أهم حوادث

السنة الاولى للهجرة



وصول النبيّ الى قباء :

روى الكليني في «روضة الكافي» بسنده عن سعيد بن المسيّب عن علي بن الحسين عليه‌السلام قال (وهو في مسجد الرسول بالمدينة) : قدم (الرسول) المدينة لاثنتي عشر ليلة خلت من شهر ربيع الأول مع زوال الشمس ، فنزل بقباء فصلّى الظهر ركعتين والعصر ركعتين ... وكان نازلا على (بني) عمرو بن عوف ، فأقام عندهم بضعة عشر يوما يقولون له : أتقيم عندنا فنتّخذ لك منزلا؟ فيقول : لا ، إني أنتظر عليّ بن أبي طالب ، وقد أمرته أن يلحقني ، ولست مستوطنا منزلا حتى يقدم عليّ ، وما أسرعه إن شاء الله.

فقال له أبو بكر : انهض بنا الى المدينة ، فانّ القوم قد فرحوا بقدومك ، وهم يستريثون اقبالك إليهم ، فانطلق بنا ولا تقم هاهنا تنتظر عليا ، فما أظنّه يقدم إليك الى شهر!

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ولست اريم حتى يقدم ابن عمّي وأخي في الله عزوجل وأحبّ أهل بيتي إليّ ، فقد وقاني بنفسه من المشركين!


فغضب عند ذلك أبو بكر واشمأزّ وداخله من ذلك حسد لعلي عليه‌السلام ، وكان ذلك أول عداوة بدت منه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في علي عليه‌السلام ، وأول خلاف على رسول الله. فانطلق حتى دخل المدينة ، وتخلّف رسول الله بقباء حتى ينتظر عليا عليه‌السلام (١).

إسلام سلمان :

روى الطبرسي في «إعلام الورى» : أنّ سلمان الفارسي كان بعض أهل الكتاب قد اخبروه بالدين الحنيف ، فكان قد خرج من بلاده فارس يطلب ذلك الدين ، فوقع الى راهب من رهبان النصارى بالشام فصحبه حتى سأله عن ذلك فقال له : اطلبه بمكة مخرجه ، واطلبه بيثرب فثمّ مهاجره.

فقصد مكة ، فسباه بعض الأعراب فباعه على رجل من يهود المدينة ، فكان سلمان يعمل في نخله ، وكان على نخلة اذ دخل على صاحبه رجل من اليهود وقال له : يا أبا فلان ، أشعرت أنّ هؤلاء المسلمة قد قدم عليهم نبيّهم؟

فقال سلمان : جعلت فداك ما الذي تقول؟!

فقال له صاحبه : ما لك وللسؤال عن هذا؟! أقبل على عملك ..

ونزل سلمان وأخذ طبقا من ذلك الرطب وحمله الى رسول الله.

فقال له رسول الله : ما هذا؟

قال : صدقة تمورنا ، بلغنا أنكم قوم غرباء قدمتم هذه البلاد ، فأحببت أن تأكلوا من صدقتنا. فقال رسول الله لأصحابه : سمّوا وكلوا.

فعقد سلمان باصبعه وقال بالفارسية : «اين يكي» : هذه واحدة (أي من

__________________

(١) روضة الكافي : ٢٨٠.


العلائم). ثم ذهب فأتاه بطبق آخر من التمر. فقال له رسول الله : ما هذا؟ فقال له سلمان : رأيتك لا تأكل الصدقة ، فهذه هديّة أهديتها لك. فأكل عليه الصلاة والسلام. فعقد سلمان بيده ثانية وقال بالفارسية : «اين دوتا» : هاتان اثنتان. ثم دار خلفه (وطلب إليه أن يزيح قميصه عن كتفه) فألقى عن كتفه الإزار ، فنظر سلمان الى خاتم النبوة على الشامة ، فأقبل يقبّلها (وأسلم). فقال له رسول الله : من أنت؟ قال : أنا رجل من أهل فارس ـ وحدّثه بحديث طويل ـ فقال له رسول الله : أبشر واصبر ، فانّ الله سيجعل لك فرجا من هذا اليهودي (١).

اسلام عبد الله بن سلام :

وروى ابن اسحاق في اسلام عبد الله بن سلام عن (بعض أهله) عنه حديثا شبيها بحديث اسلام سلمان ، قال : لما سمعت برسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلم عرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنا نترقّبه ونتوقّعه له ، ولكني كنت مستسرّا لذلك ساكتا حتى قدم رسول الله المدينة (٢).

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ١٥١ ، ١٥٢ وروى الخبر ابن اسحاق في سيرته ١ : ٨٧ ـ ٩٣ ، وابن هشام عنه في سيرته ١ : ٢٢٨ ـ ٢٣٦ بسنده عن عبد الله بن عباس. والطبرسي روى مختصره باختلاف في الألفاظ. وقد روى الصدوق في اكمال الدين : ١٥٩ ـ ١٦٤ خبرا عن الامام الكاظم عليه‌السلام عن اسلام سلمان أيضا ، باختلاف في المعاني أيضا.

ولم أجد تحديدا دقيقا لتاريخ اسلام سلمان زمانا أو مكانا : هل كان في قباء أو بعد انتقال الرسول الى المدينة ، ولكن يبدو أنه كان في الأوائل ، ويشبه خبره خبر اسلام عبد الله بن سلام الآتي.

(٢) نقل الطبرسي في مجمع البيان عن القاضي في تفسيره : أن عبد الله بن سلام انطلق الى


فلما نزل بقباء في بني عمرو بن عوف أقبل رجل حتى أخبر بقدومه وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها ، وعمتي خالدة بنت الحارث جالسة عندي ، فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله كبّرت ، فحين سمعت عمّتي تكبيري قالت : خيّبك الله! والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادما ما زدت! فقلت لها : هو والله أخو موسى بن عمران وعلى دينه ، بعث بما بعث به. فقالت : أهو النبيّ الّذي كانوا يخبروننا عنه أنه يبعث مع الساعة؟ فقلت لها : نعم.

ثم خرجت الى رسول الله فأسلمت ، ثم رجعت الى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا ، وأسلمت عمتي خالدة بنت الحارث. وكتمت اسلامي من اليهود.

ثم جئت رسول الله فقلت : يا رسول الله ... إني أحبّ أن تدخلني في بعض بيوتك وتغيّبني عنهم ثم تسألهم عنّي حتى يخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا باسلامي ، فانهم إن علموا به عابوني وبهتوني.

فأدخلني رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم في بعض بيوته (وأرسل إليهم أن يأتوه) فدخلوا عليه ... فقال لهم : أيّ رجل فيكم الحصين بن سلام؟

قالوا : سيّدنا وابن سيّدنا ، وحبرنا وعالمنا.

فخرجت عليهم فقلت لهم : يا معشر يهود ، اتّقوا الله ، واقبلوا ما جاءكم به ، فو الله إنكم لتعلمون أنه لرسول الله ، وأومن به وأصدّقه وأعرفه.

فقالوا : كذبت! ثم وقعوا بي.

__________________

ـ رسول الله وهو بمكة فقال له رسول الله : أنشدك بالله هل تجدني في التوراة رسول الله؟

فقال : انعت لنا ربك. فنزلت هذه السورة (التوحيد) فقرأها النبيّ فكانت سبب اسلامه ، الّا أنه كان يكتم ذلك الى أن هاجر النبيّ الى المدينة ثم اظهر الاسلام : مجمع البيان ١٠ : ٨٥٩ وقال ابن اسحاق : كان عبد الله بن سلام الحبر الأعلم لبني قينقاع ، وكان اسمه الحصين بن سلام فلما اسلم سمّاه رسول الله : عبد الله ـ سيرة ابن هشام ٢ : ١٦٢.


فقلت لرسول الله : ألم أخبرك يا رسول الله أنهم قوم أهل غدر وكذب وفجور! (١).

ثم روى حديثا عن شهادة صفية بنت حييّ بن أخطب من بني النضير ـ وهي التي تزوّجها الرسول فيما بعد ـ تشهد بمعرفة أبيها وعمها بالنبيّ وعداوتهم له ، قالت : كنت أحبّ ولد أبي إليه وكذلك الى عمّي أبي ياسر ... فلما قدم رسول الله المدينة ونزل قباء في بني عمرو بن عوف ، غدا عليه أبي حييّ بن أخطب وعمّي أبو ياسر مغلّسين ، فلم يرجعا الّا مع غروب الشمس ، اذ أتيا كالّين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينا ، فو الله ما التفت إليّ واحد منهما مع ما بهما من الغمّ ، وسمعت عمّي أبا ياسر وهو يقول لأبي حييّ بن أخطب : أهو هو؟ قال : نعم والله ، قال : أتعرفه وتثبته؟ قال : نعم. قال : فما في نفسك منه؟ قال : عداوته ما بقيت والله (٢).

بناء مسجد قباء :

ولا خلاف في أخبار السيرة عامة أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله مكث في قباء حتى جاء أبو الأوصياء علي عليه‌السلام (٣) ، وذكر الديار بكري والسمهودي أنه أمر عليا عليه‌السلام فخطّ لمسجد قباء ، فلنذكر خبره :

قالوا : كان موضع مسجد قباء لامرأة يقال لها : ليّة ، كانت تربط حمارا فيه (٤).

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ١٦٣ ـ ١٦٤.

(٢) سيرة ابن هشام ٢ : ١٦٥ ـ ١٦٦.

(٣) ذكر عبدالرحمان الخويلدي في كتابه : المساجد والأماكن الأثرية المجهولة مسجداً يقع جنوب مسجد قباء بكيلومتر واحد فيما يعرف اليوم بالعين الزرقاء خلف خزّانات مصلحة المياه والصرف الصحّي ، كان يعرف باسم مسجد المصبّح ، وحوّرته مديرية الأوقاف إلى مسجد الصبح برقم ٧٩. وقيل في وجه اسمه أنّه المكان الذي بات فيه النبي صلّى الله عليه وآله حتّى صلّى فيه الصبح بانتظار وصول علي عليه السلام إلى المدينة من مكّة للهجرة ـ كما في مجلّة ميقات الحجّ ٨ : ٢٤٧ ـ ٢٤٩.

(٤) تاريخ المدينة لابن شبّة ١ : ٥٤ ولذلك كره المنافقون الصلاة فيه.


وذكر السهيلي : أن عمارا هو الذي أشار على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ببنيانه ، وهو الذي جمع الحجارة له (١) ولذلك كان الشعبيّ يقول : إنّ أول من بنى مسجدا هو عمار بن ياسر (٢).

وذكر الدياربكري ، والسمهودي : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر أبا بكر بأن يركب الناقة ويسير بها ليخطّ المسجد على ما تدور عليه ، فلم تنبعث به! فأمر عمر فكان كذلك! فأمر عليا فانبعثت ودارت به ، فأسّس المسجد على حسب ما دارت عليه وقال : إنها مأمورة (٣) فلما أسّسه الرسول استتم بنيانه عمار (٤).

وروى البزّاز : أن ابن أبي أوفى كان يقول : كنا نحمل حجارة المسجد الذي أسّس على التقوى حجرين حجرين بالنهار ، وأن امرأته ومواليها كنّ يحملن الحجارة له بالليل (٥).

وقد روى الكليني في «فروع الكافي» بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : إن المسجد الذي أسّس على التقوى في قوله سبحانه : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ)(٦) هو مسجد قباء (٧) ، وعنه قال : ابدأ بقباء فصلّ فيه فانه أول مسجد صلّى فيه رسول الله في هذه العرصة (٨).

وروى العياشي في تفسيره عنه عليه‌السلام سئل : هل كان النّبيّ يصلّي في

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ١٤٣ الهامش عن الروض الانف.

(٢) سيرة ابن هشام ٢ : ١٤٣ وطبقات ابن سعد ٣ : ١٧٨ وتاريخ ابن كثير ٧ : ٣١١.

(٣) تاريخ الخميس ١ : ٣٣٨ ووفاء الوفاء ١ : ٢٥١.

(٤) سيرة ابن هشام ٢ : ١٤٣ الهامش عن الروض الانف.

(٥) حياة الصحابة ٣ : ١١٢ عن مجمع الزوائد للهيثمي ٢ : ١٠.

(٦) التوبة : ١٠٨.

(٧) فروع الكافي ١ : ٨١ كما في بحار الأنوار ١٩ : ١٢٠.

(٨) فروع الكافي ١ : ٣١٨ كما في بحار الأنوار ١٩ : ١٢٠.


مسجد قباء؟ قال : نعم ، كان منزله على سعد بن خيثمة الأنصاري (١).

فكأنّه عليه‌السلام ذكر نزوله على سعد بن خيثمة يشير بذلك الى جواره المسجد. وكأنّ هذا مما أوهم لبعضهم فنسبوا بناءه الى سعد بن خيثمة (٢) وهو وهم.

وقال ابن اسحاق : قد سمعنا فيما يذكرون : أن رسول الله نزل على كلثوم بن هدم ، ويقولون : واذا خرج من منزل كلثوم بن هدم جلس للناس في بيت سعد بن خيثمة ، وذلك أنه كان عزبا لا أهل له ، فكان منزله منزل العزّاب من مهاجري الأصحاب فكان يقال لبيت سعد : بيت الأعزاب (٣).

أول صلاة جمعة وأول خطبة :

روى الكليني في «فروع الكافي» بسنده عن سعيد بن المسيّب عن علي بن الحسين عليه‌السلام قال (وهو في مسجد الرسول بالمدينة) : قدم علي عليه‌السلام والنبيّ في بيت (بني) عمرو بن عوف فنزل معه ، ثم تحوّل منهم الى بني سالم بن عوف وعلي عليه‌السلام معه ، مع طلوع الشمس من يوم الجمعة ، فخطّ لهم مسجدا ونصب قبلته (الى بيت المقدس) (٤) وصلّى بهم فيه الجمعة ركعتين وخطب خطبتين (٥) ثم لم يرو الخطبتين.

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ : ١١١ ، ١١٢.

(٢) تاريخ المدينة لابن شبّة ١ : ٥٤.

(٣) سيرة ابن هشام ٢ : ١٣٨ وانفرد اليعقوبي بقوله : نزل على كلثوم بن الهدم فلم يلبث الّا أياما حتى مات كلثوم ، وانتقل فنزل على سعد بن خيثمة فمكث أياما ، ثم كان سفهاء بني عمرو بن عوف ومنافقوهم يرجمونه بالليل ، فلما رأى ذلك قال : ما هذا الجوار؟ وركب راحلته فارتحل عنهم. اليعقوبي ٢ : ٤١.

(٤) واقرأ عنه في كتاب : المساجد والاماكن الأثرية المجهولة في المدينة لعبدالرحمان خويلد الحجازي المدني ، وعنه في مجلّد ميقات الحج ٤ : ٢٧١.

(٥) روضة الكافي : ٣٣٨ ـ ٣٤١. ولکنه صلّى الله عليه وآله أياماً في دار سعد بن خيثمة روى ابن شية في


وروى الطبري في تاريخه بسنده عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي أنه بلغه عن خطبة رسول الله في أول جمعة صلّاها في بني سالم بن عوف بالمدينة أنه قال : الحمد لله ، أحمده وأستعينه ، وأستغفره واستهديه ، وأومن به ولا اكفره ، وأعادي من يكفره. وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى والنور والموعظة ، على فترة من الرسل وقلّة من العلم ، وضلالة من الناس وانقطاع من الزمان ، ودنوّ من الساعة وقرب من الأجل. من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما فقد غوى وفرّط وضلّ ضلالا بعيدا. اوصيكم بتقوى الله ، فان خير ما أوصى به المسلم المسلم : أن يحظّه على الآخرة وأن يأمره بتقوى الله. فاحذروا ما حذّركم الله من نفسه ، وإن تقوى الله لمن

__________________

تاريخ المدينة ١ : ١٦١ و ١٦٢ بسنده عن ابن اُقيش قال : كان صلّى الله عليه وآله يتوضّأ من المهراس (= الحوض الصخري) الذي كان في دار سعد بقُباء وتوضّأ من بئره الغرس وأهرق بقية وضوئه فيها ، وروى عن الباقر عليه السلام أربع روايات تقول : إنّه صلّى الله عليه وآله كان يشرب من بئر سعد بن خيثمة في قباء يقال لها الغرس. وزاد ابن سعد في الطبقات ١ : ٥٠٣ أنّه قال : هي عين من عيون الجنّة. ويسمّيها الناس اليوم يئر الفُرس أو بالتصغير : الفُريس. وذكرها السمهودي في وفاء الوفاء ٢ : ١٤٥ وقال : هي على نصف ميل إلى الشمال من مسجد قُباء. وفي تأريخ معالم المدينة : ١٨٣ : عن المطري قال : هي بئر كثيرة الماء وعرضها عشرة أذرع وطولها يزيد على ذلك ، وماؤها تغلب عليه الخضرة ولكنّه عذب طيّب ، اشتراها الخواجة حسين القاواني وعمّرها وحوّط عليها بحديقة وأنشأ بجانبها مسجداً عام ٨٨٢ هـ وقال عبدالرحمان خويلد في المساجد والمساكن الأثرية المجهولة : هي الآن جافة ، ومكانها على يسار القادم من قربان أو مسجد قُباء إلى باب العوالي خلف الاشارة الضوئية من شرقها بمسافة نصف كم بمحاذاة معهد دار الهجرة ومدارس الشاوي الأهليّة في غربيّها ، وهي الآن مسوّرة من جهاتها الأربع فلا يمكن رؤيتها إلّا بالصعود على سورها ، كما في مجلّة ميقات الحجّ ٧ : ٢٧٠.


عمل به ـ على وجل ومخافة من ربه ـ عون صدق على ما تبغون من أمر الآخرة. ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره ، فى السرّ والعلانية ، لا ينوي بذلك الّا وجه الله ، يكن ذكرا له في عاجل أمره ، وذخرا له فيما بعد الموت حين يفتقر المرء الى ما قدّم ، وما كان سوى ذلك يودّ له أنّ بينه وبينه (... أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ)(١) والذي صدّق قوله ونجّز وعده لا خلف له فانه يقول : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)(٢).

فاتّقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السرّ والعلانية ، فانه (... مَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً)(٣) ومن يتّق الله (... فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً)(٤) وإن تقوى الله توقي مقته وتوقي عقوبته وتوقي سخطه ، وان تقوى الله تبيّض الوجوه وترضي الرب وترفع الدرجة.

خذوا بحظكم ولا تفرّطوا في جنب الله ، فقد علّمكم الله كتابه ونهج لكم سبيله ، ليعلم (... الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ)(٥) ، فأحسنوا كما أحسن الله إليكم ، وعادوا أعداءه ، وجاهدوا في سبيل الله (... حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ ...)(٦)(... هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ ...)(٧)(... لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ...)(٨) ولا حول و (لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ)(٩).

فاكثروا ذكر الله ، واعملوا لما بعد اليوم ، فانه من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس ، ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه ،

__________________

(١) آل عمران : ٣٠.

(٢) ق : ٢٩.

(٣) الطلاق : ٥.

(٤) الأحزاب : ٧١.

(٥) العنكبوت : ٣.

(٦) الحج : ٧٨.

(٧) الحج : ٧٨ الّا أن الضمير فيها الى ابراهيم عليه‌السلام.

(٨) الأنفال : ٤٢.

(٩) الكهف : ٣٩. وما عداها وق والقصص والعنكبوت مدنيات نزلن في فترات متباعدة بعد هذه الفترة ، وهذا مما يفتّ في عضد هذا الخبر.


ويملك من الناس ولا يملكون منه. الله أكبر ولا قوة الّا بالله العلي العظيم (١).

والخطبة هذه كما ترى واحدة ، مع ما فيها من استشهاد بآيات من سور نازلة فيما بعد. ولكنّ ابن اسحاق قد روى الخطبتين عن أبي سلمة بن عبد الرحمن : أنه قام فيهم ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : «أما بعد أيها الناس ، فقدّموا لأنفسكم ، تعلّمنّ والله ليصعقن أحدكم ثم ليدعنّ غنمه ليس لها راع ، ثم ليقولنّ له ربّه وليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه : ألم يأتك رسولي فيبلّغك؟ وآتيتك مالا وأفضلت عليك ، فما قدّمت لنفسك؟ فلينظرنّ يمينا وشمالا فلا يرى شيئا ، ثم لينظرنّ قدّامه فلا يرى غير جهنم. فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق من تمرة فليفعل ، ومن لم يجد فبكلمة طيّبة ، فانّ بها تجزى الحسنة عشر أمثالها الى سبعمائة ضعف. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».

ثم خطب مرة اخرى فقال :

«إنّ الحمد لله ، أحمده وأستعينه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضلّ له ، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله الّا الله وحده لا شريك له. إنّ أحسن الحديث كتاب الله تبارك وتعالى ، قد أفلح من زيّنه الله في قلبه ، وأدخله في الاسلام بعد الكفر ، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس ، إنه أحسن الحديث وأبلغه. أحبّوا ما أحبّ الله ، أحبّوا الله من كل قلوبكم ، ولا تملّوا كلام الله وذكره ، ولا تقس عنه قلوبكم ، فانه من كل ما يخلق الله يختار ويصطفي ، قد سمّاه الله خيرته من الأعمال ومصطفاه من العباد ، والصالح من الحديث ومن كلّ ما أوتي الناس من الحلال والحرام. فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، واتّقوه حقّ تقاته ، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم ،

__________________

(١) الطبري ٢ : ٣٩٤ ، ٣٩٥ ورواها الطبرسي في مجمع البيان ١٠ : ٤٣٢ بلا إسناد.


وتحابّوا به بروح الله بينكم ، إنّ الله يغضب أن ينكث عهده ، والسلام عليكم» (١).

وليس في رواية ابن اسحاق هذه ما في رواية الطبري الاولى من إكثار الاستشهاد بآيات من سور مدنية نازلة بعد في فترات متباعدة بعد هذه الفترة ، مما يفتّ في عضد تلك الرواية الاولى للطبري دون هذه الثانية لابن اسحاق.

وفي تمام خبر الكليني في «روضة الكافي» عن سعيد بن المسيّب عن علي بن الحسين عليه‌السلام قال : ثم راح (بعد العصر) من يومه الى المدينة على ناقته التي كان قدم عليها ، وعلي عليه‌السلام معه لا يفارقه يمشي بمشيته ، وليس يمرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ببطن من بطون الأنصار الّا قاموا إليه يسألونه أن ينزل عليهم فيقول لهم : خلّوا سبيل الناقة فانّها مأمورة. فانطلقت به ورسول الله واضع لها زمامها ، حتى انتهت الى الموضع الذي ترى ـ وأشار بيده الى باب مسجد رسول الله الذي يصلّى عنده على الجنائز ـ فوقفت عنده وبركت ووضعت جرانها على الأرض ، فنزل رسول الله.

وأقبل ابو أيوب مبادرا حتى احتمل رحله فأدخله منزله ، ونزل رسول الله وعليّ معه (عنده) حتى بني له مسجده وبنيت له مساكنه ومنزل علي عليه‌السلام ، فتحوّلا الى منازلهما (٢).

سائر أخبار وصول الرسول :

نقل الطبرسي في «إعلام الورى» عن ابن شهاب الزهري قال : كان ناس من المهاجرين قد قدموا على (بني) عمرو بن عوف قبل قدوم رسول الله فنزلوا فيهم ... فلما أقبل رسول الله ووافى ذا الحليفة سأل عن طريق بني عمرو بن عوف فدلّوه.

فوافى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ونزل ، واجتمع إليه بنو عمرو بن عوف وسرّوا به ، فنزل على شيخ صالح منهم مكفوف البصر هو كلثوم بن هدم. وبنو عمرو بن

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ١٤٦ ، ١٤٧.

(٢) روضة الكافي : ٢٨٠.


عوف من بطون الأوس. فأقبل رسول الله يتصفّح الوجوه فلا يرى أحدا من الخزرج .. لما كان بينهم من الحروب والعداوة (١).

__________________

(١) وهنا قال الطبرسي : وروي : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لما قدم المدينة جاء النساء والصبيان فقلن : ـ

طلع البدر علينا من ثنيّات الوداع

وجب الشكر علينا ما دعا لله داع

ثم يعود الى أخبار الرسول في قباء ، بينما هذا الخبر عن نساء المدينة ، فهو يقحمه بين أخبار قباء.

وقد خلت سيرة ابن اسحاق وابن هشام وتواريخ اليعقوبي والطبري والمسعودي عن هذا الخبر. ولعل أول من نقله هو البيهقي (ت ٤٥٨) في دلائل النبوة ٢ : ٢٣٣ ثم ابن حجر (ت ٨٥٢) في فتح الباري ٧ : ٢٠٤ ثم السمهودي (ت ٩١١) في وفاء الوفاء ٤ : ١١٧٢ ثم الديار بكري (ت ٩٨٢) في تاريخ الخميس ١ : ٣٤١ ثم الحلبي (ت ١٠٤٤) في سيرته ٢ : ٥٤.

والسمهودي نقلها وقال : ولم أر لثنيّة الوداع ذكرا في سفر من الأسفار التي بجهة مكة. وقد قال قبله ياقوت الحموي (ت ٦٢٦) في معجم البلدان ٢ : ٨٥ : الثنيّة : كل عقبة في الجبل مسلوكة ، وثنية الوداع ـ بفتح الواو ـ ثنية مشرفة على المدينة يطؤها من يريد مكة ، سمّي لتوديع المسافرين. وكذلك في مراصد الاطلاع ١ : ٣٠١.

فقال السمهودي يرده : إن ثنيّات الوداع ليست من جهة مكة ولا يراها القادم من مكة الى المدينة ولا يمر بها الّا اذا توجه الى الشام فهي من جهة الشام. والظاهر أن مستند من جعلها من جهة مكة ما سبق من قول النسوة ، وأن ذلك عند القدوم في الهجرة. ودور بني ساعدة في شامي المدينة ، فلعله دخل المدينة من تلك الناحية.

ولكن من نقل الخبر قال : ثم عدل ذات اليمين حتى نزل بقباء. فهل مرّ على بني ساعدة في المدينة قبل نزوله بقباء؟! هذا من المستبعد جدّا.

وروى ابن شبّة في تاريخ المدينة ١ : ٢٦٩ بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري : انما سميت ثنية الوداع لأن رسول الله أقبل من خيبر ومعه المسلمون ومعهم ازواجهم بالمتعة فقال لهم : دعوا ما بأيديكم من نساء المتعة. فارسلوهن فسمّيت ثنية الوداع ، لتوديع النساء


فلما صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صلاة المغرب والعشاء الآخرة جاء أسعد بن زرارة مقنّعا فسلّم على رسول الله ثم قال : يا رسول الله ، ما ظننت أن أسمع بك في مكان فأقعد عنك ، الا أنّ بيننا وبين إخواننا من الأوس ما تعلم ، فكرهت أن آتيهم ، فلما أن كان هذا الوقت لم أحتمل أن أقعد عنك!

فقال رسول الله للأوس : من يجيره منكم؟

فقالوا : يا رسول الله ، جوارنا في جوارك ، فأجره.

قال : لا ، بل يجيره بعضكم. فقال عويم بن ساعدة وسعد بن خيثمة : نحن نجيره ، فأجاروه ، فكان يختلف الى رسول الله فيتحدث عنده ويصلي خلفه.

فلما أمسى رسول الله فارقه أبو بكر ودخل المدينة ونزل على بعض الأنصار ، وبقي رسول الله بقبا نازلا على كلثوم بن هدم.

فجاء أبو بكر فقال : يا رسول الله تدخل المدينة ، فإنّ القوم متشوّقون إلى نزولك عليهم. فقال : لا أريم من هذا المكان حتى يوافي أخي علي عليه‌السلام.

فقال أبو بكر : ما أحسب عليا يوافي! فقال : بلى ما أسرعه إن شاء الله.

فبقي خمسة عشر يوما فوافى علي عليه‌السلام بعيال الرسول وعياله.

وبقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد قدوم علي يوما أو يومين ، ثم ركب راحلته فاجتمع إليه بنو عمرو بن عوف فقالوا : يا رسول الله ، أقم عندنا فانا أهل الجدّ والجهد والحلقة والمنعة! فقال : دعوها فانها مأمورة (أي الناقة).

__________________

ـ اللاتي استمتعوا بهن ، كما في وفاء الوفاء ٢ : ٢٧٥ وخلاصته : ٣٦١. فليست من قبل مكة ، ولا كانت عند الهجرة بهذا الاسم. ويقال لها اليوم : كشك يوسف پاشا العثماني لانه هو الذي نقر الثنية ومهّد طريقها سنة ١٩١٤ م كما في هامش تاريخ المدينة.


وبلغ سائر الأوس والخزرج خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلبسوا السلاح وأقبلوا يعدون حول ناقته ، وأخذ لا يمرّ بحيّ من أحياء الأنصار الّا وثبوا في وجهه وأخذوا بزمام ناقته وتطلّبوا إليه أن ينزل عليهم. ورسول الله يقول : خلّوا سبيلها فانها مأمورة.

وكان خروج رسول الله من قبا يوم الجمعة ، فوافى بني سالم عند زوال الشمس ، فعرض له بنو سالم وقالوا : هلّم يا رسول الله الى الجدّ والجلد والحلقة والمنعة! وقد كانوا بنوا مسجدا قبل قدوم رسول الله ، فبركت ناقته عند مسجدهم! فنزل في مسجدهم وصلّى بهم الظهر الى بيت المقدس ، وخطبهم ، وكانوا مائة رجل. فكان أول مسجد خطب فيه رسول الله بالجمعة (١).

ثم ركب رسول الله ناقته وأرخى زمامها ، فانتهت به الى عبد الله بن أبيّ بن سلول وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله يقدّر أنه يعرض عليه النزول عنده فوقف عليه ، فثارت الغبرة ، فأخذ كمّه ووضعه على أنفه وقال : يا هذا اذهب الى الذين غرّوك وخدعوك وأتوا بك ، فأنزل عليهم ولا تغشانا في ديارنا!

فقال سعد بن عبادة : يا رسول الله لا يعرض في قلبك من قول هذا شيء ، فانا كنا قد اجتمعنا على أن نملّكه علينا ، وهو يرى ـ الآن ـ أنك قد سلبته أمرا قد كان أشرف عليه ، فانزل عليّ يا رسول الله ، فانه ليس في الخزرج ـ ولا في الأوس ـ اكثر فم بئر منّي ، ونحن أهل الجلد والعزّ ، فلا تجزنا يا رسول الله.

فأرخى زمام ناقته ، فمرت تخبّ به حتى انتهت الى باب المسجد الذي هو اليوم ، وكان مربدا ليتيمين من الخزرج يقال لهما : سهل وسهيل ، وكانا في حجر

__________________

(١) بينما مرّ في خبر الكليني عن علي بن الحسين عليه‌السلام : أنه خطّ مسجدهم ونصب قبلتهم وصلّى بهم فيه الجمعة وخطب خطبتين ، وسيأتي ذكر الخطبتين.


أسعد بن زرارة ، فبركت الناقة على باب أبي أيّوب خالد بن يزيد ، فنزل عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلما نزل اجتمع عليه الناس وسألوه أن ينزل عليهم ، فوثبت أم أبي أيوب الى الرحل فحملته وادخلته منزلها. فلما أكثروا عليه قال رسول الله :

أين الرحل؟ فقالوا : أم أبي أيوب قد ادخلته بيتها. فقال : المرء مع رحله. وأخذ أسعد بن زرارة بزمام الناقة فحوّلها الى منزله.

وكان أبو أيوب له منزل أسفل ، وفوق المنزل غرفة ، فكره أن يعلو رسول الله فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ، العلوّ أحبّ إليك أم السفل؟ فأني اكره أن أعلو فوقك؟ فقال : السفل أرفق لمن يأتينا.

وكانوا يتناوبون في بعثة العشاء والغداء إليه : أسعد بن زرارة ، وسعد بن خيثمة (١) والمنذر بن عمرو ، وسعد بن الربيع ، وأسيد بن حضير. فكان أبو أمامة أسعد بن زرارة يبعث إليه في كل يوم غداء ، في قصعة ثريد عليها عراق لحم ، فكان يأكل من جاء حتى يشبعون ثم ترد القصعة كما هي ، وكان سعد بن عبادة يبعث إليه في كل يوم عشاء ويتعشى معه من حضره وترد القصعة كما هي. ووافى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من الصلاة وقد حمل أسيد بن حضير قدر الطعام بنفسه فقال له : حملتها بنفسك؟ قال : نعم يا رسول الله لم أجد أحدا يحملها. فقال : بارك الله عليكم من أهل بيت (٢).

__________________

(١) لعلّ في هذا سهوا ، فان سعد بن خيثمة الأنصاري من بني عمرو بن عوف في قباء ، وكان عزبا كما مرّ ، فلعله كان يتكفل ذلك اذ كان الرسول عندهم في قباء لا في المدينة.

(٢) وهنا أيضا نقل الطبرسيّ عن (دلائل النبوة) للبيهقي عن أنس بن مالك : أنّ ناقة الرسول لما بركت على باب أبي أيّوب بجوار أسعد بن زرارة من بني النجار خرجن جوار لهم يضربن بالدفوف ويقلن : ـ


بناء مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله :

ونقل عن عليّ بن ابراهيم القمي قال : وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله يصلي بأصحابه في المربد (١) فقال لأسعد بن زرارة : اشتر هذا المربد من أصحابه .. فاشتراه بعشرة دنانير. وكان فيه ماء مستنقع فأمر به رسول الله فسيل ، وأمر باللبن فضربت. وحفروا في الأرض ، ثم أمر بالحجارة فنقلت إليه من الحرّة (موضع الحجارة السود خارج المدينة) فأقبل رسول الله يحمل حجرا على بطنه ، فاستقبله اسيد بن حضير فقال : يا رسول الله أعطني أحمل عنك. قال : لا ، اذهب فاحمل غيره.

