حوادث السنة الحادية عشرة

رحيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله واختلاف الأمة



بعض وصايا النبيّ للوصيّ :

روى سليم بن قيس الهلالي العامري (م ٧٦ ه‍) عن علي عليه‌السلام عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لي : يا علي ، إنه ما اختلفت أمة بعد نبيّها إلّا ظهر أهل باطلها على أهل حقها ، وإن الله قضى الفرقة والاختلاف على هذه الأمة ، ولو شاء لجمعهم على الهدى حتى لا يختلف اثنان من خلقه ، ولا يتنازع في شيء من أمره ، ولا يجحد المفضول ذا الفضل فضله ، ولو شاء عجّل النقمة فكان التغيير حتى يكذّب الظالم ويعلم أين مصير الحق ، ولكن جعل الدنيا دار الأعمال ، وجعل الآخرة دار القرار (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى)(١).

وإنك مني بمنزلة هارون من موسى ، فلك بهارون أسوة حسنة إذ استضعفه قومه وكادوا يقتلونه ، فاصبر لظلم قريش إياك وتظاهرهم عليك ، فإنك بمنزلة هارون من موسى ، وهم بمنزلة العجل ومن تبعه ، وإن موسى أمر هارون حين

__________________

(١) النجم : ٣١.


استخلفه عليهم : إن ضلّوا فوجد أعوانا أن يجاهدهم بهم ، وإن لم يجد أعوانا أن يكفّ يده ويحقن دمه ، ولا يفرّق بينهم (١).

ورواه عنه عليه‌السلام بتفصيل أكثر قال : قال لي رسول الله : يا أخي .. إن الناس يدعون بعدي ما أمرهم الله به وما أمرتهم فيك من ولايتك ، وما أظهرت من حجتك متعمدين ـ غير جاهلين ـ مخالفة ما أنزل الله فيك ، فإن وجدت أعوانا عليهم فجاهدهم ، وإن لم تجد أعوانا فاكفف يدك واحقن دمك ، فإنك إن نابذتهم قتلوك ، فإن تبعوك وأطاعوك فاحملهم على الحق ، وإلّا فدع .. واعلم أنك إن دعوتهم لم يستجيبوا لك ، فلا تدعنّ أن تجعل الحجة عليهم .. إني قد أقمت حجتك وأظهرت لهم ما أنزل الله فيك ، وإنه لم يعلم أني رسول الله وأن حقي وطاعتي واجبان حتى أظهرت (ذلك) لك .. فإن سكتّ عنهم لم تأثم ، غير أني أحبّ أن تدعوهم. وان لم يستجيبوا لك ولم يقبلوا منك ، وتظاهرت عليك ظلمة قريش فإني أخاف عليك ـ إن ناهضت القوم ونابذتهم وجاهدتهم من غير أن يكون معك فئة تقوى بهم ـ أن يقتلوك ، والتقية من دين الله ولا دين لمن لا تقية له.

وإن الله قد قضى الفرقة والاختلاف بين هذه الأمة ، ولو شاء لجمعهم على الهدى ولم يختلف اثنان منهم ولا من (سائر) خلقه ، ولم ينازع في شيء من أمره ، ولم يجحد المفضول ذا الفضل فضله ، ولو شاء عجّل منهم النقمة وكان التغيير حتى يكذّب الظالم ويعلم أين مصير الحق ، و(لكن) الله جعل الدنيا دار الأعمال ، وجعل الآخرة دار الثواب والعقاب (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى)(٢).

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٥٦٩ ـ ٥٧٠.

(٢) النجم : ٣١.


ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا أخي أبشر .. أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، ولك بهارون أسوة حسنة إذ استضعفه أهله وتظاهروا عليه وكادوا أن يقتلوه ، فاصبر لظلم قريش إياك وتظاهرهم عليك ، فإنها ضغائن في صدور قوم أحقاد بدر وترات أحد. وإن موسى أمر هارون حين استخلفه في قومه : إن ضلوا فوجد أعوانا أن يجاهدهم بهم ، وإن لم يجد أعوانا : أن يكفّ يده ويحقن دمه ، ولا يفرّق بينهم ، فافعل أنت كذلك : إن وجدت عليهم أعوانا فجاهدهم ، وإن لم تجد أعوانا فاكفف يدك واحقن دمك ، فإنك إن نابذتهم قتلوك ، واعلم أنك إن لم تكف يدك وتحقن دمك إذا لم تجد أعوانا أتخوّف أن يرجع الناس إلى عبادة الأصنام والجحود بأني رسول الله ، فاستظهر بالحجة عليهم وادعهم ليهلك الناصبون لك والباغون عليك ويسلم العامة والخاصة ، فإذا وجدت يوما أعوانا على إقامة الكتاب والسنة فقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله (١).

وروى عنه عليه‌السلام قال : أخبرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أن الأمة ستخذلني وتبايع وتتبع غيري ، وبما الأمة صانعة بي بعده ...

فقلت : يا رسول الله فما تعهد إليّ إذا كان ذلك؟

قال : إن وجدت أعوانا فانبذ إليهم وجاهدهم ، وإن لم تجد أعوانا فاكفف يدك واحقن دمك ، حتى تجد على إقامة الدين وكتاب الله وسنّتي أعوانا ، وأخبرني : أني منه بمنزلة هارون من موسى ، وأن الأمة سيصيرون من بعده بمنزلة هارون ومن تبعه والعجل ومن تبعه إذ قال له موسى : (... يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا* أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي)(٢)؟! (... قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٧٦٧ ، ٧٧٠.

(٢) طه : ٩٢ ـ ٩٣.


وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي)(١) ، وقال : (... يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي)(٢).

وروى عن سلمان الفارسي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : يا علي ، إنك ستلقى بعدي من قريش شدة من تظاهرهم عليك وظلمهم لك ، فإن وجدت أعوانا عليهم فجاهدهم ، وقاتل من خالفك بمن وافقك ، وإن لم تجد أعوانا فاصبر وكفّ يدك ، ولا تلق بيدك إلى التهلكة ، فإنك مني بمنزلة هارون من موسى ، ولك بهارون أسوة حسنة إذ قال لأخيه موسى : (... إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي)(٣).

وروى عنه عن علي عليه‌السلام قال : أخبرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : يبايع الناس أبا بكر في ظلّة بني ساعدة بعد تخاصمهم بحقّنا وحجتنا (٤).

أحداث عند الوفاة :

روى ابن سعد قال : ودّع أسامة بن زيد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليخرج إلى معسكره ، فبينا هو يريد الركوب للخروج إذا رسول أمّه (أمّ أيمن) جاءه يقول له عنها : إن رسول الله يموت ... (٥).

ويبدو أن أسامة آثر امتثال أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يطع المخلوق مع أمر الخالق ومضى إلى معسكره في الجرف ، وفيه روى ابن سعد أيضا عن عروة بن الزبير :

__________________

(١) الأعراف : ١٥٠. والخبر في كتاب سليم بن قيس ٢ : ٦٦٤.

(٢) طه : ٩٤.

(٣) الأعراف : ١٥٠. والخبر في كتاب سليم بن قيس ٢ : ٥٦٨ ، ورواه عنه بسنده الصدوق في كمال الدين : ٢٦٢ ، الباب ٢٤ ، الحديث ١٠.

(٤) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٥٧٩.

(٥) الطبقات الكبرى ٢ ق ١ : ١٣٦.


أن فاطمة بنت قيس امرأة أسامة كتبت إليه : «إن رسول الله قد ثقل ، وإني لا أدري ما يحدث ، فإن رأيت أن تقيم فأقم» فأقام أسامة بالجرف حتى مات رسول الله (١).

هذا إذا كنا نحن وأخبار ابن سعد ، إلّا أن المعتزليّ في «شرح النهج» اضطرب المطلب لديه إذ قال : أخذ المسلمون يودّعون نبيّهم ويمضون إلى معسكر الجرف ، وثقل رسول الله واشتد ما يجده ، وأسامة في معسكره ، فأرسل بعض نساء الرسول إليه وإلى بعض من كان معه (؟) يعلمونهم بذلك ، فرحل أسامة من معسكره فدخل والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مغمور .. فأشار له بالرجوع إلى معسكره فرجع أسامة إلى المعسكر.

فأرسل إليه نساء الرسول يقلن له : إن رسول الله أصبح بارئا ويأمرنه بالدخول! وذلك يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول.

فدخل أسامة من معسكره فوجد رسول الله مفيقا ، فأمره بالخروج والتعجيل وقال له : أغد على بركة الله! وجعل يكرّر : أنفذوا بعث أسامة. فودّعه وخرج ومعه أبو بكر وعمر (كذا).

فلما ركب جاءه رسول أمه (أم أيمن) وقال له عنها : إن رسول الله يموت! فأقبل راجعا ومعه أبو بكر وعمر وأبو عبيدة فانتهوا إلى رسول الله عند زوال الشمس من ذلك اليوم الاثنين وقد مات صلى‌الله‌عليه‌وآله والباب مغلق. هذا ولواء أسامة مع بريدة بن الحصيب الأسلمي وهو معه فركزه عند باب رسول الله ، هذا وعلي عليه‌السلام وبعض بني هاشم مشتغلون بغسله وإعداد جهازه (٢).

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٤ ق ١ : ٤٧.

(٢) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ١ : ١٦٠ ، وروى الخبر الأخير في ٦ : ٥٢ عن الجوهري بسنده عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي عمرة ، بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري الخزرجي.


ونقل عن الجوهري في «السقيفة» عن النميري البصري بسنده قال : حين قبض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مرّ المغيرة بن شعبة الثقفي بأبي بكر وعمر وهما جالسان على بابه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال لهما : ما يقعدكما هنا؟ قالا : ننتظر هذا الرجل ـ يعنيان عليا عليه‌السلام ـ يخرج فنبايعه! فقال لهما : أتريدون أن تنظروا حبل الحبلة من أهل هذا البيت (١) وسّعوها في قريش تتّسع (٢).

سعد بن عبادة زعيم الخزرج :

نقل الكشي عن كتاب يونس بن عبد الرحمن : أن سعد بن عبادة بن دليم الخزرجي كان أحد العشرة الذين لحقهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من العصر الأول ممّن كان طولهم عشرة أشبار بأشبار أنفسهم .. وكان من العشرة خمسة من الأنصار أربعة من الخزرج كلها منهم سعد وابنه قيس ، ورجل واحد من الأوس وهو وأبوه وجدّه وجدّ جده لم يزل فيهم الشرف والسؤدد يجير فيجار ، ولم يزل هو وأبوه أصحاب إطعام في الجاهلية والإسلام (٣).

حتى أن جدّه دليم كان له يوم في كل سنة ينادي فيه مناديه : من أراد اللحم والشحم فليأت دار دليم ، فلما مات دليم نادى منادي عبادة بن دليم بمثل ذلك ، ولما مات عبادة نادى منادي سعد بن عبادة بمثل ذلك.

__________________

(١) قيل معناه : حمل الكرمة قبل أن تبلغ ، كناية عن صغر سنّ علي عليه‌السلام.

(٢) عن الجوهري في شرح نهج البلاغة ٢ : ٤٣ ، وفي كتاب السقيفة : ٦٨ وفي أمالي الطوسي : ١٧٧ ، الحديث ٢٩٨ عن جابر الأنصاري : أن ذلك كان إبليس تمثل بصورة المغيرة فنادى في الناس : أيها الناس لا تجعلوها كسروانية ولا قيصرانية ، بل وسّعوها تتّسع ولا تردّوها في بني هاشم ينتظر بها الحبالى! وليس معناه أنه هو الذي ابتكر هذه الفكرة بل وافقهم.

(٣) رجال الكشي : ١١٠ ، الحديث ١٧٧.


وكان جدّه دليم يهدي كل عام عشر بدنات إلى صنم مناة ، وبعده ابنه عبادة وبعده ابنه سعد حتى أسلم فأخذ يهديها إلى الكعبة (١).

وكان من النقباء في بيعتي العقبة ، وأدركه المشركون في الثانية في رحله فربطوه بحبله وجرّوه إلى مكة يضربونه حتى خلّصه الحارث أخو أبي سفيان وجبير بن مطعم (٢).

ولما دخل الرسول إلى المدينة كان يبعث إليه بجفنة طعام كل يوم ، مرة بلحم وأخرى بشحم وأخرى بلبن ، وأهدى إليه ثلاث لقائح للّبن ، ولما بدأ بالحرب أهدى إليه سيفه العضب ودرعه فضّة أو ذات الفضول (٣).

ولما كاتب سلمان الفارسيّ صاحبه بمائة وستين فسيل نخل أعانه سعد بستين منها (٤).

وفي السنة السابعة بعد فتح خيبر لما أقبل كثير من الناس الفقراء إلى المدينة مسلمين فمكثوا في صفّة المسجد النبوي الشريف ، كان إذا أمسى وصلى العشاء ذهب بعض أصحابه ببعضهم ليطعمه ، أما سعد فإنه كان يرجع كل ليلة إلى أهله بثمانين يعشّيهم (٥).

وفي غزوة ودّان ذكر البلاذري أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله خلّفه على المدينة (٦).

__________________

(١) عن الاستيعاب في قاموس الرجال ٥ : ٥٤.

(٢) راجع موسوعة التاريخ الاسلامي ١ : ٦٩٦.

(٣) عن أنساب الأشراف ١ : ٤٦٣ و٥١٢ و٥٢١.

(٤) عن أنساب الأشراف ١ : ٤٨٧.

(٥) عن حلية الأولياء ١ : ٣٤١.

(٦) عن أنساب الأشراف ١ : ٢٨٧.


وروى عنه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال له : إذا أنا متّ ضلت الأهواء ويرجع الناس على أعقابهم ، فالحق يومئذ مع علي ومعه كتاب الله ، فلا تبايع أحدا غيره! ولكنه يقول : سمع هذا الخبر منه صلى‌الله‌عليه‌وآله سائر الناس إلّا أن في قلوبهم أحقادا وضغائن (١) ولذلك كان من قولهم لهم : أما إذا لم تسلموها لعليّ ، فصاحبنا أحق بها من غيره (٢). لذلك اعتزلوا بسيّدهم سعد ليبايعوه للخلافة وهم يرتجزون ارتجاز الجاهلية :

يا سعد أنت المرجّى

وشعرك المرجّل

وفحلك المرجّم (٣)!

وذكر البلاذري : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد آخى بين عمر بن الخطاب وبين عويم بن ساعدة الأوسي (٤) وكان عمر يثنى عليه (٥) ومن حلفاء الأوس معن بن عديّ البلوي (٦) وكان صديقا لعويم الأوسي ، واتفق بين هذين الرجلين وبين ابن عبادة الخزرجي ما أثار بينهما بغضا وشحناء شرحه أبو عبيدة معمّر بن المثنّى في «كتاب القبائل» وأشار إليه المعتزلي (٧).

__________________

(١) عن مجالس المؤمنين ١ : ٢٣٤ ، عن الطبري في كتاب الولاية ، بل روى بمعناه المعتزلي عن الجوهري ٦ : ٤٤. وفي كتاب السقيفة : ٦٨.

(٢) قاموس الرجال ٥ : ٤٩ عن رسائل الأئمة للكليني.

(٣) روضة الكافي : ٢٤٦ ، الحديث ٤٥٥. ويأتي عن الجوهري : ونجلك المرجّى ، وهو أولى ، وفحلك : عدوّك.

(٤) عن أنساب الأشراف ١ : ٢٧١.

(٥) عن أسد الغابة في قاموس الرجال ٨ : ٢٩٠.

(٦) ابن اسحاق في السيرة ٢ : ٣٤٥.

(٧) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ٦ : ١٩.


أخبار سقيفة بني ساعدة :

من أعمام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المقوّم بن عبد المطّلب ، ومن أصهاره أبو عمرة بشير بن عمر وبن محصن الأنصاري الخزرجي (١) ، كان من أوائل من أسلم من قومه الخزرج وشهد مشاهد النبيّ كلها. ثم كان من أوائل من أناب إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام كما عن الباقر (٢) والصادق عليهما‌السلام (٣) ولكنه قبل أن يلحق بعلي عليه‌السلام كان مع قومه الخزرج في سقيفتهم ، فروى أخبارها عنه حفيده أبو عوف عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي عمرة أبو طوالة ، الذي كان يروي عن الباقر عليه‌السلام (٤) وكان قاضيا لعمر بن عبد العزيز (٥).

وعنه روى أخبار السقيفة أبو مخنف في كتابه في السقيفة الذي نراه في صدر قائمة كتبه (٦) ورواه عنه روايته هشام الكلبي وعنه الطبري في تاريخه (٧).

وكذلك رواها عن عبد الله : سعيد بن كثير بن عفير الأنصاري وعنه ابن قتيبة الدينوري (م ٢٧٦ ه‍) في «تاريخ الخلفاء الامامة والسياسة» (٨).

__________________

(١) عن الاستيعاب في قاموس الرجال ٢ : ٤٨٧ في ثعلبة ، وذكره في بشير ، وهو الصحيح وانظر الكنى في الإصابة : ٨٠١ ـ ٨٠٥ ، ووقعة صفين : ١٨٥ متنا وحاشية.

(٢) رجال الكشي : ١١ ، الحديث ٢٤.

(٣) رجال الكشي : ٧ ، الحديث ١٤ ، وانظر : ٣٣ ، الحديث ٦١.

(٤) خبر حمل علي عليه‌السلام لفاطمة على حمار ، كما في شرح المعتزلي ٦ : ١٣ عن السقيفة للجوهري.

(٥) عن ابن حجر في قاموس الرجال ٦ : ٤٩٦ برقم ٤٣٨٧.

(٦) رجال النجاشي : ٣٢٠ برقم ٨٧٥.

(٧) تاريخ الطبري ٣ : ٢١٨ ـ ٢٢٢.

(٨) الإمامة والسياسة : ٤ فما بعدها.


وكذلك عن ابن كثير هذا : الجوهري (م ٣٢٣ ه‍) في كتابه : السقيفة وعنه المعتزلي في شرح نهج البلاغة (١).

وعليه فالراوي الأول هو أبو عمرة بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري الخزرجي قال :

لما قبض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة (٢) فقالوا : نولّي هذا الأمر بعد محمد عليه‌السلام سعد بن عبادة : فأخرجوا سعدا إليهم وهو مريض ، فقالوا له : إن رسول الله قد قبض. فلما اجتمعوا قال سعد لابنه قيس (٣) أو بعض بنيه (٤) أو بعض بني عمّه (٥) : إني لا أقدر أن أسمع الناس كلاما لمرضي ، ولكن تلقّ مني قولي فأسمعهم. فكان يتكلم ويحفظ الرجل (٦) ابنه (٧) قوله فيرفع به صوته ليسمع قومه. فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

يا معشر الأنصار ؛ إن لكم سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب : إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله لبث بضع عشرة سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٦ : ٥ ـ ١٢ ، وفي ما جمعه الأميني عن السقيفة وفدك : ٥٤ ـ ٥٩.

(٢) نقل اليعقوبي عن الخوارزمي المنجم أن وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله كان والشمس في برج الجوزاء ، وهو الشهر الثالث من الربيع ، ووفاة الرسول كان عند الزوال ، فيبدو أنّ الاجتماع كان بعد صلاة الظهر ، ولم يذكر من أمّهم يومئذ؟ وليس أبو بكر إذ كان غائبا بالعوالي.

(٣) الإمامة والسياسة : ٥.

(٤) شرح النهج ٦ : ٥.

(٥) تاريخ الطبري ٣ : ٢١٨ ، ويبدو أن أبا عمرة روى الخبر لحفيده عبد الله في كبره ولذلك نسي بعض الجزئيات.

(٦) الطبري ، نفسه.

(٧) الإمامة والسياسة ، والجوهري.


وخلع الأنداد والأوثان ، فما آمن به من قومه إلّا رجال قليل ، والله ما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسول الله ولا أن يعزّوا دينه ، ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيما غمّوا به.

حتى إذا أراد بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة وخصكم بالنعمة ، فرزقكم الله الإيمان به وبرسوله ، والمنع له ولأصحابه ، والإعزاز له ولدينه ، والجهاد لأعدائه.

فكنتم أشدّ الناس على من تخلف عنه منكم ، وأثقله على عدوّه من غيركم ، حتى استقامت العرب لأمر الله طوعا وكرها ، وأعطى البعيد المقادة صاغرا داخرا ، حتى أنجز الله لنبيّكم الوعد ودانت بأسيافكم له العرب ، وتوفاه الله وهو عنكم راض وبكم قرير عين. استبدّوا أو : فشدوا يديكم ، أو : أيديكم بهذا الأمر فإنه لكم دون الناس ، أو : فإنكم أحق الناس وأولاهم به.

فأجابوه جميعا : أن قد وفّقت في الرأي وأصبت في القول ، ولن نعدو ما رأيت : نولّيك هذا الأمر ، فإنك فينا مقنع ولصالح المؤمنين رضا!

ثم إنهم ترادوا الكلام بينهم فقالوا : فإن أبت مهاجرة قريش فقالوا : نحن المهاجرون وأصحاب رسول الله الأولون ونحن عشيرته وأولياؤه ، فعلام تنازعوننا هذا الأمر من بعده؟!

فقالت طائفة منهم : إذا نقول : منّا أمير ومنكم أمير ، ولن نرضى بدون هذا منهم أبدا ، لنا في الإيواء والنصرة ما لهم من الهجرة ، ولنا في كتاب الله ما لهم ، فليسوا يعدّون شيئا إلّا ونعدّ مثله ، وليس من رأينا الاستيثار عليهم ، فمنّا أمير ومنهم أمير!

فحين سمعها سعد بن عبادة قال : هذا أوّل الوهن (١)!

وكأن كلمة الوهن هذه مهّدت وساعدت عويم بن ساعدة الأوسي أن يقول لهم :

__________________

(١) عن المصادر الثلاثة ، واللفظ الأخير للمعتزلي عن الجوهري.


يا معشر الخزرج ؛ إن كان هذا الأمر فيكم دون قريش فعرّفونا ذلك وبرهنوا (كذا؟!) حتى نبايعكم (الأوس) عليه ، وإن كان لهم دونكم فسلّموه إليهم.

فشتمه الأنصار وأخرجوه من بينهم ، فانطلق مسرعا (١).

فصادف في طريقه صديقه البلويّ معن بن عديّ فيما ذكر المدائني والواقدي فاتفقا على تحريض أبي بكر وعمر وصرفه عن الأنصار (٢).

فأتى معن بن عدي إلى عمر العدوي وأخذ بيده وقال له : قم يا عمر ؛ فقال عمر ؛ أنا مشغول عنك! فقال : لا بدّ من قيام! فقام معه ، فقال له :

إن هذا الحيّ من الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة حول سعد بن عبادة يقولون له : أنت المرجّى ونجلك المرجّى ، وقد خشيت الفتنة (٣) فانظر ما ترى يا عمر! واذكر (هذا الأمر) لاخوتك المهاجرين واختاروا لأنفسكم ، فإني أنظر إلى باب الفتنة قد فتحت الساعة ، إلّا أن يغلقها الله!

ففزع عمر ، وأتى إلى أبي بكر فأخذ بيده وقال له : قم ، فقال أبو بكر : أين نبرح؟! أنا مشغول عنك حتى نواري رسول الله! فقال عمر : لا بدّ من قيام وسنرجع إن شاء الله (٤). وفي خبر أبي مخنف : لما أتى الخبر عمر أقبل إلى منزل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأبو بكر في الدار ، وعلي بن أبي طالب عليه‌السلام دائب في جهاز رسول الله ، فأرسل عمر إلى أبي بكر : أن اخرج إليّ! فأرسل إليه : إني مشتغل! فأرسل إليه : أن قد حدث أمر لا بدّ لك من حضوره! فخرج إليه فقال له : إن الأنصار قد اجتمعت

__________________

(١) عن الموفّقيات في شرح النهج للمعتزلي ٦ : ١٩.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ١٩ عن المدائني والواقدي. وفي أنساب الأشراف ١ : ٥٨١.

(٣) وسيأتي في خطبة فاطمة عليها‌السلام : ابتدارا زعمتم خوف الفتنة ، ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين!

(٤) عن الجوهري في شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٧٢٦.


في سقيفة بني ساعدة يريدون أن يولّوا هذا الأمر سعد بن عبادة ، وأحسنهم مقالة من يقول : منا أمير ومن قريش أمير!

فمضيا مسرعين نحوهم ، فلقيا أبا عبيدة بن الجرّاح ، فتماشوا إليهم ثلاثتهم (١).

بل ذكر المدائني والواقدي : أن معن بن عديّ البلويّ كان يشخّصهما ويسوقهما سوقا عنيفا إلى السقيفة ، مبادرة للأمر قبل فواته (٢).

وقال الراوي أبو عمرة بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري ، إنهما دخلا مسرعين إلى سقيفة بني ساعدة وإذا فيها رجال من أشراف الأنصار ، وسعد بن عبادة بين أظهرهم مريض ، فأراد عمر أن يتكلم ويمهّد لأبي بكر ، فلما نبس عمر كفّه أبو بكر وقال له : يا عمر ؛ على رسلك ، بعد كلامي تلقّ الكلام وتكلم بما بدا لك ، ثمّ تشهّد أبو بكر وقال :

إن الله جل ثناؤه بعث محمدا بالهدى ودين الحق ، فدعا إلى الإسلام ، فأخذ الله بنواصينا وقلوبنا إلى ما دعانا إليه ، فكنا معشر المهاجرين أول الناس إسلاما والناس لنا فيه تبع (!) ونحن عشيرة رسول الله ، وأوسط العرب أنسابا ، ليست قبيلة من قبائل العرب إلّا ولقريش فيها ولادة.

__________________

(١) الطبري ٣ : ٢١٩.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ١٩ هذا ، بينما جاء في خبر أبي مخنف : لقيهم عويم بن ساعدة وعاصم بن عدي (كذا) فقالا لهم : ارجعوا فإنه لا يكون ما تريدون فأبوا ومضوا ، كما في الطبري ٣ : ٢١٩ ، وفيه في خبر الزهري عن ابن عباس عن عمر في خطبة الجمعة في أواخر خلافته قال : قلت لأبي بكر : انطلق بنا إلى إخواننا الأنصار فانطلقنا فلقينا رجلان صالحان ممن شهد بدرا قالا أين تريدون؟ قلنا : إخواننا الأنصار ، قالا : فلا عليكم ألّا تقربوهم يا معشر المهاجرين اقضوا أمركم قال : قلت : والله لنأتينهم. الطبري ٣ : ٢٠٥ ، وانظر سيرة ابن هشام ٤ : ٣٠٩.


وانتم أنصار الله ، ووزراء رسول الله ، وإخواننا في كتاب الله ، وشركاؤنا في دين الله وفيما كنا فيه من سراء وضراء ، والله ما كنا في خير قط إلّا كنتم معنا فيه ، فانتم أحبّ الناس إلينا وأكرمهم علينا ، وأحق الناس بالرضا بقضاء الله والتسليم لما ساق إلى إخوانكم من المهاجرين ، وأحقّ الناس أن لا تحسدوهم (!) فأنتم المؤثرون على أنفسهم حين الخصاصة ، وأحق الناس بأن لا يكون انتقاض هذا الدين واختلافه على أيديكم ، وأبعد أن لا تحسدوا إخوانكم على خير ساقه الله تعالى إليهم (!).

وأنا إنما أدعوكم إلى أبي عبيدة أو عمر ، فكلاهما قد رضيت لهذا الأمر وكلاهما أراه له أهلا (١).

فقال عمر وأبو عبيدة : ما ينبغي لنا أن نتقدمك ـ يا أبا بكر ـ وأنت أقدمنا إسلاما ، وأنت صاحب الغار ثاني اثنين ، فأنت أحق بهذا الأمر وأولى به (٢).

فقال الأنصار : والله ما نحسدكم على خير ساقه الله إليكم ، (!) ولا أحد أحبّ إلينا ولا أرضى عندنا منكم (!) ولكننا نشفق مما بعد هذا اليوم ونحذر أن يغلب على هذا الأمر من ليس منّا ولا منكم ؛ فلو جعلتم اليوم رجلا منا ورجلا منكم بايعنا ورضينا ، على أنه إذا هلك اخترنا واحدا من الأنصار ، فإذا هلك كان آخر من المهاجرين أبدا ما بقيت هذه الأمة ، كان ذلك أجدر أن يعدل في أمة محمد ، وأن يكون بعضنا يتبع بعضا ؛ فيشفق الأنصاري أن يزيغ فيقبض عليه القرشيّ ، ويشفق القرشيّ أن يزيغ فيقبض عليه الأنصاري.

فقام أبو بكر فقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما بعث عظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم ، فخالفوه وشاقّوه ، وخصّ الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه

__________________

(١) عن الجوهري في شرح النهج ٦ : ٧ ، والإمامة والسياسة : ٦.

(٢) اليعقوبي ٢ : ١٢٣ ، والاحتجاج ١ : ٩١ ، وفي الإمامة والسياسة ٦ ، وعن الجوهري في شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٨ ، والطبري ٣ : ٢٢١ بزيادة : وخليفة رسول الله على الصلاة.


والإيمان به والمواساة له ، والصبر معه على شدة أذى قومه ، ولم يستوحشوا لكثرة عدوّهم ، فهم أول من عبد الله في الأرض ، وهم أول من آمن برسول الله ، وهم أولياؤه وعشيرته ، وأحقّ الناس بالأمر بعده (!) لا ينازعهم فيه إلّا ظالم (!).

وأنتم يا معشر الأنصار من لا ينكر فضلهم ، ولا النعمة العظيمة لهم في الإسلام ، رضيكم الله أنصارا لدينه ولرسوله ، وجعل إليكم مهاجرته فليس بعد المهاجرين الأولين أحد عندنا بمنزلتكم ، فنحن الأمراء ، وأنتم الوزراء ، لا نفتات دونكم بمشورة (١) ولا نقضي دونكم الأمور!

فقام الحباب بن المنذر بن الجموح فقال :

يا معشر الأنصار ؛ املكوا عليكم أيديكم ، فإنما الناس في فيئكم وظلكم ، ولن يجترئ مجترئ على خلافكم ، ولن يصدر الناس إلّا عن رأيكم ، أنتم أهل الإيواء والنصرة ، وإليكم كانت الهجرة ، ولكم في السابقين الأولين مثل ما لهم ، وأنتم أصحاب الدار والإيمان من قبلهم ، والله ما عبدوا الله علانية إلّا عندكم وفي بلادكم ، ولا جمعت الصلاة إلّا في مساجدكم ، ولا دانت العرب للإسلام إلّا بأسيافكم ، فأنتم أعظم الناس نصيبا في هذا الأمر : فاملكوا عليكم أمركم ، وإن أبى القوم فمنّا أمير ومنهم أمير.

فقام عمر فقال : هيهات! لا يجتمع سيفان في غمد واحد ، إن العرب لا ترضى أن تؤمّركم ونبيّها من غيركم ، وليس تمتنع العرب أن تولّي أمرها من كانت النبوة فيهم واولو الأمر منهم (!) لنا بذلك الحجة الظاهرة على من خالفنا ، والسلطان المبين على من نازعنا من ذا يخاصمنا في سلطان محمد وميراثه ونحن أولياؤه وعشيرته ؛ إلّا مدل بباطل أو متجانف لإثم ، أو متورّط في هلكة!

فقام الحباب بن المنذر فقال :

__________________

(١) افتات عليه في الأمر : إذا حكم دونه ، أو : طغى عليه واستأثر به.


يا معشر الأنصار ، املكوا على أيديكم ، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من الأمر (!) فإن أبوا عليكم ما أعطيتموهم فاجلوهم عن بلادكم وتولّوا هذا الأمر عليهم ؛ فأنتم أولى الناس بهذا الأمر ، إنه دان لهذا الأمر بأسيافكم من لم يكن يدين له أنا جذيلها المحكّك وعذيقها المرجّب (١) إن شئتم لنعيدنّها جذعة (٢) والله لا يردّ أحد عليّ ما أقول إلّا حطّمت أنفه بالسيف (٣)!

فقال عمر : إذا يقتلك الله! قال الحباب : بل إياك يقتل!

وقال أبو عبيدة : يا معشر الأنصار إنكم أول من نصر وآزر ، فلا تكونوا أول من غيّر (٤).

__________________

(١) الجذيل : تصغير الجذل ، وهو العود. والمحكّك : العود الذي يجعل في مبرك الإبل لتحتك به الإبل الجربى. والعذيق : تصغير العذق بالفتح : النخلة ، فهي النخلة القصيرة. والمرجّب : المدعوم بالرجبة ، وهي العودة في رأسها شعبتان يدعم بها الشجرة والنخلة إذا كثر حملها.

(٢) جذعة : فتية قوية والضمير للحرب.

(٣) الإمامة والسياسة : ٨ ، وعن الجوهري في النهج للمعتزلي ٦ : ٩ ، والاحتجاج ١ : ٩٢ وحذف الطبري الجملة الأخيرة.

(٤) الطبري ٣ : ٢١ ، والأخيرة في الإمامة والسياسة : ٨ أيضا. وهنا في اليعقوبي ٢ : ١٢٣ زيادة : وقام عبد الرحمن بن عوف فتكلم فقال :

يا معشر الأنصار! إنكم وإن كنتم على فضل فليس فيكم مثل أبي بكر وعمر وعلي.

فقام المنذر بن الأرقم فقال : ما ندفع فضل من ذكرت ، وإن فيهم لرجلا لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد يعني علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

وروى الطبري (٣ : ٢٠٢) بسنده قال : فقالت الأنصار أو بعضهم : لا نبايع إلّا عليا.

وإليه أشار عمر إذ قال : فارتفعت الأصوات وكثر اللغط ، فأشفقت الاختلاف فقلت لأبي بكر : ابسط يدك فبايعته وبايعه المهاجرون وبايعه الأنصار ، ثم نزونا على سعد.


ثم قال عمر لأبي عبيدة : تكلّم.

فقام أبو عبيدة بن الجرّاح فتكلم بكلام كثير ذكر فيه فضائل الأنصار.

وكان بشير بن سعد الخزرجي أبو النعمان بن بشير من سادات الأنصار ، فلما رأى اجتماع الأنصار على سعد بن عبادة لتأميره حسده وسعى في إفساد الأمر عليه ورضي بتأمير قريش وتكلم في ذلك وحثّ الناس كلهم لا سيما الأنصار على الرضا بما يفعله المهاجرون (١) قال :

يا معشر الأنصار ؛ إنّا ـ والله ـ لئن كنا أولى فضيلة في جهاد المشركين وسابقة في هذا الدين ، فما أردنا به إلّا رضا ربّنا وطاعة نبيّنا والكدح لأنفسنا ، فما ينبغي لنا أن نستطيل على الناس بذلك ، ولا نبتغي به من الدنيا عرضا أو عوضا ، فإن الله ولي النعمة علينا بذلك.

ثم إنّ محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رجل من قريش ، وقومه أحقّ بميراثه وتولّي سلطانه (!) وأيم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبدا (!) فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم (٢).

ثم إن أبا بكر قام فحمد الله وأثنى عليه ودعاهم إلى الجماعة ونهاهم عن الفرقة ثم قال : وإني ناصح لكم في أحد هذين الرجلين (٣) : هذا عمر وأبو عبيدة شيخان من قريش فبايعوا أيهما شئتم.

فقال عمر وأبو عبيدة : ما نتولّى هذا الأمر عليك ، امدد يدك نبايعك (٤)!

__________________

(١) الاحتجاج ١ : ٩٣ ، وبمعناه في المصادر الثلاثة الأخرى.

(٢) المصادر الثلاثة.

(٣) الإمامة والسياسة : ٩.

(٤) الاحتجاج ١ : ٩٣.


وأنت أفضل المهاجرين (!) وثاني اثنين ، وخليفة رسول الله على الصلاة ، والصلاة أفضل دين المسلمين (١) فمن ذا ينبغي له أن يتقدمك أو يتولّى هذا الأمر عليك (٢).

فلما بسط أبو بكر يده وذهبا يبايعانه سبقهما إليه بشير بن سعد فبايعه.

فناداه الحباب بن المنذر : يا بشير بن سعد ، عقّتك عقاق ، ما أحوجك إلى ما صنعت! أنفست على ابن عمّك الإمارة (٣)! والله ما اضطرّك إلى هذا الأمر إلّا الحسد لابن عمّك (٤).

فقال بشير : لا والله (!) ولكني كرهت أن انازع قوما حقا لهم (٥).

ولما رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد وهو من سادات الخزرج ، وما تدعو إليه قريش وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة ، وفي الأوس أسيد بن حضير الذي كان أحد النقباء فقال لهم : والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة ، أو ولّيتموها سعدا عليكم مرة واحدة لا زالت لهم عليكم الفضيلة ، ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيبا أبدا فقوموا فبايعوا أبا بكر (٦) وقام فبايع حسدا لسعد أيضا ومنافسة له أن يلي الأمر ، فلما بايع قامت الأوس كلها لتبايع فانكسر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا أجمعوا له من أمرهم (٧).

__________________

(١) عن الجوهري في شرح النهج للمعتزلي ٦ : ١٠.

(٢) الإمامة والسياسة : ٩ ، والطبري ٣ : ٢٢١ ، وبدون ذكر الصلاة في اليعقوبي ٢ : ١٢٣ ، والاحتجاج ١ : ٩١.

(٣) الطبري ٣ : ٢٢١. وكان البشير أعور. شرح النهج ٦ : ١٨ ، وهو أبو النعمان بن بشير الأنصاري.

(٤) الإمامة والسياسة : ٩ ، وعن الجوهري في شرح النهج ٦ : ١٠.

(٥) الإمامة والسياسة : ٩ ، والطبري ٣ : ٢٢١ بزيادة : جعله الله.

(٦) الإمامة والسياسة : ٩ ، والطبري ٣ : ٢٢١.

(٧) عن الجوهري في شرح النهج ٦ : ١٠ ، والطبري ٣ : ٢٢١.


فقام الحباب بن المنذر إلى سيفه فأخذه ، فقاموا إليه فأخذوه منه ، فقبض على ثوب وأخذ يضرب به وجوههم وهو يقول : فعلتموها يا معشر الأنصار ، أما والله لكأنّي بأبنائكم على أبواب أبنائهم قد وقفوا يسألونهم بأكفّهم ولا يسقون الماء!

فقال له أبو بكر : أمنّا تخاف يا حباب؟

فقال الحباب : ليس منك أخاف ولكن ممن يجيء بعدك!

فقال أبو بكر : فإذا كان ذلك كذلك فالأمر إليك وإلى أصحابك ليس لنا عليكم طاعة!

وقال الحباب : هيهات يا أبا بكر ، إن ذهبت أنا وأنت جاءنا بعدك من يسومنا الضيم (١)!

قال الراوي أبو عمرة بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري الخزرجي :

وأقبل الناس من كل جانب يبايعون أبا بكر ، وكادوا يطؤون سعد بن عبادة ، فقال ناس من أصحاب سعد : اتّقوا سعدا لا تطئوه!

فقال عمر : بل اقتلوه! قتله الله! وتقدم حتى وقف على رأسه فقال له : لقد هممت أن أطأك حتى تندر (تخرج) عضدك!

فقبض سعد بن عبادة (٢) بلحية عمر! فقال له عمر : والله لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة (سنّ)!

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ٩.

(٢) الطبري ٣ : ٢٢٢ ، وفي الاحتجاج ١ : ٩٣ : فوثب قيس بن سعد وأخذ بلحية عمر وقال له : يا بن صهاك (جدته الحبشية) الجبان في الحرب والليث في الملأ والأمن! لو حرّكت منه (أبيه سعد) شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة. وهذا أنسب وأقرب من أن يكون قيس بن سعد لا يساعد أباه لا بحملة ولا بجملة دفاعية ولا بكلمة ، فهذا بعيد من قيس جدا ، كما يبعد قبض اللحية من سعد وهو مريض.


فناداه أبو بكر : مهلا يا عمر! فالرفق هنا أبلغ! فأعرض عمر عن سعد.

وقال سعد : أما والله لو أن بي قوّة ما أقوى بها على النهوض لسمعت مني في أقطارها وسككها زئيرا يجحرك وأصحابك (١) أما والله إذا لألحقنّك بقوم كنت فيهم تابعا غير متبوع!

ثم قال لأصحابه : احملوني من هذا المكان. فحملوه فأدخلوه في داره (٢).

__________________

(١) يجحرك : يدخلك جحرا خوفا وذعرا.

(٢) الطبري ٣ : ٢٢٢ ، والاحتجاج ١ : ٩٣ ، وما خلا الأخذ باللحية في الإمامة والسياسة : ١٠.


عهد

خلافة أبي بكر



في طريقهم إلى المسجد :

روى سليم بن قيس عن البراء بن عازب الأنصاري قال : لما قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان بي من الحزن لوفاة رسول الله ما يأخذ الواله الثكول ، وقد خلا الهاشميون برسول الله لغسله وتحنيطه ، وقد بلغني الذي كان من سعد بن عبادة ومن تبعه من جملة أصحابه فلم أحفل بهم لأني علمت أنه لا يؤول إلى شيء ، وجعلت أتردّد بينهم وبين المسجد وأتفقّد وجوه قريش ، وإني لكذلك افتقدت أبا بكر وعمر.

ثم لم ألبث كثيرا حتى إذا أنا بأبي بكر وعمر وأبي عبيدة قد أقبلوا في أهل السقيفة ، وهم محتجزون (مؤتزرون) بالازر الصنعانية (اليمنية) لا يمرّ بهم أحد إلّا خبطوه ، فإذا عرفوه مدوا يده على يد أبي بكر شاء ذلك أم أبى!

فأنكرت ذلك ... وانطلقت مسرعا إلى المسجد ثم أتيت بني هاشم والباب مغلق دونهم ، وضربت الباب ضربا عنيفا وقلت : يا أهل البيت! فخرج إليّ


الفضل بن العباس ، فقلت له : قد بايع الناس أبا بكر. فسمعني أبوه العباس فقال : قد تربت أيديكم منها إلى آخر الدهر ، أما إني قد أمرتكم فعصيتموني (١)!

وزاد عنه اليعقوبي : قال : فعلوها وربّ الكعبة. وقال بعض بني هاشم : ما كان المسلمون يحدثون حدثا نغيب عنه ونحن أولى بمحمد! وأضاف : وكان المهاجرون والأنصار لا يشكّون في علي (٢) قال : وخرج من الدار الفضل بن العباس فقال : يا معشر قريش ؛ إنه ما حقت لكم الخلافة بالتمويه ، ونحن أهلها دونكم ، صاحبنا أولى بها منكم. وخرج عتبة بن أبي لهب يقول شعرا :

ما كنت أحسب أنّ الأمر منصرف

عن هاشم ثم منها عن أبي الحسن

عن أول الناس إيمانا وسابقة

وأعلم الناس بالقرآن والسنن

وآخر الناس عهدا بالنبيّ ومن

جبريل عون له في الغسل والكفن

من فيه ما فيهم لا يمترون به

وليس في القوم ما فيه من الحسن  (٣)

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس الهلالي ٢ : ٥٧١ ، ٥٧٢ ، الحديث ٣ ، وعن الجوهري عن النميري البصري عن أبي سعيد الخدري عن البراء الأنصاري أيضا في شرح النهج للمعتزلي ١ : ٢١٩ و٢ : ٥١ وفيه (٢ : ٥٦) عن الجوهري عن رجل من بني زريق : أن عمر كان يومئذ محتجزا (متحزّما مؤتزرا بإزاره في وسطه) يهرول بين يدي أبي بكر وينادي : أنّ الناس قد بايعوا أبا بكر ... وفي الاحتجاج (١ : ١٠٥) مثله عن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري. وفي أخبار الموفقيات : ٥٧٨ أقبلت الجماعة التي بايعته تزفّه إلى المسجد زفّا!

(٢) ومثله في الموفقيات : ٥٨٠ ، وقبله مثله عن أبان عن الحسن البصري في كتاب سليم ٢ : ٨٩٨.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٤. وفي كتاب سليم ٢ : ٥٧٦ ، نسبها للعباس. وفي الجمل للمفيد : ١١٨ ، نسبها إلى عبد الله بن أبي سفيان بن الحرث بن عبد المطلب ، وأنه كان خارجا عن المدينة فحضر المسجد وقال ...


والبيعة في المسجد :

ومرّ عمر وأبو عبيدة بأبي بكر حتى أدخلوه المسجد الشريف ، فقال عمر لأبي بكر اصعد المنبر ، ولم يزل به حتى صعد المنبر (١).

فروى المعتزلي عن الجوهري عن رجل من بني زريق قال : جلس أبو بكر على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد ، فإني ولّيتكم ولست بخيركم ، ولكنه نزل القرآن وسنت السنن علّمنا فتعلّمنا! أيها الناس ، إنما أنا متّبع ولست بمبتدع (؟) إذا أحسنت فأعينوني وإذا زغت فقوّموني. إنّ أكيس الكيس التقى ، وأحمق الحمق الفجور ، وإن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له الحق ، وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق (٢).

وروى المفيد في «الجمل» عن أبي مخنف عن الكلبي بسنده عن زائدة بن قدامة الثقفي (٦٢ ه‍) قال : كان جماعة من الأعراب من بني أسلم قد دخلوا المدينة للميرة يوم الاثنين فشغل الناس عنهم بموت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فأنفذ إليهم عمر واستدعاهم وقال لهم : خذوا (المئونة) بالمعونة على بيعة خليفة رسول الله ، فاخرجوا إلى الناس واحشروهم ليبايعوا ، فمن امتنع فاضربوا رأسه وجبينه!

قال قدامة : فو الله لقد رأيتهم قد تحزموا بازرهم وأخذوا خشبا بأيديهم وخرجوا يخبطون الناس خبطا وجاءوا بهم للبيعة مكرهين (٣).

__________________

(١) صحيح البخاري ٤ : ١٦٥ كتاب البيعة.

(٢) عن الجوهري في النهج للمعتزلي ٦ : ٥٥ ـ ٥٦. وفي كتاب السقيفة : ٥٠ بتصرف يسير في الألفاظ.

(٣) الجمل : ١١٩.


وروى الطبري عن الكلبي عن أبي مخنف عن أبي بكر بن محمد الخزاعي قال : إنّ أسلم أقبلت بجماعتها حتى تضايق بهم السكك فبايعوا أبا بكر ، فكان عمر يقول : لما رأيت أسلم أيقنت بالنصر (١).

أجل بايعه هؤلاء الناس هكذا طائعين ومكرهين وشغلوا بذلك عن أمر رسول الله حتى أمسوا ليلة الثلاثاء ، وفي «الموفقيات» : فلما كان آخر النهار (يوم الاثنين) افترقوا إلى منازلهم (٢) ولم يذكر من الصلاة شيء!

خطبة أبي ذر في المسجد :

روى فرات الكوفي في تفسيره بسنده عن أبي رجاء عمران بن ملحان العطاردي البصري (م ١١٧ ه‍) قال : لما بايع الناس لأبي بكر ، دخل أبو ذر المسجد فقام وقال : أيها الناس (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٣) وأهل بيت نبيكم هم من آل إبراهيم ، والصفوة من سلالة إسماعيل ، والعترة الهادية من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فبمحمّد شرّف شريفهم ، واستوجبوا حقهم ، ونالوا الفضيلة من ربّهم ، هم فينا كالسماء المبنيّة ، والأرض المدحيّة ، والجبال المنصوبة ، والكعبة المستورة ، والشمس الضاحية ، والنجوم الهادية ، والشجرة النبوية ، أضاء زيتها وبورك ما حولها.

__________________

(١) الطبري ٣ : ٢٢٢ ، ورواه المعتزلي عن الموفّقيات. وسيأتي عن الشافي ما يفيد أن كثيرا من أسلم دون هؤلاء أبوا أن يبايعوا حتى يبايع بريدة الأسلمي ، وهو لم يبايع حتى بايع علي عليه‌السلام.

(٢) عن الموفقيات في شرح النهج للمعتزلي ٦ : ١٩.

(٣) آل عمران : ٣٣ ـ ٣٤.


فمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وصيّ آدم ، ووارث علمه ، وإمام المتقين ، وقائد الغرّ المحجلين ، وتأويل القرآن العظيم.

وعليّ بن أبي طالب الصدّيق الأكبر ، والفاروق الأعظم ، ووصيّ محمد ووارث علمه وأخوه.

فما بالكم ـ أيتها الأمة المتحيّرة بعد نبيّها ـ لو قدّمتم من قدّم الله ، وخلّفتم الولاية لمن خلّفها له النبيّ ، والله لما عال وليّ الله ، ولا اختلف اثنان في حكم الله ، ولا سقط سهم من فرائض الله ، ولا تنازعت هذه الأمة في أمر دينها ، إلّا وجدتم علم ذلك عند أهل بيت نبيكم ؛ لأن الله تعالى يقول في كتابه العزيز : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ)(١) فذوقوا وبال ما فرّطتم (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)(٢).

نجوى جمع من الصحابة ليلا :

مرّ صدر خبر البراء بن عازب الخزرجي في إخباره بني هاشم في بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن البيعة لأبي بكر أصيل يوم الاثنين يوم وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفيه يقول :

فلما كان الليل (ليلة الثلاثاء) خرجت إلى المسجد ، فلما صرت فيه تذكرت أني كنت أسمع همهمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالقرآن ، فامتنع عليّ القرار ، فخرجت إلى فضاء بني قضاعة إذ وجدت فيه نفرا يتناجون فيما بينهم ، فلما دنوت منهم سكتوا ، فانصرفت عنهم ، وما عرفتهم ولكنهم عرفوني فدعوني إليهم فأتيتهم.

__________________

(١) البقرة : ١٢١.

(٢) الشعراء : ٢٢٧ ، والخطبة في تفسير آل عمران من تفسير فرات الكوفي : ٨١ ، الحديث ٥٨ ، وعنه في بحار الأنوار ٢٨ : ٢٤٧ ، وفي تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧١ ، وما عدا المقطع الأخير في كتاب سليم بن قيس ٢ : ٥٩٢ ، الحديث ٤.


فوجدت المقداد وسلمان وأبا ذر (١) وعمارا وحذيفة وأبا الهيثم ابن التيهان وعبادة بن الصامت ، وإذا حذيفة يقول لهم : والله ليكوننّ ما أخبرتكم به ، والله ما كذبت ولا كذبت. وإذا القوم يريدون أن يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين. ثم قال : وإنّ ابيّ بن كعب قد علم كما علمت فأتوه.

فانطلقنا إلى دار ابيّ فضربنا عليه بابه فقال : من أنتم وما حاجتكم؟

فكلّمه المقداد قال : افتح بابك فإن الأمر أعظم من أن يجري من وراء حجاب!

فقال ابيّ : قد عرفت ما جئتم له ، كأنكم أردتم النظر في هذا العقد؟ أفيكم حذيفة؟ قال : نعم ، فقال ابيّ : فالقول ما قال حذيفة ، وبالله ما أفتح عنّي بابي حتى تجري على ما هي جارية ، ولما يكون بعدها شرّ منها! وإلى الله المشتكى (٢).

وفي ضحى يوم الثلاثاء :

روى ابن اسحاق عن الزهري عن أنس بن مالك الأنصاري قال : لما بويع أبو بكر في السقيفة ، وكان الغد ..

جاء عمر بأبي بكر إلى المسجد ، فصعد أبو بكر المنبر ، وقام عمر دونه ، فحمد الله وأثنى عليه ، واعتذر إلى الناس من قولته بالأمس فقال : أيها الناس ،

__________________

(١) وروى المعتزلي ٦ : ١٣ ، عن الجوهري بسنده : أن أبا ذرّ أيضا كان غائبا فقدم وقد ولّي أبو بكر فقال : لو جعلتم هذا الأمر في أهل بيت نبيكم لما اختلف عليكم اثنان ، وفي كتاب السقيفة : ٦٢.

(٢) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٥٧٣ ، وعن الجوهري في شرح نهج البلاغة للمعتزلي ١ : ٢١٩ ، وفي كتاب السقيفة : ٤٦ ، ٤٧.


إن الذي كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما وجدتها في كتاب الله (١) ، ولا كانت عهدا من رسول الله ، ولكنّي كنت أرى أن رسول الله سيدبّر أمرنا (أي يكون آخرنا ، فلم يكن كذلك ومات) وأن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي هدى الله به رسوله ، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه له (على غرار قولته السابقة : حسبنا كتاب الله) ثم قال : وإن الله قد جمع أمركم على خيركم! (خلافا لقول أبي بكر بالأمس) صاحب رسول الله و (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ)(٢) فقوموا فبايعوه.

فبايع الناس البيعة العامة ، ثم قام أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

أما بعد أيها الناس ، فإني قد ولّيت عليكم ولست بخيركم (خلافا لقول عمر) فإن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوّموني .. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله ، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم. الضعيف فيكم قوي عندي حتى اريح عليه حقه إن شاء الله ، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله. الكذب خيانة والصدق أمانة.

وكأنّ كلامه هذا كان ختاما لتلك الجلسة قبيل الزوال فقال لهم : قوموا إلى صلاتكم رحمكم الله (٣).

__________________

(١) هذا ، ولكنه ادّعاه بعد ذلك كما في الخبر اللاحق في السيرة ٤ : ٣١٢ ، عن ابن عباس عن عمر قال : هل تدري ما كان حملني على مقالتي حين توفي رسول الله؟ قلت : لا ، قال : فإنه والله كان الذي حملني على ذلك أني قرأت الآية : (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) فو الله إن كنت لأظن أنّه سيبقى في امته ليشهد عليها بأعمالها. والآية ١٤٣ من سورة البقرة.

(٢) التوبة : ٤٠.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٣١١ بتصرّف يسير في الألفاظ ، ويلاحظ تكرير المعاني في الخطبتين بالأمس واليوم. وهنا روى ابن سعد قال : لما بويع أبو بكر أصبح وعلى


ثم أقبلوا على رسول الله :

قال ابن اسحاق : وبعد أن بويع أبو بكر يوم الثلاثاء (وصلوا الظهر) أقبلوا على جهاز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) وعن ابن عباس قال : ولما فرغ من جهاز رسول الله يوم الثلاثاء (٢) وضع على سريره في بيته. ثم دخل الرجال عليه جماعة فجماعة فصلّوا عليه بلا إمام ، فلما فرغ الرجال أدخل النساء ، ولما

__________________

ساعده أبراد وهو ذاهب إلى السوق! فقال له عمر : أين تريد؟ قال : السوق! قال : تصنع ما ذا؟ وقد ولّيت أمر المسلمين : قال : فمن أين أطعم عيالي؟! فقال : انطلق يفرض لك أبو عبيدة! فانطلقا إلى أبي عبيدة ، فقال : أفرض لك قوت رجل من المهاجرين كل يوم نصف شاة! وكسوة الشتاء والصيف إذا أخلقت ردّها وخذ غيرها. وجعلوا له ألفين (؟) فقال : زيدوني ؛ فإن لي عيالا ، وقد شغلتموني عن التجارة! فزاده خمس مائة! كما في تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٩١ ، ٩٢.

وفيه عن الأوائل للعسكري : أن أول من اتّخذ بيت المال أبو بكر ، وأول من وليه له أبو عبيدة بن الجرّاح. ولكن هل كان ذلك لأول يوم من خلافته؟!

أما ابن قتيبة (م ٢٧٢ ه‍) فقد قال : ثم دعا عمر والوجهاء من أصحاب رسول الله فقال لهم : ما ترون لي من هذا المال؟ فقال عمر : أنا أخبرك : ما كان من عيالك وضعفة أهلك يتقوّت منه بالمعروف ، وما كان من ولدك قد بان عنك وملك أمره فسهمه كرجل من المسلمين ، الإمامة والسياسة : ١٦ ـ ١٧ ، وهل كان رجال المسلمين حتى ذلك اليوم لهم سهام من بيت المال؟ أم من الغنائم فقط؟! بل قال العسكري في الأوائل : لم يكن للنبيّ بيت مال. وإن أول من ولي بيت المال أبو عبيدة لأبي بكر ، كما مرّ ، وانظر شرح النهج للمعتزلي ١٧ : ٢٢٤ : الطعن الرابع عشر ، وليس في تلخيص الشافي.

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٣١٢.

(٢) بل فرغ علي عليه‌السلام من غسله بعد وفاته منتصف يوم الاثنين وصلوا عليه يوم الاثنين وليلة الثلاثاء حتى الصباح ويوم الثلاثاء ، كما عن الباقر عليه‌السلام في مناقب آل أبي طالب ١ : ١٨٨ ـ ١٩٠.


فرغ النساء أدخل الصبيان. ثم دفن رسول الله في منتصف ليلة الأربعاء (١).

هذا ، ولكن ظاهر الأخبار السابقة في دفنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا سيما ما مرّ عن المفيد : أن ذلك لم يكن ليلا بل نهارا ، من دون تعيين اليوم ، فلعله كان في صدر نهار الأربعاء ، أي بعد وفاته ظهر الاثنين بيومين تقريبا.

وفيما روى الطبرسي عن الشيباني باسناد وثّقه قال : فلما فرغ عليّ عليه‌السلام من جهاز رسول الله وصلّى هو والناس عليه (ودفنه) وفرغ من ذلك ، خرج من داره صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مسجده فجلس فيه ، فاجتمع عليه بنو هاشم وفيهم الزبير بن العوام ، واجتمعت بنو أميّة إلى عثمان بن عفّان ، وبنو زهرة إلى عبد الرحمن بن عوف ، فكانوا في المسجد مجتمعين ...

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٣١٤ ، عن ابن عباس ، وعن عائشة بينما مرّ في أخبار وفاته ودفنه صلى‌الله‌عليه‌وآله في آخر المجلد الثالث عن المفيد في إرشاده : ١٨٨ ـ ١٩٠ أن أكثر الناس فاتتهم الصلاة عليه لما جرى بينهم من التشاجر في أمر الخلافة ، ولما صلّى المصلون عليه أنفذ العباس برجل إلى زيد بن سهل وإلى أبي عبيدة بن الجرّاح فوجد أبو طلحة زيد بن سهل فحفر له. فهل كان كل ذلك في جوف الليل؟! ثم فيه نادت الأنصار من وراء البيت : يا علي .. أدخل منا رجلا يكون لنا به حظ من مواراته ، فأدخل أوس بن خوليّ الخزرجي. فهل كان كل ذلك في جوف الليل؟! ثم فيه : كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يسوّي قبر رسول الله بالمسحاة إذ جاءه رجل فقال له : إن القوم قد بايعوا أبا بكر .. فوضع طرف المسحاة في الأرض وقال .. فهل كان كل ذلك في جوف الليل؟! وهذا ينافيه ما رواه بعده أن أبا سفيان طرق باب رسول الله وعلي عليه‌السلام متوفّر على أمر النبيّ فقال .. مما ظاهره أن هذا كان قبل دفنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذن فكيف التوفيق؟! فلعل عائشة أو رواة عنها أرادوا أن يعذروا أباها أبا بكر وعمر وأصحابهما عن عدم حضورهم دفنه صلى‌الله‌عليه‌وآله في جوف الليل. بينما حرص الأنصار على المشاركة فيه ، فهم أحرص على ذلك من خليفته ، وهو أزهد منهم فيه.


إذ أقبل أبو بكر ومعه عمر وأبو عبيدة بن الجرّاح ، فقالا لهم : ما لنا نراكم حلقا شتّى؟ قوموا فبايعوا أبا بكر ، فقد بايعته الأنصار والناس!

فقام عثمان وعبد الرحمن بن عوف ومن معهما فبايعوا.

وأما علي عليه‌السلام فإنه قام وقام من معه من بني هاشم ، فانصرف وانصرفوا معه إلى منزله عليه‌السلام (١).

زوبعة أبي سفيان :

روى المعتزلي عن الجوهري عن النميري البصري عن ابن منصور الرمادي عن مالك بن دينار التابعي (م ١٣٠ ه‍) رفعه قال : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد بعث أبا سفيان ساعيا (لجباية الزكاة بعد حجة الوداع وقبل أو قبيل وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله) فما رجع إلّا وقد مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلقى قوما فسألهم : ما الخبر؟ فقالوا : مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : فمن ولي بعده؟ قيل : أبو بكر. قال : أبو فصيل؟! قالوا : نعم. قال : فما فعل المستضعفان : عليّ والعباس؟! أما والذي نفسي بيده لأرفعنّ من أعضادهما!

وزاد ابن سليمان الراوي عنه قال : إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلّا الدم (٢).

ورواه الطبري عن الكلبي عن عوانة وزاد : يا آل عبد مناف ؛ فيم أبو بكر من اموركم أين المستضعفان الأذلّان : علي والعباس (٣)؟!

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ١١. وفي خبر الجوهري عن أبي عمرة بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري الخزرجي ، في شرح النهج للمعتزلي ٦ : ١١ ، والاحتجاج ١ : ٩٤.

(٢) عن الجوهري ، شرح نهج البلاغة للمعتزلي ٢ : ٤٤.

(٣) الطبري ٣ : ٢٠٩.


ثم روى المعتزلي : أن أبا سفيان التقى بجماعة من المهاجرين فيهم الزبير بن العوام ثم خلا بهم مع علي والعباس ، فتكلّموا معهما بكلام يقتضي الاستنهاض والتهييج.

وكأنّ عليا عليه‌السلام أكرم عمّه العباس فقدّمه في الجواب فقال لهم :

قد سمعنا قولكم ، فلا لقلّة نستعين بكم ، ولا لظنّة نترك آراءكم ، فأمهلونا نراجع الفكر ؛ فإن يكن لنا من الإثم مخرج يصرّ بنا وبهم الحق صرير الجد جد ، نبسط إلى الجدّ أكفّا لا نقبضها أو نبلغ المدى! وإن تكن الأخرى ، فلا لقلة في العدد ولا لوهن في الأيد ، والله لو لا أنّ «الإسلام قيد الفتك» لتدكدكت جنادل وصخر يسمع اصطكاكها من المحلّ العليّ.

فحلّ علي عليه‌السلام حبوته وقال : التقوى دين ، والحجة محمد ، والطريق الصراط ، أيها الناس ، شقّوا أمواج الفتن بسفن النجاة ، وعرجوا عن طريق المنافرة ، وضعوا تيجان المفاخرة. أفلح من نهض بجناح ، أو استسلم فأراح! هذا ماء آجن ، ولقمة يغصّ بها آكلها! ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه ، فإنّ أقل يقولوا : حرص على الملك ، وإن أسكت يقولوا : جزع من الموت! هيهات! بعد اللتيا والّتي! والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي امّه ، بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطويّ البعيدة (١).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ١ : ٢١٨ ، ٢١٩ و٢١٣ وفي ٢١٥ علّق على آخر الخطبة قال : وهذا إشارة إلى الوصية التي خصّ بها عليه‌السلام ، ومن جملتها الأمر بترك النزاع في مبدأ الاختلاف فيه وعليه. وروى الخطبة سبط ابن الجوزي في كتابه تذكرة الأمة بخصائص الأئمة المعروف بتذكرة الخواص : ١٢١ ، عن مجالد عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما دفن رسول الله جاء العباس وجماعة من بني هاشم ومعهم أبو سفيان فقالوا لعلي عليه‌السلام مدّ يدك نبايعك ، وحرّضوه ، فامتنع وخطب فقال .. وذكر مثله في كتاب له عليه‌السلام إلى أبي بكر ، في الاحتجاج ١ : ١٢٧ ، ١٢٨. وما رواه المعتزلي هنا عن العباس أولى مما يرويه في ٢ : ٤٨ ، عن الجوهري عن الكلبي عن ابن عباس عن أبيه العباس ، مما يفيد أنه وافق أبا سفيان.


وزاد الطبري عن الكلبي عن عوانة : أنّ أبا سفيان قال له : يا أبا الحسن ابسط يدك ابايعك! فأبى عليه ، فجعل يتمثّل بشعر المتلمّس :

ولن يقيم على خسف يراد به

إلّا الأذلّان عير الحيّ والوتد

هذا على الخسف معكوس برمّته

وذا يشجّ فلا يبكي له أحد

فزجره علي عليه‌السلام وقال له : إنك والله ما أردت بهذا إلّا الفتنة ، وإنك والله طالما بغيت الإسلام شرّا ، لا حاجة لنا في نصيحتك (١).

وروى المنقريّ كتابا لعلي عليه‌السلام جوابا لمعاوية في أول أمره قال له فيه : وحين ولّى الناس أبا بكر أتاني أبوك فقال : أنت أحق بمقام محمد وأولى الناس بهذا الأمر أنا زعيم لك بذلك على من خالف ، ابسط يدك أبايعك.

وأنت تعلم أن أباك قد قال ذلك وأراده ، وكنت أنا الذي أبيت ، لقرب عهد الناس بالكفر مخافة الفرقة بين أهل الإسلام (٢) أو قال : مخافة الفرقة لقرب عهد الناس بالإسلام والجاهلية (٣) والغريب أن معاوية أعاد هذا على علي عليه‌السلام بعد هذا في خضمّ معارك صفّين في كتابه إليه بزيادة قال : وسمعتك بأذني حين قال لك (أبي)

__________________

(١) تاريخ الطبري ٣ : ٢٠٩. والرمّة : الحبل ، المعكوس : المشدود إحدى يديه بعنقه.

(٢) وقعة صفين : ٩١.

(٣) كما في أنساب الأشراف : ٢٨١ ، عن الكلبي عن أبي مخنف وذكر المحقق للكتاب مصادر اخرى ، منها : نهج البلاغة ك ٩ و٢٨ وانظر مصادرهما في المعجم : ١٣٩٤ و ١٣٩٥. مصادر الغريب ٩ من الحكمة ٢٦٠ : ١٤١٤ فهي قطع ثلاثة من أصل كتاب واحد.


أبو سفيان : يا ابن أبي طالب ، غلبت على سلطان ابن عمك ، والذي غلبك عليه من أذل أحياء قريش تيم وعديّ! ودعاك إلى أن ينصرك! فقلت له : لو وجدت أربعين رجلا من المهاجرين ، والأنصار من أهل السابقة ، لنا هضت هذا الرجل (١).

وزاد المفيد في «كتاب الجمل» قال : يا بني هاشم ، أرضيتم أن يلي عليكم بنو تيم بن مرّة حكاما على العرب! ومتى طمعت أن تتقدم على بني هاشم بالأمر؟! انهضوا لدفع هؤلاء القوم عمّا تمالئوا عليه ظلما لكم ، أما والله لئن شئتم لأملأنّها عليهم خيلا ورجالا! ثم أنشأ :

بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكم

ولا سيّما تيم بن مرّة أو عدي

فما الأمر إلّا فيكم وإليكم

وليس لها إلّا أبو حسن علي

أبا حسن فاشدد بها كفّ حازم

فإنك بالأمر الذي يرتجى ملي(٢)

ورواه في «الإرشاد» وزاد : ثم نادى بصوت عال : يا بني هاشم ؛ يا بني عبد مناف ؛ أرضيتم أن يلي عليكم أبو فصيل الرّذل ابن الرّذل؟ أما والله لئن شئتم لأملأنّها خيلا ورجالا!

فناداه علي عليه‌السلام : ارجع يا أبا سفيان! فو الله ما تريد الله بما تقول ، وما زلت تكيد الإسلام وأهله ، ونحن مشاغيل برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعلى كل امرئ ما اكتسب ، وهو وليّ ما احتقب.

قال : فانصرف أبو سفيان إلى المسجد فرأى بني أمية فحرّضهم فلم ينهضوا له (٣).

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٧٧٥ ، ٧٧٦.

(٢) كتاب الجمل : ١١٧ ، والإرشاد ١ : ١٩٠ ، والأخبار الموفقيات : ٥٧٧ ، وتاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٦.

(٣) الإرشاد ١ : ١٩٠.


فروى المعتزليّ عن الجوهري عن جعفر بن سليمان : أن عمر أخبر أبا بكر : أن أبا سفيان قد قدم ، وإنا لا نأمن من شرّه ، فادفع له ما في يده (من مال الزكاة). وقبل أبو بكر مشورة عمر فترك لأبي سفيان ما كان في يده! فرضي عنهم (١)!

وهكذا خرج أبو سفيان من ساحة المعارضة.

وبقي العبّاس عمّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله :

ومرّ خبر البراء بن عازب الخزرجي عن نجوى جمع من الصحابة ليلة الثلاثاء ، وفيه يقول : وبلغ الخبر أبا بكر وعمر ، فأرسلا إلى أبي عبيدة والمغيرة بن شعبة فسألاهما عن الرأي ، فقال المغيرة : أن تلقوا العباس فتجعلوا له في هذا الأمر نصيبا له ولعقبه فتقطعوه من ناحية علي ، ويكون لكم حجة عند الناس على علي إذا مال معكم العباس :

فلما كانت الليلة الثانية من وفاة رسول الله (أي ليلة الأربعاء مساء دفنه وفي نسخة : الثالثة) انطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة والمغيرة حتى دخلوا على العباس.

فلما جلسوا حمد الله أبو بكر وأثنى عليه ثم قال : إن الله ابتعث لكم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله نبيّا ، وللمؤمنين وليا ، فمنّ الله عليهم بكونه بين ظهرانيّهم ، حتى اختار له ما عنده ، فخلّى على الناس امورهم ليختاروا لأنفسهم (؟!) غير مختلفين ، فاختاروني عليهم واليا ، ولأمورهم راعيا ، فتولّيت ذلك وما أخاف ـ بعون الله وتسديده ـ وهنا ، ولا حيرة ولا جبنا (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)(٢)

__________________

(١) عن الجوهري في شرح نهج البلاغة للمعتزلي ٢ : ٤٤ ، وفي كتاب السقيفة للجوهري : ٣٧. وفي أنساب الأشراف ١ : ٥٨٩ بعضه ، وفي العقد الفريد ٢ : ٢٤٩ وفي ط ٢ ، ٣ : ٦٢.

(٢) هود : ٨٨.


وما انفك يبلغني عن طاعن يقول بخلاف قول عامة المسلمين ، يتّخذكم لجأ فتكونوا حصنه المنيع وخطبه البديع (ولعلها إشارة إلى معارضة أبي سفيان ثم انصراف عليّ وبني هاشم).

ثمّ قال : ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيبا ولمن بعدك من عقبك ، إذ كنت عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإن كان المسلمون قد رأوا مكانك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومكان أهلك ثم عدلوا بهذا الأمر عنكم! وعلى رسلكم بني هاشم ، فإن رسول الله منّا ومنكم.

فقال عمر : واخرى : أنّا لم نأتكم حاجة إليكم ، ولكن كرهنا أن يكون الطعن منكم في ما اجتمع عليه المسلمون ، فيتفاقم الخطب بكم وبهم! فانظروا لأنفسكم وعامّتهم. وسكت.

فتكلم العباس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن الله ابتعث محمدا نبيا كما وصفت ، وليا للمؤمنين ، فمنّ الله به على امته حتى اختار له ما عنده (فخلّى الناس على أمرهم ليختاروا لأنفسهم (؟!) مصيبين للحق مائلين عن زيغ الهوى) (١).

فإن كنت برسول الله طلبت فحقّنا أخذت ، وإن كنت بالمؤمنين فنحن منهم ، وما تقدّمنا في أمركم فرضا ، ولا حللنا وسطا ، ولا برحنا سخطا.

فإن كان هذا الأمر يجب لك بالمؤمنين فما وجب إذ كنّا كارهين ، وما أبعد قولك إنهم طعنوا من قولك : إنهم مالوا إليك.

وأما ما بذلت لنا ؛ فإن يكن حقك أعطيتناه فأمسكه عليك ، وإن يكن حق المؤمنين فليس لك أن تحكم فيه ، وإن يكن حقّنا لم نرض لك ببعضه دون بعض. وما أقول هذا أروم صرفك عمّا دخلت فيه ، ولكن للحجة نصيبها من البيان.

__________________

(١) هذه الجملة زيادة في اليعقوبي والجوهري وابن قتيبة وليست في كتاب سليم.


وأما قولك : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله منا ومنكم ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها.

وأمّا قولك يا عمر : إنك تخاف الناس علينا! فهذا الذي فعلتموه أوّل ذلك! وبالله المستعان (١).

ولزم عليّ بيته لجمع القرآن :

روى سليم بن قيس عن سلمان الفارسي قال : لما رأى علي عليه‌السلام غدرهم وقلة وفائهم له ، لزم بيته وأقبل على القرآن يجمعه ويؤلّفه ، وكان في الصحف والرقاع والأسيار (قيود الجلود) والشظاظ (العيدان).

فلما جمعه كله وكتبه على تنزيله وتأويله ، وناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، ووعده ووعيده ، وظاهره وباطنه ؛ بعث إليه أبو بكر : أن اخرج فبايع.

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٥٧٤ ، واليعقوبي ٢ : ١٢٤ ـ ١٢٦ ، وعن الجوهري في شرح نهج البلاغة للمعتزلي ١ : ٢٢٠ ، ٢٢١ وفي كتاب السقيفة : ٤٧ ، ٤٨. وقد نقل ابن قتيبة قبله هذا الخبر في الإمامة والسياسة : ١٥ ولكنه اجتهد قبالة النصّ فجعله بعد وفاة الزهراء عليها‌السلام بعد أبيها بخمس وسبعين ليلة. وقد جاء في كتاب سليم بن قيس ٢ : ٦٦٥ خطبة لعلي عليه‌السلام في أواخر عصره ، خرّجها المحقق عن خمسة مصادر أخرى منها نهج البلاغة في الخطبتين ٣٤ ومصادرها خمسة أخرى ، و٩٧ ومصادرها عشرة أخرى ، وانفرد عنها جميعا سليم بقوله فيها : فلم يكن معي أحد من أهل بيتي أصول به : أما حمزة فقتل يوم أحد ، وأما جعفر فقتل يوم مؤتة وبقيت في جلفين جافيين ذليلين حقيرين عاجزين : العباس وعقيل وكانا قريبي عهد بالاسلام. فهل يخطب بهذا خطبة عامة مع وجود أبنائهما معه عليه‌السلام؟! حديث غريب! ولكن نحوه عن الباقر عليه‌السلام في روضة الكافي : ١٩٠ كما عنه في بحار الأنوار ٢٨ : ٢٥١.


فبعث إليه علي عليه‌السلام : إني لمشغول فقد آليت على نفسي يمينا : أن لا أرتدي رداء إلّا للصلاة حتى أؤلّف القرآن وأجمعه (١).

قال سلمان : فجمعه في ثوب واحد ، ثم خرج إلى الناس ـ وهم مع أبي بكر ـ في مسجد رسول الله ، فنادى بأعلى صوته :

يا أيها الناس ، إني لم أزل منذ قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مشغولا أوّلا بغسله ، ثم بالقرآن حتى جمعته كلّه في هذا الثوب ، فلم ينزل الله تعالى على رسوله آية إلّا وقد جمعتها ، وليست منه آية إلّا وقد أقرأنيها رسول الله وعلمني تأويلها. لئلّا تقولوا يوم القيامة : أني لم أدعكم إلى كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته ، أو أني لم أدعكم إلى نصرتي ولم أذكركم حقي ، ولئلّا تقولوا غدا : (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ)(٢).

فردّ عليه عمر قال : يغنينا ما معنا من القرآن عما تدعونا إليه!

فانصرف علي عليه‌السلام إلى بيته ، فدخله ، وأغلق عليه بابه (٣).

__________________

(١) وأشار إليه المعتزلي ٦ : ٤٠ ، عن الجوهري قال : إلّا إلى صلاة جمعة ، وفي السقيفة : ٦٤.

(٢) الأعراف : ١٧٢.

(٣) كتاب سليم بن قيس الهلالي ٢ : ٥٨١ ـ ٥٨٢ ، والآية من الأعراف : ١٧٢. وروى صدر الخبر الكليني في روضة الكافي : ٢٨٣ ، الحديث ٥٤١ بسنده عن سليم. وروى الصدوق خبرا آخر مثله عن سليم عن أبي ذر ، ذكره المجلسي في بحار الأنوار ٨ ط ق : ٤٦٣ و٩٢ : ٤٢. وفي الاحتجاج ١ : ١٠٥ ، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري بمعناه. وفي تفسير العياشي ٢ : ٣٠٧ ـ ٣٠٨ ، عن الصادق عليه‌السلام. وراجع هوامش بحار الأنوار ٢٨ : ٢٦٤ ـ ٢٦٥ للمحقق البهبودي ، وفيها عن فهرست ابن النديم : ٤٨ : فجلس في بيته ثلاثة أيام حتى جمع القرآن من قلبه في أول مصحف جامع. ومعناه في الإمامة والسياسة : ١٢ ، وعن الجوهري في شرح النهج للمعتزلي ٢ : ٥٦ ، وفي السقيفة : ٥١ ، ومنتخب كنز العمال ٢ : ١٦٢.


خطبته عليه‌السلام بعد جمعه القرآن :

روى الكليني بسنده عن الباقر عليه‌السلام قال : إن أمير المؤمنين عليه‌السلام حين فرغ من تأليف القرآن وجمعه بعد سبعة أيام من وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، خطب الناس بالمدينة فقال :

الحمد لله الذي منع الأوهام أن تنال إلى وجوده ، وحجب العقول أن تتخيّل ذاته .. إلى أن قال : إن القوم لم يزالوا عبّاد أصنام وسدنة أوثان يقيمون لها المناسك ، وينصبون لها العتائر (الذبائح) وينحرون لها القربان ، ويجعلون لها البحيرة والوصيلة والسائبة والحام ، ويستقسمون بالأزلام ، عامهين عن الله عزّ ذكره ، حائرين عن الرشاد ، مهطعين إلى البعاد ، وقد استحوذ عليهم الشيطان ، وغمرتهم سوداء الجاهلية ، ورضعوها جهالة وانفطموها (كذا) ضلالة ...

فأخرجنا الله إليهم رحمة ، وأطلعنا عليهم رأفة ، وأسفر بنا عن الحجب ، نورا لمن اقتبسه ، وفضلا لمن اتّبعه ، وتأييدا لمن صدّقه. فتبوّءوا العزّ بعد الذلة ، والكثرة بعد القلّة ، وهابتهم القلوب والأبصار ، وأذعنت لهم الجبابرة وطوائفها ، وصاروا أهل نعمة مذكورة وكرامة ميسورة ، وأمن بعد الغوث وجمع بعد كوف (١) ، وأضاءت بنا مفاخر معدّ بن عدنان ، وأولجناهم باب الهدى ، وأدخلناهم دار السلام ، وأشملناهم ثوب الإيمان ، وفلجوا بنا في العالمين ، وبدت لهم أيام الرسول آثار الصالحين : من حام مجاهد ، ومصلّ قانت ، ومعتكف زاهد ، يظهرون الأمانة ، ويأتون المثابة ...

وقال عليه‌السلام : وما من رسول سلف ولا نبيّ مضى ، إلّا وقد كان مخبرا أمّته بالمرسل الوارد من بعده ، ومبشّرا برسول الله ، وموصيا قومه باتباعه ،

__________________

(١) تكوف : التفّ وتجمّع كما في مجمع البحرين ٥ : ١١٦ ، ولعلّه من الأضداد.


ومحلّيه (١) عند قومه ليعرفوه بصفته ، وليتبعوه على شريعته ، ولئلّا يضلوا فيه من بعده ، فيكون من هلك أو ضلّ بعد وقوع الإعذار والإنذار عن بينته وتعيين حجته ، فكانت الأمم في رجاء من الرسل وورود من الأنبياء ، ولئن اصيبت بفقد نبيّ بعد نبيّ على عظم مصائبهم وفجائعها بهم فقد كانت على سعة من الأمل.

و(لكن) لا مصيبة عظمت ولا رزيّة جلّت كالمصيبة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأن الله ختم به الإنذار والإعذار ، وقطع به الاحتجاج والعذر بينه وبين خلقه ، وجعله بابه الذي بينه وبين عباده ، ومهيمنه الذي لا يقبل إلّا به ، ولا قربة إلّا إليه بطاعته. وقال في محكم كتابه : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً)(٢). فقرن طاعته بطاعته ومعصيته بمعصيته ، فكان ذلك دليلا على ما فوّض إليه وشاهدا له على من اتّبعه وعصاه ، وبيّن ذلك في غير موضع من الكتاب العظيم فقال تبارك وتعالى في التحريض على اتباعه والترغيب في تصديقه ، والقبول لدعوته : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)(٣) فاتّباعه محبّة الله ورضاه غفران الذنوب وكمال الفوز ووجوب الجنة ، وفي التولّي عنه والإعراض محادّة الله وغضبه وسخطه ، والبعد منه مسكّن النار ؛ وذلك قوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ)(٤) يعني الجحود به والعصيان له.

وإن الله تبارك اسمه امتحن بي عباده ، وقتل بيدي أضداده ، وأفنى بسيفي جحّاده وجعلني زلفة للمؤمنين ، وحياض موت على الكافرين ، وسيفه

__________________

(١) أي ذاكرا حليته ووصفه.

(٢) النساء : ٨٠.

(٣) آل عمران : ٣١.

(٤) هود : ١٧.


على المجرمين ، وشدّ بي أزر رسوله ، وأكرمني بنصره ، وشرّفني بعلمه ، وحباني بأحكامه ، واختصّني بوصيّته ، واصطفاني بخلافته في امّته :

فقال وقد حشده المهاجرون والأنصار وغصّت بهم المحافل : «أيها الناس إن عليا مني كهارون من موسى ، إلّا أنه لا نبيّ بعدي» فعقل المؤمنون عن الله نطق الرسول ، إذ عرفوني أني لست بأخيه لأبيه وأمه كما كان هارون أخا لموسى لأبيه وأمه ، ولا كنت نبيّا فأقتضي نبوة ، ولكن كان ذلك منه استخلافا لي كما استخلف موسى هارون عليه‌السلام حيث يقول : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)(١). وقوله حين تكلّمت طائفة فقالت : نحن موالي رسول الله ، فخرج رسول الله إلى حجة الوداع ثمّ صار إلى «غدير خم» فأمر فأصلح له شبه المنبر فعلاه وأخذ بعضدي حتى رؤي بياض إبطيه رافعا صوته قائلا في محفله : «من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» فكانت على ولايتي ولاية الله وعلى عداوتي عداوة الله ، وأنزل الله في ذلك اليوم (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً)(٢) فكانت ولايتي كمال الدين ورضا الربّ جلّ ذكره.

وأنزل الله تبارك وتعالى اختصاصا لي وتكريما نحلنيه وإعظاما وتفضيلا من رسول الله منحنيه ، وهو قوله تعالى : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ)(٣). في مناقب لو ذكرتها لعظم بها الارتفاع وطال لها الاستماع.

__________________

(١) الأعراف : ١٤٢.

(٢) المائدة : ٣ ، وفي ذلك اليوم أي في شأنه.

(٣) الأنعام : ٦٢.


إلى أن قال عليه‌السلام : حتى إذا دعا الله عزوجل نبيّه ورفعه إليه ، لم يك بعده إلّا كلمحة من خفقة ، أو وميض من برقة ، إلّا أن رجعوا على الأعقاب وانتكسوا على الأدبار ، وطلبوا بالأوتار ، وأظهروا الاكتئاب وردموا الباب ، وفلّوا الديار وغيّروا آثار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ورغبوا عن أحكامه وبعدوا عن أنواره ، واستبدلوا بمستخلفه بديلا (اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ)(١) وزعموا أن من اختاروا من آل أبي قحافة أولى بمقام رسول الله ممن اختار رسول الله لمقامه ، وأن مهاجر آل أبي قحافة خير من المهاجر الناصر الربّاني ناموس هاشم بن عبد مناف. ألا وإن أول شهادة زور رفعت في الإسلام شهادتهم أنّ صاحبهم مستخلف رسول الله [في الصلاة] فلما كان من أمر سعد بن عبادة ما كان رجعوا عن ذلك وقالوا : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مضى ولم يستخلف! فكان رسول الله الطيّب المبارك أول مشهود عليه بالزور في الإسلام ، وعن قليل يجدون غبّ ما أسسه الأوّلون.

ولئن كانوا في مندوحة من المهل وشفاء من الأجل وسعة من المنقلب واستدراج من الغرور ، وسكون من الحال ، وإدارك من الآمال ؛ فقد أمهل الله شدّاد بن عاد ، وثمود بن عبود ، وبلعم بن باعور ، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة ، وأمدّهم بالأموال والأعمار ، وأتتهم الأرض بركاتها ليذكروا آلاء الله وليعرفوا الإهابة له والانابة إليه ، ولينتهوا عن الاستكبار ، فلما بلغوا المدة واستتمّوا الأكلة ، أخذهم الله عزوجل واصطلمهم ، فمنهم من حصب ، ومنهم من أخذته الصيحة ، ومنهم من أحرقته الظلّة ، ومنهم من أودته الرجفة ، ومنهم من أردته الخسفة (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(٢). ألا وإنّ لكل أجل كتابا

__________________

(١) الأعراف : ١٤٨.

(٢) العنكبوت : ٤٠.


فإذا بلغ الكتاب أجله وكشف لك عمّا أوى إليه الظالمون وآل إليه الأخسرون ؛ لهربت إلى الله عزوجل مما هم عليه مقيمون وإليه صائرون.

ألا وإني فيكم أيها الناس كهارون في آل فرعون ، وكباب حطة في بني إسرائيل ، وكسفينة نوح في قوم نوح ، إني النبأ العظيم والصديق الأكبر ، وعن قليل ستعلمون ما توعدون ، وهل هي إلّا كلعقة الآكل ومذقة الشارب وخفقة الوسنان ، ثم تلزمهم المعرّات خزيا في الدنيا (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(١) فما جزاء من تنكّب محجّته وأنكر حجته ، وخالف هدايته وحاد عن نوره واقتحم في ظلمه ، واستبدل بالماء السراب وبالنعيم العذاب ، وبالفوز الشقاء وبالسرّاء الضرّاء ، وبالسعة الضنك ، إلّا جزاء اقترافه وسوء خلافه فليوقنوا بالوعد على حقيقته وليستيقنوا بما يوعدون (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ* إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ* يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ* نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ)(٢) والحمد لله (٣).

ويعوز آخر الخبر هكذا عن ذكر حال الحضور المخاطبين وردّ فعلهم.

ما ذا كانت فدك؟

مرّ بعد أخبار خيبر خبر الطبرسي في «إعلام الورى» عن أبان عن زرارة عن الباقر عليه‌السلام قال : لما فرغ رسول الله من خيبر ، عقد لواء يريد أن يبعث به

__________________

(١) البقرة : ٨٥.

(٢) ق : ٤٢ ـ ٤٥.

(٣) روضة الكافي : ١٦ ـ ٢٥ ، وصدره في تحف العقول : ٦٧ ـ ٧٢ وتعرف بخطبة الوسيلة.


إلى حوائط فدك (١) ثمّ قال لعلي عليه‌السلام : يا علي ، قم إليه فخذه ، فبعث به إلى فدك ، فصالحهم على أن يحقن دماءهم (٢).

في حين نقل الواقدي : أن رسول الله بعد خيبر لما دنا من فدك بعث محيّصة بن مسعود إلى أهل فدك يدعوهم إلى الإسلام ويخوّفهم أن يحلّ بساحتهم. ثمّ نقل عن محيّصة : أنه لما أراد أن يرجع عنهم قدم معه رجل من رؤسائهم يقال له : نون بن يوشع ، في نفر من اليهود (٣) وقبله. أشار ابن اسحاق إلى خبر محيّصة وقال : قدمت رسلهم على رسول الله وهو ما زال في خيبر ، أو في الطريق ، أو بعد ما قدم المدينة ، يسألونه أن يصالحهم على النصف (٤).

وقال الواقدي : فصالحوا رسول الله على أن يحقن دماءهم .. وأنّ لهم نصف الأرض بتربتها ولرسول الله نصفها. فقبل رسول الله ذلك وأقرّهم عليه (٥).

وقال ابن اسحاق : فكانت فدك خالصة لرسول الله ؛ لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب (٦).

وفي خبر الباقر عليه‌السلام : فكانت حوائط فدك لرسول الله خاصا خالصا ، فنزل جبرئيل عليه‌السلام فقال : إنّ الله عزوجل يأمرك أن تؤتي ذا القربى حقه. فقال : يا جبرئيل ، ومن قرباي وما حقها؟ قال : فاطمة ، فأعطها حوائط فدك ..

__________________

(١) تبعد عن المدينة إلى خيبر اليوم بمائة وأربعين كم ، وفي معجم البلدان : يومان ٦ : ٣٤٢.

(٢) إعلام الورى ١ : ٢٠٨ ـ ٢٠٩ ، وقصص الأنبياء : ٣٤٨.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٧٠٦.

(٤) ابن اسحاق في السيرة ٣ : ٣٥٢ و٣٦٨.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٧٠٧.

(٦) ابن اسحاق في السيرة ٣ : ٣٥٢ و٣٦٨.


فدعا رسول الله فاطمة (١) فقال لها : يا بنيّة ، إن الله قد أفاء على أبيك بفدك واختصّه بها ، فهي لي خاصة دون المسلمين أفعل بها ما أشاء ، وإنه قد كان لأمك خديجة على أبيك مهر ، إن أباك قد جعلها لك بذلك وأنحلتك إياها تكون لك ولولدك من بعدك.

فدعا بأديم عكاظي (من أديم عكاظ) ودعا بعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فقال له : اكتب بفدك نحلة من رسول الله لفاطمة (فكتب) وشهد ، و(معهم) أم أيمن ومولى لرسول الله (٢).

وعن الكاظم عليه‌السلام قال للمهدي العبّاسي : أوحى الله إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن ادفع فدك إلى فاطمة عليها‌السلام. فدعاها رسول الله فقال لها : يا فاطمة ، إن الله أمرني أن ادفع إليك فدك. فقالت له : يا رسول الله قد قبلت من الله ومنك.

ثم قال عليه‌السلام : فلم يزل في حياة رسول الله وكلاؤها فيها (٣).

وصادرها الخليفة :

قال عليه‌السلام : فلما ولي أبو بكر أخرج منها وكلاءها ، فأتته تسأله أن يردّها عليها فقال لها : ايتني بمن يشهد لك بذلك. فجاءت بأمير المؤمنين (وفي التهذيب : والحسن والحسين) وأم أيمن فشهدا (أو شهدوا) لها (٤).

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ٢٠٨ ـ ٢٠٩.

(٢) الخرائج والجرائح عن الصادق عليه‌السلام ١ : ١١٣ وفي الخبر السابق عن الباقر عليه‌السلام : وكتب لها كتابا. وإليه الإشارة في خبر آخر عن المفضل بن عمر عن الصادق عليه‌السلام ، في بحار الأنوار ٥٣ : ١٧ وفي خبر آخر عنها عليها‌السلام عن إرشاد القلوب في بحار الأنوار ٣٠ : ١٩٤.

(٣) أصول الكافي ١ : ٥٤٣ ، الحديث ٥ ، والمقنعة : ٢٨٩ ، والتهذيب ٤ : ١٤٨ ، الباب ١ ، الحديث ٣٦.

(٤) المصدر السابق.


وعن الصادق عليه‌السلام قال : بعث أبو بكر إلى فدك من أخرج منها وكيل الزهراء عليها‌السلام ، فذهبت إلى أبي بكر وقالت له : لم أخرجت وكيلي من فدك وقد جعلها لي رسول الله بأمر الله تعالى؟! فقال لها : هاتي على ذلك بشهود (١).

ونحوه ما لدى المعتزلي عن الجوهري عن البصري بسنده عن زيد بن علي عليه‌السلام قال : أتته فاطمة فقالت له : إن رسول الله أعطاني فدك. فقال لها : هل لك بيّنة؟!

فجاءت بعلي عليه‌السلام فشهد لها.

وجاءت بأم أيمن فقالت لهما : ألستما تشهدان أني من أهل الجنة؟ قالا : بلى. قالت : فأنا أشهد أنّ رسول الله أعطاها فدكا.

فقال أبو بكر : فرجل آخر أو امرأة أخرى لتستحقّي بها القضية (٢)!

وما رواه البلاذري عن مالك بن جعونة عن أبيه قال : قالت فاطمة لأبي بكر : إن رسول الله جعل لي فدكا فأعطني إياها. وشهد لها علي بن أبي طالب. فسألها شاهدا آخر فشهدت لها أمّ أيمن ، فقال : قد علمت يا بنت رسول الله أنه لا تجوز إلّا رجلين أو رجل وامرأتين. فانصرفت.

ورواية خالد بن طهمان : أن فاطمة قالت لأبي بكر : أعطني فدكا فقد جعلها رسول الله لي فسألها البيّنة ، فجاءت بأم أيمن ورباح مولى النبيّ فشهدا لها بذلك ، فقال : إنّ هذا الأمر لا تجوز فيه إلّا شهادة رجل وامرأتين (٣).

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٥٥ ، بسند صحيح ، والاختصاص : ١٨٣ ـ ١٨٥ ، والاحتجاج ١ : ١١٩ ـ ١٢٢.

(٢) عن الجوهري في شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ٢١٩.

(٣) عن فتوح البلدان ١ : ٣٨ ، وفي الغدير ٧ : ١٩١.


وفي الخبر السابق عن الباقر عليه‌السلام قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كتب لها كتابا جاءت به بعد موته لأبي بكر وقالت له : هذا كتاب رسول الله لي ولا بنيّ (١).

سرّ المصادرة :

روى الطبراني (٣٦٠ ه‍) في «المعجم الأوسط» والهيثمي في «مجمع الزوائد» عن عمر قال : ذهبت أنا وأبو بكر بعد وفاة رسول الله إلى عليّ فقلنا له :

ما تقول في ما ترك رسول الله؟

قال : نحن أحق الناس برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فقلت : والذي بخيبر؟ قال : والذي بخيبر. قلت : والذي بفدك؟ قال : والذي بفدك! فقلت : لا والله حتى تحزّوا رقابنا بالمناشير (٢)!

وفي سرّ المصادرة جاء في «الكشكول فيما جرى على آل الرسول» : عن المفضّل بن عمر الجعفي عن الصادق عليه‌السلام قال : لما ولي أبو بكر قال له عمر : إن الناس عبيد هذه الدنيا لا يريدون غيرها ؛ فامنع عن علي وأهل بيته الخمس والفيء وفدكا ؛ فإن شيعته إذا علموا ذلك تركوا عليا وأقبلوا إليك رغبة في الدنيا وإيثارا لها ومحاماة عليها. ففعل أبو بكر ذلك (٣).

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ٢٠٩.

(٢) مجمع الزوائد ٩ : ٣٩.

(٣) الكشكول فيما جرى على آل الرسول ، للسيد حيدر الحلي : ٢٠٣ ـ ٢٠٥. وجاء في إرشاد القلوب ٢ : ٣٨٤ : مرفوعا عن جابر الأنصاري : أن أبا بكر قلّد الصدقات بقرى المدينة وضياع فدك رجلا من ثقيف شجاعا يقال له : أشجع بن مزاحم الثقفي ، وكان له أخ قتله علي عليه‌السلام في حرب ثقيف وهوازن ، ومع الرجل ثلاثون رجلا من جياد قومه!


وسيأتي عن ابن الجوزي أو سبطه : أن عمر قال لأبي بكر لما رآه يكتب كتابا للزهراء : ما هذا؟ فقال : كتاب كتبته لفاطمة .. وكأنّه كان في بدايات ردّات العرب فقال له : ومن ما ذا تنفق على المسلمين وقد حاربتك العرب كما ترى؟! ثم أخذ الكتاب منه فشقّه (١)!

ونقل المعتزلي عن علي بن تقي النيلي الحلّي قال : ما قصد أبو بكر وعمر بمنع فاطمة عن فدك إلّا أن لا يتقوّى عليّ عليه‌السلام بحاصلها وغلّتها على المنازعة في الخلافة ؛ فإن الفقير الذي لا مال له تضعف همته ويتصاغر عند نفسه ، ويكون مشغولا بالاحتراف والاكتساب عن طلب الملك والرئاسة (٢).

وجاء علي عليه‌السلام إلى أبي بكر وهو في المسجد وحوله المهاجرون والأنصار فقال له :

يا أبا بكر ، تحكم فينا بخلاف حكم الله في المسلمين؟ قال : لا. قال : فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه ثم ادّعيت أنا فيه ، فممن تسأل البيّنة؟ قال : إياك أسأل البيّنة. قال : فما بالك سألت فاطمة البيّنة على ما (كان) في يديها وقد ملكته في حياة رسول الله .. أخذت منها فدكا وزعمت أنه فيء للمسلمين. فرددت قول رسول الله : البيّنة على من ادّعى ، واليمين على من ادّعي عليه.

قال الصادق عليه‌السلام : فنظر الناس بعضهم إلى بعض ودمدموا وأنكروا وقالوا : صدق والله عليّ بن أبي طالب .. وسكت أبو بكر!

__________________

(١) كما في الغدير ٧ : ٩٤ عن السيرة الحلبية ٣ : ٣٩١.

(٢) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ١٦ : ٢٣٦ ، وفي ١٦ : ٢٦٣ ، أرّخ لذلك فقال : وحديث فدك وحضور فاطمة عند أبي بكر كان بعد عشرة أيام من وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. ولم يذكر المصدر ولم نجده إلّا عنده ، وظاهره البداية.


فقال عمر : يا علي دعنا من كلامك فإنا لا نقوى على حجتك! فإن أتيت بشهود وإلّا فهو فيء للمسلمين ، لا حقّ لك فيه ولا لفاطمة!

فجاء علي عليه‌السلام فشهد بمثل ذلك.

وجاءت أم أيمن فقالت له : يا أبا بكر ، أنشدك بالله ، ألست تعلم أن رسول الله قال : أم أيمن امرأة من أهل الجنة؟ فقال : بلى. قالت : فأشهد أن الله عزوجل أوحى إلى رسوله فجعل فدكا طعمة لفاطمة بأمر الله (١).

ونقل المعتزلي عن الجوهري عن الكلبي عن أبيه : أنها قالت لأبي بكر : إن [عليا] وأم أيمن (يشهدان) لي : أن رسول الله أعطاني فدك.

فقال لها (هكذا بلا شهادة) : والله ما خلق الله خلقا أحبّ إليّ من أبيك رسول الله ولوددت يوم مات أبوك أن السماء وقعت على الأرض ، وو الله لئن تفتقر عائشة أحبّ إليّ من أن تفتقري ، أتراني أعطي الأبيض والأحمر حقه وأظلمك حقّك وأنت بنت رسول الله؟! إن هذا المال لم يكن للنبيّ وانما كان مالا من أموال المسلمين يحمل النبيّ بها الرجال وينفقه في سبيل الله ، فلما توفي رسول الله وليته كما كان يليه.

فقالت له : والله لا كلّمتك أبدا! فقال : والله لا هجرتك أبدا!

قالت : والله لأدعونّ الله عليك! فقال : والله لأدعونّ الله لك (٢)!

__________________

(١) الاحتجاج ١ : ١١٩ ـ ١٢٣ بتلخيص وتصرّف يسير ، وقريبا منه في الاختصاص : ١٨٣ ـ ١٨٥ ، عن عبد الله بن سنان عن الصادق عليه‌السلام وقبله عن كتاب سليم بن قيس ٢ : ٦٧٩ : أن الزهراء هي حاجّته بمثله ، عن علي عليه‌السلام.

(٢) عن الجوهري عن الكلبي في شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ٢١٤ وأشكل عليه فيه : ٢٢٥. وروى ذيله المرتضى في الشافي وتلخيصه ٣ : ١٥٢ عن العباسية للجاحظ وهي ١٢ من رسائل الجاحظ : ٣٠٠ ـ ٣٠٣.


ثم نقل عنه عن ابن زكريا عن ابن عائشة عن أبيه عن عمّه قال : قالت : إن فدكا وهبها لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فقال أبو بكر : فمن يشهد بذلك؟ فجاء عليّ بن أبي طالب فشهد وجاءت أم أيمن فشهدت.

وجاء عمر بن الخطّاب وعبد الرحمن بن عوف فشهدا أنّ رسول الله كان يقسمها.

فقال أبو بكر : يا ابنة رسول الله صدقت وصدق علي وصدقت أم أيمن وصدق عمر وعبد الرحمن بن عوف ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يأخذ من فدك قوتكم ويقسم الباقي ويحمل منه في سبيل الله ، فلك عليّ الله أن أصنع فيها كما يصنع أبوك .. فكان أبو بكر يأخذ غلّتها فيدفع إليهم منها ما يكفيهم ويقسم الباقي (١).

بينما في «الشافي» يبدو عن كتاب «المعرفة» لإبراهيم الثقفي (٢) (م ٢٨٢ ه‍) بسنده عن ابن الحنفية عن أبيه علي عليه‌السلام قال : ذهبت فاطمة إلى أبي بكر وقالت له : إنّ أبي أعطاني فدكا ، ويشهد لي علي وأم أيمن. فقال أبو بكر : وأنا قد أعطيتكها ، ودعا بصحيفة من أدم فكتب لها فيها (٣) إلى عامله كتابا بردّ فدك (٤). وبترك التعرض.

فعن الكاظم عليه‌السلام قال للمهديّ العباسي : فخرجت والكتاب معها (بيدها) فلقيها عمر (فعرفها) فقال لها : يا بنت محمد (!) ما هذا معك؟ قالت : كتاب كتبه لي ابن أبي قحافة. قال : أرنيه. فأبت ، فانتزعه من يدها (فلما) نظر فيه

__________________

(١) عن الجوهري في شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ٢١٦ وأشكل عليه فيه : ٢٢٥ ، ٢٢٦.

(٢) كما عن الشافي في شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ٢٨٢.

(٣) تلخيص الشافي ٣ : ١٢٤ ، ١٢٥.

(٤) دلائل الإمامة : ١١٩ ، وهو الوجه الوجيه لكتابة الكتاب.


تفل فيه ومحاه وخرّقه وقال لها : هذا لم يوجف عليه أبوك (!) بخيل ولا ركاب؟! فضعي الحبال في رقابنا (١)!

وفي غير تذكرته لخواصّ الأمة ترخّص سبط ابن الجوزي أو جده أن يروي خبر كتاب أبي بكر لفاطمة عليها‌السلام وقال : فقال له عمر : ما هذا؟ فقال : كتاب كتبته لفاطمة .. وكأنه كان في بدايات ردّات العرب فقال له : ومن ما ذا تنفق على المسلمين وقد حاربتك العرب كما ترى! ثم أخذ الكتاب منه فشقّه (٢).

ونقل قولها ابن قيس عن ابن عباس قال : فخرجت في نساء بني هاشم حتى دخلت على أبي بكر فقالت له : يا أبا بكر ، أتريد أن تأخذ منّي أرضا تصدّق (؟!) بها عليّ أبي رسول الله من الوجيف الذي لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ، أما قال رسول الله : «المرء يحفظ في ولده بعده» وقد علمت أنه لم يترك شيئا غيرها لولده (٣).

__________________

(١) أصول الكافي ١ : ٥٤٣ ، الحديث ٥ ، والمقنعة : ٢٨٩ ، والتهذيب ٤ : ١٤٨ ، الباب ١ ، الحديث ٣٦ وذكر الكتاب وشقّه في تفسير القمي ٢ : ١٥٥ و٣٣٤ ، والعياشي ٢ : ٢٨٧ ، والاختصاص : ١٨٥ ، ومختصر بصائر الدرجات : ١٩١ ، والاحتجاج ١ : ٢٣٦ ، وعن إرشاد القلوب في بحار الأنوار ٣٠ : ١٩٤ ، ط. اليوسفي الغروي.

(٢) كما في الغدير ٧ : ١٩٤ عن السيرة الحلبية ٣ : ٣٩١ وليس هذا في تذكرة الخواص فلعله من سائر كتبه في التاريخ : منتهى السئول في سيرة الرسول ، او معادن الابريز في التاريخ في ١٩ ج ، أو مرآة الزمان في تاريخ الأعيان منذ بدء الخليفة حتى ذلك الزمان في ٤٠ ج ، أو تفسيره للقرآن في ٢٩ ج. انظر مقدمة المحقق بحر العلوم للتذكرة : ٧. ولعله لروايته أمثال هذه الأخبار. اتهمه الذهبي بالرفض فلم يوثّقه في ميزان الاعتدال ٣ : ٣٣٣ والسيد المقرّم في وفاة الصدّيقة : ٧٨ نقل الخبر عن السيرة الحلبية ٣ : ٤٠٠ عن ابن الجوزي نفسه وليس سبطه. ولتحليل الموقف راجع فدك في التاريخ للشهيد الصدر : ٤١ و٩٠ و٩٦.

(٣) كتاب سليم بن قيس الهلالي ٢ : ٨٦٨.


وجاء قولها لأبي بكر : إن فدك وهبها لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ذكر التوريث ونفيه في خبر المعتزلي عن الجوهري عن ابن عائشة ، وعلى مثله اعتمد القاضي المعتزلي إذ قال : بل كانت طلبت الإرث قبل ذلك فلما سمعت الخبر من أبي بكر ادّعت النحلة (١).

فردّه المرتضى قال : إن الأمر في أن الكلام في النحلة كان متقدما هو الظاهر ، والروايات كلها به واردة. وكيف يجوز أن تبتدئ بطلب الميراث ثم تدّعيه بعينه نحلة؟!

أو ليس هذا يوجب أن تكون قد طالبت بحقها من وجه لا تستحقه منه اختيارا؟! وكيف يجوز ذلك والميراث يشركها فيه غيرها والنحلة تنفرد بها! (بل) طالبت ابتداء بالنحلة وهو الوجه الذي تستحق به فدكا ، فلما دفعت عنه طالبت بالميراث ضرورة ؛ لأن للمدفوع عن حقه أن يتوصل إلى تناوله بكل وجه وسبب (٢).

ثم طالبت بالميراث :

مرّ آنفا عن المرتضى قدس‌سره استظهاره أن الكلام في النحلة كان هو المتقدم «والروايات كلها وردت به» وإن كنّا نحن لم نجد نصّ خبر بهذا العنوان.

وأشهر خبر بطلبها بالميراث خبر خطبتها الكبرى في مسجد أبيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على أبي بكر في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم ، وهي في لمّة من حفدتها ونساء قومها وقد ضرب بينها وبينهم بملاءة بيضاء.

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ٢٦٩ عن الشافي عن المغني عن أبي علي ، وليس في تلخيص الشافي.

(٢) عن الشافي في شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ٢٧٧ ولم يورده في تلخيص الشافي. وذكر مثله في الذخيرة : ٤٧٨ وأحال فيه على الشافي.


طرق خطبتها :

رواها المرتضى في «الشافي» بسنده عن المرزباني عن محمد بن إسحاق صاحب السيرة عن صالح عن عروة عن عائشة (١). وبطريق ثان عن أبي العيناء عن ابن عائشة (٢) وبدأ به وهو أقصر من خبر عائشة ثم أتمّه من خبر عائشة (٣).

وابن عائشة هو إبراهيم بن محمد بن عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمد بن الحنفية ، صلبه المأمون لما دخل بغداد في (٢٠٣ ه‍) (٤) والراوي عنه أبو العيناء هو محمد بن قاسم بن خلّاد من موالي بني هاشم ، رحل من الأهواز إلى البصرة فقرأ الأدب والنوادر على الأصمعي وأبي عبيدة ، وفقد عينه بعد الأربعين فقيل له أبو العيناء ، وتوفي في البصرة (٢٨٣ ه‍) (٥) فهل أدرك ابن عائشة راويا عنه؟

ولعلّه لهذا اتّهم بأن الخطبة من كلامه ولأنه منسّق البلاغة (٦).

__________________

(١) تلخيص الشافي ٣ : ١٣٩ و ١٤٠. ونقل هذا الطريق السيد ابن طاوس في الطرائف عن كتاب الفائق لابن شقروة عن كتاب المناقب لابن مردويه عن اسحاق بن عبد الله عن أحمد ابن عبيد النحوي عن محمد بن زياد الزيادي عن شرفي بن قطامي عن صالح بن كيسان عن الزهري عن عروة عن عائشة. الطرائف في مذاهب الطوائف ١ : ٣٧٩ ، ٣٨١ ومنه يعلم سقوط الزهري بين صالح وعروة.

(٢) وهو من طرق الطبري الإمامي في دلائل الإمامة : ٣٠ : عن القاضي إبراهيم بن مخلّد الدقاق عن خديجة بنت محمد عن أبيها محمد بن أحمد عن أبيه أحمد بن أبي الثلج البغدادي عن محمد بن أحمد الصفواني باسناده عن ابن عائشة .. ومنه يعلم أن في سند السيد رفعا.

(٣) تلخيص الشافي ٣ : ١٤٢ و ١٤٣.

(٤) سفينة البحار ٦ : ٥٨٨.

(٥) سفينة البحار ٦ : ٥٩٦ ، وهدية الأحباب : ٣٧. وفي معجم الأدباء ١٨ : ٢٨٦.

(٦) بلاغات النساء : ١٢.


وكأنّ أحمد بن طيفور الخراساني البغدادي (٢٠٤ ـ ٢٨٠ ه‍) التقى أولا في الرافقة (١) برجل مصري يدعى جعفر بن محمد فروى له الخطبة عن أبيه محمد عن موسى بن عيسى عن عبد الله بن يونس عن (حفص) الأحمر عن زيد بن علي الشهيد (١٢١ ه‍) عن عمّته زينب اخت الحسين عن امّها الزهراء عليهم‌السلام (٢) فذكر له قوم أن أبا العيناء ادّعى هذا الكلام (٣).

والتقى بعد ذلك بحفيد زيد أبي الحسين زيد بن علي بن حسين بن زيد الشهيد الذي روى عنه طريقة وعبّر عنه بالعلوي (٤) فقال : ذكرت له كلام فاطمة عليها‌السلام عند منع أبي بكر إياها فدكا وقلت له : إنّ هؤلاء ، يزعمون أنه مصنوع ، وأنه من كلام أبي العيناء ؛ لأن الكلام منسوق (منسّق) البلاغة؟!

فقال لي : رأيت مشايخ آل أبي طالب يروونه عن آبائهم ويعلّمونه أبناءهم. ثم ذكر له طريقه فقال : وقد حدّثنيه أبي (علي بن الحسين) عن جدي (الحسين بن زيد) يبلغ به فاطمة يعني : عن أبيه زيد الشهيد عن عمّته زينب عن أمها الزهراء ، قال ورواه مشايخ الشيعة وتدارسوه بينهم قبل أن يولد جدّ أبي العيناء (خلّاد بن ياسر).

ثم ذكر له طريقا آخر قال : وقد حدث به الحسين بن علوان ، عن عطية العوفي الكوفي أنه سمع عبد الله بن الحسن يذكره عن أبيه (الحسن المثنى عن أبيه الحسن المجتبى عن أمه الزهراء).

__________________

(١) محلة من الرقة بالشام كما في مراصد الاطلاع ٢ : ٥٩٥ ، ومعجم البلدان ٣ : ١٥.

(٢) بلاغات النساء : ١٤.

(٣) بلاغات النساء : ١٨.

(٤) بلاغات النساء : ١٧٥ ، وترجم له في قاموس الرجال ٤ : ٥٦٢ برقم ٣٠٥٤.


ثم قال أبو الحسين : وكيف يذكر هذا من كلام فاطمة فينكرونه وهم يروون من كلام عائشة عند موت أبيها ما هو أعجب من كلام فاطمة ، ويتحققونه؟! لو لا عداوتهم لنا أهل البيت (١).

فحصل بفضل حفيد زيد الشهيد على طريق ثان عن زيد الشهيد عن زينب ، وثالث عن الحسين بن علوان فتأكّد منه مرة أخرى عن عبد الله بن أحمد العبدي عن الحسين بن علوان ... (٢). نقل عنه طرقه هذه الأربعة المرتضى في «الشافي» ثم قال :

وقد روي هذا الكلام من طرق مختلفة ووجوه كثيرة على هذا الوجه ، فمن أراده أخذه من مواضعه (٣).

ونقل كل هذا المعتزلي في «شرح نهج البلاغة» (٤) إلّا أنه لم يعوّل عليه ، بل قال : ما ورد من الأخبار والسير المنقولة من أفواه أهل الحديث وكتبهم ، لا من كتب الشيعة ورجالهم ؛ لأنّا مشترطون على أنفسنا أن لا نحفل بذلك! ثم قال : وجميع ما نورده في هذا الفصل من كتاب أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري (م ٣٢٣ ه‍) في «السقيفة وفدك» وأبو بكر الجوهري هذا عالم محدّث كثير الأدب ثقة ورع ، أثنى عليه المحدّثون ورووا عنه مصنفاته (٥) ثم ذكر له طرقا ثلاثة :

١ ـ أحمد بن محمد بن يزيد (مولى بني هاشم) عن عبد الله بن محمد عن أبيه محمد بن سليمان ، عن عبد الله المحض عن أبيه الحسن المثنى عن أبيه الحسن المجتبى عن أمه فاطمة عليهم‌السلام.

__________________

(١) بلاغات النساء : ١٢.

(٢) بلاغات النساء : ١٨.

(٣) تلخيص الشافي ٣ : ١٤٥.

(٤) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ٢٤٩ ـ ٢٥٣.

(٥) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ٢١٠.


٢ ـ محمد بن زكريا الغلابي عن جعفر بن محمد الكندي عن أبيه محمد بن عمارة الكندي عن الحسين بن صالح عن رجلين هاشميين عن زينب بنت علي عن أمها الزهراء عليهم‌السلام.

٣ ـ عثمان بن عمران العجيفي عن نائل بن نجيح عن عمرو بن شمر عن جابر الجعفي عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جدّه عليهم‌السلام ، ثم أورد الخطبة (١). فلم يلتق في أي طريق من طرقه الثلاثة بابن طيفور ولا بأبي العيناء ولا بابن عائشة.

والشيخ الصدوق نقل مفتتح الخطبة في ذكر علل الشرائع في باب علل الشرائع في كتاب «علل الشرائع» بثلاثة طرق قال في ثانيها : عن عبد الله بن محمد العلوي عن رجال من أهل بيته عن زينب بنت علي عن أمها الزهراء عليهم‌السلام .. وفي طريقين قبله وبعده سمّى من الرجال أحمد بن محمد بن جابر وزيد بن علي عن عمّته زينب أيضا (٢) ولم يلتق أيضا في أي طريق من طرقه الثلاثة بابن طيفور ولا بأبي العيناء ولا بابن عائشة.

ومما يبعد دعوى بل اتهام أبي العيناء بخطبة الزهراء عليها‌السلام أنه قد سبقه بها الحافظ المعروف عمرو بن بحر بن محبوب الليثي (مولاهم المتوفى ٢٥٥ ه‍) الناشئ بالبصرة العثمانية يومئذ بفعل (الجمل) والذي قال عنه المسعودي في مروجه :

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ٢١١ ، وكذلك الإربلي في كشف الغمة ٢ : ١٠٦ قال : خطبة فاطمة عليها‌السلام ذكرها المؤالف والمخالف ونقلتها من كتاب السقيفة تأليف أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري من نسخة قديمة مقروءة على مؤلفها المذكور في ربيع الآخر سنة (٣٢٢ ه‍) عن عمر بن شبّة عن رجاله من عدة طرق.

(٢) علل الشرائع ١ : ٢٨٩ ـ ٢٩٠.


صنّف كتابا ترجمه (أي عنونه) بكتاب (العثمانية) استقصى فيه الحجاج والأدلة والبراهين فيما تصوّره من عقله ، يخلّ فيه بفضائل علي عليه‌السلام ومناقبه ، طلبا لإماتة الحق ومضادّة لأهله (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ)(١).

قال : ثم صنّف كتابا آخر ترجمه بكتاب (مسائل العثمانية) يذكر فيه ما فاته ذكره من نقضه فضائل أمير المؤمنين عليّ ومناقبه (٢).

وقال : ثم لم يرض بهذا الكتاب حتى أعقبه بتصنيف كتاب آخر رأيته مترجما بكتاب «إمامة أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان والانتصار له من علي بن أبي طالب وشيعته الرافضة» يذكر فيه رجال المروانية وإمامتهم وأقوال شيعتهم فيهم ويؤيد فيه إمامتهم (٣).

هذا وقد كان مولده ونشأته بعد سقوطهم وميلاد دولة العباسيين وشيعتهم الراوندية الذين وصفهم المسعودي بأنهم كانوا يقولون بإمامة العباس بعد رسول الله ، فتبرّؤوا من أبي بكر وعمر ، وإنما أجازوا بيعة علي عليه‌السلام بإجازة العباس لها

__________________

(١) الصف : ٨.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٢٣٧ ـ ٢٣٨ ، هذا وهو من غلمان النظّام البصري رأس معتزلة البصرة ، ويظهر أن هذا هو الذي حمل شيخ معتزلة بغداد محمد بن عبد الله الاسكافي المتوفى في بغداد سنة وفاة أحمد بن حنبل (٢٤٠ ه‍) ، أي قبل الجاحظ بخمسة عشر عاما ، وهو ممن يذهب إلى تفضيل علي عليه‌السلام على الخلفاء السابقين ولكنه يجوّز إمامة المفضول على الأفضل ، حمله فعل الجاحظ وقوله على نقضه بكتابه «نقض العثمانية». كما ذكره المسعودي أيضا في مروج الذهب ٣ : ٢٣٨. وذلك لكي يعزل هذا المعتزلي البصري عن معتزلة بغداد. وكذلك في كتابه الآخر : المعيار والموازنة ، الذي حققه ونشره المحقق المحمودي مشكورا.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٢٣٦ ـ ٢٣٧.


بعد النبيّ وكما قال داود بن علي العبّاسي يوم بيعتهم بالكوفة : لم يقم فيكم إمام بعد رسول الله إلّا علي بن أبي طالب (١) فلعلّ هؤلاء حملوا الجاحظ أن يكفّر عما كتب قبل ذلك بما يصنّفه لهم فيما يدّعون.

فصنّف لهم الكتاب المترجم كما يقول المسعودي أيضا بكتاب «إمامة ولد العباس» يحتج فيه لهذا المذهب (الراوندي) ويذكر فيه فعل أبي بكر في فدك وغيرها ، وقصته مع فاطمة «رضي الله عنها» ومطالبتها بإرثها من أبيها واستشهادها ببعلها وابنيها وأم أيمن ، وما جرى بينها وبين أبي بكر من المخاطبة وما كثر بينهم من المنازعة وما قالت وما قيل لها عن أبيها أنه قال : «نحن معاشر الأنبياء نرث ولا نورث» وما احتجت به من قوله عزوجل : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ)(٢) على أن النبوة لا تورث فلم يبق إلّا التوارث (المالي) وغير ذلك من الخطاب. ثم قال : والجاحظ لم يكن هذا مذهبه ولا كان يعتقده ولكن فعل ذلك تماجنا وتطرّبا (٣) بل لعلّه تهرّبا عمّا تجناه سابقا. ولكن هل كان ذلك نقلا عن أبي العيناء!

ولئن كان المعتزلي (م ٦٥٦ ه‍) والإربلي (م ٦٩٣ ه‍) نقلا عن طرق الجوهري في كتابه فالطبري الإمامي (م ق ٤ ه‍) نقل طريقه عن زينب عليها‌السلام بثلاث وسائط عن أحمد بن أبي الثلج البغدادي عن الصفواني عن الجوهري ، ثم نقل طريقيه عن الحسن المثنى وعن الباقر عليه‌السلام بواسطة الصفواني ، عن من روى عنهم الجوهري رأسا وبلا واسطة. وعن الصفواني أيضا عن ابن عائشة الذي روى عنه المرتضى. وعن الصفواني أيضا عن هشام الكلبي عن أبيه ، وعن عوانة بن الحكم. وزاد

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٢٣٦ ـ ٢٣٧.

(٢) النمل : ١٦.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٢٣٧.


على طريق الجوهري عن الباقر عليه‌السلام طريقين آخرين بواسطة أحمد بن محمد بن عقدة الهمداني الزيدي ، وعنه أيضا عن البزنطي عن السكوني عن أبان البجلي عن أبان بن تغلب الربعي عن عكرمة عن ابن عباس (١).

الخطبة الأولى :

روى الطبري الإمامي في «دلائل الامامة» بأسانيده التسعة قال :

لما أجمع أبو بكر على منع فاطمة عليها‌السلام من فدك وصرف عاملها عنها لاثت خمارها وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها تطأ أذيالها ما تخرم من مشية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى دخلت على أبي بكر وقد حفل حوله المهاجرون والأنصار فنيطت دونها ملاءة فأنّت أنّة أجهش لها القوم بالبكاء ثم أمهلت حتى إذا هدأت فورتهم وسكنت روعتهم افتتحت الكلام فقالت :

ابتدئ بالحمد لمن هو أولى بالحمد ، والطول والمجد : الحمد لله على ما أنعم ، وله الشكر على ما ألهم ، والثناء على ما قدّم ، من عموم نعم ابتدأها ، وسبوغ آلاء

__________________

(١) دلائل الإمامة للطبري الإمامي : ٣٠ ـ ٣١ ، وتصحّف اسم الجوهري فيه إلى : أبو أحمد عبد العزيز بن يحيى الجلودي البصري ، واكتشفناه من رواته. والطبري الإمامي هذا له كتابان : المسترشد ودلائل الإمامة ولكن المرحوم المجلسي قال عنه في بحار الأنوار ١ : ٢٠ : «دلائل الإمامة ... ويسمى بالمسترشد» وتصورهما واحدا فحيث حصل على «المسترشد» لم يبحث عن «دلائل الإمامة» فلم يرو عنه الخطبة وطرقها. وبقي الكتاب مفقودا حتى على مثل الميرزا النوري ، حتى توفّق لنسخة منه السيد محمد بن الفقيه السيد كاظم اليزدي ، ثم في مكتبة السيد الاصفهاني فاستنسخ الكتاب منها الشيخ شير محمد الهمداني وطبع ونشر ، ثم نقلت هذه المجموعة إلى مكتبة الإمام الرضا عليه‌السلام كما في مقدمة الطبعة النجفية : ه.


أسداها ، وإحسان منن والاها ، جمّ عن الإحصاء عددها ، ونأى عن المجاراة أمدها ، وتفاوت عن الإدراك أبدها. استدعى الشكور بإفضالها ، واستحمد الخلائق بإجزالها ، وأمر بالندب إلى أمثالها.

وأشهد أن لا إله إلّا الله كلمة جعل الإخلاص تأويلها ، وضمّن القلوب موصولها ، وأبان في الفكر معقولها ، الممتنع عن الأبصار رؤيته ، وعن الألسن صفته ، وعن الأوهام الإحاطة به.

ابتدع الأشياء لا عن شيء كان قبله ، وأنشأها بلا احتذاء مثله ، وضعها لغير فائدة زادته إظهارا لقدرته ، وتعبدا لبريّته ، وإعزازا لأهل دعوته ، ثم جعل الثواب على طاعته ، ووضع العقاب على معصيته ، ذيادة لعباده عن نقمته ، وحياشة لهم إلى جنّته.

وأشهد أن أبي محمدا عبده ورسوله ، اختاره قبل أن يبتعثه ، وسماه قبل أن يستنخبه ، إذ الخلائق في الغيب مكنونة ، وبسد الأوهام مصونة ، وبنهاية العدم مقرونة ، علما من الله في غامض الامور وإحاطة من وراء حادثة الدهور ، ومعرفة بموقع المقدور ، ابتعثه الله إتماما لعلمه ، وعزيمة على إمضاء حكمه ، فرأى الامم فرقا في أديانها ، عكّفا على نيرانها ، عابدة لأوثانها ، منكرة لله مع عرفانها ، فأنار الله بمحمد ظلمها ، وفرّج عن القلوب شبهها ؛ وجلا عن الأبصار غممها ، وعن الأنفس عمهها (*).

ثم قبضه الله إليه قبض رأفة ورحمة واختيار ، ورغبة لمحمد عن تعب هذه الدار ، موضوعا عنه أعباء الأوزار ، محفوفا بالملائكة الأبرار ، ورضوان الرب الغفار ، ومجاورة الملك الجبار ، أمينه على الوحي ، وصفيه ورضيه ، وخيرته من خلقه ونجيه ، فعليه الصلاة والسلام ورحمة الله وبركاته.

__________________

(*) العمة : هو العمى إلّا أنه عمى البصيرة لا البصر.


ثم التفتت إلى أهل المسجد فقالت للمهاجرين والأنصار :

وأنتم عباد الله نصب أمره ونهيه ، وحملة دينه ووحيه ، وامناء الله على أنفسكم ، وبلغاؤه إلى الامم ؛ زعيم الله فيكم ، وعهد قدمه إليكم ، وبقية استخلفها عليكم ، كتاب الله بيّنة بصائره وآيه ، منكشفة سرائره وبرهانه ، متجلية ظواهره ، مديم للبريّة استماعه ، قائد إلى الرضوان اتّباعه ، مؤدّ إلى النجاة أشياعه ، فيه تبيان حجج الله المنيرة ومواعظه المكرّرة ، وعزائمه المفسّرة ؛ ومحارمه المحذّرة ، وأحكامه الكافية ، وبيّناته الجالية ، وفضائله المندوبة ، ورخصه الموهوبة ، ورحمته المرجوّة ، وشرائعه المكتوبة.

ففرض الله عليكم الإيمان تطهيرا لكم من الشرك ، والصلاة تنزيها لكم من الكبر ، والزكاة تزييدا في الرزق ، والصيام إثباتا للإخلاص والحج تشييدا للدين ، والعدل تسكينا للقلوب وتمكينا للدين ، وطاعتنا نظاما للملة ، وإمامتنا لمّا للفرقة ، والجهاد عزا للإسلام ، والصبر معونة على الاستجابة ، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة ، والنهي عن المنكر تنزيها للدين ، والبر بالوالدين وقاية من السخط ، وصلة الأرحام منماة للعدد وزيادة في العمر ، والقصاص حقنا للدماء ، والوفاء بالعهود تعرضا للمغفرة ، ووفاء المكيال والميزان تغييرا للبخس والتطفيف واجتناب قذف المحصنة حجابا عن اللعنة ، والتناهي عن شرب الخمور تنزيها عن الرجس ، ومجانبة السرقة إيجابا للعفة ، وأكل مال اليتيم والاستيثار به إجارة من الظلم ، والنهي عن الزنا تحصنا عن المقت ، والعدل في الأحكام إيناسا للرعية ، وترك الجور في الحكم إثباتا للوعيد ، والنهي عن الشرك إخلاصا له تعالى بالربوبية.

فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلّا وانتم مسلمون ، ولا تتولوا مدبرين وأطيعوه فيما أمركم ونهاكم فإنما يخشى الله من عباده العلماء ، فأحمدوا الله الذي بنوره وعظمته ابتغى من في السموات ومن في الأرض إليه الوسيلة ، فنحن وسيلته في خلقه ، ونحن آل رسوله ، ونحن حجة غيبه ، وورثة أنبيائه.


ثم قالت عليها‌السلام :

أنا فاطمة وأبي محمد أقولها عودا على بدء ، وما أقولها إذ أقول سرفا ولا شططا ، (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(١) ، إن تعزوه تجدوه أبي دون نسائكم ، وأخا ابن عمي دون رجالكم ، بلّغ النذارة ، صادعا بالرسالة ، ناكبا عن سنن المشركين ، ضاربا لأثباجهم ، آخذا بأكظامهم ، داعيا إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة ، يجذّ الأصنام ، وينكت الهام حتى انهزم الجمع وولّوا الدبر ، وحتى تفرّى الليل عن صبحه ، وأسفر الحق عن محضه ، ونطق زعيم الدين ، وهدأت فورة الكفر ، وخرست شقاشق الشيطان ، وفهتم بكلمة الإخلاص (مع النفر البيض الخماص الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا) (٢) وكنتم على شفا حفرة من النّار تعبدون الأصنام ؛ وتستقسمون بالأزلام ، مذقة الشارب ، ونهزة الطامع ، وقبسة العجلان ، وموطئ الاقدام ، تشربون الرنق ، وتقتاتون القد ، أذلة خاسئين ؛ تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم ، فأنقذكم (بأبي صلى‌الله‌عليه‌وآله) بعد اللتيا والتي ، وبعد ما مني ببهم الرجال ، وذؤبان العرب ، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ، وكلما نجم قرن الضلالة ، أو فغرت فاغرة للمشركين قذف أخاه في لهواتها ، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها باخمصه ، ويخمد لهبها بحدّه ، مكدودا في ذات الله ، قريبا من رسول الله ، سيدا في أولياء الله ، وأنتم في بلهنية آمنون وادعون فرحون ، تتوكّفون الأخبار ، وتنكصون عند النزال على الأعقاب حتى أقام الله (بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله) عمود الدين.

__________________

(١) التوبة : ١٢٨.

(٢) ما بين القوسين من كشف الغمة ١ : ١١١.


ولما اختار له الله عزوجل دار أنبيائه ، ومأوى أصفيائه ، ظهرت حسيكة النفاق ، وسمل جلباب الدين ، وأخلق ثوبه ، ونحل عظمه ، وأودت رمّته ، وظهر نابغ ونبغ خامل. ونطق كاظم وهدر فنيق الباطل ، يخطر في عرصاتكم ، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه صارخا بكم ، (فوجدكم لدعائه مستجيبين ، وللغرّة ملاحظين واستنهضكم فوجدكم خفافا وأحمشكم فوجدكم غضابا فوسمتم) (١) غير إبلكم ، وأوردتموهم غير شربكم ، بدارا زعمتم خوف الفتنة ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين هذا والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لما يندمل ، فهيهات منكم وأين بكم وأنّى تؤفكون ، وكتاب الله بين أظهركم ، زواجره لائحة ، وأوامره لامحة ، ودلائله واضحة ، وأعلامه بيّنة ، وقد خالفتموه رغبة عنه ، فبئس للظالمين بدلا ، (ثم لم تبرحوا) إلّا ريث أن تسكن نفرتها ، ويسلس قيادها ، تسرّون حسوا في ارتغاء ، ونصبر منكم على مثل حزّ المدى.

(ثم انتم تزعمون) (٢) أن لا إرث لنا (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(٣) ، (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٤).

إيها معشر المسلمين أأبتزّ إرث أبي يا ابن أبي قحافة أبا لله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟! لقد جئت شيئا فريّا ، جرأة منكم على قطيعة الرحم ونكث العهد ، فعلى عمد تركتم كتاب الله بين أظهركم ونبذتموه إذ يقول : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ)(٥) ، وفيما اقتص من خبر يحيى وزكريا إذ يقول : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي

__________________

(١) ما بين القوسين من كشف الغمة ١ : ١١٣.

(٢) هذه والجملة السابقة من كشف الغمة ١ : ١١٤.

(٣) المائدة : ٥٠.

(٤) آل عمران : ٨٥.

(٥) النمل : ١٦.


وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا)(١) وقال عزوجل : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)(٢) ، وقال تعالى : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)(٣).

وزعمتم أن لاحظ لي ولا إرث من أبي أفخصكم الله بآية أخرج أبي منها! أم تقولون أهل ملتين لا يتوارثان؟ أو لست أنا وأبي من أهل ملة واحدة؟ أم أنتم بخصوص القرآن وعمومه أعلم ممن جاء به فدونكموها مرحولة مزمومة ، تلقاكم يوم حشركم ، فنعم الحكم الله ، ونعم الخصم (محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، والموعد القيامة ، وعما قليل تؤفكون وعند الساعة ما تخسرون ، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحلّ عليه عذاب مقيم.

ثم التفتت إلى قبر أبيها وتمثلت بأبيات صفيّة بنت عبد المطلب (٤) :

__________________

(١) مريم : ٥ ـ ٦.

(٢) النساء : ١١.

(٣) البقرة : ١٨٠.

(٤) في الطرائف لابن طاوس ١ : ٣٧٩ أنها تمثلت بقول صفية بنت اثاثة وسماها ابن أبي الحديد في شرح النهج ١٦ : ٢١٢ والإربلي في كشف الغمة ١ : ١١٥ هند بنت اثاثة وفي ٦ : ٤٣ من شرح النهج لابن أبي الحديد قال : لما تخلف علي عن البيعة واشتد أبو بكر وعمر خرجت أم مسطح بن اثاثة ووقفت على قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ونادت يا رسول الله :

قد كان بعدك أنباء وهنبثة

لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

إنا فقدناك فقد الأرض وابلها

واختلّ قومك فاشهدهم ولا تغب

وقد اختلفوا في عدد الأبيات ففي الشافي : ٢٣١ وشرح النهج للمعتزلي : أنها ثلاثة وفي الطرائف أربعة وفي بلاغات النساء : بيتان ، وفي أمالي الشيخ المفيد واحتجاج الطبرسي ومناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٤١٠ : ثمانية. وفي اللمعة البيضاء شرح خطبة الزهراء : ٣٥٦ : أربعة عشر بيتا.


قد كان بعدك أنباء وهنبثة

لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

إنا فقدناك فقد الأرض وابلها

واجتثّ أهلك مذ غيّبت واغتصبوا

أبدت رجال لنا فحوى صدورهم

لما نأيت وحالت بيننا الكثب

تهجّمتنا رجال واستخفّ بنا

دهر فقد أدركوا منا الذي طلبوا

قد كنت للخلق نورا يستضاء به

عليك تنزل من ذي العزّة الكتب

وكان جبريل بالآيات يؤنسنا

فغاب عنا فكل الخير محتجب

(فكثر البكاء من الحاضرين).

جواب أبي بكر لها :

فقال أبو بكر : صدقت يا بنت رسول الله لقد كان أبوك بالمؤمنين رءوفا رحيما وعلى الكافرين عذابا أليما ، وكان والله إذا نسبناه وجدناه أباك دون النساء ، وأخا ابن عمّك دون الرجال ، آثره على كل حميم وساعده على الأمر العظيم ، وانتم عترة نبي الله الطيبون ، وخيرته المنتجبون ، على طريق الجنة أدلتنا ، وأبواب الخير لسالكينا ، فأما ما سألت فلك ما جعله أبوك ، وأنا مصدّق قولك ، لا أظلم حقّك ، وأما ما ذكرت من الميراث فإن رسول الله قال : نحن معاشر الأنبياء لا نورث.

ردها على أبي بكر :

فقالت صلوات الله عليها : يا سبحان الله ما كان رسول الله لكتاب الله مخالفا ولا عن حكمه صادفا فلقد كان يلتقط أثره ، ويقتفي سيره أفتجمعون إلى الظلامة الشنعاء ، والغلبة الدهياء ، اعتلالا بالكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإضافة الحيف إليه ، ولا عجب أن كان ذلك منكم ، وفي حياته ما بغيتم له الغوائل ، وترقّبتم به الدوائر ، هذا كتاب الله حكم عدل ، وقائل فصل ، عن بعض أنبيائه


إذ قال : (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)(١) ، وفصّل في بريته الميراث مما فرض من حظ الذكور والإناث فلم سوّلت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون قد زعمت أن النبوة لا تورث وإنما يورث ما دونها فما لي امنع إرث أبي أأنزل الله في كتابه : إلّا فاطمة بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فدلّني عليه أقنع به.

جواب أبي بكر :

فقال أبو بكر لها : يا بنت رسول الله أنت عين الحجة ومنطق الحكمة لا ادلي بجوابك ، ولا أدفعك عن صوابك ، لكن المسلمين بيني وبينك فهم قلدوني ما تقلدت ، وآتوني ما أخذت وما تركت.

ردّها عليه :

فقالت عليها‌السلام : أتجمعون إلى المقبل بالباطل والفعل الخاسر؟ لبئس ما اعتاض المسلمون ، وما يسمع الصمّ الدعاء إذا ولّوا مدبرين ، أما والله لتجدنّ محملها ثقيلا وعبأها وبيلا إذا كشف لكم الغطاء فحينئذ لات حين مناص ، وبدا لكم من الله ما كنتم تحذرون.

مع الأنصار :

ثم التفتت إلى الأنصار وقالت : معشر النقيبة ، وحضنة الإسلام ما هذه الغميزة في حقي ؛ والسنة عن ظلامتي؟! أما كان رسول الله أمر بحفظ المرء في ولده؟! فسرعان ما أحدثتم ، وعجلان ذا إهالة ، أتقولون : مات محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! فخطب جليل استوسع وهنه ، واستهتر فتقه (٢) وفقد راتقه ، واظلمت الأرض لغيبته ، واكتأب

__________________

(١) مريم : ٦.

(٢) استهتر : اتسع.


خيرة الله لمصيبته ، وأكدت الآمال ، وخشعت الجبال ، واضيع الحريم ، وازيلت الحرمة بموت (محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله) فتلك نازلة أعلن بها كتاب الله هتافا هتافا ولقبل ما خلت به أنبياء الله ورسله (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ)(١).

أبني قيلة أأهضم تراث أبي وأنتم بمرأى ومسمع ، تلبسكم الدعوة ، ويشملكم الجبن ، وفيكم العدة والعدد ، ولكم الدار والخيرة ، وأنتم أنجبته التي امتحن ، ونحلته التي انتحل ، وخيرته التي انتخبت لنا أهل البيت ، فنابذتم فينا العرب ، وناهضتم الأمم ، وكافحتم البهم ، لا نبرح ولا تبرحون ، ونأمركم فتأتمرون ، حتى دارت بنا وبكم رحى الإسلام ودرّ حلب البلاد ، وخضعت بغوة الشرك ، وهدأت روعة الهرج وبلغت نار الحرب ، واستوسق نظام الدين ، فأنّى حرتم بعد البيان ونكصتم بعد الإقدام عن قوم (نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٢).

ألا لا أرى والله إلّا أن أخلدتم إلى الخفض وكنتم إلى الدعة فمججتم الذي استرعيتم (ولفظتم الذي سوغتم) ف (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ* أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ)(٣).

__________________

(١) آل عمران : ١٤٤.

(٢) التوبة : ١٣.

(٣) إبراهيم : ٨ ـ ٩.


ألا وقد قلت الذي قلت على معرفة بالخذلة التي خامرتكم ، ولكنها فيضة النفس ، ونفثة الغيظ ، وبثة الصدر ، ومعذرة الحجة ، فدونكم فاحتقبوها دبرة الظهر (ناقبة الخف) باقية العار موسومة بشنار الأبد ، موصولة بنار الله المؤصدة ، فبعين الله ما تفعلون ، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)(١) ، وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فاعملوا إنا عاملون ، وانتظروا إنا منتظرون. (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ)(٢) ، (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)(٣)(وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ)(٤) ، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(٥).

ولما انصرفت من المجلس تبعها رافع بن رفاعة الزرقي الخزرجي (٦) وقال لها : يا سيدة النساء ، لو كان أبو الحسن تكلم في هذا الأمر وذكر للناس قبل أن يجري هذا العقد ما عدلنا به أحدا (٧).

__________________

(١) الشعراء : ٢٢٧.

(٢) الرعد : ٤٢.

(٣) التوبة : ١٠٥.

(٤) الاسراء : ١٣.

(٥) الزلزلة : ٧ و٨.

(٦) انظر ترجمته في قاموس الرجال ٤ : ٣٧٧ برقم ٢٨٧٠ وفيه عن الاستيعاب عنه كلام ينافي مقامه وكلامه هنا ، ولكنه هو الذي هدم بسر بن ارطاة داره بالمدينة سنة (٤٠ ه‍) كما في الغارات للثقفي ٢ : ٦٠٣ ـ ٦٠٤.

(٧) هذا يتغافل عن قيام أمير المؤمنين بالدعوة وتعريفهم أحقيته بالأمر وإن خطبته الطويلة المعروفة بالوسيلة المروية في روضة الكافي وتحف العقول : ٧٢ وفي هامش مرآة العقول ٤ : ٢٥٣ ، وفي الوافي ٤ : ٤ في أول الروضة ، قالها في المسجد بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بسبعة أيام وفيها التذكير بيوم الغدير وظلم المتوثبين على هذا الأمر ، وقد مرّت.


فقالت صلوات الله عليها : إليك عني فما جعل الله لأحد بعد غدير خم من حجة ولا عذر.

ولم ير ذلك اليوم أكثر باك ولا باكية وارتجت المدينة وهاج الناس وارتفعت الأصوات.

فقال أبو بكر لعمر : تربت يداك ما كان عليك لو تركتني فربما فات الخرق ألم يكن ذلك بنا أحق؟

فقال عمر : قد كان في ذلك تضعيف سلطانك وتوهين كافتك وما أشفقت إلّا عليك.

فقال له : ويلك كيف بابنة محمد وقد علم الناس ما تدعو إليه وما نحن من الغدر عليه؟

قال عمر : هل هي إلّا غمرة انجلت وساعة انقضت وكأن ما قد كان لم يكن أقم الصلاة وآت الزكاة وأمر بالمعروف ووفّر الفيء ، إن الحسنات يذهبن السيئات ، يمحو الله ما يشاء ، ذنب واحد في حسنات كثيرة ، قلدني ما يكون من ذلك.

فضرب أبو بكر بيده على كتف عمر وقال : رب كربة فرجتها.

تعريض أبي بكر بعلي عليه‌السلام :

ثم إن أبا بكر نادى الصلاة جامعة فاجتمع الناس وصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس ما هذه الرعة إلى كل قالة؟! لئن كانت هذه الأماني على عهد رسول الله فمن سمع فليقل ومن شهد فليتكلم ، إنما ثعالة شهيده ذنبه ، مرب (مقيم) لكل فتنة هو الذي يقول : كرّوها جذعة بعد ما هرمت يستعينون بالضعفة ويستنصرون بالنساء كأم طحال أحب أهلها إليها البغي! ألا إني لو أشاء أن أقول لقلت ، ولو قلت لبحت ، إني ساكت ما تركت! وقد بلغني يا معشر الأنصار


مقالة سفهائكم وأحق من لزم عهد رسول الله أنتم فقد جاءكم فآويتم ونصرتم ألا اني لست باسطا يدا ولا لسانا على من لم يستحق ذلك منا (١) ومع ذلك فاغدوا على أعطياتكم (٢).

جواب أم سلمة له :

فقالت له أم سلمة : ألمثل فاطمة يقال هذا؟! وهي الحوراء بين الإنس ، والانس للنفس ، ربيت في حجور أمهات الأنبياء ، وتداولتها أيدي الملائكة ، ونمت في المغارس الطاهرات ، نشأت خير منشأ وربيت خير مربّى ، أتزعمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حرم عليها ميراثه ولم يعلمها؟! وقد قال الله تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)(٣) أفأنذرها وجاءت تطلبه وهي خيرة النسوان ، وأم سادة الشبان ، وعديلة مريم ابنة عمران ، وحليلة ليث الأقران ، تمت بأبيها رسالات ربه ، فو الله لقد كان يشفق عليها من الحرّ والقرّ فيوسّدها يمينه ويدثّرها بشماله ، رويدا فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمرأى لأعينكم وعلى الله تردون ، فواها لكم وسوف تعلمون ، أنسيتم قول رسول الله «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» وقوله : «إني تارك فيكم الثقلين» ما أسرع ما أحدثتم وأعجل ما نكثتم.

فحرمت أم سلمة عطاءها تلك السنة (٤).

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ٢١٤ ، عن الجوهري البصري وفيه شرحه والتعليق عليه.

(٢) الزيادة من دلائل الإمامة : ٣٩.

(٣) الشعراء : ٢١٤.

(٤) دلائل الإمامة لابن جرير : ٣٩ ، والدر النظيم ٢ : ٢٣.


الزهراء مع أمير المؤمنين عليه‌السلام :

ولما رجعت فاطمة عليها‌السلام إلى المنزل وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام يتوقع رجوعها إليه فقالت له :

يا ابن أبي طالب اشتملت مشيمة الجنين وقعدت حجرة الظنين ، نقضت قادمة الأجدل فخاتك (١) ريش الأعزل هذا ابن أبي قحافة قد ابتزني نحيلة أبي وبليغة ابني والله لقد جدّ في ظلامتي وألدّ في خصامي حتى منعتني قيلة نصرها والمهاجرة وصلها وغضّت الجماعة دوني طرفها ، فلا مانع ولا دافع خرجت والله كاظمة وعدت راغمة ، أضرعت خدك يوم أضعت حدك ، افترشت التراب ، وافترست الذئاب ، ما كففت قائلا ، ولا أغنيت طائلا ليتني مت قبل منيتي ، ودوني ذلتي ، عذيري الله منك عاديا ولي حاميا ويلاي في كل شارق ، مات العمد ووهن العضد شكواي إلى ربي وعدواي إلى أبي ، اللهمّ أنت أشد قوة وحولا وأحد بأسا وتنكيلا.

فقال لها أمير المؤمنين عليه‌السلام : لا ويل لك بل الويل لشانئيك نهنهي عن وجدك يا ابنة الصفوة وبقية النبوة فو الله ما ونيت عن ديني ولا أخطأت مقدوري فإن كنت تريدين البلغة فرزقك مضمون وكفيلك مأمون وما أعدّ لك خير مما قطع عنك فاحتسبي الله فقالت عليها‌السلام حسبي الله ونعم الوكيل (٢).

__________________

(١) يقال : خات الرجل : نقض عهده.

(٢) أمالي الطوسي : ٦٨٣ ، الحديث ١٤٥٥ ، بسنده عن أبان عن الصادق عليه‌السلام وفي كشف الغمة ٢ : ١٠٦ ، عن خط السيد المرتضى وليس في الشافي ولا تلخيصه ولا مناقب الحلبي وفي بحار الأنوار ٢٩ : ١٥٧ ، عن الأربلي و ١٦٢ عن الطوسي ، ثم ذكر الإشكال فيه على جلالتهما وعصمتهما وأجاب عنه.


فروى الطوسي عن أبي غانم المعلّم الأعرج البغدادي قال : إنّ عائشة بنت طلحة (التيمي) دخلت على فاطمة عليها‌السلام فرأتها تبكي فقالت لها : بأبي أنت وأمّي ، ما الذي يبكيك؟ فقالت :

أسائلتي عن هنة حلّق بها الطائر ، وحفى بها السائر ، ورفعت إلى السماء أثرا ، ورزئت في الأرض خبرا؟! إن قحيف تيم وأحيوك عديّ جاريا أبا الحسن في السباق حتى إذا تقربا بالخناق ، أسرّا له الشنئان وطويا عنه الإعلان ، حتى خبا نور الدين وقبض النبيّ الأمين ، فنطقا بفورهما ونفثا بسورهما ، وأدلّا بفدك ، فيا لها تلك من ملك ؛ إنّها عطيّة الربّ الأعلى للنجيّ الأوفى ، ولقد نحلنيها للصبيّة السواغب من نسله ونسلي ، وإنها لبعلم الله وشهادة أمينه ، فإن انتزعا منّي البلغة ومنعاني اللّمضة ، واحتسبتها يوم الحشر زلفة ، فليجدنّها آكلوها ساعرة حميم في لظى جحيم (١)!

موقف الأنصار :

مرّ علينا في خطبة فاطمة عليها‌السلام استنصارها من أنصار أبيها وتذكيرها إياهم به صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قالت : معشر النقيبة وحضنة الإسلام ... أتقولون : مات محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! فخطب جليل استوسع وهنه ، واستهتر فتقه ، وفقد راتقه ، وأظلمت الأرض لغيبته ، واكتأبت خيرة الله لمصيبته ، واكدت الآمال وخشعت الجبال ، وأضيع الحريم وازيلت الحرمة بموت محمد ، فتلك نازلة أعلن بها كتاب الله هتافا ، ولقبل ما خلت به أنبياء الله ورسله : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ)(٢) ...

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٢٠٤ ، الحديث ٣٥٠.

(٢) آل عمران : ١٤٤.


وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد ... أما كان رسول الله أمر بحفظ المرء في ولده؟! فسرعان ما أحدثتم ...

فدونكم فاحتقبوها دبرة الظهر ناقبة الخف باقية العار ، موسومة بشنار الأبد موصولة بنار الله المؤصدة ، فبعين الله ما تفعلون (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)(١) ، (فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ)(٢) ، (وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ)(٣).

ولم يسجّل التاريخ أي ردّ فعل للأنصار لهذا الخطاب والعتاب سوى ما مرّ أيضا : أن واحدا منهم يدعى رافع بن رفاعة الزرقي الخزرجي رفع عقيرته إليها يقول لها : يا سيدة النساء ، لو كان أبو الحسن تكلم وذكر للناس هذا الأمر قبل أن يجري هذا العقد ما عدلنا به أحدا. ثم لم يسجل التاريخ أي صريخ جماعي عنهم لها ولزوجها وابن عمّها علي عليه‌السلام.

لكن من الممكن أن يحسب منه ما رواه المعتزلي عن الزبير بن بكار في كتابه «الأخبار الموفقيات» بسنده عن عبد الرحمن بن عوف الزهري قال : لما بويع أبو بكر واستقرّ أمره ندم قوم كثير من الأنصار على بيعتهم إياه ولام بعضهم بعضا ، وذكروا علي بن أبي طالب وهتفوا باسمه وهو في داره (٤).

وقد مرّ أيضا أن رجلين من البدريّين من الأنصار هما عويم بن ساعدة ومعن بن عدي عاديا زعيم الخزرج سعد بن عبادة وعبّدا الجادّة للمهاجرين أبي بكر وعمر وعمّرا أمرهما. قال ابن بكّار : فاجتمع الأنصار في مجلس ودعوهما إليهم ، فلما حضرا عيّروهما وأكبروا فعلهما للمهاجرين. فتكلم معن فقال :

__________________

(١) الشعراء : ٢٢٧.

(٢) فصلت : ٥.

(٣) هود : ١٢٢.

(٤) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢٣ ، وظاهر هتافهم باسمه أن يكون ذلك قبل أن يبايع.


يا معشر الأنصار ؛ إن الذي أراد الله بكم (!) خير مما أردتم بأنفسكم ، وقد كان منكم أمر عظيم البلاء ؛ وصغّرته العاقبة ، فلو كان لكم على قريش ما لقريش عليكم ثم أردتموهم لما أرادوكم به لم آمن عليهم منكم مثل ما آمن عليكم منهم ، فإن تعرفوا الخطأ فقد خرجتم منه وإلّا فأنتم فيه! وتكلم عويم بن ساعدة فقال :

يا معشر الأنصار ؛ إنّ من نعم الله عليكم أنه تعالى لم يرد ما أردتم لأنفسكم ، فاحمدوا الله على حسن البلاء وطول العافية وصرف هذه البليّة عنكم. وقد نظرت في أول فتنتكم وآخرها فوجدتها جاءت من الأمانيّ والحسد .. لوددت أن الله صيّر إليكم هذا الأمر بحقه فكنا نعيش فيه (١).

وكان ممن تخلّف عن بيعة أبي بكر من الأنصار فروة بن عمرو ، وكان سيدا يتصدّق من نخله كل عام بألف وسق ، ويقود فرسين في الجهاد مع رسول الله (٢) ، فانبرى لعويم بن ساعدة ومعن بن عدي وقال لهما : أنسيتما قولكما لقريش : إنا قد خلّفنا وراءنا قوما قد حلّت دماؤهم بفتنتهم! هذا والله ما لا يغفر ولا ينسى! فوثب الأنصار عليهما فأغلظوا لهما وفحشوا عليهما (٣) وأكرمتهما قريش (٤).

وموقف المهاجرين منهم :

في الخبر السابق عن عبد الرحمن بن عوف قال : كان من أشراف قريش الذين حاربوا النبيّ ثم دخلوا في الإسلام موتورين من الأنصار أناس منهم :

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢٦ ، ٢٧ ، عن الموفقيات.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢٨ ، ٢٩ ، عن الموفقيات. وفي كشف المحجة : ١٧٧ ، عن رسائل الكليني عن كتاب علي عليه‌السلام. وانظر قاموس الرجال ٨ : ٣٨٧ برقم ٥٨٨٦.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢٧ ، عن الموفقيات.

(٤) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢٦ ، عن الموفقيات.


عكرمة بن أبي جهل المخزومي الذي قتل أباه ابنا عفراء وسلبه درعه زياد بن لبيد الأنصاري يوم بدر ، والحارث بن هشام المخزومي الذي جرحه عروة بن عمرو يوم بدر ، وسهيل بن عمرو العامري الذي أسره مالك بن الدخشم يوم بدر ، وكان ذلك في أنفسهم.

فلما اعتزل الأنصار تجمّع هؤلاء ... وكثر لذلك جزعهم وكلامهم ، وكانوا أشد قريش على الأنصار.

فقام سهيل بن عمرو العامري فقال : يا معشر قريش ؛ إن هؤلاء القوم قد سمّاهم الله الأنصار وأثنى عليهم في القرآن ، فلهم بذلك حظ عظيم وشأن غالب.

وقد دعوا إلى أنفسهم ، وإلى علي بن أبي طالب ، وعليّ في بيته لو شاء لردّهم! فادعوهم إلى صاحبكم وإلى تجديد بيعته ، فإن أجابوكم وإلّا قاتلوهم! فو الله إني لأرجو الله أن ينصركم عليهم كما نصرتم بهم!

ثم قام الحارث بن هشام المخزومي فقال : إن يكن الأنصار تبوأت الدار والإيمان من قبلنا ، ونقلوا رسول الله إلى دورهم من دورنا ، فآووا ونصروا وما رضوا حتى قاسمونا الأموال وكفونا الأعمال ، فإنهم قد لهجوا بأمر إن ثبتوا عليه فإنهم قد خرجوا مما وسموا به! وليس بيننا وبينهم معاتبة إلّا بالسيف! وإن نزعوا عنه فقد فعلوا الأولى بهم! وهو المظنون فيهم.

ثم قام عكرمة بن أبي جهل المخزومي فقال : والله لو لا قول رسول الله : الأئمة من قريش ، ما أنكرنا إمرة الأنصار ، ولكانوا لها أهلا ، ولكنّه قول لا شك فيه ولا خيار.

وقد عجلت الأنصار ... وإن الذي هم فيه من فلتات الأمور ونزغات الشيطان! وما لا تبلغه المنى ، ولا يحمله الأمل. والله ما قبضنا عنهم الأمر ، ولا أخرجناهم من الشورى ... فأعذروا إلى القوم [فإن قبلوا ، وإلّا] فقاتلوهم! فو الله لو لم يبق من قريش كلها إلّا رجل واحد لصيّر الله هذا الأمر فيه!


وأسف أبو سفيان أن لا يحضرهم فحضر وقال : يا معشر قريش ؛ إنه ليس للأنصار أن يتفضّلوا على الناس حتى يقرّوا بفضلنا عليهم .. وأيم الله لئن بطروا المعيشة وكفروا بالنعمة لنضربنّهم على الإسلام كما ضربونا عليه! فأما علي بن أبي طالب فأهل ـ والله ـ أن يسوّد على قريش وتطيعه الأنصار!

وبلغت هذه الأقوال إلى الأنصار (١).

جواب الأنصار :

بلغ الأنصار أقوال هؤلاء ، فاجتمعوا وقام خطيبهم ثابت بن قيس بن شماس فقال :

يا معشر الأنصار : إنما يكبر عليكم هذا القول لو قاله أهل الدين من قريش ؛ فأمّا إذا كان من أقوام من أهل الدنيا كلهم موتور فلا يكبرن عليكم ، إنما الرأي والقول مع المهاجرين الأخيار ، فإن تكلم الذين هم أهل الآخرة مثل كلام هؤلاء ، فعند ذلك قولوا ما أحببتم ، وإلّا فأمسكوا.

وأجابهم شاعرهم حسّان بن ثابت بقصيدة من شعره قال :

نصرنا وآوينا النبيّ ولم نخف

صروف الليالي ، والبلاء على رجل

بذلنا لهم أنصاف مال أكفّنا

كقسمة أيسار الجزور من الفضل

ومن بعد ذاك المال أنصاف دورنا

وكنّا أناسا لا نعيّر بالبخل

ونحمي ذمار الحيّ فهر بن مالك

ونوقد نار الحرب بالحطب الجزل

فكان جزاء الفضل منا عليهم

جهالتهم حمقا ، وما ذاك بالعدل

تنادى سهيل وابن حرب وحارث

وعكرمة الشافي لنا ابن أبي جهل

قتلنا أباه ، وانتزعناه دروعه

فأصبح بالبطحا أذلّ من النعل

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢٣ ـ ٢٤ ، عن الموفقيات للزبير بن بكّار.


فأما سهيل فاحتواه ابن دخشم

أسيرا ذليلا لا يمرّ ولا يحلي

وصخر بن حرب قد قتلنا رجاله

غداة لوا بدر ، فمرجله يغلي

وراكضنا تحت العجاجة حارث

على ظهر جرداء كباسقة النخل

اولئك رهط من قريش تتابعوا

على خطّة ليست من الخطط الفضل

وأعجب منهم قابلوا ذاك منهم

كأنّا اشتملنا من قريش على ذحل

وكلهم ثان عن الحق عطفه

يقول : اقتلوا الأنصار يا بئس من فعل

وبلغ شعر حسّان قريشا ، فغضبوا وأمروا شاعرهم ابن أبي غرة أن يجيبه (١) فقال شعرا في جوابه. ثم أصلحوا بين الأنصار وبين الرجلين : عويم بن ساعدة ومعن بن عدي ، وانصرف الأنصار عن رأيهم ، وسكنت الفتنة (٢).

عصيان عمرو بن العاص :

قال وكان عمرو بن العاص في سفر له (٣) فقدم منه ، واجتمع يوما جمع

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢٤ ـ ٢٥ ، عن الأخبار الموفقيات للزبير بن بكّار.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢٩ عن الموفقيات للزبير بن بكّار.

(٣) وفي الطبري ٣ : ٢٥٨ ، عن سيف قال : كان رسول الله في منصرفه من حجة الوداع قد بعث عمرو بن العاص إلى جيفر في عمان ، فمات رسول الله وعمرو في عمان. وروى في ٣ : ٣٠٢ ـ ٣٠٣ : عن ابن اسحاق قال : كان عمرو بن العاص في عمان ، فتوفّى رسول الله وعمرو بها ، فأقبل منها فمرّ بالبحرين على المنذر بن ساوى فدخل عليه والمنذر مشرف على الموت ، فسأله المنذر : كم كان رسول الله يجعل للميّت من المسلمين من ماله عند وفاته؟ قال عمرو : كان يجعل له الثلث : قال : فما ترى لي أن أصنع في ثلث مالي؟ قال عمرو : إن شئت قسمته في قرابتك ، وإن شئت جعلته صدقة محرّمة تجري من بعدك على من تصدّقت به عليه وجعلته في سبيل الخير. قال : أقسمه.


من قريش وأخلاط من المهاجرين والأنصار ، فأفاضوا في ذكر يوم السقيفة وسعد ودعواه الأمر.

فقال عمرو بن العاص : والله لقد دفع الله عنّا عظيمة من الأنصار ، ولما دفع الله عنهم أعظم! كادوا والله أن يحلّوا حبل الإسلام كما قاتلوا عليه! ويخرجوا منه من أدخلوه فيه! والله لئن كانوا سمعوا قول رسول الله : الأئمة من قريش ، ثم ادّعوها لقد هلكوا وأهلكوا! وإن كانوا لم يسمعوها فما هم كالمهاجرين ، ولا سعد كأبي بكر ، ولا المدينة كمكة ، ولقد قاتلونا أمس فغلبونا على البدء ، ولو قاتلناهم اليوم لغلبناهم على العاقبة! وقال مقطوعة شعرية في ذلك.

وجواب الأنصار :

قال : فلما بلغ الأنصار مقالته وشعره بعثوا إليه شاعرهم الآخر النعمان بن عجلان ... فأتى عمرا وهو في جماعة من قريش فقال له : والله يا عمرو ؛ ما كرهتم من حربنا إلّا ما كرهنا من حربكم ، وما كان الله ليخرجكم من الإسلام بمن أدخلكم فيه. إن كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : الأئمة من قريش ، فقد قال : لو سلك الناس شعبا وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار. والله ما أخرجناكم من الأمر إذ قلنا : منا أمير ومنكم أمير.

فأما المهاجرون والأنصار فلا فرق بينهم أبدا ، ولكنّك يا ابن العاص وترت بني عبد مناف بمسيرك إلى الحبشة لقتل جعفر وأصحابه! ووترت بني مخزوم بإهلاك عمارة بن الوليد! ثم انصرف.

__________________

ولعل هذا أيضا من تدبيره صلى‌الله‌عليه‌وآله ليبعد مثل عمرو بن العاص عن المدينة حين وفاته وخلافته.


وموقف خالد بن سعيد الأموي :

قال : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد استعمل على اليمن خالد بن سعيد بن العاص ، وهو من أوائل من أسلم من قريش (من بني أمية) فكان ذا أثر قديم في الإسلام وله عبادة وفضل ، فلما سمع مقال عمرو بن العاص غضب للأنصار وشتم عمرو بن العاص وقال لقريش : يا معشر قريش ؛ إن عمرا دخل في الإسلام حين لم يجد بدّا من الدخول فيه ، فلما لم يستطع أن يكيده بيده كاده بلسانه ، وإنّ من كيده الإسلام تفريقه وقطعه بين المهاجرين والأنصار. والله ما حاربناهم للدين ولا للدنيا ، لقد بذلوا دماءهم لله تعالى فينا ، وما بذلنا دماءنا لله فيهم ، وقاسمونا ديارهم وأموالهم ، وما فعلنا مثل ذلك بهم ، وآثرونا على الفقر وحرمناهم على الغنى. ولقد وصّى رسول الله بهم وعزّاهم عن جفوة السلطان. فأعوذ بالله أن أكون وإياكم الخلف المضيّع والسلطان الجافي.

وجواب العاصي :

قال : ثم إن رجالا من السفهاء ومثيري الفتن من قريش اجتمعوا إلى عمرو بن العاص وأكثروا عليه من القول له : إنك رجل قريش في الجاهلية والإسلام ولسانها فلا تدع الأنصار وما قالت.

فراح إلى المسجد وفيه ناس من قريش وغيرهم ، فتكلم وقال : إن الأنصار ترى لنفسها ما ليس لها ، وأيم الله لوددت أن الله خلّى عنّا وعنهم وقضى فيهم وفينا بما أحبّ ، ولنحن الذين أفسدنا على أنفسنا : أحرزناهم عن كل مكروه وقدّمناهم إلى كل محبوب حتى أمنوا الخوف ، فلما جاز لهم ذلك صغّروا حقّنا ولم يراعوا ما أعظمنا من حقوقهم!


وجواب علي عليه‌السلام :

قال : وكان الفضل بن العباس حاضرا. فرجع إلى عليّ عليه‌السلام فحدثه به ، فغضب عليه وشتمه وقال : لقد آذى الله ورسوله! يا فضل ، انصر الأنصار بيدك ولسانك فهم منك وأنت منهم.

ثم قام فأتى المسجد ، فاجتمع إليه كثير من قريش فقال لهم : يا معشر قريش ، إنّ حبّ الأنصار إيمان وبغضهم نفاق ، وقد قضوا ما عليهم وبقي ما عليكم ، واذكروا أن الله رغب لنبيّكم عن مكة فنقله إلى المدينة ، وكره له قريشا فنقله إلى الأنصار ، ثم قدمنا عليهم دارهم فقاسمونا الأموال وكفونا الأعمال ، فصرنا منهم بين بذل الغني وإيثار الفقير. ثم حاربنا الناس فوقونا بأنفسهم ، وقد أنزل الله تعالى فيهم آية من القرآن جمع لهم فيها بين خمس نعم فقال : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(١).

ألا وإن عمرو بن العاص قد قام مقاما آذى فيه الميت والحي ، ساء به الواتر وسرّ به الموتور ، فاستحق من المستمع الجواب ومن الغائب المقت ، وإنه من أحبّ الله ورسوله أحبّ الأنصار ، فليكفف عمرو عنّا نفسه!

قال الراوي : فمشت قريش إلى عمرو بن العاص وقالوا له : أما إذ غضب علي فاكفف.

وشكر الأنصار لعلي عليه‌السلام :

قال : فلما بلغ ذلك الأنصار بعثوا إلى حسّان بن ثابت ... وقال له خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين : يا حسّان ، اذكر عليا وآله يكفك عن كل شيء. فقال فيه :

__________________

(١) الحشر : ٩.


جزى الله عنّا والجزاء بكفّه

أبا حسن خيرا ، ومن كأبي حسن؟

سبقت قريش بالذي أنت أهله

فصدرك مشروح وقلبك ممتحن

تمنّت رجال من قريش أعزّة

مكانك ، هيهات الهزال من السمن

وأنت من الإسلام في كل موطن

بمنزلة الدّلو البطين من الرسن

غضبت لنا إذ قام عمرو بخطبة

أمات بها التقوى وأحيا بها الإحن

فكنت المرجّى من لؤيّ بن غالب

لما كان منهم ، والذي كان لم يكن

حفظت رسول الله فينا وعهده

إليك ، ومن أولى به منك؟ من ومن؟

ألست أخاه في الهدى ووصيّه

وأعلم منهم بالكتاب وبالسنن

فحقّك ما دامت بنجد وشيجة

عظيم علينا ، ثم بعد على اليمن

فلما بعثوا بهذا الشعر إلى عليّ عليه‌السلام خرج إلى المسجد ومن فيه من قريش فقال لهم :

يا معشر قريش ؛ إن الله جعل الأنصار أنصارا ، فأثنى عليهم في الكتاب ، فلا خير فيكم بعدهم. إنه لا يزال سفيه من سفهاء قريش وتره الإسلام ودفعه عن الحق (كذا) وأطفأ شرفه وفضّل غيره عليه ، يقوم مقاما فاحشا فيذكر الأنصار! فاتقوا الله وارعوا حقهم ، فو الله لو زالوا لزلت معهم ؛ لأن رسول الله قال لهم : أزول معكم حيثما زلتم.

فقالوا جميعا : رحمك الله يا أبا الحسن ، لقد قلت قولا صادقا.

فترك عمرو بن العاص المدينة وخرج منها حتى رضي عنه علي والمهاجرون (١).

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٣١ ـ ٣٦ ، عن الموفقيات للزبير بن بكار.


وموقف الوليد بن عقبة :

قال : ثم قام الوليد بن عقبة بن أبي معيط الأموي وقال : إن الأنصار لترى لها من الحق علينا ما لا نراه ، والله لئن كانوا آووا لقد عزّوا بنا ، ولئن كانوا آسوا لقد منّوا علينا ، والله ما نستطيع مودتهم ؛ لأنه لا يزال قائل منهم يذكر ذلّنا بمكة وعزّنا بالمدينة ، ولا ينفكون يعيّرون موتانا ويغيظون أحياءنا ، فإن أجبناهم قالوا : غضبت قريش على غاربها ، ولكن قد هون عليّ ذلك منهم حرصهم على الدين أمس ، واعتذارهم من الذنب اليوم! وقال مقطوعة شعرية يهجو فيها الأنصار وشعراءها كعب بن مالك وحسّان بن ثابت ، وأفشى شعره في الناس.

فغضب حسّان بن ثابت من كلام الوليد وشعره ، فدخل المسجد وفيه قوم من قريش فوقف فيهم وقال لهم : يا معشر قريش ؛ إن أعظم ذنبنا إليكم قتلنا كفاركم ، وحمايتنا رسول الله ، وإن كنتم تنقمون منّا نقمة كانت بالأمس فقد كفى الله شرّها ، فما لنا وما لكم؟! والله ما يمنعنا من قتالكم الجبن ، ولا من جوابكم العيّ ، إنا لحيّ فعال ومقال ، ولكنّا قلنا : إنها حرب ، أولها عار وآخرها ذل ، فأغضينا عليها عيوننا ، حتى نرى وتروا ، فإن قلتم قلنا ، وإن سكتّم سكتنا.

فلم يجبه أحد من قريش. بل غضب للأنصار منهم زيد بن الخطّاب ، ويزيد بن أبي سفيان ، وضرار بن الخطاب الفهري ، فبعثوا إلى الوليد ، فلما حضر تكلم زيد فقال :

يا ابن عقبة بن أبي معيط ، أما والله لو كنت من الفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، لأحببت الأنصار ، ولكنك من الجفاة في الإسلام البطاء عن الذين دخلوا فيه بعد أن ظهر أمر الله وهم كارهون.


إنا نعلم أنا أتيناهم ونحن فقراء فأغنونا ، ثم أصبنا الغنى فكفّوا عنّا ولم يزرؤونا شيئا. فأما ذكرهم ذلة قريش بمكة وعزّها بالمدينة فكذلك كنا وكذلك قال الله تعالى : (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ)(١) فنصرنا الله تعالى بهم وآوانا إلى مدينتهم.

