن يزيد وسوّي عليه التراب : وبنو اميّة حول قبره ، قال مروان :
أما والله يا بني اميّة إنّه لأبو ليلى ، والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا وإنّما كنّاه بأبي ليلى ؛ لأنّ العرب كانت تكنّي به
المستضعف ، قال الشاعر :
إنّي أرى فتنة هاجت مراجلها
|
|
والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا
|
__________________
أحوال البلاد بعد
يزيد :
وما دعا إليه
مروان من الشورى هو ما كان يدعو إليه ابن الزبير حتّى بعد موت يزيد إلى ثلاثة أشهر
ومال إليه من دمشق الضحّاك بن قيس الفهري ومعه القيسيّون فاستخلفه ابن الزبير
على الشام وكان النعمان بن بشير الأنصاري في حمص ومال إليه ،
وبقنّسرين والعواصم زفر بن الحارث الكلابي ، وبفلسطين ناتل بن قيس الجذامي ، وبمصر
عبد الرحمان بن جحدم الفهري. وبقي بالأردن حسّان بن بجدل الكلبي وفيّا لمصاهرته لمعاوية والأمويين.
وفي البصرة وإن
كان الأحنف التميمي تمّ على الرضا بابن زياد حتّى يروا اجتماع الناس ، لكنّ بني
الرياح بناحية المربد من بني تميم البصرة وعليهم سلمة بن ذؤيب الرياحي ارتاح
للدعوة إلى ابن الزبير في شهر جمادى الآخرة ، فتنحّى ابن زياد من دار الإمارة إلى
دار مسعود بن عمرو الأزدي وأقام عنده أربعين يوما أو شهرين أو ثلاثة أشهر ، وقام
الأحنف التميمي ببني تميم فحمى دار ابن زياد ، وبعث إلى بيت المال والديوان والسجن
فحصّنها واجتمع أهل البصرة ليؤمّروا عليهم أميرا ، فاجتمعوا على عبد الله بن
الحارث بن نوفل بن عبد المطلب ، وامّه بنت أبي سفيان بن حرب ... فأقرّه ابن الزبير
أربعين يوما ، ثمّ كتب إلى أنس بن مالك الأنصاري أن يكون لهم إمام الصلاة ، لشهر
رمضان سنة (٦٤ ه) ولحق ابن زياد بالشام .
__________________
إعلان البيعة لابن
الزبير ، ولمروان :
مرّ الخبر أنّ ابن
الزبير كان يدعو إلى أن يعود الأمر شورى بين الأمة ، حتّى بعد موت يزيد إلى أكثر
من ثلاثة أشهر ، بل إلى سبع أو تسع خلون من رجب حيث بويع له بالخلافة وكان واليه على الشام بدمشق الضحّاك بن قيس في ستّين ألفا من القيسية.
وقام روح بن زنباغ
الجذامي في رؤوس قريش واميّة وأشرافهم يقول لهم : كان الملك فينا أهل الشام ،
أفينتقل ذلك إلى الحجاز؟ لا نرضى بذلك! فتوافقوا على ثاني أبناء يزيد وهو خالد وهو
حدث السن ، فجاءوا إليه وقالوا له أن ينتصب للأمر ، فتردّد وقال : سأنظر في ذلك!
فتوافقوا ثانية
على عمرو بن سعيد الأشدق وجاءوا إليه وقالوا له : يا أبا اميّة انتصب للأمر!
فوعدهم القبول ، ولكنّهم انصرفوا فأعرضوا عنه!
فلمّا أصبح واجتمع
الناس خرج إليهم عبد العزيز بن مروان وقام فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : ما أحد
أولى بهذا الأمر من مروان بن الحكم ؛ إنّه لكبير قريش وشيخها! وأفرطها عقلا وكمالا!
ودينا وفضلا! والذي نفسي بيده لقد شاب شعر ذراعيه من الكبر! فصدّقه الجذاميون ،
وكان خالد بن يزيد حاضرا فقال : أمر قضي بليل !
وعقّب اليعقوبي
عقوبة ابن الزبير لمروان وبني اميّة بإخراجهم ثانية من المدينة إلى ما بعد عودة
جنود ابن نمير ، قال : إنّ ابن الزبير أخذ مروان بالخروج من المدينة ، وكان ابنه
عبد الملك مصابا بالجدري ، فقال له مروان : كيف اخرجك
__________________
وأنت على هذا
الحال؟ فقال له : لفّني في القطن! فخرجوا ، ثمّ علم ابن الزبير بالخطأ فوجّه يردّهم
ففاتوه إلى دمشق وقد مات معاوية.
واجتمع الناس
بالجابية بجانب دمشق يتناظرون في الأمر ... وكان روح بن زنباغ الجذامي يميل إلى
مروان ، فقام خطيبا فقال : يا أهل الشام ؛ هذا مروان بن الحكم شيخ قريش والطالب
بدم عثمان! والمقاتل لعليّ بن أبي طالب يوم الجمل ويوم صفّين! فبايعوا الكبير
واستنيبوا للصغير ، ثمّ لعمرو بن سعيد! فتبايعوا كذلك.
وإنّما اجتمعوا في
الجابية (بين دمشق وطبرية) لأن الضحّاك بن قيس كان قد تغلّب على دمشق ومعه أهلها
وجماعتهم .
وقال خليفة : كان
أهل الشام قد بايعوا ابن الزبير ما خلا أهل الجابية ومن كان من بني امية ومواليهم
ومنهم ابن زياد ، فهؤلاء بايعوا بالجابية مروان ابن الحكم ومن بعده لخالد بن يزيد
، وذلك للنصف من ذي القعدة .
وقال اليعقوبي :
فلمّا عقدوا البيعة جمعوا من كان في ناحيتهم وتناظروا أي بلد يقصدون ، واتّفقوا أن
يقصدوا دمشق. واستمدّ الضحّاك الفهري بدمشق فأمدّه النعمان بن بشير الأنصاري من
حمص بشرحبيل بن ذي الكلاع في جند حمص ، وأمدّه زفر بن الحارث الكلابي من قنّسرين
والعواصم بقيس بن طريف الهلالي في جند العواصم ، وتلاقوا في مرج راهط .
ثمّ أتوا إلى
مروان بن الحكم فأستأذنوا عليه ودخلوا إليه وقالوا له : يا أبا عبد الملك انتصب
للملك! فأبدى القبول ، فقال له روح بن زنباغ : إنّ معي أربعمئة
__________________
رجل من جذام ،
وسآمرهم أن يبادروا غدا إلى المسجد ، فيقوم ابنك عبد العزيز فيخطبهم ويدعوهم إليك
، فيصدّقه الجذاميون ، فيظن الناس أن أمرهم واحد. فتوافقوا على ذلك.
قال خليفة : وكان
مع مروان ثلاثة عشر ألفا ، والضحّاك في ستّين ألفا ، فأقاموا يقتتلون كلّ يوم حتّى
عشرين يوما. وكان ابن زياد مع مروان فقال له : إنّ الضحّاك في فرسان قيس ، ولن
ننال منهم ما نريد إلّا بمكيدة! فاسألهم الموادعة واكفف عن القتال وأعدّ الخيل ،
فإذا كفّوا فارمهم بها. فمشى السفراء بينهم حتّى كفّ الضحّاك عن القتال ، ثمّ شدّ
عليهم مروان بخيله ، ففزعوا إلى راياتهم في غير تعبئة ، فقتل جماعة من فرسان قيس
والضحّاك بن قيس ، وفيهم ثلاثة من أبناء زفر بن الحارث الكلابي وقتل خلق من أصحابهم وهرب من بقي منهم.
وبلغ الخبر
النعمان بن بشير في حمص فخرج هاربا بأهله وولده وثقله ، فتبعه قوم من باهلة وحمير
إلى البريّة فقتلوه بها واحتزّوا رأسه ووجّهوا به إلى مروان بن الحكم (قتله خالد
بن خلي الكلاعي).
وهرب زفر بن
الحارث الكلابي وتبعه خيل ، حتّى لجأ إلى حصن قرقيسا .
ودخل مروان دمشق
فاتحا ، وأشار عليه أصحابه أن يتزوج امرأة يزيد امّ خالد ليكسره ، فخطبها وتزوّجها
ودخل دار معاوية بن أبي سفيان .
__________________
وبعد عودة جنود
ابن النمير عن مكّة وقد هدموا أطراف الكعبة ، بعدهم بشهرين في شهر جمادى الآخرة
سنة (٦٤ ه) هدم ابن الزبير الكعبة حتّى ألصقها بالأرض. وكان الحجر الأسود لما
أصابه الحريق تصدّع بثلاث قطع ، فشدّها ابن الزبير بالفضة وجعلها في داره.
فقال له ابن عباس
: اضرب حوالي الكعبة الخشب لا يبقى الناس بغير قبلة! ثمّ خرج هو من مكّة إعظاما
للمقام بها! وفعل ابن الزبير ما قال له.
فلمّا بلغ ابن
الزبير بالهدم إلى قواعد إبراهيم أدخل الحجر في البناء ورفعه.
وروى عن خالته
عائشة زوج النبيّ أنها قالت : قال لي رسول الله : يا عائشة إن بدا لقومك أن يهدموا
الكعبة ثمّ يبنوها فليصيّروا لها بابين ولا يرفعوها عن الأرض. وكان لباب الكعبة
الأول مصراع واحد ، فجعل ابن الزبير لها بابين من الأرض شرقيا وغربيا بمصراعين
بطول إحدى عشرة ذراعا ، وكان ارتفاع الكعبة ثماني عشرة ذراعا فجعلها تسعا وعشرين
ذراعا! وكساها كسوة قباطية (مصرية سوداء) ودهّن داخلها بالخلوق والطيب. وأمر أن
يحفر في الأحجار موضع الحجر الأسود ، وأراد قطع النزاع فأمر ابنه عبّادا أن يأتي
بالحجر ظهرا إذا صلّى بالناس فيضعه في موضعه. ثمّ صلّى بالناس وكان يوما شديد
الحرّ ، فجاء عبّاد بالحجر وشقّ الصفوف حتّى صار إلى موضع الحجر ، وطوّل ابن
الزبير صلاته حتّى وضعه ثمّ وقف على رأس أبيه وكبّر ، فسلّم ابن الزبير! فلمّا رأت
قريش ذلك غضبت وقالت : والله اهكذا فعل رسول الله! ولقد حكّمته قريش فجعل لكلّ
القبائل نصيبا .
__________________
حوادث
السنة الخامسة والستّين
وثورة التوّابين
استخلاف مروان
لعبد الملك :
ما أن استقر الأمر
لمروان ـ من دون العراقين ومصر والحجاز ـ وخرج من السنة (٦٤ ه) ودخل في سنة (٦٥ ه)
وقد كسر رقيبه خالد بن يزيد بزواجه بأمّ خالد ، فلم يعبأ به حتّى جدّد البيعة
لنفسه ولابنه بعده عبد الملك ثمّ ابنه الآخر عبد العزيز غير آبه بعمرو بن سعيد الأشدق. ثمّ وجّه ابن زياد إلى
العراق في ستّين ألفا في شهر ربيع الأوّل .
استيلاؤه على
فلسطين ومصر :
ثمّ أراد استرداد
مصر لطاعة المروانية من اميّة ، وكان لدى خالد بن يزيد سلاح لأبيه يزيد فقال له
مروان : أعرني سلاحا كان عندك ، فأعاره إياه ، فخرج
__________________
إلى مصر من فلسطين ، وكان مروان أرسل عليها روح بن زنباغ الجذامي
فوجد ناتل ابن قيس الجذامي قد تغلّب عليه وأخرجه ، فحاربه مروان فهرب إلى ابن
الزبير .
وخرج إلى مصر
فقاتلهم وأسر منهم ناسا كثيرا فافتدوا أنفسهم منه بأموال استعان بها وكانت مصر قد دانت لابن الزبير ، فكانت لمروان معهم حروب
عظيمة فقتل فيها خلق كثير من الفريقين ، إلى أن أخرجوا عامل ابن الزبير عبد
الرحمان بن جحدم الفهري عنهم ودخلها فصالحه أهلها وأطاعوه. واغتال الفهريّ عامل ابن
الزبير ، وقتل أكيدر بن حمام اللخمي ، ثمّ استعمل عليها ابنه عبد العزيز وانصرف .
دخلها في أوّل شهر
ربيع الثاني ، فمكث بها أكثر من شهرين وخرج في جمادى الثانية (٦٥ ه) .
ووجّه مروان حبيش
بن دلجة القيني إلى الحجاز لمحاربة ابن الزبير بدءا بالمدينة ، وكان عليها لابن
الزبير جابر بن الأسود بن عوف الزهري ، وعلى البصرة لابن الزبير الحارث بن عبد
الله المخزومي ، فلمّا توجّه القينيّ إلى المدينة كتب ابن الزبير إلى الحارث
بالبصرة أن يوجّه بجيش إلى جيش الشام مع القينيّ ، فلقي أهل البصرة حبيشا وجيشه
فقاتلوهم فقتلوهم ، وكان فيهم الحجّاج بن يوسف الثقفي مع أبيه يوسف بن الحكم
فأفلتا مع من شرد منهم .
__________________
بداية وثبة التوّابين
عن تقصيرهم في شأن الحسين عليهالسلام
الكوفة بعد موت
يزيد :
كان يزيد قد جمع
لابن زياد العراقين الكوفة والبصرة ، فكان يتردّد بينهما كلّ ستة أشهر ويستنيب في
الأخرى ، وفي أوائل سنة (٦٤ ه) في منتصف شهر ربيع الأول حين هلاك يزيد كان ابن
زياد بالبصرة وخليفته على الكوفة عمرو بن حريث المخزومي. فلمّا رضي البصريون
بإمارته حتّى يجتمع أمر الناس ، أرسل وافدين من قبله إلى الكوفة : عمرو بن مسمع
وسعيد بن القرحا المازني التميمي ، ليعلما أهل الكوفة بما صنع أهل البصرة
ويسألانهم له مثلها حتّى يصطلح الناس على أحد.
فجمع عمرو بن حريث
الناس ثمّ حمد الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم : إنّ هذين الرجلين قد أتياكم من قبل
أميركم يدعوانكم إلى أمر يجمع الله به كلمتكم ويصلح به ذات بينكم ، فاسمعوا منهما
واقبلوا عنهما.
فقام عمرو بن مسمع
فحمد الله وأثنى عليه (ونعى إليهم يزيد) وذكر اجتماع رأي أهل البصرة على تأمير
عبيد الله بن زياد حتّى يرى الناس رأيهم فيمن يولّون عليهم وقال : وقد جئناكم
لنجمع أمرنا وأمركم فيكون أميرنا وأميركم واحدا ، فإنّما الكوفة من البصرة والبصرة
من الكوفة! وقام ابن القرحا فقال مثل صاحبه.
فقام يزيد بن
الحارث بن رويم الشيباني ـ من قوّاد ابن زياد في قتل الحسين عليهالسلام ـ فقال : الحمد
الله الذي أراحنا من ابن سميّة ، لا ولا كرامة! أو : حصبهما وقال لهما : أنحن
نبايع لابن مرجانة! لا ولا كرامة! ثمّ حصبهما الناس
بعده ، فأمر عمرو
الشرطة أن يذهبوا به إلى السجن ، فقام بنو بكر بن وائل وعاقوهم عنه وانطلقوا به
إلى أهله. وصعد عمرو المنبر فحصبوه ، فدخل داره.
واجتمع ناس في
المسجد قالوا : نؤمّر رجلا إلى أن يجتمع الناس على خليفة ، ثمّ توافقوا على عمر بن
سعد! فمضى محمّد بن الأشعث الكندي إلى ابن سعد فجاء به حتّى أصعده المنبر! وجاء
الخبر إلى همدان فاجتمع نساؤهم وخرجن مع رجال منهم متقلّدين سيوفهم ، وهنّ يندبن
ويبكين حسينا عليهالسلام حتّى دخلوا المسجد وأطافوا بابن سعد وابن الأشعث فأخذ يقول
: جاء غير ما كنّا عليه! وانصرفوا. وإنّما كان ابن الأشعث وكندة تقوم بأمر ابن سعد
؛ لأن امّه منهم فهم أخواله.
ثمّ اجتمع جمع من
أهل الكوفة على عامر بن مسعود الجمحي ، وكتبوا بذلك إلى ابن الزبير فأقرّه.
وعاد الوافدان إلى
البصرة فأعلموا الناس الخبر ، فقال رجال منهم فيما بينهم : أهل الكوفة يخلعونه
وأنتم تولّونه وتبايعونه؟! فوثب الناس على ابن زياد فخافهم وخرج من قصره مستجيرا
بدار مسعود بن عمرو شيخ الأزد بالبصرة ، فأجاره ومنع الناس عنه ثلاثة أشهر ثمّ
استخلف مسعود بن عمرو على البصرة وشايعه رجال منهم إلى الشام .
فصلّى بالكوفة
عامر الجمحي إلى ثلاثة أشهر ، ثمّ قدم عليهم للصلاة والحرب عبد الله بن يزيد
الأنصاري ، وعلى الخراج : إبراهيم بن محمّد بن طلحة التيمي بعد أن بويع ابن
الزبير بالخلافة لسبع أو تسع خلون من شهر رجب .
__________________
وفي أيام عامر بن
مسعود الجمحي جمح أهل الريّ برئاسة البرجان ، والريّ من ثغور الكوفة ، فوجّه عامر
الجمحي ـ باسم ابن الزبير ـ جيشا بإمرة محمّد بن عمير بن عطارد فهزمه البرجان ،
فوجّه بعده آخر بإمرة عتّاب بن ورقاء التميمي الرياحي فهزموا المتمرّدين وقتلوا
البرجان .
أوائل أقاويل
الشيعة بالكوفة :
كانت لسليمان بن
صرد الخزاعي صحبة معروفة مع النبي صلىاللهعليهوآله ثمّ كان هو والمسيّب بن نجبة الفزاري ، وعبد الله بن سعد
بن نفيل الأزدي ، وعبد الله بن وال التّيمي ، ورفاعة بن شدّاد البجلي من خيار
أصحاب علي عليهالسلام ومعهم اناس من وجوه «الشيعة» وخيارهم. وقد مرّ خبر
اجتماعهم في دار سليمان الخزاعي بعد موت معاوية ونزوح الحسين عليهالسلام إلى مكّة ، وتداعيهم إلى أن يكتبوا إليه باقتدائهم به في
إباء بيعة يزيد ودعوته إليهم ليبايعوه ويتابعوه.
وعليه فمن الطبيعي
ما رواه أبو مخنف الأزدي عن عبد الله بن عوف الأزدي : أنّ اولئك «الشيعة» بعد قتل
الحسين عليهالسلام إلى جانبهم ولم ينصروه ، تلاقوا فيما بينهم بالندم
والتلاوم! وأنّهم أخطؤوا خطأ كبيرا بدعوتهم إيّاه لنصرته ثمّ تركهم إجابته لذلك!
وأنّ عليهم في ذلك الإثم والعار! وأنّ ذلك لا يغسل عنهم إلّا بقتال قاتليه أو
يقتلوا في سبيل ذلك. وكان من الطبيعي أن يعودوا للاجتماع في دار سليمان الخزاعي ،
فاجتمعوا إليه .
وإنّ منهم من كان
تائبا ليس من خذلانه وترك نصرته للحسين عليهالسلام بل من نصرته عليه كحميد بن مسلم الأزدي ، حيث يروى عنه أبو
مخنف الأزدي
__________________
قال : والله لقد
كنت شاهدا معهم ذلك اليوم وإنّا يومئذ لأكثر من مئة رجل من وجوه «الشيعة» وفرسانهم
في دار سليمان الخزاعي سنة قتل الحسين عليهالسلام سنة إحدى وستّين وجلّهم في نحو الستّين من أعمارهم ، كما يأتي آنفا ، وكان
يوم جمعة .
مؤتمر امراء
التوابين الخمسة :
فلمّا اجتمعوا بدأ
الكلام المسيّب بن نجبة : فحمد الله وأثنى عليه ، وصلّى على نبيّه (وآله) ثمّ قال
:
«أمّا بعد ، فإنّا
قد ابتلينا بطول العمر والتعرّض لأنواع الفتن ، فنرغب إلى ربّنا أن لا يجعلنا ممّن
يقول لهم غدا : (أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) وقد قال أمير المؤمنين (علي عليهالسلام) : «العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم (أي قطع به عذره)
: ستّون سنة» وليس فينا رجل إلّا وقد بلغه.
وقد كنّا مغرمين
بتزكية أنفسنا وتقريظ «شيعتنا» حتّى بلا الله أخبارنا فوجدنا كاذبين في موطنين من
مواطن ابني ابنة نبيّنا صلّى الله عليه (وآله) وسلم .
وقد بلغتنا قبل
ذلك كتبه وقدمت علينا رسله ، وأعذر إلينا (قطع عذرنا) يسألنا نصره ، عودا وبدءا
وعلانية وسرّا! فبخلنا عنه بأنفسنا حتّى قتل إلى جانبنا ، لا نحن نصرناه بأيدينا
ولا جادلنا عنه بألسنتنا ، ولا قوّيناه بأموالنا ولا طلبنا له
__________________
النصرة من عشائرنا!
فما عذرنا إلى ربّنا وعند لقاء نبيّنا صلىاللهعليهوآله وقد قتل فينا ولده وحبيبه وذريّته ونسله! لا والله لا عذر!
دون أن تقتلوا قاتله والمؤلّبين عليه أو تقتلوا في طلب ذلك ، فعسى ربّنا أن يرضى
عنّا عند ذلك ، وما أنا بعد لقائه بآمن من عقوبته!
أيّها القوم!
ولّوا عليكم رجلا منكم فإنّه لا بدّ لكم من أمير تفزعون إليه وراية تحفّون بها.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم». ومن دون اقتراح لأمير خاصّ.
ثمّ بادر رفاعة بن
شدّاد البجلي فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ صلىاللهعليهوآله ثمّ قال :
أمّا بعد ، فإنّ
الله قد هداك لأصوب القول ، ودعوت إلى أرشد الأمور : دعوت إلى التوبة من الذنب
العظيم وإلى جهاد الفاسقين ، فمسموع منك مستجاب لك مقبول قولك.
وقلت : «ولّوا
عليكم رجلا منكم تفزعون إليه وتحفّون برايته» وذلك رأي رأيناه مثل الذي رأيت ، فإن
تكن أنت ذلك الرجل تكن عندنا مرضيّا وفينا متنصّحا وفي جماعتنا محبوبا. وإن رأى
أصحابنا ولّينا هذا الأمر «شيخ الشيعة» صاحب رسول الله ، وذا السابقة والقدم
سليمان بن صرد ، المحمود في بأسه ودينه والموثوق بحزمه ، أقول قولي هذا واستغفر
الله لي ولكم.
ثمّ تكلم عبد الله
بن وال التيمي فذكر المسيّب بن نجبة بفضله ثمّ سليمان بن صرد بسابقته ، والرضا
بتوليته. ثمّ تكلّم عبد الله بن سعد بنحوه.
فقال المسيّب بن
نجبة : أصبتم ووفّقتم ، وأنا أرى مثل الذي رأيتم فولّوا أمركم سليمان بن صرد .
__________________
بيان سليمان
الخزاعي :
فلمّا ولّوا عليهم
سليمان بن صرد تكلّم فقال : «أثني على الله خيرا وأحمد آلاءه وبلاءه ، وأشهد أن لا
إله إلّا الله وأن محمدا رسوله. أمّا بعد ؛ فإنّي والله لخائف أن لا يكون آخرنا (آخر
أمرنا) في هذا العصر ـ الذي نكدت فيه المعيشة ، وعظمت فيه الرزية ، وشمل فيه الجور
أولي الفضل من هذه الشيعة ـ إلى ما هو خير! فإنّا كنّا نمدّ أعناقنا إلى قدوم «آل
نبيّنا» ونمنّيهم النصر ، ونحثّهم على القدوم ، فلمّا قدموا ونينا وعجزنا!
وادّهنّا وتربّصنا وانتظرنا ما يكون! حتّى قتل فينا ولد نبيّنا وسلالته وعصارته!
وبضعة من لحمه ودمه! إذ جعل يستصرخ فلا يصرخ ويسأل النصف فلا يعطاه! اتّخذه
الفاسقون غرضا للنّبل ، ودريئة للرماح حتّى أقصدوه ، وعدوا عليه فسلبوه .
ألا فانهضوا! فقد
سخط ربّكم! ولا ترجعوا إلى الحلائل والأبناء حتّى يرضى الله! وما أظنه راضيا دون
أن تناجزوا من قتله أو تبيدوا! ألا لا تهابوا الموت! فو الله ما هابه امرؤ قط إلّا
ذلّ! كونوا كالألى من بني إسرائيل إذ قال لهم نبيّهم : (إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ
بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ
ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ) فما فعل القوم؟ جثوا على الركب ومدّوا الأعناق ، ورضوا
بالقضاء حين علموا أنّه لا ينجيهم من عظيم الذنب إلّا الصبر على القتل! فكيف بكم
لو قد دعيتم إلى مثل ما دعوا إليه؟! اشحذوا السيوف وركّبوا الأسنة (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ
مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) حتّى تدعوا حين تدعون وتستنفرون».
__________________
فقام خالد بن سعد
بن نفيل أخو عبد الله وقال : أمّا أنا فو الله لو أعلم أنّ قتلي نفسي يخرجني من «ذنبي»
ويرضي ربّي لقتلتها! ولكن هذا أمر به قوم كانوا قبلنا ونهينا عنه. فاشهد الله ومن
حضر من المسلمين أنّ كلّ ما أصبحت أملكه ـ سوى سلاحي الذي أقاتل به عدوّي ـ صدقة
على المسلمين! اقوّيهم به على قتال القاسطين!
فلمّا تصدّق خالد
بن سعيد الأزدي بما له على المسلمين قال له سليمان : أبشر بجزيل ثواب الله للذين
لأنفسهم يمهدون. فقام حنش بن ربيعة الكناني وقال : وأنا أشهدكم على مثل ذلك.
فقال سليمان : من
أراد شيئا من مثل هذا فليأت بماله إلى عبد الله بن وال من تيم بكر وائل ، فإذا
اجتمع عنده كلّ ما أردتم إخراجه من أموالكم جهّزنا به ذوي الخلّة والمسكنة من أشياعكم
.
فلم يزل القوم في
جمع آلة الحرب والاستعداد للقتال ودعاء الناس من «الشيعة» وغيرهم في السرّ إلى
الطلب بدم الحسين عليهالسلام فكان يجيبهم النفر بعد النفر والقوم بعد القوم .
خطبة عبيد الله
المزني :
وكان من أبلغ
دعاتهم في منطقه ووعظه : عبيد الله بن عبد الله المزني ، وكان إذا اجتمع إليه جمع
من الناس يبدأ بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسول الله صلىاللهعليهوآله ثمّ يقول :
__________________
«أمّا بعد ، فإنّ
الله اصطفى محمّدا بنبوّته على خلقه ، وخصّه بالفضل كلّه ، وأعزّكم باتّباعه
وأكرمكم بالإيمان به ، فحقن به دماءكم المسفوكة ، وأمّن به سبلكم المخوفة : (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ
النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).
فهل خلق ربّكم في
الأولّين والآخرين أعظم حقّا على هذه الأمّة من نبيّها؟! وهل «ذريّة» أحد من
النبيّين والمرسلين أو غيرهم أعظم حقّا على هذه الأمّة من «ذريّة» رسولها؟! لا
والله ما كان ولا يكون!
لله أنتم ، ألم
تروا ويبلغكم ما اجترم إلى ابن بنت نبيّكم! أما رأيتم انتهاك القوم حرمته؟
واستضعافهم وحدته! وترميلهم إيّاه بالدم وجرّهم إيّاه على الأرض! لم يرقبوا فيه
ربّهم ولا قرابته من الرسول ، اتّخذوه للنبل غرضا ، وغادروه للضباع جزرا (ذبيحا)
فلله عينا من رأى مثله! ولله حسين بن عليّ ماذا غادروا به ذا صدق وصبر ، وذا أمانة
ونجدة وحزم! ابن «أوّل المسلمين» إسلاما وابن بنت رسول ربّ العالمين ، قلّت حماته
وكثرت حوله عداته ، فقتله عدوّه و «خذله وليّه» فويل للقاتل وملامة للخاذل.
إنّ الله لم يجعل
لقاتله حجّة «ولا لخاذله معذرة» إلّا أن يناصح لله في «التوبة» فيجاهد القاتلين
وينابذ القاسطين ، فعسى الله عند ذلك أن يقبل «التوبة» ويقيل العثرة.
إنّا ندعوكم إلى
كتاب الله وسنّة نبيّه ، و «الطلب بدماء أهل بيته» وإلى جهاد المحلّين والمارقين ،
فإن قتلنا فما عند الله خير للأبرار ، وإن ظفرنا «رددنا هذا الأمر إلى أهل بيت
نبيّنا» .
__________________
فلمّا مات يزيد بن
معاوية :
لم يزل هؤلاء على
هذا حتّى مات يزيد لأربع عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأوّل سنة أربع وستّين.
فجاء جماعة من «الشيعة»
إلى سليمان الخزاعي وقالوا له : قد مات هذا الطاغية ، والأمر الآن ضعيف ، فإن شئت
وثبنا على عمرو بن حريث فأخرجناه من القصر ـ وكان خليفة ابن زياد بالكوفة ـ ثمّ
أظهرنا الطلب بدم الحسين عليهالسلام وتتبّعنا قتلته «ودعونا الناس إلى أهل هذا البيت» المستأثر
عليهم و «المدفوعين عن حقّهم» فأكثروا من هذا القول ومثله.
فقال لهم سليمان
الخزاعي : إنّي قد نظرت فيما تذكرون فرأيت أنّ قتلة الحسين هم أشراف أهل الكوفة ،
وفرسان العرب هم المطالبون بدمه ، ومتى علموا ما تريدون وأنّهم هم المطلوبون كانوا
هم أشدّ عليكم. ونظرت في من تبعني منكم فعلمت أنّهم لو خرجوا لم يدركوا «ثأرهم»
ولم يشفوا أنفسهم ولم ينكوا في عدوّهم وكانوا لهم جزرا (ذبائح) ولكن بثّوا دعاتكم
في المصر فادعوا إلى أمركم هذا «شيعتكم» وغيرهم ، فإنّي أرجو أن يكون الناس اليوم
حيث هلك هذا الطاغية أسرع إلى أمركم استجابة منهم قبل هلاكه.
فخرجت طائفة منهم
دعاة يدعون الناس ، فاستجاب لهم ناس كثير بعد هلاك يزيد بن معاوية ، أضعاف من كان
استجاب لهم قبل ذلك ولم يزل أصحاب سليمان يدعون «شيعتهم» وغيرهم من أهل مصرهم
، حتّى كثر تبعهم ، وكان الناس بعد هلاك يزيد أسرع إلى اتباعهم منهم قبل ذلك .
__________________
بلا تضمين لتعيين
موعد لوثبتهم في هذا الخبر كما مرّ ، ونجد الأجل لأوّل شهر ربيع الآخر لسنة خمس
وستّين في رسالة سليمان إلى سعيد بن حذيفة بن اليمان بلا تاريخ لها ، ولعلّها كانت
نحو سنة قبل الموعد وبعد موت يزيد في أواخر ربيع الآخر لسنة (٦٤ ه) فإلى نصّها :
رسالة سليمان إلى
سعيد بن حذيفة :
كان حذيفة بن
اليمان الأنصاري عاملا على المدائن حتّى أوائل عهد الإمام عليّ عليهالسلام ، وقتل ابنه سعيد شهيدا بصفّين مع الإمام عليهالسلام ، وكان أخوه سعد بعد بالمدائن. وكان بها أقوام من أهل
الكوفة قد أعجبتهم فتوطّنوا بها ، وكانوا في حين توزيع العطاء وتقسيم الأرزاق
يعودون إلى الكوفة فيأخذون حقوقهم ويعودون إلى أوطانهم في المدائن .
فكتب سليمان
الخزاعي كتابين نسخة واحدة ، بعث بواحدة مع ظبيان بن عمارة السعدي التميمي إلى
المثنّى بن مخرّبة العبدي (البصري) فكتب إليه المثنّى : أمّا بعد ، فقد قرأت كتابك
، وأقرأته إخوانك ، فحمدوا رأيك واستجابوا لك ، فنحن موافوك للأجل الذي ضربت وفي
الموطن الذي ذكرت ، والسلام عليك ، وكتب في أسفل الكتاب أربعة أبيات من شعر
الحماسة .
وبعث بنسخة اخرى
منه مع عبد الله بن مالك الطائي إلى سعد بن حذيفة بن اليمان ، وفيه :
بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من سليمان بن صرد إلى سعد بن حذيفة ومن قبله من المؤمنين ، سلام
عليكم.
__________________
أمّا بعد ؛ فإنّ
الدنيا قد أدبر منها ما كان معروفا ، وأقبل منها ما كان منكرا ، وأزمع الترحال
عباد الله الأخيار ، وباعوا قليلا من الدنيا لا يبقى بجزيل مثوبة عند الله لا تفنى
.
إنّ أولياءكم من
إخوانكم و «شيعة آل نبيّكم» نظروا لأنفسهم فيما ابتلوا به من أمر ابن بنت نبيّهم ،
الذي دعي فأجاب ودعا فلم يجب ، وأراد الرجعة فحبس ، وسأل الأمان فمنع ، وترك الناس
فلم يتركوه ، وعدوا عليه فقتلوه ثمّ سلبوه وجرّدوه ظلما وعدوانا ، وغرّة بالله
وجهلا. وبعين الله ما يعملون وإلى الله يرجعون (وَسَيَعْلَمُ
الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ).
فلما نظر إخوانكم
وتدبّروا عواقب ما استقبلوا رأوا أن قد أخطؤوا بخذلان الزكيّ الطيّب ، وإسلامه
وترك مواساته والنصر له خطأ كبيرا ، ليس لهم منه مخرج ولا «توبة» دون قتل قاتليه
أو قتلهم ، حتّى تفنى على ذلك أرواحهم ، وقد جدّ إخوانكم فجدّوا ، وأعدّوا
واستعدّوا.
وقد ضربنا
لإخواننا أجلا يوافوننا إليه ، وموطنا يلقوننا فيه :
فأمّا الأجل :
فغرّة شهر ربيع الآخر سنة خمس وستّين. وأمّا الموطن الذي تلقوننا فيه فالنخيلة.
أنتم الذين لم
تزالوا لنا «شيعة» وإخوانا ، ألا وقد رأينا أن ندعوكم إلى هذا الأمر الذي أراد
الله به إخوانكم فيما يزعمون ، ويظهرون لنا أنّهم «يتوبون» وإنّكم جدراء بتطلاب
الفضل والتماس الأجر ، و «التوبة» إلى ربّكم من الذنب ، ولو كان في ذلك حزّ الرقاب
وقتل الأولاد واستيفاء الأموال وهلاك العشائر.
__________________
ما ضرّ «أهل عذراء»
(حجرا وأصحابه) الذين قتلوا أن يكونوا اليوم أحياء عند ربهم يرزقون ، شهداء قد
لقوا الله صابرين محتسبين ، فأثابهم ثواب الصابرين. وما ضرّ إخوانكم المقتّلين
صبرا المصلّبين ظلما ، والممثّل بهم والمعتدى عليهم أن لا يكونوا أحياء مبتلين
بخطاياكم ، قد خير لهم فلقوا ربّهم ووفّاهم الله أجرهم إن شاء الله!
فاصبروا ـ رحمكم
الله ـ على البأساء والضرّاء وحين البأس وتوبوا إلى الله عن قريب ، فو الله إنّكم
لأحرياء أن لا يكون أحد من إخوانكم صبر على شيء من البلاء إرادة ثوابه ، إلّا
صبرتم التماس الأجر فيه على مثله ، ولا يطلب رضا الله طالب بشيء من الأشياء إلّا
طلبتم رضا الله به ولو أنّه القتل!
إنّ التقوى أفضل
الزاد في الدنيا ، وما سوى ذلك يبور ويفنى ، فلتعزف عنها أنفسكم ، ولتكن رغبتكم في
دار عاقبتكم ، وفي جهاد عدوّ الله وعدوّكم وعدو «أهل بيت نبيّكم» حتّى تقدموا على
الله «تائبين» راغبين.
أحيانا الله
وإياكم حياة طيّبة ، وأجارنا وإيّاكم من النار ، وجعل منايانا قتلا في سبيله على
يدي أبغض خلقه إليه وأشدّهم عداوة له ، إنّه القدير على ما يشاء ، والصانع
لأوليائه في الأشياء ، والسلام عليكم.
ولمّا قرأ سعد بن
حذيفة الكتاب بعث إلى «الشيعة» بالمدائن فقرأه عليهم ، ثمّ حمد الله وأثنى عليه
ثمّ قال : أمّا بعد ؛ فإنّكم قد كنتم مجتمعين مزمعين على نصر الحسين وقتال عدوّه ،
فلم يفجأكم شيء قبل قتله ، والله مثيبكم على حسن النيّة ، وعلى ما أجمعتم عليه من
النصر ، بأحسن المثوبة. وقد بعث إخوانكم يستنجدونكم ويستمدّونكم ، ويدعونكم إلى
الحقّ ، وإلى ما ترجون لكم به عند الله أفضل الأجر والحظّ ، فماذا تريدون وماذا
تقولون؟!
فقالوا بأجمعهم :
رأينا في ذلك مثل رأيهم ، فنجيبهم ونقاتل معهم!
فقال : استعدّوا
للعدوّ وأعدّوا له الحرب ، ثمّ نسير وتسيرون .
واختار المختار أن
يعود للديار :
مرّ في أخبار خروج
مسلم بن عقيل : أنّ المختار بن عبيد الثقفي خرج براية لنصرته ، وكان عمرو بن حريث
المخزومي يحمل راية أمان لابن زياد ، فدعا المختار إليه وأجاب المختار فشتر عينه
ابن زياد وحبسه. وكان عبد الله بن عمر قد بايع ليزيد وكان هو زوج اخت المختار :
صفيّة ، فبعث المختار ابن عمه زائدة بن قدامة الثقفي إلى ابن عمر يسأله أن يكتب
إلى يزيد ليكتب إلى ابن زياد بإطلاقه ، ففعل وأطلقه ابن زياد ولكنّه أخرجه من الكوفة
، فخرج إلى مكّة.
فروى الطبري عن
الكلبي عن أبي مخنف عن عباس بن سهل بن سعد الساعدي ، وكان مع ابن الزبير ، وتواعد
مع المختار الثقفي في حجر إسماعيل بعد العتمة ، فالتقى به وذهب به إلى منزل ابن
الزبير فقال له المختار :
إنّي قد جئتك
لأبايعك على أن لا تقضي الأمور دوني وإذا ظهرت استعنت بي على أفضل عملك! ولا
ابايعك أبدا إلّا على هذه الخصال! فقال له ابن الزبير : فلك ما سألته! فبسط يده
فبايعه وأقام معه خمسة أشهر ، فلمّا رآه لا يستعمله جعل لا يقدم
عليه أحد من الكوفة إلّا سأله عن حالهم.
فمّمن قدم مكّة
يريد عمرة رمضان هانئ بن أبي حيّة الوادعي الهمداني فسأله المختار عن حال الناس ،
فأخبره أنّهم تصالحوا واتّسقوا على طاعة
__________________
ابن الزبير ، ولكن
طائفة من أهل المصر لو كان لهم رجل يجمعهم على رأيهم لأكل بهم الأرض إلى يوم مّا!
فقال المختار : أنا والله لهم! أنا أجمعهم على مرّ الحقّ وأنفي بهم ركبان الباطل
وأقتل بهم كلّ جبّار عنيد! أما وإنّي لا أدعو إلى الفتنة وإنّما أدعو إلى الهدى
والجماعة! ثمّ ركب رواحله وخرج نحو الكوفة .
ودخل المختار
الكوفة :
قدم المختار
الكوفة يوم الجمعة النصف من شهر رمضان (٦٤ ه) فمرّ بمسجد السّكون وجبّانة كندة فسلّم عليهم وقال لهم :
أبشروا فقد أتاكم ما تحبّون من النصر والفلج! ثمّ أقبل حتّى مرّ بمسجد بني ذهل
وبني حجر فوجدهم قد راحوا إلى الجمعة.
فأقبل حتّى مرّ
ببني بدّاء من كندة فوجد منهم عبيدة بن عمرو شاعرا شجاعا وأشدّهم حبّا لعلي عليهالسلام ولكنّه لا يصبر عن الشراب ، فسلّم عليه المختار ثمّ قال له
: يا أبا عمرو إنك على رأي حسن لن يدع الله معه مأثما إلّا غفره ولا ذنبا إلّا
ستره! أبشر بالنصر واليسر والفلج! فقال عبيدة : بشّرك الله بخير ، فهل تفسّره لنا؟
قال : نعم ، الليلة في رحلي! فالقني في رحلي ، وبلّغ أهل مسجدكم هذا عنّي : أنّهم
قوم أخذ الله ميثاقهم على طاعته ، يقتلون المحلّين ، ويطلبون بدماء أولاد النبيّين
، ويهديهم للنور المبين! ثمّ قال : أين الطريق إلى بني هند؟ فدعى عبيدة بفرسه وركبه
ومضى معه إلى بني هند إلى منزل إسماعيل بن كثير فقال له : القني أنت
__________________
وأخوك الليلة
فإنّي قد أتيتكم بكلّ ما تحبّون. ثمّ مضى إلى باب الفيل فأناخ راحلته ودخل المسجد
فقام إلى جنب سارية من سواري المسجد فصلّى النوافل حتّى اقيمت الصلاة فصلّى (بصلاة
عامر بن مسعود الجمحي) ثمّ صلّى النوافل حتّى صلّى العصر ثمّ انصرف حتّى مرّ على
حلقة همدان فقال لهم : أبشروا فإنّي قد قدمت عليكم بما يسرّكم. ثمّ مضى حتّى نزل
داره.
وأتاه عبيدة بن
عمرو البدّي الكندي وإسماعيل بن كثير من بني هند فسألهما عن حال «الشيعة».
فقالا له : إنّهم
قد اجتمعوا لسليمان بن صرد الخزاعي فهو لا يلبث كثيرا حتّى يخرج.
فحمد الله وأثنى
عليه وصلّى على النبيّ صلىاللهعليهوآله ثمّ قال : أمّا بعد ، فإنّ «المهديّ ابن الوصيّ» : محمد بن
علي (ابن الحنفية) بعثني إليكم أمينا ووزيرا ومنتخبا وأميرا ، وأمرني بقتال
الملحدين والطلب بدماء أهل بيته ، والدفع عن الضعفاء.
ثمّ أخذ يبعث إلى «الشيعة»
فيقول لهم : إنّي قد جئتكم من قبل «وليّ الأمر» ومعدن الفضل ، و «وصيّ الوصي
والإمام المهدي» بأمر فيه الشفاء وكشف الغطاء وقتل الأعداء وتمام النعماء! فأنا
إنما أعمل على مثال قد مثّل لي وأمر قد بيّن لي ، فيه عزّ وليكم وقتل عدوّكم وشفاء
صدوركم ، فاسمعوا منّي قولي وأطيعوا أمري ، ثمّ أبشروا وتباشروا ، فإنّي لكم بكلّ
ما تأملون خير زعيم. وإنّ سليمان بن صرد يرحمنا الله وإيّاه إنّما هو يابس من
الهزال ليس بذي تجربة للأمور ولا له علم بالحروب ، فهو إنّما يريد أن يخرجكم فيقتل
نفسه ويقتلكم !
__________________
وبعد قدوم المختار
إلى الكوفة بثمانية أيّام في يوم الجمعة لثمان بقين من شهر رمضان سنة أربع وستّين
قدم عبد الله بن يزيد الأنصاري الخطمي من قبل ابن الزبير أميرا على الكوفة لحربها
وثغرها ، ومعه إبراهيم بن محمّد بن طلحة بن عبيد الله التيمي الأعرج أميرا على
جزية الكوفة وخراجها .
ابن زياد إلى
العراق ، والكوفة :
وفي شهر ربيع
الأول توجّه مروان إلى مصر ، ووجّه ابن زياد في ستّين ألفا إلى العراق وكان سليمان الخزاعي قد وعد أصحابه لأوّل شهر ربيع الثاني.
وكان يزيد بن
الحارث بن رويم الشيباني من قوّاد ابن زياد ، ولكنّه أوّل من أعلن رفض فرض إمرة
ابن زياد بعد موت يزيد ، ولمّا سمع الناس يتحدّثون بخروج «الشيعة» مع الخزاعي لثار
الحسين عليهالسلام خاف على نفسه ، فأتى إلى عبد الله بن يزيد الأنصاري عامل
ابن الزبير في الكوفة وقال له : إنّ الناس يتحدّثون أنّ «الشيعة» ستخرج عليك مع
سليمان بن صرد ... وقد اجتمع له أمره فهو خارج في هذه الأيام ... وإنّي أخاف إن
أقررته حتّى يخرج عليك أن تشتدّ شوكته ويتفاقم أمره.
قال عبد الله :
حدّثني ماذا يريد هؤلاء الناس؟ قال : يذكر الناس أنّهم يطلبون بدم الحسين بن عليّ عليهالسلام.
قال : فأنا قتلت
الحسين! لعن الله قاتل الحسين!
__________________
وكان عبد الله بن
يزيد أمير الحرب والثغور ، وكان ابن زياد قد توجّه إلى العراق وبلغ خبره إلى ابن
يزيد الأنصاري أنّه على مسيرة ليلة من جسر منبج في ثغور الشام إلى العراق ، وعزم
أن يجعل بأس التوّابين على الأمويّين ، ولم يكن أخبر عامل ابن الزبير على خراج
الكوفة : إبراهيم بن محمّد بن طلحة بشيء ، حتّى خرج وصعد المنبر فحمد الله وأثنى
عليه ثمّ قال :
أمّا بعد ، فقد
بلغني : أنّ طائفة من أهل هذا المصر أرادوا أن يخرجوا علينا ، فسألت عن الذي دعاهم
إلى ذلك ما هو؟ فقيل لي : زعموا أنّهم يطلبون بدم الحسين بن عليّ عليهالسلام.
وقد دللت على
أماكنهم وأمرت بأخذهم وأن أبدأهم قبل أن يبدؤوني! فأبيت ذلك وقلت : إن قاتلوني
قاتلتهم وإن تركوني لم أطلبهم ، وعلام يقاتلونني! فو الله ما أنا قتلت حسينا ولا
أنا ممّن قاتله ، بل لقد اصبت بمقتله رحمة الله عليه! ورحم الله هؤلاء القوم ،
وإنّ هؤلاء القوم آمنون ، فليخرجوا ولينتشروا ظاهرين ليسيروا إلى من قاتل الحسين ،
وأنا لهم ظهير!
هذا ابن زياد قاتل
الحسين ، وقاتل خياركم وأماثلكم قد توجّه إليكم ، عهد العاهد به على مسيرة ليلة من
جسر منبج ، فقتاله والاستعداد له أولى وأرشد من أن تجعلوا بأسكم بينكم فيقتل بعضكم
بعضا ويسفك بعضكم دماء بعض ، فيلقاكم ذلك العدو غدا وقد رققتم ، وتلك امنية
عدوّكم.
إنّه قد أقبل
إليكم أعدى خلق الله لكم ؛ من ولّي عليكم هو وأبوه سبع سنين (كذا) لا يقلعان عن
قتل أهل العفاف والدين. هو الذي قتلكم ومن قبله أتيتم ، والذي قتل من تثأرون بدمه (الحسين)
قد جاءكم فاستقبلوه بحدّكم وشوكتكم ، واجعلوها به ولا تجعلوها بأنفسكم ، إنّي لم
آلكم نصحا. جمع الله لنا كلمتنا وأصلح لنا أئمّتنا!
وكان عامل ابن
الزبير على خراج الكوفة : إبراهيم بن محمّد بن طلحة بن عبيد الله التيمي حاضرا
وغير مشاور في الأمر ، فأبى وقام وقال : أيّها الناس ؛ والله لو استقينا (أو :
استيقنّا) أنّ قوما يريدون الخروج علينا لنأخذنّ الوالد بولده والمولود بوالده
والحميم بالحميم والعريف بما في عرافته ، حتّى يدينوا للحقّ ويذلّوا للطاعة! والله
لئن خرج علينا خارج لنقتلنّه! فلا يغرّنكم مقالة هذا المداهن الموادع عن السيف
والغشم (الظلم).
وكان ثاني امراء
التوابّين : المسيّب بن نجبة الفزاري حاضرا فوثب إليه قاطعا عليه منطقه وقال له :
يابن «الناكثين» أنت تهدّدنا بسيفك وغشمك! أنت والله أذلّ من ذلك! وإنّا لا نلومك
على بغضنا وقد قتلنا أباك (محمّدا) وجدّك (طلحة بن عبيد التيمي في الجمل بالبصرة)
والله إنّي لأرجو أن لا يخرجك الله من بين ظهرانيّ أهل هذا المصر حتّى يثلّثوا بك
جدّك وأباك!
ثمّ التفت إلى
الأمير عبد الله بن يزيد الأنصاري وقال له : وأمّا أنت ـ أيّها الأمير ـ فقد قلت
قولا سديدا ، وإنّي والله لأظنّ من يريد هذا الأمر مستنصحا لك قابلا لقولك.
فقال إبراهيم
التيمي : إي والله! ليقتلنّ وقد أدهن ثمّ أعلن!
وكان ثالث امراء
التوّابين : عبد الله بن وال حاضرا أيضا فقام وقال لمحمّد : يا أخا بني تيم بن
مرّة! ما اعتراضك فيما بيننا وبين أميرنا! فو الله ما أنت علينا بأمير ولا لك
علينا سلطان! إنّما أنت أمير الجزية! فأقبل على خراجك ؛ ولعمر الله لئن كنت مفسدا
فما أفسد أمر هذه الأمة إلّا والدك وجدّك «الناكثان» فكانت عليهما دائرة السوء!
ثمّ أقبل عبد الله
بن وال على عبد الله بن يزيد وقال له : أمّا رأيك ـ أيها الأمير ـ فو الله إنّا
لنرجو أن تكون به عند العامّة محمودا ، وأن تكون عند من عنيت مقبولا. فنزل
الأنصاري ودخل إلى دار الإمارة.
وخرج أصحاب سليمان
الخزاعي بعد هذا يتجهّزون ويجاهرون بذلك. ومشى شبث بن ربعي اليربوعي ويزيد بن
الحارث الشيباني فيما بين الأنصاري وإبراهيم التيمي فأصلحوا بينهما .
خروج التوّابين
إلى النّخيلة :
كان الشيخ سليمان
الخزاعي قد أعدّ لمن تابعه وبايعه ديوانا فكانوا ستة عشر ألفا وكان واعدهم هلال ربيع الثاني في معسكر الكوفة بالنخيلة.
وحين أراد هو الشخوص إليهم بعث إلى وجوه أصحابه فخرج معهم حتّى أتى المعسكر فدار
معهم في الناس فوجد قلة في عدّتهم (ألفان)!
فبعث حكيم بن منقذ
الكندي والوليد بن غصين الكناني كلّا في خيل إلى الكوفة يناديان بها : يالثارات
الحسين! حتّى يبلغا المسجد الأعظم.
وسمعهما من بني
كثير من الأزد عبد الله بن خازم لم يكن قد استجاب لهم من قبل ، فوثب ودعا بسلاحه
وأمر بإسراج فرسه ولبس ثيابه ، وكانت امرأته سهلة بنت سبرة من أجمل النساء فقالت
له : ويحك أجننت! قال : لا والله ولكنّي سمعت داعي الله فأنا مجيبه! أنا مطالب بدم
هذا الرجل (الحسين) حتّى أموت أو يقضي الله من أمري ما هو أحبّ إليه! وكان له ابن
منها يدعى عزرة ، فقالت له : وإلى من تدع بنيّك هذا؟ قال : إلى الله وحده لا شريك
له ، اللهم إنّي أستودعك أهلي وولدي ، اللهمّ احفظني فيهم. وخرج ليلحق بهم ، وقعدت
امرأته تبكيه.
وطاف أولئك في
الكوفة حتّى وصلوا المسجد بعد العتمة وفيه ناس يصلّون ، فنادوا : يا لثارات الحسين!
وكان فيهم أبو عزة القابضي فنادى معهم :
__________________
يالثارات الحسين!
أين جماعة القوم؟ قيل : بالنخيلة. فخرج إلى أهله فأخذ سلاحه ودعا بفرسه ليركبه ،
فجاءته ابنته الرّوّاع وقالت له : يا أبة ما لي أراك قد تقلّدت سيفك ولبست سلاحك؟
قال لها : يا بنيّة ، إنّ أباك يفرّ من ذنبه إلى ربّه! فأخذت تنتحب وتبكي ، وجاءه
أصهاره وبنو عمّه فودّعهم ثمّ خرج فلحق بهم.
فلم يصبح سليمان
الخزاعي حتّى أتاه مثل عسكره البارحة (أي صاروا أربعة آلاف)! فدعا بديوانه لينظر
فيه إلى عدّة من بايعه فوجدهم ستة عشر ألفا فقال : سبحان الله! ما وافانا من ستة
عشر ألفا إلّا أربعة آلاف! وكان حميد بن مسلم الأزدي حاضرا فقال له : كنت عند
المختار قبل ثلاث ليال فسمعت نفرا من أصحابه يقولون : قد كملنا ألفي رجل! فهو
يثبّط الناس عنك! فقال سليمان : وهب أنّه كان ذلك فهل قعد عنّا عشرة آلاف! أما
هؤلاء بمؤمنين! أما يخافون الله! أما يذكرون الله وما أعطونا من أنفسهم من العهود
والمواثيق لينصرّن وليجاهدنّ!
فأخذ يبعث ثقات
أصحابه إلى من تخلّف عنه يذكّرهم الله وما أعطوه من أنفسهم إلى الثالث من ربيع
الثاني ، فخرج إليه نحو من ألف رجل (أي كانوا خمسة
آلاف من ستة عشر ألفا).
في الكوفة أو إلى
الشام :
مرّ الخبر أنّ عبد
الله بن يزيد الأنصاري أمير الكوفة لابن الزبير ، كان قد علم باتّجاه ابن زياد في
ستّين ألفا إلى العراق ، فلمّا أنذره يزيد بن الحارث بن رويم الشيباني بأمر
التوّابين ، ألقى إليهم الخبر ليصرفهم عن الكوفة فيصرف بهم شرّ جيش الشام وينتصر
بهؤلاء على أولئك.
__________________
وكان من امراء
التوّابين : عبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي وكأنّه كان حاضرا في خطبة الأنصاري
ومتأثّرا بكلامه ، وأشار بذلك على سليمان الخزاعي وقبل منه ذلك سليمان وأجمع على
المسير إلى ابن زياد. ولكنّه لعلّه لمّا رأى أنّ من حضر ممّن بايع لا يصل إلى ثلث
العدد بدا له في ذلك ، فدخل مع بعض أصحابه على سليمان الخزاعي في معسكر النخيلة
ورؤوس أصحابه جلوس عنده وحوله ، فقال له :
إنّي قد رأيت رأيا
(جديدا) إن يكن صوابا فالله وفّق ، وإن لم يكن صوابا فمن قبلي ، وإنّي ما آلوكم
ونفسي نصحا ، صوابا كان أو خطأ : إنّما خرجنا نطلب بدم الحسين ، وقتلة الحسين
كلّهم بالكوفة ، منهم عمر بن سعد ـ وكان في الأيام
التي كان سليمان معسكرا بالنخيلة لا يبيت إلّا مع الأمير في قصر دار الإمارة!
مخافة أن يأتيه القوم في داره وبيته وهو قايل لا يعلم فيقتل ـ ورؤوس الأرباع
وأشراف القبائل ، فأنى نذهب هاهنا (إلى الشام) وندع الأوتار؟!
فأبى سليمان وقال
: لكنّي ما أرى لكم ذلك ، فإنّ الذي عبّأ الجنود إلى صاحبكم (الحسين عليهالسلام) وقال : لا أمان له عندي حتّى يستسلم فأمضي فيه حكمي : هذا
الفاسق ابن الفاسق : ابن مرجانة عبيد الله بن زياد ، فسيروا إلى عدوّكم على اسم
الله ، فإن يظهركم الله عليه رجونا أن يكون من بعده أهون شوكة منه ، ورجونا أن
يدين لكم من وراءكم من أهل مصركم في عافية! فتنظرون إلى كلّ من شرك في دم الحسين
فتقاتلونه ولا تظلموا ، وإن تستشهدوا فإنّما قاتلتم المحلّين ، وما عند الله خير للأبرار
والصدّيقين! والله لو قاتلتم غدا أهل مصركم
__________________
ما عدم رجل أن يرى
رجلا قد قتل أخاه وأباه وحميمه! أو رجلا لم يكن يريد قتله! فاستخيروا الله وسيروا .
ليس للدنيا خرجنا
، فلا ننتظر :
وقام المسيّب
الفزاري إلى سليمان وقال له : رحمك الله ، إنّه لا ينفعك الكاره ، ولا يقاتل معك
إلّا من أخرجته النيّة (الصادقة) فلا تنتظرنّ أحدا وأسرع في أمرك.
فقام سليمان في
الناس متوكئا على قوسه العربيّة وقال لهم : أيّها الناس ؛ من كان إنّما أخرجته
إرادة وجه الله وثواب الآخرة فذلك «منّا ونحن منه» ورحمة الله عليه حيّا وميّتا!
ومن كان إنّما يريد الدنيا وحرثها فو الله ما نأتي فيئا نستفيئه ، ولا غنيمة
نغنمها إلّا رضوان الله ربّ العالمين ، وما معنا من ذهب ولا فضة ولا خزّ ولا حرير
، ما هي إلّا سيوفنا في عواتقنا ورماحنا في أكفّنا ، وزاد قدر البلغة إلى لقاء
عدوّنا ، فمن كان ينوي غير هذا فلا يصحبنا!
فقام للكلام صخير
بن حذيفة المزني فقال : آتاك الله رشدك ولقّاك حجّتك ؛ والله الذي لا إله غيره ما
لنا خير في صحبة من الدنيا نيّته وحمّته! ثمّ التفت إلى الناس وقال لهم : أيّها
الناس ، إنّما أخرجتنا «التوبة» من «ذنبنا» والطلب بدم من نبيّنا صلىاللهعليهوآله ، ليس معنا دينار ولا درهم ، وإنّما نقدم على حدّ السيوف
وأطراف الرماح! وسكت.
فتنادى الناس من
كلّ جانب : إنا لا نطلب الدنيا وليس لها خرجنا !
__________________
محاولات أمير
الكوفة :
مرّ الخبر أنّ عبد
الله الأنصاري هو الذي وجّه التوّابين إلى جيش الشام ، وفوجئ إبراهيم التيمي بذلك
فاتّهمه بالمداهنة والموادعة ، وكأنّه بدا له فاقتنع بوجهة نظر الأمير ، واليوم
لمّا بلغهما خروجهم إلى المعسكر وتهيّؤهم للشخوص إلى الشام بثلث عددهم المتوقّع
خمسة آلاف لأكثر من خمسين ألف ، وقد بلغهما إقبال ابن زياد نحو العراق ، نظر
الأميران في ذلك فرأيا أن يأتياهم فيعرضا عليهم الإقامة فيكونوا يدا واحدة! وإلّا
فيعبّئوا معهم جيشا يجبر لهم قلّة عددهم فيكثروا.
فبعثا إليهم سويد
بن عبد الرحمان يقول لهم عنهما : إنّا نريد أن نجيئك الآن لأمر عسى أن يجعل الله
فيه صلاحا لك ولنا. وقبل ذلك سليمان ، وقال لرفاعة البجلي : قم فأحسن تعبئة الناس
فإنّ هذين بعثا بكذا ، ثمّ دعا رؤوس أصحابه ليكونوا حوله ، وجاء الأمير الزبيريّ
الأنصاري في أشراف أهل الكوفة والشرط وكثير من مقاتليهم ، ولكنّه استثنى منهم
الرجال المعروفين بالمشاركة في دم الحسين عليهالسلام وقال لهم : لا تصحبنّي إليهم مخافة أن ينظروا إليهم
فيبدؤوا بهم ، وعلى رأسهم عمر بن سعد حيث كان معه في القصر مخافة أن يأتيه القوم
في داره وبيته فيقتل ، واستناب بصلاة الظهر إن أبطأ خليفة ابن زياد : عمرو بن حريث
المخزومي المعزول! وتبعه إبراهيم التيمي في جماعة من أصحابه.
فلمّا انتهيا إليه
دخلا عليه ، فحمد الله عبد الله وأثنى عليه ثمّ ذكر الحديث : «إنّ المسلم أخو
المسلم لا يخونه ولا يغشّه» ثمّ قال : وأنتم إخواننا وأهل بلدنا وأحبّ أهل مصر
إلينا ، فلا تفجعونا بأنفسكم ولا تستبدّوا علينا برأيكم! ولا تنقصوا عددنا بخروجكم
من جماعتنا. أقيموا معنا حتّى نتيسّر ونتهيّأ ، فإذا علمنا أنّ عدوّنا قد شارف
بلدنا خرجنا إليهم بجماعتنا ، وقال إبراهيم مثله ، وانتظرا جواب سليمان.
فحمد الله سليمان
الخزاعي وأثنى عليه ثمّ قال لهما : إنّي علمت أنّكما قد محضتما في النصيحة ،
واجتهدتما في المشورة ، وقد خرجنا لأمر ونحن نسأل الله العزيمة على الرشد والتسديد
لأصوبه ، ولا نرانا إلّا شاخصين إن شاء الله.
فقال عبد الله
الأنصاري : فأقيموا حتّى نعبّئ معكم جيشا كثيفا فتلقوا عدوّكم بجمع كثيف وحدّ!