__________________

نحن جوار من بني النجار

يا حبّذا محمد من جار!

فخرج إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : أتحبّونني؟! فقالوا : إي والله يا رسول الله. فقال : وأنا والله احبّكم. ثلاث مرّات.

والخبر في دلائل النبوة ٢ : ٢٣٤ هو أول من رواه ، ولم يروه ابن اسحاق وابن هشام واليعقوبي والطبري والمسعودي.

وهنا نلفت النظر الى أنّ البيهقي كذلك هو أول من نقل خبر شعر جواري المدينة في استقبال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : طلع البدر علينا. والكلام هنا هو الكلام السابق ، فالسند غير تام.

وقد قال العلامة الحلي رحمه‌الله في كتابه : نهج الحق وكشف الصدق : قد رووا عنه عليه‌السلام ، أنه : «لما قدم من سفر خرجن إليه نساء المدينة يلعبن بالدفّ فرحا بقدومه وهو يرقص باكمامه» ثم علّق عليه بقوله : هل يصدر هذا عن رئيس أو من له أدنى وقار؟! نعوذ بالله من هذه السقطات! مع أنه لو نسب أحدهم الى مثل هذا قابله بالشتم والسبّ وتبرّأ منه ، فكيف يجوز نسبة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الى مثل هذه الأشياء التي يتبرّأ منها؟! كما في نهج الحق وكشف الصدق : ١٥١ ، ودلائل الصدق ١ : ٣٨٩.

(١) المربد : موضع نزول الابل ، وتجفيف التمور.


فنقلوا الحجارة (يضعونها في حفرة الجدار) حتى بلغ وجه الأرض فبناه بالسعيدة : لبنة لبنة ، ثم بناه بالسميط وهو لبنة ونصف ، ثم بناه بالانثى والذكر : لبنتين مخالفتين ، حتى رفع الحائط قدر قامة في مائة ذراع (١).

هذا ، وقد روى الكليني في «فروع الكافي» بسنده عن عبد الأعلى مولى آل سام قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : كم كان طول مسجد رسول الله؟ قال : كان ثلاثة آلاف وستمائة ذراع مكسّرة (٢).

وظاهر الخبر السابق عن علي بن ابراهيم القمي : أن الأنحاء الثلاثة في البناء كان في مرة واحدة. بينما روى الخبر الكليني أيضا عنه بسنده عن عبد الله بن سنان قال : سمعت أبا عبد الله الصادق يقول : إن رسول الله بنى مسجده بالسميط ، ثم ان المسلمين كثروا فقالوا : يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فزيد فيه. فقال : نعم. فزيد فيه ، وبناه بالسعيدة. ثم ان المسلمين كثروا فقالوا : يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فزيد فيه. فقال : نعم ، فأمر به فزيد فيه وبنى جداره بالانثى والذكر. وقال : والسميط : لبنة لبنة ، والسعيدة : لبنة ونصف ، والذكر والانثى لبنتان مختلفتان (٣).

وتمام الخبر : ثم اشتد عليهم الحرّ فقالوا : يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فظلّل. فقال : نعم. فأمر به فاقيمت فيه سواري من جذوع النخل ، ثم طرحت عليه العوارض والخصف والأذخر.

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ١٥٩ بتغيير يسير في الترتيب. ونقله القطب الراوندي في قصص الأنبياء : ٣٣٨.

(٢) فروع الكافي ١ : ٨١ و ٣١٧. والصدوق في الفقيه ١ : ٧٥ والطوسي في التهذيب ١ : ٣٢٧. كما في الوسائل ٣ : ٥٤٦.

(٣) فروع الكافي ١ : ٨١ والصدوق في معاني الأخبار : ٥١ والطوسي في التهذيب ١ : ٣٢٧.


فعاشوا فيه حتى أصابتهم الأمطار ، فجعل المسجد يكفّ عليهم ، فقالوا : يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فطيّن. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا ، عريش كعريش موسى عليه‌السلام. فلم يزل كذلك حتى قبض.

وقال ابن شهرآشوب في «المناقب» : روي : أنه كان أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يستقبلونه وينصرفون عند الظهيرة ، فدخلوا يوما ، فقدم النبيّ فأوّل من رآه رجل من اليهود فلما رآه صرخ باعلى صوته : يا بني قيلة (١) هذا جدّكم (٢) قد جاء.

فنزل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على كلثوم بن هدم ، وكان يخرج فيجلس للناس في بيت سعد بن خيثمة (٣).

وكان مقام علي عليه‌السلام بعد النبيّ بمكة ثلاث ليال ، ثم لحق برسول الله فنزل معه. فأقام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بقباء يوم الاثنين والثلاثاء ، والأربعاء والخميس ، وأسّس مسجده. وفي يوم الجمعة (رحل) فصلى (صلاة) الجمعة في بطن وادي رانوناء في المسجد ، فكانت أول صلاة (جمعة) صلاها بالمدينة.

(وكان الوادي لبني سالم بن عوف من الأوس أيضا) فأتاه غسّان بن مالك وعباس بن عبادة في رجال من بني سالم فقالوا : يا رسول الله ، أقم عندنا في العدد والعدة والمنعة. فقال : خلّوا سبيلها فانها مأمورة (يعني ناقته).

ثم تلقاه زياد بن لبيد وفروة بن عمرو في رجال من بني بياضة. فقال كذلك.

ثم اعترضه سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو في رجال من بني ساعدة (من الخزرج فقال كذلك). ثم اعترضه سعد بن الربيع وخارجة بن زيد وعبد الله بن رواحة في رجال من بني الحارث ابن الخزرج (فقال كذلك).

__________________

(١) أم الأوس والخزرج.

(٢) أي : عظيمكم أو حظّكم.

(٣) ومرّ ما انفرد به اليعقوبي ٢ : ٤١.


فانطلقت (الناقة) حتى اذا وازت دار بني النجار بركت على مربد لغلامين يتيمين منهم ، فلما بركت ولم ينزل رسول الله وثبت فسارت غير بعيد ثم التفتت الى خلفها فرجعت الى مبركها أول مرة فبركت ، ثم تحلحلت ورزمت ووضعت جرانها (١) فنزل عنها رسول الله ، واحتمل أبو أيوب رحله فوضعه في بيته ، ونزل النبيّ في بيت أبي أيّوب.

وسأل عن المربد فأخبر أنه لسهل وسهيل يتيمين لمعاذ بن عفراء ، فأرضاهما معاذ ، وأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ببناء المسجد ، وعمل فيه رسول الله بنفسه ، فعمل فيه المهاجرون والأنصار ، وأخذ المسلمون يرتجزون وهم يعملون قال بعضهم :

لئن قعدنا والنبيّ يعمل

لذاك منّا العمل المضلّل

والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول :

لا عيش الّا عيش الآخرة

اللهم ارحم الأنصار والمهاجرة

وعليّ عليه‌السلام يقول :

لا يستوي من يعمل المساجدا

يدأب فيها قائما وقاعدا

ومن يرى عن الغبار حائدا (٢)

__________________

(١) أي تحركت وتثاقلت ووضعت رقبتها على الأرض لتبرك فيه.

(٢) قال ابن اسحاق : فأخذها عمار بن ياسر فجعل يرتجز بها ، فلما أكثر ظنّ عثمان بن عفان أن عماراً انما يعرض به فقال له : يابن سُميّة ، قد سمعت ما تقول منذ اليوم ـ وكان بيده عصا فقال ـ والله إني لاراني ـ أعرض هذه العصا لأنفك! وسمعه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فغضب وقال : ما لهم ولعمار : يدعوهم إلى الجنّة ويدعونه إلى النار ، إنّ عمّاراً جلدة ما بين عيني وأنفي. وكره ابن هشام أن يسمّى عثمان فقال : ظن رجل من أصحاب رسول الله! ثمّ قال : وقد سمّى ابن اسحاق الرجل! وقال السهيلي : فلا ينبغي البحث عن اسمه! سيرة ابن هشام ٢ : ١٤٢ ـ ١٤٣.


ثم بنيت مساكنه (١) وبيوته ، فانتقل من بيت أبي أيوب إليها.

وكان مدة مقامه عنده من شهر ربيع الأوّل إلى صفر من السنة القابلة (٢).

وفاة أسعد بن زرارة وصلاة الجنائز :

قال ابن اسحاق : وهلك في تلك الأشهر أبو أمامة أسعد بن زرارة ، أخذته الذبحة أو الشهقة. هذا والمسجد يبنى.

ثم روى عن ابن حزم ، عن حفيد أسعد بن زرارة : يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة (عن أبيه عن جده) : أن رسول الله قال : بئس الميّت أبو أمامة! ليهود ومنافقي العرب يقولون : لو كان نبيّا لم يمت صاحبه! ولا أملك لنفسي ولا لصاحبي من الله شيئا (٣).

وهذا أول مورد ورد فيه ذكر المنافقين في المدينة.

وروى النميري البصري عن الواقدي بسنده عن محمد بن عبد الرحمن ابن أسعد بن زرارة (عن أبيه) قال : كان أسعد بن زرارة أول ميت بالمدينة من الأنصار ، ودفن بالبقيع ، ولم يكن قبل ذلك صلاة على الجنائز (٤).

وظاهر هذا الخبر أنه جمع لأسعد بن زرارة الأوّلين : فهو أول من صلي على جنازته ، وهو أول من دفن بالبقيع.

__________________

(١) كما في ابن هشام ٢ : ١٤٣ وفي وفاء الوفاء ٢ : ٤٦٢ عن الذهبي : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنى أولا بيت سودة ثم لما احتاج الى منزل لعائشة بناه وهكذا سائر بيوته بناها في اوقات مختلفة.

(٢) مناقب آل أبي طالب ١ : ١٨٤ ـ ١٨٦ يبدو أنه مختصر خبر سيرة ابن هشام ٢ : ١٣٨ ـ ١٤٢ ما دون مدة اقامته بدار أبي أيوب ، وقيل سبعة أشهر وقيل شهرا واحدا كما في وفاء الوفاء ١ : ٢٦٥ والسيرة الحلبية ٢ : ٦٤ ، والقول الوسط أضبط ، كما سيأتي ذلك.

(٣) ابن هشام ٢ : ١٥٣.

(٤) تاريخ المدينة ١ : ٩٦.


بينما روى النميري البصري خبرا رواه الحاكم الحسكاني بسنده عن أبي سعيد الخدري قال : إن أول ما قدم رسول الله المدينة ، كان اذا احتضر منّا الميت آذنّا رسول الله فحضره واستغفر له ، حتى اذا قبض انصرف النبيّ ـ صلى الله عليه [وآله] ـ فربما طال حبس رسول الله على ذلك ، وخشينا مشقة ذلك عليه ، فقال بعض القوم لبعض : لو كنا لا نؤذن النبيّ بأحد حتى يقبض فاذا قبض آذنّاه فلم يكن عليه في ذلك حبس ولا مشقة. فكنا نؤذنه بالميّت بعد أن يموت فيأتيه ويصلي عليه .. فكنّا على ذلك حينا. ثم قلنا : لو لم نشخص رسول الله بل حملنا جنائزنا إليه حتّى يصلي عليها عند بيته كان ذلك أرفق به ، ففعلنا ذلك (١).

يثرب أم طيبة؟

روى النميري البصري (ت ٢٦٢) بسنده عن عبد الله بن جعفر قال : سمّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة طيبة.

أمّا متى كان ذلك؟

فقد روى بسنده عن أبي قتادة الأنصاري وسهل بن سعد الساعدي قال :

لما أقبلنا من غزوة تبوك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هذه طيبة ، أسكننيها ربّي (٢).

إذن فتغيير اسم المدينة من يثرب الى طيبة لم يكن في أوائل الهجرة.

__________________

(١) وروى عن الزهري قال : كان اذا هلك الميّت شهده رسول الله فصلى عليه ، ولما بدن رسول الله وثقل نقل إليه المؤمنون موتاهم فيصلي عليهم في موضع الجنائز عند بيته.

وروى : أنه كان في موضع الجنائز (عند بيته والمسجد) نخلتان ، كانوا يضعون الموتى عندهما فيصلي عليهم. فلما أراد عمر بن عبد العزيز أن يبني المسجد فيوسّعه ابتاع النخلتين من بني النجّار وقطعهما. تاريخ المدينة ١ : ٣ ـ ٥.

(٢) تاريخ المدينة ١ : ١٦٣ ، ١٦٤.


آبار المدينة وسيولها :

ذكر النميريّ البصريّ ستّ عشرة بئرا هي : الأعواف ، وهي التي اشتراها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما بعد وتوضأ فيها فسالت ، فجعلها صدقة جارية عامة (١).

الأغرس ، توضّأ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله منها وأراق بقية وضوئه فيها ، وهي بئر على نصف ميل من الشمال الشرقي من مسجد قباء (٢).

بئر أنس أو البرود ، والمقصود أنس بن مالك الأنصاري قال : كان في داري بئر تدعى في الجاهلية «البرود» (٣).

بضاعة ، كانت طيّبة الماء في وسط بيوت بني ساعدة ، فكان يستقى منها للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقيل له : قد يلقى فيها محائض النساء ولحوم الكلاب؟ فقال : إن الماء طهور لا ينجسه شيء (٤).

البويرمة ، لبني الحارث بن الخزرج (٥).

الجاسوم ، كانت للهيثم بن التيهان ، وشرب منه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٦).

الحاء ، كانت في بستان لأبي طلحة الأنصاري في قبلة المسجد من جهة الشرق (اذ كانت القبلة الى الشام) وكان ماؤها طيّبا فكان رسول الله يدخل البستان فيشرب منها ، فتصدق بها أبو طلحة (أو أهداها للنبيّ) فلما أهدى حسان

__________________

(١) تاريخ المدينة ١ : ١٥٩.

(٢) تاريخ المدينة ١ : ١٦١ وهامشه.

(٣) تاريخ المدينة ١ : ١٦٠.

(٤) تاريخ المدينة ١ : ١٥٦ ، ١٥٧ ومراصد الاطلاع ١ : ١٤٠.

(٥) تاريخ المدينة ١ : ١٦٩.

(٦) تاريخ المدينة ١ : ١٦٠.


ابن ثابت مولاه صفوان بن المعطل للنبيّ ، أعطاه النبيّ بئر حاء (١) هديّة معوّضة.

الحفير في الحرّانيّة ، كان إذا طغى سيل مهزوز وخيف منه على المدينة صرف الى الحفير فصبّ فيها ، وكان يصب فيها سهل مذينيب أيضا (٢).

بئر رومة ، ورومة أرض نزلها المشركون عام الخندق بين الجرف ورعانة ، وفيها البئر. واختلفت الأخبار فيها على أنّها : كانت ليهوديّ ، أو لرجل من مزينة ، أو لرجل من بني غفار ، وكان يبيع منها القربة بمدّ ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : بعنيها بعين في الجنة. فقال : يا رسول الله ليس لي ولا لعيالي غيرها ولا أستطيع.

قالوا : فبلغ ذلك عثمان فاشتراها بخمس وثلاثين الف درهم وجعلها للمسلمين.

وقالوا : اشتراها بأربعين الفا.

وقالوا : بل ذكرت لعثمان وهو خليفة فابتاعها بثلاثين الف درهم من مال المسلمين وتصدق بها عليهم (٣) وهو الأولى.

بئر ذرع ، بئر بني خطمة ، بفناء مسجدهم ، توضّأ منها النبيّ وبصق فيها (٤).

السقيا ، كانت في حسيكة ، وهي اسم موضع بالمدينة طرف جبل ذباب ، وبها منازل لليهود ، من ناحية أرض ابن ماقية الى أداني الجرف كلّه ، واسم أرض السقيا الفلج أو الفلجان ، واسم بئرها السقيا ، وكانت لذكوان بن عبد قيس

__________________

(١) تاريخ المدينة ١ : ١٥٧ ، ١٥٨.

(٢) تاريخ المدينة ١ : ١٦٩.

(٣) تاريخ المدينة ١ : ١٥٣ ، ١٥٤.

(٤) تاريخ المدينة ١ : ١٦١.


الزرقي ، فابتاعها منه سعد بن أبي وقاص فيما بعد ببعيرين ، وكان ماؤها عذبا يستقى منه لرسول الله (١).

العينيّة ، عند كهف بني حرام ، توضّأ منها النبيّ ودخل ذلك الكهف (٢).

الغرس ، كانت في دار سعد بن خيثمة في قباء ، وكان الى جانبها مهراس وهو حجر منقور كالحوض عظيم لا يقدر على تحريكه ، يتوضّأ منه ، توضأ وشرب وغسّل منه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كما عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه‌السلام (٣).

بئر مدرى ، كان في مسير سيل المهزور الى مسجد النبيّ ، وعندها بني الردم لردّ السيل عن المدينة والمسجد ، في خلافة عثمان (٤).

اليسيرة ، وهي لبني أمية من الأنصار (لا المهاجرين) توضّأ منها النبيّ وبصق فيها للبركة ، وهو سماها «اليسيرة» (٥).

الهجير ، بئر بالحرّة فوق قصر ابن ماه (٦).

وللمدينة أودية ثلاث : بطحان ، والعقيق ، والقناة.

فأما البطحان ، فهو الوادي المتوسط بين بيوت المدينة ، ويبدأ السيل فيه من ذي الجدر ، وهي قرارة في الحرّة اليمانية ، يصب في شرقي ابن الزبير وعلى جفاف وو مرقبة وبني حجر ، وبني كلب ، والحساة ، حتى يفضي الى فضاء بني خطمة ، والأغرس ، ثم يرد الجسر ، ثم يستبطن الوادي حتى يصير في زغابة.

__________________

(١) تاريخ المدينة ١ : ١٥٨ ، ١٥٩ وهامشها وفي تحديد محلّ السُقيا انظر كتاب : المساجد والاماكن الأثرية المجهولة في المدينة لعبدالرحمان خويلد الحجازي ، وعنه في مجلة ميقات الحج ٣ : ٢٧٦.

(٢) تاريخ المدينة ١ : ١٦٠.

(٣) تاريخ المدينة ١ : ١٦٢.

(٤) تاريخ المدينة ١ : ١٦٩.

(٥) تاريخ المدينة ١ : ١٦١.

(٦) تاريخ المدينة ١ : ١٦٩ والحرّة اسم لارض ذات أحجار سود كأنها محترقة بالنار.


ويظهر أن هذا السيل كان نافعا غير ضارّ ولذا روى النميري البصري بسنده عن عائشة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إن بطحان على ترعة من ترع الجنة (١).

وكان يسيل فيه سيل آخر يدعى الرانونا ، يأتي من جبل في يماني عير ومن حرس في شرق الحرّة ، ثم يصبّ على صريحة ، ثم يتفرّق في الصفاصف ، فيصبّ في أرض القصبة ويستبطنها حتى يمرّ عن يمين قباء ، ثم يدخل غوساء ، ثم بطن ذي خصب ، ثم يقرن بذي صلب ، ثم يستبطن السّراة حتى يمرّ على قعر البركة ، ثم يفترق فرقتين ، فتمرّ فرقة على بئر جشم تصبّ في سكة الخليج حتى يفرغ في وادي بطحان (٢).

وأما سيل وادي العقيق ، فهو يأتي من موضع يقال له بطاويح ، وهو حرس من الحرّة ، ومن غربيّ شطاي ، حتى يصبّا جميعا في النقيع ، وهو من المدينة على أربعة برد في يمانيها ، ثم يصب في غدير يلبن وبرام ، ويدفع فيه وادي البقاع ، وتصبّ فيه نقعاء ، فيلتقين بأسفل موضع يقال له البقع ، ثم يذهب السيل مشرّقا فيصبّ على مزادتين يستقى منهما ، ثم يستجمعن بوادي ربر في أسفل الحليفة العليا ، ثم يصبّ على الاتمة وعلى الجام ، ثم يفضي الى وادي الحمراء فيتبطّن الوادي ، حتى ينتهي الى ثنيّة الشريد ، ثم يفضي الى الوادي ، فيأخذ في ذي الحليفة ، ثم يستبطن الوادي فتصب عليه شعاب الجمّاء ونمير ، ثم يستبطن بطن الوادي ثم يفترش سيل العقيق يمنة ويسرة ثم يستجمع حتى يصب في زغابة ، وكان سيلا مباركا (٣).

__________________

(١) تاريخ المدينة ١ : ١٦٧ ، ١٦٨.

(٢) تاريخ المدينة ١ : ١٦٨.

(٣) تاريخ المدينة ١ : ١٦٥ ـ ١٦٧.


وأما بطن وادي مهزوز فهو الذي كان يتخوّف منه الغرق على أهل المدينة.

وهو يأخذ من شرقيّ الحرّة ، ومن هكر ، وحرّة صفة ، حتى يأتي على جبال بني قريظة (اليهود) ثم يسلك فيه شعب فيأخذ في واد يقال له مذينيب بين بيوت بني أمية بن زيد ، ثم يلتقي هو وسيل بني قريظة بالمشارف ، ثم يجتمع الواديان مهزوز ومذينيب فيفترقان في الأملاك ثم يأخذ بطن الوادي ثم يأخذ في البقيع حتى يخرج على بني جديلة ببطن مهزوز ، وآخره كومة أبي الحمراء ثم يفضي فيصبّ في وادي قناة.

وروى بسنده عن الصادق عن أبيه الباقر عليهما‌السلام قال : قضى رسول الله في سيل مهزوز : أنّ لأهل النخل الى العقبين ، ولأهل الزرع الى الشراكين ، ثم يرسلون الماء إلى من هو أسفل منهم.

وروى بسنده عن محمد بن اسحاق عن أبي مالك بن ثعلبة بن أبي مالك ، عن أبيه ثعلبة ، وكان امام مسجد بني قريظة ، قال : قضى رسول الله في مهزوز ووادي بني قريظة : أن الماء الى العقبين ، لا يحبس الأعلى على الأسفل ويحبس الأسفل على الأعلى.

وتجتمع هذه السيول في وادي زغابة وهو طرف وادي إضم ، وانما سمّي اضم لانضام السيول به واجتماعها فيه ، ثم تجتمع فتنحدر على عين أبي زياد ، ثم تنحدر فيلقاها شعاب يمنة ويسرة ، ثم يلقاها وادي مالك بذي خشب والجنينة ، ثم يلقاها وادي أوان ودوافعه من الشرق ، ويلقاها من الغرب واد يقال له بواط والخراز ، ويلقاها من الشرق وادي الأتمة ، ثم تمضي في وادي إضم وعيونه حتى يلقاه وادي برمة الذي يقال له ذو البيضة من الشام ، ويلقاها وادي ترعة من القبلة ، ثم يلتقي هو ووادي العيص من القبلة ، ثم يلقاها دوافع واد يقال له حجر ،


ووادي الجزل الذي به السقيا والرجة في نخيل ذي المروة مغرّبا ، ثم يلقاها وادي عمودان في أسفل ذي المروة ، ثم يلقاه وادي سفيان ، ثم يفضي الى البحر عند جبل يقال له أراك ، ثم يدفع في الغمر من ثلاثة أمكنة في البحر يقال لها : اليعبوب ، وحقيب والنتيجة (١).

أسواق المدينة في الجاهلية والاسلام :

روى النميري البصري عن أبي غسّان قال : كان بالمدينة في الجاهلية : سوق بزبالة ، بالناحية التي تدعى يثرب. وسوق بالجسر في بني قينقاع ، وسوق بالصفاصف والعصبة (غربيّ مسجد قباء). وسوق في زقاق ابن حبين يقال له المزاحم ، كانت تقوم في الجاهلية وأول الاسلام (٢).

وروى الشافعي في «الام» عن الامام الصادق عليه‌السلام قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يخطب يوم الجمعة ، وكان لهم سوق يقال لها البطحاء ، كانت بنو سليم يجلبون إليها الخيل والابل والغنم والسمن.

ولعله السوق الذي روى النميري البصري عن عائشة أنها قالت : كان يقال لسوق المدينة : بقيع الخيل.

وعن عطاء بن يسار قال : لما أراد رسول الله أن يجعل للمدينة سوقا أتى سوق بني قينقاع (بالجسر) ثم جاء الى سوق المدينة فضربه برجله وقال : هذا سوقكم فلا يضيّق ولا يؤخذ فيه خراج (٣).

__________________

(١) تاريخ المدينة ١ : ١٦٩ ـ ١٧٣.

(٢) تاريخ المدينة ١ : ٣٠٦.

(٣) تاريخ المدينة ١ : ٣٠٤ ـ ٣٠٦ وبهامشها.


الدور حول المسجد :

بنيت حول المسجد دور ، اتخذ منها عبد الرحمن بن عوف دورا متعددة :

منهنّ الدار التي كان يقال لها «الدار الكبرى» ، وانما سميت الدار الكبرى لأنها أول دار بناها أحد من المهاجرين بالمدينة ، وقد بنى فيها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بيده ، وكان عبد الرحمن ينزل فيها ضيفان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكانت تسمّى «دار الضيفان» وكانت على عهد النميري البصري (ت ٢٦٢ ه‍) بيد بعض ولد عبد الرحمن بن عوف.

ومنهن «دار القضاء» وانما سميت بذلك لأن عبد الرحمن بن عوف اعتزل فيها ليالي الشورى حتى قضي الأمر. باعها بنو عبد الرحمن من معاوية بن ابي سفيان ، وكان فيها الدواوين وبيت المال فهدمها ابو العباس السفاح العباسي فصيرها رحبة للمسجد ، فهي اليوم كذلك (على عهد النميري البصري).

ومنهن دار وهبها عبد الرحمن بن عوف فيما بعد لعبد الله بن مكمّل بن عوف (ابن اخيه) وباعها آل مكمل من المهدي العباسي فكانت بأيدي بعض ولده (ثم ادخلت في المسجد) ومنهن دار أنزلها ابن عوف فيما بعد مليكة بنت سنان المرية ، قدمت المدينة في خلافة أبي بكر فقال : من ينزل هذه المرأة فأنزلها عبد الرحمن داره ، فسميت دار مليكة. ثم باعها سهيل بن عبد الرحمن بن عوف من عبد الله ابن جعفر رضى الله عنه فباعها عبد الله من معاوية بن أبي سفيان ، فلما ولي المهدي العباسي أدخلها في المسجد.

وكنّ هذه الدور ثلاث يدعين «القرائن» وهي ثلاث جنابذ (أي قبب)


أدخلن في المسجد (١).

وروى النميري البصري بسنده عن يحيى بن جعدة قال : لما قدم رسول الله المدينة أقطع الدور للناس (٢).

ثم قال النميري البصري : وقد أخبرني مخبر : أن منها دار نعيم بن عبد الله النحام العدوي ، التي بابها باتجاه زاوية رحبة دار القضاء فهي بأيدي ولده على حيازة الصدقات (٣) وهي في غربيّ المسجد جوار دار ابن مكمل والطريق بينهما قدر ست أذرع.

ثم الى جنب دار النحام : الدار التي منها اطم حسّان بن ثابت التي كان يقال لها «الفارع» والتي دخل فيها بيت عاتكة بنت يزيد بن معاوية ، وصارت الى جعفر بن يحيى البرمكي ثم صودرت منه.

ثم دار كانت لسكينة بنت الحسين بن علي عليهما‌السلام ثم صارت الى نصير أو معين مولى المهدي (او نصير صاحب المصلى).

ثم الى جنبها الطريق ست أذرع.

ثم الى جنب الطريق : دار كانت لعبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضى الله عنه ، وهي الدار التي صارت لمنيرة مولاة أمّ موسى الهادي العباسي (٤) ، ثم صارت بعد

__________________

(١) تاريخ المدينة ١ : ٢٣٢ ـ ٢٣٥.

(٢) تاريخ المدينة ١ : ٢٤٢.

(٣) تاريخ المدينة ١ : ٢٤٧ بينما قال ابن حجر في الاصابة ٣ : ٥٣٨ : ذكر عمر بن شبّة في أخبار المدينة عن أبي عبيد المدني قال : ابتاع مروان من النحام داره بثلاثمائة درهم فأدخلها في داره. والنحام هنا ابراهيم بن نعيم. وهذا يخالف ما نقلناه هنا عن المؤلف والكتاب نفسهما.

(٤) تاريخ المدينة ١ : ٢٥٨.


ليحيى بن خالد البرمكي ، ثم صودرت (١).

ثم الى جنبها حشّ (أي نخل صغار لا تسقى) لطلحة بن أبي طلحة الأنصاري ، ثم صارت لآل برمك ثم صودرت وهي اليوم خراب.

ثم الى جنبها الطريق خمس أذرع.

ثم الى جنب الطريق أبيات كانت لحباب مولى عتبة بن غزوان ثم صارت لخالصة مولاة الخليفة العباسي ، فباعتها لابني حرملة الأسود الفزّي مولى هارون الرشيد.

ثم الى جنبها دار لأبي المغيث بن المغيرة بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، أوقفها صدقة بيد بني عذير.

ثم الى جنبها بقية دار عبد الله بن مسعود رضى الله عنه ، صارت لجعفر بن يحيى البرمكي ثم صودرت منه (هذا كله في غربيّ المسجد).

ثم من الشرق : دار ابتاعها عبيد الله بن الحسين بن عليّ بن الحسين بن علي ابن أبي طالب عليهم‌السلام وشاركه فيها موسى بن ابراهيم المخزومي ، وظن عبيد الله أنّ موسى يريد الربح فتركها له.

ثم دار عمرو بن العاص ثم دار خالد بن الوليد ثم دار جبلة بن عمر الساعدي ، ثم صارت لسعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان ، ثم صارت الى أسماء بنت الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس.

ثم دار ربطة بنت أبي العباس ، وهي اليوم لولدها.

ثم الطريق بينها وبين دار عثمان بن عفان خمس أذرع.

ثم دار عثمان ... ثم الطريق بعد دار عثمان.

__________________

(١) تاريخ المدينة ١ : ٢٣٤.


ثم دار أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه ، الذي نزله رسول الله ، وابتاعه منه المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي ، وجعل فيه ماء يستقى منه في المسجد.

ثم الى جنبه دار حارثة بن النعمان الأنصاري ، فصارت الى جعفر بن محمد ابن علي الصادق عليه‌السلام.

ثم الطريق بينها وبين دار ابراهيم بن هشام المخزومي ، فصارت الى أبي مسلم مولى بني العباس ثم إلى جنبها بيت عامر بن عبد الله بن الزبير بن العوام ، ثم دار عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي (١).

هذه هي كل الدور التي ذكرها النميري البصري في كتابه «أخبار المدينة» تحت عنوان : «الدور الشوارع على مسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله اليوم» ولذلك لم يذكر فيها من دور بني هاشم سوى دور : عبد الله بن جعفر ، وذكر أنه اشتراها من سهيل بن عبد الرحمن بن عوف. ودار سكينة بنت الحسين عليه‌السلام ، ودار الامام جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام اشتراها من حارثة بن النعمان الأنصاري ، ودار عبيد الله بن الحسين ابن علي بن الحسين عليه‌السلام اشتراها. ولم يذكر ما بينها دارا لعلي عليه‌السلام شارعة إلى المسجد.

نعم مرّ ذكره لدار عثمان بن عفّان ، وذكر دارا لأبي بكر في ذكره لدور بني تيم قال : واتخذ أبو بكر دارا قبالة الدار الصغرى لعثمان في زقاق البقيع ، واتخذ دارا أخرى عند المسجد ، وهو الذي قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «سدّوا عنّي هذه الأبواب الّا ما كان من باب أبي بكر» او قال : «سدّوا عنّي هذه الأبواب الّا ما كان من خوخة أبي بكر» (٢).

__________________

(١) تاريخ المدينة ١ : ٢٥٦ ـ ٢٦٠.

(٢) تاريخ المدينة ١ : ٢٤٢ وعلق عليه المحقق نقلا عن النهاية في غريب الحديث والرواية لابن الأثير ٢ : ٨٦ الّا خوخة علي. والخوخة : باب صغير كالنافذة الكبيرة تكون بين بيتين.


وقد مرّ عنه : أنّ «دار القضاء» كانت من دور عبد الرحمن بن عوف في رواية ، ولكنه قال : وسمعت من غير واحد : أن رحبة القضاء كانت لعمر بن الخطاب ، وأنها انما سمّيت رحبة القضاء لأنه أوصى أن تباع بعد وفاته لدين كان عليه ، فسمّيت «دار القضاء» فلما ولي معاوية اشتراها ، وفي سنة ثمان وثلاثين ومائة هدمها والي المدينة زياد بن عبيد الله وجعلها رحبة للمسجد وقسط اجرة هدمها على أهل السوق فلحق كل واحد منهم أربعة دوانيق (١).

ثم ذكر النميري البصري محالّ القبائل من المهاجرين ، فذكر دارا لجهينة بن زيد ، ودارين للمصطلق بن سعد وكعب بن عمرو ، وثلاث منازل لبني أفصى ، وثلاث منازل لبني قيس بن عيلان ، واثني عشر منزلا (اثنتي عشرة) اسرة. ومن قريش بدأ ببني أسد بن عبد العزّى : الزبير بن العوّام وأخيه عبد الرحمن بن العوّام وحكيم بن حزام ونوفل بن عدي وهبّار بن الأسود وذؤيب بن حبيب.