وأما غضبك لقريش ، فإنا لا ننصر كافرا ولا نواد ملحدا ولا فاسقا ، ولقد قلت وقالوا ، فقطعك الخطيب وألجمك الشاعر.

وأما ذكرك الذي كان بالأمس ، فدع المهاجرين والأنصار ، فإنك لست من ألسنتهم في الرضا ، ولا نحن من أيديهم في الغضب.

وقال له يزيد بن أبي سفيان : يا ابن عقبة ، الأنصار أحق بالغضب لقتلى أحد ، فاكفف لسانك ، فإن من قتله الحق لا يغضب له.

وقال له ضرار بن الخطاب : أما والله لو لا أن رسول الله قال : «الأئمة من قريش» لقلنا : الأئمة من الأنصار ، ولكن جاء أمر غلب الرأي. فاقمع شرّك أيها الرجل ولا تكن امرأ سوء ، فإن الله لم يفرّق بين الأنصار والمهاجرين في الدنيا ، وكذلك الله لا يفرّق بينهم في الآخرة.

ثم سكت كل من الفريقين عن صاحبه وقطعوا الخلاف والعصبية ، ورضي القوم أجمعون (٢).

وإنما قدمنا كل هذه الأخبار بعد خطبة فاطمة عليها‌السلام وقبل طلبهم البيعة من علي عليه‌السلام لاشتمال هذه الأخبار على هتاف الأنصار باسم علي ، مما ظاهره أنه قبل أخذ البيعة منه.

__________________

(١) الأنفال : ٢٦.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٣٦ ـ ٣٨ ، عن الأخبار الموفقيات للزبير بن بكّار.


وفي أخبار طلب البيعة منه عليه‌السلام يأتي ذكر بريدة بن الحصيب الأسلمي ، وقد مرّ أنه كان حامل راية أسامة في بعثه إلى مؤتة ، وسيأتي أنه حملها معه إليها في آخر ربيع الأول أو أول ربيع الآخر وغاب خمسة وثلاثين يوما : عشرون في خروجه وخمسة عشر في رجعته (١) فرجع في خامس جمادى الأولى ، فتكون مطالبة البيعة بعد ذلك. وسيأتي أيضا أن أخبار الردّة وردت المدينة قبل خروج أسامة منها ، ولذا نبدأ بها.

فما حال أهل مكة؟

كان على مكة عند وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله عتّاب بن أسيد الأموي ، فروى ابن هشام عن أبي عبيدة قال : لما توفى رسول الله وبلغ ذلك أهل مكة أراد أكثرهم الرجوع عن الإسلام ، وهمّوا به! حتى خافهم عتّاب بن أسيد فتوارى عنهم! فلذلك قام فيهم سهيل بن عمرو المخزومي فحمد الله وأثنى عليه ، ثم ذكر وفاة رسول الله وقال : إنّ ذلك لم يزد الإسلام إلّا قوّة! فمن رابنا ضربنا عنقه!

فعند ذلك كفّ الناس عمّا همّوا به وتراجعوا ، وظهر عتّاب بن أسيد (٢).

وأما سائر الردّات :

فقد مرّ في خبر ارتداد مسيلمة الكذّاب وقومه من بني حنيفة من تميم : أن ذلك كان في آخر سنة عشر للهجرة ، كما عن ابن اسحاق في السيرة (٣).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٣ : ١١٢٥.

(٢) ابن هشام في السيرة ٤ : ٢١٦.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٤٧.


ثم كانت أول ردّة عن الإسلام في اليمن على عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله مع الأسود العنسي المذحجي ذي الخمار في عامة مذحج بعد حجة الوداع كما عن سيف في الطبري (١).

ثم مرّ فيه أيضا عن ابن عامر الأسدي قال : ثم لم نلبث إلّا قليلا حتى ادّعى طلحة بن خويلد الفقعسيّ الأسدي النبوة ، واتّبعه قومه وقوي أمره وعسكر في سميراء (٢).

ثم مرّ عنه فيه أيضا أن رسول الله في منصرفه من حجة الوداع كان قد بعث عمرو بن العاص إلى جيفر ، فمات رسول الله وعمرو في عمان (٣) وفيه عن ابن إسحاق قال : فتوفّى رسول الله وعمرو في عمان ، فأقبل حتى مرّ بالبحرين على المنذر بن ساوى فدخل عليه وهو مشرف على الموت ... واجتمع بنو ربيعة بالبحرين وارتدّوا عن الإسلام وقالوا : نردّ الملك في آل المنذر فملّكوا المنذر بن النعمان الغرور. ولكنّ الجارود بن عمرو حين بلغه وفاة رسول الله وارتداد العرب ثبت هو على الإسلام وقال : أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا عبده ورسوله ، واكفّر من لا يشهد ، وتبعه قومه (٤).

ثم مرّ عمرو بن العاص على قرّة بن هبيرة العامري فنزل عليه وحوله عسكره ، فقال قرة لعمرو : يا هذا ، إنّ العرب لا تطيب لكم نفسا بالإتاوة (الزكاة) فإن أنتم أعفيتموها من أخذ أموالها فستسمع لكم وتطيع ، وإن أبيتم فلا أرى أن تجتمع عليكم! وقدم عمرو على أبي بكر فأخبره (٥).

__________________

(١) الطبري ٣ : ١٨٥.

(٢) الطبري ٣ : ١٨٦ ـ ١٨٧.

(٣) الطبري ٣ : ٢٥٨.

(٤) الطبري ٣ : ٣٠٣.

(٥) الطبري ٣ : ٢٥٩.


ومرّ صدر خبر ارتداد طليحة بن خويلد الأسدي الفقعسيّ ودعواه النبوّة ، وتوجيه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ضرار بن الأزور إلى عمّاله على بني أسد في ذلك ، وأمرهم بالقيام في ذلك على من ارتدّ منهم.

ومن تمام الخبر : أنّه كان هناك حلف في الجاهلية بين بني أسد وغطفان وطيّئ ، وقبيل مبعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله اجتمعت غطفان مع أسد على طيّئ فأزاحوها عن دارها ، فانقطع ما بين أسد وغطفان وبين طيّئ.

ثم كره زعيم من أسد ما كان من غطفان فقطع ما بينه وبينهم وأجلاهم ، وأرسل إلى طيّئ فأعاد حلفهم وردّهم إلى دورهم ، واشتد ذلك على غطفان.

فلما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قام عيينة بن حصن في غطفان وقال لهم : قد مات محمد وبقي طليحة ، وإني لمجدّد الحلف الذي كان بيننا في القديم ومتابع طليحة ، فو الله لئن نتّبع نبيّا من الحليفين أحبّ إلينا من أن نتّبع نبيّا من قريش! فطابقوه على رأيه.

فلما طابق غطفان وتابعوا لطليحة ارفضّ من كان مع سنان وضرار بن الأزور وقضاعى ومن كان قام بشيء من أمر النبي في بني أسد ، وهربوا إلى المدينة وأخبروا به أبا بكر.

وقدمت وفود من بني أسد وغطفان وطيّئ وقضاعة وهوازن إلى المدينة فنزلوا على وجوه المسلمين للعاشر من متوفّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثم أتوا أبا بكر فأخبروه خبرهم وما أجمع عليه ملؤهم على أن يعفوا من الزكاة ، فردّهم أبو بكر وأجّلهم يوما وليلة ، فتطايروا إلى عشائرهم (١).

__________________

(١) الطبري ٣ : ٢٥٧ ـ ٢٥٨ ، عن سيف. هذا وقد أسلف الطبري فيه ٣ : ٢٤٤ عن سيف نفسه عن القاسم بن محمد بن أبي بكر : أن الوفد لذلك إنما كان من بني عبس وذبيان ويقال لهم بني عبد مناة ، فالتضخيم في الخبر اللاحق من سيف.


هذا ما رواه الطبري عن سيف بن عمر التميمي ، والطبري من مصادر المسعودي فلعلّه لهذا قال : وارتدّت العرب بعد استخلاف أبي بكر بعشرة أيام ثم لم يرووا أيّ ردّ فعل لأبي بكر في تلك الأيام ، بل روى الطبري عن المدائني أن أول حروب الردّة كان في أواخر جمادى الأولى أو أوائل جمادى الثانية (١) ثم لم يرووا خبرا عن علة هذا التأخير سبعين يوما.

بعث أسامة ثانية :

روى الطبري عن سيف بن عمر قال : بعد الغد من متوفّى رسول الله [وبيعة أبي بكر] نادى مناديه : ألا لا يبقينّ بالمدينة أحد من جند أسامة إلّا خرج إلى معسكره بالجرف (٢).

وروى الواقدي قال : لما بويع أبو بكر أمر بريدة بن الحصيب الأسلمي حامل لواء أسامة أن يذهب به إلى دار أسامة ولا يحلّه حتى يغزوهم به. فروى عن بريدة قال : فذهبت به إلى دار أسامة. ثم خرج به إلى معسكرهم الأول (٣).

وقد مرّ أن وصول وفود المرتدين إلى المدينة كان للعاشر من متوفّى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعليه فتكون هذه الأخبار عن استعادة بعث اسامة قبل انتشار أخبار الارتداد.

وفي «إعلام الورى» ولعله عن أبان بن الأحمر البجلي قال : قيل لأبي بكر : لو حبست جيش أسامة ـ وفيه عامّة المهاجرين ـ لمن يأباك (أو يأتيك) من العرب (٤)؟!

__________________

(١) الطبري ٣ : ٢٤١ ، وكذلك في تاريخ الخلفاء للسيوطي ١ : ٨٨.

(٢) الطبري ٣ : ٢٢٣.

(٣) مغازي الواقدي ٣ : ١١٢٠ ـ ١١٢١.

(٤) إعلام الورى ١ : ٢٧٢.


ونرى تفصيل هذا المجمل لدى الواقدي قال :

اجتمع أبو عبيدة بن الجرّاح ، وسعد بن أبي وقّاص ، وسعيد بن زيد وعثمان إلى عمر فدخلوا إلى أبي بكر وقالوا له : إنّا لا نأمن على أهل المدينة أن يغار عليها وفيها الذراري والنساء ، فلو استأنيت لغزو الروم حتى يضرب الإسلام بجرانه (يستقرّ) وتعود المرتدّة إلى ما خرجوا منه ، أو يفنيهم السيف! ثم تبعث اسامة حينئذ ، فنحن (لا) نأمن أن تزحف الروم إلينا! (أما الآن) فاجعلهم عدّة لأهل الردّة ترمي بهم في نحورهم!

فلما استوعبوا كلامهم قال لهم أبو بكر : فهل منكم أحد يريد أن يقول شيئا؟

قالوا : لا. فقال : إن رسول الله كان ينزل له الوحي من السماء وكان يقول : أنفذوا جيش أسامة! فو الذي نفسي بيده لا بدأت بأوّل منه!

ولكن لا غنى بنا عن عمر فاكلّم أسامة فيه يخلّفه يقيم عندنا.

ثم مشى أبو بكر إلى دار أسامة وكلّمه أن يترك عمر ، ففعل أسامة.

وخرج وأمر مناديه ينادي : عزمة مني أن لا يتخلّف عن أسامة من بعثه من كان انتدب معه في حياة رسول الله ، فإني لن أوتى بأحد أبطأ عن الخروج معه إلّا ألحقته به ماشيا! فلم يتخلّف عن البعث أحد ، وهم ألف فارس وألفا راجل راحل.

ويوم ارتحالهم من الجرف خرج أبو بكر يشيّعهم أو يشايعهم ، فسار ساعة إلى جنب أسامة ثم قال له : إني سمعت رسول الله يوصيك ، فانفذ لأمر رسول الله ، فإني لست آمرك ولا أنهاك عنه وإنما أنا منفذ لأمر أمر به رسول الله (١).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٣ : ١١٢١ ـ ١١٢٢. وإنما هذا التنفيذ يكون بناء على هذه الأخبار بعد انتشار أخبار ارتداد الأعراب ، لا بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا بعد بيعة الخليفة مباشرة كما مرّ.


قال الواقدي : وخرج أسامة لهلال ربيع الآخر (١) على فرس سبحة التي قتل أبوه عليها (٢) فمرّ سريعا على بلاد قضاعة ومنها جهينة وهم لم يرتدوا حتى نزل وادي القرى ، فقدّم حريث العذريّ عينا له ، فخرج حتى انتهى إلى أبنى ثم رجع حتى لقى أسامة قبل أبنى بمسيرة ليلتين فأخبره خبرهم وأنهم لا جموع لهم وهم غارّون (٣).

وانتهى إلى أبنى :

فلما انتهى إلى أبنى ينظر إليها منظر العين في العشرين من ربيع الآخر (٤) عبّأ أصحابه وقال لهم : اذكروا الله في أنفسكم واخفضوا أصواتكم ، وجرّدوا سيوفكم واجعلوها غارة ، فضعوا سيوفكم في من أشرف لكم ، واجتمعوا ولا تفترقوا ولا تمعنوا في الطلب.

ثم خرّب حرثهم وحرّق نخلهم ومنازلهم فصارت أعاصير من الدخان .. وما شعروا إلّا بالقوم قد شنوا الغارة عليهم ينادون بشعارهم : يا منصور أمت ، وأجالوا الخيل في عرصاتهم ، فمن أشرف لهم قتلوه ، ومن قدروا عليه سبوه أصابوا ما قرب منهم ولم يمعنوا في الطلب في قتل أحد منهم. وعرّفهم أسير بقاتل زيد بن حارثة فقتل أسامة قاتل أبيه. ثم أقاموا يومهم ذلك في تعبئة ما أصابوا من الغنم ، فأسهم أسامة للفرس سهمين ولصاحبه سهما ، وأخذ لنفسه مثل ذلك.

وعند المساء أمرهم بالرحيل ودليلهم حريث العذريّ أمامهم في ليلتهم.

__________________

(١) مغازى الواقدي ٣ : ١١٢٥ ، وانظر الطبري ٣ : ٢٤٠.

(٢) مغازي الواقدي ٣ : ١١٢٣.

(٣) مغازي الواقدي ٣ : ١١٢٢.

(٤) مغازي الواقدي ٣ : ١١٢٥.


وكانت هناك قرية يقال لها : كثكث ، كان أهلها قد اعترضوا لزيد بن حارثة فأصابوا من أطرافه ، فهم اليوم اعترضوا لأسامة في رجوعه ، فناهضهم وحرّق عليهم وأسر منهم أسيرين وساق من أنعامهم وهربوا ، فحمل معه الأسيرين ، وطوى البلاد حتى انتهى إلى وادي القرى في تسع ليال.

ومن وادي القراى بعث بشيره بسلامة المسلمين وأنهم قد أغاروا على العدوّ فأصابوهم.

ثم اقتصد في السير من وادي القرى إلى المدينة فسار البقية في ستة أيام ، فكان مجموع عودته خمسة عشر يوما ومجموع سفرته خمسة وثلاثين يوما (١).

وفي «إعلام الورى» ولعله عن أبان أيضا قال : فما كان بين خروج أسامة ورجوعه إلى المدينة إلّا نحو من أربعين يوما (٢).

ولما قدم المدينة خرج إليه أهلها رجالا ونساء سرورا بسلامتهم ، وأمامه بريدة بن الحصيب الأسلمي يحمل لواءه حتى انتهى به إلى المسجد فدخله وصلّى ركعتين ثم انصرف (٣).

وعرف أن أبا بكر قد عزله ، فقام على باب المسجد ثم صاح : يا معشر المسلمين! عجبا لرجل استعملني عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فتأمّر عليّ وعزلني (٤).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٣ : ١١٢٤ ـ ١١٢٥.

(٢) إعلام الورى ١ : ٢٧٢ ، ونقل الأربعين يوما خليفة بن الخياط (م ٢٤٠ ه‍) في تاريخه : ٥٠ عن الزهري. والطبري في تاريخه ٣ : ٢٤١ عن المدائني ، وقال : ويقال : بل سبعين يوما ، ثم أبعد عن سيف عن عكرمة في ثلاثة أشهر ٣ : ٣١٩.

(٣) مغازي الواقدي ٣ : ١١٢٤ ـ ١١٢٥.

(٤) إعلام الورى ١ : ٢٧٢ ، وفي الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم ٢ : ٢٩٧ عن العقد الفريد ، وليس في العقد الفريد المطبوع المنشور.


بريدة وبيعة أبي بكر :

فروى المرتضى عن الثقفي بسنده عن الثمالي عن الصادق عليه‌السلام : أن بريدة قدم من الشام وقد بايع الناس أبا بكر (١).

وروى ابن طاوس عن كتاب «المعرفة» للأسدي الرواجني بسنده : أن بريدة أتى عمران بن الحصين الخزاعي وذكّره بأمر رسول الله يوما في حائط رجل من الأنصار كل من دخل عليه أن يسلّم على عليّ بإمرة المؤمنين ، ومنهم أبو بكر وعمر ، فقال عمران : قد أذكر ذا.

فقال له بريدة : فانطلق بنا إلى أبي بكر فنسأله عن هذا الأمر ، فإنه لا يخبرنا عن رسول الله بكذب ولا يكذب على رسول الله ، فإن كان عنده عهد من رسول الله عهده إليه ـ بعد ذلك الأمر ـ أو أمر ، أمر به.

فانطلقا فدخلا على أبي بكر فذكرا له ذلك اليوم وقالا له : وأنت كنت ممن سلّم عليه بإمرة المؤمنين؟ فقال أبو بكر : قد أذكر ذلك. فقال بريدة :

فلا ينبغي لأحد من المسلمين أن يتأمّر على عليّ بعد أن سمّاه رسول الله بأمير المؤمنين ، فإن كان عندك عهد من رسول الله عهده إليك أو أمر أمرك به بعد هذا فأنت عندنا مصدّق؟!

فقال أبو بكر : لا والله ما عندي عهد من رسول الله ولا أمر أمرني به ، ولكنّ المسلمين رأوا رأيا (؟!) فتابعتهم على رأيهم!

فقال بريدة : لا والله مالك ولا للمسلمين خلاف رسول الله!

فجاء عمر فقصّ أبو بكر كلامهما ، فقال عمر : ولكن عندي المخرج من ذلك ، لا تجتمع النبوة والملك في أهل بيت واحد!

__________________

(١) تلخيص الشافي ٣ : ٥٠ ، وعن الثقفي في مناقب آل أبي طالب ٣ : ٦٦.


فقال بريدة : يا عمر ، أما سمعت الله يقول في كتابه : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً)(١) فقد جمع الله لهم النبوة والملك!

فتوقّدت عينا عمر من الغضب وقال : ما جئتما إلّا لتفرّقا جماعة هذه الأمة وتشتّتا أمرها (٢)! وأنشد بريدة :

أمر النبيّ معاشرا هم أسوة

ولهازم أن يدخلوا فيسلّموا

تسليم من هو عالم مستيقن

أن الوصيّ هو الإمام القائم (٣)

فروى المرتضى عن الثقفي عن ابن اسحاق بسنده : أن بريدة حمل رايته إلى أوساط قومه أسلم وقال : لا أبايع حتى يبايع عليّ بن أبي طالب!

وروى عنه عن الحسن المثنّى : أن أسلم قالوا : لا نبايع حتى يبايع بريدة (٤).

وكأنّ هذا كان مما نبّه القوم إلى أن لا يسامحوا عليا عليه‌السلام في مطالبة البيعة منه. أو كأنهما أرادا أن لا يرى علي عليه‌السلام عندهما خذلانا ، ولا يظهرا له رقة ولينا ، فأتبعا قرح غصب فدك بقرح مطالبته بالبيعة على حدّ تعبير عليّ بن مهنّا العلوي الحلّي (٥).

__________________

(١) النساء : ٥٤.

(٢) اليقين بإمرة أمير المؤمنين لابن طاوس : ٢٧٢ ـ ٢٧٤. ومختصره في مناقب آل أبي طالب ٣ : ٦٦ عن الثقفي ، وعنه قبله عن الصادق عليه‌السلام ، وعنه في تلخيص الشافي ٣ : ٥٠.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٦٦.

(٤) تلخيص الشافي ٣ : ٧٨ عن كتاب المعرفة للثقفي.

(٥) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ٢٣٦.


بداية مطالبة البيعة من علي عليه‌السلام :

فروى سليم بن قيس عن سلمان الفارسي : أن عمر قال لأبي بكر : إن عليا لو قد بايع أمنّاه ، ولسنا في شيء حتى يبايع ، فأرسل إليه فليبايع.

فأرسل إليه أبو بكر : أن أجب خليفة رسول الله! فأتاه الرسول فقال له ذلك.

فقال علي عليه‌السلام : سبحان الله! ما أسرع ما كذبتم على رسول الله ، إنه ليعلم ويعلم الذين حوله : أن الله ورسوله لم يستخلفا غيري. فرجع الرسول وأخبره خبره.

فقال له : فاذهب إليه وقل له : أجب أمير المؤمنين أبا بكر (١)! فأتاه فأخبره بما قال.

فقال علي عليه‌السلام : سبحان الله! والله ما طال العهد فينسى ، فو الله إنه ليعلم أن هذا الاسم لا يصلح إلّا لي ، ولقد أمره رسول الله ـ سابع سبعة ـ أن يسلّموا عليّ بإمرة المؤمنين فاستفهم من بين السبعة هو وصاحبه عمر قالا : أحقّ من الله ورسوله؟ فقال : نعم حقا حقا من الله ورسوله ، إنه أمير المؤمنين وسيد المسلمين وصاحب لواء الغر المحجّلين ، يقعده الله عزوجل يوم القيامة على الصراط فيدخل أولياءه الجنة وأعداءه النار!

فرجع الرسول وأخبره بمقاله ، فسكتوا عنه يومهم ذلك (٢).

فطاف بالزهراء عليهم ليلا :

مرّ الخبر عن عتاب الزهراء لعلي بلا استجابة منه لها عليهما‌السلام ، فأظن أنّ

__________________

(١) كذا هنا ، ويأتي أن أوّل من تلقّب بذلك عمر.

(٢) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٥٨٣.


اغتصابهم له على البيعة علاوة على غصبهم لحقّ فاطمة ، هو الذي حمله على ما رواه سليم بن قيس عن سلمان الفارسي قال : فلما كان الليل حمل علي فاطمة عليهما‌السلام على حمار ومعه ابناه الحسنان عليهما‌السلام فلم يدع أحدا من أصحاب رسول الله إلّا أتاه في منزله! فناشدهم الله حقه ودعاهم إلى نصرته ، فما استجاب منهم أحد إلّا أربعتنا (١).

ولكنه قيّد الأصحاب في موضع آخر من حديثه بقوله : فلم يدع أحدا من أهل بدر من المهاجرين والأنصار إلّا أتاه في منزله فذكّرهم حقه ودعاهم إلى نصرته.

فاستجاب له منهم أربعة وأربعون رجلا ، فأمرهم أن يصبحوا محلّقين رءوسهم معهم سلاحهم ليبايعوه على الموت! فلما أصبحوا لم يواف منهم إلّا أربعة : أنا وأبو ذر والمقداد والزبير بن العوّام.

فعاودهم علي عليه‌السلام في الليلة المقبلة فناشدهم فقالوا : نصبّحك بكرة ، فما أتاه غيرنا. ثم أتاهم الليلة الثالثة ، فما أتاه غيرنا (٢).

وعنه عليه‌السلام يقول : فلم أدع أحدا من أهل بدر ولا أهل السابقة من المهاجرين والأنصار إلّا استعنتهم ودعوتهم إلى نصرتي وناشدتهم الله حقّي ، فلم يجيبوني ولم ينصروني (٣) ولم يستجب لي من جميع الناس إلّا أربعة رهط : سلمان وأبو ذر والمقداد والزبير ، ولم يكن معي أحد من أهل بيتي أقوى به وأصول ، أما حمزة

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٥٨٣.

(٢) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٥٨١.

(٣) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٩١٨ في خطابه لسبعين من البدريين بعد حرب الجمل في بهو زياد بالبصرة واحتجّ ما به عليه معاوية في كتابه له في صفين ٢ : ٧٦٥.


فقد قتل يوم أحد ، وأما جعفر فقد قتل يوم مؤتة ، وبقيت في جلفين جافين ذليلين حقيرين عاجزين : العباس وعقيل ، وكانا قريبي عهد بالكفر والإسلام فأكرهوني وقهروني (١).

وعلى ما مرّ فالمقطع الثاني من حديث سلمان الفارسي رحمه‌الله فيه فائدتان : الأولى : تقييد الصحابة المستنصرين بالبدريين منهم ، والثانية : أنّ مدة حمله لها عليهما‌السلام إنما كان لثلاث ليال.

وروي الخبر عن الباقر والصادق عليهما‌السلام أيضا :

فأما عن الباقر عليه‌السلام فهو ما رواه الجوهري البصري في «السقيفة وفدك» بسنده عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري عنه عليه‌السلام : أن عليا حمل فاطمة عليها‌السلام على حمار ، وسار بها ليلا إلى بيوت الأنصار (كذا بدون المهاجرين ولا البدريين) تسألهم فاطمة الانتصار له.

فكانوا يقولون : يا بنت رسول الله ، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، لو كان ابن عمّك سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به!

وكان علي عليه‌السلام يقول : أكنت أترك رسول الله ميتا في بيته لا أجهّزه وأخرج إلى الناس انازعهم في سلطانه؟!

وفاطمة تقول لهم : ما صنع أبو حسن إلّا ما كان ينبغي له ، وصنعوا ما الله حاسبهم عليه (٢).

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٦٦٥ في استنفاره للناس بعد النهروان للشام فلم يلبث أن قتل : ٦٧١. وبمعناه عن الباقر عليه‌السلام في روضة الكافي : ١٦٥ ، الحديث ٢١٦ ، وعنه في بحار الأنوار ٢٨ : ٢٥١ ، الباب ٤ ، الحديث ٣٣ ومرّ استبعاد أن يكون ذلك في كلام عام.

(٢) عن الجوهري في شرح النهج للمعتزلي ٦ : ١٣.


وأما عن الصادق عليه‌السلام فهو ما رواه عبد الله بن سنان عنه عليه‌السلام قال : وحملها علي على أتان عليه كساء له خمل ، فدار بها أربعين صباحا (كذا منفردا بها) على بيوت المهاجرين والأنصار (كذا أيضا) وهي تقول لهم : يا معشر الأنصار ، انصروا الله فاني ابنة نبيكم ، وقد بايعتم رسول الله يوم بايعتموه : أن تمنعوه وذريّته مما تمنعون منه أنفسكم وذراريكم ، ففوا لرسول الله ببيعتكم. فما أعانها أحد ولا أجابها ولا نصرها (١).

معاذ بن جبل :

واختصّ خبر «الاختصاص» عن الصادق عليه‌السلام ببيان موقف معاذ بن جبل الخزرجي رسول رسول الله إلى اليمن من قبل حجة الوداع حتى بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله فهو لم يحضر وفاته ولا البيعتين الخاصة في السقيفة والعامّة بعدها ، ولعله حضر اليوم وقبل أن يبايع ـ قال عليه‌السلام ـ انتهت فاطمة إلى معاذ بن جبل فقالت له :

يا معاذ بن جبل ؛ إني قد جئتك مستنصرة ، وقد بايعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على أن تنصره وذريّته وتمنعه مما تمنع منه نفسك وذريّتك ، وإن أبا بكر قد غصبني على فدك فأخرج وكيلي منها. قال معاذ : فمعي غيري؟

قالت : لا ، ما أجابني أحد (يبدو أنه كان آخر أو من آخر من استنصرته).

قال : فأين أبلغ أنا من نصرتك؟!

فخرجت فاطمة من عنده وهي تقول : والله لا اكلّمك كلمة حتى اجتمع أنا وأنت عند رسول الله! ثم انصرفت.

ودخل ابنه (فرآها) فقال لأبيه معاذ : ما جاء بابنة محمد إليك؟

__________________

(١) الاختصاص : ١٥٤.


قال : جاءت تطلب نصرتي على أبي بكر فإنه أخذ منها فدكا. قال : فما أجبتها به؟ قال : قلت : وما يبلغ نصرتي وحدي؟ قال : فأبيت أن تنصرها؟ قال : نعم! قال : أي شيء قالت لك؟ قال : قالت لي : والله لا نازعتك الفصيح من رأسي حتى أرد على الله! فقال له ابنه : والله وأنا لا نازعتك الفصيح من رأسي إذ لم تجب ابنة محمد (١).

__________________

(١) الاختصاص : ١٨٤ ، ومن الملفت عدم استنصار علي والزهراء عليهما‌السلام من سعد بن عبادة ، ولعله لعلّة امتناعه من ذلك إلّا لنفسه ، وأيضا من الملفت أن ابنيهما خالفاهما ميلا إلى علي عليه‌السلام.

ومن الملاحظ أن خبر الباقر عليه‌السلام لم يصلنا إلّا من طريق المعتزلي عن الجوهري البصري ، وقبله ابن قتيبة الدينوري (م ٢٧٦ ه‍) في الإمامة والسياسة : ١٢ : قال : وحمل علي كرم الله وجهه فاطمة بنت رسول الله ليلا على دابّة وخرج بها إلى مجالس الأنصار (كذا ، بدل البدريين منهم) تسألهم النصرة .. إلى آخر الخبر. ونقله عنه المجلسي في بحار الأنوار ٢٨ : ٣٥٥ ، ولم يعلق على قوله : مجالس الأنصار. وقبله وبعده نقل خبر سليم بن قيس عن سلمان الفارسي عن كتاب سليم والاحتجاج ٢ : ٣٢٩ في بحار الأنوار ٢٨ : ٢٦٤ و٢٦٧ وفي ٢٩ : ٨٩ ـ ٩٢ خبر الاختصاص وشرح غريبه ، وكأنه لم يستغرب من قوله فيه : أربعين صباحا ، لا الأربعين في العدد ولا الصباح في الوقت ، هذا مع انفراده بهما ، ومع ذلك اشتهر ذكره في المجالس مع تغيير زمان الصباح بالليل تلفيقا من سائر الأخبار ، وهو خلاف نصّ خبر سليم عن سلمان ، ومن المستبعد جدّا ، وعليه فخبر سليم أسلم وهو أقدم وأقوم ، فعليه المعوّل هنا.

ونعيد إلى الأذهان هنا ما مرّ في ترجمة معاذ إذ أرسله رسول الله إلى اليمن ، عن أبي نعيم الاصفهاني في حلية الأولياء ١ : ٢٣٢ ـ ٢٤٣ ، وفي الاستيعاب بهامش الإصابة ٣ : ٣٥٨ وعنهما في مكاتيب الرسول ٣ : ٥٥٥ : أن معاذا مكث في اليمن حتى قبض رسول الله فقدم إلى المدينة ، فقال عمر لأبي بكر : دع لهذا الرجل ما يعيّشه وخذ منه سائره!


بيعة الأربعين رجلا :

مرّ تعليقا على خبر سليم عن سلمان أن طواف علي بالزهراء عليهما‌السلام على بيوت البدريين من الأنصار والمهاجرين كان لثلاث ليال وليس لأربعين «صباحا» ولا ليلة. واستجاب له أربع وأربعون رجلا قولا ولكنه لم يستجب له منهم عملا إلّا أربعة منهم فقط. وفيه أنه عليه‌السلام أمرهم أن يصبحوا محلّقين رءوسهم معهم سلاحهم ليبايعوه على الموت (١) وفي موضع آخر عنه قوله عليه‌السلام : لو وجدت أربعين رجلا من أهل السابقة من المهاجرين والأنصار أعوانا لنا هضت هذا الرجل (٢) مما يدل على عدم بيعتهم له ، هذا من ناحية.

بينما في ثلاث مواضع منه ما يدل على بيعتهم له :

ففي أواخر خطبته فيما بعد النهروان وقبل مقتله يستنهضهم لمعاودة معاوية سأله الأشعث بن قيس عن أعوانه الأربعة الأوائل ذوي البصيرة الموفين ببيعتهم ، فقال عليه‌السلام : لما بويع أبو بكر أتاني أربعون رجلا من المهاجرين والأنصار (فبايعوني) فأمرتهم أن يصبحوا عند بابي محلّقين رءوسهم عليهم السلاح ، فما وفى لي ولا صدقني منهم أحد غير أربعة (٣) والعبارة الأخيرة كما في خبر سلمان ، فالظاهر أن كلمة (فبايعوني) زيادة سهو من الرواة. وعليه يحمل قوله قبله مباشرة :

__________________

فقال أبو بكر : انما بعثه النبيّ ليجبره فلست آخذ منه شيئا إلّا أن يعطيني هو! وفي قوله : ليجبره ، أشار إلى ما رواه ابن الأثير في اسد الغابة ٤ : ٣٧٧ : أن معاذا كان سمح الكفّ ، فاقترض دينا كثيرا حتى تغيّب في بيته فأرسل إليه رسول الله وقال له : أبعثك إلى اليمن ، لعل الله يجبرك ويؤدّي عنك!

(١) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٥٨١ ونحوه في رجال الكشي : ٨ ، الحديث ١٨ عن الباقر عليه‌السلام.

(٢) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٧٧٦ في كتاب معاوية إليه عليه‌السلام.

(٣) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٦٦٩.


لو وجدت يوم بويع أخو تيم أربعين رجلا لنا هضت القوم وما كففت يدي ، ولكني لم أجد فأمسكت. وكذلك قوله فيه بعده : لو أن أولئك الأربعين الذين بايعوا وفوا لي ، بمعنى : واعدوني ببيعتهم.

والغريب أن جاء في ذيل خبر سلمان نفسه عنه عليه‌السلام قال لهم : أما والله ؛ لو أنّ أولئك الأربعين رجلا الذين بايعوني وفوا لي لجاهدتكم في الله (١) مما ينافي صدره ، اللهم إلّا أن نفسّر الذيل بالصدر بأن المعنى : الذين واعدوني ببيعتهم.

وكذلك ما في هذا الحديث نفسه قبله من قوله عليه‌السلام لهم أيضا : لعن الله أقواما بايعوني ثم خذلوني (٢) بمعنى : واعدوني ببيعتهم ثم لم يفوا لي فخذلوني. وذلك بدليل نصّه قبله مرتين على عدم البيعة له إلّا من الأربعة (٣) والملاحظ أن كل ذلك في خبر سلمان.

وعادوا على طلب البيعة منه :

مرّ قبل هذا من صدر خبر سليم عن سلمان مبادأتهم بطلب البيعة منه عليه‌السلام بعنواني خليفة رسول الله وأمير المؤمنين ، ومناقشته عليه‌السلام لهم في ذلك وفي آخره : فسكتوا عنه يومهم ذلك بعد ذكره لحمله للزهراء عليها‌السلام على بيوت البدريّين يقول :

فلما رأى علي عليه‌السلام خذلان الناس إياه وتركهم نصرته ، واجتماع كلمتهم مع أبي بكر وطاعتهم له وتعظيمهم إياه لزم بيته.

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٥٩١.

(٢) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٥٨٨.

(٣) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٥٨٠ و٥٨٣.


فقال عمر لأبي بكر : إنه لم يبق أحد إلّا وقد بايع ، غيره وغير هؤلاء الأربعة ، فما يمنعك أن تبعث إليه فيبايع؟ فقال أبو بكر : من نرسل إليه ، فقال عمر : أرسل إليه قنفذا من بني عديّ بن كعب (قبيلة عمر) (١) هذا ما عن سلمان.

وحدث عن عبد الله بن عباس قال : لما توفّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ... اشتغل علي بن أبي طالب عليه‌السلام برسول الله حتى فرغ من غسله وتكفينه وتحنيطه ووضعه في حفرته ... ولم تكن له همة في الملك لما كان أخبره رسول الله عن القوم ، ونكث الناس وأجمعوا على الخلاف وافتتنوا بالرجلين. فلم يبق إلّا علي وأبو ذر والمقداد وسلمان وبنو هاشم في أناس معهم يسير ، فقال عمر لأبي بكر : يا هذا ، قد بايعك الناس أجمعون ما خلا هذا الرجل وأهل بيته وهؤلاء النفر ، فابعث إليه.

فبعث إليه ابن عمّ لعمر يقال له قنفذ وقال له : انطلق إلى علي فقل له : أجب خليفة رسول الله. فانطلق فأبلغه فقال علي عليه‌السلام : ما أسرع ما كذبتم على رسول الله وارتددتم! والله ما استخلف رسول الله غيري ، فارجع وقل له : قال لك علي : والله ما استخلف رسول الله غيري ، وإنك لتعلم من خليفة رسول الله.

فرجع قنفذ إلى أبي بكر فبلّغه الرسالة. فقال أبو بكر : صدق علي ، ما استخلفني رسول الله!

ثم قال لقنفذ : اذهب إليه فقل له : أجب أمير المؤمنين أبا بكر (٢).

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٥٨٤ ، الحديث ٤ عن سلمان ، وكذا قال في قنفذ ، وفي موارد اخرى من كتاب سليم ليس سواه ، وعنه في الاحتجاج ولكنه قال : أحد بني تيم. وذكر مختصر الخبر في الإمامة والسياسة : ١٣ وقال : هو مولى أبي بكر. وانظر ترجمته في قاموس الرجال ٨ : ٥٢٩ برقم ٦٠٧٠ باسم : قنفذ بن عمير التيمي ، والمراد : تيميّ بالولاء.

(٢) كذا ، لكن يرد عليه تاريخيا : أن أول من تلقّب بذلك هو عمر وليس أبا بكر ، كما يأتي.


فرجع قنفذ حتى دخل على علي عليه‌السلام فأبلغه الرسالة ، فقال عليه‌السلام : انطلق إليه فقل له : والله لقد تسمّيت باسم ليس لك ، فقد علمت أن أمير المؤمنين غيرك!

فرجع قنفذ فأخبرهما .. فقال له أبو بكر : يا قنفذ انطلق فقل له : أجب أبا بكر.

فعاد قنفذ فقال : يا علي ، أجب أبا بكر! فقال علي عليه‌السلام : انطلق إلى أبي بكر وما اجتمعتم عليه من الجور ، فإني لفي شغل عنه ، وما كنت بالذي أترك وصيّة أخي وخليلي (١).

فالممتنعون من البيعة :

فسلمان لم يذكر في الخبر من الممتنعين عن البيعة سوى نفسه وأصحابه الثلاثة ، ولم يذكر بني هاشم ولا سائر الناس ، وإنما ذكرهم ابن عباس ، ولم يذكر نفسه ؛ لأنه كان ابن ثلاث عشرة سنة كما نقل عنه (٢) إلّا أنه أيضا اكتفى بالاجمال بلا تفصيل ، ولا في أيّ خبر آخر في كتاب سليم.

ولعل أوّل من فصّل أكثر من هذا هو الشيخ المفيد في «الإرشاد» فقال : قالت شيعته وهم : بنو هاشم (إجمالا أيضا) وسلمان والمقداد وأبو ذر وعمار وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين وأبو أيوب الأنصاري وجابر بن عبد الله الأنصاري وأبو سعيد الخدري ، وأمثالهم (إجمالا أيضا) من جلّة المهاجرين والأنصار : إنه كان الإمام وخليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) فهو زاد أربعة على الأربعة ، ولم يسمّ من بني هاشم أحدا ، وإنما من سائر الناس.

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٨٦٢ ـ ٨٦٤.

(٢) كتاب عبد الله بن عباس للسيد الفاني : ٢٣.

(٣) الإرشاد ١ : ٦ ، ٧.


وسمّى السيد العسكري من بني هاشم : العباس بن عبد المطلب وعتبة بن أبي لهب ، وزاد من غيرهم : أبيّ بن كعب والبراء بن عازب ، وسعد بن أبي وقاص الزهري وطلحة بن عبيد الله التيمي (١) ومعه صاحبه الزبير بن العوام الأسدي من أسد قريش وصهر أبي بكر على ابنته أسماء ، ولكن أمّه صفيّة بنت عبد المطلب عمّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فكان مع بني هاشم. فهؤلاء سبعة مع أولئك الثمانية من الممتنعين عن البيعة لأبي بكر. وعن «كتاب السقيفة» للجوهري البصري : أن عليا والزبير وسعد بن أبي وقاص والمقداد وناسا من بني هاشم كانوا في بيت فاطمة ، اجتمعوا على أن يبايعوا عليا (٢).

بينما لم يكن في خبر سليم لا عن سلمان ولا عن ابن عباس حتى عن الأربعة أنهم كانوا معه في الدار ، وإنما في الأخير.

اقتحام دار علي عليه‌السلام :

قال : فوثب عمر غضبان ونادى خالد بن الوليد وقنفذا وأمرهما أن يحملا حطبا ونارا!

ثم أقبل ومعه خالد بن الوليد وقنفذ والحطب والنار ويحمل سيفا وسوطا حتى انتهى إلى باب علي عليه‌السلام فضرب الباب ونادى : يا ابن أبي طالب ؛ افتح الباب.

__________________

(١) معالم المدرستين ١ : ١٥٦ ، ط ٥ ، وذكر مصادره وأقدمها الجوهري البصري وإنما فيه الزبير والمقداد وسعد ابن أبي وقاص على رواية. كما عنه في شرح النهج للمعتزلي ٢ : ٥٦.

وذكر الأخير في العقد الفريد ٣ : ٦٣. وعنه العلامة في كشف الحق ، وعنه في بحار الأنوار ٢٨ : ٣٣٩. وفي تاريخ الطبري ٣ : ٢٠٢ : طلحة والزبير ورجال من المهاجرين؟ وفي أمالي المفيد : ٤٩ : الزبير والمقداد. وكلها من غير طرقنا.

(٢) عن الجوهري البصري في شرح النهج للمعتزلي ٢ : ٥٦.


وكانت فاطمة قد نحل جسمها في وفاة رسول الله فعصّبت رأسها ، وهي قاعدة خلف الباب .. فقالت له : يا عمر ، ما لنا ولك؟ ألا تدعنا وما نحن فيه؟!

فقال لها عمر : افتحي الباب وإلّا أحرقناه عليكم!

فقالت : يا عمر ، أما تتّقي الله عزوجل تدخل عليّ بيتي وتحرق عليّ داري؟!

فدعا عمر بالنار فأضرمها في الباب ثم دفعه (ففتحه) (١) فاستقبلته فاطمة تصيح : يا أبتاه يا رسول الله! فرفع سيفه بغمده فوجأها في جنبيها! ورفع السوط فضرب به ذراعها فصاحت : يا أبتاه (٢)!

ووثب إليه علي عليه‌السلام فأخذ بتلابيبه وهزّه فصرعه ووجأ رقبته كأنه همّ بقتله ولكنه قال له : يا ابن صهاك ؛ والذي أكرم محمدا بالنبوة لو لا كتاب من الله سبق لعلمت أنك لا تدخل بيتي!

فدخل خالد بن الوليد وسلّ سيفه ليضرب عليا عليه‌السلام فحمل عليه الزبير بسيفه فأقسم عليه عليّ فكفّ عنه. وأرسل عمر يستغيث فأقبل الناس ودخلوا الدار ... وأقبل أبو ذر وسلمان وعمّار والمقداد وبريدة بن الحصيب الأسلمي أعوانا لعلي عليه‌السلام فدخلوا الدار ... وقال بريدة لعمر : يا عمر أتثب على أخي رسول الله ووصيّه ، وعلى ابنته فتضربها؟! وأنت الذي تعرفك قريش بما تعرفك به!

__________________

(١) وفي تفسير العياشي ٢ : ٦٧ : وكان الباب من سعف (!) فضربه برجله فكسره ودخلوا. والظاهر عنه في الاختصاص : ١٨٦ وليس فيهما الاحتراق.

(٢) وهنا روى الكليني بسنده عن الباقر والصادق عليهما‌السلام قالا : إنّ فاطمة عليها‌السلام أخذت بتلابيبه فجذبته إليها وقالت : يا ابن الخطاب أما والله لو لا أني أكره أن يصيب البلاء من لا ذنب له لعلمت أني سأقسم على الله فأجده سريع الإجابة. أصول الكافي ١ : ٤٦١.


فرفع خالد سيفه بغمده ليضربه فمنعه عمر من ذلك (١).

وعليه فابن عباس يروي أنهم أقبلوا حتى دخلوا الدار أعوانا لعلي عليه‌السلام فلم يكونوا فيه إلّا الزبير ابن عمّتهما. وفي الخبر : إضرام النار في الباب وفتحه قسرا (وليس كسرا) وضرب فاطمة بالسوط وبغمد السيف في جنبيها فقط ، هذه صورة الحدث في حديث ابن عباس.

وأما صورة الحدث في حديث سلمان ، فإنه قال :

فأرسل إليه أبو بكر قنفذا ومعه أعوان (ولم يسمّهم) فانطلق فاستأذن على علي عليه‌السلام فأبى أن يأذن لهم ، فثبت قنفذ ورجع أصحابه فقالوا : لم يأذن لنا علي!

فقال لهم عمر : اذهبوا فإن أذن لكم ، وإلّا فادخلوا عليه بغير إذن!

فانطلقوا فاستأذنوا فأجابتهم فاطمة هذه المرة فقالت لهم : أحرّج عليكم أن تدخلوا عليّ بيتي! فثبت قنفذ ورجعوا وقالوا : إن فاطمة قالت كذا فتحرّجنا أن ندخل بيتها بغير إذن.

فغضب عمر وقال : ما لنا وللنساء؟! وقام وأمر أناسا معه أن يحملوا الحطب! فحملوه وجعلوه على منزل علي عليه‌السلام ، ثم نادى عمر حتى أسمع عليا :

يا علي ؛ والله لتخرجنّ ولتبايعنّ خليفة رسول الله ، وإلّا أضرمت عليك!

فقالت له فاطمة : يا عمر ؛ ما لنا ولك؟

فقال لها : افتحي الباب وإلّا أحرقنا عليكم بيتكم.

فقالت له : يا عمر ؛ أما تتّقي الله تدخل عليّ بيتي؟!

فدعا عمر بالنار فأضرمها في الباب ثم دفعه (ففتحه) ودخل.

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٨٦٤ ـ ٨٦٥ ، الحديث ٤٨ لابن عباس ، وورد قول بريدة هذا في : ٥٩٣ ، الحديث ٤ عن سلمان ولكن ليس هنا بل في المسجد.


فاستقبلته فاطمة وصاحت : يا أبتاه يا رسول الله!

فرفع عمر سيفه بغمده فوجأها في جنبها فصرخت : يا أبتاه!

فرفع السوط فضرب به ذراعها فنادت : يا رسول الله لبئس ما خلفك أبو بكر وعمر!

ووثب إليه علي عليه‌السلام فأخذ بتلابيبه ثم نتره فصرعه ووجأ رقبته (وكأنّه) همّ بقتله ولكنه قال له : يا ابن صهاك ؛ والذي أكرم محمدا بالنبوة لو لا كتاب من الله سبق وعهد عهده إليّ رسول الله لعلمت أنك لا تدخل بيتي!

فاستغاث عمر فدخل الناس الدار قنفذ وأصحابه ، فثار علي عليه‌السلام إلى سيفه فسبق إليه كثير منهم وتناول بعضهم سيوفهم وألقوا في عنقه حبلا ، يجرّونه به ، فلما صار عند باب البيت حالت بينه وبينهم فاطمة ... فحين حالت بينه وبين قنفذ أرسل إليه عمر : اضربها! فضربها بسوطه حتى ألجأها إلى عضادة الباب ودفعها فكسر ضلعها وألقت من بطنها جنينها!

قال سلمان : ولقد رأيت أبا بكر ومن حوله ما فيهم إلّا باك (لها) غير خالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة ، وعمر يقول : لسنا من النساء ورأيهنّ في شيء (١)!

فسلمان بعد ذكره استغاثة عمر ودخول الناس الدار لم يذكر دخوله وأصحابه الدار عونا لعلي عليه‌السلام ، ولا حملة خالد بسيفه على علي عليه‌السلام لإنقاذ عمر ، ولا حملة الزبير بسيفه على خالد لدفعه عن عليّ عليه‌السلام.

ولكنه انفرد عن خبر ابن عباس بذكره إلقاء الحبل في عنق علي عليه‌السلام ، وحيلولة الزهراء دونه وضغط قنفذ لها بعضادة بابها فكسر ضلعها وإسقاط الجنين هنا.

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٥٨٤ ـ ٥٨٨ ، الحديث ٤ عن سلمان ، وانفرد بأنها ما كان عليها خمار ، لعدم ذكره الزبير في الدار ، بينما ذكره ابن عباس فذكر أنها كانت معصّبة الرأس ، فهل كانت معصّبة الرأس بلا خمار عليها؟! اللهم إلّا أن لا يكون حتى الزبير معهم في الدار.


والأعوان؟ والحوادث؟

مرّ في خبر سلمان : ومعهم أعوان ، أو ومعهم أناس ، ولم يسمّ سوى عمر وابن عمّه قنفذ وخالد بن الوليد ، وكذلك في خبر ابن عباس.

وفي خبر في «تفسير العياشي» زاد : أبا عبيدة بن الجرّاح وسالم بن معقل مولى أبي حذيفة والمغيرة بن شعبة الثقفي وعثمان بن عفّان الأموي (١) فهؤلاء سبعة رجال.

وزاد السيد العسكري : أسيد بن حضير الأوسي ، وثابت بن قيس الخزرجي ، وزياد بن لبيد ، وزيد بن ثابت ، وسلمة بن أسلم الخزرجي ، وسلمة بن سلامة الخزرجي ، وعبد الرحمن بن عوف الزهري (٢). فهؤلاء أربعة عشر رجلا (٣).

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ : ٦٦.

(٢) معالم المدرستين ١ : ١٥٨ ، ١٥٩.

(٣) مرّ في خبر سلمان : أن كسر الضلع وإسقاط الجنين كان بضغط قنفذ لها بعضادة الباب لدفعها عن علي حين إخراجه عليه‌السلام. وفي الفضائل لابن شاذان (المتوفى ٢٦٠ ه‍) : ٩٠ : أنه ضربها على جنبها فكسر جنبها وألقت ولدها ، كما مثله في أمالي الصدوق : ١٠٠ ، بسنده عن ابن عباس ؛ بينما لا يذكر ابن عباس لسليم غير الضرب. وفي تفسير العياشي ٢ : ٣٠٨ : عن أحدهما قال : انطلق عمر بنار فأراد أن يحرق على عليّ بيته. وليس فيه تنفيذ الإحراق ، وكذلك في دلائل الإمامة : ٤٥٥ ، وكذلك في الاحتجاج ١ : ٢٠١ ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري. ولكن في مختصر بصائر الدرجات : ١٨٧ ، عن الصادق عليه‌السلام : إشعال النار على الباب ، وفي الشافي وتلخيصه ٣ : ٧٦ ، عن الثقفي في كتاب المعرفة وليس الغارات بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : والله ما بايع علي حتى رأى الدخان قد دخل بيته.


مطالبة البيعة منه عليه‌السلام :

وفي خبر سلمان قال : ثم انطلق بعلي عليه‌السلام يعتل عتلا حتى انتهي به إلى أبي بكر ، وأبو عبيدة بن الجرّاح وأسيد بن حضير وبشير بن سعد ، وخالد بن الوليد وسالم مولى أبي حذيفة ومعاذ بن جبل وناس آخرون عليهم السلاح وهم جالسون حول أبي بكر ، وعمر قائم بالسيف على رأسه! وعلي عليه‌السلام يقول : أما والله لو وقع سيفي في يدي لعلمتم أنكم لن تصلوا إلى هذا أبدا.

ولما أن بصر به أبو بكر صاح : خلّوا سبيله! فقال علي عليه‌السلام :

يا أبا بكر ، ما أسرع ما توثّبتم على رسول الله؟ بأيّ حقّ وبأيّ منزلة دعوت الناس إلى بيعتك؟ ألم تبايعني بالأمس بأمر الله وأمر رسول الله؟!

فانتهره عمر وقال له : بايع ، ودع عنك هذه الأباطيل.

فقال له عليه‌السلام : فإن لم أفعل فما أنتم صانعون؟ قالوا : نقتلك!

فقال : إذا تقتلون عبد الله وأخا رسوله!

__________________

وفي اسقاط الجنين : جاء في كامل الزيارات : ٣٤٧ : عن الصادق عليه‌السلام أنها طرحته من الضرب. وفي دلائل الإمامة : ١٣٤ : عنه عليه‌السلام أيضا : أن ذلك كان بلكز قنفذ لها بنعل السيف بأمر عمر. وهذا أيضا يعني بعد الإخراج. وفي الاختصاص : ١٨٥ : عنه عليه‌السلام أيضا : أن ذلك كان يرفسها برجله لأخذ كتاب أبي بكر لها بفدك! وفي الاحتجاج ١ : ٤١٤ عن الشعبي وأبي مخنف عن الحسن عليه‌السلام قال للمغيرة بن شعبة أنه هو ضربها فألقت جنينها! وهذان خبران غريبان ، إلّا أن يكون الأخير بمعنى المشاركة لا الانفراد. وأول ما نرى نسبة الإسقاط إلى ما بين الباب هو ما جاء في لفظ الصدوق في معاني الأخبار : ٢٠٦ لما ضغطت بين البابين! ولعله يعني : ما بين الباب والجدار. أما نداء : آه يا فضة ... فمصدره ما نقله المجلسي في بحار الأنوار : ٣٠ : ١٥٨ ـ ١٦٣ عن المجلد ٢ من دلائل الامامة (؟!) عن كتاب عمر إلى معاوية ، فقط لا غير! ولم يعرف من هذا المجلد الثاني عين ولا أثر!


فقال أبو بكر : أما عبد الله فنعم ، وأما أخو رسول الله فما نقرّ بهذا!

قال : أتجحدون أن رسول الله آخى بيني وبينه؟ قال : نعم ...

فأقبل علي عليه‌السلام عليهم وذكّرهم بأشياء قالها فيه رسول الله علانية للعامة ، منها حديث المنزلة والغدير ... فقال له أبو بكر : كلّ ما قلته حق قد سمعناه بآذاننا وعرفناه ووعته قلوبنا ، ولكن قد سمعت رسول الله يقول بعد هذا : إنا أهل بيت اصطفانا الله وأكرمنا واختار لنا الآخرة على الدنيا ، وإن الله لم يكن ليجمع لنا أهل البيت النبوة والخلافة. وصدّقه أبو عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة ومعاذ بن جبل ، وعمر بن الخطاب ... وقال لأبي بكر : ما يجلسك على المنبر وهذا محارب لا يبايعك؟ أو تأمر به فنضرب عنقه! وكان الحسنان قائمين معه فلما سمعا مقالته بكيا ، فضمّهما علي عليه‌السلام إلى صدره وقال لهما :

لا تبكيا ، فو الله ما يقدران على قتل أبيكما (١).

وقام بريدة الأسلمي وقال لعمر : أتثب يا عمر على أخي رسول الله وأبي ولده؟! وأنت الذي نعرفك في قريش بما نعرفك به! ألستما قال لكما رسول الله : انطلقا إلى عليّ وسلّما عليه بإمرة المؤمنين ، فقلتما : أعن أمر الله وأمر رسوله؟ قال : نعم.

__________________

(١) بينما روى الكليني في روضة الكافي : ١٩٩ الحديث ٣٣٠ ما يفيد أنهما إنما أتيا مع أمهما فاطمة عليها‌السلام في أواخر الحجاج والمخاصمة وأنها رجعت بهم ، وكأن الخبر عن الباقر عليه‌السلام قال : لما اخرج بعلي عليه‌السلام خرجت فاطمة عليها‌السلام واضعة قميص رسول الله على رأسها آخذة بيدي ابنيها فقالت : يا أبا بكر ، ما لي ولك؟! تريد أن تؤتم ابنيّ وترملني من زوجي؟! والله لو لا أن تكون سبّة لنشرت شعري ولصرخت إلى ربي! فقال بعضهم : ما تريد إلى هذا؟! (فتركوه) فأخذت بيده فانطلقت به. فقال الباقر عليه‌السلام : والله لو نشرت شعرها ماتوا طرّا.

وهذا مما يؤيد عدم سقوط الجنين في ذلك الحين بل بعد ذلك على أثر الضرب كما مرّ خبره.


فقال أبو بكر : قد كان ذلك ، ولكنّ رسول الله قال بعد ذلك : لا يجتمع لأهل بيتي النبوة والخلافة! فقال بريدة : والله ما قال هذا رسول الله! فأمر به عمر فضرب وطرد.

وأقبلت أم أيمن وقالت لأبي بكر : يا أبا بكر ، ما أسرع ما أبديتم حسدكم ونفاقكم؟! فقال عمر : ما لنا وللنساء؟! وأمر بها فاخرجت من المسجد.

فالتفت أبو بكر إلى علي عليه‌السلام وقال : قم ـ يا ابن أبي طالب ـ فبايع! فقال : فإن لم أفعل؟ قال : إذا ـ والله ـ نضرب عنقك! هذا والحبل في عنقه وبأيديهم ، فنادى رسول الله قال :

يا (ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي)(١) ثم مدّ يده من غير أن يفتح كفّه فرضى أبو بكر بذلك وضرب بكفّه عليها (٢)!

إن أقوم وأقدم نصّ في الموضوع هذا الخبر عن سلمان ، ثم خبر آخر نحوه عن ابن عباس قال :

فانتهوا بعلي عليه‌السلام ملبّبا إلى أبي بكر ، فلما بصر به صاح : خلّوا سبيله! فقال له علي :

ما أسرع ما توثّبتم على أهل بيت نبيّكم يا أبا بكر! بأي حق وبأي ميراث وبأي سابقة دعوت الناس إلى بيعتك؟! ألم تبايعني بالأمس بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟!

فقال له عمر : دع عنك هذا يا علي ؛ فو الله إن لم تبايع لنقتلنّك!

فقال علي عليه‌السلام : إذا أكون عبد الله وأخا رسول الله المقتول!

فقال عمر : أما عبد الله المقتول فنعم ، وأما أخو رسول الله فلا!

__________________

(١) الأعراف : ١٥٠.

(٢) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٥٨٨ ـ ٥٩٣.


فقال علي عليه‌السلام : أما والله لو لا قضاء من الله سبق ، وعهد عهده إليّ خليلي لست أجوزه لعلمت أيّنا أضعف ناصرا وأقل عددا!

فقام بريدة فقال لعمر : يا عمر ، ألستما اللذين قال لكما رسول الله : انطلقا إلى عليّ فسلّما عليه بإمرة المؤمنين. فقلتما : أعن أمر الله وأمر رسوله؟ فقال : نعم.

فقال أبو بكر : قد كان ذلك يا بريدة ، ولكنّك غبت وشهدنا ، والأمر يحدث بعده الأمر!

وقال له عمر : وما أنت وهذا يا بريدة وما يدخلك في هذا؟ ثم أمر به عمر فضرب وأخرج.

ثم قام سلمان فقال لأبي بكر : يا أبا بكر ، اتّق الله وقم عن هذا المجلس ودعه لأهله ، تأكلوا به رغدا إلى يوم القيامة ، ولا يختلف في هذه الأمة سيفان! فلم يجبه أبو بكر ، فأعاد سلمان قال :

قم يا أبا بكر عن هذا المجلس ودعه لأهله تأكلوا به والله رغدا خضرا إلى يوم القيامة ، وإن أبيتم لتحلبنّ به دما ، وليطمعنّ فيه الطلقاء ، والطرداء والمنافقون! والله لو أعلم أني أدفع ضيما أو أعزّ لله دينا لوضعت سيفي على عاتقي ثم ضربت به قدما ، أتثبون على وصيّ رسول الله؟! فأبشروا بالبلاء واقنطوا من الرخاء!

فانتهره عمر وقال له : مالك ولهذا الأمر؟ وما يدخلك فيما هاهنا؟ فقال له : مهلا يا عمر!

ثم قام أبو ذر والمقداد وعمار وقالوا لعلي عليه‌السلام : ما تأمر؟ والله إن أمرتنا لنضربنّ بالسيف حتى نقتل.

فقال لهم علي عليه‌السلام : كفّوا رحمكم الله واذكروا عهد رسول الله وما أوصاكم به! فكفّوا.


وقال عمر لأبي بكر وهو على المنبر : ما يجلسك على المنبر وهذا جالس محارب لا يقوم فيبايعك! أو تأمر به فنضرب عنقه؟ هذا والحسنان قائمان عند رأس أبيهما فلما سمعا مقالة عمر بكيا وصرخا : يا جدّاه يا رسول الله! فضمهما علي عليه‌السلام إلى صدره وقال لهما : لا تبكيا ، فو الله لا يقدران على قتل أبيكما ، هما أقل وأذلّ وأدحر من ذلك.

فأقبلت أم سلمة وأم أيمن فقالتا لأبي بكر : يا عتيق ، ما أسرع ما أبديتم حسدكم لآل محمد! فقال عمر : ما لنا وللنساء! وأمر بهما أن تخرجا من المسجد!

ثم قال لعلي عليه‌السلام : يا علي قم فبايع. فقال علي عليه‌السلام : وإن لم أفعل؟ قال : إذا والله تضرب عنقك! فقال عليه‌السلام كذبت والله يا ابن صهاك ، لا تقدر على ذلك ، أنت أضعف من ذلك. ثم مدّ يده من غير أن يفتح كفّه فضرب عليها أبو بكر ورضى بذلك ، فتوجّه علي عليه‌السلام إلى منزله وتبعه الناس (١).

هذان خبران عن ابن عباس وسلمان عليهما الرضوان ، برواية سليم الهلالي العامري عنهما ، هما أقدم وأقوم ما لدى شيعة أهل البيت عليهم‌السلام من تفصيل مطالبتهم البيعة من علي عليه‌السلام ، وفيهما احتجاجه عليهم حتى بنص الغدير ، كما مر.

وروى الطبري الإمامي (ق ٤ ه‍) في «المسترشد» بسنده عن الإمام السجاد عليه‌السلام حدّث أبا حمزة الثمالي حديثا في ذلك جاء فيه : أخرجوه وانطلقوا به إلى أبي بكر حتى أجلسوه بين يديه! فقال له أبو بكر : بايع! قال : فإن لم أفعل؟ قال : إذا والله الذي لا إله إلّا هو نضرب أو تضرب عنقك! فالتفت إلى القبر وقرأ الآية ثم قام فبايع.

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٨٦٥ ـ ٨٦٨. وفي خبر تفسير العياشي ٢ : ٦٨ : أن ذلك بلغ العباس بن عبد المطّلب فأقبل يهرول ويقول : ارفقوا بابن أخي ولكم عليّ أن يبايعكم ، حتى وقف على عليّ فأخذ بيده وجرّها حتى مسح بها على يد أبي بكر ، وعليّ مغضب ، ثم خلّوه.


ثم روى عن الواقدي بسنده عن داود بن الحصين روى : أن عمر أمر سلمة بن أسلم فدخل على علي عليه‌السلام ومعه الزبير .. فساقهما حتى بايعا.

وإن كان روى بعده عن ابن إسحاق عن ابن أبي الأسود الدؤلي أن أباه بعثه إلى جندب بن عبد الله يسأله عما حضر من أمر أبي بكر حين دعا عليا عليه‌السلام إلى بيعته فكتب له : جيء به ملبّبا فلما حضر قالا له : بايع! قال : فإن لم أفعل؟ قالا : إذن تقتل! قال : إذا تقتلون عبد الله وأخا رسول الله! قالا : أما عبد الله فنعم ، وأما أخو رسول الله فلا! فرجع يومئذ ولم يبايع!

بل روى قبل ذلك بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال :

إنّ أبا بكر دعا عليا عليه‌السلام إلى البيعة فامتنع وقال :

إني لأخو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يقولها غيري إلّا كذاب! وأنا والله أحق بهذا الأمر منكم وأنتم أولى بالبيعة لي ؛ إنكم أخذتم هذا الأمر من العرب بحجة وتأخذونه منا أهل البيت غصبا وظلما ؛ احتججتم على العرب بأنكم أولى الناس بهذا الأمر منهم بقرابة رسول الله ، فأعطوكم المقادة وسلّموا لكم الأمر ، فأنا أحتج عليكم بما احتججتم به على العرب ، فنحن ـ والله ـ أولى بمحمد منكم ، فأنصفونا من أنفسكم إن كنتم تؤمنون بالله ، واعرفوا لنا من هذا الأمر ما عرفته لكم العرب ، وإلّا فتبوءون بالظلم وأنتم تعلمون!

فقال له أبو عبيدة بن الجرّاح : يا أبا الحسن ، إن أبا بكر أقوى على هذا الأمر وأشدّ احتمالا له! فارض به وسلّم له! وأنت بهذا الأمر خليق وبه حقيق ، في فضلك وقرابتك وسابقتك. فقال له علي عليه‌السلام :

يا معشر قريش ، الله الله ، لا تخرجوا سلطان محمد من بيته إلى بيوتكم ، فإنكم إن تدفعونا أهل البيت عن مقامه في الناس وحقّه تؤزروا ، فو الله لنحن أهل البيت أحق بهذا الأمر منكم. أما كان فينا القارئ لكتاب الله ، الفقيه في دين الله ،


العالم بسنة رسول الله ، المضطلع بأمر الرّعية؟ فو الله إن ذلك فينا ، فلا تزيّنوا لأنفسكم ما سلبتمونا ، ولا تتّبعوا الهوى فتزدادوا من الله بعدا!

فقال له بشير بن سعد الأنصاري : لو سمع الناس مقالتك من قبل أن يبايعوا أبا بكر ما اختلف عليك اثنان!

فعند ذلك قال أبو بكر لعلي عليه‌السلام : فإن لم تبايع فلا أكرهك! فانصرف علي عليه‌السلام ذلك اليوم (١).

والطبرسي في «الاحتجاج» في آخر خبره عن أبي المفضّل الشيباني روى الخبر كما يلي :

فقال عمر : إنك لست متروكا حتى تبايع طوعا أو كرها!

فقال علي عليه‌السلام : احلب حلبا لك شطره ، اشدد له اليوم ليردّ عليك غدا ، إذا والله لا أقبل قولك ولا أحفل بمقامك ولا أبايع.

فقال أبو بكر : مهلا يا أبا الحسن ما نشك فيك ولا نكرهك (بخلاف قول عمر).

فقام أبو عبيدة إلى علي عليه‌السلام فقال له : يا ابن عمّ! لسنا ندفع قرابتك ولا سابقتك ولا علمك ولا نصرتك ، ولكنّك حدث السن (وكان لعلي يومئذ ثلاث وثلاثون سنة) وأبو بكر شيخ من مشايخ قومك ، وهو أحمل لثقل هذا الأمر! وقد مضى الأمر بما فيه! فسلّم له ، فإن عمّرك الله يسلّموا هذا الأمر إليك ، ولا يختلف عليك اثنان بعد هذا إلّا وأنت به خليق وله حقيق ، ولا تبعث الفتنة أو ان الفتنة ، فقد عرفت ما في قلوب العرب عليك!

__________________

(١) المسترشد : ٣٧٤ ـ ٣٨٠ ، ورواه ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ١ : ٢ و٤ ـ ١٣ عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي عمرة بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري الخزرجي عن أبيه عن جده. وروى صدره الطبري عن الكلبي عن أبي مخنف عن عبد الله .. ورواه الجوهري البصري في السقيفة وفدك ، وعنه المعتزلي في شرح النهج ٦ : ٥ ـ ١٢.


فأجاب أمير المؤمنين عليه‌السلام : يا معشر المهاجرين ، الله الله ، لا تنسوا عهد نبيّكم إليكم في أمري ، ولا تخرجوا سلطان محمد من داره وقعر بيته إلى دوركم وقعر بيوتكم ولا تدفعوا أهله عن حقه ومقامه في الناس.

فو الله ـ معاشر الجمع ـ إن الله قضى وحكم ـ ونبيّه أعلم وأنتم تعلمون ـ بأنا أهل البيت أحق بهذا الأمر منكم. أما كان فينا القارئ لكتاب الله ، الفقيه في دين الله ، المضطلع بأمر الرعيّة؟! والله إنه لفينا لا فيكم ، فلا تتّبعوا الهوى فتزدادوا من الحق بعدا ، وتفسدوا قديمكم بشرّ من حديثكم.

فقال بشير بن سعد الأنصاري الذي وطّأ الأرض لأبي بكر :

يا أبا الحسن (والحسن معه) لو كان هذا الأمر سمعته الأنصار منك قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلف فيك اثنان!

فقال علي عليه‌السلام : يا هؤلاء ، ما كنت أدع رسول الله مسجّى لا أواريه وأخرج انازع في سلطانه ، والله ما خفت (أو ما ظننت) أحدا يسمو له وينازعنا أهل البيت فيه ويستحلّ ما استحللتموه ، ولا علمت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ترك يوم غدير خم لأحد حجة ولا لقائل مقالا.

فارتفعت الأصوات وكثر الكلام فخشى عمر أن يصغى الناس إلى قول علي عليه‌السلام فقال له : إنّ الله يقلّب القلوب ، ولا تزال ـ يا أبا الحسن ـ ترغب عن قول الجماعة ، ثم فسخ المجلس ... فانصرفوا يومهم ذلك (١).

فالطبرسي يوافق المصدرين السابقين في فسخ المجلس بلا بيعة هنا مع فارق احتجاجه عليه‌السلام بنصّ الغدير ، إلّا أنه يتبعه بخبر سليم عن سلمان : أنه عليه‌السلام بعد تلاوته الآية في اعتذار هارون من موسى تناول يده أبو بكر فبايعه (٢).

__________________

(١) الاحتجاج ١ : ٩٦ ـ ٩٧.

(٢) الاحتجاج ١ : ١١٠ ، عن سليم بن قيس ٢ : ٥٩٣.


وهنا خبر آخر عن كتاب لأمير المؤمنين عليه‌السلام بعد وقعة صفين وبعد مقتل محمد بن أبي بكر ، رواه الثقفي الكوفي (المتوفى ٢٨٣ ه‍) في «الغارات» عن عبد الرحمن بن جندب عن أبيه عبد الله البجلي الصحابي (١) قال : بعد مقتل محمد بن أبي بكر واغتصاب مصر دخل الحارث بن الأعور الهمداني وحبّة العرني وحجر بن عديّ الكندي وعبد الله (بن وهب الراسبي) (٢) وعمرو بن الحمق الخزاعي ، على عليّ عليه‌السلام وهو مغموم حزين ، فقالوا له : بيّن لنا ما قولك في أبي بكر وعمر ... فقال لهم : أنا مخرج لكم كتابا أخبركم فيه عما سألتم ... فاقرؤوه على شيعتي وكونوا أعوانا على الحق. وهذه نسخة الكتاب :

من عبد الله علي أمير المؤمنين ، إلى من قرأ كتابي هذا من المؤمنين والمسلمين :

السلام عليكم ، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلّا هو. أما بعد :

فإن الله بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله نذيرا للعالمين وأمينا على التنزيل ، وشهيدا على هذه الأمة ، وأنتم يا معشر العرب يومئذ على شرّ دين وفي شرّ دار ، منيخون على حجارة خشن وحيّات صمّ ، وشوك مبثوث في البلاد. تشربون الماء الخبيث ، وتأكلون الطعام الجشب ، وتسفكون دماءكم ، وتقتلون أولادكم ، وتقطّعون أرحامكم ، وتأكلون أموالكم بينكم بالباطل. سبلكم خائفة ، والأصنام فيكم منصوبة ، والآثام بكم معصوبة ، ولا (يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)(٣) فمنّ الله عليكم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فبعثه إليكم ... فلما استكمل مدته من الدنيا توفّاه الله سعيدا حميدا ،

__________________

(١) انظر ترجمته في قاموس الرجال ٢ : ٧٤٥.

(٢) الإمامة والسياسة ١ : ١٥٤ ، وفي الغارات ١ : ٣٠٢ : عبد الله بن سبأ!

(٣) يوسف : ١٠٦.


فيا لها من مصيبة خصّت الأقربين ، وعمّت جميع المسلمين ما أصيبوا بمثلها قبلها ، ولن يعاينوا بعد أختها.

فلما مضى لسبيله صلى‌الله‌عليه‌وآله تنازع المسلمون الأمر بعده ، فو الله ما كان يلقى في روعي ولا يخطر على بالي أن العرب تعدل هذا الأمر بعد محمد عن أهل بيته ، ولا أنهم منحّوه عنّي من بعده. فما راعني إلّا انثيال الناس على أبي بكر وإجفالهم إليه ليبايعوه ... ورأيت أني أحق بمقام رسول الله في الناس ممن تولى الأمر من بعده ، فأمسكت يدي ... ولبثت بذلك ما شاء الله.

حتى رأيت راجعة من الناس رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين الله وملة محمد وإبراهيم عليهما‌السلام ، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أرى فيه ثلما وهدما ، تكون مصيبته أعظم عليّ من فوات ولاية أموركم التي إنما هي متاع أيام قلائل ، ثم يزول ما كان منها كما يزول السراب وكما يتقشّع السحاب.

فمشيت عند ذلك إلى أبي بكر فبايعته ونهضت في تلك الأحداث حتى زاغ الباطل وزهق وكانت (كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا)(١).

ورواه الطبريّ الإمامي (ق ٤ ه‍) في «المسترشد» عن الشعبي عن شريح بن هاني (٢) : أنه بعد ما افتتحت مصر (بقتل محمد بن أبي بكر) سئل عن علة قعوده وبيعته لأبي بكر .. فقال : لو قاتلتم عدوّكم كان أصلح لكم من مسألتي عنها ... ثم قال : وإني مخرج إليكم كتابا.

__________________

(١) التوبة : ٤٠ ، والخبر في الغارات ١ : ٣٠٢ ـ ٣٠٦ ، وعنه المعتزلي في شرح النهج ٦ : ٩٤. ورواه ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ١ : ١٥٤ بلا اسناد ، وكذلك الشريف الرضي في نهج البلاغة ، الخطبة ٦٢.

(٢) انظر ترجمته في قاموس الرجال ٥ : ٤٠٩.


وكتب : بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من قرأ كتابي من المؤمنين والمسلمين. أما بعد :

فإن الله بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله بشيرا ونذيرا للعالمين وأمينا على التنزيل ، وشهيدا على الأمة ، وأنتم معشر العرب على شرّ دين ، تنحتون من حجارة خشن من صفاة صمّ ، تسفكون دماءكم وتقتلون أولادكم وتقطّعون أرحامكم ، وتأكلون أموالكم بينكم بالباطل ، سبلكم خائفة ، والأصنام فيكم منصوبة. فمنّ الله عزوجل عليكم بمحمد فبعثه إليكم رسولا.

.. فلما استكمل مدته من الدنيا توفاه الله حميدا سعيدا ، مرضيّا عمله مشكورا سعيه ، فيا لها من مصيبة خصّت الأقربين وعمّت جميع المسلمين. فلما مضى لسبيله ترك كتاب الله وأهل بيته : إمامين لا يختلفان وأخوين لا يتخاذلان ومجتمعين لا يفترقان.

.. فو الله ما كان يلقى في روعي ولا يخطر على بالي : أن العرب تعدل هذا الأمر بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله عنّي! فلما أبطئوا بالولاية عليّ وهمّوا بإزالتها عنّي ، وثبت الأنصار ـ وهم كتيبة الإسلام ـ فقالت : إذا لم تسلّموها لعلي فصاحبنا سعد بن عبادة أحق بها من غيره! فو الله ما أدري إلى من أشكو؟ إما أن تكون الأنصار ظلمت حقّها ، وإما أن يكونوا ظلموني ، بل حقي المأخوذ وأنا المظلوم.

وقال قائل من القوم : إن رسول الله استخلف أبا بكر في حياته ؛ لأنه أمره أن يصلّي بالناس ، والصلاة هي إمامة! فعلام المشورة فيه إن كان رسول الله استخلفه؟

.. فبينا أنا على ذلك إذ قيل : قد انثال الناس على أبي بكر واجفلوا عليه ليبايعوه! وما ظننت أنه تخلف عن جيش أسامة ؛ إذ كان النبيّ قد أمّره عليه وعلى صاحبه ، وقد كان أمر أن يجهّز جيش أسامة.

فلما رأيته قد تخلّف وطمع في الإمارة ، ورأيت انثيال الناس عليه ... ورأيت أني أحق بمقام محمد في الناس ممن قد فرض نفسه ... فأمسكت يدي ولبثت ما شاء الله.


حتى رأيت راجعة من الناس رجعت عن الإسلام وأظهرت ذلك ، يدعون إلى محو دين الله وتغيير ملة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وقعدت أن أرى فيه ثلما وهدما ، تكون مصيبته عليّ أعظم من فوت ولاية أموركم ، التي إنما هي متاع أيام قلائل ، ثم يزول ما كان منها كما يزول السراب ، وينقشع كما ينقشع السحاب.

ورأيت الناس قد امتنعوا بقعودي عن الخروج إليهم ؛ فمشيت عند ذلك إلى أبي بكر فتألّفته (!) ولو لا أني فعلت ذلك لباد الإسلام ، فنهضت في تلك الأحداث حتى أناخ الباطل وكانت «كلمة الله هي العليا» (١).

فاختلفت هذه الرواية عن السابقة في جهات منها قوله عليه‌السلام : فتألّفته ، بدل : بايعته ، في السابقة ، وعليه فالبيعة كانت سابقة كما في الأخبار السابقة ، وإنما الحادث ائتلافه ورفده ودعمه برأيه ومشورته.

وفيه في موضع سابق قال : ثم وقع أمر الردّة ، وامتنع كثير من الناس أن يخرجوا إلى محاربتهم ، فقالوا لأبي بكر : كيف نخرج وابن عم رسول الله قاعد عنك؟!

فضرع أبو بكر إلى عثمان بن عفان وسأله أن يكلّم عليّ بن أبي طالب ويسأله «بيعته» فإنه لو لا مخافة اضطراب الأمر عليه لجعلها لعليّ!

فعندها مشى عثمان إلى عليّ عليه‌السلام فقال له : يا ابن عمّ رسول الله ، إنّه لا يخرج إلى قتال هذا العدوّ أحد وأنت قاعد.

قال : رواه الواقدي عن عبد الرحمن بن جعفر عن ابن عون قال : لما ارتدّت العرب مشى عثمان إلى عليّ عليه‌السلام فقال له : يا ابن عمّ رسول الله ، إنه لا يخرج أحد

__________________

(١) المسترشد : ٤٠٨ ـ ٤١٢.


في قتال هذا العدوّ وأنت لم تبايع ، وأنت تراقب الأمور كما ترى ، وعسى الله أن يجعل فيما ترى خيرا ، وإني أخشى من الأمر أن يعظم فيأتي بما فيه الزوال.

فلم يزل عثمان بعليّ حتى مشى به إلى أبي بكر ، وسرّ بذلك من حضر من المسلمين ، وخرجت به الركبان في كل وجه ، وجدّ الناس في القتال (١).

بلا نصّ على البيعة كما ترى ، وإن كان البلاذري أضافها فقال : لما ارتدت العرب مشى عثمان إلى علي فقال : يا ابن عمّ ، إنه لا يخرج أحد إلى قتال هذا العدوّ وأنت لم تبايع ، فلم يزل به حتى مشى إلى أبي بكر فبايعه (٢).

ونرى ترجيح النص السابق للواقدي بلا نصّ على البيعة ، وقوله لعلي عليه‌السلام : وأنت لم تبايع ، بمعنى لم ترتّب الآثار العملية عليها ، يدعوه إلى المراودة والمساعدة.

وما مرّ في لفظ الطبريّ الإماميّ : ضرع أبو بكر إلى عثمان ... جاء في لفظ الزهري محرّفا : ضرع علي إلى مصالحة أبي بكر لما توفيت فاطمة وانصرفت وجوه الناس عنه (٣).

بل الصحيح ما مرّ عن الطبريّ الإمامي.

ويؤيّد ذلك ما مرّ صدره عن المرتضى عن الثقفي عن الحسن المثنّى : أنّ بني أسلم أبت أن تبايع حتى يبايع بريدة ... فقال لهم علي عليه‌السلام : إنّ هؤلاء

__________________

(١) المسترشد : ٣٨٣. وأطول منهما ما جاء في كشف المحجة : ١٧٣ ـ ١٨٩ عن رسائل الكليني ، ونقل الرضيّ مقاطع منه في نهج البلاغة.

(٢) أنساب الأشراف ١ : ٥٨٧.

(٣) انظر مصادر الخبر في معالم المدرستين ١ : ١٦٤ ، ط ٥ ، بل لم يرو هذا إلّا عن الزهري ، وبالخصوص لم يرو عن طريق أهل البيت أو شيعتهم عليهم‌السلام ، وكأنهم حاولوا في ذلك أن يقولوا : إنما احتشم علي عليه‌السلام لعين الزهراء عليها‌السلام وإلّا فلا كرامة له!


خيّروني أن يظلموني حقي وابايعهم ... وارتد الناس حتى بلغت الردّة أحدا! فاخترت أن أظلم حقي وإن فعلوا ما فعلوا.

واختصره في خبر آخر : أنه قال لهم : بايعوا فإن هؤلاء خيّروني أن يأخذوا ما ليس لهم ، أو أقاتلهم وأفرّق أمر المسلمين.

وقال عليه‌السلام لبريدة : يا بريدة ؛ ادخل في ما دخل فيه الناس ، فإنّ اجتماعهم أحبّ إليّ من اختلافهم اليوم (١).

وطبيعيّ أن يكون بريدة وقومه أسلم قد بردوا واستسلموا لأمر أمير المؤمنين علي عليه‌السلام بالبيعة لأبي بكر ولو كارهين.

وبنو أسلم من سلالات خزاعة ، فروى الطبري عن الكلبي عن أبي مخنف عن أبي بكر بن محمد الخزاعي قال : إن أسلم أقبلت بجماعتها حتى تضايق بهم السكك فبايعوا أبا بكر فكان عمر يقول : لما رأيت أسلم أيقنت بالنصر (٢).

بيعة بلال :

نقل الوحيد عن جدّه المجلسي الأوّل عن بعض الكتب (؟) عن الصادق عليه‌السلام قال : إن بلالا أبى أن يبايع أبا بكر ، فأخذ عمر بتلابيبه وقال له : يا بلال ،

__________________

(١) تلخيص الشافي ٣ : ٧٨ ـ ٧٩ عن كتاب المعرفة لإبراهيم الثقفي الكوفي (٢٨٣ ه‍) ومثله في روضة الكافي بسنده عن الباقر عليه‌السلام قال : إن أمير المؤمنين عليه‌السلام تخوف على الناس أن يرتدوا عن الإسلام فلا يشهدوا أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول الله ، فكان أحبّ إليه أن يقرهم على ما صنعوا (إذ بايعوا أبا بكر) من أن يرتدوا عن الإسلام ... ولذلك كتم أمره وبايع مكرها حيث لم يجد أعوانا ، روضة الكافي : ٢٤٦ ، الحديث ٤٥٤.

(٢) الطبري ٣ : ٢٢٢ وقد مرّ الخبر سابقا ، ولكني أراه هنا أولى وأنسب وأقرب.


هذا جزاء أبي بكر منك أن أعتقك فلا تجيء تبايعه؟! فقال : إن كان أبو بكر أعتقني لله ، فليدعني لله ، وإن أعتقني لغير ذلك فها أنا ذا! وأما بيعته ، فما كنت أبايع من لم يستخلفه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والذي استخلفه بيعته في أعناقنا إلى يوم القيامة. فقال له عمر : لا أبا لك! لا تقيم معنا (١).

ففي «الاستيعاب» : أنه استأذن أبا بكر ليخرج إلى الشام ، فقال له أبو بكر : بل تكون عندي. فقال له : إن كنت أعتقتني لنفسك فاحبسني ، وإن كنت اعتقتني لله فذرني أذهب. فقال : اذهب ، فذهب إلى الشام (٢) وأذّن لأبي بكر مولى عمّار بن ياسر : سعد القرظ (٣).

__________________

(١) تعليقة الوحيد البهبهاني على منهج المقال : ٧٢ ، وفيه له شعر في ذلك قال :

بالله ـ لا بأبي بكر ـ نجوت ، ولو

لا الله قامت على أوصالي الضبع

الله بوّأني خيرا وأكرمني

وإنما الخير عند الله يتّبع

لا يلفينيّ تبوعا كل مبتدع

فلست متّبعا مثل الذي ابتدعوا

وفي نقض العثمانية للإسكافي عن ابن اسحاق والواقدي : أن رسول الله اعتقه وليس أبو بكر ، كما في قاموس الرجال ٢ : ٣٩٣.

(٢) عن الاستيعاب في قاموس الرجال ٢ : ٣٩٩ ، ولكنه قال : لا عبرة بالخبرين ؛ وذلك لأنهما يفيدان كون بلال مولى أبي بكر خلافا لابن اسحاق والواقدي كما مرّ. ولكن ابن إسحاق في السيرة روى عتق أبي بكر له عن عروة بن الزّبير ١ : ٣٤٠ ، وفي ط. الدكتور زكّار : ١٩١ ، والواقدي في المغازي ١ : ١٥٥ عدّ بلالا من موالي بني تيم.

(٣) تاريخ خليفة بن خياط : ٦٦.


بدايات الارتداد واشتدادها

روى ابن إسحاق عن عائشة قالت : لما توفي رسول الله صار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيّهم ، وظهر النفاق ، وارتدّت العرب ، واشرأبّ (تطلّع) اليهود والنصارى (١)!

ولكن الطبري روى عن سيف عن عروة ـ ويبدو أنه عن خالته عائشة أيضا ـ أنها قالت : لما مات رسول الله وفصل أسامة ارتدّت العرب ... واجتمع على طليحة عوام أسد وطيّئ فاستغلظ أمره وأمر مسيلمة الكذاب ... وارتدت غطفان ... وارتدت خواص من بني سليم. وأمسكت هوازن زكاتها ... وأول من اصطدم أبو بكر بهم عبس وذبيان قبل رجوع أسامة (٢).

وفيه عنه قبله قال : لما فصل أسامة ارتدت قبائل العرب عامة أو خاصة إلّا قريشا وثقيفا ، وقد مرّ أن أسامة خرج من المدينة في آخر ربيع الأول

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٣١٦.

(٢) الطبري ٣ : ٢٤٢ ـ ٢٤٣.


أو أول ربيع الآخر ، فذلك بعد وفاة رسول الله بأكثر من ثمانية عشر يوما. ومرّ أن وفود ارتدادهم أو أخبارهم وصلت المدينة بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله بعشرة أيام ، فذلك قبل خروج أسامة بأكثر من اسبوع. وقد مرّ الخبر عن الطبرسي عن أبان (ظ) : أنه قيل لأبي بكر : لو استعنت بجيش أسامة على العرب (١).

وأول البأس مع عبس :

بدأ الطبري برواية عن سيف عن القاسم بن محمد بن أبي بكر : أن عبسا وذبيان ومن معهما من العرب بعثوا وفودا إلى أبي بكر على أن يقيموا الصلاة ولا يؤتوا الزكاة ، فردّهم (٢).

وفيه عنه قبله : أن أول من صادم منهم عبس وذبيان عاجلوه فقاتلهم قبل عودة أسامة (٣) وفي الخبر السابق : أن عبسا اجتمعوا في الأبرق من الربذة وانضمّ إليهم ناس من بني كنانة وثعلبة ومرة فافترقت فرقة إلى ذي القصّة (وهو على بريد من المدينة نحو نجد).

فخرج إليهم أبو بكر وعلى ميمنته النعمان بن مقرّن ، وعلى ميسرته أخوه عبد الله بن مقرّن ، وعلى ساقته أخوهما سويد بن مقرّن ومعه الركاب. خرجوا ليلا فما طلع الفجر إلّا وهم والعدوّ في صعيد واحد فما ذرّ قرن الشمس حتى ولّوهم الأدبار وتركوا مراكبهم! فوضع أبو بكر النعمان بن مقرّن بعدده بذي القصة ورجع إلى المدينة ، وعادت عبس وذبيان على من فيهم من المسلمين فقتلوهم (٤).

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ٢٧٢.

(٢) الطبري ٣ : ٢٤٤.

(٣) الطبري ٣ : ٢٤٣.

(٤) الطبري ٣ : ٢٤٤ ـ ٢٤٦.


عودة عمّال الصدقات :

روى الطبري عن سيف عن عطية بن بلال : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد فرّق عمّاله في بني تميم ، فكان الزّبرقان بن بدر على عوف والرّباب من تميم ومن معهم من الأبناء (!) وصفوان بن صفوان على قبيلة بهدى ، وسبرة بن عمرو على قبيلة خضّم كلاهما من بني عمرو من تميم ، وقيس بن عاصم على مقاعس والبطون من تميم ، ووكيع بن مالك على بني مالك ، ومالك بن نويرة على بني يربوع كلاهما من بني حنظلة من تميم.

فحين بلغ الخبر بموت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى صفوان وسبرة ، قدّم سبرة صدقات قومه خضّم إلى صفوان فحملها صفوان مع صدقات قومه بهدى إلى أبي بكر. وعزم الزّبرقان على الوفاء فاتّبع صفوان بصدقات الرّباب وعوف والأبناء حتى قدم بها المدينة. وعزم قيس بن عاصم على توزيعها في المقاعس والبطون ، ثم ندم فأخرجها إلى العلاء بن الحضرمي لما توجّه إليه فتلقّاه بها (١).

وجاء في خبره السابق عن القاسم بن محمد بن أبي بكر : أن صدقات هؤلاء وصلت إلى أبي بكر في مساء عودته من ذي القصّة ، وسبق صفوان بصدقات قومه بهدى في أول الليل وسبقه سعد ابن أبي وقاص فبشر به ، وفي وسط الليل وصل الزّبرقان بصدقات الرّباب وعوف والأبناء ، وسبقه عبد الرحمن بن عوف فبشّر به ، وطرقهم في آخر الليل عديّ بن حاتم الطائي بصدقات قومه بني طيّئ ، وسبقه أبو قتادة أو ابن مسعود فبشر به. وكانت صدقات كثيرة تزيد على حاجتهم.

وذلك لتمام ستين يوما من خروج أسامة (أي في آخر جمادى الأولى أو أول جمادى الآخرة).

__________________

(١) الطبري ٣ : ٢٦٧ ـ ٢٦٨.


ثم خرج أبو بكر على تلك التعبئة نفسها حتى نزل على أهل الربذة بالأبرق ، فقاتل عبسا وبني بكر حتى طاروا ، وأقام بالأبرق أياما ، ثم جعلها حمى لخيول المسلمين ، ثم جعل سائر بلاد الربذة حمى للصدقات. وانفضّت عبس وذبيان إلى طليحة بن خويلد الأسدي في بزاخة.

ووصلت صدقات كثيرة تزيد على حاجتهم ، واستراح جند أسامة ، وثاب من حول المدينة إليها ، فخرج أبو بكر بهم وبأهل المدينة من الأنصار إلى ذي القصّة (١).

بعث خالد لابن خويلد :

فروى الطبري عن الكلبي (عن أبي مخنف ظ) : أنه جعل على الأنصار خاصّة خطيبهم ثابت قيس بن شمّاس ، وعلى الناس عامة خالد بن الوليد المخزومي إلى طليحة بن خويلد الأسدي وعيينة بن حصن الفزاري في بزاخة. وأوعب الناس مع خالد (٢) ولكنّه أمره أن يشيع في الناس مكيدة هي : أن أبا بكر سيلاقيه بعسكر آخر من ناحية خيبر ، ليرهب الأعداء ، ثم رجع إلى المدينة (٣).

__________________

(١) الطبري ٣ : ٢٤٧ ـ ٢٤٨.

(٢) كان عددهم أربعة آلاف وخمسمائة ، مختصر الدول : ٩٩ :

(٣) الطبري ٣ : ٢٥٤. هذا إلّا أن الطبريّ قدم قبل هذا خبرا عن سيف حاول فيه تفخيم الأمر وتضخيمه وتهويله إذ قال : إن أبا بكر عقد في ذي القصّة أحد عشر لواء لأحد عشر جندا : لخالد بن الوليد ، ولعكرمة بن أبي جهل ، وللمهاجر بن أبي أمية المخزوميّين ، ولعمرو بن العاص السهمي ولحذيفة بن محصن ولعرفجة بن هرثمة ، وذكر معهم العلاء بن الحضرمي على البحرين! وطريفة بن حاجز على بني سليم ومعهم هوازن ٣ : ٢٤٩ وفي ٢٦٥ ـ ٢٦٦ يروي عن ابن اسحاق : أن طريفة بن حاجز إنما استخلفه أخوه معن لما كتب إليه


ولم تكره بنو طيّئ ومعهم زعيمهم عديّ بن حاتم الطائي بيعة أبي بكر ، وكانوا مجاورين لبني أسد ومعهم بنو فزارة ، فكانوا يتلاقون فيدعوهم الطائيّون إلى طاعة أبي بكر فيقولون : لا والله لا نبايع أبا الفصيل أبدا!

ولذلك بعث عديّ بن حاتم إلى خالد بن الوليد في مسيره إلى بزاخة : أن سر إليّ فأقم عندي أياما حتى أبعث إلى قبائل طيّئ فأجمع لك منهم أكثر ممن معك إلى عدوك!

ودنا خالد من القوم فبعث عنه إلى طليحة طليعة هما عكّاشة بن محصن الأنصاري وثابت بن أقرم العجلاني حليفا لهم ، فلما دنوا منهم خرج إليهما طليحة بنفسه وأخيه سلمة فاشتغل سلمة بثابت وطليحة بعكاشة ، فما لبث أن قتل سلمة ثابتا ثم أعان أخاه طليحة على عكاشة ، فلما دنا المسلمون منهما ورأوهما قتيلين صريعين جزعوا لذلك يقولون : سيّدان من سادات المسلمين وفارسان من فرسانهم.

فلما رأى خالد ذلك قال لهم : هل لكم إلى أن أميل بكم إلى حيّ من أحياء العرب كثير عددهم شديدة شوكتهم ، لم يرجع منهم عن الإسلام أحد! فقالوا : ومن هم؟ قال : طيّئ ، فقالوا : نعم ، فانصرف بهم إلى طيّئ ، فجاء حتى نزل في مدينة سلمى أو أجأ منزل طيّئ.

وكان بين طيّئ وبين بني أسد حلف في الجاهلية ، فسأله أشياخ منهم أن لا يحاربوهم بل يكفونه قيسا.

__________________

أبو بكر أن يذهب بمن معه مددا لخالد ، وذكر معهم خالد بن سعيد بن العاص الأموي لمشارف الشام ، بينما يأتي خبره أنه أبى بيعة أبي بكر ثم بايعه فسمّاه أبو بكر لغزو الشام فأشار عليه عمر بعزله فعزله.


فقال عديّ بن حاتم : لو ترك هذا الدين أسرتي الأدنى فالأدنى من قومي لجاهدتهم عليه ، أفأمتنع من جهاد بني أسد لحلفهم! لا لعمرو الله لا أفعل!

فقال خالد : إن جهاد الفريقين جميعا جهاد ، فلا تخالف رأي أصحابك ، امض بهم إلى القوم الذين هم لقتالهم أنشط! اصمدوا إلى أيّ القبيلتين أحببتم فو الله ما قيس بأوهن الشوكتين!

وكان بنو عامر قريبا منهم يتربصون على من تكون الدّبرة؟! وكذلك سائر القبائل من سليم وهوازن (١).

المعرّة والدّبرة :

وروى الطبري الوقعة عن ابن اسحاق قال : لما اقتتلوا بقي طليحة متلفّفا بكساء له بفناء بيته من شعر وقومه يقاتلون ، ومعهم بنو فزارة بزعيمهم عيينة بن حصن ، فلما ضرس القتال وهزّت الحرب عيينة كان يكرّ مرارا على طليحة فيقول له : هل جاءك جبرئيل بعد؟ فيقول : لا ، حتى قال في الثالثة : نعم ، قال لي : إن لك رحى كرحاه وحديثا لا تنساه ؛ فقال عيينة : أظن قد علم الله أنه سيكون حديث لا تنساه! ثم صاح بقومه بني فزارة : انصرفوا فو الله إنه لكذّاب! فانصرف بنو فزارة.

وكان طليحة قد أعدّ بعيرا لا مرأته النوار ولنفسه فرس عنده ، فلما انصرف بنو فزارة وانهزم بنو أسد غشوه يقولون له : ما ذا تأمرنا؟ فوثب على فرسه وحمل امرأته وقال لهم : من استطاع منكم أن يفعل مثل ما فعلت وينجو بأهله فليفعل! فانهزموا.

__________________

(١) الطبري ٣ : ٢٥٤ ـ ٢٥٥.


وهو سلك الحوشية حتى لحق بالشام (١) فنزل على النقع في بني كلب ، ثم أسلم (٢).

وسائر القبائل :

وعندئذ قالت القبائل المتربصة : بنو عامر وسليم وهوازن : نؤمن بالله ورسوله ونسلّم لحكمه في أنفسنا وأموالنا (٣)!

فبايعهم خالد على ما بايع بني طيّئ ثم أهل بزاخة من أسد وغطفان ، ولم يقبل من أحد من طيّئ ولا أسد ولا غطفان ولا سليم إلّا أن يأتوه بالذين عدوا في حال ردّتهم على أهل الإسلام وحرّقوا فيهم ومثّلوا بهم ، فأتوه بهم ، فمثّل بالذين عدوا على المسلمين فرضخهم بالحجارة ورمى بهم من الجبال ونكّسهم في الآبار وخرّقهم بالنبال وحرّقهم بالنار (٤).

سبي خولة الحنفية :

وهي بنت جعفر بن قيس الحنفي التميمي اليربوعي ، وكانوا في بني عامر ، وكان مجّاعة بن مرارة الأسدي قد خطبها منهم فمنعوه منها ، فحقد عليهم ، فلما توفى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله واضطربت الأمور خرج مجّاعة في سريّة يطلب ثأره منهم ،

__________________

(١) الطبري ٣ : ٢٥٦.

(٢) وكان إسلامه هنالك حين بلغه أن أسدا وغطفان وعامرا قد انهزموا ثم أقروا جميعا بالإسلام خشية من سبي نسائهم وأسر ذراريهم ، فاستحقوا الأمان : ٣ : ٢٦١ ، لكنها رواية سيف!

(٣) الطبري ٣ : ٢٥٦.

(٤) الطبري ٣ : ٢٦٢ ، لكنها رواية سيف.


حتى اختلجها منهم! ورجعوا من بلاد بني عامر وقد استخرجوا معهم خولة ابنة جعفر فهي معهم ، وهم من أربعين إلى ستين رجلا مع مجاعة (١).

أسر قرة العامري وعيينة الفزاري :

فروى الطبري عن ابن اسحاق قال : لما فرغ خالد من أمر بني عامر وبايعهم على ما بايعهم عليه ظفر بقرّة بن هبيرة العامري زعيمهم وعيينة بن حصن الفزاري زعيمهم فأسرهما وبعث بهما إلى أبي بكر ، مجموعة أيديهما بحبل إلى أعناقهما ، وأخذ غلمان المدينة ينخسون عيينة بجرائد النخيل ويقولون له : أي عدوّ الله أكفرت بعد إيمانك؟! فيقول : ما آمنت بالله قط!

فلما قدما على أبي بكر قال له قرّة العامري : يا خليفة رسول الله ، إن عمرو بن العاص قد مرّ بي فأكرمته وقريته ومنعته ، فهو يشهد بإسلامي.

فدعا أبو بكر عمرو بن العاص فسأله عن أمره فقصّ عليه خبره وإياه ، فتجاوز أبو بكر عن قرّة العامري وعيينة الفزاري كليهما (٢).

وأضاف عن سيف : أن خالدا لما بعث بالأسارى إلى أبي بكر كتب إليه معهم :

إنّ بني عامر أقبلت بعد إعراض ودخلت في الإسلام بعد تربص ، وإني لم أقبل من أحد قاتلني أو سالمني شيئا حتى يجيئوني بمن عدا على المسلمين فقتلتهم كل قتلة.

__________________

(١) الطبري ٣ : ٢٨٦ ـ ٢٨٧ ، عن سيف بن عمر التميمي ، وروى البلاذري عن الكلبي قال : غارت بنو أسد بن خزيمة على بني حنيفة فسبوا خولة بنت جعفر ، أنساب الأشراف ٢ : ٢٠١.

(٢) الطبري ٣ : ٢٦٠.


فكتب إليه أبو بكر : جدّ في أمر الله ولا تنين ، ولا تظفرنّ بأحد قتل المسلمين إلّا قتلته ونكّلت به غيره ، ومن أحببت ممن حادّ الله أو ضادّه ممن ترى في ذلك صلاحا.

فأقام خالد على البزاخة شهرا في طلب أولئك ، فمنهم من قمّطه ورضخه بالحجارة ، ومنهم من رمى به من رءوس الجبال ، ومنهم من أحرق (١)! أي أقام إلى آخر جمادى الآخرة.

__________________

(١) الطبري ٣ : ٢٦٢ ـ ٢٦٣ ، عن سيف.



بدء علّة فاطمة عليه‌السلام

تفرّد «مصباح الأنوار» للشيخ هاشم بن محمد (ق ٦ ه‍) عن الباقر عليه‌السلام :

أن بدء مرض فاطمة (كان) بعد خمسين ليلة من وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) ثم ذكر خبرا آخر.

عنه عليه‌السلام أيضا : أن فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مكثت بعده ستين يوما ثم مرضت فاشتدّ علتها (٢) فلعل الاشتداد كان بعد عشرة من بدايته. وبناء على المختار من أخبار الرضا والباقر عليهما‌السلام وأبي مخنف في وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله في الثاني من ربيع الأول يكون اشتداد علّتها في أوائل جمادى الأولى مع عودة جيش أسامة من الشام ، ثم وقوع الحوادث على دار علي عليه‌السلام وبدايات اشتداد حركات الردّات ، ثم اضطرار الكرّار لذلك إلى البيعة للخليفة.

__________________

(١) مصباح الأنوار : ٢٥٩ مخطوط.

(٢) عن المصدر السابق.


فروى الحلبيّ قال : دخلت أمّ سلمة على فاطمة عليها‌السلام فقالت لها :

كيف أصبحت عن ليلتك يا بنت رسول الله؟ فقالت عليها‌السلام :

أصبحت بين كمد وكرب : فقد النبيّ وظلم الوصي ، هتكت والله حجبه! أصبحت إمامته مقتصّة على غير ما شرّع الله في التنزيل ، وسنّها النبيّ في التأويل. ولكنّها أحقاد بدرية وترات أحدية ، كانت عليها قلوب النفاق مكتمنة ... فلما استهدف الأمر أرسلت علينا شآبيب الآثار من مخيّلة الشقاق ، فتقطع وتر الإيمان من قسيّ صدورها. وليثبتن عليّ على ما وعد الله من حفظ الرسالة وكفالة المؤمنين. أحرزوا عائدتهم غرور الدنيا ، بعد انتصار ممن فتك بآبائهم في مواطن الكروب ومنازل الشهادات (١) ولعل هذا كان في أوائل اشتداد علّتها.

ولما اشتدّ علتها :

ولما اشتدّ علتها ، ولعله بعد العاشر من جمادى الأولى ، روى الصدوق بطريقين عن علي والحسين عليهما‌السلام قالا : لما اشتدّت علة فاطمة اجتمع إليها نساء المهاجرين والأنصار فقلن لها : كيف أصبحت يا بنت رسول الله من علتك؟

فقالت : أصبحت والله عائفة لدنياكم ، قالية لرجالكم ، لفظتهم بعد أن عجمتهم ، وشنأتهم بعد أن سبرتهم. فقبحا لفلول الحدّ ، وخور القناة ، وخطل الرأي ، و (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ)(٢).

لا جرم لقد قلّدتهم ربقتها ، وشتتّ عليهم عارها ، فجدعا وعقرا وسحقا للقوم الظالمين.

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٢٣٤.

(٢) المائدة : ٨٠.


ويحهم أنّى زحزحوها عن رواسي الرسالة ، وقواعد النبوة (والدلالة) ومهبط (ملك) الوحي الأمين ، والطّبين (الخبير) بأمر الدنيا والدين! (أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ)(١).

وما نقموا من أبي حسن؟! نقموا ـ والله ـ منه نكير سيفه ، وشدّة وطأته ، ونكال وقعته ، وتنمّره في ذات الله عزوجل.

والله لو تكافّوا عن زمام نبذه (إليه) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لاعتلقه ولسار بهم سيرا سجحا ، لا يكلم خشاشه ، ولا يتعتع راكبه ، ولأوردهم منهلا نميرا فضفاضا ، تطفح ضفتاه (ولا يترنّح جانباه) ولأصدرهم بطانا ، قد تخيّر لهم الرّي ، غير متحلّ منه بطائل إلّا بغمر الماء وردعة سورة الساغب ، ولفتحت عليهم بركات السماء والأرض ، وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون.

ألا هلمّ فاسمع «وما عشت أراك الدهر العجب» وإن تعجب فقد أعجبك الحادث : إلى أيّ سناد استندوا؟ وبأي عروة تمسّكوا؟ استبدلوا الذنابى والله بالقوادم ، والعجز بالكاهل! فرغما لمعاطس قوم (يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)(٢) ، (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ)(٣) ، (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)(٤).

أما لعمرو إلهك لقد لقحت ، فنظرة ريثما تنتج ثم احتلبوا طلاع القعب دما عبيطا وذعافا ممقرا ، هنالك (يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ)(٥) ويعرف التالون غبّ

__________________

(١) الزمر : ١٥.

(٢) الكهف : ١٠٤.

(٣) البقرة : ١٢.

(٤) يونس : ٣٥.

(٥) الجاثية : ٢٧.


ما أسّس الأولون ، ثم طيبوا عن أنفسكم نفسا واطمئنّوا للفتنة جأشا ، وأبشروا بسيف صارم وهرج شامل واستبداد من الظالمين ، يدع فيئكم زهيدا وزرعكم حصيدا ، فيا حسرتا لكم ، وأنّى بكم فقد عميت (عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ)(١) والحمد لله ربّ العالمين ، وصلاته على محمد خاتم النبيّين وسيّد المرسلين (٢).

وروى الطبرسيّ الخطبة عن سويد بن غفلة ، وقد دخل المدينة يوم دفن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فزاد عنه قال : فأعادت النساء قولها عليها‌السلام على رجالهن ، فجاء إليها قوم من المهاجرين والأنصار معتذرين وقالوا : يا سيّدة النساء ، لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر قبل أن يبرم العهد ويحكم العقد ، لما عدلنا عنه إلى غيره!

فقالت عليها‌السلام : إليكم عنّي! فلا عذر بعد تعذيركم ولا أمر بعد تقصيركم (٣).

ولعلّ هذه الأخبار هي التي أثارت الشيخين لعيادتها.

__________________

(١) هود : ٢٨. والخبر في معاني الأخبار : ٣٥٤ ـ ٣٥٦ بمعاني مفرداتها. وروى الخطبة الطبري الإمامي في دلائل الإمامة بسنده عن الصادق عن أبيه عن آبائه عن الحسين عليهم‌السلام : ٣٠. ورواها الطوسي في أماليه : ٣٧٤ ـ ٣٧٦ الحديث ٨٠٤ بسنده عن الزهري عن ابن عباس. ورواها ابن أبي طيفور الخراساني البغدادي (المتوفى ٢٨٠ ه‍) بسنده عن عطيّة العوفي الكوفي التابعي في كتابه : بلاغات النساء : ١٩ ـ ٢٠.

(٢) هذه الخاتمة من رواية المعتزلي عن الجوهري (المتوفى ٣٢٣ ه‍) من كتابه السقيفة وفدك في شرح النهج ١٦ : ٢٣٣. والجوهري رواها بسنده عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها عليهما‌السلام ، كالصدوق. وعن الجوهري الإربلي في كشف الغمة ٢ : ١١٩ ، ١٢٠ بخاتمتها.

(٣) الاحتجاج ١ : ١٤٩ منفردا بها ، ونقل الخطبة عن أكثر هذه المصادر المجلسي في بحار الأنوار ٤٣ : ١٥٨ ـ ١٦٣ ثم شرحها إلى ١٧٠.


فعادها الشيخان :

روى الهلالي العامري في حديث ابن عباس لجمع من الشيعة في بيته قال :

كان علي عليه‌السلام يصلّي في المسجد الصلوات الخمس (فلما مرضت فاطمة كان) كلّما صلّى قال له أبو بكر وعمر : كيف بنت رسول الله؟ فلما ثقلت قالا له : قد كان بيننا وبينها ما قد علمت ، فإن رأيت أن تأذن لنا فنعتذر إليها؟ قال : ذاك إليكما.

ودخل علي عليه‌السلام على فاطمة فقال لها : إن أبا بكر وعمر بالباب يريدان أن يسلّما عليك فما ترين؟

فقالت : البيت بيتك والحرّة زوجتك ، فافعل ما تشاء. فقال لها : فشدي قناعك ، فشدته وحوّلت وجهها إلى الحائط.

فدخلا وسلّما وقالا : ارضي عنّا رضي الله عنك! فقالت لهما : ما دعاكما إلى هذا؟ فقالا : اعترفنا بالإساءة ورجونا أن تعفي عنّا وتخرجي سخيمتك!

فقالت : فإن كنتما صادقين فأخبراني عمّا أسألكما عنه ، فإني لا أسألكما عن أمر إلّا وأنا عارفة بأنّكما تعلمانه ، فإن صدقتما علمت أنكما صادقان في مجيئكما. قالا : سلي عمّا بدا لك.

قالت : نشدتكما بالله هل سمعتما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول :

«فاطمة بضعة منّي فمن آذاها فقد آذاني» قالا : نعم ، فرفعت يدها إلى السماء فقالت : اللهم إنهما قد آذياني ، فأنا أشكوهما إليك وإلى رسولك ، لا والله لا أرضى عنكما أبدا حتى ألقى رسول الله فأخبره بما صنعتما فيكون هو الحاكم فيكما.

فعند ذلك دعا أبو بكر بالويل والثبور وجزع جزعا شديدا.

فقال له عمر : يا خليفة رسول الله تجزع من قول امرأة (١)؟!

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٨٦٩.


وروى الصدوق الخبر بتفصيل أكثر بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال :

لما مرضت فاطمة ... استأذنا عليها عائدين فأبت أن تأذن لهما ، فعاهد الله أبو بكر : أن لا يظلّه سقف بيت حتى يدخل على فاطمة ويترضّاها! وبات ليلة في البقيع! فأتى عمر عليا عليه‌السلام وقال له : إن أبا بكر قد كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الغار فله صحبة ، وهو شيخ رقيق القلب! وقد أتينا فاطمة مرارا نريد الإذن عليها فنتراضى! وهي تأبى أن تأذن لنا لندخل عليها ، فإن رأيت أن تستأذن لنا عليها فافعل. قال : نعم.

فدخل علي على فاطمة فقال لها : يا بنت رسول الله ، قد كان من هذين الرجلين ما قد رأيت ، وقد تردّدا مرارا كثيرة ورددتيهما ولم تأذني لهما ، وقد سألاني أن استأذن لهما عليك؟ فقالت : والله لا آذن لهما ولا أكلمهما من رأسي كلمة حتى ألقى أبي فأشكوهما إليه بما صنعاه وارتكباه مني! فقال علي عليه‌السلام : فإني قد ضمنت لهما ذلك!

قالت : فإن كنت قد ضمنت لهما شيئا فالبيت بيتك والنساء تبع للرجال ، فلا أخالف عليك بشيء ، فأذن لمن أحببت!

فخرج علي عليه‌السلام فأذن لهما (فدخلا) فلما وقع بصرهما على فاطمة عليها‌السلام سلّما عليها ، فلم ترد عليهما بل حوّلت وجهها عنهما ، فتحوّلا واستقبلاها ...

فقالت لعليّ عليه‌السلام : جاف الثوب عنّي ، وكان حولها نسوة فقالت لهنّ :

حوّلن وجهي ، فلما حوّلن وجهها تحوّلا إلى وجهها وقال لها أبو بكر :

يا بنت رسول الله ، إنما أتيناك ابتغاء مرضاتك واجتناب سخطك ، نسألك أن تغفري لنا وتصفحي عمّا كان إليك منّا!

فقالت لهما : لا أكلمكما من رأسي كلمة واحدة أبدا حتى ألقى أبي فأشكوكما إليه وأشكو صنيعكما وفعالكما وما ارتكبتما منّي!


فقالا : فإنّا جئنا معتذرين مبتغين مرضاتك فاغفري واصفحي عنا ولا تؤاخذينا بما كان منا!

فالتفتت إلى علي عليه‌السلام وقالت له : إني لا أكلمهما من رأسي كلمة حتى أسألهما عن شيء سمعاه من رسول الله ، فإن صدقاني رأيت رأيي!

فقالا : اللهم إنّ ذلك لها ، وإنا لا نقول إلّا حقا ولا نشهد إلّا صدقا!

فقالت : انشدكما بالله ، هل سمعتما النبيّ يقول :

«فاطمة بضعة مني وأنا منها ، من آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذاها بعد موتي كان كمن آذاها في حياتي ، ومن آذاها في حياتي كان كمن آذاها بعد موتي»؟ قالا : اللهم نعم. فقالت : الحمد لله. ثم قالت : اللهم إنّي أشهدك ـ فاشهدوا يا من حضرني ـ أنهما قد آذياني في حياتي وعند موتي! والله لا أكلمكما من رأسي كلمة حتى ألقى ربي فأشكوكما بما صنعتما بي وارتكبتما مني!

فدعا أبو بكر بالويل والثبور وقال : ليت أمّي لم تلدني.

ولكن عمر قال له : عجبا للناس كيف ولّوك أمورهم وأنت شيخ قد خرفت! تجزع لغضب امرأة وتفرح برضاها! وما لمن أغضب امرأة؟!

وقاما وخرجا (١).

ورواه ابن قتيبة (المتوفى ٢٧٦ ه‍) وقال : قالت : فإني أشهد الله وملائكته : أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ، ولئن لقيت النبيّ لأشكونّكما إليه!

فقال أبو بكر : أنا عائذ بالله تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة ، ثم انتحب أبو بكر باكيا ، وخرج باكيا وهي تقول له : والله لأدعونّ الله عليك في كل صلاة أصليها (٢).

__________________

(١) علل الشرائع ١ : ٢٢٠ ـ ٢٢٣ ، الباب ١٤٩.

(٢) الإمامة والسياسة ١ : ١٤.


وجاءها العبّاس عائدا :

وكأنّها عليها‌السلام بعد هذا ثقلت حتى لم تأذن لأحد حتى عمّها العباس.

ذلك ما رواه الطوسي بسنده عن الباقر عليه‌السلام عن أبيه عن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه قال : مرضت فاطمة عليها‌السلام وثقلت حتى جاءها العباس بن عبد المطلب عائدا فقيل له : إنها ثقيلة حتى لا يدخل عليها أحد! فانصرف.

فأرسل رسولا إلى علي عليه‌السلام وأنا حاضر عنده يقول له : يا ابن أخ ، عمّك يقرئك السلام ويقول لك : قد فجعني من الغمّ بشكاة حبيبة رسول الله وقرة عينه وعيني فاطمة ما هدّني ، واني لأظنّها أولنا لحوقا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله! والله يختار لها ويحبوها ويزلفها لديه ، فإن كان من أمرها ما لا بدّ منّه فأنا ـ لك الفداء ـ أجمع لك المهاجرين والأنصار حتى يصيبوا الأجر في حضورها والصلاة عليها ، وفي ذلك جمال للدين!

فقال علي عليه‌السلام لرسوله : أبلغ عمّي السلام وقل له : لا عدمت إشفاقك وتحنّنك ، وقد عرفت مشورتك ، ولرأيك فضله. وإن فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم تزل مظلومة من حقها ممنوعة ، وعن ميراثها مدفوعة ، لم تحفظ فيها وصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا رعي فيها حقّه ولا حق الله عزوجل ، وكفى بالله حاكما ومن الظالمين منتقما! وإني أسألك يا عمّ أن تسمح لي بترك ما أشرت به ، فإنها وصّتني بستر أمرها.

قال عمار : فلما سمع العباس من رسوله ما قاله علي عليه‌السلام قال : يغفر الله لابن أخي ، وإنه لمغفور له ، إنّ رأي ابن أخي لا يطعن فيه. إنه لم يولد لعبد المطلب مولود أعظم بركة من علي إلّا النبيّ ، إنّ عليا لم يزل أسبقهم إلى كل مكرمة ، وأعلمهم بكل قضية ، وأشجعهم في الكريهة ، وأشدّهم جهادا للأعداء في نصرة الحنيفية ، وأول من آمن بالله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

__________________

(١) أمالي الطوسي : ١٥٥ ـ ١٥٦ ، الحديث ٢٥٨.


وصايا الزهراء عليها‌السلام :

ظهر من الخبر السابق سبق بعض وصايا الزهراء إلى علي عليهما‌السلام قبله.

وأقدم ما بأيدينا في ذلك ذيل الخبر السابق عن الهلالي العامري عن ابن عباس قال :

لما اشتدّ بها الأمر دعت عليا وقالت : يا ابن عمّ ، ما أراني إلّا لما بي ، وأنا أوصيك .. وأن لا يشهد أحد من أعداء الله جنازتي ولا دفني ولا الصلاة عليّ. وأن تتزوّج بنت أختي زينب (١) تكون لولدي مثلي (٢).

وفي «مصباح الأنوار» عن الصادق عليه‌السلام قال : لما حضرت فاطمة الوفاة بكت ، فقال لها أمير المؤمنين عليه‌السلام : يا سيدتي ما يبكيك؟ قالت : أبكي لما تلقى بعدي.

فقال لها : لا تبكي ، فو الله إن ذلك لصغير عندي في ذات الله! فأوصته أن لا يؤذن بها الشيخين (٣).

وفيه عنه عليه‌السلام : أنها لما احتضرت أوصت عليا عليه‌السلام فقالت :

إذا أنا متّ فتولّ غسلي وجهّزني وصلّ عليّ وأنزلني في قبري وألحدني وسوّ التراب عليّ ، واجلس عند رأسي قبالة وجهي (٤) فأكثر من تلاوة القرآن والدعاء فإنها ساعة يحتاج الميت فيها إلى أنس الأحياء ، وأنا أستودعك الله ،

__________________

(١) أمامة ابنة أختها زينب ، بنت أبي العاص بن الربيع الأموي.

(٢) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٨٧٠ ، ومثل الأخير في مصباح الأنوار : ٢٥٩ عن الباقر عليه‌السلام.

(٣) كما في بحار الأنوار : ٤٣ عن مصباح الأنوار : ٢٦٢ مخطوط.

(٤) كذا هنا لأنها معصومة ، وكذا سائر المعصومين ، وإلّا فليس الأدب المندوب قبالة الوجه بل خلفه.


وأوصيك في ولدي خيرا. وكان عندها أم كلثوم فضمّتها إليها وقالت له : إذا بلغت فلها ما في المنزل ، ثم الله لها (١).

وقد مرّ في الملتحقين بأحد وشهدائها : أن حبرا من أحبار اليهود في المدينة يدعى مخيريق من بني ثعلبة بن فطيون أسلم وله سبعة بساتين حوائط فأوصى بها للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقاتل معه في أحد وقتل ، والحوائط هي : البرقة والحسنى والدّلال والصافية ، والعوّاف والميثب ومشربة أمّ إبراهيم (٢).

فروى الكليني عن الرضا عليه‌السلام : أن هذه الحوائط السبع كانت وقفا وكان رسول الله يأخذ منها ما ينفق على أضيافه والتبعة تلزمه فيها (٣).

وروى بطريقين عن الباقر والصادق عليهما‌السلام : أن فاطمة عليها‌السلام أوصت بحوائطها هذه السبعة إلى علي بن أبي طالب ، فإن مضى فإلى الحسن ، فإن مضى فإلى الحسين ، فإن مضى الحسين فإلى الأكبر من ولدها. كتبها علي بن أبي طالب وشهد بها المقداد بن الأسود الكندي والزبير بن العوام (٤).

__________________

(١) كما في بحار الأنوار ٨٢ : ٢٧ عن مصباح الأنوار : ٢٥٧. وفيه عنه عن الحسن عليه‌السلام : أن عليا عليه‌السلام كتب وصيتها بيده فكتب : ثم إني أوصيك في نفسي .. إذا أنا متّ فغسّلني بيدك وادفني ليلا. ١٠٣ : ١٨٥.

(٢) مناقب آل أبي طالب ١ : ٢١٩ ، ورواها المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ١٣٠ عن المعتزلي عن الواقدي ، والخبر في مغازي الواقدي ١ : ٢٦٣.

(٣) فروع الكافي ٧ : ٤٧ ، الحديث الأول ، الباب ٣٥ وهذا هو ما رواه الصدوق مرسلا في كتاب من لا يحضره الفقيه ٤ : ٢٤٤ باب الوقف والصدقة ، الحديث ٥٥٧٩. والطوسي في التهذيب ٩ : ١٤٥ ، الحديث ٥١ ، الباب ٣.

(٤) فروع الكافي ٧ : ٤٨ ـ ٤٩ ، الحديث ٥ ـ ٦ ، الباب ٣٥ ، وفي التهذيب ٩ : ١٤٤ ، الحديث ٥٠ ـ ٥١ ، الباب ٣.


وإذ كانت عليها‌السلام أوصت إلى عليّ عليه‌السلام أن يتزوّج من بعدها بابنة أختها أمامة (١) لذا فقد أوصت لها بشيء ، كما أوصت لكل واحدة من نساء بني هاشم باثنتي عشرة أوقية (فضة) ولكل واحدة من أزواج النبيّ كذلك (٢).

وقالت لعلي عليه‌السلام : إذا توفّيت فلا تدفنّي إلّا ليلا ، ولا تعلم أحدا إلّا أمّ أيمن وأمّ سلمة وفضة ، ومن الرجال العباس وسلمان وأبا ذر والمقداد وعمارا وحذيفة وابنيّ ولا تعلم أحدا قبري (٣).

ساعة الوفاة :

واختلفت الروايات في وقت الوفاة : فروى الإربلي عن الصدوق في كتاب مولد فاطمة عليها‌السلام : أنها ماتت بعد العصر (٤).

وروى الفتال النيشابوري في «روضة الواعظين» مرسلا : أنها لما توفيت اجتمع الناس وعلي ومعه الحسنان عليهم‌السلام جلوس إذ خرج أبو ذر فقال : انصرفوا ،

__________________

(١) فروع الكافي ٥ : ٥٥٥ ، الحديث ٦ ، الباب ١٩٠ ، عن الباقر عليه‌السلام.

(٢) دلائل الإمامة : ٤٢.

(٣) دلائل الإمامة : ٤٤ ، وقريب منه في أمالي الطوسي : ١٠٩ ، الحديث ١٦٦ بسنده عن الحسين عليه‌السلام. وفي مصباح الأنوار عن زيد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده عليهم‌السلام كما عنه في بحار الأنوار ١٠٣ : ١٨٥ ، الحديث ١٤. ونقل مثله الحلبي في مناقب آل أبي طالب ٣ : ١١٤ ، عن الواقدي ، وبطريقين عن عروة عن عائشة. وعن ابن عباس مثله.

(٤) كشف الغمة ٢ : ١٢٧. ونقل المجلسي خبر عبد الله بن ورقة الأزدي عن فضة الخادمة وفيه : أنها احتضرت بعد صلاة الظهر ، بحار الأنوار ٤٣ : ١٧٨ ، ولكنه قال : لم آخذه من أصل يعوّل عليه!


فإنّ ابنة رسول الله قد أخّر إخراجها في هذه العشيّة. فانصرف الناس (١).

والمرويّ عن الإمام الصادق عليه‌السلام ثلاثة أخبار ، أولها : ما جاء في «مصباح الأنوار» عنه عن آبائه عليهم‌السلام : ماتت فاطمة عليها‌السلام ما بين المغرب والعشاء (٢).

وثانيها : ما جاء في «دلائل الإمامة» بسنده عنه عليه‌السلام : فلما كانت الليلة التي أراد الله أن يقبضها إليه (٣).

وثالثها : ما رواه الصدوق في «علل الشرائع» بسنده عنه عليه‌السلام قال : قضت نحبها وهم في جوف الليل (٤).

وكأن الشيخ هاشما في «مصباح الأنوار» لم يقف على هذا الخبر ، فبعد أن روى عن الصادق عليه‌السلام : أن فاطمة ماتت ما بين المغرب والعشاء ، روى عن عبد الله بن الحسن عن أبيه عن جده علي عليه‌السلام أن فاطمة لما احتضرت نظرت نظرا حادّا ثم قالت : السلام على جبرئيل ، السلام على رسول الله ، اللهم مع رسولك ، اللهم في رضوانك وجوارك ودارك دار السلام ، ثم قالت : أترون ما أرى؟ فقيل لها : ما ترين؟ قالت : هذا جبرئيل ، وهذا رسول الله ويقول : يا بنيّة أقدمي ، فما أمامك خير لك!

ثم روى عن زيد بن علي مختصر الخبر قال : إن فاطمة عليها‌السلام لما احتضرت سلّمت على النبيّ وعلى جبرئيل وعلى ملك الموت (٥).

__________________

(١) روضة الواعظين ١ : ١٨٣ مرسلا ، ويلاحظ عليه : أن أبا ذر خرج يقول ذلك وعلي عليه‌السلام جالس لم يدخل ولم يقل شيئا!

(٢) بحار الأنوار ٤٣ : ٢٠٠ وعليه فلا مجال لمقال أبي ذر في الخبر السابق.

(٣) دلائل الامامة : ٤٤ ، كما عنه في بحار الأنوار ٤٣ : ٣٠٩.

(٤) علل الشرائع ١ : ٢٢٢ ، الباب ١٤٩ ، الحديث ٢ وعلى هذا أيضا لا مجال لمقال أبي ذر.

(٥) بحار الأنوار ٤٣ : ٢٠٠ ، عن مصباح الأنوار ، مخطوط.


وطبيعي أن يكون زيد قد روى ذلك عن أبيه عن جده الحسين عليه‌السلام كما روى عبد الله عن أبيه عن جده الحسن عليه‌السلام ، فهذه الأخبار كلّها مؤيّدة لحضور علي عليه‌السلام عند احتضار الزهراء عليها‌السلام غير غائب عنها في المسجد أو غيره كما في بعض الأخبار الأخرى.

غسل الزهراء عليها‌السلام :

وروى الصدوق عن الحسن بن علي عليهما‌السلام : أن عليا غسّل فاطمة عليهما‌السلام (١).

وروى المفيد في «الأمالي» وعنه الطوسي في أماليه أيضا عن الصدوق بسنده عن الإمام السجاد عن أبيه الحسين عليهما‌السلام قال : لما مرضت فاطمة وصّت إلى علي أن يتولى أمرها ... فتولى ذلك أمير المؤمنين عليه‌السلام (٢).

وروى الحميري في «قرب الإسناد» بسنده عن الصادق عن أبيه الباقر عليه‌السلام مثله (٣). وعنه عليه‌السلام في مصباح الأنوار قال : وأوصته بغسلها وجهازها ففعل (٤).

وروى الكليني بسنده عن المفضل بن عمر الجعفي قال : سألت الصادق عليه‌السلام : من غسّل فاطمة؟ فقال : ذاك أمير المؤمنين ... فإنها صدّيقة فلم يكن يغسّلها إلّا صدّيق (٥).

__________________

(١) كشف الغمة ٢ : ١٢٨ ، عن كتاب مولد فاطمة للصدوق.

(٢) أمالي المفيد : ٢٨١ ، والطوسي : ١٠٩ ، الحديث ١٦٦ ، وهو الخبر الذي رواه الكليني في أصول الكافي ١ : ٤٥٨ ، باختصار للمقدمة ، والرضي في نهج البلاغة خ ٢٠٢ بدون المقدمة.

(٣) قرب الإسناد : ٨٨ ، الحديث ٢٨١.

(٤) بحار الأنوار ٤٣ : ٢٠١ ، عن مصباح الأنوار.

(٥) أصول الكافي ١ : ٤٥٩ ، الحديث ٤ ، باب مولد الزهراء فاطمة ، وفي كتاب من لا يحضره الفقيه ١ : ١٤٢ ، الباب ٢٣ ، الحديث الأخير ، والتهذيب ١ : ٤٤٠ ، الباب ٢٣ ،


وفي خبر «علل الشرائع» بسنده عنه عليه‌السلام أيضا قال : فلما قضت نحبها أخذ عليّ في جهازها من ساعته كما أوصته (١).

ومرّ في وصاياها وصيتها لعلي عليه‌السلام بغسلها عن «مصباح الأنوار» عن الصادق عليه‌السلام.

وعن «عيون المعجزات» للسيد المرتضى قال : روي : أن فاطمة عليها‌السلام .. تولّى غسلها وتكفينها أمير المؤمنين عليه‌السلام (٢).

وقال الإربلي في «كشف الغمة» : وإنما استدل الفقهاء على أنه يجوز للرجل أن يغسّل زوجته بأن عليا عليه‌السلام غسّل فاطمة عليها‌السلام ، وهو المشهور (٣).

وقال المجلسي : إن الأخبار الدالة على أن عليّا عليه‌السلام غسّلها كثيرة (٤).

__________________

الحديث ٦٧ ، والاستبصار ١ : ١٩٩ ، الباب ١١٧ ، الحديث ١٥ ، وهو ما نقله عن الخزاز القمي في الأحكام الشرعية الحلبي في مناقب آل أبي طالب ٣ : ٤١٣.

(١) علل الشرائع ١ : ٢٢٢ ، الباب ١٤٩ ، الحديث ٢.

(٢) بحار الأنوار ٤٣ : ٢١٢ ، عن عيون المعجزات.

(٣) كشف الغمة ٢ : ١٢٨.

(٤) بحار الأنوار ٤٣ : ١٨٨. هذا ، وقد روى المجلسي هذه الأخبار في الباب السابع من عاشر البحار ج ٤٣ : ما وقع عليها من الظلم ، وفي الحديث ١٦ جاء ذكر أسماء بنت عميس الخثعمية والتي كانت يومئذ زوج أبي بكر ، فاحتمل محقق الكتاب محمد باقر البهبودي : أن تكون هي أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية ، أو مصحّفة عن سلمى امرأة أبي رافع القبطي كما جاء ذكرها في بعض الأخبار : ٤٣ : ١٨١.

وخبر سلمى نقله الإربلي عن ابن حنبل في مسنده (٦ : ٢١٠ و٤٦١) قالت : كنت امرّضها فقالت لي : اسكبي لي غسلا فاغتسلت واضطجعت إلى القبلة وقالت : إني مقبوضة الآن وقد تطهّرت فلا يكشفني أحد. فقبضت ، فجاء عليّ فأخبرته.


__________________

ورواه عن الصدوق في كتاب مولد فاطمة مرفوعا بزيادة : فقال : إذا والله لا تكشف! فاحتملت في ثيابها فغيّبت. أي دفنت بثيابها بلا كفن!

ثم علّق الإربلي عليهما يقول : اتفاقهما من طريق الشيعة والسنّة على نقله مع كون الحكم على خلافه ، عجيب ؛ فإن الفقهاء من الفريقين لا يجيزون الدفن إلّا بعد الغسل ، إلّا في مواضع ليس هذا منه. فكيف رويا هذا الحديث ولم يعلّلاه ولا ذكرا فقهه ولا نبّها على الجواز ولا المنع ، كشف الغمة ٢ : ١٢٨.

ونقل المجلسي الخبر عن أمالي الطوسي : ٤٠٠ ، الحديث ٨٩٣ وعلّق يقول : لعلها إنما نهت عن كشف الجسد للتنظيف ولم تنه عن الغسل ٤٣ : ١٧٢ وعلق على تعليق الإربلي يقول : أما ما ذكره من ترك غسلها فالأولى أن يؤوّل بما ذكرنا سابقا : من عدم كشف بدنها للتنظيف ٤٣ : ١٨٨. ولكنه اجتهاد في مقابل النص : «فحملها بغسلها» كما في أمالي الطوسي.

والواقع : أن الخبر إنما هو من طريق السنة كما في الطوسي صريحا ، والصدوق تلويحا برفعه ، وكما في مناقب آل أبي طالب ٣ : ٤١٣ ، والذرية الطاهرة : ١٥٤ ـ ١٥٥ فلا حاجة لتكلف التصرف ، أو التأويل لصريح النقول بغير المعقول.

وإذ كان هذا الخبر عن سلمى ينفي غسلها بعد وفاتها فلا مجال لحمل اسم أسماء على سلمى.

بل روى الدولابي بسنده عن أسماء عن فاطمة قالت : «فإذا متّ فاغسليني أنت ولا يدخلنّ عليّ أحد» وإن كان في آخره : وغسّلها علي وأسماء ، الذرية الطاهرة : ١٥٤. وعنه الإربلي في كشف الغمة ٢ : ١٣٠ واختصره في : ١٢٦ وعنه في بحار الأنوار ٤٣ : ١٨٥ و ١٨٩ وفي ١٨٤ عن مناقب آل أبي طالب. والغريب أن الأربلي جمع بين هذا وبين نقله عن علي عليه‌السلام : فأمر أسماء فغسّلتها ، وأمر الحسن والحسين عليهما‌السلام يدخلان الماء ، كشف الغمة ٢ : ١٢٦ ، وعنه في بحار الأنوار ٤٣ : ١٨٦ بل نقل عنه عليه‌السلام قال لأسماء : يا أسماء غسّليها وحنّطيها وكفّنيها ، كشف الغمة ٢ : ١٢٧ ، وعنه في بحار الأنوار ٤٣ : ١٨٧.


وفي كيفية غسله لها روى في «مصباح الأنوار» عن الصادق عليه‌السلام قال : إنّ عليا أفاض عليها من الماء ثلاثا وخمسا ، وجعل في الخامسة شيئا من الكافور ، وكان يقول : اللهم إنها أمتك وبنت رسولك وصفيّك وخيرتك من خلقك ، اللهم لقنها حجّتها وأعظم برهانها ، وأعل درجتها ، واجمع بينها وبين أبيها محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) ثم كفّنها في سبعة أثواب (٢).

__________________

وقد مرّ عن الإربليّ قوله : إنما استدل الفقهاء على أنه يجوز للرجل أن يغسّل زوجته بأن عليا عليه‌السلام غسّل فاطمة عليها‌السلام وهو المشهور ، كشف الغمة ٢ : ١٢٨.

فلا خصوصية لها عليها‌السلام فيما رواه الطبري الإمامي بسنده عن أبي بصير عن الصادق عن علي عليه‌السلام قال : «قالت : إني أحللتك من أن تراني بعد موتي ، فكن مع النسوة فيمن يغسّلني». وذكرت من النسوة : جاريتها فضة وأم أيمن وأم سلمة زوج رسول الله ، عن دلائل الإمامة في بحار الأنوار ٤٣ : ٢٠٨.

بينما نقل فيه عن محمد بن همام قال : غسّلها أمير المؤمنين عليه‌السلام ولم يحضرها غيره وجاريتها فضة ، وأسماء بنت عميس وزينب وأم كلثوم والحسن والحسين عن دلائل الإمامة : ٤٦ ، وعنه في بحار الأنوار ٤٣ : ١٧١.

أما أنا فمع خبره السابق في حضور أم أيمن وأم سلمة وفضة فقط ، فلا يثبت من حضور أسماء مع كل هذا الاضطراب شيء.

(١) بحار الأنوار ٨١ : ٣٠٩ ، عن مصباح الأنوار : ٢٦١.

(٢) بحار الأنوار ٤٣ : ٢٠١ و٨١ : ٣٣٥ ، عن مصباح الأنوار : ٢٥٧ عن الصادق عليه‌السلام.

وهنا قال المجلسي في ٤٣ : ١٧٤ : وجدت في بعض الكتب خبرا في وفاتها عليها‌السلام فأحببت إيراده وإن لم آخذه من أصل يعوّل عليه : عن ورقة بن عبد الله الأزدي : أنه في الطواف رأى جارية سمراء مليحة الوجه فصيحة المنطق قالت : هي فضة أمة الزهراء عليها‌السلام! وأنها أقبلت إلى قبر أبيها محمد فلما رأت الحجرة والمئذنة (؟!) قالت : يا أبتاه بقيت والهة وحيدة وحيرانة (!) فريدة ... يا إلهي عجّل وفاتي سريعا. وأخذت تبكي ليلها ونهارها (!)


وروى المجلسي عن ابن عباس قال : لما غسّلها عليّ عليه‌السلام وضعها على السرير (١) وقال للحسن : أدع لي أبا ذر ، فدعاه ، فحملا السرير إلى المصلّى (٢)

__________________

فاجتمع شيوخ أهل المدينة إلى علي عليه‌السلام وقالوا له : إنّ فاطمة تبكي الليل والنهار ، وإنا نخبرك (كذا) أن تسألها : إما أن تبكي ليلا أو نهارا! فقال : حبّا وكرامة! فقالت : فو الله لا أسكت ليلا ولا نهارا (كذا) فبنى لها بيتا في البقيع سمي بيت الأحزان (وهذا هو مصدره الوحيد) فإذا أصبحت خرجت إلى البقيع فلا تزال باكية ، فإذا جاء الليل ساقها إلى منزلها (!) وبقيت إلى يوم الأربعين فماتت بعد صلاة الظهر ... ثم ينقل عنها عن علي عليه‌السلام قال : «أخذت في أمرها .. فلما هممت أن أعقد الرداء ناديت : يا أم كلثوم يا زينب يا سكينة! يا فضة!» ففضة تحكى عن علي عليه‌السلام أنه قال لها : «ناديت ... يا فضة!».

فيا لله من جهل ناقل أو جاعل هذا الخبر إذ انفرد بذكر سكينة في بنات علي والزهراء! ولعله لهذا قال المجلسي عنه : لم آخذه من أصل يعوّل عليه! ولكنه مع ذلك قال : أحببت إيراده! أجل هذا هو المصدر الوحيد المنفرد بدعوى كل ذلك!

(١) يكاد يكون الخبر الوحيد الذي يصرّح بالسرير في مقابل أخبار عديدة بالنعش الذي صوّرته لها الملائكة وصوّرته لعلي عليه‌السلام وأوصته به ، أو مثّلته لها أسماء بنت عميس عمّا رأته في هجرتها إلى الحبشة. وقد قال الطبرسي في إعلام الورى ١ : ٢٧٧ ، بشأن زينب بنت جحش الأسدية أولى أزواج رسول الله موتا بعده في خلافة عمر سنة (٢٠ ه‍) قال : هي أول امرأة جعل لها النعش ، جعلته لها أسماء بنت عميس يوم توفيت.

وذلك ما ذكره ابن سعد في الطبقات الكبرى ٨ : ٧٩ كما في هامش بحار الأنوار ١٨ : ٣٠٤ للمحقق محمد باقر البهبودي وقال : وأما فاطمة بضعة الرسول الأعظم فقد دفنت ليلا فلم تكن تحتاج إلى النعش للستر عليها ، وكفى بسواد الليل ساترا وقد أوصت بذلك أكيدا. ومن قبل قال بمثله الطبري ، كما في شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ٢٨٠.

(٢) كما كانت السنّة العملية لرسول الله والمسلمين يومئذ ، والمصلّى كان بباب جبرئيل الشرقي للمسجد النبوي الشريف إلى البقيع ومن هنا يعلم أن سائر من حضرها عليها‌السلام


فصلى عليها .. ورفع يديه إلى السماء ونادى : «هذه بنت نبيّك فاطمة ، أخرجتها من الظلمات إلى النور» (١).

وروى الصدوق بسنده عن الباقر عليه‌السلام قال : لما ماتت فاطمة عليها‌السلام قام عليها أمير المؤمنين عليه‌السلام (للصلاة ظ) وقال : اللهم إني راض عن ابنة نبيك ، اللهم إنها قد أوحشت فآنسها ، اللهم إنها قد هجرت فصلها ، اللهم إنها قد ظلمت فاحكم لها وأنت خير الحاكمين (٢).

وأشعل النار في جريد النخل (سعف النخل) ومشى مع الجنازة بالنار (٣).

تاريخ الوفاة :

إن أقدم ما بأيدينا من تواريخ وفاتها عليها‌السلام ما جاء عن سليم بن قيس عن ابن عباس قال : فبقيت فاطمة عليها‌السلام بعد وفاة أبيها أربعين ليلة .. ثم قبضت من يومها ... فلما كان الليل ... دفنوها (٤) من دون تعيين اليوم والشهر لوفاتها ولا لأبيها.

__________________

كانوا هناك ينتظرون الجنازة ، ولم يكونوا في الدار ، هذا وقد نقل المحدث القمي عن مصباح الأنوار : أن الصادق عليه‌السلام سئل : أين كان يصلي عليها؟ قال : في دارها ثم أخرجها ـ بيت الأحزان : ٢٦٤.

(١) بحار الأنوار ٤٣ : ٢١٥ ، عن بعض كتب المناقب القديمة.

(٢) الخصال : ٥٨٨ ، الحديث ١٢ ، بينما روى سليم بن قيس بسنده عن ابن عباس قال : لما كان الليل دعا علي العباس ... فقدّمه فصلى عليها : ٨٧٠ ، الحديث ٤٨.

(٣) علل الشرائع : ٢٢٢ ، بسنده عن الصادق عليه‌السلام.

(٤) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٨٧٠ ونقله الفريابي في تاريخ أهل البيت : ٧٢ ، وعنه في مناقب آل أبي طالب ٣ : ٤٠٦ ، مصحفا بالقرباني ، وقال الحلبي : وهو الأصح. والأربلي في كشف الغمة ٢ : ١٢٦ ، ولعله عن كتاب مولد فاطمة للصدوق. فيبقى خبر سليم هو الأول والوحيد في الأربعين يوما.


ثم روى ابن سعد في «الطبقات» عن الواقدي عن عمرو بن دينار عن الباقر عليه‌السلام : أنها توفيت بعده بثلاثة أشهر (١) كذلك بلا تعيين لتاريخهما.

ورواه الدولابي في «الذرية الطاهرة» ثم روى عن عبيد الله بن عبد الرحمن ابن أبي عمرو الأنصاري عنه عليه‌السلام قال : توفيت فاطمة بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بخمسة وتسعين ليلة ، سنة إحدى عشرة (٢) وأيضا بلا تعيين لتاريخهما.

وجاء التعيين فيما رواه الطبري الإمامي في «دلائل الإمامة» بسنده عن أبي بصير عن الصادق عليه‌السلام قال : قبضت فاطمة عليها‌السلام في جمادى الآخرة يوم الثلاثاء لثلاث خلون منه من سنة إحدى عشرة من الهجرة (٣) بلا تعيين للفاصل بينها وبين أبيها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وإليه ذهب المفيد في «مسارّ الشيعة» (٤) وحيث ذهب إلى وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في ٢٨ من صفر ، فيكون خبر بقائها (٩٥) يوما متفقا مع خبر الثالث من جمادى الآخرة ، وحيث إنّ الطبرسي في «إعلام الورى» تابع المفيد في «الإرشاد» وغيره لذلك جمع هنا بينهما فقال : روي أنها توفيت في الثالث من جمادى الآخرة وبقيت بعد النبي خمسة وتسعين يوما (٥).

فهذا هو جمع الشيخ الطبرسي ولم يرد الجمع في أيّ خبر ، وهو مبنيّ ـ كما مر ـ على ما ذهب إليه الشيخ المفيد في وفاة النبيّ في ٢٨ من صفر.

__________________

(١) الطبقات ٨ : ١٨ كما عنه في مقاتل الطالبيين : ٣١ ط النجف و٤٩ ط الصقر ـ مصر.

(٢) الذرية الطاهرة : ١٥١ ، الحديث ١٩٥ و ١٩٩ ، وكفاية الأثر : ٦٥ ، وكشف الغمة ٢ : ١٢٩ عن الدولابي.

(٣) دلائل الإمامة : ٤٥.

(٤) مسارّ الشيعة في المجموعة النفيسة : ٣١.

(٥) إعلام الورى ١ : ٣٠٠.


ولنا أن نأخذ بخبر الثالث من جمادى الآخرة ونجمع بينه وبين الأخبار القائلة. بالفاصلة ثلاثة أشهر بناء على المختار في وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله في الثاني من ربيع الأول.

وروى الكليني بسند عن أبي عبيدة الحذّاء عن الصادق عليه‌السلام قال : إن فاطمة عليها‌السلام مكثت بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خمسة وسبعين يوما (١) وبسندين عن هشام بن سالم عنه عليه‌السلام قال : عاشت فاطمة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خمسة وسبعين يوما (٢).

وجاء في «تاريخ أهل البيت» المرويّ بالعمدة عن الرضا عليه‌السلام : أنها أقامت بعد وفاة رسول الله خمسة وسبعين يوما (٣) علما بأنه في وفاته قال : قبض في شهر ربيع الأول لليلتين خلتا منه (٤) وعليه فتكون وفاتها في السابع عشر من جمادى الأولى.

ونقل المجلسيّ الخبرين عن الكليني عن أبي عبيدة الحذّاء وهشام بن سالم عن الصادق عليه‌السلام بخمسة وسبعين يوما (٥) ثم قال : ما مرّ في الخبر الصحيح : أنها عليها‌السلام عاشت بعد أبيها خمسة وسبعين يوما ... لو كان وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في الثامن والعشرين من صفر كان على هذا وفاتها في أواسط جمادى الأولى ، ولو كان في ثاني عشر ربيع الأول ... كان وفاتها في أواخر جمادى الأولى. وما رواه أبو الفرج (عن ابن سعد عن الواقدي) عن الباقر عليه‌السلام : من كون مكثها بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاثة أشهر ، يمكن تطبيقه على ما هو المشهور من كون وفاتها في ثالث جمادى الآخرة ، ويدل عليه أيضا ما مرّ من خبر أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام برواية الطبري (الإمامي) (٦).

__________________

(١) أصول الكافي ١ : ٤٥٨ ، الحديث الأول ، باب مولد الزهراء.

(٢) الكافي ٣ : ٢٢٨ و٤ : ٥٦١.

(٣) تاريخ أهل البيت : ٧٢.

(٤) تاريخ أهل البيت : ٦٨.

(٥) بحار الأنوار ٤٣ : ١٩٤ ـ ١٩٥ ، الحديث ٢٢ و٢٤.

(٦) بحار الأنوار ٤٣ : ٢١٥.


وعلى ما مرّ من المختار في وفاة النبيّ المختار صلى‌الله‌عليه‌وآله في الثاني من ربيع الأول ، وأن بداية مرضها كان بعد خمسين ليلة أي في أوائل العشر الأواخر من ربيع الثاني ، ثم اشتداد مرضها كان في أوائل جمادى الأولى مع عودة أسامة من غزو الشام ، وأن الحوادث على دارها كان بعد رجوعه بما لا يقل عن اسبوع إلى العاشر من جمادى الأولى ، وعليه فمن المستبعد جدا الأخذ بأخبار الوفاة بعد خمسة وسبعين يوما أي في أواسط جمادى الأولى أي بعد الحوادث بحدود أسبوع واحد .. بل هنا يحمل ما رواه سليم عن ابن عباس بأنها : بقيت بعد وفاة أبيها أربعين ليلة (١) ، على بقائها مريضة ، كما في صريح أخبار أخرى ، فيكون آخر الأربعين مع آخر جمادى الأولى أو أوائل الثانية.

وأين دفنت؟

لا أجد في الأخبار عن الأئمة الأطهار عليهم‌السلام أي خبر عن قبر فاطمة عليها‌السلام سوى ما رواه المشايخ الثلاثة في ثلاثة من الكتب الأربعة بإسنادهم عن أحمد البزنطي قال : سألت الرضا عليه‌السلام عن قبر فاطمة عليها‌السلام فقال : دفنت في بيتها (٢) فالكليني اكتفى بذكره الخبر.

__________________

(١) وقد مرّ أنه الخبر الأول والوحيد في الأربعين ليلة. وتبقى أخبار الخمسة وسبعين يوما يحتمل فيها أن كانت في الأصل : خمسة وتسعين.

(٢) قال : فلما زادت بنو أمية في المسجد صارت في المسجد. أصول الكافي ١ : ٤٦١ الحديث ٩ ، ونقل ابن طاوس في الإقبال ٣ : ١٦١ عن كتاب المسائل وأجوبتها من الأئمة عليهم‌السلام فيما سئل عنه مولانا الإمام الهادي عليه‌السلام عن إبراهيم بن محمد الهمداني قال : كتبت إليه : إن رأيت أن تخبرني عن بيت (بنيّة) أمك فاطمة أهي في طيبة (أو الروضة ظ) أو في البقيع؟ فكتب : هي مع جدي صلوات الله عليه وآله. فلعله يرجع إلى ما في أعلاه.


ورواه الصدوق في «الفقيه» مرسلا (١) وأسنده في «العيون» (٢) وكرّر الإشارة إليه في «الفقيه» فقال : وهذا هو الصحيح عندي .. وهو من عند الأسطوانة التي تدخل إليها من باب جبرئيل عليه‌السلام إلى مؤخر الحظيرة التي فيها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣).

واعتمادا عليه ردّ ما رواه الأربليّ من كتابه المفقود «مولد فاطمة ووفاتها» من أنهم دفنوها في البقيع فقال : جاء هذا الخبر هكذا ، والصحيح عندي أنها دفنت في بيتها (٤).

وعليه فما رواه في «الخصال» بسنده عن علي عليه‌السلام ، وكذلك الكشيّ في «الرجال» بسنده عن الباقر عنه عليه‌السلام في ذكر أبي ذر وسلمان والمقداد وعمار والحذيفة وابن مسعود وأنهم شهدوا الصلاة على فاطمة عليها‌السلام (٥) إنما يحمله على حضورهم الصلاة عليها في بيتها بلا تشييع.

إلّا أنه لم يعلّل بشيء على ما مرّ من خبره في «علل الشرائع» بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : فلما فرغ من جهازها أخرج الجنازة وأشعل النار في جريد النخل فمشى مع الجنازة بالنار حتى صلّى عليها ودفنها (٦) مما ظاهره إخراجها والمشي بها إلى البقيع.

__________________

(١) كتاب من لا يحضره الفقيه ١ : ٢٢٩ ، الحديث ٦٨٥.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٣١١ ، الحديث ٧٦.

(٣) كتاب من لا يحضره الفقيه ٢ : ٥٧٢.

(٤) كشف الغمة ٢ : ١٢٧.

(٥) الخصال ٢ : ٣٦١ ، الحديث ٥٠ ، ورجال الكشي : ٦ ، الحديث ١٣ بدون ابن مسعود ولكنهم حينئذ ستة.

(٦) علل الشرائع ١ : ٢٢٢.


وإذ روى الطوسي في «التهذيب» صحيحة البزنطي عن الرضا عليه‌السلام (١) قال : الأصوب أنها مدفونة في دارها (٢).

ولعل الطبري الإماميّ لم يقف على هذا فاكتفى بما روى عن محمد بن همّام مرسلا مضطربا قال : فغسّلها أمير المؤمنين عليه‌السلام وأخرجها إلى البقيع .. ودفنها بالروضة .. وأصبح البقيع وفيه أربعون قبرا جددا (٣) كذا مضطربا وفيه في من حضرها قال : وصلّى عليها ومعه الحسن والحسين ، ولم يعلم بها ولا حضر وفاتها ولا صلّى عليها أحد من سائر الناس غيرهم (٤) كذا منفردا خلافا لسائر الأخبار.

وكأنه هو ما جاء في «عيون المعجزات» للسيد المرتضى قال : روي أن أمير المؤمنين عليه‌السلام أخرجها ومعه الحسن والحسين ولم يعلم بها أحدا وصلّوا عليها ودفنها في البقيع وجدّد أربعين قبرا (٥) مستبعدا منه اضطرابه بقوله : ودفنها بالروضة.

وروى الفتال النيشابوري مرسلا في «روضة الواعظين» قال : أخرجها علي ومعه الحسن والحسين عليهم‌السلام ونفر من بني هاشم (العباس وولداه) وعقيل والزبير ، وخواصّه سلمان والمقداد وأبو ذر وعمار وبريدة ، وصلّوا عليها ودفنوها ، وسوّى قبرها مع الأرض وسوى حواليها سبعة قبور مزوّرة حتى لا يعرف قبرها (٦).

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٢٥٥ ، الباب ٢٥ ، حديث ٢٥.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٤١٤. وإذا دفنت في البيت فلا مجال لما يروى من وصيتها بنعش ساتر لها ، وانظر بحار الأنوار ٢٨ : ٣٠٤ الهامش.

(٣) دلائل الإمامة : ٤٦.

(٤) المصدر السابق.

(٥) عيون المعجزات كما في بحار الأنوار ٤٣ : ٢١٢.

(٦) روضة الواعظين ١ : ١٨٣.


وجمع الحلبيّ هذا الشتات فقال : وفي رواياتنا : أنه صلّى عليها أمير المؤمنين والحسن والحسين وعقيل وسلمان وأبو ذر والمقداد وعمار وبريدة. وفي رواية : والعباس وابنه الفضل. وفي رواية : وحذيفة وابن مسعود.

وروي : أنه سوّى قبرها مستويا مع الأرض. وقالوا : سوّى حواليها سبعة قبور مزوّرة حتى لا يعرف قبرها. وروى أنه : رشّ أربعين قبرا ، حتى لا يتبيّن قبرها (١).

و«كشف الغمة» للإربلي أقدم كتاب احتوى أكبر قدر من «كتاب مولد فاطمة ووفاتها» للصدوق ، ونقل عنه خبرا مرسلا قال : فغسّلوها وكفّنوها وحنّطوها ، وصلّوا عليها ودفنوها بالبقيع. وعلق الصدوق عليه قال : جاء هذا الخبر كذا ، والصحيح عندي أنها دفنت في بيتها. واستند في ذلك إلى صحيحة البزنطي عن الرضا عليه‌السلام ولكنه حيث لم يصرّح بها هنا وكأنه غاب عن الأربلي فعارضه قال : المشهور فيما نقله أرباب التواريخ والسير والناس : أنها دفنت بالبقيع (٢) ثم لم يذكر من أرباب التواريخ والسير أحدا. ولو اطّلع على الصحيحة لصححها ولم يعارضها. ولا مانع من أن يكون دفنها في بيتها ومع ذلك سوّى قبورا مزوّرة فالتبس الأمر.

هذا وقد مرّ الخبر : أنه عليه‌السلام لما غسلها ووضعها على السرير قال للحسن : ادع لي أبا ذر ، فدعاه فحملاه إلى المصلّى فصلّى عليها (٣) فالخبر وإن كان فيه بعد هذا : فحملوا السرير إلى البقيع. لكن نزولا عند صحيحة البزنطي عن الرضا عليه‌السلام يمكن القول بردّها إلى دارها ، والرجال الذين ذكروا إنما حضروا الصلاة عليها لا التشييع.

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٤١٣.

(٢) كشف الغمة ٢ : ١٢٦.

(٣) بحار الأنوار ٤٣ : ٢١٥ ، عن بعض كتب المناقب القديمة! عن ابن عباس.


تأبين أمير المؤمنين للزهراء عليهما‌السلام :

روى الكليني في «الكافي» بسنده عن الحسين عليه‌السلام قال : إن أمير المؤمنين لما قبضت فاطمة عليها‌السلام دفنها سرّا وعفا على موضع قبرها ، ثم قام فحوّل وجهه إلى قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : السلام عليك يا رسول الله عنّي ، والسلام عليك عن ابنتك وزائرتك ، والبائتة في الثرى ببقعتك ، والمختار الله لها سرعة اللحاق بك. قلّ يا رسول الله عن صفيتك صبري ، وعفا عن سيدة نساء العالمين تجلّدي ، إلّا أنّ لي في التأسّي بسنّتك في فرقتك موضع تعزّ ، فلقد وسّدتك في ملحودة قبرك ، وفاضت نفسك بين نحري وصدري. بلى وفي كتاب الله أنعم القبول : «إنا لله وإنا إليه راجعون». قد استرجعت الوديعة ، وأخذت الرّهينة ، واختلست الزهراء ، فما أقبح الخضراء والغبراء يا رسول الله ، أما حزني فسرمد ، وأما ليلي فمسهّد ، وهمّ لا يبرح قلبي أو يختار الله لي دارك التي أنت فيها مقيم. كمد مقيّح (١) وهمّ مهيّج! سرعان ما فرّق بيننا ، وإلى الله أشكو.

وستنبئك ابنتك بتظافر امتك على هضمها ، فأحفها السؤال ، واستخبرها الحال ، فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثّه سبيلا ، وستقول ويحكم الله وهو خير الحاكمين.

سلام عليك يا رسول الله سلام مودّع لا قال ولا سئم. فإن انصرف فلا عن ملالة ، وإن أقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين ، واه واها ، والصبر أيمن وأجمل. ولو لا غلبة المستولين لجعلت المقام واللبث لزاما معكوفا ولأعولت إعوال الثكلى على جليل الرزية. فبعين الله تدفن ابنتك سرّا ، وتهضم حقها وتمنع إرثها ولم يتباعد العهد ولم يخلق منك الذكر. وإلى الله

__________________

(١) الكمد : الحزن الشديد ، والقيح : مادّة الجرح بلا دم.


ـ يا رسول الله ـ المشتكى ، وفيك يا رسول الله أحسن العزاء ، صلى الله عليك ، وعليها‌السلام والرضوان (١).

عواقب دفن الليل (٢) :

جاء في خبر الصدوق في «علل الشرائع» عن الصادق عليه‌السلام ما يدل على أن صيحة الحسن عليه‌السلام بأبي بكر : انزل عن منبر أبي كانت قبل وفاة فاطمة عليها‌السلام ، إذ قال :

__________________

(١) أصول الكافي ١ : ٤٥٨ ، الحديث ٣ باب مولد الزهراء عليها‌السلام ، بسنده إلى علي بن محمد الهرمزاني عن أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام ، بينما يرويه الطوسي في أماليه : ١٠٩ الحديث ١٦٦ عن المفيد (في أماليه : ٢٨١ المجلس ٣٣ ، الحديث ٧) عن الصدوق ، ولم نجده في كتبه ولعله من كتابه المفقود : كتاب مولد فاطمة ووفاتها .. عن أبيه ، ويتحد السند مع الكليني في الكافي ، إلى علي بن محمد الهرمزاني ولكن عن علي بن الحسين عن أبيه. فيبدو سقوطه من الكافي مع تلخيص فيه لمقدمة الخبر ، ففي الأماليين : «لما مرضت فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وصّت إلى علي بن أبي طالب عليه‌السلام : أن يكتم أمرها ويخفى خبرها ولا يؤذن أحدا بمرضها. فكان يمرّضها بنفسه وتعينه أسماء بنت عميس على استسرار بذلك» زيادة على ما في الكافي ، وبزيادة : «فلما نفض يده من تراب القبر هاج به الحزن ، فأرسل دموعه على خدّيه ، وحوّل وجهه إلى قبر رسول الله فقال» بهذا اللفظ الأخير في نهج البلاغة الخطبة ٢٢٠ فهو عن طريق الصدوق. والزيادة الأولى غريبة ومنفردة ومخالفة للمعروف المشهور من عيادة النساء لها وخطبتها فيهن ، وبذلك يرجّح نقل الكليني.

(٢) أقدم خبر عن عواقب دفن الليل ما رواه سليم بن قيس ٢ : ٨٧٠ عن ابن عباس قال : قبضت فاطمة عليها‌السلام من يومها .. فأقبل أبو بكر وعمر يعزّيان عليا ويقولان له : يا أبا الحسن لا تسبقنا بالصلاة على ابنة رسول الله.

فلما أصبح الناس أقبل أبو بكر وعمر والناس يريدون الصلاة على فاطمة عليها‌السلام فقال المقداد : قد دفنّا فاطمة البارحة!


فلما أصبح أبو بكر وعمر عاودا عائدين (زائرين) لفاطمة (١) فلقيا رجلا من قريش فقالا له : من أين أقبلت؟ قال : عزّيت عليا بفاطمة! قالا : وقد ماتت؟ قال : نعم ، ودفنت في جوف الليل! فجزعا جزعا شديدا.

ثم أقبلا إلى علي عليه‌السلام فلقياه فقالا له : والله ما تركت شيئا من غوائلنا ومساءتنا ، وما هذا إلّا من شيء في صدرك علينا ، هل هذا إلّا كما غسلت رسول الله دوننا ولم تدخلنا معك (٢)! وكما علّمت ابنك أن يصيح بأبي بكر : انزل عن منبر أبي (٣).

__________________

فالتفت عمر إلى أبي بكر وقال : ألم أقل لك إنهم سيفعلون!

فقال العباس : إنها (هي) أوصت أن لا تصليا عليها!

فقال عمر : يا بني هاشم ، لا تتركون حسدكم القديم لنا أبدا ، وإن الضغائن التي في صدوركم لن تذهب! والله لقد هممت أن أنبشها فاصلي عليها.

فقال علي عليه‌السلام : والله لو رمت ذلك يا ابن صهاك لا رجعت إليك يمينك! والله لئن سللت سيفي لا غمدته دون إزهاق نفسك! فرم ذلك!

فانكسر عمر وسكت وعلم أن عليا إذا حلف صدق!

ولكنه لا ينسجم مع ما مرّ ويأتي مما دلّ على وفاتها عليها‌السلام ليلا بلا خبر من الناس.

(١) وهذا مما يؤيد أخبار وفاتها ليلا لا عصرا كما في مرسلة روضة الواعظين ١ : ١٨٣ : أخّر إخراجها.

(٢) ونحوه ما نقله المجلسي عن مصباح الأنوار عن الصادق عليه‌السلام قال : لما صلّى أبو بكر الفجر التفت إلى الناس فقال : احضروا بنت رسول الله فقد توفيت في هذه الليلة (بلا ذكر لمصدر خبره) فذهب ليحضرها فاستقبل عليا عليه‌السلام راجعا وقد خرج بها ودفنها ، فقال له : هذا مثل استيثارك علينا بغسل رسول الله وحدك!

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : هي والله أوصتني أن لا تصليا عليها ، بحار الأنوار ٨١ : ٢٥٦.

(٣) ومن هنا يظهر أن الكلام كان من عمر ، وخبر صيحة الحسن عليه‌السلام رواه البلاذري في أنساب الأشراف ٣ : ٢٦ ، الحديث ٤١ بسنده عن عروة بن الزبير رفعه قال :


فقال لهما علي عليه‌السلام : أتصدّقاني إن حلفت لكما؟ قالا : نعم. فحلف وادخلهما المسجد وقال لهما : أما الحسن ابني فقد تعلمان ويعلم أهل المدينة : أن الحسن كان يتخطّى الصفوف .. يسعى إلى النبيّ .. والنبيّ يخطب فيركبه على رقبته ويدلى رجليه على صدره حتى يرى بريق خلخاليه من أقصى المسجد ، فلا يزال على رقبته حتى يفرغ النبيّ من خطبته والحسن على رقبته ، فلما رأى الصبيّ على منبر أبيه غيره شقّ عليه ذلك ، والله ما أمرته بذلك ولا فعله عن أمري.

وأما فاطمة ، فهي التي استأذنت لكما عليها وقد رأيتما ما كان من كلامها لكما ، والله لقد أوصتني أن لا تحضرا جنازتها ولا الصلاة عليها! وما كنت الذي اخالف أمرها ووصيّتها إليّ فيكما!

فقال عمر : دع عنك هذه الهمهمة! أنا أمضي إلى المقابر فأنبشها حتى أصلّي عليها!

__________________

خطب أبو بكر يوما فجاء الحسن فقال : انزل عن منبر أبي ...

ونقله الحلبي في مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤٥ ، عن فضائل السمعاني عن أسامة بن زيد قال : جاء الحسن بن علي عليه‌السلام إلى أبي بكر وهو على منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : انزل عن مجلس أبي : قال : صدقت ، إنه مجلس أبيك .. وكذلك عن أبي السعادات وتاريخ الخطيب ـ ، ثم نقل عن الخطيب مثله عن الحسين عليه‌السلام لعمر. وذلك في تاريخ بغداد ١ : ١٤١. وروى خبر الحسن عليه‌السلام ابن حجر في الصواعق المحرقة : ١٠٧ ، عن الدار قطني البغدادي ، وعن ابن حجر في فضائل الخمسة ٣ : ٢٦٩. وتصحّف الحسن في الخبر الأول في المناقب المنشور إلى الحسين ، ولكن عنه في بحار الأنوار ٢٨ : ٢٣٢ : الحسن ، صحيحا. أما في أخبار أهل البيت عليهم‌السلام فالإشارة الوحيدة إنما هي ما جاء أعلاه عن الصادق عليه‌السلام على أبي بكر فحسب ، فهل تكرر ذلك؟ أليس بعيدا.


فقال له علي عليه‌السلام : والله لو ذهبت تروم من ذلك شيئا .. فإني لا أعاملك إلّا بالسيف قبل أن تصل إلى شيء من ذلك ، وعلمت أنك لا تصل إلى ذلك حتى يندر عنك الذي فيه عيناك! وتلاحيا واستبّا!

فاجتمع المهاجرون والأنصار وقالوا : والله ما نرضى بهذا أن يقال في ابن عمّ رسول الله وأخيه ووصيّه! وكادت أن تقع فتنة! فتفرّقا (١).

إلّا أن السيد المرتضى في «عيون المعجزات» روى مرسلا : أن الناس لما أصبحوا لام بعضهم بعضا قالوا : إنّ نبيّنا خلّف بنتا (واحدة) ولم نحضر وفاتها والصلاة عليها ودفنها ، ولا نعرف قبرها فنزورها؟!

فقال من تولّى الأمر : هاتوا من نساء المسلمين من تنبش هذه القبور (السبعة في البقيع) حتى نجد فاطمة فنصلّي عليها ونزور قبرها!

فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليه‌السلام فخرج مغضبا قد احمرّت عيناه وقد تقلّد سيفه ذا الفقار ، حتى بلغ البقيع وقد اجتمعوا فيه ، فقال عليه‌السلام : لو نبشتم قبرا من هذه القبور لوضعت السيف فيكم! فتولّى القوم (٢).

وكأنه اختصر خبر الطبري الإمامي في «دلائل الإمامة» عن محمد بن همّام قال :

إن المسلمين لما علموا وفاتها جاءوا إلى البقيع فوجدوا فيه أربعين قبرا ، فأشكل عليهم قبرها من سائر القبور ، فضجّ الناس ولام بعضهم بعضا وقالوا : لم يخلّف نبيّكم فيكم إلّا بنتا واحدة تموت وتدفن ولم تحضروا وفاتها والصلاة عليها ولا تعرفون قبرها.

__________________

(١) علل الشرائع ١ : ٢٢٢ ـ ٢٢٣ بتصرّف يسير.

(٢) عيون المعجزات ، كما في بحار الأنوار ٤٣ : ٢١٢.


فقال ولاة الأمر منهم : هاتوا من نساء المسلمين من ينبش هذه القبور حتى نجدها فنصلّي عليها ونزور قبرها!

فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليه‌السلام فخرج مغضبا قد احمرّت عيناه ودرّت أوداجه ، وعليه قباه الأصفر الذي كان يلبسه في كل كريهة ، وهو يتوكّأ على سيفه ذي الفقار حتى ورد البقيع.

فتلقّاه عمر ومن معه من أصحابه وقال له : ما لك يا أبا الحسن؟! والله لننبشنّ قبرها ولنصلينّ عليها!

فضرب علي عليه‌السلام بيده إلى جوامع ثوبه فهزّه ثم ضرب به الأرض وقال له :

يا ابن السوداء! أما حقي فقد تركته مخافة أن يرتدّ الناس عن دينهم (١) ، وأما قبر فاطمة ، فو الذي نفس عليّ بيده لئن رمت وأصحابك شيئا من ذلك لأسقينّ الأرض من دمائكم ، فإن شئت فأعرض يا عمر!

فتلقّاه أبو بكر وقال له : يا أبا الحسن ؛ بحقّ من فوق العرش (!) وبحقّ رسول الله إلّا خلّيت عنه ، فإنا غير فاعلين شيئا تكرهه!

فخلّى عنه ، وتفرّق الناس (٢).

مؤامرة قتله عليه‌السلام :

روى سليم عن ابن عباس أنه حكى نحو ما مرّ ثم قال : ثم إنهم تذاكروا فقالوا : لا يستقيم لنا أمر ما دام هذا الرجل حيّا! فقال أبو بكر : ومن لنا بقتله؟!