يخوّفهم بقلّة عددهم.
فقال سليمان :
تنصرفون عنّا ونرى رأينا فيما بيننا وسيأتيكم ذلك إن شاء الله.
فعرضا عليه أن
يقيم معهما حتّى يلقوا جموع أهل الشام معا ، فيخصّاه وأصحابه بخراج جوخى!
فقال لهما : إنّا
ليس للدنيا خرجنا! فانصرفا عنهم بجمعهما إلى الكوفة.
وقد مرّ أنّهم
كانوا قد كتبوا إلى «الشيعة» بالمدائن والبصرة ، ولم يأتهم هؤلاء للموعد ، فحاول
ناس من أصحاب سليمان أن يلتزموا بانتظارهم.
فأبى سليمان كذلك
وقال لهم : لا تلتزموا (انتظارهم) فإنّي لا أراهم أقعدهم ولا خلّفهم إلّا سوء
العدّة وقلّة النفقة ، فأقاموا ليتيسّروا ويتجهّزوا فيلحقوا بكم وبهم قوّة ، وما
أسرع القوم في آثاركم ، فإنّي لا أراهم إلّا سيسرعون إليكم لو قد انتهى إليهم
خبركم ومسيركم .
خطبة سليمان
ورحيلهم إلى كربلاء :
ثمّ قام سليمان في
الناس خطيبا (الجمعة) ، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أمّا بعد ، أيّها الناس ؛
فإنّ الله قد علم بما تنوون وما خرجتم تطلبون ، وإنّ للدنيا
__________________
تجارا وللآخرة
تجّارا ؛ فأمّا تاجر الآخرة فساع إليها متنصّب (متعب) بتطلابها ، لا يشتري بها
ثمنا ، لا يرى إلّا قائما وقاعدا وراكعا وساجدا ، لا يطلب ذهبا ولا فضّة ولا دنيا
ولا لذّة. وأمّا تاجر الدنيا ، فمكبّ عليها راتع فيها لا يبتغي بها بدلا.
فعليكم ـ يرحمكم
الله ـ في وجهكم هذا بطول الصلاة في جوف الليل ، وبذكر الله كثيرا على كلّ حال ،
وتقرّبوا إلى الله بكلّ خير قدرتم عليه ، حتّى تلقوا هذا العدوّ والمحلّ «القاسط»
فتجاهدوه ؛ فلن تتوسّلوا إلى ربّكم بشيء هو أعظم عنده ثوابا من الجهاد والصلاة ،
فإنّ الجهاد سنام العمل.
جعلنا الله
وإيّاكم من العباد الصالحين المجاهدين ، الصابرين على اللأواء.
وإنّا مدلجون
الليلة من منزلنا هذا إن شاء الله ، فادلجوا.
وفي عشيّة الجمعة
لخمس مضين من شهر ربيع الآخر سنة (٦٥ ه) دعا سليمان : حكيم بن منقذ أن ينادي في
الناس بالرحيل وأن لا يبيتنّ أحد حتّى نبلغ دير الأعور ، فنادى بذلك وارتحل أكثر
من معه وتخلّف كثير منهم! وباتوا بدير الأعور ، متّجهين إلى كربلاء في طريقهم إلى
الشام.
ثمّ سار حتّى نزل
منزل أقساس مالك على شاطئ الفرات ، وهناك استعرضهم ، فتبيّن تخلّف نحو ألف رجل!
فقال سليمان لهم : ما احبّ أن كان معكم من تخلّف عنكم و (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ
إِلَّا خَبالاً) و (كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ
فَثَبَّطَهُمْ) وخصّكم بفضله فاحمدوا ربّكم.
وخرجوا من منزل
أقساس مساء فأصبحوا في كربلاء .
__________________
زيارة الثوار لقبر
أبي الأحرار :
لما انتهى الناس
إلى قبر الحسين عليهالسلام ، معلوما ، صاحوا صيحة واحدة وبكوا حتّى ما رئي يوم كان
أكثر باكيا منه ، بكوا كلّهم وتمنّى جلّهم أنّه لو كان اصيب معه ، تقدّمهم شيخهم
سليمان وقد ناهز أو جاوز الثمانين من السنين رافعا يديه إلى ربّه لدى قبر وليّه
باكيا داعيا :
«اللهمّ ارحم
حسينا الشهيد ابن الشهيد ، المهديّ بن المهديّ ، والصدّيق ابن الصدّيق : اللهمّ
إنّا نشهدك أنّا على دينهم وسبيلهم ، وأعداء قاتليهم وأولياء محبّيهم» (الولاية
والبراءة).
ونادوا صيحة واحدة
تائبين : «يا ربّ إنّا قد «خذلنا» ابن بنت نبيّنا ، فاغفر لنا ما مضى منّا ، وتب
علينا ، إنّك أنت التوّاب الرحيم. وارحم حسينا وأصحابه الشهداء الصدّيقين. وإنّا
نشهدك ـ يا ربّ ـ أنّا على «مثل ما قتلوا عليه» فإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ
من الخاسرين».
ثمّ انصرف سليمان
وأصحابه عن القبور ونزلوا ، فأقاموا عنده يومهم ذلك وليلتهم يصلّون ويبكون
ويتضرّعون ويستغفرون ، وما انفكّوا يترحّمون عليه وعلى أصحابه ، حتّى صلّوا الفجر
عند القبر.
ثمّ أمر سليمان
الناس بالمسير ، فكانوا لا يمضون حتّى يأتوا قبره فيقومون ويترحّمون عليه
ويستغفرون له ولأصحابه الشهداء ثمّ يركبون ، ولقد كان ازدحامهم على قبره أكثر من
ازدحام الناس على الحجر الأسود!
ووقف الأمراء عند
قبره : سليمان الخزاعي والمسيّب بن نجبة وعبد الله بن وال التيمي ، والمثنّى بن
مخرّبة العبدي ، فكلّما دعا له قوم وترحّموا عليه قال لهم سليمان والمسيّب :
الحقوا بإخوانكم رحمكم الله! حتّى بقوا في نحو ثلاثين رجلا من أصحابهم ، فأحاطوا
بالقبر ...
فقال سليمان
مودّعا : الحمد لله الذي لو شاء لأكرمنا بالشهادة مع الحسين! اللهمّ إذ حرمتناها
معه فلا تحرمناها فيه بعده!
وقال المسيّب :
وأنا بريء من قتلهم ومن كان على رأيهم ، وإياهم أعادي واقاتل.
وقال عبد الله بن
وال التيمي : أما والله إنّي لأظنّ حسينا وأباه وأخاه أفضل امّة محمّد صلىاللهعليهوآله وسيلة عند الله يوم القيامة ، أفما عجبتم لما ابتليت به
هذه الأمة منهم! إنّهم قتلوا اثنين وأشفوا بالثالث على القتل .
وقال المثنّى بن
مخرّبة العبدي وهو من الرؤساء الأشراف : إنّ الله جعل هؤلاء الذين ذكرتم بمكانهم
من نبيّهم أفضل ممّن هو دون نبيّهم ، وقد قتلهم قوم نحن منهم براء ولهم أعداء! وقد
خرجنا من الديار والأهلين والأموال لاستئصال من قتلهم! فو الله لو أنّ القتال فيهم
بمغرب الشمس أو منقطع التراب فإنّه يحقّ علينا طلبه حتّى نناله ؛ فإنّ ذلك هو
الغنم وهي الشهادة التي ثوابها الجنة!
فقالوا له : صدقت
وأصبت ووفّقت. ثمّ سار سليمان من موضع قبر الحسين وساروا معه. وكان رجال من
أحيائهم خرجوا معهم يشايعونهم حتّى انتهوا إلى قبر الحسين ، ثمّ انصرفوا عنه
ولزموا الطريق ، فعاد هؤلاء المشايعون إلى أحيائهم بالكوفة وكأنّهم عنوا زيارة قبر الحسين عليهالسلام ثمّ عادوا.
كتاب الأمير
الخطمي وجواب الخزاعي :
وسار سليمان
الخزاعي من كربلاء فأخذ على الحصّاصة إلى الأنبار ، ثمّ الصّدود ، ثمّ القيّارة.
وبدا للأمير الزبيري على الكوفة عبد الله بن يزيد الأنصاري
__________________
الخطمي أن يكتب
إلى سليمان فيردّهم إلى اجتماع كلمتهم ، فدعا بالمحلّ الطائي وبعثه بكتابه فلحقهم
بمنزل القيّارة ، فتقدّم سليمان أصحابه حتّى سبقهم ثمّ وقف وأشار إلى الناس فوقفوا
له ، ليقرأ عليهم كتاب الوالي ، فإذا فيه : بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من عبد الله بن يزيد إلى سليمان بن صرد ومن معه من المسلمين ، سلام
عليكم ، أمّا بعد فإنّ كتابي هذا إليكم كتاب ناصح .. إنّه بلغني أنّكم تريدون
المسير بالعدد اليسير إلى الجمع الكثير ؛ وإنّه من يرد أن ينقل الجبال عن مراتبها
تكلّ معاوله ، وينزع وهو مذموم العقل والفعل! يا قوما لا تطمعوا عدوّكم في أهل
بلادكم ، فإنّكم خيار كلّكم ، ومتى ما يصبكم عدوّكم ويعلم أنّكم أعلام مصركم
يطمعهم ذلك فيمن وراءكم ، يا قومنا (إِنَّهُمْ إِنْ
يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ
تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً).
يا قوم إنّ أيدينا
وأيديكم اليوم واحدة ، وإنّ عدوّنا وعدوّكم واحد ، ومتى تجتمع كلمتنا نظهر على
عدوّنا ، ومتى تختلف تهن شوكتنا على من خالفنا! يا قومنا لا تستغشّوا نصحي ولا
تخالفوا أمري وأقبلوا حين يقرأ عليكم كتابي ، أقبل الله بكم إلى طاعته وأدبر بكم
عن معصيته ، والسلام.
فلما قرئ الكتاب
على سليمان وأصحابه التفت إليهم وسألهم : ما ترون؟
فقالوا : قد أبينا
هذا عليكم وعليهم ونحن في أهلنا ومصرنا ، فالآن إذ وطّنّا أنفسنا على الجهاد
وخرجنا ودنونا من أرض عدوّنا (نعود)؟! ما هذا برأي! فماذا ترى؟ أخبرنا برأيك!
فقال : لا أرى أن
تنصرفوا عمّا جمعكم الله عليه من الحقّ وأردتم به من الفضل ، إنّا وهؤلاء مختلفون
؛ إنّ هؤلاء لو ظهروا دعونا إلى الجهاد مع
__________________
ابن الزبير! ولا
أرى الجهاد مع ابن الزبير إلّا ضلالا! وإنّا إن نحن ظهرنا «رددنا هذا الأمر إلى
أهله»! وإن أصبنا فعلى نيّاتنا «تائبين» من ذنوبنا! إنّ لنا شكلا وإن لابن الزبير
شكلا.
ثمّ ساروا إلى هيت
حتّى نزلوها فكتب سليمان جواب أمير الكوفة : بسم الله الرحمنِ الرحیم ،
للأمير عبد الله بن يزيد من سليمان بن صرد ومن معه من المؤمنين ، سلام عليك ، أمّا
بعد ، فقد قرأنا كتابك وفهمنا ما نويت ، فنعم ـ والله ـ الوالي ـ ونعم الأمير ،
ونعم أخو العشيرة. أنت ـ والله ـ من نأمنه بالغيب ونستنصحه في المشورة ونحمده على
كلّ حال ، إنّا سمعنا الله عزوجل يقول في كتابه : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ...) فالقوم استبشروا ببيعتهم التي بايعوا ، إنّهم قد «تابوا»
من عظيم جرمهم ، وقد توجّهوا إلى الله وتوكّلوا عليه ورضوا بما قضى الله (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا
وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ).
موقف قلعة
قرقيسياء :
قرقيسياء القديمة
تسمّى اليوم البصيرة في سورية عند مصبّ نهر الخابور على الفرات ، وكان عامل
الأمويين عليها زفر بن الحارث الكلابي وله أبناء كبار. ومرّ الخبر أنّه كان مع
سعيد بن العاص الأشدق في التفرّق بعد موت معاوية بن يزيد وقتل في معركة راهط
أبناؤه وفرّ بمن تبقّى معه إلى قرقيسياء فتحصّن فيها.
__________________
ووجّه مروان ابن زياد
إلى العراق قائلا : إن غلبت على العراق فأنت أميرها وكأنّه فتح عليه باب التجنيد من الشام فاستخدم خمسة من
الأمراء : الحصين بن نمير السكوني ، وشرحبيل بن ذي الكلاع ، وأدهم بن محرز الباهلي
، وأبا مالك بن أدهم ، وربيعة بن مخارق الغنوي ، وجبلة بن عبد الله الخثعمي ، وبلغ
خبرهم إلى زفر بن الحارث الكلابي في قرقيسياء : أنّهم فارقوا الرّقة إلى العراق في
حدّ حديد وعدد كثير من مثل الشوك والشجر ! وكأنّه لم تبلغه أخبار الثوار التوّابين فتحصّن منهم وهم
بحاجة للزّاد.
وزفر من كندة وهي
من مضر ومنها فزارة ومنهم المسيّب ، فدعاه سليمان وقال له : إلق ابن عمّك هذا فقل
له : إنّا لسنا إيّاه نريد وإنّما صمدنا لهؤلاء المحلّين! فليخرج لنا سوقا.
فخرج المسيّب حتّى
انتهى إلى باب قرقيسياء فناداهم : افتحوا ، ممّن تتحصّنون؟ وعرّف نفسه.
وكان من أبناء زفر
الباقين : الهذيل ، أتى أباه وقال له : هذا رجل حسن الهيئة يستأذن عليك ، وسألناه
: من هو؟ قال : المسيّب بن نجبة. فقال زفر : أي بنيّ أما تدري من هذا؟ هذا من إذا
عدّ عشرة من أشراف مضر فهو أحدهم ، بل هو فارس مضر الحمراء كلّها! وهو بعد رجل
ناسك له دين ، ائذن له.
فدخل المسيّب إليه
فأجلسه إلى جانبه ولاطفه في مساءلة أحواله ، فقال المسيّب : ما اعترينا إلى شيء
إلّا أن تعيننا على هؤلاء القوم الظلمة المحلّين ، فأخرج لنا سوقا ، فإنّا لا نقيم
بساحتكم إلّا يوما أو بعض يوم. فدعا زفر ابنه فأمره
__________________
أن يضع لهم سوقا ،
وأمر للمسيّب بفرس وألف درهم! فقال المسيّب : أما الفرس فإنّي أقبله لعلّي احتاج
إليه إن ضلع فرسي أو غمز تحتي ، وأمّا المال فو الله ماله خرجنا ولا إياه طلبنا!
وأمر زفر ابنه أن
يسأل عن وجوه أهل العسكر ، فسمّى له بعد سليمان والمسيّب ـ : عبد الله بن سعد بن
نفيل ، وعبد الله بن وال ، ورفاعة بن شدّاد ، وسمّى له أمراء أرباع الكوفة ، فبعث
إلى المسيّب بعشرين جزورا وإلى سليمان مثل ذلك وإلى كلّ واحد من الرؤساء الثلاثة
بعشر جزائر وطعام وعلف كثير ، وأخرج للعسكر عيرا عظيمة وشعيرا كثيرا مع غلمانه ،
وقال غلمانه : هذه عير فاجتزروا منها ما أحببتم ، وهذا شعير فاحتملوا منه ما أردتم
، وهذا دقيق فتزوّدوا منه ما أطقتم!
واخرجت لهم
الأسواق والأعلاف والطعام ، فتسوّقوا ، ولكنهم لم يحتاجوا إلى شراء شيء من هذه
الأسواق التي وضعت لهم ، وقد كفوهم اللحم والدقيق والشعير ، إلّا أن يشتري الرجل
سوطا أو ثوبا ، وظلّ القوم مخصبين ذلك اليوم لم يحتاجوا إلى شيء.
وفي غداة غد لمّا
أرادوا الرحيل خرج إليهم زفر ليشايعهم فساير سليمان وأخبره خبر خروج جيش الشام من
الرّقة إليهم وقال : وايم الله لقلّ ما رأيت رجالا هم أحسن هيئة ولا عدّة ، ولا
أحرى بكلّ خير من الرجال معك! ولكنّه قد بلغني أنّه قد أقبلت إليكم عدّة لا تحصى
كثرة!
فأجابه سليمان :
على الله توكّلنا وعليه فليتوكّل المتوكّلون. فقال زفر : فإن شئتم فتحنا لكم
مدينتنا فتدخلوها فيكون أمرنا واحدا وأيدينا واحدة. وإن شئتم نزلتم هنا على باب
مدينتنا ونخرج فنعسكر إلى جانبكم ، فإذا جاء العدو قاتلناهم جميعا؟
فأجابه سليمان :
قد أرادنا أهل مصرنا (الكوفة) لمثل ما أردت وذكروا مثل ما ذكرت ، وبعد ما فصلنا
كتبوا به إلينا فلم يوافقنا ، فلسنا فاعلين!
فقال زفر :
فاقبلوا ما اشير به عليكم : إنّ القوم قد فصلوا من الرّقة فبادروهم إلى مدينة عين
الوردة فاجعلوها في ظهوركم ويكون الماء والرستاق في أيديكم ، وأنتم آمنون ممّا بين مدينتكم ومدينتنا!
فاطووا المنازل الساعة إلى عين الوردة ، فإنّ القوم يسيرون سير العساكر ، فتأهّبوا
لها من يومكم هذا وإنّي أرجو أن تسبقوهم إليها ؛ وإن بدرتم إلى عين الوردة فلا
تقاتلوهم في فضاء ، فإنّهم أكثر منكم ، فلا آمن أن يحيطوا بكم فلا تقفوا لهم فإنّه
ليس لكم مثل عددهم ، فإن استهدفتم لهم لم يلبثوا أن يصرعوكم ، ولا تصفّوا لهم حين
تلقونهم ، فإنّي لا أرى معكم رجّالة بل كلّكم فرسان ، وهم بالرجال والفرسان ،
فالفرسان تحمي رجالها والرجال تحمي فرسانها ، وأنتم ليس لكم رجال تحمي فرسانكم ،
فالقوهم في الكتائب والمقانب ، بثوها ما بين ميمنتهم وميسرتهم ، واجعلوا مع كلّ
كتيبة كتيبة إلى جانبها ، فإن حمل على إحدى الكتيبتين ترجّلت الأخرى فنفّست عنها
الخيل والرجال ، ومتى ما شاءت كتيبة ارتفعت ، ومتى ما شاءت انحطّت. ولو كنتم في
صفّ واحد فزحفت إليكم الرجال فدفعتم عن الصفّ انتقض فكانت الهزيمة!
فقال له سليمان :
نعم المنزول به أنت! أكرمت النزول وأحسنت الضيافة ونصحت في المشورة ؛ وأثنوا عليه
كثيرا ودعوا له فوقف وودّعهم.
ثمّ جدّوا في
المسير حتّى جعلوا كل مرحلتين مرحلة واحدة يمرّون بالمدن مرورا حتّى بلغوا بلدة
ساعا ، فنزل سليمان بها وعبّأ كتائبه كما أمره زفر ، ثمّ ارتحل حتّى بلغ عين
الوردة سابقا القوم إليها فنزل في غربيّها ، فاطمأنّوا
__________________
واستراحوا وأراحوا
خيولهم ، وأقاموا بها خمسة أيام لا يبرحون منها ويبدو أنّهم بلغوها في منتصف جمادى الأولى أي في أربعين يوما من تاريخ خروجهم من النخيلة : ٥ ربيع
الآخر ، بلا ذكر لعلّة التأخير.
خطبة الخزاعي في
عين الوردة :
ثمّ قام فيهم
سليمان الخزاعي فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ ذكر آيات الله في السماء والأرض
والجبال والبحار ، وذكر آلاء الله ونعمه ، وذكر الدنيا فزهّد فيها وذكر الآخرة
فرغّب فيها ، ثمّ قال : أمّا بعد ، فقد آتاكم الله بعدوّكم الذي دأبتم في المسير
إليه آناء الليل والنهار ، تريدون فيما تظهرون «التوبة النصوح» ولقاء الله معذرين
، جئتموهم أنتم في ديارهم وحيّزهم ، فإذا لقيتموهم فاصدقوهم واصبروا «إن الله مع
الصابرين» ولا يولينّهم امرؤ دبره «إلّا متحرّفا لقتال أو متحيزا إلى فئة» ولا
تقتلوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح ، ولا تقتلوا أسيرا من أهل دعوتكم إلّا أن
يقاتلكم بعد أسره ، أو يكون من قتلة إخواننا بالطفّ رحمة الله عليهم ، فإنّ هذه
كانت سيرة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب في أهل هذه الدعوة.
ثمّ قال سليمان :
فإن أنا قتلت فأمير الناس المسيّب بن نجبة ، فإن اصيب المسيّب فأمير الناس عبد
الله بن سعد بن نفيل ، فإن قتل عبد الله بن سعد فأمير الناس عبد الله بن وال ، فإن
قتل عبد الله بن وال فأمير الناس رفاعة بن شدّاد رحم الله امرأ صدق ما عاهد الله
عليه.
__________________
ثمّ دعا المسيّب
بن نجبة وندب له أربعمئة فارس معه وقال له : سر حتّى تلقى أوّل عسكر من عساكرهم
فشنّ الغارة عليهم ، فإذا رأيت ما تحبّه ، وإلّا انصرفت في أصحابك إلينا ، وإيّاك
أن تنزل أو تدع أحدا من أصحابك ينزل أو يستقتل ، أخّر ذلك إلّا أن لا تجد بدّا منه
.
غارة المسيّب
الفزاري :
عسكروا في غربي
عين الوردة خمسة أيام ، ثمّ بعث الخزاعيّ الفزاريّ في أربعمئة فارس ليغير على أوّل
عساكر الشام ثمّ يعود إلى عين الوردة ، ويبدو أن ذلك كان في العشرين من جمادى
الأولى أي بعد ٤٥ يوما من خروجهم من الكوفة. فساروا يومهم وليلتهم وفي السحر
هوّموا تهويمة ثمّ صلّوا الصبح ، ثمّ بعث عبد الله بن عوف في مئة وعشرين وقال له :
انظروا أوّل من تلقون فأتوني به (أو بخبره) ثمّ بعث ابن عمّه أبا الجويرية العبدي
كذلك ، ثمّ حنش بن ربيعة الكناني كذلك ، وبقي الفزاريّ في مئة منهم.
فالتقى عبد الله
بن عوف بأعرابي من بني تغلب (النصارى؟) وبينما هم يسائلونه إذ لحقهم الفزاري ،
فأتوه به ، وتفأّلوا بكونه من تغلب بأنّهم سيغلبون ، فقال الفزاري : وإنّ هذا
الفأل لهو الفأل الحسن وقد كان رسول الله صلىاللهعليهوآله يعجبه الفأل. ويبدو أنّ الأعرابيّ كان على خبر عن جيش
الشام فسأله الفزاري : كم بيننا وبين أدناهم منّا؟ قال : أدنى عسكر من عساكرهم منك
عسكر ابن ذي الكلاع على رأس ميل! فتركوه.
__________________
وخرجوا مسرعين وهم
مئتان ، فأشرفوا عليهم وهم غارّون فحملوا على جانب منهم ، فما قاتلوا إلّا قليلا
واصيب منهم رجال وجرح كثير منهم ، ثمّ خرجوا من عسكرهم وخلّوه وانهزموا ، فأخذوا
بعض دوابّهم وما خفّ عليهم ، وصاح بهم الفزاري : الرجعة فانصرفوا ، فانصرفوا.
وبلغ خبرهم إلى
ابن زياد خلفهم فسرّح إليهم الحصين بن نمير السكوني في اثني عشر ألفا حتّى نزل بهم
.
معركة التوّابين
في عين الوردة :
عاد الفزاريّ
بالأربعمئة إلى الثلاثة آلاف والأربعمئة مع سليمان الخزاعي ، فأعاد سليمان نظامهم
، فجعل الفزاري في يساره ، وعبد الله بن سعد على ميمنته ، ووقف هو في القلب ،
لثمان بقين من جمادى الأولى .
وجاءهم الحصين
السكوني الكنديّ الحمصيّ الشامي وعلى ميمنته جبلة بن عبد الله ، وربيعة بن المخارق
الغنوي على ميسرته ، ثمّ زحف إليهم ، فلمّا دنوا منهم دعوهم إلى اجتماع الكلمة على
طاعة (مروان بن الحكم) فأبى ذلك التوّابون.
ودعاهم التوّابون
إلى أن يخلعوا (مروان بن الحكم) وعبيد الله بن زياد ويدفعونه إليهم ليقتلوه ببعض
من قتل من إخوانهم (لا بالحسين عليهالسلام فهو دونه!)
__________________
فإذا فعلوا ذلك
عادوا إلى بلادهم (العراق) فيخرجون من فيه من آل ابن الزبير «ليردّوا هذا الأمر (الحكم)
إلى أهل بيت النبيّ» الذين آتاهم الله من قبلهم بالنعمة والكرامة! فأبوا.
لا نجد فيما
بأيدينا إلّا أن عبد الله بن سعد في ميمنة التوّابين بدؤوا القتال فحملوا على
ربيعة الغنوي في ميسرة أهل الشام فهزموهم. مع أنّهم كانوا ثلاثة أضعاف التوّابين ،
ولم يكن عبد الله بن سعد في القلب ولا القائد العامّ ، ولا ذكر أمر من سليمان ،
نعم كان التوّابون لا شكّ أكثر اندفاعا وحماسا. وحملت ميسرة التوّابين بإمرة
الفزاريّ على جبلة بن عبد الله في ميمنة الشام ، وحمل سليمان في القلب على جماعتهم
فهزموهم حتّى اضطروهم إلى معسكرهم من خلفهم ، وما زال أهل العراق قاهرين حتّى مساء
الأربعاء فانصرفوا.
وكان شرحبيل بن ذي
الكلاع في ثمانية آلاف وكان الحصين السّكوني ادّعى أنه على جماعتهم جميعا ، وأبى
شرحبيل وقال : ما ولّيت عليّ! ثمّ تكاتبا إلى ابن زياد ينتظران أمره ، وكان ابن ذي
الكلاع على رأس ميل من عسكر ابن نمير ولم ينصره! وبلغ خبره إلى ابن زياد فبعث إليه يشتمه ويقول
له : إنّما عملت عمل الشباب الأغمار تضيع عسكرك ومسالحك! سر إلى الحصين بن نمير
حتّى توافيه وهو على الناس فجاءه بجمعه ، فتكاملوا عشرين ألفا إلّا من اصيب منهم
يوم أمس .
__________________
وعبّر الخبر عمّن
شهد قتال التوابين والشاميّين في اليوم الثاني : الخميس قال : فغدوا علينا
وغاديناهم فقاتلناهم. ولعلّه يعني أنّ الشاميّين بدؤوهم ، ويقول : قتالا لم ير
الشيب والمرد مثله قط ، يومنا كلّه. وإنّما حجزت الصلاة (للظهر والعصر) بيننا وبين
القتال ، حتّى أمسينا ، فتحاجزنا ؛ وقد أكثروا فينا الجراح ، وأفشيناها فيهم. وفي
أوّل النهار في هذا اليوم الثاني من القتال جرح أبو الجويرية العبدي (البصري) فلزم
رحله ، وكان يحثّ الناس على القتال.
ومثله في عمله كان
صخير بن حذيفة المرّي ، ففي مساء اليوم الثاني الخميس ليلة الجمعة كان يدور الليل
كلّه في التوابين ويقول لهم : عباد الله أبشروا بكرامة الله ورضوانه ، فو الله
إنّه لحقّ لمن ليس بينه وبين الراحة من إبرام الدنيا وأذاها ودخول الجنة ولقاء
الأحبة إلّا فراق هذه النفس الأمّارة بالسوء ، حقّ له أن يكون سخيّا بفراق نفسه
ومسرورا بلقاء ربّه!
وفي اليوم الثالث
يوم الجمعة أيضا يظهر أنّ الحصين السكوني هو الذي بدأ فخرج إليهم في عشرة آلاف ،
فاقتتلوا قتالا شديدا إلى ارتفاع الضّحى ، ثمّ تكاثر أهل الشام على العراقيين
وتعطّفوا عليهم من كلّ جانب.
فلمّا رأى سليمان
ذلك نزل ونادى : من أراد «التوبة» من ذنبه و «الوفاء» بعهده والبكور إلى ربّه
فإليّ يا عباد الله! فنزل معه ناس كثير ، فكسر جفن سيفه فكسروا جفون سيوفهم ومشوا
معه فقاتلوهم ، ونزل سائر الرجال يشتدّون مصلّتين سيوفهم وقد كسروا جفونها ،
فقاتلوهم فقتلوا من أهل الشام مقتلة عظيمة ، وأكثروا الجراح فيهم.
فلمّا رأى الحصين
ذلك أمر رماته يرمونهم بنبالهم ، وفيهم يزيد بن الحصين السكوني رمى سليمان بسهم ـ
وهو في التسعين من عمره ـ فوقع.
فأخذ الراية
المسيّب الفزاري وقال له : رحمك الله يا أخي! فقد صدقت و «وفيت» بما عليك ، وبقي
ما علينا. ثمّ شدّ بالراية فقاتل ساعة ثمّ رجع ، ثمّ شدّ بها فقاتل ثمّ رجع ،
وهكذا حتّى قتل رحمهالله.
ولما قتل المسيّب
أخذ الراية عبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي ثمّ قال : أخويّ (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) وأقبل معه الأزديون فالتفّوا حول رايته!
وخرج المثنى بن
مخربة العبدي البصري من البصرة بثلاثمئة رجل وبلغ خروجه إلى سعد بن حذيفة بن
اليمان بالمدائن ، فخرج سعد من المدائن بمئة وسبعين رجلا قبل أن يصلها العبدي
البصري بخمس ليال ، وقدّم منهم ثلاثة على آثار الكوفيين ليبشروهم بخروجهم إليهم وبخبروهم
بمجيء أهل البصرة إليهم أيضا. فانتهوا إليهم وأخبروهم! ثمّ قاتلوا معهم حتّى قتلوا
ونجى أحدهم.
وحمل عليهم ربيعة
الغنوي في ميسرتهم على التوّابين حملة منكرة فاقتلوا قتالا شديدا ، حتّى اختلف هو
وعبد الله بن سعد بضربتين ، ثمّ اعتنق كلّ صاحبه فوقعا إلى الأرض واضطربا ، وطعن
ابن أخي ربيعة على عبد الله بن سعد بطعنة في نحره فقتله رحمهالله. وحاول خالد بن سعيد أخو عبد الله بن سعيد أن يقتل قاتل
أخيه فقتل رحمهالله. وبقيت راية عبد الله بن سعد لا أحد لها ، فأمسكها عبد
الله بن خازم الكثيري ثمّ أخذها منه عبد الله بن وال التيمي ، وذلك عند العصر.
ثمّ نادى عبد الله
بن وال : من أراد الحياة التي ليس بعدها موت ، والراحة التي ليس بعدها نصب ،
والسرور الذي ليس بعده حزن ، فليتقرّب إلى ربّه بجهاد هؤلاء المحلّين ، فالرواح
إلى الجنة. ثمّ شدّ عليهم فشدّوا معه فكشفوهم ، ثمّ تعطّف اولئك عليهم من كلّ جانب
، وشدّ عليهم أدهم الباهلي في خيله ورجاله فقتل عبد الله بن وال التيمي رحمهالله .
__________________
ورفع الراية رفاعة
، واستشهد آخرون :
لما قتل عبد الله
بن وال قال الوليد الكناني لرفاعة بن شدّاد : أمسك رايتك ؛ قال : لا اريدها! فقيل
له : مالك؟ قال : ارجعوا بنا لعلّ الله يجمعنا لشرّ يوم لهم!
فوثب عليه عبد
الله بن عوف الأحمر وقال له : والله لئن انصرفت ليركبنّ أكتافنا ، فلا نبلغ فرسخا
حتّى نهلك من عند آخرنا ، فإن نجا منّا ناج أخذه الأعراب وأهل القرى فتقرّبوا
إليهم به فيقتل صبرا! أنشدك الله أن لا تفعل ذلك ، وهذه الشمس قد طفلت للمغيب ،
وهذا الليل قد غشينا ، ونحن الآن ممتنعون فنقاتلهم على خيولنا هذه ، فإذا غسق
الليل ففي أوّله نركب خيولنا فنرمي بها حتّى نصبح ، فنسير ونحن على مهل العشرة
والعشرون معا ، ويحمل الرجل منا جريحه وينتظر صاحبه ، ويعرف الناس الوجه الذي
يأخذون فيتبع فيه بعضهم بعضا ، ولو كان الذي ذكرت لم يعرف رجل وجهه لا أين بذهب
ولا أين يسقط ، فلا نصبح إلّا ونحن بين مقتول ومأسور!
فقال له رفاعة
البجلي : فإنّك نعم ما رأيت.
وأخذ أهل الشام
يتنادون : إنّ الله قد أهلكهم! فأقدموا عليهم فافرغوا منهم قبل الليل.
فأخذوا يقدمون
عليهم فقاتلوهم حتّى العشاء قتالا شديدا.
وقام كريب بن زيد
الحميري فجمع إليه رجالا من حمير وهمدان في جماعة إن كانت أقل من مئة رجل فقلّما
تنقص ، فقال لهم : عباد الله! إنّه قد بلغني أنّ طائفة منكم يريدون أن يرجعوا إلى
ما خرجوا منه إلى دنياهم ، وإن هم ركنوا إلى دنياهم رجعوا إلى خطاياهم ؛ فأمّا أنا
فو الله لا اوّلي هذا العدوّ ظهري حتّى أرد موارد إخواني ؛ فروحوا إلى ربّكم ، فو
الله ما في شيء من الدنيا خلف من رضا الله و «التوبة» إليه. فقالوا له : رأينا مثل
رأيك.
فمضى برايته حتّى
دنا من جموع ذي الكلاع الحميري ، فسأل عنهم فأخبروه أنّهم من حمير ، فعرض عليهم
الأمان ، فأجاب كريب : إنّا كنا آمنين في الدنيا وإنّما خرجنا نطلب أمان الآخرة!
ثمّ قاتلوا حتّى قتلوا رحمهمالله.
وكان صخير بن
حذيفة المزني من المحرّضين على القتال ، والآن مشى في ثلاثين رجلا من مزينة وقال
لهم : لا تهابوا الموت في الله فإنّه لاقيكم ، ولا ترجعوا إلى الدنيا التي خرجتم
منها إلى الله فإنّها لا تبقى لكم ، ولا تزهدوا فيما رغبتم فيه من ثواب الله فإنّ
ما عند الله خير لكم! فأجابوه فمشى بهم فقاتلوا حتّى قتلوا رحمهمالله. ثمّ أمسى المساء وباء أهل الشام بغضب من الله ورسوله إلى
معسكرهم .
وارتفع رفاعة
بالباقين ليلا :
ولمّا أمسى المساء
ورجع أهل الشام إلى معسكرهم ، أمر رفاعة أن يدفع كلّ جريح إلى قومه ، ثمّ أمر أبا
الجويرية العبدي (البصري) في سبعين فارسا معه أن يستروهم من خلفهم ويحملوا لهم كلّ
حمل ساقط. ثمّ أمر بالرحيل ليلة الخامس والعشرين من جمادى الأولى ، فسار بهم الليل
كلّه حتّى أصبح في التّنينير على شاطئ الخابور فهنا عبره بهم ثمّ قطع الجسر ، ثمّ
قطع سائر الجسور حتّى بلغوا إلى خارج قرقيسياء ، وعلم زفر بن الحارث الكلابي بهم
فأرسل إليهم أن أقيموا عندنا ما أحببتم فلكم المواساة والكرامة! فأقاموا ثلاثا ،
فأرسل إليهم من لديه من الأطباء! ومن الطعام والعلف مثل ما بعث في المرّة الأولى ،
ثمّ زوّدهم بما أحبّوا من الطعام والعلف.
__________________
وأصبح الحصين
السكوني فبعث إليهم فوجدهم قد ذهبوا ، فأسرع العودة بجيشه.
وكان المثنّى بن
مخرّبة العبدي البصري قد وصل بالثلاثمئة معه إلى قرية صندوداء ، وتقدّمه سعد بن
حذيفة بن اليمان بالمئة والسبعين معه إلى بلدة هيت ، فأخبره الأعراب بما لقي
التوابون فعاد سعد إلى المثنى في صندوداء فأخبره ، ثمّ أقاموا حتّى دنا منهم رفاعة
فاستقبلوه بالسلام والبكاء وأقاموا معهم يوما وليلة يتناعون إخوانهم ويبكونهم ،
ثمّ انصرف أهل المدائن إليها ، وأهل البصرة إليها ، وعاد أهل الكوفة إليها.
وكان مروان حيّا
ولكنّه كان قد بايع لابنه عبد الملك لما بعده ، فلمّا بلغه خبر مصير «التوابين»
صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أمّا بعد ، فإنّ الله قد أهلك من رؤوس
أهل العراق ملقح فتنة ورأس ضلالة : سليمان بن صرد! ألا وإنّ السيوف قد تركت رأس
المسيّب بن نجبة خذاريف! ألا وقد قتل الله من رؤوسهم رأسين عظيمين ضالّين مضلّين :
عبد الله بن سعد أخا الأزد! وعبد الله بن وال أخا بكر بن وائل ؛ فلم يبق بعد هؤلاء
أحد عنده دفاع ولا امتناع !
أواخر أخبار مروان
:
انصرف مروان من
مصر إلى الأردن وعليها حسّان بن بجدل الكلابي خال
__________________
يزيد بن معاوية
ومعه بنو كلاب ، فلمّا وصل مروان إلى الصّنّبرة بلغه أنّ حسّان بن بجدل لم يزل على بيعة عمرو بن سعيد
الأشدق ، فأحضره وقال له : بلغني أنّك بايعت عمرو بن سعيد؟ فأنكر ذلك ، فقال له :
فبايع لعبد الملك ثمّ بعده لعبد العزيز بن مروان .
فقال له مالك بن
هبيرة اليشكري : إنّه ليست لك في أعناقنا بيعة ، ولا نقاتل إلّا عن عرض الدنيا!
فإن تكن لنا على ما كان لنا معاوية ويزيد نصرناك! وإن تكن الأخرى فو الله ما قريش
عندنا إلّا سواء.
وكان حسّان رئيس
قحطان وسيّدها بالشام ، وكان لهم من الشروط على معاوية وابنه يزيد وابنه معاوية بن
يزيد : أن يكون لهم الأمر والنهي وصدر المجلس ، فما يكون من حلّ وعقد إلّا عن
مشورتهم ورأي منهم! وأن يفرض لألفي رجل منهم لكلّ رجل ألفين ألفين! وإن مات حسّان
قام ابنه أو ابن عمه مقامه! فرضي مروان بذلك ، فانقاد حسّان لمروان ! وقام في الناس ودعاهم إلى بيعة عبد الملك بن مروان بعد
مروان وبيعة عبد العزيز بن مروان بعد عبد الملك ، فبايعوهما ولم يخالفه أحد في ذلك
.
قال ابن قتيبة :
ثمّ لمّا قدم الشام من مصر قال له خالد بن يزيد بن معاوية : اردد إليّ السلاح الذي
أخذته. فأبى عليه مروان ، فألحّ خالد عليه ، وكان مروان فاحشا سبّابا فقال له :
يابن الرّبوخ! يابن الرّطبة! فعاد خالد إلى امّه وأخبرها
__________________
بما قال له. ثمّ
لبث مروان بعد ما قال لخالد ذلك ليالي ثمّ جاء إلى امّ خالد فرقد عندها ، فأمرت
جواريها فطوين عليه الدواشك (الفرش) حتّى قتلنه ، ثمّ خرجن يشقّقن جيوبهن ويصرخن :
يا أمير المؤمنين !
وقال اليعقوبي :
إن خالدا لما أخبرها مغضبا قالت له : والله لا يشرب البارد بعدها! ثمّ صيّرت له
سمّا في لبن فلمّا دخل إليها سقته منه. أو : وضعت وسادة على وجهه حتّى قتلته ، قيل
: قبل أن يبرح من الصّنّبرة في الأردن ، وقيل : بل بدمشق وبها دفن .
وقال المسعودي :
دخل خالد على امّه وشكى إليها ما قاله له وقبّح لها تزوّجها بمروان! فقالت له : لا
يعيبك بعدها! فمنهم من قال : إنّها وضعت وسادة على متنفّسه وقعدت عليها حتّى مات ،
ومنهم من قال : إنّها أعدّت له لبنا مسموما فلمّا دخل عليها ناولته إياه فشرب ،
فلما استقرّ في جوفه وقع يجود بنفسه وأمسك لسانه!
وحضره ولده وفيهم
عبد الملك فجعل مروان يشير إلى امّ خالد أنّها قتلته ، وجعلت امّ خالد تقول : بأبي
أنت وامي يوصيكم بي! حتّى هلك في أوّل شهر رمضان سنة (٦٥ ه) وله ٦٣ سنة ، وخالفه عمرو بن سعيد الأشدق فشرط له عبد الملك أن لا
يقطع شيئا دونه ولا ينفّذ أمرا إلّا بمحضره ، وأن يستخلفه بعده ، فبايعه على ذلك !
__________________
جيش حبيش إلى
المدينة :
قال ابن قتيبة :
ثمّ إنّ عبد الملك بعث حبيش بن دلجة القيني في سبعة آلاف رجل إلى المدينة (في حكم
ابن الزبير) فدخلها بلا مقاومة حتّى جلس على المنبر الشريف ، فدعا بخبز ولحم! فأكل
وهو على المنبر ؛ ثمّ طلب ماء ليتوضّأ ، فتوضّأ وهو على المنبر!
ثمّ أرسل إلى جابر
بن عبد الله الأنصاري فدعاه ، فلمّا جيء به إليه قال له : تبايع لعبد الملك أمير
المؤمنين بالخلافة ، عليك بذلك عهد الله وميثاقه وأعظم ما أخذ لله على أحد من خلقه
بالوفاء ، فإن خالفت فأهرق الله دمك على الضلالة!
فقال له جابر بن
عبد الله : إنّك أطوق لذلك منّي! ولكنّي ابايعه على ما بايعت عليه رسول الله صلىاللهعليهوآله يوم الحديبية : على السمع والطاعة. فبايعه.
ثمّ أرسل إلى عبد
الله بن عمر فلمّا جيء به قال له : تبايع لعبد الملك أمير المؤمنين على السمع
والطاعة؟
فقال ابن عمر :
إذا اجتمع الناس عليه بايعت له إن شاء الله. فاقتنع القينيّ منه بذلك.
ثمّ خرج ابن دلجة
من يومه ذلك إلى الربذة ، وذلك في رمضان من سنة خمس وستّين.
وكتب ابن الزبير
إلى عباس بن سهل الساعدي بالمدينة أن يجهّز الناس ثمّ يسير بهم إلى ابن دلجة
وأصحابه ، فسار بهم حتّى لقيهم بالربذة في شهر رمضان.
وكتب ابن الزبير
إلى والي البصرة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة أن يمدّ عباس بن سهل بجيش ،
فأمدّه بتسعمئة رجل ، فساروا حتّى انتهوا إلى الربذة. فبات أهل المدينة والبصرة ليلتهم
يقرؤون القرآن ويصلّون حتّى أصبحوا ، وبات جيش الشام بالخمور والمعازف حتّى أصبحوا
، ثمّ غدوا إلى القتال ، فقتل حبيش
ومن معه من أهل
الشام ، ولجأ خمسمئة منهم إلى جبل عمود بالربذة ، وأحاط بهم عباس بن سهل حتّى
ينزلوا على حكمه فنزلوا على حكمه فضرب أعناقهم أجمعين ، وكان فيهم أبو الحجاج يوسف
بن الحكم الثقفي (فهربا).
ثمّ رجع ابن سهل
إلى المدينة فجدّد البيعة لابن الزبير فبايعوا ، وسار أهل البصرة إلى مكّة ، فبعث
ابن الزبير ابنه حمزة بن عبد الله عاملا عليهم وهو شاب فاستحقره أهل البصرة ، فبعث
إليهم أخاه مصعب بن الزبير فقال لهم : يا أهل البصرة ، لا يقدم عليكم أحد إلّا
لقّبتموه ، وأنا القّب لكم نفسي : أنا القصّاب !
__________________
بداية أخبار المختار
وحبسوا المختار
بعد ابن صرد :
روى الطبري عن أبي
مخنف قال : لما خرج سليمان بن صرد إلى الجزيرة (جزيرة ابن عمر ـ الموصل) شعر عمر
بن سعد وأصحابه بالشرّ من المختار بعد سليمان ، واجتمع إليه لذلك شبث بن ربعي
التميمي ويزيد بن الحارث بن رويم الشيباني واتّفقوا على أن يأتوا الخطمي الأمير
الزّبيري على الكوفة فيشيرون عليه بذلك. وأتوا إليه وقالوا له : إنّ سليمان بن صرد
إنّما خرج يقاتل عدوّكم ويذلّلهم لكم وقد خرج عن بلادكم. وإنّ المختار أشدّ عليكم
من سليمان ، فهو إنّما يريد أن يثب عليكم في مصركم! فسيّروا إليه وخلّدوه في السجن
حتّى يستقيم أمر الناس.
وقبل الأميران
الزبيريان : عبد الله بن يزيد الخطمي وإبراهيم بن محمّد بن طلحة التيمي مشورة ابن
سعد وأصحابه ، ولكنّهم لم يروا إرسال الشرط عليه ، بل خرجوا إليه في جمع من الناس
حتّى أحاطوا بداره وطلبوه ، فلمّا خرج إليهم قال له إبراهيم التيمي : يابن عبيد!
ما أنت وما يبلغنا عنك؟! قال : أعوذ بالله من غشّ كغشّ أبيك! ما الذي بلغك عني
إلّا باطل! فالتفت التيميّ إلى الخطمي وقال له :
شدّه كتافا ومشّه
حافيا! فقال الخطميّ : سبحان الله! ما كنت لأفعل هذا برجل لم يظهر لنا حربا ولا
عداوة ، وإنّما أخذناه على الظنّ ، فما كنت لاحفّيه ولا لامشّيه! فأتي ببغلة دهماء
ليركبها ، فقال إبراهيم لعبد الله الخطمي : ألا تشدّ عليه القيود؟ فقال : كفى له
بالسجن قيدا .
هذا ، وقد مرّ
الخبر عن حميد بن مسلم الأزدي : أنّه سمع نفرا من أصحاب المختار يقولون : قد كملنا
ألفي رجل وذلك قبل خروج التوّابين من الكوفة. وعاد رفاعة بن شدّاد
البجلي بفلول التوّابين إلى الكوفة وإذا بالمختار محبوس .
ونقل أبو مخنف
قولا آخر عن أبي زهير العبسي : أنّ المختار لم يحبس قبل وصول فلول التوّابين مع
ابن شداد البجلي من عين الوردة ، فكتب إليه يقول : أمّا بعد ، فمرحبا بالعصب الذين
أعظم الله لهم الأجر حين انصرفوا ، ورضى انصرافهم حين قفلوا. أما وربّ البنيّة
التي بنى ؛ ما خطا خاط منكم خطوة ، ولا ربا ربوة إلّا كان ثواب الله له أعظم من
ملك الدنيا. إنّ سليمان قد قضى ما عليه وتوفّاه الله ، فجعل روحه مع أرواح
الأنبياء والصدّيقين والشهداء والصالحين ، ولم يكن بصاحبكم الذي به تنصرون!
إنّي أنا الأمير
المأمور! والأمين المأمون! وأمير الجيش وقاتل الجبّارين ، والمنتقم من أعداء الدين
، والمقيد من الأوتار! فأعدّوا واستعدّوا ، وأبشروا واستبشروا. أدعوكم إلى كتاب
الله وسنّة نبيّه صلىاللهعليهوآله ، وإلى الطلب بدماء «أهل البيت» والدفع عن الضعفاء ، وجهاد
المحلّين ، والسلام.
__________________
قال العبسي :
وتحدّث الناس بهذا من أمر المختار حتّى بلغ ذلك إلى أميري الكوفة فخرجا في الناس
إلى دار المختار فأخذاه وحبساه وهو أولى ممّا مضى.
ويبدو أنّ المختار
كان مقيّدا في حبسه بلا منع عن زيارته أحيانا ، وممّن زاره هو حميد بن مسلم الأزدي
بعد عودته مع فلول التوّابين ، دخل إليه مع يحيى ابن أبي عيسى قال : فرأيته مقيّدا
، وسمعته يقول : أما وربّ البحار ، والنخيل والأشجار ، والمهامه والقفار ،
والملائكة الأبرار ، والمصطفين الأخيار ، لأقتلنّ كلّ جبار بكل لدن خطّار ومهنّد
بتّار ، في جموع من الأنصار ... حتّى إذا أقمت عمود الدين ورأبت شعب صدع المسلمين
وشفيت غليل صدور المؤمنين وأدركت ثار النبيّين ، لم يكبر عليّ زوال الدنيا ، ولم
أحفل بالموت إذا أتى!
قال الراوي يحيى :
وكنّا كلما زرناه في السجن يردّد علينا هذا القول فلم يكن ممنوعا عن ذلك! ويكرّر الطبري خبر الكتاب فيقول :
جاء بالكتاب سيحان بن عمرو الليثي العبدي وجمع له رفاعة بن شدّاد البجلي وأخاه عبد
الله ، وأحمر بن شميط الأحمسي وعبد الله بن كامل ويزيد بن أنس ، وقرأه عليهم ،
فاتّفقوا أن يبعثوا إليه ابن كامل وقالوا له : قل له : قد قرأنا كتابك ، ونحن حيث
يسرّك ، فإن شئت أن نأتيك حتّى نخرجك فعلنا!
فأتى عبد الله بن
كامل إلى المختار في السجن ، فأخبره بما ارسل إليه به. فسرّ المختار باجتماع «الشيعة»
له ولكنّه قال له : لا تريدوا هذا ؛ فإنّي أخرج في أيامي هذه فلم يكن يمنع عنه! بل روى الكلبي عن أبي مخنف : أنّ رفاعة
بن
__________________
شدّاد وعبد الله
بن شدّاد وأحمر بن شميط الأحمسي ويزيد بن أنس الأسدي والسائب بن مالك الأشعري
أخذوا يبايعون الناس للمختار وهو لا يزال في السجن ، فلم يزل يكثر أصحابه ويقوى ويشتدّ
أمره .
وأطلق المختار
بكفالة وتحليف :
ولمرّة ثانية
توصّل المختار إلى الخروج من حصار الأشرار بالتوسّل بصهره عبد الله بن عمر زوج
اخته صفيّة الثقفيّة ، فكتب إليه : أمّا بعد ، فإنّي قد حبست مظلوما ، وظنّ بي
الولاة ظنونا كاذبة! فاكتب فيّ يرحمك الله ـ إلى هذين الظالمين كتابا لطيفا ، عسى
الله أن يخلّصني من أيديهما بلطفك وبركتك ويمنك! والسلام عليك. وبعث به مع غلامه
زربي.
فكتب عبد الله بن
عمر إلى الأميرين الزبيريّين : أمّا بعد ، فقد علمتما الذي بيني وبين المختار بن
أبي عبيد من الصهر ، والذي بيني وبينكما من الودّ ؛ فأقسمت عليكما بحقّ ما بيني
وبينكما لمّا خلّيتما سبيله ، حين تنظران في كتابي هذا ، والسلام عليكما ورحمة
الله.
وعاد زرپيّ غلام
المختار إليه بكتاب صهره ابن عمر ، فبعث به إلى الأميرين الزبيريّين ، فلمّا
أتاهما كتاب ابن عمر دعوا للمختار بكفلاء يضمنونه ، فأتاهما ناس كثير من أصحاب
المختار ، فضمنه عشرة من أشرافهم معروفين وترك سائرهم ، فلمّا ضمنوه دعوا به ،
فلمّا احضر حلّفاه بالله الذي لا إله إلّا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم ،
أن لا يبغيهما غائلة ما كان لهما سلطان! ولا يخرج عليهما! فإن هو فعل ذلك فعليه
ألف بدنة ينحرها لدى رتاج الكعبة ،
__________________
وأن يصبح مواليه
كلّهم أحرارا إناثا وذكورا ، فحلف لهما بذلك ، ثمّ خرج من عندهما إلى داره.
وسمع يقول : أمّا
حلفي لهم بالله ؛ فإنّه إذا حلفت على يمين ثمّ رأيت ما هو خير منها ، فإنّه ينبغي
لي أن أدع ما حلفت عليه وآتي الذي هو خير وأكفّر عن يميني ، وخروجي عليهم خير من
كفّي عنهم. وأمّا عتق مماليكي ؛ فو الله لوددت أنّه قد استتبّ لي أمري ثمّ لم أملك
مملوكا أبدا ، وأمّا هدي ألف بدنة ؛ فهو أهون عليّ من بصقة! وما ثمن ألف بدنة فيهولني!
وأخذت «الشيعة»
تختلف إليه وتجتمع عليه حتّى اتّفق رأيهم على الرضا به وذلك قبل شهر رمضان من سنة (٦٥ ه).
فدعا ابن الزبير
أخاه مصعبا وعبد الله بن المطيع العدوي والحارث بن عبد الله المخزومي ، فبعث أخاه
على المدينة ، وابن المطيع العدوي على الكوفة ، والحارث المخزومي على البصرة ،
فقدم ابن المطيع العدوي الكوفة يوم الخميس لخمس بقين من شهر رمضان سنة خمس وستين .
أوّل خطبة لابن
المطيع في الكوفة :
مرّ في الخبر أنّ
ابن مطيع العدوي وصل الكوفة أميرا يوم الخميس ، ففي آخر جمعة من شهر رمضان خطبهم
للجمعة فقال لهم : أمّا بعد ؛ فإنّ أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير بعثني على
مصركم وثغوركم ، وجباية فيئكم ، وأن لا أحمل فضل فيئكم عنكم إلّا برضا منكم ،
وبوصيّة عمر بن الخطاب .. وبسيرة عثمان بن عفّان التي سار بها في المسلمين ....
__________________
فأراد أن يقوم
إليه يزيد بن أنس الأسدي فسبقه السائب بن مالك الأشعري فقال للعدوي :
أمّا أمر ابن
الزبير (كذا بلا لقب لإمرة) إيّاك أن لا تحمل فيئنا عنّا إلّا برضانا ، فإنا نشهدك
أنا لا نرضى أن تحمل فيئنا عنّا ، وأن يقسّم إلّا فينا .. وأن لا يسار فينا إلّا
بسيرة عليّ بن أبي طالب التي سار بها في بلادنا هذه حتّى هلك «رحمة الله عليه»!
ولا حاجة لنا في سيرة عثمان في أنفسنا ولا في فيئنا فإنّها كانت أثرة وهوى! ولا في
سيرة عمر بن الخطاب في فيئنا! وإن كانت أهون السيرتين ضرّا علينا!
فقام يزيد بن أنس
الأسدي وقال : صدق السائب بن مالك وبرّ! رأينا مثل رأيه وقولنا مثل قوله!
فقال ابن مطيع :
نسير فيكم بكلّ سيرة أحببتموها وهويتموها! ثمّ نزل.
وكان ابن مطيع قد
اختار لشرطته إياس بن مضارب العجلي ، وأمره بالشدّة على المريب.
فجاء ابن إياس إلى
ابن مطيع وقال له : إنّ السائب بن مالك من رؤوس أصحاب المختار.
وإنّ عيوني قد
أتوني وأخبروني أنّ أمر المختار قد استجمع له فكأنّه قد وثب بالكوفة ، فلست آمنه ،
فابعث إليه فليأتك فإذا جاءك فاحبسه في سجنك حتّى يستقيم أمر الناس .
استحضار المختار :
فاستحضر ابن
المطيع زائدة بن قدامة الثقفي وضمّ إليه الحسين بن عبد الله
__________________
الهمداني ليستحضرا
المختار إلى الأمير ، فذهبا إليه فإذا على باب داره أصحابه وفي داره منهم جمع كثير
، ودخلا إليه وقالا له : أجب الأمير ، فأمر بإسراج فرسه ودعا بثيابه ليذهب معهما ،
فلمّا رأى ذلك زائدة قرأ قول الله تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ...) وكان المختار قد لبس ثيابه فألقاها وجلس وقال : إنّي لأجد
قفقفة (رجفة) شديدة ما أراني إلّا قد وعكت ألقوا عليّ القطيفة! وارجعا أنتما إلى
ابن مطيع (كذا بدون لقب الأمير) فأعلماه حالي التي أنا عليها. قالا : فأقبلنا إلى
ابن مطيع فأخبرناه بشكواه وعلّته فصدّقنا ، ولها عنه .
حنفيّ يتحرّى إذن
ابن الحنفية :
في منزل سعر بن أبي
سعر الحنفي التميمي اجتمع جمع من أشرافهم منهم عظيم الشرف عبد الرحمان بن شريح
الشبامي الهمداني ، والأسود بن جراد الكندي وسعيد بن منقذ الثوري وقدامة بن مالك
الجشمي ، وتقدّم مقدّمهم الشبامي الهمداني فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أمّا
بعد ، فإنّ المختار يريد أن يخرج بنا ، وقد بايعناه ولا ندري أرسله إلينا ابن
الحنفية أم لا؟ فانهضوا بنا إلى ابن الحنفية لنخبره بما قدم به علينا وبما دعانا
إليه ، فإن رخّص لنا في اتّباعه اتّبعناه ، وإن نهانا عنه اجتنبناه ، فو الله ما
ينبغي أن يكون شيء من أمر الدنيا آثر عندنا من سلامة ديننا!
قالوا له : أرشدك
الله! فقد أصبت ووفّقت ، اخرج بنا إذا شئت. فأجمع رأيهم أن يخرجوا في تلك الأيام (أيام
موسم الحج) وخرجوا حتّى قدموا على
__________________
ابن الحنفية
يقدمهم إمامهم وخطيبهم الشبامي الهمداني ، فقالوا له : إنّ لنا إليك حاجة (وكان
عنده ناس) فقال : أفسرّ هي أم علانية؟ قالوا : بل سرّ ، فمكث قليلا ثمّ قام فتنحى
جانبا ودعاهم ، فقاموا إليه.
فبدأ ابن شريح
الشبامي فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أمّا بعد فإنّكم «أهل بيت» خصّكم الله
بالفضيلة وشرّفكم بالنبوّة ، وعظّم حقّكم على هذه الأمة ، فلا يجهل حقّكم إلّا
مغبون الرأي مخسوس النصيب.
وقد أصبتم بحسين «رحمة
الله عليه» عظمت مصيبة ، اختصصتم بها بعد ما عمّ بها المسلمون!
وقد قدم علينا
المختار بن أبي عبيد «يزعم لنا أنّه قد جاءنا من تلقائكم» وقد دعانا إلى كتاب الله
وسنّة نبيّه صلىاللهعليهوآله والطلب بدماء «أهل البيت» والدفع عن الضعفاء ، فبايعناه
على ذلك ، ثمّ إنّا رأينا أن نأتيك فنذكر لك ما دعانا إليه وندبنا له ، فإن أمرتنا
باتّباعه اتّبعناه ، وإن نهيتنا عنه اجتنبناه.
فلما فرغ حمد الله
وأثنى عليه وصلّى على النبيّ صلىاللهعليهوآله ثمّ قال : أمّا بعد ، فأمّا ما ذكرتم ممّا خصّنا الله به
من فضل ؛ ف (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) فلله الحمد.
وأمّا ما ذكرتم من
مصيبتنا بحسين ؛ فهي ملحمة كتبت عليه وكرامة أهداها الله إليه ، رفع بما كان منها
درجات قوم عنده ووضع بها آخرين ، وكان ذلك في الذكر الحكيم ؛ وكان أمر الله قدرا
مقدورا!
وأمّا ما ذكرتم من
دعاء من دعاكم إلى الطلب بدمائنا ؛ فو الله لوددت أنّ الله انتصر لنا من عدوّنا
بمن شاء من خلقه! أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
فخرجوا من عنده
وهم يقولون : قد قال : لوددت أنّ الله انتصر لنا من عدوّنا بمن شاء من خلقه! ولو
كره لقال : لا تفعلوا. فقد أذن لنا. فلم يكن غير شهر وزيادة شيء حتّى أقبلوا على
رواحلهم وتوافقوا على أن يدخلوا على المختار رأسا فيبشّروه بأنّهم أمروا بنصرته .
المختار يبشّر
الأنصار :
دخل هؤلاء النفر
على المختار ، وكان قد عرفهم أنّهم رحلوا إلى الحجاز للتثبّت في أمره ، فلمّا رآهم
سألهم : ما وراءكم؟ فقالوا : قد أمرنا بنصرتك! (كذا) فقال : الله أكبر! أنا أبو
إسحاق! اجمعوا إليّ «الشيعة». فجمع له من كان قريبا منه ، فلمّا اجتمعوا قال لهم
المختار :
يا معشر «الشيعة»
إنّ نفرا منكم أحبّوا أن يعلموا مصداق ما جئت به ، فرحلوا إلى «إمام الهدى»
والنجيب المرتضى ابن خير من طشى ومشى حاشا النبيّ المجتبى ، فسألوه عمّا قدمت به عليكم ،
فنبّأهم أنّي : وزيره وظهيره! ورسوله وخليله وأمركم باتّباعي وطاعتي (كذا) فيما
دعوتكم إليه من قتال المحلّين ، والطلب بدماء «أهل بيت نبيّكم» المصطفين.