وذكر دار طليب بن كثير من عبد قصي.

ودار عمرو بن العاص من بني سهم.

ودارين لبني محارب بن فهر.

وثلاث دور لبني جمح.

وأربع دور لبني تيم : أبي بكر وابنته أسماء وطلحة بن عبيد الله وحليفهم صهيب الرومي.

وست دور لبني عامر بن لؤي منهم عبد الله بن أبي سرح (ولم يكن من المهاجرين الأولين) وثماني دور لبني عدي بن كعب منهم عمر وابنه عبد الله بن عمر.

__________________

(١) جمع دانق معرّب : دانه أي واحدة ، وهي سدس الدرهم.


وثماني دور لبني مخزوم منهم الأرقم بن أبي الأرقم ، وخالد بن الوليد (بعد الفتح) ودارا لعمار بن ياسر حليفهم بناها له عمر عند رجوعه من الشام ، وهبتها له أم سلمة زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فبعضها اليوم بأيدي بعض ولده ، وبعضها باعوها فصارت الى الفضل بن يحيى البرمكي. وكانت لعمار قبلها دار اخرى ادخلت في المسجد في الضلع الغربي اليماني منه.

وذكر دارا لحليفهم الآخر : خراش بن أميّة الكعبي ، وقال : انها كانت بين زقاق الصفّارين وبابها شارع في سوق الخبّازين ، وأوقفها على ولده (١).

وفي دور بني زهرة ذكر خمس دور لعبد الرحمن بن عوف الزهري : «دار مليكة» و «دار القضاء» و «الدار الذميمة» و «دار الضيفان الكبرى» ودارا باعها ابنه سهيل لعبد الله بن جعفر فباعها لمعاوية فصارت لمنيرة ثم صارت ليحيى البرمكي ثم صودرت. وذكر أن ثلاثا منها كانت تدعى «القرائن» و «الجنابذ» أي القباب ، ادخلت في المسجد.

واتخذ أخوه عبد الله بن عوف دارا فهي صدقة في ولده. وذكر أن سعد بن أبي وقّاص الزهري اتخذ دارا بالمصلّى عند زقاق الحمارين.

وكانت له داران بالبقّال ، وكانت لأبي رافع القبطي دار قريبة فساومه عليها سعد فكان أبو رافع يريدها بخمسمائة دينار ، وسعد يقول : لا والله لا أزيدك على أربعة آلاف منجّمة (أي مقسّطة) فناقله أبو رافع على ذلك. ثم أوقفهما سعد على ذريته.

واتخذ سعد دارا أخرى بالبلاط قبال دار ابراهيم بن هشام المخزومي. فلما قدم سعد من العراق وقاسم أمواله عمر على مقاسمته لأموال عماله قاسمه داره

__________________

(١) تاريخ المدينة ١ : ٢٤٣ ـ ٢٤٦.


هذه ، بالنصف ، فوهب نصفها لامرأة تدعى «جبّى» كانت قد أرضعت عمرا ، فكانت بيدها حتى سمعت نقيضا في سقف البيت ، فقالت : والله لا سكنت هذا البيت ، فخرجت منه ثم باعت الدار لبعض ولد عمر بن الخطاب فهي بأيديهم الى اليوم. وباع سعد النصف الباقي له لعثمان بن عفان باثني عشر الف درهم ، ثم صارت لعمرو بن عثمان. واتخذ اخواه عامر بن أبي وقاص داره ، وعتبة بن أبي وقاص داره بالبلاط ، وكانت بايدي ولديهما حتى ابتاعه الربيع حاجب المنصور من ولد عتبة بدارهم.

وذكر لهم دارين آخرين لعبد الرحمن بن ازهر ومخرمة بن نوفل ، وهي في زاوية المسجد عند المنارة الشرقية اليمانية ، فاشترى المهدي بعضها فأدخله في رحبة المسجد ، وصارت بقيتها لآل برمك ثم صودرت اليوم.

وذكر أن المقداد بن عمرو البهرائي (ابن الاسود الكندي) حليف بني مخزوم اتخذ دارين صارتا الى ولد ابنته من وهب بن عبد الله الأسدي ، باعوا احداهما ليزيد بن عبد الملك والاخرى بأيديهم في بني جديلة يقال لها : دار المقداد (١).

قال ابن اسحاق : فأقام رسول الله في بيت أبي أيوب حتى بني له مسجده ومساكنه ، ثم انتقل من بيت أبي أيوب الى مساكنه (٢) ولم يعين مدة ذلك.

وقد مرّ عن ابن شهرآشوب في «المناقب» قال : كان مدة مقامه عنده من شهر ربيع الأول الى صفر من السنة القابلة (٣) وقيل سبعة أشهر ، وقيل شهرا واحدا (٤).

__________________

(١) تاريخ المدينة ١ : ٢٢٢ ـ ٢٤١.

(٢) سيرة ابن هشام ٢ : ١٤٣.

(٣) مناقب آل أبي طالب ١ : ١٨٦.

(٤) وفاء الوفاء ١ : ٢٦٥ والسيرة الحلبية ٢ : ٦٤.


وفي «وفاء الوفاء» للسمهودي قال : استظهر الشمس الذهبي : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله بنى أولا بيت سودة ، ثم لما احتاج الى منزل عائشة بناه ، وهكذا سائر بيوته بناها في أوقات مختلفة (١).

وسيأتي أن دخوله بعائشة كان في شهر شوال الثامن من هجرته ، وكان قد تزوّج بها وبسودة ودخل بها بمكة قبل الهجرة.

وقد خرجت عائشة من مكة الى المدينة مع أخيها عبد الله وامها أم رومان ومعهم طلحة بن عبيد الله التيمي بعد أن رجع إليهم من المدينة عبد الله بن اريقط فأخبرهم بمكان أبيهم بالسنح من المدينة (٢).

أما علي عليه‌السلام فانما حمل معه أمه فاطمة بنت أسد ومعها من بنات الرسول فاطمة وأما سائر بناته : فزينب مع زوجها أبي العاص بن الربيع ، ورقية مع زوجها عثمان في هجرة الحبشة ، وأما أمّ كلثوم فقد مرّ أن عكرمة كان قد طلّقها ولم يذكر أنها هاجرت الى الحبشة ، ولم يذكر أن عليا عليه‌السلام حملها مع اختها فاطمة الى المدينة. ولكن قالوا : إن رسول الله بعث أبا رافع القبطي وزيد بن حارثة الكلبي من المدينة الى مكة فحملا إليه زوجته سودة بنت زمعة وسائر بناته (٣) بل هي أم كلثوم فقط. ويبدو أنّ ذلك كان قبل دخوله بعائشة لما مرّ أنّ أوّل بيت بناه كان لسودة ثم لعائشة فيبدو أن ذلك كان في الشهر السابع رمضان قبل دخوله بعائشة في الشهر الثامن شوال ، وعليه فمدة اقامته بدار أبي أيوب سبعة أشهر وفيها بنى مسجده وبيته.

__________________

(١) وفاء الوفاء ٢ : ٤٦٢.

(٢) الطبري ٢ : ٤٠٠ وعنه الكازروني في المنتقى وعنه في بحار الأنوار ١٩ : ١٢٩.

(٣) الطبري ٢ : ٤٠٠ وعنه الكازروني في المنتقى وعنه في بحار الأنوار ١٩ : ١٢٩.


تشريع أذان الإعلام :

قالوا : وفي السنة الاولى من الهجرة شرّع الأذان (١). وروى محمد ابن اسحاق عن محمد بن ابراهيم ، عن محمد بن عبد الله ، عن أبيه عبد الله بن زيد أنه قال : كان رسول الله حين قدم المدينة يجتمع الناس إليه للصلاة لحين مواقيتها بغير دعوة ، وكان لليهود بوق يدعون به لصلاتهم ، فهمّ رسول الله أن يجعل لذلك بوقا كبوق اليهود. ثم كرهه. وأمر أن ينحت ناقوس ليضرب به للصلاة.

فبينما هم على ذلك إذ طاف بي طائف : مرّ بي رجل عليه ثوبان اخضران يحمل ناقوسا في يده ، فقلت له : يا عبد الله أتبيع هذا الناقوس؟ قال : وما تصنع به؟ قال : قلت : ندعو به إلى الصلاة ، قال : أفلا أدلك على خير من ذلك؟ قال : قلت : وما هو؟ فعلّمه فصول الأذان بلا اقامة ، وليس فيها «حيّ على خير العمل».

فأتى رسول الله فقال له ذلك. فلما أخبر بها رسول الله قال : إنها لرؤيا حق ان شاء الله ، فقم مع بلال فألقها عليه فليؤذّن بها فانه أندى صوتا منك (٢).

«وهناك من أحاديثهم ما هو صريح بأن تلك الرؤيا كانت من أربعة عشر رجلا من الصحابة ، كما في «شرح التنبيه» للجبيلي ، ورووا أن الرائين تلك الليلة كانوا سبعة عشر رجلا من الأنصار وعمر وحده من المهاجرين ، ورووا أن بلالا ممن رأى الأذان أيضا. وثمة متناقضات في هذا الموضوع أورد الحلبي منها ما يوجب العجب العجاب ، وحاول الجمع بينها فحبط عمله.

__________________

(١) بحار الأنوار ١٩ : ١٣١ عن المنتقى للكازروني.

(٢) سيرة ابن هشام ٢ : ١٥٤ ، ١٥٥.


والشيخان البخاري ومسلم قد أهملا هذه الرؤيا بالمرة ، فلم يخرجاها في صحيحيهما أصلا لا عن ابن زيد ، ولا عن ابن الخطّاب ، ولا عن غيرهما ، وما ذاك الّا لعدم ثبوتها عندهما.

نعم أخرجا في باب بدء الأذان من صحيحيهما عن ابن عمر قال : كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحيّنون الصلاة ، وليس ينادي بها أحد. فتكلّموا يوما في ذلك فقال بعضهم : اتّخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى ، وقال بعضهم : بل بوقا مثل بوق اليهود. فقال عمر : الا تبعثون رجلا ينادي للصلاة؟ فقال رسول الله : يا بلال قم فناد بالصلاة. فنادى بالصلاة» (١).

هذا ، وقد روى المتّقي الهندي في «كنز العمال» أنهم تذاكروا الأذان عند الحسن عليه‌السلام وذكروا رؤيا ابن زيد ، فقال : إنّ شأن الأذان أعظم من ذلك ، أذّن جبرئيل في السماء مثنى مثنى وعلّمه رسول الله (٢).

وروى القاضي النعمان المصري عن الصادق عليه‌السلام قال : سئل الحسين بن علي عليه‌السلام عن قول الناس في الأذان : أن السبب فيه كان رؤيا رآها عبد الله بن زيد فأخبر بها النبيّ فأمر بالأذان ، فغضب عليه‌السلام وقال : الأذان وجه دينكم ، والوحي ينزل على نبيّكم وتزعمون أنه أخذ الأذان عن عبد الله بن زيد؟! بل سمعت أبي علي بن أبي طالب يقول : أهبط الله عزوجل ملكا حين عرج برسول الله ـ وساق حديث المعراج بطوله الى أن قال ـ فبعث الله ملكا لم ير في السماء قبل ذلك الوقت ولا بعده ، فأذّن مثنى مثنى وأقام مثنى مثنى. ثم قال جبرئيل للنبيّ : يا محمد هكذا أذّن للصلاة (٣).

__________________

(١) النص والاجتهاد : ٢٣٠ ، ٢٣١ عن صحيح مسلم ٢ كتاب الصلاة باب بدء الأذان.

(٢) عن كنز العمال ٦ : ٢٧٧.

(٣) دعائم الاسلام ١ : ١٤٢ وعنه في مستدرك الوسائل ٤ : ١٧ ط آل البيت. ومثله عن الجعفريات : ٤٢.


وروى الحلبي في سيرته عن أبي العلاء قال : قلت لمحمد بن الحنفية : إنّا لنتحدّث : أن بدء هذا الأذان كان من رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه ، قال : ففزع لذلك محمد بن الحنفية فزعا شديدا وقال : عمدتم الى ما هو الأصل في شرائع الاسلام ومعالم دينكم فزعمتم أنه من رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه ، تحتمل الصدق والكذب اذ تكون أضغاث أحلام!! فقلت : هذا حديث قد استفاض في الناس! قال : هذا والله هو الباطل ، وانما أخبرني أبي : أنّ جبرئيل عليه‌السلام أذّن في بيت المقدس ليلة الاسراء وأقام ، ثم أعاد جبرئيل الأذان لما عرج بالنبيّ الى السماء (١).

وروى العيّاشي في تفسيره عن عبد الصمد بن بشير قال : ذكر عند أبي عبد الله عليه‌السلام بدء الأذان فقيل : إن رجلا من الأنصار رأى في منامه الأذان فقصّه على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأمره رسول الله أن يعلّمه بلالا. فقال ابو عبد الله : كذبوا ، ان رسول الله كان نائما في ظل الكعبة فأتاه جبرئيل ومعه طاس فيه ماء من الجنة فأيقظه وأمره أن يغتسل به ، ثم وضعه في محل له ألف ألف لون من نور ، ثم صعد به حتى انتهى الى أبواب السماء ... فأمر الله جبرئيل فقال : الله اكبر ، الله اكبر ... فأتمّ الأذان وأقام الصلاة ، وتقدم رسول الله فصلّى بهم .. فهذا كان بدء الأذان (٢).

ولكن هذا لا يعني أن تشريع أذان الاعلام كان من حين رجوعه صلى‌الله‌عليه‌وآله من ذلك المعراج في مكة ، بل لعله كان كما روى الكليني بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : هبط جبرئيل بالأذان على رسول الله وكان رأسه في حجر علي عليه‌السلام فأذّن جبرئيل وأقام. فلما انتبه رسول الله قال : يا علي سمعت؟ قال : نعم يا رسول الله ،

__________________

(١) السيرة الحلبية ٢ : ٩٦.

(٢) تفسير العياشي ١ : ١٥٧.


قال : حفظت؟ قال : نعم. قال : ادع بلالا فعلّمه. فدعا علي عليه‌السلام بلالا فعلّمه (١).

وروى بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : قال (رسول الله) لبلال : اذا دخل الوقت يا بلال اعل فوق الجدار ـ وكان طول حائط مسجد رسول الله قامة ـ وارفع صوتك بالأذان (٢).

وهذا يقتضي أن الأذان كان بعد بناء المسجد ، وقد مرّ ترجيح أنه كان بعد سبعة أشهر من الهجرة ، أي في شهر رمضان المبارك من السنة الاولى للهجرة.

وروى ابن اسحاق عن عروة بن الزبير بخصوص أذان الفجر ، عن امرأة من بني النجار قالت : كان بيتي أطول بيت حول المسجد ، فكان بلال يأتي بيتي فيصعد ويجلس عليه في السحر ينتظر الفجر من كل غداة ، فاذا رآه أذّن للفجر (٣).

وقال اليعقوبي : وكان بلال يؤذن ، ثم أذّن معه ابن أمّ كلثوم ، أيهما سبق أذّن ، فاذا كانت الصلاة أقام واحد.

ثم نقل عن الواقدي قال : إن بلالا كان إذا أذّن وقف على باب رسول الله فقال : الصلاة يا رسول الله ، حيّ على الصلاة ، حيّ على الفلاح (٤).

المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار :

روى الطوسي في أماليه بسنده عن سعد عن أبيه حذيفة بن اليمان قال :

آخى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بين الأنصار والمهاجرين اخوّة الدين ، فكان يؤاخي بين الرجل ونظيره. ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب عليه‌السلام فقال : هذا أخي.

__________________

(١) فروع الكافي : ٨٣ ومن لا يحضره الفقيه ١ : ٥٧ والتهذيب ١ : ٢١٥.

(٢) فروع الكافي ١ : ٨٤ والتهذيب ١ : ١٥٠.

(٣) سيرة ابن هشام ٢ : ١٥٦ بتصرف.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٢.


قال حذيفة : فرسول الله سيد المرسلين وامام المتقين ورسول ربّ العالمين الذي ليس له في الأنام شبه ولا نظير ، وعلي بن أبي طالب إخوة (١).

ويبدو لي أن هذه الرواية من سعد بن حذيفة هي التي أشار إليها ابن اسحاق اذ قال : «بلغنا أن رسول الله قال ـ ونعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يقل ـ : تآخوا في الله أخوين أخوين. ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال : هذا أخي.

فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سيّد المرسلين وامام المتقين ورسول ربّ العالمين الذي ليس له خطير (أي شبه) ولا نظير .. وعليّ بن أبي طالب أخوين.

وأضاف : وكان حمزة بن عبد المطلّب أسد الله وأسد رسوله وعم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وزيد بن حارثة مولى رسول الله أخوين ، وإليه أوصى حمزة يوم احد حين حضره القتال ان حدث به حادث الموت. وجعفر بن أبي طالب (٢) ذو الجناحين الطيّار في الجنة ومعاذ بن جبل أخو بني سلمة أخوين. وكان أبو بكر الصدّيق ابن أبي قحافة وخارجة بن زهير الخزرجي أخوين. وعمر بن الخطاب وعبان بن مالك الخزرجي أخوين وعثمان بن عفان وأوس بن ثابت بن المنذر الخزرجي أخوين ... والزبير بن العوّام وسلمة بن سلامة أخوين .. وطلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك أخوين .. وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع الخزرجي أخوين .. وابو عبيدة بن الجرّاح وسعد بن معاذ أخوين .. ومصعب بن عمير بن هاشم وأبو أيوب (الأنصاري الخزرجي) أخوين .. وعمار بن ياسر

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٥٨٧ ح ١٢١٥ وعنه في بحار الأنوار ٣٨ : ٣٣٣ ورواه ابن طاوس في الطرائف : ٢٨ عن مناقب ابن المغازلي : ٤٢ كما في بحار الأنوار ٣٨ : ٣٤٦.

(٢) کذا ، ولكن هذا يقتضي ظاهراً أن يكون عقد الاخوة بعد فتح خيبر في السنة السابعة بعد عودة جعفر من هجرة الحبشة! فهذا يتنافى مع ذكر حمزة الشهيد في اُحد في السنة الثالثة للهجرة!


وحذيفة بن اليمان حليف الخزرج أخوين .. وأبو ذر الغفاري والمنذر بن عمرو الخزرجي أخوين .. وسلمان الفارسي (١) وأبو الدّرداء عويمر أخوين. وبلال مؤذّن رسول الله وأبو رويحة الخثعمي أخوين .. فهؤلاء ممن سمّي لنا ممن كان رسول الله آخى بينهم من أصحابه (٢).

ونقل المقريزي في «امتاع الأسماع» عن عبد الرحمن بن الجوزي قال : أحصيت جملة من آخى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهم فكانوا مائة وستة وثمانين رجلا. ويقال : كانوا تسعين رجلا : خمسة وأربعين رجلا من المهاجرين وخمسة وأربعين رجلا من الأنصار. ويقال : خمسين من هؤلاء وخمسين من هؤلاء. ويقال : انه لم يبق من المهاجرين أحد الا آخى بينه وبين أنصاري.

وكانت المؤاخاة بعد مقدمه بخمسة أشهر. وقيل : بثمانية أشهر ، ثم نسخ التوارث بالمؤاخاة بعد بدر (٣).

ونقل ابن شهرآشوب عن تاريخ النسوي أنها كانت بعد ثمانية أشهر (٤).

أمّا ابن اسحاق فانّما سمى ثمانية وثلاثين رجلا : واحد وعشرون رجلا من المهاجرين وسبعة عشر رجلا من الأنصار (لمؤاخاة النبيّ والوصي ، وحمزة وزيد ابن حارثة) ثم قال : «فهؤلاء ممن سمي لنا ممن كان رسول الله آخى بينهم من أصحابه» ولعله سمي له غيرهم ولم يذكرهم.

__________________

(١) وهذا يقتضي أن يكون عقد الاخوة بعد الخندق في الخامسة!

(٢) سيرة ابن هشام ٢ : ١٥١ ـ ١٥٣.

(٣) إمتاع الأسماع للمقزيزي : ٣٤٠ وروى الحديث عن ابن عباس عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعليّ : أنت أخي وصاحبي. كما رواه أحمد في مسنده ١ : ٢٣٠ وابن عبد البر في الاستيعاب ٢ : ٤٦٠ والمتقي الهندي في كنز العمال ٦ : ٣٩١. كما في الغدير ٣ : ١١٦.

(٤) المناقب ١ : ١٥١.


وأمّا ابن حبيب في «المحبر» فقد زاد على من ذكرهم ابن اسحاق ستة وثمانين رجلا ، فالمجموع أربعة وعشرون رجلا من المهاجرين والأنصار ، منهم : الحصين بن الحارث بن المطّلب مع رافع بن عنجدة. والطفيل بن الحارث بن المطّلب مع المنذر بن محمد بن عقبة. وعبيدة بن الحارث بن المطّلب مع عمير بن الحمام السّلمي. وعبيدة هو الشهيد ببدر ، ولذلك قالوا : كانت المؤاخاة قبل بدر ولم يكن بعد بدر مؤاخاة ، كما في «المحبر» (١).

وقد آخى رسول الله بين أصحابه مرّتين : اولاهما في مكة ، آخى بين جماعة منهم قبل الهجرة. وعن هذه المؤاخاة الاولى ذكر ابن حبيب في «المحبر» أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم آخى بين نفسه وعلي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وآخى بين حمزة بن عبد المطلب وبين زيد بن حارثة مولى رسول الله ، وبين أبي بكر وعمر ، وبين عثمان بن عفّان وعبد الرحمن بن عوف ، وبين الزبير بن العوّام وعبد الله بن مسعود ، وبين عبيدة ابن الحارث بن المطّلب وبلال مولى أبي بكر ، وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص ، وبين أبي عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة ، وبين سعيد بن زيد وطلحة بن عبيد الله (٢).

ومن ذكره لمصعب بن عمير يعلم أن ذلك كان قبل ارسال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله له الى المدينة ، أي قبل الهجرة بسنة تقريبا.

وصرّح ابن سيد الناس بأن هذه المؤاخاة كانت قبل الهجرة (٣) كما جاء في

__________________

(١) المحبّر : ٧٠ ـ ٧١.

(٢) المحبّر : ٧٠ ـ ٧١.

(٣) السيرة لابن سيد الناس ١ : ٢٠٠ ـ ٢٠٣ كما في الغدير ٣ : ١١٤ وقد ذكر الأميني في الغدير عددا من مصادر أخبار المؤاخاة بين النبيّ والوصي ٣ : ١١١ ـ ١٢٥ من العامة.


«السيرة الحلبية» أيضا (١) وهو الظاهر من رواية الحاكم الحسكاني النيشابوري في «المستدرك على الصحيحين» (٢).

وقال ابن سعد في «الطبقات» (٣) والسهيلي في «الروض الانف» والكازروني في «المنتقى» ما معناه : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا قدم المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار على الحق والمواساة يتوارثون بعد الممات دون ذوي الأرحام ، فلمّا كانت وقعة بدر أنزل الله تعالى في سورة الأنفال : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) (٤) نسخت هذه الآية ما كان قبلها ، ورجع كل إنسان إلى نسبه وورثه ذو رحمه.

وقال السهيلي : فلما عزّ الإسلام واجتمع الشمل وذهبت الوحشة أنزل الله سبحانه : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) أي في الميراث. ثم جعل المؤمنين كلهم اخوة فقال : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (٥) يعني في التودّد وشمول الدعوة.

وهذا يعني أنّ عقد المؤاخاة كان قبل نزول هذه الآية ، وهذه الآية عمّمت الأخوّة.

__________________

ـ والمجلسي في بحار الأنوار ٣٨ : ٣٣٠ ـ ٣٤٧ عن العامة والخاصة. وذكر ابن عساكر عشرين خبرا بأسنادها في ذلك من الخبر ١٤١ إلى ١٦١ وأضاف المحقّق المحمودي مصادر اخرى للأخبار من صفحة ١١٧ إلى ١٣٢ من القسم الأوّل من ترجمة الإمام علي عليه‌السلام من تأريخ دمشق لابن عساكر.

(١) السيرة الحلبية ٢ : ٢٣ و ١٠٢.

(٢) مستدرك الحاكم ٣ : ٤.

(٣) الطبقات ١ : ٢٤٢.

(٤) الانفال : ٧٥.

(٥) الحجرات : ١٠.


أول سريّة بالمدينة :

روى الواقدي : أن عير قريش جاءت من الشام تريد مكة في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من مهاجرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفيها أبو جهل (بن هشام) في ثلاثمائة راكب من أهل مكة. فعقد رسول الله لواء (أبيض) لحمزة بن عبد المطّلب ، وكان أول لواء عقده بعد أن قدم المدينة (وكان يحمله ابو مرثد الغنوي) (١) ، بعثه في ثلاثين راكبا خمسة عشر من المهاجرين وخمسة عشر من الأنصار ، يعترضون لعير قريش.

فبلغوا سيف البحر والتقوا هناك واصطفّوا للقتال. وكان مجديّ بن عمرو حليفا (؟) للفريقين فلم يزل يمشي الى هؤلاء وإلى هؤلاء حتى انصرف القوم وانصرف حمزة راجعا الى المدينة في أصحابه.

ثم روى الواقدي : أن رسول الله لم يبعث أحدا من الأنصار حتى كانت بدر. ثم قال : وهو المثبت (٢).

وقال ابن اسحاق : بعثه الى سيف البحر من ناحية العيص ، في ثلاثين راكبا من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد. فلقي أبا جهل بن هشام بذلك الساحل في ثلاثمائة راكب من أهل مكة ، وكان مجديّ بن عمرو الجهنيّ موادعا للفريقين فحجز بينهم (٣) ولم يقل أنه كان محالفا ، ولعلّه هو الصحيح ، إذ لم نعهد لهم حلفا. وكذلك في رواية الطبري عن الواقدي ليس فيها انه كان حليفا لهم.

__________________

(١) الطبري ٢ : ٤٠٢ عن الواقدي ، وليس في المغازي. وقال عنه اليعقوبي : كان حليفه ٢ : ٧٠.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٩ ، ١٠.

(٣) سيرة ابن هشام ٢ : ٢٤٥ واليعقوبي ٢ : ٦٩ وأشار إليه في ٢ : ٤٤. والتنبيه والاشراف : ٢٠٠ والطبرسي في إعلام الورى بلا اسناد ١ : ١٦٢.


سريّة عبيدة بن الحارث :

روى الواقدي قال : ثمّ عقد لواء لعبيدة بن الحارث ، في شوّال على رأس ثمانية أشهر ، إلى رابغ ـ ورابغ على عشرة أميال من الجحفة إلى قديد ـ فخرج عبيدة في ستّين راكبا كلّهم من قريش (من المهاجرين ليس فيهم أنصاري) فلقي أبا سفيان بن حرب على ماء يقال له أحياء من بطن رابغ ، وأبو سفيان يومئذ في مائتين .. لم يسلّوا السيوف ولم يصطفّوا للقتال .. وتقدم سعد بن أبي وقّاص أمام أصحابه ونثر كنانته (ليرميهم) وترّس أصحابه عنه ، فرمى بما في كنانته حتى أفناها ، وكان فيها عشرون سهما ، وليس منها سهم إلّا يقع فيجرح إنسانا أو دابّة (ومع ذلك فإنّهم) لم يسلّوا السيوف ولم يصطفّوا للقتال ، بل انصرفوا ... فقال سعد لعبيدة : لو اتبعناهم لأصبناهم فإنّهم قد ولّوا مرعوبين. فلم يتابعه عبيدة على ذلك ، بل انصرفوا إلى المدينة (١).

وقال ابن اسحاق : وبعث رسول الله عبيدة بن الحارث بن المطّلب بن عبد مناف في ستّين راكبا من المهاجرين .. حتّى بلغ ماء بالحجاز بأسفل ثنيّة المرّة ... ورمى سعد بن أبي وقّاص بسهم ، وهو أوّل سهم رمي به في الإسلام ثم انصرف القوم عن القوم ولم يكن بينهم قتال (٢).

وكان المقداد بن عمرو حليف بني زهرة ، وعتبة بن غزوان المازني حليف بني نوفل مسلمين (بمكّة) فخرجا معهم ليتوصّلوا بهم إلى المسلمين ، ففرّوا منهم إليهم.

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ١٠ ، ١١ بتصرّف وكذلك في رواية الطبري عنه ٢ : ٤٠٢. والتنبيه والإشراف : ٢٠١.

(٢) ونقله الطبرسي في إعلام الورى ١ : ١٦٢ بلا إسناد.


وبعض الناس يقول : كانت راية حمزة أول راية عقدها رسول الله لأحد من المسلمين ، ولكنّ بعثه وبعث عبيدة كانا معا فشبّه ذلك على الناس (١).

بيت سودة ثم عائشة :

مرّ عن السمهودي عن الذهبي : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله بنى بيت سودة أوّلا .. ثم لما احتاج الى منزل عائشة بناه ، وهكذا سائر بيوته بناها في أوقات مختلفة (٢).

والآن نذكر أن دخوله بعائشة كان في شهر شوال الثامن من هجرته ، وعليه فيبدو أنّ إرساله لأبي رافع القبطي وزيد بن حارثة الشيباني من المدينة الى مكة ليحملا إليه أهله سودة بنت زمعة بن قيس كان قبل دخوله بعائشة في المدينة.

ورجع عبد الله بن اريقط من المدينة الى مكة فأخبر عبد الله بن أبي بكر بمكان أبيه بالسنح من المدينة ، فخرج عبد الله بعيال أبيه إليه وفيهم عائشة ومعهم طلحة بن عبيد الله التيمي (٣).

قالت عائشة : وكان أبو بكر قد نزل في بني الحارث بن الخزرج بالسنح ، فقدمنا المدينة عليه.

وجاء رسول الله فدخل بيتنا فاجتمع إليه رجال ـ من الأنصار ـ ونساء. وكنت أنا في أرجوحة بين عذقين يرجّح بي ، فجاءتني أمّي فأنزلتني ، ومسحت وجهي بشيء من ماء ، ووفّت جمّتي (شعري).

وكان رسول الله جالسا على سرير في بيتنا ، فقادتني أمّي حتى وقفت بي عند باب البيت ، ثم أدخلتني فأجلستني ... وقالت له : هؤلاء أهلك ، فبارك الله لك

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ٢٤١ ، ٢٤٢ بتصرف. واليعقوبي ٢ : ٦٩ نقل نص ابن اسحاق.

(٢) وفاء الوفاء ٢ : ٤٦٢.

(٣) الطبري ٢ : ٤٠٠ والمنتقى وعنه في بحار الأنوار ١٩ : ١٢٩.


فيهن وبارك لهنّ فيك. ووثب القوم والنساء فخرجوا ، فبنى بي رسول الله في بيتي ، وأنا يومئذ ابنة تسع سنين! ولا نحرت لي جزور ولا ذبحت عليّ شاة ، حتى ارسل إلينا سعد بن عبادة بجفنة كان يرسل بها الى رسول الله (١).

ثم روى الطبري عن الكلبي : أن رسول الله تزوّج عائشة قبل الهجرة بثلاث سنين ، وهي ابنة سبع سنين ، وجمع إليها بعد أن هاجر الى المدينة وهي ابنة تسع سنين ، في شوال (٢).

سريّة الخرّار :

قال الواقدي : في ذي القعدة على رأس تسعة أشهر من مهاجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال رسول الله لسعد بن أبي وقاص : اخرج يا سعد حتى تبلغ الخرّار ، فان عيرا لقريش ستمرّ به. والخرّار من الجحفة قريب من خم (٣) وعقد له لواء أبيض كان يحمله المقداد بن عمرو (٤) وعهد إليه أن لا يجاوز الخرّار.

فخرج في أحد وعشرين رجلا (مهاجرا) على أقدامهم ، يكمنون النهار ويسيرون بالليل ، فبلغوا الخرّار صباح الليلة الخامسة ، فكان العير قد فاتهم فلم

__________________

(١) الطبري ٣ : ١٦٣.

(٢) الطبري ٣ : ١٦٤ و ٢ : ٤٠٠ بالرواية عن عائشة ، وقريبا منه في اعلام الورى ١ : ٢٧٦ والتنبيه والاشراف : ٢٠١ ومروج الذهب ٢ : ٢٨٨ ولكنه أضاف : «وكان وفاتها سنة ثمان وخمسين وقد قاربت السبعين» فيكون عمرها في زواجها اثنتي عشرة سنة لا تسعة. ومن الطبيعي أن تصغّر المرأة عمرها!.

(٣) مغازي الواقدي ١ : ١١.

(٤) الطبري ٢ : ٤٠٣ عن الواقدي وليس في المغازي.


يدركوه فرجعوا (١). وهذه هي السرية الثالثة والأخيرة في ثلاثة أشهر : رمضان وشوال وذي القعدة وقعدوا عن الخروج للحرب في الأشهر الحرم : ذي الحجة ومحرم ، ويعود الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله الى القتال في شهر صفر من السنة الثانية.

ولكن رواية الواقدي هذه تقول : إن السرية هذه كانت في ذي القعدة الحرام ، والآية : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ)(٢) وان كانت قد نزلت بعد هذا ، ولكن ليس لسانها لسان ابتداء التشريع والتحريم ، والواقدي نفسه يقول في الآية : فحدثهم الله أن القتال في الشهر الحرام كما كان ... وحرّم الشهر الحرام كما كان يحرّمه (٣).