__________________

(١) فهذا أيضا مما يؤيد أن تركه حقه كان مخافة ارتداد العرب قبل وفاة فاطمة عليها‌السلام بخلاف ما جاء في خبر الزهري : أنه بايع بعد وفاتها.

(٢) دلائل الإمامة : ٤٦.


فقال عمر : خالد بن الوليد. فأرسلا إليه وقالا له : يا خالد ، ما رأيك في أمر نحملك عليه؟ قال : احملاني على ما شئتما ، فو الله إن حملتماني على قتل ابن أبي طالب لفعلت! فقالا : والله ما نريد غيره! قال : فإنّي له! فقال أبو بكر : إذا قمنا في الصلاة صلاة الفجر فقم إلى جانبه ومعك السيف ، فإذا سلّمت فاضرب عنقه! قال : نعم. فافترقوا على ذلك.

ثم إنّ أبا بكر لم ينم ليلته تلك ، فكّر فيما أمر به من قتل علي عليه‌السلام فعرف أنه إن فعل ذلك وقعت حرب شديدة وبلاء طويل فندم على ما أمر به ، وأصبح وأقيمت الصلاة وأتى المسجد وتقدم فصلّى حتى فرغ من تشهده فصاح قبل أن يسلّم : يا خالد لا تفعل ما أمرتك فإن فعلت قتلتك! ثم سلّم.

وكان خالد قد قام إلى جانب علي عليه‌السلام وفطن علي ببعض ذلك ، فوثب إليه وأخذ بتلابيبه وانتزع سيفه وصرعه وجلس على صدره ، واجتمع إليه الناس ليخلّصوه منه فما قدروا عليه ، فحلّفوه بقبر رسول الله فتركه وقام ، فقام خالد وانطلق إلى منزله (١).

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٨٧١ ، ٨٧٢ ، الحديث ٤٨ وفي ٦٧٩ ، الحديث ١٤ ، عن علي عليه‌السلام ولكنه ليس لما بعد وفاة فاطمة عليها‌السلام بل بعد احتجاجها لميراثها ، وشطر منه في الغيبة للنعماني : ٥٣ ، ومثله في الاستغاثة : ١٩ ـ ٢١. ونقله ابن شاذان في الإيضاح : ١٥٥ ـ ١٥٩ عن جماعة من العامة. ورواه القمي في تفسيره ٢٥ : ١٥٨ ، ١٥٩ بسنده عن الصادق عليه‌السلام أكثر تفصيلا. وفي رجال الكشي : ٣٩٥ ، الحديث ٧٤١ عن سفيان الثوري. والطبري الإمامي في المسترشد : ٤٥١ عن ابن عباس وفي : ٤٥٥ عن الباقر عليه‌السلام.

والطبرسي في الاحتجاج ١ : ١١٨ مرسلا مرفوعا مجموعا من خبري سليم والاستغاثة. وأورده وردّه القاضي المعتزلي في المغني ، وعنه المعتزلي في شرح النهج ١٧ : ٢٢٢ وقال : انفردت به الإمامية ، وفي ١٣ : ٣٠١ قال : قوم من العلوية.


زواجه عليه‌السلام بأمامة :

مرّ في أخبار وصاياها عليها‌السلام وصيتها له بأن يتزوج بعدها بابنة أختها أمامة بنت زينب ، وهي ابنة أبي العاص بن الربيع ؛ لأنها تكون أرأف بأولادها.

وكانت زينب بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد توفيت سنة سبع للهجرة (١) وتوفى بعدها زوجها أبو العاص ، وله منها عليّ وأمامة ، وكان قد أوصى بأمرها إلى الزبير بن العوّام (٢) ، فزوّجها الزبير لعلي عليه‌السلام بعد تسع ليال (٣) وإنما كان أوصى بأمرها إلى الزبير لأنه من أسد قريش ، وأم أبي العاص هالة بنت خويلد الأسدي أخت خديجة منهم.

ورزق علي عليه‌السلام منها محمدا الأوسط فقط (٤).

__________________

ونقل عن الصدوق في علل الشرائع ، ولم أجده فيه.

(١) إعلام الورى ١ : ٢٧٦ ، أو ثمان كما في تاريخ ابن الخياط : ٤٤ ومروج الذهب ٢ : ٢٩.

(٢) كما في ترجمته في الاستيعاب ، وهو اولى مما في تاريخ ابن الخياط : ٢٢ ، أنه توفى في سنة اثنتي عشرة ، حيث لا نرى له أي أثر يذكر في حوادث وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٥١ ، عن قوت القلوب للمكّي.

(٤) مناقب آل أبي طالب ١ : ٣٥٠.


تنبؤ سجاح اليربوعية

مرّ عن الطبري عن سيف : أن خالد بن الوليد أقام على البزاخة شهرا في طلب المتمردين (١) أي إلى آخر جمادى الثانية بعد وفاة الزهراء عليها‌السلام.

وكان الحارث بن سويد اليربوعي التميمي مع فصيل من بني يربوع من تميم يعيش مع بني تغلب في أرض الجزيرة (٢) في شمال العراق ، وتزوّج فيهم وتنصّر ، وولدت له ابنته سجاح ، وكانت قد تعلّمت من نصارى أخوالها بني تغلب وترسّخت في النصرانية (٣) وكانت متكهّنة تزعم أنّ سبيلها سبيل سطيح وابن سلمة والمأمون الحارثي وعمرو بن لحيّ وغيرهم من الكهّان (٤) ولكنّها بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) الطبري ٣ : ٢٦٣.

(٢) الطبري ٣ : ٢٦٩.

(٣) الطبري ٣ : ٢٧٢.

(٤) مروج الذهب ٢ : ٣٠٣.


وهي بالجزيرة في بني تغلب تنبّأت ، فاستجاب لها الهذيل بن عمران في بني تغلب ، وعقّة بن هلال في بني النّمر ، وزياد بن وتاد الإيادي في بني اياد ، والسليل بن قيس في بني شيبان ، وتركوا النصرانية ، وكلهم من بني ربيعة ، وأقبلت بهم من الجزيرة إلى بلاد قومها من بني تميم ، لتغزو بهم أبا بكر.

فلما انتهت إلى الحزن راسلت مالك بن نويرة اليربوعي فدعته إلى الموادعة وقالت : إنما أنا امرأة من بني يربوع وإن كان ملك فالملك ملككم ، فأجابها إلى الموادعة مالك بن نويرة عن بني يربوع من حنظلة ، ووكيع بن مالك عن بني مالك من حنظلة ، وسماعة (١) ليردّوها عن غزوهم في تلك الأصقاع النائية عن مركز المسلمين (٢).

قال سيف : وتوفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والزّبرقان بن بدر على الرّباب وعوف والأبناء ، وسهم بن منجاب على مقاعس ، وقيس بن عاصم على البطون ، وصفوان بن صفوان على بهدى ، وسبرة بن عمرو على خضّم كلها من قبائل بني تميم ، وهؤلاء قاوموا سجاح إلّا الزبرقان فإنه تبعها بدون قومه الرّباب.

وتشاور أصحابها معها بمن يبدؤوا فقالت : أعدّوا الرّكاب ، واستعدّوا للنهاب ثم أغيروا على الرّباب فليس دونهم حجاب! وقصدت لتنزل بالأحفار وسدّت عليهم منافذ الدّهناء.

والرّباب بنو عبد مناة وبنو ضبّة ، وهم بنو بكر وبنو ثعلبة ، فتولّى الهذيل من أصحاب سجاح عبد مناة ، وتولّى عقّة بني ثعلبة ، وتولّى بني بكر بشر ووكيع ، والتقوا وقتلت قتلى كثيرة وهزم بشر وأسر وكيع.

__________________

(١) الطبري ٣ : ٢٦٨ ـ ٢٧٠ عن سيف التميمي.

(٢) وانظر السقيفة للمرحوم المظفّر : ٢١ فما بعد.


ثم توادعت سجاح بني ضبّة فودت قتلاهم ففكوا الأسرى ومنهم وكيع ، فوادع هو ومالك بن نويرة بني ضبّة على أن ينصروهم خلافا لسجاح!

وخرجت هي عنهم في جنود الجزيرة تريد المدينة حتى بلغت النّباج ، فأغار عليهم أوس بن خزيمة في بعض بني عمرو فأسروا الهذيل وعقّة ، ثم تحاجزوا على ردّ أسراهم فينصرفوا عنهم ولا يجتازوا عليهم.

واجتمع رؤساء أهل الجزيرة بسجاح للمشورة فقالوا لها : قد عاهدنا هؤلاء القوم ، وقد صالح وكيع ومالك بن نويرة قومهما فلا يزيدون على أن نجوز في أرضهم ولا ينصروننا فما تأمريننا؟ فقالت : بني حنيفة في اليمامة!

فقالوا : إن شوكة أهل اليمامة شديدة ، وقد غلظ أمر مسيلمة!

فقالت : دفّوا دفيف الحمامة إلى اليمامة ، فإنها غزوة صرّامة ، ولا يلحقكم بعدها ملامة!

فاتّجهت إلى بني حنيفة في اليمامة ، ونزل جنودها على المياه حولها (١).

لقاء سجاح بمسيلمة :

وبلغ ذلك مسيلمة فهابها فأرسل إليها رسولا بهدية وهو يستأمنها ليأتيها ، فآمنته وأذنت له. فجاءها في أربعين من بني حنيفة ، وقال لها : لنا نصف الأرض وكان لقريش نصفها لو عدلت ، وقد ردّ الله عليك النصف الذي ردّت ، فحباك به وقد كان لها لو قبلت. فقالت : لا يردّ النصف إلّا من حنف ، أي مال. فقال مسيلمة : سمع الله لمن سمع ، وأطمعه بالخير إذ طمع ، ولا زال أمره في كل ما سرّ نفسه يجتمع (٢)!

__________________

(١) الطبري ٣ : ٢٦٧ ـ ٢٧١ ، عن سيف التميمي.

(٢) الطبري ٣ : ٢٧٢ ، عن سيف التميمي.


وكأنها أرادت أن تردّ عليه زيارته فقال لأصحابه : اضربوا لها قبّة وجمّروها لها. ففعلوا ، فلما دخلت القبة نزل إليها وسألها عما أوحى إليها فقالت : هل النساء يبتدئن؟! ولكن أنت قل ما أوحى إليك؟ قال : ألم تر إلى ربك كيف فعل بالحبلى؟! أخرج منها نسمة تسعى ، من بين صفاق (١) وحشى. قالت : وما ذا أيضا قال : إن الله خلق النساء أفراجا ، وجعل الرجال لهنّ أزاوجا .. فينتجن سخالا إنتاجا.

فقالت : أشهد أنك نبيّ! قال : فهل لك أن أتزوّجك فنأكل بقومي وقومك العرب؟! قالت : نعم. فقال : بذاك أوحي إليّ (٢) ثم واقعها ، فلما قام عنها قالت : اخطبني إلى قومي يزوّجوك فأسلم لك النبوة وأقود تميما معك. فخرج وخرجت معه فاجتمع الحيّان من حنيفة وتميم ، فقالت لهم سجاح : إنه قرأ عليّ ما أنزل عليه فوجدته حقا فاتّبعته. ثم خطبها ، فزوّجوه إياها وسألوه المهر فقال : قد وضعت عنكم صلاة العصر (٣).

وقال لها : من مؤذّنك؟ قالت : شبث بن ربعي الرياحي اليربوعي ، قال : عليّ به. فجاء فقال له : ناد في أصحابك : إنّ مسيلمة بن حبيب رسول الله قد وضع عنكم صلاتين مما أتاكم به محمد ، صلاة العشاء الآخرة وصلاة الفجر (٤).

وصالحها على النصف من غلّات اليمامة ، ورجع فحمل إليها النصف ، فاحتملته وانصرفت به إلى الجزيرة ، وخلّفت الهذيل وعقّة وزيادا ليتنجّز لها النصف

__________________

(١) الصفاق : الغشاء الرقيق تحت الجلد.

(٢) الطبري ٣ : ٢٧٣ ، عن غير سيف.

(٣) الأغاني ١٨ : ١٦٥ ـ ١٦٦ ، طبعة ساسي ، و٢١ : ٢٦ طبعة بيروت.

(٤) الطبري ٣ : ٢٧٤ ، عن الكلبي ، كذا ، وقد قالوا : إنها تنبّأت بعد النصرانية ، فما علاقة قومها بصلوات محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ بل ما علاقة أن يكون لها مؤذن يؤذّن لها. نعم يكشف ذلك عن وجود صلوات لها في تلك الأوقات بلا تفصيل في المصادر.


الباقي ، وبعد رجوع سجاح إلى أرض الجزيرة تعقّب خالد بن الوليد آثارها هناك وسمع به سماعة ووكيع بن مالك فرجعا عمّا كانا عليه مع سجاح وعادا إلى ما كانا عليه من جباية الزكوات فأخرجاها حتى استقبلا بها خالدا ، فقال لهما خالد : ما حملكما على موادعة هؤلاء القوم؟ قالا : كانت أيام تشاغل وفرص وكان لنا ثأر نطلبه في بني ضبّة (١) فقبل خالد عذرهما وتوبتهما وصدقاتهما.

وأما مالك بن نويرة :

فقد نقل المرتضى في «الشافي» : أنه كان على صدقات قومه بني يربوع واليا من قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلما بلغته وفاة النبيّ قال لهم : تربّصوا بها حتى يقوم قائم بعد النبيّ وننظر ما يكون من أمره (٢) وقال شعرا في ذلك منه :

وقال رجال : سدّد اليوم مالك

وقال رجال : مالك لم يسدّد

فقلت : دعوني لا أبا لأبيكم

فلم أخط رأيا ، في المعاد ولا البدي

وقلت : خذوا أموالكم غير خائف

ولا ناظر في ما يجيء به غدي

فدونكموها ، إنما هي مالكم

مصدّرة أخلافها لم تجدّد

سأجعل نفسي دون ما تحذرونه

وأرهنكم يوما بما قلته يدي

فإن قام بالأمر المجدّة قائم

أطعنا وقلنا : الدين دين محمد (٣)

__________________

(١) الطبري ٣ : ٢٧٥ ـ ٢٧٦ ، عن سيف التميمي.

(٢) وانظر كتاب الردة للواقدي : ١٠٤ ، وفتوح البلدان للبلاذري : ١٠٥ ، والفتوح لابن الأعثم ١ : ١٩.

(٣) أرسلها السيد المرتضى إرسال المسلّمات ، ونقلها عنه المعتزلي في شرح نهج البلاغة ١٧. ٢٠٤ ـ ٢٠٥ ، وإنما قال فيها : فأما الشعر الذي رواه المرتضى لمالك بن نويرة فهو معروف ، إلّا البيت الأخير ـ وعليه عمدة المرتضى في المقام ـ وهو غير معروف (١٧ : ٢١٣)


قال المرتضى : فصحّ أنه استبقى الصدقة في أيدي قومه رفقا بهم وتقربا إليهم إلى أن يقوم بالأمر من يدفع ذلك إليه (١).

وروى الطبري عن سيف التميمي أنه قال لقومه : يا بني يربوع ؛ إنا كنا قد عصينا أمراءنا إذ دعونا إلى هذا الدين وبطّأنا الناس عنه ، فلم نفلح ولم ننجح ، وإني قد نظرت في هذا الأمر فوجدت الأمر يتأتّى لهم بغير سياسة ، وإذا الأمر لا يسوسه الناس! فإياكم ومناوأة قوم صنع لهم ، فتفرقوا إلى دياركم وادخلوا في هذا الأمر.

فتفرّقوا على ذلك إلى أموالهم ، وخرج مالك حتى رجع إلى منزله (٢) فلم يجمع صدقات قومه ولم يستقبل بها خالدا كما فعل صاحباه قبله ، فلم يقبل ذلك منه خالد.

فبعد أن أقام خالد في طلب المتمرّدين شهرا في البزاخة (٣) قال : والله لا أنتهي حتى أناطح مسيلمة (وفي طريقه ابن نويرة).

فقال ثابت بن قيس الأنصاري أمير الأنصار : ما نحن بسائرين معك ، فهذا رأي لم يأمرك به أبو بكر ، فارجع إلى المدينة. فقال خالد : لا والله حتى أناطحه. فسار خالد ، وسارت الأنصار ليلة ثم قالوا فيما بينهم : والله لئن نصر أصحابنا

__________________

ونقل المرتضى موافق لما في كتاب الردة للواقدي بتحقيق الجبوري ، الطبعة الأولى ، بيروت ، بينما نقلت في طبقات فحول الشعراء لمحمد بن سلام الجمحي كذا :

فإن قام بالأمر المخوّف قائم

منعنا وقلنا : الدين دين محمد

وفسّر المحقق الدين بالحكومة! بتحقيق محمود محمد شاكر ، طبعة المدني بالقاهرة ، ولا أراه إلّا تحريفا.

(١) تلخيص الشافي ٣ : ١٩١ ـ ١٩٢.

(٢) الطبري ٣ : ٢٧٧ ، عن سيف التميمي.

(٣) الطبري ٣ : ٢٦٣ ، عن سيف التميمي.


لقد خسسنا ، ولئن هزموا لقد خذلناهم! فبعثوا إلى خالد : أن أقم حتى نلحقك. فأقام حتى لحقوا به ، ثم سار إلى البطاح من أرض بني تميم (١).

فروى ابن الخياط عن المدائني عن ابن إسحاق عن أبي قتادة الأنصاري قال :

كنت مع خالد حين فرغ من قتال طليحة وغطفان وهوازن وسليم ثم سار إلى بلاد بني تميم ، فقدّمنا خالد أمامه.

فانتهينا إلى أهل بيت منهم حين طفلت الشمس للغروب ، فلما غشينا القوم أخذوا السلاح فقلنا : إنا مسلمون ، فقالوا : ونحن مسلمون ، قلنا : فما بال السلاح معكم؟ قالوا : فما بال السلاح معكم؟ قلنا : فإن كنتم كما تقولون فضعوا السلاح. فوضعوا السلاح ، ثم صلّينا فصلوا (٢) إلّا أن مؤذّنهم أبا الجلال كان غائبا عنهم فلم يؤذّن ، ولم يؤذّن منهم أحد فلم يسمعوا منهم أذانا فجاؤوا بهم أسرى منهم مالك بن نويرة وبشر بن أبي سود الغدّاني ومرداس بن أديّة وهو ابن عشر سنين ، فأفلت منهم (٣) ومع مالك أهله وبنو عمومته : جعفر وعاصم وعبيد وعرين (٤) وكانوا اثني عشر شخصا (٥).

فلما أصبحوا أمر خالد بضرب أعناقهم! فقال القوم : إنا مسلمون فعلى ما ذا تأمر بقتلنا؟!

__________________

(١) تاريخ خليفة بن خياط : ٥٢ ، ونحوه في الطبري ٣ : ٢٧٦ ، عن سيف التميمي.

(٢) تاريخ ابن الخياط : ٥٢ ـ ٥٣ ، وكذلك روى خبر أبي قتادة الطبري ٣ : ٢٨٠ ، عن ابن إسحاق عن ابن أبي بكر.

(٣) تاريخ ابن خياط : ٥٣ ، عن ابن إسحاق وغيره.

(٤) الطبري ٣ : ٢٧٨ ، عن سيف التميمي.

(٥) تاريخ الإسلام للذهبي ٣ : ٣٢.


فقال خالد : والله لأقتلنّكم! فقال شيخ منهم : أليس قد نهاكم أبو بكر أن تقتلوا من صلّى للقبلة؟! قال خالد : بلى ، ولكنكم لم تصلّوا (١).

فوثب أبو قتادة إلى خالد وقال له : أشهد أنك لا سبيل لك عليهم! قال خالد : وكيف ذلك؟

قال : لأني كنت في السريّة التي وافتهم ، فلما نظروا إلينا قالوا : من أين أنتم؟ قلنا : نحن المسلمون ، فقالوا : ونحن المسلمون ، ثم أذّنا وصلّينا فصلّوا معنا (٢).

فقال خالد : صدقت يا أبا قتادة إن كانوا قد صلّوا معكم فقد منعوا الزكاة التي تجب عليهم ، فلا بدّ من قتلهم! فقدّمهم وضرب أعناقهم ولم يلتفت إلى كلام شيخ منهم (٣).

وقال أحدهم شعرا :

حرمت عليه دماؤنا بصلاتنا

والله يعلم أننا لم نكفر (٤)

فأتاه مالك بن نويرة يناظره واتبعته امرأته ، ورآها خالد فأعجبته (٥).

فقال له مالك : أتقتلني وأنا مسلم أصلّي إلى القبلة؟!

قال خالد : لو كنت مسلما لما منعت الزكاة ولا أمرت قومك بمنعها ، والله لا قلت ما في مثابتك حتى أقتلك (٦)!

__________________

(١) كتاب الردة للواقدي : ١٠٦ ، والفتوح لابن الأعثم ١ : ١٩.

(٢) كتاب الردة للواقدي : ١٠٦ ، وتاريخ ابن الخياط : ٥٣ ، عن ابن إسحاق عن ابن أبي بكر ، وفتوح البلدان للبلاذري : ١٠٣ ، والفتوح لابن الأعثم ١ : ٢١ ، والطبري ٣ : ٢٧٨.

(٣) كتاب الردة للواقدي : ١٠٦ ، والفتوح لابن الأعثم ١ : ٢٠.

(٤) كتاب الردة للواقدي : ١٠٧.

(٥) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٣١.

(٦) كتاب الردة للواقدي : ١٠٧ ، والفتوح الكبرى لابن الأعثم ١ : ٢٠٥.


وكان أبو قتادة الأنصاري وابن عمر حاضرين فكلّما خالدا في أمره فكره كلامهما.

فقال مالك له : يا خالد ، ابعثنا إلى أبي بكر فيكون هو الذي يحكم فينا ، فإنك بعثت إليه غيرنا ممن جرمه أكبر من جرمنا!

فقال خالد : لا أقالني الله إن أقلتك. وأمر ضرار بن الأزور بضرب عنقه ، فالتفت مالك إلى زوجته وكانت في غاية الجمال (١) فقال لها : أقتلتني؟ أي عرّضتني بحسن وجهك للقتل ، وكانت جميلة حسناء (٢) فضرب ضرار عنقه فقتله.

رأس مالك وجسده :

روى الطبري عن سيف التميمي بسنده قال : إن أهل العسكر جعلوا رءوس القتلى (الاثني عشر) أثافي لقدورهم! فما منهم رأس إلّا وصلت النار إلى بشرته ، ما خلا رأس مالك بن نويرة فإنه كان من أكثر الناس شعرا ، فنضجت القدر التي على رأسه وإن شعره وقى بشرته حرّ النار (٣)!

__________________

(١) فوات الوفيات ٢ : ٦٢٧ ، عن كتاب الردة للواقدي ، وكتاب الردّة لابن وثيمة ، والمختصر لأبي الفداء ١ : ٢٢١.

(٢) كما في الغدير ٧ : ١٦٠ ، عن الفائق للزمخشري ٢ : ١٥٤ ، والنهاية لابن الأثير ٣ : ٢٥٧ ، وتاج العروس ٨ : ٧٥ ، وانظر المختصر في أخبار البشر لأبي الفداء ١ : ٢٢١.

(٣) الطبري ٣ : ٢٧٩ ، هذا ولعلها كانت كرامة له تدل على أنه قتل مظلوما. والخبر رواه في الإصابة ٣ : ٣٧٧ ، عن الزبير بن بكار عن الزهري. والمختصر لأبي الفداء ١ : ٢٢١ ، والبداية والنهاية لابن كثير ٦ : ٣٢٢ ، وفوات الوفيات ٢ : ٦٢٧.


وأما جسده فقد نقل ابن حجر في «الإصابة» أن المنهال بن عصمة الرياحي التميمي أبا ليلى أم تميم زوج مالك بن نويرة جاء ومعه رجل من قومه ومعه ثوب فكفّن مالكا ودفنه (١).

وأما ابنته ليلى أم تميم زوج مالك فقد تملكها خالد وتزوّج بها من يومه ذلك (٢).

وقال ابن الأعثم : أجمع أهل العلم على أن خالدا تزوج بامرأة مالك ودخل بها (٣).

وفي ذلك قال أبو نمير السعدي :

ألا قل لحيّ أوطؤوا بالسنابك

تطاول هذا الليل من بعد مالك

قضى خالد بغيا عليه لعرسه

وكان له فيها هوى قبل ذلك

فأمضى هواه خالد غير عاطف

عنان الهوى عنها ولا متمالك

فأصبح ذا أهل ، وأصبح مالك

إلى غير أهل هالكا في الحوالك  (٤)

موقف أبي قتادة وأبي بكر وعمر :

مرّ أن خالدا لما أمر بقتلهم واتّهمهم بأنهم لم يصلّوا ساعة قط ، وثب أبو قتادة الأنصاري إلى خالد بن الوليد فقال له : أشهد أنك لا سبيل لك عليهم!

__________________

(١) الإصابة ٣ : ٤٧٨ ، بترجمة المنهال.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٣٢.

(٣) الفتوح لابن الأعثم ١ : ٢٣.

(٤) كتاب الردة للواقدي : ١٠٧ والمختصر لأبي الفداء ١ : ٢٢١ ، ووفيات الأعيان ٦ : ١٤. والحوالك جمع الحالكة : الليلة السوداء شديدة السواد.


قال خالد : وكيف ذلك؟ قال : لأني كنت في السريّة التي وافتهم ... ثم أذّنا وصلّينا فصلّوا معنا!

فقال خالد : يا أبا قتادة ، إن كانوا قد صلّوا معكم فقد منعوا الزكاة فلا بد من قتلهم (١)!

وزاد ابن خلكان وأبو الفداء : أن أبا قتادة وعبد الله بن عمر كانا حاضرين فكلّما خالدا فكره كلامهما (٢) وزبره خالد ، فغضب أبو قتادة (٣) فعاهد الله أن لا يشهد مع خالد حربا بعدها أبدا (٤).

ثم قدم أبو قتادة على أبي بكر فأخبره بمقتل مالك وأصحابه ... فكتب أبو بكر إلى خالد فقدم (٥) وقد غرز المشاقص (٦) على عمامته ، فقام إليه عمر وأخذ المشاقص من عمامته ، ثم أخذ بتلابيبه إلى أبي بكر وهو يقول له : والله لو وليت من أمور المسلمين شيئا لضربت عنقك! فلقد تحقق عندي أنك قتلت مالك بن نويرة ظلما له ، وطمعا في امرأته لجمالها (٧).

__________________

(١) بهذا اللفظ في الفتوح لابن الأعثم ١ : ٢١ ، وبمعناه في كتاب الردّة للواقدي : ١٠٦ ، وتاريخ ابن الخياط : ٥٣ ، وفتوح البلدان للبلاذري : ١٠٣ ، والطبري ٣ : ٢٧٨ و٢٧٩ و٢٨٠ عن سيف وابن إسحاق عن ابن أبي بكر ، كما في ابن الخياط.

(٢) وفيات الأعيان ٩ : ٦٦ ، والمختصر لأبي الفداء ١ : ٢٢١ ، وكنز العمال ٣ : ١٣٢.

(٣) الطبري ٣ : ٢٧٨ عن سيف.

(٤) الطبري ٣ : ٢٨٠ ، عن ابن اسحاق عن ابن أبي بكر ، وفي اليعقوبي ٢ : ١٣٢.

(٥) تاريخ ابن الخياط : ٥٣ ، عن المدائني عن الزهري.

(٦) المشقص : نصل السهم الطويل ، مجمع البحرين ٤ : ١٦٣.

(٧) الإيضاح لابن شاذان : ١٣٣ يقول : رويتم ...


وسكت خالد حتى دخل على أبي بكر فأخبره الخبر واعتذر إليه (١) فقال : يا خليفة رسول الله ، إني تأوّلت وأخطأت (٢).

فقال عمر لأبي بكر : فحق أن تقيده (٣) فقال أبو بكر : هيه يا عمر ، تأوّل فأخطأ ، فارفع لسانك عن خالد (٤).

فقال عمر : فإنه قد زنا فارجمه. قال : ما أرجمه ، فإنه تأوّل فأخطأ (٥) إلّا أنه أمره باعتزال المرأة (٦) وأدّى دية مالك بن نويرة إلى أهله من بيت المال ، وردّ أموالهم وسبيهم وأسراهم (٧).

فقال عمر لأبي بكر : فاعزله. قال : ما كنت لأشيم سيفا سلّه الله على الكافرين (٨).

ردة بني سليم :

مرّ الخبر عن المرتضى عن الثقفي عن ابن إسحاق : أن بريدة بن الحصيب الأسلمي لما رجع من البلقاء حمل رايته إلى أوساط قومه أسلم وقال : لا أبايع

__________________

(١) الطبري ٣ : ٢٨٠ ، عن ابن إسحاق عن عبد الرحمن بن أبي بكر.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٣٢. وهذا أول ادّعاء التأويل والخطأ فيه!

(٣) أي : تقتصّ منه لقتله مالك بن نويرة.

(٤) الطبري ٣ : ٢٧٨ ، عن سيف بن عمر.

(٥) المختصر لأبي الفداء ١ : ١٥٨.

(٦) الإصابة لابن حجر ٢ : ٢١٨ و٥ : ٥٦٠.

(٧) تاريخ ابن الخياط : ٥٣ ، والطبري ٣ : ٢٧٨ ـ ٢٧٩.

(٨) الطبري ٣ : ٢٧٩ ، وأشيم : أغمد. فأصبح هذا منشأ لقب خالد : سيف الله المسلول.


حتى يبايع علي عليه‌السلام. وأن أسلم قالوا معه : لا نبايع حتى يبايع بريدة (١).

فلعلّ مثل هذه كانت في بني سليم حيث ما روى لنا إلّا مجملا.

فبعث إليهم أبو بكر خالدا ـ بعد مقتل ابن نويرة وقبل قتال مسيلمة ـ فجمع منهم رجالا في حضيرة ثم أحرقها بالنار بمن فيها! ثم أمره من وجهه ذلك أن يتوجّه إلى قتال مسيلمة.

ولما بلغ ذلك عمر بن الخطاب عاب على أبي بكر ذلك وقال : لا تدع رجلا يعذّب بعذاب الله! فكرّ أبو بكر على عذره السابق قال : والله لا أشيم سيفا سلّه الله على عدوّه حتى يكون هو الذي يشيمه (٢).

حرق أبي بكر للفجاءة :

وكان قد اختار أبو بكر منهم معن بن حاجز أميرا عليهم ، ولما سار خالد من قبل إلى طليحة الأسدي كتب إلى معن أن يجمع منهم جمعا ويلتحق به ، فسار معن واستخلف على عمله أخاه طريفة (٣) فقدم منهم إياس بن عبد الله الفجاءة على أبي بكر وطلب منه ركوبا وسلاحا لقتال المرتدّين منهم ومن غيرهم ، فأعطاه ذلك. فخرج بجمع معه يستعرض الناس يأخذ أموالهم (صدقة زكاة) ويصيب الممتنعين منه (٤).

__________________

(١) تلخيص الشافي ٣ : ٧٨. عن كتاب المعرفة للثقفي (م ٢٨٢ ه‍).

(٢) الرياض النضرة ١ : ١٠٠ ، وانظر الغدير ٧ : ١٥٥ ـ ١٥٦.

(٣) الطبري ٣ : ٢٦٥ ، ٢٦٦ ، وانظر شرح النهج للمعتزلي ١٧ : ٢٢٢ عن الشافي وليس في تلخيصه.

(٤) الطبري ٣ : ٢٦٥.


فروى الطبري الإمامي عن الواقدي بسنده عن أبي العوجاء السلمي : أن أبا بكر كتب إلى طريفة بن حاجز : أما بعد فإنه بلغني أن الفجاءة ارتدّ عن الإسلام ، فسر بمن معك من المسلمين حتى تقتله أو تأسره فتأتيني به في وثاق ، والسلام.

فسار إليه بمن معه ، فلما التقيا قال الفجاءة لطريفة : يا طريفة : إني لمسلم ما كفرت ، وأنا أمير أبي بكر وما أنت بأولى بأبي بكر مني. فقال له طريفة : إن كنت صادقا فألق سلاحك وانطلق معي إلى أبي بكر فأخبره بخبرك. فوضع السلاح ، فأوثقه طريفة بجامعة وبعث به إلى أبي بكر.

فلما قدّم إليه أرسل به إلى ابن جثم فحرّقوه بالنار وهو يقول : أنا مسلم (١).

وأحرق معه شجاع بن ورقاء الأسدي ، وكان ينكح ، أو : ينكح أدبار الغلمان (٢).

__________________

(١) المسترشد : ٢٢٦ و٥١٣.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٣٤ ، وفي نسخة الكتاب هنا بياض ، وأثبتنا مقتضى السياق. والأوّل جاء في مثالب العرب للكلبي : ٥٨ باب المخنّثين.


أهم حوادث

السنة الثانية عشرة



توجيه خالد إلى مسيلمة :

مرّ عن الطبري عن الكلبي (عن أبي مخنف ظ) أنّ أبا بكر أمّر خالد بن الوليد لقتال طليحة بن خويلد الأسدي وعيينة بن حصن الفزاري في بزاخة (١) وكذلك عن سيف بن عمر عن القاسم بن محمد بن أبي بكر وزاد : أنه عقد لواء لعكرمة بن أبي جهل وأمره بمسيلمة في اليمامة ، ولكنّه بعث في أثر عكرمة شرحبيل بن حسنة (٢) قال : فبادر عكرمة شرحبيل ليفوز بها ، فواقع قوم مسيلمة فانتكس منهم ، فكتب إلى أبي بكر بما كان فكتب إليه أبو بكر أن يلتحق بحذيفة لقتال أهل عمان أو بالمهاجر بن أبي أمية باليمن وحضرموت ، وكتب إلى شرحبيل أن يصبر حتى يقدم عليه خالد فيلتحق به.

فلما قدم خالد على أبي بكر من البطاح وسمع أبو بكر عذره قبل منه وصدّقه ورضى عنه ، ووجّهه إلى مسيلمة ، وعلى المهاجرين زيد بن الخطاب العدوي

__________________

(١) الطبري ٣ : ٢٥٤.

(٢) الطبري ٣ : ٢٤٩.


أخو عمر ، وأبو حذيفة ، وعلى الأنصار ثابت بن قيس بن شمّاس والبراء بن مالك أخو أنس ، وعلى القبائل على كل قبيلة رجل.

وفعل شرحبيل بن حسنة كما فعل عكرمة فبادر قبل قدوم خالد عليه وتعجّل في قتال مسيلمة فانتكس فتحاجزهم.

وتعجّل خالد حتى قدم على عسكره بالبطاح ، وانتظر حتى قدم عليه الناس فنهض بهم إلى اليمامة. وكان عدد بني حنيفة يومئذ أربعين ألف مقاتل في قراهم.

وأمدّ أبو بكر خالدا بسليط ليكون قريبا منه ردءا له لكي لا يأتيه أحد من خلفه (١).

ولما قدم خالد على شرحبيل لامه لفعله (٢) ولكنّه قدّمه أمامه مقدّمة له وأمّر عليه رجلا من مخزوم ، وجعل زيد بن الخطاب وأبا حذيفة على ميمنته وميسرته (٣).

مصير سريّة مجاعة ، وخولة :

مرّ أن جمعا من بني حنيفة من تميم منهم جعفر بن قيس أبو خولة (أم محمد بن الحنفية) كانوا في بني عامر ، وكان مجّاعة بن مرارة الحنفي من ساداتهم قد خطبها منهم فمنعوه منها فحقد عليهم وعزم على الثأر منهم.

فلما توجه خالد إلى بني عامر خاف أن يفوته الطلب ، فخرج في نحو عشرين فارسا حتى اختلجها منهم واستخرجوها معهم ، فكانوا راجعين من بلاد بني عامر وقد غلبهم النعاس وهم من عسكر مسيلمة على مسافة ليلة دون ثنيّة اليمامة فعرّسوا هناك ، فهم نيام وأزمّة خيولهم بأيديهم تحت خدودهم.

__________________

(١) الطبري ٣ : ٢٨١.

(٢) الطبري ٣ : ٢٨٢.

(٣) الطبري ٣ : ٢٨٦ ، والمقدمة من أربعين إلى ستين فارسا : ٢٨٧.


إذ هجمت عليهم مقدمة عسكر خالد من أربعين إلى ستين فارسا ، فوجدوا هؤلاء نياما فأيقظوهم وسألوهم : من هم؟ قالوا : هذه حنيفة وهذا سيدنا مجّاعة. قالوا : فلا حيّاكم الله. وأوثقوهم وأقاموا حتى جاءهم خالد (١).

فلما أصبح خالد دعا بمجّاعة ومن أخذ معه فقال لهم : يا بني حنيفة ما تقولون؟ قالوا : نقول منّا نبيّ ومنكم نبيّ. فأمر بهم أن يقتلوا ، فقتلوا حتى إذا بقي مجّاعة ومعه رجل يقال له سارية بن عامر ، فقال سارية لخالد : أيها الرجل ، إن كنت تريد بهذه القرية (اليمامة) غدا خيرا أو شرا فاستبق هذا الرجل يعني مجّاعة ، فأمر خالد بذلك (٢).

فروى البلاذري عن الكلبي : أنهم قدموا بخولة الحنفية المدينة فاشتراها علي عليه‌السلام منهم ، وبلغ الخبر قومها فقدموا المدينة على علي عليه‌السلام وأخبروه بموضعها منهم ، فأعتقها علي عليه‌السلام وخطبها منهم (وكان ذلك بعد وفاة فاطمة عليها‌السلام) فزوّجوها إياه (٣) وإن كان متزوّجا قبلها بأمامة ابنة أبي العاص الأموي.

__________________

(١) الطبري ٣ : ٢٨٧.

(٢) الطبري ٣ : ٢٨٨ ، عن محمد بن إسحاق ، وفيه : أنه دفعه إلى أم تميم بنت المنهال أرملة مالك بن نويرة! وقد مرّ عن ابن حجر في الإصابة : أن أبا بكر أمر خالدا باعتزالها. وهذا مما لا بدّ منه مع قبول إسلام ابن نويرة وأدائه ديته من بيت المال ، كما مرّ ، فكيف تبقى المرأة عنده ويحبس عندها مجّاعة!

(٣) أنساب الأشراف ٢ : ٢٠١ ، وقال : وهذا أثبت من خبر المدائني أنه عليه‌السلام أصابها في بني زبيد باليمن لما ارتدّوا مع عمرو بن معدي كرب ، وصارت في سهمه في عهد رسول الله. ونقلهما عنه المعتزلي في شرح نهج البلاغة ١ : ٢٤٤ ، وقال في خبر البلاذري عن الكلبي : إنه هو الأظهر ، وهو قول المحققين.


مقاتلة مسيلمة :

ثم سار خالد إلى اليمامة ، وراية المهاجرين مع عبد الله بن حفص (١) وراية الأنصار مع ثابت بن قيس بن شمّاس ، وسائر العرب على راياتهم ، فمضى حتى نزل على كثيب مشرف على اليمامة فضرب معسكره هناك.

فأخرج مسيلمة أهل اليمامة ، وقدم في مقدّمته الرجّال بن عنفوة الحنفي في أوائل الناس. وخالد بن الوليد جالس على سرير وعنده أشراف الناس ، والناس على مصافهم (٢).

ودنا الرجّال بحيال زيد بن الخطّاب ، فناداه زيد : يا رجّال ، الله الله! فو الله لقد تركت الدين وإن الذي أدعوك إليه لأشرف لك وأكثر لدنياك! فأبى ، فتقاتلا فقتله زيد ومعه أهل البصائر من بني حنيفة ، ثم تذامروا فحمل كل قوم في ناحيتهم ، فجال المسلمون وانهزموا إلى معسكرهم وتجاوزوه ، فقطع العدو أطناب البيوت وهتكوها ، وكان يوم غبار.

ثم تذامر زيد وقال : لا والله لا أتكلّم اليوم حتى نهزمهم أو ألقى الله فاكلّمه بحجّتي ، عضّوا على أضراسكم أيها الناس واضربوا في عدوّكم وامضوا قدما. ثم اقدم ففعلوا معه حتى أعادوهم إلى أبعد من مصافّهم ، وقتل زيد في هذه المعركة.

وتكلم ثابت بن قيس فقال : يا معشر المسلمين ، أنتم حزب الله وهم حزب الشيطان ، والعزة لله ولرسوله ولحزبه ، أروني كما أريكم. ثم حمل عليهم فدفعهم.

وقال أبو حذيفة : يا أهل القرآن زيّنوا القرآن بالفعال ، ثم حمل وقاتل حتى قتل.

__________________

(١) الطبري ٣ : ٢٩٢.

(٢) الطبري ٣ : ٢٨٩.


وحمل خالد بن الوليد ومعه حماته فقال لهم : لا أوتينّ من خلفي ، وكان يرقب مسيلمة ويطلب الفرصة.

وقتل حامل الراية عبد الله بن حفص فأعطوا الراية لسالم مولى أبي حذيفة فقال : قلتم : صاحب قرآن ، وسيثبت كما ثبت صاحبها قبله حتى مات! قالوا : أجل فانظر كيف تكون! فقال : والله بئس حامل القرآن إن أنا لم أثبت!

فلما اشتد القتال وكانت سجالا بينهم مرة على المسلمين ومرة على الكافرين ، قال خالد : أيها الناس ، امتازوا لنعلم بلاء كل حيّ ، ولنعلم من أين نؤتى. فامتاز أهل القرى والبوادي ، وامتازت القبائل من أهل البادية وأهل الحضر ، فوقف بنو كل أب على رايتهم ، فقال أهل البوادي : الآن يستحرّ القتل في الأجزع الأضعف ، فاستحرّ القتل في أهل القرى ، وكانت المصيبة في المهاجرين والأنصار أكثر منها في أهل البوادي ، وما رئي يوم كان أحدّ ولا أعظم نكاية مما رئي يومئذ.

وكانت رحى الحرب تدور على مسيلمة وهو ثابت ، فعرف خالد أنها لا تركد إلّا بقتل مسيلمة وإلّا فلا يحفل بنو حنيفة بقتل من يقتل منهم دون مسيلمة ، فبرز خالد أمام الصف وانتمى ودعا إلى البراز فقتل من برز له ، وشعاره : يا محمّداه! وجالوا جولة وانهزموا ، فنادى خالد : دونكم لا تقيلوهم! فهزموهم ، فنادى المحكّم بن الطفيل الحنفي : يا بني حنيفة الحديقة الحديقة ، وتبعهم المسلمون يقتلونهم حتى بلغوا بهم إلى الحديقة فدخلوها وأغلقوها على أنفسهم وهم عشرة آلاف ، وأحاط المسلمون بهم.

وقال بعض أصحاب مسيلمة له : فأين ما كنت تعدنا؟! فقال : قاتلوا عن أحسابكم (١).

__________________

(١) الطبري ٣ : ٢٩٢ ـ ٢٩٤ ، عن سيف بن عمر ، وفيه أن خالدا دعا مسيلمة للبراز ، بينما يأتي أنه لم يكن ليعرفه. وروى عنه عن القاسم بن محمد بن أبي بكر : أن من قتل من بني حنيفة في هذا الفضاء بعقرباء قبل الحديقة : سبعة آلاف ٣ : ٢٩٦ ـ ٢٩٧.


مصير مسيلمة واليمامة :

وصرخ البراء بن مالك أخو أنس قال : يا معشر المسلمين ، احملوني على الجدار حتى تطرحوني عليه ، ففعلوا حتى إذا وضعوه على الجدار ارعد ونادى : أنزلوني ، فأنزلوه ، ثم قال : احملوني ، فحملوه ، فقال : أنزلوني ، فأنزلوه ، فقال : احملوني ، فعل ذلك مرارا (١).

وكأن أبا دجانة الأنصاري لما رأى ذلك تبرّع بمثله ورمى بنفسه في الحديقة فانكسرت رجله وقاتل حتى قتل (٢) وكأن البراء لما رأى ذلك تجرّأ فحملوه على الحائط فاقتحم عليهم وقاتلهم على الباب حتى فتحه للمسلمين وهم على الباب من خارج فدخلوا (٣).

ورأى البراء محكّم الحنفي ـ وكان رجلا جسيما ـ فبارزه وكان بيد البراء ترس من الجلود فضربه المحكّم بسيفه فاتقاه البراء بترسه فقطع السيف الجلد وعضّ بيد البراء ، وضرب البراء برجل المحكّم فقطعها وأخذ سيفه فذبحه به. ثم قاتل حتى كان فيه ثمانون جراحة من بين رمية بسهم وضربة بالسيف فوقع جريحا وحمل إلى رحله ليداوى (٤).

ورأى عبد الله بن زيد الأنصاري مسيلمة قائما وبيده سيفه فتهيّأ له ، ورآه وحشي الحبشي مولى جبير بن مطعم العدوي وهو قاتل حمزة ، فتهيّأ له بحربته ورماه بها ، وضربه الأنصاري فقتلاه.

__________________

(١) الطبري ٣ : ٢٩٤.

(٢) تاريخ ابن الخياط : ٥٧.

(٣) الطبري ٣ : ٢٩٤.

(٤) تاريخ ابن الخياط : ٥٦ و٥٧.


وأخبر خالد بمقتل مسيلمة ومحكّم وطلب من يعرّفه بهما فأمر أن يأتوه من فسطاطه بمجّاعة ، فجاءوه به مغلولا ليدله عليهما ، فجعل يكشف القتلى حتى مرّ بمحكّم بن الطفيل فقال خالد : هذا صاحبكم؟ قال : لا ، وهو خير منه هو محكّم اليمامة ، ثم مرّ بمسيلمة وهو رجيل صغير الجسم ، دقيق الساقين ، اصفر اللون فوقف عليه مجاعة وقال لخالد : هذا هو صاحبنا : فقال خالد : ويلك هذا هو الذي فعل بكم ما فعل؟! قال : قد كان ذلك (١) وله يومئذ مائة وخمسون سنة (٢).

وسائر الحصون :

وهنا روى الطبري عن سيف عن القاسم بن محمد بن أبي بكر أن خالدا لما فرغ من جند مسيلمة استعجله عمّه عبد الرحمن بن أبي بكر ومعه عبد الله بن عمر أن ينتقل من حصن الحديقة إلى سائر الحصون فقال لهما : دعاني أبثّ الخيول فالتقط من ليس في الحصون ثم أرى رأيي. فبث الخيول فقتلوا هناك من بني حنيفة سبعة آلاف وحووا ما وجدوا من مال ونساء وصبيان فضمّوها إلى معسكرهم ، ثم نادى بالرحيل لينزل على الحصون (٣).

وأوهم مجّاعة أن في داخل الحصون أقواما ودعا خالدا إلى المصالحة على ما يجدون من الذهب والفضة ونصف المماليك ، واطلق لذلك فألبس النساء السلاح وأوقفهم على الحصون ورجع إلى خالد فقال : إنهم أبوا عليّ النصف وأبوا عليّ إلّا الربع. فقبل خالد بذلك ، فلما فتحت الحصون ونظروا فإذا ليس في الحصون سوى النساء والصبيان ورجال ضعفاء ومشيخة فانية! فقال خالد : أمكرا يا مجّاعة؟

__________________

(١) تاريخ ابن الخياط : ٥٦ و٥٧.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٣٠.

(٣) الطبري ٣ : ٢٩٦.


قال : إنهم قومي. فأمضى خالد ذلك ، وكان ذلك في شهر ربيع الأول من السنة الثانية عشرة للهجرة (١) وكان الفصل آخر الربيع قبيل الشتاء.

وحشر بنو حنيفة للبراءة إلى خالد مما كانوا عليه والإسلام والبيعة في معسكره (٢). وكأنه انتقل حينئذ من عقرباء إلى وادي أباض من أودية اليمامة ، ثم تحوّل إلى وادي وبر وبعث خالد منهم وفدا إلى أبي بكر وبعث إليه من سباياهم أو من قيس أو من يشكر من قرى القرية والعرض خمسمائة رأس (٣) وكان أمره أبو بكر أن يرسل إليه خمس الغنائم (٤).

وروى الطبري عن سيف عن القاسم بن محمد بن أبي بكر قال : قتل من المهاجرين والأنصار من أهل قصبة المدينة يومئذ ثلاثمائة وستون. وقال غيره : ومن المهاجرين من غير أهل المدينة وتابعيهم بإحسان من كلّ منهم ثلاثمائة فهم ستمائة (٥).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٣٠ ـ ١٣١. وفي كتاب الردة للواقدي : ١٤٤ وروى عنه الطبري الإمامي في المسترشد : ٢٢٦ ، الحديث ٦٤ : أن خالد بن الوليد قال لمجّاعة وهو في الحديد عنده : زوّجني ابنتك! قال : مهلا فإنك قاطع ظهري مع ظهرك عند صاحبك فإن القالة عليك كثيرة ، وما أقول هذا رغبة عنك. فقال خالد : زوّجني أيها الرجل ، فزوّجه. فبلغ ذلك أبا بكر فكتب إليه مع سلمة بن سلامة : «لعمري يا خالد ابن أمّ خالد ـ إنك فارغ تنكح النساء وتعرّس بهنّ ، وتضاع لديك دماء المسلمين وهم ألف ومائتان لم تجف» فلما قرأ ذلك خالد قال : هذا فعل عمر!

(٢) الطبري ٣ : ٢٩٨ ـ ٢٩٩.

(٣) الطبري ٣ : ٣٠٠ ـ ٣٠١ ، عن ابن إسحاق وغيره.

(٤) كتاب الردة للواقدي : ١٤١.

(٥) الطبري ٣ : ٢٩٦ ـ ٢٩٧.


بينما روى ابن الخياط عن قتادة عن عبد الله بن المسيّب : أن شهداء اليمامة خمسمائة فيهم ثلاثون أو خمسون من حملة القرآن ـ بلا تسمية ـ. وروى عن زيد بن أسلم قال : مجموع القتلى أربعمائة وخمسون رجلا ، مائة وأربعون منهم من المهاجرين والأنصار. ثم سمّى من عرف منهم من المهاجرين أربعا وعشرين ومن الأنصار أربعا وثلاثين فقط (١). وقارب المسعودي ابن الخياط في المهاجرين وبلغ بالأنصار إلى السبعين (٢).

من هم حملة القرآن؟

مرّ عن ابن الخياط : أنّ من شهداء اليمامة خمسين أو ثلاثين من حملة القرآن. ثم ما سمّى منهم سوى سالم الفارسي مولى أبي حذيفة المخزومي ، المعدود من الأربعة الذين روى البخاري فيهم بسنده عن ابن عمرو بن العاص قال : سمعت النبيّ يقول : خذوا القرآن من أربعة : من عبد الله بن مسعود ، وسالم ، ومعاذ ، وأبيّ بن كعب (٣).

هذا ، ولكنّ معاصر البخاري : أبا عبيد القاسم بن سلّام الهروي الشامي (م ٢٢٤ ه‍) في كتابه في «القراءات» يعد قرّاء الصحابة فيعد أكثر من ثلاث وعشرين شخصا ، فيعدّ من المهاجرين عليا عليه‌السلام والخلفاء الثلاثة ، والعبادلة الأربعة : ابن عمر وابن الزبير وابن عباس وابن عمرو بن العاص ، وابن مسعود

__________________

(١) تاريخ ابن الخياط ٥٧ ـ ٦٠.

(٢) التنبيه والإشراف : ٢٤٨.

(٣) صحيح البخاري ، مناقب الأنصار باب ١٧ ، وطبيعي أن ابن عمرو بن العاص لا يعدّ منهم عليا عليه‌السلام.


وابن السائب ، وسعد بن أبي وقّاص ، وطلحة وحذيفة ومولاه سالم وأبا هريرة. ومن الأنصار : عبادة بن الصامت ، ومعاذا ، وفضالة بن عبيد ، ومسلمة بن مخلّد ، ومجمّع بن جارية. ومن النساء : أم سلمة ، وعائشة وحفصة. وقال : وبعضهم أكمل حفظه له بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

ونقل الزركشي عن الذهبي قال : هذا العدد هم الذين عرضوه على النبيّ واتصلت بنا أسانيدهم ، وأما من جمع القرآن ولم يتصل بنا سندهم فكثير (٢) ولا بدّ أن نعدّ منهم حملة القرآن الشهداء في حرب اليمامة ، لم يسمّ منهم إلّا واحد.

وفي جمع القرآن بمعنى تدوينه روى القمي بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعلي عليه‌السلام : يا علي ، القرآن خلف فراشي في الصحف والحرير والقراطيس (كذا) فخذوه واجمعوه ، ولا تضيّعوه كما ضيّعت اليهود التوراة! (فقعد) علي عليه‌السلام في بيته وقال : لا أرتدي حتى أجمعه ، فجمعه في ثوب أصفر (٣).

وروى الحلبي عن أبي رافع : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في مرضه الذي توفي فيه قال لعلي عليه‌السلام : يا علي ، هذا كتاب الله ، خذه إليك. فجمعه عليّ في ثوب ومضى به إلى منزله ، فلمّا قبض النبيّ جلس علي فألّفه كما أنزله الله.

ونقل عن الخوارزمي والعطار في كتابيهما عن علي بن رباح : أن النبيّ أمر عليا بتأليف القرآن ، فكتبه وألّفه.

وعن الشيرازي في نزول القرآن ويعقوب الفسوي في تفسيره عن ابن عباس : أن عليا عليه‌السلام جمعه بعد موت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بستة أشهر.

__________________

(١) الإتقان ١ : ١٢٤ عن القراءات لأبي عبيد ، ولم يعدّ من النساء فاطمة عليها‌السلام!

(٢) البرهان ١ : ٢٤٢ والجمع هنا بمعنى الحفظ ، وأشار إلى أمهات المصادر في ذلك وتتّبع شواهده المستشرق شفالى ، كما في مباحث في علوم القرآن (لصبحي الصالح) : ٦٧.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٤٥١.


وعن أخبار أهل البيت عليهم‌السلام : أنه خرج به إليهم يحمله في إزار ، وهم مجتمعون في المسجد ، فلما توسطهم وضعه بينهم .. فقام إليه عمر فقال : إن يكن عندك قرآن فعندنا مثله فلا حاجة لنا فيكما! فحمل الكتاب وعاد به (١).

فكان هذا الردّ الأكيد لجمع علي عليه‌السلام من القرآن الكريم يقتضي منهم أن يقوموا بالبديل عنه ، وهنا تأتي أخبار البخاري عن زيد بن ثابت الأنصاري : أن عمر بن الخطاب لما رأى أن القتل اشتد في قرّاء القرآن في يوم اليمامة أشار على أبي بكر بجمع القرآن وتدوينه كي لا يذهب بعضه بذهاب حامليه وقرّائه ، فجمعه ودوّنه زيد في الصحف لدى أبي بكر (٢).

وعمّت الفتنة عمان :

روى الطبري عن سيف عن القاسم بن محمد بن أبي بكر : أن أبا بكر كان قد بعث إلى مسيلمة باليمامة قبل خالد عكرمة وأتبعه بشرحبيل بن حسنة ، فحاول عكرمة أن تكون له حظوة الظفر فبادر إلى مسيلمة فنكبه رجال مسيلمة ، فكتب بذلك إلى أبي بكر. فكتب إليه يوبّخه على تسرّعه.

وكان في عمان يسامى الجلندى وابنيه جيفرا وعبّادا رجل من الأزد يدعى لقيط بن مالك ، وتنبّأ بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتلقّب بذي التاج وتغلّب على عمان وألجأ جيفرا وعبّادا إلى الجبال على البحر ، فبعث جيفر إلى أبي بكر بذلك. فبعث أبو بكر

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٥٠ ـ ٥١.

(٢) انظر التمهيد ١ : ٢٣٤ ـ ٢٤٥ ، وتلخيصه ١ : ١٢٩ ـ ١٣٧ ، وجاءت الإشارة إلى قول عمر بشأن القرّاء القتلى في اليمامة في كتاب سليم بن قيس ٢ : ٦٥٦ : أنه قد قتل يوم اليمامة رجال كانوا يقرءون قرآنا لا يقرؤه غيرهم. وهذا إن صحّ فهو وهم من عمر ، وانظر تخريج الخبر في ٣ : ٩٧٥. وفي الإيضاح لابن شاذان : ٢١٥ قريب منه.


إليهم عرفجة البارقي الأزدي وحذيفة بن محصن الغلفاني الحميري. وأمرهما أن يعملا برأي جيفر وعبّاد ، ثم يعملوا برأي عكرمة في المقام بعمان والسير معه.

وكتب إلى عكرمة أن يلتحق بعمان ليعين حذيفة وعرفجة.

فمضى عكرمة بمن معه حتى لحق بهما قبل عمان بمكان يدعى رجاما وأرسلوا جيفرا وعبّادا.

وبلغ لقيطا مجيء الجيش فجمع جموعه وعسكر بمكان يدعى دبا وهي المصر والسوق الأعظم.

وخرج جيفر وعبّاد بمن معهما إلى صحار وبعثا إلى عكرمة فقدم عليهما بصحار ، ثم نهدوا إلى دبا فالتقوا بلقيط واقتتلوا.

وجاء المسلمين أمداد من متفرقة الناس من غير الأزد بعمان من عبد القيس وعليهم سيحان بن صوحان العبدي ، ومن بني ناجية وعليهم الخرّيت بن راشد الناجي ، فقوى بهم المسلمون فولّى المشركون (١) ، حتى بلغوا بهم أدنى بلادهم دبا وقتلوا منهم مائة رجل ، وتحصّنوا هناك فحاصروهم ، فلما اشتدّ عليهم الحصار نزلوا على حكمهم ، فقتلوا رؤساءهم وأرسلوا الباقين منهم إلى أبي بكر ، وهم ثلاثمائة مقاتل وأربعمائة من النساء والذرية.

فهمّ أبو بكر أن يقتل الرجال ويقسم النساء والذريّة.

فقال عمر : إنهم مسلمون ويحلفون بالله جادّين أنهم ما رجعوا عن الإسلام وإنّما شحّوا وبخلوا بأموالهم على الزكاة. فحبسهم (٢) وأقام حذيفة الحميري في عمان.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٣ : ٣١٤ ـ ٣١٦ ، عن سيف.

(٢) فتوح البلدان للبلاذري ١ : ٩٣ ، والفتوح لابن اعثم ١ : ٧٤ ، وفي الخبر السابق عن الطبري : أن خمس الغنائم كان ثمان مائة رأس بلا تفصيل. وانظر وقارن : عبد الله بن سبا ٢ : ٦٠ ـ ٦٤.


وأمر مهرة :

جاء في خبر الطبري عن سيف عن القاسم بن محمد بن أبي بكر : أن أبا بكر كان قد كتب في كتابه إلى عكرمة : «فإذا فرغتم (من عمان) فامض إلى مهرة» فلما فرغوا من عمان بدأ يستنصر من أهل عمان ومن حولها من بني ناجية والأزد وعبد القيس وراسب وبني تميم ، وخرج بجنده من عمان نحو مهرة حتى اقتحم بلادهم (١) بلاد مهرة بن حيدان بالنّجد.

قال البلاذري : فلما بلغ إليهم عكرمة لم يقاتلوه وأدوا صدقاتهم (٢) فكتب بذلك مع السائب المخزومي إلى أبي بكر (٣).

وأمر اليمن :

وجاء في خبر الطبري عن سيف عن القاسم بن محمد بن أبي بكر : أن أبا بكر كان قد كتب في كتابه إلى عكرمة : «فإذا فرغتم (من عمان) فامض إلى ... اليمن .. وأوطئ من بين عمان واليمن ممن ارتدّ ثم ليكن وجهك منها إلى اليمن حتى تلاقي المهاجر بن أبي أميّة باليمن» (٤) ومنه يعلم أن قلاقل اليمن وتأمير المهاجر عليها كان قبل ذلك ، وقد مرّ خبر ردّة الأسود العنسي في صنعاء ، وغلبة فيروز وجشيش الديلميين ودادويه الاصطخري والأبناء ومعهم قيس بن المكشوح

__________________

(١) الطبري ٣ : ٣١٥ ـ ٣١٦.

(٢) فتوح البلدان ١ : ٩٣ ، وابن الأعثم ١ : ٧٤.

(٣) الطبري ٣ : ٣١٧ عن سيف ، وفيه أنهم قاتلوه أشد من قتال دبا في عمان ، وقتل منهم أكثر ممن قتل في دبا ، وغنموا منهم أكثر من ألفي نجيبة ثم بايعوه على الإسلام ؛ وانظر عبد الله بن سبأ ٢ : ٦٢.

(٤) الطبري ٣ : ٣١٥.


المرادي على الأسود وقتله وهزيمة أصحابه ، وغلبة هؤلاء على صنعاء ، وهروب الفلول إلى جهة نجران.

وهنا نزداد : كانت فلول خيول العنسي تتردد في عرض البحر بين صنعاء إلى نجران. وكان من قبل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على ما بين زبيد ورمع إلى حدّ نجران خالد بن سعيد بن العاص ، وعلى نجران نفسها عمرو بن حزم ومعه لجباية الصدقات (أو الجزية) أبو سفيان بن حرب ، فهؤلاء رجعوا مع وفاته إلى المدينة ، ومعهم معاذ بن جبل من صنعاء (١) فما ذا عن المهاجر بن أبي أمية المخزومي؟

وكان فيروز وجشيش الديلميان ودادويه الاصطخري وقيس بن المكشوح المرادي معهم متساندين ، ولما ولى أبو بكر أمّر فيروز وكتب إلى وجوه أهل اليمن :

عمير ذي مرّان وسعيد ذي زود ، وسميفع بن ناكور ذي الكلاع ، وحوشب ذي ظليم ، وشهر ذي يناف : أما بعد ، فأعينوا الأبناء على من ناوأهم ، وحوطوهم ، واسمعوا من فيروز وجدّوا معه فإني قد ولّيته.

فلما سمع بذلك قيس حسد الأبناء الفرس على ذلك فأرسل إلى ذي الكلاع وأصحابه : أنّ الأبناء نزّاع (غرباء) في بلادكم ونقلاء فيكم ، وإن تتركوهم لن يزالوا عليكم ، وقد أرى من الرأي أن أقتل رءوسهم واخرجهم من بلادنا. فلم يستجيبوا له ولم ينصروا الأبناء واعتزلوا.

فكاتب قيس فلول الأسود سرّا أن يتعجّلوا إليه ليجتمعوا على نفي الأبناء من بلاد اليمن ، فاستجابوا له ، واجتمعوا ودنوا من صنعاء وعليهم معاوية بن أنس (٢).

__________________

(١) الطبري ٣ : ٣١٨ ـ ٣١٩ ، عن سيف عن القاسم بن محمد بن أبي بكر.

(٢) الطبري ٣ : ٣١٨ ـ ٣١٩ و٣٢٣ ، عن سيف.


فلما دنوا من صنعاء عزم قيس أن يقتل رءوس الأبناء غيلة ، ودعاهم إلى طعامه واحدا بعد الآخر وبدأ بدادويه ، فلما دخل داره قتله ، وعلم الباقون بذلك فهربوا إلى الجبال ، فسيّر قيس عيالاتهم إلى بلادهم برّا وبحرا بمعونة فلول الأسود.

واستمد فيروز الديلمي من بعض القبائل فأجابوه فاسترجعوا عوائلهم ، ثم تقاتلوا خارج صنعاء قتالا شديدا حتى هزم قيس (١) وأصحابه ولحق بنجران.

فما هو دور المهاجر بن أبي أمية المخزومي؟ وهو أخو أمّ سلمة زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

روى الطبري عن سيف قال : كان المهاجر لم يهاجر مع رسول الله إلى تبوك فهو عاتب عليه ، فبينا أم سلمة تغسل رأس رسول الله قالت له : ما ينفعني شيء وأنت عاتب على أخي! ورأت رقّة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله فأومأت إلى الخادم أن تأتي بالمهاجر فأتت به ، فلم يزل ينشر عذره حتى عذره ورضى عنه ، ثم أمّره على كندة في اليمن وحضرموت ، ولكنه مرض فلم يذهب حتى توفي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان على حضرموت من قبله زياد بن لبيد البياضي ، فكتب المهاجر إليه ليقوم له على عمله! فلما ولى أبو بكر أمره بقتال من بين نجران إلى صنعاء إلى أقصى اليمن إلى حضرموت من كندة ، ومنها السكون والسكاسك ، وكان عليهما عكّاشة بن محصن ، وعلم هو وزياد بذلك فانتظراه. وكانت كندة ممن أجاب الأسود العنسي (٢).

وكان على مكة عتّاب بن أسيد الأموي ، وكان في عمله تهامة أيضا ، وتجمّع بها بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله جمع من بني مدلج وخزاعة وكنانة عليهم جندب بن سلمى

__________________

(١) بالإفادة من تلخيص العسكري في عبد الله بن سبأ ٢ : ٦٦.

(٢) الطبري ٣ : ٣٣٠ ـ ٣٣١ ، بتصرف يسير.


المدلحى. وكان عتّاب كتب بذلك إلى أبي بكر فكتب إليه بحربهم ، فبعث عليهم أخاه خالد بن أسيد ، فالتقوا بموضع الأبارق فقاتلهم وفرّقهم ثم تاب جندب (١) ورجع خالد إلى مكة.

وكتب أبو بكر إلى عتّاب بن اسيد : أن اضرب على أهل مكة وعملها خمسمائة مقاتل وأن يسمّي من يبعثه معهم ولينتظر حتى يمرّ بهم المهاجر. فأعدّهم وأمّر عليهم أخاه خالدا.

وكان على الطائف : عثمان بن أبي العاص ، فكتب إليه أبو بكر : أن يضرب بعثا على أهل الطائف على كل حيّ منهم بقدره ويولّى عليهم رجلا ، فضرب على كل حيّ عشرين رجلا وأمّر عليهم أخاه (عبد الرحمن) (٢).

وكان قد كتب إلى عبد الله بن ثور أن يجمع إليه من يستجيب له من أهل تهامة وينتظر المهاجر (٣)!

وكانت خثعم حاولت أن تعيد صنمها ذا الخلصة ، فأمر أبو بكر جرير بن عبد الله البجلي أن يستنفر الأقوياء من قومه فيقاتل بهم خثعم ، ثم يقيم في نجران ينتظر المهاجر ، فخرج جرير فلم يثبت لقتاله إلّا قليل قاتلهم وتتبّعهم إلى نجران فأقام بها ينتظر المهاجر (٤).

وخرج المهاجر من المدينة إلى مكة فتبعه خالد بن أسيد بمن معه ، ثم مرّ بالطائف فتبعه عبد الرحمن بن أبي العاص بمن معه ، وانضمّ إليه عبد الله بن ثور

__________________

(١) الطبري ٣ : ٣١٩.

(٢) الطبري ٣ : ٣٢٢.

(٣) الطبري ٣ : ٣٢٨.

(٤) الطبري ٣ : ٣٢٢.


ومن معه حين حاذاه بتهامة ، ثم قدم نجران فانضمّ إليه جرير بن عبد الله البجلي ، وفروة بن مسيك المرادي (١).

وكان فروة قد وفد بقومه من مراد على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في العاشرة فاستعمله رسول الله على صدقات مراد ومن معهم ، وكان معهم عمرو بن معد يكرب الزبيدي ، ثم تبع مذحج فيمن تبع الأسود العنسي فجعله العنسي مقابل مراد ، ثم لحق بعمرو قيس المرادي منهزما من فيروز الديلمي من صنعاء ، ثم تفارقا (٢).

فلما لحق فروة بالمهاجر لحقه عمرو بغير أمان ولحقه قيس فأمر المهاجر بأسرهما وبعث بهما إلى أبي بكر.

فقال له أبو بكر : يا قيس ، أعدوت على عباد الله تقتلهم ، وتتخذ المشركين والمرتدّين وليجة من دون المؤمنين! وكان قتل دادويه سرّا بلا بيّنة فانتفى قيس أن يكون قارف منه شيئا! فتجافى أبو بكر عن دمه وخلّاه. وعاتب عمرا وخلّاه (٣).

ثم سار المهاجر من نجران إلى صنعاء في طلب فلول الأسود العنسي والتفّ بخيله حولهم ، واستأمنوه فأبى ، فافترقوا فرقتين لقي المهاجر إحداهما في موضع عجيب فأتى عليهم ، ولقي عبد الله بن ثور ومن معه الفرقة الأخرى بطريق الأخابث فأتى عليهم.

__________________

(١) الطبري ٣ : ٣٢٩.

(٢) الطبري ٣ : ٣٢٦ ـ ٣٢٧.

(٣) الطبري ٣ : ٣٢٩. ورجّح السيد العسكري خبر البلاذري قال : بلغ أبا بكر اتّهام قيس بقتل دادويه وأنه كان على اجلاء الأبناء من صنعاء ، فكتب إلى عامله على صنعاء (فيروز؟) أن يحمله إليه فحمله إليه ، فلما قدم عليه أحلفه عند منبر رسول الله خمسين يمينا أنه ما قتل دادويه وخلّى سبيله ، ثم وجّهه مع المنتدبين لغزو الروم إلى الشام. عبد الله بن سبأ ٢ : ٦٨ ، عن فتوح البلدان ١ : ١٢٧.


ثم سار المهاجر من عجيب وتتبّع هو وخيله من قدروا عليه من الهاربين الشاردين ، قبل توبة من أناب ، حتى دخل صنعاء ، وكتب بذلك إلى أبي بكر.

فكتب إليه أبو بكر : أن يأذن لمن معه من بين مكة واليمن أن يرجعوا إلّا من يؤثر الجهاد ويسير إلى حضرموت فيقرّ زياد بن لبيد البياضي على عمله فيها (١).

وأما عكرمة :

وخرج عكرمة من مهرة ومعه بشر كثير من مهرة بن حيدان ، وسعد بن زيد ، والأزد ، وناجية ، وعبد القيس ، وكنانة ، وعنبر ، والنخع ، وحمير ، إلى اليمن حتى ورد أبين (٢). وكتب أبو بكر إلى عكرمة أن يسير إلى حضرموت ، فسار المهاجر من صنعاء ، وعكرمة من أبين حتى التقيا في مأرب ، ثم سلكا البرّ من صهيد حتى دخلا بلاد حضرموت (٣).

ردّة كندة وحضرموت :

لما أسلمت كندة وأهل حضرموت أمّر رسول الله عليهم لصدقاتهم زياد بن لبيد البياضي فتوفى رسول الله وهو على جبابة صدقات حضرموت ، وعلى كندة المهاجر بن أبي أمية ولمرضه كتب إلى زياد بعمله ، وعلى خصوص السكاسك والسكون من كندة عكّاشة بن محصن. ومن كندة بنو الحارث بن معاوية وبنو عمرو بن معاوية ، ومنهم رؤساؤهم الأربعة : أبضعة وجمد ومخوص

__________________

(١) الطبري ٣ : ٣٢٩ ـ ٣٣١.

(٢) الطبري ٣ : ٣٢٧.

(٣) الطبري ٣ : ٣٣١.


ومشرح واختهم العمرّدة. وأجاب هؤلاء الرؤساء الأربعة وجمع من بني عمرو الأسود العنسي في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فلعنهم ، وبقي جمع كثير من بني عمرو على الإسلام ، وهم في موضع الرياض.

فقدم عليهم زياد بن لبيد لزكواتهم ، وكان إذا أخذ ناقة للصدقة وسمها بالنار ، فأخذ ناقة لأحد أخوين ووسمها ثم تبيّن أنها لأخيه وطلبها ، فزعم زياد أن ذلك اعتلال واتّهمه بالكفر والردة! فاستغاث الرجل برجل من قومه : حارثة بن سراقة فجاء وأطلق عقالها وأقامها وقام هو ورجلان معه دونها ، وكان مع زياد شباب من حضرموت والسكون وأشار إليهم زياد فضربوا الرجال الثلاثة بأيديهم ووطئوهم بأرجلهم وكتّفوهم وحبسوهم واستعادوا الناقة (١)!

هذا ما لدى الطبريّ عن سيف ، ولدى الواقدي وابن الأعثم أنّ حارثة تحدّث فقال : «نحن إنما أطعنا رسول الله إذ كان حيّا ، ولو قام رجل من أهل بيته لأطعناه! وأما ابن أبي قحافة فما له طاعة في رقابنا ولا بيعة!» ولعله كان يعني عليا عليه‌السلام لأنهم إنما عرفوا الإسلام واعتنقوه بفضله. ونظم ذلك شعرا فقال :

أطعنا رسول الله إذ كان بيننا

فيا عجبا من ذا يطيع أبا بكر

وإنّ أناسا يأخذون زكاتكم

أقل ورب البيت عندي من الذّر

أنعطي قريشا مالنا؟ إنّ هذه

كتلك التي يخزى بها المرء في القبر

وما لبني تيم بن مرّة إمرة

علينا ولا تلك القبائل في الأسر

لأن رسول الله أوجب طاعة

وأولى بما استولى عليهم من الأمر (٢)

__________________

(١) الطبري ٣ : ٣٣٠ ـ ٣٣٢.

(٢) كتاب الردة للواقدي : ١٧١ ، والفتوح لابن الأعثم ١ : ٤٧.


فهو مطيع لرسول الله ولرجل من أهل بيته غير مطيع لأبي بكر ولا هو مرتد ، وقال :

كان الرسول هو المطاع وقد مضى

صلّى عليه الله لم يستخلف

هذا مقالك يا زياد ، وقد أرى

أن قد أتيت بقول سوء مخلف

ومقالنا : أن النبيّ محمدا

صلّى عليه الله غير مكلّف

ترك الخلافة بعده لولاته

ودعا زياد لامرئ لم يعرف

إن كان لابن أبي قحافة إمرة

فلقد أتى في أمره بتعسّف

أم كيف سلّمت الخلافة هاشم

لعتيق تيم؟ كيف ما لم تأنف  (١)

فهو يقول بأن الرسول لم يكلّف تكليفا خاصا في الخلافة ومع ذلك لا يصح القول بأنه لم يستخلف ، بل تركها لأوليائه الأدنين الأقربين من بني هاشم ، وإن كان بدون تكليف خاص ، وتبعه ذلك جمع من قومه منهم عرفجة بن عبد الله فقد قال بمثل مقالته في الخلافة (٢).

وتنادى لذلك بنو معاوية (عمرو والحارث) في أهل الرياض وغضبوا لحارثة بن سراقة من بني عمرو بن معاوية وقاموا له بعسكر كثير ، فأرسل زياد إليهم : إما أن تضعوا السلاح أو تؤذنوا بحرب! فقالوا : لا نضع السلاح حتى ترسلوا أصحابنا. فقال : لا يرسلون أبدا!

واجتمع لزياد جمع من أهل حضرموت ومن السّكون ، ولم تسكن السكون حتى أثارت زيادا على بني معاوية فانهدّ إليهم ليلا وفرّقهم ، فلما هربوا رجع عنهم وخلّى لهم عن أصحابهم الثلاثة ، ثم اجتمعوا وعسكروا وتنادوا بمنع الزكاة!

__________________

(١) كتاب الردة للواقدي : ١٧٦ ، والفتوح لابن الأعثم ١ : ٤٨ ـ ٤٩.

(٢) المصدران السابقان.


وخرج بنو عمرو بن معاوية ومنهم رؤساؤهم الأربعة وبنو الحارث بن معاوية فاتخذوا لأنفسهم محاجر حموها وطابقوا على منع الصدقة ، وانضمّ إليهم أقوام من السكاسك والسكون وأهل حضرموت.

واجتمع جمع منهم حول زياد وعرضوا عليه أن يغيروا على اولئك ، فقال : شأنكم ، فأكبوا على بني عمرو بن معاوية في محاجرهم في خمس فرق من خمسة أوجه ، فقتلوا الرؤساء الأربعة واختهم وغيرهم ، وضعفوا وهربوا ، وغنموا أموالهم وسبوا منهم سبايا ومرّوا بهنّ على عسكر بني الحارث بن معاوية وعليهم الأشعث بن قيس الكندي ، واستغاث النساء به ، فثار بعسكره فأنقذهنّ.

ثم جمع إلى بني الحارث بني عمرو ومن أطاعه من السكاسك وقبائل ما حولهم.

وعلم زياد باتجاه المهاجر إليه فكتب إليه بذلك يستحثّه ، فتلقّاه الرسول بكتابه وقد قطع صحراء الصّهيد ما بين مأرب وحضرموت ، فاستخلف المهاجر عكرمة على جيشه وتعجّل بجيشه حتى قدم على زياد ، فالتقوا بالأشعث في محجر الزّرقان.

وكان الأشعث رمّم حصن النّجير ، فلما تقاتل وهرب لجأ هو وجمعه إلى حصن النجير ، وتابعهم المهاجر وجيشه وزياد وعسكره ، وكان لحصن النجير ثلاثة طرق ، فنزل كل واحد منهما على طريق ، وانتظروا عكرمة فنزل على الثالث فقطعوا طرقهم.

وبعث المهاجر يزيد بن قنان في خيل إلى قرى برهوت وبني هند فقاتلوا من بها من كندة.

وبعث ربيعة الحضرمي وخالد المخزومي إلى الساحل فقاتلوا أهل محيى وأحياء أخر من كندة.


وبلغ ذلك أهل الحصار فجزّوا نواصيهم متعاقدين على الموت وأن لا يفرّوا.

فلما أصبحوا خرجوا يقاتلون بفناء الحصن وعلى كل طريق من الطرق الثلاثة حتى انهزموا (١).

وكان النعمان بن الجون الكندي الذي أهدى ابنته إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال أزيدك أنها لم تجع شيئا قط! فقال : لو كان لها عند الله خير لاشتكت ، ورغب عنها (٢) وطلّقها ، كان هو وابنته في عدن باليمن ، فلما نزلها عكرمة خطبها وتزوجها وأوصلها أبوها إلى عكرمة وهو بالجند ينتظر المهاجر. وكان الأشعث علم ذلك فبعث إلى عكرمة بطلب الأمان فآمنه وأوصله إلى المهاجر ، واستأمن منه لنفسه وماله وتسعة معه وأهليهم ، على أن يفتحوا لهم الباب فيدخلوا على قومه! فقال له المهاجر : اكتب ما شئت وهلمّ إلى أختمه ، فكتب أمانهم ولما لم يبق إلّا أن يكتب نفسه وثب عليه أحدهم بشفرته وهدّده أن يكتبه ، فتعجل وكتبه ودهش أن يكتب نفسه ، ثم جاء بالكتاب فختمه ، ورجع فسرّ بهم ، ثم فتح الباب.

فاقتحمه المسلمون وقتلوا المقاتلين ، وفي الحصن ألف امرأة فسبوهنّ ، وجاء الأشعث باولئك النفر فعرضهم على كتابه فإذا ليس فيه اسمه ، فقال المهاجر : الحمد لله الذي أخطأ نوءك (نجمك) يا عدوّ الله وهمّ بقتله ، فشفع له عكرمة أن يبعث به مع السبايا إلى أبي بكر ، فقبل المهاجر المشورة وبعث به مع السبي ، فكان سبايا قومه يلعنونه لغدره بهم.

__________________

(١) الطبري ٣ : ٣٣٣ ـ ٣٣٦.

(٢) الطبري ٣ : ٣٣٧ و٣٤٠ ، وفي اليعقوبي ٢ : ٨٥ : أن عكرمة تزوج قتيلة اخت الأشعث الكندي.


وكان الأشعث لما قدم على رسول الله خطب أم فروة بنت أبي قحافة من أخيها أبي بكر ، فلما قدم على أبي بكر قال له : ما تراني صانعا بك؟ قال : أنت أعلم ، قال : فإني أرى قتلك! قال : أو تحتسب فيّ خيرا : تطلق اسارى وتقيلني عثرتي وتقبل إسلامي وتردّ عليّ زوجتي (أم فروة)! فقبل منه وزوّجه اخته ، وأخذ خمس المغنم وقسّمه ، وبقى الأشعث بالمدينة حتى فتح العراق (١).

وكتب أبو بكر إلى المهاجر يخيّره بين حضرموت واليمن ، وأن يقرّ زياد بن لبيد على عمله (!) ولكن يمدّه بعبيدة بن سعد ، فجعل المهاجر زيادا على حضرموت ، وعبيدة بن سعد على كندة السكاسك ، وهو اختار اليمن مع فيروز الديلمي في صنعاء (٢).

ورفع إليه امرأتان غنّت إحداهما بشتم رسول الله والاخرى بهجو المسلمين ، فنزع ثناياهما وقطع يدهما ، وبلغ ذلك أبا بكر فكتب إليه بقتل الشاتمة وتأديب الهاجية ونهاه عن المثلة إلّا قصاصا (٣).

__________________

(١) الطبري ٣ : ٣٣٧ ـ ٣٣٩ ، وذكر مختصر خبر النجير وقتل الملوك الأربعة وأمان الأشعث في تاريخ خليفة : ٩١ ، واليعقوبي ٢ : ١٣٢.

(٢) الطبري ٣ : ٣٣١ و٣٤١.

(٣) الطبري ٣ : ٣٤١ ، ٣٤٢ ، عن سيف عن موسى بن عقبة صاحب المغازي.



أهم حوادث

السنة الثالثة عشرة



بداية أخبار العراق :

لما انتهى الملك في فارس إلى ابنة خسرو پرويز الساساني (١) شاع في العرب أن لا ملك لفارس وإنما ملكتهم ابنة ملكهم ، وكان بنو بكر بن وائل وبنو شيبان يراوحون في ما بين البصرة والحيرة حوالي السماوة والناصرية اليوم والقادسية من ثغور العراق. فأقبل رجلان منهم يغيران بجمعهما على القرى القريبة منهم فيأخذان ما قدرا عليه ، فإذا طلبا أمعنا في البرّ فلا يتّبعونهم : أحدهما سويد الذهلي في نواحي ثغر البصرة الأبلّة ، والآخر : المثنى بن حارثة الشيباني في نواحي الحيرة ، وذلك في خلافة أبي بكر (٢).

__________________

(١) تنبّه لهذا التحليل والتعليل الدينوري في الأخبار الطوال : ١١١ قال : لما أفضى الملك إلى بوران بنت كسرى .. وذكر بوران المسعودي في التنبيه والإشراف : ٩٠ وقال : كان ملكها في السنة الثانية للهجرة ، وملكت سنة وستة أشهر. فليس ملكها هو المقصود هنا ، ولكنه ذكر اختها آزرميدخت وقال : قتلت في العاشرة للهجرة. وهذه يمكن أن تكون المقصودة بالتحليل.

(٢) الأخبار الطوال : ١١١ ، بينما روى الطبري عن الكلبي عن أبي مخنف : أن المثنّى


ثم كتب المثنى إلى أبي بكر يعلمه ضرواته بفارس ووهنهم عنه ، ويسأله أن يمدّه بجيش عليهم. وكان خالد بن الوليد قد فرغ من حروب الردّة فكتب إليه أبو بكر أن يسير إلى المثنّى (١) وأن يبدأ بفرج الهند : الأبلّة : البصرة (٢) فسار في المحرم سنة اثنتي عشرة (٣) وكان بنو شيبان على طريقه فحمل عليهم فقالوا : انا مسلمون فتركهم وتبعه منهم قطبة بن قتادة بجمعه (٤).

ونزل خالد بالنّباج والمثنّى في خفّان (٥) وكان مع خالد كتاب من أبي بكر إلى المثنّى يأمره فيه بطاعة خالد ، فكتب إليه خالد وبعث بكتاب أبي بكر إليه فأتاه. وأخذ خالد يسير في الثغور إلى الّيس (٦) فخرج إليه صاحب الّيس : جابان بجيشه ، فبعث خالد إليه المثنّى فالتقى به إلى جانب نهر فقاتلهم حتى هزمهم ثم صالح أهل الّيس.

__________________

ابن حارثة قدم على أبي بكر وقال له : أمّرني على قومي أكفيك ناحيتي واقاتل من يليني من أهل فارس ، ففعل أبو بكر ذلك ، فرجع وجمع قومه وأخذ يغير في أسفل الفرات إلى ناحية كسكر ، وكان معسكرا في خفّان. الطبري ٣ : ٣٤٤. خفّان نحو البصرة ، مركز بني شيبان ، وكسكر قرب قلعة سكر. انظر أطلس تاريخ الإسلام الخارطة : ٦٢.

(١) الأخبار الطوال : ١١١.

(٢) كانت مفترق الطرق برّا ، وبحرا إلى الهند وغيرها ، ولذلك أسماها الفرس : بسراه أي كثيرة الطرق ، كما في معجم البلدان ٢ : ١٩٣. والأبلّة : آب پل : أي جسر الماء.

(٣) الطبري ٣ : ٣٤٣ هذا وقد مرّ أن قتل مسيلمة كان في ربيع الأول سنة ١٢ فهذه سنة ١٣.

(٤) تاريخ خليفة : ٦١ وانظر أطلس تاريخ الإسلام : ١٤٢ من الترجمة الفارسية.

(٥) النّباج وخفّان من منازل بني شيبان في حدود العراق نحو البصرة ، انظر النباج في الخارطة : ٩ ، وخفّان في الخارطة : ٦٢ من أطلس تاريخ الإسلام.

(٦) الّيس من ثغور العراق قرب السماوة ، انظر الخارطة : ٦٢ في أطلس تاريخ الإسلام.


ودنا من الحيرة ، فخرجت إليه خيول آزاد به صاحب خيل كسرى التي كانت في مخافر الحدود بينهم وبين العرب ، فتوجّه إليهم المثنّى فهزمهم.

فلما رأى ذلك أهل الحيرة خرجوا يستقبلون خالدا ، وفيهم هانئ بن قبيصة الطائي وعبد المسيح بن عمرو ، فقال لهم خالد : إني أدعوكم إلى الإسلام فإن قبلتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا ، وإن أبيتم فالجزية ، وإن أبيتم فالحرب. فقالوا : لا حاجة في حربك ، فصالحهم على أن يكونوا له عيونا.

ثم نزل على بانقيا فصالحهم (١).

وروى ابن الخيّاط عن الشّعبي أن خالدا افتتح نهر الملك وهزمزجرد (قلعة هرمز) وباروسما (قرب بابل) ووجّه المثنّى إلى سوق بغداد فأغار عليها (٢).

غزو الشام :

قال اليعقوبي : وأراد أبو بكر أن يغزو الروم ، فشاور جماعة من أصحاب رسول الله فقدّموا وأخّروا ، فاستشار عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فأشار أن يفعل وقال : إن فعلت ظفرت! فقال أبو بكر : بشّرت بخير!

فقام أبو بكر وخطب ودعاهم لغزو الروم ، فسكتوا. فقام عمر وقال : لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لانتدبتم. فقام عمرو بن سعيد بن العاص وقال له : يا ابن الخطّاب تضرب لنا أمثال المنافقين ، فما يمنعك أنت؟! فقام أخو عمرو : خالد بن سعيد وأسكت أخاه وقال : ما لنا إلّا الطاعة ، فجزّاه أبو بكر خيرا وعيّنه أميرا لذلك.

__________________

(١) الطبري ٣ : ٣٤٥ ـ ٣٤٦ ، عن الكلبي عن أبي مخنف ، وقريب منه عن ابن إسحاق : ٣٤٣ ، وراجع فتوح البلدان للبلاذري : ١٣١ ـ ٢٩٨ ، وعبد الله بن سبأ ٢ : ٧٥ فما بعدها.

(٢) تاريخ خليفة : ٦٢.


فخلا عمر بأبي بكر وقال له : أتولّي خالدا وقد حبس عنك بيعته وقال لبني هاشم ما بلغك؟! فو الله ما أرى أن توجّهه!

فحلّ أبو بكر لواءه ودعا يزيد بن أبي سفيان وأبا عبيدة بن الجرّاح وشرحبيل ابن حسنة وعمرو بن العاص فعقد لهم وقال : إذا اجتمعتم فأمير الناس أبو عبيدة.

وقدمت عليه العشائر من اليمن فأنفذهم جيشا بعد جيش. وكتب إليه أبو عبيدة بإقبال ملك الروم بجيش عظيم وتتابعت كتبه بأخبار جموع الروم (١).

فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد بالعراق أن يخلّف المثنّى في العراق ويسير هو إلى الشام ، فخلّف خالد المثنّى بجيشه بالعراق ونفذ هو في أهل القوة معه نحو الشام (٢) ليس عن طريق نينوى وشمال العراق بل عن طريق الأنبار والأردن وصحراء الشام ، فسار من الحيرة نحو بابل.

خبر عين التمر :

قال اليعقوبي فلما صار إلى عين التمر (نحو بابل) لقى رابطة لكسرى (من العرب) عليهم عقبة النمري ، فتحصّنوا منه في حصن عين التمر ، ثم نزلوا على حكمه ، فقتل النمري (٣) وأسر جماعة يبلغ عددهم أربعين ، فمنهم سيرين أبو محمد بن سيرين ، ومنهم يسار أبو إسحاق أبو محمد بن إسحاق صاحب السيرة ، ومنهم نصير أبو موسى بن نصير (٤) القائد الأموي.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٣٣.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٣٣. وبلغ هر قل ملك الروم ورود العرب إلى الشام فوجّه لحربهم البطريرك سرجيس في خمسة آلاف ـ مختصر تاريخ الدول لابن العبري : ٩٩.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٣٣.

(٤) تاريخ خليفة : ٦٢ ، وعن ابن إسحاق نفسه في الطبري ٣ : ٤١٥.


ثم سار حتى لقي جمعا من بني تغلب النصارى عليهم الهذيل بن عمران فقاتله وقتله وسبى منهم كثيرا بعث بهم إلى المدينة. وبعث إلى كنيسة اليهود فأخذ منهم عشرين غلاما.

وصار إلى الأنبار فأخذ منهم دليلا دلّه على طريق المفازة (الصحراء) في ثمانية أيام.

فمرّ ببلدة تدمر فتحصّن أهلها فحاصرهم حتى صالحهم.

ثم صار إلى غوطة دمشق وعبرها إلى الثنية التي سمّيت ثنيّة العقاب باسم رايته البيضاء ، ثم صار إلى حوران ، ثم قصد مدينة بصرى ، فحاربهم ثم صالحهم (مع ابن الجرّاح والآخرين).

ثم صاروا إلى أجنادين من فلسطين وبها اجتماع الروميين ، فكانت بينهم وقعات صعبة وحاربوهم حربا شديدة ، في كل ذلك يهزم الله الروم وتكون العاقبة للمسلمين ، حتى تفرق جمع الكفرة ، وكانت ليومين بقيتا من جمادى الأولى سنة (١٣) (١).

ويزعم بعضهم أن عمرو بن العاص كان عليهم ، وقتل فيها أخوه هشام بن العاص السهمي ، والفضل بن العباس (وهبّار بن الأسود).

وفي جمادى من هذه السنة كانت وقعة مرج الصفر ، وأميرهم خالد بن سعيد بن العاص ، معه أخواه أبان وعمرو ، فقتلوا ومعهم عكرمة بن أبي جهل ، وقتل من المشركين مقتلة عظيمة حتى هزمهم الله (٢) ثم ساروا إلى دمشق فحاصروها (٣).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٣٤ ، وتاريخ خليفة : ٦٣ ، والطبري ٣ : ٤١٨ ، وأجنادين بين بيت جبرين والرملة في فلسطين.

(٢) تاريخ خليفة : ٦٣.

(٣) التنبيه والإشراف : ٢٤٨.


وقال اليعقوبي هنا : ووجّه أبو بكر العلاء بن الحضرمي في جيش من أرض البحرين لفتح الزّارة فافتتحها (١) وقال البلاذري : بل صالحوه على أن يأخذ النصف مما هو لهم خارجها وعلى ثلث المدينة وثلث ما فيها من ذهب وفضة (وكانوا قد بعثوا بذراريهم إلى دارين من البحرين) فأخبره بذلك الأخنس العامري ودلّه كراز النكري على مخاضة إليهم قليلة المياه فاقتحمها إليهم مكبّرا فخرجوا إليه وقاتلوه فقاتلهم فقتلهم ، وسبى أهلهم وذراريهم (٢). فكان أول ما قسمه أبو بكر في الناس دينارا لكل إنسان الحر والعبد والأحمر والأسود (٣).

أبو بكر وسهم ذوي القربى :

هذا ، وقد أجمع أهل العلم كافّة على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقسم خمسه من المغنم سهمين فسهم له وسهم لذوي قرباه من هاشم حتى توفّاه الله إليه ، من دون أن يعهد بتغيير ذلك ، فلما ولي أبو بكر أسقط هذين السهمين بموته ومنع بني هاشم منه ، وجعلهم كغيرهم من يتامى المسلمين ومساكينهم وأبناء السبيل (٤) هذا في خمس المغانم ، ومن الزكاة.

أبو بكر وسهم المؤلّفة قلوبهم :

أول ما أعطى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله للمؤلّفة قلوبهم كان من غنائم هوازن في حرب حنين

__________________

(١) اليعقوبي ٢ : ١٣٤.

(٢) فتوح البلدان للبلاذري : ١٠٤. وانظر العسكري في عبد الله بن سبأ ٢ : ١٩٣ ـ ٢٠٠.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٣٤.

(٤) راجع النص والاجتهاد : ٥٠ ـ ٥٥ المورد ٦ مع تعاليق أبي مجتبى الشيخ حسين الراضي ، ط. قم.


في السنة الثامنة ، وفي التاسعة بعد عودته من تبوك نزلت سورة التوبة وفيها آية موارد الصدقات ومنها المؤلفة قلوبهم. فكان الذين يعطيهم رسول الله من الصدقات بهذا العنوان منهم رجال من أشراف العرب يتألّفهم ليسلموا ، ومنهم مسلمون كذلك ولكنهم ضعاف الإيمان فيتألّف بها قلوبهم ، منهم الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن (١).

ومرّ فيمن صار مع طلحة الأسدي بنو فزارة بزعيمهم عيينة بن حصن ثم كذّبه وتركه بحزبه ، وأن خالدا ظفر به فأسره وأرسله إلى أبي بكر فكان يقول : ما آمنت بالله قط ، وأسلم فتركه (٢).

ولعله هنا أو بعده استبطأ عطاءه سهمه من الصدقة لتأليفه فجاء بجمعه إلى أبي بكر على عادتهم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكتب أبو بكر لهم بذلك ، فذهبوا بكتابه إلى عمر ليأخذوا خطّه عليه (!) فمزّقه وقال : لا حاجة لنا بكم ، فقد أعزّ الله الإسلام وأغنى عنكم ، فإن أسلمتم وإلّا فالسيف بيننا وبينكم! فرجعوا إلى أبي بكر فقالوا له : أنت الخليفة أم هو؟ فقال : بل هو إن شاء ، وأمضى ما فعله عمر من منع المؤلّفة قلوبهم من سهمهم (٣).

ولعل عيينة بن حصن والأقرع بن حابس لما احتبس عنهم سهمهم وبعد فترة جاءا إلى أبي بكر وقالا له : إن عندنا أرضا سبخة لا ماء فيها ولا كلأ ، فإن رأيت أن تقطعناها لعل الله ينفعنا بها بعد اليوم نحرثها ونزرعها!

ولم يكن عمر حاضرا ، فسأل أبو بكر من حوله : ما تقولون! قالوا : لا بأس. فكتب لهم بها.

__________________

(١) انظر النصّ والاجتهاد : ٤٣ المورد ٥.

(٢) الطبري ٣ : ٢٦٠.

(٣) انظر النص والاجتهاد : ٤٣ المورد ٥.


فانطلقا إلى عمر ليشهد لهم بما فيه (!) فأخذه منهم وتفل فيه ومحاه! فتذامرا وقالا سوءا وعادا إلى أبي بكر وقالا : ما ندري أأنت الخليفة أم عمر؟ فقال : بل هو لو شاء كان.

وجاء عمر غضبانا فوقف وقال : أخبرني عن هذه الأرض التي أقطعتها هذين أهي لك خاصة أم بين المسلمين؟ قال : بل بين المسلمين. فقال : فما حملك على أن تخصّ بها هذين؟ قال : استشرت الذين حولي. فقال : أو كلّ المسلمين وسعتهم مشورة ورضى؟! فقال أبو بكر : قد كنت قلت لك : إنك أقوى على هذا الأمر مني ، لكنّك غلبتني (١) ومن خلال ذلك يعلم أنّ عمر كان وزيره الأول.

وفي حدّ السرقة المكررة :

روى البيهقي في سننه بسنده عن القاسم الفقيه ابن محمد بن أبي بكر : أن أبا بكر أراد أن يقطع رجلا بعد اليد والرجل ، فقال عمر : السنّة اليد.

وروى تفصيله عن صفيّة بنت أبي عبيد : أن رجلا سرق على عهد أبي بكر قد قطعت من قبل يده ورجله ، فأراد أبو بكر أن يدع يده الأخرى يتطهّر بها وينتفع ويقطع رجله الأخرى ، فقال عمر : لا والذي نفسي بيده لتقطعنّ يده الأخرى. فقطعت يده (٢).

__________________

(١) ذكر الخبر المعتزلي في شرح النهج ١٢ : ٥٨ ـ ٥٩ فيما ذكره من أخلاق عمر وسيرته بلا ذكر مصدر! وذكره العسقلاني في ترجمة عيينة من الإصابة. ونقله عنهما في النص والاجتهاد : ٤٤ هامش المورد ٥.

(٢) سنن البيهقي ٨ : ٢٧٣ ـ ٢٧٤ ، وانظر الغدير ٧ : ١٢٩.


ومن أحاديث المواريث :

مضت السنّة على أن أبا الميت يحجب أخوات الميت واخوته عن توارثهم من تركته ، ولكنهم لا يحجبون بالجدّ بل يشاركهم في السدس ، ولذا روي عن الحسن البصري : أن الجدّ قد مضت سنته ، ولكنّ أبا بكر جعل الجدّ أبا ، ثم تخيّر الناس (١) أي أن الخليفة خالف السنة في ذلك ، ثم تخيّر الناس فرجعوا إلى السنة وخالفوه في مغالاته لجانب الجد دون الإخوة.

هذا في الجدّ ، وعكس الأمر في الجدّة ، وكأنهم حرموها الإرث لجانب الرجال ، فجاءت إلى أبي بكر تسأله ميراثها ، فقال لها : ما علمت لك شيئا في كتاب الله ولا سنة رسوله ، حتى أسأل الناس. فغار لها المغيرة بن شعبة فشهد أن رسول الله أعطاها السدس ، ولعله لم يثق بالثقفيّ أو لم يكتف بشهادة العدل الواحد! وأرادها بيّنة شرعية فقال : وهل معك غيرك؟ فصدّقه محمد بن مسلمة الأنصاري ، فأنفذ لها السدس (٢).

والجدّة هنا ـ كما ترى ـ مشتركة بين الجدة للأب والجدة للأم بلا تعيين في الخبر ، ولعلها كانت الجدة للأم ، فكأن أبا بكر رأى ذلك خاصّا بها : فقد رووا عن القاسم الفقيه ابن محمد بن أبي بكر قال : أتت جدّتان إلى أبي بكر ، فأراد أن يجعل السدس للتي من قبل الأم ، وفي لفظ آخر : فأعطى الميراث (السدس) أمّ الأم دون أمّ الأب! فقال له عبد الرحمن بن سهل الحارثي : لقد أعطيت التي لو أنها ماتت لم يرثها ، وتترك الذي لو ماتت وهو حيّ كان إياها يرث! فجعل أبو بكر السدس بينهما (٣).

__________________

(١) سنن الدارمي ٢ : ٣٥٢ ـ ٣٥٣ ، ومصادر أخر في الغدير ٧ : ١٢٩ ـ ١٣١.

(٢) الموطأ لمالك ١ : ٣٣٥ ، والمسند لأحمد ٤ : ٢٢٤ ، وساير المصادر في الغدير ٧ : ١٢٠.

(٣) الموطأ لمالك ١ : ٣٣٥ ، وساير المصادر في الغدير ٧ : ١٢٠ ـ ١٢١.


وفي كتابة ورواية الحديث :

وطبيعيّ أن تناقل مثل هذه الأخبار مما لا يرغب فيه فضلا عن تدوينه ، فلعلّ مثل هذا ـ بالإضافة إلى الحفاظ على أساس الشرعية السياسية بل الدينية لخلافتهم ـ هو الذي دفع أبا بكر إلى أن :

جمع الناس .. فقال لهم : إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشدّ اختلافا ، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا! فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه (١).

فهل في حلال كتاب الله وحرامه الحكم بعد رسول الله نصّا صريحا؟ نعم ذلك في أحاديث رسول الله وهي ما إذا حدثوا بها اختلفوا فيها ويشتد الخلاف فيها في الناس ، ولذا فلا يحدثوا عنه شيئا ، ومن سألهم عن ذلك شيئا فليقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله! ولو كان نهى عنه رسول الله (٢).

ويبدو أنه إنما عزم على هذا أخيرا بعد أن : جمع خمس مائة حديث ، وكأنه كان يريد أن يدوّنها ، ولكنه بدا له بعد ذلك فبات ليلة يتقلّب ويفكر في ذلك كثيرا ، حتى قالت عائشة : فغمّني كثيرا فقلت : يتقلّب لشكوى أو لشيء بلغه ، فلما أصبح قال : أي بنيّة ، هلمّي الأحاديث التي عندك. فجئته بها ، فأحرقها (٣).

وعلى أيّ حال ، فهذه هي بداية محاولة التضييق مهما أمكن على حديث الرسول رواية وكتابة.

__________________

(١) انظر : أبو بكر ورواية الحديث ، في كتاب : من تاريخ الحديث ، للمؤلف.

(٢) من تاريخ تدوين الحديث ، للمؤلف.

(٣) المصدر الأسبق ، والنص والاجتهاد : ١٣٩ المورد ١٤ ، وتدوين السنة الشريفة : ٢٦٣ ـ ٢٦٦ و٤٢٤ ـ ٤٢٨ ، ونصوص الحديث : ٥١.


وفاة أبي بكر وعهده إلى عمر :

روى الطبري عن الواقدي عن الزهري عن عائشة وعن أخيها عبد الرحمن ابن أبي بكر : أنّ أباه أبا بكر اغتسل في اليوم السابع من جمادى الآخرة ، وكان يوما باردا فأصيب بالحمّى خمسة عشر يوما لا يخرج إلى الصلاة فيصلي بهم عمر ، والناس يعودونه وعثمان ملازمه وهو كاتبه (١).

فروى عن الواقدي بسنده قال : كان أبو بكر خاليا بعثمان فقال له : اكتب :

«بسم الله الرحمنِ الرحيم ، هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين ، أما بعد .. ثم أغمي عليه ، فكتب عثمان : فإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ، ولم آلكم خيرا منه» ثم أفاق أبو بكر فقال لعثمان : اقرأ عليّ ، فقرأه عليه ، فقال : أراك خفت أن يختلف الناس إن افتلتت نفسي في غشيتي! قال : نعم ، فأقرّها أبو بكر.

وخرج عمر من عنده ومعه مولى أبي بكر : شديد ، ومعه الصحيفة فيها استخلافه عمر ، وبيد عمر جريدة يشير بها إلى الناس ويقول : أيها الناس اسمعوا قول خليفة رسول الله (٢).

وقيل : بل خرج هو بالكتاب ، فقال له رجل : ما في الكتاب يا أبا حفص؟ قال : لا أدري! فقال الرجل : لكنّي والله أدري ما فيه : أمّرته عام أول وأمّرك العام (٣).

وروى ابن شاذان عن البكّائي عن إياس بن قبيصة الأسدي قال : سمعت أبا بكر يقول (قبل موته) : ندمت على أن (لا) أكون سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) الطبري ٣ : ٤١٩ ـ ٤٢٠.

(٢) الطبري ٣ : ٤٢٩ ، وانظر السيد العسكري في عبد الله بن سبأ ٢ : ١٠٠.

(٣) الإمامة والسياسة لابن قتيبة : ٢٥.


عن ثلاث كنت أغفلتهنّ ، وودت أني كنت فعلت ثلاثا لم أفعلهنّ ، ووددت أني لم أكن فعلت ثلاثا كنت فعلتهنّ.

فسئل : ما هنّ؟ فقال : ندمت أن لا أكون سألت رسول الله عن هذا الأمر لمن هو من بعده؟ وأن لا أكون سألته عن (إرث) الجدّ (ة) وأن لا أكون سألته عن ذبائح أهل الكتاب.

وأما الثلاث اللاتي فعلتهنّ وليتني لم أفعلهنّ : فكشفي بيت فاطمة (صلوات الله عليها) وتخلّفي عن بعث أسامة ، وتركي الأشعث بن قيس أن لا أكون قتلته ؛ فإني لا أزال أراه يبغي للإسلام عوجا.

وأمّا الثلاث اللاتي لم أفعلهنّ وليتني كنت فعلتهنّ : فوددت أني كنت أقدت من خالد بن الوليد بمالك بن نويرة ، ووددت أني لم أتخلّف عن بعث أسامة ، ووددت أني كنت قتلت عيينة بن حصن وطليحة بن خويلد (١).

وروى الطبري بطرق منها عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : كان أبو بكر تاجرا وكان منزله بالسنح حول المدينة حتى ستة أشهر بعد النبيّ ، ثم نزل المدينة وترك التجارة وتفرّغ للأمر ، ففرضوا (؟) له في كل سنة ستة آلاف درهم. فلما حضرته الوفاة قال : انظروا كم أنفقت منذ ولّيت من بيت المال فأقبضوه عنّي بأرضي التي بمكان كذا (؟) فوجدوا مبلغه ثمانية آلاف درهم (٢).

__________________

(١) الإيضاح : ١٥٩ ـ ١٦١ ، ومختصره في الاستغاثة : ٢١ ، وبتمامه باختلاف في الخصال ١ : ١٧١ ـ ١٧٣ باب الثلاثة عن عبد الرحمن بن عوف الزهري. وفي تلخيص الشافي ٣ : ١٧٠ ، الطعن السادس ، ومناقشته في شرح النهج للمعتزلي ١٧ : ١٦٤ ، الطعن الثالث ، ونقل الخبر في ٢ : ٤٥ ـ ٤٧ ، عن الكامل للمبرد ١ : ٥٤ ـ ٥٥.

(٢) الطبري ٣ : ٤٣٢ ـ ٤٣٣.


وأوصى أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس ويصبّ الماء ابنه عبد الرحمن وأوصى إلى ابنته عائشة أن يدفن إلى جنب النبيّ. وتوفي في غيبة الشمس أو بين المغرب والعشاء وصلّى عليه عمر وحفروا له بحيث جعل رأسه عند كتفي أو رجلي النبيّ من خلفه (١) ، وسطّح القبر ورش عليه الماء والعرصة حمراء.

وأقامت له ابنتاه عائشة وأسماء ومعهن أم فروة اخته زوجة الأشعث بن قيس مجلس النياحة ومعهنّ نسوة ، وذلك في حجرة عائشة ولعله حول القبرين. وأقبل عمر ومعه هشام بن الوليد (أخو خالد المخزومي) وبيده درّته! حتى وقف بباب الحجرة بحيث يسمعن صوته فنهاهن عن ذلك ، فلم يقلعن فنادى : يا هشام ، ادخل فأخرج إليّ ابنة أبي قحافة اخت أبي بكر. وسمعته عائشة ، وأراد هشام ليدخل فقالت له عائشة : إني أحرّج عليك بيتي! وناداه عمر : ادخل فقد أذنت لك! فدخل هشام وعرف أمّ فروة فأخذها إلى عمر فعلاها بدرّته! وضربها ضربات ، فتفرق النسوة (٢).

__________________

(١) على اختلاف الروايتين عن القاسم بن محمد بن أبي بكر في الطبري ٣ : ٤٢٢ ـ ٤٢٣ ، والتنبيه الإشراف : ٢٥١ ، فراجع وقارن واعجب للفرق وقل : من أين نشأ هذا؟!

(٢) الطبري ٣ : ٤٢١ ـ ٤٢٣ ، عن ابن سعد الطبقات الكبرى ٣ : ٢٠٩ ، وفي تاريخ المدينة للنميري البصري ١ : ٦٧٦ عن الزهري ، ولم يرو عن عائشة تخطئة لعمر على مثل ذلك إلّا عند وفاته لما أخبرها بوفاته ابن عباس فقالت : رحم الله عمر! والله ما حدّث رسول الله : إنّ الله ليعذّب المؤمن ببكاء أهله عليه لكنه قال : إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه. البخاري ٢ : ١٠١ ، ومسلم ٦ : ٢٣٢ ، وفي اليعقوبي ٢ : ١٥٧ : لما بلغه وفاة خالد بن الوليد جزع وبكاه آل عمر وقال عمر : حق لهن أن يبكين على أبي سليمان! وكان ابن خاله ٢ : ١٣٩ ، ومع ذلك لم تجرؤ عائشة على تلك التصحيحة لحديثه على عهده قبل موته!


ووصفت عائشة أباها فقالت : كان أبيض يخالطه صفرة ، ناتئ الجبهة ، معروق الوجه (ـ قليل اللحم) غائر العينين خفيف العارضين يخضبهما بالحنّاء والكتم ، عاري الأصابع ، دقيق الساقين ممحوص الفخذين يسترخي إزاره عن حقويه لا يكاد يمسكه ، حسن القامة أحدبها (١) وكان لبسه في خلافته الشملة وعباءة (٢).

وتوفي في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة للسنة (١٣ ه‍) وفيه مات عامله بمكة عتّاب بن أسيد (٣) وهند ابنة عتبة زوجة أبي سفيان (٤).

__________________

(١) الطبري ٣ : ٤٢٤ ، عن ابن سعد في الطبقات الكبرى ٣ : ١٨٨.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٢٩٨.

(٣) الطبري ٣ : ٤١٩.

(٤) التنبيه والإشراف : ٢٤٩.


خلافة

عمر وعصره



ولاية عمر ولسانه وعصاه :

وفي صبيحة اليوم الثالث والعشرين من جمادى الثانية دخل عمر المسجد وصعد منبر رسول الله فكان أول نطق نطق به أن قال للناس : إني قائل كلمات فأمّنوا عليهنّ. ثم قال : إنما مثل العرب مثل جمل أنف اتّبع قائده! وأما أنا فو ربّ الكعبة لأحملنّهم على الطريق (١)(٢).

فقام إليه رجل وقال : (يا خليفة خليفة رسول الله) أدنو منك؟ فإنّ لي حاجة. فقال عمر : لا! فقال الرجل : إذن أذهب فيغنيني الله عنك! ثم ولّى ، فقام عمر واتّبعه حتى أخذ بثوبه وقال له : ما حاجتك؟ قال : بغضك الناس وكرهوك!

وكان مرض أبي بكر قد بلغ أهل الشام واستبطؤوا خبره ، فقال بعضهم : فابعثوا رجلا فبعثوا رجلا حتى قدم على عمر ، فلما أتاه سأله عن حال الناس فقال : صالحون سالمون وهم لولايتك كارهون ومن شرّك مشفقون ، فأرسلوني انظر أحلو أنت أم مرّ (٢).

__________________

(١) الطبري ٣ : ٤٣٣.

(٢) الإمامة والسياسة لابن قتيبة : ٢٥.


وقال اليعقوبي : إنّه حمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ ، وذكر أبا بكر وترحّم عليه وقال : وما أنا إلّا رجل منكم ، ولو لا أني كرهت أن أردّ أمر خليفة رسول الله لما تقلدت أمركم (كذا) ثم قال : وإني كرهت أن يصير سبي العرب سنّة. فردّ سبايا أهل الردة إلى عشائرهم (١).

وقال ابن الوردي : إنه قال في أول خطبته : يا أيها الناس ، والله ما فيكم أحد أقوى عندي من الضعيف حتى آخذ الحق له ، ولا أضعف عندي من القوي حتى آخذ الحق منه (٢).

عمر والعراق والشام :

مرّ الخبر عن اليعقوبي : أن الجرّاح تتابعت كتبه إلى أبي بكر بإقبال ملك الروم بجيش عظيم فكتب أبو بكر إلى خالد المخزومي بالعراق أن يخلّف المثنّى في العراق ويسير هو إلى الشام ففعل خالد ذلك (٣) فالمثنّى في العراق شعر من الفرس بمثل ما حصل للجرّاح من الروم وارتحل لذلك بنفسه إلى المدينة فحضر موت أبي بكر.

فيقول سيف : إن عمر لما حضر لصلاة الفجر من الليلة التي مات فيها أبو بكر ندب الناس لاستجابة نداء المثنّى إلى العراق قبل صلاة الفجر ، وتتابع الناس يبايعون عمر ثلاثة أيام وعمر يندبهم فلا ينتدب له أحد ؛ وذلك لشدة سلطان الفرس وشوكتهم وعزّهم وقهرهم الأمم.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٣٩.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٣٦.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٣٣.


فروى بسنده عن القاسم بن محمد بن أبي بكر : أن المثنّى خطب في اليوم الرابع لذلك فقال : أيها الناس لا يعظم عليكم ريف فارس ، فإنا قد غلبناهم على خير شقّي السواد وشاطرناهم ونلنا منهم ، واجترأ من قبلنا عليهم ولها إن شاء الله ما بعدها.

ثم قام عمر فقال : أين المهاجرون عن موعود الله؟ سيروا في الأرض التي وعدكم الله في الكتاب أن يورثكموها فإنه قال : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) والله مظهر دينه ومعزّ ناصره ، ومولي أهله مواريث الأمم ، أين عباد الله الصالحون!

فقام أول من قام أبو عبيد بن مسعود الثقفي وانتدب لذلك ثم تبعه جماعة ، فقيل لعمر : أمّر عليهم رجلا من المهاجرين أو الأنصار ، فقال : إن من سبق وأجاب إلى الدعاء أولى بالرئاسة منكم! فلا أؤمّر عليهم إلّا أوّلهم انتدابا. فأمّره على الجيش ومعه سعد بن عبيد وسليط بن قيس الأنصاريان ، فأمر أبا عبيد أن يشركهما في الأمر ويسمع منهما (١).

فلما عبر الثقفيّ القادسية إلى الحيرة لقي جمعا من عسكر الفرس عليهم جابان ، ففضّ جمعه وأسر جابان وجمعا معه ففدوا أنفسهم.

ثم أغار على كسكر ، فلقي جمعا منهم عليهم نرسي ، فقاتلهم حتى هزمهم.

ثم أغار على باروسما وفي حمايتها جمع عليهم ابن الأندرزگر ، وانتهى أمره معهم إلى المصالحة عن كل رأس بأربعة دراهم.

وبعث الثقفي الشيبانيّ إلى زند ورد ، فحاربوه فقاتلهم وأسر منهم ورجع عنهم (٢).

وبعث الثقفي الأسيديّ إلى نهر جوبر فصالحوهم على صلح باروسما.

وبعث الثقفيّ عروة بن زيد الخيل إلى الزوابي فصالحوه على صلح باروسما (٢).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٣ : ٤٤٤ ـ ٤٤٦ ، وفي ٤٤٧ : ومعه من أهل المدينة ومن حولها ألف رجل. والآية : ٩ من سورة الصف.

(٢) تاريخ خليفة : ٦٦.


يوم الجسر :

فلما بلغ كل ذلك إلى ملك فارس دعا ذا الحاجب بهمن بن الهرمزان وعقد له على اثني عشر ألف ، ودفع إليه لواء كانوا يتيمّنون به يسمّونه : درفش كاويان ، وسلّم إليه سلاحا كثيرا مع الفيل الأبيض. وأقبل ذو الحاجب فنزل قسّ الناطف على شاطئ الفرات بينه وبين أبي عبيد الثقفي (١) وأرسل إليه : تعبر إلينا أو نعبر إليك؟ فقال أبو عبيد : نعبر إليكم (٢).

وكان معه سليط بن قيس فقال له : يا أبا عبيد ، إياك أن تقطع هذه اللجّة (الماء) إليهم ، فإني أرى لهم جموعا كثيرة ، والرأي أن ترجع بنا إلى ناحية البادية (بادية الحجاز) وتكتب إلى عمر تسأله المدد ، فإذا أتاك عبرت إليهم فتناجزهم الحرب. فجبنه أبو عبيد ، فقال المثنّى : لا والله ما جبن ، بل أشار عليك بالرأي ، فإياك أن تعبر إليهم فتلقي بنفسك وأصحابك في وسط أرضهم فتنشب فيك مخالبهم! فأبى أبو عبيد ، فعقدوا له الجسر وعبروا إليهم (٣).

__________________

(١) قسّ الناطف في حدود ما بين العباسيات وذي الكفل ، انظر الخريطة : ٦٢ من أطلس تاريخ الاسلام الترجمة الفارسية.

(٢) تاريخ خليفة : ٦٦.

(٣) تاريخ مختصر الدول لابن العبري : ١٠٠ وروى المسعودي : أن بعض الدهاقين عقد له الجسر فلما عبروا وخلّفوا الفرات خلفهم أمر هو بقطع الجسر ، فحينئذ قال له مسلمة بن أسلم الأنصاري البدري : أيها الرجل ، إنّه ليس لك علم بما نرى ، وسوف يهلك من معك بسوء سياستك ، تأمر بجسر قد عقد أن يقطع فلا يجد المسلمون ملجأ من هذه الصحارى والبراري ، فلا تريد إلّا أن تهلكهم في هذه القطعة! وقال سليط ؛ إن العرب لم تلق مثل جمع فارس قط ، ولا كان لهم بقتالهم عادة ، فاجعل لهم ملجأ ومرجعا من هزيمة إن كانت. فقال : والله لا فعلت! جبنت يا سليط! فقال سليط : والله ما جبنت وأنا أجرأ منك


وقدم ذو الحاجب جالينوس ، ومعه لواء درفش كاويان والفيل الأبيض.

وكان أبو عبيد أوصى بإمرة عسكره بعده إلى خمسة غير المثنّى بالتوالي ، ثم اقتتلوا قتالا شديدا ، وضرب الثقفيّ مشفر الفيل فسحقه الفيل فقتل وجميع الأمراء بعده ، وأخذ المثنّى الراية فتراجع بالمسلمين نحو الجسر ، وسبقهم عبد الله بن مرثد أو يزيد الثقفي أو الخطمي نحو الجسر فقطعه يريد حمل المسلمين على القتال ، فاقتحم كثير من المسلمين في الفرات فغرقوا حتى عقدوا الجسر مرة أخرى فعبر الباقون ، وقتل من المسلمين نحو ألفين إلى أربعة آلاف بين قتيل وغريق (١) ، وذلك في ٢٣ من شعبان (١٣ ه‍) يوافق اكتوبر (٦٣٤ م) (٢).

وكتب المثنّى إلى عمر بما جرى من المحاربة ، فكتب إليه عمر أن يقيم إلى أن يأتيه المدد. ثم أرسل عمر إلى قبائل العرب يستنفرهم (٣) ، فقدم عليه من اليمن جرير بن عبد الله البجلي في ركب من بجيلة ، وكان قد ترأسهم عرفجة بن هرثمة الأزدي حليفا لهم فأمّره عمر عليهم وأمرهم بالنفوذ إلى العراق ، فقال جرير : ما الرجل منا ، وصدّقه عرفجة فاستبدله عمر بجرير ، فقدم العراق (٤)

__________________

ـ نفسا وقبيلا ، ولكن والله أشرت بالرأي ... ولو لا أن أكره خلاف الطاعة لا نحزت بالناس ، ولكني اسمع واطيع وإن كنت قد أخطأت وأشركني عمر معك. فقال الثقفي : أيها الرجل تقدم فقاتل فقد حمّ ما ترى! مروج الذهب ٢ : ٣٠٧ ـ ٣٠٨.

(١) تاريخ خليفة : ٦٦. ومروج الذهب ٢ : ٣٠٨ وقال : ومن الفرس ستة آلاف.

(٢) انظر أطلس تاريخ الإسلام : ١٤٢ الترجمة الفارسية.

(٣) تاريخ مختصر الدول لابن العبري : ١٠٠.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ ١٤٢ ـ ١٤٣ ، وفيه : قدم الكوفة. وهي لم تمصّر بعد ، فالصحيح : العراق. وفي مروج الذهب ٢ : ٣١٠ وجعل لهم ربع ما غلبوا عليه من أرض السواد ؛ بل في الطبري ٣ : ٤٦٠ : جعل لهم ربع خمس الغزوة.


فواقع مرزبان (ضابط الثغر) المذار فقتله وانهزم جيشه وغرق أكثرهم في دجلة (١).

يوم البويب :

ثم وجّه سراياه للغارة بأرض السواد مما يلي الفرات ، فبلغ ذلك ملكة الفرس : آزرميدخت بنت كسرى ، فأمرت أن ينتدب من مقاتليهم اثنا عشر ألف فارس من أبطالهم ، فانتدبوا فولّت عليهم عظيم المرازبة (ضبّاط الحدود) : مهران بن مهرويه ، فسار بالجيش حتى وافى الحيرة (فيبدو أنها انتقضت من صلح خالد في عهد أبي بكر) في البويب (٢) وأرسل جرير إلى السرايا فتراجعوا واجتمعوا ، وتهيّأ الفريقان للقتال وزحف بعضهم إلى بعض ، وتطاعنوا بالرماح ، وتضاربوا بالسيوف. وتوسطهم المثنّى يجالدهم بسيفه ، وانهزم بعض العرب فأخذ المثنّى ينتف لحيته غضبا ، فحمل العرب وحمل عليهم الفرس من الزوال إلى غروب الشمس. وخرج مهران فحمل عليه المثنّى فضربه مهران فنبا سيفه وضربه المثنّى فقتله وانهزموا إلى المدائن (٣).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٤٣ والمذار قرب قلعة صالح بين العمارة والناصرية ، فليس على طريق الحيرة. وفي مروج الذهب ٢ : ٣١٠ : أنه توجّه نحو الأبلّة ثم المدائن وأن الوقعة كانت قربها.

(٢) على المشهور في التاريخ ، وسمّاه المسعودي : البجلة. مروج الذهب ٢ : ٣١١ والبويب بين الكوفة وبابل كما في الخريطة : ٦٢ من أطلس تاريخ الإسلام ، ولعل العرب سمّوها البويب ؛ لأنها كانت باب العرب إلى العراق. وفي الطبري ٣ : ٤٦١ : مما يلي موضع الكوفة اليوم.

(٣) تاريخ مختصر الدول لابن العبري : ١٠٠ ـ ١٠١.


وفي اليعقوبي : شدّ المنذر بن حسّان على مهران فطعنه فألقاه وبادر جرير فاحتزّ رأسه فهزموا (١) وثاب المسلمون يدفنون موتاهم ويداوون جرحاهم. وكان ذلك في أواخر شهر رمضان (١٣ ه‍) يوافق نوفمبر (٦٣٤ م) (٢) ثم لحق جرير بكاظمة في طريق البحرين ، وسار المثنى بقومه بكر بن وائل إلى سيراف قرب واقصة إلى زبالة فمات هناك (٣).

عمر ، والشام :

قال اليعقوبي : كان خالد بن الوليد ومن معه من المسلمين فتحوا مرج الصفّر من أرض دمشق (٤) وحاصروا دمشق قبل وفاة أبي بكر بأربعة أيام. وكتب عمر مع مولاه يرفأ إلى أبي عبيدة بن الجراح يخبره بوفاة أبي بكر. ثم كتب له مع شدّاد بن الأوس : ولايته على الشام. ثم ورد إليه كتاب آخر من عمر يأمره أن يتوجّه إلى حمص ، فحينئذ أعلم أبو عبيدة خالدا بكتاب عمر بعزله عن القيادة العامة ونصبه بدله وقام بلال (وكان مع أبي عبيدة) فنزع عمامة خالد وشاطر أبو عبيدة ماله حتى نعاله! فقال خالد : رحم الله أبا بكر فلو كان حيّا ما عزلني (٥) ولم يعتزل العمل مع أبي عبيدة ، فجعله على خيله ، وعلى ميمنته معاذ بن جبل ، وعلى ميسرته هاشم المرقال الزهري ، وعلى الرّجالة سعد بن زيد ، وتوجّه بهم نحو جمع الروم ، فلما بلغهم إقبال أبي عبيدة تحوّلوا إلى فحل ، فتوجه أبو عبيدة إليها. وتقدمهم خالد بخيله فلقيهم

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٤٣.

(٢) انظر أطلس تاريخ الإسلام : ١٤٢ ، وفي تاريخ خليفة : ٧٠ كانت في صفر عام (١٤ ه‍).

(٣) مروج الذهب ٢ : ٣١١.

(٤) وقد مرّ الخبر عن ابن الخياط : أنهم كانوا مع خالد بن سعيد لا خالد بن الوليد.

(٥) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٣٩ ـ ١٤٠.


فهزمهم (١) بعد قتال شديد ، ثم غلبهم المسلمون على أرضهم وحاصروهم شهر رجب وشعبان ورمضان وشوالا ، ثم سألوا أبا عبيدة الصلح في ذي القعدة وتمّ في الثاني والعشرين من ذي الحجة سنة ثلاث عشرة (٢).

أطراف البصرة وتأسيسها :

روى ابن الخياط عن ابن المدائني قال : في (أوائل) سنة أربع عشرة بعث عمر شريح بن عامر السعدي إلى ثغر البصرة وقال له : كن ردءا للمسلمين ، فغزا مسلحة للفرس في دارس نحو الأهواز فقتل وجمع ممن معه.

فبعث عمر في شهر ربيع الأول عتبة بن غزوان المازني فمكث أشهرا لا يغزو.

فبعث عمر على عمله ابن سهل الأنصاري فمات في الطريق قبل أن يصل.

وكان العلاء بن الحضرمي بالبحرين فولّاه عمر عمل عتبة فسار فمات قبل أن يصل.

ثم غزا عتبة فافتتح الأبلّة وأبر قباد وقتل من المسلمين سبعون رجلا. وغزا ميسان ودست ميسان ، وكان عليها تماهيچ بنت كسرى اخت شيرويه. فبعثت آزادان فصالح ابن غزوان على ما وراء نهرها إلى موضع الجسر الأكبر.

وكان عتبة يرتاد للعرب موضعا فلما انتهى إلى وراء منابت القصب آخر البرّ دون الماء قال : هذه ليست من منازل العرب ، فرجع حتى مرّ بموضع مربد البصرة فوجد فيها حجارة رخوة غليظة قرب الخريبة فقال : انزلوها بسم الله ، وسمّاها

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٤٠. وفحل في حدود الاردن وفلسطين.

(٢) تاريخ خليفة : ٦٧ ـ ٦٨ عن ابن اسحاق والكلبي وغيرهما بتفاوت. وفي أطلس تاريخ الإسلام في ٢٨ من ذي القعدة عام (١٣ ه‍) الموافق لجانويه (٦٣٥ م).


البصرة (١) وأمر محجن بن الأدرع بخطّ خطّة للمسجد الأعظم وحجّره بالقصب.

ثم خلّف مجاشع بن مسعود وأمره أن يغزو الفرات ، وأمر المغيرة بن شعبة الثقفي أن يصلي بالناس حتى يرجع مجاشع وخرج عتبة للحج ، فبلغ المغيرة أن الفيلكان في ميسان جمع جمعا لغزوه فغزاه فهزمه وافتتح ميسان. ومات عتبة قبل أن يعود ، فأقرّ عمر المغيرة على البصرة (٢).

فتح دمشق :

وصار رافضة الروم إلى دمشق ، وعاد المسلمون إليها بالحصار ، فكان أبو عبيدة بباب الجابية ، وخالد بالباب الشرقي ، وعمرو بن العاص بباب توما ، ويزيد ابن أبي سفيان بالباب الصغير ، وطال الأمر بصاحب دمشق (؟) فأرسل إلى أبي عبيدة يصالحه ، وبلغ ذلك خالدا فكره ذلك ، فألحّ على الباب الشرقيّ ففتحه عنوة. وصالح أبو عبيدة صاحب دمشق ففتحوا له باب الجابية صلحا ودخل المسلمون المدينة صلحا ، وقال خالد لأبي عبيدة : اسبهم فإني دخلتها عنوة! فقال : لا ؛ فإني قد أمّنتهم (٣) وصالحهم أبو عبيدة على أنصاف كنائسهم ومنازلهم وعلى رءوسهم ، على أن لا يمنعوا من أعيادهم ، ولا يهدم شيء من كنائسهم. وأخذ سائر الأرض عنوة. وكان الصلح يوم الأحد النصف من شهر رجب سنة أربع عشرة (٤).

__________________

(١) البصرة معرّبة من الفارسية : بسره : كثرة الطرق ، كما في معجم البلدان.

(٢) تاريخ خليفة : ٦٨ ـ ٦٩ ، وفي اليعقوبي ٢ : ١٤٥ ـ ١٤٦ نحوه ولكن في سنة (١٦) على المعروف المشهور في ذلك ، وفي مروج الذهب ٢ : ٣١٩ : ذهب كثير من الناس ومنهم المدائني إلى أن عتبة مصّر البصرة في سنة (١٤ ه‍).

(٣) اليعقوبي ٢ : ١٤٠.

(٤) تاريخ خليفة : ٦٧ عن ابن إسحاق والكلبي ، وبالميلادي ٣ سبتامبر (٦٣٥ م).


ثم وجّه بخالد على مقدّمته إلى بعلبك وأرض البقاع ، فافتتحها وصار إلى حمص ، ولحقه أبو عبيدة ، فحصروا أهل حمص حصارا شديدا حتى طلبوا الصلح ، فصالحهم عن جميع بلادهم بخراج مائة وسبعين ألف دينار. ثم دخل المسلمون البلد وبث أبو عبيدة عمّاله في نواحي حمص (١).

يوم اليرموك :

ثم أتاه خبر ما جمع طاغية الروم (هرقل هراگليوس) من الجموع من جميع البلدان من لا قبل لهم به ، فرجع أبو عبيدة إلى دمشق وكتب إلى عمر بذلك وجمع المسلمين إليه وتراجع فعسكر بوادي اليرموك (٢) ومع الروم العرب الروميون النصارى الغساسنة في مقدمتهم وعليهم جبلة بن الأيهم الغسّاني ، وجعل أبو عبيدة خالدا على مقدمته إليهم ، ولحقه أبو عبيدة والمسلمون ، ومع الرومان صاحبهم ماهان ، فواقعوهم واقتتلوا قتالا شديدا فكانت وقعة جليلة الخطب وقتل من الروم مقتلة عظيمة ، وفتح الله على المسلمين ، وكان ذلك في السنة الخامسة عشرة (٣).

وعن الكلبي : أن صاحبهم باهان رجل من أبناء فارس تنصّر ولحق بالروم وهم في ثلاث مائة ألف. وضمّ أبو عبيدة إليه أطرافه وأمراء الأجناد ، وأمدّه عمر بسعيد بن عامر بن حذيم ، وكانت الوقعة يوم الاثنين لخمس مضين من رجب سنة خمس عشرة. وعن ابن إسحاق : إنه كان على قبائل قضاعة والغساسنة منهم

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٧٠ عن ابن إسحاق والكلبي وغيرهما ، وتاريخ اليعقوبي ٢ : ١٤١.

(٢) اليرموك : واد قرب بصرى يصب في نهر الأردن ثم في بحر الميّت بين الأربد والناصرة.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٤١.


مع جبلة خصيّ لهرقل اسمه الصّقلار ، وهم في مائة ألف. وقال : وممن استشهد يومئذ : أبان وعمرو ابنا سعيد بن العاص وعكرمة بن أبي جهل المخزومي (١).

نفاق أبي سفيان وأصحابه :

وروى ابن إسحاق : أن الزبير بن العوام كان قد شهد اليرموك ومعه ابنه عبد الله غلام صغير ، ومعهم مشيخة من قريش من مهاجرة الفتح معهم أبو سفيان بن حرب ، لا يحارب ولا يحاربون بل وقوف على التلّ ينظرون. فروى عن عبد الله بن الزبير : أنه وقف مع هؤلاء وهم لا يتّقونه لصغره ، قال فجعلوا إذا مال المسلمون وغلبهم الروم يقولون : إيه بني الأصفر (الروم) وإذا مال الروم وركبهم المسلمون قالوا : يا ويح بني الأصفر! فلما هزم الروم ورجع أبي حدّثته بخبرهم فأخذ يضحك ويقول : قاتلهم الله! أبو إلّا ضغنا! وما ذا لهم إن يظهر علينا الروم؟! لنحن خير لهم منهم. وقتل من الروم والمستعربة سبعون ألفا (٢).

واشتدّ تطلّع عمر للخبر حتى أرق عدة ليال ، وكان مع أبي عبيدة : حذيفة بن اليمان ، فبعثه في وفد إلى عمر ، فلما ورد عليه الخبر قال : الحمد لله الذي فتح على أبي عبيدة ، فو الله لو لم يفتح لقال قائل : لو كان لم يعزل عمر خالد بن الوليد ... وسجد شكرا.

وعاد أبو عبيدة إلى حمص ووجّه بخالد في آثار الروم ، فصار إلى قنّسرين وتركها إلى حلب فتحصّنوا ، ولحقه أبو عبيدة فنزل عليها ، حتى طلبوا الصلح فصالحهم.

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٧٠ ـ ٧١ ، ونقل قول ابن إسحاق هذا الطبري ٣ : ٥٧٠ ـ ٥٧١ بتفصيل أكثر ، ومعلوم أن عدد الروم عند ابن إسحاق أقرب إلى الحق من مبالغة الكلبي.

(٢) الطبري ٣ : ٥٧١ ـ ٥٧٢.


وكان معه مالك بن الأشتر النخعي فوجّهه على جمع في آثار الروم فالتقى بهم وقاتلهم فقتل منهم مقتلة عظيمة ثم انصرف عنهم.

وجمعت غنائم اليرموك بالجابية ناحية دمشق ، وكتب إليهم عمر أن لا توزّعوها حتى تفتحوا بيت المقدس ، فرجع أبو عبيدة حتى حاصرها طويلا (١).

يوم القادسية (٢) :

قال اليعقوبي : ولما رأى الفرس ما هم فيه من الضعف والمهانة وظهور المسلمين عليهم ، طلبوا ابنا لكسرى حتى وجدوا يزدجرد وهو ابن عشرين سنة ، فملّكوه عليهم ، وحسن تدبيره فضبط أمورهم واشتدت المملكة وقوي أمر الفرس ، فارتد (بل نقض) أهل السواد وخرقوا العهود التي عليهم وأخرجوا العرب المسلمين من مروجهم فصاروا في الأطراف (٣).

وقال المسعودي : شقّ ذلك على المسلمين وعلى عمر ، فخطب الناس وحثّهم على الجهاد وأمرهم بالتأهّب لأرض العراق ، وخرج هو إلى موضع الصّرار ، ودعا الناس يستشيرهم ، فدعا العباس بن عبد المطّلب في جلّة من مشيخة قريش وشاورهم ، فقالوا : أقم وابعث غيرك ليكون للمسلمين فئة إن انهزموا.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٤١ ـ ١٤٢.

(٢) روى الطبري ٣ : ٤٩١ عن سيف وصف القادسية في كتاب عمر إلى سعد : والقادسية أجمع أبواب فارس في الجاهلية ، وهو منزل خصيب رغيب حصين دونه أنهار ممتنعة وقناطر. وهو بين الخندق ونهر العتيق.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٤٣.


وقال عبد الرحمن بن عوف : أقم وابعث فإنه إن انهزم جيشك فليس ذلك كهزيمتك ، ولكنك إن تهزم أو تقتل يكفر المسلمون ولا يشهدوا أن لا إله إلّا الله أبدا (١)! فقال : فمن أبعث؟ فقال : سعد بن أبي وقاص. قال : أعلم أن سعدا رجل شجاع ولكني أخشى أن لا يكون له معرفة بتدبير الحرب. قال : هو على ما تصف من الشجاعة وقد صحب رسول الله وشهد بدرا فاعهد إليه عهدا فإنه لن يخالف أمرك.

وقال عثمان : أقم وابعث بالجيوش ، فإنه لا آمن إن أتى عليك آت أن ترجع العرب عن الإسلام (؟!) ولكن ابعث الجيوش ودارك بعضها ببعض ، وابعث عليهم رجلا له تجربة بالحرب وبصر بها. قال عمر : ومن هو؟ قال : علي بن أبي طالب. قال : فالقه وكلّمه وذاكره في ذلك فهل تراه يسرع لذلك أو لا؟ فلقى عثمان عليا عليه‌السلام فذاكره في ذلك فأبى ذلك ، فعاد عثمان إلى عمر فأخبره. فقال عمر : ومن ترى؟ قال : سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل. قال : ليس بصاحب ذلك. فقال عثمان : فطلحة بن عبيد الله ، فقال عمر : أين أنت عن رجل شجاع ضروب بالسيف رام بالنبل ، ولكني أخشى أن لا يكون له معرفة بتدبير الحرب؟ قال : ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال : سعد بن أبي وقّاص. فقال عثمان : هو صاحب ذاك ،

__________________

(١) أفهل من الحق أن يصدّق ابن عوف أنّ الناس كلهم كانوا يعبدون الله هكذا على حرف؟! هذا وقد قال المسعودي قبل هذا : إن عمر قال لعليّ : يا أبا الحسن ما ترى أسير أم أبعث؟ فقال علي عليه‌السلام : سر بنفسك ؛ فإنه أهيب للعدوّ وأرهب له! مروج الذهب ٢ : ٣٠٩. أي على خلاف ما هو المعروف من مشورته عليه‌السلام لعمر كما في نهج البلاغة ، وتلك لم تكن ليوم القادسية بل لفتح الفتوح في نهاوند بعد بناء العراقين المذكورين في الخبر كما سيأتي إن شاء الله تعالى.


وما منعني من ذكره إلّا أنه غائب في عمل. فقال عمر : أرى أن أكتب إليه أن يسير من وجهه ذلك. فقال عثمان : ومره فليشاور قوما من أهل التجربة والبصر بالحرب ، ولا يقطع الأمور حتى يشاورهم. فكتب عمر إلى سعد بذلك (١).

وكان أبو بكر قد استعمل سعدا لجباية الزكاة من هوازن نجد وبعده أقرّه عمر ، فلما ورد كتابه إليه سار إلى العراق حتى نزل زبالة ثم سيراف (حيث نزلها بنو شيبان وبنو بكر بن وائل مع المثنى ومات فيها) (٢) وهنا تزوج سعد بأرملة المثنى سلمى بنت خصفة ولحق به هنا المنتدبون من الشام (بعد اليرموك) ثم سار فنزل العذيب مما يلي القادسية على طرف البرّ وأرض السواد (٣).

وفي اليعقوبي : وجّهه بثمانية آلاف (٤) .. وأقام سعد بالقادسية ، ثم ظفر المسلمون ببنت آزادمرد وهي تزفّ إلى بعض الملوك ، فأخذوا ما كان معها من الأموال والأثقال وفرّقوها (٥).

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٣٠٩ ـ ٣١٠.

(٢) الطبري ٣ : ٤٩٠ و٥٤٢ و٥٧٠.

(٣) مروج الذهب ٢ : ٣١٢.

(٤) وفي تاريخ خليفة : ٧١ : كانوا بين السبعة إلى ثمانية آلاف ، ورستم في ٤٠ إلى ٦٠ ألفا ومعهم ٧٠ فيلا. وفي مروج الذهب ٢ : ٣١٢ : المشركون (كذا) في ٦٠ ألفا والمسلمون في ٣٨ ألفا! والتفاصيل في الطبري ٣ : ٤٨٦ و٤٨٩ وجعل عليهم العرفاء من يومئذ. الطبري ٣ : ٤٨٨.

(٥) كان ذلك بعد السيلحين إلى الصّنين إلى الحيرة ، وهي بنت آزاد به مرزبان الحيرة تزفّ إلى صاحب الصّنّين من أشراف الفرس ، وفي ثلاثين امرأة من الدهاقين ومائة من التوابع ومعهم ما لا يدرى قيمته. الطبري ٣ : ٤٩٤ ، وفي تاريخ خليفة : ٧١ : فأصابوا جواهر وحليا كثيرا.


ثم وجّه سعد إلى كسرى بالنعمان بن مقرّن ومعه جماعة يدعونه إلى الإسلام ، فلبسوا أحسن زيّهم من البرود وتنعّلوا وساروا حتى دخلوا عليه فأخبروه بما وجّههم له سعد ودعوه إلى الإسلام وإلى شهادة الحق أو أداء الجزية ، فأغضبه ذلك ، ودعا بكيس من تراب وأمرهم أن يحملوه على رأس رئيسهم وقال : لو لا أن الرسل لا تقتل لقتلتهم! فقال عاصم بن عمرو التميمي : أنا سيّد القوم ، فحمّلوه التراب ، فقال : والله لقد ظفرنا بهم ووطئنا أرضهم!

ودعا كسرى برستم (١) وأمره أن يتوجه إليهم ، فأبدى كراهيته لذلك ، فحمل عليه بالقول ، فخرج من عنده مكرها على ذلك.

فلما صار إلى صحراء النجف وجّه إلى سعد : أن ابعث إليّ بقوم من عندكم لأناظرهم.

فأرسل سعد إليه دهاة العرب عنده ، وهم تسعة : بشر بن أبي رهم ، وحذيفة بن محصن ، وربعي بن عامر ، وشعبة بن مرّة ، وعرفجة بن هرثمة الأزدي حليف بني بجلة وزعيمهم السابق ، وقرفة بن زاهر ، ومذعور بن عدي ، ومضارب بن يزيد ، والمغيرة بن شعبة الثقفي (٢) فأدخلوا عليه واحدا بعد واحد ، كل واحد منهم يقول مثل مقالة صاحبه من الدعوة إلى الإسلام أو أداء الجزية.

__________________

(١) رستم بن فرّخ زاد الأرمني ، وعسكر في ساباط المدائن. الطبري ٣ : ٤٩٥ ، ثم ارتحل رستم فنزل النجف ، وكان بين خروجه من المدائن وعسكرته في ساباط وزحفه منها إلى أن لقي سعدا : أربعة أشهر يطاولهم ليضجروا فينصرفوا بغير قتال. الطبري ٣ : ٥٠٩.

(٢) في تاريخ خليفة : ٧١ ـ ٧٢ : أقاموا شهرا وكتب سعد إلى عمر يستمده ، فأمدّهم أهل البصرة بألف وخمس مائة ، قيس بن المكشوح في سبع مائة والمغيرة بن شعبة الثقفي في أربع مائة. وانظر الرسل الدعاة : ١٤ شخصا في الطبري ٣ : ٤٩٦ والتسعة في ٣ : ٥١٨.


وكان منجّما أيقن بالهلكة فكتب إلى أخيه : بسم الله وليّ الرحمة ، من الإصبهبد (العقيد) رستم إلى أخيه «أما بعد : فإني رأيت المشتري في هبوط والزهرة في علوّ فهو آخر العهد منك ، والسلام (كذا) عليك الدهر الدائم».

وخطب سعد بن أبي وقاص المسلمين فرغّبهم في الجهاد وأعلمهم ما وعد الله نبيّه من النصر وإظهار الدين. وكان سعد يومئذ عليلا (١) فصار إلى قصر العذيب فنزله وتحصّن فيه ، فبلغ ذلك إلى رستم فوجّه خيلا فأحدقوا بالقصر ، فصار المسلمون إليهم فانهزموا.

ونشبت الحرب بينهم بعد صلاة الظهر ، وحسن بلاء المسلمين وغناؤهم واقتتلوا قتالا شديدا (٢).

وفي المسعودي : برز أهل النجدات ، فخرج إليهم أقرانهم من صناديد فارس. خرج غاب بن عبد الله الأسدي ، فخرج إليه هرمز وكان ملكا متوّجا ، فاعتوروا الطعن والضرب حتى أسره غالب وذهب به إلى سعد وكرّ راجعا للقتال. وخرج عاصم بن عمرو فبرز إليه عظيم من أساورتهم فجالا حتى ولّى الفارسي ، وغاص عاصم بينهم ثم خرج يسوق بغلا عليه صناديق فيها أطعمة حسنة فذهب بها إلى سعد.

__________________

(١) خرجت بفخذيه دماميل من عرق النسا فاستخلف عليهم خالد بن عرفطة حليف بني أميّة. وأشرف مكبّا على وسادة ينظر إليهم. الطبري ٣ : ٥٣١ ، وإنما تأخر القتال إلى الزوال لإمهالهم الفرس حتى ينتهوا من طمّ نهر العتيق كي لا يعوقهم. الطبري ٣ : ٥٢٩ و٥٧٤ ، ولما صلّى سعد الظهر أمر غلاما ألزمه إياه عمر وكان قارئا أن يقرأ على المسلمين الجهاد (الأنفال) فقرئت في كل كتيبة ولما فرغ القرّاء كبّر سعد فكبّر من سمعه ثم من سمعوهم ، ثم ثنّى ثم ثلث ثم تبارزوا والفرس ينادون : مرد ومرد : رجل ورجل. الطبري ٣ : ٥٣٦ ـ ٥٣٧.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٤٣ ـ ١٤٤.


وكان أمام جيوشهم الفيلة عليها الرجال ، على كل فيل عشرون رجلا ، وعلى الفيلة تجافيف الحديد وقرونها مجلّلة بالديباج والحرير ، وحول الفيلة الرجال والخيول. فحمل منها سبعة عشر فيلا على بني بجلة ، فلما نظر سعد إلى المراكب والفيول مالت إلى بجيلة بعث إلى بني أسد أمرهم بمعونه بجلة.

وكان عمر قد أذن للمرتدين بالغزو ، فكان طليحة بن خويلد الأسدي المرتد السابق مع قومه بني أسد ، فخرج مع فرسان منهم فقتلوا منهم خمس مائة رجل ، واشتد الجلاد في هذا اليوم الأول ـ يوم أغواث ـ على بني أسد من بين الناس حتى أوقفوا الفيلة ورجالها.

فلما أصبحوا في اليوم الثاني رأوا المشرق كأنّما يغطى أشعة الشمس أسنّة الخيل وإذا بخمسة آلاف فارس من ربيعة ومضر وألف معهم من اليمن معهم القعقاع ابن عمرو ، وعليهم جميعا ابن أخي سعد : هاشم المرقال بن عتبة بن أبي وقاص الزهري مددا لهم من الشام ، وذلك بعد فتح دمشق بشهر (أي في النصف من شعبان ١٥ ه‍) (١) فأيقن أهل القادسية بالنصر على فارس وزال عنهم ما لحقهم بالأمس من القتل والجرح.

وكان القعقاع متقدما في أوائل المدد ، وحين وروده برز أمام الصف ونادى : هل من مبارز؟ فبرز إليه عظيم منهم ، فقال له القعقاع : من أنت؟ قال : أنا بهمن بن جاذويه وهو المعروف بذي الحاجب كان قائد الفرس يوم الجسر وكان اليوم مع رستم ، فنادى القعقاع : يا لثارات أصحابنا يوم الجسر ، ثم جالا ، فقتله القعقاع. ثم كانت له ثلاثون حملة ، وفي كل حملة قتل عظيما من عظمائهم آخرهم بزرجمهر.

__________________

(١) كذلك في اليعقوبي ٢ : ١٤٤ ـ ١٤٥.


وبارز في ذلك اليوم الأعور بن قطبة ، فبرز إليه شهريار من سجستان فقتل كل صاحبه ، واشتدّ القتال إلى الليل (١).

مخامرة أبي محجن ومغامرته :

في حوادث السنة ١٤ ذكر الطبري : أن عمر جلد أشخاصا في شرب الخمر منهم ابنه عبيد الله وأصحابه وأبو محجن الثقفي (٢) وروى عن ابن اسحاق أن سعدا حبسه معه في القصر في شرب الخمر (٣) فسمع أبو محجن انتماء الناس بآبائهم وعشائرهم ووقع الحديد وشدّة البأس فتأسف على ما يفوته من تلك المواقف. فمشى حبوا على ركبتيه في قيوده حتى صعد إلى سعد يستقيله ويستشفعه ويسأله أن يخلّى عنه ليخرج للغزو ، فزجره سعد وردّه فرجع.

وكان سعد قد تزوج زوجة المثنّى الشيباني سلمى بنت خصفة فلما كان اللقاء ذكرت المثنّى فغضب عليها وكان بينهما كلام كثير ، وأقامت مغاضبة له ليالي القادسية وأيامها ، ورآها أبو محجن فقال لها : يا بنت خصفة ، هل لك في خير؟ قالت : وما ذاك؟ قال : تخلّين عنّي وتعيريني فرس سعد البلقاء ، ولله عليّ إن سلّمني الله أن أرجع إليك حتى أضع رجلي في القيد! فقالت : وما أنا وذاك؟ فرجع يرسف في قيوده.

فلما أصبحوا جاءت إليه سلمى وقالت له : رضيت بعهدك فشأنك وما أردت ، وأطلقته ، فقام إلى فرس سعد البلقاء وأخرجها من جانب الخندق

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٣١٢ ـ ٣١٤.

(٢) الطبري ٣ : ٥٩٧.

(٣) الطبري ٣ : ٥٧٣.


حول القصر ، ثم ركبها ودبّ عليها حتى كان بحيال ميمنة المسلمين ، كبّر وحمل على ميسرة الفرس بسلاحه بين الصفّين ، فقتل رجالا كثيرا من فتّاكهم ونكّس آخرين ، ثم غاص في المسلمين حتى خرج من ميسرتهم وحمل على ميمنة الفرس بسلاحه لا يبدر له فارس إلّا هتكه حتى هابوه فتوقّفوا عنه. ثم رجع فغاص في ميسرة المسلمين فبرز أمامهم ووقف بإزاء قلب المشركين ، فلم يبرز منهم فارس إلّا اختطفه حتى لم يبرز إليه منهم فارس.

ومن حضر من فرسان المسلمين مثل عمرو بن معدي كرب ، وطلحة بن خويلد الأسدي ، والقعقاع بن عمرو ، وهاشم بن عتبة المرقال وسائر فتّاك العرب وأبطالهم ينظرون إليه وقد حاروا في أمره ، وسعد وهو مشرف على الناس من قصره وجعل يقول : والله لو لا محبس أبي محجن لقلت : هذا أبو محجن وهذه البلقاء.

وتراجع أبو محجن حتى دخل القصر من حيث خرج ورد البلقاء إلى مربطها وعاد إلى محبسه ووضع قيده في رجله. فلما أصبحوا ذهبت سلمى إلى سعد فصالحته وترضّته ثم أخبرته خبر أبي محجن ، فدعا به وقال : اذهب فما أنا مؤاخذك (١) لا والله لا أحدّ اليوم رجلا أبلى الله المسلمين على يديه ما أبلاهم! وخلّى سبيله. فقال أبو محجن : لقد كنت أشربها إذا كان يقام عليّ الحدّ أطهّر منها! فأما إذا بهرجتني فو الله لا أشربها أبدا (٢).

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٣١٤ ـ ٣١٧ ، وهو خبر الطبري ٣ : ٥٤٧ ـ ٥٥٠ ، عن سيف بتحريفاته في أول الخبر وآخره ، وعدّلناهما بخبري الطبري عن ابن اسحاق ، وخبري الإصابة والاستيعاب عن محمد بن سعد بن أبي وقاص ، وانظر وقارن : عبد الله بن سبأ ١ : ٢٣٥ ـ ٢٤٢.

(٢) الطبري ٣ : ٥٥٠.


وفي ثالث أيام القادسية أصبح الفريقان على مصافهم ، وأصبحت (الأرض) بين الفريقين حمراء من كثرة الدماء ، قتل من الفرس ما لا يحصى ومن المسلمين ألفان وخمس مائة ما بين قتيل وجريح. وأحرز المسلمون قتلاهم وحملوهم إلى وراء ظهورهم عند حصن العذيب ، فالجريح يعالجه النساء والشهداء يدفنهم النساء والصبيان (١).

والليلة الرابعة سميت ليلة القادسية وليلة الهرير ، والناس فيها حيارى لم يغمضوا ليلتهم كلها. وحرّض رؤساء القبائل عشائرهم ، وبدأ القتال واشتد حتى الزوال ، فلما قام قائم الظهيرة تأخّر الهرمزان والنيرمران (؟) فانفرج القلب ، وهبّت ريح عاصف فأطارت سقيفة رستم عن سريره في نهر العتيق ، ومال الغبار عليهم ، وانتهى القعقاع وأصحابه إلى سرير رستم وقام رستم عنه فاستظلّ بظل بغال عليها أموال ، فضرب هلال بن علقمة حمل البغل فوقع العدل على رستم ، فمضى رستم حتى رمى نفسه في نهر العتيق وتعقّبه هلال حتى تناول رجله وخرج به وضربه بسيفه حتى قتله ، ورجع حتى صعد سريره ونادى : قتلت رستم وربّ الكعبة ، فجبن المشركون (كذا) وانهزموا وأخذهم السيف فمن قتيل وغريق.

وكان ثلاثون ألفا منهم قد تحالفوا بالنور في بيوت النيران أنهم يقترنون بالسلاسل فلا يبرحون حتى يقتحموا أو يقتلوا ، وقرنوا أنفسهم بالسلاسل ،

__________________

(١) وفي الطبري أكثر تفصيلا ٣ : ٥٤٢ و٥٥٠ ، وقتلى المشركين (كذا) بين الصفّين اضيعوا لا يعرضون لهم : ٥٥١ ، وقتلى المسلمين أيضا : ٣ : ٥٦٥. وفي ٥٨١ : عن أم كثير النخعية وقد شهدت القادسية قالت : لما أتانا الخبر أن قد فرغوا ، شددنا علينا ثيابنا وأخذنا الهراوي وأتينا القتلى فمن كان من المسلمين سقيناه ورفعناه ، ومن كان من المشركين (كذا) أجهزنا عليه ، ومعنا الصبيان.


وجثوا على الركب ، فقتلوا جميعا! وقتل منهم سوى هؤلاء حول راية درفش كاويان عشرة آلاف (١)!

وجمعت الأموال والأسلاب ، وبيع سلب رستم ، فبلغ سهم الفارس ١٤ ألفا والراجل ٧ آلاف ومائة ، ورضخ للنساء من عوائل الشهداء وغيرهم من الفيء (٢).

وكان بالقادسية من أصحاب رسول الله من أهل بدر سبعون رجلا ، ومن أهل بيعة الرضوان ومن شهد فتح مكة مائة وعشرون ، ومن سائر أصحاب رسول الله مائة.

ونفر الفرس منهزمين إلى المدائن ، فأتبعهم سعد بالمسلمين حتى حاصرهم شهرا واسبوعين حتى خرج الفرس هاربين (٣).

وكان فتح القادسية في منتصف شهر شعبان عام (١٥ ه‍) يوافق سبتامبر (٦٣٦ م) (٤).

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٣١٧ ـ ٣١٩. وفي الطبري ٣ : ٥١٠ : أن المقترنين كانوا ١٥ ألفا من الشرفاء. وهو أولى وأقرب.

(٢) وفي الطبري ٣ : ٥١٢ : وأناس من الحمراء (الفرس) استجابوا للمسلمين ، أسلم بعضهم قبل القتال وأعانوهم وأسلم بعض بعد بدء القتال ، ففرضت لهم فرائض ، ألفين ألفين.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٤٥ ، وكان سلمان الفارسي رائدهم وداعيتهم وقاضيهم ومقسّم الغنائم عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي أخو سلمان الباهلي والترجمان : هلال الهجري والكاتب زياد بن أبيه. الطبري ٣ : ٤٨٩ ، وأعداد الصحابة في ٣ : ٤٩٠ ، وترجمان رستم عربي من الحيرة يدعى عبّود. الطبري ٣ : ٥٢٤.

(٤) انظر أطلس تاريخ الإسلام : ١٤٢. وكان الفصل شتاء. الطبري ٣ : ٤٨٦. وفيه : ٥٨١ : كان مع بني بجلة ألف امرأة ومع النخع سبعمائة أبكار ، فصاهرهن المهاجرون الغزاة قبل القتال وبعده حتى استوعبوهن ولذا سموا أختان المهاجرين. ومع ذلك قال بعضهم :


ولم يعذر الغزاة سعدا حتى خرج إليهم وأراهم ما به من القرح في فخذيه وأليته فعذروه (١).

فتح بهرسير به اردشير :

وأمر سعد خالد بن عرفطة أن يعقّبهم حتى وضعوا العسكر والأثقال دون دجلة مقابل بهرسير (به اردشير اولى مدائن تيسفون السبع) وطلبوا مخاضة قليلة العمق ليعبروا فلم يهتدوا ، حتى حسن حال سعد فتبعهم (٢).

فأتاه أهل الحيرة فقالوا : نحن على عهدنا. ولما بلغ نهر بسطام صالحه صاحبه ، ثم عبر الفرات فلقي جمعا عليهم بصبهرى فقاتلوهم فهزموهم ، ثم بلغ كوثا وبها جمع عليهم الفيروزان فقاتلوهم فهزموهم ، ثم بلغ دير كعب وبها جمع عليهم الفرّخان فقاتلوهم فهزموهم ، ثم نزلوا بإزاء المدائن (٣) فأتاه رجل منهم وقال له : هل أدلكم على طريق؟ فدلّهم على مخاضة (قليلة العمق) في قطربل (پل : الجسر) فخاضوها وعبروا إليهم (٤).

فروى ابن الخياط عن أبي وائل قال : أقحمنا في الماء حتى عبرنا إليهم من فوق المدائن ومن أسفل ، وحاصرناهم في الجانب الشرقي منها حتى أكلوا

__________________

لم نجد كثير مسلمات فتزوجنا من أهل الكتاب ومنهم حذيفة بن اليمان تزوج امرأة من أهل المدائن فكتب إليه عمر : هن حلال ولكن في نساء العجم خلابة فإن أقبلتم عليهن غلبنكم على نسائكم فطلقها ومنهم من أمسك كما فيه ٣ : ٥٨٨.

(١) الطبري ٣ : ٥٧٧ عن ابن اسحاق.

(٢) الطبري ٣ : ٥٧٨ عن ابن اسحاق.

(٣) تاريخ خليفة : ٧٢.

(٤) الطبري ٣ : ٥٧٨ عن ابن اسحاق.


الكلاب والسنانير ، ثم خرجوا بأثقالهم وعيالهم تحميهم حاميتهم (١) واحتملوا معهم الذهب والفضة والديباج والحرير والسلاح ، وثياب كسرى وبناته ، وخلّوا ما سوى ذلك (٢) وساروا إلى جلولاء.

فدخل المسلمون المدائن ، وقتلوا من وجد بها ، ونزل سعد بقصر كسرى الأبيض يصلي في ايوانه الكبير ، وكان بساط كسرى على صورة روضة صوّرت فيها الزهور بالجواهر على قضبان الذهب ، فاستوهب سعد حصص الغزاة وبعث به إلى عمر ، فقطّعه عمر وقسّمه بين المسلمين في المدينة ، منها قطعة لعليّ عليه‌السلام باعها بعشرين ألف درهم (٣).

وكان فتح بهرسير المدائن في شهر صفر من السنة ١٦ الموافق لشهر مارس (٦٣٧ م) (٤).

فتح سائر الشام وخروج الروم :

وبعد فراغ أبي عبيدة في الشام من اليرموك بعث عمرو بن العاص إلى قنّسرين ، فصالح أهل حلب وكتب لهم كتابا ، وصالح انطاكية ومنبج (٥).

وأورد ابن الوردي : أن أبا عبيدة بعد أن فتح أنطرطوس وجبلة واللاذقية عنوة ، دخل مملكة حلب ومن أعمالها قنّسرين وبها جمع عظيم من الروم ،

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٧٣ ، وفي اليعقوبي ٢ : ٢٤٥ : حاصرهم شهرا واسبوعين ، وفي الطبري ٣ : ٦٢٣ : شهرين.

(٢) الطبري ٣ : ٥٧٨ عن ابن اسحاق.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٣٨.

(٤) انظر أطلس تاريخ الإسلام : ١٤٢ ، الترجمة الفارسية.

(٥) تاريخ خليفة : ٧٣.


فتقاتلوا فانتصر المسلمون ، ثم صالحوه على صلح حمص ، على أن يخرجوا المدينة! فخرّبت. ثم فتح كرسيّ المملكة حلب ومنبج ودلوك وسرمين ويبرين وعزاز ، وفتح خالد مرعش وأجلاهم وخرّبها ، وفتح حصن الحدث ، وفتح أبو عبيدة أنطاكية.

فحينئذ أيس هرقل (هراگليوس) من الشام وسار إلى قسطنطينية باتجاه الرّها ، وفي مسيره وعلى مرتفع من الأرض التفت إلى الشام وقال : عليك السلام يا سوريا ، سلام لا اجتماع بعده (١).

وعند ابن العبري : رحل هرقل من انطاكية إلى قسطنطينية وهو يقول باليونانية : سورية سوزه (وتأويلها : سوريه تسلمى) وهي كلمة وداع لبلاد الشام وأرضها (٢).

فتح القدس صلحا :

ثم بعث أبو عبيدة على مقدمته خالد بن الوليد إلى مدينة ايليا (القدس) ثم شخص بنفسه ، فحاصروها حتى سألوهم الصلح ، على أن يكون عمر هو يكتب لهم ذلك. فكتب أبو عبيدة بذلك إلى عمر ، فقدم عمر فصالحهم (٣) وكتب لهم كتابا : «بسم الله الرحمنِ الرحيم ، هذا كتاب كتبه عمر بن الخطاب لأهل بيت المقدس ، إنكم آمنون على دمائكم وأموالكم وكنائسكم ، لا تسكن ولا تخرّب ، إلّا أن تحدثوا حدثا عامّا» وأشهد شهودا ، وذلك في شهر رجب سنة (١٦) (٤).

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٣٧ ، وأصله في الطبري ٣ : ٦٠٣ عن سيف.

(٢) تاريخ مختصر الدول : ١٠٢.

(٣) تاريخ خليفة : ٧٣.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٤٧.


وهنا روى البيهقيّ عن مكحول قال : إن عبادة بن الصامت الأنصاري كان معهم وأراد أن يدخل إلى بيت المقدس ، فدعا نبطيا ليمسك له دابّته فأبى فضربه فشجّه ، فاستعدى عليه عمر فدعا عمر عبادة وقال له : ما دعاك إلى ما صنعت بهذا؟ فقال : أمرته أن يمسك دابّتي فأبى ، وأنا رجل فيّ حدّة فضربته! فقال له : اجلس للقصاص! وكان زيد بن ثابت عنده فقال له : أتقيد عبدك (!) من أخيك؟! فقضى عمر عليه بالدية وترك عنه القود (١).

وكان عمر قد أمر أن لا تقسم غنائم اليرموك حتى يفتحوا القدس ، فحينئذ أمر أن تقسم بين الناس الغزاة بالسويّة ، ما خلا لخم وجذام ، وقال : لا أجعل من خرج من الشّقة إلى عدوّه كمن خرج من بيته.

وكان بلال بن رباح مع أبي عبيدة بن الجرّاح فقام إلى عمر وقال له : يا أمير المؤمنين : إنّ أمراء أجناد الشام ما يأكلون إلّا لحوم الطير والخبز النقيّ! وما يجد ذلك عامة الناس.

فأخذ عمر على أمراء أجناد الشام أن يضمنوا له لكل رجل من المسلمين معهم لكل يوم خبزين وما يصلحه من الخلّ والزيت (٢).

الغساسنة وعمر :

ولما انهزم الروم من اليرموك : وكان جبلة بن الأيهم الغسّاني في جيش قومه في مقدمة الروم ، فلما انهزموا صار مع جماعة قومه إلى مواضعهم. فأرسل إليه

__________________

(١) السنن الكبرى للبيهقي ٨ : ٣٢ ، وعنه في هامش الإيضاح لابن شاذان : ٣٦٥ ، وانظر نظائره هناك قبله وبعده.

(٢) اليعقوبي ٢ : ١٤٧.


يزيد بن أبي سفيان : أن اقطع على أرضك بالخراج وأداء الجزية. فقال : أنا رجل من العرب وإنما يؤدي الجزية العلوج (العجم) (١) فلما أتى عمر إلى الشام أتاه جبلة وقال له : تأخذ مني الصدقة (الزكاة) كما تصنع بالعرب؟ قال عمر : بل الجزية ، وإلّا فالحق بمن هو على دينك!

فخرج جبلة بثلاثين ألفا من قومه من قضاعة حتى لحق بأرض الروم ، فندم عمر (٢).

ورجع عمر وفي رجوعه مرّ على قوم يعذّبونهم على الخراج ، فقال : لا تعذبوهم ، فإني سمعت رسول الله يقول : إنّ الذين يعذّبون الناس في الدنيا يعذّبهم الله في الآخرة ، فأطلقهم (٣).

الأشعري للبصرة والأهواز :

وفي سنة (١٧) ارتكب المغيرة بن شعبة شعبة من الفجور ، وسنأتي عليه فيما يأتي ، فاستدعى عمر أبا موسى الأشعري واستعمله على البصرة وكتب معه كتابا بعزل المغيرة وجلبه إلى المدينة ، ثم كتب عمر إلى الأشعري أن يسير إلى كور الأهواز ، فاستخلف الأشعري عمران بن حصين الأنصاري وخرج إلى الأهواز حتى افتتحها وكلّفهم بعشرة آلاف ألف (عشرة ملايين) وأربع مائة ألف. ثم صالحه أهل نهر تيري ، وأهل السبان ، ثم سار إلى مناذر ومعه الربيع بن زياد الحارثي فاستخلفه عليها فافتتحها بقتال ، وقتل بها أخوه المهاجر بن زياد الحارثي (٤).

__________________

(١) اليعقوبي ٢ : ١٤٢.

(٢) اليعقوبي ٢ : ١٤٧ ، وفيه أخبار أخرى أكثر تفصيلا منها في تاريخ ابن الوردي ١ : ١٣٥ ـ ١٣٦.

(٣) اليعقوبي ٢ : ١٤٧.

(٤) تاريخ خليفة : ٧٤ ـ ٧٥.


وفتحوا رامهرمز وتستر (شوشتر) ونزل الهرمزان من قلعتها على حكم عمر ، فأرسل مع وفد منهم أنس بن مالك والأحنف بن قيس ، فوصلوا به إلى المدينة ، فوجدوا عمر نائما في المسجد بلا حرس ولا حجّاب ، فأدخلوه عليه وقد ألبسوه ملابسه من الديباج المذهّب وعلى رأسه تاجه مكلّلا بالياقوت ، ومن جلبة الأصوات استيقظ عمر فلما رآه قال : الحمد لله الذي أذل بالإسلام هذا وأشباهه! ثم نزع ما عليه وألبسه ثوبا خشنا. ثم قال له : كيف رأيت عاقبة أمر الله؟ فقال الهرمزان : لما خلّى الله بيننا وبينكم في الجاهلية غلبناكم ، فلما كان الله الآن معكم غلبتمونا (١).

فروى ابن الخياط عن أنس : أنه لما قال له عمر تكلّم ، قال : كلام حيّ أو ميّت؟ (يسأله هل يبقيه أو يقتله؟) فقال عمر : تكلم فلا بأس! فلما أجابه بما قال ، قال لي عمر : يا أنس ما تقول؟ قلت : يا أمير المؤمنين ؛ تركت بعدي عددا كثيرا وشوكة شديدة ، فإن تقتله ييأس القوم من الحياة فيكون أشدّ لشوكتهم! فقال عمر : أفأستحيي قاتل البراء بن مالك ومجزأة بن ثور السدوسي (قتلا في حصار شوشتر)؟ فلما خفت أن يقتله قلت : قد قلت له تكلّم فلا بأس ، فليس إلى قتله سبيل ، وشهد معي الزبير بذلك ، فأمسك عمر عنه ، فأسلم (٢).

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٤٠.

(٢) تاريخ خليفة : ٨٢ ـ ٨٣. ودون هذا الخبر المسند عن الحاضر الناظر المباشر أنس ، رووا مرسلا : أن الهرمزان طلب ماء فأتي به ، فقال : أخاف أن يقتلني وأنا أشرب! فقال عمر : لا بأس عليك حتى تشرب ، فرمى الإناء فانكسر ، فهمّ عمر أن يأمر بقتله فقالوا له : إنك بقولك له : لا بأس عليك إلى أن تشرب ، ولم يشرب الماء ، فقد أمنته ، فامسك عمر عنه ، فأسلم ، كما في ابن الوردي ١ : ١٤٠ ـ ١٤١ ، وليس بشيء.