فلمّا سكت قام عبد
الرحمان بن شريح الشبامي الهمداني فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أمّا بعد «يا
معشر الشيعة» فإنّا قد كنّا أحببنا أن نستثبت
__________________
لأنفسنا خاصّة
ولجميع إخواننا عامّة ، فقدمنا على «المهديّ» ابن عليّ عليهالسلام فسألناه عن حربنا هذه وعمّا دعانا إليه المختار. فأمرنا
بمظاهرته ومؤازرته وإجابته إلى ما دعانا إليه (هكذا بتخصيص العامّ من كلام ابن
الحنفية) فأقبلنا طيّبة أنفسنا منشرحة صدورنا ، قد أذهب الله منها الشكّ والغلّ
والريب ، واستقامت لنا بصيرتنا في قتال عدوّنا. فليبلّغ ذلك شاهدكم غائبكم
واستعدّوا وتأهّبوا. ثمّ سكت وجلس وقام من كان معه منهم وصدّقه بنحو كلامه.
فاستجمعت له «الشيعة»
وحدبت عليه بفضل فعل الشبامي الهمداني.
ودعت همدان سيّدها
إبراهيم :
كان ابن شريح من
شبام همدان الذي شبّ لتأكيد أمر المختار بادّعاء تأييد ابن الحنفية له ، ويغلب على
ظنّي أنّ شبام همدان شاءت إلى جانبها النخع من همدان من خلال فتاها الشريف إبراهيم
بن الأشتر النخعي ، وإن كان الشعبي الهمداني ينسب اقتراح دعوته على المختار إلى
عبد الله بن شدّاد وعبد الله بن كامل وأحمر بن شميط الأحمسي ويزيد بن أنس الأسدي
أنّهم توافقوا فيما بينهم أن يقترحوا على المختار دعوة ابن الأشتر ، فقالوا له :
إنّ أشراف أهل الكوفة سيجتمعون على قتالك مع ابن مطيع العدوي ، فإن جامعنا على
أمرنا إبراهيم بن الأشتر رجونا القوة على عدوّنا بإذن الله ، وأن لا يضرّنا خلاف
من يخالفنا ؛ فإنّه فتى بئيس (قويّ البأس) وابن رجل شريف بعيد الصيت ، وله عشيرة
ذات عزّ وعدد!.
فقال لهم المختار
: فالقوه فادعوه ، وأعلموه الذي أمرنا به (كذا) من الطلب بدم الحسين عليهالسلام وأهل بيته.
__________________
قال الشعبي
الهمداني : فخرجوا إليه وأنا فيهم وأبي شراحيل بن عبد ، ومقدّمهم يزيد بن أنس
الأسدي ، فلمّا دخلوا عليه تقدّم الأسديّ فقال : إنّا قد أتيناك في أمر نعرضه عليك
وندعوك إليه ، فإن قبلته كان خيرا لك ، وإن تركته فقد أدّينا إليك النصيحة ، ونحبّ
أن يبقى عندك مستورا ، إنّما ندعوك إلى أمر قد اجتمع عليه رأي الملأ من «الشيعة»
إلى كتاب الله وسنّة نبيّه صلىاللهعليهوآله ، والطلب بدماء «أهل البيت» وقتال المحلّين والدفع عن
الضعفاء! وسكت.
ثمّ تكلّم أحمر بن
شميط الأحمسي فقال : إنّ أباك كان سيّد الناس ، وفيك منه خلف إن رعيت حقّ الله ،
وقد دعوناك إلى أمر إن أجبتنا إليه عادت لك منزلة أبيك في الناس.
فقال لهم إبراهيم
الأشتر : فإنّي اجيبكم إلى ما تدعوني إليه من الطلب بدم الحسين وأهل بيته على أن
تولّوني الأمر!
فقالوا له : أنت
أهل لذلك ولكن لا سبيل إلى ذلك فهذا المختار قد جاءنا من قبل «المهدي» (؟) وهو
الرسول المأمور بالقتال. فسكت ولم يجبهم.
فانصرفوا من عنده
إلى المختار فأخبروه بجوابه .
أمر ابن الحنفية
لابن الأشتر؟! :
كان ابن الحنفية
قد كتب قبل هذا إلى ابن الأشتر ، باسمه واسم أبيه : محمّد بن عليّ عليهالسلام وكأن المختار كان قد عرف ذلك وعلم أنّه لو يواجه بكتاب منه
إلى ابن الأشتر بدعوته ليكون مع المختار لأجاب ، فكتب له كتابا جاء فيه : بسم الله
الرحمن الرحيم ، من محمّد «المهدي» إلى إبراهيم بن مالك الأشتر ، سلام عليك ،
__________________
فإنّي أحمد إليك
الله الذي لا إله إلّا هو. أمّا بعد : فإنّي قد بعثت إليكم بوزيري وأميني ، ونجيبي
الذي ارتضيته لنفسي ، وقد أمرته بقتال عدوي والطلب بدماء أهل بيتي ، فانهض معه
بنفسك وعشيرتك ومن أطاعك ؛ فإنّك إن نصرتني وأجبت دعوتي وساعدت وزيري ، كانت لك
بذلك أعنّة الخيل ، وكلّ مصر ومنبر وثغر ظهرت عليه فما بين الكوفة إلى أقصى بلاد
الشام ، وعليّ الوفاء بذلك على عهد الله! فإن فعلت ذلك نلت به عند الله أفضل
الكرامة! وكانت لك عندي بذلك فضيلة. وإن أبيت هلكت! هلاكا لا تستقيله أبدا!
والسلام عليك!
وبعد ثلاثة أيام (من
الدعوة السابقة) دعا المختار بضعة عشر رجلا من وجوه أصحابه ليلا وأخبرهم بأمره ،
وفيهم شراحيل بن عبد الشعبي وابنه عامر وإليه دفع الكتاب ، ولم يعلمهما بما يريد
وتقدّمهم يسير بهم ويقدّ بيوت الكوفة قدّا حتّى وقف على باب إبراهيم بن الأشتر
فاستأذن لهم عليه ، فأذن لهم فدخلوا عليه.
فبدأ المختار
كلامه فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على محمّد ثمّ قال : أمّا بعد ، فإنّ معنا كتابا
إليك من «المهدي» محمّد بن أمير المؤمنين «الوصيّ» وهو خير أهل الأرض اليوم! وابن
خير أهل الأرض قبل اليوم بعد أنبياء الله ورسله ، وهو يسألك أن تنصرنا وتؤازرنا ،
فإن فعلت اغتبطت ، وإلّا فهذا الكتاب حجّة عليك ، وسيغني الله محمّدا «المهدي»
وأولياءه عنك. ثمّ قال لعامر الشعبي : ادفع إليه الكتاب ، فدفعه إليه مختوما ،
فدعا بالمصباح وفضّ خاتمه وقرأه ، فلمّا قضى إبراهيم قراءة الكتاب قال للمختار :
لقد كتبت إلى ابن الحنفية قبل اليوم ولقد كتب إليّ ، فما كان يكتب إلّا باسمه واسم
أبيه! فقال المختار : إنّ ذلك زمان وهذا زمان!
وكان المختار قد
أخبر بذلك جماعة أصحابه بأمر الكتاب ، وقال لهم إبراهيم : فمن يعلم أنّ هذا كتاب
ابن الحنفية إليّ؟ فشهد كلّهم بذلك إلّا الشعبي وأباه! فعند ذلك قام إبراهيم عن
صدر فراشه وأخذ بيد المختار فأقامه وأجلسه
عليه وقال له :
ابسط يدك ابايعك! فبسط المختار يده فبايعه إبراهيم. ثمّ دعا لهم بشراب من عسل
وفواكه فأكلوا وشربوا ثمّ نهضوا ، فخرج ابن الأشتر مع المختار راكبا حتّى أبلغه
رحله ، ومعه من قومه عبد الرحمن بن عبد الله النخعي.
ولمّا كان الكتاب
بيد عامر الشعبي وهو لم يشهد مع الشاهدين بصحّة نسبة الكتاب ولا حظ ذلك ابن الأشتر
، فلمّا أراد إبراهيم الرجوع إلى رحله أخذ بيد الشعبي وقال له : انصرف معنا ، ومضى
به مع أبيه حتّى دخل رحله ثمّ قال له : يا شعبي ، إنّي قد حفظت عليك أنّك لم تشهد
ولا أبوك بالكتاب ، أفترى هؤلاء شهدوا على حقّ؟!
وكان الشعبيّ
يتّهم القوم في شهادتهم ، ولكنّه كان يرى رأيهم ويحبّ تمام الأمر للمختار ويعجبه
الخروج (والثورة) فلم يعلمه بما في نفسه وقال له : إنّهم قد شهدوا بذلك وهم فرسان
العرب ومشيخة المصر وسادة القرّاء! ولا أرى مثل هؤلاء يقولون إلّا حقّا! فقال له
ابن الأشتر : فاكتب لي بأسمائهم فإنّي لست أعرف كلّهم. ثمّ دعا بدواة وصحيفة فكتب
له الشعبي : بسم الله الرحمنِ الرحيم ، هذا ما
شهد به السائب بن مالك الأشعري ، ويزيد بن أنس الأسدي ، وأحمر بن شميط الأحمسي ،
ومالك بن عمرو النهدي و... شهدوا : أنّ محمّد بن علي كتب إلى إبراهيم بن الأشتر
يأمره بمؤازرة المختار ومظاهرته على قتال المحلّين ، والطلب بدماء «أهل البيت».
وشهد بشهادة هؤلاء النفر : عبد الرحمن بن عبد الله النخعي وشراحيل بن عبد الشعبي
الفقيه! وابنه عامر !
ثمّ دعا إبراهيم
إخوانه وعشيرته ومن أطاعه إلى ما هو عليه ، وأقبل يروح في كلّ عشية عند المساء إلى
المختار فيمكث عنده حتّى تصوّب النجوم ثمّ
__________________
ينصرف إلى أهله ،
حتّى اجتمع رأيهم على أن يخرجوا ليلة الخميس لأربع عشرة من ربيع الأوّل سنة ستّ
وستّين أي بعد سنة من ليلة هلاك يزيد.
مقابلة قوّات
الكوفة :
لعلّ اجتماع آراء
أنصار المختار على مختارهم في خروجهم لليلة الخميس القابل ، كان في أوائل الأسبوع
، وكأن ابن المطيع قد أطاع ابن عمر فأطلق المختار ، وكان قد جعل على شرطته في
الكوفة إياس بن مضارب العجلي فاطّلع على الخبر وأتى إلى ابن المطيع وقال له : إنّ
المختار خارج عليك إحدى ليلتين (كذا).
ففي يوم الاثنين
جمع ابن المطيع رؤساء الأسباع فعيّن عبد الرحمن بن سعيد العبدي لجبّانة السبيع
وقال له : اكفني قومك لا اوتينّ من قبلك ، وأحكم أمر الجبّانة التي قبلك لا يحدثنّ
بها حدث فأوليك العجز والوهن! وعيّن كعب بن أبي كعب الخثعمي لجبّانة بشر ، وعيّن
زحر بن قيس الكندي لجبّانة كندة ، وعيّن شمر بن ذي الجوشن الكلابي الضّبابي
لجبّانة سالم ، وعيّن عبد الرحمن بن مخنف بن سليم الأزدي لجبّانة الصائديّين
الهمدانيين ، وعيّن يزيد بن الحارث بن رويم الشيباني لجبّانة مراد ، وأوصى كلّ رجل
منهم أن يكفيه قومه وأن يحكم الوجه الذي وجّهه فيه فلا يؤتى من قبله ، وعيّن شبث
بن ربعي اليربوعي التميمي إلى السبخة ، وقال له : إذا سمعت صوت القوم فوجّه نحوهم
، فخرج هؤلاء إلى أماكنهم يوم الاثنين فنزلوا منازلهم .
__________________
قال حميد بن مسلم
الأزدي : فلمّا كان عند غروب الشمس من يوم الاثنين قام إبراهيم بن الأشتر فأذّن
ثمّ استقدم فصلّى بنا المغرب ، فلمّا اشتدّ الظلام بعد المغرب خرج بنا يريد
المختار وخرجت معه من منزله بعد المغرب ليلة الثلاثاء ونحن معه
كتيبة نحو من مئة ، علينا الدروع قد سترناها بالأقبية ، ونحن متقلدوا السيوف في
عواتقنا ليس معنا سلاح سواها. فلمّا مررنا بدار سعيد بن قيس وجزناها إلى دار اسامة
قلنا لإبراهيم : مرّ بنا على دار خالد بن عرفطة ثمّ امض بنا إلى بجيلة نمرّ في
دورهم حتّى نخرج إلى المختار.
وكان إبراهيم فتى
حدثا شجاعا لا يكره أن يلقاهم فقال : والله لأمرّن على دار عمرو بن حريث إلى جانب
القصر وسط السوق! ولارعبنّ به عدوّنا ولارينّهم هوانهم علينا! فأخذ بنا على دار
هبّار ثمّ أخذ بنا ذات اليمين على دار عمرو بن حريث حتّى إذا جاوزها ألفينا إياس
بن مضارب في الشرط عليهم أسلحتهم ، فقال لنا : من أنتم وما أنتم؟! فقال له إبراهيم
: أنا إبراهيم بن الأشتر. قال إياس : وما هذا الجمع معك؟ وما تريد؟ وقد بلغني أنّك
تمرّ كلّ عشية هاهنا! فما أنا بتاركك حتّى آتي بك الأمير فيرى فيك رأيه! قال
إبراهيم : لا أبا لغيرك خلّ سبيلنا! قال : كلّا والله لا أفعل.
وكان مع إياس رجل
من همدان يقال له أبو قطن ومعه رمح طويل ، فقال له ابن الأشتر : يا أبا قطن ادن
مني ، فدنا أبو قطن من إبراهيم ، فتناول إبراهيم رمحه من يده وقال : إنّ رمحك هذا
لطويل! ثمّ حمل به على إياس فطعنه في ثغرة نحره فصرعه ، وأمر رجلا من قومه أن ينزل
إليه فيحتزّ رأسه ، فنزل إليه واحتزّ رأسه وحمله معه ، وتفرّق أصحابه راجعين إلى
القصر! واخبروا بذلك ابن مطيع ،
__________________
وكان ابن مطيع قد
بعث راشد بن إياس العجلي على جند في الكناسة ، فبعث إليه الليلة وجعله مكان أبيه
على الشرطة! وبعث مكانه إلى الكناسة سويد بن عبد الرحمن المنقري التميمي .
يالثارات الحسين عليهالسلام :
وأقبل إبراهيم بن
الأشتر تلك الليلة حتّى دخل عليه وقال له : إنّا اتّعدنا للخروج الليلة
القابلة ليلة الخميس ، وقد حدث أمر لا بدّ من الخروج الليلة! فقد عرض لي إياس بن
مضارب في الطريق ليحبسني فقتلته ، وهذا رأسه مع أصحابي على الباب.
فقال المختار :
بشّرك الله بخير! فهذا أوّل الفتح إن شاء الله ، فهو طير (تفؤّل) صالح !
وكان قد بايع
المختار حتّى ذلك النهار اثنا عشر ألفا ! وكان قد تواعد معهم لليلة الخميس ، وأن يشعل لذلك النيران
في القصب في سطح داره وينادي مناديه بشعار الأنصار في بدر : يا منصور أمت ،
ويالثارات الحسين عليهالسلام.
فالتفت هنا المختار
إلى سعيد بن منقذ وقال له : يا سعيد قم فأشعل النيران في هراديّ القصب ، وارفعها
للمسلمين. وأنت يا عبد الله بن شدّاد قم فناد :
__________________
يا منصور أمت ،
وأنت يا سفيان بن ليلى ويا قدامة بن مالك فنادوا : يالثارات الحسين عليهالسلام ودعا بدرعه وسلاحه فلبسها.
ويظهر أنّ ابن
الأشتر كان يبايع للمختار ، فقال له : لو أنّي خرجت بمن معي من أصحابي حتّى آتي
قومي فيأتيني من بايعني منهم ، ثمّ سرت بهم في نواحي الكوفة داعيا بشعارنا ، فيخرج
إلينا من أراد الخروج معنا ، ويأتيك منهم من يقدر ، فإذا فرغت من هذا الأمر عجّلت
إليك في الخيل والرجال؟
قال المختار :
فاعجل في ذلك ، وإيّاك أن تسير فتقاتل أحدا إلّا أن يبدأك أحد بقتال .
إبراهيم يجمع من
بايع ويقاتل بهم :
فخرج إبراهيم من
عنده في كتيبته حتّى أتى قومه النخع من همدان فاجتمع إليه جلّ من كان بايعه ، فسار
بهم في سكك الكوفة طويلا من الليل حتّى انتهى إلى مسجد السّكون من كندة ، وكان
عليها زحر بن قيس الجعفي (الكندي) فقال إبراهيم : من صاحب الخيل في جبّانة كندة؟
فقيل له : زحر بن قيس ، فقال : انصرفوا بنا عنهم. وعجلت إليه خيل منهم بلا أمير
ولا قائد ، فقال إبراهيم : اللهمّ إنّك تعلم أنّا غضبنا «لأهل بيت» نبيّك ، وثرنا
لهم ، فانصرنا عليهم ، وتمّم لنا دعوتنا! فلمّا انتهى إليهم هو وأصحابه شدّ عليهم
بهم فكشفوهم حتّى دخلوا جبّانة كندة ، وركب بعضهم بعضا ، كلمّا لقيهم دخل طائفة
منهم في زقاق ، فقال لأصحابه : انصرفوا عنهم ، فانصرفوا يسيرون.
__________________
حتّى انتهوا إلى
جبّانة اثير ، فوقف فيها ونادى أصحابه بشعارهم ، وكان فيها على الخيل سويد بن عبد
الرحمن المنقري التميمي ، فبلغه مكانهم فسار بجمعه إليهم ، فلم يشعر ابن الأشتر
إلّا وهم معه في الجبّانة ، فلمّا رأى ابن الأشتر ذلك قال لأصحابه : يا شرطة الله!
انزلوا ، فإنّكم أولى بالنصر من الله من هؤلاء الفساق الذين خاضوا في دماء «أهل
بيت» رسول الله صلىاللهعليهوآله. ثمّ شدّ إبراهيم عليهم بأصحابه فضربوهم حتّى أخرجوهم إلى
الصحراء منهزمين يركب بعضهم بعضا! ولم يزل يهزمهم حتّى أدخلهم كناسة الكوفة. ثمّ
قال لأصحابه : سيروا بنا إلى صاحبنا حتّى نكون على علم من أمره فإنّي لا آمن أن
يؤتى ، وحتّى يؤمن الله وحشته بنا ويزداد هو وأصحابه بصيرة وقوّة إلى قواهم
وبصيرتهم ، ويعلم هو أيضا ما كان من عنائنا.
ثمّ أقبل إبراهيم
حتّى مرّ بمسجد الأشعث الكندي ثمّ مضى حتّى وصل إلى دار المختار .
أوائل قتال
المختار :
استجاب لشعار
المختار من أنصاره أحمر بن شميط الأحمسي ويزيد بن أنس الأسدي في جموع ممّن بايعه.
وجاءه من قبل السبخة شبث بن ربعي اليربوعي التميمي ، فعبّأ المختار له يزيد بن أنس
الأسدي ، وجاءه حجّار بن أبجر العجلي فجعل المختار في وجهه أحمر بن شميط الأحمسي ،
فبينما هم كذلك وإذا بإبراهيم جاءهم من قبل دار الإمارة ، فبلغ أصحاب الحجّار أنّ
إبراهيم جاءهم من ورائهم فتفرّقوا في الأزقّة والسكك ، وجاء قيس بن طهفة النهدي من
أصحاب المختار في مئة رجل منهم فحمل على أصحاب شبث بن ربعي حتّى خلّوا لهم
__________________
الطريق فاجتمعوا
بأصحاب المختار ، فخرج المختار بهم حتّى نزل في ظهر دير هند ممّا يلي بستان زائدة
في السبخة.
وكان في جبّانة بشر
من قبل ابن مطيع : كعب بن أبي كعب الخثعمي ، وكان في جبّانة بشر الشاكريون من
همدان ، وقد اجتمعوا في دورهم يخافون أن يظهروا في الميدان لقرب كعب الخثعمي منهم
، فخرج أبو عثمان النهدي من أصحاب المختار فنادى في بني شاكر فأخرجهم إلى المختار
، فلمّا بلغ الخثعمي أنّ شاكرا تخرج أقبل يسير حتّى نزل بالميدان وأخذ عليهم
بأفواه سككهم وطرقهم ، فنادى النهدي في أصحابه : يالثارات الحسين! يا منصور أمت ،
يا أيّها الحيّ المهتدون ، ألا إنّ أمير آل محمّد ووزيرهم قد خرج فنزل دير هند ،
وبعثني إليكم مبشّرا وداعيا ، فاخرجوا إليه يرحمكم الله! فخرجوا من دورهم يتداعون
: يالثارات الحسين! ثمّ ضاربوا الخثعمي حتّى خلّى لهم الطريق فأقبلوا إلى المختار
حتّى نزلوا في عسكره.
وكان مئتان من
خثعم قد بايعوا المختار فخرج بهم الليلة عبد الله بن قراد الخثعمي ، فعرض لهم كعب
الخثعمي ، ولمّا عرفهم أنّهم قومه خلّى لهم الطريق حتّى لحقوا بالمختار فنزلوا في
عسكره.
وكان على جبّانة
السبيع من قبل ابن مطيع : عبد الرحمن بن سعيد ، واجتمع من جمع المختار من شبام إلى
جبّانة مراد فبعث إليهم عبد الرحمن : أن إذا كنتم تريدون اللحاق بالمختار فلا
تمرّوا بي في جبّانة السّبيع! فلحقوا بالمختار من طريق آخر.
حتّى توافى إليه
من اثني عشر ألفا كانوا بايعوه : ثلاثة آلاف وثمانمئة رجل! اجتمعوا له قبل الفجر
فعبّأهم حتّى أصبح .
__________________
استعداد الوالي
ومقابلة المختار :
نادى المنادون :
ألا برئت الذمّة من رجل لم يحضر المسجد الليلة (السحر قبل الفجر) فاجتمع الناس في
المسجد. وكان ابن مطيع قد جعل على الشرطة بعد إياس ابنه راشد العجلي فبعثه إلى
المختار في أربعة آلاف من الشرط. وبعث شبث بن ربعي في ثلاثة آلاف ، قبل أن يصلّي
بهم!
ولمّا أصبح المختار
استقدم في غلس الفجر فصلّى بهم فقرأ في الأولى بعد الفاتحة (النَّازِعاتِ) وفي الثانية (عَبَسَ وَتَوَلَّى) وكان فصيحا في قراءته.
فلمّا انصرفوا
سمعوا أصواتا مرتفعة فيما بين بني سليم وسكّة البريد ، فقال المختار لمن حوله : من
يعلم لنا ما هؤلاء؟ وكان فيهم من الموالي أبو سعيد الصيقل فقال : أنا ، فقال
المختار : فألق سلاحك وادخل فيهم كأنّك من النظّار ثمّ ائتني بخبرهم.
قال الصيقل :
فدنوت منهم فإذا مؤذّنهم يقيم للصلاة ثمّ تقدّم شبث فصلّى فقرأ بعد الحمد (إِذا زُلْزِلَتِ) وفي الثانية بعد الحمد (وَالْعادِياتِ) فقال له بعضهم : لو قرأت سورتين أطول! فقال : ترون الديلم قد نزلت بساحتكم وتقولون : لو قرأت سورة البقرة وآل عمران وكانوا ثلاثة آلاف.
قال الصيقل : فعدت
إلى المختار ، فلما أتيته أتاه معي سعر الحنفي من قبل جبّانة مراد وفيها راشد بن
إياس فأخبر المختار بخبر راشد وأخبرته بخبر شبث ، فسرّح للراشد إبراهيم بن الأشتر
في ستمئة فارس وستمئة راجل ، وبعث نعيم بن هبيرة الشيباني ـ أخا مصقلة ـ في
ثلاثمئة فارس وستمئة راجل لمقابلة شبث التميمي ، وقال لهما : لا ترجعا إليّ حتّى
تظهرا أو تقتلا!
__________________
وقدّم المختار
أمامه يزيد بن أنس الأسدي في تسعمئة إلى موضع مسجد شبث .
نكسة الشيباني :
قال الصيقل :
توجّه نعيم بن هبيرة الشيباني ومعه سعر الحنفي التميمي وأنا معهم إلى شبث بن ربعي
التميمي ، فجعل الشيباني الحنفي التميمي على الخيل ومشى هو بالرجّالة ، فقاتل
الأشعث ومن معه قتالا شديدا حتّى أشرقت الشمس وانبسطت فهزمهم ، ثمّ نادى شبث بن
ربعي أصحابه : يا حماة السوء! بئس فرسان الحقائق أنتم! أمن «عبيدكم» تهربون! فآبت
إليه جماعة منهم فشدّ بهم على نعيم الشيباني وصبر هذا له فقتل ، وانهزم أصحابه
وتفرّقوا ، واسر منهم سعر الحنفي وخليد مولى ابن محدوج والراوي الصيقل.
قال الصيقل : وكان
خليد مولى ابن محدوج وسيما جسيما وكان قد اعتق فكان يبيع إداما من السمك يسمّى
الصحنا ، فلما احضر عند شبث قال له : يابن (كذا) كان جزاء من أعتقك أن تعدو بسيفك
عليه تضرب رقابه! اضربوا عنقه! فقتل.
قال الصيقل : ورأى
الرّبعي التميمي سعرا الحنفي التميمي في الأسرى فعرفه فناداه : أنت أخو بني حنيفة (من
تميم)؟! قال : نعم ، قال : ويحك قبّح الله رأيك! ما أردت من اتّباعك هؤلاء «السبائية»
دعوا هذا. فتركوه. قال الصيقل : فقلت في نفسي : قتل المولى وترك العربي ، فلو
عرفني أنّي مولى قتلني.
__________________
فلما عرضت عليه
سألني : من أنت؟ أعربيّ أنت أو مولى؟! قلت : لا بل عربيّ من آل زياد بن خصفة! فقال
: بخ بخ ذكرت الشريف المعروف! الحق بأهلك! قال الصيقل : وكانت لي بصيرة في قتال
القوم فقلت في نفسي : والله لآتينّ أصحابي فلاواسينّهم بنفسي ، فقبّح الله العيش
بعدهم! فأتيتهم وقد سبقني إليهم سعر الحنفي وخبر مقتل نعيم بن هبيرة الشيباني
وهزيمة أصحابه ، وأقبل الأشعث بخيله إلى المختار ، فدخل من ذلك على أصحاب المختار
أمر خطير! وجاء شبث حتّى أحاط بالمختار وأصحابه ، وجاء يزيد بن الحارث بن رويم في
ألفين من قبل ابن مطيع حتّى وقفوا في أفواه سكك جرير. فولّى المختار على خيله يزيد
بن أنس ، وهو التزم الرجّالة .
حملة شبث ومقابلته
:
روى أبو مخنف
الأزدي عن الحارث بن كعب الأزدي الوالبي وكان مع يزيد بن أنس في خيل المختار ، قال
: قال لنا يزيد بن أنس : يا معشر «الشيعة» قد كنتم تقتّلون ، وتقطّع أيديكم
وأرجلكم ، وتسمل أعينكم ، وترفعون على جذوع النخل في حبّ «أهل بيت» نبيّكم ، وأنتم
مقيمون في بيوتكم وطاعة عدوّكم! فما ظنّكم إن ظهر عليكم اليوم هؤلاء القوم؟! إذا ـ
والله ـ لا يدعون منكم عينا تطرف ، وليقتلنّكم صبرا! ولترون منهم في أولادكم
وأزواجكم وأموالكم ما الموت خير منه! والله لا ينجيكم منهم إلّا الصبر والصدق ،
والطعن الصائب في أعينهم ، والضرب المتدارك على هامهم! فتيسّروا للشدّة وتهيّؤوا
للحملة ، فإذا حرّكت رايتي مرّتين فاحملوا. قال الحارث : فتهيّأنا وانتظرنا أمره.
وفي هذه الأثناء
...
__________________
حملات إبراهيم
النخعي :
توجّه إبراهيم بن
الأشتر إلى راشد بن إياس وكان في أربعة آلاف من مراد ، فقال النخعيّ لأصحابه : لا
يهولّنكم كثرة هؤلاء ، فو الله لربّ رجل خير من عشرة ، و (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ
فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) ثمّ سرّح إليهم خزيمة بن نصر العبسي في خيله ، والتزم هو
بالرجّالة ورايته بيد مزاحم بن الطفيل ، وقال له : امض برايتك وازدلف بها قدما
قدما! وبدأ القتال واشتدّ ، وبصر خزيمة العبسي براشد بن إياس فحمل عليه فطعنه
فقتله ونادى : قتلت راشدا وربّ الكعبة ، فانهزم أصحابه ، وتراجع عنهم خزيمة العبسي
وإبراهيم النخعي.
وبعث إبراهيم
النعمان بن أبي الجعد إلى المختار بشيرا بقتل راشد والفتح للمختار.
وسرّح ابن مطيع
حسّان بن فائد العبسي في ألفين ليعترض طريق النخعيّ ليردّه عن أصحاب ابن مطيع في
السبخة ، وبلغ خبره النخعيّ فقدّم خزيمة العبسي في خيله ، والتزم هو بالرجّالة ،
فلم يلبث جمع حسّان العبسي دون أن انهزموا بلا قتال ؛ وخلفهم أميرهم حسّان العبسي
وعثر به فرسه فوقع وآمنه خزيمة العبسي وطلب فرسه وحمله عليه وقال له : الحق بأهلك!
وكان على أفواه
سكك الكوفة نحو السبخة يزيد بن الحارث بن رويم ، فلمّا أقبل النخعيّ نحوهم أقبل
يزيد ليصدّهم عن الحملة على شبث وأصحابه ، فقال النخعيّ لخزيمة العبسي : أغن عنّا
يزيد بن الحارث ، وصمد هو في بقيّة أصحابه نحو شبث ، فلمّا أقبل نحوهم أخذ شبث
وأصحابه ينكصون رويدا رويدا ، وحمل إبراهيم عليهم ، وحمل عليهم يزيد بن أنس ،
فانكشفوا حتّى انتهوا إلى أبيات
__________________
الكوفة. ولكنّ
يزيد بن الحارث كان قد وضع رماة فوق البيوت على أفواه السكك ، فلمّا أقبل المختار
بجمعه إليهم رماهم اولئك الرماة بالنبال فصدّوهم عن دخول الكوفة من هناك.
فمضى المختار من
السبخة إلى الجبانة إلى بيوت منفردة شاذّة من أحمس وبارق ومزينة فنزل عند بيوتهم
ومسجدهم ، فاستقبلوهم بالماء. وقال المختار : نعم مكان المقاتل هنا !
خطبة ابن مطيع
وحملة النخعي :
وقال عمرو بن
الحجّاج الزبيدي لابن مطيع : أيّها الرجل لا يسقط في خلدك ، ولا تلق بيدك (إلى
التهلكة) اخرج إلى الناس فاندبهم إلى عدوّك فاغزهم! فإنّ الناس كثير عددهم وكلّهم
معك إلّا هذه الطاغية التي خرجت على الناس! والله مخزيها ومهلكها! وأنا أوّل منتدب
، فاندب معي طائفة ومع غيري طائفة!
فخرج ابن مطيع
وقام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال أيّها الناس! إنّ من أعجب العجب عجزكم عن
عصبة منكم قليل عددها! خبيث دينها! ضالّة مضلّة! اخرجوا إليهم فامنعوا منهم حريمكم!
وقاتلوا عن مصركم وامنعوا منهم فيئكم! وإلّا فو الله ليشاركنّكم في فيئكم من لا
حقّ له فيه! (الموالي) فو الله لقد بلغني أنّ فيهم خمسمئة من محرّريكم وأميرهم
منهم! وإنّما ذهاب عزّكم وسلطانكم وتغيّر دينكم حين يكثرون هؤلاء (الموالي)! ثمّ
سكت ونزل .
__________________
وبعث عمرو بن
الحجّاج في ألفي رجل ، فخرج على أصحاب المختار من سكّة الثوريّين الهمدانيين ،
فدعا المختار يزيد بن أنس فأمره أن يصمد لعمرو بن الحجّاج ، فمضى نحوه ، وبعث
المختار إلى إبراهيم أن لا تقم على ابن الحجّاج واطوه ، فطواه إبراهيم وانبعث
المختار خلفه ، فمضوا جميعا حتّى انتهى المختار إلى مصلّى خالد بن عبد الله فوقف ،
وأمر إبراهيم أن يمضي على وجهه حتّى يدخل الكوفة من الكناسة ، فمضى نحوها.
وأقبل شمر بن ذي
الجوشن في ألفين : فسرّح المختار إليه سعيد بن منقذ الهمداني ، وبعث إلى إبراهيم
أن امض على وجهك واطوه ،. واقف سعيد الهمداني شمرا ، وطواه إبراهيم حتّى انتهى إلى
سكّة شبث ، وإذا نوفل بن مساحق بن مخرمة القرشي في ألفين أو خمسة آلاف.
فلمّا أقبل ابن
الأشتر بأصحابه قال لهم : انزلوا ، فنزلوا ، فقال لهم : قرّبوا خيولكم بعضها من
بعض ثمّ امشوا إليهم بسيوفكم .. فإنّ هؤلاء لو قد وجدوا حرّ السيوف انصفقوا عن ابن
مطيع انصفاق المعزى عن الذئب. وكان ابن الأشتر قد تمنطق بحاشية برد أحمر ، ورفع
أسفل قبائه فادخله في منطقته ، وكان قد ستر درعه تحت قبائه ، ثمّ قال لأصحابه :
شدّوا عليهم فدى لكم عمّي وخالي! ثمّ هجم عليهم فما لبّثهم حتّى هزمهم يركب بعضهم
بعضا ، وانتهى ابن الأشتر إلى ابن مساحق فأخذ بلجام فرسه ورفع سيفه إليه فأنشده
الله فخلّى سبيله! ثمّ ساروا في آثارهم حتّى دخلوا السوق والمسجد وحصروا القصر على
ابن مطيع .
حصر ابن مطيع في
القصر :
لجأ الأمراء إلى
الأمير الزبيري ابن مطيع العدوي القرشي في دار الإمارة ،
__________________
إلّا عمرو بن حريث
المخزومي حيث خرج خارج الكوفة ، وجاء المختار حتّى نزل جانب السوق ، وولّى ابن
الأشتر لحصار القصر من بابه إلى المسجد ، وولّى يزيد بن أنس سكّة دار الرّوميين
وراء دار الإمارة إلى بني حذيفة ، وولّى أحمر بن شميط الأحمسي ما يلي دار أبي موسى
الأشعري ودار عمارة بن عقبة بن أبي معيط الأموي. ومكث ابن مطيع في القصر يرزق
أصحابه الدقيق .
وفي العشيّ أشرف
من القصر عبد الله الليثي على أصحاب المختار يشتمهم ، فرماه أبو نمران مالك النهدي
بسهم قطع جلدة حلقه .
ولما اشتد الحصار
قام شبث إلى ابن مطيع وقال له : والله ما عندك ومن معك غناء عنك ولا عن أنفسهم ،
فانظر لهم ولنفسك! فقال ابن مطيع : أشيروا عليّ برأيكم. فقال شبث : خذ من هذا
الرجل أمانا لنا ولنفسك! فكره ذلك ابن مطيع وقال : هذا والأمور مستقيمة لأمير
المؤمنين بالحجاز والبصرة! فقال شبث : فتخرج من حيث لا يشعر بك حتّى تنزل منزلا
بالكوفة عند من تثق به حتّى تخرج فتلحق بصاحبك! وكان عنده أسماء بن خارجة الفزاري
وعبد الرحمان بن سعيد بن قيس الهمداني وعبد الرحمان بن مخنف الأزدي وآخرون فقال
لهم : فما ترون في هذا الرأي؟ قالوا : ما نرى إلّا ما أشار به عليك. فقال : فرويدا
حتّى نمسي.
فلما أمسى اليوم
الثالث من الحصار دعاهم فذكر الله بما هو أهله وصلّى على نبيّه ثمّ قال :
أمّا بعد ، فقد
علمت الذين صنعوا هذا من هم! وإنّما هم أراذلكم وسفهاؤكم وأخسّاؤكم وطغامكم ما عدا
الرجل أو الرجلين! وإن أشرافكم وأهل الفضل منكم
__________________
لم يزالوا سامعين
مطيعين مناصحين ، وأنا مبلّغ ذلك صاحبي! ومعلّمه طاعتكم وجهادكم وعدوّكم حتّى كان
الله الغالب على أمره.
وقد كان من رأيكم
وما أشرتم به عليّ ما قد علمتم ، وقد رأيت أن أخرج الساعة ... وجزاكم الله خيرا ،
وليأخذ كلّ امرئ منكم حيث أحبّ.
ثمّ خلّى القصر
وخرج من نحو درب الروميّين إلى دار أبي موسى الأشعري!
وبعده فتح أصحابه
باب القصر وطلبوا الأمان فآمنهم على أن يبايعوه فخرجوا وبايعوه ، فدخل المختار
القصر ليلا فبات فيه .
خطبة المختار
وبيعته وعطاؤه :
وأصبح الناس في
المسجد ، وخرج المختار إليهم فصعد المنبر ، فقال : الحمد لله الذي وعد وليّه النصر
وعدوّه الخسر ، وجعله فيه إلى آخر الدهر ، وعدا مفعولا وقضاء مقضيّا وقد خاب من
افترى!
أيّها الناس ،
إنّه رفعت لنا راية ومدّت لنا غاية ، فقيل لنا في الراية : أن ارفعوها ولا تضعوها
، وفي الغاية : أن اجروا إليها ولا تعدوها. فسمعنا دعوة الداعي ومقالة الواعي ،
فكم من ناع وناعية لقتلى في الواعية! وبعدا لمن طغى ، وأدبر وعصى ، وكذّب وتولّى.
ألا فادخلوا أيّها
الناس بايعوا بيعة الهدى ، فلا ـ والذي جعل السماء سقفا مكفوفا والأرض فجاجا سبلا ـ
ما بايعتم بعد بيعة عليّ بن أبي طالب وآل عليّ بيعة أهدى منها! ثمّ سكت ونزل.
__________________
ودخل دار الإمارة
ودخل عليه الناس وأشرافهم ، فبسط لهم يده فبايعوه وهو يقول لهم :
تبايعوني على كتاب
الله وسنّة نبيّه والطلب بدماء «أهل البيت» وجهاد المحلّين ، والدفع عن «الضعفاء»
وقتال من قاتلنا وسلم من سالمنا والوفاء ببيعتنا لا نقيلكم ولا نستقيلكم! فإن قال
الرجل : نعم ، بايعه. وجعل المختار يمنّي الناس ويستجرّ مودّتهم ويحسن سيرته جهده!
وأصاب المختار في
بيت مال الكوفة تسعة آلاف ألف (ملايين) درهما ، وكان أصحابه الذين قاتل بهم وحصر
ابن مطيع في القصر ثلاثة آلاف وثمانمئة رجل ، فأعطى كلّ رجل خمسمئة درهم ، وبعد ما
أحاط بالقصر أتاه من أصحابه (الذين بايعوه من قبل) ستة آلاف! فأقاموا معه تلك
الأيام الثلاثة حتّى دخل القصر ، فأعطى كلّ واحد منهم مئتين مئتين ، واستقبل الناس
بخير ومنّاهم العدل وحسن السيرة.
واستعمل على شرطته
عبد الله بن كامل الشاكري (الهمداني) وعلى حرسه أبا عمرة كيسان مولى بني عرينة.
وجاءه ابن كامل فأخبره أن ابن مطيع في دار أبي موسى الأشعري ، فلما أمسى المختار
بعث إلى ابن مطيع بمئة ألف درهم! وقال له : إنّي قد شعرت بمكانك ، وقد ظننت أنّه
لم يمنعك من الخروج إلّا أنّه ليس في يديك ما يقويك على الخروج فتجهّز بهذه واخرج .
وولّى على توابع
الكوفة :
كان عبد الله بن
الزبير ولّى على الموصل محمّد بن الأشعث بن قيس الكندي
__________________
في إمارة إبراهيم
بن محمّد بن طلحة التيمي ، وعبد الله بن يزيد الأنصاري على الكوفة ، وابن الأشعث
مستقلّا عنهما ، ولكنّه في إمارة ابن مطيع أمره ابن الزبير بالسمع والطاعة لابن
مطيع ومكاتبته ، غير أنّ ابن مطيع لا يقدر على عزله. فبعث المختار على الموصل عبد
الرحمان بن سعيد بن قيس الهمداني ، فلمّا قدم هذا من قبل المختار أميرا على الموصل
تنحّى له ابن الأشعث مع أشراف قومه إلى تكريت ، ثمّ شخص إلى الكوفة فبايع المختار
ودخل فيما دخل فيه أهل بلده!
وكان سعد بن حذيفة
بن اليمان بالمدائن فبعثه على حلوان وأرسل إليه معه ألفي فارس ، وجعل له في كلّ
شهر ألف درهم ، وأمره بإقامة الطرق وقتال الأكراد المتمرّدين في الطرق ، ثمّ كتب
إلى عمّاله على الجبال يأمرهم أن يحملوا أموال كورهم إلى سعد بن حذيفة.
وبعث حبيب بن منقذ
الثوري الهمداني على بهقباد الأسفل ، ومحمّد بن كعب بن قرظة على بهقباد الأوسط ،
وقدامة النصري مولى ثقيف على بهقباد الأعلى ، وبعث محمّد بن عمير بن عطارد على
آذربايجان ، وعقد لعمّ إبراهيم : عبد الله بن الحارث النخعي أخ الأشتر على أرمينية
.
ومدحه الشعراء :
كان عبد الله بن
همّام الجشمي من هوازن بالكوفة عثمانيّ الرأي والهوى وشاعرا ، وسمع يوما أبا عمرة
كيسان مولى عرينة يعيّر عثمان بن عفّان وينال منه ، فرفع عليه السوط وقنّعه بها ،
فلما أصبح اليوم رئيس حرس المختار على رأسه
__________________
اعتزل ابن همّام ،
بل اختفى حتّى طلب الأمان له عبد الله بن شدّاد الجشمي ، فآمنه المختار ، فجاء
إليه بقصيدة مديح قال فيها :
وفي ليلة المختار ما يذهل الفتى
|
|
ويلهيه عن رود الشباب شموع
|
دعا «يالثارات الحسين» فأقبلت
|
|
كتائب من «همدان» بعد هزيع
|
ومن «مذحج» جاء الرئيس «ابن مالك»
|
|
يقود جموعا عبّيت بجموع
|
ومن «أسد» وافى «يزيد» لنصره
|
|
بكلّ فتى حامى الذمار منيع
|
وجاء «نعيم» خير «شيبان» كلّها
|
|
بأمر لدى الهيجاء أحدّ جميع
|
وما «ابن شميط» إذ يحرّض قومه
|
|
هناك بمخذول ولا بمضيع
|
ولا «قيس نهد» لا ولا «ابن هوازن»
|
|
وكلّ أخو إخباتة وخشوع
|
وسار «أبو النعمان» لله سعيه
|
|
إلى «ابن إياس» مصحرا لوقوع
|
بخيل عليها يوم هيجا دروعها
|
|
واخرى حسورا غير ذات دروع
|
فكرّ الخيول كرة ثقفتهم
|
|
وشدّ بأولاها على ابن مطيع
|
فحوصر في «دار الإمارة» بائيا
|
|
بذلّ وإرغام له وخضوع
|
فمنّ وزير «ابن الوصيّ» عليهم
|
|
وكان لهم في الناس خير شفيع
|
وآب الهدى حقّا إلى مستقرّه
|
|
بخير إياب آبه ، ورجوع
|
«إلى الهاشميّ المهتدي المهتدى به»
|
|
فنحن له من سامع ومطيع
|
فقال المختار
لأنصاره : قد أثنى عليكم وأحسن الثناء فأحسنوا له الجزاء.
فقال يزيد بن أنس
الأسدي : إن كان أراد بقوله ثواب الله فما عند الله خير له ، وإن كان إنّما اعترى
أموالنا بهذا القول فو الله ما في أموالنا ما يسعه! قد كانت بقيت من عطائي بقيّة
قوّيت بها إخواني. وقال أحمر بن شميط الأحمسي لابن همّام : يابن همّام! إن كنت
أردت بهذا القول وجه الله فاطلب ثوابك من الله ، وإن كنت اعتريت به رضا الناس وطلب
أموالهم فاكدم الجندل! فو الله ما من قال قولا لغير الله وفي غير ذات الله بأهل أن
ينحل ولا يوصل!
وكان قيس بن طهفة
النهدي صهرا للأشعث بن قيس حاضرا فقال لابن همّام : فإنّ لك عندي فرسا ومطرفا ،
وكذلك قال له عبد الله بن شدّاد الجشمي الذي استأمن له.
وقال المختار لهم
: إذا قيل لكم خير فاقبلوه ، وإن قدرتم على مكافأة فافعلوه وإن لم تقدروا فتنصّلوا
، واتّقوا لسان الشاعر فإن شرّه حاضر وقوله فاجر! وسعيه بائر وهو بكم غدا غادر!
وقد آمنّاه وأجرناه.
ثمّ قام إبراهيم
النخعي فانصرف بالشاعر إلى منزله وأعطاه فرسا ومطرفا وألف درهم !
وكان المختار أوّل
أمره يجلس للناس ضحى وعصرا يقضي بينهم ، ثمّ استقضى شريح القاضي ، فأخذ أنصار
المختار يذمّونه ويسندون إليه : أنّه عثماني الرأي والهوى ، فقد عزله عليّ عليهالسلام عن القضاء ، وهو ممّن شهد على حجر بن عدي ، ولم يبلّغ عن
هانئ بن عروة ما أرسله به ، فلمّا سمع شريح بذلك تمارض .
وروى المعتزلي :
أنّ المختار قال لشريح : ماذا قال لك أمير المؤمنين يوم كذا؟ وكان قد قضى قضاء
نقمها عليه عليهالسلام ، فقال له : والله لأنفينّك إلى بانقيا (من قرى اليهود على
فرات الكوفة) شهرين تقضي بين اليهود! ثمّ قتل عليهالسلام قبل أن يفعل ذلك. فقال شريح للمختار : إنّه قال لي كذا ،
فقال له المختار : لا والله لا تقعد حتّى تخرج إلى بانقيا تقضي بين اليهود! فسيّره
إليها ، فقضى بين اليهود شهرين .
__________________
شرحبيل الهمداني
إلى المدينة :
مرّ أنّ المختار
لما اطّلع على ملجأ ابن مطيع العدوي الأمير الزبيريّ على الكوفة في دار أبي موسى
الأشعري ، جهّزه بعشرة آلاف درهم ليخرج منها ، وبذلك لم يهدم الجسر بينه وبين ابن
الزبير نفسه.
واخبر المختار أنّ
عبد الملك بن مروان قد بعث عبد الملك بن الحارث الأموي إلى وادي القرى من الحجاز ،
فرأى أن يظاهر لابن الزبير بمناصرته فكتب إليه : أمّا بعد ، فقد بلغني أنّ عبد
الملك بن مروان قد بعث إليك جيشا ، فإن أحببت أن أمدّك بمدد أمددتك.
فكتب ابن الزبير
إليه : أمّا بعد ، فإن كنت على طاعتي .. فإذا أتتني بيعتك صدّقت مقالك وكففت جنودي
عن بلادك! وعجّل عليّ بتسريح الجيش الذي أنت باعثه ، فلست أكره أن تبعث الجيش إلى
بلادي ، ومرهم فليسيروا إلى من بوادي القرى من جند ابن مروان فليقاتلوهم. والسلام.
فدعا المختار
شرحبيل بن ورس الهمداني وجعل معه سبعمئة رجل من العرب وألفين وثلاثمئة تمام
الثلاثة آلاف من الموالي! وقال له : سر إلى المدينة ، فإذا دخلتها فاكتب إليّ بذلك
حتّى يأتيك أمري!
فروى أبو مخنف عن
إسماعيل بن نعيم وكان معهم قال : كان المختار يريد أن يبعث أميرا على المدينة من
قبله ويأمر ابن ورس أن يمضي إلى مكّة فيحاصر ابن الزبير ويقاتله!
وخاف ابن الزبير
من ذلك فبعث إلى المدينة عباس بن سهل بن سعد الساعدي في ألفين وأمره أن يستنفر من
قدر عليه من الأعراب في طريقه (حتّى يتكامل ثلاثة آلاف) وقال له : إن رأيت القوم
على طاعتي فاقبل منهم ، وإلّا فكايدهم حتّى تهلكهم!
وأقبل ابن ورس
الهمداني حتّى انتهى إلى ماء الرقيم (؟) وقد هلكوا من قلّة الزاد معهم. وكأن ابن
ورس أخبر بقدوم جند ابن الزبير إليهم فعبّأ أصحابه فجعل لخيله ميمنة وعليها سلمان
بن حمير الثوري الهمداني وميسرة فحسب وعليها عياش بن جعدة الجدلي. وأقبل ابن سهل
حتّى لقى ابن ورس بالرقيم وقد تعبّأ ، وجاء عباس في أصحابه وهم منقطعون إعياء على
غير تعبئة ، فوجد ابن ورس على الماء وقد عبّأ أصحابه تعبئة القتال ، فدنا فسلّم
عليه ثمّ عرض عليه أن يخلو معه فخلا به وقال له : رحمك الله ألست في طاعة ابن
الزبير؟ قال ابن ورس : بلى! قال عباس : فإن كنت في طاعة ابن الزبير فقد أمرني أن
أسير بك وبأصحابك إلى عدوّنا الذي بوادي القرى ، فإن ابن الزبير حدّثني أنّه إنّما
اشخصكم صاحبكم إليهم.
فقال ابن ورس : ما
امرت بطاعتك ، وما أنا بمتّبعك دون أن أدخل المدينة ثمّ اكتب إلى صاحبي فيأمرني
بأمره! فقال عباس : فرأيك فاعمل بما بدالك ، فأمّا أنا فإنّي سائر إلى وادي القرى!
وحيث رأى قلّة
زادهم بعث عباس إلى كلّ عشرة منهم شاة ، وبعث إلى ابن ورس بنوق وجزر فأهداها له
وبعث بدقيق وغنم مسلّخة ، فذبحوا واشتغلوا بها واختلطوا على الماء وتركوا تبعئتهم
واستأمنوا.
ولمّا رأى عباس ما
هم فيه من الانشغال ، جمع من رجاله ألفا من ذوي البأس والنجدة ثمّ أقبل بهم إلى
فسطاط ابن ورس! فلمّا رآهم ابن ورس مقبلين إليه أخذ ينادي في أصحابه : يا شرطة
الله! قاتلوا المحلّين أولياء الشيطان الرجيم وقد غدروا وفجروا! فلم يتوافى إليه
منهم حتّى مئة رجل! بل بقي في سبعين من أهل الحفاظ من أصحابه فقتلوا. وانصرف نحو من
ثلاثمئة رجل مع سلمان بن حمير الهمداني وعياش بن جعدة الجدلي ، ثمّ رفع العباس
راية أمان لأصحاب ابن ورس ، فأتوها إلّا اولئك الأربعمئة تقريبا ، فأمر بقتلهم
جميعا!
فقتلوا إلّا نحوا
من مئتي رجل كره بعض من دفعوا إليهم لقتلهم فخلوا سبيلهم فرجعوا فماتوا في الطريق
جوعا وعطشا!
ورجع من رجع منهم
إلى المختار فأخبروه خبرهم فقام خطيبا فقال : ألا إنّ الفجّار الأشرار قتلوا
الأبرار الأخيار ، وقد كان أمرا مأتيّا وقضاء مقضيّا.
ثمّ لم يقطع الطمع
وأراد القود فكتب إلى ابن الحنفية كتابا قال فيه : بسم الله الرحمنِ الرحیم ، أمّا بعد ، فإنّي كنت بعثت إليك جندا! ليذلّوا لك الأعداء!
وليحوزوا لك البلاد! فساروا إليك حتّى إذا أظلوا على طيبة لقيهم جند الملحد!
فخدعوهم بالله وغرّوهم بعهد الله ، فلمّا اطمأنّوا إليهم ووثقوا بذلك منهم وثبوا
عليهم فقتلوهم. فإن رأيت أن أبعث إلى أهل المدينة من قبلي جيشا كثيفا وتبعث إليهم
من قبلك رسلا ليعلم أهل المدينة أنّي في طاعتك وإنّما بعثت الجند إليهم عن أمرك!
فافعل ، فإنّك ستجد عظمهم أعرف بحقّكم وأرأف بكم «أهل البيت» منهم بآل الزبير
الظلمة الملحدين ، والسلام عليك. ثمّ دعا صالح بن مسعود الخثعمي فبعث الكتاب معه.
فكتب ابن الحنفية
إليه : أمّا بعد ، فإنّ كتابك لمّا بلغني قرأته وفهمت تعظيمك لحقّي وما تنوي من
سروري. وإنّ أحبّ الأمور كلّها إليّ ما اطيع الله فيه ، فأطع الله ما استطعت فيما
أعلنت وأسررت. واعلم أنّي لو أردت لوجدت الناس إليّ سراعا والأعوان لي كثيرا ،
ولكنّي أعتزلهم وأصبر حتّى يحكم الله لي وهو خير الحاكمين. وناوله لصالح بن مسعود
الخثعمي رسول المختار وقال له : قل له فليتّق الله وليكفف عن الدماء!
فلمّا قدم صالح
الخثعمي بكتاب العبد الصالح إلى المختار أظهر للناس أنّه قد أمره بأمر يجمع البرّ
واليسر ويضرح الكفر والغدر وحيث لم يحصل منه على مختاره انتهز الفرصة التالية لذلك.
__________________
فضيّق ابن الزبير
على ابن الحنفية :
اعتزل ابن الحنفية
تمرّد المدينة على يزيد وبني اميّة ، ولجأ إلى جوار بيت الله الحرام هو وأهله وبقايا
بني هاشم ، وطمع ابن الزبير في بيعتهم له فكرهوا البيعة لمن لم تجتمع عليه الأمّة
كما قالوا.
ولعلّ رسل ابن
الزبير وعيونه أخبروه بأخبار المختار عن ابن الحنفية ورسله وكتبه واحتساب جيش
المختار إلى تلك الديار على ابن الحنفية ، وعدم مقاطعته وتبرّيه من المختار جهارا
، بل مراجعة سبعة عشر رجلا من وجوه أهل الكوفة إلى ابن الحنفية دون ابن الزبير ؛
لذلك حبس ابن الحنفية ومن معه من أهل بيته واولئك السبعة عشر رجلا من وجوه أهل
الكوفة ، في حظيرة زمزم ، وتوعّدهم بالقتل والإحراق! وأعطى الله عهدا إن لم
يبايعوا أن ينفّذ فيهم ما توّعدهم به وضرب لهم أجلا لذلك ، وجعل عليهم حرّاسا
يحرسونهم.
فأشار بعض من كان
مع ابن الحنفية عليه : أن يبعث إلى المختار ومن بالكوفة رسولا يعلمهم حاله ومن معه
وما توعّدهم به ابن الزبير. ونام الحرّاس على باب زمزم ، فكتب ابن الحنفية كتابا
إلى المختار وأهل الكوفة يعلمهم حاله وحال من معه وما توعّدهم به ابن الزبير من
القتل والحرق بالنار! ويسألهم أن لا يخذلوه ـ كما خذلوا الحسين وأهل بيته عليهمالسلام ـ واختار لذلك
ثلاثة نفر من الكوفيّين معه فأرسلهم بالكتاب في نومة الحرّاس.
وأفلت هؤلاء حتّى
قدموا على المختار فدفعوا إليه الكتاب ، وحيث أضمر الكتاب السابق ولم يبده لهم
أظهر هذا وقرأه عليهم مجتمعين وقال : هذا كتاب «مهديّكم وصريح أهل بيت نبيّكم» وقد
تركوا محضورا عليهم كما يحظر على الغنم! ينتظرون القتل والتحريق بالنار في أناء
الليل وتارات النهار! ولست أبا إسحاق إن لم أنصرهم نصرا مؤزّرا ، وإن لم اسرّب
إليهم الخيل
في إثر الخيل
كالسيل يتلوه السيل ، حتّى يحلّ بابن الكاهليّة الويل! وإذن فقد ناصبه العداء علنا
وجهارا.
ثمّ كتب إلى ابن
الحنفية بتوجيه الجنود إليه ، وأرسله مع الطفيل بن عامر ومحمّد بن قيس.
ثمّ وجّه أبا عبد
الله الجدلي في سبعين راكبا من أهل القوة ، ثمّ ألحقه عمير بن طارق في أربعين
راكبا ، ثمّ يونس بن عمران في أربعين راكبا ، ثمّ وجّه ظبيان بن عمارة التميمي
ومعه أربعمئة! ثمّ أبا المعتمر في مئة ، ثمّ هاني بن قيس في مئة. فمضى الجدلي حتّى
نزل ذات عرق ، ثمّ لحقه عمير بن طارق في أربعين ، ويونس بن عمران في أربعين فتمّوا
مئة وخمسين ، فسار بهم حتّى دخلوا المسجد الحرام وهم يحملون «الكافر كوبات» وينادون : «يالثارات الحسين» حتّى انتهوا إلى زمزم.
هذا ، وقد بقي من
أجلهم يومان وقد أعدّوا عليهم الحطب ليحرقوهم! فطردوا الحرس وكسروا أعواد زمزم
ليخرجوهم. فقال ابن الزبير : أتحسبون أنّي مخلّ سبيلهم دون أن يبايع ويبايعوا!
فأجابه الجدلي : إي وربّ الركن والمقام وربّ الحلّ والحرام لتخلينّ سبيله أو
لنجالدنّك بأسيافنا جلادا يرتاب منه المبطلون! فقال ابن الزبير : والله ما هؤلاء
إلّا أكلة رأس! والله لو أذنت لأصحابي ما مضت ساعة حتّى تقطف رؤوسهم! فقال قيس بن
مالك : أما والله إنّي لأرجو إن رمت ذلك أن يوصل إليك قبل أن ترى فينا ما تحب!
ثمّ قدم أبو
المعتمر في مئة ، وهانئ بن قيس في مئة ، وظبيان بن عمارة في مئتين ومعه أموال إلى
ابن الحنفيّة فدخلوا المسجد وكبّروا ونادوا : «يالثارات الحسين» فلما رآهم ابن
الزبير خافهم.
__________________
فأخرجوا ابن
الحنفيّة ومن معه إلى «شعب عليّ» وهم يسبّون ابن الزبير ويستأذنون ابن الحنفيّة لحربه
وهو يأبى عليهم ، حتّى اجتمع مع ابن الحنفيّة في الشعب أربعة آلاف رجل ، فقسّم ذلك
المال فيهم .
ابن الزبير في
اليعقوبي :
واختصر اليعقوبي
الخبر فقال : وجّه إليهم المختار عبد الله الجدلي في أربعة آلاف راكب ، فقدم مكّة
وكسر حجرة زمزم وقال لابن الحنفية : دعني وابن الزبير! فقال : لا استحلّ من قطع
رحمه ما استحلّ منّي! وذكر عبد الله بن العباس مع أربعة وعشرين رجلا من بني هاشم
في حجرة زمزم.
وقال : وتحامل ابن
الزبير على بني هاشم تحاملا شديدا ونصب لهم العداوة والبغضاء حتّى بلغ ذلك منه أن
ترك في خطبته الصلاة على محمد (وليس آل محمّد) فقيل له : لم تركت الصلاة على
النبيّ؟! فقال : إنّ له اهيل سوء يشرئبّون لذكره ويرفعون رؤوسهم إذا سمعوا به.
بل بلغ ابن
الحنفية أنّ ابن الزبير قام خطيبا فنال من عليّ عليهالسلام فدخل المسجد الحرام ومعه من يحمل رحلا وضعه له فقام عليه
فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على محمّد ثمّ قال : شاهت الوجوه! يا معشر قريش! أيذكر
عليّ بين أظهركم (بسوء) وأنتم تسمعون فلا تغضبون؟! ألا إن عليا كان سهما صائبا من
مرامي الله لأعدائه ، يضرب وجوههم ويهوّعهم مآكلهم ويأخذ بحناجرهم! ألا وإنّا على
نهج من حاله وليس علينا في مقادير الأمور حيلة (وَسَيَعْلَمُ
الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ).
__________________
فبلغ قوله ابن
الزبير فقال : هذا عذر بني الفواطم فما بال ابن «أمة» بني حنيفة! وبلغ ذلك محمّدا
فقال : يا معشر قريش! وما يميّزني من بني الفواطم؟! أليست فاطمة ابنة رسول الله
حليلة أبي وامّ إخوتي؟! أو ليست فاطمة بنت أسد بن هاشم جدّتي امّ أبي؟! أليست
فاطمة بنت عمرو بن عائذ جدة أبي وامّ جدتي؟! أما والله لو لا خديجة بنت خويلد بن
أسد لما تركت عظما في «أسد» إلّا هشمته! فإنّي «بتلك التي فيها العيوب بصير» .
ابن الزبير في
المسعودي :
والمسعودي نقل عن
كتاب النوفلي بسنده عن الديّال بن حرملة قال : كنت في من استنفرهم أبو عبد الله
الجدلي من أهل الكوفة من قبل المختار ، فنفرنا معه في أربعة آلاف فارس ، وقبل دخول
مكّة قال لنا أبو عبد الله : هذه خيل عظيمة وأخاف أن يبلغ ابن الزبير الخبر فيعجل
على بني هاشم فيأتي عليهم! فانتدبوا معي. قال : فانتدبنا معه جريدة خيل في ثمانمئة
فارس ، فما شعر ابن الزبير إلّا والرايات تخفق على رأسه! فجئنا إلى بني هاشم فإذا
هم في الشعب (كذا) فاستخرجناهم ، فقال لنا ابن الحنفية : لا تقاتلوا إلّا من
قاتلكم.