وعليه فالأولى رواية ابن اسحاق اذ تجعل الخرّار في جمادى الاولى من السنة الثانية (٤).

موقف اليهود وأحبارهم :

قال ابن اسحاق : إن اليهود في المدينة لمّا رأوا أن الله اختار رسوله من العرب دونهم حسدوه فكذّبوه وجحدوه وعادوه.

وكان أحبارهم : من بني النضير : حييّ بن أخطب ، وأخواه : جدي ابن أخطب ، وابو ياسر بن أخطب. وسلام بن أبي الحقيق وأبنا أخيه الربيع بن أبي

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ١١.

(٢) البقرة : ٢١٧.

(٣) مغازي الواقدي ١ : ١٨.

(٤) سيرة ابن هشام ٢ : ٢٥١.


الحقيق : الربيع بن الربيع وكنانة بن الربيع. وكعب بن الأشرف الطائي النبهاني حليف بني النضير وأمه منهم ، وحليفاه : الحجّاج بن عمرو وكردم بن قيس. وسلام بن مشكم ، وعمرو بن جحّاش.

ومن بني قريظة : الزبير بن باطا بن وهب ، وعزّال بن شموئيل ، وكعب بن أسد ، وشموئيل بن زيد ، والنحّام بن زيد ، ووهب بن زيد وعديّ بن زيد ، وجبل ابن عمرو بن سكينة ، وقردم بن كعب وكردم بن زيد ، وأبو نافع ، ونافع بن أبي نافع ، والحارث بن عوف ، واسامة بن حبيب ، ورافع بن رميلة ، وجبل بن أبي قشير ، ووهب بن يهوذا.

ومن يهود بني قينقاع : زيد بن اللصيت ، وسعد بن حنيف ، ومحمود بن سيحان ، وعزيز بن أبي عزيز ، وعبد الله بن صيف ومالك وبني صيف ، وسويد بن الحارث ، ورفاعة بن قيس ، وفنحاص ، وأشيع ، ونعمان بني أضا ، وبحريّ بن عمرو ، وشأس بن عدي ، وشأس بن قيس ، وزيد بن الحارث ، ونعمان بن عمرو ، وسكين بن أبي سكين ، وعديّ بن زيد ، ونعمان بن أبي أوفى ، ومحمود بن دحية ، وكعب بن راشد ، وعازر ، ورافع بن أبي رافع ، وخالد ، وأزار بن أزار ، ورافع بن حارثة ، ورافع بن حريملة ، ورافع بن خارجة ، ومالك بن عوف ، ورفاعة بن زيد.

وكان حبرهم الأعلم الحصين بن سلام ، وهو الذي أسلم فسماه رسول الله : عبد الله (١).

اليهود من حلف الأوس والخزرج الى عهد المسلمين :

روى الطوسي في «التبيان» وعنه الطبرسي في «مجمع البيان» عن عكرمة

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ١٦٠ ـ ١٦٢.


عن ابن عبّاس قال : إنّ اليهود كانوا فريقين : طائفة منهم بنو قينقاع ، وهم حلفاء الخزرج ، وطائفتا النضير وقريظة ، وهم حلفاء الأوس. فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج ، وخرجت بنو النضير وقريظة مع الأوس ، يظاهر كلّ فريق حلفاءه على إخوانه حتّى يتسافكوا دماءهم بينهم وبأيديهم (١).

هذا وقد استجاب جمهور الخزرج لدعوة الإسلام وتبعهم الأوس ، فلم يبق لحلفهم مع اليهود معنى ..

فلعلّ هذا هو الذي دفعهم إلى ما رواه الطبرسي في «إعلام الورى» عن علي بن إبراهيم القمّي قال :

وجاءه اليهود : قريظة والنضير وقينقاع فقالوا : يا محمّد إلام تدعو؟ قال : شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله الذي تجدونني مكتوبا في التوراة ، والذي أخبركم به علماؤكم : أنّ مخرجي بمكّة ومهاجري بهذه الحرّة (أي المدينة) وأخبركم عالم منكم جاءكم من الشام فقال : تركت الخمر والخمير وجئت إلى البؤس والتمور ، لنبيّ يبعث في هذه الحرّة (أي الحجارة) مخرجه بمكّة ومهاجره هاهنا ، وهو آخر الأنبياء وأفضلهم ، يركب الحمار ، ويلبس الشملة ، ويجتزئ بالكسرة (من الخبز زهدا) وفي عينيه حمرة ، وبين كتفيه خاتم النبوّة. يضع سيفه على عاتقه لا يبالي من لاقى ، وهو الضحوك القتّال ، يبلغ سلطانه منقطع الخفّ والحافر.

__________________

(١) التبيان ١ : ٣٣٦ ومجمع البيان ١ : ٣٠٣ وإليه الإشارة في قوله سبحانه : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) البقرة : ٨٥.


فقالوا له : قد سمعنا ما تقول ، وقد جئناكم لنطلب منكم الهدنة على أن : لا نكون لك ولا عليك ، ولا نعين عليك أحدا ، ولا تتعرّض لنا ولا لأحد من أصحابنا : حتى ننظر الى ما يصير أمرك وأمر قومك.

فأجابهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الى ذلك ، وكتب بينهم كتابا : أن لا يعينوا على رسول الله ولا على أحد من أصحابه بلسان ولا يد ولا بسلاح ولا بكراع ، في السرّ والعلانية ، لا بليل ولا بنهار ، والله بذلك عليهم شهيد. فان فعلوا فرسول الله في حلّ من سفك دمائهم وسبي ذراريهم ونسائهم وأخذ أموالهم.

وكتب لكل قبيلة منهم (قريظة والنضير والقينقاع) كتابا على حدة.

وكان الذي تولى أمر بني النضير حييّ بن أخطب ، فلما رجع الى منزله قال له إخوته ، جديّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب : ما عندك؟ قال : هو الذي نجده في التوراة ، والذي بشر به علماؤنا ، ولا أزال له عدوّا لأن النبوة خرجت من ولد اسحاق وصارت في ولد اسماعيل ، ولا نكون تبعا لولد اسماعيل أبدا! (١).

وكان الذي تولّى أمر قريظة كعب بن أسد.

والذي تولّى أمر بني قينقاع مخيريق ، وكان اكثرهم مالا وحدائق ، فقال لقومه : إن كنتم تعلمون أنه النبيّ المبعوث فهلمّوا نؤمن به ونكون قد ادركنا الكتابين! فلم تجبه قينقاع الى ذلك (٢).

ثم لم يرو الطبرسي ولا غيره من رواتنا نصّ المعاهدة ، نعم روى الكليني في

__________________

(١) مرّ مثله في أخبار أوائل الهجرة في قباء عن ابن اسحاق عن صفية بنت حييّ بن أخطب ، ولعله تكرّر منه ذلك ، وإلّا فمن المستعبد كتابة العهد في قباء.

(٢) إعلام الورى ١ : ١٥٧ ، ١٥٨ عن علي بن إبراهيم بن هاشم القمي ، ولم نجده في تفسيره.


«الكافي» والطوسي في «التهذيب» باسنادهما عن طلحة بن زيد عن الصادق عن أبيه الباقر عليهما‌السلام قال : قرأت في كتاب لعلي عليه‌السلام : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار ومن لحق بهم منهم من أهل يثرب (١) ثم لم يزد على ثلاثة أسطر من العهد الّا قليلا. واكمل النص ابن اسحاق قال : كتب رسول الله كتابا بين المهاجرين والأنصار ، وادع فيه يهود وعاهدهم ، وأقرّهم على دينهم وأموالهم ، وشرط لهم واشترط عليهم :

بسم الله الرّحمن الرّحيم. هذا كتاب من محمد النبيّ بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم : أنهم امة واحدة من دون الناس : المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم (٢) بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاولى ، كل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاولى ، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاولى ، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاولى ، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاولى ، وكل طائفة منهم تفدي

__________________

(١) اصول الكافي ٢ : ٦٦٦ وفروع الكافي ١ : ٣٣٦ والتهذيب ٢ : ٤٧.

(٢) العاني : الأسير.


عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاولى ، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاولى ، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاولى ، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وإنّ المؤمنين لا يتركون مفرحا بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل (١).

وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه.

وإنّ المؤمنين المتّقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو اثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين ، وإن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم (٢).

ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر. ولا ينصر كافرا على مؤمن.

وإنّ ذمّة الله واحدة يجير عليهم أدناهم.

وإنّ المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.

وإنّه من تبعنا من يهود فإنّ له النصر والاسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم.

وإنّ سلم المؤمنين واحدة ، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله

__________________

(١) المفرح ، والمفدح : المثقل بالدين ، والكثير العيال.

(٢) دسيعة ظلم : ظلما عظيما ، أو ما ينال من الظلم.


الّا على سواء وعدل بينهم (١).

«وإنّ كل غازية معنا يعقب بعضها بعضا ، بالمعروف والقسط بين المسلمين.

وإنّه لا تجار حرمة إلّا باذن أهلها.

وإنّ الجار كالنفس غير مضار ولا آثم ، وحرمة الجار على الجار كحرمة أمّه وأبيه» (٢).

وإنّ المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله (٣).

وإنّ المؤمنين المتّقين على أحسن هدي وأقومه.

وإنّه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا ، ولا يحول دونه على مؤمن.

وإنّه من اعتبط مؤمنا قتلا عن بيّنة فانه قود به ، إلّا أن يرضى وليّ المقتول ، وإن المؤمنين عليه كافة ، ولا يحل لهم إلّا قيام عليه (٤).

وإنّه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر : أن ينصر محدثا أو أن يؤويه. وإن من نصره أو آواه فعليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.

وإنّكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإنّ مردّه إلى الله عزوجل وإلى محمد.

وإنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين :

وإنّ يهود بني عوف امة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم :

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ١٤٧ ، ١٤٨.

(٢) هذا المقطع هو ما روي في الكافي والتهذيب ، وقد ذكرها ابن اسحاق متفرقة.

(٣) يبيء ويبوء بمعنى واحد : يرجع ، والمعنى أنهم يتساوون ويتناوبون في الغزو في سبيل الله.

(٤) العبط : الباطل ، اعتبطه : قتله باطلا أي بلا حق.


مواليهم وأنفسهم ، إلّا من ظلم وأثم ، فانه لا يوتغ الّا نفسه وأهل بيته (١).

وإنّ ليهود بني النجّار مثل ما ليهود بني عوف.

وإنّ ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.

وإنّ ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف.

وإنّ ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف.

وإنّ ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف.

وإنّ ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف ، إلّا من ظلم وأثم فانه لا يوتغ الّا نفسه وأهل بيته. وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم. وإن موالي ثعلبة كأنفسهم.

وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف.

وإن بطانة يهود كأنفسهم.

وإنه لا يخرج منهم أحد الّا باذن محمد.

وإنه لا ينحجز عن ثار جرح (٢).

وإنّه من فتك فبنفسه فتك وأهل بيته ، الّا من ظلم.

وإنّ على اليهود نفقتهم ، وعلى المسلمين نفقتهم.

وإنّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.

وإنّ بينهم النصح والنصيحة والبرّ ، دون الإثم.

وإنّه لم يأثم امرؤ بحليفه.

__________________

(١) يوتغ : يهلك.

(٢) أي لا ينحجز جرح عن ثار ، أي لا يترك ثار جرح ، أي لا يترك قصاص جراحة ، أي يؤخذ بالقصاص ولو كان جرحا فضلا عن القتل.


وإنّ النصر للمظلوم.

وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.

وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.

وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.

وإنّه لا تجار حرمة الّا باذن أهلها.

وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فانّ مردّه الى الله عزوجل والى محمد رسول الله ، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبرّه.

وإنّه لا تجار قريش ولا من نصرها.

وإنّ بينهم النصر على من دهم يثرب.

وإذا دعوا الى صلح يصالحونه ويلبسونه ، فانهم يصالحونه ويلبسونه.

وانهم (اليهود) اذا دعوا الى مثل ذلك فانّه لهم على المؤمنين الّا من حارب في الدين. على كل اناس حصّتهم من جانبهم الذي قبلهم.

وإنّ يهود الأوس ـ مواليهم وأنفسهم ـ على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البرّ المحض. من أهل هذه الصحيفة.

لا يكسب كاسب الّا على نفسه.

وإنّ الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبرّه.

وإنّه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم.

وإنّه من خرج (من المدينة) آمن ومن قعد آمن ، الّا من ظلم أو أثم.

وإنّ الله جار لمن برّ واتّقى ، ومحمد رسول الله (١).

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ١٤٧ ـ ١٥٠ ومصادر اخرى ذكرها المحقق الأحمدي في كتابه القيم :


نقل المحقق الأحمديّ هذه المعاهدة في كتابه القيّم «مكاتيب الرسول» ثم علق عليها يقول : إن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان سيد الحكماء قبل أن يكون سيد الأنبياء ، فقد آتاه رشده من قبل أن يؤتيه الكتاب ، وكفى لذلك شاهدا هذه المعاهدة الخالدة الباقية ما بقي الدهر ، قليل لفظها غزير معناها. فعلى القرّاء الكرام التدبّر في شروطها ونتائجها ، فارجعوا النظر وفكروا في تفاصيلها (١).

ونحن نفهم من مفهومها ومنطوقها : أن العرب يومئذ ومنهم الخزرج والأوس واليهود منهم بالمدينة كانوا اذا تحاربوا فأسر بعضهم بعضا ، كانت تجتمع كل طائفة فتفتدي الأسير منها ، واذا تقاتلوا فقتل بعضهم بعضا كانت تجتمع كل طائفة فتؤدي العقل أي دية القتيل الى أهله.

ونفهم أن الأنصار من الأوس كانوا أقل من الخزرج ، وأن الأنصار من الخزرج كانوا على طوائف : بني عوف ، وبني ساعدة ، وبني الحارث ، وبني جشم ، وبني النجّار ـ ومنهم آمنة بنت وهب أم الرسول فهم أخواله ـ وبني عمرو بن عوف ، وبني النبيت ، وبني الأوس.

ونفهم أن الأوس كان منهم يهود ، وأن الخزرج كذلك كان منهم يهود من طوائف : بني النجّار ، وبني عوف ، وبني الحارث ، وبني ساعدة ، وبني جشم وبني ثعلبة ومنهم بنو جفنة ، وبني الشطيبة.

ونفهم أن هذه المعاهدة تركت المهاجرين من قريش على ربعتهم أي

__________________

ـ مكاتيب الرسول ١ : ٢٤١ ومصادر اخرى ذكرها البروفيسور محمد حميد الله مستوفى في كتابه القيم : مجموعة الوثائق السياسية ، ونقلها الأحمدي ١ : ٢٤٢.

(١) مكاتيب الرسول ١ : ٢٦١ و ٢٦٣.


حالتهم التي جاءهم الاسلام وهم عليها من فداء الاسراء وعقل القتلى أي ديتهم ، وكذلك تركت الأنصار من الأوس والخزرج واليهود منهم على ربعتهم أيضا ، لم تغيّر من ذلك شيئا.

ونفهم أن القود أي القصاص كان مقرّرا وأقرّته هذه المعاهدة ، إلّا أن يرضى وليّ المقتول ، إلّا أنّها استثنت قتل المؤمن قصاصا بكافر. وكذلك قررت المعاهدة قصاص الجراحة أيضا.

ونفهم أن البيّنة بمعنى الشهادة البيّنة كانت مفهومه وأقرّتها المعاهدة في القتل. وطبيعيّ بعد هذه المعاهدة أن البيّنة تقام عند النبيّ أو من أقرّه لذلك حاكما أو قل قاضيا ، أو من تراضى به الخصمان فترافعا إليه ، مع سكوت المعاهدة عن ذلك.

ونفهم أن الغزو والقتال في سبيل الله كانا قائمين ، وقررّت المعاهدة أنه اذا غزت جماعة غزوا فعليهم أن يعقب بعضهم بعضا في الغزو على العدل والتساوي ، فلا يسلم جمع من المؤمنين عن القتال في سبيل الله دون جمع آخرين (١).

وأنه يجوز أن يجير مؤمن ـ ولو من أدنى المؤمنين ـ كافرا. ولكن ليس له أن ينصر كافرا ـ ولو ولده ـ على مؤمن ، ولا أن ينصر محدثا ولا أن يؤويه.

أما الكفار المشركون في المدينة ومن حولها من الأعراب فلا يجوز لأحدهم أن يجير نفسا من مشركيّ قريش ولا مالا له ، فيحول دونه أو دون

__________________

(١) هذا هو الظاهر من هذه المعاهدة ، وإلّا فمن المستبعد جدّا أن تتحدث هذه المعاهدة عن ذلك من دون أن يكون قد بديء به والغريب أن ابن اسحاق ـ وتبعه ابن هشام ـ ذكر هذه المعاهدة قبل ذكر السرايا والغزو ، بل يبدو لي أن هذه المعاهدة كانت بعد عقد الاخوة بين المهاجرين أوّلا وبين المهاجرين والأنصار ثانيا ، وهذه في الرتبة الثالثة ، ولذلك جعلتها هنا بعد الاخوّة وبدء السرايا.


ماله على مؤمن (١).

واشترطت المعاهدة على اليهود :

١ ـ أن اذا حارب أحد أهل هذه الصحيفة او دهم يثرب فعلى اليهود النصح والنصر بنفقتهم. على كلّ اناس حصتهم التي من جانبهم.

٢ ـ وأنّه اذا دعي المسلمون الى صلح فدعى المسلمون اليهود إليه كان عليهم أن يستجيبوا لذلك.

٣ ـ وأن لا يجيروا قريشا ولا من نصرها.

٤ ـ وأن لا يجيروا حرمة من غير قريش والمحاربين الّا بإذن أهلها.

٥ ـ وأنهم اذا اختلفوا في شيء فمردّه الى محمد رسول الله.

واشترطت المعاهدة لهم :

١ ـ أنّ من تبعنا من اليهود فان له اسوة بغيره من المسلمين وله النصر على المسلمين بنفقتهم ولا يتناصر عليه.

٢ ـ وأنّ لهم أن يجيروا غير قريش والمحاربين بشرط أن يكون الجوار بإذن أهل الداخل في الجوار.

٣ ـ وأن لهم أن يصالحوا غير قريش والمحاربين ولهم ذلك على المؤمنين.

وتوكيدا للأمن بين المسلمين واليهود حرّم الرسول في المعاهدة جوف يثرب على أهل الصحيفة لصالحهم.

وبذلك أمن المسلمون ـ حسب المعاهدة ـ على أموالهم وذراريهم ودورهم وزروعهم ، من أن يتّحد اليهود مع المشركين عليهم. وبه وجدوا مجالا لقتال

__________________

(١) وهذا يعني انهم كفّار حربيون لا أمان لهم من مثلهم ، إلّا من مؤمن. وهذا يقتضي الاذن في القتال أيضا.


المشركين ولنشر الدين.

وتحريم النبيّ لمدينة «يثرب» إما ضمن هذه المعاهدة أو مستقلا كان مكتوبا في أديم خولاني عند رافع بن خديج جابه به مروان بن الحكم لمّا ذكر حرمة مكة (١). ولا يذكر ابن اسحاق سنده الى المعاهدة ، فلعلّه اكتتبها من رافع بن خديج هذا.

ونلاحظ أن اسم المدينة «يثرب» في هذه المعاهدة على ما كان عليه لم يغيّر ، وهذا يتّفق مع ما سبق عن أبي قتادة الأنصاري وسهل بن سعد الساعدي : أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لما قدم من غزوة تبوك قال : هذه طيبة أسكننيها ربّي (٢) هذا ، وأما بين الاسمين :

يثرب أو المدينة؟

فقد روى ابن اسحاق بسنده عن عروة بن الزبير عن عائشة ـ وهذا يعني أن ذلك كان بعد قدومها المدينة وزواجها بالرسول ـ قالت : قدم رسول الله المدينة وهي أوبأ أرض الله من الحمى ، فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم ، منهم أبي ابو بكر ومولياه : عامر بن فهيرة وبلال ، وكان ذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب ، فدخلت عليهم أعودهم ، فدنوت من أبي فقلت : كيف تجدك يا أبت؟ قال :

كلّ امرئ مصبّح في أهله

والموت أدنى من شراك نعله

فقلت في نفسي : والله ما يدري أبي ما يقول من شدة الوعك وألم المرض.

ثم دنوت من عامر بن فهيرة فقلت له : كيف تجدك يا عامر؟ قال :

__________________

(١) كما في مسند أحمد ٤ : ١٤١.

(٢) تاريخ المدينة لابن شبّة ١ : ١٦٣ ، ١٦٤.


لقد وجدت الموت قبل ذوقه

إنّ الجبان حتفه من فوقه

فقلت في نفسي : والله ما يدري عامر ما يقول. وسمعت بلالا يقول :

ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة

بفخّ وحولي إذخر وجليل؟!

فرجعت وقلت لرسول الله : انهم ليهذون وما يعقلون من شدّة الحمّى ، وذكرت له ما سمعته منهم ، فقال : «اللهم حبّب إلينا المدينة كما حبّبت إلينا مكة أو أشد ، وبارك لنا في مدّها وصاعها ، وانقل وباءها الى مهيعة (١) فصرف الله تعالى ذلك عنهم. وكأنّه استبدل بهذه المناسبة اسمها من يثرب ـ بمعنى المتقطّع أو الموبوء ـ الى المدينة ، تفاؤلا باستبعاد الوباء والحمّى عنها ، كما ابعد عنها اسمها المتضمّن لذلك المعنى المكروه.

رأس المنافقين :

ولعلّ ممن أصابته هذه الحمّى من أصحاب رسول الله من غير المهاجرين سعد بن عبادة ، وقد مرّ خبر عروة عن عائشة أنها عادت أباها ومولييه ولم يرو عنها عيادة النبيّ لهم ، ولكنه روى عن اسامة بن زيد عيادة الرسول لسعد بن عبادة قال : ركب رسول الله الى سعد بن عبادة يعوده من شكوى أصابته ، على حمار مخطوم بخطام من الليف فوقه قطيفة فدكيّة ، فركبه وأردفني خلفه. فمرّ في طريقه الى سعد على عبد الله بن أبيّ ابن سلول وهو في ظلّ وحوله رجال من قومه منهم عبد الله بن رواحة في رجال من المسلمين ، فلما رآه رسول الله كره أن يتجاوزه ولا ينزل إليه. فنزل وجلس قليلا. ثم تلا القرآن ودعا الى الله عزوجل وذكر الله وحذّر وبشر وأنذر ، وابن أبيّ ساكت لا يتكلم ، حتى اذا فرغ

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ٢٣٨ ، ٢٣٩. والمهيعة : الطريق الواسع.


رسول الله من مقالته ، قال : يا هذا إنه لا أحسن من حديثك هذا ـ إن كان حقّا ـ! فاجلس في بيتك! فمن جاءك له فحدّثه ايّاه ، ومن لم ياتك فلا تغشه به ، ولا تأته في مجلسه بما يكره منه!.

فقال عبد الله بن رواحة : بلى فاغشنا به وائتنا في مجالسنا ودورنا وبيوتنا! فهو والله مما نحب ومما اكرمنا الله به وهدانا له! فقال عبد الله بن أبيّ :

متى ما يكن مولاك خصمك لا تزل

تذلّ ويصرعك الذين تصارع

فقام رسول الله حتى دخل على سعد بن عبادة وفي وجهه الغضب.

فقال سعد : والله ـ يا رسول الله ـ إنّي لأرى في وجهك شيئا ، لكأنّك سمعت شيئا تكرهه؟!

قال : أجل. ثم أخبره بما قال ابن أبيّ.

فقال سعد : يا رسول الله أرفق به ، فو الله لقد جاءنا الله بك ، وإنّا لننظم له الخرز لنتوّجه ، فو الله إنّه ليرى أن قد سلبته ملكا (١).

وروى ابن اسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة : أن رسول الله لما قدم المدينة كان عبد الله بن أبيّ بن سلول العوفي لا يختلف عليه في شرفه من قومه اثنان. وإذ كان معه من الأوس رجل مثله شريفا مطاعا في قومه هو أبو حنظلة عبد عمرو بن صيفيّ ، واذ كان هذا مع ابن ابيّ لذلك اجتمعت عليه الأوس والخزرج لم تجتمع على رجل من أحد الفريقين غيره قبله ولا بعده ، فكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوّجوه ثم يملّكوه عليهم.

وبينما هم على ذلك إذ جاءهم الله تعالى برسوله فانصرف قومه عنه الى الاسلام ، فكان يرى أن رسول الله قد استلبه ملكا فضغن عليه ، ولكنّه لما رأى

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ٢٣٦ ، ٢٣٧ بتصرف.


أن قومه دخلوا في الاسلام مصرّين عليه دخل هو فيه كارها مصرّا على الضغن والنفاق.

وأما أبو حنظلة ـ غسيل الملائكة ـ المعروف بأبي عامر فانه لما رأى أن قومه الأوس اجتمعوا على الاسلام ، أتى رسول الله ـ كما حدّث جعفر بن عبد الله ـ فقال له :

ما هذا الدين الذي جئت به؟

قال : جئت بالحنيفية دين ابراهيم.

وكان ابو حنظلة قد ترهّب في الجاهلية ولبس المسوح حتى كان يقال له الراهب فقال : فأنا عليها!

قال رسول الله : انك لست عليها.

قال : بلى! وانك يا محمد قد أدخلت في الحنيفيّة ما ليس منها!

قال رسول الله : ما فعلت ، ولكنّي جئت بها بيضاء نقيّة.

قال : الكاذب منّا أماته الله طريدا غريبا وحيدا ، يعرّض برسول الله.

قال رسول الله : أجل من كذب فعل الله به ذلك.

فقام وانصرف.

ثم خرج من المدينة مع بضعة عشر رجلا من قومه من المدينة الى مكة (١). وقد عدّ ابن اسحاق عددا من منافقي الأوس والخزرج :

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ٢٣٤ ، ٢٣٥ وتمام الخبر : فلما افتتح رسول الله مكة خرج الى الطائف ، فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام ولم يلحقه من جاء معه من قومه ولكن لحقه رجلان من الطائف : كنانة بن عبد ياليل الثقفي وعلقمة بن علاثة بن كلاب ، فمات أبو حنظلة بالشام طريدا غريبا وحيدا عن قومه كما دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.


منافقو الأوس والخزرج :

فمن الأوس : زويّ بن الحارث ، وجلاس بن سويد بن الصامت ، واخوه الحارث بن سويد ، وبجاد بن عثمان ، ونبتل بن الحارث وعبد الله بن نبتل ، وابو حبيبة بن الأزعر ، وثعلبة بن حاطب ، ومعتّب بن قشير ، وعبّاد بن حنيف ـ أخو سهل بن حنيف ـ وعمرو بن خذام ، ويخزج ، وجارية بني عامر ، وابناه زيد ومجمّع ، ووديعة بن ثابت ، وخذام بن خالد ، وبشر ورافع ابنا زيد. ومربع بن قيظي ، واخوه أوس بن قيظي ، وحاطب بن أميّة ، وبشير بن ابيرق ، وحليفه قزمان ، ويتهم معهم الضحاك بن ثابت. خمسة وعشرون رجلا.

ومن الخزرج : رافع بن وديعة ، وزيد بن عمرو ، وعمرو بن قيس وكان صاحب آلهة في الجاهلية ، وقيس بن عمرو بن سهل ، والجدّ بن قيس ، ووديعة ، ومالك بن أبي قوقل ، وسويد ، وداعس ، وهم رهط عبد الله بن أبيّ بن سلول (١) وهؤلاء عشرة ، فهم أقل من الأوس وكان هؤلاء المنافقون يحضرون المسجد فيستمعون أحاديث المسلمين ويسخرون ويستهزءون بدينهم. فاجتمع يوما ناس منهم في المسجد ، ورآهم رسول الله قد لصق بعضهم ببعض يتحدثون بينهم خافضي أصواتهم. فأمر رسول الله من حضره من أصحابه باخراجهم من المسجد إخراجا عنيفا.

وكانوا ستة ، اربعة من بني النجار من الخزرج (رهط النبيّ) هم : عمرو بن قيس ، ورافع بن وديعة ، وزيد بن عمرو ، وقيس بن عمرو بن سهل ، وواحد من

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ١٦٦ ـ ١٧٣ ، وذكر لكثير منهم أحداثهم ، ولكنّها تتعلق بغير هذا الموضع من التاريخ فأجّلناها الى مواضعها في السيرة.


الأوس هو زويّ بن الحارث. وآخر لم يذكر من أيّهم : الحارث بن عمرو (ويرجح أنه من الخزرج).

فأما زويّ بن الحارث ، فقد قام إليه رجل من اخوانه الأوس فأفّف له وقال له : غلب عليك الشيطان وأمره ، وأخرجه من المسجد اخراجا عنيفا.

وأما الحارث بن عمرو فقد قام إليه عبد الله بن الحارث الخزرجي الخدري من رهط أبي سعيد الخدري ، فأخذ بجمة الرجل فسحبه بها سحبا عنيفا حتى أخرجه من المسجد ، وقال له : لا تقربنّ مسجد رسول الله فانك نجس.

وقام الى الأربعة من بني النجّار ثلاثة منهم هم : مسعود بن أوس ، وعمارة ابن حزم ، وخالد بن يزيد أبو أيوب الأنصاري.

فقام أبو أيوب الى عمرو بن قيس ـ وهو صاحب آلهتهم في الجاهلية ـ فأخذ برجله فسحبه حتى أخرجه وهو يقول : أتخرجني ـ يا أبا أيوب ـ من مربد بني ثعلبة!

ثم أقبل ابو أيوب الى رافع بن وديعة فلطم وجهه ثم لبّبه بردائه اجتذبه جذبا شديدا حتى أخرجه من المسجد وهو يقول له : افّ لك منافقا خبيثا ، أدراجك يا منافق من مسجد رسول الله.

وقام عمارة بن حزم الى زيد بن عمرو ، وكانت له لحية طويلة ، فأخذ عمارة بلحية زيد فقاده بها قودا عنيفا حتى أخرجه من المسجد ، ثم جمع يديه فدفعه في صدره دفعة خرّ منها الى الأرض ، وهو يقول له : أبعدك الله يا منافق! فما أعدّ الله لك من العذاب أشدّ من ذلك ، فلا تقربنّ مسجد رسول الله.

وقام أبو محمد مسعود بن أوس الى قيس بن عمرو بن سهل ، وكان غلاما


شابا ، فجعل ابو محمد يدفع في قفاه حتى أخرجه من المسجد (١).

المنافقون من اليهود :

قال ابن اسحاق : وممن أظهر الاسلام وهو منافق من أحبار اليهود من بني قينقاع : سعد بن حنيف ، وزيد بن اللصيت ، ونعمان بن أوفى ، وأخوه عثمان بن أوفى ، ورافع بن حريملة ، ورفاعة بن زيد ، وسلسلة بن برهام ، وكنانة بن صوريا (٢).

نزول سورة البقرة :

قال ابن اسحاق : بلغني أن صدر سورة البقرة الى المائة منها (٣). نزل في هؤلاء المنافقين من أحبار اليهود والأوس والخزرج.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (٤)

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ١٧٥ ، ١٧٦ ويلاحظ أن الرسول بدأ برهطه من قبل أمه من بني النجار واستعان عليهم من قومهم ، وهي حكمة منسجمة مع العرف السائد يومئذ ، بل الى يومنا هذا.

(٢) سيرة ابن هشام ٢ : ١٧٤ ، ١٧٥.

(٣) هي قوله سبحانه : (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وبعدها قوله : (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) مما ظاهره وحدة السياق ، وقد نقل ابن اسحاق ما يقتضي ذلك كذلك أيضا ، بل استمر في سياق الآيات بشأن اليهود الى الآية المائة والسبعين. كما سيأتي ذلك. وروى في «فتح الباري» ٨ : ١٣٠ عن عائشة قالت : نزلت سورة البقرة وأنا عنده.

(٤) البقرة : ٥٨.


يعني المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ* فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي شك (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) شكا. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ* وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) أي إنّما نريد الاصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب!

(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ* وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ* وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) الذين يأمرونهم بتكذيب الحق وخلاف ما جاء به الرسول (قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) على مثل ما أنتم عليه (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) نستهزئ بالقوم ونلعب بهم (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ* أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) اي الكفر بالايمان (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ).

ثم ضرب لهم مثلا فقال تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) اي لما خرجوا من ظلمة الكفر بنور الحق أطفئوه بنفاقهم فيه ، فتركهم الله في ظلمات الكفر فهم لا يبصرون هدى ولا يستقيمون عليه (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) عن الخير فهم لا يصيبون نجاة ولا يرجعون الى خير ما داموا على ما هم عليه (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) أي إنهم بالنظر الى ظلمة ما هم فيه من الكفر ، والحذر من القتل لما هم عليه ، كالذي هو في ظلمة المطر الصيّب يجعل أصابعه في اذنيه من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ)


لشدة ضوء الحق (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) اي كلّما عرفوا الحق تكلّموا به واذا ارتكسوا في الكفر قاموا متحيّرين (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) لما تركوا من الحق بعد معرفته (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

ثم قال للفريقين من الكفار والمنافقين جميعا : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا) أي وحدّوا (رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تضر ولا تنفع وأنتم تعلمون أنه لا ربّ لكم يرزقكم غيره ، وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول من توحيده هو الحق لا شك فيه.

