أهم حوادث

السنة السابعة للهجرة



أمر خيبر (١) :

مرّ في أخبار أواخر شهر رمضان سنة ست أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله بلغه أن أمير خيبر الجديد اسير بن رزام يجمع الجموع من غطفان لحربه ، فأرسل إليه سريّة في شوال فقتلوه وأصحابه خارج خيبر. وعلقت عليه أنه يصلح أن يكون الباعث لحرب خيبر ، بالإضافة الى مشاركتهم من قبل في حرب الأحزاب.

كتبه إلى يهود خيبر :

وفي الفتح المعنوي والسياسي في صلح الحديبية نزلت «سورة الفتح» كما مرّ خبره ، وهي ببسملتها ثلاثون آية ، اختتمت بالتأكيد على رسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومثل الذين معه في التوراة والانجيل ، فكأن ذلك اقتضى ـ لدى النبيّ ـ أن يحتجّ بها على مركز يهود الحجاز في خيبر ، فكتب إليهم :

__________________

(١) خيبر : نحو الشام على بعد مائة وعشرين كم ، كما في جزيرة العرب في القرن العشرين : ٢٤.


«بسم الله الرحمنِ الرحيم. من محمد رسول الله صاحب موسى وأخيه المصدّق لما جاء به. ألا إن الله قال لكم ـ يا معشر أهل التوراة ـ وانكم لتجدون ذلك في كتابكم : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)(١).

واني انشدكم بالله وبما أنزل عليكم ، وانشدكم بالذي أطعم من كان قبلكم من أسباطكم المنّ والسلوى ، وانشدكم بالذي أيبس البحر لآبائكم حتى انجاكم من فرعون وعمله إلّا أخبرتموني : هل تجدون فيما أنزل الله عليكم أن تؤمنوا بمحمد؟!

فان كنتم لا تجدون ذلك في كتابكم فلا كره عليكم (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) فأدعوكم الى الله ونبيّه» (٢) وبقي الكتاب بلا جواب.

ورواية اخرى رواها البيهقي عن ابن عباس ، ولعلها رسالة دعوة ثانية بعد الاولى :

«بسم الله الرحمنِ الرحيم. من محمد رسول الله أخي موسى وصاحبه ، بعثه الله بما بعثه به. اني انشدكم بالله وما أنزل على موسى يوم طور سيناء ، وفلق البحر لكم فانجاكم وأهلك عدوكم ، وأطعمكم المنّ والسلوى ، وظلّل عليكم الغمام هل تجدون في كتابكم : أني رسول الله إليكم والى الناس كافة؟! فان كان ذلك كذلك فاتقوا الله وأسلموا.

__________________

(١) الفتح : ٢٩.

(٢) مكاتيب الرسول ١ : ١٧٤ عن كنز العمال ٥ : ٣٨٥.


وان لم يكن عندكم فلا تباعة عليكم» (١) وبلا جواب كذلك!

ولذلك وللمرة الثالثة اتماما للحجة أنذرهم فأعذر بأنّه بحول الله وقوته سيورثه الله أرضهم لتكون لمن يشاء من عباده : «من محمد بن عبد الله ، الاميّ ، رسول الله إلى يهود خيبر :

أمّا بعد ، فإن الارض لله يورثها من يشاء من عباده ، والعاقبة للمتقين ، ولا حول ولا قوة الّا بالله العلي العظيم».

ورد هذا في كتاب «الاختصاص» المنسوب الى الشيخ المفيد (٢) ، مرفوعا الى ابن عباس : أن جبرئيل أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يكتب الى أهل الكتاب ـ يعني اليهود والنصارى ـ كتابا ، وأملى جبرئيل عليه‌السلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كتابه ، وكاتبه يومئذ سعد بن ابي وقاص ، فكتب الى يهود خيبر بهذا الكتاب ... ووجّهه إليهم.

فلما وصل الكتاب إليهم أتوا به رئيسا لهم يقال له عبد الله بن سلام (٣).

التهيؤ للغزو :

وكأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد هذه الدعوات المكرّرة ثلاثا اتماما للحجة وإعذارا وانذارا ، وبعد أن أقام ـ كما قال الواقدي ـ لذلك بقية ذي الحجة والمحرم من سنة سبع ، أمر أصحابه بالتهيؤ للغزو ، فهم مجدّون لذلك (٤).

__________________

(١) مكاتيب الرسول ١ : ١٧٢ عن السنن الكبرى ١٠ : ١٨٠.

(٢) للتحقيق في ذلك انظر مقالات السيد محمد جواد الشبيري الزنجاني في المجلة الفارسية «نور علم» العدد ٤٠ و ٤٢.

(٣) قيل : ان اسمه كان الحصين ، وأسلم في السنة الثانية فسماه رسول الله عبد الله. وعليه فلا يصحّ هذا الخبر بطوله راجع الاختصاص : ٤٢ ـ ٥١.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٦٣٤.


وكان أبو عبس بن جبر من فقراء أصحابه فقال له : ما عندنا نفقة ولا زاد ولا ثوب نخرج فيه. فأعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثوبا سابغا طويلا ، باعه بثمانية دراهم وابتاع بنصف ثمنه بردة ، ودرهمين تمرا ، وترك درهمين نفقة لاهله.

فرآه رسول الله ليس عليه ثوبه فسأله : أين الشقة التي كسوتك؟ فقال : بعتها بثمانية دراهم ، واشتريت بردة بأربعة دراهم ، وتزودت تمرا بدرهمين ، وتركت درهمين نفقة لأهلي. فضحك رسول الله ثم قال : يا أبا عبس ، والذي نفسي بيده لئن سلمت وأصحابك من الفقراء وعشتم قليلا ، ليكثرنّ زادكم وما تتركون لأهليكم ، وليكثرن دراهمكم وعبيدكم ، وما ذاك بخير لكم! (١)

وقد كان جماعة منهم تخلّفوا عنه في الحديبية وأرجفوا به وبالمسلمين ... وجاءوا اليوم يريدون أن يخرجوا معه رجاء الغنيمة ، فقالوا له : إن خيبر ريف الحجاز طعاما ولحما وأموالا ، فنخرج معك إليها؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تخرجوا معي الّا راغبين في الجهاد ، وأما الغنيمة فلا.

ثم بعث مناديا ينادي : لا يخرجن معنا الا راغب في الجهاد ، وأما الغنيمة فلا.

موقف يهود المدينة :

قال : وحين تجهّز النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الى خيبر أصبح يهود المدينة يقولون للمسلمين : ما أمنع والله خيبر منكم! لو رأيتم خيبر وحصونها ورجالها لرجعتم قبل أن تصلوا إليهم ، هم في حصون شامخات في ذرى الجبال ، والماء فيها واتن (لا ينقطع) وان فيها لألف دارع ، وما كانت أسد وغطفان يمتنعون من العرب قاطبة الا بهم ، أفأنتم تطيقون خيبر؟! فيقول لهم الأصحاب : ان الله قد وعد نبيّه أن يغنّمه ايّاها (٢).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٣٥ ، ٦٣٦.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٦٣٧.


وأصبح اليهود الذين لهم حقّ على بعض المسلمين يلزمونهم باداء حقوقهم. وكان من ذلك : أن عبد الله الأسلمي كان قد أخذ لأهله شعيرا من أبي الشحم اليهودي بخمسة دراهم ، فلزمه بها ، فقال له الأسلمي : إنّ الله عزوجل قد وعد نبيّه ان يغنمه خيبر ، فأجّلني فإني ارجو أن ارجع إليك فأقضيك حقك ان شاء الله. فقال له ابو الشحم : أتحسب أنّ قتال خيبر مثل ما تلقونه من الاعراب؟! إنّ فيها عشرة آلاف مقاتل ، والتوراة! فقال الأسلمي : أي عدو الله تخوّفنا بعدوّنا وأنت في ذمّتنا وجوارنا؟! والله لأرفعنّك الى رسول الله! فترافعا إليه. فقال الأسلمي : يا رسول الله ، ألا تسمع الى ما يقول هذا اليهودي؟ وأخبره خبره. فقال اليهودي : يا ابا القاسم ، ان هذا قد أخذ طعامي وحبسني حقي وظلمني.

فقال رسول الله : يا عبد الله ، اعطه حقه. فباع عبد الله ثوبه وأعطاه حقه (١).

خروج النسوة إلى خيبر :

روى الواقدي بسنده عن اميّة بنت قيس الغفارية قالت : جئت رسول الله في نسوة من بني غفار فقلنا : يا رسول الله ، انا نريد أن نخرج معك في وجهك هذا فنداوي الجرحى ، ونعين المسلمين بما استطعنا؟

فقال رسول الله : على بركة الله ... واردفني رسول الله على حقيبة رحله (٢).

وخرج مع رسول الله من المدينة عشرون امرأة : مولاته أم أيمن ، ومولاته الاخرى سلمى امرأة مولاه ابي رافع القبطي ، وزوجته أمّ سلمة ، وعمته صفية بنت

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٣٤ ، ٦٣٥.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٦٨٥ ورواه ابن اسحاق في السيرة ٣ : ٣٥٧ بنفس السند قال : عن امرأة من بني غفار قد سمّاها لي قالت ...


عبد المطلب (مع ابنها الزبير بن العوّام) وامرأة عاصم بن عدي مع زوجها عاصم وكانت حاملا مقربا ، وأمّ عمارة نسيبة بنت كعب الخزرجية ، وأم عامر الاشهلية ، وأمّ عطية الأنصارية ، وأم العلاء الأنصارية ، وأم الضحاك بنت مسعود الحارثية ، وأمّ سليم بنت ملحان (١) ، وأم سليط ، وأم شباث وهي أم منيع ، وهند بنت عمرو بن حزام (٢) وامرأة عبد الله بن انس وهي حبلى مقرب مع زوجها (٣) ، وأم مطاع الأسلمية ، وكعيبة بنت سعد الأسلمية (٤).

وروى بسنده عن أمّ سنان الاسلمية قالت : لما أراد رسول الله الخروج جئته فقلت : يا رسول الله اخرج معك في وجهك هذا أخرز السقاء واداوي المرضى وانظر الرحل؟ فقال : اخرجي على بركة الله ، فانّ لك صواحب قد كلّمنني واذنت لهن ، من قومك ومن غيرهم ، فان شئت فمع قومك وان شئت فمعنا؟ قلت : فمعك. قال : فكوني مع أمّ سلمة زوجتي. فكنت معها (٥).

المسير نحو خيبر :

قال : واستخلف رسول الله على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري (٦) وخرج

__________________

(١) وهي أم أنس بن مالك. ابن هشام ٣ : ٣٥٤.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٦٨٥.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٦٨٦.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٦٨٥.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٦٨٦ ، ٦٨٧.

(٦) مغازي الواقدي ٢ : ٦٣٦ و ٦٣٧ و ٦٨٤ وفي سيرة ابن هشام ٣ : ٣٤٢ : نميلة بن عبد الله الليثي.


الى خيبر في صفر سنة سبع ، ويقال : لهلال ربيع الاول (١). فسلك ثنية الوداع (٢) ثم اخذ على الزّغابة ، ثم على نقمى ، ثم سلك المستناخ ... ثم خرج على عصر (جبل) وبه مسجد (٣) ، وانتهى الى الصهباء فصلى بها العصر. ثم دعا بالاطعمة فاتي بالتمر والسويق فأكلوا. ثم قام الى المغرب من دون ان يجدد وضوءه (٤) ثم صلى العشاء.

وكان قد خرج معهم دليلان من أشجع (٥) : حسيل بن خارجة وعبد الله بن نعيم ، فدعا النبيّ بهم فقال لحسيل : امض أمامنا حتى تأخذنا في صدور الوديان حتى نأتي خيبر من بينها وبين الشام فأحول بينهم وبين الشام وبين حلفائهم من غطفان. فقال حسيل : نعم ، أنا أسلك بك الى ذلك. فسلك به حتى انتهى الى موضع مفترق طرق فقال : يا رسول الله هنا طرق كلّها يؤتى منها. فقال النبيّ : سمّها لي. فسمّى : الحزن والحاطب والشاش ، وقال النبيّ : لا تسلكها ، فقال : لم يبق لها إلّا

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٣٤ بينما قال ابن اسحاق : خرج في بقية المحرم ٣ : ٣٤٢. وقال الطبرسي في مجمع البيان ٩ : ١٨١ : لما قدم النبي المدينة من الحديبية مكث بها عشرين ليلة. وفي اعلام الورى ١ : ٢٠٧ : في ذي الحجة سنة ست. وكذلك في قصص الأنبياء : ٣٤٧ ويقول ابن اسحاق : وكان فتح خيبر في صفر ، ويستشهد لذلك بقول ابن لقيم العبسي في شعره في خيبر :

ولقد علمت ليغلبنّ محمد

وليثوينّ بها الى أصفار

وأصفار جمع صفر يريد بها شهر صفر ٣ : ٣٥٥ ، ٣٥٦.

(٢) لا ننسى أنها كانت نحو الشام لا مكة ، فالمشرق لا الجنوب.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٦٣٨. وقال ابن اسحاق : سلك رسول الله على عصر فبني له فيها مسجد ، ثم على الصهباء ... حتى نزل بالرجيع ـ سيرة ابن هشام ٣ : ٣٤٤.

(٤) خلافا لمن زعم ان الطعام ناقض للوضوء.

(٥) وفيهم يهود وكان منهم نعيم بن مسعود الاشجعي.


طريق واحدة اسمها مرحب ، قال النبي : نعم ، اسلكها. وذلك أنه كان يكره الطيرة والاسم القبيح ويحب الفأل والاسم الحسن (١).

موقف يهود خيبر :

قال : وحيث أحسّ يهود خيبر بمسير رسول الله ، قال لهم اليهودي ابو زينب الحارث : ابرزوا له وعسكروا خارج حصونكم ، فإني قد رأيت من سار إليه من اهل الحصون لم يكن لهم بقاء بعد أن حاصرهم حتى نزلوا على حكمه ، فمنهم من قتل صبرا ومنهم من سبي! فقالوا : ان حصوننا هذه منيعة في ذرى الجبال ، فهي ليست مثل تلك الحصون. وثبتوا في حصونهم (٢).

وقدم أعرابي من أشجع أيضا المدينة بسلعة يبيعها فيها ، فلما وجده يهود المدينة بعثوه الى كنانة بن ابي الحقيق يخبرونه بقلة المسلمين وقلة خيلهم وسلاحهم ، ويقولون لهم : اصدقوهم الحرب ، ينصرفوا عنكم ، فانه لم يلق قوما يحسنون القتال ، وقد سرت قريش والعرب بمسيره إليكم ، لما يعلمون من جودة حصونكم وكثرة عددكم وسلاحكم وموادّكم ... فان ظفر محمد فهو ذلّ الدهر!

ومع الاعرابي ابن عم له يسمع كل هذا ، فقال له كنانة : اذهب فاعترض الطريق فانهم لا يستنكرون مكانك فادن منهم واحرزهم لنا ، ثم الق إليهم كثرة عددنا ومادّتنا ، وعجل الرجعة إلينا بخبرهم (٣).

فلما سلك النبيّ طريق مرحب قدّم عباد بن بشر طليعة له ، فعثر على هذا الأعرابي من أشجع ، فسأله : من أنت؟ قال : أنا رجل من أشجع أتّبع آثار أبعرة لي

__________________

(١) اي كره أن يتطير من معه من العرب بالأسماء القبيحة ، وهو أيضا يكرهها.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٦٣٧.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٦٤١ وانظر ٦٤٢.


قد ضلّت. فقال عبّاد : ألك علم بخيبر؟ قال : نعم ، أنا حديث عهد بها ، ففيم تسألني عنه؟ قال عن اليهود. قال : نعم ، انّ هوذة بن قيس وكنانة بن أبي الحقيق قد ساروا في حلفائهم من غطفان فاستنفروهم وجعلوا لهم تمر خيبر سنة ، فجاؤوا يقودهم عتبة ابن بدر معدّين مؤيدين بالسلاح والكراع ودخلوا معهم في القلاع ، وفيها عشرة آلاف مقاتل ، وهم أهل الحصون التي لا ترام ، وسلاح كثير وطعام لو حصروا سنين لكفاهم ، وماء واتن (دائم) في حصونهم ، فلا أرى لأحد طاقة بهم.

فقال له عبّاد بن بشر : ما أنت الا عين لهم ، ورفع سوطه وضربه ضربات وهو يقول : اصدقني والا ضربت عنقك! فقال الاعرابي : أفتؤمني على أن أصدقك؟ قال : نعم. فحكى له الاعرابي قصته وقال : القوم مرعوبون منكم خائفون وجلون مما صنعتم بيهود يثرب.

فأتى عباد به النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم فأخبره خبره ، فقال عمر بن الخطاب : اضرب عنقه! فقال عبّاد : قد جعلت له الأمان ، فقال رسول الله أمسكه معك. فأوثقه رباطا (١).

وقالوا : لما سار كنانة بن أبي الحقيق في غطفان حلفوا له ، وترأّسهم عيينة بن حصن ، وهم أربعة آلاف ، ودخلوا مع اليهود في حصون النطاة ، وذلك قبل قدوم رسول الله بثلاثة ايام (٢). وسار الدليل برسول الله فسلك به بين الحياض والسرير

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٤٠ ، ٦٤١ وتمام الخبر : فلما دخل رسول الله خيبر عرض عليه الاسلام وقال له : اني داعيك ثلاثا فان لم تسلم لم يخرج الحبل من عنقك الا صعدا! فأسلم الرجل.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٦٥٠ هذا وقد قال ابن اسحاق : بلغني أن غطفان لما سمعت بمنزل رسول الله من خيبر جمعوا له وخرجوا ليظاهروا اليهود عليه ، وساروا مرحلة فسمعوا أو أحسوا شيئا في اهليهم وأموالهم فخلّوا بين رسول الله وبين خيبر ورجعوا على أعقابهم فأقاموا في اهليهم وأموالهم. سيرة ابن هشام ٣ : ٣٤٤. ومثله في الخرائج والجرائح ١ : ١٦٤ ، الحديث ٢٥٣.


(أدنى وديان خيبر) ثم نهض فسلك به بين الشقّ والنطاة حتى أشرف به على خيبر ، فقال لأصحابه : قفوا. ثم قال لهم : قولوا : اللهم ربّ السموات السبع وما أظلّت ، وربّ الارضين السبع وما أقلّت ، وربّ الرياح وما ذرت ، فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها ، ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها (١). ثم سار حتى انتهى الى المنزلة ، فعرّس بها ساعة من الليل ... فلما نزل رسول الله بساحتهم لم يتحركوا تلك الليلة ... حتى طلعت الشمس ...

وأصبح اليهود ، ففتحوا حصونهم وخرجوا (لأعمالهم) ومعهم المساحي والمكايل والفؤوس ... فلما نظروا الى رسول الله قد نزل بساحتهم ولّوا هاربين راجعين الى حصونهم ، وجعل رسول الله يقول : الله اكبر ، خربت خيبر! انا اذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين! (٢).

بين اليهود وحلفائهم :

ولما قدم رسول الله خيبر أرسل سعد بن عبادة الى قائد غطفان في حصن ناعم ، فلما انتهى سعد الى الحصن ناداهم : إني اريد أن اكلم عيينة بن حصن. فأراد عيينة أن يدخله الحصن فقال مرحب : لا تدخله فيرى خلل حصننا ويعرف نواحيه التي يؤتى منها ، ولكن تخرج إليه. فقال عيينة : لقد أحببت أن يدخل فيرى حصانته ويرى عددا كثيرا! فأبى مرحب أن يدخله. فخرج عيينة الى باب الحصن. فقال له سعد : إنّ رسول الله أرسلني إليك يقول : إنّ الله قد وعدني خيبر ، فارجعوا

__________________

(١) رواه ابن اسحاق بسنده في السيرة ٣ : ٣٤٣. وعنه المفيد في الارشاد ١ : ١٢٤ والطبرسي في مجمع البيان ٩ : ١٨١ وعنه في بحار الأنوار ٢١ : ١. ونقله الحلبي في المناقب ١ : ٢٠٤ عن الواقدي.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٦٤١ ـ ٦٤٣. وابن اسحاق في السيرة ٣ : ٣٤٣ ، ٣٤٤ بسندين عن أنس بن مالك.


وكفّوا : فان ظهرنا عليها فلكم تمر خيبر سنة (كما وعدهم اليهود). فقال عيينة : انا والله ما كنا لنسلم حلفاءنا لشيء ، وانا لنعلم مالك ولمن معك بما هاهنا طاقة ، هؤلاء قوم أهل حصون منيعة ، ورجال عددهم كثير ، وسلاح ، ان اقمت هلكت ومن معك ، وان أردت القتال عجّلوا عليك بالرجال والسلاح. ولا والله ، ما هؤلاء كقريش ، قوم ساروا إليك ، ان اصابوا غرة منك فذاك الذي أرادوا ، والا انصرفوا. وهؤلاء يماكرونك الحرب ويطاولونك حتى تملّهم! فقال سعد بن عبادة : اشهد ليحصرنّك في حصنك هذا حتى تطلب الذي كنا عرضنا عليك فلا نعطيك الا السيف ، وقد رأيت ـ يا عيينة ـ من قد حللنا بساحته من يهود يثرب كيف مزّقوا كل ممزّق!

ثم رجع سعد الى رسول الله فأخبره بما قال ، وقال : يا رسول الله ، ان الله منجز لك ما وعدك ، ومظهر دينه ، فلا تعط هذا الاعرابي تمرة واحدة ، يا رسول الله ، لئن أخذه السيف ليسلّمنهم وليهربنّ الى بلاده كما فعل ذلك في الخندق قبل اليوم.

ثم أمر رسول الله مناديه أن ينادي أصحابه : أن اصبحوا على راياتكم عند حصن ناعم الذي فيه غطفان. فنادى منادي رسول الله بذلك ، فرعبوا من ذلك يومهم وليلتهم.

فلما كان بعد هدأة (ثلث الليل) سمعوا صائحا يصيح (١) في تلك الليلة : يا معشر غطفان ؛ الحقوا حيّكم ، فقد خولفتم إليهم! فركبوا من ليلتهم وصاروا في الغد الى حيّهم فوجدوهم سالمين (٢). وسألوهم : هل راعكم شيء؟ قالوا : لا والله ... فقال عيينة لأصحابه! هذه من مكائد محمد وأصحابه ، خدعنا والله! ثم أقاموا في أهلهم أياما ، ثم دعا عيينة أصحابه للرجوع الى نصر يهود خيبر ، فجاءه الحارث بن

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٥٠.

(٢) الخرائج والجرائح ١ : ١٦٤ ح ٢٥٣.


عوف وقال له : يا عيينة ، أطعني وأقم في منزلك ودع نصر اليهود ، مع أني لا أراك ترجع الى خيبر الا وقد فتحها محمد ، ولا آمن عليك (١).

وكان كنانة بن أبي الحقيق في حصن الكتيبة فلما أصبح اخبر بانصرافهم ، فسقط في يديه وذلّ وأيقن بالهلكة وقال : كنّا من هؤلاء الأعراب في باطل ، انا سرنا فيهم فوعدونا بالنصر وغرّونا ، ولعمري لو لا ما وعدونا من نصرهم ما نابذنا محمدا بالحرب (١).

قبوله المشورة في المنزل :

فلما اصبح جاءه الحباب بن المنذر بن الجموح فقال : يا رسول الله صلى الله عليك ، انك نزلت منزلك هذا ، فإن كان عن أمر امرت به فلا نتكلم فيه ، وإن كان الرأي تكلمنا؟ فقال رسول الله : بل هو الرأي.

فقال : يا رسول الله ، دنوت من الحصن ونزلت بين ظهري النخل والنزّ ، مع أن أهل النطاة لي بهم معرفة ، ليس قوم أبعد مدى منهم ولا أغدر منهم ، وهم مرتفعون علينا ، وهو أسرع لانحطاط نبلهم ، مع أني لا آمن من بياتهم ، يدخلون في خمر (ستار) النخل. فتحول يا رسول الله الى موضع برئ من النزّ ومن الوباء ، نجعل الحرة بيننا وبينهم حتى لا ينالنا نبلهم (٣). فقال رسول الله : اذا أمسينا تحوّلنا ان شاء الله.

ثم دعا رسول الله محمد بن مسلمة وقال له : انظر لنا منزلا بعيدا من حصونهم بريئا من الوباء ، نأمن فيه بياتهم. فطاف محمد حتى انتهى الى وادي الرجيع (قرب خيبر) (٤).

__________________

(١) و (٢) مغازي الواقدي ٢ : ٦٥١.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٦٤٣.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٦٤٤.


هداية ... وأمانة :

قال : وكان يسار الحبشي عبدا أسود لعامر اليهودي في غنم مولاه فلما رأى أهل خيبر يتحصّنون للقتال سألهم من يقاتلون؟ فقالوا : نقاتل هذا الذي يزعم أنه نبيّ ، فوقعت هذه الكلمة في نفسه ، فأقبل يسوق غنمه الى معسكر رسول الله حتى وصل إليه فقال : يا محمد ما تقول؟ وإلى ما تدعو؟ قال : أدعو الى الاسلام ، فاشهد ان لا إله إلّا الله وانّي رسول الله. قال : ومالي إذا أسلمت؟ قال : ان ثبتّ على ذلك فالجنة. فأسلم الرجل. ثم قال : وما أفعل بهذه الاغنام وهي وديعة عندي؟ فقال له النبيّ : أخرجها من العسكر ثم صح بها وارمها بحصيات ، فان الله سيؤدي عنك أمانتك ، ففعل العبد ذلك ، فخرجت الأغنام الى صاحبها (١).

واصطفوا للقتال :

قال : وكان رسول الله حين انتهى الى حصن ناعم في النطاة وصفّ أصحابه نهاهم عن القتال حتى يأذن لهم ، ومع ذلك حمل رجل من المسلمين من أشجع على يهودي ، فحمل عليه مرحب اليهودي فقتله. فقال بعض المسلمين لرسول الله : استشهد فلان. فقال رسول الله : أبعد ما نهيت عن القتال؟ قالوا : نعم. فأمر رسول الله مناديا فنادى في المسلمين : ألا لا تحل الجنة لعاص. ثم أذن رسول الله في القتال.

ووعظ رسول الله الناس ، وفرّق بينهم الرايات ، وكانت ثلاث رايات ، ولواء. فدفع راية الى سعد بن عبادة ، وراية الى الحباب بن المنذر ، وراية الى علي عليه‌السلام (٢).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٤٩. ورواه ابن اسحاق في السيرة ٣ : ٣٥٨ ، ٣٥٩.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٦٤٩ وقال : وكانت راية النبي سوداء ولواؤه أبيض. وعليه فالرايات كنّ أربعا لا ثلاثا ، وانما ذكر الثلاث دون راية رسول الله ، فمع النبي علمان : كبير


وانما بدأ النبي بذلك لما ولّى عيينة بن حصن الغطفاني بالأربعة آلاف من قومه الى اهلهم. وانتهى رسول الله ومعه المسلمون الى حصون ناعم وهي عدة حصون ، فرماهم اليهود بالنبل. وكان على النبي يومئذ درعان ومغفر وبيضة ، وهو على فرس يقال له الظرب ، وفي يده قناة وترس ، وأصحابه محدقون به ، فلما رموهم بالنبل ترسوا عن رسول الله (١).

وروى المفيد عن ابن هشام وابن اسحاق (كذا) قالوا : حاصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خيبر بضعا وعشرين ليلة (٢) ولحق عليا عليه‌السلام رمد أعجزه عن الحرب.

وكان اليهود قد خندقوا حول أنفسهم ، فكان المسلمون يناوشونهم من جوانبهم. وذات يوم فتحوا الباب ... وخرج مرحب برجّالته يتعرض للحرب (٣). وكان

__________________

ـ هو اللواء الأبيض ، وصغير هي الراية السوداء من برد لعائشة ، كما في الواقدي. بينما لم يذكر ابن اسحاق إلّا راية واحدة بيضاء بيد علي عليه‌السلام ٣ : ٣٤٢ وفي ٣٤٩ قال : بعث أبا بكر برايته (البيضاء) ... ثم بعث عمر ... ثم دعا عليا وقال : خذ هذه الراية. وقال الواقدي : وكان قد دفع لواءه الى رجل من المهاجرين (؟) فرجع ولم يصنع شيئا ، ثم دفعه الى آخر فرجع ولم يصنع شيئا ... ثم ارسل الى علي عليه‌السلام فذهب إليه ... فدفع إليه اللواء ٢ : ٦٥٣ ، ٦٥٤ بينما الحديث عندهما : لأعطينّ الراية غدا رجلا ... فلعله دفع إليه الراية البيضاء أولا ثم اللواء الأبيض ثانيا.

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٥٣.

(٢) الارشاد ١ : ١٢٥ واعلام الورى ١ : ٢٠٧ وعنه في قصص الأنبياء : ٣٤٧. وفي السيرة : بضع عشرة ليلة ٣ : ٣٤٧.

(٣) ليس بهذا النص في السيرة ، وليس فيه تعيين مرحب من اي حصن ، وفي مغازي الواقدي : أنه وأخويه الحارث وياسر ، واسير وعامر كانوا جميعا من حصن ناعم ٢ : ٦٥٧ و ٦٥٨ و ٦٤٥ و ٦٤٩ و ٦٥٠ و ٧٠٠.


علي عليه‌السلام قد لحقه رمد أعجزه عن الحرب ... فدعا رسول الله أبا بكر فقال له : خذ الراية ، فأخذها في جمع من المهاجرين ، فاجتهد ، ولم يغن شيئا ، فعاد يؤنب القوم الذين اتبعوه ، ويؤنبونه (١).

وروى ابن اسحاق في السيرة بسنده عن سلمة بن الأكوع قال : بعث رسول الله أبا بكر برايته الى بعض حصون خيبر ، فقاتل وجهد ولم يك فتح ورجع (٢).

وكنّى الواقدي فقال : وكان قد دفع لواءه الى رجل من أصحابه من المهاجرين ، فرجع ولم يصنع شيئا ... وجعل صاحب راية المهاجرين يستبطئ أصحابه ويقول : أنتم وأنتم! (٣) ودفع رسول الله لواء الانصار الى رجل منهم (سعد بن عبادة).

وسالت كتائب اليهود امامهم الحارث أبو زينب (أخو مرحب) يقدم اليهود ، يهدّ الارض هدا. فأقبل صاحب راية الانصار (سعد بن عبادة) فلم يزل يسوقهم حتى انتهوا الى الحصن فدخلوه. ثم خرج اسير اليهودي يقدم أصحابه ومعه جماعة يعدون بأرجلهم ، فكشف أصحاب راية الانصار حتى انتهى الى رسول الله في موقفه ، فوجد رسول الله في نفسه حدّة شديدة ، وأمسى مهموما ، وقد رجع سعد بن عبادة (وهو صاحب الراية كما مرّ) مجروحا يستبطئ أصحابه (٤).

__________________

(١) الارشاد ١ : ١٢٥ ، ١٢٦.

(٢) سيرة ابن هشام ٣ : ٣٤٩.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٦٥٣ وروى مثله الصدوق في الأمالي : ٤١٤ بسنده عن عمرو بن العاص قال : ان رسول الله في يوم خيبر دفع الراية الى رجل من أصحابه فرجع منهزما ، فدفعها الى آخر فرجع يجبّن أصحابه ويجبّنونه قد رد الراية منهزما ...

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٦٥٣ وروى الراوندي عن الامام الباقر عليه‌السلام قال : انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث سعدا براية الأنصار الى خيبر فرجع منهزما ، ثم بعث عمر بن الخطاب براية


فقال لهم رسول الله : إن الشيطان قد قال لليهود : إن محمدا يقاتلكم على أموالكم ، فنادوهم : قولوا لا إله إلّا الله ، تحرزون بذلك دماءكم وأموالكم ، وحسابكم على الله. فنادوهم بذلك ، فنادت اليهود : انا لا نترك عهد موسى ، والتوراة بيننا (١).

وقاتل رسول الله يومه ذلك أهل حصون النطاة (ومنها الناعم) الى الليل ، وأخذت نبالهم تخالط عسكر المسلمين وتجاوزه ، فجعل المسلمون يلقطون نبلهم ثم يردّونها عليهم ، وكان شعارهم : يا منصور أمت (٢).

وجاء الحباب بن المنذر فقال : يا رسول الله ، انّ اليهود ترى النخل أحب إليهم من أبكار أولادهم ، فاقطع نخلهم. فأمر رسول الله بقطع النخل. ووقع المسلمون في قطعها ، وأسرعوا في القطع حتى قطعوا أربعمائة عذق من النطّاة ـ ولم تقطع في غيرها. وكان يوما صائفا شديد الحرّ ... فلما اشتد الحرّ على محمود بن مسلمة (أخي محمد) وعليه أداته كاملة ، جلس تحت حصن ناعم يبتغي فيئه ... فدلّى عليه مرحب رحى فأصاب رأسه ، فهشمت البيضة رأسه حتى سقطت جلدة جبينه على وجهه ، واتى به رسول الله فردّ الجلدة فرجعت كما كانت ، وعصّبها رسول الله بثوب (٣). وجرح من نبالهم خمسون رجلا من المسلمين (٤).

__________________

ـ المهاجرين فأتى بسعد جريحا وعمر يجبّن أصحابه ويجبنونه. بحار الأنوار ٢١ : ١١ ، عن الخرائج والجرائح للراوندي ، ولم نجده فيه.

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٥٣.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٦٤٤ وابن هشام ٣ : ٣٤٧ : يا منصور أمت أمت.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٦٤٥.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٦٤٦.


وتحوّلوا في الليل :

ومرّ الخبر ان النبي كان قد بعث محمد بن مسلمة ليرى لهم منزلا بريئا من الوباء بعيدا من حصون اليهود يأمن فيه من بياتهم ، فطاف محمد يومه ذلك حتى انتهى الى وادي الرجيع ثم رجع الى النبي ليلا فقال : وجدت لك منزلا. فقال رسول الله : على بركة الله (١) فلما أمسى أمر الناس أن يتحولوا الى الرجيع ... فضرب عسكره هناك وبات فيه (٢) ثم أخبر محمد أنّ أخاه قد اصيب. وكانوا قد قدموا خيبر على ثمرة خضراء واكلوا منها وكانت وبيئة فأصابتهم الحمّى ، فشكوا ذلك الى رسول الله فقال لهم : صبوا الماء في القرب ، فاذا كان بين الأذانين (كذا) فصبوه على أنفسكم واذكروا اسم الله. ففعلوا ، فكأنّما نشطوا من عقال (٣).

وكان مقامه بالرجيع سبعة أيام ، يترك العسكر كل يوم بالرجيع يستخلف عثمان بن عفّان ، ويغدو كل يوم بالمسلمين على راياتهم ... وانما قاتل اليوم الأول من أسفل حصون النطاة ، وبعد قاتلهم من أعلاها ، يقاتلهم كلّ يوم الى الليل ، فإذا أمسى رجع الى الرجيع ... ومن كان يجرح من المسلمين فان كان به أن يمشي انطلق الى المعسكر في الرجيع ، والا فيحمل الى المعسكر فيداوى فيه ... حتى فتح الله له (٤).

اليوم الثاني :

روى المفيد عن ابن هشام وابن اسحاق وغيرهما قالوا : لما كان من الغد تعرّض للراية عمر ، فسار بها غير بعيد ، ثم رجع يجبّن أصحابه ويجبّنونه. فقال

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٤٤.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٦٤٥.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٦٤٦.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٦٤٥.


النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : ليست هذه الراية لمن حملها ، جيئوني بعلي بن أبي طالب. فقيل له : انه أرمد ، فقال : أرونيه تروني رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، يأخذها بحقّها ، ليس بفرّار (١)!

ورواه ابن اسحاق في السيرة بسنده عن سلمة بن الاكوع قال : بعث من الغد عمر بن الخطاب ، فقاتل وجهد ولم يك فتح فرجع. فقال رسول الله : لاعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله ... يفتح الله على يديه ، ليس بفرّار (٢).

وكنّى الواقدي قال : ثم دفعه الى آخر فرجع ولم يصنع شيئا ... وجعل صاحب راية المهاجرين يستبطئ أصحابه ويقول : انتم وانتم! (٣)

ووجد رسول الله في نفسه حدّة شديدة ... وأمسى مهموما ... وقال : لاعطينّ الراية غدا رجلا يحبّه الله ورسوله ... يفتح الله على يديه ، ليس بفرّار. أبشر يا محمد ابن مسلمة غدا إن شاء الله يقتل قاتل أخيك ، وتولّي عادية اليهود.

اليوم الثالث :

قال : فلما أصبح أرسل الى علي بن أبي طالب عليه‌السلام وهو أرمد ، فقال : ما ابصر سهلا ولا جبلا. ثم ذهب [به] إليه ، فقال له : افتح عينيك. ففتحهما فتفل فيهما (قال علي عليه‌السلام : فما رمدت حتى الساعة) ثم دفع إليه اللواء ، ودعا له ومن معه من أصحابه بالنصر (٤).

__________________

(١) الارشاد ١ : ١٢٦.

(٢) سيرة ابن هشام ٣ : ٣٤٩.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٦٥٣ ومرّ عن الصدوق في الامالي : ٤١٤ مثله عن عمرو بن العاص قال : ان رسول الله يوم خيبر دفع الراية الى رجل من أصحابه فرجع منهزما ، فدفعها الى آخر فرجع يجبّن أصحابه ويجبّنونه قد ردّ الراية منهزما ، فقال رسول الله ...

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٦٥٣ ، ٦٥٤.


وروى ابن اسحاق عن سلمة قال : فدعا رسول الله عليا رضوان الله عليه وهو أرمد ، فتفل في عينه ثم قال : خذ هذه الراية ، فامض بها حتى يفتح الله عليك (١).

وروى عنه المفيد في «الارشاد» قال : فجاؤوا بعلي عليه‌السلام يقودونه إليه ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما تشتكي يا علي؟ قال : رمد (في عيني) وصداع برأسي. فقال له : اجلس وضع رأسك على فخذي. ففعل علي عليه‌السلام ذلك ، فدعا له النبيّ وتفل في يده فمسحها على عينيه ورأسه ، فانفتحت عيناه وسكن ما كان يجده من الصداع ، وقال في دعائه له : اللهم قه الحر والبرد. وأعطاه الراية ـ وكانت راية بيضاء ـ وقال له : خذ الراية وامض بها ، فجبرئيل معك ، والنصر أمامك (٢) ، والرعب مبثوث في صدور القوم. واعلم يا علي أنهم يجدون في كتابهم : أن الذي يدمّر عليهم اسمه ايليا ، فاذا لقيتهم فقل : أنا علي ، فانهم يخذلون ان شاء الله.

فجاء في الحديث : أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام لمّا قال لهم : أنا علي بن أبي طالب ، قال حبر من أحبار القوم : غلبتم وما انزل على موسى. فدخل قلوبهم من الرعب ما لم يمكنهم معه الاستيطان به (٣).

وروى ابن اسحاق بسنده عن سلمة قال : فخرج بها يهرول هرولة ، وبه نفس شديد من الاعياء ، وإنّا خلفه نتبع اثره ، حتى ركز رايته فيما بين أحجار مجتمعة تحت الحصن. فاطلع إليه يهودي من رأس الحصن فقال : من أنت؟ قال : أنا علي بن ابي طالب. فقال اليهودي : علوتم وما انزل على موسى (٤).

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٣ : ٣٤٩.

(٢) وفي المناقب وجبرئيل عن يمينك وميكائيل عن يسارك ، وعزرائيل أمامك واسرافيل وراءك ، ونصر الله فوقك ودعائي خلفك. مناقب آل أبي طالب ٢ : ٧٨.

(٣) الارشاد ١ : ١٢٦ ، ١٢٧.

(٤) سيرة ابن هشام ٣ : ٣٤٩.


قال علي عليه‌السلام : فمضيت بها حتى أتيت الحصون ، فخرج مرحب وعليه مغفر وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه وهو يرتجز ويقول :

قد علمت خيبر أني مرحب

شاك السلاح بطل مجرّب

فقلت :

أنا الذي سمتني أمّي حيدرة

عبل الذراعين شديد قسورة

اكيلكم بالسيف كيل السندرة (١)

فاختلفنا ضربتين فبدرته فضربته فقددت الحجر والمغفر ورأسه ، حتى وقع السيف في اضراسه وخرّ صريعا (٢).

وقال الواقدي : فكان أول من خرج إليهم الحارث (ابو زينب) أخو مرحب ، في جماعة معه يعدون على أرجلهم ، فانكشف المسلمون! وثبت علي عليه‌السلام ، فاضطربا ضربات فقتله علي عليه‌السلام ، ورجع أصحاب الحارث الى الحصن فدخلوه وأغلقوه عليهم ، فرجع المسلمون الى مواضعهم. وخرج مرحب وهو يقول : (فجاء برجزه السابق ثم قال :) فحمل عليه علي عليه‌السلام فجدله على باب الحصن (٣).

__________________

(١) السندرة : كيل ضخم.

(٢) الارشاد ١ : ١٢٧ عن ابن اسحاق وابن هشام ، وليس في السيرة الا رجز مرحب وجواب كعب بن مالك له ومبارزة محمد بن مسلمة وقتله لمرحب!

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٦٥٤ هكذا اختصر هذا الخبر وأجمله ، وطوّل القول وفصّل فيما يقابل ذلك قال : أما الحارث أبو زينب أخو مرحب ـ فقد روى ابن أبي سبرة ـ أن الذي قتله ابو دجانة الأنصاري. وروى بثلاثة طرق عن جابر وسلمة بن سلامة ، ومجمّع بن حارثة قالوا جميعا : إن محمد بن مسلمة هو الذي قتل اسيرا اليهودي وكان رجلا قويا ، ومرحبا ، ويقال : ان مرحبا برز وهو كالفحل الصؤول ... يدعو للبراز فقال محمد بن مسلمة : يا رسول الله أنا والله الموتور الثائر ، قتل اخي بالامس ، فأذن لي في قتال مرحب وهو قاتل أخي.


__________________

ـ فأذن له رسول الله في مبارزته ودعا له بدعوات وأعطاه سيفه ، فخرج محمد فصاح : يا مرحب ، هل لك في البراز؟ فقال : نعم ، فبرز إليه مرحب ... وبرز كل واحد منهما الى صاحبه فحال بينهما شجر العشر وكان لها أصل كمثل أصل الفحل من النخل وأغصان منكرة ، فاستترا بها حتى قطعا كل ساق لها وبقى أصلها قائما ، ورفع مرحب السيف ليضرب محمدا فاتقاه محمد بالدّرقة فشب سيفه فيها ، وطأطأ محمد بالسيف وانشمرت الدرع عن ساقي مرحب فقطع محمد رجليه من ساقيه فوقع ، فجاوزه محمد ، ومرّ به علي عليه‌السلام فضرب عنقه. فقال محمد لرسول الله : يا رسول الله قد كنت قادرا بعد أن قطعت رجليه أن اجهز عليه وما منعني من الاجهاز عليه شيء ، والله ما قطعت رجليه ثم تركته الا ليذوق مرّ السلاح وشدة الموت كما ذاق اخي مكث ثلاثا يموت. فقال علي عليه‌السلام : صدق ، ضربت عنقه بعد أن قطع رجليه. فأعطاه رسول الله سلبه ٢ : ٦٥٦.

وقال : إن فرائض البنات (كذا) لم تكن لتنزل حتى ذلك اليوم ... ولذلك جعل محمود بن مسلمة يقول لاخيه : يا أخي لا تدع بنات أخيك يتبعن الأفياء يسألن الناس! فيقول له أخوه محمد بن مسلمة : يا أخي لو لم تترك مالا فإن لي مالا ... فلما كان اليوم الثالث وهو اليوم الذي قتل فيه مرحب قال رسول الله : من يبشر محمود بن مسلمة انّ محمد بن مسلمة قد قتل قاتله ، وان الله قد أنزل فرائض البنات (كذا) فخرج جعال بن سراقة إليه فأخبره فسرّ بذلك وأمره أن يقرئ رسول الله السلام منه ... ثم مات ... فقبر في غار ... فقال محمد : يا رسول الله اقطع لي (اقطاعا) عند قبر اخي! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لك حضر الفرس. أي لك بأرض خيبر بمقدار عدو الفرس وآيات الفرائض هي الآيات الاولى والاخيرة من سورة النساء ، وهذا يعني انها نزلت في ايام خيبر. وهي السورة الثانية والتسعون في النزول والسادسة في النزول بالمدينة. التمهيد ١ : ١٠٦.

ودفن مع محمود بن مسلمة عامر بن سنان الاكوع ٢ : ٦٥٨ وكان يقاتل رجلا من اليهود فرجع سيفه عليه فجرحه جرحا شديدا فمات منه ، فقال المسلمون : انما قتله سلاحه.


ويبدو أن مبارزة مرحب وقتله وفتح حصون الناعم من حصون النطاة كان آخر الأمر ، فهناك أخبار من قبل ذلك ، منها :

برز ياسر (١) ، وكان من أشداء اليهود ، وكانت معه حربة يسوق بها المسلمين سوقا ، فبرز له علي عليه‌السلام ، فقال له الزبير بن العوام : أقسمت عليك الا خلّيت بيني وبينه ، فتركه علي عليه‌السلام. وأقبل ياسر يسوق بحربته الناس ، فبرز له الزبير ، فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب عمة النبيّ : يا رسول الله وا حزنا! ابني يقتل يا رسول الله! فقال : بل ابنك يقتله. فاقتتلا فقتله الزبير. فلما قتل ياسر ومرحب قال رسول الله : أبشروا قد ترحبت خيبر وتيسّرت!

وبرز عامر ، وكان رجلا جسيما طويلا ، يخطر بسيفه وعليه درعان مقنّع في الحديد يصيح : من يبارز؟! ورآه النبي طويلا فقال : أترونه خمسة أذرع؟! فبرز إليه علي عليه‌السلام فضربه ضربات لم تصنع فيه شيئا ، حتى ضرب ساقيه فبرك ثم أجهز عليه وأخذ سلاحه.

وقتل من اليهود ناس كثير ، وإنمّا سمّي اسير وياسر وعامر والحارث ومرحب

__________________

ـ فاخبر سلمة بن عمر الاكوع ابن اخيه رسول الله وسأله عن ذلك. فقال رسول الله : انه لشهيد ، وصلّى عليه ، فصلّى عليه المسلمون معه. سيرة ابن هشام ٣ : ٣٤٣ هذا وقد روى الواقدي نفسه عن سلمة بن الاكوع أن عامر بن الاكوع قتل في حصار حصن الصعب بن معاذ بعد عشرة أيام من وصولهم خيبر ٢ : ٦٥٩ و ٦٦١ ، ٦٦٢.

ودفن معهم العبد الأسود اليهودي الذي اسلم وتبع عليا عليه‌السلام فقاتل حتى قتل ، فقال رسول الله : لقد كرم الله هذا العبد الأسود ... ولقد رأيت عند رأسه زوجتين من الحور العين ٢ : ٦٤٩ ، ٦٥٠.

(١) أخو مرحب ، مغازي الواقدي ٢ : ٦٧٩.


لانهم كانوا أهل شجاعة ، وكان هؤلاء جميعا من حصن ناعم (١) وأبو الحكم سلّام بن مشكم كان مريضا وكان في حصن النطاة فقيل له : انه لا قتال فيك فكن في حصن الكتيبة ، فلم يقبل ، فقتل مريضا (٢).

وروى المفيد عن ابن هشام وابن اسحاق وغيرهم قالوا : لما قتل أمير المؤمنين عليه‌السلام مرحبا ، رجع من كان معه واغلقوا باب الحصن عليهم دونه ، فصار إليه أمير المؤمنين عليه‌السلام فعالجه حتى فتحه ... فأخذ باب الحصن فجعله على الخندق جسرا لهم حتى عبروا وظفروا بالحصن ونالوا الغنائم.

وروى بسنده عنه عليه‌السلام قال : لما عالجت باب خيبر جعلته مجنّا لي وقاتلت القوم ، فلما أخزاهم الله وضعت الباب على حصنهم طريقا ثم رميت به في خندقهم (٣).

وروى ابن اسحاق بسنده عن أبي رافع القبطي مولى رسول الله قال : لما بعث رسول الله علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) برايته خرجنا معه ، فلما دنا من الحصن خرج إليه اهله فقاتلهم ، فضربه رجل من اليهود فطاح ترسه من يده ، فتناول علي عليه‌السلام بابا كان عند الحصن فترّس به عن نفسه ، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه ، فلما فرغ ألقاه من يده (٤).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٥٧ ، ٦٥٨.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٦٧٩.

(٣) الارشاد ١ : ١٢٧ و ١٢٨.

(٤) سيرة ابن هشام ٣ : ٣٤٩ ، ٣٥٠ ورواه الطبرسي في مجمع البيان ٩ : ١٨٢ عن دلائل النبوة للبيهقي ٤ : ٢١٢ ثم نقل عنه عن الامام الباقر عليه‌السلام عن جابر بن عبد الله الأنصاري : أن عليا عليه‌السلام حمل الباب يوم خيبر فصعد المسلمون عليه فاقتحموها ، وانه حرك بعد


ورواه الواقدي وزاد : فلما فتح عليه الحصن بعث رجلا يبشّر النبي بفتح حصن مرحب ودخولهم فيه (١).

وروى الطبرسي عن أبان بن عثمان البجلي الكوفي عن زرارة بن أعين عن الباقر عليه‌السلام قال : انتهى علي عليه‌السلام الى باب الحصن وقد اغلق في وجهه فاجتذبه اجتذابا (فاقتلعه) وتترّس به ، ثم حمله على ظهره واقتحم المسلمون الحصن (من فوق) الباب على ظهره ، ثم رمى بالباب رميا.

وخرج البشير الى رسول الله : أنّ عليا دخل الحصن. فأقبل رسول الله ، فخرج علي عليه‌السلام يتلقاه فقال له : قد بلغني نبؤك المشكور وصنيعك المذكور ، وقد رضي الله عنك ورضيت عنك! فبكى علي عليه‌السلام ، فقال له : ما يبكيك يا علي؟ قال : فرحا بأن الله ورسوله عنّي راضيان (٢).

وروى المفيد قال : لما قتل أمير المؤمنين مرحبا وفتح الحصن وأغنم المسلمين أموالهم ، استأذن حسّان بن ثابت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقول شعرا فقال له : قل. فقال :

__________________

ـ ذلك فلم يحمله أربعون رجلا. وفي اخرى : سبعون رجلا. ومثله في الارشاد ١ : ١٢٨. وروى الصدوق في الخصال بسنده عن عامر بن واثلة قال : سمعت عليا عليه‌السلام يوم الشورى يقول : نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله حين رجع عمر قد ردّ راية رسول الله منهزما فقال رسول الله : لاعطينّ الراية غدا رجلا ليس بفرّار يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله لا يرجع حتى يفتح الله عليه. فلما أصبح قال : ادعوا لي عليا. فقالوا : يا رسول الله هو رمد ما يطرف. فقال : جيئوني به ٢ : ٥٥٥ ، وروى مثله الطوسي في الأمالي : ٦ عن أبي ذر. وروى مثله الطبرسي في الاحتجاج ١ : ٢٠٤ عن الامام الباقر عليه‌السلام.

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٥٥.

(٢) اعلام الورى ١ : ٢٠٨.


وكان عليا أرمد العين يبتغي

دواء ، فلما لم يحسّ مداويا

شفاه رسول الله منه بتفلة

فبورك مرقيّا وبورك راقيا

وقال : سأعطي الراية اليوم صارما

كميا محبا للرسول مواسيا

يحبّ الهي والاله يحبّه

به يفتح الله الحصون الأوابيا

فأصفى بها دون البرية كلّها

عليا ، وسمّاه الوزير المؤاخيا

وقال شاعر آخر :

إنّ امرأ حمل الرتاج بخيبر

يوم اليهود بقدرة ، لمؤيّد

حمل الرتاج رتاج باب قموصها

والمسلمون وأهل خيبر شهّد (١)

والرتاج : الباب العظيم ، واضافه الى القموص ، وهو اسم حصن من حصون اليهود بخيبر.

وقد مرّ في أخبار الواقدي : أنّ النبي بدأ القتال في خيبر بأهل النطّاة ، فقاتل في أوّل يوم من أسفلها ، ثم عاد بعد فقاتلهم من اعلاها حتى فتح الله عليه ، وأن أوّل حصن بدأ به القتال من النطاة حصن ناعم ، وهو اسم يهودي كانت له عدة حصون (٢) والنطاة عدة حصون (٣) وكان مدد غطفان الأربعة آلاف في حصن ناعم (٤) وحصون ناعم أيضا عدة حصون (٥) وخرج إليهم الحارث اخو مرحب من هذا

__________________

(١) الارشاد ١ : ١٢٨ ، ١٢٩.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٦٤٥.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٦٥٠.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٦٥١.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٦٥٢.


الحصن (١) وكذلك أخواه مرحب (٢) وياسر (٣) وكذلك اسير وعامر (٤) كان هؤلاء من حصن ناعم جميعا فالحصن الذي اقتلع علي عليه‌السلام بابه هو حصن ناعم ، وليس في ما بأيدينا من الآثار التأريخية والأخبار ما يدل أو يشير الى أن حصن ناعم كان يسمّى القموص أيضا. وفي ما يأتي نقف على موقع القموص.

مقامه على حصون النطاة :

قال الواقدي : كان مقامه بالرجيع سبعة أيام ، يترك المعسكر كل يوم بالرجيع يستخلف عثمان بن عفان ، ويغدو كل يوم بالمسلمين على راياتهم ... وكان قد قاتل أول يوم من أسفل النطاة ثم عاد فقاتلهم من أعلاها ، يقاتلهم كل يوم الى الليل ، فاذا أمسى رجع الى الرجيع ... ومن كان يجرح من المسلمين فإن كان به أن يمشي انطلق الى المعسكر في الرجيع ، والّا فيحمل الى المعسكر فيداوى فيه ... حتى فتح الله له.

قالوا : وكان رسول الله في مقامه بالرجيع سبعة ايام يناوب بين اصحابه في حراسة الليل ، فلما كانت الليلة السادسة من السبع استعمل لذلك عمر بن الخطاب ، فطاف عمر باصحابه حول العسكر وفرّقهم لذلك.

فكان كعب بن مالك يحدّث : أن رجلا من اليهود من أهل النطاة نادانا ليلا ونحن بالرجيع : أنا آمن وابلّغكم؟ قلنا : نعم ، ثم ابتدرناه فكنت أول من سبق إليه ،

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٥٤.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٦٥٥.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٦٧٩.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٦٥٧.


فقلت له : ما أنت؟ فقال : رجل من اليهود ، فأدخلناه على رسول الله. فقال له : يا أبا القاسم تؤمنني وأهلي على أن أدلّك على عورة اليهود؟ فقال رسول الله : نعم. فقال اليهودي : خرجت من حصن النطاة من عند قوم ليس لهم نظام ، تركتهم يتسللون من الحصن في هذه الليلة. فقال رسول الله : فأين يذهبون؟ قال : الى أذل مما كانوا فيه الى الشقّ ، وقد رعبوا منك ، حتى انّ أفئدتهم لتخفق. وهذا حصن اليهود فيه السلاح والطعام والودك (اللحم) وفيه آلة حصونهم التي كانوا يقاتلون بها ... قد غيّبوا ذلك في بيت من حصونهم تحت الارض. قال رسول الله : وما هو؟ قال : منجنيق مفكّكة ودبّابتان ، وسلاح من دروع وبيض وسيوف ، فاذا دخلت الحصن ـ قال رسول الله : ان شاء الله ـ فقال اليهودي : ان شاء الله اوقفك عليه ، فانه لا يعرفه احد من اليهود غيري. واخرى! فقيل : وما هي؟ قال : تستخرجه (المنجنيق) ثم انصبه على حصن الشق ، وتدخل الرجال تحت الدبابتين فيحفرون الحصن فتفتحه من يومك ، وكذلك تفعل بحصن الكتيبة.

ثم قال اليهودي : يا أبا القاسم ، احقن دمي! قال : أنت آمن. قال : ولي زوجة في حصن النزّار فهبها لي. قال : هي لك.

ثم قال رسول الله : ما لليهود حوّلوا ذراريهم من النطاة؟ قال : جرّدوها للمقاتلة ، وحوّلوا الذراري الى الشق والكتيبة. ثم دعاه رسول الله الى الاسلام ، فقال : أنظرني أياما (١).

ثم روى عن معتّب الاسلمي قال : لما قدمنا خيبر أقمنا عشرة أيام على حصن النطاة لا نفتح (حصنا) فيه طعام ، فاتّفق بنو أسلم أن يرسلوا أسماء بن حارثة الاسلمي ليشكو حالهم الى النبي ، فقالوا له : ائت رسول الله فقل له : ان أسلم يقرءونك السلام ويقولون : إنا جهدنا من الجوع والضعف.

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٤٥ ـ ٦٤٨.


فجاءه اسماء بن حارثة فقال : يا رسول الله ، ان اسلم تقول : انا قد جهدنا من الجوع والضعف فادع الله لنا. فدعا لهم رسول الله فقال : اللهم افتح عليهم اعظم حصن فيه اكثره طعاما وودكا (لحما) ودفع اللواء الى الحباب بن المنذر بن الجموح.

وندب رسول الله الناس معه فنهضوا ... وانتهوا الى حصن الصعب بن معاذ وان عليه لخمسمائة مقاتل ، وكان حصن اليهود فيه الطعام والودك والماشية والمتاع.

وبرز من الحصن رجل يقال له يوشع ، يدعو إلى البراز ، فبرز إليه الحباب بن المنذر فاختلفا ضربات فقتله الحباب. وبرز آخر يقال له الزيّال ، فبرز له عمارة بن عقبة الغفاري ، فبدره الغفاري فضربه ضربة على هامته وهو يقول : خذها وأنا الغلام الغفاري! فقال الناس : بطل جهاده! فبلغ ذلك رسول الله فقال : ما به بأس ، بل يؤجر ويحمد (١).

وروى عن سلمة بن سنان الاكوع قال : غدا (عمي) عامر بن سنان (الاكوع) فلقي رجلا من اليهود فبدره اليهودي وضربه ، فاتقاه عامر بدرقته فنبا سيف اليهودي عنه ، وضرب عامر رجل اليهودي فقطعها ورجع السيف عليه فأصابه ذبابة ، فنزف حتى مات. فقال اسيد بن حضير : حبط عمله! فبلغ ذلك رسول الله فقال : كذب من قال ذلك! إنّ له لاجرين : انه جاهد مجاهد ، وانه ليعوم في الجنة عوم الدعموص (٢).

قال : وكان قد حمل الى الرجيع فقبر مع محمود بن مسلمة في غار (٣).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٥٨ ـ ٦٦٠.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٦٦١ ، ٦٦٢. والدعموص : الدخّال في الأمور ، أي انه سياح في الجنة دخّال في منازلها لا يمنع من موضع ، راجع النهاية ٢ : ١٢٠.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٦٥٨. وروى مقتله ابن اسحاق في السيرة ٣ : ٣٤٣. قال : بلغني أن سيفه رجع عليه وهو يقاتل فكلمه كلما شديدا فمات منه ، فشك المسلمون فيه وقالوا :


واستمر حصار حصن الصعب بن معاذ ثلاث ايام ، فكان حصنا منيعا. فبينا هم محاصرون الحصن اذ خرج منه عشرون أو ثلاثون حمارا لم يقدر اليهود على ادخالها ، فأخذها المسلمون وهم جياع فذبحوها وأوقدوا النيران وطبخوا لحومها في القدور. ومرّ بهم رسول الله وهم على تلك الحال ، فسأل عن ذلك فاخبر الخبر ، فأمر مناديا فنادى فيهم : إنّ رسول الله ينهاكم عن الحمر الإنسية ... وعن كل ذي ناب ومخلب فكفوا القدور (١).

__________________

ـ انما قتله سلاحه. فاخبر ابن اخيه سلمة بن سنان الاكوع رسول الله وسأله عن ذلك فقال رسول الله : إنه لشهيد ، وصلى عليه ، فصلى عليه المسلمون معه. وروى معناه الطبرسي في مجمع البيان ٩ : ١٨١ ، ١٨٢.

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٦٠ ، ٦٦١ وفيه : وعن متعة النساء! هكذا بلا مناسبة. وقد يناسب البحث هنا عن نكاح المتعة تأريخيا ، ولكن المسألة أقرب الى البحث الفقهي منه الى التأريخ والسيرة ، وقد أوسع العلماء الفقهاء المسألة دراسة وبحثا فنوكل ذلك إليهم في كتب عديدة منها : أصل الشيعة واصولها للامام الشيخ كاشف الغطاء. وأجوبة مسائل موسى جار الله للامام السيد عبد الحسين شرف الدين. والمتعة وأثرها في الاصلاح الاجتماعي للمحامي الدكتور توفيق الفكيكي. والزواج الموقت للسيد جعفر مرتضى العاملي. ومع الخطيب في خطوطه العريضة للشيخ الصافي. ونكاح المتعة بين السنة والبدعة للسيد مرتضى الموسوي الأردبيلي.

اما عن الحمر الأهلية ففي وسائل الشيعة باب فيه عشرة أخبار في كراهتها ٢٤ : ١١٧ ـ ١٢٠. وفي مستدركه باب فيه ثلاثة أحاديث ١٦ : ٧٧٤ منها عن أبي الجارود قال سمعت الباقر عليه‌السلام يقول : ان المسلمين كانوا جهدوا في خيبر فأسرع المسلمون في دوابهم (هكذا) فأمر رسول الله باكفاء القدور ولم يقل انها حرام ، وكان ذلك ابقاء على الدواب ٢٤ : ١١٨. وعن أبي بصير قال : سمعت الباقر عليه‌السلام يقول : إن الناس اكلوا لحوم دوابّهم يوم خيبر ، فأمر رسول الله باكفاء القدور ونهاهم عن ذلك ، ولم يحرّمها ١٦ : ١٧٤.


وروى عن أمّ عمارة قال : ذبح بنو مازن بن النجار بخيبر فرسين فكنا نأكل منهما قبل أن يفتح حصن الصعب بن معاذ.

وروى بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري (١) قال : ذبح المسلمون خيلا من خيلهم قبل ان يفتح حصن الصعب بن معاذ.

وروى عنه أيضا قال : غزا بنا الحباب بن المنذر بن الجموح ومعه رايتنا وتبعه المسلمون الى حصن الصعب بن معاذ ... وأقمنا عليه يومين نقاتلهم أشد القتال. فلما كان اليوم الثالث ، بكر رسول الله عليهم ، فخرج رجل من اليهود كأنه دقل (السفينة من الطول) وفي يده حربة وخرج جماعة يعدون معه ، فأمطرونا ساعة بالنبل مثل الجراد حتى ظننت أن لا يقلعوا ، وترّسنا عن رسول الله. ثم حملوا علينا حملة رجل واحد ، فانكشف المسلمون حتى انتهوا الى رسول الله وهو واقف قد نزل عن فرسه ، ومولاه مدعم (الاسود) ممسك بزمام فرسه. وثبت الحباب برايتنا والله ما يزول ، يراميهم على فرسه.

وندب رسول الله المسلمين وحضّهم على الجهاد ورغّبهم فيه ، وأخبرهم أنّ الله قد وعده خيبر يغنمه اياها! فأقبل الناس حتى عادوا الى صاحب رايتهم ، فزحف بهم الحباب ، فلم يزل يدنو قليلا قليلا ، وترجع اليهود على ادبارها ، حتى لحمها الشرّ فانكشفوا سراعا ، ودخلوا الحصن وغلّقوا عليهم ، ووافوا على جدره ـ وله جدر دون جدر ـ فجعلوا يرموننا بالجنادل رميا كثيرا ، حتى نحّونا عن حصنهم بوقع الحجارة حتى رجعنا الى الموضع الاول.

ثم خرج اليهود مستميتين .. ورجعنا إليهم فاقتتلنا على باب الحصن أشد

__________________

(١) وروى ابن اسحاق في السيرة ٣ : ٣٤٥ بسنده عن جابر وقال ـ ولم يشهد جابر خيبر ـ إن رسول الله حين نهى الناس عن لحوم الحمر أذن لهم في اكل لحوم الخيل. والواقدي في الخبر التالي ينص على حضوره ، ولكنه نص على تخلفه عن خيبر في ٦٨٤.


القتال ... فقتلنا عددا منهم وكلّما قتلنا رجلا حملوه حتى يدخلوه الحصن .. وقتل يومئذ على الباب ثلاثة من أصحاب رسول الله : أبو صيّاح والحارث بن حاطب وعديّ بن مرة.

ثم حمل صاحب رايتنا وحملنا معه ، حتى أدخلنا اليهود الحصن وتبعناهم إلى جوفه ، فلما دخلنا عليهم الحصن أمسوا لنا كالأغنام فقتلنا من أشرف لنا وأسرنا من شئنا منهم ، وهربوا في كل وجه يريدون حصن قلعة الزبير ، وتركناهم يهربون ، وصعد المسلمون على جدره فكبّروا عليه تكبيرا كثيرا.

ووجدنا فيه من الأطعمة ما لم نظن أنّه هناك من الشعير والتمر والسمن والعسل والزيت والشحوم. ونادى منادي رسول الله : كلوا واعلفوا ، ولا تحتملوا. فكان المسلمون يأخذون من ذلك الحصن طول مقامهم هناك طعامهم وعلف دوابهم ، لا يمنع أحد أن يأخذ حاجته ، من دون أن يخمّس. ووجدوا فيه خوابي الخمر الكبار لا يطاق حملها ، فأمرهم النبي فكسروها حتى سال الخمر في الحصن.

وروى عن أبي ثعلبة الخشني قال : ووجدنا فيه أواني من نحاس وفخّار قد أكل اليهود فيها وشربوا ، فسألنا رسول الله عنها فقال : اسخنوا فيها الماء ثم اطبخوا فيها وكلوا واشربوا. وأخرجنا منه حمرا وبقرا وغنما كثيرا ، وآلة للحرب كثيرة ودبابات ومنجنيقا وعدة ، فعلمنا أنهم كانوا يظنون أن الحصار يكون دهرا طويلا ، فعجّل الله خزيهم. ووجدوا فيه من البزّ عشرين شدة محزومة من غليظ متاع اليمن ، وألفا وخمسمائة قطيفة.

وكان رجل من المسلمين يقال له عبد الله كان لا يصبر عن الشراب وقد ضربه رسول الله مرارا ، فعمد يومئذ فشرب من خمر اليهود ، فرفع أمره إلى النبي صلّى الله عليه [وآله] وسلم فخفقه بنعله ، فخفقه من حضره بنعالهم (١).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٦٢ ـ ٦٦٥.


واستخرجوا ما كان قاله اليهودي من المنجنيق والدبابتين والدروع والسيوف والبيض (١). وتحول اليهود من كل حصون النطاة : حصن ناعم وحصن الصعب بن معاذ إلى قلعة الزبير ... وبقيت بقايا لا ذكر لهم في بعض حصون النطاة ، فجعل رسول الله بازائها رجالا يحرسونها لا يخرج أحد عليهم إلّا قتلوه.

حصار حصن الزّبير :

قال : وزحف رسول الله والمسلمون إلى حصن الزبير ، فغلّقوه عليهم ، وهو حصن منيع ، وانما هو في رأس قلعة لا تقدر عليه الخيل ولا الرجال لصعوبته ومناعته .. فحاصرهم رسول الله .. وأقام على ذلك ثلاثة أيام. ثم جاء رجل من اليهود يقال له غزّال ، فقال : أبا القاسم ، تؤمّنني على أن أدلك على ما تستريح به من أهل النطاة ، وتخرج إلى أهل الشق؟ فأمّنه رسول الله على أهله وماله. فقال اليهودي : إنّك لو أقمت شهرا ما بالوا ، فإنّ لهم جداول تحت الأرض ، يخرجون بالليل فيشربون ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمتنعون منك ، وان قطعت مشربهم عنهم ضجّوا!

فارسل رسول الله إلى جداولهم فقطعها ، فلما قطع عنهم مشاربهم لم يطيقوا المقام على العطش (٢) ، فخرجوا فقاتلوا أشدّ القتال ... فاصيب ذلك اليوم عشرة من

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٤٨.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٦٦٦ ـ ٦٦٧ وروى عن أبي شييم المزني الغطفاني من أصحاب عيينة ابن حصن ، بعد أن أسلم قال : لما رجعنا مع عيينة إلى خيبر وجد رسول الله قد فتح خيبر وغنّمه الله ما فيها .. فجعل يتدسّس إلى اليهود يقول لهم : ما رأيت كاليوم أمرا ، والله ما كنت أرى أحدا يصيب محمدا غيركم أهل الحصون والعدة والثروة ، أعطيتم بأيديكم وأنتم في هذه الحصون المنيعة وهذا الطعام الكثير ما يوجد له آكل والماء الدائم (الواتن)؟!


اليهود ، وقتل يومئذ نفر من المسلمين ، وافتتحه رسول الله ، فكان آخر حصون النّطاة ... وكان أهل النّطاة أحدّ اليهود وأهل نجدتهم.

من الرجيع إلى المنزلة :

وقلعة سمران من حصن أبيّ : قال : فلما فرغ رسول الله من النّطاة .. أمن من حرب اليهود وبياتهم وما يخاف منهم ، فأمر بالمعسكر أن يحوّل من منزله بالرجيع إلى مكانه الأوّل بالمنزلة .. ثم تحوّل إلى أهل الشّق. وكان بالشّق حصون ذات عدد ، فكان أول حصن بدأ به منها حصن ابي ، فقام منها على قلعة يقال لها سمران.

وخرج من اليهود رجل يقال له غزّال (أو غزول) فدعا إلى البراز ، فبرز له الحباب بن المنذر ، فاختلفا ضربات ، ثم حمل عليه الحباب فقطع يده اليمنى من نصف الذراع فوقع السيف من يد غزّال فاصبح أعزل فرجع منهزما مبادرا إلى الحصن ، وتبعه الحباب فقطع عرقوب رجله فوقع فأجهز عليه.

وخرج آخر فصاح : من يبارز؟ فبرز إليه رجل من المسلمين من آل جحش ، فقتل. وقام اليهوديّ يدعو إلى البراز ، فبرز له أبو دجانة قد عصب

__________________

ـ فقالوا : قد أردنا الامتناع في قلعة الزبير ، ولكنّ الدّبول (الجداول) قد قطعت عنّا ، وكان الحر ، فلم يكن لنا بقاء على العطش ٢ : ٦٧٥ ، ٦٧٦.

فيما روى الراوندي في الخرائج والجرائح قال : وبقيت لهم قلعة فيها أموالهم ومأكولهم ، ولم يمكن عليها حرب من أيّ وجه من الوجوه ، وحاصرها بمن فيها رسول الله .. فصار إليه يهودي منهم فقال : يا محمد ، تؤمّنني على نفسي وأهلي وولدي حتى أدلّك على فتح القلعة؟ قال : أنت آمن ، فما دلالتك؟ قال : تأمر ان أن يحفر هذا الموضع فانهم يصيرون إلى ماء أهل القلعة فيخرج ، ويبقون بغير ماء فيسلّمون إليك القلعة طوعا. فقال : أو يحدث الله غير هذا. الخرائج والجرائح ١ : ١٦٤ ، ١٦٥ فلم يقطع عنهم مشربهم ولم يعطّشهم. والله العالم.


رأسه بعصابة حمراء فوق المغفر يختال في مشيته ، وبدر اليهوديّ فضربه فقطع رجليه ثم أجهز عليه ثم سلبه درعه وأخذ سيفه وجاء بهما إلى النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم فنفّله إياهما. ثم أحجم اليهود عن البراز ، فكبّر المسلمون ثم تحاملوا على الحصن يقدمهم أبو دجانة حتى دخلوه .. فهرب من كان فيه من المقاتلة وتقحّموا الجدر كأنهم الظّباء حتى صاروا إلى حصن النّزار بالشق. ووجد المسلمون في قلعة سمران من حصن أبيّ أثاثا وغنما وطعاما ومتاعا ..

حصن النّزار بالشّق :

قال : هرب مقاتلة اليهود من قلعة سمران من حصن أبيّ حتى صاروا إلى حصن النّزار بالشّق ، وجعل من بقي في قلل النّطاة يأتي إلى حصن النّزار ، فامتنعوا فيه أشد الامتناع وغلّقوه على أنفسهم (١). ونظر رسول الله إلى حصن النّزار فقال : هذا آخر حصون خيبر فيه قتال (٢).

قال الراوندي : فلما كان من الغد ركب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بغلته وقال للمسلمين : اتبعوني وسار نحو القلعة ، وأقبلت السهام والحجارة نحوه ، فكانت تمرّ عن يمنته ويسرته ، فلا يصيبه شيء منها ولا أحدا من المسلمين ، حتى وصل رسول الله إلى باب القلعة ، فأشار بيده إلى حائطها ، فانخفض الحائط حتى صار مع الأرض ، فقال للناس : ادخلوا القلعة من رأس الحائط بغير كلفة (٣).

وقال الواقدي : فأخذ كفّا من الحصى فحصب به حصنهم ، فرجف بهم ، ثم

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٦٢ ـ ٦٦٨.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٦٦٩.

(٣) الخرائج والجرائح ١ : ١٦٥ ح ٢٥٣.


ساخ جدار الحصن في الأرض .. حتى جاء المسلمون فأخذوهم أخذا وكانت فيه صفية بنت حييّ بن أخطب وابنة عمّها (١) ووهب النبيّ لليهوديّ الذي وعده زوجته من حصن النّزار (٢).

صفيّة بنت حييّ بن أخطب :

قال الحلبيّ : كانت صفية عند سلّام بن مشكم (النضري) ، ثم عند كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق (الخيبري) (٣).

وروى الواقدي بسنده عن ابنة أبي القين المزني عن صفية قالت : لما أجلى رسول الله بني النضير خرجنا من المدينة إلى خيبر فأقمنا فيه ، فتزوّجني كنانة بن أبي الحقيق فاعرس بي قبل قدوم رسول الله إلى خيبر بأيام ، وذبح جزرا ودعا باليهود وحوّلني إلى حصنه في سلالم. فرأيت في النوم كأن قمرا أقبل يسير من يثرب حتى وقع في حجري ، فذكرت ذلك لزوجي كنانة ، فلطم عيني فاسودّت (٤) وقال : ما هذا إلّا أنك تمنّين ملك الحجاز محمدا (٥).

قالت : فلما نزل رسول الله خيبر .. جرّد اليهود حصون النطاة للمقاتلة وجعلوا ذراريهم في حصن الكتيبة .. فلما افتتح رسول الله [بعض] حصون النطاة دخل عليّ كنانة فقال : قد فرغ محمد من النطاة ، وليس هاهنا أحد يقاتل .. فخرج

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٦٨.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٦٤٨.

(٣) مناقب آل أبي طالب ١ : ١٦٠.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٦٧٤ واللفظ : اخضرت بمعنى اسودّت ، ونقلنا الكلمة بالمعنى.

(٥) سيرة ابن هشام ٣ : ٣٥١.


بي وحوّلني وابنة عمّي ونسيات معنا حتى أدخلنا حصن النّزار بالشق (١) في الليلة التي تحوّل رسول الله في صبيحتها إلى الشّق (٢).

فروى الطبرسي عن الأحمر البجلي الكوفي عن زرارة عن الباقر عليه‌السلام في سبي صفية قال : وأخذ علي عليه‌السلام في من أخذ صفية بنت حيي ، فدعا بلالا فدفعها إليه وقال له : لا تضعها إلّا في يدي رسول الله حتى يرى فيها رأيه. فأخرجها بلال ومرّ بها إلى رسول الله على القتلى ، فكادت أن تذهب روحها جزعا. فقال له رسول الله : أنزعت منك الرحمة يا بلال؟! (٣).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٧٤.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٦٦٩.

(٣) اعلام الورى ١ : ٢٠٩ وعنه في قصص الأنبياء : ٤٧.

وقال ابن اسحاق : اتي رسول الله بصفية بنت حيي بن أخطب ، وباخرى معها ، أتاه بهما بلال وقد مرّ بهما على قتلى من اليهود ، فالتي كانت مع صفية لما رأت قتلاها صاحت وصكّت وجهها وحثت التراب على رأسها. فلما رآها رسول الله قال : أبعدوا عنّي هذه الشيطانة! أما صفية فأمر بها إلى خلفه وألقى عليها رداءه ، فعرف المسلمون أن رسول الله قد اصطفاها لنفسه ٣ : ٣٥٠ ، ٣٥١.

وقال الواقدي : سباها رسول الله وأرسل بها مع بلال إلى رحله ، فمرّ بها وبابنة عمّها على قتلاهم ، فصاحت ابنة عمها صياحا شديدا. فكره رسول الله ما صنع بلال وقال له : أذهبت منك الرحمة؟! تمر بجارية حديثة السن على القتلى؟! ٢ : ٦٧٣.

وروى الكليني في روضة الكافي عن سليم بن قيس عن سعد بن أبي وقاص الزهري حديثا يعدّد فيه خصال علي عليه‌السلام فيقول عن يوم خيبر : فما انثنى حتى فتح خيبر وأتاه بصفية بنت حيي بن أخطب ، فاعتقها رسول الله وجعل عدّة عتقها صداقها وتزوّجها كما رواه في بحار الأنوار ٤٢ : ١٥٥ ، ١٥٦.


وفي خبر الواقدي عن صفية قالت : لما أمسى رسول الله جاء فدعاني ، فجئت وأنا مقنّعة حييّة حتى جلست بين يديه وقبل قدوم رسول الله إلى خيبر كان قد تزوّجني وأعرس بي كنانة بن أبي الحقيق. ورأيت في النوم : كأنّ قمرا أقبل من يثرب يسير حتى وقع في حجري فذكرت ذلك لزوجي كنانة ، فلطمني كنانة على عيني فاسودّ أطرافها.

فلما دخلت عليه سألني عنه ، فاخبرته الخبر ، ثم قال لي : إن أقمت على دينك لم اكرهك ، وإن اخترت الله ورسوله فهو خير لك. فقلت : اختار الله ورسوله والإسلام. فأعتقني : وجعل عتقي مهري وتزوّجني (١).

وكان معها ابنة عمها. وكان رسول الله قد وعد دحية الكلبي جارية من سبي خيبر ، ونظر دحية إلى صفية فسألها رسول الله ، فأعطاه ابنة عمها (٢).

حصون الوطيح وسلالم والكتيبة :

وقال : لما فتح رسول الله حصن النزار هرب أهلها منها إلى أهل الوطيح وسلالم والكتيبة .. وبالكتيبة من اليهود ومن نسائهم وذراريّهم أكثر من ألفين .. وجاءهم كل فلّ كان قد انهزم من النطاة والشق ، فتحصّنوا معهم في القموص

__________________

ـ وروى الاربلي في كشف الغمة عن مسند الإمام أحمد بسنده عن ابن عباس في حديث قال : فجاء وهو أرمد ، فنفث في عينه ثم هزّ الراية ثلاثا ثم أعطاها إياه ، فجاء بصفية بنت حييّ ١ : ٨١ ، ٨٢ وعنه في بحار الأنوار ٣٨ : ٢٤١ و ٤٠ : ٥٠.

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٧٥ ، وفي ابن هشام ٣ : ٣٥١ ، وروى المجلسي خبر رؤياها القمر عن الكازروني في بحار الأنوار ٢١ : ٣٣.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٦٧٤.


من الكتيبة والوطيح وسلالم ، حصن بني أبي الحقيق الذي كانوا فيه (١). وتحوّل رسول الله إلى الكتيبة والوطيح والسلالم ..

وتهيّأ أهل القموص وقاموا على باب الحصن بالنبل ، ونهض كنانة إلى قوسه ، فما قدر أن يوترها من الرّعدة (رعبا ورهبا) وأومأ إلى أهل الحصون أن لا يرموا ... وانقمعوا في الحصون مغلّقين على أنفسهم لا يطلعون منها ، فما رئي منهم أحد .. وحصرهم رسول الله أربعة عشر يوما (٢) .. ولما رأى رسول الله اغلاقهم حصونهم وأنه لا يبرز منهم بارز همّ أن ينصب المنجنيق عليهم (٣) .. وأجهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب. وايقنوا بالهلكة ، فأرسل كنانة رجلا من اليهود يقال له : شمّاخ إلى النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم.

فلما نزل شمّاخ أخذه المسلمون فاتي به النبيّ فأخبره عن كنانة أنه يقول : أنزل إليك فاكلّمك؟! فأنعم له النبيّ ، فرجع شمّاخ بالرسالة.

مصالحة أهل الحصون الثلاثة :

قال : فنزل كنانة في نفر من اليهود فصالح رسول الله على :

١ ـ حقن دماء من في حصونهم من المقاتلة ، وترك الذرية لهم.

٢ ـ ويخرجون من حصون خيبر وأراضيها.

__________________

(١) أو في القموص كما في سيرة ابن هشام ٣ : ٣٤٤ و ٣٥٠.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٦٧٠. وفي سيرة ابن هشام ٣ : ٣٤٧ : فحاصرهم رسول الله بضع عشرة ليلة. وروى الواقدي عن أبي هريرة قال : قدمنا المدينة ونحن ثمانون بيتا من دوس ، فقالوا : رسول الله في خيبر ... فتحمّلنا إلى خيبر فوجدناه قد فتح النّطاة وهو محاصر أهل الكتيبة ، فأقمنا معه حتى فتح الله عليه ٢ : ٦٣٦.

(٣) الذي وجده مدفونا في حصون النطاة حسب إخبار اليهودي إياه ٢ : ٦٤٨.


٣ ـ ويخلون بين رسول الله وبين ما كان لهم من أرض أو مال من ذهب أو فضة أو سلاح أو ثياب ، إلّا الثياب التي عليهم.

فصالحه رسول الله على ذلك (١) ، وأرسل إلى الأموال فقبضها الأول فالأول ، وبعث إلى المتاع والسلاح فقبضها. فوجد ألف رمح ، وخمسمائة قوس عربية بجعابها ، وأربعمائة سيف ، ومائة درع.

لما انتصر رسول الله على حصون النطاة كان ابن أبي الحقيق أخذه الرعب فأيقن بالهلكة ، فذهب ليلا بجلد جمل فيه حليّهم إلى خربة في حصن الكتيبة بحيث لا يراه أحد فحفر فيها ودفنها وسوى عليها التراب. فسأل رسول الله كنانة بن أبي الحقيق عن كنزهم الذي كانوا يعرفون به ، وحليّ كانت في جلد جمل كانوا يعيرونها للأعراس بمكة! فقال : يا ابا القاسم ، لقد كنا نرفعه لمثل هذا اليوم أما اليوم فقد انفقناه في حربنا فلم تبق الحرب واستنصار الرجال من ذلك شيئا. وحلف على ذلك. فقال رسول الله : برئت منك ذمّة الله وذمّة رسوله إن كان عندكم! قال : نعم!

ثم قال النبيّ : وكل ما أخذت من أموالكم وأصبت من دمائكم فهو حلّ لي ولا ذمّة لكم! قال : نعم. فقام رجل من اليهود إلى كنانة بن أبي الحقيق فقال : إن كان عندك ما يطلب منك محمد أو تعلم علمه فأعلمه ، فانّك تأمن على دمك ، وإلّا فو الله ليظهرن عليه ، وقد اطلع على غير ذلك بما لم نعلمه. فزبره ابن أبي الحقيق ، فتنحّى اليهودي فقعد.

ثم سأل رسول الله ثعلبة بن سلّام بن أبي الحقيق عن كنزهم ، وكان رجلا ضعيفا. فقال : ليس لي علم ، غير أني قد كنت أرى كنانة كل غداة يطوف بهذه الخربة واشار إلى خربة ، فإن كان شيء دفنه فهو فيها! فأرسل رسول الله الزبير بن

__________________

(١) أشار إليه الحلبي في مناقب آل أبي طالب ١ : ٢٠٤.


العوّام مع ثعلبة بن أبي الحقيق فحفر حيث أراه ثعلبة فاستخرج منه ذلك الكنز! فلما اخرج الكنز أمر رسول الله الزبير أن يعذّب كنانة بن أبي الحقيق حتى يستخرج كل ما عنده! فعذّبه الزبير بزند يقدحه في صدره.

ثم أمره رسول الله أن يدفعه إلى محمد بن مسلمة يقتله بأخيه (محمود) فقتله محمد بن مسلمة. وأمر بابن أبي الحقيق الآخر [ثعلبة] فضرب عنقه. واستحلّ رسول الله بذلك أموالهما وسبى ذراريّهما.

واتي رسول الله بجلد الجمل فجعل بين يديه ، فإذا جلّه أسورة الذهب ودمالج الذهب وخلاخل الذهب وقرطة الذهب ، ونظم من جوهر وزمرّد ، وخواتم ذهب ، وفتخ (خواتيم الأيدي والأرجل) بالذهب مجزّع بجزع ظفار ، ونظام من جوهر كان لبنت (١) كنانة من غير صفية.

فروة بن عمرو على الغنائم :

قالوا : واستعمل رسول الله على الغنائم يوم خيبر فروة بن عمرو البياضيّ ، وكان قد جمع ما غنم المسلمون في حصون النّطاة وحصون الشّق وحصون الكتيبة ،

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٧٠ ـ ٦٧٣. وروى الحلبي في مناقب آل أبي طالب ١ : ١١٣ في معجزات أقواله : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لكنانة .. والربيع : أين آنيتكما التي كنتما تعيرانها أهل مكة؟ قالا : أنفقناها. فقال لهما : إنّكما إن كتمتما شيئا فاطّلعت عليه استحللت دماءكما وذراريكما! قالا : نعم. فدعا رجلا من الأنصار وقال له : اذهب إلى قراح (مزرعة) كذا فأت النخيل فانظر نخلة عن يمينك وعن يسارك ، وانظر نخلة مرفوعة فايتني بما فيها. فانطلق وجاء بالآنية والأموال. فضرب عنقهما.

ولفظ الخبر هنا في المناقب : قال لكنانة زوج صفية والربيع. بينما ذكر في ترتيب أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أن صفية كانت عند سلّام بن مشكم ثم عند كنانة بن الربيع ١ : ١٦٠ والأخير هو الصحيح.


لم يترك على أحد من أهل الكتيبة إلّا ثوبا على ظهره من الرجال والنساء والصبيان ، وجمعوا أثاثا كثيرا وبزّا وقطائف وسلاحا كثيرا ، وغنما وبقرا وطعاما وأدما كثيرا.

فأمّا الطعام والادم والعلف فلم يخمّس ، بل كان الناس يأخذون منه حاجتهم ، ومن احتاج إلى سلاح يقاتل به أخذه من صاحب المغنم حتى فتح الله عليهم فردّ ذلك في المغنم. فلمّا اجتمع ذلك كله أمر به رسول الله فجزّئ خمسة أجزاء ، كتب في سهم منها «لله» وسائر السهام أغفال. فكان أوّل ما خرج سهم النبيّ ، ولم يتخيّر في الأخماس (١).

قالوا : وكان الخمس إلى رسول الله من كل مغنم غنمه المسلمون ، شهده رسول الله أو غاب عنه (٢) ووجد رجل يومئذ في خربة مائتي درهم فجاء بها إلى رسول الله فأخذ منها الخمس ودفعها إليه (٣).

ثم أمر رسول الله ببيع الأربعة الأخماس لمن يريد. فجعل فروة يبيعها لمن يريد.

قال فروة بن عمرو : فلقد رأيت الناس يتداركون عليّ ويتواثبون حتى بيع في يومين ، ولقد كنت أرى أنّا لا نتخلّص منه حينا لكثرته (٤).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٨٠.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٦٨٣. وفي سيرة ابن هشام ٣ : ٣٧١ عن الزهري.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٦٨٢. وكان الخمس الذي صار إلى رسول الله من المغنم يعطي منه ما أراد من السلاح والكسوة فأعطى منه أهل بيته من الثياب والخرز والأثاث ، وأعطى رجالا ونساء من بني عبد المطلب وأعطى السائل واليتيم ٢ : ٦٨٠.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٦٨٠.


وروى الواقدي وبسنده عن أمّ عمارة قالت : اخرج .. شيء كثير يباع في المقسم خرز من خرز اليهود وشيء كثير من البزور .. فقيل لها : فمن كان يشتري ذلك في المقسم؟ قالت : أمّا من كان يشتري من المسلمين فانّما كان يحاسب بما يصيبه من المغنم ، ومن حضر من الأعراب ، واليهود الذين كانوا في الكتيبة فأمنوا (١). وقال جعفر بن محمود كان كثير من يهود الكتيبة (والوطيح وسلالم) قد غيّبوا أعيان أموالهم ونقودهم ، فلمّا أمّنهم رسول الله كانوا يقبلون فيشترون أو يبيعون ، حتى لقد أنهوا كل المغنم من كثر ما كانوا يشترون من المتاع والثياب! (٢).

ولما كان فروة يبيع المتاع يومئذ وكان يوما حارا فأخذ عصابة عصب بها رأسه ليستظلّ بها من الشمس ، ثم رجع وهي عليه فذكر فخرج فطرحها وأخبر بها رسول الله فقال : عصابة من نار عصبت بها رأسك؟ وسأل رجل رسول الله يومئذ من الفيء شيئا فقال رسول الله : لا يحلّ لي من الفيء خيط ولا مخيط ، لا آخذ ولا اعطي. وسأله رجل عقالا فقال رسول الله : حتى نقسم الغنائم ثم اعطيك عقالا ، وإن شئت مرارا (حبلا) (٣).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٦٥.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٦٦٩ ، ٦٧٠.

(٣) إلّا أنّ ابن اسحاق روى في السيرة عن عبد الله بن المغفّل المزني قال : أصبت من فيء خيبر جرابا فيه شحم ، فاحتملته على عاتقي إلى أصحابي في رحلي ، فلقيني الذي جعل على المغانم (لعله فروة بن عمرو) فأخذ بناحيته وقال : هلمّ هذا نقسمه بين المسلمين ، فقلت : لا والله لا أعطيكه ، فجعل يجاذبني الجراب فرآنا رسول الله ونحن نصنع ذلك فتبسّم رسول الله ثم قال لصاحب المغانم : لا أبا لك خلّ بينه وبينه ٣ : ٣٥٤ فلعل الفارق أنّ هذا كان شحما والفصل صيف حارّ يفسد فيه مثل الشحم ، وهو محدود لا يمكن تقسيمه بين المسلمين.


وتوفي يومئذ رجل من أشجع فذكروه لرسول الله فقال : صلّوا على صاحبكم! فتغيّرت وجوه الناس لذلك ، فقال رسول الله : إنّ صاحبكم غلّ في سبيل الله .. فوجدوا في متاعه خرزا من خرز اليهود لا يسوى درهمين! وكان إذا وجد الغلول في رحل الرجل لا يعاقبه .. ولكنّه كان يعرّف الناس به ويؤنّب ويعنّف ويؤذى.

ونادى منادي رسول الله : أدّوا الخيط والمخيط ، فإن الغلول عار وشنار ، ونار يوم القيامة. وسمع رسول الله يومئذ يقول : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماءه زرع غيره (لا ينكح المرأة الحامل من غيره) ولا يبع شيئا من المغنم حتى يعلم ، ولا يركب دابّة من المغنم حتى إذا براها (هزّلها) ردّها ، ولا يلبس ثوبا من المغنم حتى إذا أخلفه ردّه ، ولا يأت من السبي حتى تستبرئ وتحيض حيضة ، وإن كانت حبلى حتى تضع حملها (١).

قالوا : وكان الذي ولي إحصاء المسلمين زيد بن ثابت .. فأحصاهم ألفا وأربعمائة ، والخيل مائتي فرس لها أربعمائة سهم .. فكانت السهام على ثمانية عشر سهما .. لكل مائة رأس يعرف يقسم على أصحابه (٢).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٨١ ، ٦٨٢ وروى الأخيرة ابن اسحاق في السيرة ٣ : ٣٤٥ ، ٣٤٦ بسنده عن رويفع بن ثابت الأنصاري قال : قام فينا رسول الله فقال .. وروى عن مكحول قال : نهاهم النبيّ يومئذ عن أربع : عن أكل الحمر الأهلية ، واكل كل ذي ناب من السباع ، وعن اتيان الحبالى من السبايا ، وعن بيع المغانم حتى تقسّم ٣ : ٣٤٥.

وسيتكرر الأمر بالاستبراء يوم اوطاس أي يوم حنين ٣ : ٩١٩ وجل أخبارنا فيه.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٦٨٩ و ٧١٨ وكذلك قال ابن اسحاق : كانت عدة الذين قسمت عليهم خيبر من أصحاب رسول الله ألفا وثمانمائة سهم ، الرجال ألف وأربعمائة ، والخيل مائتا فرس ، فكان لكل فرس سهمان ولفارسه سهم ، ولكل راجل سهم ، فكان الجميع ثمانية عشر [ألف] سهم.


وروى الواقدي بسنده عن الحارث بن عبد الله قال : رأيت أمّ عمارة فسألتها : كم كانت سهام الرجال؟ قالت : ابتاع زوجي غزيّة بن عمرو متاعا [من غنائم خيبر] بأحد عشر دينارا ونصف ، فلم يطالب بشيء ، فظننّا أن هذا هو سهم الرجال الفرسان ، فإن زوجي كان فارسا (١).

وقالوا : كانت خيبر لأهل الحديبية .. لقول الله عزوجل : (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ)(٢) يعني خيبر (٣) لمن شهدها منهم ومن غاب عنها. وقد مرض خمسة منهم : سويد بن النعمان (٤) ، وعبد الله بن سعد بن خيثمة ، ورجل من بني خطامة .. ومات من الخمسة رجلان .. وتخلّف : مري بن سنان ، وجابر بن عبد الله الأنصاري (٥) وسباع بن عرفطة الغفاري خلفه على المدينة (٦) وأيمن بن عبيد ابن أمّ ايمن (٧).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٨٨.

(٢) الفتح : ٢٠.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٦٨٤ ورواه في ٢ : ٦٢١ عن الزهري عن ابن المسيّب. فكان علي بن أبي طالب راسا ، والزبير بن العوّام ، وطلحة بن عبيد الله ، وعمر بن الخطاب ، وعبد الرحمن ابن عوف ، وعاصم بن عديّ ، واسيد بن حضير ٣ : ٣٦٤ وعنه عن الزهري عن عروة بن مسوّر بن مخرمة مثله في أمالي الطوسي : ١٦٤ وعنه في بحار الأنوار ٢١ : ١٠.

(٤) كان فارسا خرج مع النبيّ إلى خيبر ، فلما قربوا ليلا من خيبر ونظر إلى بيوتها وقع به الفرس ، فكسرت يد سويد وعطب فرسه ، فكان في منزله (خيمته) لم يخرج منه حتى انتهت الحرب ، فأسهم له رسول الله سهم فارس ٢ : ٦٨٩.

(٥) وفي سيرة ابن هشام ٣ : ٣٤٥.

(٦) وفي ابن هشام ٣ : ٣٤٢ : استعمل على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي.

(٧) وفي ابن هشام ٣ : ٣٦٢ وعذّره حسّان بن ثابت في شعره قال :


قالوا : وخرج مع رسول الله إلى خيبر عشرة من يهود المدينة .. وكان منهم موالي مماليك .. فاعطاهم من امتعة خيبر.

وخرج معه من المدينة عشرون امرأة. فلم يسهم لهنّ إلّا أنه أعطاهن شيئا من الفيء (١) دون السهام ، ولعله كان يعادل نصف سهام الرجال أو نحوه. فروى عن أميّة بنت قيس الغفارية : أنّ رسول الله أعطاها قلادة. وعن أمّ سنان : أنه أعطاها خرزا وحليّا من فضة وقدرا من نحاس ، وخمائل وبردا يمانيا ، وقطيفة فدكية. وعن أمّ عمارة : أنه أعطاها بردا يمانيا وقطيفة ودينارين (٢).

وأسهم للقتلى الذين قتلوا من المسلمين (٣) ستة عشر من الأنصار وأربعة من المهاجرين ثلاثة من حلفاء بني اميّة وحليف لبني أسد من قريش (٤).

__________________

وأيمن لم يجبن ، ولكنّ مهره

أضرّ به شرب المديد المخمّر

العجين المخمّر

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٨٤ ـ ٦٨٦. والمعنى الأخير في السيرة ٣ : ٣٥٦.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٦٨٦ ـ ٦٨٨.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٦٨٤.

(٤) سيرة ابن هشام ٣ : ٣٥٧ ، ٣٥٨. هذا ، وقد مرّ عن الواقدي عن أبي هريرة قال : قدمنا المدينة ونحن ثمانون بيتا من دوس (عشيرة من أزد اليمن) فقالوا : رسول الله في خيبر ... فتحمّلنا إلى خيبر فوجدناه محاصرا أهل الكتيبة ، فأقمنا معه حتى فتح الله عليه ٢ : ٦٣٦ وقال كاتبه ابن سعد في الطبقات ١ : ٧٨ : وقدم الدّوسيّون وفيهم أبو هريرة ، وقدم الأشعريون (وهم منهم) فلحقوه بخيبر ، فكلم رسول الله أصحابه فيهم أن يشركوهم في الغنيمة ففعلوا. وفي فتح الباري للعسقلاني ٦ : ١٨٢ و ٧ : ٣٩١ عن أبي موسى الأشعري أنه بلغهم ظهور النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهجرة المسلمين إلى الحبشة ، فركبوا إليهم وهم نحو خمسين رجلا فأقاموا مع جعفر بن أبي طالب حتى قدموا معه خيبر ، فأسهم لهم أيضا.


أما عن بساتين النخيل والمزارع فيها في أراضي خيبر لليهود ، فانهم قالوا لرسول الله : يا محمد ، نحن أرباب النخل واهل المعرفة بها (١).

فروى الكليني في «الكافي» بسنده عن الباقر عليه‌السلام قال : إنّ رسول الله أعطاهم أرض خيبر ونخلها بالنصف (٢) وأضاف عن الرضا عليه‌السلام قال : قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خيبر وعليهم في حصصهم العشر ونصف العشر (٣).

قالوا : وجعل المسلمون يقعون في حرثهم وبقلهم بعد المساقاة أي بعد أن صار نصف لهم ونصفه لليهود ، فشكا اليهود ذلك إلى رسول الله فدعا رسول الله عبد الرحمن بن عوف فنادى : الصلاة جامعة! فاجتمع الناس. فقام رسول الله فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إنّ اليهود شكو إليّ أنكم وقعتم في حظائرهم ، وقد آمنّاهم على دمائهم وعلى أموالهم ، وعاملناهم على الذي في أيديهم من أراضيهم ،

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٩٠ وفي ابن هشام ٣ : ٣٥٢ : قالوا : نحن أعلم بها منكم وأعمر لها ، وسألوا رسول الله أن يعاملهم على النصف. فصالحهم رسول الله على النصف على أنّه إذا شاء أن يخرجهم منها أخرجهم. وفي ٣ : ٣٧١ عن الزهري : أنّ النبيّ دعا اليهود بعد الفتح فقال : ان شئت دفعت إليكم هذه الأموال على أن تعملوها وتكون ثمارها بيننا وبينكم ، وأقرّكم ما أقرّكم الله؟ فقبلوا ، فكانوا يعملون على ذلك .. حتى توفي رسول الله فأقرها أبو بكر بأيديهم على المعاملة حتى توفي وأقرّها عمر أولا ثم أجلاهم وقسّم أراضيها على ثمانية عشر سهما على رءوس السهام التي عيّنها رسول الله ، ابن هشام ٣ : ٣٧٢ ، مغازي الواقدي ٢ : ٧١٨. فهو من حوادث عهد عمر.

(٢) فروع الكافي ٥ : ٢٦٦ ، الباب ١٢٨ ، الحديث ١ واعطاهم بمعنى تركها في أيديهم كما فيه عن الصادق عليه‌السلام ٥ : ٢٦٧ ، الباب ١٢٨ ، الحديث ٢ والفقيه ٣ : ١٥١ ، الباب ٧٢ ، الحديث ١ والاستبصار ٣ : ١١٠ ، الباب ٧٤ ، الحديث ١ والتهذيب ٧ : ١٤٨ الباب ١١ ، الحديث ٦.

(٣) فروع الكافي ٣ : ٥١٤ ، الباب ٧ ، الحديث ٢.


وإنّه لا تحلّ أموال المعاهدين إلّا بحقّها!

فكان المسلمون لا يأخذون من بقولهم شيئا إلّا بثمن (١).

ونهى عن الربا المعاملي :

قالوا : كان فضالة بن عبيد يقول : أصبت يوم خيبر قلادة وكان في القلادة ذهب وغيره ، فبعتها بثمانية دنانير ، وذكرت ذلك لرسول الله فقال : بع الذهب وزنا بوزن. واشتري يوم خيبر تبر بذهب جزافا فنهى عنه رسول الله (٢). واشترى السعدان تبرا (غير مصوغ) بذهب (مصوغ) أحدهما أكثر وزنا. فقال رسول الله : أربيتما فردّا (٣).

وروى ابن اسحاق بسنده عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله : ابتاعوا تبر الذهب بالورق العين ، وتبر الفضة بالذهب العين. ونهانا عن أن نبيع أو نبتاع تبر الذهب بالذهب العين ، وتبر الفضة بالورق العين (٤).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٩١.

(٢) وفي المطبوع : «فلهي عنه» خطأ.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٦٨٢.

(٤) سيرة ابن هشام ٣ : ٣٤٦ ، وعليه فالنهي عن المفاضلة في المماثل ، ولا مانع عن غير المماثل. والنهي في الأسبق عن الجزاف والغرر ، ولعله كذلك في القلادة وفيها ذهب غير معلوم المقدار بالدنانير الذهب ، أما لو كان وزن الذهب في القلادة أقل من الدنانير لمكان الصياغة ولوجود غير الذهب مع الذهب ، فلا مانع مع الضميمة إلى الأقل أما لو كان وزنا بوزن أي متساويين في الذهب وزنا ، فهذا من الربا الحرام في مذهب أهل البيت عليهم‌السلام إذ إن ذهب القلادة يفضل ذهب الدنانير بالضميمة والصياغة فضلا عما إذا كان ذهب القلادة أكثر. وعليه فالحديث يصح في بعض صوره ولا يصح على إطلاقه في مذهب أهل البيت عليهم‌السلام.


وصول جعفر إلى خيبر :

روى الطبرسي عن أبان الأحمر البجلي الكوفي عن زرارة عن الباقر عليه‌السلام قال : كان رسول الله قبل أن يسير إلى خيبر أرسل عمرو بن اميّة الضمري إلى النجاشي عظيم الحبشة .. وأمر عمرا أن يقدم عليه بجعفر وأصحابه. فجهّز النجاشيّ جعفرا وأصحابه بجهاز حسن ، وأمر لهم بكسوة ، وحملهم في سفينتين. فلمّا فتح رسول الله خيبر أتاه البشير بقدوم جعفر بن أبي طالب وأصحابه من الحبشة .. فقال : ما أدري بأيّهما أسرّ ، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر!

وعن سفيان الثوري عن ابن الزبير عن جابر الأنصاري قال : لما نظر جعفر ابن أبي طالب إلى رسول الله حجل ـ أي مشى على رجل واحدة ـ إعظاما لرسول الله. فقبّل رسول الله ما بين عينيه (١).

بل روى الطوسي في «التهذيب» بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم افتتح خيبر أتاه الخبر أن جعفرا قد قدم فقال : والله ما أدري بأيهما أنا أشدّ سرورا؟ أبقدوم جعفر أو بفتح خيبر. فلم يلبث أن جاء جعفر فوثب رسول الله فالتزمه وقبّل ما بين عينيه. (و) قال له : يا جعفر ، ألا اعطيك؟ ألا أمنحك؟ ألا أحبوك [حبوة] فتشوّق الناس ورأوا أنه يعطيه ذهبا أو فضة. [وقال جعفر] : بلى يا رسول الله (٢) فعلّمه الصلاة المنسوبة إليه : صلاة جعفر الطيّار (٣).

وروى الطوسي في أماليه بسنده عن حذيفة بن اليمان قال : لما قدم جعفر من أرض الحبشة بأرض خيبر إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أتاه بهداياه من الغالية والقطيفة.

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ٢٠٩ وانظر سيرة ابن هشام ٤ : ٣ ومغازي الواقدي ٢ : ٦٨٣.

(٢) التهذيب ٣ : ١٨٦ ، الباب ٢٠ ، الحديث ١.

(٣) تجد تفصيل الصلاة عن الباقر عليه‌السلام في الكافي ٣ : ٤٦٥ ، والفقيه ١ : ٣٤٧ طبع النجف الأشرف ، والتهذيب ٣ : ١٨٦.


فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لأدفعنّ هذه القطيفة إلى رجل يحبّ الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله. فمدّ أصحاب النبي أعناقهم إليها ، وقال النبيّ : أين عليّ؟ فوثب عمّار بن ياسر فدعا عليّا عليه‌السلام فلمّا جاء قال له النبيّ : يا عليّ ، خذ هذه القطيفة إليك ، فأخذها علي (١).

وأما أمر فدك (٢) :

قال الواقدي : قالوا : لما دنا رسول الله من خيبر بعث محيّصة بن مسعود إلى فدك يدعوهم إلى الإسلام ويخوّفهم أن يحلّ بساحتهم.

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٣٦ وتمام الخبر : وأمهل حتى قدم المدينة فانطلق إلى البقيع وهو سوق المدينة فأمر صائغا ففصل القطيفة وفيها أسلاك الذهب فأخرجها سلكا سلكا فكان ألف مثقال من الذهب ، ففرّقه علي عليه‌السلام في فقراء المهاجرين والأنصار ، ثم رجع إلى منزله ولم يترك من الذهب قليلا أو كثيرا.

فلقيه النبيّ في غد في نفر من أصحابه فقال : يا علي ، إنّك أخذت بالأمس ألف مثقال فاجعل غدائي وأصحابي هؤلاء اليوم عندك. فقال : نعم يا رسول الله ادخل أنت ومن معك في الرحب والسعة يا نبيّ الله. قال حذيفة : وكنا خمسة نفر : أنا وعمّار وسلمان وأبو ذر والمقداد ، فدخل النبيّ ثم قال لنا : ادخلوا ، فدخلنا ، ودخل علي على فاطمة فوجد عندها في وسط البيت جفنة من ثريد تفور وكأن رائحتها المسك وعليها عراق (لحم) كثير ، فحملها علي حتى وضعها بين يدي رسول الله ومن حضر معه ، فأكلنا حتى تملّأنا. وقام النبيّ فدخل على فاطمة فقال لها : يا فاطمة أنّى لك هذا الطعام؟ ونحن نسمع قولهما فقالت : (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) فخرج النبيّ إلينا مستعبرا وهو يقول : الحمد لله الذي لم يمتني حتى رأيت لابنتي ما رأى زكريا لمريم كان إذا (دَخَلَ عَلَيْها) (الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً.) كما في بحار الأنوار ٢ : ٢٠ ولم نجده في الأمالي المنشور.

(٢) بينها وبين المدينة يومان ، كما في معجم البلدان ٦ : ٣٤٢. وتبعد عن المدينة نحو ١٤٠ كم ، وانظر مراصد الاطلاع ٣ : ١٠٢٠.


فعن محيّصة قال : لما جئتهم جعلوا يقولون : بالنّطاة عامر وياسر واسير والحارث وسيّد اليهود مرحب. وان بها عشرة آلاف مقاتل ، فما نرى محمدا يقرب جانبهم. وجعلوا يتربّصون ، ولم يزالوا كذلك حتى جاءهم قتل أهل حصن ناعم وأهل النّجدة منهم ، ففتّ ذلك في أعضادهم ، فجمعوا حليّا كثيرا من حليّ نسائهم وقالوا لمحيّصة : اكتم عنّا ما قلنا لك ، ولك هذا الحلي! فأبى محيّصة. قال محيّصة : فلما رأيت خبثهم أردت أن أرحل راجعا فقالوا : نحن نرسل معك رجالا يأخذون لنا الصلح. قال محيّصة : فقدم معي رجل من رؤسائهم يقال له : نون بن يوشع في نفر من اليهود (١).

وروى الطبرسي في «اعلام الورى» عن أبان عن زرارة عن الباقر عليه‌السلام قال : لما فرغ رسول الله من خيبر عقد لواء يريد أن يبعث به إلى حوائط فدك ، فقال : من يقوم فيأخذه بحقه؟ فقام إليه الزبير فقال : أنا. فقال له : أمط عنه! ثم قام سعد [بن أبي وقاص] فقال له : أمط عنه! ثم قال : يا علي قم إليه فخذه فأخذه ، فبعث به إلى فدك (٢).

قال الواقدي : فصالحوا رسول الله على أن يحقن دماءهم .. وأن لهم نصف الأرض بتربتها ، ولرسول الله نصفها. فقبل رسول الله ذلك ، وأقرّهم على ذلك (٣) ، ولم يبلغهم.

وأشار ابن اسحاق إلى أن محيّصة بن مسعود كان قد مشى بين رسول الله وبين اليهود في فدك .. فلما سمع أهل فدك بأن رسول الله قد حاصر أهل خيبر في

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٠٦.

(٢) اعلام الورى ١ : ٢٠٩.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٧٠٧.


حصنيهم الوطيح والسلالم ، وأنهم سألوه أن يحقن دماءهم ويسيّرهم بعث أهل فدك إلى رسول الله يسألونه أن يحقن دماءهم ويخلّوا له الأموال (١) فقدمت رسلهم على رسول الله في خيبر أو في الطريق ، أو بعد ما قدم المدينة ، يسألونه أن يصالحهم على نصف فدك. فقبل ذلك منهم. فكانت فدك لرسول الله خالصة لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب (٢).

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٣ : ٣٥٢.

(٢) سيرة ابن هشام ٣ : ٣٦٨ وقبله مثله ٣ : ٣٥٢ وفي آخر خبر الطبرسي عن أبان عن زرارة عن الباقر عليه‌السلام قال : فصالحهم على أن يحقن دماءهم. فكانت حوائط فدك لرسول الله خاصّا خالصا.

ثم قال : فنزل جبرئيل فقال : إنّ الله ـ عزوجل ـ يأمرك أن تؤتي ذا القربى حقه. فقال : يا جبرئيل ومن قرابتي وما حقه؟ قال : هي فاطمة ، فأعطها ما لله ولرسوله في حوائط فدك.

قال : فدعا رسول الله فاطمة عليها‌السلام وكتب لها كتابا. اعلام الورى ١ : ٢٠٩ وأشار إلى هذا المعنى القمي في تفسيره ٢ : ١٨ وروى العياشي في تفسيره ٢ : ٢٨٧ أربعة أخبار في ذلك ثلاثة منها عن الصادق عليه‌السلام عن أبان بن تغلب وجميل بن درّاج وعبد الرحمن ، والخبر الرابع عن عطية العوفي مرسلا. وروى الطبرسي في مجمع البيان ٦ : ٦٣٣ ، ٦٣٤ خبر عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري ، عن شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني النيشابوري ، وبأسانيد وطرق عديدة ١ : ٣٣٨ ـ ٣٤١ وعن الخدري القاضي المعتزلي في المغني ، وعنه المرتضى في الشافي وعنه المعتزلي في شرح النهج ١٦ : ٢٦٨. وفي الدر المنثور ٤ : ١٧٧.

هذا والآية هي السادسة والعشرون من سورة الإسراء المكية ، ولذلك احتمل صاحب التمهيد نزولها ثانية ١ : ٥٦ ، ولعل جبرئيل نزل بتطبيق الآية تذكيرا بها. أما الحكم بأن ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فهو لله وللرسول ولذي القربى فقد سبقت به الآيتان ٧ و ٨ من سورة الحشر المدنية النازلة قبل هذا بعد حرب بني النضير.


الشاة المشويّة :

روى الواقدي عن إبراهيم بن جعفر قال : كان سيد خيبر وأشجعهم ابو الحكم سلّام بن مشكم. وهو كان صاحب حربهم ، ولكنّ الله شغله بالمرض .. وكان في حصون النّطاة فقيل له : انه لا قتال فيك فكن في حصن الكتيبة [أي مع النساء والصبيان] فقال : لا أفعل أبدا ، فبقى في النطاة حتى قتل وهو مريض. وهو زوج زينب بنت الحارث الذي قتل مبارزة هو واخوانه مرحب ويسار وياسر والزّبير (١) ولم تسب زينب هذه. فلمّا فتح رسول الله خيبر واطمأنّ ، شاورت زينب اليهود في السموم ، فأجمعوا لها على سمّ قاتل بعينه .. فسألت : أي عضو من الشاة أحبّ إلى محمد صلى الله عليه [وآله]؟ فقالوا : الذراع والكتف ، فعمدت إلى عنز لها فذبحتها ثم عمدت إلى ذلك السم القاتل فسمّت الشاة واكثرت في الذراعين والكتفين.

فلما غابت الشمس صلى رسول الله المغرب وانصرف إلى منزله ، فوجد زينب عند رحله فقالت له : يا رسول الله هدية أهديتها لك. فأمر رسول الله أن تقبض الهدية منها ، فقبضت ووضعت بين يديه ، وجمع من أصحابه حضور فقال لهم : ادنوا فتعشّوا. ومنهم بشر بن البراء بن معرور الأنصاري ، وتناول رسول الله الذراع ، وتناول بشر بن البراء عظما ، وأنهش رسول الله من الذراع وانتهش بشر ، وازدرد رسول الله وازدرد بشر ثم قال رسول الله : كفّوا أيديكم ، فإن هذه الذراع تخبرني أنها مسمومة!

وكان ثلاثة نفر قد وضعوا أيديهم في الطعام ولم يسيغوا منه شيئا. أمّا بشر بن

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٧٩ ، ٦٨٠.


البراء فيقال : لم يقم من مكانه حتى مات. وقيل : لم يقم من مكانه حتى صار لونه كالطّيلسان (١) ولم يمت ، ولكنّه لا يتحوّل من مكانه إلّا أن يحوّل (٢).

واحتجم رسول الله من ذلك على كاهله ، أو كتفه اليسرى ، بالقرن والشفرة ، حجمه أبو هند. وأمر أصحابه (الثلاثة) فاحتجموا من أكلهم من الشاة أوساط رءوسهم. ودعا رسول الله بزينب فقال لها : سممت الذراع؟ ـ فقالت : من أخبرك؟ قال : الذراع! ـ قالت : نعم! فقال : وما حملك على ذلك؟ قالت : قتلت أبي وعمي وزوجي ، ونلت من قومي ما نلت ، فقلت : إن كان نبيّا فستخبره الشاة ما صنعت ، وإن كان ملكا استرحنا منه! فقيل : عفا عنها رسول الله. وقيل : أمر بها فقتلت ثم صلبت (٣)!.

__________________

(١) الطّيلسان فارسيّ معرّب أصله تالشان ، وهو من لباس العجم ثوب يحيط بالبدن ينسج للّبس خال عن التفصيل والخياطة ، أبيض. مجمع البحرين.

(٢) وماطله وجعه سنة ثم مات منه ، أي قبل رسول الله بسنتين ، في أواخر الثامنة للهجرة.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٦٧٨. وروى الخبر ابن اسحاق في السيرة لابن هشام ٣ : ٣٥٢ اخصر من هذا ، وقال : مات بشر ، وتجاوز عنها رسول الله. وعنه الطبرسي في مجمع البيان ٩ : ١٨١ ـ ١٨٤ وعنه في البحار ٢١ : ٦ ، ٧. وروى الصدوق في الخصال ١ : ٢٧٩ بسنده عن الإمام الكاظم عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام فيما أجاب به أمير المؤمنين عليه‌السلام حبرا يهوديا من يهود الشام ، وقال : أنّه أخرجه بتمامه في آخر الجزء الرابع من كتاب النبوة ، وأخرجه الطبرسي في الاحتجاج ١ : ٣١٤ ـ ٣٢٥ : أنّه عليه‌السلام قال له : لما نزل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بخيبر سمّته الخيبريّة فصيّر الله السمّ في جوفه بردا وسلاما إلى منتهى أجله. وروى الكليني في الكافي ٦ : ٣١٥ عن الصادق عليه‌السلام قال : سمّت اليهودية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذراع ، وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يحبّ الذراع والكتف ، ويكره الورك لقربها من المبال.


زواج النبيّ بصفيّة :

مرّ في الخبر عن الواقدي : أنّ أربع عشرة امرأة من نساء الأنصار خرجن يوم احد بعد القتال ، جئن يحملن الطعام والشراب على ظهورهنّ ويسقين الجرحى ويداوينهم ، منهن أمّ سليم بنت ملحان (١).

ومرّ في الخبر عنه أيضا أنها خرجت مع عشرين امرأة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى خيبر (٢). وفيه أيضا أن أنس بن مالك يقول : إنّ أمّ سليم بنت ملحان امّي (٣).

وهنا روى الواقدي عن أنس قال : انصرف من خيبر ومعه [امّه] أمّ سليم (٤) بنت ملحان ، ورسول الله يريد وادي القرى (٥).

وقد مرّ في الخبر عن الواقدي أيضا بسنده عن صفية نفسها : أنّها لما سبيت في النّزار قبل الكتيبة ، أرسلها إلى رحله ، ولما أمسى دعاها وقال لها : إن أقمت على دينك لم أكرهك ، وإن اخترت الله ورسوله فهو خير لك؟ فقالت : أختار الله ورسوله ، وأسلمت ، فتزوّجها وأعتقها وجعل عتقها مهرها. وأمر بستر فسترت به ، فعرف أنه تزوّجها (٦).

وهنا قال أنس بن مالك : لما بلغ ثبارا ـ على ستة أميال من خيبر إلى وادي القرى ـ أعلمها أنه يريد أن يعرّس بها هناك ، فأبت عليه ، فلم يكرهها ، وتركها.

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ٢٤٩.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٦٨٥.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩٠٣ وكذلك في السيرة لابن هشام عن ابن اسحاق ٣ : ٣٥٤.

(٤) اثبتنا الصواب ، وفي المطبوع خطأ : أمّ سلمة بنت ملحان.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٧٠٧.

(٦) مغازي الواقدي ٢ : ٦٧٤ ، ٦٧٥.


وسار حتى بلغ الصّهباء على اثني عشر ميلا ، فمال إلى دومة هناك. وأراد أن يعرّس بها هناك ، فطاوعته.

قال أنس : فقال رسول الله [لامّي] أمّ سليم انظري صاحبتك هذه ، فامشطيها ، قال أنس : ولم يكن معنا سرادقات ولا فساطيط ، فأخذت [امّي] أمّ سليم كساءين وعباءتين فشدتها إلى شجرة فتستّرت بها. وجاءت بصفية فأدخلتها الستر ، ومشّطتها وعطّرتها (١).

وأولم رسول الله يومئذ لها بالتمر والسّويق والحيس (٢) على بسط الأديم. وادخلت عليه مساء تلك الليلة. فقال لها رسول الله : ما حملك على ما صنعت حين أردت أن أنزل [بك] بثبار؟ فقالت : يا رسول الله ، خفت عليك قرب اليهود ، فلما بعدت أمنت. وعلم النبيّ أنها قد صدقته فزادها ذلك خيرا عند النبيّ (٣).

قال ابن اسحاق : وبات أبو أيّوب خالد بن زيد الأنصاري من بني النجّار ، متوشّحا سيفه يطيف بالقبة يحرس رسول الله حتى أصبح ، فلما أصبح رسول الله ورأى مكانه قال له : مالك يا أبا أيوب؟ فقال : يا رسول الله ، خفت عليك من هذه المرأة ، وكانت امرأة قد قتلت أباها وزوجها وقومها ، وكانت حديثة عهد بالكفر ، فخفتها عليك! فزعموا أنّ رسول الله قال : اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظني (٤).

__________________

(١) وفي ابن هشام ٣ : ٣٥٤ : لما أعرس رسول الله بصفية ، أصلحت من أمرها ومشّطتها وجمّلتها لرسول الله أمّ سليم أمّ أنس بن مالك.

(٢) الحيس : خليط الأقط والسمن بالتمر ، كما في النهاية ١ : ٢٧٤.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٧٠٧ ، ٧٠٨.

(٤) وفي مغازي الواقدي : قالوا : وبات أبو أيوب الأنصاري قريبا من قبّته ، آخذا بقائم


خبر ردّ الشمس لعليّ عليه‌السلام :

رجعت أسماء بنت عميس الخثعمية المهاجرة إلى الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب ، فقدموا على رسول الله بخيبر بعيد فتحه.

وفي منصرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من فتح خيبر ، وفي منزل الصّهباء هذا ، روت أسماء بنت عميس : أنّ النبيّ بعد صلاة العصر استلقى ورأسه في حجر علي عليه‌السلام ـ وهو لم يصل العصر ـ فاعترف النبيّ حالة الوحي ، فلم يوقظه علي عليه‌السلام ولم يضع راسه من حجره ليصلي العصر حتى غربت الشمس ، واستيقظ النبيّ ، وكان يعلم أنّ عليا عليه‌السلام لم يكن يصلي العصر ، فقال له : أصليت يا علي؟ قال : لا. فجعل النبيّ يدعو : اللهم إنّه (عليّ) كان في طاعتك وطاعة رسولك ، فاردد عليه الشمس! قالت أسماء : فرأيتها طلعت بعد ما غربت حتى وقعت على الجبل والأرض حتى أدّى عليّ عليه‌السلام صلاته فغربت (١). فقال حسّان بن ثابت في ذلك :

إن عليّ بن أبي طالب

ردّت له الشمس من المغرب (٢)

__________________

ـ السيف حتى أصبح ، فلما خرج رسول الله بكرة ، كبّر أبو أيوب ، فقال رسول الله : ما لك يا أبا أيوب؟ قال : يا رسول الله ، دخلت بهذه الجارية وكنت قد قتلت أباها وإخوتها وعمومتها وزوجها وعامّة عشيرتها ، فخفت أن تغتالك! فضحك رسول الله وقال له معروفا ٢ : ٧٠٨. هذا ، وأضاف الحلبي سعد بن أبي وقاص في حراسته تلك الليلة ١ : ١٦٣.

(١) انظر تسعة من المحدثين الذين أفردوا لهذا الحديث رسائل خاصة ، في مقدمة الدكتور الشيخ محمد هادي الأميني المحقق لكتاب فتح الملك العلي : ١٦ ـ ١٩ الحيدرية النجف الأشرف. وفي الكافي ٤ : ٥٦١ ح ٧ عن الصادق عليه‌السلام عن أسماء عن علي عليه‌السلام ، ورواه في الفقيه ١ : ١٣٠ ح ١١ وانظر مصادره في فضائل الخمسة ٥ : ١١٢ ـ ١١٩ وإحقاق الحق ٥ : ٥٢٢ ـ ٥٣٦ و ١٦ : ٣١٥ ـ ٥٣١ ، وكتاب : ردّ الشمس للطريحي.

(٢) الخرائج والجرائح ٢ : ٤٩٩ ح ١٣ وانظر مصادر الخبر فيه إلى صفحة : ٥٠٣.


خبر فتح خيبر في مكة :

قال الواقدي : كان للحجّاج بن علاط البهزيّ السلمي معادن الذهب بأرض بني سليم ، فكان له مال كثير ، وكان قد تزوّج بامّ شيبة بنت عمير بن هاشم العبدي اخت مصعب بن عمير بن هاشم ، وله عندها مال (ومال متفرّق في تجّار أهل مكة (١)) ومع ذلك كانت له غارات وقد خرج لذلك ، فذكر له أن رسول الله بخيبر [وفي خيبر الخير الكثير] فحضر إلى خيبر ، وأسلم (٢) [وسلم وغنم].

ولما فتحت خيبر كلّم رسول الله فقال : يا رسول الله ، إنّ لي بمكة مالا عند صاحبتي أمّ شيبة بنت أبي طلحة ... ومال متفرّق في تجار أهل مكة ، فأذن لي يا رسول الله (٣) حتى أذهب فآخذ مالي عند امرأتي ، فإن علمت بإسلامي لم آخذ منه شيئا. فأذن له. فقال : ولا بدّ لي يا رسول الله من أن أقول؟! فأذن له رسول الله أن يقول ما شاء (٤).

__________________

ـ وقد مرّ في الخبر : أن ذلك كان في منزل الصهباء. ونقل عبد الرحمن خويلد في كتابه المساجد والأماكن الأثرية المجهولة ، عن كتاب آداب الحرمين : ١٤٧ أن حادثة ردّ الشمس بعد غروبها لعليّ كرّم الله وجهه ليدرك صلاة العصر ، وقعت في موضع مسجد الفضيخ ، ثم قال : وهذا صحيح ؛ لأنّه مرويّ عن غير واحد من قدماء العلماء ، ذكرهم الطريحي في كتابه ردّ الشمس : ٩٤. وعن محل مسجد الفضيخ قال : يقع في جنوب مشربة أم إبراهيم في الشارع الموصل بين شارع العوالي وخط الحزام العام باتجاه مستشفى المدينة الوطني ، في الشارع الفرعي الأيمن قبل صالة (مرحبا) للأفراح بنصف كيلومتر تقريبا. كما في مجلة ميقات الحج ٧ : ٢٧٥.

(١) ستأتي الفقرة عن ابن اسحاق.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٧٠١.

(٣) سيرة ابن هشام ٣ : ٣٥٩.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٧٠١.


قال الحجّاج : فخرجت ، حتى إذا قدمت مكة ، وجدت في ثنيّة البيضاء (١) رجالا من قريش .. قد بلغهم أن رسول الله قد سار إلى خيبر ، وقد عرفوا أنها قرية الحجاز ريفا ومنعة ورجالا ، فكانوا يسألون الركبان يتسمّعون الأخبار ويتحسسونها. ولم يكونوا علموا بإسلامي ، فلما رأوني قالوا : الحجّاج بن علاط ، عنده والله الخبر .. يا ابا محمد ، إنّه بلغنا أن القاطع (٢) قد سار إلى خيبر ، وهي بلد يهود وريف الحجاز ، فأخبرنا! فقلت : قد بلغني ذلك ، وعندي من الخبر ما يسرّكم! فالتبطوا (٣) بجنبي ناقتي يقولون : ايه يا حجّاج! فقلت : هزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط ، وقتل أصحابه قتلا لم تسمعوا بمثله قط ، واسر محمد أسرا وقالوا : لا نقتله حتى نبعث به إلى أهل مكة فيقتلوه بين أظهرهم بمن كان أصاب من رجالهم! (٤). وقلت : لم يلق محمد وأصحابه قوما يحسنون القتال مثل أهل خيبر ، قد ساروا في العرب حتى جمعوا عشرة آلاف ، فهزم هزيمة لم يسمع قط بمثلها .. ولهذا فإنهم يرجعون إليكم يطلبون الأمان في عشائرهم ويرجعون إلى ما كانوا عليه ، فلا تقبلوا منهم وقد صنعوا بكم ما صنعوا! (٥). وقلت : أعينوني على جمع مالي بمكة ، وعلى غرمائي ، فانّي اريد أن أرجع إلى خيبر فاصيب من فلّ محمد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار إلى ما هنالك! فقاموا ، وصاحوا بمكة : قد جاءكم الخبر : هذا محمد انما تنتظرون أن يقدم به عليكم فيقتل بين أظهركم! وجمعوا مالي كأحثّ جمع سمعت به.

__________________

(١) ثنيّة البيضاء هي ثنيّة التنعيم ـ كما في معجم البلدان ـ والتنعيم اوّل الحرم بمكة.

(٢) أي القاطع للرحم ، كانوا يطلقون ذلك على رسول الله!

(٣) التبطوا : أي أطافوا بجانبي ناقتي مزدحمين ولذلك كانوا يتعثرون في مشيهم حولي.

(٤) سيرة ابن هشام ٣ : ٣٦٠.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٧٠٣.


وسمع العباس بن عبد المطلب الخبر عنّي .. وكنت في خيمة من خيام التجّار (١) في جمع مالي ، إذ أقبل العباس حتى وقف إلى جنبي فقال : يا حجاج ، ما هذا الخبر الذي جئت به؟! قلت له : أنا في جمع مالي كما ترى ، فانصرف عنّي حتى أفرغ ، واستأخر عنّي حتى ألقاك في خلأ.

فلمّا فرغت من جمع كل شيء كان لي بمكة .. لقيت العباس فقلت : يا أبا الفضل ، احفظ عليّ حديثي ثلاثا ثم قل ما شئت! فانّي أخشى الطلب. فقال : أفعل فقلت : فانّي والله لقد تركت ابن أخيك عروسا على بنت ملكهم (يعني صفيّة بنت حييّ (٢)) ولقد افتتح خيبر وانتفل ما فيها وصارت له ولأصحابه .. ولقد أسلمت ، وما جئت إلّا لآخذ مالي فرقا من أن اغلب عليه ، فإذا مضت ثلاث فأظهر أمرك ، فهو والله على ما تحب!

فلما كان اليوم الثالث لبس العباس حلّة وتطيّب بالخلوق وأخذ عصاه وخرج حتى أتى الكعبة فطاف بها. فلما رآه المشركون قالوا : يا أبا الفضل ، هذا والله التجلّد لحرّ المصيبة! فقال : كلّا والله الذي حلفتم به ، لقد افتتح محمد خيبر وترك عروسا على بنت ملكهم ، وأحرز أموالهم وما فيها فأصبحت له ولأصحابه! فقالوا : من جاءك بهذا الخبر؟! قال : هو الذي جاءكم ، ولقد دخل عليكم مسلما فأخذ ماله وانطلق ليلحق بمحمد وأصحابه فيكون معه (٣) فابعثوا إلى أهله! فبعثوا ، فسألوا عن ذلك كله ، فوجدوا الحجاج قد انطلق بماله واستكتم أهله .. ولم تلبث قريش خمسة أيام حتى جاءهم الخبر بذلك. فكبت المشركون وفرح بذلك المسلمون (٤).

__________________

(١) فكثير من مساكن مكة خيام وليست بناء.

(٢) وهذا هو السبب السياسي في زواج النبي بها.

(٣) سيرة ابن هشام ٣ : ٣٦٠ ، ٣٦١.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٧٠٥. وألفاظه أقرب إلى إسلام العباس يومئذ والتزلّف بذلك إلى


يهود وادي القرى وتيماء :

قال الواقدي : ومن منزل الصهباء سلك على برمة (١) إلى وادي القرى يريد من بها من اليهود (٢).

وروى ابن اسحاق بسنده عن أبي هريرة قال : نزلنا بوادي القرى أصيلا مع مغرب الشمس. وكان رفاعة بن زيد الجذامي قد أهدى غلاما له إلى رسول الله ، فو الله انّه ليضع رحل رسول الله ، إذ أتاه سهم غرب (٣) فأصابه فقتله. فقلنا : هنيئا له الجنة! فقال رسول الله : كلا والذي نفس محمد بيده! إن شملته (٤) الآن لتحترق عليه في النار ، كان غلّها من فيء المسلمين يوم خيبر! فسمعها رجل من أصحاب رسول الله ، فأتاه فقال : يا رسول الله أصبت شراكين لنعلين لي؟ فقال : يقدّ لك مثلهما من النار (٥).

وروى الواقدي الخبر عن أبي هريرة أيضا قال : انتهينا إلى اليهود بوادي القرى وقد ضوى إليها اناس من العرب .. ولم نكن على تعبئة ، وهم يضجّون في

__________________

ـ بنيه الخلفاء ، يظهر ذلك بالقياس والمقارنة ، فراجع وقارن وكلاهما لم يذكرا للخبر سندا خاصا ، وإنمّا أسنده الكازروني في المنتقى في مولد المصطفى عن أنس بن مالك ، وعنه المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٣٤ ، ٣٥. وهو أقرب إلى ما في مغازي الواقدي ، وليس هو به.

(١) برمة : بين خيبر ووادي القرى قرب بلاكث ، من نواحي المدينة به عيون ونخل. كما في وفاء الوفاء ٢ : ٢٦٠.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٧٠٩.

(٣) أي لا يعلم من رماه.

(٤) الشملة : كساء غليظ يلتحف به.

(٥) سيرة ابن هشام ٣ : ٣٥٣ ، ٣٥٤.


آطامهم (١) فاستقبلونا بالرمي حيث نزلنا .. فأقبل سهم عائر (٢) فأصاب مدعم (الغلام) فقتله (٣).

وعبّأ رسول الله أصحابه للقتال وصفّهم ، ودفع لواءه إلى سعد بن عبادة ، وراية إلى الحباب بن المنذر ، وراية إلى سهل بن حنيف ، وراية إلى عبّاد بن بشر. ثم دعاهم رسول الله إلى الإسلام وأخبرهم إن أسلموا حقنوا دماءهم وأحرزوا أموالهم وحسابهم على الله. فبرز رجل منهم ، وبرز إليه الزبير بن العوّام فقتله ، وبرز إليه آخر فقتله أيضا. ثم برز آخر فبرز له أبو دجانة فقتله ، ثم برز إليه آخر فقتله. ثم برز آخر فبرز له علي عليه‌السلام فقتله. حتى قتل منهم أحد عشر رجلا.

وحضرت الصلاة فصلى رسول الله بأصحابه ثم عاد فدعاهم إلى الله ورسوله ، ثم قاتلهم حتى أمسى. وغدا عليهم ، فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتى أعطوا بأيديهم ، فكان الفتح عنوة ، فغنّمه الله أموالهم وأصابوا أثاثا ومتاعا كثيرا ، أقام رسول الله بوادي القرى أربعة أيام ، فقسم ما أصاب على أصحابه بوادي القرى.

وعامل اليهود على الأرض والنخل بأيديهم (٤) كما عامل يهود خيبر (٥). فلما بلغ ذلك يهود تيماء (٦) ، بعثوا فصالحوا رسول الله على الجزية عما في أيديهم من أموالهم (٧).

__________________

(١) قباب اليهود المبنية.

(٢) سهم عائر : لا يعرف راميه.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٧١٠.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٧١٠ ، ٧١١.

(٥) الكامل في التاريخ ٢ : ١٥٠.

(٦) تيماء : على ثمان مراحل من المدينة إلى جهة الشام.

(٧) مغازي الواقدي ٢ : ٧١١.


فوات الصلاة؟! :

وبعد أن فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من أمر خيبر ووادي القرى انصرف راجعا إلى المدينة .. وسرى ليلته حتى إذا كان قبيل الصبح بقليل نزل (١).

فروى الشهيد في «الذكرى» في الصحيح عن الباقر عليه‌السلام : أن رسول الله قال : من يكلؤنا (٢)؟ فقال بلال : أنا ، فناموا ، ونام بلال ، حتى طلعت الشمس. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا بلال ، ما أرقدك؟ فقال : يا رسول الله أخذ بنفسي الذي أخذ بأنفاسكم! فقال رسول الله : قوموا فتحوّلوا عن مكانكم الذي أصابتكم فيه الغفلة.

(ثم) قال : يا بلال ، أذّن. فأذّن ، فصلى رسول الله ركعتي الفجر ، وأمر أصحابه فصلّوا ركعتي الفجر. ثم قام فصلى بهم الصبح. ثم قال : من نسي شيئا من الصلاة فليصلّها إذا ذكرها ، فإنّ الله عزوجل يقول : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)(٣).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧١١.

(٢) أي يحرسنا؟ وفي أمثل نقل مشابه لهذا عن شرح السنة عن سعيد بن المسيب أن رسول الله حين قفل من خيبر ، أسرى حتى إذا كان من آخر الليل عرس وقال لبلال : أكلأ لنا الصبح .. كما عنه في بحار الأنوار ١٧ : ١٢٠ وفي ٢١ : ٤٢ مثله عن الكازروني عن أبي هريرة. ورواه ابن اسحاق في السيرة عن الزهريّ عن ابن المسيّب : من يحفظ لنا الفجر ٣ : ٣٥٥ وكأنه نقله بالمعنى. ونقله الواقدي : ألا رجل صالح حافظ لعينه يحفظ لنا صلاة الصبح؟ ٢ : ٧١١.

(٣) سورة طه : ١٤. ثم قال الشهيد رحمه‌الله : ولم أقف على رادّ لهذا الخبر من حيث توهّم القدح في العصمة. وقد روى العامة عن أبي قتادة وجماعة من الصحابة : أنّ النبيّ أمر بلالا فأذّن فصلى ركعتي الفجر ثم أمره فأقام فصلى صلاة الفجر.

وقال شيخنا البهائي قدس‌سره بعد نقل هذا الخبر وخبر ابن سنان : وربما يظنّ تطرّق الضعف إليهما لتضمّنهما لما يوهم القدح في العصمة ، ونقل قول الشهيد في الذكرى ثم قال :


وروى الطوسي بسنده عن الصادق صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إنّ رسول الله رقد فغلبته عيناه فلم يستيقظ حتى آذاه حرّ الشمس فاستيقظ .. وقال : يا بلال ، مالك؟! فقال بلال : أرقدني الذي أرقدك يا رسول الله (١).

وروى الكليني بسنده عنه عليه‌السلام أيضا قال : نام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن صلاة الصبح ، والله ـ عزوجل ـ أنامه حتى طلعت الشمس عليه (٢).

وروى الصدوق بسنده عنه عليه‌السلام أيضا قال : أنام الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس ثم قام ، فبدأ فصلّى الركعتين اللتين قبل الفجر ، ثم صلى الفجر (٣).

__________________

ـ وهو يعطي تجويز الأصحاب صدور ذلك وأمثاله عن المعصوم ، وللنظر فيه مجال واسع. بحار الأنوار ١٧ : ١٠٧ ، ١٠٨ ويبدو أن مقصوده من خبر ابن سنان ما رواه الصفّار في بصائر الدرجات : ١٣٤ بسنده عن محمد بن سنان عن المفضل عن الصادق عليه‌السلام قال : يا مفضل ، إن الله تبارك وتعالى جعل للنبيّ خمسة أرواح : روح الحياة فبه دبّ ودرج ، وروح القوة فبه نهض وجاهد. وروح الشهوة فبه أكل وشرب وأتى النساء من الحلال. وروح الإيمان فبه أمر وعدل. وروح القدس فبه حمل النبوة .. وروح القدس لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يسهو ، والأرواح الأربعة تنام وتلهو وتغفل وتسهو. كما في بحار الأنوار ١٧ : ١٠٦.

(١) الاستبصار ١ : ٢٨٦ ، الباب ١٥٦ ، الحديث ١ والتهذيب ٢ : ٢٦٥ ، الباب ١٣ ، الحديث ٩٥.

(٢) فروع الكافي ٣ : ٢٩٤ ، الباب ، ١٢ ، الحديث ٩ وتمامه : وكان ذلك رحمة من ربك للناس ، ألا ترى لو أن رجلا نام حتى تطلع الشمس لعيّره الناس وقالوا : لا تفزع لصلاتك! فصارت اسوة وسنة ، فإن قال رجل لرجل : نمت عن الصلاة ، قال : قد نام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فصارت اسوة ورحمة رحم الله بها هذه الامّة.

(٣) كتاب من لا يحضره الفقيه ١ : ٣٥٨ ، ٣٥٩ ، الحديث ١٠٣١ وتمامه : وإنّما فعل ذلك به رحمة لهذه الامّة لئلا يعيّر الرجل المسلم إذا هو نام عن صلاته .. فيقال : قد أصاب


وانتهى إلى المدينة :

ولما نظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى جبل احد من بعد قال : احد جبل يحبّنا ونحبّه ، اللهم إنّي احرّم ما بين لابتي المدينة. وانتهى (بعد صلاة العشاء) إلى الجرف قرب المدينة فقال لمن معه : لا تطرقوا النساء بعد صلاة العشاء.

فروى الواقدي بسنده عن أمّ عمارة : أنّ رجلا من أهل الحيّ عصى رسول الله وذهب فطرق أهله فوجد ما يكره .. وكان يحبّ زوجته ، وله منها أولاد ، فضنّ بها أن يفارقها (١).

ومن أخبار الصفّة :

لم نعثر على أخبار الصفّة في المسجد النبويّ الشريف بالمدينة قبل هذا ، وهنا أول ما نعثر على ذلك. وهي : موقع مظلّ في مؤخرة المسجد شمالا ، كما محلّها اليوم عند باب جبرئيل.

روى الكليني في «فروع الكافي» بسنده عن أبي حمزة الثمالي عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : إن جويبر كان رجلا من أهل اليمامة قصيرا دميما محتاجا عاريا من قباح السودان! أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله منتجعا للإسلام ، فأسلم وحسن اسلامه ،

__________________

ـ ذلك رسول الله ، وللشيخ الصدوق تعليق بتحقيق مفاد هذا الخبر وتصحيحه ، فراجعه.

ونذكّر بأن فوات صلاة العصر من علي عليه‌السلام لرقدة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حجره ، واستجابة دعاء النبي بردّ الشمس لأداء صلاة علي عليه‌السلام ، كانت في منزل الصهباء قبل هذا ، فلعلّ الله أراد بهذا الحادث هنا أن يقول للملإ : إنّ تلك التي حصلت لعلي عليه‌السلام إنّما هي قضية في واقعة ، ويمكن أن تفوت الصلاة بغير معصية من الوصي بل وحتى من النبي ، ولا يتوقع أحد ردّ الشمس لأداء صلاته بل يقضيها.

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١١٣. ضنّ : شحّ وبخل ، وعزّ وثقل عليه ذلك.


فكساه رسول الله شطّتين وأمره أن يلزم المسجد ويرقد فيه بالليل لحال غربته وعراه ، وكان يجري عليه طعاما صاعا من تمر. ثم كثر من دخل في الإسلام من أهل الحاجة من الغرباء بالمدينة حتى ضاق بهم المسجد ، فأوحى الله إلى نبيّه : أن طهّر مسجدك وأخرج من المسجد من يرقد فيه بالليل (١) فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتخذ للمسلمين سقيفة ـ هي الصفّة ـ فعملت لهم ، فأمر الغرباء والمساكين أن يظلوا فيها ليلهم ونهارهم ، فاجتمعوا فيها. وكان رسول الله يتعاهدهم بالبر والشعير والتمر والزبيب إذا كان عنده ، ويتعاهدهم المسلمون ويرقون عليهم لرقة رسول الله بهم ويصرفون صدقاتهم إليهم (٢).

ومناسبة ذكرها هنا نزول أبي هريرة وقومه من دوس من أزد اليمن وهم ثمانون رجلا ومعهم الأشعريون الخمسون الذين أسهم لهم النبيّ في غنائم خيبر والفضل في وصف الصفّة يعود بالعمدة إلى أبي هريرة منهم وإن كانوا غير قليل ، فعنه قال : رأيت سبعين من أصحاب الصفّة وما منهم رجل عليه رداء ، وإنّما عليه إمّا إزار ، وإمّا كساء ربطوه في أعناقهم ، فمنها ما يبلغ الكعبين ، ومنها ما يبلغ نصف الساقين فيجمعه بيده لئلّا ترى عورته (٣) وكنا إذا أمسينا حضرنا رسول الله فيأمر كل رجل لينصرف برجل منّا أو أكثر (٤)! ومع ذلك قال : إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع ، وأشدّ الحجر على بطني من الجوع. ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه من المسجد فمرّ أبو بكر ، فسألته عن آية من كتاب الله ،

__________________

(١) وهنا في الخبر : ومر بسدّ الأبواب ... بينما في العديد من أخبار سدّ الأبواب حضور العباس واعتراضه ، وهو انما حضر لحرب تبوك في التاسعة لا قبلها ، فأجّلناه الى هناك.

(٢) فروع الكافي ٥ : ٣٣٩ ، الباب ٢١ الحديث ١ وفيه تمام خبر عرس جويبر.

(٣) صحيح البخاري ١١ : ٤١٦.

(٤) صحيح البخاري ١١ : ٢٣٨.


وما سألته إلّا ليشبعني ، فمرّ ولم يفعل. ثم مرّ بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله وما سألته إلّا ليشبعني ، فلم يفعل (١) .. فمشيت غير بعيد فخررت لوجهي من الجهد والجوع (٢) .. ولقد رأيتني وإنّي لأخرّ فيما بين منبر رسول الله إلى حجرة عائشة مغشيّا عليّ ، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى أنّي مجنون ، وما بي إلّا الجوع! (٣) وقال : (وإنّما) كنت استقرئ الرجل الآية وهي معي كي ينقلب بي فيطعمني. وكان أخير الناس للمسلمين جعفر بن أبي طالب ، كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته (٤) ولهذا فهو يقول فيه : ما وطئ التراب ولا احتذى النعال ولا ركب المطايا (أحد) بعد رسول الله أفضل من جعفر بن أبي طالب (٥)

ولا نجد كهذا وصفا لأصحاب الصفّة إلّا ما عن واثلة بن الأسقع قال : كنت من أصحاب الصفّة وما منّا إنسان يجد ثوبا تامّا ، قد جعل الغبار والعرق في جلودنا طرقا! (٦).

في دار النبيّ بعد خيبر :

بعد رجوع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من خيبر ، ومعه جعفر بن أبي طالب وزوجته أسماء بنت عميس ، دخلت أسماء على حفصة بنت عمر بن الخطّاب تزورها ، فدخل على حفص

__________________

(١) فتح الباري ١١ : ٢٣٦ و ٢٣٧.

(٢) فتح الباري ٩ : ٤٢٨.

(٣) فتح الباري ١٣ : ٢٥٩ ، ٢٦٠.

(٤) فتح الباري ٧ : ٦١ و ٦٢.

(٥) سير أعلام النبلاء ١ : ١٥٨ عن الترمذي والنسائي.

(٦) أنساب الأشراف ١ : ١٧٢. وانظر التفاصيل في أبي هريرة شيخ المضيرة لأبي ريّة : ٣٧ فما بعد ط ٣.


أبوها عمر يزورها ، وعندها أسماء ، فقال لابنته : من هذه؟ قالت : هي أسماء بنت عميس. فقال : هذه الحبشية؟! هذه البحرية؟! ثم قال لها : لقد سبقناكم بالهجرة فنحن أحقّ برسول الله منكم! فقالت أسماء : كلّا والله ، كنتم مع رسول الله يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم! وكنّا في أرض البغضاء بالحبشة ، وذلك في الله وفي رسوله ، وأيم الله لا أطعم طعاما ولا اشرب شرابا حتى أذكر ما قلته لي لرسول الله وأسأله عنه! وإنّي لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه.

ثم أتت النبيّ وقالت له : يا رسول الله ، إنّ عمر بن الخطّاب قال لي كذا وكذا. فقال لها : فما قلت له : فأخبرته بمقالتها. فقال لها : إنّه ليس بأحقّ بي منكم ، وله ولأصحابه هجرة ، ولكم أهل السفينة هجرتان (١).

وصول مارية وهدايا المقوقس :

قال الواقدي : وفيها (سنة ٧) قدم حاطب بن أبي بلتعة ، من عند المقوقس ، بمارية ، واختها سيرين ـ ومعهما خصيّ ـ وقد دعاهما حاطب إلى الاسلام فأسلمتا.

فبعث النبيّ بسيرين إلى حسّان بن ثابت (٢) واتخذ مارية لنفسه فأنزلها على أم سليم بنت ملحان (٣) ثم اتّخذ لها المشربة ، وهي مزرعة فيها حجرة وبئر ماء.

وكانت الأخبار قد انتشرت باستيلاء النبيّ على الكنز الشهير في خيبر لآل أبي الحقيق زعيم اليهود ، وسمع به أزواجه ...

__________________

(١) فقه السنة عن البخاري ومسلم.

(٢) فولدت له عبد الرحمن بن حسّان.

(٣) الطبري ٣ : ٢١ ، ٢٢. وهي أم أنس بن مالك خادم النبيّ وحاجبه. ابن هشام ٣ : ٣٥٤ والواقدي ٣ : ٩٠٣ وكانت مع النبيّ في خيبر ، وهي التي مشّطت له صفية ، فلعل انزال مارية عليها لذلك أيضا.


قال القمي في تفسيره : لما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من غزاة خيبر وقد أصاب كنز آل أبي الحقيق قال له أزواجه : أعطنا مما أصبت!

فقال لهنّ رسول الله : قسّمته بين المسلمين على ما أمر الله!

فغضبن من ذلك وقلن : لعلك ترى أنك إن طلّقتنا أن لا نجد الأكفاء من قومنا يتزوّجونا؟!

فأنف الله لرسوله ، فأمره أن يعتزلهن!

فاعتزلهن رسول الله في مشربة أمّ إبراهيم (وهي مارية القبطية) تسعة وعشرين يوما حتى حضن وطهرن. ثم أنزل الله هذه الآية : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً* وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً).

فلما قرأها عليهنّ قامت أمّ سلمة أول من قامت و (عانقته) وقالت : قد اخترت الله ورسوله. فقمن كلهنّ فعانقنه وقلن مثل ذلك (١).

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٩٢ والآيتان ٢٨ و ٢٩ من سورة الأحزاب ، وهي التسعون في النزول و ٤ أو ٥ من المدنيات. التمهيد ١ : ١٠٦. وقد مرّ الحديث عن الآيات السابقة في ما نزل من القرآن في حرب الأحزاب ثم بني قريظة ، وأخّرت الخبر عن هذه الآيات إلى هنا بعد خيبر بناء على خبر القمى.

والطوسي حكى عن عكرمة : أنه كانت له يومئذ تسع نسوة من قريش : سودة بنت زمعة ، وعائشة ، وحفصة ، وأم سلمة بنت أبي أمية ، وأم حبيبة بنت أبي سفيان. ومن غير قريش : زينب بنت جحش الأسدية ، وجويرية بنت الحارث من بني المصطلق ، وصفية بنت حيي بن أخطب ، وميمونة بنت الحارث. البيان ٨ : ٣٣٥.


وقد نقل الطبرسي عن مقاتل قال : لما رجعت أسماء بنت عميس مع زوجها جعفر بن أبي طالب عليه‌السلام من الحبشة ، قالت لنساء رسول الله : هل نزل فينا شيء من القرآن؟ قلن : لا.

فأتت رسول الله فقالت : يا رسول الله ، إن النساء لفي خيبة وخسار!

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ومم ذلك؟ قالت : لأنهن لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال.

__________________

ـ وروى في سبب نزول هذه الآية : أن كل واحدة من نسائه طلبت شيئا : فسألت سودة قطيفة خيبرية ، وسألت حفصة ثوبا من ثياب مصر (ولعله من هدايا المقوقس) وسألت أم سلمة سترا ، وسألت زينب بنت جحش بردا يمانيا ، وسألت جويرية معجرا ، وسألت أم حبيبة ثوبا شحوانيا ، وسألت ميمونة حلة. التبيان ٨ : ٣٣٤. وقال الطبرسي : قال المفسّرون : إن أزواج النبيّ سألنه شيئا من عرض الدنيا وطلبن منه زيادة في النفقة ، وآذينه لغيرة بعضهن من بعض ، فآلى رسول الله منهن شهرا ، فنزلت آية التخيير وهي قوله : (قُلْ لِأَزْواجِكَ) وكن يومئذ تسعا : سودة بنت زمعة ، وعائشة ، وحفصة ، وأم سلمة بنت أبي أمية ، وأم حبيبة بنت أبي سفيان ، فهؤلاء من قريش. وزينب بنت جحش الأسدية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقية ، وصفية بنت حييّ الخيبرية ، وميمونة بنت الحارث الهلالية. مجمع البيان ٨ : ٥٥٤.

ونقل عن ابن زيد أن الآية نزلت حين غار بعض أمهات المؤمنين على النبيّ ، وطلب بعضهن زيادة النفقة ، فهجرهن شهرا ، حتى نزلت آية التخيير ، فأمره الله أن يخيّرهن بين الدنيا والآخرة ، وأن يخلّي سبيل من اختارت الدنيا ويمسك من اختارت الله ورسوله ، على أنهنّ أمهات المؤمنين ولا ينكحن أبدا ، وعلى أنه يؤوي من يشاء منهنّ ويرجي من يشاء منهن ، ويرضين به قسم لهن أو لم يقسم ، أو قسم لبعضهن ولم يقسم لبعضهن ، أو فضّل بعضهن على بعض في النفقة والقسمة والعشرة ، أو سوّى بينهنّ ، فالأمر في ذلك إليه يفعل ما يشاء. فرضين بذلك كله واخترنه على هذا الشرط. وهذا من خصائصه. مجمع البيان ٨ : ٥٧٣.


فأنزل الله تعالى هذه الآية : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ)(١) وهي الآية ٣٥ من الأحزاب ، وهذا مما يؤيد نزول السورة أو هذه الآيات بعد خيبر.

وقد ورد في أخبار آية التخيير ٢٨ من السورة أن من أزواجه حين التخيير زينب بنت جحش الأسدية ابنة عمته ، التي تزوجها بعد طلاقها من زوجها زيد بن حارثة الشيباني. مما يقتضي نزول الآية بعد ذلك.

نزول سورة الرعد :

وهي السورة الرابعة والتسعون في النزول والثالثة عشر في النزول بالمدينة ، وفيها قوله سبحانه : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً ..)(٢) وفي «أسباب النزول» للواحدي : عن الكلبي قال : عيّرت اليهود رسول الله فقالت : ما نرى لهذا الرجل مهمّة إلّا نكاح النساء! ولو كان نبيّا ـ كما زعم ـ لشغله أمر النبوّة عن النساء! فأنزل الله تعالى الآية (٣).

وهذا يناسب ما بعد خيبر ، حيث أضيف إلى أزواجه الاول : سودة وعائشة وحفصة وأمّ سلمة وزينب بنت جحش ، نساء من اليهود : ريحانة بنت زيد بعد غزوة بني قريظة ، وجويرية بنت الحارث زعيم بني المصطلق ، وصفية بنت حيي بن أخطب النظري الخيبرية ، مع وصول مارية القبطية.

وروى الواقدي بسنده عن أمّ عبد الله المزنية عن صفية بنت حييّ بن أخطب

__________________

(١) مجمع البيان ٩ : ٥٦٠ وأسباب النزول للواحدي : ٢٩٦.

(٢) الرعد : ٣٨.

(٣) أسباب النزول : ٢٢٥ وأشار إليه في التبيان ٦ : ٢٦٣ ومجمع البيان ٦٥ : ٤٥٧.


قالت : دخل عليّ رسول الله يوما وأنا أبكي ، فقال لي : مالك ـ وكان يلطف بي ويكرمني ـ فقلت له : أزواجك يقلن لي : يا بنت اليهودي ويفخرن علي! فغضب رسول الله وقال : إذا فاخروك أو قالوا لك ذلك فقولي لهنّ : أبي هارون ، وعمّي موسى (١).

تاريخ حرب خيبر :

قال ابن اسحاق : رجع رسول الله من الحديبية في ذي الحجة فأقام بالمدينة (بقيّة) ذي الحجة وبعض المحرم ، ثم خرج إلى خيبر في بقية المحرم (٢) وبه قال الطبري (٣) والمسعودي (٤).

وذكر الطبرسي مدة محاصرتهم فقال : حاصرهم رسول الله بضعا وعشرين ليلة. ذكر الواقدي : أنّها كانت أول سنة سبع من الهجرة (٥).

وروى الواقدي عن رواته قالوا : أقام رسول الله بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم ، وخرج في صفر سنة سبع. ثم قال : ويقال : لهلال ربيع الأوّل (٦) وأقام بالرجيع سبعة أيام (٧) وعلى حصن النطاة عشرة أيام (٨) وعلى حصن الصّعب بن معاذ

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٧٥.

(٢) سيرة ابن هشام ٣ : ٣٤٢.

(٣) الطبري ٢ : ٦٥٧ و ٣ : ٩ عن ابن اسحاق نفسه.

(٤) التنبيه والاشراف : ٢٢٢.

(٥) إعلام الورى ١ : ٢٠٧.

(٦) مغازي الواقدي ٢ : ٦٣٤.

(٧) المصدر نفسه : ٦٤٥ و ٦٤٧ و ٦٨٧.

(٨) المصدر نفسه : ٦٥٩.


ثلاثة أيام (١) ثم أقاموا أكثر من شهر (٢) منها ثلاثة أيام محاصرة قلعة الزّبير (٣) وحاصرهم في الكتيبة ـ وفيها القموص ـ والوطيح وسلالم أربعة عشر يوما (٤) فلعله خرج في منتصف محرم ورجع لهلال ربيع الأوّل.

وقد مرّ في آخر السنة السادسة خبر الطبري عن الواقدي في إرسال رسل رسول الله إلى الملوك والامراء في ذي الحجة ، وفيهم دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر الروم (٥) واستبعدنا أن يكون سفره في ذي الحجة وقد حضر خيبر (٦) فرجّحنا تأجيل خبره إلى ما بعد خيبر. بل انّ خبر رجوعه من الشام يستتبع سرية زيد بن حارثة إلى حسمى في جمادى الآخرة سنة (سبع) (٧) وحيث أنّ كتاب النبيّ إلى فارس كان إلى خسرو پرويز.

وقد نقل الطبري عن الواقدي أن قتل خسرو پرويز كان لعشر مضين أو بقين من جمادى الاولى سنة سبع (٨) ، إذا فيبدو أن كتابه إلى فارس كان قبل الروم ، فنبدأ به.

__________________

(١) المصدر نفسه : ٦٦٠ و ٦٦٢.

(٢) المصدر نفسه : ٦٦٥.

(٣) المصدر نفسه : ٦٦٦.

(٤) المصدر نفسه : ٦٧٠.

(٥) الطبري ٢ : ٦٤٤.

(٦) مغازي الواقدي ٢ : ٦٧٤ وابن هشام ٣ : ٣٤٥.

(٧) مغازي الواقدي ٢ : ٥٥٥ وفيه سنة ست خطأ ، فإنّ الكتب كانت في السابعة.

(٨) الطبري ٢ : ٦٥٦.


وكتب إلى كسرى :

وكسرى معرّب كلمة «خسرو» بالفارسية بمعنى العظيم ، وليس علما لأحدهم وإنّما هو لقب عام للملوك الساسانيين. وكسرى هذا الذي كتب إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو خسرو پرويز بن هرمز الساساني كما سيلي :

روى الطبري عن ابن اسحاق ـ وليس في السيرة ـ عن يزيد بن حبيب قال : بعث رسول الله عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى بن هرمز ملك فارس ، وكتب معه :

بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من محمد رسول الله ، إلى كسرى عظيم فارس ، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله ، وشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمدا عبده ورسوله. وأدعوك بدعاء الله ، فإنّي أنا رسول الله إلى الناس كافة ، لا نذر من كان حيّا ويحقّ القول على الكافرين! فأسلم تسلم ، فإن أبيت فإنّ إثم المجوس عليك!

فلما قدم عبد الله بن حذافة بكتاب رسول الله على كسرى ، وقرأه ، شقّه (١) وقال : يكتب إليّ هذا وهو عبدي! ثم كتب كسرى إلى باذان ـ على اليمن ـ أن : ابعث على هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين من عندك جلدين فيأتياني به.

فبعث باذان قهرمانه بابويه وكان حاسبا وكاتبا بكتاب فارس ، ورجلا آخر يدعى خور خسرو ، وكتب معهما إلى رسول الله يأمره أن يذهب معهما إلى كسرى. فخرجا حتى قدما الطائف ، فعرف خبرهما رجال من قريش كانوا بالطائف ففرحوا واستبشروا وقال بعضهم لبعض : أبشروا! كفيتم الرجل ، فقد نصب له كسرى ملك

__________________

(١) وقال اليعقوبي : قيل : لما وصل إليه الكتاب ـ وكان قدر ذراع أدم ـ قدّه شتورا ، أي طولا. اليعقوبي ٢ : ٧٧.


الملوك! فخرجا حتى قدما المدينة ودخلا على رسول الله ، وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما فظهر الكره على رسول الله ، وتكلم بابويه فقال : إنّ الشاهنشاه ملك الملوك كسرى قد كتب إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك. وقد بعثني إليك لتنطلق معي ، فإن فعلت كتب (باذان) إلى ملك الملوك يكفّه عنك وينفعك! وإن أبيت ، فهو مهلكك ومهلك قومك ومخرّب بلادك! وأقبل رسول الله عليهما فقال : ويلكما! من أمركما بهذا؟ (يعني حلق لحاهما). فقالا : ربّنا ـ يعنيان كسرى (١) ـ أمرنا بهذا. فقال رسول الله : لكنّ ربّي قد أمرني باعفاء لحيتي وقصّ شاربي. ثم قال لهما : ارجعا حتى تأتياني غدا.

وأتى رسول الله الخبر من السماء : أنّ الله قد سلّط على كسرى ابنه شيرويه فقتله بعد ما مضى كذا من ليلة كذا في شهر كذا. فدعاهما فأخبرهما. فقالا : إنّا كنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر من هذا ، فهل تدري ما تقول؟! أفنكتب عنك هذا ونخبر به الملك؟! فقال : نعم ، أخبراه بذلك عنّي وقولا له : إنّ ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ ملك كسرى ، وينتهي إلى منتهى الخفّ والحافر! وقولا له : انّك إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك ، وملّكتك على قومك من الأبناء (٢). ثم أخذ منطقة فيها قطع من ذهب وفضة كان أهداها له بعض الملوك (٣) فأعطاها إلى خور خسرو ، وخرجا من عنده ..

__________________

(١) أو باذان ، أو بادان ، حسب الأصل الفارسي ، أو بادام ، كما في المسعودي. وذلك لأنّ كسرى نفسه كان ملتحيا كما في صوره على مسكوكاته النقدية. وانظر المصادر في هامش الصفحة ١٠٠ من العدد ٤ من السنة الاولى لمجلة : وقف ميراث جاويدان بالفارسية.

(٢) الأبناء : أبناء الجيش الساساني المرسل مع سيف بن ذي يزن لانقاذ اليمن من الأحباش ، المولّدون في اليمن والمستعربون فيه.

(٣) لعلّها من هدايا المقوقس المصري أو النجاشي الحبشي.


فلما قدما على باذان أخبراه الخبر فقال : والله ما هذا بكلام ملك ، وإنّي لأرى الرجل نبيّا كما يقول ، فلننتظرنّ ما قال ، فلئن كان هذا حقا ما فيه كلام فانّه لنبيّ مرسل ، وإن لم يكن ، فسنرى فيه رأينا.

وقال بابويه لباذان : وما كلّمت رجلا قطّ أهيب عندي منه! فقال له باذان : هل كانت معه شرطة؟ قال : لا. فلم يقم باذان من مقامه حتى قدم عليه كتاب شيرويه.

أما بعد ، فإنّي قد قتلت كسرى ، ولم أقتله إلّا غضبا لفارس لما كان استحلّ من قتل أشرافهم ، وتجميرهم (١) في ثغورهم. فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممّن قبلك. وانظر الرجل الذي كان كسرى كتب فيه إليك ، فلا تهجه حتى يأتيك أمري فيه.

فلمّا قرأ الكتاب قال : إنّ هذا الرجل لرسول! فأسلم. وأسلم من كان معه باليمن من أبناء فارس. ولما رجع عبد الله بن حذافة وأخبر رسول الله أنّ كسرى قد شق الكتاب ، قال : مزّق ملكه!

قال الواقدي : وكان قتل شيرويه أباه كسرى لستّ ساعات (؟!) مضين من ليلة الثلاثاء لعشر ليال مضين (أو بقين) من جمادى الاولى من سنة سبع (٢).

__________________

(١) التجمير : الحبس في الثغور.

(٢) الطبري ٢ : ٦٥٤ ـ ٦٥٧ وانظر سائر المصادر في كتاب : مكاتيب الرسول ١ : ٩٠ ـ ٩٧.

ونقل مختصر الخبر الحلبي في المناقب ١ : ٧٩ ، ٨٠ عن مجالس المامطيري وأعلام النبوة للماوردي. والمجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ٣٨٩ ـ ٣٩١ عن المنتقى للكازروني عن ابن اسحاق كما في الطبري. وانظر بالفارسية بحثا ضافيا فيه في مجلة : وقف ميراث جاويدان ٤ : ٩١ ـ ١٠١.


تذكير بمناسبة :

مرّ في معنى «الفتح» في نزول «سورة الفتح» عند صلح الحديبية أنّه ظهر معه مصداق قوله سبحانه : (... وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللهِ ...)(١). وعن المسعودي : أنّ القائد الفارسي شهر براز صاحب پرويز انكشف هو ومن معه من الفرس عن الروم (٢) فأغارت الروم على مملكة الفرس في العراق فقتلت وسبت. على خلاف بينه وبين ابن العبري حيث قال المسعودي : إنّ پرويز احتال على هرقل بحيلة ردّه بها عن مدينته (طيسفون ـ المدائن) إلى القسطنطينية (٣) بينما أضاف ابن العبري : أن هرقل والروم افتتحوا مدينة كسرى (مدائن كسرى ـ طيسفون) وسبوا منها خلقا كثيرا وانصرفوا (٤).

والهزيمة المادية تلازم هزيمة معنوية ، فلعلّ رسول الله رآها فرصة مناسبة لدعوة پرويز المستكبر المنكسر إلى التخلّي عن دينه المنهزم لقبول الإسلام.

__________________

ـ وفي خلال الحرب العالمية الاولى عرض جلد مدبوغ قديم ٢١* ٣١ سم وفيه شق بطوله وفيه خمسة عشر سطرا بتوقيع : محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس ، اشتراه هانري فرعون وزير خارجية لبنان الأسبق بمبلغ ١٥٠ ليرة ذهبية (عثمانية ظ) وهو لا زال في خزانته النفيسة في بيروت. وقد أرّخوا لقتل پرويز بالميلادي ٦٢٨ وهو يوافق أواخر السنة السادسة وأوائل السابعة للهجرة.

(١) الروم : ٣ ـ ٥.

(٢) التنبيه والاشراف : ٢٢٢.

(٣) التنبيه والاشراف : ١٣٥.

(٤) تاريخ مختصر الدول : ٩٢.


وأيضا رأى من المناسب أن يدعو النصارى لدينه ، ليقول لهم وللمشركين إنّ فرح المؤمنين بانتصارهم على عدوّهم الفرس ليس اذعانا بالحق لهم ، إلّا نسبيّا. ولعلّ دعوته للنصارى ـ حاشا النجاشي ـ كانت بعد تشديده على أندادهم اليهود وانتصاره عليهم ، كنقطة قوة له ، وتقريبا للنصارى.

دعاة الإسلام في الشام :

روى الطبري عن الواقدي : أنّ رسول الله بعث الرسل ، فبعث : شجاع بن وهب الأسدي القرشي إلى الحارث بن أبي شمر الغساني (١) وكتب معه إليه : سلام على من اتّبع الهدى وآمن به. إنّي أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له ، يبقى لك ملكك! فلما قدم شجاع بن وهب وقرأه عليهم قال : من ينزع منّي ملكي! (٢). وعمّا قبل وصول الرسول إلى هرقل : دحية بن خليفة الكلبي.

روى الطبري عن ابن اسحاق عن ابن شهاب الزهري عن ابن عباس عن ابن حرب أبي سفيان! قال : كانت الحرب بيننا وبين رسول الله قد حصرتنا حتى نهكت اموالنا ، فلما كانت الهدنة بيننا وبين رسول الله .. خرجت في نفر تجّار من قريش إلى غزّة في الشام. وكان الفرس قد استلبوا من هرقل (فيما سبق) صليبه الأعظم (من بيت المقدس) فقدمنا غزّة حين غلب هرقل على من كان بأرضه من فارس وانتزع منهم صليبه الأعظم وأخرجهم منها.

__________________

(١) الطبري ٢ : ٦٤٤ ونقل عن ابن اسحاق : أنّه بعثه إلى المنذر بن الحارث صاحب دمشق ٢ : ٦٥٢.

(٢) الطبري ٢ : ٦٥٢ فروى عن النبيّ أنه قال : باد ملكه! وقد ذكرنا خبره قبل حرب خيبر ، وإنمّا اعدنا مختصر خبره هنا للارتباط.


وكان منزله في حمص ، فلما بلغه أن صليبه قد استنقذ له ، خرج منها يمشي على قدميه ليصلّي في بيت المقدس متشكرا لله (١) ومعه بطارقته وأشراف الروم ، تبسط له البسط وتلقى عليها الرياحين! حتى انتهى إلى مدينة ايلياء (القدس) فقضى صلاته فيها.

وكانت الملوك تتهادى فيما بينها الأخبار ، فبينما هم كذلك ، إذ أتاه رسول صاحب بصرى برجل من العرب يقوده ، حتى قال لهرقل : أيها الملك ؛ إنّ هذا الرجل من العرب من أهل الشاء والإبل ، يحدّث عن أمر عجب حدث ببلاده ، فسله عنه. فقال هرقل لترجمانه : سله : ما هذا الحدث الذي كان ببلاده؟ فسأله ، فقال : خرج بين أظهرنا رجل يزعم أنه نبيّ ، قد صدّقه ووافقه ناس وخالفه ناس ، وكانت بينهم ملاحم في مواطن كثيرة ، وقد تركتهم على ذلك.

فدعا هرقل صاحب شرطته فقال له : قلّب لي الشام ظهرا وبطنا حتى تأتيني برجل من قوم هذا الرجل ـ يعني النبيّ ـ فجاءنا صاحب شرطته ونحن في غزّة فقال لنا : انتم من قوم هذا الرجل الذي (ظهر) بالحجاز؟ قلنا : نعم. فقال : انطلقوا بنا إلى الملك. فلما انتهينا إليه قال لنا : انتم من رهط هذا الرجل (الذي ظهر في الحجاز)؟ قلنا : نعم. فقال : فأيّكم أمسّ به رحما؟ قلت : أنا (فلعلّه كان بعد مصاهرته له). فأقعدني بين يديه وأقعد أصحابه خلفي ثم قال لهم (على لسان الترجمان) : إنّي سأسأله ، فطن كذب فردّوا عليه. فقال : أخبرني عن هذا الرجل الذي خرج بين أظهركم يدّعي ما يدّعي! أنبئني عمّا أسألك من شأنه. قلت : سل عمّا بدا لك. قال :

__________________

(١) ونقله ابن سعد في الطبقات ١ : ٢٥٩ وفي سيرة دحلان بهامش الحلبية ٣ : ٦٤ والحلبية ٣ : ٢٧٦.


كيف نسبه فيكم؟ قلت : محض ، أوسطنا نسبا (١). فقال : فأخبرني هل كان أحد من أهل بيته يقول مثل ما يقول فهو يتشبّه به؟ قلت : لا. قال : فهل كان له فيكم ملك فاستلبتموه إياه فجاء بهذا الحديث لتردّوا عليه ملكه؟ قلت : لا. قال : فأخبرني عن أتباعه منكم من هم؟ قلت : الضّعفاء والمساكين والأحداث من الغلمان ، والنساء ؛ وأمّا ذوو الأسنان والشرف من قومه فلم يتبعه منهم أحد! قال : فأخبرني عمّن تبعه أيحبّه ويلزمه أم يقليه ويفارقه؟ قلت : ما تبعه رجل ففارقه.

قال : فأخبرني كيف الحرب بينكم وبينه؟ قلت : سجال يدال علينا وندال عليه. قال : فأخبرني هل يغدر؟ قلت : لا ، ونحن منه في هدنة ، ولا نأمن غدره!

فقال : سألتك : كيف نسبه فيكم؟ فزعمت أنّه محض من أوسطكم نسبا. وكذلك يأخذ الله النبيّ إذا أخذه ، لا يأخذه إلّا من أوسط قومه نسبا. وسألتك : هل كان أحد من أهل بيته يقول بقوله فهو يتشبّه به. فزعمت أن لا. وسألتك : هل كان له فيكم ملك فاستلبتموه إياه فجاء بهذا الحديث يطلب به ملكه؟ فزعمت أن لا. وسألتك عن أتباعه. فزعمت أنهم الضعفاء والمساكين والأحداث والنساء. وكذلك أتباع الأنبياء في كل زمان. وسألتك عمّن يتبعه أيحبّه ويلزمه أم يقليه ويفارقه؟ فزعمت أنه لا يتبعه أحد فيفارقه. وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلبا فتخرج منه! وسألتك : هل يغدر؟ فزعمت أن لا.

فلئن كنت صدقتني عنه فليغلبنّ على من تحت قدميّ هاتين! ولوددت أنّي عنده فأغسل قدميه. ثم قال لي : انطلق لشأنك. فقمت من عنده والتفت إلى

__________________

(١) الأوسط هنا من قبيل قوله سبحانه : (قالَ أَوْسَطُهُمْ) أي أكبرهم ، ذلك أنّ وسط الجبل والجمل والنخل والشجر والخيمة أعلاه ، ومنه قوله سبحانه : (جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) بمعنى قوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) لا الوسط بمعنى بين بين.


أصحابي وأنا أضرب إحدى يدي بالاخرى وأقول : عباد الله لقد أمر (واشتدّ) أمر ابن أبي كبشة! أصبح ملوك بني الأصفر يهابونه في سلطانهم بالشام! ثم قدم عليه دحية بن خليفة الكلبي بكتاب رسول الله إليه ، وفيه :

بسم الله الرحمن الرحِيم ، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم. السلام على من اتّبع الهدى. أما بعد ، أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين. وإن تتولّ فإنّ إثم الاكّارين عليك (١).

ثم روى الطبري عن ابن اسحاق عن شيخ كبير من أهل الشام (يبدو أنّه كان نصرانيا وقد أسلم) كان يقول : لما بلغ هرقل أمر رسول الله ، جمع الروم فقال لهم : يا معشر الروم ، إنّي عارض عليكم امورا فانظروا فيم قد أردتها! قالوا : وما هي؟ قال : تعلمون ـ والله ـ أنّ هذا الرجل (الظاهر في الحجاز) لنبيّ مرسل ، نعرفه بصفته التي وصفت لنا في كتابنا ، فهلمّ فلنتّبعه ، فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا!

فقالوا : نحن نكون تحت يدي العرب ونحن أعظم الناس ملكا وأكثرهم رجالا وأفضلهم بلدا؟! فقال : فاعطيه الجزية فأستريح من حربه وأكسر شوكته بمال اعطيه. فقالوا : نحن نعطي العرب خرجا يأخذوه منّا بالذلّ والصّغار؟! ونحن أكثر الناس عددا وأعظمهم ملكا وأمنعهم بلدا!

قال الشامي : وكانت الشام عندهم ما وراء الدرب ، وما دون الدرب أيضا أرض سورية وهي حمص ودمشق والاردن وفلسطين. فقال هرقل لهم : فلاصالحه على أن أترك له أرض سورية ، ويدعنا وأرض الشام! فقالوا : نحن نعطيه أرض

__________________

(١) الطبري ٢ : ٦٤٦ ـ ٦٤٩ بتصرف يسير ، وفي آخر الخبر : الاكّارين يعني عمّاله ، أي من هم محسوبون عليه. وليس الخبر في سيرة ابن هشام. وانظر المصادر في مكاتيب الرسول ١ : ١٠٥ ـ ١١٢.


سورية وهي سرّة الشام؟! لا نفعل ذلك أبدا. فقال لهم : أما والله لترونّ أنكم قد ظفرتم إذا امتنعتم منه في مدينتكم.

ثم انطلق إلى القسطنطينية حتى إذا أشرف على الدرب استقبل أرض الشام ثم قال : السلام عليك يا أرض سورية ، سلام وداع (١).

قال ابن اسحاق : بعث رسول الله دحية بن خليفة الكلبيّ إلى صاحب الروم قيصر ، ومعه تجارة له .. ولما قدم دحية من عند قيصر ومعه تجارته (٢) ، حتى إذا كان بوادي شنار أغار عليه الهنيد الضليعي الجذامي من غطفان (٣) ومعه ابنه ، فأصابا كل شيء كان معه (٤).

وقد مرّ قبل خبر خيبر أن رفاعة بن زيد الجذامي الضّبيبي من غطفان كان قد قدم على قومه بدعوتهم إلى الإسلام فأجابه جمع منهم. فلما بلغ خبر نهب دحية من كان قد أسلم وأجاب رفاعة بن زيد من قومه من الضبيب ، نفروا إلى الهنيد وابنه حتى لقوهما .. فاستنقذوا ما كان لديهما من مال دحية فردّوه عليه ، فخرج دحية إلى المدينة (٥) فروى الواقدي : أنّه انتهى إلى باب رسول الله قبل أن يدخل بيته ، فدقّ الباب ، فقال رسول الله : من هذا؟ فقال : دحية الكلبي. قال : ادخل. فدخل ،

__________________

(١) الطبري ٢ : ٦٥١. وليس الخبر في سيرة ابن هشام. ونقل المحقق الأحمدي مختصر هذا الخبر عن مسند الإمام أحمد ٤ : ٧٥ وقال : من المعلوم أنّ هذه الخصال الثلاث لم تكن في الكتاب الأوّل بل في المرة الثانية في السنة التاسعة من تبوك. مكاتيب الرسول ١ : ١١٥ و ١١٣ وفي ١٠٨ : أنّ دحية كان يتّجر إلى الشام ولذلك اختاره النبي رسولا إليها.

(٢) وروى الواقدي : أنّ قيصر قد أجاز دحية بكسوة ومال ١ : ٥٥٥.

(٣) نذكّر هنا بخبرهم يوم خيبر أنهم كانوا قد أجابوا دعوة اليهود لنصرتهم على المسلمين.

(٤) سيرة ابن هشام ٤ : ٢٦٠.

(٥) سيرة ابن هشام ٤ : ٢٦٠ ، ٢٦١.


فاستخبره رسول الله عما كان من هرقل ، فأخبره حتى أتى على آخر ذلك. ثم قال : يا رسول الله ، أقبلت من عنده حتى كنت في حسمى فأغار عليّ قوم من جذام فما تركوا معي شيئا .. وذكر خبره للنبيّ ، ثم طلب إليه قتل الهنيد وابنه. فأمر النبيّ بالمسير إليهم ، فخرج لذلك زيد بن حارثة ... في جمادى الآخرة سنة (سبع (١)).

سريّة زيد إلى حسمى :

بعثه رسول الله مع دحية الكلبي في خمسمائة رجل يسيرون الليل ويكمنون النهار ، ومعه دليل من بني عذرة .. فأقبل به دليله العذري من قبل الأولاج (٢) من ناحية حرّة الرّجلاء.

وقد كانت غطفان من جذام ووائل ومن كان معهم من سلامان وسعد بن هذيم ، حين جاءهم رفاعة بن زيد بكتاب رسول الله ، قد توجّهوا إليه حتى نزلوا حرّة الرّجلاء. وكان رفاعة بن زيد مع ناس من بني الضبيب في كراع ربّة (٣) فأغار الدليل بزيد وجيشه على هؤلاء بالماقص من قبل الحرّة (٤) مع الصباح ، على ماشيتهم ونعمهم ، وقتلوا الهنيد وابنه ، وأكثروا فيهم القتل ، وفرّ الرجال ، فسبوا من النساء والصبيان مائة ، وأخذوا من النعم الف بعير ومن الشاء خمسة آلاف شاة (٥) فصار

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٥٥٦ و ٥٥٧ و ٥٥٥ وفيه : سنة ست ، بينما اعزام دحية إلى قيصر الروم في الشام لم يكن في سنة ست بل سبع.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٥٥٧.

(٣) أو رؤيّة كما في الواقدي. والكراع هو الجانب المستطيل من الحرّة ، كما في النهاية ٤ : ١٥.

(٤) سيرة ابن هشام ٤ : ٢٦١.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٥٥٨.


لكل رجل سبعة أبعرة وسبعون شاة ، ووطئوا النساء بعد الاستبراء (١).

قال ابن اسحاق : وكان بنو الضّبيب بوادي مدان من ناحية الحرّة مما يسيل مشرّقا .. وصل الجيش إلى فيفاء مدان ، وسمع بذلك بنو الضّبيب ، فركب نفر منهم .. وانطلقوا حتى إذا دنوا من الجيش وكان منهم حسّان بن ملّة الضّبيبي قد صحب دحية بن خليفة الكلبي قبل ذلك فعلّمه أمّ الكتاب .. فلما برزوا على الجيش اقبلوا يبتدرون إليهم ، فقال لهم حسّان : إنا قوم مسلمون ، فساقهم رجل إلى زيد بن حارثة ، فقال له حسان : إنّا قوم مسلمون ، فقال له زيد : فاقرؤوا أمّ الكتاب ، فقرأها حسان. فقال زيد بن حارثة : نادوا في الجيش : أنّ الله قد حرّم علينا ثغرة القوم التي جاءوا منها إلّا من خرّ (أي غدر) فنهى الجيش أن يهبطوا إلى واديهم الذي جاءوا منه. فرجعوا إلى أهلهم مساء.

وفي عتمة الليل شربوا من ألبان ابلهم ثم ركبوا إلى رفاعة بن زيد على بئر بكراع ربّه في ظهر حرّة ليلى ، فوصلوا إليه صباحا ، فقال له حسّان بن ملّة : إنّك لجالس تحلب المعزى وقد غررت جذام بكتابك الذي جئتهم به ، وها هي نساء جذام اسارى! وأخبروه خبرهم.

فقام رفاعة بن زيد إلى جمله يشد عليه رحله ، ثم ساروا إلى المدينة في ثلاث ليال ، وانتهوا إلى المسجد ، فلما دخلوا على رسول الله ورآهم أشار إليهم أن يأتوه من وراء الناس ، فلما وصلوا إليه دفع رفاعة بن زيد إلى رسول الله كتابا ، فدفعه النبيّ إلى شاب لديه وقال له : اقرأه يا غلام وأعلن. فلما قرأ الكتاب استخبره ،

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٥٦٠ هذا ، وقد مرّ أن عددهم خمسمائة رجل ، فالقياس أن لا يصل لكل رجل إلّا بعيران وخمس شياه لا أكثر ، والأغرب أن في الخبر : ويصير له من السبي المرأة والمرأتان!! وقد ذكر أن مجموع النساء والصبيان مائة! فكيف التوفيق؟!


فأخبروه الخبر. فقال رسول الله : كيف أصنع بالقتلى؟ فسكتوا ، فكرّرها. فقال أبو زيد بن عمرو : يا رسول الله أطلق لنا من حيا ، ومن قتل فهو تحت قدمي هذه. فقال رسول الله : صدق أبو زيد. ثم التفت إلى علي وقال له : اركب معهم يا علي. فقال له علي : إنّ زيدا لن يطيعني يا رسول الله! فقال : فخذ سيفي هذا ، وأعطاه سيفه. فقال علي : ليس لي ـ يا رسول الله ـ راحلة اركبها (١).

فقال بعض القوم : هذا بعير. فركبوا وخرجوا. وكان زيد بن حارثة قد بعث رافع بن مكيث بشيرا بين يديه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، على ناقة من الغنيمة ، فأمره علي عليه‌السلام بالنزول عنها وردّها عليهم ، فقال : يا علي ما شأني؟ فقال عليه‌السلام : مالهم عرفوه فأخذوه. وأردفه علي عليه‌السلام خلفه ، ثم ساروا حتى التقوا بالجيش في فيفاء الفحلتين.

فلقي علي عليه‌السلام زيد بن حارثة فقال له : إنّ رسول الله يأمرك أن تردّ على هؤلاء القوم ما كان بيدك من أسير أو سبي أو مال. فقال زيد : علامة من رسول الله! فقال علي : هذا سيفه! فعرف زيد السيف ، فنزل وصاح بالناس أن يجتمعوا ، فاجتمعوا ، فقال لهم : من كان بيده شيء من سبي أو مال فليردّه ، فهذا رسول رسول الله (٢). فجعل بنو الضّبيب يأخذون ما في أيدي أصحاب زيد بن حارثة ، حتى أنّهم كانوا ينزعون لبيد بعض النساء من تحت بعض رحال الجيش (٣).

وعليه ، فخبر كتابه صلى‌الله‌عليه‌وآله مع دحية الكلبي إلى قيصر الروم بالشام تضمّن خبر

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٤ : ١٦١ ـ ٢٦٤.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٥٥٩ ، ٥٦٠.

(٣) سيرة ابن هشام ٤ : ٢٦٤ ومن طريف التحريف أو التصحيف أن العبارة في السيرة : ينزعون لبيد المرأة من تحت الرحل. تصحّفت في مغازي الواقدي إلى : ليأخذون المرأة من تحت فخذ الرجل!


كتابه الآخر مع رفاعة بن زيد الضّبيبي الجذامي من غطفان إلى قومه بني الضبيب وجذام ووائل وسعد بن هذيم من غطفان ، وأثر هذا الكتاب في إسلامهم ثمّ في إطلاق سراحهم وأموالهم.

والخبر وإن لم ينته بالنصّ على إسلام هذه القبائل من غطفان ما عدا بني الضّبيب منهم ، إلّا أنّ ظاهر الحال يشير إلى ذلك. وهناك قبائل اخرى من غطفان أسلمت فيما بعد.

كتابه إلى أكثم بن صيفي التميمي :

وأما سائر كتبه صلى‌الله‌عليه‌وآله للدعوة إلى الإسلام فمنها ما هو معلوم التاريخ للسنة الثامنة حتى العاشرة ، ومنها ما هو مجهول التاريخ ولكنّه مرجّح الالحاق بما هو معلوم التاريخ. وإنّما يبقى من مجهول التاريخ الذي يرجح تقديمه هنا كتابه إلى أكثم بن صيفي التميمي من حكماء العرب المعروفين. وقد روى خبره الصدوق في «كمال الدين» في الباب السابع والخمسين في المعمّرين ، وبدأ خبره بشعره قال :

وإن امرأ قد عاش تسعين حجة

إلى مائة لم يسأم العيش ، جاهل

خلت مائتان غير ستّ وأربع

وذلك من عدّ الليالي قلائل

قال : ولم تكن العرب تقدم عليه أحدا في الحكمة. ولما سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله طلب ابنه حليسا أن يبعثه ليعرف خبره وقال له : يا بني .. إذا قدمت على هذا الرجل فإنّي قد عرفته وعرفت نسبه ، فهو في بيت قريش أعزّ العرب ، وهو أحد الرجلين : إمّا ذو نفس أراد ملكا فخرج الملك لغيره ، فوقّره وشرّفه وقم بين يديه ولا تجلس إلا بإذنه حيث يأمرك ويشير إليك ، فإنّه ـ إن كان ذلك ـ ادفع لشره عنك وأقرب لخيره منك. وأمّا إن كان نبيا فإن الله لا يحب فيتوهم ، ولا ينظر فيحتم ، إنّما يأخذ الخيرة حيث يعلم ، لا يخطئ فيستعيب ، إنمّا أمره على ما يحب ، فستجد أمره كله


صالحا وخبره كله صادقا وستجده متواضعا في نفسه متذللا لربّه ، فذلّ له ، ولا تحدثن أمرا دوني ، فإنّ الرسول إذا أحدث الأمر من عنده خرج من يدي الذي أرسله. واحتفظ بما يقول لك إذا ردّك إلي ، فإنّك إن توهمت أو نسيت جشّمتني رسولا غيرك. وكتب معه إليه :

«باسمك اللهم ، من العبد إلى العبد ، أمّا بعد ، فأبلغنا ما بلغك ، فقد أتانا عنك خبر ما ندري ما أصله ، فإن كنت رأيت فأرنا ، وإن كنت علّمت فعلّمنا ، وأشركنا في كنزك ، والسلام» (١).