جولة الفرس في جلولاء :

في وقعة المدائن هرب يزدجرد بن كسرى منها ودخلها وأقام بها سعد ، وأقام يزدجرد في جلولاء وكتب إلى البلدان فجمع إليه بها من مقاتليهم جمعا كثيرا ، وجعل عليهم فرّخزاد بن خرهرمز. وبلغ ذلك سعدا ، فكتب سعد إلى عمر يخبره ، فكتب له عمر : أقم بمكانك ووجّه إليهم جيشا فإن الله ناصرك ومتمّ وعده. فعقد سعد لابن أخيه هاشم المرقال بن عتبة بن أبي وقّاص على ثلاثة آلاف. فالتقوا وتقاتلوا وجالت الحرب على العرب فهربوا ، فناداهم سعد : يا معشر المسلمين أين أين؟ فعطف المسلمون عليهم فهزموهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة ، وحووا عسكرهم فأصابوا أموالا عظيمة وسلاحا ودوابّ وسبايا ، وبلغت الغنائم ثمانية عشر ألف ألف (١).

وعند اليعقوبي : لما كتب سعد إلى عمر يعلمه باجتماع الفرس في جلولاء نحو حلوان ، كتب إليه عمر أن ينهض هو إليهم ، ووجّه إليه عبد الله بن مسعود ليعلمهم ويفقّههم ، وصيّر سلمان الفارسي على المدائن ، ثم لم يزل يقاتلهم وقتل من الفرس مقتلة عظيمة حتى فتح الله عليه.

__________________

ولا يخفى أن البراء بن مالك هو أخو أنس ، وذكر في أنس أنه كان من المنحرفين عن علي عليه‌السلام أما هذا فقد نقل الكشي : ٣٨ ح ٧٨ عن الفضل بن شاذان أنه كان من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهو كان على ميمنة المسلمين يوم شوشتر ومجزأة على ميسرتهم ، وقتل كل منهما مائة من الفرس فقتلهما الهرمزان لدى باب البلد. انظر قاموس الرجال ١ : ٢٦٥ برقم ١٠٦٠ و٨ : ٦٧٢ برقم ٦٢٥٠.

(١) تاريخ خليفة : ٧٥ ، وفي الطبري ٣ : ٥٧٨ عن ابن اسحاق : أنهم سبوا ابنة لكسرى تدعى : منجان ، ومن الفيء أفضل من فيء القادسية.


وهرب يزدجرد في من بقي معه إلى اصفهان ثم الري ثم مرو ، ومعه ألف إسوار من أساورته وألف جبار (؟ خبّاز؟) وألف صنّاجة (١)!

تمصير الكوفة :

ورجع المسلمون فنزلوا المدائن ، ثم كرهوا الإقامة فيها لبعوضها وإن كانوا في نعمة ، فشكوا ذلك إلى عمر ، فقال عمر : أتصبر الإبل بالمدائن؟ قالوا : لا لما بها من البعوض! فقال : فإن العرب لا تصبر ببلاد لا تصبر فيها الإبل ، فارتادوا. فخرجوا إلى الحيرة ، فلقيهم رجل منها وأراد صرفهم عنها فقال لهم : أدلكم على بلدة ارتفعت عن البعوضة وتطأطأت عن البقّة ، وطعنت في البريّة وخالطت الريف. فدلهم على الكوفة ، فاختطّوها ونزلوها (٢).

واختطّ سعد مسجدها وقصر إمارتها ، واختطّ الأشعث الكندي جبّانة كندة وحوله قبيله ، واختطّ يزيد بن عبد الله البجلي أخو جرير في ناحية البريّة وحوله بنو بجلة (٣).

ونزلها المسلمون واختطّوا بها الخطط وبنوا المنازل ، ونزلها من أصحاب رسول الله ثمانون رجلا ، وكان ذلك في أواخر (١٧) أو أول سنة (١٨) (٤).

حكم سواد العراق :

مر الخبر (٣ : ١٠٦) (٥) عن الصادق عليه‌السلام : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ترك خيبر في

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥١.

(٢) تاريخ خليفة : ٧٦. وانظر الطبري ٣ : ٥٩٨.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥١.

(٤) اليعقوبي ٢ : ١٥٠ ـ ١٥١.

(٥) من موسوعتنا هذه.


أيديهم على نصف المحصول (١) ولذا جاء عن الرضا عليه‌السلام قال : ما أخذ بالسيف (كالعراق) فذلك إلى الإمام يقبّله بالذي يرى ؛ كما صنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بخيبر : قبّل أرضها ونخلها (٢).

وما كان ينبغي أن يخفى هذا على الصحابة وفيهم عمر ، ومع ذلك فقد شاور عمر أصحاب رسول الله في سواد الكوفة ، فقال بعضهم : تقسمها بيننا! فقال علي عليه‌السلام : إن قسمتها اليوم لم يبق شيء لمن يجيء بعدنا ، ولكن تقرّها في أيديهم ، يعملونها فتكون لنا ولمن بعدنا. فقال له عمر : وفّقك الله! هذا الرأي.

ثم وجّه حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف الأنصاريّين وأمرهما أن يمسحا السواد ويجعلا عليهم ضريبة الخراج ، وأن لا يحملا أحدا فوق طاقته ، وأن لا أجمة ولا تلّا ولا مستنقع ماء ولا ما لا يبلغه الماء ، ويمسحا بذراع وقبضة وأقام إبهامه يسيرا فوق القبضة. وأجرى لهما جرابا من دقيق ولكل يوم خمسة دراهم.

فمسح عثمان كل شيء من دون جبل حلوان ـ وهو آخر ما فتح حينئذ ـ إلى أرض العرب في أسفل فرات الكوفة ، وجعل عليه ضريبة الخراج.

وبالجزية جعل على رقابهم : على الموسر ثمانية وأربعين درهما ، ودون ذلك أربعة وعشرين ، ومن لا يجد اثني عشر درهما ، ومن أهل كل صناعة من صناعاتهم بقيمة ما يناسبهم. فاجتبي وحمل من خراج السواد في أول سنة (؟) ثمانون ألف ألف (مليون) درهما ، وفي قابلها : عشرون ومائة ألف ألف (مليون) درهما ، وحمل منه

__________________

(١) راجع فروع الكافي ٥ : ٢٦٦ ، وأمالي الصدوق : ٢١٨.

(٢) الكافي ٣ : ٥١٢ ح ٢. وفي الطبري ٣ : ٥٨٨ : عن ابن سيرين : أن عمر والمسلمين عمل على آخر ما عمل به رسول الله في ذلك.


إلى المدينة : عشرون إلى ثلاثين ألف ألف (مليون) وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري بالبصرة أن يضع على أراضيها الخراج مثل أراضي الكوفة (١).

ومدن الجزيرة :

وفي السنة (١٨) وجه أبو عبيدة عياض بن غنم الفهري إلى مدن الجزيرة (بين دجلة والفرات في شمال العراق) : الرقّة وسروج والرّها ونصيبين ، فحاصرها حتى افتتحها صلحا ، ووضع على أرضها الخراج وعلى الرّقاب الجزية على كل إنسان أربعة دنانير أو خمسة ، ثم انصرف إلى أبي عبيدة ، فاستخلفه على حمص وقنّسرين وما والاهما.

ولما مات شرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان أقرّ عمر أخاه معاوية على عمله ، فكان معاوية مقيما على قيسارية من فلسطين وقد افتتحت ما عدا قيسارية ، وبها معه ثمانون ألف مقاتل ، فما زال مقيما عليها حتى افتتحت ، وبعث بالبشارة إلى عمر (٢).

فتح مصر :

ووجّه عمرو بن العاص إلى عمر فلم يزل يعظّم أمر مصر ويهوّن عليه فتحها يقول : فإنا إن فتحناها كانت قوة للمسلمين ، فهي من أكثر الأرض أموالا وأعجزه عن القتال! فلم يزل حتى عقد له على أربعة آلاف من عكّ وقال له :

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥١ ـ ١٥٢ ، وقبله فتوح البلدان : ٢٦٦ ، والأموال لأبي عبيد : ٧٤ ، والخراج لأبي يوسف : ٤٨. ولم يرو الطبري استشارة عمر ومشورة علي عليه‌السلام عليه بذلك.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥٠ ـ ١٥١.


إن لحقك كتابي قبل أن تدخل شيئا من أرضها آمرك بالانصراف فانصرف ، وإن جاءك كتابي وقد دخلتها فامض واستعن بالله.

فسار عمرو حتى كان في رفح آخر عمل فلسطين نحو مصر ، إذ أتاه رسول عمر بكتابه ، فلم يقرأ الكتاب حتى صار إلى قرب العريش من مصر فقرأ الكتاب ثم قال : إن أمير المؤمنين أمرني إن أتاني كتابه وقد دخلت شيئا من أرض مصر أن أمضي لوجهي واستعين الله ، فمن أين هذه القرية؟ قالوا : من مصر. فمضى لوجهه حتى أتى الفرما ، فحاصرهم وقاتلهم ثلاثة أشهر حتى فتحت ، ثم مضى حتى صار إلى أم دنين فحاصرها وأبطأ عليه أمرها ، فكتب إلى عمر يستمده ، فوجّه إليه بأربعة آلاف مع الزبير بن العوام! والمقداد بن الأسود! وعبادة بن الصامت وخارجة بن حذافة السهمي. فلما أبطأ أمرها قال الزبير : إني أهب نفسي لله وأرجو أن يفتح الله على المسلمين. فلما كان الليل وضع السلّم على الحصن واقتحم ومعه جماعة ، فلما اشتدّ عليهم القتال دعوا إلى الصلح وصالح المقوقس عمرو بن العاص على دينارين دينارين لكل رجل.

وكان جموع الروم في الاسكندرية ولها ثلاثة حصون ، وصار إليها ابن العاص وحاصرهم وطالت المدة ثلاثة أشهر ، فسأل المقوقس عمرا أن يصالحه على أن يكون على من أقام خراج دينارين ، ومن أراد أن يمضي إلى بلاد الروم يطلق ، فأجابه عمرو إلى ذلك (١).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٤٧ ـ ١٤٨. وكان ذلك في شوال عام (٢١ ه‍) وسپتامبر (٦٤٢ م) كما في أطلس تاريخ الإسلام ، الترجمة الفارسية. وجاء في هامش مختصر تاريخ الدول لابن العبري : ١٠٣ عن تاريخ سعيد بن البطريق (نسخة خطّية) : أن حصار ابن العاص طال سنة وشهرين ، وأنه فتحها عنوة بدون صلح ، وأن الرومان هربوا برّا وبحرا ،


__________________

فترك عمرو في البلد جمعا من المسلمين وتعقّب الهاربين برّا فرجع الهاربون بحرا إلى البلد فقتلوا من به من المسلمين ، وبلغ الخبر عمرا فكرّ راجعا وقاتل قتالا شديدا حتى فتحت ثانية وهرب الرومان بحرا.

وطلب المسلمون قسمة الغنائم والبلد ، فكتب عمرو إلى عمر : إني فتحت مدينة أصبت فيها : أربعمائة ملهى للملوك! وأربعة آلاف حمّام! وأربعة آلاف معبد! واثني عشر ألف بقّال يبيعون البقل الأخضر ، وأربعين ألف يهودي عليهم الجزية (للروم) وقد فتحتها عنوة بغير عهد.

فأمره عمر أن لا يقسمها بل يحصى أهلها ويفرض عليهم الخراج للمسلمين قوة لهم لجهاد عدوّهم.

وجاء في : ١٨٠ من الكتاب الأصل مختصر الدول ط. عام (١٦٦٣ م) في اكسفورد وعنها في تاريخ التمدن الإسلامي لجرجي زيدان ٢ : ٤٧ ط. مصر : أن عمرو بن العاص كان عاقلا صحيح الفكر حسن الاستماع ، فلما فتح الاسكندرية دخل عليه الأسقف يحيى غرماطيقوس النحوي الذي رجع عن عقيدة التثليث النصرانية فأسقطه الأساقفة ، دخل على عمرو فسمع منه من ألفاظه الفلسفية ما هاله وعرف موضعه من العلوم ففتن به فلازمه لا يفارقه! فقال له يوما : إنك قد أحطت بحواصل الاسكندرية وختمت على كل الأصناف الموجودة بها ، وأنا أحتاج إلى كتب الحكمة التي هي في خزائن الملوك. فقال عمرو : حتى استأذن فيه أمير المؤمنين عمر ، فكتب إليه عمرو وعرّفه قول يحيى ، فورد عليه كتاب عمر وفيه : وأما الكتب التي ذكرتها : فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنه غنى ، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة إليه ، فتقدّم بإعدامها!

فشرع عمرو بتفريقها على حمّامات الاسكندرية لإحراقها في مواقدها! فاستنفدت في ستة أشهر! وبتر هذا الخبر من الكتاب في طبعاته اللاحقة رعاية لعواطف المسلمين. نقل كل ذلك الأميني في الغدير ٦ : ٢٩٧ ـ ٣٠٢ ، وزاد عن ابن خلدون ١ : ٣٢ ، وكشف الظنون ١ : ٤٤١.


وتمّ فتح الاسكندرية وسائر أعمال مصر في سنة عشرين ، واجتباها من خراج رءوسهم (الجزية) أربعة عشر ألف ألف (مليون) دينارا على كل رأس دينار (ما عدا الاسكندرية وأم دنين) ومن خراج غلّاتهم عن كل مائة إردب إردبين. وبعث بالبشارة والأخبار مع معاوية بن حديج الكندي إلى عمر بدون كتاب (١).

فتوح افريقية :

وفي سنة (٢١) صار عمرو بن العاص إلى برقة وحاصرها حتى صالحوه على ثلاثة عشر ألف دينار جزية ، ثم سار حتى أتى أطرابلس افريقية فحاصرها حتى فتحت ، وكتب إلى عمر يستأذنه في غزو باقي افريقية ، فلم يأذن له وقال : إنها مفرّقة ، فلا يغزوها أحد ما بقيت ... ولا تجعل بينك وبيني ماء ، فانزلوا موضعا متى أردت أن أركب راحلتي وأصير إليكم فعلت.

ولكنه وجّه بسر بن ارطاة العامري فحاصر بلدتي ودّان وفزّان حتى صالحوه.

__________________

وشهد الشهيد المطهري بطهارة المسلمين وبراءتهم مما ألصق بهم من هذه التهمة بفعل عبد اللطيف النصراني البغدادي صاحب هذه الإشاعة الشهيرة بشأن إحراق المسلمين لمكتبة الاسكندرية بمصر ، كما أشار لذلك في الإسلام وإيران : ٣٦٨ بتعريب المؤلف لهذا الكتاب عن طبعاته الأوائل ، وفي الطبعة الثامنة سنة انتصار الثورة الإسلامية في إيران زاد المؤلف فصلا خاصا بتحقيق وتفنيد هذه الاكذوبة : ٣٠٨ ـ ٣٥٤ ويكفي في العربية كتاب شبلي نعمان : مكتبة الاسكندرية.

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥٤.


وبعث عقبة بن نافع الفهري إلى أرض النوبة (السودان) فلقوا منهم قتالا شديدا فانصرفوا عنهم (١).

آخر أمر الروم في الشام :

ووجّه عمر في سنة (٢٠) ميسرة بن مسروق العبسي إلى أرض الروم ، فكان أول جيش دخلها. ثم بعث حبيب بن مسلمة الفهري وقدّر لهم أجلا لا يتجاوزوه.

ثم وجّه علقمة بن مجزّز المدلجي في عشرين مركبا في البحر فأصيبوا جميعا ، فحلف عمر أن لا يحمل في البحر أحدا أبدا ، وكان إذا ذكر الروم يقول : والله لوددت أن الدرب جمرة بيننا وبينهم لنا ما دونه وللروم ما وراءه ، لما كره من قتالهم (٢).

وفتح نهاوند :

وفي سنة (٢١) تلاوم الفرس فيما بينهم وقالوا : قد غلبنا على بلداننا ونالنا الذلّ في ديارنا واجتمعوا من الريّ وقومس (سمنان) واصفهان (٣) وأهل همدان ، وأهل الريّ ، وأهل آذربايجان إلى نهاوند مع أهلها.

فروى ابن الخياط عن السائب بن الأقرع : أن الخبر لما بلغ عمر شاور المسلمين فاختلفوا ، وشاور عليا عليه‌السلام فقال له : يا أمير المؤمنين : ابعث إلى أهل الكوفة فليسر ثلثاهم ، وتدع ثلثهم في حفظ ذراريهم ، وتبعث إلى أهل البصرة (كذلك) (٤).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥٦.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥٥ ـ ١٥٦.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥٦.

(٤) تاريخ خليفة : ٨٣.


وروي عن أبي بكر الهذلي : أن الفرس تكاتبوا وأرسل بعضهم إلى بعض : أنّ ملك العرب غير منته عنكم حتى تخرجوا جنوده من بلادكم وتغزوه في بلاده. فتعاقدوا على ذلك وتعاهدوا عليه. وانتهى الخبر إلى المسلمين بالكوفة فأنهوه إلى عمر بن الخطّاب ، فأتى إلى مسجد رسول الله وصعد المنبر فقال :

معاشر المهاجرين والأنصار ؛ إن الشيطان قد جمع لكم جموعا وأقبل بها ليطفئ نور الله ؛ ألا إنّ أهل همدان وأهل اصفهان والريّ وقومس ونهاوند قد تعاهدوا وتعاقدوا أن يخرجوا إخوانكم المسلمين من بلادهم ويخرجوا إليكم فيغزوكم في بلادكم! فأشيروا عليّ.

فقام عثمان بن عفّان فقال : إني أرى أن تشخص أهل الشام من شامهم وأهل اليمن من يمنهم ، وتسير أنت في أهل هذين الحرمين ، وأهل المصرين الكوفة والبصرة ، فتلقى جمع المشركين (كذا) بجمع المؤمنين .. فاحضره بنفسك ولا تغب عنه. وجلس.

وقام طلحة بن عبيد الله التيمي وحمد الله وأثنى عليه ثم أثنى على عمر خيرا وقال : فاحضر هذا الأمر بنفسك ولا تغب عنه. وجلس ، فلم يكتف بهما عمر وقال : تكلّموا. وكان فيهم علي عليه‌السلام وكأنّه عناه فقام وحمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسول الله ثم قال :

أما بعد ، فإنك إن أشخصت أهل الشام من شامهم سارت الروم إلى ذراريهم ، وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة إلى ذراريهم ، وإن أشخصت من بهذين الحرمين انتقضت العرب عليك من أطرافها وأكنافها حتى يكون ما تدع وراء ظهرك من عيالات العرب أهمّ إليك مما بين يديك.

وأما ذكرك كثرة العجم ورهبتك من جموعهم ؛ فإنا لم نكن نقاتل بالنصر.


وأمّا ما بلغك من اجتماعهم للمسير إلى المسلمين ؛ فإنّ الله لمسيرهم أكره منك لذلك وهو أولى بتغيير ما يكره ، وإنّ الأعاجم إذا نظروا إليك قالوا : هذا رجل العرب فإن قطعتموه فقد قطعتم العرب ، فكان أشدّ لكلبهم ، وكنت قد ألّبتهم على نفسك ، وأمدّهم من لم يكن يمدّهم.

ولكنّي أرى : أن تقرّ هؤلاء في أمصارهم ، وتكتب إلى أهل البصرة فليفترقوا على ثلاث فرق : فلتقم فرقة منهم على ذراريهم حرسا لهم ، ولتقم فرقة في أهل عهدهم لئلّا ينقضوا ، ولتسر فرقة منهم إلى إخوانهم مددا لهم. حتى أتى على تمام كلامه ثم جلس.

فقال عمر : أجل ، هذا هو الرأي ، وقد كنت أحبّ أن أتابع عليه (١)!

فروى ابن الخيّاط عن السائب بن الأقرع قال : فكتب عمر كتابا إلى النعمان بن مقرّن أن يسر بثلثي أهل الكوفة ، وليبعث إلى أهل البصرة (كذلك) فإن قتل النعمان فحذيفة بن اليمان ، فإن قتل حذيفة فجرير بن عبد الله البجلي ، وإن أصابوا غنيمة فأنت عليها ، ولا تحبس عن أحد حظّا ، ولا ترفع إليّ باطلا.

والتقوا بنهاوند يوم الأربعاء والخميس والجمعة (٢) واقتتلوا قتالا شديدا وقتل النعمان بن مقرن ، ولكن الله فتح لهم نهاوند وهزم الفرس (٣).

__________________

(١) رواه الطبري ٤ : ١٢٤ عن سيف التميمي عن أبي بكر الهذلي. ورواه المفيد في الإرشاد ١ : ٢٠٧ ـ ٢١٠ عن شبّابة بن سوار عن الهذلي ، وقد وصف ابن حنبل شبّابه بأنه كان من المرجئة ، ووصفه ابن شاذان بأنه كان أعدى الناس لعلي عليه‌السلام ، ووصفه ابن قتيبة بأنه كان شديدا على الشيعة يذكرهم كثيرا بالشرّ! كما في قاموس الرجال ٥ : ٣٨٧. والخبر في نهج البلاغة خ ١٤٦ ، ومصادره في المعجم المفهرس : ١٣٨٨.

(٢) تاريخ خليفة : ٨٣.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥٦.


وكانوا مائة وخمسين ألفا! ومقدّمهم الفيروزان وانهزم إلى ثنيّة همدان وهرب في الجبل وتبعه القعقاع حتى قتله (١).

فوجّهه ، وكتب إلى أهل الكوفة أن يمدّوه ، وبعث معه الزبير بن العوّام (٢) وحذيفة بن اليمان ، وعمرو بن معدي كرب ، والأشعث بن قيس ، والمغيرة بن شعبة وابن عمر (٣).

المغيرة رسولا إليهم :

لم يذكر أن أمير الفرس في نهاوند طلب من العرب رسولا ، وسمّى ابن الخياط صاحب نهاوند ـ بعد الوقعة ـ دينارا (٤) وفي اليعقوبي صورة اسمه : دومر (٥) دون نقط ، وفي الطبري والمسعودي : ذو الجناحين ، فعرفت أن أصل الاسم بالفارسية : دو پر أي ريشتان أو جناحان فترجم إلى ذي الجناحين ، وعرّب دو پر إلى دي بار فصحّف في تاريخ خليفة إلى دينار!

قال المسعودي : أرسل النعمان : المغيرة بن شعبة إلى ملكهم ذي الجناحين ، فقيل له : إن رسول العرب هاهنا. فقعد له في هيئة الملك : صعد على سريره ووضع التاج على رأسه وأقعد أبناء الملوك سماطين عليهم الديباج وأسورة الذهب ، وأذن له.

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٤١.

(٢) كذا في مروج الذهب ٢ : ٣٢٢ ، وقد مرّ أنه كان مع عمرو بن العاص في فتح الاسكندرية ، فيعلم أنه عاد من مصر من قبل.

(٣) مروج الذهب ٢ : ٣٢٢.

(٤) تاريخ خليفة : ٨٥.

(٥) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥٦.


فأخذ بضبعيه رجلان حتى أقاموه بين يديه ، والترجمان يترجم له ، ومع المغيرة سيفه ورمحه. فقال له الملك : إنكم معشر العرب أصابكم جهد ، فإن شئتم مرناكم ورجعتم؟!

فقال المغيرة : إنا معشر العرب كنا أذلة يطؤنا الناس ولا نطؤهم ، ونأكل الكلاب والجيف ، ثم إن الله تعالى بعث منّا نبيّا أوسطنا حسبا وأصدقنا حديثا .. وأخبرنا بأشياء وجدناها كما قال لنا ، وإنه وعدنا فيما وعدنا به : أنا سنملك ما هاهنا ونغلب عليه. وإني أرى هاهنا هيئة وبزّة ما من خلفي بتاركيها حتى يصيبوها أو يموتوا (١)!

وكان موقع المسلمين على نحو فرسخ من نهاوند إلى الدينور (٢) وبينهم نهر ، فقال الملك : إن شئتم قطعنا إليكم وإن شئتم قطعتم إلينا. فقال المغيرة : بل نقطع إليكم (٣).

فقطعوا النهر إليهم ، والتقوا يوم الأربعاء والخميس والجمعة (٤) واقتتلوا قتالا شديدا وقتل النعمان بن مقرّن ، ولكن الله فتح لهم نهاوند وهزم الفرس (٥).

وكانوا مائة وخمسين ألفا! ومقدّمهم الفيروزان ، وانهزم إلى ثنيّة همذان وهرب في الجبل وتبعه القعقاع حتى قتله (٦).

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٣٢٢ ـ ٣٢٣.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٣٢٤.

(٣) مروج الذهب ٢ : ٣٢٣.

(٤) تاريخ خليفة : ٨٣.

(٥) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥٦.

(٦) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٤١.


ثم مضى حذيفة بن اليمان إلى نهاوند فصالحه صاحبها على ثمان مائة ألف درهم في كل سنة ، ثم فتح بلدة الدينور (١).

وفي سنة ١٢٣ فتح عبد الله بن بديل الخزاعي همذان واصفهان ، وافتتح قرظة بن كعب الأنصاري الريّ ، وهاشم المرقال بن عتبة بن أبي وقاص الزهري آذربايجان ، وأبو موسى الأشعري ما بعد الأهواز إلى اصطخر فارس ، ومعاوية بن أبي سفيان : عسقلان ، هذا وخالد بن الوليد على آمد وتل موزن والرّقة وحرّان ثم استعفى (٢).

وغزا الأحنف بن قيس خراسان حتى افتتح هراة عنوة. وكتب يزدجرد إلى ملك الترك وملك السند وملك الصين يستمدهم ، وسار إلى بلخ عند نهر جيحون وتابعه المسلمون وعرضوا عليه الصلح فأبى وعبر النهر ، فصالح عسكره المسلمين وبقوا بأماكنهم ، وسار يزدجرد إلى ملك الترك في فرغانة فصار في حاشيته عهد عمر (٣).

وفي قسطنطينية مات هر قل (هراگليوس) وقام بمكانه ابنه قسطنطين فسمّته امرأة أبيه : مرتياني بعد أربعة أشهر وأقامت ابنها هر يقل مقامه ، فاجتمع أرباب الدولة وخلعوه وملكوا ابن القتيل : قسطوس (٤).

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٨٥. وكان الفتح في سنة (٢٠ ه‍) يوافق عام (٦٤١ م) كما في أطلس تاريخ الإسلام : ١٤٤ ، الترجمة الفارسية ، وفيه أخطاء تاريخية فاحشة!

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥٧ ، وفي تاريخ خليفة : ٨٦ : افتتح همذان والرّي حذيفة بن اليمان.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٤١ ـ ١٤٢. وانظر اليعقوبي ٢ : ١٥١.

(٤) مختصر تاريخ الدول لابن العبري : ١٠٢. وانظر اليعقوبي ٢ : ١٥٤.


شئون عمر غير العسكرية

تشريع صلاة التراويح :

قال خليفة : وفيها (سنة ١٤) في شهر رمضان (الثانية من عهد عمر) أمر عمر باجتماع الناس في القيام في ليالي شهر رمضان (١) وفي اليعقوبي : أمر أبيّ بن كعب الأنصاري وتميما الداريّ (من لخم الشام) أن يصليا بالناس قيام ليالي شهر رمضان ، وكتب بذلك إلى البلدان ، فقيل له في ذلك : إنّ رسول الله لم يفعله ، وإن أبا بكر لم يفعله! فقال : إن تكن بدعة فما أحسنها من بدعة (٢). ونقل المسعودي عن ابن اسحاق : إن عمر سنّ صلاة التراويح في شهر رمضان وكتب بذلك إلى البلدان (٣) وقال ابن الوردي : هو أول من جمع الناس على إمام يصلي التراويح. وأول من جمع على صلاة الجنازة بأربع تكبيرات ، وكانوا من قبل يكبرون ستا وخمسا وأربعا (٤).

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٧٠.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٤٠. ويظهر أن تميما إنما كان يتمّم تراويح العشر الأواخر حيث كان ابيّ يتخلف في بيته فيقول الناس : أبق ابيّ ، كما في سنن أبي داوود ٢ : ٦٥ ، الحديث ١٤٢٩ ، وعنه في قاموس الرجال في ترجمة ابيّ.

(٣) مروج الذهب ٢ : ٣١٩ ، وفي التنبيه والإشراف : ٢٥٠.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٤٢ ، ونحوه في تاريخ الخلفاء للسيوطي : ١٥٩ ـ ١٦٠ ، عن أبي هلال العسكري وانظر النص والاجتهاد ، المورد ٢٦ ـ ٢٧ : ٢٥٠ ـ ٢٥٧ ، بتحقيق الشيخ حسين الراضي.


وإشفاقا على الإسلام :

نقل المعتزلي عن ابن طيفور الخراساني البغدادي (م ٢٨٠ ه‍) في كتابه «تاريخ بغداد» بسنده عن ابن عباس قال : دخلت على عمر في أول خلافته ، وقد القى له صاع (٣ كغم) من تمر خصفة (حصيرة) فأكل حتى أكمل ودعاني فأكلت واحدة ، ثم شرب من جرّة عنده ثم استلقى قال لي : يا عبد الله كيف خلّفت ابن عمّك؟ فظننته يعني عبد الله بن جعفر فقلت : لعب! فقال : إنما عنيت عظيمكم أهل البيت! فقلت : خلّفته يمتح بالغرب (يسقى دلو كبير) على النخل وهو يقرأ القرآن.

فقال : يا عبد الله ؛ عليك دماء البدن إن كتمتني هل بقي في نفسه شيء من أمر الخلافة؟ قلت : نعم ، قال : أيزعم أن رسول الله نصّ عليه؟ قلت : نعم ، وأزيدك أني سألت أبي فقال : صدق! فقال عمر : لقد كان من رسول الله في أمره ذرو (ارتفاع) من قول لا يثبت حجة ولا يقطع عذرا! ولقد كان يرفع من أمره وقتا ما ، ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه فمنعت من ذلك! اشفاقا وحيطة على الإسلام! فعلم رسول الله أني علمت ما في نفسه فأمسك! وأبى الله إلّا إمضاء ما حتم! ولا وربّ هذه البيّنة (الكعبة) لا تجتمع قريش عليه أبدا! ولو وليها لانتقضت العرب عليه من أقطارها (١).

شئون عمر في الحج :

أول حجّ على عهد عمر سنة (١٣) أقام الحج عبد الرحمن بن عوف (٢) ومن سنة (١٤) إلى (٢٣) حجّ عمر ، وفي سنة (١٤) أمر ابن عوف أن يحجّ

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١٢ : ١٢٠ ألم تنتقض العرب على أبي بكر؟!

(٢) تاريخ خليفة : ٦٧. واليعقوبي ٢ : ١٥٩.


بأزواج النبيّ (١) فحججن إلّا ابنة عمة النبيّ زينب بنت جحش فإنها التزمت قوله لهنّ عند عودهن من حجة الوداع : هذه الحجة ثم ظهور الحصر (٢).

وكان الناس بعد وفاة رسول الله يأتون الشجرة التي كانت بيعة الرضوان تحتها فيصلّون عندها ، فقال عمر لهم : أيها الناس ، أراكم رجعتم إلى العزّى! ألا لا أوتى منذ اليوم بأحد عاد لمثلها إلّا قتلته بالسيف كما يقتل المرتد! ثم أمر بها فقطعت (٣).

وكان معه أبو سعيد الخدري ، وقد حجّ علي عليه‌السلام قال أبو سعيد : كنت مع عمر في أول حجة حجّها في خلافته ، فلما دخل المسجد الحرام دنا من الحجر الأسود فقبّله واستلمه وقال له : إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولو لا أني رأيت رسول الله قبّلك واستلمك لما قبّلتك ولا استلمتك (٤)!

ورواه الصدوق عن الصادق عليه‌السلام : أن عمر قال : إلّا أنا رأينا رسول الله يحبّك فنحن نحبّك. فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : كيف يا ابن الخطّاب! فو الله ليبعثنّه الله يوم القيامة وله لسان وشفتان فيشهد لمن وافاه ، وهو يمين الله في أرضه يبايع بها خلقه! فقال عمر : لا أبقانا الله في بلد لا يكون فيه علي (٥).

وكان حجّه في آخر عام (١٤) في شدة حاجته للمال لتجهيز جيوش الفتوح ، ورأى بعض من معه حلّي الكعبة فقال له : لو أخذته فجهّزت به جيوش المسلمين كان أعظم للأجر ، وما تصنع الكعبة بالحليّ؟!

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٧٠.

(٢) مغازي الواقدي ٣ : ١١١٥.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ١ : ١٧٨ وانظر الغدير ٦ : ١٤٦. والنص والاجتهاد ، المورد : ٦٥.

(٤) شرح النهج للمعتزلي ١٢ : ١٠٠ ، وانظر الغدير ٦ : ١٠٣ وفيه مصادره. والنص والاجتهاد : ٣٦٩.

(٥) علل الشرائع ٢ : ١٣١ ، الحديث ٨ ، الباب ١٦١.


فسأل عمر عليا عليه‌السلام عن ذلك فقال له : إن هذا القرآن أنزل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأموال أربعة : أموال المسلمين فقسّمها بين الورثة بالفرائض ، والفيء فقسّمه على مستحقّيه ، والخمس فوضعه الله حيث وضعه! والصدقات فجعلها الله حيث جعلها. وكان حليّ الكعبة فيها يومئذ فتركه الله على حاله ، ولم يتركه نسيانا ولم يخف عليه مكانا ، فاقرّه حيث أقرّه الله ورسوله. فقال له عمر : لولاك لافتضحنا! وترك الحليّ بحاله (١).

وظل عمر على إحرامه إفرادا حتى أمسى بعرفة ، فنقل القاضي أبو يوسف عن شيخه أبي حنيفة بسنده عن الأسود بن يزيد قال : كنت عشية عرفة واقفا مع عمر بن الخطاب إذ أبصر رجلا قد رجّل شعره يفوح منه ريح الطيب! فقال له عمر : ويحك ألست محرما أنت؟! قال : بلى. قال : فمالي أراك يقطر رأسك طيبا والمحرم أشعث أغبر؟! قال : قدمت متمتّعا ومعي أهلي (وتمتعت) حتى عشيّة التروية فأهللت بالحج. فعند ذلك قال عمر : إذا والله لأوشكتم لو خلّيت بينكم وبين المتعة أن تضاجعوهن تحت أراك عرفة ثم تروحون حجّاجا! فنهى عن المتعة في أشهر الحج وقال : فعلتها مع رسول الله ، وأنا أنهى عنها! وذلك أن أحدكم يأتي من افق من الآفاق شعثا نصبا معتمرا في أشهر الحج وإنما شعثه ونصبه وتلبيته في عمرته ، ثم يحل ويلبس ويتطيّب ويقع على أهله إن كانوا معه ، حتى إذا كان يوم التروية أهل بالحجّ وخرج إلى منى ، يلبيّ بحجة لا شعث فيها ولا نصب ولا تلبية إلّا يوما! والحجّ أفضل من العمرة

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمة ٢٧٠ ، ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٤١٤ ومنها البخاري ، وبغى البغوي فأبى هذا الرأي على عليّ عليه‌السلام فرواه عن أبيّ بن كعب! وانظر الغدير ٦ : ٢٠٣ النادرة : ٦٨ ، الحديث ١٠.


(فكيف يكون أقل نصبا) ولو خلّينا بينهم وبين هذا لعانقوهن! مع أنّ أهل البيت (مكة) ليس لهم زرع ولا ضرع وإنما ربيعهم في من يطرأ عليهم وإنما نهى عن إفراد المتعة دون القران (١).

وكأنّ عمر خطب بذلك على المنبر ، فقام إليه أبيّ بن كعب وقال له : ليس لك ذلك ، لقد نزل بها كتاب الله ، واعتمرناها مع رسول الله! فنزل عمر وأضرب عن ابن كعب (٢).

__________________

(١) انظر المصادر في الغدير ٦ : ٢٠٤ ـ ٢٠٥ واقض عجبا!

(٢) انظر مصادره في الغدير ٦ : ٢٠٣ النادرة ٦٨ الحديث ١٠. وأصل ذلك : ما رواه الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض! الغدير ٦ : ٢١٧.

وذلك أيضا لما رواه الطبري ٤ : ٢٢٥ : عن محمد بن إسحاق بسنده عن عمران بن سوادة : أنه صلّى مع عمر الفجر ثم تبعه وقال : له حاجة ، حتى دخل عليه وقال له : نصيحة ، فقال : مرحبا ، فقال له : عابت أمتك عليك أربعا! فقال : هات. قال : ذكروا أنك حرّمت العمرة في أشهر الحجّ ، ولم يفعل ذلك رسول الله ولا أبو بكر وهي حلال؟! فقال عمر : لو أنهم اعتمروا في أشهر الحج رأوها مجزية من حجّتهم ، فتكون الكعبة خالية عامها ، وقد أصبت!

ولذلك كان ابنه عبد الله يوجّه اجتهاد أبيه في ذلك يقول : إن أبي لم يقل الذي تقولون ، إنّما قال : أفردوا العمرة من الحج ، أي : إن العمرة لا تتم في شهور الحجّ إلّا بهدي ، وأراد أن يزار البيت في غير شهور الحجّ ، فجعلتموها أنتم حراما وعاقبتم الناس عليها ، وقد أحلها الله وعمل بها رسول الله.

وقال في خبر آخر : إن عمر لم يقل لك : إنّ العمرة في أشهر الحجّ حرام ، وإنما قال : إن تفردوها عن أشهر الحجّ فهي أتم. الغدير ٦ : ٢٠٢ الحديث ٦ الصورتان ٣ و ٤.


تحريم نكاح المتعة :

تعدّد الخبر وتكرر عن أبي سعيد الخدري وجابر الأنصاري قالا : تمتّعنا على عهد رسول الله وأبي بكر إلى النصف من خلافة عمر ـ وعن المسند لأحمد : حتى أواخر خلافة عمر ـ حتى نهى عنها عمر في شأن عمرو بن حريث المخزومي (١) فإنه قدم من الكوفة إلى المدينة فاستمتع بابنة بكر من بني سعد ثم جحدها ، واستمتع سلمة بن أميّة بن خلف بسلمى مولاة حكيم بن أميّة السلمي ، فولدت له فجحدها ، فعند ذلك نهى عمر عن المتعة (٢) وسمّاه مالك في «الموطّأ» : ربيعة بن أميّة ، ولم يذكر المرأة وقال : حملت منه ، فخرج عمر يجرّ رداءه فزعا فقال : هذه المتعة ؛ ولو كنت تقدّمت فيه بنهي لرجمته (٣).

وسبب آخر من صحابيّ آخر لم يسمّوه قدم من الشام فنزل على أمّ عبد الله ابنة أبي خيثمة ، ثم قال لها : إن العزبة قد اشتدّت عليّ فابغيني امرأة اتمتّع بها ، قالت : فدللته على امرأة فشارطها وأشهدا على ذلك عدولا ، ومكث معها ما شاء ثم خرج. فاخبر عن ذلك عمر ، فأرسل إليّ فسألني : أحقّ ما حدّثت؟ قلت : نعم. قال : فإذا قدم فأذنيني. فلما قدم أخبرته ، فأرسل إليه فقال له : ما حملك على ما فعلته؟ قال : فعلته مع رسول الله ثم لم ينهنا عنه حتى قبضه الله ، ثم مع أبي بكر فلم ينهنا عنه حتى قبضه الله ، ثم معك فلم تحدث لنا فيه شيئا. فقال عمر : أما والذي نفسي بيده لو كنت تقدّمت بنهي لرجمتك (٤)!

__________________

(١) انظر الغدير ٦ : ٢٠٨ ، الحديث ١٠ و ١٤ ، المورد ٦٩.

(٢) مثالب العرب لابن الكلبي : ١١٧. وانظر الغدير ٦ : ٢٠٦ ، الحديث ٥ عن فتح الباري عن المصنّف لعبد الرزاق : أن عمر سأله فاعترف ، فحين ذاك نهى عمر ، فخفّفوا عن ابن حريث جريمة الجحود ، لصحبته!

(٣) انظر الغدير ٦ : ٢٠٦ ، الحديث ٢.

(٤) انظر الغدير ٦ : ٢٠٧ ، الحديث ٨ عن كنز العمال ٨ : ٢٩٤.


ثم إنه صعد المنبر وقال في خطبته : «إن الله كان يحلّ لنبيّه ما شاء ، وإن القرآن قد نزل منازله ، فافصلوا حجكم عن عمرتكم ، وابتّوا نكاح هذه النساء ، فلا اوتي برجل تزوج امرأة إلى أجل إلّا رجمته»! صحيح أن الجصّاص قال بعد ذكره الحديث : ذكر الرجم على جهة الوعيد والتهديد لينزجر الناس (١). وإلّا أنه تهديد شديد ، ولا بدّ أنه بلغ بشدّته هذه إلى عمّال عمر ومنهم المغيرة بن شعبة الثقفي ، فلما ثقف به الثقفيون في دار أرملة رجل مات منهم لم يدّع التمتّع بها.

عمر ، والمغيرة الثقفي :

وفيها (١٦ ه‍) كانت الشهادة على المغيرة بن شعبة بالزنا بالبصرة فعزله عمر عنها (٢).

وقال اليعقوبي : سار المغيرة من البصرة لنصرة سعد بن أبي وقاص في القادسية ثم عاد إليها. وكان بالبصرة من ثقيف : الحجّاج بن عتيك أو عبيد وامرأته أم جميل من بني هلال (ومات الحجّاج أو قتل) فأخذ المغيرة يختلف إليها حتى استراب به جماعة من المسلمين منهم شبل بن معبد ونافع بن الحارث وزياد بن عبيد الثقفي وأخوه من أمه أبو بكرة ، وكانوا في بيته مقابل بيت أم جميل ، ودخل المغيرة إليها ورفعت الريح الستر فإذا بهم يرونه عليها.

فوفدوا إلى عمر وقصّوا عليه القصة ، فدعا عمر أبا موسى الأشعري وأمّره على البصرة وأمره أن يشخص إليه المغيرة. فقدم أبو موسى وأشخص المغيرة ،

__________________

(١) انظر الغدير ٦ : ٢١١ ، ٢١٢ في مصادر خطبة عمر هذه. وانظر شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ٢٦٥ وتاريخ بغداد ١٤ : ١٩٩.

(٢) تاريخ خليفة : ٧٤.


فلما قدم عليه جمع بينه وبين الشهود فشهد الثلاثة ، وأقبل زياد بن أبيه فقال عمر : أرى وجه رجل لا يخزي الله به رجلا من أصحاب محمد! ثم قال له : ما عندك يا سلح العقاب (ذرق الطير!) فقال زياد : رأيت أمرا قبيحا وأرجلا مختلفة ونفسا عاليا ولم أر مثل الميل في المكحلة! فتركه عمر وجلد الثلاثة! فقام أبو بكرة وقال : أشهد أن المغيرة زان! فأراد عمر أن يجلده ثانية!

فقال له عليّ عليه‌السلام : إذن توفى صاحبك حجاره! (أي إنه عليه‌السلام يرجمه) فتركه (١).

بداية كتابة التاريخ الهجري :

وفي سنة (١٦) ماتت مارية القبطية أمّ إبراهيم ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

وروى خليفة : أن أبا موسى الأشعري كتب إلى عمر : إنه تأتينا كتب ما ندري ما تاريخها. فاستشار عمر الصحابة فقال بعضهم : من المبعث ، وقال بعضهم : من وفاته. فقال له علي [عليه‌السلام] بل منذ خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من أرض الشرك ، فهو يوم هاجر. فأجمع رأيهم أن يكتبوه من هجرته فأرادوا أن يبتدءوا من شهر رمضان ثم بدا لهم أن يجعلوه من المحرم (٣).

وقال المسعودي قال : شاور عمر الناس في كتابة التاريخ ، فكثر منهم القول وطال الخطب اقتباسا من تواريخ العجم وغيرهم! فأشار عليه عليّ بن أبي طالب [عليه‌السلام] أن يؤرّخ بهجرة النبيّ وتركه أرض الشرك ، فعملوا به ، ولكنهم بدءوا من المحرّم أي قبل قدومه إلى المدينة بشهرين و(١٢) يوما ؛ لأنهم أحبّوا أن يبتدءوا من أول السنة (القمرية العربية).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٤٦ وتمامه : فكان عمر بعد ذلك إذا رأى المغيرة قال له : يا مغيرة! ما رأيتك إلّا خشيت أن يرجمني الله بالحجارة! وانظر الخبر في تاريخ ابن الوردي ٢ : ١٤٠.

(٢) تاريخ خليفة : ٧٤.

(٣) تاريخ خليفة : ١٤ و ١٥.


قال : وروى الزهريّ : أنّ رسول الله لما قدم المدينة أمر بالتاريخ! وليس في هذا الخبر وقت (تاريخ) معلوم ولا نقل كيفية ذلك ؛ فهو خبر مجتنب من حيث الآحاد ومرسل ، وما حكيناه أولا هو المتفق عليه. ويتنازع الناس أن كان ذلك في سنة (١٧) أو (١٨) (١).

عمرة عمر الرجبية :

وفي سنة (١٧) في شهر رجب اعتمر عمر فأقام بمكة عشرين يوما منه (٢) وأراد توسيع المسجد الحرام فاشترى المنازل المجاورة فباعها قوم وامتنع آخرون منهم العباس بن عبد المطلب وكان معتمرا معه ، فأمر عمر بهدمها وضمن الثمن على بيت المال ، فقال له العباس : تهدم داري؟ قال : لأوسّع بها في المسجد الحرام!

فقال العباس : سمعت رسول الله يقول : إن الله أمر داود أن يبني له بيتا في إيليا (بيت المقدس) فكان كلما ارتفع البناء سقط ، فقال داود : يا ربّ إنك أمرتني أن أبني لك بيتا ، وإني كلما بنيت سقط البناء! فأوحى الله إليه : إني لا أقبل إلّا الطيّب وإنك بنيت لي في غصب! فنظر داود فإذا قطعة أرض لم يكن اشتراها ، فابتاعها من صاحبها بحكمه ثم بنى فتم البناء! فقال عمر : ومن يشهد أنه سمع هذا من رسول الله؟! فقام قوم فشهدوا ، فقال عمر للعباس : فتحكّم يا أبا الفضل وإلّا أمسكنا! قال : فإنّي تركتها لله.

ثم وسّع حجر إسماعيل ، وباعد مقام إبراهيم من البيت (٣).

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٢٥٢ ، وفي تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٤٥ : أن ذلك كان سنة (١٦ ه‍).

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٤٠ ، واليعقوبي ٢ : ١٤٩.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٤٩.


وهنا روى الكليني عن الباقر والصدوق عن الصادق عليه‌السلام قال : وضع إبراهيم عليه‌السلام المقام ـ وهو الحجر الذي فيه أثر قدميه ـ بحذاء البيت لاصقا به بحيال الموضع الذي هو فيه اليوم ، فلما كثر الناس وازدحموا عليه رأوا أن يضعوه في هذا الموضع الذي هو فيه اليوم ليخلوا المطاف لمن يطوف ، ثم ردّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فكان حيث هو في زمن أبي بكر وأول ولاية عمر ، ثم قال عمر : قد ازدحم الناس على هذا المقام فأيكم يعرف موضعه في الجاهلية؟! فقال له رجل : أنا أخذت قدره بقيد. قال : والقيد عندك؟ قال : نعم ، قال : فأت به. فجاء به ، فأمر عمر بحمل المقام وردّه إلى الموضع الذي هو فيه الساعة (١).

قال اليعقوبي : وبعد عشرين يوما انصرف عمر من مكة إلى المدينة والعباس يسايره ، وكانت ناقة العباس صعبة فتقدّمه عمر ثم وقف له حتى لحقه فقال له : تقدّمتك ، وما لأحد أن يتقدمكم معشر بني هاشم ؛ قوم فيكم النبوة ، ولكن للخلافة فيكم ضعف! فقال العباس : رآنا الله نقوى على النبوة ونضعف على الخلافة؟!

قال : وفي هذه السنة خطب عمر إلى علي بن أبي طالب أم كلثوم بنت علي من فاطمة بنت رسول الله ، فقال عليّ : إنها صغيرة! فقال عمر : إني لم أرد حيث ذهبت ، لكني سمعت رسول الله يقول : «كل نسب وسبب ينقطع يوم القيامة إلّا سببي ونسبي وصهري» فأردت أن يكون لي سبب وصهر برسول الله ، وأمهرها عشرة آلاف دينار (٢).

__________________

(١) علل الشرائع ٢ : ١٢٨ الحديث ١ ، الباب ١٦٠ ، والكافي ٤ : ٢٢٣ الحديث ٢ ، الباب ١٠ والفقيه ٢ : ٢٤٤ الحديث ١٢ ، الباب ٦٤ وانظر النص والاجتهاد : ٢٧٨ المورد ٣٨.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٤٩ ـ ١٥٠. وانظر شرح النهج للمعتزلي ١٢ : ١٠٦ عن الموفّقيات للزبير ابن بكّار. وفي : ٢٢١ عن الطبري : أن عمر كان قد خطب قبل أمّ كلثوم بنت عليّ : أمّ كلثوم بنت أبي بكر إلى اختها عائشة ، فلم ترغب أمّ كلثوم فيه ، فقالت لها عائشة :


وفي «الكافي» بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : لما قال له أمير المؤمنين : إنها صبية لقي العباس فقال له : ما لي؟ أبي بأس؟ قال : وما ذاك؟ قال : خطبت إلى ابن أخيك فردّني! أما والله لأعوّرنّ زمزم ، ولا أدع لكم مكرمة إلّا هدمتها ، ولأقيمنّ عليه شاهدين بأنه سرق! ولأقطعنّ يمينه! فأتى العباس أمير المؤمنين فأخبره وسأله أن يجعل الأمر إليه ، فجعله إليه (١) فزوّجها إياه.

__________________

ويلك؟ أترغبين عن أمير المؤمنين؟! قالت : نعم ، إنه يدخل عابسا ويغلق بابه ويخرج عابسا ويمنع خيره!

فأرسلت عائشة إلى عمرو بن العاص فأخبرته وطلبت إليه أن يكفيها فقال : نعم.

فأتى عمر فقال له : يا أمير المؤمنين ؛ بلغني خبر اعيذك بالله منه! قال : ما هو؟ قال : خطبت أمّ كلثوم بنت أبي بكر؟ قال : نعم ، أفترغب بي عنها أم ترغب بها عني؟ قال : ولا واحدة ، ولكنها حدثة نشأت تحت كنف أم المؤمنين في رفق ولين ، ونحن نهابك من غلظتك ، ولا نستطيع أن نردّك عن خلق من أخلاقك! فكيف بها إن خالفتك في شيء فسطوت بها! فكنت خلفت أبا بكر في ولده بغير ما يحق عليك!

وأنا أدلّك على خير منها : أمّ كلثوم بنت عليّ بن أبي طالب ، وتعلق منها بسبب من رسول الله! فقال عمر : فكيف وقد كلمت عائشة! قال عمرو : أنا لك بها ، فصرفه عنها إلى أمّ كلثوم بنت فاطمة فهو المثير لهذه الفتنة والذريعة بالانتساب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله!

(١) فروع الكافي ٥ : ٣٤٦ الحديث ٢ ، الباب ٢٣ وفي مرآة العقول ٣ : ٤٤٨ ط. حجر ، ذكر المجلسي أجوبة الشيخ المفيد وردّها من السيد المرتضى ثم قال : والأصل في الجواب : أن ذلك وقع على سبيل التقية والاضطرار ، ولا استبعاد في ذلك ، فإن كثيرا من المحرّمات تنقلب عند الضرورة وتصير من الواجبات .. وهذا مما يسكّن استبعاد الأوهام ، والله أعلم بحقائق أحكامه وحججه عليهم‌السلام. أقول : وإنما تزوجها سياسيا ليغطي بذلك على عدوانه على أمّها وأبيها ، وهو أمر متكرر على مرّ التاريخ من دهاة السياسيين. كما تزوّج مصعب بن الزبير سكينة بنت الحسين عليه‌السلام ليغطّي على عدوانهم على بني هاشم.


طاعون عمواس وعام الرمادة :

وفيها (١٨) انتشر الطاعون من قرية عمواس (١) وكثر بالشام ، وخرج عمر يريد الشام حتى بلغ قرية السرغ فلقيه أمراء الشام وأبلغوه أن الطاعون قد كثر فعزم على الرجوع ، فشدد عليه أبو عبيدة الكلمة وقال له : أفرارا من قدر الله؟! فقال : نعم أفرّ من قدر الله إلى قدره (٢).

ومات فيها خمسة وعشرون ألفا ممن أحصي منهم. واحتكر الناس فغلت الأسعار (٣). وأمحل الحجاز ، فاستعان عمر من الأمصار ، فحمل إليه أبو عبيدة أربعة آلاف راحلة زادا (٤) وأصاب الناس جدب وقحط ومجاعة شديدة فسميت عام الرمادة ، وأمر عمر الناس بصلاة الاستسقاء ، وخرج وأخرج معه العباس عمّ النبي وأخذ بيده وقال : اللهم إنّا نتقرّب إليك بعمّ نبيّك! اللهم فلا تخيّب ظنّهم في رسولك! فأسقوا (٥).

وكتب عمر إلى عمرو بن العاص في مصر أن يحمل إلى المدينة طعاما في البحر يكفي عامة المسلمين. فحمل ابن العاص طعاما إلى القلزم ثم حمله في البحر في عشرين مركبا ، في كل مركب ثلاثة آلاف أردب وأقل وأكثر ، وصار بها إلى

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٧٦ وهي قرية بين الرملة والقدس في فلسطين.

(٢) اليعقوبي ٢ : ١٤٩.

(٣) اليعقوبي ٢ : ١٥١.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٤١.

(٥) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥٠ ، وتاريخ خليفة : ٧٦ ، وتاريخ ابن الوردي ١ : ١٤١. وفي الاستيعاب ٣ : ٩٨ ، ٩٩ : أن ذلك كان باقتراح كعب الأحبار على عمر ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢٢ : ٢٩٠ ، والشوشتري في قاموس الرجال ٦ : ٢١ ، وانظر تعليقة الشيخ على توسل عمر بالعباس وتركه أبا الحسن والحسنين عليهم‌السلام!


ساحل الجار ، وبلغ قدومها عمر ، فخرج ومعه جلّة أصحاب رسول الله حتى قدم الجار ، وأمر فبنى هنالك قصرين جعل الطعام فيهما ، ثم أمر زيد بن ثابت أن يكتب الناس على منازلهم ، وأمره أن يكتب لهم صكاكا من قراطيس ثم يختم أسفلها ، فكان عمر أول من ختم أسفل الصكاك (١). وفي تلك السنة أجرى عمر الأقوات على عيالات المسلمين (٢).

ومات بالطاعون أبو عبيدة فاستخلف على الأردن معاذ بن جبل فمات بعده بأيام ، واستخلف على حمص وقنّسرين عياض بن غنم الفهري فأقرّه عمر ، ومات يزيد بن أبي سفيان واستخلف أخاه معاوية فأقره عمر ، وكان معاوية مقيما على قيسارية من فلسطين فافتتحها (٣).

ثم جمع له البلقاء وبعلبك ودمشق ، ثم جمع له الشام كلها (٤).

وتلقّب بأمير المؤمنين :

وكان عمر يدعى خليفة خليفة رسول الله حتى كتب له أبو موسى الأشعري في هذه السنة من البصرة : لعبد الله عمر أمير المؤمنين (٥) من أبي موسى الأشعري ، فلما قرئ ذلك على عمر ـ وكاتبه زيد بن ثابت الأنصاري ـ قال : إني لعبد الله ، وإني لعمر ، وإني لأمير المؤمنين. والحمد لله ربّ العالمين! وكان أبو موسى يدعو له بهذا الاسم على المنبر بالبصرة (٦) ولكنه لم يجر على الأفواه.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥٤.

(٢) اليعقوبي ٢ : ١٥٠.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥٠ ـ ١٥١.

(٤) تاريخ خليفة : ٨٩.

(٥) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥٠.

(٦) مروج الذهب ٢ : ٣٠٥.


وعرف ذلك المغيرة الثقفي فحاول مباراة أبي موسى في ذلك وأن لا يسبقه بها ، وكان وغر الصدر على علي عليه‌السلام لموقفه منه في الشهادة عليه بالزنا شاكرا لعمر موقفه في ذلك ، فاتخذ هذا اللقب في السلام عليه فكان أول من سلّم عليه به ، فقال له عمر : لتخرجنّ مما قلت! فقال : ألسنا مسلمين؟ قال : بلى! قال : وأنت أميرنا؟ اللهم نعم. فجرى عليه (١) ولعل الذي ثنّى المغيرة في ذلك كان عديّ بن حاتم الطائي (٢).

وأجرى الحدّ مرتين :

كان عمر قد بعث ابنيه عبد الله وعبد الرحمن مع من بعثهم مددا لعمرو بن العاص لفتح مصر والاسكندرية ومعهم أبو سروعة عقبة بن الحارث النوفلي القرشي المهاجري البدريّ (٣) ، وإذا بهذا وعبد الرحمن يوما على باب ابن العاص يستأذنان فأذن لهما ، فدخلا منكسرين وقالا له : أقم علينا حدّ الله! فإنا قد أصبنا البارحة شرابا فسكرنا! وكانوا يحلقون رءوسهم مع الحد ، فدخل عبد الله وقال : إن أخي لا يحلق على رءوس الناس فأما الضرب فاصنع ما بدا لك. فأخرجهما إلى صحن الدار فضربهما الحدّ ، ثم دخل ابن عمر بأخيه إلى بيت من الدار فحلق رأسيهما. ثم جاء كتاب عمر إلى عمرو : أن ابعث بعبد الرحمن في عباءة على قتب حتى يعرف سوء ما صنع! فبعث إليه وأقرأه كتاب أبيه ، وبعثهما إلى عمر فدخل عبد الرحمن على أبيه وهو لا يستطيع المشي من مركبه! وعزم على حدّه ثانية

__________________

(١) اليعقوبي ٢ : ١٥٠.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٣٠٥.

(٣) انظر اسمه في قاموس الرجال ١٢ : ٣٤١ ، برقم ٣٨٦ بدون الخبر.


فصاح عبد الرحمن أنا مريض وأنت قاتلي! وكان عبد الرحمن بن عوف حاضرا فقال : يا أمير المؤمنين قد اقيم عليه الحدّ مرّة! فزبره عمر ، وضربه الحدّ ، وحبسه مريضا فمات بعد شهر (١).

تدوين الدواوين عام (٢٠):

مرّ الخبر عن اليعقوبي قال : في سنة (٢٠) فتح عمرو بن العاص الاسكندرية وسائر مصر ، فاجتباها أربعة عشر ألف ألف (مليون) دينارا خراجا ، على كل رأس ديناران (٢).

وقال : وقدم أبو هريرة الدوسي من البحرين بمال مبلغه سبعمائة ألف درهم ، فقال عمر : كثرت الأموال فأشيروا علي ، فأشير عليه أن يجعل لهم ديوانا ، فدعا عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم بن نوفل بن عبد مناف ، وقال لهم : اكتبوا الناس على منازلهم وابدؤوا ببني عبد مناف. فكتبوا بني عبد مناف ، ثم اتبعوهم أبا بكر وقومه ثم عمر وقومه ، فلما نظر عمر فيه قال : ابدؤوا برسول الله ثم الأقرب فالأقرب منه حتى تضعوا عمر بحيث وضعه الله.

فقيل : بدءوا بالعباس بن عبد المطلب ، وقيل : كتب أول الناس علي بن أبي طالب في خمسة آلاف ثم الحسن والحسين كل في ثلاثة آلاف ، وكل من شهد بدرا من قريش في ثلاثة آلاف ، ومن الأنصار في أربعة آلاف! ولكبار قريش مكة

__________________

(١) انظر مصادره ومناقشته في الغدير ٦ : ٣١٦ ـ ٣١٩ المورد : ٩٧. وهذا أول أوان إمكان وقوعه بعد عام (١٨) وليس كما أشار إليه الطبري في ٣ : ٥٩٧ في عام (١٤) فإن مصر لم تفتح يومئذ بعد.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥٤.


كأبي سفيان وابنه معاوية في خمسة آلاف! ولابنة أبي سفيان أم حبيبة ، وابنة أبي بكر عائشة وابنته حفصة اثني عشر الفا! ولصفية وجويرية لكل خمسة آلاف ، ولابنه عبد الله في خمسة آلاف! ولنفسه في أربعة آلاف! وفرض للنساء المهاجرات وغيرهن على قدر فضلهن فلأسماء بنت عميس أرملة أبي بكر وزوجة علي عليه‌السلام ولأم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وخولة أرملة عثمان بن مظعون لكل واحدة ألفين. ولأهل مكة سبعمائة وستمائة ، ولأهل اليمن أربعمائة ، ولمضر ثلاثمائة ولربيعة مائتين!

ومع أنه قطع سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة تألف بعض أشراف العجم : فلجفينة العبادي ولهرمزان ملك خوزستان ، ولفيروز بن يزدجرد دهقان نهر الملك ، ولخالد وجميل ابني بصبهرى دهقان الفلّوجة ، ولبسطام دهقان بابل لكل واحد ألفين ألفين (١).

وفي ابن الوردي : بدأ بالعباس ففرض له خمسة وعشرين ألفا ، ولأهل بدر خمسة آلاف ، ولمن بعدهم إلى الحديبية وبيعة الرضوان أربعة آلاف ، ولمن بعدهم ثلاثة آلاف ، ثم لأهل القادسية والشام معهم ألفين ، ولمن بعد اليرموك والقادسية ألفا ، ولروادفهم خمسمائة ، ثم ثلاثمائة ، ثم مائتين وخمسين (٢).

وفي هذه السنة قتل بخيبر مظهر بن رافع الحارثي ولم يعرف قاتله ، فقال عمر : سمعت رسول الله يقول : لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ، فأخرج يهود خيبر منها وقسّمها (٣).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥٣ ـ ١٥٤.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٣٨ ، وانظر مناقشة ذلك في بحار الأنوار ٣١ : ١٧٦ ـ ١٨٤ الطعن الخامس عشر.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥٥ ، وهو غير مرويّ عن أهل البيت عليهم‌السلام ، وتطبيقه وتنفيذه له في هذه السنة وبهذه المناسبة محل كلام كما ترى ، وقد مرّ الخبر عن بعض أشراف العجم


وفي هذه السنة مات ثاني الاثنين (١) في المبادرة لخلافة أبي بكر : عويم بن ساعدة الأوسي أخو عمر بالإخاء (٢) فأبّنه عمرو قال : لا يستطيع أحد من أهل الأرض أن يقول : أنا خير من صاحب هذا القبر (٣).

حوادث عام (٢١):

قال خليفة : وفيها (٢١) شكا أهل الكوفة سعدا إلى عمر (٤) وقالوا : لا يحسن أن يصلّي! فعزله عمر عنهم ، وولّى مكانه عمّار بن ياسر المخزومي (٥) الصلاة ومعه عبد الله بن مسعود على بيت المال ، وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض.

وفيها مات بلال بن رباح الحبشي مؤذن رسول الله (٦) في دمشق ودفن بالباب الصغير (٧).

وماتت زينب بنت جحش زوج رسول الله ، وأسيد بن حضير ، وخالد بن الوليد (٨) وكان عمر ولّاه آمد وتل موزن وحرّان والرّها والرّقة فأقام سنة

__________________

في المدينة ولم يسلموا ولم يخرجهم عمر بل فرض لهم عطاء من بيت المال وقد قطع سهم المؤلفة قلوبهم!

(١) أولهما معن بن عديّ الأنصاري قتل في حرب مسيلمة الكذّاب.

(٢) أنساب الأشراف ١ : ٢٧١.

(٣) انظر معالم المدرستين ١ : ١١٥.

(٤) تاريخ خليفة : ٨٤.

(٥) اليعقوبي ٢ : ١٥٥.

(٦) تاريخ خليفة : ٨٤.

(٧) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٤١.

(٨) تاريخ خليفة : ٨٤ ـ ٨٥.


ثم استعفى ، فقيل : توفى في حمص وقيل : عاد إلى المدينة وبعد أيام مات بها وأوصى إلى عمر وكثر بكاء آل عمر عليه فقال عمر : حق لهنّ أن يبكين على أبي سليمان! وأظهر عليه جزعا!

وفي سنة (٢٣) تقدم قوم من قريش إلى عمر يستأذنونه للخروج إلى الجهاد فقال لهم : إني آخذ بحلاقيم قريش على أفواه هذه الحرّة ، لا تخرجوا فتسلّلوا بالناس يمينا وشمالا! وقد تقدم الجهاد لكم مع رسول الله. ثم تحدث عن بيعة أبي بكر حتى قال : كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها فمن عاد لمثلها فاقتلوه!

ودعا عمّاله على مكة : نافع بن عمرو الخزاعي ، وعلى اليمن : يعلى بن منية ، وعلى الكوفة : سعد بن أبي وقاص ، وعلى ميسان : النعمان بن عدي ، وعلى البحرين : أبا هريرة ، وعلى مصر عمرو بن العاص ، فشاطرهم أموالهم (١).

ثم قدم عليه أهل الكوفة فسألهم عن أميرهم بعد سعد : عمّار بن ياسر ، فقالوا : مسلم ضعيف! فدعا جبير بن مطعم بن نوفل بن عبد مناف ووجّهه أميرا على الكوفة ، فحمل المغيرة الثقفي عنه خبرا سيّئا إلى عمر وقال له : ولّني عليها يا أمير المؤمنين! فقال له : أنت رجل فاسق! قال : وما عليك منّي؟ كفايتي ورجلتي لك وفسقي على نفسي! فولّاه الكوفة! ثم سأل أهل الكوفة عنه فقالوا له : أنت أعلم به وبفسقه! فقال لهم : ما لقيت منكم يا أهل الكوفة! إن ولّيتكم مسلما تقيا قلتم : هو ضعيف ، وإن ولّيتكم مجرما قلتم : هو فاسق (٢).

عمر ، وجزية المجوس :

كان عبد الرحمن بن عوف الزّهري قد سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «سنّوا بالمجوس سنّة أهل الكتاب» وعرف أنه أخذها من مجوس هجر ،

__________________

(١) اليعقوبي ٢ : ١٥٧ ـ ١٥٨.

(٢) اليعقوبي ٢ : ١٥٥.


هذا ولم يسمع قوله ولا عرف فعله حتى سنة قبل قتله (١) متحيّرا في عمله حتى قال يوما لجلسائه ومنهم ابن عوف : ما أدري ما أصنع بالمجوس وليسوا أهل كتاب! فعرّفه ابن عوف بالقول والفعل!

فعن بجالة قال : كنت كاتبا لجزء بن معاوية على مناذر من كور الأهواز ، فجاءنا كتاب عمر : انظر المجوس قبلك فخذ منهم الجزية ؛ فإنّ عبد الرحمن بن عوف أخبرني : أن رسول الله أخذ الجزية من مجوس هجر (٢).

عمر وحدّ التكليف :

ولعله كما خفي عليه جزية المجوس خفي عليه حدّ بلوغ الغلمان ، وإن كان أبا ستة أبناء!

فقد روى ابن أبي مليكة : أن عمر كتب في غلام من أهل العراق سرق ، فكتب إليهم : أن اشبروه فإن وجدتموه ستة أشبار فاقطعوا يمينه! فشبر فوجد ستة أشبار تنقص أنملة فترك (٣).

عمر ، وأسماء الأنبياء :

ومهما يخفى على عمر فكيف خفي عليه ترغيب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أمته إلى التسمية بأسماء الأنبياء عامة واسمه خاصة ، وأنه سمّى غير واحد من ولدان عصره باسمه ، ولا سيما ابني صاحبه الخاص أبي بكر التيمي وابن عمه طلحة بن عبيد الله التيمي ، ومشيره الخاص عبد الرحمن بن عوف فهمّ عمر أن يغيّر أسماءهم وأمر جمعا من

__________________

(١) انظر الغدير ٦ : ١٨١ ، عن مشكاة المصابيح للتبريزي : ٣٤٤.

(٢) الغدير ٦ : ٢٨٠ ـ ٢٨١.

(٣) الغدير ٦ : ١٧١ ، عن كنز العمال ٣ : ١١٦.


الصحابة بتغيير أسماء أبنائهم المسمّين بمحمد! حتى ذكروا له أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله سمّاهم أو أذن لهم فتركهم ، ومع ذلك كتب إلى أهل الكوفة : أن لا تسمّوا أحدا باسم نبيّ! ونهى عن التكنية بأسمائهم وقال لابنه عبيد الله : ويلك أما تدري ما كنى العرب؟! أبو سلمة أبو حنظلة ـ أبو عرفطة ـ أبو مرّة! هذا وقد روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : أقبح الأسماء : حرب ومرّة (١).

عمر وصوم رجب :

ولعلّه كما خفي على عمر جزية المجوس خفي عليه صوم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في رجب وندبه الناس إلى صيامه ، فروي عن خرشة بن الحر : أن عمر كان يدعو الصائمين في رجب إلى طعام الغداء قال : ورأيته يضرب أكفّهم ليضعوها في الطعام ويقول : إنما كان أهل الجاهلية يعظمون شهر رجب فلما جاء الإسلام ترك (٢)!

عمر وكتابة السنن :

وتكرّر ما مرّ في الخبر عن أبي بكر مرة أخرى على يد عمر : حيث استشار الصحابة أن يكتب السنن ، فأشاروا عليه أن يكتبها ، ثم ظل مترددا في ذلك شهرا ثم قال : إني كنت أريد أن أكتب السنن ، وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله ، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدا (٣).

__________________

(١) انظر الغدير ٦ : ٣٠٨ ـ ٣١٥ ، المورد : ٥٦. ومات الحارث بن هشام المخزومي في طاعون عمواس (١٨ ه‍) فتزوج عمر بامرأته وكان له ولد اسمه إبراهيم فغيّره إلى عبد الرحمن! انظر التمهيد ١ : ٢٨٦. وقد روي أنه كان حاضرا عند علي عليه‌السلام إذ بشر بولد له ذكر فطلب منه عمر أن يسميه باسمه عمر! مقتل الإمام لابن أبي الدنيا : ١٢٠ ، الحديث ١١٥.

(٢) انظر الغدير ١ : ٢٨٢ ـ ٢٩٠ ، المورد : ٨٩.

(٣) انظر الغدير ٦ : ٢٩٧ ، المورد ٩٣ ، ومن تاريخ الحديث للمؤلف : ٥٠ و٥٧.


ثم شايع جمعا منهم إلى العراق منهم قرظة بن كعب فقال لهم : أتدرون لم شيّعتكم؟ قالوا : نعم مكرمة لنا! قال : ومع ذلك أنكم تأتون أهل قرية (الكوفة) لهم دويّ بالقرآن كدويّ النحل ، فلا تصدّوهم بالأحاديث فتشغلوهم! جرّدوا القرآن ، وأقلّوا الرواية عن رسول الله وأنا شريككم!

ولما بعث أبا موسى الأشعري للبصرة قال له : إنك تأتي قوما لهم في مساجدهم دويّ بالقرآن كدويّ النحل ، فدعهم على ما هم عليه ولا تشغلهم بالأحاديث! وأنا شريكك في ذلك.

ولعله استردّ عبد الله بن مسعود الهذلي من العراق لكثرة حديثه فحبسه ومعه أبو مسعود الأنصاري وعويمر أبو الدرداء وقال لهم : قد أكثرتم الحديث عن رسول الله فحبسهم حتى قتل.

وقال لأبي هريرة : لتتركنّ الحديث عن رسول الله أو لالحقنّك بأرض دوس (١)!

هذا وقد حكى عنه كان يقول : اكتبوا عن الزاهدين في الدنيا ما يقولون! فإن الله عزوجل وكّل بهم الملائكة واضعة أيديهم على أفواههم فلا يتكلّمون إلّا بما هيّأه الله لهم (٢)!

وقال يوما على المنبر : ألا إن أصحاب الرأي أعداء السنن ، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها! فأفتوا بآرائهم فضلّوا وأضلّوا. ألا إنا نقتدي ولا نبتدي! ونتّبع ولا نبتدع! إنّه ما ضلّ متمسك بالأثر (٣)!

__________________

(١) انظر الغدير ٦ : ٢٩٤ ـ ٢٩٥ ، المورد : ٩٢ ، ومن تاريخ الحديث للمؤلف : ٥٢.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ١٢ : ٩٣.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ١٢ : ١٠٢. هذا وقد أذن لتميم الداري اللخمي الشامي أن يقصّ على الناس قبل الخطبة يوم الجمعة في المسجد ، انظر تدوين القرآن للكوراني : ٤٤٤ ـ ٤٤٨.


عمر والسؤال عن التفسير :

كان ضبيع بن شريك سيّد قومه من العسيل من بني تميم بالبصرة يسأل بين أجناد المسلمين عن أشياء من القرآن ، ولما فتح عمرو بن العاص مصر رحل ضبيع إلى أجناد المسلمين هناك ، ورفع أمره إلى ابن العاص فرفعه برسول وكتاب إلى عمر. فلما أتاه الرسول بالكتاب ورآه قال له : تسأل مسائل محدثة؟! ثم طلب جرائد رطبة فضرب بها ظهره حتى جرحت ، فتركه في بيت حتى برأ فأعاد عليه الضرب ثم تركه في بيت حتى برأ فدعا به ليعود عليه فقال له ضبيع : إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا! وإن كنت تريد أن تداويني فقد والله برئت.

فسيّره إلى البصرة وكتب إلى أبي موسى الأشعري يأمره أن يقوم في الناس خطيبا فيقول : إن ضبيعا قد ابتغى العلم ولكنه أخطأه! ويحرّم على الناس مجالسته فلا يجالسه أحد من المسلمين! فلما اشتد ذلك عليه كتب أبو موسى إلى عمر : أن قد حسنت توبته! فكتب عمر : أن يأذن بمجالسته. وروى : بل لم يزل وضيعا في الناس وفي قومه حتى مات (١).

هذا كله بالنسبة إلى الرجال ، أما نظر عمر في النساء فقد روى في نبذ من كلامه أنه قال : لا تعلّموهنّ الكتابة (٢).

عمر والأذان والإقامة :

رووا عن علي عليه‌السلام قال : سمعت رسول الله أمر بلالا أن يؤذن بحيّ على

__________________

(١) انظر مصادره في الغدير ٦ : ٢٩ ـ ٢٩٢ ، المورد : ٩٠ واسمه فيه صبيغ ، وشرح النهج للمعتزلي ١٢ : ١٠٢ وفيه ضبيع ، وانظر قاموس الرجال ٥ : ٥٢٦ برقم ٣٧٠٤ ولم يعهد اسم ضبيغ في العرب.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ١٢ : ١١٦ فليس هذا من كلام الأئمة عليهم‌السلام.


خير العمل ، ويقول : اعلموا أن خير أعمالكم الصلاة (١) ورووا عن المؤذّن الأخير للنبيّ : أبي محذورة أوس بن معمّر الجمحي : أن النبيّ قال له : اجعل في آخر أذانك : حيّ على خير العمل (٢).

فكان الأذان بحيّ على خير العمل على عهد رسول الله وأيام أبي بكر وصدر أيام عمر ، ثم أمر عمر بقطعه وحذفه من الأذان والإقامة ، فقيل له في ذلك فقال : إذا سمع عوام الناس أن الصلاة خير العمل تهاونوا بالجهاد وتخلّفوا عنه (٣) وهكذا أجاب ابن عباس عكرمة لما قال له : أخبرني لأيّ شيء حذف من الأذان حيّ على خير العمل؟! فقال : أراد عمر أن لا يتّكل الناس على الصلاة ويدعوا الجهاد ، فلذلك حذفها من الأذان وهكذا أجاب الكاظم عليه‌السلام محمد بن أبي عمير لما سأله عنها : لم تركت من الأذان؟! فقال : لئلّا يدع الناس الجهاد اتّكالا على الصلاة (٤).

ولم يؤرّخوا لذلك ؛ ولعله كان بعد موت بلال في سنة (٢٠) وبعد تحريمه حجّ التمتع ونكاح المتعة فقرنه بهما في خطبته وقال : أيها الناس ؛ ثلاث كنّ على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهنّ وأحرّمهنّ وأعاقب عليهن : متعة النساء ومتعة الحج وحيّ على خير العمل (٥).

__________________

(١) انظر الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ٥ : ٢٨٤.

(٢) ميزان الاعتدال ١ : ١٣٩ ، وعنه في قاموس الرجال ١١ : ٤٩١ برقم ٨١٤ وقد يستظهر من هذين الخبرين أن هذا الفصل مما أضافه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أخيرا وليس أولا ، ولعله لذلك لم يذكر في خبر الصدوق في أول ج ٢ من علل الشرائع بطريقين عن عمر بن أذينة عن الصادق عليه‌السلام في معراج رسول الله وتعليمه الأذان! ولم يعقّبه الصدوق بشيء! فلعل ذلك مهّد لحذفه.

(٣) دعائم الإسلام ١ : ١٤٤ ، وعنه في بحار الأنوار ٨٤ : ١٥٦.

(٤) علل الشرائع ٢ : ٦٧ ، الباب ٨٩ ، الحديث ٣ ـ ٤.

(٥) شرح التجريد للقوشجي : ٤٨٤ ، وعنه في دلائل الصدق ٣ ، ق ٢ : ١٠٣ ، وانظر


ولعلّه معه جاءه مؤذّنه يؤذنه بصلاة الصبح فوجده نائما فناداه : الصلاة خير من النوم ، فاستحسنها عمر وأمره أن يعوّض بها عن حيّ على خير العمل في نداء أذان الصبح وقال له : إذا بلغت إلى حيّ على الفلاح في الفجر فقل : الصلاة خير من النوم مرّتين (١).

عمر والمسح على الخفّين :

روى العياشي في تفسيره عن الصادق عليه‌السلام : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان أحيانا يمسح على الخفّين قبل نزول سورة المائدة وفيها : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) فحين نزلت المائدة ترك المسح على الخفّين (٢) وكان عمر لا يدري بهذا الفرق بين الحالين ، فكان يأمر الناس بمسح الخفين ، وأمر بذلك رجلا فتوضّأ ومسح على خفّيه ودخل المسجد فصلّى وسجد ، وجاء علي عليه‌السلام فوطأ على رقبته وقال له : ويلك تصلّي على غير وضوء؟! فقال الرجل : أمرني بذلك عمر بن الخطاب! فأخذ علي عليه‌السلام بيد الرجل وانتهى به إلى عمر ورفع صوته وقال : انظر ما يروي عليك هذا؟ فقال عمر : نعم أنا أمرته ، إن رسول الله مسح! فقال علي عليه‌السلام : قبل المائدة أو بعدها؟ فقال عمر : لا أدري! فقال علي عليه‌السلام : فلم تفتي وأنت لا تدري! سبق الكتاب الخفّين (٣).

__________________

الغدير ٦ : ٢١٣ و٢٣٨.

(١) انظر دلائل الصدق : ٣ ق ٢ : ٩٧ ـ ٩٩ ، والنصّ والاجتهاد : ٢١٩ ـ ٢٢٣ ، المورد ٢٣ وعنه نقلنا.

(٢) تفسير العياشي ١ : ٣٠١ الحديث ٦٢. الآية ٦ من سورة المائدة.

(٣) تفسير العياشي ١ : ٢٩٧ الحديث ٤٦ عن أبي بكر بن حزم.


فكان القوم على عهد عمر بن الخطاب يقولون : رأينا النبيّ يمسح على الخفّين ، فيقول لهم علي عليه‌السلام : قبل نزول المائدة أو بعدها؟ فيقولون : لا ندري! ويقول : ولكنّي أدري ويتلوا الآية (١). ولعله لهذا جمع عمر بين علي عليه‌السلام وأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وفيهم المغيرة الثقفي فقال لهم : ما تقولون في المسح على الخفّين؟ فقام المغيرة فقال : رأيت رسول الله يمسح على الخفّين ، فسأله علي عليه‌السلام : قبل المائدة أو بعدها؟ فقال : لا أدري ، فقال علي عليه‌السلام : لقد سبق الكتاب الخفّين ، إنما انزلت المائدة قبل أن يقبض بشهرين أو ثلاثة (٢).

عمر يفكر في مصير الأمر :

روى اليعقوبي العبّاسي عن ابن عباس قال : طرقني عمر بن الخطّاب بعد هدأة من الليل فقال : اخرج بنا نحرس نواحي المدينة! فخرجنا ، وعلى عنقه درّته حافيا! حتى أتى بقيع الغرقد ، فاستلقى على ظهره وجعل يضرب أخمص قدميه بيده وتنفّس صعدا! فقلت له : يا أمير المؤمنين ما أحوجك إلى هذا الأمر؟! قال : أمر الله يا ابن عباس! قلت : إن شئت أخبرتك بما في نفسك؟! قال :

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٣٠١ الحديث ٦٢.

(٢) التهذيب ١ : ٣٦٦ ، الحديث ١٠٩١ ، وهكذا تدور الأخبار يومئذ حول المسح على الرجلين أو الخفّين دون الغسل ، ويبدو لي من هذا أن الغسل إنما نشأ بعد هذا من قراءة «وأرجلكم» بالفتح بخلاف قراءة علي وأهل بيته عليهم‌السلام بالخفض كما فيه في الحديث ٦٠ عن غالب بن هذيل قال : «سألت الباقر عليه‌السلام عن قول الله : «وأرجلكم» على الخفض هي أم .. فقال : بل هي على الخفض» والناس على دين ملوكهم وهم بملوكهم أشبه منهم بآبائهم كما جاء في الحديث.


غص يا غوّاص! إن كنت لتقول فتحسن. فقلت : ذكرت هذا الأمر وإلى من تصيّره؟! قال : صدقت! فقلت له :

فأين أنت عن عبد الرحمن بن عوف؟ فقال : ذاك رجل ممسك ، وهذا الأمر لا يصلح إلّا لمعط في غير سرف ومانع من غير إقتار!

فقلت : فسعد بن أبي وقّاص؟ قال : مؤمن ضعيف!

فقلت : فطلحة بن عبيد الله؟

فقال : ذاك رجل يناول الشرف والمديح ، يعطى ماله حتى يصل إلى مال غيره ، وفيه بأو وكبر!

فقلت : فالزبير بن العوّام فهو فارس الإسلام؟

فقال : ذاك يوم شيطان ويوم إنسان وعفّة نفس ؛ إن كان ليكادح على المكيلة من بكرة إلى الظهر حتى تفوته الصلاة!

فقلت : فعثمان بن عفّان؟ فقال : إن ولي حمل بني أبي معيط وبني أمية على رقاب الناس وأعطاهم مال الله ، ولئن ولي ليفعلنّ والله ، ولئن فعل لتسيرنّ العرب إليه حتى تقتله في بيته.

وسكت فقال لي : امضها يا ابن عباس ، أترى صاحبكم لها موضعا؟!

فقلت : وأين يتبعّد من ذلك مع فضله وسابقته وقرابته وعلمه؟ (ولم يذكر النص).

فقال : هو والله كما ذكرت ، ولو وليهم لحملهم على منهج الطريق فأخذ المحجّة الواضحة ، إلّا أنّ فيه خصالا : الدعابة في المجلس! واستبداد الرأي! والتبكيت للناس! مع حداثة السنّ!

فقلت : يا أمير المؤمنين ؛ هلّا استحدثتم سنّة يوم الخندق إذ خرج عمرو بن عبد ودّ وقد كعم عنه الأبطال وتأخّر عنه الأشياخ؟! ويوم بدر إذ كان يقطّ الأقران قطّا؟! ولا سبقتموه بالإسلام إذ كان حصيلته السغب وقريش تستوفيكم؟


فقال : والله يا ابن عباس ؛ إن عليا ابن عمك لأحق الناس بها ؛ ولكن قريشا لا تحتمله! ولئن وليهم ليأخذنّهم بمرّ الحقّ لا يجدون عنده رخصة! ولئن فعل لينكثنّ بيعته ثم ليتحاربنّ (١).

حكى ذلك اليعقوبي وغيره بغير تاريخ له ، والأنسب الأقرب أن يكون ذلك قرب الأواخر من أيامه في عام (٢٣). وفي هذه السنة أذن عمر لأزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مرة أخرى في الحج (٢). فكنّ في هوادج عليهن الطيلسان الأزرق الفاخر ، وجعل أمامهنّ عبد الرحمن بن عوف وخلفهنّ عثمان بن عفان ، وهو معهم (٣).

ويحذّر من مصير الأمر :

روى ابن اسحاق عن الزهري عن ابن عباس : أنه كان مع عمر في آخر حجته ، وكان يقرئ القرآن لعبد الرحمن بن عوف! فكان في خيمته بمنى ينتظره إذ رجع فوجده في رحله فقال له :

إن رجلا أتى أمير المؤمنين فقال له : قال فلان؟ والله لو قد مات عمر بن الخطاب لابايعنّ فلانا؟ والله ما كانت بيعة أبي بكر إلّا فلتة فتمّت! فغضب عمر فقال : سأقوم العشيّة في الناس فأحذّر هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمرهم!

قال ابن عوف : فقلت له : يا أمير المؤمنين لا تفعل ؛ فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم ، وهم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس ، وإني أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطير بها أولئك عنك ولا يعوها ولا يضعوها على مواضعها.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥٨ ـ ١٥٩.

(٢) هذا مع ما مرّ من منع النبيّ إياهن من الحجّ بعده!

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥٧.


فأمهل حتى ترجع إلى المدينة فتقول ما تقول بالمدينة متمكّنا ، فيعي أهل الفقه وأشراف الناس مقالتك ويضعوها على مواضعها. فقال عمر : إن شاء الله لأقومنّ بذلك أول مقام أقومه بالمدينة.

قال ابن عباس : ففي أواخر ذي الحجة لما قدمنا المدينة وكان يوم الجمعة وزاغت الشمس عجّلت الرواح إلى الجمعة في المسجد فجلست إلى ركن المنبر ، وخرج عمر فجلس على المنبر ، فلما سكت المؤذّنون قام فأثنى على الله ثم قال :

أما بعد ، فإني قائل اليوم مقالة ، لا أدري لعلها بين يدي أجلي! ثم إنه قد بلغني : أن فلانا؟ قال : والله لو قد مات عمر بن الخطاب لابايعنّ فلانا؟ فلا يغرنّ امرأ أن يقول : إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمّت! وإنها قد كانت كذلك إلّا أن الله قد وقى شرّها ، وليس فيكم من تنقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر! فمن بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فإنه لا بيعة له هو ولا الذي بايعه! تغرّة (مخافة) أن يقتلا (١)!

وهكذا مهّد للمشورة التي هو يقرّرها ، وحذّرهم من اغتصاب أمر الناس بدونها ببيعة كبيعته فلتة لأبي بكر لا يجوّزها لغيره ، بل يوعدهما (المبايع والمبايع له) بالقتل كائنا من كان حتى ولو كان عليّا عليه‌السلام.

__________________

(١) ابن إسحاق في السيرة ٤ : ٣٠٧ ـ ٣٠٩ ثم عرّج عمر على خبره عن سقيفة بني ساعدة ليحكي بيعته فيها لأبي بكر كيف كانت فلتة كما قال ، وأشار إلى رجلين صالحين من الأنصار ـ هما معن بن عديّ القتيل باليمامة وعويم بن ساعدة وقد مات عام (٢٠) ـ فقال عنهما : أنهما قالا لهما : لا تقربوهم يا معشر المهاجرين اقضوا أمركم! في حين مرّ في الخبر عنهما أنهما أخبراهما عن السقيفة وحثّاهما على الحضور واستعجالهما! ولكنهما اليوم غير أحياء ليصحّحوا الخبر عنهما!


عمر وغلام المغيرة الثقفي :

استأذن المغيرة الثقفي (وهو على الكوفة) من عمر أن يجلب إلى المدينة غلاما له صاحب صناعة ومعه زوجته وبنته فأذن له فأدخلهم وكان المغيرة قد حكم عليه بخراج كل يوم درهمان! فجاء إلى عمر يشكوا إليه ثقله عليه ، فقال له عمر : ليس ذلك بكثير في حقك! فإني سمعت عنك أنك لو أردت أن تدير الرحى بالريح لقدرت عليه! فقال الغلام أبو لؤلؤة : لأديرنّ لك رحى لا تسكن إلى يوم القيامة! فقال : إن العبد أوعد! ولو كنت أقتل أحدا بالتهمة لقتلت هذا (١)!

وفي فجر يوم الأربعاء بعد تلك الجمعة (٢٦ ذي الحجة) أقبل عمر لصلاة الفجر فعرض له أبو لؤلؤة غلام المغيرة فطعنه ثلاث طعنات ، رواه ابن قتيبة عن عمرو بن ميمون قال : فسمعته يقول : دونكم الكلب فإنه قتلني ؛ وماج الناس فجرح ثلاثة عشر رجلا حتى شدّ عليه رجل فاحتضنه من خلفه.

ثم قال قائل : الصلاة عباد الله طلعت الشمس ، قال عمرو : فدفعت عبد الرحمن بن عوف فصلّى بأقصر سورتين من القرآن.

ومات من الذين جرحوا ستة أو سبعة ، وحمل عمر .. فأتاه الطبيب؟ فسأل عمر : أيّ الشراب أحبّ إليك؟ قال : النبيذ! فسقوه نبيذا فخرج من بعض طعناته ، فقال الناس : هذا صديد ، اسقوه لبنا فخرج اللبن ، فقال الطبيب : لا أرى أن تمسي فما كنت فاعلا فافعل.

ودخل عليه ابن عباس فسأله : من قتلني؟ قال : أبو لؤلؤة المجوسي غلام المغيرة بن شعبة (٢).

__________________

(١) مختصر تاريخ الدول لابن العبري : ١٠٢.

(٢) الإمامة والسياسة : ٢٦ ـ ٢٧ ، واسمه فيروز ، وفي البداية لابن كثير ٧ : ١٤٢ : أن أصله فارسي ولكنه رومي الدار ، ولذلك قال ابن الوردي ١ : ١٤٢ : كان نصرانيا.


وصيّر الأمر شورى بين ستة نفر من أصحاب رسول الله : عليّ بن أبي طالب ، وعثمان بن عفّان ، وعبد الرحمن بن عوف ، والزبير بن العوّام ، وطلحة بن عبيد الله ، وسعد بن أبي وقاص.

واستعمل عليهم أبا طلحة زيد بن سهل الأنصاري الخزرجي وقال له : إن رضي أربعة وخالف اثنان فاضرب عنق الاثنين! وإن رضي ثلاثة وخالف ثلاثة فاضرب أعناق الثلاثة الذين ليس فيهم عبد الرحمن! وإن جازت الثلاثة أيام ولم يتراضوا بأحد فاضرب أعناقهم جميعا!

وأمر صهيبا الرومي أن يصلّي بالناس (١) مولى عبد الله بن جدعان التيمي وكان يدّعي أنه صهيب بن سنان من النمر بن قاسط ، وكان مع أبي طلحة خمسون رجلا من الأنصار ، وكان ابن عوف صهر عثمان (٢).

وقال لابنه عبد الله : لا تقل لي اليوم أمير المؤمنين فإني لست اليوم أمير المؤمنين وانطلق إلى أم المؤمنين عائشة وقل لها : إن عمر بن الخطاب يستأذن أن يدفن مع صاحبيه! فمضى واستأذن ودخل فرآها تبكي فسلم عليها وقال لها : إن عمر يقرأ عليك السلام ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه! فقالت : كنت اريده لنفسي ولأوثرن به على نفسي! فلما رجع قال عمر : ما لديك؟ قال : أذنت ، فقال : الحمد لله! ما كان شيء أهمّ إليّ من ذلك المضجع (٣).

ثم مات بعد ثلاثة أيام من جرحه ، فصلّى عليه صهيب بن سنان في المسجد بين القبر والمنبر (٤) ثم دفن إلى جانب أبي بكر رأسه بين كتفيه ، أو عند رجليه (٥).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٠ ـ ١٦١.

(٢) التنبيه والإشراف : ٢٥٢ ـ ٢٥٣.

(٣) انظر مصادره ومناقشته في الغدير ٦ : ١٨٩ ـ ١٩١ ، المورد : ٦٥.

(٤) تاريخ خليفة : ٨٧.

(٥) التنبيه والإشراف : ٢٥١ وفيه : كان طويلا آدم كث اللحية. وفي غيره : كان أصلع يصبغ لحيته.


وصيّة عمر السياسية :

روى ابن قتيبة في «الإمامة والسياسة» : أن عمر أرسل إلى علي بن أبي طالب ، وعثمان بن عفّان ، والزبير بن العوام ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، وطلحة بن عبيد الله ، فجمعهم إلّا طلحة فإنه كان غائبا.

ولما اجتمع هؤلاء الأوّلون من المهاجرين قال لهم : يا معشر المهاجرين الأوّلين ؛ إني نظرت في أمر الناس فلم أجد فيهم شقاقا ولا نفاقا! فإن يكن بعدي شقاق ونفاق فهو فيكم! تشاوروا ثلاثة أيام ، وأعزم عليكم بالله أن لا تتفرّقوا اليوم الثالث حتى تستخلفوا أحدكم ، وأحضروا معكم الحسن بن علي وعبد الله بن العباس فإنّ لهما قرابة وأرجو لكم البركة في حضورهما وليس لهما من أمركم شيء! وأحضروا معكم من شيوخ الأنصار وليس لهم من أمركم شيء! ويحضر ابني عبد الله وليس له من الأمر شيء!

فإن جاءكم طلحة إلى ذلك .. فإن استقام أمر خمسة منكم وخالف واحد فاضربوا عنقه! وإن استقام أربعة وخالف اثنان فاضربوا أعناقهما ، وإن استقر ثلاثة وخالف ثلاثة فاحتكموا إلى ابني عبد الله (كذا) فلأيّ الثلاثة قضى فالخليفة منهم وفيهم! فإن أبى الثلاثة الآخرون ذلك فاضربوا أعناقهم! (فإن لم يرضوا بحكم عبد الله فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف) (١).

__________________

(١) عن خبر الطبري ٤ : ٢٢٩ عن النميري البصري وأبي مخنف عن عمرو بن ميمون الأودي الأنصاري عن ابن عمر.

ومن هنا ـ محورية ابن عوف ـ عرف علي عليه‌السلام صرف الأمر عنه إلى عثمان من خلال ابن عوف فإنه صهر عثمان على اخته ، وسعد ابن عم عبد الرحمن فلا يخالفه ، فحتى لو كان الآخران مع علي عليه‌السلام لم ينفعاه شيئا ، كما عنه عليه‌السلام في الطبري ٤ : ٢٢٩ ، ٢٣٠.


فقال له أحدهم (وكأنه سعد) : يا أمير المؤمنين ؛ قل فينا مقالة نستدلّ بها على رأيك ونقتدي بك!

فقال له : يا سعد والله ما يمنعني أن استخلفك إلّا لشدّتك وغلظتك!

وقال لعبد الرحمن : وما يمنعني منك يا عبد الرحمن إلّا أنك فرعون هذه الأمة!

وقال للزبير : وما يمنعني منك يا زبير إلّا أنك مؤمن الرضا وكافر الغضب!

وقال لعثمان : وما يمنعني منك يا عثمان إلّا عصبيّتك وحبّك لقومك وأهلك!

وقال لعليّ [عليه‌السلام] : إلّا حرصك عليها! وإنك أحرى القوم ـ إن وليتها ـ أن تقيم على الحق المبين والصراط المستقيم!

وقال : وما يمنعني من طلحة إلّا نخوته وكبره! ولو وليها وضع خاتمه في اصبع امرأته!

ثم غشي عليه ، ثم أفاق فصلّى ، ثم التفت إلى عليّ بن أبي طالب فقال له :

__________________

ولعل من أسباب ذلك مشورة كعب الأحبار على عمر ، فيما نقله المعتزلي في شرح النهج ١٢ : ٨١ عن أمالي محمد بن حبيب ما رواه عن ابن عباس : أن عمر قال لكعب الأحبار يوما وأنا عنده : يا كعب ، إني أظنّ وفاتي قد دنت ، وقد أحببت أن أعهد إلى من يقوم بهذا الأمر ، فأشر علي برأيك في عليّ فما تقول فيه؟

فقال له : أما من طريق الرأي : فإنه رجل متين الدين لا يغضي عن عورة ولا يحلم عن زلّة ، ولا يعمل إلّا باجتهاد رأيه ، وليس هذا من سياسة الرعيّة في شيء ، فلا يصلح له! وذلك لأنه أراق الدماء فحرمه الله الملك!

فقال عمر : فمن تجدونه عندكم يفضي إليه الأمر؟ قال : نجده بعد صاحب الشريعة واثنين من أصحابه ينتقل إلى أعدائه الذين حاربهم على الدين وحاربوه! فتذكّر عمر حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : لقد رأيت بني أميّة في منامي ينزون على منبري نزو القردة!

فعمل عمر على هذا الخبر وإن كان خبرا عن أمر منكر!


لعلّ هؤلاء القوم يعرفون لك حقّك وشرفك وقرابتك من رسول الله ، وما آتاك الله من العلم والفقه والدين ، فيستخلفوك ، فإن وليت هذا الأمر فاتّق الله ـ يا عليّ ـ فيه ولا تحمل أحدا من بني هاشم على رقاب الناس!

ثم التفت إلى عثمان فقال : يا عثمان ؛ لعلّ هؤلاء القوم يعرفون لك صهرك من رسول الله وسنّتك وشرفك وسابقتك فيستخلفوك ، فإن وليت هذا الأمر فلا تحمل أحدا من بني أميّة على رقاب الناس!

ثم قال لهم : اخرجوا عنّي. فخرجوا من عنده ، وتوفى في يومه ذلك (١).

تنفيذ الوصية السياسية :

روى ابن قتيبة قال : اجتمع القوم بعد دفن عمر في بيت أحدهم! واحضروا معهم الحسن بن علي [عليه‌السلام] وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر ، يومين فلم يبرموا أمرا.

ثم نقل عن المسور بن مخرمة الزّهري ابن اخت عبد الرحمن بن عوف قال : جاءني خالي عبد الرحمن في عشية اليوم الثاني فوجدني نائما فخرجت إليه فقال لي : أراك نائما ، فو الله ما اكتحلت عيني بنوم منذ هذه الثلاثة ، ادع لي فلانا وفلانا (من المهاجرين) فدعوتهم له ، فاجتمع بهم في المسجد فناجاهم طويلا ، ثم قاموا من عنده فخرجوا.

ثم دعا عليا [عليه‌السلام] فناجاه طويلا ، ثم قام من عنده.

ثم دعا عثمان ، فناجاه طويلا حتى آنت صلاة الصبح.

فلما صلّوا جمعهم ، وكان اليوم الثالث فقال لهم : أتدرون أيّ يوم هذا؟ هذا يوم عزم عليكم صاحبكم أن لا تتفرّقوا فيه حتى تستخلفوا أحدكم ؛ قالوا : أجل ،

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ٢٨ ـ ٢٩. وانظر معالم المدرستين ١ : ١٣٥ ـ ١٤٠.


قال : فإني عارض عليكم أمرا. قالوا : وما تعرض؟ قال : أن تولّوني أمركم وأهب لكم نصيبي فيها وأختار لكم من أنفسكم؟! قالوا : قد أعطيناك الذي سألت. قال : فاجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم ، وكان طلحة قد حضر فجعل أمره إلى عثمان ، وجعل سعد أمره إلى ابن عوف الزهري ، وجعل الزبير أمره إلى علي [عليه‌السلام].

فأخذ على كل واحد من الاثنين العهد والميثاق : لئن بايعتك لتقيمنّ لنا كتاب الله وسنة رسوله وسنّة (؟!) صاحبيك من قبلك! ولئن بايعت غيرك لترضينّ ولتسلمن ، وليكوننّ سيفك معي على من أبى!

ثم أخذ بيد عثمان فقال له : عليك عهد الله وميثاقه لئن بايعتك لتقيمنّ لنا كتاب الله وسنّة رسوله وسنّة (؟!) صاحبيك ، وشرط عمر : أن لا تجعل أحدا من بني أميّة على رقاب الناس! فقال عثمان : نعم!

ثم أخذ بيد علي [عليه‌السلام] فقال له : ابايعك على شرط عمر : أن لا تجعل أحدا من بني هاشم على رقاب الناس؟! فعند ذلك قال علي : إذا قطعتها في عنقي فما لك وهذا؟! فإن عليّ الاجتهاد لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث علمت القوة والأمانة استعنت بها كان في بني هاشم أو غيرهم!

فقال عبد الرحمن : لا والله حتى تعطيني هذا الشرط! فقال علي : فو الله لا أعطيكه أبدا! فتركه وخرج إلى المسجد وقاموا معه ، ودعا الناس للاجتماع ، فلما اجتمعوا حمد الله وأثنى عليه ثم قال لهم :

إني نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان ، فلا تجعل ـ يا عليّ ـ على نفسك سبيلا فإنه السيف لا غير! ثم أخذ بيد عثمان فبايعه ، وبايع الناس (١).

هذا ما في «الإمامة والسياسة» لابن قتيبة عن المسور بن مخرمة الزهري عن خاله ابن عوف.

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ٣٠ بتصرف يسير.


وأما الطبري فإنه بعد أن نقل المفصّل من خبر الشورى عن عمر بن شبّة عن علي بن محمد المدائني عن أبي مخنف عن عمرو بن ميمون الأدوي الأنصاري وعبيد الله بن عمر (١) في سبع صفحات تقريبا ، ذكر سنده إلى المسور بن مخرمة : أنّ الخمسة من أهل الشورى ـ غير طلحة ـ نزّلوا عمر في قبره (!) ثم خرجوا لبيوتهم فناداهم خاله ابن عوف : إلى أين؟ هلمّوا ، فتبعوه إلى داره التي فيها زوجته فاطمة ابنة قيس الفهري ـ اخت الضحّاك بن قيس الفهري ـ وبدأ بالكلام فقال :

يا هؤلاء ، إن عندي رأيا وإن لكم نظرا ، فاسمعوا تعلموا وأجيبوا تفقهوا ... أنتم أئمة يهتدى بكم ، وعلماء يصدر إليكم ، فلا تفلّوا المدى بالاختلاف بينكم ، ولا تغمدوا السيوف عن أعدائكم فتوتروا ثاركم وتولتوا (تنقصوا) أعمالكم ، لكل أجل كتاب ، ولكل بيت إمام بأمره يقومون وبنهيه يزعون قلّدوا أمركم واحدا منكم تمشوا الهوينا وتلحقوا الطلب. لو لا فتنة عمياء وضلالة حيراء ... ما عدت نيّاتكم معرفتكم ، ولا أعمالكم نياتكم. احذروا نصيحة الهوى ولسان الفرقة ، فإنّ الحيلة في المنطق أبلغ من السيوف في الكلم (الجرح) علّقوا أمركم رحب الذراع فيما حلّ ، مأمون الغيب فيما نزل ، رضا منكم وكلكم رضا ، ومقترعا منكم وكلكم منتهى ، لا تطيعوا مفسدا ينتصح ولا تخالفوا مرشدا ينتصر. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

ثم تكلّم أخو زوجته عثمان فقال : الحمد لله الذي اتخذ محمدا نبيّا وبعثه رسولا ، صدقه وعده ووهب له نصره ، على كل من بعد نسبا أو قرب رحما ، وجعلنا له تابعين وبأمره مهتدين ، فهو لنا نور ونحن بأمره نقوم ، عند تفرّق الأهواء ومجادلة

__________________

(١) كما في تاريخ الطبري ٤ : ٢٢٧ ، هذا والصحيح أن عمرو بن ميمون يروي عن عبد الله بن عمر كما فيه : ٢٣٢.


الأعداء! وجعلنا الله بفضله أئمة وبطاعته أمراء! لا يخرج أمرنا منّا ولا يدخل علينا غيرنا إلّا من سفه الحقّ ونكل عن القصد ، وأحربها ـ يا ابن عوف ـ أن تترك واحذر بها أن تكون! إن خولف أمرك وترك دعاؤك فأنا أول مجيب لك وداع إليك ، وكفيل بما أقول زعيم ، واستغفر الله لي ولكم.

ثم تكلّم الزبير بن العوام بعده فقال : أما بعد فإن داعي الله لا يجهل ومجيبه لا يخذل ، عند تفرّق الأهواء وليّ الأعناق ، ولن يقصر عمّا قلت إلّا غوىّ ولن يترك ما دعوت إليه إلّا شقيّ ، لو لا حدود لله فرضت وفرائض لله حدت ... لكان الموت من الإمارة نجاة والفرار من الولاية عصمة! ولكن لله علينا إجابة الدعوة وإظهار السنة ، لئلا نموت ميتة عميّة ولا نعمى عمى جاهلية! فأنا مجيبك إلى ما دعوت ومعينك على ما أمرت ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله ، واستغفر الله لي ولكم.

ثم تكلم سعد بن أبي وقاص فقال : الحمد لله بديئا كان وآخرا يعود ، أحمده لما نجّاني من الضلالة وبصّرني من الغواية ، فبهدى الله فاز من نجا وبرحمته أفلح من زكا ، وبمحمد بن عبد الله أنارت الطرق واستقامت السبل ، وظهر كل حق ومات كل باطل. إياكم ـ أيها النفر ـ وقول الزور وأمنية أهل الغرور ، فلقد سلبت الأمانيّ قوما قبلكم ورثوا ما ورثتم ونالوا ما نلتم ، فاتّخذهم الله عدوّا ولعنهم لعنا كبيرا ... إني انكب قرني (جعبتي) فآخذ سهمي وآخذ لطلحة بن عبيد الله ما ارتضيت لنفسي! فأنا به كفيل وبما أعطيت عنه زعيم! والأمر إليك ـ يا ابن عوف ـ بجهد النفس وقصد النصح ، وعلى الله قصد السبيل وإليه الرجوع ، واستغفر الله لي ولكم.

ثم تكلم عليّ بن أبي طالب [عليه‌السلام] فقال : الحمد لله الذي بعث محمدا منّا نبيّا ، وبعثه إلينا رسولا ، فنحن بيت النبوة ومعدن الحكمة ، وأمان أهل الأرض ونجاة لمن طلب (١). لنا حق إن نعطه نأخذه وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل ولو طال السرى.

__________________

(١) من هنا نقله الرضيّ في نهج البلاغة في قصار الجمل : ٢٢.


لو عهد إلينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عهدا لأنفذنا عهده ، ولو قال لنا قولا لجادلنا عليه حتى نموت (١)! لن يسرع قبلي أحد إلى دعوة حق وصلة رحم وعائدة كرم! ولا حول ولا قوة إلّا بالله.

اسمعوا كلامي وعوا منطقي : عسى أن تروا هذا الأمر من بعد هذا الجمع تنقضى فيه السيوف وتخان فيه العهود حتى يكون بعضكم أئمة لأهل الضلالة وشيعة لأهل الجهالة! ثم تمثل ببيتين من الشعر.

فقال عبد الرحمن : أيكم يطيب نفسا أن يخرج نفسه من هذا الأمر ويولّيه غيره؟ فأمسكوا ، فقال : فإنّي أخرج نفسي وابن عمّي. فقلّدوه ، فقام بهم إلى منبر رسول الله في المسجد فأحلفهم : ليبايعنّ من بايع وإن بايع بإحدى يديه الأخرى (أليس أخرج نفسه؟!) ثم تفرقوا.

وأقام عبد الرحمن في داره بجوار المسجد (٢).

وجاء في خبر عمر بن شبّة عن المدائني عن أبي مخنف عن عمرو بن ميمون الأنصاري وعبيد الله بن عمر (٣).

قالا : حتى إذا كانت الليلة التي يستكمل الأجل في صبيحتها وبعد برهة منها جاء ابن عوف إلى دار ابن اخته المسور بن مخرمة الزهري فأيقظه وبعثه ليدعو له سعد بن مالك الزهري والزبير ، فدعاهما.

فذهب بالزبير إلى مؤخّر المسجد في الصفّة إلى جانب دار مروان بن الحكم ، فقال له : خلّ ابني عبد مناف (عليا وعثمان) وهذا الأمر! فقال : فنصيبي لعلي.

__________________

(١) ومن هنا نقله الرضيّ بعنوان : ومن كلام له عليه‌السلام في وقت الشورى في نهج البلاغة ، الخطبة ١٣٩.

(٢) تاريخ الطبري ٤ : ٢٣٤ ـ ٢٣٧.

(٣) مرّ التعليق عليه فراجع.


ثم دعا بسعد فقال له : أنا وأنت كلالة ، فاجعل نصيبك لي فأختار! فقال سعد : أيها الرجل بايع لنفسك وأرحنا وارفع رءوسنا! فقال : يا أبا إسحاق ؛ إني قد خلعت نفسي منها على أن أختار. فقال : إن اخترت نفسك وإلّا فعليّ أحبّ إليّ! وأنصرف سعد والزبير (١).

وفي خبر مسور قال : قال لي : يا مسور ، قلت : لبيك .. قال : اذهب فادع لي عليا وعثمان ، فقلت : يا خال بأيهما أبدأ؟ قال : كما تشاء ، وكان هواي في علي [عليه‌السلام] فأتيته فقلت : أجب خالي! فقال : ومعي غيري؟ قلت : نعم ، عثمان ، قال : فأمرك أن تبدأ بمن؟ قلت : قال : بأيهما شئت ، وكان هواي فيك فبدأت بك. فخرج معي حتى أتينا المقاعد (٢) فجلس عليها علي [عليه‌السلام]

وانصرفت إلى عثمان فوجدته يصلّي الوتر ، فقلت له : أجب خالي ، فقال : ومعي غيري؟ قلت : نعم ، علي ، قال : فأمرك أن تبدأ بمن؟ قلت : قال : بأيهما شئت ، وهذا عليّ على المقاعد. فخرج معي حتى دخلنا المسجد وخالي قائم يصلّي ، ثم انصرف والتفت فإذا عليّ وعثمان ، فاجتمع بهما وقال لهما : إني قد سألت عنكما وعن غيركما ، فلم أجد الناس يعدلون بكما! يا عليّ ، هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيّه وفعل أبي بكر وعمر؟ فقال : اللهم لا ولكن على جهدي وطاقتي! فالتفت إلى عثمان فقال له : هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيّه وفعل أبي بكر وعمر؟ فقال : اللهم نعم. فقال لهما : إذا شئتما فنهضا. ودخل ابن عوف وخرج وقد تعمّم بعمامته التي عمّمه بها رسول الله متقلدا سيفه (٣).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ : ٢٣١ ـ ٢٣٢.

(٢) تاريخ الطبري ٤ : ٢٣٨.

(٣) تاريخ الطبري ٤ : ٢٣٨.


فلما صلّوا الصبح جمع الرهط وبعث إلى من حضره من المهاجرين ، وأهل السابقة والفضل من الأنصار ، وإلى امراء الأجناد فاجتمعوا حتى امتلأ المسجد ، فقام وقال : أيها الناس ، إن الناس قد أحبّوا أن يلحق أهل الأمصار بأمصارهم وقد علموا من أميرهم.

فقال عمار بن ياسر : إن أردت أن لا يختلف المسلمون فبايع عليا!

فقال المقداد بن الأسود : صدق عمّار! ، إن بايعت عليا قلنا : سمعنا وأطعنا!

فقال سعد بن أبي سرح : إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان!

فقال عبد الله بن أبي ربيعة : صدق ، إن بايعت عثمان قلنا : سمعنا وأطعنا.

وقال عمّار لابن أبي سرح : ومتى كنت ناصحا للمسلمين؟! ثم التفت إلى الناس وقال لهم :

أيها الناس ؛ إن الله عزوجل أكرمنا بنبيّه ، وأعزّنا بدينه ، فأنّى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيّكم؟

وحيث كان عمّار حليف بني مخزوم قام إليه رجل منهم وقال له : يا ابن سميّة لقد عدوت طورك! وما أنت وتأمير قريش لأنفسها!

فقال سعد لابن عوف : افرغ قبل أن يفتتن الناس!

فنادى عبد الرحمن : أيها الرهط ، إني قد نظرت وشاورت فلا تجعلن على أنفسكم سبيلا (١).

ثم ركب المنبر فوقف يدعو خافتا ، ثم تكلّم فقال : أيها الناس ، إني قد سألتكم سرّا وجهدا عن إمامكم ، فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين :

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ : ٢٣٢ ـ ٢٣٣. هذا وقد مرّ أن عمر كان قد ولّاه الكوفة في صدر هذه السنة ، فيبدو أنه رجع ليحجّ ، وبعد حجّه كان يومئذ في المدينة ، وسيأتي أن عثمان أقرّه على عمله لفترة ثم عزله.


إما علي وإما عثمان. ثم التفت إلى عليّ وقال له : فقم إليّ يا علي. فقام عليّ إليه حتى وقف إلى جانب المنبر ، فأخذ عبد الرحمن بيده وقال له : هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنّة نبيّه وفعل أبي بكر وعمر؟ قال : اللهم لا ولكن جهدي من ذلك وطاقتي! فأرسل يده. ثم نادى : قم إليّ يا عثمان ، فأخذ بيده فقال له : هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيّه وفعل أبي بكر وعمر؟ قال : اللهم نعم ، فرفع رأسه ويده في يد عثمان وقال : اللهم اسمع واشهد ، اللهم إني قد جعلت ما في رقبتي من ذاك في رقبة عثمان! ثم قعد ابن عوف مقعد النبيّ من المنبر وأقعد عثمان على الدرجة الثانية (١).

فقال له علي : حبوته حبو الدهر ، ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا ، فصبر جميل ، والله المستعان على ما تصفون ، والله ما ولّيت عثمان إلّا ليردّ الأمر إليك ، والله كل يوم في شأن! ثم خرج وهو يقول : سيبلغ الكتاب أجله!

فناداه عبد الرحمن : يا علي ، لا تجعل على نفسك سبيلا! فإني قد نظرت وشاورت الناس فإذا هم لا يعدلون بعثمان!

فقال له المقداد : يا عبد الرحمن! أما والله لقد تركته وهو من الذين يقضون بالحقّ وبه يعدلون! ثم قال : ما رأيت مثل ما أوتي إلى أهل هذا البيت بعد نبيّهم! إني لأعجب من قريش أنهم تركوا رجلا ما أقول إن أحدا أعلم ولا أقضى منه بالعدل ، أما والله لو أجد عليه أعوانا!

فقال له رجل : رحمك الله من أهل هذا البيت؟ ومن هذا الرجل؟ قال : أهل البيت بنو عبد المطّلب والرجل عليّ بن أبي طالب.

فقال له عبد الرحمن : يا مقداد اتّق الله فإنّي خائف عليك الفتنة!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ : ٢٣٨.


وقال المغيرة بن شعبة لعبد الرحمن : يا أبا محمد ، قد أصبت إذ بايعت عثمان ، وقال لعثمان : لو بايع عبد الرحمن غيرك ما رضينا! فقال له عبد الرحمن : كذبت يا أعور ، لو بايعت غيره لبايعته ولقلت هذا (١).

واكتفى اليعقوبي بنقل اشتراط ابن عوف على عليّ وعثمان سرا ـ دون الجهر ـ وقال : فقال علي [عليه‌السلام] : إن كان كتاب الله وسنة نبيّه فلا يحتاج معهما إلى هجّيرى أحد (٢) وأنت تجتهد أن تزوي هذا الأمر عنّي (٣).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ : ٢٣٣.

(٢) هجّيرا الرجل : دأبه وديدنه ـ الفائق ٣ : ١٩٤ والهجير : الدأب والعمل والعادة ـ مجمع البحرين ٣ : ٥١٦ ، وفي اليعقوبي : اجيرى ، ولعله من قلب الهاء ألفا كما في أراق وهراق ، ولم أره في اللغة. وتزوى : تدفع.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٢. وانظر أمالي الطوسي : ٧٠٩ ، الحديث ١٥١٢.



عهد خلافة عثمان



البيعة والخطبة وموقف المقداد :

وكان ذلك يوم الجمعة غرّة محرم الحرام لعام (٢٤) (١) فصعد المنبر وجلس في موضع رسول الله! فلم يتكلم مليا ثم قال : إن أبا بكر وعمر كانا يعدّان لهذا المقام مقالا ، وإن تعيشوا فستأتيكم الخطب! وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام يشقّق لكم الخطب! ثم نزل.

ومال قوم إلى علي [عليه‌السلام] منهم المقداد بن عمرو الأسود الكندي (مولاهم) وقام في المسجد جاثيا على ركبتيه وقال : وا عجبا لقريش ودفعهم هذا الأمر عن أهل بيت نبيّهم. وفيهم أول المؤمنين وابن عم رسول الله ، أعلم الناس وأفقههم في دين الله ، وأعظمهم غناء في الإسلام ، وأبصرهم بالطريق وأهداهم للصراط المستقيم ، والله لقد زووها عن الهادى المهتدي ، والطاهر النقيّ ، وما أرادوا إصلاحا في الأمة ولا صوابا في المذهب! ولكنّهم آثروا الدنيا على الآخرة؟ فبعدا وسحقا للقوم الظالمين!

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٣٣١ ، والتنبيه والإشراف : ٢٥٣.


قال الراوي : فخرجت فلقيت أبا ذرّ فذكرت له ذلك فقال : لقد صدق أخي المقداد (١).

مناشدته عليه‌السلام في الشورى :

روى الصدوق في «الخصال» بسنده عن أبي الجارود الزيدي الأعمى عن عامر بن واثلة مناشدة له عليه‌السلام يوم الشورى في عشر صفحات (٢).

وقال المعتزلي : قد روى الناس ما استفاض من الروايات من مناشدته أصحاب الشورى وتعديده فضائله وخصائصه التي بان بها منهم ومن غيرهم ، فأكثروا في ذلك. ولم يكن الأمر كما روى من تلك التعديدات الطويلة ، ولكنّه بعد أن بايع عبد الرحمن والحاضرون لعثمان ، قال لهم :

أنشدكم الله! أفيكم أحد آخى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بينه وبين نفسه ـ حيث آخى بين بعض المسلمين وبعض ـ غيري؟! فقالوا : لا.

فقال : أفيكم أحد قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من كنت مولاه فهذا مولاه» غيري؟! قالوا : لا.

قال : أفيكم أحد قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبيّ بعدي» غيري؟! قالوا : لا.

قال : أفيكم من اؤتمن على سورة براءة وقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنه لا يؤدّي عنّي إلّا أنا أو رجل منّي» غيري؟! قالوا : لا.

قال : أتعلمون أنّ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فرّوا عنه في مأزق الحرب في غير موطن وما فررت عنه قط! قالوا : بلى.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٣.

(٢) الخصال للصدوق : ٥٥٤ ـ ٥٦٣.


قال : ألا تعلمون أني أوّل القوم إسلاما؟! قالوا : بلى.

فقال : فأيّنا أقرب إلى رسول الله نسبا؟ قالوا : أنت.

فقطع عليه عبد الرحمن بن عوف كلامه وقال له : يا علي ؛ قد أبى الناس إلّا عثمان! فلا تجعلنّ على نفسك سبيلا!

ثم التفت إلى أبي طلحة الأنصاري وقال له : يا أبا طلحة ؛ ما الذي أمرك به عمر؟ قال : أن أقتل من شقّ عصا الجماعة! فقال لعلي : إذن بايع وإلّا اتّبعت غير سبيل المؤمنين ؛ وانفذنا فيك ما أمرنا به!

فقال [عليه‌السلام] : لقد علمتم أني أحقّ بها من غيري! وو الله لأسلمنّ ما سلمت امور المسلمين ولم يكن فيها جور إلّا عليّ خاصة ، التماسا لأجر ذلك وفضله ، وزهدا فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه (١).

نقل هذه المقالة المعتزليّ في «شرح نهج البلاغة» هنا كذا بلا ذكر مصدر ، وعاد على نقل مثله عن عوانة بن الحكم عن الشعبي في كتاب الشورى ، وعن أبي بكر الجوهري في زيادات كتاب السقيفة.

قال الشعبي : فأما ما يذكره الناس! من المناشدة وقول علي عليه‌السلام لأهل الشورى : أفيكم أحد قال له رسول الله كذا ... فإنه كان بعد يوم البيعة بقليل ؛ بلغه عن أهل الشورى قوارص وهنات فدخل عليه‌السلام على عثمان وعنده جماعة من الناس وفيهم أهل الشورى فقال لهم : أفيكم ...؟ أفيكم؟ وكل ذلك وهم يقولون : لا. ثم قال لهم : ولكنّي اخبركم عن أنفسكم :

أما أنت ـ يا عثمان ـ فقد تولّيت يوم التقى الجمعان ، وفررت يوم حنين!

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ١٦٧ ـ ١٦٨ ، بلا ذكر مصدر والخطبة في الطبري ونهج البلاغة الخطبة ٧٤.


وأما أنت ـ يا طلحة ـ فقد قلت : إن مات محمد لنركضنّ بين خلاخيل نسائه كما ركض بين خلاخيل نسائنا!

وأما أنت ـ يا عبد الرحمن ـ فصاحب قراريط!

وأما أنت ـ يا سعد ـ فأدقّ من أن تذكر! ثم خرج.

فقال عثمان لمن عنده : أما كان فيكم أحد يردّ عليه؟! قالوا : وما منعك من ذلك؟! وأنت أمير المؤمنين! وقاموا فتفرقوا.

وروى عن الجوهريّ خطاب عمّار يومذاك قال : يا معشر المسلمين ؛ إنا قد كنا وما نستطيع الكلام قلة وذلة فأعزّنا الله بدينه وأكرمنا برسوله ، فالحمد لله رب العالمين.

يا معشر قريش ؛ إلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيّكم! تحوّلونه هاهنا مرّة وهاهنا مرّة! ما أنا آمن أن ينزعه الله منكم ويضعه في غيركم كما نزعتموه من أهله ووضعتموه في غير أهله!

فصاحت قريش بعمّار وانتهروه ، وحيث كان حليف بني مخزوم انبرى له منهم هاشم بن الوليد بن المغيرة المخزومي أخو خالد بن الوليد فقال له :

يا ابن سميّة ؛ لقد عدوت طورك وما عرفت قدرك! ما أنت وما رأت قريش لأنفسها! إنك لست في شيء من أمرها وإمارتها فتنحّ عنها!

فقال : الحمد لله ربّ العالمين ؛ ما زال أعوان الحقّ أذلّاء ، ثم قام وانصرف.

وقد نقل مقالة المقداد عن الجوهري وعن عوانة عن الشعبي عن عبد الرحمن بن جندب ، عن أبيه جندب بن عبد الله الأزدي الكوفي : أنه كان يومئذ بالمدينة فسمع المقداد بن عمرو يقول : والله ما رأيت مثل ما اتي إلى أهل هذا البيت. فقال له ابن عوف : يا مقداد ، وما أنت وذاك؟! فقال : إني والله أحبّهم لحبّ رسول الله لهم ، وإني لأعجب من قريش وتطاولهم على الناس بفضل رسول الله ثم انتزاعهم سلطانه من أهله!


فقال ابن عوف : أما والله لقد أجهدت نفسي لكم!

فقال المقداد : أما والله لقد تركت رجلا من الذين يأمرون بالحق وبه يعدلون! أما والله لو أن لي أعوانا على قريش لقاتلتهم قتالي إياهم ببدر وأحد!

فقال ابن عوف : ثكلتك أمك! لا يسمع الناس منك هذا الكلام فإني أخاف أن تكون صاحب فتنة وفرقة!

فقال المقداد : إنّ من دعا إلى الحق وأهله وولاة الأمر لا يكون صاحب فتنة ، ولكن من أقحم الناس في الباطل وأكثر الهوى على الحقّ ، فذلك صاحب الفتنة والفرقة!

فتربّد وجه عبد الرحمن وقال : لو أعلم أنك إياي تعني لكان لي ولك شأن!

فقال المقداد : يا ابن أمّ عبد الرحمن إيّاي تهدّد؟! وقام وانصرف ، فاتبعته وقلت له : يا عبد الله أنا من أعوانك! فقال لي : رحمك الله إن هذا الأمر لا يغني فيه الرجلان ولا الثلاثة ، فتركته.

ودخلت على علي عليه‌السلام وقلت له : إن المقداد بن عمرو وعبد الرحمن بن عوف قالا كذا وكذا ، ثم قام المقداد فتبعته وقلت كذا فقال كذا. فقال علي عليه‌السلام : لقد صدق فما أصنع؟ فقلت : ألا تقوم في الناس فتدعوهم إلى نفسك وتخبرهم أنك أولى بالنبيّ وتسألهم النصر على هؤلاء المظاهرين عليك ، فإن أجابك عشرهم شددت بهم على الباقين ، فإن دانوا لك فذاك ، وإلّا قاتلتهم وكنت أولى بالعذر وأعلى عند الله حجة قتلت أو بقيت!

فقال : يا جندب ؛ أترجو أن يبايعني من كل عشرة واحد؟ قلت : أرجو ذلك ، قال : لكنّي لا أرجو ذلك ولا من المائة واحد لا والله! وسأخبرك (لما ذا؟) : إن الناس إنما ينظرون إلى قريش فيقولون : هم قوم محمد وقبيله. وأما قريش فتقول : إن آل محمد يرون لهم بنبوته فضلا على الناس ، ويرون أنهم أولياء هذا الأمر


دون قريش ودون غيرهم من الناس ، فهم إن ولوه لم يخرج السلطان منهم إلى أحد أبدا ، أما ما كان في غيرهم فإن قريشا تتداوله بينها! لا والله لا يدفع الناس إلينا هذا الأمر طائعين أبدا!

فقلت له : يا ابن عمّ رسول الله جعلت فداك! لقد صدعت قلبي بهذا القول أفلا أرجع إلى مصري (الكوفة) فاوذن الناس بمقالتك وأدعوهم إليك؟ فقال : يا جندب ليس هذا زمان ذاك. فقمت من عنده ثم انصرفت إلى العراق (١).

ونقل عن الشعبيّ أيضا مقال المقداد في خبر آخر قال : لقي المقداد ابن عوف بعد البيعة بيوم فأخذ بيده وقال له : إن كنت بما صنعت أردت وجه الله فأثابك الله ثواب الآخرة ، وإن كنت إنما أردت الدنيا فأكثر الله مالك! فقال له ابن عوف : اسمع رحمك الله اسمع! فجذب المقداد يده من يده وقال : والله لا أسمع! ومضى.

ودخل على علي عليه‌السلام فقال له : قم فقاتل نقاتل معك!

فقال له علي عليه‌السلام : بمن أقاتل رحمك الله؟

ودخل عمّار ينادي : أما والله لو أنّ لي أعوانا لقاتلتهم! والله لئن قاتلهم واحد لأكوننّ له ثانيا.

فقال له علي عليه‌السلام : يا أبا اليقظان ؛ والله لا أجد عليهم أعوانا ولا أحبّ ان اعرّضكم لما لا تطيقون! وبقي في داره ومعه نفر من أهله ، ولا يدخل إليه أحد مخافة عثمان!

وقال لمن معه من بني عبد المطلب : يا بني عبد المطلب ؛ إنّ قومكم عادوكم بعد وفاة النبيّ كعداوتهم النبيّ في حياته ؛ وإن يطع قومكم لا تؤمّروا أبدا! وو الله لا ينيب هؤلاء إلى الحقّ إلّا بالسيف!

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٩ : ٥٦ ـ ٥٨ وتمامه : فكنت أذكر فضل علي للناس فيقولون لي : دع عنك هذا وخذ فيما ينفعك! فلما ولينا الوليد بن عقبة رفع قولي ذلك إليه فحبسني!


ودخل إليهم عبد الله بن عمر وكأنّه سمع كلامه فقال له : يا أبا الحسن أتريد أن تضرب بعضهم ببعض! فقال له علي عليه‌السلام : اسكت ويحك! فو الله لو لا أبوك وما ركب مني قديما وحديثا ما نازعني ابن عوف ولا ابن عفّان! فقام عبد الله وخرج.

واجتمع أهل الشورى على أن تكون كلمتهم واحدة على من لم يبايع ، فقاموا إلى علي فقالوا له : قم فبايع عثمان! قال : فإن لم أفعل؟ قالوا : نجاهدك! فمشى معهم حتى بايع وهو يقول : صدق الله ورسوله! وأتاه ابن عوف فقال له : إن عثمان أعطانا يده ويمينه وأنت لم تفعل! فأحببت أن أتوثق للمسلمين فجعلتها فيه! فقال له علي عليه‌السلام : إيها عنك! إنما آثرته بها لتنالها من بعده! دق الله بينكما عطر منشم (١).

طغيان أبي سفيان ببيعة عثمان :

وروى عن الشعبي قال : دخل عثمان إلى رحله فدخل إليه بنوا اميّة حتى امتلأت بهم داره فأغلقوها على أنفسهم دون غيرهم ، وفيهم أبو سفيان وقد عمى فقال لهم : أفيكم أحد من غيركم؟ قالوا : لا ، فقال : يا بني أميّة تلقّفوها تلقّف الكرة ، فو الذي يحلف به أبو سفيان ما من بعث ولا قيامة ، ولا حساب ولا عذاب ، ولا جنة ولا نار!

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٩ : ٥٤ ـ ٥٥ ومنشم كانت امرأة عطارة ، وتحالفت خزاعة وجرهم على أن يقاتلوا حتى يموتوا ، وأدخلوا أيديهم في عطرها ، فضرب ذلك مثلا. وانظر لاستجابة دعائه عليه‌السلام في ابن عوف شرح النهج للمعتزلي ١ : ١٩٦ عن الأوائل لأبي هلال العسكري. وانظر شرح المثل في صحاح الجوهري ٥ : ٢٠٤١. وانظر في أمر الشورى بحار الأنوار ٣١ : ١٨٤ ـ ١٩٩ بتحقيق اليوسفي الغروي.


فاستاء عثمان بما قال وانتهره وأمر بإخراجه (١)! فمرّ بقبر حمزة فركله برجله وقال : يا أبا عمارة ، إن الأمر الذي اجتلدنا عليه بالسيف أمس في يد غلماننا اليوم يتلعبون به (٢) ، ثم قال لمن معه : هاهنا ذببنا محمدا وأصحابه (٣).

عثمان وعبيد الله بن عمر :

وروى عن الشعبي قال : وصعد عثمان المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس ، إنه كان من قضاء الله أن عبيد الله بن عمر بن الخطاب أصاب الهرمزان وهو رجل من المسلمين ، وليس له وارث إلّا المسلمون ، وأنا إمامكم! وقد عفوت (حقي) فهل تعفونه أنتم؟ قالوا : نعم.

فبلغ ذلك عليّا عليه‌السلام فتضاحك وقال : سبحان الله! سبحان الله! لقد بدأ بها عثمان! أيعفو عن حق امرئ مسلم ليس بواليه! تالله إنّ هذا لهو العجب! فكان ذلك أول ما نقم على عثمان (٤).

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٩ : ٥٣ ـ ٥٤. ورواه فيه ٢ : ٤٤ عن كتاب السقيفة لأبي بكر الجوهري ثم نقل عنه عن المغيرة بن محمد المهلّبي أنه سأل إسماعيل بن إسحاق القاضي عن هذا الخبر فقال : ما أنكر هذا من أبي سفيان ولكن أنكر أن يكون سمعه عثمان ولم يضرب عنقه! وفي نقله : أن الزبير كان حاضرا ، فقال عثمان لأبي سفيان : اعزب! فقال : يا بنيّ أهاهنا أحد؟! فقال الزبير : نعم ، والله لا كتمتها عليك!

ونقله المسعودي في مروج الذهب ٢ : ٣٤٢ وزاد : ونمى هذا القول إلى المهاجرين والأنصار. ونقله الطبري في تاريخه ١٠ : ٥٤ ـ ٥٨ لعام (٢٨٤ ه‍) عن كتاب المعتضد العباسي. ونقله الأندلسي في الاستيعاب عن الحسن البصري ، كما في قاموس الرجال ٧ : ١٣٨.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ١٣٦.

(٣) تاريخ الطبري ١٠ : ٥٨ لعام (٢٨٤ ه‍) في كتاب المعتضد العباسي.

(٤) شرح النهج للمعتزلي ٩ : ٥٤ ـ ٥٥.


وروى الطبري في خبر المسور بن مخرمة قال : أخرج عثمان عبيد الله بن عمر إليه ولديه جمع من المهاجرين والأنصار فقال لهم : أشيروا عليّ في هذا الذي فتق في الإسلام ما فتق ، وكان علي [عليه‌السلام] حاضرا فقال : أرى أن تقتله! فقال بعضهم : قتل أبوه بالأمس ويقتل ابنه اليوم! فقال عمرو بن العاص : يا أمير المؤمنين ؛ إن الله قد أعفاك أن يكون هذا الحدث كان ولك على المسلمين سلطان ، إنما كان هذا الحدث ولا سلطان لك! فقال عثمان : وأنا وليّهم ، فأجعلها دية في مالي (١)!

وإليه إشارة اليعقوبي : لما ولّى عثمان ردّ عبيد الله بن عمر برأي عمرو بن العاص (٢) فأكثر الناس في دم الهرمزان وإمساك عثمان عن ابن عمر ، فصعد المنبر وخطب وقال : ألا وإني ولي دم الهرمزان وقد وهبته لله ولعمر! وتركت [ابن عمر] لدم عمر!

فقام المقداد بن عمرو فقال : إن الهرمزان مولى لله ولرسوله ، وليس لك أن تهب ما كان لله ولرسوله! فقال عثمان : فننظر وتنظرون (٣)!

وروى المرتضى عن ابن اسحاق قال : إن أول من كلم عثمان في عبيد الله علي عليه‌السلام أتاه بعد ما استخلف فقال له : اقتل هذا الفاسق الخبيث الذي قتل امرأ مسلما صالحا!

فقال عثمان : قتلوا أباه بالأمس وأقتله اليوم.

وروى : أنه لما قال عثمان : إني عفوت عن عبيد الله بن عمر ، قال المسلمون : إنه ليس لك أن تعفو عنه! قال : بلى إنه ليس لجفينة والهرمزان قرابة من أهل الإسلام ، وأنا وليّ أمر المسلمين فأنا أولى بهما وقد عفوت.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ : ٢٣٩ بلا ذكر لاعتراض علي عليه‌السلام فكأنّه رضى بذلك!

(٢) اليعقوبي ٢ : ١٦١ ولفظه : ردّه إلى عمرو بن العاص ، والصحيح ما اثبتناه.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٦٣ ـ ٦٤ ، وانظر الغدير ٧ : ١٣٢ ـ ١٤٢ برقم ٧.


فقال علي عليه‌السلام إنه ليس كما تقول ، إنما أنت في أمرهما بمنزلة أقصى المسلمين ، وإنما قتلهما في إمرة غيرك وقد حكم الوالي ـ الذي قتلا في أيامه ـ بقتله ، ولو كان قتلهما في إمارتك لم يكن لك العفو عنه ، فاتّق الله فان الله سائلك عن هذا (١)!

وروى المفيد أن عثمان قال : إن الهرمزان رجل غريب لا وليّ له ، وأنا وليّ من لا وليّ له ، وقد رأيت العفو عن قاتله.

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ليس للإمام أن يعفو عن حدّ يتعلّق بالمخلوقين ، إلّا أن يعفو الأولياء عنه ، فليس لك أن تعفو عن ابن عمر ، ولكن إن أردت أن تدرأ الحدّ عنه فأدّ الدية إلى المسلمين الذين هم أولياء الهرمزان واقسمها مع ما في بيت المال على مستحقيه.

ثم قال له : أما أنت فمطالب بدم الهرمزان يوم يعرض الله الخلق للحساب! وأما أنا فإنني اقسم بالله لئن وقعت عيني على عبيد الله بن عمر لآخذنّ حق الله منه! وإن رغم أنف من رغم!

فلما كان الليل استدعى عثمان عبيد الله بن عمر وأمره بالهرب! فخرج من المدينة ليلا وقد أصحبه عثمان كتابا أقطعه فيه قرية من قرى الكوفة ، فهي تسمى : كويفة ابن عمر (٢).

وروى الطوسي في «الأمالي» : أن عثمان صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس ، قد أكثرتم في أمر عبيد الله بن عمر والهرمزان ، وإنما قتله

__________________

(١) تلخيص الشافي ٤ : ١٢٤.

(٢) الجمل للمفيد : ١٧٦ وتمامه : فلم يزل بها حتى ولي علي عليه‌السلام فلحق بجند الشام. هذا وقد مرّ في الخبر أن ابن شعبة الثقفي كان بعد حجه بالمدينة يومئذ وأبقاه عثمان على الكوفة لفترة ، ولا نرى خبرا عن ارتحاله إليها فلعله خرج وأخرج ابن عمر معه وكتاب عثمان كان إليه وأقطعه قرية نحو بزيقيا ، كما في معجم البلدان ٤ : ٤٩٦.


عبيد الله تهمة بدم أبيه. وإن أولى الناس بدم الهرمزان الله ثم الخليفة! ألا وإني قد وهبت دمه لعبيد الله!

فقام المقداد بن الأسود فقال : يا أمير المؤمنين ؛ ما كان لله كان الله أملك به منك وليس لك أن تهب ما الله أملك به منك! فقال عثمان : ننظر وتنظرون!

فبلغ قول عثمان عليا عليه‌السلام فقال : والله لئن ملكت لأقتلنّ عبيد الله بالهرمزان (١).

وقرّب عمه الحكم الطريد :

روى السبط عن الشعبي قال : لما ولّي عثمان ردّ عمه الحكم بن أبي العاص في يوم ولايته وقرّبه وأدناه وأعطاه مالا عظيما! فكان أول ما أنكره عليه المسلمون وقالوا له : رددت عدوّ الله ورسوله وخالفتهما! فقال : إن رسول الله وعدني بردّه! فلذلك امتنع جمع من الصحابة من الصلاة خلفه (٢).

وقال بعضهم : رأيت الحكم بن أبي العاص إذ دخل المدينة وعليه ثوب خلق وأمامه تيس يسوقه حتى دخل دار عثمان والناس ينظرون إليه ومن معه ، ثم خرج وعليه جبّة خزّ وطيلسان (٣) ومعه ابنه مروان الذي زوّجه عثمان ابنته (٤) واستوزره في حكومته ، فعاب علي عليه‌السلام ذلك على عثمان (٥).

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٧٠٩ ، الحديث ١٥١٣. وانظر بحار الأنوار ٣١ : ٢٦٧ ـ ٢٦٩ ، بتحقيق اليوسفي الغروي.

(٢) تذكرة الخواص : ١٨٩ وط ٢ : ٢٠٩ ، وعنه في قاموس الرجال ٧ : ١٤٥ بترجمة عثمان.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٤ ، والطيلسان : معرّب : تيل شانه : الثوب الفاخر على المتن. وانظر تفصيل القول في الحكم في الغدير ٨ : ٢٤١ ـ ٢٥٧ ، المورد : ٣١ من الغلوّ في فضائل عثمان.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٦.

(٥) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧٨ ، ومروج الذهب ٢ : ٣٥٤.


ونقل المرتضى عن كتاب الدار للواقدي من طرق مختلفة ورواة عدة قالوا : إن عليا عليه‌السلام وعمارا والزبير اجتمعوا واجتمع إليهم طلحة وسعد وحتى عبد الرحمن ابن عوف فدخلوا على عثمان فقالوا له : إنك أدخلت هؤلاء القوم ـ الحكم ومن معه ـ وقد كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أخرجه ، وإنا نذكّرك الله والإسلام ومعادك ، فإن لك معادا ومنقلبا ؛ وقد أبى الولاة قبلك ذلك ولم يطمع أحد أن يكلمهم فيهم ، وهذا سبب يخاف عليك منه!

فقال عثمان : إن قرابتهم مني حيث تعلمون ، وقد كان رسول الله حيث كلمته أطمعني في أن يأذن له ، وإنما أخرجه لكلمة بلغته عن الحكم ، ولم يضركم مكانهم شيئا! وفي الناس من هو شرّ منهم!

فقال علي عليه‌السلام : هل تعلم عمر كان يقول : والله ليحملنّ بني أبي معيط على رقاب الناس ، والله لئن فعل ليقتلنّه! فقال عثمان : ما منكم أحد بينه وبينه من القرابة ما بيني وبينه وينال من القدرة ما نلت إلّا كان سيدخله!

فغضب علي عليه‌السلام وقال : لتأتينا بشرّ من هذا إن سلمت ، وسترى غبّ ما تفعل يا عثمان! ثم قاموا وخرجوا من عنده (١).

وروى بعضهم : أن عثمان لما خرج لصلاة العشاء الآخرة ليوم بيعته قدّم أمامه من يحمل له شمعة ـ وكان في أول الشهر ـ فلما رأى ذلك المقداد قال : ما هذه البدعة (٢)؟!

__________________

(١) تلخيص الشافي ٤ : ٩١.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٣.


عثمان وفتوح البلدان :

مرّ الخبر أنّ عمر ولّى المغيرة الكوفة في سنة (٢٣) وحضر المغيرة ـ بعد الحجّ ـ المدينة وقتل عمر وبيعة عثمان ، فأقرّه على عمله لفترة.

فروى ابن الخياط عن المدائني : أنه بعث من الكوفة جرير بن عبد الله البجلي لفتح همدان في جبال إيران فافتتحها في جمادى الأولى سنة أربع وعشرين (١).

وكانت الريّ محاصرة في آخر عهد عمر فافتتحها المغيرة سنة (٢٤) وكتب إلى عثمان : أنه قد دخل الريّ وأنزلها المسلمين (٢).

وقد سبق في وصية عمر السياسية أن قال لهم : وإن تولّوها سعدا فهو لها أهل ، وإلّا فليستعن به الوالي ، فإني لم أعزله عن خيانة ولا ضعف (٣) هذا وقد تنازل في الشورى لابن عمه عبد الرحمن الزهري ليولّها من شاء فولّاها عثمان ، فكأن عثمان أراد شكره والعمل بوصية عمر فعزل المغيرة عن الكوفة وأعاد سعدا عليها في سنة (٢٤).

ولكنّ سعدا لم يسعد بها طويلا حتى عزله عثمان عنها وولّاها الوليد بن عقبة بن أبي معيط الأموي ، أخاه لأمه ، في سنة (٢٥).

وفيها (٢٥) : بعث ملك الروم جيشا عليهم منوبل الخصيّ في مراكب إلى الإسكندرية فانتقضوا فغزاهم عمرو بن العاص في ربيع الأول سنة (٢٥) فقتل وسبى ، فردّ عثمان السبي إلى ذمّتهم الأولى (٤).

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٩٠.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٤.

(٣) تاريخ الطبري ٤ : ٢٢٩.

(٤) تاريخ خليفة : ٩١.


وعلى البصرة أبو موسى الأشعري ، فولّى لفتح حصون فارس عثمان بن أبي العاص الثقفي ، ففي سنة (٢٦) حاصر بلدة شاپور حتى صالحوه على ثلاثة آلاف ألف (مليون) وثلاثمائة ألف ، وأدخلوا في صلحهم بلدة كازرون ، ومنها قلعة الرهبان ، ثم قتلوا فارسين من المسلمين ، فعاد عثمان على القلعة فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم. ووجّه عثمان هرم بن حيّان العبدي إلى قلعة بحرة فافتتحها وسبى منها (١).

وفي سنة (٢٧) حاصر عثمان الثقفي بلدة دارا بجرد فصالحه هربدها على خمسة آلاف ألف (مليون) ومائتي ألف. وحاصر أرجان فصالحوه على ألفي ألف (مليونين) ومائتي ألف.

وحاصر أرجان فصالحوه على ألفي ألف (مليونين) ومائتي ألف.

وفيها : ٢٧ : عزل عثمان عمرو بن العاص عن مصر وولّاها عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري ـ ابن خالته وأخاه من الرضاعة ـ وخرج معه عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير ، وتخلّف معه عبد الله بن عمرو بن العاص (٢) فاجتبى عبد الله مصر اثني عشر ألف ألف (مليون) دينارا ، فقال عثمان لعمرو : درّت اللقاح! فقال عمرو : ذاك إن يتمّ يضرّ بالفصلان! فقال عثمان لعمرو : كيف تراه؟ قال : قويا في نفسه ضعيفا في ذات الله (٣)!

فغزا ابن أبي سرح إفريقية ومعه العبادلة الثلاثة (٤) فخرج إليهم ملك البربر جرجير في مائة وعشرين ألف فأحاطوا بهم (٥) قرب بلدة سبيطلة على يومين

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٩١ ، وأشار إلى فتح شاپور اليعقوبي ٢ : ١٦٥.

(٢) تاريخ خليفة : ٩١ ـ ٩٢.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٤.

(٤) تاريخ خليفة : ٩٣.

(٥) البداية والنهاية ٧ : ١٥٨.


أو سبعين ميلا من القيروان اليوم (١) فدعوا جرجير وجمعه إلى الإسلام أو أداء الجزية فامتنعوا ، فالتحمت الحرب وفضّ جمعهم حتى طلب جرجير الصلح فأبى عبد الله عليه ، وهزموه حتى قتلوه وسبوا وغنموا وكثرت الغنائم حتى بلغت ألفي ألف دينار وخمسمائة ألف دينار وعشرين ألف دينار (٢).

ونقل ابن الخياط عن ابن سعد قال : أقام ابن أبي سرح في بلدة قمودة من سبيطلة ، حتى بعث إليه أهل المدائن فصالحوه على مائتي ألف رطل ذهبا ، فبلغ سهم الراجل ألف مثقال ، وسهم الفارس ثلاثة آلاف مثقال ذهبا (٣)! ووجه ابن أبي سرح عبد الله بن الزبير بالبشارة إلى عثمان فبلغ المدينة في عشرين ليلة فأخبر عثمان فأخبر عثمان الناس ، وأمر بخمس الغنائم لصهره مروان بن الحكم!

ووجّه ابن أبي سرح جيشا إلى أرض النوبة ، فصالحوه على ثلاثمائة رأس (؟) كل سنة فأجابهم إلى ذلك وكتب إلى عثمان (٤).

وكان عمر قد منع المسلمين من ركوب البحر فلما قضى غزا معاوية في البحر المتوسط إلى جزيرة قبرس سنة ٢٨ ومعه عبادة بن الصامت الأنصاري وأم حرام أمّ أنس بن مالك الأنصاري ـ وكانت تعالج الجرحى ـ فعثر بها بغلتها فسقطت وماتت ودفنت هناك (٥) ، وصالحوهم على سبعة آلاف دينار كل سنة (٦).

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٩٢.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٥.

(٣) تاريخ خليفة : ٩٢.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٦.

(٥) تاريخ خليفة عن الكلبي : ٩٢ ، والكامل ٣ : ٩٧.

(٦) تاريخ ابن الوردي ٢ : ١٤٣.


وكأنّ فيض المال في مصر بلغ الأشعريّ بالبصرة ، وأن عثمان عزم على عزله وتولية ابن خاله عبد الله بن عامر بن كريز من بني عبد شمس وله خمس وعشرون سنة ، فقام فيهم خطيبا وقال لهم : سيأتيكم بمكاني غلام كثير العمّات والخالات والجدّات في قريش ، يفيض عليكم المال فيضا!

فلما قدم البصرة وجّه الجنود لفتح فسا واصطخر من أرض فارس وعليهم عبيد الله بن معمر التيمي فقتل في حصار اصطخر ، فتولّاهم ابنه عمر (١) فقاتلوه قتالا شديدا حتى قتل ، فسار إليهم ابن عامر وأقسم لئن ظفر بها ليقتلنّ حتى تسيل الدماء من باب المدينة! ثم نقّب المسلمون عليهم ففتحوها فقتل حتى أسرف في القتل فقيل له : أفنيت الناس! والدم لا يجري ، فأمر فصبوا ماء على الدماء حتى سالت من باب المدينة ليبرّ بقسمه!

ثم جعل على مقدمته عبد الله بن بديل الخزاعي وقصد أصفهان ، فصالحوه على صلح أهل فارس؟

وبلغه أن أهل حلوان نقضوا الصلح فسار إليها حتى افتتحها عنوة وأكثر القتل فيهم.

وفيها : ٢٩ : عزل عثمان الوليد بن عقبة عن الكوفة وولّاها سعيد بن العاص الأموي ، فبعث سلمان بن ربيعة الباهلي في اثني عشر ألفا إلى ناحية آذربايجان وأرمينية وبرذعة وبلنجر والبيلقان؟! فصالحوه حتى قتل في بلنجر ، وغزا سعيد بنفسه جرجان وآذربايجان فافتتحها.

وكان الكاريان والفيشجان من دارا بجرد وجور واردشيرخرّه من أرض فارس لم تدخل في فتح عثمان بن أبي العاص الثقفي ولا صلحه ، فافتتحها ابن عامر

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٦.


عام ثلاثين فقتل وسبى وأصاب غنائم كثيرة مما جمع في بيوت النار ، وكان معه عبد الله بن الزبير وعبد الله وعبيد الله ابنا عمر ، وهرب يزدجرد بن كسرى (١).

وفي سنة (٣٠) كتب عثمان إلى سعيد بن العاص على الكوفة وعبد الله بن عامر على البصرة : أيكما سبق إلى خراسان فهو أمير عليها.

فوجّه ابن عامر عبد الله بن خازم السلمي على مقدمته إلى خراسان فسار إلى نيشابور ، وعلم بالمسابقة بين الأميرين دهقان من دهاقين خراسان فجاء إلى ابن عامر وقال له : ما تجعل لي إن سبقت بك؟ قال : لك خراجك وخراج أهل بيتك إلى يوم القيامة! فأخذ به على طريق مختصر إلى قومس (سمنان ودامغان) إلى نيشابور فالتقى بمقدمته عليها حتى افتتحت سنة (٣٠). وكانت نيشابور وطوس من أبر شهر ، وكانت بوشنج وبادغيس من هراة.

فحين افتتح نيشابور وجّه بالجيوش ، فوجّه عبد الله بن خازم السلمي إلى سرخس ، وبعث حاتم بن النعمان الباهلي إلى مرو ، وبعث الأحنف بن قيس التميمي إلى مروالرود (كذا) وبعث أوس بن ثعلبة التميمي إلى هراة ، وكتب إلى أهل هراة فكتبوا إليه : إن فتحت أبر شهر أجبناك إلى ما سألت! فوقف على أهل الطبسين حتى صالحهم على خمسة وسبعين ألفا ، ثم سار إلى أبر شهر فحاصرهم شهورا حتى صالحهم. وصالح أهل مرو حاتم الباهلي على ألفي ألف (مليونين) ومائتي ألف اوقية.

ثم صيّر ابن عامر خراسان أرباعا فولّى عليها : راشد بن عمرو الجديدي ، وعمرو بن مالك الخزاعي ، وعمران بن الفصيل البرجمي ، وقيس بن الهيثم السلمي وانصرف هو إلى عثمان ، فردّه عثمان على عمله (٢).

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٩٣ ـ ٩٥.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٧.


ونقل ابن الخياط عن المدائني : أنه كان على مقدمة ابن عامر إلى خراسان : الأحنف بن قيس ، وبعث ابن عامر أمير بن أحمر اليشكري فافتتح طوس وما حولها ، وصالح من جاء من أهل سرخس على مائة وخمسين ألفا. وبعث ابن عامر الأسود بن كلثوم العدوي إلى بيهق من أبر شهر فافتتحها وقتل بها ، ثم صالح كنارى ابن عامر على ما بقي من أبر شهر على ألف ألف (مليون) درهم ومائة ألف فارد من الطعام. وبعث حاتم ابن النعمان الباهلي إلى مرو فصالحه مرزبان مرو : ماهويه بن آزر على ألفي ألف (مليونين) ومائتي ألف. واجتمع أهل طخارستان والجوزجان والفارياب والطالقان وأميرهم طوقان شاه ، اجتمعوا على الأحنف بن قيس ومعه أربعة آلاف فاقتتلوا قتالا شديدا ثم هزموا. ثم سار الأحنف من مروالرود إلى بلخ فصالحوه على أربع مائة ألف ، ثم ذهب إلى خوارزم فلم يطقها فرجع.

ووجّه ابن عامر الربيع بن زياد الحارثي الهمداني إلى سجستان ، فافتتح زالق وشرواد وناشرود ، وحاصر بلدة زرنج فصالحوه على ألف وصيف مع كل وصيف جام من ذهب.

وفيها : ٣٠ : غزا سعيد بن العاص طبرستان ، فسألوه الأمان على أن لا يقتل منهم رجلا واحدا ، فقتلهم كلّهم (كذا) إلّا رجلا واحدا (١)!

وقال اليعقوبي : إن عثمان وجّه حبيب بن مسلمة الفهري إلى أرمينية فافتتح جرزان ، ثم أمدّه بسلمان بن ربيعة الباهلي في أربعة آلاف فتنافر من حبيب ، فكتب عثمان إلى سلمان بإمرته على أرمينية ، فسار حتى أتى البلقان فخرج إليه أهلها فصالحوه ، ومضى إلى برذعة فصالحها ، ثم نفذ سلمان إلى شيروان فصالحه ملكها ،

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٩٥ ـ ٩٦.


وفعل مثل ذلك ملك اللّكز وأهل الشابران وأهل فيلان ، ولقيه ملك الخزرخاقان في جيشه العظيم خلف نهر بلنجر ، وكان مع سلمان أربعة آلاف فقاتلوا قتالا شديدا حتى قتل جميعهم هناك.

وفي سنة (٣٢) صيّر عثمان إلى معاوية غزو الروم فيوجّه من رأى ، فولّى معاوية : سفيان بن عوف الغامدي على طريق القسطنطينية ، ففتحوا فتوحا حتى بلغوا مضيق القسطنطينية (١) ورجعوا.

وكان ابن عامر في آخر سنة (٣١) استخلف قيس بن الهيثم السلمي وعزم على الحج أو العمرة من نيشابور ، فسار قيس في أرض طخارستان وحاصر سمنجان حتى فتحها وصالحه كثير من البلدان (٢) فأقبل عليه من هراة وبادغيس أميرهم قارن سنة (٣٢) في أربعين ألفا فتراجع عنه ابن الهيثم ، وقام بأمر المسلمين عبد الله بن خازم السلمي في أربعة آلاف حتى التقى بقارن وجمعه وقاتله قتالا شديدا حتى هزمه وسبى منهم سبايا كثيرة ، وكتب إلى ابن عامر بالفتح فأقره على خراسان.

وفيها : ٣٣ : وجّه ابن عامر عبد الرحمن بن سمرة الأنصاري إلى سجستان فحاصر زرنج حتى صالحه صاحبها (٣) وقيل : بل فتحها بعد نكبة شديدة (٤).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٨ ـ ١٦٩ وأشار إليه في تاريخ خليفة : ٩٧ عن الكلبي.

(٢) عن الكامل ٣ : ١٢٦.

(٣) تاريخ خليفة : ٩٦ ـ ٩٨.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٦.



شئون عثمان غير العسكرية

عزل المغيرة وتوليته سعدا :

مرّ أنه عزل المغيرة عن الكوفة سنة (٢٤) وولّاها سعدا ، فروى ابن شبّة قال :

قدم المغيرة من الكوفة على عثمان بمال معه ، ولكنه قال عنه : رأيت أنه لا يردّني على الكوفة أبدا ، ثم رأى حاجب عثمان : بحران ، فجعل له جعلا على أن يأتيه بخبر من يولّيه عثمان على الكوفة ، فأتاه وأخبره أنه استعمل سعد بن أبي وقّاص ، فأتى المغيرة عثمان وقال له : يا أمير المؤمنين! هل بلغك عني أمر كرهته أو شكاني أحد إليك؟ قال : وما ذاك؟ قال : فلم عزلتني واستعملت سعدا؟ قال : ومن أخبرك؟ والله لتخبّرني من أخبرك أو لأسيلنّ دمك! فأخبره ، فأمر عثمان أن يضرب بحران ستين سوطا ويحلق رأسه ويطاف به في السوق! فعاب ذلك عليه ناس من الصحابة فأعتقه (١).

__________________

(١) تاريخ المدينة للنميري البصري ٣ : ١٠٣٠.


نهيه عن التمتع بالعمرة في الحج :

منذ عام (٢٥) بدأ عثمان يحج حتى عام (٣٤) ، وفي أول حجة له بعد أبي بكر وعمر ومع اشتراط عبد الرحمن بن عوف على عثمان أن يسير بسيرتهما ، سار عثمان على سيرة عمر في النهي عن التمتع بالعمرة إلى الحج ، فحجّ إفرادا لا تمتّعا ، وحج معه علي عليه‌السلام تمتعا وقال في تلبيته : لبّيك عمرة وحجة معا ، وهكذا كان يلبّي بهما جميعا في طريقه حتى سمعه عثمان فسأل عنه : من هذا؟ فقالوا : علي! فلما رآه قال له : ألم تعلم أني قد نهيت عن هذا؟ قال عليه‌السلام : بلى! ولكن لم أكن لأدع قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لقول أحد من الناس (١).

ولما بلغوا منزل الجحفة قرب رابغ ، وهي ميقات أهل الشام ، لحق بهم رهط من أهل الشام معهم حبيب بن مسلمة الفهري فقال لهم عثمان : خلّصوا الحجّ في أشهر الحجّ ، فإنكم لو أخّرتم العمرة حتى تزوروا البيت زورتين كان أفضل ، فإن الله قد وسّع في الخير. وكان علي عليه‌السلام حاضرا فقال له : عمدت إلى سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ورخصة رخّص للعباد بها في كتابه تضيّق عليهم فيها وتنهى عنها ، وهي لذي الحاجة ولنائي الدار؟

فالتفت عثمان إلى الناس وقال لهم : إني لم أنه عنها إنما كان رأيا أشرت به ، فمن شاء أخذ به ومن شاء تركه.

فقال رجل من أهل الشام لحبيب بن مسلمة : انظر إلى هذا كيف يخالف أمير المؤمنين؟ والله لو أمرني لضربت عنقه! فضرب حبيب في صدره وقال له : اسكت فضّ الله فاك فان أصحاب رسول الله أعلم بما يختلفون فيه (٢).

__________________

(١) انظر الغدير ٨ : ١٣٠.

(٢) انظر الغدير ٦ : ٢١٩.


وفي منزل عسفان قرب مكة أعاد عثمان النهي عن متعة الحج فقال له علي عليه‌السلام : ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تنهى عنه؟ فقال عثمان : دعنا منك! قال : إني لا أستطيع أن أدعك (١).

وفي حجته سنة (٢٦) ابتاع من قوم منازلهم حول المسجد الحرام ليوسّعه ، فباعه قوم وأبى آخرون ، فوضع عثمان أثمان منازلهم في بيت المال وأمر بهدمها عليهم ، فصاحوا بعثمان ، فقال لهم : ما جرّأكم عليّ إلّا حلمي! فقد فعل عمر هذا فلم تصيحوا! وأمر بحبسهم. وجدّد أنصاب الحرم (٢).

وعمّه الحكم وأخوه الوليد :

كان الحكم بن أبي العاص من المستهزئين برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأسلم في فتح مكة ، ثم هاجرها إلى المدينة (٣). وبين فتح مكة في الثامنة وتبوك في التاسعة ولد ابنه مروان ، وكانوا يأتون بالولدان إلى رسول الله فأتوا به إليه وقيل : هو مروان بن الحكم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : هو الملعون بن الملعون الوزغ بن الوزغ (٤) ثم شارك الحكم في تبوك وفي العودة منها لما انتهى النبيّ إلى عقبة فيق وقال : لا يجاوزها أحد ، عوّج الحكم فمه مستهزئا به على عادته القديمة ، ورآه رسول الله

__________________

(١) انظر الغدير ٨ : ١٣٠ ، وتاريخ المدينة ٣ : ١٠٤٣ وبعدها. وانظر معالم المدرستين ٢ : ٢٠٧ ـ ٢٣٢.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٤ ، والطبري ٤ : ٢٥١ ، وفي توسعة المسجد الحرام انظر الغدير ٨ : ١٢٩.

(٣) أنساب الأشراف ٥ : ٢٧ ، وانظر الغدير ٨ : ٢٤٣.

(٤) المستدرك على الصحيحين للحاكم ٤ : ٤٧٩ ، وعن ابن عوف انظر الغدير ٨ : ٢٦٠.


فنفاه إلى الطائف (١) وشفع له عثمان فلم يشفّعه فيه وكذلك أبو بكر وعمر ، فلما تولّى استقدمه فأكرمه ونعمّه ، كما مرّ خبره.

وسمع في أيامه الأولى من أبي سفيان وهو أعمى ما يخالف الإيمان بالإسلام والأديان ، فاستاء عثمان وأمر بإخراجه من الديوان ، كما مرّ خبره أيضا.

ومع ذلك رووا عن سعيد بن العاص : أن عثمان كان قد اصطنع لنفسه سريرا يسع لواحد آخر معه ، فكان يجلس معه أبو سفيان وهو أعمى ، وعمّه الحكم ، وأخاه لأمه الوليد بن عقبة ، فأقبل الوليد يوما فجلس ، ثم جاء عمّه الحكم ، فأومأ عثمان إلى أخيه الوليد فرحل عن مجلسه للحكم. فلما قام الحكم ليخرج قال الوليد لعثمان : والله يا أمير المؤمنين ، حين رأيتك آثرت عمّك على ابن امّك تلجلج في صدري بيتان من الشعر قلتهما ، قال : ما هما؟ قال :

رأيت لعمّ المرء زلفى قرابة

دوين أخيه حادثا لم يكن قدما

فأمّلت عمرا أن يشبّ وخالدا

لكي يدعواني يوم نائبة : عمّا!

ويعني خالدا وعمرا ابني عثمان ، فقال عثمان : إن الحكم شيخ قريش! ثم رقّ لأخيه فقال له : وقد ولّيتك الكوفة (٢)! وذلك عام (٢٦ ه‍).

فقدمها وعليها سعد بن أبي وقاص ، فاستأذن عليه ودخل وجلس ، ولم يعلم سعد أن الوليد الوالي الجديد وكان يكنّى أبا وهب ، فقال له سعد : ما أقدمك يا أبا وهب؟ أجئت بريدا؟ فقال الوليد : أنا أرزن من ذلك! ولكنّ القوم احتاجوا إلى عملهم فاستعملني أمير المؤمنين على الكوفة! ولقد امرت بمحاسبتك والنظر في أمر عمّالك!

__________________

(١) أمالي الطوسي : ١٧٥ ، الحديث ٢٩٥ عن عبد الله بن عمر.

(٢) الأغاني ٤ : ١٧٤ ، وعنه في شرح النهج للمعتزلي ١٧ : ٢٢٧ ـ ٢٢٨.


فسكت سعد طويلا ثم قال : لا والله ما أدري أصلحت بعدنا أم فسدنا بعدك (١)؟! ولا والله ما أدري أكست بعدنا أم حمقنا بعدك؟!

فقال له الوليد : لا تجزعنّ يا أبا إسحاق ، فإنه الملك يتغدّاه قوم ويتعشّاه آخرون! فقال سعد : أراكم ـ والله ـ ستجعلونه ملكا (٢).

منادمته الطائي النصراني :

وكان عثمان قبل هذا قد ولّى الوليد صدقات بني تغلب ثم عزله لشعر خليع بلغه عنه! ولخلاعته في شعره نادمه من نصاراهم رجل يدعى أبا زبيد الطائي نازلا فيهم ، فلما تولّى الوليد الكوفة استعمل لحمى الرعي فيما بين الحيرة إلى الجزيرة مرّى بن أوس الطائي أو ابنه الربيع ، وأجدبت الجزيرة ومنع مرّى الطائي أبا زبيد الطائي من الرعي فرحل إلى الوليد وشكاه إليه فعزله وولّاها أبا زبيد ، ودعاه إلى ندامته السابقة واستوهب له دار رجل قبطيّ بباب المسجد الجامع بالكوفة وأسكنه بها.

فكان أبو زبيد يخرج من داره فيشق المسجد إلى الوليد فيسمر عنده ويشرب معه ويخرج فيشق المسجد وهو سكران ، وكان يمدح الوليد بشعره (٣).

الوليد والساحر النصراني :

وكان يجلس في صحن المسجد ويؤتى بساحر من الكوفة يدعى بطروني ، ويجتمع عليه الناس ، فجعل يدخل من دبر الناقة (أو البقرة) ويخرج من فيها ،

__________________

(١) الأغاني ٤ : ١٧٥ ـ ١٧٦ ، وعنه في شرح النهج للمعتزلي ١٧ : ٢٢٨.

(٢) الأغاني ٤ : ١٧٦ ، وعنه في شرح النهج للمعتزلي ١٧ : ٢٢٩ ، وفي الصفحة ٢٤٥ منه نقل عن ابن البرّ في الاستيعاب عن الوليد مرفوعا قال : ما كانت نبوة إلّا كان بعدها ملك.

(٣) الأغاني ٤ : ١٨٠ ، وعنه في شرح النهج للمعتزلي ١٧ : ٢٣٦.


فرآه جندب بن كعب (أو زهير) الأزدي فخرج إلى بعض من يصقل السيوف فاستعار منه سيفا ستره وأقبل في الزحام حتى ضرب عنق الساحر وقال له : الآن أحي نفسك إن كنت صادقا!

فأراد الوليد أن يضرب عنقه فقام إليه قومه من الأزد وقالوا : لا والله لا تقتل صاحبنا! فأمر به فحبس! وكان جندب متعبّدا يصلّي الليل كله! وكان سجّانه (نصرانيا) يدعى أبا سنان ، ولكنه قال له : ما عذري عند الله إن حبستك ليقتلك الوليد؟! فأطلقه ، فأمر الوليد به فضرب مائتي سوط!

فاجتمع حذيفة بن اليمان العبسي وعديّ بن حاتم الطائي وجرير بن عبد الله البجلي والأشعث بن قيس الكندي فكتبوا بذلك إلى عثمان وأرسلوا إليه رسلهم (١).

الوليد وابن مسعود :

مرّ أن عمر عزل سعدا عن الكوفة سنة (٢١) وأمّر عليهم عمارا ومعه عبد الله بن مسعود الهذلي على بيت المال ومعلّما للفقه والقرآن وفي عام (٢٣) بعد عامين اشتكى إليه أهل الكوفة ضعف عمار فعزله ، وبقي ابن مسعود على بيت المال حتى جاءهم الوليد في سنة (٢٥ ه‍) فلم يعزله ولكنّه أكثر من التصرّف في الأموال بغير ما يرى ابن مسعود.

فروى البلاذري عن الكلبي عن أبي مخنف وعوانة : أن ابن مسعود ألقى إلى الوليد مفاتيح بيت المال وقال : من غيّر غيّر الله ما به ، ومن بدّل أسخط الله عليه ، ولا أرى صاحبكم إلّا وقد غيّر وبدّل! أيعزل مثل سعد بن أبي وقاص ويولّي الوليد؟!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٥ ، وأنساب الأشراف ٥ : ٣٢ ، ومروج الذهب ٢ : ٣٣٨ ، والأغاني : ١٨٣ ، وفي تلخيص الشافي ٤ : ٧٨ مرسلا.


وكان إذا اجتمع الناس يوم الجمعة يقوم فيقول : أيها الناس ، لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو يسلطنّ الله عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم. وإن أصدق القول كتاب الله ، وأحسن الهدى هدى محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار (١).

فكتب الوليد بذلك إلى عثمان ، فبعث عثمان إليه : أن دع هذا الكلام أو اخرج من الكوفة (٢).

وذكر الثقفي في تاريخه ، والواقدي في «كتاب الدار» بإسنادهما عن راو قال : دخلت على عبد الله بن مسعود وعنده أصحابه ، إذ جاءه رسول الوليد بن عقبة فقال له : إن الأمير أرسل إليك : أن أمير المؤمنين يقول : إما أن تدع هذه الكلمات وإما تخرج من أرضك!

فقال ابن مسعود : ربّ كلمات لا أختار مصري عليهن! ليخرجنّ منها ابن أمّ عبد (يعني نفسه) ولا أتركهن أبدا وقد سمعت رسول الله يقولهن ، فقيل : ما هنّ؟ فقال : أفضل الكلام كتاب الله ، وأحسن الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة ضلالة (٣).

وبدا اختلاف القراءات :

تأسست الكوفة بسعد بن أبي وقاص وكان كما مرّ لا يحسن قراءة القرآن ، فشكى أهل الكوفة ذلك إلى عمر عام (٢١) فبعث إليهم عبد الله بن مسعود

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ : ٣٦ ، وتاريخ الخميس ٢ : ٣٧٠.

(٢) تاريخ المدينة للنميري البصري ٣ : ١٠٩٤.