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) أي لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر. ثم رغّبهم وحذّرهم نقض الميثاق الذي أخذ عليهم (اليهود) لنبيّه ، وذكر لهم بدء خلقهم حين خلقهم وشأن أبيهم آدم عليه‌السلام وكيف صنع به حين خالف عن طاعته (١).

ويفهم من سياق الآيات أنّ هناك أسبابا لنزولها.

فمنها : ما يفهم من سياق الآية : ٢٦ : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) : أن

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ١٧٧ ـ ١٨١.


الذين كفروا وجهروا بالكفر أو نافقوا كانوا قد سمعوا الآية ٤١ من سورة العنكبوت المكيّة : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) فقالوا : ما ذا أراد الله من ذكر هذا؟ (١) أو إن الله أجلّ من أن يضرب مثلا (٢) فردّ الله عليهم بهذه الآية من سورة البقرة.

ومنها : أن اليهود كانوا يزعمون جهلا أنهم إذا أقرّوا برسول الله لزمهم الاقرار ، والّا فانّ لهم الانكار ، ولذلك كانوا يتواصون بالانكار وأن لا يتحدثوا الى المسلمين بما فتح الله للمسلمين على اليهود برسول الله بعد أن كانوا هم (اليهود) يستفتحون به على غيرهم من العرب في يثرب. وكأنّهم اذا تحدّثوا الى المسلمين بذلك قامت الحجة عليهم بذلك ، وان لم يتحدثوا إليهم بذلك لم يكن علمهم بذلك حجة عليهم! فردّ الله عليهم بقوله سبحانه : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ* أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ)(٣).

روى الطوسي في «التبيان» عن الباقر عليه‌السلام قال : كان قوم من اليهود ليسوا بالمعاندين المتواطئين اذا لقوا المسلمين حدّثوهم بما في التوراة من صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فنهاهم كبراؤهم عن ذلك وقالوا : لا تخبروهم بما (فتح الله عليكم) في

__________________

(١) التبيان ١ : ١١١ عن قتادة. وأرى أنّ إضافة الذّباب إلى العنكبوت من خطأ الرواة إذ أنّ الذباب في سورة الحج المدنية المتأخرة عن البقرة بكثير.

(٢) التبيان ١ : ١١١ عن ابن عباس وابن مسعود.

(٣) البقرة : ٧٦ و ٧٧ والخبر في سيرة ابن هشام ٢ : ١٨٥ بالمعنى.


التوراة من صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فيحاجوكم به عند ربكم. فنزلت الآية (١).

وروى العيّاشي في تفسيره عن الصادق عليه‌السلام قال : كانت اليهود تجد في كتبها : أن مهاجر محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما بين أحد وعير (جبل بالمدينة) فخرجوا يطلبون الموضع ، فمرّوا بجبل يسمّى حدادا (وحوله فدك وخيبر وتيماء) فقالوا : حداد واحد سواء ، فتفرّقوا عنده فنزل بعضهم بفدك ، وبعضهم بخيبر ، وبعضهم بتيماء (على عشر مراحل من المدينة).

ثم مرّ أعرابي من قيس بالذين كانوا في تيماء فقال لهم : أمرّ بكم ما بين أحد وعير. فاستأجروا منه إبله ، فلما توسّط بهم أرض المدينة قال لهم : ذاك عير وهذا احد. فنزلوا عن ظهر إبله وقالوا له : قد أصبنا بغيتنا فلا حاجة لنا في ابلك ، فاذهب حيث شئت.

ثم كتبوا الى اخوانهم الذين بفدك وخيبر : إنّا قد أصبنا الموضع فهلمّوا إلينا. فكتبوا (جوابا) إليهم : انا قد استقرت بنا الدار ، واتخذنا الأموال ، وما أقربنا منكم ، فاذا كان ذلك فما أسرعنا إليكم.

ولما كثرت أموال هؤلاء بأرض المدينة وبلغ ذلك تبّع الحميري غزاهم ، فتحصّنوا منه ، فحاصرهم ، فكانوا يرقّون لضعفاء أصحاب تبّع فيلقون إليهم بالليل التمر والشعير. فبلغ ذلك تبّع ، فرقّ لهم وأمّنهم ، فنزلوا إليه.

فخلّف فيهم الحيّين : الأوس والخزرج ، فلما كثروا كانوا يتناولون أموال اليهود فكانت اليهود تقول لهم : أما لو بعث محمد لنخرجنّكم من ديارنا وأموالنا (٢).

__________________

(١) التبيان ١ : ٣١٦ ونقله في مجمع البيان ١ : ٢٨٦.

(٢) تفسير العياشي ١ : ٤٩ ، ٥٠.


وروى القمي في تفسيره بسنده عن الصادق عليه‌السلام أيضا قال : كانت اليهود تقول للعرب قبل مجيء النبيّ : أيها العرب ، هذا أوان نبيّ يخرج بمكة وتكون هجرته الى هذه المدينة (يثرب) وهو آخر الأنبياء وأفضلهم ، في عينيه حمرة وبين كتفيه خاتم النبوة ، يلبس الشملة ويجتزئ بالكسرة والتميرة ، ويركب الحمار العاري ، وهو الضحوك القتّال ، يضع سيفه على عاتقه ولا يبالي بمن لاقى ، يبلغ سلطانه منقطع الخفّ والحافر ، وليقتلنّكم الله به يا معشر العرب قتل عاد!.

فلما بعث الله نبيّه بهذه الصفة حسدوه وكفروا به كما قال الله (١).

ومنها : أن اليهود ـ كما مر ـ كانوا فريقين : طائفة منهم بنو قينقاع ، وهم حلفاء الخزرج ، وطائفتا النضير وقريظة وهم حلفاء الأوس. وكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج ، وخرجت بنو النضير وقريظة مع الأوس ، يظاهر كل فريق حلفاءه على إخوانه حتى يتسافكوا دماءهم بينهم وبأيديهم ، فاذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم تصديقا لما في التوراة وأخذا به ، يفتدي بنو قينقاع من كان من أسراهم في أيدي الأوس ، ويفتدي بنو النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج ، ويبطلون ما أصابوا من الدماء وما قتلوا منهم فيما بينهم ، مظاهرة لاهل الشرك عليهم ، فأنبههم الله بذلك فقال : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ* ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٣٣.


وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ* أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)(١).

ثم كرّ القرآن الكريم على استفتاح اليهود على الكفار بالنبيّ المختار فقال :

(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) ... (فَباؤُا بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ)(٢).

وروى الطوسي في «التبيان» : عن ابن عباس قال : كان معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور قد قالا لليهود : اتقوا الله وأسلموا ، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك ـ وتخبرونا بأنه مبعوث. فقال لهما سلام بن مشكم من بني النضير : ما جاء بشيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم ، فانزل الله ذلك (٣).

ومنها : ما في قوله سبحانه : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ) فانّ السياق ـ قال العلامة الطباطبائي ـ : يدل على أن الآية نزلت جوابا عما قالته اليهود ، وأنّهم تأبّوا واستنكفوا عن الايمان بما انزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعلّلوه بأنهم عدوّ لجبريل النازل بالوحي إليه (٤).

__________________

(١) البقرة : ٨٤ ـ ٨٦ والخبر في التبيان ١ : ٣٣٦ ومجمع البيان ١ : ٣٠٣ عن عكرمة عن ابن عباس. وفي سيرة ابن هشام ٢ : ١٨٨.

(٢) البقرة : ٨٩ و ٩٠.

(٣) التبيان ١ : ٣٤٥ ومجمع البيان ١ : ٣١٠ وفي سيرة ابن هشام ٢ : ١٩٦.

(٤) الميزان ١ : ٢٢٩ ، وروى الطوسي في «التبيان» وعنه الطبرسي في «مجمع البيان» عن ابن عباس وفي «الاحتجاج» عن العسكري عليه‌السلام : أن سبب نزول الآية هو أن ابن صوريا


__________________

ـ وجماعة من أهل فدك لما قدم النبيّ الى المدينة قدموا إليه فسألوه فقالوا : كيف نومك؟ فقد اخبرنا عن نوم النبيّ الذي يأتي في آخر الزمان.

فقال : تنام عيناي وقلبي يقظان.

فقالوا : صدقت يا محمد. فأخبرنا عن الولد يكون من الرجل أو من المرأة؟

فقال : أمّا العظام والعصب والعروق فمن الرجل ، وأما اللحم والدم والظفر والشعر فمن المرأة.

قالوا : صدقت يا محمد. فما بال الولد يشبه أعمامه ليس فيه من شبه أخواله شيء ، أو يشبه أخواله ليس فيه من شبه أعمامه شيء؟

فقال : أيّهما علا ماؤه كان الشبه له.

قالوا : صدقت يا محمد. فأخبرنا عن ربك ما هو؟

(قال : قد) أنزل الله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ، اللهُ الصَّمَدُ ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ).

فقال ابن صوريا : خصلة واحدة ان قلتها آمنت بك واتّبعتك : أيّ ملك يأتيك بما ينزل الله لك؟

قال : جبريل.

قالوا : ذلك عدوّنا ينزل بالقتال والشدة والحرب ، وميكائيل ينزل باليسر والرّخاء ، فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك آمنّا بك. فأنزل الله عزوجل هذه الآية.

كما في التبيان ١ : ٣٦٣ وعنه في مجمع البيان ١ : ٣٢٥ عن ابن عباس وفي الاحتجاج ١ : ٤٦ ـ ٤٨ عن العسكري عليه‌السلام. وفيها : فأنزل الله : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ). بينما هي مكية من الأوائل. وفي آخر الخبر : فأنزل الله هذه الآية. بينما مرّ عن ابن اسحاق قوله : بلغني أنّ صدر السورة الى المائة منها نزل في المنافقين. وهذه الآية من قبل المائة ، فالمعنى أن هذه


واختصر الخبر القمي في تفسيره قال : نزلت في اليهود الذين قالوا لرسول الله : إنّ لنا في الملائكة أصدقاء وأعداء.

فقال رسول الله : من صديقكم ومن عدوّكم؟

فقالوا : جبرئيل عدوّنا ، لأنه يأتي بالعذاب ، ولو كان الذي ينزل عليك القرآن ميكائيل لآمنّا بك ، فانّ ميكائيل صديقنا ، وجبرئيل ملك الفضاضة والعذاب ، وميكائيل ملك الرحمة. فأنزل الله الآية (١).

وفي الآية التاسعة والتسعين : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) روى الطوسي في «التبيان» عن ابن عباس قال : ان ابن صوريا القطراني (٢) قال لرسول الله : يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه ، وما أنزل عليك من آية بيّنة فنتّبعك لها. فأنزل الله في ذلك الآية (٣).

وفي الآية المائة : (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) قال ابن اسحاق : لما بعث رسول الله وهاجر وذكر لليهود ما اخذ عليهم من الميثاق وما عهد الله إليهم فيه ، قال مالك بن الضيف : والله ما عهد إلينا في محمد عهد ، وما اخذ له علينا من ميثاق! فأنزل الله فيه الآية (٤).

__________________

ـ الآيات كلها نزلت بعد هذه الحوادث تشير إليها ، لا أنها نزلت واحدة فواحدة.

ونقل قريبا من شأن النزول هذا ابن اسحاق ٢ : ١٩١. ولكن سيأتي في سياق حوادث السنة الرابعة خبر آخر عن الباقر عليه‌السلام بشأن لقاء ابن صوريا ورسول الله قريب من هذا.

(١) تفسير القمي ١ : ٥٤.

(٢) وفي سيرة ابن هشام ٢ : ١٩٦ : ابن صلوبا الفطيراني. واسقط الطبرسي اللقب.

(٣) التبيان ١ : ٣٦٥ ومجمع البيان ١ : ٣٢٧ بحذف اللقب.

(٤) سيرة ابن هشام ٢ : ١٩٦.


ومنها : ما يلوح من قوله سبحانه : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ...)(١).

ولم يعهد عن اليهود أنهم كانوا يكفّرون سليمان. والكفر في الآية حسب سياقها كفر السحر ، كما في الحديث : «الساحر كالكافر» واليهود كانوا ينسبون السحر الى سليمان.

والسبب في ذلك ما رواه القمي في تفسيره بسنده عن الباقر عليه‌السلام قال : لما هلك سليمان بن داود وضع ابليس السحر وكتبه في كتاب ثم طواه وكتب على ظهره : «هذا ما وضع آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم» (وفيه) من أراد كذا وكذا فليفعل كذا وكذا. ثم دفنه تحت السرير ، ثم استثاره لهم فقرءوه. فقال الكافرون : ما كان سليمان يغلبنا الّا بهذا ، وقال المؤمنون : بل هو عبد الله ونبيّه (٢).

فكان اليهود لا يرون السحر كفرا بل حلالا كان يعمل به سليمان بن داود ، وان كانوا يرونه لذلك ملكا ـ كما مرّ في الخبر ـ لا نبيّا رسولا ، بل ينكرون ذلك على من يقول به.

هذا «وقد استعظم الله قدر سليمان في مواضع من كلامه في عدة من السور المكية النازلة قبل هذه السورة : كسورة الأنعام ، والأنبياء ، والنمل ، وص ، وفيها أنه كان عبدا صالحا بل نبيّا مرسلا آتاه الله العلم والحكمة ووهب له من الملك ما لا ينبغي لأحد من بعده ، فلم يكن ساحرا» (٣) ولم يكن قد غلبهم بذلك السحر.

__________________

(١) البقرة : ١٠٢.

(٢) تفسير القمي ١ : ٥٥. ورواه العياشي أيضا ١ : ٥٢.

(٣) الميزان ١ : ٢٣٥.


ولذلك قال بعض أحبار اليهود ـ كما نقله الشيخ الطوسي عن ابن اسحاق ـ ألا تعجبون من محمد يزعم أن سليمان كان نبيّا؟! والله ما كان الّا ساحرا (١) قال : وروي عن الربيع : أن اليهود سألوه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن السحر وخاصموه فيه ، فأنزل الله الآية (٢) فقالت : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) باتّباعه السحر والعمل به (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) باتباعهم السحر وعملهم به (٣).

ومنها : ما يفهم من قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) وكأنّ في كلمة «راعنا» شيء من النقيصة والوقيعة والفساد والسبّاب والشتيمة ، كما روى الطوسي في «التبيان» عن الباقر عليه‌السلام قال : هذه الكلمة سبّ بالعبرانيّة ، وإليه كان (اليهود) يذهبون. وقال المغربي : فبحثت عن ذلك فوجدتهم يقولون : راع رنا ـ بتفخيم النون واشمامها ـ بمعنى الفساد والبلاء. وكان المسلمون يقولون : يا رسول الله راعنا من المراعاة أي راعنا سمعك حتى نفهمك وتفهم عنّا. فلما عوتب اليهود على ذلك قالوا : انا نقول كما يقول المسلمون. فنهى الله المسلمين عن ذلك وقال : قولوا عوضها : انظرنا اي انظر إلينا (٤).

ومنها : ما يفهم من قوله سبحانه : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ

__________________

(١) التبيان ١ : ٣٧١ وفي سيرة ابن هشام ٢ : ١٩٢.

(٢) التبيان ١ : ٣٧٠ ومجمع البيان ١ : ٣٣٦.

(٣) سيرة ابن هشام ٢ : ١٩٢ وبه قال الشيخان الطوسي والطبرسي عن قتادة وابن جبير عن ابن عباس.

(٤) التبيان ١ : ٣٨٩ بتصرف ، كما في مجمع البيان ١ : ٣٤٣ بتصرف.


وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)(١) وحسب السياق السابق كأنّه كان مما اعترض به اليهود على رسول الله نسخ بعض الآيات.

والآية السابقة هي قوله سبحانه : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) وقد روى الطوسي في «التبيان» أنه سبحانه أراد بالخير والرحمة هنا النبوة (٢).

وقد مرّ أن اليهود جحدوا النبوة حسدا عليها أن يؤتيها الله العرب من ولد اسماعيل على خلاف المعهود لديهم أن تكون النبوة في بني اسرائيل ذرية يعقوب ابن اسحاق بن ابراهيم. وعليه فالآيات الثلاث مترابطة تقول : إن الكافرين من أهل الكتاب (اليهود) لا يودّون أن ينزل خير النبوة عليكم (يا بني اسماعيل دون بني اسرائيل) بينما الله يختصّ برحمته ومنها النبوة من يشاء ، وأيّة آية ننسخها (بشأن النبوة في بني اسرائيل) نؤت بخير منها (في بني اسماعيل) إذ له ملك السموات والأرض وهو على كل شيء (من التكوين والتشريع) قدير (٣).

ومنها : ما يفهم من قوله سبحانه : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ)(٤).

وقد روى الطوسي في «التبيان» عن ابن عباس قال : قال رافع بن حريملة

__________________

(١) البقرة : ١٠٦ و ١٠٧.

(٢) التبيان ١ : ٣٩١ ومجمع البيان ١ : ٣٤٤.

(٣) وانظر بحث النسخ في الآية : التبيان ١ : ٣٩٢ ـ ٣٩٦ ومجمع البيان ١ : ٣٤٥ والميزان ١ : ٢٤٩ ـ ٢٥٦.

(٤) البقرة : ١٠٨.


ووهب بن زيد لرسول الله : ائتنا بكتاب تنزّله علينا من السماء نقرأه ، وفجّر لنا أنهارا ، نتّبعك ونصدقك ، فأنزل الله في ذلك الآية (١).

ويؤيّده قوله سبحانه في سورة النساء : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً)(٢).

ومنها : ما يفهم من قوله سبحانه : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٣).

وقد روى الطوسي في «التبيان» عن ابن عباس أنهم حييّ بن اخطب وأبو ياسر بن أخطب (٤) وفي الآية : أنّ الحق قد تبيّن لهم ، ولذلك اكمل الخبر الطبرسي : أنهما حينما قدم النبيّ المدينة دخلا عليه ، فلما خرجا قيل لحييّ : أهو النبيّ؟ قال : هو هو. فقيل له : فما له عندك؟ قال : العداوة الى الموت (٥).

وقد مرّ الخبر عن ابن اسحاق ، وهنا أيضا قال ابن اسحاق بذلك وأضاف : وكانا جاهدين في ردّ الناس عن الاسلام بما استطاعا (٦).

ومنها : ما يفهم من الآيتين من قوله سبحانه : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ

__________________

(١) التبيان ١ : ٤٠٢ ومجمع البيان ١ : ٣٥١ وفي سيرة ابن هشام ٢ : ١٩٧.

(٢) النساء : ١٥٣. والغريب أن الميزان الذي اختاره الطباطبائي لتفسير القرآن بالقرآن لم يطبّقه هنا بل قال : إن سياق الآية تدل على أن بعض المسلمين سألوه. الميزان ١ : ٢٥٩.

(٣) البقرة : ١٠٩.

(٤) التبيان ١ : ٤٠٥.

(٥) مجمع البيان ١ : ٣٥٣.

(٦) سيرة ابن هشام ٢ : ١٩٧.


لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ* وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ)(١).

هاتان الآيتان الرابعة عشرة والخامسة عشرة بعد المائة من سورة البقرة ، وآيات تحويل القبلة هي الآيات التسعة من ١٤٢ الى ١٥٠ ، فبين هذه الآية هنا وتلك الآيات خمس وعشرون آية في معاني اخرى.

وعليه : فمن المستبعد أن تكون هذه الآية ردّا على اليهود لما انكروا تحويل القبلة الى الكعبة ، كما رواه الطوسي في «التبيان» عن ابن عباس (٢).

وأبعد منه ما نقله عن قتادة وابن زيد : أنه كان للمسلمين التوجه بوجوههم في الصلاة الى حيث شاءوا ، ثم نسخ ذلك بقوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)(٣) وانما كان النبيّ اختار التوجه الى بيت المقدس (٤) بينما الله يقول : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها)(٥).

بل الأوجه ما ذكره الطوسي أيضا : أنها نزلت في قوم صلّوا في ظلمة وقد خفيت عليهم جهة القبلة ، فلما أصبحوا اذا هم صلّوا الى غير القبلة (٦) ورواه الطبرسيّ عن جابر قال : بعث رسول الله سريّة كنت فيها فأصابتنا ظلمة فلم نعرف القبلة ، فقالت طائفة منا : قد عرفنا القبلة هي هاهنا ، قبل الشمال ، فصلّوا. وقال بعضنا : بل القبلة هاهنا ، قبل الجنوب ، فلما أصبحوا وطلعت الشمس

__________________

(١) البقرة : ١١٤ ، ١١٥.

(٢) التبيان ١ : ٤٢٥ ومجمع البيان ١ : ٣٦٣.

(٣) البقرة : ١٤٤ و ١٥٠.

(٤) التبيان ١ : ٤٢٥ ومجمع البيان ١ : ٣٦٣.

(٥) البقرة : ١٤٣ وكذلك استدل بها الطوسي على نفي الاختيار ٢ : ٥.

(٦) التبيان ١ : ٤٢٤.


أصبحت الخطوط لغير القبلة. فلما قفلنا من سفرنا سألنا النبيّ عن ذلك فسكت ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (١) فلعلّها كانت في بعض السرايا السابقة ـ قبل تحويل القبلة من بيت المقدس في الشام ـ في مشرق المدينة الى الكعبة في جنوبها ، كما يأتي تفصيله.

ولو كانت الآية ـ كما روى الطوسي عن ابن عباس ـ ردّا على اليهود ، فليس لانكارهم تحويل القبلة الى الكعبة ، بل لانكارهم تحويل القبلة من الكعبة في بدء البعثة الى بيت المقدس في الشام بعد ذلك. والجواب (لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) يتكرّر عند تحويل القبلة الى الكعبة : (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ)(٢) ولكنّه يصلح في المقامين ، فكأنه كان هناك فاصل زمنيّ بين اعتراض اليهود على ذلك وبين تحويل القبلة.

وكأن الآية السابقة تقول : إنما منع مشركو مكة رسول الله من أن يذكر الله بالصلاة الى الكعبة في المسجد الحرام لاحتجاجهم على الرسول أنه يصلي الى الأصنام المنصوبة في الكعبة وحولها وعليها ، وانما كان ذلك ظلما منهم ، فهل أنتم اليهود تريدون أن تفعلوا مثل ذلك فتصدّوا رسول الله عن الصلاة الى بيت المقدس؟! ولما فعل مشركو مكة ذلك اذن ما يكون لهم أن يتوجّهوا للدخول الى المسجد الحرام في مكة الّا خائفين بفعل السرايا المرسلة على قوافلهم التجارية في طريقهم الى مكة. والطريف أن السرايا انما كانت تخوّفهم حين توجّههم للدخول الى مكة ، لا حين خروجهم منها الى الشام. فالآية على هذا تضمّنت امضاء بعث السرايا ، قبل نزول قوله سبحانه : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ...)(٣)

__________________

(١) مجمع البيان ١ : ٣٦٣.

(٢) البقرة : ١٤٢.

(٣) الحج : ٣٩.


من سورة الحج المتأخرة النزول بغير قليل.

ومنها : ما يفهم من قوله سبحانه : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(١).

وقال ابن اسحاق : قال رافع بن حريملة لرسول الله : يا محمد ، إن كنت رسولا من الله ـ كما تقول ـ فقل لله فليكلّمنا حتى نسمع كلامه ، فأنزل الله تعالى في ذلك الآية (٢).

وقد نقل الطوسي عن ابن عباس أن المعنيّ بهذه الآية هم اليهود (٣) وقد سبق قوله سبحانه : (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ)(٤).

ونقل الطوسي هناك عن ابن عباس أيضا : أنهم الذين اختارهم موسى من قومه ، فسمعوا كلام الله فلم يمتثلوا أمره ، وحرّفوا القول في إخبارهم لقومهم حين رجعوا إليهم (٥).

وعليه فالذين لا يعلمون والذين من قبلهم من اليهود تشابهت قلوبهم وعقولهم في الجهل.

ومنها : ما يفهم من قوله سبحانه : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا

__________________

(١) البقرة : ١١٨.

(٢) سيرة ابن هشام ٢ : ١٩٨.

(٣) التبيان ١ : ٤٣٤ ومجمع البيان ١ : ٣٧٠.

(٤) البقرة : ٧٥.

(٥) التبيان ١ : ٣١٣ ومجمع البيان ١ : ٢٨٥.


قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ* فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ* قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ* أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ* تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ)(١).

وروى الطوسيّ في «التبيان» عن ابن عباس أنه قال : قال عبد الله بن صوريا الأعور لرسول الله : ما الهدى الّا ما نحن عليه ، فاتّبعنا يا محمد تهتد (٢) وروى ابن اسحاق مثله وقال : فأنزل الله تعالى في ذلك : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً) الى قوله سبحانه : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ)(٣).

وعن الطوسي عن ابن عباس نقله الطبرسي في «مجمع البيان» ولكنّه أضاف الى ابن صوريا : كعب بن الأشرف ، ومالك بن الضيف ، وجماعة من اليهود (٤) وقد

__________________

(١) البقرة : ١٣٥ ـ ١٤١.

(٢) التبيان ١ : ٤٧٩.

(٣) سيرة ابن هشام ٢ : ١٩٨.

(٤) مجمع البيان ١ : ٤٠٢.


عطف هؤلاء النصارى على اليهود في هذا القول من دون أن يسمّوا أحدا منهم ، ولا أظنّه الّا مجاراة لعطف الآية النصارى على اليهود. بينما يكفي لعطف النصارى في الآية أن يكونوا يقولون بمثل ما قال اليهود ، ولا ضرورة لوقوع القول هذا منهم مع اليهود. وأضافهم الطبرسي الى نجران ، ولم يعهد ورود منهم الى المدينة للمناقشة سوى المباهلة وهي متأخرة عن أوائل الهجرة بغير قليل.

وأضاف الطوسي في «التبيان» عن ابن عباس لمناسبة تسمية الأنبياء قال : إنّ نفرا من اليهود (ولعلهم الذين سمّاهم الطبرسي) أتوا رسول الله فسألوه عمّن يؤمن به من الرسل. فقال : أؤمن بالله وما انزل إلينا وما انزل الى ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والأسباط ، وما اوتي موسى وعيسى. فلما ذكر عيسى قالوا : لا نؤمن بعيسى ، ولا نؤمن بمن آمن به! فأنزل الله فيهم الآيات (١).

ولعلّ ابن صوريّا هنا قال كلمته تلك ، فالظاهر اتحاد القصتين لا تعدّدهما.

وستأتي بقية آيات البقرة ضمن حوادث السنة الثانية للهجرة : ١٦٥.

* * *

__________________

(١) التبيان ١ : ٤٨١.



أهم حوادث

السنة الثانية للهجرة



أولى الغزوات غزوة الأبواء (١) :

لا تختلف رواية الواقدي ومن قبله رواية ابن اسحاق في أن غزوة الأبواء هي أول غزوة غزاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه ، الّا أن ابن اسحاق قال : قدم رسول الله المدينة لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول ... فأقام بها بقية شهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر ، والجماديين ، ورجبا وشعبان ، وشهر رمضان ، وشوّالا ، وذا القعدة وذا الحجة والمحرم.

ثم خرج غازيا في صفر على رأس اثني عشر شهرا من مقدمه المدينة ، حتى بلغ ودّان ـ وهي غزوة الأبواء ـ يريد قريشا (٢).

وقال الواقدي : ثم غزا رسول الله في صفر على رأس أحد عشر

__________________

(١) الأبواء : من قرى المدينة بعد الجحفة بثلاث وعشرين ميلا ـ ٤٦ كم ـ معجم البلدان ١ : ٩٢.

(٢) سيرة ابن هشام ٢ : ٢٤١.


شهرا (١) حتى بلغ الأبواء ، يعترض لعير قريش ، فلم يلق كيدا (ولم يذكر ودّان) (٢).

ولاقى بني ضمرة من كنانة ، فوادعه سيدهم مخشيّ بن عمرو الضمري (٣) فكاتبهم على أن لا يعينوا عليه أحدا ولا يكثروا عليه (فكان ثاني عهد بعد عهد اليهود) ثم رجع ، فكانت غيبته عن المدينة خمس عشرة ليلة (٤) وكان معه في هذه الغزوة علي عليه‌السلام (٥) فلعله هو الذي كتب كتاب العهد.

فأقام في المدينة بقية صفر وصدرا من شهر ربيع الأول (٦).

زواج علي بالزهراء عليهما‌السلام (العقد):

واختلفوا في زواج الزهراء بعلي عليهما‌السلام ، وأقدم مؤرخ تقدم في زواجها بتاريخ أسبق من غيره هو اليعقوبي قال : زوّجها رسول الله من علي بعد قدومه بشهرين ، وقد كان جماعة من المهاجرين خطبوها الى رسول الله ، فلما زوّجها عليا قالوا في ذلك ، فقال رسول الله : ما أنا زوّجته ولكنّ الله زوّجه (٧).

وروى الكليني في «روضة الكافي» بسنده عن سعيد بن المسيّب في حديث الهجرة قال سعيد : فقلت لعلي بن الحسين : فمتى زوّج رسول الله فاطمة من

__________________

(١) وانما يختلف الواقدي عن ابن اسحاق في عد بقية ربيع الأول ، فالأول لا يدخلها في الحساب والثاني يعدّها شهرا.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ١٢.

(٣) سيرة ابن هشام ٢ : ٢٤١.

(٤) مغازي الواقدي ١ : ١٢.

(٥) الارشاد ١ : ٧٩ برواية البختري القرشي.

(٦) سيرة ابن هشام ٢ : ٢٤١.

(٧) اليعقوبي ٢ : ٤١.


علي عليهما‌السلام؟ قال : بالمدينة بعد الهجرة بسنة ، وكان لها يومئذ تسع سنين (١).

وينسجم هذا مع ما رواه الطبري عن الواقدي بسنده عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : تزوّج علي بن أبي طالب عليه‌السلام فاطمة لليال بقين من شهر صفر من السنة الثانية (٢).

واكمله في موضع آخر وبنفس السند قال : وبنى بفاطمة عليها‌السلام في ذي الحجة على رأس اثنين وعشرين شهرا (٣).

وبالسند والنص (الا : لليال بقين من) رواه الدولابي في «الذرية الطاهرة» عن الصادق عليه‌السلام (٤).

وبمعناه قال المسعودي : كان تزويج فاطمة بعلي عليهما‌السلام بعد سنة مضت من الهجرة وقيل أقل من ذلك (٥) ثم عين الأقل فقال : وفي شهر صفر من السنة الثانية تزوّج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بفاطمة (٦) وفي آخر هذه السنة ـ سنة اثنتين من الهجرة ـ كان دخول علي بن أبي طالب بفاطمة (٧) ثم عين الشهر فقال : في شهر ذي الحجة بنى عليّ بفاطمة عليهما‌السلام (٨) من دون ان يسند ذلك الى قول الصادق أو الباقر عليهما‌السلام.

__________________

(١) روضة الكافي : ١٨٠.

(٢) الطبري ٢ : ٤١٠.

(٣) الطبري ٢ : ٤٨٥.

(٤) الذرية الطاهرة : ٩٣ وعنه في كشف الغمة ١ : ٣٦٤ وبتصحيف صفر الى رمضان! وعنه في بحار الأنوار ٤٣ : ٩٢ وبمعناه عن المنتقى في بحار الأنوار ١٩ : ١٩٢.

(٥) مروج الذهب ٢ : ٢٨٢.

(٦) التنبيه والاشراف : ٢٠٢.

(٧) مروج الذهب ٢ : ٢٨٨.

(٨) التنبيه والاشراف : ٢٠٧. وعن اليوم قال المفيد في «مسار الشيعة» كان ذلك : في أوّل يوم منه : ٥٣ ط. قم ، والطوسي في المصباح ، كما في البحار ٤٣ : ٩٢.


وبمعناه الاصفهاني في «مقاتل الطالبيين» عن الواقدي بسنده عن الباقر عليه‌السلام قال : كان تزويج علي بن أبي طالب بفاطمة في صفر بعد مقدم رسول الله المدينة ، وبنى بها بعد رجوعه من غزوة بدر (١) وهذا صريح في أمر شهر صفر أنه الأول بعد الهجرة.

ويلاحظ أن الاصبهاني يطابق الطبري في الاسناد عن الواقدي الى الباقر عليه‌السلام بواسطتين هما : أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة ، عن اسحاق بن عبد الله بن أبي فروة ، فالطبري يقول : عن أبي جعفر. ويكمل الاصبهاني : عن أبي جعفر محمد بن علي.

وينفرد عنهما الدولابي بنفس سند الواقدي الا أنه عن : جعفر بن محمد. وتتفق الروايات الثلاثة في تاريخ الزواج في شهر صفر بعد الهجرة ، وينفرد الطبري بقوله : لليال بقين من صفر. بقوله : «وبنى بها في ذي الحجة على رأس اثنين وعشرين شهرا» أي بعد قدومه من بدر بشهرين.

ويتوجه هذا أن يكون هو الصحيح من عبارة اليعقوبي «بعد قدومه بشهرين» فلعله سقط منه «منه بدر» (٢).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٠ وأضاف : ولها يومئذ ثماني عشرة سنة!. وفي بحار الأنوار ٤٣ : ٩٢ نقل المجلسي عن الاقبال عن حدائق الرياض للمفيد قال : في ليلة الخميس الحادي والعشرين من المحرم سنة ثلاث من الهجرة كان زفاف فاطمة! ولم يسنده الى رواية.