وذكر ابن حجر (٢) وابن الأثير (٣) وابن عبد البر (٤) أنّه انتدب عنه رجلين (ولعلهما ابناه : جيش وحليس) فلما وصلا إلى رسول الله قالا له : نحن رسولا أكثم ابن صيفي وهو يسألك : من أنت؟ وما أنت؟ وبم جئت؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا محمد بن عبد الله ، وأنا عبد الله ورسوله. ثم تلا هذه الآية : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(٥).

وذكروا : أنّ رسول الله كتب إليه :

«من محمد رسول الله إلى أكثم بن صيفي ، أحمد الله إليك. إنّ الله تعالى أمرني أن أقول : لا إله إلّا الله ، وأمر الناس بقولها ، والخلق خلق الله ، والأمر كله لله ، خلقهم وأماتهم ، وهو ينشرهم وإليه المصير. أدبتكم بآداب المرسلين ، ولتسألنّ عن النبأ العظيم ، ولتعلمنّ نبأه بعد حين».

__________________

(١) كمال الدين : ٥٣٠ ، ٥٣١ وكنز الفوائد ٢ : ١٢٣.

(٢) في الإصابة ١ : ١١٠.

(٣) في اسد الغابة ١ : ١١٢.

(٤) في الاستيعاب : ١٢٨ في ترجمة الأحنف بن قيس التميمي.

(٥) النحل : ٩٠.


فلما رجعوا إليه بالكتاب قال لابنه : يا بني ما ذا رأيت؟ قال : رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها.

فجمع أكثم بن صيفي بني تميم ثم قال لهم : يا بني تميم ، كبرت سنّي ودخلتني ذلة الكبر ، فإن رأيتم منّي حسنا فأتوه وإذا انكرتم مني شيئا فقوّموني للحق أستقم له. إنّ ابني قد جاءني ، وقد شافه هذا الرجل ، فرآه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويأخذ بمحاسن الأخلاق وينهى عن ملائمها ، ويدعو أن يعبد الله وحده وتخلع الأوثان ويترك الحلف بالنيران. ويذكر أنه رسول الله ، وإنّ قبله رسلا لهم كتب.

وإنّ أحق الناس بمعاونة محمد ومساعدته على أمره انتم ، فإن يكن الذي يدعوكم إليه حقا فهو لكم ، وإن يكن باطلا كنتم أحق من كفّ عنه وستر عليه. وقد علم ذوو الفضل منكم أن الفضل فيما يدعو إليه ويأمر به ، فكونوا في أمره أوّلا ولا تكونوا آخرا ، اتبعوه تشرفوا وتكونوا سنام العرب ، وأتوه طائعين من قبل أن تأتوه كارهين ، فإنّي أرى أمرا ما هو بالهوينا لا يترك مصعدا إلّا صعده ، ولا منصوبا إلّا بلغه. إنّ هذا الذي يدعو إليه إن لم يكن دينا لكان في الأخلاق حسنا.

أطيعوني واتبعوا أمري ، أسأل لكم ما لا ينزع منكم أبدا ، انّكم أصبحتم أكثر العرب عددا وأوسعهم بلدا ، وانّي لأرى أمرا لا يتبعه ذليل إلا عزّ ، ولا يتركه عزيز إلّا ذل. اتبعوه تزدادوا مع عزكم عزّا ولا يكون أحد مثلكم إنّ الأول لا يدع للآخر شيئا ، وهذا شيء له ما بعده ، فمن سبق إليه فهو الباقي واقتدى به التالي ، فأصرموا أمركم فإنّ الصريمة قوة.

فقال مالك بن نويرة ـ وهو منهم ـ لقد خرف شيخكم! (ولم يسلم بعد). فقال أكثم : ويل للشّجيّ من الخلّي (١) والله ما عليك آسى ولكن على العامة. ثم نادى

__________________

(١) كمال الدين : ٥٣١ ، ٥٣٢.


في قومه من يرحل معه ، فتبعه منهم مائة رجل .. فساروا حتى كانوا دون المدينة بأربع ليال .. وجهدهم العطش ، وأيقن أكثم بالموت فقال لأصحابه : أقدموا على هذا الرجل واعلموا بأنّي أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّه رسول الله. وانظروا إن كان معه كتاب بايضاح ما يقول فآمنوا به واتبعوه وآزروه. فقدموا المدينة وأسلموا (١).

سرية ابن سعد إلى فدك :

أفاء الله على رسوله قرى فدك ، وما أوجف المسلمون عليها بخيل ولا ركاب ، وسلّط الله رسوله عليهم وعلى قراهم وضياعهم ومزارعهم ، فكانت لرسول الله خاصة.

وأرى أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بلغه أنّ بعض الأعراب من بني مرّة ، ولعلهم ممن حضر حرب الأحزاب ، يرعون في بوادي فدك ولا يراعون له أمرا ..

قال الواقدي : فبعث ثلاثين رجلا مع بشير بن سعد إلى بني مرة بفدك (٢) فخرج إليهم ، فلقى أنعامهم معها رعاتها ، فساقها منحدرا إلى المدينة. وخرج صريخهم فأخبرهم ، فأدركوهم ليلا ، فباتوا يرامونهم حتى الصباح ، ثم حمل عليهم المرّيون فقاتل بشير بن سعد حتى جرح وسقط وظنوا أنه قتل ، وقتل من قتل وولّى من ولّى ، ورجع المرّيون بأنعامهم. ورجع بشير ، وقبله من أصحابه علبة بن زيد الحارثي وأخبر النبيّ.

__________________

(١) جمهرة رسائل العرب عن سرح العيون : ١٤. وكذلك قال الكراجكي. وقال الصدوق : لا يشك الأكثر في أنّه لم يسلم. وقال ابن عبد البر : لم يصح إسلامه في حياة رسول الله. وانظر مكاتيب الرسول ١ : ١٥٥ ـ ١٥٨.

(٢) وقال المسعودي : سرية بشير في شعبان إلى بني مرة بفدك. التنبيه والاشراف : ٢٢٧.


وقدم غالب بن عبد الله من سرية ، فعقد النبي له اللواء وهيّأ معه مائتي رجل وقال له : سر حتى تنتهي إلى حيث اصيب أصحاب بشير ، فإن ظفّرك الله بهم فلا تبق منهم! وخرج غالب بالسرية. فلما دنا منهم بعث عليهم الطلائع ، فأوفى علبة بن زيد على جماعة منهم ورجع إلى غالب فأخبره. فأقبل غالب يسير ليلا حتى إذا كان منهم بمنظر العين ، وقد احتلبوا ابلهم وسقوها وأناخوها عند الماء وهدؤوا. ثم قام غالب في أصحابه فألف بين كل اثنين منهم وقال لهم : لا يفارق كل رجل زميله ، وإياكم أن يرجع إلي أحدكم فأقول : أين فلان صاحبك فيقول : لا أدري! ثم قال لهم : إذا كبّرت فكبّروا. فكبّر وكبّروا وأخرجوا السيوف وأحاطوا بحاضرتهم ، فخرج إليهم الرجال فقاتلوهم ساعة ، فقتل منهم من قتل ، واستولوا على النساء والماشية ، واقتسموها فكانت سهامهم لكل رجل عشرة ابعرة أو عدلها من الغنم ، وكان يحسب الجزور بعشرة من الغنم.

وافتقدوا اسامة بن زيد ، وكان قد خرج في إثر رجل منهم يقال له نهيك بن مرداس .. فلم يرجع إلّا بعد ساعة من الليل. قال الراوي : فلامه آمرنا لائمة شديدة وقال : ألم تر إلى ما عهدت إليك؟ فقال : إنّي خرجت في إثر رجل جعل يتهكّم بي ، حتى إذا دنوت ولحمته بالسيف قال : لا إله إلّا الله. فقال آمرنا : أغمدت سيفك؟ قال : لا والله ما فعلت حتى أوردته الموت! فقلنا له : والله بئسما جئت به! تقتل امرأ يقول لا إله إلّا الله! فندم (١).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٢٣ ـ ٧٢٥. وفي : ٧٢٣ قال : كان ذلك في شعبان. وقال المسعودي : في شهر رمضان إلى الميفعة وراء بطن نخل إلى ناحية النقرة مما يلي نجدا على ثمانية برد من المدينة ، التنبيه والاشراف : ٢٢٧. وثمانية برد ـ ٦٨٠ كم تقريبا.


والقمي في تفسيره سمّى الرجل مرداس بن نهيك الفدكي اليهودي وقال : انّه لما أحسّ بخيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جمع ماله وأهله وصار في ناحية الجبل ، فمرّ به اسامة بن زيد ، فجعل يقول : أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا رسول الله ، وطعنه اسامة فقتله. فلما رجع إلى رسول الله أخبره بذلك ، فقال له رسول الله : قتلت رجلا شهد أن لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله؟! فقال : يا رسول الله إنمّا قال تعوّذا من القتل! فقال رسول الله : فلا الغطاء عن قلبه شققت ، ولا ما قال بلسانه قبلت ، ولا ما كان في نفسه علمت! فحلف أنه بعد ذلك لا يقتل أحدا شهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا رسول الله. وأنزل الله في ذلك : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ)(١) كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً.

__________________

(١) النساء : ٩٤ والخبر في تفسير القمي ١ : ١٤٨ ، ١٤٩ وفي آخره : فتخلّف اسامة عن أمير المؤمنين في حروبه. وروى الطوسي في التبيان ٣ : ٢٩٠ عن أبي الجارود عن الباقر عليه‌السلام : أنّ الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي أخي أبي جهل ، كان قد أسلم ، وكان أخوه أبو جهل يعذّبه ومعه الحارث بن يزيد العامري ، وكان في وثاق المشركين حتى يوم فتح مكة ، فلقى حارثا وقد أسلم وهو لا يعلم بإسلامه فقتله عياش. ونقله الطباطبائي في الميزان ونقل عن الدر المنثور عن عكرمة : أنّ عياشا هاجر فلقى الحارث في حرة المدينة وهو لا يعلم بإسلامه فقتله ، ثم أخبر النبيّ فنزلت الآية فقال له النبيّ : قم فحرّر. ثم قال : وهذا أوفق بالاعتبار وأنسب لتاريخ نزول سورة النساء. الميزان ٥ : ٤٢ وانما يراه أوفق وأنسب بالنسبة إلى الآيات السابقة : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ...) أما مع الآية الأخيرة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا ..) فلا وفق ولا تناسب.


سريتان إلى هوازن :

روى الواقدي بسنده عن سلمة بن اياس قال : أمّر رسول الله علينا أبا بكر وبعثه ، فبيّتنا ناسا من هوازن في نجد ، وكان شعارنا أمت أمت ، فقتلت بيدي منهم سبعة رجال أهل أبيات. وذلك في شعبان سنة سبع.

قال : وفيه أيضا بعث رسول الله عمر في ثلاثين رجلا إلى عجز هوازن ـ وهم بنو جشم وبنو نصر ـ في تربة (١) ومعه دليل من بني هلال ، فكانوا يسيرون

__________________

ـ ونقل الطوسي عن أبي زيد خبرا كخبر اسامة منسوبا إلى أبي الدرداء ، وهو ما نقله الطبري في جامع البيان ، ثم قال الطوسي : ويجوز في سبب نزول الآية كل واحد مما قيل.

التبيان ٣ : ٢٩٠ ، ٢٩١ ولم ينقل خبر اسامة.

أما الطبرسي في مجمع البيان ٣ : ١٤٥ فقد بدأ بخبر اسامة وأشار إلى خبر أبي الدرداء وآخر أن صاحب السرية كان المقداد ، ثم نقل عن ابن اسحاق والواقدي : أنّ الآية نزلت في محلّم بن جثّامة الليثي وكان بينه وبين عامر بن الاضبط الاشجعي عداوة ، بعث النبيّ الليثي في سرية فلقي الأشجعي فحياه الأشجعي بتحية الإسلام ولكن الليثي رماه بسهم فقتله ، وطلب من النبيّ أن يستغفر له فقال له : لا غفر الله لك ، فانصرف باكيا ثم هلك بعد سبعة ايام فدفن فلفظته الأرض ، فاخبر النبيّ فقال : انّ الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم محلّم ولكن الله أراد أن يعظم من حرمتكم. ونزلت الآية.

والطباطبائي في الميزان نقل الوجوه عن الدر المنثور ، ثم قال : ولكن حلف اسامة واعتذاره إلى علي عليه‌السلام في تخلّفه عن حروبه معروف مذكور في كتب التاريخ ٥ : ٤٥ يرى أن هذا ما يرجّح صحة خبر اسامة بن زيد. وابن اسحاق ذكر مختصر الخبر في سيرة ابن هشام ٤ : ٢٧١.

(١) تربة : موضع على أربع ليال من مكة على طريق صنعاء اليمن كما في ابن سعد ٢ : ٨٥. والتنبيه والاشراف : ٢٢٧.


الليل ويكمنون النهار ، ولكن خبرهم بلغ هوازن فهربوا فلم يلق عمر أحدا منهم ، فانصرف راجعا إلى المدينة (١).

سرية بشير إلى غطفان :

مرّ في أخبار خيبر : أن كنانة بن أبي الحقيق أمير يهود خيبر كان قد سار إلى عيينة بن حصن الغطفاني ومعه منهم أربعة آلاف (٢) يدعوهم إلى نصرهم ولهم نصف تمر خيبر تلك السنة (٣) وأنهم أجابوهم حتى دخلوا معهم في حصن النطاة ، ولكنهم خافوا فخانوهم (٤).

وكان دليل الرسول إلى خيبر حسيل بن نويرة الأشجعي ، وبعد خيبر في سنة سبع كان في موضع الجناب (٥) لغطفان وقدم المدينة على رسول الله ، فسأله : من أين يا حسيل؟ قال : قدمت من الجناب. فقال : وما وراءك؟ قال : تركت جمعا من غطفان بالجناب قد بعث إليهم عيينة بن حصن يقول لهم : إمّا تسيروا إلينا أو نسير إليكم؟ فأرسلوا إليه : أن سر إلينا حتى نزحف إلى محمد جميعا. فهم يريدونك أو بعض أطرفك! فقال أبو بكر وعمر : ابعث إليهم بشير بن سعد!

فدعا رسول الله بشيرا وعقد له لواء ، وبعث معه ثلاثمائة رجل ، وأمرهم : أن يسيروا الليل ويكمنوا النهار ـ وخرج معهم حسيل بن نويرة دليلا ـ فساروا الليل

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٢٢.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٦٥٠.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٦٤٢.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٦٥٠.

(٥) قال المسعودي : سرية بشير في شوال إلى يمن وجبار نحو الجناب بعرض خيبر ووادي القرى. التنبيه والاشراف : ٢٢٨.


وكمنوا النهار حتى نزلوا منزل سلاح أسفل خيبر ، وخرجوا منه ودنوا من القوم ، فقدّموا الدليل طليعة يأتيهم بالخبر ، فغاب عنهم ساعة ثم كرّ عليهم فأخبرهم عن سرح القوم ونعمهم ، فأغاروا عليها فأصابوا نعما كثيرا ، وخرج الرّعاة فحذّروا جمعهم فلحقوا بعلياء بلادهم. وخرج بشير بأصحابه حتى أتى محالّهم فلم يجد بها منهم أحدا ، فرجع بالأنعام ، حتى بلغوا الى سلاح فلقوا جمع عيينة بن حصن فناوشوهم فانكشفوا عنهم ، وأصاب المسلمون منهم رجلا أو رجلين أسروهما أسرا وقدموا بهما على النبيّ فأسلما ، فأرسلهما (١) صلى‌الله‌عليه‌وآله.

كتابه إلى أمير اليمامة :

مرّ في إجمال إرسال الرسل والكتب إلى الملوك والامراء : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث سليط بن عمرو العامري إلى ملكي اليمامة (٢) : ثمامة بن أثال ، وهوذة بن علي الحنفيّين (٣). ولم يذكر نصّ كتابه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ابن أثال ، وإنما ذكر كتابه إلى هوذة :

«بسم الله الرحمن الرحِيم ، من محمد رسول الله إلى هوذة بن علي ، سلام على من اتّبع الهدى ، واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخفّ والحافر ، فأسلم تسلم ، وأجعل لك ما تحت يديك» وكان نصرانيا (٤) وكان سليط بن عمرو يختلف إلى اليمامة فأرسل الكتاب معه إليه يدعوه إلى الإسلام.

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٢٨.

(٢) اليمامة من بلاد نجد شرقيّ مكة ، وقاعدتها الحجر ، على ست عشرة مرحلة من البصرة ونحوها من الكوفة ، وبينها وبين البحرين عشرة أيام ، كما في مادة البحرين من معجم البلدان والقاموس.

(٣) سيرة ابن هشام ٤ : ٢٥٤. وبنو حنيفة من بكر بن وائل من ربيعة بن نزار.

(٤) معجم البلدان مادة البحرين ، والكامل في التاريخ ٢ : ٨٢.


فلما قدم عليه أكرمه وأنزله ، ودفع إليه الكتاب فقرأه ، فلما قرأه قال له سليط : يا هوذة ، إنّك سوّدتك أعظم حائلة وأرواح في النار! وإنّما السيّد من متّع بالإيمان ثم زوّد بالتقوى ، وإنّ قوما سعدوا برأيك ، فلا يشقون به! وإنّي آمرك بخير مأمور به وأنهاك عن شرّ منهيّ عنه! آمرك بعبادة الله وأنهاك عن عبادة الشيطان ؛ فإنّ في عبادة الله الجنة وفي عبادة الشيطان النار : فإن قبلت نلت ما رجوت وأمنت مما خفت ، وإن أبيت فبيننا وبينك كشف الغطاء وهول المطّلع!

هوذة : يا سليط ، سوّدني من لو سوّدك تشرّفت به ، وقد كان لي رأي أختبر به الامور ففقدته ، فاجعل لي فسحة يرجع إليّ فيها رأيي فاجيبك إن شاء الله.

وكان عند هوذة رجل رومي من عظماء نصارى دمشق فقال له هوذة : جاءني كتاب من محمد يدعوني إلى الإسلام فلم اجبه. فقال الرومي : لم لا تجيبه؟ قال : ضننت بديني ، وأنا أملك قومي ولئن اتّبعته لا أملك! فقال الرومي : بلى والله ، لئن اتّبعته ليملكنّك ، وإنّ الخير لك في اتّباعه ، فانّه للنبيّ العربيّ الذي بشّر به عيسى بن مريم عليه‌السلام ، وانه لمكتوب عندنا في الانجيل : محمد رسول الله.

ثم كتب هوذة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله ، وأنا شاعر قومي وخطيبهم ، والعرب تهاب مكاني ، فاجعل لي بعض الأمر أتّبعك»! ثم أجاز سليطا بجائزة وكساه أثوابا من نسج هجر ، وأرسل وفدا فيهم مجاعة بن مرارة ، والرحّال بن عنفوة ومعهم غلام اسمه كركرة هدية له صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

فلما قدم الرسول عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبره بما جرى وقرأ الكتاب على النبيّ ، قال : لا ، ولا كرامة لو سألني سيابة من الأرض ما فعلت ، باد وباد ما في يديه. ثم قال : اللهم اكفنيه (٢).

__________________

(١) ذكره الطبرسي في أعلام الورى ١ : ٢٨٧.

(٢) فلما انصرف من فتح مكة أخبره جبرئيل بموت هوذة ، كما في الطبقات الكبرى ١ : ٢٦٢.


هذا ما رواه ابن سعد في «الطبقات الكبرى» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بشأن هوذة. وروى الكليني في «روضة الكافي» بسنده عن أبان البجلي الكوفي عن الباقر عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه كان يقول بشأن ثمامة بن أثال : اللهم أمكنّي من ثمامة! فأسرته خيل للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. فقال له رسول الله : انّي مخيّرك واحدة من ثلاث : أقتلك! قال : إذا تقتل عظيما ، أو افاديك. قال : إذا تجدني غاليا. أو أمنّ عليك. قال : إذا تجدني شاكرا. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : فانّي قد مننت عليك. فقال : أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك محمد رسول الله. وقد والله علمت أنّك رسول الله حيث رأيتك ، و (لكنّي) ما كنت لأشهد بها وأنا في الوثاق! (١).

__________________

وراجع مكاتيب الرسول ١ : ١٣٦ ـ ١٣٩ ويلاحظ أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يحوّله على رضا المسلمين واختيارهم له!

(١) روضة الكافي : ٢٤٩. ورواه ابن اسحاق عن أبي هريرة قال : خرجت خيل لرسول الله فأخذت رجلا أتوا به رسول الله فقال : هذا ثمامة بن أثال الحنفي ، أحسنوا إساره ، وأمر أن تمرّ ناقته عليه ليحتلبها غدوة وعشيا ، وقال لأهله : ابعثوا إليه ما عندكم من طعام. وكان النبيّ يدعوه إلى الإسلام فلا يسلم ، فمكث مدة ثم أمر النبي بإطلاقه. فلما أطلقوه أتى البقيع فتطهّر ثم أقبل حتى بايع النبيّ على الإسلام. وروى ابن هشام : أنّه حين أسلم قال لرسول الله : لقد كان وجهك أبغض الوجوه إلي ، ولقد أصبح وهو أحبّ الوجوه إلي. ثم خرج معتمرا فلما قدم مكة ـ وكان أول من دخل مكة يلبّي ـ قالوا له : أصبوت يا ثمام؟! فقال : لا ، ولكنّي اتّبعت خير الدين دين محمد ، ولا والله لا تصل إليكم حبّة من اليمامة حتى يأذن فيها رسول الله. ثم خرج إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئا. فكتبوا إلى رسول الله : «انّك تأمر بصلة الرحم وقد قطعت أرحامنا : قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع!» فكتب رسول الله إلى ثمامة أن يخلّي بينهم وبين حمل الحبوب إليهم ، فحملت. ٤ : ٢٨٧ ، ٢٨٨.

ورواية أبي هريرة : وقد أسلم في السابعة ، وكونه أول من لبّى بمكة يدلان على أن ذلك بعد خيبر وقبل عمرة القضاء ، ولذلك ذكرنا الخبر هنا.


القسامة ، والدّية من بيت المال :

وكأنّ المدينة أصابتها مجاعة في أواخر السنة السابعة بعد فتح خيبر وقبل عمرة القضاء (١).

فروى الواقدي بسنده عن محيّصة بن مسعود الأنصاري قال : لما فتح رسول الله خيبر جهدنا وأصابتنا مجاعة ، فقلت لأصحابي : قد جهدنا وأصابتنا مجاعة فهل لكم في خيبر؟ وكان رسول الله قد دفع إليهم زرع الأرض والنخل على النصف (فخرجنا نمتار تمرا (٢)).

فخرجنا حتى قدمنا خيبر ، فكنّا في الشّق يوما ، وفي النّطاة يوما ، وفي الكتيبة ، ورأينا في الكتيبة خيرا فأقمنا بها أياما ، ورجع صاحبي (وابن عمّي عبد الله بن سهل) إلى الشّق فغاب عنّي. فغدوت في أثره حتى انتهيت إلى الشّق أسأل عنه ، فقال لي بعضهم : لما غابت الشمس مرّ من هنا يريد النّطاة. فعمدت إلى النّطاة أسأل عنه ، إلى أن قال لي غلام منهم : تعال أدلّك على صاحبك! فانتهى بي إلى منهر فأقامني عليه فإذا الذّباب يطلع من المنهر! فتدلّيت في المنهر فإذا صاحبي قتيل ؛ فاستعنت عليه بنفر من اليهود حتى اخرجته وكفّنته ودفنته. ثم خرجت مسرعا إلى المدينة ، فوجدنا رسول الله يريد عمرة القضية.

فأخبرت قومي الخبر .. وكان المقتول عبد الله بن سهل ، وكان أخو المقتول عبد الرحمن بن سهل أحدث مني رقيقا مستعبرا على أخيه ، وخرج من قومنا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاثون رجلا أكبرنا أخي حويّصة بن مسعود. فلما بركنا بين يديه وجلسنا حوله ، تقدم عبد الرحمن بن سهل وقال : يا رسول الله ، إنّ أخي قد قتل ..

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧١٤.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٣ : ٣٦٩ ونمتار : نأخذ الميرة : المئونة.


فقال له رسول الله : كبّر ، كبّر (قدّم الأكبر منك للكلام أدبا)! فتقدّمت وتكلّمت ، فقال لي أيضا : كبّر ، كبّر! فسكتّ.

فتكلم أخي حويّصة ـ وكان أكبرنا ـ فذكر أن ظنّتنا أو تهمتنا اليهود. ثم أخبرت الخبر رسول الله (١).

فكتب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك إلى يهود خيبر : أنّه قد وجد قتيل بين أبياتكم ، فدوه. أي أدّوا ديته. فكتبوا إليه يحلفون بالله ما قتلوه ولا يعلمون له قاتلا (٢).

فقال رسول الله لحويّصة ومحيّصة وعبد الرحمن ومن معهم (٣) : ايتوني بشاهدين من غيركم. قالوا : يا رسول الله ، ما لنا شاهدان من غيرنا. فقال لهم رسول الله : فليقسم خمسون رجلا منكم على رجل ندفعه إليكم. قالوا : يا رسول الله : وكيف نقسم على ما لم نره؟! قال : فيقسم اليهود؟ قالوا : يا رسول الله ، وكيف نرضى باليهود وما فيهم من الشرك أعظم؟! فودّاه رسول الله (٤) من عنده مائة ناقة : خمسة وعشرين جذعة ، وخمسة وعشرين حقّة ، وخمسة وعشرين بنت لبون ، وخمسة وعشرين بنت مخاض. قال سهل بن أبي حثمة راوي الخبر عن محيّصة : وكنت يومئذ غلاما فرأيتها ادخلت عليهم مائة ناقة ، وركضتني منها ناقة حمراء (٥) بكرة ، وأنا أحوزها (٦).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧١٣ ، ٧١٤.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٣ : ٣٧٠ واختصر الواقدي.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٧١٤.

(٤) فروع الكافي ٧ : ٣٦١ ، الحديث ٥ والتهذيب ١٠ : ١٦٦ ، الحديث ٢. وتمامه : قال الصادق عليه‌السلام : وانما جعلت القسامة احتياطا لدماء الناس لكي ما إذا أراد الفاسق أن يقتل رجلا أو يغتال رجلا حيث لا يراه أحد خاف أن يقتل فامتنع من القتل.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٧١٥.

(٦) ابن اسحاق في السيرة ٣ : ٣٧٠.


تقسيم محاصيل خيبر :

كان فتح خيبر في أواخر شهر صفر من أوائل السنة السابعة للهجرة ، ومرّ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قاسمهم محاصيلهم بالمناصفة ، فهذا بحاجة إلى محاسب مخمّن ، وعيّن النبيّ لذلك عبد الله بن رواحة ، وقام بالأمر لأول حصاد بعد خيبر ثم اصيب في حرب مؤتة. قال ابن اسحاق : وإنمّا خرص عليهم عاما واحدا (١) وليس في ما بأيدينا أيّ تاريخ لذلك سوى هذا النص ، ولذلك آثرت أن اذكر ذلك وصلا بخبر القتيل في خيبر وقبل الخروج إلى عمرة القضاء :

روى الكليني في «فروع الكافي» بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله تركها في أيديهم على النصف (زرع أرضها ونخلها) فلما بلغت الثمرة بعث عبد الله بن رواحة إليهم فخرص عليهم. فجاؤوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : إنّه قد زاد علينا. فأرسل إلى عبد الله فقال له : ما يقول هؤلاء؟ قال : قد خرصت عليهم بشيء ، فإن شاءوا يأخذون بما خرصت ، وإن شاءوا أخذناه. وقال لهم : إما أن تأخذوه وتعطوني نصف الثمر ، وإما أعطيتكم نصف الثمر وآخذه. فقال رجل من اليهود : بهذا قامت السموات والأرض (٢).

وروى الواقدي قال : فلما خرص قال : إن شئتم فلكم ، وتضمنون نصف ما خرصت ، وإن شئتم فلنا ، ونضمن لكم ما خرصت. وقد خرص عليهم أربعين ألف وسق. فجمعوا له حليّا من حليّ نسائهم فقالوا : هذا لك وتجاوز في القسم! فقال لهم : يا معشر اليهود! والله انكم لمن أبغض خلق الله إليّ ، وما ذاك يحملني أن أحيف عليكم. فقالوا : بهذا قامت السموات والأرض! (٣).

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٣ : ٣٦٩.

(٢) فروع الكافي ٥ : ٢٦٦ و ٢٦٧ و ٢٦٨ وأمالي الصدوق : ٢١٨ وسيرة ابن هشام ٣ : ٣٦٩.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٦٩١.


ويلازم أن يكون المحاسب المخمّن هنا عبد الله بن رواحة قبل شهادته في حرب مؤتة ، يلازم هذا أن يكون ذلك قبل شهادة زيد بن حارثة كذلك ، وهذا يقتضي أن نجد اسمه في قائمة أسماء الرجال الذين أسهم لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا أن نفتقد اسمه ونجد بدله اسم ابنه اسامة ، كما هو الحال في قائمتي ابن اسحاق في السيرة (١) والواقدي في المغازي (٢). وكذلك نفتقد اسم جعفر بن أبي طالب إلى جانب ذكر أخويه علي عليه‌السلام وعقيل واخواته أمّ طالب وأمّ هاني وجمانة ، ونجد عنوان بني جعفر ، مما يدل هذا على أنّ القوائم لما بعد حرب مؤتة ، بل لما بعد فتح مكة لمكان عقيل واخواته ، والعباس ، وأمّ الحكم بنت الزبير بن عبد المطلب وغيرهم من مسلمة الفتح ، مما يدل على أنّ هذه القائمة لما بعد فتح مكة لا فتح خيبر.

بل الملفت أنّ كلّا من ابن اسحاق والواقدي قد أعقبا هذه القائمة بذكر وصيته صلى‌الله‌عليه‌وآله بطعمة من خمس خيبر لعشرة من الداريين الذين قدموا للإسلام من الشام وكذلك للأشعريين والرهاويين من اليمن. مما يشير إلى أن هذه هي القوائم الأخيرة ولذلك اثبتت مع وصاياه صلى‌الله‌عليه‌وآله. والقوائم هذه لدى كل من ابن اسحاق والواقدي ثلاث قوائم :

احداها هذه الوصايا لهذه الطوائف الثلاث : الدّاريّين والأشعريّين والرّهاويّين. وزاد ابن اسحاق : السبئيّين ، لكل طائفة مائة وسق (٣).

وقائمة اخرى صغرى ، كأنّ ابن اسحاق استنسخها من كتاب فيه بعد البسملة : ذكر ما أعطى محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نساءه من قمح خيبر : قسم لهن مائة

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٣ : ٣٦٥ ، ٣٦٦.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٦٩٤ ، ٦٩٥.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٣ : ٣٦٧ ، ٣٦٨ ومغازي الواقدي ٢ : ٦٩٥. والوسق ستون صاعا ، والصاع ـ ٧٥٠ / ٢ كغم.


وسق وثمانين وسقا (كذا) ثم خرج من النساء إلى فاطمة بنت رسول الله ، واسامة بن زيد ، والمقداد بن الأسود ، ثم أمّ رميثة بنت عمر بن هاشم بن المطّلب. ثم : شهد عثمان بن عفّان وعباس ، وكتب (١).

ونقل الواقدي أيضا هذه القائمة إلّا أنّه اختلف عن ابن اسحاق في : أن جعل العنوان : ذكر طعم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الكتيبة (٢) أزواجه وغيرهم. فذكر من ذكرهم ابن اسحاق وزاد : للعباس بن عبد المطّلب مائتي وسق. ولم يذكره شاهدا ولا الكاتب. ولم يذكر القمح بل الشعير والتمر ونواه (٣).

وقائمة اخرى كبرى نقلها الواقدي بعد السابقة الصغرى بفاصل البسملة بلا عنوان وهي عنده تنقص عن ابن اسحاق اثني عشر موردا بعضهم ممن تكرّر ذكره في القائمة الصغرى. وعقّبها بالوصايا للطوائف الثلاث (٤). بينما جعلها ابن اسحاق قائمة سهام الكتيبة بين قرابته ونسائه ومعهم رجال ونساء من المسلمين أعطاهم منها ، فبدأ بفاطمة وعلي عليهما‌السلام وثنّى بعائشة وأبيها ، وثلّث بعقيل وبني جعفر (٥).

عمرة القضاء :

مرّ في بنود صلح الحديبية في ذي الحجة في السنة السادسة : أنّ المشركين قالوا لرسول الله :

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٣ : ٣٦٧.

(٢) وقد مرّ عنه أنّ الكتيبة كانت خمس غنائم خيبر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٦٩٣ ، ٦٩٤.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٦٩٤ ، ٦٩٥.

(٥) ابن اسحاق في السيرة ٣ : ٣٦٥ ، ٣٦٦.


«نخلّي لك البيت في العام القابل في هذا الشهر ثلاثة أيّام ، حتى تقضي نسكك وتنصرف عنّا» فأجابهم رسول الله إلى ذلك (١).

قال الواقدي : فلما دخل هلال ذي القعدة من سنة سبع ، أمر رسول الله الذين شهدوا معه الحديبية أن لا يتخلّف أحد منهم عن قضاء عمرتهم معه هذه السنة (السابعة) وسمح لمن لم يكونوا معه.

فروى عن ابن عباس قال : فقال رجال من حاضري المدينة من العرب : يا رسول الله ما لنا من يطعمنا! فأمر رسول الله المسلمين أن يتصدّقوا عليهم في سبيل الله. فقالوا : يا رسول الله بم نتصدّق وأحدنا لا يجد شيئا؟ فقال رسول الله : بما كان ، ولو بشقّ تمرة. ولو بمشقص (٢) يحمل به أحدكم في سبيل الله (٣).

وساق رسول الله في هذه العمرة ستين بدنة ، بعد أن قلّدها بنفسه بيده. وكان أبو هريرة الدّوسي ، وعبيد بن أبي رهم الغفاري ، وعليهم ناجية بن جندب الأسلمي ومعه أربعة فتيان من أسلم يسيرون بالهدي أمامه يطلبون الرعي في الشجر. وقاد رسول الله مائة فرس وجعل على هذه الخيل محمد بن مسلمة الأنصاري ، وحمل معهم البيض والدروع والرماح والسلاح ، واستعمل عليه بشير بن سعد. فقيل : يا رسول الله! حملت السلاح ، وقد شرطوا علينا أن لا ندخل عليهم إلّا بسلاح المسافر :

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٣١١.

(٢) نصل السهم الطويل غير العريض.

(٣) تمامه : فأنزل الله في ذلك قوله سبحانه : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) البقرة : ١٩٥ وقبلها آية الشهر الحرام ، وبعدها خمس آيات في الحج ، وهذا يتلاءم وفحوى الخبر ، ولعل هذا مما يفسّر كون الآيات في سورة البقرة بأنها الحقت بالبقرة فيما بعد.


السيوف في القرب؟! فقال رسول الله : انا لا ندخلها عليهم الحرم ، ولكن تكون قريبا منّا ، فإن هاجنا هيج من القوم كان السلاح قريبا منّا. وخرج المسلمون ألفين وأحرم النبي من الجحفة (١) وسار رسول الله يلبّي ، والمسلمون يلبّون.

وفي مرّ الظهران التقى نفر من قريش بمحمد بن مسلمة وبشير بن سعد فرأوا معه سلاحا كثيرا ، فخرجوا سراعا فأخبروا قريشا بالذي رأوا من الخيل والسلاح. وفي بطن يأجج (٢) قرب أنصاب الحرم تلاحق رسول الله في أصحابه والهدي والسلاح.

مبعوث قريش :

وبعثت قريش مكرز بن حفص بن الأحنف في نفر من قريش فالتقوا بالنبيّ في بطن يأجج ، فقالوا : يا محمد! والله ما عرفت صغيرا ولا كبيرا بالغدر ، تدخل بالسلاح الحرم على قومك وقد شرطت أن لا تدخل إلّا بسلاح المسافر : السيوف في القرب؟! فقال رسول الله : لا ندخلها إلّا كذلك.

فرجع مكرز إلى مكة مسرعا يقول : إنّ محمدا لا يدخل بسلاح ، وهو على

__________________

(١) الكافي ٤ : ٢٥١ و ٢٥٢ ، الحديث ١٠ و ١٣ والفقيه ٢ : ٢٧٥ ، الحديث ٧. وفي مغازي الواقدي : أحرم من باب المسجد ٢ : ٧٣٣ و ٧٣٤.

(٢) قال عاتق بن غيث البلادي في كتابه مختصر معجم معالم مكة التاريخية عن بطن يأجج : انّه يعرف اليوم باسم ياج تخفيفا ، يمر به طريق مكة للمدينة فيه بساتين ضعيفة وبئر يسمى بئر مقيت وبه يعرفه عامة أهل مكة وهو واد يمر شمال التنعيم حتى يصب في بئر الظهران بين دفء خراعة وبين المقوع بطول ٣٣ كيلو مترا وفي شماله موضع قتل حبيب بن عدي الشهيد في يوم الرجيع ، كما عنه في مجلّة ميقات الحج ٧ : ٢٤١.


الشرط الذي شرط لكم. وأمر رسول الله أن يذهبوا بالهدي أمامه فيحبسوه في ذي طوى. وخلّف مائتي رجل على السلاح عليهم أوس بن خوليّ. وخرج رسول الله على ناقته القصواء (١) وأصحابه محدقون به متوشّحو السيوف يلبّون ، حتى انتهى إلى ذي طوى ، ولم يقطع التلبية حتى بلغ عروش مكة (٢) ثم دخل من الثنيّة التي تطلع على الحجون.

وقالت قريش : لا ننظر إليه ولا إلى أصحابه ، فخرجوا من مكة إلى رءوس الجبال (٣) وقد رفعوا الأصنام حسب شرط الصلح (٤).

وروى ابن اسحاق عن ابن عباس : أن جمعا اصطفوا له عند دار الندوة لينظروا إليه وإلى أصحابه ـ وتحدّثوا فيما بينهم : أنّ محمدا وأصحابه في عسرة وجهد وشدة! (٥) فدخل مكة حتى طاف بالبيت.

فروى الكليني في «الكافي» بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : طاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على ناقته العضباء ، وجعل يستلم الأركان (والحجر) بمحجنه ويقبّل المحجن (٦).

__________________

(١) سيأتي عن الصادق عليه‌السلام أن الناقة كانت العضباء.

(٢) النص : حتى جاء عروش مكة ، ذلك أن أكثر بيوت مكة كانت بيوت شعر قائمة على الأعواد ، فسمّيت عروشا. النهاية ٣ : ٨١.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٧٣٤ ، ٧٣٥.

(٤) انظر شروط الصلح ، وتفسير العياشي ١ : ٧٠.

(٥) ابن اسحاق في سيرة ابن هشام ٤ : ١٠٢.

(٦) فروع الكافي ٤ : ٤٢٦ وعنه في وسائل الشيعة ١٣ : ٤٤١ ، ط آل البيت. والمحجن : العصا المعقوفة الرأس.


وطاف على راحلته حتى ينظر الناس إلى هيئته وشمائله وقال : خذوا عنّي مناسككم. وكان تحته رحل رثّ ، وقطيفة خلقة قيمتها أربع دراهم (١). وكان عبد الله بن رواحة آخذا بخطام راحلة الرسول وهو يقول :

خلّوا بني الكفّار عن سبيله

خلّوا ، فكل الخير في رسوله

يا ربّ إنّي مؤمن بقيله (٢)

أعرف حقّ الله في قبوله (٣)

فنهره عمر بن الخطّاب قال : يا ابن رواحة! فردّ عليه رسول الله قال : يا عمر ، إنّي أسمع! فلما أتم الشوط السابع نزل فصلّى ركعتي الطواف خلف مقام ابراهيم عليه‌السلام (٤).

__________________

(١) عوالي اللآلي ٤ : ٣٤ ، الحديث ١١٨ وعنه في مستدرك الوسائل ٩ : ٤٢٠ ، الحديث ٤ ، ط آل البيت.

(٢) إعلام الورى ١ : ٢١١.

(٣) ابن اسحاق في سيرة ابن هشام ، وبعده :

نحن قتلناكم على تأويله

كما قتلناكم على تنزيله

ضربا يزيل الهام عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله!

وعلّق ابن هشام على هذا يقول : نحن قتلناكم على تنزيله إلى آخر الأبيات لعمّار بن ياسر في غير هذا اليوم (؟ صفّين!) قال : فإنما يقتل على التأويل من أقرّ بالتنزيل. ٤ : ١٣.

والغريب : أنّ ابن اسحاق روى هذا الغلط عن عبد الله بن أبي بكر! والواقدي في مغازي الواقدي ٢ : ٧٣٥ رواه بعينه بسنده عن أمّ عمارة ، ولم يتفطّن إلى هذا الإشكال. وكذلك الطبرسي في اعلام الورى ١ : ٢١١ والحلبي في مناقب آل أبي طالب ١ : ٢٠٥ بلا التفات إلى تنبيه ابن هشام.

(٤) روى الكليني في فروع الكافي ٤ : ٢٢٣ ، الحديث ٢ والصدوق في كتاب من لا يحضره الفقيه ٢ : ١٥٨ ، الحديث ١٢ بسندهما عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : «كان موضع المقام


ثم ركب راحلته فسعى بين الصفا والمروة على راحلته ، فلما أتمّ المشوار السابع عند المروة نحر هديه هناك ـ أو بين المروة والصفا ـ وقال : هذا المنحر ، وكلّ فجاج مكة منحر (١) ثم حلق رأسه خراش بن أميّة الخزاعي عند المروة (٢).

__________________

ـ الذي وضعه ابراهيم عليه‌السلام عند جوار البيت ، فلم يزل هناك ، حتى حوّله أهل الجاهلية إلى المكان الذي هو فيه اليوم (وكذلك كان في عمرة القضاء) فلما فتح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مكة ردّه إلى الموضع الذي وضعه فيه ابراهيم عليه‌السلام».

وروى السجستاني في مسند عائشة : ٨٢ ، الحديث ٧٣ عن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير (عن خالته عائشة قالت): «كان رسول الله يصلي إلى صقع البيت ليس بينه وبين البيت شيء ، وأبو بكر ، وعمر صدرا من إمارته ، ثم إنّ عمر ردّ الناس إلى المقام. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى ٥ : ٧٥ وعبد الرزاق في المصنف ٥ : ٤٨ وابن حجر في فتح الباري ٦ : ٤٠٦ و ٨ : ١٦٩ والازرقي في أخبار مكة ٢ : ٣٠ وكذلك القاسمي ١ : ٤٤٢ و ٤٥٤ وابن كثير في التفسير ١ : ٣٨٤. وتمام الخبر السابق عن الكليني والصدوق عن الباقر عليه‌السلام قال : «فلم يزل هناك إلى أن ولي عمر بن الخطّاب فسأل الناس : من منكم يعرف المكان الذي كان فيه المقام؟! فقال رجل : أنا ، قد كنت أخذت مقداره بنسع (قيد من جلد) فهو عندي! فقال : ائتني به! فأتاه به ، فقاسه ، ثم ردّه إلى هذا المكان».

وروى الكليني كذلك في روضة الكافي : ٥١ عن علي عليه‌السلام خطبة قال فيها : «قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله متعمدين لخلافه ناقضين لعهده مغيّرين لسنّته! ولو حملت الناس على تركها وحوّلتها إلى مواضعها وإلى ما كانت عليه على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لتفرق عنّي جندي وبقيت وحدي .. أرأيتم لو أمرت بمقام ابراهيم عليه‌السلام فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله .. إذا لتفرّقوا عنّي ..».

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٣٦ وانظر وسائل الشيعة ١٤ : ٨٨ ومستدرك الوسائل ١٠ : ٨٣.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٧٣٧.


ثم أمر رسول الله مائتين من أصحابه أن يذهبوا إلى أصحابه في بطن يأجج فيقيموا على السلاح ، ليأتي الآخرون فيقضوا نسكهم ، ففعلوا (١).

أذان بلال :

ثم أرسل رسول الله إلى المشركين ليدخل الكعبة ، فأبوا وقالوا : لم يكن في شرطك! فدخل في فناء البيت ، فلم يزل هناك حتى صار الزوال ، فأمر بلالا أن يصعد على الكعبة فيؤذّن ، فصعد وأذّن فوق الكعبة .. فحين سمعه سهيل بن عمرو ومعه رجال ، غطّوا وجوههم! وقال خالد بن اسيد : الحمد لله الذي أمات أبي ولم يشهد هذا اليوم! حين يقوم بلال ابن أمّ بلال ينهق! فوق الكعبة! وقال عكرمة بن أبي جهل : لقد أكرم الله أبا الحكم حيث لم يسمع هذا العبد يقول ما يقول! وقال صفوان بن أميّة : الحمد لله الذي أذهب أبي قبل أن يرى هذا (٢).

وكان عقيل بن أبي طالب قد باع منزل رسول الله ومنزل اخوته من الرجال والنساء بمكة : فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا أدخل البيوت .. وضرب له مولاه أبو رابع القبطي قبّة من أدم الجلود بالحجون من الأبطح ، فأقبل رسول الله حتى انتهى إلى القبة ومعه أمّ سلمة ، فكان يأتي للصلاة إلى المسجد من الحجون في عمرة القضاء (٣).

زواج النبيّ بميمونة :

قال ابن هشام : وكانت ميمونة بنت الحارث الهلالية اخت أمّ الفضل زوجة

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٤٠.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٧٣٧ ، ٧٣٨ وفي ٨٤٦ يتكرر الخبر أو نحوه في فتح مكة وكلاهما عن ابن المسيّب ، وهذا هو الأنسب.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٩.


العباس بن عبد المطّلب ، جعلت أمرها إلى اختها أمّ الفضل ، وجعلت أمّ الفضل أمرها إلى العباس ، فلما حلّ رسول الله من إحرامه (١) خطبها من عمّه العباس ، فزوّجها رسول الله وأصدقها عنه أربعمائة درهم (٢).

وأقام بمكة ثلاثة أيام ، فلما كان اليوم الرابع عند الظهر ورسول الله مع جمع من الأنصار يتحدث معه سعد بن عبادة ، إذ أتى سهيل بن عمرو ومعه حويطب بن عبد العزّى ، فقال له سهيل بن عمرو : قد انقضى أجلك ، فاخرج عنّا! فقال النبيّ : وما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم فصنعت لكم طعاما؟ فقالا : لا حاجة لنا في طعامك ، اخرج عنّا ، ننشدك الله ـ يا محمد ـ والعهد الذي بيننا وبينك إلّا خرجت من أرضنا! فهذه الثلاث قد مضت.

فغضب سعد بن عبادة وقال لسهيل : كذبت ـ لا أمّ لك ـ ليست بأرضك ولا أرض أبيك! والله لا يبرح منها إلّا طائعا راضيا!

فتبسّم رسول الله وقال لسعد : يا سعد لا تؤذ قوما زارونا في رحالنا. ثم قال لأبي رافع (القبطي) : لا يمسينّ بها أحد من المسلمين (٣).

واعيدت الأصنام :

أثبتّ شروط صلح الحديبية عن تفسير القمي ، وكل ما فيه بشأن عمرة

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٣٨ عن عطاء الخراساني ـ وهو عطاء بن أبي رباح مولى ابن عباس ـ عن سعيد بن المسيب. بينما روى ابن اسحاق عن عطاء ومجاهد ، والواقدي عن عكرمة عن ابن عباس : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله خطبها وهو محرم وتزوّجها وهو محرم ، وفي ابن هشام : وهو حرام ٤ : ١٤. مع أنهم جميعا ذكروا أنه دخل فطاف وسعى ونحر!

(٢) سيرة ابن هشام ٤ : ١٤. وكانت قبله عند أبي سبرة بن أبي رهم العامري اعلام الورى ١ : ٢٧٨.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٧٣٩ ، ٧٤٠ وانظر سيرة ابن هشام ٤ : ١٤.


القضاء هو : «وأن محمدا يرجع عنهم عامهم هذا ، وأصحابه ، ثم يدخل علينا في العام القابل مكة ، فيقيم فيها ثلاثة أيام» وكذلك في سائر مصادر السيرة والتاريخ.

ولذا فهنا قال : إنّ قريشا كانت قد وضعت أصنامها بين الصفا والمروة ، وكانوا يتمسّحون بها إذا سعوا. فلما كان من أمر رسول الله ما كان في الحديبية وصدّوه عن البيت وشرطوا له أن يخلوا له البيت في عام قابل حتى يقضي عمرته ثلاثة أيام ثم يخرج عنها. فلما كان عمرة القضاء في سنة سبع من الهجرة دخل مكة وقال لقريش : ارفعوا أصنامكم من بين الصفا والمروة حتى أسعى. فرفعوها ، فسعى رسول الله بين الصفا والمروة وقد رفعت الأصنام (١).

هذا وقد مرّ أن رسول الله أرسل إليهم أن يدخل الكعبة فأبوا وقالوا : لم يكن فى شرطك (٢) وهذا هو المنسجم مع أخلاق مشركي قريش ، فكيف بما هو فوقه من رفع الأصنام بلا شرط في الصلح سابق؟!

وتمام كلام القمي : فلما فرغ رسول الله من الطواف ردّت قريش الأصنام بين الصفا والمروة .. وبقي رجل من المسلمين من أصحاب رسول الله لم يطف .. فجاء الرجل الذي لم يسع إلى رسول الله فقال : قد ردّت قريش الأصنام بين الصفا والمروة ولم أسع؟! فأنزل الله عزوجل : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ..)(٣).

وفي «فروع الكافي» و «تفسير العياشي» عن الصادق عليه‌السلام قال : «إنّ رسول الله كان (من) شرطه عليهم : أن يرفعوا الأصنام .. فتشاغل رجل من أصحابه حتى

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٦٤.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٧٣٨.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٦٤.


اعيدت الأصنام ، فجاؤوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فسألوه : إنّ فلانا لم يطف (أي لم يسع) وقد اعيدت الأصنام؟ فأنزل الله : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ..) قال : أي والأصنام عليها» (١).

ولعل هذا الخبر ومثله هو الذي أشار إليه الطوسي في «التبيان» وخصّ الأصنام فقال : هذا جواب لمن توهم أن في السعي بهما جناحا ، لصنمين كانا عليهما : إساف ونائلة. روي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام ، وقال به الشعبي وكثير من أهل العلم. ولكنه واصل قائلا : وكان ذلك في عمرة القضاء ولم يكن فتح مكة بعد ، وكانت الأصنام على حالها حول الكعبة.

فلو كانت الأصنام حول الكعبة أيضا في الطواف بها قبل السعي ، فما الذي خصّ توهّم الجناح في السعي دون الطواف بالكعبة من قبل؟! ولعله لدفع هذا أضاف :

وقال قوم : سبب ذلك : أنّ أهل الجاهلية كانوا يطوفون بينهما فظنّ المسلمون أنّ ذلك من أفعال الجاهلية ، فأنزل الله الآية (٢).

وقد ورد هذا في «فروع الكافي» في حديث حجّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الصادق عليه‌السلام قال : إنّ المسلمين كانوا يظنّون أنّ السعي بين الصفا والمروة شيء صنعه المشركون ، فأنزل الله : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ...) فبعد ما طاف (النبي) بالبيت وصلى ركعتيه (قرأ) : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ...) وقال : أبدأ بما بدأ الله عزوجل (٣).

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٧٠ وفي فروع الكافي ٤ : ٤٣٥ ، الحديث ٨.

(٢) التبيان ٢ : ٤٤.

(٣) فروع الكافي ٤ : ٢٤٥ ، الحديث ٤.


وقد اعتمد الطبرسي في «مجمع البيان» على هذا الخبر ، ثم قال : ورويت رواية اخرى عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، فروى الخبر السابق عن «الكافي» و «تفسير العياشي» في شرط النبيّ ورفع الأصنام وإعادتها (١).

وفيه عنه عليه‌السلام أيضا قال : كان على الصفا والمروة أصنام ، فلما أن حجّ الناس لم يدروا كيف يصنعون؟ فأنزل الله هذه الآية : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ..) فكان المسلمون يسعون والأصنام على حالها (٢).

والتنافي بين الروايتين في شأن النزول ظاهر (٣) بل بين الروايات ، فلا بدّ من ترجيح. وقد مرّ أنّ النبيّ أمر بلالا فأذّن فوق ظهر الكعبة ، فهل أذّن بين ظهراني الأوثان؟ ولو كان لذكر لغرابته. ولو كانت الأصنام منصوبة على المروة وقد قدّموا هديهم عندها لكان غريبا يذكر ، وضبط الألفين من المسلمين وانضباطهم عن أن يمدّ أحدهم يده أو لسانه بالإهانة إلى الأوثان والأصنام في المسعى وحول البيت الحرام مستبعد جدّا أيضا ، ولا أقل من خوف المشركين من ذلك وقد شرطوا للنبيّ أن يخلوا له مكة الكعبة والمسجد والمسعى ، وهذا مما يقرّب قبولهم لاشتراط النبي عليهم رفع الأصنام ، أقرب من أن يبقوا في خوف وحذر من أن لا تمسّ أصنامهم بسوء بيد أو حتى لسان ولعلهم جمعوها داخل البيت ، ولذلك لم يسمحوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بدخول البيت. ومهما كان فلا أقل من محاولة النبيّ والمسلمين اشتراط رفعها عليهم ، بينما لم يذكر في سوى هذا الخبر عن الصادق عليه‌السلام. فأظنّ أنّ هذه كلها مرجّحات إلى جانبه ، دون سائر الأخبار.

__________________

(١) مجمع البيان ١ : ٤٤٠.

(٢) تفسير العياشي ١ : ٧١.

(٣) وانظر الميزان ١ : ٣٨٧.


عليّ وابنة عمه حمزة عليهما‌السلام :

كان حمزة بن عبد المطلب قد ارتضع من ثويبة مولاة أخيه أبي لهب ، وارتضع منها رسول الله ، فكانا أخوين من الرضاعة. وتزوّج حمزة سلمى بنت عميس الخثعمية وتزوّج اختها أسماء جعفر بن أبي طالب ، فكانا عديلين. وهاجر حمزة وحده ، وآخى النبي بين أصحابه فآخى بين عمّه حمزة ودعيّه زيد بن حارثة ، فكانا أخوين في الهجرة ، فأوصى إليه في احد قبل شهادته (١).

فلما اعتمر النبيّ عمرة القضاء وأحلّ من إحرامه وخطب من عمّه ميمونة الهلالية اخت أمّ الفضل ، ذكّره علي عليه‌السلام بابنة عمّه حمزة (عمارة) فقال : أما علمت أنها ابنة أخي من الرضاعة ، هي ابنة أخي من الرضاع (٢) فقال عليه‌السلام : فعلام نترك بنت عمنا يتيمة بين ظهري المشركين؟! فأذن له النبيّ أن يخرجها معه ، فأخرجها (٣).

الخروج من مكة :

وركب رسول الله ، وتتامّ الناس ، ولكنه خلّف ابا رافع ليحمل إليه زوجته ميمونة حين يمسي ، فأقام أبو رافع لذلك (٤). فلما خرجوا وأخرج عليّ عليه‌السلام ابنة حمزة وعلم بذلك زيد بن حارثة زعم أنّها ابنة أخيه وأنه كان وصيّه فهو أولى بها!

فلما سمع ذلك جعفر قال : بل أنا أحق بها لمكان خالتها عندي أسماء

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٣٨.

(٢) فروع الكافي ٥ : ٤٣٧ ، الحديث ٤ و ٥ ، و ٤٤٥ ، الحديث ١١ ، والفقيه ٣ : ٢٦٠ ، الحديث ٢١ ، والتهذيب ٧ : ٢٩٢ ، الحديث ٥ ، ومغازي الواقدي ٢ : ٧٣٩ قال : فقيل للنبيّ ولم يسم عليّا عليه‌السلام.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٧٣٨.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٧٤٠ ، وسيرة ابن هشام ٤ : ١٤.


بنت عميس ، والخالة والدة. فقال رسول الله : أنا أحكم بينكم ثم التفت إلى زيد وقال له :

أما أنت يا زيد فمولى الله ورسوله. ثم التفت إلى علي عليه‌السلام وقال له (١) : وأما أنت يا عليّ فأنت مني وأنا منك ، وأنت وليّ كل مؤمن بعدي (٢) ثم قال لجعفر : وأما أنت يا جعفر فتشبه خلقي وخلقي ، وأنت يا جعفر أحق بها ، تحتك خالتها ، ولا تنكح المرأة على خالتها ولا على عمتها (٣) وقال : الخالة والدة (٤).

وأقام أبو رافع القبطي في مكة حتى أمسى فخرج بميمونة ومن معها ، فجعل سفهاء المشركين يؤذونهم والنبيّ بألسنتهم ، ولم يبطشوا بهم ، وقال لهم أبو رافع : افعلوا ما شئتم ، فهذه والله الخيل والسلاح ببطن يأجج! وبلغوا بطن يأجج فإذا بالخيل قد وقفت لهم هنالك ، فلما وصلوا ساروا معهم إلى سرف (٥) حيث بات النبيّ والمسلمون ، فوصلوا إليها وقد ذهب عامّة الليل. وهناك بنيت للنبيّ قبّة فعرس بالهلالية (٦). واعدّ لرسول الله حيس (٧) غير قليل فأطعمه الناس وليمة

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٣٩.

(٢) كتاب سليم بن قيس عنه عليه‌السلام : ١١٦ وعن الحسين عليه‌السلام : ٢٠٨ بينما اكتفى الواقدي ب : فأخي وصاحبي!

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٧٣٩ ورواه القاضي النعمان المصري في دعائم الإسلام ٢ : ٢٣٥ وعوالي اللآلي ١ : ٤٣ وقارن بعلل الشرائع ١ : ٤٩٩. وتمام الخبر في مغازي الواقدي : ثم زوّجها رسول الله سلمة المخزومي ابن أمّ سلمة زوجته ، فقال : هل جزيت سلمة؟ لانه هو الذي تولى تزويجه بامّه.

(٤) أمالي الطوسي : ٣٤٢ برقم ٧٠٠.

(٥) على عشرة أميال ـ ٢٢ كم من مكة. اعلام الورى ١ : ٢٧٨.

(٦) مغازي الواقدي ٢ : ٧٤٠ ، ٧٤١.

(٧) تمر ينزع نواه ويعجن بالسمن والأقط.


لزواجه بها (١). ثم ارتحل فرجع إلى المدينة في ذي الحجة.

وأين خالد بن الوليد؟ :

روى الواقدي عن المغيرة بن عبد الرحمن (المخزومي ظ) عن خالد بن الوليد قال : لما دخل رسول الله في عمرة القضية تغيّبت فلم أشهد دخوله. وكان أخي الوليد ابن الوليد قد أسلم واعتمر مع النبيّ ودخل مكة فطلبني فلم يجدني .. وسأله رسول الله عنّي فقال : أين خالد؟ فقال الوليد : يأتي به الله! ثم كتب إليّ كتابا فيه :

«بسم الله الرحمن الرحيمِ. أما بعد : فإنّي لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام ، وعقلك عقلك! ومثل الإسلام جهله أحد؟ وقد سألني رسول الله عنك فقال : أين خالد؟ فقلت : يأتي الله به! فقال : «ما مثله جهل الإسلام ، ولو كان جعل نكايته وجدّه مع المسلمين على المشركين لكان خيرا له ، ولقدّمناه على غيره» فاستدرك ـ يا أخي ـ ما فاتك ، فقد فاتتك مواطن صالحة».

قال خالد : فلما جاءني كتابه سرّني مقالة رسول الله وزادني رغبة في الإسلام فنشطت للخروج إليه (٢).

ورجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة.

سرية السلمي إلى بني سليم :

ذكر الواقدي رجلا من بني سليم يدعى ابن أبي العوجاء السلمي كان قد

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٤ : ١٤ ، وفروع الكافي ٥ : ٣٦٨ ، الحديث ٢ والتهذيب ٧ : ٤٠٩ ، الحديث ٢. وانظر مختصر خبر العمرة والزواج في اعلام الورى ١ : ٢١١ ـ ٢١٢ ومناقب آل أبي طالب ١ : ٢٠٥.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٧٤٦ ، ٧٤٧. وفي ٧٤٥ : إن خالدا وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة قدموا المدينة لهلال صفر سنة ثمان. ولذا فنؤجل خبره إلى هناك.


عرض على النبيّ أن يدعو قومه إلى الإسلام ، فلما رجع رسول الله من عمرة القضاء في ذي الحجة سنة سبع ، بعث ابن أبي العوجاء إلى قومه في خمسين رجلا. وكان معه رجل من قومه فخرج الرجل إلى قومه فأخبرهم وحذّرهم.

فلما قدم عليهم ابن أبي العوجاء ومعه الخمسون ، كانوا قد جمعوا جمعا كثيرا وقد استعدّوا ، فدعاهم ابن أبي العوجاء إلى الإسلام فأبوا وقالوا : لا حاجة لنا إلى ما دعوتم إليه ، ثم رشقوهم بالنبال وراموهم ساعة ، وجاءت الأمداد لبني سليم فأحدقوا بالمسلمين من كل ناحية ، وقاتلوهم قتالا شديدا حتى قتل كلهم ولم ينج منهم سوى ابن أبي العوجاء جريحا (١).

نزول سورة الدهر في ذي الحجة :

عدّ الشيخ المفيد من «مسارّ الشيعة الكرام» : اليوم الخامس والعشرين من ذي الحجة ، وقال : هو يوم نزول «هل أتى» في أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام (٢) وتبعه الشيخ بهاء الدين العاملي الحارثي في كتابه «توضيح المقاصد» (٣) ولكنهم بعد أن عيّنوا اليوم من الشهر لم يعيّنوه من أي سنة؟

وعلى الخبر المعتبر المعتمد في ترتيب نزول السور (٤) فإنّ آخر سورة سابقة فيها إشارة تاريخية هي سورة الرعد المرجّح نزولها بعد خيبر. وهي ٩٦ في النزول ، و ١٣ في النزول بالمدينة. وبعدها الرحمن. وبعدها سورة «هل أتى على الإنسان

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٤١.

(٢) مسارّ الشيعة الكرام : ٥٨ ط بصيرتي.

(٣) توضيح المقاصد : ٥٤٤ من المجموعة النفيسة ط بصيرتي.

(٤) التمهيد ١ : ١٠٣ ـ ١٠٧.


حين من الدهر» والتي سمّيت بإحدى هذه المفردات الثلاثة : «هل أتى» و «الإنسان» و «الدهر».

والآية الخامسة منها : (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً* عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً* يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً* وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً* إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً* إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً* فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً* وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً).

وتستمر الآيات من الثالثة عشرة حتى الحادية والعشرين في أوصاف جنانهم ، وخاتمتها الثانية والعشرون قوله سبحانه : (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً).

«وهي جارية في كل مؤمن فعل مثل ذلك لله عزوجل» كما رواه القمي في تفسيره بسنده عن الصادق عليه‌السلام (١) ولكن ـ كما قال في «الميزان» : ـ ليس سياقها سياق فرض موضوع وذكر الوعد الجميل عليه وآثاره ، بل إن سياق هذه الآيات سياق قصة قوم مؤمنين سمتهم السورة بالأبرار ، وكشفت الآيات عن شطر من أعمالهم من الوفاء بالنذر وإطعام المسكين واليتيم والأسير ، فتمدحهم بذلك ، وتعدهم الوعد الجميل (٢) سيّما الآيتين «يوفون بالنذر» و «يطعمون الطعام» (٣).

وقد قال الطوسي في «التبيان» : قد روت الخاصة والعامة : أنّ هذه الآيات نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، فإنهم آثروا المسكين واليتيم

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٣٩٩.

(٢) الميزان : ٢٠ : ١٢٧.

(٣) الميزان ٢٠ : ١٣٥.


والأسير ثلاث ليال بافطارهم ، وطووا ولم يفطروا بشيء من الطعام. فأنزل فيهم هذه السورة وأثنى عليهم فيها هذا الثناء الحسن (١).

وقال الطبرسي في «مجمع البيان» : قد روى الخاص والعام : أنّ الآيات من هذه السورة من قوله : (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ ..) إلى قوله : (وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام وجارية لهم تسمى فضة. وهو المروي عن أبي صالح ومجاهد عن ابن عباس. قال : مرض الحسن والحسين فعادهما جدّهما صلى‌الله‌عليه‌وآله ووجوه العرب وقالوا : يا ابا الحسن ، لو نذرت على ولديك نذرا؟ فنذر صوم ثلاثة أيام إن شفاهما الله سبحانه ، ونذرت فاطمة كذلك ، وكذلك فضة. فبرئا وليس عندهم شيء ، فاستقرض علي عليه‌السلام ثلاثة أصوع من شعير ، من يهودي ، وجاء به إلى فاطمة ، فطحنت صاعا منها فاختبزته ، وصلى علي المغرب وقرّبته إليهم. فأتاهم مسكين يدعو لهم وسألهم ، فأعطوه ولم يذوقوا إلّا الماء.

فلما كان اليوم الثاني أخذت صاعا فطحنته وخبزته وقدمته .. فإذا يتيم بالباب يستطعم ، فأعطوه ولم يذوقوا إلّا الماء.

فلما كان اليوم الثالث عمدت إلى الباقي فطحنته واختبزته وقدّمته فإذا أسير بالباب يستطعم ، فأعطوه ولم يذوقوا إلّا الماء.

فلما كان اليوم الرابع وقد قضوا نذورهم ، أتى علي عليه‌السلام ومعه الحسن والحسين عليهما‌السلام إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وبهما ضعف ، فبكى رسول الله ، ونزل جبرائيل بسورة «هل أتى».

ثم روى رواية اخرى عن الواحدي في «أسباب النزول» عن عطاء بن رباح الخراساني عن ابن عباس أيضا : أنّ علي بن أبي طالب عليه‌السلام آجر نفسه بشيء من شعير ، ليلة ، ليسقي نخلا حتى يصبح ، فلما أصبح وقبض الشعير ، طحن ثلثه

__________________

(١) التبيان ١٠ : ٢١١.


فصنعوا منه شيئا يقال له الحريرة (دقيق يطبخ بلبن ـ حليب) أو الخريرة (دقيق يطبخ بدسم وماء) فلما تم انضاجه أتى مسكين فأخرجوا إليه الطعام. ثم عمل الثلث الثاني ، فلما تم انضاجه أتى يتيم فسأل ، فأطعموه. ثم عمل الثلث الثالث ، فلما تمّ انضاجه أتى أسير من المشركين فسأل ، فأطعموه ، وطووا يومهم ذلك (١).

ثم ذكر رواية «تفسير القمي» عن أبيه عن عبد الله بن ميمون عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : كان عند فاطمة شعير فجعلوه عصيدة (دقيق يطبخ بدسم وماء) فلما أنضجوها ووضعوها بين أيديهم جاء مسكين فقال : المسكين رحمكم الله! فقام علي فأعطاه ثلثها. فلم يلبث أن جاء يتيم فقال : اليتيم رحمكم الله! فقام علي فأعطاه الثلث. ثم جاء أسير فقال : الأسير رحمكم الله! فأعطاه علي الثلث الباقي ، وما ذاقوها. فأنزل الله سبحانه الآيات فيهم (٢).

ما تبقّى من آيات الأحزاب :

مرّ في حرب الأحزاب ذكر آيات سورة الأحزاب ٩ ـ ٢٥ وقال القمي فيها : نزلت في قصة الأحزاب من قريش والعرب الذين تحزّبوا على رسول الله (٣) صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ٣٧٨.

(٢) مجمع البيان : ١٠ : ٦١١ ، ٦١٢ عن تفسير القمي ٢ : ٣٩٨. وروى فرات الكوفي في تفسيره : ٥٢٠ ـ ٥٢٩ خمسة أخبار في ذلك عن الإمام الصادق أكثر تفصيلا وعن زيد بن أرقم وعن أبي رافع وخبرين عن ابن عباس. ورواه الصدوق في الأمالي : ٢١٢ ـ ٢١٦ بسنده عن الصادق عليه‌السلام وعن مجاهد عن ابن عباس أيضا.

(٣) تفسير القمي ٢ : ١٧٦.


وفي الآية ٢٦ قال : نزلت في بني قريظة (١) وهذا إلى هنا يقتضي نزول السورة أو إلى هذا المقطع منها بعد بني قريظة في السنة الخامسة.

والآيات السبع التوالي ٢٨ ـ ٣٤ تخاطب أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأوّلها آيتا التخيير : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا) وقد نقلت خبر القمي بشأن الآيتين فيما بعد خيبر ، حسب نصّ القمي ، وهنا نأتي بأخبار اخرى في ذلك :

حكى الطوسي في «التبيان» عن عكرمة : أنه كانت له يوم تخييرهن : تسع نسوة : من قريش : سودة بنت زمعة ، وعائشة ، وحفصة ، وأمّ سلمة بنت أبي أميّة المخزومية ، وأمّ حبيبة بنت أبي سفيان الاموية ، ومن غير قريش : زينب بنت جحش الأسدية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقية ، وصفية بنت حييّ بن أخطب النضرية ، وميمونة بنت الحارث الهلالية (٢).

وروى في سبب نزول آيتي التخيير : أنّ كلّ واحدة من نسائه طلبت شيئا : فسألت سودة قطيفة خيبرية ، وسألت حفصة ثوبا من ثياب مصر (ولعلّه من هدايا المقوقس المصري الاسكندري) وسألت أمّ سلمة سترا ، وسألت زينب بنت جحش بردا يمانيّا ، وسألت جويريّة معجرا ، وسألت أمّ حبيبة ثوبا سحوانيّا ، وسألت ميمونة حلّة (٣) وهي التي تزوّجها في عمرة القضاء.

وقال الطبرسي في «مجمع البيان» : قال المفسّرون : إنّ أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله سألنه شيئا من عرض الدنيا ، وطلبن منه زيادة في النفقة ، وآذينه لغيرة بعضهنّ من

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٨٩ و ١٩٢.

(٢) التبيان ٨ : ٣٣٥.

(٣) التبيان ٨ : ٣٣٤.


بعض ؛ فآلى رسول الله منهنّ شهرا ، فنزلت آيتا التخيير وهما قوله : (قُلْ لِأَزْواجِكَ) وكنّ يومئذ تسعا : سودة بنت زمعة ، وعائشة ، وحفصة ، وأمّ سلمة بنت أبي أميّة ، وأمّ حبيبة بنت أبي سفيان ، فهؤلاء من قريش ، وزينب بنت جحش الأسدية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقية ، وصفية بنت حييّ الخيبرية ، وميمونة بنت الحارث الهلالية (١).

ونقل عن ابن زيد : أنّ الآية نزلت حين غار بعض امهات المؤمنين على النبيّ ، وطلب بعضهن زيادة في النفقة ، فهجرهنّ شهرا ، حتى نزلت آية التخيير ، فأمره الله أن يخيّرهنّ بين الدنيا والآخرة ، وأن يخلّي سبيل من اختارت الدنيا ويمسك من اختارت الله ورسوله ، على أنهنّ امهات المؤمنين ولا ينكحن أبدا ، وعلى أنه يؤوي من يشاء منهنّ ويرجي من يشاء منهنّ ، ويرضين به قسم لهنّ أو لم يقسم ، أو قسم لبعضهنّ ولم يقسم لبعضهنّ ، أو فضّل بعضهنّ على بعض في النفقة والقسمة والعشرة ، أو سوّى بينهنّ ، فالأمر في ذلك إليه يفعل ما يشاء ، فرضين بذلك كله واخترنه على هذا الشرط. وهذا من خصائصه (٢).

فهذه الأخبار باشتمالها على ميمونة بنت الحارث الهلالية ، التي لم يتزوّجها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا في عمرة القضاء في آخر الثامنة للهجرة ، تقتضي نزول هذه الآيات بعد ذلك ، لا بعد الأحزاب أو بني قريظة أو حتى خيبر قريبا منها ، فلعلها الحقت بها بعد ذلك.

ويترتب على هذا ما جاء بشأن آخر الآية : ٥٣ : (... وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً* إِنْ

__________________

(١) مجمع البيان ٨ : ٥٥٤.

(٢) مجمع البيان ٨ : ٥٧٣.


تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) مرتبطا بما سبق في الآية السادسة : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ ...).

ففي «تفسير القمي» : لما أنزل الله : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ ...) وحرّم نساء النبيّ على المسلمين ، غضب طلحة فقال : يتزوّج محمد نساءنا ويحرّم علينا نساءه! لئن أمات الله محمدا لنفعلنّ كذا وكذا ، فأنزل الله : (... وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا ...)(١).

والشيخ الطوسي في «التبيان» نقل الخبر عن السدّي ولم يسمّ الرجل فقال : لما نزل الحجاب (كذا) قال رجل من بني تيم [طلحة بن عبيد الله التيمي] : أنحجب عن بنات عمّنا؟! [عائشة بنت أبي بكر التيمي] إن مات عرّسنا بهنّ! فنزل قوله : (... وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً)(٢).

والشيخ الطبرسي في «مجمع البيان» نقل عن أبي حمزة الثمالي قال : إنّ رجلين قالا : أينكح محمد نساءنا ولا ننكح نساءه بعده؟! والله لئن مات لننكحن نساءه ، وكان أحدهما يريد عائشة والآخر يريد أمّ سلمة! وروى عن ابن عباس قال : نزل قوله : (... وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ ...) إلى آخر الآية ، في رجل من الصحابة (؟) قال : لئن قبض رسول الله لأنكحنّ عائشة! وقال مقاتل : هو طلحة بن عبيد الله (٣).

فخبر السدّي يربط تحريم أزواج النبيّ بحكم حجابهن ، وخبر أبي حمزة الثمالي

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٩٥.

(٢) التبيان : ٨ : ٣٥٨ ، هذا ، بينما روى السيوطي القول عن السّدي مصرّحا باسم طلحة ، في الدر المنثور ، وعنه في الميزان ١٦ : ٣٤٣.

(٣) مجمع البيان ٨ : ٥٧٤. وفي أسباب النزول للواحدي : ٢٩٩ : عن عطاء عن ابن عباس قال : قالها رجل من سادة قريش؟!


ومقاتل وابن عباس يربط نزول الآية بالتحريم السابق ، فهي مؤيدة لفحوى خبر القمي ، وكلها تفيد أن قوله : (... وَما كانَ لَكُمْ ...) هي بداية آية مستقلة لا نهاية ، كما الحال في آية التطهير في نهاية الآية ٣٣ من السورة ذاتها.

آية التطهير :

روى الحسين بن الحكم الكوفي في «ما نزل من القرآن في أهل البيت عليهم‌السلام» بسنده عن شهر بن حوشب قال : أتيت أمّ سلمة زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لاسلّم عليها ، فقلت لها : أما رأيت هذه الآية يا أمّ المؤمنين : (... إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (وكأنه كان يراها من أهل البيت) قالت : [كنت] أنا ورسول الله على منامة لنا تحتنا كساء خيبري (١) في البيت (٢) غداة ((٣) أو) كانت ليلة قارة (باردة (٤)) فقالت الخادم (٥) : هذا علي وفاطمة معهما الحسن والحسين بالسدّة (٦) فقال لي : قومي تنحّي عن أهل بيتي. فقمت فجلست في ناحية ، فأذن لهم فدخلوا ، فقبّل فاطمة واعتنقها ، وقبّل عليّا واعتنقه ، وضمّ الحسن والحسين صبيّين صغيرين (٧) وجاءت فاطمة ببرمة (قدر (٨)) فخار فيه حريرة

__________________

(١) ما نزل من القرآن : ٧٢. ومجمع البيان ٨ : ٥٥٩ عن تفسير أبي حمزة الثمالي.

(٢) عنه في تفسير فرات : ٣٣٣.

(٣) تفسير فرات : ٣٣٥.

(٤) تفسير فرات : ٣٣٣.

(٥) الخادم في العربية اعم من الذكر والانثى ، وهنا انثى.

(٦) تطلق على الباب وعتبتها والظلة عليها والساحة أمامها. مجمع البحرين.

(٧) ما نزل من القرآن : ٧٤. ومسند أحمد ٦ : ٢٩٦.

(٨) تفسير فرات : ٣٣٥ ومجمع البيان ٨ : ٥٥٩ عن تفسير الثعلبي النيسابوري. وفي مسند أحمد ٦ : ٢٩٢ وأسباب النزول للواحدي : ٢٩٥.


(أو (١)) عصيدة ، تحمله في طبق ، فوضعته بين يديه (٢) فقربتها فأكلوا.

ثم أقام فاطمة إلى جنب علي والحسن والحسين إلى جنب فاطمة ـ وكانت ليلة قارة ـ فأدخل رسول الله رجليه إلى فخذ علي وفاطمة (٣) فأخذ الكساء من تحتنا فعطفه (٤) فألبسهم الكساء الفدكي ((٥) وهي) خميصة (٦) له سوداء (٧) فلفّه رسول الله عليهم جميعا وأخذ بشماله طرفي الكساء وألوى بيده اليمنى إلى السماء ثم قال : اللهم هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا. ثلاث مرات (٢) كما أذهبت عن اسماعيل واسحاق ويعقوب ، وطهّرهم من الرجس كما طهّرت آل لوط وآل عمران وآل هارون (٩) اللهم ان هؤلاء آل محمد ، فاجعل صلواتك وبركاتك على آل محمد كما جعلتها على ابراهيم انك حميد مجيد (١٠).

فقلت ـ وأنا عند عتبة الباب ـ : يا رسول الله وأنا منهم أو معهم (١١)! هل أنا من أهل بيتك (١٢)؟ ألست من أهل البيت (١٣)؟ ألست من أهلك يا رسول

__________________

(١) ما نزل من القرآن : ٧٢.

(٢) و (٨) تفسير فرات : ٣٣٥.

(٣) تفسير فرات : ٣٣٣.

(٤) تفسير فرات : ٣٣٢.

(٥) تفسير فرات : ٣٣٣. وفدك من خيبر فلا منافاة بينهما.

(٦) قيل : لا تكون خميصة إلّا إذا كانت سوداء معلمة من صوف أو خزّ. النهاية ٢ : ٨١.

(٧) ما نزل من القرآن : ٧٤.

(٩) تفسير فرات : ٣٣٧.

(١٠) الدر المنثور ٥ : ١٩٨.

(١١) ما نزل من القرآن : ٧٢.

(١٢) التبيان ٨ : ٣٣٩.

(١٣) تفسير فرات : ٣٣٤.


الله (١)؟ يا رسول الله ألست من أهلك (٢) ورفعت الكساء لأدخل معهم فجذبه من يدي وقال (٣) : لا (٤) انك زوج النبيّ ، وأنت على خير (٥) وهؤلاء أهل بيتي (٦) وما قال انّك من أهل البيت (٧) فلو كان قال نعم كان أحبّ إلي مما تطلع عليه الشمس (٨) ونزلت هذه الآية : (... إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ...) في النبيّ وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام (٩).

فروى عن أبي الحمراء قال : خدمت النبيّ نحوا من تسعة أشهر (١٠) والله لرأيت رسول الله تسعة أشهر أو عشرة عند كل صلاة فجر يخرج من بيته فيأخذ

__________________

(١) تفسير فرات : ٣٣٣.

(٢) تفسير فرات : ٣٣٥.

(٣) الدر المنثور ٥ : ١٩٨.

(٤) التبيان ٨ : ٣٣٩.

(٥) ما نزل من القرآن : ٧٣.

(٦) مستدرك الحاكم ٢ : ٤١٦ صحيحا على شرط البخاري.

(٧) تفسير فرات : ٣٣٤.

(٨) تفسير فرات : ٣٣٧.

(٩) تفسير فرات : ٣٣٢ ، وفي ٣٣٥ روى عن عبد الله الجدلي أنّه سأل أمّ سلمة عن الآية فقالت له : لو سألت عائشة لحدّثتك أن هذه الآية نزلت في بيتي. قال الجدلي : فدخلت على عائشة فقلت : أين نزلت هذه الآية : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ...)؟ قالت : نزلت في بيت أمّ سلمة. تفسير فرات : ٣٣٤. وروى الطبرسي عن تفسير الثعلبي باسناده عن مجمع عن عائشة قالت : لقد رأيت رسول الله قد جمع بثوب على علي وفاطمة والحسن والحسين ثم قال .. فقلت : يا رسول الله أنا من أهلك؟ قال : تنحّي .. مجمع البيان ٨ : ٥٥٩ وعنها في مستدرك الحاكم ٣ : ١٤٧.

(١٠) ما نزل من القرآن : ٧٦.


بعضادتي باب علي عليه‌السلام ثم يقول : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فيقول علي وفاطمة والحسن والحسين : وعليك السلام يا نبيّ الله ورحمة الله وبركاته. فيقول : الصلاة رحمكم الله (... إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) ثم ينصرف إلى مصلاه (١).

__________________

(١) ما نزل من القرآن : ٧٧ وفي : ٧٦ رواه عن أنس بن مالك وعنه في مسند أحمد ٣ : ٢٥٩ و ٢٨٥ ومستدرك الحاكم ٣ : ١٥٨. وفي تفسير فرات الكوفي عن أبي الحمراء وعن أبي سعيد الخدري : ٣٣٨ و ٣٣٩. وعن أبي الحمراء وابن عباس كل يوم خمس مرات في وقت كل صلاة في الدر المنثور ٥ : ١٩٨ وما بعدها.

وروى الطبرسي في مجمع البيان ٨ : ٥٦٠ عن الحاكم الحسكاني بسنده عن الحسن بن علي عليه‌السلام قال : جمعنا رسول الله وإياه في كساء خيبري لأمّ سلمة ثم قال ...

وفي تفسير القمي ٢ : ١٩٣ عن أبي الجارود عن الباقر عليه‌السلام نزول الآية في بيت أمّ سلمة.

ثم روى عن زيد بن علي بن الحسين عليهم‌السلام قال : إن جهالا من الناس يزعمون إنمّا أراد بهذه الآية أزواج النبيّ ، وقد كذبوا وأثموا ، لو عني بها أزواج النبيّ لقال : ليذهب عنكنّ الرجس ويطهّركنّ تطهيرا ، وكان الكلام مؤنثا كما قال : (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَ) (وَلا تَبَرَّجْنَ) و (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ).

وروى الطبرسي عن تفسير الثعلبي عن أبي سعيد الخدري ٨ : ٥٥٩. وعنه الواحدي في أسباب النزول : ٢٩٥ ، والسيوطي في الدر المنثور ٥ : ١٩٨ والطبرسي أيضا عن الحاكم الحسكاني عن جابر الأنصاري ٨ : ٥٦٠. ونقل عنه المظفر في دلائل الصدق ٢ : ٦٧ خبرا صحّحه يدل على تأخّر نزول الآية عن خيبر وزواج النبيّ بصفية ، ورجوع جعفر الطيّار وأهله من الحبشة : عن عبد الله بن جعفر قال : قال رسول الله : ادعوا لي! ادعوا لي! فقالت صفية : من يا رسول الله؟ قال : أهل بيتي : عليا وفاطمة والحسن والحسين. فجيء بهم. فألقى عليهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كساء ثم رفع يديه ثم قال : اللهم هؤلاء آلي فصل على محمد وآل محمد ، وأنزل الله : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ..).


__________________

ـ والطباطبائي في الميزان ١٦ : ٣١١ في تفسير هذه الآية قال : ورد في أسباب النزول : أنّ الآية نزلت في النبيّ وعلي وفاطمة والحسنين عليهم‌السلام خاصة لا يشاركهم فيها غيرهم ، وهي روايات جمّة تزيد على سبعين حديثا ، يربو ما ورد منها من طرق أهل السنة على ما ورد منها من طرق الشيعة ، فقد :

روتها الشيعة عن علي والسجاد والباقر والصادق والرضا عليهم‌السلام وأمّ سلمة وأبي ذر وابي الاسود الدؤلي .. وروتها السنة عن علي والحسن عليهما‌السلام وأمّ سلمة وعائشة وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن عباس وثوبان مولى النبيّ وأنس بن مالك وأبي الحمراء وأبي سعيد الخدري وواثلة بن الاسقع وسعد بن أبي وقاص في قريب من أربعين طريقا.

ثم أورد الإشكال بسياق الآيات في خطاب نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأجاب : إنّ كثيرا من هذه الروايات وخاصة ما رويت عن أمّ سلمة ـ وفي بيتها نزلت الآية ـ تصرح باختصاصها بهم وعدم شمولها لأزواج النبيّ .. فهذه الأحاديث ـ على كثرتها البالغة ـ ناصّة على نزول الآية وحدها ، ولم يرد حتى في رواية واحدة نزول هذه الآية ضمن آيات نساء النبيّ ، ولا ذكره أحد ـ حتى القائل باختصاص الآية بأزواج النبيّ كما ينسب إلى عروة وعكرمة ـ فالآية بحسب النزول لم تكن جزءا من آيات نساء النبيّ ولا متصلة بها ، وإنما وضعت بينها ، إما بأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو عند التأليف بعد الرحلة.

ويؤيّده : أن لو قدّر ارتفاع آية التطهير من بين جمل آية : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) لبقيت الآية على اتصالها وانسجامها. فموقع آية التطهير من آية (وَقَرْنَ ...) كموقع آية (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من محرمات الأكل في سورة المائدة. الميزان ١٦ : ٣١١ ، ٣١٢.

وللتفصيل انظر : احقاق الحق ٢ : ٥٠٢ و ٩ : ٢ وما بعدهما. دلائل الصدق : ٢ : ٦٤ ـ ٧٥. وتتمة المراجعات بتحقيق حسين راضي : ٣٦ ـ ٤٤. ودروس في فقه الإمامية للفضلي ١ : ١١٤ ـ ١٣١. وكتب خاصة : حديث الكساء عند أهل السنة للسيد العسكري ط ١٤٠٢ ه‍ وآية التطهير في الخمسة أهل الكساء للموسوي الغريفي ط ١٣٧٧ النجف الأشرف ،


أما عن الآية ٣٦ : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ...).

ففي تفسير القمي عن أبي الجارود عن الباقر عليه‌السلام : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خطب زينب بنت جحش الأسدية وهي بنت عمة النبيّ ، لزيد بن حارثة ، فقالت : يا رسول الله ، حتى اوامر نفسي فانظر ، فأنزل الله الآية (١).

وهذا يقتضي خلاف التأليف والسياق القائم في الآيات تقديما وتأخيرا ، فإن الآية بناء على هذا في زواج زيد بزينب ، بينما سبقت الآيات في طلاق زيد لزينب وزواج النبيّ بها.

وهناك رواية اخرى لا تقتضي ذلك رواها الواقدي بسنده إلى عروة بن الزبير قال : إنّ رسول الله قال لأمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط : تزوّجي زيد بن حارثة فإنه خير لك ، فكرهت ذلك ، فأنزل الله الآية (٢) ورواها الطوسي في «التبيان» عن ابن زيد (٣) وعنه الطبرسي في «مجمع البيان» (٤) والسيوطي في «الدر المنثور» (٥) مع ترجيح أن هذا كان بعد طلاق زيد لزينب.

وسلّموا له تسليما :

فتح رسول الله خيبر ، وكان الفتح القريب الموعود به ، والقريب ذا الأثر

__________________

ـ في ٢٧٨ صفحة. وآية التطهير للسيد الأبطحي في ٨١٢ صفحة في مجلدين. وآية التطهير للسيد مرتضى العاملي ط. بيروت ١٤١٥ ه‍.

(١) تفسير القمي ٢ : ١٩٤.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١١٢٦.

(٣) التبيان ٨ : ٣٤٣.

(٤) مجمع البيان ٨ : ٥٦٣.

(٥) الدر المنصور ٦ : ٢٠٣ كما في الميزان ١٦ : ٣٢٦.


الشديد الثقيل على اليهود والمشركين ، وكان لخبره الأثر الكبير والعظيم في مكة ـ كما مر ـ مما جرّ عمرو بن العاص وخالد بن الوليد إلى الاستسلام للإسلام ، كما مرّ شطر من خبرهما ويأتي تمامه. وبالإفادة من جوّ الأمن والأمان المتحصّل بشروط صلح الحديبية دخل في الإسلام أكثر ممن دخل فيه إلى ما قبله ، حتى قضى النبيّ عمرته مع ألفين من المسلمين. هذا كله من ناحية ..

ومن ناحية اخرى : تزوّج النبيّ بصفية ، ثم وصلته هدايا المقوقس الاسكندري وفيها مارية القبطية أمّ ابراهيم ، وغنم غنائم خيبر وفدك ووادي القرى ، وتوقّع أزواجه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يفتح أبواب الدنيا عليهنّ ، فاعتزلهن في مشربة أمّ ابراهيم شهرا ، ثم خيّرهن ـ بعد زواجه بميمونة الهلالية ـ فاخترنه ، فحرّم الله عليهن الزواج بعده ، فتجرّأ طلحة وتجاسر على ذلك بقول كان فيه نيل وأذى للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حسب الآية النازلة في ذلك .. من ناحية اخرى ..

يبدو لي أن هذه الامور هي السبب في تصعيد شأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله بما لم يسبق له نظير من قبله ، في قوله سبحانه ـ بعد تحريم أزواجه ـ : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً* إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً)(١).

ولا خلاف في أن الصلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في الصلوات كانت واجبة مفروضة قبل نزول هذه الآية ، ولم تجب صلاة عليه خاصة بنزول هذه الآية ، إذن فليست الآية من آيات الأحكام التشريعية ، وعليه فليس الجديد في الآية تشريع الصلاة عليه ، وإنّما الجديد تنصيص القرآن على أنّ الصلاة عليه ليست من المؤمنين فقط ، بل من الله وملائكته من قبل. هذا في الصلاة عليه.

وأمّا قوله سبحانه : (وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) فهل هو بمعنى السلام عليه؟ أي هو

__________________

(١) الأحزاب : ٥٦ ـ ٥٧.


تشريع تأسيسيّ لسلام خاصّ عليه؟ أم هو بمعنى التسليم لأمره؟ مناسبة ما قدّمنا الإشارة إليه وما تقدم في آيات السورة من الإشارة إليه ، ونهيها وتعظيمها لأذيّة الله في رسوله قبل هذه الآية في قوله : (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ ...) وبعدها مباشرة بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ ...) كل هذا لا يناسب الاوّل أي السلام عليه بمقدار ما يناسب الثاني أي التسليم لأمره ، كما سبق في الآية ٢٢ من السورة نفسها في قوله سبحانه : (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) على غرار ما جاء سابقا في قوله سبحانه : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(١) ولم يرد في القرآن الكريم تسليم في غير هذه الآيات الثلاث ، كما لم يرد الترديد بين المعنيين للتسليم فيما سوى آية الصلوات.

روى البرقي في «المحاسن» بسنده عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله الصادق عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ ..) فقال :

الصلاة عليه ، والتسليم له في كل شيء جاء به (٢).

وروى فرات الكوفي في تفسيره بسنده عن أبي هاشم قال : كنت مع جعفر بن محمد عليه‌السلام في المسجد الحرام فصعد الوالي المنبر يخطب يوم الجمعة فقرأ : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ ..) فقال جعفر عليه‌السلام : يا أبا هاشم ، لقد قال ما لا يعرف تفسيره ، قال تعالى : (وَسَلِّمُوا) بالولاية لعلي (تَسْلِيماً)(٣).

__________________

(١) النساء : ٦٥.

(٢) المحاسن للبرقي ١ : ٤٢٢ ط المجمع العالمي لأهل البيت ، قم.

(٣) تفسير فرات الكوفي : ٣٤٢ ط طهران بتحقيق المحمودي.


وإلى فحوى هذين الخبرين أشار القمي في تفسيره قال : أي وسلّموا له صلى‌الله‌عليه‌وآله بالولاية ، وبما جاء به (١).

والطوسي في «التبيان» فقال : «ثم أمر المؤمنين أن يسلّموا لأمره ولأمر رسوله تسليما في جميع ما يأمرهم به» ثم ذكر المعنى الآخر (٢).

والطبرسي في «مجمع البيان» روى خبر أبي بصير ثم قال : «فعلى هذا يكون معنى قوله : (وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) : انقادوا لأمره وابذلوا الجهد في طاعته في جميع ما يأمركم به» ثم ذكر المعنى الآخر (٣).

وعليه : فالآية لا تدل على التسليم بسلام التحيّة بعد الصلاة عليه.

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٩٦.

(٢) التبيان ٨ : ٣٦٠.

(٣) مجمع البيان ٨ : ٥٧٩ فهذان خبران عن الإمام الصادق عليه‌السلام في تفسير التسليم بالانقياد دون السلام ، وهناك جلّ الأخبار عنهم عليهم‌السلام إن لم تكن كلها تصلي على النبيّ عند ذكره هكذا : صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بدون «وسلّم» مما يدعم معنى هذين الخبرين ، وقال به هؤلاء المفسّرون الأوائل ، والتزم بذلك جلّ علماء المذهب ، وإنّما التزم ب «وسلم» من لم يلتزم ب «آله» من غير الشيعة ، ولم يكن الجمع بينهما إلّا في القليل اليسير وإنّما شاع بفعل المطابع في هذا العصر الأخير. ومحاولة الجمع بينهما في الكلام يؤدي عملا غالبا إلى اختزال «الآل» في درج الكلام.



أهم حوادث

السنة الثامنة للهجرة



اتخاذ المنبر للنبيّ :

أظنّ أنّ ذلك التجليل القرآني الخاص للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان السبب في أن : قال له بعض أهله أو أصحابه : يا رسول الله ، إنّ الناس قد كثروا ، وانّهم يحبّون النظر إليك إذا خطبت ـ وكان في خطبه يستند إلى جذع من أساطين المسجد ـ فلو أذنت أن نعمل لك منبرا له مراقي ترقاها فيراك الناس إذا خطبت؟ فأذن في ذلك (١).

وروى عن جابر الأنصاري : أنّ القائل امرأة من الأنصار تدعى عائشة كان لها غلام رومي نجّار يدعى باقوم .. فلما أذن وصنع وله ثلاث مراق جيء به إلى المسجد يوم الجمعة من أوائل السنة الثامنة (٢). ومرّ النبيّ بالجذع وتجاوزه إلى المنبر فصعده ، فلما استوى عليه حنّ ذلك الجذع! فلما رأى رسول الله ذلك نزل عن المنبر وأتى الجذع واحتضنه ومسح عليه بيده وقال له : اسكن ، فما تجاوزك رسول الله

__________________

(١) بحار الأنوار ١٧ : ٣٢٦ عن التفسير المنسوب إلى العسكري عليه‌السلام.

(٢) بحار الأنوار ٢١ : ٤٧ عن المنتقى للكازروني.


تهاونا بك ولا استخفافا بحرمتك ، ولك جلالك وفضلك إذ كنت مستند رسول الله ، ولكن ليتمّ لعباد الله مصلحتهم. فهدأ حنينه ، وعاد رسول الله إلى منبره (١).

إسلام خالد وعمرو بن العاص :

مرّ في أخبار عمرة القضاء صدر الخبر عن بداية إسلام خالد بن الوليد المخزومي ، وكذلك صدر الخبر عن بداية إسلام عمرو بن العاص السهمي ، وحيث كان قدومهم المدينة في أوّل شهر صفر سنة ثمان ، لذلك أجّلت ذيول أخبارهم إلى حينها :

روى الواقدي عن خالد قال : لما أجمعت الخروج إلى رسول الله قلت في نفسي : من اصاحب إلى رسول الله؟ فلقيت صفوان بن أميّة فقلت له : يا أبا وهب ، أما ترى ما نحن فيه؟ إنّما نحن أكلة رأس (قلة) وقد ظهر محمد على العرب والعجم (كذا) فلو قدمنا على محمد فاتّبعناه فانّ شرف محمد لنا شرف (!). فقال : لو لم يبق من قريش غيري ما اتّبعته أبدا! وكان رجلا موتورا قد قتل أبوه وأخوه ببدر. وافترقنا.

فلقيت عكرمة بن أبي جهل ، فقلت له مثل ما قلت لصفوان. فقال لي مثل ما قال صفوان ، فقلت له : فاطو ما ذكرت لك. وخرجت إلى منزلي. فأمرت أن تخرج لي راحلتي ، فاخرجت إليّ ، فخرجت بها ..

إلى أن لقيت عثمان بن طلحة (من بني الدار حملة لواء المشركين من قريش

__________________

(١) بحار الأنوار ١٧ : ٣٢٦ عن التفسير وفيه ٢١ : ٤٧ عن المنتقى فلما غيّر بناء المسجد أخذ ذلك الجذع أبيّ بن كعب إلى داره فاكلته الأرضة فعاد رفاتا وذكر المنبر الواقدي في مغازي الواقدي ٢ : ٩٧٩ في أوّل السنة التاسعة.


مكة ببدر ، وسدنة الكعبة) فذكرت له ما صار الأمر إليه وقلت له نحوا مما قلت لصاحبيه. فقال : لقد غدوت اليوم إليّ وأنا اريد أن اغدوا إليه ، وهذه راحلتي مناخة بفخ (١) فتواعدنا أن نخرج سحرا فنلتقي في يأجج.

فخرجنا سحرا ، والتقينا في يأجج ولم يطلع الفجر ، وغدونا صباحا حتى انتهينا إلى الهدّة فوجدنا فيها عمرو بن العاص ، فقال لنا : مرحبا بالقوم! فقلنا : وبك! فقال : أين مسيركم؟ فقلنا : وأنت ما أخرجك؟ قال : فما الذي أخرجكم؟ قلنا : الدخول في الإسلام واتّباع محمد! قال : وذلك هو الذي أقدمني! (٢).

بينما روى عن عمرو بن العاص خبره لما كان بالحبشة حتى قال : ركبت معهم حتى انتهوا إلى الشعيبة (على شاطئ البحر) وكانت معي نفقة فابتعت بعيرا وخرجت من الشعيبة اريد المدينة ، حتى مررت بمرّ الظّهران ، فمضيت حتى بلغت الهدّة ، فإذا أنا برجلين قد سبقاني إليها بغير كثير ، أحدهما قائم ممسك بالراحلتين والآخر ينصب خيمة فهو داخل فيها ، فنظرت وإذا (القائم) خالد بن الوليد ، فقلت :

أبا سليمان؟ قال : نعم. قلت : أين تريد؟ قال : محمدا ، لقد دخل الناس في الإسلام فلم يبق أحد به طمع (في شيء) والله لو أقمنا (على شركنا) لأخذ برقابنا كما يؤخذ برقبة الضّبع في مغارتها! فقلت : وأنا ـ والله ـ قد أردت محمدا وأردت الإسلام!

وخرج الآخر (من الخيمة) فإذا هو عثمان بن طلحة فرحّب بي ، فترافقنا حتى نزلنا ببئر أبي عنبة فلقينا رجلا فما أنساه كان يصيح : يا رباح! يا رباح! فتفاءلنا بقوله ، ثم نظر إلينا فسمعته يقول : قد أعطت مكة المقادة بعد هذين (يعنيني وخالدا) ثم ولّى سريعا إلى المدينة فكان أن بشّر بقدومنا رسول الله.

__________________

(١) من الوديان القريبة من مكة ، وفيها قتل الحسين بن علي الحسني قتيل فخّ في ثورته على أوائل العباسيّين ، وفيها قبره.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٧٤٧ ، ٧٤٨.


ثم نزلنا (ظهر) الحرّة (ظهرا) فلبسنا من صالح ثيابنا ، ونودي بالحضر فانطلقنا جميعا (١) قال خالد : فلقيني أخي فقال : أسرع فان رسول الله قد اخبر بك فسرّ بقدومك ، وهو ينتظركم. فأسرعت المشي فطلعت عليه ، فما زال يتبسّم إليّ حتى وقفت عليه فسلّمت عليه بالنبوة ، فردّ عليّ السلام بوجه طلق ، فقلت : إنّي أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّك رسول الله. فقال : الحمد لله الذي هداك! قد كنت أرى لك عقلا رجوت أن لا يسلمك إلّا إلى الخير. فقلت : يا رسول الله ، قد رأيت ما كنت أشهد من تلك المواطن عليك معاندا عن الحق ، فادع الله أن يغفرها لي. فقال رسول الله : الإسلام يجبّ ما قبله. فقلت : يا رسول الله ، مع ذلك .. فقال : اللهم اغفر لخالد كلّ ما أوضع فيه من صدّ عن سبيلك (٢).

قال عمرو بن العاص : فتقدم خالد بن الوليد فبايع. ثم تقدم عثمان بن طلحة فبايع. ثم تقدّمت فلما جلست بين يديه ما استطعت أن أرفع طرفي إليه حياء منه! فبايعته على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي. فقال : إنّ الإسلام يجبّ ما قبله ، والهجرة تجبّ ما قبلها (٣) وكان قدومنا في صفر سنة ثمان (٤) لهلال صفر (٥).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٤٤.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٧٤٩.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٧٤٥.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٧٤٩.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٧٤٥. وروى ابن اسحاق خبر إسلام خالد وعمرو بسنده عن عمرو باختصار في السيرة ٣ : ٢٨٩ ـ ٢٩١. ولقوله في أول الخبر : لما انصرفنا عن الخندق ، ذكره بعد الخندق ، بينما نصّ في آخر الخبر : وذلك قبيل الفتح! وذكر عن ابن الزّبعرى هجوا لخالد وعثمان بن طلحة ، ووصفه أنه كان سادن الكعبة وصاحب مفتاحها.


سريّة إلى الكديد :

روى الواقدي قال : في صفر سنة ثمان .. بعث رسول الله غالب بن عبد الله الليثي الكلبي في سريّة (بضعة عشر رجلا) وأمره أن يشن الغارة على بني الملوّح بالكديد.

قال الراوي الجهني : فخرجنا فمررنا بقديد .. ثم سرنا حتى أتينا الكديد عند غروب الشمس ، فكمنّا ناحية الوادي ، وبعثني أصحابي ربيئة لهم ، فصعدت تلا مشرفا على الوادي يطلعني عليهم .. ورجعت ماشية القوم من ابلهم وأغنامهم فحلبوها ، فلما اطمأنّوا وهدؤوا .. (وكان في وجه السحر!) واستقنا النعم والشاء (وشعارنا : أمت أمت) ، فقتلنا المقاتلة ، وسبينا الذريّة ، واستقنا النعم والشاء فخرجنا نحدوها قبل المدينة. وبنو الملوّح كانوا من بني ليث .. فلما شنّنا الغارة عليهم خرج صريخ منهم إلى قومهم ، فجاءنا ما لا قبل لنا بهم متوجّهين إلينا ، ونحن عند المشلّل (ثنيّة مشرفة على قديد) وايم الله ما رأينا مطرا ولا سحابا ، ولكن الله جاء من حيث شاء بماء ملأ جانبي الوادي بيننا وبينهم بما لا يستطيع أحد منهم أن يجوزه ، فصعدنا المشلّل ففتناهم وهم ينظرون إلينا (١).

سريّة إلى أرض بني عامر :

وروى الواقدي قال : بعث رسول الله شجاع بن وهب في أربعة وعشرين رجلا في شهر ربيع الأول سنة ثمان إلى جمع من هوازن (وكانوا من الأحزاب) وأمره أن يغير عليهم في السّير من ناحية ركبة من أراضي بني عامر. فخرج ليلا ، يسير الليل ويكمن النهار ، حتى طلع عليهم في الصباح ، فأمر أصحابه أن يغيروا

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٤ : ٢٥٨.


عليهم وأن لا يوغلوا في الطلب. فأصابوا نعما وشاء كثيرا فاستاقوه كلّه إلى المدينة .. واصابوا نسوة فاستاقوهن. واستمرت غيبتهم عن المدينة حتى رجعوا إليها بعد خمس عشرة ليلة. واقتسموا الغنيمة فكانت لكل رجل خمسة عشر بعيرا ، وكل بعير يعادل عشرة من الغنم (١).

واقتسموا النسوة ، وكانت فيهن جارية وضيئة أخذها شجاع بن وهب بثمن فتزوّجها. ثم قدم وفدهم مسلمين ، وكلّموا رسول الله في السبيّ ، فكلّم النبي في ذلك شجاع بن وهب وأصحابه فردّوهن إلى أصحابهن .. وخيّرها شجاع بن وهب فاختارت المقام عنده (٢).

سريّة إلى ذات أطلاح :

وروى الواقدي : أن رسول الله بعث كعب بن عمير الغفاري في خمسة عشر رجلا إلى ذات أطلاح من أرض الشام .. وكان كعب يكمن النهار ويسير الليل حتى دنا منهم. فرآه عين لهم فأخبرهم بقلة أصحاب النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم ، فجاؤوهم على الخيول .. وكانوا جمعا كثيرا ، فدعوهم إلى الإسلام فلم يستجيبوا ، وقاتلوهم أشد قتال حتى قتلوا ، وتحامل جريح منهم في الليل فأفلت حتى أتى المدينة فأخبر رسول الله الخبر ، فشقّ ذلك على رسول الله وكان ذلك في شهر ربيع الأول سنة ثمان (٣).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٥١ ـ ٧٥٢.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٧٥٣ ، ٧٥٤ وتمامه : ولم يكن له منها ولد ، وقتل عنها يوم اليمامة في ١١ من الهجرة.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٧٥٣.


غزوة مؤتة (١) :

سبب الحرب :

روى الواقدي قال : بعث رسول الله إلى ملك بصرى (٢) بكتاب ، مع الحارث ابن عمير الأزدي اللهبي ، فلما وصل في طريقه إلى مؤتة ، وكان عليها شرحبيل بن عمرو الغسّاني (٣) ، ظنّ بالحارث أنه من رسل رسول الله فاعترضه وقال له : لعلك من رسل محمد؟ قال الحارث : نعم ، أنا رسول رسول الله. فأمر به أن يؤخذ فيقتل ، فاخذ وقتل ، ولم يقتل غيره من الرسل.

وبلغ خبره إلى رسول الله فاشتدّ عليه ذلك .. وندب الناس ، فأخبرهم الخبر ، وكأنّه طلب إليهم أن يخرجوا إلى معسكرهم ، فخرجوا وعسكروا بالجرف ، من دون أن يعيّن أميرا عليهم.

تعيين الامراء :

فلما صلى الظهر جلس ، وجلس أصحابه حوله (٤).

ففي رواية أبان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي عن الصادق عليه‌السلام : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله استعمل عليهم جعفر بن أبي طالب ، فان قتل فزيد بن حارثة الكلبي ، فان قتل

__________________

(١) مؤتة : من قرى الشام بالبلقاء دون دمشق.

(٢) بصرى : هي مركز حوران من أعمال دمشق الشام ، وقد وردها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مرتين وصالح أهلها المسلمين سنة ثلاث عشرة ، فهي أول مدن الشام فتحت صلحا.

(٣) وغسّان من الأزد أيضا ٢ : ٧٦٠.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٧٥٥ ، ٧٥٦ ولم يذكر غيره سببا للحرب ، ولم يذكر الرسالة والرسول والغسّاني غيره ، وذكروه في الرجال : الاستيعاب بهامش الإصابة ١ : ٣٠٥ والإصابة برقم ١٤٥٩ واسد الغابة ١ : ٣٤٢.


فعبد الله بن رواحة (١) فان اصيب عبد الله بن رواحة فليرتض المسلمون بينهم رجلا فليجعلوه عليهم .. وعقد لهم رسول الله لواء أبيض. وهم ثلاثة آلاف.

خطاب الرسول فيهم :

فلما أجمعوا المسير .. مشى الناس إليهم يودّعونهم ويدعون لهم .. وخطبهم رسول الله فقال لهم :

«اوصيكم بتقوى الله ، وبمن معكم من المسلمين خيرا .. اغزوا بسم الله وفي سبيل الله ، فقاتلوا من كفر بالله ، ولا تغدروا ولا تغلّوا ولا تقتلوا وليدا. وإذا لقيت عدوّك من المشركين (كذا) فادعهم إلى احدى ثلاث ، فأيّتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم ، واكفف عنهم.

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ٢١٢ ومناقب آل أبي طالب ١ : ٢٠٥ وقال اليعقوبي ٢ : ٦٥ : قيل : كان المتقدم جعفرا ثم زيد بن حارثة ثم عبد الله بن رواحة. وقال المعتزلي ١٥ : ٦٢ : اتفق المحدثون على أنّ زيد بن حارثة كان هو الأمير الأول ، وأنكرت الشيعة ذلك وقالوا : كان الأمير الأول جعفر بن أبي طالب فان قتل فزيد بن حارثة فان قتل فعبد الله بن رواحة ، ورووا في ذلك روايات. قال : وقد وجدت في الأشعار التي ذكرها محمد بن اسحاق في كتاب مغازي الواقدي (كذا!) ما يشهد لقولهم فمن ذلك ما رواه عن حسّان بن ثابت وهو :

فلا يبعدن الله قتلى تتابعوا

بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر

وزيد وعبد الله حين تتابعوا

جميعا وأسياف المنية تخطر

ومنها قول كعب بن مالك الأنصاري :

ساروا أمام المسلمين كأنّهم

طود ، يقودهم الهزبر المشبل

إذ يهتدون بجعفر ولواؤه

قدّام أولهم ، ونعم الأوّل

وهما في سيرة ابن هشام ٤ : ٢٦ ـ ٢٧. وفي الدرجات الرفيعة : ١٥٤ أنّ عقيل بن أبي طالب كان قد أقبل مسلما مهاجرا الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل الحديبية ، فشهد غزوة مؤتة مع أخيه جعفر عليه‌السلام. وانظر قاموس الرجال ٢ : ٦٠٤.


ادعهم إلى الدخول في الإسلام ، فان فعلوا فاقبل منهم واكفف عنهم ؛ ثم ادعهم إلى التحوّل من دارهم إلى دار المهاجرين ، فان فعلوا فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين. وان دخلوا في الإسلام واختاروا دارهم ، فأخبرهم أن يكونوا كأعراب المسلمين : يجري عليهم حكم الله ، ولا يكون لهم في الفيء ولا الغنيمة شيء إلّا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية ، فان فعلوا فاقبل منهم واكفف عنهم. فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم.

وإن أنت حاصرت أهل حصن أو مدينة فأرادوك أن تستنزلهم على حكم الله ، فلا تستنزلهم على حكم الله ، ولكن أنزلهم على حكمك ، فانك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا؟

وإن حاصرت أهل حصن أو مدينة فأرادوك أن تجعل لهم ذمّة الله وذمّة رسوله ، فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة رسوله ، ولكن اجعل لهم ذمّتك وذمّة أبيك وذمّة أصحابك ، فانكم إن تخفروا ذمتكم وذمم آبائكم خير لكم من أن تخفروا ذمّة الله ورسوله».

وخرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مشيعا لأهل مؤتة حتى بلغ ثنيّة الوداع (١) فوقف ووقفوا حوله فخطبهم ثانية فقال لهم :

خطبة الوداع :

«اغزوا بسم الله ، فقاتلوا عدوّ الله وعدوّكم بالشام ، وستجدون فيها رجالا معتزلين للناس في الصوامع فلا تعرضوا لهم ، وستجدون آخرين في رءوسهم للشيطان مفاحص فاقلعوها بالسيوف .. ولا تقتلن امرأة ولا صغيرا مرضعا ولا كبيرا فانيا ، ولا تغرقنّ نخلا ، ولا تقطعنّ شجرا ، ولا تهدموا بيتا».

__________________

(١) يلاحظ أن ثنية الوداع على جهة الشام لا مكة ، كما مرّ سابقا.


وصايا خاصة وهي عامة :

ولما ودّع رسول الله عبد الله بن رواحة قال له : يا رسول الله مرني بشيء احفظه عنك. فقال له : إنّك قادم غدا بلدا السجود به قليل ، فأكثر السجود. وسكت. فقال عبد الله : زدني يا رسول الله. فقال : اذكر الله فانه عون لك على ما تطلب فانطلق ابن رواحة ذاهبا ثم رجع إليه فقال : يا رسول الله ، إنّ الله وتر يحبّ الوتر! أي ثلّث الوصايا. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا ابن رواحة ، ما عجزت فلا تعجزنّ إن أسأت عشرا أن تحسن واحدة. فقال ابن رواحة : لا أسألك عن شيء بعدها. ومضى ذاهبا.

مسيرهم إلى الشام :

وفصل المسلمون من المدينة ومضوا ذاهبين حتى نزلوا وادي القرى ، فسمع العدوّ بمسيرهم ، فقام صاحب مؤتة شرحبيل بن عمرو الغسّاني الأزدي قاتل الحارث بن عمير الأزدي اللهبي ، قام فيهم بتجميع الجموع وقدم أمامه الطلائع وبعث أخاه سدوس معهم. فقتل سدوس. فبعث أخاه الآخر وبر بن عمرو ، وخاف هو فتحصن وتقدم المسلمون حتى نزلوا معان (في الأردن) من أرض الشام (١). ففي كتاب أبان بن عثمان : بلغهم كثرة عدد الكفار من العرب والعجم من لخم وجذام وبليّ وقضاعة ، وقد انحازوا إلى أرض يقال لها المشارف (٢)

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٥٦ ـ ٧٦٠.

(٢) إعلام الورى ١ : ٢١٣ ومناقب آل أبي طالب ١ : ٢٠٥ عنه ، وفيهما : وإلى المشارف تنسب السيوف المشرفية ، صنعت لسليمان عليه‌السلام. وفي سائر التواريخ : بلغهم أنّ هرقل قد نزل مآب في مائة ألف! وهرقل قيصر ملك زهاء ثلاثين سنة ، مما قبل الهجرة ببضع سنين حتى أواخر عهد الخلفاء الثلاثة ، كما يبدو من تاريخ مختصر الدول لابن العبري : ٩١ ، ٩٢ وغزوة مؤتة في الثامنة للهجرة فهي في منتصف ملكه تقريبا ، وفي تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥٤ : أن هرقل مات سنة عشرين للهجرة. وقال المسعودي : ملك ١٥ سنة من قبل الهجرة بسبع سنين.


وعليهم رجل من بليّ يقال له مالك بن زافلة.

فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا في معان ليلتين يفكرون في أمرهم وقالوا : نكتب إلى رسول الله فنخبره بعدد عدوّنا ، فإمّا أن يمدّنا بالرجال ، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له. فشجّع الناس عبد الله بن رواحة فقال : والله إن التي تكرهون للذي خرجتم تطلبون (الشهادة) وما نقاتل الناس بعدد ، ولا قوة ، ولا كثرة ، ما نقاتلهم إلّا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به ، فانطلقوا فانما هي إحدى الحسنيين : إما ظهور ، وإما شهادة! فقال الناس : قد والله صدق ابن رواحة (١).

فمضى الناس حتى إذا دنوا في أواخر البلقاء من قرية من قراها يقال لها مشارف ، وإذا بجيش هرقل من الروم والعرب معهم. فانحاز المسلمون إلى قرية اخرى من قرى البلقاء يقال لها مؤتة. ثم دنا العدو منهم حتى التقوا عندها.

حرب مؤتة :

وتعبّأ المسلمون ، فجعلوا على ميمنتهم رجلا يقال له : قطبة بن قتادة العذري ، وعلى ميسرتهم رجلا من الأنصار هو عباية بن مالك الأنصاري (٢).

__________________

ـ مروج الذهب ١ : ٣٦٢ ، ٣٦١ و ٢ : ٢٧٨ فغزوة موتة كانت في أواخر عهده. وقال : إنّه هرقل الأوّل ، ثم ابنه موريق ثم قيصر (كذا) ثم هرقل بن قيصر على عهد عمر : ٣٦٣ ونسبه في آخر كتبه : التنبيه والاشراف : ١٣٣ فقال : هرقل بن فوقا بن مرقس وكان من قواد القيصر فوقاس وأثار الناس عليه فقتلوه وملّكوه ، متزامنا للهجرة ، فملك ٢٥ سنة وأكثر إلى سنتين من خلافة عثمان. وقال في غزوة مؤتة : فلقيهم جموع الروم في مائة ألف ، أنفذهم هرقل للقائهم ، وهو يومئذ مقيم بانطاكية ، وعلى متنصرة العرب من غسّان وقضاعة وغيرهم : شرحبيل بن عمرو ، وعلى الروم : ثياذوكس البطريرك. التنبيه والاشراف : ٢٣٠.

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٧.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٩.


فروى الواقدي عن أبي هريرة قال : لما رأينا المشركين في مؤتة رأينا ما لا قبل لنا به من العدد والسلاح والكراع ، والديباج والحرير والذهب ، فبرق بصري. فقال لي ثابت بن أقرم : يا أبا هريرة ، مالك؟ كأنّك ترى جموعا كثيرة؟! قلت : نعم. فقال : لو كنت تشهدنا في بدر ، انا لم ننصر بالكثرة! (١).

وعن الصادق عليه‌السلام قال : لما التقوا يوم مؤتة كان جعفر بن أبي طالب على فرس ، فنزل عن فرسه فعرقبها (٢) بالسيف ، فكان أوّل من عرقب في الإسلام (٣).

قال ابن اسحاق : فقاتل وهو يقول :

يا حبّذا الجنة واقترابها

طيّبة وباردا شرابها

والروم روم قد دنا عذابها

كافرة بعيدة أنسابها

 عليّ إذ لاقيتها ضرابها

وقال ابن هشام : إنّ جعفر بن أبي طالب أخذ اللواء بيمينه فقطعت ، فأخذه بشماله فقطعت ، فاحتضنه بعضديه حتى قتل رضي الله عنه ، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة (٤).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٦٠ ، ٧٦١.

(٢) عرقبها : قطع عرقوبها ، والعرقوب في رجل الدابة كالركبة في يدها وقيل : هو الوتر الذي بين مفصل الساق والقدم.

(٣) المحاسن للبرقي ٣ : ٤٧٧ وفروع الكافي ٥ : ٤٩ ، الحديث ٩. والتهذيب ٦ : ١٧٠ ، الحديث ٦. وجواز ذلك في الحرب لكي لا يأخذ الفرس العدو فيفيد منه في حرب الإسلام.

(٤) سيرة ابن هشام ٤ : ٢٠. فروى الطبرسي في إعلام الورى عن أبان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي عن الفضيل بن يسار عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : اصيب يومئذ جعفر وبه خمسون جراحة ، خمس وعشرون منها في وجهه. اعلام الورى ١ : ٢١٣.

وروى الواقدي : أنّ رجلا من الروم قطعه نصفين فوجد في نصفه بضع وثلاثون


قال الواقدي : وأخذ اللواء زيد بن حارثة ، فقاتل معه جمع من الناس والمسلمون على صفوفهم ، حتى قتل زيد بن حارثة ، وما قتل إلّا طعنا بالرمح (١).

وروى ابن اسحاق عن من حضر الغزوة قال : وأخذ الراية عبد الله بن رواحة ، وكأنه تردّد بعض التردّد ثم قال يستنزل نفسه :

أقسمت يا نفس لتنزلنّه

لتنزلنّ أو لتكرهنّه

إن أجلب الناس وشدّوا الرّنه

ما لي أراك تكرهين الجنّه

قد طال ما قد كنت مطمئنّه

هل أنت إلا نطفة في شنّه (٢)

وقال أيضا :

يا نفس إن لم تقتلي تموتي

هذا حمام الموت قد صليت

وما تمنّيت فقد اعطيت

إن تفعلي فعلهما هديت

ثم سمع صراخ الحرب في ناحية من العسكر ، فنزل عن فرسه ، ثم تقدم نحوهم ، فقاتل حتى قتل (٣).

فروى الواقدي قال : لما قتل ابن رواحة انهزم المسلمون في كل وجه أسوأ هزيمة؟ وبادر رجل من الأنصار يقال له : ثابت بن اقرم إلى اللواء فأخذه وجعل يصيح بالأنصار : إليّ أيها الناس! فجعل قليل منهم يثوبون إليه ويجتمعون ، فنظر

__________________

ـ جراحة. وفي اخرى : وجد فيه أكثر من ستين جرحا. وفي اخرى : وجد فيما بين منكبيه اثنان وسبعون ضربة بسيف أو طعنة برمح. ومنها طعنة قد نفذت فيه. مغازي الواقدي ٢ : ٧٦١.

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٦١.

(٢) الشنّة : القربة القديمة البالية ، ويقصد بالنطفة الماء ، يشبّه نفسه بماء في قربة بالية يوشك أن تنخرق فيراق ماؤها.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢١.


ثابت فيهم إلى خالد بن الوليد فناداه : يا أبا سليمان! خذ اللواء. فقال له : أنت رجل قد شهدت بدرا ولك سنّ فلا آخذه وأنت أحق به! فقال ثابت : خذه أيها الرجل فو الله ما أخذته إلّا لك! فأخذه خالد.

فجعل المشركون يحملون عليه .. وحمل بأصحابه ففضّ جمعا منهم ، ثم دهمه منهم بشر كثير ، فانكشفوا راجعين .. فكانت الهزيمة ، واتبعهم المشركون. وجعل قظبة بن عامر يصيح : يا قوم ، يقتل الرجل مقبلا أحسن من أن يقتل مدبرا. فما يثوب إليه أحد (١).

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمدينة :

وروى أبان الأحمر البجلي الكوفي عن الصادق عليه‌السلام قال :

بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المسجد ، إذ خفض له كل رفيع ، ورفع له كل خفيض حتى نظر إلى جعفر عليه‌السلام يقاتل الكفار فقتل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : قتل جعفر وأخذ المغص في بطنه (٢).

وروى الراوندي في «الخرائج والجرائح» عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال :

لما كان اليوم الذي وقعت فيه حربهم (مؤتة) صلى النبيّ بنا الغداة ثم صعد المنبر فقال : قد التقى اخوانكم مع المشركين للمحاربة. ثم أقبل يحدثنا بكرّات بعضهم على بعض إلى أن قال : أخذها (الراية) جعفر بن أبي طالب وتقدم بها للحرب. ثم قال : قد قطعت يده (اليمنى) وقد أخذ الراية بيده الاخرى (اليسرى) ثم

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٦٣.

(٢) روضة الكافي : ٣٠٨.


قال : وقطعت يده الاخرى (اليسرى) وقد احتضن الراية في صدره. ثم قال : قتل جعفر وسقطت الراية.

ثم قال : ثم أخذها عبد الله بن رواحة .. ثم قال : قتل عبد الله بن رواحة وأخذ الراية خالد بن الوليد ، وانصرف المسلمون .. وقد قتل من المشركين كذا ، وقتل من المسلمين فلان وفلان فذكر جميع من قتل من المسلمين بأسمائهم.

ثم نزل عن المنبر وصار إلى دار جعفر ، فدعا عبد الله بن جعفر فاقعده في حجره (١).

تسلية المصابين :

روى البرقي في «المحاسن» بسنده عن الإمام الكاظم عليه‌السلام قال : لما انتهى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قتل جعفر بن أبي طالب ، دخل على أسماء بنت عميس امرأة جعفر ، فقال : أين بنيّ؟ فدعت بهم ، وهم ثلاثة : عبد الله وعون ومحمد ، فمسح رسول الله رءوسهم ، فقالت : إنّك تمسح رءوسهم كأنهم أيتام؟ فعجب رسول الله من عقلها

__________________

(١) الخرائج والجرائح ١ : ١٦٦ برقم ٣٥٦ وذكر مختصره برقم ١٩٨ وأشار إليه ابن اسحاق في السيرة ٣ : ٢٢ ورواه الواقدي في مغازي الواقدي ٢ : ٧٦١ ، ٧٦٢ وعليه فلا يصحّ ما رواه الاصفهاني في مقاتل الطالبيّين عن عبد الرحمن بن سمرة قال : بعثني خالد بن الوليد بشيرا (كذا) إلى رسول الله يوم موتة ، فلما دخلت المسجد قال لي : على رسلك يا عبد الرحمن. ثم أخبر أصحابه بخبرهم فبكوا. مقاتل الطالبيين : ٧ ، ٨ ط النجف الأشرف و ١٣ ط بيروت. وفي شرح المواهب ٢ : ٢٧٦ قيل : إنّ الذي قدم بخبر مؤتة أبو عامر الأشعري أو يعلى بن أميّة.


فقال : يا أسماء ، ألم تعلمي أن جعفرا رضوان الله عليه استشهد؟ فبكت. فقال لها رسول الله : لا تبكي ، فان جبرئيل عليه‌السلام أخبرني : أنّ له جناحين في الجنة من ياقوت أحمر. فقالت : يا رسول الله ، لو جمعت الناس وأخبرتهم بفضل جعفر لا ينسى فضله. فعجب رسول الله من عقلها (١).

وروى فيه عن الصادق عليه‌السلام مثله ثم قال : فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فصعد المنبر وأعلم الناس بذلك ثم نزل (٢).

__________________

(١) المحاسن ٢ : ١٩٤ برقم ١٩٩.

(٢) المحاسن ٢ : ١٩٣ برقم ١٩٨.

وروى الطبرسي في إعلام الورى عن عبد الله بن جعفر قال : قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخذ بيدي يمسح بيده رأسي حتى رقى إلى المنبر وأجلسني أمامه على الدرجة السفلى ، والحزن يعرف عليه ، فقال :

«إنّ المرء كثير حزنه بأخيه وابن عمه ، ألا إنّ جعفر قد استشهد وجعل له جناحان يطير بهما في الجنة».

ثم نزل ودخل بيته وأدخلني معه ، وأمر بطعام فصنع لأهلي ، وأرسل إلى أخي ، فتغدّينا عنده ـ والله ـ غداء طيبا مباركا ، وأقمنا ثلاثة أيام في بيته ندور معه كلما صار في بيت إحدى نسائه ، ثم رجعنا إلى بيتنا. ورواه الواقدي في مغازي الواقدي ٢ : ٧٦٦ ، ٧٦٧.

ثم روى الطبرسي عن الصادق عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لفاطمة ، اذهبي فابكي على ابن عمك ، فانّك إن لم تدعي بثكل فما قلت فقد صدقت. اعلام الورى ١ : ٢١٤.

وعليه فلا يصح ما رواه ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٣ والواقدي في المغازي ٢ : ٧٦٧ عن عائشة : أنّ النبيّ أمر رجلا أن يسكت النساء عن البكاء على جعفر فان أبين أن يحثو في أفواههنّ التراب! بينما هما رويا بمسندهما عن أسماء أنها صرخت حتى اجتمع إليها النساء ، ولم يرو أنه منعها أو منعهن! بل رويا أنه خرج إلى فاطمة فأمر أن يصنعوا لهم طعاما. ٤ : ٢٢ ومغازي الواقدي ٢ : ٧٦٦. وفيه : على مثل جعفر فلتبك الباكية!


وروى فيه عنه عليه‌السلام أيضا قال : لما قتل جعفر بن أبي طالب أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فاطمة عليها‌السلام أن تأتي أسماء بنت عميس هي ونساؤها ، وتقيم عندها ثلاثا ، وتصنع لها طعاما ثلاثة أيام. فجرت بذلك السنة أن يصنع لأهل المصيبة طعام ثلاثة أيام (١).

وروى الصدوق : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لما جاءته وفاة جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة كان إذا دخل بيته كثر بكاؤه عليها جدّا ويقول : كانا يحدّثاني ويؤانساني فذهبا جميعا (٢).

ثم جاءت الأخبار بأنهم قد قتلوا في ذلك اليوم على تلك الهيئة (٣).

رجوعهم إلى المدينة :

روى الواقدي بسنده عن أبي سعيد الخدري قال : أقبل خالد بن الوليد بالناس منهزما ، فلما سمع أهل المدينة بجيش مؤتة قادمين تلقّوهم إلى الجرف (من نواحي المدينة) فجعل الناس يحثون في وجوههم التراب ويقولون : يا فرّار! أفررتم في سبيل الله؟! (٤).

__________________

(١) المحاسن ٢ : ١٩٣ برقم ١٩٧ و ١٩٦ وفي فروع الكافي ٣ : ٢١٧ ، الحديث ١ وكتاب من لا يحضره الفقيه ١ : ١٨٢ ، ١٨٣ ، الحديث ٥٤٩ والحديث ٥٤٦ وفيه : فقد شغلوا. والحديث ٥٤٨ وفيه : كان من عمل الجاهلية الاكل عند أهل المصيبة ، والسنة : البعث إليهم بالطعام. وأمالي الطوسي : ٦٥٩ برقم ١٣٦٠.

(٢) كتاب من لا يحضره الفقيه ١ : ١٧٧ ، الحديث ٥٢٧.

(٣) الخرائج والجرائح ١ : ١٢١ ، الحديث ١٩٨. ولعله كان على لسان عبد الرحمن بن سمرة كما في مقاتل الطالبيين : ٧. أو أبي عامر الأشعري أو يعلي بن أميّة كما في شرح المواهب ٢ : ٢٧٦ كما مرّ.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٧٦٤ ، ٧٦٥.


وروى ابن اسحاق عن عروة قال : لما دنو من المدينة تلقاهم المسلمون ورسول الله مقبل معهم على دابة .. وجعل الناس يحثون التراب على الجيش ويقولون : يا فرّار! فررتم في سبيل الله! فيقول رسول الله : ليسوا بالفرّار ، ولكنهم الكرّار إن شاء الله (١).

وروى الواقدي قال : لقي أهل المدينة أصحاب مؤتة بالشرّ ، حتى إن الرجل يأتي إلى بيته وأهله فيدق عليهم الباب فيأبون أن يفتحوا له ويقولون : ألا تقدّمت مع أصحابك؟! فأمّا من كان كبيرا من أصحاب رسول الله فانه جلس في بيته استحياء ، حتى جعل النبيّ يرسل إليهم رجلا رجلا ، ويقول لهم : انتم الكرّار في سبيل الله.

وكان من جيش مؤتة سلمة بن هشام المخزومي ابن أمّ سلمة زوج النبيّ ، فدخل داره ولم يخرج منها ، ودخلت امرأته على أمّ سلمة فقالت لها أمّ سلمة : ما لي لا أرى سلمة بن هشام أيشتكي شيئا؟ فقالت امرأته : لا والله ولكنه لا يستطيع الخروج ، فانه إذا خرج صاحوا به وبأصحابه : يا فرّار! أفررتم في سبيل الله؟! فلذلك قعد في البيت. فذكرت أمّ سلمة ذلك لرسول الله ، فقال رسول الله : بل هم الكرّار في سبيل الله ، فليخرج! فخرج (٢).

شهداء مؤتة :

وقتل بمؤتة ما عدا الثلاثة : جعفر (٣) وزيد وعبد الله بن رواحة الخزرجي : من

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٤ وعنه في إعلام الورى ١ : ٢١٥.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٧٦٥ وابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٤ ، ٢٥ بدون الذيل.

(٣) نقل الاصفهاني في مقاتل الطالبيين : ٨ عن علي بن عبد الله بن جعفر : أن جعفر


قريش : مسعود بن الأسود العدوي ووهب بن سعد بن أبي سرح أخو عبد الله بن سعد بن أبي سرح. ومن بني النجار من الخزرج : سراقة بن عمرو ، وجابر بن عمرو واخوه أبو كلاب أو كليب ، وعمرو بن سعد واخوه عامر. والحارث بن النعمان بن أساف (١) أو يساف (٢).

__________________

ـ قتل وهو ابن أربع وثلاثين سنة. ثم قال : وهذا عندي شبيه بالوهم .. وعلى أي الروايات قيس أمره علم أنه كان عند مقتله قد تجاوز هذا المقدار من السنين ، فانه قتل في سنة ثمان من الهجرة ، وبين ذلك الوقت وبين مبعث رسول الله احدى وعشرون سنة ، وهو أسنّ من أخيه أمير المؤمنين علي عليه‌السلام بعشر سنين ..

(١) سيرة ابن هشام ٤ : ٢٥.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٧٦٩. هذا ، وفي احدى روايتي الكليني في اصول الكافي ٢ : ٥٤ عن أبي بصير ، وهي التي عن القاسم بن بريد عنه عن الصادق عليه‌السلام قال : استقبل رسول الله حارثة بن مالك بن النعمان الأنصاري فقال له : كيف أنت يا حارثة؟ فقال : يا رسول الله مؤمن حقا! فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لكل شيء حقيقة فما حقيقة قولك؟ فقال : يا رسول الله عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت هواجري ، وكأني أنظر إلى عرش ربي قد وضع للحساب ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون في الجنة ، وكأني أسمع عواء أهل النار في النار! فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : عبد نوّر الله قلبه! أبصرت فاثبت! فقال : يا رسول الله ادع الله لي أن يرزقني الشهادة معك. فقال : اللهم ارزق حارثة الشهادة. فلم يلبث إلّا أياما حتى .. استشهد مع جعفر بن أبي طالب بعد تسعة نفر ، وكان هو العاشر.

هذا ، والمقتول في مؤتة كما مرّ هو حارث بن النعمان بن أساف أو يساف ، وليس حارثة بن مالك بن النعمان ، ولا يوجد في السيرة والتاريخ أحد بهذا الاسم ، بل : حارث بن مالك أبو واقد الليثي وليس هو به ، وحارث بن مالك بن البرصاء أسلم في السابعة وليس هو به قطعا أيضا.

وقد ورد في آخر الرواية الاخرى للخبر عن الإمام الصادق عليه‌السلام أيضا ، في معاني


أمّا تاريخ الغزوة : فقد كانت في جمادى الاولى من سنة ثمان (١).

سريّة وادي الرمل اليابس (٢) :

روى القمي في تفسيره بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : إنّ أهل وادي اليابس اجتمعوا اثني عشر ألف فارس ، فتعاقدوا وتعاهدوا وتواثقوا على أن لا يتخلف رجل عن رجل ولا يخذل أحد أحدا ولا يفرّ رجل عن صاحبه حتى يموتوا

__________________

ـ الأخبار للشيخ الصدوق : ١٨٧ فقال له : يا رسول الله ما أنا أخوف من شيء على نفسي أخوف مني عليها من بصري! فدعا رسول الله فذهب بصره!

وذكره الطوسي في رجاله فقال فيه : شهد بدرا واحدا وما بعدهما من المشاهد .. وشهد مع أمير المؤمنين القتال ، وتوفي (بعده) في زمن معاوية : رجال الطوسي : ١٧ ط النجف الأشرف وكذلك ذكره العسقلاني في الإصابة برقمي ١٤٧٨ و ١٥٣٢ وأخرج حديثه هذا عن عدة من جوامعهم الحديثية بألفاظ مختلفة ثم قال : انه حديث معضل لا يعوّل عليه إذ لم يثبت موصولا.

(١) سيرة ابن هشام ٤ : ١٥ وإعلام الورى ١ : ٢١٢ ومناقب آل أبي طالب ١ : ٢٠٥ ، ٢٠٦.

(٢) هذا ما نراه في تفسير القمي ٢ : ٤٣٤ ويبدو عنه في تفسير فرات الكوفي : ٥٩٩ ، الحديث ٧٦١ وعنهما في بحار الأنوار ٢١ : ٦٧ ـ ٧٤ ، وباسم وادي الرمل لدى المفيد في الإرشاد ١ : ١١٣ وقال : ويقال : انها كانت تسمى بغزوة السلسلة. وفي ١٦٢ بتقديم اسم : غزاة السلسلة .. قوم من العرب بوادي الرمل. وعن القوم وموضعهم قال : بني سليم ، وهم قريب من الحرّة. وذكر الخبر الراوندي باسم ذات السلاسل ، وعن الموضع فيه : ومن المدينة إلى هناك خمس مراحل. الخرائج والجرائح ١ : ١٦٧ و ٢٥٧. وفي ابن هشام ٤ : ٢٧٢ عن ابن اسحاق : ذات السلاسل من أرض بني عذرة .. إلى جهة الشام .. على ماء بأرض جذام يقال له السلسل ، وبذلك سمّيت الغزوة : ذات السلاسل. وفي الطبقات الكبرى ٢ : ٩٤ : ذات السلاسل : وراء وادي القرس بينها وبين المدينة عشرة أيام. وليس لوادي الرمل اليابس ذكر في التواريخ والسير.


كلهم ـ على حلف واحد ـ أو يقتلوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي بن أبي طالب فنزل جبرئيل عليه‌السلام على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبره بقصتهم وما تعاقدوا عليه وتواثقوا ، وأمره أن يبعث أبا بكر (١) إليهم في أربعة آلاف فارس من المهاجرين والأنصار.

فصعد رسول الله المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا معشر المهاجرين والأنصار ، إنّ جبرئيل أخبرني : أن أهل وادي اليابس اثني عشر ألف فارس قد استعدوا وتعاقدوا وتعاهدوا أن لا يغدر رجل بصاحبه ولا يفرّ عنه ولا يخذله حتى يقتلوني وأخي علي بن أبي طالب ، وقد أمرني أن اسيّر إليهم أبا بكر في أربعة آلاف فارس ، فخذوا في أمركم ، واستعدوا لعدوّكم ، وانهضوا إليهم على اسم الله وبركته يوم الاثنين إن شاء الله تعالى.

فأخذ المسلمون عدتهم وتهيئوا ، وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أبا بكر بأمره ، وكان فيما أمره به أنه إذا رآهم أن يعرض عليهم الإسلام ، فإن تابعوه ، وإلّا واقعهم فيقتل مقاتلتهم ، ويسبي ذراريهم ، ويستبيح أموالهم ، ويخرّب ضياعهم وديارهم. فمضى أبو بكر ومن معه من المهاجرين والأنصار في أحسن عدّة وأحسن هيئة ، يسير بهم سيرا رفيقا ، حتى انتهوا إلى أهل وادي اليابس.

فلما بلغ القوم نزلوا إليهم ، ونزل أبو بكر وأصحابه قريبا منهم. وخرج إليهم من أهل وادي اليابس مائتا رجل مدجّجين بالسلاح ، فلما صادفوهم قالوا لهم : من أنتم! ومن أين أقبلتم؟ وأين تريدون؟ فخرج إليهم أبو بكر في نفر من أصحابه المسلمين فقال لهم : أنا أبو بكر صاحب رسول الله. قالوا : ما أقدمك علينا؟ قال : أمرني رسول الله أن أعرض عليكم الإسلام ، فإن تدخلوا فيما دخل فيه المسلمون

__________________

(١) كذا في نسخة بحار الأنوار ، وتفسير فرات الكوفي ، وفي المطبوع : فلانا ، وكذا في سائر الموارد.


فلكم ما لهم وعليكم ما عليهم ، وإلّا فالحرب بيننا وبينكم. فقالوا له : أما واللات والعزّى ، لو لا رحم بيننا وقرابة قريبة (؟) لقتلناك وجميع أصحابك قتلة تكون حديثا لمن يكون بعدكم ، فارجع أنت ومن معك واربحوا العافية ، فانّا انما نريد صاحبكم بعينه وأخاه علي بن أبي طالب. فقال أبو بكر : يا قوم ، إنّ القوم أكثر منكم أضعافا وأعدّ منكم ، وقد نأت داركم عن اخوانكم من المسلمين ، فارجعوا نعلم رسول الله بحال القوم. فقالوا له : يا أبا بكر ، خالفت قول رسول الله وما أمرك به ، فاتّق الله وواقع القوم ولا تخالف رسول الله! فقال : إنّي أعلم ما لا تعلمون ، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب.

فانصرف وانصرف الناس أجمعون ، فأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمقالة القوم وما ردّ عليهم. فقال رسول الله : يا أبا بكر ، خالفت أمري ، ولم تفعل ما أمرتك ، وكنت لي ـ والله ـ عاصيا فيما أمرتك! ثم قام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا معشر المسلمين ، انّي أمرت أبا بكر أن يسير إلى أهل وادي اليابس ، وأن يعرض عليهم الإسلام ، ويدعوهم إلى الله ، فإن أجابوه ، وإلّا واقعهم. وإنّه سار إليهم ، فخرج إليه مائتا رجل ، فلما سمع كلامهم وما استقبلوه به انتفخ سحره (١) ودخله الرعب منهم ، فترك قولي ولم يطع أمري. وإنّ جبرئيل أمرني عن الله : أن أبعث إليهم عمر مكانه في أصحابه الأربعة آلاف فارس. فسر يا عمر على اسم الله ، ولا تعمل كما عمل أخوك ، فانه قد عصى الله وعصاني. وأمره بما أمر أبا بكر.

فخرج ومعه المهاجرون والأنصار الذين كانوا مع أبي بكر ، يقتصد بهم في سيرهم ، حتى شارف القوم وكان قريبا منهم حيث يراهم ويرونه. فخرج إليهم

__________________

(١) كذا في تفسير الكوفي ، وفي القمي : صدره. والسحر : الرئة ، أي انتفخت رئته خوفا. انظر مجمع البحرين.


منهم مائتا رجل ، فقالوا لهم مثل مقالتهم لأبي بكر ، فانصرف ، وانصرف الناس معه ، وكاد أن يطير قلبه مما رأى من عدة القوم وجمعهم!

وقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبره بمثل ما أخبره به صاحبه. فقال له : يا عمر ، عصيت الله في عرشه وعصيتني ، وخالفت قولي ، وعملت برأيك! ألا قبّح الله رأيك! وإن جبرئيل قد أمرني أن أبعث علي بن أبي طالب في هؤلاء المسلمين ، وأخبرني أن الله يفتح عليه وعلى أصحابه.

فدعا عليّا عليه‌السلام وأوصاه بما أوصى به أبا بكر وعمر وأصحابهم الأربعة آلاف فارس ، وأخبره أن الله سيفتح عليه وعلى أصحابه. فخرج علي عليه‌السلام ومعه المهاجرون والأنصار وأعنف بهم في السير حتى خافوا أن ينقطعوا من التعب ، وتحفى دوابهم (١) وقال لهم : لا تخافوا ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أمرني بأمر وأخبرني أنّ الله سيفتح عليّ وعليكم ، فأبشروا ، فانكم على خير وإلى خير. فطابت نفوسهم وقلوبهم ، وساروا على ذلك السير والتعب. حتى إذا كانوا قريبا منهم حيث يرونهم ويراهم أمر أصحابه أن ينزلوا.

مواجهة الإمام علي عليه‌السلام القوم :

وسمع أهل وادي اليابس بقدوم علي بن أبي طالب وأصحابه ، فخرجوا إليهم فيهم مائتا رجل شاكين بالسلاح ، فلما رآهم علي عليه‌السلام خرج إليهم في نفر من أصحابه. فقالوا لهم : من أنتم؟ ومن أين أقبلتم؟ وأين تريدون؟ فقال عليه‌السلام : أنا علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله وأخوه ورسوله إليكم ، أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول الله ، فإن آمنتم فلكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم من خير وشر. فقال له : إياك أردنا ، وأنت طلبتنا ، قد سمعنا مقالتك وما عرضت

__________________

(١) كان إذا تقشّر حافر الدابّة قيل : حفيت الدّابّة ، كأنّها أصبحت حافية من حافرها.


علينا ، فخذ حذرك واستعدّ للحرب العوان (١) واعلم أنا قاتلوك وقاتلوا أصحابك ، والموعد بيننا وبينك غدا ضحوة ، وقد أعذرنا فيما بيننا وبينكم! فقال لهم علي عليه‌السلام : ويلكم! تهدّدوني بكثرتكم وجمعكم! فأنا أستعين بالله وملائكته والمسلمين عليكم ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.

فانصرفوا إلى مراكزهم ، وانصرف علي عليه‌السلام إلى مركزه. فلما جنّه الليل أمر أصحابه أن يقضموا (٢) دوابّهم ويحسنوا إليها ويسرجوها.

اشتباك الحرب :

فلما انشق عمود الصبح صلى بالناس بغلس (٣) ثم أغار عليهم بأصحابه ، فلم يعلموا حتى وطأتهم الخيل ، فلما أدرك آخر أصحابه حتى قتل مقاتلتهم ، وسبى ذراريهم ، واستباح أموالهم ، وخرّب ديارهم. وأقبل بالاسارى والأموال معه .. وما رزقهم الله من أهل وادي اليابس .. وما غنم المسلمون مثلها قط ، إلّا أن يكون من خيبر ، فانها مثل ذلك.

وأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك اليوم سورة «والعاديات ضبحا» يعني بالعاديات الخيل تعدو بالرجال ، والضبح صيحتها في أعنّتها ولجمها (٤).

__________________

(١) الحرب العوان : التي فيها جولات وكرّات.

(٢) يقضموا الدّوابّ أي يجعلوها تقضم أي تأكل شعيرها.

(٣) الغلس : الظلام في آخر الليل ، والغسق في أوّله.

(٤) كذا في هذا الخبر في تفسير القمي ، والكوفي : ٦٠٢ ، الحديث ٧٦١ والطوسي في الأمالي : ٤٠٧ ، الحديث ٩١٣ بسنده عنه عليه‌السلام أيضا مختصرا قال : وجّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عمر ابن الخطاب في سرية (ولم يعيّن) فرجع منهزما يجبّن أصحابه ويجبّنه أصحابه ، فلما انتهى إلى النبيّ قال لعلي عليه‌السلام : أنت صاحب القوم ، فتهيّأ أنت ومن تريده من فرسان


ونزل جبرئيل فأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بما فتح الله لعلي عليه‌السلام وجماعة

__________________

ـ المهاجرين والأنصار .. وقال له : اكمن النهار وسر الليل ولا يفارقك العين. فسار علي عليه‌السلام إليهم فلما كان عند الصبح أغار عليهم ، فأنزل الله على نبيّه : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) إلى آخرها. والخبر من مرويات أبي القاسم بن شبل الوكيل ، وإليه أشار الحلبي في مناقب آل أبي طالب ٣ : ١٤٠ وإلى الحديث الطويل أشار الطبرسي في مجمع البيان ١٠ : ٨٠٣ فقال : نزلت السورة لما بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّا عليه‌السلام إلى ذات السلاسل فأوقع بهم .. وهو المرويّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث طويل ، قال : ولما نزلت السورة خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الناس فصلّى بهم الغداة وقرأ فيها(وَالْعادِياتِ) فلما فرغ من صلاته قال أصحابه : هذه سورة لم نعرفها! فقال رسول الله : نعم! إنّ عليّا ظفر بأعداء الله وبشّرني بذلك جبرئيل في هذه الليلة. هذا وقد نقل الطوسي في التبيان ١٠ : ٣٩٥ عن الضحاك : أن السورة مدنية ، والطبرسي أيضا نقل ذلك عن ابن عباس وقتادة. ١٠ : ٨٠١.

وفي آيات اطعام أهل البيت عليهم‌السلام من سورتهم سورة الإنسان قال : إن بعض أهل العصبية قد طعن في هذه القصة بأن قال : هذه السورة مكية ، فكيف يتعلق بها ما كان بالمدينة؟! واستدل بذلك على أنها مخترعة ، جرأة على الله وعداوة لأهل بيت رسوله ، فأجبت .. كشف القناع عن عناد هذا المعاند في دعواه ..

فنقل عن كتاب الإيضاح للاستاذ أحمد الزاهد باسناده عن سعيد بن المسيّب عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام أنه قال : سألت النبيّ عن ثواب القرآن فأخبرني بثواب سورة سورة ، على نحو ما نزلت من السماء ، فأوّل ما نزل عليه بمكة فاتحة الكتاب .. إلى أن قال : وأول ما نزل بالمدينة سورة البقرة .. وباسناده عن الحسن البصري وعكرمة .. وباسناده عن عثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عباس .. ورواه الطبرسي أيضا عن الحاكم الحسكاني النيشابوري ١٠ : ٦١٢ ـ ٦١٤ وليس في قوائم هذه الأخبار مدنية العاديات ، بل هي فيها مكية. ولذلك فنحن ذكرنا نزولها في عداد المكيات الأوائل ، وبناء على هذه الأخبار عن الصادق عليه‌السلام بنزولها هنا في المدينة فهي نازلة هنا اما ابتداء أو ثانية وبمعنى ثان.


المسلمين. فصعد رسول الله المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه وأخبر الناس بما فتح الله على المسلمين ، وأعلمهم أنه لم يصب منهم إلّا رجلان ، ونزل.

ثم خرج يستقبل عليّا في جمع من أهل المدينة من المسلمين ، إلى ثلاثة أميال من المدينة ، فلما رآه علي عليه‌السلام مقبلا نزل عن دابّته ونزل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى التزمه وقبّل ما بين عينيه ، فنزل جماعة المسلمين إلى علي عليه‌السلام ، حيث نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

والمفيد في «الإرشاد» نقل الخبر عن أصحاب السير إلى أن قال : فروي عن أمّ سلمة رحمها الله قالت : كان نبيّ الله عليه‌السلام قائلا في بيتي إذ انتبه من منامه فزعا ، فقلت له : الله جارك! قال : صدقت ، الله جاري ، لكنّ هذا جبرئيل عليه‌السلام يخبرني : أنّ عليا قادم. ثم خرج إلى الناس فأمرهم أن يستقبلوا عليّا عليه‌السلام.

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٤٣٤ ـ ٤٣٨ ويبدو عنه في تفسير فرات الكوفي ٥٩٩ ـ ٦٠٢ ، الحديث ٧٦١ وروى قبله حديثا أطول منه عن سلمان الفارسي رضى الله عنه فيه : أنّ الذي أخبر النبي بخبر استعداد القوم أعرابيّ من بني لجيم ، وأن القوم من خثعم يقدمهم الحارث بن مكيدة الخثعمي في خمسمائة منهم ، وكان الحارث يعدّ بخمسمائة فارس ، وأنه أرسل إليه عليا رأسا بخمسمائة أو بخمسين ومائة فارس ، فقتل الحارث صباحا وهزمهم وغنم وسبى منهم ، ونزلت سورة العاديات ، واستقبله الرسول والمسلمون على ثلاثة أميال من المدينة. وروى قبله خبرا عن أبي ذر الغفاري وفيه : أنّ النبيّ أقرع بين أهل الصفة فبعث منهم ومن غيرهم ثمانين رجلا إلى بني سليم ولّى عليهم رجلا فهزموا ، فدعا لها عليّا عليه‌السلام فبعثه إليهم وشيّعه إلى مسجد الأحزاب ، فلما طلع الفجر أغار عليهم وكان رئيسهم الحارث بن بشر فقتله ومائة وعشرين منهم وسبى منهم مائة وعشرين فتاة ناهدة ، ونزلت سورة العاديات قبله عن ابن عباس ، وهنا سمّى السرية ذات السلاسل ، وفيه : أنّ النبي بعث فيها أبا بكر ثم عمر ثم خالد بن الوليد فهزموا ، فدعا لها عليا عليه‌السلام وسيّرهم معه ، وكمن لهم خلف جبل إلى السحر ، فلما كان السحر أشرف عليهم من الجبل فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم ، ونزلت سورة العاديات في ذلك.


وقام له المسلمون صفّين مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلما بصر بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ترجّل عن فرسه وأهوى إلى قدميه يقبّلهما ، فقال له : اركب ، فإن الله تعالى ورسوله عنك راضيان! فبكى أمير المؤمنين عليه‌السلام فرحا. فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عليّ ، لو لا أنّني أشفق أن تقول فيك طوائف من امتي ما قالت النصارى في المسيح عيسى بن مريم ، لقلت فيك ـ اليوم ـ مقالا لا تمرّ بملإ من الناس إلّا أخذوا التراب من تحت قدميك (١).

وانصرف عليّ عليه‌السلام إلى منزله ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لبعض من كان معه في الجيش : كيف رأيتم أميركم؟ قالوا : لم ننكر منه شيئا إلّا أنه لم يؤمّ بنا في صلاة إلّا قرأ بنا فيها بقل هو الله أحد فقال النبيّ لهم : سأسأله عن ذلك. فلما جاءه قال له : لم لم تقرأ بهم في فرائضك إلّا بسورة الإخلاص؟ فقال عليه‌السلام : يا رسول الله أحببتها.

فقال له النبيّ عليه‌السلام : فان الله قد أحبّك كما أحببتها (٢).

__________________

(١) الإرشاد ١ : ١١٦ ، ١١٧ و ١٦٥.

(٢) الإرشاد ١ : ١١٦ ، ١١٧. وروى خبر سورة التوحيد الصدوق في التوحيد : ٩٤ بسنده عن عمران بن الحصين الأنصاري : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث سرية. ولم يسمّها. والطبرسي في إعلام الورى نقل ما ذكره المفيد في الإرشاد أولا ١ : ١١٣ ـ ١١٦. وأرسل النقل الراوندي في الخرائج والجرائح ١ : ١٦٧ ، ١٦٨ ، الحديث ٢٥٧. مع ذكر دور عمرو بن العاص في الغزوة نحو ما في الإرشاد. وأشار المفيد إلى أصحاب السير ولم يسمّهم ، وأشار الحلبي في مناقب آل أبي طالب ٣ : ١٤٠ ، ١٤١ إلى أسمائهم فقال : وكيع والزجاج والثوري والسدّي ومقاتل وأبو صالح عن ابن عباس. مع ذكر دور خالد بن الوليد أو عمرو بن العاص.

أما ابن اسحاق والواقدي فقد قالا : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل من أرض بني عذرة إلى الشام على ما بأرض جذام يقال له السّلسل وبذلك سميت الغزوة : ذات السلاسل. وذلك أنه بلغه أن جمعا من بليّ وقضاعة قد تجمّعوا يريدون المدينة ، فبعثه في ثلاثمائة من سراة المهاجرين والأنصار ، وأمره أن يستعين بمن مرّ به من العرب وهي بلاد بليّ وعذرة وبلقين. وانما اختاره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لان أمّ أبيه العاص بن


سريّة أبي قتادة إلى خضرة (١) :

روى ابن اسحاق عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي قال : أقبل رجل من بني جشم يقال له : رفاعة بن قيس أو قيس بن رفاعة بقومه حتى نزل

__________________

ـ وائل كانت من بليّ ، فأراد أن يتألّفهم بذلك. فلما دنا من القوم بلغه أن لهم جمعا كثيرا ، فخاف منهم ، فبعث رافع بن مكيث الجهني إلى رسول الله يخبره ويستمدّه ، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجرّاح في مائتين من سراة الأنصار والمهاجرين منهم أبو بكر وعمر فساروا وكان قبل هذا يسير الليل ويكمن النهار أما الآن فسار الليل والنهار حتى وطئ بلاد بليّ ، وكلما انتهى إلى موضع بلغه أنه كان بهذا الموضع جمع فلما سمعوا به تفرقوا ، حتى انتهى إلى أقصى بلاد بليّ وعذرة وبلقين ، فهناك لقي جمعا غير كثير ، فتراموا بالنبل وتقاتلوا ساعة ، ثم حمل المسلمون عليهم فهربوا وتفرّقوا ، وأقام عمرو هنالك أياما يبعث أصحاب الخيل فيأتون بالشياه والنّعم.

ويروون عن رافع بن عميرة الطائي أنه كان نصرانيا يدعى سيرجس فأسلم وانبعث في هذا البعث مع أبي بكر فاستنصحه فقال له : آمرك أن توحّد الله ولا تشرك به شيئا ، وأن تقيم الصلاة ، وأن تؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحجّ هذا البيت ، وتغتسل من الجنابة ، ولا تتأمّر على رجلين من المسلمين أبدا.

فلما توفي رسول الله واستخلف أبو بكر قدم عليه فقال له : يا أبا بكر ، ألم تك نهيتني عن أن أتأمّر على رجلين من المسلمين؟! فقال : بلى ، وأنا الآن أنهاك عن ذلك! قال : فما حملك على أن تلي أمر الناس؟! أو : مالك تأمّرت على أمّة محمد؟! قال : اختلف الناس فخشيت عليهم الهلاك ، ودعوا إليّ فلم أجد لذلك بدا ، أو : خشيت على امة محمد الفرقة! سيرة ابن هشام ٤ : ٢٧٢ ـ ٢٧٤ ومغازي الواقدي ٢ : ٧٧١ ـ ٧٧٢ وفي مقدمته ذكر أنها كانت في جمادى الآخرة سنة ثمان.

(١) على عشرين ميلا (ثمانين كم) بناحية نجد عند بستان ابن عامر. مغازي الواقدي ١ : ٦.


بالغابة يريد أن يجمع قيسا على حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

وروى عنه الواقدي قال : وكنت قد تزوّجت ابنة سراقة بن حارثة النجّاري الشهيد ببدر ، وأصدقتها مائتي درهم ، ولا أجدها ، فجئت النبيّ فأخبرته وقلت له : يا رسول الله أعنّي في صداقها. فقال رسول الله : ما وافقت عندنا شيئا اعينك به ، ولكنّي قد أجمعت أن أبعث أبا قتادة في أربعة عشر رجلا [في سرية] فهل لك أن تخرج فيها؟ فانّي أرجو أن يغنّمك الله مهر امرأتك. فقلت : نعم.

فبعثنا النبيّ إلى غطفان نحو نجد ، وقال لنا : سيروا الليل واكمنوا النهار ، وشنوا الغارة ، ولا تقتلوا النساء والصبيان. فخرجنا حتى أتينا ناحية غطفان ليلا ، فألّف ابو قتادة بين كل رجلين منّا ، ثم خطبنا .. فأوصانا بتقوى الله : لا يفارق كل رجل زميله حتى يقتل أو يرجع إلي فيخبرني خبره ، ولا يأتيني رجل فأسأله عن صاحبه فيقول : لا علم لي به! وإذا كبّرت فكبّروا ، وإذا حملت فاحملوا ، ولا تمنعوا في الطلب. ثم جرّد أبو قتادة سيفه وجرّدنا سيوفنا ، وكبّر وكبّرنا معه ، فشددنا وهجمنا على حاضر منهم عظيم (٢).

وفي خبر ابن اسحاق قال : قربنا حاضرهم عشيشية (عشاء) مع غروب الشمس ، ونحن ننتظر غرّة القوم حتى غشينا الليل وذهبت فحمة العشاء (ظلمتها) فقام صاحبهم رفاعة بن قيس وأخذ سيفه وجعله في عنقه وخرج يتّبع أثر راع قد سرّح فأبطأ عليهم فتخوّفوا عليه ، فقال له نفر ممن معه : نحن نكفيك ، قال : لا والله لا يذهب إلّا أنا. فقالوا له : فنحن معك ، قال : لا والله لا يتّبعني أحد منكم. ثم خرج فمرّ بي ، فلما أمكنني رميته بسهمي فوضعته في فؤاده ، ثم وثبت إليه

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٧٨.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٧٧٨.


فاحتززت رأسه. ثم شددنا في ناحية العسكر وكبّرنا ، فو الله ما كان إلّا النجاء بكل ما قدروا عليه من نسائهم وأبنائهم وما خفّ معهم من أموالهم. ونحن سقنا إبلا وغنما كثيرا فجئنا بها إلى رسول الله. وجئته برأسه أحمله معي. فأعانني رسول الله من تلك الابل بثلاثة عشر بعيرا (١).

وروى الواقدي : أنهم غابوا خمس عشرة ليلة (في شعبان سنة ثمان (٢)) وجاءوا بمائتي بعير وألف شاة ، مع سبي كثير : أربع نسوة ، وأطفال من غلمان وجوار .. وعزلوا الخمس ، وكان سهم كل رجل اثني عشر بعيرا ، وكان البعير يعدل بعشر من الغنم. وجاء محميّة بن جزء الزبيدي إلى النبيّ فقال : يا رسول الله ، إنّ أبا قتادة قد أصاب في وجهه هذا جارية وضيئة ، وقد كنت وعدتني جارية من أول فيء يفيء الله عليك.

فأرسل رسول الله إلى أبي قتادة فقال : ما جارية صارت في سهمك؟ فقال ابو قتادة : نعم جارية من السبي أخذتها لنفسي بعد أن أخرجنا الخمس من المغنم. فقال النبيّ : هبها لي. قال أبو قتادة : نعم ، يا رسول الله. فأخذها رسول الله فدفعها إلى محميّة بن جزء الزّبيدي (٢).

نزول سورة الطلاق :

نجد في ترتيب النزول المعتمد سورة الطلاق بعد سورة الإنسان (٤) وقال الطبرسي في «مجمع البيان» : وتسمّى سورة النساء القصرى ، ثم روى عن عبد الله ابن مسعود أنه كان يقول : إنّ سورة النساء القصرى (الطلاق) نزلت بعد قوله :

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٧٩.

(٢) و (٣) مغازي الواقدي ٢ : ٧٨٠.

(٤) التمهيد ١ : ١٠٧.


(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً ..)(١) وروى السيوطي في «الدر المنثور» عن أبي سعيد الخدري قال : نزلت سورة النساء القصرى بعد التي في البقرة (يعني قوله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً ..)) بسبع سنين (٢) أي في السنة السابعة للهجرة.

وأيضا في الترتيب المعتمد بعد سورة الطلاق سورة البيّنة ، ثم سورة الحشر. ولم يذكر لسورة البيّنة شأن نزول ولا سبب ، ولم يختلفوا أن شأن نزول سورة الحشر اخراج يهود بني النضير من ديارهم إلى خيبر والاردن والشام ، وكان ذلك قبل خيبر بكثير ، أي قبل السنة السابعة مما يقتضي نزولها قبل هذا.

وفي الترتيب المعتمد بعد سورة الحشر سورة النصر : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) : أي فتح مكة ، وفي الروايات في بدايات مقدمات الفتح نزول الآيات الأوائل من سورة الممتحنة ، كما سيأتي ، بينما هي في روايات النزول قبل هذا بعشر سور!

بدايات روايات الفتح

نقض قريش لعهد الحديبية :

مرّ في شروط صلح الحديبية ، «وأنّه من أحبّ أن يدخل في عهد محمد وعقده فعل ، وأنّ من أحبّ أن يدخل في عهد قريش وعقدها فعل». ولما كتبوا الكتاب قامت خزاعة فقالت : نحن في عهد محمد رسول الله وعقده. وقامت بنو بكر (من كنانة قريش) فقالت : نحن في عهد قريش وعقدها (٣).

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٢٤.

(٢) الدر المنثور ٧ كما عنه في الميزان ١٩ : ٣١٢.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٣١٣ و ٣١٤.


وآخر ما كان بين خزاعة وبني بكر أن عدت خزاعة على سلمى وكلثوم وذؤيب أبناء الأسود الدّيلي من بني بكر من أشراف كنانة فقتلوهم في عرفات ، قرب علائم حدود الحرم ، قبيل الإسلام بقليل ، ثم تشاغلوا بالإسلام فحجز بينهم (١) فتجاوزوا وكفّ بعضهم عن بعض من أجل الإسلام ، وهم على ما هم عليه من العداوة في أنفسهم ، إلّا أنه قد دخل الإسلام عليهم جميعا فأمسكوا (٢).

وانتصرت خزاعة لرسول الله :

وعلى رأس اثنين وعشرين شهرا من صلح الحديبية وقبل شهر شعبان (٣) ، قعد أنس بن زنيم الدّيلي يروي هجاء رسول الله ، فسمعه غلام من خزاعة فقال له : لا تذكر هذا! قال : وما أنت وذاك؟! فقال : لئن أعدت لأكسرنّ [فاك] فأعادها الدّيلي ، فوقع عليه الخزاعي فشجّه. فخرج الدّيلي إلى قومه فأراهم شجّته ، فثار الشرّ بينهم (٤).

وأراد نوفل بن معاوية الدّيلي ـ وهو قائد بني الدّيلي من بني بكر من كنانة ـ أراد أن يثأر من خزاعة لمن قتلوه قبيل الإسلام من أبناء الأسود الدّيلي : ذؤيب وسلمى وكلثوم. فأبى عليه بعض بني بكر وتابعه بعضهم ، ومنهم بنو نفاثة من بني بكر ، فكلّموا أشراف قريش أن يعينوهم بالسلاح والرجال لقتال عدوّهم من خزاعة ، وذكّروهم بالقتلى منهم على يد خزاعة ، وبدخولهم في عقدهم وعهدهم ، وأنّ خزاعة انحازت إلى عقد محمد وعهده.

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٣١.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٧٨١.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٧٨٣.

(٤) إعلام الورى ١ : ٢١٥ ومغازي الواقدي ٢ : ٧٨٢.


فأما أبو سفيان فإمّا لم يشاوروه ، أو شاوروه فأبى عليهم ، وأما سائر القوم فقد أسرعوا لهم. وأما خزاعة فانهم كانوا في دعة وأمان من عدوّهم لما حجز الإسلام بينهم ، ولو كانوا يخافون هذا لكانوا على حذر وعدة فتواعدت قريش فيما بينهم سرّا لئلا تخبر خزاعة فتحذر ، فتواعدوا على ماء لخزاعة يسمّى الوتير ، فوافوا للميعاد ، وفيهم رجال من كبار قريش متنقّبين متنكّرين : صفوان بن أميّة ، ومكرز بن حفص ، وحويطب بن عبد العزّى ، وجلبوا معهم أرقّاءهم ، فبيّتوا خزاعة ليلا ، فقتلوا منهم رجلا يقال له منبّه ، ثم لم يزالوا يقاتلونهم حتى انتهوا بهم إلى علائم حدود الحرم (من قبل عرفات).

فلما انتهوا إلى الحرم قال بنو بكر لقائدهم نوفل الدّيلي : يا نوفل ، إلهك ، إلهك ، قد دخلنا الحرم! فقال نوفل : لا إله لي اليوم يا بني بكر! أصيبوا ثاركم! فلعمري انكم قد كنتم تسرقون الحاجّ في الحرم ، أفلا تدركون ثاركم فيه من عدوّكم؟! لا يؤخّر أحد منكم بعد اليوم من ثاره.

وانتهوا بهم في عماية الصبح إلى مكة ، فدخل الخزاعيون إلى دار الخزاعيّين في مكة : بديل بن ورقاء ورافع مولاهم (١). فانصرف عنهم القرشيون إلى منازلهم وقد قتلوا منهم ثلاثة وعشرين رجلا (٢).

ثم إنهم حضروا وحصروا خزاعة في دار رافع وبديل يريدون قتل من بقي منهم (٣) ثم مشى الحارث بن هشام وقد حبسوهم ثلاثة ايام لم يكلّموا فيهم (٤) وعبد الله ابن أبي ربيعة المخزوميّان إلى صفوان بن أميّة وعكرمة بن أبي جهل

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٣١ ـ ٣٣ ومغازي الواقدي ٢ : ٧٨٣.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٧٨٧.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٧٨٤.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٧٩٢.


المخزومي ، فلاموهم على عونهم بني بكر فيما صنعوا ، وذكّروهم أن هذا نقض لما بينهم وبين محمد من عقد وعهد ومدّة. وتولّى سهيل بن عمرو أن يكلم نوفل بن معاوية الدّيلي فقال له : قد رأيت ما قتلت من القوم وأنت اليوم قد حضرتهم وحصرتهم تريد قتل من بقي منهم! هذا ما لا نطاوعك عليه! فاتركهم لنا. فقال : نعم. فتركهم ، فخرجوا (١).

ندوة قريش للمشورة :

قال الواقدي : ومشى الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي ربيعة إلى أبي سفيان فقالا له : هذا أمر لا بدّ أن يصلح ، والله لئن لم يصلح هذا الأمر لا يروعكم إلا محمد في أصحابه!

فلما علم أبو سفيان بما وقع من الشر قال : هذا والله أمر لم أشهده ، ولم أغب عنه .. والله ما شوررت ، ولا هويت حيث بلغني! إن صدقني ظنّي ـ وهو صادقي ـ فو الله ليغزونا محمد (٢).

وكان عبد الله بن سعد بن أبي سرح قد ارتدّ عن الإسلام وتعرّب بعد الهجرة ، فكان يومذاك حاضرا هناك فقال : إنّ عندي رأيا : إنّ محمدا ليس يغزوكم حتى يعذر إليكم ويخيّركم في خصال كلها أهون عليكم من غزوه. قالوا : ما هي؟ قال :

ـ يرسل : أن أدّوا (سلّموا دية) قتلى خزاعة ، وهم ثلاثة وعشرون رجلا.

ـ أو : تبرءوا من حلف من نقض العهد بيننا بنو نفاثة (من بني بكر من كنانة).

ـ أو ننبذ إليكم الحرب.

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٨٤.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٧٨٥.


فما عندكم في هذه الخصال؟ فقال سهيل بن عمرو : ما خصلة أيسر علينا من التبرّؤ من حلف بني نفاثة. وقال شيبة : لا ، ولكنّا ندي (نؤدّي دية) قتلى خزاعة فهو أهون علينا. فقال قرطة بن عبد عمرو : لا والله لا يودون ، ولا نبرأ من حلف نفاثة ، فهم أعمدة لشدّتنا ، ولكن ننبذ إليه على سواء! فقال أبو سفيان : ما هذا بشيء! وما الرأي إلّا جحد هذا الأمر أن تكون قريش قد دخلت في نقض عهد وقطع مدّة ، فان قطعه قوم بغير هوى منّا ولا مشورة فما علينا؟! قالوا : هذا الرأي ، لا رأي غيره ، الجحد لكلّ ما كان من ذلك. فقال : وإنّي لم أشهده ولم اوامر فيه ، وأنا في ذلك صادق ، لقد كرهت ما صنعتم ، وعرفت أن سيكون له يوم مظلم! فقالوا له : وأنت تخرج بذلك! (١).

وقال : ما لي بدّ أن آتي محمدا قبل أن يبلغه هذا الأمر فاكلّمه ليجدّد العهد ويزيد في الهدنة. فقالوا : قد والله أصبت الرأي. فأسرع الخروج أبو سفيان (٢) بعد يومين ، أي خمسة أيام بعد مقتل خزاعة (٣) مع مولى له على راحلتين ، وهو يرى أنه أول من خرج من مكة إلى رسول الله (٤) هذا وقد سبقه عمرو بن سالم الخزاعي الكعبي.

استنصار خزاعة بالرسول :

روى الواقدي عن حزام الكعبي الخزاعي عن آبائه قال : كان عمرو بن سالم

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٨٧ ، ٧٨٨.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٧٨٥.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٧٩٢.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٧٨٥.


الكعبي الخزاعي رأس خزاعة ، فخرج في اربعين راكبا من خزاعة (١) صبح الواقعة (٢) يخبرون رسول الله بالذي أصابهم ، وأن صفوان بن اميّة حضر ذلك في رجال من قومه متنكّرين فقاتلوهم بأيديهم ، وأعانوهم بالرجال والسلاح والكراع ، فهم يستنصرون رسول الله عليهم. فقدم على رسول الله المدينة ، ودخلوا مسجده وهو جالس بين ظهراني الناس ، وقام يستأذن النبيّ ينشده شعرا ، فأذن له ، فقال :

لا همّ إني ناشد (٣) محمّدا

حلف أبينا وأبيه الأتلدا (٤)

قد كنتم ولدا وكنّا والدا (٥)

ثمّت أسلمنا (٦) ولم ننزع يدا

فانصر هداك الله نصرا أعتدا (٧)

وادع عباد الله يأتوا مددا

فيهم رسول الله قد تجرّدا (٨)

إن سيم خسفا وجهه تربّدا

في فيلق كالبحر يجري مزبدا (٩)

إنّ قريشا اخلفوك الموعدا

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٨٩.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٧٩٢.

(٣) ناشد : طالب.

(٤) الأتلد : الأقدم ، وابوه الأقدم جدّه عبد المطّلب.

(٥) لا يعني الولد الذكر بل الوالدة ، فوالدة قصيّ : فاطمة بنت سعد الخزاعية ، ووالدة عبد مناف منهم أيضا. فهذه الأواصر هي التي استتبعت الحلف مع عبد المطلب.

(٦) لم يثبت إسلام عمرو بن سالم يومئذ ، نعم كان قد أسلم بعضهم ولم يهاجر ، ولعله يعني : اسلم بعضنا وسالم سائرنا.

(٧) أعتد : المعدّ الحاضر.

(٨) تجرّد للأمر : تهيأ وأعدّ واستعد ، وشمّر فجرد ساعديه.

(٩) الفيلق : العسكر الكثير. المزبد : الهائج المائج.


ونقّضوا ميثاقك المؤكّدا

وجعّلوا لي في كداء رصّدا (١)

هم بيّتونا بالوتير هجّدا (٢)

نتلوا القرآن ركّعا وسجّدا (٣)

وزعموا أن لست أدعو أحدا

وهم أذلّ وأقلّ عددا

فلما فرغ ، قال الركب لرسول الله : إنّ أنس بن زنيم الدّيلي (النفاثي البكري من كنانة) قد هجاك. فأهدر رسول الله دمه (٤).

وقال لعمرو بن سالم : نصرت يا عمرو بن سالم (٥). ثم قال : لكأنكم بأبي سفيان قد جاء يقول : جدّد العهد ، وزد في الهدنة! وهو راجع بسخطه (٥).

ثم عرضت سحابة في السماء ، فنظر إليها رسول الله وتفأّل بها فقال : إن هذه السحابة لتستهلّ بنصر بني كعب (من خزاعة) (٧). ثم قام وهو يجرّ طرف ردائه ويقول : لا نصرت إن لم أنصر بني كعب! ثم قال لعمرو بن سالم وأصحابه : ارجعوا وتفرّقوا في الأودية (٨) (لئلا يعلم خبرهم). ثم دخل دار ميمونة بنت الحارث الهلالية (التي تزوّجها في عمرة القضاء) وقال : اسكبوا لي ماء. فجعل يغتسل ويقول : لا نصرت إن لم أنصر بني كعب! (٩).

__________________

(١) كداء : جبل بمكة قرب المعلاة والحجون. رصّد : جمع الراصد.

(٢) هجّد : جمع الهاجد : النائم والقائم من الأضداد.

(٣) القران بتخفيف الهمزة ، ويعني من قتل منهم مسلما من القتلى ٢٣ شخصا ، ولم يعرف من هو المسلم منهم.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٧٨٩. وابن اسحاق في السيرة ٤ : ٣٦ واعلام الورى ١ : ٢١٥.

(٥) و (٦) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٣٧.

(٧) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٣٧. ومجمع البيان ١٠ : ٨٤٥.

(٨) مغازي الواقدي ٢ : ٧٩١.

(٩) إعلام الورى ١ : ٢١٥. ورواها الواقدي عن عائشة في بيتها. قال ابن اسحاق :


لقاء أبي سفيان بالخزاعيّين :

روى الواقدي عن حزام الكعبي الخزاعي قال : لما بلغ الكعبيون الخزاعيون الأبواء في رجوعهم من المدينة إلى مكة ، لزم بديل بن ورقاء منهم الطريق ، وذهبت طائفة منهم (مع عمرو بن سالم) إلى الساحل.

وكان أبو سفيان قد خرج من مكة وهو متخوّف أن يكون عمرو بن سالم وأصحابه قد جاءوا رسول الله ، فلما لقي أبو سفيان بديل الخزاعي في نفر معه أشفق أن يكون بديل قد جاء محمدا. فقال لهم : أخبروني منذ كم عهدكم بيثرب؟ فقالوا : لا علم لنا بها. فعرف أنهم كتموه. فقال : أما معكم شيء من تمر يثرب تطعموناه! فإن تمرهم أفضل من تمر تهامة. قالوا : لا. ثم أبت نفسه أن تقرّه .. فقال لبديل : يا بديل ، هل جئت محمدا؟ قال : لا ، ولكنّي سرت في بلاد كعب وخزاعة من هذا الساحل في قتيل كان بينهم ، فأصلحت بينهم. فقال أبو سفيان : انك والله برّ واصل.

ثم تناوم القيلولة معهم حتى راح ـ بعد العصر ـ بديل وأصحابه.

فقام أبو سفيان إلى محلّ نزولهم فأخذ من أبعار إبلهم ففتّه فوجد فيها نوى فجعل يقول : احلف بالله لقد جاء القوم محمدا (١).

__________________

ـ وخرج بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله فأخبروه بما أصاب منهم بنو بكر ومظاهرة قريش لهم عليهم ، ثم انصرفوا راجعين. فلقوا أبا سفيان بعسفان ـ ٤ : ٣٧. وذكر الواقدي مواجهة بديل لأبي سفيان في رجوعه من المدينة ، ولكنه جعله ممن كان مع عمرو بن سالم ـ ٢ : ٧٩١. وهذا هو الأقرب من وفدين من خزاعة لذلك.

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٩١ ، ٧٩٢. وابن اسحاق في السيرة ٤ : ٣٧ مختصرا. ونحوه في مجمع البيان ١٠ : ٨٤٥.


ابو سفيان في المدينة :

مرّ في الأخبار السابقة أن أبا سفيان كان في مكة حين نقض قريش لعهد الحديبية. وجاء فيما رواه الطبرسي في «إعلام الورى» عن أبان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي ، عن عيسى بن عبد الله الأشعري القمي ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : انتهى الخبر (بنقض قريش) إلى أبي سفيان وهو بالشام ، فأقبل حتى دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : يا محمد ، احقن دم قومك ، وأجر بين قريش ، وزدنا في المدة. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أغدرتم يا أبا سفيان؟ قال : لا. قال : فنحن على ما كنّا عليه. فخرج. فلقي أبا بكر ، فقال له : يا أبا بكر ، أجر بين قريش. قال أبو بكر : ويحك! وأحد يجير على رسول الله؟! ثم لقي عمر ، فقال له مثل ذلك (فأجابه بمثل ذلك أيضا).

ثم خرج فدخل على أم حبيبة (ابنته) فذهب ليجلس على الفراش ، فأهوت إلى الفراش فطوته! فقال لها : يا بنيّة ، أرغبة بهذا الفراش عنّي؟! قالت : نعم ، هذا فراش رسول الله ما كنت لتجلس عليه وأنت رجس مشرك (١).

فعدل إلى بيت أمير المؤمنين عليه‌السلام فاستأذن عليه فأذن له ، فقال له : يا علي ، انك أمسّ القوم بي رحما وأقربهم منّي قرابة! وقد جئتك ، فلا أرجعنّ كما جئت خائبا ، اشفع لي إلى محمد في ما قصدته. فقال عليه‌السلام : ويحك يا أبا سفيان ، لقد عزم رسول الله على أمر ما نستطيع أن نكلّمه فيه!

فالتفت أبو سفيان إلى فاطمة عليها‌السلام فقال لها : يا بنت محمد ، هل لك أن تأمري ابنيك أن يجيرا بين الناس ، فيكونا سيدي العرب إلى آخر الدهر! فقالت : ما بلغ بنيّاي أن يجيرا بين الناس ، وما يجير أحد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ٢١٧ ونحوه في مجمع البيان ١٠ : ٨٤٥.


فأقبل على علي عليه‌السلام فقال : يا أبا الحسن ، أرى الامور قد التبست عليّ ، فانصح لي! فقال له علي عليه‌السلام : ما أرى شيئا يغني عنك ، ولكنّك سيّد بني كنانة (١) فقم فأجر بين الناس ، ثم الحق بأرضك! قال : فترى ذلك مغنيا عني شيئا؟ قال : لا والله ، ولكنّي لا أجد لك غير ذلك.

فقام أبو سفيان في المسجد فقال : أيها الناس ، إني قد أجرت بين الناس. ثم خرج (٢).

وروى مثله ابن اسحاق (٣) والواقدي وزاد : وكان قد طالت غيبته وأبطأ على قريش ، فاتهموه يقولون فيه : إنا نراه قد صبا فسيتبعه ويكتم إسلامه سرّا!

وبلغ بيته ليلا ، فلما دخل على هند قالت له : لقد حبست حتى اتّهمك قومك! فان كنت ـ مع طول الإقامة ـ جئتهم بنجح فأنت الرجل! فدنا وجلس إليها مجلس الرجل من امرأته ، فقالت : ما صنعت؟ فأخبرها خبره حتى قال : لم أجد إلّا ما قال لي عليّ! فقالت : قبّحت من رسول قوم! وضربت برجلها في صدره! فشعر من ذلك بشدة اتّهامه ، وأراد أن يبرأ إلى قريش من ذلك ، فلما أصبح حمل معه ذبيحة إلى الصنمين إساف ونائلة ، فحلق رأسه عندهما ثم ذبح لهما وأخذ يمسح رءوسهما بدم ذبيحته لهما وهو يقول لهما : لا افارق عبادتكما حتى أموت على ما مات عليه أبي! يريد بذلك أن يبرأ إلى قريش مما اتهموه به (٤).

فاجتمع إليه جمع من قريش فقالوا له : ما وراءك؟ قال : جئت محمدا

__________________

(١) يخصّه عليه‌السلام ببني كنانة لعله يعرّض به أن النقض كان منهم.

(٢) الإرشاد ١ : ١٣٢ ، ١٣٣ ومثله في إعلام الورى ١ : ٢١٧ ـ ٢١٨ بالرواية عن عيسى بن عبد الله الأشعري القمي عن الصادق عليه‌السلام. ونحوه في مجمع البيان ١٠ : ٨٤٦.

(٣) سيرة ابن هشام ٤ : ٣٨ ، ٣٩.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٧٩٥.


فكلّمته ، فو الله ما ردّ عليّ شيئا! ثم جئت ابن أبي قحافة ، فلم أجد فيه خيرا؟ ثم لقيت ابن الخطّاب فوجدته فظّا لا خير فيه! ثم أتيت عليا فوجدته ألين القوم لي ، وقد أشار عليّ بشيء فصنعته ، وو الله ما أدري يغني عنّي شيئا أم لا؟ فقالوا له : بما أمرك؟ قال : أمرني أن اجير بين الناس ففعلت. فقالوا له : فهل أجاز ذلك محمد؟ قال : لا. قالوا : ويلك ، والله ما زاد الرجل على أن لعب بك! فما يغني عنك؟

فقال أبو سفيان : لا والله ما وجدت غير ذلك! (١).

الاهتمام بفتح مكة بلا إعلام :

ثم أجمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على المسير إلى مكة (٢) وقال لعائشة : جهّزينا ، وأخفي أمرك! (٣) وقال : اللهم خذ العيون من قريش حتى نأتيها في بلدها (٤).

فدخل أبو بكر على ابنته عائشة وهي تعمل سويقا تمرا ودقيقا (٥). فقال : أي بنيّة ، أأمركم رسول الله أن تجهّزوه؟ قالت : نعم ، فتجهّز! قال : فأين ترينه يريد؟ قالت : والله ما أدري (٦) هذا عند ابن اسحاق.

__________________

(١) الإرشاد ١ : ١٣٣ ، ١٣٤. ومثله في إعلام الورى بالرواية عن عيسى بن عبد الله الأشعري القمي عن الصادق عليه‌السلام. ونحوه في مجمع البيان ١٠ : ٨٤٦ وابن اسحاق في السيرة ٤ : ٣٨ ، ٣٩. ومغازي الواقدي ٢ : ٧٩٥.

(٢) إعلام الورى ١ : ٢١٦.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٧٩٦.

(٤) إعلام الورى ١ : ٢١٦ وابن اسحاق في السيرة ٤ : ٣٩ ومغازي الواقدي ٢ : ٧٩٦. هذا ، وسيأتي أن المسلمين مع الرسول لم يكونوا يعلمون غايته.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٧٩٦.

(٦) هذا ، ولا يستلزم ذلك الكتمان ولا سيّما مع اليمين!


وقال الواقدي : فقال : يا عائشة ، أهمّ رسول الله بغزو؟ قالت : ما أدري. فقال : إن كان رسول الله همّ بسفر فآذنينا نتهيّأ له. قالت : ما أدري ، لعلّه يريد بني سليم ، لعلّه يريد ثقيفا ، لعلّه يريد هوازن!

ودخل رسول الله ، فقال له أبو بكر : يا رسول الله أردت سفرا؟ قال : نعم ، قال : فأتجهّز؟ قال : نعم. قال : وأين تريد يا رسول الله؟ قال : قريشا .. قال : أو ليس بيننا وبينهم مدة؟ قال : إنهم غدروا ونقضوا العهد فأنا غازيهم. ثم قال له : أخف ذلك يا أبا بكر ، واطو ما ذكرت لك! (١).

وتجسّست قريش :

روى فرات بن ابراهيم الكوفي في تفسيره عن ابن عباس قال : قدمت سارة مولاة (عمرو بن) هاشم إلى المدينة ، فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن معه من بني عبد المطلب (٢).

وكانت مغنية نائحة ، فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أمسلمة جئت؟ قالت : لا. قال : أمهاجرة جئت؟ قالت : لا. قال : فما جاء بك؟ قالت : كنتم الأصل والعشيرة والموالي ، وقد ذهب مواليّ ، واحتجت حاجة شديدة ، فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني. قال : فأين ذهب شبّان مكة (تغنّي لهم فيعطونها)؟ فقالت : ما طلب منّي بعد وقعة بدر؟ فحثّ رسول الله عليها بني عبد المطّلب فكسوها وأعطوها نفقة (٣). وأمر رسول الله الناس أن يتجهّزوا.

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٩٦.

(٢) تفسير فرات الكوفي : ٤٧٩.

(٣) مجمع البيان ٩ : ٤٠٤ ، ٤٠٥ عن ابن عباس أيضا.


وقال القمي في تفسيره : كان لحاطب بن أبي بلتعة عيال بمكة ، وخافت قريش أن يغزوهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فصاروا إلى عيال حاطب وسألوهم أن يكتبوا إلى حاطب يسألونه عن خبر محمد وهل يريد أن يغزو مكة؟ فكتب عيال حاطب إليه يسألونه عن ذلك. فكتب إليهم حاطب : أن رسول الله يريد ذلك (١) ، ودفع الكتاب إلى (تلك الامرأة) فوضعته في شعرها ومشت.