ثمّ نقل عن
النوفلي بسنده عن حمّاد بن سلمة قال : كان عروة بن الزبير إذا جرى ذكر بني هاشم
وحصرهم في الشعب (كذا) وجمعه لهم الحطب لتحريقهم ، يعذر أخاه ويقول : إنّه إنّما
أراد إرهابهم ليدخلوا في طاعته كما فعل عمر بن الخطاب ببني هاشم لما تأخّروا عن
بيعة أبي بكر ، فإنّه أحضر الحطب ليحرّق
__________________
عليهم الدار ثمّ علّق المسعودي عليه قال : وهذا خبر لا يحتمل ذكره هنا
، وقد أتينا على ذكره في كتابنا في مناقب «أهل البيت وأخبارهم» المترجم بكتاب «حدائق
الأذهان».
قال : وخطب ابن
الزبير فقال : قد بايعني الناس ولم يتخلّف عن بيعتي إلّا هذا الغلام (كذا!) محمّد
بن الحنفيّة ، والموعد بيني وبينه أن تغرب الشمس ثمّ اضرم عليه داره نارا! فدخل
ابن العباس على ابن الحنفيّة وقال له : يابن عم إنّي لا آمنه عليك فبايعه! فقال :
سيمنعه عنّي حجاب قوي! فوافاهم أبو عبد الله الجدلي في خيله وقد كادت الشمس أن
تغيب ممّا يدلّ على بيعة ابن عباس له! وأنّه لم يكن في الحصار خلافا لليعقوبي
العباسي كما مرّ! يزعم إباءة البيعة لابن الزبير!
ثمّ نقل عن
النميري البصري : امتناع ابن الزبير عن الصلاة على النبيّ صلىاللهعليهوآله وقال : لا يمنعني أن اصلّي عليه إلّا أن تشمخ رجال بآنافها!
وحدّد المدّة فقال : خطب أربعين يوما (أو أربعين جمعة) لا يصلّي على النبيّ.
وفيه عنه عن سعيد
بن جبير أنّ ابن الزبير قال لابن عباس : إنّي لأكتم بغضكم «أهل هذا البيت» منذ
أربعين سنة!
__________________
وفيه عن كتاب
النوفلي قال : خطب ابن الزبير فنال من عليّ! فبلغ ذلك ابنه محمّد بن الحنفية فجاء
ووضع له كرسي فعلاه وقال : يا معشر قريش! شاهت الوجوه! أينتقص عليّ وأنتم حضور!
إنّ عليا كان سهما صائبا من مرامي الله على أعدائه ، يقتلهم لكفرهم ويهوّعهم
مآكلهم ، فثقل عليهم فرموه بقرفة الأباطيل ... فقال ابن الزبير : عذرت بني الفواطم
يتكلّمون فما بال «ابن الحنفية» فقال له محمّد : يابن امّ رومان! وما لي لا أتكلّم؟!
أليست فاطمة ...
وفيه عنه أيضا
بسنده قال : خطب ابن الزبير فقال : «ما بال أقوام يفتون في «المتعة» وينتقصون
حواري الرسول وامّ المؤمنين عائشة! ما بالهم أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم»
يعرّض بابن عباس وكان قد فقد بصره ويقوده غلامه ، فقال له : يا غلام اصمدني صمده
فلما قاربه تمثّل :
قد أنصف القارة من راماها
|
|
إنّا إذا ما فئة نلقاها
|
نردّ أولاها على اخراها
|
أمّا قولك في «المتعة»
(يعني متعة الحجّ) فسل امّك تخبرك ؛ فإن أوّل متعة سطح مجمرها لمجمر سطع بين امّك
وأبيك.
وأمّا قولك : «أم
المؤمنين» فبنا سمّيت امّ المؤمنين وبنا ضرب عليها الحجاب!
وأمّا قولك :
حواريّ رسول الله ، فقد لقيت أباك في الزحف وأنا مع إمام هدى ، فإن يكن على ما
أقول فقد كفر بقتالنا! وإن يكن على ما تقول فقد كفر بهربه عنا!
فانقطع ابن الزبير
، ثمّ دخل على امّه أسماء بنت أبي بكر فسألها فقالت : صدق!
وفيه عنه أيضا
بسنده عنها قالت : لمّا قدمنا في حجّة الوداع مع رسول الله صلىاللهعليهوآله أمر من لم يكن معه هدي أن يحلّ ، فأحللت ولبست ثيابي
وتطيّبت
وجلست إلى جنب
الزبير ، فقال : قومي عنّي أخاف أن أثب عليك! فهذا الذي أراد ابن عباس .
وهذا لا ينافي ما
مرّ من استظهار أنّ ابن عباس كان قد بايع ابن الزبير كرها أو إكراها ، كما لا
ينافي ذلك أن يضيق ابن الزبير به ذرعا من مجادلاته هذه بالحق فيحمله ذلك على
إخراجه عن مكّة إلى الطائف إخراجا قبيحا ـ كما في اليعقوبي ـ وقال :
وكتب إليه ابن
الحنفية : أمّا بعد ، فقد بلغني أنّ عبد الله بن الزبير سيّرك إلى الطائف. فرفع
الله بك أجرا واحتطّ عنك وزرا. يابن عمّ ، إنّما يبتلى الصالحون ، وتعدّ الكرامة
للأخيار ، ولو لم نؤجر إلّا فيما نحبّ وتحبّ لقلّ الأجر ، فاصبر فإن الله قد وعد
الصابرين خيرا ، والسلام .
واعتمد المسعودي
هنا على خبر عمر بن شبّة النميري البصري بسنده عن سعيد بن جبير قال : وجرى بينهم (بينهما)
خطب طويل فخرج ابن عباس من مكّة! خوفا على نفسه! فنزل الطائف حتّى توفى هناك .
واليعقوبي وإن
أعقب خبر إخراج ابن عباس لخبر إخراج ابن الحنفية إلى ناحية رضوى ، لكنّه لمّا أعقب
ذلك بخبر رسالة ابن الحنفية إلى ابن عباس كأنّه سلّم بتأخّر إخراج ابن الحنفيّة ،
وهو الصحيح ؛ لما سيأتي من إثارته للمختار على أخذ الثار من قتلة الحسين عليهالسلام وهو بمكّة.
__________________
وقعة الموصل
الأولى :
كان مروان ، أو
ابنه عبد الملك ، قد جهّز ابن زياد بثمانين ألفا وجعل له ما غلب عليه في طريقه إلى
العراق ، وأمره إذا ظفر بالكوفة أن ينهبها ثلاثة أيام ، كما فعل قبل يزيد بالمدينة!
وكانت قبائل قيس
عيلان مع الضحّاك بن قيس الفهري ولمّا قاتل مروان وقتله مروان وهزم قيسا معه ،
بقيت قيس مخالفة لمروان وعلى ابنه عبد الملك من بعده ، فلمّا فرغ ابن زياد من أمر
التوابين بعين الوردة عاد مشتغلا بقبائل قيس عن العراق سنة تامّة! ثمّ وجّه خيله
إلى الموصل.
وكان على الموصل
من قبل المختار عبد الرحمن بن سعيد قيس الهمداني فلمّا وجّه ابن زياد خيله إليه
انحاز إلى تكريت وكتب إلى المختار : أمّا بعد أيّها الأمير فإنّي اخبرك أنّ عبيد
الله بن زياد قد دخل أرض الموصل ، وقد وجّه قبلي خيله ورجاله ، وأنّي انحزت إلى
تكريت حتّى يأتيني رأيك وأمرك والسلام عليك.
فأجابه المختار :
أمّا بعد ، فقد بلغني كتابك وقد أصبت بانحيازك إلى تكريت ، فلا تبرحنّ مكانك حتّى يأتيك
أمري إن شاء الله ، والسلام عليك.
ثمّ دعا يزيد بن
أنس الأسدي فقال له : اخرج إلى الموصل حتّى تنزل بأدانيها. فقال له يزيد :
سرّح معي ثلاثة
آلاف فارس انتخبهم ، وخلّني والثغر الذي أتوجّه إليه ، فإن احتجت إلى الرجال
فسأكتب إليك. فقال المختار : فاخرج فانتخب من أحببت على اسم الله. فخرج وانتخب
ثلاثة آلاف فارس ، فجعل على ربع المدينة النعمان بن عوف الأزدي ، وعلى ربع تميم
وهمدان عاصم بن قيس الهمداني ، وعلى مذحج وأسد ورقاء بن عازب الأسدي ، وعلى ربع
ربيعة وكندة سعرا الحنفي التميمي.
ثمّ خرج من الكوفة
وخرج المختار والناس يشايعونه إلى دير أبي موسى ثمّ قال له : إذا لقيت عدوّك فلا
تناظرهم وإن أمكنتك الفرصة فلا تؤخّرها ، وليكن في كلّ يوم خبرك عندي ، وإن احتجت
إلى مدد فاكتب إليّ ، مع أنّي ممدّك ولو لم تستمد فإنّه أشدّ لعضدك وأعزّ لجندك
وأرعب لعدوّك. فقال يزيد : لا تمدّني إلّا بدعائك فكفى به مددا! وقال للناس : ايم
الله لئن لقيتهم ففاتني النصر فإنّه لا تفتني الشهادة إن شاء الله ، فاسألوا الله
لي الشهادة!
وكتب المختار إلى
عبد الرحمن بن سعيد : أمّا بعد فخلّ بين البلاد وبين يزيد والسلام عليك.
فخرج يزيد بالناس
حتّى بات في سورا ، ثمّ غدا بهم حتّى بات بالمدائن فشكا إليه بعض من معه شدّة سيره
فأقام بالمدائن يوما وليلة اخرى (ثالثة) ثمّ خرج بهم إلى أرض جوخى ثمّ إلى
الراذانات ثمّ إلى أرض الموصل فنزل إلى قرية بنات تلى ، فبلغ خبره ابن زياد
وأخبرته عيونه أنّ معه ثلاثة آلاف ، فقال ابن زياد : فأنا أبعث إلى كلّ ألف ألفين
، ثمّ دعا ربيعة بن المخارق الغنوي فبعثه في ثلاثة آلاف أوّلا ، ثمّ مكث يوما ثمّ
بعث خلفه عبد الله بن حملة الخثعمي في ثلاثة آلاف ، وسبقه ربيعة إلى قرية بنات
تلى.
وأصبح يزيد بن أنس
الأسدي مريضا ، فجعل ورقاء بن عازب الأسدي على الخيل ، وعبد الله بن ضمرة العذري
على ميمنته ، وسعرا الحنفي على ميسرته ، ثمّ أمرهم أن يحملوه على حمار ويمسكونه من
جنبيه فجعل يقف على الأرباع ويقول لهم : يا شرطة الله اصبروا تؤجروا ، وصابروا
عدوّكم تظفروا ، وقاتلوا (أَوْلِياءَ
الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) فإن هلكت فأميركم ورقاء بن
__________________
عازب الأسدي ، وإن
هلك فأميركم عبد الله بن ضمرة ، فإن هلك فأميركم سعر الحنفي. ثمّ أمرهم أن يضعوا
له سريرا فيضعوه عليه بين الرجال ، ثمّ قال لهم : قدّموني في الرجال وابرزوا لهم
بالعراء ثمّ إن شئتم فقاتلوا عن أميركم أو إن شئتم ففرّوا فهزمهم ، وحمل ورقاء بن
عازب الأسدي بخيله فهزمهم وبقي قائدهم ابن المخارق وقد فارقه أصحابه وهو نازل
يناديهم ، وحمل عليه عبد الله بن ورقاء الأسدي وعبد الله بن ضمرة العذري فقتلاه ،
فلم يرتفع الضحى حتّى هزموهم وحووا معسكرهم .
وكان من مخاريق
ابن المخارق هذا لقومه أن قال لهم : يا أهل الشام ؛ إنّكم إنّما تقاتلون «العبيد
الأبّاق» وقوما قد خرجوا من الإسلام وتركوه! «لا ينطقون العربيّة» وليست لهم بقيّة
!
وعادوا في عيد
الأضحى :
مرّ الخبر أنّ ابن
زياد زوّد ابن المخارق بثلاثة آلاف ، وأعقبه بعده بيوم بثلاثة آلاف آخرين مع عبد
الله بن حملة الخثعمي فكان بعده بمسيرة ساعة ، فروى أبو مخنف عن أبي كبشة عمرو
القيني الشامي أنّه كان مع ابن المخارق ، فلمّا انهزموا على مسيرة ساعة من قرية
بنات تلى قال : التقينا بعسكر ابن حملة الخثعمي ، فردّنا معه حتّى نزل في بنات تلى
مواجها لعسكر يزيد بن أنس الأسدي الكوفي ، فبتنا ليلة عيد الأضحى متحارسين حتّى
أصبحنا فصلّينا الصبح ، ثمّ تعبّأنا ، فجعل على ميمنته الزبير بن خزيمة الخثعمي
وعلى ميسرته ابن اقيصر القحافي الخثعمي والتزم هو بالخيل والرجال ، واقتتلنا قتالا
شديدا فتطاردت
__________________
الخيلان في أوّل
النهار ثمّ انصرفوا لصلاة الزوال ، ثمّ خرجوا فهزم الكوفيّون الشاميّين هزيمة
قبيحة وقتلوا منهم قتلا ذريعا. ونزل ابن حملة الخثعمي ينادي أصحابه ، فحمل عليه
رجل من خثعم الكوفة فقتله ، وحووا معسكرهم وما فيه ، وأسروا منهم ثلاثمئة أسير ،
أتوا بهم إلى يزيد الأسدي وهو في مقدّمات السكرات فأخذ يومي بقتلهم فقتلوهم كلّهم
، ثمّ ما أمسى حتّى مات ، فصلّى عليه ورقاء الأسدي ودفنه.
ثمّ إنّ ورقاء
الأسدي دعا رؤوس الأرباع وفرسان أصحابه فقال لهم : يا هؤلاء! إنّما أنا رجل منكم
ولست بأفضلكم رأيا ، فأشيروا عليّ ؛ فإنّ ابن زياد قد جاءكم في جند أهل الشام
الأعظم! إنّه قد بلغني أنّه قد أقبل إلينا في ثمانين ألفا من أهل الشام ، وبجلّتهم
وفرسانهم وأشرافهم ، ولا أرى لنا ولكم بهم طاقة على هذه الحال ، وقد مات أميرنا
يزيد بن أنس وتفرّقت عنا طائفة منّا! فلو انصرفنا اليوم من تلقاء أنفسنا قبل أن
نلقاهم وقبل أن نبلغهم ، فيعلموا أنّا إنّما ردّنا عنهم هلاك صاحبنا فلا يزالوا
لنا هائبين ... وإنّا إن لقيناهم اليوم كنّا مخاطرين ، فإن هزمنا اليوم لم تكن
تنفعنا هزيمتنا إيّاهم قبل اليوم! فقالوا : نعم ما رأيت ، انصرف رحمك الله ، فقرّر
الانصراف بهم ، وانصرفوا.
وترامت الأخبار
بانصرافهم إلى إسحاق بن مسعود عامل المختار على المدائن وجوخى ، وكان له عين من
أنباط السواد فأرسله بخبرهم إلى المختار ، فدعا المختار إبراهيم بن الأشتر وعقد له
على سبعة آلاف رجل وقال له : سر حتّى تلقى جيش ابن أنس الأسدي فارددهم معك حتّى
تلقى عدوّك فتناجزهم القتال فأخذ إبراهيم يتجهّز لذلك ، في أواخر سنة ست وستين.
__________________
وتلاقى المرجفون
في الكوفة :
قال أبو مخنف
الأزدي : لم يكن فيما أحدث المختار شيء أعظم عليهم من أنّه جعل للموالي نصيبا من
الفيء! وكان شبث بن ربعي اليربوعي التميمي شيخا جاهليّا إسلاميّا! فلمّا مات يزيد
بن أنس الأسدي وزعموا أنّه قد قتل التقى أشراف الكوفة وقالوا : تجتمع في منزل
شيخنا شبث! فتواعدوا منزله واجتمعوا وأتوا إليه فصلّى بهم ثمّ تذاكروا فأخذوا
يقولون : والله لقد تأمّر علينا هذا الرجل بغير رضا منّا ، ولقد أدنى موالينا
فحملهم على الدواب! وأعطاهم وأطعمهم فيئنا! فعصانا عبيدنا! وحرب بذلك أراملنا
وأيتامنا! فقال لهم شبث : دعوني حتّى ألقاه.
فذهب شبث وجمع معه
جمعا والتقى بالمختار وذاكره ما أنكره أصحابهم ، فذكر «المماليك» فقال المختار :
فأنا أردّ عليهم عبيدهم ومماليكهم. فذكر له «الموالي» فقال : عمدت إلى موالينا وهم
فيء أفاءه الله علينا مع هذه البلاد جميعا! فأعتقنا رقابهم نأمل الأجر و «الشكر»
فلم ترض لهم بذلك حتّى جعلتهم شركاءنا في فيئنا!
فقال المختار لهم
: إن أنا تركت لكم مواليكم ورددت فيئكم فيكم ، فهل تقاتلون أنتم معي بني امية وابن
الزبير وتعطوني على الوفاء بذلك عهد الله وميثاقه وما أطمئن إليه من الإيمان؟ فقال
شبث : ما أدري ، حتّى أخرج إلى أصحابي فأذاكرهم ذلك. وخرج فلم يرجع إليه.
بل أجمع على قتاله
هو وشمر بن ذي الجوشن الكلابي ، ومحمّد بن الأشعث الكندي ، والتحق بهم عامل
المختار على الموصل عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني ، وتوافقوا على دعوة كعب
الخثعمي فذهبوا إليه وتكلّم شبث فقال في عيب المختار : إنّه تأمّر علينا بغير رضا
منّا ، وزعم أنّ «ابن الحنفيّة» بعثه إلينا ،
وقد علمنا أن ابن
الحنفيّة لم يفعل! وأطعم «موالينا» فيئنا! وأخذ «عبيدنا» فحرب بهم أراملنا
ويتامانا! وأظهر هو و «سبئيّته» البراءة من «أسلافنا» الصالحين! وأخبره باجتماع
رأيهم على قتاله وسأله أن يجيبهم إلى ذلك. فرحّب بهم كعب وأجابهم إليه.
وتوافقوا على دعوة
عبد الرحمن بن مخنف الأزدي فذهبوا إليه ودعوه فقال لهم : إنّكم إن أطعتموني لم تخرجوا.
قالوا : لم؟ قال : لأنّه مع الرجل شجعانكم وفرسانكم من أنفسكم ، وعدّهم ، ثمّ معه «عبيدكم»
و «مواليكم» فهو مقاتلكم بشجاعة العرب وعداوة «العجم» و «عبيدكم» و «مواليكم» أشدّ
حنقا عليكم من عدوكم. وإن انتظرتموهم قليلا كفيتموهم بمجيء أهل البصرة (الزبيريين)
أو بقدوم أهل الشام (المروانيين) فتكونوا قد كفيتموهم بغيركم ولم تجعلوا بأسكم
بينكم! وإن أبيتم إلّا أن تخرجوا لم أخذلكم!
فقالوا : ننشدك
الله أن تخالفنا وأن تفسد علينا رأينا وما قد اجتمعت عليه جماعتنا! قال : فأنا رجل
منكم ، فإذا شئتم فاخرجوا.
ثمّ انتظروا حتّى
يخرج عنهم إبراهيم بن الأشتر. فأمهلوا حتّى خرج وبلغ ساباط المدائن فوثبوا .
تواثب العرب على
المختار ومحاورته لهم :
قال أبو مخنف :
فخرج عبد الرحمن بن سعيد الهمداني السّبيعي في جبّانتهم ، وسار إليه إسحاق بن
محمّد بن الأشعث الكندي وزحر بن قيس الكندي إلى عبد الرحمن في جبانة السّبيع. وخرج
كعب الخثعمي في جبّانتهم ، وسار إليه
__________________
بشير بن جرير بن
عبد الله البجلي في بجيلة ، ثمّ سارت بجيلة وخثعم إلى عبد الرحمن بن مخنف الأزدي
في جبّانة مخنف. ثمّ بلغ الذين في جبّانة السّبيع : أنّ المختار قد عبّأ لهم خيلا
، فبعثوا رسلا إلى الأزد وبجيلة وخثعم يسألونهم بالله والرحم أن يعجّلوا إليهم ،
فساروا إليهم واجتمعوا. ونزل حجّار بن أبجر ويزيد بن الحارث بن رويم في ربيعة فيما
بين التمّارين والسبخة ، ونزل شبث بن ربعي وحسّان بن قائد العبسي وربيعة بن شروان
الضبّي في مضر بالكناسة ، ونزل عمرو بن الحجاج الزبيدي بمن تبعه من مذحج في جبّانة
مراد ، ودعاه أهل اليمن إليهم فأبى عليهم ، ودعوا شمرا إليهم فقال لهم : لا والله
لا اقاتل في سكك ضيّقة ونقاتل من وجوه! فإن اجتمعتم في مكان واحد نجعل له مجنبتين
ونقاتل من وجه واحد فأنا صاحبكم. ثمّ خرج إلى جماعة قومه بجبّانة بني سلول.
وبذلك أخذ أهل
الكوفة على المختار وأنصاره بأفواه السكك ، فلم يكن يصل إلى المختار ولا إلى
أصحابه حتّى من الماء إلّا القليل يجيئهم في غفلة عنهم. وأمر المختار أنصاره
بالكفّ عنهم ، وأراد أن يريّثهم بمقاولته لهم حتّى يسترجع إليه ابن الأشتر فبعث
إليهم في ذلك اليوم : أخبروني ماذا تريدون فإنّي صانع كلّ ما أحببتم! فقالوا :
فإنّا نريد أن تعتزلنا! فإنّك زعمت أنّ «ابن الحنفيّة» بعثك! ولم يبعثك! فأرسل
المختار إليهم : فإنّي أبعث إليه وفدا من قبلي وابعثوا إليه وفدا من قبلكم حتّى
تتبيّنوه ثمّ انظروا في ذلك.
وبعث المختار من
يومه رسولا إلى إبراهيم بن الأشتر وهو بساباط المدائن : أن لا تضع كتابي هذا من
يدك حتّى ترجع إليّ بجميع من معك .
__________________
وعاد أنصار
المختار :
خرج رسول المختار
عمرو بن توبة بالركض إلى إبراهيم بن الأشتر بساباط المدائن حتّى بلغه في عصر ذلك
اليوم! فلمّا قرأ كتابه نادى بالناس : أن ارجعوا إلى الكوفة.
فسار بقية ذلك
اليوم حتّى أمسى ثمّ نزل للعشاء ، وأراحوا الدوابّ شيئا ، ثمّ نادى فيهم فسار
الليل كلّه حتّى صلّى الصبح في سوراء ثمّ سار حتّى صلّى عصر غده على باب الجسر ،
ثمّ دخل البلد إلى المسجد فبات فيه بأصحابه.
وخرج المختار
فصلّى بهم ثمّ صعد المنبر ، ثمّ نزل إلى السوق ـ ولم يكن فيه بناء ـ فعبّأ أصحابه
فيه.
وكان المختار ذا
رأي فكره أن يسير ابن الأشتر إلى قومه من اليمن فلا يبالغ في قتالهم ، فقال له :
أيّ الفريقين (من مضر واليمن) أحبّ إليك أن تسير إليهم؟ قال : أيّ الفريقين أحببت!
فقال المختار : فسر إلى مضر بالكناسة وعليهم شبث بن ربعي ومحمّد بن عمير بن عطارد
، وأنا أسير إلى اليمن ، فسار إبراهيم إلى الكناسة ، وسار المختار إلى جبّانة
السّبيع .
ابن الأشتر لمضر
والمختار لأهل اليمن :
فمضى ابن الأشتر
حتّى لقي شبث بن ربعي وحسّان بن فائد العبسي وبشرا كثيرا من مضر.
فنادى فيهم
إبراهيم : ويحكم! انصرفوا ، فو الله ما أحبّ أن يصاب على يدي أحد من مضر ، فلا
تهلكوا أنفسكم! فأبوا وقاتلوه ، فهزمهم وجرح حسّان
__________________
العبسي فاحتمل إلى
أهله فلمّا أدخلوه عليهم مات فيهم . وقتل غيره من مضر بضعة عشر رجلا .
وسار المختار إلى
جبّانة السّبيع ولكنّه توقّف عند دار عمر بن سعد وسرّح بين يديه عبد الله بن كامل
الشاكري الهمداني ، وأحمر بن شميط الأحمسي البجلي وقال له : الزم هذه السكّة حتّى
تخرج من دور قومك ومسجدهم إلى جبّانة السّبيع ، وقال للشاكري الهمداني : الزم هذه
السكّة حتّى تخرج عليهم من دار الأخنس بن شريق الثقفي إلى الفرات ، وقال لهما :
إنّ الشباميين (من همدان) أخبروني أنّهم يأتونهم من ورائهم.
وبلغ إلى أهل
اليمن مسير الرجلين إليهم فاقتسموا تلك السكّتين : فسكّة مسجد أحمس وقف فيها عبد
الرحمن بن سعيد الهمداني ومعه زحر بن قيس الجعفي وإسحاق بن محمّد بن الأشعث الكندي
وسكّة الأخنس الثقفي إلى الفرات وقف فيها عبد الرحمن بن مخنف الأزدي وبشير بن جرير
البجلي وكعب الخثعمي ، وتلاقوا واقتتلوا قتالا شديدا حتّى انكشف أنصار المختار
وفلّوا والتقاه فلولهم فردّهم حتّى وقف إلى دار أبي عبد الله الجدلي ، فبعث عبد
الله بن قراد الخثعمي على أربعمئة فارس وراجل إلى عبد الله بن الكامل مددا ، وبعث
مالك بن عمرو النهدي وكان شديد البأس في مئتي فارس إلى أحمر بن شميط الأحمسي
فأمدّوه.
واجتمع الشباميون
من همدان على رئيسهم أبي القلوص على أن يأتوا أهل اليمن من ورائهم كما وعدوا
المختار ، حتّى خرجوا إلى جبّانة السّبيع ، فاستقبلهم
__________________
الأعسر الشاكري
الهمداني على فم السكّة ، فحمل عليه أبو الزبير بن كريب والجندعي فصرعاه ودخلوا
الجبّانة وهم ينادون «يالثارات الحسين»! فأجابهم أنصار ابن شميط : «يالثارات
الحسين». فأخذ بعض الهمدانيين ينادي : «يالثارات عثمان»! فقتل.
وكان رفاعة بن
شدّاد البجلي مع قومه بني بجلة على المختار! وكان ناسكا قارئا للقرآن فقدّموه
للصلاة بهم ، ولكنّه لما سمعهم اليوم ينادون : «يالثارات عثمان» قال : لا اقاتل مع
قوم يبغون دم عثمان ما لنا ولعثمان؟! ثمّ عطف بسيفه عليهم وهو يقول :
أنا ابن شدّاد على دين عليّ
|
|
لست لعثمان بن أروى بولي
|
وقاتلهم حتّى
عطفوا عليه فقتلوه عند حمّام الماهبدان بالسبخة. وارتثّ بالجراح زحر بن قيس الجعفي
، وقتل ابنه الفرات ، وقتل عبد الرحمن بن سعيد الهمداني ، وارتثّ بالجراح عبد
الرحمن بن مخنف الأزدي وحملوه وقاتل دونه حميد بن مسلم الأزدي الراوي ، وقتل عمر
بن مخنف الأزدي.
ولجأ خمسمئة منهم
إلى دور الوادعيين من همدان ، فاستخرجوهم اسراء مكتّفين إلى المختار ، فتولّى
أمرهم رجل من رؤساء أنصار المختار هو عبد الله بن شريك النهدي ، فكان يقتل الموالي
والعبيد ويخلّي العرب! فلمّا رأى ذلك رجل من موالي بني نهد يدعى درهم رفع ذلك إلى
المختار فقال : اعرضوهم عليّ ، وانظروا من شهد منهم قتل الحسين فأعلموني به.
فشهدوا على نصفهم بذلك فقدّمهم وضرب أعناقهم ، ودعا بمن بقي منهم فأخذ عليهم
المواثيق أن : لا يجامعوا عليه عدوا ، ولا يبغوه ولا أصحابه غائلة ، ثمّ أعتقهم.
ونادى مناديه :
ألا إنّ من أغلق بابه فهو آمن إلّا رجلا شرك في دم «آل محمّد» صلىاللهعليهوآله.
وفرّ عمرو بن
الحجّاج الزبيدي إلى طريق الحجاز فلم يعثر عليه ، وأخبر حجّار بن أبجر ويزيد بن
الحارث بن رويم الشيبانيان بهزيمة أهل اليمن فانصرفا بأصحابهما إلى بيوتهم وانجلت الوقعة عن سبعمئة وثمانين قتيلا من الهمدانيين
وغيرهم ! بما فيهم المئتان والخمسون من الأسرى ... وكانت الوقعة
يوم الأربعاء (لثمان) ليال بقين من ذي الحجّة سنة ستّ وستّين .
والشعراء يتّبعهم
الغاوون :
قتل المختار مئتين
وثمانية وأربعين رجلا من الأسرى الخمسمئة ، ممن أعلموه أنّه ممن شهد قتل الحسين عليهالسلام ، ثمّ أخذ المواثيق على من بقي من الأسرى فأعتقهم ، إلّا
شاعرهم سراقة بن مرداس البارقي الهمداني فإنّه أمر أن يساق معه إلى المسجد .
ثمّ أقبل إلى
القصر ، فرفع سراقة صوته يناديه :
امنن عليّ اليوم يا خير معد
|
|
وخير من حيّا ولبّى وسجد
|
فبعث به المختار
إلى السجن فحبسه ليلة ثمّ دعاه فأقبل يقول له :
__________________
ألا أبلغ أبا إسحاق أنّا
|
|
نزونا نزوة كانت علينا
|
خرجنا لا نرى «الضعفاء» شيئا
|
|
وكان خروجنا بطرا وحينا
|
نراهم في مصافهم قليلا
|
|
وهم مثل الدّبي حين التقينا
|
برزنا إذ لقينا هم فلمّا
|
|
رأينا القوم قد برزوا إلينا
|
لقينا منهم ضربا طلحفا
|
|
وطعنا صائبا حتّى انثنينا
|
نصرت على عدوّك كلّ يوم
|
|
بكلّ كتيبة تنعى «حسينا»
|
كنصر محمّد في يوم بدر
|
|
ويوم الشعب إذ لاقى حنينا
|
فأسجح إذ ملكت ، فلو ملكنا
|
|
لجرنا في الحكومة واعتدينا
|
تقبّل توبتي منّي فإنّي
|
|
سأشكر إن جعلت النقد دينا
|
ولمّا انتهى إلى
المختار قال له : أصلحك الله أيّها الأمير! سراقة بن مرداس يحلف بالله الذي لا إله
إلّا هو! لقد رأى الملائكة تقاتل على الخيول البلق بين السماء والأرض! فقال له
المختار : فاصعد المنبر وأعلم ذلك المسلمين ، فصعد فأخبرهم بذلك ثمّ نزل ، فخلا به
المختار وقال له : إنّي قد علمت أنّك لم تر الملائكة ، وإنّما أردت أن لا أقتلك!
فاذهب عنّي حيث أحببت!
وقد مرّ أن عبد
الرحمن بن مخنف الأزدي ارتثّ جريحا فحمل إلى أهله ، ثمّ لحق بأزد البصرة وخرج سائر
وجوه الكوفة فلحقوا بالبصرة ، ولحق بهم سراقة ، وهو يقول : ما كنت في أيمان حلفت
بها قط أشدّ اجتهادا ولا مبالغة في الكذب منّي في أيماني التي حلفت بها لهم أنّي
رأيت الملائكة تقاتل معهم! ولكنّهم عادوا فنسبوا الكذب هذا ونحوه إلى المختار نفسه
.
__________________
وأعاد ابن الأشتر
لابن زياد :
روى الطبري ، عن
الكلبي ، عن أبي مخنف قال : فرغ المختار من أهل الكناسة والسّبيع يوم الأربعاء فما استراح ابن الأشتر إلّا يومين (الخميس والجمعة) فخرج
يوم السبت (لستّ) بقين من ذي الحجّة سنة ستّ وستّين .
وأخرج المختار معه
من وجوه أصحابه وفرسانهم وذوي البصائر منهم ممّن قد شهد الحروب وجرّبها ، فخرج معه
قيس بن طهفة على ربع أهل المدينة ، وعلى ربع مذحج وأسد عبد الله بن حيّة الأسدي ،
وعلى ربع ربيعة وكندة الأسود بن جراد الكندي ، وعلى ربع تميم وهمدان حبيب بن منقذ
الثوري الهمداني.
وكان موضع عسكر
إبراهيم بموضع حمّام أعين ، ومنه شخص بعسكره ، وخرج معه المختار يشايعه حتّى بلغ
دير عبد الرحمن بن امّ الحكم ، ومضى معه إلى قناطر رأس الجالوت فلمّا صار بين
قنطرة دير عبد الرحمن وقناطر رأس الجالوت اكتفى وأراد أن ينصرف راجعا فوقف ثمّ قال
لابن الأشتر : خذ عنّي ثلاثا :
خف الله في سرّ
أمرك وعلانيته! وعجّل السير ، وإذا لقيت عدوّك فناجزهم ، فإن لقيتهم ليلا واستطعت
أن لا تصبح حتّى تناجزهم! وإن لقيتهم نهارا فلا تنتظر بهم حتى تحاكمهم إلى الله.
ثمّ قال له : هل حفظت ما أوصيتك به؟! قال : نعم. قال : صحبك الله. ثمّ انصرف راجعا
.
__________________
ابن الأشتر إلى
الموصل :
كان مع النخعيّ
المولى أبو سعيد الصيقل فنقل أبو مخنف عنه قال : خرجنا مسرعين لا ننثني نريد أن
نلقى ابن زياد قبل أرض العراق! فتوغّلنا في أرض الموصل ، فجعل ابن الأشتر على
مقدّمته الطفيل بن لقيط النخعي شجاعا شديدا ، ثمّ ضمّ إليه حميد بن حريث ، وضمّ
ابن الأشتر إليه أصحابه كلّهم بخيلهم ورجالهم يسير بهم جيمعا لا يفرّقهم ولا يسير
إلّا على تعبئة ، إلّا أنّ في طليعته ابن لقيط حتى نزل جنب قرية باربيثا بينها
وبين مدينة الموصل خمسة فراسخ (٢٧ كم).
وكان شريك بن جدير
التغلبي من ربيعة مع علي عليهالسلام (يوم صفّين)
واصيبت عينه معه ، ولمّا انقضت الحرب لحق ببيت المقدس وبقي بها عشرين عاما حتّى
جاءه خبر قتل الحسين عليهالسلام فعاهد الله إن قدر يطلب بدم الحسين عليهالسلام فيقتل ابن مرجانة أو يموت دونه! فلمّا بلغه خروج المختار
بطلب دم الحسين عليهالسلام أقبل إليه إلى الكوفة. فاليوم توجّه مع ابن الأشتر فجعل
على ربيعة ، فقال لهم : يا قوم! إنّي عاهدت الله على كذا وكذا فمن يبايعني على ذلك؟!
فبايعه منهم ثلاثمئة .
__________________
وكانت قبائل قيس
مع الضحّاك بن قيس الفهري وحاربوا مروان وهزموا ، فكانت كلّها اليوم بالجزيرة وهم
أهل خلاف لمروان وآل مروان ، ومع ذلك كان ابن زياد قد استزاد بهم في جنوده.
وجاء ابن زياد
حتّى نزل قريبا من جند ابن الأشتر على شاطئ نهر الخازر.
وكان زعيم قيس مع
ابن زياد عمير بن حباب السلمي فأرسل إلى ابن الأشتر أنّه يريد لقاءه الليلة ،
فأرسل إليه ابن الأشتر : إذا شئت فالقني. فأتاه عمير ليلا وأخبره أنّ ابن زياد
جعله على ميسرته ، وبايع ابن الأشتر وواعده أن ينهزم بالناس!
فأراد إبراهيم
امتحانه فقال له : ما رأيك أن اخندق عليّ وأتلوّم يومين أو ثلاثة؟!
فقال عمير : إنّا
لله! وهل يريد القوم إلّا هذه! فهو خير لهم! فهم كثير أضعافكم وليس يطيق القليل
الكثير في المطاولة ، ولكن ناجز القوم ، فإنّهم قد ملئوا منكم رعبا ، وإنّهم إن
شاموا أصحابك وقاتلوهم يوما بعد يوم ومرّة بعد مرّة أنسوا بهم واجترؤوا عليهم!
فقال إبراهيم :
صدقت فالرأي ما رأيت ، والآن علمت أنّك مناصحي ، أما إن صاحبي أوصاني بهذا وأمرني
به. فقال عمير : إنّ الشيخ (المختار) قد ضرّسته الحروب وقاسى منها ما لم نقاس فلا
تعدون رأيه! أصبح فناهض الرجل. ثمّ انصرف عمير السلمي. فأذكى ابن الأشتر تلك
الليلة حرسه كلّ الليل ولم يغمض عينه .
__________________
الاستعداد لقتال
ابن زياد :
قال الصيقل : لمّا
كان السحر عبّأ إبراهيم أصحابه وكتّب كتائبه وأمّر امراءه ، فبعث على ميمنته سفيان
بن يزيد الأزدي ، وعلى ميسرته عليّ بن مالك الجشمي ، وكانت خيل النخعيّ قليلة فجعل
عليها أخاه لأمّه : عبد الرحمن بن عبد الله وضمّها إليه في القلب والميمنة ، وجعل
على رجّالته الطفيل بن لقيط النخعي أيضا.
فلمّا انفجر الفجر
غلّس بصلاة الغداة ، ثمّ خرج فصفّهم ، ووضع امراء الأرباع في مواضعهم ، ونزل يمشي
ويقول للناس : ازحفوا. فزحف الناس معه على رسلهم رويدا رويدا حتّى أشرف على تلّ
عظيم مشرف على القوم وإذا اولئك بعد لم يتحرّك أحد منهم.
فدعا بعبد الله بن
زهير السلولي فقال له : قرّب على فرسك حتّى تأتيني بخبر هؤلاء.
فانطلق فلم يلبث
إلّا يسيرا حتّى جاء فقال : قد خرج القوم على دهش وفشل ، ولقيني رجل منهم فناداني
: يا «شيعة» أبي تراب ؛ يا «شيعة» المختار الكذّاب! فقلت له : ما بيننا وبينكم
أجلّ من الشتم.
قال : يا عدوّ
الله! إلى ما تدعوننا؟ قلت له : يالثارات الحسين ابن رسول الله ، ادفعوا إلينا
عبيد الله بن زياد فإنّه قتل ابن رسول الله «وسيّد شباب أهل الجنة» حتّى نقتله
ببعض من قتلهم مع الحسين فإنّا لا نراه ندّا للحسين لنرضى به قودا! فإذا دفعتموه
إلينا فقتلناه ببعض موالينا جعلنا بيننا وبينكم حكما كتاب الله أو أي صالح شئتم من
المسلمين.
فقال : قد
جرّبناكم في مثل هذا فغدرتم! فقلت : وما هو؟ قال : قد جعلنا بيننا وبينكم حكما فلم
ترضوا بحكمهما! فقلت له : إنّما كان صلحنا على أنّهما إذا اجتمعا على رجل تبعنا
حكمهما ورضينا به وبايعناه ، فلم يجتمعا على واحد.
ثمّ دعا النخعي
بفرسه فركبه وأخذ يمرّ على أصحاب الرايات يرغّبهم في الجهاد ويحرّضهم على القتال
يقول :
يا أنصار الدين
وشرطة الله و «شيعة الحق» هذا عبيد الله بن مرجانة قاتل الحسين بن علي ابن فاطمة
بنت رسول الله ، حال بينه وبين أبنائه ونسائه و «شيعته» وبين ماء الفرات أن يشربوا
منه وهم ينظرون إليه ... ومنعه أن ينصرف إلى أهله ورحله ، ومنعه الذهاب في الأرض
العريضة حتّى قتله وقتل أهل بيته! فو الله ما عمل فرعون بنجباء بني إسرائيل ما عمل
ابن مرجانة بأهل بيت رسول الله صلىاللهعليهوآله «الذين أذهب الله
عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا» قد جاءكم الله به وجاءه بكم ، فو الله إنّي لأرجو أن
لا يكون جمع الله بينكم وبينه في هذا الموطن إلّا ليشفي صدوركم بسفك دمه على
أيديكم. فقد علم الله أنّكم خرجتم غضبا «لأهل بيت نبيّكم» ثمّ رجع حتّى نزل تحت
رايته .
وقعة نهر الخازر
بالموصل :
قال الصيقل : جعل
ابن زياد على ميمنته الحصين بن نمير السكوني ، وعلى ميسرته عمير بن الحباب السلمي (كما
قال من قبل) وعلى الخيل شرحبيل بن ذي الكلاع ، وأخذ هو يمشي في الرجّالة.
__________________
فلمّا تدانى
الصفّان حمل الحصين بن نمير في ميمنة أهل الشام على ميسرة أهل الكوفة فقتل قائدها
الجشمي ، فأخذ رايته ابنه قرّة فقتل أيضا مع رجال آخرين ثابتين ثمّ انهزمت الميسرة
، فأخذ رايتها عبد الله بن ورقاء السلولي واستقبلهم وقال لهم : إليّ يا شرطة الله!
فأقبل جلّهم إليه ، فقال لهم : سيروا بنا إلى أميركم فها هو يقاتل ، فأقبل بهم
إليه فإذا به هو كاشف عن رأسه يناديهم : يا شرطة الله إليّ أنا ابن الأشتر! إنّ
خير فرّاركم كرّاركم وليس مسيئا من أعتب. فثاب إليه أصحابه.
وقد مرّ أنه جعل
على ميمنته يزيد بن سفيان ، وأنّ عمير بن حباب السلمي على ميسرة الشام وعده أن
ينهزم بهم ، فأرسل إبراهيم إلى يزيد أن يحمل على ميسرتهم وهو يرجو أن ينهزم عمير
كما ادّعى ، بينما ثبت عمير وقاتل قتالا شديدا!
فلمّا رأى إبراهيم
ذلك قال لأصحابه : أمّوا السواد الأعظم فو الله لو فضضناه لا نجفل من ترون انجفال
طير ذعرت فطارت! ثمّ حمل فكان يقول لصاحب رايته : انغمس برايتك فيهم. فيقول : جعلت
فداك ليس لي متقدّم. فإذا تقدّم شدّ إبراهيم بسيفه فلا يضرب رجلا إلّا صرعه ، وكان
يكرد الرجال بين يديه ، وإذا حمل برايته شدّ أصحابه شدّة واحدة.
قال ورقاء بن عازب
: مشينا إليهم حتّى إذا دنونا منهم اطّعنّا بالرماح قليلا ثمّ صرنا إلى العمد
والسيوف فاضطربنا بها مليّا من النهار .. ثمّ إن الله هزمهم ومنحنا أكتافهم. فلمّا
رأى عمير بن الحباب هزيمة أصحابه بعث إلى إبراهيم يسأله : أجيئك الآن؟ فقال له :
لا تأتينّي حتّى تسكن فورة شرطة الله ، فإنّي أخاف عليك عاديتهم الآن .
__________________
وحمل شريك بن جدير
التغلبي بالثلاثمئة المبايعين معه على الموت ، فجعل يهتك صفوفهم صفّا صفّا بأصحابه
وثار الغبار فلا يسمع إلّا وقع السيوف والحديد ، ورأى شريك التغلبي الحصين بن نمير السكوني فحسبه ابن
زياد ، فتوصّل إليه واعتنق كلّ منهما الآخر ثمّ نادى التغلبي : اقتلوني وابن
الزانية ، فقتل الحصين ثمّ توصّل إلى ابن زياد وانفرج الناس عنهما وإذا بهما
قتيلين ورأى ابن الأشتر ابن زياد على شاطئ نهر الخازر تحت راية
منفردة فضربه فقدّه نصفين. فلمّا انفرج الناس ذكر لأصحابه ذلك وقال لهم : التمسوه
، فالتمسوه فإذا هو ابن زياد .
ولمّا هزم أصحاب
ابن زياد تبعهم أصحاب ابن الأشتر فغرق منهم في نهر الخازر أكثر ممّن قتل ، وغنموا
في معسكرهم من كلّ شيء وحمل ابن الأشتر رأس ابن زياد وغيره إلى المختار .
__________________
أخبار الانتصار
عند المختار :
اختار المختار من
أنصاره السائب بن مالك الأشعري ليخلفه على الكوفة وخرج منها بالناس إلى ساباط
المدائن ، فلمّا جاوزه قال لهم : أبشروا فإنّ شرطة الله قد حسّوهم بالسيوف يوما
إلى الليل بنصيبين أو قريبا منها!
ثمّ دخل المدائن
فصعد المنبر وخطبهم يأمرهم بالجدّ وحسن الاجتهاد والرأي والثبات على الطاعة و «الطلب
بدماء أهل البيت عليهمالسلام» إذ جاءه البشير تلو البشير بقتل ابن زياد وهزيمة عسكره
وقتل أشراف الشام ، فانصرف المختار إلى الكوفة.
وعاد إبراهيم إلى
الموصل فبعث أخاه لأمّه عبد الرحمن بن عبد الله على نصيبين ، وغلب على دارا وسنجار
وما والاها من أرض الجزيرة وأرمينية وأذربايجان.
رأس ابن زياد عند
السجاد عليهالسلام :
قال اليعقوبي :
ووجّه المختار برأس ابن زياد مع رجل من قومه إلى عليّ بن الحسين عليهالسلام وقال له : قف ببابه فإذا رأيت أبوابه قد فتحت ودخل الناس
فذاك هو الوقت الذي يوضع فيه طعامه فادخل إليه.
__________________
فجاء الرسول إلى
باب عليّ بن الحسين عليهالسلام فلما فتحت أبوابه ودخل الناس للطعام نادى الرجل بأعلى صوته
: «يا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومهبط الملائكة ومنزل الوحي! أنا رسول المختار
بن أبي عبيد ومعي رأس عبيد الله بن زياد»! فصرخت نسوة بني هاشم ، ودخل الرسول
فأخرج الرأس فلمّا رآه عليّ بن الحسين قال : أبعده الله إلى النار. ولم ير ضاحكا
منذ قتل أبوه الحسين حتّى ذلك اليوم.
وكانت له إبل تحمل
له الفاكهة من الشام فأمر بتلك الفواكه أن تفرّق في أهل المدينة.
وما اختضبت امرأة
من بني هاشم منذ قتل الحسين ولا امتشطت حتّى ذلك اليوم» .
وجاء هذا في خبر
الكشيّ عن جارود بن المنذر الزيدي عن الصادق عليهالسلام قال : ما امتشطت فينا هاشميّة ولا اختضبت حتّى بعث إلينا
المختار برؤوس الذين قتلوا الحسين عليهالسلام.
ثمّ روى عن عمر بن
عليّ بن الحسين عليهالسلام أنّه لمّا أتي برأس ابن زياد وعمر بن سعد خرّ ساجدا وقال :
الحمد لله الذي أدرك لي ثاري من أعدائي ، وجزى الله المختار خيرا.
وأنّ المختار كان
قد أرسل إلى أبيه بعشرين ألف دينار ، فقبلها وبنى بها دارهم التي هدمت ودار عقيل
بن أبي طالب ، ولم يكن قد ظهر من المختار يومئذ ما ظهر منه بعد ذلك .
وسيأتي خبر قتله
لعمر بن سعد وإرساله لرأسه إلى ابن الحنفيّة ، فلعلّ عمر بن عليّ بن الحسين عليهالسلام تسامح في عطف اللاحق على السابق.
__________________
وجاء مصعب للبصرة
:
ولعلّه تزامن أو
قرب من ذلك إرسال ابن الزبير لأخيه مصعب على البصرة بدل الحارث بن عبد الله القباع
، لحرب المختار ثمّ لحرب الشام. وكان معه جماعة دخل بهم البصرة متلثما حتّى أناخ
بباب مسجدها ، ورآه الناس فقالوا : أمير أمير ، وتسامع به الحارث الأمير السابق
فجاء إلى المسجد وإذا بمصعب قد صعد المنبر ، فلمّا دخل الحارث أسفر مصعب عن وجهه
فعرفوه ، وقال للحارث : اصعد ، فصعد حتّى جلس تحته بدرجة ، ثمّ قام مصعب فحمد الله
وأثنى عليه ثمّ قرأ الآيات الأوائل من سورة القصص وهو يشير بيده إلى الحجاز والشام
، ثمّ سمّى نفسه الجزّار! ونزل .
وخرج أهل الكوفة
الذين قاتلوا المختار فهزمهم ، فلحقوا بمصعب بن الزبير بالبصرة وكان فيهم شبث بن
ربعي اليربوعي التميمي .
وفرّ شمر وهلك :
كأنّ ذلك كان من
مقدّمات الإعداد لحرب المختار أن يلتحق قادة قبائل الكوفة بالبصرة ، ولم يكن ذلك
ليخفى على المختار ، فاختار أن يرسل رئيس حرسه أبا عمرة كيسان مولى بني عرينة إلى
جوار قرية يقال لها : الكلتانيّة على شاطئ نهر إلى جانب تلّ ، لتكون مسلحة فيما
بينه وبين البصرة .
وكان ممّن فرّ شمر
بن ذي الجوشن الكلابي بجمع من كلابه معه إلى مصعب بالبصرة ، وكان للمختار غلام (فارسي)
يدعى (زرپي ـ العمود الذهبي)
__________________
فتبع شمرا طامعا
فيه دون أن يستشير المختار ، فلمّا دنا من جماعة شمر قال لهم شمر : اركضوا
وتباعدوا عنّي لعلّ العبد يطمع فيّ ، وأخذ شمر يستطرد له وأقبل هو يسرع به فرسه
حتّى إذا انقطع من أصحابه حمل عليه شمر فدق ظهره وقتله ، وعاد أصحابه إلى المختار
فأخبروه بذلك فقال : أما لو كان يستشيرني لما أمرته أن يخرج له.
ثمّ مضى شمر
بأصحابه حتّى نزل قرية سانيدما ، ثمّ نزل قرب قرية الكلتانية وفيها كتب كتابا
عنوانه : للأمير المصعب بن الزبير من شمر بن ذي الجوشن ، وأخذ عبدا من القرية
فضربه وحمّله كتابه إلى مصعب بالبصرة ، فمرّ به أبو الكنود عبد الرحمن بن عبيد
فرأى الكتاب مع العبد وعنوانه لمصعب من شمر ، فذهب به إلى أبي عمرة كيسان فسألوه عن
مكان شمر فأخبرهم به فإذا هو على ثلاثة فراسخ منهم فأقبلوا إليه ليلا ، وقد قال
لأصحابه إنّه يريح هناك ثلاثة أيام ، وإذا بهم أشرفوا عليهم من التلّ وكبّروا
وأحاطوا بهم ، وكان شمر قد اتزر ببرد محقّق ، وهو أبرص وقد ظهر بياض كشحيه فوق
برده ، فأعجلوه أن يلبس ثيابه وسلاحه ، وترك أصحابه خيولهم وخرجوا يشتدّون على
أرجلهم ، وأخذ شمر رمحا وأخذ يطاعنهم به ساعة ثمّ دخل خيمته وأخذ سيفه وقاتل به
حتّى قتل .
وتجرّد المختار
لقتلة الحسين عليهالسلام :
وكأن كيسان أبا
عمرة مولى بني عرينة عاد إلى رئاسة حرس المختار فرآهم المختار يكلّمونه فارتاب
منهم ، فدعاه المختار وقال له : رأيتهم يكلّمونك فما يقولون لك؟ فأسرّ إليه :
أصلحك الله! شقّ عليهم صرفك وجهك عنهم إلى
__________________
العرب! فقال له :
قل لهم : لا يشقنّ ذلك عليكم ، فأنتم منّي وأنا منكم! ثمّ قرأ من سورة السجدة : (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ
مُنْتَقِمُونَ) فلمّا سمعها منه الموالي قالوا : أبشروا فو الله لكأنّكم
به قد قتلهم .
ولمّا رأى أنّ
أشرافهم يلتحقون بالبصرة وبلغه أنّهم يتّهمونه بالكذب بل يسمّونه «الكذّاب» قال :
ما من ديننا ترك قوم قتلوا الحسين عليهالسلام يمشون أحياء في الدنيا آمنين! بئس «ناصر آل محمد» أنا إذا
في الدنيا! أنا إذا الكذّاب كما سمّوني! فإنّي بالله استعين عليهم! الحمد لله الذي
جعلني سيفا ضربهم به ، ورمحا طعنهم به ، وطالب وترهم والقائم بحقّهم ، إنّه كان
حقّا على الله أن يقتل من قتلهم ، وأن يذلّ من جهل حقّهم. فسمّوهم لي ثمّ اتّبعوهم
حتّى تفنوهم! فإنّه لا يسوغ لي الطعام والشراب حتّى اطهّر الأرض منهم ، وانقّي
المصر عنهم .
وكان من قتلة
الحسين عليهالسلام : عبد الله بن اسيد الجهني ، ومالك بن النسير البدّي ،
وحمل بن مالك المحاربي ، وكانوا قد ابتعدوا إلى القادسية ودلّ عليهم عبد الله بن
دباس (قاتل محمّد بن عمار بن ياسر!) فبعث المختار عليهم من رؤساء أصحابه مالك بن
عمرو النهدي ، فأتاهم وهم بالقادسية فأخذهم وأقبل بهم حتّى أدخلهم عليه عشاء.
فقال لهم المختار
: يا أعداء الله وأعداء كتابه وأعداء رسوله وآل رسوله! أين الحسين بن عليّ؟! أدّوا
إليّ الحسين ، قتلتم من امرتم «بالصلاة عليه في الصلاة»؟!
قالوا : رحمك الله!
بعثنا ونحن كارهون ، فامنن علينا واستبقنا.
__________________
قال المختار :
فهلّا مننتم على الحسين ابن بنت نبيّكم واستبقيتموه وسقيتموه؟!
ثمّ قال للبدّي :
أنت أخذت برنس الحسين؟! قال ابن كامل : نعم ، هو هو.
فقال المختار :
اقطعوا يدي هذا ورجليه ودعوه ليضطرب حتّى يموت! ففعل به ذلك. وقتل الآخرين .
وأربعة نهبوا خيام
الحسين عليهالسلام :
ودلّه سعر الحنفي
على أربعة ممّن نهبوا خيام الإمام عليهالسلام : زياد بن مالك الضّبعي وعمران بن خالد العنزي ، وعبد
الرحمن البجلي ، وعبد الله الخولاني ، فبعث عليهم عبد الله بن كامل الشاكري
الهمداني فأخذهم من قبائلهم وجاء بهم حتّى أدخلهم عليه فقال لهم :
يا قتلة الصالحين!
يا قتلة «سيد شباب أهل الجنة»! ألا ترون الله قد أقاد منكم اليوم! لقد جاءكم الورس
بيوم نحس! وكانوا أصابوا منه ، ثمّ قال : أخرجوهم إلى السوق فاضربوا رقابهم ، ففعل
بهم ذلك .
وثلاثة آخرون من
الأزد منهم حميد بن مسلم الأزدي المرادي وعبد الله وعبد الرحمن ابنا صلخب الأزدي ،
وجاءهم السائب بن مالك الأشعري في خيل فأخذوا الأخوين وفرّ حميد ، وأخذوا عبد الله
بن وهب الهمداني فانتهوا بهم إلى المختار فأمر بهم فقتلوا بالسوق.
وآخران شريكان في
قتل عبد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب : أبو أسماء
__________________
بشر بن سوط
القابضي الهمداني وعثمان بن خالد بن اسير الدهماني الجهني ، بعث المختار عليهما
عبد الله بن كامل الشاكري الهمداني فأحاط بقوّاته بعد العصر بمسجد بني دهمان وطلب
منهم تسليم عثمان بن خالد ، فاستمهلوه وخرجوا مع الخيل في طلبه فوجدوه مع بشر في
الجبّانة فاتي بهما إلى ابن كامل فخرج بهما إلى موضع بئر الجعد فضرب أعناقهما ،
وعاد إلى المختار فأخبره بخبرهما فأمر بإحراق أجسادهما بالنار فاحرقا ثمّ دفنا .
وحامل رأس الحسين عليهالسلام :
وحمل رأس الحسين عليهالسلام من كربلاء إلى الكوفة : خوليّ بن يزيد الأصبحي الكندي ،
وكانت امرأته من الحضرميّين يقال لها : العيّوف بنت مالك ، وحين جاءها برأس الحسين
عليهالسلام ناصبت العداء لزوجها ، وعاداه من قومه ابن أخي حجر بن عدي
الكندي : معاذ بن هاني بن عدي ، فبعث المختار معه مولاه أبا عمرة كيسان صاحب حرسه
، فساروا حتّى أحاطوا بدار خوليّ ، فلمّا علم بهم خوليّ تستّر على رأسه بقوصرّة
للتمر واختبأ في الخلاء في داره! فأمر معاذ الكندي أبا عمرة أن يطلبه في الدار ،
فخرجت إليهم امرأة خولي فسألوها عنه فقالت بلفظها : لا أدري ، وأشارت بيدها إلى
الخلاء في الدار ، فوجدوه فيه متستّرا بالقوصرّة على رأسه فأخرجوه ، وكان المختار
يسير في الكوفة فأرسل أبو عمرة إليه رسولا استقبل المختار عند دار بلال فأخبره
الخبر ، فأقبل نحوهم وردّهم حتّى قتله إلى جانب أهله ، ثمّ دعا بنار فأحرقه حتّى
صار رمادا ثمّ انصرف .
__________________
عمر بن سعد الزهري
والأمان! :
حدث أبو مخنف عن
أبي الأشعر موسى بن عامر قال : كان المختار أوّل ما ظهر أحسن شيء سيرة وتألّفا
للناس ، وكان من أكرم خلق الله على المختار عبد الله بن جعدة بن هبيرة المخزومي
لقرابته من عليّ عليهالسلام (كان حفيد امّ
هاني) فلجأ إليه عمر بن سعد الزهري وقال له : إنّي لا آمن هذا الرجل على نفسي ،
فخذ لي أمانا منه. فأخذ له ذلك وفيه : بسم الله الرحمنِ الرحيم ، هذا أمان من المختار بن أبي عبيد لعمر بن سعد بن أبي وقّاص ، إنّك
آمن بأمان الله على نفسك ومالك وأهلك وأهل بيتك وولدك ، لا تؤاخذ بحدث كان منك
قديما ، ما سمعت وأطعت ولزمت رحلك وأهلك ومصرك.
فمن لقي عمر بن
سعد من شرطة الله و «شيعة آل محمد» ومن غيرهم من الناس فلا يعرض له إلّا بخير.
وجعل المختار على نفسه عهد الله وميثاقه ليفينّ لعمر بن سعد بما أعطاه من الأمان ،
إلّا أن يحدث حدثا! وأشهد الله على نفسه وكفى بالله شهيدا ، وشهد أحمر بن شميط
الهمداني ، والسائب بن مالك الأشعري ، وعبد الله بن شداد الجشمي وعبد الله بن كامل
الشاكري الهمداني.
ثمّ روى أبو
الأشعر موسى بن عامر عن الإمام الباقر عليهالسلام : أنّ المختار في أمانه لعمر بن سعد لمّا قال : إلّا أن
يحدث حدثا ، فإنّه كان يريد به : إذا دخل الخلاء فأحدث حدثا .
والموسم الحجّ في
سنة ستّة وستّين حيث حجّ جمع من أهل الكوفة إلى مكّة والمدينة وعادوا ، وكان منهم
يزيد بن شراحيل الأنصاري الكوفي وقد زار ابن الحنفية بمكّة وتذاكروا المختار
وخروجه وما يدعو إليه من الطلب بدماء
__________________
«أهل البيت» فقال
محمّد بن الحنفيّة : يزعم أنّه «شيعة» لنا وجلساؤه قتلة الحسين عليهالسلام على الكراسي يحدّثونه!
فلمّا قدم الكوفة
أتى المختار فسأله : هل لقيت «المهديّ» قال : نعم ، ونقل له قوله .
وكان من جلساء
المختار الهيثم بن الأسود النخعي الهمداني فسمعه يقول : لأقتلن غدا رجلا غائر
العينين مشرف الحاجبين عظيم القدمين ، يسرّ مقتله المؤمنين والملائكة المقرّبين!
ففهم الهيثم أنّ المختار يريد عمر بن سعد ، فلمّا عاد إلى منزله دعا ابنه العريان
وقال له : اذهب ليلا (سرّا) إلى عمر بن سعد فأخبره بكذا. فلمّا كان الليل ذهب
العريان واستخلى بابن سعد وأخبره الخبر فجزّاه ابن سعد خيرا وقال : كيف يريد بي
هذا بعد الذي أعطاني من العهود والمواثيق! ومع ذلك خرج تلك الليلة إلى حمّام له
خارج البلد وعليه مولى له ، وأخبره بأمانه وما اريد به. فقال له المولى : وأيّ حدث
أعظم ممّا صنعت! إنّك تركت رحلك وأهلك وأقبلت إلى هاهنا! ارجع إلى رحلك ولا تجعل
للرجل عليك سبيلا! فعاد إلى البلاد ، وكأنه أرسل ابنه حفصا إلى المختار ليستوثق
له.
فعرف المختار
أخباره ، وأسرّ إلى أبي عمرة بأمره فيه ، فذهب إليه وقال له : أجب الأمير ، فقام
عمر في جبّته فعثر بها ، فضربه أبو عمرة بسيفه فقتله واحتزّ رأسه وستره بأسفل
قبائه حتّى وضعه بين يدي المختار وعنده حفص بن عمر بن سعد ، فقال المختار له :
أتعرف هذا؟ فاسترجع وقال : نعم ، ولا خير في العيش بعده! فقال المختار : صدقت
فإنّك لا تعيش بعده ، وأمر به فقتل وجعل رأسه
__________________
إلى رأس أبيه ،
فلمّا رآهما المختار قال : هذا بحسين وهذا بعليّ بن الحسين ، ثمّ قال : ولا سواء ! والله لو قتلت به ثلاثة أرباع قريش ما وفوا أنملة من
أنامله!