(٢) أما ما انفرد به محمد بن سعد كاتب الواقدي عنه في «الطبقات» وعنه السبط في «التذكرة» عن الباقر عليه‌السلام أيضا قال «تزوج عليّ فاطمة في رجب بعد الهجرة بخمسة أشهر وبنى بها بعد مرجعه من بدر» فهو مما انفرد به مخالفا لما رووه قويا عن الواقدي نفسه عن الباقر عليه‌السلام ، وموافقا للعامة ولا سيما في ذيله : «وفاطمة يومئذ بنت ثمان عشرة سنة» فهو مردود عليه.


إذن ، فالراجح أن نبني في تاريخ الزواج على تحديد الطبري : لليال بقين من صفر. وفي تاريخ الزفاف على تحديد الدولابي ، باضافة تحديد اليوم من «مصباح المتهجّد» قال : في أول يوم من ذي الحجة زوّج رسول الله فاطمة من أمير المؤمنين عليهما‌السلام (١).

وعليه فالفاصل الزمني بين الأمرين كان عشرة أشهر تقريبا ، ولعل الاسراع بالعقد عليها كان ليقول الرسول كلمة الفصل في الاجابة على الخطوبات الملحّة لها ، وعدم الاسراع في زفافها كان نظرا لصغرها ريثما تتعدى طور الصّبا وتكبر عنه شيئا ما فتبلغ مبالغ النساء جسدا ، وان كانت هي سيدتهنّ عقلا ونبلا ، وحكمة ودراية بالامور ، بل هي معصومة عن الرجس والشرور ، وعن التقصير والقصور.

واذا كان التاريخ قد ذكر مكث علي عليه‌السلام بمكة لأداء الأمانات لدى رسول الله الى أهلها ثم حمل الفواطم الى المدينة ، فانا لا نجد فيه عن منزل هؤلاء الفواطم شيئا يذكر ، فهل نزلن أو بعضهن ولا سيما فاطمة ابنة الرسول ثم اختها أمّ كلثوم على ابيهما في منزل أبي أيوب؟ أم ما ذا؟

وروى الطبرسي في «إعلام الورى» عن علي بن ابراهيم القمي قال : وكان رسول الله حيث بنى منازله كانت فاطمة عليها‌السلام عنده ، فخطبها أبو بكر ، فقال له رسول الله : أنتظر أمر الله عزوجل ، ثم خطبها عمر فقال له مثل ذلك. فقالوا لعلي : لم لا تخطب فاطمة؟ قال : والله ما عندي شيء. فقيل له : إن رسول الله لا يسألك شيئا.

فجاء الى رسول الله فاستحيا أن يسأله ، فرجع.

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٣ : ٩٢.


ثم جاءه في اليوم الثاني فاستحيا ، فرجع.

ثم جاءه في اليوم الثالث. فقال له رسول الله : يا علي ، ألك حاجة؟ قال :

نعم يا رسول الله قال : لعلك جئت خاطبا؟

قال : نعم ، يا رسول الله.

قال : فهل عندك شيء يا علي؟

قال : ما عندي شيء ـ يا رسول الله ـ الّا درعي (١).

فزوّجه رسول الله على اثنتي عشرة اوقية ونش (٢) ودفع إليه درعه (٣).

وهذا الخبر اذا كان مرفوعا ثم لم يسمّ القائل لعلي عليه‌السلام : لم لا تخطب فاطمة ، فان الدولابي في «الذرّية الطاهرة» روى بسنده عن الحارث (الهمداني) عن علي عليه‌السلام قال : خطب أبو بكر وعمر الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأبى رسول الله عليهما. فقال عمر : أنت لها يا علي. فقلت : ما لي من شيء الّا درعي أرهنها (٤).

ولعلّه عليه‌السلام أرهنها وثيقة لاستدانته مبلغ المهر وأدّى دينه بعد بدر من سهمه من غنائمها ، ثم زفّت إليه الزهراء عليها‌السلام.

واذا لم يكن في خبر القمي : من قال له : إن رسول الله لا يسألك شيئا ، ومن أين له الدرع؟ فقد روى الدولابي أيضا بسنده عن مجاهد عن علي عليه‌السلام قال : قالت لي مولاة لي : إنّ فاطمة قد خطبت ، فما يمنعك أن تأتي رسول الله فيزوّجك (اياها).

فقلت : وعندي شيء أتزوج به؟

فقالت : إنك إن جئت رسول الله زوّجك.

__________________

(١) من هنا يعلم أنه كان قد أعدّ درعا لنفسه للمشاركة في السرايا التي كانت قد بدأت.

(٢) النش : هو النصف أي ونصف الاوقية ، وقد مرّ في مهر الرسول لخديجة تقديره.

(٣) إعلام الورى ١ : ١٦١ وليس في تفسير القمي. ومعنى الخبر أن المهر كان غائبا على الذمة.

(٤) الذرية الطاهرة : ٩٣.


فو الله ما زالت ترجّيني حتى دخلت على رسول الله ، وكانت لرسول الله جلالة وهيبة ، فلما قعدت بين يديه أفحمت فو الله ما استطعت أن أتكلم.

فقال : ما جاء بك؟ ألك حاجة؟ فسكت. فقال : لعلك جئت تخطب فاطمة؟ فقلت : نعم. فقال : فهل عندك شيء تستحلها به؟ فقلت : لا. فقال : ما فعلت بالدرع التي سلّحتكها؟ فقلت : عندي ، ولكنّها ـ والذي نفسي بيده ـ لحطمية (١) ما ثمنها إلّا أربعمائة درهم.

قال : قد زوّجتكها (بها) فابعث بها.

فكان ذلك صداق فاطمة (٢).

__________________

(١) قال الجزري في النهاية : قال لعلي : اين درعك الحطمية ، وأشبه الأقوال أنها منسوبة الى بطن من عبد القيس كانوا يعملون الدروع.

(٢) الذرية الطاهرة : ٩٤. قال الحلبي في مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٥٠ : وخطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في تزويج فاطمة خطبة رويناها عن الرضا عليه‌السلام ويحيى بن معين في أماليه وابن بطّة في الانابة باسنادهما عن أنس بن مالك مرفوعا أنه قال : «الحمد لله المحمود بنعمته ، المعبود بقدرته ، المطاع في سلطانه ، المرغوب إليه فيما عنده ، المرهوب من عذابه ، النافذ أمره في سمائه وأرضه ، خلق الخلق بقدرته ، وميّزهم بأحكامه ، وأعزّهم بدينه ، واكرمهم بنبيّه محمد.

إنّ الله جعل المصاهرة نسبا لاحقا ، وأمرا مفترضا ، وشج بها الأرحام ، وألزمها الانام.

قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً) (الفرقان : ٥).

ثم ان الله تعالى أمرني أن أزوّج فاطمة من علي ، وقد زوّجتها اياه على أربعمائة مثقال فضة (كذا) إن رضيت يا علي». ـ فقال علي عليه‌السلام : رضيت يا رسول الله.

ثم روى الحلبي عن ابن مردويه : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعلي عليه‌السلام : تكلم خطيبا لنفسك. فقال : «الحمد لله الذي قرب من حامديه ، ودنا من سائليه ، ووعد الجنة من يتّقيه ، وأنذر بالنار من يعصيه. نحمده على قديم احسانه وأياديه ، حمد من يعلم أنه خالقه وباريه ، ومميته


ولعله عليه‌السلام بعث بها فأرهنها بمبلغ المهر كما في الخبر السابق. ولعلّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «زوّجتكها» ليس ايجاب العقد من دون مراجعة فاطمة ، بل وعدا به ، وأما مراجعته لابنته فاطمة فقد جاء في خبر آخر رواه الدولابي أيضا بسنده عن عطاء بن أبي رباح قال : لما خطب علي فاطمة أتاها رسول الله فقال لها : إن عليا قد ذكرك. فسكتت : فخرج فزوّجها (١).

وقد يستغرب السامع من خطبة أبي بكر لفاطمة ، ويلاحظ أن ذلك كان متزامنا مع بناء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعائشة ابنة أبي بكر ، فلعل أبا بكر كان يرى ذلك مبرّرا لخطبته ابنة النبيّ لنفسه.

وإذ كان الزفاف بعد العقد بعشرة أشهر في أول ذي الحجة من السنة الثانية فنحن نؤجل القول فيه الى هناك (٢).

غزوة بواط :

وأقبلت قافلة تجارة لقريش فيها مائة رجل منهم ، وفيهم أميّة بن خلف ، ومعهم ألفان وخمسمائة بعير. فغزاهم رسول الله في ربيع الأول على رأس ثلاثة عشر شهرا ، يعترض للقافلة ، حتى بلغ بواط من المدينة على ثلاثة برد نحو ناحية

__________________

ومحييه ، ومسائله عن مساويه ، ونستعينه ونستهديه ، ونؤمن به ونستكفيه. ونشهد أن لا إله الّا الله وحده لا شريك له ، شهادة تبلغه وترضيه ، وأن محمدا عبده ورسوله صلاة تزلفه وتحظيه ، وترفعه وتصطفيه.

والنكاح ما أمر الله به ، ويرضيه ، واجتماعنا مما قدّره الله وأذن فيه ، وهذا رسول الله قد زوّجني ابنته فاطمة على خمسمائة درهم ، وقد رضيت».

(١) الذرية الطاهرة : ٩٥.

(٢) من الصفحة : ٢٢٥.


ذي خشب (اثني عشر فرسخا ستة وستين كيلو مترا) ولم يلق قتالا فرجع (١).

وتتفق هنا روايتا الواقدي وابن اسحاق على أن بدء هذه الغزوة كان في ربيع الأول ، ثم يقول ابن اسحاق : ثم رجع الى المدينة فلبث بها بقية شهر ربيع الآخر وبعض جمادى الاولى (٢).

غزوة بدر الاولى (الصغرى):

هذا ، وقال الواقدي : أغار كرز بن جابر الفهري (من مشركي قريش) على (مواشي) لأهل المدينة كانت ترعى بنواحي الجماء (على ستّة كيلو مرات نحو الجرف).

فغزا في طلبه رسول الله في ربيع الأول على رأس ثلاثة عشر شهرا (٣) حتى بلغ (بئر) بدر ، ولم يدركه (٤) وكان يحمل لواءه علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، واستخلف على المدينة زيد بن حارثة (٥) بينما يؤرخها ابن اسحاق بقرب العشر من جمادى الآخرة (٦).

غزوة ذي العشيرة :

قال الواقدي : وجاءه الخبر بفصول العير من مكة تريد الشام ، قد جمعت قريش لها أموالها فهي في تلك العير ، فندب أصحابه فخرج في مائة وخمسين أو

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ١٢.

(٢) سيرة ابن هشام ٢ : ٢٤٨ واختصر الخبر الطبرسي في اعلام الورى ١ : ١٦٤.

(٣) هكذا يؤرخ الواقدي عن لسان رواته حتى يبلغ ستة وخمسين شهرا أي خمس سنين من الهجرة. مما قد يدل على عدم وجود قرار بالتاريخ بالسنين من الهجرة.

(٤) مغازي الواقدي ١ : ١٢.

(٥) الطبري ٢ : ٤٠٧ عن الواقدي ولا يوجد في المغازي المنشور.

(٦) سيرة ابن هشام ٢ : ٢٥١.


مائتين ، يعترض لعير قريش ، على رأس ستة عشر شهرا ، فسلك على نقب بني دينار الى بيوت السقيا (الى جهة الجحفة) (١).

وقال ابن اسحاق : فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن أزهر يقال لها : ذات الساق ، فصلى عندها فهناك مسجده. وصنع له عندها طعام .. واستقي له من ماء يقال له المشترب.

ثم ارتحل رسول الله فترك (أرض) الخلائق على يساره وسلك شعبة عبد الله ، ثم مال الى يساره حتى هبط يليل فنزل بمجتمعه ، واستقى من بئر بالضّبوعة.

ثم سلك الفرش حتى لقي الطريق بصحيرات اليمام ، ثم اعتدل به الطريق حتى نزل العشيرة من بطن ينبع. فأقام بها جمادى الاولى وليالي من جمادى الآخرة. ولم يلق قتالا. ووادع فيها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة (٢) (فهو ثالث العهود).

عليّ أبو تراب :

ثم روى بسنده عن عمار بن ياسر قال : كنت أنا وعليّ بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة ، فلما نزلها رسول الله وأقام بها ، رأينا اناسا من بني مدلج يعملون في عين لهم وفي نخل. فقال لي عليّ بن أبي طالب : يا أبا اليقظان ، هل لك في أن نأتي هؤلاء ، فننظر كيف يعملون؟ قلت : إن شئت.

فجئناهم فنظرنا الى عملهم ساعة ، ثم غشينا النوم ، فانطلقت أنا وعليّ حتى اضطجعنا بين صغار النخيل ، في التراب اللين فنمنا. فما أيقظنا الّا رسول الله يحركنا برجله وقد تترّبنا من ذلك التراب اللين الذي نمنا فيه ، وقال لعليّ : ما لك يا أبا تراب؟ لما رأى عليه من التراب.

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ١٢.

(٢) وهذا غير ما مرّ من خبر الواقدي : أنه وادع بني ضمرة من كنانة ، فانهم في بواط غير متحالفين مع بني مدلج ، وهؤلاء منهم متحالفون مع بني مدلج في ذي العشيرة من ينبع.


ثم قال لنا : ألا احدثكما بأشقى الناس رجلين؟ قلنا : بلى يا رسول الله. قال : احيمر ثمود الذي عقر الناقة. والذي يضربك يا علي على هذه ـ ووضع يده على مقدّم رأسه ـ حتى يبلّ منها هذه. وأشار الى لحيته (١).

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ٢٤٩ ، ٢٥٠ ثم روى عن بعض أهل العلم! : أن رسول الله انما سمّى عليا أبا تراب لأنه كان اذا عتب على فاطمة في شيء .. أخذ ترابا فوضعه على رأسه. فرآه رسول الله وعلى رأسه التراب فقال له : مالك يا أبا تراب؟ (بالمعنى).

ونقل محقق السيرة عن السهيلي في «الروض الانف» قال : وأصحّ من ذلك ما رواه البخاري في جامعه ، وهو أنه كان قد خرج الى المسجد مغاضبا لفاطمة ، فوجده رسول الله نائما وقد ترب جنبه ، فجعل يمسح التراب عن جنبه ويقول : قم يا أبا تراب.

ونقول : بل الأصح من هذه الثلاث هو ما رواه ابن اسحاق أولا مسندا عن يزيد ابن محمد عن أبيه محمد بن خيثم المحاربي عن عمار بن ياسر. أما ما رواه ثانيا مرفوعا عن بعض ـ أهل العلم ، فهو يلتقي وخبر البخاري في اتهام الامام بالعتب والغضب على فاطمة وهي عليه! وكأنّما أراد البخاري وأصحابه أن يعالجوا ما قاله هو بشأن الزهراء والشيخين : ماتت فاطمة وهي غضبى عليهما. فكأنهم أرادوا أن يقولوا : لو أنها غضبت عليهما فلقد غضبت على علي كذلك من قبل! فتأمّل ولا تقبل. على أنّ هذا الخبر الأخير رواه الطبري في تاريخه خلوا من «مغاضبا لفاطمة» بسنده عن أبي حازم قال : قيل لسهل بن سعد (الساعدي) : إن بعض امراء المدينة يريد أن يبعث إليك تسبّ عليا على المنبر! قال : أقول ما ذا؟ قال : تقول : أبا تراب. قال : والله ما سمّاه بذلك الا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال (أبو حازم) : قلت : وكيف ذلك يا أبا العباس؟

قال : دخل علي على فاطمة ثم خرج من عندها فاضطجع في فيء المسجد. ثم دخل رسول الله على فاطمة فقال لها : أين ابن عمّك؟ فقالت : هو ذاك مضطجع في المسجد فجاءه رسول الله فوجده قد سقط رداؤه عن ظهره وخلص التراب إليه فجعل يمسح التراب عنه ويقول : اجلس أبا تراب.


ثم رجع الى المدينة .. فأقام بها بقية جمادى الآخرة ورجبا وشعبان (١).

سرية نخلة :

روى الواقدي عن عبد الله بن جحش قال : حين صلّى العشاء رسول الله دعاني فقال : واف مع الصبح معك سلاحك أبعثك وجها. فوافيت صلاة الصبح وعليّ سيفي وقوسي وجعبتي ومعي درقتي. فلما صلّى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالناس الصبح سبقته الى باب داره ، واذا معي نفر من قريش ، وانصرف النبيّ عن صلاته فوجدني واقفا عند بابه ومعي نفر من قريش ، فدخل رسول الله ، ودعا ابيّ بن كعب فدخل عليه ، فأمره فكتب صحيفة من أديم خولاني (٢) فأعطانيها وقال :

استعملتك على هؤلاء النفر (وأشار الى النفر من قريش) فامض حتى اذا سرت ليلتين فانشر كتابي ثم امض لما فيه.

قلت : يا رسول الله ، أيّ ناحية؟

فقال : اسلك النجديّة تؤمّ ركيّة (٣).

قال الواقدي : فانطلق حتى اذا كان ببئر ابن ضميرة نشر الكتاب فقرأه فاذا فيه : سر على اسم الله وبركاته ، ولا تكرهنّ أحدا من أصحابك على المسير

__________________

ثم قال سهل : فو الله ما سماه به الا رسول الله ، وو الله ما كان اسم أحبّ إليه منه (الطبري ٢ : ٤٠٩) فمن أين جاءت الزيادة في رواية البخاري : «مغاضبا لفاطمة» اللهم الّا من حيث ذكرناه. ثم لا ننسى أنه عليه‌السلام لم يكن قد دخل بفاطمة عليها‌السلام بعد.

(١) البداية والنهاية ٣ : ٢٤٨.

(٢) خولان : قريتان باليمن والشام كما في معجم البلدان ٥ : ٩٤ والأديم من إحداهما وهذه أول مرة يذكر فيها ابيّ بن كعب كاتبا لرسول الله في غير الوحي ، بعد الهجرة.

(٣) الركيّة : البئر.


معك ، وامض لأمري فيمن تبعك حتى تأتي بطن نخلة ، فترصّد بها عير قريش (١) وتعلّم لنا من أخبارهم (٢).

فلما قرأ عليهم الكتاب قال لهم : لست مستكرها أحدا منكم ، فمن كان يريد الشهادة (٣) فليمض ، فاني ماض لأمر رسول الله ، ومن أراد الرجعة ، فمن الآن.

فقالوا : نحن سامعون مطيعون لله ولرسوله ولك ، فسر على بركة الله حيث شئت.

فسار حتى بلغ نخلة ، فوجد عيرا لقريش ، فيها : عمرو بن الحضرمي ، والحكم بن كيسان المخزومي (مولاهم) وعثمان بن عبد الله المخزومي ، ونوفل بن عبد الله المخزومي (٤).

قال ابن اسحاق : وكان أصحاب عبد الله بن جحش من المهاجرين : أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وعكّاشة بن محصن ، وعتبة بن غزوان ، وسعد بن أبي وقاص ، وعامر بن ربيعة ، وواقد بن عبد الله ، وخالد بن البكير ، وسهيل بن بيضاء. ليس فيهم من الأنصار أحد.

فمرّت بهم عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة من تجارة قريش (٥).

ورأى واقد بن عبد الله وعكّاشة بن محصن أن يغيروا عليهم ، فحلق عامر ابن ربيعة رأس عكّاشة بيده حتى إذا رآهم المشركون يقولون : هؤلاء معتمرون ثم أشرف عكّاشة عليهم ، فظن المشركون أن هؤلاء معتمرون ، فأمنوا في أنفسهم

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ١٣.

(٢) سيرة ابن هشام ٢ : ٢٥٢.

(٣) وهذه أول مرة تذكر فيها الشهادة ، مما يشهد أن رسول الله كان قد شرحها لهم.

(٤) مغازي الواقدي ١ : ١٤.

(٥) سيرة ابن هشام ٢ : ٢٥٣ ومغازي الواقدي ١ : ١٦ وخمرا وفي عددهم قيل : كانوا اثني عشر رجلا ١ : ١٧ و ١٩.


وقيّدوا ركائبهم وسرّحوها ، وصنعوا لأنفسهم طعاما (١).

قال ابن اسحاق : وكان ذلك في آخر يوم من رجب ، فقال القوم : والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلنّ الحرم فليمتنعنّ به منكم ، ولئن قتلتموهم لتقتلنّهم في الشهر الحرام (٢) وقال قائل منهم : لا نعلم هذا اليوم الّا من الشهر الحرام ولا نرى أن تستحلّوه لطمع أشفيتم عليه.

وقال قائل : لا يدرى أمن الشهر الحرام هذا اليوم أم لا؟

وغلب على الأمر الذين كانوا يريدون عرض الحياة الدنيا (٣) فشجّعوا أنفسهم عليهم وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم وأخذ ما معهم (٤).

فخرج واقد بن عبد الله يقدم القوم قد فوّق سهمه في قوسه وكان لا يخطئ ، فرمى عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله. وشدّ القوم عليهم. فهرب نوفل ابن عبد الله ، واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان (مولاهم) واستاقوا العير (٥).

وأقبل عبد الله بالأسيرين والعير ، وكان ذلك قبل أن يفرض الله الخمس في المغانم ، فقال عبد الله لأصحابه : إنّ لرسول الله مما غنمنا الخمس ، فعزل لرسول الله خمس العير ، وقسم سائرها بين أصحابه.

فلما قدموا على رسول الله المدينة قال : ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام.

فلما قال رسول الله ذلك سقط في أيدي القوم وظنّوا أنهم قد هلكوا. وعنّفهم اخوانهم من المسلمين فيما صنعوا.

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ١٤.

(٢) بالحرمة القديمة أو بالسنة. والخبر في السيرة ٢ : ٢٥٣.

(٣) مغازي الواقدي ١ : ١٤.

(٤) ابن هشام ٢ : ٢٥٣.

(٥) مغازي الواقدي ١ : ١٥.


ووقّف رسول الله العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا (١) ، حتى رجع من بدر ، فقسّمها مع غنائم أهل بدر.

وفي شهر شعبان من هذه السنة الثانية قال الطبري والمسعودي : فرض صوم شهر رمضان (٢).

غزوة بدر الكبرى :

قال القمي في تفسيره : كانت بدر على رأس ستة عشر شهرا من مقدم رسول الله المدينة (٣) وكان سبب ذلك أن عيرا لقريش خرجت الى الشام فيها خزائنهم (٤) (ورجعت) (٥) فأمر رسول الله أصحابه بالخروج إليها ليأخذوها

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ٢٥٤. واختصر الخبر القمي في تفسيره ١ : ٧١ ، ٧٢ والطبرسي في اعلام الورى ١ : ١٦٧ ، ٧٤ ولعله عن القمي. وتمام الخبر : حتى رجع من بدر فقسمها مع غنائم أهل بدر ، مغازي الواقدي ١ : ١٨ وصرّح ابن اسحاق أن ذلك كان بعد نزول القرآن فيما حدث منهم في الشهر الحرام ، أي أن نزول الآيات أيضا كان بعد بدر. ولذلك فنحن نؤجل ذكر ذلك الى هنالك.

(٢) الطبري ٣ : ٤١٧ والتنبيه والاشراف : ٢٠٣ ولم يقولا بنزول آيات الصيام.

(٣) تفسير القمي ١ : ٢٧١.

(٤) قال الواقدي : وكانت العير ألف بعير ، وكانت فيها أموال عظام ، ولم يبق بمكة قرشي ولا قرشية له مثقال فصاعدا الا بعث به في العير ، فكان يقال : كان فيها خمسون الف دينار ، قيل : كان لبني عبد مناف فيها عشرة آلاف مثقال ، ولبني مخزوم مائتا بعير وخمسة آلاف مثقال ذهب ، ولامية بن خلف الفا مثقال ، وللحارث بن عامر بن نوفل الف مثقال وان اكثر ما فيها لآل سعيد بن العاص اما لهم أو قراضا بالنصف ١ : ٢٧.

(٥) قال الواقدي : ولما تحيّن رسول الله انصراف العير من الشام .. بعث طلحة بن عبيد الله


وأخبرهم : أن الله قد وعده إحدى الطائفتين : إما العير وإما قريش إن ظفر بهم. فخرج في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا (١).

__________________

وسعيد بن زيد يتجسسان خبر العير ، قبل خروجه من المدينة بعشر ليال ١ : ١٩ ثم يقول : وخرج يوم الاحد لاثنتي عشرة خلت من رمضان ١ : ٢١ فكان بعث الرجلين في الثاني من رمضان.

(١) تفسير القمي ١ : ٢٦١. ذكر ابن اسحاق ثلاثة وثمانين من المهاجرين من شهد ومن أسهم ـ له الرسول ٢ : ٣٣٣ ـ ٣٤٢ ، ثم ذكر الأنصار من ٣٤٢ الى ٣٦٣ ثم قال : فجميع من شهد بدرا من المسلمين من المهاجرين والانصار من شهدها منهم ومن ضرب له بسهم : ثلاثمائة واربعة عشر رجلا ، من المهاجرين : ثلاثة وثمانون رجلا ، ومن الأوس : واحد وستون رجلا ، ومن الخزرج : مائة وسبعون رجلا. وبتأريخه قال : لليال مضت من رمضان ٢ : ٣٦٣.

وقال الواقدي : وخرج رسول الله بمن معه يوم الأحد لاثنتي عشرة خلت من رمضان حتى انتهى الى بيوت السقيا بالبقع من نقب بني دينار ، وبيوت السقيا متصلة بالمدينة ١ : ٢١ وكانت تسمى البقع فسماها النبيّ بيوت السقيا ١ : ٢٣ وضرب عسكره هناك واستعرضه وقد بني في ذلك الموضع مسجد يسمى باسم الموضع مسجد السقيا ، وهو اليوم في جنوبي المحطة القديمة لسكك الحديد العثمانية ، على بعد كيلومترين من المسجد النبوي الشريف ، فهذا هو حدّ الترخيص للافطار يومئذ واستصغر ثمانية فردهم ١ : ٢١ وأمرهم أن يستقوا ١ : ٢٢ واستعمل على المشاة : قيس بن عمرو بن زيد بن عوف (من بني عوف من الأنصار) وأمره حين فصل من بيوت السقيا أن يقف لهم ببئر أبي عتبة فيعدّهم ، فوقف وعدّهم وأخبره بذلك ١ : ٢٦ ورحل من بيوت السقيا الأحد لاثنتي عشرة مضت من رمضان ومعه ثلاثمائة وخمسة ، وتخلف ثمانية فضرب لهم بسهم ١ : ٢٣ فهم ثلاثمائة وثلاثة عشر هكذا ، ولكنه في : ٤٧ الحق بهم خبيب بن يساف ، فهو كابن اسحاق : ٣١٤ رجلا. ولكنه في تسميتهم قال : من شهد الوقعة ومن ضرب له رسول الله بسهم وهو غائب : ثلاثمائة


قال القمي : وكان في العير أبو سفيان (١) فلما بلغه أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قد خرج يتعرض للعير (٢) خاف خوفا شديدا ، فلما وافى البهرة (من نواحي المدينة) اكترى ضمضم (٣) بعشرة دنانير وأعطاه قلوصا وقال له : امض الى قريش وأخبرهم : أنّ

__________________

وثلاثة عشر رجلا ثم عدّدهم ١ : ١٥٢ ـ ١٧٢. وصلّى في بيوت السقيا ودعا لأهل المدينة (وسماها المدينة) فقال : «اللهم إنّ إبراهيم عبدك وخليلك ونبيّك دعاك لأهل مكة ، واني محمد عبدك ونبيّك أدعوك لأهل المدينة : أن تبارك لهم في مدّهم وصاعهم وثمارهم ، اللهم حبّب إلينا المدينة ، ـ واجعل ما بها من الوباء بخمّ. اللهم اني قد حرّمت لابتيها كما حرّم ابراهيم خليلك مكة» ١ : ٢٢.

والطبري ٣ : ٤٣١ والمسعودي في التنبيه والاشراف : ٢٠٤ وابن شهرآشوب في المناقب ١ : ١٨٧ قالوا : كان خروجه لثلاث خلون من شهر رمضان. ولعله كان في الأصل : لثلاث عشرة خلت منه. والمسعودي في التنبيه والاشراف : ٢٠٦ أرّخ رجوع الرسول الى المدينة بثمان بقين من شهر رمضان.

ولعل هذا يرجح قول الواقدي أن يكون كل من ذهابه وايابه استغرق خمسة أيام.

(١) في إعلام الورى ١ : ١٦٨ : في أربعين راكبا من قريش تجارا قافلين من الشام. وذكره في مجمع البيان ٤ : ٨٠٢ وذكره ابن شهرآشوب في المناقب ١ : ١٨٧ وقال : أو سبعين.

(٢) روى الواقدي ١ : ٢٨ عن عبد الله بن جعفر عن أبي عون مولى المسور ، عن مخرمة بن نوفل قال : ادركنا بالشام رجل من جذام فأخبرنا : أن محمدا كان قد عرض لعيرنا في بدأتنا ، وأنه ينتظر رجعتنا وقد حالف أهل الطريق ووادعهم. وعن عمرو بن العاص : أنه لقيهم في رجوعهم من غزّة الشام بالزرقاء بناحية معان من أذرعات على مرحلتين. وأنه قال : عرض لكم محمد وأصحابه في بدأتكم فأقام شهرا ثم رجع الى يثرب.

(٣) الخزاعي ، كذا. وفي سيرة ابن هشام ٢ : ٢٥٨ : ابن عمرو الغفاري ، وكذلك في الواقدي


محمدا والصباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرضون لعيركم فأدركوا العير. وأوصاه : أن يخرم أنف ناقته ويقطع أذنها حتى يسيل الدم ، ويشق ثوبه من قبل ودبر ، فاذا دخل مكة ولى وجهه الى ذنب البعير وصاح بأعلى صوته : يا آل غالب ، اللطيمة اللطيمة ، العير العير ، أدركوا أدركوا ، وما أراكم تدركون ، فانّ محمدا والصباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرضون لعيركم!.

فخرج ضمضم يبادر الى مكة ، ووافاها ينادي في الوادي : يا آل غالب ، يا آل غالب ، اللطيمة اللطيمة ، العير العير ، أدركوا أدركوا ، وما أراكم تدركون ، فانّ محمدا والصباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرضون لعيركم التي فيها خزائنكم!.

فتصايح الناس بمكة وتهيئوا للخروج.

وقام سهيل بن عمرو ، وصفوان بن أميّة ، وأبو البختري بن هشام ، ونبيه ومنبّه ابنا الحجاج ، ونوفل بن خويلد ، فقالوا : يا معشر قريش ، والله ما أصابكم ، مصيبة أعظم من هذه : أن يطمع محمد والصّباة من أهل يثرب أن يتعرضوا لعيركم التي فيها خزائنكم! فو الله ما قرشي ولا قرشية الّا ولها في هذه العير شيء فصاعدا ، وانه الذلّ والصغار أن يطمع محمد في أموالكم ويفرق بينكم وبين متجركم ، فاخرجوا.

وأخرج صفوان بن أميّة خمسمائة دينار وجهّز بها.

وأخرج سهيل بن عمرو خمسمائة ، وما بقي أحد من عظماء قريش إلا أخرجوا مالا وحملوا وقوّوا ، وخرجوا على الصعب والذلول ، ما يملكون

__________________

١ : ٢٨ واليعقوبي ٢ : ٤٥ والطبري والمسعودي وابن شهرآشوب في المناقب ١ : ١٨٧. وفي الواقدي عن عمرو بن العاص : بعثوا ضمضم من معان الاردن ، وقيل : من تبوك ١ : ٢٨.


أنفسهم .. وأخرجوا معهم القينات يضربن بالدفوف وهم يشربون الخمور (١).

خروج رسول الله :

وخرج رسول الله في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا (٢) وكان في عسكره فرسان : فرس للزبير بن العوّام ، وفرس للمقداد بن عمرو ، وكان لهم سبعون جملا (٣) يتعاقبون عليها ، فكان رسول الله وعلي بن أبي طالب ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يتعاقبون على جمل مرثد (٤).

افطار الصوم وقصر الصلاة :

روى الواقدي قال : خرج رسول الله بمن معه حتى انتهى الى بيوت

__________________

(١) روى الكليني في روضة الكافي بسنده عن الصادق عليه‌السلام : قال : لما خرجت قريش إلى بدر وأخرجوا معهم بني عبد المطّلب (وفيهم) طالب بن أبي طالب ، نزل يرتجز ويقول :

يا ربّ إمّا خرجوا بطالب

في مقنب من هذه المقانب

في مقنب المغالب المحارب

فاجعلهم المغلوب غير الغالب

واجعلهم المسلوب غير السالب

فردّوه. روضة الكافي : ٣٠٧ وفي الطبقات ١ : ١٢١.

(٢) تفسير القمي ١ : ٢٥٧.

(٣) وفي اعلام الورى ١ : ١٦٨ : معهم ثمانون بعيرا.

(٤) تفسير القمي ١ : ٢٦٢. قال الواقدي : ثم سلك طريق المكيمن من بطن العقيق حتى خرج على بطحاء ابن أزهر وأصبح ببطن ملل وتربان بين الحفيرة وملل. وهناك أشار رسول الله لسعد بن أبي وقاص ـ وكان أرماهم بسهم ـ الى ظبي وقال له : ارم فرماه في نحره ثم عدا فوجده به رمق فذكّاه ، فقسّمه ١ : ٢٦ ، ٢٧. وهذا أول ذكر للتذكية في الاسلام.


السقيا ـ وهى متصلة (اليوم) بالمدينة (١) ـ يوم الأحد لاثنتي عشرة خلت من شهر رمضان.