فنزل جبرئيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبره بذلك (٢).

قال المفيد في «الإرشاد» : فاستدعى أمير المؤمنين عليه‌السلام وقال له : إنّ بعض أصحابي قد كتب إلى أهل مكة يخبرهم بخبرنا ، وقد كنت سألت الله أن يعمّي أخبارنا عليهم. والكتاب مع امرأة سوداء ، وقد أخذت على غير الطريق ، فخذ سيفك والحقها وانتزع الكتاب منها ، وخلّها ، وصر به إليّ (٣).

ثم استدعى الزبير بن العوّام فقال له : امض مع عليّ بن أبي طالب في هذا الوجه. فمضيا ، وأخذا على غير الطريق ، فأدركا المرأة ، فسبق إليها الزبير فسألها عن الكتاب الذي معها ، فأنكرته وحلفت أنه لا شيء معها وبكت. فرجع الزبير إلى علي عليه‌السلام وقال له : يا أبا الحسن ما أرى معها كتابا ، فارجع بنا إلى رسول الله لنخبره ببراءة ساحتها! فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : يخبرني رسول الله أنّ معها كتابا ويأمرني بأخذه منها ، وأنت تقول : إنه لا كتاب معها! ثم تقدم إليها واخترط السيف فقال : أما والله لئن لم تخرجي الكتاب لأكشفنّك ثم لأضربنّ عنقك! فقالت

__________________

(١) وسيأتي نص كتابه.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٣٦١.

(٣) وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبد الله بن أبي رافع عن علي عليه‌السلام قال : إنّ رسول الله بعثني والزبير والمقداد وقال انطلقوا إلى روضة خاخ. مجمع البيان ٩ : ٤٠٥.


له : يا ابن أبي طالب ، إذا كان لا بدّ من ذلك فأعرض بوجهك عنّي. فأعرض بوجهه عنها فكشفت قناعها وأخرجت الكتاب من شعرها.

فأخذه أمير المؤمنين عليه‌السلام وصار به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فأمر أن ينادى بالصلاة جامعة. فنودي في الناس ، فاجتمعوا إلى المسجد حتى امتلأ بهم. فأخذ رسول الله الكتاب بيده وصعد إلى المنبر فقال : أيها الناس ، إني كنت سألت الله عزوجل أن يخفي أخبارنا عن قريش ، وإن رجلا منكم كتب إلى أهل مكة (١) يخبرهم بخبرنا! فليقم صاحب الكتاب وإلّا فضحه الوحي! فلم يقم أحد. فأعاد رسول الله مقالته ثانية قال : ليقم صاحب الكتاب وإلّا فضحه الوحي! فقام حاطب بن أبي بلتعة وهو يرعد كالسعفة في يوم الريح العاصف فقال : يا رسول الله ، أنا صاحب الكتاب ، وما أحدثت نفاقا بعد إسلامي ولا شكّا بعد يقيني! فقال له النبيّ : فما الذي حملك على أن كتبت هذا الكتاب؟ فقال : يا رسول الله ، إنّ لي بمكة أهلا وليس لي بها عشيرة ، فأشفقت أن تكون الدائرة لهم علينا فيكون كتابي هذا كفّا لهم عن أهلي ويدا لي عندهم ، ولم أفعل ذلك لشكّ في الدين. فقال عمر بن الخطّاب : يا رسول الله مرني بقتله فانه قد نافق! فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّه من أهل بدر ، ولعلّ الله اطّلع عليهم فغفر لهم.

ثم قال : أخرجوه من المسجد! فجعل الناس يدفعون في ظهره حتى أخرجوه وهو يتلفّت إلى النبيّ ليرقّ له ، فأمر صلى‌الله‌عليه‌وآله بردّه وقال له : قد عفوت عنك وعن جرمك ، فاستغفر ربّك ولا تعد لمثل ما جنيت (٢).

__________________

(١) كذا في هذا الخبر ، وهو يتضمن نقض الغرض من كتمان الخبر على أهل مكة ، فكيف يعلن به؟!

(٢) الإرشاد ١ : ٥٧ ـ ٥٩ ومثله في التبيان ٩ : ٥٧٥ ، ٥٧٦. والطبرسي روى الخبر عن ابن عباس ٩ : ٤٠٥. ولفظ المفيد يفيد أن حاطبا قد جنى وأجرم وعليه أن يستغفر ربّه


وروى الكوفيّ في تفسيره الخبر عن ابن عباس وفيه : أنها قالت لهما : فلله عليكما الميثاق إن أعطيتكما الكتاب أن لا تقتلاني ولا تصلباني ولا تردّاني إلى المدينة. فقالا : نعم. فأخرجته من شعرها. فخلّيا سبيلها. ورجعا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأعطياه الصحيفة فاذا فيها : «من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة : إنّ محمدا قد نفر ، وإنّي لا أدري إياكم اريد أو غيركم ، فعليكم بالحذر». فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأتاه فقال له : يا حاطب ، تعرف هذا الكتاب؟ قال : نعم! قال : فما حملك عليه؟ فقال : أما والذي أنزل عليك الكتاب ، ما كفرت منذ آمنت ، ولا أجبتهم منذ فارقتهم ، ولكن لم يكن أحد من أصحابك إلّا وله بمكة عشيرة تمنعه فأحببت أن أتّخذ عندهم يدا. ثم قد علمت أن الله ينزل بهم بأسه ونقمته ، وأنّ كتابي لا يغني عنهم شيئا!

فصدّقه رسول الله وعذّره. فأنزل الله تعالى على رسوله من (سورة الممتحنة) :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ* إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ* لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(١) * قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ

__________________

ـ هذا إن صح الخبر ، وسيأتي أن هذا الخبر يتضمن نقض الغرض من كتمان المرام على أهل البلد الحرام وأن الراجح الخبر التالي عن تفسير فرات الكوفي مما لا يتضمن نقض الغرض والاعلام. ولعلّ هذا هو السرّ في إعراض الطبرسي في مجمع البيان عمّا في التبيان.

(١) تفسير فرات الكوفي : ٤٨٠ والقمي ٢ : ٣٦٢ والتبيان ٩ : ٥٧٥ و ٥٧٦ ومجمع البيان


حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ* رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ* عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

قال الطوسي : ومنع رسول الله أن يخرج أحد من المدينة إلى مكة (١) وزاد الطبرسي : ووضع حرسا على المدينة وعليهم حارثة بن النعمان (٢).

__________________

ـ ٩ : ٤٠٤. والآية الأخيرة هي الثالثة في السورة ، والذي نصّ على هذا الموضع في نزول الآيات هو القمي ، بينما الآيات متصلة المعاني حتى آخر التاسعة ، ونصّ على هذا ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٤١. وروى الواقدي الخبر فأشرك الزبير في جدّ علي عليه‌السلام.

مغازي الواقدي ٢ : ٧٩٧ ، ٧٩٨.

(١) التبيان ٩ : ٥٧٥.

(٢) إعلام الورى ١ : ٢١٧ وفي مغازي الواقدي ٢ : ٧٩٦ هو عمر بن الخطاب. هذا ، وسيأتي في الأخبار أن الناس لم يكونوا يعلمون بوجه رسول الله حتى ما بعد منزل العرج في الطريق ، والآيات من سورة الممتحنة غير صريحة ، وعليه فيترجّح خبر الكوفي عن ابن عباس ، ولا ينسجم هذا مع خبر المفيد ، فانه يفيد الإفادة العامة ، وهو خلاف الفرض ، وانما فيه القول : إنّ الله اطلع على أهل بدر ... فلا يثبت.


المؤمنات المهاجرات :

مرّ في شروط صلح الحديبية : «وأنّه من أتى من قريش إلى أصحاب محمد بغير إذن وليّه ، يردّوه إليه ..» (١).

أما ردّ من أتى أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من رجال قريش بغير إذن وليّه ، فهو داخل في هذا الشرط من شروط صلح الحديبية ، ولم يجر للنساء ذكر صريح في شروط الصلح ، فهل يشملهنّ هذا الشرط كذلك أيضا؟

في سور الذكر الحكيم سورة سمّيت بالممتحنة ، اقتباسا من كلمة في الآية العاشرة من السورة وهي قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

وقد مرّ الخبر عن الآيات الأوائل من السورة حتى الآية التاسعة منها قبل هذه الآية : انها نزلت في محاولة حاطب بن أبي بلتعة أن ينذر أهل مكة بخطر غزو النبيّ لهم (٢) وعليه فنزولها بعد الحديبية وعمرة القضاء قبيل فتح مكة.

ومع ذلك رووا عن مقاتل عن ابن عباس : أنهم لما صالحوا بالحديبية وختموا الكتاب جاءتهم سبيعة بنت الحرث الأسلمية زوج صيفي بن الراهب أو مسافر المخزومي ، جاءتهم مسلمة وزوجها كافر مشرك ، وأقبل زوجها في طلبها فقال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا محمد ، انّك قد شرطت لنا أن تردّ علينا منّا ، وهذه طينة الكتاب

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٣١٤.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٣٦٢ وفرات الكوفي : ٤٨٠ وسيرة ابن هشام ٤ : ٤١.


لم تجفّ بعد ، فاردد عليّ امرأتي ، فنزلت الآية التالية العاشرة في السورة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) فاعطى رسول الله زوجها مهرها وما انفق عليها ولم يردها (١) وهذا يقتضي أن هذه الآية العاشرة في السورة كانت قد نزلت قبل الآيات التسعة السابقة بعامين تقريبا.

وروى الطوسي في «التبيان» عن عروة بن الزبير في سبب نزول الآية قال : هاجرت كلثم بنت أبي معيط مسلمة إلى المدينة ، فجاء أخواها فسألا رسول الله أن يردّها ، فنهى الله تعالى ان تردّ إلى المشركين (٢) وحكاه الطبرسي في «مجمع البيان» عن الجبّائي قال : إن رسول الله قال لهما : إن الشرط بيننا في الرجال لا في النساء. وزاد عن الزهري : اميمة بنت بشر فرّت من زوجها الكافر ثابت بن الدحداحة إلى المدينة وأسلمت ، فزوّجها رسول الله سهل بن حنيف ، فهي أمّ عبد الله بن سهل. وأروى بنت ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب زوج طلحة بن عبيد الله ، كانت كافرة فهاجر عنها طلحة ، ثم فرّت إلى رسول الله (ولم يستردّها طلحة) فزوّجها رسول الله خالد بن سعيد بن العاص بن اميّة (٣) وهذه الموارد تنسجم مع نزول الآيات متواليات.

والآية لما حكمت : (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) علّلت ذلك بالتالي : (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) ويتبعه الحكم التالي أيضا : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) أي الكافرات ، وقال القمي في تفسيره : كان سبب نزول ذلك : أنّ عمر ابن الخطاب كانت عنده فاطمة بنت أبي اميّة بن المغيرة المخزومي فكرهت الإسلام

__________________

(١) مجمع البيان ٩ : ٤١٠.

(٢) التبيان ٩ : ٥٨٤.

(٣) مجمع البيان ٩ : ٤١١.


والهجرة مع عمر وأقامت مع المشركين ، وبهذا فرّق الإسلام بينهما ، فتزوّجها معاوية ابن أبي سفيان (١) وحكاه الطبرسي في «مجمع البيان» عن الزهري وزاد له امرأة اخرى هي أمّ كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعي أمّ عبد الله بن عمر ، فتزوّجها أبو جهم بن حذافة العدوي (٢) فأمر رسول الله أن يعطى عمر مثل صداقهما (٣) من الغنائم ، عملا بالآية التالية : (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ).

والآية التالية : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ ...) سيأتي الحديث عنها أنها نزلت في بيعة نساء قريش لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد فتح مكة.

وعليه فالآيات متواليات في النزول والحوادث ، غاية الأمر أن هذا يقتضي هجرة هؤلاء النسوة في فترة متلاحقة بعد محاولة حاطب بن أبي بلتعة وقبل الفتح ، ومع هذا فلا غرابة في الأمر. ولا نجد فيما بايدينا من التاريخ أيّ خبر عن احتجاج المشركين على هذا التفسير لهذا الشرط من الصلح : (ردّ الرجال دون النساء) مما كان من الممكن للمشركين أن يعتبروه نقضا للصلح. ولكنّهم علموا أن نقضهم له كان قبل هذا ، فلا ينفعهم هذا الاحتجاج شيئا وهم اليوم يحاولون توثيق الصلح ، فسكتوا عن ذلك.

نزول سورة النصر :

روى الطوسي في «التبيان» عن الحسن ومجاهد : أن سورة النصر وعد من

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٣٦٣.

(٢) مجمع البيان ٩ : ٤١٠ ، ٤١١.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٣٦٣.


الله لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بفتح مكة ونصرته على كفّار قريش قبل وقوع الأمر وعن قتادة : إنمّا عاش النبيّ بعد هذا سنتين ثم توفي (١).

وفي الخبر المعتمد في ترتيب نزول السور ترتيبها الثانية بعد المائة بعد الحشر وقبل النور ، وبعد الممتحنة بعشر سور (٢).

التعمية على قريش بسرية أبي قتادة :

قال الواقدي : وبعث رسول الله أبا قتادة بن ربعي في ثمانية نفر إلى بطن إضم (في طريق مكة إلى اليمامة) ليظن الناس أنه يتوجّه إليها وينتشر الخبر بذلك. فروى

__________________

(١) التبيان ١٠ : ٤٢٥ و ٤٢٦ ومختصره في مجمع البيان ١٠ : ٨٤٤.

(٢) التمهيد ١ : ١٠٧ و ١٠٦. وروى الواقدي عن الزهري قال : افتتح رسول الله مكة لثلاث عشرة مضت من شهر رمضان وأنزل الله تعالى : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) ٣ : ٨٨٩.

وروى الواحدي بسنده عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما رجع صلى‌الله‌عليه‌وآله من غزوة حنين أنزل الله عليه : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) : ٤٠١ وذلك بعد فتح مكة أيضا.

وروى الكليني في الكافي ٢ : ٦٢٨ والصدوق في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٦ عن أبيه عن جده الصادق عليه‌السلام قال : إن .. آخر سورة نزلت (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) وهذا يقرّب قول القمي في تفسيره ٢ : ٤٤٦ : نزلت بمنى في حجة الوداع. وما رواه الطبرسي في مجمع البيان ١٠ : ٨٤٤ عن ابن عباس قال : لما نزلت (إِذا جاءَ ..) قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : نعيت إليّ نفسي بأنها مقبوضة في هذه السنة. وما رواه عن مقاتل قال : وتسمى هذه السورة سورة التوديع. وينافي ما رواه فيه عنه أيضا قال : لما نزلت هذه السورة قرأها صلى‌الله‌عليه‌وآله على أصحابه ففرحوا واستبشروا (؟) وبكى عمه العباس! فقال له : ما يبكيك يا عمّ؟ فقال : أظنّ أنه قد نعيت إليك نفسك يا رسول الله. فقال : إنه لكما تقول. قال مقاتل : فعاش بعدها سنتين! ورواهما الطبرسي ولم يعلّق بشيء.


هو وابن اسحاق عن ابن أبي حدرد ، وكان أحد هذه السريّة قال : مرّ بنا عامر بن الأضبط الأشجعي فسلّم علينا تحيّة الإسلام ، وكان بينه وبين محلّم بن جثّامة شيء من سابق ، ومحلّم كان معنا ، فحمل عليه فقتله وسلبه (١).

نفير عام بلا إعلام :

وعزم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على المسير إلى مكة ، فأرسل إلى من حوله من المسلمين في البادية يقول لهم : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحضر رمضان بالمدينة (٢) ودعا رئيس كل قوم فأمره أن يأتي قومه فيستنفرهم (٣).

فروى الواقدي : أنه أرسل أسماء وهند ابني حارثة إلى بني أسلم يقولان لهم : إنّ رسول الله يأمركم أن تحضروا رمضان بالمدينة.

وأرسل رافعا وجندبا ابني مكيث إلى جهينة يأمرهم أن يحضروا رمضان بالمدينة.

وأرسل إيماء بن رحضة وكلثوم بن الحصين الغفاريين إلى بني غفار وضمرة.

وبعث إلى أشجع : نعيم بن مسعود ومعقل بن سنان الأشجعيّين.

__________________

(١) قال الواقدي : ثم لم يلق القوم جمعا حتى انصرفوا راجعين فلما انتهوا إلى ذي خشب (على ليلة من المدينة) بلغهم أن رسول الله قد توجه إلى مكة ، فالتحقوا به في السقيا. قال ابن أبي حدرد : فلما لحقنا النبيّ نزل فينا القرآن : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) النساء : ٩٤. مغازي الواقدي ٢ : ٧٩٧ وابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٧٥ وانما قال عن السريّة إنها كانت قبيل الفتح. وفي نهاية غزوة حنين يطالب بدمه ، وسيأتي خبره هناك.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٧٩٩.

(٣) إعلام الورى ١ : ٢١٨ ـ ٢١٩.


وبعث إلى مزينة : بلال بن الحارث وعبد الله بن عمرو المزنيّين.

وبعث إلى بني سليم : الحجّاج بن علاط ، وعرباض بن سارية السلميّين.

وبعث إلى بني كعب من خزاعة : بديل بن ورقاء وبسر بن سفيان الخزاعيّين.

وجعل المعسكر بئر أبي عنبة (١). كل ذلك بلا إعلام بالغاية والمرام!

خروج الرسول إلى مكة :

قال الطبرسي : واستخلف على المدينة أبا لبابة بن المنذر (٢) وخرج يوم الجمعة بعد العصر لليلتين من شهر رمضان (٣).

وروي عن الباقر عليه‌السلام قال : خرج رسول الله في غزوة الفتح .. ومعه نحو من عشرة آلاف رجل ، ونحو من أربعمائة فارس (٤).

وفصّل الواقدي فقال : كانت الأنصار أربعة آلاف معهم من الخيل خمسمائة ، وكان المهاجرون سبعمائة معهم من الخيل ثلاثمائة فرس. ومن القبائل كانت مزينة ألفا فيها من الخيل مائة فرس ، وكانت جهينة ثمانمائة معها من الخيل خمسون فرسا. وكانت أسلم أربعمائة فيها ثلاثون فرسا. وخرج معه من بني كعب من خزاعة من كان بالمدينة ، ولقيه سائرهم بالقديد فكانوا خمسمائة. وقدّم رسول الله أمامه الزبير بن

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٩٩ ، ٨٠٠.

(٢) وقال ابن اسحاق : ابا رهم كلثوم بن حصين الغفاري. سيرة ابن هشام ٤ : ٤٢. ومثله في مجمع البيان ١٠ : ٨٤٦ مصحفة في ط الأخيرة : أبا ذر.

(٣) وقال الواقدي : يوم الأربعاء لعشر خلون من رمضان. وروى الواقدي بسنده عن أمّ سلمة زوج النبي قالت : خرجت معه صلى‌الله‌عليه‌وآله في فتح مكة ، فلما بلغنا ذا الحليفة اغتسل فضفرت رأسه أربع ضفائر. مغازي الواقدي ٢ : ٨٦٨ وكذلك في ابن هشام.

(٤) إعلام الورى ١ : ٢٠٩.


العوّام في مائتين من المسلمين. وخرج رسول الله والمسلمون عشرة آلاف ممتطين الابل يقودون الخيل ، فما حلّ النبيّ عقدة حتى انتهى إلى الصلصل (١).

روى الواقدي قال : كان قد بلغ الخبر إلى عيينة بن الحصن بنجد : أن العرب قد تجمّعت إلى رسول الله يريدون وجها. فخرج عيينة في نفر من قومه حتى قدم المدينة بعد خروج رسول الله بيومين ، فسلك ركوبة فسبقه إلى العرج. فلما نزل رسول الله العرج جاءه عيينة فقال له : يا رسول الله بلغني أن الناس يجتمعون إليك وأنك تريد الخروج ، ولم أشعر فأجمع قومي فتكون لنا جلبة كثيرة ، وأقبلت سريعا.

ولست أرى هيئة حرب : لا ألوية ولا رايات! فالعمرة تريد؟ فلا أرى هيئة إحرام ، فأين وجهك يا رسول الله؟ قال : حيث يشاء الله.

هذا والناس كذلك لا يدرون أين توجّه رسول الله إلى قريش أو إلى هوازن أو إلى ثقيف؟ فهم يحبّون أن يعلموا. وكان كعب بن مالك الأنصاري أحد شاعري النبيّ ، فقال لأصحابه : سآتي رسول الله فأعلم لكم وجهته. ثم مشى حتى جثا على ركبتيه بين يديه فقال :

قضينا من تهامة كلّ ريب

وخيبر ، ثم أجممنا السيوفا (٢)

نسائلها ، ولو نطقت لقالت :

قواطعهنّ : دوسا أو ثقيفا

فلست لحاضر إن لم تروها

بساحة داركم منها الوفا

فننتزع الخيام ببطن وجّ (٣)

ونترك دورهم منها خلوفا (٤)

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٠٠ ، ٨٠١ والصلصل على سبعة أميال ـ ١٤ كم. وفاء الوفاء ٢ : ٣٣٦ ، ولم يذكر هنا ما رواه في خروج الرسول إلى بدر في شهر رمضان وافطاره في بيوت السقيا قرب المدينة ، وانما يروي الإفطار هنا قبل مكة بمرحلتين ، كما يأتي.

(٢) أجممنا : أرحنا.

(٣) وجّ : اسم موضع قرب مكة.

(٤) خلوفا : خالية.


فلم يزد رسول الله على أن تبسّم له. فلما رجع إلى أصحابه جعل الناس يقولون له : والله ما بيّن لك رسول الله شيئا ، ما ندري بمن يبدي؟ بقريش؟ أو ثقيف؟ أو هوازن؟ وسار رسول الله حتى بلغ السقيا فوجد فيها أنّ الأقرع بن حابس التميمي قد وافاها في عشرة نفر من قومه ، فساروا معه.

وتجسّست هوازن أيضا :

روى الواقدي : أنّ من العرج تقدمت طليعة من الخيل أمام المسلمين ، فلما كانوا بين العرج إلى الطّلوب جاءوا برجل إلى رسول الله وقالوا : كان هذا على راحلته فلما طلعنا عليه تغيّب عنّا في وهدة (منخفض من الأرض) ثم طلع على مرتفع من الأرض ، فركضنا نحوه فأراد أن يهرب منّا .. فقلنا له : ممّن أنت؟ قال : رجل من غفار ، فقلنا من أيّ بني غفار أنت؟ فعيي (عجز عن الجواب) ولم ينفذ لنا نسبا ، فازددنا به ريبة وأسأنا به الظنّ. فقلنا : فأين أهلك؟ قال : قريبا وأومأ إلى ناحية. قلنا : على أيّ ماء؟ ومن معك هنالك؟ فلم ينفذ لنا شيئا ، فلما رأينا ما خلط قلنا : لتصدقنا أو لنضربن عنقك؟ قال : فإن صدقتكم ينفعني ذلك عندكم؟ قلنا : نعم.

فقال : أنا رجل من بني نضر من هوازن ، بعثوني وقالوا : ائت المدينة لتستخبر لنا ما يريد محمد في أمر حلفائه (خزاعة) أيبعث إلى قريش بعثا أو يغزوهم بنفسه؟ .. فان خرج سائرا أو بعث بعثا فسر معه حتى تنتهي إلى بطن سرف ، فان كان يريدنا أوّلا فيسلك في بطن سرف حتى يخرج إلينا ، وإن كان يريد قريشا فسيلزم الطريق. فقال رسول الله : وأين هوازن؟ قال : تركتهم ببقعاء وقد جمعوا الجموع وأجلبوا في العرب ، وبعثوا إلى ثقيف فأجابتهم ، فتركت ثقيفا على ساق قد جمّعوا الجموع ، وبعثوا إلى الجرش (١) ليصنعوا لهم منجنيقا ودبّابات ، ثم هم

__________________

(١) الجرش من مدن اليمن إلى جهة مكة. معجم البلدان ٣ : ٨٤.


سائرون إلى جمع هوازن فيكونون جمعا. فقال رسول الله : وإلى من جعلوا أمرهم؟ قال : إلى فتاهم مالك بن عوف. فقال رسول الله : وأجابت كل هوازن إلى مالك؟ قال : قد أبطأ منهم من بني عامر بنو كعب وبنو كلاب. قال : فما فعل بنو هلال؟ قال : قلّ من آوى إليه منهم.

ثم قال الرجل : وقد مررت أمس بمكة ، وكان قد قدم عليهم أبو سفيان فرأيتهم خائفين وجلين ساخطين مما جاء به من عندك. فقال رسول الله : حسبي الله ونعم الوكيل. ما أراه إلّا صدقني الرجل. فقال الرجل : فلينفعني ذلك.

فخافوا أن يتقدّم الرجل فيحذّر الناس ، فأمر رسول الله خالد بن الوليد أن يوثقه فيحبسه عنده حتى يدخل مكة ، فأخذه خالد (١).

ومن رأفته صلى‌الله‌عليه‌وآله بالحيوان روى الواقدي عن ابن حزم قال : بين العرج والطّلوب نظر رسول الله إلى كلبة حولها أولادها يرضعونها ، فأمر رجلا من أصحابه يدعى جعال بن سراقة الحارثي أن يقوم قربها لئلّا يعرض لها ولأولادها أحد من الجيش (٢).

مناة صنم خزاعة وهذيل :

خرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مكة بحجّة نقض قريش لصلح الحديبية بغارتهم على خزاعة المحالفة له ، وقليل منهم مسلمون وأكثرهم مشركون ، ولهم صنم من الأصنام الكبرى الشهيرة المذكورة في القرآن الكريم بقوله سبحانه : (وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى)(٣).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٠٤ ـ ٨٠٦.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٠٤.

(٣) النجم : ٢٠.


وذكر الكلبي في كتابه «الأصنام» : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لما خرج من المدينة إلى مكة سنة ثمان عام الفتح وسار أربع أو خمس ليال ، بعث عليا عليه‌السلام ليهدم صنم هذيل وخزاعة : مناة ، ويغنم مالها ، فهدمها وغنم مالها ، ومنها سيفان : مخذم والرسوب ، أهداهما لها الحارث بن أبي شمر الغسّاني ملك غسّان ، فوهبهما النبيّ لعلي عليه‌السلام (١).

سابقة سيئتان وحسنتان :

في شأن نزول الآيات ٩٠ ـ ٩٣ من سورة الإسراء مرّ الخبر عن ابن عباس : أن جماعة من قريش اجتمعوا عند الكعبة وبعثوا خلف محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ليخاصموه ، وفيهم عبد الله بن أبي أميّة المخزومي ابن عمّته عاتكة بنت عبد المطلب ، ولما قام النبيّ من بينهم قام معه هذا فقال له : يا محمد! عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله ، ثم سألوك لأنفسهم امورا فلم تفعل ، ثم سألوك أن تعجّل عليهم ما تخوّفهم به فلم تفعل ، فو الله لا أومن بك أبدا حتى تتّخذ سلّما إلى السماء ثم ترقى فيه وأنا أنظر ويأتي معك نفر من الملائكة يشهدون لك ، وكتاب يشهد لك. فأنزل الله الآيات (٢).

وقال القمي في تفسيره : لما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى فتح مكة ، استقبله عبد الله بن أبي أميّة فسلّم على رسول الله ، فأعرض عنه ولم يجبه بشيء. وكانت أمّ سلمة المخزومية اخته مع رسول الله ، فدخل إليها فقال : يا اختي ، إنّ رسول الله قد قبل إسلام الناس كلهم ، وردّ عليّ إسلامي وليس يقبلني كما قبل غيري.

فلما دخل رسول الله إلى أمّ سلمة قالت له : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، سعد بك جميع الناس إلّا أخي من بين قريش والعرب رددت إسلامه وقبلت الناس

__________________

(١) الأصنام للكلبي ١٤ ، ١٥.

(٢) مجمع البيان ٦ : ٦٧٨ ، ٦٧٩ والإشارة إليه في تفسير القمي ٢ : ٢٦ والتبيان ٦ : ٥١٩.


كلهم؟! فقال رسول الله : يا أمّ سلمة ، إنّ أخاك كذّبني تكذيبا لم يكذّبني أحد من الناس ، هو الذي قال لي : «لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل فتفجّر الأنهار خلالها تفجيرا ، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ، أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ، أو يكون لك بيت من زخرف ، أو ترقى في السماء ، ولن نؤمن لرقيّك حتى تنزّل علينا كتابا نقرؤه». فقالت أمّ سلمة : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، ألم تقل : إن الإسلام يجبّ ما قبله؟ قال : نعم ، ثم قبل إسلامه (١).

ولم أر من يذكر دافعا لاقتراب هذا ـ القريب البعيد عن النّبي والإسلام ـ إلى الإسلام والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في خصوص هذه الأيام قبيل فتح مكة ، وأنا لا أستبعد أن يكون ما دفعه لذلك هو ما دفع ابن خاله ـ وابن عمّ النبيّ ـ ابا سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب اخا عبيدة بن الحارث الشهيد ببدر ، وهو ترب النبيّ وأخوه في الرضاعة من حليمة السعدية ، وكان أليف النبيّ قبل بعثته.

قال الواقدي : فلما بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عاداه عداوة لم يعاده بها أحد قط ، ولم يدخل معهم في الشعب ، بل هجا النبيّ ، وهجا حسّان ومنه قوله :

ألا مبلغ حسّان عنّي رسالة

فخلتك من شرّ الرجال الصعالك

ابوك أبو سوء وخالك مثله

فلست بخير من أبيك وخالك (٢)

وطالت عداوته عشرين سنة يهجو المسلمين ويهجونه ، ولا يتخلّف عن قتال قريش لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكان قد أهدر دمه!

فروى الواقدي بسنده عنه قال : قلت في نفسي : من أصحب؟ ومع من

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٢٦ ، ٢٧.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٠٦.


أكون؟ وقد ضرب الإسلام بجرانه (بزمامه ـ استقرّ) فهربت ، وقدمت على قيصر ملك الروم (؟!) فقال لي : ممّن أنت؟ فانتسبت له : أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب. فقال قيصر : ومحمد بن عبد الله بن عبد المطّلب ، فان كنت صادقا فأنت ابن عمّ محمد! فقلت : نعم ، أنا ابن عمّه! ثم قلت في نفسي : لا أرى نفسي لا اعرف عند ملك الروم إلّا بمحمد! وقد هربت من الإسلام. فيومئذ عرفت أن ما كنت فيه من الشرك باطل! ودخلني الإسلام (١) فانصرفت راجعا إلى مكة.

هذا ، وابنه جعفر كان قد أسلم وهجر أباه وهاجر من مكة إلى مدينة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا والنبيّ قد أهدر دم أبيه! وأنا لا أستبعد أن يكون هو أسرّ إلى أبيه بخبر مسير النبيّ وأوعز إليه أن يستبقه فيستقبله بالإسلام ، كما سنراه إلى جانب أبيه شفيعا له لقبول الرسول بإسلامه ، ولا أستبعد أن يكون الخبر قد سرى من أبيه أبي سفيان إلى ابن اخته عبد الله المخزوميّ ، فخرجا.

روى الواقدي عن أبي سفيان قال : جئت إلى أهلي فقلت لهم : تهيّئوا للخروج ، فلقد أظلّ قدوم محمد إليكم! فقالوا له : قد آن لك أن تبصر أن العرب والعجم قد تبعت محمدا (!) وأنت موضع في عداوته! وكنت أولى الناس بنصره! قال : ثم سرنا ، فما نزلنا الأبواء إلا ومقدّمته قد نزلت الأبواء ، وكان النبيّ قد أهدر دمي ، فخفت أن اقتل ، فتنكّرت.

وفي صباح الغداة صبّح رسول الله بالأبواء ، وأقبل معه الناس فرقة فرقة ، فتنحّيت خوفا من أصحابه. فلما طلع مركبه تصدّيت له تلقاء وجهه ، فملأ عينيه مني ثم أعرض بوجهه عنّي! فتحوّلت إلى وجهه فأعرض عني! وهكذا مرارا! ورأى المسلمون إعراض رسول الله عنّي ، فأغرى عمر بن الخطاب بي رجلا من الأنصار

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨١١ ، ٨١٢.


قصيرا أسمر يدعى النعمان بن الحارث من بني النجّار ، فلازمني يقول لي : يا عدوّ الله ، أنت الذي كنت تؤذي رسول الله وتؤذي أصحابه ، قد بلغت مشارق الأرض ومغاربها في عداوته! ورفع صوته علي حتى اجتمع عليّ الناس وهم يفرحون بذلك (١).

وفي الجحفة ـ بعد الأبواء وقبل قديد ـ روى ابن هشام عن ابن شهاب : أن العباس بن عبد المطلب كان قد خرج من مكة مهاجرا بأهله ، فلقي رسول الله بالجحفة وكان قبل ذلك مقيما بمكة على سقايته وتجارته بإذن رسول الله (٢).

وفي الجحفة قال أبو سفيان : دخلت على عمّي العباس فقلت : يا عمّ كفّ عني هذا الرجل الذي يشتمني! قال : صفه لي. فقلت : قصير أسمر بين عينيه شجة ، فعرفه فأرسل إليه يقول : يا نعمان ، إن أبا سفيان ابن عمّ رسول الله وابن أخي ، وإن يكن رسول الله ساخطا فسيرضى ، فكفّ عنه. فكفّ عنّي ، ولكنه لم يتركني. فقلت للعباس : قد كنت أرجو أن سيفرح رسول الله بإسلامي لقرابتي وشرفي (!) وقد كان منه ما رأيت ، فكلّمه ليرضى عنّي. فقال : لا والله .. إنّي اجلّ رسول الله وأهابه ، فلا اكلّمه فيك كلمة أبدا بعد الذي رأيت منه ، إلّا أن أرى وجها. فقلت : يا عمّ إلى من تكلني؟ فقال : هو ذاك.

فلقيت عليا عليه‌السلام فكلّمته ، فقال لي مثل ذلك. فخرجت ، ومعي ابني جعفر ، فجلست على باب منزل رسول الله ، حتى خرج [من](٣) الجحفة ولم يكلّمني ، ولا يراني إلّا أعرض عنّي (٤).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٠٧ ، ٨٠٨.

(٢) سيرة ابن هشام ٤ : ٤٢.

(٣) في الأصل : إلى الجحفة. وهذا يقتضي أن تكون محاورته للعباس قبل الجحفة ، وقد مرّ أن العباس التحق بهم بالجحفة ، وهذا يقتضي أن يكون الصحيح : من الجحفة.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٨٠٦ ـ ٨٠٨.


وروى الطبرسي في «إعلام الورى» أن العباس بن عبد المطّلب تلقّى رسول الله في موضع يدعى : نيق العقاب ، ورسول الله في قبّته (خيمته) وعلى حرسه يومئذ زياد بن اسيد ، ومع العباس ابن أخيه أبو سفيان بن الحارث وابن عمته عبد الله بن أبي أميّة. فاستقبلهم زياد فقال : أما أنت يا أبا الفضل فامض إلى القبّة ، وأمّا أنتما فارجعا. فمضى العباس حتى دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فسلّم عليه وقال : بأبي أنت وأمي ، هذا ابن عمك قد جاء تائبا ، وابن عمتك. قال : لا حاجة لي فيهما ، إن ابن عمّي انتهك عرضي ، وأما ابن عمتي فهو الذي يقول لي بمكة : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً)(١).

فلما خرج العباس كلّمته أمّ سلمة فقالت : بأبي أنت وأمي ، ابن عمك قد جاء تائبا ، فلا يكون أشقى الناس بك. وأخي ابن عمتك وصهرك فلا يكوننّ شقيا بك (٢) ولخبره صلة بعد الفتح.

وفي قديد عقد الألوية :

روى الواقدي بسنده عن عبّاس بن مرداس السّلمي قال : هبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من ثنيّة المشلّل (٣) في آلة الحرب ، ونحن علينا الحديد .. واصطففنا له (٤).

وكان قد أرسل رسول الله إلى بني سليم : الحجّاج بن علاط السّلمي

__________________

(١) سورة الإسراء : ٩٣.

(٢) إعلام الورى ١ : ٢١٩ ونحوه في مجمع البيان ١٠ : ٨٤٦ ومثله في سيرة ابن هشام ٤ : ٤٢ ، ٤٣. والواقدي في المغازي ٢ : ٨١٠ ، ٨١١ بعد النقل الأول.

(٣) ثنيّة مشرفة على قديد. معجم ما استعجم : ٥٦٠.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٨١٣.


وعرباض بن سارية (١) فنفروا من بلادهم وحشّدوا : تسعمائة أو ألفا ، وهم على الخيول جميعا ، مع كل رجل رمحه وسلاحه ، ومعهم الرسولان إليهم ، ولواءان وخمس رايات سود مطوية غير معقودة. وتقدم عيينة بن الحصن فنادى النبيّ من خلفه : أنا عيينة! هذه بنو سليم قد حضرت بما ترى من العدة والعدد والسلاح ، وإنهم لأحلاس الخيل (٢) ورجال الحرب ، ورماة الحدق (٣).

وقال قائلهم : يا رسول الله ، إنك تقصينا وتستغشّنا ونحن أخوالك (٤) فقدّمنا يا رسول الله ، حتى تنظر كيف بلاؤنا ، فانا صبر عند الحرب صدق عند اللقاء ، فرسان على متون الخيل ، فاعقد لنا (لواء) وضع رايتنا حيث رأيت. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : يحمل رايتكم اليوم من كان يحملها في الجاهلية ، فما فعل فتى كان حسن الوجه جيّد اللسان كان قد قدم مع وفدكم عليّ؟ قالوا : مات (٥).

فسلّم رايتهم إلى رسوله إليهم [الحجاج بن علاط السّلمي (٦)] وعقد لواءين لهم فلواء يحمله عباس بن مرداس ، ولواء يحمله خفاف بن ندبة (٧) ثم جعلهم مقدمته مع خالد بن الوليد حتى بلغوا مرّ الظهران (٨). فلما رأى عيينة ذلك عضّ على أنامله! فقال له أبو بكر : علام تندم؟ قال : على قومي أن لا يكونوا نفروا مع محمد فأين

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٩٩.

(٢) الأحلاس جمع الحلس ، وهو جلّ الفرس والبعير.

(٣) أي يرمون حدق العيون.

(٤) ذلك أن أم هاشم بن عبد مناف هي عاتكة بنت مرّة بن هلال السّلمي من بني سليم.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٨١٢ ، ٨١٣.

(٦) المواهب اللدنيّة ٢ : ٣٦٤ عن الواقدي.

(٧) مغازي الواقدي ٢ : ٨١٩.

(٨) مغازي الواقدي ٢ : ٨١٣ وانظر : ٨١٩.


يريد محمد يا أبا بكر! قال : حيث يشاء الله! (١) ومن هنا يعلم مدى الكتمان الشديد.

وكان رسول الله قد أرسل إلى بني كعب بن عمرو من خزاعة : بسر بن سفيان وبديل بن ورقاء ، فلقيه بنو كعب أيضا بقديد (٢) وكانوا خمسمائة ، فعقد لهم ثلاثة ألوية : لواء مع بسر بن سفيان ، ولواء مع ابن شريح ، ولواء مع عمرو بن سالم (٣).

وفي بني مزينة ثلاثة ألوية : لواء مع بلال بن الحارث ، ولواء مع عبد الله بن عمرو ، ولواء مع النعمان بن مقرّن.

وفي جهينة ـ وهم ثمانمائة ـ أربعة ألوية : لواء مع أبي زرعة ، ولواء مع ابن مكيث ، ولواء مع سويد بن صخر ، ولواء مع عبد الله بن بدر.

وفي بني أسلم ـ وهم أربعمائة ـ لواءان : أحدهما لبريدة بن الحصيب ، والآخر لناجية بن الأعجم.

وكانت رايات الأوس : راية بني عبد الأشهل مع أبي نائلة ، وراية بني ظفر مع قتادة بن النعمان ، وراية بني حارثة مع أبي بردة بن نيار ، وراية بني معاوية مع جبر بن عتيك ، وراية بني خطمة مع أبي لبابة بن عبد المنذر ، وراية بني اميّة مع نبيض ، وراية بني ساعدة مع أبي اسيد الساعدي.

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٠٤.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٠٠ و ٨٠١.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٠١. وأما بديل بن ورقاء فقد تخلّف في مكة ثم قدم مع أبي سفيان ، كما يأتي ، ولم يعرف لما ذا تخلف؟ وأنا لا أستبعد أن يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد تقدّم إلى بديل أن يستدرج قريشا وأبا سفيان للخروج به ليلا ليرى نيران المسلمين ، فيستدرج إلى فتح مكة سلما بغير حرب ، باستسلام أبي سفيان صخر بن حرب بن أميّة.


ورايات الخزرج : راية الحارث بن الخزرج مع عبد الله بن زيد ، وراية بني سلمة مع قطبة بن عامر بن حديدة ، وراية بني مالك بن النجّار مع عمارة بن حزم ، وراية بني مازن مع سليط بن قيس ، وراية بني دينار مع ...

وللمهاجرين ثلاث رايات : راية مع علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وراية مع الزبير ، وراية مع سعد بن أبي وقّاص (١).

إفطار الصيام ، والعصاة :

روى الطبرسي في «إعلام الورى» عن الباقر عليه‌السلام قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في غزوة الفتح فصام وصام الناس حتى نزل كراع الغميم (٢) فأفطر وأفطر الناس ، وصام قوم فسمّوا العصاة ، لأنهم صاموا (٣).

وروى الكليني في «فروع الكافي» بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج من المدينة إلى مكة في شهر رمضان ومعه الناس وفيهم المشاة ، فلما انتهى إلى كراع الغميم فيما بين الظهر والعصر دعا بقدح من ماء فشربه وأفطر فافطر الناس معه ، وتمّ اناس على صومهم ، فسمّاهم العصاة (٤).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٠٠ وسيأتي أن لواء الفتح كان مع سعد بن عبادة فنقله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى علي عليه‌السلام.

(٢) كراع الغميم على مرحلتين من مكة من جهة المدينة. القاموس المحيط ٣ : ٧٨.

(٣) إعلام الورى ١ : ٢١٩.

(٤) فروع الكافي ٤ : ١٢٧ ، الحديث ٥ وكتاب الفقيه ٢ : ٩١ ، الحديث ٤٠٧. وتمام الخبر : وانما يؤخذ بآخر أمر رسول الله. مما يشعر بأن الأمر بالافطار كان هو الأمر الأخير بعد ترخيص الصيام والافطار في الأسفار.


ورواه الواقدي بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : لما كنّا بالكديد بين الظهر والعصر أخذ رسول الله إناء من ماء في يده حتى رآه المسلمون ثم أفطر. وبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أن قوما صاموا ، فقال : اولئك العصاة! (١).

وقال ابن اسحاق : خرج فصام وصام الناس معه ، حتى إذا كان بالكديد ـ بين عسفان وأمجّ ـ أفطر (٢).

وهنا في منزل القديد نقل المعتزليّ عن كتاب الجمل لأبي مخنف روى بسنده قال : قالت أمّ سلمة لعائشة عند خروجها إلى البصرة : أتذكرين يوم أقبل رسول الله ونحن معه حتى إذا هبط من قديد ذات الشمال ، فخلا بعلي يناجيه فأطال ، فأردت أن تهجمي عليهما فنهيتك فعصيتني وهجمت عليهما ، فما لبثت أن رجعت باكية فقلت لك : ما شأنك؟ فقلت : أتيتهما وهما يتناجيان فقلت لعلي : ليس لي من رسول الله إلّا يوم من تسعة أيام ، أفما تدعني ـ يا ابن أبي طالب ـ ويومي؟! فأقبل عليّ رسول الله وهو محمرّ الوجه غضبا فقال لي : ارجعي وراءك! والله لا يبغضه أحد من الناس إلّا وهو خارج من الإيمان! فرجعت نادمة ساخطة. فقالت عائشة : نعم أذكر ذلك (٣).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٠٢ هذا وقد روى من قبل في غزوة بدر : أن النبيّ أفطر لما خرج من المدينة إلى بيوت السقيا المتصلة بالمدينة ١ : ٢٢ مما يدل على أنّ هذا الإفطار المتأخّر إلى مرحلتين عن مكة إنّما كان لإفطار من التحق به أخيرا من بني سليم وبني كعب بن عمرو من خزاعة والعصاة.

(٢) سيرة ابن هشام ٤ : ٤٢.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢١٧ عن كتاب الجمل لأبي مخنف.


وهل علمت قريش بالخبر؟

المنزل التالي مرّ الظّهران ، وسيأتي عن ابن اسحاق : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نزل مرّ الظّهران وقد عمّيت الأخبار عن قريش فلم يأتهم خبر عنه ولا يدرون ما هو فاعل (١).

ثم هو يروي أن حماس بن قيس بن خالد من بني بكر (من كنانة) كان قبل دخول رسول الله يعدّ سلاحا ويصلحه ، حتى سألته امرأته : لما ذا تعدّ ما أرى؟ قال : لمحمد وأصحابه! واني لأرجو أن اخدمك بعضهم ، وارتجز يقول :

إن يقبلوا اليوم فما لي علّة

هذا سلاح كامل وإلّة

 وذو غرارين سريع السّلة (٢)

فهذا يقتضي أن يكونوا قد أتاهم خبر عنه وعلموا بخروجه ومسيره إليهم ، وأنه سيقبل عليهم اليوم أو غدا.

وأظنّ أن هذا هو السرّ في ما يأتي من خروج العباس بن عبد المطّلب بأهله ، وابن أخيه وأبي سفيان المغيرة بن الحارث بن عبد المطّلب ، وابن اخت العباس وابن عمّة أبي سفيان : عبد الله بن ابي أميّة المخزومي اخو أمّ سلمة المخزومية من ابيها. وأنّ هذا هو سرّ خروج أبي سفيان صخر بن حرب مع حكيم بن حزام ليلة وصول عسكر المسلمين إلى مرّ الظّهران في ظهر مكة ، وإلّا فما سبب خروجه حينئذ؟! وستأتي هذه الأخبار.

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٤٢.

(٢) ابن اسحاق في سيرة ابن هشام ٤ : ٤٩ ، ٥٠ وانظر مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٣. وإلّة : الحربة عليها السنان.


وفي مرّ الظّهران ظهر مكة :

قال الطبرسي : ونزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مرّ الظّهران وقد غمّت الأخبار على قريش فلا يأتيهم خبر عنه (١).

وقال الواقدي : واجتمع المسلمون بمرّ الظّهران ولم يبلغ قريشا حرف واحد من مسير رسول الله إليهم. وبلغ رسول الله إلى مرّ الظّهران عشاء ، فأمر أصحابه أن يوقدوا النيران. فأوقدوا عشرة آلاف نار! وأجمعت قريش أن تبعث أبا سفيان بن حرب يتحسّب الأخبار وقالوا له : إن لقيت محمدا ، فان رأيت في أصحابه رقّة فآذنه بحرب ، وإلّا فخذ لنا منه جوارا! فخرج أبو سفيان وحكيم بن حزام ، ولقيا بديل بن ورقاء فاستتبعاه فخرج معهما. فلمّا بلغوا الأراك من مرّ الظّهران رأوا الأبنية (الخيام) والعسكر والنيران ، وسمعوا صهيل الخيل ورغاء الابل فأفزعهم ذلك فزعا شديدا (٢). فقالا لبديل : هؤلاء بنو كعب (من خزاعة) حاشتها (جمعتها وساقتها) الحرب! فقال بديل : هؤلاء أكثر من بني كعب! فقال بعضهم : فهل هي هوازن جاءت إلى أرضنا للنجعة (طلب الماء والكلاء)؟ وقالوا : والله ما نعرف هذا ، إنّ هذا العسكر مثل يوم الحجّاج (٣).

أبو سفيان عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله :

روى الواقدي بسنده عن ابن عباس عن أبيه قال : لما نزل رسول الله بمرّ

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٨٤٦.

(٢) وعليه فبعث قريش لأبي سفيان لتحسّب الأخبار لم يكن لرؤيتهم النيران ولا لانه بلغهم ـ كما قال ـ حرف واحد من مسير رسول الله ، اذن فلما ذا أجمعوا أن يرسلوه؟! اللهم إلّا ما رجّحناه آنفا.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨١٤.


الظّهران قلت (في نفسي) : واصباح قريش! والله لئن دخلها رسول الله عنوة إنّه لهلاك قريش آخر الدهر! فأخذت بغلة رسول الله الشهباء فركبتها ألتمس انسانا ابعثه إلى قريش فيلقون رسول الله قبل أن يدخلها عليهم عنوة. فبينا أنا في الأراك (من مرّ الظّهران) أبتغي انسانا ، إذ سمعت كلاما يقول : والله ما رأيت كالليلة من النيران! وإذا بأبي سفيان. فناديته : أبا حنظلة! فعرف صوتي فقال : يا لبّيك أبا الفضل مالك فداك أبي وامّي! فقلت له : ويلك ، هذا رسول الله في عشرة آلاف! فقال : بأبي وامّي! فما تأمرني؟ هل من حيلة؟ قلت : نعم ، تركب عجز هذه البغلة فأذهب بك إلى رسول الله ، فإنه والله إن ظفر بك دون رسول الله لتقتلنّ! فقال ابو سفيان : وأنا أرى ذلك.

فرجع عنه بديل وحكيم. وجاء هو فركب خلفي ، فتوجّهت به. فكلّما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا : من هذا؟ (فقلت : العبّاس) فاذا رأوني قالوا : عمّ رسول الله على بغلته. حتى مررت بنار عمر بن الخطّاب ، فلما رآني قام فقال : من هذا؟ فقلت : العبّاس ، فنظر فرأى أبا سفيان خلفي فقال : ابو سفيان عدوّ الله؟ الحمد لله الذي أمكن منك بلا عهد ولا عقد. ثم أخذ يشتدّ إلى رسول الله. وأنا ركضت البغلة حتى اجتمعنا جميعا على باب خيمة النبيّ ، فدخلت عليه ، ودخل عمر على إثري فقال عمر : يا رسول الله ، هذا أبو سفيان عدوّ الله ، قد أمكن الله منه بلا عهد ولا عقد ، فدعني أضرب عنقه. فقلت : يا رسول الله ، إني قد أجرته! ثم قلت لعمر : مهلا يا عمر! فانه لو كان رجل من بني عديّ بن كعب ما قلت هذا (لانه من عشيرتك) ولكنه أحد بني عبد مناف! فقال رسول الله : اذهب به ، فقد أجرته لك ، فليبت عندك حتى تغدو به علينا إذا أصبحت. فذهبت به (١).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨١٦ ، ٨١٧ مسندا ، وابن اسحاق في السيرة ٤ : ٤٤ ـ ٤٥ ونحوهما في إعلام الورى ١ : ٢١٩ ومجمع البيان ١٠ : ٨٤٦ ، ٨٤٧.


وفي نقل آخر للواقدي : أن العباس أقبل على حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء فقال : أسلما ، فاني جار لكما حتى تنتهوا إلى رسول الله ، فاني أخشى أن تقطعوا دونه! فوافقوا ، فخرج بهم العباس حتى أتى رسول الله فدخل عليه فقال : يا رسول الله ، أبو سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء قد أجرتهم ، يدخلون عليك؟ قال : أدخلهم. فدخلوا عليه .. فقال لهم : تشهدون أن لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله؟! فشهدوا : أن لا إله إلّا الله ، وشهد بديل وحكيم بالرسالة ، ولم يشهد أبو سفيان! فقال النبيّ : وأنّي رسول الله! فقال أبو سفيان : يا محمد! والله إنّ في النفس من هذا لشيئا يسيرا بعد! فأرجئها! فقال رسول الله للعباس : قد أجرناهم ، فاذهب بهم إلى منزلك. فذهب بهم.

وأصبح الصباح :

قال العباس : فلما طلع الفجر أذّن العسكر كلّه! ومن أذانهم فزع أبو سفيان فقال لي : ما هذا؟ فقلت : الصلاة. فقال : كم يصلون في اليوم والليلة؟ قلت : يصلون خمس صلوات. فقال : والله كثير! ثم خرجا ووقفا حيث يرون رسول الله وهو يتوضأ ، ورآهم يبتدرون وضوء النبيّ (١) وأيدي المسلمين تحت شعره ، فليس قطرة تصيب رجلا منهم إلّا مسح بها وجهه! (٢). فقال لي : يا أبا الفضل ، ما رأيت ملكا هكذا قط ، لا ملك كسرى ، ولا ملك بني الأصفر (٣) فلما صلّى (٤) قال : أدخلني عليه يا أبا الفضل (٥).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨١٥ ، ٨١٦ والوضوء بفتح الواو : ماء الوضوء.

(٢) إعلام الورى ١ : ٢٢١.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨١٦ وبنو الأصفر : الروم.

(٤) إعلام الورى ١ : ٢٢١ وفيه أن أبا سفيان أسلم ليلا وعلّمه العباس الوضوء والصلاة فصلى معهم.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٨١٦.


حوار أبي سفيان ورسول الإيمان :

قال العباس : فلما أصبحت غدوت به ، فلما رآه رسول الله قال : ويحك يا أبا سفيان ، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلّا الله؟! قال : بأبي أنت ، ما أحلمك وأكرمك! وأعظم عفوك! قد كان يقع في نفسي أنه لو كان مع الله إله لقد أغنى عنّي شيئا بعد (١) يا محمد! استنصرت إلهي واستنصرت إلهك. فلا والله ما لقيتك من مرة إلّا ظفرت عليّ! فلو كان الهي محقّا وإلهك مبطلا غلبتك! (٢).

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا أبا سفيان : ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟! فقال ابو سفيان : بأبي أنت وامّي ، ما أحلمك وأكرمك! وأعظم عفوك! أما هذه فو الله إنّ في النفس منها لشيئا بعد! فقلت له : ويحك ، اشهد أن لا إله إلّا الله واشهد أنّ محمدا عبده ورسوله! (٣). فقال : أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله (٤) ثم قال : يا محمد! جئت بأوباش الناس! من يعرف ومن لا يعرف ، إلى أصلك وعشيرتك؟! فقال رسول الله : أنت أظلم وأفجر! غدرتم بعهد الحديبية ، وظاهرتم على بني كعب (من خزاعة) بالإثم والعدوان في حرم الله وأمنه! فقال أبو سفيان : يا رسول الله ، وحيّكم؟! لو كنت جعلت حدّتك ومكيدتك بهوازن فهم أبعد رحما وأشدّ لك عداوة! فقال رسول الله : إنّي لأرجو من ربّي أن يجمع ذلك لي كله بفتح مكة وإعزاز الإسلام بها ، وهزيمة هوازن! وأن يغنّمني الله أموالهم وذراريهم ، فإني

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨١٨.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨١٦.

(٣) في إعلام الورى ١ : ٢٢١ يضرب عنقك أو تشهد. وفي السيرة : قبل أن تضرب عنقك ٤ : ٤٦ ولكن ليس فيه اجارته من قبل العباس.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٨١٨.


راغب إلى الله تعالى في ذلك (١). فقال لي أبو سفيان : فما نصنع باللات والعزّى؟! فقال عمر : اسلح عليهما (٢). فقال له أبو سفيان : افّ لك! ما أفحشك يا عمر! ما يدخلك في كلامي وكلام ابن عمي!

ثم قال أبو سفيان : يا رسول الله ، إني احبّ أن تأذن لي إلى قومك فانذرهم وأدعوهم إلى الله ورسوله! فأذن له رسول الله. فقال أبو سفيان للعباس : كيف أقول لهم؟ بيّن لي من ذلك أمرا يطمئنّون إليه. فقال له رسول الله : تقول لهم : من قال : لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمدا رسول الله ، وكفّ يده ، فهو آمن! ومن جلس عند الكعبة ووضع سلاحه فهو آمن! فقلت : يا رسول الله ، إنّ أبا سفيان رجل يحبّ الفخر ، فلو خصصته بمعروف! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن! قال أبو سفيان : داري؟! قال : دارك. ثم قال : ومن أغلق بابه فهو آمن!

فقام أبو سفيان ومضى لوجهه. فقلت للنبيّ : يا رسول الله ، إنّ أبا سفيان رجل من شأنه الغدر ، وقد رأى من المسلمين تفرّقا. فقال لي رسول الله : فادركه واحبسه في مضيق الوادي حتى تمرّ به جنود الله. فلحقته فناديته : يا أبا حنظلة! فوقف وقال : أغدرا يا بني هاشم؟! فقلت له : ستعلم أن الغدر ليس من شأننا ، ولكن اصبح حتى تنظر إلى جنود الله (٣).

وعليه فان العباس استصحب أبا سفيان تلك الليلة معه إلى خيمته.

وهنا روى الصدوق مرسلا في «كمال الدين» : أن أبا سفيان قال في نفسه :

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨١٦.

(٢) سلح : أي سلخ أوساخه وقذاراته.

(٣) كمال الدين : ٣١٢ ط النجف الأشرف.


من فعل مثل ما فعلت؟! جئت فدفعت يدي في يده! ألا كنت أجمع عليه الجموع من الأحابيش وكنانة فكنت القاه بهم فلعلّي كنت أدفعه! فناداه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من خيمته قال : يا أبا سفيان : إذا كان الله يخزيك (١).

استعراض عسكر المسلمين :

قال الواقدي : وعبّأ رسول الله أصحابه ، وكان قد قدّم بني سليم في ألف رجل بقيادة خالد بن الوليد ، ورايته يحملها الحجاج بن علاط السلميّ ، ولواءين : أحدهما للعباس بن مرداس ، والآخر يحمله خفاف بن ندبة.

فلما حاذى خالد العباس وأبا سفيان كبّر ثلاثا فكبّروا معه ، فقال أبو سفيان : من هذا؟ قال : خالد بن الوليد. قال : الغلام! قال : نعم.

ثم مرّ الزبير بن العوّام براية سوداء ومعه مهاجرون وأعراب ، فلما حاذاهما كبّر فكبّروا ، فقال : من هذا؟ قال : الزبير بن العوّام. قال : ابن اختك (صفيّة) قال : نعم.

ثم مرّ أبو ذرّ الغفاري ـ أو ايماء بن رحضة ـ بثلاثمائة من بني غفار ، فلما حاذوهما كبّروا ، فقال : يا أبا الفضل من هؤلاء؟ قال : بنو غفار ، قال : ما لي ولهم؟!

ثم مرّ بريدة بن الحصيب الأسلمي بمائتين من بني أسلم ، وناجية بن الأعجم بمائتين آخرين منهم ، بلواءين معهما ، ولما حاذوهما كبّروا ، فقال : من هؤلاء! قال : أسلم. قال : يا أبا الفضل ما لي ولأسلم؟! قال العباس : هم قوم دخلوا الإسلام.

ثم مرّ بسر بن سفيان الكعبي الخزاعي بخمسمائة منهم ، وكبّروا ، فقال صخر : من هؤلاء؟ قال : بنو كعب بن عمرو (من خزاعة) قال : نعم ، هؤلاء حلفاء محمد! (وليس النبيّ).

__________________

(١) كمال الدين : ٣١٢ ط النجف الأشرف.


ثم مرّت مزينة في ألف رجل ، ومائتي فرس ، وثلاثة ألوية مع بلال بن الحارث وعبد الله بن عمرو والنعمان بن مقرّن ، وكبّروا ، فقال : من هؤلاء؟ قال : مزينة. قال : يا أبا الفضل ما لي ولمزينة؟ جاءتني تقعقع من شواهقها (١).

ثم مرّت جهينة في ثمانمائة ، كل مائتين بلواء مع : رافع بن مكيث ، وسويد بن صخر ، وعبد الله بن بدر ، ومعبد بن خالد ، وكبّروا ثلاثا.

ثم مرّ أبو واقد الليثي بمائتين من بني ليث وبني بكر ، وبني ضمرة من كنانة ، وكبّروا ، فقال : من هؤلاء؟ قال : بنو بكر (من كنانة) قال : نعم ، والله هم الذين غزانا محمد (!) بسببهم ، أهل شؤم والله ، أما والله ما شوررت فيه ولا علمته ، ولقد كنت له كارها حيث بلغني ، ولكنّه أمر حمّ (أي صار أجله). فقال له العباس : قد خار الله لك في غزو محمد ، فقد دخلتم في الإسلام كافّة!

وقيل : بل كان لواء بني ليث مع الصعب بن جثّامة الليثي في مائتين وخمسين من بني ليث فحسب ، وكبّروا ، فقال : من هؤلاء؟ قال : بنو ليث.

وفي الأخير مرّت ثلاثمائة من أشجع بلواءين مع نعيم بن مسعود الأشجعي ومعقل بن سنان الأشجعي ، وكبّروا ، فقال : من؟ فقال العباس : هم من أشجع! فقال أبو سفيان : هؤلاء كانوا أشدّ العرب على محمد (وهكذا)! فقال العباس : أدخل الله في قلوبهم الإسلام ، وهذا من فضل الله ـ عزوجل ـ فسكت (٢).

المهاجرون والأنصار :

وكان الأنصار أربعة آلاف ولهم خمسمائة من الخيل ، وكان المهاجرون سبعمائة

__________________

(١) كانت منازل مزينة في الجبال الشواهق ، والقعقعة : أصوات الأسلحة.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨١٩ ، ٨٢٠.


ولهم ثلاثمائة فرس (١) وقد مرّ في الخمسمائة مع الزبير بن العوّام جمع من المهاجرين (٢) مائة أو مائتان ، وبقي خمسمائة منهم بعد الخمسة آلاف من الأنصار. مع كل بطن من الأنصار راية ولواء ، فيهم ألف دارع بالحديد لا يرى منهم إلّا الحدق (٣) ولذلك قيل لهم الكتيبة الخضراء أي السوداء (٤).

الكتيبة الخضراء ، والراية :

روى الواقدي قال : لما طلعت كتيبة رسول الله الخضراء ، طلع سواد وغبرة من سنابك الخيل ، وجعل الناس يمرّون ، كل ذلك وأبو سفيان يقول للعباس : ما مرّ محمد؟! (كذا) فيقول العباس : لا.

وكان رسول الله قد أعطى رايته سعد بن عبادة الخزرجي فكان هو أمام الكتيبة ، فلما مرّ سعد براية النبيّ نادى ونادى معه من كان معه : يا أبا سفيان! اليوم يوم الملحمة! اليوم تستحلّ الحرمة! اليوم أذلّ الله قريشا!

وأقبل رسول الله يسير على ناقته القصواء (٥) معتما بغير ذوابة بنصف برد يماني أحمر (٦) أو أسود (٧) بين الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن (٨) واسيد بن حضير

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٠٠.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨١٩.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢١ وسيرة ابن هشام ٤ : ٤٧.

(٤) سيرة ابن هشام ٤ : ٤٦ ، ٤٧.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢١.

(٦) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٤٧.

(٧) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٣ و ٨٢٤.

(٨) مغازي الواقدي ٢ : ٨٠٤.


الأنصاري ، وأبي بكر. وكان على عمر بن الخطّاب الحديد ، وله زجل بصوت عال (فلم يعرفه أبو سفيان) فقال للعباس : يا أبا الفضل ، ومن هذا المتكلّم؟ قال : هو عمر بن الخطاب. فقال أبو سفيان : والله لقد قوي أمر بني عديّ بعد قلّة وذلّة! فقال له العباس : يا أبا سفيان ، إنّ الله يرفع ما يشاء بما يشاء ، وإنّ عمر ممّن رفعه الإسلام (١). فقال أبو سفيان : يا أبا الفضل ، ما رأيت مثل هذه الكتيبة قطّ ، ولا خبّرنيه مخبّر؟ سبحان الله ، ما لأحد بهذه طاقة ولا يدان! ثم قال : لقد أصبح ملك ابن اخيك الغداة عظيما!

فروى عن العباس قال : قلت له : ويحك يا أبا سفيان ، ليس بملك ولكنّها نبوة! فقال أبو سفيان : نعم (٢) إذن (٣).

وأقبل رسول الله حتى إذا حاذى أبا سفيان ، ناداه أبو سفيان : يا رسول الله ، أمرت بقتل قومك؟! إن سعدا ـ ومن معه ـ حين مرّ بنا قال : يا أبا سفيان ، اليوم يوم الملحمة! اليوم تستحلّ الحرمة! اليوم أذلّ الله قريشا! وإنّي انشدك الله في قومك ، فأنت أبرّ الناس وأرحم الناس وأوصل الناس! (٤).

فقال العباس للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا رسول الله ، إنّي لا آمن أن تكون لسعد صولة في قريش (٥) أو قالها عمر بن الخطاب (٦) أو عثمان بن عفّان وعبد الرحمن بن

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢١.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٢ وتاريخ اليعقوبي ١ : ٥٩.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٤٧.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢١.

(٥) الإرشاد ١ : ١٣٥ وفي ٦٠ : بعض القوم.

(٦) سيرة ابن هشام ٤ : ٤٩ قال ابن اسحاق : رجل من المهاجرين ، فقال ابن هشام : هو عمر بن الخطاب.


عوف (١) فقال رسول الله لعلي بن أبي طالب : أدركه ، فخذ الراية منه ، فكن أنت الذي تدخل بها (٢) مكة ، فأدركه علي عليه‌السلام فأخذها منه ، ولم يمتنع عليه سعد من دفعها إليه (٣).

وجاء حكيم بن حزام ، وبديل بن ورقاء (٤) وجبير بن مطعم العدوي (٥) إلى رسول الله فأسلموا وبايعوه ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الأولين بين يديه إلى قريش يدعوانهم إلى الإسلام (أو التسليم) وكانت دار أبي سفيان في أعلى مكة ودار حكيم ابن حزام في أسفل مكة ، فأضاف صلى‌الله‌عليه‌وآله : من دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن ، ومن أغلق بابه وكفّ يده فهو آمن (٦).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢١ و ٨٢٢.

(٢) الإرشاد ١ : ٦٠ ومثله في سيرة ابن هشام ٤ : ٤٧ وفي مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٢ : يقال : إنّ رسول الله أمر عليا فأخذ اللواء فذهب به. بعد أن قال : أعطى رايته سعد بن عبادة. وليس اللواء.

(٣) الإرشاد ١ : ١٣٥ وفي مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٢ : فأرسل إلى سعد فعزله عن اللواء وجعلها إلى ابنه قيس فأبى سعد أن يسلّم اللواء لابنه قيس إلّا بأمارة من النبيّ! فأرسل إليه رسول الله بعمامته علامة ، فعرفها ، فدفع اللواء لابنه قيس! وقيل : بل لم يعزله! وهكذا شحّوا على علي عليه‌السلام بذلك! وابن اسحاق نقل ذلك في دخول مكة ، وكذلك المفيد في الإرشاد.

(٤) إعلام الورى ١ : ٢٢٣ ومجمع البيان ١٠ : ٨٤٧.

(٥) إعلام الورى ١ : ٢٢٣.

(٦) تفسير القمي ٢ : ٣٢١ ومجمع البيان ١٠ : ٨٤٨. فروى العلّامة الحلّي في كشف الحق عن الحميدي في الجمع بين الصحيحين عن مسند أبي هريرة في صحيح مسلم : أن الأنصار لما سمعوا بذلك قال بعضهم لبعض : أما الرجل (كذا) فقد أخذته رأفة بعشيرته ورغبة في تربته أو قريته! كما في دلائل الصدق ٣ القسم الثاني : ٢٦ ط بغداد.


أبو سفيان ينادي بالأمان :

روى الواقدي : أن العباس قال لأبي سفيان : فانج ويحك فأدرك قومك قبل أن يدخل عليهم! فخرج أبو سفيان فتقدّم الناس كلهم حتى دخل من قبل جبل كداء (بأعلى مكة) وقدر رفع النداء (١) صارخا بأعلى صوته : يا معشر قريش! هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به! فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن! (٢) ومن أغلق بابه فهو آمن! حتى انتهى إلى هند بنت عتبة المخزومية ، فأخذت برأسه فقالت : ما وراءك؟ قال : هذا محمد في عشرة آلاف ، عليهم الحديد! وقد جعل لي : من دخل داري فهو آمن ، ومن طرح السلاح فهو آمن! فقالت : قبّحك الله رسول قوم! (٣) وأخذت بشاربه تقول : اقتلوا هذا الزقّ الدّسم السّمين ، قبّح من طليعة قوم! فقال أبو سفيان : ويلكم ، لا تغرنّكم هذه من أنفسكم ، فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به ، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن! فقالوا له : قاتلك الله! وما تغني عنّا دارك؟ فقال : ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن (٤) ويلكم رأيت ما لم تروا! رأيت الرجال والسلاح والكراع ، فلا لأحد بهذا طاقة (٥).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٢.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٤٧.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٢ ، ٨٢٣.

(٤) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٤٧.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٣. وروى المعتزلي عن المفاخرات للزبير بن بكار عن الحسن بن علي عليه السلام في مجلس معاوية قال له : أتنسى يا معاوية الشعر الذي كتبته إلى أربيك لما همّ أن يسلم تنهاه عن ذلك :

يا صخر لا تسلمنّ يوماً فتفضحنا

بعد الذين ببدر أصبحوا مزقا

خالي وعمي وعمّ الاُم ثالثهم

وحنظل الخير قد أهدى لنا أرقا

لا تركننّ إلى أمر تكلّفنا

ـ والراقصات ـ به في مكة الخُرقا

فالموت أهون من قول العداة لقد

حاد ابن حرب عن العزى اذاً فرقا


وحماس أحمق :

مرّ الخبر عن ابن اسحاق بإسناده قال : كان حماس بن قيس بن خالد الدّيلي من بني بكر (من كنانة) قبل دخول رسول الله يعد سلاحا ويصلحه. فقالت له امرأته : لما ذا تعدّ ما أرى؟ قال : لمحمد وأصحابه! قالت : والله ما أراه يقوم لمحمد وأصحابه شيء!

ثم هو وصفوان بن اميّة ، وعكرمة بن أبي جهل المخزومي ، وسهيل بن عمرو جمعوا ناسا بموضع يقال له الخندمة ليقاتلوا ويقاوموا (١) وانضم إليهم ناس من قريش وناس من بني بكر من كنانة وهذيل ، وتلبّسوا السلاح ، وهم يقسمون بالله : لا يدخلها محمد عنوة أبدا (فكانت هند المخزومية تريد زوجها الاموي إلى جانب ابن عمها المخزومي)!.

النبي في ذي طوى :

قالوا : وانتهى المسلمون إلى ذي طوى ، فوقفوا وتلاحقوا ينظرون ما يفعل

__________________

كما في شرح النهج ٦ : ٢٨٩. وروى العلامة الحلّي : أن معاوية يوم الفتح كان باليمن وكتب إلى أبيه يعيّره بالاسلام ويقول : أصبوت إلى دين محمد وفضحتنا؟! وقد أهدر النبي صلّى الله عليه وآله دمه فهرب إلى اليمن حتى شفع له العباس فأسلم قبل موته بخمسة أشهر (أي في شوال من العاشرة) وكتب له رسائل. كشف الحق ونهج الصدق : ٣١٠ ، ط. قم ، ومختصر الخبر الاول في تذكرة السبط : ١٨٢.

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٤٩ ، ٥٠. وخندمة بل خنادم سلسلة جبال خشناء تبدأ من شعب عامر قرب المسجد الحرام فتتّجه شرقا حتى المفجر ثم جنوبا فيكون نهايتها جبل سدير مقابل الحجون ، والخنادم مشرفة على كل معلاة مكة في أعلى مكة إلى المسجد الحرام ، كما في مقال عبد الرحمن خويلد في مجلة الميقات ٤ : ٢٠٣ و ٢٠٤ وحيث إن دخول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان من هناك فهم أرادوا مقابلته.


رسول الله (١) فروى ابن اسحاق : أنّ رسول الله انتهى في مسيره إلى ذي طوى فوقف على راحلته .. وفرّق جيشه ، فجعل الزّبير بن العوّام على الجناح الأيسر وأمره أن يدخل من ثنيّة كدى (بأسفل مكة) وجعل خالد بن الوليد على الجناح الأيمن ومعه من قبائل العرب : أسلم وسليم وجهينة ومزينة وغفار ، وأمره أن يدخل من الليط أسفل مكة أيضا (٢) وأن يغرز رايته دون البيوت (بيوت الشعر ـ عروش مكة) وقد أمر الزبير أن يغرز رايته بأعلى مكة بالحجون ، وقال له : لا تبرح حتى آتيك. وبعث سعد بن عبادة على كتيبة من الأنصار في مقدّمته (٣) وأمره أن يدخل من ثنية كداء بأعلى مكة (٤).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٣.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٤٧ و ٤٩ ومغازي الواقدي ٢ : ٨٢٥. وأطلق الأزرقي في أخبار مكة اسم الليط على جزء من وادي ذي طوى في الطرف الغربيّ لجبل الكعبة يسمى اليوم وادي التنضباوي نسبة إلى أشجار التنضب التي كانت تنبت في هذا الوادي ، كما في معجم معالم مكة التاريخية لعاتق بن غيث البلادي ، وعنه في مجلة الميقات ٣ : ١٥١.

(٣) مجمع البيان ١٠ : ٨٤٨.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٥ وابن اسحاق في السيرة ٤ : ٤٩ كذا ، وقيل : المعروف أن جيوش الفتح أحاطت بمكة من ثلاث جهات : أذاخر حيث دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكداء حيث دخل الزبير وكتائب الأنصار ، ودخل خالد بن الوليد من كدى المعروف اليوم بريع الرّسام ، وكان سيره على طول الشارع المعروف اليوم بشارع خالد بن الوليد ، وفيه مسجد ينسب إليه ، وذلك غربيّ المسجد الحرام. أما الزبير فقد جرّ فيلقه من المعلاة بأعلى مكة (ريع الحجون اليوم) إلى ثنيّة المدنيّين في سفح جبل الخنادم إلى المسجد الحرام حيث اجتمعوا فيه.


المهدور دماؤهم :

قال ابن اسحاق : وعهد رسول الله إلى امرائه من المسلمين : أن لا يقتلوا بمكة إلّا من يقاتلهم ، سوى نفر كانوا يؤذون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة (١).

وردت أسماؤهم في خبر رواه الحميري في «قرب الاسناد» عن الباقر عليه‌السلام : عبد الله بن سعد بن أبي سرح (المرتدّ ، اخو عثمان من الرضاعة). وعبد الله بن خطل (الأدرمي ، لقتله عبده المسلم وارتداده مشركا إلى مكة). ومقيس بن صبابة (اللّيثي ، لقتله عمدا مسلما قتل أخاه خطأ وارتد إلى مكة). وفرتنا وسارة ، وكانتا قينتين تزنيان وتغنيان بهجاء النبيّ وتحضّضان يوم احد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

وزاد ابن اسحاق : الحويرث بن نقيذ ، وكان ممن يؤذيه بمكة (٣). وعكرمة بن أبي جهل المخزومي (٤).

وزاد الواقدي : هبّار بن الأسود (لإرعابه زينب بنت النبي وطرحها ولدها). وهند بنت عتبة بن ربيعة المخزومية زوج أبي سفيان (٥).

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٥١.

(٢) قرب الاسناد : ٦١. وفي الإرشاد ١ : ١٣٦ : فقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام إحدى القينتين ، وأفلتت الاخرى حتى استؤمن لها بعد ، وفي إمارة عمر بن الخطاب ضربها فرس بالأبطح فقتلها. وفي مغازي الواقدي ٢ : ٨٦٠ قال .. قتلت أرنبة وأما فرتنا فاستؤمن لها فعاشت حتى عهد عثمان إذ كسر ضلع من أضلاعها فماتت منه ، فقضى عثمان فيها : ثمانية آلاف درهم : ديتها ستة آلاف ، وألفان تغليظا للجرم!

(٣) وفي الإرشاد ١ : ١٣٦ : قتله علي عليه‌السلام ، واعلام الورى ١ : ٢٢٤ ومجمع البيان ١٠ : ٨٤٨.

(٤) وكذلك في خبر الطبرسي في مجمع البيان ٨ : ٥٠٦ ، ٥٠٧ عن السدي عن مصعب بن سعد عن أبيه.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٥ واليعقوبي ١ : ٥٩ ، ٦٠ والحلبي في المناقب ١ : ٢٠٨


وزاد الحلبي : صفوان بن أميّة المخزومي (١).

وتوجه الزبير بن العوّام بمن معه حيث وجّهه رسول الله ، وتوجّه خالد بن الوليد بمن معه حيث وجّهه رسول الله إلى الليط من أسفل مكة.

وتوجّه مولى رسول الله أبو رافع القبطي بأمره ـ كما سبق في عمرة القضاء ـ إلى الحجون بالأبطح ، فضرب له هناك قبة من أدم الجلود ـ وكان عقيل بن أبي طالب قد باع منزل رسول الله ومنزل اخوته من الرجال والنساء بمكة ـ فقيل لرسول الله : ألا تنزل منزلك من الشعب؟ (شعب أبي طالب بالأبطح) فقال : وهل ترك لنا عقيل منزلا؟! فقيل : فانزل في بعض بيوت مكة من غير منازلك! فقال : لا أدخل البيوت (٢).

__________________

وكان ممن هاجر المدينة الى مكة بعد هجرته صلى‌الله‌عليه‌وآله من مكة الى المدينة : أبو عامر الراهب الفاسق ، أبو حنظلة غسيل الملائكة يوم احد ، وهو من بني سالم بن عوف في قباء ، خرج الى المشركين ليحرّضهم على قتاله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحضر معهم في احد ثم الخندق ، فلقّبه النبي بالفاسق. وكان في مكة عند فتحها ، وكأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله اكتفى بتقليبه بالفاسق دون أن يهدر دمه يوم الفتح ، وإن ـ كان هو أيضا من الهاجين له والمؤلّبين عليه ، ولعلّه كان ذلك اكراما لابنه غسيل الملائكة. الا أن أبا عامر رهب النبي فهرب منه الى الطائف ، ولعله ليحرّضهم ضدّه. التبيان ٥ : ٢٩٨ وعنه في مجمع البيان ٥ : ١١٠.

(١) مناقب آل أبي طالب ١ : ٢٠٨. وسيأتي تفصيل كل ذلك.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٩. ونقل خبر عقيل في مجمع البيان ٩ : ٢٢١ والدرجات الرفيعة : ١٥٤ وقال في مجمع البحرين : البطحاء : الارض المستوية وفيها البطحاء وهو دقاق الحصى ، والبطحاء مثل الأبطح وهو : مسيل وادي مكة وهو واسع فيه دقيق الحصى ، أوله من منقطع الشعب في وادي منى ، وآخره مقبرة المعلاة. وقال البلادي في معجم معالم مكة : كان أهل مكة يقولون : إن البطحاء بين مهبط ريع الحجون إلى المسجد الحرام ، فإذا تجاوزت ريع الحجون مشرقا فهو الأبطح إلى بئر الشيبي ويطلق عليها المعلاة ، لانها أعلى مكة.


عكرمة المخزومي يواجه خالد المخزومي :

مرّ خبر ابن اسحاق قال : إنّ عكرمة بن أبي جهل المخزومي وصفوان بن أميّة وسهيل بن عمرو كانوا قد جمعوا ناسا بالخندمة ليقاتلوا المسلمين (١). إذ دخل خالد ابن الوليد بمن معه من الليط في كدى في اسفل مكة.

قال الواقدي : فوجد جمعا من قريش وأتباعهم قد اجتمعوا له معهم عكرمة ابن أبي جهل وسهيل بن عمرو وصفوان بن أميّة ، فرموهم بالنبل وشهروا السلاح وقالوا لخالد : لا تدخلها عنوة أبدا! فصاح خالد بأصحابه فقاتلهم ، فقتل منهم أربعة وعشرين رجلا ، وأربعة من هذيل معهم (٢).

قال ابن اسحاق : وكان مع خيل خالد بن الوليد خنيس بن خالد (الخزاعي) وكرز بن جابر الفهري ، فسلكا طريقا شذّا به عن خيل خالد ، وقاتلهم المشركون ، فقتل خنيس بن خالد الخزاعي ، فوقف دونه كرز بن جابر وجعل يرتجز ويقول :

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٤٩.

(٢) بالاعتماد على ما مرّ في تعريف جبل خندمة ، وتنصيص هذين المصدرين : ابن اسحاق والواقدي على أن المواجهة كانت في الخندمة ، علق عاتق بن غيث البلادي في معجم معالم مكة التاريخية على هذا الخبر فقال : هذا ناتج عمّا لخالد بن الوليد في نفوس المسلمين من البطولة ، فلا يكادون يجهلون قائدا أحدث مثل هذا حتى يتبادر إلى أذهانهم اسم خالد بن الوليد. وهذا وهم ؛ لأن خالدا دخل من كدى .. وهذا غرب المسجد الحرام .. فكيف يقاتل خالد بن الوليد في الخندمة في أعلى مكة. لكن هذه فرقة أرسلها الزبير لا شك للسيطرة على جبل الخندمة المشرف على كل معلاة مكة إلى المسجد الحرام توطئة لنزول رسول الله في الأبطح ، أمرهم قائدهم الزبير بتطهير هذا الجيب لتخلو معلاة مكة وتأمن ، وذلك في ريع الحجون اليوم بين ثنيّة المدنيين وبين المسجد الحرام. مجلة الميقات ٤ : ٢٠٣ ، ٢٠٤.


قد علمت خفراء من بني فهر

لأضربنّ اليوم عن أبي صخر

فلم يزل يقاتل حتى قتل شهيدا. واصيب من خيل خالد سلمة بن الميلاء الجهني (١).

قال الواقدي : وكان قد ذكر لبنات سعيد بن العاص الامويّ : أنّ رسول الله قد دخل! فخرجن وقد نزعن خمرهنّ بأيديهن يضربن بها وجوه خيول المشركين (يحرّضنهم على القتال)! فمرّ بهنّ في تلك الحال عبد الله بن هلال بن خطل الأدرمي (المهدور الدم) مدجّجا في الحديد ، على فرس ذنوب ، وبيده قناة ، فضربن وجه فرسه بخمرهنّ يحرّضنه! فقال لهن : أما والله لا يدخلها حتى ترين ضربا كأفواه القرب (من كثرة الدماء)! ولكنّه لما انتهى إلى الخندمة ورأى القتال وخيل المسلمين أخذته الرّعدة من الرّعب ما لا يستمسك معه (٢).

فلما أشرف رسول الله على ثنيّة أذاخر (٣) نظر إلى بيوت مكة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ونظر إلى قبّته ، قال جابر بن عبد الله الأنصاري : وكنت الازمه ونحن بالأبطح تجاه شعب أبي طالب حيث حصر رسول الله وبنو هاشم ثلاث سنين ، فقال لي : يا جابر ، هذا منزلنا حيث تقاسمت (أي تحالفت) علينا قريش في كفرها (٤).

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٥٠ وذكرهما الواقدي من أصحاب الزبير ، وسمّى الثاني خالد الأشعر ، وسمّى قاتله : خالد بن أبي الجزع الجمحي. مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٨.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٧.

(٣) قال الأزرقي في أخبار مكة ٢ : ٢٨٩ : من ثنيّة أذاخر دخل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مكة يوم فتحها ، وهي الثنيّة التي تشرف على حائط خرمان وعلّق البلادي في معجم معالم مكة قال : وحائط خرمان يعرف اليوم بالخرمانية بصدر مكة ، وقد عمّر اليوم مقرا لأمانة العاصمة ورحبة تقف فيها سيارات الأجرة.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٧.


ورأى بريق السيوف في الخندمة فقال : ما هذه البارقة؟ ألم أنه عن القتال؟! فقيل : يا رسول الله ، خالد يقاتل ، ولو لم يقاتل ما قاتل. فقال رسول الله : قضى الله خيرا! (١).

هزيمة المقاومة :

قال الواقدي : ثم انهزم القوم أقبح انهزام وتولّوا في كل وجه ، واتّبعهم المسلمون ، فقتل بعضهم في سوق الحزورة (في المسعى) وصعد جمع منهم إلى رءوس الجبال. وانتهى عبد الله بن هلال بن خطل الأدرميّ إلى الكعبة ، فنزل عن فرسه وطرح سلاحه ودخل تحت ستار البيت! ولحقه رجل من بني كعب (بن عمرو من خزاعة فلم يقتله ولكنّه) أخذ سيفه وبيضته ومغفره ودرعه وصففه (الذي يلبس تحت الدرع). وأدرك فرسه فركبه ولحق بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) وتسابق إليه عمار بن ياسر وسعيد بن حريث المخزومي ، فسبق سعيد عمارا فقتله (٣).

وخرج أبو سفيان وحكيم بن حزام يصيحان بالمشركين : يا معشر قريش! علام تقتلون أنفسكم؟! من دخل داره فهو آمن! ومن وضع السلاح فهو آمن! فجعل الناس يطرحون أسلحتهم في الطرقات ويقتحمون الدور ويغلقونها! وانهزم حماس بن قيس بن خالد الدّيلي البكري إلى بيته وقد ذهبت روحه ، فدقّه ، ففتحت امرأته الباب فدخل (٤).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٦.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٦ ، ٨٢٧.

(٣) إعلام الورى ١ : ٢٢٤. ومجمع البيان ١٠ : ٨٤٨ وقال الواقدي : يقال : قتله عمار بن ياسر ويقال : سعيد بن حريث ويقال : شريك بن عبدة واثبته عندنا أبو برزة الأسلمي ٢ : ٨٥٩.

(٤) فقالت له تسخر به : ما زلت منتظرتك منذ اليوم ، فأين الخادم الذي وعدتني؟!


وروى ابن اسحاق والواقدي بسندهما عن أسماء بنت أبي بكر عن عمتها قريبة ابنة أبي قحافة قالت : قال لي أبي وهو أعمى : أي بنية خذي بيدي إلى جبل أبي قبيس (لننظر ما يكون) فأشرفت به عليه ، فقال : أي بنيّة ما ذا ترين؟

قلت : أرى سوادا مجتمعا (بذي طوى) فقال : تلك الخيل. ثم تفرّق السواد فأخبرته فقال : فقد تفرقت الجيوش فالبيت! البيت! فنزلت به. وكان في عنقي طوق من فضة فتلقانا رجل ممن دخل مكة (من المسلمين) فاقتطعها من عنقي واختلسها (١).

جوار أمّ هانئ :

روى ابن اسحاق بسنده عن أبي مرّة مولى عقيل بن أبي طالب عن اخته أمّ هانئ ابنة أبي طالب زوج هبيرة بن أبي وهب المخزومي قالت : لما نزل رسول الله بأعلى مكة فرّ إليّ رجلان من أحمائي بني مخزوم (٢).

__________________

ـ قال : دعي عنك هذا واغلقي الباب! قالت : وما بابنا؟ قال : إنه لا يفتح على أحد بابه ، فانه من أغلق بابه فهو آمن. ثم قال شعرا :

إنك لو شهدت يوم الخندمة

إذ فرّ صفوان وفرّ عكرمة

وبو يزيد قائم كالموتمة

واستقبلتهم بالسيوف المسلمة

يقطعن كل ساعد وجمجمة

ضربا ، فلا يسمع إلا غمغمة

لهم نهيت خلفنا وهمهمة

لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة

ويعني بأبي يزيد سهيل بن عمرو خطيب قريش وكاتبها في صلح الحديبية. مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٦ و ٨٢٧ والخبر الأخير في سيرة ابن هشام أيضا ٤ : ٥٠ ، ٥١ ويلحق هذه الأخبار عن موقع الخندمة التعليق السابق لعاتق بن غيث البلادي في معجم معالم مكة.

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٤٨ والواقدي في المغازي ٢ : ٨٢٤.

(٢) قال ابن هشام ٤ : ٥٢ هما : الحارث بن هشام وزهير بن أبي أميّة ، وقال الواقدي


وقال المفيد في (الإرشاد) : وبلغ عليا عليه‌السلام : أن اخته أمّ هانئ قد آوت اناسا من بني مخزوم منهم : الحارث بن هشام وقيس بن السائب. فقصد نحو دارها مقنّعا بالحديد فنادى : أخرجوا من آويتم! فخرجت أمّ هانئ وهي لا تعرفه فقالت : يا عبد الله ، أنا أمّ هاني بنت عمّ رسول الله واخت عليّ بن أبي طالب ، انصرف عن داري. فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : أخرجوهم! فقالت : والله لأشكونّك إلى رسول الله! فنزع المغفر عن رأسه فعرفته ، فاشتدّت نحوه حتى التزمته وقالت : فديتك! حلفت لأشكونّك إلى رسول الله!

فقال لها : اذهبي فبرّي قسمك ، فانه بأعلى الوادي (١).

فروى الواقدي بسنده أيضا عن أبي مرّة مولى عقيل ، عن أمّ هانئ قالت : فذهبت إلى خباء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالبطحاء فوجدت فيه فاطمة ، فقلت : ما ذا لقيت من ابن امّي عليّ! أجرت حموين لي من المشركين فتفلّت عليهما ليقتلهما! فقالت لي فاطمة : تجيرين المشركين! فكانت أشدّ عليّ من زوجها! إذ طلع رسول الله وعليه ثوب واحد وعليه آثار الغبار ، ورآني فعرفني وقال لي : مرحبا بفاختة أمّ هانئ!

فقلت له : ما ذا لقيت من ابن امّي عليّ! ما كدت انفلت منه! أجرت حموين لي من المشركين فتفلّت عليهما ليقتلهما (٢). فقالت فاطمة : يا أمّ هانئ إنما جئت تشتكين عليا في أنه أخاف أعداء الله وأعداء رسوله! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : قد شكر الله لعليّ سعيه ، وأجرت من أجارت أمّ هانئ ، لمكانها من علي بن أبي طالب (٣).

__________________

ـ ٢ : ٨٢٩ : وعبد الله بن أبي ربيعة. أمّا زوجها هبيرة فقد هرب إلى نجران في اليمن وأقام هناك حتى مات مشركا سيرة ابن هشام ٤ : ٦٢ ومغازي الواقدي ٢ : ٨٤٨ ، ٨٤٩.

(١) الإرشاد ١ : ١٣٧.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٣٠.

(٣) الإرشاد ١ : ١٣٨.


ثم أمر فاطمة فسكبت له غسلا (١) فأفاض على نفسه الماء من جفنة يرى فيها أثر العجين ، ثم تحرى القبلة ، والوقت ضحى ، فصلى ثمان ركعات ، لم يركعها رسول الله قبل ذلك ولا بعده (٢).

نزول الرسول إلى بيت الله :

قالوا : اغتسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله واطمأنّ في منزله ساعة من النهار ، وقد صفّ له الناس ، وخيل المسلمين تموج بين الحجون إلى الخندمة ، ثم دعا براحلته القصواء ، ولبس مغفره على رأسه ولبس سلاحه ثم ركب راحلته ومحمد بن مسلمة آخذ بزمامها .. والمشركون ينظرون إليه من فوق الجبال. فمرّ رسول الله حتى انتهى إلى الكعبة براحلته ، فاستلم الركن بمحجنه (٣) وكبّر ، فكبّر المسلمون وردّدوا التكبير حتى ارتجّت مكة بتكبيرهم حتى جعل رسول الله يشير إليهم أن يسكتوا.

وكان حول الكعبة ثلاثمائة صنم ، وستون صنما مرصّصة بالرصاص ، أعظمها هبل وجاه باب الكعبة. وبدأ رسول الله طوافه بالبيت على راحلته وبيده قضيب يشير به إلى كل صنم يمرّ به ويقول : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً)(٤) ، ما يزيد رسول الله على أن يشير بالقضيب إلى الصنم (٥) فما أشار إلى

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٣٠.

(٢) فروع الكافي ١ : ١٢٥ ، ١٢٦ وكذلك في الواقدي ٢ : ٨٣٠ وفي ٨٦٨ كانت أم هانئ تحدث تقول : ما رأيت أحدا أحسن ثغرا من رسول الله وقد ضفر رأسه بأربع ضفائر.

(٣) المحجن : عود معوّج الطرف.

(٤) سورة الإسراء : ٨١.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٨٣١ ، ٨٣٢.


صنم منها في وجهه إلّا وقع لقفاه ، ولا أشار إلى قفاه إلّا وقع لوجهه ، حتى ما بقي منها صنم إلّا وقع (١).

وفي «الإرشاد» قال لأمير المؤمنين : يا علي أعطني كفا من الحصى. فقبض له أمير المؤمنين كفّا فناوله ، فرماها به وهو يتلو الآية ، فلما بقي منها صنم إلّا خرّ لوجهه. ثم أمر بها فاخرجت من المسجد وكسرت وطرحت (٢).

وروى الواقدي بسنده عن عكرمة عن ابن عباس قال : فلما فرغ من طوافه نزل عن راحلته ، وجاء معمر بن عبد الله بن نضلة فأخرج راحلته. وتوجّه رسول الله إلى مقام إبراهيم عليه‌السلام وهو يومئذ لاصق بالكعبة (٣) فصلى ركعتين وعليه الدرع والمغفر والعمامة.

__________________

(١) سعد السعود : ٢٢٠ عن تفسير الكلبي وتمامه : فجعل أهل مكة يتعجّبون ويقولون فيما بينهم : ما رأينا رجلا أسحر من محمد!

(٢) الإرشاد ١ : ٨٣٢. وروى ابن هشام عن فضالة بن عمير بن الملوّح الليثي أنه دنا من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يطوف بالبيت يريد قتله ، فلما دنا منه قال له : أفضالة؟ قال : نعم. قال : ما ذا كنت تحدث به نفسك! قال : لا شيء ، كنت أذكر الله ، فضحك النبي ثم قال : استغفر الله. ثم وضع يده على صدره فما رفع يده عن صدره حتى ما كان شيء أحبّ إليه منه! سيرة ابن هشام ٤ : ٥٩. وحيث كان النبيّ في يوم الفتح يطوف راكبا فلا يتيسّر أن يضع يده على صدر الرجل ، اللهم إلّا أن يكون في طواف في يوم آخر بعد الفتح.

(٣) في خبر صلاته صلى‌الله‌عليه‌وآله خلف مقام إبراهيم عليه‌السلام في عمرة القضاء مرّ الخبر عن الكليني في فروع الكافي ٤ : ٢٢٣ ، الحديث ٢ والصدوق في كتاب من لا يحضره الفقيه ٢ : ١٥٨ ، الحديث ١٢ بسندهما عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : كان موضع المقام الذي وضعه إبراهيم عليه‌السلام عند جدار البيت ، فلم يزل هناك ، حتى حوّله أهل الجاهلية إلى المكان الذي هو فيه اليوم ، فلما فتح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مكة ردّه إلى الموضع الذي وضعه فيه إبراهيم عليه‌السلام.


ورووا عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : لما القيت الأصنام كلها لوجوهها وقد بقي على البيت هبل الصنم الطويل ، فنظر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى علي عليه‌السلام وقال له : يا علي تركب علي أو أركب عليك لالقي هبل عن ظهر الكعبة؟ فقال علي : بل تركبني ، فلما جلس علي وصعد النبيّ على منكبه قال : بل أركبك يا رسول الله. فنزل وضحك وطأطأ ظهره وقال له : اصعد على منكبي ، فصعد على منكبه ثم نهض النبيّ به حتى صعد علي على الكعبة وتنحّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وكان صنم قريش الأكبر هبل من نحاس موتّدا بأوتاد إلى سطح الكعبة. فقال النبيّ لعلي : عالجه ، فما زال يعالجه ورسول الله يقول له : ايه ايه ايه! ثم قال له : دقّه ، فدقّه حتى كسره ،

__________________

وروى السجستاني في مسند عائشة : ٨٢ ، الحديث ٧٣ عن هشام بن عروة عن ـ أبيه عروة بن الزبير (عن خالته عائشة قالت): «كان رسول الله يصلي إلى صقع البيت ليس بينه وبين البيت شيء ، وأبو بكر ، وعمر صدرا من إمارته ، ثم إنّ عمر ردّ الناس إلى المقام» وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى ٥ : ٧٥ والأزرقي في أخبار مكة ٢ : ٣٠ وكذلك الفاكهي ١ : ٤٤٢ و ٤٥٤ وابن حجر في فتح الباري ٦ : ٤٠٦ و ٨ : ١٦٩ وابن كثير في التفسير ١ : ٣٨٤ وعبد الرزاق في المصنف ٥ : ٤٨. وتمام الخبر السابق عن الكليني والصدوق عن الباقر عليه‌السلام قال : «فلم يزل هناك إلى أن ولي عمر بن الخطّاب ، فسأل الناس : من منكم يعرف المكان الذي كان فيه المقام؟! فقال رجل : أنا ، قد كنت أخذت مقداره بنسع (قيد من جلد) فهو عندي! فقال : ائتني به ، فأتاه به ، فقاسه ، ثم ردّه إلى هذا المكان».

وروى الكليني كذلك في روضة الكافي : ٥١ عن علي عليه‌السلام خطبة قال فيها :

«قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله متعمّدين لخلافه ناقضين لعهده مغيّرين لسنّته! ولو حملت الناس على تركها وحوّلتها إلى مواضعها وإلى ما كانت عليه على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لتفرّق عنّي جندي حتى أبقى وحدي .. أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم عليه‌السلام فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله .. إذا لتفرّقوا عنّي ..».


فقال له : اقذف به. فقذفه ، فتكسر كما تنكسر القوارير. ولما أراد أن ينزل علي ألقى بنفسه من صوب الميزاب تأدّبا وشفقة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلما استقر على الأرض ضحك ، فسأله النبيّ عن تبسّمه فقال : لأني ألقيت بنفسي من هذا المكان الرفيع وما أصابني ألم ؛ فقال له النبيّ : كيف يصيبك ألم وقد رفعك محمد وأنزلك جبرئيل (١).

قال الواقدي : وكان أبو سفيان واقفا فقال له الزبير بن العوّام : يا أبا سفيان ، قد كسر هبل! أما انك كنت منه يوم احد في غرور حين تزعم أنه قد أنعم! فقال له أبو سفيان : دع عنك هذا يا ابن العوّام ، فقد أرى لو كان مع إله محمد (كذا) غيره لكان غير ما كان (٢). ثم انصرف إلى بئر زمزم ومعه العباس بن عبد المطّلب ، فنزع له العباس أو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب دلوا منه ، فشرب منه (٢).

مفتاح الكعبة :

مرّ الخبر عن قدوم عثمان بن طلحة من بني عبد الدار مع عمرو بن العاص السهمي وخالد بن الوليد المخزومي من مكة إلى المدينة في هلال صفر سنة ثمان ،

__________________

(١) اخرج خبره امة من أئمة التاريخ والحديث ، ذكر الأمينيّ له أربعين مصدرا في الغدير ٧ : ١٠ ـ ١٣. وفي كتاب من لا يحضره الفقيه للصدوق بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : هبل رمى به عليّ عليه‌السلام عن ظهر الكعبة لمّا علا ظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأمر به فدفن عند باب بني شيبة ، فصار الدخول إلى المسجد من باب بني شيبة سنة لاجل ذلك ٢ : ٢٣٨ ط طهران و ١٥٤ ط النجف. وليس في السيرة شيء عن كسر هبل. واكتفى الواقدي بجملة مجملة قال فيها : ثم وقف على هبل فأمر بكسره فكسر وهو واقف عليه ومعه الزبير وأبو سفيان! ٢ : ٨٣٢ ولم يذكر عليا عليه‌السلام.

(٢) و (٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٣٢.


وإسلامهم. وعثمان بن طلحة هو سادن الكعبة بعد أبيه طلحة ، الذي كان من حملة لواء المشركين ببدر والمقتول يومئذ. وقد ترك المفتاح بيد امّه وهي بنت شيبة المخزومي المقتول ببدر أيضا.

وقد روى الواقدي بسنده عن ابن عمر قال : دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الفتح مكة على بعير ومعه بلال بن أبي رباح واسامة بن زيد وعثمان بن طلحة ، فلما بلغ رأس الثنيّة أنزل عثمان فأرسله إلى أمه ليأتيه بمفتاح الكعبة (١). ودخل رسول الله المسجد الحرام فطاف ، ثم انصرف فجلس في ناحية من المسجد والناس حوله (٢) ، ثم أرسل بلالا إلى عثمان بن طلحة يأتيه بمفتاح الكعبة (٣).

وروى الطبرسي في «إعلام الورى» عن أبان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي عن بشير النبّال عن الصادق عليه‌السلام قال : سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن مفتاح الكعبة فقالوا : عند أمّ شيبة (بنت شيبة) فدعا بابنها (عثمان بن طلحة) وقال له : اذهب إلى امّك فقل لها ترسل بالمفتاح (٤). قال عثمان : نعم. وخرج إلى امّه فقال لها : يا أمه ، أعطني المفتاح فإنّ رسول الله قد أرسلني وأمرني أن آتيه به. فقالت له امّه (٥) : قتلت مقاتلتنا وتريد أن تأخذ منا مكرمتنا؟! فقال لها : لترسلنّ به أو لأقتلنّك! فوضعته

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٣٤.

(٢) فروى الواقدي عن عامر بن واثلة قال : كنت مع أمي يوم فتح مكة فرأيت رسول الله يمشي ويمشون حوله فمنهم من يقصر عنه ، ومنهم من هو أطول منه ، ولا أنسى شدة بياضه وسواد شعره. ٢ : ٨٦٧.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٣٢ ، ٨٣٣.

(٤) إعلام الورى ١ : ٢٢٥.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٨٣٣.


في يد الغلام ، فجاء به إلى رسول الله فأخذه ، ودعا عمر فقال له : «هذا تأويل رؤياي من قبل»! ثم قام ففتحه (١) ومعه عثمان بن طلحة ، وبلال بن رباح ، واسامة بن زيد (٢) ووقف على الباب خالد بن الوليد يذبّ الناس عن الباب حتى خرج رسول الله ... وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة (٣).

فروى الواقدي بسنده عن اسامة بن زيد قال : لما دخلنا مع رسول الله الكعبة رأى فيها صورا ، فأمرني أن آتيه بدلو من الماء ، فأتيته به ، فأخذ ثوبا وجعل يبلّه ويضرب به الصور ويقول : قاتل الله قوما يصوّرون ما لا يخلقون. وروى عن الزهري : أنه رأى فيها صور الملائكة ، وصورة مريم ، وصورة ابراهيم عليه‌السلام شيخا كبيرا يستقسم بالأزلام! فقال : قاتلهم الله جعلوه شيخا يستقسم بالأزلام! (٤) أو : جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام ، ما شأن ابراهيم والأزلام! (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وأمر بتلك الصور كلها فطمست (٥) ووجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده وطرحها (٦) ثم جعل عمودين (من أعمدة البيت) عن يمينه وعمودا عن يساره وثلاثة وراءه (٧)

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ٢٢٥.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٣٥ وعن الصادق عليه‌السلام ذكر اسامة فقط في التهذيب ١ : ٢٤٥.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٣٥.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٨٣٤ وفي قرب الأسناد : ٦١ عن الباقر عليه‌السلام ، أنه رأى فيه صورتين (لإبراهيم ومريم) فدعا بماء وثوب فبلّه ثم محاهما.

(٥) سيرة ابن هشام ٤ : ٥٥ ونحوه في فروع الكافي ١ : ٢٢٧ عن الصادق عليه‌السلام ، واليعقوبي ١ : ٦٠.

(٦) سيرة ابن هشام ٤ : ٥٤.

(٧) مغازي الواقدي ٢ : ٨٣٥. وقريب منه عن الصادق عليه‌السلام في التهذيب ١ : ٢٤٥.


وجعل الباب خلف ظهره حتى كان بينه وبين الجدار قدر ثلاث أذرع (١) وصلى ركعتين. ثم خرج إلى الناس وقد اجتمعوا له.

خطبة الفتح ، والعفو العام :

فروى الكليني بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : ثم أخذ رسول الله بعضادتي باب الكعبة فقال : «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده. ما ذا تقولون؟ وما ذا تظنّون؟ فقالوا : نقول خيرا ونظن خيرا ، أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : فانّي أقول كما قال أخي يوسف : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(٢) ألا إن الله قد حرّم مكة يوم خلق السموات والأرض ، فهي حرام بحرامه إلى يوم القيامة : لا ينفّر صيدها ، ولا يعضد شجرها ، ولا يختلى خلاها (٣) ولا تحل لقطتها إلّا لمنشد. فقال العباس : يا رسول الله إلّا الإذخر (٤) فانه للقبر وللبيوت. فقال رسول الله : إلّا الإذخر (٥).

أيها الناس ، ليبلّغ الشاهد الغائب : أنّ الله تبارك وتعالى قد أذهب عنكم بالإسلام نخوة الجاهلية والتفاخر بآبائها وعشائرها.

أيها الناس ، انّكم من آدم وآدم من طين.

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٤ : ٥٦. والغريب : أن الواقدي روى أن النبيّ بعث من البطحاء عمر بن الخطاب مع عثمان بن طلحة وأمره أن يتقدم فيفتح البيت فلا يدع فيه صورة إلّا محاها إلّا صورة إبراهيم! وعن الزهري : امسحوا ما فيها من الصور إلّا صورة إبراهيم!

(٢) يوسف : ٩٢.

(٣) يعضد : يقطع. الخلا : النبات الرطب. اختلى : اقتطع.

(٤) الإذخر : نبات طيّب الرائحة.

(٥) فروع الكافي ١ : ١٢٦.


ألا وإنّ خيركم عند الله وأكرمكم عليه اليوم أتقاكم وأطوعكم له.

ألا وإنّ العربية ليست بأب والد ولكنّها لسان ناطق ، فمن قصر به عمله لم يبلغ به حسبه.

ألا وإنّ كل دم أو مظلمة أو إحنة كانت في الجاهلية فهي مطلّ تحت قدمي هذه إلى يوم القيامة (١) إلّا سدانة الكعبة وسقاية الحاج فانهما مردودتان إلى أهليهما.

ثم قال : ألا لبئس جيران النبيّ كنتم ، لقد كذّبتم وطردتم وأخرجتم وفللتم ، ثم ما رضيتم حتى جئتموني في بلادي فقاتلتموني! فاذهبوا فانتم الطلقاء! (٢).

وزاد ابن اسحاق : ألا وقتيل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا ففيه الدية مغلّظة : مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها (٣).

وأضاف الواقدي : ولا وصية لوارث ، وإنّ الولد للفراش وللعاهر الحجر. ولا يحلّ لامرأة تعطي من مالها إلّا باذن زوجها. والمسلم أخو المسلم والمسلمون اخوة وهم يد واحدة على من سواهم ، تتكافأ دماؤهم ، يردّ عليهم اقصاهم ويعقد عليهم أدناهم .. ولا يقتل مسلم بكافر ، ولا ذو عهد في عهده. ولا يتوارث أهل ملّتين مختلفتين .. ولا تؤخذ صدقات المسلمين إلّا في بيوتهم وبأفنيتهم. ولا تنكح المرأة على عمتها وخالتها. والبيّنة على من ادّعى واليمين على من انكر .. ولا صلاة بعد الصبح وبعد العصر. وانهاكم عن صيام يومين : يوم الأضحى ويوم الفطر (٤).

__________________

(١) بحار الأنوار ٢١ : ١٣٧ و ١٣٨ عن روضة الكافي وكتاب المؤمنين للحسين بن سعيد الأهوازي ، مخطوط وإعلام الورى ١ : ٢٢٥.

(٢) إعلام الورى ١ : ٢٢٦ وقصص الأنبياء : ٣٥٠. والمناقب للحلبي ١ : ٢٠٩ وذكر ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٥٤ ، ٥٥ : اذهبوا فأنتم الطلقاء واليعقوبي ١ : ٦٠ ، ولم يروه الواقدي!

(٣) سيرة ابن هشام ٤ : ٥٤.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٨٣٦ ، ٨٣٧. وانظر مصادر الكتاب والبحث فيه في كتاب


فروى الطبرسي في «إعلام الورى» في خبر أبان عن بشير النبّال عن الصادق عليه‌السلام قال : ثم دعا الغلام (عثمان بن طلحة وقال له : ابسط رداءك) فبسط رداءه فجعل مفتاح الكعبة فيه وقال : ردّه إلى امّك (١).

وروى ابن اسحاق قال : ثم جلس رسول الله في المسجد ومفتاح الكعبة في يده ، فقام إليه علي بن أبي طالب فقال له : يا رسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك (فلم يجبه) وقال : اين عثمان بن طلحة! فدعي له فقال : هاك مفتاحك يا عثمان ، اليوم يوم برّ ووفاء (٢).

وزاد الواقدي عن عثمان قال : فاستقبلته ببشر واستقبلني ببشر ثم قال : خذوها يا بني أبي طلحة خالدة تالدة لا ينزعها إلّا ظالم ، يا عثمان ، إنّ الله استأمنكم على بيته .. فقم على الباب وكل بالمعروف. وأعطاه المفتاح وهو مضطجع في ثيابه ، وقال للناس : أعينوه. وجاء خالد بن الوليد فقال له رسول الله : يا خالد ، لم قاتلت وقد نهيت عن القتال!

فقال : يا رسول الله ، انهم بدءونا بالقتال ، رشقونا بالنبل ووضعوا فينا السلاح ، وقد كففت ما استطعت ، ودعوتهم إلى الإسلام وأن يدخلوا فيما دخل فيه الناس ، فأبوا حتى إذا لم أجد بدّا قاتلتهم ، فظفّرنا الله عليهم وهربوا في كل وجه يا رسول الله! فقال رسول الله : قضى الله خيرا! ثم قال رسول الله : كفّوا السلاح إلّا خزاعة عن بني بكر إلى صلاة العصر. وهي الساعة التي احلّت لرسول الله لم تحل لأحد قبله (٣) فقتلت خزاعة جمعا من بني بكر قصاصا قبل صلاة العصر.

__________________

ـ مكاتيب الرسول ١ : ٥٤ و ٢ : ٥٢١ ـ ٥٢٥.

(١) إعلام الورى ١ : ٢٢٥.

(٢) سيرة ابن هشام ٤ : ٥٥.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٣٨ ، ٨٣٩. وروى عن عطاء بن أبي رباح الخراساني مولى


ثم أذّنوا لصلاة الظهر :

فروى الطبرسي في «إعلام الورى» في خبر أبان عن بشير النبّال عن الصادق عليه‌السلام قال : ودخل وقت (الظهر (١)) فأمر رسول الله بلالا فصعد على الكعبة وأذّن .. فقال عكرمة : والله إن كنت لأكره صوت ابن رباح ينهق على الكعبة! وقال (عتاب) (٢) بن اسيد أخو عتّاب : الحمد لله الذي أكرم أبا عتّاب من أن يرى هذا اليوم ابن رباح قائما على الكعبة! وكان أقصدهم سهيل بن عمرو إذ قال : هي كعبة الله وهو يرى ولو شاء لغيّر! (٣). وقال أبو سفيان : أما أنا فلا أقول شيئا ، والله لو نطقت لظننت أن هذه الجدر تخبر به محمدا (كذا) (٤).

وزاد ابن هشام : انهم كانوا بفناء الكعبة ، فخرج عليهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : قد علمت الذي قلتم. ثم ذكر ذلك لهم! فقال الحارث بن هشام وعتّاب بن اسيد : والله ما اطّلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك ، فنحن نشهد أنك رسول الله (٥).

وفي خبر أبان قال : قال عتّاب : يا رسول الله ، قد والله قلنا ذلك ،

__________________

ـ ابن عباس قال : جاء يوم الفتح رجل إلى النبيّ وقال : إنّي نذرت ان فتح الله عليك مكة أن اصلي في بيت المقدس. فقال النبيّ : هاهنا أفضل ، فاعاد الرجل مقاله فقال رسول الله : والذي نفسي بيده لصلاة هاهنا أفضل من ألف فيما سواه من البلدان ٢ : ٨٦٦.

(١) الخرائج والجرائح ١ : ٩٨ ، الحديث ١٥٨ و ١٦٢ ، والحديث ٢٥٢ وكذلك في مغازي الواقدي ٢ : ٧٣٧ ودلائل النبوة للبيهقي ٤ : ٣٢٨ وفي الخبر : العصر.

(٢) في المصدر : خالد ، ثم يذكر اعتذار عتّاب كسائر المصادر.

(٣) وسيأتي أنه دخل داره حتى أجاره النبيّ ، فلعل هذا كان بعد جواره.

(٤) أليس كان قد أسلم؟ فكيف يحضرهم ويقول هكذا؟!

(٥) سيرة ابن هشام ٤ : ٥٦.


فنستغفر الله ونتوب إليه ، وأسلم. فولّاه رسول الله مكة (١).

ورواه الواقدي بسنده عن ابن المسيّب قال : لما أذّن بلال رفع صوته كأشدّ ما يكون ، فلما بلغ إلى قوله : «أشهد أنّ محمدا رسول الله» قال خالد بن اسيد : الحمد لله الذي أكرم أبي فلم يسمع هذا اليوم! وقال الحارث بن هشام : وا ثكلاه! ليتني متّ قبل هذا اليوم ولا أسمع بلالا ينهق فوق الكعبة! وقال الحكم بن أبي العاص : هذا والله الحدث العظيم أن يصيح عبد بني جمح على بنيّة أبي طلحة! وقال سهيل بن عمرو : إن كان هذا يسخط الله فسيغيّره وإن كان يرضيه فسيقرّه! وقال أبو سفيان (؟!) : أمّا أنا فلا أقول شيئا لو قلت شيئا لأخبرته هذه الحصباء! وكانوا قد تغيّبوا فوق رءوس الجبال خوف أن يقتلوا (٢) وأتى جبرئيل عليه‌السلام رسول الله فأخبره خبرهم (٣).

اليوم الثاني والخطبة فيه :

مرّ أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله دخل المسجد الحرام فطاف بالبيت ثم دخله ثم خطب الناس ، ثم صلى الظهر ثم قال : يا معشر المسلمين! كفّوا السلاح إلّا خزاعة عن

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ٢٢٦ والخرائج والجرائح ١ : ٩٨ ، الحديث ١٥٨ و ١٦٣ ، والحديث ٢٥٢.

(٢) فما محلّ أبي سفيان منهم؟! فان دلّ هذا فعلى ما ذا يدلّ؟!

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٤٦ ومرّ خبر مثله ، عنه في عمرة القضاء عن سعيد بن المسيب ، وهو الأنسب. وروى بسنده عن الزهري : أنّ رسول الله أقام بمكة خمس عشرة يوما ـ وفي خبر آخر عشرين ليلة ـ يصلي ركعتين ، أي قصرا ٢ : ٨٧١. وروى الطوسي في التبيان ٣ : ٤٤٨ عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يتوضأ لكل صلاة فلما كان عام الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد فقال له عمر : يا رسول الله صنعت شيئا ما كنت تصنعه؟ قال : عمدا فعلته يا عمر! وعنه في مجمع البيان ٣ : ٢٥٣.


بني بكر إلى صلاة العصر (١) فبدخول صلاة العصر انتهت الساعة التي أحلّها رسول الله لخزاعة على بني بكر قصاصا.

وكان من ثارات خزاعة من غير بني بكر ، من هذيل إذ كانوا قد أغاروا في الجاهلية على حيّ بني أسلم من خزاعة يقودهم جنيدب بن الأدلع الهذلي ، وقتل هذا شجاعا من بني أسلم من خزاعة يدعى أحمر بأسا. فكأنّه أمن بأمان الإسلام فدخل مكة في الغد من يوم الفتح (٢) أي بعد الفتح بيوم ، والناس آمنون ، يرتاد وينظر (٣) ويسأل عن أمر الناس ، وهو على شركه (٤) فاجتمع حوله جمع من الناس ليحدثهم عن قتله أحمر بأسا وغارته على بني أسلم من خزاعة. فرآه جندب بن الأعجم الأسلمي الخزاعي فقال له : أنت جنيدب بن الأدلع قاتل أحمر بأسا؟! قال : نعم (٥) أنا قاتل أحمر ، فمه؟!

فانطلق جندب فلقي خراش بن أميّة الكعبي الخزاعي فأخبره واستجاشه عليه ، فاشتمل خراش على السيف وأقبل معه إليه ، فرآه مستندا إلى الجدار والناس حوله وهو يحدثهم ، فصاح بالناس : هكذا عن الرجل! فانفرجوا عنه ، فحمل عليه خراش بالسيف فطعنه في بطنه فسالت أحشاؤه وقال : أقد فعلتموها يا معشر خزاعة؟! ثم وقع ميّتا. وبلغ ذلك رسول الله فقال يلوم خراش : إنّ خراشا لقتّال!

وروى ابن اسحاق بسنده عن أبي شريح الخزاعي قال : لما عدت خزاعة على

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٣٨ ، ٨٣٩.

(٢) سيرة ابن هشام ٤ : ٥٧.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٤٣.

(٤) سيرة ابن هشام ٤ : ٥٧.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٨٤٣ وفي السيرة : تارة : ابن الأثوع واخرى ابن الأكوع.


الهذلي فقتلوه وهو مشرك في الغد من يوم الفتح قام فينا خطيبا (١) فهي خطبة الغد من يوم الفتح بعد صلاة الظهر ، قال :

«يا أيها الناس ، إنّ الله حرّم مكة يوم خلق السموات والأرض ، فهي حرام من حرام ، إلى يوم القيامة ، فلا يحلّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيه دما ، ولا يعضد فيها شجرا. لم تحلل لأحد كان قبلي ولا تحلّ لأحد يكون بعدي ، ولم تحلل لي إلّا ساعة من نهار (٢) غضبا على أهلها! ألا ثم قد رجعت كحرمتها بالأمس ، فليبلّغ الشاهد منكم الغائب ، فمن قال لكم : إنّ رسول الله قد قاتل فيها فقولوا : إنّ الله قد أحلّها لرسوله ولم يحللها لكم. يا معشر خزاعة! ارفعوا أيديكم عن القتل فلقد كثر القتل إن نفع. وقد قتلتم قتيلا لأدينّه. فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين : إن شاءوا فدم قاتله ، وإن شاءوا فعقله».

ثم ودى رسول الله ذلك الرجل الذي قتلته خزاعة بمائة ناقة (٣).

وروى الواقدي بسنده عن عمران بن الحصين أن النبيّ قال : لو كنت قاتلا مؤمنا بكافر لقتلت خراشا بالهذلي. ثم أمر رسول الله خزاعة يخرجون ديته ، فأخرجت خزاعة ديته ، وفيها غنم بيض من بني مدلج من خزاعة بدلا من الإبل (٤).

ثم بعث رسول الله تميم بن أسد الخزاعي إلى أنصاب الحرم ليجدّدها ، وهي الأنصاب التي جدّدها من قبل قصي على آثار أنصاب اسماعيل بن ابراهيم عليهما‌السلام وهي بتعليم جبرئيل لإبراهيم عليهما‌السلام (٥).

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٥٨.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٤٤ وإلى هنا في فروع الكافي ١ : ٢٢٨.

(٣) سيرة ابن هشام ٤ : ٥٨.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٨٤٥.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٨٤٢.


خبر سفير الصلح :

كان سفير مشركي قريش للصلح مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحديبية : سهيل بن عمرو المخزومي المشرك أبا عبد الله المسلم ، فأين هو اليوم؟

روى الواقدي بسنده عنه قال : لما دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مكة منتصرا (ونادى مناديه : من دخل داره وأغلق عليه بابه فهو آمن) دخلت داري وأغلقت عليّ بابي (١) .. وأخذت أتذكر أثري عند محمد وأصحابه فليس أحد أسوأ أثرا منّي. وأني لقيت رسول الله يوم الحديبية بما لم يلقه به أحد ، وكنت أنا الذي كاتبته ، بالإضافة إلى حضوري بدرا واحدا ، وكلّما تحركت قريش كنت فيها ، فلم آمن من أن اقتل! (وكان ابني عبد الله مع رسول الله) فارسلت إليه أن يطلب لي من محمد جوارا! فذهب ابني عبد الله إلى رسول الله وقال له : يا رسول الله تؤمّن سهيل بن عمرو؟ قال : نعم ، هو آمن بأمان الله ، فليظهر. ثم قال لمن حوله : من لقي سهيل بن عمرو فلا يشدّ النظر إليه ، فليخرج ، فلعمري إنّ سهيلا له عقل وشرف ، وما مثل سهيل يجهل الإسلام ، ولقد رأى أن ما كان يوضع فيه لم يكن بنافع له. فخرج إليّ ابني يخبرني بمقالة رسول الله ، فقلت : كان والله برّا صغيرا وكبيرا. وأخذت اقبل وادبر وأنا على شركي (٢).

__________________

(١) هذا وقد مرّ عن الواقدي نفسه خبر مقاله عند سماعه أذان بلال مع رجال قريش في رءوس الجبال ، فلعل ذلك كان بعد هذا.

(٢) وتمامه : وخرجت مع النبيّ إلى حنين وأنا على شركي حتى أسلمت بعد ذلك في الجعرّانة. مغازي الواقدي ٢ : ٨٤٧ وعليه فلم يكن حاضرا في خطبة الفتح ، وقد جاء في خبر الطبرسي عن أبان عن بشير النبّال : أن الذي قال : أخ كريم وابن أخ كريم ، هو سهيل بن عمرو ، وكذلك في تاريخ اليعقوبي ١ : ٦٠ فلا يصح هذا.


واختفى حويطب بن عبد العزّى في حائط عوف ، ودخله أبو ذر الغفاري لحاجته ، فلما رآه حويطب هرب ، فناداه أبو ذر : تعال ، أنت آمن! فرجع إليه ، فسلّم عليه أبو ذر وقال له : أنت آمن ، فإن شئت فاذهب إلى منزلك وإن شئت أدخلتك على رسول الله. فقال حويطب : وهل لي سبيل إلى منزلي! القى فاقتل قبل أن أصل إلى منزلي ، أو يدخل عليّ منزلي فاقتل! فقال أبو ذر : فأنا أبلغ معك إلى منزلك. فبلغ معه إلى منزله ، ثم جعل ينادي على بابه : إنّ حويطبا آمن فلا يهجم عليه. ثم انصرف أبو ذر إلى رسول الله فأخبره خبره ، فقال : أوليس قد أمّنّا كلّ الناس إلّا من أمرت بقتله (١).

وممّن أمر بقتله :

وكان ممّن أمر بقتله رسول الله : مقيس بن صبابة الليثي ، وكانت امّه من بني سهم فاختفى فيهم ، وتتّبع أخباره نميلة بن عبد الله الليثي حتى علم بمكانه في بني سهم ، فأتاه ودعاه ، وكان قد تنادم الخمرة فهو ثمل ومع ذلك خرج إليه ، وكأنّ الدار التي آوى إليها كانت بين الجبلين الصفا والمروة ، فخرج وهو يغنّي بشعر ، فضربه نميلة بسيفه ، ورآه المسلمون فضربوه بأسيافهم حتى قتلوه (٢) فهو خامس من قتل من الرجال والنساء : عبد الله بن هلال بن خطل الأدرمي ، وحويرث بن نقيذ ، ومقيس بن صبابة هذا مع إحدى قينتي ابن خطل ، وسارة مولاة عمرو بن هاشم. أما هند بنت عتبة فقد أسلمت كما يأتي ، وأسلمت أمّ حكيم زوج عكرمة بن أبي جهل المخزومي فاستأمنت له فأمّنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما يأتي ، وعبد الله بن سعد بن أبي

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٤٩ ، ٨٥٠.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٦٠ ، ٨٦١ وقد سبقت الإشارة إلى سبب هدر دمه في دخول مكة.


سرح الاموي فقد استوهبه اخوه من الرضاعة عثمان بن عفّان كما يأتي ، وأسلم وحشي قاتل حمزة وهبّار بن الأسود مسقط حمل زينب بنت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلم يقتلوا ، وإنمّا قتل اولئك الخمسة فحسب.

ومع ذلك فقد روى الواقدي أن هؤلاء لما قتلوا سمع النوح عليهم بمكة ، فجاء أبو سفيان بن حرب إلى رسول الله يقول له : فداك أبي وامّي! البقيّة في قومك! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تقتل قريش صبرا بعد اليوم (١) يعني على الكفر.

وممّن عفى عنه :

روى الكليني في «فروع الكافي» بسنده عن أبي بصير عن أحدهما عليهما‌السلام قال : كان عبد الله بن سعد بن أبي سرح ممّن أهدر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دمه يوم فتح مكة (٢).

وروى القمي في تفسيره بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : لما فتح رسول الله مكة أمر بقتل عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخي عثمان بن عفّان من الرضاعة ، فجاء به عثمان قد أخذ بيده ، ورسول الله في المسجد ، فقال : يا رسول الله اعف عنه. فسكت رسول الله ، ثم أعاد فسكت رسول الله ، ثم أعاد ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : هو لك. فلما مرّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه : ألم أقل : من رآه فليقتله؟! فقال رجل : كانت عيني إليك يا رسول الله أن تشير إليّ فأقتله! فقال رسول الله : إن الأنبياء لا يقتلون بالإشارة. فكان من الطلقاء (٣).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٦٢.

(٢) فروع الكافي ٨ : ٢٠٠ وتفسير العياشي ١ : ٣٦٩.

(٣) تفسير القمي ١ : ٢١١.


وزاد ابن اسحاق : أنه فرّ إلى عثمان بن عفان أخيه من الرضاعة فغيّبه حتى اطمأنّ أهل مكة فأتى به رسول الله يستأمن له ، فصمت طويلا ثم قال : نعم ، فلما انصرف قال رسول الله لمن حوله من أصحابه : لقد صمت طويلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه (١).

وقال الواقدي : جاء ابن أبي سرح يوم الفتح إلى عثمان بن عفّان فقال : يا أخي إنّي والله اخترتك فاحتبسني هاهنا واذهب إلى محمد فكلّمه فيّ ، فانّ محمدا إن رآني ضرب الذي فيه عيناي إن جرمي أعظم الجرم وقد جئت تائبا ... والله لئن رآني ليضربنّ عنقي ، وأصحابه يطلبونني في كل موضع. فقال عثمان : بل انطلق واذهب معي فلا يقتلك إن شاء الله.

وفوجئ رسول الله بعثمان آخذا بيد عبد الله بن سعد واقفين بين يديه وعثمان يقول : يا رسول الله ، إن امّه كانت تحملني وتمشّيه ، وترضعني وتقطعه ، وتلطفني وتتركه ، فهبه لي وكلّما كان يعرض عنه رسول الله كان عثمان يستقبله في وجهه فيعيد عليه الكلام ثم اكبّ عثمان على رسول الله يقبّل رأسه ويقول : يا رسول الله فداك أبي وامّي تبايعه؟! فقال رسول الله : نعم ، ثم بايعه (أي قبل توبته إلى الإسلام).

فلما انصرفا التفت إلى أصحابه فقال لهم : ما منعكم أن يقوم رجل منكم إلى هذا الفاسق ـ أو الكلب ـ فيقتله؟! فقال عبّاد بن بشر : ألا أومأت إليّ يا رسول الله؟ فو الذي بعثك بالحق انّي لأتّبع طرفك من كل ناحية رجاء أن تشير إليّ فأضرب عنقه! فقال رسول الله : انّي لا أقتل بالإشارة. أو : إنّ النبيّ لا تكون له خائنة الأعين! (٢).

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٥٢.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٥٦.


صفوان بن أميّة الجمحي :

لم يذكر صفوان بن أميّة الجمحي في من أمر رسول الله بقتله سوى الحلبي (١) وهو من المطعمين لجيش المشركين في مسيرهم إلى بدر ، وقتل أبوه أميّة بن خلف فيمن قتل منهم يومئذ ، ولذلك كفل عيال عمير بن وهب الجمحي على أن يذهب إلى المدينة بحجة السعي لفك ابنه الأسير وهب فيغتال رسول الله ، وأنبأه النبيّ بما أضمر عليه في ضميره فأسلم الرجل ، فحلف صفوان أن لا يكلمه أبدا.

ومع ذلك لم يذكر في من أمر رسول الله بقتله ، ولكنّه مع ذلك لم يأمن على نفسه ، فروى ابن اسحاق عن عروة بن الزبير قال : خرج صفوان بن أميّة من مكة (٢) .. وقال الواقدي : مع غلامه يسار يريد الشعيبة (٣) ليركب منها إلى اليمن.

قال ابن اسحاق : فأتى عمير بن وهب إلى النبيّ وقال له : يا نبيّ الله ، إنّ صفوان بن أميّة سيد قومه ، وقد خرج هاربا منك ليقذف نفسه في البحر ، فأمّنه صلى الله عليك! قال : هو آمن. فخرج عمير في أثره حتى أدركه وهو يريد أن يركب البحر ..

قال الواقدي : ورآه صفوان فقال لغلامه يسار : ويحك انظر من ترى؟ قال : هذا عمير بن وهب. فقال صفوان : وما أصنع بعمير وقد ظاهر محمدا عليّ؟! والله ما جاء إلّا يريد قتلي. ولحقه عمير فقال له صفوان : يا عمير ، ما كفاك ما صنعت بي؟! حمّلتني دينك وعيالك ثم جئت تريد قتلي!

قال ابن اسحاق : فقال عمير : يا صفوان فداك أبي وأمي! الله الله في نفسك

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ١ : ٢٠٨.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٦٠.

(٣) الشعيبة : ميناء الحجاز على البحر الأحمر قبل جدّة ، وقال ابن اسحاق قصد جدّة.


أن تهلكها ، فهذا أمان من رسول الله قد جئتك به! قال صفوان : ويحك اعزب عنّي فلا تكلّمني! قال عمير : أي صفوان ، فداك أبي وامّي! أفضل الناس وأبرّ الناس وأحلم الناس وخير الناس ابن عمّك ، عزّه عزّك ، وشرفه شرفك ، وملكه ملكك! قال : إنّي أخافه على نفسي! قال : هو أحلم من ذاك وأكرم! إن رسول الله قد أمّنك!

قال الواقدي : فقال صفوان : لا والله لا أرجع معك حتى تأتيني بعلامة أعرفها! فرجع عمير إلى رسول الله وقال : يا رسول الله ، أدركت صفوان هاربا يريد أن يقتل نفسه (بركوب البحر) فأخبرته بما أمّنته فقال : لا أرجع حتى تأتي بعلامة أعرفها. يا رسول الله فأعطني آية يعرف بها أمانك.

فأعطاه رسول الله عمامته وكانت حبرة يمانية دخل فيها رسول الله يومئذ معتجرا بها (غير متحنّك) فخرج عمير بها إليه حتى أدركه وهو يريد أن يركب البحر. فقال له : يا أبا وهب ، جئتك من عند خير الناس وأوصل الناس وأبرّ الناس وأحلم الناس ، مجده مجدك وعزّه عزّك وملكه ملكك ، ابن امّك وأبيك ، فاذكّرك الله في نفسك! قال له : أخاف أن اقتل!

قال : قد دعاك إلى أن تدخل في الإسلام فان رضيت وإلّا سيّرك شهرين ، وهو أوفى الناس وأبرّهم ، وقد بعث إليك ببرده الذي دخل به معتجرا ، تعرفه؟ قال : نعم ، فأخرجه له ، فقال : نعم هو هو.

فرجع صفوان ومعه غلامه يسار مع عمير بن وهب حتى انتهوا إلى المسجد الحرام ورسول الله يصلي بالمسلمين العصر (قصرا : ركعتين) فلما سلّم ، صاح صفوان : يا محمد! إنّ عمير بن وهب جاءني ببردك وزعم أنك دعوتني إلى القدوم عليك فان رضيت أمرا (؟!) وإلّا سيّرتني شهرين؟! فقال رسول الله : انزل أبا وهب. قال : لا والله حتى تبيّن لي! قال : بل تسير أربعة أشهر! فنزل صفوان (١).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٥٣ ، ٨٥٤.


بيعة النساء :

مرّ الخبر عن نزول الآيات الأوائل إلى التاسعة من سورة الممتحنة بشأن محاولة حاطب بن أبي بلتعة أن ينذر أهل مكة بمحاولة فتحها ، ونزول الآيتين التاليتين العاشرة والحادية عشرة بشأن النساء المسلمات المهاجرات قبل الفتح. والآية التالية الثانية عشرة بشأن بيعة النساء المسلمات لتوهنّ بعد الفتح : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ) ... (فَبايِعْهُنَ) بلا خلاف في ذلك ، ومن دون آية في بيعة الرجال ، وإنّما تصدّر خبر بيعة النساء ، أنها كانت بعد بيعة الرجال ، بلا تفصيل لذلك.

ومن المعهود أنّ البيعة للنصرة في الحروب ، ولا يتوقع ذلك من النساء ، ولذلك ذكر الشيخ الطوسي في «التبيان» : أنّ الوجه في بيعة النساء مع أنهنّ لسن من أهل النصرة في المحاربة هو أخذ العهد عليهنّ بما يصلح شأنهنّ في الدين للأنفس والأزواج ، وكان ذلك في صدر الإسلام لئلّا ينفتق بهنّ فتق لما صيغ من الأحكام ، فبايعهنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حسما لذلك (١).

هذا ، وقد مرّ الخبر عن هدر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لدم جمع منهم : هند بنت عتبة المخزومية زوج أبي سفيان (٢) وقال الحلبي عنها : إنّها دخلت دار أبي سفيان ، فتكلم ابو سفيان مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيعة النساء وأعانته أمّ الفضل فقبل منهن البيعة (٣).

وعن عدد النساء ومحلّ بيعتهن ما روى الواقدي بسنده عن عبد الله بن الزبير قال : إنّ عشر نسوة من قريش أتين رسول الله بالأبطح فدخلن عليه ،

__________________

(١) التبيان ٩ : ٥٨٧ وعنه في مجمع البيان ٩ : ٤١٥.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٢٥ واليعقوبي ٢ : ٥٩ ، ٦٠ والحلبي في المناقب ١ : ٢٠٨.

(٣) مناقب آل أبي طالب ١ : ٢٠٨.


وعنده ابنته فاطمة ، وزوجته (؟ : أمّ سلمة) ونساء من بني عبد المطلب. وسمّى خمسة منهن : هند بنت عتبة ، وهند بنت المنبّه بن الحجاج أمّ عبد الله بن عمرو بن العاص ، وأمّ حكيم بنت الحارث بن هشام المخزومي امرأة عكرمة بن أبي جهل ، والبغوم بنت المعذّل الكنانية امرأة صفوان بن أميّة ، وفاطمة بنت الوليد بن المغيرة المخزومي (١).

بينما روى الطبرسي في «مجمع البيان» : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بايعهنّ وهو على الصفا ، وكان عمر بن الخطاب أسفل منه ، فقال النبيّ : ابايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا. وكانت هند بنت عتبة متنكرة بين النساء ومتنقّبة خوفا أن يعرفها رسول الله ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله قد بايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط ، فقالت هند : إنّك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال؟! (فسكت عنها رسول الله).

ثم قال : ولا تسرقن. وكان أبو سفيان واقفا يسمع. فقالت هند : إنّ أبا سفيان رجل ممسك ، وانّي أصبت من ماله هنات ، فلا أدري أيحلّ لي أم لا؟! فقال لها أبو سفيان : ما أثبت من مالي فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال! فعرفها رسول الله وضحك وقال : وانّك لهند بنت عتبة؟! فقالت : نعم ، فاعف عمّا سلف يا نبيّ الله ، عفا الله عنك! (فسكت عنها).

ثم قال : ولا تزنين. فقالت هند : أو تزني الحرّة؟! فتبسّم عمر بن الخطاب لما بينهما في الجاهلية!

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ولا تقتلن أولادكنّ. فقالت هند : ربّيناهم صغارا وقتلتموهم

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٥٠ وعن الأبطح قال البلادي في معجم معالم مكة : إذا تجاوزت ريع الحجون مشرقا فهو الأبطح إلى المنحني عند بئر الشيبي ، أما البطحاء فهو من مهبط ريع الحجون إلى المسجد الحرام.


كبارا (تعني ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتله علي بن أبي طالب عليه‌السلام يوم بدر) فتبسّم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقال : ولا تأتين ببهتان. فقالت هند : والله إنّ البهتان قبيح ، وما تأمرنا إلّا بالرشد ومكارم الأخلاق!

وقال وهو يتلو الآية : (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ..). فقالت هند : ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء (١). وقالت أمّ حكيم بنت الحارث امرأة عكرمة : يا رسول الله ، ما ذلك المعروف الذي أمرنا الله أن لا نعصيك فيه؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تلطمن خدّا ولا تخمشن وجها ولا تنتفن شعرا ، ولا تشققن ثوبا ، ولا تسوّدن ثوبا ، ولا تدعين بويل (٢). فقالت : يا رسول الله كيف نبايعك؟ قال : انّني لا أصافح النساء. ثم دعا بقدح من ماء فأدخل يده ثم أخرجها فقال : أدخلن أيديكنّ في هذا الماء ، فهي البيعة (٣).

ثم قالت أمّ حكيم امرأة عكرمة : يا رسول الله ، إن عكرمة خاف أن تقتله فهرب منك إلى اليمن ، فأمّنه. فقال لها رسول الله : هو آمن. وكان لهم غلام روميّ ، فخرجت معه في طلب عكرمة حتى أدركته في ساحل من أرض تهامة يريد ركوب البحر ، فلما أدركته جعلت تقول له : يا ابن عمّ ، جئتك من عند أوصل الناس وأبرّ الناس وخير الناس ، فلا تهلك نفسك! فوقف لها حتى وصلت إليه فقالت له : إنّي قد استأمنت لك محمدا رسول الله. قال : أنت فعلت؟ قالت : نعم ، أنا كلّمته فأمّنك. فرجع معها ..

__________________

(١) مجمع البيان ٩ : ٤١٤.

(٢) وحكاه في التبيان ٩ : ٥٨٨ عن زيد بن أسلم. وفي مجمع البيان ٩ : ٤١٤ عن مقاتل والكلبي!

(٣) بحار الأنوار ٢١ : ١٣٤ عن فروع الكافي ٢ : ٦٦ بثلاث طرق عن الصادق عليه‌السلام. وتفسير القمي ٢ : ٣٦٤ وفيه : انه قعد في المسجد يبايع الرجال إلى العصر ثم قعد لبيعة النساء.


فلما دخل مكة وأقبل معها إلى رسول الله ـ أو قبل ذلك ـ قال النبيّ لأصحابه! يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنا (١) فلا تسبّوا أباه فإن سبّ الميت يؤذي الحيّ ولا يبلغ الميّت. ودنا عكرمة من رسول الله وزوجته معه متنقبة ، ورسول الله جالس ، فوقفا بين يديه وقال عكرمة وهو يشير إليها : يا محمد ، إنّ هذه أخبرتني أنّك أمّنتني! فقال رسول الله : صدقت فأنت آمن. فقال عكرمة : فإلى ما تدعو يا محمد؟ قال : أدعوك إلى أن تشهد أن لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله ، وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة (٢) .. وعدّ خصالا من الإسلام. فقال عكرمة : والله ما دعوت إلّا إلى الحقّ وأمر حسن جميل ، قد كنت فينا قبل أن تدعو إلى ما دعوت إليه وأنت أصدقنا حديثا وأبرّنا برّا .. فانّي أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله. فردّ عليه رسول الله امرأته بنكاحه السابق (٣) وذلك أنّ إسلام عكرمة كان في عدة امرأته لإسلامها قبله (٤).

تكريم ، وتحريم ، وفضيلة ، وعطاء :

قالوا : وقدمت اخت حليمة السعدية من بني سعد بن بكر على رسول

__________________

(١) في نصّ الواقدي زيادة : ومهاجرا. وأظنه زيادة إذ إن ذلك يتنافى وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا هجرة بعد الفتح.

(٢) كذا ، وسيأتي أن الزكاة إنما فرضت في التاسعة بعد رجوعه من فتح مكة.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٥٢ وفي بقية الخبر : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعكرمة : قل : انّي مسلم مهاجر. بينما ثبت عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : لا هجرة بعد الفتح.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٨٥٥. وبقي ممّن أهدر رسول الله دمه وأسلم فيما بعد فأمن : وحشي قاتل حمزة ، وقد هرب إلى الطائف حتى قدم في وفد الطائف فأسلم فأمن. وهبّار ابن الأسود الذي كان قد أسقط زينب بنت النبيّ جنينها يوم هجرتها ، فأهدر النبيّ دمه ، ففرّ في فتح مكة حتى قدم المدينة بعد الجعرّانة فأسلم وأمن ، وسنأتي على خبرهما في موضعه من سياق التاريخ.


الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد فتح مكة وهو بالأبطح ، فلما دخلت عليه وانتسبت له عرفها رسول الله ، وكان معها جراب فيه أقط (١) وزقّ فيه سمن فقدمتها له هدية إليه ، فدعاها رسول الله إلى الإسلام فأسلمت ، فأمر بقبول هديتها ، ثم جعل يسائلها عن حليمة فأخبرته أنها توفيت من زمان ، فذرفت عينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم سألها عمّن بقي منهم فقالت : أخواك واختاك ، ولقد كان لهم موئل (ملجأ) فذهب فهم والله محتاجون إلى صلتك وبرّك. فأمر لها رسول الله بكسوة وجمل ومائتي درهم ، فانصرفت وهي تقول : والله نعم المكفول كنت صغيرا ونعم المرء كنت كبيرا عظيم البركة! (٢).

وروى الواقدي بسنده عن ابن عباس قال : قدم صديق لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليه من ثقيف بعد فتح مكة ومعه راوية خمر قدّمها هدية لرسول الله! فقال له رسول الله : أما علمت أنّ الله حرّمها؟! فسارّ الرجل غلامه فقال له رسول الله : بم أمرته؟ قال : ببيعها! فقال : إنّ الله الذي حرّم شربها حرّم بيعها. ففرّغوها في البطحاء.

وروى عن الزهري أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى بعد الفتح عن ثمن الخمر وثمن الأصنام وثمن الميتة وثمن الخنزير ، وحلوان الكهّان (٣) وأنه قال : لا يزيد الإسلام حلف الجاهلية إلّا شدة (ولكن) لا حلف في الإسلام (٤).

__________________

(١) الأقط : لبن مجفّف على شكل كريات مدوّرة يستعمل في الطبخ وغيره.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٦٩.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٦٤ وزاد عن الزهري : أنّه يومئذ حرّم متعة النساء! فكأنّها كانت كسوابقها مورد ابتلاء شائع في أهل مكة! والحلوان : الحلاوة.

(٤) مغازي الواقدي بسنده عن ربيعة بن عبّاد ٢ : ٨٦٧ ، ولعله يشير إلى مثل حلف الفضول ، كما مرّ الكلام فيه.


وروى عن عطاء بن أبي رباح قال : جاء رجل إلى رسول الله بعد الفتح فقال : انّي كنت قد نذرت أن إذا فتح الله عليك مكة أن اصلي في بيت المقدس! فقال رسول الله : هاهنا أفضل. كرّر ذلك ثلاثا ثم قال : والذي نفسي بيده لصلاة هاهنا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من البلدان (١).

وخبر وفد بكر بن وائل :

روى الصدوق في «كمال الدين» بسنده عن الباقر عليه‌السلام قال : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم (بعد أن) افتتح مكة بفناء الكعبة إذ أقبل وفد إليه وسلّموا عليه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : من القوم؟ قالوا : وفد بكر بن وائل. فسألهم عن خبر قسّ بن ساعدة الإياديّ ، فقالوا : مات. فقال رسول الله : الحمد لله ربّ الموت وربّ الحياة (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) كأنّي أنظر الى قسّ بن ساعدة الإيادي وهو بسوق عكاظ على جمل أحمر له وهو يخطب الناس ويقول : «أيها الناس اجتمعوا ، فإذا اجتمعتم فأنصتوا ، فإذا أنصتّم فاسمعوا ، فإذا سمعتم فعوا ، فإذا وعيتم فاحفظوا ، فإذا حفظتم فاصدقوا.

الا انه من عاش مات ، ومن مات فات ، ومن فات ليس بآت. إنّ في السماء خبرا وفي الأرض عبرا سقف مرفوع ومهاد موضوع ، ونجوم تمور ، وليل يدور وبحار (لا) تفور. يحلف قسّ ما هذا بلعب ، وأنّ من وراء هذا لعجبا! ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون ، أرضوا بالمقام فأقاموا؟ أم تركوا فناموا؟!

يحلف قسّ يمينا غير كاذبة : أنّ لله دينا هو خير من الدين الذي أنتم عليه»!

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٦٦ هذا ، وعن الصادق عليه‌السلام : أنها تعدل مائة ألف صلاة. الوافي ٨ : ١٠ ، ومن هنا أفاد الفقهاء شرط الرجحان الشرعيّ في المنذور.


ثمّ قال رسول الله : رحم الله قسّا يحشر يوم القيامة أمّة وحده! ثمّ قال لهم : وهل فيكم أحد يحسن من شعره شيئا؟ فقال أحدهم : سمعته يقول :

في الأوّلين الذاهبين من القرون لنا بصائر

لما رأيت مواردا للموت ليس لها مصادر

ورأيت قومي نحوها تمضي الأكابر والأصاغر

لا يرجع الماضي ولا يبقى من الباقين غابر

 أيقنت أني لا محالة حيث صار القوم صائر

وروى فيه بسنده عن محمد بن السائب الكلبي : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله سألهم عن بعض حكم قسّ فحكى له أحدهم من شعره وخطبه قوله :

يا ناعي الموت ، والأموات في جدث

عليهم من بقايا بزّهم خرق

دعهم فإنّ لهم يوما يصاح بهم

كما ينبّه من نوماته الصعق

منهم عراة ومنهم في ثيابهم

منها الجديد ومنها الرثّ والخلق

حتى يعودوا بحال غير حالتهم

خلق جديد وخلق بعدهم خلقوا

ثم قال : مطر ونبات ، وآباء وامهات ، وذاهب وآت ، وأموات بعد أموات ، وآيات إثر آيات : ضوء وظلام ، وليال وأيام ، وفقير وغني ، وسعيد وشقي ، ومحسن ومسي ، نبأ لأرباب الغفلة ، ليصلحنّ كلّ عامل عمله!

كلّا! بل هو الله واحد ، ليس بمولود ولا والد ، أعاد وأبدا ، وإليه المعاد غدا!

أما بعد ـ يا معشر إياد ـ أين ثمود وعاد؟ وأين الآباء والأجداد؟ أين الحسن الذي لم يشكر؟ والقبيح الذي لم ينقم؟! كلّا وربّ الكعبة ليعودنّ ما بدأ ، ولئن ذهب يوم ليعودنّ يوم (١).

__________________

(١) كمال الدين : ١٦٦ ـ ١٦٨ ، ط. طهران.


الأصنام في مكة وحواليها :

روى الواقدي عن سعيد بن عمرو الهذلي : أنّه كان يرى في مكة أبا تجراة يعمل الأصنام ويبيعها. وعن جبير بن مطعم قال : كنت أرى الأصنام يطاف بها في مكة ، ولم يكن رجل من قريش بمكة إلّا وفي بيته صنم ، إذا دخل بيته أو خرج تمسّح به تبرّكا ، وكان يشتريها أهل البدو فيخرجون بها إلى بيوتهم.

فلما كان يوم الفتح نادى منادي رسول الله : من كان يؤمن بالله فلا يتركنّ في بيته صنما إلّا كسره أو حرقه ، وثمنه حرام. فجعل المسلمون يكسرونها ، وإذ أسلم عكرمة كان إذا سمع بصنم في بيت من بيوت قريش مشى إليه حتى يكسره. وبثّ السرايا لذلك ، فبعث لهدم صنم مناة بالمشلّل : سعد بن زيد الأشهل ، فهدمه (١). وبعث لهدم صنم سواع ـ وهو لبني هذيل ـ عمرو بن العاص السهمي ، فروى عنه قال : انتهيت إليه وعنده سادنه فقال لي : ما تريد؟ قلت : هدم سواع! فقال : ما لك وله؟ قلت : أمرني رسول الله. قال : لا تقدر على هدمه! قلت : لم؟ قال : يمتنع! فقلت : أنت في الباطل حتى الآن؟! ويحك وهل يسمع أو يبصر؟! ثم دنوت إليه فكسرته ، وأمرت أصحابي فهدموا بيت خزانته فلم يكن فيه شيء (٢).

قال ابن اسحاق : وكانت العزّى في جبل بموضع نخلة في بيت يعظّمه قريش ومضر وكنانة كلها ، وحجابها وسادنها من بني شيبان من سليم (٣).

__________________

(١) مرّ الخبر عن الكلبي في الأصنام : ١٤ أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن خرج من المدينة بأربع أو خمس ليالي ، بعث عليّا عليه‌السلام إلى مناة صنم هذيل وخزاعة فهدمها وأخذ سيفين : المخذم والرّسوب ، كانا أهداهما الحارث الغساني إليها ، فوهبهما النبيّ لعلي عليه‌السلام ، وبعثه صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا إلى القليس صنم طيء فهدمه ، وقيل هنا كانت هدايا الحارث الغساني.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٧٠ ، ٨٧١.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٧٩.


وقال الواقدي : هو أفلح بن نضر الشيباني من بني سليم ، وهو الذي عاده أبو لهب ـ وكان في فراش الموت ـ فرآه حزينا ، فقال له : ما لي أراك حزينا؟ قال : أخاف أن تضيع من بعدي العزّى! فقال أبو لهب : فلا تحزن فأنا أقوم عليها بعدك! وقال خالد لرسول الله : أي رسول الله ، الحمد لله الذي أكرمنا وأنقذنا من الهلكة! إنّي كنت أرى أبي (الوليد بن المغيرة) يذهب إلى العزّى بهديه مائة من الإبل والغنم فيذبحها للعزّى ، ويقيم عندها ثلاثا ، ثم ينصرف إلينا مسرورا! فأنا اليوم أنظر إلى ما مات عليه أبي وذلك الرأي الذي كان يعيش في فضله كيف خدع حتى صار يذبح لحجر لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضر؟! فقال رسول الله : إنّ هذا الأمر إلى الله ، فمن يسّره للهدى تيسّر ، ومن يسّره للضلالة كان فيها.

وبعثه رسول الله لهدم العزّى ، فخرج في ثلاثين فارسا من أصحابه ، فلما انتهى جرّد سيفه ، فجعل السادن يصيح عليها :

أيا عزّ ، شدي شدة لا شوى لها

على خالد ، ألقي القناع وشمّري (١)

ايا عزّ ، إن لم تقتلي المرء خالدا

فبوئي بذنب عاجل أو تنصّري (٢)

قال خالد : وأخذني اقشعرار في ظهري! ثم أقبلت عليها بسيفي وأنا أقول :

يا عزّ كفرانك لا سبحانك

إنّي وجدت الله قد أهانك (٣)

ثم جدّلها نصفين ، وهدمها .. وكان هدمها لخمس ليال بقين من رمضان (٤) ثم رجع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : هدمت؟ قال : نعم يا رسول الله ... قال : نعم ، تلك العزّى وقد يئست أن تعبد ببلادكم أبدا (٥).

__________________

(١) لا شوى لها : لا بقية لها ، واللفظ لابن اسحاق في السيرة ٤ : ٧٩.

(٢) تنصّري ، كوني نصرانية خارجة عن دينك ، أو بمعنى انتصري لنفسك على خالد!

(٣) عودا على ما قاله حين إسلامه أنه وجد الله قد خذلهم وأعزّ عبده وجنده ، كما مرّ.

(٤) بينما جاء في المنتقى : بعثه لخمس بقين من رمضان وانتهى إليها في الثلاثين فهدمها.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٨٧٣ ، ٨٧٤.


وروى الواقدي عن سعيد الهذلي قال : قدم رسول الله مكة يوم الجمعة لعشر ليال بقين من رمضان ، فبث السرايا في كل وجه وأمرهم أن يغيروا على من لم يسلم (؟!). فخرج هشام بن العاص في مائتين إلى جهة يلملم (وهو جبل في واد على ثلاث ليال من مكة). وخرج خالد بن سعيد بن العاص في ثلاثمائة إلى وادي عرنة (بعد عرفة) (١).

بينما روى الطبرسي في «إعلام الورى» قال : بعث عبد الله بن سهيل بن عمرو المخزومي (وقد لحق بالمسلمين والنبيّ ، بعد الفتح ، مع إسلام أبيه سهيل) إلى بني محارب بن فهر ، فأسلموا ، وجاء منهم نفر إلى رسول الله بإسلامهم. وبعث عمرو بن اميّة الضّمري إلى بني الديل الخزاعيين ، فدعاهم إلى الله ورسوله ، فأبوا أشدّ الاباء ، فأشار عليه الناس بغزوهم ، فقال : الآن يأتيكم سيدهم قد أسلم ، فيقول لهم أسلموا ، فيقولون نعم (فكان كما قال). وبعث غالب بن عبد الله إلى بني مدلج ، فقالوا : لسنا معكم ولا عليكم فأشار عليه الناس بغزوهم فقال : إنّ لهم سيّدا أديبا أريبا ، وربّ غاز من بني مدلج شهيد في سبيل الله (فكان كما قال) (٢).

ونصّ ابن اسحاق : بعث رسول الله السّرايا حول مكة تدعو إلى الله عزوجل ، ولم يأمرهم بقتال (٣).

خالد ، وبنو جذيمة :

قال ابن اسحاق : كان رجل من بني جذيمة بن عامر من بني كنانة تاجرا في

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٧٣.

(٢) إعلام الورى ١ : ٢٢٧.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٧٠ ، ٧١.


الجاهلية إلى اليمن ، في سنة تاجر فيها إليها رجال من قريش منهم : عفّان بن أبي العاص بن اميّة ومعه ابنه عثمان ، وأبو عبد الرحمن عوف بن عبد عوف الزهري ، والفاكه بن المغيرة المخزومي ، ومات الرجل من بني جذيمة باليمن ، فأوصى بماله أن يحمله اولئك الرجال من قريش إلى ورثته بأرضهم الغميصاء قرب مكة ، فحملوه معهم. وعلم بذلك رجل من بني جذيمة يقال له : خالد بن هشام ، فوافق جمعا من قومه ليأخذوا المال من اولئك الرجال قبل أن يصلوا إلى أهل الميّت ، وأن يقاتلوهم إن أبوا عليهم ذلك. فلقوهم وطالبوهم المال فأبوا عليهم فقاتلوهم ، فقتل أبو عبد الرحمن عوف بن عبد عوف الزهري ، والفاكه بن المغيرة المخزومي ، وفرّ عفّان بن أبي العاص وابنه عثمان.

وهمّت قريش بغزو بني جذيمة ، وأرسل بنو جذيمة إلى قريش : ما كان مصاب أصحابكم عن ملأ منّا ، إنّما عدا عليهم قوم بجهالة فأصابوهم ولم نعلم ، ونحن نعقل لكم (أي نؤدي عقله : ديته) ما كان لكم قبلنا من دم أو مال. ورصد عبد الرحمن بن عوف لقاتل أبيه فقتله ، فقبلت قريش بذلك ، ووضعوا الحرب (١).

وبقي وتر الفاكه بن المغيرة المخزومي عمّ خالد بن الوليد لم يثأر ولم يقتصّ له من بني جذيمة ، وخلد هذا في خلد خالد وما انصاع لما صدع به رسول الله بعد فتح مكة من وضع ترات الجاهلية ودمائها بما فيها من دم الحارث بن عبد المطّلب من بني هاشم لم يقتصّ له ، ولكنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كما قال المفيد ـ أراد أن يستثمر تلك الترة التي كانت بين خالد بن الوليد وبينهم لصالح الإسلام ، قال : «ولو لا ذلك ما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خالدا أهلا للإمارة على المسلمين .. ولذلك أيضا أنفذ معه عبد الرحمن بن عوف

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٧٤.


أيضا للترة التي كانت بينه وبينهم» (١) «فأنفذ خالد بن الوليد إلى بني جذيمة ، ولم ينفذه محاربا (بل) داعيا إلى الإسلام» (٢).

وهذا هو ما رواه ابن اسحاق في السيرة عن حكيم بن حكيم بن عبّاد بن حنيف الأنصاري (٣) عن الإمام الباقر عليه‌السلام ، ورواه الواقدي أيضا عنه بواسطة عبد الرحمن بن عبد العزيز أكثر تفصيلا قال : لما رجع خالد بن الوليد من هدم العزّى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكة ، بعثه رسول الله إلى بني جذيمة داعيا لهم إلى الإسلام ، ولم يبعثه مقاتلا. فخرج في المسلمين من المهاجرين والأنصار وبني سليم : ثلاثمائة وخمسين رجلا.

فلما انتهى إليهم بأسفل مكة قيل لبني جذيمة : هذا خالد بن الوليد ومعه المسلمون. قالوا : ونحن قوم مسلمون قد صدّقنا بمحمد وبنينا المساجد وأذّنا فيها وصلّينا ، (ولكنهم تسلّحوا) فلما انتهى إليهم خالد قال لهم : الإسلام! قالوا : نحن مسلمون! قال : فما بال السلاح عليكم؟ قالوا : إنّ بيننا وبين قوم من العرب عداوة فخفنا أن تكونوا أنتم هم ، فأخذنا السلاح لندفع عن أنفسنا .. قال : فضعوا السلاح! فأخذوا يضعون عنهم السلاح.

فقال لهم رجل منهم يقال له : جحدم : يا بني جذيمة ، إنّ محمدا ما يطلب من

__________________

(١) الإرشاد ١ : ١٣٩.

(٢) الإرشاد ١ : ٥٥.

(٣) الرجل من الأنصار ثم من بني حنيف الأنصاريين ، جدّه عبّاد أخو سهل وعثمان ابني حنيف الأنصاريين عاملي علي عليه‌السلام على البصرة قبل الجمل وبعدها ، لم يذكره النجاشي وذكره الطوسي في رجال الإمام السجاد عليه‌السلام : ٨٧ ، وذكره الأردبيلي في جامع الرواة ١ : ٢٦٨ راويا عن الباقر والصادق عليهما‌السلام أيضا ، وهو الصحيح.


أحد أكثر من أن يقرّ بالإسلام ونحن مقرّون بالإسلام (و) خالد لا يريد بنا ما يراد بالمسلمين. فقال له قومه : إنّ محمدا قد فتح مكة ، والناس قد أسلموا ، وإنّا مسلمون ، فما نخاف من خالد؟ فقال : أما والله ليأخذنكم بما تعلمون من الأحقاد القديمة! وأبى أن يلقي سيفه حتى كلّموه جميعا فألقى سيفه (١).

فلما وضع القوم السلاح قال لهم خالد : استأسروا! وأمرهم فأخذ بعضهم يكتف بعضا ، فكلما كتف الرجل والرجلان دفع الواحد أو الاثنين إلى رجل من المسلمين.

واختلف المسلمون في أسرهم على قولين : فقائل يقول : نبلوهم ونخبرهم وننظر هل يسمعون ويطيعون! وقائل يقول : بل نذهب بهم إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. ولما جاء وقت الصلاة كانوا يفكّونهم فيصلون ثم يربطون! وباتوا هكذا في وثاق! فلما كان السحر نادى خالد بن الوليد : من كان معه أسير فليذافّه! أي يجهز عليه بالسيف! فأما بنو سليم فقتلوا كل من كان في أيديهم (ولكنّ) المهاجرين والأنصار فكّوا اساراهم (٢).

قال الواقدي : وكان بنو سليم موتورين من بني جذيمة متغيّظين عليهم يريدون القصاص منهم ، لحروب كانت بينهم فكانت بنو جذيمة قد أصابوا

__________________

(١) ورد هذا في مغازي الواقدي ضمن الخبر عن الباقر عليه‌السلام ، بينما قطع ابن اسحاق الخبر ليروي خبر جحدم عن بعض أهل العلم من بني جذيمة ثم يرجع إلى سائر الخبر عن الباقر عليه‌السلام أيضا.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٧٥ ، ٨٧٦ ثم لا يرجع الواقدي إلى ما جاء في رواية ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٧١ ، ٧٢ من تبرّي النبيّ من فعل خالد وبعثه عليّا عليه‌السلام بديات القتلى من بني جذيمة إلى أوليائهم الباقين منهم. ولا يوجد الخبر فيما بأيدينا من كتبنا.


بني سليم في أرض برزة في الجاهلية قبل الإسلام ، فتشجّع هنا بنو سليم على بني جذيمة (١) وترا وقصاصا.

وروى عن زيد بن ثابت قال : لما نادى خالد بن الوليد أن يذفّفوا على أسراهم وثب بنو سليم على أسراهم فذافّوهم ، وأرسل الأنصار والمهاجرون أسراهم فغضب خالد عليهم ، فقال له أبو اسيد الساعدي : اتق الله يا خالد ، والله ما كنا نقتل قوما مسلمين! قال : وما يدريك؟ قال : هذه المساجد بساحتهم ونسمع إقرارهم بالإسلام (٢).

وروى عن أبي قتادة قال : لما نادى خالد في السحر : من كان معه أسير فليذافّه أرسلت أسيري وقلت لخالد : اتّق الله ، فانّك ميّت! وإن هؤلاء قوم مسلمون! فقال لي خالد : يا أبا قتادة ، إنّه لا علم لك بهؤلاء. قال أبو قتادة : وانما كان يكلّمني خالد على ما في نفسه من الترة عليهم! (٣).

وروى عن أبي بشير المازني قال : لما نادى خالد : من كان معه أسير فليذافّه! كان معي أسير منهم فأخرجت سيفي لأضرب عنقه! فقال لي الأسير : يا أخا الأنصار ، انظر إلى قومك! فنظرت فإذا الأنصار طرّا قد أرسلوا اساراهم ، فقلت له : فانطلق حيث شئت. فقال : بارك الله عليكم ، ولكن قتلنا من كان أقرب رحما منكم : بنو سليم! (٤).

وروى عن خالد بن الياس يقول : بلغنا أنه قتل منهم ثلاثون رجلا تقريبا (٥).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٧٨.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٧٧.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٨١.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٨٧٧.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٨٨٤.


وروى ابن هشام أنّه انفلت رجل من القوم (بني جذيمة) فأتى رسول الله فأخبره الخبر ، فسأله رسول الله : هل أنكر عليه أحد؟ ولم يكن يعرف المسلمين ، فقال : نعم ، قد انكر عليه رجل أبيض ربعة (لا بالطويل ولا بالقصير) فنهره خالد فسكت عنه. وانكر عليه رجل آخر طويل فراجعه واشتدت مراجعتهما. فقال عمر بن الخطاب : أما الأوّل فابني عبد الله ، وأمّا الآخر فسالم مولى أبي حذيفة (١).

وفي تمام خبر حكيم بن حكيم عن الباقر عليه‌السلام قال : فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رفع يديه إلى السماء ثم قال : اللهم إنّي أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد (٢).

وروى الواقدي قال : استقرض رسول الله من ثلاثة نفر من قريش بعد أن أسلموا : حويطب بن عبد العزّى أربعين ألف درهم. وصفوان بن يحيى المخزومي خمسين ألف درهم. وعبد الله بن أبي ربيعة المخزومي أربعين ألف درهم. فكانت مائة وثلاثين ألف درهم ، فقسم منها بين أهل الضعف من أصحابه ، فكان يصيب الرجل منهم خمسون درهما أو أقل أو أكثر. وكان منه ما بعث به إلى بني جذيمة (٣).

علي عليه‌السلام يرأب الصّدع :

في تمام خبر ابن اسحاق عن حكيم عن الباقر عليه‌السلام قال : ثم دعا رسول

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٤ : ٧٢.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٧٢. ولم يروه الواقدي في تمام خبر حكيم عن الباقر عليه‌السلام ورواه مرسلا ٣ : ٨٨١.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٦٣ ، ٨٦٤ وتمام الخبر : فلما فتح الله عليه هوازن ردّها. وقال في ٢ : ٨٨٢ : يقال : إنّ المال الذي بعث به مع عليّ عليه‌السلام كان استقرضه النبيّ من ابن أبي ربيعة وصفوان بن اميّة وحويطب بن عبد العزّى. وقال اليعقوبي : بعث معه بمال ورد من اليمن! ٢ : ٦١.


الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّ بن أبي طالب (رضوان الله عليه) فقال له : يا علي ، اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم ، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك. (وبعث معه بمال).

فخرج علي عليه‌السلام ومعه المال الذي بعث به معه رسول الله ، فودى لهم الدماء وما اصيب لهم من الأموال ، حتى انه ليدي ميلغة الكلب (١) حتى لم يبق شيء من دم ولا مال إلّا وداه ، وبقيت معه من المال بقية ، فقال لهم : هل بقي لكم بقية من دم أو مال لم يود لكم؟ قالوا : لا ، قال : فانّي اعطيكم هذه البقية من هذا المال احتياطا لرسول الله مما لا يعلم ولا تعلمون.

ثم رجع إلى رسول الله فأخبره الخبر ، فقال له : أصبت وأحسنت. ثم قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فاستقبل القبلة قائما شاهرا يديه حتى أنه ليرى ما تحت منكبيه يقول ثلاث مرات : اللهم إنّي أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد (٢).

وقال الواقدي : فلما رجع عليّ عليه‌السلام دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : ما صنعت يا علي؟ فقال : يا رسول الله ، قدمنا على قوم مسلمين قد بنوا المساجد بساحتهم ، فوديت لهم كلّ من قتل خالد حتى ميلغة الكلاب ، ثم بقي معي بقية من المال فقلت لهم : هذا من رسول الله مما لا يعلمه ولا تعلمونه. فقال رسول الله : أصبت! ما أمرت خالدا بالقتل ، إنّما أمرته بالدعاء (٣).

وروى الصدوق في «الخصال» بسنده عنه عليه‌السلام قال : فذهبت فوديتهم ثم ناشدتهم بالله : هل بقي شيء؟ فقالوا : إذ نشدتنا بالله فميلغة كلابنا وعقال بعيرنا. فأعطيتهم لهما ، وبقي معي ذهب كثير فأعطيتهم إياه وقلت : هذا لذمّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) الميلغة : إناء خشبيّ لولوغ الكلاب عند الرعاة وأهل البوادي.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٧٢ ، ٧٣.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٨٢ ولم يروه من خبر حكيم عن الإمام الباقر عليه‌السلام مع أنّه روى أوله ، ورواه عنه ابن اسحاق في السيرة مختصرا ، كما مرّ.


ولما تعلمون ولما لا تعلمون ولروعات النساء والصبيان. ثم جئت إلى رسول الله فأخبرته ، فقال : يا عليّ والله ما يسرّني أنّ لي بما صنعت حمر النعم (١).

وروى الطوسي في «الأمالي» بسنده عن الإمام الباقر عليه‌السلام أيضا عن جابر ابن عبد الله الأنصاري قال في خبره : ورجع علي عليه‌السلام إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له : ما صنعت؟ فأخبره حتى أتى على حديثهم فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أرضيتني رضى الله عنك ، يا علي أنت هادي أمّتي ، ألا إنّ السعيد كل السعيد من أحبّك وأخذ بطريقتك ، إلّا أنّ الشقي كل الشقي من خالفك ورغب عن طريقتك إلى يوم القيامة (٢). ويبدو من خبر الطبرسي في «الاحتجاج» أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله هنا بعث (ابن عمه العباس عبد الله بن العباس (٣)) إلى معاوية ليكتب لبني جذيمة ، فعاد إليه وقال : هو يأكل! فأعاد الرسول إليه ثلاث مرّات ، كل ذلك يعود الرسول ويقول : هو يأكل! فقال رسول الله : اللهم لا تشبع بطنه! (٤).

خالد عند رجوعه :

ولما قدم خالد بن الوليد إلى مكة ، تلقاه عبد الرحمن بن عوف ومعه عثمان بن

__________________

(١) الخصال ٢ : ٥٦٢ واختصر الخبر وذكر آخره اليعقوبي ٢ : ٦١ وزاد : ويومئذ قال لعليّ : فداك أبواي!

(٢) أمالي الطوسي : ٤٩٨.

(٣) صحيح مسلم بشرح النووي ١٦ : ١٥٥ والاستيعاب ٤ : ٤٧٤ واسد الغابة ٤ : ٣٨٦.

(٤) الاحتجاج على أهل اللجاج ١ : ٤٠٨ في احتجاجات الحسن عليه‌السلام. وعن ابن عباس في صحيح مسلم وعنه في تذكرة خواص الامّة بخصائص الأئمة : ٢٠٠ وفي الاستيعاب وفي اسد الغابة بلفظ : لا أشبع الله بطنه!


عفّان وعمر بن الخطّاب ، فقال ابن عوف لخالد : يا خالد ، أخذت بأمر الجاهلية! قتلتهم بعمّك الفاكه ، قاتلك الله! فقال خالد : بل أخذتهم بقتل أبيك! فقال عبد الرحمن : كذبت والله ، لقد قتلت قاتل أبي بيدي وأشهدت على قتله عثمان بن عفّان ، ثم التفت إلى عثمان فقال له : انشدك الله هل علمت أنّي قتلت قاتل أبي؟ فقال عثمان : نعم. فقال عبد الرحمن لخالد : يا خالد ويحك ولو لم أقتل قاتل أبي أكنت تقتل قوما مسلمين بأبي في الجاهلية؟ فقال له خالد : ومن أخبرك أنهم أسلموا؟! فقال ابن عوف : أهل السريّة كلهم يخبروننا أنك وجدتهم قد بنوا المساجد وأقرّوا بالإسلام ، ثم حملتهم على السيف. فقال خالد : جاءني رسول رسول الله أن أغير عليهم ، فأغرت بأمر النبيّ!

فقال ابن عوف : كذبت على رسول الله! (١).

فقال عمر لخالد : ويحك يا خالد ، أخذت بني جذيمة بالذي كان من أمر الجاهلية! أو ليس الإسلام قد محا ما كان قبله في الجاهلية؟ فقال له : يا أبا حفص ، والله ما أخذتهم إلّا بالحقّ! أغرت على قوم مشركين فامتنعوا فأسرتهم ثم حملتهم على السيف! فقال له عمر : أيّ رجل ترى ابني عبد الله؟ قال خالد : والله أراه رجلا صالحا؟ قال عمر : فهو كان معك في الجيش وقد أخبرني غير الذي أخبرت. فقال خالد : فإنّي أستغفر الله وأتوب إليه! فقال له عمر : ويحك ايت رسول الله يستغفر لك!

وقدم خالد على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو عليه عاتب (٢) وغاضب (٣) ، فكان يعرض

__________________

(١) واختصر الخبر اليعقوبي ٢ : ٦١.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٨٠ ، ٨٨١.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٨٠.


عنه ولا يقبل عليه وخالد يتعرض لرسول الله ويحلف له أنه ما قتلهم على ترة ولا عداوة! (١).

ودخل عمّار بن ياسر حليف بني مخزوم على رسول الله وخالد جالس ، فقال له : يا رسول الله ، لقد حمس قوما قد أسلموا وصلّوا ، ثم أغلظ على خالد عند النبيّ وهو ساكت لا يتكلم ، ثم قام عمار فخرج فوقع فيه خالد عند النبيّ ، فالتفت النبيّ إليه وقال له : مه يا خالد! لا تقع بأبي اليقظان فإنه من يعاده يعاده الله ، ومن يبغضه يبغضه الله ، ومن يسفّهه يسفّهه الله! (٢).

ومن يعذر خالدا؟! :

وبعد كلّ هذا أعقب الواقديّ ذلك بنقل قول لقائل يدعى عبد الملك قال : أمر رسول الله خالد بن الوليد أن يغير على بني كنانة إلّا أن يسمع أذانا أو يعلم إسلاما. فخرج حتى انتهى إلى بني جذيمة فتلبّسوا السلاح وامتنعوا أشد امتناع ، فانتظر بهم صلاة العصر والمغرب والعشاء فلم يسمع أذانا ، فحمل عليهم فأسر من اسر وقتل من قتل منهم ، فبعد ذلك ادّعوا الإسلام ، فما عتب رسول الله في ذلك على خالد. وقال : وكان رسول الله يعرض عن خالد حتى قدم علي (عليه‌السلام) وقد وداهم ، فأقبل رسول الله على خالد ، فلم يزل عنده من علية أصحابه ، ونهاهم أن

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٨٣.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٨١ ، ٨٨٢ وقال : وبلغه ما صنع بعبد الرحمن بن عوف فقال له : يا خالد ، ذروا لي أصحابي! متى ينك أنف المرء ينك! لو كان لك احد ذهبا تنفقه قيراطا قيراطا في سبيل الله لم تدرك غدوة أو روحة من غدوات أو روحات عبد الرحمن بن عوف! : ٨٨٠ قال : فمشى خالد بعثمان بن عفّان إلى عبد الرحمن فاعتذر إليه حتى رضي عنه : ٨٨١ ثم لا يهمّه أمر عمار وهو حليف لهم!


يسبّوه فقال : لا تسبّوا خالد بن الوليد فانما هو سيف من سيوف الله سلّه على المشركين! بل قال : نعم عبد الله خالد بن الوليد وأخو العشيرة! وسيف من سيوف الله سلّه الله على الكفّار والمنافقين! (١).

وروى ابن اسحاق عن خالد قال : ما قاتلت حتى جاءني عبد الله بن حذافة السهمي وقال لي : إنّ رسول الله قد أمرك أن تقاتلهم لامتناعهم عن الإسلام!

ولكن ابن اسحاق عنون هذا بقوله : وقد قال بعض من يعذر خالدا (٢) أجل ، فهذا كلّه لتعذير خالد وتبرير ما تبرّأ منه رسول الله إلى الله مستقبلا القبلة شاهرا يديه حتى يرى ما تحت منكبيه ، كما عند ابن اسحاق ، أو حتى رؤي بياض إبطيه كما في نقل الواقدي ، كما مرّا.

وعلى ما مرّ فانّ خالدا كان قاتلا لثلاثين رجلا منهم ليس خطأ بل عمدا ، إن لم يكن مباشرا فيقتصّ منه ، فهو آمر به ، وحكمه في الإسلام السجن المؤبّد (٣) ولم ينفّذ فيه؟ إما لأنه لم يشرّع بعد يومئذ ، أو لأنّ تنفيذه فيه موكول على طلب أولياء الدماء ، وقد أدّى صلى‌الله‌عليه‌وآله إليهم دية قتلاهم ، فرضي البالغون منهم بذلك ، وقصر القاصرون منهم عن طلب تنفيذ الحكم في خالد ، فتوقّف أو تجمّد.

وأما المباشرون لقتل القتلى بأمر خالد من بني سليم ، وقد مرّ عن الواقدي : أن بني جذيمة كانوا قد أصابوا بني سليم في الجاهلية ، فكان بنو سليم موتورين يريدون القود من بني جذيمة (٤) فقد درأ حدّ القتل قصاصا عنهم ما درأه عن خالد من رضى البالغين من أولياء الدماء بالديات المؤدّاة إليهم واسترضاء المرتضى عليه‌السلام

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٨٣.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٧٣.

(٣) انظر موارد السجن في الإسلام في النصوص والفتاوى للشيخ نجم الدين الطبسي النجفي.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٨٧٨.


منهم ، وقصر القاصرين منهم عن طلب القصاص والقود ، بالإضافة إلى شبهة طاعة خالد القائد ، هذا وقد تقرّر : أن الحدود تدرأ بالشبهات (١).

__________________

(١) لم يعرض للشبهة وردّها من عرض الخبر من الشيخ المفيد في الإرشاد ، أو الطبرسي في إعلام الورى ، أو المجلسي في بحار الأنوار هنا ، ولا في «باب عصمته وتأويل بعض ما يوهم خلاف ذلك» ١٧ : ٣٤ ـ ٩٧ ، ولا السيد المرتضى في كتابه تنزيه الأنبياء ، ولا في أماليه : غرر الفوائد ودرر القلائد ، ولا في بحث العصمة من الذخيرة في الكلام ، ولا غيره في سائر كتب الكلام والعقائد اللهم إلّا ما عثرت عليه ضمن كلام المرحوم المظفّر في دلائل الصدق ٣ (القسم الثاني) : ٣٥ قال : وانما لم يقتل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله خالدا بمن قتله من المسلمين : لقبول أهلهم الديات. أو : لئلا يقال : انّه يقتل أصحابه ، فيحصل في أمره وهن أو لادّعاء خالد الشبهة ، لقوله ـ كما ذكره الطبري ـ أن عبد الله بن حذافة أمرني بذلك عن رسول الله. أو : لما ذكره ابن عمر : من أنهم قالوا : صبأنا.

وإن لم يكن للشبهة حقيقة عندنا ، ولذلك برئ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الله تعالى من فعله ، كما أنّ براءته صلى‌الله‌عليه‌وآله من صنع خالد دون ابن حذافة دليل على كذب خالد في عذره أو كذب من أرادوا إصلاح حاله.

وهنا من أخباره صلى‌الله‌عليه‌وآله في مكة بعد فتحها وقبل أن يخرج منها لحرب حنين ثم الطائف ثم ينصرف إلى المدينة : أنّه تزوّج مليكة بنت داود الليثية وهي امرأة قتل أبوها في الفتح ، وكأنّه أراد أن يتألفهم بذلك. وكان معه من أزواجه أمّ سلمة وزينب بنت جحش ، وكأنّها هي التي غارت من الليثية وكانت حدثة جميلة فقالت لها : ألا تستحين تتزوّجين رجلا قتل أباك!! فإذا دخل عليك فاستعيذي منه! فلما دخل عليها استعاذت منه! ففارقها كما في الطبري ٣ : ٦٥ عن الواقدي وليس في المغازي ، ونقله مرة اخرى عنه : ٩٥ وسماها فاطمة بنت الضحاك الكندية ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٨٣ عن الباب الثامن من المنتقى للكازروني. وسمّاها الحلبي في المناقب ١ : ١٦٠ : أسماء بنت النعمان بن الأسود الكندي (من أهل اليمن) كان إحدى أزواجه قالت لها تقوله لتحظى عنده! فلما


غزوة هوازن في حنين (١) :

استعداد هوازن للحرب : قال القمي : لما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى فتح مكة أظهر أنّه يريد هوازن. وبلغ الخبر هوازن ، فتهيّؤوا وجمعوا الجموع والسلاح ، واجتمع رؤساء هوازن إلى مالك بن عوف النصري فرأسوه عليهم (٢).

قال ابن اسحاق : فاجتمعت إليه من هوازن : نصر وجشم ، وسعد بن بكر (قبيلة حليمة السعدية مرضعة النبيّ) ، وناس قليل من بني هلال .. وغاب عنها : كعب وكلاب. واجتمع إليه مع هوازن ثقيف : بنو مالك ، وفيهم سيّداهم أحمر بن الحارث وأخوه سبيع بن الحارث ذو الخمار. والأحلاف وفيهم سيّدهم القارب بن الأسود بن مسعود. وجماع أمر الناس إلى مالك بن عوف النصري (٣).

وروى الواقدي مثل ذلك وأضاف : أنّ كنانة بن عبد ياليل الثقفي قال لهم : يا معشر ثقيف ، انكم تخرجون من حصنكم وتسيرون إلى رجل لا تدرون أيكون لكم أم عليكم ، فمروا بحصنكم أن يرمّ ما رثّ منه ؛ فإنكم لا تدرون لعلكم تحتاجون إليه. فخلّفوا على مرمّته رجلا وأمروه أن يصلحه ، وساروا. وانما تركت كلاب من هوازن

__________________

ـ دخلت عليه قالت : أعوذ بالله منك! فقال : أعذتك ، الحقي بأهلك! وهو ما ذكره اليعقوبي ٢ : ٨٥ وكرّر مثل ذلك في جونية الكندية وأن عائشة وحفصة أصلحاها فقال لها احداهما أن تتعوّذ منه إذا دخل عليها ، ففعلت ، ففارقها ، فماتت كمدا!

(١) واد بين مكة إلى الطائف إلى جانب ذي المجاز ، ٤٠ كم عن مكة تقريبا ، بينه وبين مكة ثلاث ليال ، كما في التنبيه والاشراف : ٢٣٤.

(٢) تفسير القمي ١ : ٢٨٥. وجاء وصف مالك هذا لدى الواقدي قال : وكان سيدا فيها مسبلا لثيابه إلى الأرض كبرا واختيالا ، محمودا ، وهو ابن ثلاثين سنة. المغازي ٢ : ٨٨٥.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٨.


الحرب مع قربها لأن سيّدها ابن أبي البراء مشى فيها فنهاها عن الحضور يقول : والله لو ناوأ من بين المشرق والمغرب محمدا لظهر عليهم (١).

خروجهم بعوائلهم :

وكان من رأي مالك بن عوف أن يحملوا معهم عوائلهم ، فخرجوا بهم.

وروى الطبرسي في «إعلام الورى» عن الصادق عليه‌السلام قال : كان مع هوازن دريد بن الصّمّة (الجشمي) شيخا كبيرا ، خرجوا به يتيمّنون برأيه (حتى) نزلوا في أوطاس (بثلاث مراحل في جنوب مكة) قال : نعم مجال الخيل ، لا حزن ضرس ، ولا سهل دهس (٢) ولكن ما لي أسمع رغاء البعير ، ونهاق الحمير ، وبكاء الصغير؟ قالوا : ساق مالك بن عوف مع الناس أموالهم ونساءهم وذراريهم. قال : فأين مالك؟ فدعي له مالك فأتاه ، فقال له : يا مالك ، أصبحت رئيس قومك ، وإنّ هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام ، ما لي أسمع رغاء البعير ، ونهاق الحمير ، وبكاء الصغير؟ قال : أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم! قال : ويحك ، لم تصنع شيئا أن قدّمت بيضة هوازن إلى نحور الخيل ، وهل يردّ وجه المنهزم شيء؟! إنّها إن كانت لك لم ينفعك إلّا رجل بسيفه ورمحه ، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك! فقال له مالك : إنّك قد كبرت وكبر عقلك! فقال دريد : إن كنت قد كبرت فأنت تورث قومك غدا ذلا بتقصير رأيك وعقلك. هذا يوم لم أشهده ولم أغب عنه (٣).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٨٦.

(٢) الحزن : الخشن. الضرس : صخور محدّدة كالضروس. دهس : ليّن كثير التراب.

(٣) إعلام الورى ١ : ٢٢٩.


ثم قال دريد : ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا : لم يحضر منهم أحد. قال : غاب الجدّ والحزم ، لو كان يوم علا وسعادة ما كانت تغيب كعب ولا كلاب.

ثم قال : فمن حضرها من هوازن؟ قالوا : بنو عمرو بن عامر وبنو عوف بن عامر. فقال : ذانك الجذعان (١) لا ينفعان ولا يضران. ثم تنفّس دريد وقال : حرب عوان.

يا ليتني فها جذع

أخبّ فيها وأضع

أقود وطفاء الزّمع

كأنها شاة صدع (٢)

ثم قال : يا معشر هوازن ، والله ما هذا لكم برأي ، هذا فاضحكم في عوراتكم ، وممكّن منكم عدوّكم ولا حق بحصن ثقيف ، فاتركوه وانصرفوا! وكره مالك أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي ، فسلّ سيفه ونكسه وقال : يا معشر هوازن ، والله لتطيعنّني أو لأتّكئنّ على السيف حتى يخرج من ظهري! وأراد بذلك أن لا يكون لدريد فيها ذكر ولا رأي. فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا : والله لئن عصينا مالكا وهو شابّ ليقتلنّ نفسه ، ونبقى مع دريد وهو شيخ كبير لا قتال فيه. فأجمعوا أمرهم مع مالك (٣).

الإعداد للجهاد :

قال الطبرسي : ذكر خبر هوازن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذكر له أن لصفوان بن أميّة مائة درع (٤).

__________________

(١) الجذعان : الشابّان.

(٢) جذع : شاب. والخبّ : التراوح بين الرجلين في المشي. والوضع هنا : السرعة في المشي. وطفاء : طويلة. الزّمع : شعر عنق الفرس. شاة بقرينة صدع : الوعل الوسط القوي. العوان : الوسط ، والوسط في سنّ الحيوان أقواه ، فيقصد به الأقوى.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٨٨.

(٤) إعلام الورى ١ : ٢٢٨.


فروى الكليني بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى صفوان بن اميّة فاستعار منه سبعين درعا بطراقها (١) فقال (صفوان ، وهو بعد مشرك) : أغصبا يا محمد! فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : بل عارية مضمونة (٢).

وقال القمي : لما بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اجتماع هوازن في أوطاس ، جمع القبائل فرغّبهم في الجهاد ، ووعدهم النصر ، وأنّ الله قد وعده أن يغنّمه أموالهم ونساءهم وذراريهم.

وفي رواية أبي الجارود عن الباقر عليه‌السلام : كان معه صلى‌الله‌عليه‌وآله ألف رجل من بني سليم يرأسهم العباس بن مرداس السّلمي (٣) ومعه راية ، وراية مع الحجّاج بن علاط السّلمي ، وراية مع خفاف بن ندبة ، وقدّمهم رسول الله ، وكان قد استعمل عليهم خالد بن الوليد على مقدمته فأقرّه عليها (٤).

قال القمي : وكل من دخل مكة براية أمره أن يحملها ، وعقد اللواء الأكبر ودفعه إلى علي عليه‌السلام (٥) وذكره الواقدي وزاد : ولواء الأوس مع اسيد بن حضير ، ولواء الخزرج مع سعد بن عبادة أو الحباب بن المنذر. وكانت الألوية بيضا.

وفي كل بطن من الأوس والخزرج راية : ففي بني عبد الأشهل راية مع أبي نائلة ، وفي بني حارثة راية مع أبي بردة بن نيار ، وفي ظفر راية مع قتادة بن النعمان ،

__________________

(١) الطراق : البيضة.

(٢) فروع الكافي ٥ : ٤٠ ، الكتاب ١٧ ، الباب ١١١ ، الحديث ١٠. وفي الفقيه ٣ : ١٩٣ ، الباب ٩٣ ، الحديث ٤ : سبعين درعا حطمية. وفي التهذيب ٧ : ١٨٢ ، الباب ١٧ ، الحديث ٥ : ثمانين درعا.

(٣) تفسير القمي ١ : ٢٨٦.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٨٩٦ ، ٨٩٧ فلعله كان تأليفا لقلوبهم.

(٥) تفسير القمي ١ : ٢٨٦.