ثمّ كتب بذلك
كتابا إلى محمّد بن الحنفيّة ودعا ظبيان بن عمارة التميمي ومسافر بن سعيد الناعطي
الهمداني وأرسلهما برأسيهما والكتاب إلى ابن الحنفيّة وفيه :
بسم الله الرحمنِ الرحيم إلى «المهدي» محمّد بن عليّ ، من المختار بن أبي عبيد. سلام عليك أيها
«المهدي» فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو ، أمّا بعد ، فإنّ الله بعثني
نقمة على أعدائكم ، فهم بين قتيل وأسير ، و «طريد وشريد» فالحمد لله الذي قتل
قاتليكم ونصر مؤازريكم. وقد بعثت إليك برأس عمر بن سعد وابنه ، وقد قتلنا من شرك
في دم الحسين وأهل بيته «رحمة الله عليهم» كلّ من قدرنا عليه ، ولن يعجز الله من
بقي ، ولست بمنجم عنهم حتّى لا يبلغني أن على أديم الأرض منهم أحدا. فاكتب إليّ
أيّها «المهدي» برأيك أتّبعه وأكون عليه ، والسلام عليك أيّها «المهدي» ورحمة الله
وبركاته .
ونأسف لعدم ذكر
الخبر جواب ابن الحنفيّة لنعرف موقفه من ذلك ولا سيّما عنوان «المهدي».
وحرملة بن كاهل
الأسدي :
كان من حجّاج
الكوفة لموسم الحجّ في آخر سنة ستّ وستّين للهجرة : المنهال بن عمرو الأسدي
التابعي ، فنقل الإربليّ عن «كتاب دلائل رسول الله»
__________________
تأليف أبي العباس
عبد الله بن جعفر الحميري عن المنهال الأسدي قال : حججت فدخلت على عليّ بن الحسين عليهالسلام فقال لي : يا منهال ، ما فعل حرملة بن كاهل الأسدي؟ ـ
ولأنه أسديّ سأله عن هذا الأسدي ـ قال : قلت : تركته بالكوفة حيّا. قال : فرفع
يديه ثمّ قال : اللهمّ أذقه حرّ الحديد (مرّتين) ، اللهمّ أذقه حرّ النار!
قال : فانصرفت إلى
الكوفة ... فركبت لأسلم على المختار بن أبي عبيد الثقفي ، فركب وركبت معه حتّى أتى
الكناسة ، وكان قد وجّه في طلب حرملة بن كاهل ، فوقف في الكناسة وقوف منتظر لشيء ،
فاحضر إليه فقال له : الحمد لله الذي مكّنني منك! ثمّ دعا بالجزّار فقال له : اقطع
يديه فقطعهما ، فقال له : اقطع رجليه فقطعهما ، ثمّ قال : النار النار ، فاتي بطنّ
من قصب فجعل حرملة بينها ثمّ الهب فيها النار حتّى احترق!
فقلت : سبحان الله!
سبحان الله! فالتفت إليّ المختار وقال : ممّ سبّحت؟
فقلت له : دخلت
على عليّ بن الحسين عليهالسلام فسألني عن حرملة فأخبرته أني تركته حيّا ، فرفع يديه وقال
: اللهمّ أذقه حرّ الحديد (مرّتين) ، اللهمّ أذقه حرّ النار! فقال المختار : الله
الله أسمعت عليّ بن الحسين يقول هذا؟ قلت : الله الله لقد سمعته يقول هذا! فنزل
وصلّى ركعتين وأطال وسجد وأطال ثمّ رفع رأسه وذهب ومضيت معه حتّى انتهى إلى باب
داري (في بني أسد) فقلت له : إن رأيت أن تكرمني بأن تنزل وتتغدّى عندي؟ فقال لي :
يا منهال ، تخبرني أن عليّ بن الحسين دعا الله بثلاث دعوات فأجابه الله فيها على
يدي ثمّ تسألني الأكل عندك! هذا يوم صوم شكرا لله على ما وفّقني له .
__________________
والطائي قاتل
العباس :
كان عديّ بن حاتم
الطائي حيّا بالكوفة ، لم يقم مع المختار ولا عليه ، وخرج نفر من قومه على المختار
يوم جبّانة السّبيع فاسروا فشفع فيهم عديّ إلى المختار فشفّعه وأطلقهم لم يكونوا
شركوا في دم الحسين عليهالسلام ولا أهل بيته. ورفع للمختار : أنّ حكيم بن الطفيل الطائي
كان أصاب صلب العباس بن عليّ ، فبعث المختار إليه عبد الله بن كامل الشاكري
الهمداني فأخذه مكتوفا وأقبل به ، فذهب أهله إلى عديّ بن حاتم فاستغاثوا به فلحقهم
في طريقهم وشفع فيه إلى ابن كامل فقال : إنّما ذلك إلى المختار. فمضى عدي إلى
المختار. فقال من مع الشاكري من «الشيعة» : إنّا نخاف أن يشفّع الأمير عديّ بن
حاتم في هذا الخبيث وله من الذنب ما قد علمت ، فدعنا نقتله! قال : شأنكم به!
فلمّا انتهوا به
إلى دار العنزيين ، نصبوه مكتوفا وقالوا له : سلبت ابن عليّ ثيابه! والله لنسلبنّ
ثيابك وأنت حيّ ترى! فنزعوه ثيابه! ثمّ قالوا له : رميت حسينا واتّخذته غرضا لنبلك
وقلت : إنّه لم يضرّه وإنّما تعلّق بسرباله! فايم الله لنرمينّك كما رميته بنبال ،
يجزيك ما يتعلق بك منها. فرموه رشقا واحدا ، فأصبح كالقنفذ من كثرة النبال فخرّ
ميتا .
وقاتل عليّ بن
الحسين عليهالسلام :
وكان قاتل عليّ بن
الحسين الأكبر عليهالسلام : مرّة بن منقذ بن النعمان العبدي من عبد القيس ، فبعث
المختار إليه عبد الله بن كامل الشاكري الهمداني فأتاه
__________________
حتّى أحاط بداره
مع أنصاره ومنهم عبيد الله بن ناجية الشّبامي ، فخرج مرّة إليهم راكبا جواده وبيده
رمحه وطعن بها الشبّامي فضربه ابن كامل بسيفه على يده اليسرى فجرح ولكنّه أفلت
ولحق بمصعب بالبصرة وشلّت يده .
وقاتل عبد الله بن
مسلم :
وكان زيد بن رقاد
الجنبي رمى عبد الله بن مسلم بن عقيل بسهم فأثبت كفّه على جبهته ، فنادى اللهمّ إنّهم
استقلّونا واستذلّونا! اللهمّ فاقتلهم كما قتلونا! وأذلّهم كما استذلّونا! فرماه
زيد بسهم آخر فقتله ، فكان يقول : جئته ميّتا فلم أزل أنضنض سهمي من جبهته حتّى
نزعته منها وبقي نصله فيها ما قدرت على نزعه! فبعث المختار إليه عبد الله الشاكري
، فلمّا أتاه ابن كامل داره أحاط بها برجاله واقتحموا عليه فخرج عليهم بسيفه فقال
ابن كامل : بالنبال والحجارة ، فرموه بها ، فسقط ، فقال ابن كامل : فإن كان حيّا
فأحرقوه ، وكان حيّا فأحرقوه حيّا .
صدمات الصدّائي
والمختار :
وكان عمرو بن صبيح
الصدّائي يقر أنّه طعن فيهم وجرح دون أن يقتل أحدا منهم ، وكان ينام الليل على سطح
داره ويضع سيفه تحت رأسه ، وبعد ما هدأت العيون صعد إليه عيون المختار فأخذوه
وسيفه وجاءوا به إلى المختار فحبسه ، فلمّا أصبح قال : ليدخل من شاء أن يدخل ،
فدخل الناس ، فأمر به فجيء به مقيّدا وأوقف إلى جنب ابن كامل الشاكري ، وكأنّه
أطلقت يده فرفع يده ولطم
__________________
ابن كامل فأخذ ابن
كامل بيده وأمسكها وقال للمختار : إنّه يزعم أنّه قد جرح في «آل محمّد» وطعن فمرنا
بأمرك فيه. فقال : اطعنوه بالرماح حتّى الموت ، ففعلوا به ذلك حتّى مات .
فرّوا فهدمت دورهم
:
وكان سنان بن أنس
النخعي الهمداني يدّعي قتل الحسين عليهالسلام فطلبه المختار فوجده قد هرب إلى مصعب بالبصرة ، فهدم
المختار داره. وكان عبد الله بن عقبة الغنوي قد قتل غلاما منهم ، فطلبه المختار
فوجد قد هرب إلى الجزيرة (الموصل) ليلتحق بابن زياد ، فهدم داره. وكان عبد الله بن
عروة الخثعمي يقول : رميت فيهم باثني عشر سهما ولكنّه كان يدّعي أنّها كانت ضيعة
فاتت ولم تصبهم! فطلبه المختار فلحق بمصعب بالبصرة ، فهدم داره .
ومحمّد بن الأشعث
وشبث :
كان زياد بن سميّة
لمّا قتل حجر بن عدي الكندي هدم داره ، وكان للأشعث الكندي قرية (يزن آباد) إلى جنب القادسيّة وله بها قصر ، فلمّا هزم محمّد بن
الأشعث يوم جبّانة السّبيع خرج من الكوفة إلى قصر أبيه في القرية. وكان من أنصار
المختار رجل يدعى حوشب البرسمي فدعاه المختار وجعل له من أنصاره مئة رجل وقال له : انطلق
إلى ابن الأشعث فستجده إمّا لاهيا متصيّدا أو قائما متلبّدا! أو خائفا متلدّدا! أو
كامنا متغمّدا ، فإن قدرت عليه فأتني برأسه!
__________________
فخرج حوشب بالمئة
معه إلى قصر الأشعث فأحاطوا به وهم يرون أنّه فيه ، وهو قد خرج منه إلى مصعب
بالبصرة ، فلمّا دخلوا القصر علموا أنّه قد فاتهم ، فانصرفوا إلى المختار ، فبعث
من هدم الدار وحمل أنقاضها فبنى بها دار حجر بن عديّ الكندي .
فلمّا قدم على
مصعب أكرمه وأدناه لشرفه ، فأخذ يستحثّه على الخروج على المختار.
ولحق به شبث بن
ربعي اليربوعي التميمي وقد شقّ قباءه وقطع طرف أذن بغلته وذيلها حتّى وقف على باب
مصعب وهو ينادي : يا غوثاه يا غوثاه!
فدخل بوّاب مصعب
عليه وقال له : إنّ بالباب رجلا مشقوق القباء من صفته كذا وكذا وينادي : يا غوثاه
يا غوثاه! فقال مصعب : لم يكن ليفعل هذا غير شبث بن ربعي فأدخلوه.
ثمّ اجتمع أشراف
الكوفة فجاءوه حتّى دخلوا عليه فأخبروه بما اجتمعوا له وشكوا إليه ما أصيبوا به من
وثوب عبيدهم ومواليهم عليهم مع المختار وسألوه المسير معهم إلى المختار والنصر لهم
.
وعبيد الله بن علي
عليهالسلام :
كان مسعود بن عمرو
من بني نهشل من دارم من تميم ، وقد تزوّج عليّ عليهالسلام ابنته ليلى ، فكان له منها عبيد الله فروى الراوندي عن الباقر عليهالسلام اعتراضا له على وصيّة أبيه بطاعة الحسن عليهالسلام ثمّ كان من المتخلّفين عن أخيه الحسين عليهالسلام.
__________________
وكأنّه بعد أن
أبعد ابن الزبير ابن الحنفيّة إلى جبل رضوى ، قدم على المختار ليختاره بمكان ابن
الحنفيّة صاحبا لأمره! فحكى الزبير بن بكّار : أنّ المختار قال له : إنّ صاحب
أمرنا منكم ولكنّه رجل لا يعمل فيه السلاح! فإن شئت نجرّب فيك السلاح فإن لم يضرّك
فأنت صاحبنا ونبايعك! فأبى وخرج من عنده إلى البصرة وعليها مصعب.
وجمع عبيد الله
حوله جمعا ليخرج بهم عليه! فأرسل عليه مصعب من يفرّق جمعه ويعرض عليه الأمان ،
فقبل الأمان وذهب إليه فلم يزل عنده .
بداية أمر مصعب مع
المختار :
كان المهلّب بن
أبي صفرة الأزدي البصري منذ عام (٤٢ ه) من قوّاد جند البصرة في غزو كور سجستان
إلى سفوح جبال كابل وسمرقند عام (٥٦ ه) وكان عامل ابن الزبير على فارس. فلّما أكثر الناس على مصعب
بالمسير إلى الكوفة كتب مصعب إليه : إنا نريد المسير إلى الكوفة فأقبل إلينا لتشهد
أمرنا. وكره المهلّب ذلك فاعتلّ بأمر الخراج وأبطأ عليه.
واستحثّ ابن
الأشعث مصعبا فأعلمه أنّه لا يشخص دون أن يأتيه المهلّب وأمره أن يذهب بكتابه إليه
فيقبل به. فذهب محمّد بن الأشعث بكتاب مصعب إلى المهلّب. فقال له المهلّب : أما
وجد مصعب بريدا غيرك؟! ومثلك يا محمّد يأتي بريدا! فقال محمّد : والله ما أنا
ببريد أحد! غير أنّ عبداننا وموالينا غلبونا على أبنائنا وحرمنا ونسائنا!
__________________
فحمل المهلّب
أموالا عظيمة وجموعا كثيرا وهيئة لم يكن بها أحد من أهل البصرة قبله ، وأقبل حتّى
دخل البصرة وأتى باب مصعب ليدخل عليه ، ولم يعرفه حاجبه فحجبه فضربه المهلّب فكسر
أنفه! فدخل إلى مصعب يشكوا إليه المهلّب ودخل المهلّب خلفه ، فقال مصعب لحاجبه :
عد إلى عملك!
ثمّ أمر مصعب
الناس أن يعسكروا عند الجسر الأكبر ثمّ جعل مالك بن مسمع على خمس بكر بن وائل ،
ومالك بن المنذر على خمس عبد القيس ، والأحنف بن قيس التميمي على خمس تميم ، وزياد
بن عمرو الأزدي على خمس الأزد ، وقيس بن الهيثم على خمس أهل العالية. وجعل المهلّب
بن أبي صفرة على ميسرته ، وعمر بن عبيد الله على ميمنته ، وقدّم أمامه عباد بن
الحصين التميمي على مقّدمته .
واستخلف على
البصرة عبيد الله بن معمر وخرج منها .
عبيد الله بن
الحرّ الجعفي :
روى المدائني قال
: لمّا قتل عثمان وهاج الهياج بين عليّ عليهالسلام ومعاوية قال عبيد الله بن الحرّ : إنّي احبّ عثمان
ولأنصرنّه ميّتا! فخرج إلى الشام فأقام عند معاوية وكان معه في صفّين ، ثمّ لم يزل
معه حتّى قتل عليّ عليهالسلام ، فلمّا قتل قدم الكوفة على إخوانه.
فلمّا مات معاوية
وهاج الهياج على (يزيد اعتزل) فلمّا مات يزيد بن معاوية وهرب عبيد الله بن زياد
وهاجت فتنة ابن الزبير قال : ما أرى قريشا
__________________
تنصف. ثمّ جمع
إليه كلّ خليع من كلّ قبيلة فكانوا معه سبعمئة فارس! فخرج بهم إلى المدائن على درب
الأموال من الجبال (إيران) إلى سلطان العراق ، فلم يترك مالا إلّا يأخذه فيأخذ منه
عطاءه وأعطية أصحابه ، ويكتب لصاحب المال براءة بما قبض من المال! ثمّ جعل يتقصّى
الكور والقرى على مثل ذلك.
فلم يزل على ذلك
حتّى ظهر المختار وبلغه ما يصنع بالسواد ، وكان قد ترك امرأته امّ سلمة الجعفيّة
بالكوفة! فأمر المختار بارتهانها رهينة فحبسها. فلمّا بلغ ذلك إلى عبيد الله أقبل
في فتيانه حتّى دخل الكوفة ليلا فكسر باب السجن وأخرج امرأته وسائرهم! وبعث
المختار عليه من يقاتله فقاتلهم حتّى خرج من الكوفة. فأحرق المختار داره ، وكانت
له ضيعتان بالبداة والجبّة فانتهبها الهمدانيون ، وكان لعبد الرحمان بن سعيد
الهمداني ضياع في ماه فأنهبها وما لهمدان ، ولم يترك مالا لهمداني إلّا أخذه!
ويأتي المدائن فيمر بعمّال جوخى فيأخذ أموالهم ويعود إلى جبال إيران ، ولم يزل على
ذلك حتّى خرج مصعب لقتال المختار فالتحق به فيمن لحق به من مخالفي
المختار ، وتقبّله مصعب ضمنهم ، ويبدو أنّه كان معه السبعمئة من جنوده.
واستعدّ المختار
وخطب :
بلغ ذلك المختار
فقام في أصحابه فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : يا أهل الكوفة ، يا أهل الدين
وأعوان الحق وأنصار الضعيف و «شيعة» الرسول وآل الرسول! إنّ الذين بغوا عليكم منكم
ثمّ فرّوا ذهبوا إلى أشباههم من الفاسقين
__________________
فاستغووهم عليكم ،
ليذهب الحّق وينتعش الباطل ويقتل أولياء الله ، والله لو تهلكون ما يعبد الله في
الأرض إلّا بالافتراء على الله و «اللعن لأهل بيت نبيّه» انتدبوا مع أحمر بن شميط
، وإنّكم لو تلقوهم تقتلوهم إن شاء الله.
وكان بعض رؤساء
الأرباع بالكوفة ممن كان مع ابن الأشتر رأوه كأنّه متهاون بأمر المختار ففارقوه
وانصرفوا عنه إلى الكوفة ، فاليوم دعاهم المختار وبعثهم مع أحمر بن شميط ، وخرج
الأحمر فعسكر في حمّام أعين ، وبعث المختار معه جيشا كثيفا. وبعث الأحمر على
مقدّمته عبد الله بن كامل الشاكري الهمداني إلى المذار بأرض البصرة ، وخرج هو خلفه
.
أنصار المختار
بالمذار :
بلغ ابن كامل
الشاكري الهمداني المذار ، وورد خلفه ابن شميط ، وجاء عسكر مصعب حتّى عسكروا قريبا
منهم. فجعل الأحمر الشاكري على ميمنته ، وعلى الرجّالة كثير بن إسماعيل الكندي ،
وعلى الخيل رزين عبد بني سلول ، وكيسان مولى عرينة على الموالي وكان كثير منهم على
الخيول ، وجعل على ميسرته عبد الله بن وهب الجشمي. وكان قد لقي بعض أهل الكوفة من
الموالي ما يكرهون ، ومنهم هذا الجشمي فأحبّ اليوم إن كانت الدّبرة عليهم أن يكون
الموالي رجالا لئلّا ينجو أحد منهم! فجاء إلى الأحمر وقال له : إنّي أخاف إن طورد
الموالي ساعة وضوربوا وطوعنوا أن يطيروا على متون خيولهم ويسلموك! فإنّهم أهل خور!
وأنت تمشي فمرهم أن ينزلوا معك ، فإنّك إن أرجلتهم لم يجدوا بدّا من الصبر معك!
وظن ابن شميط أنّ الجشمي إنّما أراد بذلك نصحه ليصبروا ويقاتلوا. فقال لهم : يا
معشر الموالي! انزلوا معي فقاتلوا. فنزلوا يمشون مع رايته.
__________________
وجاء مصعب وقد جعل
على خيله عبّاد بن الحصين ، فجاء عبّاد حتّى دنا من ابن شميط وأصحابه فناداهم :
إنّا ندعوكم إلى كتاب الله وسنّة رسوله وبيعة أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير.
فأجابوه : ونحن ندعوكم إلى كتاب الله وسنّة رسوله وبيعة الأمير المختار وإلى أن
نجعل هذا الأمر شورى في «آل رسول الله» فمن زعم أنّه ينبغي له أن يتولّى عليهم
جاهدناه! وأمره مصعب أن يحمل عليهم. فحمل عليهم فما زالوا حتّى رجع إلى موضعه.
فحمل المهلّب الأزدي في ميسرته على الشاكري في ميمنة المختار فجال أصحاب الشاكري
وثبت هو ومن معه حتّى انصرف المهلّب إلى مكانه وتوقّفوا ساعة.
ثمّ قال المهلّب
لأصحابه : إنّ القوم بجولتهم قد أطمعوكم فيهم فكرّوا عليهم كرّة صادقة! ثمّ حمل
عليهم حملة منكرة صبروا لها ثمّ هزموا.
ثمّ حمل الناس
جميعا على ابن شميط البجلي ومعه بجلة وخثعم فتنادوا معه الصبر الصبر! فناداهم
المهلّب : بل الفرار الفرار علام تقتلون أنفسكم مع هؤلاء العبيد؟! ومال بخيله على
الرجّالة مع ابن شميط فقاتل حتّى قتل ، وافترقت الرجّالة حوله ثمّ انهزمت في
الصحراء.
فدعا المصعب
بعبّاد بن الحصين على الخيل وقال له : خذهم اسراء فاضرب أعناقهم!
وكان محمّد بن
الأشعث على خيل أهل الكوفة ممّن فرّوا من المختار ، فسرّحهم مصعب وقال لهم : دونكم
ثأركم! فكانوا أشدّ عليهم من أهل البصرة! لا يدركون منهزما ولا يأخذون أسيرا إلّا
قتلوه! فأبيدت تلك الرجّالة ولم ينج منهم إلّا طائفة من أهل الخيل.
وكان معاوية بن
قرة قاضي البصرة يقول : إنّ دماءهم كانت أحلّ عندنا من الترك والديلم!
وحيث كان المختار
قد وعدهم النصر فلمّا بلغ الموالي العجم مع المختار ما لقي إخوانهم قالوا
بالفارسيّة : «اين بار دروغ گفت!» : كذب هذه المرّة !
مصعب إلى الكوفة :
وأقبل مصعب بجيشه
حتّى بلغ كسكر ، ثمّ حمل الرجال وأثقالهم وضعفاء الناس في السفن ، في نهر كان يقال
له : نهر خورشاد ثمّ نهر قوسان ثمّ إلى الفرات.
وبلغ المختار ذلك
فحصّن قصره بحصار له واستعمل على الكوفة عبد الله بن شدّاد البجلي ثمّ سار بأنصاره
حتّى نزل بهم في السيلحين حيث مجتمع الأنهار نهر السيلحين ونهر الحيرة ونهر
القادسيّة ونهر يوسف فسدّ أفواهها فذهب ماء الفرات في هذه الأنهار فرست سفن
البصريين في الطين ، فخرجوا يمشون ، وجاءت خيل منهم فكسروا السدّ الذي عمله
المختار. وأقبل المختار حتّى نزل حروراء بينهم وبين الكوفة.
وجعل على ميمنته
سليم بن يزيد الكندي ، وعلى ميسرته سعيد بن منقذ الثوري الهمداني ، وعلى الخيل عمر
بن عبد الله النهدي ، وعلى الرجال مالك بن عمرو النهدي ، وعلى شرطته عبد الله بن
قراد الخثعمي ، ثمّ بعث اثنين منهم إلى خمسين من أخماس البصرة : فبعث الثوري صاحب
ميسرته على بكر بن وائل وعليهم مالك بن مسمع البكري ، وبعث الكندي صاحب ميمنته إلى
بني تميم وعليهم الأحنف بن قيس! وكان على بيت مال المختار عبد الرحمن بن شريح
الشبامي فبعثه إلى عبد قيس البصرة وعليهم مالك بن المنذر العبدي ، وبعث عبد الله
ابن جعدة المخزومي إلى أهل عالية البصرة وعليهم قيس بن الهيثم السلمي ، وبعث مسافر
بن سعيد الناعطي إلى أزد البصرة وعليهم زياد بن عمرو العتكي.
__________________
وأبقى مصعب على
خيله عبّاد بن الحصين الحبطي ، وجعل على الرجالة مقاتل بن مسمع البكري ، وعكس أمر
الميمنة والميسرة فجعل عليها عمر بن عبيد الله التيمي وجعل المهلّب الأزدي على
ميمنته ، وأبقى محمّد بن الأشعث على أهل الكوفة وبعثه حتى نزل بينه وبين المختار
ميامنا مغرّبا ، فأرسل المختار إليه السائب بن مالك الأشعري ، ووقف هو في بقيّة
أصحابه .
حرب مصعب والمختار
:
وتزاحف الناس ودنا
بعضهم من بعض ، وبدأ الثوري في ميسرة المختار على بكر بن وائل البصرة في ميسرتهم ،
ومعه الشبامي على عبد قيس البصرة ، فقاتلوهم قتالا شديدا وصبروا لهم ، فإذا تراجع
الثوري بجمعه حمل الشبامي وبالعكس وربّما حملا معا. وبعث المختار إلى ابن جعدة
المخزومي أن احمل على من بإزائك وهم أهل عالية البصرة ، فحمل عليهم فكشفهم حتّى
انتهوا إلى المصعب! وأخذ المصعب يرمي بسهامه ، ثمّ تحاجزوا. وبعث المصعب على
المهلّب وهو في خمسين من أخماس البصرة كثيري الفرسان والعدد وهم جامّون لم يحملوا
، فأمرهم المهلّب بالحملة على من يليهم ، فحملوا حملة منكرة حتّى حطّموا أنصار
المختار وكشفوهم ، وانقصفوا انقصافة شديدة كأنّهم أجمة شبّ فيها حريق!
وكان مالك بن عمرو
النهدي على رجّالة المختار فأخذ ينادي : أين أهل البصائر والصبر! فثاب إليه خمسون
منهم عند المساء فكرّبهم على محمّد بن الأشعث وأصحابه فقتلوه وعامّة أصحابه وقتل
مالك.
__________________
وانكشفت ميسرة
المختار مع الثوري وثبت معه سبعون من قومه فقتلوا.
وانكشفت ميمنة
المختار مع سليم الكندي وثبت معه تسعون من قومه فقتلوا.
ومرّ المختار
بأنصاره على مقتل مالك النهدي وابن الأشعث والكوفيين ثمّ توقف على فم سكّة شبث بن
ربعي فنزل ونادى : يا معشر الأنصار كرّوا على الثعالب الرّواغة ، وحمل على من يليه
من أهل البصرة فقاتلهم وهو يريد أن لا يبرح وقاتل هزيعا من الليل حتّى انصرفوا عنه
، وقاتل معه تلك الليلة رجال من أهل الحفّاظ من أنصاره حتّى قتلوا.
فلما تفرقوا عن
المختار قال له أنصاره : أيّها الأمير! قد ذهب القوم ، فانصرف إلى منزلك بالقصر.
فقال لهم : أما
والله ما نزلت وأنا اريد أن أرجع إلى القصر ، فأمّا إذا انصرفوا فاركبوا بنا على
اسم الله! فركب وانسحب حتّى دخل دار الإمارة بالكوفة .
مصير عبيد الله بن
علي عليهالسلام :
مرّ الخبر : أنّ
المختار لمّا سمع بعزم مصعب على الخروج إليه ، بادر بإرسال جمع من أنصاره مع أحمر
بن شميط البجلي إلى مذار البصرة ، وأنّ مصعبا لمّا خرج من البصرة إلى المذار في
أراضي البصرة قدّم أمامه عبّاد بن الحصين الحبطي التميمي على مقدّمته ثمّ لمّا كرّ توجّه إلى حروراء الكوفة
__________________
لحرب المختار جعل
هذا الحبطي التميمي على الخيل ثمّ لم يذكر الخبر له أيّة مقدّمة لجيشه إلى حروراء
الكوفة.
وفي خبر الراوندي
عن الباقر عليهالسلام أنّ عبيد الله بن علي عليهالسلام لمّا لم يسلّم له المختار زمام اختياره بعد حصار ابن
الحنفيّة ونفيه إلى جبال رضوى ، غضب وذهب إلى مصعب بالبصرة (كذا) فلمّا خرج مصعب
لقتال أهل الكوفة قال له عبيد الله : ولّني قتال أهل الكوفة! فكان على مقدّمة مصعب
لمّا التقوا بحروراء (وليس بالمذار) فلمّا حجز الليل بينهم أصبحوا ووجدوه في
فسطاطه مذبوحا لا يدرى من قتله! كما قال له أبوه عليّ عليهالسلام : كأنّي بك وقد وجدت مذبوحا في خيمة .
وعليه فهو مقتول
مجهول قاتله وليس أصحاب المختار! وفي حروراء وليس في المذار. هذا ويظهر أنّه نسب
إليه قبر بالمذار قبل عصر الطوسي ، كما حكى ذلك ابن إدريس عن رسالة «المسائل
الحائريات» قال لمّا سأله السائل عمّا ذكره المفيد في «الإرشاد» : أنّ عبيد الله
قتل مع أخيه الحسين عليهالسلام؟ فأجاب : بأنّه قتله أصحاب المختار بالمذار! وقبره معروف
هناك عند أهل تلك البلاد! وزاد ابن إدريس : أنّ قبره هناك ظاهر والخبر بذلك متواتر!
وعلّق المحقّق : أنّ ذلك لا يوجد في «المسائل الحائريات» للطوسي !
وروى أبو مخنف قال
: فلمّا أصبح المصعب أخذ يسير بمن معه نحو سبخة الكوفة فلاقاه المهلّب فقال له :
يا له فتحا ما أهنأه لو لم يكن قتل محمّد بن الأشعث! قال : صدقت فرحم الله محمّدا
ثمّ قال له : أعلمت أنّ عبيد الله بن علي
__________________
ابن أبي طالب قد
قتل! أما إنّه كان يحبّ أن يرى هذا الفتح ثمّ لا نجعل أنفسنا أحقّ منه بشيء مما
نحن فيه! وكأنّه خاف أن يتّهم بقتله فقال : أتدري من قتله؟ إنّما قتله من يزعم
أنّه «شيعة» لأبيه! أمّا إنّهم قد قتلوه وهم يعرفونه فهو له تأكيد على نسبة قتله إلى «الشيعة» وهذه أقدم بادرة
بهذا الاتهام ، بحروراء وليس بالمذار.
مصعب وحصار
المختار :
كان ممّن خرج على
المختار في الكوفة عبد الرحمن بن مخنف الأزدي ففرّ إلى مصعب بالبصرة ، فلمّا عزم
مصعب على حرب الكوفة دعا عبد الرحمن وقال له : انسلّ إلى الكوفة فادعهم سرّا إلى
بيعتي واستخرج منهم إليّ كلّ من قدرت عليه فادّعى أبو مخنف له أنّه انسلّ إلى
الكوفة ولكنّه تستّر ولم يتكلّم بشيء فلمّا وصل مصعب إلى الكوفة خرج إليه جمع من أهل الكوفة
وفيهم عبد الرحمان فقال له : ما صنعت فيما كنت وكّلتك به؟ قال : أصلحك الله وجدت
الناس صنفين : أمّا من كان له هوى فيك فقد خرج إليك ، وأما من كان يرى رأي المختار
فلم يكن ليدعه ولا ليؤثر عليه أحدا! فلم أبرح بيتي حتّى قدمت. فصدّقه مصعب وبعثه
إلى جبّانة السبيع ، وبعث عبد الرحمان بن محمّد بن الأشعث الكندي إلى الكناسة ،
وبعث عبّاد بن الحصين الحبطي التميمي إلى جبّانة كندة ، وبعث زحر بن قيس الجعفي
إلى جبّانة مراد ، وكان معه عبيد الله بن الحرّ الجعفي فبعثه إلى جبانة الصائديين
من همدان ، كلّهم ليقطعوا عن المختار وأصحابه الماء والمادّة!
__________________
فأصابهم جهد شديد
فكانوا يعطون على القربة الدينار والدينارين ، وربّما خرج المختار بجمع من أصحابه
فيقاتلون قتالا ضعيفا لا نكاية له ، فكانوا يصبّون عليهم الماء القذر والحجارة من
فوق البيوت! وأحيانا كان يخرج بعض نسائهم إليهم وقد التحفت على ماء وطعام وكأنّها
تريد المسجد للصلاة أو تأتي أهلها أو تزور ذات قرابة لها فإذا دنت من القصر دخلته
لزوجها أو لحميمها بطعام وشراب.
وكان إذا اشتدّ
عليهم العطش في قصرهم استقوا من البئر في القصر وأمر بصبّ عسل فيه ليغيّر طعمه
فيشربوا منه ، فكان أكثرهم يرتوي منه.
ثمّ أمر مصعب
ليقتربوا من القصر ، فنزل عبّاد الحبطي التميمي عند مسجد جهينة حتّى مسجد بني
مخزوم فمنع النساء من الوصول إلى القصر. وبعث مصعب زحر بن قيس فنزل عند الحدّادين
وباعة الدوّاب! وبعث عبيد الله بن الحر فنزل عند دار بلال ، وبعث حوشب بن يزيد
فوقف في فم سكّة من زقاق البصريين ، ونزل المهلّب الأزدي في (چهار سوق ـ مفترق طرق)
خنيس ، وجاء عبد الرحمان بن مخنف إلى دار السقاية ، وبادر شباب من الكوفة والبصرة
إلى السوق.
ثمّ أقبل هؤلاء
الأمراء والرؤوس من كلّ جانب ، فلم يكن لأصحاب المختار طاقة عليهم فدخلوا القصر
واشتدّ عليهم الحصار ، فكان المختار يقول لهم : انزلوا بنا فلنقاتل. فلا يقبلون
ضعفا وعجزا ، فكان يقول : أمّا أنا فو الله لا أعطي بيدي ولا احكّمهم في نفسي.
وكان عبد الله بن
جعدة بن هبيرة المخزومي مع المختار فلمّا رأى ذلك تدلّى بحبل من القصر حتّى اختبأ
عند إخوانه.
وكان معه السائب
بن مالك الأشعري صهر أبي موسى الأشعري ومعه ابنه محمّد صبيّ أو مراهق ، فلمّا أراد
المختار الخروج من القصر للقتال قال له :
ماذا ترى؟ قال :
الرأي رأيك .. فهنا روى أبو مخنف عن المختار قال : إنّما أنا رجل من العرب ، فرأيت
ابن الزبير انتزى على الحجاز ، ورأيت نجدة الخارجي انتزى على اليمامة ومروان على
الشام فلم أكن دونهم فأخذت هذه البلاد فكنت كأحدهم ، إلّا أنّي قد طلبت بثأر «أهل
بيت النبيّ» إذ نامت العرب عنه فقتلت من شرك في دمائهم وبالغت في ذلك إلى يومي هذا!
فاسترجع السائب .
مصير المختار
وأنصاره :
روى أبو مخنف قال
: لمّا رأى المختار ما بأصحابه من ضعف وفشل اغتسل وتحنّط وتطيّب ، وإنّما تبعه
للخروج من القصر تسعة عشر رجلا. ونادى أصحاب مصعب قال لهم : أتؤمّنوني وأخرج إليكم؟
قالوا : لا ، إلّا على حكمنا. فقال : لا احكّمكم في نفسي أبدا.
ثمّ ضاربهم بسيفه
وضاربوه حتّى قتلوه ومن معه من أصحابه ، قتله رجلان أخوان من بني حنيفة من تميم ،
عند موضع الزيّاتين .
ولمّا كان الغد من
قتل المختار نزل أنصاره على الحكم! فبعث إليهم مصعب عبّاد بن الحصين الحبطي
التميمي ، فنزعهم أسلحتهم وكتّفهم وأخرجهم مكتّفين!
وكان فيهم من
قوّاد المختار رئيس شرطته عبد الله بن قراد ، فلمّا دخلوا عليه فأخذوا سيفه
وكتّفوه وأخرجوه مكتوفا أدركته الندامة فأخذ يطلب حديدة أو عصا أو شيئا يقاتل به
فلم يجده! وكأنّ عبد الرحمان بن محمّد بن الأشعث عرفه أنّه قاتل أبيه فنزل إليه
وقال : أدنوه منّي ، فأدنوه منه فضرب عنقه.
__________________
وكان من أشراف
أنصار المختار عبد الله بن شدّاد الجشمي ومعه ابنه شدّاد ، وطلب عبد الرحمان من
مصعب أن يدفع إليه ابن شدّاد ، فأمر له به ، فجاء وأخذه فضرب عنقه ، وترك ابنه.
وجاءوا إلى مصعب
ببجير بن عبد الله المسلمي ومعه منهم ناس كثير ، فقال المسلمي : الحمد لله الذي
ابتلانا بالإسار وابتلاك بأن تعفو عنا ... ومن عفا عفا الله عنه وزاده عزّا ومن عاقب
لم يأمن القصاص! يابن الزبير! نحن أهل قبلتكم وعلى ملّتكم ، ولسنا تركا ولا ديلما
... وقد ملكتم فاسجحوا وقد قدرتم فاعفوا ... فما زال بهذا القول ونحوه حتّى رقّ
لهم الناس ورقّ لهم مصعب وأراد أن يخلّي سبيلهم.
فقام عبد الرحمان
بن محمّد بن الأشعث وقال لمصعب : يابن الزبير اخترنا أو اخترهم!
وقام محمّد بن عبد
الرحمان الهمداني وقال له : قتل أبي وخمسمئة من أشراف أهل المصر وعشيرة همدان ثمّ
تخلّى سبيلهم؟! اخترنا أو اخترهم!
وقام كلّ قوم اصيب
منهم رجل فقالوا نحوا من هذا القول ، فلمّا رأى مصعب ذلك أمر بقتلهم.
وكان فيهم مسافر
بن سعيد بن نمران فقال لمصعب : يابن الزبير! ما تقول لله إذا قدمت عليه وقد قتلت
امّة من المسلمين ـ صبرا ـ حكّموك في دمائهم! فكان الحقّ أن لا تقتل نفسا بغير
نفس. وفينا رجال كثير لم يشهدوا من حربنا وحربكم يوما واحدا وإنّما كانوا في
الجبال والسواد يجبون الخراج ويؤمّنون السبيل! فإن كنا قتلنا عدّة رجال منكم
فاقتلوا عدّة من قتلنا منكم وخلوا سبيل بقيّتنا! فلم يتكلّم.
ثمّ أمر مصعب أن
يقطعوا كفّ المختار فيسمّروها بمسمار إلى جانب المسجد الجامع! ففعلوا ذلك .
وقال الواقدي :
كان المختار حين وقف لمصعب في عشرين ألفا! وتوجّه منهم نحو القصر ثمانية آلاف لم
يجدوا من يقاتل بهم ووجدوا المختار في القصر .. فأقام مصعب يحاصره أربعة أشهر ،
يخرج إليهم في سوق الكوفة فيقاتلهم من وجه واحد ولا يقدرون عليه حتّى قتل المختار.
فلمّا قتل المختار بعث من في القصر يطلب الأمان فأبى مصعب حتّى ينزلوا على حكمه ،
فلمّا نزلوا على حكمه وهم ثمانية آلاف سبعة آلاف من العرب وسائرهم عجم! فلمّا
خرجوا أراد مصعب أنّ يترك العرب ويقتل العجم!
فقال له من معه :
أيّ دين هذا؟! تقتل العجم وتترك العرب ودينهم واحد! فقدّمهم فضرب أعناقهم.
وعن النميري
البصري عن المدائني : أنّ مصعبا شاور أصحابه في من نزل على حكمه من المحصورين في
القصر ، فقال ابن الأشعث وأمثاله : اقتلهم ، وكان معهم عبيد الله بن الحرّ الجعفي
فقال له : أيّها الأمير ، ادفع كلّ رجل منهم إلى عشيرته تمنّ بهم عليهم ، ولا غنى
بنا عنهم في ثغورنا ، وادفع عبيدنا إلى مواليهم فإنّهم لأيتامنا وأراملنا وضعفائنا
يردّونهم إلى أعمالهم ، واقتل الموالي فإنه قد بدا كفرهم وعظم كبرهم وقلّ شكرهم.
وكان الأحنف
التميمي ساكتا فقال له مصعب : وما ترى يا أبا بحر؟ فعرّض بقتلهم كلّهم فقتلهم
كلّهم!
__________________
وكان ذلك للرابع
عشر من شهر رمضان من سنة سبع وستّين ، وللمختار سبع وستّون سنة .
وأحضر مصعب امرأتي
المختار : امّ ثابت بنت سمرة بن جندب الأنصاري الفزاري فقال لها :
ما تقولان في
المختار؟ فقالت : ما نقول فيه إلّا ما تقولون أنتم فيه ، فقال لها : فاذهبي.
وقال لعمرة بنت
النعمان بن بشير الأنصاري : ما تقولين فيه؟ قالت : رحمة الله عليه ، إنه كان عبدا
من عباد الله الصالحين! فأمر بحبسها وكتب فيها إلى أخيه عبد الله وقال : إنّها
تزعم أنّه نبيّ! فكتب إليه بقتلها! فأخرجها بعد العتمة إلى ما بين الكوفة والحيرة
فضربها قاتلها ثلاث ضربات بالسيف فقتلها وهي تصرخ : يا أبتاه! يا أهلاه! يا
عشيرتاه !
__________________
وحجّ مصعب فلقي
عبد الله بن عمر زوج صفية اخت المختار ، فسلّم عليه وكأنّه كان لا يعرفه فعرّفه
بنفسه أنّه مصعب فقال له ابن عمر : أنت القاتل سبعة آلاف من أهل القبلة في غداة
واحدة! قال مصعب : إنّهم كانوا كفرة سحرة! (فهو منبع هذا التشنيع) فقال ابن عمر :
والله لو قتلت عدّتهم غنما من تراث أبيك لكان ذلك سرفا !
مصير إبراهيم بن
الأشتر :
كان سواد العراق
وجبال شماله وشطر من إيران تابعا لحكومة الكوفة ، فلمّا قتل المختار طمع عبد الملك
بن مروان في تطميع النخعيّ في الموصل في حكم العراق فكتب إليه : أمّا بعد ، فإنّ
آل الزبير انتزوا على أئمة الهدى! ونازعوا الأمر أهله! وألحدوا في بيت الله الحرام!
واتّخذوا الحرام حلّا! والله ممكّن منهم وجاعل دائرة السوء عليهم. وإنّي أدعوك إلى
الله وإلى سنّة نبيّه ، فإن قبلت وأجبت فلك سلطان العراق ما بقيت وبقيت ، عليّ عهد
الله وميثاقه بالوفاء بذلك.
__________________
وبعث مصعب عمّاله
على السواد والجبال ، وخاف التحاق النخعيّ بالأموي فقدم رسوله بكتاب مصعب إلى ابن
الأشتر وفيه : أمّا بعد ، فإنّ الله قد قتل المختار «الكذّاب» و «شيعته الذين
دانوا بالكفر وكادوا بالسحر!» وإنّا ندعوك إلى كتاب الله وسنّة نبيّه وإلى بيعة
أمير المؤمنين! فإن أجبت إلى ذلك فأقبل إليّ ، فإنّ لك أرض الجزيرة وأرض المغرب (مغرب
العراق ـ الشام) كلّها! ما بقيت وبقي سلطان آل الزبير ، لك بذلك عهد الله وميثاقه
وأشدّ ما أخذ الله على النبيّين من عهد أو عقد ، والسلام.
فدعا إبراهيم
أصحابه فأقرأهم الكتابين واستشارهم الرأي ، فقائل يقول : عبد الملك ، وقائل يقول :
ابن الزبير. فقال لهم : ورأيي اتّباع أهل الشام ، ولكن كيف لي بذلك وليست قبيلة
بالشام إلّا وقد وترتها! ولست بتارك عشيرتي وأهل مصري ! فكتب إلى مصعب ، فكتب إليه مصعب أن أقبل فأقبل إليه فلمّا بلغ ذلك إلى مصعب بعث المهلّب الأزدي البصري إلى عمل
إبراهيم على الموصل والجزيرة وأذربيجان وأرمينية ، وأقام مصعب بالكوفة أميرا على العراقين وتوابعهما من إيران.
وبذلك تعاظم أمره
، ورأى أخوه عبد الله أنّ مروان بن الحكم إن حكم تصبح حكومته ملوكيّة وراثيّة كما
فعل معاوية قبله ، فتوارثها ابنه عبد الملك ،
__________________
فأراد عبد الله أن
يربّي لها ابنه الأكبر حمزة فعزل مصعبا عن البصرة وولّاها ابنه حمزة. فظهرت منه
بالبصرة خفّة وضعف وتخليط ، كان أحيانا يجود حتّى لا يترك ما يملك ، وأحيانا يمنع
ما لا يمنع مثله. وكان على الخراج مردانشاه الفارسي فاستحثّه على الخراج فأبطأ
عليه فقام عليه بسيفه فقتله! وهمّ بالأشراف أن يضربهم! فكتب الأحنف التميمي بذلك
إلى ابن الزبير وسأله أن يعيد عليهم مصعبا ، ففعل ، فاحتمل حمزة مالا كثيرا من بيت
المال معه وترك أباه وذهب إلى المدينة واستودع الأموال عند رجال فذهبوا بها! فلمّا
علم ابن الزبير بما فعل قال : أبعده الله! أردت أن اباهي به بني مروان! فنكص!
فولّى مصعب على الكوفة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المعروف بالقباع وانصرف
إلى البصرة بعد سنة أي في (٦٨ ه).
مصير عبيد الله بن
الحرّ :
روى المدائني قال
: لما قتل المختار قال الناس لمصعب : إنّ ابن الحرّ قد شاقّ ابن زياد ثمّ المختار
، ولا نأمنه أن يثب بالسواد كما كان يفعل. فحبسه مصعب (بالكوفة ، قبل أن يعود
للبصرة).
وتوصّل ابن الحرّ
إلى وجوه مذحج (وهو منهم) وقال لهم : سعى بي قوم كذبة وخوفوا مصعبا ممّا لم أكن
أفعله! وما لم يكن من شأني! فحبسني على غير جرم ، فاتوه وكلّموه في أمري. فوعدوه
ذلك. فأرسل إلى فتيانهم قال : أرسلت قوما إلى مصعب يكلمونه في أمري ، فالبسوا
سلاحكم وليكن مستورا بثيابكم ، واذهبوا معهم وقفوا ببابه ، فإن خرج القوم وقد
شفّعهم فلا تعرضوا لشيء ،
__________________
وإن خرجوا ولم
يشفّعهم فكابروا السجّانين وأنا اعينكم من داخل! فجاء القوم من مذحج فدخلوا على
مصعب فكلّموه فشفّعهم وأطلقه.
فلمّا أتاه الناس
يهنئونه قال لهم : قد عهد إلينا رسول الله صلىاللهعليهوآله : أن «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» وما رأينا بعد
الأربعة الماضين إماما صالحا ولا وزيرا تقيّا ، كلّهم عاص مخالف ، قويّ
الدنيا ضعيف الدين ، فعلام تستحلّ حرمتنا ونحن أصحاب النخيلة والقادسيّة وجلولاء
ونهاوند! نلقى الأسنة بنحورنا والسيوف بجباهنا ، ثمّ لا يعرف لنا حقّنا وفضلنا!
فقاتلوا عن حريمكم ، فأيّ الأمر ما كان فلكم فيه الفضل ، وإنّي قد قلبت ظهر المجن!
وأظهرت لهم العداوة فإنّ هذا الأمر لا يصلح إلّا لمثل خلفائكم الماضين ، وما نرى
لهم فينا ندّا ولا شبيها فنلقي بأزمّتنا إليه ونمحضه نصيحتنا ، فإن كان إنّما هو «من
عزّ بزّ» فعلام نعقد لهم بيعة في أعناقنا وليسوا بأشجع منّا لقاء ولا أعظم منّا
غناء .. ولا قوّة إلّا بالله!
وحيث كان هو من
مراد من مذحج ، أرسل إليه مصعب سيف بن هانئ (ابن عروة) المرادي فقال له : إنّ
مصعبا يعطيك خراج بادوريا على أن تبايع وتدخل في طاعته! فأبى.
فبعث مصعب إليه
الأبرد الرياحي في نفر لقتاله ، فقاتله ابن الحرّ فهزم الأبرد الرياحي.
فبعث مصعب إليه
حريث بن زيد في نفر ، فقاتله ابن الحرّ فقتله وهزم جمعه.
فبعث مصعب إليه
الحجّاج بن حارثة الخثعمي فلقيه على نهر صرصر فقاتله ابن الحرّ فهزم الخثعمي.
__________________
فأرسل مصعب قوما
إليه يدعونه إلى أن يؤمّنه ويولّيه أيّ بلد شاء! فأبى.
وكان على الفلّوجة
دهقان يدعى تيز جشنش (بالفارسية) فأتاه ابن الحرّ ففرّ الدهقان بمال الفلّوجة إلى
عين التمر وعليها بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيباني ومعه مئة وخمسون فارسا ، وتابع
ابن الحرّ الدهقان ، فخرج إليه بسطام بجمعه ، ووافاهم الحجّاج الخثعمي كرّة ،
فبارزه الحجّاج فأسره ابن الحرّ ، وبارزه بسطام فأسره أيضا ، وبعث دلهم المرادي
بفوارس من أصحابه يطلبون الدهقان فأصابوه وأخذوا الأموال ، فأخذها وتركهم إلى
تكريت فهرب عاملها ، فأقام ابن الحرّ بها يجبي الخراج.
فوجّه مصعب إليه
الأبرد الرياحي والجون الهمداني في ألف فارس ، وأمدّهما المهلّب من الموصل بخمسمئة
مع يزيد بن المغفّل ، فتقاتلوا وقتل كثير من فرسان ابن الحرّ وتحاجزوا مساء فخرج
من تكريت إلى الشام ثمّ عاد بهم إلى الكوفة ليخوّف مصعبا ، فأتى على كسكر فنفى
عاملها وأخذ بيت مالها ، ثمّ أتى الكوفة إلى دير الأعور ، فبعث إليه مصعب حجّار بن
أبجر فقاتله ابن الحرّ فهزمه ، فضمّ مصعب إليه الجون الهمداني وعمر بن معمر ،
فانهزم حجّار ثمّ كرّ وقاتلوه كلّهم ، فكثرت الجراحات في أصحاب ابن الحرّ وعقرت
خيولهم حتّى أمسوا ، وخرج ابن الحرّ إلى المدائن.
وكان مصعب قد جعل
على المدائن يزيد بن الحارث الشيباني ، فكتب إليه بقتال ابن الحرّ ، فقدّم يزيد
ابنه حوشبا بجمع فلقي ابن الحرّ في باجسرا ، فقاتله ابن الحرّ فهزمه وأقبل ليدخل
المدائن فتحصّنوا ، ثمّ توجه إليه بشر الأسدي إلى تامرّا فلقيه ابن الحرّ فقتله
وهزم أصحابه ، وتوجّه إليه جون الهمداني في حولايا ، فقاتله ابن الحر فهزمهم
وتبعهم ، فخرج إليه بشير العجلي فالتقوا في سورا فاقتتلوا قتالا شديدا ثمّ انحاز
بشر عنه فرجع إلى عمله. وأقام ابن الحرّ يغير على السواد ويجبي الخراج.
وكأنّ مصعبا خرج
من الكوفة إلى البصرة واستخلف عليها الحارث بن أبي ربيعة ، فتوجّه ابن الحرّ إليه
وبلغ ذلك بني قيس عيلان وكان ابن الحرّ قد هجاهم بشعره ، فسألوا الحارث أن يبعث
معهم جيشا لحرب ابن الحر فوجّه معهم ، فلقوه وقاتلوه ساعة ثمّ غرق فرسه فركب بلما
ليعبر فتصايح الأنباط : هذا طلبة أمير المؤمنين فضربوه بالمرادي فغرق واستخرجوه
وحزّوا رأسه فبعثوا به إلى الكوفة ثمّ البصرة .
الأزارقة بعد ابن
الحرّ :
أوقع المهلّب
الأزدي بالأزارقة الخوارج أتباع نافع بن الأزرق بالأهواز فلحقوا بفارس ونواحي
إصفهان وكرمان ، وقتل الأزرق فبايعوا الزبير بن ماحوز. فلمّا شخص المهلّب عن ذلك
الوجه ووجّه عاملا على الموصل وضواحيها ، وجعل على فارس عمر بن معمر ، اذ حطّت
الأزارقة عليه مع ابن ماحوز إلى فارس فلقيهم في شاپور فقاتلهم قتالا شديدا حتّى
غلبهم فتركوا المعركة وذهبوا حتّى نزلوا بإصطخر فارس ، فسار إليهم حتّى لقيهم على
قنطرة طبستان ، فقاتلهم قتالا شديدا حتّى غلبهم فقطعوا القنطرة وارتفعوا إلى
إصفهان ثمّ كرمان فأقاموا بها. حتّى قووا وكثروا واستعدّوا وأقبلوا حتّى مرّوا
بفارس فأخذوا على شاپور ثمّ خرجوا على أرجان ثمّ توجّهوا قبل الأهواز ، وتبعهم عمر
بن معمر فالتقى بهم هناك ، وبلغ إقبالهم إلى مصعب بالبصرة في ولايته الثانية فخرج
بالناس فعسكر بهم عند الجسر الأكبر.
وأقبل هؤلاء
الخوارج الأزارقة حتّى نزلوا الأهواز ، فأخبرتهم عيونهم بأنّهم بين مصعب وعمر بن
معمر ، فسار بهم ابن ماحوز حتّى قطع بهم أرض جوخى
__________________
ثمّ النهروانات
ثمّ لزم شاطئ دجلة حتّى خرج على المدائن ، وكان عليها كردم بن مرثد الفزاري فهرب ،
فشنّوا الغارة على أهل المدائن يقتّلون الرجال والولدان والنساء ويبقرون الحبالى!
ثمّ أقبلوا إلى ساباط المدائن فوضعوا سيوفهم في الناس.
وكان على الكوفة
الحارث الملقّب بالقباع فأتاه أهل الكوفة وقالوا له : إنّ هذا عدوّنا قد أظلنا
فاخرج بنا! فخرج ونزل النخيلة فأقام أيّاما ، وخرج معه إبراهيم بن الأشتر النخعي
فقال له : فانهض بنا إليه وأمر بالرحيل! فخرج فنزل دير عبد الرحمان فأقام فيه ،
وخرج معه شبث بن ربعي التميمي فكلّمه بمثل مقال ابن الأشتر فارتحل إلى الصّراة في
بضعة عشر يوما وقد انتهى إليها أوائل خيول العدو وطلائعه ، فلمّا أخبرهم عيونهم
بخروج جمع أهل الكوفة إليهم قطعوا الجسر دونهم!
فقال إبراهيم
للحارث : اندب معي الناس حتّى أعبر إلى هؤلاء الكلاب! وكان شبث بن ربعي وأسماء بن
خارجة الفزاري ويزيد بن الحارث الشيباني ومحمّد بن عمير بن عطارد ومحمّد بن الحارث
حاضرين فكأنهم حسدوا ابن الأشتر فقالوا للحارث : لا تبدأهم دعهم فليذهبوا! واغتنم
الحارث ذلك فتحبّس عنهم. فقام رجال وطلبوا منه إعادة الجسر حتّى يعبروا إليهم ،
فأمر بذلك فاعيد الجسر ، فعبر الناس إليهم فطار الخوارج الأزارقة إلى المدائن ثمّ
خرجوا منها ، فأتبعهم الحارث بعبد الرحمان بن مخنف الأزدي في ستّة آلاف ليخرجهم من
أراضي الكوفة فإذا دخلوا أراضي البصرة خلّاهم ، ففعل ذلك ثمّ انصرف عنهم.
ومضوا إلى إصفهان
وعليها عتّاب بن ورقاء فأقاموا عليه وحاصروه ، فخرج إليهم فقاتلهم فلم يطقهم
وشدّوا على أصحابه حتّى دخلوا المدينة ، وأخذ يخرج إليهم في كلّ يوم فيقاتلهم على
باب المدينة ، ويرمونهم من السور
بالنبل والنشّاب
والحجارة. وأقاموا عليهم أشهرا حتّى نفدت أطعمتهم واشتدّ عليهم الحصار وأصابهم
الجهد الشديد! فخطبهم عتاب وعاتبهم فأعدّهم للخروج في الصباح.
ثمّ إنّه حين أصبح
خرج بهم على راياتهم فصبّحهم في معسكرهم وهم آمنون فشدّ عليهم حتّى انتهى إلى ابن
ماحوز فقاتل بأصحابه حتّى قتل. وعاد عتّاب فدخل المدينة.
وانحاز الخوارج
إلى قطريّ بن الفجاءة فبايعوه ، فارتحل بهم إلى كرمان فأقام بها حتّى اجتمع إليه
جمع كثير! واجتبى الأموال وأكل الأرض ثمّ عاد إلى إصفهان ثمّ إلى إيذة فإلى
الأهواز فأقام بها.
فكتب الحارث إلى
مصعب يخبره : أنّ الخوارج قد خرجوا إلى الأهواز ، وأنّه ليس لهم إلّا المهلّب
الأزدي.
فبعث إلى المهلّب
وهو على الموصل والجزيرة فأمره بالمسير إلى الخوارج وقتالهم ، فجاء إلى البصرة.
وبعث إلى عمله
إبراهيم بن الأشتر فكأنّه وفى له اليوم بما وعده بعد قتل المختار ، بعد أكثر
من سنة.
وفيات بعض الأعلام
وابن العباس :
في عهد المختار في
سنة (٦٦ ه) مات عدي بن حاتم الطائي ، ومن الصحابة زيد بن أرقم الأنصاري كلاهما
بالكوفة. وفي (٦٧ ه) مات الأحنف التميمي البصري بالكوفة مع المصعب فصلّى عليه
ومشى في جنازته بغير رداء!
__________________
وفي (٦٨ ه)
بالمدينة : أبو واقد الحارث بن مالك الليثي ، وأبو شريح خويلد بن عمرو الخزاعي
الكعبي ، وزيد بن خالد الجهني وجابر بن عبد الله الأنصاري الخزرجي.
وعامل المدينة عن
ابن الزبير جابر بن الأسود الزهري فطلب سعيد بن المسيّب التابعي على بيعة ابن
الزبير فأبى فضربه ستّين أو سبعين سوطا.
ومات بالطائف :
أبو العباس عبد الله ابن العباس .
قال اليعقوبي :
وهو ابن إحدى وسبعين سنة ، وحضره محمّد بن الحنفيّة فصلّى عليه ، ودفن في مسجد
جامعها ، وضرب عليه فسطاط. وكان له خمس بنين أكبرهم العباس الأعنق ، ومحمّد ،
والفضل ، وعبد الرحمان ، وعلي وهو أصغرهم سنّا وتقدّم لنبله.
نقل ذلك اليعقوبي
وأرسل عنه قال : أردفني رسول الله فقال لي : يا غلام! ألا اعلّمك كلمات ينفعك الله
بهنّ؟ قلت : بلى يا رسول الله! قال : جفّ القلم بما هو كائن ؛ ولو جهد الخلق على
أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لم يقدروا عليه ، ولو جهدوا على أن يضرّوك بشيء لم
يكتبه الله عليك لم يقدروا! فعليك بالصدق واليقين. وإن في الصبر على ما تكره خيرا
كثيرا ، واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب ، و «إنّ مع العسر يسرا» وإذا
سألت فاسأل الله ، وإذا استغنت فاستعن بالله ، واذكر الله في الرخاء يذكرك في
الشدّة ، واحفظ الله تجده أمامك ، واحفظ الله يحفظك .
وقال المسعودي :
وكان يخضّب شيبه بالحنّاء وله وفرة شعر طويلة ، وقد ذهب بصره لبكائه على عليّ
والحسن والحسين عليهمالسلام وهو الذي يقول :
__________________
إن يأخذ الله من عينيّ نورهما
|
|
ففي لساني وقلبي منهما نور
|
ومصعب لما عاد من
باجميرا إلى البصرة وأعاد المياه إلى مجاريها ، رجع إلى باجميرا ، فيبدو أنّ ذلك
بلغ عبد الملك بدمشق فخلّف عليها ابن عمّته الأشدق وسار إلى زفر بن الحارث الكلابي
في قرقيسيا وبلاد الرحبة.
قال المسعودي :
فبلغه أنّ عمرا بدمشق قد دعا الناس إلى بيعته ، فكرّ راجعا إليها ، فامتنع عمرو
فيها ، وصارت فيما بينه وبين عبد الملك محادثات ومكاتبات وخطب طويل طلبا للملك ،
وكان ممّا كتب إليه عبد الملك : استدراج النعم إيّاك أفادك البغي ، ورائحة الغدر
أورثتك الغفلة ، زجرت عمّا وافقت عليه ، وندبت إلى ما تركت سبيله ، ولو كان ضعف
الأسباب يؤيّس الطالب لما انتقل سلطان ولا ذلّ عزيز! وعن قريب يتبيّن من صريع بغي
وأسير غفلة!
وناشده عبد الملك
الرحم بينهم وقال له : لا تفسد أمر أهل بيتك وما هم عليه من اجتماع الكلمة ، وفي
ما صنعت قوّة لابن الزبير! إرجع إلى بيتك فإنّي سأجعل لك العهد! فرضى وصالح .
وجرى بينهم
السفراء حتّى اصطلحا وتعاقدا وكتبا بينهما كتابا بالعهود والمواثيق والأيمان على
أن لعمرو بن سعيد الخلافة بعد عبد الملك ، ودخل عبد الملك دمشق .
وبقي عمرو متحيّزا
في خمسمئة فارس يزولون معه حيث زال.
فقال عبد الملك
يوما لحاجبه : ويحك! أتستطيع إذا دخل عمرو أن تغلق الباب دون أصحابه؟ قال : نعم.