ثم روى عن الأشجعي : أن النبيّ أمر أصحابه أن يستقوا من بئرهم يومئذ وشرب منه.

وروى عن عمرو بن أبي عمرو : أنّ النبيّ كان أوّل من شرب ذلك اليوم (٢) أي نهار اليوم الأوّل من سفره في شهر رمضان بعد فرض الصيام فيه. وبعد يوم أو يومين ـ قال الواقدي ـ نادى مناديه : يا معشر العصاة إنّي مفطر فأفطروا! وذلك أنّه قد كان قال لهم قبل ذلك : أفطروا ، فلم يفعلوا (٣).

هذا ما ذكره الواقدي في إفطار الصوم ، ولا نجد فيه ولا في غيره عن قصر الصلاة شيئا ، إلّا أنّنا نجد في آخر أخبار بدر وما بعدها أمرين يدلّان على أنّ إضافة ركعتي السنّة الواجبة على الفريضة الاولى كان قبل بدر :

الأوّل : أنّ من شهداء بدر : عمير بن عبد عمرو ذو اليدين أو ذو الشمالين ، من حلفاء بني زهرة ، من المهاجرين (٤).

وقد روى المشايخ في الكتب الأربعة عدّة أخبار بأسانيد صحاح عن : أبي بصير ، وأبي بكر الحضرمي ، وأبي سعيد القماط ، وجميل بن درّاج ، والحارث بن المغيرة النضري ، وزيد الشحّام ، وسعيد الأعرج ، وسماعة بن مهران ، وغيرهم : أنّ رسول الله صلّى بالناس الظهر ركعتين ، فقال له ذو الشمالين : يا رسول الله ،

__________________

(١) وفي تحديد محل السُقيا انظر كتاب : المساجد والاماكن الأثرية المجهولة لعبدالرحمان خويلد الحجازي وعنه في مجلة ميقات الحج ٣ : ٢٧٦.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٢١.

(٣) مغازي الواقدي ١ : ٤٧ ، ٤٨ ، وانظر الكافي ٤ : ١٢٧ ، والفقيه ١ : ٤٣٥ ، والتهذيب : ٤١٣.

(٤) سيرة ابن هشام ٢ : ٣٣٧. والواقدي ١ : ١٤٥.


أنزل في الصلاة شيء؟ فقال : وما ذاك؟ قال : إنّما صلّيت ركعتين. فقال رسول الله لأصحابه : أتقولون مثل قوله؟ قالوا : نعم. فقام فأتمّ بهم الصلاة أو : فأتمّ ما بقي من صلاته أو : فبنى على صلاته فأتمّ الصلاة أربعا (١).

وهذا يدلّ على أنّ الصلاة كانت قد أتمّت أربعا قبل بدر حيث استشهد الرجل.

والأمر الثاني : أن تحويل القبلة من القدس الى الكعبة كان بعد بدر ، وكانت الصلاة حينئذ تامة أربعا ، فيعلم أن ذلك كان منذ مدة من قبل بدر ، وإن لم نجد نصّا بالتعيين إلّا إجمالا :

روى الكليني في «روضة الكافي» بسنده عن سعيد بن المسيّب قال : سألت علي بن الحسين عليه‌السلام : فمتى فرضت الصلاة على المسلمين على ما هم عليه اليوم؟

قال : بالمدينة ، حين ظهرت الدعوة وقوي الاسلام ، وكتب الله عزوجل على المسلمين الجهاد ، زاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الصلاة سبع ركعات : في الظهر ركعتين وفي العصر ركعتين ، وفي المغرب ركعة ، وفي العشاء الآخرة ركعتين ، وأقرّ الفجر على ما فرضت (٢).

__________________

(١) وسائل الشيعة ، الباب الثالث من أبواب الخلل ٨ : ١٩٨ ـ ٢٠٤ ط آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) روضة الكافي : ١٨٠. ورواه الصدوق في الفقيه ١ : ٤٥٥ وعلل الشرائع : ١١٦ والعيّاشي في تفسيره. وروى معناه البخاري عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة كما في هامش السيرة ١ : ٢٦٠.

هذا ، وقد روى الكليني في فروع الكافي ٣ : ٤٣٢ بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما نزل عليه جبرئيل بالتقصير قال له النبيّ : في كم ذلك؟ قال : في بريد. قال : وكم البريد؟ قال : ما بين ظل عير الى فيء وعير. ورواه الصدوق في الفقيه مرسلا


قال القمي في تفسيره فلما كان على ليلة من بدر (١) بعث بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء (٢) ، يتجسّسان خبر العير. فأتيا ماء بدر ، وأناخا راحلتيهما ، وسمعا جاريتين قد تشبّثت احداهما بالاخرى تطالبها بدرهم كان لها عليها ، فقالت الاخرى : عير قريش نزلت أمس في موضع كذا وكذا (٣) ، وهي تنزل غدا هاهنا وأنا أعمل لهم وأقضيك.

فرجع (الرجلان) الى رسول الله فأخبراه بما سمعا (٤).

__________________

١ : ٤٤٧ ط طهران. وروى فيه عنه عليه‌السلام قال : سافر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الى ذي خشب ، وهي مسيرة يوم من المدينة يكون إليها بريدان ـ أربعة وعشرون ميلا ـ فقصّر وأفطر فصارت سنّة ١ : ٤٣٥. ورواه الطوسي في التهذيب ١ : ٤١٥ عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : في كم يقصّر الرجل؟ فقال : في بياض يوم أو بريدين ، فان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج الى ذي خشب فقصّر. فقلت : فكم ذو خشب؟ فقال : بريدان. بدون تعيين لتاريخ الوحي والسفر. ولعله كان بعد بدر ، ولذلك روى الواقدي افطار الصوم في بدر دون قصر الصلاة.

(١) في إعلام الورى ١ : ١٦٨ : وبدر بئر منسوبة الى رجل من غفار يقال له بدر. وفي مجمع البيان ٤ : ٨٠٤ بدر رجل من جهينة ، والماء ماؤه فسمي به ، وقال الواقدي ١ : ٤٤ : كان بدر موسما من مواسم الجاهلية وأسواقها.

(٢) في القمي : بشير بن أبي الرعباء ومجد بن عمر. وأثبتنا ما في ابن هشام والواقدي واليعقوبي والطبري. وأظن أن بشير مصحّف بسبس ومجدّ مصحّف عدي مع تقديم وتأخير. كما لا ريب أن الرعباء مصحّف الزغباء. نعم ذكر ابن اسحاق : مجديّ بن عمرو ، ولكنه كان نازلا على ماء بدر وليس أحد الرجلين.

(٣) في الواقدي ١ : ٤٠ : قد نزلت الرّوحاء على ميلين من عرق الظبية.

(٤) قال الواقدي ١ : ٤٠ : لقياه بعرق الظبية من الروحاء على ميلين. وفي : ٥١ قال : لقياه في المعترضة بعد الخبيرتين والخيوف وقبل بدر.


وأقبل ابو سفيان بالعير ، فلما شارف بدرا تقدم العير وأقبل وحده حتى انتهى الى ماء بدر ، وكان بها رجل من جهينة يقال له : كشد الجهني (١) فقال له : يا كشد ، هل لك علم بمحمد وأصحابه؟ قال : لا. قال : واللات والعزّى لئن كتمتنا أمر محمد فلا تزال قريش معادية لك آخر الدهر ؛ فانه ليس أحد من قريش الا وله في هذه العير شيء فصاعدا ، فلا تكتمني.

فقال (كشد) : والله ما لي علم بمحمد ، وما بآل محمد وأصحابه بالتجار؟! إلّا أني رأيت في هذا اليوم راكبين أقبلا وأناخا راحلتيهما واستعذبا من الماء ورجعا ، فلا أدري من هما.

فجاء أبو سفيان الى مناخ ابلهما ففتّ أبعار الابل بيده فوجد فيها النوى فقال : هذه علائف يثرب! هؤلاء عيون محمد!

ورجع مسرعا وأمر بالعير فأخذ بها نحو ساحل البحر ، وتركوا الطريق ومرّوا مسرعين. ونزل جبرئيل على رسول الله فأخبره : أن العير قد أفلتت ، وأن قريشا قد أقبلت لتمنع عن عيرها. وأمره بالقتال ، ووعده النصر.

اختبار الأنصار :

وكان نازلا ماء الصفراء ، فأحبّ أن يبلو الأنصار ، لأنهم إنمّا وعدوه أن ينصروه في الدار.

فاخبرهم : إن العير قد جازت ، وإن قريشا قد أقبلت لتمنع عن عيرها ، وإن الله قد أمرني بمحاربتهم.

فجزع أصحاب رسول الله من ذلك وخافوا خوفا شديدا!

فقال رسول الله : أشيروا علي.

__________________

(١) في القمي : كسب. وأثبتنا ما في ابن هشام والواقدي واليعقوبي والطبري.


فقام (أبو بكر) فقال : يا رسول الله ، إنها قريش وخيلاءها ، ما آمنت منذ كفرت ، ولا ذلّت منذ عزّت!

ولم تخرج (أنت) على هيئة الحرب! (١).

فقال رسول الله له : اجلس. فجلس. فقال : أشيروا عليّ.

فقام (عمر بن الخطّاب) فقال مثل مقال الأوّل.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله له : اجلس. فجلس.

ثمّ قام المقداد فقال : يا رسول الله ، إنّا قد آمنّا بك وصدّقناك ، وشهدنا أنّ ما جئت به حقّ من عند الله ، ولو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا (٢) وشوك الهراش (٣) لخضنا معك. ولا نقول لك ما قالت بنو اسرائيل لموسى : «اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون» (٤) ولكنّا نقول : اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون.

__________________

(١) اجمل ابن اسحاق فقال : فقال وأحسن وكذلك عن عمر ٢ : ٢٦٦ كذلك فعل الواقدي ١ : ٤٨ في أبي بكر ، وعن عمر قال : ثم قال : يا رسول الله ، إنها قريش وعزّها ، والله ما ذلّت ـ منذ عزّت ، والله ما آمنت منذ كفرت ، والله لا تسلم عزّها أبدا ، ولتقاتلنّك فاتّهب لذلك اهبته وأعدّ لذلك عدّته ١ : ٤٨. وفي صحيح مسلم ٥ : ١٧٠ ومسند أحمد ٣ : ٢١٩ والبداية والنهاية ٣ : ٢٦٣ والسيرة النبويّة لابن كثير ٢ : ٣٩٤ : فأعرض عنه.

(٢) الغضا : شجر عظيم صلب الأخشاب يتّقد طويلا.

(٣) الهراش : شجر شائك.

(٤) المائدة : ٢٤ ، وعلّق العلّامة الطباطبائي على الموضع فقال : في بعض الأخبار ما يشعر بأنّ هذه الآيات نزلت قبل غزوة بدر في أوائل الهجرة على ما ستجيء الإشارة إليها في البحث الروائي التالي. الميزان ٥ : ٢٨٦ ولكنّه في البحث الروائي التالي لم يعد على الموضوع بشيء. وقال القمّي بعد الآية ٢١ : إنّ ذلك نزل بعد قوله (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ ..) فنصف الآية في سورة البقرة ونصفها في سورة المائدة ـ تفسير القمّي في المقدّمة ١٢ و ١٦٤.


فجزّاه النبيّ خيرا ، فجلس. ثمّ قال : أشيروا عليّ (١).

فقام سعد بن معاذ فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله كأنك أردتنا؟

قال : نعم.

قال : فلعلك قد خرجت على أمر قد امرت بغيره؟ قال : نعم.

قال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، إنّا قد آمنّا بك وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به حق من عند الله ، فمرنا بما شئت ، وخذ من أموالنا ما شئت واترك منها ما شئت ، والذي أخذت منه أحبّ إليّ من الذي تركت منه. والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك.

فجزّاه خيرا. ثم قال سعد :

بأبي أنت وأمي والله ما خضت هذا الطريق قط ، وما لي به علم ، وقد خلّفنا بالمدينة قوما لسنا نحن بأشد جهادا لك منهم ، ولو علموا أنّه الحرب لما تخلّفوا. ولكن نعدّ لك الرواحل ونلقى عدوّنا ، فانّا لصبّر عند اللقاء أنجاد في الحروب ، وإنّا لنرجو أن يقرّ الله عينك بنا. فان يك ما تحب فهو ذلك ، وإن يكن غير ذلك قعدت على رواحلك فلحقت بقومنا.

فقال رسول الله : أو يحدث الله غير ذلك ، كأنّي بمصرع فلان هاهنا ، وبمصرع فلان هاهنا ، وبمصرع أبي جهل ، وعتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، ونبيه ومنبّه ابني الحجاج ؛ فانّ الله وعدني إحدى الطائفتين ، ولن يخلف الله الميعاد.

__________________

(١) ونقل الطبرسي في مجمع البيان ٤ : ٨٠٣ عن القمّي وغيره قالوا : وإنّما كان يريد الأنصار ، لأنّ أكثر الناس منهم ، ولأنّهم حين بايعوه بالعقبة قالوا : إنّا براء من ذمّتك حتى تصل إلى ـ دارنا ، ثمّ أنت في ذمّتنا نمنعك ممّا نمنع منه أبناءنا ونساءنا. فكان يتخوّف أن لا ترى الأنصار عليها نصرته إلّا في المدينة.


ثم أمر رسول الله بالرحيل ، فرحلوا حتى نزلوا عشاء على ماء بدر ، وهي العدوة الشامية (١).

ومشورة الحُباب :

قال الواقدي : ثمّ قال رسول الله لأصحابه : أشيروا عليّ في المنزل (٢).

فروى ابن اسحاق : أن الحُباب بن المنذر الجموح قال : يا رسول الله ، أرأيت هذا المنزل ، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدّمه ولا نتأخّر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة (٣).

فقال صلّى الله عليه وآله : بل هو الرأي والحرب والمكيدة.

فقال : یا رسول الله ، فانّ هذا ليس بمنزل ، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء القوم فننزله ، ثمّ نغوّر (= نعوّر) ما وراءه من القُلب (٤) ثمّ نبني عليه حوضاً فنملؤه ماءً ثمّ نقاتل القوم فنشرب ، ولا يشربون (٥) وإني عالم بماء القوم وبقُلُبها ، وبها قليب قد عرفت عذوبة مائه ، وماؤه كثير لا يُنزح.

فروى الواقدي عن ابن عباس قال : نزل جبرئيل على رسول الله فقال له :

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٢٥٧ ـ ٢٦٠.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٥٤.

(٣) مقال الحُباب هذا لا يتّسق وقول الرسول : أشيروا عليّ ، فهل يستشير في أمر الله؟! وليست الاستشارة في رواية ابن اسحاق ، فلعلهم زادوا الاستشارة ليخرجوا مقال الحُباب عن صورة الاعتراض.

(٤) القُلُب جمع القليب : البئر ، لأنه قُلب تُرابه ـ مجمع البحرين.

(٥) ابن اسحاق في السيرة ٢ : ٢٧٢.


الرأي ما أشار به الحُباب ، فقال رسول الله : يا حُباب ، أشرت بالرأي. فنهض رسول الله ففعل كل ذلك (١).

نزول قريش :

وأقبلت قريش فنزلت بالعدوة اليمانية.

وبعثت عبيدها (٢) تستعذب الماء فأخذهم أصحاب رسول الله (٣) وحبسوهم ، وقالوا لهم : من أنتم؟ قالوا : نحن عبيد قريش. قالوا : فأين العير؟ قالوا : لا علم لنا بالعير. فأقبلوا يضربونهم.

وكان رسول الله يصلي فانفتل من صلاته فقال :

إن صدقوكم ضربتموهم وان كذبوكم تركتموهم؟! عليّ بهم. فأتوا بهم. فقال لهم : من أنتم؟ قالوا : يا محمد ، نحن عبيد قريش. قال : كم القوم؟ قالوا : لا علم لنا بعددهم. قال : كم ينحرون في كل يوم جزورا؟ قالوا : تسعة أو عشرة. فقال :

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ٥٤ ، ٥٥ ولكن كل هذا لم يرد في أخبارنا بل ولا يتلاءم معها وحتى مع خبر الواقدي ١ : ٥٧ وسيأتي عن علي عليه السلام أنه جاء بالماء تلك الليلة ، فلو كان القليب بينهم لما كانت إليه حاجة.

(٢) في سيرة ابن هشام ٢ : ٢٦٨ روى ابن اسحاق عن عروة بن الزبير أنه : أسلم غلام ابني الحجاج ، وعريض غلام بني العاص بن سعيد. وروى الواقدي عن حكيم بن حزام قال : أخذ تلك الليلة : يسار غلام عبيد بن سعيد بن العاص ، وأسلم غلام منبّه بن الحجاج ، وابو رافع غلام أميّة بن خلف ١ : ٥٢.

(٣) في سيرة ابن هشام ٢ : ٢٦٨ : روى ابن اسحاق عن عروة بن الزبير قال : فبعث رسول الله علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون له الخبر عليه. وفي الواقدي : فبعث عليا والزبير وسعد بن أبي وقاص وبسبس ابن عمرو يتجسسون على الماء ١ : ٥١.


تسعمائة أو ألف. ثم قال : فمن فيهم من بني هاشم؟ قالوا : العباس بن عبد المطلب ، ونوفل بن الحارث ، وعقيل بن أبي طالب ، فأمر رسول الله بهم فحبسوهم.

وبلغ ذلك قريشا فخافوا خوفا شديدا ، فاقبلوا يتحارسون يخافون البيات.

وطلب رسول الله عمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود فقال لهما : ادخلا في القوم واتياني بأخبارهم.

فمضيا يجولان في عسكرهم لا يرون الا خائفا ذعرا. وسمعوا منبّه بن الحجاج يقول :

لا يترك الجوع لنا مبيتا

لا بدّ أن نموت أو نميتا

فلما ذكرا لرسول الله ذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : والله كانوا شباعا ولكنّهم من الخوف قالوا هذا ، والقى الله على قلوبهم الرعب.

ولكن بلغ أصحاب رسول الله كثرة قريش ففزعوا فزعا شديدا وبكوا واستغاثوا.

فلما أمسى رسول الله وجنّه الليل (١) ألقى الله على أصحابه النعاس حتى ناموا.

__________________

(١) روى الطبرسي عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده أبي رافع قال : قال النبيّ لأصحابه : من يلتمس لنا الماء؟ فسكتوا عنه وقال علي : أنا يا رسول الله ، فأخذ القربة وذهب الى القليب وملأ القربة وأخرجها ، وجاءت ريح فاهرقته ، فعاد الى القليب وملأ القربة وخرج فجاءت ريح فأهرقته ، فلما كانت المرة الرابعة ملأها فأتى بها الى النبي فأخبره بخبره فقال : أما الريح الاولى فجبرئيل في الف من الملائكة سلم عليك وسلموا ، وأما الريح الثانية فميكائيل في ألف من الملائكة سلم عليك وسلموا ، وأما الريح الثالثة فاسرافيل في ألف من الملائكة سلم عليك وسلموا ـ إعلام الورى ١ : ٣٥٧ ورواه العياشي في تفسيره ٢ : ٦٥ الحديث ٧٠ عن زين العابدين عليه السلام ، وفي قرب الاسناد عن الباقر عليه السلام عن ابن عباس ، ونقل الخبر الحلبي في مناقب آل أبي طالب ٢ : ١٠١ ، ونحوه في مغازي الواقدي ١ : ٥٧ عن علي عليه السلام.


وأنزل الله عليهم السماء ، وكان على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رذاذ بقدر ما لبد الأرض (١) وكانت قريش في موضع أنزل الله عليهم السماء حتى ثبتت اقدامهم في الأرض (وطمست).

والتقى الجمعان :

فلما أصبح رسول الله عبّأ أصحابه بين يديه وقال لهم : غضّوا أبصاركم ، ولا تبدءوهم بالقتال ، ولا يتكلّمنّ أحد (٢).

__________________

(١) الرذاذ : المطر الخفيف وقال القمي ١ : ٢٦١ في قوله سبحانه : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) : ذلك انّ بعض اصحاب النبي احتلم. وروى الواقدي عن رفاعة بن مالك قال غلبني النوم فاحتلمت حتى اغتسلت آخر الليل ١ : ٥٤. وهذا أول ذكر للاحتلام والاغتسال من جنابته. ولم يقل : قبل طلوع الفجر ، لانّهم لم يكونوا صيّاما.

(٢) وفي اعلام الورى ١ : ١٦٨ : وكان لواء رسول الله يومئذ أبيض مع مصعب بن عمير ، ورايته مع علي عليه‌السلام. وذكر ذلك في مجمع البيان ٢ : ٨٢٨ وأضاف : وصاحب راية الأنصار : سعد بن عبادة أو سعد بن معاذ. وكذلك في المناقب ١ : ١٩٠ وفي الطبري ٣ : ٤٣١ بسنده عن ابن عباس. والأغاني ٤ : ١٧٥. وفي الواقدي ١ : ١٠١ : أن سعد بن عبادة لما أخذ رسول الله في الجهاد كان يأتي دور الأنصار يحضّهم على الخروج ، فنهش في بعض تلك الاماكن فمنعه عن الخروج وروى عن ابن عباس وسعيد بن المسيب : أن رسول الله غزا الى بدر بسيف وهبه له سعد بن عبادة يقال له : العضب ، ودرعه : ذات الفضول ١ : ١٠٣ فقال رسول الله حين فرغ من القتال ببدر : لئن لم يكن يشهدها سعد بن عبادة لقد كان فيها راغبا. وضرب له بسهم من المغنم ١ : ١٠١.

وهنا روى ابن اسحاق : أن رسول الله عدّل صفوف أصحابه يوم بدر بسهم كان في يده ، فمرّ بسواد بن غزيّة من حلفاء بني النجار وهو خارج عن الصف متقدم عليه ، فطعنه النبيّ في بطنه بالسهم وقال : استو يا سواد. فقال : يا رسول الله أوجعتني ، وقد بعثك الله بالحق


فلما نظرت قريش الى قلة أصحاب رسول الله ، قال عتبة بن ربيعة لأبي جهل : أترى لهم مددا أو كمينا؟

فبعثوا عمر بن وهب الجمحي لينظر ذلك ، وكان فارسا شجاعا ، فجال بفرسه حتى طاف معسكر رسول الله فرجع الى قريش وقال لهم :

ما لهم مدد ولا كمين ، ولكن نواضح يثرب (١) قد حملت الموت الناقع! أما ترونهم خرسا لا يتكلمون! يتلمّظون تلمّظ الأفاعي! ما لهم ملجأ الا سيوفهم! وما أراهم يولون حتى يقتلون! ولا يقتلون حتى يقتلون بعددهم! فارتئوا رأيكم!.

فقال أبو جهل : كذبت وجبنت وانتفخ سحرك (٢) حين نظرت الى سيوف يثرب!.

وبعث رسول الله الى قريش من يقول لهم عنه : (٣)

يا معشر قريش ، ما أحد من العرب أبغض إلي ممن بدأ بكم (٤) خلّوني

__________________

ـ والعدل ، فاقدني! فكشف رسول الله عن بطنه وقال : استقد. فاعتنق سواد رسول الله ثم انحنى فقبّل بطنه! فقال رسول الله : يا سواد ما حملك على هذا؟ قال : يا رسول الله ، حضر ما ترى فاردت أن يكون آخر العهد بك أن يمسّ جلدي جلدك! فدعا له رسول الله بخير ٢ : ٢٧٨ وليس قبيل وفاته كما زعم بعضهم.

(١) النواضح جمع الناضحة وهي الناقة على البئر يجلب عليها الماء.

(٢) السحر : الرّية والجوف ومنه سحر الليل أي جوفه ، وانتفخ سحرك أي ريتك أو جوفك من الخوف.

(٣) قال الواقدي ١ : ٦١ : أرسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمر بن الخطاب الى قريش.

(٤) كذا ، اي : ليس هناك في العرب من يكون اكثر مبغوضا عندي ممن يبدأ القتال معكم ، فانا ابغض أن أبدأ بالقتال معكم إن لم تقاتلوني.


والعرب ، فان اك صادقا فانتم أعلى بي عينا ، وإن اك كاذبا كفتكم ذؤبان العرب أمري ، فارجعوا.

فقال عتبة : والله ما أفلح قوم قط ردّوا هذا! وأقبل يقول :

يا معشر قريش! أطيعوني اليوم واعصوني الدهر وارجعوا الى مكة ، واشربوا الخمور وعانقوا الحور ، فانّ محمدا له إلّ وذمّة ، وهو ابن عمكم. فارجعوا. ولا تنبذوا رأيي. وانما تطالبون محمدا بالعير التي أخذها محمد بنخيلة ودم ابن الحضرمي ، وهو حليفي وعليّ عقله (١).

فلما سمع أبو جهل ذلك غاضه وقال :

إن عتبة اطول الناس لسانا وأبلغهم في الكلام ، ولئن رجعت قريش بقوله ليكوننّ سيد قريش آخر الدهر.

ثم قال : يا عتبة! نظرت إلى سيوف بني عبد المطلب وجبنت وانتفخ سحرك (٢) وتأمر الناس بالرجوع ، وقد رأينا ثارنا بأعيننا!.

فنزل عتبة عن جمله وحمل على أبي جهل وهو على فرسه فعرقب فرسه وأخذ بشعره وقال : أمثلي يجبّن؟! وستعلم قريش اليوم أيّنا ألأم وأجبن؟ وأيّنا المفسد لقومه! لا يمشي الى الموت عيانا الا أنا وأنت! ثم أخذ يجرّه بشعره!

فاجتمع الناس يقولون : يا أبا الوليد! الله الله! لا تفتّ في أعضاد الناس تنهى عن شيء وتكون أوله .. حتى خلّصوا أبا جهل من يده.

فذهب ولبس درعه ، وطلبوا له بيضة تسع رأسه ـ وكان عظيم الهامة ـ فلم يجدوا. فاعتمّ بعمامتين. ثم أخذ سيفه ونظر الى ابنه الوليد فقال : قم يا بني. فقام

__________________

(١) العقل : الدية.

(٢) مرّ معناه. وفي القمي محرّفا : منخرك ، في الموضعين.


معه. فنظر الى أخيه شيبة ، فقام معه.

المبارزة الاولى :

وتقدم عتبة وأخوه شيبة وابنه الوليد.

ونادى : يا محمد ، أخرج إلينا أكفاءنا من قريش.

فبرز إليه ثلاثة نفر من الأنصار من بني عفرا : عوف وعوذ ومعوّذ.

فقال عتبة : من انتم؟ انتسبوا لنعرفكم.

فقالوا : نحن بنو عفرا أنصار الله وأنصار رسول الله.

قالوا : ارجعوا ، لسنا اياكم نريد ، انما نريد الأكفاء من قريش!

فبعث إليهم رسول الله : أن ارجعوا ، فرجعوا ووقفوا موقفهم (١).

ثم نظر رسول الله الى عمّه عبيدة بن الحارث بن عبد المطّلب وكان له سبعون سنة ، فقال له : قم يا عبيدة! فقام بين يديه بالسيف.

ثم نظر الى حمزة بن عبد المطلب فقال : قم يا عم!

ثم نظر الى أمير المؤمنين فقال له : قم يا علي. وكان أصغرهم.

ثم قال لهم : فاطلبوا بحقكم الذي جعله الله لكم ، قد جاءت قريش بخيلائها وفخرها تريد أن تطفئ نور الله.

ثم قال : يا عبيدة عليك بعتبة ، وقال لحمزة : عليك بشيبة. وقال لعلي : عليك بالوليد بن عتبة.

فمرّوا حتى انتهوا الى القوم. فقال عتبة : من انتم؟ انتسبوا لنعرفكم.

فقال عبيدة : أنا عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب.

__________________

(١) لكنهم استشهدوا بعد ، كما يأتي.


فقال عتبة : كفو كريم. فمن هذان؟

قال عبيدة : هما حمزة بن عبد المطلب وعليّ بن أبي طالب.

فقال عتبة : كفوان كريمان. لعن الله من أوقفنا واياكم هذا الموقف.

ووقف حمزة بإزاء شيبة ، فقال له شيبة : من أنت؟

قال حمزة : أنا حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله.

فقال شيبة : لقد لقيت أسد الحلفاء (١) ، فانظر كيف تكون صولتك يا أسد الله.

فحمل عبيدة على عتبة فضربه على رأسه ضربة ففلق هامته. وضرب عتبة عبيدة على ساقه فقطعها ، وسقطا.

وحمل حمزة على شيبة فتضاربا بالسيف حتى انثلما وكل واحد يتّقي بدرقته.

وحمل أمير المؤمنين عليه‌السلام على الوليد بن عتبة فضربه على عاتقه فاخرج السيف من ابطه ، فأخذ الوليد يمينه المقطوعة بيساره فضرب بها هامة علي عليه‌السلام.

ونادى المسلمون : يا علي ، أما ترى الكلب قد أبهر (أعجز) عمّك؟!

__________________

(١) نقل الواقدي ذلك ، ونقل عن أبي الزناد قال : لم أسمع كلمة أوهن من قوله : أنا أسد الحلفاء. يعني بالحلفاء الأجمة ١ : ٦٩ والاجمة تعني الغابة.

وقال ابن أبي الحديد : قد رويت هذه الكلمة على صيغة اخرى : أنا أسد الأحلاف. وقالوا في تفسيرهما : أراد أنا سيد أهل الحلف المطيّبين ، وكان الذين حضروه : بني عبد مناف ، وبني أسد بن عبد العزى ، وبني تيم ، وبني زهرة ، وبني الحارث بن فهر. وردّ قوم هذا التأويل فقالوا : ان المطيبين لم يكن يقال لهم : الحلفاء ولا الأحلاف ، وانما ذلك لقب خصومهم واعدائهم الذين وقع التحالف لأجلهم ، وهم : بنو عبد الدار ، وبنو مخزوم ، وبنو سهم ، وبنو جمح ، وبنو عدي بن كعب. وقال قوم في تفسيرهما : انما عنى حلف الفضول .. وهذا التفسير أيضا غير صحيح ؛ لأن بني عبد شمس لم يكونوا في حلف الفضول ، بل هم : بنو هاشم ، وبنو أسد بن عبد العزى ، وبنو زهرة ، وبنو تيم ـ دون بني الحارث بن فهر ـ فقد بان أنّ ما ذكره الواقدي أصح واثبت ـ شرح نهج البلاغة ٤ : ١٢٩ ـ ١٣٠.


فحمل علي عليه‌السلام على شيبة وقال لعمّه حمزة : يا عمّ طأطئ رأسك. فأدخل حمزة رأسه في صدره ، فضرب عليّ على رأس شيبة فطيّر نصفه!

ثمّ جاء إلى عتبة وفيه رمق فأجهز عليه.

ثمّ حمل هو وحمزة عبيدة بن الحارث حتّى أتيا به رسول الله ، فنظر إليه رسول الله واستعبر فقال عبيدة : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمّي ألست شهيدا؟

قال رسول الله : بلى ، أنت أوّل شهيد من أهل بيتي.

قال عبيدة : أما لو كان عمّك حيّا لعلم أنّي أولى بما قال ، منه.

قال رسول الله : وأيّ أعمامي تعني؟

قال عبيدة : أبا طالب ، حيث يقول :

كذبتم ـ وبيت الله ـ نبزي محمّدا

ولمّا نطاعن دونه ونناضل

ونسلمه ، حتّى نصرّع حوله

ونذهل عن أبنائنا والحلائل

فقال رسول الله : أما ترى ابنه كالليث العادي بين يدي الله ورسوله ، وابنه الآخر في جهاد الله بأرض الحبشة؟

فقال عبيدة : يا رسول الله ، أسخطت عليّ في هذه الحالة؟!

فقال رسول الله : ما سخطت عليك (١).

حامل راية قريش :

وجاء إبليس إلى قريش في صورة سراقة بن مالك فقال لهم : ادفعوا إليّ رايتكم. فدفعوها إليه.

__________________

(١) وفي الإرشاد ١ : ٧٤ فمات بالصفراء (في رجوعهم من بدر) وكذلك في المناقب ١ : ١٨٨. وفي مغازي الواقدي ١ : ١٤٧ عن يونس بن محمّد قال : أراني أبي أربعة قبور في سير من مضيق الصفراء وثلاثة بالدبة أسفل من العين المستعجلة ، وقبر عبيدة بن الحارث بذات أجدال بالمضيق أسفل من الجدول.


وأقبلت قريش يقدمها ابليس في صورة سراقة بن مالك معه الراية.

وقال ابو جهل لقريش : عليكم بأهل يثرب فاجزروهم جزرا ، وعليكم بقريش فخذوهم أخذا حتى ندخلهم مكة فنعرّفهم ضلالتهم التي كانوا عليها!

ونظر إليهم رسول الله فقال لأصحابه :

غضّوا أبصاركم ، وعضّوا على النواجذ ، ولا تسلّوا سيفا حتى آذن لكم.

ثم رفع يده الى السماء وقال :

يا رب إن تهلك هذه العصابة لا تعبد ، وإن شئت أن لا تعبد لا تعبد.

ثم اصابته الغشية ثم سري عنه وهو يسلت العرق عن وجهه ويقول لهم : هذا جبرئيل قد أتاكم في ألف من الملائكة مردفين (١).

ونظر ابليس الى جبرئيل فتراجع ورمى باللواء!

فأخذ منبّه بن الحجّاج بمجامع ثوبه ثم قال له : ويلك يا سراقة تفتّ في أعضاد الناس!.

فركله ابليس ركلة في صدره وقال : إني أرى ما لا ترون اني أخاف الله (٢).