وراية بني معاوية مع جبر بن عتيك ، وراية بني واقف مع هلال بن اميّة ، وراية بني عمرو بن عوف مع أبي لبابة بن عبد المنذر ، وراية بني ساعدة مع أبي اسيد الساعدي ، وراية بني مالك بن النجار مع عمارة بن حزم ، وراية بني عديّ بن النجار مع أبي سليط ، وراية بني مازن مع سليط بن قيس. وكانت راياتهم خضرا وحمرا وأقرّها الإسلام على ما كانت عليه.

وكان في قبائل العرب : في أسلم رايتان مع بريدة بن الحصيب وجندب بن الأعجم. وراية بني غفار مع أبي ذر الغفاري ، وراية بني ضمرة ، وليث ، وسعد بن ليث مع أبي واقد الحارث بن مالك الليثي ، ورايتا كعب بن عمرو مع أبي شريح وبسر ابن سفيان ورايتا بني أشجع مع نعيم بن مسعود الأشجعي ومعقل بن سنان ، ورايات بني مزينة مع بلال بن الحارث والنعمان بن مقرّن وعبد الله بن عمرو ، ورايات جهينة مع أبي زرعة معبد بن خالد وسويد بن صخر ورافع بن مكيث وعبد الله بن يزيد (١) واستعمل رسول الله على مكة عتّاب بن اسيد الاموي أميرا على من تخلّف عنه من الناس (٢) يصلي بهم ، ومعاذ بن جبل الأنصاري يعلّمهم الفقه والسنن.

وخرج منها غداة يوم السبت لست ليال خلون من شوّال (٣).

وأعجبتهم كثرتهم :

قال المفيد في «الإرشاد» لما استظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في غزاة حنين بجمع كثير وخرج متوجها إلى القوم في عشرة آلاف من المسلمين ، ورأوا جمعهم وكثرة عدّتهم

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٩٦.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٨٣٠ فلعله كان تأليفا لقلوبهم.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٨٩.


وسلاحهم ، ظنّ أكثرهم أن لن يغلبوا لذلك ، وأعجبت كثرتهم يومئذ أبا بكر فقال : لن نغلب اليوم من قلة (١).

قال الطبرسي : وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله دخل مكة في عشرة آلاف رجل ، وأقام بمكة خمسة عشر يوما ، وخرج منها ومعه من مسلمة الفتح ألفا رجل (٢).

وقال الواقدي : وخرج معه صفوان بن أميّة وهو في المدة التي جعلها له رسول الله ، ومعه حكيم بن حزام ، وحويطب بن عبد العزّى ، وسهيل بن عمرو المخزومي والحارث بن هشام المخزومي ، وعبد الله بن ربيعة ، وأبو سفيان بن حرب في أثر العسكر كلما مرّ بترس ساقط أو رمح أو متاع حمله. وخرج معه صلى‌الله‌عليه‌وآله من مكة

__________________

(١) الإرشاد ١ : ١٤٠ وقال : وعانهم ـ أي أصابهم بعينه ـ أبو بكر بعجبه .. وأنزل الله في إعجاب أبي بكر بالكثرة قوله : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) التوبة : ٢٥ ومثله في إعلام الورى ١ : ٢٢٨ ومناقب آل أبي طالب ١ : ٢١٠. أمّا ابن اسحاق فقد قال : زعم بعض الناس : أن رجلا من بني بكر قالها (؟!) بل قال : حدثني بعض أهل مكة (؟!) أنّ رسول الله حين فصل من مكة إلى حنين ورأى كثرة من معه من جنود الله قال : لن نغلب اليوم من قلة ٤ : ٨٧. بينما قال اليعقوبي : قال بعضهم : ما نؤتى من قلة! فكره ذلك رسول الله ٢ : ٦٢. لكن الواقدي روى بسنده عن الزهري عن سعيد بن المسيّب : أنّ الذي قالها أبو بكر. إلّا أنه أردفه برواية اخرى عن الزهري نفسه عن ابن عباس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : خير الأصحاب أربعة! وخير السرايا أربعمائة! وخير الجيوش أربعة آلاف! ولا تغلب اثنا عشر ألفا من قلة ٣ : ٨٩٠ فكأنّهم بهذا يتكلّفون صرف التوبيخ القرآني : (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) إلى من سوى أبي بكر حتى ولو كان النبيّ نفسه. وممن روى الإعجاب عن أبي بكر البلاذري في أنساب الأشراف ١ : ٣٦٥.

(٢) مجمع البيان ٥ : ٢٩ وفي سيرة ابن هشام ٤ : ٨٣ : ومعه ألفان من أهل مكة. وفي التنبيه والأشراف : ٢٣٤ : والخيل مائتا فرس أو أكثر.


رجال على غير دين ، ركبانا ومشاة ، ينظرون لمن تكون الدائرة فيصيبون من الغنائم! ولا يكرهون أن تكون الصدمة بمحمد وأصحابه (١).

ومنهم : عكرمة بن أبي جهل المخزومي ، وزهير وأخوه عبد الله ابنا أبي أميّة المخزومي ، وهشام بن المغيرة المخزومي ، والأقرع بن حابس ، وعيينة بن حصن (٢). وكلدة بن الحنبل أخو صفوان بن أميّة لامّه. وشيبة بن عثمان بن أبي طلحة من بني عبد الدار (٣) وأبوه عثمان كان من حاملي لواء المشركين المقتولين في احد بيد علي عليه‌السلام. والحارث بن الحارث بن كلدة العبدري ، والعلاء بن حارثة الثقفي ومعاوية بن أبي سفيان ، كما في اليعقوبي (٤).

سنن السابقين :

روى ابن اسحاق عن الزهري بسنده عن أبي واقد الليثي الحارث بن مالك قال : كانت لكفّار قريش ومن سواهم من العرب شجرة خضراء عظيمة كانوا يأتونها يوما في كل سنة يعكفون عندها ذلك اليوم ويذبحون عندها يعلقون أسلحتهم عليها ـ ولذلك يسمونها ذات أنواط ـ وكنّا حديثي عهد بالجاهلية إذ خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى حنين ، فبينما نحن نسير مع رسول الله إذ رأينا سدرة عظيمة خضراء فتناديناه من جنبات الطريق : اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط!

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٩٥ و ٨٩٤.

(٢) الإرشاد ١ : ١٤٥.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٨٦ و ٨٧.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٦٣ والإرشاد ١ : ١٤٥. وعرف هؤلاء في المؤلفة قلوبهم الذين أعطى النبيّ لكل واحد منهم مائة من إبل الغنيمة.


فقال لنا رسول الله : الله أكبر ، والذي نفس محمد بيده قلتم كما قال قوم موسى لموسى : (... اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)(١) إنّها السنن ، لتركبنّ سنن من كان قبلكم (٢).

روى ابن اسحاق : أنّ رسول الله مرّ بامرأة مقتولة والناس مجتمعون عليها ، فقال : ما هذا؟ قالوا : امرأة قتلها خالد بن الوليد! فقال رسول الله لبعض من معه : أدرك خالدا فقل له : إنّ رسول الله ينهاك أن تقتل وليدا أو امرأة أو عسيفا (٣).

وتقدم إليه رجل ممّن معه فأخبره عن امرأة مقتولة وادّعى أنها أرادت قتله ، فأمر بدفنها (٤). وأسرع السير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى أتاه رجل فقال : يا رسول الله ، قد تقطّعوا من ورائك! فنزل حتى آوى إليه الناس فنزلوا ، وصلّوا العصر. وجاءه فارس فقال له : يا رسول الله ، انّي انطلقت بين أيديكم على جبل كذا فاذا بهوازن في وادي حنين بنسائهم وظعنهم ونعمهم. فتبسّم رسول الله وقال : تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله! ثم قال رسول الله : ألا فارس يحرسنا الليلة؟ فقال انيس بن أبي مرثد الغنوي : أنا ذا يا رسول الله. فقال له : انطلق حتى

__________________

(١) الأعراف : ١٣٨.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٨٥ وفيها : عن أبي واقد الليثي : أنّ الحارث بن مالك قال .. بينما في مغازي الواقدي ٢ : ٨٩٠ : عن أبي واقد الليثي وهو الحارث .. وهو الصحيح. وفيه : أنّها سنن من كان قبلكم. بدون لتركبنّ. ورواه كذلك عن عكرمة عن ابن عباس. هذا وقد نقلنا في أوائل الكتاب ١ : ١١٧ عن الطبرسي في مجمع البيان ٩ : ٢٦٦ عن مجاهد (عن ابن عباس ظ) أنّ الشجرة كانت لغطفان بوادي نخلة شرقي مكة إلى الطائف ، وكانت تسمى العزّى ، وكذلك في الأصنام للكلبي : ١٧ ومعجم البلدان مادة العزّى.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٠٠ والعسيف : الشيخ الفاني ، والعبد. النهاية ٣ : ٩٦.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٩١٢.


تقف على جبل كذا فلا تنزلنّ (من على ظهر جوادك) إلّا مصلّيا أو قاضي حاجة ، ولا تغرنّ من خلفك! (١).

قالوا : وكان انتهاء رسول الله إلى حنين مساء ليلة الثلاثاء لعشر ليال خلون من شوّال (٢).

عيون الطرفين :

وعرف ابن عوف بوصول المسلمين إلى حنين ، فاختار من عسكره ثلاثة نفر وأمرهم أن يتفرّقوا في عسكر محمد وأصحابه وينظرون إليه وإليهم. فمضوا ، ورجعوا وإنّ أفئدتهم تخفق ، فقال لهم : ويلكم ما شأنكم؟ فقالوا له : ما نقاتل أهل الأرض إن نقاتل إلّا أهل السموات ، فقد رأينا رجالا بيضا على خيل بلق ، فو الله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى! وان أطعتنا رجعت بقومك ، فانّ الناس إن رأوا مثل ما رأينا أصابهم مثل الذي أصابنا. فقال لهم : افّ لكم ، بل أنتم أجبن أهل العسكر! ثم خاف أن يشيع ذلك الخوف في العسكر فحبسهم عنده.

ثم قال : دلّوني على رجل شجاع! فاتّفقوا على رجل ، فبعثه إليهم ، فخرج ، ثم رجع إليه وقد أصابه ما أصاب من قبله منهم ، فقال له : ما رأيت؟ قال : رأيت رجالا بيضا على بلق ما يطاق النظر إليهم ، فو الله ما تماسكت أن أصابني ما ترى! (٢).

وبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عبد الله بن أبي حدرد عينا له عليهم فخرج حتى وصل إلى معسكر ابن عوف فسمعه يقول لهم : يا معشر هوازن! انكم أحدّ العرب وأعدّه! وإن هذا لم يلق قوما يصدقونه القتال ، فإذا لقيتموه فاكسروا جفون

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٨٩٤.

(٢) و (٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٩٢.


سيوفكم واحملوا عليه حملة رجل واحد! فأتى ابن أبي حدرد رسول الله فأخبره خبره. فقال عمر : يا رسول الله ، لا تسمع ما يقول ابن أبي حدرد (١) كذب ابن أبي حدرد! فقال ابن أبي حدرد : لئن كذّبتني لربّما كذّبت بالحق! فقال عمر لرسول الله : يا رسول الله ألا تسمع ما يقول ابن أبي حدرد؟! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : صدق ، كنت ضالا فهداك الله! (٢).

الاستعداد للجهاد :

في تفسير القمي : قال مالك بن عوف لقومه : ليصيّر كل رجل منكم أهله وماله خلف ظهره ، واكسروا جفون سيوفكم ، واكمنوا في شعاب هذا الوادي وفي الشجر ، فإذا كان في غلس الصبح فاحملوا حملة رجل واحد وهدّوا القوم ، فانّ محمدا لم يلق أحدا يحسن الحرب (٣).

قالوا : ولما كان الليل عمد مالك بن عوف إلى أصحابه فعبّأهم في وادي حنين ، وكان واديا أجوف له شعاب ومضايق ، ففرّق الناس فيه ، على أن يحملوا على محمد وأصحابه حملة واحدة.

وفي السحر عبّأ رسول الله أصحابه فصفهم صفوفا .. وركب رسول الله بغلته البيضاء دلدل (٤) ، ولبس درعين والمغفر والبيضة ، وطاف على صفوفهم فحرّضهم

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ٢٢٨.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٩٣. وقبله ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٨٣ وكأنّما ثقل ذلك على بعضهم فحذفه من بعض نسخ السيرة كما في هامشها برقم (١).

(٣) تفسير القمي ١ : ٢٨٦ ، ٢٨٧.

(٤) ويأتي في خبر العباس : أنه كان على بغلة شهباء.


على القتال وبشّرهم بالفتح إن صدقوا وصبروا (١) وجعل شعار المهاجرين : بني عبد الرحمن ، وجعل شعار الأوس : بني عبيد الله ، وسمى خيله : خيل الله (١).

وروى عن سهل بن الحنظلية الأنصاري قال : وبتنا حتى أضاء الفجر ، وحضرنا الصلاة ، فخرج علينا رسول الله ، واقيمت الصلاة فصلى بنا ، فلما سلّم رأيته ينظر خلال الشجر .. وجاء انيس بن أبي مرثد الغنوي (الذي حرسهم تلك الليلة فارسا على الجبل) فقال له : يا رسول الله ، انّي وقفت على الجبل كما أمرتني فلم أنزل عن فرسي إلّا مصليا أو قاضي حاجة حتى أصبحت ، فلم أحسّ أحدا. فقال له صلى‌الله‌عليه‌وآله : فانطلق فانزل عن فرسك. ثم قال : ما على هذا أن لا يعمل بعد هذا عملا (٣).

الهزيمة أولا :

روى الواقدي عن أنس بن مالك قال : كان أول الخيل (في المقدمة) خيل سليم ، وتبعهم أهل مكة ، وانتهينا إلى وادي حنين ، فتحدّروا فيه ، وتحدّرنا فيه خلفهم في غلس الصبح ، فما شعرنا إلّا بخروج كتائب هوازن من مضائق الوادي وشعبه وحملوا حملة واحدة ، فانكشف أول الخيل خيل سليم مولّية ، وتبعهم أهل مكة ، وتبعهم الناس منهزمين ما يلوون على شيء (٤).

وروى ابن اسحاق بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : كان القوم قد سبقونا إلى وادي حنين من أودية تهامة فكمنوا لنا في أحنائه وشعابه ومضايقه ،

__________________

(١) و (٢) مغازي الواقدي ٢ : ٨٩٧.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٨٩٤ وكأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أراد : ما عليه الجهاد ذلك اليوم.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٨٩٧.


وانحدرنا فيه انحدارا في عماية الصبح (قبل أن يتبيّن) فما راعنا إلّا أن كتائب هوازن شدّت علينا شدة رجل واحد ، فانشمر الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد (١).

ورواه الطبرسي في «إعلام الورى» وزاد : أقبل مالك بن عوف يقول : أروني محمدا! فأروه اياه ، فحمل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان رجلا أهوج ، فتلقّاه رجل من المسلمين قيل هو : أيمن بن عبيد الخزرجي ابن أمّ أيمن حاضنة النبيّ ، فقتله مالك ، ثم أقحم فرسه نحو النبيّ فأبى الفرس عليه (٢) فنكص على عقبيه. وسنعود إلى مقتل أيمن في الثابتين معه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقال القمي في تفسيره : كانت بنو سليم على مقدّمته ، فخرجت عليها كتائب هوازن من كل ناحية ، فانهزمت بنو سليم (ويأتي ما قد يفسّر ذلك) وانهزم من وراءهم ولم يبق أحد إلّا انهزم. وبقي أمير المؤمنين عليه‌السلام يقاتل في نفر قليل (٣).

وروى ابن اسحاق بسنده عن العباس بن عبد المطّلب قال : لما التقى المسلمون والمشركون يوم حنين ولّى المسلمون حتى رأيت رسول الله ما معه إلّا ابن أخي أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب وهو آخذ بالسير في مؤخّر بغلة النبيّ البيضاء (٤) والنبيّ يسرع نحو المشركين! فأتيته حتى أخذت بلجامها وضربتها به (٥) فأوقفها.

ثم انضمّ إليهم الفضل بن العباس ، وقد تفرّق الناس عن بكرة أبيهم ، فالتفت العباس فلم ير عليّا عليه‌السلام مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : شوهة! بوهة! أفي مثل هذا الحال

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٨٥ والطبرسي في إعلام الورى ١ : ٢٣٠.

(٢) إعلام الورى ١ : ٢٣٠.

(٣) تفسير القمي ١ : ٢٨٧.

(٤) وفي مغازي الواقدي ٢ : ٨٩٨ : الشهباء ، والسند نفسه.

(٥) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٨٧.


يرغب ابن أبي طالب بنفسه عن رسول الله؟! وهو صاحب ما هو صاحبه (يقصد مواقفه المشهورة). قال الفضل ابنه : فقلت له : نقّص قولك لابن أخيك يا أبه. فقال : وما ذاك يا فضل؟ فقلت له : أما تراه في الرعيل الأول؟! أما تراه في رهج الغبار؟! فقال : يا بنيّ أشعره لي. فقلت له : هو ذو البردة ذو كذا وكذا (حتى عرفه) فقال : فما تلك البرقة؟ قلت سيفه يزيّل به بين الأقران! فقال : برّ بن برّ! فداه عمّ وخال! (١).

وفي تفسير القمي : وأخذ العباس بلجام بغلة النبيّ عن يمينه ، وأبو سفيان بن الحارث عن يساره ، وقد شهر رسول الله سيفه. ثم رفع يده وقال : اللهم لك الحمد ، وإليك المشتكى ، وأنت المستعان!

فنزل عليه جبرئيل عليه‌السلام فقال له : يا رسول الله دعوت بما دعا به موسى حين فلق الله له البحر ونجّاه من فرعون (٢) ثم رفع رأسه إلى السماء ، وقال : اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد ، وإن شئت أن لا تعبد لا تعبد! (٣). اللهم انّي انشدك ما وعدتني ، اللهم لا ينبغي لهم أن يظهروا علينا (٤).

محاولة قتل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وكان من قتلى شيوخ قريش ببدر أبو صفوان أميّة بن خلف الجمحي ، فبذل ابنه صفوان الأموال لقتل الرسول قبل فتح مكة ، ولذلك كان ممن أهدر الرسول دمه في فتحه مكة ، ثم استؤمن له فأمّنه ، واستمهله للإسلام فأمهله أربعة أشهر ، فأعار

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٥٧٤ ، الحديث ١١٨٧.

(٢) وفي مغازي الواقدي ٢ : ٩٠١.

(٣) تفسير القمي ١ : ٢٨٧.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٨٩٩ وإعلام الورى ١ : ٢٣٢.


رسول الله مائة درع ، وخرج معه إلى حنين. وكان عثمان بن أبي طلحة من بني عبد الدار من حملة لواء المشركين المقتولين في احد بيد حمزة أو علي عليهما‌السلام ، فتعاهد ابنه شيبة مع صفوان أن إذا دارت الدائرة على رسول الله أن ينقلبا عليه فينتقما منه (١).

ويبدو أن شيبة بادر لذلك في هذه الفترة كما في الخبر عنه قال : ما كان أحد أبغض إليّ من محمد فقد قتل منّا ثمانية حملة اللواء في احد ، فكنت اتمنّى قتله حتى فتح مكة فأيست من ذلك وقلت في نفسي : قد دخلت العرب في دينه فمتى أدرك منه ثاري! حتى اجتمعت هوازن في حنين ، فقصدتهم لآخذ منه غرّة فأقتله! فلما انهزم الناس وبقي محمد والنفر الذين بقوا معه جئت من ورائه ورفعت السيف وكدت اخبطه وإذا بشيء قد غشي فؤادي فلم اطق ذلك! فعلمت أنه ممنوع منه. ثم التفت إلي محمد فقال لي : ادن يا شيبة وقاتل ، فدنوت منه فوضع يده على صدري فأحببته وتقدّمت وقاتلت بين يديه. وحدّثني بما كنت زوّرته في نفسي ، فقلت : ما اطّلع على هذا إلّا الله ، فأسلمت (٢).

وكان صفوان مع شيبة خلف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) لكنه هو أيضا أعرض عما تعاهد عليه مع شيبة من قتله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فصاح به أخوه لامّه كلدة بن الحنبل : ألا بطل السحر اليوم! فصاح به صفوان : اسكت فضّ الله فاك! فو الله لئن يربّني رجل من قريش أحبّ إليّ من أن يربّني رجل من هوازن (٤).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٠٩.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٠٩ ، ٩١٠ وإعلام الورى ١ : ٢٣١ نحوه ، ومجمع البيان ٥ : ٣٠ عن الزهري قريبا منه. وفي الخرائج والجرائح ١ : ١١٧ ، الحديث ١٩٤.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩٠٩.

(٤) سيرة ابن هشام ٤ : ٨٦ ونقله الطبرسي في إعلام الورى بلا إسناد ١ : ٢٣٠. ويربّني : أي يكون ربّا لي أي ملكا عليّ.


الثابتون مع النبيّ :

قال المفيد في «الإرشاد» : لما التقى المسلمون المشركين لم يلبثوا حتى انهزموا بأجمعهم! فلم يبق منهم مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا عشرة أنفس : ثمانية من بني هاشم ـ وتاسعهم علي عليه‌السلام ـ وهم : أبو سفيان ممسكا بسير سرجه ، ثم لحقه العباس بن عبد المطلب عن يمينه ، ثم ابنه الفضل بن العباس عن يساره ، ونوفل وربيعة ابنا الحارث بن عبد المطلب أخوا أبي سفيان ، وعتبة ومعتّب ابنا أبي لهب! وعبد الله بن الزبير بن عبد المطلب ، فهؤلاء تسعة من بني هاشم خاصة ، وعاشرهم أيمن ابن أمّ أيمن ، فقتل أيمن رحمه‌الله (١).

__________________

(١) فروى عن العباس شعرا في هذا المقام قال :

نصرنا رسول الله في الحرب تسعة

وقد فرّ من قد فرّ عنه فأقشعوا

وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه

لما ناله في الله لا يتوجّع

وقولي إذا ما الفضل شد بسيفه

على القوم : اخرى يا بنيّ ، ليرجعوا

وفي ذلك أيضا يقول مالك بن عبادة الغافقي :

لم يواس النبيّ غير بني ها

شم عند السيوف يوم حنين

هرب الناس غير تسعة رهط

فهم يهتفون بالناس أين

ثم قاموا مع النبي على المو

ت فابوا زينا لنا غير شين

وثوى أيمن الأمين من القو

م شهيدا ، فاعتاض قرّة عين

الإرشاد ١ : ١٤١ واليعقوبي ٢ : ٦٢ ذكر عدد الثابتين تسعا أو عشرا بلا زيادة. وزاد ابن اسحاق في الثابتين من بني هاشم وحلفائهم : جعفر بن أبي سفيان بن الحارث ، واسامة بن زيد بن حارثة الكلبي ، وأبا بكر وعمر ٤ : ٨٥ وكذلك الواقدي ٢ : ٩٠٠ وزاد عثمان بن عفّان ، وأبا دجانة الأنصاري وأبا طلحة زيد بن سهيل الأنصاري ومعه امرأته الحامل أمّ سليم بنت ملحان أمّ أنس بن مالك ٢ : ٩٠٢ وسنذكر النساء الثوابت معها ومنهن أمّ الحارث


النساء الثوابت :

قال الواقدي : ورأت أمّ حارث الأنصارية الناس يولّون منهزمين فجعلت تقول : والله ما رأيت كاليوم ما صنع هؤلاء الفرّار بنا! من جاوز بعيري أقتله! ورأت زوجها أبا الحارث على جمله والجمل يريد أن يلحق بالّافه! فقالت له : يا حار! تترك رسول الله؟! وأخذت بخطام الجمل وهي لا تفارقه. ومرّ بها في هذا الحال عمر بن الخطاب ، فقالت له أمّ الحارث : يا عمر! ما هذا! فقال عمر : أمر الله (١).

وفي تفسير القمي قال : كانت نسيبة بنت كعب المازنية تحثو التراب في وجوه المنهزمين وتقول لهم : اين تفرّون عن الله ورسوله؟! ومرّ بها (فلان؟) فقالت له : ويلك! ما هذا الذي صنعت؟! فقال لها : هذا أمر الله (٢).

وألمح الواقدي إلى أن أبا طلحة زيد بن سهيل الأنصاري كان من الثابتين أو الثائبين الأوائل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو زوج أمّ سليم بنت ملحان أمّ أنس بن مالك الأنصاري ، وروى عنه ـ وعن أمّ عمارة : أنها جرّدت سيفا وثبتت ومعها أمّ الحارث وأم سليط وأمّ سليم وهي حامل بعبد الله بن أبي طلحة ، ومعها خنجر سلّته وهي تصيح بالأنصار : أية عادة هذه! ما لكم وللفرار! ونظرت إلى رجل من هوازن

__________________

ـ أمسكت بزوجها معها ٢ : ٩٠٤. وبهذا يزداد التسع الثابتون من بني هاشم إلى مثلهم من غيرهم فالمجموع سبعة عشر رجلا ولعل ما عدا التسعة من أوائل الراجعين ، وسنقرأ عن عمر خبرا خاصا مع إحدى النساء الثوابت ، فيما يلي. وسنقرأ عن عقيل بن أبي طالب أنه قاتل المشركين ورجع إلى مكة وسيفه متلطخ بدمائهم ٢ : ٩١٨.

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٠٤. وروى مثله عن أبي قتادة ٣ : ٩٠٨.

(٢) تفسير القمي ١ : ٢٨٧ والكلمة من البوادر الاولى لفكرة القدر بمعنى الجبر.


حامل لواء لهم على جمل وهو يتابع المسلمين ، فاعترضته وضربت بخنجرها عرقوب جمله فوقع على ذيله ، فضربت الرجل بخنجرها حتى قتلته وأخذت سيفه!

تقول : وكان المسلمون قد بلغ أقصى هزيمتهم مكة! ورسول الله قائم مصلت بيده سيفه قد طرح غمده ينادي : يا أصحاب سورة البقرة! ثم تراجع المسلمون وكرّوا ، فكرّوا الأنصار ينادون بشعارهم شعار الأوس : بني عبيد الله ، وشعار المهاجرين : بني عبد الرحمن ، وسائر المسلمين : يا خيل الله! ورجع فيهم ابناي إلي : حبيب وعبد الله (١).

وروى عن ابن عباس : أنّ الصابرين كانوا ثمانية منهم حارثة بن النعمان (٢).

وروى عن حارثة بن النعمان قال : لما انكشف الناس قال لي رسول الله : يا حارثة كم ترى الذين ثبتوا؟ فنظرت عن يميني وشمالي فحزرتهم مائة ، فقلت : يا رسول الله هم مائة. وما التفتّ ورائي تحرّجا (٣).

ويقال : إنّ المائة الصابرة يومئذ : ثلاثة وثلاثون من المهاجرين ، وسبعة وستون من الأنصار قد حفّوا به صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) ولعلهم أوائل الراجعين.

شماتة الكفّار :

قال ابن اسحاق : لما رأى جفاة أهل مكة الهزيمة تكلم بعضهم بما في نفوسهم من الضغن : فقال أبو سفيان بن حرب : لا تنتهي هزيمتهم دون البحر! (٥) فسمعه

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٠٣ هذا وقد مرّ أنها كانت حاملا بعبد الله ، فلعلّ أحدهما : عبيد الله.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٠١.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩٠٠.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٩٠١.

(٥) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٨٦ واليعقوبي ٢ : ٦٢ ومغازي الواقدي ٢ : ٩١٠.


أبو مقيت الأسلمي فناداه : أما والله لو لا أنّي سمعت رسول الله ينهى عن قتلك لقتلتك! وقال سهيل بن عمرو المخزومي : إنّ هذه لا يجبرها محمد وأصحابه! فسمعه عكرمة بن هشام المخزومي فقال : ليس الأمر إلى محمد وإنّما الأمر بيد الله ، إن اديل عليه اليوم فان له العاقبة غدا. فقال له سهيل : إنّ عهدك بخلافه لحديث! فقال له عكرمة : إنّا كنّا نوضع في غير شيء كنا نعبد الحجر وهو حجر لا يضرّ ولا ينفع! (١).

وروى المفيد في «الإرشاد» عن معاوية بن أبي سفيان قال : لما كانت الهزيمة يوم حنين لقيت بني أميّة ومعهم أبي منهزمين ، فصحت بأبي : يا ابن حرب : لا قاتلت عن دينك! ولا صبرت مع ابن عمك! ولا كففت هؤلاء الأعراب عن حريمك! فقال : من أنت؟! قلت : معاوية. فقال : ابن هند؟! قلت : نعم ، فقال : بأبي أنت وامّي! ووقف ، فاجتمع إليه جمع من أهل مكة (٢).

مقتل أبي جرول :

جاء في «الإرشاد» : قالوا : وأقبل رجل من هوازن على جمل له أحمر بيده راية سوداء في رأس رمح طويل يرفعه لمن وراءه من المشركين ليتّبعوه ، فإذا أدرك ظفرا من المسلمين أكبّ عليهم ، وهو يرتجز ويقول :

أنا أبو جرول ، لا براح

حتى نبيح القوم أو نباح!

فصمد له علي عليه‌السلام فضرب عجز بعيره فصرعه ثم ضربه فألقاه وهو يقول :

قد علم القوم لدى الصباح

أنّي في الهيجاء ذو نصاح

فلما قتل علي عليه‌السلام أبا جرول خذل قومه لقتله ، وكرّ المسلمون من الأنصار

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩١٠ ، ٩١١.

(٢) الإرشاد ١ : ١٤٤ وقد مرّ عن اليعقوبي ٢ : ٦٣ أنه عدّ معاوية ضمن المؤلّفة قلوبهم الذين أعطى النبي لكل واحد منهم مائة من ابل الغنيمة.


والمهاجرين عليهم ، وتقدّمهم علي عليه‌السلام حتى قتل أربعين رجلا منهم (١) فكان من قتله أبا جرول والأربعين الذين تولّى قتلهم منهم قد سبّب في هلعهم ووهنهم وخذلانهم وهزيمتهم وظفر المسلمين بهم (٢).

تراجع المنهزمين :

قال القمي في تفسيره : إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعمه العباس : يا عباس ، اصعد هذا

__________________

(١) رواه الكليني بسنده عن أبان الأحمر البجلي عن الصادق عليه‌السلام في روضة الكافي : ٣٠٨ وعنه في بحار الأنوار ٢١ : ١٧٦ وخلت الروضة المطبوعة عن أبان.

(٢) الإرشاد ١ : ١٤٣ ، ١٤٤ ، ١٥٠ وقال اليعقوبي : ومضى علي عليه‌السلام إلى صاحب راية هوازن فقتله فكانت الهزيمة ٢ : ٦٣ ولا يعني به إلّا أبا جرول. وذكره ابن اسحاق بسنده إلى جابر بن عبد الله الأنصاري فقال : إذ هوى له علي بن أبي طالب ورجل من الأنصار فأتاه على من خلفه فضرب الجمل فوقع وضرب الأنصاري نصف ساقه فقطعها ٤ : ٨٦ و ٨٨. أما الواقدي فقد رفعه مرسلا ، وسمّى الأنصاري أبا دجانة وقال : هو الذي عرقب الجمل ، وشدّ عليه هو وعليّ عليه‌السلام فقطع علي يده اليمنى وقطع أبو دجانة يده اليسرى ، فاعترض لهما فارس آخر بيده راية حمراء فضربا فرسه ثم ضرباه بأسيافهما ولم يسلباهما ، وسلبهما أبو طلحة زيد بن سهل ، ومضياهما يضربان أمام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ٢ : ٩٠٢ أما عن عدد القتلى من هوازن فسيأتي عن ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٩٢ : أنه قتل منهم سبعون رجلا. وفي مغازي الواقدي ٢ : ٩٠٧ أنه قتل منهم قريب من مائة رجل. وكذلك في مجمع البيان ٥ : ٣٠ وذكر المسعودي في التنبيه والاشراف : ٢٣٥ أنهم مائة وخمسون. فالواقدي زاد ثلاثين والمسعودي زاد خمسين ، وعلى الأول يكون لعلي عليه‌السلام نصف القتلى ، وعلى الأخير الثلث ، والثلثان الباقيان لسائر المقاتلين من المسلمين كلهم. وعليه فلا يبعد ما جاء في دعاء الندبة : «فأودع قلوبهم أحقادا بدرية وخيبرية وحنينية».


الضرب (التل الصغير) وناد : يا أصحاب البقرة! ويا أصحاب الشجرة! إلى أين تفرّون؟! هذا رسول الله! ففعل العباس ذلك ، فلما سمع الأنصار نداء العباس عطفوا يرجعون وهم يقولون : لبّيك ، وكسروا جفون سيوفهم ، ولكنهم استحيوا أن يرجعوا إلى رسول الله فمرّوا به ولحقوا براياتهم ، فسأل رسول الله عنهم عمّه العباس : من هؤلاء يا أبا الفضل؟. قال : هؤلاء الأنصار يا رسول الله (١). واشتبكوا مع المشركين.

قال المفيد : فلما رآهم النبيّ قام في ركابي سرجه فأشرف عليهم وقال : الآن حمي الوطيس (ـ التنّور).

أنا النبيّ لا كذب

أنا ابن عبد المطّلب (٢)

قال القمي : ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي سفيان بن الحارث : ناولني كفا من الحصى ، فناوله ، فرماه في وجوه المشركين وقال : شاهت الوجوه! (٣).

وروى الطبرسي في «اعلام الورى» عن سلمة بن الأكوع قال : نزل رسول الله عن البغلة بنفسه فقبض قبضة من التراب ثم ركب واستقبل به وجوه القوم ورماه وقال : شاهت الوجوه! فما خلق الله منهم إنسانا إلّا ملأ عينيه ترابا من تلك القبضة ، فولّوا مدبرين وأتبعهم المسلمون يقتلون فيهم ، وفرّ مالك بن عوف (٤).

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٢٨٧.

(٢) الإرشاد ١ : ١٤٣ وروى : حمي الوطيس الصدوق في الفقيه ٤ : ٣٧٧ ط الغفاري.

(٣) تفسير القمي ١ : ٢٨٧ ورواه الواقدي بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري ٣ : ٨١٠ وروى قبله عن الزهري عن كثير بن العباس بن عبد المطّلب : أنّ النبيّ قال ذلك للعباس وهو ناوله! ٣ : ٨٩٨ ، ٨٩٩ ولا ريب أن جابر الأنصاري أكثر حيادا في الرواية.

(٤) اعلام الورى ١ : ٢٣٢.


وروى الواقدي هنا ما يفسّر الهزيمة الاولى لخالد بن الوليد مع بني سليم في المقدمة : قال : قالوا : لما رجع المسلمون يتّبعون هوازن يقتلونهم وهزموا تنادى بنو سليم بينهم : ارفعوا القتل عن بني امّكم! فرفعوا الرماح وكفّوا عن القتل! فلما رأى رسول الله الذي صنعوا قال : اللهم عليك ببني بكمة! أما في قومي فوضعوا السلاح وضعا وأما عن قومهم فرفعوا رفعا! وأمر رسول الله بطلب القوم. وكانت بكمة ابنة مرّة أمّ سليم جدّ بني سليم من الهوازن! (ولعلهم لذلك هزموا أوّلا).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لخيله : إن قدرتم على بجاد فلا يفلتنّ منكم! وكان بجاد من بني سعد بن بكر من هوازن (قبيلة حليمة السعدية مرضعة النبي) وكان قد نزل لديه رجل مسلم فأسره بجاد وقطّعه حيّا وحرّقه بالنار! (١).

نزول النصر :

قال القمي في تفسيره : ونزل النصر من السماء ، فكانت هوازن تسمع قعقعة السلاح في الجوّ فانهزموا في كل وجه ، وهو قول الله سبحانه : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ)(٢).

وروى الطبرسي في «مجمع البيان» عن سعيد بن المسيّب عن رجل من هوازن كان معهم يوم حنين قال : لما التقينا يوم حنين كشفناهم وجعلنا نسوقهم حتى انتهينا إلى رسول الله على البغلة الشهباء ، فتلقانا رجال بيض الوجوه قالوا لنا : ارجعوا ، وركبوا أكتافنا! فرجعنا ، يعني الملائكة (٣).

وروى الواقدي عن من أسلم من هوازن قالوا : حملنا عليهم حملة ركبنا

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩١٢ ، ٩١٣.

(٢) تفسير القمي ١ : ٢٨٨.

(٣) مجمع البيان ٥ : ٣٠.


أكتافهم حتى انتهينا إلى النبيّ على بغلة شهباء ، وحوله رجال بيض حسان الوجوه ، فقال : شاهت الوجوه ، ارجعوا! فانهزمنا وركب المسلمون اكتافنا وتفرّقت جماعتنا في كل وجه ، وجعلنا نلتفت وراءنا ننظر إليهم وهم يطلبوننا ، وجعلت الرّعدة تسحقنا حتى لحقنا بعلياء بلادنا مما كان بنا من الرّعب!

وروى عن عدّة منهم قالوا : لقد رمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بتلك الكف من الحصيات ، فما منّا أحد إلّا يشكو القذى في عينيه! ولقد كنّا نجد في صدورنا خفقانا كوقع الحصى في الطساس ما يهدأ عنّا. ولقد رأينا رجالا بيضا على خيل بلق عليهم عمائم حمر قد ارخوها بين أكتافهم ، وهم بين السماء والأرض كتائب كتائب ، لا شيء بأيديهم ولكنّا لا نستطيع أن نقاتلهم أو نتأمّلهم من الرّعب! (١).

هكذا تراءت الملائكة لهم ، بينما حكى الله للمسلمين عن نصره لهم يوم حنين فقال : (وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) فما روى عن المسلمين أنهم رأوا جنود الله ، ولا عن من معهم من المؤلفة قلوبهم من مشركي قريش مكة ، اللهم إلّا :

ما رواه الواقدي عن شيوخ الأنصار قالوا : رأينا يومئذ شيئا كالكساء المخطّط أو كالسحاب المركوم هوى من السماء إلى الأرض ، فإذا هو نمل انبثّ في الوادي ، وإذا هو نصر أيّدنا الله به (٢).

وما رواه ابن اسحاق عن أبيه عن جبير بن مطعم العدوي قال : حين اقتتال الناس وقبل هزيمة هوازن رأيت شيئا كالكساء الأسود نزل من السماء حتى سقط بيننا وبين القوم ، فإذا هو نمل انبثّ فملأ الوادي ، ثم لم يكن إلّا أن هزم القوم ، فلم أشك أنها كانت الملائكة (٣).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٠٦.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٠٥.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٩١ ومغازي الواقدي ٢ : ٩٠٥.


وفي كيفية هزيمتهم ومقاومتهم قال ابن اسحاق : لما انهزمت هوازن اشتد القتل من ثقيف في بني مالك ، وكانت رايتهم مع عوف بن الربيع ذي الخمار فقتل ، فأخذها عثمان بن عبد الله فقاتل بها حتى قتل ، وقتل منهم معه وتحت رايته سبعون رجلا.

وأما راية الأحلاف منهم فقد كانت مع قارب بن الأسود ، وهو لما رأى هزيمة قومه أسند رايته إلى شجرة وهرب معه بنو عمه وقومه من الأحلاف ، فلم يقتل منهم سوى رجلين (١).

قتل الصغار والاسارى :

وروى الواقدي : أنّ الخزرج رجعوا بزعيمهم سعد بن عبادة وهو يصيح بهم : يا للخزرج يا للخزرج! وثاب الأوس بزعيمهم اسيد بن حضير وهو يصيح بهم : يا للأوس يا للأوس! وحنقوا على هوازن فقتلوا منهم حتى الصغار ، فبلغ ذلك رسول الله فنادى بالأوس : ما بال أقوام ذهب بهم القتل حتى بلغ الذرّية؟! ألا لا تقتل الذرّية! ثلاثا. فقال اسيد بن حضير : انما هم أولاد المشركين! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أوليس خياركم أولاد المشركين؟! كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها ، فأبواها يهوّدانها أو ينصّرانها (٢).

قال المفيد : وما زال المسلمون يقتلون المشركين ويأسرون منهم حتى ارتفع النهار ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالكفّ عنهم ونادى : أن لا يقتل أسير من القوم. ومرّ عمر بن الخطّاب بأسير من هذيل يدعى ابن الأكوع كان عينا لهم على المسلمين في

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٩٢ ومغازي الواقدي ٢ : ٩٠٧ إلّا أنه قال : قتل منهم قريب من مائة رجل. وقال المسعودي في التنبيه والاشراف : قتل منهم مائة وخمسون رجلا : ٢٣٥.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٠٥ ويلاحظ فيه : حتى يعرب عنها لسانها ، وليس فيه : ويمجّسانه أو يمجّسانها ، فهي اضافة زائدة. والمشهور : كل مولود ، وليس فيه : حتى يعرب ..


فتح مكة ، وحضر معهم في حنين فاسر ، فأقبل عمر على رجل من الأنصار ، وقال له : عدوّ الله الذي كان عينا علينا ها هو أسير فاقتله! فقتله الأنصاري. فبلغ ذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فكرهه وقال : ألم آمركم أن لا تقتلوا أسيرا؟!

ومع ذلك بلغه بعد ذلك أنهم قتلوا أسيرا آخر هو جميل بن معمر بن زهير! فغضب صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعث إليهم يقول لهم : ما حملكم على قتله وقد جاءكم أن لا تقتلوا أسيرا؟! فقالوا : انما قتلنا بقول عمر! فلم يصفح عنه حتى تشفّع فيه عمير بن وهب (١).

ومرّ أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن قتل الوليد والمرأة والعسيف ، وهو الشيخ الفاني وأنه الآن أمر بالكف عن قتلهم ، وكفّ المسلمون عن تتبّع من سلك الثنايا إلّا بعض بني سليم فانهم تعقّبوا بني عنزة من ثقيف وقد توجّهوا نحو ثنيّة نخلة ، ومعهم شيخهم دريد بن الصّمة.

قال ابن اسحاق : فادرك ربيعة بن رفيع السلمي دريد بن الصّمة (في وادي سميرة) على جمل في مركب دون الهودج فهو يظن أنها امرأة يريد أسرها ، فأناخ الجمل فإذا هو شيخ كبير ابن مائة وستين سنة وهو لا يعرفه ، فرفع سيفه وضربه به فلم يفعل شيئا ، فقال له : بئس ما سلّحتك به امّك! خذ سيفي من وراء الرّحل في الشجار (الهودج) واضرب به فوق الطعام ودون الدّماغ ، فإذا ذهبت إلى امّك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصّمة. فضربه بسيفه فقتله (٢) مع أنه كان أسيرا أو مستأسرا وعسيفا أي شيخا فانيا (٣) وقد مرّ أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن قتلهما.

__________________

(١) الإرشاد ١ : ١٤٤ ، ١٤٥.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٩٥ ومغازي الواقدي ٢ : ٩١٤ ، ٩١٥ إلّا أنه ادّعى أنّ رسول الله بعث ذلك الخيل خلفهم.

(٣) النهاية ٣ : ٩٦.


وروى الواقدي عن أمّ عمارة عن أمّ سليم بنت ملحان أمّ أنس بن مالك قالت : رجع إليّ ابناي حبيب وعبد الله ابنا زيد الأنصاري باسارى مكتّفين فقمت إليهم وقتلت أحدهم من غيظي (١) مع نهي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ذلك مكررا.

مصير الأمير مالك :

وادي نخلة كان إلى جهة الطائف ، وسلكه سوى بني عنزة الثقفيّين أميرهم مالك بن عوف النصري ومعه جمع من الفرسان وتبعهم غيرهم نحو الطائف.

قال ابن اسحاق : فوقف في طريقه على ثنية من الثنايا (مرتفع بين جبلين) وقال لأصحابه : قفوا حتى تمضي ضعفاؤكم وتلحق اخراكم ، فوقفوا حتى مضى من كان لحق بهم من المنهزمين.

وقال ابن هشام : بينما مالك وأصحابه على الثنية إذ رأى خيلا طلعت ، فقال لأصحابه : ما ذا ترون؟ قالوا : نرى قوما واضعي رماحهم بين آذان خيولهم طويلي الأفخاذ. فقال هؤلاء بنو سليم ، ولا بأس عليكم منهم! فلما أقبلوا سلكوا بطن الوادي. ثم طلعت خيل اخرى تتبعها ، فقال لأصحابه : ما ذا ترون؟ قالوا : نرى قوما عارضي رماحهم على خيولهم ، اغفالا (لا علامة لهم). فقال : هؤلاء الأوس والخزرج ، ولا بأس عليكم منهم! فلما انتهوا إلى أسفل الثنية سلكوا طريق بني سليم في بطن الوادي ولم يصعدوا في الثنية.

ثم طلع فارس ، فقال لأصحابه : ما ذا ترون؟ قالوا : نرى فارسا طويل الفخذين ، واضعا رمحه على عاتقه ، عاصبا رأسه بعصابة حمراء. فقال : هذا الزبير بن العوّام ، وأحلف باللات ليخالطنّكم فاثبتوا له!

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٠٣.


فلما انتهى الزبير إلى أصل الثنية أبصر القوم فقصدهم (١) فنزل مالك عن فرسه وطفق يلوذ بالشجر حتى سلك في جبل يسمى اليسوم في أعلى وادي نخلة ، وبصر بهم الزبير فحمل عليهم حتى أهبطهم من الثنية ، وهرب مالك بن عوف إلى ناحية «ليّة» من نواحي الطائف ، فدخل فيها قصرا تحصّن فيه (٢).

والي أوطاس :

قال المفيد : أخذت ثقيف ومن تبعها إلى الطائف ، وأخذت الأعراب ومن تبعهم إلى أوطاس (حيث جاءوا منه) فبعث النبيّ في أثرهم إلى أوطاس أبا عامر الأشعري في جماعة منهم ابن عمه أبو موسى الأشعري قيس بن عبد الله (٣) فوقفوا لقتالهم.

قال ابن هشام : فتقدم لقتاله إخوة عشرة ، دعاهم أبو عامر إلى الإسلام ، فكان يحمل عليه أحدهم فيقتله أبو عامر فيتقدم الآخر منهم حتى تقدم عاشرهم ، فحمل عليه أبو عامر وهو يقول : اللهم اشهد عليه. فقال الرجل : اللهم لا تشهد عليّ! فكفّ عنه أبو عامر ، وانصرف الرجل ، فرماه اخوان آخران فأصاب أحدهما ركبته وأصاب الآخر قلبه فقتله ، فقتلهما أبو موسى (٤).

قالوا : وأوصى أبو عامر إلى ابن عمه أبي موسى ودفع رايته إليه وقال له : ادفع فرسي وسلاحي إلى رسول الله وقل له يستغفر لي ، ورجع أبو موسى ومن معه

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٤ : ٩٧ ـ ٩٩.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩١٦ ـ ٩١٧.

(٣) سيرة ابن هشام ٤ : ٩٧ ـ ١٠٠.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٩١٦.


إلى رسول الله ، وجاء بفرسه وسلاحه إليه وقال : إن أبا عامر أمرني بذلك وقال : قل لرسول الله يستغفر لي. فقام رسول الله فصلّى ركعتين ثم قال : اللهم اغفر لأبي عامر واجعله من أعلى أمّتي في الجنة. ثم أمر بتركة أبي عامر أن تدفع إلى ابنه (١).

الغنائم والأسرى :

روى ابن اسحاق بسنده عن أبي قتادة الأنصاري قال : لما وضعت الحرب أوزارها وفرغنا من القوم ، قال رسول الله : من قتل قتيلا فله سلبه (٢).

وروى بسنده عن أنس بن مالك قال عن زوج امّه أبي طلحة زيد بن سهل الأنصاري أنه في يوم حنين استلب وحده عشرين قتيلا (٣).

وروى الواقدي عن أمّ أنس بن مالك أمّ سليم بنت ملحان زوجة أبي طلحة الأنصاري قالت : لما كانت هزيمة هوازن وذهبوا في كل وجه جعل الناس يأتون بالاسارى فرأيت في بني مازن بن النجّار ثلاثين أسيرا ، ورجع إليّ ابناي حبيب وعبد الله ابنا زيد بن سهل ـ أبي طلحة الأنصاري ـ باسارى مكتّفين ، فقتلت احدهم من غيظي! (٤) مع نهي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ذلك.

قالوا : وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالغنائم أن تجمع ، ونادى مناديه : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يغل! ومن أصاب شيئا من المغنم فليردّه!

فروى الواقدي عن عمارة بن غزيّة : أن عبد الله بن زيد المازني كان قد أخذ قوسا يومئذ يرمي بها المشركين فردّها في المغنم. وجاءه رجل بحبل وقال : يا رسول

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩١٦.

(٢) وفي مغازي الواقدي : من قتل قتيلا له عليه بيّنة فله سلبه ٢ : ٩٠٨.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٩١.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٩٠٣.


الله ، وجدت هذا الحبل حيث انهزم العدو أفأشدّ به على رحلي؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لك نصيبي منه فكيف تصنع بأنصباء المسلمين؟! (١).

وقال ابن اسحاق : جاءه رجل من الأنصار بكبّة من خيوط شعر فقال : يا رسول الله أخذت هذه الكبّة أعمل بها برذعة بعير لي دبر؟ فقال : أما نصيبي منها فلك! فقال : أما إذا بلغت هذا فلا حاجة لي بها ، فطرحها من يده (٢).

ووجد في رحل رجل من أصحابه غلولا ، فلم يخرق رحله ولم يعاقبه وإنمّا لامه وبكّته (٣) نعم ، بضرب الأيدي وحثوا التراب عليه عاقب من قتل امرأة :

فقد روى الواقدي عن الزهري عن عبد الرحمن بن أزهر قال : كنت مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم حنين فرأيته يتخلّل الرجال ويسأل عن منزل خالد بن الوليد ، فاتي به إليه ـ وهو يومئذ شاب ـ فحثا عليه التراب! وأمر من عنده فضربوه بما كان في أيديهم! (٤) عقوبة على قتله المرأة كما مرّ.

وروى ابن هشام بسنده قال : وكان عقيل بن أبي طالب صهر شيبة بن ربيعة المخزومي (٥) على ابنته فاطمة ، وكان قد قاتل المشركين يوم حنين وإنمّا أخذ ابرة منهم ورجع بها إلى مكة فدفعها إلى امرأته وقال لها : هذه ابرة تخيطين بها ثيابك! وسمع منادي رسول الله بمكة يقول : من أصاب شيئا من المغنم فليردّه! فرجع عقيل إلى زوجته فاطمة وقال لها : والله أرى ابرتك قد ذهبت ، فردّها (٦).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩١٨.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٣٥ ودبر : مجروح دبره أبي عقبه ، والبرذعة : جلّ البعير.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩١٨ ، ٩١٩. والتبكيت : التقريع والتوبيخ.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٩٢٢.

(٥) وفي مغازي الواقدي ٢ : ٩١٨ : الوليد بن عتبة بن ربيعة.

(٦) سيرة ابن هشام ٤ : ١٣٥.


فروى الطبرسي في «إعلام الورى» عن أبان الأحمر البجلي الكوفي عن الصادق عليه‌السلام قال : سبى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم حنين أربعة آلاف رأس (؟ ج : انسان ، بقرينة لفظ سبى) واثني عشر ألف ناقة ، سوى ما لا يعلم من الغنائم (١) كذا ، بل الظاهر : الأغنام ، بقرائن : ذكر النوق ، وعدم ذكر الغنم وهو بصدد البيان ، وعدم معنى محصّل للغنائم هنا ، وذكر ما يقربه لدى الواقدي قال : «وكانت الغنم لا يدرى عددها : أربعين ألفا واقل وأكثر» ولكن الإبل زادها إلى الضعف : أربعة وعشرين ألف بعير ، ولم يذكرهما ابن اسحاق ، واتفقا في عدد السبي بزيادة الفين : فالواقدي : وكان السبي ستة آلاف (٢) من النساء والذراري (٣) ولعل ما في خبر أبان عن الصادق عليه‌السلام أحدهما : الذراري أو النساء : والأخير هو الظاهر المتبادر من لفظ السبي بلا ذكر الذرية. وأما سائر الاسراء غير الذرية والنساء ، من الرجال ، فكأنهم لم يذكروا لقلّتهم.

خبر بجاد ، والشيماء :

منهم : بجاد السعدي. قال الواقدي : وكان قد أتاه رجل مسلم ـ قبل حنين ـ فأخذه بجاد فقطّعه ثم حرّقه بالنار ، وعرف جرمه فهرب (٤).

فروى ابن اسحاق : أنّ رسول الله قال يومئذ : إن قدرتم على بجاد فلا يفلتنّكم! وظفر به المسلمون مع أهله ، وقريبا منهم الشيماء بنت الحارث السعدي

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ٢٣٣ وفي كتاب أبان المعاد : المبعث والمغازي : ١١١.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٤٣.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٣١.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٩١٣.


اخت رسول الله من الرضاعة ، وهم منهزمون ، فساقوهم بعنف ، فقالت لهم : اعلموا ـ والله ـ اني لاخت صاحبكم من الرضاعة! فلم يصدّقوها ، حتى أتوا بها إلى رسول الله. فقالت : يا رسول الله ، إنّي اختك من الرضاعة. قال : وما علامة ذلك؟ قالت : عضّة عضضتنيها في ظهري وأنا متورّكتك (حاملتك على وركي). فعرف رسول الله العلامة ، فبسط لها رداءه فأجلسها عليه (١) وقال لها :

إن أحببت فعندي محبّة مكرّمة ، وإن أحببت أن امتّعك (متاعا) وترجعي إلى قومك فعلت. فقالت : بل تمتّعني وتردّني إلى قومي. فأعطاها جارية ، وأكرمها بغلام مكحول (٢).

وزاد الواقدي : أنها أسلمت ، وكلّمها النسوة في بجاد ، فرجعت إليه فكلّمته أن يعفو عنه ويهبه لها. وسألها عمّن بقي منهم؟ فأخبرته بعمّها أبي برقان وأخيها واختها ، فأمر لها ببعيرين ، ثم قال لها : ارجعي إلى الجعرّانة تكونين مع قومك (٣).

قال ابن اسحاق : وأخذ عيينة بن حصن من هوازن عجوزا وقال : انّي لأحسب لها في الحيّ نسبا فعسى أن يعظم فداؤها!

__________________

(١) وعن ابن اسحاق في إعلام الورى ١ : ٢٣٩ : فنزع النبيّ برده فبسطه لها فأجلسها عليه.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٠٠ ، ١٠١.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩١٤ وتمامه : فلما رجع من الطائف إلى الجعرّانة أعطاها نعما وشاء لها ولمن بقي من أهل بيتها. وفي خبره : أنه سألها عن أمه وأبيه من الرضاعة ، فأخبرته بموتهما ، ودمعت عيناه ٢ : ٩١٣ بينما مرّ عنه في آخر أخبار فتح مكة عن أبي الحصين قال : قدمت عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله خالته أو عمته من بني سعد وانتسبت له فعرفها ، وجعل يسائلها عن حليمة فأخبرته أنها توفيت ، فذرفت عينا رسول الله ، ثم سألها عمّن بقي منهم فقالت : اخواك واختاك .. ٢ : ٨٦٩ وعليه فقد علم بوفاة مرضعته حليمة السعدية ، وانما أخبرته اخته الشيماء هنا عن ابيه وأبيها الحارث بن عبد العزّى.


واعطى رسول الله جارية لعمر بن الخطّاب ، فوهبها لابنه عبد الله ، فبعث بها إلى أخواله بني جمح في مكة حتى يرجع إليهم. وأعطى عثمان زينب بنت حيّان ، وأعطى عليا (عليه‌السلام) ريطة بنت هلال السعدية (١) فلم يصبها علي عليه‌السلام. وأعطى عبد الرحمن بن عوف امرأة منهنّ وهو في حنين فردّها إلى الجعرانة (٢). وأعطى صفوان بن أميّة اخرى. وأعطى جبير بن مطعم جارية منهن. وأعطى طلحة بن عبيد الله جارية منهن. وأعطى سعد بن أبي وقاص جارية منهن ، وأعطى أبا عبيدة بن الجراح جارية منهن ، وأعطى الزبير بن العوّام جارية منهن ، وهذا كله بحنين (٣).

ونادى مناديه في الناس : أن استبرءوا سباياكم بحيضة (٤). وقال رسول الله يومئذ : لا توطأ حامل من السبي حتى تضع حملها ، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة. وسألوا النبيّ يومئذ عن العزل فقال : ليس من كل الماء يكون الولد ، وإذا أراد الله أن يخلق شيئا لم يمنعه شيء (٥).

وقال ابن اسحاق : ولما جمعت لرسول الله سبايا حنين وأموالها جعل عليها

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٣٢ و ١٣٣.

(٢) الجعرّانة في طريق مكة إلى الطائف أقرب إلى مكة على سبعة أميال (كيلومترين تقريبا) من مواقيت حدود الحرم ، والجعرّانة لقب لريطة بنت سعد صاحبة المثل المعروف : (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) فالموضع سمي بلقبها.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩٤٤.

(٤) التهذيب ٨ : ١٧٦ ، الحديث ٦١٥ بسنده عن الصادق عليه‌السلام.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٩١٩.


مسعود بن عمرو الغفاري ، وأمر بها أن تحمل إلى الجعرّانة ، فحبست بها (١) وقال الواقدي : جعل عليها بديل بن ورقاء الخزاعي (٢).

الشهداء والقتلى :

مرّ آنفا مقتل أبي عامر الأشعري في أوطاس ، ودفن بها. ومرّ قبله مقتل ايمن ابن عبيد الخزرجي ابن أمّ أيمن الحبشية حاضنة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله دفاعا دونه بيد أمير هوازن مالك بن عوف النصري. ومن الأنصار : سراقة بن الحارث العجلاني ، وانفرد الواقدي بذكر رقيم بن ثابت من بني لوذان ، وانفرد ابن اسحاق بخبر يزيد بن زمعة من قريش جمح به فرسه فقتل ، فدفنوا هناك.

قال الواقدي : وذكر له صلى‌الله‌عليه‌وآله رجل من المسلمين قاتل قتالا شديدا فاصابه جراح اشتدّ به ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : هو من أهل النار! فوقع في نفوسهم من ذلك شيء وارتابوا. ولما اشتد الجراح بالرجل ـ ولم يسمّه ـ أخذ من كنانته مشقصا (نصلا عريضا) فانتحر به! فأمر رسول الله بلالا أن ينادي : أنّ الله يؤيّد الدين بالرجل الفاجر! ألا لا دخل الجنة إلّا مؤمن! (٣).

دم عامر الأشجعي :

قبل اليوم بأربعين صباحا تقريبا ـ مرّ الخبر ـ أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله تعمية لخبر مسيره إلى مكة لفتحها ، أرسل أبا قتادة في سريّة إلى بطن إضم في طريق تهامة ، وكان منها محلّم

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٠١.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩١٧. وكما في مجمع البيان ٥ : ٣٠ والدرجات الرفيعة : ٤١٩.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩١٧.


ابن جثّامة الليثي ، وكان في نفسه شيء من عامر بن الأضبط الأشجعي ، إذ مرّ بهم في ذلك الطريق ولم يكن علم إسلامه قبله إلّا أنه لما مرّ عليهم سلّم عليهم بتحيّة الإسلام ، ومع ذلك حمل عليه محلّم فقتله وسلبه. وفي شأنه نزلت الآية من سورة النساء : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا)(١). ثم لم يلقوا جمعا فرجعوا إلى المدينة ، وقبلها بليلة في منزل ذي خشب بلغهم خروجه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مكة ، فأخذوا على بين حتى لحقوا به في منزل السقيا (٢).

والأشجع من غطفان ورئيسهم يومئذ عيينة بن حصن الفزاري من غطفان ، وبنو ليث من بني تميم ويدفع عنهم الأقرع بن حابس التميمي ، ومحلّم القاتل حاضر في حنين ، ولم يذكروا لما ذا لم يطالب بدم المقتول الأشجعي قبل اليوم ، أما اليوم :

فقد روى ابن اسحاق بسنده عن عروة بن الزبير بن سعد السلمي ممّن حضر حنينا قال : صلى بنا رسول الله الظهر في حنين ثم عمد إلى ظل شجرة فجلس تحتها ، فقام إليه عيينة بن حصن يطلب بدم عامر الأشجعي ، وقام إليه الأقرع بن حابس يدفع عن القاتل محلّم بن جثّامة وهو في طرف الناس وهو رجل طويل خفيف اللحم أسمر محمّر بالحنّاء كان قد استعدّ للقصاص في حلّة عليه.

قال سعد : فسمعنا عيينة بن حصن يقول للنبيّ : والله يا رسول الله لا أدعه حتى اذيق نساءه من الحرقة مثل ما أذاق نسائي! ورسول الله يقول : بل تأخذون الدية خمسين في سفرنا هذا ، وخمسين إذا رجعنا (٣) وأبى عيينة! فارتفعت الأصوات وكثر اللغط ، إلى أن قام رجل من بني ليث ـ قبيلة المقتول ـ قصير مجتمع ، عليه أداة

__________________

(١) النساء : ٩٤ كذا ، بينما نزول السورة كان في السنة الرابعة للهجرة لا الثامنة.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٧٥ ومغازي الواقدي ٢ : ٧٩٧.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٧٥ ، ٢٧٦.


كاملة وبيده درقة ، يقال له : مكيتل ، فقال : يا رسول الله ، والله ما وجدت لهذا القتيل شبها في غرّة الإسلام إلّا كغنم وردت (الماء) فرميت اولاها فنفرت اخراها (١) اسنن اليوم ، وغيّر غدا! (٢).

فرفع رسول الله يده فقال : بل تأخذون الدية خمسين في سفرنا هذا وخمسين إذا رجعنا (٣).

فخلا الأقرع بن حابس بقيس وعيينة بن حصن فقال لهم : يا معشر قيس ، يستصلح رسول الله الناس في قتيل (بديته) فمنعتموه! أفأمنتم أن يغضب عليكم رسول الله فيغضب الله عليكم بغضبه؟! أو أن يلعنكم رسول الله فيلعنكم الله بلعنته؟! فو الذي نفس الأقرع بيده لتسلمن إلى رسول الله فليصنعنّ ما أراد ، أو لآتينّ بخمسين رجلا من بني تميم كلهم يشهدون بالله : أنّ صاحبكم قتل كافرا ما صلّى قط! فلا طلّن (اهدرنّ) دمه! فلما سمعوا بذلك قبلوا الدية (٤).

فلما قبل أولياء القتيل بالدية ، قال بعض من حضر لأولياء القاتل : أين صاحبكم هذا (القاتل) يستغفر له رسول الله؟ فتنادوه. فقام الرجل حتى جلس بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعيناه تدمعان وقال : يا رسول الله ، قد كان من الأمر

__________________

(١) وكأنّه يهدّد رسول الله بالارتداد عن الإسلام لانهم وردوه في غرّته فنفروا عنه بقتل صاحبهم والحكم بالدية له وعدم القصاص له!

(٢) أي : اعمل بسنّتك في القصاص اليوم ، فإذا شئت أن تغيّر فغيّر بعدنا ، كما في النهاية ٢ : ١٨٦ فكأنه يتّهمه صلى‌الله‌عليه‌وآله بتغيير سنّته في القصاص لهم! وكأنّه لهذا فسّر أبو ذر الخشني غيّر بأنها من الغيرة بمعنى الدية بحاشية السيرة ٤ : ٢٧٦.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٧٦.

(٤) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٧٧.


الذي بلغكم ، فانّي أتوب إلى الله تعالى فاستغفر لي (١). فقال له رسول الله أنت آمنت بالله ثم (٢) قتلته بسلاحك في غرّة الإسلام؟! ثمّ رفع يديه ورفع صوته يتفقّد به الناس فقال : اللهم لا تغفر لمحلّم! ثلاثا ، ثمّ قال له : قم!

فقام من بين يدي رسول الله وهو يتلقى دمعه بفضل ردائه!

وقال ضمرة بن سعد السلمي وكان حضر حنينا مع أبيه سعد : كنّا نتحدث فيما بيننا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما أراد أن يعلم قدر الدّم عند الله ، وإلّا فانّه حرّك شفتيه باستغفار له (٣).

فروى ابن اسحاق عن الحسن البصري قال : فو الله ما مكث محلّم بن جثّامة إلّا سبعا حتى مات ، فدفنوه ، فلفظته الأرض ، فأعادوه ، فأعادته الأرض ، فردّوه فردّته الأرض ، فطرحوه بين صخرتين ثم رموا عليه الحجارة حتى واروه! فبلغ ذلك رسول الله فقال : والله ، إنّ الأرض لتطابق على من هو شرّ منه ، ولكن الله أراد أن يعظكم في حرمة ما بينكم بما أراكم منه (٤).

وإلى الطائف :

مرّ عن ابن اسحاق : أن جفاة أهل مكة لما رأوا هزيمة المسلمين تكلم بعضهم

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٢٠.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٧٦.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩٢٠ ، ٩٢١.

(٤) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٧٧. وعنه الواقدي ونقل مختصر خبره الطبرسي في مجمع البيان ٣ : ١٤٥. وسيأتي في حصار الطائف أن رجلا من بني ليث ـ قبيلة المقتول هنا ـ قتل رجلا من هذيل ، فأمر صلى‌الله‌عليه‌وآله بالقصاص منه فكان أول قصاص! بينما مرّ قبل هذا غير واحد من مورد القصاص في المدينة قبل فتح مكة ، وإنمّا يحمل مثل هذا على مبلغ علم الراوي لا الاستقصاء.


بما في نفوسهم من الطعن والظغن ، منهم أبو سفيان ، فانه قال : لا تنتهي هزيمتهم دون البحر! (١) فسمعه أبو مقيت الأسلمي فناداه : أما والله لو لا أنّي سمعت رسول الله ينهى عن قتلك (للأمان) لقتلتك! (٢). وصاح به ابنه معاوية : يا ابن حرب! لا قاتلت عن دينك! ولا صبرت مع ابن عمك! ولا كففت هؤلاء الأعراب عن حريمك!

فلما سمع من ابنه معاوية هذا اللوم تلاوم وتقاوم وتلاءم مع جمع من أهل مكة (٣) فتراجعوا لمقاومة الأعراب من هوازن وثقيف. واتّفقوا على أنه كان لأبي سفيان مصاهرة في ثقيف فاختلفوا في ابنته هل هي آمنة أم ميمونة ، وهل أمّ داود فهل هو داود بن عروة بن مسعود الثقفي أو هو ابن أبي مرّة بن عروة (٤). وقد غاب عروة بن مسعود عن حنين لأنه كان قد ذهب مع غيلان بن سلمة إلى جرش اليمن ليتعلّما صنعة الدبّابات والمنجنيق (٥) استعدادا لحرب المسلمين.

فلعله لهذا وذاك وتأليفا لهم ، لمّا فضّ الله جمع المشركين بحنين وأخذت ثقيف ومن تبعها إلى الطائف بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أبا سفيان بن حرب إلى الطائف فلقيته ثقيف

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٨٦ واليعقوبي ٢ : ٦٢ ومغازي الواقدي ٢ : ٩١٠.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩١١.

(٣) الإرشاد ١ : ١٤٤.

(٤) سيرة ابن هشام ٤ : ١٢٦.

(٥) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٢١ والدبّابة القديمة : مصفّحة مربعة مستطيلة من خشب عليه صفائح الجلود أو الحديد ، يدخل فيها رجال ثلاثة أو أربعة فيدبّون بها إلى الأسوار لينقبوها. والمنجنيق : معرّب منگنه ، يرمى بها الحجارة الثقيلة. وقال الواقدي : كانا بجرش يتعلّمان عمل الدبّابات والمنجنيق ، يريدان أن ينصباه على حصن الطائف وكانوا قد أصلحوا حصنهم ـ وله بابان ـ وصنعوا الصنائع للقتال وتهيّئوا وادخلوه ما يصلحهم لو حوصروا فيه إلى سنة ٣ : ٩٢٤.


فضربوه على وجهه ، فانهزم ورجع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له : بعثتني مع قوم من هذيل والأعراب لا يرقع بهم الدّلاء ، فما أغنوا عنّي شيئا! فسكت صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

وأراد المسير إلى الطائف فبعث الطفيل بن عمرو الدّوسي مع جمع من قومه إلى قومه ، وأمره أن يهدم صنمهم : ذا الكفّين ، ويستمدّ من قومه ، ويذهب بهم إلى الطائف. وطلب الطفيل إليه أن يوصيه فقال له :

«استحي من الله كما يستحي الرجل ذو؟؟ الهيئة من أهله ، وإذا أسأت فأحسن (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ)(٢) وأفش السلام ، وابذل الطعام».

فخرج الطفيل إلى قومه وأوقد نارا فأدخلها في جوف صنمهم ذي الكفّين وهو يقول له : يا ذا؟؟ الكفّين لست من عبّادكا. ميلادنا أقدم من ميلادكا. أنا حشوت النار في فؤادكا. ثم استمدّ من قومه فاستجاب له أربعمائة منهم (٣). وقدّم النبيّ من حنين خالد بن الوليد على مقدّمته كذلك إلى الطائف (٤).

مسيرة صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الطائف :

قال الواقدي : وأخذ رسول الله من الأدلّاء من يدلّه على الطريق إلى

__________________

(١) الإرشاد ١ : ١٥١ ، ١٥٢.

(٢) هود : ١١٤.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩٢٣ و ٢ : ٨٧٠ ، وفي : ٩٢٧ : يقال : قدم معه من قومه بدبّابة ومنجنيق لحرب الطائف!

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٩٢٣ ولعلّه ليريهم كيف أن أبطال قريش قد خضعوا له ، فيفتّ ذلك في عضد أهل الطائف.


الطائف ، فسار من أوطاس على نخلة اليمانية ، ثم على قرن (١) ثم على المليح ، ثم على بحرة الرّغاء من وادي ليّة ، وبها بنى مسجدا بيده وأصحابه ينقلون إليه الحجارة ، فصلى فيه الظهر. وأتاه رجال من هذيل برجل من بني ليث قتل رجلا من هذيل ، فاختصموا عنده ، فدفعه رسول الله إليهم فقدّموه فضربوا عنقه (٢).

وصلى رسول الله العصر ، ورأى قصرا فسأل عنه فقالوا : هو قصر مالك بن عوف. فقال : أين هو؟ قالوا : هو الآن في حصن ثقيف. فقال : من في قصره؟ قالوا : ما فيه أحد. فقال : حرّقوه! فحرّق من حين العصر إلى أن غابت الشمس.

وكان هناك قبر مشرف لسعيد بن العاص الاموي ، وابناه : أبان وعمرو مع رسول الله ، فلما نظر أبو بكر إلى قبره قال : لعن الله صاحب هذا القبر فانه كان يحادّ الله ورسوله! وسمعه ابناه عمرو وأبان فقالا لعن الله أبا قحافة فانه كان لا يمنع الضيم ولا يقري الضيف فقال رسول الله : إن سبّ الأموات يؤذي الأحياء ، فإن شئتم المشركين فعمّوا. ثمّ مضى رسول الله من ليّة على طريق الضّيقة ، فقال رسول الله : بل هي اليسرى! ثم خرج على وادي النخب عند حائط رجل من ثقيف ، أبى أن يخرج إلى رسول الله ، فأرسل إليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إما أن تخرج وإما أن نحرق عليك حائطك! فأبى أن يخرج ، فأمر رسول الله بإحراق حائطه وما فيه (٣).

__________________

(١) قرية في طريق الطائف بينها وبين مكة خمسون ميلا (٨٠ كم تقريبا) معجم البلدان ٧ : ٦٤.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٢٤ وعند ابن اسحاق في السيرة مثله ٤ : ١٢٥ وقالا : فكان أول دم اقيد به في الإسلام. هذا وقد ذكر الواقدي مثله في قصاص جثّامة قبله في حنين ، بل وقبله جرى من موارد القصاص أكثر من واحد ، وانما يحمل مثل هذا على مبلغ علم الراوي إلّا الاستقصاء ، كما مرّ قبل قليل.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩٢٥ وعند ابن اسحاق في السيرة مثله ٤ : ١٢٥ إلّا أنه قال : فأمر بإخرابه ، لا إحراقه. وليس فيها خبر لعن أبي بكر لسعيد ولعن ابنيه له بالمثل.


بدء حصار الطائف :

قال : ومضى رسول الله حتى نزل قريبا من حصن الطائف ، فلما حلّ جاءه الحباب بن المنذر فقال له : يا رسول الله ، إنّا قد دنونا من الحصن ، فان كان عن أمر سلّمنا ، وإن كان عن الرأي فالتأخر عن حصنهم؟ فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فروى عن عمرو بن أميّة الضّمري قال : لما نزلنا جاءنا من نبلهم شيء كأنه جراد كثير حتى اصيب عدد من المسلمين بجراحات. فحينئذ دعا رسول الله الحباب بن المنذر فقال له : انظر لنا مكانا مرتفعا مستأخرا عن القوم. فخرج الحباب حتى انتهى إلى موضع مسجد الطائف (اليوم) فارتضاه ، فرجع إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبره. فأمر رسول الله أصحابه أن يتحوّلوا إليه. ونزل رسول الله على الأكمة ، ومعه امرأتان من نسائه أمّ سلمة وزينب. وثار المسلمون إلى الحصن ، وخرج أمامهم يزيد بن زمعة بن الأسود وسألهم الأمان ليكلمهم ، فأعطوه الأمان ، فلما دنا من حصنهم رموه بالنبل فقتلوه!

فيقال : كمن لهم يعقوب بن زمعة أخو المقتول ، وخرج من باب الحصن هذيل بن أبي الصلت ، فأسره يعقوب وأتى به النبيّ فقال له : هذا قاتل أخي يا رسول الله ، فأمكنه النبيّ منه فضرب عنقه بأخيه.

مشورة سلمان بالمنجنيق :

قال : وشاور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه ، فقال سلمان الفارسي : يا رسول الله ، أرى أن تنصب المنجنيق على حصنهم ، فإنّا كنّا بأرض فارس ننصب المنجنيقات على الحصون ، وتنصب علينا ، فنصيب من عدوّنا ، ويصيب منّا ، وإن لم يكن المنجنيق طالت الإقامة. فأمره رسول الله أن يصنعه ، فعمل بيده منجنيقا ونصبه باتجاه حصن الطائف (١).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٢٤ ـ ٩٢٧ وعنه في إعلام الورى ١ : ٢٣٤. ولم يسلم بعضهم


ومرّ الخبر عن بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الطفيل بن عمرو الدّوسي إلى قبيلته الدّوس ، وأنه أمره أن يستمدّ منهم ويوافيه بالطائف ، فأسرع معه أربعمائة رجل من قومه ، وقدم معه بمنجنيق ودبّابتين ، فوافوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالطائف بعد مقامه بأربعة أيام فاليوم حاول المسلمون أن يفيدوا من الدبّابتين وعليهما جلود البقر ، فدخلوا تحتهما ثم زحفوا بهما إلى جدار الحصن ليحفروه وينقبوه. فأحموا لهم سكك الحديد وأرسلوها عليهم فاحترقت الدّبابتان وخرج المسلمون من تحتهما ، فرمتهم ثقيف بنبالهم فقتل منهم رجال واصيب آخرون. فقيل لذلك اليوم : يوم الشدخة ، لما قتل واصيب فيه من المسلمين.

قال : فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقطع كل رجل من أعنابهم خمس حبلات (١).

مما يؤكل ثمره ، وقال : من قطع حبلة فله حبلة في الجنة. فجعل المسلمون يقطعونها قطعا ذريعا. فنادى سفيان بن عبد الله الثقفي : يا محمد ، لم تقطع أموالنا؟ إما أن تأخذها إن ظهرت علينا ، وإما أن تدعها لله وللرّحم كما زعمت! فقال رسول الله : فإنّي أدعها لله وللرّحم (٢).

وكان رجل منهم يقوم على الحصن فيقول للمسلمين : روحوا رعاء الشاء! رحوا عبيد محمد! روحوا جلابيب محمد! أترونا نتباءس على أحبل من كرومنا أصبتموها؟! فقال رسول الله : اللهم روّح مروّحا إلى النار! فأهوى إليه سعد بن أبي وقّاص بسهم في نحره ، فهوى من الحصن ميّتا ، فسرّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك (٣).

__________________

ـ لسلمان بهذه المشورة المثمرة فقال : بل جاء بالمنجنيق ودبابتين الطفيل بن عمرو الدّوسي من أرض الدوس! ولم يعهد منهم ذلك ، ولعلّه لذلك قال آخر : بل جاء بهما خالد بن سعيد بن العاص من الجرش في اليمن. م. ن. (١) الحبلة : شجر العنب أو المثمر منه.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٢٨ وعنه في إعلام الورى ١ : ٢٣٤ وفي شرح المواهب اللدنية ٣ : ٣٧ : أن الرحم هنا لأن إحدى امهات آمنة بنت وهب هند بنت يربوع الثقفي.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩٢٩ ، ٩٣٠.


حمية جاهلية :

ومرّ الخبر عن مصاهرة عروة بن مسعود الثقفي لأبي سفيان بن حرب على ابنته آمنة ، أو مصاهرة أبي مرّة بن عروة له على ابنته ميمونة (١) ، ولكنّ عروة بن مسعود كان قد خرج إلى الجرش في أوائل اليمن من ناحية الحجاز ليتعلّم منهم صنعة الدبّابة والمنجنيق (٢) فافتقد أبو سفيان صهره عروة ليكلّمه في ابنته آمنة مخافة أن تسبى ، فلجأ إلى المغيرة بن شعبة الثقفي واتّفق معه على أن يتقدّما إلى الحصن فيكلّما ثقيفا في نساء عندهم من قريش وبني كنانة منهن آمنة أو ميمونة ، والفراسيّة بنت سويد بن عمرو ، واميمة بنت اميّة الفقيمية.

فتقدّما فناديا : أمّنونا حتى نكلّمكم. فأمّنوهما. فطلبا منهم أن يدعوا لهم هذه النساء ، فدعوهنّ لهما ، فلما عرض أبو سفيان على ابنته ميمونة أو آمنة الأمان من السبي مع نساء الطائف ـ مع صواحبها ـ أبت عليه ، وأبين عليهما (٣). ولم تأخذ العزّة بالإسلام أبا سفيان أن يدعو ابنته إلى الإسلام ، وانما النصّ : خاف عليها السباء ، فدعاها إلى الأمان لا الإيمان ، ولم يخف عليها الكفر والشرك فيدعوها إلى الإسلام ، دعته الحميّة إلى ذلك ، ولكنّها لم تكن حميّة الإسلام بل لعلها حميّة جاهلية.

وحميّة جاهلية :

وصدّق ابليس ظنّه على رجل من مزينة كان مع رماة المسلمين ، وزيّن له

__________________

(١) ابن اسحاق وابن هشام في السيرة ٤ : ١٢٦.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٢١.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٢٦ وفقئت عينه [أبي سفيان] في حصار الطائف فصار أعور ، كما في سفينة البحار ٤ : ١٩٦.


الدنيا في عينه فقال لصاحبه : إن افتتحنا الطائف فعليك بنساء بني قارب بن الأسود ـ ومنهن الفراسيّة بنت سويد بن عمرو امرأة قارب ، والتي تشفّع لها المغيرة بن شعبة فلم تجبه ـ فانهنّ أجمل إن أمسكت ، وأكثر فداء إن فاديت! وسمعه المغيرة بن شعبة فغار لها لأنها من نساء ثقيف! وكان أبو محجن الثقفي من رماتهم على رأس الحصن يرمي بنصال طوال عريضة يقال لها المعابل لا يسقط منه سهم دون غرضه ، فأراد المغيرة أن يثير المزني على أبي محجن ، فيرميه أبو محجن فيقتله ، غيرة من المغيرة على نساء ثقيف. فنادى المزني : يا أخا مزينة! قال : لبّيك! قال : ارم ذلك الرجل ـ يعني أبا محجن ـ فرماه المزني فلم يصبه ، وفوّق له أبو محجن بمعبلة فرمى المزني في نحره فقتله.

فقال عبد الله بن عمرو المزني للمغيرة : قاتلك الله يا مغيرة! أنت عرّضته لهذا فأنت ـ والله ـ منافق ، والله لو لا الإسلام ما تركتك حتى أغتالك! إن معنا الداهية وما نشعر! وأخذ المغيرة يطلب من هذا أن يكتم ذلك عليه ، والمزني يقول : لا والله أبدا! (١).

__________________

(١) فلما ولّاه عمر الكوفة بلغه ذلك فقال : والله ما كان المغيرة بأهل أن يولّى وهذا فعله! وكأن المشكلة في فعله فقط وليس كاشفا عن نفاقه! مغازي الواقدي ٣ : ٩٣٠ وهذا مما يسوء بعض الناس ذكره ، فلم يذكره ابن هشام.

والمزني الذي أقسم أن لا يكتم هذا على المغيرة فأفشاه حتى بلغ عمر على عهده ، هل أفشى ذلك لدى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أم لا؟ لا يدرى ، ولكن إن بلغه ذلك فلعلّه لم يقتصّ للمقتول لمباشرة الكافر لقتله وعدم مباشرة المغيرة. ولعلّ أولياء المقتول لم يطالبوا بشيء لأنه كان قد هاجر إلى امرأة يصيبها ومنّى الرجال بها ، مما يحملهم على الحياء من ذلك فالسكوت والكتمان. ومع كلّ هذا زعموا عدالتهم جميعا!


ومن النفاق المفضوح :

ولم يكشف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن نفاق الثقفيّ والمزنيّ فيفضحهما ، ولكن اختلف الحال مع عيينة بن حصن الفزاري. وكأنّ عيينة لما رأى أن رءوسا مثله كالثقفي وأبي سفيان يطلبون من ثقيف الأمان فيكلّمونهم ، أراد أن يجعل له يدا عندهم ، فتقدّم إلى رسول الله وقال : يا رسول الله ، ايذن لي أن أذهب إلى حصن الطائف فاكلّمهم فأذن له. فدنا من الحصن وقال لهم : أدنو منكم وأنا آمن؟ فعرفه أبو محجن المذكور فقال : نعم ادن فادخل. فدنا ودخل عليهم الحصن فقال لهم : فداؤكم أبي وامّي! والله لقد سرّني ما رأيت منكم ، والله لو أنّ في العرب أحدا غيركم! والله ما لاقى محمد مثلكم قطّ ، ولقد ملّ المقام ، فاثبتوا في حصنكم ، فانّ حصنكم حصين وسلاحكم كثير ، وماءكم واتن : لا تخافون قطعه!

قال الراوي من جانب ثقيف : إنه لما خرج قال جمع منهم لأبي محجن : إنّا كرهنا دخوله إذ خشينا أنه إن رأى فينا أو في حصننا خللا أن يخبر محمدا! فقال لهم أبو محجن : بل ليس منا أحد أشدّ على محمد منه ، وإن كان معه! فلما رجع إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال له : ما قلت لهم؟ قال : خذّلتهم ما استطعت وقلت لهم : إنّ محمدا (كذا) قد نزل بساحة أهل الحصون قبلكم : قينقاع والنضير وقريظة وخيبر : أهل ا لحلقة والعدّة والآطام (الحصون) والله لا يبرح محمد عقر داركم حتى تنزلوا! فادخلوا في الإسلام! أو خذوا لأنفسكم أمانا! وخذّلتهم ما استطعت!

فلما فرغ من حديثه ، قال له رسول الله : كذبت! قلت كذا وكذا فأخبره بالذي قال لهم (١). فقال له أبو بكر : ويحك يا عيينة! إنما أنت توضع في الباطل أبدا ، كم لنا منك من يوم بني النضير وقريظة وخيبر ، تجلب علينا وتقاتلنا بسيفك ، ثم

__________________

(١) الخرائج والجرائح ١ : ١١٨ ، الحديث ١٩٥ ، ومغازي الواقدي ٢ : ٩٣٢.


أسلمت ـ كما زعمت ـ فتحرّض عدوّنا علينا! فقال له عيينة : يا أبا بكر ، لا أعود أبدا ، أستغفر الله وأتوب إليه. فقال عمر لرسول الله : يا رسول الله ، دعني اقدّمه فأضرب عنقه! فقال رسول الله : لا ، يتحدّث الناس أني أقتل أصحابي (١).

وإغراء بالنساء :

أمّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة ، المنسوب إليه بنو زهرة ، منهم امّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وليست من بني مخزوم ولا اختا لفاختة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم ، ومع ذلك وصفها الواقدي بأنها خالته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال : كان لها موليان يسمّيان : هيت وماتع ، وأنهما انتهيا إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكان يراهما من غير اولي الإربة (الحاجة في النساء) وأنهما لا يفطنان لشيء مما يفطن إليه الرجال من أمر النساء ، فكان ماتع لذلك يدخل في بيوته على نسائه ، وكأنّه كان من قبل في الطائف فكان يعرف امرأة جميلة منهم تدعى بادية بنت غيلان.

فسمعه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حصار الطائف يقول لعبد الله بن أبي اميّة أو خالد بن الوليد المخزوميّين : إن افتتح رسول الله الطائف غدا فلا تفلتن منك بادية بنت غيلان ؛ فانّها إذا جلست تثنّت وإذا تكلّمت تغنّت ، وإذا اضطجعت تمنّت ، مع ثغر كالاقحوان ، وبين .. مثل الإناء المكفوء! فلما سمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا قال : ألا أرى هذا الخبيث يفطن للجمال! لا يدخلن على أحد من نسائكم! ثم غرّبه وصاحبه إلى حمى الإبل (٢).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٣٢ ، ٩٣٣ ويلاحظ حسب هذا الخبر أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أطلق (أصحابي) حتى على مثل هذا المنافق أيضا! ومع ذلك زعموا عدالتهم جميعا! فهل أن استغفاره لسانا ملأ ضميره إيمانا من حينه؟! ليث شعري!

(٢) فشكيا الحاجة ، فأذن لهما أن ينزلا كل جمعة يسألان ثم يرجعان إلى مكانهما ، إلى أن


تحرير العبيد :

ونادى منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أيما عبد خرج من الحصن إلينا فهو حرّ. فخرج بضعة عشر عبدا منهم : ابراهيم بن جابر عبد خرشة الثقفي. والأزرق بن عقبة عبد كلدة الثقفي. والمضطجع عبد عثمان بن معتّب ، وغيّر النبيّ اسم المضطجع إلى المنبعث. ونافع عبد غيلان بن سلمة. ونفيع بن مسروح عبد الحارث بن كلدة ، وهذا نزل من الحصن بحبل في بكرة ، فكنّي أبا بكرة (١). ووردان عبد عبد الله بن ربيعة الثقفي. ويوحنّس النبّال عبد يسار بن مالك. ويسار عبد عثمان بن عبد الله. ومرزوق عبد عثمان (لم يعرف عثمان بن عبد الله أو عثمان بن معتّب أو غيرهما) وشقّ ذلك على أهل الطائف مشقّة شديدة.

ودفع النبيّ كلّ واحد منهم إلى رجل من المسلمين يحمله ويتكفّل مؤونته : ابراهيم بن جابر إلى اسيد بن الحضير ، والأزرق إلى خالد بن سعيد بن العاص. ونفيعا أبا بكرة إلى أخيه عمرو بن سعيد. ووردان إلى أخيهم أبان بن سعيد. ويسار بن مالك إلى سعد بن عبادة ، ويحنّس النبّال إلى عثمان بن عفّان.

وأمرهم أن يقرءوهم القرآن ، ويعلّموهم السنن (٢).

__________________

ـ توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فدخلا مع الناس ، فلما ولّي أبو بكر أخرجهما إلى موضعهما ، فلما مات أبو بكر دخلا مع الناس ، فلما ولّي عمر أخرجهما إلى موضعهما ، فلما قتل عمر دخلا مع الناس. مغازي الواقدي ٢ : ٩٣٣ ، ٩٣٤.

(١) البكرة : خشبة مستديرة في وسطها محور تدور عليه ، وفي وسط طرفها حفرة مستديرة لاستدارة الحبل عليها ، بها يستقى الماء بالدلو من البئر. لسان العرب ٥ : ١٤٦.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٣١ ، ٩٣٢. وفي السيرة لابن اسحاق ٤ : ١٢٧ ، ١٢٨ واختصر الخبر ابن هشام فلم يذكر أسماء العبيد مصرّحا بذلك. وقريب منه في إعلام الورى ١ : ٢٣٣ ـ ٢٣٤.


علي عليه‌السلام إلى خثعم :

روى المفيد في «الإرشاد» قال : أنفذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عند محاصرة الطائف عليّا عليه‌السلام في خيل ، فيهم صهره أبو العاص ابن الربيع ، إلى خثعم حول الطائف ، وأمره أن يكسر كل صنم يجده. فخرج ، حتى لقيه جمع كثير من خيل خثعم ، وبعد صلاة الفجر وهم في غبش الصبح برز له رجل من القوم يقال له شهاب ، وقال : هل من مبارز؟ فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام لمن معه من المسلمين : من له؟ فلم يقم له أحد منهم! فتصدّى له أمير المؤمنين عليه‌السلام بنفسه ، وحينئذ وثب عديله أبو العاص بن الربيع وقال له : بل تكفاه أيها الأمير! فقال عليه‌السلام : لا ، ولكن أنت على الناس إن قتلت. ثم برز للرجل وهو يقول :

إنّ على كل رئيس حقّا :

أن يروي الصّعدة أو تدقّا

ثم ضرب الرجل فقتله.

ومضى في تلك الخيل حتى كسر الأصنام ، وعاد إلى الطائف. وخرج من حصن الطائف نافع بن غيلان بن معتّب في خيل من ثقيف ببطن وجّ ، فلقيه أمير المؤمنين فقتله ، ولحق القوم الرعب فانهزموا.

وعاد علي عليه‌السلام إلى رسول الله وهو بعد محاصر للطائف ، فلما رآه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كبّر للفتح ، وأخذ بيده فخلا به وناجاه طويلا. فواجهه عمر بن الخطاب بالعتاب : أتخلو به وتناجيه دوننا؟! فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عمر ، ما أنا انتجيته بل الله انتجاه! فأعرض عمر وهو يقول : هذا كما قلت لنا قبل الحديبية : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) فصددنا عنه ولم ندخله! فناداه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : لم أقل لكم إنكم تدخلونه في ذلك العام (١).

__________________

(١) الإرشاد ١ : ١٥٢ ، ١٥٣ وبهامشه للخبر مصادر عديدة.


تريدون عرض الدنيا :

نرى في أسماء العبيد نافعا عبدا لغيلان بن سلمة الثقفي ، والفتاة التي أغرى بها ماتع خالد بن الوليد هي بادية بنت غيلان بن سلمة هذا ، ويبدو أنها كما كانت معروفة بجمالها كذلك كانت معروفة بما كان عليها من حليّها :

فقد روى ابن اسحاق قال : إنّ امرأة عثمان (بن مظعون) : خولة أو خويلة بنت حكيم السلميّة أتت رسول الله فقالت له : يا رسول الله ، أعطني إن فتح الله عليك الطائف حليّ بادية بنت غيلان ، أو الفارعة بنت عقيل. فقال لها رسول الله : وإن كان لم يؤذن لي في ثقيف يا خويلة؟ فخرجت خويلة فذكرت ذلك لعمر بن الخطاب. فدخل عمر على رسول الله فقال له : يا رسول الله ، ما حديث حدّثتنيه خويلة ، زعمت أنك قلته؟ قال : قد قلته. قال : أوما اذن لك فيهم؟ قال : لا. قال : أفلا اؤذن فيهم بالرحيل؟ قال : بلى فأذّن عمر بالرحيل (١).

اختلاف المسلمين :

قال الواقدي : فجعل المسلمون يمشي بعضهم إلى بعض يقولون لهم : أننصرف ولم نفتح الطائف؟! بل لا نبرح حتى يفتح الله علينا ، والله انهم لأذلّ وأقلّ من لاقينا ، قد لقينا جمع مكة وجمع هوازن ففرّق الله تلك الجموع! وانما هؤلاء ثعلب في جحر لو حصرناهم لماتوا في حصنهم هذا!

وكلّموا عمر بن الخطّاب في ذلك فقال : لقد دخلني في الحديبية من الشك (كذا) ما لا يعلمه إلّا الله ، وراجعت رسول الله يومئذ بكلام ليت أنّي لم أفعل وأنّ أهلي ومالي ذهبا ، ثم كانت الخيرة لنا من الله فيما صنع ، فلم يكن فتح خيرا للناس

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٢٧.


من صلح الحديبية بلا سيف ، دخل منه في أهل الإسلام مثل من كان دخل من يوم بعث رسول الله إلى يوم كتب الكتاب .. فاتّهموا الرأي. والخيرة في ما صنع رسول الله ، ولن اراجعه في شيء أبدا! والأمر أمر الله وهو يوحي إلى نبيّه ما يشاء! (١). قال : فجعل الناس يضجّون من ذلك .. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فاغدوا على القتال! فغدوا على القتال ، فأصابتهم جراحات .. فقال رسول الله : فانا قافلون إن شاء الله! فأذعنوا لذلك (٢).

وقتل في حصار الطائف رجل من بني ليث ، وأربعة من الأنصار ، وخمسة من قريش ، ورمي عبد الله بن أبي أميّة بن المغيرة المخزومي بسهم فمات منه بعدئذ ، ورمي عبد الله بن أبي بكر التيمي بسهم فمات منه بالمدينة بعد وفاة رسول الله (٣).

وفي مدة الحصار قال الطبرسي : فحاصرهم بضعة عشر يوما (٤) والواقدي : قال قائل : خمسة عشر يوما ، وقائل : ثمانية عشر يوما ، وقائل : تسعة عشر يوما ، وكل ذلك وهو يصلي ركعتين ركعتين بين قبّتيه المضروبتين لزوجتيه (٥). وذكر ابن هشام : سبع عشرة ليلة ، وابن اسحاق : بضعا وعشرين ليلة (٦).

وعند ارتحالهم :

قال الطبرسي : وكأنّما كان رسول الله ينتظر عليّا عليه‌السلام فلما قدم علي ارتحل ..

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٣٦. فليته التزم بما قال في أمر الإمامة والخلافة!

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٣٧.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٢٩ ومغازي الواقدي ٢ : ٩٣٨.

(٤) إعلام الورى ١ : ٢٣٣.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٩٢٧.

(٦) سيرة ابن هشام ٤ : ١٢٥.


فنادى سعد بن عبيد بن علاج الثقفي : ألا إن الحيّ مقيم! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا أقمت ولا ظعنت! فسقط فانكسر فخذه! (١). ومع ذلك قال عيينة بن حصن : أجل والله مجدة كرام! فسمعه عمرو بن العاص فقال له : قاتلك الله! تمدح قوما مشركين بالامتناع من رسول الله وقد جئت تنصره! فقال عيينة : إنّي والله ما جئت معكم اقاتل ثقيفا ، ولكن أردت أن يفتح محمد الطائف فاصيب جارية من ثقيف! فانّهم قوم مباركون! واخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بمقالته ، فتبسم وقال : هذا الحمق المطاع!

وحين أرادوا أن يرتحلوا قال رسول الله لأصحابه قولوا : لا إله إلّا الله وحده وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده! فلما استقلّوا وارتحلوا قال لهم : قولوا : آئبون عائدون ، لربّنا حامدون إن شاء الله. فقيل له : يا رسول الله ادع الله على ثقيف ، فقال : اللهم اهد ثقيفا وائت بهم (٢).

وروى الطوسي في أماليه بسنده عن الصادق عليه‌السلام عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : حاصر رسول الله أهل وجّ أيّاما فسأله القوم ان ينتزح عنهم ليقدم عليه وفدهم فيشترطون لأنفسهم ويشترط هو لنفسه ، فسار صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) وليس ذلك بعيدا عن أسرار الغزوات.

إلى الجعرّانة :

قالوا : انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من حصار الطائف فأخذ على دحنا ثم على قرن المنازل (ميقات أهل نجد).

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ٢٣٥.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٣٧.

(٣) أمالي الطوسي : ٥٠٤ ، ٥٠٥ ، الحديث ١١٠٦ وسيأتي تمامه بعد رجوعه صلى‌الله‌عليه‌وآله.


فروى الواقدي عن أبي زرعة الجهني قال : كان زمام ناقة النبيّ القصواء مطويّا بيدي ، وأراد صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يركب راحلته من قرن المنازل فوطئت له على يديها ليركب (على رجلي) فركب وناولته الزمام ودرت من خلفه ، وأشار إلى خلف الناقة بالسوط فأصابني ، فالتفت إلي فقال : أصابك السوط؟ قلت : نعم بأبي وامّي!

وروى عن أبي رهم الغفاري قال : كنت أسير إلى جنب رسول الله على ناقتي ، وفي رجليّ نعلان غليظتان ، إذ زحمت ناقتي ناقته صلى‌الله‌عليه‌وآله فوقع طرف نعلي على ساقه فأوجعه ، فقرع رجلي بسوطه وقال : أوجعتني أخّر رجلك!

وروى عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي قال : كنت احادث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في مسيره وهو يحادثني ، وكانت ناقتي قوية جلدة شهمة فجعلت تلصق بناقته ، واريد أن انحيّها فلا تطاوعني حتى لصقت بناقته وأصابت رجله ، فرفع رجله من غرز الركاب كأنها جمّارة النخل بياضا وقال : أخ! أوجعتني ، ورفع المحجن (العصا المعقوفة) بيده فدفع به رجلي ، وسكت لا يتكلم.

قال أبو رهم الغفاري : فلما أصبحنا بالجعرّانة خرجت أرعى الرواحل وأنا أخشى أن ينزل في القرآن لعظيم ما صنعت ، فلما روّحت الركاب قالوا لي : طلبك رسول الله! فذهبت إليه وأنا أترقّب فإذا به قال لي : إنّك أوجعتني برجلك ، فقرعتك بالسوط ، فخذ هذه الغنم عوضا من ضربتي!

وقال ابن أبي حدرد الأسلمي : فلما نزلنا الجعرّانة وأنا أخاف أن ينزل فيّ عذاب ، قلت لأصحابي : أنا أرعى لكم ، ولم يكن ذلك يوم رعيتي ، فلما روّحت الركاب قالوا لي : جاء رسول الله يبغيك ، ثم جاء رجل من قريش يبتغيني ، فخرجت خائفا حتى واجهت رسول الله ، فجعل يبتسم في وجهي وقال : أوجعتك بمحجني البارحة! فخذ هذه القطعة من الغنم. فوجدتها ثمانين شاة.

وقال أبو زرعة : فلما نزل الجعرّانة إذا ربضة من غنم الغنائم في ناحية ،


فسأل عنها صاحب الغنائم فأخبره عنها بشيء ، فصاح رسول الله : أين أبو زرعة؟ قلت : ها أنا ذا ، قال : خذ هذه الغنم بما أصابك من السوط أمس. فوجدتها مائة وعشرين رأسا.

وفي طريقه بعد قرن المنازل مرّ على نخلة ، وفيها اعترض طريقه رجل مسلم من أسلم مع غنم .. فأخذ يعدو في عرض ناقة رسول الله وقال : يا رسول الله ، تدركني الصلاة وأنا في معطن الإبل (مباركها) أفأصلي فيه؟ قال : لا. قال : فتدركني الصلاة وأنا في مراح الغنم ، أفأصلّي فيه؟ قال : نعم. قال : يا رسول الله ، وتكون فينا الحائض! قال : تتيمّم. قال : وربّما تباعد منّا الماء ومع الرجل زوجته فيدنو منها! قال : نعم ، ويتيمّم.

ثم قال له رسول الله : وتقدم علينا الجعرّانة فنعطيك غنما إن شاء الله! فلحق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالجعرانة فأعطاه مائة شاة (١).

وكان يحيط به صلى‌الله‌عليه‌وآله في انحداره إلى الجعرّانة مقنب من خيل الأنصار (الثلاثون إلى الأربعين) والناس يمشون أمامه وخلفه أفواجا يتبع بعضهم بعضا. فروى الواقدي عن سراقة بن جعشم قال : أنكرني هؤلاء الأنصار فجعلوا يقرعوني بالرماح ويقولون : ما أنت؟ إليك إليك! فناديت : أنا سراقة بن جعشم. فقال لهم رسول الله : أدنوه. فأدنوني منه فلما انتهيت إليه سلّمت عليه ، وقدّمت إليه ما جمعت له من الصدقة (الزكاة) (٢) ثم قلت : يا رسول الله ، أرأيت الضالّة من الإبل تغشى حياضي وقد ملأتها لإبلي ، فهل لي من أجر إن أنا سقيتها؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : نعم ، في كل ذات كبد حرىّ أجر (٣).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٣٩ ـ ٩٤٢.

(٢) كذا ، وسيأتي أن جمع الصدقة كان بعد رجوعه من فتح مكة.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩٤١ وقال : انتهى رسول الله إلى الجعرّانة ليلة الخميس لخمس


غنائمهم ، والمؤلّفة قلوبهم :

قال الواقدي : وكان السبي ستة آلاف .. ولما قدم رسول الله الجعرّانة أمر بسر بن سفيان الخزاعي أن يذهب إلى مكة فيشتري للسبي من ثياب المعقّد (من برود هجر في اليمن) فيكسوهم ، فلا يخرج منهم أحد إلّا كاسيا ، فاشترى بسر كسوة لهم فكساهم كلّهم.

قال : وكان رسول الله قد غنم أربعة آلاف أوقيّة من فضة ، وجمعت الغنائم بين يديه ، فجاء أبو سفيان بن حرب والفضة بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله ، أصبحت أكثر قريش مالا! أعطني من هذا المال يا رسول الله! فتبسّم رسول الله وقال لبلال : يا بلال ، زن لأبي سفيان أربعين أوقيّة ، وأعطوه مائة من الإبل! فقال أبو سفيان : ولا بني يزيد! فقال رسول الله : زنوا ليزيد أربعين أوقيّة ، وأعطوه مائة من الإبل. فقال أبو سفيان : ولا بني معاوية! يا رسول الله. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : زن له ـ يا بلال ـ أربعين أوقيّة ، وأعطوه مائة من الإبل. فقال أبو سفيان : إنّك كريم فداك أبي وامّي! ولقد حاربتك فنعم المحارب كنت ، ثم سالمتك فنعم المسالم أنت! جزاك الله خيرا! (١).

__________________

ـ ليال خلون من ذي القعدة ٣ : ٩٥٨ وقال الطبرسي في مجمع البيان ٥ : ٣٠ : ولما دخل ذو القعدة انصرف من الطائف وأتى الجعرّانة. فلعله لدخول الشهر الحرام أوقف الحرب ، ولم يذكر.

وفيه : ٩٤٢ قالوا : وجعلت الأعراب في طريقه يسألونه وكثّروا عليه حتى اضطرّوه إلى شجرة سمرة فخطفت الأعراب رداءه وهو يقول لهم : أعطوني ردائي! أعطوني ردائي! ولكن فيه : «لو كان عدد هذه العضاه (نبات الصحراء) نعما لقسمته بينكم» وهذا يناسب تقسيم الغنائم بين المقاتلين لا الأعراب ، وسنأتي على الخبر مرة اخرى فيما يأتي.

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٤٤.


وأشار إلى هذا ابن اسحاق بعد ان قال : وأعطى رسول الله المؤلّفة قلوبهم ـ وكانوا من أشراف الناس ـ يتألّفهم ويتألّف بهم قومهم (١).

وروى الكليني في «الكافي» بسنده عن زرارة عن الباقر عليه‌السلام قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم حنين تألّف رءوسا من رءوس العرب من قريش وسائر مضر ، منهم أبو سفيان بن حرب ، وعيينة بن حصن الفزاري ، وأشباههم من الناس [وهم] المؤلّفة قلوبهم [و] هم قوم وحّدوا الله ـ عزوجل ـ وخلعوا عبادة ما يعبد من دون الله وشهدوا أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهم مع ذلك شكّاك في بعض ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأمر الله ـ عزوجل ـ نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتألّفهم بالمال والعطاء لكي يحسن إسلامهم ويثبتوا على دينهم الذي دخلوا فيه وأقرّوا به (٢).

وروى الواقدي عن الزهري عن عروة بن الزبير وسعيد بن المسيّب ، عن حكيم بن حزام بن الأسدي قال : سألت رسول الله مائة من إبل حنين فأعطانيها ، فسألته مائة اخرى فأعطانيها ، فسألته مائة ثالثة فأعطانيها ثم قال لي : يا حكيم بن حزام ، إنّ هذا المال حلوة خضرة ، فمن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان الذي يأكل ولا يشبع ، ومن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ؛ واليد العليا خير من السفلى وابدأ بمن تعول! فقال حكيم بن حزام : يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق لا آخذ من أحد شيئا بعدك (٣).

وطاف صلى‌الله‌عليه‌وآله يتصفّح الغنائم وتبعه صفوان بن اميّة الجمحي ، إذ مرّ بشعب مملوء مما أفاء الله عليه من إبل وأغنام ، فجعل صفوان ينظر إليها معجبا بها ،

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٣٥ ، وحكى عنه الطبرسي في إعلام الورى ١ : ٢٣٦.

(٢) اصول الكافي ٢ : ٤١١ وتفسير العياشي ٢ : ٩١.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩٤٥.


فقال له رسول الله : يا أبا وهب ، هل أعجبك هذا الشعب؟ قال : نعم. قال : هو لك بما فيه! فقال صفوان : أشهد ما طابت بهذا نفس أحد قطّ إلّا نبيّ ، وأشهد أنّك رسول الله! (١).

وأعطى صاحبه عمير بن وهب الجمحي خمسين من الإبل (٢).

وأعطى سهيل بن عمرو العامري (سفير قريش) مائة من الإبل ، ومعه من بني عامر حويطب بن عبد العزّى مائة من الإبل ، وهشام بن عمرو خمسين من الإبل.

وأعطى الحارث بن هشام المخزومي مائة من الإبل ، ومعه من بني مخزوم سعيد بن يربوع خمسين من الإبل.

وأعطى النضير بن الحارث بن كلدة أخا النضر من بني عبد الدار مائة من الإبل.

وفي حلفاء بني زهرة أعطى اسيد بن حارثة مائة من الإبل ، والعلاء الثقفي مائة ـ عند ابن اسحاق ـ وخمسين في الواقدي ، واختلفوا في مخرمة بن نوفل الزهري.

ومن بني سهم أعطى عديّ بن قيس أو قيس بن عديّ السهمي مائة أو خمسين (٣).

وأعطى حكيم بن حزام الأسدي مائة بعير ، وجبير بن مطعم العدوي مائة بعير (٤). وزاد في الإرشاد : عكرمة بن أبي جهل ، وزهير بن أبي أميّة ، وأخاه

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٤٦.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٣٦ وفي الواقدي : عثمان بن وهب ، مصحّفا.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٣٦ ومغازي الواقدي ٢ : ٩٤٦.

(٤) سيرة ابن هشام ٤ : ١٣٧ ـ ١٣٩ وفي مغازي الواقدي ٢ : ٩٤٨ أن القائل سعد بن أبي وقاص.


عبد الله ابن أبي أميّة ، وهشام بن (الوليد بن) المغيرة من بني مخزوم بل هي رواية ابن هشام عن الزهري عن ابن عباس ، وفيها من بني مخزوم أيضا : الحارث بن هشام بن المغيرة واخوه خالد ، وسفيان بن عبد الأسد ، والسائب بن عائذ.

وزاد في بني أميّة : طليق بن سفيان ، وخالد بن اسيد.

ومن بني عبد الدار : شيبة بن عثمان ، وعكرمة بن عامر ، وأبا السنابل بن بعكك.

ومن بني عديّ : أبا جهم بن حذيفة ، ومطيع بن الأسود.

ومن بني جمح : أخا صفوان : احيحة بن أميّة بن خلف.

ومن سائر القبائل : نوفل بن معاوية الدّيلي ، وعلقمة بن علاثة العامري الكلابي ، وحرملة بن هوذة العامري وأخوه خالد. وعيينة بن حصن الفزاري ، والأقرع بن حابس التميمي المجاشعي.

فقال قائل لرسول الله : يا رسول الله ، أعطيت عيينة بن حصن والأقرع بن حابس مائة مائة ، وتركت جعيل بن سراقة الغفاري الضّمري؟! فقال رسول الله : أما والذي نفس محمد بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض (ما يطلع عليها) كلهم مثل عيينة بن حصن والأقرع بن حابس ، ولكنّي تألّفتهما ليسلما ، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه (١). ولم يعط العباس بن مرداس السلميّ سوى أربعة من الأباعر فأنشأ يقول :

أتجعل نهبي ونهب العبي

د بين عيينة والأقرع (٢)

فما كان حصن ولا حابس

يفوقان شيخيّ في المجمع

وما كنت دون امرئ منهما

ومن تضع اليوم لا يرفع

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٤ : ١٣٧ ـ ١٣٩ وفي مغازي الواقدي ٢ : ٩٤٨ أن القائل سعد بن أبي وقاص.

(٢) نهب : ما ينهب. العبيد : اسم فرسه. قاس سهمه بسهمي الأقرع وعيينة.


فبلغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله ، فاستحضره وقال له : أنت القائل :

أتجعل نهبي ونهب العبي

د بين الأقرع وعيينة؟!

فقال له أبو بكر : بأبي أنت وامّي لست بشاعر! قال : وكيف قال؟ فقال أبو بكر : بين عيينة والأقرع. فقال رسول الله لأمير المؤمنين : قم يا عليّ إليه فاقطع لسانه!

فروى عن العباس بن مرداس قال : أخذ بيدي عليّ بن أبي طالب فانطلق بي ، ولو أرى أنّ أحدا يخلّصني منه لدعوته ، فقلت : يا علي ، إنّك لقاطع لساني؟! قال : انّي ممض فيك ما امرت! ومضى بي! فقلت : يا علي ، انّك لقاطع لساني؟! قال : انّي ممض فيك ما امرت! وما زال بي حتى أدخلني حظائر الإبل فقال لي : اعتد ما بين أربع إلى مائة ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جعلك مع المهاجرين [إذ] أعطاك أربعا ، فان شئت فخذها ، وإن شئت فخذ المائة وكن مع أهل المائة (المؤلفة قلوبهم). فقلت : بأبي أنتم وامّي ، ما أكرمكم وأحلمكم وأعلمكم! أشر عليّ. فقال : فانّي آمرك أن تأخذ ما أعطاك وترضى. ففعلت.

قال المفيد : فتولّى من أمر العباس بن مرداس ما كان سبب استقرار الإيمان في قلبه وزوال الريب في الدين من نفسه ، والانقياد إلى رسول الله والطاعة لأمره والرضا بحكمه صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

تنبّؤ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بأمر الخوارج :

قال : ولما قسّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله غنائم حنين ، أقبل رجل أحدب طويل طول

__________________

(١) الإرشاد ١ : ١٤٧ و ١٥٠. هذا وآية موارد الصدقات ومنهم المؤلفة قلوبهم هي ٦٠ من سورة التوبة النازلة بعد تبوك في التاسعة ، والآية وإن كانت في الصدقات لا الغنائم إلّا انها تؤيّد فعل الرسول صلّى الله عليه وآله.


آدم ، بين عينيه أثر السجود ، فسلّم ـ ولم يخصّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالسلام ـ ثم قال : قد رأيتك وما صنعت في هذه الغنائم! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : وكيف رأيت؟ قال : لم أرك عدلت!

فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : ويلك! إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون؟!

فقال المسلمون : ألا نقتله؟! فقال : دعوه ، سيكون له أتباع يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرّمية ، يقتلهم الله على يد أحبّ الخلق إليه بعدي (١).

وروى ابن اسحاق عن أبي جعفر محمد الباقر عليه‌السلام ، وعن محمد بن عمّار بن ياسر ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص السهمي : أن الرجل من بني تميم يقال له ذو الخويصرة ، وأنّ عمر بن الخطّاب قال : يا رسول الله ألا أقتله؟! فقال : لا ، دعه ، فانّه سيكون له شيعة يتعمّقون في الدين حتى يخرجوا منه ، كما يخرج السهم من الرّميّة ، ينظر في النصل فلا يوجد شيء ، ثم في القدح فلا يوجد شيء ، ثم في الفوق (أسفل السهم) فلا يوجد شيء ، سبق الفرث والدم! (٢) ولم يرو الذيل.

وروى الواقدي عن أبي سعيد (عقيصا أو الخدري) عن علي عليه‌السلام قال : جلس رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم وفي ثوب بلال فضة يقبضها للناس على ما يراه ، فأتاه ذو الخويصرة التميمي فقال : اعدل ، يا رسول الله! فقال رسول الله : ويلك! فمن يعدل إذا لم أعدل؟! فقال عمر : يا رسول الله ، ائذن لي أن أضرب عنقه! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : دعه ، فانّ له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يقرءون القرآن لا يتجاوز تراقيهم. يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرّمية ، ينظر الرامي في قذذه (ريشه) فلا يرى شيئا ، ثم ينظر في

__________________

(١) الإرشاد ١ : ١٤٨ ، ١٤٩.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٣٩.


نصله فلا يرى شيئا ، ثم ينظر في رصافه (عقيب النصل) فلا يري شيئا ، قد سبق الفرث والدم! يخرجون على فرقة من المسلمين (كذا) فيهم رجل احدى يديه مثل ثدي المرأة أو كبضعة تدردر (١) أي : تترجرج. ولم يرو الذيل أيضا.

ثم روى عن عبد الله بن مسعود قال : سمعت يومئذ رجلا من المنافقين (معتّب بن قشير العمري) يقول : انها (العطايا) ما يراد بها وجه الله! فقلت له : أما والله لا بلّغن رسول الله ما قلت! وذهبت إليه فأخبرته خبره ، فتغيّر لونه! ثم قال : يرحم الله أخي موسى! (فانّه) قد اوذي بأكثر من هذا فصبر! (٢).

ثم سهام الناس :

قال الواقدي : واختلف فيما أعطى يومئذ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هؤلاء الناس من الغنائم : هل كانت من الخمس أم كانت فارعة من أصلها قبل أن تخمّس؟! ثم قال : وأثبت القولين أنها كانت من الخمس (٣).

وقال : ثم أمر رسول الله زيد بن ثابت باحصاء الناس والغنائم ، ثم فضّها على الناس ، فكانت سهامهم : لكل رجل راجل أربعون شاة أو أربع من الإبل ، ولكل فارس اثنا عشر بعيرا أو مائة وعشرون شاة (٤) وهذا يؤيد أن العطايا كانت قبل التخميس.

__________________

(١) رواه القشيري في الصحيح ٢ : ٧٤٤ ، ونقله الطبرسي في إعلام الورى عن صحيح البخاري عن الزهري عن أبي سعيد الخدري ، وذيله : يخرجون على خير فرقة من المسلمين وله تتمة. إعلام الورى ١ : ٢٤١.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٤٩ وروى مثله العياشي في تفسيره ٢ : ٩١ ، ٩٢.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩٤٨.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٩٤٩.


حيرة الأنصار ثم خيرتهم :

روى الكليني في «الكافي» بسنده عن زرارة عن الباقر عليه‌السلام قال : غضبت الأنصار (لتوزيع الأموال) فاجتمعوا إلى سعد بن عبادة. فانطلق بهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله ، أتأذن لي بالكلام! قال : نعم. قال : إن كان هذا الأمر في هذه الأموال التي قسّمت بين قومك شيئا أنزله الله وأمرك به رضينا ، وإن كان غير ذلك لم نرض! فقال لهم رسول الله : يا معشر الأنصار ، أكلّكم على مثل قول سيّدكم سعد؟! فقالوا : سيّدنا الله ورسوله. فأعادها عليهم ثلاث مرّات كل ذلك يقولون : سيّدنا الله ورسوله ، ثم قالوا : (نعم) نحن على مثل قوله ورأيه (١).

فقال لهم : اجلسوا ، ولا يقعد معكم أحد من غيركم. فتنادوا فيما بينهم ، فلما قعدوا جاءهم النبيّ ومعه علي عليه‌السلام حتى جلس وسطهم فقال لهم : إنّي سائلكم عن أمر فأجيبوني عنه. فقالوا : قل ، يا رسول الله. فقال لهم : ألستم كنتم ضالّين فهداكم الله بي؟! قالوا : بلى ، فلله المنّة ولرسوله. فقال : ألم تكونوا على شفا حفرة من النار فانقذكم الله بي؟! قالوا : بلى ، فلله المنّة ولرسوله. قال : ألم تكونوا قليلا فكثّركم الله بي؟! قالوا : بلى ، فلله المنّة ولرسوله. قال : ألم تكونوا أعداء فألّف بين قلوبكم بي؟! قالوا : بلى ، فلله المنّة ولرسوله.

ثم سكت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هنيهة ثم قال لهم : ألا تجيبوني بما عندكم؟! قالوا : قد أجبناك بأنّ لك الفضل والمنّ والطول علينا ، فبم نجيبك فداك آباؤنا وامّهاتنا! فقال : أما لو شئتم لقلتم : وأنت قد كنت جئتنا طريدا فآويناك! وجئتنا خائفا فآمنّاك! وجئتنا مكذّبا فصدّقناك!

__________________

(١) اصول الكافي ٢ : ٤١١ وتفسير العياشي ٢ : ٩١ ، ٩٢.


فقام إليه ساداتهم وشيوخهم فقبّلوا يديه ورجليه ثم قالوا : رضينا بالله وعنه وبرسوله وعنه ، وهذه أموالنا بين يديك ، فان شئت فاقسمها على قومك. وإنمّا قال من قال منا على غير وغر صدر وغلّ في قلب (ضغن وعداوة) ولكنّهم ظنّوا سخطا عليهم وتقصيرا بهم. وقد استغفروا الله من ذنوبهم فاستغفر لهم يا رسول الله. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولأبناء أبناء الأنصار. ثم قال لهم : يا معشر الأنصار ، أما ترضون أن يرجع غيركم بالشاء والنعم وترجعون أنتم وفي سهمكم رسول الله؟! قالوا : بلى رضينا.

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : الأنصار كرشي وعيبتي (بطانتي وموضع سرّي) لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار. ثم قال : اللهم اغفر للأنصار (١).

وروى ابن اسحاق الخبر بسنده عن أبي سعيد الخدري ، عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال في آخره للأنصار : أوجدتم ـ يا معشر الأنصار ـ في أنفسكم في لعاعة من الدنيا (٢) تألّفت بها قوما ليسلموا ، ووكلتكم إلى إسلامكم؟! ألا ترضون ـ يا معشر الأنصار ـ أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟! فو الذي نفس محمد بيده لو لا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار. قال : فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم (بدموعهم) وقالوا : رضينا برسول الله قسما وحظّا (٣).

__________________

(١) الإرشاد ١ : ١٤٥ ، ١٤٦.

(٢) لعاعة : من البقول الناعمة ، شبّه بها خضرة الحياة الدنيا.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٤١ ـ ١٤٣ ورواه الطبرسي في مجمع البيان ٥ : ٣٠ ، ٣١ رفعه عن أبي سعيد الخدري.


وروى الواقدي قال : بلغ رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم مقالة الأنصار ، ودخل عليه سعد بن عبادة ، فقال له رسول الله : ما يقول فيّ قومك؟ قال : وما يقولون يا رسول الله؟ قال : يقولون : أما حين القتال فنحن أصحابه ، وأما حين القسم فقومه وعشيرته ، وددنا أنا نعلم من أين هذا! إن كان من قبل الله صبرنا ، وإن كان من رأى رسول الله استعتبناه! فأين أنت من ذلك يا سعد؟ فقال سعد : يا رسول الله ، ما أنا إلّا كأحدهم ، وإنّا لنحبّ أن نعلم من أين هذا؟ فقال له رسول الله : فاجمع من كان هاهنا من الأنصار في هذه الحظيرة.

فجمع الأنصار في تلك الحضيرة .. فلما اجتمعوا له جاءه سعد بن عبادة فقال : يا رسول الله ، قد اجتمع لك هذا الحيّ من الأنصار. فأتاهم رسول الله والغضب يعرف في وجهه ، فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله ، ثم قال : «يا معشر الأنصار (ما) مقالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها في انفسكم (؟!) ألم آتكم ضلالا فهداكم الله؟! وعالة فأغناكم الله؟! وأعداء فألّف بين قلوبكم؟!».

إلى أن قال : أمّا لا ، فسترون بعدي أثرة ، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله ، فإن موعدكم الحوض ، وهو كما بين صنعاء وعمان ، وآنيته أكثر من عدد النجوم.

وانصرف عنهم رسول الله ، وتفرّقوا (١).

وفد هوازن :

مرّ في خبر التقاء الشيماء بنت حليمة السعدية به صلى‌الله‌عليه‌وآله حين أسرها في حنين قبل أن يمضي إلى الطائف ، أنه قال لها : ارجعي إلى الجعرّانة تكونين مع قومك ، فانّي أمضي إلى الطائف. فرجعت إلى الجعرّانة. ورجع صلى‌الله‌عليه‌وآله من الطائف إلى

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٥٧ و ٩٥٨.


الجعرّانة فالتقى بها وأعطاها نعما وشاء لها ولمن بقي من أهل بيتها (١) ثم قال لها : إن أحببت فأقيمي عندنا محبّة مكرّمة ، وإن أحببت أن ترجعي إلى قومك وصلتك ورجعت إلى قومك. فقالت : أرجع إلى قومي. وأسلمت ، فأعطاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاثة أعبد وجارية (٢).

هذا ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله لما انتهى إلى الجعرّانة كانت الغنائم محبوسة بها ، والسبي في حظائر يستظلّون بها من الشمس ، فلما نظر صلى‌الله‌عليه‌وآله إليها سأل عنها فقالوا له : هذا سبي هوازن استظلوا من الشمس ، وهنّ ستة آلاف.

وكان قد وهب منها في حنين عشرة جواري لعشرة ممن كان معه من المسلمين وغيرهم ، وأرسلهنّ إلى الجعرّانة. فلما قدمها من الطائف بعث بسر بن سفيان الخزاعي إلى مكة ليشتري لهنّ ثيابا فيكسوهنّ ، فكسا السبي كلّه (٣) كما مرّ.

وبدأ بالأموال فقسمها ، وأقام يتربّص أن يقدم عليه وفدهم (٤) ثم أمر رسول الله زيد بن ثابت بإحصاء الناس والغنائم ، ثم فضّها على الناس ، فقدم وفد هوازن (٥) وقد قسم السبي وجرت فيهم السهام.

قدم عليه أربعة عشر رجلا منهم مسلمين ، وجاءوا بإسلام من وراءهم من قومهم. فكان رأس القوم والمتكلم زهير أبو صرد ، فقال : يا رسول الله إنا أهلك وعشيرتك ، وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك يا رسول الله ، انما في هذه

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩١٤.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٤٣.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩١٤.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٩٤٤.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٩٤٩.


الحظائر اخواتك وعماتك وبنات عماتك ، وخالاتك وبنات خالاتك ، وأبعدهن قريب منك يا رسول الله بأبي أنت وأمّي ، انهنّ حضنّك في حجورهنّ وأرضعنك بثديهنّ ... ولو أنا ملحنا (١) للحارث بن أبي شمر وللنعمان بن المنذر ، ثم نزلا منّا بمثل الذي نزلت به رجونا عطفهما وعائدتهما ، وأنت خير المكفولين :

امنن علينا رسول الله في كرم

فانك المرء نرجوه وندّخر

امنن على نسوة قد عاقها قدر

ممزّق شملها ، في دهرها غير

امنن على نسوة قد كنت ترضعها

إذ فوك يملؤه من محضها الدّرر

اللاء إذ كنت طفلا كنت ترضعها

وإذ يريبك ما تأتي وما تذر

الا تداركها نعماء تنشرها

يا أرجح الناس حلما حين يختبر

لا تجعلنا كمن شالت نعامته

واستبق منّا فانا معشر زهر

إنّا لنشكر آلاء وإن قدمت

وعندنا بعد هذا اليوم مدّخر (٢)

أبقت لنا الدّهر هتافا على حزن

على قلوبهم الغمّاء والغمر

فالبس العفو من قد كنت ترضعه

من امهاتك إن العفو منتشر

يا خير من مرحت كمت الجياد به

عند الهياج إذا ما استوقد الشرر

إنا نؤمّل عفوا منك تلبسه

هذي البرّية إذ تعفو وتنتصر

فاعف عفا الله عما أنت راهبه

يوم القيامة ، إذ يهدى لك الظفر (٣)

__________________

(١) ملحنا : كناية عن الطعام ، وهنا عن الرضاع. النهاية ٤ : ١٠٥.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٥٠ ، ٩٥١ وكلمات : يملؤه ، ويريبك ، وحلما ، من نسخ اخرى.

(٣) روى الأبيات الاثني عشرة الصدوق في أماليه : ٤٠٥ ، ٤٠٦ بسنده عن زياد بن طارق الجشمي عن جدّه زهير أبي صرد. ورواها المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٨٤ ، ١٨٥ عن خط الشهيد عن تاريخ ابن عساكر.


وكان في الوفد عمّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من الرضاعة ، فقال له يومئذ : يا رسول الله ، إنّما في هذه الحظائر من كان يكفلك من عمّاتك وخالاتك وحواضنك ، حضنّاك في حجورنا وأرضعناك بثدينا. ولقد رأيتك مرضعا فما رأيت مرضعا خيرا منك ، ورأيتك فطيما فما رأيت فطيما خيرا منك ، ثم رأيتك شابّا فما رأيت شابّا خيرا منك. وقد تكاملت فيك خلال الخير ، ونحن مع ذلك أهلك وعشيرتك ، فامنن علينا منّ الله عليك! فقال لهم رسول الله : قد أستأنيت بكم حتى ظننت أنكم لا تقدمون ، وقد قسم السبي وجرت فيه السهمان (١) وإن أحسن الحديث أصدقه .. فأبناؤكم ونساؤكم أحبّ إليكم أم أموالكم؟ (٢) أو قال : أي الأمرين أحبّ إليكم : السبي أو الأموال؟ فقالوا : يا رسول الله ، خيّرتنا بين الحسب وبين الأموال ، والحسب أحبّ إلينا. فقال رسول الله : أما الذي لبني هاشم فهو لكم ، وسوف اكلّم لكم المسلمين وأشفع لكم ، فكلّموهم وأظهروا إسلامكم. فلما صلى صلى‌الله‌عليه‌وآله الظهر قاموا فتكلّموا (٣).

وذهبت رواية الطبرسي في «إعلام الورى» إلى أن اخته الشيماء بنت حليمة كانت راجعة إليه مع الوفد ، وإنّها كلّمته معهم في ذلك ، فقال لها : أما نصيبي ونصيب بني عبد المطّلب فهو لك ، وأمّا ما كان للمسلمين فاستشفعي بي عليهم. فلما صلوا الظهر قامت فتكلّمت ، وتكلّموا ، فوهب لها الناس ذلك.

وقد كان رسول الله قسم منهنّ ما شاء الله ، فوقعن في أنصباء الناس ، فلم يأخذهن منهم إلّا بطيبة نفس ، ولو لا أن النساء وقعن في القسمة لوهبهنّ كما وهب ما لم يقع في القسمة منهنّ (٤).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٥٠.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٥١.

(٣) مجمع البيان ٥ : ٣١ عن أهل السير ، وفاقا لما في السيرة والمغازي.

(٤) إعلام الورى ١ : ٢٤٠. والأخير في السيرة ٤ : ١٣٢.


ثم قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال للناس : إنّ هؤلاء القوم جاءوا مسلمين ، وقد كنت استأنيت بهم ، فخيّرتهم بين النساء والأبناء والأموال فلم يعدلوا بالنساء والأبناء (شيئا) فمن كان عنده منهنّ فطابت نفسه أن يردّ فليرسل ، ومن أبى منكم وتمسّك بحقه فليردّه عليهم وليكن فرضا علينا ستّ فرائض (إبل) من أول ما يفيء الله به علينا! فقال الناس : يا رسول الله رضينا وسلّمنا! فقال : فمروا عرفاءكم أن يدفعوا ذلك إلينا حتى نعلم.

فكان عمر بن الخطّاب يطوف على المهاجرين يسألهم عن ذلك فلم يتخلّف منهم أحد. وكان زيد بن ثابت يطوف على الأنصار يسألهم ، فأخبروه أنهم سلّموا ورضوا. وكان أبو رهم الغفاري يطوف على قبائل العرب يسألهم : فقال عباس بن مرداس السّلمي : أما أنا وبنو سليم فلا! فقالت بنو سليم : ما كان لنا فهو لرسول الله! فردّوا عليه.

وقال الأقرع بن حابس التميمي المجاشعي : أما أنا وبنو تميم فلا! وسكت بنو تميم!

وقال عيينة بن حصن الفزاري : أما أنا وبنو فزارة فلا! وسكت بنو فزارة! وانما اختارت التي كانت لسعد بن أبي وقاص أن تقيم عنده ، واختار سائرهنّ أن يرجعن إلى قومهن : اللواتي كنّ عند علي عليه‌السلام وعثمان وطلحة والزبير وابن عوف وابن عمر (١).

وقال الأقرع وعيينة : يا رسول الله ، إنّ هؤلاء قد أصابوا من نسائنا ، فنحن نحبّ أن نصيب من نسائهم مثل ما أصابوا من نسائنا (!).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٥٢.


فأقرع رسول الله بينهم وقال : اللهم نوّه سهمهما! فأصاب أحدهما خادمة لبني عقيل ، وأصاب الآخر خادمة لبني نمير! (١).

نية عيينة والعجوز! :

والتي أصابت سهم عيينة بن حصن كانت عجوزا من عجائز هوازن ، وقال حين أخذها : أرى عجوزا أحسب لها في الحيّ نسبا فعسى أن يعظم فداؤها! فقال له أبو صرد زهير : خذها ، فو الله لا زوجها بواجد (عليها) ولا بطنها بوالد ، ولا ثديها بناهد ، ولا درّها بماكد (غزير) ولا فوها ببارد (طيّب) (٢).

فجاء ابنها إلى عيينة وقال له : هل لك في مائة من الإبل! قال : لا. وقالت العجوز لابنها : ما أربك في نقد مائة ناقة! اتركه ، فما أسرع ما يتركني بغير فداء! فرجع الولد عنه وتركه ساعته .. ثم مرّ ابنها على عيينة وهو ساكت لا يقول ، فقال له عيينة : هل لك في العجوز فيما دعوته إليه؟! فقال له ابنها : فلا أزيدك على خمسين ناقة! فأبى عيينة! فلبث الولد ساعة ثم مرّ به مرة اخرى وهو معرض عنه! فقال له عيينة : هل لك في العجوز بما بذلت لي؟! فقال الفتى : فلا أزيدك على خمس وعشرين فريضة (إبل) فأبى عيينة! فلما أراد الناس الرحيل جاء عيينة إلى الفتى وقال له : هل لك إلى ما دعوتني إليه؟ فقال الفتي : هل لك إلى عشر فرائض؟! فأبى عيينة! فلما ارتحل الناس وخاف أن يتفرّقوا نادى عيينة للفتى يقول : هل لك إلى ما دعوتني إليه؟! فقال الفتى : أرسلها وإنمّا أحملك! أي على بعير واحد! فقال

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ٢٤٠ واللفظ : خادما ، ولكنّه للذكر والانثى وإنمّا السبي من النساء والأبناء ، وآثرنا تأنيث اللفظة تصريحا.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٣٣.


عيينة : لا والله ما لي حاجة بحملك! فقال له الفتى : أنت صنعت هذا بنفسك! عمدت إلى عجوز كبيرة ـ والله ـ ما ثديها بناهد ، ولا بطنها بوالد ، ولا فوها ببارد ، ولا صاحبها بواجد (عليها) فأخذتها من بين من ترى! فقال له عيينة : فلا حاجة لي فيها خذها لا بارك الله لك فيها! فقال الفتى : يا عيينة ، إنّ رسول الله قد كسا السبي فأخطأها الكسوة من بينهم ، أفما أنت كاسيها ثوبا؟! فما فارقه حتى أخذ منه شمل ثوب ، ثم ولّى الفتى بامه وهو يقول لعيينة : انّك غير بصير بالفرص!

وروى الواقدي عن معاذ بن جبل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال يومئذ : لو كان ثابتا على أحد من العرب ولاء أو رقّ لثبت اليوم ، ولكن إنّما هو أسار وفدية. وجعل رسول الله الفداء يومئذ : ستّ فرائض : ثلاث حقاق وثلاث جذاع (١).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٥٣ ، ٩٥٤. والحقاق : جمع حقّة : الناقة في الرابعة. والجذاع : جمع جذعة : الناقة في الخامسة.

وقال ابن اسحاق : ولما فرغ رسول الله من ردّ سبايا حنين إلى أهلها ركب ، واتّبعه الناس يقولون : يا رسول الله اقسم علينا فيئنا من الإبل والغنم ، حتى ألجؤوه إلى شجرة (سمرة) فاختطفت (الشجرة) عنه رداءه! فقال لهم : أدّوا إليّ ردائي أيها الناس (كذا) فو الله لو كان لكم بعدد شجر تهامة نعما لقسمته عليكم ثم ما ألفيتموني بخيلا ولا جبانا ولا كذّابا ٤ : ١٣٤ ، ١٣٥.

بينما مرّ عن مغازي الواقدي ٢ : ٩٤٢ أن ذلك كان من الأعراب في طريقه.

وعلّقت عليه : أن ذلك لا يناسب قوله : لقسمته بينكم ، فالقسمة يناسب الغنيمة.

ومرّ عن الواقدي أيضا أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله بدأ بالأموال فقسمها ثم أقام يتربّص أن يقدم عليه وفدهم ٢ : ٩٤٤ ثم قسم السبي ، فجاء وفدهم فقال لهم : قد استأنيت بكم حتى ظننت أنكم لا تقدمون ٢ : ٩٥٠ وهذا هو الأنسب به صلى‌الله‌عليه‌وآله لا العكس. وإذا كان راكبا ـ كما في الخبر ـ فكيف ألجؤوه إلى شجرة فاختطفت الشجرة (كذا) رداءه فطلب رداءه منهم؟! اللهم إلّا أن يقال : إنّ ذلك كان في بداية وصوله إلى الجعرّانة قبل أن يبدأ بتقسيم الأموال ، ولم يعرفوا عزمه على ذلك ،


وأمّا مصير النصري المهزوم :

وكان مالك بن عوف النصري ـ قائد هوازن المهزوم في حنين ـ صهر أبي أميّة المخزومي ، فلما هزم مالك اسرت اسرته ضمن السبايا بأيدي المسلمين وعرفوا ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : اكرموا كريم كل قوم ذلّ ، وإنّما يكرم المرء في ولده وأهله ، لذلك أمر بإرسالهم إلى مكة عند عمتهم أمّ عبد الله بنت أبي أميّة ، وأوقف ماله ولم يسهم فيه (١).

فلما جاءه وفد هوازن سألهم عن مالك فقالوا : يا رسول الله ، هرب فلحق بحصن الطائف مع ثقيف. فقال لهم رسول الله : أخبروه : أنه إن كان يأتي مسلما رددت عليه أهله وماله ، وأعطيته مائة من الإبل!

فلما رجع الوفد وبلغ مالكا خبرهم ، وأن أهله وماله موقوفون غير مقسومين ، وما وعده رسول الله ، خاف مالك أن تعلم ثقيف بذلك فيحبسونه عندهم ، فأمر رجاله برحاله إلى دحنا في حومة الطائف ، وأمر أن يأتوا بفرسه ليلا إلى جدار الحصن ، فخرج من الحصن ليلا وجلس على فرسه حتى أتى دحنا فركب بعيره حتى أدركه صلى‌الله‌عليه‌وآله محرما بالعمرة من الجعرّانة يريد الركوب إلى مكة. فأسلم لديه ، فأعطاه مائة من الإبل ، وأمر له بماله وأهله ثم عقد له لواء واستعمله على من أسلم من قومه من نصر وفهم وثمالة وسلمة والطوائف حول الطائف (٢).

__________________

ـ وقد استبطؤوه أكثر من شهر في ذلك! ولم يكن ذلك وهو راكب ، وانّهم هم نزعوه رداءه ولذلك طلبه منهم ، وليس ذلك من الجاهلين ببعيد ، ولا ضرورة لردّ ذلك إلى أعراب الطريق ـ كما في مغازي الواقدي ـ إلّا ابعادا لذلك عن نزاهة الصحابة كلهم! ولا ضرورة لذلك.

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٥٤.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٣٣ ، ١٣٤ ومغازي الواقدي ٢ : ٩٥٥ وفيه : فرجع حين


ثم مضى إلى الجعرّانة :

بقي من الفيء بقايا ، فأمر صلى‌الله‌عليه‌وآله بإرسالها إلى ناحية مرّ الظّهران في طريقه من مكة إلى المدينة (١) ومضى هو إلى الجعرّانة فوصلها ليلة الخميس لخمس خلون من ذي القعدة ، فأقام بها ثلاثة عشر يوما إلى ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة بقيت من ذي القعدة. وفي هذه الفترة كان يصلي في موضع المسجد الذي بالعدوة القصوى تحت الوادي (٢).

كتابه إلى بكر بن وائل :

وكان في من شهد معه حنينا خمسة رجال من بكر بن وائل : ابو الخمخام وبشير بن الخصاصية وعبد الله بن الأسود وفرات بن حبّاه ومرثد أو يزيد بن ظبيان ، وكانت ديارهم من اليمامة إلى البحرين ، وبعد حنين ـ ولعلّه هنا ـ أرادوا الرجوع إلى قومهم ، فكتب إليهم كتابا قال فيه : «من محمد رسول الله إلى بكر بن وائل ، أسلموا تسلموا» وسلّم لمرثد أو يزيد بن ظبيان ، فرووا عنه قال : ما جاءنا

__________________

ـ رجع وقد أمن الناس حيث انصرف عنهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد سرح الناس مواشيهم وانضم إليه مسلمون من قومه ، فأغار بهم على سرح لأهل الطائف فاستاق منهم ألف شاة في غداة واحدة ، وكان يبعث إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله بخمس ما يغير عليه مرة ألف شاة ومرة مائة بعير! لا يخرج لثقيف سرح إلّا أغار عليه ، ولا يقدر على سرح إلّا أخذه ، ويقاتل بمن معه من بقي على الشرك ، ويغير بهم على ثقيف يقاتلهم بهم ، ولا يقدر على رجل منهم مشرك لا يسلم إلّا قتله ، حتى ضيّق عليهم!

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٤٣.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٥٩.


من يقرأ الكتاب حتى قرأه رجل من بني ظبيعة من بكر بن وائل يسمونهم بني الكاتب (١) فأسلم قسم منهم.

وأمان لبني ثعلبة :

ولعلّه في هذه الفترة كان وفود صيفي بن عامر من بني ثعلبة مع ثلاثة آخرين من قومه عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما روى ابن سعد عن رجل منهم قال : قدمنا عليه أربعة نفر لما قدم (من) الجعرّانة ، فقلنا : نحن رسل من خلفنا من قومنا ، ونحن وهم مقرّون بالاسلام. فأقمنا أياما في ضيافته ، ثم جئنا لنودّعه ، فقال لبلال : أجزهم كما تجيز الوفد. فجاء بلال بفضة وقال : ليس عندنا دراهم ، فأعطى كل رجل منّا خمسة أواق (٢)! وكتب لصيفي بن عامر منهم : «بسم الله الرحمن الرحِيم ، هذا كتاب من محمد رسول الله لصيفي بن عامر على بني ثعلبة بن عامر ، من أسلم منهم وأقام الصلاة وآتى الزكاة (٣) وأعطى خمس الغنم وسهم النبيّ والصفيّ ، فهو آمن بأمان الله» (٤).

عمرته صلى‌الله‌عليه‌وآله من الجعرّانة :

مر أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان في الجعرّانة يصلّي في موضع المسجد الذي بالعدوة القصوى تحت الوادي ، فمنه أحرم ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة ، للعمرة ، فلم يجز الوادي إلّا محرما ملبّيا ، ولم يقطع التلبية حتى رأى البيت يوم

__________________

(١) مكاتيب الرسول ١ : ٢٨١ ، وانظر مكاتيب الرسول ١ : ١٦٦ ، ١٦٧.

(٢) الطبقات الكبرى ١ : ٢٩٨.

(٣) كذا ، وسيأتي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله بدأ بأخذ الزكاة من أول محرّم للسنة التاسعة ، فهذا يوهن الخبر ، إلّا أن يكون ذلك تمهيدا لما سيأتي.

(٤) الإصابة : ٢ ، برقم ٤١١١ ، وانظر مكاتيب الرسول ٢ : ٣٧٤.


الأربعاء. فأناخ راحلته على باب بني شيبة (حيث دفن هبل) فدخل واتّجه إلى الركن (الحجر الأسود) فاستلمه ، ثم أرمل (مشى مسرعا) منه إلى حجر إسماعيل ، وهكذا حتى أتمّ طوافه ، ثم خرج فركب راحلته واتّجه إلى الصفا فسعى على راحلته منه إلى المروة حتى أتمّ الشوط السابع عند المروة فنزل وحلق رأسه عندها خراش بن أميّة أو أبو هند عبد بني بياضة ، ولم يكن له هدي.

وخلّف أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل ، يعلّمان الناس القرآن وفقه الدين. واستعمل عتّاب بن أسيد الاموي (١) أميرا على مكة والحجّ ، على أن يكون رزقه كل يوم درهما ، فقال : رزقني رسول الله كلّ يوم درهما ؛ فليست بي حاجة إلى أحد (٢).

وفي «المسترشد» : كان صلى‌الله‌عليه‌وآله يومئذ مقيما بالأبطح ، فأمر عتّابا أن يصلّي بالناس بمكة الظهر والعصر والعشاء الآخرة ، وأما الفجر والمغرب فكان يصليهما هو (٣).

وفد الطائف الأول :

وروى الطوسي في «الأمالي» بسنده عن الصادق عليه‌السلام عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : لما نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مكة (في عمرة الجعرانة) قدم عليه نفر من

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٥٩ ، وعتّاب من بني أميّة ولكنّه أسلم وحسن اسلامه ، وله يومئذ عشرون سنة ، كما في المواهب. ونسبه في الطبري ٣ : ٧٣ وفي الاقبال ٢ : ٤٢ وقال : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فتح مكة واستعمل عليها عتّابا ، ثمّ اجتمعت هوازن لحربه عليه‌السلام ، فحجّ المسلمون وعليهم عتّاب وتقدّم المشركين أبو سيّارة العدواني على أتان أعور ، ورسنها ليف!

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٤٣.

(٣) المسترشد في الإمامة للطبري الإمامي : ١٢٩ ، ط. قم.


أهل وجّ من الطائف فعرضوا عليه إسلامهم وإسلام قومهم ، ولكنّهم لم يقرّوا بالصلاة والزكاة (١).

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا خير في دين لا ركوع فيه ولا سجود! أما والذي نفسي بيده ليقيمنّ الصلاة وليؤتنّ الزكاة ، أو لأبعثنّ إليهم رجلا هو منّي كنفسي ، فليضربنّ أعناق مقاتليهم وليسبينّ ذراريهم! وأخذ بيد علي عليه‌السلام وشالها وقال : هو هذا (٢).

ثم انصرف صلى‌الله‌عليه‌وآله تلك الليلة (ليلة الخميس) من مكة إلى الجعرّانة فكأنّه بات بها. وفي يوم الخميس سلك وادي الجعرّانة وإلى جانبه حتى خرج منه على سرف (على عشرة أميال ـ ٢٥ كم من مكة إلى المدينة) ثم أخذ الطريق حتى انتهى إلى مرّ الظّهران (٣) وكان قد أمر ببقايا الفيء إلى هناك ، فاتّبع بها إلى المدينة ، حتى قدمها يوم الجمعة لستّ ليال أو ثلاث ليال بقين من ذي القعدة (٤).

رسل الاسلام الى البحرين وهجر :

أطلق البلاذري : في سنة ثمان (٥) ـ وقيده ابن سعد : بمنصرفه من الجعرانة (٦) ـ أمر صلى‌الله‌عليه‌وآله كتّابه أن يكتبوا الى المنذر بن ساوى التميمي الدارمي العبدي أمير الفرس

__________________

(١) كذا في هذا الخبر ، وسيأتي أنّ فرض الزكاة كان في أول التاسعة.

(٢) أمالي الطوسي : ٥٠٤ ، ٥٠٥ ، الحديث ١١٠٦. وسيأتي خبر وفدهم إلى المدينة في شهر رمضان من التاسعة أي بعد عشرة أشهر من هذا.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩٥٩.

(٤) لست ليال في سيرة ابن هشام ٤ : ١٤٣ و ١٤٤. ولثلاث ليال في مغازي الواقدي ٢ : ٩٦٠ و ٩٧٣ ولعلّ هذا الإسراع والتعجيل كان لإبعاد جوّ الحرب عن موسم الحج ، من جملة العلل.

(٥) فتوح البلدان : ٨٩ ، وط ٢ : ١٠٧.

(٦) الطبقات الكبرى ١ (القسم الثاني) : ١٩ و ٤ (القسم الثاني) : ٧٦.


الساسانيّين على البحرين كتابا أسنده الزيلعي الى الواقدي في «كتاب الردّة» أسنده عن عكرمة مولى ابن عباس قال : وجدت هذا الكتاب في كتب ابن عباس بعد موته فإذا فيه : بعث رسول الله العلاء بن الحضرمي الى المنذر بن ساوى ، وكتب إليه كتابا يدعوه فيه الى الاسلام :

«بسم الله الرحمن الرحِيم ، من محمد رسول الله الى المنذر بن ساوى سلام على من اتّبع الهدى ، أما بعد ، فاني أدعوك الى الإسلام ، فأسلم ، تسلم ، أسلم يجعل الله لك ما تحت يديك ، واعلم أن ديني سيظهر الى منتهى الخفّ والحافر» وختم رسول الله الكتاب : محمد رسول الله (١).

وكان المنذر المقدم في تميم البحرين تابعا لكسرى ملك فارس مجوسيا ، وكان قاعدة ملكه هجر ، وهو الذي يعشّر سوقها (٢) ومعه سيبخت الفارسي. فلما أوصل العلاء الكتاب الى المنذر وقرأه قال له : يا منذر ، انّك عظيم العقل في الدنيا ، فلا تقصّرن عن الآخرة ، إنّ هذه المجوسية شرّ دين ، ينكح فيها ما يستحى نكاحه ، وتأكلون ما ينكره من اكله ، وتعبدون في الدنيا نارا تأكلكم يوم القيامة ، ولست بعديم العقل والرأي ، فانظر هل ينبغي لمن لا يكذّب في الدنيا أن لا تصدّقه؟! ولمن لا يخون أن لا تأتمنه؟! ولمن لا يخلف أن لا تثق به؟! فان كان أحد هكذا فهذا هو النبيّ الامّي الذي ـ والله ـ لا يستطيع ذو عقل أن يقول : ليت ما أمر به نهى عنه أو ما نهى عنه أمر به (٣)!

__________________

(١) نصب الراية للزيلعي ٤ : ٤٢ عن كتاب الردّة للواقدي ، وليس في النص الجزية ، فلا يصح ما في فتوح البلدان. وانظر مكاتيب الرسول ٢ : ٣٥٤ وقارن : ٣٧٩ ، ٣٨٣ و ١ : ٢٠٩.

(٢) انظر فتوح البلدان : ١٠٧ ومعجم البلدان ١ : ٣٤٦ ـ ٣٤٩ ونهاية الارب : ٤٣٥ والمفصّل ٤ : ٢٠٣ و ٢١٠ وجمهرة النسب : ٢٠١ ، ومكاتيب الرسول ٢ : ٣٥٧ ، ٣٥٨.

(٣) الروض الانف ٣ : ٢٥٠.


فقال المنذر : قد نظرت في هذا الذي في يدي فوجدته للدنيا دون الآخرة ، ونظرت في دينكم فرأيته للآخرة والدنيا ، فما يمنعني من قبول دين فيه امنية الحياة وراحة الموت. ولقد عجبت أمس ممن يقبله ، وعجبت اليوم ممن يردّه (١). فأسلم.

ثم قرأ كتابه على أهل هجر والبحرين فأسلم جمع من العرب والعجم. فكتب المنذر إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أما بعد ، يا رسول الله ، فانّي قرأت كتابك على أهل البحرين ، فمنهم من أحب الاسلام وأعجبه فدخل فيه ، ومنهم من كرهه فلم يدخل فيه ، وبأرضي يهود ومجوس ، فأحدث إليّ أمرك في ذلك» (٢).

__________________

(١) السيرة الحلبية ٣ : ٢٨٤.

(٢) الطبقات الكبرى ١ (القسم الثاني) : ١٩ وفي الكتب والرسائل المروية المتبادلة بين المنذر والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مما يصلح جوابا لهذا الكتاب من المنذر ما رواه البلاذري والطبري وقبلهما أبو عبيد في الأموال وأبو يوسف في الخراج ، ونصّه في البلاذري : «من محمد النبيّ الى منذر بن ساوى سلام عليك ، فاني أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو ، أما بعد فإنّ كتابك جاءني وسمعت ما فيه. فمن صلّى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا ، فذلك المسلم ، ومن أبى فعليه الجزية» راجع مكاتيب الرسول ٢ : ٦٥٨ و ٦٦٠ ولم يذكر للكتاب تاريخ ولعله بعد فرض الجزية في التاسعة.

أما سيبخت الفارسي مرزبان هجر فقد ذكر البلاذري في فتوح البلدان : ١٠٧ : أنّه اسلم بكتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إليه مع العلاء الحضرمي ، بينما روى الصدوق في «التوحيد» : أنّه قدم الى المدينة وتكلّم مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وطلب منه المعجزة البيّنة ثم أسلم.

عن علي عليه‌السلام : جاءه سيبخت من ملوك فارس وكان رجلا ذربا فقال له : يا محمد ، الى ما تدعو؟ فقال : الى شهادة أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمدا عبده ورسوله ، فقال سيبخت : يا محمد ، وأين الله؟ قال : هو موجود في كل مكان بآياته. وقال : فكيف هو؟ فقال : لا كيف له ولا أين ، لأنّه عزوجل كيّف الكيف وأيّن الأين. قال : فمن أين جاء؟ قال : لا


وما ذا عن القرآن في هذه الحوادث؟

لم يرو في أخبار أسباب نزول الآيات وشئونها ما يرتبط بالحوادث بعد فتح مكة ، من حرب حنين وهوازن والثقيف والطائف ، اللهم الا الآيات : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ ...) وذلك في سورة براءة أو التوبة التي نزلت بعد رجوعه صلى‌الله‌عليه‌وآله من حرب تبوك في أواخر التاسعة للهجرة أي بعد عام تقريبا. اللهم إلّا ما يأتي من آيات في سورة النور.

إسلام عروة بن مسعود وشهادته :

مرّ أنّ عروة بن مسعود كان قد ذهب إلى جرش في حدود اليمن ليتعلم منهم عمل الدبّابات والمنجنيق استعدادا لحرب الإسلام ، وعاجلهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فحاصرهم قبل أن يرجع إليهم عروة بما تعلّم ، فلم يرجع إليهم إلّا بعد رجوع الرسول عنهم.

__________________

ـ يقال له جاء ، وإنمّا يقال جاء الزائل من مكان الى مكان ، وربّنا لا يوصف بمكان ولا بزوال ، بل لم يزل بلا مكان ولا يزال. فقال (يا محمد) انك لتصف ربّا عظيما بلا كيف ، فكيف لي أن أعلم أنّه أرسلك؟ قال علي عليه‌السلام : فلم يبق بحضرتنا ذلك اليوم حجر ولا مدر ولا جبل ولا شجر ولا حيوان إلّا قال مكانه : أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا عبده ورسوله وأنا قلت أيضا [وقال الرجل فأسلم ثم] قال : ومن هذا؟ فقال : هذا خير أهلي وأقرب الخلق منّي لحمه لحمي ودمه دمي وروحه روحي ، وهو الوزير لي في حياتي والخليفة بعد وفاتي ، كما كان هارون من موسى ، الا أنّه لا نبي بعدي ، فاسمع له وأطع فانه على الحق. ثم سمّاه عبد الله. وقبله رواه عن الصادق عليه‌السلام بسند آخر مختصرا بدون الذيل في علي عليه‌السلام ، مع ذكر أن الرجل كان يهوديا فارسيا : ٣١٠ ، ٣١١ ، وخالفت المصادر تسميته في آخر الخبر بعبد الله ، فسمّته : اسبخت بن عبد الله ، انظر : مكاتيب الرسول ٢ : ٣٧٩.


ولعلّه سمع بوعيد النبيّ وتهديده لهم فتأثّر به ، فخرج إليه ليسلم. قال الواقدي : يقال : إنّه لحق به بين مكة والمدينة فأسلم ، والأثبت أنه قدم المدينة فأسلم ، (فلعلّه كان في شهر ذي الحجة أواخر السنة الثامنة للهجرة).

وكان الرجل يرى نفسه مهيبا عندهم يقول : لو وجدوني نائما ما أيقظوني! ومحبوبا جدّا يقول : يا رسول الله لأنا أحبّ إليهم من أبكار أولادهم! وكان سبّاقا إلى كل شيء ، فأراد أن يسبقهم إلى الإسلام ، ودعوتهم إليه ، فقال للنبيّ : يا رسول الله ، ائذن لي أن أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام ، فو الله ما رأيت مثل هذا الدين ذهب عنه ذاهب : فأقدم على أصحابي وقومي بخير قادم ، وما قدم وافد قطّ على قومه بمثل ما قدمت به! وقد سبقت في مواطن كثيرة يا رسول الله.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنهم إذا قاتلوك! قال : يا رسول الله ، لأنا أحبّ إليهم من أبكار أولادهم! فلم يأذن له.

ثم استأذنه ثانية ، فأعاد عليه كلامه الأول. فقال : يا رسول الله ، لو وجدوني نائما ما أيقظوني! فلم يأذن له.

ثم استأذنه ثالثة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن شئت فاخرج. فطار إلى الطائف مسرعا في خمسة أيام ، فقدمها عشاء.

وكانوا إذا قدموا من السفر بدءوا بآلهتهم اللات وحلقوا رأسهم عندها ، فلم يفعل.

فجاؤوه وحيّوه بتحيتهم : أنعم مساء! فلم يرد عليهم بمثلهم ولم يقل : عليكم السلام ، ولكنّه قال : عليكم تحية أهل الجنة! ثم قال لهم : يا قوم ، أتتّهمونني؟ ألستم تعلمون أني أوسطكم (أشرفكم) نسبا! وأكثركم مالا! وأعزّكم نفرا! فما حملني على الإسلام إلّا أني رأيت أمرا لا يذهب عنه ذاهب! فاقبلوا نصحي ولا تستعصوني! فو الله ما قدم وافد على قوم بأفضل مما قدمت به عليكم! فقالوا : إنّك حيث لم تقرب الربّة اللات ولم تحلق رأسك عندها قد وقع في أنفسنا أنّك قد صبوت (ملت إلى الإسلام) فنالوا منه وآذوه ، فحلم عليهم.


وطلع الفجر ، فصعد على غرفة له فأذّن بالصلاة! فرماه أوس بن عوف من بني مالك ، أو وهب بن جابر من الأحلاف ، فأصاب أكحله (عرق يده) فلم ينقطع دمه ، ورأى قومه أعدوا أسلحتهم لينتقموا له فيأخذوا بثاره فقال لهم : لا تقتتلوا فيّ ، فانّي قد تصدّقت بدمي على صاحبه ليصلح بذلك بينكم ، فهي كرامة الله أكرمني الله بها : الشهادة ساقها الله إليّ ، وأشهد أنّ محمدا رسول الله فإنّه أخبرني بهذا عنكم : أنكم تقتلونني! وادفنوني مع الشهداء الذين قتلوا معه قبل أن يرتحل عنكم. ثم مات رحمه‌الله.

فقال لهم ابنه أبو مويلح ابن عروة : لا اجامعكم على شيء أبدا وقد قتلتم عروة! وتابعه ابن عمّه قارب بن الأسود بن مسعود (وهو قائد الأحلاف من ثقيف في يوم حنين) وعملا بوصيّة عروة فدفنوه مع الشهداء. ثم لحقا بالمدينة فأسلما لدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلما علم النبيّ بمقتل عروة قال : مثل عروة مثل أصحاب ياسين (في سورة يس) دعا قومه إلى الله فقتلوه! ثم نزلا على المغيرة بن شعبة الثقفي (١).

ووفاة ابنته زينب :

وهي زوجة ابن خالتها أبي العاص بن الربيع الاموي ، ولها منه عليّ وأمامة (٢) وكانت حاملا وهاجرت فطعن محملها هبار بن الأسود فطرحت ، وأسلم زوجها أبو العاص فعادت إليه ، ولم تحمل منه لعلّتها بعد إسقاطها ، وخرج زوجها معه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مكة ثم حنين ، وكان مع علي عليه‌السلام في سريّته إلى خثعم في ضواحي الطائف

__________________

(١) حتى أسلم أهلهم في الطائف فرجعوا معهم. مغازي الواقدي ٢ : ٩٦٠ ـ ٩٦٢.

(٢) فأما علي فمات في ولاية عمر ، وأما أمامة فهي التي أوصت فاطمة عليا عليهما‌السلام أن يتزوّجها بعدها ، فتزوّجها بعدها بخمسين يوما ، وماتت سنة خمسين. بحار الأنوار ٢١ : ١٨٣ ، ١٨٤ عن الباب الثامن من المنتقى للكازروني.


كما مرّ ، فما مرّ على عودته معه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة إلّا أياما حتى توفيت زوجته زينب ، فصلّت فاطمة على اُختها زينب (١).

وما ذا نزل من القرآن؟ :

مرّ في مقدّمات أخبار فتح مكة نزول سورة النصر تبشّر بالنصر في فتح مكة ، وفي الوقت نفسه تنذره بدنوّ أجله وتنعى إليه نفسه ، وكأنّه لا ينبغي أن يكون له في هذه الدنيا الفرح إلّا مخالطا بالحزن والترح ، بل كأنها بشارة اخرى باقتراب انتهاء أتعابه وراحته!

سورة النور :

والسورة التالية في النزول سورة النور (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ثم بيّنت حدّ الزنا في قوله سبحانه : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ...).

ونجد بشأنها في تفسير القمي : هي ناسخة لقوله سبحانه : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً)(٢).

ويبدو أنّه يعني بالنسخ هنا ما جاء في «الكافي» بسنده عن الباقر عليه‌السلام قال : وسورة النور انزلت بعد سورة النساء ، وفيها : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ)

__________________

(١) الاستبصار ١ : ٨٥ ح ١٨٨٠ ، والتهذيب ٣ : ٣٣٣ ح ١٠٤٣. وفي اعلام الورى ١ : ٢٧٦ : أنها توفيت في السابعة ولعلّه هو الراجح ، وأن فاطمة ولدت ابنتها زينب بعد وفاة اُختها زينب ، فسمّت ابنتها اُختها ، وفاءً لها وتخليداً لذكرها.

(٢) النساء : ١٥ والخبر في تفسير القمي ٢ : ٩٥.


إلى قوله : (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) قال : فالسبيل هو الذي قال تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما)(١).

وبخلاف ما يتوقّع لا نجد فيما بأيدينا أيّ خبر عن سبب نزول السورة أو الآية أو شأنهما ، اللهم إلّا ما نجده بشأن الآية التالية : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)(٢).

فقد قال القمي في تفسيره : نزلت هذه الآية في نساء في مكة كنّ مستعلنات بالزنا : سارة ، وحنتمة ، والرّباب ، فحرّم الله نكاحهنّ (٣).

وروى الطوسي في «التبيان» عن الباقر عليه‌السلام : أنّ الآية نزلت في أصحاب الرايات ، فأمّا غيرهن فانه يجوز أن يتزوّجها .. ويمنعها من الفجور (٤).

وقال : وروي ذلك عن عبد الله بن عباس وابن عمر : أنّ رجلا من المسلمين استأذنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتزوج امرأة من أصحاب الرّايات للسفاح ، فأنزل الله الآية .. وبه قال مجاهد والشعبي والزهري ، وأنّ التي استؤذن لها : أمّ مهزول (٥).

ونقل الطبرسي في «مجمع البيان» ما ذكره الطوسي وزاد عن الباقر والصادق عليهما‌السلام قال : هم رجال ونساء كانوا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مشهورين بالزنا ، فنهى الله عن اولئك الرجال والنساء على تلك المنزلة (٦).

__________________

(١) عن الكافي في الميزان ١٥ : ٨٣.

(٢) النور : ٤.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٩٥ ، ٩٦.

(٤) التبيان ٧ : ٤٠٨. وعليه يحمل قوله سبحانه في الآية : ٢٦ من السورة نفسها أي بعد ٢٣ آية : (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ) كما في مجمع البيان ٧ : ٢١٣.

(٥) التبيان ٧ : ٤٠٧.

(٦) مجمع البيان ٧ : ١٩٧ ، ١٩٨ والخبران عنهما هو ما رواه الكليني عن محمد بن سالم


وخبر القمي صريح في نساء مكة ، وكذلك ظاهر ما بعده ، مما يقتضي نزول الآية بعد فتح مكة ، ولم يذكر. ولا يتنافى ذلك مع مدنية السورة على المصطلح المعروف. وعدم ذكر سبب خاص لنزول السورة أو هذه الآيات منها ، ومناسبة أجواء مكة الجاهلية وأصحاب الرايات فيها ، وتأكيده صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيعة النساء بعد فتح مكة على اجتناب الزنا ، وورود نزول سورة النور بعد النصر وقبل الحجرات في أوّل التاسعة .. كل ذلك مما يقرّب احتمال نزول السورة بعد الفتح ، وإن كان لم يذكر.

وفي «أسباب النزول» للواحدي النيشابوري خبر عن عكرمة (عن ابن عباس ظ) فيه تفصيل عن بغايا مكة قال : نزلت الآية : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ) في نساء بغايا مكة (١) وكنّ كثيرات ، تسع منهن صواحب رايات ، لهنّ رايات كرايات البيطار يعرفونها : أم مهدون (ـ أم مهزول) جارية السائب بن أبي السائب المخزومي ، وأمّ غليظ جارية صفوان بن اميّة المخزومي ، وقرينة (ـ فرتنه) جارية هشام بن ربيعة المخزومي ، وأمّ سويد جارية عمرو بن عثمان المخزومي ، وحيّة القبطية جارية العاص بن وائل السهمي ، وجلالة جارية سهيل بن عمرو العامري ، وشريفة جارية زمعة بن الأسود ، ومرية جارية ابن مالك بن السبّاق (٢).

أزواجه صلى‌الله‌عليه‌وآله ومارية ، في غيبته وبعد عودته :

في يوم الجمعة الثاني من شهر رمضان بعد صلاة العصر خرج صلى‌الله‌عليه‌وآله من المدينة (٣)

__________________

ـ عن الباقر ، وعن زرارة عن الصادق عليهما‌السلام ، كما في الميزان ١٥ : ٨٣ ، ٨٤.

(١) في الخبر : والمدينة ، ثم لم يذكر إلّا بغايا مكة ، والنزول لا بدّ أنه كان في أحدهما وهي مكة.

(٢) أسباب النزول للواحدي : ٢٦١.

(٣) إعلام الورى ١ : ٢١٥.


لفتح مكة ، ولم يعد إليها إلّا بعد ثلاثة أشهر : لثلاث بقين من ذي القعدة يوم الجمعة أيضا (١) وإنّما أخرج معه من أزواجه زينب وأمّ سلمة (٢) وخلّف سائر نسائه ومنهنّ مارية القبطية أمّ ابراهيم في مشربتها في العالية (٣) ، ومعها مولاها أو ابن عمّها مأبور أو جريج القبطي الذي بعثه معها أبوها أو مقوقس الاسكندرية ، خادما ، خصيا بل مجبوب الذكر (٤) وذلك ليؤمن منه عليها.

وأما سبب إفرادها في مشربتها في العالية فقد ورد على لسان ضرّتها عائشة :

فقد روى ابن سعد بسنده عنها قالت : انّها (مارية) كانت جعدة جميلة ، فاعجب بها رسول الله .. فما غرت على امرأة إلّا دون ما غرت عليها .. وفرغنا لها (لإثارتها وايذائها وإزعاجها!) فجزعت ، فحوّلها رسول الله إلى العالية

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٦٠ و ٩٧٣.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٢٦.

(٣) قال عبد الرحمن خويلد في كتابه المساجد والأماكن الأثرية المجهولة : كان موقع مشربة أم إبراهيم يسمّى قديما بالدشت ويصغّر بالدشيت ، وكان بستانا فيه بئر لليهودي مخيريق بن النضير الذي قاتل مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم احد وقال : إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما يشاء ، وقتل. وفي وسطها ربوة مرتفعة وكان عليها غرفة من الحجر. ولما ولّي عمر بن عبد العزيز ابن مروان المدينة بنى عليها مسجدا غرفة من الحجر كذلك وأزالها الوهابيون أخيرا (قبل ست سنين تقريبا) وكان للمشربة باب خشبي قديم اخضر اللون فأبدلوه بباب حديدي ، وجعلت مقبرة لدفن موتى المحلّ ، ويصعب الدخول إليها إلّا لذلك! وهي على امتداد شارع العوالي بعد مستشفى الزهراء باتجاه مستشفى المدينة الوطني بسبعمائة متر تقريبا مقابل انتاج الميمني للطوب الأحمر. كما عنه في مجلة ميقات الحج ٧ : ٢٧٣ ، ٢٧٤.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٣١٨ وأمالي المرتضى ١ : ٧٧. وصحيح مسلم ٨ : ١١٩ ط مشكول. والطبقات الكبرى ٨ : ١٥٤ و ١٥٥. ومستدرك الحاكم ٤ : ٣٩ ، ٤٠.


يختلف إليها هناك ، فكان ذلك أشدّ علينا ، ثم رزقها الله الولد وحرمناه (١) وإنما كان ذلك منذ ظهور حملها :

فقد روى أيضا بسنده عن أنس بن مالك عن عائشة قالت : فلما استبان حملها فزعت من ذلك! (٢) ومعها سائر نسائه :

فقد روى أيضا بسنده عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : وثقلت (مارية) على نساء النبيّ وغرن عليها ، و (لكن) لا مثل عائشة (٣).

فكان من جرّاء هذا وذاك : ما رواه ابن سعد أيضا بسنده عن أنس بن مالك قال : كان القبطيّ يأوي إلى أمّ ابراهيم في مشربتها يأتيها بالماء والحطب ، فقال الناس : علج يدخل على علجة! (٤).

بل روى الحاكم في مستدركه بسنده عن عائشة نفسها قالت : كان معها ابن عمّها ، فقال أهل (الإفك) والزور : من حاجته (محمد) إلى الولد ادّعى ولد غيره (٥) حملا!

واستبانة حملها وإن كان ـ طبيعيا ـ في أوائل شهرها الخامس شهر رجب من الثامنة ، أي قبل بدء سفره صلى‌الله‌عليه‌وآله لفتح مكة في أوائل شهر رمضان ، بشهرين (٦) ، ولكن تصاعد آثاره وتفاقمها كأنّه كان في فترة غيبته عنها وعنهنّ وعن المدينة ـ وفيها

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٨ : ١٥٣.

(٢) الطبقات الكبرى ١ (القسم الأول) : ٨٨.

(٣) الطبقات الكبرى ١ (القسم الأول) : ٨٢.

(٤) الطبقات الكبرى ٨ : ١٥٤ والعلج : العجمي وهو غير العربي ولو كان قبطيا مثلا.

(٥) مستدرك الحاكم ٤ : ٣٩.

(٦) ذلك أن ولادتها لإبراهيم كانت ـ كما يأتي ـ في أوائل شهر ذي الحجة.


النفاق والضغينة ـ بسفرته التي طالت ثلاثة أشهر ، وهي فترة كافية لأيّ إرجاف وإشاعة مغرضة. فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ عاد من سفرته تلك إلى مدينته ، عاد إليها وهي كأنّها تغلي كالمرجل بهذه الإشاعة القبيحة! ولا نعرف وصف حاله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما بلغت إلى مسامعه؟! ولا نعلم مدى وقعها في نفسه الشريفة؟!

حديث الإفك :

مرّ علينا آنفا الخبر عن ابن سعد بسنده عن أنس بن مالك : أن الناس قالوا في القبطي الذي كان يأوي إلى أمّ ابراهيم في مشربتها يأتيها بالماء والحطب : علج يدخل على علجة (١).

وكذلك خبر الحاكم في مستدركه عن عائشة قالت : كان معها ابن عمّها فقال أهل (الإفك) والزور : من حاجته (محمد) إلى الولد ادّعى ولد غيره! (٢).

ولا ريب أن هذا (الإفك) والزور من رمي المحصنة المؤمنة مارية القبطيّة من مصاديق قوله سبحانه في الآية الرابعة من سورة النور النازلة في هذه الفترة : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ..) إلّا أننا لا نرى أيّ خبر عن شأن نزولها وتطبيقها بشأن مارية.

حكم اللعان :

ولعلّ من حكم الله في تلك الفترة ما جاء في الآيات التاليات من السادسة إلى العاشرة من السورة في حكم من يرمي زوجته ولا شاهد له ، وفي سبب نزولها :

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٨ : ١٥٤ والعلج : العجمي.

(٢) مستدرك الحاكم ٤ : ٣٩.


روى القمي في تفسيره : أنه لما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من غزوة تبوك (في التاسعة ، كذا) جاء إليه عويمر بن ساعدة العجلاني الأنصاري فقال : يا رسول الله ، إنّ امرأتي زنى بها شريك بن السمحاء وهي منه حامل! فأعرض عنه رسول الله ، فأعاد عليه القول ، فأعرض عنه ، حتى فعل ذلك أربع مرات. فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ودخل منزله ، فنزلت عليه آيات اللعان.

فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وصلى بالناس العصر ، ثم طلب عويمر فقال له : ايتني بأهلك! فقد أنزل الله فيكما قرآنا! فذهب إليها وقال لها : إنّ رسول الله يدعوك!

وكانت شريفة في قومها ، فجاءت وجاء معها جماعة منهم ، فلما دخلوا عليه المسجد قال رسول الله لعويمر : تقدّما إلى المنبر والتعنا. قال عويمر : كيف أصنع؟

قال : تقدّم وقل : أشهد بالله أنّي لمن الصادقين فيما رميتها به. فتقدّم وقالها ، فقال له رسول الله : أعدها ، حتى فعل ذلك أربع مرّات ، ثم قال له في الخامسة : (وقل :) عليك لعنة الله إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به ، فقال ذلك ، فقال له رسول الله : إنّ اللعنة لموجبة إن كنت كاذبا! ثم قال له : تنحّ. فتنحّى.

ثم قال لزوجته : تشهدين كما شهد ، وإلّا أقمت عليك حدّ الله! فنظرت في وجوه قومها فقالت : لا اسوّد هذه الوجوه في هذه العشية! ثم تقدّمت إلى المنبر وقالت : أشهد بالله أنّ عويمر بن ساعدة من الكاذبين فيما رماني به! فقال لها رسول الله : أعيديها ، فأعادتها أربع مرّات ، ثم قال لها رسول الله في الخامسة : فالعني نفسك إن كان من الصادقين فيما رماك به! فقالت ذلك ، فقال لها : ويلك! إنّها موجبة إن كنت كاذبة!

ثم قال رسول الله لزوجها : اذهبى ، فلا تحلّ لك أبدا! فقال : يا رسول الله ، فمالي الذي أعطيتها؟! فقال : إن كنت كاذبا فهو أبعد لك منه ، وإن كنت صادقا فهو لها بما استحللت من فرجها. ثم قال : إن جاءت بالولد جعد قطط أخفش العينين


(ضعيفهما) أحمش الساقين (دقيقهما ، وهي أوصاف شريك الأعرابي الذي رماها به زوجها) فهو للأمر السيّئ! وإن جاءت به أصهب (الشعر ـ أشقره) أشهل (العين ـ سواد بزرقة وهي أوصاف عويمر) فهو لأبيه (١).

وروى الطوسي في «التبيان» عن ابن عباس : أنّ الآية نزلت في هلال بن اميّة وزوجته. وهو ما رواه الطبرسي في «مجمع البيان» عن عكرمة عن ابن عباس قال (لما نزلت الآية : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ)) قال سعد بن عبادة : لو أتيت لكاع وقد تفخّذها رجل ، لم يكن لي أن أهيّجه حتى آتي بأربعة شهداء؟! فو الله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته ويذهب! فإن قلت ما رأيت إنّ في ظهري لثمانين جلدة!

فقال النبي للأنصار : يا معشر الأنصار ، ما تسمعون إلى ما قال سيّدكم؟! فقالوا : لا تلمه فانه رجل غيور ما تزوّج امرأة قط إلّا بكرا! ولا طلّق امرأة له فاجترى منّا رجل أن يتزوّجها! فقال سعد بن عبادة : يا رسول الله ، بأبي أنت وامّي ، والله انّي لأعرف أنها من الله ، وأنها حق ، ولكن عجبت من ذلك ، لما أخبرتك.

فقال : فانّ الله يأبى إلّا ذلك. فقال : صدق الله ورسوله.

وعن الحسن أنّه قال : أرأيت إن رأى رجل مع امرأته رجلا فقتله ، تقتلونه؟! وإن أخبر بما رأى جلد ثمانين؟! أفلا يضربه بالسيف؟! فقال رسول الله : كفى بالسيف شاه ـ أراد أن يقول شاهدا ـ ثم أمسك وقال : لو لا أن يتابع فيه السكران والغيران.

وعن الضحاك عن ابن عباس قال : وقال عاصم بن عدي : يا رسول الله ،

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٩٨ ، ٩٩ والاستدلال بالأوصاف قضية في واقعة ولا حجية فيها فلا يقاس عليها.


إن رأى رجل منّا مع امرأته رجلا فأخبر بما رأى جلد ثمانين ، وإن التمس أربعة شهداء كان الرجل قد قضى حاجته ثم مضى! قال : كذلك انزلت الآية يا عاصم!

فخرج إلى منزله ، فاستقبله هلال بن اميّة يسترجع! فقال له عاصم : ما وراءك؟ قال : شرّ ، وجدت شريك بن سمحا على بطن امرأتي خولة! فرجعا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبره هلال بالذي كان (١).

فقال : انّي جئت أهلي عشاء فوجدت معها رجلا رأيته بعيني وسمعته باذني! فكره ذلك رسول الله حتى رأى ذلك هلال فقال : إنّي لأرى الكراهة في وجهك ، والله يعلم أنّي لصادق ، وأنّي لأرجو أن يجعل الله لي فرجا من ذلك. وهمّ رسول الله بضربه ولكن أخذته حالة الوحي فأنزل الله تعالى قوله : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لهلال : يا هلال ، أبشر ، فإنّ الله تعالى قد جعل ذلك فرجا! فقال : قد كنت أرجو ذاك من الله تعالى. فقال : أرسلوا إليها (٢).

فقال لها : ما يقول زوجك؟ فقالت : يا رسول الله ، إنّ ابن سمحا كان يأتينا فينزل بنا فيتعلم الشيء من القرآن ، فربما تركه زوجي عندي وخرج ، فلا أدري أدركته الغيرة؟ أم بخل عليّ بالطعام! (٣).

فلاعن بينهما ، فلما انقضى اللعان فرّق بينهما وقضى : أن الولد لها ، ولا يدعى لأب ، ولا يرمى ولدها. ثم قال : إن جاءت به كذا وكذا فهو لزوجها ، وإن جاءت به كذا وكذا فهو للذي قيل فيه (٤).

__________________

(١) مجمع البيان ٧ : ٢٠١.

(٢) مجمع البيان ٧ : ٢٠٢.

(٣) مجمع البيان ٧ : ٢٠١.

(٤) مجمع البيان ٧ : ٢٠٢.


وهذه الأخبار كما رأينا ليس فيها ما كان في خبر القمي : بعد غزوة تبوك ، بل فيها أن ذلك كان بعد نزول آيتي القذف ، وظاهرها الاتصال أو قريب منه. وكما مرّ فلعلّه كان من حكم الله ما جرى لهذين الزوجين ليكون عبرة للآخرين في تلك الفترة.

آيات الإفك :

ثم تبدأ آيات الإفك من أوّل الآية الحادية عشرة إلى آخر الآية السادسة والعشرين ، وقال الطباطبائي : روت الشيعة أن المقذوفة في قصة الإفك هي مارية القبطية أمّ ابراهيم التي أهداها المقوقس ملك الاسكندرية إلى النبيّ (١).

ومن قبل قال القمي في تفسيره : وروت الخاصة : أنّها نزلت في مارية القبطية وما رميت به (٢).

ولعلّ هذه الآيات هي بشارة جبرئيل عليه‌السلام له صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ الله قد برّأ مارية ، وأن الذي في بطنها هو غلام منه وأشبه الخلق به.

فيما رواه المتقي الهندي في «كنز العمال» عن معجم الطبراني أنّه قال لعمر بن الخطّاب : ألا اخبرك يا عمر؟! إنّ جبرئيل أتاني فأخبرني : أنّ الله ـ عزوجل ـ قد برّأ مارية وقريبها ، مما وقع في نفسي ، وبشّرني : أنّ في بطنها غلاما منّي ، وأنّه أشبه الخلق بي! وأمرني أن اسمّيه ابراهيم (٣).

__________________

(١) الميزان ١٥ : ٨٩.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٩٩.

(٣) كنز العمال ٦ : ١١٨ في دلائل الصدق ٣ القسم الثاني : ٢٦.


مولد ابراهيم ابن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وذات ليلة في ذي الحجة أواخر السنة الثامنة للهجرة ، أخذ مارية القبطية داء الطلق ، فأسعفتها مولاته سلمى زوجة مولاه أبي رافع القبطي ..

ففي تلك الليلة كان أن هبط عليه جبرئيل عليه‌السلام فسلّم عليه بما أوحى إليه بميلاد وليده وتسميته إذ قال له : السلام عليك يا أبا ابراهيم! فبشّره بذلك بمولده ، فبشّر هو صلى‌الله‌عليه‌وآله من حضره فقال : ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي : ابراهيم عليه‌السلام.

وخرجت سلمى إلى زوجها أبي رافع فأخبرته : بأنها (مارية) قد ولدت غلاما. وجاء أبو رافع إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله فبشّره بأنّها قد ولدت غلاما ، فسمّاه : ابراهيم ، ووهب لأبي رافع عبدا!

وفي اليوم السابع عقّ عنه ، وحلق رأسه فتصدّق بزنة شعره فضّة على المساكين ، وأمر بشعره فدفن. ودفعه رسول الله للرضاع إلى أمّ بردة بنت المنذر زوجة البراء بن أوس الأنصاري الخزرجي ، فكان يذهب إليها فيزور ابنه ويقيل هناك.

ثم دفعه للحضانة إلى أمّ سيف امرأة أبي سيف من موالي المدينة (١).

فلو حزن صلى‌الله‌عليه‌وآله لفقد ابنته المظلومة العليلة زينب ، فقد سرّه الله بمولد ولده إبراهيم ، وإن كان مزيجا بألم الإفك من أهل الإفك والزور كما قال هو : «أشدّ الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل» (٢) وكأنه لذلك سلّاه الله ومن معه بقوله سبحانه :

__________________

(١) بحار الأنوار ٢١ : ١٨٣ عن المنتقى للكازروني ، ونقل أكثره اليعقوبي ٢ : ٨٧ والطبري ٣ : ٩٥ عن الواقدي في غير المغازي.

(٢) اصول الكافي ٢ : ٢٥٢ ، ح ١ و ٢ و ٤ و ٢٩.


(لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)(١). «وخاصة في مجتمع ديني متصل بالوحي ينزل عليهم الوحي عند وقوع أمثال هذه الوقائع ، فيعظهم ويذكّرهم بما هم في غفلة منه أو مساهلة ، حتى يحتاطوا لدينهم ويتفطّنوا لما يهمّهم ... فانّ المجتمع الصالح من سعادته أن يتميّز فيه أهل الزيغ والفساد ، ليكونوا على بصيرة من أمرهم ، وينهضوا لإصلاح ما فسد من أعضائهم» (٢).

آيات الاستيذان :

ومن الآية ٢٧ حتى ٢٩ ثلاث آيات في الاستيذان لدخول البيوت ، ولا نجد في أخبار أسباب النزول سببا خاصا لنزولها.

ومرّ علينا ما رواه ابن سعد بسنده عن أنس بن مالك قال : كان القبطيّ يأوي إلى أمّ ابراهيم في مشربتها يأتيها بالماء والحطب ، فقال الناس : علج يدخل على علجة (٣).

فيرجح في النظر أن تكون آيات الاستيذان لدخول البيوت مرتبطة بما قبلها بهذه المناسبة اتّقاء لموارد الشبهات ودرءا وتحديدا لها.

آيتا إيجاب الحجاب :

والآيتان ٣٠ و ٣١ آيتا ايجاب الحجاب : على الرجال أن يحفظوا فروجهم ولا ينظروا إلى سوى محارمهم ، وعلى المؤمنات أن لا ينظروا إلى سوى محارمهم وما يجوز لهم ، وأن يضربن على رءوسهن وجيوبهنّ بخمرهنّ ليخفين زينتهن إلّا ما ظهر منها.

__________________

(١) النور : ١١.

(٢) الميزان ١٥ : ٩٠.

(٣) الطبقات الكبرى ٨ : ١٥٤.


وفي شأن نزول الآيتين روى الكليني في «الكافي» عن الباقر عليه‌السلام قال : استقبل شاب من الأنصار امرأة بالمدينة ـ وكان النساء يتقنّعن خلف آذانهنّ ـ فنظر إليها وهي مقبلة ، فلما جازت نظر إليها ودخل في زقاق بني (فلان ، سمّاه الإمام ونسيه الراوي : سعد الإسكاف) وجعل ينظر خلفها ، فاعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشقّ وجهه ، فلما مضت المرأة نظر فإذا الدماء تسيل على ثوبه وصدره فقال : والله لآتينّ رسول الله ولاخبرنّه. فلما رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال له : ما هذا؟ فأخبره فهبط جبرئيل بهذه الآية : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ)(١).

ولو أنّ الجمع مهما أمكن أولى من الطرح فليس من ممتنع الجمع أن نجمع في سبب نزول آيتي الحجاب بين ما جاء في هذا الخبر عن الباقر عليه‌السلام وبين أن يكون ذلك أيضا بمناسبة قضيّة مارية القبطيّة.

ولعلّه يصلح شاهدا لهذا الجمع : ما جاء في تعداد المحارم في الآية : (... أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ ...) وقد روى الطوسي عن الشعبي وعكرمة في قوله : (غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ) قالا : هو العنّين الذي لا حاجة له في النساء لعجزه (٢) وروى الطبرسي عن الشافعي : أنه المجبوب أو الخصيّ الذي لا رغبة له فيهن (٣) وقد رووا أنّ خادم مارية الذي كان يدخل إليها كان خصيبا أو مجبوبا أو ممسوحا أو له هدبة أي لحمة صغيرة ، أو لم يكن له ما للرجال ، على اختلاف ألفاظ الأخبار فيه.

__________________

(١) عن الكافي في الميزان ١٥ : ١١٦.

(٢) التبيان ٧ : ٤٣٠.

(٣) مجمع البيان ٧ : ٢١٨.


والمفروض أنّ هاتين الآيتين هما آيتا إيجاب الحجاب كما مرّ ، فقبلهما لم يكن واجبا وبحاجة إلى تطبيق هذه الاستثناءات ، والمفروض أن الخادم كان يدخل إلى مارية من قبل إيجاب الحجاب ، ولكن الآية استثنته حتى لما بعد نزولها. ولم يرو عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه منعه بعدها.

مكاتبة العبيد ، وتحصين الإماء :

ولعفّة الرجال والنساء انتقلت الآيتان التاليتان : ٣٢ و ٣٣ إلى الترغيب في النكاح ، ونكاح العبيد ومكاتبتهم ، والإماء وتحصينهنّ.

وفي مكاتبة العبيد روى الواحدي : أنّ غلاما لحويطب بن عبد العزّى (في مكة!) سأل مولاه أن يكاتبه ليتحرّر ، فأبى عليه (وكانا قد أسلما بعد فتح مكة) فأنزل الله هذه الآية ، فكاتبه حويطب على مائة دينار ، ووهب له منها عشرين دينارا ، فأدّاها ، وقتل في الحرب يوم حنين (١) وهذا يعني نزول السورة إلى هنا بعد فتح مكة وقبل حرب حنين؟! فكيف الإفك؟ واللعان في المدينة؟!

وفي قوله سبحانه : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) جاء في تفسير القمي : كانت العرب وقريش يشترون الإماء ويجعلون عليهن الضريبة الثقيلة ويقولون لهن : اذهبن وازنين واكتسبن! فنهاهم الله ـ عزوجل ـ عن ذلك (٢) وهذا لا يقتضي نزولها في مكة قبل الهجرة وانما بعد فتحها. وقوله سبحانه : (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) إعفاء لهنّ عمّا سبق من حدّ الجلد للزّنا.

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ٢٧٠.

(٢) تفسير القمي ٢ : ١٠٢.


وروى الطوسي عن جابر الأنصاري قال : نزلت في عبد الله بن ابي بن سلول حين أكره أمته مسيكة على الزنا (١).

وقال الطبرسي : إنّ عبد الله بن ابيّ كانت له ست جوار يكرههنّ على الكسب بالزنا ، فلما نزل تحريم الزنا (كذا) أتين رسول الله فشكون إليه ذلك ، فنزلت الآية (٢) والقول لمقاتل قال : نزلت في ست جوار لعبد الله بن ابيّ كان يكرههن على الزنا ويأخذ اجورهن وهنّ : معاذة ومسيكة واميمة وعمرة وقتيلة وأروى ، فجاءت إحداهن ذات يوم بدينار ، وجاءت الاخرى بدونه ، فقال لهما : ارجعا فازنيا ، فقالتا : لا والله لا نفعل ، قد جاءنا الله بالإسلام وحرّم الزنا! وأتتا رسول الله وشكتا إليه ، فأنزل الله الآية (٣) وظاهر قولهما : قد جاءنا الله بالإسلام وحرّم الزنا : أنّ ذلك كان في أوائل الهجرة وليس اليوم في أواخر السنة الثامنة.