(٣) كما في بحار الأنوار ٣١ : ٢٩٥ ، ٢٩٦ عن القسم الثاني من تقريب المعارف للحلبي عن تاريخ الثقفي وكتاب الدار للواقدي.


معلّما للقرآن والفقه ، وكان على البصرة منذ سنة (١٦) أبو موسى الأشعريّ وله قراءة ، فيبدو أن قراءته انتشرت في الكوفة إلى جانب قراءة ابن مسعود باختلاف في بعضها ، ولعلّه لمّا أبدى ابن مسعود معارضته لبعض سياسات الخليفة ، أثارت السياسة هذا الخلاف عليه :

فقد روى السجستاني عن النخعي قال : كنت في المسجد بالكوفة على عهد الوليد بن عقبة في حلقة حول حذيفة بن اليمان ، إذ هتف هاتف : من كان يقرأ على قراءة أبي موسى فليأت إلى زاوية باب كندة ، ومن يقرأ قراءة ابن مسعود فليأت الزاوية إلى جانب داره. وظهر من خلافهم في قراءة آية من البقرة فقرأ هذا : «وأتمّوا الحجّ والعمرة لله» وقرأ الآخر : «وأتمّوا الحجّ والعمرة للبيت»!

فاحمّرت عينا حذيفة من الغضب وقال : قراءة أبي موسى وقراءة عبد الله ابن أمّ عبد! والله إن بقيت حتى آتي أمير المؤمنين (عثمان) لآمرنّه بجعلها قراءة واحدة ، وغرق هذه المصاحف.

فالتقى ابن مسعود حذيفة وقال له : بلغني عنك كذا؟ قال : نعم كرهت أن يقال : قراءة فلان وقراءة فلان ، فيختلفون كما اختلف أهل الكتاب!

ثم قدم المدينة فقال لعثمان : يا أمير المؤمنين ، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى ، فقد غزوت مرج أرمينية ، فإذا أهل الشام يقرءون بقراءة ابيّ بن كعب ويأتون بما لم يسمع أهل العراق ، وإذا أهل العراق يقرءون بقراءة ابن مسعود ويأتون بما لم يسمع أهل الشام ، فيكفّر بعضهم بعضا (١).

__________________

(١) انظر التمهيد ١ : ٢٧٨ ـ ٢٧٨ ، وفي تلخيصه ١ : ١٥٩ ـ ١٦١.


فخطب عثمان فقال : «انما قبض نبيّكم منذ خمس عشرة سنة وقد اختلفتم في القرآن! فعزمت على من عنده شيء من القرآن سمعه من رسول الله لمّا أتاني به (١) ويا أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله اجتمعوا فاكتبوا للناس إماما» أي مصحفا إماما.

ثم دعا سعيد بن العاص الأموي وعبد الرحمن بن الحارث المخزومي وعبد الله بن الزبير وجعل عليهم زيد بن ثابت الأنصاري ليكتب بإملاء سعيد بن العاص القرشي بلهجة قريش.

ثم تقرّر أن تكون المصاحف بعدد امّهات الأمصار الإسلامية سبعة أو تسعة ، فدعوا عبد الله بن العباس ، وأنس بن مالك ، وعبد الله بن فطيمة ، وكثير بن أفلج ، ومالك بن أبي عامر ، ومصعب بن سعد ، ورجلا آخر تمام الاثني عشر رجلا ، وجعل عليهم ابيّ بن كعب ليملي عليهم من مصحفه وهم يكتبون (٢).

وزاد النميري البصري في الكتّاب مع زيد : نافع بن طريف ، وعبد الله بن الوليد الخزاعي وعبد الرحمن بن أبي لبابة الأنصاري ، وأنّ عائشة أرسلت إليهم بالأدم الذي فيه القرآن (٣) وعليه فيكون مجموع أعضاء اللجنة أربعة عشر رجلا ، وذلك في أوائل عهد عثمان.

وهبات وعطايا :

وفي سنة (٢٧) حيث غزا عبد الله بن سعد افريقية فأصاب غنائم كثيرة ،

__________________

(١) المصاحف للسجستاني : ٢٤ ، وفي تاريخ المدينة للبصري ٣ : ٩٩٤ : إنما عهدكم بنبيّكم منذ ثلاث عشرة سنة! ولا يصح إلّا تقريبا.

(٢) التمهيد ١ : ٢٨١ ، ٢٨٢ ، وفي تلخيصه ١ : ١٦٢ ، ١٦٣.

(٣) تاريخ المدينة المنورة للنميري البصري ٣ : ٩٩٧.


ابتاع مروان خمسها بمائتي ألف دينار ، ثم كلّم عثمان فوهبها له! والمظنون أن ذلك كان بعد تزويجه إياه بابنته أمّ أبان ، وحينها أمر له بمائة ألف أيضا (١).

وزوّج ابنته الأخرى عائشة للحارث بن الحكم أخي مروان وأعطاه ثلاثمائة ألف درهم ، وقدمت إبل الصدقة فوهبها له ، وأقطعه أرض مهزوز التي كانت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بجوار مسجده فتصدق بها للمسلمين فاتخذوه سوقا ، وكان الخلفاء يعشّرونهم يوما ، فكان عامل الصدقات على السوق يأتي بالأعشار مساء إلى عثمان ، فأتاه يوما فقال له عثمان : ادفعها إلى الحكم بن أبي العاص (٢).

عثمان يطعم الصيد محرما :

حج عثمان عام (٢٥) و(٢٦) وكان يصطاد له في المنازل من الوحش فيأكل منه وهو محرم ، حتى قال له الزبير : هذا يصطاد لنا ومن أجلنا ، فلو تركناه!

وكان عثمان قد بعث عبد الله بن الحارث بن نوفل بن عبد المطّلب ، أو أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب عاملا له على الطائف أو العروض ، فنزل بمنزل قديد دون مكة ، ومرّ به صيّاد شاميّ معه صقر وبازيّ فاستعارهما منه وصاد بهما وجعل الصيد في حفيرة ، حتى مرّ به عثمان محرما بالحج لسنة (٢٧ ه‍) فطبخهن وقدّمهن إليه ومن معه ، فقال عثمان لهم : كلوا ، فجاء رجل فقال : إن عليا يكره هذا! فبعث عثمان عليه فلما حضر قال له : إنك لكثير الخلاف علينا!

فغضب علي عليه‌السلام وقال : أنشد الله رجلا شهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين أتي بقائمة حمار وحش فقال : إنّا قوم حرم فأطعموه أهل الحلّ؟

فشهد اثنا عشر رجلا من أصحاب رسول الله.

__________________

(١) انظر الغدير ٨ : ٢٣٦ ـ ٢٣٨ المورد ٣٩.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٨ ، وانظر الغدير ٨ : ٢٦٧ ـ ٢٦٩ ، المورد ٣٣٠.


ثم قال علي عليه‌السلام : أنشد الله رجلا شهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين أتي ببيض نعام فقال : إنّا قوم حرم أطعموه أهل الحلّ؟ فشهد من الاثني عشر رجلا دونهم في العدة.

فقال عثمان لعلي عليه‌السلام : بيّن لنا. فقال علي عليه‌السلام : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) فقال عثمان : أو نحن قتلناه؟! فقرأ عليه‌السلام : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً)(١).

فنزل عثمان عن سريره! وقال : خبثت علينا! ودخل رحله ، وأكل الطعام أهل الحل في المحل (٢).

وتزوّج وبنى قصره :

نقل ابن الخياط عن الكلبي : أن عثمان في سنة (٢٨) تزوّج نائلة ابنة الفرافصة الكلبي النصراني من سماوة العراق (٣).

ولعلّه لها شيد قصره الزّوراء بين المسجد والسوق عام (٢٩) (٤) بالكلس والحجر وجلب له أبوابا من العرعر والساج ، فتأسّى به كثير من أهل عصره!

منهم : طلحة بن عبيد الله التيمي ، فإنه شيّد داره بالمدينة بالجصّ والآجر والساج.

ومنهم : سعد بن أبي وقّاص الزهري ابتنى دارا بموضع العقيق قرب المدينة ، واسعة مرتفعة وأعلاها شرفات.

__________________

(١) المائدة : ٩٥ ـ ٩٦.

(٢) انظر أخباره ومصادره في الغدير ٨ : ١٢٥ ـ ١٢٨ ، المورد ٤.

(٣) تاريخ خليفة : ٩٢ ، وعيون الأخبار لابن قتيبة ٤ : ٤٦ ، ولعله وصفها له أخوه الوليد بن عقبة إذ كان عامله على صدقات كلب وبلقين كما في تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٥.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٦.


ومنهم : عبد الرحمن بن عوف الزهري ابتنى دارا واسعة وله على مربطها مائة فرس! وله ألف بعير وعشرة آلاف شاة!

ومنهم : المقداد بن عمرو الأسود الكندي ابتنى داره بالجرف على أميال من المدينة ، بالآجر والجصّ من الظاهر والباطن وأعلاها شرفات!

ذكر ذلك المسعودي وزاد يقول : وهذا باب في من تملك الأموال في أيامه يكثر وصفه ويتّسع ذكره (١).

ويظهر أن بناء عثمان لداره الزوراء بجوار المسجد كان مع توسيعه له ، فجعل عرضه مائة وخمسين ذراعا وطوله مائة وستين ، وجعل له أعمدة من الحجر وسقفا من الساج ، وحمل حجره من موضع بطن نخلة ، وجعل في عمده الرّصاص ، من دون أن أن يزيد في الأبواب (٢).

عثمان وابن مسعود :

مرّ الخبر أن ابن مسعود كان إذا اجتمع الناس يوم الجمعة يقوم فيعترض على سياسات عثمان ، وأن الوليد كتب بذلك إلى عثمان ، وأن عثمان كتب إلى ابن مسعود أن يترك ذلك الكلام أو يعود إلى المدينة.

ونرى في أخبار صلاة الوليد سكرانا : أنه لما قال لهم : هل أزيدكم؟ قال له ابن مسعود : لا زادك الله خيرا ولا من بعثك إلينا! ثم أخذ خفّه وضرب به وجهه فقام ودخل إلى القصر (٣).

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٣٣٣.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٦ ، والطبري ٤ : ٢٦٧.

(٣) انظر الغدير ٨ : ١٢٣ ، عن السيرة الحلبية.


وعليه فتسيير ابن مسعود كان بعد صلاة الوليد وقبل عزله عام (٢٩ ه‍) وكان ذلك لمواقفه السياسية لا للخلاف على القرآن.

وإنما عزل عثمان الوليد بسعيد بن العاص الذي كان في لجنة المصاحف ، ونرى من الأعضاء فيها عبد الله بن العباس وعبد الله بن الزبير وهما مع سعيد بن العاص في غزو طبرستان عام (٣٠) ، ولم يعد سعيد إلى المدينة إلّا عام (٣٤) قبل مقتل عثمان بسنة ، فيظهر أن كل ذلك كان بعد إتمام أعمالهم في المصاحف وإرسالها إلى البلدان.

ونرى في الأخبار : أن عثمان لما كتب المصاحف بلغه أن أهل الكوفة يقرءون بقراءة ابن مسعود فتعجّل وبعث إليهم بالمصحف قبل العرض والمقابلة بسائر النسخ (١).

وبعث معه قارئا يقرؤهم هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي (٢) وهذا يعني عزل ابن مسعود عن سمة تعليم القرآن التي كان بعثه بها عمر إلى الكوفة.

وهنا يقول اليعقوبي : بعث بمصحف إلى الكوفة ... وكتب بجمع المصاحف من الآفاق ... وكان ابن مسعود بالكوفة فامتنع أن يدفع مصحفه ، فكتب عثمان بإشخاصه (٣) وعليه فاليعقوبي يسند استعادة ابن مسعود إلى المدينة إلى خلافه في المصاحف.

__________________

(١) عن المصاحف لابن داود : ٣٥.

(٢) التمهيد ١ : ٢٩٨ و٢ : ١٠ ، وتلخيصه ١ : ١٧٤ و٢١٤.

(٣) اليعقوبي ٢ : ١٧٠ وفيه : أنه كتب إلى عبد الله بن عامر بإشخاصه ، فلعلّه وهم ، أو كان ذلك بعد عزل الوليد وقبل وصول سعيد فكان والي البصرة يلي أمر الكوفة ، ولم يذكر هذا في التاريخ.


وعاد ابن مسعود إلى المدينة ودخل المسجد وعثمان يخطب (يوم الجمعة) فلما رآه عثمان قال (في خطبته) : إنه قد قدمت عليكم دابّة سوء (١)! من تمشي على طعامه يقيء ويسلح (٢).

وعرف ابن مسعود أنه أراده فردّه وقال : لست كذلك ، ولكنّي صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بدر ، وصاحبه يوم احد ، وصاحبه يوم الخندق ، وصاحبه يوم بيعة الرضوان ، وصاحبه يوم حنين.

وسمعت عائشة كلام عثمان فصاحت به : أيا عثمان ؛ أتقول هذا لصاحب رسول الله؟! فناداها عثمان : اسكتي! ونادى بمولى له أسود يدعى ابن زمعة : أخرجه إخراجا عنيفا! وكان ابن مسعود قصيرا دقيق الساقين ، فلما احتمله العبد ليخرجه من المسجد ناداه ابن مسعود : أنشدك الله أن لا تخرجني من مسجد خليلي رسول الله!

فحمله العبد ورجلا ابن مسعود تختلفان على عنق العبد حتى أخرجه إلى باب المسجد فضرب به الأرض فكسر ضلعا من أضلاعه! فصاح ابن مسعود : قتلني ابن زمعة الكافر بأمر عثمان (٣)!

فقال علي عليه‌السلام لعثمان : يا عثمان! أتفعل هذا بصاحب رسول الله بقول الوليد؟!

فقال : ما فعلت هذا بقول الوليد ، ولكن وجّهت إليه زبيد بن الصلت الكندي إلى الكوفة فقال له ابن مسعود : إنّ دم عثمان حلال!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧٠.

(٢) السلح : الخرء.

(٣) أنساب الأشراف ٥ : ٣٦ ، والشافي ٤ : ٢٧٩ ـ ٢٨٢ ، وتلخيصه ٤ : ١٠٤ ، واليعقوبي ملخصا.


فقال علي عليه‌السلام : أحلت على زبيد (وهو) غير ثقة!

وأتى علي عليه‌السلام بابن مسعود إلى منزله (؟).

وحين برئ أراد الغزو (إلى الشام) فقال مروان لعثمان : إن ابن مسعود أفسد عليك العراق أفيريد أن يفسد عليك الشام؟! فمنعه عثمان من ذلك ، وكان لا يأذن له بالخروج حتى إلى ضواحي المدينة ، هذا وقد قطع عطاءه من بيت المال حتى مات بعد ثلاث سنين (١).

وبعد إشارة اليعقوبي إلى خبر ابن مسعود عاد إلى ذكر سائر المصاحف المرسلة إلى الأمصار بعد أن احتفظ بنسخة للمدينة ، فأرسل مصحفا إلى مكة ، وآخر لليمن ، وآخر لمصر ، وآخر لدمشق ، وآخر للبحرين ، وآخر للبصرة ، وآخر للجزيرة. وجمع المصاحف من الآفاق فقيل : أحرقها وقيل : بل سلقها بالماء الحارّ والخلّ ، فلم يبق مصحفا إلّا فعل به ذلك (٢).

فسق الوليد في الكوفة :

قال المسعودي : كان الوليد يشرب مع ندمائه ومغنّيه من أول الليل إلى الصباح ، فلما آذنوه بالصلاة خرج بثيابه (الداخليّة) وتقدم إلى المحراب لصلاة الصبح فصلّى بهم أربعا وقال في سجوده : اشرب واسقني! فلمّا سلّم التفت إلى من خلفه وقال لهم : ألا تريدون أن أزيدكم؟

فقال له عتّاب بن غيلان الثقفي : ما تزيد؟ لا زادك الله من الخير! والله لا أعجب إلّا ممن بعثك إلينا واليا وعلينا أميرا! ثم حمل إلى دار الإمارة.

__________________

(١) انظر الغدير ٩ : ٣ و٤.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧٠ ، وانظر التمهيد ١ : ٢٩٧ ـ ٣٠٠ ، وفي تلخيصه ١ : ١٧٣ ـ ١٧٦. وانظر بحار الأنوار ٣١ : ١٥٠ ـ ١٥١ بتحقيق اليوسفي الغروي.


فهجم عليه جماعة من المسجد إلى قصره منهم : جندب بن زهير وأبو زينب ابن عوف الأزديان ، فوجدوه مضطجعا على سريره سكران لا يعقل ، وأيقظوه فلم يستيقظ ، ثم تقيّأ عليهم الخمر ، فانتزعوا خاتمه من يده.

وخرجوا من فورهم إلى عثمان بالمدينة ، فشهدوا عنده على الوليد بشرب الخمر ، فقال لهما عثمان : وما يدريكما أنه شرب خمرا؟! فقالا : هي الخمر التي كنّا نشربها في الجاهلية. وأخرجا خاتمه فدفعاه إليه ، فدفع في صدريهما وقال لهما : تنحّيا عنّي ، وزجرهما (١).

وفي البلاذري : أنه كان معهما أبو حبيبة الغفاري والصعب بن جثّامة (٢).

وفي «الأغاني» عن المدائني عن الزهري قول عثمان لهم : أكلّما غضب رجل منكم على أميره رماه بالباطل؟ لئن أصبحت لأنكّلنّ بكم!

وأصبح عثمان فسمع من حجرة عائشة صوتا وكلاما غليظا ، وكانوا استجاروا بها ، فقال عثمان : أما يجد فسّاق أهل العراق ومرّاقهم ملجأ إلّا بيت عائشة؟!

فمدّت عائشة يدها وأخرجت نعل رسول الله ورفعته إليه وقالت له : لقد تركت سنّة رسول الله صاحب هذا النعل (٣)! فأغلظ لها عثمان وقال : وما أنت وهذا؟! إنما امرت أن تقرّي في بيتك (٤).

وتسامع الناس بذلك فجاءوا حتى امتلأ بهم المسجد فمنهم من قال

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٣٣٥ ، ٣٣٦.

(٢) أنساب الأشراف ٥ : ٣٣.

(٣) انظر الغدير ٨ : ١٢٣.

(٤) انظر الغدير ٨ : ١٢٠.


بقول عثمان : ما للنساء ولهذا؟ ومنهم من قال : بل أحسنت ، ومن أولى بذلك منها؟! حتى تحاصبوا وتضاربوا بالنعال ؛ فكان أول تناوش بين المسلمين بعد نبيّهم صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

وأتوا عليا عليه‌السلام فخرج إلى عثمان ولحقه الزبير ولحقه طلحة فقالوا له : قد نهيناك عن تولية الوليد شيئا من امور المسلمين فأبيت ، وقد شهدوا عليه بشرب الخمر والسكر فاعزله. وقال علي عليه‌السلام : إذا شهد الشهود عليه في وجهه فاعزله وحدّه!

فولّى عثمان على الكوفة سعيد بن العاص وأمره بإشخاص الوليد.

فلما قدم سعيد الكوفة أمر فغسلوا دار الإمارة ومنبر المسجد ، وأشخص الوليد سنة (٢٩).

فلما شهد الشهود في وجه الوليد وأراد عثمان أن يحدّه ألبسه جبّة حبر وأدخله بيتا ، فقيل له : إن عمر كان يحلق مثله! فقال : قد كان فعل ذلك ثم تركه (٢) ثم قال عثمان : من يضربه؟ وإذ كان أخا عثمان لأمه أحجم عنه الناس لقرابته (٣) فألقى عثمان السوط إلى علي عليه‌السلام.

فلما نظر علي عليه‌السلام إلى امتناع الجماعة عن إقامة الحدّ عليه توقّيا لغضب عثمان لقرابته منه أخذ السوط وأقبل عليه ، فلما دنا منه قال له الوليد : يا صاحب مكس (بخل) يريد سبّه!

وكان عقيل بن أبي طالب النسّابة حاضرا فقال للوليد : يا ابن أبي معيط!

__________________

(١) انظر الغدير ٨ : ١٢١ و ١٢٣.

(٢) انظر الغدير ٨ : ١٢١.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٥.


وإنك لتتكلّم؟! كأنك لا تدري من أنت؟! إنما أنت علج (أعجميّ) من أهل صفورية (١).

فاستشاط عثمان غضبا وقال لعليّ عليه‌السلام : يا علي! ليس لك أن تتعتعه ولا أن تسبّه! فقال علي عليه‌السلام : بلى لي أن أقهره على الصبر على الحدّ ، وما سببته إلّا لمّا سبّني بباطل فقلت فيه حقا.

وكان لسوطه رأسان فضربه به أربعين جلدة بثمانين (٢).

عثمان والقصر في السفر :

روى الطبري عن الواقدي عن ابن عباس قال : إنّ عثمان صلّى بالناس (الحجّاج) بمنى في ولايته ركعتين (قصرا) حتى إذا كانت السنة السادسة (من حكمه ٢٩ ه‍) أتمّ الصلاة بها وبعرفة ، فتكلّم في ذلك غير واحد من أصحاب النبيّ وعابه عليه ، وجاءه في من جاءه علي عليه‌السلام فقال له : لقد عهدت نبيّك صلى‌الله‌عليه‌وآله يصلّي ركعتين ، ثم أبا بكر ثم عمر ، وأنت صدرا من ولايتك ، والله ما حدث أمر ... فما أدري ما ترجع إليه؟ فقال : رأي رأيته!

__________________

(١) وقال المسعودي هنا : صفورية قرية من الأردن إلى عكّا (في فلسطين) من بلاد طبريّة ، وقد ذكر أن أباه كان يهوديا منها. مروج الذهب ٢ : ٣٣٦ ، وانظر تلخيص الشافي ٤ : ٧٤ ـ ٧٨ ، وبحار الأنوار ٣١ : ٢٣١ ـ ٢٣٧ بتحقيق اليوسفي الغروي ، وانظر تاريخ المدينة للنميري ٣ : ٩٧٠ ـ ٩٧٦.

(٢) الجمل للمفيد : ١٧٩ ، وبهامشه عن الشافي ٤ : ٢٤٥ ، واليعقوبي ٢ : ١٦٥ ، ومصادر اخرى. ورواه الحلبيّ عن زرارة عن الباقر عليه‌السلام في مناقب آل أبي طالب ٢ : ١٦٨ والشهود في ١٦٩.


ودخل عليه عبد الرحمن بن عوف فقال له : ألم تصلّ في هذا المكان مع رسول الله ركعتين؟ قال : بلى ، قال : أفلم تصلّ مع أبي بكر ركعتين؟ قال : بلى ، قال : أفلم تصلّ مع عمر ركعتين؟ قال : بلى ، قال : ألم تصلّ صدرا من خلافتك ركعتين؟ قال : بلى (ولكن) اسمع مني يا أبا محمد ؛ إني اخبرت : أن بعض من حجّ من أهل اليمن وجفاة الناس قد قالوا في عامنا الماضي : هذا إمامكم عثمان يصلّي ركعتين فالصلاة للمقيم ركعتان! وقد اتخذت بمكة أهلا فرأيت أن أصلّي أربعا لما أخاف على الناس! ولي بالطائف مال فربّما أقمت فيه!

فقال له ابن عوف : ما من هذا شيء لك فيه عذر ؛ أما قولك : اتخذت أهلا ، فزوجتك بالمدينة وإنما تسكن بسكناك! وأما قولك : ولي مال بالطائف ، فأنت لست من أهل الطائف وبينك وبين الطائف مسيرة ثلاث ليال! وأما قولك : يرجع من حجّ من أهل اليمن فيقولون : هذا إمامكم عثمان يصلّي ركعتين وهو مقيم ، فقد كان رسول الله ينزل عليه الوحي والإسلام يومئذ في الناس قليل ، وقد ضرب الإسلام بجرانه اليوم. فقال عثمان : رأي رأيته (١).

فروى الكليني بسنده عن الباقر عليه‌السلام قال : ثم إنه ليشدّ بدعته عارض وقال لمؤذّنه : اذهب إلى عليّ وقل له فليصلّ بالناس العصر. فأتى المؤذّن عليا عليه‌السلام فقال له : إن أمير المؤمنين يأمرك أن تصلّي بالناس العصر. فقال علي عليه‌السلام : إذن لا اصلّي إلّا ركعتين كما صلّى رسول الله.

فذهب المؤذّن فأخبر عثمان بما قال علي. فقال له : اذهب إليه وقل له : إنك لست من هذا في شيء! اذهب فصلّ كما تؤمر! فقال علي عليه‌السلام : لا والله لا أفعل!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ : ٢٦٧ ، ٢٦٨ ، وأنساب الأشراف ٥ : ٣٩ ، وانظر الغدير ٨ : ٩٨ ـ ١١٩ ، والنص والاجتهاد : ٤٠٥ ـ ٤١٠ المورد ٧٢ بتحقيق الشيخ حسين الراضي.


فخرج عثمان فصلّى بهم أربعا (١).

ثم إنّ عثمان رأى أن يقلّص صلاة القصر في السفر في سائر الموارد ويكتفي للقصر بموردين فقط ، فكتب إلى عمّاله : لا يصلّي الركعتين مقيم ، ولا جاب ، ولا تاجر ، ولا زارع ، ولا راع ، وإنما يقصّر الصلاة يصليها ركعتين : من كان شاخصا مسافرا في حاجة ، أو بحضرة عدوّ (٢).

عثمان وعبد الرحمن ووليمة الزوراء :

قال اليعقوبي : واعتلّ عثمان علة شديدة ، فكتب بيده عهدا لمن بعده وكتب اسم عبد الرحمن بن عوف ، وربطه ، ودعا مولاه حمران بن أبان فبعث معه بالكتاب إلى أم حبيبة ابنة أبي سفيان! لكن حمران في الطريق فتحه وقرأه ثم دفعه إلى أم حبيبة ، ثم مضى إلى ابن عوف فأخبره خبره ، فغضب وقال : استعملته علانية ويستعملني سرّا؟! وبلغ ذلك عثمان فدعا بحمران وأمر فضرب مائة سوط! ثم سيّره إلى البصرة! وبلغ ذلك ابن عوف فعادى عثمان لذلك (٣).

ولكن عثمان لم يقاطع ابن عوف ، فلما بنى قصره الزوراء وأولم لذلك ودعا الناس إليه دعا ابن عوف فيمن دعاه ، فلما رأى ابن عوف الزوراء قال له : يا ابن عفّان! لقد صدّقنا عليك ما كنا نكذّب فيك! وإني أستعيذ الله من بيعتك!

__________________

(١) فروع الكافي ٤ : ٣.

(٢) الغدير ٨ : ١٨٥ ، ١٨٦.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٩.


فغضب عثمان وقال لغلامه : يا غلام! أخرجه عنّي! فأخرجوه! ونهى الناس أن يجالسوه ، فلم يجالسه أحد إلّا ابن عبّاس كان يعلّمه القرآن فلم ينقطع عنه.

نقل ذلك المعتزليّ ونقل بعده عن «الأوائل» لأبي هلال العسكري قال : وهكذا استجيبت دعوة علي عليه‌السلام فيه وفي عثمان فما ماتا إلّا متهاجرين متعاديين (١).

وتوقّع ابن عوف من ابن عفّان أن يعهد بالخلافة إليه كان مبنيّا على ما جاء عن علي عليه‌السلام في يوم الشورى قال : صيّرها شورى وسمّى قوما أنا سادسهم ... فكنت إذا خلوت بواحدهم وذكّرته وحذّرته .. التمس مني شرطا : أن أصيّرها له بعدي ... ثم شدّ من القوم مستبدّ فأزالها عنّي إلى ابن عفّان طمعا معه فيها ... ثم لم تطل الأيام بالمستبدّ بالأمر لابن عفان حتى أكفره وتبرّأ منه ، ومشى إلى أصحابه خاصّة وسائر أصحاب رسول الله عامة يستقيلهم من بيعته ويتوب إلى الله من فلتته (٢).

ووجّه ابن عوف ابنه إلى عثمان وقال له : قل له : والله لقد بايعتك وإنّ فيّ ثلاث خصال أفضلك بهن : أنّي حضرت بدرا ولم تحضرها ، وثبتّ يوم احد وانهزمت ، وحضرت بيعة الرضوان ولم تحضرها. فلمّا أدّى ابنه الرسالة إلى عثمان قال له : قل له : أما غيبتي عن بدر فإني أقمت على بنت رسول الله فضرب لي رسول الله بسهمي وأجري ، وأما يوم احد فقد كان ما ذكرت ، إلّا أنّ الله عفا عنّي ،

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١ : ١٩٦ ، ودعاء علي عليه‌السلام في ٩ : ٥٤ ، ٥٥ ، وقبله في الإرشاد ١ : ٢٨٦ ، والجمل : ١٢٣ ، وقبله في الطبري ٤ : ٢٣٣.

(٢) الخصال للصدوق : ٣٧٥ ، ٣٧٦ ، والاختصاص : ١٦٦.


ولقد فعلنا أفعالا لا ندري أغفرها الله أم لا؟ وأما بيعة الرضوان ، فقد صفّق لي رسول الله بيمينه على شماله (١).

ولعلّ هذا هو الذي بعث عثمان على أن يكون أول من اتّخذ المقصورة في المسجد خوفا من أن يصيبه ما أصاب عمر ، وأول من اتّخذ لذلك شرطة وصاحب شرطة (٢).

عثمان وخطبة العيدين :

كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في العيدين يصلّي ثم يخطب ، ورووا عن الحسن البصري قال : كان عثمان يفعل ذلك حتى صلّى بهم مرة ثم خطبهم فرأى ناسا لم يدركوا الصلاة ، فقام بعد ذلك يخطبهم قبل الصلاة ثم يصلّي بهم (٣) وفي آخر قال : رأى كثيرا من الناس يذهبون ، فخطب ثم صلّى (٤).

عثمان وزيادة الأذان :

كان بلال يوم الجمعة إذا جلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على المنبر يؤذّن ، فإذا أتمّ الخطبتين ونزل أقام له الصلاة ، وكذلك كان على عهد أبي بكر وعمر ، حتى كان عهد عثمان وكثر الناس وبنى داره الزوراء بجوار المسجد والسوق ، أمر المؤذّن أن يبدأ

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٩ ، ونحوه في تاريخ المدينة للنميري ٣ : ١٠٣١ ، وشرح النهج للمعتزلي عن أبي هلال العسكري في كتابه الأوائل ١ : ١٩٦.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ١٩٣ ، عن العسكري في الأوائل أيضا.

(٣) انظر الغدير ٨ : ١٦٠ ـ ١٦٧ ، المورد ١١.

(٤) تاريخ المدينة للبصري ٣ : ٩٦٤.


فيؤذّن أولا على داره الزوراء لأهل الأسواق ليجتمعوا ، وذلك في السابعة من عهده أي للثلاثين من الهجرة ، فعرّف هذا النداء بالنداء الثالث (في التشريع) وعاب الناس ذلك وقالوا : هي بدعة ، على سبيل الإنكار ، ومع ذلك أخذ الناس بفعله في جميع البلاد لكونه خليفة مطاعا (١).

عثمان وبنات يزدجرد :

في سنة ثلاثين أو إحدى وثلاثين وصل يزدجرد في هروبه بأصحابه إلى مرو وبها عامله ماهويه ، وأخذ يتشدّد عليه لإحضار أمواله ، وكان خاقان ملك الترك قد صاهر ماهويه ، فكتب ماهويه إليه وأعلمه بالأمر ورغّبه في الزحف إليه لفتح بلاده ، فجاء بجنوده وفتح ماهويه له أبواب المدينة ، فقتل أصحاب يزدجرد وقتل بنوه ، وهرب هو على رجليه ليلا حتى لجأ إلى بيت رحى على الماء فاستضاف الطحان ، فلما عرفه الطحان قتله وسلبه وألقاه في الماء (٢).

وروى الصدوق عن الرضا عليه‌السلام قال : لما فتح عبد الله بن عامر خراسان أيام عثمان ، أصاب ابنتين ليزدجرد بن شهريار آخر ملوك الفرس ، فبعث بهما إلى عثمان فوهبهما للحسنين عليهما‌السلام ، فماتتا عندهما نفساوين وكانت صاحبة الحسين عليه‌السلام نفست بعلي بن الحسين عليهما‌السلام (٣).

__________________

(١) انظر أخباره ومصادره في الغدير ٨ : ١٢٥ ـ ١٢٨ ، المورد ٤.

(٢) الأخبار الطوال للدينوري : ١٤١ ، وفتوح البلدان للبلاذري : ٣٢٢.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٢٨ ، الباب ٣٥ ، الحديث ٦ ، وانظر حياة الإمام زين العابدين عليه‌السلام للموسوي المقرّم : ٩ ـ ١٩. ولا حظ الإسلام وإيران للاستاذ الشهيد المطهري : ١٠٠ ـ ١١٠.


خطبة أبي ذر في مكة :

مرّ أنّ عثمان حجّ في عهده ما عدا السنتين الأولى والأخيرة ، ويبدو أن سليم بن قيس الهلالي وحنش بن المعتمر الكناني حجّا من الكوفة عام (٣٠ ه‍) تقريبا إذ قام أبو ذر وأخذ بحلقة باب الكعبة ورفع صوته يقول :

أيها الناس ؛ من عرفني فقد عرفني ، ومن جهلني فأنا جندب بن جنادة أنا أبو ذر.

أيها الناس ؛ إني سمعت نبيّكم يقول : مثل أهل بيتي في أمّتي كمثل سفينة نوح في قومه ، من ركبها نجا ، ومن تركها غرق. ومثل باب حطّة في بني إسرائيل.

أيها الناس ، إني سمعت نبيّكم يقول : إني تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسّكتم بهما : كتاب الله وأهل بيتي ... وكان عثمان في الموسم ولم يؤاخذه بشيء.

وكأنّ سليم قدم المدينة بعد الحجّ فروى أن أبا ذر لما رجع إلى المدينة بعث عليه عثمان فقال له : ما حملك على ما قمت به في الموسم؟ فقال : عهد عهده إليّ رسول الله وأمرني به! فقال : من يشهد بذلك؟ وكان عليّ عليه‌السلام والمقداد حاضرين فقاما وشهدا له بذلك ، ثم انصرف أبو ذر وانصرف معه علي عليه‌السلام والمقداد يمشون ثلاثتهم. فقال عثمان : إن هذا وصاحبيه يحسبون أنهم على شيء (١)!

وخطبته في المدينة :

وعملا بأمر رسول الله وعهده إلى أبي ذر ، وقف كذلك بباب مسجد رسول الله فقال :

__________________

(١) الاحتجاج ١ : ٢٢٨ ، ٢٢٩ ، وجاءت الإشارة إليها في مفتتح كتاب سليم بن قيس ٢ : ٥٦٠.


«أيها الناس ، من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر الغفاري ، أنا جندب بن جنادة الرّبذي (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(١) محمد الصفوة من نوح ، فالأصل من إبراهيم والسلالة من إسماعيل ، والعترة الهادية من محمد (٢) أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ، وهم كالسماء المرفوعة والجبال المنصوبة والكعبة المستورة ، والعين الصافية والنجوم الهادية والشجرة المباركة ، أضاء نورها وبورك زيتها. محمد خاتم الأنبياء وسيّد ولد آدم وعلي وصي الأوصياء ، وإمام المتقين وقائد الغر المحجّلين ، وهو الصديق الأكبر والفارق الأعظم ، وصيّ محمد ووارث علمه ، وأولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم ... فقدّموا من قدّم الله وأخّروا من أخّر الله ، واجعلوا الولاية والوزارة لمن جعل له الله (٣).

فما بالكم أيتها الامة المتحيّرة بعد نبيّها ، لو قدّمتم من قدّم الله ، وخلّفتم الولاية لمن خلّفها النبيّ له لما عال وليّ ولما اختلف اثنان في حكم ، ولا سقط سهم من فرائض الله ، ولا تنازعت هذه الامة في شيء من أمر دينها إلّا وجدتم علم ذلك عند أهل بيت نبيّكم ، فإنّ الله يقول : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) فذوقوا وبال ما فرّطتم (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)» (٤).

وروى الحلبي في القسم الثاني من «تقريب المعارف» عن الثقفي في تاريخه عن المعرور بن سويد : أن أبا ذر قطع على عثمان خطبته فحدّث الناس

__________________

(١) آل عمران : الآيتان ٣٣ ـ ٣٤.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧١ وفيه ما بعده باختلاف في الألفاظ.

(٣) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٥٩٢.

(٤) تفسير فرات الكوفي : ٨٢.


بحديث السفينة ، فقال له عثمان : كذبت! وكان علي عليه‌السلام حاضرا فقال لعثمان : إنما كان لك أن تقول كما قال العبد الصالح (إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ)(١) ، فما أتمّ الآية حتى قال له عثمان : بفيك التراب! فقال له علي عليه‌السلام : بل بفيك التراب (٢).

أبو ذر وعثمان :

قال اليعقوبي : وبلغ عثمان أنّ أبا ذر يقعد في مسجد رسول الله فيجتمع الناس إليه فيحدّثهم بما فيه طعن عليه ... ويقع فيه ، ويذكر ما غيّر وبدّل من سنن رسول الله وأبي بكر وعمر (٣).

وقال المرتضى : روى جميع أهل السيرة على اختلاف أسنادهم وطرقهم : أن مروان رفع ذلك إلى عثمان ، فأرسل عثمان إليه مولاه ناتلا : أن انته عمّا بلغني عنك!

فقال أبو ذر : أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله وعيب من ترك أمر الله! فو الله لئن أرضى الله بسخط عثمان أحبّ إليّ وخير لي من أن أسخط الله برضاه!

فغضب عثمان لذلك ولكنه صبر وكفّ عنه (٤).

__________________

(١) غافر : الآية ٢٨.

(٢) كما في بحار الأنوار ٣١ : ٢٩٢ بتحقيق اليوسفي الغروي ، ولم ينشر القسم الثاني من تقريب المعارف في النسخة الوحيدة المنشورة ، ولا يوجد كتاب تاريخ الثقفي الكوفي الاصفهاني (م ٢٨٣ ه‍).

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧١.

(٤) الشافي ٤ : ٢٩٣ ، وتلخيصه ٤ : ١١٥.


وذكر الثقفي في تاريخه عن ثعلبة بن حكيم قال : كنت جالسا عند عثمان مع أناس من أصحاب محمد من أهل بدر وغيرهم ، إذ جاء أبو ذر يتوكّأ على عصاه ، فسلم ثم قال لعثمان : يا عثمان اتّق الله ، إنك تسمع كذا وكذا وتصنع كذا وكذا ، وذكر مساوئه وانصرف وعثمان ساكت ، فلما انصرف أبو ذر قال عثمان : من يعذرني من هذا الذي لا يدع مساءة إلّا ذكرها؟!

ثم أرسل خلف علي عليه‌السلام فجاء فقال له : يا أبا الحسن! ما ترى أبا ذر لا يدع لي مساءة إلّا ذكرها؟ فقال علي عليه‌السلام لعثمان : يا عثمان إني أنهاك بحق أبي ذر ـ ثلاث مرات ـ اتركه فهو كما قال الله تعالى عن مؤمن آل فرعون : (إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) فقال له عثمان : بفيك التراب! فقال علي عليه‌السلام : بل بفيك التراب ، وانصرف (١).

وروى الكشي بسنده عن الصادق عليه‌السلام : أن عثمان أرسل إلى أبي ذر مائتي دينار مع موليين له قال لهما : قولا له : إنّ عثمان يقرئك السلام ويقول لك : هذه مائتا دينار فاستعن بها على ما نابك ، وإنه يقول : هذا من صلب مالي ، وبالله الذي لا إله إلّا هو ما خالطها حرام ولا بعثت إليك بها إلّا من حلال!

فقال أبو ذر : فهل أعطى أحدا من المسلمين مثل ما أعطاني؟ قالا : لا ، فقال : فأنا رجل من المسلمين ، ولا حاجة لي فيها وأنا من أغنى الناس ، فإن تحت هذا الكساء للدّابة رغيفا شعير من أيام ، فما أصنع بهذه الدنانير؟ حتى يعلم الله أني لا أقدر على قليل ولا كثير ، فردّاها عليه وأعلماه أن لا حاجة لي فيها ولا فيما عنده حتى ألقى الله ربّي فيكون هو الحاكم بيني وبينه (٢).

__________________

(١) كما في بحار الأنوار ٣١ : ٢٨٨ عن القسم الثاني من تقريب المعارف للحلبي (م ٤٤٧ ه‍).

(٢) رجال الكشي : ٢٧ ، الحديث ٥٣.


أبو ذر إلى الشام وخطبته فيها :

قال اليعقوبي : فسيّره إلى الشام إلى معاوية ، فكان إذا صلّى صلاة الصبح في المسجد الجامع بدمشق جلس واجتمع إليه الناس فيقول لهم كما كان يقول في المدينة ، وكثر من يجتمع إليه ويسمع منه (١).

فروى المفيد عن الثقفي بسنده عن ابن صهبان الأزدي الشامي قال : كان أبو ذرّ يحمد الله ويشهد له شهادة الحق ويصلّي على النبي ، ثم يقول : أما بعد ، فإنا كنّا في جاهليتنا قبل أن يبعث فينا الرسول وينزّل علينا به الكتاب ، ونحن نوفي بالعهد ونصدق الحديث ونحسن الجوار ونقري الضيف ونواسي الفقير ونبغض المتكبّر ، فلما بعث الله فينا رسوله وأنزل علينا به كتابه كانت تلك الأخلاق يرضاها الله ورسوله ، فكان أهل الإسلام أحقّ بها وأولى أن يحفظوها.

ثم إنّ الولاة قد أحدثوا أعمالا قباحا ما نعرفها من سنّة تطفى وبدعة تحيا وقائل بحق مكذّب ، وأثرة بغير تقى ، ومن مستأثر عليه من الصالحين ، ثم يقول : اللهم إن كان ما عندك خيرا لي فاقبضني إليك غير مبدّل ولا مغيّر.

وكان يبدئ هذا الكلام ويعيده (٢).

وكان يقوم كل يوم فيعظ الناس ويأمرهم بالتمسك بطاعة الله ويحذرهم من ارتكاب معاصيه ، ويروي عن رسول الله ما سمعه منه في فضائل أهل بيته ويحضّهم على التمسك بعترته (٣).

وبنى معاوية دارا واسعة بدمشق وسمّاها الخضراء ، فقال له أبو ذر : يا معاوية إن كانت هذه من مال الله فهي الخيانة ، وإن كانت من مالك فهو الإسراف.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧٢.

(٢) أمالي المفيد : ١٢١ ، م ١٤ ، الحديث ٥.

(٣) أمالي المفيد : ١٦٢ ، م ٢٠ ، الحديث ٤.


وذكّره يوما بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم : إن أحدكم لفرعون هذه الامة! فقال معاوية : أما أنا فلا.

وقام يوما خطيبا فقال : أيها الناس ، إنما أنا خازن ، فمن أعطيته فالله يعطيه ، ومن حرمته فالله يحرمه! فقام إليه أبو ذر وقال له : يا معاوية ، والله لقد كذبت ، إنك لتعطى من حرمه الله ، وتمنع من أعطاه الله (١).

وجعل كلما يدخل المسجد أو يخرج منه يذكر في عثمان خصالا كلها قبيحة ، وذلك في سنة (٣٠ ه‍) (٢).

وكانوا منعوه عطاءه من بيت المال ، فبعث إليه معاوية بثلاثمائة دينار ، فسأل أبو ذر من حاملها إليه : أهو من عطائي الذي حرمتمونيه هذا العام؟ فلم يعلم ، فقال أبو ذر : فإن كانت صلة فلا حاجة لي فيها (٣).

وأتى حبيب بن مسلمة الفهري إلى معاوية وقال له : إنّ أبا ذر يفسد عليك الناس بقوله كيت وكيت (٤).

ونقل المعتزلي عن الجاحظ بسنده عن جلّام بن جندل (٥) قال : كنت عاملا لمعاوية على قنّسرين والعواصم ـ في خلافة عثمان ـ فجئت يوما أسأله عن حال عملي ، إذ سمعت صارخا على باب داره يقول :

__________________

(١) بحار الأنوار ٣١ : ٢٩٠ عن القسم الثاني من تقريب المعارف عن تاريخ الثقفي.

(٢) المصدر السابق ٣١ : ٢٩٣.

(٣) الشافي ٤ : ٢٩٤ ، وتلخيصه ٤ : ١١٦.

(٤) أمالي المفيد : ١٢٢ ، م ١٤ ، الحديث ٥.

(٥) كذا عن سفيانية الجاحظ ، وهو الصحيح ، وتصحّف اسم جندل إلى جندب وهو اسم أبي ذر فزعم الكشّي أنه ابنه فقال : عن جلّام بن أبي ذر ، وكانت له صحبة ١ : ٦٥ ، الحديث ١١٧ فهذا من أغلاطه.


أتتكم القطار تحمل النار! اللهم العن الآمرين بالمعروف التاركين له ، اللهم العن الناهين عن المنكر المرتكبين له!

فقال لي معاوية : من عذيري من جندب بن جنادة! يأتينا كل يوم فيصرخ على باب قصرنا بما سمعت ، ثم قال : أدخلوه عليّ ، فجاءوا به يقودونه حتى أوقفوه بين يديه ، قال جلّام : وكنت أحبّ أن أرى أبا ذر فهو رجل من قومي ، فالتفتّ إليه فإذا هو ضرب (١) من الرجال أحنأ ، أسمر ، خفيف العارضين ، فقال له معاوية :

يا عدوّ الله وعدوّ رسوله! تأتينا كل يوم فتصنع ما تصنع! أما إني لو كنت قاتل رجل من أصحاب محمد (!) من غير إذن أمير المؤمنين عثمان لقتلك! ولكنّي استأذن فيك! فأقبل أبو ذر على معاوية وقال :

ما أنا بعدوّ الله ولا رسوله ، بل أنت وأبوك عدوّان لله ولرسوله! أظهرتما الإسلام وأبطنتما الكفر! ولقد لعنك رسول الله ودعا عليك : أن لا تشبع ، سمعت رسول الله يقول : إذا ولى الامة الأعين الواسع البلعوم ، الذي يأكل ولا يشبع ، فلتأخذ الامة حذرها منه! فقال معاوية : ما أنا ذلك الرجل. قال أبو ذر :

بل أنت ذلك الرجل ، أخبرني بذلك رسول الله ؛ مررت به فسمعته يقول : اللهم العنه ولا تشبعه إلّا بالتراب ، وسمعته يقول : است معاوية في النار!

فضحك معاوية ولكنه أمر بحبسه ، وكتب فيه إلى عثمان (٢) :

«أما بعد ، فإن أبا ذر قد حرّق قلوب أهل الشام وبغّضك إليهم ، فما يستفتون غيره ، ولا يقضى بينهم إلّا هو (٣) وإنه يصبح إذا أصبح ويمسي إذا أمسى

__________________

(١) الضرب : الخفيف اللحم. والأحنإ : الأحدب.

(٢) شرح النهج (للمعتزلي) ٨ : ٢٥٧ عن رسالة السفيانية (للجاحظ).

(٣) عن الثقفي في تاريخه ، في القسم الثاني من تقريب المعارف كما في بحار الأنوار ٣١ : ٢٩٠. وقال : وذكره الواقدي وحذفناه اختصارا.


وجماعة كثيرة من الناس عنده فيقول لهم كيت وكيت ، فإن كانت لك حاجة في الناس قبلي فأقدم أبا ذر إليك ، فإني أخاف أن يفسد الناس عليك ، والسلام» (١).

فكتب إليه عثمان : «أما بعد ، فقد جاءني كتابك وفهمت ما ذكرت عن أبي ذر جنيدب! فابعث به إليّ واحمله على أغلظ المراكب وأوعرها ، وابعث معه دليلا يسير به الليل والنهار ، حتى لا ينزل من مركبه فيغلبه النوم فينسيه ذكري وذكرك (٢)! فاحمل أبا ذر على ناقة صعبة وقتب ، ثم ابعث معه من ينخس به نخسا عنيفا حتى يقدم به عليّ ، والسلام» (٣).

أبو ذر في طريقه ، وخطبته :

قال الراوي : فبعث معاوية إلى أبي ذر فأحضره وأقرأه كتاب عثمان وقال له : النجا ، الساعة! فخرج أبو ذر إلى راحلته فشدها بكورها وأنساعها ، فاجتمع إليه الناس يسألونه : أين يريد؟ فقال لهم : أخرجوني إليكم غضبا عليّ ، ويخرجوني منكم إليهم الآن عبثا بي! ولا يزال هذا الأمر شأنهم فيما بيني وبينهم فيما أرى حتى يستريح برّ أو يستراح من فاجر! وتسامع الناس بمخرجه فخرجوا معه حتى دير مرّان ، فنزل ونزلوا للصلاة ، فصلّى بهم ثم خطبهم فقال : أيها الناس ، إني موصيكم بما ينفعكم ، احمدوا الله عزوجل ، فقالوا : الحمد لله.

__________________

(١) أمالي المفيد : ١٦٢ ، م ٢٠ ، الحديث ٤ ، عن الثقفي الكوفي أيضا عن ابن صهبان الأزدي الشامي.

(٢) كما في بحار الأنوار ٣١ : ٢٩٣ عن القسم الثاني من تقريب المعارف عن كتاب الدار (للواقدي).

(٣) كما في بحار الأنوار ٣١ : ٢٩٠ المصدر السابق.


فقال : اشهدوا أن لا إله إلّا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، فأجابوه بمثل ما قال. ثم قال : أشهد أن البعث حق ، وأن الجنة حق ، وأن النار حق ، وأقرّ بما جاء من عند الله ، فاشهدوا عليّ بذلك.

فقالوا : نحن على ذلك من الشاهدين. فقال : ليبشّر من مات منكم على هذه الخصال برحمة الله وكرامته ، ما لم يكن للمجرمين ظهيرا ، ولا لأعمال الظلمة مصلحا ، ولا لهم معينا!

أيها الناس ، اجمعوا مع صلاتكم وصومكم غضبا لله عزوجل إذا عصى في الأرض ، ولا ترضوا أئمتكم بسخط الله ، وإذا أحدثوا ما لا تعرفون فجانبوهم ، وازرؤوا عليهم ، وإن عذّبتم وحرمتم وسيّرتم ، حتى يرضى الله عزوجل ، فإن الله أعلى وأجلّ لا ينبغي أن يسخط برضى المخلوقين ، وغفر الله لي ولكم واستودعكم الله وأقرأ عليكم السلام ورحمة الله.

فناداه الناس : أن سلام الله عليك ورحمك يا أبا ذر يا صاحب رسول الله ، ألا نردّك إن كان هؤلاء القوم أخرجوك؟ ألا نمنعك؟

فقال أبو ذر : ارجعوا رحمكم الله ، فإني أصبر منكم على البلوى ، وإياكم والفرقة والاختلاف ، ثم مضى حتى قدم المدينة (١).

حمل أبي ذر إلى عثمان :

ذكر الواقدي في تاريخه (كتاب الدار) بسنده قال : لما ورد الكتاب على معاوية ، حمل أبا ذر على ناقة مسنّة ليس عليها إلّا قتب (خشب)

__________________

(١) أمالي المفيد : ١٦١ ـ ١٦٤ ، م ٢٠ ، الحديث ٤ بسنده عن الثقفي الكوفي (٢٨٣ ه‍) عن ابن صبهان الأزدي الشامي.


وبعث معه دليلا وأمره أن يسرع به (١).

وذكر الثقفي بسنده عن عبد الملك ابن أخ أبي ذر قال : حمله معاوية على ناقة صعبة عليها قتب وما عليه إلّا مسح (جل) وبعث معه من يسيّره سيرا عنيفا.

قال : وخرجت معه ، فما لبث الشيخ إلّا قليلا حتى تقرّح لحم فخذيه مما يلي القتب ، حتى قدمنا المدينة (٢).

قال الراوي : كنت في وقت الضحى مع علي عليه‌السلام في المسجد إذ أتانا رجل فقال : قد قدم المدينة أبو ذر ، فخرجت أعدو فإذا هو شيخ نحيف ، أدم طوال ، أبيض الرأس واللحية ، يمشي متقاربا ، فسلّمت عليه وقلت له : يا عمّ ما لي أراك تخطو خطوا قريبا؟ فقال : هذا عمل ابن عفّان حملني على مركب وعر وأمر بي أن اتعب ، ثم قدم بي إليه ليرى فيّ رأيه (٣).

وقال ابن أخيه عبد الملك الغفاري : بلّغنا عثمان ما لقى أبو ذر من الجهد والوجع ، فحجبه ثلاث جمعات حتى مضى نحو من عشرين يوما وأفاق أبو ذر فأرسل يدعوه ، فاعتمد على يدي حتى دخلنا عليه ، وكان متكئا فاستوى وتمثل شعرا :

لا أنعم الله بعمرو عينا

تحية السخط إذا التقينا (٤)

__________________

(١) كما في بحار الأنوار ٣١ : ٢٩٣ عن القسم الثاني من تقريب المعارف للحلبي عن تاريخ الواقدي.

(٢) كما في بحار الأنوار ٣١ : ٢٩٠ عن القسم الثاني من تقريب المعارف للحلبي عن تاريخ الثقفي.

(٣) كما في بحار الأنوار ٣١ : ٢٩٣ عن القسم الثاني من تقريب المعارف للحلبي عن تاريخ الواقدي.

(٤) كما في بحار الأنوار ٣١ : ٢٩١ عن القسم الثاني من تقريب المعارف للحلبي عن تاريخ الثقفي الكوفي.


وفي خبر المفيد عن الثقفي قال : لما أدخل أبو ذر على عثمان تمثل شعرا : «لا قرّب الله بعمر وعينا» فقال أبو ذر : والله ما سمّاني أبواي عمرا ، ولكن لا قرّب الله من عصاه وخالف أمره وارتكب هواه!

وكان كعب الأحبار حاضرا فقام وقال له : يا شيخ! ألا تتّقي الله تجيب أمير المؤمنين بهذا الكلام؟

وكان أبو ذر يتكئ على عصا فرفعها وضرب بها رأس كعب وقال له : يا ابن اليهوديّين! ما كلامك مع المسلمين! فو الله ما خرجت اليهودية من قلبك بعد!

فقال له عثمان : والله لا جمعتني وإياك دار وقد خرفت وذهب عقلك! أخرجوه (١).

وروى الراوندي عن الصدوق عن القمي بسنده عن عكرمة عن ابن عباس قال : دخل أبو ذر عليلا متوكئا على عصاه على عثمان ، وقد حملت إليه من بعض النواحي مائة ألف درهم فهي بين يديه ، وحوله أصحابه ينظرون إليه ويطمعون أن يقسمها فيهم. فقال أبو ذر لعثمان : ما هذا المال؟

فقال عثمان : مائة ألف درهم حملت إليّ من بعض النواحي اريد أضمّ إليها مثلها ثم أرى فيها رأيي. فقال أبو ذر : يا عثمان ، أيّما أكثر مائة ألف درهم أو أربعة دنانير؟ قال عثمان : بل مائة ألف درهم.

قال : أما تذكر إذ دخلنا أنا وأنت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عشيّا ، فرأيناه كئيبا حزينا ... فلما أصبحنا أتيناه فرأيناه ضاحكا مستبشرا! فقلنا له : بآبائنا وامهاتنا أنت ، دخلنا إليك البارحة فرأيناك كئيبا حزينا ، ثم عدنا إليك اليوم فرأيناك فرحا مستبشرا؟ فقال : نعم ، كان قد بقي عندي من فيء المسلمين أربعة دنانير

__________________

(١) أمالي المفيد : ١٦٤ ، م ٢٠ ، الحديث ٤.


لم أكن قسمتها وقد خفت أن يدركني الموت وهي عندي ، وقد قسمتها اليوم واسترحت منها!

فنظر عثمان إلى كعب الأحبار وقال له : يا أبا إسحاق! ما تقول في رجل أدّى زكاة ماله المفروضة ، هل يجب عليه فيما بعد ذلك شيء؟

فقال كعب : لا ، ولو اتّخذ لبنة من ذهب ولبنة من فضة ما وجب عليه شيء!

فرفع أبو ذر عصاه فضرب بها رأس كعب ثم قال له : يا ابن اليهودية الكافرة ما أنت والنظر في أحكام المسلمين؟ قول الله أصدق من قولك حيث قال : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ* يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ)(١).

فقال عثمان : يا أبا ذر ، إنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك! ولو لا صحبتك لرسول الله لقتلتك! فقال أبو ذر : كذبت يا عثمان! أخبرني حبيبي رسول الله فقال : لا يفتنونك ولا يقتلونك! وأما عقلي فقد بقي منه ما أحفظ به حديثا سمعته من رسول الله فيك وفي قومك! فقال عثمان : وما سمعت من رسول الله فيّ وفي قومي؟

قال : سمعته يقول : إذا بلغ آل أبي العاص ثلاثين رجلا صيّروا مال الله دولا ، وكتاب الله دغلا ، وعباد الله خولا ، والفاسقين حزبا والصالحين حربا!

وكان حول عثمان أصحابه فقال لهم : يا معشر أصحاب محمد (!) هل سمع أحد منكم هذا من رسول الله؟ فقالوا : لا ، ما سمعنا هذا من رسول الله!

فقال عثمان : ادعوا لي عليّا ، فجاء أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقال له عثمان : يا أبا الحسن انظر ما يقول هذا الشيخ الكذّاب! فقال علي عليه‌السلام : مه يا عثمان

__________________

(١) التوبة : ٣٤ ـ ٣٥.


لا تقل كذّاب ، فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ : فقال الصحابة الحضور : صدق أبو ذر ، وقد سمعنا هذا من رسول الله! فعند ذلك بكى أبو ذر وقال لهم : ويلكم ، كلكم قد مدّ عنقه إلى هذا المال! ظننتم أني أكذب على رسول الله! لقد خلّفت حبيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه الجبّة وهو عني راض ، وأنتم قد أحدثتم أحداثا كثيرة ، فالله سائلكم عن ذلك ولا يسألني.

فقال عثمان : يا أبا ذر ، أسألك بحق رسول الله إلّا ما أخبرتني عن شيء أسألك عنه :

فقال أبو ذر : والله لو لم تسألني بحق محمد رسول الله أيضا لأخبرتك.

فقال : أيّ البلاد أحبّ إليك أن تكون فيها؟

فقال : مكة حرم الله أعبد الله فيها حتى يأتيني الموت. فقال : لا ولا كرامة لك!

قال : المدينة حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : لا ، ولا كرامة لك! فسكت أبو ذر.

فقال عثمان : أيّ البلاد أبغض إليك أن تكون فيها؟ قال : الربذة التي كنت فيها على غير دين الإسلام. فقال عثمان : سر إليها. قال أبو ذر : الله أكبر ، قال لي حبيبي رسول الله يوما : يا أبا ذر كيف أنت إذا قيل لك : أيّ البلاد أحبّ إليك أن تكون فيها؟ فتقول : مكة ، فيقال لك : لا ، ولا كرامة لك! فتقول : المدينة ، فيقال لك : لا ، ولا كرامة لك! ثم يقال لك : فأيّ البلاد أبغض إليك؟ فتقول : الربذة ، فيقال لك : سر إليها. فقلت : وإنّ هذا لكائن ، فقال : أي والذي نفسي بيده إنه لكائن. فقلت : يا رسول الله أفلا أضع سيفي على عاتقي فأضرب به قدما قدما؟ قال : لا ، اسمع واسكت ولو لعبد حبشي (١).

__________________

(١) الخبر بطوله في تفسير القمي ١ : ٥١ ـ ٥٣ بلا إسناد ، واختصرنا بعضه ، وصدره بإسناده في قصص الأنبياء للراوندي : ٣٠٦ بتحقيق عرفانيان ، وذيله إنما يدل على التسليم دون الرضا.


تسيير أبي ذر إلى الربذة :

هذا ، وقال اليعقوبي : إنّ أبا ذر بعد تلك الجلسة أقام بالمدينة أياما ، ثم أرسل إليه عثمان وقال له : والله لتخرجنّ عنها! قال : أتخرجني من حرم رسول الله؟ قال :

نعم ، وأنفك راغم! قال : فإلى مكة؟ قال : لا ، قال : فإلى البصرة؟ قال : لا! قال : فإلى الكوفة؟ قال : لا ، ولكن إلى الربذة (١) التي خرجت منها ، حتى تموت بها!

وكان مروان حاضرا فالتفت إليه وقال له : يا مروان! أخرجه ولا تدع أحدا يكلّمه!

فحضر مروان على ناقة ومعه جمل ليحمله وأهله ، وحضر علي عليه‌السلام ومعه الحسنان وعبد الله بن جعفر وعمار بن ياسر ليشيّعوه ، فلما بصر أبو ذر بعليّ عليه‌السلام ومعه الحسنان قام إليه فقبّل يده وبكى وقال : إني إذا رأيتك ورأيت ولدك ذكرت قول رسول الله فيكم فلا أصبر حتى أبكي. فبدأ علي عليه‌السلام يكلمه فقال له مروان وهو على ناقته : إنّ أمير المؤمنين قد نهى أن يكلّمه أحد! فرفع عليّ سوطه وضرب به وجه ناقته وقال له : تنحّ! نحّاك الله إلى النار! فحمل مروان أبا ذر وامرأته وابنته على الجمل وسيّرهم ، فشيّعه علي عليه‌السلام وكلّمه وكلّمه كل واحد منهم (٢).

وقال المسعودي : إن عثمان لما قال لأبي ذر : وار وجهك عنّي ، قال أبو ذر : فأسير إلى مكة؟ قال : لا والله ، قال : فتمنعني عن بيت ربي أعبده فيه حتى أموت؟ قال : إي والله ، قال : فإلى الشام؟ قال : لا والله ، قال البصرة؟ قال : لا والله ، فاختر غير هذه البلدان. قال : لو تركتني في دار هجرتي ما أردت شيئا من البلدان ، ولا والله ما أختار غير ما ذكرت لك ، فسيّرني حيث شئت من البلاد. قال :

__________________

(١) كانت من قرى المدينة على طريق فيد إلى مكة قرب ذات عرق على ثلاثة أميال من المدينة ، كما في مجمع البحرين ٣ : ١٨٠ ، بل على ثلاثة أيام كما في معجم البلدان ٣ : ٢٤.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧٢ وقال : بكلام يطول شرحه.


فإني مسيّرك إلى الربذة. قال : الله أكبر ، صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قد أخبرني بكل ما أنا لاق! قال عثمان : وما قال لك؟ قال : أخبرني بأني أمنع عن مكة والمدينة وأموت بالربذة ويتولّى مواراتي نفر ممن يردون من العراق نحو الحجاز! (فلم يردع ذلك عثمان) بل أمر أن يتجافاه الناس حتى يسير إلى الربذة.

وخرج أبو ذر فبعث إلى جمل له فجيء به فحمل عليه امرأته ـ وقيل : وابنته ـ وحضر مروان يسيّره عنها حتى طلع من المدينة ، فطلع عليه عليّ ومعه ابناه الحسن والحسين وأخوه عقيل وعبد الله بن جعفر وعمار بن ياسر. فاعترض مروان وقال : يا علي ، إنّ أمير المؤمنين قد نهى الناس أن يصحبوا أبا ذر أو يشيّعوه ، فإن كنت لم تدر بذلك فقد أعلمتك!

فحمل عليه عليّ بالسوط وضرب بين اذني راحلته وقال له : تنحّ نحّاك الله إلى النار (١).

ولم يذكر اليعقوبي والمسعودي كلماتهم ، ورواها الكليني في «روضة الكافي» بسنده عن أبي جعفر الخثعمي (٢) ، قال : شيّعه أمير المؤمنين والحسنان عليهم‌السلام وعمار بن ياسر وعقيل ، فلما كان الوداع قال له علي عليه‌السلام : يا أبا ذر ، إنك إنما غضبت لله فارج من غضبت له ، إن القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك ، فأرحلوك عن الفناء ، وامتحنوك بالبلاء ، وو الله لو كانت السماوات والأرض على عبد رتقا ثم اتّقى الله عزوجل جعل له منها مخرجا ، فلا يؤنسك إلّا الحقّ ، ولا يوحشك إلّا الباطل.

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٣٤١ ، وروى الطوسي في الأمالي : ٧١٠ ، م ٤٢ ، الحديث ١٥١٤ عن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري خبرا صدره في محاورة عثمان لأبي ذر في تخيير البلاد ثم حصر منفاه في الربذة ، وسيأتي تمام الخبر.

(٢) ورواه المعتزلي عن الجوهري بسنده عن عكرمة عن ابن عباس عن ذكوان مولى أمّ هانئ وكان حاضرا حافظا ، شرح النهج ٨ : ٢٥٢ ـ ٢٥٣.


ثم تكلم عقيل فقال : يا أبا ذر ، أنت تعلم أنا نحبّك ، ونحن نعلم أنك تحبّنا ، وأنت قد حفظت فينا ما ضيّع الناس إلّا القليل ، ولذلك أخرجك المخرجون وسيّرك المسيّرون ، فثوابك على الله عزوجل. واعلم أن استعفاءك البلاء من الجزع ، واستبطاءك العافية من اليأس! فدع اليأس والجزع وقل : حسبي الله ونعم الوكيل.

ثم تكلّم الحسن عليه‌السلام فقال : يا عمّاه! إن القوم قد أتوا إليك ما ترى ، وإن الله تعالى بالمنظر الأعلى ، فدع عنك ذكر الدنيا بذكر فراقها ، وشدة ما يرد عليك لرخاء ما بعدها ، واصبر حتى تلقى نبيّك وهو عنك راض إن شاء الله.

ثم تكلّم الحسين عليه‌السلام فقال : يا عمّاه! إن الله تبارك وتعالى قادر أن يغيّر ما ترى وهو كل يوم في شأن ، إن القوم منعوك دنياهم ومنعتهم دينك ، فما أغناك عما منعوك وما أحوجهم إلى ما منعتهم ، فعليك بالصبر ، فإن الخير في الصبر من الكرم.

ثم تكلّم عمّار رضى الله عنه فقال : يا أبا ذر ، أوحش الله من أوحشك! وأخاف من أخافك! إنه والله ما منع الناس أن يقولوا الحقّ إلّا الركون إلى الدنيا والحبّ لها! ألا إنّما الطاعة مع الجماعة ، والملك لمن غلب عليه ، وإنّ هؤلاء القوم دعوا الناس إلى دنياهم فأجابوهم إليها ووهبوا لهم دينهم! فخسروا الدنيا والآخرة وهو الخسران المبين.

ثم تكلّم أبو ذر رضى الله عنه فقال : عليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، بأبي وأمي هذه الوجوه ، فإني إذا رأيتكم ذكرت رسول الله بكم ، ومالي بالمدينة شجن ولا سكن غيركم ، وإنه ثقل على عثمان جواري بالمدينة كما ثقل على معاوية بالشام ، فآلى أن يسيّرني إلى بلدة فطلبت إليه أن يكون ذلك إلى الكوفة فزعم أنه يخاف أن أفسد على أخيه (١) الناس بالكوفة وآلى بالله أن يسيّرني إلى بلدة لا أرى فيها أنيسا ،

__________________

(١) يعني الوليد بن عقبة أخا عثمان لامّه.


ولا أسمع بها حسيسا ، وإني والله ما اريد إلّا الله عزوجل صاحبا ، ومالي مع الله من وحشة ، حسبي الله لا إله إلّا هو عليه توكلت وهو ربّ العرش العظيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين (١).

وجاء مختصره في خبر المفيد عن الثقفي قال : قال عثمان : أخرجوه من بين يديّ حتى تركبوه قتب ناقته بغير وطاء ثم انخسوا به وتعتعوه حتى توصلوه الربذة ، فنزّلوه بها من غير أنيس ، حتى يقضى الله ما هو قاض! ولا يشيّعه أحد من الناس!

فأخرجوه بالعصي متعتعا.

وبلغ ذلك أمير المؤمنين عليا عليه‌السلام فبكى حتى بلّ لحيته بدموعه وقال : أهكذا يصنع بصاحب رسول الله؟! إنا لله وإنا إليه راجعون. ثم اجتمع إليه أبناء عمه العباس : الفضل وقثم وعبد الله وعبيد الله (كذا) فنهض ومعه الحسنان حتى لحقوا أبا ذر فشيّعوه ، وبكى أبو ذر وقال : بأبي وجوها إذا رأيتها ذكرت بها رسول الله وشملتني البركة برؤيتها ، ثم رفع يديه وقال :

اللهم إني احبّهم ولو قطّعت إربا إربا في محبّتهم ما زلت عنها ابتغاء وجهك والدار الآخرة. ثم قال لهم : ارجعوا رحمكم الله ، والله أسأل أن يخلفني فيكم أحسن الخلافة.

فودّعه القوم ورجعوا باكين لفراقه (٢).

__________________

(١) روضة الكافي : ١٧٥ ، الحديث ٢٥١ ، وروى الرضيّ شطرا منه في نهج البلاغة الخطبة ١٣٠. هذا ولم يذكر معهم المقداد فلعلّه لأنه كان يعيش بداره بالجرف على فرسخ من المدينة ، كما في أنساب الأشراف ١ : ٢٠٥.

(٢) أمالي المفيد : ١٦٤ ـ ١٦٥ ، م ٢٠ ، الحديث ٤. هذا ولو كان ابن عباس حاضرا لما كان يروى كلماتهم عن ذكوان مولى أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها كما مرّ في الحاشية.


عثمان وعلي عليه‌السلام :

وروى الخبر السابق المعتزلي عن الجوهري بسنده عن ابن عباس وزاد : أن مروان رفع ذلك إلى عثمان ، فأرسل عثمان على علي عليه‌السلام فقال له : ما حملك على ردّ رسولي وتصغير أمري؟ فقال علي عليه‌السلام : أما رسولك فأراد أن يردّ وجهي فرددته ، وأ ما أمرك فلم اصغّره ، فقال عثمان : أما بلغك نهيي عن كلام أبي ذر؟ قال : أو كلّما أمرت بأمر معصية أطعناك فيه؟ قال عثمان : أفقد مروان من نفسك! قال : من ما ذا؟ قال : من شتمه وجذب راحلته ، قال : أما راحلته فراحلتي بها ، وأما شتمه إيّاي ؛ فو الله لا يشتمني شتمة إلّا شتمتك مثلها لا أكذب عليك! قال عثمان : ولم لا يشتمك؟ كأنك خير منه؟ قال علي عليه‌السلام : إي والله ومنك؟ ثم قام وخرج.

فأرسل عثمان إلى وجوه المهاجرين والأنصار يشكو إليهم عليا عليه‌السلام ، فأتوا عليا عليه‌السلام وقالوا له : لو أتيت إلى مروان واعتذرت إليه! فقال : أما مروان فلا آتيه ولا أعتذر منه ، وأما عثمان فإن أحبّ أتيته. فرجعوا إلى عثمان فأخبروه ، فقبل عثمان وأخبروا عليا ، فأتاه بنو هاشم فأتى معهم إلى عثمان.

وتكلّم علي عليه‌السلام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما ما وجدت عليّ فيه من كلام أبي ذر ووداعه فو الله ما أردت مساءتك ولا الخلاف عليك ، ولكن أردت به قضاء حقّه. وأما مروان فإنه اعترض يريد ردّي عن قضاء حقّ الله عزوجل فرددته ردّ مثلي مثله ، وأما ما كان منّي إليك فإنك أغضبتني فأخرج الغضب منّي ما لم أرده.

فتكلّم عثمان فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما ما كان منك إليّ فقد وهبته لك ، وأمّا ما كان منك إلى مروان فقد عفا الله عنك ، وأما ما حلفت عليه فأنت الصادق البرّ ، فأدن يدك ، ومدّ يده إليه فأخذ بيده (١).

__________________

(١) شرح النهج (للمعتزلي) ٨ : ٢٥٤ ـ ٢٥٥ ، والراوي ابن عباس ولم ينصّ على حضوره مع بني هاشم ، وروى الخبر المسعودي في مروج الذهب ٢ : ٣٤١ ـ ٣٤٢ مرسلا مختصرا.


أبو ذر وعثمان وعلي عليه‌السلام :

روى الطوسي بسنده عن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري : أن أبا ذرّ أقام مدة بالرّبذة ثم أتى إلى المدينة ، فدخل على عثمان والناس عنده سماطين ، فقال : يا أمير المؤمنين! إنك أخرجتني من أرضي إلى أرض ليس بها زرع ولا ضرع إلّا. شويهات ، وليس لي خادم إلّا الحرّة (امرأته) ولا ظل يظلّني إلّا شجرة ، فأعطني خادما وشويهات أعيش بها.

فحوّل عنه وجهه! فتحول عنه إلى السماط الآخر وقال قوله ، فقال له حبيب بن مسلمة الفهري (؟!) : يا أبا ذر ، لك عندي خادم وخمسمائة شاة وألف درهم! فقال له أبو ذر : أنا إنما أسأل حقّي في كتاب الله ، أعط خادمك وألفك وشويهاتك من هو أحوج إليها مني.

وجاء علي عليه‌السلام ، فقال له عثمان : ألا تغني عنّا سفيهك هذا؟ يعني أبا ذر!

فقال علي عليه‌السلام : إنه ليس بسفيه ، فلقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «ما أظلّت الخضراء ...» فأنزله بمنزلة مؤمن آل فرعون : (إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ)(١) فقال له عثمان : بفيك التراب! فقال علي عليه‌السلام : بل بفيك التراب (٢) ؛ انشد بالله من سمع رسول الله يقول ذلك

__________________

(١) غافر : الآية ٢٨.

(٢) نقل مثله قبله المرتضى في الشافي ٤ : ١٦٦ وتلخيصه ٤ : ١١٨ عن الواقدي ، وقال بعد الآية : فأجابه عثمان بجواب غليظ لم احب ذكره فأجابه عليه‌السلام بمثله. ونقله المعتزلي في شرح النهج ٨ : ٢٥٩ عن الواقدي ، وقال : ولم نذكر الجوابين تذمّما منهما ، وليس عن الشافي. ونقل المجلسي الخبر عنهما والجواب الغليظ عن تقريب المعارف للحلبي ، كما في بحار الأنوار ٣١ : ٢٤٦.


لأبي ذر؟ وكان أبو هريرة حاضرا فقام وشهد به ، وقام معه عشرة آخرون فشهدوا بذلك (١).

عثمان يشكو عليا عليه‌السلام :

وعند العشاء طرق على العباس بن عبد المطلب وهو يتعشى مع رجال أهله فدخل الخادم وقال : هذا أمير المؤمنين بالباب ، ودخل وجلس ، فلما فرغوا من العشاء قام الآخرون وبقي العباس وابنه عبد الله ـ وهو الراوي ـ قال : فتكلّم عثمان وقال لأبي :

يا خال ، أشكو إليك ابن أخيك ـ يعني عليا عليه‌السلام ـ فإنه أكثر من شتمي ونطق في عرضي ، وأنا أعوذ بالله من ظلمكم بني عبد المطلب ، إن يكن هذا الأمر لكم فقد سلّمتموه إلى من هو أبعد مني ، وإن لا يكن لكم فقد أخذت حقي.

فتكلّم العباس فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذكر ما خصّ الله به قريشا عامة وما خصّ به بني عبد المطلب خاصة ثم قال : وبعد فما حمدتك لابن أخي ولا حمدت ابن أخي فيك (!) ولكن ما هو وحده ولقد نطق غيره ، فلو إنك هبطت مما صعدت وصعدوا مما هبطوا لكان ذلك أقرب.

فقال له عثمان : يا خال ، أنت وذلك فقال : أفلا نكلّم بذلك عنك؟ قال : نعم أعطهم عنّي ما شئت! وقام وخرج ولكن لم يلبث أن رجع فوقف وسلّم وقال : يا خال ، لا تعجل بشيء حتى أعود إليك!

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٧١٠ ، م ٤٢ ، الحديث ١٥١٤ وعنه في بحار الأنوار ٢٢ : ٤٠٤ ، الحديث ١٥ واستغنى عن ذيله ووعد باتمامه في كتاب الفتن ولم يأت به فيه ، وإنما نقل القول عن تقريب المعارف للحلبي كما مرّ.


فاستقبل العباس القبلة ورفع يديه وقال : اللهم اسبق بي ما لا خير لي في إدراكه! فما مرّت جمعة حتى مات (١) لأربع عشرة من شهر رجب الحرام عام (٣٢ ه‍) (٢).

وأبو ذر في الربذة :

كان عثمان قد حرم أبا ذر عطاءه من بيت المال ، ومرّ في خبر الطوسي أنه رجع من الربذة يطالبه حقه من عثمان فلم يسعفه بطلبه ، وعرض بعضهم عليه إبلا وغنما كثيرا فأبى إلّا حقّه ، ثم ليس في الخبر شيء عمّا كان يعيش به أبو ذر في الربذة.

وجاء ذلك في خبر في «الكافي» عن الصادق عليه‌السلام : أنه كانت له نويقات وشويهات يحلبها ويذبح منها إذا اشتهى أهله اللحم ، أو نزل به ضيف ، أو رأى بأهل الماء الذين معه خصاصة ، نحر لهم الجزور أو من الشياه على قدر ما يذهب عنهم بقرم (٣) اللحم فيقسمه بينهم ويأخذ هو كنصيب واحد منهم لا يتفضّل عليهم (٤).

وروى الصدوق في «معاني الأخبار» خبرا عن نعيم بن قعنب أنه كان من زوّاره في الرّبذة ، قال : أتيت الربذة فالتمست أبا ذر فقالت لي امرأة أو امرأته : ذهب يمتهن لأهله ، وإذا به قد أقبل وأمامه ناقتان في عنق كل واحدة قربة ماء ، فقمت إليه وسلمت عليه ، ودخل منزله ... ثم جاء بطبق فيه طير كالقطاة مطبوخ أو مشويّ فقدّمها لي وقال : كل وصلّ ركعتين ثم أكل معي (٥).

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٧١٠ ، م ٤٢ ، الحديث ١٥١٥. ولعله عن الموفّقيات ، كما عنه في شرح النهج للمعتزلي ٩ : ١٣ ، وفي أنساب الأشراف ٥ : ١٣.

(٢) الدرجات الرفيعة : ٩٩ ، وذكر السنة في التنبيه والإشراف : ٢٥٥ وله (٨٨) عاما.

(٣) القرم : شهوة اللحم.

(٤) فروع الكافي ٥ : ٦٨ ، وجاء في تحف العقول : ٢٥٨.

(٥) معاني الأخبار : ٣٠٥ مختصرا.


ولعلّ هذا كان بعد وفاة ابنه ذرّ ، الذي ليس فيما بأيدينا أيّ خبر عنه سوى ما أسنده ابن قتيبة (م ٢٧٦ ه‍) عن عمر بن جرير المهاجري قال : لما واراه التراب وقف على قبره وقال :

رحمك الله يا ذرّ ، ما علينا بعدك من خصاصة ، وما بنا إلى أحد مع الله حاجة ، وما يسّرني أني كنت المقدّم قبلك ، ولو لا هول المطّلع لتمنّيت أن أكون مكانك ، لقد شغلني الحزن لك عن الحزن عليك ، فيا ليت شعري ما ذا قلت وما قيل لك؟

ثم رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهم إني قد وهبت حقي في ما بيني وبينه له ، فهب حقك فيما بينك وبينه له (١) أو قال : اللهم إنك قد فرضت لك عليه حقوقا وفرضت لي عليه حقوقا ، فإني قد وهبت له ما فرضت لي عليه من حقوقي ، فهب له ما فرضت عليه من حقوقك فإنك أولى بالحق وأكرم منّي (٢) أو فإنك أحقّ بالجود مني. وزاد في صدره عنه : مسح القبر بيده وقال : والله إن كنت بي بارّا ، ولقد قبضت وإني عنك لراض (٣).

وقال القمي بعدها : وكانت لأبي ذر غنيمات يعيش هو وعياله منها ، فأصابها داء يقال له النقّاب فماتت كلّها ... وماتت أهله.

ثم نقل عن ابنته (ذرّة) قالت : بقينا ثلاثة أيام لم نأكل شيئا وأصابنا الجوع ، فقال لي أبي : يا بنيّة قومي بنا إلى الرمل نطلب القتّ ـ وهو نبت له حبّ (٤) ـ فصرنا إلى الرمل فلم نجد شيئا.

__________________

(١) عيون الأخبار ٢ : ٣١٣.

(٢) تفسير القمي ١ : ٢٩٥ مرفوعا.

(٣) فروع الكافي ٣ : ١٢٥ عن القمي مرفوعا عن غير تفسيره مختلفا عمّا فيه كما ترى.

(٤) عن الأزهري : القت : حبّ برّيّ خشن ، فإن فقد أهل البادية ما يقتاتون به دقّوه وطبخوه واكتفوا به على ما فيه من الخشونة. مجمع البحرين ٢ : ٢١٤.


فجمع أبي رملا ووضع رأسه عليه ، ورأيت عينه قد انقلبت ـ من شدة الجوع ـ فبكيت وقلت له : يا أبت كيف أصنع بك وأنا وحيدة.

فقال : يا بنيّة ، لا تخافي ، فإني إذا متّ جاءك من أهل العراق من يكفيك أمري ، فإنه أخبرني حبيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في غزوة تبوك فقال : «يا أبا ذر تعيش وحدك وتموت وحدك وتبعث وحدك وتدخل الجنة وحدك ، ويسعد بك أقوام من أهل العراق يتولون غسلك وتجهيزك ودفنك» فإذا أنا متّ فمدّي الكساء على وجهي ، ثم اقعدي على طريق العراق ، فإذا أقبل ركب فقومي إليهم وقولي : هذا أبو ذر صاحب رسول الله قد توفى ... فلما عاين الموت سمعته يقول : مرحبا بحبيب أتى على فاقة ، لا أفلح من ندم ، اللهم خنقني خناقك فإنك تعلم أني أحبّ لقاءك. ثم مات ، فمددت عليه الكساء ثم قمت فقعدت على طريق العراق ، فجاء نفر ، فقمت إليهم وقلت لهم : يا معشر المسلمين! هذا أبو ذر صاحب رسول الله قد توفى! وكان فيهم الأشتر مالك بن الحارث النخعي الهمداني.

فنزلوا ومشوا يبكون حتى غسلوه وكفّنوه وصلّوا عليه ودفنوه (١).

هذا ما رفعه القمي في تفسيره بينما أسند معاصره الكشيّ في رجاله عن محمد بن الأسود النخعي أنه خرج من الكوفة يريد الحج مع مالك الأشتر النخعي ومعه رفاعة بن شدّاد البجلي وعبد الله بن وال التميمي (عام ٣٢ ه‍) قال : حتى قدمنا الربذة ، فإذا امرأة على قارعة الطريق نادتنا : يا عباد الله المسلمين ، هذا أبو ذر صاحب رسول الله قد هلك غريبا ليس له أحد يعينني عليه! فاسترجعنا لعظم المصيبة ، وتعاونّا على غسله وتنافسنا في كفنه ثم قدّمنا مالك الأشتر فصلّى عليه ثم دفناه ، فقام الأشتر على قبره وقال :

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٢٩٥ ـ ٢٩٦.


اللهم هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عبدك في العابدين ، وجاهد فيك المشركين ، لم يغيّر ولم يبدّل ، لكنّه رأى منكرا فغيّره بلسانه وقلبه حتى جفي ونفي وحرم واحتقر ، ثم مات وحيدا غريبا! اللهم فاقصم من حرمه ونفاه من مهاجره حرم الله وحرم رسوله! فرفعنا أيدينا جميعا وقلنا : آمين (١) وكان ذلك سنة (٣٢ ه‍) (٢).

عثمان وبيت المال :

قال أبو مخنف : كان على بيت المال لعثمان عبد الله بن الأرقم ، ففي أوائل عهده لمّا أراد مائة ألف درهم منه كتب ابن الأرقم عليه كتابا بها حقا للمسلمين وأشهد عليه عليا عليه‌السلام والزبير وطلحة وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر.

فلمّا حلّ الأجل (جعل عثمان يدافع ابن الأرقم ويقول له : يكون إن شاء الله فنعطيك) (٣).

ثم إن عبد الله بن خالد بن اسيد ومعه ناس قدموا عليه من مكة يريدون الغزو (فزوّج عثمان ابنته من عبد الله بن خالد وأمر له بستمائة ألف درهم) (٤)

__________________

(١) رجال الكشي : ٦٥ ـ ٦٦ ، الحديث ١١٨ ، وعليه تكون الميتة قبله ابنته والمنادية امرأته ، وفي الخبر أنها كانت قد أعدّت لهم شاة ، وهذا خلاف السابق أيضا. والسابق في هذا أقرب وأنسب.

(٢) تاريخ خليفة : ٩٧ ، والدرجات الرفيعة : ٢٥٤ وكان في موسم الحج ، ونفيه قبل شهر رجب ووفاة العباس. وانظر بشأن أبي ذر وعثمان ، الغدير ٨ : ٢٩٢ ـ ٣٢٣.

(٣) من اليعقوبي ٢ : ١٦٨.

(٤) من اليعقوبي ٢ : ١٦٨.


أو لعبد الله بثلاثمائة ألف ، ولكل رجل ممن معه بمائة ألف ، وصكّ بذلك إلى ابن الأرقم ، فاستكثره وردّ الصك (١) وقال له : اكتب بها عليك صكّا للمسلمين؟!

فقال له عثمان : وما أنت وذاك؟! لا أمّ لك! إنما أنت خازن لنا!

فلما سمع عبد الله ابن الأرقم (٢) ذلك خرج مبادرا إلى الناس وقال لهم : أيها الناس! عليكم بما لكم ، فإني ظننت أنّي خازنكم ، ولم أعلم أني خازن عثمان بن عفّان حتى اليوم (٣).

وبلغ ذلك عثمان فخرج إلى المسجد ورقا المنبر وقال :

أيها الناس! إنّ أبا بكر كان يؤثر بني تيم على الناس ، وإن عمر كان يؤثر بني عديّ على الناس ، وإني والله اوثر بني أميّة على من سواهم! ولو كنت جالسا بباب الجنة ثم استطعت أن أدخل الجنة جميع بني أميّة لفعلت! وإن هذا المال لنا! فإن احتجنا إليه أخذناه وإن رغم أنف أقوام!

وكان عمّار بن ياسر حاضرا فقام والتفت إلى الناس وقال لهم :

معاشر المسلمين ، اشهدوا أن ذلك مرغم لي!

فقال له عثمان : وأنت هاهنا! ثم نزل من المنبر وجعل يرفسه برجله حتى غشي عليه!

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ : ٥٨ ، وانظر الغدير ٨ : ٢٧٦ ـ ٢٧٧.

(٢) كذا في نصوص الأخبار ، وفي أمالي المفيد : الأرقم بن عبد الله ، وفي شرح النهج للمعتزلي ١ : ١٩٩ : زيد بن الأرقم ، وهما وهم.

(٣) وقال اليعقوبي ٢ : ١٦٩ : وجاء بالمفتاح يوم الجمعة وعثمان يخطب فوقف وقال : أيها الناس ، زعم عثمان أني خازن له ولأهل بيته ، وإنما كنت خازنا للمسلمين ، وهذه مفاتيح بيت مالكم ، ورمى بها. فأخذها عثمان ودفعها إلى زيد بن ثابت.


فأعظم الناس ذلك ، واحتمل إلى بيت أمّ سلمة (المخزومية) فبقى مغمى عليه الظهر والعصر والمغرب ، لم يصلّ فلما أفاق قال : الحمد لله ، فقديما اوذيت في الله ، وأنا احتسب ما أصابني في جنب الله العدل الكريم يوم القيامة بيني وبين عثمان!

وبلغ عثمان أن عمارا عند أمّ سلمة ويعوده الناس فأرسل إليها يقول : ما هذه الجماعة في بيتك مع هذا الفاجر! أخرجيهم من عندك!

فقالت : والله ما عندنا مع عمّار إلّا بنتاه! فاجتنبنا يا عثمان ، واجعل سطوتك حيث شئت ، وهذا صاحب رسول الله يجود بنفسه من فعالك به!

ثم ندم عثمان على ما صنع ، فبعث إلى طلحة والزبير فسألهما أن يأتيا عمارا فيسألاه أن يستغفر لعثمان! فأتياه وسألاه ذلك فأبى عليهما ، فرجعا إليه فأخبراه.

فقال عثمان : من حكم الله يا بني أميّة يا فراش النار وذباب الطمع! شنّعتم عليّ وألّبتم عليّ أصحاب رسول الله!

عثمان وعمّار وناعي أبي ذر :

قال : ثم إنّ عمارا صلح من مرضه ، فخرج إلى مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فبينما هو كذلك إذ دخل ناعي أبي ذر من الربذة ، فوقف على عثمان وقال له : إن أبا ذرّ مات بالربذة وحيدا ، ودفنه قوم مسافرون! فاسترجع عثمان وقال : رحمه‌الله! فقال عمار : رحم الله أبا ذر من كل أنفسنا! فقال له عثمان : وإنك لها هنا بعد يا عاضّ أير أبيه! أتراني ندمت على تسييري إياه؟! قال عمار : لا والله ما أظنّ ذاك. قال عثمان : وأنت أيضا فألحق بالمكان الذي كان فيه أبو ذر فلا تبرحه ما حيينا! فقال عمّار : افعل ، والله لمجاورة السباع أحبّ إليّ من مجاورتك! وخرج يتهيأ للخروج!


وجاءت بنو مخزوم إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام فسألوه أن يقوم معهم إلى عثمان يستنزله عن تسيير عمار ، فقام معهم وسأله فيه ورفق به حتى أجابه (١).

كذا نقل المفيد الخبر مسندا عن الثقفي بسنده عن أبي يحيى مولى معاذ بن عفراء الأنصاري ، في حين قال اليعقوبي : فاجتمعت بنو مخزوم إلى عليّ بن أبي طالب ، وسألوه إعانتهم ، فقال عليّ : لا ندع عثمان ورأيه! فجلس عمّار في بيته ، وبلغ عثمان ما تكلم به بنو مخزوم فأمسك عن عمار (٢).

وتوفّي ابن عوف :

روى المعتزلي عن الواقدي بروايته قال : لما توفي أبو ذر قال علي عليه‌السلام لابن عوف : هذا عملك! فقال ابن عوف : إنه خالف ما أعطاني فإذا شئت فخذ سيفك وآخذ سيفي (٣).

وحلف ألّا يكلم عثمان أبدا (٤) حتى أنه لما كان في مرض موته وعاده عثمان تحوّل عنه إلى الجدار ولم يكلمه (٥).

__________________

(١) أمالي المفيد : ٦٩ ، م ٨ ، الحديث ٥ بسنده عن الثقفي عن أبي يحيى الأعرج المعرقب ، الذي عرقبه الحجّاج لامتناعه عن سبّ علي عليه‌السلام ، مولى معاذ بن عفراء الأنصاري الخزرجي.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧٣.

(٣) شرح النهج (للمعتزلي) ٣ : ٢٨ عن الواقدي ، وفي بحار الأنوار ٣١ : ٣٠٠. عن ق ٢ تقريب المعارف عن تاريخ الثقفي.

(٤) شرح النهج (للمعتزلي) ٣ : ٢٨.

(٥) أنساب الأشراف ٥ : ٥٧.


ثم قال لهم : عاجلوه قبل أن يتمادى في ملكه (١) فبلغ ذلك عثمان فبعث على بئر لابن عوف كان يستقى منه لنعمه فمنعه منها! فوصّى ابن عوف أن لا يصلّي عليه عثمان ، فصلّى عليه ابن عمّه سعد بن أبي وقاص الزهريّ أو الزبير (٢) وذلك عام (٣٢ ه‍) (٣) وله (٧٥) سنة وقسّم ميراثه على ستة عشر سهما فبلغ نصيب كل امرأة له ثمانين ألف درهم ، وكان رجلا طويلا فيه انحناء أبيض مشرّبا بحمرة ، أعين أقنى أعنق ضخم الكفّين غليظ الأصابع طويل الثنيّتين حتى كان يدمى شفتيه كثيرا. وكان به برص فرخّص له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لذلك في لبس الحرير (٤) أو لأنه كان قملا (٥).

وفاة ابن مسعود والمقداد :

قال اليعقوبي : واعتلّ ابن مسعود فأتاه عثمان يعوده ومعه عطاؤه الذي منعه من بيت المال ، فقال له : ما كلام بلغني عنك؟ قال : إنك أمرت بي فوطئ جوفي فلم أعقل صلاة الظهر ولا العصر! ومنعتني عطائي! فذكرت الذي فعلته بي.

قال : فإني أقيدك من نفسي ، فافعل بي مثل الذي فعل بك!

قال : ما كنت بالذي أفتح القصاص على الخلفاء! قال : فهذا عطاؤك فخذه!

__________________

(١) كما في بحار الأنوار ٣١ : ٣٠٠ عن ق ٢ من تقريب المعارف عن تاريخ الواقدي.

(٢) شرح النهج (للمعتزلي) ٣ : ٢٨ ، وأوصى أن يدفن سرّا كيلا يصلّي عليه عثمان ، كما في بحار الأنوار ٣١ : ٣٠٠ عن ق ٢ من تقريب المعارف عن الثقفي.

(٣) تاريخ خليفة : ٩٧ ، والتنبيه والإشراف : ٢٥٥ ، وله (٧٥) عاما.

(٤) المعارف (لابن قتيبة) : ٢٣٥ ـ ٢٣٦ ، ونحوه في سنن أبي داود ٤ : ٥٠.

(٥) كما في كتاب من لا يحضره الفقيه ١ : ٢٥٣.


فقال : منعتنيه وأنا محتاج إليه وتعطينيه وأنا غنيّ عنه؟ لا حاجة لي به! فقام وخرج.

وأقام ابن مسعود مغاضبا لعثمان ، حتى أوصى إلى عمّار بن ياسر أن يصلّي عليه ولا يخبر به عثمان ولما توفى كان عثمان غائبا (ولعلّه كان في الحج) فصلّى عليه عمار وستر أمره ، فلما رجع عثمان رأى القبر فسأل عنه فقيل : هو قبر عبد الله بن مسعود ، ولى أمره عمار بن ياسر وذكر أنه أوصى أن لا يخبر به.

ثم لم يمض إلّا يسيرا حتى مات المقداد بن الأسود الكندي في منزله بالجرف وحمل إلى بقيع المدينة وكان قد أوصى إلى عمار أيضا فصلّى عليه عمّار ولم يخبر به عثمان ، وبلغه ذلك فقال : ويلي على ابن السوداء! أما لقد كنت به عليما وغضب عليه (١).

وكانت وفاة ابن مسعود في عام (٣٢ ه‍) (٢) وكان رجلا نحيفا قصيرا يكاد الجلوس يوارونه ، آدم شديد الأدمة ، وكان لا يغيّر شيبه. وكان له أبناء ثلاثة وأخوه عتبة (٣).

وكان المقداد رجلا طويلا طوال آدم ، كثير شعر الرأس ، مقرونا أعين أقنى ، يصفرّ لحيته ، بطينا (٤) وكان يشكو من بطنه فشرب دهن الخروع ـ نبات ـ فمات (٥) عام (٣٣ ه‍) (٦) ولعله أوائله وله سبعون عاما (٧).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧٠ ـ ١٧١.

(٢) تاريخ خليفة : ٩٧ ، والتنبيه والإشراف : ٢٥٥.

(٣) المعارف (لابن قتيبة) : ٢٤٩.

(٤) المعارف (لابن قتيبة) : ٢٦٢.

(٥) ذيل المذيّل (للطبري) : ٤٩٧ و٥٠٦.

(٦) تاريخ خليفة : ٩٨.

(٧) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٤٥.


وثبة الصحابة في المدينة :

جاء في «الإمامة والسياسة» لابن قتيبة قال : ذكروا أنه اجتمع عشرة من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتذاكروا ما خالف فيه عثمان من سنّة رسول الله ، وسنّة صاحبيه ، من إفشائه العمل والولايات في أهله وبني عمّه من بني اميّة : أحداث وغلمان لا صحبة لهم من رسول الله ، ولا تجربة لهم في الامور.

وإدراره القطائع والأرزاق والأعطيات على أقوام بالمدينة ليست لهم صحبة من النبيّ ولا يغزون ولا يذبّون.

وتركه المهاجرين والأنصار لا يستعملهم على شيء ولا يستشيرهم ، واستغنى برأيه عنهم.

وتجاوزه الخيزران والدرّة ـ وإنما كان ضرب الخليفتين قبله بهما ـ إلى السوط ، فهو أول من ضرب ظهور الناس بالسياط في غير الحدود.

وتطاوله في البنيان حتى بنى سبع دور لأهله نائلة وغيرها وبناته عائشة وغيرها.

والحمى الذي حماه حول المدينة لإبله وإبل الصدقة.

وما كان من هبة خمس إفريقية لمروان وفيه سهم الله ورسوله وذوي القربى ويتاماهم ومساكينهم.

وبنيان مروان القصور وعمارة الأموال بذي خشب وغيره من خمس الله ورسوله.

وما كان من الوليد بن عقبة بالكوفة وهو أمير عليها فصلّى بهم الصبح وهو سكران أربع ركعات ثم قال لهم : إن شئتم أزيدكم صلاة زدتكم؟ وتأخير عثمان إقامة الحدّ عليه وهو اخوه لامه!


ثم كتب هؤلاء هذه المخالفات لعثمان في كتاب إليه ، وتعاهدوا ليدفعنّ الكتاب إليه ، ودفعوا الكتاب إلى عمّار بن ياسر ، فلما خرجوا ليدفعوه إليه وكان يوما شاتيا أخذوا يتسلّلون عنه حتى تركوه وحده!

وبلغ عمار دار عثمان فوقف واستأذن فأذن له ، فدخل عليه وعنده مروان وأهله من بني أميّة ، فدفع الكتاب إليه.

فقرأه ، فقال له : أنت كتبت هذا الكتاب؟ قال : نعم ، قال : ومن كان معك؟ قال : كان معي نفر تفرّقوا فرقا منك! قال : من هم؟ قال : لا اخبرك بهم! قال : فلم اجترأت عليّ من بينهم؟

فقال مروان : يا أمير المؤمنين ـ وأشار إلى عمار ـ : إن هذا العبد الأسود! قد جرّأ عليك الناس ، وإنك إن قتلته نكلت به من وراءه (١).

فقال عثمان لعمّار : أعليّ تقدم من بينهم؟ قال : لأني أنصحهم لك! قال : كذبت يا ابن سمية! قال : أنا والله ابن ياسر وأنا ابن سمية! فأمر عثمان الغلمان أن يمدّوه ، فمدّوه ، وهو شيخ كبير ، وقام إليه عثمان يضربه بخفيه في رجليه على مذاكيره ، فأصابه الفتق وغشي عليه (٢).

ثم جرّوه حتى طرحوه على باب الدار ، فأمرت أمّ سلمة زوج النبي من حمله إلى منزلها ، وكان عمار حليف بني مخزوم فغضبوا له. فلما خرج عثمان لصلاة الظهر عرض له هشام بن المغيرة فقال : أما والله لئن مات عمار من ضربه

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ٣٢ ـ ٣٣ ، وانظر الجمل : ١٨٥ ومصادره في الهامش ، وفي الطبري ٤ : ٣٦٩ عن ابن إسحاق عن ابن الزبير : أن أهل المدينة كتبوا إلى عثمان يحتجّون عليه ويقسمون أنهم لا يمسكون عنه حتى يعطيهم ما يلزمه من الحق أو يقتلوه.

(٢) الشافي وتلخيصه ٤ : ١١٢.


هذا لأقتلنّ به رجلا عظيما من بني أميّة! فقال له عثمان : لست هناك (١)! وشتمه عثمان وأمر الغلمان فدفعوه (٢)!

واتّخذ عمار لفتقه ثوبا تحت ثيابه ، فكان أول من لبس ذلك ، ولزم داره (٣).

وعن أبي كعب الحارثي اليمني قال : دخلت المدينة على عثمان بن عفان وهو يومئذ الخليفة وإذا هو جالس وحوله نفر سكوت لا يتكلّمون ، فسلمت وجلست ، فبينا نحن كذلك إذ جاء نفر فقالوا له : إنه أبى أن يجيء! فغضب عثمان وقال : اذهبوا فجيئوا به فإن أبى فجرّوه جرّا! فذهبوا.

وبعد قليل جاءوا ومعهم رجل طويل أصلع آدم في مقدم رأسه وقفاه شعرات ، وإذا هو عمار بن ياسر ، فقال له عثمان : تأتيك رسلنا فتأبى أن تجيء؟ فكلّمه بكلام ثم خرج ، وأخذ القوم ينفضّون عنه ، وقام فتبعته حتى دخل المسجد ، فإذا عمار جالس إلى سارية من سواري المسجد وحوله نفر من الصحابة يبكون ، فقال عثمان لمولاه : يا وثّاب (٤) ، عليّ بالشرط ، فجاءوا فقال لهم : فرّقوا هؤلاء ، ففرّقوهم.

ثم اقيمت الصلاة فتقدم عثمان للصلاة فلما كبّر صاحت عائشة : يا أيها الناس ... تركتم أمر الله وخالفتم عهده ، ونحو هذا ثم سكتت ، ثم تكلمت امرأة اخرى بمثل ذلك ، فإذا هي حفصة.

فسلّم عثمان وأقبل على الناس وقال : إن هاتين لفتّانتان يحلّ لي سبّهما!

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ٣٣.

(٢) الشافي ٤ وتلخيصه ٤ : ١١٠.

(٣) الدرجات الرفيعة : ٢٦٣.

(٤) وكان من عتقاء عمر ، كما في الطبري ٤ : ٣٧١.


فقال سعد بن أبي وقاص : أتقول هذا لحبائب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟!

فقال له عثمان : وفيم أنت وما هاهنا؟ ثم توجه إليه ليضربه ، فانسلّ منه! فاتّبعه عثمان ليضربه ، فلقي عليا عليه‌السلام بباب المسجد ، فقال له : أين تريد؟ قال : أريد هذا الذي ... وشتمه! فقال عليّ عليه‌السلام : أيها الرجل دع عنك هذا! وطال كلامهما حتى قال عثمان له : الست الذي خلّفك رسول الله يوم تبوك؟ فقال علي : ألست الفارّ عن رسول الله يوم احد؟ ثم حجز الناس بينهما!

ثم خرجت من المدينة إلى الكوفة فوجدت أهلها قد ردّوا سعيد بن العاص فلم يدعوه يدخل إليها (١).

واجتمع الناس إلى علي عليه‌السلام :

روى الواقدي بسنده قال : في سنة (٣٤ ه‍) نال الناس من عثمان وأكثروا عليه أقبح ما نيل من أحد ، يراهم ويسمعهم أصحاب رسول الله ولا ينهونهم ، واجتمعوا إلى علي بن أبي طالب وكلّموه فيه.

فدخل على عثمان وقال له : الناس ورائي ، وقد كلّموني فيك. والله ما أدري ما أقول لك ، وما أعرف شيئا تجهله ، ولا أدلك على أمر لا تعرفه ، إنك لتعلم ما نعلم ، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه ، ولا خلونا بشيء فنبلّغكه ، وما خصصنا بأمر دونك فقد رأيت وسمعت ، وصحبت رسول الله ونلت صهره ، وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الحق منك ، ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك! وإنك أقرب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رحما وقد نلت من صهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما لم ينالا ،

__________________

(١) شرح الأخبار (للقاضي النعمان) ١ : ٣٣٩ ، الحديث ٣١٠ مرسلا ، والمعتزلي في شرح النهج ٩ : ٣ عن الجوهري البصري مسندا.


ولا سبقاك إلى شيء ، فالله الله في نفسك ، فإنك والله ما تبصّر من عمى ولا تعلّم من جهل ، وإن الطريق لواضح بيّن ، وإن أعلام الدين لقائمة.

تعلم يا عثمان أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هدي وهدى ، فأقام سنة معلومة وأمات بدعة متروكة ، فو الله إنّ كلّا لبيّن ، وإن السنن لقائمة لها أعلام ، وإن البدع لقائمة لها أعلام.

وإن شرّ الناس عند الله إمام جائر ضلّ وضلّ به ، فأمات سنة معلومة ، وأحيا بدعة متروكة.

وإني سمعت رسول الله يقول : «يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر ويلقى في جهنم ، فيدور في جهنّم كما تدور الرّحى ثم يرتطم في غمرة جنهم».

وإني احذّرك الله واحذّرك سطوته ونقماته فإن عذابه أليم شديد ، واحذّرك أن تكون إمام هذه الامّة المقتول! فإنه كان يقال : يقتل في هذه الامة إمام فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة ، ويلبّس عليها امورها ويتركهم شيعا ، فلا يبصرون الحق لعلوّ الباطل ، يموجون فيه موجا ويمرجون مرجا! وسكت.

فقال له عثمان : والله لقد علمت الذي قلت (ولكن) والله لو كنت مكاني ما عنّفتك ولا أسلمتك ولا عبت عليك ، ولا جئت منكرا أن وصلت رحما وسددت خلّة (١) وآويت ضائعا ، وولّيت شبيها بمن كان يولّيه عمر ... فهل تعلم أن عمر ولّى معاوية في خلافته كلّها وأنا ولّيته!

__________________

(١) إلى هنا رواه المفيد في الجمل : ١٨٧ ، عن المدائني والرضي في نهج البلاغة ، الخطبة ١٦٤ ، وأقدم مصدر للخبر أنساب الأشراف ٥ : ٦٠ ، وانظر المعجم المفهرس لنهج البلاغة : ١٣٨١.


فقال علي : فإن معاوية يقتطع الامور دونك ويقول للناس : هذا أمر عثمان ، فيبلغك وتعلمها ولا تغيّر عليه! وقد كان معاوية أخوف من عمر من يرفأ غلام غمر منه!

فقال عثمان : وتعلم أن المغيرة بن شعبة ليس هناك؟ وتعلم أن عمر ولّاه ، فلم تلومني أن ولّيت ابن عامر مع رحمه وقرابته؟!

قال علي : فإن عمر كان من ولّاه إن بلغه عنه حرف جلبه ثم بلغ به أقصى الغاية ويطأ على صماخه ، وأنت لا تفعل ، ضعفت ورققت على أقربائك.

قال عثمان : هم أقرباؤك أيضا ، قال : لعمري إن رحمهم منّي لقريبة ، ولكن الفضل في غيرهم. ثم خرج علي من عنده (١).

خطبة عثمان جوابا :

قال : وخرج عثمان على أثر علي عليه‌السلام فرقى المنبر وقال : أما بعد ، فإن لكل شيء آفة ، ولكل أمر عاهة ، وإن آفة هذه الامة ، وعاهة هذه النعمة : عيّابون طعانون ، يرونكم ما تحبّون ويسرّون ما تكرهون ، يقولون لكم وتقولون ، أمثال النعام يتّبعون أول ناعق ، أحبّ مواردها إليها البعيد ، لا يشربون إلّا نغصا ولا يردون إلّا عكرا ، لا يقوم لهم رائد ، وقد أعيتهم الامور وتعذّرت عليهم المكاسب.

ألا وقد والله عبتم عليّ بما أقررتم لابن الخطاب بمثله ، ولكنّه وطئكم برجله وضربكم بيده وقمعكم بلسانه. فدنتم له على ما أحببتم أو كرهتم ، ولنت لكم وأوطأت لكم كتفي وكففت يدي ولساني عنكم فاجترأتم عليّ.

__________________

(١) الطبري ٤ : ٣٣٧.


أما والله لأنا أعزّ نفرا وأقرب ناصرا وأكثر عددا ، وأقمن إن قلت هلمّ أتى إليّ ـ ، ولقد أعددت لكم أقرانكم وكسرت لكم عن نابي ، وأخرجتم منّي خلقا لم أكن أحسنه ومنطقا لم أنطق به. فكفّوا عليكم ألسنتكم وطعنكم وعيبكم على ولاتكم ، فإني قد كففت عنكم من لو كان هو الذي يكلّمكم لرضيتم منه بدون منطقي هذا.

ألا فما تفقدون من حقكم؟ والله ما قصّرت في بلوغ ما كان يبلغ من كان قبلي ومن لم تكونوا تختلفون عليه. فضل فضل من مال فمالي لا أصنع في الفضل ما اريد؟ فلم كنت إماما (١)؟ ما عاب عليّ ـ من عاب منكم ـ أمرا أجهله ، ولا أتيت الذي أتيت إلّا وأنا أعرفه (٢).

سراية النقمة إلى العراق :

كان الذين حضروا دفن أبي ذر «عصابة من المؤمنين» منهم مالك الأشتر النخعي وحجر بن عدي الكندي في نفر كلهم يمانيون كوفيون (٣) وحملوا معهم ابنته إلى المدينة ، وكانوا من آخر حجّاج العراق في موسم الحج ، حجّوا وزاروا المدينة وحملوا أخبارها والخليفة بها معهم إلى الكوفة في سنة (٣٣ ه‍) أي قبل مقتل عثمان بعامين.

وقد نقل البلاذري بإسناده : أن أهل الكوفة ـ ومعهم كعب بن عبدة النهدي ـ التقوا بأهل البصرة ومعهم المثنى بن مخرمة العبدي ، وبأهل مصر ومعهم

__________________

(١) نقله المفيد في الجمل : ١٨٩ عن المدائني ، وقبله الطبري ٤ : ٣٣٨ عن الواقدي.

(٢) ابن قتيبة في الإمامة والسياسة : ٢٨ بسنده عن أبي حمزة الثمالي عن علي بن الحسين عليه‌السلام ، وانظر سائر مصادره في حاشية الجمل : ١٨٩.

(٣) الاستيعاب : ٨٣.


كنانة بن بشر التجيبي السكوني ، في المسجد الحرام قبل مقتل عثمان بعام (١) فتذاكروا سيرة عثمان وتبديله وتركه الوفاء بما عاهد الله عليه وأعطى من نفسه ، وقالوا : لا يسعنا الرضا بهذا! فاجتمع رأيهم على أن يرجع كل منهم إلى مصره إلى من كان على مثل رأيهم من أهل بلده ، وأن يوافوا عثمان في العام المقبل فيسمعونه عتابهم ، فإن أعتبهم ، وإلّا رأوا رأيهم فيه (٢) ويظهر أن المثير لذلك ما مرّ عليه أهل الكوفة من ظلامة أبي ذر رحمه‌الله ، ثم ما مرّ من الخبر عن وثبة أهل المدينة وكلام الإمام وبيان عثمان.

إنما السواد بستان لقريش! :

روى البلاذري عن الكلبي عن أبي مخنف بسنده : أن سعيدا كان يسعد بمجالسة وجوه أهل الكوفة من قرّائها : مالك الأشتر النخعي ، وزيد وصعصعة ابني صوحان العبديّين ، وجندب بن زهير الأزدي ، وحرقوص بن زهير السعدي ، وشريح بن أوفى العبسي ، وعديّ بن حاتم الطائي ، وكعب بن عبدة النهدي الناسك ، وكدام بن حضري ، ومالك بن حبيب وقيس بن عطارد ، وزياد بن خصفة ، ويزيد بن قيس الأرحبي ، وحسّان بن محدوج الذهلي وغيرهم.

وذات يوم صلّوا مع سعيد العصر ثم دخلوا معه وجلسوا عنده وتذاكروا التفضيل بين أرض السواد والجبال ، ففضّل حسّان الذهلي السواد وقال : هو ينبت ما ينبت الجبل وفيه هذا النخل. وكان صاحب شرطة الكوفة عبد الرحمن بن خنيس الأسدي حاضرا فقال متزلفا للأمير : لوددت أنه للأمير! فقال له الأشتر : لا تتمنّى

__________________

(١) كذا ، والصحيح : بعامين ، لما يأتي من الأحداث التي تقتضي ذلك.

(٢) أنساب الأشراف ٥ : ٢٦ ، وانظر الغدير ٩ : ١٦٨.


للأمير أموالنا. فقال الأسدي : والله لو شاء كان له! فقال الأشتر : والله لو رام ذلك ما قدر عليه! فقال سعيد : إنما هذا السواد بستان لقريش! فقال الأشتر : أتجعل ما أفاء الله علينا بستانا لك ولقومك (١)؟ إنما والله ما يزيد أوفاكم فيه نصيبا على أن يكون كأحدنا! وتكلم معه القوم بمثل قوله.

فقام إليهم الأسدي وقال : أتردّون على الأمير مقالته! فقال الأشتر : لا يفوتنكم الرجل! فقاموا إليه وبطحوه ووطئوه حتى غشي عليه! وتفرّقوا عنه (٢).

ونفاهم إلى الشام :

فروى النميري البصري عن المدائني عن أبي مخنف بسنده قال : كتب سعيد إلى عثمان :

«... إن قبلي قوما من القرّاء وهم سفهاء ، وثبوا على صاحب شرطتي فضربوه ظالمين له ، وشتموني واستخفّوا بحقّي ، منهم : كميل بن زياد ومالك بن الحارث (الأشتر ، النخعيّان) وعمرو بن زرارة ، وحرقوص بن زهير ، وشريح بن أوفى ، وزيد وصعصعة ابنا صوحان (العبديّان) وجندب بن زهير ويزيد بن مكنّف ...».

فكتب عثمان إلى سعيد : «... إني قد كفيتك مؤونتهم ، فأقرئهم كتابي فإنهم لا يخالفون إن شاء الله ، وعليك بتقوى الله وحسن السيرة ...» وكتب معه إليهم أن ينتقلوا إلى مغازي الشام. وأقرأهم الكتاب فشخصوا إلى دمشق.

فقال لهم معاوية : إنكم قدمتم بلدا لا يعرف أهله إلّا الطاعة ، فلا تجادلوهم فتدخلوا الشك في قلوبهم.

__________________

(١) أنساب الأشرف ٥ : ٣٩ ، وانظر الغدير ٩ : ٣١.

(٢) الطبري ٤ : ٣٢٣ عن الواقدي.


فقال الأشتر وعمرو بن زرارة : إن الله قد أخذ على العلماء موثقا أن يبيّنوا علمهم للناس ، فإن سألنا سائل عن شيء نعلمه فلا نكتمه! فحبسهما معاوية. ثمّ كلّمه زيد بن صوحان فيهما فأخرجهما. فبلغ معاوية أن قوما يأتونهم ، فأشخصهم إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بحمص (١).

فاجتمع ناس من نسّاك أهل الكوفة ووجوههم منهم : حجر بن عدي الكندي ، وعمرو بن الحمق وسليمان بن صرد الخزاعيّان ، وكعب بن عبدة النهدي ، ومعقل بن قيس الرياحي وزياد بن حفص التميميّان ، ويزيد بن قيس الأرحبي ، وعبد الله بن الطفيل العامري ، وزيد بن قيس الطائي ، ومالك بن حبيب ، وكتبوا إلى عثمان :

«... إن سعيد بن العاص كثّر عندك على قوم من أهل الدين والفضل ، فحملك من أمرهم على ما لا يحل ، وإنا نذكّرك الله في امة محمد فإنك قد بسطت يدك فيها ، وحملت بني أبيك على رقابها ، وقد خفنا أن يكون فساد هذه الامة على يديك ، فإنّ لك ناصرا ظالما ، وناقما عليك مظلوما ، فمتى نقم عليك الناقم ونصرك الظالم تباين الفريقان واختلفت الكلمة! فاتّق الله فإنك أميرنا ما أطعت الله واستقمت» ثم لم يسمّ أحد منهم نفسه في الكتاب إلّا كعب بن عبدة النهدي ، وبعثوا بالكتاب مع أبي ربيعة العنزي.

فلما قرأ عثمان الكتاب قال له : من كتب هذا الكتاب؟ سمّهم لي. قال : صلحاء أهل المصر وما اسمّي إلّا من سمّى نفسه!

فكتب عثمان إلى سعيد : انظر ابن ذي الحبكة (النهدي) فاضربه عشرين سوطا وحوّله على ديوان الري! فضربه سعيد وسيّره إلى جبل دماوند مع

__________________

(١) تاريخ المدينة المنورة ٤ : ١١٤١ وتمامه : وكانوا بها حتى أخرج أهل الكوفة سعيدا منها فرجعوا إليها.


مجير بن حمران الأحمري ، فقال كعب شعرا يدعو فيه على عثمان وأبلغه الشعر ، فكتب عثمان إلى سعيد : أن يقدم به ويحمله إليه ، فردّه ثم أشخصه إلى عثمان ، فاعتذر عثمان إليه وردّه إلى الكوفة (١).

عودة المبعدين وتمرّدهم :

روى البلاذري : أن عثمان لما سمع ضجّة الجماعة بشكواهم عليه كتب إلى امرائه أن يجتمعوا لديه : أخوه ابن أبي سرح من مصر ، ومعاوية من الشام وابن خالته ابن كريز من البصرة ، وسعيد بن العاص من الكوفة ، وخلّف عليهم ثابت بن قيس الأنصاري.

فلما غاب ابن سعد من الكوفة وابن حرب من الشام ، اغتنم أهل الكوفة غيابهما عنهما واجتمعوا وأجمعوا أن يكتبوا إلى أصحابهم في حمص يعلمونهم أن «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» فلا طاعة لعثمان مع إقامته على ما ينكر منه.

ورحّب الأرحبي هانئ بن خطّاب بحمل كتابهم إليهم فركب طريق الفلاة مسرعا إليهم حتى بلّغهم ذلك ، فلما قرءوا الكتاب خرج الأشتر بأصحابه حتى قدموا الكوفة.

وكان سعيد بن العاص قد خلّف عليهم ثابت بن قيس الأنصاري في دار الإمارة ، فلما كان يوم الجمعة تقدم الأشتر وخطبهم فقال : إن عثمان قد بدّل وغيّر ، وحضّ الناس على منع سعيد من دخول الكوفة.

فقام قبيصة بن جابر الأسدي وقال له : يا أشتر! دام شترك (جرحك) وعفا أثرك! أطلت الغيبة وجئت بالخيبة! أتأمرنا بالفرقة والفتنة ، ونكث البيعة وخلع الخليفة؟!

__________________

(١) تاريخ المدينة (للبصري) ٤ : ١١٤٣ عن المدائني ، وانظر الغدير ٩ : ٤٧ ـ ٥٢.


فقال له الأشتر : يا قبيصة! وما أنت وهذا؟! فو الله ما أسلم قومك إلّا كرها (١) ولا هاجروا إلّا فقرا! فوثب الناس عليه فضربوه حتى جرحوا جبهته. وأعطى الوجوه والقرّاء جميعا للأشتر عهودهم ومواثيقهم أن لا يدعوا سعيد بن العاص يدخل الكوفة واليا أبدا (٢).

وفد الأشتر في المدينة :

قال المسعودي : فاجتمع منهم سبعون شخصا ووفدوا مع الأشتر على عثمان ، فذكروا سوء سيرة سعيد فيهم ، وسألوه عزله عنهم. ولكنه كره أن يعزله وأن يردّه ، فأقام الوفد أياما لا يردّهم. ومكث الأشتر وأصحابه وامتدّت أيامهم لا يخرج إليهم من عثمان شيء في سعيد ، حتى كتبوا من البلدان إلى عثمان يشكون إليه تعطيل الثغور بغياب الولاة عنهم.

فجمعهم عثمان وقال لهم : ما ترون؟ وكان عمرو بن العاص حاضرا.

فقال معاوية : أما أنا فجندي راضون بي!

وقال عبد الله بن عامر : أنا أكفيك ما قبلي وليكفك كل امرئ ما قبله.

وقال عبد الله بن سعد : إنّ عزل عامل وتولية غيره للعامة ليس بكثير!

فقال سعيد بن العاص : إنك إن فعلت هذا كان أهل الكوفة هم الذين يولّون ويعزلون ، وقد صاروا حلقا في المسجد ليس لهم همّ غير الخوض في الأحاديث ، فجهّزهم في البعوث حتى يكون همّ أحدهم أن يموت على ظهر دابّته!

فخرج عمرو بن العاص إلى المسجد فإذا طلحة والزبير قالا له : ما وراءك؟ قال : الشر ما ترك شيئا من المنكر إلّا أمر به!

__________________

(١) لأن كثيرا منهم ارتدّوا مع طلحة بن خويلد الأسدي.

(٢) أنساب الأشراف ٦ : ١٥٦.


وجاء الأشتر فقالا له : إن عاملكم الذي قدمتم فيه قد ردّ عليكم وأمر بتجهيزكم في البعوث. فقال الأشتر : وأيم الله! لو لا أني أنفدت النفقة وأنضيت الظهر لسبقته إلى الكوفة لأمنعه من دخولها! فأسلفه كلّ منهما خمسين ألف درهم! فقسمها بين أصحابه ، وخرجوا إلى الكوفة ، فسبق سعيدا ، وصعد المنبر وعليه سيفه ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

أما بعد ، فإن عاملكم الذي انكرتم تعدّيه وسوء سيرته قد ردّ عليكم وأمر بتجهيزكم في البعوث! فبايعوني على أن لا يدخلها!

فبايعه من أهل الكوفة عشرة آلاف (١) ثم تقدّم الأشتر فصلى الجمعة بالناس ، ثم أمر كميل بن زياد ليخرج ثابت بن قيس الأنصاري من القصر فأخرجه منه ، وكان فيه مال سعيد ومتاعه فأباحه للناس فنهبوه حتى أنهم قلعوا أبواب الدار ، ثم أمر الأشتر زياد بن النضر أن يلزم القصر ويصلّي بهم العصر.

وانفرد البلاذري في خبره هذا بأن الأشتر تقدّم إلى عمّال الكوفة أن يضبطوا نواحيهم ويسكّنوا الناس ولا يجبونهم. وبلغه أن الأكراد بناحية الدّينور من بلاد الجبل قد أفسدوا ، فبعث الأشتر هانئ بن أبي حيّة الوداعي الهمداني في ألف فارس إلى حلوان فقاتلهم مقتلة عظيمة وأوقع بهم وبقى محافظا لطريق الجبال إلى كرمانشاه.

وبعث إلى المدائن وسواد بغداد إلى خانقين يزيد بن حجيّة التيمي ، وإلى ما دون المدائن عروة بن زيد الطائي.

وبعث عائذ بن حملة في خمسمائة إلى أرض واسط بينه وبين البصرة ، وبعث جمرة بن سنان الأسدي في خمسمائة إلى عين تمر بينه وبين الشام ،

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٣٣٧ ـ ٣٣٨.


وخرج الأشتر من الكوفة ومعه مالك بن كعب الأرحبي في خمسمائة فارس فبعثه إلى عذيب الهجانات على طريق الحجاز إلى الكوفة ليردّ سعيدا إن أتاه ، وعسكر الأشتر بين الكوفة إلى الحيرة ، فالتقى الأرحبيّ بسعيد فقال له : لا والله لا تشرب من ماء الفرات قطرة! فردّه.

ورجع الأشتر إلى الكوفة ، وكان فيها أبو موسى الأشعري فقدّمه للصلاة على زياد بن النضر ، وكان فيها حذيفة بن اليمان فولّاه خراج السواد.

ودعا عثمان بعبد الرحمن بن أبي بكر والمسور بن مخرمة المخزومي وكتب معهما إلى الأشتر وأصحابه يأمرهم بالتقوى والرجوع إلى الحق والطاعة ، وأن يكتبوا إليه بما يحبّون!

فكتب الأشتر إليه : «من مالك بن الحارث إلى الخليفة الخاطئ المبتلى. الحائد عن سنّة نبيّه ، النابذ لحكم القرآن وراء ظهره. أما بعد ، فقد قرأنا كتابك ، فانه نفسك وعمّالك عن الظلم والعدوان وتسيير الصالحين ، نسمح لك بطاعتنا. وقد زعمت أنا قد ظلمنا أنفسنا ، ذلك ظنك الذي أرداك فأراك الجور عدلا والباطل حقا.

وأمّا محبّتنا : فأن تنزع وتتوب وتستغفر الله من تجنّيك على خيارنا ، وتسييرك صلحاءنا ، وإخراجك ايانا من ديارنا ، وتوليتك الأحداث علينا ، وأن تولّى مصرنا عبد الله بن قيس أبا موسى الأشعري وحذيفة ، فقد رضيناهما ، واحبس عنّا وليدك وسعيدك ، ومن يدعوك إليه الهوى من أهل بيتك ، والسلام».

وبعث به مع أبي شبل علقمة بن قيس النخعي وخارجة بن الصلت البرجمي التميمي ، وعبد الله بن يزيد الجعفي ، ومسروق بن الأجدع الهمداني ، ويزيد بن قيس الأرحبي وغيرهم.


فلما أبلغوه الكتاب وقرأه قال : اللهم إني تائب! ثم كتب إلى حذيفة وأبي موسى : «إنكما لأهل الكوفة رضا ولنا ثقة ، فتوليا أمرهم وقوما به بالحق ، غفر الله لنا ولكما» (١).

قال خليفة : وكان ذلك سنة (٣٤ ه‍) وسمّي يوم ردّ سعيد بيوم الجرعة (٢).

وتفاقم الأمر على عثمان :

قال المسعودي : وفي سنة (٣٥ ه‍) كثر الطعن على عثمان وظهر النكير عليه ، لأشياء من فعله (وولاته) فمن ذلك : أفعال الوليد في الكوفة ومسجدها ، ومنها : ما كان بينه وبين ابن مسعود وغضب له بنو هذيل ، ومن ذلك : ما فعله بأبي ذر ، ومن ذلك : ما نال عمار بن ياسر من الفتق والضرب وغضب بني مخزوم له (٣) وقال اليعقوبي : وكان ذلك بعد (٦) سنين من ولايته إذ نقم الناس عليه وتكلم فيه من تكلم فقالوا : إنه أهدر دم الهرمزان ولم يقتل به عبيد الله بن عمر ، وآوى إليه الحكم بن أبي العاص وعبد الله بن سعد بن أبي سرح طريدي رسول الله ، وآثر الأقرباء ، وحمى الحمى ، وبني الدار ، واتخذ الضياع والأموال من أموال المسلمين ، وولّى الوليد بن عقبة على الكوفة فأحدث في الصلاة (سكرا وشعرا) فلم يمنعه ذلك من إيوائه إليه ، ونفى أبا ذر صاحب رسول الله ، وسيّر عبد الرحمن بن حنبل صاحب رسول الله أيضا إلى قلعة القموص من خيبر وذلك لأنه بلغه ذكره (في شعره) هجاءه ومساوئ ابنه وخاله (٤).

__________________

(١) أنساب الأشراف ٦ : ١٥٦ فما بعد.

(٢) تاريخ خليفة : ٩٨ وفصّله الطبري ٤ : ٣٤٦.

(٣) مروج الذهب ٢ : ٣٣٨ ورتّبناه.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧٣ و ١٧٤ وبهامشه مصادر اخرى.


وروى ابن الكلبي عن أبيه : أن ابن حنبل الجمحي جرح عثمان فقال :

زعم ابن عفّان وليس بهازل

أنّ الفرات وما حواه المشرق

خرج له ، من شاء أعطى مثله

ذهبا وتلك مقالة لا تصدق

أنّى لعفّان أبيك سبيكة

صفراء ، والنهر العباب الأزرق  (١)

فضربه عثمان مائة سوط ، وهو صحابيّ بدري ، وحمله على جمل يطاف به في المدينة ، وحبسه موثّقا بالحديد ، فكتب شعرا إلى عمّار وعلي عليه‌السلام يقول :

أبلغ عليا وعمّارا فإنّهما

بمنزل الرشد أن الرشد مبتدر

لا تتركا جاهلا حتى يوقّره

دين الإله وإن هاجت به مرر

لم يبق لي منه إلّا السيف إذ علقت

حبائل الموت فينا الصادق البرر

يعلم بأني مظلوم إذا ذكرت

وسط النديّ حجاج القوم والعذر

فلم يزل علي عليه‌السلام بعثمان يكلّمه حتى خلّى سبيله على أن لا يساكنه بالمدينة ، فسيّره إلى قلعة القموص في خيبر (٢).

وهو عبد الرحمن الكندي الشاعر ، ومن شعره :

سأحلف بالله جهد اليمي

ن ما ترك الله أمرا سدى

ولكن خلقت لنا فتنة

لكي نبتلى بك أو تبتلى

دعوت اللعين فأدنيته

خلافا لسنّة من قد مضى

وأعطيت مروان خمس العبا

د ظلما لهم ، وحميت الحمى  (٣)

ونقص من عائشة ما كان يعطيها عمر (٤).

__________________

(١) مثالب العرب (للكلبي) : ٤٥ و ١٤٥ ، وعنه في الطرائف.

(٢) تقريب المعارف (للحلبي) : ١٦٥ ـ ١٦٦.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٤٥.

(٤) فدخلت عليه وطالبته بذلك فقال لها : كان أبوك وعمر يعطيانك عن طيبة أنفسهما


فكان بينها وبينه منافرة ، فذات يوم كان عثمان يخطب إذ أدلت عائشة قميص رسول الله ونادت : يا معشر المسلمين! هذا جلباب رسول الله لم يبل وقد أبلى عثمان سنّته! فقال عثمان : ربّ اصرف عنّي كيدهن إن كيدهن عظيم (١).

وتكاتب نفر من الصحابة (إلى الكوفة والبصرة ومصر) : أن أقدموا إلينا فالجهاد عندنا! وسكتوا عن نيل الناس من عثمان (٢) فلم ينهوا عن ذلك ولم يذبّوا عنه (٣).

أعضاء الشورى عند عثمان :

قالوا : لما ولى عثمان كتب إلى عمّاله في الأمصار أن يوافوه في كل موسم (٤) وكتب إليهم : أما بعد ، فإني آخذ العمّال بموافاتي في كل موسم (٥).

__________________

وأنا لا أجد له موضعا لا في الكتاب ولا في السنة فلا أفعل! فقالت : فأعطني ميراثي من رسول الله! وكان عثمان متكئا فاستوى جالسا وقال : ستعلم فاطمة أنّي أيّ ابن عمّ لها اليوم! ألست شهدت عند أبيك ومالك بن أوس البصري أعرابيّ يتوضأ ببوله : أن النبيّ لا يورث ، وأبطلت بذلك حق فاطمة ، وجئت اليوم تطالبينه؟! لا أفعل. كما في بحار الأنوار ٣١ : ٣٠٣ عن القسم الثاني من تقريب المعارف (للحلبي) عن تاريخي الواقدي والثقفي.

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧٥ ، ومصادر الخبر في الجمل (للمفيد) : ١٤٨ ـ ١٥٠.

(٢) الطبري ٤ : ٣٣٦ عن الواقدي.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٤٥.

(٤) الطبري ٤ : ٣٩٧ عن سيف.

(٥) الطبري ٤ : ٣٤٢ عن سيف أيضا.


ولعلّ معاوية كان أوّلهم وصولا قبل الموسم هذه السنة ، وتوسّم فيه عثمان الوساطة والشفاعة له لدى أنداده من أصحاب الشورى ، فأرسل إليهم وجمعهم لديه : علي عليه‌السلام والزبير ، وسعد بن أبي وقاص وطلحة (١).

فروى الطبري بسنده عن موسى بن طلحة قال : لما أرسل عثمان إلى طلحة أبي يدعوه خرجت معه حتى دخلنا على عثمان ، وإذا عنده الزبير وسعد ومعاوية ، وتكلم معاوية ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

أنتم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) وخيرته في الأرض ، وولاة أمر هذه الامة ، لا يطمع في ذلك أحد غيركم! اخترتم صاحبكم عن غير غلبة ولا طمع! وقد كبرت سنّه وولّى عمره ، ولو انتظرتم به الهرم كان قريبا ، مع أني أرجو أن يكون أكرم على الله أن يبلغ به ذلك! وقد فشت قالة خفتها عليكم ، فما عتبتم فيه من شيء فهذه يدي لكم به ، ولا تطمعوا الناس في أمركم ، فو الله لئن طمعوا في ذلك لا رأيتم فيها أبدا إلّا إدبارا!

فقال له علي عليه‌السلام : وما لك وذلك؟ وما أدراك؟ لا أمّ لك!

فقال معاوية : دع امّي مكانها ، ليست بشرّ امهاتكم! قد أسلمت وبايعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأجبني فيما أقول لك.

فقال عثمان : صدق ابن أخي! وإني اخبركم عنّي وعمّا وليت : إنّ صاحبيّ اللذين كانا قبلي ظلما أنفسهما ومن كان منهما بسبيل ، احتسابا! وإنّ رسول الله كان يعطي قرابته ، وأنا في رهط أهل عيلة وقلة معاش ، فبسطت يدي في شيء من هذا المال لمكان ما أقوم به ، ورأيت أن ذلك لي ؛ فإن رأيتم ذلك خطأ فردّوه ، فأمري تبع لأمركم!

__________________

(١) ونفتقد منهم ابن عوف في النصّ الآتي مما يدل على أن ذلك كان بعد مقاطعته أو وفاته.

(٢) لا أستبعد أن يكون معاوية أول من حذف «وآله» وأضاف «وسلّم».


قال موسى بن طلحة : وكانوا يزعمون أنه أعطى عبد الله بن خالد بن اسيد خمسين ألفا ومروان خمسة عشر ألفا ، فقالوا له : إنك أعطيت عبد الله بن خالد ومروان فردّ منهما ذلك. فقال : فردّوا منهما ذلك. فرضوا وخرجوا راضين (١).

مبادي ثورة مصر :

مرّ الخبر عن عزل عثمان عمرو بن العاص عن مصر وتوليتها أخاه ابن أبي سرح سنة (٢٧ ه‍) فروى الطبري عن الواقدي عن الزهري : أن كان ممن خرج مع ابن سرح إلى مصر محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس (٢) وكانا ناقمين على عثمان يقولان : قد أخرج رسول الله قوما وهو أدخلهم ، واستعمل عبد الله بن سعد وكان قد نزل القرآن بكفره وأباح رسول الله دمه. وكانا في مصر حين عزل عثمان أبا موسى الأشعري عن البصرة واستعمل ابن خالته عبد الله بن عامر بن كريز ، وعزل الوليد واستعمل سعيد بن العاص قبل سنة (٣٠ ه‍) ، فلما غزاهم القسطنطين بن هر قل الروم في البحر فركب المسلمون السفن في ساحل البحر لحربه سنة إحدى وثلاثين ، ونصر الله المسلمين وغلبت الروم وهزموا ، وقفل عبد الله بذات الصواري أياما ثم رجع ، جعل محمد بن أبي حذيفة يقول لمن معه : أما والله لقد تركنا خلفنا الجهاد حقا! فيقول الرجل : وأيّ جهاد؟ فيقول : عثمان بن عفان فقد فعل وفعل ، فرجعوا وهم يقولون من القول ما لم يكونوا

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ : ٣٤٤ ـ ٣٤٥.

(٢) عتبة بن ربيعة العبشمي هو القتيل بسيف علي عليه‌السلام أول البراز في بدر ، وابنه أبو حذيفة كان قد صاهر سهيل بن عمرو المخزومي وأسلم في الأوائل وهاجر مع زوجته إلى الحبشة فرزق هناك ولدا أسماه محمدا ، وأبو حذيفة أخو هند بنت عتبة أمّ معاوية فهو خال معاوية ، ومحمد هذا ابن خاله ، ولكنه هو الذي حبسه على حبّه لعليّ عليه‌السلام حتى قتله.


ينطقون به. وبلغ ذلك عبد الله بن سعد فأرسل إليهما يقول لهما : والله لو لا أني لا أدري ما يوافق أمير المؤمنين لحبستكما وعاقبتكما (١)!

فقال ابن أبي حذيفة : والله ما لك إلى ذلك سبيل ، ولو هممت به ما قدرت عليه!

قال : والله لا تركب معنا ، فكفّ خير لك (٢).

ولكنّهما أقاما في مصر مصرّين على تحريض الناس على عثمان حتى منتصف سنة (٣٥ ه‍) ولشهر رجب اجتمع أكثر من خمسمائة رجل يظهرون أنهم يريدون عمرة رجب ، فخرجوا مع عبد الرحمن بن عديس البلويّ ـ من أصحاب بيعة الرضوان تحت الشجرة ـ ومحمد بن أبي بكر ، وشيّعهم ابن أبي حذيفة إلى منزل عجرود وناولهم كتابا إلى علي عليه‌السلام ، وبعث ابن أبي سرح رسولا إلى عثمان يخبره خبرهم (٣).

فروى الطبري عن ابن إسحاق عن ابن الزبير قال : كان أهل مصر الذين ساروا إلى عثمان ستمائة رجل ، على أربعة ألوية ، وجماع أمرهم إلى عبد الرحمن بن عديس البلوي التجيبي وعمرو بن الحمق الخزاعي من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونزلوا السقيا أو ذا خشب وكتبوا كتابا إلى عثمان وحمله رجل منهم إليه حتى دخل عليه وكان فيه :

«أما بعد ، فاعلم أن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم ؛ فالله الله ثم الله الله ، فإنك على دنيا فاستتمّ معها آخرة ولا تنس نصيبك منها فلا تسوغ لك الدنيا. واعلم أنّا ـ والله ـ نغضب لله ونرضى في الله ، وأنا لن نضع سيوفنا عن عواتقنا

__________________

(١) الطبري ٤ : ٢٩٢.

(٢) الطبري ٤ : ٢٩١ في حوادث سنة (٣١ ه‍) أي قبل وفاة أبي ذرّ وابن مسعود.

(٣) الطبري ٤ : ٣٥٧ ـ ٣٥٨ عن الواقدي قال : وصل المدينة في إحدى عشرة ليلة و٣٧٨.


حتى تأتينا منك توبة مصرّحة ، أو ضلالة مبلجة ، فهذه مقالتنا لك وقضيّتنا إليك ، والله عذيرنا منك ، والسلام» فكان ردّه عليه أن أمر به فأخرج من داره.

وكتب أهل المدينة إليه يقسمون له بالله أنهم لا يمسكون عنه حتى يعطيهم ما يلزمه من حقّ الله أو يقتلوه (١).

وروى ابن اسحاق أيضا عن الزهري قال : قدم أهل مصر في ستمائة راكب عليهم البلوى ، فنزلوا ذا خشب (٢) وفيهم أبو عمرو بن بديل الخزاعي ، وأبو عروة الليثي ، وكنانة بن بشر الكندي (التجيبي). واجتمع إليهم مالك الأشتر النخعي ، وكميل بن زياد النخعي ، وحجر بن عديّ الكندي وصعصعة بن صوحان العبدي مع جماعة من قرّاء أهل الكوفة الذين سيّرهم عثمان إلى الشام حين شكوا أحداثه التي أنكرها عليه المهاجرون والأنصار. وحكيم بن جبلة العبدي مع طائفة من أهل البصرة.

فمرّ بهم زياد بن النضر وعمر بن عبيد الله فقالا لهم : إن شئنا بلّغنا عنكم أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإن أمرنكم أن تقدموا فاقدموا! فقالوا لهما : افعلا ، واقصدا عليا آخر الناس!

فبدأ بعائشة ، ثم الصحابة ، فأمروهم أن يقدموا ، ثم صارا إلى عليّ عليه‌السلام فأخبراه واستأذناه لهم ، فقال : أتيتما قبلي أحدا؟ قالا : نعم ، أتينا عائشة وأزواج النبي وأصحابه من المهاجرين والأنصار فأمروهم أن يقدموا. فقال عليه‌السلام : لكنّي لا آمرهم بذلك ، بل يستعتبونه ممّن قرب ، فإن أعتبهم فهو خير لهم ، وإن أبى فهم أعلم.

__________________

(١) الطبري ٤ : ٣٦٩.

(٢) على مرحلة من المدينة على طريق الشام ، أو السويداء ثم الأسواق ، كما في الطبري ٤ : ٣٧٣ عن الواقدي. وروى عن سيف : أن مقدمهم الأول كان في أواخر شوال ٤ : ٣٤٨.


وبلغ اجتماعهم إلى عثمان ، فأرسل إلى علي عليه‌السلام وقال له : يا أبا الحسن! اخرج إلى هؤلاء القوم وردّهم عمّا جاءوا له.

توسّل عثمان بعلي عليه‌السلام :

روى الواقدي بسنده قال : فلما رأى عثمان ما رأى جاء إلى بيت علي ، فدخل عليه وقال له : يا ابن عمّ ، إن قرابتي قريبة ، فلي عليك حق عظيم! وقد جاء ما ترى من هؤلاء القوم ، وهم مصبّحي ، وأنا أعلم أن لك عند الناس قدرا وأنهم يسمعون منك ، فأنا أحبّ أن تركب إليهم فتردّهم عنّي ، فإني لا احبّ أن يدخلوا عليّ فان ذلك منهم جرأة عليّ ـ ، وليسمع بذلك غيرهم ... على أن أصير إلى ما أشرت به عليّ ورأيته لي ، ولست أخرج من يديك!

فقال علي : إني قد كنت كلّمتك مرّة بعد مرة ، وكلّ ذلك نقول وتقول ونخرج فتكلّم ، وكل ذلك فعل مروان بن الحكم وسعيد بن العاص وعبد الله بن عامر ومعاوية ، وأطعتهم وعصيتني.

فقال عثمان : فإني أعصيهم وأطيعك! فقبل علي عليه‌السلام.

فأرسل عثمان تلك الليلة إلى نفر من المهاجرين منهم : أبو جهم العدوي وجبير بن مطعم وحكيم بن حزام ، وسعيد بن زيد ، وثلاثة من بني أميّة : عبد الرحمن ابن عتاب بن اسيد ، وسعيد بن العاص ومروان بن الحكم! ومن الأنصار : أبو اسيد وأبو حميد الساعديان ، ومحمد بن مسلمة وزيد بن ثابت ، والشاعران : حسّان بن ثابت وكعب بن مالك في ثلاثين رجلا. وأرسل عثمان سعد بن أبي وقاص إلى عمار بن ياسر ليذهب معهم (١).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ : ٣٥٨ ـ ٣٥٩.


توسّط سعد عند عمار :

فروى عن سعد قال : فلمّا وصلت إلى عمار قام إليّ ، فلمّا ابتدأت الكلام معه (في عثمان) جلس ثم استلقى على قفاه ووضع يده على وجهه!

فقلت له : ويحك يا أبا يقظان ، إنك كنت فينا لمن أهل الخير والسابقة ومن عذّب في الله ، فما تبغيه مما صنعت بأمير المؤمنين وسعيك في فسادهم؟!

فقال عمار : إني اريد أن تكون الخلافة كما كانت على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأما أن يعطى مروان خمس إفريقية ، ومعاوية على الشام ، والوليد بن عقبة ـ شارب الخمر ـ على الكوفة (كذا) وابن عامر على البصرة. والكافر بما انزل على محمّد على مصر! فلا والله لا كان هذا أبدا حتى يبعج في خاصرته بالحق (١).

علي عليه‌السلام والمصريّون :

فخرج إليهم علي عليه‌السلام ، فلما رأوه رحّبوا به ، ثم قالوا له :

يا أبا الحسن ؛ قد علمت ما أحدثه هذا الرجل من الأعمال الخبيثة ، وما يلقاه المسلمون منه ومن عمّاله ، وكنا لقيناه واستعتبناه فلم يعتبنا ، وكلّمناه فلم يصغ إلى كلامنا ، وأغراه ذلك بنا (٢) فجئنا نطالبه بالاعتزال عن إمرة المسلمين ، واستأذنا في ذلك الأنصار والمهاجرين وأزواج النبيّ امهات المؤمنين فأذنوا لنا في ورود المدينة فنحن على ذلك.

__________________

(١) عن تاريخ الواقدي في القسم الثاني من تقريب المعارف كما عنه في بحار الأنوار ٣١ : ٢٩٤ ـ ٢٩٥ ، وانظر وقارن الطبري ٤ : ٣٥٨ ـ ٣٥٩.

(٢) فلعلّ هذا كان بعد عودتهم وعثورهم في طريقهم بغلام عثمان ، ولكنه سيأتي في باقي الخبر.


فقال لهم علي عليه‌السلام : يا هؤلاء ، إنا كنّا قد عتبناه على شيء من هذا ، وإنه قد رجع عنه ، فتريّثوا ولا تسرعوا إلى شيء لا تعرف عاقبته!

فقالوا : يا أبا الحسن ، هيهات ، ما نقنع منه إلّا بالاعتزال عن هذا الأمر ليقوم به من يوثق بأمانته!

فرجع علي عليه‌السلام إلى عثمان وأخبره بمقالتهم.

فخرج عثمان إلى المنبر فخطب وجعل يدعو الناس إلى نصرته ودفع القوم عنه.

فقام إليه عمرو بن العاص وقال : يا عثمان! إنك قد ركبت من الناس المهالك وركبوها منك ، فتب إلى الله.

فقال له عثمان : وإنك لها هنا يا ابن النابغة! ثم رفع يديه وقال مرتين : اللهم إني أتوب إليك.

ولكن القوم ساروا إلى المدينة جميعا ، وفيهم عمرو بن معد يكرب الزبيدي يحرّض الناس عليه ، وانضمّ إليهم من الأنصار جمهورهم ومن المهاجرين طلحة والزبير.

فخرج إليهم علي عليه‌السلام وقال لهم : يا هؤلاء ؛ اتقوا الله ، ما لكم وللرّجل؟! أما رجع عمّا أنكرتموه؟! أما تاب توبة جهر بها؟! فسكنوا وسألوه أن يعزل عنهم أخاه عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وسأله أهل النهروان (؟!) أن يصرف عنهم ابن خالته عبد الله بن عامر بن كريز ، ويعدل عمّا كان عليه من الأفعال المنكرة (١).

__________________

(١) كذا ، وانفرد هذا الخبر به ، ولعل الأصل : أهل النهر ، يعني نهر المرأة في البصرة. وجاء في الخبر : أن أهل الكوفة طلبوا عزل سعيد بن العاص ، وقد سبق عزله من قبل.


فدخل علي عليه‌السلام على عثمان ، ولم يزل به حتى أعطاه ما أراد القوم من ذلك وبذل لهم العهود والمواثيق. فخرج إلى القوم بما ضمنه له عثمان ، ولم يزل بهم حتى توجّه كل قوم إلى بلادهم (١).

__________________

(١) الجمل (للمفيد) : ١٣٨ ـ ١٤٠ ، عن كتاب مقتل عثمان (لإسحاق البلخي البخاري الهاشمي ولاء) المتوفى في بغداد (٢٠٦ ه‍) وانظر قاموس الرجال ١ : ٧٣٧. هذا وانفرد اليعقوبي ٢ : ١٧٤ بدعوى هذا الدور لعمرو بن العاص! قال : وجّه إليهم عمرو بن العاص فكلمهم وقال لهم : إنه يرجع إلى ما تحبّون ، وكتب لهم بذلك فانصرفوا! فطلب منه عثمان أن يعذره للناس في المدينة ، ونادى في الناس : الصلاة جامعة! ثم صعد عمرو المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه وذكر محمدا وقال : بعثه الله رأفة ورحمة ، فبلّغ الرسالة ونصح الامة ، وجاهد في سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، ثم قال : أليس كذلك؟! قالوا : بلى. ثم قال : وولى بعده رجل حكم بالحق وعدل في الرعيّة ، ثم قال : أليس كذلك؟! قالوا : بلى ، فقال : ثم ولي الأحول الأعسر ابن حنتمة ، فأبدت له الأرض أفلاذ أكبادها ، وأظهرت له مكنون كنوزها ، وخرج هو من الدنيا وما ابتلّت عصاه! ثمّ قال : أليس كذلك؟! قالوا : بلى. فقال : ثم ولى عثمان ، فقلتم تلومونه ، وقال يعذر نفسه! ثم قال : أليس كذلك؟! قالوا : بلى ، قال : فاصبروا له ؛ فلعل تأخير أمر خير من تقديمه حتى يكبر الصغير ويسمن الهزيل! ونزل!

فدخل أهل عثمان عليه وقالوا له : وهل عابك أحد بمثل ما عابك به عمرو؟!

ودخل عمرو على عثمان فقال له : يا ابن النابغة والله ما زدت أن حرضت الناس عليّ.

فقال عمرو : والله لقد قلت فيك أحسن ما علمت ، فلقد ركبت من الناس وركبوا منك فإن لم تعتدل فاعتزل!

فقال له عثمان : يا ابن النابغة! قد قمل درعك مذ عزلتك عن مصر.


مسير المصريّين وعودتهم :

قال المسعودي : كان أهل مصر ستمائة رجل عليهم البلوي ، ومن الكوفة مائتا رجل مع الأشتر ، ومن أهل البصرة مائة رجل مع العبدي (١).

وكان هوى المصريين مع علي عليه‌السلام ، وهوى الكوفيين مع الزبير ، وهوى البصريين مع طلحة. وطلب الناس منه : عزل صهره مروان عن كتابته له ، وعزل أخيه ابن أبي سرح عن صرح مصر ، واتفق عليّ مع عثمان على ما طلبه الناس فعزل ابن أبي سرح عن مصر وولّاها محمد بن أبي بكر ، وتفرق الناس وتوجّه مع ابن أبي بكر جمع من المهاجرين والأنصار (٢).

وفي خبر ابن إسحاق عن الزهري : أن المصريّين في الطريق بالبويب (٣) أو بحسمى (٤) نظروا وإذا راكب مسرع ، فلما دنا تأمّلوه فإذا هو غلام لعثمان (يدعى ورش) (٥) على ناقة من نوقه ، فاسترابوا به فقالوا له : أين تذهب؟ قال : بعثني عثمان في حاجة. قالوا : إلى أين؟ فتلعثم في كلامه وارتج عليه ، فنهروه وزبروه فقال : أنفذني إلى مصر ، قالوا : فيم؟ قال : لا أعلم! ففتّشوه فلم يجدوا عنده شيئا ، ولكنهم رأوا أن قربته الصغيرة لا ماء فيها وفيها شيء ففتّشوها فإذا فيها كتاب من عثمان إلى ابن أبي سرح وفيه : «إذا أتاك كتابي هذا فاضرب عنق عبد الرحمن البلوي وأبي عمرو بن بديل ، واقطع أيدي وأرجل كلّ من عروة وعلقمة وكنانة ، فإذا ماتوا فارفعهم على جذوع النخل» (٦).

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٣٤٣.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٤٥.

(٣) الطبري ٤ : ٣٧٥.

(٤) مروج الذهب ٢ : ٣٤٤.

(٥) مروج الذهب ٢ : ٣٤٤.

(٦) الجمل (للمفيد) : ١٤٠.


وكانوا يأخذون عن محمد بن أبي بكر ، ومحمد بن أبي حذيفة المخزومي ، وكنانة بن بشر الكندي وابن عديس البلوي ، واتفقوا على الرجوع والخروج على عثمان ، فرجعوا إلى المدينة (١).

فلما عادوا إليها استأذنوا على عليّ عليه‌السلام ودفعوا الكتاب إليه ، فلما قرأه فزع منه.

ودخل به على عثمان وقال له : إنك وسّطتني أمرا بذلت فيه الجهد لك وفي نصيحتك ، واستوهبت لك من القوم! قال عثمان : فما ذا؟ فأخرج الكتاب وفضّه وقرأه ، فأنكره! فقال علي عليه‌السلام : أتعرف الخطّ؟ (وكان بخطّ مروان (٢)) فقال : الخطّ يتشابه! قال : أتعرف الختم؟! قال : والختم ينقش عليه! قال : فهذا البعير الذي على باب دارك تعرفه؟ قال : هو بعيري ولم آمر أحدا بأخذه ولا بركوبه! قال : فغلامك من أنفذه؟ قال : انفذ بغير أمري!

فقال عليه‌السلام : أما أنا فمعتزلك ، وشأنك وأصحابك! وخرج من عنده ودخل داره وأغلق بابه ولم يأذن لأحد.

فلما رأى ذلك طلحة والزبير قالا لهم : قد اعتزل عليّ ، وانتدبنا معكم على هذا الرجل ، فحصروه (٣).

وكان عبد الله بن سعد قد كتب إلى عثمان يستأذنه للقدوم إليه ، فأذن له (٤).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧٥. وكان قدومهم (الثاني) في الليلة الاولى من شهر ذي القعدة ، كما في تاريخ خليفة : ٩٨.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٣٤٤.

(٣) الجمل (للمفيد) : ١٤١ ، وبهامشه مصادر اخرى كثيرة.

(٤) الطبري ٤ : ٣٧٨.


فاستخلف على مصر السائب بن هشام العامري وخرج ، فأخرجه منها محمد بن أبي حذيفة وغلب على مصر (١) واستجابوا له ، ولما بلغ ابن سعد إلى أيلة بلغه أن المصريين قد رجعوا إلى عثمان وحصروه ، فرجع ابن سعد إلى مصر فمنعه ابن أبي حذيفة ، فخرج إلى الشام (٢).

ومن أخبار الحوار :

ما رواه الطوسي في «الأمالي» عن المفيد ـ وليس في أماليه ـ بسنده عن الشعبي عن صعصعة بن صوحان العبدي : أن جمعا من المصريّين دخلوا على عثمان ـ ولعلّها بعد الرجعة ـ فقال لهم : قدّموا رجلا يكلّمني ، فقدّموه ، فكأنّه رآه شابا حدث السنّ فقال : هذا! قال : فقلت له : لو كان العلم بالسنّ لم يكن لي ولا لك سهم منه ، ولكنّه بالتعلم. فقال عثمان : هات. فقرأت : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ)(٣) فقال عثمان : فينا نزلت هذه الآية! فقلت : فمر بالمعروف وانه عن المنكر! فقال عثمان : دع هذا وهات ما معك! فقرأت ما قبلها : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ)(٤) فقال عثمان : وهذه أيضا نزلت فينا! فقلت له : فأعطنا بما أخذت من الله.

فالتفت عثمان للجمع وقال : يا أيها الناس ، عليكم بالسمع والطاعة فإن يد الله على الجماعة (كذا) وإن الشيطان مع الفذّ (الفرد الشاذ) فلا تستمعوا إلى قول هذا فإنه لا يدري من الله ولا أين الله؟!

__________________

(١) الطبري ٤ : ٤٢١.

(٢) الطبري ٤ : ٣٧٨ عن الواقدي.

(٣) الحج : ٤١.

(٤) الحج : ٤٠ ، وكأنه أراد تطبيقها على أنفسهم ، فهي أوفق برجوعهم.


فقلت له : أما قولك : عليكم بالسمع والطاعة فإنك تريد منا أن نقول غدا : (رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا)(١) وأما قولك : إني لا أدري من الله ؛ فإن الله ربّنا وربّ آبائنا الأولين ، وأما قولك : إني لا أدري أين الله ، فإن الله لبالمرصاد! فغضب وأمر بإخراجنا ، وغلق الأبواب (٢).

وكتب إلى علي عليه‌السلام : أما بعد ، فقد جاوز الماء الزبى ، وبلغ الحزام الطبيين ، وتجاوز الأمر بي قدره ، وطمع فيّ من لا يدفع عن نفسه ، ثم تمثل شعرا :

فإن كنت مأكولا فكن خير آكل

وإلّا فأدركني ولما امزّق  (٣)

وحجّت عائشة :

روى الحميري في «قرب الأسناد» بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : لما حضر الناس عثمان تجهّزت عائشة للحج ، فجاء إليها مروان بن الحكم فقال لها : يا أم المؤمنين! قد حصر الناس عثمان ، فلو تركت الحجّ وأصلحت أمره كان الناس يسمعون منك! فقالت : قد أوجبت (التزمت) الحجّ وشددت غرائري (أحمالي) فولّى مروان وهو يقول :

وحرّق قيس عليّ البلا

د حتى إذا اضطرمت أجذما (٤)

فسمعته عائشة فقالت له : تعال ، لعلّك تظن أني في شكّ من صاحبك؟! والله لوددت أنك وهو في غرارتين من غرائري (أحمالي) مخيط عليكما ، تغطّان في البحر حتى تموتا (٥).

__________________

(١) الأحزاب : ٦٧.

(٢) أمالي الطوسي : ٢٣٦ ، الحديث ٤١٨ ، م ٩.

(٣) معاني الأخبار : ٣٥٨ عن الأصبغ بن نباتة.

(٤) أي : قطع ، وقرى : أحجما : أمسك.

(٥) قرب الأسناد : ٤٠ ، الحديث ٨٤ ، ونقله الحلبي في القسم الثاني من تقريب المعارف عن تاريخ الثقفي من عدّة طرق ، كما عنه في بحار الأنوار ٣١ : ٣٠٥ بتحقيق


وذكره الواقدي في «كتاب الدار» وزاد فيه عن زيد بن ثابت : أن مروان جاءني فاستصحبني معه إلى عائشة ... فأقبلت عليّ وقالت لي : وما يمنعك يا ابن ثابت أن تمنع عنه وقد أقطعك عثمان الأساويف ، وأعطاك من بيت المال عشرة آلاف دينار ، ولك كذا وكذا ، قال : فلم أرد عليها حرفا ، وأشرت إلى مروان فقمنا وخرجنا من عندها آيسين (١).

عثمان في حصار الثوّار :

وحيث انتهى أمر عثمان إلى حصره في داره من قبل الثوّار ، وكان اجتماعهم عليه مرّتين بفاصل قفول المصريين وعودتهم عليه ، لذلك عبّر عنهما بالحصرين تغليبا ، وإلّا فلم يكن في الأول حصر وإنما كان الحصر الأخير.

__________________

اليوسفي الغروي ، ومرسلا في الإيضاح : ٢٦٤ واليعقوبي ٢ : ١٧٥ ـ ١٧٦ ، وفي الجمل (للمفيد) : ١٤٨ عن أبي حذيفة وابن إسحاق والمدائني.

(١) الشافي ٤ وتلخيصه ٤ : ٦٩ ، وعن الواقدي أيضا الحلبي في تقريب المعارف السابق نحوه ، كما في بحار الأنوار ٣١ : ٣٠٥ ، وفيه عنه ما يفيد أن خروجها كان بعد شدة الحصار ومنع الماء! عن كريمة ابنة المقداد الكندي عن عائشة قالت : إن عثمان أرسل إليّ أن أرسل إلى طلحة فأبيت ، وأرسل إليّ أن لا تخرجي إلى مكة ، فقلت : قد جلبت ظهري (مركوبي) وإني خارجة غدا. ولا والله ما أراني أرجع حتى يقتل! قالت كريمة : فقلت : إن أبي المقداد كان ينصح له فيأبى إلّا تقريب مروان وسعيد وابن عامر. فقالت عائشة : حبّهم والله صنع ما ترين ، حمل إلى سعيد بن العاص مائة ألف ، وإلى عبد الله بن خالد بن اسيد ثلاثمائة ألف ، وإلى الحارث بن الحكم مائة ألف ، وأعطى مروان خمس إفريقية لا يدرى كم هو! فلم يكن الله ليدع عثمان!

وعن عائشة ابنة قدامة قالت : سمعت عائشة تقول : لقد أحسن أبو محمد (طلحة) لما حال بينه وبين الماء!


وبهذا المعنى ما رواه الطبريّ عن الواقدي بسنده عن عكرمة : أن ابن عباس قال : لما كان الحصر الآخر ، فقلت له : أو كانا حصرين؟ قال : نعم ، قدم المصريون فلقيهم عليّ بذي خشب فردّهم عنه بعد اثنتي عشرة يوما (١) مقيمين بذي خشب حول المدينة غير محاصرين.

فإذا كان وصولهم الأول في ٢٥ من شوال كان خروجهم في ٧ ذي القعدة وعودتهم بعد العاشر منه.

وقال المسعودي : ولما عرف القوم خطّ مروان في الكتاب رجعوا إلى المدينة حتى نزلوا المسجد ، وتوافقوا مع من كان قدم من العراق ، فتكلّموا وتذاكروا ما نزل بهم من عمّالهم ، فاتفق رأيهم ورأي العراقيين فرجعوا على عثمان ...

وأحدقوا بداره بالسلاح وطالبوه بمروان فأبى أن يخلّى عنه ... فحاصروه في داره ومنعوه الماء (٢).

وقال ابن الوردي : فرجع محمد بن أبي بكر ومن معه بالكتاب إلى المدينة وجمعوا الصحابة على الكتاب ، وأقرّ عثمان بختمه وخطّ كاتبه مروان ، فطلبوا منه أن يسلّمه إليهم فامتنع ، فجدّوا في قتاله (٣) وحصره ابن عديس البلوي (٤) وبعد ما نزل هؤلاء في المسجد ، كان عثمان يخرج من داره فيصلي إلى ثلاثين يوما ، ثم منعوه من الخروج للصلاة ... ودام حصره أربعين يوما (٥).

__________________

(١) الطبري ٤ : ٤٠٥.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٣٤٤.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٤٦.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧٥.

(٥) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٤٥.


فروى ابن الخياط عن الحسن البصري عن وثّاب مولى عثمان قال : قال لي عثمان يوما : ادع لي الأشتر ، فدعوته له ، فقال له : ما يريد الناس منّي؟ قال : إحدى ثلاث لا بدّ من إحداهن : إما أن تقصّ من نفسك ، وإما أن تخلع لهم أمرهم فتقول لهم : هذا أمركم فاختاروا له من شئتم ، فإن أبيت فهم قاتلوك (١).

بعثه لابن عباس بالحج :

وفي العشر الآخر من ذي القعدة دعا عثمان ابن عباس وقال له :

إني قد استعملت خالد بن العاص بن هشام على مكة ، وقد بلغ أهل مكة ما صنع الناس ، فأنا أخاف أن يمنعوه الموقف ... فرأيت أن اولّيك أمر الموسم (٢) فاذهب إليه فقل له : إن أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لك : إني محصور منذ كذا يوما ، لا أشرب إلّا من اجاج داري ... ولا آكل إلّا مما في بيتي ، فقل له فليحجّ بالناس ، وليس بفاعل ، فإن أبى فاحجج أنت بالناس (٣) وكتب معه إلى أهل الموسم كتابا يسألهم فيه النصرة (٤).

قال : فخرجت من عنده ، ودخلت على علي عليه‌السلام في اليوم الذي خرجت فيه إلى مكة ، وكان قد عزم على أن لا يدفع عنه ، فذكرت له : أن عثمان دعاني للخروج للحج ، فقال لي : إن عثمان ما يريد أن ينصحه أحد ، اتّخذ بطانة أهل غش ، ليس منهم أحد إلّا قد تسيّب بطائفة من الأرض يستذل أهلها ويأكل خراجها (٥).

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٩٩.

(٢) تاريخ الطبري ٤ : ٤٠٧.

(٣) تاريخ الطبري ٤ : ٤٠٦.

(٤) تاريخ الطبري ٤ : ٤٠٧ ، هذا وسيأتي ما ينافي هذا.

(٥) تاريخ الطبري ٤ : ٤٠٦ عن عكرمة.


ونقل الرضيّ : أن ابن عباس حمل من عثمان وهو في الحصار رسالة إلى علي عليه‌السلام يسأله فيها الخروج إلى ما له في ينبع ، وكأنه كان قد طلب منه ذلك في القدمة الاولى للمصريين فلما خرجوا أرسل إليه أن يرجع ، فلما عاد المصريّون عاد لطلبه هذا. ولعلها كانت مع هذه الزيارة لابن عباس ، فقال عليه‌السلام : يا ابن عباس ، ما يريد عثمان إلّا أن يجعلني جملا ناضخا بالغرب (١) أقبل وأدبر! بعث إليّ أن أخرج ، ثم بعث إليّ أن أقدم ، ثم هو الآن يبعث إليّ أن أخرج! والله لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثما (٢).

ثم خرج ابن عباس حتى التقى في منزل الصلصل (٣) بعائشة فقالت له : يا ابن عباس ، إن الناس قد رفع لهم المنار فبانت لهم بصائرهم ووضحت لهم الطرق فتحلّبوا من البلدان لأمر قد قرب ، وقد أعطيت لسانا إزعيلا (ذلقا) فأنشدك الله أن تخذّل الناس عن هذا الرجل (٤).

قال ابن عباس : فقدمت الحج في العشر (من ذي الحج) فذهبت إلى خالد بن العاص وأبلغته ما قال لي عثمان ، فأبى أن يحجّ وقال : وهل لي طاقة بعداوة من ترى؟! وأنت ابن عمّ الرّجل ـ يعني عليا ـ وهذا الأمر لا يفضي إلّا إليه ، فحجّ أنت بالناس ، فأنت أحق أن تحمل له ذلك. فحججت بالناس.

__________________

(١) الجمل يستقى عليه بدلو عظيمة.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٤٠ وأقدم مصدر له الكامل (للمبرد) ١ : ١١ وانظر المعجم المفهرس : ١٣٩٣.

(٣) على سبعة أميال من المدينة نحو مكة.

(٤) نقله القاضي النعمان في شرح الأخبار ١ : ٣٤٣ ، عن الباقر عن السجاد عليهما‌السلام ، عن مروان بن الحكم! والمفيد في الجمل : ١٤٩ عن ابن اسحاق والمدائني وأبي حذيفة القرشي ، في رجوعه من الحج في الصلعاء!


نقل الطبريّ هذا عن الواقدي بسنده عن عكرمة عن ابن عباس ، وليس فيه أنه قرأ كتاب عثمان على الناس. ثم نقل عن الواقدي أيضا عن ابن أبي سبرة عن ابن سهيل أنه انتسخ رسالة عثمان من عكرمة أربع صفحات ، وفي آخرها عنه : أنه قرأها عليهم في اليوم السابع (١).

بينما قال ابن قتيبة : استعمل عثمان ابن عباس على الموسم ، وكتب كتابا إلى أهل مكة ومن حضر الموسم ، بعثه مع نافع بن طريف فوافى به مكة يوم عرفة وابن عباس قائم يخطبهم ، فقام نافع وفتح الكتاب ليقرأه عليهم فجلس ابن عباس وقرأ نافع الكتاب : «من عبد الله عثمان أمير المؤمنين إلى من حضر الحج من المسلمين ، أما بعد : فإني كتبت إليكم كتابي هذا وأنا محصور ، أشرب من بئر القصر ، ولا آكل من الطعام ما يكفيني خيفة أن تنفد ذخيرتي فأموت جوعا أنا ومن معي ، لا ادعى إلى توبة فأقبلها! ولا تسمع مني حجة أقولها! فأنشد الله رجلا من المسلمين بلغه كتابي إلّا قدم عليّ يأخذ بالحق فيّ ويمنعني عن الظلم والباطل» وجلس نافع ، فقام ابن عباس وأتمّ خطبته من دون أن يعرض لشيء من شأن عثمان (٢).

واستمدّ من معاوية :

مرّ في الخبر : أن عثمان عاد إلى الطلب من علي عليه‌السلام أن يخلى المدينة ليقلّ هتاف الثوار باسمه ، فيبدو من خبر الحلبي في «المناقب» أنه عليه‌السلام خرج إلى ما له في ينبع

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ : ٤٠٧ ـ ٤١١.

(٢) الإمامة والسياسة : ٣٥ ـ ٣٦ ، ورجّح الأميني أمانة النقل فيما رواه ابن قتيبة على ما رواه الواقدي عن محمد بن أبي سبرة العامري القرشي المدني المتوفى في (١٦٠ ه‍) وقد وصفه الواقدي نفسه : أنه كان كثير الحديث وليس بحجة ، إلى نحوه عن كثير منهم كما في الغدير ٩ : ١٩٣ ، وانظر ٥ : ٢٦٠.


على حمار ومعه الحسنان يمشيان معه. وكان عثمان قد كتب إلى معاوية يستمدّه على الثوّار العراقيين والمصريين وقد نزلوا ذا خشب ، وخرج بكتابه أبو الجهم صخر العدوي وكان معاديا لعلي عليه‌السلام ، قال : وكنت قد طويت الكتاب طيّا لطيفا (دقيقا) وجعلته في قراب سيفي ـ كما فعل حامل كتابه إلى مصر ـ وتوخّيت ظلام الليل وتنكّبت عن الطريق ، حتى إذا كنت بجانب الجرف ـ من نواحي المدينة ـ إذا رجل معه رجلان يمشيان أمامه وهو على حماره ، فعرفني ولم أعرفه حتى سمعت صوته ناداني : يا صخر أين تريد؟ قلت : البدو! فقال : فما هذا الذي في قراب سيفك؟! فجزته (١) ولم يعرض له لعله لعلمه بما سيكون من أمره.