وكان مروان قد ترك ابنه عبد العزيز على مصر
__________________
وكان قد قدم هذا
ذلك اليوم من مصر فتواطأ عبد الملك معه على قتل الأشدق ، وكان الوليد بن عبد الملك
قد تزوّج أخت الأشدق ، وأمرهما بقتل الأشدق ! ودعاه إلى قصره ولعلّه بحجّة زيارة أخيه عبد العزيز
القادم من مصر.
فتدرّع الأشدق تحت
قبائه وقام ليخرج فعثر بالبساط فتطيّرت امرأته نائلة ابنة الفريض وقالت له : انشدك
الله أن لا تأتيه! فأبى وقال لها : دعيني فو الله لو كنت نائما ما أيقظني! وخرج
وكان عمرو رجلا عظيم الكبر لا يرى لأحد فضلا عليه ، وإذا مشى إلى أحد فلا يلتفت
وراءه. فلمّا فتح الحاجب الباب ودخل عمرو ، أغلق الباب دون أصحابه ومضى عمرو لا
يلتفت وهو يظنّ أنّ أصحابه قد دخلوا كما كانوا يدخلون. فلمّا دخل على عبد الملك
قام من هناك من بني أميّة ، فعاتبه عبد الملك طويلا. ثمّ قال له : إنّي كنت حلفت
لئن ملكتك لأشدنك في جامعة! فاتي بجامعة فوضعها في عنقه وأخذ يشدّها عليه ويشدّه
إليه! فأيقن عمرو بالهلاك ، فقال له : أنشدك الله يا أمير المؤمنين! فقال له عبد
الملك : يا أبا اميّة! ما لك جئت في الدرع أللقتال؟! والتفت عمرو إلى أصحابه فلم
يرهم في الدار! فكلّمه عبد الملك وأغلظ له بالقول.
فقال الأشدق : يا
عبد الملك! أتستطيل عليّ كأنّك ترى لك فضلا عليّ؟! والله إن شئت نقضت العهد بيني
وبينك ثمّ نصبت لك الحرب! فقال عبد الملك : قد شئت ذلك! فقال الأشدق : وأنا قد
فعلت! وكان صاحب حرسه يدعى أبا الزعيزعة وكان قد وصّاه أن يضرب عنق الأشدق ، فهنا
قال له : يا أبا الزعيزعة شأنك! فضربه أبو الزعيزعة فقتله .
__________________
ونقل ابن قتيبة عن
أبي معشر قال : فأمر رجلا عنده يقال له : ابن الزويرع فضرب عنقه ، ثمّ أدرجه في
بساط تحت سريره.
وكان لعبد الملك
أخ من الرضاعة قد تفقّه يقال له : قبيصة بن ذويب الخزاعي (الصحابي) كان عبد الملك
يشاوره وقد سلّمه خاتمه ! فدخل عليه الساعة ، ولعلّه لذا أخفى جثة الأشدق ، فسأله
عبد الملك : كيف رأيك في عمرو بن سعيد؟ وأبصر قبيصة رجل عمرو تحت السرير! فقال له
: يا أمير المؤمنين اضرب عنقه! فقال عبد الملك : جزاك الله خيرا! ما علمتك إلّا
أمينا ناصحا موفّقا! فما ترى في هؤلاء الذين أحدقوا بنا وأحاطوا بقصرنا؟! وفيه :
أنّهم كانوا أربعة آلاف رجل مسلّح! فقال قبيصة : يا أمير المؤمنين! اطرح رأسه
إليهم ثمّ اطرح عليهم الدنانير والدراهم يتشاغلون بها! هذا وهو الخازن.
فأمر عبد الملك أن
يطرح إليهم رأس عمرو من أعلى القصر وتطرح لهم الدنانير وننثر عليهم الدراهم!
ففعلوا ذلك.
ثمّ ناداهم مناديه
: إنّ أمير المؤمنين قد قتل صاحبكم بما كان من القضاء السابق والأمر النافذ! ولكم
على أمير المؤمنين عهد الله وميثاقه : أن يحمل راجلكم ويكسو عاريكم ويغني فقيركم ،
ويبلّغكم إلى المئتين في الديوان بل إلى أكمل ما يكون من الرزق والعطاء! فاعرضوا
أنفسكم على ديوانكم ، ويسلم لكم دينكم ودنياكم! فصاحوا : نعم نعم سمعا وطاعة لأمير
المؤمنين !
ووافى أخو عمرو :
يحيى بن سعيد بمن معه من رجاله إلى باب القصر ليكسره فخرج إليه موالي عبد الملك
فاقتتلوا .. ثمّ اخذ أسيرا إلى عبد الملك.
وهكذا اجتمعت
الكلمة له وانقاد الناس إليه.
__________________
وقال لابنه الوليد
وأخيه عبد العزيز : والله ما أردت قتله إلّا من أجلكم أن لا يحوزها دونكم !
ثمّ خرج عبد الملك
للصلاة فصعد المنبر وذكر عمرا وخلافه وشقاقه فوقع فيه .
ابن مروان في
العراق ومقتل ابن الأشتر :
قال المسعودي : في
بقيّة سنة سبعين أقام عبد الملك بدمشق ، ثمّ نزل إلى قرقيسيا فحاصرها ، فنزل زفر
بن الحارث العامري الكلابي على إمامة عبد الملك وبايعه وتابعه.
فسار عبد الملك
حتى نزل على نصيبين فحاصرها ، فنزل يزيد والحبشي من بقايا أنصار المختار على إمامة
عبد الملك وانضافوا إليه.
وفي سنة اثنتين
وسبعين خرج مصعب في أهل العراق يريد عبد الملك ، فدلف إليه عبد الملك في عساكر
الشام والجزيرة ، وعلى مقدّمته أو ساقته الحجاج بن يوسف الثقفي.
وأخذ عبد الملك
يكاتب سرّا رؤساء أهل العراق ممن هم بعسكر مصعب وغيرهم يرغّبهم ويرهبهم.
وممّن كتب إليه
إبراهيم بن الأشتر النخعي ، فلمّا أوصل جاسوسه كتابه إليه أتى بالكتاب إلى مصعب ،
فسأله مصعب : أقرأته؟ قال : أعوذ بالله! فلمّا تأمّل مصعب ما فيه وجده أمانا له
وولاية لما شاء من العراق. وقال النخعي :
__________________
والله ما كاتبني
حتّى كاتب غيري ، ولا امتنعوا عن إيصالها إليك إلّا للرضا به والغدر بك ، فأبدأ
بهم ثمّ الق هذا الرجل ، فأبى ذلك مصعب.
ثمّ سار إبراهيم
على مقدّمة مصعب متسرعة ومعه عتّاب بن ورقاء التميمي والتقوا في أرض العراق قرب قرية مسكن على شاطئ دجلة ، وعلى
مقدّمة عبد الملك الحجّاج بن يوسف الثقفي أو محمّد بن مروان أخو عبد الملك .
وكان ممّن دخل في
خيل مصعب من أهل الكوفة القاسم بن حبيب بن مظاهر الأسدي الفقعسي ، وقاتل أبيه
البديل بن صريم التميمي العقفاني ، وكان ممّن فرّ من نقمة المختار إلى مصعب
بالبصرة ، ولم تكن للقاسم همّة إلّا اتّباع أثر قاتل أبيه ليجد منه غرّة فيقتله
بأبيه! فلمّا غرّة مصعب باجميرا (لغزو ابن مروان) دخل القاسم عسكره حتّى عرف فسطاط
قاتل أبيه ، فأخذ يختلف إليه التماس غرّته ، حتّى دخل عليه نصف النهار وهو في
قيلولته فضربه بسيفه حتى برد .
ثمّ التقوا
فاقتتلوا حتّى قرب المساء وقد أشرف إبراهيم على الفتح ، فحسده عتّاب التميمي فقال
: يا إبراهيم ، إن الناس قد جهدوا فمرهم بالانصراف! فقال إبراهيم : وكيف ينصرفون
وعدوّهم بإزائهم؟! وكان عتاب على ميمنته فقال له : فمر الميمنة أن تنصرف! فأبى ذلك
إبراهيم ، فمضى عتاب إليهم وأمرهم بالانصراف فانصرفوا فأكبّت ميسرة الشام عليهم
واختلط الرجال وصمدوا لإبراهيم وأسلمه من معه ، فنزل ودار به الرجال وازدحموا عليه
واشتبكت عليه
__________________
الأسنة فقتل ،
فقيل إنّ قاتله ثابت بن يزيد مولى الحصين بن نمير السكوني الكندي وحمل رأسه إلى
عبد الملك ، واتي بجسده والقي بين يديه ، فجمع مولى الحصين عليه حطبا واحرقه !
حرب مصعب وعبد
الملك :
ثمّ سار عبد الملك
من موضعه في صبيحة تلك الليلة حتّى نزل بدير الجاثليق (الكاثوليك) من أرض العراق (على
فرسخين من الأنبار) وكان عبيد الله ابن زياد البكري من زعماء بكر بن وائل وسادات
ربيعة ومعه عكرمة بن ربعي فأقبلا برايات بني ربيعة فالتحقوا بعبد الملك ودخلوا في
طاعته وأضافوها إليه !
قال ابن قتيبة :
وكان مصعب وعبد الملك قبل ذلك صديقين متحابّين متصافيين لا يعلم بين اثنين من
الناس ما بينهما من الإخاء والصداقة! ولذا تقدّم اليوم هنا عبد الملك وبعث إليه :
أن ادن منّي اكلّمك! فدنا منه وتنحّى الناس عنهما. فسلّم عبد الملك عليه وقال له :
يا مصعب قد علمت ما جرى بيني وبينك منذ ثلاثين سنة من الصحبة والإخاء ، فو الله
لأنا خير لك من عبد الله وأنفع لدينك ودنياك! فثق بذلك منّي وانصرف إليّ وخذ بيعة
المصرين (الكوفة والبصرة) والأمر أمرك لا تعصى ولا تخالف. وإن شئت اتّخذتك صاحبا
ووزيرا لا تعصى.
فقال مصعب : ما
ذكرت من مودّتي وإخائي وثقتي بك ، فذلك كما ذكرته ولكنّه قبل قتلك لعمرو بن سعيد ،
وبعد قتلك له فلا يطمأنّ إليك وهو أقرب منّي رحما إليك وأولى بما عندك فقتلته غدرا
، وو الله لو قتلته في محاربة لمسّك عاره ولما سلمت من إثمه.
__________________
وأمّا ما ذكرت من
أنّك خير لي من أخي فدع عنك أبا بكر وإيّاك وإيّاه لا تتعرّض له واتركه ما تركك!
فقال عبد الملك : إنّ فيه لثلاث خصال لا يسود بها أبدا : عجب قد ملأه ، واستغناء
برأيه ، وبخل قد التزمه! فلا يسود بهذه أبدا !
ثمّ تخلّى عن مصعب
من كان معه من مضر واليمن! وبقي في نفر يسير منهم ابنه عيسى فقال له : يا بني دعني
فإنّي مقتول واركب فرسك فانج بنفسك والحق بمكّة بعمك فأخبره بما صنع بي أهل العراق!
فأبى وتقدّم فقاتل حتّى قتل أمامه.
وكان علي بن عبد
الله بن العباس بعد وفاة أبيه قد التحق بعبد الملك! وكان خالد بن يزيد بن معاوية
صهر ابن الزبير مع عبد الملك ، وكأنّ محمّد بن مروان رقّ لمصعب ، فسأل أخاه عبد
الملك أن يؤمن مصعبا ، فاستشار عبد الملك من حضره ، فأبى علي بن عبد الله ، ووافق
خالد وارتفع الكلام بينهما حتّى تسابّا ، ووافق عبد الملك خالدا وأخاه محمّدا
فأمره أن يمضي إلى مصعب فيؤمّنه.
فمضى محمّد حتّى
وقف قريبا من مصعب ثمّ ناداه : يا مصعب ، أنا ابن عمك! محمّد بن مروان وقد أمّنك
أمير المؤمنين! على نفسك ومالك وكلّ ما أحدثت ، وأن تنزل أيّ البلاد شئت ، فانشدك
الله في نفسك! فأبى ، وقاتل حتّى اثخن بالجراح وعرقب فرسه فترجّل ، فأقبل عليه
عبيد الله بن ظبيان البكري فضربه مصعب على رأسه وضربه عبيد الله فقتله ، واحتزّ
رأسه وأتى به عبد الملك ، فسجد عبد الملك! وذلك في يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة
خلت من جمادى الأولى سنة (٧٢ ه). وأمر عبد الملك بمصعب وابنه عيسى فدفنا بدير
الجاثليق (الكاثوليك) .
__________________
عبد الملك ملك
العراق :
وسار عبد الملك من
دير الجاثليق (الكاثوليك) حتّى نزل النخيلة بظهر الكوفة ، فخرج إليه أهله فبايعوه.
فوفى لمن وعدهم في مكاتبته إيّاهم سرّا ، وخلع وأجاز وأقطع ، ورتّب الناس على قدر
مراتبهم. ودخل دار الإمارة بالكوفة وقد حمل معه رأس مصعب فجيء به حتّى وضع بين
يديه.
فنقل المسعودي عن
أبي مسلم النخعي أنّه لمّا رأى ذلك اضطرب ، ورآه عبد الملك فسأله ، قال : فقلت :
يا أمير المؤمنين! دخلت هذه الدار فرأيت رأس الحسين (عليهالسلام) بين يدي ابن زياد في هذا الموضع ، ثمّ دخلتها فرأيت رأس
ابن زياد بين يدي المختار ، ثمّ دخلتها فرأيت رأس المختار بين يدي مصعب بن الزبير
، وهذا رأس مصعب بين يديك! فوقاك الله يا أمير المؤمنين!
فوثب عبد الملك
وأمر بهدم طاق ذلك المجلس! كأنّه هو عامل هذه المقاتل!
وكان مع عبد الملك
أخوه بشر بن مروان فولّاه على الكوفة ، وخلّف معه جماعة من أهل الرأي والمشورة من
أهل الشام منهم روح بن زنباع الجذامي. وأرسل الحجّاج بن يوسف الثقفي لحرب ابن
الزبير بمكّة ، وعاد ببقية أهل الشام إلى الشام بعد أن ولّى على البصرة خالد بن
عبد الله .
وقال المضاء بن
علوان كاتب مصعب : دعاني عبد الملك فقال لي : علمت أنّه لم يبق من أصحاب مصعب
وخاصته أحد إلّا كتب إليّ يطلب الأمان والجوائز والصلات والإقطاعات! قلت : يا أمير
المؤمنين! وقد علمت أنّه لم يبق من أصحابك أحد إلّا وقد كتب إلى مصعب بمثل ذلك
وهذه عندي كتبهم!
__________________
وجئته بإضبارة
عظيمة! فلمّا رآه قال : ما حاجتي أن أنظر فيها فافسد قلوبهم عليّ! يا غلام أحرقها
بالنار! فأحرقها.
ثمّ ندب الناس
للخروج إلى عبد الله بن الزبير ، وانتدب الحجّاج لذلك فوجّهه في عشرين ألفا من أهل
الشام وغيرهم .
ولمّا وصل خبر قتل
مصعب إلى أخيه عبد الله أعرض عن ذكره حتّى تحدّث بذلك الناس في سكك مكّة ، فصعد
المنبر وجبينه يرشح عرقا فحمد الله وأثنى عليه ولم يصلّ على محمّد وآله وقال :
إنّه أتانا خبر من العراق أحزننا وأفرحنا وهو قتل مصعب ، أحزننا لفراق الحميم ثمّ
إلى كريم الصبر وجميل العزاء ، وأفرحنا بشهادته ! وكان مصعب حين قتله ابن أربعين سنة .
ولعلّ قتل مصعب
غلّب طارق بن عمرو مولى عثمان بن عفّان على المدينة داعيا إلى عبد الملك ، وأخرج
منها والي ابن الزبير طلحة بن عبد الله بن عوف .
حرب الحجّاج وابن
الزبير :
قال اليعقوبي :
كان ابن الزبير يأخذ الحجّاج بالبيعة له ، فلمّا رأى عبد الملك ذلك منعهم من الخروج
إلى مكّة (ولعلّه إعدادا لحربه) فضجّ الناس وقالوا : تمنعنا من حجّ بيت الله
الحرام وهو فرض من الله علينا!
فبنى قبة على
الصخرة في مسجد بيت المقدس وأقام لها سدنة وعلّق عليها ستور الديباج ، وروى له ابن
شهاب الزهري : أنّ رسول الله لمّا صعد من المسجد
__________________
إلى السماء وضع
قدمه عليها! وأنّه قال (عن أبي هريرة) : «ألا لا تشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد
: المسجد الحرام ، ومسجدي ، ومسجد بيت المقدس!».
فقال عبد الملك
للناس : هذا ابن شهاب يحدثكم الحديث عن رسول الله .. فهو يقوم لكم مقام المسجد
الحرام! وهذه الصخرة التي يروي فيها : أنّ رسول الله وضع قدمه عليها! فهي تقوم لكم
مقام الكعبة! وأخذ الناس بأن يطوفوا حولها كما يطوفون حول الكعبة .
ثمّ أجمل اليعقوبي
في عدد جنود عبد الملك من الشام والكوفة مع الحجّاج لحرب ابن الزبير بمكّة في
عشرين ألفا كما مرّ ، وفصّله ابن قتيبة فقال : خرج الحجّاج إلى ابن الزبير في ألف
وخمسمئة من رجال الشام إلى الطائف ، وتابع عبد الملك إرسال الجيوش إليه حتّى توافى
عنده قدر ما يظنّ أن يقدر بهم على قتال ابن الزبير فخرج بهم في (هلال) ذي القعدة
سنة (٧٢) إذ خرج بهم من الطائف (عشرين ألفا) حتّى نزل بمنى.
ثمّ نصب الحجّاج
المنجنيق على أبي قبيس وسائر جبال مكّة فحاصر ابن الزبير ومن معه ورماهم بالحجارة .
وقال اليعقوبي :
فجعلت الصواعق تأخذهم والحجّاج يقول لجنده من أهل الشام : يا أهل الشام! لا
تهولنّكم هذه الصواعق فإنّما هي من تهامة! فلم يزل يرميه بالمنجنيق حتّى هدم
الكعبة! وكان ابن الزبير شديد البخل فكان يجرى لجنده نصف صاع من تمر! فرأى فيهم
تثاقلا فقال لهم : أكلتم تمري وعصيتم أمري ! فذهب مثلا جاريا.
__________________
وكان ابن الزبير
قد منع الحجّاج وجمعه أن يطوفوا بالبيت معتمرين ، وجاء الحجّ فوقف الحجّاج بالناس
بعرفة محرما في درع ومغفر! كما لم يخرج ابن الزبير إلى عرفة بسبب الحجّاج حتّى
أنّه نحر بمكّة. واستمر حصاره وحربه (سبعه أشهر إلى شهر جمادى الآخرة) .
وكان أخوه عروة بن
الزبير مع عبد الملك فخرج إليه ، وكان عبد الملك قد كتب إلى الحجّاج يأمره بتعاهد
عروة وأن لا يسوؤه في نفسه وماله! وكان مع الحجّاج عمرو بن عثمان بن عفّان وخالد
بن عبد الله بن خالد بن أسيد فدعاهم الحجّاج وعرض عليهم أمان عبد الملك لابن
الزبير على ما أحدث ومن معه ، وأن ينزل أيّ بلاد شاء. فرجع عروة إلى أخيه وقال له
: هذا عمرو بن عثمان وخالد بن عبد الله يعطيانك أمان عبد الملك على ما أحدثت ومن
معك ، وأن تنزل أيّ بلاد شئت ، لك بذلك عهد الله وميثاقه! فأبت أمّه أسماء بنت أبي
بكر وكان لها مئة سنة فهي عمياء ، وقالت له : أي بني إيّاك أن تعطي بيدك أو تؤسر!
مت كريما ولا تقبل خطّة تخاف على نفسك منها مخافة القتل. فأبى ابن الزبير .
وقال ابن قتيبة :
جمع القرشيين وقال لهم : ما ترون؟ فقال رجل من بني مخزوم : والله لقد قاتلنا معك
حتّى ما نجد مقاتلا ... وإنمّا هي إحدى خصلتين : إمّا أن تأذن لنا فنخرج ، وإمّا
أن تأذن لنا فنأخذ الأمان لك ولأنفسنا. وقال رجل آخر : اكتب إلى عبد الملك ، فقال
عبد الله : أفأكتب إليه : من عبد الله أمير المؤمنين! فو الله لا يقبل منّي هذا
أبدا! أم أكتب إليه : لعبد الملك أمير المؤمنين من عبد الله بن الزبير! فو الله
لئن تقع الخضراء على الغبراء أحبّ إليّ من ذلك!
__________________
وكان أخوه عروة
جالسا معه على سريره فقال له : يا أمير المؤمنين! قد جعل الله لك اسوة! قال : ومن
هو اسوتي؟ قال : الحسن بن علي بن أبي طالب! إذ خلع نفسه وبايع معاوية! فرفع عبد
الله رجله عليه وضربه حتّى ألقاه من سريره وقال : لا أقبل شيئا ممّا تقولون!
ثمّ لما أصبح
اغتسل وتطيّب وتحنّط ثمّ تقلّد سيفه وخرج حتّى أسند ظهره إلى الكعبة وإنمّا معه
نفر يسير .
وخطبهم فقال :
أيّها الناس! إنّ الموت قد أظلكم سحابه ، وأحدق بكم ربابه ، فغضوا أبصاركم عن
الأبارقة (السيوف) وليشغل كل امرئ قرنه ، ولا يلهينّكم التساؤل : أين أمير
المؤمنين ، ألا فمن يسأل عني فإني في الرعيل الأول !
ثمّ جعل يقاتل بهم
أهل الشام فيهزمهم ثمّ يلتجئ إلى البيت .. وتكاثر عليه الرجال من أهل الشام فلم
يزل يضرب فيهم حتّى يخرجهم من المسجد ويعود إلى البيت ، واستلم الحجر ، ثمّ
تكاثروا عليه ، وأتاه حجر فصك جبينه فأدماه ، فكشفهم عن المسجد وعاد على من بقي من
أصحابه عند البيت وقال لهم :
ألقوا أغماد
السيوف ، وليصن كلّ رجل منكم سيفه كما يصون وجهه ، لا ينكسر سيف أحدكم فيقعد
كالمرأة! ولا يسأل أحد : أين عبد الله فإنّني في الرعيل الأوّل! وتكاثر عليه أهل
الشام ألوفا من كلّ باب. فحمل عليهم ، فشدخ بالحجارة فانصرع .
__________________
وقال ابن قتيبة :
وكان يمشي فجاءه حجر من المنجنيق فأصاب قفاه فسقط! وما درى أهل الشام أنّه هو حتّى
بكته جاريته تقول : وا أمير المؤمنيناه! فاحتزّوا رأسه ورأس عبد الله بن صفوان بن
اميّة وعمارة بن عمرو بن حزم وجاؤوا بها إلى الحجّاج ، فبعث الحجّاج برؤوسهم إلى
عبد الملك .
وقال المسعودي :
بل أكبّ عليه موليان له فقتلوا جميعا ، وتفرّق من بقي معه من أصحابه ، وأمر
الحجّاج فصلب بالتنعيم ثلاثا أو سبعا.
الحجّاج وابن عمرو
ابن الحنفية :
وكان عبد الله بن
عمر معتمرا بمكّة (وبايع الحجّاج) ومرّ بعبد الله مصلوبا فوقف وقال له : أبا خبيب!
يرحمك الله! لو لا ثلاث كنّ فيك لقلت إنّك أنت! : إلحادك في الحرم! ومسارعتك إلى
الفتنة ، وبخل بكفّك! وما زلت أتخوّف عليك هذا المركب وما صرت إليه منذ كنت أراك
ترمق بغلات شهبا لابن حرب فيعجبنك! إلّا أنّه كان أسوس منك لدنياه!
ثمّ جاءت أمّه
أسماء وهي عمياء تقاد حتّى وقفت لدى الحجّاج وقالت له : أما آن لهذا الراكب أن
ينزل بعد؟! فأمر به فانزل ودفن.
وكان عبد الله بن
عمر قد جاوز الثمانين من عمره ومع ذلك كأنّه كان قد حمل السلاح مع ابن الزبير وكأنّه أحسّ بشرّ الحجّاج عليه فخاطب ابن الزبير
__________________
بما مرّ من عتابه
له ، وكأنّه اشتدّ به الخوف فطرق على الحجّاج بابه ليلا ليبايع لعبد الملك لكي لا
يبيت تلك الليلة بلا إمام! إذ كان يروى عن النبي صلىاللهعليهوآله قوله : «من مات ولا إمام له مات ميتة جاهليّة»! فبلغ من
احتقار الحجّاج له واسترذال الحال به أن أخرج له رجله من فراشه وقال له : اصفق
بيدك عليها! ففعل !
ومع ذلك لم
يتحمّله الحجّاج فدسّ إليه رجلا سمّ زجّ رمحه وزاحمه في طريقه فطعنه بظهر قدمه ،
ثمّ عاده الحجّاج فقال له : يا أبا عبد الرحمان من أصابك؟ قال : ولم تقول هذا رحمك
الله! قال : لأنّك حملت السلاح في بلد لم يكن يحمل السلاح فيه! ثمّ مات ابن عمر
فدفن في حائط حرماز عند ردم بني جمح.
وقد مرّ أنّ ابن
الزبير كان قد نفى ابن الحنفيّة إلى جبال رضوى بين مكّة والطائف ، وقد آن الأوان
للعود إلى مكّة ، ولكنّه كان يخاف الحجّاج فكتب بذلك إلى ابن مروان : أنّ الحجّاج
قد قدم بلدنا وقد خفته! فاحبّ أن لا تجعل له عليّ سلطانا بيد ولا لسان!
فكتب عبد الملك
إلى الحجّاج : أنّ محمد بن علي كتب إليّ يستعفيني منك ، وقد أخرجته من يدك فلم
أجعل لك عليه سلطانا بيد ولا لسان فلا تتعرّض له!
فأمن بذلك ابن
الحنفية من الحجّاج فنزل إلى مكّة مع الحجّاج في الطواف فلقيه الحجّاج فعضّ على
شفته ثمّ قال له : لم يأذن لي فيك أمير المؤمنين! فقال له محمد : ويحك أما علمت
أنّ لله تبارك وتعالى في كل يوم وليلة ثلاثمئة وستين لحظة (أو : نظرة) فلعلّه ينظر
إليّ بنظرة فيرحمني فلا يجعل لك عليّ سلطانا بيد ولا لسان!
__________________
وكان ملك الروم قد
كتب إلى ابن مروان يتوعّده ، فكتب الحجّاج بجواب ابن الحنفية إلى ابن مروان فكتب
به إلى ملك الروم ، فكتب إليه ملك الروم : هذه ليست من سجيّتك ولا من سجيّة آبائك!
ما قالها إلّا نبيّ أو رجل من «أهل بيت» النبيّ !
ثمّ أعاد الحجّاج
بنيان الكعبة على ما كانت عليه قبل بناء ابن الزبير ، فنقص منها ما كان زاده طولا
وعرضا في جانب حجر إسماعيل ستّة أذرع ، وأغلق الباب الثاني ورفع الباب الأوّل .
الحجّاج في
المدينة :
وفي سنة (٧٤ ه)
سار الحجّاج إلى المدينة فأخذ يتعنّت على أهلها ويستخفّ ببقايا من فيها من صحابة
رسول الله صلىاللهعليهوآله : ختم في أيديهم وأعناقهم (بالرصاص) يذلّهم بذلك : أنس بن
مالك ، وجابر بن عبد الله الأنصاري ، وسهل بن سعد الساعدي ، فإنّا لله وإنا إليه
راجعون .
ولكنّه لم يعرض
لآل أبي طالب ، ذلك أنّ عبد الملك كان قد كتب إليه : جنّبني دماء آل أبي طالب ؛ فإنّي
قد رأيت الملك استوحش من آل حرب حين سفكوا دماءهم. نقل ذلك المسعودي وقال : فكان
الحجّاج يتجنّب آل أبي طالب خوفا من زوال ملك آل مروان لا خوفا من الله عزوجل .
__________________
بل نقل الصفار
القمي (م ٢٧٩ هـ) في بصائر الدرجات ومعاصر الحميري القمي في دلايل رسول الله
بطرقهما عن الصادق عليه السلام قال : كان عبدالملك قد بعث بالكتاب إلى الحجّاج
سرّاً ، وفي الساعة التي كتب فيها الكتاب قيل لعلي بن الحسين (عليه السلام سرّاً
أيضاً) إنّ عبدالملك قد كتب إلى الحجاج كذا وكذا وإنّ الله قد شكر له ذلك فثبّت ملكه وزاده برهة.
فكتب علي بن
الحسين : (بسم الله الرحمنِ الرحيم ، إلى عبدالملك بن مروان أميرالمؤمنين ، من علي
بن الحسين. أما بعد ، فإنّك في ساعة من يوم كذا من شهر كذا كتبت بكذا وكذا! وإنّ
رسول الله أنبأني وأخبرني أنّ الله قد شكر لك ذلك فثبت ملكك! وزادك برهة) وختم
الكتاب وطواه وأمر غلاماً له أن يوصله على بعيره إلى عبدالملك ساعة يقدم عليه.
فلمّا قد
الغلام وأوصل الكتاب إلى عبدالملك ونظر في تاريخ الكتاب ووجده موافقاً لتلك الساعة
التي كتب فيها إلى الحجاج ، لم يشك في صدق علي بن الحسين وفرح فرحاً شديداً ،
وثواباً لما سرّه من الكتاب أوقر راحلة الغلام بدراهم بعث بها إلى علي بن الحسين .
__________________
ويا ليته كان
عبدالملك كما أوصى عامله الحجّاج بأن لا يتعرض لآل أبي طالب ، كان يوصيه بأن لا
يهين إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فإنّ الحجّاج لمّا رأى الحجاج يطوفون
بقبر الرسول ومنبره قال : (تبّاً لهم)! إنّما يطوفون بأعواد ورمّةٍ بالية! هلا
طافوا بقصر أميرالمؤمنين عبدالملك؟! ألا يعلمون أنّ خليفة المرء في أهله خير من
رسوله إليهم ؟!
ثمّ كتب بهذا
الاكتشاف الجديد إلى عبدالملك يقول : إنّ خليفة الرجل في أهله أكرم عليه من رسوله
إليهم! وكذلك الخلفاء ـ يا أميرالمؤمنين : ـ أعلى منزلةً من المرسلين : ولم يردّ عليه عبدالملك.
السجاد والباقر عليهما السلام وجابر الانصاري :
وقد كان رسول
الله صلّى الله عليه وآله خصّ جابر الانصاري بقوله : «إنك ستدرك رجلاً من أهل بيتي اسمه اسمي وشمائله شمائلي يبقر العلم» أن تدرك محمد بن علي (بن الحسين) فأقرأه مني السلام .
وقد مرّ أن
الباقر عليه السلام ولد في عام (٥٧ هـ) ولم يُعلم متى عمل جابر بوصية نبيّه صلّى
الله عليه وآله ، ولعلّه انتظر حتّى يدرك الباقر عليه السلام طبيعياً سلام جدّه
ويرد عليه ، واليوم في عام (٥٧٤ هـ) هو شاب في السابعة عشرة من عمره ، فلعلّه
اليوم في ظل الأمان النسبي من ابن مروان للسجاد عليه السلام رأى الظرف مناسباً
لذلك.
__________________
واختلفت
الاخبار في كيفية لقاء جابر بالباقر عليه السلام أشدّ اختلاف فاحش ، لا يخلو غير
واحد منها من غير واحد من الاخلال والاشكال ، وأسلمها ما نقله ابن طلحة الشافعي بطريقة
عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكّي المدني قال : كنّا عند جابر بن عبدالله ، فأتاه
علي بن الحسين ومعه صبيّ فقال علي لابنه : قبّل رأس عمّك ، فدنا الصبيّ من جابر
فقبّل رأسه وكان جابر قد كفّ بصره فقال : من هذا؟ فقال علي بن الحسين : هذا ابني
محمّد ، فضمّه جابر إليه وقال له : يا محمّد ، إنّ محمداً رسول الله يقرأ عليك
السلام! فقالوا له : يا أباعبدالله وكيف ذلك؟
فقال : كنت مع
رسول الله صلّى الله عليه وآله والحسين في حجره وهو يلاعبه ، فقال لي : يا جابر
يولد لابني الحسين ابن يقال له علي ، إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ ليقم سيد
العابدين! فيقوم علي بن الحسين ، ويولد لعلي ابن يقال له : محمّد ، يا جابر وإن
رأيته فاقرأه منّي السلام ، واعلم أنّ بقائك بعد لقائه يسير! فلم يعش بعد ذلك إلّا
قليلاً ومات .
وأقام الحجّاج
والياً على المدينة ومكّة والطائف والحجاز واليمن واليمامة ثلاث سنين ، ثمّ بُعث
على العراقين وكان بناحية اليمامة نجدة بن عامر التميمي
__________________
الحنفي الحروري الخارجي ولكنّه كأنّه هاب الحجّاج فسار إلى
البحرين واستولى عليها ، وظهرت منه اُمور أنكرها أصحابه عليه فخلعوه وأقاموا لهم
أبا فُديك ، فوجّه إليه عبدالملك أُمية بن عبدالله بن خالد بن أُسيد فهزمه أبو
فُديك ، فوجّه إليه عمر بن عبيدالله بن معمر فلقي أبا فُديك فقتله واستولى على
البحرين وعُمان وهجر .
__________________
عهد الحجّاج في
العراق
خطبة الحجّاج في الكوفة :
مرّ الخبر أنّ
عبدالملك لمّا ملك العراق ومعه أخوه بِشر بن مروان استخلفه على الكوفة ثمّ العراقيين
، وفي سنة (٧٥ هـ) كان بالبصرة فمات وهو ابن نيّف وأربعين سنة .
فكتب عبدالملك
إلى الحجّاج : أمّا بعد ، يا حجّاج ، فقد ولّيتك العراقين صدقة ، فإذا قدمت الكوفة
فطأها وطأة يتضاءل منها أهل البصرة ، وإيّاك وهوينا الحجاز! فإنّ القائل هناك يقول
ألفاً ولا يقطع بهنّ حرفاً ، وقد رميت الغرض الأقصى فارمه بنفسك وأرد ما أردته بك ، سِر إلى العراقين ، واحتل لقتلهم ، فإنّه قد بلغني
عنهم ما أكره !
__________________
فتوجّه الحجّاج ومعه أربعة آلاف من أخلاط الناس وألفا رجل
من مقاتلة الشاميّين .
فلمّا بلغ
القادسيّة أمر الجيش أن يُقيلوا ثمّ يروحوا وراءه ، ولبس ثياب السفر وتعمّم
بعمامته ، ودعا بجمل عليه قتب فجلس عليه بغير حشية ولا وطاء! وأخذ الكتاب بيده
حتّى دخل الكوفة وحده فجعل ينادي : الصلاة جامعة! حتّى صعد المنبر متلثّما
متنكّباً قوسه ، فجلس عليه ، وفي المسجد رجال جلوس في مجالسهم مع كلّ منهم العشرون
والثلاثون وأكثر من ذلك من أهله ومواليه. فمن قائل يقول : أعرابي ما أبصر محجّته
(طريقه) ومن قائل يقول : حُصر الرجل فما يقدر على الكلام! وقال بعضهم لبعض : قوموا
حتّى نحصبه!
ودخل محمّد بن
عمير الدارمي التميمي في مواليه ، فلمّا رأى الحجّاج جالساً على المنبر لا ينطق
قال : لعن الله بني اُمية حين يولّون العراق مثل هذا! والله لو وجدوا أذمَّ من هذا
لبعثوه إلينا! ثمّ ضرب بيده إلى حصباء المسجد ليحصبه فقال له بعض أهله : أصلحك
الله اكفف عن الرجل حتّى نسمع ما يقول. فلمّا غصّ المسجد بأهله حسر اللثام عن وجهه
ثمّ قام ونحّى العمامة عن رأسه وقال :
أنا ابن جلا ، وطلّاع الثنايا
|
|
متى أضع العمامة تعرفوني
|
ثمّ ما حمد
الله ولا أثنى عليه ولا صلّى على نبيّه وقال : إنّي والله لأرى أبصاراً طامحة
وأعناقاً متطاولة ، ورؤوساً قد أينعت وحان قطافها! وإنّي صاحبها : كأنّي أنظر إلى
الدماء ترقرق بين العمائم واللحى! ثمّ ارتجز ببعض أراجيز الحروب ثمّ قال :
__________________
إنّ أميرالمؤمنين!
نثر كنانته فوجدني أمّرها طعماً وأحدّها سناناً وأقواها قداحاً ، فإن تستقيموا
تستقيم لكم الامور ، وإن تأخذوا لي بُنيّات الطريق تجدوني لكلّ مرصد مُرصداً ،
والله لا اُقيل لكم عثرة ، ولا أقبل منكم عذرة.
يا أهل العراق
، يا أهل الشقاق والنفاق ، ومساوئ الأخلاق ، والله ما أُغمز كتغماز التّين ولا
يُقعقع لي بالشنان ، ولقد فررت عن ذكاء وفُتّشت عن تجربة! والله لألحونّكم لحو
العود ، ولأعصبنّكم عصب السلمة ، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل ولأقرعنّكم قرع
المروة!
يا أهل العراق!
طالما سعيتم في الضلالة ، وسلكتم سبيل الغواية ، وسننتم سنن السوء ، وتماديتم في
الجهالة! يا عبيد العصا وأولاد الإماء! أنا الحجّاج بن يوسف ، إنّي والله لا أعد
إلّا وفيت ، ولا أخلق إلّا فريت! فإياكم وهذه الزرافات والجماعات وقال وقيل وما
يكون وما هو كائن؟! وما أنتم وذاك يا بني اللكيعة؟! لينظر الرجل في أمر نفسه ،
وليحذر أن يكون من فرائسي!
يا أهل العراق
أنتم كما قال الله عزّ وجلّ : كمثل (قريةً كانت آمنة
مظمئنةً يأتيها رزقها رغداً من كلّ مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع
والخوف) فأسرعوا واستقيموا ، واعتدلوا ولا تميلوا ، وبايعوا وشايعوا واخضعوا ،
واعلموا أنّه ليس منّي الإكثار والإهذار! ولا منكم الفرار والنفار! إنّما هو
انتضاء السيف ثمّ لا أغمده في شتاء ولا صيف! حتّى يقيم الله لأميرالمؤمنين! أودكم
ويذلّ له صعبكم.
إني نظرت فوجدت
الصدق مع البرّ والبرّ في الجنّة! ووجدت مع الفجور والفجور في النار.
__________________
ألا وإنّ
أميرالمؤمنين! أمرني بإعطائكم اُعطياتكم ، وإشخاصكم إلى محاربة عدوّكم مع المهلّب!
وقد أمرتكم بذلك وأجّلت لكم ثلاثاً! وأعطيت الله عهداً يؤاخذني به ويستوفيه منّي :
أن لا أجد أحداً من بعث المهلّب بعدها إلّا ضربت عنقه وانتهبت ماله! يا غلام اقرأ
عليهم كتاب أميرالمؤمنين!
فقرأ كاتبه : «بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من عبدالله عبدالملك بن مروان أميرالمؤمنين إلى
من بالعراق من المؤمنين والمسلمين ، سلام عليكم» فلم يردّ عليه سلامه أحد ، فقال الحجّاج للغلام : اسكت يا
غلام ، ثمّ قال : يا أهل النفاق والشقاق ومساوئ الأخلاق! يا أهل الفرقة والضلال! يسلّم عليكم
أميرالمؤمنين! فلا تردّون عليه السلام؟! أما والله لئن بقيت لكم لألحونّكم لحو
العود ولاُؤدّبنّكم أدباً سوى هذا! ثمّ أمر غلامه باستئناف الكتاب فاستأنفه فلما
بلغ السلام أجاب أهل المسجد ، وعلى أميرالمؤمنين السلام ورحمة الله وبركاته! ثمّ
نزل وأمر للنّاس باُعطياتهم وضرب على الناس بعثاً لنصرة المهلّب بن أبي صفرة
الأزدي لحرب الأزارقة الخوارج بالبصرة والأهواز.
وفی
الیوم الثالث استعرض الناس فعرف فیهم عُمير بن ضابي البُرجمي التميمي المشترك في قتل عثمان
فقال له : أيّها الشيخ ، أنت الواثب على أميرالمؤمنين عثمان بعد قتله والكاسر
ضلعاً من أضلاعه؟!
فقال : إنّه كان حبس أبي شيخاً كبيراً ضعيفاً فلم يطلقه حتّى
مات في سجنه! فقال : أما والله إنّ في قتلك أيّها الشيخ لصلاح للمصرين ... قُم يا
غلام فاضرب عنقه! ففعل.
فلمّا قُتل ركب
الناس كلّ صعب وذلول وخرجوا على وجوههم إلى المهلّب الأزدي لنصرته على الأزارقة .
__________________
وخطبة ابن مروان في المدينة أوّلاً :
قال اليعقوبي :
ولمّا استقامت اُمور البلدان لابن مروان ولم تبق ناحية بحاجة للاهتمام بها وإصلاحها
، خرج حاجّاً سنة (٧٥ هـ) فبدأ بالمدينة .
وقال المسعودي
: فأمر بعطائهم ، فخرجت إليهم بدرة مكتوب عليها «من الصدقة»! فقالوا : أفما كان عطاؤنا من الفيء! فارتقى المنبر وقال
لهم : إنّما مثلنا ومثلكم أن أخوين في الجاهلية خرجا مسافرين فنزلا في ظلّ شجرة
تحت صفاة ، فلمّا دنى الرواح خرجت إليهما من تحت الصفاة حيّة تحمل ديناراً ، فقال
ألقته إليهما ، فأقاما عليها ثلاثة أيّام كلّ يوم تخرج إليهما ديناراً ، فقال
أحدهما لصاحبه : إلى متى ننتظر هذه الحيّة؟! ألا نقتلها ونحفر هذا الكنز فنأخذه؟
فنهاه أخوه وقال له : ما تدري لعلّك تعطب ولا تدرك المال. فأبى عليه وأخذ فأساً
ورصد الحيّة لتخرج فضربها ضربة جرحت رأسهاولم تقتلها! فثارت الحيّة فقتلته ورجعت
إلى جحرها. حتّى إذا كان من الغد خرجت الحيّة معصوباً رأسها! وليس معها شيء ، فقال
لها : يا هذه إنّي والله ما رضيت ما أصابك ولقد نهيت أخي عن ذلك ، فهل لك أن نجعل
الله بيننا أن لا تضرّيني ولا أضرّك وترجعين إلى ما كنت عليه؟! قالت الحيّة : إنّي
لأعلم أنّ نفسك لا تطيب لي أبداً وأنت ترى قبر أخيك! ونفسي لا تطيب لك ابداً وانا
أذكر هذه الشجّة!
فيا معشر قريش!
وليكم عمر بن الخطاب فكان فظّاً غليظاً مُضيّقاً عليكم! فسمعتم له وأطعتم ، ثمّ
وليكم عثمان فكان سهلاً ليّناً كريماً! فعدوتم عليه فقتلتموه! وبعثنا عليكم مسلماً
(ابن عقبة الفهري) يوم الحرّة فقاتلتموه!
__________________
فنحن نعلم ـ يا معشر قريش! (كذا!) أنّكم لا تحبّوننا أبداً وأنتم تذكرون
يوم الحرّة! ونحن لا نحبّكم أبداً! ونحن نذكر مقتل عثمان .
وخطبته بمكة :
قال اليعقوبي :
أحرم عبدالملك من ذي الحُليفة ، ودخل الحرم والبلد والمسجد وهو يُلبّي لم يقطع
التلبية! وصلّى المغرب ليلة العيد بعرفات قبل الإفاضة إلى المزدلفة ، وخطب أربع
خطب وفي أحدها قال : لقد قمت في هذا الامر وما أدري أحداً أقوى عليه منّي ولا أولى
به! ولو وجدت ذلك لولّيته! إنّ ابن الزبير لم يصلح أن يكون سائساً ، كان يُعطي مال
الله كأنّه يعطي ميراث أبيه! وإنّ عمرو بن سعيد أراد الفتنة وأن يستحلّ الحرمة
ويذهب الدين! وما أراد صلاحاً للمسلمين ، فصرعه الله مصرعه! وإنّي محتمل لكم كلّ
أمر إلّا نصب راية! وإنّ الجامعة التي وضعتها في عنق عمرو عندي! وإنّي اُقسم بالله
لا أضعها في عنق أحد فأنزعها منه إلّا صعداً !
وروى ابن الخياط
قال : حجّ عبدالملك بعد مقتل ابن الزبير بعامين فخطبنا فقال :
أمّا بعد ،
فإنّه كان قبلي من الخلفاء يأكلون من هذا المال ويؤكلون! وإنّي ـ والله ـ لا
اُداوي هذه الاُمّة إلّا بالسيف! ولست بالخليفة المستضعف (يعني عثمان) ولا الخليفة
المداهن (يعني معاوية).
__________________
أيّها الناس ،
إنّا نحتمل لكم كلّ لغوبة ما لم يكن عقد راية أو وثوباً على منبر! هذا عمرو بن
سعيد وحقّه حقّه وقرابته قرابته ، قال برأسه هكذا (ورفع رأسه) فقلنا بسيفنا هكذا
(وأشار إلى الارض) .
وزاد ابن
الاثير : فإنّي لست بالخليفة المستضعف (يعني عثمان) ولا بالخليفة المداهن (يعني
معاوية) ولا بالخليفة المأفون (يعني يزيد)! ألا وإنّي لا اُداوي هذه الأُمّة إلّا
بالسيف حتّى تستقيم لي قناتكم! وأنّكم تحفّظوننا أعمال المهاجرين الأوّلين ولا
تعلمون بها في أعمالكم! وتامروننا بتقوى الله وتنسون ذلك في أنفسكم! والله لا
يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلّا ضربت عنقه١ ونزل .
وأتاه علي بن
عبدالله بن عباس فأعلمه ما لقي أبوه وأهل بيته من ابن الزبير لامتناعهم من بيعته!
وأن أباه أوصاه ليلحق به! (فما الفرق؟).
ولمّا أراد ابن
مروان الانصراف وقف فقال مشيراً إلى الكعبة : والله إني وددت أنّي تركت ابن الزبير
وما تقلّد وأنّي لم أكن أحدثت فيها شيئاً! وأمر بحمل علي بن عبدالله بن عباس
وعياله معه إلى المدينة ثمّ الشام!
فوافى المدينة
ثانية في أوائل المحرم لعام (٧٦ هـ) فسلّط خطباءه عليهم بغليظ القول ، وكان بعض
خطبائه يتكلّم إذ قام إليه محمّد بن عبدالله القارئ وقال له : كذبت لسنا كذلك!
فأخذ الحرس يجرونه وبلغ ذلك عبدالملك فأرسل إليهم أن يُرسلوه فأرسلوه ، وقد ظنّ
الناس أنّهم قاتلوه! وإنّما أقام عبدالملك بالمدينة ثلاثاً ثمّ انصرف إلى الشام
ومعه علي بن عبدالله فأنزله داراً بدمشق .
__________________
مناوشات الروم والخوارج :
ولعلّ غياب
عبدالملك من قاعدة المُلك بجوار الروم جرّأهم على التقدّم نحو كورة أعماق قرب دابق
بين أنطاكية وحلب ، فتلقّاهم دينار بن دينار وابان بن الوليد بن عقبة فهزمزهم .
وقد مرّ أنّ
عبدالملك جعل أخاه محمّد بن مروان على موصل والجزيرة. وخرج الروم إلى العمق من
ناحية مرعش فغزاهم محمّد بن مروان إلى الصائفة في سنة (٧٥ هـ) .
وفي البحرين
كان للنعمان المازني من عبدالقيس بستان بمئة جريب (فِدّان) فبعد أبي فديك الخارجي
خرج داود بن النعمان هذا ، وقال له أبوه : دع هذا الرأي ولك بستاني هذا فأبى ،
وخرج بجمعه إلى طفّ البصرة ، وكان الحجّاج بعث على البصرة الحكم بن أيوب الثقفي ،
فوجّه الحكم إلى داود : عبّاد بن حصين في خيل ، فقتل داود وتفرّق جمعه.
وعوداً على عمل
محمّد بن مروان على أرض الموصل والجزيرة : كان في بلدة دارا صالح بن مسرَّح
التميمي الكوفي ومعه جمع من أصحابه يقرأ عليهم القرآن ويقرئهم ويفقّههم ويقصّ
عليهم وهو ناسك صاحب عبادة مصفر الوجه ، وانكر ظلم المروانيّين فدعاهم إلى الخروج
لانكار ظلمهم وجهاد المخالفين لهم ، فأجابوه .
__________________
وكان من أصحابه
شبيب بن يزيد الشيباني الكوفي وحجّوا سنة حجّ عبدالملك (٧٥ هـ) وسمعوا خطبه فهمّ
شبيب بالفتك به لولا أن مُنع منه ، وعُلم خبرهم واُخبر بهم عبدالملك ، فبعد انصرافه
من الحج كتب إلى الحجّاج يأمره بطلبهم ، وكانوا يأتون الكوفة فيقيمون بها بعض
الشهور ، وطلبه الحجّاج وبلغه ذلك فخرج إلى الجزيرة .
وواعد أصحابه
للخروج بهم ليلة الاربعاء أوّل شهر صفر سنة ستّ وأربعين في مئة وعشرين رجلاً راجلاً ، فقال لهم : إنّ عُظمكم
رجّالة ، وهذه دوابّ لمحمّد بن مروان في هذا الرُستاق فشدّوا عليها وتقوّوا بها
على عدوّكم. فخرجوا تلك الليلة فأخذوا تلك الدوابّ وركبوها.
وبلغ مخرجهم
محمّد بن مروان فبعث إليهم عديّ بن عديّ الكندي وكان رجلاً عابداً يتنسّك في ألف
فارس من حرّان فانهزم عديّ! فوجّه إليه محمّد بن مروان : خالد بن
عبدالله السُّلمي والحارث بن جعونة العامري فاقتتلوا قتالاً شديداً ، وانحاز صالح
التميمي إلى العراق فتركوه. فوجّه إليه محمّد بن مروان بالاشعث بن عُميرة الهمداني
فالتقوا في جوخى بعد خانقين إلى خوزستان ، فاستخلف صالح : شبيب بن يزيد وقاتل حتّى
قتل ، وقاتل شبيب حتى انصرف إلى الكوفة ، ومعه امرأته غزالة وقد نذرت ان تصلّي في
جامعه ، فدخل شبيب وصلّت امرأته وقتل ناساً وخرج!
فوجّه إليه
الحجّاج : زائدة بن قدامة الثقفي في جمع فالتقوا على الفرات واقتتلوا حتّى قُتل
زائدة وهُزم جمعه!
__________________
فوجّه الحجّاج
إليه : عبدالرحمان بن محمّد بن الاشعث الكندي فلم يتلاقوا للقتال.
فوجّه الحجّاج
إليه : عثمان بن قطن الحارثي في آخر سنة ستّ وسبعين فقُتل عثمان وانهزم أصحابه!
فوجّه الحجاج
اليه : عتّاب بن ورقاء الرياحي التميمي فلقيه في سواد الكوفة فقُتل عتّاب وانهزم
أصحابه!
فوجّه إليه
الحجّاج : الحارث بن معاوية الثقفي فالتقوا بمنزل زرارة فقُتل الحارث وانهزم
أصحابه!
ثم خرج إليه
الحجّاج في سنة (٧٧ هـ) فوجّه إليه أبا الورد مولى بني نصر فقتله شبيب وانهزم
جمعه!
فوجّه إليه :
طهمان من موالي عثمان بن عفّان ، فقتله شبيب وانهزم جمعه!
فخرج إليه
الحجّاج في اليوم الرابع بنفسه فاقتتلوا قتالاً شديداً ، فلمّا جنّ الليل عبر شبيب
الفرات الى الانبار ، فبعث الحجاج إليه حبيب بن عبدالرحمان الحكمي في ثلاثة آلاف
فلقيه بالانبار ، فقاتلا الى الليل ، فسار شبيب ليلاً إلى الاهواز ثمّ سار الى
كرمان وعاد الى الاهواز فبعث الحجّاج اليه حبيب بن عبدالرحمان الحكمي وسفيان بن
الابرد الكلبي فالتقوا عند جسر دُجيل فاقتتلوا حتّى الليل ثمّ عبر الجسر فقطع به
فغرق وتفرّق جمعه ، واستخرج سفيان جسد شبيب فحزّ رأسه ووجّه به إلى الحجّاج في
سنة (٧٨ هـ).
وفي أرض جوخي
بين الاهواز وخانقين خرج بعد شبيب الشيباني : أبو زياد المرادي ، فوجّه إليه
الحجّاج بالجرّاح بن عبدالله الحكمي فلقيه بالفلوجة فقتله.
__________________
وبالبحرين مرّة
اخرى خرج من عبد القيس أبو معبد العبدي ، وكان عامل البصرة من قبل الحجّاج : الحكم
بن أيوب الثقفي فبعثه إليه فخرج إليه وقاتله وقتله وفرّق جمعه .
ضرب النقود
الإسلامية :
كانت مصر عند
الفتح الإسلامي في حكم الروم ، وكانت صناعة القراطيس فيها رومية نصرانيّة قبطيّة
تبعا لأكثرهم ، وأصبح المسلمون يستعملونها كما هي ، وكان عليها طراز بالرومية
مغفولا عنه ، ولعلّ هذه المناوشات الروميّة الأخيرة بعثت عبد الملك أن يطلب ترجمة
ذلك الطراز وإذا هو : باسم الأب والابن وروح القدس!
وكان هذا يطرّز
على الأقمشة للستائر والثياب أيضا ، فلمّا ترجم له قال : ما أغلظ هذا في أمر الدين
والإسلام! وكان على مصر أخوه عبد العزيز فكتب إليه أن ينهاهم عنه ويأمرهم أن
يبدّلوها بصورة التوحيد : «شهد الله انّه لا إله إلّا هو ...» أو بسورة التوحيد.
وكتب إلى الآفاق بإبطال ذلك ومعاقبة من وجد عنده بعد النهي شيء منه بالضرب الوجيع
والحبس الطويل! ففعلوا ذلك وعملوه.
وحملت القراطيس
إلى الروم وإلى ملك الروم بطراز التوحيد بالخطّ العربي ، وترجم ذلك له فأنكره وغلظ
عليه واستشاط غيظا إلّا أنّه أرسل إلى عبد الملك بهدية وكتاب يطلب منه أن يرد
الطراز الرومي! فردّ عبد الملك الهديّة والكتاب بلا جواب. فكتب ملك الروم إليه : «لتأمرنّ
بردّ الطراز إلى ما كان عليه ،
__________________
أو لآمرنّ بنقش
الدنانير بشتم نبيّك! وإنّك تعلم أنّه لا ينقش منها شيء إلّا ما
ينقش في بلادي»! فحبس رسوله.
واستشار عبد الملك
أصحابه لذلك فقال له روح بن زنباع الجذامي : إنّك لتعلم المخرج من هذا الأمر
ولكنّك تتعمّد تركه! فقال : ويحك من؟ قال : «عليك بالباقي من أهل بيت النبيّ صلىاللهعليهوآله» قال : صدقت ولكنّه ارتج عليّ الرأي فيه!
ثمّ كتب إلى عامل
المدينة : أن أشخص إليّ عليّ بن الحسين مكرّما ... فلمّا وافاه أخبره الخبر ، فقال
عليهالسلام : لا يعظم هذا عليك ، فإنّه ليس بشيء من جهتين : إحداهما :
أنّ الله عزوجل لم يكن ليطلق ما تهدّد به صاحب الروم في رسول الله صلىاللهعليهوآله! والأخرى : وجود الحيلة فيه. فقال عبد الملك : وما هي؟ قال
: تدعو في هذه الساعة بصنّاع يضربون بين يديك سككا .. وتجعل النقش عليها سورة
التوحيد في وجه وذكر رسول الله في الوجه الثاني ، وتجعل في مدارها ذكر البلد الذي
يضرب فيه والسنة. ثمّ فصّل ذلك حسب أوزان الدراهم والدنانير وضرب الحجّاج بالعربية أيضا بالعراق .
__________________
وقتال الخوارج
الأزارقة وغيرهم :
قال اليعقوبي :
وألحّ الحجّاج في قتال الأزارقة فجادّهم المهلّب بن أبي صفرة الأزدي فما زال
يهزمهم من منزل إلى منزل حتّى انتهى بهم إلى سجستان فقتل هناك من رؤسائهم عطيّة بن
الأسود الحنفي التميمي. وصاروا إلى كرمان مع رئيسهم قطريّ بن فجاءة ، ثمّ عثروا
على كذبة منه فاستتابوه فأبى أن يوجب على نفسه التوبة فخلعوه! فلما امتنع أن
يجيبهم إلى التوبة فيوجد لهم السبيل إلى خلعه. كان في جمعه رجلان يسمّيان بعبد
ربّه وقع بأسهم بينهم وانحاز كل واحد منهما في جيش مخالفا لقطري ، فقصد المهلّب
عبد ربّه الصغير حتّى قتله ، ثمّ قصد عبد ربّه الكبير وفرّق جمعه.
ولكن بقي مع ذلك
قطريّ في اثنين وعشرين ألفا! فصاروا إلى طبرستان ، فأرسل إلى إصبهبدها يسأله أن
يدخل بلاده فسمح له وفعل ، فلمّا سمن دوابّهم وبرئ جرحاهم عرض قطري الإسلام على
الإصبهبد أو يؤدّي الجزية صاغرا وأنه لا يجوز في ديننا غير هذا! فخرج الإصبهبد
يحاربه فانهزم إلى سفيان بن الأبرد الكلبي وهو يومئذ عامل الريّ وقد تهيّأ لقتال
الأزارقة ، فأدخله إلى طبرستان من طريق مختصرة. فقتل قطريّا وبعث برأسه إلى
الحجّاج سنة (٧٩ ه) .
وكان على البحرين
زياد بن الربيع الحارثي الهمداني فعزله زياد وولّى محمّد بن صعصعة الكلابي على
البحرين وعمان ، ومن قرية طاب من قرى الخط (القطيف اليوم) بالبحرين خرج عليه
الريان النكري ومعه جيداء الأزديّة فهرب منه الكلابي ، فبعث الحجّاج يزيد بن أبي
كبشة فلقي النكري في ميدان الزارة فقتل الريان وجيداء وعامة أصحابهما .
__________________
ميلاد زيد للسّجاد
عليهالسلام :
من أم ولد أهداها
المختار الثقفي للسجاد عليهالسلام ولدت أربعة أولاد ، خديجة وعليا وزيدا قبل الثمانين للهجرة . وفي تسميته بزيد روى الحلّي عن ابن قولويه عن بعض أصحاب
السجاد عليهالسلام قال : كان إذا صلّى الفجر لم يتكلّم (إلّا بالتعقيب) حتّى
تطلع الشمس ، فجاءوه يوما وبشّروه بولادة ولد له بعد الفجر ، وسمع ذلك من حوله
فسألهم : ما تروني أن اسمي هذا المولود؟ فقال كلّ منهم : سمّه كذا وسمّه كذا.
فالتفت إلى غلامه وقال له : يا غلام عليّ بالمصحف. فجاءه بالمصحف فوضعه في حجره
وفتحه ونظر إلى أول الورقة (يمينا) فإذا فيه : (فَضَّلَ اللهُ
الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) فأطبقه ثمّ فتحه ونظر في أول الورقة «يمينا» فإذا فيه : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ
يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ
حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ
مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) فقال يكرّر : هو والله زيد ، هو والله زيد ، فسمى زيدا .
وقد روى الباقر عن
أبيه السجاد عن أبيه الحسين عليهمالسلام : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قال له : يا حسين : يخرج من صلبك رجل يقال له : زيد ،
تخطّى هو وأصحابه
__________________
يوم القيامة رقاب
الناس غرّا محجّلين ، يدخلون الجنة بغير حساب . وعليه فالسجّاد عليهالسلام كان على علم بذلك لمّا تفأل لاسمه بكتاب الله وتكررّت آيات
الجهاد والشهادة شهد ذلك بأنه هو فسمّاه زيدا بتسمية النبيّ له .
وفاة ابن جعفر
وابن الحنفيّة :
في سنة ثمانين
توفّي عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وكان جوادا سخيّا ، ومات بدعائه : إذ أتاه آت يسأله معونته
على أمره ولم يكن يحضره ما يعينه به ، فخلع ثيابه عليه ثمّ دعا فقال : اللهمّ إن
نزل بي بعد اليوم حقّ لا أقدر على قضائه فأمتني قبله! فمات في يومه ذلك .
وقال المسعودي :
في سنة ثمانين كان الطاعون العامّ بالعراق والجزيرة والشام ومصر والحجاز ، فلمّا
قلّ مال ابن جعفر سمع يوم الجمعة في المسجد الجامع (؟) يقول : اللهمّ إنّك قد
عوّدتني عادة فعوّدتها عبادك ، فإن قطعتها عنّي فلا تبقني! فمات في تلك الجمعة ،
وقد ولد في هجرة والديه إلى الحبشة ،
__________________
وصلّى عليه والي
المدينة أبان بن عثمان بن عفّان ، وحين أملق عبد الله وافتقر تزوج الحجّاج بإحدى
بناته وإنمّا تزوّج الحجّاج بابنته ليبتذل أو يذل بذلك آل أبي طالب ولعلّه كان قبل أن ينتقل الحجّاج إلى العراق.
وقال ابن قتيبة :
كانت أمّ كلثوم ابنة عبد الله بن جعفر لزينب بنت عليّ عليهالسلام تزوّجها القاسم ابن عمّها محمّد بن جعفر ، ثمّ تزوّجها الحجّاج
بن يوسف! كما تزوّج ابنته الاخرى : أمّ أبيها عبد الملك بن مروان ! ومع ذلك افتقر وأملق قهرا!