ونقل الطباطبائي هذا فقال : ويضعّفه : أنّ الزنا لم يحرّم في المدينة .. وتقدم في سورة الأنعام : أن حرمة الفواحش ـ ومنها الزنا ـ كانت من الأحكام العامة التي لا تختص بشريعة دون شريعة (٤).

وبعيد جدّا أن يدوم هذا الوضع لابن ابيّ بعد الهجرة بكثير ، كما يبعد جدا أن تكون الآية من الأوائل ثم حشرت هنا ضمن الآية ٣٢ ، فالأولى ما مرّ عن تفسير القمي.

__________________

(١) التبيان ٧ : ٤٣٤.

(٢) مجمع البيان ٧ : ٢٢١.

(٣) أسباب النزول للواحدي : ٢٧١.

(٤) الميزان ١٥ : ١١٨.


تزكية بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

في الآية ٣٦ إلى آخر الآية ٣٨ أرى عودا على تزكية بيته صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله سبحانه : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ* رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ* لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) كما روى القمي في تفسيره بسنده عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : هي بيوت الأنبياء (١) وعن ابن عمر : الشجرة المباركة (في الآية السابقة) : ابراهيم عليه‌السلام ، والزجاجة التي كأنّها كوكب درّي : محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله. وعن كعب الأحبار : المشكاة محمد والمصباح قلبه ، وشبّه صدر النبيّ بالكوكب الدريّ (٢).

وزاد الطبرسي مرفوعا : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لما قرأ هذه الآية سئل : أيّ بيوت هذه؟ فقال : بيوت الأنبياء ، فقام أبو بكر وأشار إلى بيت علي وفاطمة وقال : يا رسول الله هذا البيت منها؟ قال : نعم ، من أفاضلها (٣).

وهذا المعنى لقوله سبحانه : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) بعد تقوّل المنافقين هنا ، يعيد إلى الذهن نزول قوله سبحانه : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) من سورة الأحزاب ، بعد زواجه بزينب بنت جحش وتقوّل المنافقين في ذلك ، ففي كلا الموردين يتقوّل المنافقون بما يفيد وهن ذلك البيت الرفيع ، ويردّ الوحي الوارد على ذلك بتعظيم شأن ذلك البيت وتطهيره عمّا يقول المنافقون ، فأعداء هذا البيت يكونون السبب في بيان رفعة شأنه.

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٠٤ وتمامه : ومنها بيت علي عليه‌السلام.

(٢) التبيان ٧ : ٤٣٧ و ٤٣٨.

(٣) مجمع البيان ٧ : ٢٢٧ وفي الميزان ١٥ : ١٤٣ عن الدر المنثور.


وارتابوا في حكمه! :

ومن الآية ٤٧ حتى آخر الآية ٥٢ خمس آيات ، لها شأن مشابه لما في آيات الإفك من الريب فيما يرتبط به صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قوله سبحانه : (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ* وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ* وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ* أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ... وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقِه فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ).

وروى القمي في تفسيره بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : نزلت هذه الآية في أمير المؤمنين و (فلان) وذلك أنه كان بينهما منازعة في حديقة ، فقال أمير المؤمنين : نرضى برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فقال عبد الرحمن بن عوف لفلان : لا تحاكمه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فانّه يحكم له عليك! ولكن حاكمه إلى ابن أبي شيبة اليهودي! فقال فلان لأمير المؤمنين : لا أرضى إلّا بابن شيبة اليهودي! (وسمعه اليهودي) فقال له : تأتمنون محمدا على وحي السماء وتتّهمونه في الأحكام! فأنزل الله على رسوله : (إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ...) ثم ذكر أمير المؤمنين فقال : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ)(١).

وحكى الطوسي في «التبيان» عن البلخي : أن عثمان بن عفّان اشترى من علي عليه‌السلام أرضا (ولعلها من سهمه بخيبر) فخرجت فيها أحجار ، فأراد عثمان ردّها

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٠٧.


بالعيب ، فلم يأخذها علي عليه‌السلام وقال له : بيني وبينك رسول الله. فقال له الحكم بن أبي العاص : لا تحاكمه إليه ، إن حاكمته إلى ابن عمّه حكم له! فنزلت (١).

وكأنّ القمي اتّقى التصريح باسم عثمان فيما حكاه البلخيّ ، والكلمة بابن أبي العاص أشبه منها بابن عوف.

وتسلية له صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وكأنّ الله تعالى أراد أن يسلّي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن سوء سلوك أهل الإفك والنفاق معه ، فقال في الآية ٥٥ : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ).

وروى العياشيّ : أنّ علي بن الحسين عليه‌السلام قرأ الآية فقال : والله هم شيعتنا أهل البيت يفعل الله ذلك بهم على يدي رجل منّا هو مهديّ هذه الامّة ، وهو الذي قال (فيه) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يلي رجل من عترتي ، اسمه اسمي ، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.

رواه الطبرسيّ ثم قال : وعن أبي جعفر وأبي عبد الله مثل ذلك .. بل عليه (قيام المهدي) إجماع العترة الطاهرة. وإجماعهم حجة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض (٢).

__________________

(١) التبيان ٧ : ٤٥٠ وعنه في مجمع البيان ٧ : ٢٣٦.

(٢) مجمع البيان ٧ : ٢٣٩ ، ٢٤٠.


أمّا الطوسيّ فقد اكتفى بقوله : قال أهل البيت عليهم‌السلام : إنّ المراد بذلك : المهديّ عليه‌السلام ؛ لأنّه يظهر بعد الخوف ويتمكّن ، بعد أن كان مغلوبا (١).

عود على الاستئذان :

مرّ في الآية ٣١ في المحارم : (... أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) وهنا الآية ٥٨ تقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ... (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) ... (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ ...) وكأنّ الآية ترفع الحرج عنهم في دخول مماليكهم ومماليكهنّ عليهم وعليهنّ ، فلا ينبغي أن يكون ذلك حجة للإفك. ولم يذكر سبب خاص لنزول الآية ، ولا أستبعد استمرار مناسبة قصة الإفك على مارية ، بحجة دخول المملوك عليها.

ثم استطردت الآية وتواليها في أحكام الاستيذان ، واستثناءات الحجاب ، ومعاشرة العميان والعرجى والمرضى ، خلافا لما كانوا عليه من قبل.

وصدر الآية ٦٣ قبل الأخيرة ، وبالمناسبة السابقة أيضا ، يعود لتعظيم الرسول الكريم : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ...) ففي رواية أبي الجارود عن الباقر عليه‌السلام قال في تفسير الآية : يقول لا تقولوا : يا محمد ولا يا أبا القاسم ، لكن قولوا : يا نبي الله ، يا رسول الله. نقله القمي في تفسيره وقال : لا تدعوا رسول الله كما يدعو بعضكم بعضا (٢).

هذا ، وإن اشتهر في المحافل أخيرا ذكر خبر الحلبي في «مناقب آل أبي طالب» عن القاضي أبي محمد الكرخي في كتابه عن الصادق عليه‌السلام عن جدّته فاطمة عليها‌السلام قالت : لما نزلت (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ ...) هبت رسول الله أن أقول له يا أبه ،

__________________

(١) التبيان ٧ : ٤٥٧.

(٢) تفسير القمي ٢ : ١١٠.


فكنت أقول : يا رسول الله ، مرة واثنتين أو ثلاثا فاعرض ثم أقبل عليّ فقال : يا فاطمة ، انّها لم تنزل فيك ولا في أهلك ولا في نسلك ، أنت منّي وأنا منك ، إنّما نزلت في أهل الجفاء والغلظة من قريش أصحاب البذخ والكبر! قولي : يا أبه ، فانها أحيا للقلب وأرضى للربّ (١) وهو كما ترى من حيث الاسناد.

فعن مجاهد وقتادة : لا تقولوا : يا محمد ، كما يقول بعضكم لبعض ، بل قولوا له : يا رسول الله ، ويا نبيّ الله ، بالخضوع والتعظيم. وعن ابن عباس : احذروا فيما بينكم ـ إذا أسخطتموه ـ دعاءه عليكم فانه مستجاب لا كدعاء غيره (٢).

وحكاهما الطبرسي في «مجمع البيان» وزاد معنى ثالثا لا يبعد عن تعظيمه أيضا : أن لا تجعلوا دعوة الرسول لكم الى شيء أو أمر كدعوة بعضكم لبعض ، فليس الذي يدعوكم إليه كما يدعو بعضكم بعضا ، إذ إنّ في القعود عن أمره قعودا عن أمر الله تعالى (٣) وهذا أوفق بسياق الآية كما قال الطباطبائي (٤).

امتحان الإيمان :

والسورة التالية في النزول سورة الحج (٥) ، والآية الثالثة فيها : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) والثامنة : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٢٠ وعنه في بحار الأنوار ٤٣ : ٣٧.

(٢) التبيان ٧ : ٤٥٧.

(٣) مجمع البيان ٧ : ٢٤٨ ، ٢٤٩.

(٤) الميزان ١٥ : ١٦٦ ، ١٦٧ ، ١٧١.

(٥) التمهيد ١ : ١٠٧ ومجمع البيان : ١ : ٦١٢ ، ٦١٣ وهنا في ٧ : ١١٢ روى خبرا عن أبي سعيد الخدري وعمران بن الحصين أن الآيتين ١ و ٢ نزلتا في غزوة بني المصطلق. وفيه غرائب ، وينافي ما رواه في ترتيب النزول ، فلا عبرة به.


يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ* ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) والطوسي في «التبيان» بشأن الأخيرة ، والطبرسي في «مجمع البيان» بشأن الاولى رووا عن ابن عباس : انّهما نزلتا في النضر بن الحارث بن كلدة (١) وهو من أسرى بدر وقتله علي عليه‌السلام بأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله في منزل الاثيل (٢) أي قبل نزولهما بخمس سنين! (٣).

وفي الآية ١١ : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) روى القمي في تفسيره بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : نزلت هذه الآية في قوم وحّدوا الله وخلعوا عبادة ما دون الله وخرجوا من الشرك (ولكنّهم) لم يعرفوا أنّ محمدا رسول الله ، فهم يعبدون الله على شك في محمد وما جاء به ، فأتوه وهم يقولون : ننظر فان كثرت أموالنا وعوفينا في أنفسنا وأولادنا علمنا أنّه صادق وأنّه رسول الله ، وإن كان غير ذلك نظرنا. فأنزل الله : (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ...)(٤).

والطوسي في «التبيان» رواه عن ابن عباس قال : كانوا إذا قدموا المدينة فان صحّ جسم أحدهم ونتجت فرسه مهرا حسنا ، وولدت امرأته غلاما رضى به واطمأنّ إليه. وإن أصابه وجع المدينة ، وولدت امرأته جارية ، وتأخّرت عنه الصدقة قال : ما أصبت منذ كنت على ديني هذا إلّا شرا (٥)! ونقله الطبرسي في «مجمع البيان» (٦).

__________________

(١) التبيان ٧ : ٢٩٤ ومجمع البيان ٧ : ١١٣.

(٢) سيرة ابن هشام ٢ : ٣٦٧ ومغازي الواقدي ١ : ١٤٩.

(٣) وقال الطباطبائي : الظاهر أنّه من التطبيق. الميزان ١٤ : ٣٥٣.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٧٩. ورواه الكليني في الكافي كما عنه في الميزان ١٤ : ٣٥٦.

(٥) التبيان ٧ : ٢٩٦.

(٦) مجمع البيان ٧ : ١١٩.


وكأنّ الآية ١٥ تعود إليه : (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ...).

وروى الطوسي عن قتادة عن ابن عباس : أن الضمير : (لَنْ يَنْصُرَهُ) عائد إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بمعنى : من كان يظن أنّ الله لا ينصر نبيّه ولا يعينه على عدوّه ويظهر دينه ، فليمت غيظا : (فَلْيَمْدُدْ) بحبل إلى سماء بيته ثم ليقطع حياته به فيذهب ويذهب غيظه معه. وهذه الآية نزلت في قوم من المسلمين يخشون أن لا يتم له أمره (١).

وقالوا : إنّ الضمير يرجع للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك أنّ مشركي مكة كانوا يظنون أنّ الذي جاء به النبيّ من الدين احدوثة كاذبة لا تبتني على أصل عريق ، فلا يرتفع ذكره ولا ينتشر خيره ، ولا منزلة له عند ربّه. حتى إذا هاجر إلى المدينة فنصره الله وبسط دينه ورفع ذكره غاظهم ذلك غيظا شديدا. فقرعهم الله بهذه الآية أشار بها إلى أنّ الله ناصره ، ولن يذهب غيظهم ولو خنقوا أنفسهم (٢).

وكل هذا يؤيّد نزول السورة بعد فتح مكة وحنين ، وخضوع عاصمة المشركين للمسلمين. وإليه يعود ما في الآية ١٩ : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا ...).

وفي تفسير القمي : نحن وبنو اميّة قلنا : صدق الله ورسوله ، وقال بنو اميّة : كذب الله ورسوله (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) هم بنو اميّة (٣).

وروى الواحدي بسنده عن علي عليه‌السلام قال : فينا نزلت هذه الآية في مبارزتنا

__________________

(١) التبيان ٧ : ٢٩٨ و ٢٩٩.

(٢) الميزان ١٤ : ٣٥٢.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٨٠ ومثله مسندا عن الحسين عليه‌السلام في الخصال ١ : ٤٢ ، ٤٣.


يوم بدر وما رواه البخاري وعنه الطبرسي والواحدي عن أبي ذر بمعناه (١) وعنه مسلم والترمذي وابن ماجة وعنهم السيوطي وعنه في «الميزان» (٢) فيبدو أنّه من التطبيق وذكر المصاديق وليس سبب النزول (٣) ، بل المناسبة مخاصمة أبي سفيان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وانكساره في فتح مكة وتأليفه بتأمين داره وترئيسه على المؤلّفة قلوبهم يوم الفتح ، باعتبار فترة نزول السورة.

ولذلك تعود عليهم الآية ٢٥ : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ ...) وقال القمي في تفسيره : نزلت في قريش حين صدّوا رسول الله عن مكة (٤) ونقل الطوسي والطبرسي : أنّ الآية نزلت في أبي سفيان وأصحابه حين صدّوا رسول الله عن مكة عام الحديبية (٥) لا في حينه بل تذكيرا به. وتستمر الآيات التاليات في أحكام الحج بالمناسبة حتى آخر الآية ٣٧ ، ولعل نزولها كان في أيام الموسم أو حواليه بعد رجوعه صلى‌الله‌عليه‌وآله من مكة في آخر شهر ذي القعدة وقبل ذي الحجة. وتبدأ الآية ٢٦ بذكر إبراهيم عليه‌السلام وتوحيده وتطهيره للبيت ، وكأنّها تقرّر تطهيره بيد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في فتح مكة.

آية الإذن في القتال :

ثم تعود الآيات التاليات على دفاع الله عن المؤمنين وإذنه لهم بالقتال

__________________

(١) أسباب النزول : ٢٥٥ والتبيان ٧ : ٣٠٢ ومجمع البيان ٧ : ١٢٣ ، ١٢٤.

(٢) الميزان ١٤ : ٣٦٣ ، ٣٦٤.

(٣) وانظر التمهيد ١ : ٢٠٠.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٨٣.

(٥) التبيان ٧ : ٣٠٨ ومجمع البيان ٧ : ١٢٨.


ونصره إياهم ، فان مكّنهم أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر (١) إلى آيات اخرى في عواقب الكفّار والمؤمنين دنيا وآخرة ، منسجمة مع الفترة المذكورة.

وفي آية الإذن في القتال روى الواحدي عن ابن عباس عن أبي بكر قال : لمّا اخرج رسول الله من مكة قلت : إنا لله ، لنهلكنّ! فأنزل الله الآية ، فعرفت أنّه سيكون قتال! وقال : قال المفسّرون : كان مشركو أهل مكة يؤذون أصحاب رسول الله فلا يزالون يجيئون من مضروب ومشجوج فيشكونهم إلى رسول الله فيقول لهم : اصبروا فانّي لم اومر بالقتال ، حتى هاجر فأنزل الله هذه الآية (٢) وفي «التبيان» قيل : نزلت في المهاجرين الذين أخرجهم أهل مكة من أوطانهم ، فلما قووا أذن لهم في قتال من ظلمهم وأخرجهم من أوطانهم وأمرهم بجهادهم (٣).

وهذا كله مبنيّ على أن يكون المراد بقوله : (أُذِنَ) إنشاء الاذن دون الإخبار عن إذن سابق (٤) وأنّها أول آية نزلت في الأمر بالقتال (٥) وأنها نزلت ما بين هجرته صلى‌الله‌عليه‌وآله وغزوة بدر (٦) بل بعد الهجرة بقليل (٧) خلافا للأخبار (٨). بل الأوفق أن

__________________

(١) النور : ٤١ فكأنّها تصف تمكينه في فتح مكة.

(٢) أسباب النزول للواحدي : ٢٥٥ ونحوه في مجمع البيان ٧ : ١٣٨.

(٣) التبيان ٧ : ٣٢٠.

(٤) الميزان ١٤ : ٣٨٤.

(٥) التبيان ٧ : ٣٢١ ومجمع البيان ٧ : ١٣٨ والميزان ١٤ : ٣٨٣.

(٦) الميزان ١٤ : ٣٣٨.

(٧) الميزان ١٤ : ٣٥٢.

(٨) تفسير القمي ٢ : ٨٤ قال : إنّ العامة يقولون : نزلت في رسول الله لما أخرجته قريش من مكة.


أوّل ما نزل في القتال قوله سبحانه في سورة البقرة الاولى أو الثانية في المدينة : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ)(١) وآية الإذن في سورة الحج إنّما هي إخبار عن ذلك الإذن السابق ، أو هي إخبار وتأكيد على ما قاله صلى‌الله‌عليه‌وآله في خطبته بعد فتح مكة : إنّها حرم حرام في حرام إلّا أنّها احلّت لي ساعة من نهار (٢) وإن كان هو بدوره عملا بقوله سبحانه من قبل في سورة البقرة بعد الآية السابقة : (... وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ)(٣). ولعله لهذا عبّرت الآية : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) بفتح التاء ، إشارة إلى أنّهم قوتلوا فقاتلوا ، ولو لم يقاتلوا لم يقاتلوا ، بل لم يؤذن لهم أن يقاتلوا.

إلقاء الشيطان في أماني أنبياء الإيمان :

وإذا بنينا على نزول السورة في هذه الفترة بالمدينة ، بلا برهان قاطع على استثناء آيات منها ، فلا نسلّم باستثناء الآية ٥٢ : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٤). بل الأوفق بالسياق : أن رسول الله يتمنّى ـ طبعا ـ أن يتوفّق لأداء رسالته وتبليغها ونشرها واستمرارها ودوامها ورفع بل دفع الموانع عنها. وطبيعيّ أن الشيطان بل شياطين الجن والإنس كانوا يلقون في هذه الامنية الرساليّة بما يلائمهم ويضادّ مفاد الرسالة ، ولا أقل من الترديد والتشكيك في تحقيق

__________________

(١) البقرة : ١٩٠. الميزان ١٤ : ٣٨٣ ومجمع البيان ١ : ٥١٠ والتبيان ٢ : ١٤٣.

(٢) فروع الكافي ١ : ٢٢٨.

(٣) البقرة : ١٩١.

(٤) الحج : ٥٢ وانظر التمهيد ١ : ٢٠١.


أمانيها ، كما مرّت الإشارة إلى ذلك في بعض الآيات الآنفة الذكر : (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ) وكما بدر من بعض أصحابه من الاعتراض على مفاد صلح الحديبية والتشكّك في رسالته وصدق وعده لذلك ، كما مرّ كذلك. فنسخ الله بفتح مكة ما ألقته الشياطين من الوساوس ، وأحكم آياته بوعده بنصره لرسوله ، وقال في الآية التالية ٥٣ : (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ...) وقال قبلها : (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ...) وقال بعدها : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) ... (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) فتشكّكهم في تملك الرسول لا يزول ، ولذلك الله يقول لهم : إنّ هذه المرية والريب منهم لا يزال حتى يصبح الملك لله يوم الساعة (١).

وفي الآية ٣٤ من آيات مناسك الحج : ٢٥ ـ ٣٧ قال : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) وكرّره في الآية ٦٧ فقال : (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ* وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ* اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).

وروى الطبرسي في «جوامع الجامع» أنّ جمعا من كفّار خزاعة المحالفين للمسلمين وفيهم بديل بن ورقاء الخزاعي قالوا لهم : ما لكم إنما تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؟! يعنون الميتة! (٢) ولعله كان ذلك بعد فتح مكة ومعاشرتهم

__________________

(١) وبمثل هذا قال الطباطبائي في الميزان ١٤ : ٣٩١ وهو أفضل مقال في هذا المجال ، ويغني عن القيل والقال.

(٢) جوامع الجامع للطبرسي ٢ : ١٠٨ وأشار إليه في مجمع البيان ٧ : ١٥٠ وفي التبيان ٧ : ٣٣٨.


معهم فيها ، وعليه فالآية نزلت بعد ذلك الجدل تردّ عليه ، وتثبّت المؤمنين على ما هم عليه ، والسياق المتكرّر مساعد مؤيّد (١).

والسورة التالية الخامسة بعد المائة في ترتيب النزول ، والتاسعة عشر في النزول بعد الهجرة هي سورة المنافقون (٢) ، وقد مرّت أخبارها في نهاية غزوة بني المصطلق في السنة الخامسة ، وهناك قلنا إنّ حوادثها لا تحتمل التأخير تاريخيا ، وآياتها لا تحتمل التأخير نزولا حتى هذه الفترة ، ومع ذلك يفيد الخبر المعتمد في ترتيب النزول نزولها هنا ، فهذه نقطة مبهمة تاريخيا وتفسيريا ، والعلم عند الله.

والسورة التالية السادسة بعد المائة في ترتيب النزول ، والعشرون بعد الهجرة هي سورة المجادلة قوله سبحانه : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ).

كان الرجل في الجاهلية إذا قال لأهله : أنت عليّ كظهر امّي حرمت عليه الى الأبد (٣). وكان أوس بن الصامت الأنصاري الخزرجي أخو عبادة بن الصامت متزوجا بابنة عمه خولة بنت ثعلبة (٤) وكان امرأ فيه سرعة ولمم (٥).

فروى الواحدي بسنده عن خولة قالت : دخل عليّ ذات يوم هو كالضجر ، فكلّمني بشيء فراددته فغضب فقال لي : أنت عليّ كظهر امّي. وخرج الى نادي

__________________

(١) وانظر الميزان ١٤ : ٤٠٦ و ٤١٣.

(٢) التمهيد ١ : ١٠٧.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٣٥٣.

(٤) أسباب النزول للواحدي : ٣٤٥.

(٥) مجمع البيان ٩ : ٣٧١.


قومه ثم رجع إليّ (١) فرآها زوجها وهي ساجدة في صلاتها ، وكانت حسنة الجسم ، فلما انصرفت أرادها (٢) قالت : فراودني عن نفسي فامتنعت منه فشادّني فشاددته ، وكان رجلا ضعيفا فغلبته وقلت : كلّا لا تصل إليّ حتى يحكم الله تعالى فيّ وفيك بحكمه! ثم أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣).

فروى القمي بسنده عن الباقر عليه‌السلام قال : فقالت : يا رسول الله ، إنّ زوجي (فلانا) قد نثرت له بطني واعنته على دنياه وآخرته ، ولم ير منّي مكروها. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ففيم تشكينه؟ قالت : انّه أخرجني من منزلي وقال لي : أنت عليّ حرام كظهر امّي! فانظر في أمري.

فقال لها رسول الله : ما أنزل الله تبارك وتعالى عليّ كتابا أقضي فيه بينك وبين زوجك ، وأنا أكره أن أكون من المتكلّفين.

فانصرفت وهي تبكي وتشتكي ما بها الى الله عزوجل. ثم أنزل الله تعالى في ذلك قرآنا : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ...). فبعث رسول الله الى المرأة ، فأتته ، فقال لها : جيئيني بزوجك. فأتت به.

فقال له : أقلت لامرأتك هذه : أنت عليّ حرام كظهر امّي؟ قال : قد قلت لها ذلك. فقال له رسول الله : قد أنزل الله فيك وفي امرأتك قرآنا ، وقرأ (الآية) وقال له : فضمّ إليك امرأتك ، فانّك قد قلت منكرا من القول وزورا ، وقد عفا الله عنك وغفر لك ، ولا تعد (٤).

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ٣٤٥.

(٢) مجمع البيان ٩ : ٣٧١.

(٣) أسباب النزول للواحدي : ٣٤٥.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٣٥٣ ، ٣٥٤.


وفي خبر الطبرسي في «مجمع البيان» قال : فلما تلا عليه هذه الآيات قال له : فهل تستطيع أن تعتق رقبة؟ قال : الرقبة غالية وأنا قليل المال فيذهب مالي كله! فقال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال : يا رسول الله ، والله انّي إذا لم آكل ثلاث مرّات (في اليوم) كلّ بصري وخشيت أن تغشى عيني! قال : فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟ قال : لا والله الا أن تعينني على ذلك ، يا رسول الله. فقال : إنّي معينك بخمسة عشر صاعا ، وأنا داع لك بالبركة.

فأعانه رسول الله بخمسة عشر صاعا ودعا له بالبركة ، فاجتمع أمرهما (١).

* * *

وإذا كان هذا الصحابيّ الأنصاري الخزرجي عاد الى طلاق أهل الجاهلية بصيغة الظهار بعد أكثر من ثمان سنين من الهجرة ، فاقتضى نزول مفتتح هذه السورة الى أربع آيات منها ، فالآية الثامنة منها تشير الى مخالفة جمع منهم في تحيّته صلى‌الله‌عليه‌وآله بغير تحية الله والإسلام بقولهم إذا أتوه : أنعم صباحا ، وأنعم مساء ، وهي تحية أهل الجاهلية! فأنزل الله : (... وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(٢) فالآية نهتهم عن تحيّة الجاهلية. والآية التالية نهتهم عن النجوى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) وأردف حكمة هذا النهي فقال : (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) ولقد أشار في صدر الآية السابقة الثامنة الى أنّ هذا النهي عن النجوى

__________________

(١) مجمع البيان ٩ : ٣٧١.

(٢) المجادلة : ٨ والخبر في تفسير القمي ٢ : ٣٥٥.


كان سابقا بنهي النبيّ وانّهم عادوا لما نهوا عنه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ ...).

مجالس النبي وأصحابه :

وفي الآية الحادية عشرة دلالتان متقابلتان ، فهي من ناحية تدلّ على وجود مؤمنين في أصحابه صلى‌الله‌عليه‌وآله وذوي العلم فيهم وأنّهم ذو وفضل في الإسلام ، وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يحاول تفضيلهم في المجالس فيفسح لهم. ولكن الآية من ناحية ثانية تشير الى أنّ جمعا منهم كان إذا قيل لهم انشزوا أو تفسّحوا يتضايقون من ذلك ، فاقتضى الأمر نزول وحي الله يؤيّد نبي الله في ذلك ، فنزلت الآية.

وقال المقاتلان بشأن نزولها : إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان بعد أن بنى الصفة في مسجده (في السابعة) يخرج أيام الجمعة قبل الصلاة فيجلس فيهم ، وفي المكان ضيق ، وكان يكرم أهل بدر من الأنصار والمهاجرين ، فبيناهم كذلك والمجلس غاصّ بأهله إذ أقبل عليهم جمع من أهل بدر منهم ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري ، فسلّموا عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم سلّموا على القوم فردّوا عليهم ولم يفسحوا لهم ، فقال لنفر منهم بقدر البدريّين : يا فلان ويا فلان قوموا. فأقامهم ليجلس البدريّون ، فبدت الكراهة على وجوههم!

وحاول المنافقون إثارتهم فقالوا لهم : إنّ قوما أحبّوا القرب من نبيّهم وأخذوا مجالسهم بقربه فأقامهم وأجلس من أبطأ عنهم مقامهم! فو الله ما عدل على هؤلاء! وأنتم تزعمون أنّ صاحبكم يعدل بين الناس! فنزل قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا ...)(١).

__________________

(١) المجادلة : ١١ والخبر في مجمع البيان ٩ : ٣٧٨ وأسباب النزول للواحدي : ٣٤٧.


النجوى مع نبيّ الله :

كما كان صلى‌الله‌عليه‌وآله يكرم الفقهاء (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) ومنهم البدريّون السابقون الى الايمان والجهاد ، فهم أفهم لأحكام الإسلام وعقائده ومعارفه من اللاحقين بهم من بعدهم ، كذلك كان يكرم الفقراء منهم ، ذلك أنّهم أقرب للتقوى والايمان من المستغنين على مزلّة الطغيان ... ولكنّهم كانوا يأتونه ويغلبون الفقراء على مجالسته ومناجاته طويلا ، حتى كره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله طول جلوسهم ومناجاتهم ، فأمرهم الله بأن يقدّموا بين يدي نجواه صدقة وتعبّدهم بأن لا يناجي أحد رسول الله إلّا بعد أن يتصدّق بشيء ما قلّ أو كثر ، وانما غفر وأعفى عنها من لم يجدها منهم ، إذ قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١).

وكان لعلي عليه‌السلام دينار فصرفها بعشرة دراهم ، فكان يقدّم بين يدي نجواه النبيّ صدقة بدرهم عشر مرّات حتّى أنهاها ، وبخل الموسرون منهم فانتهوا عن مناجاته فلم يعمل بذلك أحد منهم سوى علي عليه‌السلام حتى نزلت الآية التالية : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ...) أي اكتفى منهم عن هذه الصدقة بالصدقات المفروضة في الزكوات. وتسجّل العمل بالآية آية اخرى لفضل خاص بعلي عليه‌السلام (٢).

__________________

(١) المجادلة : ١٢ والخبر في التبيان ٩ : ٥٥١ عن الزجاج ومجمع البيان ٩ : ٣٧٩ عن مقاتل ابن حيّان ، وكذلك في أسباب النزول للواحدي : ٣٤٨.

(٢) المجادلة : ١٣ والخبر في المصادر السابقة ، وما نزل من القرآن للحبري الكوفي عن مجاهد : ٨٤ وكذلك في تفسير فرات : ٤٦٩ ، ٤٧٠ وفيه عن ابن عمر : أنّه دفع الدينار إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله. وفي تفسير القمي ٢ : ٣٥٧ عن مجاهد كذلك ، وعن الصادق عليه‌السلام أيضا. وفي هامش تفسير فرات مصادر عديدة اخرى. وفي المجمع عن مقاتل أن الفاصل كان عشر ليال ٩ : ٣٨٠.


حزب الشيطان وحزب الرحمن :

إذا كان في أصحابه صلى‌الله‌عليه‌وآله من ما زال يحيّيه بتحيّة الجاهلية ، ومن نهاه عن النجوى فعاد لذلك ، ومن يبخل عن الصدقة لنجواه فأمسك عنها بعد أن كان يطيلها معه فيحرم الآخرين منه ، ومن بدت الكراهية على وجهه لمّا أقامه ليجلس بمكانه الصحابيّ البدري. فلقد كان عبد الله بن نبتل ممن كان يجالسه ثم يرفع حديثه الى اليهود ، بل كان إذا خلا الى أصحابه يشتمونه صلى‌الله‌عليه‌وآله!

فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : بينا رسول الله في ظل حجرة من حجره وعنده نفر من المسلمين وقد كاد الظلّ يقلّص عنهم ، إذ قال لهم : سيأتيكم الآن انسان ينظر إليكم بعين شيطان! فإذا أتاكم فلا تكلّموه! فجاء رجل أزرق؟!

وعن مقاتل والسدّي : جاء عبد الله بن نبتل وكان أزرق العين ... فقال له رسول الله : علام تشتمني أنت وأصحابك؟! فحلف بالله ما فعل ذلك! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : علام تشتمني أنت وفلان وفلان ، وذكر أسماءهم! فحلف بالله ما فعل ذلك! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : بل فعلت!

فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبّوه! فنزل الوحي بقوله سبحانه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ* أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ* اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) ويعلم من الآية التالية أنّهم كانوا من الأثرياء الأغنياء الموسرين ذوي أموال وأولاد ، إذ قال تعالى : (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ* يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) والآية التالية أمضت وصف النبيّ له بالشيطان : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ


الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ* إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ* كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ).

أجل ، هؤلاء حزب الشيطان ، فمن حزب الله؟ : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(١).

وفي الآيات من الاتصال الظاهر (٢) ما لا يلائمه أن يكون بعضها لمناسبات اخرى.

__________________

(١) المجادلة : ١٤ ـ ٢٢ والأخبار في أسباب النزول للواحدي عن صحيح الحاكم وغيره : ٣٤٨. أمّا الطوسي في التبيان ٩ : ٥٥٢ والطبرسي في مجمع البيان ٩ : ٣٨٠ فاكتفوا بالنقل عن ابن زيد وقتادة : أنّها في المنافقين.

(٢) الميزان ١٩ : ١٩٨.



أهم حوادث

السنة التاسعة للهجرة



بعث الجُباة للصّدقات :

روى الواقدي بسنده عن الزهري : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لما رجع من فتح مكة وحنين وعمرته في ذي القعدة إلى المدينة ، أقام فيها بقية ذي القعدة وذي الحجة ، فلما رأى هلال المحرّم.

بعث بريدة بن الحصيب ـ أو كعب بن مالك ـ إلى أسلم وغفار لجباية صدقاتهم.

وبعث عبّاد بن بشر الأشهليّ إلى سليم ومزينة.

وبعث رافع بن مكيث إلى جهينة.

وبعث الضحّاك بن سفيان الكلابي إلى بني كلاب.

وبعث ابن اللتبية الأزديّ إلى بني ذبيان.

وبعث عمرو بن العاص إلى فزارة.

وبعث بسر بن سفيان الكعبي ـ أو نعيم بن عبد الله العدوي ـ إلى بني كعب الخزاعيين ، فوجدهم على عسفان أو على غدير بذات الأشطاط (قرب الحديبية)

__________________

(١) هذا وآية أخذه الصدقات هي الآية ١٠٢ من سورة التوبة النازلة بعد تبوك في التاسعة وعليه فهذا أيضاً من التشريع بالسنة المصدّق بالقرآن فيما بعد.


وقد حلّ معهم على الماء بنو جهيم من بني تميم وبنو عمرو من بني تميم. فأمر بجمع مواشي خزاعة ليأخذ منهم الصدقة ، فجمعت خزاعة الصدقة من كل ناحية ، فقال لهم بنو تميم : تؤخذ أموالكم منكم بالباطل؟! فقال الخزاعيون : نحن قوم ندين بدين الإسلام ، وهذا من ديننا. وقال التميميون : والله لا يصل إلى بعير منها أبدا! وتجمّعوا وتقلدوا أقواسهم وشهروا سيوفهم! فلما رآهم المصدّق خافهم فانطلق مولّيا وهرب منهم (١).

فقدم المصدّق على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله ، إنّما كنت في ثلاثة نفر. فوثبت خزاعة على التميميين فأخرجوهم من محالّهم وقالوا : لو لا قرابتكم ما وصلتم إلى بلادكم ، ليدخلنّ علينا بلاء من عداوة محمد وعلى أنفسكم حيث تعرضون لرسل رسول الله تردّونهم عن صدقات أموالنا. فخرجوا إلى بلادهم.

غزو الفزاري لبني تميم في المحرّم (٢) :

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من لهؤلاء القوم الذين فعلوا ما فعلوا؟ فانتدب أوّل الناس عيينة بن حصن الفزاريّ فقال : أنا والله لهم ، أتبع آثارهم ولو بلغوا يبرين (في ديار بني سعد) حتى آتيك بهم إن شاء الله ، فترى فيهم رأيك.

فبعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في خمسين فارسا من العرب من غير المهاجرين والأنصار ، فكان يسير بالليل ويكمن لهم بالنهار ، خرج على ثنيّة ركوبة حتى انتهى إلى موضع العرج فوجدهم قد رحلوا إلى أرض بني سليم ، فخرج في أثرهم فوجدهم بعد السقيا في صحراء قد حلّوا وسرّحوا مواشيهم ، فلما رأوا الجمع ولّوا ، فأخذوا منهم أحد عشر رجلا ، وإحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيّا ، فحملهم إلى المدينة ، فحبسوا في دار رملة بنت الحارث.

__________________

(١) هذا سوى خبر الوليد بن عقبة مع بني وليعة أو بني المصطلق من خزاعة وسيأتي.

(٢) ذلك انّه إنمّا كان تمرّدا داخل الدولة الإسلامية لا غزوا.


فقدم عشرة من رؤسائهم منهم : الأقرع بن حابس التميمي ، والزّبرقان بن بدر (١) ، والعطارد بن حاجب ، وقيس بن الحارث ورياح بن الحارث بن مجاشع ، وعمرو بن الأهتم ، وقيس بن عاصم ، ونعيم بن سعد. فدخلوا المسجد قبل الظهر وسألوا عن سبيهم فاخبروا بهم أنهم في دار رملة بنت الحارث ، فأتوهم فبكى النساء والأولاد ، فرجعوا إلى المسجد وقد أذّن بلال بأذان الظهر الأول ، ورسول الله يومئذ في بيت عائشة والناس ينتظرون خروج رسول الله ، فتعجّلوا خروجه فنادوا : يا محمد! اخرج إلينا! فقام إليهم بلال وقال : إنّ رسول الله يخرج الآن! فخرج رسول الله ، وأقام بلال للصلاة ، وهم تعلّقوا به يقولون : أتيناك بخطيبنا وشاعرنا فاسمع منّا! فتبسّم لهم النبيّ (٢) ثم مضى فصلّى بالناس الظهر ، ثم انصرف إلى بيته ثم خرج فجلس في صحن المجلس ، فأقبلوا عليه وقدّموا عطارد بن حاجب خطيبهم فقام فقال :

الحمد لله الذي له الفضل علينا ، والذي جعلنا ملوكا ، وأعطانا الأموال نفعل فيها المعروف ، وجعلنا أعزّ أهل المشرق وأكثرهم مالا وعددا ، فمن مثلنا في الناس؟ ألسنا برءوس الناس وذوي فضلهم؟ فمن يفاخر فليعدد مثل ما عددنا ، ولو شئنا لأكثرنا من الكلام ولكنّا نستحي من الإكثار فيما أعطانا الله. أقول قولي هذا لأن يؤتى بقول هو أفضل من قولنا. وجلس. فالتفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ثابت بن قيس ـ وكان من أجهر الناس صوتا ـ فقال له : قم فأجب خطيبهم.

فقام ثابت فقال ارتجالا : الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه ، قضى فيها أمره ، ووسع كلّ شيء علمه ، فلم يك شيء إلّا من فضله. ثم كان مما قدّر الله أن

__________________

(١) اسمه : الحصين بن بدر والزّبرقان لقبه بمعنى القمر ، لجماله.

(٢) أو قال لهم : ما بالشعر بعثت ، ولا بالفخار امرت ، ولكن هاتوا. كما في أسباب النزول للواحدي : ٣٢٥ عن جابر الأنصاري.


جعلنا ملوكا ، واصطفى لنا من خلقه رسولا ، أكرمهم نسبا ، وأحسنهم زيّا ، وأصدقهم حديثا. أنزل عليه كتابه ، وائتمنه على خلقه ، وكان خيرته من عباده ، فدعا إلى الإيمان ، فآمن المهاجرون من قومه وذوي رحمه. أصبح الناس وجها ، وأفضل الناس فعالا ، ثمّ كنّا أوّل الناس إجابة حين دعا رسول الله ، فنحن أنصار الله ورسوله ، نقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلّا الله ، فمن آمن بالله ورسوله منع منّا ماله ودمه ، ومن كفر بالله جاهدناه في ذلك وكان قتله علينا يسيرا. أقول قولي هذا واستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات. ثم جلس.

فقالوا : يا رسول الله ائذن لشاعرنا. فأذن له. فأقاموا الزبرقان فقال :

نحن الملوك فلا حيّ يقاربنا

فينا الملوك ، وفينا تنصب البيع

وكم قسرنا من الأحياء كلّهم

عند النّهاب وفضل الخير يتّبع

ونحن نطعم عند القحط ما أكلوا

من السديف إذا لم يؤنس القزع (١)

وننحر الكوم عبطا في أرومتنا (٢)

للنازلين ، إذا ما انزلوا شبعوا

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أمر بوضع منبر في المسجد (منذ عام) فالتفت إلى حسّان بن ثابت وقال له : أجبهم ، فقال :

إنّ الذوائب من فهر واخوتهم

قد بيّنوا سنّة للناس تتّبع

يرضى بهم كلّ من كانت سريرته

تقوى الإله ، وبالأمر الذي شرعوا

قوم إذا حاربوا ضرّوا عدوّهم

أو حاولوا النفع في أشياعهم ، نفعوا

سجية تلك منهم غير محدثة

إنّ الخلائق ـ فاعلم ـ شرّها البدع

إن كان في الناس سبّاقون بعدهم

فكل سبق لأدنى سبقهم تبع

__________________

(١) القزع : سحاب الخريف.

(٢) الكوم : جمع الكوماء : الناقة عظيمة السنام. عبطا : اعتباطا بلا حساب. الارومة : الأصل.


لا يرقع الناس ما أوهت أكفّهم

عند الدفاع ، ولا يوهون ما رقعوا

إن سابقوا الناس يوما فاز سبقهم

أو وازنوا أهل مجد بالندى ارتفعوا

أعفّة ذكرت في الوحي عفّتهم

لا يطبعون (١) ولا يرديهم طمع

إلى عشرة أبيات اخرى.

وسرّ رسول الله والمسلمون بخطاب ثابت وشعر حسّان ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لحسّان : إنّ الله ليؤيّد حسّان بروح القدس ما دافع عن نبيّه! (٢).

وفي خبر جابر الأنصاري قال : قال حسّان :

نصرنا رسول الله والدين عنوة

على رغم سار من معد وحاضر

ألسنا نخوض الموت في حومة الوغى

إذا طاب ورد الموت بين العساكر

ونضرب هام الدارعين ، وننتمي

إلى حسب من جرم غسّان قاهر

فلو لا حياء الله قلنا تكرّما

على الناس بالحقّين : هل من منافر؟

فأحياؤنا من خير من وطئ الحصى

وأمواتنا من خير أهل المقابر

فقام الأقرع بن حابس فقال للنبيّ : إنّي والله لقد جئت لأمر ما جاء له هؤلاء وقد قلت شعرا فاسمعه. فقال له : هات. فقال :

أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا

إذا فاخرونا عند ذكر المكارم

وأنّا رءوس الناس في كلّ مشعر

وأن ليس في أرض الحجاز كوارم

وأنّ لنا المرباع في كلّ غارة

تكون بنجد أو بأرض التمائم

__________________

(١) الطبع هنا : الدنس.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٧٣ ـ ٩٧٩. وفي روضة الكافي : ٨٨ ح ٧٥ ورجال الكشي : ٥٧ ح ٣٦٥ باسنادهما عن الباقر عليه‌السلام قال : قال رسول الله لحسّان بن ثابت : لا يزال معك روح القدس ما ذببت عنّا ولعلّها اشارة غيبيّة الى سوء عاقبته كما في الارشاد ١ : ١٧٧ وسفينة البحار ٢ : ٢٥٢.


فقال رسول الله لحسّان : قم يا حسّان فأجب. فقام وقال :

بني دارم لا تفخروا ، إنّ فخركم

يعود وبالا عند ذكر المكارم

هبلتم ، علينا تفخرون وأنتم

لنا خول من بين ظئر وخادم (١)

وأفضل ما نلتم من المجد والعلى

ردافتنا من بعد ذكر الأكارم

فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم

وأموالكم أن تقسموا في المقاسم

فلا تجعلوا لله ندّا وأسلموا

ولا تفخروا عند النبيّ بدارم

وإلّا ـ وربّ البيت ـ مالت أكفّنا

على هامكم بالمرهفات الصوارم

فقام الأقرع بن حابس فقال : إنّ محمّدا لمؤتى له ، والله ما أدري ما هذا الأمر! تكلّم خطيبنا فكان خطيبهم أحسن قولا ، وتكلّم شاعرنا فكان شاعرهم أشعر! ثمّ دنا منه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسول الله. فقال له النبيّ : ما نصرك ما قبل هذا. ثمّ أعطاهم رسول الله وكساهم (٢).

وأورد الواقدي تفصيل عطائه قال : كان صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا قدم عليه وفد يجيزهم بعطاياه ويفاضل بينهم في ذلك بما يرى. وردّ على وفد بني دارم من تميم سبيهم وأساراهم ، وأمر لهم بجوائز ، فكانت جوائزهم لكلّ واحد منهم اثنا عشر أوقية فضّة ونصف الأوقية! فلمّا أعطوهم قال لهم : هل بقي منكم من لم نجزه؟ قالوا : غلام في الرحل. فقال : أرسلوه نجزه. فقال قيس بن عاصم : إنّه غلام لا شرف له (أي لا فضل له) فقال : وإن كان ، فإنّه وافد وله حقّ! فأرسلوه ، وهو عمرو بن الأهتم ، فأعطاه خمس أواقي (٣). ثمّ لم يذكروا من أمر صدقاتهم شيئاً! وعليه فالرسول صلّى الله عليه وآله لمّا امتنع هؤلاء من الزكاة غزاهم وسباهم ولم يقاتلهم ويقتلهم.

__________________

(١) هبلتم : هلكتم. خول : خدم. ظئر : مرضعة أو مربّية.

(٢) أسباب النزول للواحدي : ٣٢٦ ـ ٣٢٨.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩٧٩ ، ٩٨٠. والأوقية : ٢١٣ غراما. وابن إسحاق في السيرة


نزول سورة الحجرات :

وروى البخاري بسنده عن ابن جريج عن ابن الزبير : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أراد أن يؤمّر عليهم أحدا منهم ، فقال له أبو بكر : أمّر القعقاع بن معبد ، وقال عمر : بل أمّر الأقرع بن حابس. فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلّا خلافي ، وقال عمر : ما أردت خلافك ، فتماريا حتّى ارتفعت أصواتهما ، فنزل في ذلك : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)(١).

والآية التالية في وفد بني دارم من تميم وندائهم له من وراء حجرته : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢).

المصدّق الفاسق :

مرّ في أخبار بدر أنّ من اسرائها كان عقبة بن أبي معيط الاموي ، وكان من

__________________

ـ ٤ : ٢٠٥ ـ ٢١٣ ذكر خبر بني تميم بعنوان الوفد بدون خبر الصدقة واعتراضهم على أخذها من خزاعة! وغزوهم وسباياهم.

(١) الحجرات : ١ ـ ٣ ، والخبر في أسباب النزول للواحدي : ٣٢٣ و ٣٢٤.

(٢) الحجرات : ٤ و ٥ ، والخبر في تفسير القمي ٢ : ٣١٨ مختصرا لخبر وفد بني تميم. وأشار إليه الطوسي في التبيان ٩ : ٣٤٠ عن مجاهد وقتادة. وروى الطبرسي مختصر الخبر عن ابن إسحاق ، في مجمع البيان ٩ : ١٩٤ ، ١٩٥. والخبر في السيرة ٤ : ٢٠٦ ـ ٢١٣ ، ومغازي الواقدي ٢ : ٩٧٣ ـ ٩٨٠.


المستهزئين بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأمر بضرب عنقه صبرا ، فقال : يا محمّد ، فمن للصبيّة؟ قال : النار! ثمّ لم نجد فيما بأيدينا متى وأنّى التحق ابنه الوليد بالدين الجديد؟ إلّا أنّا نراه فيمن بعثه صلى‌الله‌عليه‌وآله في أوائل السنة التاسعة لجباية الزكاة من بني المصطلق من خزاعة (١). ونعلم أنّ خزاعة كانوا حلفاء بني هاشم منذ الجاهليّة ، وصديق عدوّك عدوّك ، فهم في التصنيف أعداء بني اميّة ، ولا نعلم أكثر من هذا.

وفي «تفسير فرات الكوفي» بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعثه إلى بني وليعة ، وكانت بينه وبينهم شحناء في الجاهليّة. فلمّا بلغ إليهم استقبلوه ليروا ما عنده ، فخشيهم ، فرجع إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال له : إنّ بني وليعة منعوني الصدقة وأرادوا قتلي! وبلغ إليهم الذي قاله فيهم عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأتوه وقالوا له : يا رسول الله ، لقد كذب الوليد ، ولكن كان بيننا وبينه شحناء في الجاهليّة فخشينا أن يعاقبنا بالذي بيننا وبينه. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لتنتهنّ يا بني وليعة أو لأبعثنّ إليكم رجلا عندي كنفسي ، يقتل مقاتليكم ويسبي ذراريكم (وأشار بيده وقال) هو هذا حيث ترون. وضرب بيده على كتف عليّ عليه‌السلام.

وأنزل الله في الوليد آية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٢).

__________________

(١) ابن إسحاق في السيرة ٣ : ٣٠٨ و ٣٠٩ ، ومغازي الواقدي ٢ : ٩٨٠ ، والتبيان ٩ : ٣٤٣ ، وعنه في مجمع البيان ٩ : ١٩٨ عن قتادة ومجاهد ومقاتل عن ابن عبّاس.

(٢) تفسير فرات الكوفي : ٤٢٦ ، ٤٢٧ ، الحديث ٥٦٣ ، وبهامشه عن الطبراني وابن مردويه. والآيات من الحجرات : ٦ ـ ٨.


وروى الواقدي الخبر عن بعضهم قال : كنّا عنده صلى‌الله‌عليه‌وآله نكلّمه ونعتذر إليه ، إذ أخذه برحاء الوحي ، فلمّا سرّي عنه أخبرنا بعذرنا وما نزل في صاحبنا ، والذي نزل عليه قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ...). ثمّ قال لنا : فمن تحبّون أبعث إليكم؟ قلنا : تبعث علينا عبّاد بن بشر. وكان حاضرا ، فقال له : يا عبّاد سر معهم فخذ صدقات أموالهم ، وتوقّ كرائم أموالهم. وأمره أن يقيم عندنا عشرة أيّام.

قال : فخرجنا مع عبّاد يقرئنا القرآن ، ويعلّمنا شرائع الإسلام حتّى أنزلناه في وسط بيوتنا ، فلم يضيّع حقّا ولم يعد بنا الحقّ ، ثمّ انصرف إلى النبيّ راضيا (١).

* * *

وكان أنس بن مالك الخزرجي يخدمه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فروى الواحدي بسنده عنه قال : قلت له يوما : يا نبيّ الله ، لو أتيت عبد الله بن ابيّ؟ فقبل وأنعم. وركب صلى‌الله‌عليه‌وآله إليه حمارا ، وانطلق معه المسلمون يمشون (٢) وهم من الأوس رهط عبد الله بن رواحة ، فمضى صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى وقف على عبد الله بن ابيّ ، فراث حمار رسول الله ، فقال له عبد الله : إليك عنّي! وأمسك أنفه. فقال له عبد الله بن رواحة الأوسي : لحمار رسول الله أطيب ريحا منك ومن أبيك! فغضب الخزرج قوم ابن ابيّ بن سلول ، ومدّوا أيديهم إلى ابن رواحة ، فأعانه قومه فتناوشوا بأيديهم ثمّ بنعالهم ثمّ بجريد سعفات النخيل ، ثمّ افترقوا ، ففيهم نزل قوله سبحانه : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٨٠ ، ٩٨١.

(٢) أسباب النزول : ٣٢٩ ، ٣٣٠ ، وفي الميزان ١٨ : ٣٢٠ ، عن الدرّ المنثور عن البخاري ومسلم وغيرهما.


اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(١).

* * *

كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا فرغ من صلاة الفجر يستقبل الناس ويجلس بينهم. فروى الطبرسي عن ابن عبّاس : أنّ ثابت بن قيس ثقيل السمع ولذلك كان يقعد عند النبيّ ليسمع ما يقول. فدخل المسجد يوما وقد فرغوا من صلاة الصبح وأخذوا أماكنهم ، فجعل يتخطّى رقاب الناس وهو يقول : تفسّحوا تفسّحوا ، حتّى انتهى إلى رجل فقال له : قد أصبت مجلسا فاجلس. فجلس خلفه ، فلمّا انجلت ظلمة الفجر قال له : من هذا؟ فذكر الرجل اسمه ، وكان ثابت يعرف امّه وأنّه كان يعيّر بها ، فقال : ابن فلانة؟! وذكر امّه ، فنكس الرجل رأسه حياء (٢).

وجاءت صفيّة بنت حييّ بن أخطب اليهودي زوج النبيّ إليه تبكي ، فقال لها : ما وراءك؟ فقالت : إنّ عائشة تعيّرني وتقول لي : يهوديّة بنت يهوديّين! فقال لها : هلّا قلت : أبي هارون ، وعمّي موسى ، وزوجي محمّد (٢).

وكانت مع حفصة فمرّت أمّ سلمة وكانت قصيرة فعيّرتها بالقصر وأشارت بيدها (٤)! وكانت أمّ سلمة قد ربطت حقويها بسبيبة (قماش أبيض كالحزام) وسدلت طرفيها خلفها فهي تجرّه ، فقالت لحفصة : انظري ما تجرّ خلفها كأنّه لسان كلب (٥)! فنزل قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ

__________________

(١) مجمع البيان ٩ : ١٩٩ ، عن سعيد بن جبير وغيره ، وفي التبيان ٩ : ٣٤٦ عن الطبري. والآيتان من الحجرات : ٩ و ١٠.

(٢) و (٣) مجمع البيان ٩ : ٢٠٢ ، وأسباب النزول للواحدي : ٣٣٠.

(٤) مجمع البيان ٩ : ٢٠٣ ، وانظر أسباب النزول للواحدي : ٣٣٠.

(٥) مجمع البيان ٩ : ٢٠٢ ، وأسباب النزول للواحدي : ٣٣٠.


يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(١).

وكان والداهما في سفرة مع النبيّ ومعهما سلمان ، فبعثاه إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ليأتي لهما بطعام ، وكان خازنه على رحله اسامة بن زيد فبعث النبيّ سلمان إلى اسامة ، فقال له : ما عندي شيء ، فعاد سلمان إليهما صفر اليدين ، فقالا فيه : لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها! وقالا : بخل اسامة ، ثمّ انطلقا يتجسّسان عمّا أمر به لهما رسول الله عند اسامة ، فرآهما النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال لهما : ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما؟! فقالا : يا رسول الله ، ما تناولنا لحما يومنا هذا! قال : ظللتم تأكلون لحم سلمان واسامة! ونزل قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ)(٢).

ومرّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم في سوق المدينة وإذا برجل قائم على غلام أسود ينادي عليه بالبيع لمن يزيد (بالمزاد) والغلام يشترط على من يشتريه أن لا يمنعه من الصلوات الخمس خلف رسول الله ، فاشتراه رجل على شرطه ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وآله يراه في الصلوات حتّى افتقده فسأل صاحبه عنه فقال : هو محموم (مصاب بالحمّى) فعاده صلى‌الله‌عليه‌وآله مع جمع من أصحابه ، وبعد أيام سأل عنه صاحبه

__________________

(١) الحجرات : ١١.

(٢) مجمع البيان ٩ : ٢٠٣ ، وكنى فيه عنهما برجلين من أصحابه ، ورواه باسمهما في جوامع الجامع ، وعنه في الميزان ١٨ : ٣٣٣ ، ونقل مثله عن الدرّ المنثور عن المقدسي عن أنس بن مالك ولم يسمّ سلمان ، ونقل مثله عنه عن السدّي وسمّى سلمان ولم يسمّهما ، واستظهر العلّامة أنّ القصّة واحدة. والآية من الحجرات : ١٢.


فقال : يا رسول الله لقد قورب به (دنا أجله) فقام ليعوده فأدركه في نزعاته حتّى قبض ، فتولّى غسله وتكفينه ودفنه.

فقال الأنصار : نحن آويناه ونصرناه وواسيناه بأموالنا فآثر علينا عبدا حبشيّا!

وقال المهاجرون : هاجرنا ديارنا وأموالنا وأهلينا فلم ير أحد منّا في حياته ومرضه وموته ما لقي هذا الغلام!

فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً)(١) وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.

وكان من آثار انتشار أخبار جباة الزكوات أن قدم المدينة أقوام من أعراب بني أسد ، لم يكونوا مؤمنين في السرّ ، إنّما كانوا يطلبون الصدقة فأظهروا الإسلام وقالوا له صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّا لم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان ، وأتيناك بالعيال والأثقال ، فأعطنا من الصدقة. فكأنّما كانوا يمنّون عليه ، وقد أغلوا أسعار المدينة وأفسدوا طرقها بالعذرات! فنزل قوله سبحانه : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)(٢).

والسورة التالية في النزول : التحريم.

__________________

(١) الحجرات : ١٣ ، والخبر في أسباب النزول للواحدي : ٣٣٢.

(٢) الحجرات : ١٤ ـ ١٨ ، والخبر في مجمع البيان ٩ : ٢٠٧ ، وأسباب النزول للواحدي : ٣٣٢.


تحريم الرسول الحلال على نفسه :

مرّ الحديث عن ابن سعد بسنده عن عائشة قالت عن مارية القبطية : إنّها كانت جعدة جميلة ، فاعجب بها رسول الله ... فما غرت على امرأة إلّا دون ما غرت عليها ... وفرغنا لها (لإثارتها وإيذائها وإزعاجها!) ... ثمّ رزقها الله الولد وحرمناه ... وحوّلها رسول الله إلى العالية يختلف إليها هناك ، فكان ذلك أشدّ علينا (١).

فهي كانت في مشربتها في عوالي المدينة ولا بيت لها من بيوت النبيّ حوّل مسجده ، وكأنّ عائشة زارت أباها ، وزارت مارية ـ بعد أن كانت أمّ إبراهيم ـ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخلا بها في بيت عائشة «وكانت حفصة وعائشة متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواجه» (٢) واطّلعت حفصة على ذلك ، وعلم النبيّ بذلك.

فروى الطبرسي عن الزجّاج : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله دعا حفصة وقال لها : لا تعلمي عائشة بذلك ، وأنّه حرم مارية على نفسه ، وأخبرها بأنّ أبا بكر سيملك الأمر من بعده وبعده أبوها عمر بن الخطّاب واستكتمها إيّاه ، فأعلمت حفصة الخبر لعائشة.

ثمّ قال الطبرسي : وقريب من ذلك ما رواه العيّاشي بالإسناد عن عبد الله بن عطاء المكّي عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام بزيادة : أنّ كلّ واحدة منهما حدّثت أباها بذلك ، فعاتبهما رسول الله في أمر مارية وما أفشتا عليه منه ، وأعرض عن أن يعاتبهما في الأمر الآخر : أنّ أبا بكر وعمر يملكان بعده.

قال الطبرسي : قال الزجّاج : فأطلع الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله على ذلك ، وهو قوله سبحانه : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ) يعني حفصة ... فعرّفها بعض ما أفشت من الخبر ، وأعرض عن بعض : أنّ أبا بكر وعمر يملكان بعده (٣).

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٨ : ١٥٣.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٤٧٢.

(٣) مجمع البيان ١٠ : ٤٧٢. والآية من التحريم : ٣.


وعلى ما رواه عن تفسير العياشي عن الباقر عليه‌السلام ، فهو أكثر ما روى عنهم عليهم‌السلام هنا تفصيلا.

وروى الكليني في «الكافي» بإسناده عن زرارة عنه عليه‌السلام أيضا : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله حرّم عليه جاريته مارية القبطيّة وحلف أن لا يقربها ، فجعل الله عليه الكفّارة لحلفه وليس على تحريمه (١) وذلك قوله سبحانه : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)(١).

وروى القمي في تفسيره بسنده عن الصادق عليه‌السلام أخصر إشارة إلى ذلك في قوله سبحانه في مفتتح السورة : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، قال : اطّلعت حفصة وعائشة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو مع مارية ، فقال النبيّ : والله ما أقربها ، فأمره الله أن يكفّر عن يمينه (٣).

أمّا الطوسي في «التبيان» قبل الطبرسي فقد اكتفى عن الفرّاء والزجّاج بقوله : أسرّ إليها بأنّه سيلي الأمر بعده أبو بكر وعمر وعثمان ، فتباشروا بذلك فانتشر الخبر. واكتفى من أخبارهم عليهم‌السلام بقوله : روى أصحابنا : أنّه أسرّ إلى عائشة بما يكون بعده من قيام من يقوم بالأمر ودفع عليّ عليه‌السلام عن مقامه ، فبشّرت بذلك أباها ، فعاتبهم الله على ذلك (٤) وهذا من بعد ما نقل عن زيد بن أسلم وابن زيد والشعبي وقتادة ومسروق والضحّاك والحسن بن أبي الحسن البصري قال : كانت حفصة بنت عمر زارت عائشة ، فخلا بيتها ، فوجّه رسول الله إلى مارية القبطيّة ، فكانت معه ، وجاءت حفصة ... فغارت عليه من أجلها! فحرّم رسول الله أمّ ولده إبراهيم :

__________________

(١) و (٢) فروع الكافي ، كما في الميزان ١٩ : ٣٣٧.

(٣) تفسير القمّي ٢ : ٣٧٥. وعليه فهذا تأريخ تشريع كفّارة اليمين في الإسلام.

(٤) التبيان ١٠ : ٤٦ ، ٤٧.


مارية القبطيّة على نفسه بيمين أن لا يقربها ، طلبا لمرضاة زوجته حفصة ، وأسرّ بذلك إليها. فأفضت بذلك إلى عائشة (١).

وفي قوله سبحانه في الآية الرابعة : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ ...) اكتفى الطوسي بقوله عن جميع أهل التأويل وعن عمر بن الخطّاب قال : إنّه سبحانه عنى حفصة وعائشة (٢).

وعيّن الطبرسي فقال : أورده البخاري في الصحيح عن ابن عباس قال : قلت لعمر بن الخطّاب : من المرأتان اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ قال : حفصة وعائشة (٣).

ومرّ الحديث حول آية التخيير في سورة الأحزاب وكان مشتملا على أسماء نساء له تزوّجهنّ فيما بعد خيبر إلى عمرة القضاء في السنة الثامنة للهجرة ، ولذلك قلنا بتأخير هذا الحدث ، ومنه اعتزاله إيّاهنّ شهرا في مشربة أمّ إبراهيم.

وتفصيل خبر البخاري عنه عن عمر يشتمل على التصريح باعتزاله إيّاهنّ شهرا في مشربة أمّ إبراهيم ، وأنّه كان وهم يتحدّثون عن غزو غسّان والروم لهم ممّا بعث على غزوة تبوك في التاسعة. قال : إنّا معشر قريش كنا غالبين على نسائنا ، فلمّا قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم! فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم ، حتّى أنّي غضبت على امرأتي يوما فإذا بها تراجعني! فأنكرت عليها ذلك فقالت : وما تنكر من ذلك؟ فو الله إنّ أزواج النبيّ ليراجعنه ، وإنّ إحداهنّ تهجره النهار إلى الليل! فقلت لها : قد خابت وخسرت من فعلت منهنّ ذلك!

__________________

(١) التبيان ١٠ : ٤٥ و ٤٤.

(٢) التبيان ١٠ : ٤٧.

(٣) مجمع البيان ١٠ : ٤٧٤.


ثمّ دخلت على حفصة فسألتها : أتراجع إحداكنّ رسول الله وتهجره النهار إلى الليل؟! قالت : نعم! فقلت لها : قد خابت وخسرت من فعلت منكنّ ذلك؟ أتأمن إحداكنّ أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله فإذا هي قد هلكت! ثمّ قلت لحفصة : لا تراجعي أنت رسول الله ولا تسأليه شيئا وسليني ما بدا لك ، ولا يغرينّك أن كانت جارتك [مارية] أوسم منك وأحبّ إلى رسول الله.

قال : وكان منزلي بالعوالي ، وكان لي جار من الأنصار كنّا نتناوب النزول إلى رسول الله ، فينزل يوما فيأتيني بخبر الوحي وغيره ، وأنزل يوما فآتيه بمثل ذلك. وكنّا نتحدّث : أنّ غسّان تنعّل الخيل لتغزونا (ممّا بعث على غزوة تبوك). فجاء يوما (ولعلّه كان بعد العصر) فضرب عليّ الباب فخرجت إليه فقال : حدث أمر عظيم! فقلت : أجاءت غسّان؟ قال : أعظم من ذلك : طلّق رسول الله نساءه! فقلت في نفسي : قد خابت حفصة وخسرت! (فبتّ تلك الليلة حتّى أصبحنا) فلمّا أصبح وصلّينا الصبح شددت ثيابي على نفسي وانطلقت حتّى دخلت على حفصة فإذا هي تبكي! فقلت لها : أطلّقكنّ رسول الله؟ قالت : لا أدري ، هو ذا معتزل في المشربة.

فانطلقت (إلى مشربة أمّ إبراهيم ، وإذا غلام أسود هناك) فقلت له : استأذن لعمر. فدخل ثمّ خرج فقال : قد ذكرتك له فلم يقل شيئا! فانطلقت إلى المسجد ... فجلست إلى نفر حول المسجد ، ثمّ غلبني ما أجد (في نفسي) فانطلقت حتّى أتيت الغلام فقلت له : استأذن لعمر. فدخل ثمّ خرج فقال : قد ذكرتك له فلم يقل شيئا! فولّيت منطلقا ، فإذا الغلام يدعوني ، فرجعت إليه فقال لي : ادخل فقد أذن لك! فدخلت ، فإذا النبيّ متّكئ على حصير ورأيت أثره في جنبه ، فقلت : يا رسول الله ، أطلّقت نساءك؟ قال : لا ... بل كان قد أقسم أن لا يدخل على أزواجه شهرا. فعاتبه الله في ذلك ، وجعل له كفّارة اليمين (١).

__________________

(١) القسم عن الاعتزال من النساء هو ما يسمّى في الفقه بالإيلاء ، وسيأتي بلفظه في


ونقل هذه الرواية الطباطبائي في «الميزان» ورأى أنّه يرد عليها إشكالان :

الاولى : أنّها ظاهرة في أنّ المراد بالتحريم في الآية تحريم عامّة أزواجه ، وهذا لا ينطبق على الآية وفيها قوله تعالى : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ).

والثانية : أنّها لا تبيّن وجه التخصيص في قوله : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما)(١).

ولعلّنا نجد بعض الجواب عنهما في الخبرين التاليين :

روى الواحدي بسنده عن ابن عباس عن عمر قال : دخل رسول الله بامّ ولده مارية في بيت حفصة ، فوجدته حفصة معها ، فقالت له : لم تدخلها بيتي وما صنعت بي هذا من بين نسائك إلّا من هواني عليك! فقال لها : لا تذكري هذا لعائشة ، وهي حرام عليّ إن قربتها! فقالت حفصة : وكيف تحرم عليك وهي جاريتك؟ فحلف لها أن لا يقربها ، وقال لها : لا تذكريه لأحد ، فذكرته لعائشة. فأبى أن يدخل على نسائه واعتزلهن تسعا وعشرين ليلة ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢).

وروى فيه بسنده عنه قال : وجدت حفصة رسول الله مع أمّ إبراهيم في يوم عائشة ، فقالت له : لاخبرنّها؟ فقال رسول الله : هي حرام عليّ إن قربتها! فأخبرت حفصة عائشة بذلك ، فأعلم الله رسوله بذلك ، فعرّف حفصة بعض ما قالت ، فقالت

__________________

ـ الأخبار التالية ، فالكفّارة هي كفّارة الإيلاء ، وعليه فهو تأريخ تشريع كفّارة الإيلاء في الإسلام بعمله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(١) الميزان ١٩ : ٣٣٩ ، ٣٤٠.

(٢) أسباب النزول للواحدي : ٣٦٧.


له : من أخبرك؟ قال : نبّأني العليم الخبير. ثمّ آلى رسول الله من نسائه شهرا ، فأنزل الله تعالى : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ ...)(١).

وعن ابن عباس أيضا عن «الدرّ المنثور» عن ابن سعد في «الطبقات» قال : كانت حفصة وعائشة متحابّتين ، فذهبت حفصة إلى بيت أبيها تحدث عهدا به ، فأرسل النبيّ إلى جاريته (مارية) فظلّت معه في بيت حفصة. وكان اليوم الذي يأتي فيه عائشة. ورجعت حفصة فوجدتهما في بيتها فغارت غيرة شديدة! وجلست تنتظر خروجها ، وأخرجها النبيّ ، فدخلت عليه حفصة فقالت له : قد رأيت من كان عندك! والله لقد سوّأتني! فقال لها النبيّ : والله لارضينّك! وإنّي مسرّ إليك سرّا فاحفظيه! قالت : ما هو؟ قال : إنّي اشهدك أنّ سريّتي هذه حرام عليّ ، رضا لك!

فانطلقت حفصة إلى عائشة فأسرّت إليها : أن ابشري! فإنّ النبيّ قد حرّم عليه فتاته! فلمّا أخبرت بسرّ النبيّ أظهره الله عليه إذ أنزل عليه : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ ...).

وإذا كانت هذه الأخبار عن ابن عباس تكتفي من الحديث الذي أسرّ النبيّ به إلى بعض أزواجه بتحريم مارية القبطيّة فقط ... فقد روى في «الدرّ المنثور» أيضا عن «معجم الطبراني» عنه قال : دخلت حفصة على النبيّ في بيتها وهو (مع) مارية ، فقال لها رسول الله : لا تخبري عائشة حتّى ابشّرك بشارة ، فإنّ أباك يلي الأمر بعد أبي بكر إذا أنا متّ! فذهبت حفصة فأخبرت عائشة. فجاءت عائشة وقالت للنبيّ : من أنبأك هذا؟ قال : نبّأني العليم الخبير. فقالت عائشة : فإنّي لا أنظر إليك حتّى تحرّم مارية! فحرّمها. فأنزل الله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ)(٢).

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ٣٦٩.

(٢) الدرّ المنثور ، كما في الميزان ١٩ : ٣٣٨.


وزاد القمي في تفسيره قال : كان سبب نزولها أنّ مارية القبطيّة كانت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تخدمه ، وكان ذات يوم في بيت حفصة ، فذهبت في حاجة لها ، فتناول النبيّ مارية ، وعادت حفصة فعلمت بذلك فغضبت ، وأقبلت على رسول الله وقالت له : يا رسول الله ، هذا في يومي وفي داري وعلى فراشي؟!

فاستحيا رسول الله منها وقال لها : كفّي فقد حرّمت مارية على نفسي ، فلا أطأها بعد هذا أبدا! وأنا افضي إليك سرّا! فقالت : نعم ، ما هو؟ فقال : إنّ أبا بكر يلي الخلافة بعدي ، ثمّ من بعده أبوك! فقالت : من أخبرك بهذا؟ فقال : الله أخبرني!

فذهبت حفصة من يومها ذلك إلى عائشة فأخبرتها بذلك! وذهبت عائشة إلى أبيها فأخبرته بذلك! فذهب أبو بكر إلى عمر فقال له : إنّ عائشة أخبرتني عن حفصة بشيء ، ولا أثق بقولها : فاسأل أنت حفصة عنه ، وأخبره بالخبر.

فجاء عمر إلى ابنته حفصة وقال لها : ما هذا الذي أخبرت عنك عائشة؟! فقالت حفصة : ما قلت لها من ذلك شيئا! فقال لها عمر : إن كان هذا حقّا فأخبرينا حتّى نتقدّم فيه! فقالت : نعم ، قد قال رسول الله ذلك! فنزل جبرئيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بهذه السورة (١).

ومن صالح المؤمنين؟

وفي الآية الرابعة من السورة قوله سبحانه : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ).

__________________

(١) تفسير القمّي ٢ : ٣٧٥ ، ٣٧٦.


ونقل الطبرسي عن تفسير أبي مسلم محمّد بن بحر الأصفهاني قال : «صالح المؤمنين» كان «صالحو المؤمنين» على الجمع ، وسقطت الواو في المصحف لسقوطها في اللفظ (١).

وروى الحبري في تفسيره بسنده عن أسماء بنت عميس قالت : سمعت رسول الله يقول : (صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) عليّ بن أبي طالب.

وروى فيه بسنده عن ابن عباس قال : (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ) نزلت في عائشة وحفصة (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ) أي مولى رسول الله (وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) نزلت في عليّ عليه‌السلام (٢).

ورواهما فرات الكوفي في تفسيره وأسند عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه حين نزلت الآية أخذ رسول الله بيد عليّ عليه‌السلام فقال : أيّها الناس هذا صالح المؤمنين (٣).

وروى فيه بسنده عن رشيد الهجري قال : كنت أسير مع مولاي عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام في ظهر الكوفة فالتفت إليّ فقال : يا رشيد ، أنا والله صالح المؤمنين.

وروى فيه بسنده عن الباقر عليه‌السلام قال : لمّا نزلت (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) قال النبيّ لعليّ عليهما‌السلام : يا عليّ أنت صالح المؤمنين.

وروى فيه بسنده عن سالم عن خيثمة قال : سمعت أبا جعفر الباقر عليه‌السلام يقول : لمّا نزلت الآية : (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٤٧٤ ، وراجع وقارن التبيان ١٠ : ٤٨.

(٢) ما نزل من القرآن في أهل البيت عليهم‌السلام : ٨٦ ، ٨٧. ورواهما فرات الكوفي في تفسيره : ٤٩١ ، وانظر بحار الأنوار ٣٦ : ٢٩ وهامش تفسير فرات للمحقّق المحمودي ونقل خبر أسماء الحسكاني في شواهد التنزيل وعنه الطبرسي في مجمع البيان ١٠ : ٤٧٥.

(٣) رواه الحسكاني في شواهد التنزيل وعنه في مجمع البيان ١٠ : ٤٧٤ ، ٤٧٥.


الْمُؤْمِنِينَ) قال النبيّ لعليّ عليه‌السلام : يا عليّ أنت صالح المؤمنين. قال سلام : فحججت فلقيت أبا جعفر عليه‌السلام فذكرت له قول خيثمة فقال : صدق خيثمة ، أنا حدّثته بذلك (١).

وروى القمي في تفسيره بسنده عنه عليه‌السلام قال : (صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام (٢).

ونقل هذا الخبر البحراني في تفسيره «البرهان في تفسير القرآن» ثمّ ذكر أنّ محمّد بن العباس أورد في هذا المعنى اثنين وخمسين حديثا من طرق الخاصّة والعامّة ، ثمّ أورد نبذة منها ، وكذلك معاصره المجلسي في «بحار الأنوار» (٣).

وقال الطوسي في «التبيان» : روت الخاصّة والعامّة : أنّ المراد بصالح المؤمنين : عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، وذلك يدل على أنه أفضلهم ، لأن القائل اذا قال : فلان فارس قومه ، او : شجاع قبيلته ، أو : صالحهم ، فانه يفهم من جميع ذلك : انّه أفرسهم وأشجعهم وأصلحهم (٤) واكتفى الطبرسي من هذا بقوله : وردت الرواية من طريق الخاص والعام أن المراد بصالح المؤمنين : أمير المؤمنين علي عليه‌السلام (٥).

ولم أعلم من بيّن ما بين الموضوعين من رابطة ومناسبة في سياق الكلام في الآيات : بين إسرار النبي حديثا الى بعض أزواجه وكون اثنتين منهن قد صغت قلوبهما بما نبأت احداهن الاخرى بالحديث الذي أسرّه النبي إليها ، وكان زيغ

__________________

(١) تفسير فرات الكوفي : ٤٨٩ و ٤٩١.

(٢) تفسير القمّي ٢ : ٣٧٧.

(٣) بحار الأنوار ٣٦ : ٢٧ ، الباب ٢٩ ، وكذلك في شواهد التنزيل.

(٤) التبيان ١٠ : ٤٨.

(٥) مجمع البيان ١٠ : ٤٧٤.


قلوبهما الى التظاهر عليه! هذا من جهة ، وبين أن يكون الله والملائكة بما فيهم جبرئيل وكذلك صالح المؤمنين أولياء متظاهرين له صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

وبالنظر الى ما مرّ من الأخبار المفشية بأن الحديث السرّ كان فيمن يتولّى الأمر بعده ، وليس تحريم مارية على نفسه فحسب ... أرى كأن الآية من قبيل دفع الدخل المقدّر أو الوهم المتوهم بأن المتولّين بعده أصلح المؤمنين ، فالآية تردّ على هذا الوهم بأن صالح المؤمنين ـ بتفسير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بمعنى أصلح المؤمنين كما بين الشيخ الطوسي ، انما هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وليس كل من يتولّى الأمر بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والآيات الثلاث الأواخر في السورة من العاشرة حتى الثانية عشرة في ضرب المثل بامرأتين كافرتين فهما في الحقيقة زوجتان لعبدين صالحين هما نوح ولوط ، خانتاهما ـ في غير أمر الفراش ـ «فلم يغنيا عنهما من الله شيئا ، وقيل : ادخلا النار مع الداخلين» ثم ضرب المثل بامرأتين مؤمنتين احداهما صدّيقة : «صدّقت بكلمات ربّها وكتبه ، وكانت من القانتين» وهي مريم ابنة عمران ، والاخرى امرأة فرعون والتي آمنت بظلمه وبربّها وجنّته ، وانما اعلنت ايمانها في أواخر ايام حياتها داعية ربّها أن ينجّيها من فرعون ومن سائر الظالمين.

ونقل الطبرسي عن مقاتل قوله : يقول الله سبحانه لعائشة وحفصة : لا تكونا بمنزلة امرأة نوح وامرأة لوط في المعصية! وكونا بمنزلة امرأة فرعون ومريم (١).

وقبله نقل الطوسي عن الفرّاء قال : هذا مثل ضربه الله تعالى لعائشة وحفصة ، وبيّن أنّه لا يغنيهما ولا ينفعهما مكانهما من رسول الله إن لم يطيعا الله ورسوله ، ويمتثلا أمرهما ، كما لم ينفع امرأة نوح وامرأة لوط كونهما تحت نبيّين ، وفي

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٤٧٩.


هذا زجر لهما عن المعاصي وأمر لهما أن يكونا كآسية امرأة فرعون ، ومريم ابنة عمران في طاعتهما لله تعالى وامتثال أمره ونهيه (١).

وكأن النبي هنا زاد على هدى القرآن مثلين آخرين للمؤمنات فقال : «حسبك من نساء العالمين أربع : مريم ابنة عمران ، وآسية امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمّد» هذا ما رواه الطوسي في «التبيان» (٢).

اما الطبرسي فروى عن أبي موسى (الاشعري) عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء الا أربع : آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمّد» (٣).

وفي ذكره صلى‌الله‌عليه‌وآله خديجة بنت خويلد تخليدا لذكراها وكمالها ، وما فيه من الدلالة الكافية مثلا منها لأمّ المؤمنين المثالية في الاسلام ، لمن يفحص عن مثل ذلك بإزاء حفصة وصاحبتها عائشة وقد صغت قلوبهما كما قال الله سبحانه. وكأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بذكره لابنته فاطمة وأنها أكمل النساء الأحياء ، يذكّر بكفاءتها لصالح المؤمنين علي عليه‌السلام ، فمن أراد المثل الصالح للمؤمنين فعليه بعليّ عليه‌السلام ، ومن أراد المثل الكامل للمرأة المؤمنة فعليه بفاطمة عليها‌السلام ، ومن اعرض عنهما اعرض عن الصلاح والكمال.

سورة الصف :

روى الخبر المعتبر المعتمد عن ابن عباس في ترتيب نزول السور الحاكم الحسكاني ، وعنه الطبرسي في «مجمع البيان» (٤) ورواه الزركشي في

__________________

(١) التبيان ١٠ : ٥٢.

(٢) التبيان ١٠ : ٥٥.

(٣) مجمع البيان ١٠ : ٤٨٠ وهذا يصلح تاريخا لاعلان هذا البيان النبوي.

(٤) مجمع البيان ١٠ : ٦١٢ ، ٦١٣.


«البرهان» (١) فالطبرسي قدم الجمعة بعد التحريم وأخّر الصف بعد الجمعة والتغابن ، بينما قدّم الزركشي الصف عليهما ، ولاحظت أن اغراض الآيات في الصف تناسب ما بعد التحريم اكثر مما بعد التغابن ، فقدّمتها.

فالسورة بعد البسملة وتسبيح الله ، تذكّر المؤمنين بالمعنى العام بأنهم أذعنوا للاسلام بعد شهادة التوحيد بالاقرار برسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فليفعلوا بما قالوا ، وتذكّرهم بانّ الذين أذعنوا برسالة موسى عليه‌السلام ثم زاغوا عنه فعلا وعملا أزاغ الله قلوبهم بفسقهم ، فليحذروا أن يشابهوهم ، وانّ هذا الرسول هو أحمد الذي بشّر به عيسى عليه‌السلام وهو الذي أرسل رسوله هذا بالهدى ودين الحق ، فهو متمّم لنوره هذا ومظهر لدينه على الدين كلّه ولو كره المشركون والكافرون ، فليحذروا أن يحاولوا اطفاء هذا النور بأفواههم وتفوّهاتهم ، وعليهم أن يؤمنوا بالله ورسوله ويجاهدوا في سبيله ، وأن يكونوا أنصار الله ورسوله (٢).

فكأنّ المؤمنين بالمعنى العام لم يلتزموا فعلا بمقتضى ايمانهم برسالته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاقتضى هذا التذكير بمقتضى الايمان به وبمقام النبوّة والرسالة. وهذا يناسب الحوادث التي اشير إليها في آيات سورة التحريم السابقة.

سورة الجمعة :

والسورة التالية في النزول حسب الخبر المعتمد (٣) سورة الجمعة. وقد مرّ الخبر عن بداية صلاة الجمعة من الأنصار الأوائل في المدينة قبل الهجرة بإذن منه صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) البرهان ١ : ١٩٣ ، ١٩٤.

(٢) وانظر الميزان ١٩ : ٢٤٨ ـ ٢٥٠.

(٣) التمهيد ١ : ١٠٧.


وكذلك عن أول صلاة جمعة صلّاها هو بعد هجرته إليها وخطبتيه لها (١) فالفاصل الزمني بين ذلك وبين نزول السورة اليوم أكثر من ثماني سنين ، وعليه فآية النداء لصلاة الجمعة فيها التاسعة منها ليست من آيات الاحكام بمعنى التشريع التأسيسي ، وإنمّا التأكيدي (٢) فهي من التشريعات بالسنة سابقة الكتاب.

والآيات السوابق في السورة ليست في صلاة الجمعة ، بل الثلاث الاول في بعثته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن الخامسة حتى الثامنة في محاجّة اليهود ولا سيّما أحبارهم حملة التوراة ، مما يرجّح في الظن أن يكون نزولها الى ما قبل الانتهاء منهم في الحروب معهم : بني قريظة والنضير وقينقاع وأخيرها قلاع خيبر السبعة وفدك ووادي القرى وتيماء في أوائل السابعة ، فبين آخرها ونزول السورة في أوائل التاسعة سنتان ، فهل يناسب نزولها اليوم؟! وهل تناسب الآيات الثلاث الأواخر بشأن صلاة الجمعة؟

أجل ، حاول توجيه ارتباطها بما قبلها الآلوسي في «روح المعاني» ونقله الطباطبائي في «الميزان» وقال : وأنت خبير بانّه تحكم لا دليل عليه من جهة السياق (٣) وقبل ذلك ذكر هو وجها لاتّصال الآية بما قبلها ، كذلك لم نجد من السياق دليلا عليه.

وفي الآية الأخيرة الحادية عشرة والخاتمة للسورة قوله سبحانه : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) روى الطوسي عن الحسن ومجاهد عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : بعد ما أصابت المدينة مجاعة ، قدم دحية بن خليفة الكلبي

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٤٣١ ، ٤٣٢.

(٢) انظر التعبير بالتأكيد في الميزان ١٩ : ٢٧٣.

(٣) الميزان ١٩ : ٢٦٦ و ٢٦٧.


الأنصاري إليها بقافلته التجارية وفيها طعام ، وكانوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في صلاة الجمعة ، واستقبلت القافلة بالطبول والمزامير ، فلما سمع المصلّون أصوات الطبول والمزامير تركوا النبي قائما خطيبا وتفرّقوا الى القافلة ، فنزلت الآيات (١).

امّا الطبرسي فقد روى عن الحسن قال : أصاب أهل المدينة غلاء سعر وجوع ، وقدم دحية بن خليفة الكلبي من الشام بتجارة زيت ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في خطبة الجمعة ، فتسابقوا إليه خشية السبقة حتى لم يبق معه صلى‌الله‌عليه‌وآله سوى رهط منهم ، فنزلت الآية.

وفي روايته عن جابر ذكر عددهم فقال : كنا نصلي مع رسول الله الجمعة إذ أقبلت قافلة تجارية ، فانفضّ الناس إليها حتى ما بقي سوى اثني عشر رجلا أنا أحدهم ، فنزلت الآية.

ثم نقل تفصيلا عن مقاتل وقتادة قالا : كان دحية بن خليفة بن فروة الكلبي الخزرجي اذا قدم بتجارته من الشام قدم بكل ما يحتاج إليه من دقيق أو برّ أو غيره ، فينزل بمكان من سوق المدينة عند أحجار الزيت ثم يضرب طبلا ليعلم الناس بقدومه فيخرج إليه الناس حتى لا تبقى بالمدينة عاتق (جارية مدركة) إلّا أتته. فقدم ذات جمعة ورسول الله قائم على المنبر يخطب ، فخرج الناس إليه حتى لم يبق في المسجد إلّا اثنا عشر رجلا وامرأة. وفعلوا ذلك ثلاث مرات كل ذلك يوافق يوم الجمعة لقوافل تقدم من الشام ... فأنزل الله هذه الآية (٢).

ونقل الطباطبائي هذا الخبر عن «عوالي اللآلي» عن مقاتل بن سليمان وقال : القصة مروية بطرق كثيرة من الشيعة وأهل السنة ، مختلفة في عدد من بقي منهم بين سبعة الى أربعين (٣).

__________________

(١) التبيان ١٠ : ٩.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٤٣٣.

(٣) الميزان ١٩ : ٢٧٧ ولعل المكثرين حاولوا حفظ ماء وجه الصحابة فبلغوا بالثابتين


وروى خبر جابر الأنصاري الواحدي وقال : رواه مسلم والبخاري في كتاب الجمعة (١).

ولعلّ هذه القوافل التجارية كانت تحمل معها من الشام شائعات الأخبار عن استحضار الروم وغسّان لغزو المسلمين كما مرّ في خبر عمر ، مما أثار غزوة تبوك.

سورة التغابن :

والسورة التالية في النزول حسب الخبر المعتمد (٢) سورة التغابن.

والآية الرابعة عشرة فيها قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

وفي رواية أبي الجارود عن الباقر عليه‌السلام قال : ذلك ان الرجل كان اذا أراد الهجرة الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تعلّق به ابنه وامرأته وقالوا : ننشدك الله أن تذهب عنا وتدعنا فنضيع بعدك ، فمنهم من يطيع اهله فيقيم فحذّرهم الله أبناءهم ونهاهم عن طاعتهم ، ومنهم من يمضي ويذرهم ويقول : أمّا والله لئن لم تهاجروا معي ثم يجمع الله بيني وبينكم في دار الهجرة فلا أنفعكم بشيء أبدا فلما جمع الله بينه وبينهم أمره الله أن يوفي ويحسن ويصلهم فقال : (... وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٣).

__________________

ـ منهم الى اربعين رجلا ومن الغريب في الخبر عن دحية : أن ذلك كان منه قبل أن يسلم! بينما كان دحية من المسلمين الأوائل من الخزرج ، أفهل كان كافرا الى ما بعد أوائل التاسعة للهجرة؟! ولم يعلّق عليه الطبرسي ولا الطباطبائي.

(١) أسباب النزول للواحدي : ٣٥٩ ، ٣٦٠.

(٢) التمهيد ١ : ١٠٧.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٣٧٢ ورواه السيوطي في الدر المنثور بعدة طرق عن ابن عباس.


وقال الطبرسي : ذلك ان الرجل من هؤلاء اذا هاجر وقد سبقه الناس بالهجرة وفقهوا في الدين ، هم ان يعاقب زوجته وولده الذين ثبّطوه عن الهجرة فلا ينفق عليهم إذا لحقوا به بدار الهجرة ، فأمرهم الله سبحانه بالعفو والصفح (١).

والآية التالية الخامسة عشرة فيها قوله سبحانه : (أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) قال الطبرسي : هو الجنة ، يعني : فلا تعصوه بسبب الأموال والأولاد ولا تؤثروهم على ما عند الله من الأجر والذخر (٢).

وليست كل فتنة مضلّة لكل أحد ، فقد روى الرضي في «نهج البلاغة» عن علي عليه‌السلام كان يقول : لا يقولن أحدكم : اللهم اني أعوذ بك من الفتنة ؛ لأنّه ليس أحد إلّا وهو مشتمل على فتنة ، فان الله سبحانه يقول : (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) فمن استعاذ فليستعذ من مضلّات الفتن (٣).

إذن فالولد فتنة وليست كل فتنة مضلة لكل أحد ، ومن هذا ما رواه الطبرسي هنا عن بريدة الأسلمي قال : كان رسول الله يخطب فجاء الحسنان عليهما‌السلام وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران ، فنزل رسول الله إليهما وأخذهما الى المنبر فوضعهما في حجره وقال : صدق الله عزوجل : (أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) نظرت الى هذين الصبيّين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما ، ثم أخذ في خطبته (٤) فالحديث بعد نزول السورة والآية في التاسعة للهجرة

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٤٥٢.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٤٥٣.

(٣) نهج البلاغة : الحكمة : ٩٣ وروى الطبرسي مثله عن ابن مسعود ، مجمع البيان ١٠ : ٤٥٢.

(٤) مجمع البيان ١٠ : ٤٥٣. ورواه الحلبي في مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٨٥ عن جامع الترمذي وفضائل ابن حنبل وفضائل السمعاني والواحدي في الوسيط والثعلبي في


والحسنان عليهما‌السلام خماسيّان تقريبا.

والسورة التالية حسب الخبر المعتمد سورة الفتح (١) وقد مرّت الأخبار عن تفسير القمي (٢) و «التبيان» (٣) و «مجمع البيان» (٤) انها نزلت في منصرفه من صلح الحديبية ، وآياتها أيضا ظاهرة الانطباق على ذلك كما في «الميزان» (٥). وعليه فالراجح استثناء هذه السورة من ترتيب الخبر المعتمد ، تبعا لتلك الدلائل ، كما مرّ ابهام كهذا في ترتيب نزول سورة : المنافقون.

واختلفت نسخة الزركشي (٦) مرة اخرى لروايته الخبر عن ابن عباس عن نسخة الطبرسي عن الحسكاني (٧) بأن قدم الزركشي البراءة على المائدة فيما عكس الآخرون ومنهم الطبرسي ، هذا وقد روى في مفتتح تفسيره لسورة المائدة عن «تفسير العياشي» بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : نزلت المائدة كملا ، وروي عنه

__________________

ـ الكشف والخرگوشي في شرف النبي واللوامع والحارثي في قوت القلوب. ورواه السيوطي في الدر المنثور عن الترمذي والنسائي وابن ماجه وأبي داود وابن حنبل وابن أبي شيبة وابن مردويه والحاكم الحسكاني ، كما في الميزان ١٩ : ٣١٠ ولكنه رآه منافيا لعصمته وتأييده بروح القدس ، وبعض المرويات لفظها أفضح ، فقال : الوجه طرح هذه الروايات ، إلّا ان تؤوّل. وأنا لا أرى طرحها ولا تأويلها مع ما ذكر في معنى الفتنة.

(١) التمهيد ١ : ١٠٧.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٣١٤.

(٣) التبيان ٩ : ٣١٣.

(٤) مجمع البيان ٩ : ١٦٦.

(٥) الميزان ١٨ : ٢٥١.

(٦) البرهان ١ : ١٩٤.

(٧) مجمع البيان ١٠ : ٦١٣.


بسنده عن علي عليه‌السلام قال : كان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة (١) ورواه الطوسي عن الشعبي وابن مبشر وابن عمر (٢) حتى قال الطباطبائي : لم يختلف أهل النقل في انها آخر سورة نزلت على رسول الله في أواخر أيام حياته (٣) وفي «تفسير القمي» بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : نزلت آية البراءة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ما رجع من غزوة تبوك في سنة تسع من الهجرة (٤).

وقد بقيت هنا حوادث قبل غزوة تبوك ، نعرضها فيما يلي.

تناول اطراف الطائف : خثعم واسلامهم :

مرّ انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لوى عنان مركبه عن محاصرة الطائف الى مكة ثم منها الى المدينة ، وأقام اهل الطائف على كفرهم ، وفي أثناء حصارهم غزا بعض ضواحيها. ونقول : انّه عاد الى ذلك في شهر صفر سنة تسع للهجرة ، فبعث قطبة بن عامر الى حي من خثعم بناحية تبالة من أطراف الطائف ، في عشرين رجلا يتعاقبون على عشرة إبل ، وأمرهم أن يغذّوا السير ليلا ويكمنوا نهارا ولا يعلنوا سلاحا. فخرجوا ليلا يغذّون السير على ناحية الفتق (من نواحي الطائف) حتى انتهوا الى بطن مسحاء (من نواحي الطائف الى السرف بين المدينة الى مكة) فلقوا رجلا سألوه عن الحيّ فأخذ يصيح بقومه فقتلوه ، وكمنوا النهار حتى صار الليل ، فخرج رجل منهم طليعة فوجد أحشام القوم فرجع إليهم فأخبرهم.

__________________

(١) مجمع البيان ٣ : ٢٣١.

(٢) التبيان ٣ : ٤١٣.

(٣) الميزان ٥ : ١٥٧.

(٤) تفسير القمي ١ : ٢٨١.


فاقبلوا حتى انتهوا الى حيّهم وهم نيام ، فكبّروا وشنوا عليهم الغارة ، فخرج إليهم رجالهم فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثر الجراح في الفريقين ، وأصبح الصباح ، وجاء عدد كثير منهم مددا لهم ولكن أتى سيل فحال بينهم فما استطاعوا أن يصلوا إليهم ، وحتى انتهوا منهم ، وأقبلوا بنسائهم وأنعامهم الى المدينة ، فأخرجوا خمس ما غنموا ، فكان سهم كل رجل منهم أربعة أغنام.

وكانت كعبتهم كعبة اليمامة لهم فيها صنم يسمّى ذا الخلصة ، وهي تسمية يمنيّة إذ هم يمنيّون من كهلان ، ويبدو أنهم بعد هذه الغزوة تقدّم منهم عميس بن عمرو بوفد الى المدينة فأسلموا ، واستكتبوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأمر به فكتب لهم ، وكأنه يبدو من الكتاب أسباب غزوهم أنهم كانوا ذوي إغارة وقتل وحيث قد بدأ النبي بأخذ الزكاة شرح لهم في كتابهم زكاة زروعهم ، قال : «... هذا كتاب من محمّد رسول الله لخثعم من حاضر بيشة وباديتها (١) : انّ كل دم أصبتموه في الجاهلية فهو موضوع عنكم ، ومن أسلم منكم طوعا أو كرها في يده حرث ، من خبار أو عزاز (٢) تسقيه السماء أو يرويه اللثى (٣) فزكا عمارة (٤) في غير أزمة ولا حطمة (٥) فله نشره وأكله (٦)

__________________

(١) كانت خثعم يومئذ ما بين بيشة وتربة وظهر تبالة على طريق الحج من اليمن الى الطائف فمكة ، وبعد فتح مكة انتشروا في الآفاق ولم يبق منهم في مواطنهم إلّا قليل. وترى بيشة في خريطة السعودية من توابع مكة قرب وادي تبالة ، وفيها قرية تبالة ومنازل خثعم حواليها الى شيمران الى الأصفر.

(٢) خبار : الارض الليّنة ، والعزاز بالعكس.

(٣) اللثى : الندى.

(٤) أي عمر وطاب.

(٥) الأزمة : المشكلة ، والحطمة : السنة المجدبة.

(٦) نشره : حصاده ودوسه وتصفيته وتفريقه.


وعليهم في كل سيح العشر ، وفي كل غرب (١) نصف العشر. شهد جرير بن عبد الله ومن حضر (٢).

وفد الأزد واسلامهم :

الى جانب هؤلاء الخثعميّين اليمنيّين ، كانت تسكن طائفة من أزد اليمن : أزد شنوءة ، إذ كانت منازلهم في بيشة وتربة والصّراة ، فكأن الغارة على الخثعميّين ووفودهم الى المدينة واسلامهم ، بعث هؤلاء الأزديين على مثل ذلك فوفدوا وقدّموا اصغرهم للكلام.

روى ابن عساكر بسنده عن عبد الرحمن بن عبيد الأزدي قال : قدمنا في مائة رجل من قومي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلما دنونا منه وأنا أصغرهم فتقدمت وقلت : أنعم صباحا يا محمّد! فقال النبي : ليس هذا سلام المسلمين بعضهم على بعض ، إذا لقيت مسلما فقل : السلام عليكم ورحمة الله. فقلت : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله. فقال : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته.

ثم قال لي : ما اسمك ومن أنت؟ قلت : أنا أبو معاوية (كذا) عبد العزّى! فقال : بل أنت أبو راشد عبد الرحمن ، وأجلسني ، فأسلمنا. وكتب لهم : «... من محمّد رسول الله الى من يقرأ كتابي هذا : من شهد أن لا إله إلّا الله ، وأن محمّدا رسول الله ، وأقام الصلاة فله امان الله وأمان رسوله ، وكتب هذا الكتاب العباس بن عبد المطلب» (٣).

__________________

(١) غرب : الدلو.

(٢) الطبقات الكبرى ١ : ٢٨٦ وانظر مكاتيب الرسول ٢ : ٤١٤ ـ ٤١٦.

(٣) مكاتيب الرسول ٢ : ٣٧٠ ـ ٣٧٢ عن كنز العمال ٧ : ١٧ برقم ١٣٦ عن ابن عساكر ، وكذّب راويه النضر بن سلمة ، ومع ذلك ذكر ابن الأثير قدومه وتسميته في اسد الغابة


كتابه الى بني عذرة في اليمن :

في السيرة النبوية سميت السنة التاسعة بسنة الوفود ، وأرّخوا لبعضها انها كانت في العاشرة ، وقلّما ذكروا في التاسعة تاريخا معيّنا ، إلّا لوفود خثعم انها كانت في صفر من التاسعة ، ثم كذلك لهذا الوفد ، ولم يذكروا باعثهم على ذلك ، اللهم إلّا أن يكون اسلام أبناء الفرس في صنعاء اليمن وانتشار الاسلام بينهم هناك كافيا لذلك.

قالوا : وفد زمل بن عمرو العذري من بني عذرة اليمنيين ومعه احد عشر رجلا منهم ، في صفر سنة تسع ، الى المدينة فاسلموا وأقاموا حتى تفقّهوا واستكتب زمل من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله له على قومه فكتب له :

«بسم الله الرحمن الرحِيم ، لزمل بن عمرو ومن أسلم معه خاصة ، واني بعثته الى قومه عامة ، فمن اسلم ففي حزب الله ، ومن أبى فله أمان شهرين! شهد علي بن أبي طالب ومحمّد بن مسلمة الأنصاري» (١).

ودعوة لبني حارثة :

واستهل صلى‌الله‌عليه‌وآله شهر ربيع الأول بكتاب الى بني حارثة بن عمرو يدعوهم فيه الى الاسلام ، بعث به إليهم مع عبد الله بن عوسجة البجلي العرني ، فأبوا ، وأخذوا كتابه وكان في أديم فغسلوه ورقّعوا به أسفل دلوهم! فلما سمع النبي بذلك قال : ما لهم؟! أذهب الله بعقولهم! فسفهوا وأصبحوا يستعجلون في كلامهم فيخلطون ويرعدون ويعيون (٢).

__________________

ـ ٣ : ٢٩١ و ٥ : ٢٩٩ والاصابة ٢ برقم ٥١٥٩. والعباس قدم لغزوة تبوك بعد هذا ، ولم يعهد منه كتاب ، وليس في الكتاب زكاة وقد شرّع ، والله أعلم.

(١) مكاتيب الرسول ١ : ٢٤٠.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٨٢ ، ٩٨٣ وانظر مكاتيب الرسول ١ : ٣٦ برقم ٦ ومثله في ٣٧


سرية بني كلاب الى بني بكر :

وكان ممن أسلم وأبوه على شركه : الأصيد بن سلمة بن قرط فقد أسلم وأبوه سلمة على شركه وفي شهر ربيع الأول سنة تسع بعث رسول الله بسريّة الى (بني بكر) بالقرطاء ، عليهم الضحاك بن سفيان الكلابي ومعه الأصيد بن سلمة ، وأبوه سلمة في بني بكر ، فلقوهم في موضع يدعى : زجّ لاوه (بناحية ضريّة) فدعوهم الى الاسلام فأبوا ، فقاتلوهم فهزموهم.

ولحق الأصيد أباه سلمة على فرس له عند غدير زجّ ، فدعا أباه الى الأمان والاسلام ، فسبّه وسبّ دينه ، وكان سلمة قد دخل الغدير على فرسه ، فضرب الابن على عرقوبي فرس أبيه فوقع على عرقوبيه في الماء ، وأمسك الابن أباه حتى يقتله غيره ولا يقتل هو أباه ، فقتلوه (١).

لا طاعة في معصية :

روى ابن اسحاق خبر سرية علقمة المدلجيّ عن أبي سعيد الخدري الى موضع ذي قرد (٢) ورواها الواقدي ـ في شهر ربيع الآخر سنة تسع ـ الى ساحل الشعيبة من سواحل مكة على بحر الحبشة ، في ثلاثمائة رجل ، فيهم أبو سعيد الخدري وعبد الله بن حذافة السهمي ، ولم يلق كيدا فرجع ، فاستأذنه بعضهم للانصراف فأذن لهم وفيهم عبد الله بن حذافة السهمي فأمّره عليهم ، وكانت فيه دعابة. فكان من دعابته أنهم لما نزلوا في منزل ببعض الطريق وأوقدوا نارا ليصطلوا ويصنعوا عليه طعاما لهم ، قال لهم : أليس لى عليكم السمع والطاعة؟!

__________________

ـ برقم ١٧ عن الاصابة برقم ٤٨٧٠ واسد الغابة ٣ : ٢٣٩ ومعجم قبائل العرب : ٨٣١.

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٨٢.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٨٩.


قالوا : بلى ، قال أفما أنا آمركم بشيء إلّا فعلتموه؟! قالوا : نعم ، قال : فاني اعزم عليكم بحقّي وطاعتي إلّا تواثبتم في هذه النار! فقام بعضهم يشدّ حجره على خصره يستعدّ للثوب على النار! فقال لهم : اجلسوا ، انما كنت اضحك معكم!.

فلما قدموا عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ذكروا ذلك فقال : «من أمركم منهم بمعصية فلا تطيعوه»! (١).

سرية علي عليه‌السلام الى بني طيّ :

وفي ربيع الآخر سنة تسع أيضا كانت سرية علي عليه‌السلام الى بني طيء آل حاتم الطائي وابنه عديّ وكان لهم صنم يسمّى الفلس ، وهو في بيت وقد ألبسوه ثيابا وثلاثة دروع وجعلوا معه سيوفا ثلاثة تسمّى : الرسوب والمخذوم واليماني (٢).

روى الواقدي خبرها بسنده عن محمّد بن عمر بن علي عليه‌السلام قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله علي بن أبي طالب عليه‌السلام الى الفلس ليهدمه ويشن عليهم الغارات ، في مائة وخمسين من الأنصار ليس فيهم مهاجر واحد ، معهم خمسون من الابل وخمسون فرسا ، وناوله لواء أبيض وراية سوداء.

فدفع لواءه الى جبّار بن صخر السلمي ورايته الى سهل بن حنيف ، وخرج بدليل من بني أسد يقال له حريث (٣). وكان لزعيمهم عدي بن حاتم الطائي عين بالمدينة ، فلما علم بخبر السريّة أخبر عديّا فهرب إلى الشام (٤).

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٨٩ ومغازي الواقدي ٢ : ٩٨٣ ، ٩٨٤.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٨٨.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩٨٤ ، ٩٨٥.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٩٨٨.


وقال ابن اسحاق : بلغني عن عدي بن حاتم أنه كان يقول : كنت ركوسيّا من النصارى (١) فكنت في نفسي على دين! وكنت امرأ شريفا وملكا في قومي يعطونني المرباع (٢) فلما سمعت برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كرهته فما كان رجل من العرب أشد كراهية لرسول الله منّي!.

وكان لي غلام عربي يرعى ابلي ، فقلت له : أعدد لي من ابلي أجمالا ذللا سمانا فاحتبسها قريبا منّي ، فاذا سمعت بجيش لمحمد قد وطئ هذه البلاد فآذني ، ففعل.

وأتاني ذات غداة فقال : اذا غشتك خيل محمّد ما كنت صانعا فاصنعه الآن؟ فاني قد رأيت رايات فسألت عنها فقالوا : هذه جيوش محمّد. فقلت له : فقرّب جمالي ، فقرّبها.

فاحتملت بأهلي وولدي ، وخلّفت اختي [سفانة] في الحيّ ، وسلكت طريق الشام لألحق بأهل ديني من النصارى (٣).

وسلك بهم دليلهم حريث على طريق فيد (الى جبال طيّء : أجا وسلمى) حتى انتهى بهم الى موضع بينه وبينهم مسيرة يوم ، فقال لهم : نقيم يومنا هذا في موضعنا هذا حتى نمسي ، وانّا إن سرناه بالنهار لقينا رعاءهم وأطرافهم فينذرون فيتفرقون ، بل نسري ليلتنا على متون الخيل حتى نصبّحهم في عماية الصبح فنجعلها عليهم غارة فقبلوا منه الرأي فعسكروا وسرحوا الابل.

وكأن عدي بن حاتم قبل أن ينهزم قد حذر بعضهم أو أنذره ، فعمد رجل منهم من بني نبهان الى عبد له أسود يسمى أسلم فأمره أن يعمد الى ذلك الموضع فإن رأى خيل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله طار إليهم يخبرهم ليحذروا.

__________________

(١) كان يقال لقوم بين النصارى والصابئين : الركوسيين ، كما في هامش السيرة.

(٢) كان لقائد القوم قبل الاسلام ربع الغنائم ويقال له المرباع.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٢٥.


وبعث علي عليه‌السلام نفرا منهم أبو نائلة وأبو قتادة والحباب بن المنذر ليتقصّوا ما حولهم ، فأصابوا الغلام الأسود ، فقالوا له : ما أنت؟ قال : أطلب بغيتي! فكتفوه واتوا به عليا عليه‌السلام فقال له : ما أنت؟ قال : باغ! فشدوا عليه فقال : أنا غلام لرجل من طيّء من بني نبهان أمرني بهذا ، فلما رأيتكم أردت الذهاب إليهم ولكنني قلت في نفسي : لا أعجل حتى آتي أصحابي بخبر بيّن من عددكم وعدد خيلكم وركابكم ، فكأني كنت مقيدا حتى أخذتني طلائعكم.

فقال له علي عليه‌السلام : اصدقنا ما وراءك؟ قال : أوائل الحيّ على مسيرة ليلة طويلة ، تصبحهم الخيل بالغارة غدوة. فقال علي عليه‌السلام لأصحابه : ما ترون؟ فقال له صاحب لوائه جبّار بن صخر : نرى أن ننطلق على متون الخيل ليلتنا هذه حتى نصبّح القوم وهم غافلون فنغير عليهم. ونخلّف حريثا الدليل مع العسكر ليلحقنا بهم ، إن شاء الله.

فركب فرسانهم الأفراس واردفوا معهم العبد الأسود أسلم مكتوفا ، فلما اوغلوا في الطريق ادّعى أنه قد أخطأ الطريق وتركه وراءه ، فقال علي عليه‌السلام : فارجع الى حيث اخطأت ، فرجع ميلا أو أكثر فقال : أنا على خطأ! فقال له علي عليه‌السلام : إنا منك على خدعة ، ما تريد إلّا أن تثنينا عن الحيّ ، لتصدقنا أو لنضربنّ عنقك ، وسلّ السيف على رأسه ، فلما رأى الشرّ قال : فان صدقتكم نفعني ذلك؟! قالوا : نعم. فقال : فأنا أحملكم على الطريق ، والحي قريب منكم.

فخرج معهم حتى انتهى بهم الى ادنى الحيّ ، فقال لهم : هذه الأصرام ، أي الجموع ، وهم على فرسخ (٥ كم) فقالوا : فأين آل حاتم؟ قال : هم متوسطو الأصرام.

فقال بعضهم لبعض : إن أفزعنا الحيّ تصايحوا وأفزع بعضهم بعضا فتغيب عنا أحزابهم في سواد الليل ، ولكن نمهل القوم حتى يطلع الفجر قريبا فنغير عليهم ، فان أنذر بعضهم بعضا لم يخف علينا أين يأخذون ، ونحن على متون الخيل ولا خيل لهم يهربون عليها.


فلما طلع الفجر أغاروا عليهم فقتلوا من قتلوا وأسروا من أسروا واستاقوا الذريّة والنساء وجمعوا النعم والشاء ، ولم يخف عليهم احد تغيّب ، ومعهم اخت عدي.

ورأت جارية منهم عبدهم أسلم وهو موثق ، فقالت : هذا عمل رسولكم أسلم فهو جلبهم عليكم ودلّهم على عورتكم! فقال لها الأسود : اقصري يا ابنة الاكارم ، فما دللتهم حتى قدمت ليضرب عنقي! ثم التفت الى علي عليه‌السلام وقال له : ما تنتظر لإطلاقي؟ قال عليه‌السلام : تشهد أن لا إله إلّا الله ، وأن محمّدا رسول الله ، فقال : أنا على دين قومي وهؤلاء الاسرى ، أصنع ما صنعوا ، قال عليه‌السلام : ألا تراهم موثّقين؟! فنجعلك معهم في رباطك؟ قال : نعم! أنا مع هؤلاء موثقا أحبّ إليّ من أن أكون مع غيرهم مطلقا! فأنا معهم حتى ترون فيهم ما ترون! فطرح معهم.

ولحق بهم العسكر المخلف مع الدليل حريث الاسدي ، فاجتمع جمعهم.

وجمعوا الأسرى فعرضوا عليهم الاسلام ، فمن أسلم ترك ، ومن أبى ضربت عنقه ، حتى أتوا على الأسود فعرضوا عليه الاسلام فاستسلم للموت وقال : والله إن الجزع من السيف للؤم! فقال له رجل ممن أسلم منهم : ألا كان هذا حيث اخذت! فلما قتل من قتل منّا وسبي من سبي ، وأسلم من أسلم تقول ما تقول! ويحك أسلم واتّبع دين محمّد! فقال أسلم : فاني أسلم وأتّبع دين محمّد ، فأسلم فسلم وترك.

وسار علي عليه‌السلام الى بيت صنمهم الفلس ، وعليه ثياب ألبسوه ودروع ثلاثة وثلاثة أسياف ، فهدمه وخرّب بيته.

وجعل علي عليه‌السلام على السبي أبا قتادة ، وعلى الأثاث والماشية عبد الله بن عتيك السلمي. ثم ساروا حتى نزلوا محلة من محال جبل سلمى تسمى ركك ، فعزل سيوف الفلس صفايا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مع خمس الغنائم ، وعزل من السبي اخت عدي بن


حاتم ونساء معها من آل حاتم ، ثم اقتسموا الغنائم والسبي ، ثم قدموا بهم الى المدينة فانزلت اخت عدي دار رملة بنت الحارث (١).

حديث سفانة الطائية :

وروى ابن اسحاق عن عديّ عن اخته قالت : كان بباب المسجد حضيرة تحبس السبايا فيها ، فكنت فيها ، فمرّ بي رسول الله فقمت إليه فقلت : يا رسول الله ، هلك الوالد وغاب الوافد ، فامنن عليّ منّ الله عليك! قال : من وافدك؟ قلت : عديّ بن حاتم. قال : الفارّ من الله ورسوله؟! ثم تركني ومضى. فلما كان الغد مرّ بي فقلت له مثل ذلك ، وقال لي مثل ما قال بالأمس!

حتى اذا كان بعد الغد مرّ بي ، ولكني يئست منه فلم أقم ، وكان خلفه رجل أشار الي أن قومي فكلّميه. فقمت إليه فقلت ما قلت فقال : قد فعلت ، ثم قال : فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك الى بلادك فآذنيني. فسألت عن الرجل الذي أشار الي أن اكلّمه ، فقيل لي : هو علي بن أبي طالب.

وأقمت حتى قدم ركب من بليّ أو قضاعة. فذهبت الى رسول الله فقلت له : يا رسول الله ، قد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة وبلاغ. فكساني رسول الله وأعطاني ناقة ونفقة ، فخرجت معهم الى الشام.

قال عديّ : فبينا أنا في أهلي واذا بظعينة تؤمّ صوبنا حتى وقفت علي فاذا هي ابنة حاتم اختي [سفانة] فأخذت تقول لي : الظالم القاطع! احتملت بأهلك وولدك وتركت بقية والدك وعورتك! فقلت لها : اي اخية لا تقولي إلّا خيرا فو الله مالي من عذر! لقد صنعت ما قلت ثم سألتها عن رسول الله فقلت لها : ما ترين في أمر

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٨٥ ـ ٩٨٨.


هذا الرجل؟! قالت : والله أرى أن تلحق به سريعا ، فان يكن الرجل نبيّا فللسابق إليه فضله ، وإن يكن ملكا فلن تذلّ في عز اليمن وأنت أنت. فقبلت قولها.

اسلام عدي الطائي :

ثم خرجت حتى قدمت المدينة على رسول الله في مسجده فسلّمت عليه. ثم قال لي : من الرجل؟ فقلت : عديّ بن حاتم. فانطلق بي الى بيته ... إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته لحاجتها ، وأخذت تكلّمه في حاجتها طويلا وهو واقف لها! فقلت في نفسي : والله ما هذا بملك!

ولما دخل بي بيته [وأنا كافر] تناول وسادة من أدم محشوة ليفا فقذفها إليّ وقال لي : اجلس على هذه. فقلت : بل اجلس عليها أنت ، فقال : بل أنت فجلست عليها وجلس رسول الله بالأرض! فقلت في نفسي : والله ما هذا بأمر ملك!.

ثم قال لي : ايه يا عديّ بن حاتم ، ألم تكن ركوسيّا؟! قلت : بلى. قال : أو لم تكن تسير في قومك بالمرباع؟ قلت : بلى. قال : فانّ ذلك لم يكن يحلّ لك في دينك! قلت : أجل والله. وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يجهل!

ثم قال : يا عدي ، لعلك انما يمنعك من دخول هذا الدين : ما ترى من حاجتهم؟! فو الله ليوشكنّ أن يفيض المال فيهم حتى لا يوجد من يأخذه!

ولعلّك إنمّا يمنعك من الدخول فيه : ما ترى من قلّة عددهم وكثرة عدوّهم؟! فو الله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها تزور هذا البيت لا تخاف! ولعلّك انما يمنعك من الدخول فيه : أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم؟! وايم الله ليوشكنّ أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم!

قال عدي : فأسلمت (١).

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٢٥ ـ ٢٢٧ واختصر خبره الطبرسي في اعلام الورى ١ : ٢٥٢.


وفاة النجاشي وصلاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

قال الكازروني في سياق حوادث السنة التاسعة : وفي شهر رجب من هذه السنة توفي النجاشي أصحمة الذي هاجر إليه المسلمون ، وكان قد أسلم فنعاه رسول الله الى المسلمين (١).

ويبدو أن ذلك كان في أوائل شهر رجب ، حيث سنستظهر أن خروجه صلى‌الله‌عليه‌وآله الى تبوك كان في أواخر شهر رجب ، وسيأتي أن الذي أثار الخروج الى تبوك اشاعة قوافل تجارة الميرة الشامية أن الروم يتجهّزون لغزو المدينة ، فلعلّ ذلك كان بعد انتشار أخبار وفاة حاميه النجاشي أصحمة ، حيث رأوا أن الوقت موات لا شاعة مثل تلك الشائعات ، وفي المقابل رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن الوقت موات لإعداد القوة ليرهب بها أعداء الإسلام في مسير المدينة الى الشام.

ولعلّه يشهد لذلك ما رواه الحلبي عن قتادة عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : لما مات النجاشي نعاه جبرئيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فجمع الناس في البقيع وكشف له من المدينة الى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي (جنازته) فصلى عليه ... وما علم هرقل بموته إلّا من تجار رأوا المدينة. وقال : وجاءت الأخبار من كل جانب : أنّه مات في تلك الساعة من ذلك اليوم (٢).

وروى الصدوق في «الخصال» بسنده عن العسكري عليه‌السلام قال : لما أتى جبرئيل رسول الله ينعى النجاشي بكا عليه وقال : مات أخوكم أصحمة ، وهو اسم النجاشي ، ثم خرج الى الجبّابة (المقبرة) فخفض الله له كل مرتفع حتى رأى جنازته بالحبشة فصلّى عليه وكبّر سبعا (٣).

__________________

(١) بحار الأنوار ٢١ : ٣٦٨ عن المنتقى في أحوال المصطفى للكازروني.

(٢) مناقب آل أبي طالب ١ : ١٠٧.

(٣) الخصال ٢ : ٣٥٩ ـ ٣٦٠ مع اختلاف يسير.


ذكر ابن اسحاق في الرسل الذين أرسلهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الامراء والملوك : المهاجرين أبي أميّة المخزومي أخا أم المؤمنين أمّ سلمة زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : بعثه الى الحارث بن عبد كلال الحميري ملك اليمن (١) ثم ذكر وصول جوابه وجواب أخويه النعمان ونعيم عند رجوعه صلى‌الله‌عليه‌وآله من تبوك (٢) مما يعني أن ارسال الرسول والكتاب كان قبل رحيله الى تبوك.

ويلاحظ : أن الكتاب الذي يذكره ابن اسحاق ليس إلّا للحارث بن عبد كلال ، ولكنّه يذكر الجواب عنه وعن أخويه ويصفهم انهم ملوك ذي رعين ومعافر وهمدان. بينما الخبر المعتبر في اسلام همدان ليس هكذا ، بل سيأتي أنّه كان على يد علي عليه‌السلام ، ثم في هذا الخبر عن ابن اسحاق ذكر الزكاة والجزية وقتالهم المشركين لديهم مما لا ذكر له ولا أثر في سائر الأخبار ، مما يستبعد جدّا.

إسلام الزبيدي وارتداده وتوبته :

مرّ في شهر صفر للسنة التاسعة للهجرة وفود جمع من خثعم بناحية تبالة من أطراف الطائف ، وإسلامهم. وكان رجل من خثعم يدعى أبي بن عثعث الخثعمي قد قتل أبا عمرو معد يكرب الزبيدي.

وانتهى الى بني زبيد وبني مراد في بلاد اليمن أمر رسول الله ، فدخل عمرو بن معد يكرب على قيس بن مكشوح المرادي سيد مراد وقال له : يا قيس ، قد ذكر لنا أنّ رجلا من قريش يقال له : محمد ، قد خرج بالحجاز يقول إنّه نبيّ ، وإنّك سيد قومك فانطلق بنا إليه حتى نعلم علمه ، فان كان نبيّا كما يقول فانه لا يخفى عليك ، وإذا لقيناه اتّبعناه ، وإن كان غير ذلك علمنا علمه.

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٥٥ واليعقوبي ٢ : ٧٨.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٣٥ ، واليعقوبي ٢ : ٨٠.


ولكنّ قيسا سفّه رأي الزبيدي وأبى عليه ذلك. فركب عمرو ومعه جمع من قومه حتى قدموا على رسول الله (١) لما عاد من تبوك (٢). فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عمرو أسلم يؤمنك الله من الفزع الأكبر! فقال : يا محمد ، وما الفزع الأكبر ، فانّي لا أفزع؟! فقال له : يا عمرو ، انه ليس مما تحسب وتظن ، انّ الناس يصاح بهم صيحة واحدة فلا يبقى ميّت إلّا نشر ، ولا حيّ إلّا مات ، إلّا ما شاء الله. ثم يصاح بهم صيحة اخرى ، فينشر من مات ويصفّون جميعا ، وتنشق السماء وتهدّ الأرض وتخرّ الجبال ، وتزفر النيران وترمى بمثل الجبال شررا ، فلا يبقى ذو روح إلّا انخلع قلبه وذكر ذنبه وشغل بنفسه إلّا ما شاء الله. فأين أنت يا عمرو عن هذا؟! فقال : ألا إنّي أسمع أمرا عظيما! ثم آمن وآمن من معه من قومه ورجعوا الى قومهم.

وأبصر عمرو قاتل أبيه ابيّ بن عثعث الخثعمي فأخذه وجاء به الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال له : أعدني (أشكني : اقبل شكواي) على هذا العاجر (٣) الذي قتل والدي.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عمرو ، أهدر الإسلام ما كان في الجاهلية. فانصرف عمرو ، ولكنّه ارتدّ عن الإسلام وأغار على قوم ومضى الى قومه.

البعثة الاولى لعلي عليه‌السلام الى اليمن :

فلما بلغ ذلك النبي استدعى عليا عليه‌السلام فأمره على جمع من المهاجرين فيهم خالد بن سعيد بن العاص الاموي وأنفذهم الى بني زبيد.

وكان بنو زبيد قد تحالفوا مع بني جعفي ولذلك أرسل النبي خالد بن الوليد في طائفة من الأعراب ـ ومعه بريدة وعمرو بن شاس الأسلميان وأبو موسى

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٣٠.

(٢) كذا في الارشاد ١ : ١٥٨ واستظهرنا أن ذلك كان قبله.

(٣) عاجر إذا مرّ مرّا سريعا من خوف ونحوه (لسان العرب).


الأشعري ـ وأمره أن يقصد بني جعفي ، فإذا التقى بعلي عليه‌السلام فأمير الناس علي بن أبي طالب. فاستعمل خالد على مقدّمته أبا موسى الأشعري ، واستعمل علي عليه‌السلام على مقدّمته خالد بن سعيد بن العاص الاموي.

فلما سمع بنو جعفي بالجيش ذهبت فرقة منهم فانضمّت الى بني زبيد ، وذهبت فرقة اخرى الى تخوم اليمن. وخاف علي عليه‌السلام أن يتّبعهم خالد بن الوليد فكتب إليه أن : قف حيث أدركك رسولي ، وأرسله إليه مع رسوله ثم بلغه أنّه لم يقف ، فكتب الى خالد بن سعيد : تعرّض له حتى تحبسه. أي توقفه. فاعترض له خالد بن سعيد حتى حبسه. ثم سار الى بني زبيد فلقيهم في وادي كسر (من نواحي صنعاء اليمن). فلما رآه بنو زبيد قالوا لعمرو : يا أبا ثور ، كيف أنت إذا لقيك هذا الغلام القرشيّ فأخذ منك الأتاوة (الزكاة)؟! قال : سيعلم إن لقيني.

مبارزة عمرو لعلي عليه‌السلام :

وخرج عمرو وقال : هل من مبارز؟ وكان معه أخوه وابن أخيه. وكان معه سيفه المعروف بالصمصامة. فقام خالد بن سعيد وقال : يا أبا الحسن بأبي أنت وأمي دعني ابارزه. فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : إن كنت ترى أنّ لي عليك طاعة فقف مكانك.

ثم برز إليه أمير المؤمنين عليه‌السلام وصاح به صيحة ، وقتل أخاه وابن أخيه وانهزم عمرو وبنو زبيد ، وسبي منهم نساء ومنهم امرأة عمرو ركانة بنت سلامة وولدها. وخلّف علي عليه‌السلام على بني زبيد خالد بن سعيد ليؤمّن من عاد إليه من هرابهم مسلما ، ويقبض صدقاتهم.

فرجع عمرو بن معد يكرب فاستأذن على خالد بن سعيد فأذن له ، فلما وقف بباب خالد بن سعيد رأى ناقة منحورة ، فجمع قوائمها وضربها بسيفه


الصمصامة ضربة واحدة فقطعها. ثم دخل على خالد بن سعيد فعاد الى الإسلام وطلب منه أن يهب له أهله وولده فوهبهم له ، فوهب له عمرو سيفه الصمصامة (١).

خبر بريدة الأسلمي :

مرّ أنّ بريدة الأسلمي الأنصاري كان مع خالد بن الوليد في هذه السريّة ، فروي عنه قال : لقد كنت ابغض عليا بغضا لم ابغض مثله أحدا قط حتى أني كنت أحببت رجلا آخر من قريش (خالد بن الوليد) لم احبه إلّا لبغضه عليا! فلما بعث ذلك الرجل (خالد) على خيل (الى اليمن) صحبته لأنّه كان يبغض عليّا؟

وهنا يروى عن بريدة : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله انما بعث عليا ليخمّس الغنائم والسبايا. قال : وكان في السبي وصيفة هي أفضل السبايا ، فخمّس السبي وأخذ خمسه وقسّم الباقي. ثم خرج علينا ورأسه يقطر ماء! فقلنا : ما هذا يا أبا الحسن؟! فقال : إن تلك الوصيفة التي كانت في السبي صارت في الخمس وصارت لآل بيت النبي! فكتب الرجل (خالد) بذلك الى رسول الله ، فقلت له : ابعثني بكتابك اصدّقه ، فبعثني.

فلما قدمت على رسول الله جعلت أقرأ الكتاب وأقول : صدق يا رسول الله! فأمسك رسول الله يدي والكتاب وقال لي : أتبغض عليّا؟! قلت : نعم! فقال : فلا تبغضه ، وإن كنت تحبه فازدد له حبّا ، فو الذي نفسي بيده لنصيب آل علي في الخمس أكثر وأفضل من الوصيفة (٢).

وروى المفيد الخبر في «الارشاد» وزاد : سار بريدة حتى انتهى الى باب رسول الله فلقيه عمر بن الخطاب فسأله عن حال غزوتهم وعن الذي أقدمه ،

__________________

(١) الارشاد ١ : ١٥٨ ـ ١٦٠.

(٢) عن البداية والنهاية لابن كثير ، في سيرة المصطفى : ٦٨ ، ٦٨١ ولكن المؤلف المعروف شكّك في صحة مفاد الخبر ، وهو في غير محله.


فأخبره أنّه إنّما جاء ليقع في علي عليه‌السلام ، وذكر له اصطفاءه من الخمس الجارية لنفسه! فقال له عمر : امض لما جئت له فانّه سيغضب لابنته مما صنع علي.

فدخل بريدة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعه كتاب خالد بما أرسل به بريدة فقرأه وتغيّر وجه النبي ومع ذلك قال بريدة : يا رسول الله ، إنّك إن رخّصت للناس في مثل هذا ذهب فيئهم!

فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا بريدة! ويحك أحدثت نفاقا! إنّ علي بن أبي طالب يحل له من الفيء ما يحلّ لي ، إن علي بن أبي طالب خير الناس لك ولقومك ، وخير من اخلّف من بعدي لكافة امتي ، واحذر أن تبغض عليا فيبغضك الله! فقال بريدة : اعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله! يا رسول الله ، استغفر لي فلن ابغض عليا أبدا ، ولا أقول فيه إلّا خيرا. فاستغفر له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

وروى الطبرسي عن الحسكاني النيشابوري عن عمرو بن شاس الأسلمي قال : كنت مع علي عليه‌السلام في خيله (الى اليمين) فجفاني بعض الجفاء فوجدت عليه في نفسي. فلما قدمت المدينة اشتكيته عند من لقيته. ودخلت المسجد ورسول الله فيه فنظر إليّ حتى جلست إليه فقال : يا عمرو بن شاس لقد آذيتني! فقلت : إنّا لله وإنا إليه راجعون! أعوذ بالله والإسلام أن اوذي رسول الله! فقال : من آذى عليا فقد آذاني (٢).

تاريخ هذه السريّة اليمنيّة : لعلّ ارسال رسول الله لعلي عليه‌السلام هذه المرة بهذه السريّة الى بني زبيد باليمن هي التي عناها ابن سعد كاتب الواقدي لما قال : إنّ النبيّ

__________________

(١) الارشاد ١ : ١٦١ مرسلا ، وروى مثله الطوسي في الأمالي مسندا : ٢٤٩ ح ٤٤٣.

(٢) إعلام الورى ١ : ٢٥٧ عن المستدرك للحاكم الحسكاني ٣ : ١٢٢ وقبله في الطبري ٣ : ١٣٢.


أرسل عليا الى اليمن مرّتين : المرة الاولى في السنة الثامنة ... والثانية كانت في شهر رمضان من السنة العاشرة في ثلاثمائة الى مذحج اليمن (١).

ويبدو أن خالد بن الوليد أيضا عاد من اليمن ، ثم بعث للثانية إليها في أوائل جمادى الاولى للتاسعة ، كما يأتي.

غزوة تبوك (٢) :

لما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من فتح مكة والحنين وحصار الطائف وعمرته في مكة ، الى المدينة ، لستّ ليال بقين من ذي القعدة (٣) سنة ثمان ، فأقام بالمدينة ما بين ذي القعدة إلى شهر رجب (٤) للسنة التاسعة.

وقد مرّ في خبر عمر عن اعتزال الرسول أزواجه في مشربة أمّ ابراهيم قوله : وكنا نتحدث ان غسان تنعل الخيل لتغزونا (٥) وكان ذلك السبب لنزول سورة التحريم ، ثم نزلت سورة الصف ، ثم نزلت سورة الجمعة ، ومرّ فيها خبر وصول قوافل دحية بن خليفة الكلبي الخزرجي التجارية من الشام الى المدينة ، ثلاث قوافل في ثلاث جمع متتاليات (٦).

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٢ : ٣٢٧ ، والصحيح أنّ الاولى كانت قبل تبوك في التاسعة.

(٢) كانت قلعة قوية ، وهي اليوم من مدن شمال الحجاز تبعد عن المدينة ٧٧٨ كم وعنها الى معان بعد الحدود الاردنية ٢٣٨ كم ، وفي طريقها خيبر وتيماء وطريقها اليوم معبدة.

(٣) ابن هشام في السيرة ٤ : ١٤٤.

(٤) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٥٩ ويظهر من المحاسبات الآتية ان ذلك كان في أواخر شهر رجب والراجح في الخامس والعشرين منه.

(٥) الدر المنثور ٦ : ٢٤٢ والميزان ١٩ : ٣٣٩.

(٦) مجمع البيان ١٠ : ٤٣٣.


وقال القمي في تفسيره : إن الأنباط الشاميين كانوا يقدمون المدينة معهم الطعام والثياب والبسط ، فأشاعوا بالمدينة : أن هرقل الروم قد سار في جنود اجتمعوا في عسكر عظيم يريدون غزو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ورحلت معهم من عرب الشام غسان وجذام وبهراء وعاملة ، وقد نزل هرقل في حمص وقدم عساكره الى بلاد البلقاء وفيها قلعة تبوك (١).

وقال الواقدي : وانما كان ذلك مما قيل لهم فقالوه من دون أن يكون شيء منه! وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله اذا أراد غزوة قبل هذه يورّي بغيرها حتى لا يبلغ الخبر المقصد حتى يفاجئه بغير اعداد منهم ، حتى كانت هذه الغزوة فما ورّى لها ، بل كاشف الناس بها منذ البداية وأخبرهم بالوجه الذي يريد ، ليتأهّبوا لها اهبتهم.

وبعث الى مكة والى القبائل يستنفرهم :

فبعث بريدة بن الحصيب الى قبائل أسلم حتى موضع الفرع.

وأمر أبا رهم الغفاري أن يطلب قومه الى بلادهم فيبلّغهم.

وبعث أبا واقد الليثي الى قومه بني ليث.

وبعث ابا الجعد الضّمري الى قومه بني ضمرة بالساحل.

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٢٩٠. وأعرض المفيد في الارشاد ١ : ١٥٤ عن هذا وقال : بأن الله هو أوحى الى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يستنفر الناس للخروج الى تبوك ، وأعلمه أنه لا يحتاج فيها الى حرب ولا يمنى بقتال عدوّ فيه ، بل إن الامور تنقاد له بغير سيف. وأفاد دليله على قوله هذا بقوله : ولو علم الله تعالى أن بنبيه عليه‌السلام في هذه الغزاة حاجة الى الحرب والأنصار لما اذن له في تخليف أمير المؤمنين عليه‌السلام عنه ١ : ١٥٨ وعن الغاية من هذا الخروج قال : تعبده الله بامتحان أصحابه واختبارهم بالخروج معه لتظهر سرائرهم فيتميزوا بذلك ١ : ١٥٤. ولا منافاة بين الطريقين العادي والغيبي ، والجمع أولى.


وبعث الأخوين رافعا وجندبا ابني مكيث الجهني الى قومهم بني جهينة.

وبعث نعيم بن مسعود الأشجعي الى بني الأشجع.

وبعث بديل بن ورقاء الخزاعي الكعبي الى بني كعب بن عمرو من خزاعة في مكة وضواحيها ، ومعه من قومه بسر بن سفيان وعمرو بن سالم.

وبعث العباس بن مرداس السلمي الى قومه بني سليم ، ومعه آخرون (١).

وقد مرّ الخبر في تفسير الآية الحادية عشرة من سورة الجمعة قوله سبحانه : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) عن جابر الأنصاري قال : قدمت قافلة دحية الكلبي التجارية من الشام الى المدينة بعد ما أصابتهم مجاعة (٢).

وعند أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم روى ابن اسحاق : أن ذلك كان عند جدب من البلاد وعسرة الناس وشدة الحرّ ، فالناس يحبّون المقام في ظلالهم منتظرين طيبة ثمارهم الصيفية ، ويكرهون السفر على تلك الحال وفي ذلك الزمان لشدته ، والى ذلك المكان لبعد الشقة والمسافة ، وكثرة العدو الذي يصمد له ويقصده (٣) ولا سيما بعد وقائع مؤتة.

«وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم» (٤) :

قال الواقدي : حضّ رسول الله المسلمين على الجهاد ورغّبهم فيه والصدقة له ، فتصدق كثير منهم بكثير من أموالهم : فتصدّق عاصم بن عدي بتسعين وسقا

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٨٩ ، ٩٩٠.

(٢) التبيان ١٠ : ٩.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٥٩.

(٤) التوبة : ٤١.


تمرا ، وحمل عبد الرحمن بن عوف إليه مائتي أوقية (فضة) (١) وحمل العباس بن عبد المطلب (٢) وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة وسعد بن عبادة ومحمّد بن مسلمة أموالا ، وقوّى اناس دون هؤلاء من هو أضعف منهم ، حتى أن الرجل كان يأتي ببعيره الى رجلين ويقول لهما : تعاقبا عليه.

وروى عن أمّ سنان الأسلميّة قالت في انفاق النساء : رأيت بين يدي رسول الله في بيت عائشة ثوبا مبسوطا وفيه مما بعث به النساء يعنّ به المسلمين في جهازهم : من أقرطة واسورة ومعاضد وخواتيم وخلاخل (٣).

قال القمي في تفسيره : وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعسكره فضرب في ثنيّة الوداع (٤) وخطبهم فقال بعد حمد الله والثناء عليه :

«أيّها الناس ، انّ أصدق الحديث كتاب الله ، وأولى القول كلمة التقوى ، وخير الملل ملّة إبراهيم ، وخير السنن سنة محمّد ، وأشرف الحديث ذكر الله ، وأحسن القصص هذا القرآن ، وخير الامور عزائمها ، وشر الامور محدثاتها ، وأحسن الهدى هدى الأنبياء ، وأشرف القتل قتل الشهداء ، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى ، وخير الأعمال ما نفع ، وخير الهدى ما اتبع ، وشر العمى عمى القلب ،

__________________

(١) كذا في مغازي الواقدي ، وابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٩٦ ذكر لعاصم بن عدي مائة وسق ولعبد الرحمن أربعة آلاف درهم. وهو أولى. ولم يذكر غيرهما إلّا أبا عقيل.

(٢) كان قدومه المدينة يومئذ استجابة لاستنفاره صلى‌الله‌عليه‌وآله أهل مكة ، وبحضوره كان سدّ الأبواب ، وسنذكره.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩٩١ ، ٩٩٢.

(٤) الثنيّة : المرتفع من الأرض ، وسميت بالوداع عند وداع الأنصار نساءهم وأهلهم عند خروجهم لغزوة خيبر ، كما مرّ ، خيبر على شمال المدينة على طريق الشام ، واليوم أرادوا تلك الجهة أيضا ، وليست على جهة الجنوب الى مكة.


واليد العليا خير من اليد السفلى ، وما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى ، وشرّ المعذرة حين يحضر الموت ، وشر الندامة يوم القيامة ، ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلّا نزرا ، ومنهم من لا يذكر الله إلّا جهرا ، ومن اعظم خطايا اللسان الكذب ، وخير الغنى غنى النفس ، وخير الزاد التقوى ، ورأس الحكمة مخافة الله ، وخير ما القي في القلب اليقين ، والارتياب من الكفر ، والتباعد من عمل الجاهلية ، والغلول من جمر جهنم ، والسكر جمر النار ، والشعر من ابليس ، والخمر جماع الاثم ، والنساء حبائل ابليس ، والشباب شعبة من الجنون ، وشرّ المكاسب كسب الربا ، وشر المآكل أكل مال اليتيم ، والسعيد من وعظ بغيره. انما يصير احدكم الى موضع أربعة أذرع ، والأمر الى الآخرة ، وملاك العمل خواتيمه ، وأربى الربا الكذب ، وكل ما هو آت قريب ، وسباب المؤمن فسق ، وقتال المؤمن كفر ، وأكل لحمه من معصية الله ، وحرمة ماله كحرمة دمه ، ومن توكل على الله كفاه ، ومن صبر ظفر ، ومن يعف يعف الله عنه ، ومن كظم الغيظ يأجره الله ، ومن يصبر على الرزية يعوّضه الله ، ومن يتبع السمعة يسمع الله به ، ومن يصم يضاعف الله له ، ومن يعص الله يعذّبه.

اللهم اغفر لي ولامتي ، اللهم اغفر لي ، استغفر الله لي ولكم» (١).

فلما سمع الناس هذا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رغبوا في الجهاد.

ومنهم من يقول ائذن لي :

قال : ولقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الجدّ بن قيس (السلمي الخزرجي) فقال له :

__________________

(١) ورواها الواقدي في المغازي ٢ : ١٠١٥ ـ ١٠١٧ عن عقبة بن عامر في تبوك وليس في المدينة.


يا أبا وهب : ألا تنفر معنا في هذه الغزاة؟ فقال : يا رسول الله ، والله ان قومي ليعلمون أنه ليس فيهم أحد أشدّ عجبا بالنساء منّي ، وأخاف ان خرجت معك أن لا اصبر اذا رأيت بنات الأصفر (يعني الروم)! فلا تفتنّي! وائذن لي أن اقيم.

وكان يقول لجماعة من قومه (بني سلمة) : لا تخرجوا في الحرّ! أيطمع محمّد أنّ حرب الروم مثل حرب غيرهم ، لا يرجع من هؤلاء أحد أبدا!

(وكان متزوجا بام معاذ بن جبل ، وكان له منها عبد الله ، وكان مؤمنا بدريا) (١) فقال لأبيه : تردّ على رسول الله وتقول له ما تقول! ثم تقول لقومك : لا تنفروا في الحرّ! والله لينزلنّ في هذا قرآنا تقرؤه الناس الى يوم القيامة (٢)! فو الله ما في بني سلمة أكثر منك مالا ولا تخرج ولا تحمل أحدا؟! فقال : يا بني ، مالي وللخروج في الريح والحر والعسرة الى بني الأصفر؟! والله ما آمن خوفا من بني الأصفر وأنا في منزلي في خربى ، فإني ، والله يا بني ، عالم بالدوائر! فأذهب إليهم فأغزوهم! فقال ابنه : لا والله ولكنه النفاق والله!

فرفع الجدّ نعله فضرب بها وجه ابنه عبد الله! فلم يكلّمه ، وانصرف (٣).

والذين أتوه ليحملهم معه :

روى الطبرسي عن أبي حمزة الثمالي قال : جاء سبعة نفر الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٩٢.

(٢) تفسير القمي ١ : ٢٩٢ فهو الذي نزل فيه في سورة التوبة عند رجوع النبي من تبوك قوله سبحانه : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي) التوبة : ٤٩ وفي التبيان ٥ : ٢٣٢ عن مجاهد وابن زيد عن ابن عباس ، وفي مجمع البيان ٥ : ٥٦.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩٩٢ ، ٩٩٣.


منهم من بني النجار : عبد الرحمن بن كعب ، وعتبة بن زيد ، وعمرو بن غنمة ، ومن مزينة : سالم بن عمير ، وعبد الله بن معقل ، وعبد الله بن عمرو بن عوف ، وهرم بن عبد الله ، قالوا : يا رسول الله احملنا فانه ليس لنا ما نخرج عليه.

فقال لهم : لا أجد ما أحملكم عليه.

وزاد الواقدي : أنهم كانوا من فقراء الأنصار ، فلما بكوا ، حمل العباس بن عبد المطّلب منهم رجلين وعثمان بن عفان رجلين ، ويامين بن كعب النضري من بني النضير ثلاثة منهم (١).

وروى العياشي في تفسيره بسنده عن زرارة وحمران ومحمّد بن مسلم الثقفي عن الباقر والصادق عليهما‌السلام : أن أحدهم عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي (٢).

وقال القمي في تفسيره : هم سبعة من بني عمرو بن عوف : سالم بن عمير العمري البدري ممن شهد بدرا بلا خلاف ، ومن بني واقف : هرمي بن عمرو ، ومن بني حارثة : علبة بن زيد ، ومن بني مازن بن النجار : أبو ليلى عبد الرحمن بن كعب ، ومن بني سلمة : عمرو بن عتبة ، ومن بني زريق : سلمة بن صخر ، ومن بني سليم : العرباض بن سارية السلمي (٣).

وأتاه عبد الله المزني ذو البجادين وسأله أن يسأل الله له الشهادة! فقال :

__________________

(١) التبيان ٥ : ٢٨٠ ومجمع البيان ٥ : ٩١ ومغازي الواقدي ٢ : ٩٩٣ ولذلك سمّوا بالبكّائين.

(٢) تفسير العياشي ٢ : ١٠٤ ، ١٠٥.

(٣) تفسير القمي ١ : ٢٩٣ واللفظ للواقدي في المغازي ٢ : ٩٩٤ وكرّره مختصرا : ١٠٢٤. وهم الذين نزلت فيهم في سورة التوبة : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ) ...(وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً) التوبة : ٩١ ، ٩٢ ولذلك سمّوا البكائين.


أبلغني لحاء (قشر) شجرة سمرة! فجاءه بها فربطها على عضد عبد الله وقال : اللهم اني احرّم دمه على الكفار! فقال : ما أردت هذا! فقال : انك اذا خرجت غازيا في سبيل الله فلا تبال بأية كان (١).

إحراق دار النفاق :

روى ابن هشام في السيرة بسنده عن عبد الله بن حارثة قال : بلغ رسول الله أن ناسا من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي في موضع جاسوم يثبّطون الناس عن غزوة تبوك. فأحضر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله طلحة بن عبيد الله وأمره ومعه نفر من أصحابه أن يحرقوا بيت سويلم عليهم.

وكان من المنافقين فى الدار الضحّاك بن خليفة ، فلما أحرق طلحة عليهم الدار أراد الضحّاك أن يفرّ من ظهر الدار فانكسرت رجله ، وأفلت أصحابه (٢).

وجاء ناس منهم يستأذنون رسول الله أن يتخلّفوا عنه بلا علة ، ومع ذلك أذن لهم ، وهم اثنان وثمانون رجلا! منهم رجال من الأعراب من بني غفار ، منهم خفاف بن إيماء الغفاري (٣).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠١٤ وتمامه : فان وقصتك دابتك فانت شهيد ، أو أخذتك الحمى فقتلتك فأنت شهيد! فمات بالحمّى في تبوك. وسيمرّ خبره. وروى خبره المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٢٥٠ عن المنتقى للكازروني.

(٢) ابن هشام في السيرة ٤ : ١٦٠.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩٩٥ وأشار إليه في التبيان ٥ : ٢٧٨ ومجمع البيان ٥ : ٩٠. وهم الذين نزلت فيهم في سورة التوبة : (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ ...) : ٩٠.


وبناء مسجد النفاق! :

كان يسكن في قباء أبناء عوف : بنو عمرو بن عوف ، وسالم بن عوف ، وغنم بن عوف. وبادر بنو عمرو بن عوف لاستقبال الاسلام والمسلمين المهاجرين وأنزلوهم منازلهم وتبرّعوا بقطعة من أرضهم لبناء المسجد ، فعرف بمسجد بني عمرو بن عوف ، وهو مسجد قباء.

وأسلم أبناء عمومتهم : بنو سالم (١) وبنو غنم على غير ايمان واخلاص بل بشيء من شوب ريب النفاق ، فحسدوا بني عمّهم عمرو بن عوف على مسجدهم : مسجد قباء (٢).

وأشار الطوسي في «التبيان» (٣) نقلا عن ابن اسحاق (٤) والواقدي : أنهم كانوا خمسة عشر رجلا : أبو حبيبة ابن الأزعر ، وبجاد بن عثمان ، وثعلبة بن حاطب وخذام بن خالد ، وعبّاد بن حنيف من بني عمرو بن عوف ، أخو عثمان وسهل ابني حنيف ، ومعتّب بن قشير ، ووديعة بن ثابت ، وجارية بن عامر ـ وكان يعرف بحمار الدار ـ وأبناؤه : زيد ويزيد ومجمّع ـ وهذا أصبح امامهم فيما بعد ـ (٥) وعبد الله بن نبتل. وكان هذا يأتي رسول الله فيسمع حديثه فيأتي به أصحابه المنافقين ، فقال جبرئيل عليه‌السلام : يا محمّد ، إنّ رجلا من المنافقين يأتيك فيسمع حديثك ثم يذهب به الى المنافقين! فقال رسول الله : أيّهم هو؟ فقال : الرجل

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٣٠٥.

(٢) مجمع البيان ٥ : ١٠٩.

(٣) التبيان ٥ : ٢٩٧.

(٤) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٧٤.

(٥) ابن اسحاق في السيرة ٢ : ١٦٩ ومغازي الواقدي ٢ : ١٠٤٧.


الأسود ذو الشعر الكثير ، كبده كبد حمار وينظر بعين شيطان ، الأحمر العينين كأنهما قدران من صفر وينطق بلسان شيطان (١).

وكانوا يجتمعون مع بني عمومتهم بني عمرو بن عوف في مسجدهم فيلتفت بعضهم الى بعض ويتناجون فيما بينهم فيلحظهم المسلمون بأبصارهم ، فشقّ ذلك عليهم وأرادوا مسجدا يكونون فيه لا يغشاهم فيه إلّا من يريدون ممّن هو على مثل رأيهم (٢).

فبنوا المسجد من دار وديعة بن ثابت جار أبي عامر الراهب الفاسق ، وأعانهم أبو لبابة بن عبد المنذر بخشب من دون أن يكون منهم (٣).

ثم جاء خمسة نفر منهم : أبو حبيبة بن الأزعر ، وثعلبة بن حاطب ، وخذام بن خالد ، وعبد الله بن نبتل ، ومعتّب بن قشير ورسول الله يتجهز الى تبوك ، فقالوا : يا رسول الله ، إنّا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة ، والليلة المطيرة والليلة الشاتية ، ونحن نحبّ أن تأتينا فتصلّي فيه. فقال رسول الله : انّي على جناح سفر وحال شغل ، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلّينا بكم فيه (٣).

ويظهر من خبر عاصم بن عدي انّهم راجعوا رسول الله في ذلك وهم

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٣٠٠ وفيه : عبد الله بن نفيل مصحفا.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٤٧ ـ ١٠٤٩ وقال : كان أبو عامر الراهب الفاسق يقول لهم : لا أستطيع آتي مسجد بني عمرو بن عوف فان فيه أصحاب رسول الله يلحظوننا بأبصارهم ، ونبني مسجدا يأتينا أبو عامر فيتحدّث عندنا فيه ٣ : ١٠٤٦ هذا وقد قالوا : انّه لحق بمكة حتى فتحت فهرب الى الطائف فكان بها حتى أسلموا ، كما في التبيان ٥ : ٢٩٨ وعنه في مجمع البيان ٥ : ١١٠.

(٣) و (٤) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٤٥ ، ١٠٤٦.


مشتغلون ببنائه : فقد روى عنه الواقدي قال : كنّا نحن نتجهّز مع النبي الى تبوك ، إذ رأيت ثعلبة بن حاطب وعبد الله بن نبتل قد فرغا من اصلاح ميزاب مسجد الضرار ، فلما نظرا إليّ قالا لي : يا عاصم ، إنّ رسول الله قد وعدنا أن يصلي فيه اذا رجع. وأنا أعلم في نفسي أنه أسّسه أبو حبيبة بن الأزعر واخرج من دار خذام بن خالد ووديعة بن ثابت منافقون معروفون بالنفاق (١).

وتوافقوا على امامة مجمّع بن جارية بن عامر المعروف بحمار الدار ، فكان امامهم يومئذ (٢).

معسكران للمدينة؟!

قال الطبرسي : وضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عسكره فوق ثنيّة الوداع (٣) بمن تبعه من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب من بني كنانة وأهل تهامة ومزينة وجهينة وطئ وتميم (٤) وقال الواقدي : واقبل عبد الله بن أبي بعسكره (!) فضربه على ثنيّة الوداع بحذاء ذباب ، معه حلفاؤه من اليهود والمنافقين ممّن اجتمع إليه ، فكان يقال : ليس عسكر ابن أبي بأقل العسكرين (٥) وكان المسلمون ثلاثين ألفا (٦).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٤٨.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٢ : ١٦٩ ومغازي الواقدي ٢ : ١٠٤٦ و ١٠٤٧.

(٣) الى جهة الشام في شمال المدينة لا جهة مكة وقباء في جنوبها.

(٤) اعلام الورى ١ : ٢٤٣.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٩٩٥ وابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٦٢ اما المتخلفون الثمانون فانما هم من بني غفار من الأعراب وليسوا من اهل المدينة.

(٦) مغازي الواقدي ٢ : ٩٩٦ و ١٠٠٢ و ١٠٤١ وفي تفسير القمي ١ : ٢٩٦ خمسة وعشرون ألفا غير العبيد ..


وكانت حركته الى تبوك في شهر رجب (١) فلما سار تخلف عنه ابن أبي فيمن تخلّف معه من المنافقين وقال : يغزو محمّد (كذا) بني الأصفر مع جهد الحال والحر والبلد البعيد الى ما لا قبل له به! يحسب محمّد (كذا) أن قتال بني الأصفر اللعب! والله لكأني انظر الى أصحابه غدا مقرّنين في الحبال! ونافق معه من هو على مثل رأيه (٢) أما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلما بلغه ذلك قال : حسبي الله! هو الذي أيّدني بنصره وبالمؤمنين وألّف بين قلوبهم (٣).

استخلاف عليّ على المدينة :

قال القمي : فلما اجتمع لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الخيول ، خلّف أمير المؤمنين على المدينة ورحل من ثنيّة الوداع فأرجف المنافقون بعليّ وقالوا : ما خلّفه إلّا تشاءما به. فبلغ ذلك عليا عليه‌السلام فأخذ سيفه وسلاحه ولحق برسول الله بالجرف (٤). فقال له رسول الله : يا علي ، ألم اخلّفك على المدينة؟ قال عليه‌السلام : نعم ، ولكنّ المنافقين زعموا أنك خلّفتني تشاءما بي!

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : كذب المنافقون يا علي ، أما ترضى أن تكون اخي وأنا أخوك ، بمنزلة هارون من موسى ، إلّا انّه لا نبي بعدي ، وأنت خليفتي في امتي ، وأنت وزيري ، وأخي في الدنيا والآخرة. فرجع علي عليه‌السلام الى المدينة (٥).

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ٧ ويظهر من المحاسبات الآتية أن ذلك كان في أواخره ولعله في ٢٥ منه وليس كما ذكر اليعقوبي في غرة رجب ٢ : ٦٧ ، ٦٨ وهو المنفرد بذلك.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٩٥.

(٣) اعلام الورى ١ : ٢٤٤.

(٤) الجرف : على ثلاثة أميال (٥ كم) من المدينة.

(٥) تفسير القمي ١ : ٢٩٢ ، ٢٩٣ ورواه ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٦٣ بسنده عن


وذلك انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله علم خبث نيات الأعراب وكثير من اهل مكة ومن حولها ممن غزاهم وسفك دماءهم ، فاشفق أن يطلبوا المدينة عند خروجه نحو بلاد الروم ، فاذا لم يكن فيها من يقوم مقامه لم يأمن من معرتهم وفسادهم في دار هجرته ، وعلم انّه لا يقوم مقامه في إرهاب العدو وحراسة دار الهجرة ومن فيها إلّا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فاستخلفه عليها.

وتظافرت الرواية : بأن أهل النفاق لما علموا باستخلاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليا عليه‌السلام على المدينة علموا أنه لا يكون للعدو فيها مطمع ... وهم كانوا يؤثرون خروجه معه لما كانوا يرجونه عند بعد النبي عن المدينة من الاختلاط ووقوع الفساد. فساءهم ذلك ، وعظم عليهم مقامه فيها بعد خروجه ، فحسدوه لذلك ، وغبطوه بمقامه في أهله بالدعة والرفاهية ، وتكلّف من خرج منهم السفر والخطر ... فأرجفوا به عليه‌السلام وقالوا : لم يستخلفه رسول الله إكراما وإجلالا ومودّة ، وانما خلّفه استثقالا له. فلما بلغ أمير المؤمنين عليه‌السلام إرجاف المنافقين به ، أراد تكذيبهم واظهار فضيحتهم ، فلحق به صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبلغه مقال المنافقين ، وأجابه صلى‌الله‌عليه‌وآله بحديث المنزلة (١).

فقال علي عليه‌السلام : قد رضيت ، قد رضيت. ثم رجع الى المدينة (٢).

__________________

ـ ابراهيم بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه سعد. ولم ينقله الواقدي.

(١) الارشاد ١ : ١٥٥ ، ١٥٦ بتصرف.

(٢) إعلام الورى ١ : ٢٤٤. وأكثر من ذكر حديث المنزلة هذا اكتفى به ولم يذكر أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله استخلف مع علي عليه‌السلام أحدا سواه ، وكذلك فعل ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٦٣ لكن ابن هشام فيها ٤ : ١٦٢ قدم ذكر استعماله عليها محمّد بن مسلمة الأنصاري وروى في خبر آخر : سباع بن عرفطة الغفاري. وأغرب الواقدي فلم يرو حديث المنزلة لعلي عليه‌السلام أصلا! واكتفى بذكر استخلاف الغفاري وقال : وقيل : محمّد بن مسلمة ٣ : ٩٩٥. وجاء في الديوان المنسوب الى علي عليه‌السلام أنه قال في ذلك شعرا : ـ


عقد الألوية والرايات :

قال الواقدي : ولما رحل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من ثنيّة الوداع الى تبوك عقد الألوية والرايات : فدفع رايته العظمى الى الزبير ، ولواءه الأعظم الى أبي بكر ، وراية الأوس الى اسيد بن الحضير ، والخزرج الى أبي دجانة أو الحباب بن المنذر بن الجموح (١) وأمر رسول الله كل بطن من الأنصار أن يتخذوا لواء وراية ... وأمر في الأوس والخزرج أن يحمل راياتهم أكثرهم أخذا (حفظا) للقرآن ، فكانت راية بني عمرو بن عوف مع أبي زيد قيس بن السكن الأوسي ، وراية بني سلمة مع معاذ بن جبل ... وكان رسول الله قد دفع راية بني مالك بن النجار الى عمارة بن حزم قبل أن يدركه زيد بن ثابت ، فلما أدركه زيد اعطاه الراية ، فقال عمارة : يا رسول الله لعلك وجدت (غضبت) عليّ؟! قال : لا والله ولكن كان أكثر أخذا للقرآن منك ، والقرآن يقدّم ، وقدّموا القرآن وإن كان عبدا أسود مجدعا (مقطوع الأنف) (٢).

__________________

الا باعد الله أهل النفاق

وأهل الأراجيف والباطل

يقولون لي : قد قلاك الرسول

فخلّاك في الخالف الخادل

وما ذاك إلّا لأن النب

ي جفاك ، وما كان بالفاعل

فسرت وسيفي على عاتقي

الى الحاكم الفاصل العادل

فلما رآني هفا قلبه

وقال مقال الأخ السائل :

ايم ابن عمّي؟! فأنبأته

بارجاف ذي الحسد الداغل

فقال : أخي أنت من دونهم

كهارون موسى ، ولم يأتل

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٩٦.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٠٢ و ١٠٠٣.


خروجه وجمعه بين الظهرين قصرا :

وخرج صلى‌الله‌عليه‌وآله الى تبوك صباح يوم الخميس (١) ومعه زوجته أمّ سلمة هند بنت أبي أميّة المخزومي (١) الى ذي خشب ، ودليله علقمة بن الفغواء الخزاعي ، وكان في حرّ شديد فأخّر صلاة الظهر حتى أبرد فصلّاها وعجل بالعصر فجمع بينهما (٣) قصرا (٤) وهكذا فعل في كل سفره الى تبوك حتى رجع منها. وبني مسجد على مصلاه تحت الدومة بذي خشب (٥).

ممّن تعوّق ثم لحق :

قال الواقدي : وتخلّف نفر من المسلمين من غير شكّ وريب ، وإنّما أبطأت بهم النيّة حتى تخلّفوا عنه صلى الله عليه [وآله] وسلم :

منهم مرارة بن الربيع ، وهلال بن اميّة الواقفي ، قال : والله ما تخلّفت شكا ولا ارتيابا ولكني قلت : أشتري بعيرا والحق بهم ، ولقيت مرارة بن الربيع فقال مثل

__________________

(١) و (٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٩٧.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩٩٩.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ١٠١٥.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٩٩٩ وروى الترمذي وأبو داود في سننهما بإسنادهما عن معاذ بن جبل قال : كان النبي في غزوة تبوك اذا ارتحل قبل أن تزول الشمس أخّر الظهر حتى ينزل للعصر ، واذا زالت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر ، وكذلك كان يفعل في المغرب والعشاء. وقال الترمذي : حديث حسن. وفي قصر الصلاة روى ابن حنبل وابن حبّان وابن خزيمة والبيهقي برجال موثقين عن عائشة أم المؤمنين قالت : كانت الصلاة الاولى بمكة ركعتين ، ثم زيدت بعد الهجرة ركعتين ، وكان رسول الله اذا سافر صلى الصلاة الاولى : ركعتين. التقويم القطري : ١٧٥.


قولي ، فقلنا : نغدو فنشتري بعيرين فنلحق بهم ولا يفوت ذلك ، نحن قوم مخفّون على صدر راحلتين ، فغدا نسير! فلم نزل ندفع ذلك ونؤخّر الأيام ... وكنت لا أرى الا منافقا معلنا أو معذورا ، فأرجع مغتمّا بما أنا فيه ...

ومنهم كعب بن مالك (الأنصاري) شاعر النبي وهذا لم يتخلّف ليشتري بعيرا ، بل قال : تجهّز رسول الله وتجهّز معه المسلمون ، وجعلت أعدو لأتجهز معهم ، فأرجع ولم أقض لنفسي حاجة ... فلم أزل كذلك حتى خرج رسول الله يوم الخميس ، ولم اقض من جهازي شيئا ، فقلت : أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحق بهم ، فغدوت لأتجهز فلم أفعل شيئا! ثم غدوت فلم أفعل شيئا! وقد اجتمعت لي راحلتان يومئذ فقلت : ارتحل فادركهم ، ولم أفعل! وكان يحزنني أني اذا خرجت وطفت في الناس لا أرى إلّا رجلا ممّن عذّره الله أو رجلا مغموصا (منقوصا عليه دينه) بالنفاق (١).

ومنهم أبو ذر الغفاري ، وكان يقول : كان بعيري نضوا (هزيلا) أعجف ، فقلت : اعلفه أياما ثم ألحق برسول الله صلى الله عليه [وآله] فعلفته أيّاما (ثلاثة ـ القمي) ثم خرجت ، فلما كنت بذي المروة (ثالث المنازل) عجز بي ، فتلوّمت (تمهّلت) عليه يوما فلم أر به حركة ، فأخذت متاعي فحملته على ظهري ، ثم خرجت أتّبع رسول الله ماشيا في حرّ شديد فلا أرى أحدا ، حتى اذا كان نصف النهار وقد بلغ بي العطش ، فنظر ناظر في الطريق فرآني فقال : يا رسول الله ، ان هذا

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٩٦ ـ ٩٩٨ باختصار وفي السيرة ٤ : ١٧٦ بدون ذكر يوم الخميس. واشير إليهم في تفسير العياشي ٢ : ١١٥ ح ١٥١ عن الصادق عليه‌السلام وفي تفسير القمي ١ : ٢٩٦ بلا اسناد. وفي التبيان ٥ : ٢٩٦ و ٣١٦ عن مجاهد وقتادة عن ابن عباس وجابر ومجمع البيان ٥ : ١٠٤ و ١٢٠ عنهما.


الرجل يمشي على الطريق وحده! فقال رسول الله : كن أبا ذر! فلما تأمّلني القوم قالوا : يا رسول الله ، هو أبو ذر ، فلما دنوت منه قام رسول الله وقال : مرحبا بأبي ذر! يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده! ثم قال : ما خلفك يا أبا ذر؟ فأخبرته خبر بعيري فقال : إن كنت لمن أعز اهلي عليّ تخلّفا لقد غفر الله لك يا أبا ذر بكل خطوة ذنبا الى أن بلغتني. ثم وضع متاعي عن ظهري ، ثم استسقى لي فاتي بإناء من ماء (١).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٠٠. ورواه قبله ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٦٧ بمعناه ، ثم روى بسنده عن عبد الله بن مسعود قال : لما نفى عثمان أبا ذر الى الربذة (ولم يبق) معه إلّا غلامه وامرأته (أو ابنته ـ القمي ـ) أقبلنا في رهط من أهل العراق (الكوفة) معتمرين ، وإذا بجنازة على ظهر طريق (الربذة) كادت تطؤها إبلنا ، وقام إلينا غلامه فقال : هذا أبو ذر صاحب رسول الله ، فأعينونا على دفنه! فبكيت عليه وقلت له : صدق رسول الله إذ قال لك : تمشي وحدك ، وتموت وحدك ، وتبعث وحدك! ثم نزلت وأصحابي فواريناه ، ثم حدّثتهم بحديث النبي معه في مسيره الى تبوك. ورواه الواقدي بلا اسناد. ورواه القمي في تفسيره كذلك وقال : وكانت معه إداوة فيها ماء! فقال له رسول الله : يا أبا ذر! معك ماء وعطشت؟! فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، نعم ، انتهيت الى صخرة عليها ماء السماء فذقته فاذا هو بارد عذب ، فقلت : لا أشربه حتى يشربه حبيبي رسول الله!

فقال رسول الله : يا أبا ذر رحمك الله ، تعيش وحدك ، وتموت وحدك ، وتبعث وحدك ، وتدخل الجنة وحدك ، يسعد بك قوم من اهل العراق يتولّون غسلك وتجهيزك والصلاة عليك ودفنك.

فلما سيّر به عثمان الى الربذة كانت له غنيمات يعيش هو وعياله منها ، فأصابها داء يقال له النقّاب فماتت كلّها. ويروي القمي الخبر عن ابنته قالت :

ثم مات ابنه ذر ، فوقف على قبره فقال له : رحمك الله يا ذر ، لقد كنت كريم الخلق


ومنهم عمير بن وهب الجمحي ، وأبو خيثمة عبد الله بن خيثمة

__________________

ـ بارّا بالوالدين ، وما عليّ في موتك من غضاضة ، وما بي الى غير الله من حاجة ، وقد شغلني الاهتمام لك من الاهتمام بك ، ولو لا هول المطّلع لأحببت أن أكون مكانك! فليت شعري ما قالوا لك؟ وما قلت لهم؟ ثم رفع يده فقال : اللهم انّك فرضت لك عليه حقوقا ، وفرضت لي عليه حقوقا ، وانّي قد وهبت له ما فرضت لي عليه من حقوقي ، فهب له ما فرضت عليه من حقوقك ، فانّك أولى بالحق وأكرم منّي.

ثم أصابنا الجوع ، فماتت أهله ، وبقينا ثلاثة أيام لم نأكل شيئا ولم نجد شيئا ، وجمع أبي رملا ووضع رأسه عليه ، فرأيت عينه قد انقلبت ، فبكيت وقلت له : يا أبة كيف أصنع بك وأنا وحيدة؟! فقال : يا بنتي لا تخافي ، فانّي إذا متّ جاءك من أهل العراق من يكفيك أمري ؛ فانّه أخبرني حبيبي رسول الله فى غزوة تبوك فقال : «يا أبا ذر ، تعيش وحدك ، وتموت وحدك ، وتبعث وحدك ، وتدخل الجنة وحدك ، ويسعد بك أقوام من أهل العراق يتولّون غسلك وتجهيزك ودفنك» فإذا أنا متّ فمدي الكساء على وجهي ثم اقعدي على طريق العراق ، فإذا أقبل ركب فقومي إليهم وقولي : هذا أبو ذر صاحب رسول الله قد توفّي.

قالت ابنته : فلما عاين الموت سمعته يقول : مرحبا بحبيب أتى على فاقة! لا أفلح من ندم! اللهم خنقني خناقك ، فو حقّك انّك لتعلم انّي احبّ لقاءك!

قالت ابنته : فلما مات مددت الكساء على وجهه ، ثم قعدت على طريق العراق ، فجاء نفر ، فقلت لهم : يا معشر المسلمين! هذا أبو ذر صاحب رسول الله قد توفي! فنزلوا وجاءوا فغسّلوه وفيهم مالك بن ابراهيم الأشتر النخعي كانت معه حلة قيمتها أربعة آلاف درهم فكفّنه فيها ودفنوه وبكوا عليه.

وكأنّهم باتوا ليلتهم تلك عند قبره ، قالت ابنته : فبينا أنا نائمة عند قبره إذ سمعته في نومي يتهجد بالقرآن كما كان يتهجد به في حياته ، فقلت له : يا ابة ما فعل بك ربّك؟ فقال : يا بنيّة ، قدمت على ربّ كريم فرضي عنّي ورضيت عنه ، وأكرمني وحبّاني فاعملي ولا تغيّري. القمي ١ : ٢٩٤ ـ ٢٩٦.


السالمي (١) فنقل عن هلال بن أميّة الواقفي ـ ومرّ ذكره ثاني المتخلّفين ـ قال : كان أبو خيثمة قد تخلّف معنا ، وكان لا يتهم في اسلامه ولا يغمص (ينقص) عليه ، وتخلّف معنا حتى كان بعد أن خرج رسول الله بعشرة أيام (٢).

وقال ابن اسحاق : بعد أن سار رسول الله بأيام رجع الى أهله في حائط (بستان) له في يوم حار ، وكان له امرأتان ، وقد أقامت كل واحدة منهما لها عريشا ورشّته بالماء وبرّدتا ماء وهيّأتا طعاما (٣).

قال القمي : فلما نظر إليهما قال لهما : والله ما هذا بانصاف : رسول الله وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخّر ، قد خرج في الضحّ (الشمس) والريح ، وقد حمل السلاح مجاهدا في سبيل الله ، وأبو خيثمة قوي قاعد في عريشته ، وامرأتين حسناوتين ، لا والله ما هذا بانصاف!.

ثم أخذ ناقته فشدّ عليها رحله فلحق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فنظر الناس الى راكب على الطريق فأخبروا رسول الله بذلك ، فقال رسول الله : كن أبا خيثمة فأقبل ، وأخبر النبي بما كان منه ، فجزّاه خيرا ودعا له (٤).

أحكام فقهية ، ومساجد الطريق :

قالوا : ولقيه صلى‌الله‌عليه‌وآله على ثنيّة النور ـ بعد ثنيّة الوداع ـ عبد متسلّح قال

__________________

(١) وفي ابن هشام ٤ : ١٦٤ مالك بن قيس. وفي تفسير القمي ١ : ٢٩٧ عن الصادق عليه‌السلام قال : وهم أبو ذر وأبو خيثمة وعمير بن وهب الذين تخلّفوا ثم لحقوا برسول الله.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٩٨.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٦٣.

(٤) تفسير القمي ١ : ٢٩٤ والتبيان ٥ : ٣١٤ ، ٣١٥ ومجمع البيان ٥ : ١٢٠.


لرسول الله : اقاتل معك يا رسول الله؟ قال : وما أنت؟ قال : مملوك لامرأة من بني ضمرة سيّئة الملك! فقال : ارجع الى سيّدتك لا تقتل معي فتدخل النار (١).

وقد مرّ في خبر أبي ذر أن جمله وقف عليه في بعض الطريق فتركه ، ولعلّه تكرّر من غيره ، فمرّ به مارّ فعلّفه أياما وأقام عليه حتى صلح البعير فركبه ، فرآه صاحبه الأول فطلبه فأبى عليه الثاني ، فاختصما إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : من أحيا خفا أو كراعا (ذا خف او ذا كراع ـ ساق ـ) بمهلكة من الأرض ، فهو له (٢) فأسقط حقّ المعرض عن ماله ، وقال بالحقّ للمحيي المتملك.

وكان يعلى بن منبّه قد استأجر معه أجيرا ، فنازعه رجل فعضّ يده ، ونزع الأجير يده من فم الرجل فسقطت ثنيّتاه! فتخاصما إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يعمد احدكم فيعضّ أخاه كما يعضّ الفحل (من الإبل!) ثم لم يحكم له بالدية وأبطل حقّه (٣).

وكانت عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله جبة صوف (٤) رومية (٥) ذلك أن الصوف يصرف البرد والحرّ ، فصلى فيها بأصحابه وبيده مقود فرسه ، فبال الفرس فأصاب جبّته ، وكأن أصحابه تساءلوا : ما ذا يفعل؟ فقال : لا بأس بعرقها ولعابها وأبوالها ، ولم يغسل البول عن الجبّة (٦).

وفي المواضع التي صلّى فيها بنيت فيما بعد مساجد : بالدومة في ذي خشب ، ثم

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٩٦.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٠٢.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ١٠١٢.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٠٣.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ١٠١١.

(٦) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٠٣.


في الفيفاء ، بذي المروة حيث عجز بعير أبي ذر ، ثم بالشقة (١) ، ثم بوادي القرى قرب خيبر (ثم بالصعيد) ، ثم بالحجر (مدائن صالح) ، ثم بذنب الحوصاء (الحوضا) ، ثم بذي الجيفة في صدر الحوصاء ، ثم في جوبر بشق تاراء (ثم بطرف البتراء من ذنب كواكب ، ثم في ألاء ـ السيرة) ، ثم بذات الخطمي ، ثم في سمنة ، ثم في الأخضر ، ثم بذات الزراب ، ثم في ثنية المداران ، ثم في تبوك (٢).

بعض المنافقين في تبوك :

سويد بن صامت الأوسي من بني عمرو بن عوف في قباء ، قال عنه ابن اسحاق : إنه قبل يوم بعاث بين الاوس والخزرج ، كان قد رمى معاذ بن عفراء الخزرجي بسهم غيلة فقتله ، في غير حرب (٣).

وكان اليهود في جوار الخزرج ، فقتل حاطب بن الحارث أحدهم ، فخرج إليه ليلا جمع من الخزرج فتقاتلوا ، فقتل المجذّر بن ذياد البلوي حليف الخزرج سويد بن صامت الأوسي (٤).

وقال الواقدي : رأى سويد بن الصامت رجل من الخزرج في ارض الحرّة قرب بني غصينة مشرق بني سالم ، وكان سويد أعزل وقد جلس يبول ، فأخبر به المجذر بن ذياد فخرج إليه فقتله ، وهو الذي هيّج يوم بعاث (٥).

__________________

(١) في الواقدي : السقيا ، وهي أول المنازل الى مكة لا الشام ، وفي السيرة : الشقة لبني عذرة وهو الصحيح.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٩٩ وعكسها ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٧٤ بزيادة ثلاثة منازل ..

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٢ : ١٦٧ و ٣ : ٩٥.

(٤) ابن هشام في السيرة ١ : ٣٠٧.

(٥) مغازي الواقدي ١ : ٣٠٤.


وجاء الاسلام فأسلم المجذّر بن ذياد والحارث بن سويد ، وخرجا يوم احد مع المسلمين ، فلما التقى الناس عدى الحارث على المجذر فقتله بأبيه سويد (١) ورآه خبيب بن يساق الخزرجي فأخبر النبي به ، فركب حماره إليهم الى قباء يفحص عن هذا الأمر فبينا هو على حماره في مسيره إليهم إذ نزل عليه جبرئيل فأخبره بذلك وأمره بقتله. وكان ذلك في يوم حار لا يذهب فيه الى قباء ، انما كان يذهب إليها يوم السبت ويوم الاثنين ، فدخل مسجد قباء وأخذ يصلي فيه ، وسمع أهل قباء به فجاؤوا يسلّمون عليه ، وجلس رسول الله يتحدث إليهم ، وكان معه عويم بن ساعدة الاوسي ، فطلع الحارث بن سويد ، فلما رآه رسول الله قال لعويم :

قدّم الحارث بن سويد الى باب المسجد فاضرب عنقه بمجذّر بن ذياد ، فانه قتله يوم احد ... فقدّمه عويم فقتله (٢).

ولم يذكر هنا انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ للحارث بن سويد أو لأخيه الجلاس دية قتل أبيهم سويد في الجاهلية من المجذّر بن ذياد ، إلّا أنّ الواقدي ذكر بشأن الجلاس بن سويد أنه كان محتاجا وكانت له دية على بعض قومه (كذا) منذ الجاهلية ، فلما قدم رسول الله أخذها له فاستغنى بها (٣) وقال في غزوة تبوك : وكان الجلاس فقيرا فأعطاه مالا من الصدقة لحاجته! (٤).

ولعله من حاجته كان قد تزوج أرملة سعد أو سعيد ولها منه عمير بن سعيد فكان في حجر جلاس بن سويد (٥).

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٢ : ١٦٧ و ٣ : ٩٤.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٣٠٥ ومرّ خبره من قبل في أخبار ما بعد احد.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٠٤ و ١٠٦٨ وهنا لم يقل : على بعض قومه.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٠٥.

(٥) ابن اسحاق في السيرة ٢ : ١٦٦ والواقدي ٢ : ١٠٠٥.


وقد مرّ في عقد الالوية والرايات أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر أن يحمل رايات الاوس والخزرج اكثرهم أخذا للقرآن ، فكان أبو زيد قيس بن السكن الأوسي يحمل راية بني عمرو بن عوف ... فقال وديعة بن ثابت منهم : مالي أرى قرّاءنا هؤلاء أو عبنا بطونا وأجبننا عند اللقاء وأكذبنا ألسنة؟! (١) وقال الجلاس بن سويد منهم : هؤلاء سادتنا وأشرافنا وأهل الفضل منّا! والله لئن كان محمّد صادقا لنحن شرّ من الحمر! (٢).

فقال له ربيبه عمير بن سعد : يا جلاس! والله انك لأحب الناس إليّ وأحسنهم عندي يدا ، وأعزّهم عليّ أن يصيبه شيء يكرهه ، ولقد قلت مقالة لئن رفعتها عليك لأفضحنّك! ولئن صمت عليها ليهلكن ديني ، ولإحداهما أيسر عليّ من الاخرى! ثم مشى الى رسول الله فذكر له ما قال جلاس (٣).

فقال رسول الله لعمّار بن ياسر : الحق القوم فانهم احترقوا! فقال لهم : ما قلتم؟! قالوا : ما قلنا شيئا ، انما كنا نقول شيئا على حدّ اللعب والمزاح (٤) وفي رواية أبي الجارود عن الباقر عليه‌السلام قال : هؤلاء قوم كانوا مؤمنين صادقين ارتابوا وشكوا ونافقوا بعد ايمانهم ، وهم أربعة نفر أحدهم مخشي بن حمير الأشجعي (وهذا) اعترف وتاب وقال : يا رسول الله أهلكني اسمي! فسمّاه رسول الله : عبد الله بن عبد الرحمن ، فقال : يا ربّ اجعلني شهيدا حيث لا يعلم أحد أين أنا (٥).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٠٣ و ١٠٦٦ ، ١٠٦٧.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٠٤.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٢ : ١٦٦.

(٤) فأنزل الله (فيما بعد): (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ...) التوبة : ٦٥.

(٥) فقتل يوم اليمامة ، ولم يعلم أحد اين قتل. تفسير القمي ١ : ٣٠١.


وجاء وديعة بن ثابت الأوسي إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله يعتذر ، وقد ركب النبي ناقته فأخذ بحبل ناقته ويمشي معها ورجلاه يتعثران بالأحجار وهو يقول : يا رسول الله ، انما كنا نخوض ونلعب! فلم يلتفت إليه رسول الله (١).

ومنزل الحجر مدائن صالح عليه‌السلام :

مرّ في الخبر : أن دليله صلى‌الله‌عليه‌وآله الى تبوك كان علقمة بن الفغواء الخزاعي وكان يظهر من الخبر : أن منزل الحجر مدائن صالح عليه‌السلام كان المنزل السادس بل له بها المسجد السادس من المساجد التي بنيت على مواضع صلاته في طريقه الى تبوك ، ومرّ فيه أيضا أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يجمع بين الظهر والعصر في منزله : يؤخر الظهر حتى يبرد ويعجّل العصر فيجمع بينهما وكان هذا فعله حتى رجع من تبوك ، وكان يروح من المنزل بعد العصر ممسيا حيث يبرد ، ذلك أنه كان في حرّ شديد (٢).

مع هذا نرى الواقدي يروي عن أبي حميد الساعدي انهم أمسوا بالحجر (٣).

وروى ابن اسحاق بسنده عن عباس بن سهل بن سعد الساعدي عن أبيه : أنهم نزلوا بالحجر واستقوا من بئرها (٤) وروى الواقدي عن أبي هريرة : انهم استقوا من بئرها وعجنوا ، ثم نادى منادي النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم : لا تشربوا من مائها ولا تتوضئوا منه للصلاة! وروى عن سهل بن سعد : انّه عجن لاصحابه وذهب ليطلب الحطب فسمع المنادي ينادي : إنّ رسول الله يأمركم أن لا تشربوا

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٠٤.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٩٩.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٠٦.

(٤) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٦٤.


من ماء بئرهم! فقالوا : يا رسول الله قد عجنا! قال : اعلفوه الابل! فجعل الناس يهرقون ما في أسقيتهم. ولكنه يقول : وتحوّلنا الى بئر النبي صالح عليه‌السلام ، فجعلنا نستقي ، ورجعنا ممسين.

فقال رسول الله : لا تسألوا نبيّكم الآيات! هؤلاء قوم صالح سألوا نبيّهم آية ، فكانت الناقة ترد عليهم من هذا الفلج (الشق) تسقيهم من لبنها يوم وردها ما شربت من مائها ، فعقروها فاوعدوا ثلاثا وكان وعد الله غير مكذوب ، فأخذتهم الصيحة فلم يبق أحد منهم تحت أديم السماء إلّا هلك (١) وستهبّ هذه الليلة ريح شديدة ، فلا يقومنّ أحد منكم إلّا مع صاحبه ، ومن كان له بعير فليوثق عقاله (٢).

ففعل الناس ما أمرهم به رسول الله ، إلّا رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته فخنق على مذهبه. وذهب الآخر لطلب بعيره ، والحجر قريب من جبلي قبيلة طيّ : أجأ وسلمى ، فدفعته الريح إليهما عند طيء (٣).

ولم يمنعهم صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الدخول في دور ثمود من مدائن صالح عليه‌السلام إلّا أنه حثّهم أن يدخلوها معتبرين باكين خائفين أن يصيبهم ما أصابهم ، فيما رواه ابن هشام عن

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٠٦ و ١٠٠٧.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٠٦.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٦٥ بسنده عن عباس بن سهل الساعدي والواقدي عن أبي حميد الساعدي وفيهما أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله دعا للأوّل فشفي وافتقد الثاني حتى رجع الى المدينة فحمله جمع من طيء إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله. وذكر ابن اسحاق أن الراوي كان يعلم هذين الرجلين من الأنصار بأسمائهم ولكنه أبى أن يسمّيهم له لخلافهما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله! وروى خبرهما المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٢٤٩ عن المنتقى للكازروني.


الزهري (١) والواقدي عن سهل بن سعد الساعدي ، وعن أبي سعيد الخدري : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كره أن يؤخذ شيء من متاعهم وأمرهم بالقائه (٢).

استجابة دعاء ، أم انواء؟! :

روى الواقدي بسنده عن أبي سعيد الخدري قال : ولما أصبح رسول الله ارتحل ولا ماء معهم ، فشكوا ذلك الى رسول الله (٢) قالوا : يا رسول الله ، لو دعوت الله فسقانا؟ قال : (نعم) لو دعوت الله لسقيت. فقالوا : فادع الله يا رسول الله ليسقينا (٤).

وروي عن عبد الله بن أبي حدرد قال : رأيت رسول الله استقبل القبلة فما برح يدعو حتى رأيت السحاب يأتلف من كل ناحية ، حتى سحّت علينا السماء ، وكأني (لا زلت) أسمع تكبير رسول الله في المطر. ثم كشف الله السماء عنّا وان في الأرض غدائر يصبّ بعضها في بعض! فارتوى الناس عن آخرهم! وسمعت رسول الله يقول : أشهد أني رسول الله.

قال : فقلت لرجل من المنافقين (أوس بن قيظي أو زيد بن اللصيت القينقاعي) : ويحك! أبعد هذا شيء؟! فقال : سحابة مارة!.

ثم روى بسنده عن محمود بن لبيد عن زيد بن ثابت قال : لما كان من أمر الماء في غزوة تبوك ما كان ، دعا رسول الله فأرسل الله سحابة فأمطرت ، حتى ارتوى الناس. فقلنا (لسعد بن زرارة وقيس بن فهر) : يا ويحك! أبعد هذا شيء؟! فقال : سحابة مارّة (٥).

__________________

(١) ابن هشام في السيرة ٤ : ١٦٥.

(٢) و (٣) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٠٨.

(٤) الخرائج والجرائح ١ : ٩٨ ح ١٦٠.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٠٩ ورواه المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٢٥ عن المنتقى للكازروني.


ورواه ابن اسحاق بسنده عنه قال : لقد أخبرني رجال من قومي عن رجل من المنافقين كان يسير مع رسول الله حيث سار ، فلما كان من أمر الماء بالحجر ما كان ودعا رسول الله فارسل الله السحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس ، أقبلنا عليه وقلنا له : ويحك! هل بعد هذا شيء؟! فقال : سحابة مارة! ولم يسمّه!.

قال الراوي فقلت لمحمود : هل كان الناس يعرفون فيهم النفاق؟ فقال : نعم والله ، ان كان الرجل ليعرفه في أخيه وأبيه وعمّه وعشيرته ثم يلبس بعضهم على بعض (١).

بل قام قوم منهم على شفير الوادي يقول بعضهم لبعض : مطرنا بنوء الذراع أو بنوء كذا (٢) حتى سمعهم صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال لمن حوله : ألا ترون؟! وكان خالد بن الوليد واقفا فقال : ألا أضرب أعناقهم؟! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا ، هم يقولون هكذا وهم يعلمون ان الله انزله (٣).

ضلال الناقة ، والمنافقين :

مرّ في خبر أبي حميد الساعدي قال : أمسينا بالحجر ... وفي خبر سهل الساعدي : لم نرجع إلّا ممسين ... وفي خبر الخدري : لما أصبح ارتحل ولا ماء معهم. بما يفيد أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله بات تلك الليلة في منزل الحجر ، ولكن كأنه سار ذلك النهار

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٦٦.

(٢) ناء ضد باء ، وباء وآب بمعنى واحد ، فناء بمعنى نهض وطلع ، ومصدره النوء بمعنى الطلوع ، كما النجم ، واطلق عليه ، وجمعه أنواء : النجوم إذا غابت ، وانما قيل لها أنواء ، لأنها اذا سقط الساقط منها بالمغرب طلع بإزائه طالع بالمشرق ، كما في لسان العرب ١ : ١٧٦ ، وعنه في هامش الخرائج والجرائح ١ : ٩٩.

(٣) الخرائج والجرائح ١ : ٩٨ ح ١٦٠.


ومساءه ، ذلك أن الواقدي روى بسنده عن محمود بن لبيد قال : ثم ارتحل حتى اصبح في منزل ، فضلّت ناقته القصواء.

وكان أحد اليهود من بني قينقاع يسمى زيد بن اللصيت قد أسلم بما فيه من خبث اليهود وغشّهم ومظاهرة أهل النفاق ، وكان قد حضر غزوة تبوك مع عمارة بن حزم وكان عقبيّا بدريا وأخيه عمرو بن حزم وغيرهم ، ولما ضلت ناقته صلى‌الله‌عليه‌وآله كان عمارة عنده ، وزيد بن اللصيت في رحل عمارة فقال : أليس محمّد (كذا) يزعم انّه نبيّ ويخبركم عن خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته؟! (١).

وروى الراوندي بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : قال المنافقون : يحدّثنا عن الغيب ولا يعلم مكان ناقته! فأتاه جبرئيل عليه‌السلام فأخبره بما قالوا وقال له : إنّ ناقتك في شعب كذا متعلق زمامها بشجرة بحر (كذا) (٢).

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله وعمارة عنده : إنّ رجلا قال : هذا محمّد يخبركم انّه نبي ويزعم انّه يخبركم بأمر السماء وهو لا يدري أين ناقته! وانّي والله ما اعلم إلّا ما علّمني الله ، وقد دلّني عليها ، وهي في هذا الوادي في شعب كذا. فرجع عمارة بن حزم الى رحله فقال : والله لعجب من شيء حدّثناه رسول الله آنفا عن مقالة قائل أخبره الله عنه بكذا وكذا. فقال رجل من أهل رحله (أو أخوه عمير) : والله زيد قال هذه المقالة قبل أن تأتي! فأقبل عمارة على زيد يطعنه في عنقه ويقول : اخرج أي عدوّ الله من رحلي فلا تصحبني ، إليّ عباد الله انّ في رحلي لداهية وما أشعر! (٣).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٠٩ ، ١٠١٠.