ومآل الحصار :

روى الطبري عن سيف التميمي عن الحسن البصري : أن الثوّار نزلوا المسجد وما حوله ، وصلّى عثمان بهم عشرين يوما ثم منع منها (٢) وفي آخر عنه : أنه صلّى بهم ثلاثين يوما ثم منع ، فصلّى أميرهم الغافقي بالمصريّين والبصريّين ، ودام الحصار أربعين يوما (٣) وحصر عن الماء العذب. فكلّم علي عليه‌السلام مع طلحة ليدخل على عثمان الماء ، حتى أدخله عليه (٤) وجاء في خبره عن ابن اسحاق عن ابن الزبير عن أبيه أن طلحة كان يصلّي بهم (٥) وذلك لأول ذي الحجة (٦) وفي آخر عن الواقدي : أن الأشتر والكوفيين ، وحكيم العبدي والبصريين اعتزلوا الحصار ،

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٢ : ١٩٤.

(٢) الطبري ٤ : ٣٥٣.

(٣) الطبري ٤ : ٣٥٤.

(٤) الطبري ٤ : ٣٦٤.

(٥) الطبري ٤ : ٣٧١.

(٦) الطبري ٤ : ٤٢٣.


فكان عديس البلوي وأصحابه هم الذين يحصرون عثمان ، وهم خمسمائة ، وأقاموا على الحصار تسعة وأربعين يوما (١).

قتال الدار ومقتل عثمان :

لما مضت أيام التشريق أطافوا بداره ، وقام رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يدعى نيار بن عياض الأسلمي وكان شيخا كبيرا ، فنادى عثمان ، فأشرف عليهم ، فبينما هو يذكّره الله أن يعتزلهم إذ رماه كثير من الصلت الكندي بسهم فقتله ، فطلبوا منه أن يدفع إليهم قاتله فقال : لم أكن لأقتل رجلا نصرني وأنتم تريدون قتلي (٢).

وكان دار آل حزم بجوار دار عثمان ، فلما أصبحوا يوم الجمعة اجتمع جمع منهم وجاءوا بخشب ونضحوه بالنّفط (٣) وطلعوا على دار عثمان من دار آل حزم يقدمهم كنانة بن عتّاب (٤) فأجّجوا الباب حتى إذا احترق واحترقت سقيفته فخرّت ، فدخلوا (٥).

فبارزهم مروان ، فقال ابن عديس لابن عروة : قم إلى هذا الرجل ، فقام إليه فضربه على عنقه أو رقبته فقطع علباوته فسقط ، فقام إليه رفاعة بن رافع الأنصاري ليجهز عليه ، وكانت مرضعة مروان حاضرة فوثبت عليه وحمله أبو حفصة مولى مروان إلى بيتها (٦) ثم قاتلوا من مع عثمان حتى انهزموا

__________________

(١) الطبري ٤ : ٣٧٨.

(٢) الطبري ٤ : ٣٨٢.

(٣) وعليه فهذه أول بادرة لاستعمال النفط في الإسلام.

(٤) الطبري ٤ : ٣١٠ عن الواقدي عن أبي حفصة مولى عثمان.

(٥) الطبري ٤ : ٣٨٨ عن سيف ، وفي : ٣٩٢ عنه عن المغيرة بن شعبة وانظر : ٣٨٢.

(٦) الطبري ٤ : ٣٨١ عن ابن إسحاق والواقدي ، وانظر وقارن : ٣٨٢ فعاش مروان قصير العنق لقطع عصبته ٤ : ٣٩٤.


في طرق المدينة وبقي عثمان في ناس من أهل بيته (١) وكانوا ثمانية عشر رجلا (٢).

ولم يكن يومئذ في بيت المال إلّا غرارتان من ذهب ، وكان عثمان قد أمر رجلا من الأنصار وآخر من همدان أن يقوما عليه.

وكان الزبير قد خرج من المدينة على طريق مكة لئلّا يشهد مقتله ، وكان ابنه عبد الله مع مروان في الدار يقاتل عن عثمان ، ودخل محمد بن أبي بكر فتوعّد ابن الزبير فهرب ، فدخل محمد على عثمان وأخذ بلحيته ثم أرسلها ، ودخلوا عليه فمنهم من يلكزه ومنهم من يجؤه بنعل سيفه ، ووجأه رجل بمشاقص في ترقوته فسال دمه وغشي عليه ، واخترط التّجيبي سيفه على بطنه فوقته امرأته نائلة ابنة الفرافصة فقطع أناملها ، واتّكأ على سيفه في صدره فقتله (٣) وأرادوا حزّ رأسه فوقعت عليه نائلة وأمّ البنين يصحن ومنعنهم ، فقال البلوي : اتركوه (٤) وكان ذلك صباح الجمعة عند الكلبي ، وضحاها عند الواقدي لثماني عشرة من ذي الحجة (٥).

وروى الطبري عن الواقدي عن موسى بن عقبة : أن سعد بن أبي وقاص دخل على عثمان قبل قتله ، فقال له مروان : إن كنت تريد أن تذبّ عنه فعليك بابن أبي طالب فإنه لا يجبه!

وكان علي عليه‌السلام قاعدا في المسجد بين القبر والمنبر ، فأتاه سعد وقال له :

يا أبا حسن ، فداك أبي وأمي! جئتك بخير ما جاء به أحد إلى أحد! قم فقد أعطى خليفتك من نفسه الرضا ، فتحقن دمه ويرجع الأمر على ما نحب!

__________________

(١) الطبري ٤ : ٣٨٣.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٣٤٦.

(٣) الطبري ٤ : ٣٩٢ ـ ٣٩٣ عن سيف.

(٤) الطبري ٤ : ٤١٤ عن الواقدي.

(٥) الطبري ٤ : ٤١٦ : أي كان يوم الغدير.


فقال له علي عليه‌السلام : يا أبا إسحاق ، والله ما زلت أذبّ عنه حتى أني لأستحيي! ولكن مروان ومعاوية وعبد الله بن عامر وسعيد بن العاص صنعوا به ما ترى! فإذا نصحته وأمرته أن ينحّيهم استغشّني حتى جاء ما ترى!

وكأنّ ابن أبي بكر إذ خرج من عند عثمان جاء الآن إلى علي عليه‌السلام فسارّه ، فأخذ عليّ بيد سعد ونهض وهو يقول له : وأيّ خير توبته هذه! فانصرف سعد إلى داره ، فما بلغها حتى سمع الناس أن عثمان قد قتل (١) وهو ابن ثمانين ، أو اثنين وثمانين ، أو ست وثمانين ، أو ثمان وثمانين ، أو تسعين عاما ، وكان أصلع أسمر وبوجهه جدريّ (٢) يصفّر لحيته وأسنانه مشدودة بالذهب (٣).

وروى الواقدي عن ابن حزم : أن المؤذّن سعد القرظ أذّن لهلال ذي الحجة ، ثم ذهب إلى عثمان فآذنه بالصلاة فقال : لا أنزل اصلي ، فاذهب إلى من يصلّي ، فجاء المؤذّن إلى علي عليه‌السلام فأمر سهل بن حنيف فصلّى بهم ، حتى إذا كان يوم الجمعة وعيد الأضحى فصلّى بهم علي عليه‌السلام حتى قتل عثمان ، فجاء المؤذن ذلك اليوم إلى عليّ وسأله : من يصلّي بالناس؟ فقال له : ناد خالد بن زيد ، فناداه فإذا هو أبو أيّوب الأنصاري فكان يصلّي بهم أياما ، ثم صلّى بعد ذلك بالناس علي عليه‌السلام (٤).

جيش الشام وقميص عثمان :

والذي دفع المقاتلين عن عثمان إلى ذلك هو أنه كان قد بلغهم أن مدد أهل

__________________

(١) الطبري ٤ : ٣٧٧ ـ ٣٧٨.

(٢) الطبري ٤ : ٤١٨ ـ ٤١٩.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧٦.

(٤) الطبري ٤ : ٤٢٣.


الشام قد توجّهوا مقبلين (١) بل مقربين ولعلهم من المدينة على ليلة ، وكانوا أربعة آلاف عليهم يزيد بن أسد بعثهم معاوية وأمرهم أن يقربوا المدينة ولا يدخلوها حتى يأتيهم أمره!

فكتبت نائلة إليه تصف له دخول ابن أبي بكر عليه ومقتله ، ونزعت قميص عثمان المضرّج بدمه وعقدت خصلة لحيته المنتوفة بزرّ القميص ، ثم دعت إليها النعمان بن بشير الأنصاري فأرسلته برسالتها والقميص إلى مدد الشام ، فمضى بهما حتى ناولهما ليزيد بن اسيد ، فانصرفوا بهما إلى الشام (٢).

زمان مقتل عثمان :

إن أجمع كتاب جامع لأخبار التاريخ هو تاريخ الطبري ، وهو قد عقد فصلا عنونه بذكر الخبر عن قتل عثمان وكيف قتل ، فذكر فيه أربعين خبرا في ثلاثين صفحة ، جاء في الخبر ٢٢ ما ذكرناه : لما مضت أيام التشريق (١٣ ذي الحجة) أطافوا بداره وجمع هو حشمه وخاصّته ، واحتجّ عليه الشيخ الصحابي نيار بن عياض فقتلوه بسهم فأحرقوا باب داره فتقاتلوا حتى قتل عثمان (٣). وظاهر هذا أن ذلك كان بعد أيام التشريق.

وجاء في الخبر عن الواقدي : أن ذلك كان يوم الجمعة ١٨ ذي الحجة (٤) أي يوم الغدير ، ومن دون هذا الطريق نقل في توقيت القتل عن الواقدي

__________________

(١) الطبري ٤ : ٣٨٢.

(٢) الإمامة والسياسة : ٤٤.

(٣) الطبري ٤ : ٣٨٢.

(٤) الطبري ٤ : ٣٧٨.


بثلاثة طرق اخرى هذا التاريخ نفسه ، ثم زاد التأكيد عليه بسبعة طرق اخرى أيضا ، ثم لم يذكر إلّا قولا قيل إنه كان في أيام التشريق (١) ، وعليه فلا يمكن لهذا القول أن يعارض تلك الطرق المتظافرة ، وأن القول بما بعد أيام التشريق أيضا كان بمسامحة وليس بدقة.

وجثمان عثمان :

وأرسلت امرأته نائلة إلى أبي جهم بن حذيفة المخزومي ، وجبير بن مطعم العدوي ، وحكيم بن حزام الأسدي القرشي ، وحويطب بن عبد العزّى أن يدفنوه ، فقالوا : لا نقدر أن نخرج به جهارا وهؤلاء المصريّون على الباب (٢) فأرسلت إلى ابن عديس البلوي ، أن يقوم بأمرها حتى تدفن الأموات ، فزجرها (٣) فلبث عثمان بعد ما قتل ليلتين لا يقدرون دفنه ثم حملوه (٤) وروى عن أبي بشر العائذي قال : كنت بالمدينة حين قتل عثمان (٥) فنبذ ثلاثة أيام لا يدفن (٦).

__________________

(١) الطبري ٤ : ٤١٥ ـ ٤١٧.

(٢) الطبري ٤ : ٤١٣.

(٣) الطبري ٤ : ٤١٤.

(٤) الطبري ٤ : ٤١٣.

(٥) الطبري ٤ : ٤٢٧.

(٦) الطبري ٤ : ٤١٢.


عهد

الإمام عليّ عليه‌السلام



علي عليه‌السلام حين قتل عثمان ، والبيعة :

روى الطبري بسنده عن محمد بن الحنفية قال : حين قتل عثمان كنت مع أبي حتى قام فدخل منزله (١) وعنه قال : كنت معه حين أمسى ، فأتاه ناس من أصحاب رسول الله فقالوا : قد قتل هذا الرجل ، ولا بدّ للناس من إمام. فقال : أو تكون شورى؟ قالوا : أنت لنا رضا. قال : إذن فالمسجد ، ليكون عن رضا من الناس (٢).

وروى الطبري عن النميري البصري ، عن المدائني بسنده قال : في يوم السبت بعد مقتل عثمان خرج علي عليه‌السلام إلى السوق ، فارتاح إليه الناس واتبعوه ، فتوجّه إلى حائط بني عمرو بن مبذول ومعه أبو عمرة بن محصن ، فدخله

__________________

(١) الطبري ٤ : ٤٢٧.

(٢) الطبري ٤ : ٤٢٩. وانظر التحريف في خبري ابن الحنفية في أنساب الأشراف ٢ : ٢٠٩ ـ ٢١٠.


وقال له : أغلق الباب! فوصل الناس يقدمهم طلحة والزبير فقرعوا الباب ودخلوا ، وتقدّما وقالا : يا علي ابسط يدك نبايعك (١).

وهرب بنوا أميّة وأول من خرج منهم هرب الوليد وسعيد إلى مكة وتبعهم مروان وتتابع على ذلك من تتابع إلّا من لم يطق الهرب ، وكان الزبير خارجا فرجع ، وكان طلحة في حائط له فجاءوا بهما وجمعوا أهل المدينة فقام قائم من أهل مصر وقال لهم : أنتم أهل الشورى وعقد الإمامة ، وأمركم نافذ على الامة ، فانظروا رجلا تنصبونه ونحن تبع لكم. فتنادى الجمهور : نحن راضون بعليّ عليه‌السلام فقالوا لهم : يا أهل المدينة ، دونكم فقد أجّلناكم يومين (الجمعة والسبت) فو الله لئن لم تفرغوا لنقتلنّ غدا (الأحد) عليا وطلحة والزبير واناسا كثيرا!

فغشى الناس عليا عليه‌السلام فقالوا : قد ترى ما نزل بالإسلام وما ابتلينا به من بين القرى ، فهات نبايعك! فقال عليه‌السلام :

«دعوني والتمسوا غيري ؛ فإنا مستقبلون أمرا له وجوه وألوان ، لا تقوم له القلوب ، ولا تثبت عليه العقول» (٢).

فقالوا : ننشدك الله! ألا ترى ما نرى! ألا ترى الإسلام! ألا ترى الفتنة! ألا تخاف الله؟!

فقال عليه‌السلام (٣) : إن تركتموني فإنما أنا كأحدكم ، إلّا أني أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم ، واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم! وتواعدوا على غد (الأحد) (٣).

__________________

(١) الطبري ٤ : ٤٢٨.

(٢) ونقله الرضيّ في نهج البلاغة ، الخطبة ٩٢ ، ولا مصدر غير الطبري ، والخبر عن سيف التميمي! وعنه النقل في الجمل : ١٢٩ للمفيد ، وعن الطبري في الكامل وعنه في بحار الأنوار ٣٢ : ٨.

(٣) الطبري ٤ : ٤٣٣ ـ ٤٣٥.

(٣) الطبري ٤ : ٤٣٣ ـ ٤٣٥.


الإذن بدفن عثمان :

أمسى المساء يوم الأحد العشرون من ذي الحجة على موعد غد للبيعة العامة لعليّ عليه‌السلام ، هذا ولعثمان ثلاثة أيام لم يدفن ، كما مرّ في خبر للطبري عن أبي بشير العائذي الذي حضر المدينة يومئذ فقال : ثم إن جبير بن مطعم العدوي وحكيم بن حزام الأسدي القرشي تقدّما إلى علي عليه‌السلام وطلبا إليه أن يأذن لأهل عثمان في دفنه. فأذن لهم. فخرج به ناس يسير من أهله ، وسمع بذلك فقعدوا له في الطريق ورجموا سريره وهمّوا بطرحه! فبلغ ذلك عليا فأرسل إليهم يعزم عليهم أن يكفّوا عنه ، فكفّوا فانطلقوا إلى حائط بالمدينة يقال له : حشّ كوكب ، كانت مقبرة اليهود في المدينة ، فدفنوه فيه (١) وذلك بين المغرب والعشاء ، وتبعتهم نائلة وغلام لعثمان بسراج (٢).

البيعة العامة :

فلما أصبحوا حضر الناس المسجد ، وجاء علي عليه‌السلام (٣).

__________________

(١) الطبري ٤ : ٤١٢ ، وتمام الخبر : فلما غلب معاوية بن أبي سفيان أمر بهدم ذلك الحائط إلى جانب البقيع ، وأمر الناس أن يدفنوا موتاهم حول قبره حتى اتصل بمقابر المسلمين! ثم روى عن الواقدي بسنده قال : فلما ملكت بنو اميّة أدخلوا ذلك الحشّ في البقيع فكان مقبرة بني أميّة ، الطبري ٤ : ٤١٣.

(٢) الطبري ٤ : ٤١٣ ، هذا ولم يغسّل وكفّن في ثيابه وبدمائه ، ولم يغسّل غلاماه : صبيح ونجيح وجرّا بأرجلهما ورمى بهما على البلاط ، فأكلتهما الكلاب! ثم دفنوهما بجنبه. الطبري ٤ : ٤١٤ ـ ٤١٥ ، ونزا عمير بن ضابئ على جنازة عثمان فكسر ضلعا منه انتقاما لأبيه الذي مات في سجن عثمان ، ٤ : ٤١٤.

(٣) الطبري ٤ : ٤٣٣ ـ ٤٣٥.


وروى الطبري عن النميريّ البصري عن المدائني عن الشعبي : أن عليا عليه‌السلام لما قال للناس : أمهلوا يجتمع الناس ويتشاورون ، رجعوا عنه ثم قالوا فيهم : إن رجعنا ورجع الناس إلى أمصارهم بقتل عثمان ولم يقم بعده قائم بهذا الأمر ، لم نأمن اختلاف الناس وفساد الأمة (١)!

وروى المفيد بإسناده قال : قام أبو الهيثم ابن التيّهان الأنصاري في الأنصار فقال لهم :

يا معاشر الأنصار! قد عرفتم مكاني من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله واختياره إيّاي ، وعرفتم رأيي ونصحي لكم ، فردّوا هذا الأمر إلى أقدمكم إسلاما وأولاكم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لعل الله أن يجمع به ألفتكم ويحقن به دماءكم! فأجابه الأنصار بالسمع والطاعة.

وقام أبو أيّوب الأنصاري ورفاعة بن رافع وعمار بن ياسر (وهذا أول ذكر له هنا) إلى علي عليه‌السلام وقالوا : قد رأيت ما صنع عثمان وما أتاه من خلاف الكتاب والسنة ، وقد أفسد هذا الأمر ، فابسط يديك نبايعك لتصلح من أمر هذه الامة ما قد فسد.

فقال لهم علي عليه‌السلام : قد رأيتم ما صنع بي وعرفتم رأي القوم ، فلا حاجة لي فيهم.

فقالوا للأنصار : انتم أنصار الله وأنصار رسوله ، وبرسوله أكرمكم الله تعالى ، وقد علمتم فضل عليّ وسابقته في الإسلام وقرابته ومكانته التي كانت من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإن ولي أنالكم خيرا!

فقالوا : نحن أرضى الناس به ولا نريد بديلا! ثم اجتمعوا عليه (٢).

__________________

(١) الطبري ٤ : ٤٣٣.

(٢) الجمل (للمفيد) : ١٢٨ ـ ١٢٩ ، عن ابن أبزى.


وروى الطبري عن أبي بشير العائذي قال : كنت بالمدينة حين قتل عثمان ، فبعد ما قتل عثمان اجتمع المهاجرون وفيهم طلحة والزبير ، والأنصار ، واختلفوا إلى علي عليه‌السلام مرارا ، حتى أتوه آخر مرة فقالوا له : قد طال الأمر ولا يصلح الناس إلّا بإمرة!

فقال لهم : إنكم قد اختلفتم إليّ وأتيتم ، فأنا قائل لكم قولا إن قبلتموه قبلت أمركم ، وإلّا فلا حاجة لي فيه. قالوا : ما قلت من شيء قبلناه إن شاء الله.

فجاء فصعد المنبر واجتمع الناس فقال لهم : إني قد كنت كارها لأمركم فأبيتم إلّا أن أكون عليكم ، ألا وإنه ليس لي أمر دونكم إلّا أن مفاتيح مالكم معي ، ألا وإنه ليس لي أن آخذ منه درهما دونكم! رضيتم؟ قالوا : نعم ، قال : اللهم اشهد عليهم (١).

وروى الطوسي في أماليه بسنده عن مالك بن أوس الأنصاري : أنه عليه‌السلام قام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، وصلّى على النبي وآله ثم قال : أما بعد ، فإنّي كنت كارها لهذه الولاية ـ يعلم الله في سماواته وفوق عرشه ـ على امة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتى اجتمعتم على ذلك فدخلت فيه ، وذلك أني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «أيّما وال ولي أمر أمّتي من بعدي اقيم يوم القيامة على حدّ الصراط ، ونشرت الملائكة صحيفته ، فإن نجا فبعذابه ، وإن جار انتفض به الصراط انتفاضة تزيل ما بين مفاصله ، حتى يكون بين كل عضو وعضو من أعضائه مسيرة مائة عام ، ويخرق به الصراط ، فأول ما يلقى به النار أنفه وحرّ وجهه» ولكنّي لما اجتمعتم عليّ نظرت فلم يسعني ردّكم حيث اجتمعتم ، أقول ما سمعتم ، واستغفر الله لي ولكم (٢).

__________________

(١) الطبري ٤ : ٤٢٧ ـ ٤٢٨.

(٢) أمالي الطوسي : ٧٢٧ ، الحديث ١٥٣٠ ، م ٤٤.


فروى الطبري عن النميري البصري عن المدائني عن الشعبي عن أهل الكوفة كانوا يقولون : كان الأشتر أول من بايعه ، قام إليه وأخذ بيده فقبضها! فقال : أبعد ثلاثة (أيام)! ثم بايعه (١) فلعلّها كانت يوم الاثنين ٢١ ذي الحجة.

وروى المفيد عن الثقفي بسنده عن زيد بن أسلم الأنصاري قال : ثم بايعه الناس على المنبر ، أوّلهم طلحة بن عبيد الله صعد المنبر فصفق على يد عليّ بيده وهي شلّاء (من يوم أحد) فقال رجل أسدي : إنا لله وإنا إليه راجعون ، أول يد صفقت على يده شلّاء! يوشك أن لا يتم هذا الأمر ، ثم بايع الزبير ، وبايعه الناس بعدهما (٢).

وكان الذي يأخذ عليهم البيعة : عمار بن ياسر وأبو الهيثم ابن التيّهان ، وهما يقولان لهم : نبايعكم على طاعة الله وسنة رسوله ، وإن لم نف لكم فلا طاعة لنا عليكم ، ولا بيعة في أعناقكم ، والقرآن امامنا وامامكم (٣).

ووصف علي عليه‌السلام ذلك فقال : جئتموني لتبايعوني فأبيت عليكم وأمسكت يدي فنازعتموني ودافعتموني ، وبسطتم يدي فكففتهما ، ومددتموها فقبضتها ، ثم تداككتم عليّ تداكّ الهيم على حياضها يوم ورودها ، وازدحمتم عليّ حتى ظننت أن بعضكم قاتل بعضا أو أنكم قاتليّ ، وحتى انقطع النعل وسقط الرّداء ، ووطئ الضعيف ، وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إيّاي أن حمل إليها الصغير وخرج إليها الكبير ، وتحامل إليها العليل ، وحسرت إليها الكعاب ، وقلتم :

__________________

(١) الطبري ٤ : ٤٣٣ ، وفيه أن الأشتر قال له : أما والله لئن تركتها لتعصرنّ عينيك عليها حينا! وأظنها إضافة من الشعبي ، فهي عن أدب الأشتر بعيدة جدا ، ولا سيّما بلا جواب عن علي عليه‌السلام! وجاء في الإمامة والسياسة : ٤٦ : أو لتعصرنّ عينيك عليها ثالثة. ولا يستقيم المعنى فهي الرابعة وليست الثالثة من الخلافة.

(٢) الجمل (للمفيد) : ١٣٠ ، ومرّ صدره عن الطبري.

(٣) أمالي الطوسي : ٧٢٧ ، الحديث ١٥٣٠ ، م ٤٤.


بايعنا لا نجد غيرك ولا نرضى إلّا بك ، وبايعنا لا نتفرّق ولا نختلف (١).

فما راعني إلّا والناس إليّ كعرف الضبع ينثالون عليّ من كلّ جانب ، حتى لقد وطئ الحسنان ، وشقّ عطفاي ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم (٢).

فأقبلتم إليّ إقبال العوذ المطافيل (النوق ذوات الأطفال العائذة بها) على أولادها ، تقولون : البيعة البيعة! وقبضت يدي فبسطتموها ، ونازعتكم يدي فجاذبتموها (٣).

فبايعني الناس غير مستكرهين ولا مجبرين ، بل طائعين مخيّرين (٤).

وإني لم أرد الناس حتى أرادوني ، ولم ابايعهم حتى بايعوني ، وإن العامة لم تبايعني لسلطان غالب ، ولا لعرض حاضر (٥).

خطب الأنصار :

وقام قوم من الأنصار فتكلّموا ...

فكان أول من تكلم خطيبهم ثابت بن قيس الأنصاري ، قام فقال :

__________________

(١) المسترشد : ٤١٨ ونهج البلاغة ، الخطبة ٢٢٩ ، ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٣٩٣.

(٢) رواها الصدوق في كتابيه علل الشرائع ١ : ١٨١ ، ومعاني الأخبار : ٣٦٠ ، عن عكرمة عن ابن عباس ، وهي جلسة وليست خطبة ، وإنما سمّاها الرضي خطبة في نهج البلاغة الخطبة ٣ ، وانظر بسندين المعجم المفهرس : ١٣٧٧.

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ١٣٧ ، ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٣٨٧.

(٤) أمالي الطوسي : ٧١٨ ، الحديث ١٥١٨ عن الباقر عليه‌السلام عن ابن أبي عمرة الأنصاري ، ونهج البلاغة ك ١ ، وفي المعجم : ١٣٩٣.

(٥) نهج البلاغة ك ٥٤ عن المقامات للاسكافي ، والإمامة والسياسة ١ : ٧٠ ، وانظر المعجم المفهرس : ١٣٩٧.


يا أمير المؤمنين ؛ والله لئن كانوا تقدّموك في الولاية فما تقدّموك في الدين ، ولئن كانوا سبقوك أمس فقد لحقتهم اليوم ، ولقد كانوا وكنت لا يخفى موضعك ولا يجهل مكانك ، يحتاجون إليك فيما لا يعلمون ، وما احتجت إلى أحد مع علمك.

ثم قام ذو الشهادتين خزيمة بن ثابت فقال : يا أمير المؤمنين ؛ ما أصبنا لأمرنا هذا غيرك ، ولا كان المنقلب إلّا إليك ، ولئن صدقنا أنفسنا فيك فلأنت أقدم الناس إيمانا ، وأعلم الناس بالله ، وأولى المؤمنين برسول الله ، لك ما لهم وليس لهم ما لك.

وقام صعصعة بن صوحان العبدي فقال : يا أمير المؤمنين ؛ والله لقد زيّنت الخلافة وما زانتك ، ورفعتها وما رفعتك ، ولهي إليك أحوج منك إليها.

ثم قام مالك بن الحارث الأشتر النخعي والتفت إلى الناس وقال لهم : أيها الناس ، هذا وصيّ الأوصياء ، ووارث علم الأنبياء ، العظيم البلاء ، الحسن الغناء ، الذي شهد له كتاب الله بالإيمان ، ورسوله بجنّة الرضوان ، من كملت فيه الفضائل ، ولم يشك في سابقته وعلمه وفضله الأواخر ولا الأوائل.

ثم قام عقبة بن عمرو الأنصاري وأضاف يقول : من له يوم كيوم العقبة وبيعة كبيعة الرضوان ، والإمام الأهدى الذي لا يخاف جوره ، والعالم الذي لا يخاف جهله (١).

تخلّفوا عن البيعة أو القتال؟

ذكر المعتزلي الاسكافي في «المعيار والموازنة» : أنه عليه‌السلام لما بلغه تخلّف ابن عمر عن بيعته ، وسعد بن أبي وقاص ، ومحمّد بن مسلمة جمع الناس فصعد المنبر وخطب فيهم ثم نزل وبعث عليهم فأتوه فعاتبهم وقال لهم : فلم تكرهون القتال متى

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧٩.


وقد تشاورتم في بيعتي ثلاثة أيام بلياليهن؟ فهل تخرجون من بيعتي؟ قالوا : لا والله ، ولكنّا نكره قتال أهل الصلاة (١) وعليه فالتخلّف عن القتال لا البيعة ، وما في صدر الخبر إنما هو مسامحة في التعبير ، وصرّح بذلك في اسامة فقال : قعد عن نصرة أمير المؤمنين على أعدائه (٢).

وعن الشعبي فصّل البلاذري عذر اسامة ولكنه للقتال لا عن البيعة ، قال : قال اسامة لعلي عليه‌السلام : أنت أحبّ الناس إليّ وآثرهم عندي ، ولو كنت بين لحيي أسد لأحببت أن أكون معك ؛ ولكنّي عاهدت الله أن لا اقاتل رجلا يقول لا إله إلّا الله.

وكذا ما رواه عن ابن مسلمة قال : إن رسول الله أمرني إذا اختلف الناس أن أخرج بسيفي فأضرب به عرض احد حتى ينقطع ، فإذا انقطع أتيت بيتي فكنت فيه لا أبرح حتى تأتيني يده خاطفة أو ميتة قاضية! فخلّى سبيله ، فهل فعل ابن مسلمة ما ادّعاه على رسول الله؟!

وكذا ما رواه عن وهب بن صيفي الأنصاري قال : إن ابن عمّك (!) قال لي : قاتل المشركين بسيفك ، فإذا رأيت فتنة فاكسره واجلس في بيتك! فتركه ، وكأن كلّا منهم قد تعلّم ممّن سبقه عذرا متشابها ، وكلّ كأنه عن القتال لا عن البيعة.

قال : وجيء بسعد بن أبي وقاص فقيل له : بايع ، فقال : يا أبا الحسن! إذا لم يبق غيري بايعتك! فقال عليه‌السلام : خلّوا سبيل أبي إسحاق.

قال : وأتي بعبد الله بن عمر ملببا ورفع عليه السيف وقيل له : بايع (٣) قال : لا ابايع حتى يجتمع الناس عليك! قال : فأعطني حميلا (كفيلا) : أن لا تبرح.

__________________

(١) المعيار والموازنة : ١٠٥ و ١٠٦.

(٢) المعيار والموازنة : ٣٤٠.

(٣) كما فعل أبوه بعليّ عليه‌السلام لأبي بكر.


فقال : لا اعطيك! فقال الأشتر : يا أمير المؤمنين ، إن هذا رجل قد أمن سوطك وسيفك ، فأمكنّي منه! فقال علي عليه‌السلام : دعه فأنا حميله (كفيله) فو الله ما علمته إلّا سيّئ الخلق صغيرا وكبيرا (١).

أجل ، نقل قول هذين ظاهر في التخلّف عن البيعة دون القتال.

ويعارضه خبر المعتزلي الإسكافي في «المعيار والموازنة» في ابن عمر أنه عليه‌السلام بعث عليه فأتاه ، بلا تلبيب ولا سيف عليه وقال : يا أبا الحسن ؛ أنشدك الله والرّحم أن تدخلني في ما لا أعرف (من القتال) إنما أنا حمل رداح ، لا غذوّ له ولا رواح (٢) ثم انصرف القوم.

فذكروا : أن عمّار بن ياسر قال : يا أمير المؤمنين ، ائذن لي في كلام ابن عمر ، فأذن له ، فكلّمه فيه فقال ابن عمر : هذه البيعة كبيعة عثمان ، غير أن جاء أمر فيه السيف فضعفت عنه (٣).

نعم روى الطبري عن النميري البصري عن المدائني عن أبي مخنف عن محمد بن الحنفية قال : بايعت الأنصار عليا إلّا نفيرا يسيرا ورووا عن المدائني أيضا عن عبد الله بن الحسن قال : بايعت الأنصار عليا إلّا نفيرا يسيرا منهم : أبو سعيد الخدري ، وحسّان بن ثابت الشاعر ، ورافع بن خديج ، وزيد بن ثابت ، وفضالة بن عبيد ، وكعب بن عجرة ، وكعب بن مالك الشاعر ، ومحمد بن مسلمة ، ومسلمة بن مخلّد (وعبد الله بن سلام وقدامة بن مظعون) (٤).

__________________

(١) أنساب الأشرف ٢ : ٢٠٧ و٢٠٨.

(٢) المعيار والموازنة : ١٠٦ ، والحمل الرداح : الكبش الكبير الألية فهو بطيء الحركة!

(٣) المصدر السابق : ١٠٧.

(٤) الطبري ٤ : ٣٢٩ ، ٣٣٠ ، وانظر : ٤٣١ عن ابن سعد عن الواقدي.


وقال المسعودي : قعد عن بيعته جماعة عثمانية خرجوا عن أمره ، منهم : أهبان (وهب) بن صيفي ، وسعد بن أبي وقّاص ، وعبد الله بن سلّام ، وعبد الله بن عمر ، وقدامة بن مظعون (المطعون بشرب الخمر) والمغيرة بن شعبة. ومن الأنصار : أبو سعيد الخدري ، ورافع بن خديج ، وزيد بن ثابت ، وفضالة بن عبيد ، وكعب بن عجرة ، والنعمان بن بشير ، ومحمد بن مسلمة ومسلمة بن خالد ، وحسّان بن ثابت وكعب بن مالك الشاعران.

ثم نقل عن أبي مخنف : أن هذين وآخرين من العثمانية أتوا عليا عليه‌السلام ، وتكلم كعب كلاما كثيرا قال فيه : يا أمير المؤمنين ، من أعتب فليس مسيئا ، وخير كفر محاه عذر ... ثم بايع وبايع من ذكرنا جميعا (١) وعليه فهم متخلّفون عن القتال لا البيعة.

وروى المفيد في «الارشاد» عن الشعبي قال : تخلّف عن بيعة علي عليه‌السلام أسامة بن زيد ، وحسّان بن ثابت وسعد بن أبي وقّاص ، وعبد الله بن عمر ، ومحمد بن مسلمة ، فقال عليه‌السلام : قد بلغني عن سعد وابن مسلمة واسامة وعبد الله وحسّان بن ثابت امور كرهتها لهم ، والحقّ بيني وبينهم (٢).

هذا ، ولكنّه عدل عنه في «الجمل» واعتمد على خبر أبي مخنف في كتابه في حرب البصرة ، وعن غيره : أنه إنما بلغه تخلّفهم عنه إلى البصرة فقال لهم : فما الذي يقعدكم عن صحبتي؟ ألستم على بيعتي؟ قالوا : بلى ، فقال : انصرفوا فسيغني الله عنكم (٣). دون من سواهم وهذا هو القول الفصل.

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٣٥٣ ، ٣٥٤ وقبله في المعيار والموازنة للإسكافي : ١٠٦.

(٢) الارشاد ١ : ٢٤٣ وقبله في المعيار والموازنة للإسكافي : ١٠٦.

(٣) الجمل : ٩٥ ، ٩٦.


أخبار خطبه عليه‌السلام بعد البيعة :

واختلفت الأخبار في خطبه عليه‌السلام بعد البيعة :

ففي خبر : أنه عليه‌السلام حمد الله وأثنى عليه ، ثم وعد الناس من نفسه خيرا ، ثم قال :

واعلموا أن الدنيا قد أدبرت ، وأن الآخرة قد أقبلت ، ألا وإن اليوم المضمار (ميدان السباق) والسبق غدا ، والسبقة الجنة والغاية النار. ألا وإن الأمل يسهى القلب ويكذب الوعد ، ويأتي بغفلة ويورث حسرة ، فهو غرور وصاحبه في عناء. فافزعوا إلى قوام دينكم ، وإتمام صلاتكم وأداء زكاتكم ، والنصيحة لإمامكم (١) وتعلّموا كتاب الله ، وأصدقوا الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوفوا بالعهد إذا عاهدتم ، وأدّوا الأمانات إذا أوتمنتم ، وارغبوا في ثواب الله وارهبوا عذابه ، واعملوا الخير تجزوا خيرا يوم يفوز بالخير من قدّم الخير (٢).

فرفع بهذا البيان منع عمر عن تفسير القرآن ، وعن التحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعليه فقد بدأ عهده بتعهّد عمودي الإسلام كتاب الله وسنة نبيّه ، تعليما وتحديثا.

ونقل المدائني في كتبه ، والجاحظ في «البيان والتبيين» وابن قتيبة في عيون الأخبار والكليني في «الكافي» بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : لما بويع علي عليه‌السلام بعد مقتل عثمان صعد المنبر فقال :

الحمد لله الذي علا فاستعلى ، ودنا فتعالى ، وارتفع فوق كل منظر وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله ، خاتم النبيين وحجة الله على العالمين ، مصدّقا للرسل الأوّلين ، وكان بالمؤمنين رءوفا رحيما ، فصلّى الله وملائكته عليه وعلى آله.

__________________

(١) النصيحة هنا أي الإخلاص للإمام وليس إسداء النصح إليه.

(٢) الإمامة والسياسة : ٥١ ، وصدره في مروج الذهب ٢ : ٤٢٤.


أما بعد ـ أيها الناس ـ فإن البغي يقود أصحابه إلى النار ... وقد قتل الله الجبابرة على أفضل أحوالهم وآمن ما كانوا ، وأمات هامان وأهلك فرعون ، وقد قتل عثمان.

ألا وإن بليّتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والذي بعثه بالحقّ لتبلبلنّ بلبلة ، ولتغربلنّ غربلة ، ولتساطنّ سوطة القدر حتى يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم ، وليسبقنّ سابقون كانوا قصّروا ، وليقصّرنّ سابقون كانوا قد سبقوا.

والله ما كتمت وشمة ولا كذبت كذبة ؛ ولقد نبّئت بهذا المقام وهذا اليوم!

ألا وإن الخطايا خيل شمس حمل عليها أهلها ، وخلعت لجمها فتقحّمت بهم في النار!

ألا وإن التقوى مطايا ذلل حمل عليها أهلها وأعطوا أزمّتها فأوردتهم الجنة ؛ وفتّحت لهم أبوابها ووجدوا ريحها وطيبها وقيل لهم : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ)(١).

ألا وقد سبقني إلى هذا الأمر (الإمارة) من لم اشركه فيه ولم أهبه له ومن ليست له منه نوبة ... أشرف منه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم!

حق وباطل ، ولكل أهل ، فلئن أمر الباطل لقديما فعل ، ولئن قلّ الحقّ فلربّما ولعلّ ، ولقلّ ما أدبر شيء فأقبل ، ولئن ردّ عليكم أمركم أنكم سعداء ، وما عليّ إلّا الجهد.

وإني لأخشى أن تكونوا على فترة ، ملتم عنّي ميلة كنتم فيها عندي غير محمودي الرأي! ولو أشاء لقلت ، (ولكن) (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ)(٢) سبق فيها الرجلان وقام الثالث كالغراب همّه بطنه! ويله لو قصّ جناحاه وقطع رأسه لكان خيرا له ، شغل عن الجنة والنار أمامه!

__________________

(١) الحجر : ٤٦.

(٢) المائدة : ٩٥.


ثلاثة واثنان : خمسة ليس لهم سادس : ملك يطير بجناحيه ، ونبيّ أخذ الله بضبعيه ، وساع مجتهد ، وطالب يرجو ، ومقصّر في النار! اليمين والشمال مضلّة ، والطريق الوسطى هي الجادّة ، عليها باقي الكتاب وآثار النبوة. هلك من ادّعى وخاب من افترى.

إن الله أدّب هذه الامة بالسيف والسوط ، وليس لأحد عند الإمام فيهما هوادة! فاستتروا في بيوتكم ، وأصلحوا ذات بينكم ، والتوبة من ورائكم ، ومن أبدى صفحته للحقّ هلك (١).

ألا وإنا أهل بيت من علم الله علمنا ، وبحكم الله حكمنا ، وبقول صادق أخذنا ، فإن تتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا ، وإن لم تفعلوا يهلككم الله بأيدينا! معنا راية الحق ، من تبعها لحق ومن تأخّر عنها غرق! ألا وبنا تدرك ترة كل مؤمن ، وبنا تخلع ربقة الذل من أعناقكم ، وبنا فتح لا بكم ، وبنا يختم لا بكم (٢).

ألا وكلّ قطيعة أقطعها عثمان أو مال أعطاه من مال الله فهو مردود على المسلمين في بيت مالهم ، فإن الحق القديم لا يبطله شيء ، والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لو وجدته قد تزوّج به النساء واشتري به الإماء وتفرّق في البلدان لرددته على حاله ، فإنّ في الحقّ والعدل لكم سعة ، ومن ضاق به الحقّ فالجور به أضيق!

أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله لي ولكم (٣).

__________________

(١) روضة الكافي : ٥٥ ـ ٥٦ ، وصدرها في الجمل : ١٢٥ ، وبهامشه مصادرها الكثيرة ، ومنها نهج البلاغة الخطبة ١٧٨ ، ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٣٩٠.

(٢) الإرشاد ١ : ٢٤٠ عن أبي عبيدة معمر بن المثنّى البصري ، وبهامشه مصادرها العديدة.

(٣) شرح الأخبار للقاضي النعمان المصري (المتوفى ٣٦٣ ه‍) ١ : ٣٧٣ ، الحديث ٣١٦ ، وقال : كانت بعد يومين من بيعته عليه‌السلام. وفي نهج البلاغة الخطبة ١٥.


واكتفى الشريف الرضيّ بالمقطع الأخير ، وقال المعتزلي في شرحها : هذه الخطبة ذكرها الكلبيّ مرفوعة إلى أبي صالح عن ابن عباس : أنه عليه‌السلام خطبها في اليوم الثاني من بيعته (١) ... ثم أمر عليه‌السلام أن ترتجع الأموال التي أجاز بها عثمان حيثما اصيبت واصيب أصحابها ، وأمر بقبض سيف عثمان ودرعه وكل سلاح وجد في داره مما تقوّى به على المسلمين ، وأمر أن لا يعرض لسلاح له لم يقاتل به المسلمين ، وبالكفّ عن جميع أمواله في داره وغير داره ، وأمر بقبض إبل الصدقة وما كان منها من نجائب كانت في دار عثمان ، فقبضت (٢).

وخطبة أخرى (٢):

وروى الطبري عن سيف عن عليّ بن الحسين عليه‌السلام أن عليا عليه‌السلام في أول خطبة خطبها حين استخلف بعد قتل عثمان ، يوم الجمعة الخامس والعشرين من ذي الحجة ، حمد الله وأثنى عليه وقال : «إن الله عزوجل أنزل كتابا هاديا بيّن فيه الخير والشرّ ، فخذوا بالخير ودعوا الشر ، أدّوا الفرائض لله سبحانه تؤدكم إلى الجنة ، وإن الله حرّم حرما غير مجهولة ، وفضّل حرمة المسلم على الحرم كلّها ، وشدّ بالإخلاص والتوحيد المسلمين ، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلّا بالحق ، فلا يحلّ أذى المسلم إلّا بما يجب ، بادروا أمر العامة ، وخاصّة أحدكم الموت وإنما من خلفكم الساعة تحدوكم ، فتخفّفوا تلحقوا ، فإنما ينتظر الناس أخراهم ، واتقوا الله

__________________

(١) كذا ، ومرّ ويأتي أن ابن عباس كان قد حجّ ولم يرجع يومئذ بعد ، فلعلّها كانت في اليوم الثاني من رجوعه ووصوله إلى المدينة في أواخر ذي الحجة.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ١ : ٢٧٠ ، وأرسله القاضي النعمان المصري في دعائم الإسلام ١ : ٣٦٦. والغريب أن هذا هو كل ما يوجد في هذا الموضوع!


ـ عباد الله ـ في عباده وبلاده ، فإنكم مسئولون حتى عن البقاع والبهائم ، فأطيعوا الله ولا تعصوه ، وإذا رأيتم الخير فخذوا به وإذا رأيتم الشرّ فدعوه. ثم تلا قوله سبحانه : (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ)» (١).

وخطبة أخرى (٣):

نقلها الرضيّ في «نهج البلاغة» ولم نعثر لها على مصدر سابق ، ولم ينصّ ايراده عليه‌السلام لها في أوائل خلافته ، إلّا أن المعتزلي الشافعي قال في شرحه لها : خطب بها بعد قتل عثمان حين أفضت الخلافة إليه (٢) ومنها :

قد طلع طالع ولمع لامع ، ولاح لائح واعتدل مائل ، واستبدل الله بقوم قوما وبيوم يوما ، وقد انتظرنا الغير انتظار المجدب المطر!

وإنّما الأئمة قوّام الله على خلقه ، وعرفاؤه على عباده ، لا يدخل الجنة إلّا من عرفهم وعرفوه ، ولا يدخل النار إلّا من أنكرهم وأنكروه!

إنّ الله تعالى خصّكم بالإسلام واستخلصكم له ، فهو اسم سلامة وجماع كرامة ، اصطفى الله منهجه وبيّن حججه ، من ظاهر علم وباطن حكم ، لا تفنى غرائبه ، ولا تنقضي عجائبه.

فيه مرابيع النعم ومصابيح الظلم ، لا تفتح الخيرات إلّا بمفاتيحه ، ولا تكشف الظلمات إلّا بمصابيحه ، قد أحمى حماه ، وأرعى مرعاه ، فيه شفاء المشتفي ، وكفاية المكتفي (٣).

__________________

(١) الطبري ٤ : ٤٣٦ ، والآية من الأنفال : ٢٦ ، وفي الخطبة حديثان نبويان.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ٩ : ١٥٣.

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ١٥٢ ، ولم نعثر لها على مصدر سابق.


وخطبة اخرى (٤):

رواها القمي بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : إن أمير المؤمنين صلوات الله عليه بعد ما بويع له بخمسة أيام خطب فقال (فيما قال) :

واعلموا أن على كلّ شارع بدعة وزره ووزر كلّ مقتد به إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزار العاملين شيء وسينتقم الله من الظلمة مأكلا بمأكل ومشربا بمشرب ... فيا مطايا الخطايا ... اسمعوا واعقلوا وتوبوا ، وابكوا على أنفسكم (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)(١) فأقسم ثم أقسم ليتحملنّها بنو أميّة من بعدي ، وليعرفنّها في دار غيرهم عمّا قليل ، فلا يبعد الله إلّا من ظلم ، وعلى البادي ما سهّل لهم من سبيل الخطايا مثل أوزارهم وأوزار كل من عمل بوزرهم إلى يوم القيامة (وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ)(٢) ولعله قالها حين بلغه هرب بني أمية إلى مكة.

والولاة الجدد :

كان من أهمّ نقم الناقمين الثوّار على عثمان ولاته ، وكان على ثوار البصرة حكيم بن جبلة العبدي ، ولكنه كان متعبّدا لعلي عليه‌السلام فلم يتوقّع منه إلّا عزل والي عثمان على البصرة ابن خالته عبد الله بن عامر بن كريز ، ولم يكن يتوقّع منه استبداله به ، فاستبدله بعثمان بن حنيف الأنصاري.

وكان على ثوار الكوفة الأشتر النخعي ، وكان خاضعا لعلي عليه‌السلام ، ولكنّه حيث كان هو وأهل الكوفة قد رضوا من قبل بأبي موسى الأشعري ، فكلّم الأشتر عليا عليه‌السلام لإقراره فأقرّه.

__________________

(١) الشعراء : ٢٢٧.

(٢) النحل : ٢٥ ، والخبر في تفسير القمي ١ : ٣٨٤.


وكان على ثوّار مصر التّجيبي ولكنّهم رضوا من قبل بولاية محمد بن أبي بكر عليهم ، وكان ربيب بيت علي عليه‌السلام ، فرأى أن يستبدله بقيس بن سعد بن عبادة على مصر وسيأتي تفصيله.

وكان على اليمن يعلى بن منية التميمي ، وعلى البحرين عبد الله بن سوار العبدي وعلى الشام معاوية بن أبي سفيان الأموي ، وكأنّ طلحة طمع في اليمن والزبير في البحرين وأوعزا إلى المغيرة بن شعبة أن يشير بهما على علي عليه‌السلام ، فروي أنه دخل عليه وقال له : يا أمير المؤمنين! أنفذ طلحة إلى اليمن ، والزبير إلى البحرين ، واكتب بعهد معاوية على الشام فإذا استقامت لك الامور فشأنك وما تريده فيهم.

فروي أنه عليه‌السلام استكتب عبد الله بن أبي رافع وأملى عليه عهدا لهما ، فلما دفع إليهما عهدهما قالا : وصلتك رحم! فقال : إنما وصلتكما بولاية امور المسلمين ، ثم استردّ عهدهما ، فقالا : آثرت علينا! قال : لقد كان لي فيكما رأي ، لو لا ما ظهر من حرصكما! فقالا : إنه قد نالتنا بعد رسول الله جفوة ، فأشركنا في أمرك!

فقال لهما : أنتما شريكاي في الاستقامة والقوة وعوناي على العجز والأود (١).

ثم ولّى اليمن عبيد الله بن العباس ، وأخاه القثم على مكة ، وكان عليها عبد الله بن عمرو الحضرمي (٢).

ولم يتعيّن الزمن لتلك العهود ولا لمشورة المغيرة إلّا في خبر الطبري عن الواقدي عن ابن عباس عن علي عليه‌السلام قال له : جاءني (المغيرة) بعد مقتل عثمان بيومين (٣) في حين مرّ عن الرواة وفيهم الواقدي أن البيعة له عليه‌السلام كان بعد مقتل عثمان

__________________

(١) هذه الجملة في نهج البلاغة : الحكمة ٢٠٢.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٨٠ و ١٧٦.

(٣) تاريخ الطبري ٤ : ٤٤١.


بأكثر من ثلاثة أيام فلعل الأولى أن ذلك كان بعد البيعة بيومين. وتمام الخبر : قال : فقال لي : أخلني ، ففعلت ، فقال لي : إني اشير عليك أن تكتب إلى عمّال عثمان بإثباتهم على أعمالهم ، فإذا بايعوا لك واطمأنّ أمرك عزلت من أحببت وأقررت من أحببت.

فقلت له : والله لا أداهن في ديني ولا اعطى الرياء في أمري.

فقال (المغيرة) : فإن أبيت فانزع من شئت واترك معاوية ، فإن له جرأة وهو في أهل الشام يسمع منه ، ولك حجة في إثباته ، فقد كان عمر ولّاه الشام كلّها!

فقلت له : لا والله لا استعمل معاوية يومين أبدا (١)! فخرج من عندي على ما أشار به.

ثم عاد (اليوم الخامس من البيعة) فقال : إني أشرت عليك بما أشرت به وأبيت عليّ ، فنظرت في الأمر فإذا أنت مصيب ، لا ينبغي أن تأخذ أمرك بخدعة ولا يكون فيه تدليس.

قال ابن عباس : فقلت : وأنا اشير عليك بأن تثبت معاوية فإن بايع لك فعليّ أن أقلعه من منزله. فقال علي عليه‌السلام : لا والله لا أعطيه إلّا السيف!

فقلت : يا أمير المؤمنين ، أما سمعت رسول الله يقول : الحرب خدعة! أما والله لئن أطعتني لأصدرنّ بهم بعد ورد ، ولأتركنّهم ينظرون في دبر الامور لا يعرفون ما كان وجهها ، في غير نقصان عليك ولا إثم!

__________________

(١) ونقل الحلبي قوله في مناقب آل أبي طالب ٣ : ٢٢٦ كذا : إن معاوية من قد علمت ، وقد ولّاه الشام من كان قبلك ، فولّه أنت كيما تتسق عرى الإسلام ثم اعزله إن بدا لك. فقال عليه‌السلام : يا مغيرة أتضمن لي عمري فيما بين توليته إلى خلعه؟ قال : لا ، قال : فلا يسألني الله عن توليته على رجلين من المسلمين ليلة سوداء أبدا! (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً).


فقال عليه‌السلام : يا ابن عباس ، لست من هنيئاتك وهنيئات معاوية في شيء ، تشير عليّ وأرى ، فإذا عصيتك فأطعني.

فقلت له : أفعل ، فإن أيسر ما لك عندي الطاعة. وكنت قد قدمت المدينة (من الحج سنة ٣٥) بعد مقتل عثمان بخمسة أيام (١) بل لعلّ الصحيح بعد بيعة عليّ عليه‌السلام بخمسة أيام.

وقد جاء في خبر آخر للطبري عن الواقدي عن ابن عباس أيضا قال : قدمت المدينة وقد بويع لعلي عليه‌السلام فأتيته إلى داره فوجدت المغيرة بن شعبة قد أشار عليه أن يقر عمّال عثمان على أعمالهم يبايعون له الناس ولا سيّما معاوية ، فقلت (لعلي عليه‌السلام) : إنك تعلم أن معاوية وأصحابه أهل دنيا ، فمتى تثبتهم لا يبالوا بمن يلي هذا الأمر ، ومتى تعزلهم يؤلّبون عليك ويقولون : هو قتل صاحبنا وأخذ هذا الأمر بغير شورى ، فينتقض عليك أهل الشام والعراق ، مع أني لا آمن أن يكرّ عليك طلحة والزبير!

فقال علي عليه‌السلام : أما ما ذكرت من إقرارهم ؛ فو الله ما أشك أن ذلك خير في عاجل الدنيا لإصلاحها ؛ وأما الذي يلزمني من الحق والمعرفة بعمّال عثمان فو الله لا اولّي منهم أحدا أبدا ، فإن قبلوا فذلك خير لهم ، وإن أدبروا بذلت لهم السيف!

ثم قال لي : سر إلى الشام فقد ولّيتكها!

فقلت له : إن معاوية رجل من بني أميّة ، وهو ابن عمّ عثمان وعامله على الشام ، وإن أدنى ما هو صانع بي أن يحبسني فيتحكّم عليّ ، بل لست آمن أن يضرب عنقي لعثمان ؛ لقرابة ما بيني وبينك وأن كلّ ما يحمّله عليك يحمّله عليّ! ولكن اكتب إلى معاوية فعده ومنّه!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ : ٤٤٠ ـ ٤٤١. والجملة الأخيرة من الخبر في نهج البلاغة ، الحكمة ٣٢١.


فقال علي عليه‌السلام : والله لا كان هذا أبدا (١).

ولكنّه لعله رأى الأصلح أن يتم الحجة عليه وعليهم فكتب إلى معاوية :

من عبد الله عليّ أمير المؤمنين ، إلى معاوية بن أبي سفيان ، أما بعد ، فقد علمت إعذاري فيكم (يا بني أمية) وإعراضي عنكم ، حتى كان ما لا بدّ منه ولا دفع له ، والحديث طويل والكلام كثير ، وقد أدبر ما أدبر وأقبل ما أقبل ، فبايع من قبلك وأقبل إليّ في وفد من أصحابك ، والسلام.

هذا ما نقله الرضيّ عن الواقدي (٢) وذكره البلاذري عن أبي مخنف كذا : إن الناس قد قتلوا عثمان عن غير مشورة مني ، وبايعوني عن مشورة منهم واجتماع ، فبايع موفّقا ، وفد إليّ في أشراف أهل الشام. ولم يذكر له ولاية ، ووجّه إليه بالكتاب مع المسور بن مخرمة الزهري (٣).

ونقل الطبري : أن رسول أمير المؤمنين إلى معاوية كان سبرة الجهني ، قدم على معاوية فقرأ الكتاب ولم يكتب الجواب ، وكلّما طالبه الجهني بتنجيز الكتاب لم يزده على أبيات من الشعر يقرأها له ، حتى كان شهر صفر الثالث من مقتل عثمان (٤).

ومآل بيت المال :

وكانت تصرفات عثمان من أهمّ ما نقم الناقمون عليه ، ومع ذلك خلت أخبار مقتله من بيان عنه اللهم إلّا ما مرّ أنّ عثمان أمر أبا كرب الهمداني ومعه رجلا من

__________________

(١) الطبري ٤ : ٤٣٩ ـ ٤٤٠.

(٢) نهج البلاغة ك : ٧٥ عن كتاب الجمل للواقدي ، وهو مفقود ، وانظر شرح النهج للمعتزلي ١٠ : ٢٣٢ ـ ٢٤٧ و ١٨ : ٦٨ ، ٦٩.

(٣) أنساب الأشراف ٢ : ٢١١ ، ح ٢٦٢.

(٤) الطبري ٤ : ٤٤٣ عن سيف.


الأنصار أن يقوما عليه ، وليس فيه إلّا غرارتان من فضة (١) وأنّهم تنادوا في الدار : أدركوا بيت المال ، وسمع الرجلان أصواتهم فهربوا ، وأتوا بيت المال فانتهبوه (٢) وهما من أخبار الطبري عن سيف التميمي.

وجاء في خبر غريب عن هاشم مولى عثمان عن شيخ كوفي عن شيخ آخر : أنّ عليا عليه‌السلام كان بخيبر لما حصر طلحة عثمان ، فلما قدم أرسل إليه وقال له : إن رسول الله آخى بيني وبينك (!) وشكا إليه حصر طلحة له وابتزازه أمره! فخرج عليّ عليه‌السلام إلى المسجد فأخذ بيد اسامة وذهب به إلى بيت المال فلم يتمكّن من مفاتيحه فقال : اكسروا الباب فكسروه فجعل يعطي الناس فتفرقوا عن طلحة حتى مشى إلى عثمان فاعتذر إليه (٣).

وهذا كما ترى غريب في طريقه ومعناه ، غير ملائم لظاهر الحال وسائر الأخبار ، وكذا ما قبله من خبر سيف عن نهبهم بيت المال ، بل انتقل إلى علي عليه‌السلام فجعل عليه كاتبه عبد الله بن أبي رافع القبطي من موالي النبيّ والوصيّ عليهما‌السلام.

فنقل المعتزلي عن الإسكافي : أنه عليه‌السلام صعد المنبر (٤) فحمد الله وأثنى عليه ،

__________________

(١) الطبري ٤ : ٣٩٢ ـ ٣٩٣.

(٢) الطبري ٤ : ٣٩١.

(٣) الطبري ٤ : ٤٣٠ ـ ٤٣١ ، ونقله عن الطبري البحراني في شرح النهج ١ : ٣٣٣ ، وعنه المجلسي في بحار الأنوار ٣٢ : ٥٧. بل أغرب منه ما نقله البلاذري في أنساب الأشراف ٢ : ٢١٤ ، الحديث ٢٦٩ : أن الناس اجتمعوا بعد عثمان على طلحة ففتح علي بيت المال فمال الناس إليه فبايعوه!

(٤) جاء فيه : أن بيعته كانت في يوم الجمعة لاثني عشر يوما بقين من ذي الحجة ، ففي اليوم الثاني من بيعته يوم السبت خطب فقال ... ولا يستقيم ، بل كان بعد ذلك ، ولعله لأوائل محرم لسنة (٣٦ ه‍).


وذكر محمدا فصلّى عليه ، ثم ذكر نعمة الله على أهل الإسلام ، ثم ذكر الدنيا فزهّدهم فيها وذكر الآخرة فرغّبهم فيها ثم قال :

وأما بعد ، فإنه لما قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله استخلف الناس أبا بكر ، ثم استخلف أبو بكر عمر ، فعمل بطريقه ، ثم جعلها شورى بين ستة فأفضى الأمر منهم إلى عثمان ، فعمل ما أنكرتم وما عرفتم ، ثم حصر وقتل ، ثم جئتموني فطلبتم إليّ ، وإنما أنا رجل منكم لي ما لكم وعليّ ما عليكم.

وقد فتح الله الباب بينكم وبين أهل القبلة فأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ، ولا يحمل هذا الأمر إلّا أهل الصبر والبصر ، والعلم بمواقع الأمر. وإني حاملكم على منهج نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومنفّذ فيكم ما امرت به ، إن استقمتم لي ، والله المستعان ، ألا إن موضعي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد وفاته كموضعي منه أيام حياته ، فامضوا لما تؤمرون به وقفوا عند ما تنهون عنه ، ولا تعجلوا في أمر حتى نبيّنه لكم ، فإنّ لنا عن كل أمر تنكرونه عذرا.

ألا وإن الله عالم من فوق سمائه وعرشه أني كنت كارها للولاية على امة محمد حتى اجتمع رأيكم على ذلك ؛ لأني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «أيّما وال ولي الأمر من بعدي اقيم على حدّ الصراط ، ونشرت الملائكة صحيفته ، فإن كان عادلا أنجاه الله بعدله ، وإن كان جائرا انتقض به الصراط حتى تتزايل مفاصله ثم يهوى به إلى النار ، فيكون أول ما يتّقيها به أنفه وحرّ وجهه» ولكنّي لما اجتمع رأيكم لم يسعني ترككم.

ثم التفت يمينا وشمالا فقال : ألا لا يقولنّ رجال منكم قد غمرتهم الدنيا فاتخذوا العقار وفجّروا الأنهار ، وركبوا الخيول الفارهة ، واتّخذوا الوصائف الرّوقة (الرائقة) فصار ذلك عليهم عارا وشنارا إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه ، وصيّرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون ، فينقمون ذلك ويستنكرونه ويقولون غدا : حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا!


ألا وأيما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يرى أن الفضل له على من سواه لصحبته ، فإن له الفضل النيّر غدا عند الله وثوابه وأجره على الله. فأنتم عباد الله ، والمال مال الله يقسم بينكم بالسويّة ، لا فضل فيه لأحد على أحد ، وللمتّقين عند الله غدا أحسن الجزاء وأفضل الثواب ، ولم يجعل الله الدنيا للمتقين أجرا ولا ثوابا ، وما عند الله خير للأبرار.

وإن عندنا مالا نقسمه فيكم ، فإذا كان غدا فاغدوا علينا إن شاء الله ، ولا يتخلّفنّ أحد منكم ـ عربي ولا عجمي ، كان من أهل العطاء أو لم يكن ـ إلّا حضر ، إذا كان مسلما حرّا. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم. ثم نزل.

وكان سعيد بن العاص وأصحابه من بني أمية وسائر قريش حاضرين ، وكان التفات علي عليه‌السلام إليهم ، فسمع يقول : قاتل الله ابن العاص ؛ لقد عرف من كلامي ونظري إليه أنّي أريده وأصحابه من هلك فيمن هلك (١)!

وتقسيم المال :

قال : فلما كان الغد وغدا الناس وصلّى الصبح ، طلع طلحة والزبير فانتحيا عن علي عليه‌السلام ناحية ، ومع الزبير ابنه عبد الله وعبد الله بن عمر ، وطلع سعيد والوليد بن عقبة فجلسا إليهما (٢) ثم جاء قوم من قريش فانضمّوا إليهم وأخذوا يتناجون فيما بينهم ، ومعهم زيد بن ثابت الأنصاري.

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٧ : ٣٥ ـ ٣٨ ، عن كتاب الإسكافي في نقض الرسالة العثمانية للجاحظ البصري.

(٢) ذكر هنا في الخبر مروان ، وقد مرّ أنّه كان قد هرب إلى مكة فهل رجع يومئذ بأمان؟!


ومرّ بهم عبيد الله بن أبي رافع القبطي فسمع ابن الزبير يقول لأبيه وأصحابه : ما خفى علينا أمس من كلام عليّ ما يريد! فالتفت سعيد إلى زيد بن ثابت وقال : إياك أعني واسمعي يا جارة! فالتفت إليهم عبيد الله وتلا قوله سبحانه : (وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ)(١).

ومضى إلى علي عليه‌السلام فأخبره بذلك فقال : والله إن بقيت وسلمت لهم لأقيمنّهم على المحجّة البيضاء والطريق الواضح.

فقام الوليد بن عقبة وجاء إلى علي عليه‌السلام فقال له :

يا أبا الحسن! (كذا) إنك قد وترتنا جميعا : أما أنا فقتلت أبي يوم بدر صبرا! وخذلت أخي (عثمان) بالأمس! وأما سعيد ؛ فقتلت أباه يوم بدر في الحرب ، وكان ثور قريش! وأما مروان ؛ فسخّفت أباه عند عثمان إذ ضمّه إليه! ونحن إخوتك ونظراؤك من بني عبد مناف! وإنما نبايعك اليوم على أن تضع عنّا ما أصبناه من المال في أيام عثمان ، وأن تقتل قتلته ، وإلّا فإن خفناك تركناك والتحقنا بالشام!

فقال عليه‌السلام : أما ما ذكرتم من وتري إياكم ؛ فالحقّ وتركم ، وأما وضعي عنكم ما أصبتم فليس لي أن أضع حق الله عنكم ولا عن غيركم. وأما قتلي قتلة عثمان ؛ فلو لزمني اليوم قتلهم لقاتلتهم أمس! ولكن لكم عليّ إن خفتموني أن اؤمنّكم ، وإن خفتكم أن اسيّركم!

وقال لعبيد الله بن أبي رافع : ابدأ بالمهاجرين فنادهم (حسب أسمائهم في الديوان) وأعط من حضر منهم ثلاثة دنانير ، ثمّ ثنّ بالأنصار ، ثم من يحضر من الأسود والأحمر.

__________________

(١) الزخرف : ٧٨.


وكان سهل بن حنيف حاضرا ومعه غلامه وقد اعتقه ، فقال : يا أمير المؤمنين هذا غلامي بالأمس وقد اعتقته اليوم؟ فقال : نعطيه كما نعطيك (١).

مصر ، والأمير السابق واللاحق :

روى الثقفي في «الغارات» عن ابن السائب الكلبي عن عباس بن سهل بن سعد الساعدي الأنصاري : أن ابن أبي سرح لما طرد من مصر نزل على تخوم أرض مصر مما يلي فلسطين وانتظر ما يكون من أمر عثمان ، حتى طلع عليه راكب فأخبره بقتل عثمان وبيعة علي عليه‌السلام ، فاسترجع ، فعرفه الرجل فقال له : فالنجاء النجاء ، فإنّ رأي أمير المؤمنين إن ظفر بكم نفاكم عن بلاد المسلمين أو قتلكم ، وهذا أميره يقدم عليكم بعدي ، قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري. فخرج ابن أبي سرح إلى ابن أبي سفيان بدمشق.

وكان علي عليه‌السلام قد دعا قيس بن سعد فقال له : سر إلى مصر فقد ولّيتكها ، فاخرج إلى رحلك فاجمع فيه من ثقاتك من أحببت أن يصحبك حتى تأتيها ومعك جند (٢) فإن ذلك أرهب لعدوّك وأعزّ لوليّك ، فإذا أنت قدمتها إن شاء الله فأحسن إلى المحسن ، واشتدّ على المريب ، وارفق بالخاصة والعامة ، فإن الرفق يمن.

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٧ : ٣٧ ـ ٣٩ ، عن كتاب الإسكافي في نقض الرسالة العثمانية للجاحظ مرسلا بلا إسناد ، ورواه الطوسي في الأمالي : ٧٢٧ ، الحديث ١٥٣٠ بإسناده إلى ابن عقدة الزيدي عن أبي الصلت الهروي عن الصحابي مالك بن أوس بن الحدثان ، وليس فيه التوقيت بيومين أو ثلاثة بعد البيعة العامة مما هو مستبعد جدّا من محتوى الخبر. وروى آخر الخبر بإسناد آخر في ٦٨٦ ، الحديث ١٤٥٧.

(٢) فيبدو أن ثوار مصر كانوا قد رجعوا ولم يبقوا.


فقال قيس : رحمك الله يا أمير المؤمنين ، قد فهمت ما ذكرت ، أما قولك : اخرج إليها بجند ، فو الله إن لم أدخلها بجند آتيها به من المدينة لا أدخلها أبدا ، فإذا أدع ذلك الجند لك فان احتجت إليهم كانوا قريبا منك ، وإن أردت بعثهم إلى وجه من وجوهك كانوا عدّة لك ، ولكنّي أسير إليها بنفسي وأهل بيتي! وأما ما أوصيتني به من الرفق والإحسان ، فإن الله تعالى هو المستعان على ذلك.

ثم أمر علي عليه‌السلام كاتبه ابن أبي رافع أن يكتب له عهده فكتب :

بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من عبد الله أمير المؤمنين إلى من بلغه كتابي هذا من المسلمين (١) سلام عليكم ، فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلّا هو ، أما بعد ، فإن الله ـ بحسن صنعه وتقديره وتدبيره ـ اختار الإسلام دينا لنفسه وملائكته ورسله ، وبعث به الرسل إلى عباده ، وخصّ من انتجب من خلقه ، فكان مما أكرم الله به هذه الامة وخصهم به من الفضيلة : أن بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله إليهم ، فعلّمهم الكتاب والحكمة والفرائض والسنة ، وأدّبهم كيما يهتدوا وجمعهم كيلا يتفرقوا ، وزكّاهم كيما يتطهّروا ، فلما قضى من ذلك ما عليه قبضه الله إليه ، فعليه صلوات الله وسلامه ورحمته ورضوانه ، إنه حميد مجيد.

ثم إن المسلمين من بعده استخلفوا امرأين منهم صالحين ، عملا بالكتاب وأحسنا السيرة ولم يتعدّيا السنة (٢) ثم توفّاهما الله (فرحمهما‌الله). ثم ولي من بعدهما وال أحدث أحداثا فوجدت الامة عليه مقالا ، ثم نقموا عليه فغيّروا ثم جاءوني فبايعوني ، فأستهدي الله الهدى وأستعينه على التقوى. ألا وإنّ لكم علينا العمل بكتاب الله وسنة رسوله والقيام بحقّه ، والنصح لكم بالغيب ، والله المستعان وحسبنا الله ونعم الوكيل.

__________________

(١) فلم يكن الكتاب إلى محمد بن أبي حذيفة العبشمي ، فلعلّه عليه‌السلام لم ير من الصالح إقرار تغلّبه على مصر.

(٢) ذلك ولو بالنسبة إلى من بعدهما.


وقد بعثت إليكم قيس بن سعد أميرا ، فوازروه وأعينوه على الحق ، وقد أمرته بالإحسان إلى محسنكم ، والشدة على مريبكم ، والرفق بعوامّكم وخواصّكم ، وهو ممّن أرضى هديه وأرجو صلاحه ونصيحته. نسأل الله لنا ولكم عملا زاكيا وثوابا جزيلا ورحمة واسعة ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وكتب عبيد الله بن أبي رافع في (غرة) صفر سنة (٣٦ ه‍).

فخرج قيس في سبعة نفر من أهله حتى دخل مصر ، فصعد المنبر وجلس عليه ومعه الكتاب فأمر به فقرئ على الناس ، فلما فرغ من قراءة الكتاب قام قيس خطيبا :

فحمد الله وأثنى عليه فقال : الحمد لله الذي أمات الباطل وأحيا الحق وكبت الظالمين!

أيها الناس ، إنا بايعنا خير من نعلم بعد نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقوموا فبايعوا على كتاب الله وسنة نبيّه ، فإن نحن لم نعمل فيكم بكتاب الله وسنّة رسوله فلا بيعة لنا عليكم! فقام الناس فبايعوا.

ووثب مسلمة بن مخلّد الأنصاري فنعى عثمان ودعا إلى الطلب بدمه ، واعتزل معه جمع ، فأرسل قيس إليهم : إني لا اكرهكم على البيعة بل أكف عنكم وأدعكم. فهادنهم ، وأرسل إلى مسلمة يقول له : ويحك أعليّ تثب؟ والله ما احب أن لي ملك مصر إلى الشام وأني قتلتك! فقال مسلمة : فأنا كافّ عنك ما دمت أنت والي مصر.

وكان بقرية من قراها يزيد بن الحارث الكناني قد أعظم أهلها قتل عثمان ، فبعث يزيد إلى قيس يقول : إنا لا نأتيك (نبايعك) والأرض أرضك فابعث عمّالك ، ولكن أقرّنا على حالنا حتى ننظر إلى ما يصير أمر الناس ، فهادنهم.

وبعث عمّاله على أعمالها وجبا خراجها ولم ينازعه أحد منهم (١).

__________________

(١) الغارات (للثقفي) ١ : ٢٠٦ ـ ٢١٢.


وأبقى حذيفة على المدائن :

وأقام حذيفة بن اليمان العبسي على المدائن كما كان وكتب إليه :

«بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى حذيفة بن اليمان ، سلام عليك ، أما بعد ، فإني قد ولّيتك ما كنت عليه لمن كان قبلي من حرف المدائن ، وقد جعلت إليك أعمال الخراج والرستاق وجبابة أهل الذمة ، فاجمع إليك ثقاتك ومن أحببت ممن ترضى دينه وأمانته ، واستعزّ بهم على أعمالك ، فإن ذلك أعزّ لك ولوليك وأكبت لعدوّك ، وإني آمرك بتقوى الله وطاعته في السرّ والعلانية ، واحذّرك عقابه في المغيب والمشهد. وأتقدّم إليك بالإحسان إلى المحسن والشدة على المعاند ، وآمرك بالرفق في امورك والدين ، والعدل في رعيّتك ـ فإنك مسائل عن ذلك ـ وإنصاف المظلوم ، والعفو عن الناس ، وحسن السيرة ما استطعت ، فإن الله يجزي المحسنين. وآمرك أن تجبي خراج الأرضين على الحق والنصفة ، ولا تجاوز ما تقدّمت به إليك ولا تدع منه شيئا ولا تبدع فيه أمرا. ثم اقسم بين أهله بالسويّة والعدل ، واخفض لرعيّتك جناحك وآس بينهم في مجلسك ، وليكن القريب والبعيد عندك في الحق سواء ، واحكم بين الناس بالحق ، وأقم فيهم بالقسط ، ولا تتّبع الهوى ، ولا تخف في الله لومة لائم (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ).

وقد وجّهت إليك كتابا عهدا لتقرأه على أهل مملكتك ليعلموا رأينا فيهم وفي جميع المسلمين ، فأحضرهم واقرأ عليهم وخذ البيعة لنا على الصغير والكبير منهم إن شاء الله تعالى».

وكان كتابه إليهم : «بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من علي بن أبي طالب إلى من بلغه كتابي هذا من المسلمين ، سلام عليكم ، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلّا هو ، وأسأله أن يصلّي على محمد وآله.


أما بعد ، فإن الله تعالى اختار الإسلام دينا لنفسه وملائكته ورسله ، إحكاما لصنعه وحسن تدبيره ، ونظرا منه لعباده ، وخصّ به من أحبّه من خلقه ، فبعث إليهم محمدا فعلّمهم الكتاب والحكمة ، إكراما وتفضيلا لهذه الأمة ، وأدّبهم لكي يهتدوا وجمعهم لئلّا يتفرّقوا ووقّفهم لئلّا يجوروا ، فلما قضى ما كان عليه من ذلك مضى إلى رحمة الله به حميدا محمودا.

ثم إن بعض المسلمين أقاموا بعده رجلين رضوا بهديهما وسيرتهما ، فأقاما ما شاء الله ثم توفّاهما الله عزوجل ، ثم ولّوا بعدهما الثالث فأحدث أحداثا ووجدت الأمة عليه فعالا ، فاتّفقوا عليه ثم نقموا منه فغيّروا ، ثم جاءوني كتتابع الخيل فبايعوني ، وإني أستهدي الله بهداه واستعينه على تقواه ، ألا وإنّ لكم علينا العمل بكتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله والقيام عليكم بحقّه واحياء سنّته ، والنصح لكم بالمغيب والمشهد ، وبالله نستعين على ذلك وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وقد ولّيت أموركم حذيفة بن اليمان ، وهو ممّن أرضى بهداه وأرجو صلاحه ، وقد أمرته بالإحسان إلى محسنكم والشدّة على مريبكم والرفق بجميعكم ، أسأل الله لنا ولكم حسن الخيرة والإسلام ، ورحمته الواسعة في الدنيا والآخرة ورحمة الله وبركاته».

فلما وصل عهده عليه‌السلام إلى حذيفة جمع الناس فصلّى بهم ، ثم أمر أن يقرأ هذا الكتاب عليهم فقرئ ، ثم صعد هو المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ ثم قال : الحمد لله الذي أحيا الحق وأمات الباطل! وجاء بالعدل ودحض الجور وكبت الظالمين! أيها الناس ، إنه ولّاكم الله أمير المؤمنين حقا حقا ، وخير من نعلمه بعد نبيّنا ، وأولى الناس بالناس ، وأحقّهم بالأمر ، وأقربهم إلى الصدق ، وأرشدهم إلى العدل ، وأهداهم سبيلا ، وأدناهم إلى الله وسيلة ، وأمسّهم برسول الله رحما ، فأنيبوا إلى طاعة أول الناس سلما ، وأكثرهم علما ، وأقصدهم طريقة ،


وأسبقهم إيمانا ، وأحسنهم يقينا ، وأكثرهم معروفا ، وأقدمهم جهادا ، وأعزّهم مقاما : أخي رسول الله وابن عمه وأبي الحسن والحسين ، وزوج الزهراء البتول سيدة نساء العالمين.

فقوموا أيها الناس فبايعوا على كتاب الله وسنّة نبيّه ، فإن لله في ذلك رضا ولكم مقنع وصلاح ، والسلام.

فقام الناس فبايعوا لأمير المؤمنين عليه‌السلام أحسن بيعة وأجمعها.

فلما استتمّت البيعة قام إليه فتى مسلم من أبناء العجم مولى لمحمد بن عمارة الأنصاري ، من أقصى الناس وناداه : أيها الأمير ، إنا سمعناك تقول في أول كلامك : قد ولّاكم الله أمير المؤمنين حقا حقا (كأنّك) تعرّض بمن كان قبله من الخلفاء أنهم لم يكونوا أمراء المؤمنين حقا حقا ، فعرّفنا ذلك أيها الأمير رحمك الله ولا تكتمنا ، فإنك ممّن شهد وعاين ، ونحن مقلّدون ذلك في أعناقكم ، والله شاهد عليكم فيما تأتون به من النصيحة لامتكم وصدق الخبر عن نبيّكم!

فقال حذيفة : أيها الرجل ؛ أما إذ سألت وفحصت هكذا فاسمع وافهم ما أخبرك به : أما من تسمّى بأمير المؤمنين ممن تقدم من الخلفاء قبل علي بن أبي طالب فإنهم سمّاهم الناس وتسمّوا بذلك ، وأمّا علي بن أبي طالب فإن جبرئيل شهد له وسمّاه بذلك الاسم عن الله تعالى ، وعن سلام جبرئيل عليه بإمرة المؤمنين شهد له رسول الله به ، وأصحاب رسول الله في حياة رسول الله كانوا يدعونه بإمرة المؤمنين. ثم فصّل له الحديث في ذلك (١).

__________________

(١) إرشاد القلوب للديلمي (ق ٨ ه‍) ٢ : ٣٢١ ـ ٣٤٣ وأخرج المسعودي في مروج الذهب ٢ : ٣٨٣ ـ ٣٨٤ طرفا منه في أصل بيعته له ودعوته الناس إلى ذلك ، وأنه على الحق أولا وأخيرا وهو بعد النبيّ خير من مضى ومن بقي ومن خالفه على الباطل ، إلّا أن


نعي عثمان عند معاوية :

مرّ الخبر عن استغاثة عثمان بمعاوية ، وإغاثته له بجيش مع يزيد بن أسد القسري ، وأنه أمرهم أن يبقوا خارج المدينة لا يدخلوها حتى يأذن لهم ، فأتاهم النعمان بن بشير الأنصاري مبعوثا من نائلة زوجة عثمان بقميصه إلى معاوية ، فرجعوا به إلى الشام.

ولا نجد خبرا عن وصولهم إلى دمشق ، إلّا خبرا عن مبادرة أحدهم وهو الحجاج بن خزيمة الثقفي بنعي عثمان إلى معاوية ، دخل إليه وهو متلفّف ، ثم كشف عن وجهه وبدأه بخطاب : يا أمير المؤمنين! أتعرفني؟ قال : نعم ما تريد؟ قال : أنعى إليك ابن عفّان ، إني كنت فيمن خرج مع يزيد بن أسد مغيثا لعثمان ، ولقينا رجلا ممن قتل عثمان فقتلناه (١) ثم لا يخبره عن بيعة علي عليه‌السلام وإنما يحرّضه على الطلب بدم عثمان منه ، ولا يسأله معاوية عن أي شيء في ذلك ، مما يظهر منه أن الخبر متأخر عن أن يكون النعي الأول.

ولا نجد كتابا نصّا عن علي عليه‌السلام في عزل معاوية إلّا التالي : لما أتى معاوية كتاب علي عليه‌السلام بعزله عن الشام ، نادى في الناس أن يحضروا المسجد ثم خرج حتى صعد المنبر ، وخطب فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيّه ثم قال : يا أهل الشام قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، ثم خليفة عثمان ، وقد قتل مظلوما وأنا ابن عمه ووليّه ، والله يقول في كتابه : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) فأنا أحب أن تعلّموني ما في أنفسكم من قتل عثمان.

__________________

المسعودي قال : كان بالكوفة ودعا إلى الصلاة جامعة! وكان مريضا فحملوه ووضعوه على المنبر! أليس كان أميرهم أبا موسى الأشعري؟!

(١) وقعة صفين : ٧٧.


فقام كعب بن مرة السّلمي فقال : والله لقد قمت مقامي هذا وإني لأعلم أن فيكم من هو أقدم منّي صحبة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكني شهدت من رسول الله مشهدا لعل كثيرا منكم لم يشهده : إنّا كنا مع رسول الله في يوم شديد الحرّ نصف النهار فقال : «لتكوننّ فتنة حاضرة ، هذا المقنّع يومئذ على الهدى» وأشار إلى رجل مقنّع مرّ ، فقمت حتى أخذت بمنكبه وحسرت عن رأسه فإذا هو عثمان! فصرفت بوجهه إلى رسول الله وقلت : هذا يا رسول الله؟ قال : نعم.

وكان في المسجد يومئذ نحو من أربعمائة رجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقاموا وبايعوه على الطلب بدم عثمان ثم الأمر شورى (١).

__________________

(١) وقعة صفين : ٨١ ـ ٨٢ ، والصحابة مع معاوية إنما كانوا نحوا من الأربعين لا الأربعمائة! ونقله عنه المعتزلي في شرح النهج ٣ : ٩٤ ولم يعلّق عليه بشيء! وقلب كعب بن مرة إلى مرة بن كعب! كما جاء اسمه وخبره كذلك في أسد الغابة ٤ : ٣٥١ ، وانظر قاموس الرجال ١٠ : ٤٥ برقم ٧٤٨٨ ، وليس فيه كعب بن مرة وإنما مرّة بن كعب كما ذكر المعتزلي صحيحا.



بدايات

حرب الجمل



إثارة عمرو ، ومروان لمعاوية :

أما إثارة عمرو فقد مرّ في الخبر عن المعتزلي عن الكلبي عن ابن عباس خطبة علي عليه‌السلام في ردّ قطائع عثمان على المسلمين ، وفي آخره : كان عمرو بن العاص حيث وثب الناس على عثمان خرج من المدينة إلى أيلة من أرض الشام (فلسطين) فنزلها ، وبلغته خطبة علي عليه‌السلام وعمله في ردّ قطائع عثمان ، فكتب إلى معاوية : (لقد) قشّرك ابن أبي طالب من كلّ مال تملكه كما تقشر عن العصا لحاها! فاصنع ما أنت صانع (١)! أو : ما كنت صانعا إذا قشرت من كل شيء تملكه؟ فاصنع ما أنت صانع (٢).

وأما إثارة مروان : فقد نقله المعتزلي أيضا عن ابن بكّار بسنده عن ابن عرفجة : أن معاوية ورد عليه كتاب مروان بعد مقتل عثمان وفيه : يا أبا عبد الرحمن وهب الله لك قوّة العزم وصلاح النيّة ، ومنّ عليك بمعرفة الحق واتّباعه ؛ فإنّي كتبت

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١ : ٢٧٠.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٣٥٤.


إليك هذا الكتاب بعد قتل عثمان أمير المؤمنين ، وأيّ قتلة قتل! نحر كما ينحر البعير الكبير ... وإني معلمك من مخبره غير مقصّر ولا مطيل : إن القوم استطالوا مدّته ، واستقلّوا ناصره ، واستضعفوه في بدنه ، وأمّلوا بقتله بسط أيديهم فيما كان قبضه عنهم ... ثم رموه بأباطيل اختلقوها ليجعلوا ذلك ذريعة إلى قتله ، فوعدهم التوبة مما كرهوا والرجعة إلى ما أحبّوا فلم يقبلوا ذلك ، ووثبوا عليه فسفكوا دمه وانتهكوا حرمته ونهبوا داره ، وانقشعوا عنه انقشاع سحابة قد أفرغت ماءها ؛ منكفئين قبل ابن أبي طالب انكفاء الجراد إذ أبصر المرعى. فأخلق ببني أمية أن يكونوا من هذا الأمر (الخلافة) بمجرى العيّوق إن لم يثأره ثائر! فإن شئت أن تكونه أبا عبد الرحمن فكنه ، والسلام.

فلما قرأه أمر أن يؤذّن في الناس بالصلاة جامعة ثم خطبهم فقلقل القلوب وأبكى العيون ورفع الضجيج حتى علت الرنّة!

ثم كتب جواب مروان : أما بعد ، فقد وصل إليّ كتابك بشرح خبر أمير المؤمنين وما ركبوه منه ونالوه به ... فإذا قرأت كتابي هذا فكن كالفهد لا يصطاد إلّا غيلة ، ولا ينظر شزرا إلّا عن حيلة ، وكالثعلب لا يفلت إلّا روغانا ، وأخف نفسك منهم إخفاء القنفذ رأسه عند لمس الأكفّ ، وامتهن نفسك امتهان من ييأس القوم من نصره وانتصاره ، وابحث عن امورهم بحث الدجاجة عن حبّ الدّخن عند فقاسها (تجسّس) وانغل الحجاز فإنّي منغل الشام ، والسلام.

فكتب مروان جوابه : أما بعد ، فقد وصل كتابك ، فنعم كتاب زعيم عشيرة وحامي الذّمار ... كذبت نفس الظانّ بنا ترك المظلمة وحبّ الهجوع إلّا تهويمة الراكب العجل ، حتى تجذّ جماجم وجماجم! جذّ العراجين المهدّلة حين ايناعها! وأنا ـ على صحة نيّتي وقوّة عزيمتي ، وتحريك الرحم لي وغليان الدّم منّي ـ غير سابقك بقول ولا متقدمك بفعل ، وأنت ابن حرب طلّاب الترات وآبي الضّيم!


وأنا كحرباء الصحراء في الهجير ترقب عين الشمس ، وكالسبع المفلت من الشرك يفرق من صوت نفسه ، منتظرا لما تصحّ به عزيمتك ويرد به أمرك ، فيكون العمل به والمحتذى عليه.

معاوية وسعيد بن العاص :

وكتب معاوية إلى سعيد بن العاص : أما بعد ، فإنّ كتاب مروان ورد عليّ من ساعة وقعت النازلة ... ومروان الرائد لا يكذب أهله ، فعلام الإفلات يا ابن العاص ولات حين مناص! ذلك أنكم ـ يا بني أميّة ـ عما قليل تسألون أدنى العيش من أبعد المسافة فينكركم من كان عارفا ويصدّ عنكم من كان لكم واصلا ، متفرّقين في الشعاب تتمنّون لمظة المعاش! إن أمير المؤمنين (عثمان) عتب عليه فيكم وقتل في سبيلكم ففيم القعود عن نصرته والطلب بدمه! وأنتم بنو أبيه وذوو رحمه وأقربوه وطلّاب ثاره ، أصبحتم متمسّكين بشظف معاش زهيد عمّا قليل ينزع منكم عند التخاذل وضعف القوى. فإذا قرأت كتابي هذا فدبّ دبيب البرء في الجسد النحيف ، وسر سير النجوم تحت الغمام ، واحشد حشد النمل في الصيف للشتاء ، فقد أيّدتكم بأسد (الزبير) وتيم (طلحة).

فكتب سعيد جوابه : أما بعد ، فإن الحزم في التثبّت ، والخطأ في العجلة ، والشؤم في البدار ، والسهم سهمك ما لم ينبض به الوتر ، والحالب لن يردّ اللبن في الضرع. ذكرت حق أمير المؤمنين (عثمان) علينا وقرابتنا منه وأنه قتل فينا ... وأمرتنا بطلب دم عثمان! فأيّ جهة تسلك فيها أبا عبد الرحمن؟! وقد ردمت الفجاج وأحكم الأمر عليك وولى زمامه غيرك!

فدع مناوأة من لو كان افترش فراشه صدر الأمر لم يعدل به غيره ... وهبني أخالك ـ بعد خوض الدماء ـ تنال الظفر فهل في ذلك عوض عن ركوب المآثم ونقص الدين؟!


... فاعدل ـ أبا عبد الرحمن ـ زمام راحلتك إلى محجّة الحق ، واستوهب العافية لأهلك ، واستعطف الناس على قومك؟ وهيهات من قبولك ما أقول حتى يفجّر مروان ينابيع الفتن تتأجّج في البلاد ، وكأني بكما عند ملاقاة الأبطال تعتذران بالقدر! ولبئس العاقبة الندامة ، وعمّا قليل يضح لك الأمر. أما أنا فأتوسد الإسلام واستشعر العافية فلا على بني أمية ولا لهم ، أجعل الحزم داري والبيت سجني ، والسلام.

معاوية والوليد بن عقبة :

وكتب معاوية إلى الوليد بن عقبة : يا ابن عقبة ، لين العيش وطيب الخيش أطيب من سفع سموم الجوزاء عند اعتدال الشمس في افقها! إن عثمان أخاك أصبح بعيدا منك! فاطلب لنفسك ظلا تستكن به! إني أراك راقدا على الترات! وكيف بالرقاد بك لا رقاد لك! فلو قد استتبّ هذا الأمر لمريده ألفيت كالنعام الشريد يفزع من ظل الطائر ، وعن قليل تشرب الرنق وتستشعر الخوف ، وأراك فسيح الصدر مسترخى اللبّ رخو الحزام قليل الاكتراث ، وعن قليل يجتث أصلك! والسلام.

فكتب الوليد جوابه : أما بعد ، فإنك أسد قريش عقلا وأحسنهم فهما وأصوبهم رأيا ، معك حسن السياسة وأنت موضع الرئاسة ، تورد بمعرفة وتصدر عن منهل رويّ ، مناوئك كالمنقلب من العيّوق ، يهوي به عاصف الشمال إلى لجّة البحر. كتبت إليّ تذكر طيب الخيش ولين العيش ، فملء بطني حرام عليّ إلّا مسكة الرّمق ، حتى أقطع أوداج قتلة عثمان قطع الجلود بحدّ الشفار! وأما اللين ، فهيهات إلّا خيفة المرتقب يرتقب غفلة الطالب ، إنّا على مداجاة ، ولمّا تبد صفحاتنا بعد ، وليس دون الدم بالدم مناص ، فإن العار منقصة! والضعف ذل ، أيخبط قتلة عثمان زهرة الحياة الدنيا ويسقون برد المعين ، ولما يمتطوا الخوف ويلحسوا الحذر ... لا دعيت


لعقبة إن كان ذلك حتى أنصب لهم حربا تضع الحوامل لها أطفالها ... وقد عقلت نفسي على الموت عقل البعير ، واحتسبت أني ثاني عثمان أو أقتل قاتله! فعجّل عليّ ما يكون ما رأيك ، فإنا منوطون بك متّبعون عقبك. ولم أحتسب الحال تتراخى بك إلى هذه الغاية ، لما أخافه من إحكام القوم أمرهم.

معاوية وابن كريز :

وكتب إلى عبد الله بن عامر بن كريز ابن خال عثمان ووالي البصرة المعزول : أما بعد ، فإن منبر (الإمارة) مركب ذلول لا ينازعك اللجام (ولكن) هيهات ذلك إلّا بعد ركوب أثباج المهالك واقتحام أمواج المعاطب ، كأني بكم ـ يا بني أميّة ـ كالنوق المتفرقة تقودها الحداة ، أو كرخم تذرق خوف العقاب! فثب الآن والسوط جديد والجرح لما يندمل ، وقبل استضراء الأسد والتقاء لحييه على فريسته ... ونازل الرأي وانصب الشرك ، وارم عن تمكّن ، واجعل أكبر عدّتك الحذر وأحدّ سلاحك التحريض ، واغض عن العوراء ، وسامج اللجوج واستعطف الشارد ولاين الأشوس وقوّ عزم المريد ، وبادر العقبة وازحف زحف الحية واسبق قبل أن تسبق ، وقم قبل أن يقام لك واعلم أنك غير متروك ولا مهمل ، والسلام.

وأجابه ابن عامر : أما بعد ، فإن أمير المؤمنين (عثمان) كان لنا الجناح الحاضنة تأوي إليها فراخها تحتها ؛ فلما أصابه السهم صرنا كالنعام الشارد ، ولقد كنت مشترك الفكر ضالّ الفهم ألتمس دريئة استجنّ بها من خطأ الحوادث حتى وصلني كتابك ، فانتبهت من غفلة طال فيها رقادي ، فأنا كواجد المحجّة كان إلى جانبها حائرا ... وو الله للموت في طلب العز أحسن من الحياة في الذلّة! وأنت ابن حرب فتى الحروب ونصّار بني عبد شمس ، والهمم بك منوطة وأنت منهضها «فإذا نهضت فليس حين قعود» وأنا اليوم على خلاف ما كانت عليه


عزيمتي من طلب العافية وحبّ السلامة قبل قرعك سويداء القلب بسوط الملام ، ولنعم مؤدّب العشيرة أنت؟ وانا لنرجوك بعد عثمان ، وها أنا متوقّع ما يكون منك لأمتثله وأعمل عليه ، إن شاء الله!

معاوية ويعلى بن أميّة التميمي :

وكتب معاوية إلى يعلى بن أميّة التميمي حليفهم وعاملهم المعزول عن اليمن : حاطك الله بكلاءته وأيدك بتوفيقه! كتبت إليك صبيحة ورد عليّ كتاب مروان بخبر قتل أمير المؤمنين (عثمان) وأنه لمّا طال به العمر حتى نقصت قواه وثقلت نهضته وظهرت الرّعشة في أعضائه ، ورأى ذلك أقوام لم يكونوا عنده موضعا للإمامة والأمانة وتقليد الولاية ، وثبوا به وألّبوا عليه ، فكان (من) أعظم ما نقموا عليه وعابوه به ولايتك اليمن وطول مدّتك عليها! ثم ترامى بهم الأمر حالا بعد حال حتى ذبحوه ذبح النطيحة مبادرا بها الموت! وهو صائم معانق المصحف يتلوا كتاب الله! فبه عظمت مصيبة الإسلام بصهر الرسول والإمام المقتول! على غير جرم سفكوا دمه وانتهكوا حرمته! وأنت تعلم أنّ بيعته في أعناقنا وطلب ثأره لازم لنا ... وقد كتبت إلى طلحة بن عبيد الله أن يلقاك بمكة حتى يجتمع رأيكما على إظهار الدعوة والطلب بدم عثمان أمير المؤمنين المظلوم! وكتبت إلى عبد الله بن عامر يمهّد لكم العراق ويسهّل لكم حزونة عقباتها ، واعلم يا ابن أميّة أن القوم قاصدوك لاستنطاق ما حوته يداك من المال ، فاعلم ذلك واعمل على حسبه إن شاء الله.

فأجابه يعلى بن أميّة حليف بني نوفل يقول : إنا وأنتم ـ يا بني أميّة ـ كالحجر لا تبنى بغير مدر ، وكالسيف لا يقطع إلّا بضاربه! وقد وصلني كتابك بخبر القوم وحالهم ، فلئن كانوا ذبحوه ذبح النطيحة بودر بها الموت ، فلينحرنّ ذابحوه نحر البدن وافى بها الهدي الأجل! ثكلتني من أنا ابنها إن نمت عن طلب وتر عثمان ، أو يقال :


لم يبق فيه رمق! إني أرى العيش بعد قتل عثمان مرّا! إن أدلج القوم فإني مدلج ... وأما قصدهم ما حوته يدي من المال فالمال أيسر مفقود إن دفعوا إلينا قتلة عثمان! وإن أبوا ذلك أنفقنا المال على القتال! وإن لنا ولهم لمعركة نتناحر فيها كما ينحر الجزّار إبل النهيبة.

إثارة معاوية لطلحة والزبير :

وكان كتابه إلى طلحة : أما بعد فإنك أقل قريش في قريش وترا (فلم تقتل منهم في حروب الإسلام كثيرا كعليّ!) مع صباحة وجهك! وسماحة كفّك! وفصاحة لسانك! وأنت في السابقة بإزاء من تقدّمك (من الخلفاء) وخامس المبشّرين بالجنة! (فهو مبدعها) ولك يوم احد وفضله وشرفه! فسارع رحمك الله إلى ما تقلدك الرعيّة من أمرها مما لا يسعك التخلّف عنه ، ولا يرضى الله منك إلّا بالقيام به! فقد أحكمت لك الأمر قبلي. والزبير فغير متقدم بفضل عليك ... والسلام.

وكتب إلى الزبير : أما بعد ، فإنك الزبير بن العوامّ ، ابن أبي خديجة وابن عمة رسول الله وحواريّه وسلفه ، وصهر أبي بكر ، وفارس المسلمين الباذل في الله مهجته بمكة ، بعثك المنبعث فخرجت كالثعبان المنسلخ بالسيف المنصلت ، كل ذلك قوة إيمان وصدق يقين! وسبقت لك من رسول الله البشارة بالجنة! (فهو مبدعها) وجعلك عمر أحد المستخلفين على الامة (في الشورى). واعلم ـ يا أبا عبد الله ـ أن الرعيّة أصبحت كالغنم المتفرقة لغيبة الراعي ، فسارع رحمك الله إلى لمّ الشعث وجمع الكلمة وصلاح ذات البين وحقن الدماء! قبل تفاقم الأمر وانتشار الامة! فقد أصبح الناس على شفا جرف هار إن لم ير أب فعمّا قليل ينهار ، فشمّر لتأليف الامة ، وابتغ إلى ربك سبيلا ، فقد أحكمت الأمر على من قبلي لك ولصاحبك (طلحة) على أن الأمر للمقدّم ثم لصاحبه من بعده! جعلك الله من أئمة الهدى وبغاة الخير والتقوى! والسلام. ولا جواب لهما في الخبر.


هذا نصّ ما ينقله المعتزليّ عن كتاب «الأخبار الموفّقيات» (١) هذا وقد سبق نقله لكتاب معاوية إلى الزبير بغير هذا قال : لما قدم رسول أمير المؤمنين علي عليه‌السلام بكتابه إلى معاوية بطلب البيعة له والقدوم عليه ، كتب إلى الزبير وطلحة يقول : لعبد الله الزبير أمير المؤمنين! من معاوية بن أبي سفيان ؛ سلام عليك ، أما بعد فإني قد بايعت لك أهل الشام فأجابوا واستوسقوا! فدونك الكوفة والبصرة لا يسبقك إليهما ابن أبي طالب! فإنه لا شيء بعد هذين المصرين ، وقد بايعت لطلحة بن عبيد الله من بعدك ، فأظهرا الطلب بدم عثمان وادعوا الناس إلى ذلك ، وليكن منكما الجدّ والتشمير ، أظفركما الله وخذل مناوئكما! وبعث به مع رجل من بني عميس ، فلما وصل هذا الكتاب إلى الزبير سرّ به وأقرأه طلحة ، ولم يشكّا في نصح معاوية لهما ، وعند ذلك أجمعا على خلاف علي عليه‌السلام (٢).

جواب معاوية لعلي عليه‌السلام :

مرّ الخبر عن كتاب علي عليه‌السلام إلى معاوية مع سبرة الجهني ، وأنه ماطل جوابه حتى شهر صفر الثالث من مقتل عثمان. فأحضر طومارا وعنونه : من معاوية إلى علي! ودعا برجل يدعى قبيصة العبسي (٣) فدفع إليه الطومار وأوصاه بما يقول ، وسرّح رسول علي عليه‌السلام معه ، فخرجا حتى قدما المدينة في غرة ربيع الأول لسنة (٣٦ ه‍).

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١٠ : ٢٣٣ ـ ٢٤٥ ، عن الموفقيات (للزبير بن بكار) (م ٢٥٦ ه‍) وليس في المنشور.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ١ : ٢٣١ بلا إسناد. وتأتي الإشارة إليها في خطبة له عليه‌السلام في المصدر نفسه : ٣٠٩ ، ٣١٠ عن كتاب الجمل لأبي مخنف.

(٣) وفي أنساب الأشراف ٢ : ٢١٢ : يزيد بن الحرّ العبسي.


فلما دخلا المدينة أخرج العبسي الطومار وقبض على طرفه ورفعه لينظر الناس إليه ، حتى دخل على عليّ فدفع إليه الطومار ففضّ خاتمه فلم يجد فيه كتابة إلّا : من معاوية إلى علي! مقدّما اسمه على اسمه! فقال للرسول : ما وراءك؟ قال : أنا آمن؟ قال : نعم ، إن الرسل آمنة لا تقتل. فقال : قد تركت ورائي ستين ألف شيخ وقد نصب لهم قميص عثمان على منبر دمشق وهم يبكون تحته ولا يرضون إلّا بالقصاص منك! قال : أمنّي يطلبون دم عثمان! ثم رفع يديه وقال : اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان! اخرج وأنت آمن ، فخرج وقد علم الناس بأمره.

ثم كتب إلى عثمان بن حنيف الأنصاري بالبصرة ، وإلى أبي موسى الأشعري بالكوفة ، وإلى قيس بن سعد بن عبادة بمصر أن يندبوا الناس لغزو الشام.

وخطب أهل المدينة فقال : إن الله بعث رسولا هاديا مهديا بكتاب ناطق ، وأمر قائم واضح لا يهلك عنه إلّا هالك ، وإنّ المبتدعات والشبهات هنّ المهلكات إلّا من حفظ الله ، وإن في سلطان الله عصمة أمركم ، فأعطوه طاعتكم غير ملتوية ولا مستكره بها ، والله لتفعلنّ أو لينقلنّ الله عنكم سلطان الإسلام ثم لا ينقله إليكم أبدا حتى يأرز الأمر (أو الإيمان) إليها. انهضوا إلى هؤلاء القوم الذين يريدون أن يفرّقوا جماعتكم ، لعل الله يصلح بكم ما أفسد أهل الآفاق وتقضون الذي عليكم (١).

موقف عائشة :

قال المفيد : أجمع رواة الآثار ونقلة السير والأخبار : أنه لما قتل عثمان وسمعت بذلك عائشة في مكة ، استبشرت بقتله وقالت : إنه أحرق كتاب الله وأمات سنة رسول الله فقتله الله ، قتلته أعماله ، وسألت الناعي : ومن بايع الناس؟ وكان الناعي

__________________

(١) الطبري ٤ : ٤٤٤ ـ ٤٤٦ عن سيف!


نأى عن المدينة قبل أن يدين الناس لعلي عليه‌السلام بالبيعة ، وإنما رأى أن طلحة قد عمل مفاتيح لأبواب بيت المال وأخذ نعاجا لعثمان فأخبرها بذلك وقال : فلا شك أن الناس قد بايعوه! فقالت : إيها ذا الإصبع! (تعني إصبعه الشلّاء من يوم احد) قد وجدوك لها كافئا وبها محشّا!

ثم قالت : قد قضيت عمرتي فشدوا رحلي لأتوجّه إلى منزلي.

فشدّ رحلها وسارت حتى بلغت منزل سرف (أول منزل بعد مكة إلى المدينة) لقيت عبيد بن أم كلاب من بني ليث أو بني بكر قادما من المدينة فسألته ما الخبر؟ فقال : قتل عثمان! فقالت : قتل نعثل! فقال كما قالت. فقالت له : كيف كان أمره؟ قال : أحاط الناس به وبداره ورأيت قد غلب على الأمر طلحة بن عبيد الله (حتّى) اتّخذ مفاتيح لخزائن بيوت المال ، وتهيّأ ليبايع (ولكن) لما قتل عثمان خرج الناس في طلب علي بن أبي طالب يقدمهم الأشتر و(أخوك) محمد بن أبي بكر وعمّار بن ياسر ، ولم يعدلوا به طلحة ولا غيره (بل) وفي الجماعة طلحة والزبير! حتى أتوا عليا في بيته وقالوا له : بايعنا على الطاعة ، فتلكّأ عليهم ساعة! فقال الأشتر يا علي ، إن الناس لا يعدلون بك غيرك فبايع قبل أن يختلف الناس (فبايعهم وبايعوه) وكان طلحة والزبير قاعدين فقال لهما الأشتر : قم يا طلحة ، قم يا زبير فبايعا فما تنتظران؟ فقاما حتى رأيت أيديهما على يده يصفقانها ببيعته ، ثم صعد عليّ المنبر فبايعه الناس يومئذ على المنبر ، وبايعوه من الغد ، وفي اليوم الثالث (من بيعته) خرجت ولا أعلم ما جرى بعدي!

فقالت له : يا أخا بني بكر أنت رأيت طلحة بايع عليا؟ قال : إني والله رأيته بايعه وما قلت إلّا ما رأيت. فقالت : إنا لله! اكره والله الرجل ، وغصب عليّ بن أبي طالب أمرهم ، وقتل خليفة الله مظلوما! ثم نادتهم : ردّوا بغالي ردّوا بغالي ، فارتدّت إلى مكة.


قال الراوي عبيد البكري : فسرت معها فجعلت تسألني في المسير واخبرها بما كان ، فقالت : ما كنت أظنّ أنّ الناس يعدلون عن طلحة مع بلائه يوم احد! فقلت : فإن كان بالبلاء فصاحبه الذي بويع (عليّ) أشدّ بلاء وعناء! فقالت : لم أسألك هذا! فإذا دخلت مكة وسألك الناس : ما ردّ أمّ المؤمنين فقل : القيام بدم عثمان والطلب بدمه (١)!

فقال لها ابن أمّ كلاب : ولم؟ فو الله إنّ أول من أمال حرفه لأنت ، ولقد كنت تقولين : اقتلوا نعثلا فقد كفر نعثل!

فقالت : إنهم استتابوه ثم قتلوه ، وقد قلت وقالوا وقولي الأخير خير من قولي الأوّل!

فقال لها ابن أم كلاب :

فمنك البداء ومنك الغير

ومنك الرياح ومنك المطر

وأنت أمرت بقتل الإما

م وقلت لنا : إنه قد كفر

فهبنا أطعناك في قتله

وقاتله عندنا من أمر

ولم تسقط السقف من فوقنا

ولم تنكسف شمسنا والقمر

وقد بايع الناس ذا قوة

يزيل الشبا ويقيم الصّعر

ويلبس للحرب أثوابها

وما من وفى مثل من قد غدر (٢)

وأسرعت هي راجعة إلى مكة ، فبدأت بالكعبة فطافت به ثم دخلت حجر إسماعيل وضربت على نفسها سترا فيه ، ثم أمرت مناديا نادى باجتماع الناس إليها ،

__________________

(١) الجمل للمفيد : ١٦١ ـ ١٦٣.

(٢) الطبري ٤ : ٤٥٩ عن ابن نصر بن مزاحم التميمي عن سيف التميمي! وأغرب المسعودي في مروج الذهب ٢ : ٣٦٢ فنسب بيتين منها إلى عمّار بن ياسر قبل التحام القتال في الجمل بالبصرة.


فلما اجتمعوا تكلّمت لهم من سترها تنعى عثمان إليهم وتبكيه وتشهد أنه قتل مظلوما وتدعوهم إلى نصرته!

وجاءها عبد الله بن عامر الحضرمي وكان عامل عثمان على مكة فقال لها : قرّت عينك! قتل عثمان وبلغت ما أردت من أمره! فقالت : سبحان الله! أنا طلبت قتله! إنما كنت عاتبة عليه من شيء وأرضاني فيه ، وقتل عثمان من عثمان خير منه وأرضى عند الله وعند المسلمين (تعني عليا) والله ما زال قاتله مؤخّرا منذ بعث محمد! وبعد أن توفي يعدل الناس عنه إلى الخيرة من أصحاب النبيّ ولا يرونه أهلا للإمرة ولكنه رجل يحبّ الإمرة! والله لا تجتمع عليه ولا على أحد من ولده إلى يوم القيامة!

ثم التفتت إلى الناس ونادت : معاشر المسلمين! إن عثمان قتل مظلوما ، ولقد قتله من إصبع عثمان خير منه (١)!

وجاءها يعلى بن أميّة التميمي حليف بني نوفل وكان عامل عثمان على اليمن ، فقال لها : قد قتل خليفتك الذي كنت تحرّضين على قتله! فقالت : برئت إلى الله من قاتله! فقال لها : الآن! ثم قال لها : فأظهري البراءة من قاتله. فخرجت إلى المسجد وجعلت تتبرّأ ممّن قتل عثمان (٢).

موقف طلحة والزبير :

قال المفيد : كان قد بلغهما الخبر من مكة بإظهار عائشة فيها ما أظهرته من كراهة أمر أمير المؤمنين ، والبراءة ممن قتل عثمان والدعوة إلى الطلب بدمه ونصرته.

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٢٢٧ ـ ٢٢٨.

(٢) الجمل للمفيد : ٢٦٣.


وأن مروان بن الحكم ابن عم عثمان ، ويعلى بن منية (وهي أمه) حليفه وعامله على اليمن ، وعبد الله بن عامر بن كريز ابن خاله وعامله على البصرة قد اجتمعوا معها وهم يدبّرون للفتنة ، وأن عمّال عثمان قد هربوا من الأمصار إلى مكة بما احتجزوه من أموال المسلمين لخوفهم من (محاسبة) أمير المؤمنين (١) فمع ما غلب في ظنّهما ووضح لهما من أمره ورأيه وتحقّقا أنهما لا يليان معه أمرا! امتحنا ذلك.

بأن صارا إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وخطب إليه طلحة ولاية العراق ، وطلب منه الزبير ولاية الشام! فأمسك عليه‌السلام عن إجابتهما لشيء من ذلك ، فعرفا ما كان غلب في ظنهما من قبل من رأيه عليه‌السلام ، فانصرفا وهما ساخطان منه.

وتركاه يومين أو ثلاثة أيام ، ثم صارا إليه واستأذنا عليه فأذن لهما وهو في غرفة عالية من داره ، فصعدا إليه وجلسا بين يديه وقالا له : يا أمير المؤمنين قد عرفت حال هذه الأزمنة وما نحن فيه من الشدّة! وقد جئناك لتدفع إلينا شيئا نصلح به أحوالنا ، ونقضي به حقوقا علينا (٢).

فقال عليه‌السلام : قد عرفتما مالي بينبع ، فإن شئتما كتبت لكما منه ما يتيسّر؟

قالا : لا حاجة لنا في مالك بينبع ، قال : فما أصنع؟

قالا : أعطنا من بيت المال شيئا لنا فيه كفاية (٣).

فقال عليه‌السلام : سبحان الله! وأيّ يد لي في بيت المال؟! ذلك للمسلمين وأنا خازنهم وأمينهم ، فإن شئتما رقيت المنبر وسألتهم ذلك مما شئتما فإن أذنوا فيه فعلت ، وأنّى لي بذلك وهو لكافة المسلمين شاهدهم وغائبهم ، لكنّي أبلي لكما عذرا!

__________________

(١) الجمل للمفيد : ١٦٦.

(٢) وعليه فحالهما الماليّ لم يكن صالحا ، وإلّا لكانا صالحين مع عثمان ولم يكونا من الناقمين عليه ، وهذا جواب من يتساءل عن مصادرة علي عليه‌السلام لأموالهما ، فلم يكن.

(٣) كناية عن عدم كفاية ما أعطاهما كسائر الناس من بيت المال قبل هذا.


قالا : ما نكلّفك ذلك ، ولو كلّفناك ذلك لما أجابك المسلمون! قال : فما أصنع؟

قالا : قد سمعنا ما عندك ، ثم انصرفا من عنده ونزلا من الغرفة إلى أرض الدار وخرجا. وتركاه يومين آخرين ، ثم صارا إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام وقت خلوته (١) ، فلما دخلا عليه قالا : يا أمير المؤمنين ، جئناك نستأذنك للعمرة ، فلم يأذن لهما ، فقالا : نحن بعيدو العهد بها فأذن لنا فيها! فقال لهما : ما تريدان العمرة ولكنكما تريدان الغدرة أو البصرة! فقالا : اللهم غفرا ، ما نريد إلّا العمرة! فقال عليه‌السلام : احلفا لي بالله العظيم أنكما لا تفسدان عليّ امور المسلمين ولا تنكثان لي بيعة ولا تسعيان في فتنة!

قال : فبذلا ألسنتهما بالأيمان المؤكّدة على ما استحلفهما عليه من ذلك.

فلما خرجا من عنده لقيهما ابن عباس وعلم أمرهما ، ودخل على أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال له : قد رأيت طلحة والزبير! قال : إنهما استأذناني في العمرة فأذنت لهما بعد أن استوثقت منهما بالأيمان أن لا يغدرا ولا ينكثا ولا يحدثا فسادا! وإني أعلم أنهما ما قصدا إلّا الفتنة ، فكأنّي بهما وقد صارا إلى مكة ليستعينا على حربي! فإنّ يعلى بن منية (وهي أمه) الخائن الفاجر قد حمل أموال (اليمن ، وابن عامر قد حمل أموال العراق وفارس) لينفقوا ذلك. وسيفسد هذان الرجلان عليّ أمرى ويسفكان دماء شيعتي وأنصاري!

فقال ابن عباس : إذا كان عندك الأمر كذلك فلم أذنت لهما؟ وهلّا حبستهما وأوثقتهما بالحديد وكفيت المسلمين شرّهما؟!

فقال عليه‌السلام : يا ابن عباس ، والله لا عدلت عمّا أخذ الله عليّ من الحكم بالعدل والقول بالفصل ، أتأمرني أن أبدأ بالظلم ، وبالسيئة قبل الحسنة ، وأعاقب على الظنّة والتهمة ، واؤاخذ بالفعل قبل كونه؟! كلّا والله! يا ابن عباس إني أذنت لهما وأنا أعرف

__________________

(١) وليس ليلا ، فلا شمعة!


ما يكون منهما ، لكنني استظهرت بالله عليهما! والله لأقتلنّهما! وليخيبنّ ظنّهما! ولا يلقيان من الأمر مناهما! فإن الله يأخذهما بظلمهما لي ونكثها بيعتي وبغيهما عليّ (١).

وكانت أم راشدة مولاة أم هاني بنت أبي طالب اخت علي عليه‌السلام تخدمه ، فلما ولّيا من عنده سمعتهما يقولان : ما بايعناه بقلوبنا وإنما بايعناه بأيدينا! فأخبرت عليا بمقالتهما فتلا قوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)(٢).

هذا كل ما نقله وأفاده الشيخ المفيد في «الجمل» في موقفهما هنا.

موقفهما عند الإسكافي والطوسي :

وقد روى قبله الإسكافي في «نقض رسالة العثمانية» للجاحظ قال :

بينا الناس في المسجد بعد الصبح إذ طلع طلحة والزبير فانتحيا عن علي عليه‌السلام إلى ناحية عنه في المسجد وجلسا فيها! ثم طلع عبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص ومروان بن الحكم فجلسوا إليهما! ثم جاء قوم من قريش فانضموا إليهم ، وأخذوا يتحدّثون فيما بينهم ساعة.

ثم قام الوليد بن عقبة فجاء إلى علي عليه‌السلام فقال :

يا أبا الحسن (كذا) إنك قد وترتنا جميعا ، أما أنا فقتلت أبي يوم بدر صبرا ، وخذلت أخي (عثمان) يوم الدار بالأمس! وأما سعيد فقتلت أباه يوم بدر في الحرب وكان ثور قريش! وأما مروان فسخّفت أباه عند عثمان إذ ضمّه إليه ، ونحن إخوتك

__________________

(١) الجمل للمفيد : ١٦٤ ـ ١٦٧ عن كتاب حرب الجمل لأبي مخنف ، والثقفي عن رجاله الكوفيين والشاميين ، قال : ولم يورد أحد من أصحاب الآثار نقيضه أو ضدّه.

(٢) الفتح : ١٠ ، والخبر في الجمل للمفيد : ١٦٥ و٤٣٧.


ونظراؤك من بني عبد مناف! فنحن نتابعك (١) اليوم على أن تضع عنا ما أصبناه من المال في أيام عثمان ، وأن نقتل قتلته! وإنا إن خفناك تركناك والتحقنا بالشام (مما يشير إلى أن هذا كان بعد مخالفة معاوية وإثارته لهم).

فقال عليه‌السلام : أما ما ذكرتم من وتري إياكم ؛ فالحق وتركم.

وأما وضعي عنكم ما أصبتم ؛ فليس لي أن أضع حق الله ، عنكم ولا عن غيركم.

وأما قتلي قتلة عثمان ؛ فلو لزمني قتلهم اليوم لقتلتهم (أو : قاتلتهم) أمس ، ولكن لكم عليّ إن خفتموني أن اؤمّنكم ، وإن خفتكم أن أسيّركم!

فقام الوليد إلى أصحابه فحدّثهم ، وافترقوا على إظهار العداوة وإشاعة الخلاف!

فلما ظهر ذلك من أمرهم قال عمّار بن ياسر لأصحابه : قوموا بنا إلى هؤلاء النفر من إخوانكم ، فإنه قد بلغنا عنهم ورأينا منهم ما نكره من الخلاف والطعن على إمامهم ، وقد دخل أهل الجفاء بينهم وبين الزبير ، والأعسر العاق (يعني طلحة).

فقام أبو الهيثم بن التيهان (ذو الشهادتين) وأبو أيوب خالد بن يزيد وسهل بن حنيف وجماعة معهم (٢) منهم أبو حيّة الوداعي ورفاعة بن رافع.

قال مالك بن أوس الحدثان الأنصاري : فقاموا وقمنا معهم حتى جلسوا إليهم.

__________________

(١) نقله المعتزلي في شرح النهج ٦ : ٣٩ : نبايعك ، وهو تصحيف فإنهم كانوا قد بايعوا ، وإنما كانت الكلمة : نتابعك.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٣٨ ـ ٣٩ عن نقض العثمانية ، لأبي جعفر الإسكافي (م ٢٤٠ ه‍).


فتكلم أبو الهيثم بن التيّهان فقال لهما : إنّ لكما لقدما في الإسلام وسابقة ، وقرابة من أمير المؤمنين ، وقد بلغنا عنكم سخط وطعن على أمير المؤمنين ، فإن يكن أمرا لكما خاصة فعاتبا إمامكما وابن عمّتكما (كذا) وإن كان نصيحة للمسلمين فلا تؤخّراه (تدّخراه) عنه ونحن عون لكما ، فقد علمتما أن بني أميّة (١) لن تنصحكما أبدا ، وقد عرفتما عداوتهم لكما وقد شركتما في دم عثمان ومالأتما عليه!

فتكلم طلحة وقال : إني قد عرفت أن في كل واحد منكم خطابا ، فافرغوا جميعا مما تقولون.

فتكلم عمّار فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ وآله ثم قال : أنتما صاحبا رسول الله ، وقد أعطيتما إمامكما الطاعة والمناصحة ، والعهد والميثاق على العمل بطاعة الله وطاعة رسوله ، وأن يجعل (أو : وإذ جعل) كتاب الله إماما ، ففيم السخط والغضب على عليّ بن أبي طالب؟!

فتكلم عبد الله بن الزبير وقال لعمّار : يا أبا اليقظان لقد تهذّرت (أي قلت هذرا أي هجرا وهذيانا)!

فقال له عمّار : ما لك تتعلق بمثل هذا يا أعبس! ثم أمر به أن يخرجوه!

فقام الزبير وقال لعمّار : يا أبا اليقظان عجلت على ابن أخيك رحمك الله!

فقال له عمّار : يا أبا عبد الله ... إنكم معشر المهاجرين لم يهلك من هلك منكم حتى استدخل في أمره المؤلّفة قلوبهم! فأنشدك الله أن تسمع قول من رأيت!

فقال الزبير : معاذ الله أن نسمع منهم.

كان هذا بغير محضر علي عليه‌السلام ، فتشاوروا فيما بينهم أن يركبوا إليه إلى موضع القناة من أودية المدينة حيث منزله عليه‌السلام فيخبروه بخبر القوم ، فركبوا إليه ومعهم

__________________

(١) فيعلم منه أن إثارة معاوية كان قد تبيّن لهم.


سهل بن حنيف فأخبروه باجتماعهم مع القوم وما هم عليه من التعظيم لقتل عثمان وإظهار الشكوى (١) وقالوا له : يا أمير المؤمنين ، انظر في أمرك وعاتب قومك هذا الحيّ من قريش ، فإنهم قد نقضوا عهدك وأخلفوا وعدك ، وقد دعونا في السرّ إلى رفضك هداك الله لرشدك ، ذلك لأنهم كرهوا الاسوة (في العطاء بسائر الناس) لما آسيت بينهم وبين الأعاجم (الموالي) فأظهروا الطلب بدم عثمان فرقة للجماعة وتألّفا لأهل الضلالة ، فرأيك.

فاتّزر ببرد قطريّ وارتدى بطاق وعليه عمامة خزّ سوداء وتقلّد سيفا وركب بغلة رسول الله الشهباء حتى دخل المدينة والمسجد وصعد المنبر ، واجتمع أهل الفضل من الصحابة.

خطبته عليه‌السلام في العطية بالسوية :

فحمد الله وأثنى عليه ثم قال وهو متّكئ على قوس (٢) :

«أما بعد ـ أيها الناس ـ فإنا نحمد الله ربّنا وإلهنا ، ووليّنا ووليّ النعم علينا ، الذي أصبحت نعمه علينا ظاهرة وباطنة امتنانا منه ، بغير حول منّا ولا قوة ، ليبلونا أنشكر أم نكفر ، فمن شكر زاده ومن كفر عذّبه ، فأفضل الناس عند الله منزلة ، وأقربهم من الله وسيلة ، أطوعكم لأمره وأعملهم بطاعته ، وأتبعهم لسنة رسوله وأحياهم لكتابه ، ليس لأحد عندنا فضل إلّا بطاعة الله وطاعة الرسول.

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٧٢٧ ، الحديث ١٥٣٠ عن ابن عقدة عن أبي الصلت الهروي عن مالك بن أوس بن الحدثان.

(٢) أمالي الطوسي : ٧٢٧ ، الحديث ١٥٣٠ مسندا عن ابن عقدة عن أبي الصلت الهروي عن أوس بن الحدثان الأنصاري ، وقبله في المعيار والموازنة : ١٠٩ ـ ١١٠ مرسلا.


هذا كتاب الله بين أظهرنا وعهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيرته فينا ، لا يجهل ذلك إلّا جاهل عاند عن الحق منكر ، قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ)(١).

ثم قال : ألا إنه من استقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا ، وشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا عبده ورسوله ، أجرينا عليه أحكام القرآن وأقسام الإسلام ، ليس لأحد على أحد فضل إلّا بتقوى الله ، جعلنا الله وإياكم من المتقين وأوليائه وأحبائه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

ثم صاح بأعلى صوته : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإن الله لا يحبّ الكافرين! ثم قال : يا معشر المهاجرين ، يا معشر الأنصار ، يا معشر المسلمين ، أتمنّون على الله ورسوله بإسلامكم؟ (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٢).

ثم قال : ألا إن هذه الدنيا التي أصبحتم تتمنّونها وترغبون فيها ، وأصبحت تغضبكم وترضيكم ، ليست بداركم ، ولا منزلكم الذي خلقتم له ، ولا الذي دعيتم إليه ، ألا وإنها ليست بباقية لكم ولا تبقون عليها ، فلا يغرنّكم عاجلها فقد حذّرتموها ، ووصفت لكم وجرّبتموها ، فأصبحتم لا تحمدون عاقبتها. فسابقوا ـ رحمكم الله ـ إلى منازلكم التي أمرتم أن تعمروها ، فهي العامرة التي لا تخرب أبدا ، والباقية التي لا تنفد ، رغّبكم الله فيها ودعاكم إليها ، وجعل لكم الثواب فيها.

فيا معاشر المهاجرين والأنصار وأهل دين الله ، انظروا ما وصفتم به في كتاب الله ، ونزّلتم به عند رسول الله وجاهدتم عليه فما فضّلتم به بالحسب والنسب؟ أم بعمل وطاعة؟ فاستتمّوا ـ رحمكم الله ـ نعمه عليكم بالصبر لأنفسكم ، والمحافظة

__________________

(١) الحجرات : ١٣.

(٢) الحجرات : ١٧.


على ما استحفظكم الله من كتابه. ألا وإنه لا يضركم تواضع شيء من دنياكم بعد حفظكم وصية الله والتقوى. ولا ينفعكم شيء حافظتم عليه من أمر دنياكم بعد تضييع ما أمرتم به من التقوى ، فعليكم عباد الله بالتسليم لأمره والرضا بقضائه والصبر على بلائه.

فأما هذا الفيء فليس لأحد على أحد فيه أثرة ، فقد فرغ الله من قسمته ، فهو مال الله وأنتم عباد الله المسلمون ، وهذا كتاب الله به أقررنا وعليه شهدنا ، وله أسلمنا ، وعهد نبيّنا بين أظهرنا فسلّموا رحمكم الله ، ومن لم يرض بهذا فليتولّ كيف شاء! فإن العامل بطاعة الله والحاكم بحكم الله لا وحشة عليه اولئك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون واولئك هم المفلحون. ونسأل الله ربنا وإلهنا أن يجعلنا وإياكم من أهل الطاعة ، وأن يجعل رغبتنا ورغبتكم فيما عنده. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم» (١).

محاجّتهما معه عليه‌السلام :

ثم نزل عن المنبر فصلّى ركعتين وكان طلحة والزبير في ناحية المسجد ، فبعث بعمّار بن ياسر وعبد الرحمن بن حنبل (أو حسل) القرشي (الشاعر) عليهما ، فأتياهما فدعواهما فقاما حتى جلسا إليه عليه‌السلام فقال لهما :

أنشدتكما الله هل جئتماني طائعين للبيعة ودعوتماني إليها وأنا كاره؟! قالا : اللهم نعم ، فقال : غير مجبرين ولا مقسورين ، فأسلمتما لي بيعتكما وأعطيتماني عهدكما؟ قالا : اللهم نعم ، فقال : الحمد لله رب العالمين ، ثم قال لهما : فما عدا مما بدا؟

__________________

(١) تحف العقول : ١٢٩ ـ ١٣٠ ، مرسلا ، ومسنده عن ابن عقدة عن أبي الصلت الهروي عن أوس بن الحدثان الأنصاري في أمالي الطوسي : ٧٢٧ ، الحديث ١٥٣٠ ، وقبله مرسلا في المعيار والموازنة : ١٠٩ ـ ١١٢.


قالا : أعطيناك بيعتنا على أن لا تقطع الامور دوننا ، وأن تستشيرنا في الامور ، ولا تستبدّ بها عنّا ، ولنا من الفضل على غيرنا ما قد علمت ، فأنت تقسم القسم وتقطع الأمر وتمضي الحكم بغير مشاورتنا ولا رأينا ولا علمنا!

فقال لهما : لقد نقمتما يسيرا وأرجأتما كثيرا ، فاستغفرا الله يغفر لكما ، ألا تخبراني في شيء لكما فيه حق دفعتكما عنه؟! أم في قسم استأثرت به عليكما؟! قالا : معاذ الله!

قال : ففي حق دفعه إليّ أحد من المسلمين فجهلته أو ضعفت عنه أو حكم أخطأت فيه؟! قالا : اللهم لا.

قال : ففي أمر دعوتماني إليه من أمر عليه المسلمين فقصّرت عنه أو خالفتكما فيه؟ قالا : اللهم لا.

قال : فما الذي كرهتما من أمري ونقمتما من تأميري ورأيتما من خلافي؟!

قالا : خلافك عمر بن الخطاب في القسم ، فإنك جعلت حقّنا في القسم في الإسلام كحقّ غيرنا وسوّيت بيننا وبين من أفاء الله به علينا بأسيافنا ورماحنا ، وأوجفنا عليه بخيلنا ورجلنا ، وظهرت عليه دعوتنا وأخذناه قسرا ممن لم يأتوا الإسلام إلّا كرها!

فقال عليه‌السلام : الله أكبر! اللهم إني اشهدك عليهما واشهد من حضر مجلسي اليوم عليهما!

ثم قال : أما ما احتججتما به عليّ من الاستشارة ؛ فو الله ما كانت لي في الولاية رغبة ، ولكنكم دعوتموني إليها وحملتموني عليها وأنا كاره ، فخفت أن تختلفوا وأن أردّكم عن جماعتكم ، فلما أفضت إليّ نظرت إلى كتاب الله وما وضع لنا وأمر بالحكم به ، وما قسم ، وما استنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأمضيته واتّبعته ، ولم أحتج إلى رأيكما ولا دخولكما معي ولا غيركما ، ولم يقع حق جهلته فأثق برأيكما فيه واستشيركما و(سائر) إخواني من المسلمين ، ولو كان ذلك لم أرغب عنكما ولا عن غيركما ،


إذا كان من أمر ليس في كتاب الله بيانه وبرهانه ، ولم تكن فيه سنّة من نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يمض فيه أحكام من إخواننا ممن يقتدى برأيه ويرضى بحكمه!

وأما ما ذكرتما من الاسوة ؛ فإنّ ذلك أمر لم أحكم أنا فيه ولم أقسمه ، قد وجدت أنا وأنتما ما جاء به رسول الله قسما قد فرغ الله من قسمه وأمضى فيه من حكمه.

وأما قولكم : جعلت لهم فيئنا وما أفاءت رماحنا وسيوفنا ، فقدما سبق إلى الإسلام قوم لم يضرهم إذا استؤثر عليهم في شيء من الأحكام ، ولم يضرهم حين استجابوا لربّهم ، والله موفّيهم يوم القيامة أعمالهم ، ألا وإنّا مجرون عليهم أقسامهم. فليس ـ والله ـ عندي لكما ولا لغيركما في هذا عتب! أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحق ، وألهمنا وإياكم الصبر. رحم الله رجلا رأى حقا فأعان عليه ، أو رأى جورا فردّه وكان عونا للحق على صاحبه (١) ثم كان ما مرّ عن المفيد.

ثم لم يلقيا أحدا إلّا وقالا له : ليس لعليّ في أعناقنا بيعة ، وإنما بايعناه مكرهين!

فبلغه ذلك فقال : أبعدهما الله وأغرب دارهما! أما والله لقد علمت أنهما سيقتلان أنفسهما أخبث مقتل ، ويأتيان من وردا عليه (البصرة) بأشأم يوم! والله ما العمرة يريدان ، ولقد أتياني بوجهين فاجرين ورجعا بوجهين غادرين ناكثين! والله لا يلقياني بعد اليوم إلّا في كتيبة خشناء يقتلان أنفسهما فيها ، فبعدا لهما وسحقا (٢).

__________________

(١) المعيار والموازنة : ١٠١ ـ ١١٤ مرسلا وكذلك في المختار : ٢٠٣ من نهج البلاغة ، ومسنده في أمالي الطوسي : ٧٢٧ ، الحديث ١٥٣٠ عن ابن عقدة عن أبي الصلت الهروي عن اوس بن الحدثان الأنصاري.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ١ : ٢٣٢ بلا إسناد.


كتابه عليه‌السلام إلى ابن حنيف :

وكأن الثوّار البصريّين كانوا قد رجعوا إلى البصرة ، وعليها الوالي الجديد عثمان بن حنيف الأنصاري ، وبلغهم أن رجلا من أغنيائها أعدّ له مأدبة طعام ودعا معه أمثاله من الأغنياء إليها ، فكان ذلك مشابها لما كان عليه عامل عثمان عبد الله بن عامر وعلى خلاف ما يتوقّعون ، فأبلغوا ذلك عليا عليه‌السلام ، فكتب إليه :

أما بعد ، يا ابن حنيف ، فقد بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها ، تستطاب لك الألوان وتنقل إليك الجفان! وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفوّ وغنيّهم مدعوّ. فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم فما اشتبه عليك علمه فالفظه ، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه.

ألا وإن لكلّ مأموم إماما يقتدي به ويستضيء بنور علمه ، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه. ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد ، فو الله ما كنزت من دنياكم تبرا ولا ادّخرت من غنائمها وفرا ، ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا ، ولا حزت من أرضها شبرا ، ولا أخذت منه إلّا كقوت أتان دبرة ، ولهي في عيني أهوى وأهون من عفصة مقرة (ورقة مرّة).

بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلّته السماء ، فشحّت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس قوم آخرين ، ونعم الحكم الله! وما أصنع بفدك وغير فدك والنفس مظانّها في غد جدث ، تنقطع في ظلمته آثارها وتغيب أخبارها ، وحفرة لو زيد في فسحتها وأوسعته يدا حافرها ، لأضغطها الحجر والمدر ، وسدّ فرجها التراب المتراكم. وإنما هي نفسي اروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر ، وتثبت على جوانب المزلق.

ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفّى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القزّ ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة ،


ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع! أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى (جوعى) وأكباد حرّا (عطشى) أو أكون كما قال القائل :

وحسبك داء أن تبيت ببطنة

وحولك أكباد تحنّ إلى القدّ

(أي تميل إلى اللحم المجفّف البائت) أأقنع من نفسي بأن يقال لي : أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون لهم أسوة في جشوبة العيش (خشونتها) فما خلقت ليشغلني أكل الطيّبات كالبهيمة المربوطة همّها علفها ، أو المرسلة شغلها تقمّمها ، تكترش من أعلافها وتلهو عمّا يراد بها ، أو أترك سدى ، أو أهمل عابثا ، أو أجرّ حبل الضّلالة ، أو اعتسف (أتكلّف) طريق المتاهة!

وكأنّي بقائلكم يقول : إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران ومنازلة الشّجعان ؛ ألا وإن الشجرة البريّة أصلب عودا ، والروائع الخضرة أرقّ جلودا ، والنابتات العذية (بالمطر) أقوى وقودا وأبطأ خمودا ، وأنا من رسول الله كالضّوء من الضّوء والذراع من العضد؟ والله لو تظاهرت العرب على قتالى لما ولّيت عنها ، ولو أمكنت الفرص من رقابها لسارعت إليها ، وسأجهد في أن اطهّر الأرض من هذا الشخص المعكوس والجسم المركوس (معاوية) حتى تخرج المدرة من حبّ الحصيد (١).

فيعلم منه أنه كان بعد انتشار أخبار معاوية بالاعتراض على علي عليه‌السلام وحين استعداده لمقابلته وقبل انتشار أخبار أصحاب الجمل ، وقد مرّ الخبر عن المفيد : أنه عليه‌السلام كتب إلى ابن حنيف بالبصرة : أن يندب الناس لغزو الشام ، فكان على علم بذلك. وكأنّه عليه‌السلام أجاب ضمنا عن علة عدم استرداده لفدك أيضا.

__________________

(١) نهج البلاغة ، كتاب : ٤٥.


إثارة الزبير لعائشة :

سار طلحة والزبير إلى مكة بمن تبعهما من أولادهما وخاصّتهما (١) ، واعتمرا فطافا وصلّيا وسعيا. ثم إنّ محمد بن طلحة وإن كان تيميا من أبناء أعمام عائشة ولكنه غير محرم لها ، ولكن عبد الله بن الزبير ابن أسماء بنت أبي بكر اخت عائشة ، فهو ابن اختها وهي خالته فهو محرم لها ، ولذا فإن الزبير دعاه وقال له : امض إلى خالتك وقل لها : إن طلحة والزبير يقرئانك السلام ويقولان لك : إن أمير المؤمنين عثمان قتل مظلوما! وإنّ علي بن أبي طالب ابتزّ الناس أمرهم وغلبهم عليه بالسفهاء الذين تولّوا قتل عثمان! ونحن نخاف انتشار الأمر به (ونروم الخروج عليه) فإن رأيت أن تسيري معنا لعلّ الله أن يرتق بك فتق هذه الامّة ويشعب بك صدعهم ويلمّ بك شعثهم ويصلح بك أمورهم!

فأتاها عبد الله وبلّغها ما أرسلاه به.

فقالت له : يا بنيّ ، إني رجعت إلى مكة لأعلم الناس ما فعل بإمامهم عثمان ، وأنه أعطاهم التوبة فقتلوه تقيّا نقيّا بريّا! وليروا في ذلك رأيهم ويسيروا إلى من ابتزّهم أمرهم وغصبهم من غير مشورة من المسلمين ولا مؤامرة! بل بتكبّر وتجبّر! يظن أن الناس يرون له حقا كما كانوا يرونه لغيره! هيهات هيهات! يظنّ ابن أبي طالب أن يكون في هذا الأمر كابن أبي قحافة ؛ لا والله! ومن في الناس مثل ابن أبي قحافة ، تخضع له الرقاب ويلقى إليه المقاد! وليها والله ابن أبي قحافة فخرج منها كما دخل. ثم وليها أخو بني عدي (عمر) فسلك طريقه ، ثم مضيا ، فوليها ابن عفّان ، فركبها رجل له سابقة ومصاهرة برسول الله وأفعال مع النبيّ مذكورة لا يعمل أحد من الصحابة مثل ما عمله في ذات الله! (ولكنّه)

__________________

(١) وكان ذلك بعد مقتل عثمان بأربعة أشهر ، عن الزهري في أنساب الأشراف ٢ : ٢١٩.


كان محبّا لقومه فمال بعض الميل! فاستتبناه فتاب ثم قتل! فيحق للمسلمين أن يطلبوا بدمه! ولكنّي يا بنيّ لم اومر بالخروج!

فقال لها عبد الله : ايا امّه؟ فإذا كان هذا قولك في عليّ ورأيك في قاتلي عثمان ، فما الذي يقعدك عن المساعدة على جهاد عليّ بن أبي طالب ، وقد حضرك من المسلمين من فيه غنى وكفاية فيما تريدين؟

فقالت له : يا بنيّ ؛ افكّر فيما قلت ، وتعود أنت.

فعاد عبد الله إلى أبيه وطلحة بخبرها ، فقالا له : باكرها في الغد فذكّرها أمر المسلمين ، وأعلمها أننا قاصدان إليها لنجدّد بها عهدا ونحكم معها عقدا.

فباكرها عبد الله وأعاد عليها بعض ما أسلفه من القول (١) ، وعن ابن أعثم الكوفي هنا : أن أمّ سلمة أيضا كانت حاضرة ناظرة إذ جاء ابن الزبير يحث خالته عائشة على الخروج على علي عليه‌السلام ، فكان ذلك بمرأى ومسمع منها إذ بلغ الكلام بينهم إلى حديث النبيّ في علي قال : «عليّ بعدي وليّ الناس» فانكر أن يكون أحد سمعه صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول ذلك في علي عليه‌السلام ، فقالت له أمّ سلمة : إن لم تكن سمعت ذلك فهذه خالتك سلها : أن النبيّ قال لعليّ : «أنت خليفتي في حياتي وبعد مماتي» فبادرت عائشة وقالت : نعم سمعت ذلك من النبيّ! فقالت لها أمّ سلمة : فلا يغرّنك طلحة والزبير فإنّهما لا يغنيان عنك من الله شيئا (٢).

وجاء أبوه الزبير فسلّم عليها وقال : قد أجابت أمّنا ـ والحمد لله ـ إلى ما نريد!

فقالت له : يا أبا عبد الله ، شركت في دم عثمان ثم بايعت عليا؟ وأنت والله أحقّ بالأمر منه!

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٢٢٩ ، ٢٣٠.

(٢) كتاب الفتوح لابن الأعثم ٢ : ٤٥٤ ، ٤٥٥.


فقال الزبير : أما ما صنعت مع عثمان فقد هربت من ذنبي في ذلك إلى ربّي! ولن أترك الطلب بدمه! وأما بيعتي لعليّ ؛ فو الله ما بايعته إلّا مكرها! التفّ به السفهاء من أهل مصر والعراق وسلّوا سيوفهم وأخافوا الناس حتى بايعوه!

ولما بصرت بطلحة قالت له : يا أبا محمد! قتلت عثمان وبايعت عليا؟!

فقال لها : يا امّه! ما مثلي إلّا كما قال الأول :

ندمت ندامة الكسعيّ لمّا

رأت عيناه ما صنعت يداه

ثم نادى المنادي عنها : إن أم المؤمنين تريد أن تخرج تطلب بدم عثمان ، فمن كان يريد أن يخرج فليتهيّأ للخروج معها (١).

وتجهيز العسكر :

روى الواقدي في كتابه في حرب الجمل عن رجاله قال : إن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي كان عامل عثمان على صنعاء اليمن ، فلما بلغه حصر الناس لعثمان (حمل ما معه من المال) وأقبل لنصرته مسرعا على بغلة ، فلقيه صفوان بن أميّة على فرسه فلما دنا الفرس من البغلة نفرت البغلة فطرحت ابن أبي ربيعة فانكسرت فخذه ، وبلغه قتل عثمان فصار إلى مكة ، فوجد بها عائشة تدعو للخروج للطلب بدم عثمان ، فأمر أن يوضع له سرير في المسجد الحرام فيوضع عليه ففعلوا ، فنادى في الناس : من خرج للطلب بدم عثمان فعليّ جهازه!

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٢٣٠ ـ ٢٣١ ونحوه في : ٤٣٠ ، والكسعي رجل رمى صيدا ليلا فأصابه وهو يظنّ أنه أخطأه فكسر قوسه ، فلما أصبح ورأى الصيد ندم على كسره قوسه ، لسان العرب ٨ : ٣١١. ويلاحظ على الخبر أن الشعر للفرزدق كما في اللسان ، والفرزدق متأخر إلّا أن يكون الخبر بالأصل فيه المثل من دون الشعر.


وكان يعلى بن منية التميمي حليف بني نوفل عاملا لعثمان على الجند باليمن ، وكان قد حجّ بمال معه كثير ، فلما بلغه قتل عثمان وعزل علي عليه‌السلام له عن اليمن وسمع نداء ابن أبي ربيعة ، خرج من داره وهو مشتمل بشملة صنعانية ويحمل صرّة يشير بها ويقول : أيها الناس ؛ هذه عشرة آلاف دينار من عين مالي! أقوّي بها من طلب بدم عثمان ، ومن خرج بطلب دم عثمان فعليّ جهازه! ثم اشترى أربعمائة بعير أناخها بالبطحاء وحمل عليها الرجال (١).

ويتشاورون إلى أين يخرجون؟

روى البلاذري بسنده عن الزهري : أن الزبير وطلحة لما صارا إلى مكة ، وبها يعلى بن منية التميمي ومعه زيادة على أربعمائة بعير ومال كثير قدم به من اليمن ، وقدم عليهم من البصرة ابن عامر يجرّ معه الدنيا! اجتمعوا عند عائشة يداولون الرأي!

فقالوا : نسير إلى المدينة فنقاتل عليا.

فقال بعضهم : ليست لكم طاقة بأهل المدينة!

فقالوا : فنسير إلى الشام فيه الرجال والأموال ، وأهله شيعة لعثمان ، فنطلب بدمه ونجد منهم على ذلك أعوانا وأنصارا ومشايعين.

فقال قائل منهم : هناك معاوية وهو والي الشام والمطاع به ، فلن تنالوا ما تريدون ، وهو أولى منكم بما تحاولون فإنه ابن عم الرجل.

فقال بعضهم : نسير إلى العراق فلطلحة شيعة بالكوفة ، وللزبير من يميل إليه ويهواه بالبصرة! أشار بذلك عليهم عبد الله بن عامر وقوّاهم بمال كثير (٢).

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٢٣١ ـ ٢٣٣.

(٢) أنساب الأشراف ٢ : ٢٢١ ـ ٢٢٢.


وقال الدينوري : دعاهم عبد الله بن عامر إلى البصرة ووعدهم الأموال والرجال.

فقال سعيد بن العاص لطلحة والزبير : إن ابن عامر يدعوكما إلى البصرة وقد فرّ من أهلها فرار العبد الآبق وهم في طاعة عثمان ، ويريد اليوم أن يقاتل بهم عليا وهم في طاعة علي! وخرج منهم أميرا ويعود إليهم طريدا ، ويعدكم الأموال والرجال فأما الأموال فعنده ولكن لا رجال له. وكان معهم الوليد بن عقبة ومروان بن الحكم.

فقال الزبير : الشام بها الرجال والأموال وعليها معاوية ، وهو ابن عمّ الرجل (عثمان) فمتى نجتمع عنده يولّنا عليه!

فقال يعلى بن منية ـ وكان داهية ـ أيها الشيخان ، قدّرا قبل أن ترحلا : إنّ معاوية قد سبقكم إلى الشام وفيها الجماعة ، وأنتم تقدمون عليه غدا في فرقة ، وهو ابن عمّ عثمان دونكم ، أرأيتم إن دفعكم عن الشام أو قال : أجعلها شورى ، فما أنتم صانعون؟ أتجعلونها شورى فتخرجا منها؟ أم تقاتلونه؟ وأقبح من ذلك أن تأتيا رجلا في يديه أمر قد سبقكما إليه وتريدا أن تخرجاه عنه!

فقال القوم : فإلى أين؟

قال : البصرة. وقال ابن عامر : البصرة ، فإن غلبتم عليا فلكم الشام! وإن غلبكم علي كان معاوية جنة لكم ، وهذه كتب أهل البصرة إليّ!

فقال الزبير له : فمن رجال البصرة؟ قال : ثلاثة كلهم سيّد مطاع : المنذر بن ربيعة في ربيعة ، والأحنف بن قيس التميمي في مضر ، وكعب بن سور (قاضي البصرة) في اليمن.

فاجتمعت كلمتهم على المسير إلى البصرة ، وكتبوا كتبا إلى هؤلاء الثلاثة (١).

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ٥٩ و٦٠ ، وانظر الطبري ٤ : ٤٥٠ ، ٤٥١ عن سيف و٤٥٢ عن الزهري.


طمعهما في أمّ سلمة :

لم يكن الحجّ لهذا العام في أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خاصا بعائشة بل كان معها حفصة وأمّ سلمة أيضا ، وكذلك لم يكن إثارة الزبير وطلحة وطلبهما الانضمام إليهما في الخروج على عليّ عليه‌السلام خاصا بعائشة بل شمل أمّ سلمة أيضا.

فقد روى الواقدي بسنده عن ابن أبي رافع عنها : أنّها بعد حجتها أقامت بمكة حتى دخل المحرّم (١) قالت : وإذا برسول طلحة والزبير جاءني عنهما وقال : إن ابنيك طلحة والزبير يقولان : إنّ أمّ المؤمنين عائشة تريد أن تخرج للطلب بدم عثمان ، فلو خرجت معنا رجونا أن يصلح الله بكما فتق هذه الامة!

فأرسلت إليهما : والله ما بهذا أمرت ولا عائشة ، لقد أمرنا الله أن نقرّ في بيوتنا (٢) فكيف نخرج للقتال والحرب؟! مع أنّ أولياء عثمان غيرنا! والله ما يجوز لنا عفو ولا صلح ولا قصاص ، وما ذلك إلّا إلى ولد عثمان ، واخرى : نقاتل عليّ بن أبي طالب ذا البلاء والعناء وأولى الناس بهذا الأمر؟ والله ما أنصفتما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في نسائه حيث تخرجوهنّ ... وتتركون نساءكم في بيوتكم (٣).

ثم أرسلا إليها عائشة :

لم ينزجر الزبير بذلك ، بل لم يقطع الطمع طلحة في ذلك ، وطلبا من عائشة أن تخادعها (٤) على ذلك ، فأتتها وقالت لهما :

__________________

(١) كذا في الخبر ، وقد مرّ في الخبر أن طلحة والزبير إنما خرجا إلى مكة بعد أربعة أشهر من قتل عثمان.

(٢) ذلك في قوله سبحانه : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) ، الأحزاب : ٣٣.

(٣) الجمل للمفيد : ٢٣٣ ـ ٢٣٤ ، عن كتاب الجمل للواقدي وبهامشه مصادر أخرى.

(٤) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢١٧ عن أبي مخنف.


يا بنت أبي أميّة : كنت كبيرة امهات المؤمنين ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقيل في بيتك ، وكان يقسم لنا من بيتك ، وكان ينزل الوحي في بيتك.

فقاطعتها أمّ سلمة فقالت لها : يا بنت أبي بكر ، لقد زرتيني وما كنت زوّارة لي ، ولأمر ما تقولين لي هذه المقالة؟

فقالت : إنّ ابني وابن أخي أخبراني : أن الرجل (عثمان) قتل مظلوما ، وأن بالبصرة مائة ألف سيف يطاوعون! فهل لك أن نخرج أنا وأنت لعلّ الله أن يصلح بين فئتين متشاجرتين!

فقالت : يا بنت أبي بكر ؛ أبدم عثمان تطلبين؟ فلقد كنت أشدّ الناس عليه ، وإن كنت لتدعينه إلى التبرّي؟ أم أمر ابن أبي طالب تنقضين؟ فقد تابعه الأنصار والمهاجرون (١).

إنك سدّة بين رسول الله وبين امته ، وحجابه المضروب على حرمته ، وقد جمع القرآن ذيلك فلا تندحيه (توسّعيه) وسكّن عقيراك (صوتك) فلا تضحي (تعلني) بها ، والله من وراء هذه الامة ، وقد علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مكانك ولو أراد أن يعهد إليك لفعل ، ولقد عهد فلا تخالفي ، فيخالف بك! واذكري قوله في نباح الكلاب بحوأب ، وقوله : «ما للنساء وللغزو» وقوله لك : انظري يا حميراء أن لا تكوني أنت ... بل قد نهاك عن الفرطة في البلاد.

وإنّ عمود الإسلام لن يثاب بالنساء إن مال ، ولن يرأب بهن إن انصدع.

حماديّات النساء : غضّ الأبصار ، وخفر الأعراض ، وقصر الوهازة (الخطوات).

__________________

(١) الاختصاص : ١١٩ ، مسندا ، وعن كتاب الجمل لابي مخنف في شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢١٧.


ما كنت قائلة لو أن رسول الله عارضك ببعض الفلوات ناصّة قلوصا (بعيرا) من منهل إلى آخر (١)؟ إنّ بعين الله مهواك وعلى رسول الله تردين وقد وجّهت سدافته (زيّنت حجابه عليك بخرز الوجاهة) وتركت عهده (أمّا أنا) فلو سرت مسيرك هذا ثم قيل لي : ادخلي الفردوس ، لاستحييت أن ألقى رسول الله هاتكة حجابا قد ضربه عليّ.

اجعلي حصنك بيتك ، ورباعة الستر قبرك حتى تلقينه وأنت على تلك الحال ، أطوع لله ما تكونين لزمتيه ، وأنصر للدين ما تكونين جلست عنه (٢)!

ولو ذكّرتك من رسول الله في عليّ خمسا تعرفينه لنهشتني نهش الحيّة الرقشاء المطرقة (٣) بذات الحبب :

١ ـ أتذكرين إذ كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقرع بين نسائه إذا أراد سفرا ، فأقرع بينهنّ فخرج سهمي وسهمك ، فبينا نحن معه وهو هابط من قديد (قرب مكة) ومعه علي يحدثه ، فذهبت لتهجمي عليه ، فقلت لك : رسول الله معه ابن عمّه ولعلّ له إليه حاجة! فعصيتني ، ورجعت باكية! فسألتك فقلت : بأنك هجمت على عليّ فقلت له : يا علي ، إنما لي من رسول الله يوم من تسعة أيام وقد شغلته عنّي! فأخبرتيني أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لك : أتبغضيه؟ فما يبغضه أحد ـ من أهلي ولا من أمّتي ـ إلّا خرج من الإيمان! أتذكرين هذا يا عائشة! قالت : نعم.

__________________

(١) نقل قطعة من الخبر إلى هنا اليعقوبي في تاريخه ٢ : ١٨٠ ، ١٨١ وهنا قال : فنادى مناديها : ألا إن أمّ المؤمنين مقيمة فأقيموا! فأتاها طلحة والزبير فأزالاها عن رأيها وحملاها على الخروج!

(٢) معاني الأخبار : ٣٧٥ مسندا عن ابن مزاحم عن أبي مخنف ، وعن يزيد بن رومان في الاختصاص : ١١٧ ، وفي شرح الأخبار ١ : ٣٧٩ ، الحديث ٣٢٣ مرسلا.

(٣) إلى هنا رواه الطبرسي في الاحتجاج ١ : ٤٤٤ ، عن الصادق عليه‌السلام مرسلا.


٢ ـ ويوم أراد رسول الله سفرا وأنا أحيس له حيسا (١) أو : أجشّ له جشيشا (٢) فقال لنا : ليت شعري ايتكنّ صاحبة الجمل الأدبب تنبحها كلاب الحوأب (٣) فرفعت يدي من الحيس أو من الجشيش وقلت : أعوذ بالله أن أكنه! فقال : والله لا بدّ لاحدكما أن تكونه ، فاتقى الله يا حميرا أن تكونيه! أتذكرين هذا يا عائشة؟ قالت : نعم.

٣ ـ ويوم لبسنا ثيابنا وجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فجلس إليك وقال لك : يا حميراء أتظنين أني لا أعرفك؟ أما إن لامتي منك يوما مرّا! أتذكرين هذا يا عائشة؟ قالت : نعم.

٤ ـ ويوم جمعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيت ميمونة فقال لنا : يا نسائي ، اتّقين الله ولا يسفر بكنّ أحد ، أتذكرين هذا يا عائشة؟ قالت : نعم (٤).

٥ ـ واذكّرك أيضا : كنّا مع رسول الله في سفر له ، وكان عليّ يتعاهد أثواب رسول الله فيغسلها ونعليه فيخصفهما (يصلحهما) فثقبت له نعل فأخذها يومئذ وقعد في ظل شجرة سمرة يصلحها وجاء أبوك ومعه عمر فاستأذنا عليه فقمنا إلى الحجاب. ودخلا عليه يحادثانه فيما أرادا ، ثم قالا له : يا رسول الله ، إنا لا ندري قدر ما تصحبنا ، فلو أعلمتنا من تستخلف علينا ليكون بعدك مفزعا لنا؟! فقال لهما :

__________________

(١) الحيس : التمر المعجون بالسمن ، وهذا على نقل للمعتزلي في شرح النهج ٦ : ١١٧ عن أبي مخنف.

(٢) الجشيش : حنطة مجروشة تطبخ بلحم أو تمر ، وهذا على رواية الاختصاص : ١١٨.

(٣) الأدبب : مثل الدبّ في وفرة الفروة ، فهل علمت أمّ سلمة بأن ذلك يكون في هذا الخروج لعائشة!

(٤) الاختصاص : ١١٨ ـ ١١٩ مسندا.


أما إنّي قد أرى مكانه ، ولو فعلت لتفرقتم عنه كما تفرقت بنو إسرائيل عن هارون بن عمران ، فسكتا ثم خرجا.

فلما رجعا خرجنا إليه ، وكنت أجرأ عليه فقلت له : يا رسول الله من كنت مستخلفا عليهم؟

فقال : خاصف النعل ، فنظرنا فلم نر أحدا إلّا عليا ، فقلت : يا رسول الله ما أرى إلّا عليا؟ فقال : هو ذاك. فقالت عائشة : نعم أذكر ذلك (١).

ثم قالت : ما أقبلني لوعظك! وأسمعني لقولك! فإن أخرج ففي غير حرج! وإن أقعد ففي غير بأس ، ثم قامت فخرجت.

وأرسلت رسولا ينادي في الناس : من أراد أن يخرج فليخرج (ولكن) أمّ المؤمنين غير خارجة!

وبلغ ذلك الزبيرين فأرسلا عليها عبد الله ، فما زال يزيلها عن رأيها حتى أزالها ، وحملها على أن يخرج رسولها فينادي في الناس : من أراد أن يسير فليسر ، فإن أم المؤمنين خارجة (٢)! وكتبت أمّ سلمة بذلك إلى علي عليه‌السلام (٣).

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢١٨ عن كتاب الجمل لأبي مخنف.

(٢) الاختصاص : ١١٩ مسندا عن يزيد بن رومان.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢١٨ عن كتاب الجمل لأبي مخنف ، ثم تملّص المعتزلي عن مظنّة نصّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في الخبر على علي عليه‌السلام ، بقوله : إنما قال : لو قد استخلفت أحدا لا ستخلفته! ولم يقل : قد استخلفته ، فذلك لا يقتضي حصول الاستخلاف! ويجوز أن تكون مصلحة المكلّفين ـ إذا تركهم النبيّ وآراءهم ولم يعيّن أحدا ـ أن يختاروا لأنفسهم من شاءوا! كما يجوز أن لو كان النبيّ مأمورا بأن ينصّ على إمام بعينه من بعده : أن تكون مصلحة المكلفين متعلقة بالنصّ عليه!


عائشة وأمّ سلمة وآخر كلمة :

يئست عائشة عن أمّ سلمة ولم تيأس منها هذه فأنفذت إليها : إني كنت أعرف رأيك في عثمان وأنه لو طلب منك شربة من ماء لمنعتيه ، ثم أنت اليوم تقولين : إنه قتل مظلوما ، وتريدين أن تسيري لقتال أولى الناس بهذا الأمر قديما وحديثا! فاتقي الله حقّ تقاته ولا تتعرّضي لسخطه!

فأرسلت عائشة إليها : أمّا ما كنت تعرفينه من رأيي في عثمان فقد كان ، ولا أجد مخرجا منه إلّا الطلب بدمه! وأما عليّ فإني آمره بردّ هذا الأمر شورى بين الناس! فإن فعل وإلّا ضربت وجهه بالسيف! حتى يقضي الله ما هو قاض!

فأنفذت إليها أمّ سلمة : أما أنا فغير واعظة لك من بعد ولا مكلّمة لك جهدي وطاقتي ، والله إني لخائفة عليك البوار ثم النار! والله ليخيبنّ ظنّك ، ولينصرنّ الله ابن أبي طالب على من بغى عليه ، وستعرفين عاقبة ما أقول ، والسلام (١).

كلمة أمّ سلمة لجمع من الرجال :

ولما رأت أمّ سلمة أن عائشة لا تقلع عن الخروج على علي عليه‌السلام بعثت إلى جمع من المهاجرين والأنصار لم يكونوا حجّاجا وإنما أتوا إلى مكة بعد مقتل عثمان ، فأجابوها ، فقالت لهم :

لقد قتل عثمان بحضرتكم ، وكان هذان الرجلان (طلحة والزبير) يسعيان عليه كما رأيتم ، فلما قضى الله أمره بايعا عليا ، وقد خرجا الآن زعما أنهما يطلبان بدم عثمان ، ويريدان أن يخرجا حبيسة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد عهد إلى جميع نسائه عهدا واحدا : أن يقرن في بيوتهن ، فإن كان مع عائشة عهد سوى ذلك فلتخرجه إلينا نعرفه.

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٢٣٨ وبهامشه مصادر اخرى.


ولا والله ـ أيها القوم ـ ما بايعتم أنتم ولا غيركم عليا مخافة منه (بل) ولا بايعتموه إلّا على علم منكم بأنه خير هذه الامة وأحقّهم بهذا الأمر قديما وحديثا! وو الله ما أستطيع أن أزعم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خلّف يوم قبض خيرا ولا أحقّ بهذا الأمر منه! فاتقوا الله عباد الله ، فإنا نأمركم بتقوى الله والاعتصام بحبله ، والله وليّنا ووليكم.

قال الراوي : فتقاعد كثير منهم عند سماعهم هذا القول من أمّ سلمة (١).

وكتبت إلى علي عليه‌السلام :

وكتبت إلى علي عليه‌السلام مع ابنها عمر بن أبي سلمة : أما بعد ، فإن طلحة والزبير وأشياعهم أشياع الضلالة يريدون أن يخرجوا بعائشة إلى البصرة ومعهم عبد الله بن عامر بن كريز ، ويذكرون : أن عثمان قتل مظلوما وأنهم يطلبون بدمه ، والله كافيهم بحوله وقوّته.

ولو لا ما نهانا الله عنه من الخروج ، وأمرنا به من لزوم البيوت ، لم أدع الخروج إليك والنصرة لك ، ولكني باعثة نحوك ابني وعدل نفسي عمر بن أبي سلمة ، فاستوص به يا أمير المؤمنين خيرا.

فقدم عمر بن أبي سلمة بكتابها إليه وأقام معه (٢).

مشاورة الإمام لأصحابه :

فلما جاءه الكتاب بخبر القوم ، دعا عمّار بن ياسر وسهل بن حنيف وعبد الله

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٢٣٧ ـ ٢٣٨ ، وانظر الفتوح لابن الأعثم ١ : ٤٥٦ ـ ٤٥٧.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢١٩ عن كتاب الجمل للكلبي. وكان والي علي عليه‌السلام يومئذ على مكة أبا قتادة الحارث بن النعمان الأنصاري ولعله كان بعلمه والتنسيق معه.


ابن العباس ومحمد بن أبي بكر ، وأخبرهم بالكتاب ثم قال لهم : أشيروا عليّ بما أسمع منكم القول فيه.

فقال عمار بن ياسر : الرأي المسير إلى الكوفة فإن أهلها شيعة لنا ، وقد انطلق هؤلاء القوم إلى البصرة.

وقال ابن عباس : يا أمير المؤمنين ، الرأي عندي أن تكتب إلى الأشعري أن يبايع لك (١) أو تقدّم رجالا إلى الكوفة فيبايعون لك ، ثم تجدّ السير حتى تلحق بالكوفة ، ثم تعاجل القوم قبل أن يدخلوا البصرة ، وتكتب إلى أمّ سلمة فتخرج معك فإنها لك قوة.

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : بل أسير بنفسي ومن معي في اتّباع الطريق وراء القوم ، فإن أدركتهم في الطريق أخذتهم ، وإن فاتوني كتبت إلى الكوفة والأمصار واستمددت الجنود وسرت إليهم ، وأما أمّ سلمة ؛ فإني لا أرى إخراجها من بيتها كما رأى الرجلان إخراج عائشة.

ثم رفع يديه إلى السماء بالدعاء : اللهم إنّ هذين الرجلين قد بغيا عليّ ونكثا عهدي ، ونقضا عقدي وشقاني ، بغير حقّ منهما كان في سومهما ذلك ، اللهم خذهما بظلمهما لي ، واظفرني بهما وانصرني عليهما.

ثم نادى منادي أمير المؤمنين في الناس : تجهّزوا للمسير ، فإن طلحة والزبير قد نكثا البيعة ونقضا العهد ، وأخرجا عائشة من بيتها يريدان البصرة ، لإثارة الفتنة وسفك دماء أهل القبلة (٢).

__________________

(١) كذا في الخبر هنا ، وكأنّ ابن عباس لا يدري بيعة الناس في الكوفة للإمام عليه‌السلام ، أو يريد تجديدها تأكيدا.

(٢) الجمل للمفيد : ٢٣٩ ـ ٢٤٠ وبهامشه مصادر اخرى.


عمّار ، وبعض المتخلّفين :

وقال الإمام عليه‌السلام لعمار بن ياسر : لو لقيت محمد بن مسلمة الأنصاري ، فلاقاه عمّار ، فقال له محمد بن مسلمة : مرحبا بك يا أبا اليقظان ، على فرقة بيني وبينك ، والله لو لا ما في يدي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لتابعت (١) عليا ، حتى ولو كان الناس كلهم عليه لكنت معه ، ولكنه ـ يا عمّار ـ كان من النبي أمر ذهب فيه الرأي.

فقال عمار : كيف قال؟

قال : قال رسول الله لي : إذا رأيت المسلمين ـ أو : رأيت أهل الصلاة يقتتلون ...

فقال عمار : فإن كان قال لك : إذا رأيت المسلمين ... فو الله لا ترى مسلمين يقتتلان أبدا ... وإن كان قال لك : أهل الصلاة ... فمن سمع هذا معك؟ إنما أنت أحد الشاهدين ، أفتريد من رسول الله قولا بعد قوله يوم حجة الوداع : دماؤكم وأموالكم عليكم حرام إلّا بحدث. فتقول : لا نقاتل المحدثين؟

فقال : حسبك يا أبا اليقظان.

ثم لا قى عمار سعد بن أبي وقاص فكلّمه ، فأظهر ردّا قبيحا! فانصرف عنه عمار إلى علي عليه‌السلام فقال له : يا أمير المؤمنين ائذن لي أن آتي عبد الله بن عمر فاكلّمه لعله يخفّ معنا في هذا الأمر ، فأذن له.

فلاقاه عمّار فقال له : يا أبا عبد الرحمن ، إنه قد بايع عليا المهاجرون والأنصار ومن إن فضّلناه عليك لم يسخطك وإن فضّلناك عليه لم يرضك. وقد أنكرت السيف في أهل الصلاة (٢) وقد علمت أن على القاتل القتل وعلى المحصن

__________________

(١) في الكتاب : لبايعت ، وقد مرّ أن هؤلاء كانوا قد بايعوا إلّا أنهم لم يتابعوا القتال.

(٢) من هنا يستشفّ أن ابن عمر اقتبس هذا العذر المصطنع عن ابن مسلمة ، وانه عرف بهذا القول قبل لقاء عمّار هذا ، ولذلك لاقاه وكلّمه ، بل هو لم يبايع أصلا.


الرجم ، فهذا يقتل بالسيف وذاك يقتل بالحجارة. وإن عليا لم يقتل أحدا من أهل الصلاة فيلزمه حكم القاتل!

فقال ابن عمر : يا أبا اليقظان ؛ إن أبى جمع أهل الشورى الذين قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو عنهم راض ، فكان أحقّهم بها عليّ ، غير أنه جاء أمر فيه السيف ، ولا أعرفه! ولكن والله ما أحبّ أنّ لي الدنيا وما عليها وأني أظهرت أو أضمرت عداوة علي!

فانصرف عنه عمار إلى علي عليه‌السلام فأخبره بقوله وقولهم.

فقال عليه‌السلام : دع هؤلاء الرهط ؛ أمّا ابن عمر فضعيف ، وأما سعد فحسود ، وذنبي إلى محمد بن مسلمة أني قتلت قاتل أخيه يوم خيبر : مرحب اليهودي (١).

طلحة والزبير وابن عمر :

ولما استتم ابن عمر أمره وأجمع على المسير إلى مكة وانكمش إليها ، قال طلحة للزبير : إنه ليس في استمالة أهواء الناس شيء أنفع ولا أبلغ من أن يشخص معنا ابن عمر ، فأتياه فقالا : يا أبا عبد الرحمن ، إن أمّنا عائشة خفّت لهذا الأمر رجاء الإصلاح بين الناس ، فاشخص معنا فإنّ لك اسوة بها ، فإن بايعنا الناس فأنت أحقّ بها!

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ٥٣ ، وفيه : أني قتلت أخاه ... خطأ بل غلط. ومختصر الخبر عن الباقر عليه‌السلام عن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري ، في أمالي الطوسي : ٧١٦ ، الحديث ١٥١٨ وإنما فيه عن عمار لعلي عليه‌السلام : وأما محمد بن مسلمة فذنبك إليه أنك قتلت قاتل أخيه مرحبا ، وأما عبد الله بن عمر فضعيف ، وأما سعد فحسود. ولعله لم يكن الأخير كشفا عن عيب مستور بل مشهور ، فلا غيبة. ولكن روى قبله مثله طريقا وجاء فيه : أن سعدا كان قد خرج في فتنة قتل عثمان إلى مكة : ٧١٤ ، الحديث ١٥١٧ ، إلّا أن يكون قد رجع قبل هذا.


فقال ابن عمر : أيها الشيخان ؛ أتريدان أن تخرجاني من بيتي ثم تلقياني بين مخالب ابن أبي طالب؟ إن الناس إنما يخدعون بالدينار والدرهم!

واني قد تركت هذا الأمر عيانا لأكون في عافية! فانصرفا عنه (١).

وعاودهما مروان فقال لهما : عاودا ابن عمر فلعلّه ينيب! فعاوداه.

فتكلّم طلحة فقال له : يا أبا عبد الرحمن ، إنه ـ والله ـ لربّ حقّ ضيّعناه وتركناه ، فلما ارتفع العذر قضيناه بالحق وأخذنا بالحظّ. إنّ عليا يرى إنفاذ بيعته وإن معاوية لا يبايع له ، فنحن نرى أن نردّها شورى ، فإن سرت معنا ومع أمّ المؤمنين صلحت الامور! وإلّا فهي الهلكة!

فقال ابن عمر : إن يكن قولكما حقا فقد ضيّعت فضلا ، وإن يكن باطلا فقد نجوت من شرّ ، وأعلما أن عائشة بيتها خير لها من هودجها ، وأنتما المدينة خير لكما من البصرة ، والذلّ خير لكما من السيف ، فإنه لا يقاتل عليا إلّا من يكن خيرا منه!