وقال في محمّد بن
علّي المعروف بابن الحنفيّة : إنّه هرب من ابن الزبير إلى الطائف فمات بها سنة
إحدى وثمانين وهو ابن خمس وستّين ونقل قوله المسعودي ولكنّه اختار أنّه توفي في المدينة
وأذن أكبر ولده أبو هاشم عبد الله لوالي المدينة أبان بن عثمان بن عفّان أن يصلّي
عليه فصلّى عليه ودفن بالبقيع .
وقال النوبختي :
فلمّا توفي محمّد بن الحنفيّة بالمدينة في المحرّم سنة إحدى وثمانين وهو ابن خمس
وستّين سنة تفرّق أصحابه على ثلاث فرق :
ففرقة تبعت من
أصحابه ابن كرب وهو قال : إنّ محمّد بن الحنفيّة هو المهدي فلا يجوز (يمكن) أن
يموت ، بل غاب لا يدرى أين. ولا إمام بعد غيبته ، بل يزعمون أنّ محمّد بن الحنفيّة
سيظهر بنفسه بعد الاستتار ينزل إلى الدنيا ويكون أمير المؤمنين ويملك الأرض ، وهذه
هي آخرتهم!
__________________
وفرقة قالت : إنّ
محمّد بن الحنفيّة لم يمت بل هو حيّ مقيم بجبال رضوى بين مكّة والمدينة ، وهو
عندهم الإمام المنتظر الذي بشّر به النبيّ صلىاللهعليهوآله : أنّه يملأ الأرض عدلا وقسطا ، عن يمينه أسد وعن يساره
أسد أو نمر يحفظانه إلى أوان قيامه ومجيئه وخروجه ، تغدو عليه الآرام (الغزلان)
وتروح فيشرب من ألبانها ويأكل من لحومها!
وفرقة منهم قالت :
إنّ محمّد بن الحنفيّة أوصى إلى أكبر ولده أبي هاشم عبد الله بن محمّد فهو الإمام
بعده ، وغالوا فيه وقالوا بأنّه هو المهدي وهو يحيي الموتى ولا يموت وكانت شيعة أبيه تتولّاه ولا عقب له ، وكان عند موته
بالشام وعنده محمّد بن علي بن عبد الله بن العباس فأوصى إليه وقال له : أنت صاحب
هذا الأمر وهو في ولدك! ودفع إليه كتبه (؟!) وصرف شيعته إليه .
هذا ، وقد روى
الكليني بطريقين إلى زرارة وأبي عبيدة عن الباقر عليهالسلام : أنّ علي بن الحسين عليهالسلام أخبر ابن الحنفية : أنّ أباه الحسين عليهالسلام كان أوصى إليه قبل أن يتوجّه إلى العراق وعهد إليه
بالإمامة والوصيّة قبل شهادته وأودعه سلاح رسول الله صلىاللهعليهوآله ثمّ تحاكم معه إلى الحجر الأسود لينطق بالحقّ بحيث يسمعانه
، فانطلقا وبدأ ابن الحنفيّة فلم يجبه ، ثمّ دعا عليّ بن الحسين عليهالسلام فأنطق الله الحجر بلسان عربي مبين : أنّ الإمامة والوصيّة
بعد الحسين إلى عليّ بن الحسين عليهماالسلام ، فانصرف ابن الحنفيّة وهو يتولّى علّي بن الحسين عليهماالسلام .
__________________
وروى الطبرسي عن
الصادق عليهالسلام : أنّ أبا خالد وردان الكابلي كان يقول بإمامة ابن
الحنفيّة فسمعه يخاطب عليّ بن الحسين يقول : يا سيّدي! فسأله عن ذلك فقال له :
إنّه حاكمني إلى الحجر الأسود فصرت إليه فسمعته يقول لي : سلّم الأمر إلى ابن أخيك
فإنّه أحقّ به منك .
وعليه ، فهو كان
يدّعي الإمامة أوّلا ثمّ أذعن للحقّ ، ولم يذعن له أبناؤه وأصحابهم كلّهم.
الحجّاج وعبد
الرحمان بن الأشعث :
ولي الحجّاج
العراقين وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة! وله أربعة بنين : محمّد وأبان وعبد الملك ،
والوليد ! وأراد استمالة قوم الأشعث بن قيس الكندي إليه فتزوّج
ميمونة بنت محمّد بن الأشعث قتيل المختار لابنه محمّد وهو غلام مراهق! ليكونوا له
يدا على من ناوأه. وكان لها أخ يقال له : عبد الرحمان بن محمّد بن الأشعث ، وكان
بهيّا جميلا منطيقا وله ابّهة في نفسه ، فألحقه الحجّاج بأفاضل أصحابه وأهل سرّه
وخاصّته بل ألزمه بنفسه ، وأجرى عليه العطايا الواسعة صلة ، لصهره ولإتمام الصنيعة
إليه وإلى جميع أهله ، فملأه كبرا وفخرا وتطاولا ، حينا من الدهر.
ثمّ كتب له عهدا
على سجستان ووجّه معه الحجّاج بعشرة آلاف منتخب جيشا كثيفا حسن العدّة حتّى سمّى جيش الطواويس ، لغزو
رتبيل ملك
__________________
زابلستان وكل ملك يلي هذا الصقع من بلاد الهند! يقال له رتبيل فلمّا صار إلى سجستان أقام في بست وضبط أطرافه ، ثمّ سار
يريد رتبيل ملك البلد فلمّا أوغل في بلاده خاف الكمين فرجع إلى بست وكتب إلى
الحجّاج يعلمه أنّه أخّر غزو رتبيل إلى العام المقبل فكتب إليه الحجّاج ينسبه إلى
العجز ويغلظ له ويتوعّده فيه ، فجمع أطرافه إليه وحرّضهم على الحجّاج ودعاهم إلى
خلعه فأجابوه وبايعوا له لبغضهم الحجّاج وسطوته .
وكان في عسكره
أيوب بن القريّة التميمي وكان كليما مفوّها ، فسأله أن يصدر رسالة إلى الحجّاج
يخلع فيها طاعة الحجّاج ، فكتب له ابن القريّة رسالة فيها :
بسم الله الرحمنِ الرحيم من عبد الرحمان بن محمّد بن الأشعث! إلى الحجّاج بن يوسف ، سلام على
أهل طاعة الله وأوليائه الذين يحكمون بعدله ويوفون بعهده ، ويجاهدون في سبيله
ويتورعون لذكره ، ولا يسفكون دما حراما ولا يعطّلون للربّ أحكاما ولا يدرسون له
أعلاما ، ولا يتنكّبون النهج ولا يسارعون في الغيّ ، ولا يدلّلون الفجرة ولا
يتراضون الجورة ، بل يتمكّنون عند الاشتباه ، ويتراجعون عند الإساءة.
أمّا بعد ؛ فإنّي
أحمد إليك الله حمدا بالغا في رضاه ، منتهيا إلى الحقّ في الامور الحقيقيّة عليه
لله. وبعد فإنّ الله أنهضني لمصاولتك وبعثني لمناضلتك ، حين تحيّرت امورك وتهتّكت
ستورك ، فأصبحت عريان حيران مبهتا ، لا توافق وفقا ولا ترافق رفقا ولا تلازم صدقا.
__________________
أؤمّل من الله
الذي ألهمني ذلك أن يصيّرك في حبالك ويسحبك للذقن ، وينصف منك من لم تنصفه من نفسك
، ويكون هلاكك بيدي من اتّهمته وعاديته. فلعمري لقد طالما تطاولت وتمكّنت وأخطيت
وخلت أن لن تبور وأنّك في فلك الملك تدور! وستخبر مصداق ما أقول عن قريب!
فسر لأمرك ولاق عصابة
خلعتك من حبالها خلعها نعالها! لا يحذرون منك جهدا ولا يرهبون منك وعيدا! يتأمّلون
خزايتك وهم عطاشى إلى دمك ويستطعمون الله لحمك ، يحاولونك به على طاعة الله وقد
شروا أنفسهم تقرّبا إلى الله! فأغض عن ذلك يابن امّ الحجّاج ، فسنحمل عليك إن شاء
الله ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله ، والسلام على أهل طاعة الله .
خطبة الحجّاج على
ابن الأشعث :
قال ابن قتيبة :
فلمّا ورد الكتاب على الحجّاج أمر فنودي : الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس ، فخرج
إليهم قد أخذ بطرف ردائه ويجرّ ذيله من خلفه حتّى صعد المنبر وقال فيما قال :
العجب العجب ، وما
هو أعجب! من العير الأبتر! أني وجّهته ومن معه من المنافقين ، فانطلقوا في نحور
العدو ، ثمّ أقبلوا على راياتهم لقتال أهل الإسلام ؛ من أجل عير أبتر! على حين
أننا قد أمّنا الخوارج وأطفأنا الفتن ، فتتابعت الفتن إليهم! فكان من شكركم ـ يا
أهل العراق ـ ليد الله فيكم ونعمته عليكم وإحسانه إليكم! جرأتكم على الله
وانتهاككم حرمته واغتراركم بنعمته! ألم يأتكم شبيب مهزوما ذليلا؟! فقبحت تلك
الوجوه! فما هذا الذي يتخوّف منكم يا أهل العراق؟! والله لقد أكرمنا الله بهوانكم!
وأهانكم بكرامتنا في مواطن شتّى تعرفونها وتعرفون أشياء
__________________
حرّمكم الله
اتّخاذها .. أرى الحزام قد بلغ الطبيين والتقت حلقتا البطان .. أنا ابن العرقية
وابن الشيخ الأعزّ! كذبتم وربّ الكعبة! ما الرأي كما رأيتم ولا الحديث كما حدّثتم
، فافطنوا لعيوبكم وإيّاكم أن أكون وأنتم كما قال :
إنّك إن كلّفتني ما لم أطق
|
|
ساءك ما سرّك منّي من خلق!
|
والمخبر بالعلم
ليس كالراجم بالظنون ، فالتقدّم قبل التندّم ، وأخو المرء نصيحته! ثمّ أنشد :
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا
|
|
وما علّم الإنسان إلّا ليعلما
|
ثمّ قال : احمدوا
ربّكم ، وصلّوا على نبيّكم صلىاللهعليهوآله. ثمّ نزل.
وكان كاتبه مولاه
نافع فقال له : يا نافع اكتب : بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من الحجّاج بن يوسف إلى عبد الرحمان بن الأشعث ، سلام على أهل
النزوع من الزيغ .. فإني أحمد الله الذي خلّاك في حيرتك حتّى أقحمك أمورا أخرجك
بها عن طاعته وجانبت بها ولايته! وعسكرت بها في الكفر وذهلت بها عن الشكر! فلا
تشكر في السرّاء ولا تصبر في الضرّاء .. أقبلت تستوقد الفتنة لتصلى بحرّها وجلبت
لك ولغيرك ضرّها .. وعزة ربك لتكبّن لنحرك وتقلبنّ لظهرك ، ولتدحضنّ حجّتك ،
ولتذمّن مقامك ، كأنّي بك تصير إلى غير مقبول منك إلّا السيف ، عند كشوف الحروب عن
ساقها ومبارزة أبطالها! والسلام على من إلى الله أناب وسمع وأجاب .
سعيد بن جبير إلى
ابن الأشعث :
قال ابن قتيبة :
اتي إلى الحجّاج بسعيد بن جبير ـ وكان من موالي بني والبة من بني أسد ـ فقال له : انطلق
بهذا الكتاب إلى هذا الطاغية الذي قد فتن وفتن
__________________
فاردعه عن قبيح ما
دخل فيه ، وعظيم ما أصرّ عليه ، وحرمة ما انتهك عدوّ الله من حقّ الله! إلى ما في
ذلك من سفك الدماء وإباحة الحريم وإنفاق الأموال ، ولو لا معرفتي بأنّك قد حويت
علما وأصبت فقها ... فخرج سعيد متوجّها إليه.
فلمّا قرأ عبد
الرحمن الكتاب أو سمع به ارتعش هيبة له وجزعا منه وتبيّنت رعشته! وكتم الكتاب وجعل
يستخلي بابن جبير فيسمر معه ليلا ويسأله الدخول معه فيما رأى من خلع الحجاج ، ومكث
بذلك شهرا وسعيد يأبى ذلك عليه ، ثمّ أجابه إليه .
ودعا أبا عمر ذرّ
بن ذرّ الهمداني القاصّ ، فكساه ووصله وأمره أن يحضّض الناس على الحجّاج ، فكان
كلّ يوم يقصّ للناس فينال من الحجّاج وذلك في سنة إحدى وثمانين .
وكتب إلى رتبيل
ملك الهند أن يصالحه فيقف عنه أو يلجأ إليه إن شاء ، وكتب كتابا بينهم على ذلك.
واستخلف رجلا من قبله على سجستان وخرج منها وكتب إلى المهلّب بن أبي صفرة وهو يحاصر بلدي كش ونسف من
بلاد خراسان الكبرى في سنة (٨١) ، يدعوه إلى خلع الحجاج ، فانصرف عنهم المهلّب .
وسار عبد الرحمن
راجعا لإخراج الحجّاج من العراق ومسألة عبد الملك إبدالهم به ، ولكنّه لما عظمت
جموعه ولحق به كثير من أهل العراق ورؤسائهم ونسّاكهم عند قربه منها خلع عبد الملك
في اصطخر فارس ، وسمّى نفسه «ناصر المؤمنين».
__________________
وكان ممّا شاع من
قبل في اليمنيّين أن رجلا من قحطان يعيد الملك فيها فهم كانوا ينتظرونه ، وأن اسمه
على ثلاثة أحرف! فادعى أنه هو وأن أصل اسمه «عبد» والرحمن خارج عن اسمه !
وقدم لأي بن شقيق
السدوسي على الحجّاج فأخبره ، فحمله من ساعته إلى عبد الملك ، فردّه عبد الملك إلى
الحجّاج يأمره بالتشمير والجدّ حتّى تأتيه الجنود وكتب إليه : لعمري لقد خلع طاعة الله بيمينه وسلطانه بشماله
وخرج من الدين عريانا! وإنّي لأرجو أن يكون هلاكه وهلاك أهل بيته واستئصالهم في
ذلك على يدي أمير المؤمنين! وما جوابه عندي في خلع الطاعة إلّا قول القائل :
أناة وحلما وانتظارا بهم غدا
|
|
فما أنا بالواني ولا الضّرع الغمر !
|
قتال الأهواز ،
وزاوية البصرة :
ورأى الحجّاج أنّ
حجّة ابن الأشعث الكندي الكوفي في الكوفة أقوى من حجّة الحجّاج بها ، فسار إلى
البصرة ، وبلغ ذلك ابن الأشعث فسار إليه حتّى لقيه دون شوشتر بسبعة فراسخ في دير من ديار الأهواز يسمّى جنديشابور
__________________
وكان ذلك يوم عيد
النحر (الأضحى) (٨٢ ه) فالتقوا للقتال فقتل من أنصار الحجّاج ثمانية آلاف فانكشف الحجّاج راجعا حتّى دخل البصرة ، وتبعه ابن الأشعث.
وكان عامل الخراج
للحجّاج على البصرة قادان فرّخ فارسيّا فأشار عليه قال : اخرج له عن البصرة ؛
فالبصريون معه إذا شمّوا أولادهم ونساءهم قعدوا عنه!
فقبل الحجّاج
مشورته وخرج إلى ناحية طفّ البصرة ، ودخلها ابن الأشعث فكان كما قال الفارسي : قعد
عنه عامّة من كان معه من أهل البصرة ، حتّى سمع مناديه يناديهم : أين الذين بايعوا
بالرخج؟! وقعد ابن الأشعث على المنبر يتوعّد الذين يتخلّفون عنه توعّدا شديدا!
ثمّ خرج ابن
الأشعث فلقي الحجّاج بالزاوية فاقتتلوا قتالا شديدا ونزل ابن الأشعث بالخريبة وذلك في أوائل سنة (٨٣ ه)
فأقاموا يقتتلون نحوا من شهرين! ثمّ بدا لابن الأشعث أن يتغلّب على الكوفة فخرج
إليها ليلا بشطر من أصحابه الكوفيّين. وافتقده البصريّون صباحا بلا خليفة له ، وكان عندهم عبد الرحمان بن العباس بن ربيعة
بن الحرث بن عبد المطلب الهاشمي فقالوا له : إنّه تركنا ولحق بالكوفة وهذا الفاسق
منيخ علينا! فبايعهم وسار إلى الحجّاج بالزاوية فقاتله فهزمه الحجّاج فلحق بالكوفة
.
__________________
وقائع دير الجماجم
وظهر المربد وحراة :
دخل ابن الأشعث
الكوفة ، فكتب الحجّاج كتابا إلى عبد الملك يذكر فيه كثرة جيوش ابن الأشعث ويستنجده
ويسأله الإمداد وقال في كتابه : أمّا بعد فياغوثاه ثمّ يا غوثاه! فلمّا قرأ عبد الملك
الكتاب كتب إليه : أمّا بعد ، فيا لبّيك ثمّ يا لبّيك ثمّ يا لبّيك ! وأمدّه بجيوش الشام مع أخيه محمّد بن مروان من الجزيرة ،
وابنه عبد الله بن عبد الملك ، وسار الحجّاج حتّى نزل دير قرّة ، وخرج ابن الأشعث
من الكوفة إلى دير الجماجم ، فاقتتلوا بدير الجماجم نحوا من أربعة أشهر ، في نحو
من ثمانين وقعة! وابن الأشعث في ثمانين ألفا ، ودونه الحجّاج ، وقتل منهم جمع كثير
، وسار ابن الأشعث إلى البصرة فتبعه الحجّاج فخرج منها ، فالتقوا بأرض مسكن ، فهزم
أهل العراق (الكوفة) وقتلوا قتلا ذريعا ، ومضى ابن الأشعث في من تبعه إلى سجستان فأتى مدينة زرنج وعليها عبد الله بن عامر فامتنع عليه ،
فمضى إلى بست وعليها عياض بن عمرو فدبّر أن يغدر به ويتقرّب به إلى الحجّاج!
فأدخلهم .
وقال العصفري
البصري : إنّ الأشعث سار إلى خراسان أوّلا ، فاجتمع فلّ عسكره (البصري) على عبد
الرحمان بن العباس بن ربيعة الهاشمي أيضا فاقتتلوا بظهر مربد البصرة ثلاثة أيام
ثمّ انهزموا فتبعوا عبد الرحمان إلى خراسان ، فتركهم ابن الأشعث وسار إلى سجستان.
__________________
وكان على خراسان
ابنا المهلّب : يزيد والمفضّل على هراة ، فلقيهم فهزمهم وأسر ناسا منهم محمّد بن
سعد بن أبي وقّاص وبعث به إلى الحجّاج فقتله .
قال : وكان قد خرج
مع ابن الأشعث خمسمئة من القرّاء كلّهم يرون القتال معه على الحجّاج وبني مروان ،
وسمّى خمسا وعشرين رجلا منهم ، منهم من أهل البصرة : الحسن بن أبي الحسن البصري
قيل أخرج كرها فلم يقتل ، أخرجه ابن الأشعث لمّا قيل له : إن أحببت أن يقتّلوا
حولك كما قتّلوا حول جمل عائشة فأخرجه! ومن أهل الكوفة سعيد بن جبير مولى أسد ،
وعامر الشعبي وعبد الرحمان بن أبي ليلى ، والنضر بن أنس بن مالك وأبو عبيدة بن عبد
الله بن مسعود ومحمد بن سعد بن أبي وقاص وعطاء بن السائب مولى ثقيف وسعد مولى حذيفة ، وأبو البختري مولى بني طيء ، وطلبه
الباقون منهم يوم دير الجماجم ليؤمّروه عليهم فقال : أنا رجل من الموالي فأمّروا
رجلا من العرب! فأمّروا جبلة أو جهم بن زحر بن قيس الجعفي! وكان كثير منهم قد
حلقوا رؤوسهم شعار الشراة الخوارج. وكانت الهزيمة لأربع عشرة ليلة خلت
من جمادى الاولى سنة (٨٢ ه) وبعدها في شعبان.
وفي وقعة ظهر
المربد آخر المحرّم وأول صفر ، كان مع أبي عمر كثير مولى عنزة بيّاع الكتّان مئتان
من الموالي فأتبعهم من قوّاد الحجّاج : سفيان بن الأبرد الكلبي حتّى دخلوا البصرة
فقتلهم ثمّ رجع فقتل من لقى منهم أربعمئة أو أكثر .
__________________
وكان ممّا أثار
خيار القرّاء والحجّاج على الحجّاج ما أثاره هو من العجاج واللجاج في تفضيل
الخليفة الأموي حتّى على الرسول والنبيّ فضلا عن الوصيّ ، حتّى أنهم سمعوه يخطب
على المنبر يقول : أخليفة أحدكم في أهله أكرم عليه أم رسوله في حاجته؟! يعني أن
الخليفة أكرم على الله من رسوله !
وممّا أثارهم على
عبد الملك أنه كتب إلى الحجّاج أن يبعث إليه بثلاثين جارية : عشرة من ذوات الأحلام
وعشرة من النجائب وعشرة من قعّد النكاح .
أسرى الخوارج ،
والحجّاج :
لمّا انهزم ابن
الأشعث حلف الحجّاج : أن لا يؤتى بأسير منهم إلّا ضرب عنقه ولعلّه بلغ ابن مروان ، فروى العصفري البصري عن المدائني
البصري قال : كتب عبد الملك إلى الحجّاج في بقايا الخوارج مع ابن الأشعث : أن ادع
الناس إلى البيعة ، فمن أقرّ بالكفر! فخلّ سبيله ، إلّا رجلا نصب راية أو شتم أمير
المؤمنين.
وكان الحجّاج قد
أسر ناسا كثيرا منهم بنو ضبيعة من عنزة البصرة وسيّدهم مسمع ومن قرّاء مواليهم
عمران بن عصام ، وكان الحجّاج لما قدم العراق أمر مسمع أن يزوّج عمران ابنته ماوية!
ثمّ أوفد من البصرة وفدا إلى عبد الملك فأوفده فيهم ، ولم يكن يوفد الموالي! وجيء
اليوم بهم مع الأسرى ، فقرأ عليهم كتاب عبد الملك ، وفيهم عمران فدعا به الحجّاج
وقال له : أتشهد على نفسك بالكفر؟! قال : ما كفرت بالله منذ آمنت به! قال : ألم
أقدم العراق فأوفدتك
__________________
ولا يوفد مثلك؟!
قال : بلى! قال : وزوّجتك سيدة قومها ماوية بنت مسمع ، ولم تكن لها بأهل! قال :
بلى! قال : فما حملك عن الخروج؟ قال : أخرجني باذان (؟) قال : فمن أخرجك عن حجلة
أهلك؟! قال : أخرجني باذان! وكان معمّما فكشطوا عمامته فإذا هو محلوق! فأمر به
فضربت عنقه .
قال : واتي
بالشعبي فعاتبه فقال الشعبي : أجدب بنا الجناب ، وأحزن بنا المنزل ، واستحلسنا
الخوف (منك) وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء!
فقال الحجّاج :
لله أبوك! ومنّ عليه فتركه. وقتل الحجّاج في مسكن أربعة آلاف أو خمسة آلاف أسير . وجعل يتلقّط بقاياهم حتّى قتل خلقا كثيرا ، وعفا عن جماعة
منهم الشعبي وإبراهيم النخعي.
وفي السنة التي
هرب فيها ابن الأشعث بني الحجاج مدينة واسط وقال : انزل بين البصرة والكوفة كأنه استنكف من الأوبة إلى الكوفة بل والبصرة وقد قتل منهم
خلقا كثير!
وقال ابن قتيبة :
لما انهزم ابن الأشعث وكان الحجّاج مترجلا وقد وضع له منبر من حديد دعا بدابته فركبها
وركب من معه فانتهى إلى ربوة فأومأ إليها ووقف في ذلك المرتفع ، ينظر إلى معسكر
ابن الأشعث وأصحابه ينتهبونه.
ثمّ رجع إلى
معسكره فنزل إلى فسطاطه فجلس وأذن فدخلوا عليه يهنئونه بفتحه ، وأخذوا يأتونه
بالأسرى فيقتلهم إلى الليل. ثمّ قفل إلى واسط التي بناها ،
__________________
وأقام لا يمرّ
عليه يوم إلّا ويؤتى بأسرى فيقتلهم! فلما رأى كثرة من يؤتى به أخذ يتحرّى فيقول له
: أمؤمن أنت أم كافر؟! فمن أقرّ بالكفر أو النفاق عفا عنه ، ومن قال : مؤمن قتله !
وكان هو يلقّن ذلك
من كان من الأسرى من ثقيف! أتي بأحدهم وخلفه رجل من السكون ، فقال الحجاج للثقفي
أكفرت؟ قال : نعم ، قال : لكن هذا الذي خلفك لم يكفر! فقال السكوني : أتخادعني عن
نفسي! بلى والله ولو كان شيء أشدّ من الكفر لبؤت به! فخلاهما .
ثمّ أتي برجل من
فرسان عبد الرحمن من بني عامر فقال له : والله لأقتلنك شرّ قتلة! قال : والله ما
ذلك لك! قال : ولم؟ قال : لأنّ الله يقول : (فَإِذا لَقِيتُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا
الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) فإمّا أن تمنّ علينا أو تفدينا عشائرنا!
فقال الحجاج :
أكفرت؟ قال : نعم ، وغيّرت وبدلت! فخلّاه .
عامر بن شراحيل
الشعبي :
قال ابن قتيبة :
كان عامر الشعبي مع ابن الأشعث وكان خاصّ المنزلة به ، ليس لأحد منه مثلها للذي
كان عليه من حاله إلّا سعيد بن جبير ، وأفلت سعيد بن جبير إلى مكّة.
__________________
وأتي بالشعبي إلى
الحجّاج في سورة غضبه وهو يقتل الأسرى إلّا من أقرّ بالكفر أو النفاق! فلقيه يزيد
بن أبي مسلم مولى الحجّاج وحاجبه فقال له :
يا شعبي! لهفي
للعلم الذي بين دفّتيك! وليس هذا بيوم شفاعة! إذا ادخلت على الأمير فأقرّ له
بالكفر والنفاق عسى أن تنجو!
وأدخل الشعبي
والحجّاج واضع رأسه ، فلمّا رفع رأسه رآه وعرفه فقال له : وأنت أيضا يا شعبي ممّن
أعان علينا وألّب؟ قال : أصلح الله الأمير ؛ إنّي امرت بأشياء أقولها لك ارضيك بها
وأسخط الربّ! فلست أفعل ذلك! ولكنّي اصدقك القول ، فإن كان شيء ينفع لديك فهو في
الصدق إن شاء الله : أحزن بنا المنزل. وأجدب الجناب ، واكتحلنا السهر واستحلسنا
الخوف (منك) وضاق بنا البلد العريض فوقعنا في خزية لم نكن فيها بررة أتقياء ولا
فجرة أقوياء!
فقال له الحجّاج :
كذلك؟ قال : نعم أصلح الله الأمير وأمتع به. وكان مع الحجّاج جنود الشام فقال لهم
:
يا أهل الشام :
صدق والله ما كانوا بررة أتقياء فيتورّعوا عن قتالنا! ولا فجرة أقوياء فيقووا
علينا! ثمّ قال للشعبي : انطلق يا شعبي فقد عفونا عنك فأنت أحقّ بالعفو ممّن
يأتينا وقد تلطّخ بالدماء ثمّ يقول : كان كذا وكان كذا.
وبعد شهرين رفع
إلى الحجّاج فريضة من فرائض الإرث أشكلت عليه في : امّ وجّد وأخت. فقال : من هاهنا
نسأله عنها؟ فدلّ على الشعبي فأرسل إليه فسأله عنها ، فقال له :
أصلح الله الأمير
، قال فيها خمسة من أصحاب محمّد صلىاللهعليهوآله : عليّ بن أبي طالب! وأمير المؤمنين عثمان! وعبد الله بن
عباس ، وعبد الله بن مسعود ،
وزيد بن ثابت ،
فاختار رأي عثمان وقال : يا غلام ، قل للقاضي يمضيها على ما قال أمير المؤمنين
عثمان .
وأقام الأشعريون
منهم بقم :
مرّ في أوائل
أخبار المختار خبر قيام التابعيّ السائب ابن الصحابي مالك بن عامر الأشعري يردّ
على الأمير الزبيري عبد الله بن المطيع العدوي قوله بأن يسير فيهم بسيرة عمر
وعثمان ، ولم يذكر عليّا عليهالسلام بشيء ، فقال السائب : «لا حاجة لنا في سيرة عثمان ... ولا
في سيرة عمر في فيئنا! وأن لا يسار فينا إلّا بسيرة علّي بن أبي طالب رحمة الله
عليه» .
وأنّه كان من
أركان شؤون المختار وأنصاره في مساره حتى مصيره في حصره في قصره دار الإمارة حتّى
قتل معه ، وكان ابنه محمّد معه واستصغر فنجا من مجزرة مصعب بن الزبير لسبعمئة ممّن
كان مع المختار ، ثمّ كان مع السائب ابن الأشعث فقتله الحجّاج .
وكان مع ابن
الأشعث أيضا أخ السائب : سعد بن مالك أو بعض أبنائه الخمسة : عبد الله وعبد
الرحمان وإسحاق ونعيم والأحوص ، واسر الأحوص وسجن وافرج عنه على غير متوقّع ؛ ولذا
كان في الحسبان أنّ شرطة الحجّاج سيعودون عليه ، وكأنّ أخاه عبد الله لم يكن معه
فأشار عليه أن لا يبقى في الكوفة بل يخرج منها لكي لا يعودوا عليه بالقبض فالقتل
أو السجن ، وتوافق إخوته
__________________
عبد الله وعبد
الرحمن وإسحاق ونعيم أن يلتحقوا به ، قاصدين بني أعمامهم في خراسان ، وكأنّهم لمّا
علموا مقاتلة أبناء المهلّب الأزدي : يزيد والمفضّل في فارس وهراة في خراسان لفلول
ابن الأشعث ـ كما مرّ ـ يئسوا من خراسان ، فقصدوا جبال أرمينية في آذربايجان
ليتحصّنوا بها ، عن طريق «كمندان» فإصفهان.
فخرج الأحوص بأهله
من الكوفة متّجها نحو إصفهان ، لكنّه لما وصل إلى قرية أبرشتجان من قرى «كمندان»
ورأوا القلاع والكلأ والماء بها ، وكانت قبل أيام النوروز ، نزلوا بها والتحق به
إخوته ، ولهم إبل ومواشي كثيرة.
وكانت المنطقة ولا
سيّما في تلك الأيام (النوروز) معرّضة لهجوم طوائف من الديلم ، وفي أوّل حملة
للديلم بعد حضور الأشعريين في المنطقة ، رأوا لهؤلاء إبلا ومواشي كثيرة فأغاروا
عليهم ، فقاتلهم الأشعريون فقتلوا منهم وأسروا وهزموا بقاياهم ، وكان رئيس «كمندان»
يومئذ فارسيّا منهم يسمّى «يزدانفر» فأرسلوا بالأسرى ورؤوس القتلى إليه ، ففرح
الأهالي بفعلهم وناشدوهم البقاء ، وقدّموا لهم الهدايا والتّحف ومراعي ومزارع
وأراضي وبذورا وأدوات الزراعة. فقال عبد الله : ولكن ليس لنا هنا مسجد نصلّي فيه ،
فخالف البقاء هنا وأرادهم أن يذهبوا إلى بلاد قزوين ليصبحوا مرابطين لثغور
المسلمين مع جبال الديلمان وهم على كفرهم يومئذ.
فقال له الأحوص :
إنّ الديلم تهجم على هذه المنطقة في كلّ عام ، كما رأيت ـ فهي رباط كذلك! وكان
هناك محلّ لبيت نار فهدمه الأحوص وبناه مسجدا ، ليزيل علّة أخيه عبد الله ، فرضي وبقي وبقوا.
__________________
وقال الحموي : كان
هناك سبع قرى اسم إحداها (أو مركزها) : گمندان (المكان الضائع بين الجبال) فنزل
هؤلاء الإخوة على هذه القرى ... واستوطنوها ، واجتمع إليهم أبناء عمومتهم ،
والتحمت القرى فصارت سبع محالّ بها ، فسمّيت باسم إحداها «كمندان» وعرّبوها
وأسقطوا بعض حروفها ، فصارت بتعريبهم : قم. وكان لعبد الله ولد بالكوفة (موسى) ثمّ
انتقل منها إلى قم ، وكان هذا «إماميّا» فهو الذي نقل «التشيّع» إلى قم ، فلا يوجد
بها سنّي قط !
ولذا قال صاحب «تاريخ
قم» : إنّ أوّل من أظهر التشيّع بقم : موسى بن عبد الله الأشعري .
وبناء على ما مرّ
فإنّ إقامة الأشعريين بقم كانت بمناشدة لهم من أهلها وتقديمهم الأراضي لهم ، وحتّى
بيت نارهم المتروك ليهدموه ويبنوه لأنفسهم مسجدا ، بإزاء دفعهم أذى الديلمان عن «كمندان»
والحموي عكس ذلك فضمن بيانه السابق ناقض فقال : نزل هؤلاء الإخوة على هذه القرى
وقاتلوا أهلها حتّى افتتحوها واستولوا عليها واستوطنوها! فجعل القتال دفاعا عنهم
دفعا لهم عن أموالهم وديارهم بل وأرواحهم. وهل كان هذا فتحا مكررا بعد ما قال :
إنّها فتحت على يد الأحنف بن قيس التميمي على مقدمة أبي موسى الأشعري ؟!
__________________
ومصير ابن الأشعث
الانتحار :
قال اليعقوبي :
مضى منهزما لا يلوي على شيء إلى زرنج من سجستان ، وكان عليها عبد الله بن عامر
فمانعه من دخولها ، فمضى إلى بست ، وكان عليها عياض بن عمرو فدبّر أن يغدر به
فيتقرّب به الحجّاج فأدخلهم ... ثمّ صار إلى رتبيل صاحب تلك البلاد فوفى له رتبيل
بما كان بينهما فأقام عنده في أمن وسلامة ... في أربعة آلاف من أصحابه.
وبلغ الحجّاج ذلك
فدعا عمارة بن تميم اللخمي وكتب معه إلى رتبيل يأمره أن يوجه إليه ابن الأشعث
وإلّا فإنّه يوجه إليه بمئة ألف مقاتل! ووجّهه إليه ، فلم يفعل ... فعاد عمارة
وأقام بمدينة بست. وهرب عبيد بن أبي سبيع من عند رتبيل فصار إلى عمارة بن تميم في
بست وقال له : تجعلون لي شيئا وتكفّون عن رتبيل وتصالحونه ويسلّم إليكم ابن الأشعث.
فكتب عمارة بذلك إلى الحجّاج فوافق الحجّاج ، فكتب عمارة لعبيد عهودا وختمها
بخاتمه ، فأخذها عبيد وعاد بها على رتبيل فلم يزل يرغّبه مرّة ويرهبه اخرى حتّى
أجابه إلى أخذ ابن الأشعث فأخذه وأخاه وجماعة معه ، وقيّدهم وحملهم معهم في الحديد
إلى الحجّاج. وكان عبد الرحمان قد قيّد مع رجل يقال له أبو العنز ، وكان الفصل
حارّا فأصعدوهم في الرخّج إلى سطح دار ، فرمى بنفسه ـ وصاحبه ـ من فوق السطح فماتا
جميعا فاحتزوا رأس ابن الأشعث وحمل إلى الحجّاج ، فحمله الحجّاج إلى عبد الملك ووجّه به عبد الملك إلى أخيه عبد العزيز في مصر وذلك في
سنة (٨٣ ه) .
__________________
خطبة الحجّاج لقتل
ابن الأشعث :
قال المسعودي :
لما قتل ابن الأشعث واتي برأسه إلى الحجّاج ، رقى منبر الكوفة (أو الواسط) فحمد
الله وأثنى عليه وصلّى على رسوله ثمّ قال : يا أهل العراق ، إن الشيطان استبطنكم
فخالط منكم اللحم والعظم ، والأعضاء والأطراف ، وجرى منكم مجرى الدم ، وأفضى إلى
الأضلاع والأمخاخ ، فحشا ما هناك شقاقا واختلافا ونفاقا ، ثمّ أربع فيه فعشش ،
وباض فيه وفرّخ ، فاتّخذتموه دليلا تتابعونه ، وقائدا تطاوعونه ، ومؤامرا تؤامرونه!
ألستم أصحابي «بالأهواز»
حين سعيتم بالغدر بي فاستجمعتم عليّ حيث ظننتم أن الله سيخذل دينه وخلافته؟! واقسم
بالله أني (كنت) لأراكم بطرفي وأنتم تتسلّلون لواذا منهزمين وسراعا متفرقين ، فكل
امرئ منكم سيفه على عنقه رعبا وجبنا!
ثمّ يوم «الزاوية»
وما يوم الزاوية (بالبصرة) كان بها فشلكم وتخاذلكم ، وبراءة الله منكم ، وتولّيكم
على أكتافكم السيوف هاربين ، ونكوص وليكم عنكم ، إذ ولّيتم كالإبل الشوارد إلى
أوطانها. لا يسأل الرجل عن بنيه ، ولا يلوي امرؤ على أخيه ، حتّى عضّتكم السلاح
وقصفتكم الرماح!
ويوم «دير الجماجم»
كانت بها الملاحم والمعارك العظائم!
فما الذي أرجوه
منكم يا أهل العراق! أم ما الذي أتوقّعه! ولماذا استبقيكم! ولأي شيء أدّخركم؟
أللفجرات بعد الغدرات؟ أم للنزوة بعد النزوات؟ وما الذي اراقب بكم؟ وما الذي انتظر
فيكم! إن بعثتم إلى ثغوركم جبنتم! وإن أمنتم أو خفتم نافقتم! لا تجزون بحسنة ولا
تشكرون نعمة!
يا أهل العراق! هل
استنبحكم نابح أو استشلاكم غاو أو استخفّكم ناكث أو استنفركم عاص إلّا تابعتموه
وبايعتموه ، وآويتموه وكفيتموه؟!
يا أهل العراق! هل
شغب شاغب أو نعب ناعب أو دبى كاذب إلّا كنتم أنصاره وأشياعه؟!
يا أهل العراق! لم
تنفعكم التجارب وتحفظكم المواعظ وتعظكم الوقائع ، فهل يقع في صدوركم ما أوقع الله
بكم عند مصادر الامور ومواردها؟! ثمّ التفت إلى الشاميين الحاضرين وقال لهم :
يا أهل الشام!
أنتم العدة والعدة! والجنّة في الحرب ، إن نحارب حاربتم أو نجانب جانبتم! وأنا لكم
كالظليم الرامح (المدافع) عن فراخه ينفي عنهنّ القذى ويكنفهنّ من المطر ويحفظهنّ
من الذئاب ويحميهنّ من سائر الدواب! فلا يخلص معه إليهن قذى ولا يمسهنّ أذى ولا
يفضي إليهنّ ردى! وما أنتم وأهل العراق إلّا كما قال نابغة بني جعدة :
وإن تداعيهم حظّهم ولم ترزقوه ولم
نكذب
|
|
كقول اليهود: قتلنا المسيح ولم يقتلوه
ولم يصلب
|
احتجاج الحجّاج
على عبد الملك :
قال المسعودي :
ولمّا أسرف الحجّاج في قتل أسارى «دير الجماجم» (أربعة أو خمسة آلاف) وفي بذل
الأموال لرجال القتال ، بلغ ذلك عبد الملك ، فكتب إليه : أمّا بعد ، فقد بلغ أمير
المؤمنين سرفك في الدماء وتبذيرك في الأموال ، ولا يحتمل أمير المؤمنين هاتين
الخصلتين لأحد من الناس! فحكم عليك في الدماء في العمد القود وفي الخطأ الدية! وفي
الأموال العمل فيها برأيه!
__________________
فإنمّا أمير
المؤمنين أمين الله! وسيّان عنده منع حقّ وإعطاء باطل ... وظنّ بأمير المؤمنين كلّ
شيء إلّا احتمالك على الخطأ! وإذا أعطاك (أو أتاك) الظفر على قوم فلا تقتلنّ جانحا
ولا أسيرا! (بعد خمسة آلاف أو أربعة)! وختم كتابه بسبعة أبيات من شعره.
فلمّا قرأ الحجّاج
كتابه كتب : أمّا بعد ، فقد أتاني كتاب أمير المؤمنين! يذكر فيه سرفي في الدماء
وتبذيري الأموال! ولعمري ما بلغت في عقوبة أهل المعصية ما هم أهله! (بعد أربعة أو
خمسة آلاف)! وما قضيت حقّ أهل الطاعة بما استحقّوه! فإن كان قتلي اولئك العصاة
سرفا ، وإعطائي اولئك المطيعين تبذيرا فليسوّغني أمير المؤمنين ما سلف! ثمّ ليحدّ
لي فيه حدّا أنتهي إليه إن شاء الله تعالى! ولا قوّة إلّا بالله! وو الله ما
ظلمتهم فأقاد بهم ولا أصبتهم خطأ فأديهم! ولا قتلت إلّا فيك ولا أعطيتهم إلّا لك.
ثمّ قابله بمثله شعرا.
فلمّا انتهى كتابه
إلى عبد الملك قال : خاف أبو محمد (الحجّاج) صولتي! ولن أعود لشيء يكرهه !
أمر الحجّاج
بإعجام كلام الله :
كثر القرّاء على
عهد الحجّاج بالعراق ، وكثروا في عسكر عبد الرحمان بن الأشعث ، وكثر قتل الحجّاج
لأكثرهم ، فكان ما قاله أبو أحمد العسكري : كثر التصحيف (في القراءة) وانتشر
بالعراق ، ففزع الحجّاج بن يوسف إلى كتّابه وسألهم أن يضعوا للحروف المشتبهة
علامات. فيقال : إنّ نصر بن عاصم الليثي
__________________
(تلميذ أبي الأسود
الدؤلي) قام بذلك ، فوضع النقط أفرادا وأزواجا ، وخالف بين أماكنها .
وزاد غيره : يحيى
بن يعمر العدواني البصري وكرهه إبراهيم النخعي وعامر الشعبي واستحسنه الحسن البصري ومحمّد بن سيرين وقالوا : أصلح الحجّاج الرسم القرآني في أحد عشر موضعا
فأصبحت أيسر وأوضح ونقل الزركشي عن أحمد بن الحسين : أنّ الحجّاج بعث فجمع
قرّاء البصرة ثمّ اختار منهم جماعة ثمّ أمرهم أن يعدّوا حروف القرآن فعدّوها في
أربعة أشهر ، ثمّ ذكر التفاصيل ونقل السمهودي عن مالك بن أنس : أنّ الحجّاج أرسل إلى
امهات القرى بمصاحف (استكتبها) فمنها إلى المدينة ، وكان في صندوق على يمين
أسطوانة مقام النبي صلىاللهعليهوآله ، وكان يفتح كلّ خميس وجمعة كلّ ذلك عسى ولعلّه يجبر كثرة قتله للقرّاء! وأكمل الخبر
الصادق عليهالسلام قال : كان بين الحائط والمنبر قدر
__________________
ممرّ رجل وهو
منحرف ، فكان يوضع القرآن عند القامة والمنبر ، فكان الرجل يأتي فيكتب السورة ،
ويجيء آخر فيكتب السورة ، كذلك كانوا يصنعون ، ثمّ إنهم اشتروا بعد ذلك .
ويقترح الحجّاج
ولاية الوليد :
قال ابن قتيبة :
لمّا كانت سنة (٨١ ه) عقد عبد الملك لموسى بن نصير (المولى الفارسي) على إفريقية
وما حولها وضمّ إليها برقة ، ووجّهه لقتال من بها من البربر. فلمّا قدم موسى بن
نصير مصر متوجّها إلى برقة والبربر وإفريقية وانتهى ذلك إلى عبد العزيز بن مروان
بمصر ، ردّ موسى من مصر إلى الشام.
فانصرف موسى بن
نصير إلى عبد الملك بالشام فذكر له ما استقبله به أخوه عبد العزيز وما ناله منه من
الامتهان! فأجابه عبد الملك : إنّ عبد العزيز صنو أمير المؤمنين وقد أمضينا فعله!
وبعث عبد العزيز
بدل موسى بن نصير : قرّة بن حسان التغلبي ، فتوجّه قرة إلى إفريقية فقتل أكثر
أصحابه وهزموا. وكان عبد العزيز وليّ العهد لعبد الملك من قبل أبيهما مروان.
وكأنّ الحجّاج
أراد أن يتزلّف إلى عبد الملك فكتب يقترح عليه أن يكتب لابنه الوليد العهد من بعده
وأن يبايع هو له في العراقين! فكتب عبد الملك إلى الحجّاج يقول له : ما أنت
والتكلّم بهذه الأمور ؟!
__________________
ثمّ عزم عبد الملك
على ذلك فكتب إلى الحجّاج بأن يشخص إليه عامر بن شراحيل الشعبي الهمداني! فأشخصه
إليه فآنسه وبرّه وأقام عنده أياما ثمّ قال له : إنيّ أأتمنك على شيء لم أاتمن
عليه أحدا! إنه قد بدا لي أن ابايع للوليد بولاية العهد بعدي ، فاذهب إلى عبد العزيز
وزيّن له أن يخلع نفسه من ولاية العهد على أن تكون له مصر طعمة!
ثمّ نقل اليعقوبي
عن الشعبي قال : فذهبت إلى عبد العزيز ، فما رأيت ملكا أسمح أخلاقا منه! وذات يوم
وأنا خال به احدّثه إذ قلت له : أصلح الله الأمير ، والله إن رأيت ملكا أكمل ولا
نعمة أنضر ولا عزّا أتمّ ممّا أنت فيه! ولقد رأيت عبد الملك طويل النصب كثير التعب
، قليل الراحة دائم الروعة ، هذا إلى ما يتحمّل من أمر الامّة! والله لوددت أنّهم
أجابوك إلى أن يصيّروا مصر طعمة لك ثمّ يصيّروا عهدهم لمن أحبّوا! فقال : ولكن من
لي بذلك؟ فعرفت ما عنده من الموافقة على ذلك.
فانصرفت عائدا إلى
أخيه عبد الملك فأخبرته الخبر ، فخلع عبد الملك أخاه من ولاية العهد وولّاها ابنيه
الوليد ثمّ سليمان بعده. فقيل : إنّ عبد العزيز سقي سمّا .. وكان على مصر والمغرب.
فجعلهما لابنه الثالث عبد الله بن عبد الملك. وطلب البيعة للوليد ولسليمان معا.
وكان على المدينة هشام بن إسماعيل المخزومي فطلبها من (ابن عمّه) سعيد بن المسيّب (المخزومي)
فأبى أن يجمع بيعتين ، فضربه هشام ستين سوطا وطاف به. فبلغ ذلك عبد الملك فكتب إلى
هشام يلومه على ذلك .
__________________
وقال خليفة : بل
قال سعيد لهشام : إن أحبّ عبد الملك أن ابايع الوليد فليخلع نفسه! فقال هشام :
فادخل من هذا الباب واخرج من آخر ليرى الناس أنّه قد بايع! فأبى وقال : لا يغترّبي
أحد! فضربه مئة سوط! فحين بلغ ذلك عبد الملك قال : بئسما صنع هشام! مثل سعيد لا
يضرب بالسياط ، كان ينبغي أن يضرب عنقه! أو يدعه! وكان ذلك سنة أربع (أو خمس)
وثمانين.
وفيها كان أخو عبد
الملك : محمّد بن مروان ما زال على الموصل والجزيرة وإلى أرمينية ، وزحفت الروم
إلى أرمينية ، فكأنّه بلغه عنهم أنّهم استقبلوهم مرحّبين ، فلمّا هزمهم محمّد بعث
من موالي عثمان بن عفّان : زياد بن الجرّاح ومعه جمع ، فجمع أهل نخجوان النشوى
والبسفرجان في كنائسهم وبيعهم وقراهم وحرّقها عليهم! فسمّيت عندهم سنة الحريق.!
ثمّ ولّاها عبد
الله بن حاتم الباهلي ، فمات ، فولّاها أخاه عبد العزيز بن حاتم فبنى مدن النشوى
وبرذعة ودبيل سنة (٨٥ ه).
وخرج من أنطاكية
أكثر من ألف إلى طوانة بثغر المصّيصة من ثغور الروم ، فلقيهم الروم في جموع كثيرة
فاصيب نحو من ألف منهم من أهل أنطاكية.
وفي سنة (٨٦ ه)
غزا مسلمة بن عبد الملك بلاد الروم ففتح حصن بولاق وحصن الأخرم قبيل وفاة أبيه.
وفيها في النصف من
شوال مات عبد الملك بدمشق وهو ابن ثلاث وستين سنة .
__________________
الفجر الصادق
لميلاد الصادق عليهالسلام :
مرّت أخبار لحوق
محمّد بن أبي بكر (التيمي) بأمير المؤمنين علي عليهالسلام حضانة وتربية وتأديبا حتى روى عنه عليهالسلام قال فيه : «محمّد ابني من صلب أبي بكر». ومرّ أيضا خبر
لحوق ابنه القاسم النجيب بعمّته عائشة وأنّها احتضنته حاقدة على معاوية قتله
لأخيها محمّد.
ومرّ في أخبار
إجبار معاوية الجبّار لخيار الناس وفيهم عبد الرحمن ابن أبي بكر على البيعة لولاية
عهده ليزيد ، استنكاف عبد الرحمن من ذلك حتّى مات في ظروف غامضة ، وقد صاهره
القاسم النجيب ابن أخيه محمّد بن أبي بكر ، وولد له منها أولاد منهم ابنة له
أسماها فاطمة وعرفت بكنيتها أمّ فروة. وتعلّم القاسم الفقه حتّى عدّ من فقهاء
المدينة المعروفين ، وعلّم ذلك أولاده ومنهم فاطمة.
وشابه القاسم
النجيب الفقيه أباه فأصبح من ثقات الإمام السجاد عليهالسلام إلى جانب سعيد بن المسيّب المخزومي وأبي خالد الكابلي كنكر
وفي حدود الثمانين للهجرة تقرّب الباقر عليهالسلام من صاحب أبيه هذا الفقيه النجيب ليخطب منه ابنته النجيبة
فاطمة لنفسه مباشرة! فطبيعي أن رجّح القاسم أن يكون أبوه السجّاد عليهالسلام هو الذي يخطب له ويزوّجه وطبيعي أن السجاد عليهالسلام باشر ذلك فخطب له منه وزوّجه بها ، وأظن أنه إنّما قدّم
الباقر عليهالسلام قبله لكي لا يكون يحرجه يومئذ.
__________________
وفي اليوم السابع
عشر من شهر ربيع الأوّل من سنة (٨٣ ه) ولد له منها ولد ذكر. ولم يكن السجّاد عليهالسلام يجمع لابنه محمّد بين اسم محمّد وكنية أبي القاسم ، بل كان
يكنّيه بأبي جعفر ، فسمّى ابنه هذا كذلك جعفر ، وكنّاه أبا عبد الله ، وحدّثهم عن
أبيه عن جدّه عن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : إذا ولد ابني جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي
فسمّوه الصادق ، فإنّه سيكون في ولده سمي له يدّعي الإمامة بغير حقّها فيسمّى
كذابا .
هلاك الملك عبد
الملك :
جاء في اليعقوبي :
روى بعضهم : أن رجلا قال لسعيد بن المسيّب : رأيت كأنّ النبيّ موسى واقف على ساحل
البحر ، آخذ برجل رجل يدوّره كما يدوّر
__________________
الغسّال الثوب ،
فدوّره ثلاثا ثمّ دحا به إلى البحر! فما تفسيره؟ فقال سعيد : إن صدقت رؤياك فسيموت
عبد الملك إلى ثلاثة أيام! فلم تمض ثلاثة أيام حتّى جاء نعيه! فسأل الرجل سعيد :
من أين قلت هذا؟ قال : لأنّ موسى غرّق فرعون ، ولا أعلم فرعون هذا الوقت إلّا عبد
الملك .
قال : وخلّف أربعة
عشر ذكرا : الوليد وسليمان وعبد الله ومسلمة ومروان ومعاوية ويزيد والحجّاج وعنبسة
وآخرين. فلما حضرته الوفاة جمعهم وقال للوليد : إذا أنا متّ فشمّر وائتزر والبس
جلد النمر! ثمّ ادع الناس إلى بيعتك فمن قال برأسه كذا فقل بالسيف كذا !
وقال ابن قتيبة :
كان مروان قد زوّج ابنته فاطمة لابن أخيه عمر بن عبد العزيز وكان يومئذ حاضرا
فأوصاه بها وبابنيه الوليد وسليمان ـ وكان قد عهد إليهما على التوالي ـ ثمّ قال
لهم قوموا عصمكم الله وكفاكم! فقاموا وخرجوا من عنده ، ثمّ دعا بالوليد وسليمان
فقال للوليد : اسمع يا وليد ، قد حضر الوداع وذهب الخداع وحلّ القضاء! فبكى الوليد
فقال عبد الملك : لا تعصر عينيك عليّ كما تعصر الأمة الوكاء (القربة) إذا أنا متّ
فاغسلني وكفّني وصلّ عليّ واسلمني إلى عمر بن عبد العزيز يدلّيني في حفرتي. أما
أنت فاخرج للناس والبس لهم جلد النمر واقعد على المنبر! وادفع الناس إلى بيعتك ،
فمن قال بوجهه عنك كذا فقل له بالسيف كذا! وتنكّر للقريب واسمح للبعيد! واوصيك
بالحجّاج خيرا فإنّه هو الذي وطّأ لكم المنابر وكفاكم تقحّم تلك الجرائر! ثمّ مات.
__________________
فخرج الوليد إلى
الناس وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : نعمة ما أجلّها! ومصيبة ما
أعظمها! فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فقد الخليفة ، ونقلت الخلافة .
وقال : أيها الناس
؛ عليكم بالطاعة ولزوم الجماعة ، فإنّه من أبدى ذات نفسه ضربت الذي فيه عيناه !
ثمّ دعا الناس إلى
بيعته ، فلم يختلف عليه أحد. ثمّ كتب ببيعته إلى الآفاق والأمصار ، وإلى الحجّاج
بالعراق فنعى إليه أباه عبد الملك ودعاه إلى بيعته.
فنادى الحجّاج
بالصلاة جامعة ثمّ صعد المنبر فذكر عبد الملك وقرّظه ووصف فعله وقال : كان والله
البازل الذكر! رابعا من الولاة الراشدين المهديين (الامويّين!) وقد اختار له الله
ما عنده! وعهد إلى نظيره في الفضل وشبيهه في الحزم والجلد والقيام بأمر الله!
فاسمعوا وأطيعوا ! فبايع الناس ولم يختلف عليه أحد. ثمّ كتب الحجّاج إلى
الوليد :
أما بعد ، فإنّ
الله تعالى استقبلك ـ يا أمير المؤمنين! ـ في حداثة سنّك بما لا أعلمه استقبل به
خليفة قبلك : من التمكين في البلاد والملك للعباد والنصر على الأعداء! فعليك
بالإسلام فقوّم إوده وشرائعه وحدوده! ودع عنك محبة الناس وسخطهم وبغضهم ، فإنّهم
قلّ ما يؤتى الناس من خير وشر إلّا أفشوه (أو نسوه) في ثلاثة أيام ، والسلام.
__________________
ودخل سليمان على
الوليد وقال له : يا أمير المؤمنين! إعزل الحجّاج ابن يوسف عن العراقين ، فإنّ
الذي أفسد أكثر مما أصلح! فقال الوليد : إنّ عبد الملك قد أوصاني به خيرا! فقال
سليمان : إنّ عزل الحجّاج والانتقام منه من طاعة الله وتركه من معصية الله! فقال
الوليد : سنرى وترون إن شاء الله .
ودفن عبد الملك
وجاء في وصفه : أنّه كان مربوعا أسمر قد طوّل لحيته ، متيقّظا في سلطانه ، حازما
في أمره ، لا يكل الأمور في أعدائه وأهل حربه حتّى يباشرها بنفسه ، ويخطئ كثيرا
ومع ذلك يسلم فتغرّه السلامة.
واستمرّ في
الاعتماد على الكاتب سرجون بن منصور الرومي النصراني كاتب معاوية ، ويزيد قبله ،
ثمّ كتب له عمرو بن الحارث مولى بني عامر واتخذ الأخطل النصراني شاعرا قال فيه : لكل قوم شاعر وشاعر
بني أمية الأخطل! ولما أنشده قوله فيهم :
شمس العداوة حتّى يستقاد لهم
|
|
وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا!
|
طرب له وقال
لغلامه : يا غلام خذ بيده فألق عليه من الخلع ما يغمره! وأنشده الأخطل في الخمرة :
إذا ما نديمي علّني ثم علّني
|
|
ثلاث زجاجات لهنّ هدير
|
خرجت أجرّ الذيل تيها ، كأنّني
|
|
عليك ـ أمير المؤمنين ـ أمير
|
__________________
وكان كثيرا ما
يجلس بعد أبي الدرداء إلى امرأته امّ الدرداء ، وكان قد بلغها أنّه يشرب فيسكر ،
فسألته : يا أمير المؤمنين! بلغني أنّك شربت الطلاء (الخمر) بعد العبادة والنسك!
قال : إي والله والدماء قد شربتها وكأنّه يشير بذلك إلى يأسه وقنوطه من رحمة الله.
وبنو مروان هم
أوّل من ابتدع الأذان لصلاتي الفطر والقربان وهو أول من نقل الديوان من الفارسية
إلى العربية بالترجمان إكمالا لتعريبه دنانير الرومان. نقل السيوطي ذلك وقال : لو
لم يكن من مساوي عبد الملك إلّا الحجّاج وتوليته إيّاه على المسلمين وعلى الصحابة
يذلّهم ويهينهم حبسا وشتما وضربا وقتلا ، وقد قتل من الصحابة وأكابر التابعين ما
لا يحصى فضلا عن غيرهم ، وختم في عنق أنس وغيره من الصحابة ختما يريد بذلك ذلّهم
... فلا رحمهالله ولا عفى عنه .
ولذا قال قبله ابن
الوردي بشأن ابن مروان : كان عالما ديّنا حتّى تولّى! بل نقل فيه عن الحسن البصري
قال : ما أقول في رجل الحجّاج سيّئة من سيّئاته !
الوليد والمسجد
النبويّ الشريف :
كان الوليد قد
صاهر عمه عبد العزيز على ابنته أمّ البنين وقد عهد بدفن أبيه عبد الملك بوصيّته إلى ابن عمه عمر بن
عبد العزيز هذا وهو صهره على اخته
__________________
فاطمة بنت عبد
الملك فولّاه المدينة بمكان هشام بن إسماعيل المخزومي ، وأمره أن يوقف هشاما
لاقتصاص الناس أو مقاضاتهم ؛ لأنه كان قد جار في أحكامه وأساء السيرة. وأن يضرب
البعث للفتوح على أهلها. وأن يهدم حجرات أزواج النبيّ صلىاللهعليهوآله وقد مات كلّهن ،
وكذا المنازل حوله فيدخلها في المسجد ويبنيه من جديد.
فحمل عمر ثقله على
ثلاثين بعيرا إلى المدينة فدخلها مع دخول سنة (٨٧ ه) ، فبدأ بإيقاف هشام المخزومي
، وكان قد تحامل على آل رسول الله صلىاللهعليهوآله فكان يقول : ما أخاف إلّا علّي بن الحسين عليهالسلام فمرّ به وهو موقوف فسلّم عليه! فناداه هشام : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ
رِسالَتَهُ) فاقتدى به سعيد بن المسيّب فلم يعرض له ولا لأحد من أسبابه
وحاميته.
وضرب البعث للغزو
والفتوح على حاملي السلاح من أهل المدينة فأخرج منهم إلى الشام ألفي رجل.
وصالح الوليد ملك
الروم (؟) وكتب إليه يعلمه أنّه قد هدم مسجد رسول الله فليعنه فيه. فبعث إليه بمئة
ألف مثقال ذهبا وأربعين حملا فسيفساء! فبعث الوليد بذلك كله إلى عمرو بن عبد
العزيز.
ولمّا بدأ بهدم
الحجرات (وفيها حجرة عائشة) قام خبيب بن عبد الله بن الزبير (حفيد أختها أسماء)
فقال : نشدتك الله يا عمر أن تذهب بآية من كتاب الله يقول : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ
وَراءِ الْحُجُراتِ). فأمر عمر به فضرب مئة سوط ثمّ نضح عليه بالماء البارد ،
وكان الفصل باردا ، فمات!
__________________
ثمّ هدم الحجرات
والمنازل التي حول المسجد وأدخلها فيه وفرغ من بنائه في سنة (٩٠ ه) ، فحجّ الوليد
سنة (٩١ ه) لينظر إلى المسجد وما اصلح منه ، فلمّا قرب من المدينة جمع عمر أشرافها
وخرج فتلقّاه بهم ، وأخرج من المسجد كلّ من كان فيه إلّا سعيد بن المسيب. فدخل
الوليد وجعل يطوف وسعيد بن المسيب جالس ، فقال الوليد لعمر : أحسب أن هذا سعيد بن
المسيّب؟ قال عمر : نعم ، وقد ضعف بصره ، كأنه يعتذر له منه ، فجاء الوليد حتّى
وقف عليه بلا سلام وقال له : كيف أنت أيها الشيخ؟ فعرفه وقال : يا أمير المؤمنين
نحن بخير وكيف أنت؟ وانصرف الوليد وهو يقول : هذا بقيّة الناس! ثمّ قسم بين أهل
المدينة قسما كثيرة.
فلمّا كان يوم
الجمعة صفّ الجند في المسجد صفّين وخرج الوليد في درّاعة وقلنسوة بلا عمامة ولا
رداء فصعد المنبر وقعد عليه وخطب قاعدا! وتوعّد أهل المدينة فقال لهم : إنّكم أهل
الخلاف والمعصية!