(٢) قصص الأنبياء : ٣٠٨ ح ٣٨٠ وفي اعلام الورى ١ : ٨٣ بلا اسناد وكذلك في الخرائج والجرائح ١ : ٣٠ ح ٢٥ و ١٠٨ ح ١٧٨ و ١٢١ ح ١٩٧ وفي بحار الأنوار ١٨ : ١٠٩ عن الثلاثة و ٢١ : ٢٥٠ عن المنتقى للكازروني.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٦٦ ، ١٦٧ بسنده عن محمود بن لبيد.


ونادى منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الصلاة جامعة ، فلما اجتمع الناس للصلاة خطبهم فقال في خطبته : أيها الناس ، إنّ ناقتي بشعب كذا. فبادروا إليها (١) وكان الذي أتى بها الحارث بن خزمة الأشهلي ، وجدها كما قال رسول الله قد تعلق زمامها بشجرة.

فقال زيد بن اللصيت : قد كنت شاكا في محمد (كذا) وقد أصبحت وأنا فيه ذو بصيرة ، لكأني لم اسلم الا اليوم ، وأشهد أنه رسول الله.

ولكن خارجة بن زيد بن ثابت يقول : لم يزل فسلا (رذلا) حتى مات (٢).

وقبل تبوك :

روى الواقدي عن المغيرة بن شعبة قال : بتنا بعد الحجر وقبل تبوك ، وقمنا بعد الفجر ، وخرج رسول الله لقضاء الحاجة فحملت مع النبيّ ادواة فيها ماء وتبعته بالماء ، فأبعد ، ثم صببت عليه فغسل وجهه ، وكانت عليه جبّة رومية ضيّقة الأكمام ، فأراد أن يخرج يديه ليغسلهما فضاق كمّ الجبّة ، فأخرج يديه من تحت الجبّة فغسلهما (٣) ومسح برأسه ، فأهويت لأنزع خفّه فقال : دعهما فاني أدخلتهما طاهرتين (٤). فرأيته يمسح على ظاهر الخفّين (٥).

__________________

(١) قصص الأنبياء : ٣٠٨ ح ٣٨٠ عن الصادق عليه‌السلام.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠١٠. وهنا ينفرد الواقدي عن عقبة بن عامر بخبر عن نوم بلال ونوم النبيّ عن صلاة الصبح الى ما بعد طلوع الشمس ، في منزل قبل تبوك ٢ : ١٠١٥ بينما مرّ خبره بعد خيبر. ولدى وصوله الى تبوك يروي الواقدي خبر خطبته لها ٢ : ١٠١٦ بينما مرّ خبره.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ١٠١١.

(٤) كما في البخاري ومسلم ومسند أحمد.

(٥) كما في سنن أبي داود والترمذي ومسند أحمد ، وفي خبر آخر فيهما عن ابن شعبة


وانتهى الى تبوك :

وانتهى النبيّ الى تبوك يوم الثلاثاء من شعبان (١) فكان سفر تبوك عشرين ليلة (٢)

__________________

ـ زاد النعلين والجوربين. وروى الشيخان وابو داود والترمذي وأحمد مسحه على الخف عن جرير بن عبد الله البجلي. وروى الترمذي والنسائي واحمد والشافعي عن صفوان بن عسّال قال : أمرنا رسول الله في الخفين اذا نحن أدخلناهما على طهر أن نمسح عليهما ولا نخلعهما الا من جنابة ، اذا أقمنا يوما وليلة واذا سافرنا ثلاثا. وروى أبو داود المسح على الجوربين عن أنس بن مالك وأبي امامة وابن عباس ، والبراء بن عازب وسهل بن سعد وعبد الله بن مسعود وعمرو بن حريث وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب عليه‌السلام ، كما في التقويم القطري لعام ١٤١٨ ه‍ : ١٤٨ ، ١٤٩.

وفي تفسير العياشي عن أبي بكر بن حزم قال : توضأ رجل وعليّ عليه‌السلام يراه فمسح على خفيه ودخل مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فدخل في الصلاة ، وسجد فجاء علي عليه‌السلام فوطأ على رقبته وقال له : ويلك! تصلي على غير وضوء فقال : أمرني عمر بن الخطاب بهذا (المسح على الخفين) فأخذ علي بيده حتى انتهى الى عمر فقال له : انظر ما يروي عليك هذا ـ ورفع صوته ـ : فقال عمر : نعم أنا أمرته ، فإنّ رسول الله قد مسح! قال : قبل نزول المائدة أو بعدها؟ قال : لا أدري! قال : فلم تفتي وأنت لا تدري؟! ان الكتاب سبق الخفين. تفسير العياشي ١ : ٢٩٧.

فمسحه صلى‌الله‌عليه‌وآله على خفه في تبوك كان سابقا على نزول سورة المائدة وآية الوضوء والمسح بالأرجل وعليه فالمسح على الخفين منسوخ بالقرآن بسورة المائدة.

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٦٨ واعلام الورى ١ : ٢٤٤. فلو كان خروجه في ٢٥ رجب و ٢٠ ليلة في الطريق يكون وصوله الى تبوك في منتصف شعبان.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٦١.


وأقام بها عشرين ليلة يصلي ركعتين ، وهرقل يومئذ في حمص (١) وكانت اقامته بقية شعبان (نصفها الثاني) وأياما من شهر رمضان (٢).

قالوا : ولما انتهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الى تبوك وضع بيده حجرا قبلة واحجارا تليه ، ثم صلى الظهر بالناس (٣) ركعتين (٤) وكان يؤخّر الظهر حتى يبرد ويعجّل العصر فيجمع بينهما ، فعل ذلك في تبوك حتى رجع منه (٥).

وحان موعد غدائه وكان مع ستة نفر من أصحابه اذ جاءه رجل من بني سعد بن هذيم فوقف عليه وقال : يا رسول الله ، اشهد أن لا إله إلّا الله وانك رسول الله. فقال له النبيّ : قد أفلح وجهك ، اجلس. ثم قال : يا بلال ، اطعمنا.

قال الرجل : فبسط بلال اديما ثم قرّب زقّا (قربة صغيرة مدبوغة) فأدخل يده فيها وأخرج منها بيده قبضات من تمر معجون بالسمن والأقط. فقال لنا رسول الله : كلوا. وإن كنت لآكله وحدي ، فأكلنا حتى شبعنا! فقلت : يا رسول الله ، ان كنت لآكل هذا وحدي! فقال : الكافر يأكل في سبعة أمعاء! والمؤمن يأكل في معى واحد!.

قال الرجل : ومن الغد جئته حين غدائه لأزداد في الاسلام يقينا ، فاذا حوله عشرة ، وقال لبلال : اطعمنا يا بلال ، فقرّب جرابا فيه تمر وجعل يخرج منه قبضات ،

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠١٥ وقال ابن اسحاق : بضع عشرة ليلة. السيرة ٤ : ١٧٠ وجمع القولين المسعودي مع القصر في الصلاة في التنبيه والاشراف : ٢٣٥. وفي بحار الأنوار ٢١ : ٢٥١ عن المنتقى للكازروني : أقام بتبوك شهرين! بينما أكثر روايته عن الواقدي.

(٢) اعلام الورى ١ : ٢٤٤.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٢١.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ١٠١٥.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٩٩٩.


فقال له النبي : اخرج ، ولا تخف من ذي العرش إقتارا! فنشر كل الجراب ، ولم يكن كثيرا بل مدّين. فوضع النبي يده على التمر ثم قال : كلوا باسم الله ، فأكلوا وأنا معهم حتى ما أجد له مسلكا! ومع ذلك بقي على نطع الأديم مثل ما جاء به بلال كأنّا لم نأكل منه تمرة واحدة!.

قال الرجل : ثم عدت من الغد ومعه عشرة نفر أو يزيدون رجلا أو رجلين ، فقال لبلال : يا بلال اطعمنا. فجاء بالجراب فنثره ، ووضع النبي يده عليه فقال : كلوا باسم الله ، فاكلنا حتى شبعنا ورفع مثل ما صبّ (١).

قال : وكان هرقل قد علم من علائم النبي وصفاته أشياء فبعث إليه رجلا من غسّان من عرب الشام يسأل : هل هو يقبل الصدقة؟ وينظر هل في عينيه حمرة؟ وهل بين كتفيه خاتم النبوة؟ فجاء الرجل وسأل فاذا هو لا يقبل الصدقة ، ونظر الى حمرة عينيه وخاتم النبوة بين كتفيه ، ووعى أشياء من حاله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثم عاد الى هرقل (في حمص) فذكر له ذلك. فدعا قومه الى التصديق به فأبوا حتى خافهم على ملكه فامتنع هو أيضا ، ولكنه ظلّ في موضعه في حمص لم يزحف ولم يتحرك. فتبيّن بطلان ما اخبر به صلى‌الله‌عليه‌وآله عنه من دنوه الى أدنى الشام الى الحجاز وبعثه عسكره نحوهم (٢).

وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله يكثر التهجد في الليل ويصلي بفناء خيمته ، فيقوم ناس من المسلمين يحرسونه ، وأقبل ذات ليلة عليهم فقال لهم : اعطيت خمسا ما اعطيهنّ أحد قبلي :

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠١٧ ، ١٠١٨ وإليه يعود ما جاء مختصرا في اعلام الورى ١ : ٨١ والخرائج والجرائح ١ : ٢٨ ح ١٥ وعنهما في بحار الأنوار ١٨ : ٢٧ ح ٨.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠١٨ ، ١٠١٩ ورواه المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٢٥١ عن المنتقى للكازروني.


١ ـ بعثت الى الناس كافة ، وانما كان النبي يبعث الى قومه (كذا).

٢ و ٣ ـ وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، أينما أدركتني الصلاة تيمّمت وصلّيت ، وكان من قبل لا يصلّون إلّا في كنائسهم والبيع (كذا).

٤ ـ واحلّت لي الغنائم آكلها ، وكان من قبلي يحرمونها.

٥ ـ والخامسة : هي ما هي! هي ما هي! قيل لي : سل ، فكل نبيّ قد سأل ، فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلّا الله (١).

وقال : من يشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، حرّمه الله على النار (٢).

الخير في نواصي الخيل :

وفي تبوك قام الى فرسه الظّرب فطرح عليه ثيابا وجعل يمسح ظهره بردائه! فقيل : يا رسول الله ، تمسح ظهره بردائك؟ فقال : نعم ، انّي قد بتّ الليلة وان الملائكة لتعاتبني في مسح الخيل ، وأخبرني خليلي جبرئيل انّه يكتب لي بكلّ حسنة او فيها إيّاه حسنة ، وانّه يحطّ بها عني سيئة. وما من امرئ من المسلمين يربط فرسا في سبيل الله فيوفيه بعليفه يلتمس به قوته إلّا كتب الله له بكل حبة حسنة ، وحط عنه بكل حبة سيئة!

فقيل : يا رسول الله ، فأي الخيل خير؟ قال : أدهم ، أرثم ، أقرح ، محجّل الثلاث مطلق اليمين. فان لم يكن أدهم فكميت على هذه الصفة (٣).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٢١ ، ١٠٢٢ وإليه يعود ما في الخصال ١ : ٢٠١ ح ١٤ و ٢٩٢ ح ٥٦.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠١٥.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٢٠. والأدهم : الشديد الحمرة الى السواد. والأرثم : في شفته العليا وأنفه بياض. والأقرح : بياض ما فوق أنفه في وجهه دون الغرة. ومحجّل الثلاث


وقال : إنّ الخيل في نواصيها الخير الى يوم القيامة ، اتخذوا من نسلها وباهوا بصهيلها المشركين. أعرافها ادفاؤها ، وأذنابها مذابها (١) والذي نفسي بيده انّ الشهداء ليأتون يوم القيامة أسيافهم على عواتقهم لا يمرّون بأحد من الأنبياء إلّا تنحّى عنهم! حتى انهم ليمرّون بابراهيم الخليل خليل الرحمن فيتنحى لهم! حتى يجلسوا على منابر من نور ، ويقول الناس : هؤلاء الذين أراقوا دماءهم لربّ العالمين! فيكونون كذلك حتى يقضي الله عزوجل بين عباده (٢).

ولقد فضّل نساء المجاهدين على القاعدين في الحرمة كامّهاتهم ، فما من أحد من القاعدين يخالف الى امرأة من نساء المجاهدين فيخونه في أهله إلّا اوقف يوم القيامة فيقال له : إنّ هذا خانك في أهلك! فخذ من عمله ما شئت! فما ظنّكم؟! (٣).

فقال له رجل : كان لي امرأتان فاقتتلتا ، فرميت احداهما فأصبتها (يعني ماتت) فما تقول؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : تعقلها ولا ترثها (٤).

ومن الحوادث في تبوك بعد أن أقاموا بها أياما : وفاة عبد الله المزني ذي البجادين ، وقد مرّ خبره أنهم لما خرجوا الى تبوك طلب من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يدعو له بالشهادة فقال : اللهم انّي احرّم دمه على الكفار! فقال : يا رسول الله ليس هذا أردت! فقال : انك اذا خرجت غازيا في سبيل الله فاخذتك الحمّى فقتلتك فأنت شهيد! فكأنه أشار بهذا الى أنه سيرزق الشهادة بالحمّى وليس بإراقة دمه بيد

__________________

ـ مطلق اليمين : في أرجله الثلاث دون اليمين بياض الى موضع القيد ، كما في النهاية.

(١) يقول : دفء الفرس في عرفه (الشعر الكثير فوق رقبته ، وأذنابها يذبّ عنها).

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠١٩ ، ١٠٢٠.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٢١.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ١٠١٧. أي تؤدي ديتها لمن يرثها دونك وأنت لا ترثها.


الكفار ، وكان كذلك ، واخبر رسول الله بذلك فحضره ليلا وأمر بحفر قبره ، وبلال المؤذن بيده شعلة نار ، وقد نزل النبي في قبره ويدلون بجسده إليه وهو يقول : اللهم انّي أمسيت راضيا عنه فارض عنه! وكان عبد الله بن مسعود حاضرا فلما سمع ذلك قال : يا ليتني كنت صاحب الحفرة ـ أو ـ اللحد (١).

حوادث هذه السفرة ، وادي القرى :

مرّ عن الواقدي : أنّ مساجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المعروفة في سفره الى تبوك : بذي خشب ثم بالفيفاء ثم بالمروة ثم بالشقة ثم بوادي القرى قبل الحجر (٢).

ووادي القرى يسمى اليوم وادي العلا شمال خيبر بعد تيماء وهي على ١٦٥ كم على طريق الشام من المدينة ، وهي ديار بني عذرة (٣).

وكان من بطون بني عذرة بنو الأحبّ ، وكأنهم كانوا يسكنون من وادي القرى موضعا يقال له القالس ، فأقطعه النبي لهم وأمر الأرقم فكتب لهم بذلك كتابا رواه ابن سعد :

«بسم الله الرحمن الرحِيم ، هذا ما اعطى محمّد رسول الله بني الأحب ، أعطى قالسا. وكتب الأرقم» (٤).

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٧١ والواقدي في المغازي ٢ : ١٠١٤ ونقله في بحار الأنوار ٢١ : ٢٥٠ عن المنتقى للكازروني.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٩٩٩.

(٣) معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية : ١٥٩.

(٤) مكاتيب الرسول ٢ : ٤٥٠ عن الطبقات ١ : ٢٧٣ واعلام السائلين : ٤٩.


أهل تيماء :

كانت تيماء حصنا ينسب الى السموأل بن أوفى بن عاديا الأزدي القحطاني ، فأهل تيماء من بني عاديا الأزديّين ولكنّهم يهود. وفي التاسعة للهجرة لما بلغهم نزول الرسول بوادي القرى كأنّهم رهبوه (١). فأرسلوا إليه وصالحوه على أن يقيموا بأرضهم وبلادهم وعليهم الجزية.

وأمر صلى‌الله‌عليه‌وآله خالد بن سعيد فكتب لهم : بذلك كتابا رواه ابن سعد :

«بسم الله الرحمن الرحِيم ، هذا كتاب من محمّد رسول الله لبني عاديا : أنّ لهم الذمّة وعليهم الجزية ، ولا عداء ولا جلاء ، الليل مدّ والنهار شد. وكتب خالد بن سعيد» أي : لا يعادون ولا يجلون من ديارهم ما امتدت الليالي واشتدت الأيام (٢).

وكان في اراضي تيماء مع بني عاديا ناس كثير من بني جوين من الطائيين ، وكأنّه أسلم قسم منهم وقدموا عليه واستكتبوه فأمر المغيرة أن يكتب لهم فكتب لهم :

«... لبني جوين الطائيّين لمن آمن منهم بالله وأقام الصلاة وآتى الزكاة وفارق المشركين ، وأطاع الله ورسوله ، وأعطى من المغانم خمس الله وسهم النبي ، وأشهد على اسلامه ، فانّ له أمان الله ومحمّد بن عبد الله. وانّ لهم أرضهم ومياههم ما أسلموا عليه ومن ورائها غدوة الغنم مبيتة. وكتب المغيرة» اي : إن لهم ما أسلموا عليه من أرضهم وعلاوة عليها ما تغدو عليه أغنامهم الى أن تبيت ليلها (٣).

دومة الجندل :

مرّ أن تيماء تبعد عن المدينة الى الشام ١٦٥ كم على طريق معبّدة تصل بعدها

__________________

(١) في مغازي الواقدي ٢ : ١٠٣١ : كان أهل تيماء قد خافوا النبي لما رأوا العرب قد أسلموا.

(٢) مكاتيب الرسول ٢ : ٤٣٤ ، ٤٣٥ عن الطبقات ١ : ٢٧٩ ومع ذلك أجلاهم عمر.

(٣) مكاتيب الرسول ٢ : ٣٣٩ عن الطبقات ١ : ٢٦٩.


شمالا الى منطقة الجوف بنحو ٤٥٠ كم وبعدها شمالا بأكثر من ١٥٠ كم تصل الى تبوك ، وبعدها شمالا أيضا بنحو ٢٣٨ كم نتجاوز الحدود الأردنية لأقرب مدينة إليها معان. وفي الجوف قرية دومة الجندل ، والجندل : الحجارة ، والدّومة : شجرة برّية صحراوية ، هذا إذا وافقنا تلفّظ اهلها اليوم بفتح الدال ، وإلّا فقد جرى المتقدمون على ضبطها بضم الدّال ونسبوها الى دوما بن اسماعيل بن ابراهيم عليه‌السلام. ويشرف عليها حصن مارد : حصن اكيدر الكندي. والجوف منطقة زراعية بها مزارع وقرى ودومة الجندل أشهر بلدة فى الجوف ، وكانت قاعدة تلك المنطقة حتى عام ١٣٧٠ ه‍ وتجاورها إمارة حائل وحائل مدينة في شمال تيماء وبقربها يمرّ رمل عالج في شمال صحراء نجد ، وأقرب مدينة من إمارة حائل الى دومة الجندل مدينة سكاكة تبعد عنها خمسين كم بينهما طريق معبّدة ، وفي عام ١٣٧٠ ه‍ كان أمير دومة الجندل تركي ابن احمد السديري فنقل القاعدة الى سكاكة (١) والظاهر انها هي محل تحكيم الحكمين بعد حرب صفين.

وقد مرّ علينا أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يمر بتيماء نفسها وانما قاربها بوادي القرى ، فلما بلغهم نزوله بقربهم كأنهم رهبوه فارسلوا إليه وصالحوه وهنا أيضا لم يمرّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بدومة الجندل في طريقه الى تبوك ، ولكن كأنه حين قاربها ولعله من قبل الحائل أو سكاكة ، تشكّك أهل دومة الجندل لعله يريد مجالدتهم ، وهم من بني عليم من كلب كندة ، فأوفدوا إليه حارثة بن قطن وحمل بن سعدانة الكلبيّين فأسلما ، فامر من كتب لهم كتابا رواه ابن سعد جاء فيه :

«... هذا كتاب من محمّد رسول الله لأهل دومة الجندل وما يليها من طوائف كلب ، مع حارثة بن قطن. لنا الضاحية من البعل ، ولكم الضامنة من النخل ، على

__________________

(١) معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية : ١٢٧ ، ١٢٨ لعاتق بن غيث البلادي. والمعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية ق ٢ : ٥٤٣ ، ٥٤٤ للشيخ حمد الجاسر.


الجارية العشر وعلى الغائرة نصف العشر ، لا تجمع سارحتكم ، ولا تعدّ فاردتكم. تقيمون الصلاة لوقتها ، وتؤتون الزكاة بحقّها ، لا يحظر عليكم النبات ، ولا يؤخذ منكم عشر البتات ، لكم بذلك العهد والميثاق ، ولنا عليكم النصح والوفاء (ولكم) ذمة الله ورسوله ، شهد الله ومن حضر من المسلمين».

الضامنة من النخل : ما تضمنته أمصارهم وحفظتها عمارتهم من الفاعل بمعنى المفعول أي المضمونة. وبعكسها الضاحية أي الظاهرة البادية ، البيداء ، والبعل : كذلك ما خرج من النخل عن العمارة. والجارية : ما يسقى بالمياه الجارية ، وبعكسها الغائرة : ما يسقى بالمياه الغائرة في أغوار البئار. والسارحة : الغنم السارحة للرعي ، ولا تجمع أي لا ترد عن سرحها ورعيها ، والفاردة : التي لا زكاة فيها ، ولا تعد : أي لا تعدّ مع المزكاة منها. والبتات : البضائع (١).

قلنا كأن هذا كان حينما مرّ بقربهم في طريقه الى تبوك قبل أن يصل إليها بأكثر من ١٥٠ كم ، وكأنّه ترك ملكهم الاكيدر الكندي المتنصّر ، ويظهر أنه كان متنصرا متأثّرا بالروم مرتبطا بهم ، فتركه لينظر ما ذا يفعل ، حتى نزل بتبوك ، ولم يظهر من الاكيدر أي أثر حينئذ ...

الأكيدر الكندي :

روى الواقدي باسناده عن صحابيّين مباشرين للأحداث : اسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، وعن عكرمة عن ابن عباس : قالوا : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من تبوك خالد بن الوليد في أربعمائة وعشرين فارسا الى اكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل. فقال خالد : يا رسول الله ، كيف لي به وسط

__________________

(١) مكاتيب الرسول ٢ : ٣٩٢ ، ٣٩٣ عن الطبقات ١ : ٣٣٥.


بلاد كلب وانما أنا في اناس يسير؟! فقال رسول الله : ستجده يصيد البقر فتأخذه! (١) فان ظفرت به فأت به إليّ فان أبق فاقتلوه (٢).

فخرج خالد إليه ، أي تراجع من تبوك الى دومة الجندل بأكثر من ١٥٠ كم ، فوصل الى حصنه المشرف على دومة الجندل في ليلة مقمرة ، وكان الفصل صيفا حارا ، فكان قد صعد على سطح حصنه ومعه امرأته الرباب بنت انيف الكندي ومعهما شراب وجارية تغنّي لهما.

واقبلت البقر الوحشية تحكّ بقرونها باب الحصن ، فاشرفت امرأته فرأت البقر دون عسكر المسلمين ، وكان اكيدر يتصيّد بقر الوحش ، فحشمته امرأته على ذلك ، فنزل وأبلغ أخاه حسّان بن عبد الملك ومماليكه وأمرهم أن يسرجوا فرسه والخيول ، فركبوا وخرجوا من حصنهم وانما يحملون رماحا قصيرة للصيد ، وقد كمن لهم خيل خالد.

فلما انفصلوا من حصنهم وانفصل منهم اكيدر يطاردون أبقار الوحش ، حاصره جمع من خيل خالد فاستؤسر ولم يقاوم ، وامتنع أخوه حسّان وقاتل فقوتل حتى قتل ، وهرب من معهم من أهلهم ومماليكهم الى الحصن فدخلوه وأغلقوه.

وكان على حسان قباء ديباج مخوّص بالذهب ، فاستلبه خالد وسلّمه الى عمرو بن أميّة الضّمري وبعث به الى رسول الله ليخبره بأخذهم الاكيدر.

وقال خالد لاكيدر : هل لك أن اجيرك من القتل حتى آتي بك الى رسول الله على أن تفتح لي دومة؟ قال : نعم ، ذلك لك. فانطلق به خالد في وثاق حتى أدناه من

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٢٥ والخرائج والجرائح ١ : ١٠١ ح ١٦٣.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٢٦.


باب الحصن ، فنادى اكيدر أهله : افتحوا باب الحصن. فأبى عليه أخوه مضاد بن عبد الملك ، فقال اكيدر لخالد : والله لا يفتحون لي ما رأوني في وثاق فخلّ عني ، فلك الله والأمانة أن افتح لك الحصن إن كنت تصالحني على أهله. قال خالد : فانّي اصالحك. فقال اكيدر : فحكّمني ، وإلّا حكّمتك. قال خالد : بل نقبل منك ما أعطيت. فأعطى اكيدر من نفسه : ألفي بعير وثمانمائة فرس ، وأربعمائة درع وأربعمائة رمح ، وعلى أن يذهب به وبأخيه مضاد الى رسول الله فيحكم فيهما حكمه. ثم خلى خالد سبيله ، وتخلى هو وخيله عنه ، ففتحوا له الحصن ففتحه لهم ، فدخله خالد وخيله فأوثقوا أخاه مضادا وأخذوا ما صالحوه عليه من الابل والسلاح.

ثم خرج خالد ومعه اكيدر وأخوه مضاد ، فقدم بهما عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) وعليه قباء ديباج وصليب من ذهب (٢) وكانت معه هدية من كسوة فأهداها إليه (٢) ، فصالحه على الجزية وحقن دمه ودم أخيه ، وكتب لهم كتابا فيه ما صالحهم. وعزل يومئذ للنبي صفي خالص قبل أن يقسم شيء من الفيء ، ثم خمّست الغنائم فعزل خمسه له صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وكان معهم أبو سعيد الخدري فأسهم له خالد عشرا من الابل ودرعا وبيضة ورمحا. ولسائرهم لكل رجل خمس من الابل مع السلاح من الرماح والدروع وبدونها ستة من الابل كما كان لكعب بن عجرة (٤).

هذا ما رواه الواقدي بما تقدم من أسناده ، وليس فيه سوى الاشارة الى كتاب الصلح والجزية عليه وعلى أهل حصنه ، بصفتهم نصارى من اهل الكتاب فهم

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٢٧.

(٢) و (٣) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٣٠.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٢٩.


أهل الذمة في الاسلام. ولم يرو الواقدي نص الكتاب بأسناده المتقدمة وانما رواه عن شيخ من أهل دومة الجندل (١) بما يفيد اسلامهم :

«بسم الله الرحمن الرحِيم ، هذا كتاب من محمّد رسول الله لاكيدر حين اجاب الى الاسلام وخلع الأنداد والأصنام مع خالد بن الوليد (٢) في دومة الجندل وأكنافها. ان لنا الضاحية من الضحل ، والبور ، والمعامي ، وأغفال الارض ، والحلقة ، والسلاح والحافر والحصن ، ولكم الضامنة من النخل ، والمعين من المعمور (بعد الخمس) لا تعدل سارحتكم ، ولا تعدّ فاردتكم ، ولا يحظر عليكم النّبات ، ولا يؤخذ منكم عشر البتات. تقيمون الصلاة لوقتها ، وتؤتون الزكاة لحقّها ، عليكم بذلك العهد والميثاق ، ولكم بذلك الصدق والوفاء شهد الله ومن حضر من المسلمين».

والضاحية : أطراف الأرض ، والضحل : الماء القليل ، والبور : من الارض البوار ، والمعامي : الأراضي المجهولة ، والأغفال : الأراضي لا أثر عليها ، والفاردة : ما لا زكاة فيه من الغنم حتى الأربعين فلا تعدّ مع الزكاة ، والبتات : البضائع.

قال : قالوا : ولم يك في يد النبي خاتم فختمه بظفره (٣) وكأنه غفل عن نص الكتاب باسلام أكيدر ، فكرّر يقول : ووضع فيه عليه الجزية (٤).

__________________

(١) كذلك رواه أبو عبيد السكوني (م ٢٢٤ ه‍) في كتاب الأموال : ١٩٤ فقال : أتاني به شيخ من دومة الجندل في صحيفة بيضاء فقرأت نسخته ثم نسخته حرفا بحرف. وهو معاصر للواقدي وعاش بعده عشرين عاما فلعله عثر على ما عثر عليه قبله الواقدي كذلك.

(٢) هنا وصف له بسيف الله ، ولعلّه من قرائن الاختلاق.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٣٠ و ١٠٢٨. هذا وقد مرّ انّه أمر باعداد ختم له لما أراد أن يكتب الى الامراء والملوك لأول السابعة.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٣٠. وقال ابن الأثير (ت ٦٣٠ ه‍) في اسد الغابة ١ : ١١٣ يردّ على من عدّه مسلما فمن الصحابة : اما سريّة خالد فصحيح ، وانما اهدى اكيدر لرسول الله ،


أهل مقنا :

مرّ أن بين تبوك وبين مدينة معان في طريق عمّان الاردن في أوائل حدودها : ٢٣٨ كم ، هذا في البر ، والبحر المجاور هو البحر الأحمر ذو الشعبتين شعبة منها تمرّ بالاردن وعليها الميناء الاردني الرئيس المنسوب الى مدينة العقبة : ميناء العقبة على خليج العقبة ، وهي التي كانت تسمى سابقا : ميناء أيلة ، وكانت بجنوبها عقبة جبلية كأداء فنسبت المدينة الى تلك العقبة. وكان مدخل العقبة يسمى البويب وكان باب الاردن من السعودية بجانبه الجنوبي المخفر السعودي وبجانبه الشمالي المخفر الاردني ، ثم توافقوا على تعديل الحدود فدخل البويب كله في الاردن عام ١٣٧٩ ه‍ (١) وعلى شاطئ العقبة بين رأس الشيخ والحقل قرية في أسفل وادي الحمض غربي جبل تيران في الطرف الغربيّ من شعيب ، تسمى القرية بمقنا كما كانت تسمى قديما (٢).

وكأنّ ما مرّ عن الواقدي : كانت تيماء ودومة الجندل وأيلة قد خافوا النبي لما رأوا أن العرب قد أسلمت (٣) شمل أهل مقنا ، وكأنّهم كانوا من بني وائل وجذام وسعد الله ، فقدم منهم عبيد بن ياسر من سعد الله فارسا ومعه رجل من جذام ، على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بتبوك فأسلما (٤) ، ومعهما فرس عتيق يسمّونه المراوح فأهداه عبيد إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ،

__________________

ـ وصالحه ولم يسلم ، وهذا لا اختلاف فيه بين أهل السير ، ومن قال انّه أسلم فقد اخطأ خطأ ظاهرا. يرد بهذا على البلاذري في فتوح البلدان : ٧٢ وابن مندة وأبي نعيم إذ ذكراه في الصحابة. ثم ردّه احمد بن حجر العسقلاني (ت ٨٥٢ ه‍) في الاصابة ١ : ١٢٤ فاطال بذكر أدلة من قال باسلامه. وانظر مكاتيب الرسول ٢ : ٣٨٧ ـ ٣٩٣.

(١) المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية : ٣٥.

(٢) المصدر نفسه (القسم الثالث) : ٤ ، ٥.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٣١.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٣٢.


فأجرى الخيل فسبق هذا الفرس فقبله منه ، ووهبه للمقداد بن عمرو (١) فأعطى رسول الله لفرس عبيد مائة حلة لهما كل سنة. وكتب لأهل مقنا : انهم آمنون بأمان الله وأمان محمد (مما يشير الى خوفهم أيضا) وان عليهم ربع ثمارهم وربع غزولهم ، وجعلها لهما ، فلم يزل يجرى لهما ولآلهما ذلك حتى نزعت آخر زمان بني أميّة (٢).

وواضح ان هذه الأرباع من الغزول والثمار ليست من الزكوات بل هي من الجزية ، فهم اهل ذمّة من أهل الكتاب ، وقيل انهم كانوا يهودا (٣).

وكأنّ عبيدا عرّف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بما حواليه من ميناء أيلة : ميناء العقبة وقسّيسها يوحنّا بن رؤبة. وكانوا ثلاثمائة رجل (٤).

واهل أيلة : ميناء العقبة :

فأمر ان يكتبوا إليهم كتابا وأرسله إليهم مع رسله المذكورين في الكتاب : حريث بن زيد الطائي وحرملة وشرحبيل وابي ، لم يذكروا باكثر من هذا ، وأرسلهم إليهم مع هذين الرجلين من أهل مقناكما هو مذكور في آخر الكتاب برواية ابن سعد : جاء فيه خطابا ليوحنّا القسيس : «اني لم اكن لاقاتلكم حتى اكتب إليكم ، فأسلم أو اعط الجزية ، وأطع الله ورسوله ورسل رسوله واكرمهم واكسهم كسوة

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٣٣.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٣٢ ، ١٠٣٣ ويبدو ان ما كان لعبيد انما هي المائة حلة من ربع غزلهم ، ويستبعد أن يكون له كل الربع وانظر نصّ الكتاب وشرحه ومصادره في مكاتيب الرسول ٢ : ٢٨٨ ـ ٢٩١.

(٣) مكاتيب الرسول ٢ : ٢٩١.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٣١.


حسنة غير كسوة الغزاء ، واكس (ابن) زيد (حريث بن زيد الطائي) كسوة حسنة ، فمهما رضيت رسلي فاني قد رضيت ، وقد علم الجزية ، فان اردتم أن يأمن البر والبحر فاطع الله ورسوله ، ويمنع عنكم كل حق كان للعرب والعجم الّا حق الله وحق رسوله. وانك ان رددتهم ولم ترضهم لا آخذ منك شيئا حتى اقاتلكم فاسبي الصغير وأقتل الكبير! فاني رسول الله بالحق ، أومن بالله وكتبه ورسله وبالمسيح ابن مريم انّه كلمة الله ، واني أومن به انّه رسول الله. وآت قبل أن يمسّكم الشرّ ، فاني قد اوصيت رسلي بكم ... وان حرملة شفع لكم ، واني لو لا الله وذلك لم اراسلكم شيئا حتى ترى الجيش ، وانكم ان اطعتم رسلي فان الله لكم جار ومحمّد ومن يكون منه. وان رسلي : شرحبيل وأبي وحرملة وحريث بن زيد الطائي ، فانهم مهما قاضوك عليه فقد رضيته ، وان لكم ذمّة الله وذمّة محمّد رسول الله ، والسلام عليكم ان اطعتم ، وجهزوا أهل مقنا الى أرضهم».

قال ابن سعد : فلما وصل الكتاب إليه وقرأه أشفق أن يبعث إليهم سريّة كما بعث الى دومة الجندل ، فاقبل إليه (١).

وأهل أذرح والجرباء :

وهما اليوم قريتان اردنيّتان في الشمال الغربي من مدينة معان الاردنية الحدودية بنحو ٢٢ كم على يسار الطريق من معان الى عمان ، بين اذرح والجرباء زهاء ثلاثة أميال ، وليس ثلاث ليالي كما قيل (٢) فكتب لهما كتابا :

__________________

(١) الطبقات الكبرى ١ : ٢٨٩.

(٢) معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية : ٨١ في المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية : ٢١ ، رجّح أنّ بهما كان أمر الحكمين ، وفي ذلك شعر غير قليل في معجم البلدان.


«بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من محمّد النبي لأهل جرباء واذرح ، انهم آمنون بأمان الله وامان محمّد ، وان عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة ، والله كفيل عليهم».

وكأن اهل اذرح تذرّعوا الى ان يكتب لهم كتاب على حدة ، فكتب لهم :

«بسمِ الله الرحمن الرحيم ، من محمّد النبي لأهل اذرح ، انهم آمنون بأمان الله وأمان محمّد ، وان عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة ، والله كفيل عليهم بالنصح والاحسان للمسلمين ، ومن لجأ إليهم من المسلمين من المخافة والتعزير ...» (١).

وروى الواقدي بسنده عن جابر الأنصاري قال : يوم اتي بيوحنّا بن رؤبة الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رأيته معقود الناصية وعليه صليب من ذهب ، فلما رأى النبي كفّر (وضع يديه على صدره) وأومأ برأسه أو طأطأ ، فأومأ إليه النبي ان ارفع رأسك (٢) قالوا : وأهدى يوحنّا الى النبي بغلة بيضاء (٣) فكساه النبي بردا يمانيا ، وأمر له بخباء عند بلال (٤).

وكان أهل ميناء أيلة : ميناء العقبة ثلاثمائة رجل ، فصالحه النبي بثلاثمائة دينار كل سنة عن رأس كل رجل دينار ، وأمر جهيم بن الصلت فكتب لهم :

«بِسم الله الرحمن الرحيم ، هذا أمنة من الله ومحمّد النبي رسول الله ليحنّة بن رؤبة وأهل أيلة لسفنهم وسائرهم في البر والبحر ، لهم ذمّة الله وذمّة محمّد رسول الله ، ولمن كان معه من اهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر (٥) ومن أحدث حدثا فانّه

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٣٢.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٣١.

(٣) السيرة الحلبية ٣ : ١٦٠ وبهامشه زيني دحلان ٣ : ٣٧٤.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٣٢.

(٥) كان يأتيهم اهل اليمن في البحر ، وأهل الشام برا وبحرا.


لا يحول ماله دون نفسه ، وانّه لطيب لمن أخذه من الناس ، وانّه لا يحلّ ان يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يريدونه من برّ أو بحر. وهذا كتاب جهيم بن الصلت وشرحبيل بن حسنة باذن رسول الله» (١).

وإسلام فئام من جذام :

جذام ولخم ابنا عدي من بطون كهلان وأبوا قبيلتين وأعمام كندة ، ومساكنهم من مدين الى تبوك فاذرح ، وكان لهم صنم يسمّى الأقيصر في مشارق الشام ، فكانوا يحجون إليه فيحلقون رءوسهم لديه ، وفي مواطنهم يعبدون المشتري.

ومرّ خبر سريّة زيد بن اسامة إليهم ، وحضروا وشاركوا في جيوش الغساسنة والروم في غزوة مؤتة ، وسمع الرسول باجتماعهم لحربه في البلقاء من تبوك.

وسمع منهم مالك بن الأحمر بقدومه صلى‌الله‌عليه‌وآله الى تبوك ، فوفد إليه واسلم ، ثم سأله أن يكتب له كتابا يدعو به قومه الى الاسلام ، فكتب له صلى‌الله‌عليه‌وآله في رقعة أدم بطول شبر وعرض أربعة أصابع : «بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من محمّد رسول الله لمالك بن الأحمر ولمن تبعه من المسلمين : أمانا لهم ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ، واتّبعوا المسلمين وجانبوا المشركين ، وأدوا الخمس من المغنم وسهم الغارمين ... فهم آمنون بأمان الله عزوجل ، وأمان محمّد رسول الله» (٢).

قال الطبرسي : وبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو بتبوك بأبي عبيدة بن الجرّاح الى بني جذام فأصاب بعضهم وسبى منهم سبايا. وبعث سعد بن عبادة الى ناس من بني سليم وبليّ فلما قاربهم هربوا (٣).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٣١ وانظر مكاتيب الرسول ٢ : ٣٠٠.

(٢) فتوح البلدان : ٧٩ ولسان الميزان ٣ : ٢٠ والاصابة ٣ برقم ٧٥٩٣ واسد الغابة ٤ : ٢٧١ وانظر مكاتيب الرسول ٢ : ٣٤٩.

(٣) اعلام الورى ١ : ٢٤٤.


وكان هرقل في موضعه (حمص (١) أو دمشق) (٢) لم يزحف ولم يتحرك ، وكان الذي اشيع في المدينة أنه بعث أصحابه ودنا الى أدنى الشام باطلا (٣).

الرجوع من تبوك :

مرّ عن اليعقوبي والطبرسي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله انتهى الى تبوك في شهر شعبان (٤) وعن ابن اسحاق : انّه أقام بها بضع عشرة ليلة (٥) وعن الواقدي أقام عشرين ليلة (٦) فقد أقبل إليهم شهر الله : شهر رمضان المبارك ، شهر الصيام.

فأجمع رسول الله على الرجوع من تبوك ، وقد أرمل الناس إرمالا شديدا ، وقد هزلت الابل ... فدخل عمر بن الخطاب على رسول الله فقال : يا رسول الله ...

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠١٥.

(٢) التنبيه والاشراف : ٢٣٦.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ١٠١٩. وقد قال المفيد : كان الله قد أوحى الى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يسير الى تبوك ، وأعلمه أنه لا يحتاج فيها الى حرب ولا يمنى بقتال عدو. الارشاد ١ : ١٥٤. وقال الواقدي : شاور رسول الله أصحابه للتقدم من تبوك الى الشام ، فقال عمر : ان كنت امرت بالمسير فسر! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لو امرت به ما استشرتكم فيه ٢ : ١٠١٩ مما يؤيد ما أفاده الشيخ المفيد قدس‌سره أنّه لم يكن مأمورا من ربّه بأكثر مما مرّ الى هنا في تبوك بلا تقدّم منه الى الشام ، وعليه فلم يرجع عن مشورة. ونقل الواقدي عن عمر قوله : وقد أفزعهم دنوّك ٢ : ١٠١٩ ولا دليل عليه وقد قال الواقدي : انهم لم يزحفوا ولم يتحركوا! وعليه فلا يصح ما في سيرة المصطفى : ٦٥٠ ـ ٦٥٣ وفي سيد المرسلين ٢ : ٥٦٨ ، ٥٦٩.

(٤) اليعقوبي ٢ : ٦٨ واعلام الورى ١ : ٢٤٤.

(٥) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٧٠.

(٦) مغازي الواقدي ٢ : ١٠١٥ و ١٠٦١.


ادع بفضل زادهم ثم اجمعها فادع الله فيها بالبركة ـ كما فعلت حيث أرملنا في الحديبية ـ فان الله عزوجل يستجيب لك! فأمر أن ينادوا الناس بذلك. فنادى منادي رسول الله : من كان عنده فضل من زاد فليأت به!

وأمر رسول الله فبسطت الانطاع (الجلود المدبوغة للمائدة) فجعل الرجل يأتي بالمدّ من الدقيق والتمر والسويق ، والقبضة منها ، وكسر الخبز ، فيوضع كل صنف من ذلك على حدة ، وكل ذلك ثلاثة أفراق (تسعة أصواع ـ ٢٦ كغم) ثم قام النبي فتوضأ وصلّى ركعتين ، ثم دعا الله عزوجل أن يبارك فيه.

ثم نادى مناديه : هلمّوا الى الطعام خذوا منه حاجتكم! فأقبل الناس وجعلوا يتزوّدون الزاد ، وكل من جاء بوعاء او جراب ملأه دقيقا وسويقا وخبزا! وكانت الأنطاع تفيض بما عليها حتى انتهوا ورسول الله واقف عليهم يقول : أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّي عبده ورسوله ، وأشهد انّه لا يقولها أحد من حقيقة قلبه إلّا وقّاه الله حرّ النار (١).

ورواه الراوندي فقال : شكوا إليه نفاد زادهم فقال : من كان عنده شيء من تمر أو دقيق او سويق فليأتني به. فجاء أحدهم بدقيق والآخر بكفّ سويق ، فبسط رداءه فجعلا ذلك عليه ، فوضع احدى يديه على احداهما والاخرى على الاخرى ، ثم قال : نادوا في الناس : من أراد الزاد فليأت! فأقبل الناس يأخذون حتى ملئوا جميع ما كان معهم من الأوعية وذلك الدقيق والسويق على حاله ما زاد ولا نقص من واحد منهما شيء على ما كان عليه (٢).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٣٧ ـ ١٠٣٩. عن أربعة من الصحابة : أبي هريرة وأبي زرعة الجهني وأبي حميد الساعدي وسهل بن سعد الساعدي.

(٢) الخرائج والجرائح ١ : ١٦٩ ح ٦٠.


وكرامة في وادي الناقة :

وقفل رسول الله من تبوك حتى كان قبل وادي الناقة (١) ، وكان فيه حجر من جبل يرشح من أسفله ماء بقدر ما يروي الراكبين أو الثلاثة ، فقال رسول الله : من سبقنا الى ذلك الوشل (الحجر المترشح في الجبل) فلا يستقين منه شيئا حتى نأتي!

فسبق إليه أربعة ممن كان مع النبي من المنافقين : الحارث بن يزيد الطائيّ حليف بني عمرو بن عوف الأوسيّين ، وزيد بن اللصيت ، ومعتّب بن قشير ، ووديعة بن ثابت (٢) فاستقوا ما فيه ، فلما أتاه رسول الله لم ير فيه شيئا ، فسأل : من سبقنا الى هذا الماء؟ فقيل له : يا رسول الله فلان وفلان. فقال : ألم أنههم أن يستقوا منه شيئا حتى آتيه؟! ثم لعنهم ودعا عليهم! ثم نزل فوضع يده تحت رشح الماء فجعل يصبّ في يده فرشّه به ومسحه بيده ودعا (٣) فروى الواقدي عن معاذ بن جبل كان يقول : فو الذي نفسي بيده انخرق الماء وان له حسّا كحسّ الصواعق ، فشرب الناس واستقوا ما شاءوا (٤).

وروى عن سلمة بن سلامة قال : فقلت لوديعة بن ثابت : ويلك! أبعد ما ترى شيء؟! أما تعتبر؟! فقال : لقد كان يفعل مثل هذا من قبل! (٥).

وروى بسنده عن أبي قتادة قال : بينما نحن مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نسير في الجيش ليلا ... ومعي ماء في اداوة وركوة (قربة صغيرة) فتوضأ النبي من ماء الاداوة معي وفضل منه شيء فقال لي : يا أبا قتادة احتفظ بما في الاداوة والركوة فان لهما شأنا!.

__________________

(١) وفي السيرة ٤ : ١٧١ : وادي المشقّق.

(٢) مغازي الواقدي ٣ : ١٠٣٩.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٧١ ومغازي الواقدي ٢ : ١٠٣٩ وقال : ألم أنهكم؟!

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٣٩ وابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٧١ بلا ذكر اسم معاذ.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٣٩.


ثم لحقنا الجيش غدا عند زوال الشمس وقد كادت أن تنقطع أعناقهم وخيلهم من العطش! فدعا رسول الله بالركوة وأفرغ فيها ما في الاداوة ثم وضع أصابعه عليها فنبع الماء من بين أصابعه وفاض حتى ارتوى الناس وارووا خيلهم وركابهم! وذلك قوله لي : احتفظ بما في الاداوة والركوة (١) وهو يقول : أشهد أني رسول الله حقّا (١) أو : اشهدوا اني رسول الله حقا (٣).

وقبل منزل الحجر :

وقبل أن يصل منزل الحجر عطش العسكر بعد المرّتين الاوليين عطشا شديدا حتى لا يوجد للشفة ماء قليل ولا كثير ، فشكو ذلك الى رسول الله ، فدعا اسيد بن حضير فجاء وهو متلثّم ، فقال له رسول الله : عسى أن تجد لنا ماء. فخرج يضرب في كل وجه ، فوجد امرأة معها قربة ماء فأخبرها بخبر رسول الله فقالت : فانطلق بهذا الماء الى رسول الله. فلما جاء به اسيد دعا فيه رسول الله بالبركة ثم قال : هلمّوا أسقينّكم! فلم يبق معهم سقاء إلّا ملئوه ، ثم دعا بركابهم وخيولهم فسقوها حتى نهلت ... ثم راحوا العصر مبردين متروّين من الماء (٤).

مؤامرة العقبة :

روى الراوندي عن الصادق عليه‌السلام قال : كان القرآن ينزل بكلام المنافقين حتى قال بعضهم لبعض : ما تأمنون ان تسمّوا في القرآن فتفضحوا انتم وعقبكم ، هذه عقبة بين أيدينا ـ عقبة فيق (٥) ـ لو رمينا به منها يتقطّع!

__________________

(١) و (٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٤٠ ، ١٠٤١.

(٣) الخرائج والجرائح ١ : ٢٨ ح ١٧ و ١٢٤ ح ٢٠٥.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٤١ ، ١٠٤٢.

(٥) عقبة فيق مشرفة على بحيرة طبرية وينحدر منها الى غور الاردن ، كما في معجم


فنزل جبرئيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : هذا فلان وفلان ـ حتى عدّهم ـ قد قعدوا ينفرون بك (١).

وكان من مسلمة الفتح أبو مروان الحكم بن أبي العاص بن اميّة وكان من أشد جيران رسول الله أذى له في الاسلام ، وبعد فتح مكة هاجرها الى المدينة (٢) فكان مع المسلمين في غزوة تبوك.

فروى الطوسي عن المفيد بسنده عن ابن عمر : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لما انتهى الى العقبة قال : لا يجاوزها احد. فعوّج الحكم بن أبي العاص فمه مستهزئا به (٣).

وروى الطبرسي عن الزجاج والكلبي : انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر الناس كلهم بسلوك بطن الوادي ، وسار رسول الله في العقبة ، وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان

__________________

البلدان ٤ : ٢٨٦ ومراصد الاطلاع ١ : ١٦٣ و ٣ : ١٠٥٢ هذا والمفروض انها بعد تبوك الى المدينة ، وقد مرّ أن تبوك تبعد عن الاردن بأكثر من ٢٠٠ كم فأين هم من غور الاردن وبحيرة طبريّة؟! هذا غريب.

وفي الخبر : عقبة ذي فيق ، ومثله غرابة ما جاء في خبر آخر أنها في طريق اليمن ٢ : ٤٩٢ ، ومثلهما غرابة ما في مراصد الاطلاع ٢ : ٩٤٨ : انها ماء لبني عكرمة في طريق مكة بعد واقصة وقبل القاع لمن يريد مكة. وفيه : أنها ليست العقبة بل بطن العقبة ، ثم هي المنزل العاشر من مكة الى العراق قبل العراق بمنزلين أو مرحلتين! انظر وقعة الطف : ١٥٧ ـ ١٧٧.

(١) الخرائج والجرائح ١ : ١٠٠ ح ١٦٢ واحتمال معقول ان يكون سبب ذلك حديث المنزلة منه لعلي عليه‌السلام.

(٢) أنساب الاشراف ٥ : ٢٧.

(٣) أمالي الطوسي : ١٧٥ ح ٢٩٥. وتمامه : فدعا عليه النبيّ فصرع شهرين ثمّ أفاق ، فأخرجه النبيّ عن المدينة ونفاه عنها طريداً. وقد دخلها بعد فتح مكّة وولد له فيها ابنه مروان ، فخرج إلى الطائف حتى ردّه عثمان أول خلافته آخر سنة (٢٤ هـ) وهو عمّ عثمان.


معه أحدهما يقود ناقته والآخر يسوقها ، وكان الذين همّوا بقتله اثني عشر رجلا أو خمسة عشر رجلا. فروى عن الباقر عليه‌السلام : كان ثمانية منهم من قريش وأربعة من العرب (١).

وعنه عليه‌السلام قال : انهم ائتمروا بينهم ليقتلوه ، وقال بعضهم لبعض : ان فطن نقول : انما كنا نخوض ونلعب ، وان لم يفطن نقتله! وكان حذيفة يسوق دابّته ، فلما أمر جبرئيل رسول الله أن يرسل إليهم ويضرب وجوه رواحلهم ، قال لحذيفة : اضرب وجوه رواحلهم. فضربها حتى نحّاهم.

فلما نزل (من الجبل) قال لحذيفة : من عرفت من القوم؟ قال : لم أعرف منهم أحدا. فقال رسول الله : انهم فلان وفلان ، حتى عدّهم كلّهم.

فقال حذيفة : الا تبعث إليهم فتقتلهم؟!

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : اكره أن تقول العرب : لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم (٢) وعن

__________________

(١) مجمع البيان ٥ : ٧٩ عن التبيان ٥ : ٢٦١ عن الزجاج والواقدي.

(٢) مجمع البيان ٥ : ٧٠ والخبر عن الباقر عليه‌السلام في تفسير العياشي ٢ : ٩٥ ح ٨٤ : انهم اجتمعوا اثنا عشر : التيمي والعدوي والعشرة معهما ، فكمنوا لرسول الله في العقبة ، وائتمروا بينهم ليقتلوه ... وفي تفسير القمي ١ : ٣٠١ بسنده عنه عليه‌السلام قال : قعدوا لرسول الله في العقبة وهمّوا بقتله. فقط ، مختزلا.

وذيل خبر المجمع جاء في ذيل الخبر السابق عن الخرائج عن الصادق عليه‌السلام : انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ناداهم : يا أعداء الله يا فلان ويا فلان حتى سمّاهم كلهم بأسمائهم. وفي هذا الخبر عن حذيفة : انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا نام على ناقته قصّرت في السير ، وفي تلك الليلة قلت في نفسي : لا افارق هذه الليلة رسول الله ، وحبست ناقتي معه ... فلما نادى المنافقين نظر فإذا به يراني فقال لي : عرفتهم؟ قلت : نعم. فقال : لا تخبر بهم أحدا! فقلت : يا رسول الله أفلا تقتلهم؟ قال : اني اكره أن يقول الناس : قاتل بهم حتى ظفر فقتلهم. الخرائج والجرائح للراوندي ١ : ١٠٠ ح ١٦٢.


__________________

ـ وفي كتابه قصص الأنبياء : ٣٠٩ روى عن الصدوق بسنده عنه عليه‌السلام قال : لما انتهى الى العقبة وقد جلس عليها أربعة عشر رجلا ثمانية من قريش (كما في خبر الباقر عليه‌السلام) وستة من أفناء الناس ... فناداهم رسول الله : يا فلان ويا فلان ... انتم قعود لتنفروا ناقتي؟! وكان حذيفة خلفه فلحق به فقال له : يا حذيفة سمعت؟ قال : نعم ، قال : فاكتم.

وبناء على هذين الخبرين : فهل يفترض انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يأمر الناس ـ بما فيهم حذيفة وعمار ـ بسلوك الوادي ولم يمنعهم من سلوك العقبة؟! أو كان ذلك ومع ذلك قال حذيفة : لا والله لا افارق رسول الله. كما في الخبر الأول عن الخرائج؟! ثم ما ذا عن عمّار؟ ثم في الخبر الثاني عن القصص : قال يا حذيفة سمعت؟ ولكن في الأول : قال : عرفتهم؟ قلت : نعم برواحلهم وهم متلثمون! وكيف يمكن ذلك؟! ثم أليس نهاه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن لا يخبر بهم أحدا وأمره بالكتمان؟ فهل كتم؟

وقد نقل الصدوق في الخصال ٢ : ٤٩٩ بسنده عن زياد بن المنذر بن الجارود العبدي المنسوب إليه فرقة الجارودية من الزيدية عن مشيخته عن حذيفة بن اليمان قال : الذين نفروا برسول الله ناقته (كذا!) في منصرفه من تبوك أربعة عشر : أبو الشرور ، وأبو الدواهي ، وأبو المعازف وابوه ، وطلحة ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبو عبيدة ، والمغيرة ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وخالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري ، وعبد الرحمن بن عوف. فهو إن كنّى عن اربعة فقد باح بعشرة!

ولهذا علّق محقق بحار الأنوار ٢١ : ١٣٨ الشيخ البهبودي يقول : انما أراد صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يستر عليهم ليتمّ ابتلاء المسلمين وليجري قضاء الله بافتتان امته ، وعليه فأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله لحذيفة بالكتمان لم يكن مولويا وانما كان ارشاديا (كذا) ولذلك نرى حذيفة اكتتم ذلك طول حياته وبعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكنه في أواخر عمره حين تم الافتتان كان يعرّض أحيانا ويصرّح اخرى بأسماء بعضهم كأبي موسى الأشعري.

فقد روى ابن شاذان (م ٢٦٠ ه‍) في الايضاح : ٦١ والطبري الامامي (ق ٤) في المسترشد : ١٣ ط. النجف و ١٥٨ ط. قم بسند واحد عن حذيفة قال : والله ما في أصحاب


الامام العسكري عليه‌السلام قال : ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر في منتصف الليل بالرحيل وأمر مناديه فنادى : الا لا يسبقن رسول الله أحد الى العقبة ولا يطؤها حتى يجاوزها رسول الله. ثم أمر حذيفة أن يقعد في أصل العقبة فينظر من يمرّ بها فيخبر رسول الله!

فقال حذيفة : يا رسول اني أتبيّن الشرّ في وجوه رؤساء عسكرك ، واني أخاف ان قعدت في أصل الجبل وجاء منهم من أخاف أن يتقدّمك الى هناك للتدبير عليك ، يحسّ بي فيكشف عنّي فيعرفني ويخافني فيقتلني!

فقال رسول الله : انك اذا بلغت أصل العقبة فاقصد اكبر صخرة هناك الى جانب أصل العقبة ... وجاءوا على جمالهم ... يقول بعضهم لبعض : من رأيتموه هاهنا كائنا من كان فاقتلوه لئلا يخبروا محمّدا انهم قد رأونا هنا فينكص محمّد ولا يصعد هذه العقبة الا نهارا ، فيبطل تدبيرنا عليه ... ثم تفرقوا فبعضهم عدل عن الطريق المسلوك وصعد الجبل ، وبعضهم وقف على سفح الجبل عن يمين وشمال وهم يقولون : ألا ترون أجل محمّد كيف أغراه فمنع الناس من صعود العقبة حتى يقطعها هو لنخلوا به هاهنا فيمضي فيه تدبيرنا وأصحابه عنه بمعزل؟!

فلما تمكّن القوم على الجبل حيث أرادوا ... أقبل حذيفة فأخبر رسول الله بما رأى وسمع. فقال رسول الله : أو عرفتهم بوجوههم؟ قال : يا رسول الله كانوا متلثّمين ، ولكنّي عرفت أكثرهم بجمالهم ، ولما فتّشوا الموضع ولم يجدوا أحدا أحدروا اللثام فرأيت وجوههم فعرفتهم بأعيانهم وأسمائهم : فلان فلان ...

فقال رسول الله : يا حذيفة اذا كان الله يثبّت محمّدا لم يقدر هؤلاء ولا الخلق أجمعون أن يزيلوه ، ان الله تعالى بالغ أمره ولو كره الكافرون.

__________________

ـ رسول الله أحد أعرف بالمنافقين منّي ، وأنا أشهد أن أبا موسى الأشعري منافق! وانظر الاستيعاب بهامش الاصابة : ٢٧٣. وسيأتي مثل ذلك في منصرف النبيّ من غدير خم.


ثم قال : يا حذيفة فانهض بنا أنت وعمار وسلمان (كذا) وتوكلوا على الله ، فاذا جزنا الثنية الصعبة فأذنوا للناس أن يتّبعونا. فصعد رسول الله وهو على ناقته وحذيفة وسلمان أحدهما آخذ بخطام ناقته يقودها ، والآخر خلفها يسوقها ، وعمار الى جانبها ، والقوم على جمالهم ورجالتهم منبثّون حوالي الثنية على تلك العقبات ، وقد جعل الذين فوق الطريق حجارة في دباب (قرب) فدحرجوها من فوق لينفروا الناقة برسول الله لتقع في المهوى الذي يهوّل الناظر النظر إليه من بعد ، ولكنّها لما قربت من ناقة رسول الله ارتفعت ارتفاعا عظيما فجاوزت ناقة رسول الله فسقطت في جانب المهوى ، ولم يبق منها شيء الا صار كذلك ، وناقة رسول الله كأنها لا تحسّ بشيء من تلك القعقعات التي كانت للدباب.

ثم قال رسول الله لعمّار : اصعد الجبل فاضرب بعصاك هذه وجوه رواحلهم فارم بها. ففعل عمّار ذلك ، فنفرت بهم فبعضهم سقط فانكسرت عضده ، ومنهم من انكسرت رجله ، ومنهم من انكسر جنبه (١).

__________________

(١) التفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه‌السلام وعنه في الاحتجاج للطبرسي ١ : ٦٤ ـ ٦٦ وعنهما في بحار الأنوار ٢١ : ٢٢٩ ـ ٢٣١.

وقال الواقدي : وكان رسول الله ببعض الطريق وأمامه عقبة اذ مكر به اناس من المنافقين وائتمروا أن يطرحوه من تلك العقبة ، واخبر رسول الله خبرهم ، فلما بلغ رسول الله تلك العقبة قال للناس : اسلكوا بطن الوادي فانه أوسع لكم وأسهل. فسلك الناس بطن الوادي وسلك رسول الله العقبة ، وأمر عمار بن ياسر أن يأخذ بزمام الناقة يقودها ، وأمر حذيفة بن اليمان يسوق من خلفه.

فبينا رسول الله يسير في العقبة اذ سمع حسّ القوم قد غشوه ، فأمر حذيفة أن يردّهم ، فرجع حذيفة إليهم وجعل يضرب وجوه رواحلهم بمحجن في يده ، فانحطوا من العقبة مسرعين حتى خالطوا الناس. ورجع حذيفة حتى أتى رسول الله فساق به ... فقال له النبي :


__________________

ـ يا حذيفة هل عرفت أحدا من الركب الذين رددتهم؟ قال : يا رسول الله كان القوم متلثّمين ومن ظلمة الليل فلم ابصرهم وعرفت راحلة فلان وفلان.

فروى بسنده عن أبي سعيد الخدري قال : ان رسول الله سمّى لحذيفة وعمّار اهل العقبة الذين أرادوا بالنبي وهم ثلاثة عشر رجلا.

وروى بسنده عن نافع بن جبير قال : لم يخبر رسول الله أحدا الّا حذيفة ، وهم اثنا عشر رجلا. ثم ادّعى : ليس فيهم قريشيّ. ودعمه الواقدي ، بينما روى بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن عمار قال : اشهد ان الخمسة عشر رجلا اثنا عشر رجلا منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد!

قال : ولما خرج رسول الله من العقبة نزل الناس ... فلما أصبح تقدم إليه اسيد بن حضير الأوسي فقال له : يا رسول الله ، ما منعك البارحة من سلوك الوادي فقد كان أسهل من العقبة؟ فقال : يا أبا يحيى ، أتدري ما أراد المنافقون البارحة وما همّوا به؟ قالوا : نتّبعه في العقبة فاذا أظلم عليه الليل قطعوا أنساع (حبال) ناقتي ونخسوها حتى يطرحوني من راحلتي! فقال اسيد : يا رسول الله ، فقد نزل الناس واجتمعوا ... فان احببت فنبّئني بهم فلا تبرح حتى آتيك برءوسهم! وأمرت سيد الخزرج [سعد بن عبادة] فكفاك من في ناحيته ، أومر كل بطن أن يقتل الرجل الذي همّ بهذا فيكون الرجل من عشيرته هو الذي يقتله ... فان مثل هؤلاء يتركون يا رسول الله؟! حتى متى نداهنهم وقد صاروا اليوم في القلة والذلة وضرب الإسلام بجرانه (برقبته ـ استقر) فما يستبقى من هؤلاء؟!

فقال رسول الله لاسيد : اني اكره أن يقول الناس : إنّ محمّدا لما انقضت الحرب بينه وبين المشركين وضع يده في قتل أصحابه! فقال : يا رسول الله ، فهؤلاء ليسوا بأصحاب! قال رسول الله : أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلّا الله؟ قال : بلى ، ولا شهادة لهم! قال : أليس يظهرون اني رسول الله؟ قال : بلى ولا شهادة لهم! قال : فقد نهيت عن قتل اولئك. مغازي الواقدي ٢ : ١٠٤٢ ـ ١٠٤٥.


احراق مسجد النفاق :

قال ابن اسحاق : ثم اقبل رسول الله حتى نزل بذي أوان : بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار (١) فيقال : خرج إليه المنافقون المتخلّفون يستقبلونه ، فقال رسول الله : لا تكلّموا أحدا منهم تخلّف عنا ولا تجالسوه حتى آذن لكم (٢).

وأتاه خبر مسجد الضرار وأهله من السماء (٣) قال القمي : فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عامر بن عدي من بني عمرو بن عوف الأوسي ومالك بن الدّخشم الخزاعي على أن يحرّقوه ويهدّموه! فلما بلغا الى قباء ذهب مالك الخزاعي الى داره فجاء بناره ، وأشعل به سعف النخل ثم أشعله في المسجد ، وكانوا فيه فتفرّقوا فلمّا احترق البناء هدّموا حيطانه (٤).

__________________

ـ وذكر طرفا منه مسلم في الصحيح كتاب المنافقين برقم ١١ وأشار إليه في ٨ : ١٢٣ وأحمد في المسند ٥ : ٣٩٠ ، ٣٩١ و ٤٥٣ وعنه الطبراني (م ٣٦٠ ه‍) في المعجم الكبير ٦ : ١٩٥ وعنه الهيثمي في مجمع الزوائد ١ : ١١٠ والبيهقي في دلائل النبوة بسنده عن عروة بن الزبير ٥ : ٢٥٦ وعنه في اعلام الورى ١ : ٢٤٥ ، ٢٤٦ وعنه في بحار الأنوار ٢١ : ٢٤٧ ح ٢٥. وكذلك ابن الأثير في الجامع ١٢ : ١٩٩ ونقل المعتزلي في شرح النهج ٢ : ١٠٣ عن كتاب المفاخرات للزبير بن بكار عن الحسن بن علي عليه‌السلام في مجلس معاوية قال : يوم اوقفوا الرسول في العقبة ليستنفزوا ناقته كانوا اثنا عشر رجلا منهم أبو سفيان. وعن المحلى لابن حزم (م ٤٥٦ ه‍) ١١ : ٢٥٥ نقل حديث حذيفة وان فيهم أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة وسعد بن أبي وقاص ثم شكك في صحته.

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٧٤.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٤٩.

(٣) لم يذكر ابن اسحاق : من السماء ولم يذكر الواقدي : في القرآن ، وزاد القمي ٢ : ٣٠٥ والطبرسي ٥ : ١٠٩ نزلت عليه الآية بشأن المسجد. ثم يصرح هو بأن سورة التوبة وآيات مسجد الضرار نزلت بعد رجوعه بأكثر من خمسين يوما ٥ : ١٠٥ و ١٢٠.

(٤) تفسير القمي ١ : ٣٠٥.


ويبدو انّ الطوسي في «التبيان» نقل عن قتادة ومجاهد عن ابن عباس قال : دعا رسول الله عاصم بن عوف العجلاني ومالك بن الدخشم وهو من بني عمرو بن عوف وقال لهما : انطلقا الى هذا المسجد الظالم أهله فأهدماه ثم حرّقاه! فخرجا يمشيان على أقدامهما! ففعلوا ما امروا به (١).

وزاد الطبرسي في «مجمع البيان» قال : وروى انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث عمار بن ياسر ومعه وحشي ـ قاتل حمزة ـ ليحرّقوه ، وأمر أن يتّخذ موضعه كناسة تلقى فيها النفايات (٢).

وإلى المدينة :

وصبّح النبي الى المدينة (٣) في شهر رمضان (٤) روى انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لما أشرف على

__________________

(١) التبيان ٥ : ٢٩٨.

(٢) مجمع البيان ٥ : ١١٠ هذا والمعروف ان النبي قال لوحشي يوم اسلامه بعد فتح مكة : اعزب وجهك عنّي. وزاد الواقدي : انتهيا إليه بين المغرب والعشاء وهم فيه ، وامامهم مجمّع بن جارية بن عامر ، فأحرقوه ، وثبت فيه اخو مجمع زيد بن جارية بن عامر فاحترقت أليته. مغازي الواقدي ٢ : ١٠٤٦ واشتبه اسم الرجل بزيد بن حارثة فجاء هكذا في تفسير القمي والتبيان ، مع انّه سماه ابن عامر وليس زيد بن حارثة بن عامر! وتركه الطبرسي.

واما عن أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله ان يتّخذ موضعه كناسة ، فقد روى الواقدي : انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد نزول سورة التوبة والآيات بشأن المسجد عرض على عدي بن عاصم أن يتخذه دارا فأبى واقترح أن يعطيه لثابت بن أقرم فانه لا منزل له فاعطاه اياه. وهذا أولى وأقرب وأنسب ، وهو يفيد مصادرته لموضع المسجد ، كأنه غنيمة حرب لمحاربين للاسلام.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٧٧ ومغازي الواقدي ٢ : ١٠٤٩.

(٤) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٨٢ ومغازي الواقدي ٢ : ١٠٥٦ عن عائشة.


المدينة قال : هذه طابة ، وهذا احد جبل يحبّنا ونحبّه! ثم قال : انّ بالمدينة لأقواما ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد الّا كانوا معكم فيه! فقالوا : يا رسول الله وهم بالمدينة؟! قال : نعم ، وهم بالمدينة ، حبسهم العذر (١).

وعن كتاب أبان بن عثمان البجلي الأحمر الكوفي عن الأعمش الكوفي قال : وقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة ، فاستقبل بالحسن والحسين عليهما‌السلام ، فأخذهما إليه ودخل على امهما ابنته فاطمة وعلي عليهما‌السلام ، وانتظره المسلمون على الباب ، حتى اذا خرج حفّوا به حتى دخل منزله ، ثم تفرّقوا عنه (٢).

ثم بدأ بالمسجد فصلّى فيه ركعتين (تحية المسجد) ثم جلس للناس ، وهكذا كان يفعل اذا قدم من السفر. وكان قد تخلّف عنه بضعة وثمانون رجلا (٣) ، فأخذ هؤلاء يأتون إليه فيعتذرون إليه ويحلفون له ، فيكل سرائرهم الى الله ويقبل منهم ايمانهم وعلانيتهم فيستغفر لهم (٤).

الثلاثة المتخلّفون :

وقد مرّ ذكر نفر ممّن تعوّق عن اللحاق به صلى‌الله‌عليه‌وآله بلا شك ونفاق ، منهم كعب بن

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٥٦ ولو كان خروجه في ٢٥ رجب ووصوله الى تبوك في ١٥ شعبان وعودته منها في ٥ رمضان فوصوله في ٢٥ رمضان.

(٢) اعلام الورى ١ : ٢٤٧ عن كتاب أبان.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٧٧ ومغازي الواقدي ٢ : ١٠٤٩ و ٩٩٥ وقال أيضا : عسكر الرسول على ثنيّة الوداع ، وعسكر عبد الله بن أبي بحذائه فكان يقال : ليس عسكره بأقل العسكرين وكذلك في السيرة ٤ : ١٦٢! ثم لم يبين ما النسبة بين هذا القول وبين كون المتخلفين ثمانين رجلا؟!

(٤) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٧٧ ومغازي الواقدي ٢ : ١٠٤٩.


مالك شاعره ، وقد مرّ صدر خبره عن تفسير القمي ، وإليكم هنا بقيته ، يقول عن نفسه وصاحبيه مرارة بن الربيع وهلال بن أميّة الواقفي :

لما بلغنا اقبال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ندمنا ، فلما وافى رسول الله استقبلناه (١) نهنئه بالسلامة ، فسلّمنا عليه ، فاعرض عنّا ولم يرد علينا السلام (٢) وسلمنا على اخواننا فلم يردّوا علينا السلام. وبلغ ذلك أهلنا فقطعوا كلامنا! وكنا نحضر المسجد فلا يسلّم علينا احد ولا يكلّمنا! وجاء نساؤنا الى رسول الله فقلن له : قد بلغنا سخطك على أزواجنا ، أفنعتزلهم؟

فقال رسول الله : لا تعتزلنهم ولكن لا يقربوكن!

فلما رأى كعب بن مالك وصاحباه ما قد حلّ بهم قالوا : ما يقعدنا في المدينة ولا يكلّمنا رسول الله ولا اخواننا ولا أهلونا؟! فهلمّوا نخرج الى هذا الجبل فلا نزال فيه حتى يتوب الله علينا أو نموت! فخرجوا الى جبل ذناب (٣) بالمدينة ، فكانوا يصومون ، وكان أهلوهم يأتون بالطعام فيضعونه ناحية ثم يولّون عنهم فلا يكلّمونهم.

__________________

(١) كذا رواه القمي مرسلا ، ورواه الواقدي في المغازي ٢ : ١٠٤٩ ـ ١٠٥٦ وابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٧٥ ـ ١٨٠ مسندا وفيه : وصبّح رسول الله المدينة وبدأ بالمسجد فصلّى ركعتين ثم جلس للناس فجئت فسلّمت عليه فتبسّم مغضبا ثم قال : تعال ...

(٢) كذا ، ولا يقول به الفقهاء حتى في الانكار على أصحاب المنكرات.

(٣) وروى الواقدي في المغازي ٢ : ١٠٥٦ عن ايوب عن أبيه النعمان عن أبيه عبد الله عن أبيه كعب بن مالك (وكان مالك يكنّى أبا القين) : ان كعب بن مالك بنى خيمة (كذا) على جبل سلع وقال في شعر له :

أبعد دور بني القين الكرام وما

شادوا عليّ ، بنيت البيت من سعف

ونقله الطوسي في التبيان ٥ : ٢٩٧ عن مجاهد وقتادة ، وعنه في مجمع البيان ٥ : ١٠٥.


فبقوا على هذا أياما كثيرة (١) يبكون بالليل والنهار ويدعون الله أن يغفر لهم. فلما طال عليهم الأمر قال لهم كعب : يا قوم ، قد سخط الله علينا ورسوله واهلونا وإخواننا فلا يكلمنا أحد ، فلم لا يسخط بعضنا على بعض؟ فحلفوا أن لا يكلم أحد منهم صاحبه حتى يموت وتفرّقوا في الليل وبقوا على هذه ثلاثة أيام ، كل واحد منهم في ناحية من الجبل لا يرى أحد منهم صاحبه ولا يكلّمه. وفي الليلة الثالثة كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيت أمّ سلمة ، اذ نزلت توبتهم على رسول الله قوله : (لَقَدْ تابَ اللهُ ...)(٢).

ونقل الطوسي في «التبيان» عن مجاهد وقتادة عن ابن عباس وعن جابر

__________________

(١) وفي خبر كعب في السيرة ٤ : ١٧٨ و ١٧٩ و ١٨٠ ومغازي الواقدي ٢ : ١٠٥١ و ١٠٥٢ و ١٠٥٣ وفي التبيان ٥ : ٢٩٦ عن مجاهد وقتادة وعنه في مجمع البيان ٥ : ١٠٥ جاء : خمسين ليلة.

(٢) وفصّله الواقدي عن أمّ سلمة قالت : قال لي رسول الله ليلا : يا أمّ سلمة ، قد نزلت توبة كعب بن مالك وصاحبيه! فقلت : يا رسول الله الا ارسل إليهم فابشّرهم؟! فقال : لا ، لا يرون حتى يصبحوا.

فلمّا صلّى رسول الله الصبح أخبر الناس بتوبة الله على هؤلاء النفر : كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أميّة من بني عبد الأشهل ، وكان قد وافى لصلاة الصبح من بني عبد الأشهل الأخوان أبو نائلة سلكان وسلمة ابنا سلامة بن وقش ، فانطلقا الى مرارة فأخبراه. وخرج أبو الأعور سعيد بن زيد الى هلال ببني واقف ، فلمّا بشّره سجد وبكى وكان بكاؤه بالسرور أكثر منه بالحزن! ثم قام فما استطاع المشي لما فيه من الضعف فركب حمارا. وخرج الزبير على فرسه الى بطن الوادي (عن الواقدي) وسعى ساع من بني أسلم حتى أوفى على جبل سلع فبلغني صوته قبل الراكب ، فلما جاءني لم أكن املك يومئذ سوى ثوبين عليّ فنزعتهما وكسوتهما اياه بشارة ، واستعرت ثوبين لنفسي وانطلقت الى رسول الله (السيرة) وقال الواقدي : انّ الذي وافى كعبا على سلع هو أبو بكر ، ولم يرو قصة الثوبين! ٢ : ١٠٥٣.


الأنصاري : انه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ما عذر المنافقين وجميع المتخلّفين وكانوا نيّفا وثمانين ، نهى عن الكلام مع هؤلاء الثلاثة (١) وتقدم الى المسلمين بأن لا يكلّمهم أحد منهم. فهجرهم الناس حتى الصبيان.

وجاءت نساؤهم الى رسول الله فقلن له : يا رسول الله نعتزلهم؟ فقال : لا ، ولكن لا يقربوكن (٢).

__________________

(١) التبيان ٥ : ٢٩٦ وعنه في مجمع البيان ٥ : ١٠٤.

(٢) التبيان ٥ : ٣١٦ وعنه في مجمع البيان ٥ : ١٢٠ وفصّله ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٧٨ عن الزهري عن عبد الرحمن عن أبيه عبد الله عن أبيه كعب بن مالك ، قال : اجتنبنا الناس وتغيّروا لنا حتى تنكرت لي الأرض فما هي التي كنت أعرف! حتى مضت أربعون ليلة ، إذ أتاني رسول من قبل رسول الله (خزيمة بن ثابت ـ الواقدي) فقال : انّ رسول الله يأمرك أن تعتزل امرأتك! فقلت : اطلّقها؟ قال لا ولكن اعتزلها ولا تقربها ، فقلت لامرأتي : الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ما هو قاض. هذا وأنا شاب.

وكان هلال بن أميّة شيخا كبيرا لا خادم له ، فمضت امرأته الى رسول الله فقالت : يا رسول الله ، إنّ هلال بن أميّة شيخ كبير لا خادم له أفتكره أن أخدمه؟ قال : لا ولكن لا يقربنك! قالت : يا رسول الله والله ما به حركة الي ، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان الى يومه هذا حتى تخوفت على بصره!

فلما أذن لامرأة هلال أن تخدمه قال لي بعض أهلي : لو استأذنت رسول الله لامرأتك أن تخدمك ، فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه. فقلت : لا استأذنه فانّي لا أدري ما يقول في ذلك وأنا شاب.

ونزلت يوما الى السوق ، فبينا أنا فيه إذا نبطيّ من أهل الشام كان قد قدم بطعام يبيعه بالمدينة ، يقول : من يدلّني على كعب بن مالك؟ فأشار إليه الناس فجاءني ، وإذا به يحمل إليّ رسالة في شقة من حرير من ملك بني غسّان ، فقرأتها فإذا فيها : «أما بعد فانّه قد بلغنا انّ صاحبك قد جفاك ، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة! فالحق بنا نواسيك» فقلت في نفسي :


فأقام هؤلاء الثلاثة على ذلك ، وأقام كعب لنفسه على جبل سلع كوخا من سعف النخيل وقال في ذلك شعرا :

أبعد دور بني القين الكرام وما

شادوا عليّ ، بنيت البيت من سعف؟! (١)

وخرجوا الى رءوس الجبال ، فكان أهاليهم يجيئون لهم بالطعام ويتركونه لهم ولا يكلّمونهم. فقال بعضهم لبعض : قد هجرنا الناس ولا يكلّمنا أحد ، فهلّا نتهاجر نحن أيضا؟! فتفرّقوا ولم يجتمعوا وثبتوا على ذلك نيفا وأربعين يوما (٢) أو خمسين ليلة ...

ثم نزلت الآيات بتوبتهم ليلا ، فأصبح المسلمون يبتدرونهم يبشّرونهم. قال كعب : وكان رسول الله إذا سرّ يستبشر كأن وجهه فلقة قمر ، فجئته واذا وجهه يبرق

__________________

ـ قد بلغ بي ما وقعت فيه أن طمع فيّ رجل من أهل الشرك! فهذا من البلاء أيضا. وذكره الواقدي في المغازي ٢ : ١٠٥١ وردّد اسم الملك بين جبلة بن الايهم وبين الحارث بن أبي شمر.

(١) التبيان ٥ : ٢٩٦ ، ٢٩٧ وعنه في مجمع البيان ٥ : ١٠٤ ، ١٠٥ وقالوا : نصب خيمة. والقين اسم جدّه كما في الاستيعاب : ١٣٢٣. وكما في مغازي الواقدي ٢ : ١٠٥٦ وروى البيت عن أيوب بن النعمان بن عبد الله بن كعب.

(٢) التبيان ٥ : ٣١٦ وعنه في مجمع البيان ٥ : ١٢٠ وفيه : ١٠٠ قال أبو حمزة الثمالي : بلغنا أنهم ثلاثة نفر من الأنصار : أبو لبابة بن عبد المنذر وثعلبة بن وديعة وأوس بن حذام تخلّفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عند مخرجه الى تبوك ، فلما بلغهم ما انزل الله فيمن تخلّف عن نبيّه أيقنوا بالهلاك وأوثقوا أنفسهم بسواري المسجد فلم يزالوا كذلك حتى قدم رسول الله (كذا) فلما نزل قوله (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) عمد النبيّ إليهم فحلّهم. فهو يفترض نزول الآيات فيمن تخلّف قبل قدومه صلى‌الله‌عليه‌وآله من تبوك ثم نزول قبول توبتهم بعد ذلك ، وانهم بقوا هذه المدة موثقين بسواري المسجد!


من السرور فلمّا رآني قال لي : أبشر بخير يوم طلع عليك شرقه منذ ولدتك امك! فقلت : يا رسول الله من عندك أو من الله؟ فقال : من عند الله. فتصدّق كعب بثلث ماله شكرا لله على قبول توبته (١).

إسلام كعب بن زهير الشاعر (٢) :

كان لكعب أخ يدعى بجير بن زهير كان قد أسلم وهاجر الى المدينة ، وكان كعب ممن يؤذي النبي ويهجوه ، فلما أسلم أخوه بجير وهاجر هجاه بقوله :

فمن مبلغ عني بجيرا رسالة

فهل لك فيما قلت بالخيف هل لكا

شربت مع المأمون كأسا رويّة

فأنهلك المأمون منها وعلّكا (٣)

وخالفت أسباب الهدى واتّبعته

على أيّ شيء ويب غيرك دلّكا (٤)

على خلق لم تلف امّا ولا أبا

عليه ولم تدرك عليه أخا لكا (٥)

فان أنت لم تفعل فلست بآسف

ولا قائل إمّا عثرت : لعا لكا (٦)

__________________

(١) التبيان ٥ : ١٩٧ وعنه في مجمع البيان ٥ : ١٠٥ وجاء تفصيله في السيرة ٤ : ١٨٠ وقلت يا رسول الله إن من توبتي الى الله وإلى رسوله أن أنخلع من مالي الى الله ورسوله! فقال رسول الله : أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك ، فقلت : اني ممسك سهمي الذي بخيبر. وزاد الواقدي : قال : لا ، قلت : فالنصف. قال : لا. قلت : فالثلث. قال : نعم ـ مغازي الواقدي ٢ : ١٠٥٥.

(٢) قال القمي في سفينة البحار ٦ : ١٨٣ : إنّ قدوم كعب كان في شهر شعبان سنة تسع ، بينما كان في شعبان في تبوك ، ولذلك أخّرناه الى هنا.

(٣) يقول له : شربت مع النبي الأمين شراب الاسلام فسقاك النهل وهو الشربة الاولى وسقاك العلل وهي الشربة الثانية.

(٤) ويب غيرك : هلاك غيرك.

(٥) كقولهم : ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين.

(٦) يقول له : وان ما عثرت في دهرك لا أقول لك : لعا لك ، وهي كلمة كانت تقال للعاثر.


وبعث بها الى بجير.

قال ابن اسحاق : وانما قال كعب : «مع المأمون» لما كانت تقوله قريش لرسول الله «الأمين» ، ولما أنشدها بجير له صلى‌الله‌عليه‌وآله وسمع منها : سقاك بها المأمون ، قال : صدق ، أنا المأمون ، وانه لكذوب. ولما سمع : على خلق لم تلف اما ولا أبا عليه قال : اجل ، لم يلف عليه أباه ولا أمه. ومن لقي منكم كعب بن زهير فليقتله (١).

ولما فتح النبيّ مكة وقتل رجالا منهم ممن كان يهجوه ويؤذيه وهرب هبيرة بن أبي وهب وابن الزبعرى من شعراء قريش ، وعفا عمن جاءه تائبا منهم ، كان كعب بن زهير ممن هرب على وجهه ، فكتب إليه اخوه بجير بن زهير : انّ رسول الله قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه ، وان من بقي من شعراء قريش : ابن الزبعرى وهبيرة بن أبي وهب قد هربوا في كل وجه ، فان كانت لك في نفسك حاجة فطر الى رسول الله ، فانه لا يقتل احدا جاءه تائبا ، وان أنت لم تفعل فانج الى نجائك من الأرض. وكتب إليه شعرا :

فمن مبلغ كعبا : فهل لك في التي

تلوم عليها باطلا وهي أحزم؟

الى الله لا العزى ولا اللات وحده

فتنجوا اذا كان النجاء وتسلم

لدى يوم لا ينجو وليس بمفلت

من الناس الا طاهر القلب مسلم

فدين زهير ـ وهو لا شيء دينه ـ

ودين أبي سلمى عليّ محرّم (٢)

فلما بلغ الكتاب الى كعب وعلم به الناس في حيّه الذي هو فيه ، قالوا فيه : انّه

__________________

(١) نقله الزرقاني في المواهب اللدنية في شرح السيرة النبوية عن ابن الأنباري. وما قبله عن ابن هشام في السيرة ٤ : ١٤٥.

(٢) التي تلوم عليها : الاسلام. أبو سلمى : أبوهما ، ويقول : دينه عليّ محرّم جوابا لقول أخيه : على خلق لم تلف اما ولا أبا عليه ولم تدرك عليه أخا لكا.


لمقتول ، فضاقت به الأرض وخاف على نفسه ولم يجد بدا من أن يستجيب لأخيه ويسلم ويكفّر عن هجوه النبيّ بمدحه بقصيدة ، فنظم قصيدته اللامية نحو ستين بيتا ، وحملها وخرج نحو المدينة.

ولم يستجر بأخيه بجير لأمر ما ، وانما كان يعرف رجلا من جهينة فنزل عليه ليلا وعرّفه أمره.

فلما أذّن بلال لصلاة الفجر خرج الجهني بكعب وصليا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم أشار إليه وقال : هذا رسول الله فقم إليه فاستأمنه.

فقام الى رسول الله حتى جلس إليه ، ورسول الله لا يعرفه ، فوضع يده في يده وقال : يا رسول الله ، ان كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائبا مسلما ، فان أنا جئتك به فهل أنت قابل منه؟ قال : نعم. فقال : يا رسول الله فأنا كعب بن زهير. فوثب رجل من الأنصار وقال : يا رسول الله ، دعني وعدوّ الله اضرب عنقه! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : دعه عنك ، فانه قد جاء تائبا نازعا عما كان عليه (١) فأسلم (٢).

وقال ابن هشام : انما قال كعب قصيدته في المدينة بعد قدومه إليها (٣).

ويؤيّده ما رواه ابن اسحاق عن عاصم بن قتادة الأنصاري : أن كعبا في قصيدته لم يخص المهاجرين بمدحته ، بل عرّض بهم بقوله فيها عنهم «السود التنابيل» ـ أي السود القصار ـ (٤) فروى ابن هشام انه صلى‌الله‌عليه‌وآله حين انشده كعب قصيدته قال له : لو لا ذكرت الأنصار بخير فانهم لذلك

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٤٦ ، ١٤٧.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٥٧.

(٣) ابن هشام في السيرة ٤ : ١٥٧.

(٤) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٥٧.


أهل (١). فقال قصيدة رائية يمدح بها الأنصار يذكر موضعهم في اليمن وبلاءهم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وأنشد قصيدته له صلى‌الله‌عليه‌وآله لديه في مسجده (٢) فقال فيها :

إنّ الرسول لسيف يستضاء به

مهنّد من سيوف الله مسلول (٣)

في فتية من قريش قال قائلهم

ببطن مكة لما أسلموا : زولوا (٤)

شمّ العرانين أبطال لبوسهم

من نسج داود في الهيجا سرابيل (٥)

نبّئت ان رسول الله أوعدني

والعفو عند رسول الله مأمول

مهلا ، هداك الذي أعطاك نافلة

القرآن فيه مواعيظ وتفصيل

لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم

اذنب ، ولو كثرت فيّ الأقاويل (٦)

فروى ابن الأثير الجزري : انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله حين انشاد كعب لقصيدته كانت عليه بردة ، فكساه بها (٧).

__________________

(١) ابن هشام في السيرة ٤ : ١٥٧.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٥٨.

(٣) مهند : السيف الهندي ، كان يؤتى به من الهند ، وكان مستحسنا ، وكان من عادة العرب ان يعلقوا السيف في الشمس فيبرق فيأتيهم الناس بلمعان بريقه.

(٤) يمدح المهاجرين من قريش اذا أسلموا فقالوا لهم : هاجروا عنا.

(٥) العرانين : الانوف. شمّ : عال مرتفع. نسج داود : دروع داودية.

(٦) الوشاة : السعاة بالكذب. وهذه الابيات عن (مناقب آل أبي طالب) ١ : ١٦٨ ، ١٦٩.

(٧) قال : فلما كان زمن معاوية ارسل الى كعب ان بعنا بردة رسول الله. فقال : ما كنت لاوثر بثوب رسول الله احدا. فلما مات كعب اشتراها معاوية من أولاده بعشرين ألف درهم. فلبسها بنو أميّة ثم بنو العباس وكانت على المستعصم العباسي لما خرج الى هولاكو


وفد ثقيف وإسلامهم :

مرّ الخبر عن «الأمالي» للطوسي بسنده عن الصادق عليه‌السلام عن جابر بن عبد الله الأنصاري في وفد ثقيف الأول بعد عودة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من حصار الطائف الى مكة ، ورجوعهم بلا نتيجة. وكذلك مرّ الخبر عن لحوق عروة بن مسعود الثقفي بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل وصوله الى المدينة واسلامه وعودته لقومه في الطائف لدعوتهم الى الاسلام وقتلهم ايّاه ولحوق ابنه أبي مليح وابن عمّه قارب بالمدينة واسلامهما وبقائهما فيها حتى اسلام قومهم ثقيف. وأيضا مرّ الخبر عن اسلام القبائل حول الطائف وإغرائهم بهم واغارتهم على مواشيهم ومضايقتهم لهم.

وهنا يقول ابن اسحاق : أقامت ثقيف بعد قتل عروة أشهرا ، فرأوا انهم لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب وقد اسلموا.

فروى بسنده عن المغيرة بن الأخنس الثقفي قال : كان عمرو بن أميّة من بني علاج من أدهى العرب! وكان قد وقع بينه وبين عبد ياليل سوء فكان مهاجرا له ، ولكنه مشى إليه يوما حتى دخل داره ، فلما أخبروا عبد يا ليل بذلك قال : ان عمرا كان أمنع في نفسه من هذا ، فهذا شيء ما كنت أظنه! ثم خرج إليه ورحّب به فلما جلسا قال عمرو : انه قد نزل بنا أمر ليست معه هجرة : انه قد

__________________

ـ فقتله واحرق البردة وذرّها في دجلة. الكامل في التاريخ ٢ : ٢٧٦ والى كسوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لكعب أشار الحسين عليه‌السلام قال : وقد أثاب رسول الله كعب بن زهير ، كما في مناقب آل أبي طالب ٤ : ٦٥ عن انس المجالس ومن شعر كعب في علي عليه‌السلام قال :

صهر النبي وخير الناس كلهم

وكل من رامه بالفخر مفخور

صلى الصلاة مع الامّي أوّلهم

قبل العباد وربّ الناس مكفور

كما في الفصول المختارة من العيون والمحاسن : ٢٦٨ ط قم.


كان من أمر هذا الرجل (محمّد) ما قد رأيت : فقد أسلمت العرب كلها ، فما لكم بحربهم طاقة! فأتمروا لذلك بينكم.

فأتمروا وقالوا : ألا ترون أنّه لا يأمن لكم سرب (ماشية) ولا يخرج منكم أحد إلّا اقتطع! فعرضوا على عبد ياليل أن يرسلوه الى رسول الله. فخشي انّه إذا رجع يصنع به كما صنع بعروة فيقتل كما قتل! فقال : الا أن ترسلوا معي رجالا. فوافقوا. واختاروا : أوس بن عوف من بني سالم ، وعثمان بن أبي العاص من بني يسار وهو اصغرهم ، ونمير بن خرشة من بني الحارث ، وهؤلاء كلهم من بني مالك ، والحكم بن عمرو ، وشرحبيل بن غيلان كلاهما من بني معتب من الأحلاف ، فهؤلاء خمسة خرج بهم عبد ياليل وهو صاحب أمرهم (١).

وكانت نوق أصحاب رسول الله يرعاها رجال منهم نوبا ، وكانت النوبة يوم وصول وفد ثقيف على المغيرة بن شعبة منهم ، يرعاها في وادي حرض من وديان قناة من أودية حوالي المدينة ، بعد أن رجع من تبوك.

فلما وصل وفد ثقيف الى وادي حرض من وديان قناة وجدوا ابلا منتشرة ، فقالوا : لو سألنا عنها وعن خبر محمّد ، فبعثوا أصغرهم عثمان بن أبي العاص من بني يسار ، فلما التقى بالمغيرة تعارفا وجاءهم المغيرة وترك الابل عندهم ليرجع الى المدينة فيبشّر النبي بقدومهم ، وكان في شهر رمضان بعد تبوك.

فلما انتهى الى المسجد لقي أبا بكر فأخبره خبرهم ، فقال له أبو بكر : أقسمت عليك بالله لا تسبقني الى رسول الله حتى أكون أنا احدّثه! فتوقّف المغيرة على باب المسجد حتى دخل أبو بكر على النبي فأخبره خبرهم ثم خرج ، فدخل المغيرة مسرورا على النبي فقال : يا رسول الله ، قد قدم قومي يريدون الدخول في الاسلام على أن يكتبوا كتابا من رسول الله في قومهم وبلادهم وأموالهم.

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٨٣.


فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا يسألون شرطا ، ولا كتابا أعطيته احدا من الناس الا اعطيتهم ، فبشّرهم. فخرج المغيرة ورجع إليهم يخبرهم بذلك ، فروّح الظهر معهم وعلّمهم كيف يحيّون رسول الله بتحية الاسلام : السلام.

فلما قدموا على رسول الله المسجد لم يفعلوا ما أمرهم المغيرة من تحية الاسلام بل قالوا : انعم صباحا! فقال الناس : يا رسول الله يدخلون المسجد وهم مشركون؟! فقال رسول الله : ان الأرض لا ينجّسها شيء!

وكان رسول الله قد خطّ بخطّه للمغيرة بن شعبة من البقيع لداره ، فقال : يا رسول الله ، انزل قومي عليّ واكرمهم ، فرجعوا الى منزل المغيرة للطهارة والطعام ويكونون فيه ما أرادوا ، ورسول الله يجري لهم الضيافة في دار المغيرة ، ويختلفون الى المسجد. وأمر النبي فضربت لهم ثلاث خيمات من جريد النخل في ناحية المسجد ، فكانوا ينظرون الى صفوفهم في صلاتهم ، وكان شهر رمضان (في العشر الأواخر) فكانوا يرون تهجّد الصحابة ويسمعون قراءتهم القرآن ، وخطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. فمكثوا على ذلك أياما ، يخلّفون كل يوم على رحالهم أصغرهم عثمان بن أبي العاص ويغدون على النبي ، فكانوا إذا رجعوا في هاجرة الظهر وناموا يخرج عثمان الى النبيّ فيسأله عن الدين ويستقرئه القرآن ، وأسلم ، وحفظ سورا من القرآن. وكان إذا يجد رسول الله نائما يذهب الى أبي بن كعب فيستقرئه القرآن ، وفقه الأحكام ، فأحبّه رسول الله واعجب به.

وتقاضى عبد ياليل من النبي الكتاب بالصلح بينه وبينهم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن أنتم أقررتم بالاسلام ، وإلّا فلا قضية ولا صلح بيني وبينكم! (١).

وكان من أعضاء الوفد من بني الحارث من بني مالك : نمير بن خرشة ، وسمّاه

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٦٦.


ابن الأثير : تميم بن جراشة وروى عنه قال : انه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لنا : اكتبوا ما بدا لكم ثم ائتوني به [فكتب لنا علي بن أبي طالب] فسألناه في كتابه أن يحلّ لنا الربا والزنا! فأبى علي عليه‌السلام أن يكتب لنا ذلك! فسألناه خالد بن سعيد بن العاص [فقبل ذلك] فقال له علي عليه‌السلام : تدري ما تكتب؟! قال : اكتب ما قالوا ، ورسول الله أولى بأمره! [فكتب لنا] فذهبنا بالكتاب الى رسول الله ، فقال للقارئ : اقرأ ، فقرأ ، فلما انتهى الى الربا قال : ضع يدي عليها في الكتاب. فوضع يده عليها فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا)(١) ثم محاها ، وما راجعناه ، فلما بلغ القارئ الى الزنا قال : ضع يدي عليها. فوضع يده عليها ، فقال : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً)(٢) ثم محاها ، وأمر ان ينسخ الكتاب (٣) فكتب :

«بسم الله الرحمن الرحِيم ، هذا كتاب من محمّد النبيّ رسول الله لثقيف ، كتب : انّ لهم ذمة الله الذي لا إله الّا هو ، وذمّة محمّد بن عبد الله النبيّ على ما كتب عليهم في هذه الصحيفة : انّ واديهم حرام محرّم كله : عضاهه (٤) وصيده ، وظلم فيه وسرق فيه أو إساءة. وثقيف أحق الناس بوجّ (٥) ولا يعبر طائفهم ، ولا يدخله عليهم أحد من المسلمين يغلبهم عليه ، وما شاءوا احدثوا في طائفهم من بنيان أو

__________________

(١) البقرة : ٢٧٨.

(٢) الاسراء : ٣٢.

(٣) اسد الغابة ، ترجمة تميم بن جراشة. وفي نقل الواقدي : ان عبد ياليل قال له : انه لا بدّ لنا من الخمرة فانها عصير أعنابنا! فقال : فان الله قد حرّمها ثم تلا : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ) من سورة المائدة. ٢ : ٩٦٧ هذا ولم تنزل المائدة بعد.

(٤) شجر ذات شوك.

(٥) الاسم القديم للطائف قبل أن يبنوا حوله حصنهم الطائف بهم فيسمّى الطائف.


سواه بواديهم. لا يحشرون ولا يعشّرون (١) ولا يستكرهون بمال ولا نفس ، وهم امة من المسلمين ، يتولّجون من المسلمين حيث شاءوا وأين تولّجوا ولجوا.

وما كان لهم من أسير فهو لهم هم أحق الناس به حتى يفعلوا به ما شاءوا ، وما كان لهم من دين في رهن فبلغ أجله فانّه لياط (ربا) مبرئ من الله وما كان من دين في رهن وراء عكاظ (انعقاد سوقهم في شهر شوال) فانه يقضى الى عكاظ برأسه ، وما كان لثقيف من دين في صحفهم ... فانه لهم. وما كان لثقيف من وديعة في الناس أو مال أو نفس ـ غنمها مودعها أو أضاعها ـ فانها مؤداة ، وما كان لثقيف من نفس غائبة أو مال فان له من الأمن ما لشاهدهم ، وما كان لهم من مال في ليّة (موضع) فان له من الأمن ما لهم في وجّ (الطائف) ، وما كان لثقيف من حليف أو تاجر فأسلم فانّ له مثل قضية ثقيف.

وان طعن طاعن على ثقيف أو ظلمهم ظالم فانه لا يطاع فيهم في مال ولا نفس ، وان الرسول ينصرهم على من ظلمهم والمؤمنين ، ومن كرهوا ان يلج عليهم من الناس فانه لا يلج عليهم. وان السوق والبيع بأفنية البيوت. وانه لا يؤمّر عليهم الّا بعضهم على بعض : على بني مالك أميرهم ، وعلى الأحلاف أميرهم.

وما سقت ثقيف من اعناب قريش فان شطرها لمن سقاها ، وما كان لهم من دين في رهط لم يلط (يربى) فان وجد أهلها قضاء قضوا ، وان لم يجدوا قضاء فانه الى جمادى الاولى من عام قابل ، فمن بلغ أجله فلم يقضه فانه قد لاطه (استحقّه) وما كان لهم في الناس من دين فليس عليهم الّا رأسه.

__________________

(١) أي : لا يحشرون في الغزوات ، ولا يؤخذ منهم العشر ، قيل : سئل جابر بن عبد الله الأنصاري عن اشتراط ثقيف ان لا جهاد عليهم ولا صدقة؟! فقال انه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يحتمل لبشر ما احتمل لثقيف وذلك انه علم انهم سيتصدقون ويجاهدون اذا أسلموا. مكاتيب الرسول ١ : ٢٦٥.


وما كان لهم من أسير باعه ربّه (صاحبه) فان له بيعه ، وما لم يبع فانّ فيه ست قلائص نصفين : حقاق (جمع حقة : ما أكمل ثلاث سنين) وبنات لبون (ما أكمل الثانية من الابل) كرام سمان. ومن كان له بيع (عبد مبيع) فان له بيعه» (١).

قال الواقدي : فلما كمل الصلح وكتب ذلك الكتاب خالد بن سعيد الاموي ، كلّموا النبي أن يدع لهم اللات لا يهدمها ثلاث سنين! فأبى ، فما برحوا يسألونه سنة سنة حتى سألوه شهرا واحدا بعد مقدمهم ، وكانوا يظهرون أنهم يكرهون أن يروّعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الاسلام فيسلموا من سفهائهم ونسائهم وذراريهم ، فأبى ، فسألوه أن يعفيهم من هدمها ، فقال : نعم ، أنا أبعث أبا سفيان بن الحرب والمغيرة بن شعبة يهدمانها ، وتوسّعوا فاستعفوا أن يكسروا أصنامهم بأيديهم ، فقال : أنا آمر أصحابي أن يكسروها. فسألوه أن يعفيهم من الصلاة ، فقال : أما كسر أوثانكم بايديكم فسنعفيكم منه ، وأما الصلاة ، فانه لا خير في دين لا صلاة فيه! فقالوا : يا محمّد ، فسنؤتيكها وان كانت دناءة! (٢) أما الصلاة فسنصلّي ، وأما الصيام فسنصوم .. وأسلموا وبايعوا ... وأمرهم رسول الله أن يصوموا ما بقي من الشهر ، فكان بلال يأتيهم بفطرهم وسحورهم (٣) وكان من قبل يرسل إليهم بالطعام مع خالد بن سعيد بن العاص الاموي ، فلا يأكلون منه شيئا حتى يأكل منه خالد (كذا) حتى أسلموا (٤).

وكان خالد بن سعيد هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله حتى كتب خالد

__________________

(١) الأموال لأبي عبيد : ١٩٠ وانظر مكاتيب الرسول ١ : ٢٦٣ ـ ٢٧٣.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٨٤ ، ١٨٥ ومغازي الواقدي ٢ : ٩٦٨.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٩٦٨.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٩٦٧ والسيرة ٤ : ١٨٤.


لهم الكتاب (١) وهو : «بسم الله الرحمن الرحِيم ، من محمّد النبي رسول الله الى المؤمنين : إنّ عضاه وجّ لا يعضد (٢) من وجد يفعل شيئا من ذلك فانه يجلد وتنزع ثيابه ، فان تعدّى ذلك فانه يؤخذ فيبلغ به إلى النبي محمّد ، وان هذا امر النبي محمّد رسول الله ، وكتب خالد بن سعيد بأمر الرسول محمّد بن عبد الله فلا يتعدّه أحد ، فيظلم نفسه فيما امر به محمّد رسول الله» (٣). واستعمل رسول الله على حمى وجّ الطائف سعد بن أبي وقاص (٣).

فلما أرادوا الخروج قالوا : يا رسول الله ، أمّر علينا رجلا منّا يؤمّنا ، فأمّر عليهم عثمان بن أبي العاص لما رأى فيه رسول الله من حرصه على الاسلام (٥) فروى ابن اسحاق بسنده عن عثمان قال : كان من آخر ما عهد إليّ رسول الله حين بعثني على ثقيف أن قال : يا عثمان ، تجاوز في الصلاة ، واقدر الناس بأضعفهم ، فانّ فيهم الكبير والصغير والضعيف وذا الحاجة (٦) فاذا صليت لنفسك فانت وذاك ، واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا. واستأذن الوفد النبي أن ينالوا منه بلسانهم فرخّص لهم (٧).

وفد ثقيف الى الطائف :

ثم خرج الوفد الى الطائف ، فلما قربوا قال لهم عبد ياليل : أنا أعلم الناس بثقيف ، فاكتموهم القضية ... وأخبروهم ان محمّدا سألنا امورا عظّمناها فأبينا

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٨٥.

(٢) عضاه : أشجار أشواك ، وجّ : من الطائف ، يعضد : يقطع.

(٣) و (٤) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٨٧ ومغازي الواقدي ٢ : ٩٧٣.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٩٦٨.

(٦) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٨٦.

(٧) مغازي الواقدي ٢ : ٩٦٩.


عليه : سألنا تحريم الخمر والزنا ، وأن نبطل أموالنا في الربا ، وأن نهدم الربّة! فابينا عليه. ولما دنوا منهم ورأوا ثقيفا قد خرجت إليهم تغشّوا بثيابهم كمكروبين لم يرجعوا بخير ، فلما رآهم اهلهم حزنوا وقالوا : ما جاء وفدكم بخير!

ودخل الوفد فبدؤوا باللات على عادتهم ، ثم رجعوا الى أهاليهم.

فأتى جمع منهم الى رجال منهم وسألوهم : ما ذا رجعتم به؟ فقالوا : جئناكم من عند رجل فظّ غليظ ، يأخذ من أمره ما شاء ، قد ظهر بالسيف وأداخ العرب ودان له الناس ، ورعبت منه بنو الاصفر في حصونهم ، والناس فيه اما راغب في دينه وامّا خائف من السيف! فعرض علينا امورا شديدة أعظمناها ، فتركناها عليه ، حرّم علينا الربا والخمر والزنا ، وان نهدم الربّة! فكرهنا ذلك وأعظمناه ، ورأينا انه لم ينصفنا ، فأصلحوا سلاحكم ، ورمّوا حصنكم وانصبوا عليه العرّادات والمنجنيقات ، وادّخروا طعام سنة أو سنتين فانه لا يحاصركم اكثر من سنتين ، واحفروا خندقا (!) من وراء حصنكم ، وعاجلوا ذلك فان أمره قد أظلّ لا نأمنه! فخوّفوهم بالحرب والقتال كما امرهم عبد ياليل.

فمكثوا يوما او يومين ثم عادوا إليهم وقالوا لهم : ما لنا به من طاقة قد أداخ كل العرب ، فارجعوا إليه فاعطوه ما سأل وصالحوه ، واكتبوا بينكم وبينه كتابا قبل أن يسير إلينا أو يبعث بجيشه!

وقالوا لهم : فانّا قد قاضيناه وأعطانا ما أحببناه وشرط لنا ما أردنا ، ووجدناه أتقى الناس وأبرّ الناس وأوصل الناس وأوفى الناس وأصدق الناس وارحم الناس! ولما أبينا هدم الربّة تركنا منه وقال : أبعث من يهدمها!

فقال شيخ منهم : فذاك ـ والله ـ مصداق ما بيننا وبينه! ان قدر على هدمها فهو محقّ ونحن مبطلون ، وان امتنعت ... (١).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٧٠.


المغيرة يغير على اللات :

مرّ الخبر عن أبي مليح بن عروة وابن عمه قارب بن الاسود الثقفيّين ، وأنهما بعد قتل عروة بن مسعود لحقا بالمدينة فأسلما وبقيا في جوار المغيرة وأبي سفيان ، واليوم حيث أمرهما رسول الله بهدم اللات في الطائف ، وكان للّات أموال موقوفة من ذهب وفضة وغيرهما ، وكان عليهما من أبويهما دين. فجاء أبو مليح الى رسول الله وقال : يا رسول الله ، ان أبي قتل وعليه دين مائتا مثقال ذهب! فان رأيت أن تقضيه من حلي الربّة فعلت! فقال رسول الله : نعم.

فقال ابن عمّه قارب بن الأسود : وعن ابي ، الاسود بن مسعود ، فانه قد ترك دينا مثل دين أخيه عروة! فقال رسول الله : ان الأسود مات وهو كافر ، فقال قارب : انما انا المطلوب بالدين فهو عليّ ، وتصل به قرابة (يعني نفسه) فقال رسول الله : إذا افعل ، فأمر أبا سفيان والمغيرة بن شعبة أن يقضيا دينهما.

وخرجوا وهم بضعة عشر رجلا بعد الوفد بيومين أو ثلاثة (١) (في اواخر شهر رمضان) فلما قربوا من الطائف أراد المغيرة بن شعبة أن يقدّم أبا سفيان ، فأبى أبو سفيان وأقام بماله بذي الهدم (٢) أو ذي الهرم بقرب الطائف ، وتقدّم المغيرة ومعه بضعة عشر رجلا فدخلوا الطائف عشاء ، فباتوا ، ثم غدوا صباحا لهدم اللات ، وجاء قوم المغيرة بنو معتّب من الأحلاف حاملين سلاحهم يخافون أن يصاب كما اصيب عروة عمّه. وانكشف رجالهم وخرجت نساؤهم والأبكار والصبيان يبكون على اللات! فأخذ المغيرة المعول وقام على رأس اللات وضربها ضربة ... ثم قال : يا معشر ثقيف! كانت العرب تقول : ما حيّ من أحياء العرب أعقل من ثقيف (وأنا

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٧١.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٨٧.


اليوم أقول) ما حيّ من أحياء العرب أحمق منكم! ويحكم ، وما اللات والعزّى وما الربّة؟! حجر مثل هذا الحجر لا يدري من عبده ومن لم يعبده! ويحكم أتسمع اللات أو تبصر؟! أو تنفع أو تضر؟!

ثم هدمها ، وهدمها من معه ، فجعل السادن يقول : سترون اذا انتهى الى أساسها فانها تغضب غضبا يخسف بهم!

فتولّى المغيرة حفر الأساس ، وكانت خزانتها فيه ، فحفر نصف قامة حتى بلغ الخزانة فأخذوا ما فيها من كسوة وحلية من ذهب وفضة (١) وحضر أبو سفيان ذلك فسلّم المغيرة الأموال إليه وقال له : انّ رسول الله قد أمرك أن تقضي عن عروة والاسود دينهما ، فقضى عنهما (٢).

سنة الوفود :

جاءه صلى‌الله‌عليه‌وآله نصر ربّه بفتح بلده الحرام مكة له في السنة الثامنة ، فأقبل الناس المتربّصون والمترصّدون والمتردّدون يدخلون في دينه أفواجا في السنة التاسعة ولذلك سمّيت «سنة الوفود».

قال اليعقوبي : وقدمت عليه وفود العرب ولكل قبيل زعيم يتقدمهم ثم عدّ ٢٨ قبيلا (٣) وكأنه عدّ الوفود بلا تقيّد بالعام التاسع بل أعم منه ، فقد عدّ منهم مزينة بزعامة خزاعي بن عبد نهم (نهم صنمهم وهو حاجبه) ومعه عشرة رهط من قومه (٤) وقيل : بل أربعمائة رجل منهم ، وكان وفودهم في شهر رجب سنة خمس

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٩٧٢.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٨٧.

(٣) اليعقوبي ٢ : ٧٨.

(٤) اسد الغابة ٢ : ١١٣ والاصابة برقم ٢٢٥٤.


للهجرة (١) وقد مرّ خبر حضورهم بألف رجل في فتح مكة ثم غزوة حنين ثم تبوك.

وذكر اليعقوبي بني سليم والزعيم وقّاص بن قمامة ، وبني شيبان وأصاب اسم زعيمهم ـ بياض في النسخة ـ ، وبنو سليم ذكروا في من حضر فتح مكة ، وكتب لهم كتابا (٢) وبنو شيبان ذكروا في من كتب لهم كتابا بعد حنين أيضا (٣).

وثمانية من قبائلهم كان وفودهم في العاشرة ، كما سيأتي.

وانما يبقى زهاء نصف العدد (٢٨) للسنة التاسعة ، ذكر تاريخ وفود بعضهم تعيينا او تقريبا فذكرناهم كذلك ، ويناسب ان نذكر هنا ما تبقّى منهم :

فمنهم : بنو أسد بن خزيمة بزعامة ضرار بن الأزور ، قال كحالة : يبدأ تاريخهم في الاسلام بقدوم وفدهم الى النبي السنة التاسعة ، في عشرة رهط ، تقدم ناطقهم فقال : يا رسول الله ، إنا نشهد أن الله وحده لا شريك له ، وانك عبده ورسوله ، وجئناك ولم تبعث إلينا بعثا! وكانوا عند قيام الاسلام بالحجاز في حوالي جبلي أجأ وسلمى مشتركين مع بعض أحياء مضر وطئ ، وكانوا يعبدون عطارد (٤).

ومنهم : بنو أسلم بزعامة بريدة الأسلمي. وفي مكاتيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كتاب لهم فيه الزكاة ، مما يدل على انه كان في التاسعة ، جاء فيه : «لأسلم من خزاعة ، لمن آمن منهم واقام الصلاة وآتى الزكاة ، وناصح في دين الله ان لهم النصر على من دهمهم بظلم ، وعليهم نصر النبي اذا دعاهم ، ولأهل باديتهم ما لأهل حاضرتهم ، وانهم مهاجرون حيث كانوا. وكتب العلاء بن الحضرمي وشهد» (٥).

__________________

(١) اسد الغابة ١ : ٢٠٥ بترجمة بلال المزني.

(٢) انظر مكاتيب الرسول ٢ : ٤٤٦ ـ ٤٥٤.

(٣) انظر مكاتيب الرسول ١ : ١٦٦ ، ١٦٧.

(٤) معجم القبائل : ٢١ وانظر مكاتيب الرسول ٢ : ٣٤٧.

(٥) الطبقات الكبرى ١ : ٢٧٠ وانظر مكاتيب الرسول ٢ : ٣٤٣.


ومنهم : بنو باهلة بزعامة المطرّف بن كاهن الباهلي (١) ولم نجد لهم ذكرا.

ومنهم : بنو بكر بزعامة عدي بن شراحيل (٢) كذلك.

ومنهم : بنو بجيلة ، بزعامة قيس بن غربة (٢) كذلك أيضا.

ومرّ خبر وفد ملوك حمير اليمن باسلامهم.

ومنهم : وفد حضرموت اليمن ومنهم بنو مهرة ، وسيأتي خبرهم في العاشرة.

ومرّ خبر وفد خثعم بزعامة عميس بن عمرو بعد غزوهم في شهر صفر من هذه السنة التاسعة ، وكتب لهم كتابا باسم الحارث بن عبد شمس أباح فيه لهم ديارهم وآمنهم على دمائهم وأموالهم (٤) ومنهم من كان في جرش اليمن ، وغزوهم في العاشرة فوفدوا بعدها ، وسيأتي خبرهم إن شاء الله تعالى.

وفد بني عامر :

مرّ في أخبار السنة الرابعة : ارساله صلى‌الله‌عليه‌وآله من أصحابه عشرين أو أربعين أو سبعين رجلا بكتاب مع حرام بن ملحان الى بني عامر في نجد ، وأن عامر بن الطفيل قتل حراما حامل الكتاب ، ثم حاصروهم فقتلوهم! وكان يقول : والله لقد آليت أن لا انتهي حتى تتبع العرب عقبي! فأنا أتبع هذا الفتى من قريش!

واليوم وبعد خمس سنين وقد أسلم الناس ، قال له قومه : يا عامر ، ألا تسلم ، فان الناس قد أسلموا! ثم احتملوا وفدا الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله! فلما قدموا عليه قال له عامر بن الطفيل : يا محمّد ، خالني (أي : اخل بي وحدي) قال : لا والله ، حتى تؤمن بالله

__________________

(١) اليعقوبي ٢ : ٧٩ ، ٨٠.

(٢) و (٣) اليعقوبي ٢ : ٧٩.

(٤) مكاتيب الرسول ١ : ٤١.


وحده! فكرّر القول : يا محمّد ، خالني وأخذ ينظر الى أربد بن قيس (أخي لبيد بن ربيعة لامّه) كأنه ينتظر منه شيئا أمره به ، وأربد لا يفعل شيئا. ورسول الله يقول : لا ، حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له! فقام عامر وولى وقال : أما والله لأملأنّها عليك خيلا ورجالا! فقال النبي : اللهم اكفني عامر بن الطفيل (١) اللهم أبدلني بهما فارسي العرب (٢).

ولما خرجوا من عنده صلى‌الله‌عليه‌وآله قال عامر لأربد : والله ما كان على ظهر الأرض رجل هو أخوف عندي على نفسي منك ، وايم الله لا أخافك بعد اليوم أبدا! فأين ما كنت أمرتك به؟! قال أربد : لا أبا لك! لا تعجل عليّ ، والله ما هممت بالذي أمرتني به من أمره الّا دخلت بيني وبين الرجل حتى ما أرى غيرك أفأضربك بالسيف؟!

وقال له قومه : يا عامر ، أسلم فقد أسلم الناس! فقال : والله لقد كنت آليت أن لا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي! أفأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش؟!

فخرجوا راجعين الى بلادهم كما كانوا مشركين ، وفي الطريق ظهرت في عنقه غدّة كغدّة الطاعون بالبعران فلجأ الى خباء امرأة من بني سلول وهو يحتقرها ويقول : يا بني عامر! أغدّة كغدة الابل وموتا في بيت سلولية؟! حتى مات ودفنوه ، وانما بقي من رؤسائهم أربد ، فلما وصلوا الى أهلهم أتوهم وقالوا لأربد : ما وراءك يا أربد؟! فقال أربد : دعانا الى عبادة شيء لوددت أنه عندي الآن فأرميه بالنبل حتى أقتله! وخرج بعد ذلك بيوم أو يومين على جمل له فأصابته صاعقة فأحرقتهما (٣).

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢١٣ ، ٢١٤.

(٢) اعلام الورى ١ : ٢٥١.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢١٥.


وفد طيء وفرسانهم :

وحيث دعا صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اللهم ابدلني بهما فارسي العرب» أبدله الله عن وفد بني عامر بوفد بني طيء ، وعن فارسي بني عامر بفارسي طيء : عدي بن حاتم (١) وزيد بن مهلهل وهو زيد الخيل ، فلما أسلم غيّر النبي اسمه الى زيد الخير وأقطعه أرض فيد وكتب له بذلك كتابا (٢) وعدّ ابن سعد مع الطائيّين : بني معن وبني معاوية بن جرول الطائيين أيضا ، وروى لهم كتابين منه صلى‌الله‌عليه‌وآله فيهما الزكاة ، فهما في التاسعة ، اما لبني معن فهو : «ان لهم ما أسلموا عليه من بلادهم ومياههم وغدوة الغنم من ورائها مبيّتة (٣) ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطاعوا الله ورسوله وفارقوا المشركين وأشهدوا على اسلامهم وآمنوا السبل. وكتب العلاء وشهد».

و: «لبني معاوية بن جرول الطائيين ، لمن أسلم منهم وأقام الصلاة وآتى الزكاة وأطاع الله ورسوله ، وأعطى من المغانم خمس الله وسهم النبيّ ، وفارق المشركين ، وأشهد على إسلامه : انه آمن بأمان الله ورسوله ، وان لهم ما أسلموا عليه والغنم مبيّتة. وكتب الزبير بن العوام» (٤).

وفد بني عكل وبني زهير :

منهم : وفد بني عكل وهم بنو عوف بن وائل من قريتيهم : اشيقر والشقراء حوالي جبلي اجأ وسلمى بجوار طيء ، بزعامة خزيمة بن عاصم (٥) وعكل اسم

__________________

(١) مرّ خبر وفود عديّ سابقا.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٢٤.

(٣) أي مع مسافة ما تمشي الغنم من الغداة الى الليل ثم تبيّت هناك.

(٤) الطبقات الكبرى ١ : ٢٦٩ ومكاتيب الرسول ٢ : ٣٤٠.

(٥) اليعقوبي ٢ : ٧٩.


حاضنتهم. وفد على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله باسلام قومه ، فمسح النبي على وجهه فما زال نضرا ، واستعمله ساعيا جابيا للزكاة فيهم بكتاب كتبه له فيه : «بسم اللهِ الرحمن الرحيم ، من محمّد رسول الله لخزيمة بن عاصم : اني بعثتك ساعيا على قومك ، فلا يظلموا ولا يضاموا» (١).

ومن بني عكل : بنو زهير ، ووافدهم النمر بن التولب بن زهير بن اقيش ، وفد عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ومدحه بشعر أوّله :

إنّا أتيناك وقد طال السفر

تطعمنا اللحم إذا عزّ الشجر (٢)

وروى ابن سعد عن ابن الشخير قال : كنا في سوق الابل بالربذة اذ جاء أعرابي ومعه قطعة اديم فقال : أو فيكم من يقرأ؟ فقلت : نعم ، فقدّم لي الأديم لأقرأه له ، فأخذت فإذا فيه :

«بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من محمّد النبي لبني زهير بن اقيش حي من عكل (٣) سلام على من اتبع الهدى ، اني احمد إليكم الله الذي لا إله إلّا هو ، اما بعد : إن شهدتم أن لا إله إلّا الله (وانّ محمّدا رسول الله) وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة ، وفارقتم المشركين ، وأعطيتم من المغانم الخمس وسهم النبيّ والصفيّ ، فأنتم آمنون بأمان الله وأمان رسوله» (٤).

ورواه ابن الأثير وروى أيضا : ان الحارث بن زهير بن اقيش العكلي وفد إليه واستكتبه لقومه فكتب له مثل هذا الكتاب (٥).

__________________

(١) اسد الغابة ١ : ١١٦ والاصابة ١ برقم : ٢٢٦٠ وانظر مكاتيب الرسول ١ : ٢٣٧ ، ٢٣٨.

(٢) اسد الغابة ٥ : ٣٩ والاصابة ٣ برقم : ٨٨٠٤.

(٣) الطبقات الكبرى ١ : ٢٧٩.

(٤) كنز العمّال ٢ : ٢٧١ عن مصادر كثيرة ، وانظر مكاتيب الرسول ٢ : ٣٣٧ ، ٣٣٩.

(٥) اسد الغابة ١ : ٣٢٨ وانظر مكاتيب الرسول ٢ : ٣٦٢.


وفد بني عليم :

ومنهم : بنو عليم من كنانة كلب بدومة الجندل بزعامة قطن بن حارثة وأخيه أنس (١) أو اسد (٢) وكانوا يعبدون ودّا ثم دخلوا النصرانية ثم الاسلام. فقدم قطن وأنشأ يقول شعرا :

رأيتك يا خير البرية كلها

نبتّ نضارا في الارومة من كعب

أغرّ كأن البدر سنة وجهه

اذا ما بدا للناس في حلل العصب

أقمت سبيل الحق بعد اعوجاجه

ودنت اليتامى في السقاية والجدب

وتكلّم بكلام فصيح غريب الألفاظ وسأل النبي الدعاء لقومه بالاستسقاء ، فدعا لهم النبي وقال لهم خيرا ، واستكتبه فأمر ثابت بن قيس أن يكتب لهم كتابا جاء فيه : «... كتاب من محمّد رسول الله لعمائر كلب وأحلافها ، ومن صاده الاسلام من غيرها ، مع قطن بن حارثة العليمي : باقامة الصلاة لوقتها ، وإيتاء الزكاة لحقها في شدة عقدها ووفاء عهدها ، عليهم في [الناقة] الهمولة (المهملة) الراعية البساط (ترعى في بساط الأرض) الظؤار (المرضعة) في كل خمسين ، ناقة غير ذات عوار ، والحمولة المائرة (التي تحمل الميرة) لاغية (لا زكاة فيها). وفي الشوي (الشياه) الورّي (التي لها ليّة وراءها فهي سمينة) : مسنّة (لها سنتان فأكثر) حامل أو حائل. وفي ما سقى الجدول من العين المعين : العشر من ثمرها مما أخرجت أرضها. وفي العذي (ما يستعذب الماء بعروقه من النخل) : شطره (نصفه ـ نصف تمره) بقيمة الأمين ، فلا تزاد عليهم وظيفة ، ولا يفرّق [بين المال لا خراجه من الزكاة] يشهد الله تعالى على ذلك ورسوله ، بمحضر من شهود المسلمين : سعد بن عبادة

__________________

(١) اليعقوبي ٢ : ٧٩.

(٢) اسد الغابة ١ : ٦٩ و ٤ : ٢٠٧.


وعبد الله بن أنيس ودحية بن خليفة الكلبي ، وكتب ثابت بن قيس بن شماس» (١).

وبنو عليم بطن من بني جناب من كنانة كلب ، وجاءه بنو جناب فكتب لهم :

«هذا كتاب من محمّد النبيّ رسول الله لبني جناب وأحلافهم ومن ظاهرهم : على إقامة الصلاة وايتاء الزكاة ، والتمسك بالايمان ، والوفاء بالعهد وعليهم في [الناقة] الهاملة الراعية : في كل خمس : شاة غير ذات عوار ، والحمولة المائرة (التي تحمل الميرة) لاغية (لا زكاة فيها) والسقيّ الروّاء (النخل الذي يسقى ارواء باليد) والعذّي من الأرض (النخل الذي يستعذب بعروقه) بقيمة الأمين ، وظيفة لا يزاد عليهم. شهد سعد بن عبادة ، وعبد الله بن أنيس ودحية بن خليفة الكلبي» (٢).

وفد بني نهد من اليمن :

ومنهم بنو نهد وعليهم أبو ليلى خالد بن الصقعب (٣) وقيل : طهفة بن رهم أو زهير ، ذكره ابن الأثير كذلك في موارد عديدة من «النهاية» ولكنه ضبطه في «اسد الغابة» عن أبي نعيم وابن مندة : طهية ، وقال : وفد إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله في سنة تسع مع بني نهد بن زيد من اليمن ، وهم قبيلة كانوا يتكلمون بألفاظ وحشية غريبة لا يعرفها اكثر العرب ... فقام وقال :

أتيناك من غوري تهامة بأكوار الميس (خشب صلب يصنع منه أكوار البعير) ترعى بنا العيس (النوق البيض بشقرة يسيرة) نستحلب الصبير (السحاب الأبيض

__________________

(١) مكاتيب الرسول ٢ : ٤١٧ ـ ٤٢٢ بتصرّف يسير ، وفي ٢ : ٣٩٢ كتاب آخر لطوائف كلب من أهل دومة الجندل مع حارثة بن قطن ، ولعلّ قطنا قد مات فعاد ابنه واستكتب من النبيّ لنفسه.

(٢) الطبقات الكبرى ١ : ٢٨٥ وانظر مكاتيب الرسول ٢ : ٤٢٢.

(٣) اليعقوبي ٢ : ٧٩.


الرقيق) ونستخلب الخبير (نقطع بالمخلب النبات) ونستخيل الرهّام (نتخيل المطر الرقيق) ونستجيل الجهام (نتخيل جولان السحاب) من أرض غائلة النّطاء (بعدها يخيّل الغول) غليظة الوطاء (خشنة الموطئ) قد نشف المدهن (حفرة الماء في الجبل) ويبس الجعثن (أصل النبات) وسقط الاملوج (النبات الوالج جديدا) ومات العسلوج (الغصن الطري) وهلك الهدي (ما يهدى مما يرعى) ومات الودي (النخل في الوادي).

برئنا إليك ـ يا رسول الله ـ من الوثن والعنن (ما يعترض من شك) وما يحدث الزمن. لنا دعوة السلام وشرائع الاسلام ، ما طمى البحر (ماج) وقام ثعار (جبل).

لنا نعم همل (مهملة) اغفال ما تبلّ (مغفول عنها ما تروى) ووقير كثير الرسل (قطيع كثيرا ما ترسل وترعى) قليل الرسل (اللبن) أصابتها سنية (قحط) حمراء مؤزلة (مميتة مزيلة) فليس لها علل ولا نهل (شرب أولي ولا ثاني).

فدعا لهم بمثل مقالهم : «اللهم بارك لهم في محضها ومخضها ومذقها (اللبن المحض والممخض للزبد والممزوج بالماء) وابعث راعيها بالدثر ، ويانع الثمر ، وافجر له الثمد (كثّر الماء القليل) وبارك له في المال والولد. ثم قال : من أقام الصلاة كان مسلما ، ومن آتى الزكاة كان محسنا ، ومن شهد أن لا إله إلّا الله كان مخلصا. لكم يا بني نهد ودائع الشرك (عهوده ومواثيقه) لا تلطّط في الزكاة (تتمنّع) ولا تلحد في الحياة ، ولا تتثاقل في الصلاة».

ثم كتب لهم كتابا جاء فيه : «بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من محمّد رسول الله الى بني نهد بن زيد : السلام على من آمن بالله ورسوله. لكم يا بني نهد في الوظيفة الفريضة (متروك لكم في وظيفة الزكاة الناقة أو البقرة أو الشاة المسنّة الهرمة) ولكم العارض (المريض) والفريش (الوالدة حديثا) وذو العنان الركوب (المركوب


الجيد) والفلو (الذي فلّ من فطامه حديثا) الضّبيس (الصعب المراس). لا يمنع سرحكم ، ولا يعضد طلحكم (لا يحصد شجركم) ولا يحبس درّكم ، ما لم تضمروا الاماق (النفاق) وتأكلوا الربّاق (تنقضوا الميثاق) فمن أقرّ بما في هذا الكتاب فله من رسول الله الوفاء بالعهد والذمة ، ومن أبى فعليه الرّبوة» : الزيادة (١).

ويبدو انهم من أوائل قبائل اليمن لحوقا بالاسلام ، ولعلّه لعلمهم بما أفاض الله عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله من الماء في طريق البلقاء استجابة لدعائه بالاستسقاء من ربّ السماء مكرّرا ، فاندفعوا لينالوا من ذلك شيئا ، فدعا لهم ، ولم يعفهم من فريضة الزكاة ولكنه خفّفها عنهم.

أما سائر أهل اليمن وحضرموت ومهرة وزبيد ومراد ونجران وهمدان فيبدو انهم امتد بهم الأمر الى العام العاشر للهجرة ، كما سيأتي ان شاء الله ، وان كان أبناء الفرس في صنعاء وعدن قد سبقوهم بنحو عامين من الزمن. كما مرّ خبرهم.

مرض ابن أبي ووفاته :

مرّ في خبر كعب بن مالك عنه وعن صاحبيه مرارة بن الربيع وهلال بن أميّة : انهم مكثوا على مضايقتهم تلك متوقّعين قبول توبتهم خمسين ليلة (٢) تبدأ من وصول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله الى مدينته والتي انما قال الواقدي عنه انه كان في شهر رمضان كما مرّ. ويظهر لي ـ من مقارنة تاريخ بعض الحوادث التالية ـ ان ذلك كان في أواخر شهر رمضان ولعلّه في الخامس والعشرين منه ، وعليه فلا تنتهي الخمسون ليلة الّا في منتصف ذي القعدة تقريبا.

__________________

(١) اسد الغابة ٣ : ٦٦ وانظر مكاتيب الرسول ٢ : ٤٣٧ ـ ٤٤٤.

(٢) التبيان ٥ : ١٩٧ وعنه في مجمع البيان ٥ : ١٠٥ وابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٧٨ ، ١٧٩ ، ١٨٠. ومغازي الواقدي ٢ : ١٠٥١ ، ١٠٥٢ ، ١٠٥٣.


وقالوا : مرض عبد الله بن أبي في ليال بقين من شوّال ، ومرض عشرين ليلة ، وحضره الموت في ذي القعدة (أي متزامنا مع نزول سورة التوبة بتوبة الثلاثة).

وعاده النبي قبل موته ، فقال له ابن ابي : يا رسول الله ، هو الموت ، فإن متّ فاحضر غسلي ، واعطني قميصك اكفّن فيه! وكان عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله قميصان فأعطاه الاعلى ، فقال ابي : بل الذي يلي جلدك! فنزع قميصه الذي يلي جلده فأعطاه. فقال ابيّ : وصلّ عليّ واستغفر لي! (١).

وكأنه بهذا أراد أن يبعد عن نفسه صفة النفاق في سورة المنافقون : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ)(٢). ولم يكن صلى‌الله‌عليه‌وآله منهيا عن الاستغفار لهم يومئذ ، وانما قال تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ)(٣).

وذهب القمي في تفسيره الى ان عبد الله بن عبد الله بن أبي لما رأى أباه يجود بنفسه جاء الى رسول الله ـ وكان مؤمنا ـ فقال : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، انك ان لم تأت أبي كان ذلك عارا علينا. فقام إليه رسول الله حتى دخل عليه وعنده المنافقون ، فقال ابنه : يا رسول الله ، استغفر له ، فاستغفر له ... فلما مات أبوه جاء ابنه الى رسول الله فقال : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، ان رأيت أن تحضر جنازته! فقام إليه رسول الله وحضره (وصلّى عليه) وقام على قبره (٤) بل روى العياشي في تفسيره عن الباقر عليه‌السلام : انه لما توفي عبد الله بن أبي أرسل النبي الى ابنه

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٥٧.

(٢) المنافقون : ٤ والميزان ١٩ : ٣٥٥.

(٣) المنافقون : ٥. والميزان ١٩ : ٣٥٥.

(٤) تفسير القمي ١ : ٣٠٢.


عبد الله قال : اذا فرغت من أبيك فأعلمني (١). أو قال : اذا اردتم أن تخرجوه فأعلموني. فلما حضر أمره أرسلوا الى النبي فأقبل نحوهم ، حتى أخذ بيد ابنه فمضى خلف الجنازة ... ثم قال : ان ابنه رجل من المؤمنين وكان يحق علينا اداء حقّه (١).

فروى الطوسي في «التبيان» عن قتادة عن ابن عباس عن جابر وابن عمر ان رسول الله ألبس قميصه لابن أبي بن سلول وصلى عليه قبل أن ينهى عن الصلاة على المنافقين (٣) بنزول سورة التوبة.

وعنه في «مجمع البيان» وزاد عن الزجاج قال : قيل لرسول الله : لم وجّهت إليه بقميصك يكفّن فيه وهو كافر؟

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ان قميصي لن تغني عنه من الله شيئا ، وانّي أؤمّل من الله أن يدخل بهذا السبب في الاسلام خلق كثير!

فروي : ان نحوا من ألف من منافقي الخزرج لما رأوا زعيمهم ابن أبي يطلب الاستشفاء أو الاستشفاع بثوب رسول الله آمنوا أو أسلموا (٤).

ومن غير المعقول القول بنزول سورة التوبة قبل هذا بآياتها ١٢٩ وفي أوائل ثلثها الأخير الآية ٨٤ : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) وكيف يستقيم ويصحّ أن يخالف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله صريح نصّ الآية استمالة لقلوب المنافقين ومداهنة لهم؟! (٥) وإن كان ذلك تأليفا لقلوبهم إلى الإسلام.

__________________

(١) و (٢) تفسير العياشي ٢ : ١٠١.

(٣) التبيان ٥ : ٢٦٨ و ٢٧١ ومثله في مجمع البيان ٥ : ٨٤.

(٤) مجمع البيان ٥ : ٨٧.

(٥) الميزان ١٩ : ٣٦٧ وانظر مقال السيد مرتضى مرتضى في مجلة الهادي ع ٣ من السنة ٦ ومقال السيد جعفر مرتضى : التكبير على الميت في كتابه دراسات وبحوث ١ : ٢٤٢ ، ط ١.


نزول سورة التوبة وأغراضها :

معظمها يرجع الى قتال الكفار ، ثم الاحتجاج على المنافقين. فأوّلها آيات تؤذن بالبراءة من عهود المشركين وقتالهم ، وأهل الكتاب ، ثم آيات في الاستنهاض للقتال وحال المتخلّفين ، وولاية الكفار ، والزكاة ، وغير ذلك (١).

والآيات تنبئ عن أن المنافقين كانوا جماعة ذوي عدد في قوله سبحانه (... إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) : ٦٦ وانه كان لهم بعض الاتصال والتوافق مع جماعة آخرين منهم في قوله سبحانه : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ...) : ٦٧ وانهم كانوا على ظاهر الاسلام والايمان حتى اليوم وانما نافقوا يومئذ ، اي تفوّهوا بكلمة الكفر فيما بينهم واسرّوا بها في قوله سبحانه : (... قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ ...) : ٦٦ وانهم تواطئوا على أمر دبّروه فيما بينهم فأظهروا عند ذلك كلمة الكفر وهمّوا بأمر عظيم ، فحال الله بينهم وبينه فخاب سعيهم ولم يؤثر كيدهم في قوله سبحانه : (... وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا ...) : ٧٤ وانه ظهر مما همّوا به بعض ما يستدلّ عليه من الآثار والقرائن ، فسئلوا عن ذلك ، فاعتذروا بما هو مثله قبحا وشناعة في قوله سبحانه : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ...) : والآيات التالية لهذه الآيات في سياق متصل منسجم ، تدل على ان هذه الواقعة أياما كانت فقد وقعت بعد خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الى غزوة تبوك ولما يرجع الى المدينة.

فيتخلّص من الآيات ان جماعة ممن خرج مع النبي تواطئوا على أن يمكروا به صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأسرّوا عند ذلك فيما بينهم بكلمات كفروا بها بعد اسلامهم ، ثم همّوا أن يفعلوا ما اتفقوا عليه بفتك أو نحوه ، فأبطل الله كيدهم وفضحهم وكشف عنهم ،

__________________

(١) الميزان ٩ : ١٤٦.


فلما سئلوا عن ذلك قالوا : (إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) فعاتبهم الله بلسان رسوله بأنه استهزاء بالله وآياته ورسوله ، وهدّدهم بالعذاب ان لم يتوبوا وأمر نبيّه أن يجاهدهم.

فالآيات ـ كما ترى ـ أوضح انطباقا على حديث العقبة من سائر أخبار أسباب النزول (١).

كذا جاء في «الميزان» للطباطبائي ، وقد مرّ خبر العقبة ، وكان من آخر أخبار منازل منصرفه صلى‌الله‌عليه‌وآله من تبوك الى المدينة ، وعليه فالسورة بما فيها الآيات المشيرة الى مؤامرة العقبة انما أعقبتها ولم تتقدّمها فمتى كان ذلك؟

وهنا قال الطباطبائي : ولمّا يرجع الى المدينة ، واستند لذلك الى آيتين من السورة : (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ ...) : ٨٣ و: (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ ...) : ٩٥ وكرّر ذلك في الآية الاولى قال : فيها دلالة على ان هذه الآية وما في سياقها المتصل من الآيات السابقة واللاحقة نزلت ورسول الله في سفره الى تبوك ولما يرجع الى المدينة (٢) وقال : ان سياق الآيات ـ ومنها قوله : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً) : ٨٤ صريح في انّها نزلت والنبي في سفره الى تبوك ولما يرجع الى المدينة ، وذلك في سنة ثمان (كذا) وقد وقع موت عبد الله بن أبي بالمدينة سنة تسع من الهجرة (٣) وعليه فنزول السورة أو هذه الآيات منها هو السابق وموت ابن أبي هو اللاحق ، وعمدة مستنده دلالة تلك الآيات السابقة الثلاث : (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ ...) : ٨٣ و: (إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) : ٩٤ و: (إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ) : ٩٥.

__________________

(١) الميزان ٩ : ٣٢٥ ، ٣٢٦.

(٢) الميزان ٩ : ٣٦٠.

(٣) الميزان ٩ : ٣٦٧.


وبعد هذه الآيات الثلاث ثلاث آيات اخرى ظاهرة في حكاية حوادث جرت بعد تبوك : الاولى : قوله سبحانه : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ...) : ١٠٢ فردها إلى الأعراب غير المنافقين (١)(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ...) : ١٠٦ وأشار في تفسيرها الى أخبار أسباب النزول بانها نزلت بشأن الثلاثة الذين خلّفوا ثم تابوا (٢) و: (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ) ...* (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ...) : ١١٧ و ١١٨ وقال : انّ السياق فيهما يدل على انّهما مسوقتان لغرض واحد متصلتان كلاما واحدا ... وذلك يستدعي نزولهما معا (٣) ثم لم يبين النسبة والسياق بين هذه الآيات الثلاث الظاهرة في النزول بعد هذه الحوادث ، وبين تلك الآيات الثلاث التي قال بنزولها بعد العقبة وقبل الوصول الى المدينة ، وواضح ان لازم الأمرين القول بالفصل بين النزولين ، ولعله بما نقله عن «مجمع البيان» : بقوا على ذلك خمسين يوما يتضرعون الى الله ويتوبون إليه ، فقبل الله توبتهم وأنزل فيهم الآية (٤) ثم لم يعلّق عليه بشيء.

واختار الطباطبائي اتصال الآيات التي جزم بنزولها بعد العقبة وقبل المدينة الى آخر الآية ١٠٦ ، وفصل عنها ما بعدها من آيات الأعراب : ٩٧ الى الآية : ١٠٦ : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) والتي احتمل نزولها بشأن الثلاثة المتخلّفين كما في أخبار أسباب النزول. ثم تليها آيات مسجد الضرار من ١٠٧ حتى ١١٠ ، ثم الآيات من ١١١ حتى ١٢٣ بما فيها الآيتان المرتبطتان في التوبة على الثلاثة

__________________

(١) الميزان ٩ : ٣٧٦.

(٢) الميزان ٩ : ٣٨١.

(٣) الميزان ٩ : ٣٩٩.

(٤) الميزان ٩ : ٤٠٨ عن مجمع البيان ٥ : ١٠٥ عن التبيان ٥ : ١٩٧ عن مجاهد وقتادة.


المتخلّفين ١١٧ و ١١٨ ، وعليه فالفصل المحتمل بين ارجائهم وقبول توبتهم اما قبل آيات مسجد الضرار أو بعدها.

وقال : لا تكاد تجتمع الروايات المنقولة على كلمة بشأن ما اختصّ علي عليه‌السلام بتأديته من آيات البراءة من عهود المشركين : فمنها ما يدلّ على ان الآيات كانت تسعا ، واخرى عشرا ، واخرى ست عشرة ، واخرى ثلاثين ، واخرى ثلاثا وثلاثين ، واخرى سبعا وثلاثين ، واخرى أربعين (١) ثم لم يقل متى نزلت هذه؟ فهل نزلت كما بعدها بعد العقبة وقبل المدينة؟ أي قبل آخر شهر رمضان كما مرّ ، وتركت حتى منتصف ذي القعدة بعد موت ابن ابي؟ بينما ظاهر أخبارها عدم الفصل المعتد به بين نزولها وارسالها مع أبي بكر اولا ثم مع علي عليه‌السلام ثانيا ، لموسم الحج كما سيأتي.

ولهذا رجّحنا نحن خبر الثعلبي في تفسيره بنزول السورة مرة واحدة (٢) يومئذ.

اما الآية : ٩٤ : (إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) فقد قال الطوسي في تفسيرها : أخبر الله تعالى ان هؤلاء القوم ... اذا عاد النبي والمؤمنون كانوا يجيئون إليهم يعتذرون عن تأخرهم (٣) فهو يقول : كانوا يجيئون. فكأنه اخبار عن الماضي وليس المضارع.

في الآية : ٨٣ : (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ) ردّد الرجوع بين : تصيير الشيء الى المكان الذي كان فيه ، وبين التصيير الى الحالة التي كان عليها (٤)

__________________

(١) الميزان ٩ : ١٧٥ وفي التبيان ٥ : ٢٢٤ : عن أبي الضحى قال : ان أول ما نزل من سورة براءة قوله سبحانه : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) : ٤١ فالأربعون الاولى نزلت فيما بعد للبراءة. وفيه عن مجاهد قال : ان اول ما نزل منها : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) : ٢٥ فما قبلها نزلت بعدها للبراءة ولم يروهما الطبرسي في مجمع البيان.

(٢) مجمع البيان ٥ : ٤.

(٣) التبيان ٥ : ٢٨١.

(٤) التبيان ٥ : ٢٧٠.


والآية إنمّا هي اعداد له صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما اذا تكرّر الاستعداد للخروج الى غزوة اخرى ، وتغيّر رأي هؤلاء المنافقين المتخلفين فجاؤوا يستأذنونه لا للقعود عنه بل للخروج معه ، فعليه أن يقول لهم : لانكم رضيتم بالقعود في المرّة السابقة لغزوة تبوك ، فكذلك كونوا في كل غزوة من القاعدين ولا تخرجوا ولا تقاتلوا. وعليه فالمعنى : فان أعاد الله لك حالتك هذه التي حصلت مع هؤلاء المنافقين المتخلّفين في هذه المرة لهذه الغزوة ، مرة اخرى لغزوة اخرى مع طائفة من هؤلاء فقل ... وليس بمعنى رجوعه من تبوك الى المدينة ، وإلّا فرجوعه الى المدينة وأهلها كلهم وليس الى طائفة منهم ، فما معنى هذا؟ وبدون أن نأخذ الرجوع بمعنى عودة الحالة وانما بمعنى العودة الى المدينة فما معنى يستأذنونه للخروج؟ للخروج لما ذا؟ بدون افتراض رجوع الحالة مرة اخرى.

* * *

مرّ عن الطباطبائي أن الروايات المنقولة لا تكاد تجتمع على كلمة فيما اختص علي عليه‌السلام بتأديته من آيات البراءة عن عهود المشركين : فمنها ما يدل على ان الآيات كانت تسعا ، واخرى عشرا ، واخرى ست عشرة ... قال هذا فيما اختار هو الفصل الأول من آيات السورة لتفسيرها ست عشرة آية ، وقال في توجيه فصلها عمّا يليها : ان اتصالها بما بعدها ليس واضحا بل هو لا يخلو من تكلف (١).

وعلى أي حال ، فحيث ان بعث النبي للوصي عليه‌السلام بآيات البراءة كان من آخر ما حدث من شئون السورة بعد سائر الحوادث ، في أيام موسم الحج ، فنحن نؤجل نقل ذلك الى هناك. وكثير من أخبار أسباب نزول كثير من آي السورة من حوادث الغزوة نقلناه ضمن تسلسل الحوادث ، وانما ننقل هنا ما تبقى منها من غير حوادث الغزوة ولعلها حدثت بعدها وقبل نزول السورة.

__________________

(١) الميزان ٩ : ١٩٩.


العباس يفاخر عليا عليه‌السلام :

لم أجد فيما بأيدينا شانا خاصا للآيتين ١٧ و ١٨ : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) وكأنهما تمهيد لخلع يد المشركين عن المسجد الحرام ، وكذلك تناسبان ما يليهما : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) : ١٩ حتى آخر الآية ٢٢.

مرّ في أخبار فتح مكة : ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أرسل الى عثمان بن أبي شيبة من بني عبد الدار فأخذ منه مفاتيح الكعبة ثم ردّها إليه وهنا نجده كأنه ضمن من استنفرهم النبي من أهل مكة فجاؤوه ومنهم عمه العباس.

فروى العياشي في تفسيره عن الصادق عن علي عليهما‌السلام قال : كنت أنا والعباس وعثمان بن أبي شيبة في [ذكر] المسجد الحرام ، فقال عثمان بن أبي شيبة : ان رسول الله أعطاني الخزانة ـ يعني مفاتيح الكعبة ـ وقال العباس : ان رسول الله أعطاني السقاية ـ وهي زمزم ـ ولم يعطك شيئا يا علي! (١).

ورواه القمي في تفسيره عن الباقر عليه‌السلام قال : وقال علي عليه‌السلام : أنا أفضل فاني آمنت قبلكم ثم هاجرت وجاهدت. فرضوا برسول الله حكما ، فأنزل الله الآية (٢).

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ : ٨٣.

(٢) تفسير القمي ١ : ٢٨٤ وفي خبر آخر في تفسير العياشي قال : فكان علي وحمزة وجعفر الذين آمنوا وجاهدوا. ومن هنا كأنما أخطأ الرواة فذكروا حمزة في المفاخرة ، وهو شهيد في احد في الثالثة للهجرة ، وجعفر أيضا شهيد في مؤتة قبل هذا.

وانظر التبيان ٥ : ١٩٠ ومجمع البيان ٥ : ٢٣ وجامع البيان ١٠ : ٩٤ وشرح الأخبار للقاضي المصري ١ : ٣٢٤. وأسباب النزول للواحدي : ١٩٩.


وعادت الآية ٢٨ فأضافت الى منع المشركين عن عمران المسجد الحرام أن منعتهم من اقترابه ، ودفعت توهم المسلمين انقطاع المتاجر بمنع المشركين فقالت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(١).

وفي الآيتين ٣٦ و ٣٧ قرّر الاشهر الحرم الأربع ، وحرّم النسيء فيها ، ومن الآية ٣٨ يبدأ الحديث عن غزوة تبوك.

وفي الآية ٤٨ : (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ) اشارة الى يوم احد حين رجع عبد الله بن ابي بأصحابه وخذل رسول الله ، وكان هو وجماعة من المنافقين يبغون للاسلام الغوائل قبل هذا (٢).

وفي الآية التالية ٤٩ : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي ...) اشارة الى ما مرّ من ترغيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي وهب الجدّ بن قيس من بني سلمة في الخروج الى تبوك وجوابه (٣).

وفي الآية ٥٨ اشارة الى ما بدأه صلى‌الله‌عليه‌وآله مع بدايات السنة التاسعة من بعث جباة الصدقات أي الزكوات ونقد بعض المنافقين لكيفية توزيعه لها : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) ذكر الطوسي : بلتعة بن حاطب ، كان يقول : انما يعطي محمّد من يشاء (٤) ودفعا أو رفعا أو تقليلا لمثله عيّنت الآية التالية مصارف الصدقات : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ

__________________

(١) التبيان ٥ : ٢٠١ وعنه في مجمع البيان ٥ : ٣٣.

(٢) التبيان ٥ : ٢٣٢ وعنه في مجمع البيان ٥ : ٥٥.

(٣) التبيان ٥ : ٢٣٢ وعنه في مجمع البيان ٥ : ٥٧.

(٤) التبيان ٥ : ٢٤٢.


وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) : ٦٠ فالآية من آيات الاحكام من حيث مصارف الصدقات وليس التأسيس ، حيث قد سبق ذلك بأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله منذ المحرّم.

وفي الآية التالية : ٦١ (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ...) اشارة الى ما مرّ من خبر نبتل بن الحارث وغيره من منافقي الأنصار (١).

وفي الآية ٦٤ : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ ...) اشارة الى ما مرّ من خبر مخشن بن حمير الأشجعي وجماعته في طريقهم الى تبوك (٢).

وفي الآية ٧٤ : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا) ... (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) اشارة الى ما مرّ من خبر أصحاب العقبة عن الباقر عليه‌السلام وكتاب الواقدي والزجاج ومجاهد (٣).

ومن الحوادث في غير تبوك ما في الآية التالية ٧٥ : (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) وهما من بني عمرو بن عوف من الأوس : ثعلبة بن حاطب ومعتّب بن قشير ـ كما في ابن اسحاق ـ قال ثعلبة : والله لئن آتاني الله مالا لأتصدّقنّ ولأكوننّ من الصالحين ، فأصاب اثني عشر ألف درهم دية فلم يتصدق ولم يكن من الصالحين ، كما في الواقدي ، وعنهما في «التبيان» (٤).

__________________

(١) التبيان ٥ : ٢٤٨ عن ابن اسحاق وعنه وغيره في مجمع البيان ٥ : ٦٨.

(٢) التبيان ٥ : ٢٥٠ و ٢٥٣ عن ابن اسحاق والطبري وعنه في مجمع البيان ٥ : ٧٢ وقبله نقول عديدة منها أصحاب العقبة.

(٣) التبيان ٥ : ٢٦٠ ، ٢٦١ وعنه وغيره في مجمع البيان ٥ : ٧٨ و ٧٩.

(٤) التبيان ٥ : ٢٦٢ عن السيرة ٤ : ١٩٦ ومغازي الواقدي ٢ : ١٠٦٨ ومثله وعن غيرهما في مجمع البيان ٥ : ٨١ ، ٨٢.


وعادت الآية ٧٩ : (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ ...) الى الصدقات غير الفريضة بل المتطوع بها للجهاد الى تبوك ، وسخرية المنافقين ولمزهم بهم ، فروى الطوسي عن قتادة وغيره من المفسّرين : أن المؤمن المتطوّع صدقة للغزوة هو عبد الرحمن بن عوف حيث جاء بشطر ماله أربعة آلاف دينار ، وان المؤمن الذي لم يجد الّا جهده حجاب بن عثمان اذ أتى النبي بصاع من تمر وقال : يا رسول الله اني عملت في النخل بصاعين من تمر فتركت صاعا للعيال وأهديت صاعا لله. وقيل : الأول هو زيد بن أسلم العجلاني ، والثاني علبة بن زيد الحارثي. فقال عبد الله بن نبتل او نهيك ومعتّب بن قشير في الأول : انه عظيم الرياء! وفي الثاني : ان الله لغنيّ عما أتى به! (١).

وفي الآية التالية : ٨٠ قال الطوسي : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله اذا مات ميّت صلى عليه واستغفر له فأنزل الله عليه هذه الآية يعلمه بها ان في جملة من تصلي عليه من هو منافق وأنّ استغفاره له لا ينفعه قلّ ذلك أو كثر : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ...) فما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال : «والله لأزيدنّ على السبعين» خبر واحد لا يلتفت إليه ، لأنّ في ذلك : ان النبي استغفر للكفار ، وذلك لا يجوز بالاجماع (٢). ثم نهى الله نبيّه أن يصلّي على أحد منهم وأن يستغفر له بقوله : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ)(٣) فنقل ما مرّ عن قتادة عن ابن عباس وعن جابر وابن عمر : انه صلى‌الله‌عليه‌وآله صلى على ابن أبي قبل أن ينهى عن الصلاة على المنافقين (٤) مما يعني أن السورة نزلت بعد موت ابن ابي

__________________

(١) التبيان ٥ : ٢٦٦ واقتصر في مجمع البيان ٥ : ٨٤ على ابن عوف وابن زيد الحارثي.

(٢) التبيان ٥ : ٢٦٨ وعنه في مجمع البيان ٥ : ٨٤.

(٣) التبيان ٥ : ٢٦٨.

(٤) التبيان ٥ : ٢٧١ وعنه في مجمع البيان ٥ : ٨٧.


والصلاة عليه ودفنه في منتصف ذي القعدة ، وبعد أكثر من خمسين يوما مدّة التضييق على الثلاثة المتخلفين بعد الرجوع من تبوك في أواخر شهر رمضان. على ترجيح توالي الآيات ، كما مرّ كل ذلك ، واحتملنا أن الطوسي لهذا ردّد معنى الرجوع في الآية السابقة ٨٣ : (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ) بين الرجوع المكاني وبين الرجوع الحالي بمعنى تكرار حال استيذانهم لغزوة اخرى ، ولم يتبعه الطبرسي فقال : اي ان ردّك الله من سفرك هذا في غزوتك هذه (١) مما يلازم القول بالفاصل الزمني نحو شهرين بين الآيتين ، مما لا يناسب السياق (٢).

وانفرد الواقدي في «المغازي» بذكر مصداق قوله : (اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ) : ٨٦ ، فقال : هو الجد بن قيس كان كثير المال (٣).

وفي المشار إليهم في الآية ٩٠ : (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) قال الطوسي : قيل : هم خفاف بن ايماء بن رحضة الغفاري وقومه من الأعراب (٤) الثمانون.

والآيتان : ٩١ و ٩٢ ذكرتا المعذورين الواقعيّين من المرضى والضعفاء والفقراء الذين لا يجدون ما ينفقون ، وفي هؤلاء نقل الطوسي عن ابن عباس : ان عبد الله بن معقل المزني وجماعة معه جاءوا الى رسول الله ليحملهم فقال : لا يجد (٥) ومنهم من بكى لذلك فخصّتهم الآية التالية فعرفوا بالبكّائين ، فحكى الطوسي عن الواقدي :

__________________

(١) مجمع البيان ٥ : ٨٦.

(٢) كما قال في الميزان ٩ : ٣٥٦ فما بعدها بوحدة السياق بين الآيتين ونزولهما قبل الرجوع لهذا فهو لم يصلّ على ابن ابيّ ، وان الأخبار بذلك مخالفة لدلالة الكتاب فمطروحة.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٧٠.

(٤) التبيان ٥ : ٢٧٨ وفي مجمع البيان ٥ : ٩٠ عن ابن عباس.

(٥) التبيان ٥ : ٢٧٨.


انهم سبعة من فقراء الأنصار فجعل منهم عبد الله بن معقل المزني المذكور آنفا ، وان العباس بن عبد المطلب حمل منهم رجلين ، ومن بني النضير ثلاثة حملهم رجل منهم يامين بن كعب النضري ، وحمل عثمان بن عفان رجلين (١) وقد مرّ خبرهم سابقا.

ولا ينكر ان ظاهر الآيتين ٩٤ : (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) و ٩٥ : (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ) نزولهما مع ما في سياقهما قبل رجوعهم الى المدينة ، الا أن يقال ـ كما قال الطوسي ـ ان الله أخبر أنهم اذا عاد النبي والمؤمنون كانوا يجيئون إليهم ليعتذروا (٢).

وبفاصل هذه الآيات السبع عادت الآيات الى تشريح حالات الأعراب في ثلاث آيات من كافرين ومتربصين ومؤمنين ، بمناسبة المعذّرين منهم عن تبوك ، الى ٩٩.

وبفاصل الآية ١٠٠ تعود الآية التالية الى المنافقين من الأعراب حول المدينة ـ ومن اهل المدينة ـ وكأنهم فرّقوا بين الأعراب السابقين أنهم من بني غفار ، وهؤلاء القريبين من المدينة من بني تميم : عيينة بن حصن التميمي وقبيله ، وفي الآية التالية ١٠٢ : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) أيضا روى الطوسي عن ابن عباس : انها نزلت في قوم من الأعراب (٣) وهكذا فسّرها الطباطبائي (٤).

ومن المتمرّدين على النفاق من أهل المدينة نقل الطوسي عن أكثر المفسّرين : أن أبا لبابة صاحب القصة في غزوة بني قريظة هنا أيضا كان من جملة المتأخرين عن تبوك (٥) ومعه خذام صاحب الأرض لمسجد ضرار وأوس وجدّ بن قيس ، فروى

__________________

(١) التبيان ٥ : ٢٨٠ عن الواقدي ٣ : ١٠٧١ وعنه وغيره في مجمع البيان ٥ : ٩١.

(٢) التبيان ٥ : ٢٨١.

(٣) التبيان ٥ : ٢٩٠.

(٤) الميزان ٩ : ٣٧٦.

(٥) التبيان ٥ : ٢٩٠.


عن الفراء عن زيد بن أسلم وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك عن ابن عباس : أن هؤلاء الذين تابوا وأقلعوا قالوا للرسول : خذ من أموالنا ما تريد. فقال رسول الله : لا أفعل حتى يؤذن لي فيه. حتى أنزل الله بعد هذه الآية : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) : ١٠٣ (١) وكأن هذا الأمر بالصلاة عليهم في موقع الحظر بإزاء النهي السابق : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً) : ٨٤ والّا فهو الى الترحيب والتشريف أقرب منه الى الوجوب والتكليف.

وحيث عرّجت هذه الآية على المعترفين بذنوبهم والمقدّمين لصدقاتهم كفّارة لذنوبهم ، عرّجت الآية : ١٠٦ على المرجون منهم لأمر الله ، فنقل الطوسي عن قتادة ومجاهد انها بشأن الثلاثة المتخلّفين كما مر خبرهم (٢).

وفي الآية : ١٠٧ ـ ١١٠ بشأن مسجد الضرار ، ولا خلاف في أنه أرسل لتحريقه وتهديمه من منزل ذي أوان قبل المدينة ، ولم يدع أحد يعتدّ به ان ذلك كان بنزول هذه الآيات ، انما كان بأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم نزلت السورة وهذه الآيات بفاصل زمني معتدّ به أي نحو شهرين منذ ذلك الحين ، تأييدا له ، ككثير من سائر الموارد ، وقد مرّ خبره.

وعادت الآيتان : ١١٣ و ١١٤ على استغفار النبي والمؤمنين لقرباهم وغيرهم من المشركين ومناسبتها الواضحة التنبيه على النهي السابق وتقويته وتأكيده وتثبيته ودفع ما يوهم خلافه أو رفعه.

وفي الآية ١١٧ : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى ...) اشارة الى ان فريقا من المهاجرين والأنصار كاد يزيغ قلوبهم على أثر عسر السفرة الى غزوة تبوك ، ولم تزغ قلوبهم حيث اتّبعوا نبيهم ولم يتّبعوا أهواء قلوبهم في الاستراحة عن العسرة.

__________________

(١) التبيان ٥ : ٢٩٢ و ٢٩٣ وعنه في مجمع البيان ٥ : ١٠٢ و ١٠٣ ولم يرتضه.

(٢) التبيان ٥ : ٢٩٦ وعنه في مجمع البيان ٥ : ١٠٤.


وقال الطوسي : قيل : لقد همّ كثير منهم بالرجوع من شدة ما لحقهم ، بل قيل : بعد ما كاد يشك جماعة منهم في دينه ، ثم تابوا فتاب الله عليهم ، وذكر خبر أبي خيثمة الأنصاري وزوجتيه كمصداق لهم ثم قال : فهو ممن زاغ قلبه للمقام ثم ثبّته الله فتاب فتاب الله عليه (١).

وفي الآية ١١٨ : أضاف الى من تاب عليهم من المهاجرين والأنصار ممن كاد يزيغ قلبه ، أضاف إليهم الثلاثة الذين خلّفوا ، فان كانوا هم المرجون سابقا لأمر الله إما يعذّبهم واما يتوب عليهم في الآية : ١٠٦ فهنا تاب الله عليهم ، وعليه فلا بدّ من القول بالفصل نزولا بين الآيتين ، ولعلّه بالخمسين يوما أو أقلّ من ذلك كما مرّ.

وفي الآية ١٢٢ : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ).

نقل الطوسي عن الواقدي قال : ان قوما من خيار المسلمين كانوا قد خرجوا الى البدو يفقّهون قومهم ، فالمنافقون احتجوا بهم في تأخرهم عن تبوك ، فنزلت هذه الآية جوابا لهم ... يعني كيف يكون لهؤلاء حجة باولئك في تأخّرهم في البادية وهم مؤمنون مستجيبون وهؤلاء منافقون مدهنون؟! (٢).

وكأن الطبرسي لم يرتضه فاستبدل عنه برواية عن مجاهد قال : كان اناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد خرجوا الى البوادي يدعون من يجدون من الناس الى الهدى ، فأصابوا من الناس معروفا وخصوصية ، ولكن قيل لهم : ما نراكم الّا وقد تركتم صاحبكم وجئتمونا [فرارا من النفر معه] فتحرّجوا من ذلك ورجعوا إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأنزل الله هذه الآية (٣) جوابا لهم.

__________________

(١) التبيان ٥ : ٣١٥ وعنه في مجمع البيان ٥ : ١١٩ ، ١٢٠.

(٢) التبيان ٥ : ٣٢٣ وليس في المغازي.

(٣) مجمع البيان ٥ : ١٢٦ والخبران كما ترون في التعليم وليس في التعلّم والتفقّه ،


وكأنّما الآية التالية ١٢٣ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا) توجيه لهذا الحشد الشديد والأكيد لما ذا؟ تقول : (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) ومن الغلظة أن يكون الكمّ غليظا هائلا.

وفي الآيتين التاليتين : ١٢٤ و ١٢٥ اشارة الى مدى تأثير مثل هذه السورة الفاضحة في المؤمنين وفي مرضى القلوب بمرض النفاق ، فالمؤمنون يستبشرون ويزدادون ايمانا ، واما مرضى القلوب فيزدادون رجسا وكفرا حتى الموت!

وفي الآية التالية : ١٢٦ : اشارة الى أن هذه الغزوة الى تبوك كانت فتنة فتنوا وامتحنوا بها فلم يتذكّروا ولم يتوبوا ، فهم راسبون في هذا الامتحان.

وكأنّما في الآية التالية : ١٢٧ : اشارة الى علامة ذلك عند نزول هذه السورة أو أية سورة اخرى : ان قلوبهم مصروفة عن معناها فهم لا يفقهونها ، فانما يراعون أن لا يراهم أحد من المؤمنين والّا فهم ينصرفون حتى عن سماع السورة.

والعنت هو العناء الّا انه العناء الروحي والنفسي الخاص ، فكأنّما الآية التالية : ١٢٨ : توجيه لهذا الخطاب والعتاب الشديد والأكيد على المنافقين ، لما ذا؟ تقول : ان الرسول رءوف رحيم بالمؤمنين فهو يخاف عليهم منكم ، وأيضا يراكم في النفاق وهو يرى النفاق عنتا نفسيا فيعزّ عليه ذلك إذ هو حريص على ايمانكم ، فعسى أن تؤمنوا أنزلنا على لسانه كل هذا العتاب عليكم لعلّكم تهتدون.

__________________

ـ فكأنّ المعنى : دعوا هؤلاء مشتغلين بعملهم في التعليم ولا تحتجّوا بهم للتخلّف ، فما كان المؤمنون كلّهم ينفرون للغزو ، فلينفر من كل فرقة طائفة ليكونوا مع النبي فيتفقّهوا في دينهم منه ، فاذا رجعوا إليهم يبلّغونهم ذلك ، فمن النفر ما يكون للتفقّه لا للغزو ، فليتفقّه هؤلاء وليفقّه اولئك ، ولا تحتجوا بتخلّفهم ولستم مشتغلين بالتعليم والتفقيه.


والآية التالية : ١٢٩ خاتمة السورة تلتفت بالخطاب إليه فتقول له : فان تولّى هؤلاء ولم يهتدوا بكل هذا الخطاب والعتاب ، فتوكّل على الله وقل لهم : حسبي الله عنكم! لا إله الّا هو ربّ العرش العظيم.

حديث سدّ الأبواب :

في قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ...) الثامنة والعشرين من السورة ، مرّ التنويه (في الحاشية) الى احتمال أن سدّ الأبواب الشارعة الى مسجده صلى‌الله‌عليه‌وآله كان بهذه المناسبة ؛ وذلك تمهيدا لتحريم الحرم على المشركين ، لئلّا يقول قائلهم : انّ أبوابهم شارعة الى مسجدهم وينامون فيه ويجنبون ، ويمنعوننا من دخول المسجد الحرام!

روى الكليني في «فروع الكافي» بسنده عن أبي حمزة الثمالي عن الباقر عليه‌السلام قال : كثر من دخل الاسلام من الغرباء بالمدينة ، من اهل الحاجة ، حتى ضاق بهم المسجد ، فأوحى الله الى نبيّه : ان طهّر مسجدك واخرج من المسجد من يرقد فيه بالليل ، ومر بسدّ أبواب من كان له باب في مسجدك ، الّا باب علي ومسكن فاطمة ، ولا يمرّن فيه جنب ، ولا يرقد فيه غريب. فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بسدّ أبوابهم الّا باب علي عليه‌السلام وأقرّ مسكن فاطمة عليها‌السلام على حاله (١).

__________________

(١) فروع الكافي ٥ : ٣٣٩ ب ٢١ ح ١ وفيه : ثم ان رسول الله أمر ان يتخذ للمسلمين سقيفة ـ وهي الصفة ـ فعملت لهم. وعليه تكون الصفة قد اقيمت في التاسعة ، بينما التحق أبو هريرة وقومه من دوس من أزد اليمن ثمانون رجلا ومعهم من الأشعريين خمسون رجلا ، التحقوا بأواخر فتح خيبر فأسهم لهم النبي في الغنائم ثم اسكنهم الصفة. فالظاهر انها اقيمت في السابعة لا التاسعة ، ولذلك فنحن ذكرناها هناك ، فراجع.


ومن الطرق السالكة في الاسلام لتقريب الايمان والاذعان الى الاذهان تشبيه المشروع فيه بمثله في سابق الأديان. ولهذا قصد الراوندي في نوادره باسناده الى الامام الصادق عليه‌السلام عن أبيه عن آبائه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ان الله تعالى أوحى الى موسى عليه‌السلام : أن ابن مسجدا طاهرا ، لا يكون فيه الّا هو (موسى) وأخوه هارون وابناه شبّر وشبير ، وان الله تعالى أمرني أن مسجدي لا يكون فيه غيري وغير أخي علي وابنيّ الحسن والحسين (١).

وقد مرّ الخبر في مولد الحسنين عليهما‌السلام : انه صلى‌الله‌عليه‌وآله جاء ابنته فاطمة عليها‌السلام فاقبلت إليه بالحسن عليه‌السلام فدفعته إليه ... فأخذه وأذّن في اذنه اليمنى وأقام في اليسرى ثم قال : لقد جاءني جبرائيل فقال لي : يا محمّد ، ان ربّك يقرئك السلام ويقول لك :

انّ عليا منك بمنزلة هارون من موسى ، فسم ابنك هذا باسم ولد هارون (٢) وفي خروجه لتبوك.

فكأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أراد بسدّ الأبواب في المسجد الّا بابه وباب علي عليه‌السلام تثبيت معنى حديث المنزلة ، كما في خبر الصدوق عن الرضا عليه‌السلام في مجلس المأمون العباسي.

وفيه أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لما أخرج الناس من مسجده ما خلا العترة تكلم الناس في ذلك ، وتكلم العباس فقال : يا رسول الله ، تركت عليا وأخرجتنا؟! فقال رسول الله : ما أنا تركته وأخرجتكم ، ولكن الله عزوجل تركه وأخرجكم (٣).

وروى عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : سدّوا الأبواب الشارعة في المسجد الّا باب

__________________

(١) نوادر الراوندي : ٨ وعنه في بحار الأنوار ٣٩ : ٣٣ وروى مثله ابن المغازلي في مناقبه عن عدي بن ثابت.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٥.

(٣) عيون اخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٣٢ ، والأمالي : ٤٢٣ ، ٤٢٤.


علي (١) وقال : لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد الّا أنا وعلي وفاطمة والحسن والحسين ، ومن كان من أهلي ، فإنّهم منّي (٢).

وروى الخبر في «الأمالي» عن ابن عباس ، ولكنه أعرض عن ذكر اعتراض أبيه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله واكتفى بقوله : أمر النبي بأبواب المسجد فسدّت ، الّا باب علي. وكذلك فعل ابن عمرو ابن أرقم ، واكتفى بقوله : فتكلم الناس في ذلك! ولكنه روى جوابه صلى‌الله‌عليه‌وآله ضمن خطبة قال : فقام رسول الله فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد ، فاني أمرت بسدّ هذه الأبواب غير باب علي ، فقال فيه قائلكم! واني ـ والله! ـ ما سددت شيئا ولا فتحته ، ولكنّي امرت بشيء فاتّبعته (٣).

وروى في «علل الشرائع» عن ابن عباس اشارة الى اعتراضهم من دون تنويه بأبيه العباس قال : لما سدّ رسول الله الأبواب الشارعة الى المسجد الّا باب علي ، ضجّ أصحابه من ذلك وقالوا : يا رسول الله لم سددت أبوابنا وتركت باب هذا الغلام (كذا)؟! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم : إنّ الله تبارك وتعالى أمرني بسدّ أبوابكم وترك باب علي ، فانما انا متّبع لما يوحى إليّ من ربّي.

وروى فيه بسنده عن أبي رافع قال : ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خطب الناس فقال : أيها الناس ، ان الله عزوجل أمر موسى وهارون ان يبنيا لقومهما بمصر بيوتا ،

__________________

(١) عيون اخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٦٧.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٦٠. وروى القندوزي عن الترمذي رفعه عن أبي سعيد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعلي عليه‌السلام : يا علي ، لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك. وقال الترمذي : حديث حسن.

(٣) بحار الأنوار ٣٩ : ١٩ و ٢٠ عن أمالي الصدوق ، والخبر الأخير رواه الاربلي في كشف الغمة ١ : ٣٣٠ عن مسند احمد بن حنبل.


وأمرهما أن لا يبيت في مسجدهما جنب ، ولا يقرب فيه النساء الّا هارون وذرّيته. وإنّ عليا منّي بمنزلة هارون من موسى فلا يحلّ لأحد أن يقرب النساء في مسجدي ولا يبيت فيه جنب الّا علي وذرّيته.

وفي جوابه صلى‌الله‌عليه‌وآله على اعتراضاتهم روى فيه بسنده عن حذيفة بن اسيد الغفاري قال : ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قام خطيبا فقال : ان رجالا يجدون في أنفسهم أن اسكن عليا في المسجد واخرجهم! والله ما أخرجتهم وأسكنته ، بل الله أخرجهم واسكنه ، ان الله عزوجل أوحى الى موسى وأخيه : (أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) ثم أمر موسى : أن لا يسكن مسجده ولا ينكح فيه ، ولا يدخله جنب الّا هارون وذرّيته ، وان عليا منّي بمنزلة هارون من موسى ، وهو أخي دون اهلي ، ولا يحلّ لأحد أن ينكح فيه النساء الّا علي وذرّيته فمن ساءه فها هنا! وأشار بيده نحو الشام (١).

وانفرد ابن المغازلي في «المناقب» بسنده عن حذيفة بن اسيد الغفاري قال : ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث معاذ بن جبل الى أبي بكر يقول له : إنّ رسول الله يأمرك أن تخرج من المسجد وتسدّ بابك. ففعل معاذ ذلك فقال أبو بكر : سمعا وطاعة. وسدّ بابه وخرج من المسجد.

ثم أرسل الى عمر فقال له : ان رسول الله يأمرك أن تسدّ بابك الذي في المسجد وتخرج منه. فقال عمر : سمعا وطاعة لله ولرسوله ، غير اني أرغب الى الله تعالى في خوخة في المسجد. فأبلغ معاذ ذلك الى النبي فلم يقبل به.

ثم أرسل الى عثمان ... فقال : سمعا وطاعة لله ولرسوله.

__________________

(١) علل الشرائع ١ : ٢٣٧ ، ٢٣٨ ، وقريب منه ما رواه ابن المغازلي في المناقب كما عنه في كشف الغمة ١ : ٣٣١.


وقال النبي لعلي عليه‌السلام : اسكن أنت طاهرا مطهّرا ...

ونفس رجال ذلك على علي عليه‌السلام ووجدوا عليه في أنفسهم ، فبلغ ذلك النبي.

فقام صلى‌الله‌عليه‌وآله خطيبا فقال : ان رجالا يجدون في أنفسهم ... (١).

__________________

(١) كشف الغمة ١ : ٣٣١ وبقية الخبر كما مرّ عن علل الشرائع. وفي الخبر ذكر اعتراض حمزة بدل العباس ، وفيه ذكر رقية مع عثمان ، وهما وهمان.

وقد روى الخبر ابن المغازلي في «المناقب» عن خبر حذيفة بن اسيد : عن ابن عباس والبراء بن عازب ، وسعد بن أبي وقاص ، وسعيد ، وعدي بن ثابت ، ونافع. ونقلها عنه الاربلي في كشف الغمة ١ : ٣٣١ ـ ٣٣٣ وفيه قبله عن مسند احمد عن عمر بن الخطاب وابنه وزيد بن الأرقم ١ : ٣٣٠ ، ٣٣١.

وفي مناقب آل أبي طالب ٢ : ١٨٩ ، ١٩٠ قال الحلبي : روى حديث سدّ الأبواب ثلاثون رجلا من الصحابة منهم : ابو رافع وأبو سعيد الخدري وأبو حازم عن ابن عباس ، وأبو الطفيل عن حذيفة بن اسيد الغفاري ، وأمّ سلمة ، وزيد بن ارقم وسعد بن أبي وقاص ، والعلاء عن ابن عمر ، وزيد عن اخيه الباقر عليه‌السلام. وهو ما رواه الخطيب البغدادي عنه عن جابر الأنصاري.

وفيه عن السمعاني في «الفضائل» عن جابر قال : سأل رجل ابن عمر في المسجد عن علي وعثمان فقال : أما علي فابن عم رسول الله وختنه ، ثم أشار بيده وقال : وهذا بيته حيث ترون ، وأمر الله نبيه ان يبني مسجده وبني إليه عشرة أبيات : تسعة له ولأزواجه ، وعاشرها لعليّ وفاطمة. ثم قال السمعاني : وبقي علي وولده في بيته الى أيام عبد الملك بن مروان ، وعرف هذا الخبر فحسدهم عليه واغتاض ، فأمر بهدم الدار يتظاهر انه يريد أن يزيده في المسجد. وكان فيها الحسن بن الحسن (المثنى) فقال : لا أخرج ولا امكن من هدمها! فأخرجوه بضرب السياط وهدمت الدار ٢ : ١٩١ ، ١٩٢.

ومن الجدير بالتذكير أن نزول البراءة كان في شهر شوال وارسالها مع أبي بكر أولا ثم علي عليه‌السلام ثانيا كان في ذي القعدة للحج ، اذ الحج في تلك السنة كان في ذي القعدة لموقع النسيء ، كما سيأتي.


بعث علي عليه‌السلام بآيات البراءة :

روى القمي في تفسيره بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : كان في سنّة العرب في الحج أنه : من دخل مكة وطاف بالبيت في ثيابه لم يحلّ له إمساكها ، فكانوا يتصدّقون بها ولا يلبسونها بعد الطواف (وإلّا) فمن يوافي مكة يستعير ثوبا فيطوف فيه ثم يردّه ، فمن لم يجد عارية اكترى ثيابا ، ومن لم يجد عارية ولا كراء ولم يكن له إلا ثوب واحد طاف بالبيت عريانا.

ولما فتح رسول الله مكة لم يمنع المشركين من الحج في تلك السنة (الثامنة) (١) فكان المشركون يحجّون مع المسلمين ، فتركهم على حجّهم الأول في الجاهلية ، وعلى امورهم التي كانوا عليها : من طوافهم بالبيت عراة ، وتحريمهم الشهور (الحلال بدل) الحرام ، والقلائد ، ووقوفهم بالمزدلفة.

وأراد الحج ، فكره أن يسمع تلبية العرب لغير الله ، والطواف بالبيت عراة (٢).

هذا في حجّهم ، وأما في قتالهم :

ففي الآية : ١٩٠ من سورة البقرة : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) روى الطبرسيّ عن الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم قالا : هذه أول آية نزلت في القتال ، فلما نزلت كان رسول الله يقاتل من قاتله ، ويكفّ عمّن كفّ عنه (٣) وقال في معنى : (وَلا تَعْتَدُوا) قيل : معناه : لا تعتدوا بقتال من لم يبدأكم (٣).

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد هادن بني ضمرة ووادعهم ، وكانت بلادهم على طريق مكة من المدينة ، وكان بنو الأشجع من بني كنانة قريبا من بلاد بني ضمرة ،

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٢٨١.

(٢) تفسير فرات الكوفي : ١٦١ ح ٢٠٣ عن ابن عباس.

(٣) و (٤) مجمع البيان ٢ : ٥١٠.


وكان محالّهم البيضاء والجبل والمستباح ، وكان بينهم وبين بني ضمرة حلف في المراعاة والأمان ، وأخصبت بلاد بني ضمرة وأجدبت بلاد أشجع ، فأرادوا أن يصيروا الى بلاد بني ضمرة ... فهابوا رسول الله أن يبعث إليهم من يغزوهم ، للموادعة التي كانت بينه وبين بني ضمرة ... وخافهم رسول الله أن يصيبوا من أطرافه شيئا فهمّ بالمسير إليهم ...

فبينما هو على ذلك إذ جاءت أشجع وهم سبعمائة ورئيسهم مسعود بن دخيلة فنزلوا شعب سلع ، وذلك في شهر ربيع الأول سنة ست. فدعا رسول الله اسيد بن حضير فقال له : اذهب في نفر من أصحابك حتى تنظر ما أقدم أشجع؟

فخرج اسيد ومعه ثلاثة نفر من أصحابه فوقف عليهم فقال : ما أقدمكم؟ فقام إليه رئيسهم مسعود بن دخيلة فسلّم على اسيد وأصحابه وقال : جئنا لنوادع محمّدا.

فرجع اسيد الى رسول الله فأخبره ، فقال رسول الله : خاف القوم أن أغزوهم فأرادوا الصلح بيني وبينهم. ثم بعث إليهم بعشرة أحمال تمر فقدّمها أمامه ثم قال : نعم الشيء الهدية أمام الحاجة. ثم ذهب رسول الله إليهم فقال لهم : يا معشر أشجع ما أقدمكم؟ قالوا : قربت دارنا منك ، وليس في قومنا أقلّ عددا منّا ، فضقنا بحربك لقرب دارنا منك ، وضقنا بحرب قومنا لقلّتنا فيهم ، فجئنا لنوادعك.

فقبل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله منهم ذلك ووادعهم ، فأقاموا يومهم ، ثم رجعوا الى بلادهم ونزلت فيهم هذه الآيات من سورة النساء : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً* فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً* وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً* إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ


صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً)(١).

وروى فيه بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : كانت سيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن لا يقاتل إلّا من قاتله ، ولا يحارب إلّا من حاربه وأراده ، وكان قد نزل عليه في ذلك من الله عزوجل : (... فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) فكان صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يقاتل أحدا قد تنحّى عنه واعتزله حتى نزلت عليه سورة البراءة وأمره الله بقتال المشركين من اعتزله ومن لم يعتزله إلّا الذين كان قد عاهدهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم فتح مكة الى مدّة. فلما نزلت الآيات من أول براءة دفعها رسول الله الى أبي بكر وأمره أن يخرج الى مكة ، فإذا كان يوم النحر بمنى قرأها للناس. فلما خرج أبو بكر نزل جبرئيل عليه‌السلام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له : يا محمّد ، لا يؤدّي عنك إلّا رجل منك (٢).

كذا رواه القمي بسنده عن الصادق عليه‌السلام ، فيما روى معاصره العياشي في تفسيره عن أبيه الباقر عليه‌السلام قال : ما بعث رسول الله أبا بكر ببراءة ... ولكنّه استعمله على الموسم ... وبعد ما فصل أبو بكر عن المدينة (٣) قال لعلي عليه‌السلام : انّه لا يؤدّي عنّي إلّا أنا وأنت (ثم) بعث بها عليا عليه‌السلام (٤).

__________________

(١) النساء : ٨٧ ـ ٩٠ والخبر في تفسير القمي ١ : ١٤٥ ـ ١٤٧ وذكر مختصره عنه الطبرسي في مجمع البيان ٣ : ١٣٥. وفي تفسير العياشي ١ : ٢٦٢ عن الصادق عليه‌السلام أنهم بنو مدلج.

(٢) تفسير القمي ١ : ٢٨١ ، ٢٨٢ وكان ذلك لأول ذي القعدة ، وذلك لأن الحج في تلك السنة كان في ذي القعدة بالنسيء ، كما يأتي.

(٣) هنا في الخبر : عن الموسم ، بينما قال : فصل أبو بكر ، مرفوعا ، ولا يصحّ هذا ، فيبدو أن الموسم مصحّف عن المدينة فالأصل كما أثبتناه ، وفصل أي انفصل لا عزل.

(٤) تفسير العياشي ٢ : ٧٤ ومثله في خبر ابن عباس في تفسير فرات : ١٦١ ح ٢٠٣.


وهذا يوافق أخبار الواقدي بتفصيل جاء فيه : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قلّد عشرين بدنة النعال وأشعرها بيده في الجانب الأيمن ، واستعمل عليها ناجية بن جندب الأسلميّ ، واستعمل على الحجّ أبا بكر وعهد إليه أن يخالف المشركين فلا يقف يوم عرفة بجمع ـ اى المزدلفة ـ بل يقف يوم عرفة بعرفة (١) ... ثم لا يندفع من عرفة حتى تغرب الشمس ... وكان مفردا بالحج. وخرج معه ثلاثمائة من أهل المدينة من أهل القوة منهم عبد الرحمن بن عوف ، ومعه خمسة بدن. وأهلّ أبو بكر من ذي الحليفة وسار حتى العرج (٢).

فروى العياشي عن علي عليه‌السلام قال : لما ابتعثني النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ببراءة قلت له : يا نبيّ الله ، إني لست بلسن ولا بخطيب! فقال : ما بدّ أن أذهب بها أو تذهب بها أنت! فقلت : فان كان لا بدّ فسأذهب أنا. قال : فانطلق ، فانّ الله يثبّت لسانك ويهدي قلبك. ثم وضع يده على فمي وقال لي : انطلق فاقرأها على الناس ... وسيتقاضى الناس إليك ، فإذا أتاك الخصمان فلا تقضينّ لواحد حتى تسمع الآخر ، فانّه أجدر أن تعلم الحق (٣).

__________________

(١) ونحوه في خبر ابن عباس في تفسير فرات : ١٦١ ح ٢٠٣.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٧٧ وكذلك المسعودي في مروج الذهب ٢ : ٢٩٠ والتنبيه والاشراف : ١٨٦ وفيهما : حجّ بالناس ، بلا عدد. وذكره الواقدي ثم ابن الأثير في «الكامل في التاريخ» وذكر البدن الخمسة لأبي بكر ، ولكنه قال : فعاد أبو بكر الى المدينة. ولم يذكر الطبري شيئا من ذلك! ونقل المجلسي ما في الكامل في بحار الأنوار ٣٥ : ٣٠٩ والاعتبار يساعد حجّ مثل هذا الجمع. فمن المستبعد جدّا أن يكون المبعوث أبا بكر وحده كما يبدو من سائر الأخبار ، أو عليا عليه‌السلام بعده كذلك بدون أن يحجّ أحد من المسلمين تلك الحجة بعد فتح مكة!

(٣) تفسير العياشي ٢ : ٧٥ ح ٩.


وروى القمي عنه عليه‌السلام قال : إن رسول الله أمرني أن ابلّغ عن الله :

١ ـ أن لا يطوف بالبيت عريان.

٢ ـ ولا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد هذا العام.

٣ ـ وأن أقرأ عليهم : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ...) فأحلّ الله للمشركين الذين حجّوا تلك السنة أربعة أشهر حتى يرجعوا الى مأمنهم ، ثم يقتلون حيث وجدوا (١).

وروى العياشي عنه عليه‌السلام قال : إنّ رسول الله ... دعا عليا عليه‌السلام فأمره أن يركب ناقته العضباء (٢) فيلحق أبا بكر فيأخذ منه براءة فيقرأها على الناس بمكة (٣) فلحقه بالرّوحاء (٤).