وأما الشورى ؛ فقد كانت والله فقدّم وأخّرتما ، ولن يردّها إلّا اولئك الذين حكموا بها وفيها! فاكفياني أنفسكما! فانصرفا.

فقال لهما مروان : استعينا عليه باخته حفصة.

فأتيا حفصة ، فقالت لهما : دعاه ، فلو كان يطيعني لأطاع عائشة. فتركاه (٢).

ثم عاد هو فمنع اخته حفصة من أن تصحب عائشة ، وأعادها إلى المدينة (٣).

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ٥٩ ـ ٦٠.

(٢) الإمامة والسياسة : ٦١.

(٣) مناقب آل أبي طالب للحلبي.


كتبهما إلى أشياخ البصرة :

وكتبا إلى الأحنف بن قيس التميمي شيخ مضر بالبصرة : أما بعد ، فإنّك وافد عمر وسيّد مضر ، وحليم أهل العراق ، وقد بلغك مصاب عثمان ، ونحن قادمون عليك ، والعيان أشفى لك من الخبر ، والسلام.

وكتبا إلى المنذر بن ربيعة العبدي شيخ ربيعة البصرة : أما بعد ، فإن أباك كان رئيسا في الجاهلية وسيّدا في الإسلام ، وإنك من أبيك بمنزلة اللاحق من السابق يقال : كاد أو لحق. وقد قتل عثمان من أنت خير منه! وقد غضب له من هو خير منك! والسلام.

وكتبا إلى كعب بن سور شيخ الأزد بالبصرة وقاضيها من عمر : أما بعد ، فإنك قاضي عمر بن الخطاب ، وشيخ أهل البصرة وسيّد أهل اليمن بها ، وقد كنت غضبت لعثمان من الأذى فاغضب له اليوم من القتل ، والسلام.

فكان جواب الأحنف إليهما : أما بعد ، فإنه لم يأتنا من قبلكم أمر لا نشك فيه إلّا قتل عثمان! وأنتم قادمون علينا ، فإن يكن في العيان فضل نظرنا فيه ونظرتم ، وإن لا يكن فيه فضل فليس فيما بأيدينا ثقة ولا بما في أيديكم ، والسلام.

وكان جواب المنذر بن ربيعة إليهما : أما بعد فإنه لم يلحقني بأهل الخير إلّا أن أكون خيرا من أهل الشرّ ، وإنما أوجب حقّ عثمان اليوم حقّه بالأمس وقد كان بينكم فخذلتموه! فمتى بدا لكم هذا الرأي واستنبطتم هذا العلم؟!

وكان جواب كعب بن سور القاضي الأزدي إليهما يومئذ : أما بعد ، فإنا غضبنا لعثمان من الأذى باللسان فجاء أمر السيف (والسنان) فإن كان قتل مظلوما فغيركما أولى به! وإن كان قتل ظالما فما لكما وله؟ وإن كان أمره قد أشكل على من شهده فهو على الغائب عنه أشكل!


وقال زياد بن مضر وغزوان والنعمان بن شوال : ما لنا ولهذا الحيّ من قريش؟ أيريدون أن يخرجونا من الإسلام ويدخلونا في الشرك بعد ما خرجنا منه؟ قتلوا عثمان وبايعوا عليا ، فلهم ما لهم وعليهم ما عليهم (١)!

خطبته عليه‌السلام حينما بلغه خبرهم :

قال المفيد في «الإرشاد» : من كلامه عليه‌السلام عند (بلوغه) نكث طلحة والزبير بيعته ... واجتماعهما مع عائشة في التأليب عليه : ما حفظه العلماء عنه :

حمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد ، فإنّ الله بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله للناس كافّة ، وجعله رحمة للعالمين ، فصدع بما امر به وبلّغ رسالات ربّه ، فلمّ به الصدع ورتق به الفتق ، وآمن به السبل وحقن به الدماء ، وألّف به بين ذوى الإحن والعداوة ، والوغر في الصدور ، والضغائن الراسخة في القلوب.

ثم قبضه الله تعالى إليه حميدا لم يقصّر عن الغاية التي إليها أداء الرسالة ، ولا بلّغ شيئا كان في التقصير عنه القصد.

وكان من بعده من التنازع في الأمر ما كان ، فتولّى أبو بكر وبعده عمر ، ثم تولّى عثمان ، فلما كان من أمره ما عرفتموه أتيتموني فقلتم : بايعنا ، فقلت : لا أفعل ، فقلتم : بلى ، فقلت : لا ، وقبضت يدي فبسطتموها ، ونازعتكم فجذبتموها ، وتداككتم عليّ تداكّ الإبل الهيم (العطاشى) على حياضها يوم ورودها ، حتى ظننت أنكم قاتليّ أو أن بعضكم قاتل بعض! فبسطت يدي فبايعتموني مختارين ، وبايعني في أوّلكم طلحة والزبير طائعين غير مكرهين.

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ٦٠ ـ ٦١ ، وسيأتي أن كعبا مال إليهم حتى قتل معهم مع الجمل ، وقد علّق مصحفا في عنقه.


ثم لم يلبثا أن استأذناني في العمرة ، والله يعلم أنهما أرادا الغدرة ، فجدّدت عليهم العهد في الطاعة ، وأن لا يبغيا للامّة الغوائل ، فعاهداني ، ثم لم يفيا لي ونكثا بيعتي ونقضا عهدي.

فعجبا لهما من انقيادهما لأبي بكر وعمر وخلافهما لي ولست بدون أحد الرجلين ولو شئت أن أقول لقلت. اللهم احكم عليهما بما صنعا في حقّي وصغّرا من أمري ، وظفّرني بهما (١).

وخطبة اخرى في هذا المعنى :

وروى المدائني بسنده عن عبد الله بن جنادة قال : رحلت في أول إمارة عليّ من الحجاز اريد العراق فمررت بمكة معتمرا ، ثم قصدت المدينة فدخلت مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا نودي : الصلاة جامعة. فاجتمع الناس وخرج عليّ متقلدا سيفه ، فشخصت الأبصار نحوه ، فصعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسوله ثم قال :

أما بعد ، فإنه لما قبض الله نبيّه قلنا نحن أهله وورثته وعترته وأولياؤه دون الناس ، لا ينازعنا سلطانه أحد ولا يطمع في حقّنا طامع ، إذ انبرى لنا قومنا (المهاجرون من قريش) فغصبونا سلطان نبيّنا ، فصارت الإمرة لغيرنا وصرنا سوقة يطمع فينا الضعيف ويتعزّز علينا الذليل! فبكت الأعين منّا لذلك وخشنت الصدور وجزعت النفوس! وأيم الله لو لا مخافة الفرقة بين المسلمين ، وأن يعود الكفر ويبور الدين ، لكنّا على غير ما كنّا لهم عليه!

__________________

(١) الإرشاد ١ : ٢٤٤ ـ ٢٤٥.


فولي الأمر ولاة لم يألوا الناس خيرا (١).

ثم استخرجتموني ـ أيها الناس ـ من بيتي فبايعتموني ، على شنأ منّي لأمركم وفراسة منّي تصدقني عمّا في قلوب كثير منكم! وبايعني هذان الرجلان في أول من بايع ، تعلمون ذلك ، وقد نكثا وغدرا ونهضا إلى البصرة بعائشة ، ليفرّقا جماعتكم ويلقيا بأسكم بينكم.

ثم رفع يديه للدعاء ودعا : اللهم فخذهما بما عملا أخذة رابية ، ولا تنعش (ترفع) لهما صرعة ، ولا تقلهما عثرة ، ولا تمهلهما فواقا (يسيرا) فإنهما يطلبان حقا تركاه ودما سفكاه! اللهم إني أقتضيك وعدك ، فإنك ـ وقولك الحق ـ قلت لمن بغي عليه : (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ)(٢) فأنجز لي موعدي ، ولا تكلني إلى نفسي ، إنك على كل شيء قدير (٣). ثم قال : انفروا ـ رحمكم الله ـ في طلب هذين الناكثين القاسطين الباغيين قبل أن يفوت تدارك ما جنياه!

ونقلها المفيد في «الإرشاد» (٤) مرسلا ، بينما أسندها في «الأمالي» عن ابن قولويه عن الثقفي الكوفي عن الحسين بن سلمة من أصحاب الصادق عليه‌السلام ، منقطعا ولكن بزيادة يعلم منها أنها لم تكن خطبة جمعة ، قال :

فقام أبو الهيثم ابن التّيهان وقال : يا أمير المؤمنين ، إنّ حسد قريش إياك على وجهين :

فخيارهم حسدوك ارتفاعا في الدرجة ومنافسة في الفضل.

__________________

(١) لم يقصّرا عن الخير للناس ، ولو بالنسبة لمن بعدهما.

(٢) الحج : ٦٠.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ١ : ٣٠٧ عن المدائني.

(٤) الإرشاد ١ : ٢٤٥ ـ ٢٤٦ مرسلا.


وشرارهم حسدوك حسدا أحبط الله به أعمالهم وأثقل به أوزارهم ، وما رضوا أن يساووك حتى أرادوا أن يتقدّموك! فبعدت عليهم الغاية وأسقطهم المضمار (ميدان السباق) وكنت أحق قريش بقريش ، نصرت نبيّهم حيا وقضيت حقوقه ميتا. والله ما بغيهم إلّا على أنفسهم. ونحن أنصارك وأعوانك فمرنا بأمرك ، ثم أنشأ يقول :

إن قوما بغوا عليك وكادو

ك وعابوك بالأمور القباح

ليس من عيبها جناح بعوض

فيك حقا ولا كعشر الجناح

أبصروا نعمة عليك من الله

وقرما يدقّ قرن النطاح

حسدا للذي أتاك من الله

وعادوا إلى قلوب قراح

ونفوس هناك أوعية البغ

ض على الخير للشقاء شحاح

من مسرّ يكنّه حجب الغيب

ومن مظهر للعداوة لا حي

يا وصيّ النبيّ نحن من الحق

على مثل بهجة الإصباح

ليس منّا من لم يكن لك في الله

وليا على الهدى والفلاح

فخذ الأوس والقبيل من الخز

رج بالطعن في الوغى والكفاح

فجزّاه أمير المؤمنين خيرا ، ثم قام الناس بعده فتكلموا بمثل مقاله (١).

ومن خطبة اخرى له عليه‌السلام :

إن الله بعث رسولا هاديا ، بكتاب ناطق وأمر قائم ، لا يهلك عنه إلّا هالك ، وإنّ المبتدعات المشبّهات هنّ من المهلكات ، إلّا ما حفظ الله منها. وإنّ في

__________________

(١) الأمالي (للمفيد) : ١٥٤ ـ ١٥٦ ، وفي آخر الجمل : ٤٣٧ ووردت الإشارة إلى الخطبة ، وقيام ابن التيهان في الطبري ٤ : ٤٤٧ عن سيف وبتحريف.


سلطان الله عصمة أمركم ، فأعطوه طاعتكم غير ملوّمة ولا مستكره بها ، والله لتفعلنّ أو لينقلنّ الله عنكم سلطان الإسلام ، ثم لا ينقله إليكم أبدا حتى يأرز الأمر إلى غيركم.

إنّ هؤلاء قد تمالئوا على سخطة إمارتي ، وسأصبر ما لم أخف على جماعتكم ، فإنهم إن تمّموا على فيالة هذا الرأي انقطع نظام المسلمين! وإنما طلبوا هذه الدنيا حسدا لمن أفاءها الله عليه ، فأرادوا ردّ الأمور على أدبارها.

ولكم علينا العمل بكتاب الله تعالى وسيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والقيام بحقّه والنعش (التأييد) لسنّته (١).

وكتب الأشتر إلى عائشة :

وكتب الأشتر من المدينة إلى عائشة وهي بمكة : أما بعد ، فإنك ضعينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد أمرك أن تقرّي في بيتك ، فإن فعلت فهو خير لك ، وإن أبيت إلّا أن تأخذي منسأتك (للسفر) وتلقى جلبابك وتبدي للناس شعيراتك! قاتلتك حتى أردّك إلى بيتك ، والموضع الذي يرضاه لك ربك.

فكتبت إليه في الجواب : أما بعد ، فإنك أول العرب شبّ الفتنة ودعا إلى الفرقة وخالف الأئمة وسعى في قتل الخليفة! وقد علمت أنك لن تعجز الله حتى يصيبك منه بنقمة ينتصر بها منك للخليفة المظلوم! وقد جاءني كتابك وفهمت ما فيه ، وسيكفينيك الله ، وكلّ من أصبح مماثلا لك في ضلالك وغيّك ، إن شاء الله (٢).

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة : ١٦٩ ومصدرها في المعجم المفهرس : ١٣٨٩ ، عن الطبري ٤ : ٤٦٥ عن سيف التميمي.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢٢٥ عن كتاب الجمل لأبي مخنف.


هودج عائشة وجملها :

ولمّا عزمت عائشة على الخروج أمرت فعمل لها هودج من حديد وإنما جعل لها فيه موضع عينيها (١) ولذا فإنهم احتاجوا إلى جمل قويّ.

فروى الطبري عن العرني صاحب الجمل قال : بينما أنا أسير على جملي إذ عرض لي راكب فناداني : يا صاحب الجمل ، تبيع جملك؟ قلت : نعم ، قال : بكم؟ قلت : بألف درهم! قال : أنت مجنون؟ جمل بألف درهم! قلت : نعم! قال : وممّ ذلك؟ قلت : ما طلبت عليه أحدا إلّا أدركته ، ولا طلبني عليه أحد إلّا فتّه! قال : لو تعلم لمن نريده لأحسنت بيعنا! قلت : ولمن تريده؟ قال : إنما اريده لام المؤمنين عائشة! قلت : فخذه بغير ثمن! قال : لا ، ولكن ارجع معنا فلنعطك ناقة مهريّة ونزيدك دراهم ، فرجعت معه فأعطوني ناقتها المهرية وزادوني أربعمائة أو ستمائة درهم (٢) وذلك من مال يعلى بن أميّة ، والبعير كان يسمّى عسكرا ، وكان عظيم الخلق شديدا ، فلما رأته أعجبها وأنشأ الجمّال يحدّثها بقوته وشدّته ويسميه العسكر ، فلما سمعت ذلك استرجعت وقالت : ردّه! لا حاجة لي فيه! فسئلت عن سبب ذلك فذكرت : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذكر لها هذا الاسم ونهاها عن ركوبه!

وحاولوا أن يجدوا لها غيره فلم يجدوا ما يشبهه شدّة وقوة ، فغيّروا لها جلاله وقالوا لها : قد أصبنا لك أعظم منه خلقا وأشدّ قوة ، وأتوها به ، فرضيت به (٣).

__________________

(١) الإمامة والسياسية ١ : ٥٢.

(٢) الطبري ٤ : ٤٥٦ ـ ٤٥٧ ، وفي رجال الكشي : ١٣ ، الحديث ٣١ ، عن الباقر عليه‌السلام : أنهم اشتروه بسبعمائة درهما. وكان شيطانا!

(٣) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢٢٤ ـ ٢٢٥ عن كتاب الجمل لأبي مخنف.


خطبته عليه‌السلام عند الخروج :

نقل المعتزلي عن «كتاب الجمل» للكلبي قال : لما أراد علي عليه‌السلام المسير إلى البصرة خطب الناس ، فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسوله ثم قال :

إن الله لما قبض نبيّه استأثرت علينا قريش بالأمر ، ودفعتنا عن حق نحن أحق به من الناس كافّة ، فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين وسفك دمائهم ، والناس حديثو عهد بالإسلام ، والدين يمخض مخض الوطب (الزقّ) يعكسه أقل خلق (أن يكون الزقّ خلقا قديما) ويفسده أدنى وهن.

فولي الأمر قوم لم يألوا في أمرهم اجتهادا [ولو نسبيّا] ثم انتقلوا إلى دار الجزاء ، والله وليّ التمحيص.

فما بال طلحة والزبير ـ وليسا من هذا الأمر بسبيل ـ لم يصبرا عليّ حولا ولا شهرا! حتى وثبا ومزّقا ، ونازعاني أمرا لم يجعل الله لهما إليه سبيلا ، بعد أن بايعاني طائعين غير مكرهين ، يرتضعان امّا قد فطمت ، ويحييان بدعة قد اميتت ، أدم عثمان زعما (يطالبان)؟! والله ما التبعة إلّا عندهم وفيهم ، وإنّ أعظم حجّتهم على أنفسهم ، وأنا راض بحجّة الله عليهم وعمله فيهم. فإن فاءا وأنابا فحظّهما أحرزا وأنفسهما غنما ، وأعظم بها غنيمة! وإن أبيا أعطيتهما حدّ السيف! وكفى به ناصرا لحق وشافيا من باطل (١).

قال المفيد : ونادى أمير المؤمنين في الناس : أن تجهّزوا للمسير ، فإن طلحة والزبير قد نكثا البيعة ونقضا العهد ، وأخرجا عائشة من بيتها يريدان البصرة لإثارة الفتنة ، وسفك دماء أهل القبلة ، ثم رفع يديه إلى السماء للدعاء عليهم (٢).

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١ : ٣٠٨ ـ ٣٠٩ عن كتاب الجمل للكلبي.

(٢) الجمل للمفيد : ٢٤٠.


الطائي يحشر عشيرته :

وكان عديّ بن حاتم الطائي يومئذ في المدينة ، فقام إلى عليّ عليه‌السلام وقال له :

يا أمير المؤمنين ، لو تقدّمت إلى قومي أخبرهم بمسيرك واستنفرهم ، فإنّ لك من طيّئ مثل الذي معك! فقال عليه‌السلام : فافعل.

فطار عديّ إلى قومه فاجتمع إليه رءوسهم فقال لهم :

يا معشر طيّئ ، إنكم أمسكتم عن حرب رسول الله في الشرك ، ونصرتم الله ورسوله في الإسلام على الردّة. وعليّ (أمير المؤمنين) قادم إليكم ، وقد ضمنت له مثل عدّة من معه منكم ، فخفّوا معه. وقد كنتم تقاتلون في الجاهلية على الدنيا فقاتلوا في الإسلام على الآخرة ، فإن أردتم الدنيا «فعند الله مغانم كثيرة» وأنا أدعوكم إلى الدنيا والآخرة ، وقد ضمنت عنكم الوفاء وباهيت بكم الناس ، فأجيبوا قولي ، فإنكم أعزّ العرب دارا ، لكم فضل معاشكم وخيلكم ، فاجعلوا أفضل المعاش للعيال وفضول الخيل للجهاد ، وقد أظلّكم علي والناس معه من المهاجرين والبدريّين والأنصار ، فكونوا أكثر منهم عددا ، فإنّ هذا سبيل للحيّ فيه الغنى والسرور ، وللقتيل فيه الحياة والرزق (عند الله).

فصاحوا : نعم نعم (١) فلما بلغ الإمام عليه‌السلام إلى أرض طيّئ تبعه منهم ستمائة (٢).

والأسدي وبنو أسد :

وكان زفير بن زيد الأسدي من سادتهم حاضرا يومئذ ، فلما رأى من عديّ ما فعل قام إلى عليّ عليه‌السلام وقال : يا أمير المؤمنين إن لي في قومي طاعة ، فأذن لي أن آتيهم. قال عليه‌السلام : نعم.

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ٥٧ ـ ٥٨.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٨١ ، ومروج الذهب ٢ : ٣٥٨ ، والجمل للمفيد.


فأتاهم وجمعهم وقال لهم : يا بني أسد ، إن عديّ بن حاتم ضمن لعليّ (أمير المؤمنين) قومه ، وأجابوه وقضوا عنه ذمامه ، فلم يعتلّ الغنيّ بالغنى ولا الفقير بالفقر وواسى بعضهم بعضا ، حتى كأنهم المهاجرون في الهجرة والأنصار في الأثرة (الإيثار) وهم جيرانكم في الديار وخلطاؤكم في الأموال ، فأنشدكم الله لا يقول الناس غدا : نصرت طيّئ وخذلت بنو أسد ، وإن الجار يقاس بالجار كالنعل بالنعل ، فإن خفتم فتوسّعوا في بلادهم وانضمّوا إلى جبلهم. وهذه دعوة لها ثواب من الله في الدنيا والآخرة.

فقام إليه رجل منهم وقال له : يا زفر ؛ إنك لست كعديّ ولا أسد كطيّئ ، لقد ارتدّت العرب فثبتت طيّئ على الإسلام ، وجاد عديّ بالصدقة (الزكاة) وقاتل بقومه قومك ، وو الله لو نفرت طيّئ بأجمعها لمنعت رعاؤها دارها ، ولو أن معنا أضعافنا لخفنا على ديارنا! فإن كان لا يرضيك منّا إلّا ما أرضى عديا من طيّئ فليس ذلك عندنا! وأما إن كان يرضيك منّا قدر ما يردّ عنّا عذر الخذلان وإثم المعصية ، فلك منّا ذلك.

فرضي منهم بذلك فاجتمع إليه منهم جمع ، فلما صار إليهم عليّ لحقوا به عليه‌السلام (١).

ولم نتحقق أين لحق به عامله على مكة أبو قتادة الأنصاري ، حيث بعث بدله إلى مكة قثم بن العباس ، كما استخلف على المدينة سهل بن حنيف ، واستصحب معه أخاهم عبد الله بن العباس مع سبعمائة من المهاجرين والأنصار محدقين به عن يمينه وشماله ، ومعهم من سمع بمسيرهم فاتّبعهم ، راكبا جملا أحمر قائدا فرسه الكميت بين يديه (٢).

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ٥٨ ـ ٥٩ ولحوقهم في أرضهم مع بني طيّئ في اليعقوبي ٢ : ١٨١. والجمل للمفيد : ٢٦١ ، وفي ٢٦٥ : أنه لحق به منهم ومن غيرهم ألفا رجل.

(٢) الجمل للمفيد : ٢٤٠ وفيه : أنه استخلف على المدينة تمّام بن العباس ، بل الصحيح


وكأنّ بعث قثم إلى مكة كان قبل خروجه من المدينة بحيث كأنّه بوصول قثم إلى مكة علم القوم بخروج الإمام فخرجوا مسرعين يقولون : نستبق عليا من خلاف طريقه إلى البصرة.

فكتب قثم إلى علي عليه‌السلام يخبره أن طلحة والزبير وعائشة قد خرجوا من مكة يريدون البصرة ، وقد استنفروا الناس فلم يخفّ معهم إلّا من لا يعتدّ بمسيره ، ومن خلّفت بعدك فعلى ما تحب (١).

وأيضا لم نتحقّق متى وكيف وأين التحق بالإمام عامله على مصر قيس بن سعد بن عبادة ، إلّا أن ابن قتيبة قال : لما وصل كتاب قثم إلى الإمام أعظمه الناس ، فقام قيس بن سعد وقال :

يا أمير المؤمنين ، إنه ـ والله ـ ما غمّنا بهذين الرجلين مثل غمّنا بعائشة ؛ لأنّ هذين الرجلين حلالا الدم عندنا لبيعتهما ونكثهما ، ولكن عائشة من قد علمت مقامها في الإسلام! ومكانها من رسول الله! مع فضلها ودينها وأمومتها منك ومنّا! ولكنّهما يقدمان البصرة وليس كل أهلها لهما ، وتقدم أنت الكوفة! وكلّ أهلها لك ، وتسير بحقك إلى باطلهم ، ولقد كنا نخاف أن يسيرا إلى الشام فيقال :

__________________

سهل بن حنيف ، وسيأتي بعض أخباره. وعن سعيد بن جبير : كان معه ثمانمائة من الأنصار وأربعمائة ممن شهد بيعة الرضوان ، بل عن رجل من أسلم قال : كنا مع علي عليه‌السلام من أهل المدينة أربعة آلاف ، تاريخ ابن الخياط : ١١٠ ، وفي اليعقوبي ٢ : ١٨١ : معه أربعمائة من الأصحاب ، فلما صاروا إلى أرض أسد وطيّئ تبعه منهم ستمائة. وفي مروج الذهب ٢ : ٣٥٨ : في سبعمائة من الأصحاب أربعمائة من المهاجرين والأنصار ، سبعون من البدريين ثم سائر الصحابة! واستخلف على المدينة سهل بن حنيف الأنصار ، ولحقه من طيّئ ستمائة راكب.

(١) الإمامة والسياسة ١ : ٦٢.


صاحبا رسول الله وأم المؤمنين فيشتدّ البلاء وتعظم الفتنة ، فأما إذا أتيا البصرة وقد سبقت إلى طاعتك وسبقوا إلى بيعتك وحكم عليها عاملك ، فلا والله ما معهما مثل ما معك ، ولا يقدمان على مثل ما تقدم عليه ، فسر فإن الله معك!

وتتابع بعده جمع من الأنصار على مثل قوله فقالوا وأحسنوا (١).

وخطبته لما بلغه خبرهما :

ولما بلغه مسير الزبير وطلحة وعائشة من مكة إلى البصرة ، حمد الله وأثنى عليه ثم قال : قد سارت عائشة وطلحة والزبير كل واحد منهما يدّعي الخلافة دون صاحبه ، فلا يدّعي طلحة الخلافة إلّا أنه ابن عمّ عائشة ، ولا يدّعيها الزبير إلّا أنه صهر أبيها ، والله لئن ظفرا بما يريدان ليضربنّ الزبير عنق طلحة ، وليضربنّ طلحة عنق الزبير ، ينازع هذا ذاك على الملك (٢)!

وقد ـ والله ـ علمت راكبة الجمل أنها لا تحلّ عقدة ولا تسير عقبة ولا تنزل منزلا إلّا إلى معصية ، حتى تورد نفسها ومن معها موارد الهلكة ، إي والله ليقتلنّ ثلثهم ، وليهربنّ ثلثهم ، وليؤوبنّ ثلثهم! وإنها التي تنبحها كلاب الحوأب!

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ٦٢.

(٢) روى الطبري ٤ : ٤٥٤ : عن النميري البصري عن المدائني البصري عن معاذ بن عبيد الله قال : والله لو ظفرنا لا فتتّنا ، ما خلّى الزبير بين طلحة والأمر ، ولا خلّى طلحة ما بين الزبير والأمر. وعن ابن عباس قال : كان مروان يؤذّن لهم ، فلما فصلوا من مكة أذّن ثم وقف عليهما وقال لهما : أيكما أؤذّن له واسلّم عليه بالإمرة! فقال ابن الزبير : على أبي ، وقال محمد بن طلحة : بل على أبي ، فأرسلت عائشة : ليصلّي ابن اختي : عبد الله! وقالت لمروان : مالك أتريد أن تفرّق أمرنا!


والله إنّ طلحة والزبير ليعلمان أنهما مخطئان وما يجهلان ، ولربّ عالم قتله جهله ومعه علمه لا ينفعه ، فهل يعتبر معتبر أو يتفكر متفكّر (١)! وحسبنا الله ونعم الوكيل ، فقد أقامت الفتنة الفئة «الباغية» ، أين المحتسبون؟ أين المؤمنون؟ مالي ولقريش! أما والله لقد قاتلتهم كافرين ، ولأقاتلنّهم مفتونين ، وما لنا إلى عائشة من ذنب إلّا أنّا أدخلناها في حيزنا.

والله لأبقرنّ الباطل حتى يظهر الحقّ من خاصرته «فقل لقريش فلتضجّ ضجيجها» ثم نزل (٢).

تخلّف المغيرة الثقفي :

اتفقوا على تخلّف المغيرة الثقفي عن علي عليه‌السلام وأجملوا كيفيته ، وإنّما :

روى المفيد في أماليه بسنده عن مالك بن أنس الأصبحي الفقيه ، عن عمّه نافع بن مالك ، عن أبيه مالك بن أبي عامر الأصبحي التيمي ، قال : كنت عند نهوض علي عليه‌السلام إلى البصرة واقفا مع المغيرة بن شعبة إذ أقبل عمّار بن ياسر ، فلما رأى المغيرة قال له : يا مغيرة ، هل لك في الله؟ قال : وأين هو (أو : وما هو) يا عمّار؟ قال : تدخل في هذه الدعوة فتلحق من سبقك وتسود من خلفك؟

فقال المغيرة : أو خير من ذلك يا أبا اليقظان! قال : وما هو؟ قال : ندخل بيوتنا ونغلق علينا أبوابنا ، حتى يضيء لنا الأمر فنخرج مبصرين! ولا نكون كقاطع السلسلة أراد الضّحك فوقع في الغم!

فقال له عمّار : هيهات هيهات! أجهلا بعد علم وعمى بعد استبصار؟! ولكن اسمع قولي ، فو الله لن تراني إلّا في الرعيل الأول!

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٢٤٦ ـ ٢٤٧.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ١ : ٢٣٣ عن الجمل لأبي مخنف.


فبينما هما كذلك إذ طلع أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال لعمّار : يا أبا اليقظان ؛ ما يقول لك الأعور! فإنه دائبا ـ والله ـ يلبس الحق بالباطل ويموّه فيه! ولن يتعلق من الدين إلّا بما يوافق الدنيا!

ثم التفت إلى المغيرة وقال له : يا مغيرة ؛ ويحك إنها دعوة تسوق من يدخل فيها إلى الجنة.

فقال المغيرة : صدقت يا أمير المؤمنين ، فإن لم أكن معك فلن أكون عليك (١).

ونقله قبله ابن قتيبة في «الإمامة والسياسة» ولكنّه ذكر بعد هذا أنه لحق بهم بمكة وخرج معهم مع سعيد بن العاص إلى أرض أوطاس من أراضي خيبر (كذا) ثم تغيّر عن هذا ، فلما نزلوا بأوطاس أقبل مع سعيد بن العاص على عائشة فنزلا عندها وتوكّأ سعيد على قوسه وقال لها : يا أم المؤمنين أين تريدين؟ قالت : البصرة ، قال : وما تصنعين بالبصرة؟ قالت : أطلب بدم عثمان! وكان عندها مروان فأقبل عليه وقال له : وأنت أين تريد أيضا؟ قال : البصرة ، قال : وما تصنع بها؟ قال : أطلب قتلة عثمان! وكان طلحة والزبير قريبين فأشار إليهما وقال : فهؤلاء قتلة عثمان معك ؛ إنّ هذين الرجلان قتلا عثمان وهما يريدان الأمر لأنفسهما ، فلما غلبا عليه قالا : نغسل الحوبة بالتوبة والدم بالدم!

ثم أشرف المغيرة على الناس ونادى فيهم : أيها الناس : إن كنتم إنما خرجتم مع امّكم فارجعوا بها خيرا لكم! وإن كنتم غضبتم لعثمان فرؤساؤكم قتلوا عثمان! وإن كنتم نقمتم على عليّ شيئا فبيّنوا ما نقمتم عليه؟ أنشدكم الله فتنتين في عام واحد!

__________________

(١) أمالي المفيد : ٢١٧ ـ ٢١٨ ، ونقله قبله ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ١ : ٥٠ مرسلا محرفا مضافا فيه قوله : أريد إن أذنت لي أن أنام في بيتي حتى تنجلي الظلمة! فقال علي عليه‌السلام : قد أذنت لك فكن من أمرك على ما بدا لك ... فإذا غشيناك فنم في بيتك! مما يعذّر المغيرة في تخلّفه عن الإمام عليه‌السلام.


ثم عادا فرجع المغيرة الثقفي إلى قبيلته ثقيف بالطائف ، ورجع سعيد إلى حيث كان على عمله من قبل في اليمن (١).

وروى المفيد عن علي عليه‌السلام قال : ما يبالي المغيرة أيّ لواء رفع : لواء ضلالة أو لواء هدى! (وقد) لزم الطائف فأقام بها ينظر على من تستقيم الامة (٢) أو يستقيم الأمر. ولعلّه تذكر فضيحته بالبصرة بالزنا بأم جميل ، فرجع عنها!

وبلغوا إلى الحوأب (٣) :

قال المسعودي : وجهّزهم عبد الله بن عامر الفهري بألف ألف درهم ومائة من الإبل ، وساروا نحو البصرة في ستمائة راكب (٤) ، حتى انتهوا في الليل إلى ماء لبني كلاب يعرف بالحوأب فعوت كلابهم على الركب (٥).

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ٦٣.

(٢) الجمل للمفيد : ٢٩٦. وروى الطبري ٤ : ٤٥٢ خبرا مختصرا عن سيف : في رجوعهما ، وأن سعيدا أقام بمكة ومعه عبد الله بن خالد بن أسيد. ثم آخر عن النميري البصري عن المدائني البصري : أنه كان معهم أبان والوليد ابنا عثمان ، وأن سعيدا بدأ يطالب بالأمر لولد عثمان! وأنه عاد عنهم لذلك ، فتبعه المغيرة الثقفي واستتبع معه قومه من ثقيف. وآخر عن موسى بن عقبة : أنهم استعرضوا عسكرهم بذات عرق فردّوا عروة بن الزبير لصغره.

(٣) الحوأب : أقرب إلى البصرة من نحو الحجاز ـ تهذيب اللغة ومعجم ما استعجم. وهي قبل حفر أبي موسى ، وبينها وبين البصرة خمس ليال ـ معجم البلدان ٢ : ٢٧٥. وإنما سميت باسم امرأة من بني كلاب كما في مناقب آل أبي طالب ٣ : ١٧٦ والحوأب : الوادي المنحدر.

(٤) كذا وفي أنساب الأشراف ٢ : ٢٢٤ : ثلاثة آلاف ، تسعمائة منهم من مكة والمدينة.

(٥) مروج الذهب ٢ : ٣٥٧.


وكان محمد بن طلحة (المعروف بالعبادة) قريبا منها فسألته : أيّ ماء هذا؟ فقال : هذا ماء الحوأب. فقالت : ما أراني إلّا راجعة! قال : ولم؟ قالت : سمعت رسول الله يقول لنسائه : كأني بإحداكنّ تنبحها كلاب الحوأب ، ثم قال لي : وإياك أن تكوني أنت يا حميراء ، فقال لها محمد بن طلحة : تقدّمي رحمك الله ودعي هذا القول (١)!

فقالت ردّوني إلى حرم رسول الله ، لا حاجة لي في المسير! وكان طلحة في ساقة القوم فلحقها وأقسم لها أن ذلك ليس بالحوأب! وقال الزبير : بالله ما هذا بالحوأب ولقد غلط فيما أخبرك به (٢).

وأتاها عبد الله بن الزبير ببيّنة زور من الأعراب فشهدوا بالله لقد خلّفتيه أوّل الليل (٣) فأتوها بأربعين رجلا (٤) أو خمسين ممن كان معهم (٥) وقال لها : لا ترجعي عسى الله أن يصلح بك (٦).

ونقل المعتزلي عن «كتاب الجمل» لأبي مخنف قال : لما انتهت عائشة في مسيرها إلى الحوأب ، وهو ماء لبني عامر بن صعصعة (الكلابي) ونبحتهم الكلاب حتى نفرت الإبل الصعاب ، فقال بعض الأصحاب : ألا ترون ما أكثر وأشد نباح هذه الكلاب في الحوأب! فسمعته عائشة فأمسكت بزمام بعيرها

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ٦٣.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٣٥٨.

(٣) الإمامة والسياسة ١ : ٦٣.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٨١.

(٥) مروج الذهب ٢ : ٣٥٨.

(٦) أنساب الأشرف ٢ : ٢٢٤ وانظر التحقيق بهامشه ، وكفاية الطالب : ١٧١ عن مسند ابن خزيمة وبهامشه مصادر كثيرة.


وقالت : وإنها لكلاب الحوأب؟ ردّوني ردّوني ، فإني سمعت رسول الله يقول ... (وذكرت الحديث).

فلفّقوا لها خمسين أعرابيا جعلوا لهم جعلا ، فحلفوا لها أنّ هذا ليس بالحوأب! فسارت لوجهها (١).

وروى الطبري في خبره عن العرنيّ بائع الجمل لعائشة ودليلها إلى البصرة قال : طرقنا ماء الحوأب فنبحتها كلابها ، فقالوا : أيّ ماء هذا؟ فقلت : ماء الحوأب. فصرخت عائشة بأعلى صوتها ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته ثم قالت : أنا والله صاحبة كلاب الحوأب طروقا! ردّوني ردّوني ـ ثلاثا ـ وأناخوا حولها وأبوا وأبت حتى كانت الساعة التي أناخوا فيها من غد ذلك اليوم ، فجاءها ابن الزبير ينادي : النجاء النجاء فقد أدرككم ـ والله ـ عليّ بن أبي طالب! فارتحلوا وشتموني فانصرفت عنهم (٢).

وروى الصدوق عن الصادق عليه‌السلام قال : فشهد عندها سبعون رجلا أنّ ذلك ليس بماء الحوأب! فكانت أول شهادة زور في الاسلام (٣).

وبلغوا حفر أبي موسى :

نقل المعتزلي عن «كتاب الجمل» لأبي مخنف بسنده عن ابن عباس : أن طلحة والزبير أسرعا السير بعائشة حتى انتهوا إلى حفر أبي موسى الأشعري ،

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢٢٥ عن كتاب الجمل لأبي مخنف. وفي أنساب الأشراف ٢ : ٢٢٤ وأنهم كانوا من بني عامر.

(٢) تاريخ الطبري ٤ : ٤٥٦ ـ ٤٥٧ ثم لحق بالإمام عليه‌السلام بعد الربذة وقبل ذي قار فكان دليلهم إليها.

(٣) كتاب من لا يحضره الفقيه ٣ : ٧٤ ، الحديث ٣٣٦٥ باب نوادر الشهادات.


وهو قريب من البصرة (١) فعسكرا فيه وفيه كتبا إلى عثمان بن حنيف الأنصاري : أن أخل لنا دار الإمارة!

فلما وصل كتابهما إليه بعث إلى الأحنف بن قيس التميمي شيخهم يستشيره فقال له :

إن هؤلاء القوم قدموا علينا ومعهم زوجة رسول الله ، والناس إليها سراع كما ترى! فما ترى؟

فقال له الأحنف : معك أهل البصرة وأنت وإليهم ومطاع فيهم ، فسر بالناس إليهم ، وبادرهم قبل أن يكونوا معك في دار واحدة فيكون الناس أطوع لهم منهم لك ، وإن لم تتأهّب للنهوض إليهم فيمن معك من أهل البصرة فإني أظنّهم ـ والله ـ سيركبون منك خاصة ما لا قبل لك به! وأراهم ـ والله ـ لا يزايلون حتى يلقوا العداوة بيننا ويسفكوا دماءنا!

فقال له ابن حنيف : الرأي ما رأيت ، ولكنّي أكره أن أبدأهم بالشر ، وأرجوا السلامة والعافية إلى أن يأتيني كتاب أمير المؤمنين ورأيه فأعمل به.

ثم أتاه حكيم بن جبلة العبدي فأقرأه كتاب طلحة والزبير واستشاره ، فقال حكيم مثل قول الأحنف ، وأجابه عثمان بمثل جوابه السابق للأحنف ، فقال حكيم : فأذن لي أنا أن أسير بالناس إليهم ، فإن دخلوا في طاعة أمير المؤمنين وإلّا نابذتهم القتال.

فقال عثمان : لو كان رأيي ذلك لسرت إليهم بنفسي.

فقال حكيم : أما والله إن دخلوا عليك هذا المصر لينقلبنّ قلوب كثير

__________________

(١) حفر أبي موسى : بئر واسعة كان حفرها أبو موسى الأشعري لحجّاج البصرة إلى مكة ، بينها وبين البصرة خمس ليال. معجم البلدان ٢ : ٢٧٥ ، ويقال له الحفير أيضا.


من الناس إليهم ، وليزيلنّك عن مجلسك هذا ، فأنت أعلم (١) فقال له عثمان : توقّف عن ذلك حتى اراسلهم. فقال حكيم : إنا لله! هلكت والله يا عثمان! فأعرض عثمان عنه (٢).

وخرج الإمام إلى الربذة :

روى الطبري عن النميري البصري عن المدائني البصري قال : خرج عليّ عليه‌السلام من المدينة في آخر شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين (٣).

وقال المفيد : وسار مجدّا في السير حتى بلغ الربذة ـ عسى ولعلّه يلحقهم فيمنعهم ـ فوجدهم قد فاتوه (٤).

ونقل المعتزلي عن «كتاب الجمل» لأبي مخنف عن رواته قال : بلغه عليه‌السلام مشارفة القوم للبصرة فأمر كاتبه عبيد الله بن أبي رافع أن يكتب :

«من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى عثمان بن حنيف ، أما بعد : فإن «البغاة» عاهدوا الله ثم نكثوا وتوجّهوا إلى مصرك ، وساقهم الشيطان لطلب ما لا يرضى الله به ، والله أشدّ بأسا وأشدّ تنكيلا.

فإذا قدموا عليك فادعهم إلى الطاعة والرجوع إلى الوفاء بالعهد والميثاق الذي فارقونا عليه ، فإن أجابوا فأحسن جوارهم ما داموا عندك ، وإن أبوا إلّا التمسّك بحبل النكث والخلاف فناجزهم القتال حتى يحكم الله بينك وبينهم ، وهو خير الحاكمين.

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٩ : ٣١١ ـ ٣١٢ عن كتاب الجمل لأبي مخنف عن ابن عباس.

(٢) الجمل للمفيد : ٢٧٤ عن أربعة من المؤرّخين منهم أبو مخنف أيضا والمدائني والواقدي.

(٣) الطبري ٤ : ٤٧٨.

(٤) الجمل للمفيد : ٢٤١.


وكتبت كتابي هذا إليك من الربذة ، وأنا معجّل المسير إليك إن شاء الله.

وكتبه عبيد الله بن أبي رافع ، في سنة ست وثلاثين».

ومن أخبار الربذة :

وكان استنفار الزبير وطلحة الناس بعد الحجّ ، وتبعهم جمع منهم وتخلّف عنهم آخرون فالتقى هؤلاء بالامام عليه‌السلام في الربذة ، وكان هو في خبائه فاجتمعوا ليسمعوا كلامه. فروى المفيد عن ابن عباس قال : أتيته ـ لأخبره بهم ـ فوجدته يصلح نعله فقلت له : نحن إلى أن تصلح أمرنا أحوج منا إلى ما تصنع ، فلم يكلّمني حتى فرغ من نعله ثم ضمّها إلى صاحبتها ثم قال لي : قوّمها. فقلت : لا قيمة لها ، قال : على ذلك ، فقلت : كسر درهم! قال : والله لهما أحبّ إليّ من إمرتكم هذه إلّا أن اقيم حقا أو أدفع باطلا.

فقلت له : إن آخر الحجّاج قد اجتمعوا ليسمعوا كلامك ، فتأذن لي أن أتكلم؟ فإن كان حسنا كان عنك ، وإن كان غير ذلك كان منّي! (وكأنه كان يحذر حدّته) فقال : لا ، أنا أتكلّم ، ثم وضع يده في صدري وقام وكان خشن الكفّ فآلمني ، فأخذت بثوبه وقلت له : أنشدك الله والرحم (ليقبل قولي) فقال : لا تنشدني. ثم خرج ، فاجتمعوا عليه ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال (١) :

إن الله سبحانه بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله وليس أحد من العرب يقرأ كتابا (سماويا) ولا يدّعي نبوّة ، فساق الناس حتى بوّأهم محلّتهم وبلّغهم منجاتهم ، فاستقامت قناتهم واطمأنت صفاتهم ، وو الله إن كنت لفي ساقتها حتى تولّت بحذافيرها ، ما عجزت ولا جبنت.

__________________

(١) الإرشاد للمفيد ١ : ٢٤٧ ـ ٢٤٨.


وإنّ مسيري هذا لمثلها ، فلأبقرنّ الباطل حتى يخرج الحق من جنبه.

مالي ولقريش! والله لقد قاتلتهم كافرين ولأقاتلنّهم مفتونين ، وإنّي لصاحبهم بالأمس كما أنا صاحبهم اليوم! والله ما تنقم منا قريش إلّا أن الله اختارنا عليهم فأدخلناهم في حيّزنا ، فكانوا كما قال الأول :

أدمت لعمري شربك المحض صابحا

وأكلك بالزّبد المقشّرة البجرا (١)

ونحن وهبناك العلاء ولم تكن

عليّا ، وحطنا حولك الجرد والسمرا (٢)

وروى الطوسي عن المفيد عن الثقفي الكوفي بسنده عن طارق بن شهاب الأحمسي قال : سمعت بنزول علي عليه‌السلام بالربذة ، فسألت عن قدومه إليها فقيل لي : لقد خالف عليه طلحة والزبير وعائشة وصاروا إلى البصرة فخرج يريدهم (٣).

فقلت في نفسي : إنها الحرب! أفأقاتل أم المؤمنين وحواريّ رسول الله؟! إن هذا لعظيم! أم أدع عليا وهو أول المؤمنين بالله وابن عمّ رسول الله ووصيّه؟! هذا أعظم؟

ثم أتيته فسلّمت عليه وجلست إليه (وسألته عن أمره وأمرهم) فقصّ عليّ قصّته وقصة القوم. ثم زال الزوال فصلّى بنا الظهر ، فلما انفتل (٤) وفرغ من صلاته ، جاءه ابنه الحسن فجلس بين يديه ثم بكى ، فقال له أمير المؤمنين : تكلّم يا بنيّ ولا تبك ولا تحنّ حنين الجارية!

__________________

(١) المحض : اللبن الخالص ، والبجر : التمر المقشّر أي المستخرج النوى منه.

(٢) الجرد : السيوف المجرّدة ، والسمر : الرماح السمراء الصّلبة. ونص الخطبة في نهج البلاغة ، الخطبة ٣٣ ، غير أن الرضيّ ذكر الخبر بذي قار لا الربذة.

(٣) أمالي الطوسي : ٥٢ ، الحديث ٦٨.

(٤) شرح النهج للمعتزلي ١ : ٢٢٦.


قال : يا أمير المؤمنين ؛ إن القوم حصروا عثمان يطلبونه بما يطلبونه بما يطلبونه ظالمين أو مظلومين ، فسألتك أن تعتزل الناس وتلحق بمكة حتى تؤوب العرب وتعود إليها أحلامها وتأتيك وفودها ، فو الله لو كنت في جحر ضبّ لضربت إليك العرب آباط الإبل حتى تستخرجك منه. ثم خالفك طلحة والزبير فسألتك أن لا تتبعهما وتدعهما ، فإن اجتمعت عليك الامة فذاك وإن اختلفت رضيت بما قضى الله ، وأنا اليوم أسألك أن لا تقدم العراق واذكّرك بالله أن تقتل بمضيعة!

فقال أمير المؤمنين : أما قولك : إن عثمان حصر فما علي منه وقد كنت بمعزل عن حصره؟ وأما قولك : ائت مكة ، فو الله ما كنت لأكون الرجل الذي تستحلّ به مكة! وأما قولك : اعتزل العراق ودع طلحة والزبير ، فو الله لا أكون كالضّبع ، تنتظر حتى يدخل عليها طالبها فيضع الحبل في رجلها حتى يقطع عرقوبها ثم يخرجها فيمزّقها إربا إربا! ولكنّ أباك ـ يا بني ـ يضرب بالمقبل إلى الحق المدبر عنه ، وبالسامع المطيع العاصي المخالف أبدا حتى يأتي عليّ يومي ، فو الله ما زلت مدفوعا عن حقي مستأثرا عليّ منذ قبض الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى يوم الناس هذا!

فكان طارق بن شهاب إذا ذكر هذا الحديث بكى (١).

وكتابه منها إلى أهل الكوفة :

نقل المعتزلي عن ابن إسحاق عن عمه عبد الرحمن بن يسار مولى بني المطّلب قال : لما نزل علي عليه‌السلام الربذة متوجها إلى البصرة ، كتب إلى أهل الكوفة كتابا قال فيه :

__________________

(١) المصدر الأسبق. وقارن بالإمامة والسياسة ١ : ٤٩ وانظر واعجب من الزيادات ، وبالطبري ٤ : ٤٥٥ عن سيف بنقائص! وأيضا : ٤٥٨ عن العرني بائع الجمل لعائشة ودليلها للطريق ، يقول إنه لحق به عليه‌السلام بعد الربذة وأنّ هذا الخبر كان بذي قار! واختصر الخبر القاضي النعمان المصري في شرح الأخبار ١ : ٣٨٢ ، الحديث ٣٢٤.


من عبد الله علي أمير المؤمنين ، إلى أهل الكوفة جبهة الأنصار وسنام العرب!

أما بعد ، فإني أخبركم عن أمر عثمان حتى يكون سمعه كعيانه : إن الناس طعنوا عليه ، فكنت رجلا من المهاجرين أكثر استعتابه (اطلب رضاه) وأقل عتابه ، وكان طلحة والزبير أهون سيرهما فيه الوجيف (السريع) وأرفق حدائهما العنيف! وكان من عائشة فيه فلتة غضب! فاتيح له قوم قتلوه.

وبايعني الناس غير مستكرهين ولا مجبرين بل طائعين مخيّرين.

واعلموا أن دار الهجرة قد قلعت بأهلها وقلعوا بها ، وجاشت جيش المرجل (القدر) وقامت الفتنة على القطب ، فأسرعوا إلى أميركم ، وبادروا جهاد عدوّكم إن شاء الله ، فحسبي بكم إخوانا وللدين أنصارا (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(١).

وبعث به إلى الكوفة مع ابن أخيه محمد بن جعفر ، وربيبه محمد بن أبي بكر (٢).

وروى المفيد عن الواقدي عن الحارث بن فضيل قال : كانت عائشة قد كتبت إلى أبي موسى الأشعري ، أن اكفني من قبلك! فكتب إليه علي عليه‌السلام : ارفع عن الناس سوطك وأخرجهم عن حجزتك ، فإن حققت فاقبل وإن ثقلت فاقعد. وبعث به إليه مع ابنه محمد بن الحنفية وربيبه محمد بن أبي بكر ، فلما قرأ الكتاب قال : اثقل ثم اثقل ، وأساء لهما القول وأغلظ وقال : والله إن بيعة عثمان لفي رقبة صاحبكم وفي رقبتي ما خرجنا منها (٣)!

__________________

(١) التوبة : ٤١.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ١٤ : ٨ عن كتاب الجمل لابن إسحاق.

(٣) الجمل للمفيد : ٢٥٧ عن الواقدي ونحوه في الطبري ٤ : ٤٧٧ عن النميري البصري عن المدائني البصري ، و٤٨٢ عن سيف التميمي.


وقال ابن إسحاق : أنهما استنفرا الناس ، فدخلوا على أبي موسى ليلا وقالوا : ما تقول ، فقال : سبيل الآخرة أن تلزموا بيوتكم! فمنعهم بذلك ، وبلغ ذلك المحمّدين فأغلظا له فقال لهما ذلك القول السابق وزاد : ولو أردنا قتالا ما كنا لنبدأ بأحد قبل قتلة عثمان! فخرجا ولحقا بعلي عليه‌السلام فأخبراه خبره (١).

خبر هاشم المرقال الزهري :

وقبل أن يرجع إليه المحمّدان فيخبراه ، كان في الكوفة يوم قدما إليها هاشم بن عتبة بن أبي وقاص الزهري ابن أخي سعد بن أبي وقّاص ، والملقّب بالمرقال ، وقد علم خبرهما وخبر الأشعري.

فروى الطبري عن النميري البصري عن المدائني البصري بسنده : أن هاشما هذا خرج من الكوفة إلى علي عليه‌السلام وهو بالربذة ـ قبل رجوع المحمدين ـ فأخبره بقدوم ابن أبي بكر وقول أبي موسى.

فقال عليه‌السلام : لقد أردت عزله ، وسألني الأشتر أن أقرّه ، ثم كتب معه إلى أبي موسى :

«بسم الله الرحمنِ الرحيم. من عليّ أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس.

أما بعد ، فإني وجّهت هاشم بن عتبة لينهض من قبلك من المسلمين إليّ ، فأشخص الناس ، فإني لم اولّك الذي أنت به إلّا لتكون من أعواني على الحق» (٢).

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١٤ : ٩ عن ابن إسحاق.

(٢) الطبري ٤ : ٤٩١ ، ونقله المعتزلي في شرح نهج البلاغة ١٤ : ٨ عن كتاب الجمل لأبي مخنف وعنه المفيد في الجمل : ٢٤٢ ولكن فيه : «وقتلوا شيعتي وأحدثوا الحدث العظيم» ولم يكن هذا الحدث قد حدث يومئذ أو لم يصل خبره! ولذلك جعله المفيد من أخبار ذي قار خلافا لنصّ المدائني الخالي من هذه الزيادة ، وهو الصحيح المنسجم مع سائر الأخبار.


فقدم هاشم بالكتاب على أبي موسى الأشعري.

فروى عن السائب بن مالك الأشعري : أن أبا موسى دعاه وأقرأه الكتاب ثم قال له : ما ترى؟ قال : فقلت له : اتبع ما كتب به إليك! فأبى وأخذ الكتاب فمحاه ثم بعثني إلى هاشم يتوعّده بالسّجن إن نشر خبر الكتاب! فأتيت هاشما وأخبرته بأمر أبي موسى!

وكأن ابن عتبة المرقال قد علم بولاء قبائل طيّئ لعليّ عليه‌السلام ، فرأى منهم في الكوفة المحلّ بن خليفة الطائي فكتب معه إليه عليه‌السلام : «أما بعد يا أمير المؤمنين فإني قدمت بكتابك على امرئ عاق شاقّ بعيد الرحم ، ظاهر الغلّ والشقاق (١)! وقد بعثت إليك بهذا الكتاب مع المحلّ بن خليفة أخي طيّئ وهو من شيعتك (٢) وأنصارك ، وعنده علم ما قبلنا ، فاسأله عمّا بدا لك ، واكتب إليّ برأيك أتّبعه ، والسلام» (٣).

كذا ذكر خبره أبو مخنف وأنه قدم بكتاب المرقال إلى الإمام عليه‌السلام بالربذة.

بينما روى المفيد بسنده عن الثقفي الكوفي عن الباقر عليه‌السلام : أن عليا عليه‌السلام لما ارتحل من الربذة ونزل بمنزل فيه لقيه عبد الله بن خليفة (٤) الطائي ، فقال له :

الحمد لله الذي ردّ الحق إلى أهله ووضعه موضعه! كره ذلك قوم أم سرّوا به!

__________________

(١) وهنا في رواية أبي مخنف : فتهددني بالسجن وخوّفني بالقتل! شرح النهج للمعتزلي ١٤ : ٩.

(٢) لعلّها أول بادرة لإطلاق الشيعة في الإسلام بعد عهد النبوة ، تاريخيا.

(٣) الجمل للمفيد : ٢٤٢ ـ ٢٤٣.

(٤) كذا في هذا الخبر ، وفي الطبري في خمسة موارد سمّاه عبد الله الطائي البولائي ، وفي عشرة موارد باسم المحلّ ، والمحلّ لقبه ، وبهما ذكر في قاموس الرجال ٦ : ٣٣٢ برقم ٤٢٩٣ و٨ : ٦٧٩ برقم ٦٢٦٥ والخبر كما ترى هو خبر المحلّ كما في شرح النهج فهما واحد.


فقد والله كرهوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ونابذوه وقاتلوه ، فردّ الله كيدهم في نحورهم ، وجعل دائرة السوء عليهم. والله لنجاهدنّ معك في كل موطن حفظا لرسول الله.

فرحّب به أمير المؤمنين وأجلسه إلى جنبه وأخذ يسائله عن الناس ، إلى أن سأله عن أبي موسى الأشعري فقال : والله ما أنا واثق به وما آمن عليك خلافه إن وجد مساعدا على ذلك.

فقال أمير المؤمنين : والله ما كان عندي مؤتمنا ولا ناصحا ؛ ولقد كان الذين تقدّموني استولوا على مودّته وولّوه وسلّطوه بالإمرة على الناس ، ولقد أردت عزله فسألني الأشتر فيه وأن أقرّه ، فأقررته على كره مني وأن أصرفه بعد.

وهنا جيء بطيّئ :

قال الباقر عليه‌السلام : فهو عليه‌السلام مع عبد الله (الطائي) في هذا ونحوه إذ تراءى سواد كثير من قبل جبال طيّئ ، فقال أمير المؤمنين : انظروا ما هذا السواد. فذهبت خيل تركض فلم تلبث أن رجعت وقالت : هذه طيّئ قد جاءتك تسوق معها الإبل والخيل والغنم ، فمنهم من جاءك بهداياه ومنهم من يريد النفوذ معك إلى عدوّك.

فقال أمير المؤمنين : جزى الله طيّئا خيرا ، (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً)(١) فلما انتهوا إليه سلّموا عليه.

وقام عديّ بن حاتم الطائي فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد ، فإني كنت أسلمت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأدّيت الزكاة على عهده ، وبعده قاتلت أهل الردّة أردت بذلك ما عند الله ، وعلى الله ثواب من أحسن واتقى.

وقد بلغنا أنّ رجالا من أهل مكة نكثوا بيعتك وخالفوا عليك ظالمين ، فأتيناك لننصرك بالحق ، فنحن بين يديك ، فمرنا بما أحببت.

__________________

(١) النساء : ٩٥.


ثم قام من بني بحسرّ من طيّئ سعيد بن عبيد الله فقال : يا أمير المؤمنين ؛ إنّ من الناس من قدر أن يعبّر بلسانه عمّا في قلبه ، ومنهم من لا يقدر أن يبيّن ما يجده في نفسه بلسانه ، فإنّ تكلّف ذلك شق عليه ، وإن سكت عمّا في قلبه برح به الهمّ والبرم. وإني والله ما كل ما في نفسي أقدر أن اؤدّيه إليك بلساني ، ولكن والله لا جهدنّ على أن ابيّن لك ، والله وليّ التوفيق : أما أنا فإني ناصح لك في السرّ والعلانية ومقاتل معك الأعداء في كل موطن ، وأرى لك من الحق ما لم أكن أراه لمن كان قبلك ، ولا لأحد اليوم من أهل زمانك ، لفضيلتك في الإسلام وقرابتك من الرسول ، ولن افارقك أبدا حتى تظفر ، أو أموت بين يديك.

قال أمير المؤمنين : يرحمك الله ، فقد أدّى لسانك ما يكنّ ضميرك لنا ، ونسأل الله أن يرزقك العافية ويثيبك الجنة.

ثم ارتحل أمير المؤمنين واتبعه منهم ستمائة رجل ، حتى نزل ذاقار بألف وثلاثمائة رجل (١).

ابن عباس وابن أبي بكر إلى الكوفة :

قال أبو مخنف : فبعد وصول المحلّ الطائي بكتاب هاشم المرقال في الربذة دعا عبد الله بن العباس ومحمد بن أبي بكر فأرسلهما إلى أبي موسى بكتاب قال فيه :

من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس ، أما بعد ، يا ابن الحائك (٢)! فو الله إني كنت أرى أن بعدك من هذا الأمر ـ الذي لم يجعلك الله له أهلا ولا جعل لك فيه نصيبا ـ سيمنعك من ردّ أمري والانتزاء (الوثوب) عليّ ، وقد بعثت إليك

__________________

(١) أمالي المفيد : ٢٩٥ ، الحديث ٦ ، م ٣٥ ، وعنه في أمالي الطوسي : ٧٠ ، الحديث ١٠٣.

(٢) هنا زيادة : يا عاضّ أير أبيه ، وليست في رواية المفيد : ٢٤٣ وهي وإن كان يستحقها الأشعري ولكنّها بعيدة عن عفّة كلام الإمام عليه‌السلام فهو قد يلعن ولا يفحش.


ابن عباس وابن أبي بكر فخلّهما والمصر وأهله ، واعتزل عملنا مذءوما مدحورا! فإن فعلت وإلّا قد أمرتهما أن ينابذاك على سواء ، «إن الله لا يهدي كيد الخائنين» فإذا ظهرا عليك قطّعاك إربا إربا ، والسلام على من شكر النعمة ووفى بالبيعة وعمل برجاء العافية.

قال أبو مخنف : ثم رحل علي عليه‌السلام من الربذة إلى ذي قار وهو لا يدري ما صنعا فقد أبطأ خبرهما عليه (١).

رسل ابن حنيف إليهم :

ولما وصل كتاب علي عليه‌السلام إلى ابن حنيف (٢) أرسل إلى عمران بن حصين الخزاعي الصحابي وأبي الأسود الدؤلي الكناني ، فذكر لهما قدوم القوم وحلولهم حفر أبي موسى ، وسألهما أن يسيرا إليهم ويسألوهم عن قصدهم ويكفّوهم عن الفتنة ، فخرجا إليهم (٣).

فناديا : يا طلحة! فأجابهما ، فتكلّم أبو الأسود فقال له :

يا أبا محمد ، إنكم قتلتم عثمان غير مؤامرين لنا في قتله ، وبايعتم عليا غير مؤامرين لنا في بيعته ، فلم نغضب لعثمان إذ قتل ، ولم نغضب إذ بويع عليّ ، ثم بدا لكم اليوم فأردتم خلع عليّ. ونحن على الأمر الأول ، فعليكم المخرج مما دخلتم فيه!

ثم تكلم عمران فقال : يا طلحة ، إنكم قتلتم عثمان ولم نغضب له إذ لم تغضبوا ، ثم بايعتم عليا وبايعنا من بايعتم ، فإن كان قتل عثمان صوابا فما مسيركم هذا؟ وإن كان خطأ فحظّكم منه الأوفر ، ونصيبكم منه الأوفى!

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١٤ : ١٠ وانظر وقارن بالجمل للمفيد : ٢٤٣.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ٩ : ٣١٣ عن كتاب الجمل لأبي مخنف.

(٣) الجمل للمفيد : ٢٧٤.


فقال طلحة : يا هذان ، إن صاحبكم (عليا) لا يرى أنّ معه غيره في هذا الأمر ، وليس على هذا بايعناه ، وأيم الله ليسفكنّ دمه!

فالتفت أبو الأسود إلى عمران وقال له : يا عمران ، أما هذا فقد صرّح أنه إنما غضب للملك!

ثم أتيا الزبير فقالا له : يا أبا عبد الله ، إنا أتينا طلحة ... فقال الزبير : إن طلحة وإياي كروح في جسدين! وإنه ـ والله ـ يا هذان قد كانت منّا في عثمان فلتات احتجنا فيها إلى المعاذير! ولو استقبلنا من أمرنا ما استدبرناه نصرناه!

ثم دخلا على عائشة فقالا لها : يا أمّ المؤمنين ، ما هذا المسير؟

قالت : غضبنا لكم من السوط والعصا ولا نغضب لعثمان من القتل؟

فقال أبو الأسود : وما أنت من عصانا وسيفنا وسوطنا؟ فقالت : يا أبا الأسود ، بلغني أن عثمان بن حنيف يريد قتالي! فقال أبو الأسود : نعم ـ والله ـ قتالا أهونه تندر منه الرءوس (١).

فقال لها عمران : يا عائشة ، قد كان لك في إخوتك عبرة ، وفي أمثالك من امّهات المؤمنين اسوة ، أما سمعت الله عزوجل يقول لكنّ : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ)(٢) فلو اتّبعت أمر الله كان خيرا لك!

فقالت له : يا عمران ، قد كان ما كان! فهل عندك عون لنا؟ وإلّا فاحبس عنّا لسانك!

فقال : اعتزلك واعتزل عليا! فقالت : رضيت منك بذلك (٣).

__________________

(١) الامامة والسياسة ١ : ٦٤ ـ ٦٥.

(٢) الأحزاب : ٣٣.

(٣) الجمل للمفيد : ٣١٠ ـ ٣١١.


وروى المفيد عن الشعبي قال : فقالت لأبي الأسود : وأنت أيضا أيها الدؤلي يبلغني عنك ما يبلغني! قم فانصرف عني!

فخرجا من عندها إلى طلحة فقالا له : يا أبا محمد ، ألم يجتمع الناس إلى بيعة ابن عمّ رسول الله الذي فضّله الله بكذا وكذا ، وجعلا يعدّان مناقبه وفضائله وحقوقه. فوقع طلحة في علي عليه‌السلام ونال منه وسبّه!

فخرجا من عنده ثم دخلا على الزبير فكلّماه بمثل ذلك ، فوقع هو أيضا في عليّ وسبّه وقال لمن حضره : صبّحوهم قبل أن يمسوكم!

فخرجا من عنده حتى صارا إلى ابن حنيف فأخبراه الخبر (١) وأنشأ أبو الأسود :

يا ابن حنيف قد اتيت فانفر

وطاعن القوم وجالد واصبر

فقال ابن حنيف : إي والحرمين لأفعلن! ثم أمر مناديه فنادى في الناس : السلاح السلاح! فاجتمعوا إليه (٢) فخطبهم فقال لهم :

خطبة ابن حنيف :

«أيها الناس! إنّ من بايع منكم عليا فقد بايع الله ، و (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)(٣).

والله لو علم عليّ أن أحدا أحقّ بهذا الأمر منه ما قبله ، ولو بايع الناس غيره لبايع من بايعوا وأطاع من ولّوا ، وما به إلى أحد من صحابة رسول الله حاجة ، وما بأحد منهم عنه غنى! ولقد شاركهم في محاسنهم وما شاركوه في محاسنه!

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٢٧٥ عن الشعبي.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ٩ : ٣١٣ ـ ٣١٤.

(٣) الفتح : ١٠.


ولقد بايعه هذان الرجلان وهما ما يريدان الله ، فاستعجلا الفطام قبل الرضاع ، والرضاع قبل الولادة ، والولادة قبل الحمل وطلبا ثواب الله من عباد الله! وقد زعما أنهما بايعا مستكرهين! فإن كانا استكرها قبل بيعتهما وكانا رجلين من عرض قريش فلهما أن يقولا ذلك!

ألا وإن الهدى ما كانت عليه العامة ، والعامة على بيعة علي ، فما ترون أيها الناس؟» وسكت.

فقام حكيم بن جبلة العبدي فقال له : إن دخلا علينا قاتلناهما ، وإن وقفا تلقّيناهما. والله لا ابالي أن اقاتلهما وحدي وإن كنت أحبّ الحياة (ولكن) ما أخشى في طريق الحق وحشة! ولا غيرة ولا غشّا ، ولا سوء منقلب إلى البعث ، وإنها لدعوة قتيلها شهيد وحيّها فائز ، والتعجيل إلى الله قبل الأجر خير من التأخير في الدنيا ، وهذه ربيعة معك (١).

ثم التفت إلى من حضره منهم فقال لهم : يا معشر عبد القيس ، إن عثمان بن حنيف دمه مضمون ، وأمانته مؤدّاة ، وايم الله لو لم يكن أميرا علينا لمنعناه (حفظناه) لمكانته من رسول الله ، فكيف وله الولاية والجوار ، فأشخصوا بأبصاركم وجاهدوا عدوّكم ، فإما أن تموتوا كراما أو تعيشوا أحرارا (٢)!

وبلغوا المربد وخطبوا الناس :

وكان كما أمرهم الزبير ، فقبل أن يمسيهم هؤلاء صبّحهم اولئك في مربد بلدهم (٣)

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ٦٣ ـ ٦٤.

(٢) الإمامة والسياسة ١ : ٦٩.

(٣) كانت مربد الإبل للبلد ثم صارت محلة عظمى من البصرة ثم خربت. معجم البلدان ٥ : ٩٨.


ونقل المعتزلي عن «كتاب الجمل» لأبي مخنف قال : اجتمع أهل البصرة إلى المربد مشاة وركبانا حتى ملئوه (١) فروى ابن الخياط عن العطاردي قال : رأيت طلحة قد غشيه الناس وهو على دابّته يناديهم : أيها الناس أتنصتون؟ وهم يركبونه ولا ينصتون ، فقال : اف اف! فراش نار وذبّان طمع (٢)! ثم قام طلحة فأشار إلى الناس بالسكوت ليخطب ، فسكتوا بعد جهد ، فقال :

«أما بعد ، فإن عثمان بن عفّان كان من أهل السابقة والفضيلة ، ومن المهاجرين الأولين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ، ونزل القرآن ناطقا بفضلهم ، وأحد أئمة المسلمين الوالين عليكم بعد أبي بكر وعمر صاحبي رسول الله. وقد كان أحدث أحداثا نقمناها عليه فأتيناه فاستعتبناه فأعتبنا (قبل عتابنا) فعدا عليه امرؤ ابتزّ هذه الأمة أمرها غصبا بغير رضا منها ولا مشورة فقتله! وساعده على ذلك قوم غير أتقياء ولا أبرار! فقتل محرما (كذا) تائبا بريئا!

وقد جئناكم أيها الناس نطلب بدم عثمان وندعوكم إلى الطلب بدمه ، فنحن إن أمكننا الله من قتلته قتلناهم به! وجعلنا هذا الأمر شورى بين المسلمين ، وكانت خلافة رحمة للامة جميعا ، فإنّ كلّ من أخذ الأمر من غير رضا من العامة ولا مشورة منها ابتزازا كان ملكه عضوضا وحدثا كبيرا!» ثم سكت ، ثم تكلم الزبير بمثله ثم سكت.

فناداهما اناس قالوا : ألم تبايعا عليّا فيمن بايعه؟ ففيم بايعتما ثم نكثتما؟

فقالا : ما بايعنا وما لأحد في أعناقنا بيعة ، وإنما استكرهنا على بيعته!

فقال بعضهم : صدقا وأحسنا ونطقا بالصواب! وقال آخرون : ما صدقا ولا أصابا!

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٩ : ٣١٤.

(٢) تاريخ ابن الخياط : ١٠٩.


وأقبلت عائشة على جملها فنادت بصوت مرتفع : أيها الناس أقلّوا الكلام واسكتوا! فأسكت لها الناس ، فقالت (١) :

أمّا بعد ، فإنّ عثمان بن عفّان كان قد غيّر وبدّل ، ثم لم يزل يغسله بالتوبة حتى صار كالذهب المصفّى! فعدوا عليه وقتلوه في داره! وقتلوا اناسا معه ظلما وعدوانا! وإنا قد غضبنا لكم من سوطه فكيف لا نغضب لعثمان من السيف؟!

ثم آثروا عليا فبايعوه من غير ملأ من الناس ولا شورى ولا اختيار! فابتزّ ـ والله ـ أمرهم! وكان المبايع له يقول : «خذها إليك واحذرن أبا حسن» ألا وإن الأمر لا يصح حتى يردّ إلى ما صنع عمر من الشورى ، ثم لا يدخل فيه أحد ممّن سفك دم عثمان! ثم سكتت (٢).

فماج الناس واختلطوا ، فقائل : القول ما قالت ، وقائل : ما هي وهذا الأمر إنما هي امرأة مأمورة بلزوم بيتها! وكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى تراموا بالحصى وتضاربوا بالنعال! وحتى افترقوا فريقين (٣).

المقابلة الأولى :

وعمد أنصار ابن حنيف إلى أن يسدّوا عليهم أفواه السكك ، فلما توجه طلحة والزبير من المربد يريدان دار الإمارة وجدا أصحاب ابن حنيف قد أخذوا عليهم أفواه السكك ، فمضوا حتى انتهوا إلى موضع الدبّاغين فاستقبلهم أصحاب ابن حنيف فطاعنهم طلحة والزبير وأصحابهما بالرماح ، فحمل عليهم حكيم بن

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٩ : ٣١٤ ـ ٣١٥.

(٢) الجمل للمفيد : ٢٧٩.

(٣) المصدر الأسبق.


جبلة وأصحابه يقاتلونهم حتى أخرجوهم من السكك ، ورماهم نساء البصرة من فوق البيوت بالحجارة.

فلما رأوا ذلك اخذوا إلى مقبرة بني مازن فوقفوا بها حتى اجتمع إليهم خيلهم ، ثم أخذوا على مسنّاة البصرة حتى انتهوا إلى الزابوقة ، ثم إلى سبخة دار الرزق فنزلوا بها.

فلما نزلوا السّبخة أتى عبد الله بن حكيم التميمي وهو يحمل كتابا كتبه إليه من قبل طلحة ، فوقف عليه وقال له : أما هذا كتابك إلينا؟ قال : بلى! قال : فكتبت أمس تدعونا إلى خلع عثمان وقتله ، حتى إذا قتلته أتيتنا ثائرا بدمه؟! فلعمري ما هذا رأيك (بل) لا تريد إلّا هذه الدنيا! مهلا! إذا كان هذا رأيك فلم قبلت من عليّ ما عرض عليك من البيعة فبايعته طائعا راضيا ثم نكثت بيعتك ، ثم جئت لتدخلنا في فتنتك!

فقال له : إن عليا دعاني إلى بيعته بعد ما بايعه الناس ، فعلمت أني لو لم أقبل ما عرضه عليّ لم يتم لي ثم يغرى بي من معه (١)!

أو قال طلحة : دعانا إلى البيعة لنا بعد أن اغتصبها وبايعه الناس ، فعلمنا حين عرض علينا أنه غير فاعل! فبايعناه كارهين!

قال : فما بدا لكما في عثمان؟!

قال : ذكرنا ما كان من طعننا عليه وخذلاننا إياه فلم نجد مخرجا من ذلك إلّا الطلب بدمه!

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٩ : ٣١٨ ـ ٣١٩ عن كتاب الجمل لأبي مخنف ، ومختصره في أنساب الأشراف ٢ : ٢٣ عن الزهري : بكتب كتبها طلحة إليهم ... وفي الجمل للمفيد : ٣٠٥ : أنه أتاه بها بعد الوقعة الأولى.


قال : فما تأمرانني به؟ قال : بايعنا على نقض بيعته وقتاله! قال : أرأيتما إن أتانا بعدكما من يدعونا إلى ما تدعوان إليه ما نصنع؟ قال : لا تبايعه! قال : فما أنصفتما أتأمرانني أن أنقض بيعته واقاتله وبيعته في أعناقكما وتنهياني عن بيعة من لا بيعة لكما عليه؟! أما إنّنا قد بايعنا عليا بأيماننا فإن شئتما بايعنا كما بيسار أيدينا (١).

وجاء جارية بن قدامة السعدي إلى عائشة فقال لها : يا أم المؤمنين ، لقتل عثمان كان أهون علينا من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون! إنه كانت لك من الله حرمة وستر ، فهتكت سترك وأبحت حرمتك! إنه من رأى قتالك فهو يرى قتلك! فإن كنت ـ يا أم المؤمنين ـ أتيتينا طائعة فارجعي إلى منزلك ، وإن كنت أتيتينا مستكرهة فاستعيني بالناس (٢)!

والمقاتلة الأولى :

قال أبو مخنف : نزلوا في السبخة وباتوا بها ، ثم أصبحا فصفّا للحرب!

وخرج إليهما عثمان بن حنيف في أنصاره ، فناشدهما الله والإسلام ، وأذكرهما بيعتهما عليّا عليه‌السلام ، فقالا : نطلب بدم عثمان! فقال لهما : وما أنتما وذاك؟ أين بنوه؟ أين بنو عمه الذين هم أحقّ به منكم! كلّا والله ، ولكنكما حسدتماه حيث اجتمع الناس عليه ، وكنتما ترجوان هذا الأمر وتعملان له! وهل كان أحد أشدّ على عثمان قولا منكما!

فشتماه شتما قبيحا بذكر امّه! فبدأ بالزبير فقال له : أما والله لو لا صفيّة ومكانها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنها أدنتك من ظلّه ... والتفت إلى طلحة وقال له :

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ١٩ ، ٦٨ بلا اسم ، وإنما : بعض أشراف البصرة.

(٢) تاريخ الطبري ٤ : ٤٦٥ عن سيف عن القاسم بن محمد الفقيه.


وأن الأمر بيني وبينك أعظم من القول يا ابن الصّعبة! لأعلمتكما من أمركما ما يسوؤكما! اللهم إني قد أعذرت إلى هذين الرجلين! ثم حمل عليهم (١).

فاقتتلوا قتالا شديدا حتى زالت الشمس ، واصيب يومئذ من عبد القيس خاصة خمسمائة شيخ ، سوى من اصيب من سائر الناس ... وكثر فيه القتلى والجرحى من الفريقين.

ثم لمّا رأى بعض الناس ما رأوا من عظيم ما ابتلوا به ، دخل بينهم ناس فتداعوا إلى الصلح (٢) فتحاجزوا واصطلحوا على أن يكتب بينهم كتاب صلح ، فكتب :

نصّ المصالحة :

«هذا ما اصطلح عليه عثمان بن حنيف الأنصاري ومن معه من المؤمنين من شيعة (٣) أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وطلحة والزبير ومن معهما من المؤمنين والمسلمين من شيعتهما! أن لعثمان بن حنيف دار الإمارة والرّحبة والمسجد والمنبر وبيت المال ، وأن لطلحة والزّبير ومن معهما أن ينزلوا حيث شاءوا من البصرة ، ولا يضارّ بعضهم بعضا في طريق ولا فرضة ولا سوق ولا شرعة (ماء) ولا مرفق ، حتى يقدم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (٤) فإن أحبّوا دخلوا فيما دخلت فيه الامة ، وإن أحبّوا لحق كل قوم بهواهم ، وما أحبّوا من قتال أو سلم

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٩ : ٣١٩ عن كتاب الجمل لأبي مخنف.

(٢) الجمل للمفيد : ٢٧٩.

(٣) هذه من أوائل إطلاق الشيعة ، تاريخيا.

(٤) سبق كتابه عليه‌السلام إليه من الربذة بأنه متّجه إليهم قريبا ، فمن هنا يبدو أن ابن حنيف قد أعلن ذلك ولم يكتمه.


أو خروج أو إقامة ، وعلى الفريقين بما كتبوا عهد الله وميثاقه وأشدّ ما أخذه على نبيّ من أنبيائه من عهد وذمّة» وختم الكتاب.

ورجع عثمان بن حنيف حتى دخل دار الإمارة وقال لأصحابه : الحقوا ـ رحمكم الله ـ بأهلكم ، وضعوا السلاح ، وداووا جرحاكم ، فمكثوا بذلك أياما (١).

وعلموا بقدوم علي عليه‌السلام إليهم ، فأجمعا على مراسلة القبائل واستمالة العرب ، فأرسلا إلى وجوه الناس وأهل الرئاسة والشرف يدعوانهم إلى خلع عليّ والطلب بدم عثمان وإخراج ابن حنيف من البصرة. فبايعهم على ذلك أزد البصرة وبنو ضبّة وقيس عيلان ، وبايعهم بنو دارم كلهم إلّا بعض بني مجاشع من ذوي الدين والفضل.

وأرسلوا إلى هلال بن وكيع التميمي فلم يأتهم فذهبا إليه فتوارى عنهما ، فلم تزل به أمّه حتى أظهرته لهما فبايعهما عن كلّ بني عمرو بن تميم وبني حنظلة إلّا بني يربوع منهم فإنهم كانوا من شيعة علي عليه‌السلام (٢).

ونكث الناكثون عهدهم :

كانت البصرة فرج الهند ـ كما كان العرب يسمّونها ـ وكان فيها بحّارة من الهند والسند ومنهم الزطّ ، وكانوا سمرا أو سودا ، ولذا كان الفرس يسمّونهم «سياه بچگان الغلمان السود» (٣) فسمّاهم العرب : السيابجة (٤) فلما جاوروا

__________________

(١) الأيام ما بين عقد الصلح ونقضه إنما كانت يومين : فلم يلبث إلّا يومين ، عن الزهري في الطبري ٤ : ٤٦٩ وزاده سيف إلى ٢٦ يوما كما فيه أيضا ٤ : ٤٧٣.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ٩ : ٣٢٠ عن كتاب الجمل لأبي مخنف.

(٣) في هامش نسخة الارشاد ١ : ٢٥٢ : أصل الكلمة : سياه بچگان.

(٤) جاءت الكلمة كذا بالياء في الارشاد ١ : ٢٥٢ وتصحفت في كثير من الكتب بالباء : سبابجة ، وذكرها الجوهري في الصحاح في سبج وقال : لفظة معرّبة ١ : ٣٢١.


المسلمين وعرفوا الإسلام استبصر قوم منهم وتعبّدوا ، قال المفيد : حتى أكل السجود جباههم ، فأتمنهم عثمان بن حنيف على بيت المال ودار الإمارة (١).

وقال أبو مخنف : فلما استوسق لطلحة والزبير أمرهما. خرجا في ليلة مظلمة ذات ريح ومطر ومعهما أصحابهما ، قد ألبسوهم الدروع وتظاهروا فوقها بالثياب ، فانتهوا إلى المسجد وقت صلاة الفجر وقد سبقهم عثمان بن حنيف إليه ، واقيمت الصلاة ، فتقدّم عثمان للصلاة وتقدم أصحاب الزبير يقدّمونه ويؤخرون ابن حنيف ، وتقدّم السيابجة الشرط فقدّموا عثمان وأخّروا الزبير ، فغالبهم أصحاب الزبير فقدّموه وأخّروا عثمان ، واستمر هذا حتى كادت الشمس أن تطلع وتصايح الناس : الصلاة الصلاة! أصحاب محمد! فقد طلعت الشمس! فتهاون ابن حنيف وتغلّب الزبير فصلى بالناس!

فلما انصرف من صلاته صاح بأصحابه المتسلّحين : أن خذوا عثمان بن حنيف! فتقدّم إليه مروان بن الحكم بسيفه وجرّد هو سيفه فتضاربا ثم أخذه أصحاب مروان ، وأسروه وضربوه ضرب الموت ، ونتفوا كل شعرة في رأسه ووجهه حتى حاجبيه وأشفار عينيه ، وأسروا السيابجة سبعين رجلا ، وانطلقوا بهم إلى عائشة.

فأرسلت عائشة إلى الزبير أن اقتل السيابجة فقد بلغني ما صنعوا بك! فذبحهم الزبير وابنه عبد الله كما يذبح الغنم صبرا! فكانوا أول من ضرب عنقه صبرا من المسلمين.

وقالت لأبان بن عثمان : اخرج إلى ابن حنيف فاضرب عنقه ، فإن الأنصار قتلت أباك وأعانت على قتله! فسمعها ابن حنيف فناداها : يا عائشة ، إنّ أخي سهل ابن حنيف خليفة عليّ بن أبي طالب على المدينة ، فأقسم بالله لئن قتلتموني ليضعنّ

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٢٨١.


السيف في بني أبيكم وأهليكم ورهطكم فلا يبقي أحدا منكم! فكفّوا عنه وتركوه! وخيّروه بين أن يقيم أو يلحق بعلي ، فاختار الرحيل فخلّوا سبيله ، فرحل عنهم ، وكان غدر طلحة والزبير (وعائشة) بعثمان بن حنيف أول غدر كان في الإسلام (١).

وثار له ابن جبلة في يوم الجمل الأصغر :

قال المفيد : وبلغ حكيم بن جبلة العبديّ ما صنع القوم بعثمان بن حنيف (قبل إطلاقه) وقتلهم السيابجة المسلمين الصالحين خزّان بيت المال (٢) فنادى حكيم في قومه عبد القيس : يا قوم انفروا إلى هؤلاء الضالّين الظالمين. الذين سفكوا الدم الحرام وقتلوا العباد الصالحين ، واستحلّوا ما حرّم الله تعالى. فأجابه سبعمائة منهم فأتوا المسجد ، فقال لهم : أما ترون ما صنعوا بأخي عثمان بن حنيف! لست بأخيه إن لم أنصره ، ثم رفع يديه إلى السماء ودعا : اللهم إنّ طلحة والزبير لم يريدا بما عملا القربة منك ، وما أرادا إلّا الدنيا ، اللهم فاقتلهما بمن قتلا ، ولا تعطهما ما أمّلا! ثم أخذ رمحه وركب فرسه وخرجه وتبعه أصحابه (٣).

وقال أبو مخنف : إنه خرج في ثلاثمائة من عبد القيس.

فحمل طلحة والزبير عائشة على جملها وخرجوا إلى العبدي وقومه عبد القيس ، ولذا سمّى ذلك اليوم يوم الجمل الأصغر (٤).

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٩ : ٣٢٠ ـ ٣٢١ عن الجمل لأبي مخنف.

(٢) سيأتي خبر بخصوص خزّان بيت المال منهم ، وهؤلاء كانوا حرّاس الوالي وشرطه.

(٣) الجمل للمفيد : ٢٨٣.

(٤) شرح النهج للمعتزلي ٩ : ٣٢٢ عن الجمل لأبي مخنف وعنه أيضا في أنساب الأشراف ٢ : ٢٢٨. وفي ابن الخياط : في الجمل الاولى قبل قدوم علي عليه‌السلام قتل العبدي ، تاريخ خليفة : ١٠٨.


وعن المدائني البصري بسنده قال : لما كانت الليلة التي اخذ فيها عثمان بن حنيف ، وبلغ حكيم بن جبلة ما صنعوا به ، قال : لست أخاف الله إن لم أنصره!

وكان في رحبة مدينة الرزق طعام يرتزقه الناس ، فأراد عبد الله بن الزبير أن يرزق منه أصحابه فاستولى عليه ، فجاء حكيم في جماعة من ربيعة من بكر بن وائل وعبد القيس وأكثرهم منهم ، إلى ابن الزبير في مدينة الرزق. فقال له ابن الزبير : ما لك يا حكيم؟

قال حكيم : نريد أن نرتزق من هذا الطعام ، وأن تخلّوا عثمان فيقيم في دار الإمارة على ما كتبتم بينكم حتى يقدم عليّ ، والله لو أجد أعوانا عليكم أخبطكم (أقتلكم) بهم ما رضيت بهذه منكم حتى أقتلكم بمن قتلتم ، ولقد أصبحتم وإنّ دماءكم لنا لحلال بمن قتلتم من إخواننا ، أما تخافون الله عزوجل! بم تستحلّون سفك الدماء! قال ابن الزبير : بدم عثمان بن عفّان!

قال حكيم : فالذين قتلتموهم (من الحرّاس الشرط الزطّ السّيابجة) قتلوا عثمان! أما تخافون مقت الله!

فقال ابن الزبير : لا نرزقكم من هذا الطعام ، ولا نخلّي سبيل عثمان ابن حنيف حتى يخلع عليا!

فرفع حكيم رأسه وقال : اللهم إنك حكم عدل فاشهد. ثم التفت إلى قومه وقال لهم : اني لست في شك من قتال هؤلاء ، فمن كان في شك فلينصرف ، ثم حمل عليهم فقاتلهم (١).

__________________

(١) الطبري ٤ : ٤٧٤ ـ ٤٧٥ ، واختصر الخبر ابن الخياط في تاريخه : ١١٠ بسند أتم من الطبري. وانظر وقارن أنساب الأشراف ٢ : ٢٢٨ عن أبي مخنف ، ذكر هذه المقابلة بينه وبين طلحة والزبير نفسه لا ابنه عبد الله ، وذكر مطاليب العبدي بدون الارتزاق.


قال المفيد : وأقبل طلحة والزبير وقد انضمّ إليهم الجمهور في كثرة من الناس ، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثرت القتلى والجرحى (١) وبرز إلى حكيم بن جبلة رجل من القوم فضربه بالسيف على رجله فقطعها ، فتناولها حكيم بيده ورماه بها فصرعه ، ثم صار إلى حكيم أخوه المعروف بالأشرف ، فسأله : من أصابه؟ فأشار إليه فأدركه فقتله ، ثم تكاثر الناس عليهما فقتلا (٢).

وقال أبو مخنف : شدّ رجل من الأزد على حكيم فقطع رجله ووقع هو عن فرسه ، فجثا حكيم فأخذ رجله فرمى بها الأزدي فصرعه ، ثم زحف إليه فاتّكأ عليه وخنقه حتى زهقت نفسه وتوسّده ، فسئل : من قتلك؟ قال : وسادي! وقتل معه ثلاثة من إخوانه ، وكل أصحابه من عبد القيس الثلاثمائة والقليل منهم من بكر بن وائل (٣).

وبقيت من السيابجة طائفة ـ في أربعمائة ـ مستمسكين ببيت المال يقولون : لا ندفعه حتى يقدم أمير المؤمنين. فلما كان الليل سار إليهم الزبير في جيش ، فكانت القتلى يومئذ من السيابجة أربعمائة رجل ، وأسر منهم خمسون فقتلهم الزبير صبرا أيضا (٤).

قال البلاذري : قتلوهم ورئيسهم أبا سلمة الزطّي ، وكان عبدا صالحا (٥).

كانت الوقعة لخمس ليال بقين من ربيع الآخر سنة ست وثلاثين (٦).

__________________

(١) ويرجح أن يكون الخمسمائة المصابون منهم إنما اصيبوا اليوم.

(٢) الجمل للمفيد : ٢٨٣ ـ ٢٨٤.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ٩ : ٣٢٢ وخرج الباقون منهم حتى نزلوا على طريق الإمام عليه‌السلام ، الطبري ٤ : ٤٧٢ عن سيف.

(٤) شرح النهج للمعتزلي ٩ : ٣٢١ عن كتاب الجمل لأبي مخنف عن الصقعب بن زهير.

(٥) أنساب الأشراف ٢ : ٢٢٨ عن أبي مخنف أيضا.

(٦) الطبري ٤ : ٤٧٤ عن سيف التميمي ، ولا تاريخ سواه!


أبو الأسود وبيت مال البصرة :

كأنّ أبا الأسود ظالم بن عمرو الدؤلي (والدؤل اسم دابة كابن عرس) الكناني البصري ممن مرّ على أبي ذر الغفاري بالرّبذة ، وكان أبو الأسود كاتبا ومصطحبا سوادا وبياضا للكتابة ، واستكتب أبا ذر حديثا ، قال : فقال لي أبو ذر : دخلت صدر النهار على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بمسجده وإذا ليس معه إلّا علي عليه‌السلام ، فقلت له : يا رسول الله أوصني بوصية ينفعني الله بها ، فقال : نعم وأكرم بك يا أبا ذر ، أنت منّا أهل البيت ، وإني موصيك بوصية فاحفظها ، فإنها جامعة لطرق الخير وسبله ، وإنك إن حفظتها كان لك بها كفلان ، ثم قال : يا أبا ذر ... إلى آخر الوصية (١) فكأنّ أبا الأسود من هنا تعلم التشيّع لعلي عليه‌السلام ، وكان موسرا ومحاسبا ، فاستأمنه ابن حنيف حاسبا لبيت مال البصرة ولم يكن من حملة السلاح ، ولما قاتل الزبير حرّاسه السيابجة وقتلهم لم يكن معهم أبو الأسود وكانت المفاتيح معه ، فبعث الشيخان إليه فأحضروه.

فروى المفيد عنه : أنهما لما دخلاه وتأمّلا ما فيه من الذهب والفضة قالا : هذه هي الغنائم التي وعدنا الله بها وأخبرنا أنه يعجّلها لنا (٢) ، وقرأ الزبير : (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ)(٣) وقال : فنحن أحق بها من أهل البصرة (٤)

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٥٢٥ ـ ٥٤١ ، الحديث ١١٦٢ ، م ١٩ ، الحديث ١ ، وعنه الطبرسيّ الولد في مكارم الأخلاق : ٤٥٨ ف ٥ ، وتنبيه الخواطر : مجموعة ورّام الحلّي ٢ : ٥١ ـ ٦٦ مرسلا ، وشرحها المجلسيّ بالفارسية بعنوان : عين الحياة ، وعرّبها السيد هاشم الميلاني ونشرت في مجلدين.

(٢) الجمل للمفيد : ٢٨٥.

(٣) الفتح : ٢٠.

(٤) شرح النهج للمعتزلي ٩ : ٣٢٢ عن الجمل لأبي مخنف.


وكانا في طائفة من أنصارهما معهما فاحتملا منه شيئا كثيرا ، وتقدمت عائشة بحمل مال منه لتفرّقه في أنصارها ، فلما خرجها أقفلا أبوابه وبرز طلحة ليختمه فمنعه الزبير وأراد ختمه فمنعه طلحة ، فبلغ ذلك عائشة فبعثت ابن اختها عبد الله وقالت له : يختمانه وتختم أنت عنّي فختم بثلاثة ختوم! ووكّلا به قوما من قبلهما (١)! واصطلحوا على أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر ليكون على بيت مال البصرة (٢).

منازل الثعلبية والإساد وذي قار :

ونفذ الإمام عليه‌السلام من الربذة إلى ذي قار ، فلما نزل بمنزل الثعلبية أتاه ما لقي عثمان بن حنيف وحرسه ، فقام وأخبر من حضره الخبر وقال : اللهم عافني مما ابتليت به طلحة والزبير من قتل المسلمين ، وسلّمنا منهم أجمعين.

ولما انتهى إلى منزل الإساد أتاه ما لقى حكيم بن جبلة العبدي ومن قتل معه ، فقرأ : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها)(٣).

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٢٨٤ ثم قال : قال أبو الأسود : لقد سمعت هذا منهما ، ورأيت بعد ذلك عليا عليه‌السلام لما دخل بيت مال البصرة ورأى ما فيه (وقد ردّ تلك الأموال إلى بيت المال ، شرح النهج ٩ : ٣٢٣) قال لها : «يا صفراء يا بيضاء غرّي غيري ، المال يعسوب الظلمة وأنا يعسوب المؤمنين» فلا والله ما التفت إلى ما فيه ولا فكّر فيما رآه منه ، وما وجدته عنده إلّا كالتراب هوانا! فعجبت من القوم ومنه عليه‌السلام ، وقويت بصيرتي فيه وقلت : اولئك ممن يريد الدنيا وهذا ممن يريد الآخرة : ٢٨٥ ـ ٢٨٦.

(٢) الطبري ٤ : ٤٧٤ عن النميري الطبري عن المدائني البصري بسنده.

(٣) الحديد : ٢٢. والخبر في الطبري ٤ : ٤٨١ عن سيف.


ثم قام على غرائر الأحمال فقال : إنه أتاني خبر فضيع ونبأ جليل : إن طلحة والزبير وردا البصرة فوثبا على عاملي فضرباه ضربا مبرّحا ، وترك لا يدرى أحيّ هو أم ميت! وقتلا العبد الصالح حكيم بن جبلة في عدة من رجال مسلمين صالحين لقوا الله موفين ببيعتهم ماضين على حقّهم ، وقتلا السيابجة خزّان بيت المال للمسلمين ، قتلوا طائفة منهم صبرا واخرى غدرا!

فبكى الناس بكاء شديدا ، ورفع أمير المؤمنين يديه يدعو يقول : اللهم اجز طلحة والزبير جزاء الظالم الفاجر والخفور الغادر (١).

ولما انتهى إلى ذي قار أتاه الخبر بما لقيت ربيعة وخروج عبد القيس منهم ونزولهم على طريقه ينتظرونه ليلحقوا به ، فقال عليه‌السلام : عبد القيس خير ربيعة وفي كل ربيعة خير ، ثم قال :

يا لهف نفساه على ربيعة

ربيعة السامعة المطيعة

قد سبقتني فيهم الوقيعة

دعا عليّ دعوة سميعة

 حلّوا بها المنزلة الرفيعة

وانتهى إليه فيها عثمان بن حنيف وليس في وجهه شعر! فلما رآه عليّ عليه‌السلام نظر إلى أصحابه وقال لهم : انطلق هذا من عندنا وهو شيخ فرجع إلينا وهو شاب (٢).

وروى الطبري عن المدائني عن ابن الحنفية قال : قدم عثمان بن حنيف على علي عليه‌السلام وقد نتفوا شعر رأسه ولحيته وحاجبيه ، فلما رأى عليا قال له : يا أمير المؤمنين بعثتني ذا لحية وجئتك أمرد! فقال عليه‌السلام : فأصبت أجرا وخيرا. ثم قال : إن الناس وليهم قبلي رجلان فعملا بالكتاب ، ثم وليهم ثالث فقالوا وفعلوا ،

__________________

(١) الكافية في إبطال توبة الخاطئة للشيخ المفيد وعنه في بحار الأنوار ٣٢ : ٩٢.

(٢) الطبري ٤ : ٤٨١ عن سيف.


ثم بايعوني وبايعني طلحة والزبير ، ثم نكثا بيعتي وألّبا عليّ ، ومن العجب انقيادهما لأبي بكر وعمر وخلافهما عليّ ، والله إنهما ليعلمان أني لست بدون رجل ممّن قد مضى. ثم قال : اللهم فاحلل ما عقدا ، ولا تبرم ما قد أحكما في أنفسهما ، وأرهما المساءة فيما قد عملا (١).

وقال المفيد : لما نظر إليه أمير المؤمنين بكى ثم قال : يا عثمان بعثتك شيخا ألحى (ذا لحية) فردّوك إليّ أمرد! ثم قال : اللهم إنك تعلم أنهم اجترؤوا عليك واستحلّوا حرماتك ، اللهم اقتلهم بمن قتلوا من شيعتي ، وعجّل لهم النقمة بما صنعوا بخليفتي (٢) وأقام عثمان عنده يعالج ممّا به حتى وصل أهل الكوفة إلى ذي قار (٣).

وكتبوا بأخبارهم إلى الأطراف :

قالوا : وأقامت عائشة وطلحة والزبير بالبصرة وكتبوا بما صاروا إليه إلى أهل الشام (كذا) :

أما بعد ، فإنا خرجنا لإقامة كتاب الله وحدوده في الكثير والقليل والشريف والوضيع! فبايعنا خيار أهل البصرة ونجباؤهم ، وخالفنا نزّاعهم وشرارهم ، وقالوا : نأخذ أمّ المؤمنين رهينة! أن أمرتهم بالحق وحثّتهم عليه ، واستبسل قتلة أمير المؤمنين ، فخرجوا إلى مضاجعهم فلم يفلت منهم مخبر ... وإننا نناشدكم الله في أنفسكم إلّا نهضتم بمثل ما نهضنا به! فنلقى الله وتلقونه وقد أعذرنا وقضينا الذي علينا. وبعثوا به مع سيّار العجلي.

__________________

(١) الطبري ٤ : ٤٨٠.

(٢) الجمل للمفيد : ٢٨٥.

(٣) الجمل للمفيد : ٢٨٩.


وكتبت عائشة إلى أهل الكوفة (كذا) : أما بعد ، فإني أذكّركم الله والإسلام! أقيموا كتاب الله بإقامة ما فيه ، واتّقوا الله واعتصموا بحبله! وكونوا مع كتابه ، ثم إنا قدمنا البصرة فدعوناهم إلى إقامة كتاب الله بإقامة حدوده ، فأجابنا الصالحون إلى ذلك ، واستقبلنا من لا خير فيه بالسلاح وقالوا : لنتبعنّكم عثمان! فمكثنا ستا وعشرين ليلة ندعوهم إلى كتاب الله وإقامة حدوده وحقن الدماء أن تهراق دون من قد حلّ دمه! فأبوا واحتجّوا بأشياء ... فكان ذلك الدأب ستّة وعشرين يوما ندعوهم إلى الحق ، وأن لا يحولوا بيننا وبين الحق ، فغدروا وخانوا! وغادروني في الغلس ليقتلوني ، فلم يبرحوا حتى بلغوا سدّة بيتي ومعهم هاد يهديهم إليّ! فدارت عليهم الرحى فأطاف بهم المسلمون فقتلوهم ، وجمع الله كلمة أهل البصرة على ما أجمع عليه الزبير وطلحة! وكانت الوقعة لخمس ليال بقين من ربيع الآخر سنة ست وثلاثين ، وكتب عبيد الله بن كعب (١).

وكتبت إلى أهل المدينة : من أم المؤمنين عائشة زوجة النبي (٢) وابنة الصدّيق (٣) إلى أهل المدينة (كذا) : أما بعد ، فإن الله أظهر الحق ونصر طالبيه ... فاتّقوا الله عباد الله واسمعوا وأطيعوا (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) وعروة الحق ، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا ، فإن الله قد جمع كلمة أهل البصرة (!) وأمّروا عليهم الزبير بن العوام فهو أمير الجنود ، والكافّة يجتمعون له على السمع والطاعة! فإذا اجتمعت كلمة المؤمنين على امرائهم عن ملأ منهم وتشاور فإنا ندخل في صالح ما دخلوا فيه ، فإذا جاءكم كتابي هذا فاسمعوا وأطيعوا وأعينوا

__________________

(١) الطبري ٤ : ٤٧٢ ـ ٤٧٤ عن سيف ، وتأمّل التحريف.

(٢) الأفصح : زوج النبيّ ، والتأنيث من المولّدين المتأخّرين.

(٣) الأصح أن إطلاق هذا اللقب إنما كان من إشاعات معاوية. فهو من الوهن في الخبر.


على ما سمعتم من أمر الله ، وكتب عبيد الله بن كعب ، لخمس ليال من شهر ربيع الأول سنة ست وثلاثين (١).

وكتبت إلى ضرّتها وصديقتها حفصة بنت عمر بالمدينة : «أما بعد ، فإنّا نزلنا البصرة ، ونزل عليّ بذي قار ، وقد دقّ الله عنقه كدقّ البيضة على الصفا ؛ إنه بذي قار بمنزلة الأشقر إن تقدم نحر وإن تأخر عقر» (٢) ودسّته مع القشيري ابن قدامة (٣).

فلما وصل الكتاب إلى حفصة استبشرت به ، ودعت صبيان بني تميم وعديّ وأمرت جواريها أن يضربن بالدفوف ويقلن :

ما الخبر ما الخبر؟

عليّ كالأشقر

إن تقدّم نحر

وإن تأخّر عقر

فلما بلغ أمّ سلمة مسرّة اولئك النسوة من تيم وعدي بالكتاب الواصل إليهن من أم المؤمنين عائشة ، بكت وطلبت ثيابها وقالت : لأخرج إليهن وأقع بهنّ!

وكانت أمّ كلثوم بنت أمير المؤمنين عليه‌السلام (٤) حاضرة فقالت لها : أنا أنوب عنك فأنا أعرف منك. ثم لبست ثيابها وتخفّرت وتنكّرت ، واستصحبت جواريها متخفّرات ، ومضت حتى دخلت عليهن كأنها من النظّارة ، ثم كشفت عنها نقابها وأبرزت وجهها وتوجّهت إلى حفصة وقالت لها : إن تظاهرت أنت واختك (عائشة) على أمير المؤمنين ، فقد تظاهرتما على أخيه رسول الله من قبل ، فأنزل الله فيكما ما أنزل (٥) والله من وراء حربكما!

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٢٩٩ ـ ٣٠٠ عن الواقدي.

(٢) مثل قاله لقيط بن زرارة وكان على فرس أشقر. انظر الأمثال لابن سلّام : ٢٦٢.

(٣) الطبري ٤ : ٤٧٢.

(٤) كذا ، وقد مرّ الخبر أنها ماتت من قبل ، فالراجح أنها زينب الكبرى ولكنّ أمّ كلثوم اشتهرت أكثر.

(٥) من الآيتين ٣ و٤ من التحريم.


فأظهرت حفصة خجلا وانكسرت وقالت : إنهنّ إنما فعلن هذا بجهل! ثم فرّقتهنّ فانصرفن (١).

وبلغ النقل إلى الوالي سهل بن حنيف الأنصاري الأوسي ، فأنشا شعرا :

عذرنا الرجال بحرب الرجال

فما للنساء وما للسّباب؟

أما حسبنا ما اتينا به

 ـ  لك الخير ـ من هتك ذاك الحجاب؟

ومخرجها اليوم من بيتها

يعرّفها الذنب نبح الكلاب!

إلى أن أتانا كتاب لها

مشوم ، فيا قبح ذاك الكتاب  )!

خطبة طلحة بعد الوقعة :

بعد وقعة الجمل الأصغر أو الأولى ، وبعد أن سرّح طلحة عثمان بن حنيف خوفا من حيف أخيه سهل بن حنيف في المدينة ، قام طلحة خطيبا فيمن حضره من أهل البصرة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

أيها الناس ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله توفي وهو عنّا راض وكنّا مع أبي بكر حتى مات وهو عنا راض ، ثم كان عمر بن الخطاب فسمعناه وأطعناه حتى قبض وهو عنا راض ، فأمرنا بالتشاور في أمر الخلافة من بعده ، واختار ستة نفر رضيهم للأمر ، فاستقام أمرنا على رجل من الستة ولّيناه واجتمع رأينا عليه وهو عثمان ، وكان أهلا لذلك ، فبايعناه وسمعناه وأطعناه.

وأحدث ـ بعد ذلك ـ أحداثا لم تكن على عهد أبي بكر وعمر ، فكرهها الناس منه! ولم يكن لنا بدّ مما صنعناه!

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٢٧٦ ، ونقله المعتزلي في شرح نهج البلاغة ١٤ : ١٣ عن المدائني والواقدي وأبي مخنف عن الحسن البصري.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ١٤ : ١٤ عن كتاب الجمل لأبي مخنف.


ثم أخذ هذا الرجل (عليّ) الأمر دوننا من غير مشورتنا ، وتغلّب عليه ، ونحن وهو فيه شرع سواء ، فاتي بنا إليه واللجّ (سيف الأشتر) على أعناقنا فبايعناه كرها!

والذي نطلب الآن منه ـ أيها الناس ـ أن يدفع إلى ورثة عثمان قاتليه ـ فإنّه قتل مظلوما ـ ويخلع عنه هذا الأمر ويعتزله ، ليتشاور المسلمون فيمن يكون لهم إماما ؛ كسنّة عمر بن الخطاب في الشورى ، فإذا استقام رأينا ورأي أهل الإسلام على رجل بايعناه!

فقام إليه رجل من متقدّمي عبد القيس والتفت إلى الناس وقال لهم : أيها الناس انصتوا أتكلّم لكم! وعرفه ابن الزبير أنه من عبد القيس فخاف منطقه فقال له : ويلك ما لك وللكلام؟! فقال الرجل له : ما لي وللكلام! أنا والله للكلام! ثم حمد الله وأثنى عليه وذكر النبيّ فصلّى عليه ثم التفت إليهما وقال لهما :

يا معاشر المهاجرين : كنتم أول الناس إسلاما ، بعث الله نبيّه محمدا بينكم فدعاكم فأسلمتم ، ثم أسلمنا لإسلامكم ، فكنتم فيه القادة ونحن لكم تبع ، ثم توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فبايعتم رجلا منكم لم تستأذنونا في ذلك فسلّمنا لكم ، ثم توفي ذلك الرجل واستخلف عمر بن الخطاب فو الله ما استشارنا في ذلك (ولكن) رضيتم فرضينا وسلّمنا ، ثم إنّ عمر جعلها شورى في ستة نفر ، فاخترتم واحدا منهم فسلّمنا لكم واتبعناكم.

ثم إن الرجل أحدث أحداثا أنكرتموها فحصرتموه وخلعتموه وقتلتموه وما استشرتمونا في ذلك.

ثم بايعتم عليّ بن أبي طالب وما استشرتمونا في بيعته فرضينا وسلّمنا وكنا لكم تبعا ؛ فو الله ما ندري بما ذا نقمتم عليه : هل استأثر بمال؟! أو حكم بغير ما أنزل الله؟! أو أحدث حدثا منكرا؟! فحدّثونا به نكن معكم! فو الله ما نراكم إلّا قد ظللتم بخلافكم له!


فناداه ابن الزبير : ما أنت وذاك؟! فهمّ قوم أن يثبوا عليه فمنعه قومه.

وقام عظيم آخر من عبد القيس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

أيها الناس ؛ إنه قد كان أوّل هذا الأمر وقوامه المهاجرين والأنصار بالمدينة ، ولم يكن لأحد من أهل الأمصار أن ينقضوا ما أبرموا ولا يبرموا ما نقضوا ، فكانوا إذا رأوا رأيا كتبوا به إلى الأمصار فسمعوا لهم وأطاعوا.

وإنّ عائشة وطلحة والزبير كانوا أشدّ الناس على عثمان حتى قتل وبايع الناس عليا وبايعه في جملتهم طلحة والزبير ، وجاءنا نبأهما ببيعتهما له فبايعناه ، فلا ـ والله ـ ما نخلع خليفتنا ولا ننقض بيعتنا!

فصاح عليه طلحة والزبير ، فأخذوه ، فأمرا بنتف لحيته كابن حنيف فنتفوها (١)!

وكأنّ عبد القيس لم تستطع هنا أن تمنع عنه إلّا بالقتال وقد أكل منهم ، فقرّروا أن يخرجوا من المسجد ثم يخرجوا من البصرة إلى طريق الإمام عليه‌السلام إليها ليلتحقوا به فينتقموا من هؤلاء الأشقياء.

وكأنّه لما خرج هؤلاء من البلد أراد طلحة أن يخطب ودّ من بقي من أهل البصرة فخطبهم فقال فيما قال : يا معشر المسلمين ؛ إن الله قد جاءكم بامّ المؤمنين ، وقد عرفتم بحقها ومكانها من النبيّ ومكان أبيها في الإسلام ، وها هي تشهد لنا أنا لم نكذبكم فيما أخبرناكم به ، ولا غرّرناكم فيما دعوناكم إليه من قتال علي بن أبي طالب وأصحابه ، الصادّين عن الحق!

ولسنا نطلب ملكا ولا خلافة! وإنما نحذّركم أن تغلبوا على أمركم وتقصّروا دون الحق! وقد رجونا أن يكون عندكم عون لنا على طاعة الله وإصلاح الامة! فإنّ أحقّ من عناه أمر المسلمين ومصلحتهم أنتم يا أهل البصرة لتمكّنكم في الدين!

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣٠٧.


وإنّ عليا لو عمل الجدّ في نصرة امتكم لاعتزل هذا الأمر حتى تختار الامة لأنفسها من ترضاه!

فنادى بعض من حضر : أهلا وسهلا ومرحبا بام المؤمنين! والحمد لله على إكرامنا بها! وانتم عندنا ثقة ورضا ، وأنفسنا مبذولة لكم ، ونموت على طاعتكم ورضاكم!

ثم قام جمع منهم إلى عائشة فسلّموا عليها وقالوا لها : قد علمنا أن أمّنا لم تخرج إلينا إلّا لثقتها بنا ، وأنها تريد الإصلاح وحقن الدماء وإطفاء الفتنة ، والالفة بين المسلمين! وإنا ننتظر أمرها في ذلك! فإن أبى عليها أحد قاتلناه حتى يفيء إلى الحق (١).

ومن أخبار ذي قار (٢) :

قال المفيد : ولما نزل بذي قار أمر من حضره بتجديد بيعتهم ، ثم خطبهم فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم قال :

قد جرت امور صبرنا فيها ـ وفي أعيننا القذى ـ تسليما لأمر الله تعالى ، فيما امتحننا به رجاء الثواب على ذلك ، وكان الصبر عليها أمثل من أن يفترق المسلمون وتسفك دماؤهم.

ثم قال : نحن أهل بيت النبوة وأحقّ الخلق بسلطان الرسالة ، ومعدن الكرامة التي ابتدأ الله بها هذه الامة. وهذا طلحة والزبير ليسا من أهل النبوة ،

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣٠٤ ـ ٣٠٥.

(٢) ذو قار معرّب محرّف عن الفارسية : قار قير گير ، وهي المادة المعروفة الحاصلة من النفط ، موضع قرب الناصرية اليوم بين العراقين : الكوفة والبصرة على حافة بادية الحجاز.


ولا من ذرية الرسول ، حين رأيا أن الله قد ردّ علينا حقّنا بعد أعصر ، فلم يصبرا حولا واحدا ولا شهرا كاملا! حتى وثبا عليّ دأب الماضين قبلهما ليذهبا بحقّي ويفرّقا جماعة المسلمين عنّي. ثم دعا عليهما (١).

وقال : والله لنظهرنّ على هذه الفرقة ، ولنقتلنّ هذين الرجلين (طلحة والزبير) ولنستبيحنّ عسكرهما (٢).

الحسن عليه‌السلام في الكوفة :

قال أبو مخنف : لما نزل علي عليه‌السلام بذي قار وأبطأ عليه أخبار ابن عباس (٣) وابن أبي بكر ولم يدر ما صنعا ، بعث إلى الكوفة ابنه الحسن عليه‌السلام مع عمار بن ياسر وقيس بن سعد بن عبادة (٤) وزيد بن صوحان العبدي ومعهم كتاب إلى أهل الكوفة

__________________

(١) الإرشاد للمفيد ١ : ٢٤٩ مرسلا.

(٢) الأمالي للمفيد : ٣٣٥ ، م ٣٩ ، الحديث ٥ بسنده عن المنهال بن عمرو الكوفي عن رجل من تميم قال : كنا مع أمير المؤمنين علي بذي قار ونحن نرى أنا سنتخطّف في يومنا فسمعته يقول : وذكر الخبر ثم قال : فأتيت عبد الله بن العباس وقلت له : أما ترى إلى ابن عمّك وما يقول؟! فقال : لا تعجل حتى ننظر ما يكون!

فلما كان من أمر البصرة ما كان أتيته فقلت له : لا أرى ابن عمك إلّا قد صدق! فقال : ويحك! إنا أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله كنا نتحدّث أن النبيّ عهد إليه ثمانين عهدا لم يعهد شيئا منها إلى أحد غيره! فلعلّ هذا مما عهده إليه.

ولعلّ فيه ما يؤيّد أنهم في خروجهم من المدينة كانوا ستمائة ، وعند مرورهم بطيّئ وأسد انشدّ إليهم منهم ستمائة آخرون فكانوا جميعا ألفا ومائتين ولم يكونوا أربعة آلاف أو يزيدون!

(٣) هذا على قول أبي مخنف وإلّا فالسابقان المحمدان ابن أبي بكر وابن جعفر.

(٤) مرّ خبر عن حضوره في المدينة عند الخروج منها بدون خبر عن من خلفه في مصر.


(دون الأشعري). وتلقاهم ناس من أهل الكوفة إلى القادسية (١) ، فلما دخلوا الكوفة قرءوا الكتاب عليهم وفيه : «من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى من بالكوفة من المسلمين ، أما بعد ، فإني خرجت مخرجي هذا إمّا ظالما وإمّا مظلوما ، وإمّا باغيا وإمّا مبغيّا عليّ! فأنشد الله رجلا بلغه كتابي هذا إلّا نفر إليّ ، فإن كنت مظلوما أعانني ، وإن كنت ظالما استعتبني! والسلام» (٢).

وروى الطوسي بطريقه إلى أبي الصلت الأهوازي بسنده عن الباقر عليه‌السلام عن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري قال : قال علي عليه‌السلام في ذي قار : والله إنه ليحزنني أن أصل إلى هؤلاء في قلّة من معي! فأرسل إلى الكوفة ابنه الحسن عليه‌السلام وعمّار بن ياسر وقيس بن سعد بن عبادة ، وكتب معهم كتابا إليهم.

فلما قدموا الكوفة خطب الحسن الناس فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ ثم ذكر عليا وسابقته في الإسلام وبيعة الناس له ، وخلاف من خالفه ، ثم أمر بكتاب علي عليه‌السلام فقرئ عليهم :

__________________

(١) وروى القاضي المغربي في شرح الأخبار ١ : ٣٨٣ الحديث ٣٢٤ : أنه لما بلغ أهل الكوفة قدوم الحسن بن علي مع عمار بن ياسر وكان قد انتهى إليهم أن عمارا سمع من رسول الله في ذلك شيئا ، فأجمع جمع منهم على أن يوجّهوا للقائه هند ابن عمرو الجملي المذحجي ليسأل عمارا عما سمعه من رسول الله في ذلك. فمضى هند حتى لقيهما وهما نازلان بموضع يقال له قاع البيضة ، فخلا بعمار ثم قال له : كلمة قصيرة من طويلة : أنا رائد القوم ، والرائد لا يكذب أهله ، وقد أرسلوني إليك لتخبرني بما سمعت من رسول الله في هذا الأمر. فقال عمار : أشهد بالله لقد أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن اقاتل مع عليّ الناكثين والقاسطين والمارقين.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ١٤ : ١٠ ـ ١١ عن كتاب الجمل لأبي مخنف ، ونحوه القاضي النعمان المصري في شرح الأخبار ١ : ٣٨٣ ، الحديث ٣٢٤ ، وفي نهج البلاغة ك ٧٥ مرسلا ، وفي وقعة صفين : ١٥ : أنه أرسلهم من منزل عذيب الهجانات.


«بسم الله الرحمنِ الرحیم ، أما بعد ، فإني أخبركم عن أمر عثمان حتى يكون سمعه كعيانه :

إن الناس طعنوا عليه ، وكنت رجلا من المهاجرين اكثر استعتابه وأقل عيبه ، وكان هذان الرجلان أهون سيرهما فيه الوجيف (السريع) وقد كان من أمر عائشة فيه فلتة غضب ، فأتيح له قوم فقتلوه.

ثم إن الناس بايعوني غير مستكرهين ، وكان هذان الرجلان من أول من بايع على ما بويع عليه من كان قبلي.

ثم إنهما استأذناني في العمرة وليسا يريدانها ، فنقضا العهد وآذنا بحرب ، وأخرجا عائشة من بيتها ليتّخذانها فئة ، وقد سارا إلى البصرة اختيارا لها ، وها أنا أسير إليكم اختيارا لكم ، ولعمري ما إياي تجيبون ، ما تجيبون إلّا لله ورسوله ، ولن اقاتلهم وفي نفسي منهم (حرج) وقد بعثت إليكم بابني الحسن ، وعمّار بن ياسر ، وقيس بن سعد ، مستنفرين لكم ، فكونوا عند ظنّي بكم ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله» (١).

فلما قرئ الكتاب على الناس قام شريح بن هانئ الحارثي الهمداني المذحجي فقال : والله لقد أردنا أن نركب إلى المدينة حتى نعلم علم عثمان ، فقد أنبأنا الله به ونحن في بيوتنا ، وقد رضينا بأمير المؤمنين ونطيع أمره ولا نتخلف عن دعوته ، والله لو لم يستنصرنا لنصرناه ، سمعا وطاعة!

فلما سمع الحسن عليه‌السلام ذلك قام خطيبا فقال :

أيها الناس ، إنه قد كان من أمير المؤمنين عليّ ما تكفيكم جملته ، وقد أتيناكم مستنفرين لكم ؛ لأنكم جبهة الأمصار (٢) ورؤساء العرب ، وقد كان من نقض طلحة

__________________

(١) راجع وقارن بكتابه إليهم من الربذة وانظر الفروق بينهما ، وانظر الجمل للمفيد : ٢٥٩.

(٢) وفي الجمل للمفيد : ٢٤٥ : الأنصار ، خطأ.


والزبير وخروجهما بعائشة ما قد بلغكم ، وهو من ضعف النساء وضعف رأيهن ، كما قال الله تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ)(١).

وايم الله لو لم ينصره أحد لرجوت أن يكون له في من أقبل معه من المهاجرين والأنصار ، ومن يبعث الله له من نجباء الناس كفاية ، فانصروا الله ينصركم ، وجلس.

فقام عمّار بن ياسر ـ دون الحسن بمرقاة ـ وقال :

يا أهل الكوفة ، إن كانت غابت عنكم أبداننا فقد انتهت إليكم امورنا : إنّ قاتلي عثمان لا يعتذرون إلى الناس وقد جعلوا كتاب الله بينهم وبين محاجّيهم ، أحيا الله من أحيا وقتل من قتل.

وإن طلحة والزبير أوّل من طعن وآخر من أمر (٢) ثم بايعا أول من بايع ، فلما أخطأهما ما أمّلا نكثا بيعتهما على غير حدث كان.

وهذا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يستنفركم ، وقد أظلّكم في المهاجرين (هو) والأنصار (قيس) فانصروه ينصركم الله ، ثم سكت وجلس.

ثم قام قيس بن سعد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

أيها الناس ؛ إن هذا الأمر لو استقبلنا به الشورى لكان عليّ أحق الناس به ، في سابقته وهجرته وعلمه ، وكان قتال من أبى ذلك حلالا ، فكيف والحجة قامت على طلحة والزبير فقد بايعاه ، وإنما خلعاه حسدا! ثم قال شعرا :

جزى الله أهل الكوفة اليوم نصره

أجابوا ولم يأتوا بخذلان من خذل

وقالوا : عليّ خير حاف وناعل

رضينا به من ناقض العهد من بدل

هما أبرزا زوج النبيّ تعمّدا

يسوق بها الحادي المنيخ على جمل

__________________

(١) النساء : ٣٤.

(٢) فكان مصرّا عليه إلى آخر الأمر.


فما هكذا كانت وصاة نبيّكم

وما هكذا الإنصاف أعظم بذا المثل

فهل بعد هذا من مقال لقائل

ألا قبّح الله الأمانيّ والعلل

فقام النجاشي شاعر الكوفة فأنشأ يقول :

رضينا بقسم الله إذ كان قسمنا

عليا وأبناء النبيّ محمد

وقلنا لهم : أهلا وسهلا ومرحبا

نمدّ يدينا من هوى وتودّد

فمرنا بما ترضى ، نجبك إلى الرضا

بصمّ العوالي والصفيح المهنّد

وتسويد من سوّدت غير مدافع

وإن كان من سوّدت غير مسوّد

فإن نلت ما تهوى فذاك نريده

وإن تخط ما تهوى فغير تعمّد

فلما سكتوا قام أبو موسى فخطب فقال : أما بعد فإن الله حرّم دماءنا وأموالنا فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) ... (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً)(١) وقال : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها)(٢).

خطاب الأشعري وشعوره :

قال المفيد : فلما فرغ القوم من كلامهم قام أبو موسى الأشعري فقال : أيها الناس ، أطيعوني تكونوا جرثومة من جراثيم العرب ، يأوي إليكم المظلوم ويأمن فيكم الخائف ، إنا ـ أصحاب محمد ـ أعلم بما سمعنا : «الفتنة إذا أقبلت أشبهت وإذا أدبرت أسفرت» وإن هذه فتنة نافذة كداء البطن تجري بها الشمال والجنوب والصّبا والدّبور ، وتنكب أحيانا فلا يدرى من أن تأتي.

شيموا سيوفكم ، وقصّروا رماحكم ، وقطّعوا أوتاركم والزموا البيوت.

__________________

(١) النساء : ٢٩.

(٢) النساء : ٩٣ ، والخبر في أمالي الطوسي : ٧١٨ ـ ٧٢٠ الحديث ١٥١٨ ، وراجع وقارن بالجمل للمفيد : ٢٤٣ ـ ٢٤٧ ، والإمامة والسياسة ١ : ٦٥ ـ ٦٨.


خلّوا قريشا ـ إذ أبوا إلّا الخروج عن دار الهجرة وراموا فراق أهل العلم ، للإمرة ـ ترتق فتقها وتشعب صدعها ، فإن فعلت فلنفسها فعلت ، وإذا أبت فعليها جنت ، سمنها في أديمها!

استنصحوني ولا تستغشّوني يسلم لكم دينكم ودنياكم ، ويشقى بها من جناها (١)!

ويقول : أيها الناس ؛ هذه فتنة عمياء صمّاء تطأ من خطامها ، النائم فيها خير من القاعد ، والقاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي خير من الساعي ، والساعي خير من الراكب! إنها فتنة نافذة كداء البطن أتتكم من قبل مأمنكم ، تدع الحليم فيها خيرا من أكابر البشر ، فإذا أدبرت أسفرت!

فناداه الحسن عليه‌السلام : اعتزل عملنا وتنحّ عن منبرنا صاغرا لا أمّ لك!

فالتفت أبو موسى إلى عمّار وقال له : هذه يدي بما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «ستكون فتنة ، القاعد فيها خير من القائم»!

فقال له عمّار : إنما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ستكون فتنة أنت (يا أبا موسى) فيها قاعدا خير منك قائما» ولم يقل ذلك لغيرك (٢)! ثم قال : غلب الله من غالبه

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٢٤٧ ـ ٢٤٨.

(٢) هنا أسند الطوسي في أماليه : ١٨١ ، ح ٣٠٤ ، م ٧ ، الحديث ٦ ، عن أبي تحيا ـ وهو حكيم بن سعد الحنفي التميمي الكوفي ، كما في ترتيب الأمالي ٢ : ٥٣٣ ـ قال : سمعت عمار بن ياسر يعاتب أبا موسى الأشعري ويوبخه ويقول له : ما الذي أخّرك عن أمير المؤمنين؟! فو الله لئن شككت فيه لتخرجن عن الإسلام!

فقال له أبو موسى : دع عتابك لي! فإنما أنا أخوك!

فقال له عمار : ما أنا لك بأخ ؛ إني سمعت رسول الله يلعنك ليلة العقبة وقد هممت مع القوم بما هممت به!


ولعن من جاحده! ثم التفت إلى الناس وقال لهم : أيها الناس ؛ إن أبا موسى أوتي علما ثم انتفض عنه كما ينتفض الديك إذا خرج من الماء.

فبينا هم كذلك إذ دخل المسجد غلمان أبي موسى ينادونه : يا أبا موسى أخرج من المسجد فهذا الأشتر قد جاء! وإذا دخل أصحابه فنادوه : اخرج ويلك أخرج الله نفسك ، فو الله إنك لمن المنافقين (قديما)!

وقام عمار فقال له : أرني يدك يا أبا موسى! فأبرزها إليه فقبض عليها عمار (وأنزله).

فخرج أبو موسى ووجّه إلى الأشتر : أن أجّلني هذه العشية! قال : قد أجّلتك واعتزل عن القصر ناحية ولا تبيتنّ هذه الليلة في القصر!

وبلغه أن الناس دخلوا القصر ينتهبون متاع أبي موسى! فبعث الأشتر عليهم من أخرجهم من القصر ، وقال لهم : إني أجّلته الليلة. فكفّ عنه الناس (١).

__________________

فلم ينكر أبو موسى وإنما قال له : أو ليس قد استغفر لي؟!

فقال له عمار : قد سمعت اللعن ولم أسمع الاستغفار!

واختصر خبره القاضي النعماني المصري في شرح الأخبار ١ : ٨٣ و٢ : ٣٨٤ ، الحديث ٣٢٤.

(١) الجمل للمفيد : ٢٥١ ـ ٢٥٣ وفيه : لما بلغ إلى ذي قار ما كان من تخذيل أبي موسى الناس ، قام الأشتر إلى علي عليه‌السلام وقال له : يا أمير المؤمنين ، إنك قد بعثت إلى الكوفة أخلق من بعثت ليستتبّ لك الناس على ما تحبّ (ولكن) لا أدري ما يكون ، فإن رأيت أن تبعثني في أثرهم ، فإن أهل الكوفة أحسن طاعة لي فإن قدمت عليهم رجوت أن لا يخالفني أحد منهم!

فقال أمير المؤمنين : الحق بهم على اسم الله عزوجل!

فأقبل الأشتر حتى دخل الكوفة ـ والناس وأبو موسى في المسجد الأعظم ـ فأخذ لا يمر بقبيلة فيها جماعة في مسجد أو مجلس إلّا قال لهم : اتبعوني إلى القصر ، فتبعه


ثم خطب الأشتر :

ثم خرج الأشتر إلى المسجد الأعظم فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

أيها الناس ، اصغوا إليّ بأسماعكم ، وافهموا قولي بقلوبكم :

إن الله عزوجل قد أنعم عليكم بالإسلام نعمة لا تقدرون قدرها ولا تؤدّون شكرها! كنتم أعداء يأكل قويكم ضعيفكم وينتهب كثيركم قليلكم وتنتهك حرمات الله بينكم ، والسبيل مخوف ، والشرك كثير ، والأرحام مقطوعة ، وكل أهل دين لكم قاهرون!

فمنّ الله عليكم بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فجمع شمل هذه الفرقة ، وألّف بينكم بعد العداوة ، وكثّركم بعد القلة ، ثم قبضه الله عزوجل إليه. فحوى علينا بعده رجلان.

ثم ولي علينا بعدهما رجل نبذ كتاب الله وراء ظهره ، وعمل في أحكام الله بهوى نفسه ، فسألناه أن يعتزل لنا نفسه فلم يفعل وأقام على أحداثه ، فآثرنا هلاكه على هلاك ديننا ودنيانا ، ولا يبعد الله إلّا القوم الظالمين.

وقد جاءكم الله بأعظم الناس مكانا في الدين ، وأعظمهم حرمة وأصوبهم في الإسلام سهما ، ابن عمّ رسول الله وأفقه الناس في الدين وأقرأهم لكتاب الله ، وأشجعهم عند اللقاء يوم البأس. وقد استنفركم فما تنتظرون؟ أسعيدا أم الوليد الذي شرب الخمرة وصلّى بكم وهو سكران منها ، واستباح ما حرّم الله منكم؟! أيّ هذين تريدون؟! ثم قال : قبّح الله من له هذا الرأي!

__________________

جماعة من الناس إلى القصر ، فأخرج غلمان أبي موسى منه. والخبران عن نصر بن مزاحم المنقري في الطبري ٤ : ٤٨٦ ـ ٤٨٧.


ألا فانفروا مع الحسن ابن بنت نبيكم ، ولا يتخلّف رجل له قوة ، فو الله ما يدري رجل ما يضره مما ينفعه! ألا وإني لكم ناصح شفيق عليكم ، إن كنتم تعقلون أو تبصرون ، اصبحوا إن شاء الله غدا غادين مستعدّين ، وهذا وجهي إلى ما هنالك بالوفاء.

وخطب عمّار أيضا :

وعاد عمّار إلى المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم قال :

أيها الناس ، إنا لما خشينا على هذا الدين أن تتهدّم جوانبه ويتعرّى أديمه ، نظرنا لأنفسنا ولديننا فاخترنا عليّا خليفة ورضينا به إماما ، فنعم الخليفة ونعم المؤدّب ، مؤدّب لا يؤدّب ، وفقيه لا يعلّم ، وصاحب بأس لا ينكر ، وذو سابقة في الإسلام ليست لأحد من الناس غيره. وقد خالفه قوم من أصحابه حاسدون له «باغون» عليه ، وقد توجّهوا إلى البصرة ، فاخرجوا إليهم رحمكم الله ، فإنكم لو شاهدتموهم وحاججتموهم تبيّن لكم أنّهم ظالمون.

وخطب حجر الكندي :

ثم قام حجر بن عدي الكندي فقال : أيها الناس ، هذا الحسن بن علي بن أبي طالب ، وهو من عرفتم : أحد أبويه النبيّ الأمي ، والآخر الإمام الرضي ، المأمون الوصي ، وهو أحد اللذين ليس لهما شبيه في الإسلام : «سيّدي شباب أهل الجنة» وسيدي سادات العرب ، أكملهم صلاحا وأفضلهم علما وعملا ، وهو رسول أبيه إليكم يدعوكم إلى الحق ويسألكم النصر. فالسعيد ـ والله ـ من ودّهم ونصرهم ، والشقيّ من تخلّف بنفسه عن مواساتهم ، فانفروا معه رحمكم الله خفافا وثقالا واحتسبوا في ذلك الأجر ، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين (١).

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٢٥٣ ـ ٢٥٦.


وقام زيد بن صوحان العبدي ـ وكان مقطوع اليد من يوم وقعة جلولاء (١) ـ فقال : أيها الناس ؛ سيروا إلى أمير المؤمنين ، وأطيعوا ابن سيّد المرسلين ، وانفروا إليه أجمعين ، تصيبوا الحقّ وتظفروا بالرشد ، ثم قال : قد والله نصحتكم فاتّبعوا رأيي ترشدوا (٢).

__________________

(١) شرح الأخبار للقاضي النعمان ١ : ٣٧٩ ، الحديث ٣٢١ ، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي ٨ : ٤٤٠.

(٢) الجمل للمفيد : ٢٤٨ وذكر من احتجاج عبد خير على الأشعري : أن قام إليه وقال له : يا أبا موسى أخبرني هل كان هذان الرجلان (طلحة والزبير) بايعا علي بن أبي طالب فيما بلغك وعرفت؟ قال : نعم ، قال : فهل أحدث عليّ حدثا يحلّ عقدة بيعته حتى تردّ بيعته كما ردّت بيعة عثمان؟ قال أبو موسى : لا أعلم! قال عبد خير : لا علمت ولا دريت! ثم قال له : يا أبا موسى أما تعلم أنها أربع فرق : عليّ بظهر الكوفة ، وطلحة والزبير بالبصرة ، ومعاوية بالشام ، وفرقة اخرى بالحجاز لا يجبى بها برّ ولا يقام بها حدّ ولا يقاتل بها عدو ، فأين القرآن من هذه الفتن؟!

فقال أبو موسى : الفرقة القاعدة عن القتال خير الناس!

فقال له عبد خير : يا أبا موسى لقد غلب على علمك!

ولم يذكر في هذه الأخبار استخلاف لأحد على الكوفة ، وإنما جاء في الطبري عن النميري البصري عن المدائني البصري : أن عليا عليه‌السلام بعث بقرظة بن كعب الأنصاري مع الحسن وعمار أميرا على الكوفة ٤ : ٤٩٩ ، وفي مروج الذهب ٢ : ٣٥٩ ، وفي الجمل للمفيد : ٢٦٥ عن ابن عباس قال : وخلعت في الحال أبا موسى واستعملت مكانه قرظة بن كعب الأنصاري. ولكن فيه بعد هذا : وسيّرت لأمير المؤمنين سبعة آلاف رجل ولحقته بذي قار! وسيأتي ما ينافيه راجحا عليه قوة واعتبارا ويرجح أن يكون استخلفه عمار بن ياسر ؛ لأن قرظة كان مع عمار لما كان أميرا على الكوفة ثم في فتح تستر كما في القاموس ٨ : ٥٢٠ برقم ٦٠٦٠ ، وفي الطبري ٤ : ٤٨٢ : أن ابن عباس أرسل مع الأشتر


خطبتان اخريان لعمّار :

«الحمد لله حمدا كثير ، فإنّه أهله على نعمه التي لا نحصيها ولا نقدّر قدرها ولا نشكر شكرها ، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى والنور الواضح والسلطان القاهر ، الأمين الناصح ، والحكيم الراجح ، رسول ربّ العالمين وقائد المؤمنين وخاتم النبيين ، جاء بالصدق وصدّق المرسلين وجاهد في الله حتى أتاه اليقين.

ثم إنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ حفظه الله ونصره نصرا عزيزا وأبرم له أمرا رشيدا ـ بعثني وابنه إليكم يأمر بالنفير إليه فانفروا إليه ، واتقوا الله وأطيعوه. والله لو علمت أنّ على وجه الأرض بشرا أعلم بكتاب الله وسنة نبيّه منه ما استنفرتكم إليه ولا بايعته على الموت!

يا معشر أهل الكوفة! الله الله في الجهاد ؛ فو الله لئن صارت الامور إلى غير عليّ لتصيرنّ إلى البلاء العظيم! والله يعلم أني قد نصحت لكم وأمرتكم بما أخذته بيقيني (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) واستغفر الله لي ولكم. ثم نزل.

فصبر هنيهة ثم عاد إلى المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : «أيها الناس ؛ هذا ابن عمّ نبيكم قد بعثني إليكم يستصرخكم ، ألا إن طلحة والزبير قد سارا نحو البصرة وأخرجا معهما عائشة للفتنة! ألا وإنّ الله ابتلاكم بحقّه وحقّ امكم ، وحقّ ربكم عليكم أولى وأعظم من حق امكم ، ولكن الله ابتلاكم لينظر كيف تعملون! فاتقوا الله واسمعوا وأطيعوا ، وانفروا إلى خليفتكم وصهر نبيّكم ،

__________________

ورجع قبله! عن سيف. ولم أعثر على خبر في بعث ابن عباس إلى الكوفة عن غير سيف ، فلعلّه جاء به تزلّفا إلى بني العباس المعاصرين له.


فان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد بايعوه بالمدينة ، وهي دار الهجرة والإسلام ، أسأل الله أن يوفقكم» ثم نزل.

فصعد الحسن عليه‌السلام المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم ذكر جده فصلّى عليه ، ثم ذكر فضل أبيه وسابقته وقرابته من رسول الله وأنه أولى بالأمر من غيره ثم قال : «معاشر الناس ، إن طلحة والزبير قد بايعا أمير المؤمنين طائعين غير مكرهين ، ثم نفرا ونكثا بيعتهما له ، فطوبى لمن خفّ في مجاهدة من جاهده ، فإن الجهاد معه كالجهاد مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله» ثم نزل (١).

ثم قال : أيها الناس إني غاد ، فمن شاء منكم أن يخرج معي على الظّهر (ظهر المركب) ومن شاء فليخرج في الماء (نهر الفرات) (٢).

أعداد الأمداد من الكوفة :

فخرج إليه عليه‌السلام : اثنا عشر ألف رجل ، معقل بن يسار الرياحي التميمي ومعه تميم والرباب ومزينة وأسد وكنانة وقريش! وسعد بن مسعود الثقفي ومعه قيس (ومنهم ثقيف) وحجر بن عديّ الكندي ومعه مذحج والأشعريون ، ومخنف بن سليم الأزدي ومعه الأزد والأنمار وبجيلة وخثعم ، ووعلة بن مخدوج الذهلي ومعه بكر بن وائل والتغلبيّون ومنهم بنو ذهل بن شيبان (٣).

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٢٦٢ ـ ٢٦٤ ، ونقل المعتزلي في شرح نهج البلاغة ١٤ : ١١ عن الجمل لأبي مخنف خطبتين للحسن عليه‌السلام بطريقين ثانيهما عن جابر بن يزيد الجعفي عن تميم بن حذيم الناجي وقال : كان عليه‌السلام فتى حديث السنّ وعليلا من شكوى (مرض) به فتساند بيده إلى عمود فخطبهم وهم يقولون : اللهم سدّد منطقه! والآية ٨٨ من سورة هود.

(٢) الطبري ٤ : ٤٨٥ عن سيف ، وقد انفرد به.

(٣) الطبري ٤ : ٥٠٠ عن النميري عن المدائني.


فروى الطبري عن النميري البصري عن المدائني البصري عن أبي مخنف عن الشعبي عن أبي الطفيل عامر بن واثلة الكناني التابعي قال : سمعت عليا عليه‌السلام يقول : يأتيكم من الكوفة اثنا عشر ألف رجل ورجل! فقعدت على نجفة (مرتفع) بذي قار فأحصيتهم ، فما زادوا رجلا ولا نقصوا رجلا (١).

نقل الطبري هذا ، وقبله بقليل نقل عن سيف التميمي عن الشعبي أيضا قال : تلقّاهم علي عليه‌السلام في أناس منهم ابن عباس فرحب بهم ... فاجتمع بذي قار سبعة آلاف ومائتان (من البرّ) وفي الماء (نهر الفرات) ألفان وأربعمائة (٢) فالمجموع تسعة آلاف.

ونقل قبله عن سيف التميمي أيضا قال : نفر مع الحسن عليه‌السلام تسعة آلاف ، في البر ستة آلاف ومائتان ، وفي الماء ألفان وثمانمائة (٣).

ونقل المعتزلي عن «كتاب الجمل» لأبي مخنف عن محمد بن إسحاق ، عن عمه عبد الرحمن بن يسار قال : أقام علي بذي قار خمسة عشر يوما حتى نفر إليه من الكوفة في البرّ والبحر ستة آلاف وخمسمائة وستون رجلا.

وعن أبي مخنف بسنده عن زيد بن علي عن عبد الله بن العباس قال : قلت له : يا أمير المؤمنين ؛ ما أقلّ ما يأتيك من أهل الكوفة فيما أظن؟

__________________

(١) الطبري ٤ : ٥٠٠ ، ولا ندري كيف يفسّر الطبري أمثال هذا الخبر؟!

(٢) الطبري ٤ : ٤٨٧.

(٣) الطبري ٤ : ٤٨٥ ، ولكنه في خبر آخر عنه قال : فكانوا خمسة آلاف نصفهم في البر ونصفهم في البحر ٤ : ٤٨٨ ، وفي تاريخ خليفة بن الخياط : ١١٠ : فخرج ما بين الستة آلاف إلى السبعة ، وفي اليعقوبي ٢ : ١٨٢ : ستة آلاف ، وفي مروج الذهب ٢ : ٣٥٩ : في سبعة آلاف أو ستة آلاف وخمسمائة وستون رجلا مع الأشتر.


فقال عليه‌السلام : والله ليأتيني منهم : ستة آلاف وخمسمائة وستون رجلا لا يزيدون ولا ينقصون (١).

قال ابن عباس : فدخلني ـ والله ـ من ذلك شك شديد في قوله ، وقلت في نفسي : والله إن قدموا لأعدّنهم! فإن كانوا كما قال ، وإلّا أتممتهم من غيرهم!

__________________

(١) ورواه المفيد في الجمل : ٢٩٣ عن نصر بن مزاحم بسنده عن زيد قال : لما أبطأ على علي عليه‌السلام خبر أهل البصرة (كذا) ونحن في قلة (كذا!) فقال عبد الله بن عباس ... والبصرة تحريف عن الكوفة ، وقوله : «نحن» عن ابن عباس وليس عن زيد غير المولود يومئذ ، كما مرّ الخبر عن المعتزلي ، وفات محقق النسخة التنبيه عليه مع وقوفه على الخبر في شرح النهج للمعتزلي. وفي خبر الجمل للمفيد عن نصر بن مزاحم عن ابن عباس : أن الإمام عليه‌السلام قال له : اسكت يا ابن عباس ، فو الله لتأتينا في هذين اليومين من الكوفة ستة آلاف وستمائة رجل! وليغلبنّ أهل البصرة وليقتلنّ طلحة والزبير .. فرأيت راكبا فاستقبلته واستخبرته (عن الكوفة) فأخبرني بالعدة التي سمعتها من علي عليه‌السلام لم تنقص رجلا واحدا!

ثم هذا ينافي ما رواه سابقا : ٢٦٥ : عن ابن عباس قال : سيّرت من الكوفة سبعة آلاف رجل ولحقته بذي قار! كما مرّ ذكره.

ونقل المفيد في الإرشاد ١ : ٣١٥ مرسلا : قال عليه‌السلام بذي قار وهو جالس لأخذ البيعة : يأتيكم من قبل الكوفة ألف رجل ... يبايعوني (على الموت)! قال ابن عباس فخفت أن ينقص القوم عن العدد أو يزيدوا عليه ... حتى ورد أوائلهم فاستوفيت عددهم ... حتى جاء في آخرهم أويس القرني.

في حين جاء في رجال الكشي ٩٨ : ١٥٦ ، بسنده عن الأصبغ بن نباتة عنه عليه‌السلام أنه قال في صفين : لقد عهد إليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يبايعني في هذا اليوم مائة رجل (على الموت) فجاء في آخرهم اويس القرني ... وهذا الثاني أولى من الأول.


لأن الناس كانوا قد سمعوا قوله! فاستعرضتهم فو الله ما وجدتهم يزيدون رجلا ولا ينقصون رجلا! فقلت : الله أكبر! صدق الله ورسوله (١)!

خبر كليب الجرمي :

وقبيل قدومهم ، قدم عليه ناس من البصرة وحواليها ، منهم كليب الجرمي القضاعي الحميري (٢) قال : قال لي شيخان من حيّنا : اذهب بنا إلى هذا الرجل (علي عليه‌السلام) فننظر ما يدعو إليه. فذهبت بهم إليه ، فقال لي : من سيّد بني راسب؟ فقلت : فلان. فقال : فمن سيّد بني قدامة؟ قلت : فلان. فقال : أأنت مبلّغهما كتابين منّي؟ قلت : نعم.

ثم التفت إلى محمد بن حاطب وهو في ناحية فقال له : إذا انطلقت إلى قومك فأبلغهم قولي وكتبي. فقام إليه محمد حتى جلس أمامه وقال له : إن قومي إذا ذهبت إليهم يسألونني ما يقول صاحبك في عثمان؟ فبادر الذين حوله فسبّوه! فرأيت عليا قد كره ذلك حتى رشح جبينه وقال لهم : أيها القوم كفّوا! ما إيّاكم يسأل! ثم أجابه بجواب.

وقال لنا : أفلا تبايعوني؟ فقال الشيخان معي : نعم وقاما إليه فبايعاه ، وتوقفت عن بيعته ، فالتفت إليّ رجال عنده قد أكل السجود جباههم يقولون لي : بايع بايع!

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٢ : ١٨٧ ثم روى عنه أيضا : أن حذيفة بن اليمان لما بلغه (في المدائن) أن عليا عليه‌السلام أرسل من ذي قار الحسن وعمارا ليستنفرا أهل الكوفة ، أخبر أصحابه به وأمرهم أن يلحقوا به وينصروه ، فنفروا إليه ، ومكث حذيفة اسبوعين ثم توفى رحمه‌الله تعالى. ولعلّه كان في أواخر شهر رجب.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ٩ : ٢٩٨.


فقلت : إنما بعثني قومي رائدا ، وسأنهي إليهم ما رأيت فإن بايعوا بايعت! فقال لهم : دعوا الرجل ... وقال لي : أرأيت لو أنّ قومك بعثوك رائدا فرأيت روضة وغديرا! فقلت لهم : يا قومي النجعة النجعة (الروضة والماء) فأبوا ، ما كنت تصنع (١)؟

أو قال لي : أرأيت لو أنّ الذين وراءك بعثوك رائدا تبتغي لهم مساقط الغيث ، فرجعت إليهم وأخبرتهم عن الماء والكلأ ، فخالفوا إلى المجادب والمعاطش ما كنت صانعا؟

قال (قلت) : كنت تاركهم ومخالفهم إلى الماء والكلأ. فقال : فامدد يدك إذن! فو الله ما استطعت أن أمتنع عند قيام الحجة عليّ (٢)! فأخذت بإصبع من أصابعه وقلت له : ابايعك على أن أطيعك ما أطعت الله فإذا عصيته! فلا طاعة لك عليّ! فقال : نعم ، وطوّل صوته بها ، فبايعته.

ولم أبرح من العسكر حتى قدم عليه أهل الكوفة ، فكانوا لما يروننا (أهل البصرة) يقولون : نرى إخواننا من أهل البصرة يقاتلوننا! ويضحكون كأنهم يرون أنهم لا يقاتلون ، ويقولون : والله لو التقينا لتعاطينا الحق!

قال : وخرجت بكتابي علي عليه‌السلام فأتيت أحد الرجلين ، فقبل الكتاب وأجابه.

ودللت على الآخر فتوارى عنّي حتى دخلت عليه فأبى أن يقبل الكتاب ولم يجبه إلى ما دعاه (٣).

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٢٩٠ عن الواقدي بطريق غير طريق الطبري ٤ : ٤٩٠ ـ ٤٩٢ مزيدا محرّفا فراجع.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ١٧٠.

(٣) الجمل للمفيد : ٢٩١.


وصول الكوفيّين وخطبته لهم :

قال المفيد : لما صار أهل الكوفة إلى ذي قار ولقوا أمير المؤمنين عليه‌السلام رحّبوا به وقالوا له : الحمد لله الذي خصّنا بمودّتك وأكرمنا بنصرتك ، فجزّاهم عليه‌السلام خيرا.

ثم قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم قال لهم :

يا أهل الكوفة : إنكم من أكرم المسلمين وأعدلهم سنة وأفضلهم في الإسلام سهما ، وأجودهم في العرب مركبا ونصابا ، حزبكم بيوتات العرب وفرسانهم ومواليهم ، أنت أشدّ العرب ودّا للنبيّ وآله ، وإنما اخترتكم ثقة بكم لما بذلتم لي أنفسكم عند نقض طلحة والزبير بيعتي وعهدي ، وخلافهما طاعتي ، وإقبالهما بعائشة لمخالفتي ومبارزتي ، وإخراجهما لها من بيتها حتى أقدماها البصرة. وقد بلغني أن أهل البصرة فرقتان : فرقة الخير والفضل والدين قد اعتزلوا وكرهوا ما فعل طلحة والزبير ... ثم سكت عليه‌السلام.

فقام قائم أهل الكوفة وأجابه عنهم : نحن أنصارك وأعوانك على عدوّك ، ولو دعوتنا إلى أضعافهم من الناس ، احتسبنا في ذلك الخير والأجر ورجوناه. فردّ عليهم خيرا (١).

قال أبو مخنف وقام هاشم المرقال وقال شعرا :

وسرنا إلى خير البريّة كلّها

على علمنا أنّا إلى الله نرجع

نوقّره في فضله ونجلّه

وفي الله ما نرجو وما نتوقّع

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٢٦٥ ـ ٢٦٦ والإرشاد ١ : ٢٤٩ ـ ٢٥٠ ونحوه في شرح النهج للمعتزلي ٢ : ١٨٨ عن الجمل لأبي مخنف. وفي مناقب آل أبي طالب ٣ : ١٧٨ أنه استقبلهم على رأس فرسخ.


ونخصف أخفاف المطيّ على الوجا

وفي الله ما نزجي وفي الله نوضع

دلفنا بجمع آثروا الحقّ والهدى

إلى ذي تقى في نصره نتسرّع

نكافح عنه والسيوف شهيرة

تصافح أعناق الرجال فتقطع

ثم قام رءوس القبائل فخطبوا وبذلوا له النصر.

فأمرهم بالرحيل إلى البصرة (١).

وخطبته لهم عند رحيلهم :

قال المفيد : ولما أراد المسير من ذي قار قام خطيبا (٢) راويها زيد بن صوحان العبدي الكوفي الذي قدم معهم إلى ذي قار رافضا الاستجابة لدعوة عائشة له ، نقل المعتزلي عن «كتاب الجمل» لأبي مخنف بسنده عن زيد بن صوحان قال : شهدت عليا عليه‌السلام بذي قار وهو معتم بعمامة سوداء وملتف بنسيج خطب فقال :

الحمد لله على كل أمر وحال في الغدوّ والآصال ، وأشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، ابتعثه رحمة للعباد وحياة للبلاد ، حين امتلأت الأرض فتنة واضطرب حبلها ، وعبد الشيطان في أكنافها ، واشتمل عدوّ الله إبليس على عقائد أهلها. فكان محمد بن عبد الله بن عبد المطّلب الذي أطفأ الله به نيرانها وأخمد به شرارها ، ونزع به أوتادها وأقام به ميلها ، إمام الهدى والنبيّ المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلقد صدع بما أمره به ، وبلّغ رسالات ربه ، فأصلح الله به ذات البين ، وآمن به السبل وحقن به الدماء ، وألّف به بين ذوي الضغائن الواغرة في الصدور ، حتى أتاه اليقين فقبضه الله إليه حميدا.

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٢ : ١٨٨ عن كتاب الجمل لأبي مخنف.

(٢) الجمل للمفيد : ٢٦٧.


ثم استخلف الناس أبا بكر فلم يأل جهده ، ثم استخلف أبو بكر عمر فلم يأل جهده ، ثم استخلف الناس عثمان فنال منكم ونلتم منه ، حتى إذا كان من أمره ما كان أتيتموني لتبايعوني ... فدخلت منزلي فاستخرجتموني ، فقبضت يدي فبسطتموها ، وتداككتم عليّ حتى ظننت أنكم قاتلي أو أن بعضكم قاتل بعض! فبايعتموني وأنا غير مسرور بذلك ولا جذل. ولقد علم الله أني كنت كارها للحكومة بين امة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فلقد سمعته يقول : «ما من وال يلي شيئا من أمر امتي إلّا اتي به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه على رءوس الخلائق ، ثم ينشر كتابه ، فإن كان عادلا نجا ، وإن كان جائرا هوى».

حتى اجتمع عليّ ملؤكم وبايعني طلحة والزبير وأنا أعرف الغدر في أوجههما والنكث في أعينهما! ثم استأذناني في العمرة فأعلمتهما أن ليسا يريدان العمرة ، فسارا إلى مكة ، واستخفّا عائشة وخدعاها وشخص معهما أبناء الطلقاء ، فقدموا البصرة فقتلوا بها المسلمين وفعلوا المنكر!

فيا عجبا لاستقامتهما لأبي بكر وعمر وبغيهما عليّ ، وهما يعلمان أني لست دون أحدهما ، ولو شئت أن أقول لقلت!

ولقد كان معاوية كتب إليهما من الشام كتابا يخدعهما فيه فكتماه عنّي ، وخرجا يوهمان الطغام والأعراب أنهما يطلبان بدم عثمان.

والله ما أنكرا عليّ منكرا ، ولا جعلا بيني وبينهم نصفا ، وإن دم عثمان لمعصوب بهما ومطلوب منهما. يا خيبة الداعي إلى ما دعا وبما ذا اجيب؟!

والله إنهما لعلى ضلالة صمّاء ، وجهالة عمياء ، وإنّ الشيطان قد ذمّر لهما حزبه ، واستجلب لهما خيله ورجله ، ليعيد الجور إلى أوطانه ويردّ الباطل إلى نصابه. ثم رفع يديه فقال :

اللهم إنّ طلحة والزبير قطعاني وظلماني وألّبا عليّ ونكثا بيعتي ، فاحلل ما عقدا وانكث ما أبرما ، ولا تغفر لهما أبدا ، وأرهما المساءة فيما عملا وأمّلا.


فقام إليه الأشتر فقال : الحمد لله الذي منّ علينا فأفضل ، وأحسن إلينا فأجمل قد سمعنا كلامك ـ يا أمير المؤمنين ـ ولقد أصبت ووفّقت ، وأنت ابن عمّ نبيّنا وصهره ووصيّه ، وأوّل مصدّق به ومصلّ معه ، شهدت مشاهده كلّها فكان لك الفضل فيها على جميع الامّة ، فمن اتّبعك أصاب حظّه ، واستبشر بفلجه ، ومن عصاك ورغب عنك فإلى امّه الهاوية!

لعمري ـ يا أمير المؤمنين ـ ما أمر طلحة والزبير وعائشة علينا بمخيل (مخيف) ولقد دخل الرجلان فيما دخلا فيه وفارقا على غير حدث أحدثت ولا جور صنعت! فإن زعما أنّهما يطلبان بدم عثمان فليقيدا من أنفسهما ، فإنهما أوّل من ألّب عليه وأغرى الناس بدمه!

وأشهد الله لئن لم يدخلا فيما خرجا منه لنلحقنّهما بعثمان! فإنّ سيوفنا في عواتقنا وقلوبنا في صدورنا ، ونحن اليوم كما كنّا أمس ، ثم سكت وقعد (١).

خبر الأحنف التميمي :

روى الطبري بطريقين عن الأحنف بن قيس السعدي التميمي شيخهم قال : أتاني آت وقال : هذه عائشة وطلحة والزبير قد نزلوا جانب خريبة البصرة ، أرسلوا إليك يدعونك وهم يستنصرونك على دم عثمان! فقلت (في نفسي) : إن خذلاني هؤلاء ومعهم أمّ المؤمنين ، وحواريّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لشديد! وإنّ قتالي رجلا ابن عمّ رسول الله ، وهم قد أمروني ببيعته لشديد! (وذهبت إليهم).

فلما أتيتهم قالوا : جئنا لنستنصر على دم عثمان فقد قتل مظلوما.

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١ : ٣٠٩ ـ ٣١١ عن الجمل لأبي مخنف ، وفي الإرشاد ١ : ٢٥١ ـ ٢٥٢ : حين نهض من ذي قار متوجها إلى البصرة. وقطع منها في نهج البلاغة.


فقلت لعائشة : يا أمّ المؤمنين! أنشدك الله أقلت لك : من تأمريني به فقلت : عليّ. فقلت : أتأمرينني به وترضينه لي؟ فقلت : نعم! قالت : نعم ، ولكنّه بدّل! (كذا)!

فقلت للزبير وطلحة : يا زبير يا حواريّ رسول الله! ويا طلحة ؛ انشدكما الله أقلت لكما : ما تأمراني؟ فقلتما : عليّ. فقلت : أتأمراني به وترضيانه لي؟ فقلتما : نعم! قالا : نعم ، ولكنّه بدّل!

فقلت لهم : والله لا أقاتلكم ومعكم أمّ المؤمنين وحواريّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا اقاتل رجلا ابن عمّ رسول الله أمرتموني ببيعته. اختاروا منّي واحدة من ثلاث خصال : إمّا أن تفتحوا لي الجسر فألحق (بقبيلتي) بأرض الأعاجم حتى يقضي الله من أمره ما قضى. أو ألحق بمكة فأكون فيها حتى يقضي الله ما قضى ، أو أعتزل قريبا؟ قالوا : نأتمر فنرسل إليك.

ثم أرسلوا إليّ : أن اعتزل هاهنا قريبا. فاعتزلت بالجلحاء على فرسخين من البصرة مع زهاء ستة آلاف من قومي تميم (١).

وروى المفيد : أن الأحنف بدأ فأرسل رسولا إلى الإمام عليه‌السلام يقول له : إني مقيم في قومي على طاعتك ، فإن شئت حبست عنك أربعة آلاف سيف من بني سعد (من تميم) وإن شئت أتيتك (ولكن) في مائتين من أهل بيتي! فأرسل إليه أمير المؤمنين : أن احبس وكفّ.

فجمع الأحنف قومه بني سعد وقال لهم : يا بني سعد ، كفّوا عن هذه الفتنة واقعدوا في بيوتكم ، فإن ظهر أهل البصرة فهم إخوانكم فلا يهيجونكم ، وإن ظهر عليّ فقد سلمتم! فكفّوا.

__________________

(١) الطبري ٤ : ٤٩٨ ـ ٤٩٩. وأشار إليه الحلبي في مناقب آل أبي طالب ٢ : ١٧٧.


وخالفه هلال بن وكيع الحنظلي ببني حنظلة من تميم ودعا كلّ تميم فتابعه أكثرهم!

وبلغ ما فعله الأحنف إلى طلحة والزبير فبعثا إليه يرومان أن يدخل في طاعتهما ويستميلانه.

فقال لهم : اختاروا منّي إحدى ثلاث خصال : إما أن ألحق بعليّ بن أبي طالب (ومن معي) وإما أن اقيم في بيتي وأكفّ نفسي (ومن معي) فلا أكون معكما ولا عليكما. وإمّا أن أذهب إلى الأهواز فأقيم بها!

فقالا : ننظر في ذلك واستشارا من حضرهما فقالوا لهما : أما عليّ فعدوّكم ، ولا حظّ في أن يكون الأحنف معه.

وأمّا الأهواز فإنه إن أتاها لحق به كل من لا يريد القتال معكما.

ولكن ليكن قريبا منكما فإن تحرّك وطأتماه على صماخه. فأمراه بذلك ، فأقام بوادي السباع (١).

وكعب بن سور الأزدي القاضي :

قال المفيد : وكان كعب بن سور الأزدي قاضي عمر في البصرة وسيد الأزد من أهل اليمن بها ، فأنفذ طلحة والزبير رسولهما إليه يسألانه النصرة لهما والقتال معهما ، فقال : أنا أعتزل الفريقين (وكأنه اقتدى فيها بالأحنف).

فصارا إليه واستأذنا عليه ، فحجبهما ولم يأذن لهما! فصارا إلى عائشة وسألاها أن تسير إليه ، فراسلته تدعوه إلى الحضور عندها ، فاستعفاها من ذلك.

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٢٩٥ ـ ٢٩٦ ، ومختصره في الإمامة والسياسة ١ : ٧١. وأشار إليه الحلبي في مناقب آل أبي طالب ٣ : ١٧٨.


فقال لها طلحة والزبير : يا أمّ ؛ إن قعد كعب قعدت عنا الأزد كلها وهي (عمدة) أحياء البصرة! فاركبي إليه فإنك إن فعلت ذلك انقاد لرأيك!

فركبت بغلا وأحاط بها نفر من أهل البصرة وصارت إلى كعب بن سور فاستأذنت عليه فأذن لها ورحّب بها! فقالت له : يا بنيّ ؛ أرسلت إليك لتنصر الله عزوجل! فما الذي أخّرك عنّي؟!

فقال لها : يا أمّاه! هذه فتنة ولا حاجة لي في خوض هذه الفتنة!

فاستعبرت وبكت وقالت : يا بنيّ ، اخرج معي وخذ بخطام جملي! فإني أرجو أن يقرّبك إلى الجنة! فرقّ لها وأجابها (١)! فتبعه أزد البصرة!

وكتابه عليه‌السلام إليهم :

قال المفيد : ولما أراد أمير المؤمنين عليه‌السلام المسير من ذي قار إلى البصرة ، أملى على كاتبه كتابا إلى طلحة والزبير وعائشة يعظّم فيه عليهم حرمة الإسلام ، ويخوّفهم مما صنعوه ، ويذكر لهم قبيح ما ارتكبوه من قتل من قتلوا من المسلمين ، وما صنعوا بصاحب رسول الله عثمان بن حنيف ، وقتلهم المسلمين صبرا ، ويعظهم ويدعوهم إلى طاعته. ثم قدّم الكتاب إليهم مع صعصعة بن صوحان العبدي وكان قد التحق به من البصرة.

قال صعصعة : فبدأت بطلحة فأدّيت إليه الرسالة وأعطيته الكتاب.

فقال لي : الآن حين عضّت الحرب ابن أبي طالب يرفق لنا؟!

ثم جئت إلى الزبير فوجدته ألين من طلحة.

ثم جئت إلى عائشة فقالت : نعم قد خرجت للطلب بدم عثمان ، وو الله لأفعلنّ وأفعلنّ! فوجدتها أسرع الناس إلى الشرّ!

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣٢٢.


فعدت إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فلقيته قبل دخول البصرة فقلت له :

يا أمير المؤمنين ؛ رأيت قوما ما يريدون إلّا قتالك! فقال : والله المستعان (١)!

مواكب علي عليه‌السلام في زاوية البصرة :

نقل المسعودي بسنده عن المنذر بن جارود العبدي (٢) أنه كان مع قومه عبد القيس النازحين من البصرة على طريق أمير المؤمنين إليها ليلتحقوا به ، قال :

لمّا قدم علي عليه‌السلام إلى البصرة توجه إليها من ناحية الطفّ ثم الزاوية ، فخرجت أنظر إليه :

فورد موكب في نحو ألف فارس ، يتقدّمهم فارس على فرس أشهب ، عليه قلنسوة وثياب بيض ، متقلد سيفا ، ومعه راية ، وإذا تيجان القوم الأغلب عليها البياض والصفرة ، مدجّجين بالسلاح والحديد. فسألت : من هذا؟ فقيل : هو أبو أيّوب الأنصاري صاحب رسول الله وهؤلاء الأنصار وغيرهم.

ثم تلاهم فارس آخر عليه عمامة صفراء وثياب بيض ، متقلد سيفا متنكّب قوسا ، معه راية ، على فرس أشقر في نحو ألف فارس ، فسألت : من هو؟ فقيل : هذا خزيمة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين (٣).

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣١٣ ـ ٣١٤.

(٢) وذكر المفيد في الجمل : ٣٢١ : أنه كان على خيل عبد القيس في الجمل مع علي عليه‌السلام ، ومع ذلك روى عنه الخبر الآتي.

(٣) وقبل هذا بقليل أكّد المسعودي حضور ذي الشهادتين قال : لحق بعليّ جماعة من الأنصار منهم خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين. ذلك لأن الطبري نقل عن سيف أنه كان غير ذي الشهادتين!


ثم مرّ بنا فارس آخر على فرس كميت ، معتمّ بعمامة صفراء من تحتها قلنسوة بيضاء ، وعليه قباء أبيض مصقول ، متقلّد سيفا متنكّب قوسا ، في نحو ألف فارس من الناس ومعه راية ، فسألت : من هو؟ قيل : أبو قتادة بن ربعي.

ثم مرّ بنا فارس آخر على فرس أشهب ، عليه ثياب بيض وعمامة سوداء قد سدلها بين يديه ومن خلفه ، شديد الأدمة ، عليه سكينة ووقار ، رافعا صوته بقراءة القرآن ، متقلّد سيفا متنكّب قوسا ، ومعه راية بيضاء ، في ألف فارس من الناس مختلفي التيجان ، حوله مشيخة وكهول وشباب كأنّما قد أوقفوا للحساب ، قد أثّر في جباههم السجود ، فسألت : من هو؟ قيل : عمّار بن ياسر في عدة من المهاجرين والأنصار وأبنائهم.

ثم مرّ بنا فارس على فرس أشقر ، عليه ثياب بيض وقلنسوة بيضاء وعمامة صفراء ، متنكّب قوسا متقلّد سيفا ، تخطّ رجلاه في الأرض ، في ألف من الناس الغالب على تيجانهم البياض والصفرة ، ومعه راية صفراء ، فسألت : من هو؟ قيل : هذا قيس بن سعد بن عبادة في عدّة من الأنصار وأبنائهم ، وغيرهم من قحطان.

ثم مرّ بنا فارس على فرس أشهل ما رأيت أحسن منه ، عليه ثياب بيض وعمامة سوداء ، قد سدلها بين يديه ، ومعه لواء ، فسألت : من هو؟ قيل : هو عبد الله بن العباس ، في عدة من الصحابة وآخرين.

ثم تلاه موكب آخر فيه فارس أشبه بالأوّلين ، فسألت : من هو؟ قيل : أخوه عبيد الله.

ثم تلاه موكب آخر فيه فارس أشبه الناس بالأولين ، سألت : من هو؟ قيل : أخوه قثم.

ثم أقبلت الرايات والمواكب يقدم بعضها بعضا وفيها الرماح مشتبكة.


ثم ورد موكب فيه خلق من الناس عليهم السلاح والحديد ، مختلفو الرايات ، في أوله راية كبرى يقدمهم رجل كأنما كسر وجبر (١) كأنما على رءوسهم الطير ، عن يمينه شابّ حسن الوجه وعن يساره شابّ حسن الوجه ، وبين يديه مثلهما.

فسألت : من هؤلاء؟ قيل : هذا عليّ بن أبي طالب وهذان الحسن والحسين عن يمينه وشماله ، وهذا محمد بن الحنفية معه الراية العظمى بين يديه ، وخلفه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، ومعه ولد عقيل بن أبي طالب ، وغيرهم من فتيان بني هاشم ، وخلفهم مشايخ المهاجرين والأنصار.

فلما نزل عليه‌السلام بالزاوية صلّى أربع ركعات ثم عفّر خدّيه بالتراب وخالطها بدموعه ثم رفع رأسه ويديه ودعا فقال : «اللهم ربّ السماوات وما أظلّت ، والأرضين وما أقلّت ، وربّ العرش العظيم ؛ هذه البصرة أسألك من خيرها وأعوذ بك من شرّها ، اللهم أنزلنا فيها خير منزل وأنت خير المنزلين ، اللهم إنّ هؤلاء القوم قد خلعوا طاعتي وبغوا عليّ ونكثوا بيعتي ، اللهم احقن دماء المسلمين» (٢).

ابن عباس يحتجّ عليهم :

روى الزبير بن بكّار عن عمّه مصعب بن عبد الله : أن عليا عليه‌السلام قال لا بن عباس :

__________________

(١) راوي الخبر عن المنذر : ابن عائشة فسّر هذا المثل قال : في وصف العرب إذا أخبرت عن الرجل كأنه كسر وجبر ، فهو صفة رجل شديد الساعدين ولكنه ينظر إلى الأسفل أكثر من الأعلى.

(٢) مروج الذهب للمسعودي ٢ : ٣٥١ ـ ٣٥٩.


اذهب إلى الزبير ، فاقرأ عليه‌السلام! وقل له : يا أبا عبد الله كيف عرفتنا بالمدينة وانكرتنا بالبصرة! ولم يذكر طلحة ، فقال له ابن عباس : أفلا آتي طلحة؟ قال : لا فإنك تجده عاقصا قرنه في حزن ويقول : هذا سهل!

فأتى الزبير في يوم حارّ فوجده في بيت يتروّح فيه (١) وعنده ابنه عبد الله.

فقال له الزبير : مرحبا بك يا ابن لبابة! أجئت سفيرا أم زائرا؟

قال : كلّا ، إن ابن خالك يقرأ عليك السلام ويقول لك : يا أبا عبد الله كيف عرفتنا بالمدينة وأنكرتنا بالبصرة.

فقال لي ابنه عبد الله : قل له : بيننا وبينك دم خليفة ، ووصية خليفة ، ومشاورة العشيرة ، وأمّ مبرورة ، واجتماع اثنين وانفراد واحد (٢).

وذكرها المفيد : بيننا وبينكم : دم خليفة ، وعهد خليفة ، ومشاورة العامة ، وأمّ مبرورة ، واجتماع ثلاثة وانفراد واحد.

قال ابن عباس : فأمسكت لا اكلّمه ساعة ثم قلت له : لو أردت أن أقول لقلت!

فقال ابن الزبير : ولم تؤخّر ذلك وقد حمّ الأمر وبلغ السيل الزّبى؟!

فقلت له : أما قولك : عهد خليفة ، فإن عمر جعل الشورى إلى ستة نفر ، فجعل الستة أمرهم إلى واحد منهم يخرج نفسه منها ويختار لهم ، فعرض الأمر على عليّ وعثمان ، فأبى عليّ أن يحلف (كذا) وحلف عثمان فبايعه. فهذا عهد خليفة.

وأما دم عثمان : فلا يخرج أبوك من خصلتين : إما قتل أو خذل.