وكان قد جعل على
مكّة خالد بن عبد الله القسري ، وكان قد بعث إليه بثلاثين ألف دينار فضربت كصفائح
على الأساطين داخل الكعبة وعلى الميزاب والأركان والباب ، فكان أوّل من فعل ذلك.
وصار إلى مكّة ففيها أيضا خطب خطبة بتراء فيها الوعيد والتهديد! وفي عرفات نصب
موائد وأطعم الناس .
وعيّن ابن الوردي
مساحة توسعة مسجد النبيّ بمئتي ذراع في مثلها ، وأنّه ثمّن البيوت فوضع أثمانها في
بيت المال ، وقدمت الفعلة والصناع لذلك من الشام وكان البدء بذلك في سنة (٨٧ ه) . وهدم فيما هدم دار علي عليهالسلام الذي كان في المسجد .
__________________
الوليد ومسجد دمشق
:
قال اليعقوبي :
وابتدأ في سنة (٨٨ ه) ببناء مسجد دمشق فأنفق عليه أموالا عظاما وكان في محلّه كنيسة فهدمها وهي كنيسة ماري حنّا ، وكانت قد سلمت للرومان بدمشق
لوقوعها في النصف من دمشق الذي أخذ صلحا ، فأدخلها في جملة الجامع ، وجاءه الصناع
لعمارته من بلاد الروم وبلاد الإسلام واستبدلوا محلّ الناقوس بالمئذنة ، فهي من أوائل المآذن
المبنية في الإسلام.
وأنفق عليه
أربعمئة صندوق من الذهب في كلّ صندوق أربعة عشر ألف أو أربعة وعشرون ألف أو ثمانية
وعشرون ألف دينار! فلامه الناس عليه فقال : إنّما هذا من مالي !
__________________
وأمر الوليد أن
يكتب بالذهب على اللازورد على حائط المسجد! ربّنا الله لا نعبد إلّا إياه. أمر
ببناء هذا المسجد وهدم الكنيسة التي فيه عبد الله الوليد أمير المؤمنين في ذي
الحجة سنة سبع وثمانين .
فتوح في الروم
والأسبان وخراسان :
وكان مسلمة بن عبد
الملك على مكّة فصرفه أخوه الوليد إلى غزو الروم فغزاهم سنة (٨٧ ه)؟ فافتتح بلدة
قمقم وبجرة الفرسان وبلغ عسكره قلوذى ماثلس وسبى منهم وانصرف عنهم. وعاد عليهم في
شتاء السنة التالية (٨٨ ه) ومعه العباس بن أخيه الوليد فرابطا على أنطاكية وشتّوا
بها ، وجمع الروم لهم جمعا كثيرا فزحفوا إليهم ، فقاتلوهم وافتتحوا سوسنة وطوانة
من ثغور مصيصة ، وقيل قتل من الروم خمسون ألفا ، وانصرفوا. وفي سنة (٨٩ ه) غزا
مسلمة عمورية فلقي جمعا من الروم فهزمهم. وفي سنة (٩٠ ه) افتتح خمسة حصون من
سورية! وفي (٩١ ه) عزل الوليد أخاه محمّدا عن الجزيرة وأرمينية وأذربايجان
وولّاها أخاه مسلمة فغزا أذربايجان ففتح حصونا ومدائن منها حتّى بلغ الباب ودان له
من وراءها .
وقال اليعقوبي :
وفي سنة (٩١ ه) ولّى الوليد موسى بن نصير اللخمي (مولاهم) على بلاد الأندلس
ووجّهه إليها ومعه مولاه طارق بن زياد وقال خليفة : بل في سنة (٨٧ ه) فأغزى عبد الله بن حذيفة
الأزدي إلى سردانية
__________________
من بلاد المغرب
فأصاب سبيا وغنم وسلم. وأغزاها ابنه عبد الله فافتتح بلدة قولة . وفي (٨٩ ه) أغزاه فغزا ميورقة ومنورقة جزيرتين بين صقلية
والأندلس فافتتحهما. وأغزى ابنه مروان السوس الأقصى فافتتحها وبلغ سبيها أربعين
ألفا !
وقال اليعقوبي :
في سنة (٩١) وجّه مولاه طارقا فالتقى الإدريق ملك الأندلس وقال المسعودي : عبر طارق إلى الأندلس (من مضيق طارق)
وقاتل الاذريق ملك الإشبان الذين كانوا بالأندلس وزحف طارق إليه فاقتتلوا قتالا شديدا ، وفتح الأندلس ، ثمّ
خرج موسى إلى البلد فلقيه طارق وترضّاه فرضى عنه ووجّهه إلى مدينة طليطلة من عظائم
مدائن الأندلس على مسيرة عشرين يوما! فافتتحها وأصاب فيها مائدة ذهب مفصّصة
بالجواهر فبعث بها إلى ابن نصير.
وكان قتيبة بن
مسلم الباهلي عامل الحجّاج الثقفي في الريّ فكتب الحجّاج إليه أن يذهب بمن معه إلى
مرو فيقبض على أبناء المهلّب بن أبي صفرة الأزدي : يزيد والمفضّل وبني أبيه
فيوثقهم ويشخصهم إلى الحجّاج ، فقد عزلهم وولّاه بدلهم على خراسان. فسار قتيبة بمن
معه من الريّ حتّى قدم مرو فأخذ ولد المهلّب وأشخصهم إلى الحجّاج ، فطالبهم بستّة
آلاف ألف درهم (ملايين) وحبسهم في ذلك وعذّبهم لذلك بأشدّ عذاب ، فسألوه أن يدخل إليهم التجار
ليبيعوهم أموالهم
__________________
وضياعهم فيوفّوه
ما أراد ، فأدخل عليهم التجار ، وكانوا قد تقدّموا إلى ذويهم أن يعدّوا لهم طعاما
كثيرا ويدخلوا عليهم النجائب ، فركبوها واختلطوا بغمار الناس وخرجوا معهم متنكّرين
إلى دمشق الشام! فصاروا إلى عبد العزيز بن الوليد فشفع لهم عند أبيه الوليد فآمنهم
وأحضرهم وصالحهم على نصف ما أراد الحجّاج : ثلاثة آلاف ألف درهم (ملايين) .
ثمّ صار قتيبة
الباهلي إلى بخارى فافتتحها ومدنا منها معها ، وخلّف فيها ورقاء بن نصر الباهلي
وانصرف عنها ، فلمّا انصرف قتيبة تحرّك صاحب السغد طرخون وحاكم بخارى في الأتراك
لقتال قتيبة ، فوجّه قتيبة حيّان النبطي إليهم فصالحهم. وكان على الطالقان (من
خراسان) بادام ، وكان قتيبة قد خاف عصيانه وطغيانه فاصطحب معه ابنه وجماعة رهينة ،
ومع ذلك عصى وتغلّب على البلد وتحصّن به وارتدّ ، فلمّا بلغ ذلك إلى قتيبة أمر
بقتل الرهائن وصلبهم ، ثمّ التقى بادام فقاتله أيّاما حتّى ظفر به فقتله وولده
وامرأته ، واستعمل على البلد أخاه عمرو بن مسلم.
وكان يترك خان
الترك من طخارستان قد أسلم وتسمّى عبد الله وكان يحضر مع قتيبة في حروبه ، فلمّا
افتتح قتيبة بخارى والطالقان استأذنه يترك ليرجع إلى بلاده طخارستان فأذن له ،
فلمّا عاد إليها كاتب الناس وبدأ يجمع الجموع عاصيا ، فزحف إليه قتيبة ووجّه إليه
قبله سليم الناصح فأعطاه الأمان من قتيبة فخرج إليه فقتله قتيبة وبعث برأسه إلى
الحجاج.
ثمّ سار قتيبة إلى
السغد فخرج إليه صاحبهم فصافّه أيّاما ثمّ هرب فانصرف قتيبة عنهم.
__________________
وكتب الحجّاج إليه
يأمره أن يصير إلى سجستان فيحارب رتبيل ملك ثغر الهند ، وذلك في سنة (٩٢ ه) فسار
حتّى صار إلى زالق وزحف إلى رتبيل ، ثمّ بدا له فولّى لذلك عبد ربّه الليثي وانصرف
عنه. وكان قد بلغه أنّ سعيد بن ونوفار في خوارزم قد خرج على عامل قتيبة وقتله ،
فسار قتيبة إلى خوارزم حتّى قدمها وحاصر سعيد بن ونوفار حتّى قتله وسبى مئة ألف!
وانصرف بغنائم لم يسمع بمثلها ، وأصلح البلاد. واستخلف عليها عبد الله الكرماني.
وأراد جنده أن يرجعوا بما في أيديهم إلى أوطانهم فلم يأذن لهم قتيبة أن يبرحوا
وكان قد بلغه أن غوزك قد قتل طرخون ملك السغد في سمرقند وتملك على البلد ، فسار
بأنصاره إليهم وقاتل غوزك في حروب شديدة ، ثمّ دعاه إلى الصلح فأذعنوا له ، واتّخذ
غوزك ملك سمرقند لهم طعاما وكتبوا كتاب الصلح كذا : هذا ما صالح عليه قتيبة بن
مسلم غوزك أخشيد السغد وأفشين سمرقند ، على السغد وسمرقند وكشّ ونسف ، صالحه على
ثلاثة آلاف درهم يؤدّيها غوزك إليّ رأس كلّ سنة. وجعل له عهد الله وذمّته وذمّة
الأمير الحجّاج بن يوسف وأشهد شهودا ، وكان ذلك في سنة (٩٤ ه) وولّى عليها أخاه
عبد الرحمن بن مسلم وخرج منها. فأتاهم ملك الترك خاقان وغدر به أهل سمرقند فكتب
بذلك إلى أخيه قتيبة ، فتوقّف قتيبة حتّى ينحسر الشتاء ثمّ سار إليه فهزم الأتراك
، واستقامت له خراسان .
وفتوح في السند
والهند :
قال اليعقوبي :
وجّه الحجّاج محمّد بن القاسم الثقفي سنة (٩٢ ه) إلى السند ، وأمره أن يقيم
بشيراز من أرض فارس حتّى يمكن الزمان. فقدم محمّد شيراز وأقام بها ستة أشهر ، ثمّ
سار في ستة آلاف فارس إلى مكران فأقام بها نحو شهر ،
__________________
ثمّ زحف إلى
قنّزبور فحاربهم شهورا حتّى فتحها فغنم وسبى. ثمّ زحف إلى ارمائيل فحاربهم أيّاما حتّى
فتحها فأقام بها شهورا. ثمّ زحف إلى الدّيبل في خلق عظيم حتّى بلغها وأقام يحاربهم
عدّة شهور ثمّ وضع السلالم على سورها وأصعد إليها الرجال حتّى فتحها عنوة ، فقتل
المقاتلة. وكان لهم بدّ (بت : صنم) يعبدونه طوله أربعون ذراعا فكسره ، ووجد له
سبعمئة راتبة لخدمته ، وأخذ من ذلك المعبد أموالا عظاما. ثمّ سار من الدّيبل إلى
البيرون فصالحهم ، ثمّ كتب إلى الحجّاج يستأذنه هل يتقدّم؟ فكتب إليه أن سر فأنت
أمير على ما فتحته! فمضى محمّد الثقفي لا يمرّ ببلد إلّا غلب عليه ولا مدينة إلّا
فتحها صلحا أو عنوة ، حتّى عبر نهر السند دون شط مهران ، ثمّ سار إلى سهبان ففتحها
، ثمّ سار نحو شطّ مهران ، فلمّا بلغ إلى ملك السند داهر مكان الثقفي وجّه إليه
جيشا عظيما ، فلقى ابن القاسم ذلك الجيش فهزمه ، فزحف إليه داهر بجمعه وبنفسه
فأقام مواقفا له عدّة شهور ، ثمّ زحف إليه داهر على فيله واشتدت الحرب بينهما
وأخذت من الفريقين ، حتّى عطش فيل داهر فغلب فيّاله فترجّل منه داهر ونزل يقاتل
حتى قتل وانهزم جيشه ، وفتح المسلمون ، وكتب محمد إلى الحجّاج بالفتح وبعث إليه
برأس داهر ، وحمل امرأة داهر معه.
ثمّ مضى في بلاد
السند ففتح بلدا بلدا ومدينة مدينة حتى أتى الرور أعظم مدائن السند فحاصرها حصارا
شديدا ، ثمّ بعث إليهم بامرأة داهر قالت لهم : إنّ الملك قد قتل فاطلبوا الأمان!
فطلبوه ، ونزلوا على حكمه وفتحوا له باب المدينة ، فدخلها ، ثمّ استخلف عليها ومضى
يقطع سائر البلاد ويفتح مدينة مدينة. وكتب الحجّاج إليه : إنّي كنت قد ضمنت لأمير
المؤمنين الوليد أن أردّ إلى بيت المال ما أنفقت لهذا الغزو فأخرجني من ضماني!
فحمل إليه أكثر ممّا أنفق. وأقام بالسند حتّى هلك الحجّاج والوليد .
__________________
ونقل خليفة عن أبي
عبيدة قال : ولّى الحجّاج محمّدا الثقفي وهو ابن سبع عشرة سنة! ولذا قال الشاعر :
قاد الجيوش لسبع عشرة حجة
|
|
يا قرب ذلك سؤددا من مولد
|
وروى أنّ داهر
داهمهم ذات ليلة فقاتلوه فقتلوه وهزم أصحابه فأتبعهم محمّد حتّى أتى مدينة براهما
فحاصرها حتّى فتحها ، ثمّ سار إلى الكيرج فافتتحها سنة (٩٣) وفي سنة (٩٥) افتتح
مدينة المولتان .
ونقل عن عوانة بن
الحكم قال : في المحرم سنة (٩٣) غزا موسى بن نصير اللخمي (مولاهم) مدينة طنجة على
البحر فافتتحها. ثمّ عبر البحر لا يأتي على مدينة حتّى ينزلوا على حكمه أو يفتحها
عنوة ، حتّى سار إلى قرطبة (كارتوبا) ثمّ اتّجه غربا فافتتح بلدة باجة على البحر ،
ثمّ افتتح مدينة البيضاء ، ثمّ وجّه الجيوش فجعلوا يفتحون ويغنمون!
وفي سنة (٩٤) بعث
موسى بن نصير بالخمس من الأندلس إلى الوليد وقدم إليه بما معه من التيجان والأموال
يخبره بما فتح الله عليه. وفي سنة (٩٥) استخلف ابنه عبد الله بن موسى على إفريقية
وقفل منها يحمل الأموال ومعه ثلاثون ألف رأس (؟!) إلى الوليد .
قال : وفي سنة (٩٣
ه) كان أنس بن مالك الأنصاري النجّاري قد بلغ مئة سنة وثلاث سنين فتوفي ، فكان آخر الأنصار بل الصحابة موتا.
__________________
ونطق الفرزدق
بالحّق :
روى الكشيّ عن
العيّاشي عن الغلّابي البصري عن ابن عائشة عن أبيه محمّد بن عائشة : أنّ هشام بن
عبد الملك حجّ في خلافة أبيه أو أخيه الوليد ، فطاف بالبيت وأراد أن يستلم الحجر
الأسود فلم يقدر عليه من الزحام ، فنصب له منبر فجلس عليه وأطاف به أهل الشام
ومعهم الفرزدق الشاعر. فبينا هو كذلك إذ أقبل عليّ بن الحسين عليهالسلام وعليه إزار ورداء ، وهو من أحسن الناس وجها وأطيبهم رائحة
، بين عينيه سجّادة كأنّها ركبة عنز! فجعل يطوف بالبيت فإذا بلغ إلى موضع الحجر
تنحّى الناس عنه حتّى يستلم! هيبة منه وإجلاله له!
فقال رجل من أهل
الشام لهشام : يا هشام! من هذا الذي قد هابه الناس هذه الهيبة وأفرجوا له عن الحجر؟
وقد عرفه هشام ولكنّه قال : لا أعرفه! مخافة أن يرغب فيه أهل الشام! وكان الفرزدق
همّام بن غالب البصري حاضرا فقال :
لكنّي أعرفه!
فالتفت إليه الشامي وقال له : من هو يا أبا فراس! فأنشأ يقول :
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
|
|
والبيت يعرفه والحلّ والحرم
|
هذا ابن خير عباد الله كلّهم
|
|
هذا التقيّ النقيّ الطاهر العلم
|
هذا عليّ ، رسول الله والده
|
|
أمست بنور هداه تهتدي الامم
|
إذا رأته قريش قال قائلها
|
|
إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
|
ينمى إلى ذروة العزّ التي قصرت
|
|
عن نيلها عرب الإسلام والعجم
|
يكاد يمسكه عرفان راحته
|
|
ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
|
يغضي حياء ويغضى من مهابته
|
|
فما يكلّم إلّا حين يبتسم
|
ينجاب نور الهدى عن نور غرّته
|
|
كالشمس ينجاب عن إشراقها الظلم
|
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله
|
|
بجدّه أنبياء الله قد ختموا
|
__________________
قال : فغضب هشام
وأمر بحبس الفرزدق ، فحبس في عسفان بين مكة والمدينة ، فجعل الفرزدق يهجو هشاما
وممّا هجاه به قوله :
أيحسبني بين المدينة والتي
|
|
إليها قلوب الناس يهوي منييها
|
يقلّب رأسا لم يكن رأس سيد
|
|
وعينا له حولاء باد عيوبها
|
وبعث إليه علّي بن
الحسين عليهالسلام باثني عشر ألف درهم وقال له : أعذرنا يا أبا فراس ، فلو
كان عندنا أكثر من هذا لوصلناك به! فردّها وقال : يابن رسول الله! ما قلت الذي قلت
إلّا غضبا لله ولرسوله! وما كنت لأقبل عليه أجرا! فردّها علّي بن الحسين عليهالسلام وعليه قال له : بحقّي عليك لمّا قبلتها! فقد رأى الله
مكانك وعلم نيّتك! فقبلها الفرزدق. ولمّا بلغ هشاما أنّ الفرزدق يهجوه بعث إليه
فأخرجه خوف الفضيحة ، ولم يكن خليفة ولا وليا للعهد ليمكنه أن
يفتك به ، ولعلّ الفرزدق وافق هوى في ذلك للخليفة الوليد فتجرّأ؟ على أخيه هشام.
وكأنه بلغ الوليد
أن كثيرا من الحجّاج الذين لم يكترثوا لهشام ولكنّهم انفرجوا للسجّاد عليهالسلام إكراما هم من العراقيين الفارّين من جور الحجّاج ، فكتب
اليعقوبي : أنّ الوليد كتب إلى عامله على الحجاز خالد بن عبد الله القسري يأمره
بإخراج من بالحجاز من أهل العراقين وحملهم إلى الحجّاج بن يوسف! فنادى مناديه
بمّكة والمدينة ـ وأكثرهم بها ـ : ألا برئت الذمّة ممن آوى عراقيّا! ثمّ بعث
__________________
خالد إلى المدينة
عثمان بن حيّان المرّي لإخراج من بها من أهل العراقين! وكان جماعاتهم يجتمعون في
الجوامع فأخرجهم جميعا إلى الحجّاج ولم يترك تاجرا ولا غير تاجر ، وكان لا يبلغه
أنّ أحدا منهم في دار أحد بالمدينة إلّا أخرجه .
وكأنّ هذا الأمر
عمّ العراقيين وخصّ منهم التابعيّ الجليل سعيد بن جبير مولى بني والبة من أسد
الكوفة ، وقد نصّ الصادق عليهالسلام على أنه كان مستقيما وكان يأتمّ بعليّ بن الحسين عليهالسلام. وكان علي يثني عليه وكان سعيد آخر من قتله الحجّاج ثمّ هلك ، فإلى خبره.
مقتل سعيد بن جبير
مولى بني أسد :
بلغ (الوليد بن)
عبد الملك أنّ سعيد بن جبير قد لجأ إلى مكّة ، فولّى عليها خالد بن
عبد الله القسري بكتاب قرأه عليهم فيه : إلى أهل مكّة! أمّا بعد ، فإنّي قد ولّيت
عليكم خالد بن عبد الله القسري فاسمعوا له وأطيعوا ، ولا يجعلنّ امرؤ على نفسه
سبيلا ، فإنّما هو القتل لا غير ، وقد برئت الذمّة من رجل آوى سعيد بن جبير ،
والسلام!
ثمّ التفت خالد
إليهم وقال : والذي نحلف به ونحجّ إليه! لا أجده في دار أحد إلّا قتلته وهدمت داره
ودار كلّ من جاوره واستبحت حرمته! وقد أجّلتكم فيه ثلاثة أيّام! ثمّ نزل.
__________________
فأخبره رجل أنّ
سعيد بن جبير بواد من أودية مكّة بمكان كذا مختفيا. فأرسل خالد في طلبه. فأتاه
الرسول ولكنّه قال له : إنّما امرت بأخذك ولكنّي أعوذ بالله من ذلك فالحق بأيّ بلد
شئت وأنا معك! قال ابن جبير : ألك أهل وولد هنا؟ قال : نعم. قال : فإنّهم يؤخذون
وينالهم مثل ما ينالني! قال : فإنّي أكلهم إلى الله! قال سعيد : لا يكون هذا! فأتى
به إلى خالد ، فشدّه وثاقا وبعث به إلى الحجّاج ، كذا أمره ابن مروان.
وكان معه جند من
الشام فقال له أحدهم : إنّ الحجّاج قد أنذر به وأشعر قبلك فما عرض له ، فلو جعلته
فيما بينك وبين الله (؟) لكان أزكى من كلّ عمل يتقرّب به إلى الله!
وكان خالد حينها
مسندا ظهره إلى الكعبة فقال : والله لو علمت أنّ (الوليد بن) عبد الملك لا يرضى
عنّي إلّا بنقض هذا البيت حجرا حجرا لنقضته لمرضاته!
فلمّا قدموا بسعيد
على الحجّاج سأله : ما اسمك؟ قال : سعيد. قال : ابن من؟ قال : ابن جبير. قال : بل
أنت شقيّ بن كسير! قال : امي أعلم باسمي واسم أبي. قال : شقيت وشقيت امك! قال سعيد
: الغيب يعلمه غيرك! قال الحجّاج : لاوردنّك حياض الموت! قال سعيد : إذن أصابت
اميّ في اسمي! قال الحجّاج : لابدلنّك بالدنيا نارا تلظّى! قال سعيد : ولو أنّي
أعلم أنّ ذلك بيدك لاتخذتك إلها! قال : الحجّاج : فما قولك في محمّد؟ قال سعيد :
نبي الرحمة ورسول ربّ العالمين إلى الناس كافّة بالموعظة الحسنة! فقال الحجّاج :
فما قولك في الخلفاء؟ قال سعيد : لست عليهم بوكيل (كُلُّ امْرِئٍ بِما
كَسَبَ رَهِينٌ) قال الحجّاج : أشتمهم أم أمدحهم؟ قال سعيد : لا أقول إلّا
ما أعلم ، إنمّا استحفظت أمر نفسي. قال
__________________
الحجّاج : أيّهم
أعجب إليك؟ قال : يفضل بعضهم على بعض ، قال : صف لي قولك في علي! أفي الجنة هو أم
في النار؟ قال سعيد : لو دخلت الجنة فرأيت أهلها علمت ، ولو رأيت من في النار علمت
، فما سؤالك عن غيب قد حفظ بالحجاب! قال الحجّاج : فأيّ رجل أنا يوم القيامة؟! قال
سعيد : أنا أهون على الله من أن يطلعني على الغيب! قال : أبيت أن تصدقني! قال سعيد
: بل لم أرد أن اكذبك! قال الحجّاج : فدع عنك هذا كلّه ، وأخبرني ما لك لم تضحك
قّط؟ قال : وكيف يضحك مخلوق من طين والطين تأكله النار ومنقلبه إلى الجزاء ، واليوم
يصبح ويمسي في الابتلاء! قال الحجّاج : فأنا أضحك. قال سعيد : كذلك خلقنا الله
أطوارا! قال الحجّاج : هل رأيت شيئا من اللهو؟ قال : لا أعلمه. فدعا الحجّاج
بالعود والناي وأمر بضربهما ، فلمّا ضرب بالعود ونفخ في الناي بكى! قال : ما يبكيك؟
قال : أما هذه النفخة فذكّرتني يوم النفخة في الصور! وأمّا هذه المصران فمن نفس هي
معك إلى الحساب ، وأما هذا العود فقد نبت بالحقّ وقطع لغير الحقّ! فقال الحجّاج :
أنا قاتلك! قال سعيد : قد فرغ من تسبّب موتي. قال الحجّاج : أنا أحب إلى الله منك!
قال سعيد : لا يقدم أحد على ربّه حتّى يعرف منزلته منه ، والله أعلم بالغيب. قال
الحجّاج : كيف لا أقدم على ربّي في مقامي هذا وأنا مع إمام الجماعة وأنت مع إمام
الفرقة والفتنة؟! قال سعيد : ما أنا بخارج عن الجماعة ولا أنا براض بالفتنة ،
ولكنّ قضاء الربّ نافذ لا مردّ له.
قال الحجّاج : كيف
ترى ما نجمع لأمير المؤمنين؟ ودعا بذهب وفضة وجواهر وكسوة!
فقال سعيد : هذا
حسن إن قمت بشرطه! قال : وما شرطه؟ قال : أن تشتري له بما تجمع من هذا الأمن من
الفزع الأكبر يوم القيامة! وإلّا فإنّ كلّ مرضعة تذهل عمّا أرضعت وتضع كل ذات حمل
حملها ، ولا ينفعه إلّا ما طاب منه. قال : فترى جمعنا طيبا؟ قال : برأيك جمعته
فأنت أعلم بطيبه. قال : أتحبّ أن يكون لك
شيء منه؟ قال : لا
احب ما لا يحب الله! قال : ويلك! قال : الويل لمن زحزح عن الجنة وادخل النار! قال
: فاقتلوه!
فقال له : يا
حجّاج! فإنّي اشهدك أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأن محمّدا عبده ورسوله
، أستحفظكهنّ حتّى ألقاك يا حجّاج. فأخذوه فلمّا أدبر سمع يضحك فقال الحجّاج : ما
يضحكك يا سعيد؟ قال : عجبت من جرأتك على الله وحلم الله عليك! قال الحجّاج : إنّما
أقتل من شقّ عصا الجماعة ومال إلى الفرقة التي نهى الله عنها. اضربوا عنقه.
فقال سعيد : حتّى
اصلي ركعتين فلمّا استقبل القبلة قال الحجّاج : اصرفوه عن القبلة إلى قبلة النصارى
الذين تفرّقوا واختلفوا بغيا بينهم فإنّه من حزبهم! فصرفوه عن القبلة فتلا : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ
اللهِ) الكافي بالسرائر. فقال الحجّاج : لم نوكل بالسرائر وإنما
وكلنا بالظواهر. قال سعيد : اللهمّ لا تترك له ظلمي واطلبه بدمي واجعلني آخر قتيل
يقتله من امّة محمّد! فقال الحجّاج : لا أخاف إلّا دعاء من هو في ذمّة الجماعة من
المظلومين ، فأمّا أمثال هؤلاء فإنّهم ظالمون حين خرجوا عن جمهور المسلمين! فقتلوه.
فقيل : لم يفرغ من قتله حتى خولط في عقله فجعل يصيح : قيودنا قيودنا !
ولمّا ضربت عنق
سعيد سقط رأسه يتدحرج على الأرض ويسمع منه : لا إله إلّا الله ، ولم يزل كذلك حتّى
أمر الحجّاج بعض رجاله أن يضع رجله على فيه! ففعل فسكت.
وروى في محاجّة
الحجّاج إيّاه قال له : قدمت الكوفة فجعلتك إماما! وليس يؤمّ بها إلّا عربي! ثمّ
إنّي ولّيتك القضاء فضجّ أهل الكوفة وقالوا : لا يصلح
__________________
القضاء إلّا لعربي!
فاستقضيت أبا بردة (بن أبي موسى الأشعري) وأمرته أن لا يقطع أمرا دونك! وجعلتك من
سمّاري! فما أخرجك عليّ؟! والله لأقتلنّك! وقتله وله ابنان : عبد الله وعبد الملك!
وله تسع وأربعون سنة في سنة أربع وتسعين .
وكذلك ذكره أبو
نعيم وقال : كان ذلك في شعبان في بلدة واسط ودفن بظهرها وقبره بها معلوم معروف ، وهلك
الحجّاج بعده بستة أشهر في سنة (٩٥ ه) وله أربع وخمسون سنة ، على رأس عشرين عاما
من إمرته على العراقين وقال المسعودي : كان في شهر رمضان قبل موت الوليد بتسعة
أشهر وقبل قتل سعيد قتل كميل بن زياد ، فنذكره هنا.
قتل كميل بن زياد
النخعي :
كان كميل بن زياد
النخعي من القرّاء الذين شاركوا في خروج عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث الكندي على
الحجّاج وبني امية في وقعة دير الجماجم وكان قد بلغ الحجّاج أنّ كميلا كان ممّن شارك في الثورة
على عثمان ، فأمر بطلبه فهرب منه مختبئا في قومه ، فحرم قومه النخع عطاءهم ، فلمّا
رأى كميل ذلك قال لهم : أنا شيخ كبير قد نفد عمري فلا ينبغي أن احرم قومي
عطيّاتهم. فخرج وأسلم بيده للحجّاج ، فلما رآه قال له : لقد كنت أحبّ أن أجد عليك
سبيلا! فقال له كميل :
__________________
لا تصرف عليّ
أنيابك ولا تهدّم عليّ ، فو الله ما بقي من عمري إلّا مثل كواسل الغبار ، فاقض ما
أنت قاض ، فإن الموعد الله ، وبعد القتل الحساب! ولقد خبّرني أمير المؤمنين علي بن
أبي طالب عليهالسلام أنك قاتلي! فقال له الحجّاج : الحجة عليك إذن! فقال كميل :
ذاك إن كان القضاء إليك .
فقال له الحجّاج :
أنت الذي فعلت بعثمان كذا؟! فقال كميل : لا تكثر عليّ اللوم ولا تهل عليّ الكثيب ،
وما ذاك؟ رجل لطمني فأنفد صبري وعفوت عنه ، فأيّنا كان المسيء؟ فأمر به فضربت عنقه
بالكوفة ، ودفن بالثوية بظهر الكوفة إلى النجف ، وقبره بها معلوم معروف
مشهور.
هلاك الحجّاج :
قال المسعودي :
بلغ عدد من قتله الحجّاج صبرا في غير حروبه : مئة وعشرين ألفا ؛ منهم كميل بن زياد
النخعي صاحب علي بن أبي طالب عليهالسلام وسعيد بن جبير صاحب عبد الله بن العباس ، مولى لبني والبة
من أسد الكوفة. وتوفى الحجّاج وفي محبسه خمسون ألف رجل ، وثلاثون ألف امرأة! وكان
حبسه لا يكنّهم من برد ولا حرّ ، ويسقون الماء مشوبا بالرماد!
وكان قد تولّى
العراق وخراجها مئة ألف ألف (مليون) درهم ، فلم يزل بعنته وسوء سياسته حتّى صار
خراجها خمسة وعشرين ألف ألف (مليون) درهم ، أي ربع ما كان من قبل .
__________________
وقال ابن العبري :
وكان الحجّاج مبتلى بأكل الطين! وكان له طبيبان نصرانيان : يتاذوق ، وثاودون ،
فدخل هذا الثاني عليه يوما فقال له : ما دواء أكل الطين؟ قال : أيّها الأمير عزيمة
مثلك! فلم يعد إليها بعدها.
وذكروا أنّه أخذه
السل فهجره النوم فأحضر منجما فسأله : هل ترى ملكا يموت؟ قال : نعم أرى ملكا يموت
ولكن اسمه كليب! فقال : بذلك سمّتني امّي! قال المنجّم : كذلك تدل عليه النجوم!
قال الحجّاج : فلاقدمنّك أمامي! ثمّ أمر به فضربت عنقه! ثمّ مات الحجّاج .
وقال ابن الوردي :
كان الحجّاج أخفش فصيحا رقيق الصوت! وقال عمر بن عبد العزيز : لو جاءت كلّ امّة
بمنافقيها وجئنا بالحجّاج لفضلناهم !
وكان الحجّاج
يستخلف على عمله يزيد بن أبي مسلم ، فأقرّه الوليد بن عبد الملك على ذلك .
وفاة الإمام
السجّاد عليهالسلام :
مرّ الخبر عن عدم
اكتراث الحجّاج بهشام وانفراجهم للإمام السجّاد عليهالسلام ، وأنّ كثيرا منهم كان من حجّاج العراق الفارّين من الحجاج
، وأن الوليد أمر بردّهم إليه عموما وخصّ منهم سعيد بن جبير ، وجاء فيه عن الصادق عليهالسلام قال : كان يأتمّ بعلي بن الحسين عليهالسلام وما كان سبب قتل الحجّاج له إلّا على هذا الأمر !
__________________
والحجّاج إنّما
قتله بإرسال الوليد إيّاه إليه لذلك كما مرّ خبره ، فلو كان قتله لا لائتمامه بعلي
بن الحسين عليهالسلام ، فلا بعد فيما جاء أنّ الوليد سمّ الإمام عليهالسلام .
ولم يأت فيما رواه
الكليني عن الحميري بسنده عن الصادق عليهالسلام قال : عاش عليّ بن الحسين بعد الحسين عليهماالسلام خمسا وثلاثين سنة ، وقبض وهو ابن سبع وخمسين سنة في عام
خمس وتسعين .
وقال المسعودي :
في سنة (٩٥) قبض عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ، في ملك الوليد .. وهو ابن
سبع وخمسين سنة ، وهو السجّاد وذو الثفنات وزين العابدين ، ودفن بالمدينة في بقيع
الغرقد مع عمّه الحسن بن علي. وكلّ عقب الحسين من عليّ هذا .
وقال ابن الوردي :
في سنة (٩٤) وقيل (٩٥) توفّى عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب. الذي سلم من
القتل ؛ لأنّه كان مريضا على الفراش (لا لصغره) وكان كثير العبادة ، ولهذا سمّي زين
العابدين. توفّي في المدينة ودفن بالبقيع ، وعمره ثمان وخمسون سنة .
وصاياه الأخيرة
وصدقة السرّ :
روى ابن الصبّاغ
المالكي قال : دخل جماعة على عليّ بن الحسين عليهالسلام عائدين له ، فقالوا له : كيف أصبحت يابن رسول الله فدتك
أنفسنا؟ قال : في عافية ، والله المحمود على ذلك. ثمّ قال لهم : كيف أصبحتم أنتم
جميعا؟ قالوا :
__________________
أصبحنا والله يابن
رسول الله لك وادّين محبّين. فقال : من أحبّنا لله تعالى أدخله الله ظلا ظليلا يوم
لا ظلّ إلّا ظلّه ، ومن أحبّنا يريد مكافأتنا كافأه الله عنّا بالجنة ، ومن أحبّنا
لغرض دنيا آتاه الله رزقه من حيث لا يحتسب .
وروى الخرّاز في «كفاية
الأثر» : أنّه عليهالسلام في أيّام مرضه جمع أولاده محمّدا والحسن وعبد الله وزيدا
والحسين ، وقال لأبي جعفر الباقر عليهالسلام : يا بني ، العقل رائد الروح ، والعلم رائد العقل ، والعقل
ترجمان العلم. واعلم أنّ العلم أبقى ، واللسان أكثر هذرا ، وأنّ صلاح الدنيا
بحذافيرها في كلمتين بهما إصلاح شأن المعايش : ملء مكيال : ثلثاه فطنة وثلثه تغافل
؛ لأنّ الإنسان لا يتغافل عن شيء قد عرفه ففطن له. واعلم أنّ الساعات تذهب عمرك ،
وأنّك لا تنال نعمة إلّا بفراق اخرى. وإيّاك والأمل الطويل ، فكم من مؤمّل أملا لا
يبلغه ، وجامع مال لا يأكله ، ومانع ما سوف يتركه ، ولعلّه من باطل جمعه ، ومن حقّ
منعه ، أصابه حراما وورّثه واحتمل إصره وباء بوزره ، ذلك هو الخسران المبين. ثمّ
أوصى بالإمامة إليه .
وروى الكليني بسنده
قال : التفت علي بن الحسين عليهالسلام وهو في الموت إلى ولده وهم مجتمعون عنده ، وكان قد أخرج
قبل ذلك صندوقا عنده ، فالتفت إلى محمّد ابنه وقال له : يا محمد احمل هذا الصندوق
واذهب به إلى بيتك. فحمل بين أربعة .
__________________
وروى بسنده عن
الصادق عليهالسلام قال : لمّا كانت الليلة التي وعد فيها عليّ بن الحسين عليهماالسلام قال لأبي : يا بني أبغني وضوءا (ماء للوضوء) قال أبي :
فقمت فجئته بوضوء ، فقال : إنّ فيه شيئا ميتا! قال : فخرجت فجئت بالمصباح فإذا فيه
فأرة ميتة! فجئته بوضوء غيره ، فقال : يا بني هذه الليلة التي وعدتها.
وروى بسنده عن
الكاظم عليهالسلام قال : إنّ عليّ بن الحسين عليهماالسلام لما حضرته الوفاة اغمي عليه ثمّ فتح عينيه وقرأ : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) و (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ) ثمّ تلا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ
حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) ثمّ لم يقل شيئا حتّى قبض من ساعته.
وفي آخر الخبر
السابق قال : لمّا مات عليّ بن الحسين عليهماالسلام فقد ناس من كان يخرج إليهم في الليلة الظلماء يحمل جرابا
فيه صرر فيها دراهم ودنانير ، حتّى يأتي بابا بابا فيقرعه ثمّ ينيل من يخرج إليه ،
فلمّا مات عليّ بن الحسين علموا أنّ عليا عليهالسلام كان يفعله .
ونقله الحلبي فلم
يذكر صرار الدرهم والدينار وزاد : وكان إذا ناول فقيرا غطّى وجهه لئلّا يعرفه.
وأضاف : وفي خبر : أنّه كان إذا جنّ الليل وهدأت العيون قام فجمع ما بقي في منزله
من قوت أهله وجعله في جراب وحمله على عاتقه ، وخرج إلى دور الفقراء وهو متلثّم ،
فيفرّق عليهم. وكثيرا ما كانوا قياما على أبوابهم ينتظرونه فإذا رأوه تباشروا
وقالوا : جاء صاحب الجراب!
__________________
وروى عنه عليهالسلام أيضا قال : إنّه كان يعول مئة بيت من فقراء المدينة. وكان
يعجبه أن يحضر طعامه الأضرّاء والزمنى واليتامى والمساكين الذين لا حيلة لهم ،
وكان يناولهم بيده ، ومن كان منهم له عيال حمّله إلى عياله من طعامه ، وقد قاسم
الله ماله مرّتين .
وفي حمله الطعام
إلى دور الأيتام نقل الصدوق بسنده عن سفيان بن عيينة عن الزهري أنّه رأى عليّ بن
الحسين في ليلة باردة مطيرة وعلى ظهره دقيق وحطب! فسأله : يابن رسول الله ما هذا؟
قال : اريد سفرا اعدّ له زادا أحمله إلى موضع حريز! وكان مع الزهري غلامه فقال :
هذا غلامي يحمله عنك. فأبى. فقال الزهري : فأنا أحمله عنك فإنّي أرفعك (اجلّك) عن
حمله. فقال عليّ بن الحسين : لكنّي لا أرفع نفسي عمّا ينجّيني في سفري ويحسن ورودي
على ما أرد عليه ، أسألك بحقّ الله لما مضيت لحاجتك وتركتني. فانصرف الزهري عنه ،
وبعد أيّام سأله : يابن رسول الله لست أرى لذلك السفر الذي ذكرته أثرا! قال : يا
زهري ، ليس ما ظننته ، ولكنّه الموت وكنت أستعدّ له ، والاستعداد للموت تجنّب
الحرام وبذل الخير والندى.
فلمّا مات ووضع
على السرير ليغسل شوهد ظهره وعليه مثل ركب الإبل ممّا كان يحمل على ظهره إلى منازل
الفقراء والمساكين .
ونقله الحلبي
وفصّله عن أبي نعيم عن عمرو بن ثابت قال : لمّا مات عليّ بن الحسين فغسّلوه جعلوا
ينظرون إلى آثار سواد في ظهره فسألوا : ما هذا؟ فقيل : إنّه كان يحمل أجربة الدقيق
على ظهره ليلا ليعطيها فقراء المدينة.
__________________
وزاد عن الزهري
قال : لمّا مات زين العابدين عليهالسلام فغسّلوه وجد على ظهره مجل (أثر حبل) فبلغني أنه كان يستقي
بالليل لضعفة جيرانه .
وروى المفيد بسنده
، عن يونس بن بكير الشيباني ، عن محمّد بن إسحاق قال : كان بالمدينة كذا وكذا أهل
بيت يأتيهم رزقهم وما يحتاجون إليه ، لا يدرون من أين ، فلمّا مات عليّ بن الحسين عليهماالسلام فقدوا ذلك .
ونقله الحلبي عن
الحلية والأغاني وزاد : فصرخوا صرخة واحدة ، وعنهما ، عن إبن اسحاق ، عن الباقر عليهالسلام وأبي حمزة الثمالي : أنّه عليهالسلام كان يحمل جراب الخبز بالليل على ظهره فيتصدّق به ويقول :
إنّ صدقة السر تطفىء غضب الرب .
وإنما كان هذا من
الإمام السجاد عليهالسلام لرعاية أيتام قتلى واقعة الحرّة وحرمان بقاياهم من العطاء
، فكان ذلك لعلّة خاصة ، وهي قضية في واقعة ، فلا يقاس عليها.
__________________
وأمّا يوم الوفاة
: فأقدم ما بأيدينا فيه هو ما ذكره المفيد : في الخامس والعشرين من المحرم وتابعه تلميذه الطوسي وأوّل من خالف الفتّال فقال : لاثنتي عشرة ليلة بقيت من
المحرم وتابعه الطبرسي والحلبي. وقلبه الشهيد الثاني فقال : قبض
ثاني عشر شهر محرم وكأنّ لفظ : بقيت ، قرأها : خلت! وهو وهم.
__________________
فهرس الكتاب
عهد الإمام الحسين عليهالسلام
زياد الشرّ وحجر الخير............................................................ ٩
عمرو بن الحمق ، وحماقة معاوية.................................................. ١٢
متابعة معاوية لبيعة يزيد.......................................................... ١٣
كتب معاوية إلى الحسين وابن عباس وابن جعفر.................................... ١٤
جواب الحسين عليهالسلام ومن معه.................................................... ١٦
وقدم المدينة حاجّا في ٥١ ه..................................................... ٢٠
وأرسل إلى الحسين عليهالسلام وابن عباس وخطب........................................ ٢٢
جواب الحسين عليهالسلام............................................................ ٢٤
خطبة معاوية في المسجد النبوي................................................... ٢٦
ثمّ ارتحل فقدم مكة............................................................. ٢٩
وحاق الشرّ بزياد............................................................... ٣٣
سعيد بن عثمان ومعاوية......................................................... ٣٥
خوارج بالكوفة والبصرة.......................................................... ٣٧
مولد الباقر عليهالسلام............................................................... ٣٨
خطبة الحسين عليهالسلام بمنى......................................................... ٣٨
معاوية يعهد إلى يزيد............................................................ ٤٥
هلاك معاوية وأحواله............................................................ ٤٦
بداية عهد يزيد................................................................. ٥٣
كتابه للبيعة إلى المدينة.......................................................... ٥٤
مجلس الوليد ليلا............................................................... ٥٦
الحسين عليهالسلام في المسجد......................................................... ٥٨
موقف ابن الحنفية.............................................................. ٥٩
نعي معاوية ، وابن عباس بمكة.................................................... ٦٠
أمر عمر ، وابن عمر........................................................... ٦١
خروجه عليهالسلام إلى مكّة........................................................... ٦٢
الإمام عليهالسلام في مكّة............................................................. ٦٤
كتب أهل الكوفة.............................................................. ٦٥
جواب الإمام عليهالسلام.............................................................. ٦٨
سفر ابن عقيل................................................................. ٦٩
مسلم في الكوفة................................................................ ٧٠
كتب الإمام عليهالسلام إلى أهل البصرة................................................ ٧٣
جمع العراقيين لابن زياد.......................................................... ٧٤
ابن زياد في الكوفة.............................................................. ٧٦
خطاب ابن زياد................................................................ ٧٧
فانتقل ابن عقيل عن المختار إلى هانئ............................................. ٧٨
شريك وعمارة يعرضان للمؤامرة................................................... ٨٠
عين ابن زياد على ابن عقيل..................................................... ٨٢
هانئ عند ابن زياد.............................................................. ٨٤
موقف مسلم بن عقيل.......................................................... ٨٨
خروج الأشراف برايات الأمان.................................................... ٩٠
مسلم في دار طوعة............................................................. ٩٢
وموقف ابن زياد وخطبته......................................................... ٩٣
راية ابن حريث ، والمختار........................................................ ٩٤
الكشف عن مسلم وقتاله........................................................ ٩٥
مسلم في دار الإمارة ، ووصيّته.................................................... ٩٨
ابن زياد وابن عقيل ومقتله...................................................... ١٠٠
ومصير هانئ ورجال آخرين..................................................... ١٠١
وبعث بالرؤوس إلى الرئيس..................................................... ١٠٣
خروج الإمام إلى المصير ، وابن عباس وابن الزبير................................... ١٠٤
وفي حدود الحرم............................................................... ١٠٧
وحاولوا منعه فلم ينفع.......................................................... ١٠٨
وفي منزل التنعيم............................................................... ١١١
ابن مسهر من الحاجر إلى الكوفة................................................ ١١١
وخبر ابن بقطر............................................................... ١١٣
والتحق ابن القين بالحسين عليهالسلام................................................ ١١٣
وفي زرود..................................................................... ١١٥
وفي الثعلبية................................................................... ١١٦
وفي زبالة..................................................................... ١١٧
وفي بطن العقبة............................................................... ١١٨
لقاء الحرّ ، وخطب الإمام عليهالسلام................................................. ١١٨
وخطبهم فقال................................................................ ١٢١
وخطبة أخرى بالبيضة......................................................... ١٢١
عذيب الهجانات.............................................................. ١٢٣
قصر بني مقاتل............................................................... ١٢٥
ألسنا على الحقّ............................................................... ١٢٦
نينوى....................................................................... ١٢٧
خروج ابن سعد إلى كربلاء..................................................... ١٢٩
ما الذي جاء بالإمام عليهالسلام..................................................... ١٣٠
لقاء ابن سعد بالإمام عليهالسلام..................................................... ١٣٢
جواب ابن زياد لابن سعد...................................................... ١٣٤
قدوم الكلابي إلى كربلاء....................................................... ١٣٦
منع الإمام وأصحابه عن الماء................................................... ١٣٧
زحف ابن سعد عصر التاسع................................................... ١٣٨
خطبة الإمام مساء التاسع...................................................... ١٤١
الإمام وزينب ليلة عاشوراء...................................................... ١٤٣
الإمام وأصحابه ليلة عاشوراء................................................... ١٤٥
أخبار عاشوراء (١)
مقاتل أنصار سيد الشهداء عليهالسلام
صبيحة يوم عاشوراء........................................................... ١٤٩
الخطبة الأولى للإمام عليهالسلام...................................................... ١٥١
خطبة زهير بن القين البجلي.................................................... ١٥٤
توبة الحرّ الرياحي وخطبته...................................................... ١٥٥
بدء القتال ومبارزة الكلبي....................................................... ١٥٧
الحملة الأولى................................................................. ١٥٩
وكرامة وهداية................................................................. ١٥٩
مباهلة برير ومقتله............................................................. ١٦٠
ابنا قرظة بن كعب الأنصاري................................................... ١٦١
الحملة الثانية................................................................. ١٦٣
مسلم بن عوسجة الأسدي..................................................... ١٦٣
الحملة الثالثة................................................................. ١٦٤
الاستعداد لصلاة الظهر....................................................... ١٦٦
مقتل حبيب بن مظاهر........................................................ ١٦٧
مقتل الحرّ الرياحي............................................................ ١٦٧
صلاة الحسين عليهالسلام........................................................... ١٦٨
مقتل زهير البجلي............................................................. ١٦٩
مقتل نافع الجملي............................................................. ١٦٩
الأخوان الغفاريان............................................................. ١٧٠
الأخوان الجابريّان.............................................................. ١٧٠
مقتل حنظلة الشبامي.......................................................... ١٧١
مقتل عابس الشاكري ومولاه................................................... ١٧٢
مقتل أبي الشعثاء الكندي...................................................... ١٧٣
مقتل الرجال الأربعة........................................................... ١٧٣
أخبار عاشوراء (٢)
مقاتل الهاشميين من أنصار الحسين عليهالسلام
مقتل عليّ الأكبر............................................................. ١٧٧
القاسم بن الحسن عليهالسلام........................................................ ١٨٠
مقتل العباس وإخوته........................................................... ١٨٠
مقتل الطفل الرضيع........................................................... ١٨١
مقتل بني جعفر وبني عقيل وبني الحسن عليهالسلام..................................... ١٨٢
مقتل الحسين عليهالسلام............................................................ ١٨٣
سلب الإمام والقتيل والأسير بعده............................................... ١٨٦
نهب خيام الإمام عليهالسلام......................................................... ١٨٧
وطء الخيل جسد الإمام عليهالسلام.................................................. ١٨٩
حمل الرؤوس وعيال الإمام إلى الكوفة............................................ ١٩٠
دفن الأجساد الطاهرة......................................................... ١٩١
رأس الإمام عند ابن زياد....................................................... ١٩٢
السبايا في مجلس ابن زياد....................................................... ١٩٤
موقف ابن عفيف............................................................. ١٩٦
الرؤوس بين يدي يزيد......................................................... ١٩٧
أم سلمة ونعي الحسين عليهالسلام.................................................... ٢٠٠
السبايا في الشام.............................................................. ٢٠٤
السبايا والسجاد عليهالسلام عند يزيد................................................. ٢٠٥
خطبة العقيلة في مجلس يزيد.................................................... ٢٠٧
ورأس الحسين عليهالسلام إلى المدينة.................................................. ٢٠٩
خطبة السجّاد عليهالسلام بالشام.................................................... ٢١١
ردّهم إلى أوطانهم............................................................. ٢١٥
فزاروا الحسين عليهالسلام في أربعينه................................................... ٢١٦
ابن الزبير وقتل الحسين عليهالسلام................................................... ٢٢٠
يزيد ، بعد الحسين الشهيد..................................................... ٢٢٢
يزيد ، وبنو زياد............................................................... ٢٢٤
إجلاء زينب ووفاتها........................................................... ٢٢٦
الوليد وعمرو بن سعيد........................................................ ٢٢٨
يزيد ، وابن عباس............................................................. ٢٢٨
جواب ابن عباس ليزيد......................................................... ٢٢٩
يزيد ، وابن الحنفية............................................................ ٢٣٢
وفد المدينة عند يزيد........................................................... ٢٣٤
مقدّمات واقعة الحرّة........................................................... ٢٣٧
تمرّد أهل المدينة على يزيد...................................................... ٢٣٧
إخراج بني امية من المدينة....................................................... ٢٣٨
جيش الشام إلى المدينة......................................................... ٢٤١
لقاؤهم بالأمويين.............................................................. ٢٤٣
وقعة الحرّة.................................................................... ٢٤٥
قتال يوم الحرّة................................................................ ٢٤٦
اقتحام خندق المدينة.......................................................... ٢٤٨
نهب المدينة وإباحتها.......................................................... ٢٥٠
أعداد القتلى في الحرّة.......................................................... ٢٥٢
كتاب ابن عقبة إلى ابن معاوية................................................. ٢٥٤
أخذه البيعة ليزيد............................................................. ٢٥٦
الإمام السجاد ويزيد........................................................... ٢٦٠
خوارج البصرة................................................................ ٢٦٤
حوادث
السنة الرابعة والستّين
مسير ابن النمير إلى ابن الزبير................................................... ٢٦٧
حصار الحصين على مكّة...................................................... ٢٦٨
هلاك يزيد وتبدّد الجنود........................................................ ٢٧٠
موت يزيد واستخلاف معاوية وموته............................................. ٢٧٣
أحوال البلاد بعد يزيد......................................................... ٢٧٨
إعلان البيعة لابن الزبير ، ولمروان................................................ ٢٧٩
حوادث
السنة الخامسة والستّين
وثورة التوّابين
استخلاف مروان لعبد الملك.................................................... ٢٨٥
استيلاؤه على فلسطين ومصر................................................... ٢٨٥
الكوفة بعد موت يزيد......................................................... ٢٨٧
أوائل أقاويل الشيعة بالكوفة.................................................... ٢٨٩
مؤتمر امراء التوابين الخمسة..................................................... ٢٩٠
بيان سليمان الخزاعي.......................................................... ٢٩٢
خطبة عبيد الله المزني.......................................................... ٢٩٣
فلمّا مات يزيد بن معاوية...................................................... ٢٩٥
رسالة سليمان إلى سعيد بن حذيفة.............................................. ٢٩٦
واختار المختار أن يعود للديار.................................................. ٢٩٩
ودخل المختار الكوفة.......................................................... ٣٠٠
ابن زياد إلى العراق ، والكوفة................................................... ٣٠٢
خروج التوّابين إلى النّخيلة...................................................... ٣٠٥
في الكوفة أو إلى الشام........................................................ ٣٠٦
ليس للدنيا خرجنا ، فلا ننتظر.................................................. ٣٠٨
محاولات أمير الكوفة.......................................................... ٣٠٩
خطبة سليمان ورحيلهم إلى كربلاء............................................... ٣١٠
زيارة الثوار لقبر أبي الأحرار..................................................... ٣١٢
كتاب الأمير الخطمي وجواب الخزاعي............................................ ٣١٣
موقف قلعة قرقيسياء.......................................................... ٣١٥
خطبة الخزاعي في عين الوردة.................................................... ٣١٩
غارة المسيّب الفزاري........................................................... ٣٢٠
معركة التوّابين في عين الوردة.................................................... ٣٢١
ورفع الراية رفاعة ، واستشهد آخرون............................................. ٣٢٥
وارتفع رفاعة بالباقين ليلا....................................................... ٣٢٦
أواخر أخبار مروان............................................................ ٣٢٧
جيش حبيش إلى المدينة........................................................ ٣٣٠
بداية أخبار المختار............................................................ ٣٣٣
وحبسوا المختار بعد ابن صرد................................................... ٣٣٥
وأطلق المختار بكفالة وتحليف................................................... ٣٣٨
أوّل خطبة لابن المطيع في الكوفة................................................ ٣٣٩
استحضار المختار............................................................. ٣٤٠
حنفيّ يتحرّى إذن ابن الحنفية.................................................. ٣٤١
المختار يبشّر الأنصار.......................................................... ٣٤٣
ودعت همدان سيّدها إبراهيم................................................... ٣٤٤
أمر ابن الحنفية لابن الأشتر؟!.................................................. ٣٤٥
مقابلة قوّات الكوفة........................................................... ٣٤٨
يالثارات الحسين عليهالسلام......................................................... ٣٥٠
إبراهيم يجمع من بايع ويقاتل بهم................................................ ٣٥١
أوائل قتال المختار............................................................. ٣٥٢
استعداد الوالي ومقابلة المختار................................................... ٣٥٤
نكسة الشيباني............................................................... ٣٥٥
حملة شبث ومقابلته........................................................... ٣٥٦
حملات إبراهيم النخعي........................................................ ٣٥٧
خطبة ابن مطيع وحملة النخعي.................................................. ٣٥٨
حصر ابن مطيع في القصر..................................................... ٣٥٩
خطبة المختار وبيعته وعطاؤه.................................................... ٣٦١
وولّى على توابع الكوفة......................................................... ٣٦٢
ومدحه الشعراء............................................................... ٣٦٣
شرحبيل الهمداني إلى المدينة..................................................... ٣٦٦
فضيّق ابن الزبير على ابن الحنفية................................................ ٣٦٩
ابن الزبير في اليعقوبي.......................................................... ٣٧١
ابن الزبير في المسعودي......................................................... ٣٧٢
وقعة الموصل الأولى............................................................ ٣٧٦
وعادوا في عيد الأضحى....................................................... ٣٧٨
وتلاقى المرجفون في الكوفة..................................................... ٣٨٠
تواثب العرب على المختار ومحاورته لهم............................................ ٣٨١
وعاد أنصار المختار........................................................... ٣٨٣
ابن الأشتر لمضر والمختار لأهل اليمن............................................ ٣٨٣
والشعراء يتّبعهم الغاوون........................................................ ٣٨٦
وأعاد ابن الأشتر لابن زياد..................................................... ٣٨٨
ابن الأشتر إلى الموصل......................................................... ٣٨٩
الاستعداد لقتال ابن زياد....................................................... ٣٩١
وقعة نهر الخازر بالموصل........................................................ ٣٩٢
أخبار الانتصار عند المختار.................................................... ٣٩٥
رأس ابن زياد عند السجاد عليهالسلام................................................ ٣٩٥
وجاء مصعب للبصرة.......................................................... ٣٩٧
وفرّ شمر وهلك............................................................... ٣٩٧
وتجرّد المختار لقتلة الحسين عليهالسلام................................................ ٣٩٨
وأربعة نهبوا خيام الحسين عليهالسلام.................................................. ٤٠٠
وحامل رأس الحسين عليهالسلام...................................................... ٤٠١
عمر بن سعد الزهري والأمان!.................................................. ٤٠٢
وحرملة بن كاهل الأسدي...................................................... ٤٠٤
والطائي قاتل العباس........................................................... ٤٠٦
وقاتل عليّ بن الحسين عليهالسلام.................................................... ٤٠٦
وقاتل عبد الله بن مسلم........................................................ ٤٠٧
صدمات الصدّائي والمختار..................................................... ٤٠٧
فرّوا فهدمت دورهم........................................................... ٤٠٨
ومحمّد بن الأشعث وشبث..................................................... ٤٠٨
وعبيد الله بن علي عليهالسلام....................................................... ٤٠٩
بداية أمر مصعب مع المختار................................................... ٤١٠
عبيد الله بن الحرّ الجعفي....................................................... ٤١١
واستعدّ المختار وخطب........................................................ ٤١٢
أنصار المختار بالمذار.......................................................... ٤١٣
مصعب إلى الكوفة............................................................ ٤١٥
حرب مصعب والمختار......................................................... ٤١٦
مصير عبيد الله بن علي عليهالسلام................................................... ٤١٧
مصعب وحصار المختار........................................................ ٤١٩
مصير المختار وأنصاره......................................................... ٤٢١
مصير إبراهيم بن الأشتر....................................................... ٤٢٥
مصير عبيد الله بن الحرّ........................................................ ٤٢٧
الأزارقة بعد ابن الحرّ........................................................... ٤٣٠
وفيات بعض الأعلام وابن العباس............................................... ٤٣٢
ابن مروان في العراق ومقتل ابن الأشتر........................................... ٤٣٧
حرب مصعب وعبد الملك...................................................... ٤٣٩
عبد الملك ملك العراق......................................................... ٤٤١
حرب الحجّاج وابن الزبير....................................................... ٤٤٢
الحجّاج وابن عمر وابن الحنفية.................................................. ٤٤٦
الحجّاج في المدينة............................................................. ٤٤٨
السجاد والباقر عليهماالسلام وجابر الأنصاري.................................... ٤٥٠
عهد الحجّاج في العراق
خطبة الحجّاج في الكوفة....................................................... ٤٥٥
وخطبة ابن مروان في المدينة أوّلا................................................. ٤٥٩
وخطبته بمكة................................................................. ٤٦٠
مناوشات الروم والخوارج........................................................ ٤٦٢
ضرب النقود الإسلامية........................................................ ٤٦٥
وقتال الخوارج الأزارقة وغيرهم................................................... ٤٦٧
ميلاد زيد للسّجاد عليهالسلام....................................................... ٤٦٨
وفاة ابن جعفر وابن الحنفيّة..................................................... ٤٦٩
الحجّاج وعبد الرحمان بن الأشعث............................................... ٤٧٢
خطبة الحجّاج على ابن الأشعث................................................ ٤٧٤
سعيد بن جبير إلى ابن الأشعث................................................. ٤٧٥
قتال الأهواز ، وزاوية البصرة.................................................... ٤٧٧
وقائع دير الجماجم وظهر المربد وحراة............................................ ٤٧٩
أسرى الخوارج ، والحجّاج....................................................... ٤٨١
عامر بن شراحيل الشعبي....................................................... ٤٨٣
وأقام الأشعريون منهم بقم...................................................... ٤٨٥
ومصير ابن الأشعث الانتحار................................................... ٤٨٨
خطبة الحجّاج لقتل ابن الأشعث................................................ ٤٨٩
احتجاج الحجّاج على عبد الملك................................................ ٤٩٠
أمر الحجّاج بإعجام كلام الله................................................... ٤٩١
ويقترح الحجّاج ولاية الوليد..................................................... ٤٩٣
الفجر الصادق لميلاد الصادق عليهالسلام............................................. ٤٩٦
هلاك الملك عبد الملك......................................................... ٤٩٧
الوليد والمسجد النبويّ الشريف................................................. ٥٠١
الوليد ومسجد دمشق......................................................... ٥٠٤
فتوح في الروم والأسبان وخراسان................................................ ٥٠٥
وفتوح في السند والهند......................................................... ٥٠٨
ونطق الفرزدق بالحقّ........................................................... ٥١١
مقتل سعيد بن جبير مولى بني أسد.............................................. ٥١٣
قتل كميل بن زياد النخعي..................................................... ٥١٧
هلاك الحجّاج................................................................ ٥١٨
وفاة الإمام السجّاد عليهالسلام...................................................... ٥١٩
وصاياه الأخيرة وصدقة السرّ................................................... ٥٢٠
|