وروى الواقدي : أن الناقة كانت القصواء ، وأن أبا بكر كان قد سار حتى العرج (٥) فكان فيه في السحر إذ سمع رغاء ناقة رسول الله القصواء! فقال : هذه هي القصواء! فنظر فإذا عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام عليها (٦).

ورووا عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : كنّا معه بالعرج إذ ثوّب (أي أذّن) للصبح ، فلما استوى للتكبير سمع رغوة ناقة من خلفه (أي من جهة المدينة)

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٢٨٢ ومثله عنه عليه‌السلام في مجمع البيان ٥ : ٧ عن الحاكم الحسكاني.

(٢) الناقة العضباء : القصيرة اليدين ، وكانت مشقوقة الاذن. مجمع البحرين.

(٣) تفسير العياشي ٢ : ٧٣ ، ٧٤ ح ٤.

(٤) تفسير القمي ١ : ٢٨٢ وفي مسند أحمد : أنه سار بها ثلاثا ، كما في كشف الغمة ١ : ٣٠٠.

(٥) وفي تفسير فرات الكوفي : ١٥٨ ح ١٧ عن الصادق عليه‌السلام : بلغ الجحفة. وفي : ١٦٠ ح ٢٧ عن ابن عباس : بذي الحليفة. وكذلك في خبرين عن مسند أحمد في الطرائف وعنه في بحار الأنوار ٣٥ : ٣٠٥.

(٦) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٧٧.


فقال : هذه رغوة ناقة رسول الله الجدعاء ... فلعلّه يكون رسول الله فنصلّي معه. فإذا عليّ عليها ، فقال أبو بكر : أمير أم رسول؟ قال : لا ، بل رسول ، أرسلني رسول الله ببراءة أقرؤها على الناس في مواقف الحج (١).

وقال المفيد في «الارشاد» : فلما رآه فزع من لحوقه به ، فاستقبله وقال له : يا أبا الحسن ، فيم جئت؟ أسائر معي أنت؟! أم لغير ذلك؟ فقال علي عليه‌السلام : إن رسول الله أمرني أن الحقك فأقبض منك الآيات من براءة وأنبذ بها عهد المشركين إليهم ، وأمرني أن اخيّرك بين أن تسير معي أو ترجع إليه. فقال أبو بكر : بل أرجع إليه. وعاد الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فلما دخل عليه قال له : يا رسول الله ، إنّك أهّلتني لأمر طالت الأعناق فيه إليّ ، فلما توجّهت له رددتني عنه ، مالي؟ أنزل فيّ قرآن؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا ، ولكنّ الأمين هبط إليّ عن الله جلّ جلاله ، بأنّه : لا يؤدّي عنك إلّا أنت أو رجل منك ، وعلي منّي ، فلا يؤدّي عنّي إلّا علي (٢).

وفيما عدا «الارشاد» جاء رجوع أبي بكر الى المدينة في خبر القمي في تفسيره بسنده عن أبي الصباح الكناني عن الصادق عليه‌السلام مثله تقريبا ، وفي خبر فرات الكوفي في تفسيره عن ابن عباس بزيادة : وأنا وعلي من شجرة واحدة والناس من شجر شتى (٣).

وكذلك جاء ذلك فيما رواه السيد في «الاقبال» عن كتاب «عمل ذي الحجة» للحسن بن اشناس البزّاز ، من نسخة عتيقة بخطه بتاريخ ٤٣٧ ه‍. بسنده عن

__________________

(١) الغدير ٦ : ٣٤٤ عن الخصائص للنسائي : ٩٢ بتحقيق الأميني ، وعن مصادر اخرى.

(٢) الارشاد ١ : ٦٥ ، ٦٦ ، ومناقب الحلبي عن ابن عباس ٢ : ١٢٦.

(٣) تفسير فرات الكوفي عن ابن عباس : ١٦١ ح ٢٠٣.


الباقر عليه‌السلام وفيه قال : فلحقه وأخذها منه وقال له : ارجع الى النبيّ. فقال أبو بكر : هل حدث فيّ شيء؟ فقال عليّ عليه‌السلام : سيخبرك رسول الله.

فرجع أبو بكر الى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له : يا رسول الله ، ما كنت ترى أنّي مؤد عنك هذه الرسالة؟! فقال له النبيّ : أبى الله أن يؤدّيها إلّا علي بن أبي طالب! فأكثر أبو بكر عليه من الكلام فقال له النبيّ : كيف تؤدّيها وأنت صاحبي في الغار (١).

إعلان البراءة في الموسم :

قال : فانطلق علي عليه‌السلام حتى قدم مكة ، ثم وافى عرفات ، ثم رجع الى جمع المزدلفة ثم الى منى ، فذبح وحلق ، ثم صعد على الجبل المشرف المعروف بالشعب فأذّن ثلاث مرات : يا أيها الناس ، ألا تسمعون ، إني رسول رسول الله إليكم ، ثم قرأ : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ* وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ...) الى تسع آيات من أوّلها الى قوله (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

ثم لمع بسيفه فكرّرها وأسمع الناس. فقال الناس : من هذا الذي ينادي في الناس؟ فقال من عرفه من الناس : ما كان ليجترئ على هذا غير عشيرة محمّد ، وهذا ابن عمّ محمّد علي بن أبي طالب! فناداه بعضهم : أبلغ ابن عمك : أن ليس له عندنا إلّا ضربا بالسيف وطعنا بالرمح (٢).

__________________

(١) الاقبال ٢ : ٣٤ و ٣٨ وفي ٤١ : قال بعض نقلة هذا الحديث : إن قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحديث لأبي بكر لما اعتذر عن انفاذه الى الكفار : أنت صاحبي في الغار معناه : انك كنت معي في الغار فجزعت ذلك الجزع حتى أني سكّنتك وقلت لك : لا تحزن ، وما كان قد دنا شرّ لقاء المشركين ، وما كانت لك اسوة بنفسي ، فكيف تقوى على لقاء الكفّار بسورة براءة وما أنا معك بل أنت وحدك؟!

(٢) الاقبال ٢ : ٣٩.


وفي كتابه عن رجال العامة قالوا : إن عليا عليه‌السلام كان قد قتل يوم الخندق عمرو بن عبد الله ، فلما أعلن البراءة لقيه اخوا عمرو : خراش وشعبة ، فقال له شعبة : ليس بيننا وبين ابن عمك إلّا السيف والرمح ، وان شئت بدأنا بك! وقال له اخوه خراش : علي ، ما تسيرنا أربعة أشهر ، بل برئنا منك ومن ابن عمك إلّا من الطعن والضرب (١). فأقام أيام التشريق ثلاثة ينادي بذلك ويقرأ براءة غدوة وعشية (٢).

وروى العياشي عن حريز عن الصادق عليه‌السلام قال : لما كان يوم النحر ـ وهو يوم الحج الأكبر ـ وكان بعد الظهر (٣) وفرغ الناس من رمي الجمرة الكبرى قام علي عليه‌السلام عندها ثم اخترط سيفه وقال : لا يطوفنّ بالبيت عريان ، ولا يحجّن بالبيت مشرك ولا مشركة ، ومن كانت له مدة فهو الى مدّته ، ومن لم تكن له مدة فمدّته أربعة أشهر (٤) فقال له رجل : فمن أراد منا أن يلقى محمّدا في بعض الامور بعد الأشهر الأربعة فليس له عهد؟! قال علي عليه‌السلام : بلى ، إنّ الله قال : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ...)(٥) وفي أيام التشريق (١١ و ١٢ و ١٣) (٦) وفي أيام الموسم كلها ينادي : لا يطوفنّ عريان ، ولا يقربنّ المسجد الحرام بعد عامنا مشرك (٧).

__________________

(١) الاقبال ٢ : ٤١.

(٢) الاقبال ٢ : ٣٩.

(٣) تفسير العياشي ٢ : ٧٤ ح ٤.

(٤) تفسير العياشي ٢ : ٧٤ ح ٧.

(٥) مناقب آل أبي طالب عن تفسير القشيري ٢ : ١٢٧.

(٦) تفسير العياشي ٢ : ٧٤ ح ٥.

(٧) تفسير العياشي ٢ : ٧٥ ح ٨. وعنه في مجمع البيان ٦ : ٧٠٦. وروى فيه الصدوق في علل الشرائع ١ : ٢٢٤ ، ٢٢٥ أربعة أخبار عن سعد بن أبي وقاص ، وأنس بن مالك ، وابن ـ


وقال المسعودي : كان المتولّون للنسيئة من العرب في الجاهلية من بني الحارث بن كنانة ... وكانوا ينسئون في كل ثلاث سنين شهرا يسقطونه من السنة ويسمّون الشهر الذي يليه باسمه ، ويجعلون اليوم الثامن والتاسع والعاشر من ذلك الشهر : يوم التروية ويوم عرفة ويوم النحر ، ثم يديرون ذلك في سائر الشهور.

فكان النحر في آخر حجّة حجّها المشركون في العاشر من ذي القعدة ... فكانت الأشهر في قوله تعالى : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) : عشرين يوما من باقي ذي القعدة ، وذا الحجة ، والمحرم ، وصفر ، وعشرة أيام من شهر ربيع الأول (١).

ولم يوح الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شيء في أمر علي عليه‌السلام وما كان منه ، وأبطأ عنه خبره ، وكان عليه‌السلام في رجوعه مقتصدا في سيره. فاغتمّ لذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله غمّا شديدا حتى رئي ذلك في وجهه. وكفّ عن النساء من الهمّ والغمّ.

وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا صلى الصبح بقي مستقبل القبلة الى طلوع الشمس يذكر الله عزوجل ، وقد أمر عليا عليه‌السلام أن يتقدم خلفه فيستقبل الناس بوجهه فيراجعونه في حوائجهم. حتى وجّه عليا عليه‌السلام الى الحجّ ، فلم يجعل أحدا مكان علي عليه‌السلام.

__________________

عباس وابن عمر. وروى الخبر الواقدي في المغازي ٢ : ١٠٧٨ والمسعودي في مروج الذهب ٢ : ٢٩٠ والتنبيه والاشراف : ١٨٦.

(١) التنبيه والاشراف : ١٨٦ و ١٨٧ ونقله الطوسي في التبيان ٥ : ٩٦ عن أبي علي الجبائي إلّا أنه قال : في العشرين من ذي القعدة. وعنه في مجمع البيان ٥ : ٦ وعن الحسن وقتادة ثم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وعروة بن الزبير وأنس بن مالك وزيد بن نفيع والباقر عليه‌السلام. وعليه فشهر ذي الحجة من تلك السنة يبقى سليما عما ينافي وفود نصارى نجران ومباهلتهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.


فقال بعضهم لأبي ذر : قد ترى ما برسول الله ، وقد نعلم منزلتك منه ، فنحن نحبّ أن تعلم لنا أمره ، فسأل أبو ذرّ النبيّ عن ذلك ، فقال : ما نعيت إليّ نفسي ، وما وجدت في أمّتي إلّا خيرا ، وما بي مرض ، ولكن من شدة وجدي لعليّ بن أبي طالب وابطاء الوحي عليّ في أمره. فاستأذنه أبو ذر ليخرج من المدينة في حاجته فأذن له.

فخرج أبو ذر من المدينة يستقبل علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، فلما كان ببعض الطريق إذا هو براكب ناقة مقبلا فإذا هو علي عليه‌السلام ، فاستقبله والتزمه وقبّله وقال : بأبي أنت وامّي ، اقصد في مسيرك حتى اكون أنا الذي أبشّر رسول الله ، فان رسول الله من أمرك في غم شديد. فأنعم له علي عليه‌السلام. فانطلق أبو ذر مسرعا حتى أتى النبيّ فقال له : البشرى. قال : وما بشراك يا أبا ذر؟ قال : قدم علي بن أبي طالب. فقال له : لك بذلك الجنة ، ثم ركب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وركب معه الناس.

فلما رآه علي عليه‌السلام أناخ ناقته ، ونزل رسول الله ، فتلقّاه والتزمه وعانقه ووضع خدّه على منكب علي ، وبكى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فرحا بقدومه وبكى معه علي عليه‌السلام ثمّ قال له رسول الله : ما صنعت بأبي أنت وأمي ، فان الوحي ابطئ عليّ في أمرك؟ فأخبره بما صنع ، فقال رسول الله : كان الله عزوجل أعلم بك منّي حين أمرني بارسالك (١).

وروى الحلبيّ عن ابن الصوفيّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : قال الله تعالى : (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ* قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ* وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ* وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ)(٢) وقال تعالى : (قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً

__________________

(١) الاقبال ٢ : ٣٨ ـ ٤١.

(٢) الشعراء : ١٠ ـ ١٤.


فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ* وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ)(١) وهذا عليّ قد أنفذته ليسترجع براءة ويقرأها على أهل مكة ، وقد قتل منهم خلقا عظيما ، فما خاف ولا توقّف ، ولا تأخذه في الله لومة لائم (٢).

وفود الحضرمي من البحرين وعزله :

روى ابن سعد في «الطبقات» : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد كتب الى العلاء بن الحضرمي أن يقدم إليه بعشرين رجلا من عبد القيس من البحرين.

فاستخلف العلاء المنذر بن ساوى العبدي وقدم على النبي بعشرين رجلا منهم يرأسهم عبد الله بن عوف الأشج ، ولكنّ هذا الوفد شكا إلى النبيّ من العلاء ، فعزله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وولّى مكانه (على البحرين وهجر) أبان بن سعيد بن العاص ، وقال له : استوص بعبد القيس خيرا ، وأكرم سراتهم (٣).

فسأله أبان أن يحالف عبد القيس فأذن له بذلك. وقال له : يا رسول الله ، اعهد إليّ عهدا في صدقاتهم وجزيتهم وما يتجرون به.

فكتب له صدقات الإبل والبقر والغنم على فرضها وسنّتها كتابا منشورا مختوما. وكتب معه إلى مجوس هجر يعرض عليهم الإسلام ، وقال له : فإن أبوا فأعرض عليهم الجزية ، من كل حالم مجوسي أو يهودي أو نصراني دينارا وأن لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم (٤).

ولعلّ هذا ونحوه هو الذي حمل أهل نجران النصارى على وفودهم إلى المدينة.

__________________

(١) القصص : ٣٣ ـ ٣٤.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٣ : ١٢٧.

(٣) الطبقات الكبرى ٤ ق ٢ : ٧٧ ، وعنه في مكاتيب الرسول ٣ : ٢٠٢.

(٤) تهذيب تاريخ ابن عساكر لابن بدران ٢ : ١٢٠ ، وعنه في مكاتيب الرسول ٢ : ٣٨٩.


مباهلة أساقفة نجران (١) :

لاختلاف المواقيت والزمان ما بين السنة الشمسية والقمرية كان العرب في الجاهلية ينسئون الشهور القمرية العربية ، فكانوا بذلك يقاربون غيرهم من الامم في مدة زمان سنتهم الشمسية ، كانوا ينسئون في كل ثلاث سنين شهرا يسقطونه من السنة وينقلون اسمه الى الشهر الذي يليه ويسمّونه باسم الشهر المحذوف ، ويجعلون اليوم الثامن والتاسع والعاشر من ذلك الشهر أيام التروية وعرفة والنحر ، فيكون ذلك موجبا دائرا في كل شهور السنة ، لم يزالوا على ذلك حتى السنة التاسعة من الهجرة وهي آخر حجة حجّها المشركون ، فكان الحج في تلك السنة اليوم العاشر من ذي القعدة ، وكانت قد نزلت آيات (أربعون) من سورة براءة فبعث بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مع علي بن أبي طالب عليه‌السلام وأمره بقراءتها على الناس بمنى وفيها : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا ...)(٢).

__________________

(١) الأساقفة جمع الاسقف ، وهو معرّب من اليونانية : ايسكوپ ، كما في الوثائق السياسية : ٥٨٢ ، أو هي : ايسكوپس ، ومعناها الرقيب الناظر ، كما في دائرة المعارف للبستاني ، أو هو بمعنى العالم المتخاشع في مشيته ، وهو فوق القسّيس ودون المطران ، كما في أقرب الموارد ، والقاموس ، ولسان العرب ، والنهاية.

ونجران اليوم تقع في خريطة المملكة السعودية في حدودها قرب بلاد همدان من اليمن. وفي السيرة النبوية لزيني دحلان : نجران بلدة كبيرة واسعة تشتمل على ثلاث وسبعين قرية ، وهي بين عدن وحضرموت قرب صنعاء. فيها بنو الحارث بن كعب ، وبنو عبد المدان من بني الحارث بنوا بها بيعة على بناء الكعبة وسمّوها كعبة نجران ، وكان أساقفتها معتمّين كما في نجر من تاج العروس ومعجم البلدان ٥ : ٢٦٨ ، وانظر مكاتيب الرسول ٢ : ٤٩٨ و ٤٩١ في الهامش.

(٢) التنبيه والإشراف : ١٨٦ والآية ٣٧ من السورة.


ونقل الطوسي عن الجبّائي قال : كان يوم النحر عشرين من ذي القعدة في تلك السنة وكان سبب ذلك : النسيء الذي كان في الجاهلية (١).

وعلى أي حال ، فإن عليّا عليه‌السلام قد قام بما بعثه به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الى مكة لموسم العام التاسع للهجرة ورجع الى المدينة لأوائل شهر ذي الحجة الحرام من ذلك العام.

وفي «مسار الشيعة الكرام» قال : في اليوم الرابع والعشرين منه باهل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب والحسن والحسين وفاطمة صلى الله عليهم ، مع نصارى نجران ، وجاء ذكر المباهلة به وبزوجته وبولديه في محكم التبيان (٢) وبه قال الشيخ الطوسي (٣) ورواه السيّد ابن طاوس في «الاقبال» في مرفوعة الى علي بن محمد القمي أن يوم المباهلة يوم أربع وعشرين من ذي الحجة (٤).

وأخصر خبر في ذلك : ما رواه العياشي في تفسيره : أنّه سئل علي عليه‌السلام عن بعض فضائله فقال (فيما قال) : أتى راهبان من رهبان النصارى (٥) من أهل نجران ، فتكلّما في أمر عيسى ، فأنزل الله هذه الآية : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ ...) إلى آخر الآية ، فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخذ بيدي والحسن والحسين وفاطمة ، ثم خرج ودعاهم الى المباهلة ، ورفع كفّه الى السماء وفرّج بين أصابعه. فلمّا رآه الراهبان قال أحدهما لصاحبه : والله لئن كان نبيّا لنهلكنّ ، وإن كان غير نبيّ كفانا قومه ، فكفّا (٦).

__________________

(١) التبيان ٥ : ١٩٦ ، وعنه في مجمع البيان ٥ : ٦.

(٢) مسارّ الشيعة الكرام : ٥٨ ، ٥٩ من المجموعة النفيسة.

(٣) مصباح المتهجد : ٧٠٤.

(٤) الاقبال ٢ : ٣٥٤.

(٥) لفظ الخبر : أتاه حبران من أحبار النصارى.

(٦) تفسير العياشي ١ : ١٧٥ ، ١٧٦.


وبشيء من التفصيل : روى القمي في تفسيره بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : إن نصارى نجران لما وفدوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان سيدهم الأيهم (١) والعاقب والسيّد (ودخلوا مسجده) وحضرت صلاتهم (وكانوا يحملون ناقوسهم) فضربوه واصطفوا لصلاتهم. فقال أصحاب رسول الله له : هذا في مسجدك؟ فقال : دعوهم.

فلما فرغوا دنوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالوا له : الى ما تدعو؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : الى شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله ، وأنّ عيسى عبد مخلوق يأكل ويشرب ويحدث. فقالوا : فمن أبوه؟ فنزل عليه الوحي قال : قل لهم : ما تقولون في آدم عليه‌السلام؟ أكان عبدا مخلوقا يأكل ويشرب وينكح؟ فسألهم النبيّ ذلك ، فقالوا نعم ، فقال : فمن أبوه؟ فبهتوا وبقوا ساكتين.

فأنزل الله : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ* فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ* إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ)(٢).

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فباهلوني ، فإن كنت صادقا انزلت اللعنة عليكم ، وإن كنت كاذبا نزلت عليّ ، فقالوا له : أنصفت! فتواعدوا للمباهلة ، ورجعوا إلى منزلهم.

فقال رؤساؤهم : إن باهلنا بقومه باهلناه فانه ليس بنبيّ ، وإن باهلنا بأهل بيته خاصة فلا نباهله ، فإنه لا يقدم على أهل بيته إلّا وهو صادق.

فلما أصبحوا (صباح اليوم الرابع والعشرين من ذي الحجة) جاءوا الى

__________________

(١) في المصدر : الأهتم ، وأثبتنا ما في سائر الأخبار.

(٢) آل عمران : ٥٩ ـ ٦٣.


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإذا معه أمير المؤمنين علي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم ، فسأل النصارى : من هؤلاء؟ فقيل لهم : هذا ابن عمّه ووصيّه وختنه علي بن أبي طالب ، وهذه ابنته فاطمة ، وهذان ابناه الحسن والحسين. ففرقوا وقالوا لرسول الله : نعطيك الرضا فأعفنا من المباهلة. فصالحهم رسول الله على الجزية (١).

وروى الطبرسي في «إعلام الورى» عن الأحمر البجلي الكوفي عن الحسن البصري قال : غدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله آخذا بيد الحسن والحسين ، وبين يديه علي عليه‌السلام وتتبعه فاطمة عليها‌السلام. وغدا العاقب والسيّد بابنين لهما ، فقال أبو حارثة : من هؤلاء معه؟ قالوا : هذا ابن عمّه زوج ابنته ، وهذان ابنا ابنته ، وهذه بنته أعزّ الناس عليه وأقربهم الى قلبه.

وتقدّم رسول الله فجثا على ركبتيه ، فقال أبو حارثة : جثا ـ والله ـ كما جثا الأنبياء للمباهلة. فلم يقدم للمباهلة ، فقال له السيّد : يا أبا حارثة ادن للمباهلة ، فقال : انّي لأرى رجلا جريئا للمباهلة فأخاف أن يكون صادقا ، فلا يحول علينا الحول وفي الدنيا نصراني يطعم. فقالوا لرسول الله : يا أبا القاسم ، إنّا لا نباهلك ولكن نصالحك.

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١٠٤ ، والكوفي في تفسيره : ٨٧ ، روى خبرا عن علي عليه‌السلام في صفحة تقريبا ولكنّه ذكر فيه ابن صوريا وابن الأشرف اليهوديين ، والمشهور أن ابن الأشرف قتل قبل هذا بكثير فهذا مما يبعد صحته. وقبله نقل خبرين عن الباقر عليه‌السلام في مصاديق الآية فقط ، وروى خبرا عن أبي رافع وخبرين عن الشعبي وعن شهر بن حوشب فيه : أنّه كان معهم العاقب وأخوه قيس وعبد المسيح بن أبقى وابنا الحارث ومعهم أربعون راهبا.

وروى المفيد في الفصول المختارة : ٣٨ خبرا في مناقشة المأمون للرضا عليه‌السلام في دلالة الآية على أكبر فضيلة لعلي عليه‌السلام.


فصالحهم النبي على ألفي حلة قيمة كل حلة أربعون درهما جيادا ، وكتب لهم بذلك كتابا (١).

وروى في تفسيره كما في «التبيان» عن الحسن أيضا وقتادة عن ابن عباس : ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لما دعاهم الى المباهلة استنظروه الى صبيحة غد من يومهم ذلك. فلما رجعوا الى رحالهم قال لهم الاسقف : انظروا غدا الى محمد ، فإن غدا بولده وأهله فاحذروا مباهلته ، وان غدا بأصحابه فباهلوه فإنّه على غير شيء!

فلما كان الغد جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله آخذا بيد علي بن أبي طالب ، والحسن والحسين يمشيان بين يديهما ، وفاطمة تمشي خلفهما.

وخرج النصارى يقدمهم اسقفهم ، فلما رأى النبيّ قد أقبل بمن معه سأل عنهم فقيل له : هذا ابن عمّه وزوج ابنته وأحب الخلق إليه ، وهذان ابنا بنته من علي ، وهذه الجارية بنته فاطمة أعز الناس عليه وأقربهم الى قلبه.

وتقدّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فجثا على ركبتيه ، فقال الاسقف أبو حارثة : جثا ـ والله ـ كما جثا الأنبياء للمباهلة. ولم يقدم للمباهلة ، فقال له السيّد : يا أبا حارثة ادن للمباهلة ، فقال : إنّي لأرى رجلا جريئا على المباهلة فأخاف أن يكون صادقا ، ولئن كان صادقا فلا يحول علينا الحول وفي الدنيا نصراني يطعم!

وقال الاسقف لرسول الله : يا أبا القاسم إنّا لا نباهلك ، ولكن نصالحك ، فصالحنا على ما ننهض به. فصالحهم رسول الله على :

١ ـ ألفي حلة قيمة كل حلة أربعون درهما فما زاد ونقص فعلى حساب ذلك.

٢ ـ وعلى عارية ثلاثين درعا وثلاثين رمحا وثلاثين فرسا ، إن كان كيل باليمن ، ورسول الله ضامن حتّى يؤدّيها. وكتب لهم بذلك كتابا (٢).

__________________

(١) اعلام الورى ١ : ٢٥٦ ولم أجده في تفسيره.

(٢) مجمع البيان ٢ : ٧٦٢ ، وأشار إليه في التبيان ٢ : ٤٨٢.


نزول آل عمران :

وروى عن الربيع بن أنس وابن اسحاق والكلبي : أن سورة آل عمران الى نيف وثمانين آية منها ، نزلت في وفد نجران (١) ، وكانوا ستين راكبا قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم ، وفي الأربعة عشر رجلا ثلاثة نفر يؤول إليه أمرهم : العاقب عبد المسيح أمير القوم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلّا عن رأيه ، والسيّد الأيهم ثمالهم وصاحب رحلهم ، وأبو حارثة بن علقمة إمامهم وجدهم وصاحب مدارسهم ، وكان قد درس كتبهم وشرّف فيهم ، فكان ملوك الروم قد شرّفوه ومولوه وبنوا له الكنائس لعلمه واجتهاده.

قدموا على رسول الله المدينة في مسجده بعد صلاة العصر ، عليهم ثياب الحبرات جبب واردية في جمال رجال بني الحارث ، وحانت صلاتهم ومعهم ناقوسهم فأخرجوه يضربون به واصطفّوا ليصلوا في مسجد رسول الله ، فقالت الصحابة : يا رسول الله ، هذا في مسجدك؟! فقال رسول الله : دعوهم. فصلوا الى المشرق أي الشام وفلسطين والقدس.

ثم تكلم السيد والعاقب مع رسول الله ، فقال لهما رسول الله : أسلما ، فقالا : قد أسلمنا قبلك! فقال : كذبتما ، يمنعكما من الاسلام دعاؤكما لله ولدا ، وعبادتكما الصليب ، وأكلكما الخنزير! فقالا : إن لم يكن عيسى ولد الله فمن أبوه؟ فقال لهم النبيّ : ألستم تعلمون أنّه لا يكون ولد إلّا ويشبه أباه؟ قالوا : بلى. قال : ألستم تعلمون أن ربّنا حيّ لا يموت ، وأنّ عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا : بلى. قال : ألستم تعلمون أنّ ربّنا قيّم على كل شيء ويحفظه ويرزقه؟ قالوا : بلى. قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا : لا!

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٢ : ٢٢٥ ، وحكاه الواحدي في أسباب النزول : ٨٤ عن المفسرين.


قال : ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟ قالوا : بلى. قال : فهل يعلم عيسى من ذلك إلّا ما علّم؟ قالوا : لا!

قال : فإنّ ربّنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء ، وربّنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث ، قالوا : بلى. قال : ألستم تعلمون أن عيسى حملته امّه كما تحمل المرأة ، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غذّي كما يغذّى الصبي ، ثم كان يطعم ويشرب ويحدث؟ قالوا : بلى!

قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم؟! فسكتوا ، فأنزل الله فيهم سورة آل عمران الى بضع وثمانين آية منها (١).

وقال المفيد في «الارشاد» : قال الاسقف : يا محمد ، ما تقول في السيّد المسيح؟ قال النبي : هو عبد لله اصطفاه وانتجبه. فقال الاسقف : يا محمد ، أتعرف له أبا ولده؟ فقال النبيّ : لم يكن من نكاح فيكون له والد. فقال الاسقف : فكيف قلت : إنّه عبد مخلوق وأنت لم تر عبدا مخلوقا إلّا عن نكاح؟!

فأنزل الله سورة آل عمران الى قوله : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ* فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَن ا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ)(٢) فتلاها عليهم ودعاهم الى المباهلة وقال : إن الله عزّ اسمه أخبرني : أنّه ينزل العذاب عقيب المباهلة على المبطل وبذلك يبيّن الحق من الباطل.

__________________

(١) مجمع البيان ٢ : ٦٩٥ ، ٦٩٦ ، وأشار إليه في التبيان ٢ : ٣٨٨ عن الربيع وابن اسحاق فقط ، وابن اسحاق في السيرة ٢ : ٢٢٢ عن كرز بن علقمة أخي أبي حارثة ، وعن محمد بن جعفر بن الزبير ، ولم يذكر إقدام الرسول للمباهلة بأهل بيته عليهم‌السلام.

(٢) آل عمران : ٥٩ ـ ٦١.


فتشاوروا واجتمع رأيهم على استنظاره الى صبيحة غد من يومهم ذلك. فلما رجعوا الى رحالهم قال لهم الاسقف : انظروا محمدا في غد فإن غدا بولده وأهله فاحذروا مباهلته ، وإن غدا بأصحابه فباهلوه فإنّه على غير شيء!

فلما كان من الغد جاء النبي آخذا بيد علي ، والحسن والحسين يمشيان بين يديه وفاطمة تمشي خلفه. وخرج النصارى يقدمهم اسقفهم ، فلما رأى الاسقف النبي ومن معه سأل عنهم ، فنظر الاسقف الى السيد والعاقب وعبد المسيح وقال لهم : انظروا إليه قد جاء بخاصّته من ولده وأهله ليباهل بهم واثقا بحقّه ، والله ما جاء بهم وهو يتخوّف الحجة عليهم ، فاحذروا مباهلته ، والله لو لا مكان قيصر لأسلمت له! ولكن صالحوه على ما يتّفق بينكم وبينه وارجعوا الى بلادكم وارتئوا لأنفسكم! فتبعوه.

فقال الاسقف : يا أبا القاسم ، إنّا لا نباهلك ولكنّنا نصالحك ، فصالحنا على ما ننهض به.

فصالحهم النبي على ألفي حلة قيمة كل حلّة أربعون درهما جيادا فما زاد أو نقص كان بحساب ذلك ، وكتب لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كتابا بما صالحهم عليه.

معاهدة نصارى نجران :

وكان الكتاب : «(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، هذا كتاب من محمد النبي رسول الله لنجران وحاشيتها : في كل صفراء وبيضاء وثمرة ورقيق لا يؤخذ منه شيء منهم غير ألفي حلة من حلل الأواقي (١) ثمن كلّ حلّة أربعون درهما ، فما زاد أو نقص فعلى حساب ذلك ، يؤدّون ألفا منها في صفر ، وألفا منها في رجب. وعليهم أربعون دينارا مثواة رسولي مما فوق ذلك. وعليهم في كل حدث يكون باليمن من كل ذي عدن :

__________________

(١) الأواقي : جمع الاوقية ، والاوقية وزن يعادل وزن أربعين درهما.


عارية مضمونة ثلاثون درعا وثلاثون فرسا وثلاثون جملا عارية مضمونة ، لهم بذلك جوار الله وذمة رسول الله محمد بن عبد الله ، فمن أكل الربا بعد عامهم هذا فذمّتي منه بريئة» وأخذ القوم الكتاب وانصرفوا.

هذا هو نصّ المفيد في «الارشاد» (١) بلا إسناد ولا ذكر كاتب ولا إشهاد ، وسبقه بذلك اليعقوبي قال : «... فذمّتي منه بريئة ، ولا يؤخذ أحد بجناية غيره. شهد على ذلك عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ، وكتب عليّ بن أبي طالب» (٢).

__________________

(١) الارشاد ١ : ١٦٧ ـ ١٦٩ وهو المصدر الوحيد لنصّ المعاهدة من أصحابنا.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٨٣ ، وقال محمد بن سعد في الطبقات ١ : ٢٦٦ وفي ط ١ ق ٢ : ٢١ كتب المغيرة (ابن شعبة الثقفي) بلا اشهاد ، وتبعه ابن القيم الجوزية في زاد المعاد ٣ : ٤١. وفي الخراج لأبي يوسف : ٧٢ وفي ط : ٧٨ : كتبه عبد الله بن أبي بكر. وفي الأموال لأبي عبيد : ٢٧٢ نقل الكتاب عن أبي المليح وقال : شهد بذلك عثمان بن عفان ، ومعيقب ، وكتب. ثم نقله عن عروة بن الزبير : ٢٧٥ ، ولم يذكر الكاتب وزاد في الاشهاد : أبا سفيان ، والأقرع بن حابس الحنظلي التميمي ، ومالك بن عوف النصري ، وغيلان بن عمرو. بينما جاء في المصنّف لابن أبي شيبة ١٤ : ٥٥٠ و ٥٥١ والأموال لأبي عبيد ٢٤٣ و ٢٧٣ والأموال لابن زنجويه ١ : ٢٧٦ و ٤٨١ عن سالم بن أبي الجعد وفي الخراج لأبي يوسف : ٨٠ : أن الكتاب كان في أديم أحمر ، وكان علي عليه‌السلام كتب الكتاب بين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين أهل نجران ، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى ١٠ : ١٢٠ عن سالم ، وعن عبد خير قالا : لما ولي علي عليه‌السلام جاءه أهل نجران وأدخل بعضهم يده في كمّه وأخرج كتابا (الأديم الأحمر) فوضعه في يد علي عليه‌السلام وقال : يا أمير المؤمنين ، هذا خطك بيمينك وإملاء رسول الله عليك. قال عبد خير : وكنت قريبا من علي عليه‌السلام فرأيته قد جرت الدموع على خدّه ثم رفع رأسه وقال لهم : يا أهل نجران ، إنّ هذا لآخر كتاب كتبته بين يدي رسول الله. وانظر مكاتيب الرسول ٣ : ١٤٨ ـ ١٨٢ و ٢ : ٤٨٩ ـ ٥٠٧.


المباهلة بالنساء وأبناء الخلفاء :

وأغرب السيوطي في تفسير الآية بما أخرجه عن ابن عساكر (م ٥٧١ ه‍) عن الصادق عن أبيه الباقر عليهما‌السلام قال : فجاء صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأبي بكر وولده! وبعمر وولده! وبعثمان وولده! وبعلي وولده! (١) ولحق به الحلبي (م ١٠٤٤ ه‍) في سيرته فروى : أنّهم تشاوروا مع بني قريظة (؟!) فلم يحضروا للمباهلة رأسا ، فقال عمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : لو كنت لاعنتهم فبيد من كنت تأخذ؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كنت آخذ بيد عليّ والحسن والحسين وفاطمة وحفصة وعائشة! ثم زاد : وهذا يدلّ عليه قوله تعالى : «ونساءنا ونساءكم» قال : وفي لفظ (؟!) : أنّهم واعدوه على الغد فلما أصبح جاء ومعه الحسن والحسين وفاطمة وعلي ثم مال الى اختيار ما نقله أولا ورجّحه على هذه الرواية المتواترة الثابتة القطعية (٢) هذا وقد انقرض بنو قريظة قبل هذا بكثير فكيف شاوروهم؟!

وابن عساكر الدمشقي متوفى في (٥٧١ ه‍) ومن شعره في علم الحديث :

ولا تأخذه من صحف فترمى

من التصحيف بالداء العضال (٣)

ولعلّه أخذ ما رواه عن الصادق عن الباقر عليهما‌السلام من الصحف فاصيب بداء التحريف.

فقد روى الصدوق في «عيون أخبار الرضا عليه‌السلام» عن أبيه الكاظم عليه‌السلام : أن هارون الرشيد سأله : كيف قلتم إنّكم ذريّة النبي وهو لم يعقّب ذكرا وأنتم ولد البنت؟! فقلت ... الى أن قال : أزيدك يا أمير المؤمنين! قال : هات. فتلى عليه آية

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٣٨ و ٣٩.

(٢) إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون ٣ : ٢٤٠ وانظر مكاتيب الرسول ٢ : ٥٠٦.

(٣) هدية الأحباب : ٨٤ بالفارسية.


المباهلة ثم قال : ولم يدّع أحد أن النبي عند المباهلة مع النصارى أدخل تحت الكساء إلّا علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين ، فكان تأويل قوله : «أبناءنا» : الحسن والحسين ، و «نساءنا» : فاطمة ، و «أنفسنا» : علي بن أبي طالب عليهم‌السلام (١).

وقال المرتضى في «الشافي» : لأنّه لا أحد يدّعي دخول غير أمير المؤمنين وغير زوجته وولديه في المباهلة (٢).

وقال الطوسي في «التبيان» : «وأنفسنا» أراد به نفسه ونفس علي عليهما‌السلام ، لم يحضر غيرهما بلا خلاف (٣) وفي «مجمع البيان» : لأنّه لا أحد يدّعي دخول غير أمير المؤمنين علي وزوجته وولديه في المباهلة (٤) والطبرسي من القرن السادس ، فيعلم أن دعوى دخول غيرهم كانت متأخّرة.

ولعلّ ابن عمر القرشي تنبّه لذلك فلم يدّع زيادة أحد فيمن قدّمهم للمباهلة بهم ، بل عاد فحذف عليا عليه‌السلام رأسا (٥).

ولعلّه أعجب من ذلك كله ما أثاره السيّد رشيد رضا عن شيخه قال : إنّ الروايات متّفقة على أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله اختار للمباهلة عليا وفاطمة وولديهما ، ويحملون كلمة «نساءنا» على فاطمة ، وكلمة «أنفسنا» على عليّ فقط ، ومصادر هذه الروايات الشيعة ، ومقصدهم منها معروف ، وقد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من أهل السنّة (٦).

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٨٤ ، ٨٥.

(٢) كما في تلخيص الشافي ٣ : ٧.

(٣) التبيان ٢ : ٤٨٥.

(٤) مجمع البيان ٢ : ٧٦٤.

(٥) البداية والنهاية لإسماعيل بن عمر القرشي ٥ : ٥٤.

(٦) تفسير المنار ٣ : ٣٢٢.


وعلّق عليه المحقّق الطباطبائي فقال : وهذا الكلام ـ وأحسب أن الناظر فيه يكاد يتّهمنا في نسبته الى مثله! واللبيب لا يرضى بإيداعه وأمثاله في الزبر العلمية ـ إنّما أوردناه (على وهنه وسقوطه) ليعلم أن النزعة العصبية الى أين تورد صاحبها من سقوط الفهم ورداءة النظر ، فيهدم كلّ ما بنى عليه ويبني كلّ ما هدمه ولا يبالي (١).

متى نزلت آل عمران؟

نحن ـ محرّر هذا الكتاب ـ بدأنا به وقد قرّرنا أن يكون تاريخا للإسلام والقرآن الكريم نزولا وأسبابا ، وفي ترتيب النزول :

روى الطبرسي في «مجمع البيان» عن «الايضاح» لأحمد الزاهد بإسناده عن سعيد بن المسيّب عن علي عليه‌السلام عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبره عن أوّل ما نزل عليه بمكة : فاتحة الكتاب ثم «اقرأ» الى أن قال : وأول ما نزل بالمدينة سورة البقرة ثم الأنفال ثم آل عمران.

وباسناده عن الحسن البصري وعكرمة (عن ابن عباس) وما نزل بالمدينة : سورة المطفّفين ثم البقرة ثم الأنفال ثم آل عمران.

وروى الطبرسي فيه عن الحاكم الحسكاني باسناده عن عطاء الخراساني عن ابن عباس أيضا قال : وانزلت بالمدينة : البقرة ثم الأنفال ثم آل عمران (٢).

__________________

(١) الميزان ٣ : ٢٣٥ و ٢٣٦ وانظر مكاتيب الرسول ٢ : ٥٠٦ ، ٥٠٧.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٦١٣ و ٦١٢ والخبران الأخيران رواهما الزركشي في البرهان ١ : ١٩٣ ، ١٩٤ والسيوطي في الاتقان ١ : ١٠ و ١١ و ٢٥ وعن دلائل النبوة للبيهقي عن مجاهد عن ابن عباس أيضا واعتمدها الشيخ معرفة في التمهيد ١ : ١٠٣ و ١٠٦.


وقد ذكرنا المطففين والبقرة ، ونزول الأنفال في تقسيم الغنائم ، والأنفال عقيب القتال في حرب بدر في أواخر الثانية للهجرة ، وظاهر هذا وتلك الأخبار نزول آل عمران بعد الأنفال في الثالثة من الهجرة مثلا.

بينما مرّ عن «التبيان» و «مجمع البيان» عن الربيع بن أنس وابن اسحاق والكلبي : أنّ سورة آل عمران الى نيف وثمانين آية منها نزلت في وفد نجران (١).

ومرّ أيضا أنّ مباهلة وفد نجران كانت في الرابع أو الخامس والعشرين من ذي الحجة ، وفي سنة المباهلة وإن كان العلّامة الأحمدي يقول : لا خلاف في المؤرخين أن وفودهم كان العام العاشر للهجرة (٢) إلّا أنّه مرّ في نصّ المعاهدة أنّه : «لا يؤخذ منهم شيء غير ألفي حلة ... يؤدّون ألفا منها في صفر ، وألفا منها في رجب» وسيأتي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يبعث عليا عليه‌السلام إليهم الى اليمن ، ثم يخرج هو صلى‌الله‌عليه‌وآله لحجة الوداع في أواخر السنة العاشرة للهجرة ، فيلتحق به علي عليه‌السلام ومعه الحلل النجرانية فإذا كان هذا في السنة العاشرة وجب أن يكون عهد الصلح قد وقع في ذي الحجة للعام التاسع للهجرة (٣). ومعنى هذا أن يكون النيف والثمانون آية من آل عمران قد نزلت في أواخر العام التاسع وليس في غضون السنة الثالثة. اللهم إلّا أن يعدّ هذا الخبر عن الربيع بن أنس وابن اسحاق والكلبي بنزول النيف والثمانين آية من آل عمران في وفد نجران ، استثناء من الأخبار السابقة بنزولها ثالثة أو رابعة السور المدنية.

__________________

(١) التبيان ٢ : ٣٨٨ ومجمع البيان ٢ : ٦٩٥ والواحدي في أسباب النزول : ٨٤ عن المفسرين ، وابن اسحاق في السيرة ٢ : ٢٢٥.

(٢) مكاتيب الرسول ٢ : ٤٩٦.

(٣) وانظر وقارن : سيد المرسلين ٢ : ٦١٣.


وليس معنى معاهدة نجران أنّها فتحت للإسلام سلما إلّا بالنسبة الى النصارى بها ، فإن أهل نجران كانوا صنفين : نصارى وأميّين ، فصالح النصارى (كما مرّ) وأما الاميّون منهم فبعث عليهم خالد بن الوليد (١) نقل ذلك العلّامة الأحمدي وقال : إن الذي تحصّل بعد الإمعان والتدقيق : أن النبي صالح نصاراهم من بني الحارث بن كعب ، ثم بعث خالدا على غيرهم (٢).

__________________

(١) زاد المعاد لابن القيّم الجوزية ٣ : ٤٥.

(٢) مكاتيب الرسول ٢ : ٤٩٣ هامش ٢ ، وانظر : ٤٩٩.


أهم حوادث

السنة العاشرة للهجرة



وفاة ابراهيم ابن النبي صلّى الله عليه وآله :

قال المسعودي : في شهر ربيع الأول توفي إبراهيم ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّما عاش سنة وعشرة أشهر وعشرة أيام (١).

روى الحلبي في «المناقب» عن تفسير النقاش باسناده عن ابن عباس قال : كنت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى فخذه الأيسر ابنه إبراهيم ، وعلى فخذه الأيمن الحسين بن علي ، وهو تارة يقبّل هذا وتارة يقبّل هذا ، إذ هبط جبرئيل بوحي من ربّ العالمين.

فلما سرّى عنه قال : أتاني جبرئيل من ربي فقال : يا محمد ، إن ربّك يقرأ عليك السلام ويقول : لست أجمعهما ، فافد أحدهما بصاحبه.

ثم نظر إلى إبراهيم فبكى ونظر إلى الحسين فبكى وقال : إنّ إبراهيم أمه أمة ومتى مات لم يحزن عليه غيري ، وأمّ الحسين فاطمة وأبوه علي ابن عمي لحمي ودمي! ومتى مات حزنت ابنتي وحزن ابن عمي وحزنت أنا عليه ، وأنا أؤثر حزني على حزنهما ، يا جبرئيل ، يقبض إبراهيم فديته للحسين.

__________________

(١) التنبيه والاشراف : ٢٣٨.


فقبض بعد ثلاث. فكان النبي إذا رأى الحسين مقبلا قبّله وضمّه الى صدره ورشف ثناياه وقال : فديت من فديته بابني إبراهيم (١).

وروى البرقي في «المحاسن» بسنده عن الكاظم عليه‌السلام قال : لما قبض إبراهيم ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جرت في موته ثلاث سنين :

أما واحدة : أن الشمس انكسفت فقال الناس : إنّما انكسفت الشمس لموت ابن رسول الله! فصعد رسول الله المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيّها الناس إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله يجريان بأمره مطيعان له ، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ، فإذا انكسفا أو أحدهما صلّوا (٢).

قال : ثم نزل من المنبر فصلّى بالناس الكسوف.

فلما سلّم (٣) قال : يا علي ، قم فجهّز ابني. فقام علي فغسّل إبراهيم وحنّطه وكفّنه ، ومضى رسول الله حتى انتهى به الى قبره. فقال الناس : إن رسول الله نسي أن يصلي على ابنه لما دخله من الجزع عليه!

فانتصب قائما ثم قال : إن جبرئيل أتاني وأخبرني بما قلتم : زعمتم أني نسيت أن اصلّي على ابني لما دخلني من الجزع! ألا وإنّه ليس كما ظننتم ، ولكن اللطيف الخبير فرض عليكم خمس صلوات ، وجعل لموتاكم من كل صلاة تكبيرة ، وأمرني أن لا اصلي إلّا على من صلّى.

ثم قال : يا علي انزل والحد ابني ، فنزل علي فألحد إبراهيم في لحده. فقال الناس : إنّه لا ينبغي لأحد أن ينزل في قبر ولده إذ لم يفعل رسول الله بابنه. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أيها الناس ، إنه ليس عليكم بحرام أن تنزلوا في قبور أولادكم ،

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٨٨ ، ٨٩ ، ط. بيروت.

(٢) المحاسن ٢ : ٢٩ ـ ٣١ وفي فروع الكافي ٣ : ٢٠٨.

(٣) وهو تاريخ تشريع صلاة الآيات وفوريتها.


ولكن لست آمن إذا حلّ أحدكم الكفن عن ولده أن يلعب به الشيطان فيدخله عند ذلك من الجزع ما يحبط أجره (١).

وروى الطوسي في «الأمالي» بسنده عن عائشة قالت : لما مات إبراهيم ، بكى النبي حتى جرت دموعه على لحيته ، فقيل له : يا رسول الله تنهى عن البكاء وأنت تبكي؟! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ليس هذا بكاء ، إنّما هذا رحمة ، ومن لا يرحم لا يرحم (٢).

وروى الكليني في «فروع الكافي» بسنده عن الصادق صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لما مات إبراهيم ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هملت عين رسول الله بالدموع ثم قال : تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الربّ ، وإنّا بك يا إبراهيم لمحزونون (٣).

ثم رأى النبي في قبره خللا فسوّاه بيده ثم قال : إذا عمل أحدكم عملا فليتقن. ثم قال له : الحق بسلفك الصالح عثمان بن مظعون (٤) اذ كان قبره الى قبر ابن مظعون.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٨٧ والتنبيه والاشراف : ٢٣٨.

(٢) أمالي الطوسي : ٣٨٨ ح ٨٥٠ / ١٠١.

(٣) وفي تاريخ اليعقوبي ٢ : ٨٧.

وفي تفسير القمي بسنده عن الباقر عليه‌السلام قال : لما هلك إبراهيم ابن رسول الله حزن عليه رسول الله حزنا شديدا ، فقالت له عائشة : ما الذي يحزنك عليه ، فما هو إلّا ابن جريج!

فبعث رسول الله عليا وأمره بقتله ، فذهب علي إليه ومعه السيف ، وكان جريج القبطي في حائط ، فضرب علي عليه‌السلام باب البستان فأقبل إليه ليفتح الباب ولكنّه لما رأى عليا عرف في وجهه الشر فلم يفتح الباب وأدبر راجعا ، فوثب علي على الحائط ونزل الى البستان واتّبعه ، وولّى جريج مدبرا ، فلما خشي أن يرهقه صعد في نخلة وصعد علي في أثره فلما دنا منه رمى جريج بنفسه من فوق النخلة فبدت عورته فإذا ليس له ما للرجال ولا له ما للنساء ، فقال النبي : الحمد لله الذي صرف عنّا السوء أهل البيت. تفسير القمي ٢ : ٩٩.

(٤) فروع الكافي ٣ : ٢٦٢ و ٢٦٣ ، الحديث ٤٥.


وقد مرّ النصّ على أن نصارى نجران عليهم أن يؤدّوا ألف حلّة جزية في شهر صفر ، ثم ألفا آخر في شهر رجب ، ولم يستثنوا صفر الأول ، وهذا يعني بفاصل شهرين عن المعاهدة. ولا نجد نصّا على أمر خالد باستلامها ، ولكنّا نظنّ ذلك ، إذ لم يذكر غيره لذلك يومئذ فيما يلي :

اسلام سائر العرب بنجران :

قال ابن اسحاق : في سنة عشر للهجرة في شهر ربيع الآخر بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خالد بن الوليد الى بني الحارث بن كعب بنجران ، وأمره أن يدعوهم الى الاسلام ثلاثا فإن استجابوا يقبل منهم وإن لم يفعلوا يقاتلهم ، وإن أسلموا يقيم فيهم يعلّمهم كتاب الله وسنّة نبيّه ومعالم الإسلام. فلما وصل إليهم خالد بعث ركبانا ينادون : أيها الناس ، أسلموا تسلموا ، فأسلموا.

فكتب خالد الى رسول الله : «بسم الله الرحمن الرحيم ، لمحمد النبي رسول الله من خالد بن الوليد. السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو. أما بعد : يا رسول الله صلّى الله عليك ، فإنّك بعثتني الى بني الحارث بن كعب وأمرتني إذا أتيتهم : أن لا اقاتلهم الى ثلاثة أيام وأدعوهم إلى الإسلام ، فإن أسلموا قبلت منهم وأقمت فيهم وعلّمتهم كتاب الله وسنّة نبيّه ومعالم الإسلام ، وإن لم يسلموا اقاتلهم. وإنّي قدمت عليهم فدعوتهم الى الاسلام ثلاثة أيام كما أمرني رسول الله بعثت فيهم ركبانا قالوا : يا بني الحارث أسلموا تسلموا. فأسلموا. وأنا مقيم بين أظهرهم آمرهم بما أمرهم الله به ، وأنهاهم عمّا نهاهم الله عنه ، واعلّمهم معالم الاسلام وسنّة النبيّ ، حتى يكتب إليّ رسول الله ، والسلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته».

فكتب إليه رسول الله : «بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من محمد النبيّ رسول الله


الى خالد بن الوليد ، سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو ، أما بعد : فإن كتابك جاءني مع رسولك ، تخبر : أنّ بني الحارث بن كعب قد أسلموا قبل أن تقاتلهم ، وأجابوا الى ما دعوتهم إليه من الاسلام وشهدوا أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا عبد الله ورسوله ، وأن قد هداهم الله بهداه فبشّرهم وأنذرهم ، وأقبل ، وليقبل معك وفدهم ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته» (١).

اسلام بني نمير :

وروى عمر بن شبّة (م ٢٦٢ ه‍) في كتابه «تاريخ المدينة المنوّرة» عن أشياخ من بني نمير النجديّين عن آبائهم : أنّهم وفدوا الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليسلموا فيسلموا من خالد بن الوليد ، فدنا منه شريح بن الحارث فأسلم وقال : آخذ أمانا ، قال لمن تأخذ؟

قال : آخذ لبني نمير كلّها ، قال : إني بعثت خالد بن الوليد الى أهلكم ، وهذه براءتكم ، فكتب إليه كتابا فيه : إذا أتاك كتابي هذا فانصرف الى أهل العمق من أهل اليمامة ، فإن بني نمير قد أتوني فأسلموا وأخذوا لقومهم أمانا.

فانطلق قرة وشريح النميريان حتى قدما على خالد ودفعا إليه كتاب رسول الله على رءوس الناس ، فقال خالد : أما والله حتى تتلقوني بالأذان فلا! فأتوا قومهم فأمروهم أن يتلقوا خالدا بالأذان ففعلوا. فانصرف عنهم الى أهل العمق فوقع بهم فقتلهم حتى سال واديهم دما.

وانصرف قرة وشريح بن الحارث الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى قدما عليه فاستعمل شريحا على قومه وأمره أن يصدّقهم ويزكيهم ويعمل فيهم بكتاب الله وسنة نبيّهم (٢).

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٣٩ ، ٢٤٠ ، ونقله في بحار الأنوار ٢١ : ٣٧٠ عن المنتقى. وانظر مكاتيب الرسول ٢ : ٥١٠ ـ ٥١٥.

(٢) تاريخ المدينة المنورة ٢ : ٥٩٦ ، وعنه في مكاتيب الرسول ٢ : ٥١٦ ـ ٥١٩.


وقاتل خالد في البحرين :

وروى الصدوق بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد بعث خالد بن الوليد الى البحرين (وكان قد عهد إليه في دماء المعاهدين من اليهود والنصارى ولم يعهد إليه في المجوس) فأصاب بها دماء قوم من اليهود والنصارى والمجوس ، فكتب الى رسول الله : «إنّي أصبت دماء قوم من اليهود والنصارى فوديتهم ثمانمائة ، وأصبت دماء قوم من المجوس ، ولم تكن عهدت إليّ فيهم عهدا».

فكتب إليه رسول الله : «إنّ ديتهم مثل دية اليهود والنصارى ، فإنّهم أهل كتاب» (١).

سريّة علي عليه‌السلام الى اليمن :

على ما مرّ كان خالد بن الوليد المخزومي مبعوثا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله الى البحرين وقاتل فيها جمعا من أهل الكتاب من اليهود والنصارى والمجوس ، وانصرف

__________________

(١) كتاب من لا يحضره الفقيه ٤ : ١٢١ والاستبصار ٤ : ٢٦٨ والتهذيب ١٠ : ١٨٦.

قال ابن اسحاق : ثم أقبل خالد الى رسول الله ومعه وفد بني الحارث بن كعب منهم قيس بن الحصين ، فلما قدموا عليه في شهر شوال قيل له : يا رسول الله ، هؤلاء رجال بني الحارث بن كعب ، ولما وقفوا عليه سلموا عليه وقالوا : نشهد أنّك رسول الله وأنّه لا إله إلّا الله ... حمدنا الله الذي هدانا بك يا رسول الله. قال : صدقتم. ثم قال : بم كنتم تغلبون في الجاهلية من قاتلكم؟ قالوا : كنّا نغلب من قاتلنا ـ يا رسول الله ـ انّا كنّا نجتمع ولا نتفرّق ولا نبدأ أحدا بظلم. قال : صدقتم ، ثم أمّر عليهم قيس بن الحصين. فرجعوا الى قومهم في أواخر شهر شوّال أو أوائل شهر ذي القعدة الحرام.

ولا نجد نصّا على جباية خالد بجزية نجران في شهر رجب ، كما مرّ ، ولكن إذ كان رجوعه الى المدينة من نجران بعد شهر رجب ـ كما يأتي ـ فنظن ذلك ، إذ لم يذكر غيره.


بأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله عن بني نمير الى أهل العمق من اليمامة وقاتلهم حتى سال واديهم دما ، والى غير النصارى من بني الحارث بن كعب بنجران ولكنّهم أسلموا ووفدوا معه إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله بأمره في كتابه إليه : «فبشّرهم وأنذرهم وأقبل ، وليقبل معك وفدهم».

وأفاد المفيد في «الارشاد» : ما أجمع عليه أهل السير : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث خالد بن الوليد الى أهل اليمن (؟) يدعوهم الى الإسلام ، فأقام خالد على القوم ستّة أشهر (من ربيع الآخر الى آخر رمضان أو أوائل شوّال) فلم يجبه أحد منهم (كذا!) فساء ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فدعا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وأمره أن يقفل خالدا وإن أراد أحد ممن مع خالد أن يعقّب معك فاتركه (١) بلا تاريخ. إلّا أن الواقدي قيّد ذلك بشهر رمضان من العاشرة للهجرة (٢).

ولكن المفيد إذ لم يؤرّخ لذلك زاد على المقصد السابق أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : كان قد أنفذه الى اليمن ليخمّس ركازها (٣) ويقبض على ما وافق عليه أهل نجران من الحلل والعين وغير ذلك (٤) ، هذا وقد أسلف قبلها بصفحة في كتاب صلحهم : ألفي حلة من حلل الأواقي يؤدون ألفا منها في صفر ، وألفا منها في رجب (٥) فهل كان إيفاده لشهر صفر أم لشهر رجب؟

اللهم إلّا أن يقال إنّه كان مأمورا بقبض ذلك من خالد ، بعد أن قبضها خالد منهم في آخر شهر رجب ثم قبضها منه علي عليه‌السلام في أواخر شهر رمضان أو أوائل شهر شوّال ، كإبداء كراهية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من كيفيّة عمل خالد في قتل الناس من أهل الكتاب وغيرهم.

__________________

(١) الارشاد ١ : ٦١ ، ٦٢.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٧٩.

(٣) الركاز : ما ارتكز في الأرض من الكنز.

(٤) الارشاد ١ : ١٧١.

(٥) الارشاد ١ : ١٦٩.


وزاد المفيد في مقاصد إيفاده عليه‌السلام قال : أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إيفاده الى اليمن ليعلّمهم الأحكام ، ويعرّفهم الحلال والحرام ، ويحكم فيهم بأحكام القرآن والإسلام ، فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : يا رسول الله ، تنفذني للقضاء وأنا شاب ولا علم لي بكل القضاء؟ فقال له : ادن منّي. فدنا منه فضرب بيده على صدره وهو يقول : اللهم اهد قلبه ، وثبّت لسانه (١) وفهّمه القضاء ، وقال له : إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأوّل حتى تسمع من الآخر ، فإنّك إذا فعلت ذلك تبيّن لك القضاء (٢).

وقال له : يا علي ، لا تقاتلنّ أحدا حتى تدعوه ، وايم الله لئن يهدي الله على يديك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت ، ولك ولاؤه يا علي (٣) يعني تكون واليه ووارثه إذا لم يكن له وارث مسلم (٤). فهو وارث من لا وارث له وكيلا من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقال له : يا علي ، اوصيك بالدعاء فإن معه الإجابة ، وبالشكر فإنّ معه المزيد ، وإيّاك أن تخفر عهدا أو تعين عليه ، وأنهاك عن المكر ، فإنّه «لا يحيق المكر السيّئ إلّا بأهله ، وأنهاك عن البغي ، فإنّه من بغي عليه لينصرنّه الله» (٥).

ثم أمره أن يعسكر بقباء ، فعسكر بها حتى يجتمع معه أصحابه. ثم عقد له

__________________

(١) الارشاد ١ : ١٩٤ ، ١٩٥ وبهامشه مصادر عديدة ، وإعلام الورى ١ : ٢٥٨ وبهامشه مصادر اخرى كثيرة.

(٢) كتاب من لا يحضره الفقيه ٣ : ١٣ ح ٣٢٣٨ ، ط. الغفّاري ، وفي البداية والنهاية : أنّه قالها له ذلك عند بعثه الى اليمن ، كما عنه في سيرة المصطفى : ٦٧٩.

(٣) الكافي ٥ : ٨ ب ١ ح ١٤ و: ٣٦ ب ١٤ ح ٤ ، والفقيه ٢ : ١٧٣ ب ٦٧ ح ٢ ، والتهذيب ٦ : ١٤١ ب ٦٢ ح ٢.

(٤) بحار الأنوار ٢١ : ٣٦١.

(٥) أمالي الطوسي : ٥٩٧ ح ١٢٣٩.


رسول الله يومئذ لواء : أخذ عمامة فلفّها مثنّية مربّعة فجعلها في رأس الرمح ثم دفعها إليه وقال : هكذا اللواء! وعمّمه عمامة ثلاثة أكوار ، وجعل منها ذراعا بين يديه ، وشبرا من ورائه ، وقال : هكذا العمّة.

ثم قال له : إذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك ، فإن قاتلوك فلا تقاتلهم حتى يقتلوا منكم قتيلا ، فإن قتلوا منك قتيلا فلا تقاتلهم حتى تقول لهم : هل لكم الى أن تقولوا : لا إله إلّا الله؟ فإن قالوا : نعم ، فقل : هل لكم أن تصلّوا؟ فإن قالوا : نعم : فقل لهم : هل لكم أن تخرجوا من أموالكم صدقة تردّونها على فقرائكم؟ فإن قالوا : نعم ، فلا تبغ منهم غير ذلك ، والله لئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك مما طلع عليه الشمس أو غربت!

ثم خرج في ثلاثمائة فارس الى أرض مذحج (١) الى جمع من زبيد وغيرهم (٢).

اسلام همدان :

وحيث قال النبي لعلي عليه‌السلام : إن أراد أحد ممن مع خالد أن يعقب معك فاتركه ، وكان ممن مع خالد البراء بن عازب الأنصاري فتعقّب عن خالد مع علي عليه‌السلام.

فروى عنه المفيد قال : بلغ الخبر همدان فتجمّعوا له ، فصلّى بنا علي عليه‌السلام الفجر ، ثم تقدّم بين أيدينا فحمد الله وأثنى عليه ثم قرأ عليهم كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأسلم كل همدان في يوم واحد.

وكتب أمير المؤمنين بذلك الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلما قرئ كتابه ابتهج واستبشر

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٧٩.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٨٢.


وخرّ ساجدا شكرا لله عزوجل ثم رفع رأسه فجلس ، وقال : السلام على همدان ، السلام على همدان.

وبعد إسلام همدان تتابع أهل اليمن على الإسلام (١).

وبنو زبيد بأرض مذحج :

قال الواقدي : قالوا : لما انتهى الى أرض مذحج فرّق أصحابه قبل أن يلقاهم جمع ، فرجعوا إليه بغنائم من نعم وسبي ، فجعل على الغنائم بريدة بن الحصيب.

ثم لقي جمعا منهم ، فدعاهم الى الإسلام فأبوا ، فدفع لواءه الى مسعود بن سنان السلمي ، فبرز رجل من مذحج يدعو الى البراز ، فبرز إليه الأسود السلمي وهما فارسان فتجاولا ساعة حتى قتل الأسود الرجل وأخذ سلبه.

ثم حمل عليهم علي عليه‌السلام بأصحابه فقتل منهم عشرين رجلا ، فتركوا لواءهم قائما وانهزموا وتفرّقوا ، فكفّ عن تعقيبهم ، ثم دعاهم الى الإسلام فسارعوا بالاجابة وتقدّم نفر من رؤسائهم فبايعوه وقالوا : نحن على من وراءنا من قومنا ، وهذه أموالنا فخذ منها حق الله (٢).

__________________

(١) الارشاد ١ : ٦٢. ونحوه في التنبيه والاشراف : ٢٣٨. وعليه فإسلام أهل اليمن تتابع بعد إسلام همدان ، وإسلام همدان كان على يد علي عليه‌السلام في شهر رمضان ولعلّه كان في العشر الأخير منه في السنة العاشرة ، وقد مرّ سابقا استبعاد ما أفاده ابن اسحاق من نقل كتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الى الحارث بن عبد كلال بوصفه ملك اليمن (٤ : ٢٥٥) وقبله نقل جواب النبي لكتابه وكتاب أخويه النعمان ونعيم بوصفهم أمراء معافر وذي رعين وهمدان (٤ : ٢٣٥) محتويا على إسلام همدان وقتالهم مع المشركين لديهم ، مما يظنّ به أنّه اريد منه أن يكون بديلا عن هذا الخبر المعتبر عن إسلام همدان مع علي عليه‌السلام ، ولا سيّما مع ذكر ذلك دون هذا.

وابن الأثير ذكر ذلك في السنة العاشرة ، وأشار إليه المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ٣٦٣.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٧٩ ، ١٠٨٠.


فلما ظهر علي عليه‌السلام على عدوّه ودخلوا في الإسلام ، جمع ما غنم منهم وأضافه الى بريدة بن الحصيب ، وأقام بين أظهرهم ، وكتب الى رسول الله كتابا يخبره فيه : أنّه لقي جمعا من زبيد وغيرهم ، فدعاهم الى الاسلام وأعلمهم أنّهم إن أسلموا كفّ عنهم ، فأبوا ذلك ، فقاتلهم «فرزقني الله الظفر عليهم حتى قتل من قتل منهم ثم أجابوا الى ما كان عرض عليهم فدخلوا في الإسلام ، وأطاعوا بالصدقة ، وأتى بشر منهم فعلّمتهم قراءة القرآن» وبعث به إليه مع عبد الله بن عمرو المزني.

ورجع عبد الله المزني إليه بأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله إيّاه أن يوافيه في الموسم (١).

وكان من قبله من امراء العساكر ينفّلون أصحابهم ويعطونهم من الخمس ، فلما يخبرون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك لا يستردّه منهم ، فطلبوا مثل ذلك من علي عليه‌السلام فأبى وقال : الخمس أحمله الى رسول الله وهذا هو يوافي الموسم ونلقاه ، فيصنع فيها ما أراه الله. وجمع عليه‌السلام ما أصاب من تلك الغنائم فجزأها خمسة أجزاء فأقرع عليها وكتب في سهم منها : لله ، فخرج أول السهام سهم الخمس (٢).

وروى الواقدي عن أبي سعيد الخدري أنّه كان مع علي عليه‌السلام باليمن فقال : كان يأخذ الصدقات يأمر من يسعى بذلك عليهم ، وكان يأتيهم في أفنيتهم ، وكان يقعد فما اتي به من شاة فيها وفاء له أخذه ، ولا يفرّق الماشية ولا يكلّف الناس مشقّة ، فيأخذ البعير من الابل ، والبقرة من البقر ، والشاة من الغنم ، والزبيب من الزبيب ، والحبّ من الحبّ ، ويقسّمه على فقرائهم من هاهنا وهاهنا ، يعرفهم.

__________________

(١) المصدر السابق ٢ : ١٠٨١ ، ١٠٨٢. وفيه أن كعب الأحبار لما بلغه قدوم علي عليه‌السلام الى اليمن أقبل إليه فوافاه وسمع بعض خطبه فصدّقه ، ثم استخبره عن صفة النبيّ فأخبره فتبسّم وقال : يوافق ما عندنا من صفته ، ثم سأله عمّا يحلّ ويحرّم ، فأخبره فقال : هو عندنا كما وصفت ، وصدّق به وآمن.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٨٠.


وروى عن رجاء بن حيوة : أنّه عليه‌السلام قضى في دية النفس على أهل الابل مائة من الابل ، وعلى أهل البقر مائتي جذعة أو مائتي بقرة نصفها تبيع ونصفها مسان ، وعلى أهل الغنم ألفي شاة (كذا) وعلى أهل الحلل ألفي ثوب معافرية (١).

من قضايا علي عليه‌السلام في اليمن :

قال المفيد في «الارشاد» : لما استقرت به الدار باليمن ونظر فيما ندبه إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من القضاء والحكم بين المسلمين ، رفع إليه رجلان بينهما جارية يملكان رقّها على السواء ، فلقرب عهدهما بالاسلام وقلّة معرفتهما بما تضمّنته الشريعة من الأحكام جهلا حظر وطئها بل ظنّا جواز ذلك ، فوطئاها معا في طهر واحد ، فحملت الجارية ووضعت غلاما ، فاختصما فيه الى علي عليه‌السلام.

فقال عليه‌السلام لهما : لو علمت أنّكما أقدمتما على ما فعلتماه بعد الحجة عليكما بحظره ، لبالغت في عقوبتكما! ثم قرع على الغلام باسميهما ، فخرجت القرعة لأحدهما ، فألحق الغلام به وألزمه نصف قيمته لشريكه ؛ لأنّه عبد له.

ولما بلغ ذلك رسول الله قال : الحمد لله الذي جعل فينا أهل البيت من يقضي على سنن داوود وسبيله في القضاء. يعني القضاء بالالهام (٢).

ثم رفع إليه عليه‌السلام وهو باليمن : خبر زبية (حفرة بمكان عال) حفرت للأسد فوقع فيها ، فغدا الناس ينظرون إليه ، فوقف على شفير الزبية رجل فزلّت قدمه فتعلّق بآخر وتعلّق الآخر بثالث وتعلّق الثالث بالرابع فوقعوا في الزبية فهلكوا جميعا.

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٨٥.

(٢) الارشاد ١ : ١٩٥ والخبر عن الباقر عليه‌السلام في فروع الكافي ٥ : ٤٩١ وكتاب من لا يحضره الفقيه ٣ : ٥٤ وتهذيب الأحكام ٦ : ٢٣٨.


فقضى عليه‌السلام : أن الأول فريسة الأسد وعليه ثلث الدية للثاني ، وعلى الثاني ثلثا الدية للثالث ، وعلى الثالث الدية كاملة للرابع.

وانتهى الخبر بذلك الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : لقد قضى أبو الحسن فيهم بقضاء الله عزوجل فوق عرشه (١).

ثم رفع إليه : خبر جارية حملت جارية على عاتقها في اللعب ، فقرصت اخرى الحاملة فقفزت لذلك فوقعت الراكبة فاندقّ عنقها وهلكت. فقضى عليه‌السلام : على القارصة بثلث الدية ، وعلى القامصة (القافزة) بثلثها ، وأسقط الثلث الباقي لركوب الواقصة (الواقعة) عبثا.

وبلغ الخبر بذلك الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأمضاه وشهد له بالصواب (٢).

ووقع حائط فقتل جمعا فيهم حرّة ولها طفل من حرّ ، ومملوكة ولها طفل من مملوك ، فلم يعرف الحر من المملوك.

فقرع بينهما وحكم بالحرّية لمن خرج له سهم الحرية ، وبالرق لمن خرج له سهم الرق ، وحكم في ميراثهما بالحكم في الحرّ ومولاه. فأمضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا القضاء وصوّبه (٣).

__________________

(١) الارشاد ١ : ١٩٦ ، والخبر عن الصادق عليه‌السلام في فروع الكافي ٧ : ٢٨٦ ح ٣ وكتاب من لا يحضره الفقيه ٤ : ٨٩ ح ٢٧٨ ، وتهذيب الأحكام ١٠ : ٢٣٩ ح ٩٥١ ، وفي مغازي الواقدي ٣ : ١٠٨٦ وفيه : أن عشرة منهم أتوا مع علي عليه‌السلام الى الحج فجلسوا بين يدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقصّوا عليه خبرهم ، فقال : أنا أقضي بينكم إن شاء الله ، فقالوا : يا رسول الله إنّ عليّا قد قضى بيننا ، فقال : فبم قضى بينكم؟ فأخبروه بما قضى به فقال : هو ما قضى به ، فقال القوم : هذا قضاء من رسول الله ، وقاموا.

(٢) الارشاد ١ : ١٩٦ ، وفي المقنعة : ٧٥٠ ، وباختلاف في الفقيه ٤ : ١٢٥ ، والتهذيب ١٠ : ٢٤١ ، وأشار الى الحديث ابن الأثير في النهاية ٤ : ٤٠ و ١٠٨ و ٢١٤.

(٣) الارشاد ١ : ١٩٧.


وروى الكليني في «فروع الكافي» بسنده عن الباقر عليه‌السلام قال : أفلت فرس لرجل من أهل اليمن ، ومرّ يعدو ، فمرّ برجل فنفحه برجله فقتله. فجاء أولياء المقتول الى الرجل فأخذوه ورفعوه الى علي عليه‌السلام ، فأقام صاحب الفرس البيّنة عند علي عليه‌السلام أنّ فرسه أفلت من داره ونفح الرجل. فأبطل علي عليه‌السلام دم صاحبهم.

فجاء أولياء المقتول من اليمن الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : يا رسول الله ، إنّ عليّا ظلمنا وأبطل دم صاحبنا! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ عليّا عليه‌السلام ليس بظلّام ، ولم يخلق للظلم ، إنّ الولاية لعلي من بعدي ، والحكم حكمه ، والقول قوله ، ولا يرد ولايته وقوله وحكمه إلّا كافر ، ولا يرضى ولايته وقوله وحكمه إلّا مؤمن.

فلما سمع اليمانيون قول رسول الله في علي قالوا : يا رسول الله ، رضينا بحكم علي وقوله. فقال رسول الله : هو توبتكم مما قلتم (١).

وفد بني غامد من الأزد :

وحيث كان بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي عليه‌السلام الى اليمن المرة الثانية في شهر رمضان للعاشرة ، ففي الشهر نفسه قدم وفد غامد من أزد اليمن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهم عشرة ، فسلّموا عليه وأقرّوا بالإسلام ، وهدوا الى أبي بن كعب فعلّمهم من القرآن ، وكتب لهم رسول الله كتابا فيه شرائع الإسلام ، ولم يرو نصّ الكتاب (٢).

وقد قسّم الجوهري الأزد الى ثلاثة أقسام : بنو نصر بن الأزد ، ولقب نصر شنوءة فهم أزد شنوءة ، ومنهم من سكن الشرارة بأطراف اليمن فسمّوا أزد شرارة.

__________________

(١) فروع الكافي ٧ : ٣٥٢ ب ٤٣ ح ٨ ، والتهذيب ١٠ : ٢٢٨ ب ١٨ ح ٣٣ ، والراوندي في قصص الأنبياء : ٢٨٦ ، وعنه في بحار الأنوار ٢١ : ٣٦٢ ح ٥.

(٢) الطبقات الكبرى ١ (القسم الثاني) : ٧٦ و ٧٧ و ١ : ٣٤٥ ، ط. بيروت ، وانظر مكاتيب الرسول ١ : ٣٠٤.


والثالث : من سكن عمان ثغر البحرين فسمّوا أزد عمان. والأزد من أعظم الأحياء وأكثرها بطونا وأمدّها فروعا (١).

وروى المتّقي الهندي في «كنز العمال» عن ابن عساكر بإسناده عن أبي راشد عبد الرحمن بن عبيد قال : قدمت على النبي في مائة رجل من قومي ، فلما دنونا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقفنا ، فتقدّمت قومي وأنا أصغرهم فقلت : أنعم صباحا يا محمد ، فقال النبي : ليس هذا سلام المسلمين بعضهم على بعض ، إذا لقيت مسلما فقل : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، ثم قال لي : ما اسمك ومن أنت؟ قلت : أنا أبو معاوية عبد اللات والعزّى! قال : بل أنت أبو راشد. ثم أجلسني وأكرمني فأسلمت. ثم كتب معه كتابا الى الأزد ؛ كتبه عمّه العباس بن عبد المطلب :

«بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من محمد رسول الله الى من يقرأ كتابي هذا ، من شهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمدا رسول الله ، وأقام الصلاة فله أمان الله وأمان رسوله ، وكتب هذا الكتاب العباس بن عبد المطلب».

وقدم منهم وفد سنة عشر في بضعة عشر رجلا رأسهم صرد بن عبد الله ، فأسلم وأسلموا ، فأمّره رسول الله على من أسلم من قومه ، وأمره أن يجاهد المشركين. فسار الى مدينة جرش وفيها قبائل من اليمن فيهم خثعم وغيرهم ، فحاصروهم قريبا من شهر فامتنعوا منه ، فرجع عنهم متوجها الى صنعاء اليمن حتى كان بجبل يقال له كثر من جرش ، وخرج أهل جرش في طلبه ، فعطف عليهم فقاتلهم قتالا شديدا.

وبعد ذلك خرج وفد أهل جرش الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأسلموا (٢).

__________________

(١) راجع المصادر في مكاتيب الرسول ٣ : ٢٨٠.

(٢) انظر مكاتيب الرسول ٣ : ٢٧٨ ، ٢٧٩ ، ٢٨٠ ، ٢٨١ ، وابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٣٤.


ووفد الرهاويّين من مذحج :

وفي السنة نفسها ومن مذحج اليمن قدم المدينة خمسة عشر رجلا من الرهاويّين ومعهم هدايا لرسول الله منها فرس يدعى المرواح ، ونزلوا دار رملة بنت الحارث ، فأتاهم رسول الله فتحدّث عندهم طويلا ، وكتب لهم كتابا بمائة وسق تجرى لهم من محاصيل خيبر (١).

وفروة بن مسيك المرادي :

ويفهم من قول ابن اسحاق في سيرته : أن أول ملوك كندة من بني مراد اليمن اسلاما هو فروة بن مسيك المرادي رئيس مراد ، إذ قال : قدم ... مفارقا لملوك كندة ومباعدا لهم (٢) ولعلّه لذلك تردّد ابن سعد أنّه كان في سنة تسع أو عشر من الهجرة (٣) بينما جزم ابن حبّان فقال : في سنة (١٠) قدم مراد ورأسهم فروة بن مسيك (٤).

وقال ابن سعد : نزل على سعد بن عبادة يتعلّم القرآن وفرائض الإسلام. واستعمله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على مراد ومذحج وزبيد (٥).

__________________

(١) الطبقات الكبرى ١ (القسم الثاني) : ٧٦ و ١ : ٣٤٤ ، ط. بيروت ، وانظر مكاتيب الرسول ١ : ٢٩٦.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٢٨.

(٣) الطبقات الكبرى ٢ : ١١١.

(٤) الثقات لابن حبان ٢ : ١١٧ ، وانظر مكاتيب الرسول ١ : ٢٥٣ ، ٢٥٤.

(٥) الطبقات الكبرى ٢ : ١١١ وقال : وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقات ولم يزل عليها حتى توفي النبي. وكأنّه اريد به معارضة خبره المعتبر مع علي عليه‌السلام ، وانظر مكاتيب الرسول ١ : ٣٠٣ ، ٣٠٤ ، وفروة هو الذي استشهد الحسين عليه‌السلام ببعض شعره في بعض خطبه في عاشوراء ، كما في مقتل الخوارزمي ٢ : ٧ ، ط. النجف الأشرف.


بعث معاذ الى اليمن :

كان بنو سلمة من الخزرج بالمدينة من السابقين الأولين من المسلمين بها ، منهم معاذ بن جبل ، ولأول مرة نواجه اسمه مع ابن عمه معاذ بن عمرو بن الجموح من فتيان بني سلمة ممن أسلم وشهد العقبة كانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو فيحملونه فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة منكّسا على رأسه (١).

وآخر عهدنا به مرّ في الخبر : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله خلّف أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل السلمي يعلّمان الناس القرآن وفقه الدين. ويبدو أنّه انتدب لدعوة النبي مع مسلمي أهل مكة الى حرب تبوك عمّه العباس بن عبد المطلب ، كما مرّ ، فهو حاضر في أخبار تبوك.

وذكر ابن اسحاق : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أرسل الى زرعة ذي يزن في اليمن : «... أما بعد ، فان محمدا يشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّه عبده ورسوله. ثم إن مالك بن مرّة الرهاوي قد حفظ الغيب وبلغ الخبر ... وقد حدّثني أنّك أول حمير أسلمت وقتلت المشركين ، فأبشر بخير ، وآمرك بحمير خيرا ، ولا تخونوا ولا تخاذلوا ، فإنّ رسول الله هو ولي غنيّكم وفقيركم ... وإني قد أرسلت إليكم من صالحي أهلي واولي دينهم واولي علمهم ، فآمرك بهم خيرا فإنهم منظور إليهم ... فاوصيكم بهم خيرا : عبد الله بن زيد ، ومالك بن عبادة ، وعقبة بن نمر ، ومالك بن مرّة ... وإن أميرهم معاذ بن جبل فلا ينقلبنّ إلّا راضيا ... وأن اجمعوا ما عندكم من الصدقة والجزية من مخالفيكم وأبلغوها رسلي ... وإن الصدقة لا تحلّ لمحمد ولا لأهل بيته ، إنّما هي زكاة يزكّى بها على فقراء المسلمين وابن السبيل» (٢).

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٢ : ٩٥.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٣٦ و ٢٣٧.


هذا بعد أن بدأ الفصل بقوله : قدم على رسول الله كتاب ملوك حمير مقدمه من تبوك من ملوك معافر وذي رعين وهمدان. وحيث كان الخبر المعتبر عندنا إسلام همدان على يدي علي عليه‌السلام وكان ذلك في شهر رمضان من العاشرة للهجرة كما مرّ ، لذلك لم نعتبر هذا الخبر المرسل من ابن اسحاق ، مع استبعادات اخرى في نصّ الرسالة ، مع اضطراب وتشويش في النصّ ـ عدّلناه فيما نقلناه ـ ومع خلط وخبط بين نصّين من كتابين الى أقيال اليمن : ابني عبد كلال وذي يزن. وسيأتي أنّه بعث الى سواهم.

وذكر ابن الأثير : أن معاذا كان من أحسن الناس وجها وأحسنهم خلقا وأسمحهم كفّا ، فاقترض دينا كثيرا حتى تغيّب عنهم في بيته أيّاما ... فأرسل عليه رسول الله ليبعث به الى اليمن وقال له : لعلّ الله يجبرك ويؤدّي عنك (١).

ورووا عنه قال : لما بعثني رسول الله الى اليمن خرج معي يوصيني يمشي تحت راحلتي وأنا راكب (٢) الى أكثر من ميل! (٣) وقال له :

يا معاذ ، علّمهم كتاب الله ، وأحسن أدبهم على الأخلاق الصالحة ، وأنزل الناس منازلهم خيرهم وشرّهم ، وأنفذ أمر الله فيهم ولا تحاش في أمره ولا ماله أحدا فإنها ليست بولايتك ولا مالك ، وأدّ إليهم الأمانة في كل قليل وكثير ، وعليك بالرفق والعفو ، في غير ترك للحق كي لا يقول الجاهل قد تركت من حق الله ، واعتذر الى أهل عملك من كل أمر خشيت أن يقع إليك منه عيب حتى يعذروك ، وأمت أمر الجاهلية إلّا ما سنّه الإسلام ، وأظهر أمر الإسلام كلّه صغيره وكبيره ،

__________________

(١) اسد الغابة ٤ : ٣٧٧.

(٢) تاريخ الخميس ٢ : ١٤٢.

(٣) كنز العمّال ١٠ : ٣٩٢.


وليكن أكثر همّك الصلاة فانّها رأس الإسلام بعد الاقرار بالدين ، وذكّر الناس بالله واليوم الآخر. واتبع الموعظة فانّه أقوى لهم على العمل بما يحبّ الله. ثم بثّ فيهم المعلمين ، واعبد الله الذي إليه ترجع ، ولا تخف في الله لومة لائم.

واوصيك بتقوى الله ، وصدق الحديث ، والوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة ، وترك الخيانة ، ولين الكلام ، وبذل السلام ، وحفظ الجار ، ورحمة اليتيم ، وحسن العمل ، وقصر الأمل ، وحبّ الآخرة ، والجزع من الحساب ، ولزوم الايمان ، والفقه في القرآن ، وكظم الغيظ ، وخفض الجناح.

وإيّاك أن تشتم مسلما ، أو تطيع آثما ، أو تعصي إماما عادلا ، أو تكذّب صادقا ، أو تصدّق كاذبا. واذكر ربّك عند كل شجر وحجر ، واحدث لكل ذنب توبة : السرّ بالسرّ ، والعلانية بالعلانية.

يا معاذ ، لو لا أنني أرى أن لا نلتقي إلى يوم القيامة لقصرت في الوصية ، ولكنّني أرى أن لا نلتقي أبدا. ثم اعلم يا معاذ أن أحبّكم إليّ من يلقاني على مثل الحال التي فارقني عليها (١).

إنّك ستأتي قوما أهل كتاب ، فإذا جئتهم فادعهم الى أن يشهدوا أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمدا رسول الله ، فإن أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإيّاك وكرائم أموالهم ، واتّق دعوة المظلوم فانه ليس بينها وبين الله حجاب (٢) وكتب له في عهده :

أن لا طلاق لامرئ فيما لا يملك ، ولا عتق فيما لا يملك ، ولا نذر في معصية ، ولا

__________________

(١) تحف العقول : ٢٥ ، ٢٦.

(٢) البداية والنهاية ٥ : ١٠٠.


في قطيعة رحم ، ولا فيما لا يملك. وعلى أن تأخذ من كل حالم دينارا أو عدله من المعافر (الثياب) وعلى أن لا تمسّ القرآن إلّا طاهرا ، وإنّك إذا أتيت اليمن يسألك نصاراها عن مفتاح الجنة فقل : لا إله إلّا الله وحده لا شريك له (١).

إنّ طبيعة الامور بملاحظة خارطة اليمن تقتضي تقدم الاسلام في اليمن بترتيب نجران ثم همدان ثم صنعاء ثم زبيد ثم الجند ثم عدن على منعطف البحر الأحمر نحو بحر عمان.

وفي أكثر أخبار بعث معاذ إنّما جاء ذكر اليمن ، وإنّما جاء في بعضها ذكر مخلاف (محافظة) الجند بعد صنعاء الى عدن : مرّ معاذ بصنعاء في طريقه الى الجند ، فصعد منبرا فحمد الله ، وأثنى عليه ، وصلّى على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم قرأ عليهم كتاب رسول الله

__________________

(١) كنز العمال ١٠ : ٣٩٢ و ٣٩٣.

وهنا في الايضاح لابن شاذان (م ٣٦٠ ه‍) : ١٠٤ ، وقالوا فلا بدّ من النظر واستعمال الرأي فيما لم تأتنا به الرواية عنه لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمعاذ بن جبل لما وجّهه الى اليمن قاضيا : بم تقضي يا معاذ؟ قال : أقضي بكتاب الله. قال : فما لم يكن في الكتاب؟ قال : فبسنّة رسول الله. قال : فما لم يكن في السنّة؟ قال اجتهد رأيي لا آلو ، قالوا : فضرب رسول الله على صدره وقال : الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله لما يحب. (الطبقات الكبرى ٣ : ٥٨٤).

وقال الذهبي في ميزان الاعتدال ١ : ٤٣٩ ، الحارث بن عمرو عن رجال له عن معاذ بحديث الاجتهاد ... تفرّد به أبو عون محمد بن عبيد الله الثقفي عن الحارث بن عمرو الثقفي ابن أخ المغيرة بن شعبة. وما روى عن الحارث غير أبي العون ، فهو مجهول. وقال البخاري : لا يصحّ حديثه. وقال الترمذي : اسناده عندي ليس بمتصل.

وناقشه ابن حزم في المحلّى ١ : ٦٢ بقوله : وحديث معاذ اجتهد رأيي ولا آلو. لا يصح ، لأنه لم يروه أحد إلّا الحارث بن عمرو ـ وهو مجهول ـ عن رجال من أهل حمص لم يسمعهم! عن معاذ. وانظر : دروس في فقه الإمامية للشيخ الفضلي ١ : ٨٢ ـ ٨٦.


الى أهل اليمن (١) ثم انتهى الى الجند وقبله جبل حوله من كندة السكون والسكاسك ، فأشرف معاذ على الجبل وأذّن ، فلما سمعوا صوت الأذان أقبلوا إليه سراعا ، فسألوا عنه ولما عرفوه أنه رسول نبي الله قالوا : بم أرسلك؟ فقال : هذا عهد رسول الله إذ بعثني إليكم ، فأخرج عهده فقرأه عليهم ، وكان في عهده :

«أوصيك ـ يا معاذ ـ بتقوى الله ، وصدق الحديث ، ووفاء العهد ، وترك الخيانة ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، وتلاوة القرآن ، وإيّاك ـ يا معاذ ـ أن تصدّق كاذبا ، أو تكذّب صادقا ، أو تعين ظالما ، أو تقطع رحما ، أو تشمت بمصيبة ...» (٢).

ومن قضاياه في اليمن ما أرسله الصدوق عن أبي الأسود الدؤلي : أن جمعا جاءوا الى معاذ بن جبل باليمن يسألونه عن ميراث يهودي مات وترك أخا مسلما ، فقال معاذ : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «الاسلام يزيد ولا ينقص» فورّث المسلم من أخيه اليهودي (٣).

__________________

(١) يظهر من الخبر سبق الاسلام الى صنعاء ، وذلك لإسلام باذان زعيم أبناء الفرس في اليمن وإسلام أكثرهم معه لعلمهم بصدقه فيما أخبر به من قتل خسرو پرويز ، وإقراره من قبله على حكمه على اليمن.

(٢) انظر مكاتيب الرسول ٢ : ٥٩٧ ، ٥٩٨ عن الوثائق السياسية : ٢١٦ عن أمالي الحوالي : ١٢٩. وانظر من مكاتيب الرسول ٢ : ٦٠٠ ـ ٦٠٢ حيث ترجم لخمسة ممن كانوا مع معاذ ، فلم يكن هو وحده.

(٣) كتاب من لا يحضره الفقيه ٤ : ٣٣٤ ب ١٧٠ ح ٥٧٢٠ ، ورواه قبله أبو داود في سننه وابن حنبل في مسنده. وفي أيام مكثه باليمن رووا كتابا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إليه لتعزيته بابنه ، رواه الحراني في تحف العقول : ٤٧ ، وأبو نعيم (م ٤٣٠ ه‍) في حلية الأولياء ١ : ٢٣٢ ـ ٢٤٣ وتكلم في صحة الحديث فقال : هذه الروايات ضعيفة لا تثبت ، فإنّ وفاة


إرسال عمرو بن حزم الى اليمن :

مرّ في خبر إرسال خالد بن الوليد المخزومي الى اليمن ، وكتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إليه : «وأقبل وليقبل معك وفدهم» : أنه أقبل ومعه وفد بني الحارث بن كعب.

__________________

ـ (عبد الرحمن) بن معاذ كان بعد وفاة رسول الله بسنتين ، وإنّما كتب إليه بعض الصحابة فتوهّم الراوي فنسبها الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. وتبعه ابن الجوزي (م ٥٩٧ ه‍) في الموضوعات ، ونقله عنه المتقي الهندي في كنز العمال ٢٠ : ٢٢٥.

وأضاف أبو نعيم : أن معاذا مكث في اليمن حتى قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقدم الى المدينة ، فقال عمر لأبي بكر : دع لهذا الرجل ما يعيّشه وخذ سائره منه. فقال أبو بكر : إنّما بعثه النبي ليجبره ، فلست بآخذ منه شيئا إلّا أن يعطيني هو! وفي الاستيعاب بهامش الاصابة ٣ : ٣٥٨ ، وانظر مكاتيب الرسول ٣ : ٥٥٥.

ولا نرى أثرا لمعاذ في حجة الوداع ، ولا في بعث جيش اسامة ، ولا في مرض ووفاة رسول الله ، ولا في السقيفة ، وأوّل ما نرى أثره بعد السقيفة في أوائل بيعة أبي بكر ، كما في كتاب سليم بن قيس : ٥٧٨ ح ٤ : أنّ أوّل من بايعه المغيرة بن شعبة ثم ... ومعاذ بن جبل ، فهو سادسهم. وفي : ٥٧٨ : أنه كان فيمن عليهم السلاح وهم جلوس حول أبي بكر حين انتهى بعلي عليه‌السلام الى أبي بكر للبيعة. وفي : ٥٨٩ و ٦٣١ ، أنه كان ممّن صدّق أبا بكر في قوله : إنّه سمع رسول الله يقول : إنّا أهل بيت أكرمنا الله عزوجل واصطفانا ، واختار لنا الآخرة على الدنيا ، ولم يرض لنا بالدنيا ، وإن الله لم يكن ليجمع لنا أهل البيت النبوة والخلافة. فصدّقه عمر وأبو عبيدة ومعاذ بن جبل ... فقال لهم علي عليه‌السلام : لقد وفيتم بصحيفتكم الملعونة التي تعاقدتم عليها في الكعبة. وفي ٥٩٠ : أنها كتبت باتفاق منهم في المحرم سنة عشرة من الهجرة. فهي قبل إرسال معاذ الى اليمن ، فلعلّه كان لإبعاده عنهم والتفريق بينهم.

ولعلّ إهمال أبي بكر للأموال معه كما مرّ كان لتأليفه إليهم. ومن تاريخ الصحيفة يبدو أن سفر معاذ لم يكن عند رجوع النبي من تبوك كما في ابن هشام ، وعليه فلم تكن سفرته أربعة عشر شهرا كما ذكره المحقّق الغفاري في تحف العقول : ٢٦ وكرره في حاشية بحار الأنوار ٧٧ : ١٢٦.


والخبر كان عن ابن اسحاق وهو يقول : إن وفدهم رجع الى قومهم في أواخر شوال أو أوائل ذي القعدة للسنة العاشرة ، أي قبل حجة الوداع بقليل.

وبعد أن ولّى وفدهم بعث إليهم عمرو بن حزم الأنصاري الخزرجي من بني النجار ، ليفقّههم في الدين ، ويعلّمهم السنة ومعالم الاسلام ، ويأخذ منهم صدقاتهم.

وكتب له كتابا أمره فيه بأمره وعهد إليه فيه عهده :

«بسم الله الرحمنِ الرحيم ، هذا بيان من الله ورسوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(١) عهد من محمد النبي رسول الله لعمرو بن حزم حين بعثه الى اليمن : آمره بتقوى الله في أمره كلّه (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) وآمره أن يأخذ بالحق كما أمره الله ، وأن يبشر الناس بالخير ويأمرهم به ، ويعلّم الناس القرآن ويفقّههم فيه ، وينهى الناس أن لا يمس القرآن انسان إلّا وهو طاهر ، ويخبر الناس بالذي لهم والذي عليهم ، ويلين للناس في الحق ، ويشتدّ عليهم في الظلم ، فإن الله كره الظلم ونهى عنه فقال : (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) ويبشّر الناس بالجنة وبعملها ، وينذر الناس النار وعملها ، ويستألف الناس حتى يفقّهوا في الدين ، ويعلّم الناس معالم الحج وسنّته وفريضته وما أمر الله به ، والحج الأكبر هو الحج والحج الأصغر هو العمرة.

وينهى الناس أن يصلّي أحد في ثوب واحد صغير إلّا أن يكون ثوبا يثني طرفيه على عاتقيه ، وينهى الناس أن يحتبي أحد في ثوب واحد يفضي بفرجه الى السماء ، وينهى أن يعقص أحد شعر رأسه في قفاه.

وينهى ـ إذا كان بين الناس هيج ـ عن الدعاء الى القبائل والعشائر ، وليكن دعواهم الى الله وحده لا شريك له ، فمن لم يدع الى الله ودعا الى القبائل والعشائر فليقطفوا بالسيف حتى تكون دعواهم الى الله وحده لا شريك له.

__________________

(١) المائدة : ١ وهي كما يأتي نزلت مرة واحدة في حجة الوداع بعد هذا ، فكيف هنا؟!


ويأمر الناس بإسباغ الوضوء وجوههم وأيديهم الى المرافق ... ويمسحون برءوسهم ـ كما أمرهم الله ـ وأرجلهم الى الكعبين (١) وأمر بالصلاة لوقتها وإتمام الركوع ، والسجود ، والخشوع ، ويغلّس بالصبح ، ويهجّر بالهاجرة حين تميل الشمس ، وصلاة العصر والشمس في الأرض مدبرة ، والمغرب حين يقبل الليل لا تؤخّر حتى تبدو النجوم في السماء ، والعشاء أول الليل. وأمر بالسعي الى الجمعة إذا نودي إليها ، والغسل عند الرواح إليها.

وأمره أن يأخذ من المغانم (؟) خمس الله ، وما كتب على المؤمنين في الصدقة : من العقار : عشر ما سقت العين وسقت السماء ، وعلى ما سقى الغرب (٢) نصف العشر ، وفي كل عشر من الإبل : شاتان ، وفي كل عشرين : أربع شياه ، وفي كل أربعين من البقر : بقرة ، وفي كل ثلاثين من البقر : تبيع : جذع أو جذعة ، وفي كل أربعين من الغنم : سائمة وحدها شاة ، فإنها فريضة الله التي افترض على المؤمنين في الصدقة فمن زاد خيرا فهو خير له.

وأنّه من أسلم من يهودي أو نصراني إسلاما خالصا من نفسه ، ودان بدين الإسلام فإنه من المؤمنين ، له مثل ما لهم ، وعليه مثل ما عليهم ، ومن كان على نصرانيّته أو يهوديّته فإنه لا يردّ عنها ، وعلى كل حالم ذكر أو انثى حرّ أو عبد دينار واف ، أو عوضه ثيابا ، فمن أدّى ذلك فإنّ له ذمّة الله وذمّة رسوله ، ومن منع ذلك

__________________

(١) جاء في نصّ ابن اسحاق تقديم أرجلهم الى الكعبين على مسح الرءوس ، وهو خلاف إجماع المسلمين كافة ، فكأنّه اريد به وصل الأرجل بغسل الوجوه والأيدي! وانظر مكاتيب الرسول ٢ : ٥٣١ ، والوضوء في الكتاب والسنة للشيخ نجم الدين العسكري ، ووضوء النبي للدكتور الشهرستاني.

(٢) الغرب : الدلو الكبير الواسع.


فإنّه عدوّ لله ولرسوله وللمؤمنين جميعا ... والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» (١).

__________________

(١) رواه ابن هشام في السيرة ٤ : ٢٤١ ـ ٢٤٣ عن ابن اسحاق بلا إسناد ، ولعله من حذف ابن هشام ، فقد رواه يونس بن بكير عن ابن اسحاق قال : أخرج لي عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم كتابا وحدّثني عن أبيه عن جدّه : أنّه كتاب النبي لجدّه عمرو بن حزم لما بعثه الى اليمن ، رواه عنه البيهقي في سننه ودلائل النبوة ٥ : ٤١٣.

وأشار إليه الطوسي في الخلاف ٢ : ٧ ، ونقل عنه في ٢ : ٥٩ ، والمبسوط ٧ : ١١٤ و ١٢٢ و ١٢٤ ، ولكنّه روى في التهذيب ١٠ : ٢٩١ عن الحسين بن سعيد الأهوازي عن فضالة بن أيوب عن أبان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي عن أبي مريم قال : قال لي الصادق عليه‌السلام : يا أبا مريم ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد كتب لعمرو بن حزم كتابا في الصدقات فخذه منه (؟) فأتني به حتى انظر إليه. فانطلقت إليه (؟) فأخذت منه (؟) الكتاب فأتيته به فعرضته عليه ، فإذا فيه أبواب الصدقات والديات ومنها فيه : «في العين خمسون [ابلا] وفي الجائفة الثلث ، وفي المنقلة : خمس عشرة ، وفي الموضحة : خمس من الإبل» فهو غير الكتاب السابق.

ويلاحظ : أن ابن اسحاق قال : أوفده صلى‌الله‌عليه‌وآله الى بني الحارث بن كعب. وهم بنجران أعم من نصاراهم وغيرهم ، وذكر في عهده إليه الجزية من أهل كتابهم ، هذا وقد سبقت جزيتهم في معاهدتهم معه عند إبائهم عن المباهلة ، فهل تجتمع الجزيتان؟ أو هو تأكيد للسابق؟ أو هي من غيرهم؟! ثم الجزية إنما هي على الرجال (انظر مكاتيب الرسول ٢ : ٥٤٤) وما معنى أن يأخذ الخمس من المغانم؟!

وأقدم ذكر له في سنن النسائي ٨ : ٥٦ أو ٥٩ عن سعيد بن المسيّب : أن عمر قضى في الأصابع ... حتى وجد كتاب (؟) عند آل عمرو بن حزم. ولهذا قال بعضهم بوفاته في خلافة عمر ، والأصح وفاته بعد الخمسين ، فكيف قيل : عند آل عمرو؟! انظر الاستيعاب ٢ : ٥٠ ، واسد الغابة ٤ : ٢١١ ، والاصابة ٢ : ٥٣٢ ، ومكاتيب الرسول ٢ : ٥١٥.

بل روى الطبري ٣ : ٣٣٨ ان داره كانت بجنب دار عثمان بن عفّان حين حاصره الناس ففتح لهم باب داره وناداهم فدخلوا على عثمان من دار ابن حزم. وروى عنه ابنه محمد


وإذ كان عمرو بن حزم للأضحى في نجران ، روى الشافعي كما في مسنده : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كتب إليه : أن عجّل الأضاحي وأخّر الفطر (١) أي عجّل الأضاحي قبل صلاة عيد الأضحى ، وأخّر الفطر بعد صلاة عيد الفطر.

ويبدو أنّه رحل الى نجران بأهله وهي حامل بابنه محمد ، وأنّها ولدته قبل نهاية السنة العاشرة ، فكتب بذلك إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فكتب إليه رسول الله : سمّه محمدا وكنّه أبا عبد الملك (٢)؟!

__________________

ـ حديث : عمّار تقتله الفئة الباغية ، بعد مقتل عمّار. وقتل ابنه محمد في وقعة الحرّة كما في اسد الغابة. وكان ابنه أبو بكر يحدث عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله : فاطمة بضعة مني يسخطني ما يسخطها ، وعنه رواه عمر بن عبد العزيز لبني أميّة لما ردّ فدك ونقموا عليه ذلك ، كما في الشافي ٤ : ١٠٣ ، وتلخيصه ٤ : ١٢٧ ، ١٢٨ ، وبهامشه مصادره ، وفيه أن أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم كان والي عمر بن عبد العزيز على المدينة ومع هذا اضطرب خبر ظهور الكتاب : ففي كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام : ٩٣٣ بسنده عن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري قال : لما استخلف عمر بن عبد العزيز أرسل الى المدينة يلتمس كتاب رسول الله في الصدقات ، فوجد عند آل عمرو بن حزم كتابه إليه في الصدقات. فنسخ له. ونسخه محمد بن عبد الرحمن ، ونسخه منه عمرو بن هرم ، وعنه نقل أبو عبيد خبره.

وفيه : ٩٣٨ : أن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم كتب به الى عامل مكة محمد بن هشام ، زعموا أنّه الكتاب الذي كتب به رسول الله الى عمرو بن حزم.

فهل كان التماسه لكتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل استعماله لأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم فوجده عنده ثم استعمله؟ وهل كان إرساله لنسخة الكتاب الى محمد بن هشام عامل مكة قبل ذلك أو بعده؟ وهل هما كتابان أو كتاب واحد؟ وانظر مكاتيب الرسول ٢ : ٥٤٥ و ٥٤٨.

(١) مسند الإمام الشافعي ١ : ١٥٢.

(٢) الطبقات الكبرى ٥ : ٥٠ وط ٢ : ٦٩.


الإعداد لحجّة الوداع :

روى الطبرسي في «الاحتجاج» بسنده عن الباقر عليه‌السلام قال : أتى جبرئيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال له : يا محمد ، إنّ الله جلّ اسمه يقرئك السلام ويقول لك : إنّي لم أقبض نبيّا من أنبيائي ولا رسولا من رسلي إلّا بعد إكمال ديني وتأكيد حجّتي ، وقد بقي عليك من ذلك فريضتان مما يحتاج أن تبلغهما قومك : فريضة الحج ، وفريضة الولاية والخلافة بعدك ؛ فإني لم اخل أرضي من حجة ولن اخلها أبدا ، فإنّ الله جلّ ثناؤه يأمرك أن تبلّغ قومك الحج وتحجّ ويحجّ معك من استطاع إليه سبيلا من أهل الحضر والأطراف والأعراب ، فتعلّمهم من معالم حجّتهم مثل ما علّمتهم من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم ، وتوقفهم من ذلك على مثل الذي أوقفتهم عليه من جميع ما بلّغتهم من الشرائع (١).

وروى الكليني بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : أقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمدينة عشر سنين لم يحج ، ثم (٢) كتب الى من بلغه كتابه ممن دخل في الاسلام أن رسول الله يريد الحج ، يؤذنهم بذلك ، ليحجّ من أطاق الحجّ ، فأقبل الناس (٣).

وأمر المؤذنين أن يؤذنوا بأعلى أصواتهم : بأن رسول الله يحجّ عامه هذا (٤). ألا إن رسول الله يريد الحج وأن يعلّمكم من ذلك مثل الذي علّمكم من شرائع دينكم ، ويوقفكم من ذلك على ما أوقفكم عليه من غيره (٥).

__________________

(١) الاحتجاج ١ : ٦٨.

(٢) بحار الأنوار ٢١ : ٣٩٠ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٣.

(٣) المصدر السابق ٢١ : ٣٩٦ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٤.

(٤) فروع الكافي ١ : ٢٣٣.

(٥) الاحتجاج ١ : ٦٨.


فعلم به من حضر المدينة وأهل العوالي والأعراب واجتمعوا لحجّ رسول الله (١).

واستعمل على المدينة أبا دجانة الأنصاري أو سباع بن عرفطة الغفاري (٢).

وخرج رسول الله في أربع بقين من ذي القعدة (٣) وبلغ من حجّ مع رسول الله من أهل المدينة وأهل الأطراف والأعراب سبعين ألف إنسان أو يزيدون (٤).

وساق الهدي أربعا أو ستّا وستين (٥) ومائة بدنة (٦) وعليها ناجية بن جندب الأسلمي الخزاعي (٧).

فلما نزل (عند) الشجرة (بذي الحليفة أول منزل بعد المدينة الى مكة وهو ميقاتهم) أمر الناس : بنتف الابط وحلق العانة والغسل والتجرّد في إزار ورداء أو إزار وعمامة يضعها على عاتقه لمن لم يكن له رداء (٨).

وكان أبو بكر التيمي قد تزوّج بأسماء بنت عميس الخثعمية أرملة جعفر بن أبي طالب بعد شهادته في مؤته ، فكانت قد حملت منه بابنه محمد ، وحجّت مع زوجها أبي بكر وهي حامل مقرب. فلما انتهوا الى ذي الحليفة ولدته. فأرسلت الى رسول الله : كيف أصنع؟ فقال لها : اغتسلي واستثفري (٩) وأحرمي (١٠).

__________________

(١) بحار الأنوار ٢١ : ٣٩٠ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٣.

(٢) ابن هشام في السيرة ٤ : ٢٤٨.

(٣) المصدر الأسبق ٢١ : ٣٩٠ و ٣٩٥ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٣ و ٢٣٤ ، و ٢١ : ٣٨٩ عن السرائر عن ابن محبوب.

(٤) الاحتجاج ١ : ٦٨.

(٥) بحار الأنوار ٢١ : ٣٩٩ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٣.

(٦) المصدر السابق ٢١ : ٣٩٥ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٤.

(٧) بحار الأنوار ٢١ : ٣٩٩ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٣.

(٨) المصدر السابق ٢١ : ٣٩٦ عن السابق ١ : ٢٣٤.

(٩) أي تحتشي قطنا ثم تشد عليه بخرقة تمنع خروج الدم بذلك.

(١٠) صحيح مسلم ٤ : ٣٦ ، وروى مختصر الخبر الطوسي في أماليه ح ٨٩٥ ، ونقله المجلسي عن المنتقى في بحار الأنوار ٢١ : ٤٠٢.


فاستثفرت وتمنطقت بمنطقة وأحرمت (١) وأهّلت بالحج (٢).

وإنما انتهى النبيّ الى ذي الحليفة عند الظهر ، ولكنّه بات فيه (ليلة الجمعة) ليجتمع إليه أصحابه والهدي ، فلما اجتمع إليه نساؤه جميعا في الهوادج ، وانتهى إليه اجتماع أصحابه والهدي (٣) وزالت الشمس اغتسل ثم خرج حتى أتى المسجد الذي عند الشجرة فصلّى فيه الظهر (٤) ركعتين (٥) ثم عزم بالحج مفردا (٦) ، ثم خرج فدعا بالهدي فأشعره في الجانب الأيمن ، وقلّده نعلين قبل أن يحرم ، أشعر هو بنفسه بدنة وقلدها وهو متوجه الى القبلة ، ثم أمر ناجية بن جندب الذي كان قد استعمله على بدنه أن يشعرها وكان معه فتيان من أسلم. وسأله : يا رسول الله ، أرأيت ما عطب منها كيف أصنع به؟

قال : تنحره وتلقي قلائده في دمه وتضرب به صفحته اليمنى ، ولا تأكل أنت منها ولا أحد من رفقتك (٧) ، وخرج حتى انتهى الى البيداء عند الميل الأول فصفّ له

__________________

(١) بحار الأنوار ٢١ : ٣٧٩ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٧٧.

(٢) المصدر السابق ٢١ : ٣٧٩ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٨٩.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٨٩ و ١٠٩٠ ، وفي إعلام الورى : أنّه أقام تلك الليلة لمخاض أسماء بنت عميس الخثعمية.

(٤) بحار الأنوار ٢١ : ٣٩٠ عن فروع الكافي ١ : ٢٣٣ و ٤ : ٢٤٥ ، ولم يصلّ الجمعة للسفر.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٨٩ ، وفيه : وكان يصلي بين المدينة ومكة ركعتين آمنا لا يخاف : ١٠٩١.

(٦) بحار الأنوار ٢١ : ٣٩٠ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٣ ، كذا ، والمعروف في الحديث والفقه أنّه حجّ قرانا كما في الروضة البهية ١ : ١٧٤ ، ط. القاهرة.

(٧) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٩٠ و ١٠٩١ ، عن أمّ سلمة وابن عباس وناجية.


سماطان فلبّى بالحج مفردا (١) قال : لبيك اللهم لبيك ، لبّيك لا شريك لك لبّيك ، إنّ الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك (٢) وكان ثوباه يمانيّين من الكرسف (٣) وإنّما كان الناس تابعين ينظرون ما يؤمرون فيتّبعونه ، أو يصنع شيئا فيصنعونه (٤) فأحرم الناس كلهم بالحج لا ينوون عمرة ، ولا يدرون ما حج التمتّع (٥) هذا وقد خرج معه كثير منهم بغير سياق هدي (٦).

وأصبح رسول الله يوم الأحد في منزل ملل ، ثم راح حتى انتهى الى شرف السيّالة ، فصلّى بها المغرب والعشاء وتعشّوا ، ومشوا فتجاوز السيّالة الى عرق الظبية دون الرّوحاء فصلى الصبح بها ومشوا حتى نزل بالروحاء ، وحضر رجل من بني نهد قد صاد حمار وحش فعقره فأهداه إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : صيد البرّ لكم حلال إلّا ما صدتم أو صيد لكم.

ثم راح رسول الله من الرّوحاء فتجاوز بدرا الى المنصرف فصلّى المغرب والعشاء وتعشّى به ، ومشوا حتى انتهى الى الإثابة قبل الجحفة فصلّى بها الصبح.

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) المصدر السابق ٢١ : ٣٩٦ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٤.

(٣) المصدر السابق ٢١ : ٤٠١ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٥٩. وفي مغازي الواقدي ٢ : ١٠٩٠ : أنّه أحرم في ثوبين صحاريّين إزار ورداء.

(٤) بحار الانوار ٢١ : ٣٩٠ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٣.

(٥) المصدر السابق ٢١ : ٣٩٥ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٤.

(٦) الارشاد ١ : ١٧٣.


وبها أناخ غلام أبي بكر بعيره الذي عليه زاد أبي بكر فغلبته عيناه ، فقام البعير يجرّ خطامه به ، وقام الغلام فظنّ أن بعيره لزم الطريق فلزم الغلام الطريق وأخذ ينشده فلا يسمع له بذكر. ومشوا حتى أصبح النبي يوم الثلاثاء بالعرج فنزل صلى‌الله‌عليه‌وآله بأبيات بها وجلس بفناء منزله ، فجاء أبو بكر فجلس الى جنبه ، فجاءت عائشة فجلست الى جانبه الآخر ، جاءت أسماء فجلست الى جنب أبي بكر ... حتى قبيل الزوال إذ جاء غلام أبي بكر متسربلا ، فسأله أبو بكر : أين بعيرك؟ قال : ضلّ منّي! فقام إليه أبو بكر يضربه ويقول : بعير واحد يضلّ منك! ورسول الله يبتسم ويقول : ألا ترون الى هذا المحرم وما يصنع؟

وكان زاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مع بعير أبي بكر ، فانتشر الخبر بأنّ ناقة رسول الله قد ضلّت ، وبلغ الخبر الى بني أسلم فحملوا جفنة من حيس (تمر وسمن ودقيق) فاقبلوا بها حتى وضعوها بين يدي رسول الله ، فأكل رسول الله وأهله وأبو بكر وكل من كان مع رسول الله حتى شبعوا.

وكان صفوان بن المعطّل على ساقة الناس أي مؤخّرتهم ليرفع ما سقط ويهدي من ضلّ منهم ، فما لبثوا حتى طلع صفوان بن المعطّل بالبعير وأناخه على باب منزل رسول الله وقال لأبي بكر : انظر هل تفقد شيئا من متاعك؟ فنظر فقال : إلّا قعبا وكان القعب مع الغلام.

وجاء سعد بن عبادة ومعه ابنه قيس بناقة عليها زاد حتى وجدا رسول الله واقفا عند باب منزله وقد أتى الله بناقته التي عليها زاده. فقال سعد : يا رسول الله ، قد بلغنا أن زاملتك ضلّت ، فهذه زاملة مكانها. فقال رسول الله : قد جاء الله بزاملتنا فارجعا بزاملتكما ، بارك الله عليكما! أما يكفيك يا أبا ثابت ما تصنع بنا في ضيافتك منذ نزلنا المدينة؟ فقال سعد : يا رسول الله ، المنّة لله ولرسوله ، والله يا رسول الله للّذي تأخذ من أموالنا أحبّ إلينا من الذي تدع. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : صدقتم يا أبا ثابت أبشر فقد أفلحت!


ويوم الأربعاء نزل رسول الله السقيا ، ثم أصبح رسول الله بالأبواء ، فصلّى في مكان المسجد بوادي الأبواء على يسار المتوجه الى مكة. ثم راح النبي حتى انتهى الى قلعات اليمن (مرتفعاته) وكان هناك شجرة سمرة جلس النبي تحتها ، وصلّى في مكان المسجد الذي في مهبط الوادي من ثنية أراك الى الجحفة ، وفي يوم الجمعة نزل الجحفة وصلّى بها في مكان المسجد الذي دون موضع خم. ويوم السبت كان في قديد فصلّى في مكان مسجد المشلّل ، ثم صلّى في مكان المسجد الذي بأسفل لفت.

وفي لفت مرّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بامرأة في هودجها ومعها ولد صغير فأخذت بعضده وسألته : يا رسول الله ، ألهذا حج؟ قال : نعم ، ولك أجر.

وفي يوم الأحد كان في عسفان ، ثم راح حتى انتهى الى كراع الغميم. وكان معه مشاة فصفوا له صفوفا في الغميم وشكوا إليه من شدة المشي عليهم (١) ، وأنّه قد أجهدهم وشكوا إليه الاعياء ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : اللهم أعطهم أجرهم وقوّهم. ثمّ قال لهم : لو استعنتم بالنسلان (٢) لخفّت أجسامكم وقطعتم الطريق. ففعلوا فخفّت أجسامهم (٣).

وروى ابن اسحاق بسنده عن عائشة قالت : لما كنّا بسرف ، حضت ذلك اليوم فكنت أبكي ، فدخل عليّ النبيّ وأنا أبكي فقال : ما لك يا عائشة؟ لعلك نفست (حضت) قلت : نعم ، والله لوددت أني لم أخرج معكم عامي هذا في هذا السفر! فقال : لا تقولي ذلك ، وإنّك تقضين كل ما يقضي الحاجّ إلّا أنك لا تطوفين بالبيت (٤).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٩٢ ـ ١٠٩٧.

(٢) النسلان : سرعة الجريان بخطى متقاربة ، انظر مجمع البحرين ٥ : ٤٨٣.

(٣) المحاسن للبرقي (م ٢٧٤ ه‍) ٢ : ١٢٨ عن الصادق عليه‌السلام.

(٤) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٤٨.


وصول الرسول الى مكة وعمرته :

وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الاثنين في مرّ الظّهران فلم يبرح منها حتى غربت الشمس فرحل إلى الثنيتين : كدى وكداء ، فصلى المغرب والعشاء وتعشى وبات بينهما (١) وكان ذلك في آخر اليوم الرابع من ذي الحجة (٢) فلما أصبح اغتسل ودخل مكة نهارا (٣) وذلك من العقبة في أعلاها (كدى الى الابطح) فلما انتهى الى باب المسجد ـ باب بني شيبة ـ استقبل الكعبة فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على أبيه إبراهيم (٤) ، ثم دخل بناقته العضباء واستلم الركن (الحجر الأسود) بمحجنه (عصا قصيرة معوجة الرأس) وقبّل المحجن (٥) ثم طاف بالبيت سبعة أشواط ثم صلّى ركعتين خلف مقام إبراهيم عليه‌السلام (٦) قرأ في الاولى بعد الفاتحة سورة الكافرون ، وفي الثانية التوحيد (٧) ثم دخل زمزم (كذا) فشرب منه ثم استقبل الكعبة وقال : اللهم إني

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٩٧.

(٢) بحار الأنوار ٢١ : ٣٩٠ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٣ ، وكذلك فيه ٢١ : ٣٩٥ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٤ ، وفيه ٢١ : ٣٨٩ ، عن السرائر عن ابن محبوب.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٩٧.

(٤) بحار الأنوار ٢١ : ٣٩٦ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٤ ، ومغازي الواقدي ٢ : ١٠٩٧ ، وقال اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة وبرّا.

(٥) المصدر السابق ٢١ : ٤٠٢ عن فروع الكافي ١ : ٢٨٣ ، ومغازي الواقدي ٢ : ١٠٩٨ وقال باسم الله والله أكبر.

(٦) المصدر السابق ٢١ : ٣٩٠ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٢٣ و ٢١ : ٣٩٥ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٤ و ٢١ : ٣٦٧ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٤.

(٧) المصدر السابق ٢١ : ٤٠٤ ، ما في صحيح مسلم ٤ : ٣٦ عن الصادق عن الباقر عليهما‌السلام وفي مغازي الواقدي ٢ : ١٠٩٨ ثم عاد الى الركن فاستلمه.


اسألك علما نافعا ورزقا واسعا ، وشفاء من كل داء وسقم. ثم رجع الى الحجر الأسود ليستلمه وقال لاصحابه : ليكن آخر عهدكم بالكعبة استلام الحجر ، ثم استلمه فخرج الى الصفا وقال لأصحابه : ابدؤوا بما بدأ به الله تعالى إذ قال : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) حتى صعد على الصفا فقام عليه (١) واستقبل القبلة فوحّد الله وكبّره قال : لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلّا الله وحده ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده. قال مثل هذا ثلاث مرّات ، ودعا بين ذلك ، ثم نزل الى بطن الوادي ومشى حتى صعد الى المروة ، ففعل على المروة كما فعل على الصفا (٢).

وفي «الكافي» عن الصادق عليه‌السلام قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يلبّي كلما علا أكمة أو هبط واديا أو لقي راكبا ، وفي آخر الليل ، وفي أدبار الصلوات (٣).

وكان الذي يرحّل لرسول الله معمّر بن عبد الله العدوي ، فقال له رسول الله ذات ليلة : يا معمّر ، إن الرحل لمسترخ الليلة ، فقال معمّر : بأبي أنت وأمّي لقد شددته كما كنت أشدّه ، ولكن بعض من يحسدني على مكاني منك أراد أن تستبدل بي! فقال : ما كنت لأفعل ذلك (٤).

حجّ علي عليه‌السلام من اليمن :

وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله قد كاتب عليّا عليه‌السلام بالتوجّه الى الحجّ من اليمن ، ولم يذكر له نوع الحجّ الذي قد عزم عليه ، فخرج أمير المؤمنين بمن معه من العسكر الذي صحبه الى

__________________

(١) المصدر السابق ٢١ : ٣٩٦ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٤ و ٢٨٤ ، ومغازي الواقدي ٢ : ١٠٩٨.

(٢) المصدر السابق ٢١ : ٤٠٤ ، ما في صحيح مسلم ٤ : ٣٦ ، ومغازي الواقدي ٢ : ١٠٩٩.

(٣) بحار الأنوار ٢١ : ٣٩٦ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٤.

(٤) المصدر السابق ٢١ : ٤٠٠ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٥.


اليمن ، وساق معه أربعا وثلاثين بدنة هديا ، ومعه الحلل (١) ولما بلغ يلملم عقد نيّته بنيّة النبي وقال : اللهم إهلالا كإهلال نبيّك.

فلما قارب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مكة من طريق المدينة قاربها أمير المؤمنين عليه‌السلام من طريق اليمن ، (فلما كان بالفتق قرب الطائف خلّف على أصحابه أبا رافع القبطي (٢)) وتقدمهم للقاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأدركه وقد أشرف على مكة ، فسلّم وأخبره بما صنع وأنه سارع للقائه قبل الجيش.

فسرّ رسول الله بذلك وابتهج بلقائه وكان محرما فسأله : بم أهللت يا علي؟ فقال عليه‌السلام : يا رسول الله ، إنك لم تكتب إليّ بإهلالك ولا عرفتنيه ، فعقدت نيّتي بنيّتك وقلت : اللهم إهلالا كإهلال نبيّك. وسقت معي من البدن أربعا وثلاثين بدنة.

فقال رسول الله : الله أكبر ، فقد سقت أنا ستا وستين ، وأنت شريكي في حجي ومناسكي وهديي ، فأقم على إحرامك ، وعد الى جيشك ، فعجّل بهم إليّ حتى نجتمع بمكة إن شاء الله.

فودّعه أمير المؤمنين عليه‌السلام وعاد الى جيشه. فوجدهم (عند السدرة داخلين مكة (٣)) قد لبسوا الحلل التي كانت معهم ، فقال للذي استخلفه عليهم (أبي رافع) : ويلك ما دعاك الى أن تعطيهم الحلل قبل أن ندفعها الى النبي ولم أكن أذنت لك في ذلك؟ فقال الرجل : سألوني أن يتجمّلوا بها ويحرموا فيها ثمّ يردّونها علي.

فانتزعها أمير المؤمنين عليه‌السلام من القوم وشدّها في الأعدال (٤).

__________________

(١) قال الواقدي : إنها كانت خمس الغنائم ، وقال المفيد : كانت جزية نصارى نجران.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١٠٨٠.

(٣) المصدر السابق ٢ : ١٠٨١.

(٤) الأعدال : جمع عدل ، أحد جانبي حمل الحيوان. الارشاد ١ : ١٧٢ ، ١٧٣ ، ورواه ابن إسحاق في السيرة ٤ : ٢٥٠ إلّا أنّه قال : فلما دنا جيشه خرج ليلقاهم.


خطبته في آخر عمرته :

روى الكليني بسنده عن الصادق عليه‌السلام : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لما فرغ من سعيه وهو على المروة أقبل على الناس بوجهه.

فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن هذا جبرئيل ـ وأومأ بيده الى خلفه ـ يأمرني أن آمر من لم يسق هديا أن يحلّ ، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لصنعت مثل ما أمرتكم ، ولكنّي سقت الهدي ، ولا ينبغي لسائق الهدي أن يحل (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ).

فقال رجل من القوم : أنخرجنّ حجاجا ورءوسنا وشعورنا تقطر؟! (يعني من غسل الجنابة). فقال له رسول الله : أما إنك لن تؤمن بهذا أبدا! فقال سراقة بن مالك الكناني : يا رسول الله ، علّمنا ديننا كأنّنا خلقنا اليوم : فهذا الذي أمرتنا به ألعامنا هذا؟ أم لما يستقبل؟ فقال له رسول الله : بل هو للأبد الى يوم القيامة ، وشبّك أصابعه وقال : دخلت العمرة في الحج الى يوم القيامة (١).

ثم أمر مناديه فنادى : لمن لم يسق منكم هديا فليحلّ وليجعلها عمرة ، ومن ساق منكم هديا فليقم على إحرامه. فأطاع بعض الناس في ذلك وخالف بعض ، فأنكر رسول الله على من خالف في ذلك وقال : لو لا اني سقت الهدي لأحللت وجعلتها عمرة ، فمن لم يسق هديا فليحلّ. فرجع قوم وأقام آخرون على الخلاف ، وقال بعضهم : إنّ رسول الله أشعث أغبر ونلبس الثياب ونقرب النساء وندهن؟!

__________________

(١) بحار الأنوار ٢١ : ٣٩١ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٣ ، ٢٣٤. وفيه ٢١ : ٣٩٥ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٤ ، وفيه ٢١ : ٤٠٤ ، ما في صحيح مسلم ٤ : ٣٦ عن الصادق عن الباقر عن جابر ، ولفظه : فمن كان منكم ليس معه هدي فليحلّ وليجعلها عمرة. ونقلها المجلسي عن المنتقى للكازروني.


وقال آخرون : أما تستحيون أن تخرجوا ورءوسكم تقطر من الغسل ورسول الله على إحرامه؟!

وكان فيمن أقام على الخلاف للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عمر بن الخطاب ، فاستدعاه رسول الله وقال له : مالي أراك يا عمر محرما أسقت هديا؟! قال : لم أسق! قال : فلم لا تحل وقد أمرت من لم يسق الهدي بالاحلال؟ فقال : يا رسول الله ، والله لا أحللت وأنت محرم! فقال له النبي : إنك لن تؤمن بها حتى تموت (١).

وروى ابن اسحاق بسنده عن عائشة قالت : أمر الناس أن يحلوا بعمرة الّا من ساق الهدي ... فحلّ كل من لا هدي معه وحل نساؤه ، وروى بسنده عن حفصة بنت عمر قالت : وأمر رسول الله نساءه أن يحللن بعمرة ، فقلن له : يا رسول الله فما يمنعك أن تحلّ معنا؟! فقال : إني أهديت ولبّدت (٢) فلا احل حتى أنحر هديي (٣).

ثمّ لم ينزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكة ، فقالت له أم هانئ بنت أبي طالب : يا رسول الله ، ألا تنزل في بيوت مكة؟ فأبى (٤) وخرج منها الى الأبطح بين مكة ومنى فنزل بها هو وأصحابه ، حتى يوم التروية (٥) أي بقية يوم الثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة (٦).

__________________

(١) الارشاد ١ : ١٧٣ ، ١٧٤.

(٢) كان الحجّاج إذا كان يطول مكثهم في إحرامهم يلبّدون شعور رءوسهم بشيء من الصمغ أو الخطمي (طين طيب الرائحة) عن الغبار والشعث والقمل.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٤٨ و ٢٤٩ ، ورواه الواقدي في المغازي ٢ : ١٠٩٢. وفيه قال : لما قدم مكة صلّى بهم رسول الله ركعتين ثم قال : يا أهل مكة أتمّوا صلاتكم فإن سفراي مسافرون.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ١١٠٠.

(٥) المصدر الأسبق ٢١ : ٣٩٢ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٣.

(٦) مغازي الواقدي ٢ : ١١٠٠.


وقدم علي عليه‌السلام من اليمن فطاف وصلّى وسعى (ولم يقصر) والتقى بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ورآه كذلك لم يقصّر ، ثم دخل على فاطمة وهي لم تسق هديا فأحلّت كما أمر رسول الله ، فوجد عليها ثيابا مصبوغة ووجد ريحا طيّبا ، فقال لها : ما هذا يا فاطمة؟ فقالت : بهذا أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فخرج علي عليه‌السلام الى رسول الله مستفتيا فقال : يا رسول الله ، إني وجدت فاطمة قد أحلت وعليها ثياب مصبوغة؟! فقال له رسول الله : أنا أمرت الناس بذلك ، وأنت قرّ على إحرامك مثلي وأنت شريكي في هديي (١).

ورواه ابن اسحاق وزاد : أن جيش علي عليه‌السلام أظهر الشكوى منه لما صنع بهم فروى بسنده عن أبي سعيد الخدري قال : فقام رسول الله فينا خطيبا فسمعته يقول : أيها الناس ، لا تشكوا عليّا ، فو الله انه لأحسن في سبيل الله من أن يشكى (٢).

ورواه الواقدي عن أبي سعيد الخدري وكان معه في تلك الغزوة قال : إنهم لما قدموا على رسول الله شكوه إليه ، فدعا عليّا فقال له : ما لأصحابك يشكونك؟ فقال : قسمت عليهم ما غنموا وحبست الخمس حتى يقدم عليك وترى رأيك فيه ، وقد كان الامراء ينفّلون من الخمس من أرادوا ، فرأيت أن أحمله إليك لترى رأيك فيه. قال : فسكت النبي (٣).

__________________

(١) المصدر الأسبق ٢١ : ٣٩١ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٣ ، وفيه ٢١ : ٣٩٦ ، عن السابق ١ : ٢٣٤ ، وفيه ٢١ : ٣٨٣ ، عن أمالي الطوسي مختصرا ، وفيه ٢١ : ٤٠٤ عن المنتقى ، وهو في صحيح مسلم ٤ : ٣٦ ، عن الصادق عن الباقر عن جابر. وابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٤٩ ، عن عبد الله بن نجيح وفي مغازي الواقدي ٣ : ١٠٨٧.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٥٠.

(٣) مغازي الواقدي ٣ : ١٠٨١ هكذا بتر الخبر.


وزاد المفيد : ثم أمر مناديه فنادى في الناس : ارفعوا ألسنتكم عن علي بن أبي طالب فإنه خشن في ذات الله عزوجل ، غير مداهن في دينه (١).

ويبدو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد كسا الكعبة بتلك الحبرات من برود وكانت الكعبة على عهده ثمانية عشر ذراعا (٢) أي نحوا من ستّة أمتار ، فأصبح ذلك سنّة من بعده.

ومكث النبي في بطحاء مكة يوم الثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة وهو يوم التروية (٣).

وخرج لمناسك الحج :

روى الكليني بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : لما كان زوال الشمس من يوم التروية أمر رسول الله الناس أن يغتسلوا ويهلّوا بالحجّ. ثم خرج النبيّ وأصحابه مهلّين بالحج ملبّين حتى أتى منى فصلّى الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والفجر (٤) ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس ، ثم أمر أن تضرب له قبّة من شعر بنمرة من موقف عرفات ، ثم سار رسول الله (٥) ولم يأخذ بين المأزمين بل أخذ طريق ضبّ الى عرفات (٦).

__________________

(١) الارشاد ١ : ١٧٣.

(٢) مغازي الواقدي ٣ : ١١٠.

(٣) المصدر السابق.

(٤) بحار الأنوار ٢١ : ٣٩٢ عن فروع الكافي ١ : ٢٣٣. ومغازي الواقدي ٢ : ١١٠١ وقال : ونزل بموضع دار الامارة اليوم.

(٥) المصدر السابق ٢١ : ٤٠٥ عن المنتقى وهو في صحيح مسلم ٤ : ٣٦ ، عن الصادق عن الباقر عن جابر. وفي مغازي الواقدي ٢ : ١١٠١.

(٦) المصدر السابق ٢١ : ٣٩٥ عن فروع الكافي ١ : ٢٣٤.


وكانت قريش تفيض من طريق المزدلفة ويمنعون الناس أن يفيضوا منها ، فكانوا يرجون أن تكون إفاضته من حيث كانوا يفيضون ... وقال الله تعالى : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ)(١).

وفي خبر جابر الأنصاري : أن قريشا كانت تقف عند المشعر الحرام ولا تجوزه ، فلم تكن تشك في ذلك منه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأجاز رسول الله حتى أتى عرفة (٢) فلما رأت قريش أن قبّة رسول الله مضت كأنّه دخل في أنفسهم شيء من ذلك.

وانتهى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الى نمرة بحيال شجر الأراك من بطن عرنة من عرفة (٣) فوجد قبته قد ضربت هناك فنزل بها حتى زاغت الشمس.

فلمّا زاغت الشمس أمر بناقته القصواء فرحلت له (٤) فخرج وقد اغتسل (٥) فقال : أيها الناس ، إن الله باهى بكم في هذا اليوم ليغفر لكم عامة! ثمّ التفت الى علي عليه‌السلام فقال : ويغفر لعلي خاصة ، ثم قال : ادن مني يا علي. ودنا منه فأخذ بيده وقال : إن السعيد كل السعيد حق السعيد من أطاعك وتولّاك من بعدي ، وإنّ الشقي كل الشقي حقّ الشقي من عصاك ونصب لك عداوة بعدي (٦) ثم ركب وسار حتى وقف حيث المسجد اليوم (٧) في بطن الوادي ، فخطب الناس (٨) فقال :

__________________

(١) البقرة : ١٩٩. ولفظ الخبر : فأنزل الله ، وعليه فالنزول في العاشرة وفي المصحف في أوائل ما بعد الهجرة. والخبر من المصدر الأسبق.

(٢) من المصدر الأسبق ، ومغازي الواقدي ٢ : ١١٠٢.

(٣) المصدر الأول في هذا العنوان.

(٤) المصدر الثاني من هذا العنوان ، ومغازي الواقدي ٢ : ١١٠١.

(٥) المصدر الأول في هذا العنوان.

(٦) أمالي المفيد : ١٦١.

(٧) بحار الأنوار ٢١ : ٣٩٢ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٣.

(٨) المصدر السابق ٢١ : ٤٠٥. ما في صحيح مسلم ٤ : ٣٦ عن الصادق عن الباقر


«الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيّئات أعمالنا من يهد الله فلا مضلّ له ، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله.

اوصيكم عباد الله بتقوى الله ، وأحثّكم على العمل بطاعته ، واستفتح الله بالذي هو خير.

أيها الناس! اسمعوا منّي ما ابيّن لكم فإني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا.

أيّها الناس! إنّ دماءكم وأعراضكم عليكم حرام الى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلّغت؟ اللهم اشهد. فمن كانت عنده أمانة فليؤدّها الى من ائتمنه عليها.

وإنّ ربا الجاهلية موضوع ، وإنّ أوّل ربا أبدأ به ربا العباس بن عبد المطلّب.

وإنّ دماء الجاهلية موضوعة ، وإنّ أول دم أبدأ به (١) دم ابن ربيعة بن الحارث (بن عبد المطلب) كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل (٢).

وإنّ مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية (٣).

والعمد قود (٤) وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر ، وفيه مائة بعير ، فمن ازداد فهو من الجاهلية.

__________________

ـ عن جابر ، وعليه فالخطبة الاولى كانت في عرفات.

(١) تحف العقول : ٢٩.

(٢) المصدر الأسبق.

(٣) المآثر : المفاخر ، والسدانة : خدمة البيت ، والسقاية : سقاية زمزم للحجّاج.

(٤) القود : القصاص.


أيها الناس! إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه ، ولكنه قد رضى بأن يطاع فيما سوى ذلك فيما تحتقرون من أعمالكم.

أيها الناس : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ ...)(١) وإن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق السماوات والأرض و (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ...)(٢) : ثلاثة متوالية وواحد فرد : ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ، ورجب بين جمادى وشعبان. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.

أيها الناس : إنّ لنسائكم عليكم حقّا ولكم عليهن حقا ، حقكم عليهن : أن لا يوطئن أحدا فرشكم ، ولا يدخلن أحدا تكرهونه بيوتكم إلّا بإذنكم ، وأن لا يأتين بفاحشة ، فإن فعلن فإنّ الله قد أذن لكم أن تعضلوهنّ وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح ، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهنّ بكتاب الله ، فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهنّ خيرا.

أيها الناس : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)(٣) ولا يحل لمؤمن مال أخيه إلّا عن طيب نفس منه ـ ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد ـ فلا ترجعنّ كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض ، فإنّي قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي (٤). ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.

__________________

(١) التوبة : ٣٧.

(٢) التوبة : ٣٦.

(٣) الحجرات : ١٠.

(٤) الباب ٣٦ والأخير من الجزء ٢١ من بحار الأنوار في حجة الوداع وما جرى فيها من ٣٧٨ إلى ٤١٣ روى فيه المجلسي الخطبة في خبرين الأول عن الخصال للصدوق


أيها الناس! إنّ ربّكم واحد ، وإنّ أباكم واحد ، كلّكم لآدم وآدم من تراب ، (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ)(١) وليس لعربي على عجمي فضل إلّا بالتقوى ، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.

أيها الناس! إنّ الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث ، ولا يجوز لوارث (كذا) وصية في أكثر من الثلث.

والولد للفراش وللعاهر الحجر ، ومن ادّعى الى غير أبيه وتولّى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، ولا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا. والسلام عليكم ورحمة الله» (٢).

فلما كان آخر الخطبة وسكت رسول الله من كلامه وفرغ من ذلك أذّن بلال ، فلما فرغ بلال من أذانه أناخ راحلته ، وأقام بلال (٣) فصلّى الظهر ، ثم أقام فصلّى العصر ولم يصلّ بينهما شيئا.

ثم ركب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء الى الصخرات ، وجعل جبل المشاة (كذا) بين يديه واستقبل القبلة ، فلم يزل

__________________

عن عبد الله بن عمر : ٣٨٠ ، والثاني عن المنتقى : ٤٠٢ ، وهو خبر صحيح مسلم ٤ : ٣٦ ، عن الصادق عن الباقر عن جابر الأنصاري ، وليس فيها سوى كتاب الله فحسب وكذلك في مغازي الواقدي ٢ : ١١٠٣. ورواها ابن اسحاق مرسلا في السيرة ٤ : ٢٥٠ وفيها : كتاب الله وسنّة نبيّه! وانظر رسالة حديث الثقلين للشيخ قوام الدين الوشنوي القمي المنشور من قبل دار التقريب بين المذاهب الإسلامية بالقاهرة. ط. ١٣٧٤ ه‍ ، وط. ١٤١٦ ه‍ ، نشر مجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية بطهران.

(١) الحجرات : ١٣.

(٢) تحف العقول : ٢٩ ، ٣٠ ، ونحوه في تاريخ اليعقوبي ٢ : ١١١ ، بما فيه من حديث الثقلين.

(٣) مغازي الواقدي ٣ : ١١٠٢.


واقفا (١) جعل الناس يبتدرون أخفاف ناقته يقفون الى جانبها ، فنحاها ، ففعلوا مثل ذلك فقال : ليس موضع أخفاف ناقتي بالموقف ولكن هذا كله ، وأومأ بيده الى الموقف فتفرّق الناس (٢).

وقال : إنّ أفضل دعائي ودعاء من كان قبلي من الأنبياء : «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت بيده الخير ، وهو على كل شيء قدير» ووقف رسول الله على راحلته وهو مادّ يديه يدعو ويمسح براحتيه على وجهه ، حتى غربت الشمس.

وكان أهل الجاهلية يفيضون من عرفة وقد بقي من الشمس على رءوس الجبال كهيئة العمائم على رءوس الرجال ، فظن قريش أن رسول الله يفعل كذلك ، ولكنّه أخّر ذلك حتى غربت الشمس (٣).

ثم لم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا ، فأردف اسامة خلفه ودفع رسول الله وقد شنق زمام القصواء حتى أنّ رأسها ليصيب مورك رحله ، ويقول للناس وهو يشير بيده : أيها الناس! السكينة السكينة (٤) أو : أيها الناس ، على رسلكم وعليكم بالسكينة وليكف قويّكم عن ضعيفكم. وكانت قريش توقد نارا على جبل قزح ، فكانوا قد أوقدوها ، فسار النبي من يسار الطريق بين المأزمين وهو شعب الإذخر يؤم تلك النار حتى نزل قريبا منها (٥) وفي المأزمين

__________________

(١) بحار الأنوار ٢١ : ٤٠٥ عن المنتقى ، ما في صحيح مسلم ٤ : ٣٦ عن الصادق عن الباقر عن جابر.

(٢) المصدر السابق ٢١ : ٣٩٢ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٣.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ١١٠٤.

(٤) المصدر الأسبق.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ١١٠٥.


نزل فبال هناك ، لأنّه أول موضع عبد فيه الصنم في العرب بالحجاز ، ومنه اخذ الحجر الذي نحت منه هبل (١).

وفي المشعر الحرام :

فروى الكليني بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : ثم أفاض وأمر الناس بالدعة ، حتى انتهى الى المزدلفة وهو المشعر الحرام ، فصلى المغرب والعشاء الآخرة بأذان واحد وإقامتين ... وعجّل ضعفاء بني هاشم بليل وأمرهم أن لا يرموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس (٢).

وعجل النساء من المزدلفة الى منى ليلا ، وأمر من كان منهنّ عليها هدي أن ترمي ولا تبرح حتى تذبح ، ومن لم يكن منهن عليها هدي أن ترمي فتمضي الى مكة. وأرسل معهنّ اسامة بن زيد (٣).

وروى الواقدي : لما كان السحر أذن من استأذنه من أهل الضعف من النساء والذرية ، وروى عن عائشة : أنّ سودة بنت زمعة زوج النبي كانت امرأة ثقيلة بطيئة ، فاستأذنته في التقدّم من المزدلفة قبل زحمة الناس ، فأذن لها. وتقدّمت معها أم عمران ، وبعث معهنّ رسول الله ابن عباس فرموا مع الفجر أو قبله ، وجعل النبي يحمل حصى العقبة من المزدلفة (٤).

ثم اضطجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى طلع الفجر ، فحين تبيّن له الصبح صلّاها

__________________

(١) بحار الأنوار ٢١ : ٣٩٨ ، عن علل الشرائع : ١٥٤.

(٢) المصدر السابق ٢١ : ٣٩٣ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٣.

(٣) المصدر السابق ٢١ : ٣٩٤ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٩٥ و ٢٩٦.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ١١٠٦ ، ١١٠٧.


بأذان وإقامة ، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام (أي جبل قزح (١)) فاستقبل القبلة فكبّر وهلل ووحّد ودعا ، ولم يزل واقفا حتى أسفر جدّا فأفاض والشمس لم تطلع (٢).

وأردف خلفه الفضل بن العباس ، وكان أبيض وسيما حسن الشعر فاستقبل رسول الله أعرابي معه اخته من أجمل النساء ، وواقف الأعرابيّ النبيّ يسأله ، وجعل الفضل ينظر إلى أخت الأعرابي ، فمدّ رسول الله يده على وجه الفضل يستره من النظر ، فنظر الفضل من الجانب الآخر حتى فرغ الأعرابي من حاجته. فالتفت رسول الله إلى الفضل وأخذ بمنكبه ثم قال له : أما علمت أنها الأيام المعدودات والمعلومات ، لا يكفّ رجل فيهنّ بصره ولا يكفّ لسانه ويده إلّا كتب الله مثل حج قابل (٣).

وانتهى الى منى :

وانتهى النبي الى بطن وادي محسّر فحرّك قليلا ، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى ، فرماها من بطن الوادي بسبع حصيات ، يكبّر مع كلّ حصاة منها (٤) على ناقة صهباء ، من دون أن يفعل بين يديه ما يفعل

__________________

(١) المصدر السابق ، عن أبي جعفر.

(٢) كما في بحار الأنوار ٢١ : ٤٠٦ عن المنتقى ما في صحيح مسلم ٤ : ٣٦ عن الباقر عن جابر ، ولعل المقصود بداية الافاضة وليس تجاوزه حدود المشعر إلى منى.

(٣) بحار الأنوار ٩٩ : ٣٥١ عن فقه الرضا ونحوه في ٢١ : ٤٠٦ عن المنتقى ما في صحيح مسلم عن الباقر عن جابر.

(٤) بحار الأنوار ٢١ : ٤٠٦ ، عن المنتقى ما في صحيح مسلم ٤ : ٣٦ ، عن الصادق عن الباقر عن جابر.


بين يدي الامراء من ضرب الناس وطردهم ولا تنح وأبعد ولا إليك إليك ، وكان يلبّي حتى رمى الجمرة (١).

ثم انصرف الى المنحر ، فكان ناجية بن جندب يقدم إليه بدنه واحدة واحدة قد شدّ ذراعها وتمشي على ثلاث قوائم ، فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده ، ثم أعطى عليّا عليه‌السلام فنحر ما بقي (أربعة وثلاثين بدنة) ثم أمر أن يؤخذ من كل بدنة بضعة ، فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها (٢) ولم يعطيا الجزّارين جلودها ولا جلالها ولا قلائدها وإنّما تصدّقا بها (٣).

والذي حلق رأس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حجته معمّر بن عبد الله العدوي ، ولما كان يحلقه قالت له قريش : أي معمّر! اذن رسول الله في يدك وفي يدك الموسى! فقال معمّر : والله إني لأعدّه من الله فضلا عليّ عظيما (٤).

فلما حلق رسول الله رأسه أخذ من شاربه وعارضيه ، وقلّم أظفاره ، ثم أمر بها وبشعره أن يدفنا. وقيل : إنّه فرّق شعره في الناس. وقيل : إنّ خالد بن الوليد حين حلق النبي رأسه قال له : يا رسول الله ناصيتك لا تؤثر بها عليّ أحدا فداك أبي وأمي! فدفعها إليه فأخذ ناصيته ووضعها على عينه! فكان يجعلها في مقدم قلنسوته.

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١١٠٧ ، ١١٠٨.

(٢) المصدر الأسبق الأول في العنوان ، ومغازي الواقدي ٢ : ١١٠٨ عن ابن عباس.

(٣) بحار الأنوار ٢١ : ٣٩٣ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٤. ومغازي الواقدي ٢ : ١١٠٨ ، عن علي عليه‌السلام.

(٤) المصدر السابق ٢١ : ٤٠٠ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٥. أو كان عبد الله بن زيد كما في تاريخ المدينة المنورة لابن شبة : أنّه حلق رأسه في ثوبه (إحرامه) فأعطاه إياه ، فقال ابنه محمد : وإن شعره عندنا مخضوب بالحنّاء والكتم. تاريخ المدينة المنوّرة ٢ : ٦١٧.


وحلق قوم مع رسول الله وأبى آخرون فقصّروا ، فقال رسول الله : اللهم ارحم المحلقين فقيل : والمقصّرين ، تكرّر ذلك ثلاث مرات حتى قال في الرابعة : والمقصرين.

ثم لبس رسول الله قميصه وتطيّب ، وبعث عبد الله بن حذافة السهمي ينادي في الناس : أيها الناس ، إنّ رسول الله قال : إنّها أيام أكل وشرب وذكر الله. فانتهى المسلمون عن صيامهم (١).

وأتاه طوائف من المسلمين فقالوا : يا رسول الله ذبحنا قبل أن نرمي ، وحلقنا قبل أن نذبح ، ولم يبق شيء مما ينبغي أن يقدّموه إلّا أخّروه ولا شيء مما ينبغي أن يؤخّروه إلّا قدّموه ، فكان رسول الله يقول لهم : لا حرج ، لا حرج! (٢).

ثم ركب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأفاض الى البيت فصلّى الظهر بمكة ، ثم أتى على زمزم فرأى بني عبد المطلب يسقون الناس فقال لهم : انزعوا لي يا بني عبد المطلب ، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت ، فناولوه دلوا فشرب منه (٣) ورجع الى منى وأقام بها حتى كان اليوم الثالث آخر أيام التشريق فأخذ يرمي الجمار (٤) حين الزوال قبل صلاتها ، يقف عند الأول أكثر من الثانية ولا يقف عند الثالثة ،

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١١٠٨ ، ١١٠٩.

(٢) بحار الأنوار ٢١ : ٣٨٠ عن فروع الكافي ١ : ٣٠٣ عن الجواد عليه‌السلام. ورواه الواقدي في المغازي ٢ : ١١٠٩ عن جابر الأنصاري قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله حلقت قبل أن أنحر؟ فقال : انحر ولا حرج! قال : يا رسول الله نحرت قبل أن أرمي؟ فقال : ارم ولا حرج. قالوا : فما سئل يومئذ عن شيء قدّم أو أخّر إلّا قال : افعلوه ولا حرج.

(٣) بحار الأنوار ٢١ : ٤٠٦ عن المنتقى ما في صحيح مسلم ٤ : ٣٦ وفي مغازي الواقدي ٢ : ١١١٠.

(٤) المصدر السابق ٢١ : ٣٩٣ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٤.


ويرميهما من أعلاهما. وأمر أصحابه يوم العيد أن يفيضوا بالنهار معه ، وأفاض نساءه مساء يوم النحر ليلا ، وكن يرمين بالليل أيضا وكذلك رخّص للرعاة أن يرموا بالليل ويخرجوا فيبيتوا بغير منى (١).

خطبته بمنى :

روى الواقدي بطريقين عن عمرو بن اليثربي وعن عبد الله بن العباس : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله خطب بمنى بعد الزوال من اليوم الحادي عشر ، بعد العيد ، على ناقته القصواء (٢).

وقال القمي في تفسيره : كان من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمنى : أن حمد الله وأثنى عليه ثم قال :

«أيها الناس : اسمعوا قولي واعقلوه عنّي ، فاني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا ـ ثم قال ـ : هل تعلمون أي يوم أعظم حرمة؟! فقال الناس : هذا اليوم. قال : فأي شهر؟! قال الناس : هذا. قال : وأي بلد أعظم حرمة؟! قالوا : بلدنا هذا. فقال : فإنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا الى يوم تلقون ربّكم فيسألكم عن أعمالكم. ألا هل بلّغت أيها الناس؟! قالوا : نعم. قال اللهم اشهد.

ثم قال : ألا وكل مأثرة أو بدعة كانت في الجاهلية ، أو دم أو مال فهو تحت قدمي هاتين ، ليس أحد أكرم من أحد إلّا بالتقوى. ألا هل بلغت؟ قالوا : نعم. قال : اللهم اشهد.

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ١١١٠.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١١١٠ ، ١١١١.


ثم قال : ألا وكلّ ربا كان في الجاهلية فهو موضوع ، وأوّل ربا موضوع هو ربا العباس بن عبد المطّلب. ألا وإنّ كل دم في الجاهلية فهو موضوع ، وأوّل دم موضوع هو دم ربيعة. ألا هل بلّغت؟ قالوا : نعم. قال : اللهم اشهد.

ثم قال : ألا وإنّ الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه ولكنّه راض بما تحتقرون من أعمالكم ، ألا وإنه إذا أطمع فقد عبد.

ألا أيها الناس ، إنّ المسلم أخو المسلم حقا ، لا يحلّ لامرئ مسلم دم امرئ مسلم وماله إلّا ما أعطاه بطيبة نفس منه.

وانّي أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلّا الله ، فإذا قالوها فقد عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها ، وحسابهم على الله ، ألا هل بلّغت أيها الناس؟ قالوا : نعم ، قال : اللهم اشهد.

ثم قال : أيها الناس ، احفظوا قولي تنتفعوا به بعدي ، وافهموه تنعشوا : ألا لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف على الدنيا.

ثم قال : ألا وإنّي قد تركت فيكم أمرين إن أخذتم بهما لن تضلّوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فإنّه قد نبأني اللطيف الخبير : أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، ألا فمن اعتصم بهما فقد نجا ، ومن خالفهما فقد هلك! ألا هل بلغت؟ قالوا : نعم ، قال : اللهم اشهد.

ثم قال : الا وإنّه سيرد عليّ الحوض منكم رجال فيدفعون عنّي فأقول : ربّ أصحابي فيقال : يا محمد ، إنّهم أحدثوا بعدك وغيّروا سنّتك! فأقول : سحقا سحقا!» (١).

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١٧١ ، ١٧٢ ، وبهامشه عن صحيح البخاري ٢ : ١٤٥ ـ ١٤٩ و ٣ : ٧٩ و ٤ : ٨٧ باب الحوض : إنّ أناسا من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول : أصحابي أصحابي! فيقال : إنّهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم.


ورواها الصدوق في «الخصال» بسنده عن عبد الله بن عمر : أنّه ركب راحلته العضباء (كذا) فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

أيها الناس ، كل دم في الجاهلية فهو هدر ، وأول دم هدر هو دم الحارث بن ربيعة بن الحارث كان مسترضعا في بني ليث (من بني سعد) فقتلته هذيل. وكل ربا في الجاهلية فهو موضوع ، وأول ربا ربا العباس بن عبد المطّلب.

أيها الناس ، إنّ الزمان استدار ، فهو اليوم كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض و (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ...)(١) : رجب مضر (٢) ـ الذي بين جمادى وشعبان ـ وذو القعدة ، وذو الحجة والمحرم ، (... فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ...)(٣) و (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ ...)(٤) كانوا يحرّمون المحرّم عاما ويستحلون صفرا ، ويحرّمون صفرا ويستحلون المحرّم عاما آخر.

أيها الناس ، إنّ الشيطان قد يئس أن يعبد في بلادكم آخر الأبد ، ورضي منكم بمحقّرات الأعمال.

أيها الناس ، من كانت عنده وديعة فليؤدها الى من ائتمنه عليها.

__________________

وفي لفظ صحيح مسلم ٢ : ٢٤٩ ـ ٢٥٢ أقول : إنّهم منّي ، فيقال : إنّك لا تدري ما عملوا بعدك ، فأقول : سحقا سحقا لمن بدّل بعدي. وقال النووي في ذيل هذه الأحاديث : قال القاضي عياض : أحاديث الحوض صحيحة والايمان بها فرض والتصديق بها من الايمان ، فهي متواترة النقل رواه خلائق من الصحابة.

(١) التوبة : ٣٦.

(٢) وإنّما أضافه إلى مضر لأنّ ربيعة كانت تحرم رمضان وتسمّيه رجبا!

(٣) التوبة : ٣٦.

(٤) التوبة : ٣٧.


أيها الناس ، إنّ النساء عندكم عوان (١) لا يملكن لأنفسهنّ نفعا ولا ضرّا ، أخذتموهنّ بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمات الله ، فلكم عليهنّ حقّ ولهن عليكم حق ، ومن حقّكم عليهنّ أن لا يوطئن فرشكم ولا يعصينكم في معروف ، فإذا فعلن ذلك فلهنّ رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، ولا تضربوهن.

أيها الناس ، إنّي قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا : كتاب الله عزوجل ، فاعتصموا به (٢).

ورواها الواقدي بسنده عن ابن عباس وعمرو بن اليثربي وقال : فقلت : يا رسول الله ، أرأيت إن لقيت غنم ابن عمّي أجزر منها شاة؟! فعرفني وقال : إن لقيتها وأنت تحمل شفرة وزنادا في خبت الجميش (واد لبني ضمرة منزل الراوي عمرو بن يثربي) فلا تهجها ، ثم انصرف الى منزله.

وعن ابن عباس قال : ونهى رسول الله أن يبيت أحد بسوى منى في ليالي منى (٣).

خطبته في مسجد الخيف :

قال القمي في تفسيره : فلما كان آخر يوم من أيام التشريق أنزل الله :

__________________

(١) عوان هنا : جمع عانية من العناء بمعنى التعب والمشقة.

(٢) الخصال ٢ : ٤٨٦. ورواها ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٥٠ ـ ٢٥٢ ، ولكنّه قال : إنها كانت في عرفات ، والذي كان يصرخ بها للناس ربيعة بن أمية بن خلف. ويلاحظ عليهما (السيرة والخصال) أنّهما إنمّا ذكرا أحد الثقلين وأهملا الثاني ، وراجع التعليقة السابقة على مثلها في خطبة عرفات.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ١١١٢ ـ ١١١٣.


(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ)(١) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : نعيت إليّ نفسي. ثم نادى : الصلاة جامعة في مسجد الخيف.

فلما اجتمع الناس حمد الله وأثنى عليه ثم قال : «نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وبلّغها من لم يسمعها ، فربّ حامل فقه غير فقيه ، وربّ حامل فقه الى من هو أفقه منه ، ثلاث لا يغلّ عليهنّ قلب امرئ مسلم : اخلاص العمل لله ، والنصيحة لأئمة المسلمين ، ولزوم جماعتهم ، فإنّ دعوتهم محيطة من ورائهم ، والمؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمّتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم.

أيها الناس ، إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا ولن تزلّوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فإنه قد نبأني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض كاصبعتي هاتين» وجمع بين سبابتيه «ولا أقول كهاتين» وجمع بين سبابته والوسطى «فتفضل هذه على هذه» (٢).

ثم أقام هو صلى‌الله‌عليه‌وآله في منى حتى رمى الجمار ، ونفر الى الأبطح فأقام بها (٣). ولما نسكوا مناسكهم ، لم يكن ينقطع الدم عن أسماء بنت عميس من نفاسها بمحمد بن أبي بكر ، وقد أتى لها ثمانية عشر يوما ، فأمرها رسول الله أن تطوف بالبيت وتصلّي ،

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١٧٣ و ٢ : ٤٤٦ ، ٤٤٧ بلا إسناد ، وجاء في صدر خبر الخصال باسناده عن ابن عمر. بينما هي السورة الثانية بعد المائة نزولا قبل النور والحج وعشرة أخرى ، وليست بعد البراءة ، وقد مرّ المختار عن مجمع البيان وغيره أنها نزلت بالمدينة ، وفيها بشارة من الله لنبيّه بالنصر والفتح قبل وقوعه.

(٢) المصدر السابق بلا إسناد ، وأسندها النعماني في الغيبة : ٢٧ ، ٢٨ بأربعة طرق عن الأئمة الثلاثة : السجاد والباقر والصادق عليهم‌السلام ، والكليني في الكافي ١ : ٤٠٣ عن الصادق عليه‌السلام ، وكذلك الصدوق في الخصال ١ : ١٤٩ والمفيد في أماليه ٢ : ١٨٦ ، ١٨٧ بطريق آخر.

(٣) بحار الأنوار ٢١ : ٣٩٣ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٤.


ففعلت ذلك (١) ، وكذلك حجت عائشة بعد حيضها من دون أن تعتمر ، ولكنّها لم تكتف بذلك بل قالت له : يا رسول الله ، أترجع نساؤك بحجة وعمرة معا ، وأرجع بحجة؟!

فبعث معها عبد الرحمن بن أبي بكر الى التنعيم ، فأهلّت بعمرة ، فطافت بالبيت وصلّت ركعتين عند مقام إبراهيم عليه‌السلام ، ثم سعت بين الصفا والمروة (وقصّرت) وأتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فارتحل من يومه ، وخرج من ذي طوى من أسفل مكة (٢).

فكان إذا علا مرتفعا من الأرض رفع صوته بالتكبير ثلاثا ثم قال : «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت ويميت ويحيي وهو حيّ لا يموت ، بيده الخير وهو على كل شيء قدير ، آئبون تائبون ، ساجدون عابدون ، لربّنا حامدون ، صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ، اللهم إنّا نعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب ، وسوء المنظر في الأهل والمال ، اللهمّ بلّغنا بلاغا صالحا ، نبلغ (به) الى خير مغفرة ورضوان» (٣).

متى وكيف نزلت سورة المائدة؟

«لم يختلف أهل النقل أنّها آخر سورة مفصّلة نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أواخر حياته» (٤).

__________________

(١) بحار الأنوار ٢١ : ٣٧٩ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٨٩.

(٢) بحار الأنوار ٢١ : ٣٩٣ ، عن فروع الكافي ١ : ٢٣٤. وفي البداية والنهاية ٥ : ٢٠٧ : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بات في المحصّب ، وعند السحر أمرهم بالرحيل فدخل مكة وطاف طواف الوداع ، ثم اتّجه الى المدينة.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ١١١٤. ثم لم يذكر أي خبر عن رجوعه الى المدينة ، فلا الغدير ، ولا حتى الخطبة في منزل جحفة قرب الغدير في الثقلين ، والذي ذكره خطأ في عمرة الحديبية ٢ : ٥٧٩.

(٤) الميزان ٥ : ١٥٧.


وروى العياشي في تفسيره عن علي عليه‌السلام قال : كان من آخر ما نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سورة المائدة ، لقد نزلت عليه وهو على بغلته الشهباء ، وثقل عليه الوحي حتى وقفت وتدلّى بطنها حتى رأيت سرّتها تكاد تمس الأرض ، وأغمي على رسول الله حتى وضع يده على ذؤابة شيبة بن وهب الجمحي (١) ، ثم رفع ذلك عن رسول الله فقرأ علينا سورة المائدة (٢).

وروى فيه عن الباقر عن علي عليهما‌السلام قال : نزلت المائدة قبل أن يقبض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بثلاثة أشهر (٣).

وهذا الخبر من جانب يقتضي أن يكون وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله في الثاني عشر من شهر ربيع الأول ، ومن جانب آخر يقتضي نزول سورة المائدة أو أوائلها في الثاني عشر من شهر ذي الحجّة الحرام بمنى ، فهل كان كذلك؟

وإذا كان كذلك فمن الطبيعي المتوقّع أن تكون السورة أو أكثرها أو كثير من آياتها حول الحج والعمرة ، وآياتها مائة وعشرون ، لا يناسب مناسك الحج والعمرة منها سوى ثماني آيات : آيتان في أوّلها ثم من الرابعة والتسعين الى المائة فقط!

__________________

(١) لم نجده في أعلام الرجال والتاريخ إلّا هنا فقط!

(٢) تفسير العياشي ١ : ٢٨٨ ح ٢.

(٣) تفسير العياشي ١ : ٢٨٨ ح ١ ، وفيه : بشهرين أو ثلاثة ، ولكن الترديد من الإمام المعصوم بعيد جدا ، والأقرب أنّه من الراوي : زرارة بن أعين ، ولا يستقيم الشهران ، والثلاثة تقتضي من جانب أن يكون نزول السورة أو أوائلها في منى في اليوم الثاني عشر من ذي الحجة ، ومن جانب آخر أن يكون يوم وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما عليه عامة المسلمين في اليوم الثاني عشر من ربيع الأوّل ، هذا إذا كان التحديد دقيقا وليس تقريبيا ، وسيأتي البحث عنه.

وروى الطبرسي في مجمع البيان ٣ : ٢٣١ عن العياشي ـ وليس في تفسيره ـ عن الصادق عليه‌السلام قال : نزلت المائدة كملا ومعها سبعون ألف ملك!


ولهذا نظر الطباطبائي الى زمان نزول السورة من زاوية اخرى هي أنّها : نزلت على رسول الله في أواخر أيام حياته ، وقال : فالمناسب لذلك تأكيد الوصية بحفظ المواثيق المأخوذة لله تعالى على عباده ، والتثبّت فيها ، فما يفيده التدبّر في عامة آياتها ، وفي الأحكام والقصص والمواعظ بها : أن الغرض الجامع في السورة هو الدعوة الى الوفاء بالعهود وحفظ المواثيق الحقة كائنة ما كانت ، والتحذير البالغ عن نقضها وعدم الاعتناء بأمرها ، وأنّ عادته تعالى جرت بالرحمة والتخفيف والتسهيل لمن اتقى وآمن ثم اتقى وأحسن ، وبالتشديد على من بغى واعتدى وطغى بالخروج عن ربقة العهد بالطاعة ، وتعدّى حدود المواثيق المأخوذة عليه في الدين ، فهي لهذا تشتمل على نبأ ابني آدم في قربانهما المتقي والطاغي ، والاشارة الى كثير من مظالم بني اسرائيل ونقضهم المواثيق المأخوذة منهم ، وسؤالهم المسيح المائدة ثم عدم الوفاء بمقتضاها ، وعلى كثير من الآيات التي يمتن الله بها على عباده من تحليل الطاهر وتشريع ما يطهّر بلا عسر ولا حرج ، ومن إكمال الدين واتمام النعمة (١).

الآيات الثلاثة الأول :

مرّ أن الآية الاولى والثانية تناسب مناسك الحج فهما : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).

__________________

(١) الميزان ٥ : ١٥٧ بتصرف.


وإذ وعد الله الحق في الآية الفاتحة أن يتلو عليهم ما يستثنيه من حلّ بهيمة الانعام ، وفى بهذا في الآية الثالثة إذ قال : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ) ... (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

والمحرّمات الأربعة المذكورة في صدر هذه الآية ذكرت هنا مكرّرا للمرة الرابعة : الاولى في الآية (١٤) من الأنعام الخامسة والخمسين نزولا ، والآية (١١٥) من النحل السبعين نزولا والآية (١٧٣) من البقرة السابعة والثمانين نزولا ، وتماثلها حتى في ذيلها : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فالآية لا تشتمل من المحرّمات على جديد ، إلّا قوله هنا : (وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ) ... (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ...) فهي وإن ذكرت لأول مرة هنا في هذه الآية لكنّها هي جميعا مصاديق الميتة.

فأين إكمال الدين ويأس الكفّار منه؟

وإذا تأمّلنا صدر الآية (ذلِكُمْ فِسْقٌ ...) ثم ذيلها : (فَمَنِ اضْطُرَّ) غير باغ ...

(فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وجدناها كلاما تاما غير متوقف في تمام معناه وإفادة المراد منه على شيء مما جاء في وسط الآية : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً).

وينتج من ذلك أنّ هذا كلام معترض موضوع في وسط تلك الآية ، غير متوقف عليه لفظ الآية في دلالتها وبيانها ، سواء قلنا إنّ الآية نازلة في وسط الآية


فتخلّلت بينها من أول ما أنزلت ، أو قلنا إنّها موضوعة في موضعها الذي هي فيه عند التأليف من غير أن تصاحبها نزولا ، أو قلنا إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الذي أمر كتّاب الوحي بوضع الآية في هذا الموضع مع انفصال الآيتين واختلافهما نزولا ، كما روى ذلك السيوطي في «الدر المنثور» عن الشعبي قال : نزل على النبي هذه الآية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ...) وهو بعرفة ، وكان إذا أعجبته آيات جعلهنّ في صدر السورة (١).

وقد عرفنا أن يوم عرفة كان يوم السبت بحسب الحساب السابق ، ليس يوم الخميس ولا الجمعة كما عليه الجمهور رواية عن عمر بن الخطاب جوابا لليهودي (٢).

خبر نزول آية الولاية في مكة :

نقل ابن طاوس عن كتاب «النشر والطيّ» عن حذيفة بن اليمان قال : كنّا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ وافى علي عليه‌السلام من اليمن الى مكة ، ثم توجّه علي عليه‌السلام يوما يصلّي الى الكعبة ، فلما ركع أتاه سائل فتصدّق عليه بحلقة خاتمه ، فكبّر رسول الله وقرأ علينا

__________________

(١) الميزان ٥ : ١٦٣ ـ ١٦٨ بتصرّف وتلخيص ، والخبر عن الدر المنثور ٢ : ٢٥٨ ، ٢٥٩. وانظر كلاما للطباطبائي فيما يأتي.

(٢) انظر البحث في ذلك في كتاب آيات الغدير : ٢٦٤ ـ ٢٦٨ وعليه يحمل ما نقل في تفسير الكوفي عن الباقر عليه‌السلام قال : نزل جبرئيل عليه‌السلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الجمعة بعرفات بقوله سبحانه : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) كما في تفسير فرات الكوفي : ٤٩٧ ح ٦٥٢ ، وكذلك ما رواه العياشي في تفسيره عن الصادق عليه‌السلام قال : نزل رسول الله يوم الجمعة في عرفات فأتاه جبرئيل بقوله سبحانه : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) كما في تفسير العياشي ١ : ٢٩٣.


ما أنزل الله تعالى في ذلك من قوله سبحانه : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ)(١) ثم قال : قوموا نطلب هذه الصفة التي وصف الله. فلما دخل رسول الله المسجد استقبله سائل ، فسأله النبي : من أين جئت؟ قال : من عند هذا المصلّي تصدّق عليّ بهذه الحلقة وهو راكع ، فكبّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومضى نحو علي عليه‌السلام فقال له : يا علي ما أحدثت اليوم من خير؟ فأخبره خبره ، فكبّر للمرّة الثالثة (٢).

وقال الحلبي : روي أنّه لما نزل (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) أمر النبي أن ينادي بولاية علي عليه‌السلام فضاق بذلك ذرعا (٣).

وعن العیاشی عن زيد بن أرقم قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دعا قوما أنا فيهم فقال لنا : إنّ الروح الأمين جبرئيل عليه‌السلام نزل عليه بولاية علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، فاستشارنا في ذلك ليقوم به في الموسم ، فلم ندر ما نقول له ، فلما رجعنا ونزلنا الجحفة وضربنا أخبيتنا ، فبينا نحن كذلك إذ سمعنا رسول الله ينادي :

أيها الناس ، أنا رسول الله فأجيبوا داعي الله ، فأتيناه مسرعين وذلك في شدة الحرّ ، ثم قال : يا أيها الناس ، إنه نزل عليّ عشيّة عرفة أمر ضقت به ذرعا مخافة تكذيب أهل الإفك ، حتى جاءني في هذا الموضع وعيد من ربّي إن لم أفعل ، وذلك قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ...)(٤).

__________________

(١) المائدة : ٥٥.

(٢) الاقبال ٢ : ٢٤٢.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣ ، ولعلّ منه ما رواه العياشي في تفسيره عن عمّار بن ياسر أنّه لما نزلت هذه الآية على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قرأها علينا ثم قال : من كنت مولاه فعلي مولاه ١ : ٣٢٧.

(٤) عنه في بحار الأنوار ٣٧ : ١٥١ ، ١٥٢ ، وعن العياشي ولم نجده فيه.


وروى الطبرسي في «الاحتجاج» بسنده عن الطوسي عن الباقر عليه‌السلام قال : لما وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالموقف أتاه جبرئيل عن الله تعالى فقال له : يا محمد ، إنّ الله عزوجل يقرئك السلام ويقول لك : إنه قد دنا أجلك ومدّتك ، وأنا مستقدمك على ما لا بدّ منه ولا محيص عنه ، فاعهد عهدك وقدّم وصيّتك ، واعمد الى ما عندك من العلم وميراث علوم الأنبياء من قبلك ، والسلاح والتابوت (كذا؟) وجميع ما عندك من آيات الأنبياء ، فسلّمه الى وصيّك وخليفتك من بعدك ، حجتي البالغة على خلقي : علي بن أبي طالب ، فأقمه للناس علما ، وجدّد عهده وميثاقه وبيعته ، وذكّرهم ما أخذت عليهم من بيعتي وميثاقي الذي واثقتهم ، وعهدي الذي عهدت إليهم : من ولاية وليي ومولاهم ومولى كل مؤمن ومؤمنة : علي بن أبي طالب ، فإنّي لم أقبض نبيّا من الأنبياء إلّا من بعد إكمال ديني وحجّتي وإتمام نعمتي بولاية أوليائي ومعاداة أعدائي ، وذلك كمال توحيدي وديني وتمام نعمتى على خلقي باتّباع وليّي وطاعته وذلك أني لا أترك أرضي بغير وليّ ولا قيم ، ليكون حجة لي على خلقي ، فأقم ـ يا محمد ـ عليا علما ، وخذ عليهم البيعة ، وجدّد عهدي وميثاقي لهم الذي واثقتهم عليه ، فإني قابضك إليّ ومستقدمك عليّ.

قال الباقر عليه‌السلام : فخشي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من قومه ، وأهل النفاق والشقاق أن يتفرّقوا ويرجعوا الى الجاهلية ، لما عرف من عداوات وما تنطوي عليه أنفسهم من العداوة والبغضاء لعلي عليه‌السلام. فسأل جبرئيل أن يسأل ربّه له العصمة من الناس ، وأخّر ذلك وانتظر أن يأتيه جبريل عن الله جلّ اسمه بالعصمة من الناس ، الى أن بلغ مسجد الخيف.

فأتاه جبرئيل عليه‌السلام في مسجد الخيف فأمره أن يعهد عهده ويقيم عليا علما للناس يهتدون به من دون أن يأتيه بالعصمة من الله جلّ جلاله بالذي أراد.


حتى بلغ موضع كراع الغميم فأتاه جبرئيل بالذي أتاه فيه من قبل الله ولم يأته بالعصمة ، فرحل ، فلما بلغ غدير خم أتاه جبرئيل عليه‌السلام على خمس ساعات مضت من النهار بالزجر والعصمة من الناس : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ...)(١).

وروى العياشي عن الصادق عليه‌السلام قال : كانت ولاية علي عليه‌السلام قد نزلت بمنى ، وامتنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من القيام بها ، لمكان الناس ، ورجع من مكة وقد شيّعه خمسة آلاف من أهل مكة (٢) ، فلما انتهى الى الجحفة نزل جبرئيل عليه‌السلام فقال : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ...) أي مما كرهت بمنى.

وبمعناه ما رواه قبله عن أبيه الباقر عليه‌السلام قال : نزل جبرئيل عليه‌السلام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بإعلان أمر علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، فلم يأخذ بيده فرقا من الناس ومكث ثلاثا حتى أتى الجحفة ، فلما نزل المهيعة من الجحفة يوم الغدير نادى : الصلاة جامعة (٣).

__________________

(١) الاحتجاج ١ : ٦٩ ، ٧٠ وعليه يحمل ما في كشف اليقين عن كتاب ابن أبي الثلج البغدادي عن الصادق عليه‌السلام قال : إنّ الله أنزل على نبيّه بكراع الغميم : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ...) في علي ، أي بدون ذكر العصمة. بحار الأنوار ٣٧ : ١٣٧. وبه يصحّح ما رواه القمي في تفسيره عن الصادق عليه‌السلام عن أبيه الباقر عليه‌السلام : أنّه نزل في كراع الغميم : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ...).

(٢) هذا بعد أن قال : تبعه من أهل المدينة خمسة آلاف ، فكان له عشرة آلاف شاهد. وأشار إليه الحلبي في المناقب ٣ : ٣٥ وسيأتي البحث في عدد الجمع.

(٣) تفسير العياشي ١ : ٣٣٢ ح ١٥٤ و ١٥٣.


وفي «جامع الأخبار» بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : لما انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من حجة الوداع ، جاءه جبرئيل في الطريق وقرأ عليه هذه الآية : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ...) فقال رسول الله : يا جبرئيل إنّ الناس حديثو عهد بالإسلام ، فأخشى أن يضطربوا ولا يطيعوا. فعرج جبرئيل.

ونزل عليه‌السلام في اليوم الثاني ورسول الله نازل بالغدير (كذا) فقال له : يا محمد (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ...) فقال له : يا جبرئيل ، أخشى من أصحابي أن يخالفوني! فعرج جبرئيل.

ونزل عليه في اليوم الثالث ورسول الله بالغدير وقال له : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ...) فلما سمع رسول الله هذه المقالة قال للناس : والله ما أبرح هذا المكان حتى أبلّغ رسالة ربّي (١).

وهنا كلام آخر للعلّامة الطباطبائي قال فيه : غير أن هاهنا أمرا يجب التنبّه له ، وهو أن التدبّر في الآيتين الكريمتين الثالثة : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) والسابعة والستين : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) والأحاديث فيهما من طرق الفريقين ، وأخبار الغدير المتواترة ، ودراسة أوضاع المجتمع الإسلامي الداخلية في أواخر عهد رسول الله والبحث العميق فيها ، يفيد القطع بأن : أمر الولاية كان نازلا قبل يوم الغدير بأيام ، وكان النبي يتّقي الناس في إظهاره يخاف أن لا يتلقوه بالقبول ، أو يسيئوا القصد إليه فيختلّ أمر الدعوة ، فكان لا يزال يؤخّر تبليغه الناس من يوم الى غد حتى نزلت الآية (٦٧) فأنجزه.

__________________

(١) جامع الأخبار : ١٠ ـ ١٣ ، وعنه في بحار الأنوار ٣٧ : ١٦٥ ، ١٦٦ ح ٤٤.


وعلى هذا ، فمن الجائز أن يكون الله قد أنزل معظم السورة وفيها أمر الولاية يوم عرفة (أو عشيّتها) وتلاها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكن أخّر بيان الولاية الى الغدير ، فلا يبعد أن يكون ما اشتمل عليه بعض الأخبار من نزولها يوم الغدير إنمّا لتلاوته صلى‌الله‌عليه‌وآله الآية بعد تبليغ أمر الولاية لبيان شأن نزولها ، فقيل : إنها نزلت يومئذ. وعليه فلا تنافي بين الفريقين من الأخبار (١).

الموضع والنداء والمنبر :

مرّ في «الاحتجاج» عن الباقر عليه‌السلام قال : لما بلغ غدير خم ـ قبل الجحفة بثلاثة أميال (٢) ـ أتاه جبرئيل ـ على خمس ساعات مضت من النهار ـ بالزجر والعصمة من الناس فقال : يا محمد ، إن الله يقرئك السلام ويقول لك : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) فأمره أن يردّ من تقدّم منهم ويحبس من تأخّر عنهم في ذلك المكان ليقيم عليّا علما للناس ويبلّغهم ما أنزل الله في علي عليه‌السلام ، وأخبره أنّ الله عزوجل قد عصمه من الناس.

__________________

(١) الميزان ٥ : ١٩٦ ، ١٩٧ بتصرّف يسير.

(٢) جاء في معجم البلدان ٢ : ٣٨٩ خم ، واد بين مكة والمدينة عند الجحفة. وعيّن الفاصل في ٤ : ١٨٨ غدير خم ، بين مكة والمدينة بينه وبين الجحفة ميلان وقال في الجحفة ٢ : ١١١ : بينها وبين غدير خم ميلان ، وهي على طريق المدينة من مكة على أربع مراحل ، وبينها وبين المدينة ست مراحل. وشرح الشيخ الدكتور الفضلي ذلك فقال : أراد بالمرحلة المنزل ، وبالطريق السلطاني ، الا أنّه حذف الطارف لعدم ذكره أحيانا ، والمسافة ـ كما في خريطة وزارة المواصلات السعودية للطرق البرية في المملكة ـ من مكة الى ـ مطار رابغ البحر (١٨٠ كم) ومنه الى الجحفة (٩ كم) ـ (١٨٩ كم). مجلة الميقات ع ٦ : ٣٨٧ فالغدير في الشمال الغربي من مكة بينه وبينها (١٨٥ كم) تقريبا.


وكان أوائلهم قريبا من الجحفة ، فأمر رسول الله مناديا ينادي في الناس بالصلاة جامعة ويردّ من تقدّم منهم ويحبس من تأخّر منهم ، وأمره جبرئيل فتنحّى عن يمين الطريق الى جنب مسجد الغدير. وكان في الموضع سلمات (١) فأمر رسول الله أن يقمّ ما تحتهنّ ، وأن تنصب له أحجار كهيئة المنبر ليشرف على الناس ، فقام رسول الله فوق تلك الأحجار ، وكان علي عليه‌السلام منذ أول ما صعد رسول الله دون مقامه بدرجة ، ثم ضرب بيده الى عضده فبسط علي يده نحو وجه رسول الله فشال عليّا حتى صارت رجله مع ركبة رسول الله (٢).

ومرّ في خبر «البرهان» عن زيد بن أرقم قوله : إذ سمعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو ينادي : أيها الناس ، أنا رسول الله أجيبوا داعي الله. فأتيناه مسرعين ، وكان في شدّة الحرّ ، فإذا هو واضع بعض ثوبه على رأسه وبعضه على قدمه من الحرّ ، وأمر بقمّ ما تحت الدوح ، فقمّ ما كان ثمة من الشوك والحجارة ، فلما فرغوا من القمّ أمر رسول الله أن يؤتى بأحلاس دوابّنا وأقتاب ابلنا وحقائبنا ، فوضعنا بعضها على بعض ثم ألقينا عليها ثوبا ، ثم صعد عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣).

ولئن خلا هذان الخبران عن التصريح بأن ذلك كان بعد صلاة الظهر ، فقد صرحت بذلك أحاديث كثيرة :

فقد نقل السيّد ابن طاوس عن كتاب «النشر والطي» من حديث حذيفة بن اليمان قال : انتهى إلينا رسول الله فنادى الصلاة جامعة! ثم دعا أبا ذر وعمارا

__________________

(١) السلم : شجر الغضا. مجمع البحرين.

(٢) الاحتجاج ١ : ٧٠ و ٧١ و ٧٦.

(٣) البرهان ٢ : ١٤٥ ، وعنه في بحار الأنوار ٣٧ : ١٥٢.


والمقداد وسلمان فأمرهم أن يعمدوا الى أصل شجرتين فيقموا ما تحتهما ، فكسحوه ، وأمرهم أن يضعوا الحجارة بعضها على بعض كقامة رسول الله ، وأمر بثوب فطرح عليه ، ثم صعد النبي المنبر ينظر يمنة ويسرة وينتظر اجتماع الناس إليه حتى اجتمعوا ، ثم ضرب بيده الى عضد علي عليه‌السلام فرفعه على درجة دون مقامه ، متيامنا عن وجه رسول الله (١).

وزاد في «بشارة المصطفى» عن البراء بن عازب وزيد بن أرقم : كنّا يوم غدير خم مع رسول الله ونحن نرفع أغصان الشجر عن رأسه (٢).

وزاد ابن حنبل عن زيد بن أرقم قال : فأمر بالصلاة فصلّاها فخطبنا ، وظلّل لرسول الله من الشمس بثوب على شجرة (٣).

ورواه ابن المغازلي في «المناقب» عنه قال : أمرنا بالدوحات فقمّ ما تحتهنّ من شوك ، ثم نادى : الصلاة جامعة ، فخرجنا الى رسول الله في يوم شديد الحرّ وإنّ منّا لمن يضع رداءه على رأسه وبعضه تحت قدميه من شدّة الحرّ! فصلّى بنا الظهر ثم انصرف إلينا بوجهه الكريم (٤).

__________________

(١) الاقبال ٢ : ٢٤٠ ، ٢٤١ ، ونقل نداء الصلاة وكنس ما بين شجرتين الحلبي في مناقب آل أبي طالب ٣ : ٤٥ عن البراء بن عازب والمجلسي عن المناقب لابن الجوزي عن البراء أيضا في بحار الأنوار ٣٧ : ١٤٩.

(٢) بشارة المصطفى : ١٦٦ كما في بحار الأنوار ٣٧ : ١٦٨ و ٢٢٣.

(٣) العمدة لابن بطريق الحلّي : ٩٢ عن مسند أحمد ٤ : ٢٨١.

(٤) عنه في بحار الأنوار ٣٧ : ١٨٤. وفي هذا الفصل أكثر من عشرة أخبار في أنّ الخطبة كانت بعد صلاة الظهر في : ١١٩ و ١٢١ و ١٣٨ و ١٣٩ و ١٤٩ و ١٥٤ و ١٥٩ و ١٩١ و ١٩٨ و ٢٠٤ والارشاد ١ : ١٧٦ ثم زالت الشمس فأذن مؤذنه لصلاة الفرض فصلى بهم الظهر


عدد الجمع :

أغرب ابن شهرآشوب في «المناقب» مرسلا عن الباقر عليه‌السلام قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم غدير خم بين ألف وثلاثمائة رجل (١) بينما مرّ عن «الاحتجاج» عنه عليه‌السلام قال : بلغ من حجّ مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من أهل المدينة وأهل الأطراف والأعراب سبعين ألف إنسان أو يزيدون ، على نحو عدد أصحاب موسى السبعين ألف الذين أخذ عليهم بيعة هارون ، فنكثوا واتّبعوا العجل والسامريّ (٢).

ولكنّ هذا الخبر جمع في العدد الأعراب وأهل الأطراف الى أهل المدينة ولم يميّزهم ، وجاء ذكرهم في خبرين عن الصادق عليه‌السلام :

__________________

وإنّما كانت صلاة الظهر ؛ لأنّه كان يوم الخميس كما في خبر سليم عن أبي سعيد الخدري ، كما في كتاب سليم ٢ : ٨٢٨ ، ورواه الحلبي في مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٢ ، وابن بطريق في المستدرك ، وابن طاوس في الطرائف في مذاهب الطوائف : ٢١٩ وعنهما في بحار الأنوار ٣٧ : ١٧٩.

وفي بعض الأخبار أنّ يوم الغدير كان في يوم النيروز أي اوّل يوم من دخول الشمس في برج الحمل ، ويؤيّد هذا ما نقله اليعقوبي في تاريخه عن الخوارزمي المنجّم : انّ وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كان والشمس في برج الجوزاء ، وهو الشهر الثالث من الربيع. وعليه فحرارة يوم الغدير لم تكن حرارة الصيف وإنّما حرارة الظهيرة في هجير الحجاز ، وهذا مما يقرب أن يصلي بهم الظهر عند الزوال وإلّا فانّه كان يبرد بالصلاة في أسفاره أي يجمع الظهر مع العصر جمع تأخير تخفيفا للحرارة كما مرّ في غزوة تبوك.

(١) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٥. وأكثر الظن أنّه هو الخبر عن تفسير فرات الكوفي عن أبي ذر الغفاري : ٥١٦ ح ٦٧٤.

(٢) الاحتجاج ١ : ٦٩.


قال في أحدهما : إنّ رسول الله خرج من المدينة حاجا وتبعه [منهم] خمسة آلاف ، ورجع من مكة وقد شيّعه خمسة آلاف من أهل مكة ، فكان لعلي عليه‌السلام عشرة آلاف شاهد (١).

وفي ثانيهما قال : لما انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من مكة في حجة الوداع شيّعه خمسة آلاف رجل من المدينة ، وشيّعه من مكة اثنا عشر ألف رجل من اليمن (٢).

كذا جاء في هذا الخبر ، ولم يذكر في أي خبر آخر ما يقارب هذا العدد في من حجّ من اليمن لا مع علي عليه‌السلام ولا بدونه ، ثم إنّ اليمن على يمين مكة وجنوبها بعكس المدينة على شمالها فمشايعتهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الى الجحفة وغدير خم غريب بعيد ، ولم يذكر من النبي أمر بذلك (٣).

هنئوني وسلموا على علي وله :

ونقل الحلبي عن أبي سعيد الخدري قال : ثم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا قوم هنّئوني ، هنّئوني إنّ الله خصّني بالنبوة وخصّ أهل بيتي بالإمامة (٤).

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٣٣٢ ح ١٥٣.

(٢) جامع الأخبار : ١٠ ـ ١٣ ، وعنه في بحار الأنوار ٣٧ : ١٦٥ ح ٤٢.

(٣) ونقل المجلسي في بحار الأنوار ٣٧ : ١٥٠ ، عن كتاب المناقب لابن الجوزي قال : كان معه من الصحابة ومن الأعراب وممن يسكن حول مكة والمدينة مائة وعشرون ألفا. فلعلّ ما جاء في أخبارهم عليهم‌السلام من العشرة الى العشرين ألفا هم من أهل مكة والمدينة ممن عرفوا من الصحابة.