__________________

(١) كذا هنا ، وقد مرّ الخبر أنهم هجموا على ابن حنيف في ليلة باردة ذات رياح ، فلم يكن صيفا.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ٣ : ١٦٩. وفات العاني نقله في الموفقيات المنشور.


وأما انفراد واحد واجتماع ثلاثة ؛ فإن الناس لما قتلوا عثمان فزعوا إلى عليّ فبايعوه طوعا وتركوا أباك وصاحبه ولم يرضوا بواحد منهما.

وأما قولك : إن معكم أما مبرورة! فإنّ هذه الامّ أنتم أخرجتموها من بيتها ، وقد أمرها الله أن تقرّ فيه فأبيت أن تدعها ، وقد علمت أنت وأبوك أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حذّرها من الخروج وقال لها : «يا حميراء ؛ إياك أن تنبحك كلاب الحوأب» وكان ما رأيت!

وأمّا دعواك مشاورة العامة : فكيف يشاور من قد أجمع عليه؟! وأنت تعلم أن أباك وطلحة بايعاه طائعين غير مكرهين!

فقال ابن الزبير : باطل ـ والله ـ ما تقول يا ابن عباس.

أما الشورى : فلقد سئل عبد الرحمن بن عوف عن أصحاب الشورى فكان صاحبكم أخيبهم عنده! وما أدخله عمر في الشورى إلّا وهو يقرفه (يكرهه) وإنما خاف فتقه في الإسلام!

وأما قتل الخليفة ؛ فصاحبك كتب إلى الآفاق ... بيده ولسانه حتى قدموا عليه ، ثم قتله وهو في داره! وأنا (كنت) معه (عثمان) في الدار اقاتل دونه حتى جرحت بضعة عشر جرحا!

وأما قولك : إن عليا بايعه الناس طائعين ، فو الله ما بايعوه إلّا كارهين والسيف على رقابهم ، غصبهم أمرهم! فقال الزبير : يا ابن عباس ؛ دع عنك ما ترى.

قال ابن عباس : فقلت له : والله ما عددناك إلّا من بني هاشم في برّك لأخوالك ومحبّتك لهم ، حتى أدرك ابنك هذا فقطّع الأرحام! فقال الزبير : دع عنك هذا (١).

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣١٧ ـ ٣١٨.


قال : وقد كان أمير المؤمنين أوصاني أن ألقى الزبير وأن اكلّمه ـ إن قدرت ـ وابنه ليس بحاضر! فجئت مرّتين أجده عنده ، ثم جئت ثالثة فلم أجده عنده فدخلت عليه (وأعلمته بذلك) فأمر مولاه سرجس أن يجلس على الباب يحبس عنا الناس ، ثم جعلت اكلّمه وألاينه ، فيلين مرة ويشتد اخرى ، وسمع سرجس ذلك فأنفذ إلى ابنه عبد الله عند طلحة فأسرع حتى دخل علينا (١).

رسالته عليه‌السلام إلى عائشة :

نقل المفيد عن ابن عباس : أن عليا عليه‌السلام أملى على كاتبه كتابا إلى عائشة ثم ناوله لابن عباس وقال له : ارجع إلى عائشة واذكر لها خروجها من بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وخوّفها من الخلاف على الله عزوجل ، ومن نبذها عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقل لها : إن هذه الامور لا تصلحها النساء ، وإنك لم تؤمري بذلك ، فلم ترضى بالخروج بتبرّجك عن أمر الله وبيتك الذي أمرك النبيّ بالمقام فيه حتى سرت إلى البصرة ، فقتلت المسلمين ، وعمدت إلى عمّالي فأخرجتيهم ، وفتحت بيت المال ، وأمرت بالتنكيل بالمسلمين وأبحت دماء الصالحين! فارعي الله عزوجل وراقبيه ، فقد تعلمين أنك كنت أشدّ الناس على عثمان فما هذا مما مضى؟!

قال ابن عباس : فلما ذهبت إليها وقرأت كتاب علي عليه‌السلام عليها وأدّيت الرسالة إليها قالت : يا ابن عباس ؛ إنّ ابن عمّك يرى أنه قد تملّك البلاد! لا والله ما بيده شيء منها إلّا وبيدنا أكثر منه.

فقلت لها : يا اماه! إن أمير المؤمنين له فضل وسابقة في الإسلام وعناء عظيم!

فقالت : ألا تذكر عناء طلحة يوم أحد!

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣١٧.


فقلت : والله ما نعلم أحدا أعظم عناء من علي عليه‌السلام.

قالت : أنت تقول هذا! ومع علي أشياء كثيرة!

قلت : الله الله في دماء المسلمين!

قالت : وأيّ دماء للمسلمين؟! إلّا أن يقتل عليّ نفسه ومن معه؟! فتبسّمت. فقالت : ممّ تضحك يا ابن عباس؟! فقلت : والله معه قوم على بصيرة من أمرهم يبذلون مهجهم دونه!

قالت : حسبنا الله ونعم الوكيل (١)!

قال المفيد : ولما عاد رسل أمير المؤمنين عليه‌السلام من عند طلحة والزبير وعائشة بإصرارهم على خلافه ، وإقامتهم على نكث بيعته والمباينة له والعمل على حربه واستحلال دماء شيعته ، وأنهم لا يتّعظون بوعظ ولا ينتهون بوعيد ، كتّب الكتائب ورتّب العساكر. ثم ذكر ترتيبهم (٢).

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣١٦ ـ ٣١٧ وقبله خبر لقائه بطلحة ، ولكنّه منفرد به ، وفيه غرائب كقول ابن عباس له : «أنا رأيتك بايعت طائعا» وقد مرّ أنه لم يكن يومئذ في المدينة. وفيه قوله له : «فلما رأى أهل مصر فعلك دخلوا عليه فقتلوه» وقد مرّ أنهم لم يكونوا أهل مصر خاصة. وقول طلحة : «قد أحاط به ألفان قياما على رأسه بالسيوف» وهذا غير معقول لا يسعه المسجد النبويّ يومئذ. فتركناه.

(٢) الجمل للمفيد : ٣١٩ ـ ٣٢١.



حرب الجمل



تعبئة ومكاتبة بعد التعبئة :

وذكروا : أنه لما تعبّأ القوم للقتال ، وبلغ عليا عليه‌السلام تعبئة القوم عبّأ الناس للقتال.

ثم كتب إلى عائشة : أما بعد ، فإنّك خرجت غاضبة ... تطلبين أمرا كان عنك موضوعا ، ما بال النساء والحرب والإصلاح بين الناس؟! تطلبين بدم عثمان! ولعمري لمن عرّضك للبلاء وحملك على المعصية أعظم ذنبا من قتلة عثمان! وما غضبت حتى أغضبت ، وما هجت حتى هيّجت ، فاتّقي الله وارجعي إلى بيتك!

فكتبت إليه : جلّ الأمر عن العتاب ، والسلام!

وكتب إلى طلحة والزبير : أما بعد فقد علمتما أني لم أرد الناس حتى أرادوني ، ولم أبايعهم حتى بايعوني ، وأنكما لممّن أراد وبايع ، وإن العامّة لم تبايعني لسلطان خاص ، فإن كنتما بايعتماني كارهين فقد جعلتما لي عليكما السبيل بإظهار كما الطاعة وإسراركما المعصية ، وإن كنتما بايعتماني طائعين فارجعا إلى الله من قريب!

إنك ـ يا زبير ـ لفارس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وحواريه.


وإنك ـ يا طلحة ـ لشيخ المهاجرين!

وإن دفاعكما هذا الأمر قبل أن تدخلا فيه كان أوسع عليكما من خروجكما منه بعد إقراركما به. وقد زعمتما أني قتلت عثمان! فبيني وبينكما من تخلّف عني وعنكما من أهل المدينة. وزعمتما أني آويت قتلة عثمان! فهؤلاء بنو عثمان (معكما) فليدخلوا في طاعتي ثم يخاصموا إليّ قتلة أبيهم. وما أنتما وعثمان إن كان قتل ظالما أو مظلوما؟! وقد بايعتماني وأنتما بين خصلتين قبيحتين : نكث بيعتكما وإخراجكما امّكما!

فأجاباه : إنك سرت مسيرا له ما بعده ، ولست راجعا وفي نفسك منه حاجة ، فامض لأمرك أما أنت فلست راضيا دون دخولنا في طاعتك ولسنا بداخلين فيها أبدا ؛ فاقض ما أنت قاض!

ثم خرج طلحة والزبير وعائشة وهي على جمل عليه هودج قد ضرب عليه بصفائح الحديد ، فبرزوا حتى خرجوا من أفنية دور البصرة ، وتواقفوا للقتال.

فلما رآهم علي عليه‌السلام قد خرجوا ، أمر مناديا من أصحابه فنادى فيهم : ألا لا يرمين أحد سهما ولا حجرا حتى أعذر إلى القوم فأتّخذ عليهم الحجة البالغة (١)!

علي عليه‌السلام يحتجّ على طلحة :

فذكروا : أن عليا عليه‌السلام نادى طلحة بين الصفّين وقال له : يا أبا محمد ؛ ما جاء بك؟ قال : أطلب دم عثمان! قال علي عليه‌السلام : قتل الله من قتله! قال طلحة : فخلّ بيننا وبينهم ، أما تعلم أن رسول الله قال : «إنما يحلّ دم المؤمن في أربع خصال : زان فيرجم ، أو محارب لله ، أو مرتد عن الإسلام ، أو مؤمن يقتل مؤمنا عمدا»

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ٧٠ ـ ٧١.


فهل تعلم أن عثمان أتى شيئا من ذلك؟ قال علي عليه‌السلام : لا. قال طلحة : فأنت أمرت بقتله؟ قال علي عليه‌السلام : اللهم لا ، قال طلحة : فاعتزل هذا الأمر ونجعله شورى بين المسلمين ، فإن رضوا بك دخلت فيما دخل فيه الناس ، وإن رضوا غيرك كنت رجلا من المسلمين!

قال علي عليه‌السلام : يا أبا محمد ؛ أو لم تبايعني طائعا غير مكره؟ فما كنت لأترك بيعتي.

قال طلحة : بايعتك والسيف على عنقي!

قال علي عليه‌السلام : تعلم أني ما أكرهت أحدا على البيعة ، ولو كنت مكرها أحدا لأكرهت سعدا وابن عمر ومحمد بن مسلمة أبوا البيعة واعتزلوا فتركتهم.

فقال طلحة : كنّا في الشورى ستة ، فمات اثنان (عبد الرحمن وعثمان) وقد كرهناك ونحن ثلاثة (أنا والزبير وسعد)!

فقال علي عليه‌السلام : إنما كان لكما أن لا ترضيا قبل الرضا والبيعة ، وأما الآن فليس لكما غير ما رضيتما به ، إلّا أن تخرجا مما بويعت عليه بحدث (منّي) فإن كنت أحدثت حدثا فسمّوه لي. وأنتم أخرجتم امّكم عائشة وتركتم نساءكم ، فهذا أعظم الحدث منكم ، أرضا هذا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن تهتكوا سترا ضربه عليها وتخرجوها منه؟!

فقال طلحة : إنما جاءت للإصلاح!

فقال علي عليه‌السلام : هي لعمرو الله إلى من يصلح لها أمرها أحوج!

ثم قال : أيها الشيخ ؛ اقبل النصح وارجع بالتوبة مع العار ، قبل النار والعار (١).

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ٧٤ ـ ٧٥.


إمهال ومقال قبل القتال :

قال المفيد : كان علي عليه‌السلام قد أنظرهم ثلاثة أيام (من السابع من جمادى الاولى) عسى ولعلّهم يرعووا ويكفّوا ، فلما استمر إصرارهم على الخلاف قام في أصحابه خطيبا فقال لهم :

«عباد الله ؛ انهدوا إلى هؤلاء القوم منشرحة صدوركم ؛ فإنهم نكثوا بيعتي وقتلوا شيعتي ونكلوا بعاملي ابن حنيف وأخرجوه من البصرة بعد أن آلموه بالضّرب المبرّح والعقوبة الشديدة ، وهو شيخ من وجوه الأنصار والفضلاء ، ولم يرعوا له حرمة ، وقتلوا السيابچه (١) رجالا صالحين ، وقتلوا حكيم بن جبلة العبدي ظلما وعدوانا لغضبه لله ، ثم تتبّعوا شيعتي ـ بعد أن هربوا منهم ـ في كل غائطة وتحت كلّ رابية يضربون أعناقهم صبرا! ما لهم (قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(٢)».

فانهدوا إليهم ـ عباد الله ـ وكونوا أسودا أشدّاء عليهم ، فإنهم شرار ، ومساعدوهم على الباطل شرار ، فالقوهم صابرين محتسبين ، تعلمون أنكم منازلوهم ومقاتلوهم وقد وطّنتم أنفسكم على الطعن الدّعسيّ والضرب الطلخفي (الشديدين) ومبارزة الأقران ، وأيّ امرئ أحسّ من نفسه رباطة جأش عند اللقاء ، ورأى من أحد من إخوانه فشلا فليذبّ عن أخيه الذي فضّل عليه كما يذبّ عن نفسه ، فلو شاء الله لجعله مثله (٣).

وكان العبديّون (بنو عبد قيس) البصريون قد نزحوا من البصرة إلى أمير المؤمنين ، فلما ذكر في خطبته حكيم بن جبلة العبدي قام إليه شدّاد بن شمر العبدي فقال بعد الحمد والثناء :

__________________

(١) مضى تحليل الكلمة فيما سبق ، وانظر هامش الإرشاد ١ : ٢٥٢.

(٢) المنافقون : ٤.

(٣) الإرشاد ١ : ٢٥٢ ـ ٢٥٣.


أما بعد ، فإنه لما كثر الخطّاءون وتمرّد الجاحدون ، فزعنا إلى آل نبيّنا الذين بهم ابتدينا بالكرامة وهدينا من الضلالة ، فالزموهم رحمكم الله ودعوا من أخذ يمينا وشمالا ، فإنّ اولئك في غمرتهم يعمهون وفي ضلالهم يتردّدون (١).

ولما بلغه اجتماعهم على حربه قام في الناس خطيبا قبل القتال بيوم ، فحمد الله وأثنى وصلّى ثم قال :

«أيها الناس! إن طلحة والزبير قدما البصرة وقد اجتمع أهلها على طاعة الله وبيعتي ، فدعواهم إلى معصية الله وخلافي ، فمن أطاعهما منهم فتنوه ومن عصاهما قتلوه! وقد كان من قتلهما حكيم بن جبلة والسيابچة ما بلغكم ، ومن فعالهما بعثمان بن حنيف ما لم يخف عنكم. وقد كشفوا الآن القناع وآذنوا بالحرب ، وقام طلحة بالشتم والقدح في أديانكم ، وقد أرعد هو وصاحبه وأبرقا ، وهذان أمران معهما الفشل ، ولسنا نرعد حتى نوقع ولا نسيل حتى نمطر ، وقد خرجوا من هدى إلى ضلال ، دعوناهم إلى الرضا ودعونا إلى السخط ، فحلّ لنا ولكم ردّهم إلى الحق بالقتال ، وحلّ عليهم القتل بالقصاص منهم ، وقد والله مشوا إليكم ضرارا وأذاقوكم أمسّ من الجمر!

فإذا لقيتم القوم غدا فأعذروا في الدعاء وأحسنوا البقيّة واستعينوا الله واصبروا إن الله مع الصابرين» (٢).

الإعذار قبل الإعصار :

قال المفيد : فلما كان غداة الخميس لعشر مضين من جمادى الأولى ، سار بالناس إلى القوم حتى وقف ونادى بهم : لا تعجلوا حتى أعذر إلى القوم.

__________________

(١) المفيد في الجمل : ٣٣٤ ـ ٣٣٥.

(٢) الجمل للمفيد : ٣٣١ ونقل سطرا منها الرضي في نهج البلاغة ، الخطبة ٩ ، وفي الفتوح ١ : ٤٦٩ وعن الواقدي.


ثم دعا عبد الله بن العباس ومصحفا وأعطاه إياه وقال له : امض بهذا المصحف إلى طلحة والزبير وعائشة ، وقل لطلحة والزبير : «ألم تبايعاني مختارين؟! فما الذي دعا كما إلى نكث بيعتي؟! وهذا كتاب الله بيني وبينكما».

فروى عن ابن عباس قال : بدأت بالزبير وقلت له : إن أمير المؤمنين يقول لك : ألم تبايعني طائعا فلم تستحلّ قتالي؟! وهذا المصحف وما فيه بيني وبينك فإن شئت تحاكمنا إليه.

فقال : ارجع إلى صاحبك! فإنا بايعنا كارهين ، ومالي حاجة في محاكمته!

وأخذ الناس يشتدّون حولي ، فانصرفت عنه إلى طلحة فقلت له : إنّ أمير المؤمنين يقول لك : ما حملك على الخروج وبم استحلت نقض بيعتي والعهد عليك؟!

فقال : أيظنّ ابن عمّك حين حوى على الكوفة أنه قد حوى على الأمر؟! وقد والله كتبت إلى المدينة تؤخذ لي البيعة بمكة! وإنما خرجت أطلب بدم عثمان!

فقلت له : اتّق الله يا طلحة! فإنه ليس لك أن تطلب بدم عثمان ، وولده أولى بدمه منك ، هذا أبان بن عثمان ما ينهض في طلب دم أبيه!

قال طلحة : فنحن أقوى منه في ذلك ، قتله ابن عمّك وابتزّنا أمرنا!

فقلت له : أذكّرك الله في المسلمين ودمائهم ، وهذا المصحف بيننا وبينكم ، والله ما أنصفتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ حبستم نساءكم في بيوتكم وأخرجتم حبيسة رسول الله.

فأعرض عنّي إلى أصحابه وناداهم : ناجزوا القوم فإنكم لا تقومون بحجاج ابن أبي طالب!

فقلت له : يا أبا محمد! أبا لسيف تخوّف ابن أبي طالب؟! أم والله ليعاجلنّك!


فقال : ذلك بيننا وبينكم!

قال : فانصرفت إلى عائشة وهي في هودج مدفّف بالدروع على جملها عسكر ، والقاضي كعب بن سور آخذ بخطامه ، وحولها الأزد وضبّة ، فلما رأتني قالت : ما الذي جاء بك يا ابن عباس؟ والله لا سمعت منك شيئا! ارجع إلى صاحبك فقل له : ما بيننا وبينك إلّا السيف! فصاح من حولها : ارجع يا ابن عباس لا يسفك دمك!

فرجعت إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فأخبرته الخبر وقلت له : ما تنتظر؟ والله ما يعطيك القوم إلّا السيف ؛ فاحمل عليهم قبل أن يحملوا عليك. فقال : نستظهر بالله عليهم.

فو الله ما رمت من مكاني حتى طلع عليّ نشابهم كأنه جراد منتشر!

فقلت : يا أمير المؤمنين ؛ أما ترى إلى ما يصنع القوم؟! مرنا ندفعهم.

فقال : حتى أعذر إليهم ثانية.

وكرّر الإعذار بكلام الجبّار :

ثم نادى : من يأخذ هذا المصحف فيدعوهم إليهم ، وهو مقتول ، وأنا ضامن له على الله الجنة؟! فقام غلام حدث السنّ من عبد القيس يقال له مسلم عليه قباء أبيض فقال له : يا أمير المؤمنين ، أنا أعرضه عليهم ، وقد احتسبت نفسي عند الله تعالى. فكأنّه أشفق عليه فأعرض عنه وكرّر نداءه ، فكرّر مسلم استعداده لذلك ، فأعرض عليّ عليه‌السلام عنه وكرّر نداءه ثالثة فلم يقم غير الفتى! فدفع إليه المصحف وقال له : امض إليهم واعرضه عليهم وادعهم إلى ما فيه.

فذهب الغلام ـ وأمه حاضرة ـ حتى وقف بإزاء صفوف القوم فنشر مصحفه وقال لهم : هذا كتاب الله عزوجل ، وأمير المؤمنين يدعوكم إلى ما فيه.


فنادت عائشة : اشجروه بالرماح قبّحه الله! فطعنوه من كل جانب ، فصاحت أمه وخرجت إليه وطرحت نفسها عليه ، ولحقها جمع منهم فأعانوها على حمل ولدها حتى طرحوه بين يدي أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وأمه معه تندبه وتبكيه وتقول :

يا ربّ إن مسلما أتاهم

يتلو كتاب الله ، لا يخشاهم

فخضّبوا من دمه قناهم

وأمّه قائمة تراهم

 تأمرهم بالقتل لا تنهاهم

فلما رأى أمير المؤمنين عليه‌السلام ذلك رفع يديه إلى السماء وقال : اللهم إليك شخصت الأبصار ، وبسطت الأيدي ، وأفضت القلوب وتقرّبت إليك بالأعمال ، ثم تلا قوله سبحانه : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ)(١).

والراية لابن الحنفية :

نقل المفيد عن الواقدي عن عمر بن علي عليه‌السلام ، سمع أبي يوم الجمل أصواتا من أصحاب الجمل فسأل ابنه محمدا : ما ذا يقولون؟ قال : يقولون : يا لثارات عثمان! فشدّ عليه أصحابه يهشّون في وجهه ويقولون : ارتفعت الشمس! وهو يقول لهم :

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣٣٦ ـ ٣٤١ وبهامشه مصادر كثيرة ، وقبل المفيد نقله القاضي النعمان المصري المغربي في شرح الأخبار ١ : ٣٩٤ عن أبي البختري ، والطبري رواه عن النميري البصري عن المدائني البصري بسنده عن عمّار الدّهني البجلي في ٤ : ٥١١. ونقله المعتزلي في شرح النهج ٩ : ١١٢ عن أبي مخنف ، واختصره عنه البلاذري في أنساب الأشراف ٢ : ٢٤١ وأرسله المسعودي ٢ : ٣٧٠. وفي مناقب آل أبي طالب ٣ : ١٨٢ وعنه في بحار الأنوار ٣٢ : ١٧٤. والآية في الأعراف : ٨٩.


الصّبر أبلغ في الحجة (١)! وأطال الوقوف والناس ينتظرون أمره ، واشتد عليهم ذلك فتنادوا : حتى متى؟!

فصفق بإحدى يديه على الأخرى وقال لهم : عباد الله ، لا تعجلوا ، فإني كنت أرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يستحبّ أن يحمل إذا هبّت الريح.

فأمهل حتى زالت الشمس فصلّى صلاته ركعتين (قصرا) ثم قال لمن لديه : ادعوا لي ابني محمدا ، فدعوه له ، فجاء وهو ابن تسع عشرة سنة (فكان مولده في ١٧ ه‍) فوقف بين يديه ، ثم دعا بالراية (٢) فنصبت ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

أما إن هذه الراية لم ترد قطّ ولا تردّ أبدا ، وإني واضعها اليوم في أهلها!

ثم دفعها إلى ولده محمد وقال له : تقدّم يا بني (٣) بالراية ، واعلم أن الراية إمام أصحابك ، فكن متقدما يلحقك من خلفك ، فإن كان لمن يتقدم من أصحابك جولة رجع إليك (٤) خذ الراية وامض. فمضى فناداه : يا أبا القاسم! قال : لبّيك يا أبة! قال : يا بنيّ ؛ لا يستفزّك ما ترى ، قد حملت الراية وأنا أصغر منك فما استفزّني عدوّي ؛ وذلك أني لم ألق أحدا إلّا حدّثتني نفسي بقتله ، فحدّث نفسك بعون الله بظهورك عليهم ولا يخذلك ضعف اليقين بالنفس ، فإنّ ذلك أشدّ الخذلان!

قال محمد : فقلت له : يا أبة أرجو أن أكون كما تحبّ إن شاء الله.

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣٥٧.

(٢) نقل المعتزلي في شرح نهج البلاغة ٩ : ١١١ عن أبي مخنف : هي راية رسول الله السوداء المعروفة بالعقاب ، وقال للحسنين : إنما دفعت الراية إلى أخيكما وتركتكما لمكانكما من رسول الله ، أي أنه كان لا يزجّ بهما في القتال إبقاء عليهما.

(٣) الجمل للمفيد : ٣٥٦.

(٤) الجمل للمفيد : ٣٥٩.


فقال : فالزم رايتك ، فإذا اختلطت الصفوف قف في مكانك بين أصحابك ، فإن أنت لم تر أصحابك فإنهم سيرونك (١) وكان علما عظيما أسود (٢) يملأ الرمح (٣).

ونقل المفيد عن الواقدي بسنده عن ابن الحنفية قال : لما دفع أبي علي عليه‌السلام إليّ اللواء قال : لا تحدثنّ شيئا حتى يحدث فيكم.

ثم نام (القيلولة في فسطاط صغير) فنالنا نبل القوم ، فأفزعته ، ففزع وهو يمسح عينيه من النوم ، وأصحاب الجمل يصيحون : يا لثارات عثمان! فبرز وليس عليه إلّا قميص واحد ، فتقدمت إليه وقلت له : يا أبة! أفي مثل هذا اليوم بقميص واحد! فقال عليه‌السلام : أحرز امرأ أجله ، والله قاتلت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا حاسر أكثر مما قاتلت وأنا دارع!

ثم دنا (حاسرا) من طلحة والزبير فكلّمهما (٤).

وآب الزبير وما تاب :

قال ابن قتيبة : خرج علي عليه‌السلام على بغلة رسول الله الشهباء بين الصفّين حاسرا ، ثم نادى : أين الزبير! فخرج الزبير إليه حتى إذا كانا بين الصفّين .. قال له علي عليه‌السلام : يا أبا عبد الله ؛ ما جاء بك هاهنا؟ قال : جئت أطلب دم عثمان! فقال علي عليه‌السلام : قتل الله من قتل عثمان! أنشدك الله ـ يا زبير ـ هل تعلم أنك مررت بي

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣٦٨.

(٢) الجمل للمفيد : ٣٧٥ عن الواقدي ، وقد مرّ الخبر في الهامش عن أبي مخنف : أنها كانت راية النبيّ : العقاب ، وهي كانت سوداء ولذلك سميّت عقابا ، فلا يصح ما في الجمل للمفيد : ٣٧٣ عن الواقدي أيضا : أنها كانت راية بيضاء.

(٣) الجمل للمفيد : ٣٧٣ عن الواقدي.

(٤) الجمل للمفيد : ٣٥٥.


وأنت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو متّكئ على يدك ، فسلّم عليّ رسول الله وضحك إليّ ، ثم التفت إليك وقال لك : يا زبير ، إنك تقاتل عليّا وأنت له ظالم؟! قال الزبير : اللهم نعم! قال علي عليه‌السلام : فعلام تقاتلني؟ قال الزبير : نسيتها والله ، ولو ذكرتها ما خرجت إليك ولا قاتلتك! ثم انصرفا.

فانصرف علي عليه‌السلام إلى أصحابه فقالوا له : يا أمير المؤمنين ، برزت إلى رجل في سلاحه وأنت حاسر! قال علي عليه‌السلام : أتدرون من الرجل؟ ذلك الزبير ابن عمّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أما إني قد ذكرت له حديثا قاله له رسول الله فقال : لو ذكرته ما أتيتك!

فقال أصحابه : يا أمير المؤمنين ، الحمد لله ، ما كنا نخشى في هذه الحرب غيره ولا نتّقي سواه! إنه لفارس رسول الله وحواريّه ومن عرفت شجاعته وبأسه ومعرفته بالحرب ، فإذا قد كفاناه الله فلا نعدّ من سواه إلّا صرعى حول الجمل والهودج!

وانصرف الزبير فدخل على عائشة ـ قبل أن تحمل على الجمل ـ فقال لها :

يا أماه! ما شهدت موطنا قطّ في الشرك ولا في الإسلام إلّا ولي فيه رأي وبصيرة ، سوى هذا الموطن ، فإنه لا رأي لي فيه ولا بصيرة ، بل إنّي فيه لعلى باطل!

فقالت له عائشة : يا أبا عبد الله ، خفت سيوف بني عبد المطلب؟

فقال : أما ـ والله ـ إنّ سيوف بني عبد المطّلب طوال حداد تحملها فتية أنجاد!

ثم التفت إلى ابنه عبد الله وقال له : عليك بحزبك ، أما أنا فراجع إلى بيتي!

فقال له ابنه عبد الله : الآن إذ التقت الفئتان والتقت حلقتا البطان؟! فما ردّك؟ قال : ردّني ما إن علمته كسرك! ولا تعدّ هذا مني جبنا ، فو الله ما فرقت (خفت) من أحد في جاهلية ولا إسلام (١)! وقد علم الناس أني لست بجبان ، ولكن ذكّرني عليّ شيئا سمعته من رسول الله ، فحلفت أن لا اقاتله!

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ٧٢ ـ ٧٣ ، وانظر اليعقوبي ٢ : ١٨٢ ، والمسعودي ٢ : ٣٦٣.


فقال عبد الله : دونك غلامك (مكحول) فأعتقه كفّارة ليمينك!

فقالت عائشة : لا والله بل خفت سيف ابن أبي طالب ، ولئن خفتها فلقد خافها الرجال من قبلك!

فرجع إلى القتال! فقيل لأمير المؤمنين : إنه رجع! فقال : دعوه فإنه محمول عليه (١).

واستعدّ الإمام للإقدام :

نقل المفيد عن الواقدي قال : رجع علي عليه‌السلام ... فدعا بدرعه البتراء (٢) ولم يلبسها بعد النبيّ إلّا يومئذ ، فأخذ شسع نعل ، فقال له ابن عباس : ما تريد بهذا الشسع يا أمير المؤمنين؟ قال : أربط بها ما قد وهى من هذا الدرع من خلفي. فقال ابن عباس : أفي مثل هذا اليوم تلبس مثل هذا؟ قال : ولم؟ قال : أخاف عليك! قال : لا تخف أن أوتى من ورائي ، والله ـ يا ابن عباس ـ ما ولّيت في زحف قط! والبس أنت يا ابن عباس. فلبس ابن عباس درعا سعدية (٣) ولبس هو درعه حتى إذا وقعت موقعها من بطنه أمر ابنه محمدا أن يحزّمها بعمامة ، ثم انتضى سيفه (ذا الفقار (٤)) فهزّه حتى رضى به ، فغمّده وتقلّده (٥) ثم توكّأ على قوس عربيّة ، فحمد الله وأثنى عليه وذكر النبيّ فصلّى عليه.

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٣ : ١٨٢ وسيأتي باقي خبره. وعودته للحرب في أنساب الأشراف ٢ : ٢٥٨ ، وأمالي الطوسي : ١٣٧ ، الحديث ٢٢٣ عن الثقفي الكوفي.

(٢) مبتورة الوراء أي لا ظهر لها ، وفي شرح نهج البلاغة ٩ : ١١١ : هي درع النبيّ ذات الفضول.

(٣) الجمل للمفيد : ٣٥٥ ـ ٣٥٦.

(٤) شرح النهج للمعتزلي ٩ : ١١١ عن أبي مخنف.

(٥) الجمل للمفيد : ٣٥٩.


ثم قال : أما بعد ، فإن الموت طالب حثيث ، لا يفوته الهارب ولا يعجزه!

فأقدموا ولا تنكلوا ، وهذه الأصوات التي تسمعونها من عدوّكم فشل واختلاف ، إنا كنا نؤمر في الحروب بالصّمت ، فعضّوا على النواجذ ، واصبروا لوقع السيوف. والذي نفسي بيده لألف ضربة بالسيف أهون عليّ من موتة على الفراش! فقاتلوهم صابرين محتسبين ، فإن الكتاب معكم والسنّة معكم ، ومن كانا معه فهو القوي. أصدقوهم بالضرب ، فأيّ امرئ أحسّ من نفسه شجاعة وإقداما وصبرا عند اللقاء فلا يبطر به ، ولا يرى أنّ له فضلا على من هو دونه! وإن رأى من أخيه فشلا أو ضعفا فليذبّ عنه كما يذبّ عن نفسه ، فإن الله لو شاء لجعله مثله (١).

ولا تقاتلوا القوم حتى يبدؤوكم ، فإنكم ـ بحمد الله ـ على حجة ، وكفّكم عنهم حتى يبدؤوكم حجة اخرى ، وإذا قاتلتموهم فلا تجهزوا على جريح ، ولا تمثلوا بقتيل ، وإذا هزمتموهم فلا تتبعوا مدبرا. وإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا سترا ولا تكشفوا عورة ولا تدخلوا دارا ولا تأخذوا من أموالهم شيئا.

ولا تهيجوا امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاءكم ، فإنهنّ ضعاف القوى والأنفس والعقول ، ولقد كنّا نؤمر بالكفّ عنهن وإنهنّ لمشركات ، وإن كان الرجل ليتناول المرأة بالهراوة والجريدة فيعيّر بها هو وعقبه من بعده (٢) ولا تقربوا شيئا من أموالهم إلّا ما تجدونه في عسكرهم من سلاح أو كراع أو عبد أو أمة ، وما سوى ذلك فهو ميراث لورثتهم على كتاب الله (٣).

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣٥٨ ونهج البلاغة ، الخطبة : ١٢٣.

(٢) شرح نهج البلاغة ٦ : ٢٢٨ مرسلا ، وليلاحظ نقائص النساء ليس فيها دين ولا حظ ما يأتي في : ٦١٠.

(٣) مروج الذهب ٢ : ٣٦٢.


وهكذا بدأ القتال :

فروى المفيد عن ابن الحنفية قال : بينا هو يوصي أصحابه إذ أظلّنا نبل القوم فقتل رجل من أصحابه ، وجاءوا به إليه فلما رآه قال : اللهم اشهد.

ثم رمى ابن لعبد الله بن بديل (أو أخوه عبد الرحمن) فقتل ، وكان عبد الله بن العباس لديهم فحمله وأبوه حتى وضعاه بين يدي علي عليه‌السلام وقال عبد الله بن بديل : يا أمير المؤمنين ؛ حتى متى ندلى نحورنا للقوم يقتلوننا رجلا رجلا ، فإن كنت تريد الإعذار فقد ـ والله ـ أعذرنا.

قال ابن الحنفية : فقال لي أمير المؤمنين : يا بنيّ قدّم رايتك! وبعث إلى الميمنة والميسرة. ثم استوى على بغلة رسول الله الشهباء ووقف أمام أصحابه ، فتقدمت بين يديه ونشرت اللواء مستعدا.

وجاء القوم بالجمل وعليه الهودج فيه عائشة ، وخطامه في يد كعب بن سور الأزدي ومعه الأزد وفي عنقه مصحف ، وأحاط بالجمل بنو ضبّة ، وبين يدي عائشة ابن اختها ابن الزبير ، والزبير يدبّر العسكر ، ومروان بن الحكم على يمين الجمل ، وطلحة على الفرسان ، وابنه محمد على الرجّالة ، وزحف القوم نحونا.

فناداني أبي : قدّم اللواء ، فقدّمته ، وزحف معنا المهاجرون والأنصار.

فلما برزت عن الصفّ رشقوني رشقة رجل واحد! فوقفت مكاني حتى ينقضي رشقهم مرّة أو مرّتين ثم أقدم ، فلم أشعر إلّا وأبي ضرب بيده بين كتفي (١) واستقدموا حتى دنوا من عسكر أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وكان رسول الله عند الاستسقاء يلقي على نفسه بردة فيقلب يمينها عن منكبه الأيمن إلى الأيسر ، والأيسر إلى الأيمن ، ففعلت ذلك عائشة ثم قالت لمن حولها :

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣٤٢ ـ ٣٤٣.


ناولوني كفّا من تراب ـ كما فعل النبيّ يوم بدر ـ فناولوها فحثت به في وجوه أصحاب علي عليه‌السلام وقالت : شاهت الوجوه!

وسمعها علي عليه‌السلام فقال : وما رميت إذ رميت يا عائشة ولكنّ الشيطان رمى ، وليعودنّ وبالك عليك إن شاء الله (١).

وأمر أمير المؤمنين مناديه فنادى شباب قريش قال : يا معاشر قريش اتقوا الله على أنفسكم فإني أعلم أنكم قد خرجتم وقد ظننتم أن الأمر لا يبلغ إلى هذا فالله الله في أنفسكم فإنّ السيف ليس له بقيا فإن أحببتم فانصرفوا ، ثم نحاكم هؤلاء القوم وإن أجبتم فإليّ! فإنكم آمنون بأمان الله! فصبروا مع عائشة (٢).

فصاح صائح من أصحابه عليه‌السلام : يا معاشر شباب قريش! أراكم قد لججتم وغلبتم على أمركم هذا ، فإني أنشدكم الله أن تحقنوا دماءكم ولا تقتلوا أنفسكم ، واتّقوا الأشتر النخعي وجندب بن زهير الغامدي ، فإن الأشتر يشمّر درعه حتى تعفوا أثره ، وإن جندبا يحزّم درعه حين يشمّر ، وفي رايته علامة حمراء (٣).

وتقدّم عمار بن ياسر يناديهم : ما تريدون وما تطلبون؟ فنادوه : نطلب بدم عثمان : فإن خلّيتم بيننا وبين قتلته رجعنا عنكم ... مكّنونا من قتلة عثمان ونرجع عنكم.

فناداهم عمّار : هذه عائشة وطلحة والزبير قتلوه عطشا ، فابدءوا بهم ، فإذا فرغتم منهم تعالوا إلينا نبذل لكم الحق! فأسكتهم!

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣٤٧ ـ ٣٤٨.

(٢) الجمل للمفيد : ٣٦٥.

(٣) الجمل للمفيد : ٣٦٤ والغامدي فيه العامري ، تصحيف.


وقال : والله ما حصل تأويل قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)(١) إلّا اليوم! والله لو ضربتمونا حتى نبلغ سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق وأنكم على الباطل (٢).

وبرز الأشتر النخعي والأزدي الغامدي نحو الجمل إلى شباب قريش حول ابن الزبير فعمد الغامدي إلى ابن الزبير فلما عرفه قال له : اتركك لعائشة! وقتل هو والأشتر : عبد الرحمن بن عتّاب بن أسيد ، ومعبد بن زهير بن خلف بن أمية (٣) فتضعضع القوم واضطربوا ، ثم رجعت إليهم نفوسهم وتنادوا : البراز البراز.

وبدأت المبارزات :

فبرز رجل منهم يقول :

أضربهم ولو أرى عليا

عمّمته أبيض مشرفيّا

فشدّ عليه أميّة العبديّ وهو يقول :

هذا عليّ والهدى سبيله

والرشد فيه والتّقى دليله

ثم تضاربا فقتل العبديّ خصمه ، فبرز بدله عاصم بن مرّة وهو يقول :

أنا أبو الجرباء واسمي عاصم

وأمّنا أمّ لها محارم

فشدّ عليه رجل آخر من أصحاب علي عليه‌السلام فضربه فقتله.

فبرز بدله الهيثم بن كليب الأزدي وهو يقول :

نحن نوالي أمّنا الرّضية

وننصر الصحابة المرضيّة

__________________

(١) المائدة : ٥٤.

(٢) الجمل للمفيد : ٣٦٥ ـ ٣٦٦.

(٣) الجمل للمفيد : ٣٦٤.


فشدّ عليه رجل من أصحاب علي عليه‌السلام وهو يقول :

وليّكم عجل بني أمية

وأمّكم خاسرة شقية

ثم ضربه ففلق هامته وخرّ صريعا. فبرز بدله عمرو بن يثربي ونادى : هل من مبارز؟ فبرز إليه علباء بن الهيثم ، فقتل عمرو علباء رحمه‌الله. فبرز بدله هند المرادي وبرز ابن الزبير مساعدا لابن يثربي فقتلا هند المرادي فبرز بدله زيد بن صوحان العبدي ، وخرج مساعد آخر لابن يثربي من أصحاب الجمل فقتل زيد الرجل ، وبدر إليه ابن اليثربي فقتل ابن صوحان رحمه‌الله ، فبرز إليه الأشتر فضربه فصرعه ، فأقامه أصحابه فتراجعت إليه نفسه ، فأخذ يصرخ : دلّوني على علي! فبرز إليه عمّار فضربه ضربة صرعه بها وأهلكه ، فاحتمله أهله.

فلما رأى أمير المؤمنين صبرهم وجرأتهم ، أمر ميمنته أن يميلوا على ميسرة القوم ، ونادى أصحاب ميسرته أن يميلوا على ميمنتهم ، ووقف هو عليه‌السلام في القلب (١).

اليوم الثاني من أيام الجمل :

روى المفيد عن ابن الحنفية قال : عجّل أصحاب الجمل فزحفوا علينا ، فصاح بي أبي : امض ، فمضيت بين يديه أخطوا بالراية خطوا ، وتقدّم المسارعون من أصحابنا ، فلاذ أصحاب الجمل بالجمل ونشب القتال واختلفت السيوف ، وأبي بين كتفيّ يقول لي : تقدّم يا بنيّ! فقلت : ما أجد متقدّما إلّا على الأسنّة! فغضب أبي وقال : أقول لك : تقدم فتقول : على الأسنّة! ثق يا بنيّ وتقدّم بين يديّ على الأسنّة! ثم تناول الراية منّي وتقدّم يهرول بها! فأخذتني حدّة فلحقته وقلت له : أعطني الراية (٢) وعالجته على أن يردّها إليّ ، فأبى عليّ طويلا (٣).

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣٤٤ ـ ٣٤٧.

(٢) الجمل للمفيد : ٣٦٠.

(٣) الجمل للمفيد : ٣٦١.


وقال المسعودي : لحقه عليّ عليه‌السلام فضربه بقائم سيفه وقال له : أدركك عرق من أمّك! وأخذ منه الراية وحمل بها ... وجاء ذو الشهادتين خزيمة بن ثابت الأنصاري إلى عليّ عليه‌السلام فقال له : يا أمير المؤمنين! لا تنكّس اليوم رأس محمد واردد إليه الراية! فدعا به وردّ عليه الراية وقال له :

اطعنهم طعن أبيك تحمد

لا خير في الحرب إذا لم توقد (١)

ثم قال له : خذها وأحسن حملها ، وتوسّط أصحابك ولا تخفض عالي رأسها ، واجعلها مستشرفة يراها أصحابك. قال محمد : ففعلت كما قال ، فقال لي عمار بن ياسر : يا أبا القاسم ؛ ما أحسن ما حملت الراية اليوم! فسمعه أبي فقال له : بعد ما ذا؟! فقال عمّار : ما العلم إلّا بالتعلّم (٢).

وقصد الإمام عليه‌السلام قصد الجمل ونادى أصحابه : ويحكم ارشقوا الجمل بالنبل ، واعقروه لعنه الله ، ونادى بشعار رسول الله : يا منصور أمت! وتنادى أصحابه : يا محمد! فاتّخذوها شعارا ، ونادت الأزد وضبّة حول الجمل : يا لثارات عثمان ، واتّخذوها شعارا ، وتنادوا : أيها الناس! أمّكم أمّكم! واختلطوا حتى ضرب بعضهم بعضا!

وكانت الحرب في هذا اليوم الثاني من أيام الجمل من بعد الفجر حتى العصر ، ثم تحاجز الفريقان والقتل فاش فيهما ، وفي أهل البصرة أكثر ، وأمارات النصر لأهل الكوفة (٣).

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٣٦٧ ـ ٣٦٨.

(٢) الجمل للمفيد : ٣٦١.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ١ : ٢٦٢.


وتواقفوا في اليوم الثالث :

قال الواقدي : ثم تواقفوا في اليوم الثالث ، فبرز أول الناس عبد الله بن الزبير ودعا إلى المبارزة ، فبرز إليه الأشتر (١) واصطرع عبد الله والأشتر حتى سقطا إلى الأرض وأخذ الأشتر بعنق ابن الزبير وبه ضربة مثخنة في جانب وجهه ، وأخذ يصرخ : اقتلوني ومالكا ، يعني الأشتر ، ولو قال الأشتر لقتلوه ، فافرج الأشتر عنه فانهزم (٢).

وروى الواقدي عن ابن الزبير (ولعلّه عروة) قال : أخذ بخطام الجمل يومئذ سبعون رجلا من قريش قتلوا كلهم ، وجرح ابن الزبير (عبد الله) ومروان بن الحكم ، فلما قتلوا أخذ بنو ضبّة بخطام الجمل فقتلوا ، حتى غرق الجمل بدماء القتلى ، وولّى الزبير منهزما (٣).

قال المفيد : وروى الواقدي عن رجاله العثمانيين (في الرأي والهوى) عن عائشة قالت : واحتمل ابن اختي عبد الله جريحا ... وسألت فقلت : وما فعل أبو سليمان (الزبير) فقيل : قد قتل! فلقد جمدت عيناي تلك الساعة وانقطعت من الحزن ، وأكثرت الاسترجاع والندامة .. وسألت عن عبد الله فقيل لي : قد قتل! فازددت همّا وغمّا حتى كاد ينصدع قلبي (٤).

وبلغ طلحة : أن الزبير قد اندفع وهم لا يعلمون به (٥).

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١ : ٢٦٢.

(٢) الجمل للمفيد : ٣٥٠.

(٣) الجمل للمفيد : ٣٧٦.

(٤) الجمل للمفيد : ٣٧٩ ـ ٣٨٠ ويقتصر الكتاب على هذه الرواية ولا يروى فرار الزبير أوّل القتال.

(٥) الجمل للمفيد : ٣٨٤ ويقتصر المفيد في كتابه على هذه الأخبار ولا يروى خبر فراره قبل القتال أو أوّله.


وفي خبره السابق عن ابن الزبير (عروة) قال : لما رأى مروان توجّه الأمر (الهزيمة) على أصحاب الجمل نظر إلى طلحة وهو يريد الهرب ، فقال (في نفسه) : والله لا يفوتني ثاري من عثمان ؛ فرماه بسهم قطع أكحله فشحط بدمه وهو يقول : إنا لله! هذا سهم لم يأتني من بعد ، ما أراه إلّا من معسكرنا! والله ما رأيت مصرع شيخ أضيع من مصرعي (١)!

وروى المفيد بسنده عن الصادق عن أبيه عن جده السجاد عليهم‌السلام عن مروان بن الحكم قال لي : لما رأيت الناس يوم الجمل قد انكشفوا (وفرّوا) قلت (في نفسي) : والله! لأدركنّ ثاري ولأفوزنّ به الآن (٢).

وروى عن عبد الملك بن مروان عن أبيه مروان قال : نظرت يوم الجمل إلى طلحة وعليه درع ومغفر لم أر منه إلّا عينيه ، فقلت (في نفسي) : كيف لي به؟ ثم نظرت إلى فتق في درعه (عند فخذه) فرميته فأصبت عرق النسا فيه فقطعته ، فجعل الدم لا يرقأ ، ورميته ثانية فجاءت عليه ، فحمله مولاه على ظهره وولّى به (٢) ثم التفت مروان إلى أبان بن عثمان فقال له : قد كفيناك بعض قتلة أبيك (٤)!

وروى عن الحسن البصري قال : لما رمي طلحة ركب بغلا وقال لغلامه : التمس لي مكانا أدخل فيه (٥) قال : ورأيته حين أصابه السهم يقول : ما رأيت كاليوم مصرع شيخ أضيع من مصرعي (٦).

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣٧٦.

(٢) و(٣) الجمل للمفيد : ٣٨٣.

(٤) تاريخ خليفة : ١١٢ ، وأنساب الأشراف ٢ : ٢٤٦ ، وانظر شرح الأخبار ١ : ٤٠٣ ، الحديث ٣٥٢.

(٥) الجمل للمفيد : ٣٨٤.

(٦) الجمل للمفيد : ٣٨٥ والظاهر حضوره مصرع طلحة بعد الحرب فحسب ، إذ ولادته لسنتين بقيتا من عهد عمر ، فله يوم الجمل أقل من ١٥ عاما ، وانظر أمالي المفيد : ١١٨ م ١٤ ح ٣.


ولعل السهم الثاني أصاب ركبته ، حيث قال الراوي : رمي طلحة بسهم في ركبته فجعل يعدو والدم يفور ، فإذا أمسكوا رأس الجرح انتفخت ركبته ، فصاح : دعوه فإنه سهم أرسله الله (١)!

فأخذوه حتى وضعوه تحت شجرة (٢) ثم احتمله عبد الله بن معمر فأدخله دار أعرابية وخرج ورجع فوجده قد مات (٣).

وجرح مروان بن الحكم (٤) فحمل جريحا (٥) وأسر سعيد بن عثمان بن عفان وأخوه أبان (٦).

الجمل في يوم الجمل :

روى المفيد عن ابن الحنفية قال : حتى انتهى أبي إلى الجمل وحوله أربعة آلاف مقاتل من بني ضبّة والأزد وتميم وغيرهم ، فصاح اقطعوا البطان (٧)!

وروى عن الواقدي عن معاذ بن عبيد الله التميمي من أهل البصرة حول الجمل قال : تقدّم عليّ والراية بين كتفيه (من خلفه) وجرّد سيفه وانتهى إلى الجمل وقد اجتمع الناس حوله وأحدقوا به من كل حدب وصوب واستجنّوا تحت بطانه ،

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣٨٥.

(٢) الجمل للمفيد : ٣٨٣ في خبر السجاد عليه‌السلام عن مروان.

(٣) الجمل للمفيد : ٣٨٩ عن مروان أيضا.

(٤) الجمل للمفيد : ٣٧٦.

(٥) الجمل للمفيد : ٣٨١.

(٦) الجمل للمفيد : ٣٨٢.

(٧) الجمل للمفيد : ٣٦٩.


فصاح عليّ بابن أبي بكر : اقطع البطان ، ورأيته قتل بيده ممن أخذ بخطام الجمل عشرة ، وكلّما قتل رجلا مسح سيفه بثوبه وجاوزه ، حتى صرنا في أيديهم كأنّنا غنم نساق وانصرم أمرنا (١).

وروى عن الواقدي عن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي من قريش مع الجمل قال : رأيت عليا انتهى إلى الجمل وسيفه على عاتقه يرعف دما ويصيح بمحمد بن أبي بكر : اقطع البطان! وانهزم الناس وانهزمنا حتى سرنا مراحل (٢).

ولمّا تفرّق الناس عن الجمل أشفق أمير المؤمنين عليه‌السلام أن يعودوا إليه فقال : عرقبوا الجمل ، فتبادر إليه أصحابه فعرقبوه فوقع لجنبه ، وصاحت عائشة صيحة سمعها العسكران (٣)!

وروى عن الواقدي عن رجاله العثمانيين عن عائشة قالت : نظرت وإذا ابن أبي طالب (كذا) يباشر القتال بنفسه (وقد رأت طلحة والزبير لم يباشرا) وأسمعه يصيح بهم : الجمل الجمل! فقلت (في نفسي) : أراد قتلي! فإذا هو قد دنا منه ومعه أخي محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر (٤) فقطعوا البطان (٥).

وروى عن حبّة العرني قال : فضرب الجمل ضربة على عجزه فسقط لجنبه فعجّ عجيجا ما سمعت أشدّ منه ، وعقر وانقطع بطان الهودج فزال عن ظهر الجمل ،

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣٧٤.

(٢) الجمل للمفيد : ٣٧٥.

(٣) الجمل للمفيد : ٣٥٠.

(٤) ذكر هنا عنها : معاذ بن عبيد الله التميمي ، وقد مرّ خبره أنه كان معها لا مع علي عليه‌السلام.

(٥) الجمل للمفيد : ٣٧٨ ـ ٣٧٩.


فانفضّ أصحابه منهزمين! وجعل عمار بن ياسر وابن أبي بكر يقطعان الحقب والنسوع ، واحتملا الهودج فوضعاه على الأرض (١).

وفي خبر ابن الحنفية قال : اطّلع ابن أبي بكر في الهودج فصاحت عائشة : من أنت؟ قال : أبغض أهلك إليك! قالت : ابن الخثعمية (أسماء بنت عميس)؟ قال : نعم ولم تكن دون أمهاتك! قالت : بل هي شريفة! الحمد لله الذي سلّمك! قال : وقد كان ذلك ما تكرهين! قالت : لو كرهته ما قلت ما قلت! قال : كنت تحبّين الظفر وأني قتلت!

قالت : قد كنت احبّ ذلك لكن لما صرنا إلى ما صرنا إليه أحببت سلامتك ، لقرابتي منك ، فاكفف ولا تعقّب الأمور ، ولا تكن لومة ولا عذلة ، فإن أباك لم يكن لومة ولا عذلة (يلوم ويعذل).

قال : وجاء علي عليه‌السلام فقرع الهودج برمحه وقال لها : يا شقيراء! أبهذا أوصاك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟!

فقالت له : يا ابن أبي طالب (كذا) قد ملكت فاسجح (واصفح).

وجاءها عمار بن ياسر فقال لها : يا أمّاه! كيف رأيت ضرب بنيك اليوم دون دينهم بالسيف؟! فلم تجبه!

وجاءها مالك الأشتر وقال لها : (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً)(٢).

الحمد لله الذي نصر وليّه وكبت عدوّه ... فكيف رأيت صنع الله بك يا عائشة؟!

فقالت : ثكلتك أمّك من أنت؟ قال : أنا ابنك الأشتر. قالت : كذبت لست بأمّك! قال : بلى وإن كرهت.

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣٨٢.

(٢) الإسراء : ٨١.


فقالت له : أنت الذي أردت أن تثكل أختي أسماء ابنها؟!

فقال : والله لو لا أني كنت طاويا ثلاثة أيام لأرحتك منه!

فبكت وتلت : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً)(١) غلبتم وفخرتم!

ونادى أمير المؤمنين محمدا قال : سلها هل وصل إليها شيء من الرماح والسهام؟

فسألها فقالت : نعم وصل إليّ سهم خدش رأسي وسلمت منه! حكم الله بيني وبينكم!

قال محمد : فقلت لها : والله ليحكمنّ الله عليك يوم القيامة ، ما كان بينك وبين أمير المؤمنين حتى تخرجي عليه وتؤلّبي الناس على قتاله؟!

فقالت : دعنا يا محمد ، وقل لصاحبك (كذا) يحرسني!

قال محمد : فرجعت إلى أمير المؤمنين فأخبرته بما قالت وقلت لها.

فقال عليه‌السلام : هي امرأة ، والنساء ضعاف العقول (٢) احملها إلى دار ابني خلف (الخزاعي) حتى ننظر في أمرها.

قال محمد : فحملتها إلى الموضع ، وإن لسانها لا يفتر عن سبّي وسبّ علي والترحّم على أصحاب الجمل (٣).

__________________

(١) الأحزاب : ٣٨ وهذه من بوادر التحريف في تفسير القدر بالجبر! وقول الأشتر أنه كان طاويا جائعا ثلاثة أيام يؤيد أن الحرب استمرت ثلاثة أيام.

(٢) يقتصر هذا الخبر على هذا القدر عذرا لها عن المؤاخذة على منطقها ، وليس فيه ما نقله الرضيّ في نهج البلاغة من نقص إيمانهنّ وحظوظهنّ. وسيأتي مزيد بيان عنه ، في حاشية خطبته بعد الفتح : ٦١٠.

(٣) الجمل للمفيد : ٣٦٩ ـ ٣٧١ عن الواقدي عن ابن الحنفية عن ابن أبي بكر ، ونقل المعتزلي في شرح نهج البلاغة ١ : ٢٦٣ : خبر شجار الأشتر مع عائشة وشعره عن أبي مخنف


وفي خبر الواقدي عنها قالت : ادخلت منزل عبد الله بن خلف الخزاعي وهو قد قتل وأهله مستعبرون عليه ، ودخل معي كل من خاف عليا (كذا) ممّن نصب له (الحرب) فكنت في قوم ما يقصّرون عن ضيافتي ، وإن الخبز في منازلهم لكثير ، وكنت اريد علاج جوعي من الطعام فما أقدر ، فو الله لقد بقيت ثلاثة أيام بلياليهن ما دخل فمي طعام ولا شراب! فندمت على قتل عثمان وقد كنت ألّبت عليه حتى نيل منه ما نيل (١)!

__________________

عن الأصبغ بن نباتة. وابنا خلف الخزاعي هما عثمان وعبد الله ، فأما عثمان فقد قتل مع علي عليه‌السلام ، وأما أخوه عبد الله فقد كان أثرى أهل البصرة ضياعا ومالا فكان رئيسا بها ، وبرز وارتجز يقول :

أبا تراب! ادن مني فترا

فإنني دان إليك شبرا

وإن في صدري عليك وغرا

فبرز إليه علي عليه‌السلام فلم يمهله أن ضربه على هامته ففلقها ، كما عن أبي مخنف أيضا في شرح نهج البلاغة ١ : ٢٦١. وقتل أخيه عثمان في هامش الجمل للمفيد عن نهاية الارب ٢٠ : ٨٢. والمنزل كان لعبد الله.

(١) الجمل للمفيد : ٣٧٨ و٣٨٠ عن الجمل للواقدي بسنده عن كبشة بنت كعب عن عائشة ، والتأليب : التحريك.



نهاية

حرب الجمل



ومصير ابن الزبير :

وروى المفيد عن ابن الزبير قال : أثقلني الجراح حتى سقطت بين القتلى ، فأتاني الأسود بن أبي البختري فوجدني فأخذني على فرسه بالعرض وسار بي ، حتى مرّ بي رجل عرفني فحمل على الأسود فأصاب رجل فرسه وأخطأه ، فانطلق بي حتى بلغ إلى منزل رجل من بني الغبراء له امرأة بكرية من شيعة عثمان ، فغسلت جراحتي وحشّتها كافورا فانقطع دمها.

وبلغني خبر عائشة فقلت لصاحب منزلي : انطلق إلى عائشة وأخبرها بي ، وإياك أن يراك أخوها محمد بن أبي بكر ، وهو رجل قصير من وصفه كذا وكذا.

قال : فانطلق الرجل فأخبرها بي وأني حذّرته من أخيها ابن أبي بكر ، فقالت له : كلّا ، بل انطلق إليه فادعه لي ، فانطلق فدعاه إليها ، فلما جاءها قالت له : يا أخي ما تراك فاعلا في أمر آمرك به؟ قال : ما هو؟ قالت له : انطلق (مع هذا الرجل) إلى عبد الله بن الزبير فجئني به.


فجاء محمد معه إلى موضعي فدخل عليّ ، فلما رأيته خفته وقلت للرجل : ما لك؟ فعل الله بك وفعل! فقال لي محمد : لا تعجل. ثم أخبر في الخبر.

فخرجت معه ، فتأخّر لي على عجز فرسه فركبت بين يديه حتى أتينا عائشة (١).

ومصير ابني عثمان :

نقل المفيد عن الواقدي عن عائشة قالت : ونادى منادي علي بن أبي طالب (كذا) : لا يتبع مدبر ، ولا يجهز على جريح ، ومن طرح السلاح فهو آمن (٢) وعن حبّة العرني : نادى عمار بن ياسر : لا تجهزوا على جريح ولا تتبعوا موليا.

وأسر يومئذ سعيد وأبان ابنا عثمان بن عفّان فجيء بهما إلى علي عليه‌السلام ، فلما أوقفا بين يديه قال بعض من حضر : يا أمير المؤمنين اقتلهما!

فقال علي عليه‌السلام : آمنت الناس كلهم وأقتل هذين الرجلين؟! بئس ما قلتم! ثم أقبل عليهما وقال لهما : ارجعا عن غيّكما وانزعا ، فإن أحببتما فأقيما عندي أصل أرحامكما! وإلّا فانطلقا حيث شئتما!

فقالا : يا أمير المؤمنين! نحن نبايع وننصرف ، فبايعا وانصرفا (٣).

ومصير الزبير :

وروى المفيد قال : هرب الزبير على فرسه ذي الخمار حتى مرّ في صفوان

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣٦٢ ـ ٣٦٣ ، ولم يقل شيئا عن صاحبه الأسود بن البختري.

(٢) الجمل للمفيد : ٣٧٨ ـ ٣٧٩.

(٣) الجمل للمفيد : ٣٨٢.


بابن سعيد المجاشعي التميمي وابن مطرح التميمي السعدي المنقري فأجاراه في ذمتهما فجعل يسير معهما.

ورآه رجل من تميم فأتى الأحنف بن قيس التميمي وقال له : اريد أن اسرّ إليك سرّا! فقال : ادن مني فدنا منه وقال : رأيت الزبير بين رجلين من مجاشع ومنقر! وأظنه قد هرب يريد المدينة!

فرفع الأحنف صوته وقال : ما أصنع إن كان الزبير قد ألقى الفتنة بين المسلمين حتى ضرب بعضهم بعضا (١) ثم هو يريد أن يرجع إلى أهله بالمدينة سالما!

فسمعه عمرو ابن جرموز وفضالة ابن حابس المجاشعي وعلما أن الأحنف إنما رفع صوته لكراهته أن يسلم الزبير (٢)!

أو قال : ما أصنع بالزبير وقد لفّ بين جيشين غارّين حتى قتل بعضهم بعضا (٣) ثم هو يريد اللحاق بأهله!

فسمع ذلك عمرو بن جرموز فخرج لطلبه ، فتبعه رجل من مجاشع من تميم ، حتى لحقاه وقالا له : يا حواريّ رسول الله أنت في ذمّتنا لا يصل إليك أحد ، وأخذا يسايرانه ، ثم قال له ابن جرموز : يا أبا عبد الله ؛ انزع درعك فاجعلها على فرسك فإنها تثقلك!

فنزعها الزبير ، وجعل ابن جرموز يتأخر والزبير يناديه أن يلحقه فيلحقه ويجري معه ثم ينحاز عنه فلا ينكر ابن الزبير تأخّره ، حتى حمل عليه بسنانه بين كتفيه فأنفذه من صدره! فسقط فنزل إليه واحتزّ رأسه.

__________________

(١) وهذا يؤيد أن هربه كان بعد نشوب الحرب لا قبله.

(٢) الجمل للمفيد : ٣٧٨ ـ ٣٨٨.

(٣) وهذا أيضا يؤيد هربه بعد نشوب الحرب لا قبله.


وحمله إلى الأحنف بن قيس فأنفذه إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام (١).

فلما رآه العسكر سألوه : من أنت؟ قال : أنا رسول الأحنف بن قيس!

وكان أمير المؤمنين لا زال في فسطاطه خارج البصرة ، فلما انتهى إليه خرج إليه الأشتر رجلا ضخما طويلا لا بسا درعا ، وأخذ يتجسّسه وسأله : من أنت؟ قال : أنا رسول الأحنف بن قيس. قال له : مكانك حتى استأذن لك. فاستأذن له ، فأذن له ، فدخل وإذا بين يدي أميرالمؤمنين ترس عليه أقراص من شعير! فسلّم عليه عن الأحنف وهنّأه بالفتح عليه وقال : وقد قتلت الزبير وهذا رأسه وسيفه وألقاهما بين يديه!

فسأله أمير المؤمنين : كيف قتلته؟ فحدثه ما صنع به ، فقال له : ناولني سيفه! فتناوله واستلّه وقال : سيفه أعرفه ، أما والله لقد قاتل بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله غير مرة ، لكنّه الحين (الموت) ومصارع السوء (٢)! ثم تفرس في وجه الزبير وقال : لقد كان لك برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صحبة وقرابة ، ولكنّ الشيطان دخل منخريك فأوردك هذا المورد (٣).

ثم قال عليه‌السلام : أما والله لو لا ما كان من أمر حاطب بن أبي بلتعة ، ما اجترأ الزبير على قتالي! وإن الزبير كان أقرب إلي من طلحة ، وما زال الزبير منا أهل البيت حتى بلغ ابنه فقطع بيننا (٤).

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣٩٠.

(٢) الجمل للمفيد : ٣٨٨.

(٣) الجمل للمفيد : ٣٩٠.

(٤) الجمل للمفيد : ٣٨٩ ويشير بأمر ابن بلتعة إلى رسالته إلى أهل مكة بعزم النبيّ على فتحها ، بعث بها مع امرأة أخفتها في شعرها ، وأخبر بها النبيّ فأرسل عليا والزبير عليها فأنكرت وصدّقها الزبير ورجع عنها فقال عليّ : يخبرنا النبي وأنت تقول : لا كتاب معها؟! واستخرجه منها ، فحسده الزبير عليها ، وانظر هذه الموسوعة ٢ : ١٨٣.


وقال : بشروا قاتل ابن صفيّة بالنار! ثم أمر أن يحمل رأسه إلى بدنه ليدفن إليه في وادي السباع. وساح ابن جرموز في الأرض (١) وقال شعرا :

أتيت عليا برأس الزبير

وقد كنت أرجو به الزلفة

فبشّر بالنار قبل العيان

وبئس بشارة ذي التحفة

لسيّان عندي قتل الزبير

وضرطة عنز بذي الجحفة (٢)

وكان للزبير يوم مقتله خمس وسبعون سنة (٣).

دفن الشهداء ، والقتلى الأعداء :

قال المفيد : ثم قال علي عليه‌السلام لأصحابه : واروا قتلانا في ثيابهم التي قتلوا فيها ، فإنّهم يحشرون على الشهادة ، وإني لشاهد لهم بالوفاء.

وأمر مناديه فنادى في أهل البصرة : من أحبّ أن يواري قتيله فليواره (٤).

وكانت طريقهم في عدّ القتلى وضع قطع من القصب على الأجساد ثم جمعها وعدّها.

فروى ابن الخياط عن امرأة من أهل البصرة قالت : خرجنا إلى قتلى الجمل فعددناهم بالقصب فكانوا عشرين ألفا ، وكذلك عن قتادة البصري ، ومن أصحاب علي عليه‌السلام ما بين الأربع مائة إلى الخمس مائة (٥).

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٢٥٤ و٢٥٨ عن أبي مخنف والمدائني ، ومدفنه على خمسة أميال من البصرة ، كما في المعجم.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٣٦٤.

(٣) بحار الأنوار ٣٢ : ٢١١ عن العدد القوية لأخ العلامة الحلّي.

(٤) الجمل للمفيد : ٣٩٤.

(٥) تاريخ خليفة : ١١٢ ، ثمّ سمّى كثيرا منهم بعشائرهم ، ومال إلى أكثر من عشرين ألف ،


ثم خرج أمير المؤمنين عليه‌السلام فركب وأخذ عمار يمشي مع ركابه وتبعه جمع من أصحابه يطوف على القتلى يستعرضهم رجلا رجلا.

فمرّ بعبد الله بن خلف الخزاعي في ثياب حسان فقيل : هذا رأس الناس!

فقال عليه‌السلام : ليس برأس الناس ، ولكنّه شريف منيع النفس.

ثم مرّ بعبد الرحمن بن عتّاب بن أسيد فقال : هذا رأسهم كما ترونه صريعا (١).

وكان معبد بن المقداد بن الأسود البهرائي الكندي حليفهم قد مال مع أصحاب الجمل حتى قتل معهم ، فمرّ به علي عليه‌السلام فقال : رحم الله أبا هذا ، أما إنه لو كان حيّا لكان رأيه أحسن من رأي هذا. فقال عمّار بن ياسر : الحمد لله الذي أوقعه وجعل خدّه الأسفل! إنا ـ والله ـ يا أمير المؤمنين ما نبالي من عند عن الحق من ولد ووالد!

فقال له علي عليه‌السلام : رحمك الله وجزاك عن الحقّ خيرا.

ومرّ بعبد الله بن ربيعة بن درّاج فقال : ما أخرج هذا البائس؟ أدين أم نصر لعثمان والله ما كان رأي عثمان بحسن فيه ولا في أبيه.

ثم مرّ بمعبد بن زهير بن أبي أميّة المخزومي أخي أمّ سلمة فقال : لو كانت الفتنة برأس الثريا لتناوله هذا الغلام! والله ما كان فيها بذي نخيزة (طبيعة) ولقد أخبرني من أدركه وهو يولول خوفا من السيف!

__________________

المفيد في الجمل : ٤١٩ وردّ من قال إنهم خمسة عشر ألفا فقال : المشهور من الأخبار على أن مقطوعي الأيدي والأرجل ممن مات بعد ذلك نحو أربعة عشر ألفا! وفي عيون الأخبار لابن قتيبة ١ : ٢٠٢ ، ما يؤيد العشرين ألفا ، فراجعه ، وفي أنساب الأشراف ٢ : ٢٦٥ ، عن أبي مخنف عشرين ألفا قولا واحدا.

(١) الجمل للمفيد : ٣٩١.


ثم مرّ بمسلم بن قرظة فقال : البرّ أخرج هذا ، والله لقد كلّمني أن اكلّم له عثمان في شيء كان يدّعيه قبله بمكة (فكلمت له عثمان) فأعطاه عثمان وقال لي : لو لا أنت ما أعطيته! ثم جاء هذا المشوم ينصر عثمان!

ثم مرّ بعبد الله بن حميد بن زهير فقال : هذا أيضا ممن زعم أنه يطلب الله في قتالنا! ولقد كتب إليّ كتبا يؤذي فيها عثمان حتى أعطاه شيئا فرضي عنه!

ومرّ بعبد الله بن حكيم بن حزام فقال : هذا خالف أباه في الخروج ، وأبوه قد أحسن في بيعته لنا ، وإن كان حيث شك في القتال كفّ وجلس ولم ينصرنا ، فلا ألوم من كفّ عنّا وعن غيرنا ولكن المليم الذي يقاتلنا.

ثم مرّ بعبد الله بن المغيرة بن الأخنس بن شريق فقال : أما هذا فقد قتل أبوه يوم قتل عثمان في الدار ، فخرج اليوم مغضبا لمقتل أبيه ، وهو غلام حدث حان مقتله.

ثم مرّ بابن عمّه عبد الله بن أبي عثمان بن الأخنس بن شريق فقال : أما هذا فإني نظرت إليه هاربا من الصفّ يعدو ، فنهنهت عنه فلم يسمع من نهنهت حتى قتله ، وكان هذا مما خفي على فتيان قريش ، أغمار (غير ذوي أعمار) لا علم لهم بالحرب ، خدعوا واستزلّوا فلما وقفوا وقعوا فقتلوا.

وهؤلاء كانوا من أشراف قريش ، فلما رآهم صرعى في القتلى قال لهم : جدعت أنفي! أما والله لقد كان مصرعكم لبغيضا إليّ! ولقد تقدمت إليكم وو حذّرتكم عضّ السيوف ، وكنتم أحداثا لا علم لكم بما ترون ، ولكنّه الحين (الموت) وسوء المصرع ، فأعوذ بالله من سوء المصرع!

ثم سار حتى وقف على كعب بن سور القاضي الأزدي وهو بين القتلى والمصحف لا زال في عنقه فقال لمن حوله : نحّوا المصحف وضعوه في مواضع الطهارة (١) (حكما فقهيا) ثم قال لهم : هذا الذي خرج علينا وفي عنقه المصحف

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣٩٢.


يزعم أنه يدعو الناس إلى ما فيه ، وهو لا يعلم ما فيه ، ثم استفتح (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) أما إنه دعا الله أن يقتلني فقتله الله! أجلسوا كعب بن سور ، فأجلس ، فقال له : يا كعب بن سور ، قد وجدت ما وعدني ربّي حقا فهل وجدت ما وعدك ربك حقا؟ ثم قال لهم : أضجعوه ، وتجاوزه (١).

فمرّ فرأى طلحة بن عبيد الله ، فوقف عليه وقال لمن حضره : هذا الناكث بيعتي والمنشئ الفتنة في الأمة والمجلب عليّ ، الداعي إلى قتلي وقتل عترتي! أجلسوا طلحة. فأجلس فقال له : يا طلحة بن عبيد الله ، قد وجدت ما وعدني ربّي حقا فهل وجدت ما وعدك ربك حقا؟ ثم قال : أضجعوا طلحة ، وسار (٢).

فتقدم إليه رجل من القرّاء ووقف أمامه قال له : يا أمير المؤمنين ؛ ما كلامك هذه الهام وقد ماتت فلا تسمع لك كلاما ولا تردّ جوابا!

فقال عليه‌السلام : والله إنهما (كعب وطلحة) ليسمعان كلامي كما سمع أصحاب القليب (ببدر) كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولو أذن لهما في الجواب لرأيت عجبا (٣)!

ومرّ على محمد بن طلحة وكان يعرف بالسجاد فقال : هذا رجل قتله طاعته لأبيه وبرّه به (٤).

كتابه إلى أهل المدينة :

قال المفيد : ثم رجع إلى خيمته فاستدعى كاتبه عبيد الله بن أبي رافع وقال له : اكتب :

__________________

(١) وانظر تذكرة الخواص : ٧٨ عن سيف!

(٢) الإرشاد للمفيد ١ : ٢٥٦ ، وقارن بما في نهج البلاغة الخطبة ٢١٧ ، وما نقله المعتزلي في شرح نهج البلاغة ١ : ٢٤٨ عن أبي مخنف ، ثم ما رواه المعتزلة له ، وفي تذكرة الخواص : ٧٧.

(٣) الجمل للمفيد : ٣٩٢ ، والإرشاد له ١ : ٢٥٦.

(٤) مروج الذهب ٢ : ٣٦٥.


«بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، من عبد الله عليّ بن أبي طالب. سلام عليكم. فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلّا هو ، أما بعد ، فإن الله ـ بمنّه وفضله وحسن بلائه عندي وعندكم ـ حكم عدل ، وقد قال سبحانه في كتابه ـ وقوله الحق : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ)» (١).

وإني والله اخبركم عنّا وعن من سرنا إليه من جموع أهل البصرة ومن سار إليهم من قريش وغيرهم مع طلحة والزبير ، ونكثهما على ما قد علمتم من بيعتي وهما طائعان غير مكرهين ؛ فخرجت من عندكم في من خرجت ، ممّن سارع إلى بيعتي وإلى الحق ، حتى نزلت ذا قار ، فنفر معي من نفر من أهل الكوفة.

وقدم طلحة والزبير البصرة وصنعا بعاملي : عثمان بن حنيف ما صنعا! فقدّمت إليهم الرسل وأعذرت كل الإعذار. ثم نزلت ظهر البصرة فأعذرت في الدعاء وقدّمت الحجة وأقلت العثرة والزّلة ، واستتبتهما ومن معهما من نكثهما بيعتي ونقضهما عهدي ، فأبوا إلّا قتالي وقتال من معي ، والتمادي في الغي ، فلم أجد بدا من مناهضتهم ، فناهضتهم بالجهاد ، فقتل الله من قتل منهم ناكثا وولّى من ولّى منهم.

وأخذت بالعفو فيهم ، وأجريت الحق والسنّة في حكمهم.

واخترت لهم عاملا استعمله عليهم هو عبد الله بن العباس.

وإني سائر إلى الكوفة إن شاء الله تعالى.

وكتب عبيد الله بن أبي رافع في جمادى الاولى من سنة ست وثلاثين من الهجرة (٢).

__________________

(١) الرعد : ١١ ، وهذا هو مورد نزولها في التغيير من الخير إلى الشر وليس العكس كما اشتهر أخيرا.

(٢) الجمل للمفيد : ٣٩٥ ـ ٣٩٦.


وكتابه إلى أهل الكوفة :

وكتب إلى أهل الكوفة : «بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من عليّ أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة ، سلام عليكم. فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلّا هو ، أما بعد ، فإن الله حكم عدل : (لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ)(١).

وإني اخبركم عنّا وعن من سرنا إليه من جموع أهل البصرة ومن سار إليها من قريش وغيرهم مع طلحة والزبير ، بعد نكثهما صفقة أيمانهما :

نهضت من المدينة ـ حين انتهى إليّ خبرهم ، وما صنعوه بعاملي : عثمان بن حنيف ـ حتى قدمت ذا قار ، فبعثت إليكم ابني الحسن وعمّارا وقيس بن سعد ، فاستنفروكم لحقّ الله وحقّ رسوله وحقّنا ، فأجابني إخوانكم سراعا ، حتى قدموا عليّ.

فسرت بهم ، وبالمسارعين إلى طاعة الله ، حتى نزلت ظهر البصرة ، فأعذرت في الدعاء وأقمت الحجة وأقلت العثرة والزلّة من أهل «الردة» من قريش وغيرهم ، واستتبتهم عن نكثهم بيعتي وعهد الله لي عليهم ، فأبوا إلّا قتالي وقتال من معي والتمادي في الغيّ ، فناهضتهم بالجهاد (٢) ، فقتل الله من قتل منهم ناكثا وولى من ولّى إلى مصرهم ، وقتل طلحة والزبير على نكثهما وشقاقهما ، وكانت المرأة عليهم أشأم من ناقة الحجر (قوم ثمود) فخذلوا وأدبروا وتقطعت بهم الأسباب! فلما رأوا ما حلّ بهم سألوني العفو ، فقبلت منهم وغمدت السيف عنهم (٣).

__________________

(١) الرعد : ١١.

(٢) الجمل للمفيد : ٣٩٨.

(٣) الإرشاد للمفيد ١ : ٢٥٩.


وأخذت بالعفو فيهم ، وأجريت الحق والسنة بينهم.

واستعملت عبد الله بن العباس على البصرة ، وأنا سائر إلى الكوفة إن شاء الله تعالى. وقد بعثت إليكم زحر بن قيس الجعفي لتسألوه فيخبركم عنّا وعنهم ، وردّهم الحقّ علينا وردّهم الله وهم كارهون ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وكتب عبيد الله بن أبي رافع ، في جمادى الأولى من سنة ست وثلاثين من الهجرة» (١).

وكتب إلى اخته أمّ هاني بنت أبي طالب (بمكة) : سلام عليك ، أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو. أما بعد ، فإنا التقينا مع «البغاة» والظلمة بالبصرة ، فأعطانا الله النصر عليهم بحوله وقوته ، وأعطاهم سنة الظالمين ، فقتل منهم طلحة والزبير وعبد الرحمن بن عتّاب وجمع لا يحصى ، وقتل منا بنو مجدوع وابنا صوحان (زيد وسيحان) وهند وثمامة في من يعدّ من المسلمين ، رحمهم‌الله ، والسلام (٢).

حكم غنائم البغاة :

روى المفيد قال : لما نادى منادي أمير المؤمنين عليه‌السلام : لا تجهزوا على جريح ولا تتبعوا مدبرا ، قال : ولكم ما حواه العسكر من السلاح والكراع.

قال الراوي : فخرجنا في طلب الطعام ، فإذا وجدنا طعاما أصبنا منه (٣) وما وجدناه في العسكر من الطيب قسمه علي عليه‌السلام بين نسائنا.

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣٩٩.

(٢) الجمل للمفيد : ٣٩٧.

(٣) ولعل هذا هو علة ما مرّ في الخبر أن الأشتر كان طاويا جائعا ثلاثة أيام ، ولعلّها هي أيام الحرب.


ولما قسم ما حواه العسكر أمر بفرس كادت أن تباع ، فقام إليه رجل من أهل البصرة وقال : يا أمير المؤمنين ، هذه الفرس كانت لي وإنما استعارها مني فلان ولم أدر أنه يخرج عليها للقتال. فسأله البيّنة على ذلك ، فأقام البيّنة أنها عارية ، فردّها.

وقال عليه‌السلام : مروا نساء هؤلاء المقتولين من أهل البصرة أن يعتدن منهم ، ولنقسم أموالهم في أهلهم ، فهي ميراث لهم على ما فرض الله لهم من فريضة.

فقال له عمار : يا أمير المؤمنين ، ما ترى في سبي الذرية؟

فقال : ما أرى عليهم من سبيل ، إنما قاتلنا من قاتلنا.

فقال له بعض القرّاء من أصحابه : فما الذي أحلّ دماءهم ولم يحلّ أموالهم؟!

فقال : هذه الذرية لا سبيل عليها وهم في دار هجرة ، وإنما قاتلنا من حاربنا وبغى علينا ، وأما أموالهم فهي ميراث لمستحقّيها من أرحامهم.

وكان إذا أتى بأسير منهم فإن كان قتل (أحدا) قتله ، وإن لم تقم عليه بيّنة بالقتل أطلقه (١).

واتفق رواة التاريخ كلهم على أنه عليه‌السلام قبض ما وجد في عسكر الجمل من سلاح ودابة ومملوك ومتاع وعروض ، فقسّمه بين أصحابه ، فقالوا له : اجعل أهل البصرة رقيقا واقسمهم بيننا! قال : لا ، قالوا : تحلّ لنا دماءهم وتحرّم علينا سبيهم؟! قال : أما ما أجلب به القوم في معسكرهم عليكم فهو مغنم لكم ، وأما ما وارت الدور وأغلقت عليه الأبواب فهو لأهله ، ولا نصيب لكم في شيء منه.

فلما أكثروا عليه قال : فأقرعوا على عائشة لأدفعها إلى من تصيبه القرعة! فقالوا : نستغفر الله يا أمير المؤمنين! وانصرفوا عنه (٢) ورضوا بما قال واعترفوا بصوابه وسلّموا لأمره (٣).

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٤٠٥ ـ ٤٠٦.

(٢) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ١ : ٢٥٠.

(٣) شرح الأخبار للقاضي النعمان المصري ١ : ٣٩٥ ، الحديث ٣٣٤.


خطبته بالبصرة بعد فتحها :

روى المفيد عن ابن مزاحم بسنده عن الحارث بن سريع الهمداني قال : لمّا قسم أمير المؤمنين عليه‌السلام بالبصرة ما حواه العسكر ، قام في أهل البصرة خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسوله ثم قال : أيها الناس ؛ إن الله عزوجل ذو رحمة واسعة ومغفرة دائمة لأهل طاعته ، وقضى أن نقمته وعقابه على أهل معصيته!

يا أهل البصرة ؛ يا أهل المؤتفكة (المنقلبة) ويا جند المرأة وأتباع البهيمة! رغا (صوّت) فأجبتم ، وعقر فانهزمتم! أحلامكم دقاق! وعهدكم شقاق! ودينكم نفاق! وأنتم فسقة مرّاق!

يا أهل البصرة! أنتم شرّ خلق الله! أرضكم قريبة من الماء ، بعيدة من السماء ، خفّت عقولكم ، وسفهت أحلامكم.

شهرتم سيوفكم ، وسفكتم دماءكم ، وخالفتم إمامكم! فانتم أكلة الآكل ، وفريسة الظافر ، فالنار لكم مدّخر ، والعار لكم مفخر.

يا أهل البصرة! نكثتم بيعتي وظاهرتم عليّ ذوي عداوتي ، فما ظنكم الآن بي؟!

فقام منهم رجال فقالوا : يا أمير المؤمنين نظنّ خيرا ، ونرى أنك ظفرت وقدرت ، فإن عاقبت فقد أجرمنا ، وإن عفوت فالعفو أحبّ إلى ربّ العالمين.

فقال عليه‌السلام : قد عفوت عنكم ، فإياكم والفتنة! فإنكم أول من نكث البيعة وشقّ عصا الأمة! فارجعوا عن الحوبة ، وأخلصوا فيما بينكم وبين الله بالتوبة (١).

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٤٠٧ ـ ٤٠٨ ، وفي نهج البلاغة ، الخطبة ١٣ و ١٤ بنقص وزيادة.


ثم جلس للناس فبايعوه (١) وقد اجتمع حوله جماعة من شرطة الخميس (٢).

ونقل المفيد خطبة قبل هذه لا تناسب أن تكون قبل هذه أول خطبة ، فلعلها كانت هنا بعد البيعة ، قال : حمد الله تعالى وأثنى عليه وصلّى على محمد وآله ثم قال : «أما بعد ، فإن الله غفور رحيم ، عزيز ذو انتقام ، جعل عفوه ومغفرته لأهل طاعته ، وجعل عذابه وعقابه لمن عصاه وخالف أمره وابتدع في دينه ما ليس منه ، وبرحمته نال الصالحون العون.

وقد أمكنني الله منكم ـ يا أهل البصرة ـ وأسلمكم بأعمالكم ، فإياكم أن تعودوا إلى مثلها ، فإنكم أول من شرع القتال والشقاق وترك الحق والإنصاف ثم نزل» (٣).

الامام عليه‌السلام وبيت مال البصرة :

قال المفيد : ثم استدعى جماعة من أصحابه ومن القرّاء منهم ، ودعا خزّان بيت مال البصرة (ومنهم أبو الأسود الدؤلي الكناني ظالم بن عمرو) وأمرهم بفتح الأبواب التي داخلها المال. فلما فتحوا الأبواب ودخل ورأى الأموال وكثرتها تمثّل بقول القائل :

__________________

(١) الارشاد للمفيد ١ : ٢٥٧ مرسلا ومختلفا عما هنا.

(٢) الجمل للمفيد : ٤٠٨ ، ومنه يعلم أنه عليه‌السلام كان قد عقد شرطة الخميس (الجيش) في الجمل.

(٣) الجمل للمفيد : ٤٠٠ ، هاتان خطبتان له عليه‌السلام بعد الحرب ، وليس فيها ما رواه الرضيّ في نهج البلاغة ، الخطبة ٨٠ من نواقص النساء مرسلا ، ولا مصدر له معه سوى قوت القلوب للمكّي المتوفى في (٣٨٦ ه‍) وهو صوفيّ لا يعتمد عليه ، ولا عبرة له وقد كان في بغداد يخلط في كلامه ويقول : ليس أضرّ على المخلوق من الخالق! انظر هدية الأحباب : ٣١. وانظر مصادر نهج البلاغة ، والمعجم المفهرس له : ١٣٨٣ ، وأخطأ من نسبها إلى فروع الكافي فليست فيه ، ولا في وسائل الشيعة إلّا عن نهج البلاغة.


هذا جناي ، وخياره فيه

إذ كلّ جان يده إلى فيه  (١)

ثم قال مرارا : غرّي غيري ، وكان أصحابه اثني عشر ألفا (٢).

فقال : اقسموه بين أصحابي خمسمائة ، فقسّم بينهم ، قال أبو الأسود : فلا والذي بعث محمدا بالحق ما نقص درهما ولا زاد ، كأنه كان يعرف مبلغه ومقداره ، وكان ستة آلاف ألف (٦ ملايين) درهم (٣) فقسمه بينهم بالسوية حتى لم يبق إلّا خمسمائة درهم عزلها لنفسه. فجاءه رجل فقال : إن اسمي سقط من كتابك! فقال عليه‌السلام : ردّوها عليه. ثم قال : الحمد لله الذي لم يوصل إليّ من هذا المال شيئا ووفّره على المسلمين (٤).

وروي هذا الخبر عن حبّة العرني رواية اخرى قال : قسم علي عليه‌السلام بيت مال البصرة على أصحابه خمسمائة خمسمائة ، وأخذ خمسمائة درهم كواحد منهم ، فجاءه رجل لم يحضر الوقعة وقال : يا أمير المؤمنين ، كنت شاهدا معك بقلبي وإن غاب عنك جسمي ، فأعطني شيئا من الفيء ، فدفع إليه ما أخذه لنفسه ولم يصب من الفيء شيئا (٥) «والثاني أولى عند أهل البصرة».

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٤٠٠.

(٢) منهم ألف وخمسمائة من الصحابة ومنهم ثمانون بدريون ، كما في شرح الأخبار للقاضي النعمان المصري ١ : ٤٠١ ، الحديث ٣٥٠ ، وقارن بتاريخ خليفة : ١١٢ عن الشعبي : أربعة بدريون فقط! وكذلك في أنساب الأشراف ٢ : ٢٦٧ ، الحديث ٣٤٧ ، وانظر التعليق عليه من المحقق المحمودي دام ظله.

(٣) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ١ : ٢٤٩ ، وفي الجمل للمفيد : أصاب كل رجل منهم ستة آلاف ألف! وهو تصحيف واضح.

(٤) الجمل للمفيد : ٤٠١ ـ ٤٠٣ ، بسنده عن الثوري عن أبي الأسود الدؤلي.

(٥) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ١ : ٢٥٠ ، وكأن المحقق المصري لم يصدّق فاتّهم العرني بالغلو في التشيّع!


قال اليعقوبي : وأعطاهم بالسويّة لم يفضّل أحدا على أحد ، وأعطى الموالي كما أعطى أبناء الأصلاب ، فقيل له في ذلك ، فأخذ عودا من الأرض بين إصبعيه وقال : قرأت ما بين الدفّتين فلم أجد لولد إسماعيل على ولد إسحاق بمقدار فضل هذا (العود) (١).

نعم أخبر ابن عساكر بسنده عن ابن أبي بكرة قال : لم يأخذ علي عليه‌السلام من بيت مالنا بالبصرة غير خميصة (قميص صوف قصير) من دارابجرد أو كانت جبّة محشوّة (٢) فكان الفصل شتاء وأورث من بيت المال زوج امرأة حامل فزعت من هزيمة الجيش فطرحت ولدا حيا مات وماتت هي (٣).

خطبته عليه‌السلام بعد القسمة :

نقل المفيد عن الواقدي روى : أن أمير المؤمنين عليه‌السلام لما فرغ من قسمة المال قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

أيها الناس ، إني أحمد الله على نعمه : قتل طلحة والزبير وهزمت عائشة! وأيم الله لو كانت عائشة طلبت حقا وأهانت باطلا لكان لها في بيتها مأوى! وما فرض الله عليها الجهاد ، وإن أول خطائها في نفسها. وما كانت ـ والله ـ على القوم إلّا أشأم من ناقة الحجر (قوم ثمود) ولقد جاءوا مبطلين وأدبروا ظالمين.

إنّ إخوانكم المؤمنين جاهدوا في سبيل الله وآمنوا به يرجون مغفرة من الله ، وإنّنا لعلى الحق وإنهم لعلى الباطل ، وسيجمعنا الله وإيّاهم يوم الفصل. وأستغفر الله لي ولكم (٤).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٨٣.

(٢) تاريخ ابن عساكر الدمشقي ٣ : ٢٢٨.

(٣) الكافي ٧ : ٣٥٤ ، ومن لا يحضره الفقيه ٤ : ب ١٥٣.

(٤) الجمل للمفيد : ٤٠٢.


حوار وتحليل سياسي :

وروى المفيد عن عمر بن أبان قال : لما انتصر علي عليه‌السلام بالبصرة جاءه منهم رجال فقالوا :

يا أمير المؤمنين ؛ إن عائشة امرأة من النساء لم يكتب عليها القتال ولا فرض عليها الجهاد ، ولا أرخص لها الخروج من بيتها والتبرّج بين الرجال ، وليست هي ممن تولّت شيئا على حال ، فما السبب الذي دعاها للمظاهرة عليك حتى بلغت من خلافك وشقاقك ما بلغت؟!

فقال عليه‌السلام : سأذكر لكم أشياء مما حقدتها عليّ ، ليس لي في واحد منها ذنب إليها ، ولكنّها تجرّمت بها عليّ.

ثم عدّد أمورا ثمانية ثم قال : وأمثال ذلك ، فإن شئتم فاسألوها : ما الذي نقمت عليّ حتى خرجت مع «الناكثين» لبيعتي ، وسفك دماء «شيعتي» والتظاهر بين المسلمين بعداوتي ، للبغي والشقاق والمقت لي ، بغير سبب يوجب ذلك في الدين ، والله المستعان!

فقال القوم له : يا أمير المؤمنين ؛ القول ـ والله ـ ما قلت ، ولقد كشفت الغمة ، ولقد نشهد أنك أولى بالله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ممن عاداك.

ثم قام الحجاج بن عمرو الأنصاري فمدحه بأبيات من الشعر (١).

مروان وفتية من قريش :

روى البلاذري عن أبي مخنف : أن مروان بن الحكم ارتثّ جراحا يوم الجمل و(سمع منادي علي عليه‌السلام ينادي : من ألقى سلاحه ودخل داره وأغلق بابه فهو آمن)

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٤١١ ـ ٤١٢ ، وراجع : ١٥٣ ـ ١٦٠ منه.


فلجأ إلى قوم من عنزة ، ثم بعث إلى مالك بن مسمع يستجير به فأجاره ، وسأل من عليّ عليه‌السلام له الأمان فآمنه (١).

وكان علي عليه‌السلام قد نصب عبد الله بن عباس أميرا على البصرة كما مرّ ، فأرسل إليه وإلى عبد الله بن جعفر أن يكلّموا عليا عليه‌السلام فيه فكلّموه فقال : هو آمن فليتوجّه حيث شاء (٢).

وروى المفيد عن أبي مخنف بسنده عن مساحق بن مخرمة القرشي (٣) ورواه القاضي المغربي (م ٣٦٣ ه‍) عنه أيضا قال : اجتمعت بعد الجمل مع نفر من قريش فيهم مروان بن الحكم ، فقال لبعض من حضره : والله لقد ظلمنا هذا الرجل (عليا عليه‌السلام) ونكثنا بيعته من غير حدث ، ثم لقد ظهر علينا فما رأينا رجلا قط أكرم سيرة ولا أحسن عفوا منه بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله! فتعالوا ندخل عليه فنعتذر إليه مما صنعنا (٤)!

قال الواقدي : فاستشفعوا إليه بعبد الله بن العباس فشفّعه فيهم وأذن بدخولهم عليه ، حتى مثلوا بين يديه (٥) فلما همّ أن يتكلم متكلّمهم قال عليه‌السلام : أنا أكفيكم إنما أنا رجل منكم ، فإن قلت حقا فصدّقوني ، وإن قلت غير ذلك فردّوا عليّ! ثم قال :

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٢٦٣ ، الحديث ٣٣٦.

(٢) أنساب الأشراف ٢ : ٢٦٢ ، بسنده عن الصادق عن أبيه عن جدّه عن مروان نفسه!

(٣) الجمل للمفيد : ٤١٦.

(٤) شرح الأخبار للقاضي النعمان المصري المغربي ١ : ٣٩٢ ، الحديث ٣٣٣ ، والجمل للمفيد : ٤١٦ ، وأمالي الطوسي : ٥٠٦ ، الحديث ١١٠٩.

(٥) الجمل للمفيد : ٤١٣.


أنشدكم الله! أتعلمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قبض وأنا أولى الناس به وبالناس من بعده؟ قالوا : اللهم نعم.

قال : فبايعتم أبا بكر وعدلتم عنّي ، فأمسكت ولم أحبّ أن أشق عصا المسلمين وافرّق جماعاتهم ، ثم إن أبا بكر جعلها لعمر من بعده ، فكففت ولم اهج الناس ، وقد علمتم أني كنت أولى الناس بالله وبرسوله وبمقامه ، فصبرت حتى قتل عمر وجعلني سادس ستة ، فكففت ولم احبّ أن افرّق بين المسلمين. ثم بايعتم عثمان فطعنتم عليه فقتلتموه وأنا جالس في بيتي ، فأتيتموني وبايعتموني كما بايعتم أبا بكر وعمر ، فما بالكم وفيتم لهما ولم تفوا لي؟ وما منعكم من نكث بيعتهما ودعاكم إلى نكث بيعتي (١)؟

ثم قال لهم : ويلكم يا معشر قريش علام تقاتلونني؟ على أن حكمت فيكم بغير عدل؟ أو قسمت بينكم بغير سويّة؟ أو استأثرت عليكم؟ أو لبعدي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ أو لقلّة بلاء منّي في الإسلام (٢)؟

هذا ، ولكنّ الرضيّ ارتضى خبرا آخر عن مروان : أنه أخذ أسيرا واتي به إلى علي عليه‌السلام فاستشفع الحسنين عليهما‌السلام فشفعا فيه فأطلقه ، فقالا : يبايعك؟

فقال عليه‌السلام : أو لم يبايعني بعد قتل عثمان؟ لا حاجة لي في بيعته ، إنها كفّ يهودية! ولو بايعني بكفّه لغدر بسبّته ، أما إنه يحمل راية ضلالة بعد ما يشيب صدغاه! وإن له امرة كلعقة الكلب أنفه! وهو أبو الأكبش الأربعة! وستلقى الامة منه ومن ولده يوما أحمر.

وقال المعتزلي في شرحه : روي هذا الخبر من طرق كثيرة (٣).

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٤١٦ ـ ٤١٧ ، وأمالي الطوسي ، الحديث ١١٠٩.

(٢) الجمل للمفيد : ٤١٣ عن الواقدي.

(٣) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ٦ : ١٤٦ ، والخطبة : ٧٣.


إلّا أن الراوندي روى عن رجل مراديّ (رباب بن رياح) قال : كنت بالبصرة واقفا على رأس أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد القتال ، إذ أتاه ابن عباس فقال له : إنّ لي حاجة! فقال عليه‌السلام : ما أعرفني بالحاجة التي جئت فيها : تطلب الأمان لابن الحكم ، قال : ما جئت إلّا لتؤمّنه ، قال : قد آمنته ، ولكن اذهب وجئني به ، ولا تجئني به إلّا رديفا فإنه أذلّ له. فجاء به ابن عباس مردفا له كأنه قرد!

فقال له أمير المؤمنين : تبايع؟ قال : نعم ، وفي النفس ما فيها! فلما بسط يده ليبايعه قبضها ونترها وقال : لا حاجة لي فيها ، إنها (كفّ مروان) كفّ يهودية ، لو بايعني بيده عشرين مرة نكث باسته! ثم قال : هيه يا ابن الحكم! خفت على رأسك أن يقع في هذه المعمعة؟ كلّا ـ والله ـ حتى يخرج من صلبك فلان وفلان يسومون هذه الامة خسفا ، ويسقونهم كأسا مصبّرة (١) وهذا هو الأولى لمراودة ابن عباس في دار عثمان ، دون الحسنين.

وفي خبر الواقدي : أن مروان تقدّم إلى عليّ عليه‌السلام وهو متّكئ على رجل ، فقال له : هل بك جراحة؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين ، ولا أراني لما بي إلّا ميّتا ، فتبسّم علي عليه‌السلام وقال له : لا والله ما أنت لما بك ميّت! وستلقى هذه الامة منك ومن ولدك يوما أحمر ، ثم بايعه وانصرف (كذا).

وتقدّم إليه عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي ، فلما رآه قال له : والله أن كنت أنت وأهل بيتك لأهل دعة وكان فيكم غنى ... ولقد ثقل عليّ حيث رأيتكم في القوم ، وأحببت أن تكون الواقعة بغيركم! ثم بايعه وانصرف.

وكأنه عليه‌السلام لم يعرف مساحق بن مخرمة فقال له : ومن أنت؟ قال : أنا مساحق بن مخرمة ، معترف بالزلّة مقرّ بالخطيئة تائب من ذنبي.

__________________

(١) الخرائج والجرائح ١ : ١٩٧ ، الحديث ٣٥ ، وبهامشه بعض المصادر الأخرى. والمصبّرة : المطعّمة بالصبر وهو نبات مرّ.


فقال : قد صفحت عنكم (١).

وروى القاضي المغربي عن موسى بن طلحة بن عبيد الله التيمي أنه أسر وحبس مع سائر الأسارى ، فنودي : أين موسى بن طلحة؟ قال : فاسترجعت واسترجع الأسارى معي في السجن وقالوا لي : يقتلك!

فأخرجني المنادي إليه حتى أوقفني بين يديه ، فقال لي : يا موسى! قلت له : لبّيك يا أمير المؤمنين! قال لي : قل ثلاث مرات : استغفر الله وأتوب إليه. فقلتها فقال لمن جاء بي : خلّوا عنه ، ثم قال لي : اذهب وخذ ما وجدت لك في عسكرنا من كراع أو (صيّ) سلاح فخذه ، واجلس في بيتك واتّق الله فيما تستقبله من أمرك! فشكرت له ذلك وانصرفت من عنده (٢).

وقد مرّ خبر إرساله لسعيد وأبان ابني عثمان بن عفّان بعد أسرهما في العسكر.

وصلاة الجمعة بعد الفتح :

كان يوم فتح البصرة لعلي عليه‌السلام بعد الجمعة منتصف جمادى الأولى ، وقبل الجمعة اللاحقة مرض أمير المؤمنين ، فقال لابنه الحسن : انطلق يا بني فجمّع بالناس.

فأقبل الحسن عليه‌السلام إلى المسجد الجامع بالبصرة ورقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه وتشهد ثم صلّى على جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم قال :

أيها الناس ، إن الله اختارنا لنبوّته ، واصطفانا على خلقه ، وأنزل علينا كتابه ووحيه. وايم الله لا ينتقصنا أحد من حقّنا شيئا إلّا ينقصه الله ، في عاجل دنياه

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٤١٣.

(٢) شرح الأخبار للقاضي النعمان المصري المغربي ١ : ٣٨٩.


وآجل آخرته ، ولا تكون علينا دولة إلّا كانت لنا العاقبة (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) وبعد خطبته جمّع بالناس.

وبلغ كلامه إلى أبيه ، فلما انصرف إليه ورآه سالت عبرته على خديه فاستدناه حتّى قبّل ما بين عينيه وقال له : بأبي أنت وأمي! ثم تلا قوله سبحانه : (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(١).

وخطب هو مرة أخرى :

ومرّة اخرى خطب هو عليه‌السلام فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم قال :

أيها الناس ، إن الدنيا حلوة خضرة ، تفتن الناس بالشهوات ، وتزيّن لهم بعاجلها ، وايم الله إنها لتغرّ من أمّلها ، وتخالف من رجاها ، وستورث غدا أقواما الندامة والحسرة بإقبالهم عليها وتنافسهم فيها ، وحسدهم وبغيهم على أهل الدين والفضل فيها ، ظلما وعدوانا وبغيا وأشرا وبطرا.

وبالله إنه ما عاش قوم قطّ في غضارة من كرامة نعم الله في معاش دنياه ، ولا دائم تقوى في طاعة الله والشكر لنعمه فأزال ذلك عنهم ، إلّا من بعد تغيير من أنفسهم ، وتحويل عن طاعة الله والحادث من ذنوبهم ، وقلة محافظة وترك مراقبة الله عزوجل ، وتهاون بشكر نعم الله ؛ لأن الله عزوجل يقول : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ)(٢).

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٨٢ ، الحديث ١٢١ و ١٠٣ ، الحديث ١٥٩ بسنده عن ابن سيرين (م ١١٠ ه‍). والآيتان الأولى : ٨٨ من سورة ص ، والثانية : ٣٤ من سورة آل عمران.

(٢) الرعد : ١١.


ولو أنّ أهل المعاصي وكسبة الذنوب إذا هم حذروا زوال نعم الله وحلول نقمته وتحويل عافيته ، أيقنوا أنّ ذلك من الله جل ذكره بما كسبت أيديهم ، فأقلعوا وتابوا وفزعوا إلى الله جل ذكره ، بصدق من نياتهم وإقرار منهم بذنوبهم وإساءتهم ، لصفح لهم عن كل ذنب ، ولأقالهم كل عثرة ، ولردّ عليهم كرامة نعمه ، ثم أعاد لهم من صالح أمرهم ، ومما كان أنعم به عليهم كلّما زال عنهم وأفسد عليهم.

فاتقوا الله ـ أيها الناس ـ حقّ تقاته ، واستشعروا خوف الله عزّ ذكره ، وأخلصوا النفس ، وتوبوا إليه من قبيح ما استنفركم الشيطان من قتال وليّ الأمر وأهل العلم بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما تعاونتم عليه من تفريق الجماعة وتشتيت الأمر ، وإفساد صلاح ذات البين (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ)(١).

وخطبة أخرى في الفتنة :

نقلها الرضيّ وقال : خاطب بها أهل البصرة ، ومنها : إن أطعتموني فإني إن شاء الله حاملكم على سبيل الجنة وإن كان ذا مشقة شديدة ومذاقة مريرة!

ومنها قوله : وأما (فلانة) فأدركها رأي النساء وضغن غلا في صدرها كمرجل القين (الحدّاد) ولو دعيت لتنال من غيري ما أتته إليّ لم تفعل ؛ ولها بعد حرمتها الاولى ، والحساب على الله!

وفيها : أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقرّبان من أجل ولا ينقصان من رزق.

__________________

(١) روضة الكافي : ٢١٣ ، الحديث ٣٦٨ والآية : ٢٥ من الشورى.


فقام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن الفتنة وهل سألت عنها رسول الله (١)؟

قال عليه‌السلام : لما نزلت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ)(٢) قال لي :

يا علي ؛ إن الله قد كتب على المؤمنين الجهاد في الفتنة بعدي كما كتب عليهم جهاد المشركين معي. فقلت : يا رسول الله ، وما الفتنة التي كتب الله علينا فيها الجهاد؟ قال : فتنة قوم يشهدون أن لا إله إلّا الله وأني رسول الله ، وهم مخالفون لسنتي وطاعنون في ديني! فتقاتلونهم على إحداثهم في دينهم وفراقهم لأمري واستحلالهم دماء عترتي.

فقلت له : يا رسول الله ، إنك كنت وعدتني الشهادة فسل الله تعالى أن يعجّلها لي!

فقال : قد كنت وعدتك الشهادة فكيف صبرك إذا خضبت هذه ـ وأومأ إلى رأسي ـ من هذه ـ وأومأ إلى لحيتي ـ؟

فقلت : يا رسول الله ، أما إذا بيّنت لي ما بيّنت فليس بموطن صبر لكنّه موطن شكر!

فقال : أجل ، فأعدّ للخصومة فإنك مخاصم أمتي.

قلت : يا رسول الله فأرشدني الفلج (في حجتي عليهم).

فقال : إذا رأيت قوما عدلوا عن الهدى إلى الضلال فخاصمهم ، فإن الهدى من الله والضلال من الشيطان ، والهدى هو اتّباع أمر الله دون الهوى والرأي ، وكأنك بقوم قد تأوّلوا القرآن وأخذوا بالشبهات ، واستحلوا الخمر بالنبيذ ،

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٥٦.

(٢) النصر : ١.


والبخس بالزكاة (١) والسحت بالهدية!

قلت : يا رسول الله ، فما هم إذا فعلوا ذلك : أهم أهل ردة أم أهل فتنة؟

قال : هم أهل فتنة يعمهون فيها إلى أن يدركهم العدل.

قلت : يا رسول الله ، العدل منا أم من غيرنا؟ فقال : بل منّا ، بنا فتح الله وبنا يختم ، وبنا ألّف الله بين القلوب بعد الشرك ، وبنا يؤلف الله بين القلوب بعد الفتنة.

فقلت : الحمد لله على ما وهب لنا من فضله (٢).

ومن أخبار حيرتهم في الفتنة أنّ الحارث بن حوط الرّاني أو الليثي قال له :

أفأظنّ أن طلحة والزبير وعائشة اجتمعوا على باطل؟

__________________

(١) لا معنى لاستحلال البخس باسم الزكاة إلّا ما علّقه عليه محقق الأمالي المرحوم الغفاري : أنهم يستحلون لأنفسهم البخس بالمكيال والميزان على الناس بحجة ما يدفعون من الزكاة يرونها تحلّل لهم بخسهم. والزكاة هنا لعلها بمعناها العام دون الزكاة المفروضة لأول السنة العاشرة للهجرة ، ونزول سورة النصر على المختار للبشارة بفتح مكة في الثامنة.

وتنبّه إلى ورود مثل هذا الإشكال على لفظ الخبر برواية الرضيّ في نهج البلاغة : المعتزلي الشافعي في شرحه ٩ : ٢٠٧ ، قال : فهو يدل على أن آية : (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ ...) أنزلت بعد احد ، وهو خلاف قول أرباب التفسير فهي عندهم بالاتفاق مكية ، ويوم احد كان بالمدينة. ثم دفع الإشكال باحتمال أن تكون هذه الآية مدنية ألحقت بسورة العنكبوت المكية! وفي لفظ رواية الرضيّ إشكالات أخر ، ليست في ما رويناه عن أمالي شيخه المفيد. والآيتان : ١ و٢ من سورة العنكبوت.

(٢) أمالي المفيد : ٢٨٨ ، م ٣٤ ، الحديث ٧ ، وعنه في أمالي الطوسي : ٦٥ ، الحديث ٩٦. ومصادر نقل الرضي في المعجم المفهرس : ١٣٨٨ ، الخطبة ١٥٦ ، ونقل الخبر المعتزلي وقال : هذا الخبر مروي عن رسول الله قد رواه كثير من المحدّثين عن علي عليه‌السلام ٩ : ٢٠٦.


فقال عليه‌السلام : يا حارث! إنه ملبوس عليك ، إن الحق والباطل لا يعرفان بالناس ، ولكن اعرف الحق تعرف أهله ، واعرف الباطل تعرف من أتاه (١).

وكأنّ الأحنف بن قيس ساءه أنه تخلّف عن الإمام عليه‌السلام فلحقه بالبصرة وأبدى له أنه على بصيرة من أمره مقتد به وأنه من الصالحين من شيعته ، فكان في كلام الإمام معه أخباره ببعض الملاحم الآتية على البصرة من أصحاب الزنج والمغول والتتار ، وكان يحضرهم رجل من كلب فقال له : يا أمير المؤمنين! لقد أعطيت علم الغيب! فضحك وقال له :

يا أخا كلب ، إنما علم الغيب : ما عدّده الله سبحانه بقوله : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ)(٢) فيعلم الله ما في الأرحام من ذكر أو انثى ، وقبيح أو جميل ، وسخيّ أو بخيل ، وشقيّ أو سعيد ، ومن يكون في النار حطبا أو في الجنان للنبيّين مرافقا ، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلّا الله ، وما سوى ذلك فعلم علّمه الله نبيّه فعلمنيه ، ودعا لي بأن يعيه صدري ، وتضطمّ عليه جوانحي (٣).

علي عليه‌السلام والغلوّ فيه :

أرض البصرة كان العرب يسمّونها : أرض الهند ، ومرّ أن السيابجة قوم من الهنود السود فسمّوا بالفارسية : (سياه بچّه) أي الأولاد السّود ، وكان قد أسلم

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢١٠ ، والرضي في نهج البلاغة ، الخطبة ٢٦٢ ، والطوسي في الأمالي : ١٣٤ ، الحديث ٢١٦ ، عن المفيد وليس في أماليه ، وأنساب الأشراف ٢ : ٢٣٨ ، الحديث ٢٦٩ ، عن أبي مخنف.

(٢) لقمان : ٣٤.

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ١٢٨ ، ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٣٨٧.


قوم منهم وتعبّدوا حتى ثفنت جباههم ، فاستخدمهم عثمان بن حنيف حرّاسا له ولبيت المال وقاوموا طلحة والزبير في يوم الجمل الأصغر فقتلهم الزبير بيده.

وكأنّ قوما منهم لما دخل الإمام البصرة وسمعوا عنه ورأوا منه بعض الخوارق قالوا فيه بالغلو ، فقد قال الحلبي : روي أن سبعين رجلا من الزطّ (البحّارة السنديين) أتوه يدعونه إلها وسجدوا له! فقال لهم : ويلكم لا تفعلوا هذا فإنما أنا مخلوق مثلكم ، فأبوا عليه! فقال لهم : فإن لم ترجعوا عمّا قلتم فيّ وتتوبوا إلى الله لأقتلنّكم! فأبوا أيضا!

فأمر عليه‌السلام أن يحفروا لهم أخاديد ويوقدوا فيها نارا ، فلم يزالوا مصرّين!

ولم نعلم باسم قنبر في البصرة إلّا هنا فقد ورد في الخبر : أن أمير المؤمنين عليه‌السلام أمره فكان يحملهم واحدا بعد آخر وعلى منكبه فيقذف بهم في أخاديد النيران ولا يرجعون! فروي عن الإمام عليه‌السلام أنه هنا أخذ يقول شعرا :

إني إذا أبصرت أمرا منكرا

أوقدت نارا ودعوت قنبرا

ثم احتفرت حفرا فحفرا

وقنبر يخطم خطما منكرا (١)

وأملى لهم أساس النحو :

وحيث كثر غير العرب من الفرس والهنود بالبصرة كثر لحنهم في العربية ، وسمعهم الإمام عليه‌السلام ، فروى عبد الرحمن بن إسحاق النهاوندي البغدادي الشامي الزجاجي (م ٣٣٩ ه‍) منسوبا إلى شيخه الزجاج النحوي (م ٣١٠ ه‍) في كتابه «الأمالي» بسنده إلى أبي الأسود الدؤلي الكناني قال : دخلت على أمير المؤمنين

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ١ : ٣٢٥ ، بعنوان الردّ على الغلاة. وخطم وحطم بمعنى واحد وقنبر كان فارسيا واسمه معرّب مركّب أي يذهب بالغمّ : غمبر وهذا أول ذكره مع الإمام عليه‌السلام.


(بالبصرة) فرأيته مطرقا مفكّرا ، فقلت : فيم تفكّر يا أمير المؤمنين؟ قال : إني سمعت ببلدكم هذا (البصرة) لحنا كثيرا ، فأردت أن أضع كتابا في أصول العربية! فقلت له : إن فعلت هذا أحييتنا وبقيت فينا هذه اللغة! ثم خرجت من عنده.

وبعد ثلاثة أيام عدت إليه فتناول صحيفة وألقاها إليّ فقرأتها وإذا فيها :

«بسم الله الرحمنِ الرحيم ، الكلمة : اسم وفعل وحرف ، فالاسم : ما أنبأ عن المسمّى ، والفعل : ما أنبأ عن حركة المسمّى ، والحرف : ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل» ثم قال لي :

يا أبا الأسود ، إن الأشياء ثلاثة : ظاهر ، ومضمر ، وشيء ليس بظاهر ولا مضمر (كالمبهمات).

ثم قال لي : يا أبا الأسود ، تتبّعه فما وقع لك فزده فيه.

فجمعت أشياء وزدتها فيه وأتيته بها ومنها حروف النصب : إنّ وأنّ وليت ولعلّ وكأنّ ، فقال لي : لم تركت لكنّ ، فهي منها فزدها فيها (١).

ورسالة اخرى إلى الكوفة :

مرّ الخبر عن كتاب له عليه‌السلام إلى أهل الكوفة أوائل فتح البصرة ، وهذا كتاب له آخر في شهر رجب أي بعد أكثر من شهر ونصف أو خمسين يوما ، بعنوان أمير الكوفة بعد الأشعري : قرظة بن كعب الأنصاري ، مع عمر بن سلمة الأرحبيّ :

__________________

(١) عن أمالي الزجاجي في تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢١٣ والشيعة وفنون الإسلام : ١٦١ ، وتأسيس الشيعة : ٦٠ وفي قاموس الرجال ٥ : ٥٨٢ برقم ٣٧٧١ من معجم الأدباء للحموي. واختصر الخبر المرتضى في الفصول المختارة من العيون والمحاسن للمفيد : ٩١ ، ط. المؤتمر.


«من عبد الله علي بن أبي طالب أمير المؤمنين إلى قرظة بن كعب ومن قبله من المسلمين : سلام عليكم ، فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلّا هو ، أما بعد ؛ فإنا لقينا القوم الناكثين لبيعتنا ، المفرّقين لجماعتنا ، الباغين علينا من امتنا ، فحاججناهم إلى الله فنصرنا الله عليهم ، وقتل طلحة والزبير ، وقد تقدّمت إليهما بالمعذرة ، واستشهدت عليهما صلحاء الامة ونكثهما بالبيعة ، فما أطاعا المرشدين ولا أجابا الناصحين ، ولاذ أهل البصرة بعائشة ، فقتل حولها عالم جلّ جمّ لا يحصى عددهم إلّا الله ، ثم ضرب الله وجه بقيّتهم فأدبروا. فما كانت ناقة الحجر (قوم ثمود) بأشأم منها على أهل ذلك المصر! مع ما جاءت به من الحوب الكبير في معصيتها لربّها ونبيّها ، واغترار من اغترّ بها ، وما صنعته من التفرقة بين المؤمنين ، وسفك دماء المسلمين ، بلا بيّنة ولا معذرة ولا حجّة لها.

فلما هزمهم الله أمرت : أن لا يقتل مدبر ، ولا يجهز على جريح ، ولا تكشف عورة ، ولا يهتك ستر ، ولا يدخل دار إلّا بإذن أهلها ، وآمنت الناس.

وقد استشهد منا رجال صالحون ، ضاعف الله لهم الحسنات ورفع درجاتهم ، وأثابهم ثواب الصابرين ، وجزاهم من أهل مصر عن أهل بيت نبيّهم أحسن ما يجزى العاملين بطاعته ، والشاكرين لنعمته ، فقد سمعتم وأطعتم ، ودعيتم فأجبتم ، فنعم الإخوان والأعوان على الحق أنتم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وكتب عبيد الله بن أبي رافع في رجب سنة ستة وثلاثين» (١).

رواه أبو مخنف عن ابن بشير الهمداني قال : ورد كتاب أمير المؤمنين مع عمر ابن سلمة الأرحبي إلى الكوفة ، فلما سمع به الناس كبّروا تكبيرة سمعها عامة الناس واجتمعوا لها بالمسجد ، ونودي الصلاة جمعا ، فلم يتخلّف أحد ، فقرئ عليهم الكتاب (٢).

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٤٠٣ ـ ٤٠٤.

(٢) الكافية في إبطال توبة الخاطئة ، وعنه في بحار الأنوار ٣٢ : ٢٥٢.


أمره عليه‌السلام عائشة بالرجوع :

نقل المفيد عن الواقدي قال : لما عزم أمير المؤمنين على المسير إلى الكوفة ، أنفذ إلى عائشة يأمرها بالرحيل إلى المدينة (١) فعن ابن عباس قال : بعد استقرار أمر الناس في البصرة بعث بي علي عليه‌السلام إلى عائشة يأمرها بالرحيل عن البصرة والرجوع إلى دارها (٢).

وكانت هي في قصر بني خلف الخزاعي في جانب البصرة ، فأتيتها وطلبت الإذن عليها ، فلم تأذن! فدخلت عليها من غير إذنها ، فإذا هو دار قفار ، لم يعدّ لي فيه مجلس ، وإذا هي من وراء سترين! وإذا في جانب الدار رحل عليه طنفسة (بساط) فأخذتها ومددتها وجلست عليها.

فقالت : يا ابن عباس : أخطأت السنة! دخلت دارنا بغير إذننا ، وجلست على متاعنا بغير إذننا.

فقلت لها : نحن أولى بالسنة منك ومن أبيك! ونحن علّمناك السنة وأباك ؛ وإنما بيتك الذي خلّفك فيه رسول الله فخرجت منه ظالمة لنفسك! غاشّة لدينك ، عاتية على ربّك! عاصية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإذا رجعت إلى بيتك لم ندخله إلّا بإذنك ، ولم نجلس على متاعك إلّا بأمرك! إن أمير المؤمنين بعث إليك يأمرك بالرّحيل إلى المدينة وقلة العرجة (الإقامة).

فقالت : رحم الله أمير المؤمنين ذاك عمر بن الخطّاب!

فقلت لها : وهذا والله أمير المؤمنين وإن تربّدت فيه وجوه ورغمت فيه معاطيس! أما والله لهو أمير المؤمنين وأمسّ برسول الله رحما وأقرب قرابة ، وأقدم سبقا ، وأكثر علما ، وأعلى منارا ، وأكثر آثارا من أبيك ومن عمر!

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٤١٥.

(٢) شرح الأخبار للقاضي النعمان ١ : ٣٩٠ ، الحديث ٣٣٢.


قالت : أبيت ذلك!

فقلت لها : لقد كان إباؤك ذلك لقصير المدة! عظيم السبقة! ظاهر الشؤم! بيّن النكد! وما كان إلّا كحلب شاة حتى صرت لا تأمرين ولا تنهين! ولا ترفعين ولا تضعين! وما كان مثلك إلّا كمثل الحضريّ بن (عامر بن) نجمان الأسدي حيث يقول :

ما زال إهداء القصائد بيننا

شتم الصديق وكثرة الألقاب

حتى تركت كأنّ صوتك بينهم

 ـ في كل مجمعة ـ طنين ذباب

قال : فبكت حتى سمع نحيبها من وراء الحجاب ، فأراقت دمعتها وأبدت عويلها وبدا نشيجها ، ثم قالت : أرحل ـ والله ـ عنكم ، فما في الأرض بلد أبغض إليّ من بلد أنتم فيه! (ولعلّها علمت برحيل الإمام إلى الكوفة).

قلت : ولم ذلك؟ فو الله ما ذلك ببلائنا عندك ، ولا بصنيعنا إليك إذ جعلناك امّا للمؤمنين وأنت بنت أم رومان!

فقالت : يا ابن عباس! تمنّون عليّ برسول الله؟!

فقلت : ولم لا نمنّ عليك بمن لو كان منك قلامة منه ، أو لو كان فيك منه شعرة ، لمننت بها وفخرت ، ونحن منه وإليه لحمه ودمه ، وما أنت إلّا حشيّة (فراش محشو) من تسع حشيّات خلّفهن بعده ، لست بأبيضهن لونا! ولا بأحسنهن وجها! ولا بأرشحهنّ عرقا! ولا بأرسخهن عرقا! ولا بأنضرهنّ روقا! ولا بأطراهن أصلا! ولا بأمدّهنّ ظلا! فصرت تأمرين فتطاعين! وتدعين فتجابين! وما مثلك إلّا كما قال أخو بني فهر :

مننت على قومي فأبدوا عداوة

فقلت لهم : كفّوا العداوة ، والشكرا!

ففيه رضا من مثلكم لصديقه

وأحرى بكم أن تجمعوا البغي والكفرا


قال : فسكتت! وانصرفت إلى علي عليه‌السلام فأخبرته بمقالتها وما رددت عليها ، فقال لي : أنا كنت أعلم بك حيث بعثتك (١)!

وتثاقلت عائشة بعد ذلك عن الخروج! فأرسل إليها علي عليه‌السلام : والله لترجعينّ إلى بيتك! أو لألفظنّ لفظة لا يدعونك بعدها امّا للمؤمنين (٢)!

وأجمل المفيد خبر خروجها من البصرة في «الجمل» فلم يذكر فيه خبر ابن عباس ، نعم ذكره في «الكافئة» بطريقين ، وزاد : أنه قال لها : يا امّاه! ألسنا أولياء بعلك؟ أو ليس قد اوتيت أجرك مرّتين؟ أو ليس قد ضرب الله عليك الحجاب؟ فما أخرجك علينا مع منافقي قريش؟!

فقالت : كان ذلك قدرا يا ابن عباس ، قال ابن عباس : «وكانت أمّنا تؤمن بالقدر» أي بهذا التفسير الخطير للتقدير الجبريّ غير الاختياريّ! فهذه من البوادر الأولى لهذا المعنى الباطل.

وفي معنى الخبر الأسبق نقل فيها عن الأصبغ بن نباتة : أنها لمّا أبت أن ترجع قال لها : ارجعي! وإلّا تكلّمت بكلمة تبرئين بها عن الله ورسوله!

وعن عمر بن سعد الأسدي ، أنه قال لها : يا شقيراء! ارتحلي! وإلّا تكلّمت بما تعلمينه! فقالت : نعم ، أرتحل!

وعن الأحنف بن قيس التميمي : أنها لما أبت ، قال لها : لئن لم تفعلي لأرسلنّ إليك نسوة من بكر بن وائل بشفار حداد يأخذنك بها!

__________________

(١) رجال الكشي : ٥٧ ـ ٦٠ ، الحديث ١٠٨. واختزل الخبر المعتزلي في شرح نهج البلاغة ٦ : ٢٢٩ فلم يورد المقاطع الأخيرة.

(٢) شرح الأخبار للقاضي النعمان المصري ١ : ٣٩٢ ، الحديث ٣٣٢ وانفرد بهذا الذيل وله تتمة.


وعن حبّة العرني : أنه عليه‌السلام بعث إليها أخاها محمدا مع عمار بن ياسر : أن ارتحلي والحقي ببيتك الذي تركك فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : والله لا اريم عن هذا البلد أبدا!

فرجعا إلى علي عليه‌السلام وأخبراه بقولها ، فغضب ، فأضاف إليهما الأشتر وبعثهم إليها : أن والله لتخرجنّ أو لتحملنّ احتمالا!

ثم أرسل إلى رجال من بني عبد القيس فقال لهم : اندبوا إليّ الحرّة الخيرة من نسائكم ، فإن هذه المرأة من نسائكم ـ وقد أبت أن تخرج ـ لتحملوها احتمالا!

فلما علمت عائشة بذلك قالت لهم : قولوا له فليجهّزني ، فأتوا أمير المؤمنين فذكروا له ذلك ، فجهّزها وبعث إليها بالنساء ، فلما رأت النساء معهنّ الإبل ارتحلت (١).

إرسالها إلى دارها :

نقل المفيد عن الواقدي : أن أمير المؤمنين عليه‌السلام أمر أربعين امرأة (من بني عبد القيس) أن يتزيّن بزيّ الرجال فيلبسن القلانس والعمائم ويتقلدن السيوف ، فيكنّ عن يمين عائشة وشمالها وخلفها فيحفظنها حتى يوصلنها إلى دارها بالمدينة ، ففعلن النساء ذلك. فكانت عائشة تقول في طريقها : اللهم افعل بعليّ بن أبي طالب بما فعل بي!

فلما بلغن المدينة ألقين العمائم والسيوف ودخلن معها ، فلما رأتهنّ كذلك أبدت الندم على ما فرّطت بذم عليّ عليه‌السلام وسبّه! وقالت : جزى الله ابن أبي طالب خيرا ، فقد حفظ فيّ حرمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) ونقل السبط عن الكلبي :

__________________

(١) الكافئة في إبطال توبة الخاطئة للمفيد ، وعنها في بحار الأنوار ٣٢٠ : ٢٧٤ و٢٧٥.

(٢) الجمل للمفيد : ٤١٥ وبهامشه مصادر كثيرة ، وفي اليعقوبي ٢ : ١٨٣ : سبعين امرأة.


أنه عليه‌السلام بعث معها أخاها عبد الرحمن في ثلاثين رجلا وعشرين امرأة من ذوات الدين من عبد القيس وهمدان من أشراف البصرة ، وإنما ردّها امتثالا لأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله له به (١).

الربيع بن زياد وأخوه عاصم :

كان الربيع بن زياد الحارثي وأخوه عاصم ممّن نزل البصرة مع أبي موسى الأشعري ، فاستعمله الأشعري على البحرين ، وله ٤٥ عاما (٢) وكان بالبصرة والتحق بعليّ عليه‌السلام فأصابته نشّابة في جبينه ، فأتاه علي عليه‌السلام عائدا ، فقال له : كيف تجدك يا أبا عبد الرحمن؟ قال : يا أمير المؤمنين ؛ لو كان لا يذهب ما بي إلّا بذهاب بصري لتمنّيت ذهابه! قال : وما قيمة بصرك عندك؟ قال : لو كانت لي الدنيا لفديته بها! قال : لا جرم ، ليعطينّك الله على قدر ذلك ؛ إن الله تعالى يعطي على قدر الألم والمصيبة ، وعنده تضعيف كثير (٣)!

وكانت داره واسعة ، فلما رأى الإمام سعة داره قال له : ما تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا وأنت أحوج إليها في الآخرة؟ ثم قال : بلى إن شئت

__________________

(١) تذكرة الخواص : ٧٩ و٨٠ ونحوه في مروج الذهب ٢ : ٣٧٠ وكان أخوها عبد الرحمن مع علي عليه‌السلام كما في الإمامة والسياسة ١ : ٧٥.

(٢) شرح النهج للمعتزلي الشافعي ١ : ١٧٥ و ١٧٦ ، وقال في ١١ : ٣٥ : هذا ما رأيته بخطّ ابن الخشّاب ورويته عن الشيوخ ... وأما العلاء بن زياد الذي ذكره الرضي رحمه‌الله (نهج البلاغة خ ٢٠٩ وفي المعتزلي : ٢٠٢) فلا أعرفه! وطاب الربيع وعاش بعد علي عليه‌السلام عشر سنين ، فاستعمله زياد بن أبيه لفتوحات خراسان ، وبلغه قتل حجر الكندي فدعا وقال : اللهم إن كان للربيع عندك خير فاقبضه إليك! فلم يبرح حتى مات رحمه‌الله سنة (٥١ ه‍) كما في اسد الغابة.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ١١ : ٣٥.


بلغت بها الآخرة : تقري فيها الضيف ، وتصل فيها الرحم ، وتطلع منها الحقوق مطالعها ، فإذا بلغت بها الآخرة (١).

فلما ذكر الإمام صلة الأرحام ، تذكّر الربيع أخاه عاصما حيث تخلّى من الدنيا وترك الملاءة اللينة واكتفى بالعباء الخشن من الصوف (متصوّفا) وهي أول بادرة لها يومئذ ، فشكاه الربيع إلى الإمام عليه‌السلام ليرى هل يرضى به أم لا؟ فقال عليه‌السلام : ادع إلى عاصما ، فلما أتاه عبّس في وجهه (٢).

وقال له : يا عديّ نفسه! لقد استهام بك الخبيث! أما رحمت أهلك وولدك! أترى الله أحلّ لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها! أنت أهون على الله من ذلك!

فقال له : يا أمير المؤمنين ؛ هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك!

فقال : ويحك! إني لست كأنت ، إن الله تعالى فرض على أئمة الحق أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس كي لا يتبيّغ (يتهيّج) بالفقير فقره (٣) فألقى عاصم العباء ولبس الملاء (٤).

__________________

(١) نهج البلاغة خ ٢٠٩ ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٤٩٣ وأقدمها أصول الكافي ١ : ٤١٠ برواية أخرى.

(٢) أصول الكافي ١ : ٤١٠ وقال : بأسانيد مختلفة.

(٣) نهج البلاغة خ ٢٠٩ واخترناه لاختصاره.

(٤) أصول الكافي ١ : ٤١١ وهو أوفى من خبر النهج ، والملاء : جمع الملاءة : الثوب اللّين الرقيق ـ مجمع البحرين ١ : ٣٩٨. ويبقى القول : أن الثقفي الكوفي في الغارات ٢ : ٥٥٨ ذكر العلاء بن زياد في نواصب البصرة ، ولكنه العدوي المتوفى في ٩٤ ه‍. كما عن تقريب التهذيب في حاشية الغارات ، فلا علاقة له بهذا الخبر.


خبر مولد السجّاد ووفاة أمه :

وكأنّه كان من المقدّر أن لا تبقى لعثمان ولا لعامله السابق على البصرة عبد الله ابن عامر : يد عامرة عند آل علي عليهم‌السلام ، فيبدو أنه في أواخر أيامهم بالبصرة بلغهم خبر مولد عليّ بن الحسين عليهما‌السلام في منتصف شهر جمادى الأولى يوم الانتصار بالبصرة ، ووفاة أمه في نفاسها به ، كما مرّ خبره عن الصدوق عن الرضا عليه‌السلام (١) وأقدم قلم قدّم لنا هذا التاريخ قلم المفيد في «حدائق الرياض» (٢) ولا نجد خبرا عن وصول الخبر بذلك إلى البصرة.

نعم ، نجد أن أبا الأسود ظالم بن عمرو البصري كان قد سمع عن الطرماح بن ميادة البصري قوله مفتخرا :

أنا ابن أبي سلمى ، وجدّي ظالم

وأمي حصان ، أخلصتها الأعاجم

أليس غلام بين كسرى وظالم

بأكرم من نيطت عليه التمائم  )؟!

فلعلّه لما سمع أبو الأسود هناك بشارة ولادة السجاد عليه‌السلام غيّر الشعر الأخير يسيرا فقال :

وإنّ غلاما بين كسرى وهاشم

لأكرم من نيطت عليه التمائم  (٤)

ولهذا فهو بيت منفرد لا تمائم له.

__________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ : ١٢٨ ، الباب ٣٥ ، الحديث ٦ ومرّ خبره في عنوان : عثمان وبنات يزدجرد.

(٢) نقلا عنه في الإقبال ٣ : ١٥٦ واختاره المحدّث القمي في الأنوار البهية : ١٠٧. هذا وإن كان المفيد في مسارّ الشيعة : ٣١ ضمن المجموعة النفيسة : ٦٧ ، وفي الإرشاد ٢ : ١٣٧ جمع بين تاريخ الولادة سنة ثمان وثلاثين ، ومحل الولادة : المدينة ، وتبعه من بعده غافلين عن نقل رحلهم عليهم‌السلام بعد البصرة إلى الكوفة سنة (٣٦ ه‍) ولعل المفيد تنبّه لذلك فرجع عنه في حدائقه. ولعلّ مما يؤيده أننا لا نجد خبرا عن إجراء السنن عليه على يد جدّه أو أبيه مع تقدير إمامته وشأنه.

(٣) عن الأغاني ٢ : ٨٨ ، وخزانة الأدب ١ : ١٠٦.

(٤) نقله قبلا الكليني في أصول الكافي ١ : ٤٦٧.


واستخلف على البصرة ابن عباس :

ونقل عن الواقدي عن رجاله قال : ولما أراد أمير المؤمنين الخروج من البصرة ، استخلف عليها عبد الله بن العباس وقال له : يا ابن عباس! عليك بتقوى الله ، والعدل في من ولّيت عليه ، وأن تبسط للناس وجهك ، وتوسّع عليهم مجلسك ، وتسعهم بحملك. وإيّاك والغضب فإنه طيرة من الشيطان ، وإيّاك والهوى فإنه يصدّ عن سبيل الله. واعلم أنّ ما قرّبك من الله فهو مباعدك من النار ، وما باعدك من الله فهو مقرّبك من النار! واذكر الله كثيرا ولا تكن من الغافلين.

وروى عن أبي مخنف : أنه عليه‌السلام خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسوله ثم قال لهم : يا معشر الناس! قد استخلفت عليكم عبد الله بن العباس ، فاسمعوا له وأطيعوا أمره ما أطاع الله ورسوله ، فإن أحدث فيكم أو زاغ عن الحق فاعلموني أعزله عنكم ؛ فإني أرجو أن أجده عفيفا تقيّا ورعا ، وإني لم اولّه عليكم إلّا وأنا أظنّ ذلك به ، غفر الله لنا ولكم (١).

وجعل كاتبه زياد بن أبيه ، وعلى شرطته أبا الأسود الدؤلي ظالم بن عمرو الكناني (٢).

وحيث كانت خراسان في الفتوح تابعة للبصرة ، وكان جعدة بن هبيرة المخزومي ابن اخت أمير المؤمنين عليه‌السلام قد لحق به من الكوفة ، وجّه به علي عليه‌السلام إلى خراسان ، فقدم عليه مرزبان مرو : ماهويه وحمل معه إليه مالا من الخراج على وظيفته ، فأنفذ جعدة له شروطه وكتب له كتابا على وظيفته المتقدمة ،

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٤٢٠ ، ٤٢١ ، والوصية لابن عباس في نهج البلاغة ، ك ٧٦ ومصادره في المعجم المفهرس : ١٣٩٨.

(٢) كما في الدرّ النظيم في الأئمة اللهاميم للعاملي.


هذا بنقل اليعقوبي (١) ونقل الطبري عن المدائني عن ابن إسحاق : أن ماهويه أبراز ، قدم بعد الجمل على علي عليه‌السلام فكتب له إلى الأساورة والجندسالارين والدهاقين في مرو (٢).

وتوجّه عليه‌السلام إلى الكوفة :

ولما أراد التوجّه إلى الكوفة قام فيهم وفي يده صرّة فيها نفقته وعليه قميص ورداء فقال لهم فيما قال : يا أهل البصرة ما تنقمون عليّ؟ ثم أشار إلى قميصه وردائه فقال : والله إنهما لمن غزل أهلي ، ثم أشار بالصرّة في يده وقال لهم : ما تنقمون منّي يا أهل البصرة؟ والله ما هي إلّا من غلّتي بالمدينة ، فإن أنا خرجت من عندكم بأكثر مما ترون فأنا عند الله من الخائنين!

ثم ركب بغلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخرج ومعه الأحنف بن قيس التميمي (ومعه بنو تميم) وشيّعه الناس إلى خارج البصرة (٣).

وقدم الكوفة في رجب (٤) فكان دخوله إليها لاثنتي عشرة ليلة مضت منه (٥).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٨٣ ، ١٨٤ ولهذا فإن دار جعدة بالكوفة قد خليت منه ، وحيث كان أمير المؤمنين قاصدا الكوفة ، ففوّض جعدة داره إلى خاله علي عليه‌السلام فنزلها.

(٢) تاريخ الطبري ٤ : ٥٥٧.

(٣) الجمل للمفيد : ٤٢٢ عن أبي مخنف.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٨٤.

(٥) وقعة صفين : ٣ ، ومروج الذهب ٢ : ٣٧٢ أي ليلة مولده بالكعبة ، وكذلك في تذكرة الخواص : ٨٠ عن أهل السير ، وعليه فما أرسله السيد في الإقبال من خبر كميل بن زياد أنه عليه‌السلام علّمه بالبصرة دعاء الخضر ليلة النصف من شعبان ، كان قبل ذلك بأكثر من شهر.


وصلّى وخطب وأثنى وعتب :

وقدم علي عليه‌السلام إلى الكوفة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من رجب ، وقد أعزّ الله نصره وأظهره على عدوّه ، ومعه أشراف الناس وأهل البصرة ، واستقبله أهل الكوفة وفيهم قرّاؤهم وأشرافهم ، حتى نزل في رحبة المسجد الجامع ، وأقبل حتى دخل المسجد الأعظم فصلّى فيه ركعتين.

ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسوله وقال : «الحمد لله الذي نصر وليّه وخذل عدوّه ، وأعزّ الصادق المحق وأذلّ الناكث المبطل.

أما بعد ـ يا أهل الكوفة ـ فإنّ لكم في الإسلام فضلا ما لم تبدّلوا وتغيّروا ، بدأتم بالمنكر فغيّرتم ودعوتكم إلى الحق فأجبتم ، إلّا أن فضلكم فيما بينكم وبين الله [لا] في القسم والأحكام ، فأنتم اسوة من أجابكم ودخل فيما دخلتم فيه.

ألا وإن أخوف ما أخاف عليكم (اثنتان) : إتباع الهوى وطول الأمل ، فأما اتّباع الهوى فيصدّ عن الحق ، وأما طول الأمل فينسي الآخرة.

ألا وإن الدنيا قد ترحّلت مدبرة ، والآخرة قد ترحّلت مقبلة ، ولكل منها بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة (ولا تكونوا من أبناء الدنيا) فاليوم عمل ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل (١). وعليكم بتقوى الله وطاعة من أطاع الله من أهل بيت نبيّكم ، الذين هم أولى بطاعتكم ـ فيما أطاعوا الله فيه ـ من المنتحلين المدّعين القالين لنا ، يتفضّلون بفضلنا ، ويجاحدونا أمرنا ، وينازعونا حقّنا ويدافعونا عنه ، وقد ذاقوا وبال ما اجترحوا فسوف يلقون غيّا.

ألا إنه قد قعد عن نصرتي رجال منكم فأنا عليهم عاتب زار ، فاهجروهم وأسمعوهم ما يكرهون حتى يعتبوا (٢) ليعرف بذلك حزب الله عند الفرقة».

__________________

(١) إلى هنا في نهج البلاغة خ ٤٢ ، ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٣٨.

(٢) أعتب أي قطع ما يعتب عليه.


وكان أبو بردة بن عوف الأزدي عثمانيا قد تخلّف عن الجمل فقام إليه وقال له :

يا أمير المؤمنين! أرأيت القتلى حول عائشة والزبير وطلحة بم قتلوا؟!

فقال أمير المؤمنين : إنهم قاتلوني وفي أعناقهم بيعتي ودماء قريب من ألف رجل من شيعتي قالوا لهم : لا ننكث كما نكثتم ولا نغدر كما غدرتم ، فوثبوا عليهم فقتلوهم ، فسألتهم أن يدفعوا إليّ قتلة إخواني أقتلهم بهم ، ثم كتاب الله حكم بيني وبينهم ، فأبوا عليّ وقاتلوني ، فقتلتهم بهم ، أو أنت في شك من ذلك؟!

قال : قد كنت في شك ، فأمّا الآن فقد عرفت واستبان لي خطأ القوم ، وأنك أنت المهديّ المصيب (١).

وكان أمير المؤمنين قد جعل على شرطته في الكوفة مالك بن حبيب اليربوعي التميمي فقام إليه وقال له : والله إني لأرى الهجر وإسماع المكروه لهم قليلا ولئن أمرتنا لنقتلنّهم!

فقال علي عليه‌السلام : سبحان الله! يا مال جزت المدى وعدوت الحدّ وأغرقت في النزع!

فقال مالك : يا أمير المؤمنين لبعض الغشم (والظلم) أبلغ من مهادنة الأعادي.

فتلا علي عليه‌السلام : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ)(٢) والإسراف في القتل أن تقتل غير قاتلك ، فقد نهى الله عنه فما بال الغشم؟!

وقام رجال من المتخلّفين عنه ليكلّموه وتهيّأ هو لينزل فلما رأوا ذلك جلسوا وسكتوا ، ثم تحوّل فجلس ، وجلس الناس إليه ، فسألهم ، عن رجل من أصحابه

__________________

(١) ولكنّه بقي عثمانيا يكاتب معاوية.

(٢) الإسراء : ٣٣.


كان قد نزل الكوفة ، وكان قد مات ، فقال قائل : استأثر الله به! فتلا : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ)(١) وقال : إن الله لا يستأثر بأحد من خلقه.

فلما لحق ثقله (من المدينة) قالوا : يا أمير المؤمنين أتنزل القصر (دار الإمارة)؟

فقال : قصر الخبال! لا تنزلونيه. ثم نزل دار ابن اخته جعدة بن هبيرة المخزومي (٢).

وعاتب أشرافهم :

وعاد أبو بردة الأزديّ مع غريب بن شرحبيل الهمداني ، وحنظل بن الربيع التميمي وعبد الله بن المعتمّ العبسي وهما صحابيّان ، وقد تخلّفوا عن الجمل ، فدخلوا على علي عليه‌السلام فقال لهم : ما بطّأكم عنّي وأنتم أشراف قومكم؟! والله لئن كان من ضعف النيّة وتقصير البصيرة فإنكم لبور (هالكون) ولئن كان من شك في فضلي ومظاهرة عليّ فإنكم لعدوّ! فمنهم من اعتلّ بمرض ومنهم من ذكر غيبة. وكان مخنف بن سليم الأزدي عنده فنظر الإمام إليه وقال : لكن مخنف بن سليم وقومه لم يتخلّفوا ولم يكن مثلهم كمثل من قال الله تعالى فيهم : (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً* وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً)(٣).

ودخل عليه سعيد بن قيس الهمداني فسلّم عليه ، فأجابه : وعليك وإن كنت من المتربّصين!

__________________

(١) البقرة : ٢٨.

(٢) وقعة صفين : ٣ ـ ٦.

(٣) وقعة صفين : ٧ ، ٨ والآيتان : ٧٢ ، ٧٣ من سورة النساء.


فقال : حاش لله يا أمير المؤمنين لست من اولئك! قال : فعل الله ذلك (أي جعلك من غيرهم).

ودخل عليه الصحابي سليمان بن صرد الخزاعي فقال له الإمام : لقد كنت فيما أظن في نفسي من أوثق الناس وأسرعهم إلى نصرتي ، فما قعد بك عن أهل بيت نبيّك وما زهّدك في نصرهم؟!

فقال : يا أمير المؤمنين ؛ لا تردنّ الأمور على أعقابها ، ولا تؤنّبني بما منها مضى ، واستبق مودّتي تخلص لك نصيحتي ، وقد بقيت امور تعرف فيما وليّك من عدوّك! فسكت عنه.

فجلس سليمان قليلا ثم نهض فخرج إلى المسجد وفيه الحسن بن علي عليه‌السلام فجلس إليه وقال له : ألا اعجّبك من أمير المؤمنين وما لقيت منه من التوبيخ والتبكيت؟!

فقال له الحسن : إنما يعاتب من ترجى مودّته ونصيحته.

فقال سليمان : إنه قد بقيت امور سيستوسق فيها القنا ، وتنتضى فيها السيوف ، ويحتاج فيها إلى أشباهي! فلا تستغشّوا عتبي ولا تتّهموا نصيحتي.

فقال له الحسن : رحمك الله ، ما أنت عندنا بالظنين (١).

خطبته في أول جمعة بها :

ولما كانت الجمعة وحضرت الصلاة خطبهم فقال : «الحمد لله ، أحمده واستعينه واستهديه ، وأعوذ بالله من الضلالة ، من يهد الله فلا مضلّ له ، ومن يضلل فلا هادي له.

__________________

(١) وقعة صفين : ٦ ، ٧.


وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمدا عبده ورسوله ، انتجبه لأمره ، واختصّه بالنبوة ، أكرم خلقه وأحبّهم إليه. فبلّغ رسالة ربّه ونصح لامّته وأدّى الذي عليه.

اوصيكم بتقوى الله فإن تقوى الله خير ما تواصى به عباد الله وأقربه لرضوان الله ، وخيره في عواقب الأمور عند الله ، وبتقوى الله أمرتم وللإحسان والطاعة خلقتم ، فاحذروا من الله ما حذّركم من نفسه ، فإنّه حذّر بأسا شديدا ، واخشوا الله خشية ليست بتعذير (١) واعملوا في غير رياء ، ولا سمعة ، فإنّ من عمل لغير الله وكله الله إلى ما عمل له ، ومن عمل لله مخلصا تولّى الله أجره ، وأشفقوا من عذاب الله فإنه لم يخلقكم عبثا ولم يترك شيئا من أمركم سدى ، وقد سمّى آثاركم وعلم أعمالكم وكتب آجالكم ، فلا تغترّوا بالدنيا فإنها غرّارة بأهلها مغرور من اغترّ بها ، وإلى فناء ما هي ، (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(٢) أسأل الله منازل الشهداء ومرافقة الأنبياء ومعيشة السعداء ، فإنما نحن له وبه» (٣).

***

بهذا الخبر عن الإمام السجاد زين العابدين عن جده أمير المؤمنين عليهما‌السلام نختم الكلام في هذا المجلّد عن حياته عليه‌السلام ، لنبدأ في المجلد اللاحق من سوابق حرب صفين إلى نهاية عهده ، إن شاء الله الرحمن تعالى ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

٢٥ / ١٠ / ١٤٢٥ ه‍. ق

اليوسفي الغروي

قم المقدسة

__________________

(١) التعذير : التقصير مع إظهار الاجتهاد في العمل.

(٢) العنكبوت : ٦٤.

(٣) وقعة صفين : ٩ ، ١٠ بسنده عن الإمام السجاد عليه‌السلام.


فهرس الكتاب

حوادث السنة الحادية عشرة رحيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله واختلاف الأمة

بعض وصايا النبيّ للوصيّ.......................................................... ٩

أحداث عند الوفاة.............................................................. ١٢

سعد بن عبادة زعيم الخزرج...................................................... ١٤

أخبار سقيفة بني ساعدة......................................................... ١٧

عهد خلافة أبي بكر

في طريقهم إلى المسجد.......................................................... ٣١

والبيعة في المسجد............................................................... ٣٣

خطبة أبي ذر في المسجد......................................................... ٣٤

نجوى جمع من الصحابة ليلا..................................................... ٣٥

وفي ضحى يوم الثلاثاء.......................................................... ٣٦

ثم أقبلوا على رسول الله.......................................................... ٣٨

زوبعة أبي سفيان................................................................ ٤٠

وبقي العبّاس عمّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله................................................... ٤٤

ولزم عليّ بيته لجمع القرآن....................................................... ٤٦

خطبته عليه‌السلام بعد جمعه القرآن.................................................... ٤٨

ما ذا كانت فدك؟.............................................................. ٥٢

وصادرها الخليفة................................................................ ٥٤

سرّ المصادرة................................................................... ٥٦

ثم طالبت بالميراث.............................................................. ٦١

طرق خطبتها................................................................... ٦٢

الخطبة الأولى................................................................... ٦٨

جواب أبي بكر لها.............................................................. ٧٤


ردها على أبي بكر.............................................................. ٧٤

جواب أبي بكر................................................................. ٧٥

ردّها عليه..................................................................... ٧٥

مع الأنصار.................................................................... ٧٥

تعريض أبي بكر بعلي عليه‌السلام...................................................... ٧٨

جواب أم سلمة له.............................................................. ٧٩

الزهراء مع أمير المؤمنين عليه‌السلام..................................................... ٨٠

موقف الأنصار................................................................. ٨١

وموقف المهاجرين منهم.......................................................... ٨٣

جواب الأنصار................................................................. ٨٥

عصيان عمرو بن العاص........................................................ ٨٦

وجواب الأنصار................................................................ ٨٧

وموقف خالد بن سعيد الأموي................................................... ٨٨

وجواب العاصي................................................................ ٨٨

وجواب علي عليه‌السلام.............................................................. ٨٩

وشكر الأنصار لعلي عليه‌السلام....................................................... ٨٩

وموقف الوليد بن عقبة.......................................................... ٩١

فما حال أهل مكة؟............................................................ ٩٣

وأما سائر الردّات............................................................... ٩٣

بعث أسامة ثانية............................................................... ٩٦

وانتهى إلى أبنى................................................................. ٩٨

بريدة وبيعة أبي بكر........................................................... ١٠٠

بداية مطالبة البيعة من علي عليه‌السلام............................................... ١٠٢

فطاف بالزهراء عليهم ليلا...................................................... ١٠٢

معاذ بن جبل................................................................. ١٠٥

بيعة الأربعين رجلا............................................................ ١٠٧

وعادوا على طلب البيعة منه.................................................... ١٠٨

فالممتنعون من البيعة........................................................... ١١٠

اقتحام دار علي عليه‌السلام......................................................... ١١١


والأعوان؟ والحوادث؟.......................................................... ١١٥

مطالبة البيعة منه عليه‌السلام......................................................... ١١٦

بيعة بلال.................................................................... ١٢٩

بدايات الارتداد واشتدادها..................................................... ١٣١

وأول البأس مع عبس.......................................................... ١٣٢

عودة عمّال الصدقات......................................................... ١٣٣

بعث خالد لابن خويلد........................................................ ١٣٤

المعرّة والدّبرة.................................................................. ١٣٦

وسائر القبائل................................................................ ١٣٧

سبي خولة الحنفية............................................................. ١٣٧

أسر قرة العامري وعيينة الفزاري................................................. ١٣٨

بدء علّة فاطمة عليها‌السلام.................................................... ١٤١

ولما اشتدّ علتها............................................................... ١٤٢

فعادها الشيخان.............................................................. ١٤٥

وجاءها العبّاس عائدا.......................................................... ١٤٨

وصايا الزهراء عليها‌السلام...................................................... ١٤٩

ساعة الوفاة.................................................................. ١٥١

غسل الزهراء عليها‌السلام...................................................... ١٥٣

تاريخ الوفاة.................................................................. ١٥٨

وأين دفنت؟................................................................. ١٦١

تأبين أمير المؤمنين للزهراء عليها‌السلام........................................... ١٦٥

عواقب دفن الليل (٢)........................................................ ١٦٦

مؤامرة قتله عليه‌السلام.............................................................. ١٧٠

زواجه عليه‌السلام بأمامة............................................................ ١٧٢

تنبؤ سجاح اليربوعية.......................................................... ١٧٣

لقاء سجاح بمسيلمة........................................................... ١٧٥

وأما مالك بن نويرة............................................................ ١٧٧

رأس مالك وجسده............................................................ ١٨١


موقف أبي قتادة وأبي بكر وعمر................................................ ١٨٢

ردة بني سليم................................................................. ١٨٤

حرق أبي بكر للفجاءة......................................................... ١٨٥

أهم حوادث السنة الثانية عشرة

توجيه خالد إلى مسيلمة........................................................ ١٨٩

مصير سريّة مجاعة ، وخولة..................................................... ١٩٠

مقاتلة مسيلمة................................................................ ١٩٢

مصير مسيلمة واليمامة........................................................ ١٩٤

وسائر الحصون............................................................... ١٩٥

من هم حملة القرآن؟........................................................... ١٩٧

وعمّت الفتنة عمان........................................................... ١٩٩

وأمر مهرة.................................................................... ٢٠١

وأمر اليمن................................................................... ٢٠١

وأما عكرمة.................................................................. ٢٠٦

ردّة كندة وحضرموت.......................................................... ٢٠٦

أهم حوادث

السنة الثالثة عشرة

بداية أخبار العراق............................................................ ٢١٥

غزو الشام................................................................... ٢١٧

خبر عين التمر............................................................... ٢١٨

أبو بكر وسهم ذوي القربى..................................................... ٢٢٠

أبو بكر وسهم المؤلّفة قلوبهم.................................................... ٢٢٠

وفي حدّ السرقة المكررة......................................................... ٢٢٢

ومن أحاديث المواريث......................................................... ٢٢٣

وفي كتابة ورواية الحديث....................................................... ٢٢٤

وفاة أبي بكر وعهده إلى عمر................................................... ٢٢٥


خلافة عمر وعصره

ولاية عمر ولسانه وعصاه...................................................... ٢٣١

عمر والعراق والشام........................................................... ٢٣٢

يوم الجسر................................................................... ٢٣٤

يوم البويب................................................................... ٢٣٦

عمر ، والشام................................................................ ٢٣٧

أطراف البصرة وتأسيسها...................................................... ٢٣٨

فتح دمشق................................................................... ٢٣٩

يوم اليرموك.................................................................. ٢٤٠

نفاق أبي سفيان وأصحابه...................................................... ٢٤١

يوم القادسية................................................................. ٢٤٢

مخامرة أبي محجن ومغامرته...................................................... ٢٤٨

فتح بهر سير به اردشير........................................................ ٢٥٢

فتح سائر الشام وخروج الروم................................................... ٢٥٣

فتح القدس صلحا............................................................ ٢٥٤

الغساسنة وعمر.............................................................. ٢٥٥

الأشعري للبصرة والأهواز...................................................... ٢٥٦

جولة الفرس في جلولاء......................................................... ٢٥٨

تمصير الكوفة................................................................. ٢٥٩

حكم سواد العراق............................................................. ٢٥٩

ومدن الجزيرة................................................................. ٢٦١

فتح مصر.................................................................... ٢٦١

فتوح افريقية.................................................................. ٢٦٤

آخر أمر الروم في الشام........................................................ ٢٦٥

وفتح نهاوند.................................................................. ٢٦٥

المغيرة رسولا إليهم............................................................. ٢٦٨

شئون عمر غير العسكرية...................................................... ٢٧١

تشريع صلاة التراويح.......................................................... ٢٧١


وإشفاقا على الإسلام.......................................................... ٢٧٢

شئون عمر في الحج........................................................... ٢٧٢

تحريم نكاح المتعة.............................................................. ٢٧٦

عمر ، والمغيرة الثقفي.......................................................... ٢٧٧

بداية كتابة التاريخ الهجري...................................................... ٢٧٨

عمرة عمر الرجبية............................................................. ٢٧٩

طاعون عمواس وعام الرمادة.................................................... ٢٨٢

وتلقّب بأمير المؤمنين.......................................................... ٢٨٣

وأجرى الحدّ مرتين............................................................. ٢٨٤

تدوين الدواوين عام (٢٠)..................................................... ٢٨٥

حوادث عام (٢١)............................................................ ٢٨٧

عمر ، وجزية المجوس........................................................... ٢٨٨

عمر وحدّ التكليف........................................................... ٢٨٩

عمر ، وأسماء الأنبياء.......................................................... ٢٨٩

عمر وصوم رجب............................................................. ٢٩٠

عمر وكتابة السنن............................................................. ٢٩٠

عمر والسؤال عن التفسير...................................................... ٢٩٢

عمر والأذان والإقامة.......................................................... ٢٩٢

عمر والمسح على الخفّين....................................................... ٢٩٤

عمر يفكر في مصير الأمر..................................................... ٢٩٥

ويحذّر من مصير الأمر......................................................... ٢٩٧

عمر وغلام المغيرة الثقفي....................................................... ٢٩٩

وصيّة عمر السياسية.......................................................... ٣٠١

تنفيذ الوصية السياسية......................................................... ٣٠٣

عهد خلافة عثمان

البيعة والخطبة وموقف المقداد................................................... ٣١٥

مناشدته عليه‌السلام في الشورى...................................................... ٣١٦

طغيان أبي سفيان ببيعة عثمان.................................................. ٣٢١


عثمان وعبيد الله بن عمر...................................................... ٣٢٢

وقرّب عمه الحكم الطريد....................................................... ٣٢٥

عثمان وفتوح البلدان.......................................................... ٣٢٧

شئون عثمان غير العسكرية.................................................... ٣٣٥

عزل المغيرة وتوليته سعدا....................................................... ٣٣٥

نهيه عن التمتع بالعمرة في الحج................................................. ٣٣٦

وعمّه الحكم وأخوه الوليد...................................................... ٣٣٧

منادمته الطائي النصراني........................................................ ٣٣٩

الوليد والساحر النصراني....................................................... ٣٣٩

الوليد وابن مسعود............................................................ ٣٤٠

وبدا اختلاف القراءات........................................................ ٣٤١

وهبات وعطايا................................................................ ٣٤٣

عثمان يطعم الصيد محرما...................................................... ٣٤٤

وتزوّج وبنى قصره............................................................. ٣٤٥

عثمان وابن مسعود........................................................... ٣٤٦

فسق الوليد في الكوفة......................................................... ٣٤٩

عثمان والقصر في السفر....................................................... ٣٥٢

عثمان وعبد الرحمن ووليمة الزوراء............................................... ٣٥٤

عثمان وخطبة العيدين......................................................... ٣٥٦

عثمان وزيادة الأذان........................................................... ٣٥٦

عثمان وبنات يزدجرد.......................................................... ٣٥٧

خطبة أبي ذر في مكة.......................................................... ٣٥٨

وخطبته في المدينة............................................................. ٣٥٨

أبو ذر وعثمان............................................................... ٣٦٠

أبو ذر إلى الشام وخطبته فيها.................................................. ٣٦٢

أبو ذر في طريقه ، وخطبته..................................................... ٣٦٥

حمل أبي ذر إلى عثمان........................................................ ٣٦٦

تسيير أبي ذر إلى الربذة........................................................ ٣٧١


عثمان وعلي عليه‌السلام............................................................ ٣٧٥

أبو ذر وعثمان وعلي عليه‌السلام.................................................... ٣٧٦

عثمان يشكو عليا عليه‌السلام....................................................... ٣٧٧

وأبو ذر في الربذة............................................................. ٣٧٨

عثمان وبيت المال............................................................. ٣٨١

عثمان وعمّار وناعي أبي ذر.................................................... ٣٨٣

وتوفّي ابن عوف.............................................................. ٣٨٤

وفاة ابن مسعود والمقداد....................................................... ٣٨٥

وثبة الصحابة في المدينة........................................................ ٣٨٧

واجتمع الناس إلى علي عليه‌السلام................................................... ٣٩٠

خطبة عثمان جوابا............................................................ ٣٩٢

سراية النقمة إلى العراق........................................................ ٣٩٣

إنما السواد بستان لقريش!...................................................... ٣٩٤

ونفاهم إلى الشام............................................................. ٣٩٥

عودة المبعدين وتمرّدهم......................................................... ٣٩٧

وفد الأشتر في المدينة.......................................................... ٣٩٨

وتفاقم الأمر على عثمان....................................................... ٤٠١

أعضاء الشورى عند عثمان.................................................... ٤٠٣

مبادي ثورة مصر.............................................................. ٤٠٥

توسّل عثمان بعلي عليه‌السلام....................................................... ٤٠٨

توسّط سعد عند عمار........................................................ ٤٠٩

علي عليه‌السلام والمصريّون.......................................................... ٤٠٩

مسير المصريّين وعودتهم........................................................ ٤١٢

ومن أخبار الحوار............................................................. ٤١٤

وحجّت عائشة............................................................... ٤١٥

عثمان في حصار الثوّار........................................................ ٤١٦

بعثه لابن عباس بالحج......................................................... ٤١٨

واستمدّ من معاوية............................................................ ٤٢٠


ومآل الحصار................................................................. ٤٢١

قتال الدار ومقتل عثمان....................................................... ٤٢٢

جيش الشام وقميص عثمان.................................................... ٤٢٤

زمان مقتل عثمان............................................................. ٤٢٥

وجثمان عثمان............................................................... ٤٢٦

عهد الإمام عليّ عليه‌السلام

علي عليه‌السلام حين قتل عثمان ، والبيعة............................................ ٤٢٩

الإذن بدفن عثمان............................................................ ٤٣١

البيعة العامة.................................................................. ٤٣١

خطب الأنصار............................................................... ٤٣٥

تخلّفوا عن البيعة أو القتال؟..................................................... ٤٣٦

أخبار خطبه عليه‌السلام بعد البيعة................................................... ٤٤٠

وخطبة أخرى (٢)............................................................ ٤٤٣

وخطبة أخرى (٣)............................................................ ٤٤٤

وخطبة اخرى (٤)............................................................ ٤٤٥

والولاة الجدد................................................................. ٤٤٥

ومآل بيت المال............................................................... ٤٤٩

وتقسيم المال................................................................. ٤٥٢

مصر ، والأمير السابق واللاحق................................................. ٤٥٤

وأبقى حذيفة على المدائن...................................................... ٤٥٧

نعي عثمان عند معاوية........................................................ ٤٦٠

بدايات حرب الجمل

إثارة عمرو ، ومروان لمعاوية..................................................... ٤٦٥

معاوية وسعيد بن العاص....................................................... ٤٦٧

معاوية والوليد بن عقبة........................................................ ٤٦٨

معاوية وابن كريز.............................................................. ٤٦٩

معاوية ويعلى بن أميّة التميمي.................................................. ٤٧٠

إثارة معاوية لطلحة والزبير...................................................... ٤٧١


جواب معاوية لعلي عليه‌السلام....................................................... ٤٧٢

موقف عائشة................................................................ ٤٧٣

موقف طلحة والزبير........................................................... ٤٧٦

موقفهما عند الإسكافي والطوسي............................................... ٤٧٩

خطبته عليه‌السلام في العطية بالسوية................................................. ٤٨٢

محاجّتهما معه عليه‌السلام........................................................... ٤٨٤

كتابه عليه‌السلام إلى ابن حنيف..................................................... ٤٨٧

إثارة الزبير لعائشة............................................................. ٤٨٩

وتجهيز العسكر............................................................... ٤٩١

ويتشاورون إلى أين يخرجون؟.................................................... ٤٩٢

طمعهما في أمّ سلمة.......................................................... ٤٩٤

ثم أرسلا إليها عائشة.......................................................... ٤٩٤

عائشة وأمّ سلمة وآخر كلمة................................................... ٤٩٩

كلمة أمّ سلمة لجمع من الرجال................................................ ٤٩٩

وكتبت إلى علي عليه‌السلام......................................................... ٥٠٠

مشاورة الإمام لأصحابه........................................................ ٥٠٠

عمّار ، وبعض المتخلّفين....................................................... ٥٠٢

طلحة والزبير وابن عمر........................................................ ٥٠٣

كتبهما إلى أشياخ البصرة...................................................... ٥٠٥

خطبته عليه‌السلام حينما بلغه خبرهم................................................. ٥٠٦

وخطبة اخرى في هذا المعنى..................................................... ٥٠٧

ومن خطبة اخرى له عليه‌السلام...................................................... ٥٠٩

وكتب الأشتر إلى عائشة....................................................... ٥١٠

هودج عائشة وجملها........................................................... ٥١١

خطبته عليه‌السلام عند الخروج....................................................... ٥١٢

الطائي يحشر عشيرته.......................................................... ٥١٣

والأسدي وبنو أسد........................................................... ٥١٣

وخطبته لما بلغه خبرهما......................................................... ٥١٦


تخلّف المغيرة الثقفي........................................................... ٥١٧

وبلغوا إلى الحوأب............................................................. ٥١٩

وبلغوا حفر أبي موسى......................................................... ٥٢١

وخرج الإمام إلى الربذة......................................................... ٥٢٣

ومن أخبار الربذة............................................................. ٥٢٤

وكتابه منها إلى أهل الكوفة..................................................... ٥٢٦

خبر هاشم المرقال الزهري....................................................... ٥٢٨

وهنا جيء بطيّئ.............................................................. ٥٣٠

ابن عباس وابن أبي بكر إلى الكوفة.............................................. ٥٣١

رسل ابن حنيف إليهم......................................................... ٥٣٢

خطبة ابن حنيف............................................................. ٥٣٤

وبلغوا المربد وخطبوا الناس...................................................... ٥٣٥

المقابلة الأولى................................................................. ٥٣٧

والمقاتلة الأولى................................................................ ٥٣٩

نصّ المصالحة................................................................. ٥٤٠

ونكث الناكثون عهدهم....................................................... ٥٤١

وثار له ابن جبلة في يوم الجمل الأصغر........................................... ٥٤٣

أبو الأسود وبيت مال البصرة................................................... ٥٤٦

منازل الثعلبية والإساد وذي قار................................................. ٥٤٧

وكتبوا بأخبارهم إلى الأطراف.................................................... ٥٤٩

خطبة طلحة بعد الوقعة........................................................ ٥٥٢

ومن أخبار ذي قار........................................................... ٥٥٥

الحسن عليه‌السلام في الكوفة........................................................ ٥٥٦

خطاب الأشعري وشعوره....................................................... ٥٦٠

ثم خطب الأشتر.............................................................. ٥٦٣

وخطب عمّار أيضا........................................................... ٥٦٤

وخطب حجر الكندي......................................................... ٥٦٤

خطبتان اخريان لعمّار......................................................... ٥٦٦


أعداد الأمداد من الكوفة...................................................... ٥٦٧

خبر كليب الجرمي............................................................. ٥٧٠

وصول الكوفيّين وخطبته لهم.................................................... ٥٧٢

وخطبته لهم عند رحيلهم........................................................ ٥٧٣

خبر الأحنف التميمي......................................................... ٥٧٥

وكعب بن سور الأزدي القاضي................................................. ٥٧٧

وكتابه عليه‌السلام إليهم............................................................. ٥٧٨

مواكب علي عليه‌السلام في زاوية البصرة.............................................. ٥٧٩

ابن عباس يحتجّ عليهم......................................................... ٥٨١

رسالته عليه‌السلام إلى عائشة........................................................ ٥٨٤

حرب الجمل

تعبئة ومكاتبة بعد التعبئة....................................................... ٥٨٩

علي عليه‌السلام يحتجّ على طلحة.................................................... ٥٩٠

إمهال ومقال قبل القتال....................................................... ٥٩٢

الإعذار قبل الإعصار......................................................... ٥٩٣

وكرّر الإعذار بكلام الجبّار..................................................... ٥٩٥

والراية لابن الحنفية............................................................ ٥٩٦

وآب الزبير وما تاب........................................................... ٥٩٨

واستعدّ الإمام للإقدام......................................................... ٦٠٠

وهكذا بدأ القتال............................................................. ٦٠٢

وبدأت المبارزات.............................................................. ٦٠٤

اليوم الثاني من أيام الجمل...................................................... ٦٠٥

وتواقفوا في اليوم الثالث........................................................ ٦٠٧

الجمل في يوم الجمل........................................................... ٦٠٩

نهاية حرب الجمل

ومصير ابن الزبير.............................................................. ٦١٧

ومصير ابني عثمان............................................................ ٦١٨

ومصير الزبير................................................................. ٦١٨

دفن الشهداء ، والقتلى الأعداء................................................. ٦٢١


كتابه إلى أهل المدينة.......................................................... ٦٢٤

وكتابه إلى أهل الكوفة......................................................... ٦٢٦

حكم غنائم البغاة............................................................. ٦٢٧

خطبته بالبصرة بعد فتحها...................................................... ٦٢٩

الامام عليه‌السلام وبيت مال البصرة.................................................. ٦٣٠

خطبته عليه‌السلام بعد القسمة...................................................... ٦٣٢

حوار وتحليل سياسي........................................................... ٦٣٣

مروان وفتية من قريش.......................................................... ٦٣٣

وصلاة الجمعة بعد الفتح....................................................... ٦٣٧

وخطب هو مرة أخرى......................................................... ٦٣٨

وخطبة أخرى في الفتنة......................................................... ٦٣٩

علي عليه‌السلام والغلوّ فيه.......................................................... ٦٤٢

وأملى لهم أساس النحو........................................................ ٦٤٣

ورسالة اخرى إلى الكوفة....................................................... ٦٤٤

أمره عليه‌السلام عائشة بالرجوع...................................................... ٦٤٦

إرسالها إلى دارها.............................................................. ٦٤٩

الربيع بن زياد وأخوه عاصم..................................................... ٦٥٠

خبر مولد السجّاد ووفاة أمه.................................................... ٦٥٢

واستخلف على البصرة ابن عباس............................................... ٦٥٣

وتوجّه عليه‌السلام إلى الكوفة........................................................ ٦٥٤

وصلّى وخطب وأثنى وعتب.................................................... ٦٥٥

وعاتب أشرافهم.............................................................. ٦٥٧

خطبته في أول جمعة بها........................................................ ٦٥٨

موسوعة التاريخ الاسلامي - ٤

المؤلف:
الصفحات: 672