(٤) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٤٥ ، ٤٦.


وروى الحميري في «قرب الاسناد» بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : ثم أمر الناس أن يبايعوا عليّا عليه‌السلام ، فبايعه الناس (١).

وروى القمي في تفسيره عن الصادق عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم : سلّموا على عليّ بإمرة المؤمنين (٢).

وروى الصدوق في «الأمالي» بسنده عن ابن عباس : أنّه أمر أصحابه فسلّموا على عليّ بإمرة المؤمنين رجلا فرجلا (٣).

وفي خبر «جامع الأخبار» : فجاء أصحابه الى أمير المؤمنين وهنؤوه بالولاية ، وأول من قال له كان عمر بن الخطاب قال له : يا علي ، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة (٤).

وفي خبر «الاحتجاج» بسنده عن الباقر عليه‌السلام قال : قال معاشر الناس ، إنّكم أكثر من أن تصافقوني بكف واحدة في وقت واحد ، وقد أمرني الله عزوجل أن آخذ من ألسنتكم الإقرار بما عقدت من إمرة المؤمنين لعلي ولمن جاء بعده من الأئمة مني ومنه ، على ما أعلمتكم أنّ ذريّتي من صلبه. فقولوا بأجمعكم : إنّا سامعون مطيعون راضون ، ومنقادون لما بلّغت عن ربّنا وربّك في أمر علي وأمر ولده من

__________________

(١) كما في بحار الأنوار ٣٧ : ١١٩ ح ٧. وعن تفسير العياشي ٣٧ : ١٣٨.

(٢) كما في بحار الأنوار ٣٧ : ١٢٠.

(٣) كما في بحار الأنوار ٣٧ : ١١١ ، وفي المناقب عن الثعلبي عن الكلبي ٣ : ٢٩.

(٤) جامع الأخبار : ١٠ ، وعنه في بحار الأنوار ٣٧ : ١٦٦ ونقله المناقب من خبر أبي سعيد الخدري ، وعن شرف المصطفى عن البراء بن عازب ، وعن التمهيد للباقلاني ولكنّه تأوله ، وبمعناه عن السمعاني. وفي بحار الأنوار ٣٧ : ١٠٨ ، عن أمالي الصدوق عن أبي هريرة. والفخر الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب ٣ : ٤٣٣. وفصّل نقله الأميني في الغدير ١ : ٢٧٢ ـ ٢٨٢ عن ستين مصدرا.


صلبه من الأئمة ، نبايعك على ذلك بقلوبنا وأنفسنا وألسنتنا وأيدينا ، على ذلك نحيا ونموت ونبعث ، لا نغيّر ولا نبدّل ولا نشكّ ولا نرتاب ، ولا نرجع عن عهد ولا ننقض الميثاق ، ونطيع الله ونطيعك وعليّا أمير المؤمنين وولده الأئمة الذين ذكرتهم من ذريّتك من صلبه بعد الحسن والحسين الذي قد عرّفتكم مكانهما منّي ومحلّهما عندي ومنزلتهما من ربّي ، فقد أدّيت ذلك إليكم ، فإنّهما سيّدا شباب أهل الجنّة ، وانهما الإمامان بعد أبيهما علي ، وأنا أبوهما قبله. فقولوا : أعطينا الله بذلك وإياك وعليّا والحسن والحسين والأئمة الذين ذكرت عهدا وميثاقا مأخوذا لأمير المؤمنين من قلوبنا وأنفسنا وألسنتنا ومصافقة أيدينا ... لا نبتغي بذلك بدلا ، ولا نرى من أنفسنا عنه حولا أبدا ، نحن نؤدّي ذلك عنك الداني والقاصي من أولادنا وأهالينا ، أشهدنا الله وكفى بالله شهيدا ، وأنت علينا به شهيد ، وكلّ من أطاع ممن ظهر أو استتر ، وملائكة الله وجنوده وعبيده ، والله أكبر من كل شهيد.

معاشر الناس ما تقولون؟ فإنّ الله يعلم كل صوت وخافية كل نفس (... فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ...) ومن بايع فانّما يبايع الله (... يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ...).

معاشر الناس فاتّقوا الله وبايعوا عليّا أمير المؤمنين.

معاشر الناس ، قولوا الذي قلت لكم ، وسلّموا على علي بإمرة المؤمنين.

معاشر الناس ، السابقون الى مبايعته وموالاته والتسليم عليه بإمرة المؤمنين أولئك هم الفائزون في جنّات النعيم.

معاشر الناس ، قولوا ما يرضي الله عنكم من القول.

قال الباقر عليه‌السلام : فنادته القوم : سمعنا وأطعنا أمر الله وأمر رسوله بقلوبنا وألسنتنا وأيدينا. ثمّ تداكّوا على علي عليه‌السلام وصافقوه بأيديهم. فكان أوّل من صافق الأوّل والثاني والثالث ... ثم باقي المهاجرين والأنصار ، ثم باقي الناس عن آخرهم


على طبقاتهم ومنازلهم ... وأوصلوا المصافقة والبيعة ثلاثة أيام (كذا) وكلّما بايع قوم يقول رسول الله : الحمد لله الذي فضّلنا على جميع العالمين (١).

ونقل المجلسي هذه الخطبة ثم قال : أقول : روى جميع هذه الخطبة الشيخ علي بن المطهر الحلي في (العدد القوية) باسناده الى زيد بن أرقم ، وروى أكثرها البياضي النباطي في «الصراط المستقيم» عن (كتاب الولاية) للطبريّ المؤرّخ عن زيد بن أرقم (٢).

__________________

(١) الاحتجاج ١ : ٨٢ ـ ٨٤ ورواها قبله الشهيد الفتال النيشابوري مرسلا في روضة الواعظين : ١٠٩ ـ ١٢١ ، واستغرقت الخطبة في هذا الخبر ثلاث عشرة صفحة من الكتاب : ٦٨ ـ ٨٤ ، بينما جاء في تفسير فرات الكوفي بسنده عن الصادق عليه‌السلام عن ابن عباس قال : قام رسول الله خطيبا فأوجز في خطبته : ٥٠٥ ح ٦٦٣ وهو الأولى والأقرب والأنسب.

(٢) بحار الأنوار ٣٧ : ٢١٨. والخطبة بطولها في (١٣) صفحة من كتاب الاحتجاج كما مرّ في الحاشية السابقة ، وقد نقل السيّد ابن طاوس ثلاث صفحات منها في الاقبال ٢ : ٢٤٥ ـ ٢٤٧ عن كتاب النشر والطيّ الذي حمله مؤلفه الى الملك شاه مازندران رستم بن علي لما دخل الري ، رواه عن رجاله عن حذيفة بن اليمان ، وذكر فيه قبل هذا ٢ : ٢٣٩ : ولمحمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ الكبير كتاب صنّفه وسمّاه : «كتاب الردّ على الحرقوصية» (أتباع حرقوص بن زهير المعروف بذي الثدية رأس خوارج النهروان) روى فيه حديث يوم الغدير وما نصّ النبيّ على عليّ عليه‌السلام بالولاية والمقام الكبير ، روى ذلك من خمس وسبعين طريقا ، ولكنّه قال في الطرائف من مذاهب الطوائف : ٣٣ ، وقد روى الحديث في ذلك محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ من خمس وسبعين طريقا وأفرد له كتابا سمّاه «كتاب الولاية». وكذلك قال الحلبي في مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٤. ونقل في «إحقاق الحق» ٢ : ٤٨٦ و ٤٨٧ : عن أبي المعالي الجويني كان يقول : شاهدت في يد صحّاف في بغداد مجلدا مكتوبا عليه : المجلّدة الثامنة والعشرون من طرق من كنت مولاه فعليّ


وقال المفيد في «الارشاد» : فصلى الظهر ... ثم أمر عليّا عليه‌السلام أن يجلس في خيمة بإزاء خيمته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأمر المسلمين أن يدخلوا عليه فوجا فوجا فيهنّئوه بالمقام ويسلّموا عليه بإمرة المؤمنين. ففعل الناس ذلك.

ثم أمر أزواجه ونساء المؤمنين أن يدخلن عليه فيسلّمن عليه بإمرة المؤمنين ففعلن (١).

آية الاكمال ، وشعر حسّان :

إنّ أقدم كتاب فيما بأيدينا مما سبق الى رواية نزول آية الإكمال في هذا المجال هو كتاب سليم بن قيس الهلالي العامري (م ق ٨٠ ه‍) عن أبي سعيد الخدري قال في حديثه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في يوم غدير خم : فلم ينزل حتى نزلت الآية : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) فقال رسول الله : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الربّ برسالتي وبولاية عليّ من بعدي (٢).

__________________

مولاه ، وتتلوه المجلّدة التاسعة والعشرون! وذكر ابن كثير الشامي في ذكره لابن جرير الطبري : أنّه رأى مجلّدين ضخمين جمع فيهما أحاديث غدير خم ـ كما في بحار الأنوار ـ ٣٧ : ٢٣٥ ، ٢٣٦. وملك مازندران المذكور رستم بن علي ، لعله ابن علي بن شهريار بن قارن ، حكم ٥١١ ـ ٥٣٤ ه‍ ، وأهدى إليه الطبرسي : إعلام الورى ، كما في مقدمته : ٢٩ ط. النجف الأشرف.

(١) الارشاد ١ : ١٧٦. ولم أعثر على مصدر معتبر لخبر الطست وغمس ايديهن فيه.

(٢) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٨٢٨ ، وفي الطرائف من مذاهب الطوائف لابن طاوس : ٣٥ ، مثله إلّا أن فيه : فلم يتفرّقوا حتى نزلت الآية. وكذلك في المستدرك لابن بطريق الحلي ، كما عنه في بحار الأنوار ٣٧ : ١٧٩. ورواه الصدوق في الأمالي : ٢١٤ ، عن ابن عباس عن أبي ذر وسلمان وعمّار والمقداد قالوا : والله ما برحنا العرصة حتى نزلت الآية فكرّرها


فقال حسّان بن ثابت : يا رسول الله ، ائذن لي لأقول في عليّ أبياتا. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : قل ، على بركة الله. فقال حسّان : يا مشيخة قريش ، اسمعوا قولي بشهادة من رسول الله :

ألم تعلموا أنّ النبي محمدا

لدى دوح خمّ حين قام مناديا

وقد جاءه جبريل من عند ربّه

بأنّك معصوم فلا تك وانيا

وبلّغهم ما أنزل الله ربّهم

وإن أنت لم تفعل وحاذرت باغيا

عليك ، فما بلّغتهم عن إلههم

رسالته ، إن كنت تخشى الأعاديا

فقام به إذ ذاك رافع كفّه

بيمنى يديه معلن الصوت عاليا

فقال لهم : من كنت مولاه منكم

وكان لقولي حافظا ليس ناسيا

فمولاه من بعدي عليّ ، وإنّني

به لكم دون البريّة راضيا

__________________

رسول الله ثلاثا ثم قال كما في بحار الأنوار ٣٧ : ١٣٧ ، ورواه العياشي في تفسيره ١ : ٢٩٢ و ٢٩٣ ح ٢٠ و ٢٢ عن زرارة عن الباقر عليه‌السلام ، وفيه ح ٢١ عن الصادق عليه‌السلام : أنّ جبرئيل عليه‌السلام أتى رسول الله بها في عرفات يوم الجمعة! ورواه الكوفي في تفسيره عن الباقر عليه‌السلام : ١١٩ ح ١٢٤ و ١٢٥ وعن الصادق عليه‌السلام : ١١٧ ح ١٢١ و ١٢٢ و ١٢٣ وعن ابن عباس : ١١٩ ح ١٢٦ و ١٢٧ وفيهما : بمكة في يوم عرفة يوم جمعة! وقد مرّ محاسبة أن يوم عرفة لم يكن يوم جمعة وانما يوم الخميس ، فلو كان نزولها هناك كانت تلاوته لها يوم الغدير تفسيرا لها ، والسيوطي في الاتقان ١ : ١٩ ، وإن نقل عن الصحيح : عن عمر : أنّها نزلت عام حجة الوداع عشية عرفة يوم الجمعة ، لكنّه روى عن محمد بن كعب قال : نزلت سورة المائدة في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة ، وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة : أنّها نزلت يوم غدير خم ، وكذلك في الدر المنثور ٢ : ٢٥٩ ، كما في بحار الأنوار ٣٧ : ١٨٩ و ٢٤٨. وانظر البحث في الآية عن ستة عشر مصدرا في الغدير ١ : ٢٣٠ ـ ٢٣٨ ، وفي كتاب آيات الغدير : ٢٦٤ ـ ٢٦٨.


فيا ربّ من والى عليّا فواله

وكن للذي عادى عليّا معاديا

ويا ربّ فانصر ناصريه لنصرهم

إمام الهدى كالبدر يجلو الدياجيا

ويا ربّ فاخذل خاذليه وكن لهم

إذا وقفوا يوم الحساب مكافيا (١)

فروى الكليني في «روضة الكافي» عن الباقر عليه‌السلام قال : قال صلى‌الله‌عليه‌وآله لحسّان بن ثابت : لا يزال معك روح القدس ما ذببت عنّا (٢) أو قال : يا حسّان لا تزال مؤيّدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك (٣).

وسأل سائل :

مرّ في خبر «الاحتجاج» عن الباقر عليه‌السلام قال : وتداكّوا على رسول الله وعلى علي عليهما‌السلام وصافقوا بأيديهم ، وأوصلوا البيعة والمصافقة ثلاثا (٤).

وجاء مثله عن الصادق عليه‌السلام في «جامع الأخبار» قال : فلما كان بعد ثلاثة ، وجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مجلسه ، أتاه رجل من بني مخزوم يسمّى عمر بن عتيبة فقال : يا محمد (كذا) أسألك عن ثلاث مسائل. فقال : سلّ عمّا بدا لك. فقال : أخبرني عن شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا رسول الله ، أمنك أم من ربّك؟

__________________

(١) سليم بن قيس ٢ : ٨٢٨ ، ٨٢٩ ، وزاد عليه الأميني في الغدير ٢ : ٣٤ ـ ٣٩ أكثر من عشرين مصدرا من الخاصة وأكثر من عشرة مصادر من غيرهم ، نعم لم يذكروها في ديوانه!

(٢) روضة الكافي : ٨٩ ح ٧٥. وعن الصادق عليه‌السلام في جامع الأخبار : ١١ ، كما في بحار الأنوار ٣٧ : ١٦٦.

(٣) الارشاد ١ : ١٧٧ وقال : انما اشترط في الدعاء له لعلمه بعاقبة أمره في الخلاف ، ولو علم سلامته في مستقبل الأحوال لدعا له على الإطلاق. ونقله في الفصول المختارة : ٢٩١.

(٤) الاحتجاج ١ : ٨٤.


قال النبي : الوحي من الله ، والسفير جبرئيل ، والمؤذن أنا ، وما آذنت إلّا من أمر ربّي.

قال الرجل : فأخبرني عن الصلاة والزكاة والحج والجهاد ، أمنك أم من ربّك؟ فقال النبي مثل ما قال.

فقال الرجل : فأخبرني عن هذا ـ وأشار الى علي عليه‌السلام ـ وقولك فيه : من كنت مولاه ... أمنك أم من ربّك؟ فقال النبي مثل ما قال.

فرفع المخزومي رأسه الى السماء وقال : اللهم إن كان محمد صادقا فيما يقول فأرسل عليّ شواظا من نار! وولّى ، فو الله ما سار بعيدا حتّى أظلّته سحابة سوداء ، فأرعدت وأبرقت وأصعقت فأصابته صاعقة فأحرقته النار. فهبط جبرئيل وهو يقول : اقرأ يا محمد : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ* لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ)(١).

وكفروا بعد إسلامهم :

روى العياشي في تفسيره عن الصادق عليه‌السلام قال : لما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في غدير خم ما قال وانصرفوا الى أخبيتهم ، مرّ المقداد (ابن الأسود الكندي) بجماعة منهم فسمعهم يقولون : والله إن كنّا أصحاب كسرى وقيصر لكنّا في الخزّ والوشي

__________________

(١) جامع الأخبار : ١١ كما عنه في بحار الأنوار ٣٧ : ١٦٧ ، وروى نحوه فرات بن ابراهيم الكوفي في تفسيره : ٥٠٥ ح ٦٦٣ ، عن الصادق عليه‌السلام عن ابن عباس واسم الرجل الحارث بن النعمان الفهري ، ولكن فيه أن ذلك كان بمكة بعد الغدير! وروى قبله مثله عن ابن عباس بلا اشكال فيه واسم الرجل عمرو بن الحارث الفهري. وروى قبله مثله عن أبي هريرة! في أعرابي غير مسمّى. وفي ما قدّمناه يقول : اقرأ يا محمد ... وليس نزل : سأل سائل ... وقد مرّ أنّها مكّية. وانظر الغدير ١ : ٢٣٩ ـ ٢٤٧ ، عن ثلاثين مصدرا ، والمناقشة فيه وأجوبتها الى ٢٦٦ ، وانظر كتاب آيات الغدير : ٢٧٠ فما بعدها.


والديباج والنساجات ، وإنّا معه (محمد) في الاخشنين : نأكل الخشن ونلبس الخشن ، حتى إذا دنا موته وفنيت أيامه وحضر أجله ولّاها عليّا من بعده ، أما والله ليعلمن!

فمضى المقداد حتى أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ... فجاؤوا حتى جثوا بين يديه وقالوا : يا رسول الله لا والذي بعثك بالحق ، والذي أكرمك بالنبوّة ما قلنا ما بلغك ، لا والذي اصطفاك على البشر. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : يحلفون بالله ما قالوا ، ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ، وهمّوا بك يا محمد ليلة العقبة (ما لم ينالوا) وما نقموا إلّا أن أغناهم الله ورسوله من فضله.

وروى قبله عن جابر بن الأرقم عن أخيه زيد بن الأرقم قال : كان الى جانب خبائي خباء لثلاثة نفر من قريش ، وأنا معي حذيفة بن اليمان ، فسمعنا أحدهم يقول : والله إن محمدا لأحمق إن كان يرى أنّ الأمر يستقيم لعلي من بعده! وقال الآخر : ألم تعلم أنّه كاد أن يصرع عند امرأة ابن أبي كبشة؟! وقال الثالث : ادعوه مجنونا أو أحمق ، فو الله ما يكون ما يقول أبدا!

فرفع حذيفة جانب الخباء ومدّ رأسه إليهم وقال لهم : فعلتموها ورسول الله بين أظهركم ووحي الله ينزل عليكم! والله لاخبرنّه بمقالتكم! فقالوا له : يا أبا عبد الله وإنّك لهاهنا وقد سمعت ما قلنا؟ اكتم علينا فإنّ لكلّ جوار أمانة؟ فقال حذيفة : ما هذا من مجالس الأمانة ولا من جوارها ، وما نصحت لله ورسوله إن أنا طويت عنه هذا الحديث! فقالوا له : يا أبا عبد الله فاصنع ما شئت ، فو الله لنحلفنّ أنّا لم نقل ، وأنّك قد كذبت علينا ، أفتراه يصدّقك ويكذّبنا ونحن ثلاثة؟! فقال لهم : أما أنا فلا أبالي إذا أدّيت النصيحة لله ولرسوله ، وقولوا أنتم ما شئتم!

ثمّ مضى الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبره بمقالة القوم ، فبعث رسول الله عليهم فأتوه فقال لهم : ما ذا قلتم؟ قالوا : والله ما قلنا شيئا ، فإن كنت قد بلّغت


عنّا شيئا فمكذوب علينا! فهبط جبرئيل بقوله سبحانه : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ)(١).

وهمّوا بما لم ينالوا :

قال القمي في تفسيره : اجتمع أربعة عشر نفرا من أصحابه صلى‌الله‌عليه‌وآله وتآمروا على قتله ، وقعدوا له في عقبة هر شى بين الجحفة والأبواء (٢) سبعة عن يمينها وسبعة عن يسارها لينفّروا بناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فلما جنّ الليل تقدّم رسول الله العسكر في تلك الليلة ، فأقبل ينعس على ناقته فلما دنا من العقبة ناداه جبرئيل : إن فلانا وفلانا قد قعدوا لك! فلما دنا رسول الله منهم ناداهم بأسمائهم ، فلما سمعوا نداء رسول الله فرّوا ودخلوا في غمار الناس.

فلما نزل رسول الله من العقبة ، جاءوا الى رسول الله فحلفوا أنّهم لم يهمّوا بشيء من رسول الله. فأنزل الله (كذا) : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا ...)(٣).

وروى السيّد ابن طاوس في «اليقين» بأسناده عن حذيفة بن اليمان : أن جمعا من الطلقاء من قريش والمنافقين من الأنصار أقبل بعضهم على بعض ... ودار

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ : ٩٨ و ٩٩ ، ١٠٠ ، والآية من سورة التوبة : ٧٤ ، النازلة بعد حرب تبوك في أواخر السنة التاسعة وقبل حجة الوداع ، فهبوط جبرئيل بالآية إنما هو للتذكير بالآية لا إنزالها لأول مرة ، ولعلّ الصحيح أو الأصح ما مرّ في الخبر السابق.

(٢) انظر الخريطة (٤٠) في أطلس تاريخ الإسلام ، بالفارسية ، وفي القاموس : هر شى مثل سكرى.

(٣) تفسير القمي ١ : ١٧٥ ومثله في الاقبال ٢ : ٢٤٩ عن كتاب النشر والطي ولعلّ الانزال بمعنى إنزال جبرئيل للتذكير بالآية السابقة نزولا قبل الحج ، ولعلّ الأصحّ بل الصحيح ما مرّ عن تفسير العياشي : فقال النبي ... أي تلا الآية في المناسبة.


الكلام فيما بينهم وأعادوا الخطاب وأجالوا الرأي فاتّفقوا على أن ينفروا بالنبي ناقته على عقبة هرشى ـ وقد صنعوا مثل ذلك في غزاة تبوك فصرف الله الشر عن نبيّه ـ وكانوا أربعة عشر رجلا.

وسار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من الغدير باقي يومه وليلته حتى إذا دنوا من العقبة تقدّمه القوم فتواروا في ثنية العقبة ، وقد حملوا معهم دبابا وطرحوا فيها الحصى.

قال حذيفة : ودعاني رسول الله ودعا عمار بن ياسر وأمره أن يسوق ناقته وأنا أقودها ، حتى إذا صرنا في رأس العقبة وكانت ليلة مظلمة غار القوم من ورائنا ودحرجوا الدباب بين قوائم الناقة ، فذعرت وكادت أن تنفر برسول الله ، فصاح بها النبي : أن اسكني وليس عليك بأس ... وتقدّم القوم الى الناقة ليدفعوها ، فأقبلت أنا وعمار نضرب وجوههم بأسيافنا ... فزالوا عنّا وأيسوا مما ظنّوا ودبّروا.

فقلت : يا رسول الله ، ألّا تبعث عليهم رهطا فيأتوا برءوسهم؟! فقال : إنّ الله أمرني أن أعرض عنهم ، وأكره أن يقول الناس إنّه دعا اناسا من قومه وأصحابه الى دينه فاستجابوا له فقاتل بهم حتى ظهر على عدوّه ، ثم أقبل عليهم فقتلهم! ولكن يا حذيفة دعهم فإن الله لهم بالمرصاد ، وسيمهلهم قليلا ثم يضطرّهم الى عذاب غليظ.

وكان عدد القوم أربعة عشر رجلا : تسعة من قريش منهم معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ، وخمسة من سائر الناس : أبو موسى الأشعري وأبو هريرة الدوسي وأبو طلحة الأنصاري وأوس بن الحدثان البصري والمغيرة بن شعبة الثقفي ، ثم تعاقد معهم عليه سالم مولى أبي حذيفة عبد لامرأة من الأنصار شديد البغض والعداوة لعلي عليه‌السلام وقد عرف منه ذلك.

قال ابن اليماني : ثم انحدرنا من العقبة وقد طلع الفجر ، فنزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فتوضأ ثم انتظر أصحابه حتى انحدروا من العقبة واجتمعوا ، فرأيتهم بين الناس ،


صلوا خلف رسول الله. ثم ارتحل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالناس من منزل العقبة ، فلما نزل المنزل الآخر ، وأراد المسير أتوه ، فقال لهم : فيم كنتم تتناجون في يومكم هذا؟ فقالوا : يا رسول الله ، ما التقينا غير وقتنا هذا! فنظر النبي إليهم مليا ثم قال لهم : (أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(١).

ساير آيات المائدة :

مرّ في الآية الثانية من المائدة أنّ الله حرّم الميتة ... فيبدو أن ممن حجّ مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عدي بن حاتم الطائي وزيد بن المهلهل الطائي ، وكان في قومها رجلان من آل درع وآل جويرية لهما ستة أكلب يصيدان بهما حمر الوحش وبقارها والظباء والضبّ ، فمنها ما يدرك ذكاته ومنها ما يموت ، وقد حرّم الله الميتة! (وكان قد حرّمها قبل ذلك كما مرّ) فأتيا رسول الله وسألاه : ما ذا يحلّ لنا منها؟ فنزلت : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ)(٢).

وقد مرّ الخبر : أن عدي بن حاتم كان نصرانيّا فأسلم ، وطبيعي أن ذلك لم

__________________

(١) اليقين لابن طاوس مسندا ، والعلّامة الحلّي في كشف اليقين : ١٣٧ بطريق آخر ، والديلمي في ارشاد القلوب بلا إسناد ٣ : ٣٣٠ ـ ٣٣٣ ، وعنه في بحار الأنوار ٢٨ : ٩٧ ـ ١٠٢ وليس فيه إلّا تلاوة هذه الآية من البقرة : ١٤٠ وليس آية التوبة فضلا عن القول بنزولها هنا ، وهذا هو الأولى.

(٢) مجمع البيان ٣ : ٢٤٨ عن أبي حمزة الثمالي والحكم بن ظهيرة وأسباب النزول للواحدي : ١٥٦ ـ ١٥٧ عن سعيد بن جبير ، والدر المنثور عن الشعبي كما في الميزان ٥ : ٢١٠.


يكن حصرا عليه دون قومه من طيء بل كان كثير منهم مثله نصارى ، وطبيعي أن لم يسلم كلهم معه بل بقي العديد منهم كذلك. فبعد ما شاهد عديّ بن حاتم وزيد بن المهلهل ذلك «التشديد التام في معاشرتهم ومخالطتهم ومساسهم وولايتهم كان من الطبيعي أن لا تسكن نفوسهم من اضطراب لذلك» (١) وبالتأمّل في ذلك يظهر وجه متابعة الآية اللاحقة للسابقة : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ).

فبعد بيان حلّية مواكلتهم ومحصناتهم أي عفيفاتهم بقيودها ، حذّرهم أن لا يسترسلوا في ذلك بما يؤدي الى الكفر بالايمان فذلك يحبط العمل ويورث الخسران (٢).

وآية الوضوء :

كما أنّ المحرّمات من اللحوم في الآية الثالثة من السورة كانت تكريرا للمرة الثالثة تأكيدا ، كذلك حكم الطهارات الثلاث : الوضوء وغسل الجنابة والتيمّم وبدلهما في الآية السادسة هنا تأكيد للآية المشابهة السابقة في سورة النساء (: ٤٣) إلّا أنّها أجملت الاشارة الى الوضوء وهنا فصّلت أفعاله : (... فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ...) وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يتخفّف أحيانا في مسح رجليه بمسح خفيّه ،

__________________

(١) الميزان ٥ : ٢٠٣.

(٢) وانظر الميزان ٥ : ٢٠٨.


فحين نزلت هذه الآية في المائدة «ترك المسح على الخفّين» (١) ويكفي في مناسبة الآية كونهم على سفر وكثيرا ما لا يجدون ماء.

اثنا عشر نقيبا :

وفي الآية (١٢) يذكّر الله المسلمين بنقباء بني اسرائيل الاثني عشر إذ يقول : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً ...) ونقل الطبرسي عن أبي مسلم المفسّر قال : بعثوا أنبياء ليعلّموا الأسباط الاثني عشر التوراة وليقيموا لهم الدين ويأمروهم بما فرض الله عليهم وأمرهم به. وقال أبو القاسم البلخي : يجوز أن يكونوا رسلا ويجوز أن يكونوا قادة. وقال قتادة البصري : شهداء على أقوامهم من أسباط بني إسرائيل الاثني عشر (٢).

وكأن التذكير بهم تمهيد لاعلان ميثاق الولاية في يوم الغدير ، وهي مناسبة النزول. ثم تستمر الآيات خطابا وعتابا على أهل الكتابين اليهود والنصارى الى الآية العشرين.

يا موسى إنّا لن ندخلها أبدا :

ومن (٢٠) الى (٢٥) في التذكير بأمر موسى لقومه أن يدخلوا الأرض المقدسة : (قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها) ...* (قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) وكأن الآيات للتذكير بأن صحبة قوم موسى النبيّ اولي العزم له لم يورثهم عزما فقد بلاهم الله فلم يجد لهم عزما

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٣٠٢ ح ٦٢ ، عن الصادق عن علي عليهما‌السلام.

(٢) مجمع البيان ٣ : ٢٦٥ ، وانظر الميزان ٥ : ٢٤٠.


حتى قال موسى : (رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) وقد سمع المسلمون من نبيّهم أنّ عليّا منه بمنزلة هارون من موسى ، وهو اليوم يأمرهم أن يدخلوا في ولايته ، فمن الممكن للتاريخ أن يتكرّر ويقولوا كما قال قوم موسى له : (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً) وكأن هذا هو مناسبة التذكير بذلك هنا.

نبأ ابني آدم :

وفي الآية (٢٧) قال تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ ...) الى آخر الآية (٣١) من دون إشارة الى باعث تقديمهما القربان المنتهي الى قتل قابيل لهابيل.

وهنا روى العياشي في تفسيره عن سليمان بن خالد قال : قلت لأبي عبد الله الصادق عليه‌السلام : جعلت فداك إنّهم يزعمون أنّ قابيل انما قتل هابيل لأنّهما تغايرا على أختهما؟ فقال لي الصادق عليه‌السلام : يا سليمان ، تقول بهذا؟! أما تستحي أن تروي هذا على نبي الله آدم؟! فقلت : جعلت فداك ، ففيم قتل قابيل هابيل؟ فقال لي : يا سليمان ، إنّ الله تبارك وتعالى أوحى الى آدم أن يدفع الوصيّة واسم الله الأعظم الى هابيل. فبلغ ذلك قابيل وكان أكبر من هابيل فغضب وقال : أنا أكبر منه فأنا أولى بكرامة الوصية! فأمرهما بوحي الله إليه أن يقرّبا قربانا ، ففعلا ، فقبل الله قربان هابيل ، فحسده قابيل فقتله (١).

فكأنّ الآيات تريد التذكير بعاقبة الحسد على أمر الله بالوصية الإلهية من الأنبياء والمرسلين الى أوصيائهم من بعدهم ، وتلك هي مناسبة نزولها هنا في موقعة الغدير.

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٣١٢ ح ٨٣.


حدّ المحارب والمفسد :

وفي الآيتين (٣٣ و ٣٤) جاء حدّ المحارب والمفسد وتوبتهما بلا ذكر خبر عن شأن نزولهما هنا في رجوعهم من حجة الوداع.

روى العياشي في تفسيره عن أبي صالح عن الصادق عليه‌السلام قال : قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قوم من بني ضبّة ، فقال لهم رسول الله : أقيموا عندي فإذا قويتم بعثتكم في سريّة. فقالوا : أخرجنا من المدينة. فبعث بهم الى إبل الصدقة يشربون من أبوالها ويأكلون من ألبانها.

وكان في الإبل ثلاثة نفر يحرسونها ، فلما برئ بنو ضبّة واشتدّوا قتلوا الثلاثة وساقوا الإبل الى واد قريب من أرض اليمن. وبلغ ذلك الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فبعث عليهم عليّا عليه‌السلام فأخذهم فجاء بهم الى رسول الله ونزلت فيهم : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ...) فاختار رسول الله أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف (١).

وفي الخبر ذكر إبل الصدقة ، وقد مرّ أن أخذ الصدقات كان في التاسعة للهجرة ، والآيتان من المائدة النازلة بعد حجة الوداع ، فيقتضي أنّ ذلك كان بعد رجوعهم الى المدينة في أواخر العاشرة للهجرة ، وأنّ هذه الآيات نزلت بعد فترة فاصلة.

حدّ السارق والسارقة :

وفي الآية (٣٨) جاء حدّ السرقة ، وقد روى السيوطي في «الدر المنثور»

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٣١٤ ح ٩٠ ، وقبله الكليني في فروع الكافي ٧ : ٢٤٥ ح ١ عن الأحمر البجلي ، والطوسي في التبيان ٣ : ٥٠٥ ، عن سعيد بن جبير والسدّي وقتادة عن أنس وعنه في مجمع البيان ٣ : ٢٩١ ، وقد مرّ خبرهم في سرية بني ضبّة ٢ : ٥٩٦ ـ ٥٩٨.


عن عبد الله بن عمر : أنّ امرأة سرقت ، فأمر رسول الله بقطع يدها اليمنى فقطعت ، فقالت : يا رسول الله هل لي من توبة؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك! فنزلت : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١).

وعليه فحدّ السرقة لم يكن إلّا في آخر العاشرة للهجرة في المدينة بعد رجوعهم من حجة الوداع ، اللهم إلّا أن يكون من قبل ذلك بسنّته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعليه فالآية هنا ليست من آيات الاحكام التشريعية وإنّما نزلت تأكيدا لذلك ، وتأييدا لجواب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بشأن توبتها.

وفي الآية (٤١) : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا ...) قال القمي في تفسيره في سبب نزولها إنّها نزلت في شكوى بني قريظة من بني النضير في ديات قتلاهم وفيه ذكر عبد الله بن أبي (٢) وأشار إليه الطوسي في «التبيان» ناسبا له الى الإمام الباقر عليه‌السلام (٣) ثم روى عنه عليه‌السلام أيضا : أنّها نزلت في زنا امرأة منهم من أهل خيبر وتبديلهم حد الرجم الى الجلد وفيه ذكر عبد الله بن صوريا (٤) وسبق منه ذكر

__________________

(١) انظر الميزان ٥ : ٣٣٦ ، عن الدر المنثور. والواحدي في أسباب النزول : ١٥٩ نقل عن الكلبي أنّها نزلت في طعمة بن ابيرق. وقد مرّ خبره في السنة الرابعة بآيات من سورة النساء.

(٢) تفسير القمي ١ : ١٦٨.

(٣) التبيان ٣ : ٥٢٣.

(٤) التبيان ٣ : ٥٢٥ ، وعنه في مجمع البيان ٣ : ٢٩٩.


مختصر خبره في سورة البقرة (١) وذلك أولى ، فإن نزول المائدة كان بعد أخبار قريظة والنضير وخيبر جميعا.

أهل الكتاب والمنافقون والمرتدّون :

وتستمر الآيات من الأربعين الى الخمسين في سياق واحد يلوح منه أنّها تذكّر بجمع من أهل الكتاب اليهود حكّموا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في بعض أحكام التوراة ، وهم يرجون أن يحكم لهم بما يستريحون إليه تخفيفا مما حكمت به التوراة ، وقال بعضهم لبعض : إن أتيتم ما يوافقنا فخذوه وإن لم تؤتوه وأتيتم حكم توراتكم الشديد فاحذروه! وأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ردّهم الى حكم توراتهم ، فتولوا عنه. وأنّه كان هناك طائفة من المنافقين يميلون لمثله يريدون أن يفتنوه فيحكم بينهم بالهوى ورعاية الأقوياء ، وهو حكم الجاهلية (٢).

ثم الآيات الأربع بعدها الى (٥٤) تنهى المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى ، وتذكّر بمسارعة مرضى القلوب منهم في اللجوء الى اليهود خوفا من الدوائر ، هذا وهم يقسمون بالله أنّهم مع المؤمنين. وهنا الآية (٥٤) تتنبّأ بارتداد بعض الذين آمنوا عن دينهم وتقول : (... فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ).

قال الطبرسي : واختلف في من وصف بهذه الأوصاف منهم ، وروى أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) التبيان ٣ : ٣٦٣ ، وعنه في مجمع البيان ١ : ٣٢٥.

(٢) انظر الميزان ٥ : ٣٣٨ و ٣٣٩.


سئل عن هذه الآية ، فضرب بيده على عاتق سلمان وقال : هذا وذووه ، ثم قال : لو كان الدين معلّقا بالثريّا لتناوله رجال من أبناء فارس (١).

وفي تفسير العياشي عن بعض أصحاب الصادق عليه‌السلام قال : سألته عن هذه الآية فقال عليه‌السلام : هم الموالي (٢).

وأفاد المفيد في «الجمل» عن عمار بن ياسر أنّه قال يوم الجمل : والله ما نزل تأويل هذه الآية ... إلّا اليوم (٣) هذا ، ورفعه الطوسي الى علي عليه‌السلام وعمار وابن عباس وحذيفة والباقر والصادق عليهما‌السلام (٤) بلا رواية ، خلافا لرواية العياشي. وتفيد الآية أوصاف من يجب عليهم أن يتولونه وتجعل ذلك علامة عليه ، فهي أيضا ترتبط بموضوع الولاية ، وهي مناسبة النزول.

آيتا الولاية والتبليغ وما بينهما :

وهنا في الآية (٥٥) كأنّه آن الأوان ليشير القرآن الى ذلك الوليّ بتلك الأوصاف مضيفا صفة خاصّة تخصّه وتعيّنه فقال : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ).

وقد مرّ إيراد ما أفاد إعطاء علي عليه‌السلام خاتمه زكاة أي صدقة مطلقة للسائل وهو راكع في صلاته في المسجد الحرام بمكة ونزول الآية ضمن آي السورة هناك قبل الغدير تمهيدا له.

__________________

(١) مجمع البيان ٥ : ٣٢١.

(٢) تفسير العياشي ١ : ٣٢٧ ح ١٣٦.

(٣) الجمل : ٣٦٦.

(٤) التبيان ٣ : ٥٥٥.


والآيات العشر التالية من (٥٧) الى (٦٦) ذات سياق واحد يقصد به بيان وظيفة المؤمنين في علاقاتهم مع غيرهم من أهل الكتاب اليهود والنصارى ، فتنهاهم عن اتّخاذ المستهزئين بالله وآياته من أهل الكتاب والكفّار أولياء ، وتعد أمورا من مساوئ صفاتهم ونقضهم مواثيقهم مع ربّهم وعهودهم ، وما يلحق بذلك مما يناسب غرض سورة المائدة من الترغيب في حفظ العقود والعهود ، والترهيب عن نقضها. ومن الاحتمال الراجح أن يكون لبعض أجزائها أسباب مستقلّة نزولا ، وقد رووا بالفعل لها أسبابا ، إلّا أنّها لا تلائم الموقع المكاني والزماني لنزول المائدة بعد حجة الوداع.

أما الآية (٦٧) فهي المعروفة بآية التبليغ : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) فقد سبق القول المفصّل عنها وأخبارها في حديث الغدير ، وبناء على ذلك لا يبقى ريب في أنّ الآية لا تشارك الآيات السابقة واللاحقة لها في سياقها ، ولا تتصل بها في سردها ، وإنّما هي آية مفردة عنها (١).

والآيات بعدها الى (٨٦) تعود جارية على سياق الآيات السابقة من أوائل السورة الى هنا ، فإنّها يجمعها أنّها كلام في أهل الكتاب خطابا وعتابا (٢).

لا تحرّموا ما أحلّ الله لكم :

والآيات الثلاث من (٨٧) الى (٨٩) من آيات أحكام الأيمان اللاغية

__________________

(١) وانظر الميزان ٦ : ٢٧ و ٤٢ ـ ٤٨.

(٢) انظر الميزان ٦ : ٦٤.


والمعقودة وكفّارتها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ...) وروى القمي في تفسيره بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : نزلت هذه الآية في أمير المؤمنين عليه‌السلام وبلال وعثمان بن مظعون ، فأما أمير المؤمنين عليه‌السلام فحلف أن لا ينام بالليل أبدا ، وأما بلال فإنّه حلف أن لا يفطر بالنهار أبدا ، وأما عثمان بن مظعون فإنه حلف أن لا ينكح أبدا. فدخلت امرأة عثمان على عائشة ... فقالت لها عائشة : مالي أراك معطّلة؟! فقالت : ولمن أتزيّن؟! فو الله ما قاربني زوجي منذ كذا ، فإنّه قد ترهّب ولبس المسوح وزهد في الدنيا.

فلما دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبرته عائشة بذلك ، فخرج فنادى : الصلاة جامعة!

فاجتمع الناس ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : «وما بال أقوام يحرّمون على أنفسهم الطيّبات؟! ألا إنّي أنام الليل ، وأنكح ، وأفطر بالنهار ، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي». فقام هؤلاء فقالوا : يا رسول الله فقد حلفنا على ذلك؟

فأنزل الله تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(١).

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١٧٩ ، ١٨٠ ، وروى صدره الطبرسي في مجمع البيان ٣ : ٣٦٤ مرسلا ، والطوسي في التبيان ٤ : ٨ إنّما أجمل نقله عن إبراهيم وأبي مالك وأبي قلابة وعكرمة وقتادة والسدّي والضحاك عن ابن عباس وزاد فيهم ابن مسعود وابن عمر ، وان ابن مظعون استأذنه صلى‌الله‌عليه‌وآله للاختصاء والسياحة والترهّب وجبّ ذكره! عن السدي.


وروى صدره الطبرسي في «مجمع البيان» ونقلهما الطباطبائي في «الميزان» واكتفى في التعليق عليه بقوله : في انطباق الآية : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ...) على أيمانهم خفاء (١).

هذا ، ولا يخفى أن عثمان بن مظعون أوّل مهاجر مات بعد الهجرة سنة اثنين ، وهو أوّل من دفن بالبقيع وثنّته رقية ابنة رسول الله فدفنها إليه وقال لها : الحقي بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون (٢) أي كان ذلك قبل المائدة بثمان سنين! فكيف التوفيق؟!

وروى السيوطي في «الدر المنثور» عن الطبري وغيره : أن عبد الله بن رواحة كان عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودخل ضيف له على أهله ، فلما رجع إليهم وجدهم انتظروه ليطعموهم فقال لأهله : حبست ضيفي من أجلي؟! هو حرام علي! فقالت امرأته : هو علي حرام! فقال الضيف : هو علي حرام! فلما رأى ذلك وضع الطعام وقال كلوا باسم الله. ثم أخبر النبي بذلك ، فقال له : لقد أصبت ، فأنزل الله الآية.

نقله عنه الطباطبائي واحتمله سببا آخر لنزول الآية (٣) لا يرى تنافيا بين نزول المائدة في العاشرة وشهادة ابن رواحة في التاسعة في غزوة مؤتة.

والآيات الثلاثة بناء على هذين السببين في النزول كالمتخلّلة بين الآيات المتعرضة لقصص المسيح والمسيحيين (٤) بينما في رواية أخرى للطوسي في «التبيان» عن إبراهيم وأبي مالك وقتادة ومجاهد عن ابن عباس : أن ما اقتضى هنا ذكر

__________________

(١) الميزان ٦ : ١١٢.

(٢) قاموس الرجال ٧ : ١٧١ و ١٧٠ عن فروع الكافي ٣ : ٢٤١ ، وراجع هذا الكتاب ٢ : ٣٢١.

(٣) الميزان ٦ : ١١٥ عن الدر المنثور ، وذكر مختصر الخبر الطوسي في التبيان ٤ : ٦ ، وعنه الطبرسي في مجمع البيان ٣ : ٣٦٧.

(٤) الميزان ٦ : ١٠٦.


النهي عن تحريم الطيّبات هو حال الرهبان الذين كانوا يحرّمون على أنفسهم المطاعم الطيّبة والمشارب اللذيذة ، والنساء ، ويسيحون في الأرض ويحبسون أنفسهم في الصوامع ، وقد همّ قوم من الصحابة أن يماثلوهم ، فنهاهم الله عن ذلك (١).

وروى الواحدي في «أسباب النزول» بسنده عن عكرمة عن ابن عباس أيضا قال : إنّ رجلا أتى النبيّ وقال : إنّي إذا أكلت اللحم انتشرت الى النساء فحرّمت عليّ اللحم! فنزلت (٢).

وهذان مما لا يتنافى مع موقع نزول المائدة بعد حجة الوداع ، وإنّما يلائمانه وينسجمان معه.

تأكيد تحريم الخمر :

تقدّم تحريم اثم الخمر بالآية (٢١٩) من سورة البقرة في الجزء الثاني في حوادث السنة الثانية : ١٨٥ ، ثم تشديد تحريمها بعد احد بل بعد غزوة بني النضير في شهر ربيع الأول للسنة الرابعة ٢ : ٤٢٧ ، ولعلّها كانت بمناسبة نزول سورة النساء وفيها الآية (٤٣) : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) وكان فيه خبر سكب قرب الفضيخ من البسر والتمر ، ولكن القمي نقله في تفسيره للآيات (٩٠ ـ ٩٣) من سورة المائدة.

وقال الزمخشري في «ربيع الأبرار» انزل في الخمر ثلاث آيات : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ...)(٣) ، فكان المسلمون بين شارب وتارك ، الى أن شربها رجل فدخل في صلاته فهجر ،

__________________

(١) انظر التبيان ٤ : ٧.

(٢) أسباب النزول للواحدي : ١٦٦. ورواه في الميزان ٦ : ١١٤ ، ١١٥ عن الدر المنثور.

(٣) البقرة : ٢١٩.


فنزل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ...) فشربها من شربها من المسلمين حتى شربها عمر فأخذ بلحي بعير فشجّ رأس عبد الرحمن بن عوف ، ثم قعد ينوح على قتلى بدر بشعر الأسود بن يعفر :

وكاين بالقليب قليب بدر

من الفتيان والشرب الكرام

وكاين بالقليب قليب بدر

من الشيزى المكلّل بالسنام

أيوعدنا ابن كبشة أن سنحيا

وكيف حياة أصلاء وهام؟!

أيعجز أن يرد الموت عنّي

وينشرني إذا بليت عظامي؟!

ألا من مبلغ الرحمن عنّي

بأنّي تارك شهر الصيام!

فقل لله : يمنعني شرابي

وقل لله : يمنعني طعامي!

فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فخرج مغضبا يجرّ رداءه وكان في يده شيء فرفعها ليضربه فقال عمر : أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله! فأنزل الله الآيات الى قوله سبحانه : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)؟! فقال عمر : انتهينا انتهينا!

ورواه السيوطي في «الدر المنثور» بسنده عن سعيد بن جبير وفيه : قال عمر : يا ضيعة لك اليوم! قرنت بالميسر! أو قال : اقرنت بالميسر والأنصاب والأزلام؟! بعدا لك وسحقا! وتركها الناس (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٣١٥ و ٣١٧ ، ٣١٨ وهي رواية سعيد بن جبير عن علي عليه‌السلام كما في المستدرك على الصحيحين للحاكم الحسكاني ٢ : ٣٠٧ و ٤ : ١٤٢ وروى معناه القرطبي في تفسيره جامع أحكام القرآن ٥ : ٢٠٠ ، والآلوسي البغدادي في تفسيره روح المعاني ٧ : ١٧ ، عن عطاء بن رياح الخراساني عن ابن عباس ، والأبشيهي في المستطرف ٢ : ٤٩٩ ، والزمخشري في ربيع الأبرار كما عنه في الغدير ٦ : ٢٥١.


وثنّاه بخبر آخر أسنده الى سعد بن أبي وقاص قال : إنّ رجلا من الأنصار صنع طعاما ودعانا ، فأتاه ناس ـ وكان ذلك قبل أن يحرّم الخمر ـ فأكلوا وشربوا من الخمر حتى انتشوا! فتفاخروا ، فقالت الأنصار : الأنصار خير ، وقالت قريش : قريش خير ، فأهوى رجل بلحي جزور على أنفي ففزره ، فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فذكرت ذلك له ، فنزلت الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)(١).

يظهر من الخبر أن سعدا كأنّه أحسّ بسعادة الحظّ لحظر الخمر على أثر فرز أنفه بلحي جزور بيد رجل من الأنصار انتصارا لهم على المهاجرين من قريش ومنهم سعد ويقول : ذلك قبل أن تحرّم الخمر ... فنزلت الآية من سورة المائدة ، النازلة بعد حجة الوداع في العاشرة من الهجرة ، فهل كان كذلك؟

وقد أخرج الخطيب عن عائشة قالت : لما نزلت سورة البقرة نزل فيها تحريم الخمر ، فنهى رسول الله عن ذلك (٢) وتعني الآية (٢١٩) : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ ...).

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٣١٥ و ٣١٧ ، ٣١٨ ، واختصر خبره الطوسي في التبيان ٤ : ١٨ ، ورواه الطبرسي في مجمع البيان عن ابن عباس مختصرا ، وفي أسباب النزول للواحدي : ١٦٨ ، عن صحيح مسلم ، وفيه : المهاجرون بدل الأنصار.

(٢) أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه ٨ : ٣٥٨ ، وعنه السيوطي في الدر المنثور ١ : ٢٥٢ ، وبه قال الحسن البصري كما عنه في مجمع البيان ٢ : ٥٥٨ ، والجصاص في أحكام القرآن ١ : ٣٨٠.


وبمعناه خبر الكليني في «الكافي» عن علي بن يقطين عن الكاظم عليه‌السلام (١).

وروى الشوكاني في تفسيره عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : حرّمت الخمر بعد احد (٢).

وأخرج ابن شبة في «تاريخ المدينة المنوّرة» بسنده عنه أيضا أن ذلك كان بعد غزوة بني النضير في السنة الرابعة (٣) وقال ابن هشام في شهر ربيع الأول (٤).

وعليه فخبر سعد غير سعيد الحظ بالقبول ، وأولى منه الخبر السابق. وإنّ في الآيات إشعارا أو دلالة على أنّ رهطا من المسلمين ما تركوا شرب الخمر بعد نزول آية البقرة حتى نزلت هذه الآيات من المائدة ... وإن ما ابتلى به رهط منهم من شربها فيما بين نزول آية البقرة وآية المائدة إنّما كان كالذنابة لسابق العادة السيئة (٥) ولم تنزل آية المائدة إلّا تشديدا عليهم ، لتساهلهم في الانتهاء بهذا النهي الإلهي (٦).

وعن الباقر عليه‌السلام قال : ليس أحد أرفق من الله تعالى ، فمن رفقه تبارك وتعالى أنّه ينقلهم من خصلة الى خصلة ، ولو حمل عليهم جملة لهلكوا.

وعنه عليه‌السلام قال : ما بعث الله نبيّا قط إلّا وفي علم الله أنّه إذا أكمل دينه كان فيه تحريم الخمر ، ولم يزل الخمر حراما ، وإنّما ينقلون من خصلة ثم خصلة ، ولو حمل ذلك عليهم جملة لقطع بهم دون الدين (٧).

__________________

(١) فروع الكافي ٢ : ٢١٣.

(٢) تفسير الشوكاني ٢ : ٧١.

(٣) تاريخ المدينة المنوّرة ١ : ٦٩.

(٤) ابن هشام في السيرة ٣ : ٢٠٠.

(٥) الميزان ٦ : ١٣٣.

(٦) الميزان ٦ : ١٣٥.

(٧) الكافي ٦ : ٣٩٥ ح ١ و ٢ و ٣ والتهذيب ٩ : ١٠٢ ح ١٧٩ و ١٨٠ ، والغريب أنّ


وفي الآية الأخيرة : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (٩٣).

وقال القمي في تفسيره للآية : فلما نزل تحريم الخمر والميسر والتشديد في أمرهما قال المهاجرون والأنصار للنبيّ : يا رسول الله ، قتل أصحابنا وهم يشربون الخمر ، وقد سمّاه الله رجسا وجعله من عمل الشيطان وقلت فيه ما قلت ، أفيضرّ أصحابنا ذلك شيئا بعد ما ماتوا؟ فأنزل الله الآية (١).

والآيات بعدها من (٩٤) الى (٩٩) عادت الى بيان أحكام صيد البرّ والبحر حال الاحرام ، مما يناسب نزول السورة في حجة الوداع.

اما الآية المائة : (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فقد روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري : أنّ الله حرّم شرب الخمرة وقال النبي فيها : إنّ الله لعن عاصرها وبائعها وآكل ثمنها ، فقام إليه أعرابي فقال : يا رسول الله اني اقتنيت من بيع الخمر مالا ، فهل ينفعني إن عملت فيه بطاعة الله؟ قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن الله لا يقبل إلّا الطيّب فإن أنفقته في صدقة أو حجّ أو جهاد لم يعدل عند الله جناح بعوضة! وأنزل الله تصديقا له الآية : (قُلْ لا يَسْتَوِي)(٢).

__________________

ـ الطباطبائي أورد هذين الخبرين وقال : إنّ الشارع تدرّج في تحريم الخمر ولكن لا ... لمصلحة السياسة الدينية في إجراء الأحكام الشرعية! الميزان ٦ : ١١٧.

(١) تفسير القمي ١ : ١٨١ ، ١٨٢ ورواه الطوسي عن ابن عباس ٤ : ٢٠ وعنه في مجمع البيان ونحوه في أسباب النزول للواحدي : ١٧٠ عن البخاري عن البراء بن عازب.

(٢) أسباب النزول للواحدي : ١٧١.


لا تسألوا عمّا يسوؤكم :

وفي الآية التالية الواحدة بعد المائة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ...) روى القمي في تفسيره للآية بسنده عن الباقر عليه‌السلام : أن ابنا لصفيّة بنت عبد المطّلب مات ، فأقبلت الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (مذهولة وكان قد بدا قرط لها) فقال لها (عمر) : غطّي قرطك فإن قرابتك من رسول الله لا تنفعك شيئا! فقالت له : وهل رأيت لي قرطا يا ابن اللخناء (١)؟ ثم دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبرته بذلك وبكت.

فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فنادى الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس ، فقال : ما بال أقوام يزعمون أن قرابتي لا تنفع ، لو قد قمت المقام المحمود لشفّعت في أحوجهم ، لا يسألني اليوم أحد : من أبواه؟ الا أخبرته!

فقام إليه رجل فقال : من أبي؟ فقال : أبوك غير الذي تدعى له هو فلان.

فقام آخر فقال : من أبي؟ فقال له : أبوك الذي تدعى له.

ثم قال رسول الله : ما بال الذي يزعم أن قرابتي لا تنفع لا يسألني عن أبيه؟!

فقام إليه (عمر) فقال له : أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله ، اعف عنّي عفا الله عنك ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ ...)(٢).

ونقل الطوسي في «التبيان» عن الحسن البصري والسدّي وقتادة وطاوس عن أبي هريرة وابن عباس وأنس : أنّ رجلا كان يطعن في نسبه يدعى عبد الله سأل رسول الله : يا رسول الله من أبي؟ فقال له : حذافة ، ونزلت الآية (٣).

__________________

(١) اللخناء : المنتنة ، أو التي لم تختن. مجمع البحرين ٦ : ٣٨٠.

(٢) تفسير القمي ١ : ١٨٨.

(٣) التبيان ٤ : ٣٦.


ولكن الطبرسي في «مجمع البيان» نقله عن الزهري عن قتادة عن أنس قال : كان رجل من بني سهم يقال له عبد الله بن حذافة (١) ، ويطعن في نسبه ، فقام الى رسول الله وقال له : يا نبي الله من أبي؟ فقال : أبوك حذافة بن قيس.

فقام إليه رجل آخر وقال : يا رسول الله أين أبي؟ فقال : في النار!

فقام عمر بن الخطاب وقبّل رجل رسول الله (كذا) وقال : يا رسول الله ، إنّا حديثو عهد بجاهلية وشرك ، فاعف عنّا عفا الله عنك ، فسكن غضبه.

أما عن ابن عباس فقد نقل أنّه قال : كان بعضهم يسأله من أبي؟ ويقول الآخر : أين أبي؟ ويسأله من ضلت ناقته عنها ، امتحانا أو استهزاء ، فأنزلت الآية.

وعن أبي أمامة الباهلي عن علي عليه‌السلام : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال في خطبته : إن الله كتب عليكم الحج. فقام إليه عكّاشة بن محصن أو سراقة بن مالك فقال : أفي كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه ، فأعادها مرتين أو ثلاثا فقال رسول الله : ويحك وما يؤمّنك أن أقول : نعم ، والله لو قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت ما استطعتم ، ولو تركتم لكفرتم! فاتركوني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم! فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه (٢).

والطباطبائي في «الميزان» نقل خبر عبد الله بن حذافة السهمي عن «الدر المنثور» ثم علق عليه يقول : الرواية على اختلاف متونها مروية بعدة طرق ، ولكنّها غير قابلة الانطباق على الآية (٣) إذ الآية تدل على أنّ المسئول عنها أشياء من

__________________

(١) وكان من المهاجرين الى الحبشة ، وهو رسول رسول الله الى الملك خسرو پرويز الساساني ، ولكنّه هو الذي حثّ خالدا على قتال بني جذيمة بعد فتح مكة.

(٢) مجمع البيان ٣ : ٣٨٦.

(٣) الميزان ٦ : ١٥٥.


الأحكام الشرعية كخصوصيّات متعلّقات الأحكام ، مما ينتج الاصرار في المداقة فيها التشديد ونزول التحريج كلما أمعن في السؤال ، كما في قصّة بقرة بني إسرائيل (١).

وعليه فأوفق أخبار أسباب النزول انطباقا على الآية خبر علي عليه‌السلام عن خطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحج وسؤال سراقة أو عكّاشة ، والغريب أن الطباطبائي لم يذكره.

الجزية من أهل الكتاب دون الأعراب :

وفي الآية (١٠٥) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) روى الواحدي عن الكلبي عن ابن عباس قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد كتب الى المنذر بن ساوى على أهل هجر يدعوهم الى الاسلام ، وكان قد كتب إليه : أما العرب فلا تقبل منهم إلّا الإسلام أو السيف ، وأما أهل الكتاب والمجوس فاقبل منهم الجزية.

فلما قرأ المنذر عليهم إنذار رسول الله أسلم العرب ، وأعطى أهل الكتاب والمجوس الجزية. فقال منافقو العرب : عجبا من محمد يزعم أنّ الله بعثه ليقاتل الناس كافة حتى يسلموا ولا يقبل الجزية إلّا من أهل الكتاب ، ونراه يقبل من مشركي أهل هجر ما لم يقبله من مشركي العرب! فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ ...) من أهل الكتاب (إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) أنتم (٢).

__________________

(١) الميزان ٦ : ١٥٣ ، إذ يرجع مفاد الآية الى قولنا : لا تسألوا عن أشياء عفا الله وسكت عنها ، وإن تسألوا عنها حين ينزّل القرآن تبد لكم ، وإن تبد لكم تسؤكم. وانظر الميزان ٦ : ١٥٤.

(٢) أسباب النزول للواحدي : ١٧٢.


وشهادة أهل الكتاب في السفر :

وفي الآيتين التاليتين : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ* فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) روى الواحدي في «أسباب النزول» عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان تميم الداري وعدي بن زيد (التاجران النصرانيان) يختلفان الى مكة ، فصحبهما رجل (مسلم) من بني سهم (للتجارة الى الشام) فمرض بأرض ليس بها أحد من المسلمين فأوصى إليهما بتركته ، وكان فيها جام من فضة مخوص بالذهب ، فلما رجعا الى أهله في مكة ودفعا تركته إليهم كتما الجام ، ولما سألهما أولياء السهمي قالا : لم نره. فاتي بهما الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاستحلفهما بالله ما كتما ولا اطّلعا ، وخلّى سبيلهما.

ثم وجد الجام عند قوم من أهل مكة ، فسألوهم عنه فقالوا : ابتعناه من تميم الداري وعدي بن زيد. فقام أولياء السهميّ وحلف رجلان منهم بالله أن هذا الجام جام صاحبنا وشهادتنا أحق من شهادتهما ، وما اعتدينا ، وأخذوا الجام ، ونزلت الآيات (١)

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ١٧٢ ، ١٧٣ ، هذا وقد قال القمي في تفسيره للآيات : إنّها نزلت في ابن بندي (عدي ظ) وابن أبي مارية النصرانيّين وخرج معهما تميم الداري المسلم ... فلما مرّوا بالمدينة حضره الموت ... فقدم النصرانيّان المدينة على ورثة الميت ... تفسير القمي ١ : ١٨٩ ، وهو كما ترى مضطرب المتن جدا. ورواه الكليني في الكافي عنه قال : عن رجاله رفعه ... وحذف : فلما مرّوا بالمدينة. ولكنّه نقل : خرج ... وقدما ـ المدينة كما عنه في الميزان ٦ : ٢١٣ وهو مع ذلك لم يسلم من اضطراب المتن أيضا.


تنفيذا وتصويبا لحكمه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وظاهر الخبر أن كل ذلك كان بمكة في حجة الوداع.

والآيات التاليات بما فيها من قصة مائدة المسيح كلها مرتبطة بغرض السورة الذي افتتحت به وهو الدعوة الى الوفاء بالعهد ، والشكر للنعمة ، والتحذير عن نقض العهود وكفران النعم الإلهية (١).

والآيات بعدها أيضا تنطبق على الغرض النازل لأجله السورة وهو بيان الحق لله على عباده أن يفوا بالعهد الذي عقدوه ، وأن لا ينقضوا الميثاق ، فليس لهم أن يسترسلوا كيفما أرادوا فليس لهم هذا الحق من ربّهم أن يرتعوا حيث شاءوا (٢).

وحسن ختام كلامه سبحانه الآية (١٢٠) من السورة : (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهذا آخر عهدنا بنزول وحي القرآن الكريم.

__________________

وقال الطوسي في التبيان ٤ : ٤٢ ذكر أبو جعفر عليه‌السلام : أنّ سبب نزول هذه الآية (كذا) ما قال أسامة بن زيد عن أبيه قال : كان تميم الداري وأخوه عدي نصرانيين وكان متجرهما الى مكة ، فلما هاجر رسول الله الى المدينة قدم ابن أبي مارية مولى عمرو بن العاص المدينة وهو يريد الشام فخرج معهما ... فهل كان ذلك بعيد الهجرة؟! بمال مولاه عمرو بن العاص العاصي يومئذ على الإسلام؟! بل في الخبر : رجعا بالمال الى الورثة. فمن هم ورثة المولى؟! ثم يقول ٤ : ٤٧ : فحلف عبد الله بن عمرو (بن العاص) والمطّلب بن أبي وداعة السهمي ... فكيف هذا؟! ومتى كان؟ ونقله الطبرسي في مجمع البيان ٣ : ٣٩٥ ، بتحرير وتحوير ومنه : أن ثلاثتهم خرجوا من المدينة ... بلا ذكر مكة. ولكنّه لم يتخلّص من ذكر ورثة المولى لعمرو بن العاص. ثم ذكره أحد الشاهدين ٣ : ٤٠٠ ، ولهذا الأمر العجاب من الاضطراب رجّحنا ما ذكرته عن الواحدي.

(١) الميزان ٦ : ٢١٩.

(٢) الميزان ٦ : ٢٤١.


رجوع الرسول الى المدينة :

قال الواقدي : كان رسول الله إذا خرج الى الحج (كذا) سلك على (مسجد) الشجرة ، وإذا رجع من مكة دخل المدينة من المعرّس (١) ولما نزل المعرّس وأناخ بالأبطح ليلا نهى أصحابه أن يطرقوا نساءهم ليلا ، فطرق منهم رجلان فوجدا ما كرهاه ، وأما هو فكان فيه عامّة الليل. وقال لنسائه : هذه الحجة ، ثم ظهور الحصر (٢).

ولم يؤرّخ ليوم عودته الى مدينته ، إلّا أنّ ابن اسحاق قال : فأقام بالمدينة بقية ذي الحجة (٣) وقد مرّ أن خروجه من المدينة للحج كان لأربع بقين من ذي القعدة ، ودخوله الى مكة كان لأربع من ذي الحجّة ، فتكون مدة سفرته للحج ثمانية أيام ، فكذلك العودة ، ويظهر مما مرّ أن خروجه من مكة كان في الرابع عشر من ذي الحجة ، ولأربعة أيام أي في الثامن عشر من ذي الحجة كان في موضع غدير خم قرب الجحفة على بعد (١٨٥ كم) من مكة ، ويكون قد قطع سائر المسافة في أربعة أو خمسة أيام ، فيكون وصوله المدينة للاسبوع الأخير من ذي الحجة ، وإن أقام بخم ـ كما مرّ في خبر ـ ثلاثة أيام ، فيكون وصوله للخامس والعشرين من ذي الحجة.

الإسلام وبنو حنيفة :

مرّ في أخبار كتب النبيّ الاولى كتابه الى أميري بني حنيفة في اليمامة :

__________________

(١) وعرّف الحموي المعرّس بذي الحليفة وهو موضع مسجد الشجرة ، فيكون الموضعان واحدا ، فالخبر فيه إبهام.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ١١١٥ وتمام الخبر : فاطاعته ابنة عمته زينب بنت جحش وسودة بنت زمعة ، وأما سائر نسائه فكنّ يحججن (خلافا لنهيه).

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٥٣.


هوذة بن علي وثمامة بن أثال الحنفيين ، وأنّهما لم يستجيبا له ، واشترط هوذة أن يجعل له بعض الأمر ليتّبعه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا ، ولا كرامة له ، باد وباد ملكه ، فلما رجع من فتح مكّة أخبره جبرئيل باستجابة دعائه بهلاكه. وقال في ثمامة : اللهم أمكني من ثمامة. فأمكنه الله منه بالأسر حتى أسلم ودعا من تبعه لذلك ، قبل فتح مكة في منتصف الثامنة للهجرة.

وكان من تأليفه صلى‌الله‌عليه‌وآله الامراء الى الإسلام أنّهم إن أسلموا سلموا وسلم لهم ما هم عليه من الإمرة ، وإذ لم يكن إسلام ثمامة كذلك لم يذكر في المصادر الاولى عاملا له على اليمامة (١).

ولعلّه لذلك لم يسلم بنو حنيفة على يديه بل وفدوا عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله الى المدينة ، ومعهم مسيلمة بن جيب. وتخلّف الرجل في رحالهم ، فلما وفدوا عليه وأسلموا وأمر لهم بما كان يأمر به للوفود من العطاء ، قالوا له : وقد خلّفنا في رحالنا وركابنا صاحبا لنا يحفظها علينا. فقال لهم : أما إنّه ليس بشرّكم مكانا ، وأمر له بمثل ما أمر لهم من العطاء.

فلما رجعوا وأخبروه بذلك وجاءوه بما أعطاه ، كأنّه طمع فيما طمع من قبل هوذة بن علي أن يجعل له بعض الأمر أو نصفه ليتّبعه! فأتى رسول الله في جمع منهم يسترونه بالثياب ، ورسول الله جالس في أصحابه معه جريدة من سعف النخل في رأسه بعض الخوص ، فلما سأله ذلك قال له رسول الله : لو سألتني هذا القسيب (ـ الجريد) ما أعطيتكه!

ولكنّه مع ذلك لما رجع مع الوفد الى اليمامة قال لهم : ألم يقل لكم حين ذكرتموني له : أما إنّه ليس بشرّكم مكانا؟! ما ذاك إلّا لما كان يعلم أنّي قد أشركت معه في الأمر! ثم وضع عنهم الصلاة وأحلّ لهم الخمر والزنا ، وقال في

__________________

(١) اللهم إلّا ما في المنتقى للكازروني ، وعنه في بحار الأنوار ٢١ : ٤١٣.


مضاهاة القرآن : «لقد أنعم الله على الحبلى ، أخرج منها نسمة تسعى ، ما بين صفاق وحشى» فتابعوه (١).

فكتب الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من مسيلمة رسول الله الى محمد رسول الله ، سلام عليك ، أما بعد ، فإني قد اشركت في الأمر معك ، وإن لنا نصف الأرض ، ولقريش نصف الأرض ، ولكن قريشا قوم يعتدون» وبعث بالكتاب مع رسولين. فحين قرئ كتابه على رسول الله قال لهما : فما تقولان أنتما؟ قالا : نقول كما قال! فقال لهما : أما والله لو لا أنّ الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما!

ثم كتب الى مسيلمة : «بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله الى مسيلمة الكذّاب ، السلام على من اتّبع الهدى ، أما بعد ، فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، والعاقبة للمتّقين» وذلك في آخر سنة عشر (٢).

وروى الطوسي في «التبيان» عن الحسن البصري : أنّ مسيلمة أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال لأحدهما : أتشهد أنّ محمدا رسول الله؟ قال : نعم ، قال : أفتشهد أنّي رسول الله؟ فقال : نعم. ثم دعا بالآخر فقال : أتشهد أنّ محمدا رسول الله؟ قال : نعم ، فقال له : أتشهد أنّي رسول الله؟ فسكت ، فأعادها عليه مرّتين فقال الرجل : إنّي أصمّ ، فضرب عنقه ، فبلغ ذلك رسول الله فقال : أما المقتول فقد مضى على صدقه ويقينه وأخذ بفضله فهنيئا له! وأما الآخر فقد قبل رخصة الله فلا تبعة عليه (٣).

أو قال : أما الأول فقد أخذ برخصة الله ، وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئا له (٤).

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٢٢ ، ٢٢٣.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٤٧.

(٣) أسباب النزول للواحدي : ٢٣١ والكشاف ٢ : ٤٣٠ والقرطبي ١٠ : ١٨٠ والجلالين : ٣٧٦.

(٤) الطبري ٣ : ١٨٧.


وعليه فهو آخر شهيد من الصحابة على عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله قتل بيقينه وصدقه مؤثرا فضيلة الشهادة في سبيل الحق على الأخذ برخصة التقيّة ، كما كان ياسر وسميّة أبوا عمّار أول شهيدين على الصدق واليقين ، مؤثرين فضيلة الشهادة في سبيل الحق على الأخذ برخصة التقيّة.

ولم يبق مسيلمة للمسالمة مجالا ؛ لأنّه بهذا يكون قد بدأ بالقتال مع المسلمين. فبعث رسول الله فرات بن حيّان العجلي الى ثمامة بن أثال (١) في قتل مسيلمة (٢).

فأتته أمداد من بني تميم (٣) حتى خاف أن يغلبه ثمامة على الحجر (٤).

ثم عظمت الفتنة :

وكان قد رحل من بني حنيفة الرحّال بن عنفوة الحنفي الى المدينة مسلما مهاجرا متعلّما للقرآن متفقّها في الدين ، وقرّئ القرآن وفقّه في الدين ، فبعثه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله اليوم معلّما لأهل اليمامة وليشد من أمر المسلمين وليتغلّب على مسيلمة. ولكنّه سالم مسيلمة حتى شهد له أنّه سمع محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : إنّه قد أشرك معه. فصدّقوه واستجابوا له.

فكان الرحّال بن عنفوة لا يقول شيئا إلّا ويتابعه مسيلمة وينتهي الى أمره! (٥) وأصبح ثمامة متلددا مع المسلمين من بني حنيفة من بني سحيم ومن أهل القرى من سائر بني حنيفة حتى لحق بالعلاء بن الحضرمي بالبحرين (٦).

__________________

(١) الطبري ٣ : ١٨٧.

(٢) الاستيعاب ٣ : ٢٠٥ ، واسد الغابة ٤ : ١٧٩ ، وانظر مكاتيب الرسول ١ : ٣٩.

(٣) الطبري ٣ : ٢٦٩ عن سيف.

(٤) الطبري ٣ : ٢٧٢ عن سيف.

(٥) الطبري ٣ : ٢٨٢ ، ٢٨٣.

(٦) الطبري ٣ : ٣٠٤ و ٣٠٥.


هذه أخبار فتنة مسيلمة في بني حنيفة باليمامة ، على عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولنظر الآن في فتن اليمن.

أخبار اليمن بعد الحج :

مرّ في أخبار اليمن : أن حاكمها الساساني بادان أو بادام لما أسلم وأسلم معه أكثر أبناء الفرس في اليمن ، وكتب بإسلامه وإسلامهم الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أقرّه على عمله على اليمن فجمع له عمل اليمن كلّها وأمّره على جميع مخاليفها (ـ محافظاتها) ثم لم يعزله عنها ولا عن شيء منها ، ولا أشرك معه فيها شريكا باقي أيام حياته حتى مات.

وبعد ما حجّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حجّة الوداع ورجع الى المدينة مات بادان ، فلذلك فرّق عملها بين ابنه شهر بن بادان على صنعاء ، وخالد بن سعيد بن العاص على ما بين نجران ورمع وزبيد ، والطاهر بن أبي هالة على عكّ والاشعريين ، وعامر بن شهر الهمداني على همدان ، وأبا موسى عبد الله بن قيس الأشعري على مأرب ، وعمرو بن حزم على نجران ، ويعلى بن أميّة على الجند ، وعلى السكون والسكاسك من بلاد حضر موت : زياد بن لبيد البياضي ، وعكّاشة بن ثور الغوثي (١).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٣ : ٢٢٧ ، ٢٢٨ ، وانظر مكاتيب الرسول ٢ : ٤٩٩ ، وذكر لكل منهم عدّة مصادر أوردها الطبري عن سيف بن عمر التميمي! في خبرين بطريقين أحدهما عن قرص بن عبادة الليثي والآخر عن عبيد بن صخر السلمي الأنصاري وكان مع يعلى الى الجند في اليمن ، كما في الطبري ٣ : ٢٩ وكأن الراوي كان يعدّ من بعث يومئذ أو كان باليمن من قبل إذ ذكر عمرو بن حزم ومعاذ بن جبل ، وقد مرّ خبرهما من قبل.



أهم حوادث

السنة الحادية عشرة للهجرة



نشر المصدّقين في العرب :

لما انحدر رسول الله صلّى الله عليه وآله من الحج للسنة العاشرة إلى المدينة ورأى هلال المحرم من السنة الحادية عشرة بعث المصدّقين في العرب ، فبعث على عجز هوازن عكرمة المخزومي ، وعلى بني كلاب الضحاك بن سفيان ، وعلى أسد وطيء عديّ بن حاتم الطائي ، وعلى أسد حامية بن سبيع الأسدي ، وعلى بني دارم وحنظلة من تميم الأقرع بن حابس ، وعلى بني يربوع منهم مالك بن نويرة (١).

وابن العاصي لابني الجُلندا :

قال المسعودي : وهي سنة الوفاة. وفيها كان توجيه رسول الله صلّى الله عليه وآله عمرو بن العاص إلى جيفر وعبّاد ابني الجُلندى بن مسعود الأزديين صاحبي عُمان ، يدعوهما إلى الاسلام ، فأسلما (٢).

__________________

(١) الاكتفاء في سيرة المصطفى للبلنسي (م ٧٣٤ هـ) وراجع عبدالله بن سبأ ٢ : ٣٩.

(٢) التنبيه والاشراف : ٢٤٠. ولم يذكره في حوادثها في مروج الذهب ٢ : ٢٩١.


ویبدو أنه استند في ذلك إلى ما رواه الطبري عن سيف قال : كان رسول الله في منصرفه من حجة الوداع قد بعث عمرو بن العاص إلى جيفر في عمان ، فمات رسول الله وعمرو في عمان (١).

وكان الاغلب على عُمان الأزد ، وبها وفي بواديها من غيرهم بشر كثير (٢). وكان حكامها من بني المستكبر من الأزد ، استعملهم عليها ملوك الفرس (٣) وكان بريد كسرى يصل بأبراده اليهم (٤).

ونصّ كتابه إليهما :

«بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من محمد بن عبدالله ، إلى جيفر وعبد ابني الجُلندى. سلام على من اتّبع الهدى. أما بعد : فإني أدعوكما بدعاية الاسلام : أسلما تسلما. إنّي رسول الله إلى الناس كافة لاُنذر من كان حيّاً ويحقّ القول على الكافرين. وانكما إن أقررتما بالاسلام ولّيتكما ، وإن أبيتها أن تقرّا بالاسلام فانّ ملككما زائل عنكما وخيلي تحلّ بساحتكما وتظهر نبوّتي على ملككما» وكتب اُبيّ بن كعب وختم رسول الله.

قال البلاذري : بعث رسول الله أبا زيد (ثابت بن زيد أو قيس بن السكن أو عمرو بن أخطب) الانصاري الخزرجي ومعه عمرو بن العاص بكتابه إليهما يدعوهما الى الاسلام ، وقال لهما : إن أجاب القوم إلى شهادة الحق وأطاعوا الله ورسوله فعمرو الامير (كذا) وأبو زيد على الصلاة وأخذ الاسلام على الناس ، وتعليمهم القرآن والسنن. وكان أبو زيد جامعاً (أي حافظاً) للقرآن (٥).

__________________

(١) تاریخ الطبري ٣ : ٢٥٨. وانظر عن ابن اسحاق فيه ٣ : ٣٠٢.

(٢) مكاتيب الرسول ٣ : ٣٦٨ عن فتوح البلدان.

(٣) مکاتیب الرسول ٣ : ٣٦٧ عن المحبّر للبغدادي : ٢٦٥.

(٤) انظر المقصّل في تاريخ العرب ٥ : ٣٢٠ و ٩ : ٥٣٣.

(٥) مكاتيب الرسول ٣ : ٣٦١ و ٣٦٨ عن فتوح البلدان.


وقال لهما : انهم سيقبلون كتابي ويصدّقوني ، ويسألكم ابن جُلندى : هل بعث رسول الله معكم بهدية؟ فقولوا : لا ، فسيقول : لو كان رسول الله بعث معكم بهدية لكانت مثل المائدة التي نزلت على بني اسرائيل وعلى المسيح (١).

فخرج عمرو حتى انتهى إلى عمان ، فروى ابن سعد عنه قال : وكان عبد أحلم الرجلين وأسهلها خلقاً (وأصغرهما) فعمدت إليه وقلت له : إني رسول رسول الله إليك وإلى أخيك بهذا الكتاب. فقال : وما تدعوا إليه؟ قلت : ادعوك إلى الله وحده وتخلع ما عُبد من دونه ، وتشهد أن محمداً عبده ورسوله. فقال : ومتى تبعته؟ قلت : قريباً. قال : فأخبرني ما يأمر به وينهى عنه؟ قلت : يأمر بطاعة الله عزّ وجلّ وينهى عن معصيته ، يأمر بالبر وصلة الرحم وينهى عن الظلم والعدوان ، وعن الزنا وشرب الخمر ، وعن عبادة الحجر والوثن والصليب.

فقال : ما أحسن هذا الذي يدعوا اليه ، لو كان أخي يتابعني لركبنا حتى نؤمن بمحمد ونصدّق به ، ولكن أخي أظنّ بملكه من أن يدعه ويصير ذنباً! فقلت : إنه إن أسلم ملّكه رسول الله على قومه (وليس عمرواً) ويأخذ الصدقة من غنيّهم ويردّها على فقيرهم. قال ك وما الصدقة؟ قال : فأخبرته بما فرض رسول الله من الصدقات في الاموال ، فلما ذكرت المواشي ، قال : يا عمرو ، ويؤخذ من سوائم مواشينا التي ترعى في الشجر وترد المياه؟! قلت : نعم. قال : والله ما أرى قومي في بعد دارهم وكثرة عددهم يطيعون بهذا! وأخي مقدم عليَّ بالسنّ والملك وأنا اوصلك إليه حتى يقرأ كتابك.

قال عمرو : فمکثت أياماً بباب جيفر حتى دعاني فدخلت وذهبت لأجلس فأبوا أن يدعوني وقال : تكلّم بحاجتك. فدفعت إليه الكتاب ففضَّ خاتمه وقرأه ثمّ دفعه إلى أخيه فقرأه ، ثمّ قال : ألا تخبرني عن قريش كيف صنعت؟ قلت : تبعوه إما راغب في الدين أو راهب مقهور بالسيف! قال : ومن معه؟ قلت : ناسٌ قد رغبوا في الاسلام

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ١ : ١٥٥.


واختاروا على غيره وعرفوا بعقولهم مع هدى الله اياهم أنهم كانوا في ضلال مبين. فما أعرف أحداً بقى غيرك في هذه الخرجة! وأنت إن لم تسلم اليوم وتتبعه تطؤك الخيول وتبيد خضراؤك ، فأسلم تسلم ويستعملك على قومك ، ولا تدخل عليك الخيل والرجال!

قال : دعني يومي هذا وارجع إليّ غداً.

قال عمرو : فلما كان الغد أتيت إليه ، فأبى أن يأذن لي! فرجعت إلى أخيه فأخبرته أني لم أصل إليه ، فأوصلني إليه ، فقال لي : فكّرت فيما دعوتني إليه فإذا أنا أضعف العرب إن ملّكت رجلاً ما في يدي وهو لا تبلغه خيله هاهنا! وإن بلغت ألفت قتالاً ليس كقتال من لاقى!

ثمّ أصبح فأرسل إليّ وأجاب إلى الاسلام هو وأخوه جميعاً ، وأسلم معهما خلق كثير ، وخلّيا بيني وبين الحكم فيهم بالصدقة (الزكاة) وكان عوناً على من خالف (١).

تنبؤ الأسود العنسي :

واسمه : عبهلة بن كعب العنسي المذحجي ، ولسواده غلب عليه اسم الأسود ، ولذلك كان يختمر بخمرة ويعتمّ عليها أبدا فلذا سمّي أيضا ذا الخمار ، أو ذا الحمار ؛ لأنّه كان له حمار علّمه يقول له : ابرك ، فيبرك ، ويقول له : اسجد لربّك ، فيسجد! وسمّى نفسه : رحمان اليمن (١).

خرج بعد حجة الوداع أي بعد خروج علي عليه‌السلام من اليمن الى الحج ، وبعد وفاة بادان الحاكم الفارسيّ على اليمن. وكان كاهنا شعواذا يريهم الأعاجيب ويسبي قلب من سمعه! ولد في كهف خبّان ونشأ بها وفيها داره ، واعده أهل نجران ، وكاتبه قومه من مذحج ، فكانت أول ردّة عن الإسلام في اليمن على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مع

__________________

(١) مكاتيب الرسول ٢ : ٣٧١ ، ٣٧٢ وتمامه : وتوفي النبيّ وعمرو بعمان.

(٢) فتوح البلدان : ١٣ ـ ١١٥.


الأسود ذي الخمار في عامة مذحج بعد حجة الوداع (١).

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد بعث بعد بادان الى الجند من اليمن ـ كما مرّ ـ يعلى بن اميّة ومعه عبيد بن صخر السلمي الأنصاري ، فروي عنه قال : بينا نحن بالجند قد أقمناهم على ما ينبغي وكتبنا بيننا وبينهم الكتب ، إذ جاءنا كتاب من الأسود من كهف خبّان :

«أيّها المتورّدون علينا! أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا ووفّروا ما جمعتم فنحن أولى به! وأنتم على ما أنتم عليه».

ثمّ توجّه الى نجران بعامة مذحج بعد عشرة أيام من وثوبه فأخذها (٢).

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد بعث بعد بادان الى نجران خالد بن سعيد بن العاص وعمرو بن حزم كما مرّ فأخرجوهما منها وأنزلوا الأسود منزلهما. وثبت على الاسلام جمع من مذحج فالتحقوا بفروة بن مسيك المرادي في مراد بالأحسية (قرية). فكتب فروة بذلك الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فكان أول خبر بلغه عنه (٣).

وبعد عشرة أيام من ذلك أي عشرين يوما من وثوبه توجّه الى صنعاء حتى بلغ الى بساتين شعوب بظاهر صنعاء ... وهرب معاذ بن جبل الى السكون في حضر موت ... ومع الأسود في يوم صنعاء سبعمائة فارس سوى الركبان ... وخرج إليه شهر بن بادان بمن تبعه من أبناء الفرس المسلمين ، فقتل شهرا وهزم الأبناء وغلب على صنعاء بعد خمسة أيام أي بعد خمس وعشرين ليلة من وثوبه.

وفرّ أبو موسى الأشعري من مأرب الى المفازة والمفوّر من حضر موت.

__________________

(١) الطبري ٣ : ١٨٥ عن سيف بن عمر التميمي.

(٢) الطبري ٣ : ٢٢٩ ، عن سيف بن عمر التميمي عن عبيد بن صخر السلمي الأنصاري. ولعلّ ذلك كان في أواخر ذي الحجة من العاشرة أو أوائل المحرم من الحادية عشرة ، إذ كان وثوبه في أواخر حجة الوداع.

(٣) الطبري ٣ : ١٨٥ ، عن سيف بن عمر التميمي عن فيروز الديلمي.


وانحاز سائر امراء اليمن الى الطاهر بن أبي هالة التميمي في وسط بلاد عكّ بحيال صنعاء. وغلب الأسود على ما بين مفازة حضر موت الى عدن الى البحرين الى الطائف! فطابقت عليه اليمن ما عدا عك! فحاز عثر والشرجة والحردة وغلافقة وعدن والجند وصنعاء الى عليب وحتى الأحسية ، عامله المرتدون بالارتداد والمسلمون بالتقيّة ومنهم الأبناء فأسند أمرهم الى دادويه الاصطخري وفيروز الديلمي. وكانت ابنة عمه آزاد امرأة شهر بن بادان ، فتزوّجها الأسود.

قال الراوي السلمي الأنصاري الذي كان مع يعلى بن اميّة بالجند إنّهم لحقوا بحضرموت ، إذ جاءتهم كتب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يأمرهم فيها أن يبعثوا الرجال لمحاولته غيلة أو قتالا ، وأن يبلّغوا كلّ من يرجون عنده شيئا من ذلك عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقدم وبر بن يوحنّس الأزدي بكتابه صلى‌الله‌عليه‌وآله على فيروز الديلمي يأمره فيه بالعمل على قتل الأسود إمّا غيلة أو مصادمة ، وأن يبلّغوا ذلك عنه من يرون عنده دينا ونجدة. فكاتبوا الناس ودعوهم (١).

قيس بن المكشوح المرادي :

وهنا يأتي ذكر قيس المرادي ابن عبد يغوث المكشوح ، وأوّل ما نرى ذكره في السيرة : أنّ عمرو بن معد يكرب الزبيدي كان صاحبه فقال له يوما : يا قيس قد ذكر لنا أنّ رجلا من قريش قد خرج بالحجاز يقول : انّه نبيّ ، يقال له محمد ، وأنت سيّد قومك ، فانطلق بنا إليه حتى نعلم علمه ، فان كان غير ذلك علمنا علمه ، وإن كان نبيّا كما يقول فإذا لقيناه اتّبعناه. فأبى عليه قيس وسفّه رأيه. وقدم عمرو عليه فأسلم ، فلما بلغ قيسا أوعده وتشدّد عليه (٢).

__________________

(١) الطبري ٣ : ٢٢٩ ـ ٢٣١ ، عن سيف بن عمر التميمي.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٣٠.


هذا كلّ ما رواه ابن اسحاق وعنه ابن هشام في السيرة ، والطبري في تاريخه ، ثم لم يذكر عنه إسلاما حتى روى عن فيروز الديلمي : أنّه وثب ـ متزامنا مع الأسود العنسي ـ على فروة بن مسيك المرادي فأجلاه ونزل منزله (١) ولما توجّه العنسي الى صنعاء أسند أمر جنده الى قيس بن عبد يغوث ، فكان قوّاده يومئذ هو ويزيد بن الافكل الأزدي ويزيد بن الحصين الحارثي ويزيد بن محرّم. فلما أثخن في الأرض واستغلظ أمره وثبت ملكه استخفّ بدادويه الاصطخري وفيروز الديلمي وقيس بن المكشوح المرادي وتغيّر له.

فلما بلغ كتاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الى فيروز الديلمي ورأى أن الأسود العنسي قد تغيّر لقيس حتى أمسى يخاف على دمه ، أبلغوه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ودعوه فأجابهم إلى ذلك.

وكتب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الى ذي ظليم وذي الكلاع وذي مزان وعامر بن شهر (بن بادان) فتهيّجوا لذلك واعترضوا على العنسي وكاتبوا فيروز الديلمي وبذلوا له النصر ، وكاتبهم وأمرهم أن لا يحرّكوا شيئا حتى يبرموا الأمر.

وكتب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الى ساكني نجران من العرب وغيرهم من أبناء الفرس ، فانضمّ بعضهم الى بعض وتنحّوا عن غيرهم ناحية. وكاتب فيروز الناس ودعاهم. وارتاب العنسي من قيس وفيروز وهم منه في ارتياب وعلى خطر عظيم (٢).

فيروز وابنة عمّه آزاد :

ودخل فيروز الديلمي على ابنة عمّه آزاد أرملة شهر بن بادان التي تملكها الأسود ، فقال لها : يا ابنة عمّ ، إنّ هذا لرجل قتل زوجك وأسرع القتل في قومك ، واهان من بقي منهم وفضح نساءهم ، فهل عندك من ممالأة عليه؟! فقالت : على أي

__________________

(١) الطبري ٣ : ١٨٥ ، عن سيف التميمي.

(٢) الطبري ٣ : ٢٣٠ ـ ٢٣١ ، عن سيف التميمي.


أمر؟ قال فيروز : على إخراجه. قالت : أو قتله! قال فيروز : أو قتله. قالت : نعم ، والله ما خلق الله شخصا أبغض إليّ منه ، ما يقوم لله على حق ولا ينتهي له عن حرمة ، فإذا عزمتم فاعلموني اخبركم بمنفذ هذا الأمر.

ثم أجمع ملأهم أن يعود الى المرأة فيخبرها بعزيمتهم لتخبرهم برأيها. فعاد إليها لذلك فقالت : هو متحرّز متحرّس ، وليس من القصر شيء إلّا والحرس محيطون به غير هذا البيت فإنّ ظهره الى مكان كذا في الطريق ، فإذا أمسيتم فنقّبوا عليه فإنّكم من دون الحرس وليس دون قتله شيء ، وستجدون فيه سراجا وسلاحا.

وخرج فيروز من عند ابنة عمّه ورآه الأسود فوجأ رأسه وقال له : ما أدخلك منزلي؟! فصاحت آزاد : ابن عمّي جاءني زائرا ، فوهبه لها.

فلما أمسوا واطئوا أشياعهم وعجّلوا فلم يراسلوا الحميريين والهمدانيين ، ونقّبوا خارج البيت حتى دخلوه فوجدوا جفنة وتحتها سراج ، وهم قيس ودادويه الاصطخري وجشيش (ـ كشايش) وفيروز الديلميان ، وفيروز أشدّهم وأنجدهم ، فقدّموه فخرج من ذلك البيت الى بيت الأسود ، فلما دنا من باب البيت سمع غطيطا شديدا وهو جالس والمرأة جالسة تنتظر ، فوضع فيروز ركبته في ظهر الأسود وأخذ برأسه فدقّ عنقه ، ثم أخبر أصحابه قيسا ودادويه وجشيش فقاموا معه ليحتزّوا رأسه فصاح فألجمه فيروز بثوب وأمرّ الشفرة على حلقه ، فخار خوار الثور ، فسمعه الحرس حول المقصورة فابتدروا الباب وسألوا : ما الخبر؟ فقالت آزاد : النبيّ يوحى إليه! حتى خمد.

وكانوا قد اجتمعوا من قبل على شعار بينهم وبين أشياعهم ، فلما طلع الفجر نادى دادويه بالشعار ، فتجمع الحرس وأحاطوا بهم ، فنادى جشيش بالأذان فقال : أشهد أنّ محمدا رسول الله وان عبهلة كذّاب! وألقوا رأسه إليهم ، وتنادوا : يا أهل صنعاء ، من كان عنده منهم أحد فتعلّقوا به ، ومن دخل عليه داخل فتعلّقوا


به. فانتهب الحرس ما انتهبوا ومضوا خارجين ما بين صنعاء ونجران ، وأسر أهل الدور والطرق منهم سبعين فارسا ، وهم اختطفوا معهم سبعمائة من الصبيان والعيال فتراسلوا أن يتبادلوا ما في أيديهم.

وأعزّ الله الإسلام وأهله ، وخلصت صنعاء والجند ، وتراجع أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاصطلحوا على معاذ بن جبل يصلي بهم ، وكتبوا الى رسول الله بالخير.

وأتى النبي الخبر من السماء بقتل الأسود ليلة قتل فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله في صبيحتها لأصحابه : قتل العنسي البارحة ، قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين. قيل : ومن هو : قال : فيروز ، فاز فيروز (١) إنّ الله قد قتل الأسود الكذّاب العنسي ، قتله بيد رجل من إخوانكم من قوم أسلموا وصدّقوا (٢).

ونقل ابن حجر عن أبي عبيدة في مناقب الفرس : أنّ الفرس لما قتلوا الأسود العنسي بعثوا برأسه مع نفر منهم : زرعة بن عريب ، وعبد الله بن الديلمي وغيرهما ، فأنذر النبي بقدومهم وأوصى بهم وبمن في اليمن منهم خيرا (٣).

وفي تاريخ مقتله : روى الطبري عن الضحّاك بن فيروز الديلمي قال : كان العنسي مستسرا بأمره حتى خرج ، وكان ما بين خروجه في كهف خبّان الى مقتله في صنعاء نحو من أربعة أشهر (٤).

__________________

(١) الطبري ٣ : ٢٣٢ ـ ٢٣٦ ، عن سيف التميمي.

(٢) الطبري ٣ : ٢٣٩ ، عن سيف التميمي ، وفي هذا الخبر أن رهائن القوم ثلاثون غلاما من أبناء الفرس ، وهذا أولى وأقرب. والمرحوم المجلسي نقل مختصر خبر الأسود العنسي عن المنتقى للكازروني في بحار الأنوار ٢١ : ٤١١ ، ٤١٢.

(٣) الاصابة ١ : ٥٧٨ ح ٢٩٧٣ ، وانظر مكاتيب الرسول ٣ : ٤٣٢ ، ولكنّهم وصلوا المدينة بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا يصحّ كتابه لهم. وانظر وقارن : عبد الله بن سبأ ٢ : ١٣٤ ـ ١٤١.

(٤) الطبري ٣ : ٢٤٠.


وفي اخرى : كان من أوّل أمره إلى آخره ثلاثة أشهر (١).

وفي بدايته : روى عن أبي مويهبة مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لما قضى رسول الله حجة التمام ورجع الى المدينة تحلّل به السير ... فطارت الأخبار بتحلّل السير بالنبي وأنّه قد اشتكى (من المرض) فجاء الخبر عن مسيلمة باليمامة والأسود باليمن (٢).

وعليه فقد يستبعد ما نقله الطبري عن الواقدي : أنّ في النصف من المحرم من السنة الحادية عشرة قدم زرارة بن عمرو النخعي بوفد النخع من همدان اليمن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) مقرّين بالإسلام وقد بايعوا من قبل معاذ بن جبل ، وهم مائتا رجل (٤) ثم لم يذكروا أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله طلب منهم جهاد المرتدّين في اليمن.

اللهم إلّا أن يقال بأنّهم من همدان التي أسلمت على يد علي عليه‌السلام ، فكانوا حديثي عهد بالاسلام.

فتنة طليحة في بني أسد :

روى الطبري عن ابن عامر الأسدي قال : جاء إلينا الخبر عن وجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم بلغنا أن مسيلمة قد غلب على اليمامة ، وأنّ الأسود قد غلب على اليمن ، فلم نلبث إلّا قليلا حتى ادّعى طليحة بن خويلد الفقعسي الأسدي النبوّة واتّبعه العوام واستكثف أمره وعسكر في سميراء.

__________________

(١) الطبري ٣ : ٢٣٩.

(٢) الطبري ٣ : ١٤٧ و ١٨٤ ونحوه في ١٨٦.

(٣) الطبري ٣ : ٢٤٠.

(٤) المنتقى للكازروني وعنه في بحار الأنوار ٢١ : ٤٠٩.


فكان أول من كتب الى النبي بخبر طليحة ، عامل الرسول على بني مالك : سنان بن أبي سنان.

وبعث طليحة إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ابن أخيه حبال يخبره بخبره وأنّ الذي يأتيه ملك سمّاه : ذا النون. فقال له النبي : قتلك الله (١).

واجتمع على طليحة عوام أسد وطيّئ وغطفان وأشجع فبايعوه (٢) إلّا بعض خواصّهم. فاجتمعت بنو أسد في سميراء ، وغطفان وفزارة في جنوب المدينة ، وطيّئ في أرضهم ، وبنو ثعلبة وعبس ومرّة في الأبرق من الربذة ، وافترقت منهم فرقة سارت الى ذي القصّة من بني أسد ومن انضمّ إليهم من بني الدّئل وليث ومدلج وعليهم حبال أخو طليحة (٣). وذو القصّة على بريد (ـ ٢٢ كم) من المدينة تجاه نجد وارتحل طليحة من سميراء فنزل في بزاخة (٤). فوجّه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ضرار بن الأزور الى عمّاله على بني أسد ، وأمرهم بالقيام على كل من ارتدّ منهم. فلما نزل طليحة والمرتدون في سميراء نزل المسلمون في واردات ، وما زال المسلمون في نماء والمشركون والمرتدون في نقصان حتى أتى الخبر بوفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأمسى المسلمون في نقصان وارفضّ الناس الى طليحة واستطار أمره ، حتى ارفضّ المسلمون! (٥).

وسمّى اسامة لبلقاء الشام :

لم يشغل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما كان عليه من الألم والمرض والوجع عن أمر الله

__________________

(١) الطبري ٣ : ١٨٦ ، ١٨٧ ، عن سيف.

(٢) الطبري ٣ : ٢٤٢ و ٢٤٤ ، عن سيف.

(٣) الطبري ٣ : ٢٤٤ ، عن سيف.

(٤) الطبري ٣ : ٢٤٨ و ٢٥٤ عن سيف.

(٥) الطبري ٣ : ٢٥٧ عن سيف ، وانظر الترديد في ذلك في كتاب عبد الله بن سبأ ٢ : ٢٦ ـ ٥٦.


عزّ وجلّ والذبّ عن دينه أمام المرتدّين عنه على عهده في اليمن واليمامة وغيرهما ، ولكنّه إنّما حاربهم بالرسل والمراسلات ، فبعث وبر بن يوحنّس رسولا الى فيروز الديلمي ومساعد جشيش الديلمي ودادويه الاصطخري من الأبناء في صنعاء وكتب إليهم أن يستنجدوا برجال سمّاهم من بني تميم وقيس ، وأرسل الى أولئك أن ينجدوهم (١) وفعل مثل ذلك بشأن مسيلمة وطليحة ، ولم يجهّز لهم جيشا إلّا أنّه سمّى اسامة لبلقاء الشام.

جاء خبره في «مغازي موسى بن عقبة» عن الزهري قال : قدم رسول الله المدينة من حجة الوداع فعاش بها في المحرم واشتكى في صفر ... وكان رسول الله قد أمّر اسامة بن زيد على جيش عامّتهم المهاجرون ، وفيهم عمر بن الخطاب (٢) ، أمره رسول الله أن يغير على مؤتة حيث اصيب زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة. وكان اسامة بن زيد قد تجهّز للغزو وخرج في ثقله الى الجرف (٣) ثم أقام تلك الأيام لشكوى رسول الله ... حتى كانت ليلة الاثنين من شهر ربيع الأوّل (؟) فأقلع الوعك عن رسول الله وأصبح مفيقا ، فغدا الى صلاة الصبح يتوكأ على الفضل بن عباس ... وجلس رسول الله الى الجذع ، واجتمع إليه المسلمون يسلمون عليه ويدعون له بالعافية.

ودعا رسول الله اسامة بن زيد فقال له : اغد على بركة الله والنصر والعافية ، ثم أغر حيث أمرتك أن تغير. فقال اسامة : يا رسول الله ، قد أصبحت مفيقا ،

__________________

(١) الطبري ٣ : ١٨٧ عن سيف.

(٢) ولم يذكر أبا بكر ، ولكن المعتزلي قال : ذكر موسى بن عقبة أنّ أبا بكر لم يكن في جيش اسامة. شرح النهج ١٧ : ١٨٣.

(٣) الجرف : موضع على ثلاثة أميال (ـ ٦ كم) من المدينة نحو الشام. معجم البلدان ٢ : ١٢٨.


وأرجو أن يكون الله عزوجل قد عافاك ، فأذن لي فأمكث حتى يشفيك الله ، فإنّي إن خرجت وأنت على هذه الحال خرجت وفي نفسي منك قرحة ، وأكره أن أسأل عنك الناس. فسكت عنه رسول الله (كذا) (١).

وابن اسحاق فرق خبره على ثلاث فرق من القول ، فقال أوّلا ـ بعد حجة الوداع ـ وبغير رواية : ثم قفل رسول الله فأقام بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرّم وصفر ، وضرب على الناس ـ من المهاجرين الأولين ـ بعثا الى الشام ، أمّر عليهم مولاه اسامة بن زيد بن حارثة ، وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين (٢).

وقال ثانيا قبل شكوى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كذلك بغير رواية : وبعث (كذا) رسول الله اسامة بن زيد بن حارثة الى الشام وأوعب معه المهاجرين الأولين ، وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين.

فبينا الناس على ذلك إذ ابتدأ رسول الله بشكواه الذي قبضه الله فيه ... في أواخر صفر أو أوائل شهر ربيع الأول (٣) هكذا أرّخ للخبر ابن اسحاق هذه المرّة.

وفي الثالثة روى عن عروة بن الزبير وغيره : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله استبطأ الناس في بعث اسامة بن زيد وهو في وجعه ، وقد كان الناس قالوا في امرة اسامة : إنّه أمّر غلاما حدثا على جلّة المهاجرين والأنصار (كذا لأول مرة في سياق قول ابن اسحاق بزيادة الأنصار مع المهاجرين الأولين).

__________________

(١) عن دلائل النبوة للبيهقي ٧ : ١٩٨ ـ ٢٠١.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٥٣.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٩١ ، ونقله عنه الطبري ٣ : ١٨٤ ، ولكنّه عنونه : ثم ضرب في المحرم! وعنه في الكامل!


فخرج عاصبا رأسه حتى جلس على المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : «أيها الناس ، أنفذوا بعث اسامة ، فلعمري لئن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله ، وإنّه لخليق للإمارة وإن كان أبوه لخليقا لها» ثم نزل صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فخرج اسامة وخرج معه جيشه حتى نزلوا الجرف على فرسخ من المدينة فضرب عسكره هناك وتتام إليه الناس. واستعزّ برسول الله وجعه وثقل ، فأقام اسامة والناس لينظروا كيف يكون.

ثم روى عن اسامة قال : لما ثقل رسول الله رجعت ورجع الناس معي الى المدينة ، فدخلت عليه وقد اصمت فلا يتكلم ، فجعل يرفع يده الى السماء ثم يصبّها علي ، فعرفت أنّه يدعو لي (١).

وقال الواقدي : أمر رسول الله الناس (كذا) بالتهيّؤ لغزو الروم ، وأمرهم بالاسراع في غزوهم ، فتفرّق المسلمون (!) من عند رسول الله وهم مجدّون في الجهاد. ثم لم يخص المهاجرين ولم يصرح بالأنصار مع عموم الكلام. بل أولى عنايته بذكر تفاصيل الأخبار ولا سيما في تواريخها ، فبدأ الخبر بقوله : لما كان يوم الاثنين لأربع ليال بقين من شهر صفر سنة إحدى عشرة ... فلما أصبح رسول الله من الغد : يوم الثلاثاء لثلاث بقين من صفر ، دعا اسامة بن زيد فقال له : يا اسامة ، سر على اسم الله وبركته حتى تنتهي الى مقتل أبيك فأوطئهم الخيل ، فقد ولّيتك على هذا الجيش ، فأغر صباحا على أهل ابنى وحرّق عليهم ، وأسرع السير تسبق الخبر ، فإن أظفرك الله فأقلل اللبث فيهم ، وخذ معك الأدلّاء وقدّم العيون أمامك والطلائع.

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٩٩ ، ٣٠٠ و ٣٠١.


قال الواقدي : فلما كان يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من صفر بدئ برسول الله فصدّع وحمّ. فلما أصبح يوم الخميس لليلة بقيت من صفر عقد رسول الله بيده لواء لاسامة وقال له : اغز بسم الله في سبيل الله فقاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغدروا ، ولا تقتلوا وليدا ولا امرأة ... فإن لقوكم قد أجلبوا وصيّحوا فعليكم بالصمت والسكينة (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)(١) وقولوا : اللهم نحن عبادك وهم عبادك ، نواصينا ونواصيهم بيدك ، وإنمّا تغلبهم أنت. واعلموا أنّ الجنة تحت البارقة ، ثم قال لاسامة : امض على اسم الله فعسكر بالجرف.

فأخذ اسامة اللواء ودفعه الى بريدة بن الحصيب الأسلمي ، فخرج به الى بيت اسامة.

وأخبر الواقدي : أن الجرف في عهده ، كان يعرف بسقاية سليمان ، وجعل الناس (كذا) يجدّون بالخروج ، فمن فرغ من حاجته خرج وبقي من لم يقض حاجته ليفرغ فيخرج. ثم نصّ على المهاجرين الأولين فقال : ولم يبق أحد من المهاجرين الأولين إلّا انتدب (؟) في تلك الغزوة. فذكر منهم أربعة : عمر بن الخطاب ، وأبا عبيدة بن الجراح ، وسعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن زيد العدوي. ثم زاد رجلين من الأنصار : سلمة بن أسلم ، وقتادة بن النعمان.

ثم ذكر اعتراضهم على ذلك فقال : قال رجال من المهاجرين أشدّهم في ذلك عياش بن أبي ربيعة المخزومي : يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأوّلين؟! وكثرت القالة في ذلك! وجاء عمر بن الخطاب الى رسول الله فأخبره بذلك ... وذلك يوم السبت لعشر من ربيع الأول.

__________________

(١) الأنفال : ٤٦.


فخرج وعليه قطيفة وقد عصّب رأسه بعصابة حتى صعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد يا أيها الناس! فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري اسامة بن زيد؟! والله لئن طعنتم في إمارته لقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله.

وايم الله إن كان للإمارة لخليقا وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة ... فاستوصوا به خيرا فإنّه من خياركم! ثم نزل فدخل بيته.

وجاء المسلمون يودّعون رسول الله ليخرجوا مع اسامة فيهم عمر بن الخطاب ، ورسول الله يقول لهم : انفذوا بعث اسامة!

ودخلت عليه أم أيمن (أم اسامة) فقالت : أي رسول الله ، لو تركت اسامة يقيم في معسكره حتى تتماثل (للشفاء) فإن اسامة إن خرج على حالته هذه لم ينتفع بنفسه. فقال رسول الله : أنفذوا بعث اسامة!

فمضى الناس الى المعسكر ، فباتوا ليلة الأحد هناك مع اسامة. فلما أصبح يوم الأحد نزل الى المدينة فدخل على رسول الله وهو يبكي ، ورسول الله ثقيل مغمور بالمرض وعنده عمّه العباس ، وحوله نساؤه ، وهو لا يتكلّم ، فطأطأ على اسامة فقبّله فرفع رسول الله يده الى السماء ثمّ يقلب كفّه على اسامة كأنّه يدعو له ، فرجع اسامة الى معسكره فبات فيه ليلة الاثنين ، ثم غدا من معسكره يوم الاثنين الى رسول الله مرّة اخرى ، فجاءه اسامة وهو مفيق مريح ، فودّعه اسامة وهو يقول له : اغد على بركة الله! وركب اسامة الى معسكره ، وصاح بأصحابه باللحوق بالعسكر ، فانتهى الى معسكره ونزل وأمر الناس بالرحيل من الجرف. فبينا هو كذلك إذ أتاه رسول أمه أمّ أيمن يخبره أنّ رسول الله في حال الموت ، فرجع اسامة الى المدينة ومعه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجرّاح.

أما أبو بكر فإنّه كان قد دخل عليه لما كان مفيقا فقال له : يا رسول الله إنّك


أصبحت مفيقا بحمد الله ، واليوم يوم ابنة خارجة (زوجته) فأذن لي! فأذن له فذهب الى السنح في عوالي المدينة (١).

قلنا مع أنّ الواقدي كان متوقّد الذهن والذكاء منتبها لجمع التفاصيل عن الأخبار والأحاديث والروايات ، لكنّه لم ينتبه للتركيز على من اشتمل عليه هذا الجيش المؤكّد عليه من رسول الله بهذا التأكيد الشديد ، فجاء في نصّه السابق لفظ الناس ست مرّات. والمسلمين ثلاث مرات ، والمهاجرين الأولين كذلك ، وعطف عليهم الأنصار مرة واحدة بعبارة : في رجال من المهاجرين والأنصار عدّة ، ذكر من الأنصار رجلين كما مرّ ، وقد مرّ أن ابن عقبة وابن اسحاق ووافقه ابن هشام ركّزوا على المهاجرين الأوّلين وإنمّا زاد ابن اسحاق الأنصار مرة في رواية عروة.

ويقصر قول الواقدي عن النصّ بشمول الأنصار عدا عدّة منهم لم يذكر سوى اثنين منهم ، بينما اليعقوبي قال باختصار : عقد صلى‌الله‌عليه‌وآله لاسامة بن زيد بن حارثة على جلّة المهاجرين والأنصار ... وكان في الجيش أبو بكر وعمر ... وتكلّم قوم فقالوا : حدث السن ابن تسع عشرة سنة! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لئن طعنتم عليه فقبله طعنتم

__________________

(١) فلما توفي رسول الله عند زوال الشمس في ذلك اليوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول وبلغ ذلك الذين بالجرف حمل بريدة بن الحصيب لواء اسامة معقودا وأتى به الى باب رسول الله فغرزه عنده ، ورجع معه من كان معه بالجرف. مغازي الواقدي ٣ : ١١٧ ـ ١٢٠ ، فالواقدي يرى أبا بكر مستأذنا ، بينما رواه ابن عقبة عن الزهري : أن أبا بكر دخل فقال لعائشة : قد أصبح رسول الله مفيقا ، وأرجو أن يكون الله قد شفاه. ثم ركب فلحق بأهله بالسنح : حبيبة بنت خارجة الخزرجي ، كما في دلائل النبوة ٧ : ٢٠١ من دون استيذان. وكذاك ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٣٠٢ ، عن الزهري عن انس بن مالك ، اخصر منه وبلا استيذان أيضا ، وإن كان روى الاستيذان بعده! عن غير الزهري ٤ : ٣٠٣ ، ٣٠٤ مناقضا لما مرّ.


على أبيه وإن كانا لخليقين بالإمارة. فكان اسامة مقيما بالجرف إذ اشتكى رسول الله قبل أن ينفذ الجيش ، فقال مرارا : أنفذوا جيش اسامة. واعتلّ أربعة عشر يوما الى ليلتين خلتا من شهر ربيع الأول (١) فهو يرى أن البدء بذلك كان في النصف من صفر تقريبا ، خلافا للواقدي في ذلك ، موافقا له في مدة التخلف اسبوعين قبل الوفاة.

والطبري مع ذكره لخبر ابن اسحاق : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ابتدأ شكواه في ليال بقين من صفر ، وتأييده بما عن الواقدي : بدئ وجعه لليلتين بقيتا من صفر ، وذكره لخبر عن سيف بن عمر عن عروة : انه اشتكى وجعه في عقب المحرّم ، مما يجتمع مع ما مرّ ، ذكر خبرا آخر عن سيف أيضا عن ابن الجذع أو الجزع (٢) الأنصاري ، قال بعد تأمير اسامة : ثم اشتكى في المحرم ، وكأنّه أهمل القول السابق المتأيّد واعتمد هذا الخبر الأخير المنفرد في عنوانه فقال : ثم ضرب في المحرم بعثا الى الشام وأمّر عليهم مولاه اسامة فتبعه ابن الأثير.

هذا ، وقد روى لاحقا عن الكلبي عن أبي مخنف عن فقهاء الحجاز : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وجع لأيام بقين من آخر شهر صفر ، في بيت زينب بنت جحش (٣).

وروى خبرا عن سيف عن ابن عباس : أنّ الناس (كذا) أنشؤوا في العسكر ولكنّه لم يستتم الأمر وذلك لأنّه ثقل رسول الله فتمهّل الناس ينظر أوّلهم آخرهم حتى توفي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١١٣.

(٢) تاريخ الطبري ٣ : ١٤٧ و ١٨٤ و ١٨٥.

(٣) الطبري ٣ : ١٨٧.

(٤) الطبري ٣ : ١٨٦.


أما الخبر في الارشاد :

وأفاد المفيد في «الارشاد» : أنّه عليه وآله السلام لما تحقّق من دنوّ أجله جعل يقوم مقاما بعد مقام في المسلمين يحذّرهم من الفتنة بعده والخلاف عليه ، ويؤكّد وصايتهم بالتمسك بسنّته والاجتماع عليها والوفاق ، ويحثّهم على الاقتداء بعترته والطاعة لهم والنصرة والحراسة والاعتصام بهم في الدين ، ويزجرهم عن الخلاف والارتداد.

فكان فيما ذكره من ذلك ـ عليه وآله السلام ـ ما جاءت به الرواة على اتفاق واجتماع من قوله : «أيها الناس إني فرطكم ، وأنتم واردون علي الحوض ، ألا وإنّي سائلكم عن الثقلين فانظروا كيف تخلّفوني فيهما ، فانّ اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يلقياني ، سألت ربّي ذلك فأعطانيه. ألا وإنّي قد تركتهما فيكم : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فلا تسبقوهم فتفرّقوا ، ولا تقصّروا عنهم فتهلكوا ، ولا تعلّموهم فإنهم أعلم منكم.

أيها الناس ، لا الفينكم بعدي ترجعون كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض ... ألا وإنّ علي بن أبي طالب أخي ووصيّي يقاتل بعدي على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله».

ثم إنه عقد لاسامة بن زيد بن حارثة الإمرة ، وندبه أن يخرج ... الى حيث اصيب أبوه من بلاد الروم ، واجتمع رأيه على إخراج جماعة من متقدمي المهاجرين والأنصار في معسكره ، حتى لا يبقى في المدينة عند وفاته من يختلف في الرئاسة ويطمع في التقدّم على الناس بالإمارة ، ويستتبّ الأمر لمن استخلفه من بعده ولا ينازعه في حقه منازع ، فعقد له الإمرة على من ذكرناه وجدّ في إخراجهم ، وأمر اسامة بالخروج من المدينة الى الجرف ، وحث الناس على الخروج إليه


والمسير معه ، وحذّرهم من الإبطاء والتلوّم عنه. فبينا هو في ذلك إذ عرضت له الشكاة التي توفي فيها (١).

قال : وكان إذ ذاك في بيت أمّ سلمة «رضي الله عنها» فأقام به يوما أو يومين ، فجاءت عائشة إليها تسألها أن تنقله الى بيتها لتتولّى تعليله ، وسألت سائر أزواج النبي في ذلك ، فأذن لها ، فانتقل صلى‌الله‌عليه‌وآله الى البيت الذي أسكنه عائشة. واستمر به المرض أياما وثقل عليه‌السلام (٢).

ثم ذكر خبر الصلاة ثم قال : فلما سلّم انصرف الى منزله فاستدعى جماعة ممن حضر المسجد من المسلمين وفيهم أبو بكر وعمر فقال لهم : ألم آمر أن تنفّذوا جيش اسامة؟! فلم تأخّرتم عن أمري؟! فقال أبو بكر : إنّني كنت خرجت ثم عدت لاحدث أو اجدّد بك عهدا! وقال عمر : يا رسول الله ، لم أخرج ، لأنّني لم احب أن أسأل عنك الركب! فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : فأنفذوا جيش اسامة ، فأنفذوا جيش اسامة ، ثلاثا (٣).

__________________

(١) الارشاد ١ : ١٧٩ ـ ١٨١.

(٢) الارشاد ٢ : ١٨٢ ، ومرّ عن الطبري عن الكلبي عن أبي مخنف عن فقهاء الحجاز أنّه كان في بيت زينب بنت جحش ٣ : ١٨٧ ، وروى ابن اسحاق عن الزهري عن عائشة : انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان في بيت ميمونة فاستأذنهنّ أن يكون في بيتي فأذن له (السيرة ٤ : ٢٩٢) فخرج رسول الله يمشي بين رجلين من أهله أحدهما : الفضل بن العباس ، ورجل آخر ، عاصبا رأسه تخطّ قدماه حتى دخل بيتي. فالذي سمع هذا من عائشة رواه لابن عباس فقال له : هل تدري من الرجل الآخر؟ قال : هو علي بن أبي طالب (فابن هشام اكتفى عن ابن عباس الى هنا ٤ : ٢٩٨) ورواه الطبري عن ابن اسحاق فأكمل عن ابن عباس قال : ولكنّها كانت لا تقدر على أن تذكره بخير وهي تستطيع! ٣ : ١٨٨ ، ١٨٩.

(٣) الارشاد ٢ : ١٨٣ ، ١٨٤ واشتهر : لعن من تخلّف عنه ، ولم يرد من طرقنا إلّا في


هكذا ، خلافا لما مرّ عن ابن عقبة والواقدي من خروج عمر الى المعسكر وخروج صاحبه أبي بكر الى امرأته الخزرجية في عوالي المدينة ، وموافقا لليعقوبي في خروجهما في الجيش ، واشتماله على المهاجرين والأنصار ، بل زاد المفيد : بجمهور الامّة (١).

زيارة البقيع والخطبة العامة :

وأفاد المفيد في «الارشاد» : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أقبل على علي عليه‌السلام وقال له : إنّ جبرئيل كان يعرض عليّ القرآن كل سنة مرّة ، وقد عرضه علي العام مرّتين ، ولا أراه إلّا لحضور أجلي (٢)! يا علي ، إنّي خيرت بين خزائن الدنيا والخلود فيها أو الجنة ، فاخترت لقاء ربّي والجنة (٣) لما عراه مرضه وأحسّ به ، قال لمن معه : إنّي

__________________

خبر ضعيف ضمن محاورة الحروريّ للإمام الباقر عليه‌السلام في بحار الأنوار ٢٧ : ٣٢٤.

وروى اللعن من قدماء المعتزلة أحمد بن عبد العزيز الجوهري البغدادي (م ٣٢٣ ه‍) في كتابه السقيفة ، وعنه المعتزلي الشافعي البغدادي (م ٦٦٥ ه‍) في شرح نهج البلاغة ٦ : ٥٢. ثم الشهرستاني في الملل والنحل بحاشية الفصل ١ : ٢٠.

(١) الارشاد ٢ : ١٨٠ مما هو مستبعد جدّا. وانظر تخلّفهم عن جيش اسامة في بحار الأنوار ٣١ : ١٤ ـ ٢٤ ، ط. تحقيق حضرة الشيخ الوالد.

(٢) هذا ما أفاده المفيد هنا لأول مرة من دون سائر مصادر أخبارنا عامة ، وإنمّا نقله عنه في إعلام الورى ١ : ٢٦٤ ، وقصص الأنبياء للراوندي : ٣٥٧ ، والحلبي في مناقب آل أبي طالب ١ : ٢٩١.

(٣) كذا ، وعنه في بحار الأنوار ٢٢ : ٤٦٦ وفي ٢١ : ٤٠٩ عن المنتقى للكازروني : خبر خروجه صلى‌الله‌عليه‌وآله الى البقيع مع أبي مويهبة ، وهو عن ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٩٢. ورواه الصدوق في الأمالي : ٢٢٦ ح ١١ ، عن الصادق عن أبيه عن جدّه ، ولكن في يوم الوفاة


قد امرت بالاستغفار لأهل البقيع. ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب عليه‌السلام وانطلق حتى وقف فيهم فقال : السلام عليكم يا أهل القبور ، ليهنئكم ما أصبحتم فيه مما فيه الناس ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع أوّلها آخرها. ثم عاد الى منزله عليه وآله السلام (١).

وبعد ثلاثة أيام خرج الى المسجد معصوب الرأس ، معتمدا على علي عليه‌السلام وعلى الفضل بن العباس ، حتى صعد المنبر فجلس عليه ثم قال : «معاشر الناس ، قد حان منّي خفوف (٢) من بين أظهركم ، فمن كانت له عندي عدة فليأتني اعطه إياها ، ومن كان له عليّ دين فليخبرني به.

معاشر الناس ، ليس بين الله وبين أحد شيء يعطيه به خيرا أو يصرف به عنه شرّا إلّا العمل.

أيها الناس ، لا يدّعي مدّع ولا يتمنّ متمنّ ، والذي بعثني بالحق لا ينجي إلّا عمل مع رحمة! ولو عصيت لهويت! اللهم هل بلّغت؟».

ثم نزل فصلّى بهم صلاة خفيفة ، ثم دخل الى بيت أمّ سلمة رضي الله عنها (٣).

__________________

في بيته لا البقيع في اول مرضه. وفي الخبر بعد التخيير وترجيح جبرئيل الآخرة! يقول الرسول لملك الموت : امض لما امرت به! ولم يؤمر في الخبر إلّا بتخييره ، ففي لفظ الخبر اضطراب. ورواه المفيد في الأمالي : ٥٣ ح ١٥ ، بسنده عن الباقر عليه‌السلام : أنّ الذي خيّره هو جبرئيل عند الوفاة فقال : لا ، بل الرفيق الأعلى ، كما مثله في السيرة ٤ : ٣٠١ ، عن عائشة.

(١) الارشاد ٢ : ١٨١ ، وروى نحوه ابن اسحاق عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن أبي مويهبة مولى رسول الله أنّها كانت معه فقط في جوف الليل ٤ : ٢٩١ ، ٢٩٢ ، وكأن ابن العاص لم يشأ أن يذكر بها عليا عليه‌السلام! ونقل الفتن ابن اسحاق في الخطبة في المسجد بعد الصلاة ٤ : ٣٠٤.

(٢) خفوف : حركة وقرب ارتحال ، يريد الإنذار بموته. مجمع البحرين ٥ : ٤٩.

(٣) الارشاد ١ : ١٨٢.


صلاة أبي بكر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

أفاد المفيد في «الارشاد» أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان في بيت أمّ سلمة «رضي الله عنها» يوما أو يومين ، فسألت عائشة أزواج النبي عليه وآله السلام أن تنقله الى بيتها لتتولّى تعليله ، فأذن لها ، فجاءت الى أمّ سلمة تسألها أن تنقله الى بيتها ، فأذنت لها ، فانتقل صلى‌الله‌عليه‌وآله الى البيت الذي أسكنه عائشة ، واستمرّ به المرض أياما وثقل عليه‌السلام.

وكان بلال يؤذن ثم يأتي الى النبي فيؤذنه بذلك ، فأذّن يوما للفجر ثم جاءه وهو مغمور بالمرض ، فنادى : الصلاة يرحمكم الله ، فاوذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بندائه فقال : يصلّي بالناس بعضهم فإنّني مشغول بنفسي. فقالت عائشة : مروا أبا بكر (١) .. وقالت حفصة : مروا عمر!

وكان رسول الله قد أمرهما بالخروج الى اسامة ، ولم يكن عنده علم أنّهما قد تخلّفا ، فلما سمع من عائشة وحفصة ما سمع علم أنّهما متأخّران عن أمره ، ورأى حرص كل واحدة منهما على التنويه بأبيها وافتتانهما بذلك هذا ورسول الله حيّ ، فقال رسول الله لهما : اكففن فإنكنّ صويحبات يوسف.

ثم دعا عليا والفضل بن العباس (وتوضأ) واعتمدهما ورجلاه تخطّان

__________________

(١) الارشاد ١ : ١٨٢. ونقل المعتزلي عن شيخه يوسف اللمعاني : أنّ النبي ـ كما روى ـ قال : ليصلّ بهم أحدهم. ولم يعيّن. وكانت صلاة الصبح ، فكان علي عليه‌السلام ينسب الى عائشة أنّها هي التي أمرت بلالا أن يأمر أباها أن يصلي بالناس ... وكان علي عليه‌السلام يذكر هذا لأصحابه في خلواته كثيرا ويقول : إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقل : إنكنّ لصويحبات يوسف ، إلّا إنكارا لهذه الحال وغضبا منهما ، لأنّها وحفصة تبادتا لتعيين أبويهما ، وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله استدركها بخروجه وصرفه عن المحراب. شرح النهج ٩ : ١٩٧.


الأرض من الضعف ، فلما خرج من بيته الى المسجد وجد أبا بكر قد سبق الى المحراب ، فحضره وأومأ بيده إليه أن تأخّر ، فتأخّر أبو بكر ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مقامه ولم يبن على مضى من فعال أبي بكر بل ابتدأ الصلاة بتكبيرة الاحرام (١).

حديث الدواة والكتف :

وأفاد المفيد في «الارشاد» : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لما سلّم من صلاته انصرف الى منزله ... ثم اغمي عليه من الأسف والتعب الذي لحقه ، فارتفع النحيب من ابنته والنساء من أزواجه والمسلمات ومن حضر من أهل بيته والمسلمين ، فأفاق عليه وآله السلام ونظر إليهم ثم قال : ايتوني بدواة وكتف أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده أبدا!

فقام بعض من حضر يلتمس دواة وكتفا ، واغمي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال عمر بن الخطاب لمن قام : ارجع فإنه يهجر (٢)! فرجع ، وقال بعضهم :

__________________

(١) الارشاد ١ : ١٨٢ ، ١٨٣ ، وانظر كلامه في ذلك في الفصول المختارة : ١٢٤ ـ ١٢٨ ، وكلام السيّد المرتضى في الشافي ٢ : ١٥٨ ـ ١٦١ ، وتلخيصه ٣ : ٢٨ ـ ٣٢ ، والمسترشد : ١١٨ ـ ١٤٦ ، ط. المحمودي ، وروى الطبري بسنده عن عائشة أن أبا بكر صلى بصلاته صلى‌الله‌عليه‌وآله ٣ : ١٩٧.

(٢) الارشاد ١ : ١٨٤ ، ونقله قبله الهلالي العامري في كتابه ٢ : ٧٩٤ ، والنيشابوري في الايضاح : ٢٥٩ ، والطبري ٣ : ١٩٢ ، ١٩٣ ، بثلاثة طرق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس بلا ذكر عمر ، وروى المجلسي الحديث والخبر في بحار الأنوار ٣٠ : ٧٠ ـ ٧٣ ، بخمس طرق عن البخاري وطريقين عن الجمع بين الصحيحين وبثلاثة طرق عن صحيح مسلم منها عن مسند جابر بن عبد الله الأنصاري ، وسائرها عن ابن عباس.

ونقل المعتزلي في شرح النهج عن كتاب تاريخ بغداد لأحمد بن أبي طاهر البغدادي الخراساني (٢٠٤ ـ ٢٨٠ ه‍) عن ابن عباس قال : دخلت على عمر في خلافته فقال لي : كيف خلفت ابن عمّك عظيمكم أهل البيت؟ قلت : خلّفته يمتح بدلوه الماء من البئر


إنا لله وإنّا إليه راجعون ، لقد أشققنا من خلاف رسول الله!

وأفاق صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له بعضهم : ألا نأتيك يا رسول الله بكتف ودواة؟ فقال : أبعد الذي قلتم؟! لا ، ولكنّني اوصيكم بأهل بيتي خيرا ، ثم أعرض بوجهه عنهم. فنهضوا! وبقي هل بيته خاصة وفيهم علي بن أبي طالب والعباس والفضل ابنه. فقال له العباس : يا رسول الله ، إن يكن هذا الأمر فينا مستقرا بعدك فبشّرنا ، وإن كنت تعلم أنا نغلب عليه فأوص بنا! فقال له : أنتم المستضعفون من بعدي! وأصمت (١). فنهض القوم وفيهم علي عليه‌السلام وخرجوا من عنده.

__________________

على نخيلات فلان وهو يقرأ القرآن. فقال : يا عبد الله ... هل بقي في نفسه شيء من أمر الخلافة؟ قلت : نعم. قال : أيزعم أن رسول الله نصّ عليه؟ قلت : نعم ، وأزيدك ، سألت أبي عمّا يدّعيه فقال : صدق! فقال عمر : لقد كان من رسول الله في أمره ذرو (وارتفاع) : من قول لا يثبت حجة ولا يقطع عذرا ، ولقد كان يرفع من أمره وقتا ما ، ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه فمنعت من ذلك ؛ إشفاقا وحيطة على الاسلام ، لا وربّ هذه البنيّة لا تجتمع عليه قريش أبدا ، ولو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها. فعلم رسول الله أني علمت ما في نفسه فأمسك ، وأبى الله إلّا إمضاء ما ضم! ١٢ : ٢٠ ، ٢١.

وفيه عنه قال : خرجت معه الى الشام فقال لي : يا بن عباس أشكو إليك ابن عمّك سألته أن يخرج معي فلم يفعل ، ولم أزل أراه واجدا ، ففيم تظنّ موجدته؟! أظنّه لا يزال كئيبا لفوت الخلافة؟! قلت : هو ذاك ، إنّه يزعم أنّ رسول الله أراد الأمر له. فقال : يا بن عباس ، وأراد رسول الله الأمر له فكان ما ذا إذا لم يرد الله تعالى ذلك؟! إن رسول الله أراد أمرا وأراد الله غيره! فنفذ مراد الله ولم ينفذ مراد رسول الله! أو كلما أراد رسول الله كان؟! إنّ رسول الله أراد أن يذكره للأمر في مرضه فصددته خوفا من الفتنة ، وانتشار أمر الإسلام ، فعلم رسول الله ما في نفسي فأمسك. ١٢ : ٧٨ ، ٧٩.

(١) روى المفيد في أماليه : ٢١٢ م ٢٤ ح ٢ ، بسنده عن علي بن الحسين عليه‌السلام أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله


وصيّة النبيّ إلى علي عليه‌السلام :

قال : فلما خرجوا من عنده قال عليه‌السلام : ارددوا عليّ اخي عليّ بن أبي طالب ، وعمّي. فأنفذوا من دعاهما ، فحضرا.

فالتفت صلى‌الله‌عليه‌وآله الى عمّه وقال له : يا عباس يا عمّ رسول الله ، تقبل وصيّتي ، وتنجز عدتي ، وتقضي عنّي ديني؟ فقال العباس : يا رسول الله ، عمّك شيخ كبير وذو عيال كثير ، وأنت تباري الريح سخاء وكرما ، وعليك وعد لا ينهض به عمّك!

فأقبل علي عليه‌السلام وقال له : يا أخي ، تقبل وصيّتي ، وتنجز عدتي ، وتقضي عنّي ديني ، وتقوم بأمر أهلي من بعدي؟ قال علي عليه‌السلام : نعم ، يا رسول الله ... فدعا بسيفه ودرعه وجميع لامته وعصابة كان يشدها على بطنه إذا خرج الى الحرب ، فجيء بها إليه فدفعها إليه ، ونزع خاتمة من يده وقال له : خذ هذا فضعه في يدك ، وضمّه إليه وقال له : امض على اسم الله الى منزلك (١).

__________________

كان رأسه في حجر أمّ الفضل (كذا) فقالت له : نعيت إلينا نفسك وأخبرتنا أنّك ميّت ، فإن يكن الأمر لنا فبشّرنا ، وإن يكن في غيرنا فأوص بنا ، فقال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنتم المقهورون المستضعفون بعدي. فلعلّ هذا هو أصل الخبر.

وروى الطوسي في الأمالي : ١٠٦ م ٤ ح ١٦١ ، بسنده عن ابن عباس قال : لما حضرت رسول الله الوفاة حضرته وقلت له : يا رسول الله فداك أبي وأمي قد دنا أجلك فما تأمرني؟ فقال : يا بن عباس ، خالف من خالف عليا ولا تكونن لهم ظهيرا ولا وليا. فقلت : يا رسول الله لم لا تأمر الناس بترك مخالفته؟ فبكى. وقال : يا ابن عباس ، قد سبق فيهم علم ربّي ، والذي بعثني بالحق نبيّا لا يخرج أحمد ممن خالفه من الدنيا وأنكر حقّه حتى يغيّر الله ما به من نعمة.

يا بن عباس ، احذر أن يدخلك شكّ ، فان الشكّ في علي كفر بالله.

(١) الارشاد ١ : ١٨٥ ، وروى الخبر الصدوق في علل الشرائع ١ : ١٩٨ ب ١٣١ ح ١ ، عن


وروى الصدوق بسنده عن ابن عباس قال : لما مرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعنده أصحابه قام إليه عمار بن ياسر فقال له : فداك أبي وأمي يا رسول الله ، من يغسلك منّا إذا كان ذلك منك؟ قال : ذاك علي بن أبي طالب ، لأنّه لا يهمّ بعضو من أعضائي إلّا أعانته الملائكة على ذلك.

فقال له : فداك أبي وأمي يا رسول الله ، من يصلّي عليك منّا إذا كان ذلك منك؟ فقال لعلي عليه‌السلام : يا بن أبي طالب ، إذا رأيت روحي قد فارقت جسدي ، فاغسلني وانق غسلي وكفني في طمريّ هذين ، أو في بياض مصر وبرد يمان ، ولا تغال في كفني ، واحملوني حتى تضعوني على شفير قبري ، فأوّل من يصلّي علي الجبار جلّ جلاله من فوق عرشه ، ثم جبرئيل وميكائيل وإسرافيل في جنود من الملائكة لا يحصي عددهم إلّا الله عزوجل ، ثم الحافّون بالعرش ، ثم سكان أهل سماء فسماء ، ثم جلّ أهل بيتي ونسائي الأقربون فالأقربون ، يومون إيماء ويسلّمون تسليما ، لا يؤذوني بصوت نادبة ولا رنّة (١).

__________________

ـ الباقر عليه‌السلام وح ٢ و ٣ ، عن زيد بن علي وعنها الطوسي في الأمالي ح ١٢٤٤ ، عن علي عليه‌السلام.

(١) أمالي الصدوق : ٥٠٥ ح ٦ م ٩٢. وقريب منه في كشف الغمة ١ : ١٧ عن كتاب الثعلبي عن ابن مسعود ، وأنّ المحاور للنبي أبو بكر ، بينما روى الطبري ٣ : ١٩١ ، ١٩٢ خبرا نحوه عن ابن مسعود بمحاورته هو.

وخبر الصدوق عن ابن عباس بمحاورة عمّار بن ياسر يستمرّ أربع صفحات من ٥٠٥ الى ٥٠٩ ، وبعد خبر عمّار يعرج على ذكر خطبة له صلى‌الله‌عليه‌وآله على منبره في مسجد جاء فيه : ناشدتكم الله أي رجل منكم كانت له قبل محمد مظلمة إلّا قام فليقتص منه (كذا) فقام إليه رجل يقال له سوادة بن قيس ... الى آخر الخبر. بينما لا يوجد في المراجع صحابي بهذا الاسم ، ولعلّه لهذا غيّره السيّد الأمين العاملي في المجالس السنية ٥ : ٢٥ الى : سواء بن قيس ، وذكره المحقّق الشوشتري في قاموس الرجال ٥ : ٣٢٨ ولم يذكر له الخبر ،


والأنصار تبكي :

وروى المفيد في أماليه بسنده عن ابن عباس : أنّ رجال الأنصار ونساءهم اجتمعوا في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يبكون لحاله ، فدخل العباس وابنه الفضل وعلي عليه‌السلام عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا له : يا رسول الله ، هذه الأنصار في المسجد تبكي عليك رجالها ونساؤها يخافون أن تموت. فقال : اعطوني أيديكم ، فخرج في ملحفة وعصابة حتى جلس على المنبر (١). فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : «أما بعد أيها الناس ، فما تنكرون من موت نبيّكم؟ ألم أنع إليكم وتنع إليكم أنفسكم؟ لو خلّد أحد قبلي لخلّدت فيكم.

ألا إنّي لاحق بربي ، وقد تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا : كتاب الله تعالى بين أظهركم تقرءونه صباحا ومساء ... وقد خلّفت فيكم عترتي أهل بيتي ، فأنا أوصيكم بهم. ثم أوصيكم بهذا الحي من الأنصار ، فقد عرفتم

__________________

بل نقل عن ابن مندة وأبي نعيم : أنّه هو الذي باع النبي فرسا ثم أنكره فشهد له ذو الشهادتين. وذكر بعده سواد بن عمرو وذكر عنه أنّه لقيه النبي وبيده جريدة فطعن بها في بطنه فخدشه ، فقال : يا رسول الله أقدني ، فهناك حسر النبي له عن بطنه وأعطاه الجريدة ، فألقاها وقبّل بطنه ، كما في اسد الغابة ٢ : ٣٧٤. وذكر بعده سواد بن غزيّة الأنصاري ، وذكر أنّه شهد بدرا ، فروى الطبري : أنّ النبي كان بيده قدح يعدّلهم به ، وكان سواد متقدما فطعنه بالقدح في بطنه ليستوي فقال : أقدني ، فهناك كشف النبي له عن بطنه وأعطاه القدح ، فألقاه وقبل بطنه ، فدعا له النبي بخير. الطبري ٢ : ٤٤٦ ، واسد الغابة ٢ : ٣٧٥. فما في خبر سوادة بن قيس خلط وخبط وسهو ولبس.

(١) وروى نحوه الطبرسي في الاحتجاج ١ : ٨٩ ، وفيه : فاستند إلى جذع من أساطين المسجد وخطب فقال ...


بلاءهم عند الله عزوجل وعند رسوله وعند المؤمنين ، ألم يوسّعوا في الديار ويشاطروا الثمار ويؤثروا وبهم خصاصة؟!

فمن ولي منكم أمرا يضرّ فيه أحدا أو ينفعه ، فليقبل من محسن الأنصار وليتجاوز عن مسيئهم» وكان هذا آخر مجلس جلسه حتى لقي الله عزوجل (١).

وقال للمجتمعين حوله : أيها الناس ، إنّه لا نبي بعدي ، ولا سنّة بعد سنّتي ، فمن ادّعى ذلك فدعواه وبدعته في النار ، ومن ادّعى ذلك فاقتلوه ومن اتّبعه فإنهم في النار.

أيها الناس ، أحيوا القصاص ، وأحيوا الحق ، ولا تفرقوا ، وأسلموا وسلّموا تسلموا (٢).

ادعوا إليّ أخي وصاحبي :

وأفاد المفيد في «الارشاد» : كان أمير المؤمنين عليه‌السلام لا يفارق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا لضرورة ، وقام في بعض شئونه.

ومن غد ذلك اليوم أفاق رسول الله افاقة فرأى أزواجه من حوله وافتقد عليّا عليه‌السلام ، فقال لهم : ادعوا لي أخي وصاحبي. فقالت عائشة : ادعوا له أبا بكر.

فدعي أبو بكر فدخل عليه وقعد عند رأسه ، وكان النبي قد عاوده الضعف فاصمت ، فلما فتح عينه ونظر الى أبي بكر أعرض بوجهه عنه. فقال أبو بكر : لو كانت له إليّ حاجة لأفضى بها إليّ ، وقام فخرج.

فلما خرج أبو بكر من عنده أعاد رسول الله القول ثانية : ادعوا لي أخي

__________________

(١) أمالي المفيد : ٤٥ ـ ٤٧ م ٦ ح ٦.

(٢) أمالي المفيد : ٥٣ م ٦ ح ١٥ ، عن الباقر عليه‌السلام.


وصاحبي. فقالت حفصة : ادعوا له عمر. فدعي عمر ، فلما حضر ورآه النبي أعرض عنه ، فانصرف.

فلما خرج عمر من عنده أعاد القول ثالثة : ادعوا لي أخي وصاحبي (١). فقالت أم سلمة «رضيَ الله عنها» ادعوا له عليّا إنّه لا يريد غيره. فدعي علي عليه‌السلام. فلما دنا علي عليه‌السلام منه أومأ إليه فأكبّ عليه فناجاه رسول الله طويلا ، ثم تركه فجلس ناحية ، وأغفى رسول الله.

فقيل لعلي عليه‌السلام : ما الذي أوعز إليك يا أبا الحسن؟ فقال : علّمني ألف باب ، يفتح لي كل باب ألف باب (٢) ، ووصّاني بما أنا قائم به إن شاء الله.

ثم فتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عينه وقال لعلي عليه‌السلام : يا علي ، ضع رأسي في حجرك ، فقد جاء أمر الله عزوجل ، فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك وامسح بها وجهك ، ثم وجّهني الى القبلة ، وتولّ أمري (٣) ، فإذا أنا متّ فاغسلني واستر عورتي فإنه لا يراها أحد إلّا اكمه (٤) وصلّ عليّ أول الناس ، ولا تفارقني حتى تواريني في رمسي ، واستعن بالله تعالى (٥) وادفنّي في هذا المكان ، وارفع قبري من الأرض أربع أصابع ، ورشّ عليه من الماء (٦).

فأخذ علي عليه‌السلام رأسه ووضعه في حجره ، وأغمي على النبيّ. فاكبّت عليه ابنته فاطمة تنظر في وجهه وتندبه وتبكي وتقول :

__________________

(١) الارشاد ١ : ١٨٦ ، ونحوه في الطبري ٣ : ١٩٦ ، مزيدا مضافا محرّفا.

(٢) نحوه في أمالي الصدوق : ٥٠٨ ، ٥٠٩ م ٩٢ ح ٦ ، عن ابن عباس.

(٣) الارشاد ١ : ١٨٥ ، ١٨٦.

(٤) الارشاد ١ : ١٨١ ، ١٨٢ ، وخبره في أمالي الطوسي : ٦٦٠ م ٣٥ ح ١٣٦٥ ، عن الصادق عليه‌السلام.

(٥) الارشاد ١ : ١٨٦.

(٦) اصول الكافي ١ : ٤٥٠ ح ٣٦ ، عن الباقر عليه‌السلام.


 «وابيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل» (١)

ففتح رسول الله عينيه وقال لها بصوت ضئيل : يا بنيّة ، هذا قول عمّك أبي طالب ، لا تقوليه ، ولكن قولي : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ)(٢) فبكت ، فأومأ إليها بالدنوّ منه ، فدنت ، فأسرّ إليها شيئا تهلل له وجهها.

فقيل لها : ما الذي أسرّ إليك رسول الله فسرّي عنك ما كان عليك من القلق والحزن من وفاته؟ فقالت : إنّه خبّرني أنّني أول أهل بيته لحوقا به ، وأنّه لن تطول المدة بي بعده حتى أدركه ، فسرّي ذلك عنّي (٣)!

فروى الصدوق في «الأمالي» عن ابن عباس ... ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إليّ يا عليّ إليّ يا علي إليّ يا علي ، فما زال يدنيه حتى أخذ بيده وأجلسه عند رأسه ، ثم اغمي عليه.

فقام الحسنان يبكيان ويصرخان وأقبلا حتى وقعا على رسول الله ، فأراد علي أن ينحّيهما عنه فأفاق وقال له : يا علي ، دعني أشمهما ويشمّاني ، وأتزوّد منهما ويتزوّدا منّي ، أما إنهما سيظلمان بعدي ويقتلان ظلما ، ثم قال ثلاثا : فلعنة الله على من يظلمهما (٤).

وروى نحوه الطوسي في «الأمالي» بسنده عن الحسين عن أبيه علي عليهما‌السلام : أنّه قال لبلال : يا بلال ، ايتني بولديّ الحسن والحسين. فانطلق فجاء بهما (كذا ،

__________________

(١) الثمال : الغياث.

(٢) آل عمران : ١٤٤.

(٣) الارشاد ١ : ١٨٧ ، والخبر في أمالي الطوسي ح ٣١٦ ، وفي البخاري ٦ : ١٢ ، ومسلم ٤ : ١٩٠٤ ، والترمذي ٥ : ٣٦١ والدولابي في الذرية الطاهرة : ١٤٠ فما بعدها.

(٤) أمالي الصدوق : ٥٠٨ ، ٥٠٩ م ٩٢ ذيل ح ٦.


وليس جاء بك وبأخيك ، أو جاء بي وبأخي ، ولا جاء بأبي وعمّي) فأسندهما الى صدره وجعل يشمهما ، فظننت أنّهما قد غماه فذهبت لآخذهما عنه فقال لي : دعهما يا علي يشمّاني وأشمّهما ، ويتزوّدا منّي وأتزوّد منهما ، فسيلقيان من بعدي زلزالا وأمرا عضالا ، فلعن الله من يخيفهما. اللهم إنّي استودعكهما وصالح المؤمنين (١).

وكانت يد علي عليه‌السلام تحت حنكه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفاضت نفسه ، فرفعها الى وجهه فمسحه بها ، ثم غمّضه ووجّهه الى القبلة ، ومدّ عليه إزاره ، ثم قام لأمره (٢).

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٦٠٠ ـ ٦٠٢ م ٢٧ ح ١٢٤٤ ، عن زيد بن علي والباقر عن أبيه عن جدّه عن علي عليهم‌السلام ، وعن علي عليه‌السلام أيضا في كشف الغمة ١ : ١٧ عن كتاب أبي اسحاق الثعلبي : ثم دعا النبي الحسن والحسين عليهما‌السلام فقبّلهما وشمّهما وترشّفهما وعيناه تهملان.

(٢) الارشاد ١ : ١٨٧ ، وفي نهج البلاغة خ ١٩٧ ، عن لسانه عليه‌السلام. وروى ابن اسحاق عن ابن الزبير عن عائشة : أنّه قبض في حجري بين سحري ونحري فقمت أضرب وجهي ٤ : ٣٠٥ وذلك مناقضة لقول علي عليه‌السلام.

وهنا روى ابن اسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة قال :

لما توفي رسول الله قام عمر بن الخطاب فقال : إنّ رجالا من المنافقين يزعمون أنّ رسول الله قد توفي. وإنّ رسول الله والله ما مات ولكنّه ذهب الى ربّه كما ذهب موسى بن عمران ، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات ، والله ليرجعن رسول الله كما رجع موسى فليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنّ رسول الله قد مات!

وحين بلغ الخبر أبا بكر أقبل حتى نزل على باب المسجد وعمر يكلّم الناس فلم يلتفت إليه ، ودخل بيت عائشة ورسول الله مسجى في ناحية البيت وعليه برد حبرة ، فكشف عن وجهه وقبّله ثم ردّ البرد عليه ثم خرج وعمر بعد يكلّم الناس ، فناداه : يا عمر على رسلك أنصت! فأبي إلّا أن يتكلم ، فأقبل أبو بكر على الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس ، إنّه من كان يعبد محمدا فإنّ محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فانّ الله حي


فروى العياشي في تفسيره عن الباقر عليه‌السلام : أنّ عليّا عليه‌السلام لما غمّض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «إنّا لله وإنّا إليه راجعون» يا لها من مصيبة خصّت الأقربين وعمّت المؤمنين ، لم يصابوا بمثلها قط ، ولا عاينوا مثلها (١).

فبينا هم كذلك إذ أتاهم آت من الله تعالى يسمعون كلامه ولا يرونه فقال : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته ، إنّ في الله عزاء من كل مصيبة ، ونجاة من كلّ هلكة ، ودركا لما فات (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ)(٢).

إنّ الله اختاركم وفضّلكم وطهّركم ، وجعلكم أهل بيت نبيّه ، واستودعكم علمه ، وأورثكم كتابه ، وجعلكم تابوت علمه وعصا عزّه ، وضرب لكم مثلا من

__________________

ـ لا يموت ، ثم تلا قوله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) فدهش عمر ، وكأنّه لم يعلم بنزول الآية. ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٣٠٥ ، ٣٠٦ ، ثم روى عن أنس بن مالك : أنّ عمر قال بعدها : أيها الناس ، انّي كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت مما وجدتها في كتاب الله ، ولا كانت عهدا عهده إليّ رسول الله ، ولكنّي كنت أرى أنّ رسول الله سيدبّر أمرنا إلى الآخر. ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٣١١ ، ثم روى عن عكرمة عن ابن عباس عن عمر قال له : إن كان الذي حملني على ذلك إلّا أني كنت أقرأ الآية : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) فكنت أظنّ أن رسول الله سيبقى في امته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها ، فهو الذي حملني على ما قلت! ٤ : ٣١٢ ، وذكر مختصر الخبر اليعقوبي ٢ : ١١٤.

(١) تفسير العياشي ١ : ٢٠٩ ح ١٦٦.

(٢) آل عمران : ١٨٥.


نوره ، وعصمكم من الزلل وآمنكم من الفتن. فتعزّوا بعزاء الله ، فانّ الله لم ينزع منكم رحمته ولن يزيل عنكم نعمته ، فأنتم أهل الله عزوجل الذين بهم تمّت النعمة ، واجتمعت الفرقة ، وائتلفت الكلمة ، وأنتم أولياؤه ، فمن تولّاكم فاز ومن ظلم حقّكم زهق ، مودّتكم من الله واجبة في كتابه على عباده المؤمنين ، ثم الله على نصركم ـ إذا يشاء ـ قدير.

فاصبروا لعواقب الأمور ، فإنّها الى الله تصير. قد قبلكم الله من نبيّه وديعة واستودعكم أولياءه المؤمنين في الأرض ، فمن أدّى أمانته آتاه الله صدقه ، فأنتم الأمانة المستودعة ، ولكم المودّة الواجبة والطاعة المفروضة ، وقد قبض رسول الله وقد أكمل لكم الدين وبيّن لكم سبيل المخرج ، فلم يترك لجاهل حجّة ، فمن جهل أو تجاهل ، أو نسي أو تناسى فعلى الله حسابه ، والله من وراء حوائجكم ، واستودعكم الله ، والسلام عليكم (١).

وروى الصدوق في «الخصال» بسنده عن علي عليه‌السلام قال : فنزل بي من وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما لم أكن أظنّ الجبال لو حملته عنوة كانت تنهض به! فرأيت الناس من أهل بيتي ما بين جازع لا يملك جزعه ولا يضبط نفسه ولا يقوى على حمل فادح ما نزل به ، قد أذهب الجزع صبره وأذهل عقله ، وحال بينه وبين الفهم والإفهام والقول والإسماع ، وسائر الناس من غير بني عبد المطلب بين معزّ يأمر بالصبر ، وبين مساعد

باك لبكائهم وجازع لجزعهم.

__________________

(١) أصول الكافي ١ : ٤٤٥ ح ١٩ ، وروى قريبا منه العياشي في تفسيره ١ : ٢٠٩ ح ١٦٦ ، ثم خبرين آخرين عن الصادق عليه‌السلام ح ١٦٧ و ١٦٨ ، وعنه عليه‌السلام اليعقوبي في تاريخه ١ : ١١٤. وروى مثله الصدوق في أماليه : ٢٢٧ ذيل ح ١١ ، عن السجاد عن علي عليهما‌السلام : أنّ المعزي كان الخضر عليه‌السلام وكذلك في كنز العمال ٧ : ٢٥٠ ح ١٨٧٨٥.


فحملت نفسي على الصبر عند وفاته ، بلزوم الصمت ، والاشتغال بما أمرني به من تجهيزه وتغسيله وتحنيطه وتكفينه (١).

غسله والصلاة عليه ودفنه :

وأفاد المفيد في «الارشاد» أنّ عليّا عليه‌السلام لما أراد غسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله استدعى الفضل بن العباس فعصّب على عينيه ـ حسب وصيّة النبي ـ وأمره أن يناوله الماء لغسله. ثم شقّ قميصه من جيبه حتى سرّته ، وتولّى غسله وتحنيطه وتكفينه (٢).

وروى الكليني عن الصادق عليه‌السلام : أن رسول الله أحرم في ثوبين : عبري (من اليمن) وظفاري (صحاري عماني) وكفّن فيهما (٣).

وفي آخر عنه عليه‌السلام : في ثلاثة أثواب : ثوبين صحاريّين وثوب حبرة (٤).

وروى المفيد بسنده عن ابن عباس قال : لما فرغ علي عليه‌السلام من غسله (وكفّنه) كشف الإزار عن وجهه ثم قال : بأبي أنت وأمي طبت حيّا وطبت ميّتا ، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد ممن سواك من النبوّة والأنباء ، خصّصت حتى

__________________

(١) الخصال ١ : ٣٧٠ ، ٣٧١ ، عن الباقر وعن محمد بن الحنفية ، وفي الاختصاص : ١٦٤.

(٢) الارشاد ١ : ١٧٨ وروى ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٣١٢ ، عن عكرمة عن ابن عباس : أنّ الذين ولوا غسله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنمّا هم أبوه وأخواه الفضل وقثم وعلي بن أبي طالب وأسامة وشقران مولياه. وكان علي قد اسنده الى صدره وعليه قميصه يدلكه من وراء القميص ، واسامة وشقران يصبّان الماء ، والعباس وابناه الفضل وقثم يقلبونه مع علي عليه‌السلام.

(٣) فروع الكافي ٤ : ٣٣٩ ح ٢ ، والفقيه ٢ : ٣٣٤ ح ٩٥٩٤ ، وعنهما في الوسائل ٣ : ١٦ ب ٥ ح ١.

(٤) فروع الكافي ١ : ٣٣٠ ح ٦ و ٣ : ١٤٣ ح ٢ ، والتهذيب ١ : ٢٩١ ح ٨٥٠ ، وابن اسحاق في السيرة ٤ : ١١٣ ، وعنه عن أبيه عن جدّه السجاد عليهم‌السلام ، وعن الزهري عن السجاد عليه‌السلام. وفي اليعقوبي ٢ : ١١٤.


صرت مسلّيا عمّن سواك ، وعمّمت حتى صار الناس فيك سواء. ولو لا أنّك أمرت بالصبر ونهيت عن الجزع لأنفدنا عليك ماء الشؤون بأبي أنت وأمّي ، اذكرنا عند ربّك واجعلنا من همّك. ثم أكبّ عليه فقبّل وجهه ، ومدّ الإزار عليه (١).

فروى الكليني عن الصادق عليه‌السلام قال : أتى العباس أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال له : يا علي ، إنّ الناس قد اجتمعوا على أن يؤمّهم رجل منهم (فيصلّوا على النبيّ) ويدفنوه في بقيع المصلّى. فخرج أمير المؤمنين الى الناس فقال لهم : يا أيها الناس ، إن رسول الله إمامنا حيّا وميّتا و (قد) قال : إنّي أدفن في البقعة التي اقبض فيها (٢).

وروى عن الباقر عن علي عليه‌السلام قال : سمعت رسول الله يقول في صحته وسلامته : إنّما نزلت هذه الآية عليّ في الصلاة عليّ بعد قبض الله لي : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(٣).

ثم أمر الناس أن يدخلوا عليه عشرة عشرة فيصلّون عليه ثم يخرجون ، ثم أدخل عليه عشرة فداروا حوله ووقف أمير المؤمنين في وسطهم فقرأ : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) فيقرءون كما يقرأ ، حتى صلّى عليه أهل المدينة وأهل العوالي (٤).

__________________

(١) أمالي المفيد : ١٠٢ م ١٢ ح ٦ ، ورواه الرضي في نهج البلاغة خ ٢٣٥ ، وروى ابن اسحاق الجملة الأولى ٤ : ٣١٣ ، وابن حنبل في مسنده ح ٢٢٨ ، وأنساب الأشراف ١ : ٥٧١ ، وأمالي محمد بن حبيب (م ٢٤٥ ه‍) وأمالي إبراهيم النحوي (م ٣١١ ه‍) كما في المعجم المفهرس لنهج البلاغة : ١٣٩٣.

(٢) أصول الكافي ١ : ٤٥١ ح ٣٧. ونقله ابن اسحاق عن قول أبي بكر! ٤ : ٣١٤.

(٣) الأحزاب : ٥٦.

(٤) أصول الكافي ١ : ٤٥٠ و ٤٥١ ح ٣٥ و ٣٨ ، وروى ابن اسحاق عن ابن عباس قال : دخل الناس أرسالا : الرجال ثم النساء ثم الصبيان! ٤ : ٣١٤.


وروى الحلبي عن الباقر عليه‌السلام أنّهم صلّوا عليه عشرة عشرة يوم الاثنين وليلة الثلاثاء حتى الصباح ويوم الثلاثاء حتى صلّى عليه الأقرباء والخواص. وأنّ عليّا عليه‌السلام أنفذ أبا بريدة الأسلمي الى أهل السقيفة فلم يحضروا (١).

وقال المفيد : وفات أكثر الناس الصلاة على رسول الله لتشاجرهم في أمر خلافته! وكان عادة أهل مكة أن يضرحوا للدفن (في وسط القبر) وكان الذي يحفر لهم في المدينة أبو عبيدة بن الجرّاح ، وكان أهل المدينة يلحدون (في جانب القبر) والذي يحفر لهم أبو طلحة زيد بن سهل الأنصاري ، وقال العباس : اللهم خر لنبيّك ، وأرسل رجلين الى أبي عبيدة وأبي طلحة أيهما وجد ، فوجد أبو طلحة زيد بن سهل فجيء به وقيل له : احتفر لرسول الله ، فحفر له لحدا.

وكان الأنصار حول البيت فنادوا عليّا عليه‌السلام : يا علي ، إنّا نذكّرك الله وحقّنا اليوم من رسول الله أن يذهب ، أدخل منّا رجلا يكون لنا به حظّ من مواراة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

فقال علي عليه‌السلام : ليدخل أوس بن خوليّ ، وكان خزرجيا بدريا فاضلا. فلما دخل قال له علي عليه‌السلام : انزل القبر ، فنزل ، فحمل علي النبي ودلّاه في الحفرة على يدي أوس الخزرجي ، فلما وضعه على الأرض قال له : اخرج فخرج (٣).

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ١ : ٢٩٧.

(٢) الارشاد ١ : ١٨٨. وروى ابن اسحاق عن ابن عباس : أن أوسا هو الذي قال ذلك حين الغسل فادخل وحضر الغسل! ٤ : ٣١٢ ثم ذكر هذا الخبر حين الدفن ، فهل تكرّر ذلك مرّتين؟! هذا وهو يكرّر : أنّ ذلك كان في وسط الليل ، واخرى : في جوف ليلة الأربعاء ٤ : ٣١٤ ، فهل كان التماس أوس واستجابته وإدخاله في جوف الليل؟! بعيد جدا.

(٣) الارشاد ١ : ١٨٨ ، ١٨٩. وهنا روى ابن سعد في الطبقات الكبرى ٢ : ٣٠٣ ، عن ابن حزم قال : إنّ المغيرة بن شعبة ألقى خاتمه في قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لينزل فيه فقال له علي : إنّما


قال : ثم نزل علي عليه‌السلام القبر فكشف عن وجه رسول الله ووضع خدّه على الأرض موجّها الى القبلة عن يمينه ، ثم وضع اللبن على اللحد ، ثم خرج وهال عليه التراب (١).

وروى الكليني : أنّ عليّا عليه‌السلام جعل اللبن على قبره (٢) وفي آخر : أنّه حصّبه بحصباء حمراء (٣) فلعلّها كانت في الوسط واللبن حولها.

وفي ارتفاعه : روى الحميري : أنّه رفعه من الأرض قدر شبر وأربع أصابع ورشّ عليه الماء (٤). وفي اليعقوبي : ربّع قبره ولم يسنّم (٥).

فبينما هو يسوّي قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمسحاة في يده إذ جاءه رجل فقال له : إنّ القوم قد بايعوا أبا بكر وإنّ الطلقاء بدروا بالعقد للرجل خوفا من إدراككم الأمر ووقعت الخذلة في الأنصار لاختلافهم. فوضع علي عليه‌السلام المسحاة في الأرض ويده

__________________

ـ ألقيت خاتمك لكي تنزل فيه فيقال : نزل في قبر النبي ، والذي نفسي بيده لا تنزل فيه أبدا. وفي كنز العمّال قال : لا يتحدّث الناس أنّك نزلت فيه أو أنّ خاتمك في قبر النبي. وكان رأى موقعه فنزل وتناوله ودفعه إليه ٧ : ٢٥٨ ح ١٨٨١٢. وروى ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٣١٥ : أن نفرا من أهل العراق دخلوا على علي في دار اخته أم هاني في الحج في زمان عثمان فقالوا : يا أبا الحسن ، جئناك نسألك عن أمر نحب أن تخبرنا عنه. قال : أظنّ المغيرة بن شعبة يحدثكم : أنّه كان أحدث الناس عهدا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! قالوا : أجل ، جئنا نسألك عن ذلك. فقال : كذب.

(١) الارشاد ١ : ١٨٨.

(٢) فروع الكافي ٣ : ١٩٧ ح ٣.

(٣) فروع الكافي ٣ : ٢٠١ ح ٢ و ٤ : ٥٤٨ وتهذيب الأحكام ١ : ٤٦١.

(٤) قرب الاسناد : ١٣٦ ح ٥٥٥.

(٥) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١١٤.


عليها وهو يقول : (الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ* أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ)(١).

تاريخ يوم الوفاة :

وكان ذلك في يوم الاثنين لليلتين بقيتا من صفر سنة احدى عشرة من هجرته ، وهو ابن ثلاث وستين سنة (٢).

وروى ابن الخشاب البغدادي (م ٥٦٧ ه‍) وابن أبي الثلج البغدادي (م ٣٢٥ ه‍) بسنده عن نصر بن علي الجهضمي عن الرضا عن أبيه عن آبائه عن علي عليه‌السلام قال : مضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو ابن ثلاث وستين سنة ... وقبض صلى‌الله‌عليه‌وآله في يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأوّل (٣).

__________________

(١) الارشاد ١ : ١٨٩ ، والآية في سورة العنكبوت : ١ ـ ٤ ، فلعلّ تأكيد ابن اسحاق أو رواته على أنّ ذلك كان في جوف الليل ووسطه ليلة الأربعاء لإبعاد ما روي معه من خبر السقيفة!

(٢) الارشاد ١ : ١٨٩ ، وعنه في إعلام الورى للطبرسي ، وقصص الأنبياء للراوندي ، ومناقب آل أبي طالب للحلبي ، وكشف الغمة للإربلي ، ولم نعثر على مصدر له قبل الارشاد ، وإنما اشتهر منه.

(٣) المجموعة النفيسة : ٤ ، وبعنوان تاريخ أهل البيت عليهم‌السلام بتحقيق المحقّق السيّد الحسيني الجلالي : ٦٨. وجاء كذلك في رواية ابن الخشاب : ١٦١. وفي اصول الكافي ١ : ٤٣٩ ، قبض صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لاثنتي عشرة ليلة من شهر ربيع الأوّل ، ورواه الشيخ الطوسي في أماليه : ٢٦٦ ، ح ٤٩١ ، بسنده عن ابن اسحاق عن ابن حزم ، وهو ما رواه ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٣٠٤ ، لكن عن غير ابن حزم ، وتبع الطوسي ، إرشاد شيخه المفيد في غير أماليه : من تهذيبه ٦ : ٢. ومصباحه : ٧٣٢. وفي تاريخ اليعقوبي عن الخوارزمي المنجّم أنّ وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت والشمس في الجوزاء ، وهو الشهر الثالث من فصل الربيع.


وعن ابن الخشاب رواه الأربلّي عن الباقر عليه‌السلام موقوفا عليه (١).

وهو ما رواه الطبري عن الكلبي عن أبي مخنف عن فقهاء الحجاز قالوا : قبض رسول الله نصف النهار يوم الاثنين لليلتين مضتا من شهر ربيع الأوّل (٢).

وعلّق الإربليّ على هذا الاختلاف فقال : إنّ اختلافهم في يوم ولادته صلى‌الله‌عليه‌وآله سهل ، إذ لم يكونوا عارفين به وبما يكون منه ، وكانوا أميّين لا يعرفون ضبط مواليد أبنائهم. فأمّا اختلافهم في موته فعجيب ... بل اختلافهم في موته أعجب ... إذ يوم موته يجب أن يكون معيّنا معلوما (٣).

والحمد لله رب العالمين ، وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين.

تم المجلد الثالث من موسوعة التاريخ الإسلامي ، وبه تمت السيرة النبوية على صاحبها ألف صلاة وتحية ، وسوف يتلوه المجلد الرابع في حوادث ما بعده وتاريخ حياة الإمام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام.

__________________

(١) كشف الغمة : ١٤.

(٢) تاريخ الطبري ٣ : ٢٠٠.

(٣) كشف الغمة : ١٥.


فهرس الكتاب

أهم حوادث السنة السابعة للهجرة

أمر خيبر........................................................................ ٩

كتبه إلى يهود خيبر.............................................................. ٩

التهيؤ للغزو.................................................................... ١١

موقف يهود المدينة.............................................................. ١٢

خروج النسوة إلى خيبر.......................................................... ١٣

المسير نحو خيبر................................................................ ١٤

موقف يهود خيبر............................................................... ١٦

بين اليهود وحلفائهم............................................................ ١٨

قبوله المشورة في المنزل............................................................ ٢٠

هداية ... وأمانة............................................................... ٢١

واصطفوا للقتال................................................................. ٢١

وتحوّلوا في الليل................................................................. ٢٥


اليوم الثاني..................................................................... ٢٥

اليوم الثالث................................................................... ٢٦

مقامه على حصون النطاة........................................................ ٣٤

حصار حصن الزّبير............................................................. ٤٠

من الرجيع إلى المنزلة............................................................ ٤١

حصن النّزار بالشّق............................................................. ٤٢

صفيّة بنت حييّ بن أخطب..................................................... ٤٣

حصون الوطيح وسلالم والكتيبة................................................... ٤٥

مصالحة أهل الحصون الثلاثة..................................................... ٤٦

فروة بن عمرو على الغنائم....................................................... ٤٨

ونهى عن الربا المعاملي........................................................... ٥٥

وصول جعفر إلى خيبر.......................................................... ٥٦

وأما أمر فدك.................................................................. ٥٧

الشاة المشويّة................................................................... ٦٠

زواج النبيّ بصفيّة............................................................... ٦٢

خبر ردّ الشمس لعلي عليه‌السلام...................................................... ٦٤

خبر فتح خيبر في مكة.......................................................... ٦٥

يهود وادي القرى وتيماء......................................................... ٦٨

فوات الصلاة؟!................................................................ ٧٠

وانتهى إلى المدينة............................................................... ٧٢

ومن أخبار الصفّة.............................................................. ٧٢

في دار النبيّ بعد خيبر........................................................... ٧٤

وصول مارية وهدايا المقوقس...................................................... ٧٥


نزول سورة الرعد................................................................ ٧٨

تاريخ حرب خيبر............................................................... ٧٩

وكتب إلى كسرى............................................................... ٨١

تذكير بمناسبة.................................................................. ٨٤

دعاة الإسلام في الشام.......................................................... ٨٥

سريّة زيد إلى حسمى............................................................ ٩٠

كتابه إلى أكثم بن صيفي التميمي................................................ ٩٣

سرية ابن سعد إلى فدك......................................................... ٩٦

سريتان إلى هوازن............................................................... ٩٩

سرية بشير إلى غطفان......................................................... ١٠٠

كتابه إلى أمير اليمامة......................................................... ١٠١

القسامة ، والدّية من بيت المال................................................. ١٠٤

تقسيم محاصيل خيبر........................................................... ١٠٦

عمرة القضاء................................................................. ١٠٨

مبعوث قريش................................................................. ١١٠

أذان بلال................................................................... ١١٤

زواج النبيّ بميمونة............................................................. ١١٤

واعيدت الأصنام.............................................................. ١١٥

عليّ وابنة عمه حمزة عليهما‌السلام.................................................... ١١٩

الخروج من مكة............................................................... ١١٩

وأين خالد بن الوليد؟......................................................... ١٢١

سرية السلمي إلى بني سليم..................................................... ١٢١

نزول سورة الدهر في ذي الحجة................................................. ١٢٢


ما تبقّى من آيات الأحزاب..................................................... ١٢٥

آية التطهير................................................................... ١٢٩

وسلّموا له تسليما............................................................. ١٣٤

أهم حوادث السنة الثامنة للهجرة

اتخاذ المنبر للنبيّ............................................................... ١٤١

إسلام خالد وعمرو بن العاص.................................................. ١٤٢

سريّة إلى الكديد.............................................................. ١٤٥

سريّة إلى أرض بني عامر....................................................... ١٤٥

سريّة إلى ذات أطلاح......................................................... ١٤٦

غزوة مؤتة.................................................................... ١٤٧

سبب الحرب................................................................. ١٤٧

تعيين الامراء................................................................. ١٤٧

خطاب الرسول فيهم.......................................................... ١٤٨

خطبة الوداع................................................................. ١٤٩

وصايا خاصة وهي عامة....................................................... ١٥٠

مسيرهم إلى الشام............................................................. ١٥٠

حرب مؤتة................................................................... ١٥١

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمدينة............................................................ ١٥٤

تسلية المصابين............................................................... ١٥٥

رجوعهم إلى المدينة............................................................ ١٥٧

شهداء مؤتة.................................................................. ١٥٨

سريّة وادي الرمل اليابس....................................................... ١٦٠


مواجهة الإمام علي عليه‌السلام القوم.................................................. ١٦٣

اشتباك الحرب................................................................ ١٦٤

سريّة أبي قتادة إلى خضرة...................................................... ١٦٨

نزول سورة الطلاق............................................................ ١٧٠

بدايات روايات الفتح.......................................................... ١٧١

نقض قريش لعهد الحديبية...................................................... ١٧١

وانتصرت خزاعة لرسول الله..................................................... ١٧٢

ندوة قريش للمشورة........................................................... ١٧٤

استنصار خزاعة بالرسول....................................................... ١٧٥

لقاء أبي سفيان بالخزاعيّين...................................................... ١٧٨

ابو سفيان في المدينة........................................................... ١٧٩

الاهتمام بفتح مكة بلا إعلام................................................... ١٨١

وتجسّست قريش.............................................................. ١٨٢

المؤمنات المهاجرات............................................................ ١٨٧

نزول سورة النصر............................................................. ١٨٩

التعمية على قريش بسرية أبي قتادة.............................................. ١٩٠

نفير عام بلا إعلام............................................................ ١٩١

خروج الرسول إلى مكة........................................................ ١٩٢

وتجسّست هوازن أيضا......................................................... ١٩٤

مناة صنم خزاعة وهذيل........................................................ ١٩٥

سابقة سيئة.................................................................. ١٩٦

وفي قديد عقد الألوية.......................................................... ٢٠٠

إفطار الصيام ، والعصاة....................................................... ٢٠٣


وهل علمت قريش بالخبر؟...................................................... ٢٠٥

وفي مرّ الظّهران ظهر مكة...................................................... ٢٠٦

أبو سفيان عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله..................................................... ٢٠٦

وأصبح الصباح............................................................... ٢٠٨

حوار أبي سفيان ورسول الإيمان................................................. ٢٠٩

استعراض عسكر المسلمين..................................................... ٢١١

المهاجرون والأنصار........................................................... ٢١٢

الكتيبة الخضراء والراية......................................................... ٢١٣

أبو سفيان ينادي بالأمان...................................................... ٢١٦

وحماس أحمق................................................................. ٢١٦

النبي في ذي طوى............................................................. ٢١٧

المهدور دماؤهم............................................................... ٢١٨

عكرمة المخزومي يواجه خالد المخزومي........................................... ٢٢٠

هزيمة المقاومة................................................................. ٢٢٣

جوار أمّ هانئ................................................................ ٢٢٤

نزول الرسول إلى بيت الله...................................................... ٢٢٦

مفتاح الكعبة................................................................. ٢٢٩

خطبة الفتح ، والعفو العام..................................................... ٢٣٢

ثم أذّنوا الصلاة الظهر......................................................... ٢٣٥

اليوم الثاني والخطبة فيه......................................................... ٢٣٦

خبر سفير الصلح............................................................. ٢٣٩

وممّن أمر بقتله................................................................ ٢٤٠

وممّن عفى عنه................................................................ ٢٤١


صفوان بن أميّة الجمحي....................................................... ٢٤٣

أمّ حنظلة ، وأمّ حكيم من مخزوم................................................ ٢٤٥

تكريم ، وتحريم ، وفضيلة ، وعطاء............................................... ٢٤٨

وخبر وفد بكر بن وائل........................................................ ٢٥٠

الأصنام في مكة وحواليها....................................................... ٢٥٢

خالد ، وبنو جذيمة............................................................ ٢٥٤

علي عليه‌السلام يرأب الصّدع....................................................... ٢٥٩

خالد عند رجوعه............................................................. ٢٦١

ومن يعذر خالدا؟!............................................................ ٢٦٣

غزوة هوازن في حنين........................................................... ٢٦٦

خروجهم بعوائلهم............................................................. ٢٦٧

الإعداد للجهاد............................................................... ٢٦٨

وأعجبتهم كثرتهم.............................................................. ٢٧٠

سنن السابقين................................................................ ٢٧٢

عيون الطرفين................................................................ ٢٧٤

الاستعداد للجهاد............................................................. ٢٧٥

الهزيمة أولا.................................................................... ٢٧٦

محاولة قتل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله....................................................... ٢٧٨

الثابتون مع النبيّ.............................................................. ٢٨٠

النساء الثوابت................................................................ ٢٨١

شماتة الكفّار................................................................. ٢٨٢

مقتل أبي جرول............................................................... ٢٨٣

تراجع المنهزمين............................................................... ٢٨٤


نزول النصر.................................................................. ٢٨٦

قتل الصغار والاسارى......................................................... ٢٨٨

مصير الأمير مالك............................................................ ٢٩٠

والي أوطاس.................................................................. ٢٩١

الغنائم والأسرى............................................................... ٢٩٢

خبر بجاد ، والشيماء.......................................................... ٢٩٤

الشهداء والقتلى.............................................................. ٢٩٧

دم عامر الأشجعي............................................................ ٢٩٧

وإلى الطائف................................................................. ٣٠٠

مسيره صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الطائف....................................................... ٣٠٢

بدء حصار الطائف........................................................... ٣٠٤

مشورة سلمان بالمنجنيق........................................................ ٣٠٤

حمية جاهلية.................................................................. ٣٠٦

وحميّة جاهلية................................................................. ٣٠٦

ومن النفاق المفضوح........................................................... ٣٠٨

وإغراء بالنساء!............................................................... ٣٠٩

تحرير العبيد.................................................................. ٣١٠

علي عليه‌السلام إلى خثعم........................................................... ٣١١

تريدون عرض الدنيا........................................................... ٣١٢

اختلاف المسلمين............................................................. ٣١٢

وعند ارتحالهم................................................................. ٣١٣

إلى الجعرّانة................................................................... ٣١٤

غنائمهم ، والمؤلّفة قلوبهم....................................................... ٣١٧


تنبّؤ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بأمر الخوارج.................................................... ٣٢١

ثم سهام الناس................................................................ ٣٢٣

حيرة الأنصار ثم خيرتهم........................................................ ٣٢٤

وفد هوازن................................................................... ٣٢٦

نية عيينة والعجوز!............................................................ ٣٣١

وأمّا مصير النصري المهزوم...................................................... ٣٣٣

ثم مضى إلى الجعرّانة........................................................... ٣٣٤

كتابه إلى بكر بن وائل........................................................ ٣٣٤

وأمان لبني ثعلبة............................................................... ٣٣٥

عمرته صلى‌الله‌عليه‌وآله من الجعرّانة....................................................... ٣٣٥

وفد الطائف الأول............................................................ ٣٣٦

رسل الاسلام الى البحرين وهجر................................................ ٣٣٧

وما ذا عن القرآن في هذه الحوادث؟............................................. ٣٤٠

إسلام عروة بن مسعود وشهادته................................................ ٣٤٠

ووفاة ابنته زينب.............................................................. ٣٤٢

وما ذا نزل من القرآن؟......................................................... ٣٤٣

سورة النور................................................................... ٣٤٣

أزواجه صلى‌الله‌عليه‌وآله ومارية ، في غيبته وبعد عودته....................................... ٣٤٥

حديث الإفك................................................................ ٣٤٨

حكم اللعان.................................................................. ٣٤٨

آيات الإفك................................................................. ٣٥٢

مولد ابراهيم ابن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.................................................... ٣٥٣

آيات الاستيذان.............................................................. ٣٥٤


آيتا إيجاب الحجاب........................................................... ٣٥٤

مكاتبة العبيد ، وتحصين الإماء.................................................. ٣٥٦

تزكية بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله......................................................... ٣٥٨

وارتابوا في حكمه!............................................................. ٣٥٩

وتسلية له صلى‌الله‌عليه‌وآله.............................................................. ٣٦٠

عود على الاستئذان........................................................... ٣٦١

امتحان الإيمان................................................................ ٣٦٢

آية الإذن في القتال........................................................... ٣٦٥

إلقاء الشيطان في أماني أنبياء الإيمان............................................. ٣٦٧

مجالس النبي وأصحابه.......................................................... ٣٧٢

النجوى مع نبيّ الله............................................................ ٣٧٣

حزب الشيطان وحزب الرحمن................................................... ٣٧٤

أهم حوادث السنة التاسعة للهجرة

بعث الجباة للصّدقات......................................................... ٣٧٧

غزو الفزاري لبني تميم في المحرّم................................................... ٣٨٠

نزول سورة الحجرات........................................................... ٣٨٥

المصدّق الفاسق............................................................... ٣٨٥

تحريم الرسول الحلال على نفسه................................................. ٣٩١

ومن صالح المؤمنين؟........................................................... ٣٩٧

سورة الصف................................................................. ٤٠١

سورة الجمعة.................................................................. ٤٠٢

سورة التغابن.................................................................. ٤٠٥


تناول اطراف الطائف خثعم واسلامهم........................................... ٤٠٨

وفد الأزد واسلامهم........................................................... ٤١٠

كتابه الى بني عذرة في اليمن.................................................... ٤١١

ودعوة لبني حارثة............................................................. ٤١١

سرية بني كلاب الى بني بكر.................................................... ٤١٢

لا طاعة في معصية............................................................ ٤١٢

سرية علي عليه‌السلام الى بني طيّ.................................................... ٤١٣

حديث سفانة الطائية.......................................................... ٤١٧

اسلام عدي الطائي........................................................... ٤١٨

وفاة النجاشي وصلاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله................................................ ٤١٩

إسلام الزبيدي وارتداده وتوبته.................................................. ٤٢٠

البعثة الاولى لعلي عليه‌السلام الى اليمن............................................... ٤٢١

مبارزة عمرو لعلي عليه‌السلام........................................................ ٤٢٢

خبر بريدة الأسلمي........................................................... ٤٢٣

غزوة تبوك................................................................... ٤٢٥

«وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم»................................................. ٤٢٧

ومنهم من يقول ائذن لي....................................................... ٤٢٩

والذين أتوه ليحملهم معه....................................................... ٤٣٠

إحراق دار النفاق............................................................. ٤٣٢

وبناء مسجد النفاق!.......................................................... ٤٣٣

معسكران للمدينة؟!........................................................... ٤٣٥

استخلاف عليّ على المدينة.................................................... ٤٣٦

عقد الألوية والرايات.......................................................... ٤٣٨


خروجه وجمعه بين الظهرين قصرا................................................ ٤٣٩

ممّن تعوّق ثم لحق.............................................................. ٤٣٩

أحكام فقهية ، ومساجد الطريق................................................ ٤٤٣

بعض المنافقين في تبوك........................................................ ٤٤٥

ومنزل الحجر مدائن صالح عليه‌السلام................................................. ٤٤٨

استجابة دعاء ، أم انواء؟!..................................................... ٤٥٠

ضلال الناقة ، والمنافقين....................................................... ٤٥١

وقبل تبوك................................................................... ٤٥٣

وانتهى الى تبوك............................................................... ٤٥٤

الخير في نواصي الخيل.......................................................... ٤٥٧

حوادث هذه السفرة ، وادي القرى.............................................. ٤٥٩

أهل تيماء................................................................... ٤٦٠

دومة الجندل................................................................. ٤٦٠

الأكيدر الكندي............................................................. ٤٦٢

أهل مقنا.................................................................... ٤٦٦

واهل أيلة ميناء العقبة.......................................................... ٤٦٧

وأهل أذرح والجرباء............................................................ ٤٦٨

وإسلام فئام من جذام......................................................... ٤٧٠

الرجوع من تبوك.............................................................. ٤٧١

وكرامة في وادي الناقة.......................................................... ٤٧٣

وقبل منزل الحجر............................................................. ٤٧٤

مؤامرة العقبة.................................................................. ٤٧٤

احراق مسجد النفاق.......................................................... ٤٨١


والى المدينة................................................................... ٤٨٢

الثلاثة المتخلّفون.............................................................. ٤٨٣

إسلام كعب بن زهير الشاعر................................................... ٤٨٨

وفد ثقيف وإسلامهم.......................................................... ٤٩٢

وفد ثقيف الى الطائف........................................................ ٤٩٨

المغيرة يغير على اللات......................................................... ٥٠٠

سنة الوفود................................................................... ٥٠١

وفد بني عامر................................................................. ٥٠٣

وفد طيء وفرسانهم............................................................ ٥٠٥

وفد بني عكل وبني زهير....................................................... ٥٠٥

وفد بني عليم................................................................. ٥٠٧

وفد بني نهد من اليمن......................................................... ٥٠٨

مرض ابن أبي ووفاته........................................................... ٥١٠

نزول سورة التوبة وأغراضها..................................................... ٥١٣

العباس يفاخر عليا عليه‌السلام....................................................... ٥١٨

حديث سدّ الأبواب........................................................... ٥٢٧

بعث علي عليه‌السلام بآيات البراءة................................................... ٥٣٢

إعلان البراءة في الموسم........................................................ ٥٣٨

وفود الحضرمي من البحرين وعزله............................................... ٥٤٢

مباهلة أساقفة نجران........................................................... ٥٤٣

نزول آل عمران............................................................... ٥٤٨

معاهدة نصارى نجران.......................................................... ٥٥٠

المباهلة بالنساء وأبناء الخلفاء.................................................... ٥٥٢

متى نزلت آل عمران؟......................................................... ٥٥٤


أهم حوادث السنة العاشرة للهجرة

اسلام سائر العرب بنجران..................................................... ٥٦٢

اسلام بني نمير................................................................ ٥٦٣

وقاتل خالد في البحرين........................................................ ٥٦٤

سريّة علي عليه‌السلام الى اليمن...................................................... ٥٦٤

اسلام همدان................................................................. ٥٦٧

وبنو زبيد بأرض مذحج........................................................ ٥٦٨

من قضايا علي عليه‌السلام في اليمن.................................................. ٥٧٠

وفد بني غامد من الأزد........................................................ ٥٧٢

ووفد الرهاويّين من مذحج...................................................... ٥٧٤

وفروة بن مسيك المرادي........................................................ ٥٧٤

بعث معاذ الى اليمن........................................................... ٥٧٦

إرسال عمرو بن حزم الى اليمن.................................................. ٥٨٠

الإعداد لحجّة الوداع.......................................................... ٥٨٥

وصول الرسول الى مكة وعمرته................................................. ٥٩١

حجّ علي عليه‌السلام من اليمن...................................................... ٥٩٢

خطبته في آخر عمرته.......................................................... ٥٩٤

وخرج لمناسك الحج............................................................ ٥٩٧

وفي المشعر الحرام.............................................................. ٦٠٣

وانتهى الى منى................................................................ ٦٠٤

خطبته بمنى................................................................... ٦٠٧

خطبته في مسجد الخيف....................................................... ٦١٠

متى وكيف نزلت سورة المائدة؟.................................................. ٦١٢


الآيات الثلاثة الاول........................................................... ٦١٤

فأين إكمال الدين ويأس الكفّار منه؟........................................... ٦١٥

خبر نزول آية الولاية في مكة................................................... ٦١٦

الموضع والنداء والمنبر........................................................... ٦٢١

عدد الجمع................................................................... ٦٢٤

هنئوني وسلموا على علي وله................................................... ٦٢٥

آية الاكمال ، وشعر حسّان.................................................... ٦٢٩

وسأل سائل.................................................................. ٦٣١

وكفروا بعد إسلامهم........................................................... ٦٣٢

وهمّوا بما لم ينالوا............................................................... ٦٣٤

ساير آيات المائدة............................................................. ٦٣٦

وآية الوضوء.................................................................. ٦٣٧

اثنا عشر نقيبا................................................................ ٦٣٨

يا موسى إنّا لن ندخلها أبدا.................................................... ٦٣٨

نبأ ابني آدم.................................................................. ٦٣٩

حدّ المحارب والمفسد........................................................... ٦٤٠

حدّ السارق والسارقة.......................................................... ٦٤٠

أهل الكتاب والمنافقون والمرتدّون................................................ ٦٤٢

آيتا الولاية والتبليغ وما بينهما................................................... ٦٤٣

لا تحرّموا ما أحلّ الله لكم...................................................... ٦٤٥

تأكيد تحريم الخمر............................................................. ٦٤٧

لا تسألوا عمّا يسوؤكم......................................................... ٦٥٢

الجزية من أهل الكتاب دون الأعراب............................................ ٦٥٤


وشهادة أهل الكتاب في السفر................................................. ٦٥٥

رجوع الرسول الى المدينة........................................................ ٦٥٧

الإسلام وبنو حنيفة........................................................... ٦٥٧

ثم عظمت الفتنة.............................................................. ٦٦٠

أخبار اليمن بعد الحج......................................................... ٦٦١

أهم حوادث السنة الحادية عشرة للهجرة

نشر المصدقين في العرب....................................................... ٦٦٥

وابن العاصي لابن الجُلندا...................................................... ٦٦٥

ونصّ كتابه إليهما............................................................ ٦٦٦

تنبؤ الأسود العنسي........................................................... ٦٦٨

قيس بن المكشوح المرادي...................................................... ٦٧٠

فيروز وابنة عمّه آزاد........................................................... ٦٧١

فتنة طليحة في بني أسد........................................................ ٦٧٤

وسمّى اسامة لبلقاء الشام....................................................... ٦٧٥

أما الخبر في الارشاد........................................................... ٦٨٣

زيارة البقيع والخطبة العامة...................................................... ٦٨٥

صلاة أبي بكر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.................................................. ٦٨٧

حديث الدواة والكتف......................................................... ٦٨٨

وصيّة النبيّ إلى علي عليه‌السلام...................................................... ٦٩٠

والأنصار تبكي............................................................... ٦٩٢

ادعوا إليّ أخي وصاحبي........................................................ ٦٩٣

غسله والصلاة عليه ودفنه...................................................... ٦٩٩

تاريخ يوم الوفاة............................................................... ٧٠٣

موسوعة التاريخ الاسلامي - ٣

المؤلف:
الصفحات: 720