__________________

(١) وفي اعلام الورى ١ : ١٦٨ : وأيّدهم الله بخمسة آلاف من الملائكة ، وكثر الله المسلمين في اعين الكفار ، وقلل المشركين في أعين المؤمنين كيلا يفشلوا. وكذلك في المناقب ١ : ١٨٨.

(٢) جاءت الاشارة الى ذلك في تفسير العياشي ٢ : ٥٢ و ٦٥ عن زين العابدين والصادق عليهما‌السلام ونقل الطوسي في التبيان ٥ : ١٣٥ عن الباقر والصادق عليهما‌السلام ، والسدّي وقتادة عن ابن عباس ولعله عن علي عليه‌السلام قال : ظهر لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الكناني المدلجي في جماعة من جنده وقال لهم : هذه كنانة قد اتتكم نجدة. فلما رأى الملائكة نكص على عقبيه ، فقال الحارث بن هشام : الى أين يا سراقة؟! فقال : اني أرى ما ـ لا ترون. ونقله عن ابن اسحاق أيضا. وذلك في سيرته ٢ : ٢٨ و ٣٢٣. وروى الطوسي خلاصته في أماليه : ١١ كما في بحار الأنوار ١٩ : ٢٧٠ عن جابر.


وأخذ رسول الله كفّا من حصى فرمى به في وجوه قريش وقال : شاهت الوجوه! فبعث الله رياحا تضرب في وجوه قريش (١) فكانت الهزيمة (٢).

__________________

ونقل الطبرسي في مجمع البيان ٤ : ٨٤٤ عنهما عليهما‌السلام وعن الكلبي عن السدي عن ابن عباس ، ولعله عن عليّ عليه‌السلام أيضا قال : أخذ ابليس بيد الحارث بن هشام فنكص على عقبيه ، فقال له الحارث : يا سراقة اين؟ أتخذلنا على هذه الحالة؟! قال له : اني أرى ما لا ترون! قال الحارث : والله ما نرى الا جعاسيس يثرب! فدفع ابليس في صدر الحارث وانطلق وانهزم الناس. فلما قدموا مكة قالوا : إن سراقة هزم الناس!

فبلغ ذلك سراقة فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم! فلما أسلموا علموا أن ذلك كان الشيطان. ونقل كلاما عن الشيخ المفيد في توجيه ذلك. ونقله ابن شهرآشوب في المناقب ١ : ١٨٨ كما في مجمع البيان. ونقل الخبر عن ابن عباس الواقدي ١ : ٧٠ ، ٧١ وعن رفاعة بن رافع : ٧٥.

(١) وفي الارشاد ١ : ٦٩ قال : وختم الأمر بمناولة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كفا من الحصباء فرمى بها في وجوههم وقال : شاهت الوجوه. فلم يبق منهم احد الا ولى الدبر منهزما. ورواه الطوسي في التبيان ٥ : ٩٣ عن ابن عباس قال : ان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ كفا من الحصباء فرماها في وجوههم وقال : شاهت الوجوه. فقسمها الله على أبصارهم فشغلهم بأنفسهم حتى غلبهم المسلمون وقتلوهم كل مقتل. وفي اعلام الورى ١ : ١٦٩ : وأخذ رسول الله كفا من تراب ورماه إليهم وقال : شاهت الوجوه. فلم يبق منهم أحد الا اشتغل بفرك عينيه. وكذلك في المناقب ١ : ١٨٨ عن الثعلبي عن عكرمة عن ابن عباس عن علي عليه‌السلام. وذكره ابن اسحاق في السيرة ٢ : ٢٨٠ و ٣٢٣ والواقدي ١ : ٨١ و: ٩٥ عن حكيم بن حزام ونوفل بن معاوية ، والطبري ٣ : ٤٢٤ عن عروة.

(٢) قال الواقدي : قالوا : وكان انهزام القوم وتولّيهم حين زالت الشمس. فأمر رسول الله عبد الله بن كعب بقبض الغنائم وحملها ، وأمر نفرا من أصحابه أن يعينوه. وصلّى العصر ببدر ثم رحل ١ : ١١٢ ويقال : صلى العصر بالاثيل ١ : ١١٣.


فقال رسول الله : اللهم لا يفلتنّ فرعون هذه الامة : أبو جهل بن هشام.

مقتل أبي جهل :

والتقى عمرو بن الجموح بأبي جهل فضرب عمرو أبا جهل بن هشام على فخذيه ، وضرب أبو جهل عمرا على يده فأبانها من العضد ، فتعلقت بجلدة ، فاتكأ عمرو على يده برجله ثم نزا في السماء حتى انقطعت الجلدة ورمى بيده.

وانتهى عبد الله بن مسعود الى أبي جهل وهو يتشحّط في دمه فقال له : الحمد لله الذي أخزاك!.

فرفع رأسه فقال : انما أخزى الله عبد ابن أمّ عبد الله ، لمن الدين ويلك؟ قال ابن مسعود : لله ولرسوله. واني قاتلك! ووضع رجله على عنقه.

فقال أبو جهل : لقد ارتقيت مرتقا صعبا يا رويعي الغنم! أما انه ليس شيء أشدّ علي من قتلك اياي في هذا اليوم! ألا تولّى قتلي رجل من المطيّبين أو الأحلاف!.

فاقتلع ابن مسعود بيضة كانت على رأسه فقتله وأخذ رأسه وجاء به الى رسول الله.

وقال : يا رسول الله البشرى! هذا رأس أبي جهل بن هشام. فسجد شكرا لله.

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٢ : ٣٦٨ ومغازي الواقدي ١ : ٨٧ وانظر ما يأتي في : ١٤٥ و ١٨١.


أسر العباس وعقيل :

وأسر ابو اليسر الأنصاري (١) العباس بن عبد المطّلب وعقيل بن أبي طالب ، وجاء بهما الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فقال له رسول الله : هل أعانك عليه أحد؟ قال ابو اليسر : نعم ، رجل عليه ثياب بيض. فقال رسول الله : ذاك من الملائكة.

ثم قال العباس لرسول الله : يا رسول الله ، قد كنت أسلمت ، ولكنّ القوم استكرهوني.

فقال رسول الله : إن يكن ما تذكر حقا فان الله يجزيك عليه ، فأما ظاهر

__________________

(١) في مجمع البيان ٤ : ٨١٢ : أبو اليسر كعب بن عمرو من بني سلمة ، وكذلك في سيرة ابن هشام ٢ : ٣٩٨ ومغازي الواقدي ٢ : ١٢٥٢ ومن الطريف أن ابن اسحاق ذكر في سيرته عن العباس بن عبد المطلب وآله : رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب بشأن انتصار المسلمين على قريش ٣ : ٢٥٨ وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن العباس اخرج مكرها فلا تقتلوه ٢ : ٢٨١ وعن أبي رافع مولاه : أنه وآله كانوا قد اسلموا ٢ : ٣٠١ وعدّه اول المطعمين من قريش ٢ : ٣٢٠. وذكر أسر عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث ٣ : ٣ ولم يذكر معهما العباس ، وعلله أبو ذر الخشني (ت ٦٠٤) من شراح السيرة قال : لأنه كان قد أسلم وكان يكتم اسلامه خوف قومه. كما في هامش السيرة ٣ : ٣. والواقدي لم يذكر عن العباس سوى رؤيا اخته عاتكة ١ : ٢٩ وأنه اكبر من النبيّ بثلاث سنين ١ : ٧٠ وانما اليعقوبي ذكر أسره واسلامه وافتداءه نفسه وعقيلا ونوفلا ٢ : ٤٦. وكذلك الطبري ويلاحظ أيضا أن ابن اسحاق ذكر نزول سورة الأنفال بعد بدر وفيها الآية : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى : إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ولم يذكر شيئا عن معناها وشأن نزولها في العباس ، وأما الواقدي فلم يذكرها ضمن آيات الأنفال النازلة ببدر أصلا! فلعل ذلك تحاشيا عن غضب بني العباس.


أمرك فقد كنت علينا. ثم قال له : انكم خاصمتم الله فخصمكم.

ثم قال رسول الله لعقيل : يا أبا يزيد ، قد قتل الله أبا جهل بن هشام ، وعتبة ابن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، ونبيه ومنبّه ابني الحجّاج ، ونوفل بن خويلد ، وسهيل ابن عمرو ، وفلانا وفلانا (١).

فقال عقيل : فان كنت قد اثخنت القوم إذا لا تنازع في تهامة ، وإلّا فاركب أكتافهم! فتبسم رسول الله من قوله (٢).

وكان القتلى (من المشركين) سبعين (٣) قتل منهم علي عليه‌السلام عشرين

__________________

(١) وعدّ منهم النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط. ثم يذكر أنهما قتلا بالاثيل في رجوعهم من بدر ١ : ٢٦٩.

(٢) وروى مثله الحميري في قرب الاسناد عن الصادق عن الباقر عليهما‌السلام ، كما في الميزان ٩ : ١٣٩.

(٣) منهم فتية من قريش سمّى خمسة منهم ابن اسحاق والواقدي وان كان الواقدي ذكرهم سبعة. قالوا عنهم : انهم كانوا قد أسلموا ورسول الله بمكة. فلما هاجر رسول الله الى المدينة حبسهم آباؤهم وعشائرهم بمكة وفتنوهم فافتتنوا ، فخرجوا معهم الى بدر وهم على الشك والارتياب ، فلما قدموا بدرا ورأوا قلة أصحاب النبي قالوا : غرّ هؤلاء دينهم! وهم مقتولون الآن فاصيبوا في بدر جميعا. وفيهم يقول الله تبارك وتعالى : (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ : غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ ، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) إلى آخر الآيات وفيها : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ* فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) وفيها : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ ، هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ* وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ، لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ، وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال : ٤٩ ـ ٦٣ مغازي الواقدي ١ : ٧٢ و ٧٣ وابن


رجلاً (١).

__________________

ـ إسحاق لم يذكر هذه الآيات وانما قال : نزل فيهم من القرآن قوله : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا : فِيمَ كُنْتُمْ؟ قالُوا : كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ. قالُوا : أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها؟ فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً) النساء : ٩٤ سيرة ابن هشام ٢ : ٢٩٤. وفي مغازي الواقدي بسنده عن محمد بن كعب القرظي : أنزل الله بعد بدر فيمن كان يدعي الاسلام على الشك وقتل مع المشركين ببدر وهم سبعة نفر : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) الى آخر ثلاث آيات ، وهي من سورة النحل : ١٦ ـ ١٨. والواقدي ١ : ٧٣. والأول أولى.

(١) وفي المغازي للواقدي ١ : ١٥٢ : اثنين وعشرين رجلا. وقال الشيخ المفيد في الارشاد ١ : ٦٩ ـ ٧٢ : كان المقتولون منهم سبعين رجلا ، تولّى كافة من حضر من المسلمين مع ثلاثة آلاف من الملائكة المسومين قتل الشطر منهم ، وتولّى أمير المؤمنين قتل الشطر الآخر وحده ، بمعونة الله له وتأييده وتوفيقه ونصره .. قد أثبت رواة العامة والخاصة معا أسماء الذين تولى أمير المؤمنين عليه‌السلام قتلهم ببدر من المشركين ، على اتفاق فيما نقلوه من ذلك واصطلاح. ثم ذكر من سمّوه ثم قال : فذلك ستة وثلاثون رجلا ، سوى من اختلف فيه أو شرك أمير المؤمنين عليه‌السلام فيه غيره ، وهم اكثر من شطر المقتولين ببدر.

وفي إعلام الورى ١ : ١٧٠ : وقتل علي عليه‌السلام ببدر من المشركين ستة وثلاثين رجلا. وسمى عشرة ممن ذكرهم الشيخ المفيد ، منهم : العاص بن سعيد بن العاص ، وطعمية ابن عدي بن نوفل ، ونوفل بن خويلد ، وهو عمّ الزبير بن العوام ، وهو الذي قرن طلحة وأبا بكر بحبل وعذّبهما قبل الهجرة. وعمير بن عثمان التيمي عمّ طلحة ، ومالكا وعثمان ابن عبيد الله اخوي طلحة وحنظلة بن أبي سفيان أخا معاوية ومعه زمعة بن الأسود والحارث ابنه. وقتل عمار بن ياسر : أميّة بن خلف. وأمر رسول الله أن تلقى القتلى في قليب بدر.


وكان الأسرى سبعين ـ ولم يأسر علي عليه‌السلام أحدا (١) ـ فجمعوهم وقرنوهم بالحبال. وجمعوا الغنائم (٢).

قصة القطيفة الغلول :

وكان في الغنيمة التي أصابوها يوم بدر قطيفة حمراء ففقدت. فقال رجل من أصحاب رسول الله : ما لنا لا نرى القطيفة؟ ما أظن الا أن رسول الله أخذها!

فجاء رجل الى رسول الله فقال : ان فلانا غلّ قطيفة فأخبأها هنالك.

فأمر رسول الله بحفر ذلك الموضع ، فاخرجت القطيفة (٣).

__________________

(١) أي لم يكن علي عليه‌السلام مشمولا لعتاب الله للنبيّ والمسلمين على الأسر قبل الاثخان في القتل ، ولم يطمع ولكن ابن اسحاق ٢ : ٣٠٥ والواقدي ١ : ١٣٩ ذكرا أن عليا عليه‌السلام قتل حنظلة بن أبي سفيان ، وأسر عمرو بن أبي سفيان.

(٢) تفسير القمي ١ : ٢٥٦ ـ ٢٦٩. وقال ابن اسحاق : ثم إن رسول الله أمر بما في العسكر مما جمعه الناس فجمع ٢ : ٢٩٥ وجعل على النفل عبد الله بن كعب بن عمرو بن عوف ٢ : ٢٩٧ وفي مغازي الواقدي استعمل عليها رسول الله عبد الله بن كعب بن عمرو المازني ... وكان فيها ابل ومتاع وأنطاع وثياب ١ : ١٠٠ وكانت الابل مائة وخمسين بعيرا و ١ : ١٠٢ وعشرة أفراس ، وسلاحا ١ : ١٠٣ وكانت الدروع فيهم كثيرة التقطها المسلمون ١ : ٩٦ وكان معهم أدم كثير حملوه للتجارة فغنمه المسلمون.

(٣) تفسير القمي ١ : ١٢٦ ، ١٢٧. ونقله الواقدي وقال : فسأل رسول الله الرجل. فقال : لم أفعل يا رسول الله. فقال الدالّ : يا رسول الله احفروا هاهنا. فأمر رسول الله فحفروا هناك ، فاستخرجت القطيفة.

فقال قائل : يا رسول الله ، استغفر لفلان ، مرّتين أو مرارا.

فقال رسول الله : دعونا من آتي جرم ـ ١ : ١٠٢.


نزول سورة الأنفال :

قال : ولما انهزم الناس كان أصحاب رسول الله على ثلاث فرق : فصنف كانوا عند خيمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصنف أغاروا على النهب ، وفرقة طلبت العدو وأسروا وغنموا.

وكان سعد بن معاذ أقام عند خيمة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. فلما جمعوا الغنائم والاسارى خاف سعد أن يقسم رسول الله الغنائم والأسلاب بين من قاتل ولا يعطي من تخلف على خيمة رسول الله شيئا ، فقال :

يا رسول الله ، ما منعنا أن نطلب العدو زهادة في الجهاد ولا جبن عن العدو ، ولكنّا خفنا أن نعدو موضعك فتميل عليك خيل المشركين. والناس كثير ـ يا رسول الله ـ والغنائم قليلة ، ومتى يعطى هؤلاء (المقاتلون) لم يبق لأصحابك شيء.

وقال سعد بن أبي وقاص : يا رسول الله ، أتعطي فارس القوم الذي يحميهم مثل ما تعطي الضعيف؟ فقال النبيّ : ثكلتك امك! وهل تنصرون الّا بضعفائكم! (١)

فاختلفوا فيما بينهم حتى سألوا رسول الله : لمن هذه الغنائم؟

فأنزل الله : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ

__________________

قالوا : وكان انهزام القوم وتولّيهم حين زالت الشمس .. فصلى العصر ببدر ثم راح. ـ ولعله في الأصل : صلى الظهر ببدر ثم راح ، اذ يعود فيقول : ويقال : صلى العصر بالاثيل (على أربعة أميال من بدر ٨ كم) ١ : ١١٣.

(١) رواه الواقدي بسنده عن عكرمة ١ : ٩٩.


وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(١).

فرجع الناس وليس لهم في الغنيمة شيء.

ثم أنزل الله بعد ذلك : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ...)(٢).

ولم يخمّس رسول الله ببدر ، وقسمه بين أصحابه (٣).

وقال الطوسي في «التبيان» : قال قوم : إن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان نفّل أقواما على بلاء ، فأبلى اقوام وتخلّف آخرون مع النبيّ ، فلما انقضت الحرب اختلفوا ، فقال قوم : نحن أخذنا لأنا قاتلنا ، وقال آخرون : ونحن كنا وراءكم نحفظكم ، وقال آخرون : نحن أحطنا بالنبيّ ، ولو أردنا لأخذنا. فأنزل الله هذه الآية يعلمهم أن ما فعل فيها رسول الله ماض جائز. رواه عكرمة عن ابن عباس و (هو عن) عبادة بن الصامت (٤).

وينسجم مع هذه الرواية عن ابن عباس ما رواه عنه قبلها : أن الأنفال هي سلب الرجل وفرسه ، فللنبيّ أن ينفله من شاء (٥).

ونقل عن قتادة : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان ينفل الرجل من المؤمنين سلب الرجل

__________________

(١) الآية الاولى من سورة الأنفال.

(٢) الأنفال : ٤١.

(٣) تفسير القمي ١ : ٢٥٤ ، ٢٥٥ ورواه الواقدي بسنده عن عبادة بن الصامت. وتمامه : ثم استقبل يأخذ الخمس بعد بدر.

(٤) التبيان ٥ : ٧٢ ، ٧٣.

(٥) التبيان ٥ : ٧٢.


من الكفار اذا قتله (١).

ونقل الطبرسي في «مجمع البيان» قول ابن عباس وأضاف : إن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال يوم بدر : من جاء بكذا فله كذا ، ومن جاء بأسير فله كذا. فتسارع الشبّان وبقي الشيوخ تحت الرايات ، فلما انقضت الحرب طلب الشبّان ما كان قد نفّلهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال الشيوخ : كنا ردءا لكم ، ولو وقعت عليكم الهزيمة لرجعتم إلينا. وجرى بين أبي اليسر كعب بن عمرو الأنصاري وبين سعد بن معاذ كلام. فنزع الله الغنائم منهم وجعلها لرسوله يفعل بها ما يشاء ، فقسّمها بينهم بالسوية.

ثم روى مستند رواية ابن عباس عن عبادة بن الصامت قال : اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا فجعله الى رسوله ، فقسمه بيننا على السواء. وكان ذلك في تقوى الله وطاعته وصلاح ذات البين (٢).

وقد روى السيوطي في «الدر المنثور» ما لعلّه تفصيل لهذا المجمل بإسناده عن عبادة بن الصامت قال : خرجت مع رسول الله وشهدت معه بدرا والتقى الناس وهزم الله العدو ، فانطلقت طائفة في آثارهم المنهزمين يقتلون منهم ، وأحدقت طائفة برسول الله لئلا يصيب العدوّ منه غرّة ، واكبّت طائفة على غنيمة العسكر يجمعونها ويجوزونها.

فلما فاء الناس بعضهم الى بعض وكان الليل قال الذين جمعوا الغنائم : نحن جمعناها وحويناها فليس لأحد فيها نصيب ، وقال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم بأحقّ بها منّا ، نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم ، وقال الذين أحدقوا برسول

__________________

(١) التبيان ٥ : ٧٤.

(٢) مجمع البيان ٤ : ٧٩٦ ، ٧٩٧ ورواها ابن اسحاق في ابن هشام ٢ : ٢٩٦ و ٣٢٢.


الله : لستم بأحق منا نحن أحدقنا برسول الله وخفنا أن يصيب العدو منه غرة.

فنزلت : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) فقسّمها رسول الله بين المسلمين (١).

في منزل اثيل :

وقوله : «وكان الليل» يعني أن ذلك كان بعد رجوعهم من بدر وبعد مسألة الأسرى في منزل الاثيل (٢) حيث قال علي بن ابراهيم القمي :

فرحل رسول الله ، وساقوا الاسارى على أقدامهم مقرونين بالحبال الى الجمال. وعند غروب الشمس نزلوا الاثيل (٣) ـ وهو من بدر على ستة أميال (اثني عشر كيلومترا الى المدينة).

ونظر رسول الله الى عقبة بن أبي معيط والنظر بن الحارث بن كلدة وهما في قران واحد ، فقال لعلي عليه‌السلام : يا علي ، عليّ بالنضر وعقبة.

فجاء علي عليه‌السلام فأخذ بشعر النضر فجرّه الى رسول الله.

فقال النضر : يا محمد ، أسألك ـ بالرحم الذي بيني وبينك ـ الّا أجريتني كرجل من قريش ، إن قتلتهم قتلتني ، وإن فاديتهم فاديتني ، وإن أطلقتهم أطلقتني.

فقال رسول الله : لا رحم بيني وبينك ، قطع الله الرحم بالاسلام.

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ١٥٩ وعنه في الميزان ٩ : ١٦. واذ كان التقسيم في منزل سير بعد الاثيل لذلك أجّلنا تفصيل التقسيم بعد ذكر ما حدث في منزل الاثيل.

(٢) كما صرّح بذلك الواقدي قال : لما خرج النبيّ من بدر وكان بالاثيل عرض عليه الأسرى ـ مغازي الواقدي ١ : ١٠٦.

(٣) وفي إعلام الورى ١ : ١٦٩ : بالصفراء.


ثم التفت الى عليّ وقال : قدّمه ـ يا علي ـ فاضرب عنقه. فقدّمه وضرب عنقه.

ثم قال : قدّم عقبة فاضرب عنقه. فقدّمه وضرب عنقه (١).

فقام الأنصار وقالوا : يا رسول الله ، قد قتلنا سبعين وأسرنا سبعين ، وهم قومك واساراك ، ولكن هبهم لنا يا رسول الله ، وخذ منهم الفداء وأطلقهم (٢) قالوا : يا رسول الله لا تقتلهم وهبهم لنا حتى نفاديهم.

فنزل جبرئيل فقال : إن الله قد أباح لهم أن يأخذوا من هؤلاء الفداء ويطلقوهم ، على أن يستشهد منهم في عام قابل بقدر من يأخذون منه الفداء من هؤلاء. فأخبرهم رسول الله بهذا الشرط. فقالوا : قد رضينا به ، نأخذ العام الفداء من هؤلاء نتقوى به ويقتل منّا في عام قابل بعدد ما نأخذ منهم الفداء وندخل الجنة (٣).

فاطلق لهم أن يأخذوا الفداء ويطلقوهم (٤).

__________________

(١) كانا من المستهزئين والمحرّضين على حرب بدر ـ الواقدي ١ : ٣٧.

(٢) تفسير القمي ١ : ٢٦٩ ، ٢٧٠.

(٣) تفسير القمي ١ : ١٢٦.

(٤) تفسير القمي ١ : ٢٧٠ وروى مثله الواقدي بسنده عن علي عليه‌السلام في المغازي ١ : ١٠٧ واستظهر من هذا أن ما نزل من سورة الأنفال كان الى الثلثين من السورة ، الى الآية الرابعة والخمسين منها ، مشتملة في الآية الاولى على حكم الأنفال وفي الآية الواحدة والأربعين على حكم ما غنموا وتخميسه ، أما العتاب في باب أخذهم الأسرى ثم تحليل ما غنموا من فدائهم لهم في الآيات : ٦٧ الى ٧٠ فهي بعد الآيات : ٥٥ الى ٦٦ التي قال الواقدي عنها أنها نزلت في بني قينقاع ووقعتهم في منتصف شهر شوال ثم قفول الرسول منهم الى المدينة ووصول وفود مكة في فداء الأسرى.


العباس بن عبد المطلّب وعقيل بن أبي طالب :

روى الكليني في «روضة الكافي» بسنده عن معاوية بن عمار الدهني عن الصادق عليه‌السلام قال : إن رسول الله نهى يوم بدر أن يقتل أحد من بني هاشم ، فأسروا.

ثم أرسل عليا وقال له : انظر من هاهنا من بني هاشم؟ فمرّ علي عليه‌السلام ورجع الى رسول الله فقال له : هذا أبو الفضل في يد فلان ، وهذا عقيل في يد فلان ، وهذا نوفل بن الحارث في يد فلان.

وجيء بالعباس فقيل له : افد نفسك وافد ابني أخيك (فالتفت الى النبيّ) وقال : يا محمّد! تركتني أسأل قريشا في كفّي؟!

قال رسول الله : أعط مما خلّفت عند أم الفضل وقلت لها : إن أصابني شيء في وجهي هذا فأنفقيه على نفسك وولدك.

قال : يا ابن أخي! من أخبرك بهذا؟

قال : أتاني به جبرئيل من عند الله.

فقال : والمحلوف به! ما علم بهذا أحد الّا أنا وهي ، فأشهد أنك رسول الله (١).

وروى الطبرسي في «مجمع البيان» عن الباقر عليه‌السلام قال : كان الفداء يوم بدر كل رجل من المشركين بأربعين اوقية ، والأوقية : أربعون مثقالا ، الّا العباس فان فداءه كان مائة أوقية. وكان اخذ منه حين اسر عشرون اوقية ذهبا ، فقال النبيّ : ذلك غنيمة ، ففاد نفسك وابني أخيك نوفلا وعقيلا. فقال : ليس معي شيء. فقال : أين الذهب الذي سلّمته الى أمّ الفضل وقلت : ان حدث بي حدث فهو لك وللفضل وعبد الله وقثم؟ فقال : من أخبرك بهذا؟ قال : الله تعالى.

__________________

(١) روضة الكافي : ٢٠٢ ورواه العياشي في تفسيره ٢ : ٦٨ و ٦٩ والحميري في قرب الاسناد كما في الميزان ٩ : ١٤٠.


فقال : أشهد أنك رسول الله ، والله ما اطّلع على هذا أحد الّا الله تعالى (١).

قال الواقدي : ومنّ رسول الله من الأسرى يوم بدر على أبي عزة عمرو بن عبد الله الجمحي ، وكان شاعرا ، فقال لرسول الله : لي خمس بنات ليس لهنّ شيء ، فتصدّق بي عليهن يا محمد! واعطيك موثقا لا اقاتلك ولا اكثر عليك أبدا.

ففعل رسول الله وأعتقه وأرسله (٢).

الوصية بالأسرى :

قال : قالوا : ولما حبس الأسرى ببدر استعمل النبيّ عليهم غلامه شقران

__________________

(١) مجمع البيان ٤ : ٨٦٠ وقال في إعلام الورى ١ : ١٦٩ : قال العباس : والله يا رسول الله اني لأعلم أنك رسول الله ، إنّ هذا لشيء ما علمه غيري وغير أمّ الفضل. ثم فدى نفسه بمائة اوقية ، وكل واحد من اولئك بأربعين اوقية. ومن الطريف أن ابن اسحاق والواقدي وابن هشام تحاشوا ذكر أسر العباس ، وذكروا أخبارا تنبئ عن سابق اسلام العباس واسرته!

(٢) فلما خرجت قريش الى احد خرج ابو عزة يدعو العرب يحشرهم ثم خرج مع قريش الى احد فاسر وحده من قريش ، فقال : يا محمد! لي بنات فامنن علي وانما اخرجت مكرها! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أين ما أعطيتني من العهد والميثاق؟! لا والله ، لا تمسح عارضيك بمكة تقول : سخرت بمحمد مرّتين ، إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين. يا عاصم بن ثابت ، قدّمه فاضرب عنقه. فقدّمه وضرب عنقه. مغازي الواقدي ١ : ١١١.


وقد شهد بدرا ولم يعتقه يومئذ (١) وقال : إنّ بكم عيلة ، فلا يفوتنكم رجل من هؤلاء الّا بفداء أو ضربة عنق.

فقال عبد الله بن مسعود : يا رسول الله ، إلّا سهيلا (أخ له) فاني رأيته يظهر الاسلام بمكة. فسكت النبيّ فلم يرد عليه ، ثم رفع رسول الله رأسه فقال : إلّا سهيلا (٢).

وروي عن الزهري روى عن النبيّ قال لأصحابه في الأسرى : استوصوا بهم خيرا.

فكان ابو العاص بن الربيع يقول : كنت مع رهط من الأنصار وكان التمر زادهم والخبز معهم قليل ، وكنا اذا تغدّينا أو تعشّينا (٣) أكلوا التمر وآثروني بالخبز ، حتى إن الرجل لتقع في يده الكسرة فيدفعها إليّ ، جزاهم الله خيرا.

وكان الوليد بن الوليد بن المغيرة يقول مثل هذا ويزيد : وكانوا يحملوننا ويمشون (٤) وروى ابن اسحاق عن أبي عزيز بن عمير أخي مصعب بن عمير ـ وكان صاحب لواء المشركين ببدر بعد النضر بن الحارث من بني عبد الدار ـ قال : كنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر ، فكانوا لوصية رسول الله بنا اذا قدّموا غداءهم أو عشاءهم خصّوني بالخبز واكلوا التمر ، حتى ما كانت تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلّا نفحني بها (٥).

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ١٠٥ و ١٠٧ و ١١٦.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ١٠٩ ، ١١٠ وعليه فهذا ثاني من منّ عليه واطلق بلا فداء. وفي الخبر : سهيل بن بيضاء ، وقال الواقدي : سهيل بن بيضاء كان من مهاجرة الحبشة ولم يشهد بدرا ، فهو وهم.

(٣) ذلك انهم مفطرون في سفرهم.

(٤) مغازي الواقدي ١ : ١١٩ وعليه فما مرّ عن القمي أنهم ساقوهم راجلين لم يدم طويلا.

(٥) سيرة ابن هشام ٢ : ١١٩.


وغالبا ما كان الأسير مع من أسره ، وكان مالك بن الدّخشم قد أسر أبا يزيد سهيل بن عمرو من المطعمين بمكة. فروى الواقدي قال : في منزل شنوكة قال سهيل لمالك : يا مالك خلّ سبيلي للغائط. فقام مالك على رأسه! فقال سهيل : إني احتشم فاستأخر عنّي. فاستأخر عنه ، فانتزع سهيل يده من القران ومضى على وجهه. فلما أبطأ سهيل افتقده مالك فصاح في الناس. وخرج النبيّ فقال : من وجده فليقتله! وخرج النبيّ في طلبه فوجده نفسه قد أخفى او دفن نفسه بين شجرات سمرات ، فأمر به فربطت يداه الى عنقه ثم قرنه الى راحلته (١).

تقسيم الغنائم :

مرّ أن تقسيم الغنائم كان بعد اختلافهم فيها ونزول سورة الأنفال قطعا لخلافهم فيها وجوابا لسؤالهم عنها ، ويبدو أن ذلك كان بعد بدر وقبل قفولهم من منزل سير. فقد قال ابن اسحاق : أمر رسول الله فجمع ما جمعه الناس مما كان في عسكر المشركين ببدر .. وأمر الناس أن يردّوا ما كان في أيديهم من النفل ... ثم أقبل قافلا الى المدينة واحتمل معهم النفل الذي اصيب من المشركين ، وجعل عليه عبد الله بن كعب بن عمرو بن عوف المازني من بني النجار. حتى خرج من مضيق الصفراء ونزل على كثيب بين المضيق والنازية يقال له سير ، فقسّم هنالك النفل على السّواء (٢).

وروى الواقدي بسنده عن سهل بن أبي حثمة الأنصاري قال : جمعت الغنائم واستعمل عليها رسول الله عبد الله بن كعب بن عمرو المازني ـ وقيل :

__________________

(١) فلم يركب خطوة حتى قدم المدينة مغازي الواقدي ١ : ١١٧ ، ومن هنا أيضا يفهم أن ما ذكره القميّ لم يدم طويلا.

(٢) سيرة ابن هشام ٢ : ٢٩٥ ـ ٢٩٧.


خبّاب بن الأرت ـ وقسّمها بسير وهو شعب بمضيق الصفراء (١).

وفي رواية اخرى عنه قال : أمر رسول الله : أن تردّ الأسلاب وما أخذوا في المغنم والأسرى ، فقسم الأسلاب التي نفّلها للرجل في المبارزة والذي اخذ في العسكر ، قسّمه بينهم على فواق (٢) ، وأقرع بينهم في الأسرى (٣) يعني أنه استردّ الجميع وقسّمه.

ولكن روى عن موسى بن سعد بن زيد بن ثابت عن أبيه عن جده قال : نادى منادي النبيّ يومئذ : من قتل قتيلا فله سلبه ، ومن أسر أسيرا فهو له ، فكان من قتل قتيلا يعطيه سلبه ، وما وجد في العسكر وما أخذوه بغير قتال فقسّمه بينهم على فواق. وهذا يعني أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يسترد الأسلاب بل انما سائر الغنائم والأسرى.

ولذلك قال الواقدي والثبت عندنا من هذا : أن كل ما جعله لهم فانه قد سلّمه لهم (٤) وما لم يجعل لهم فقد قسّمه بينهم.

وقال : قالوا : أخذ علي عليه‌السلام درع الوليد بن عتبة ومغفره وبيضته ، وأخذ حمزة سلاح عتبة ، وأخذ عبيدة بن الحارث درع شيبة ، فهي في ورثته.

وأما سلب أبي جهل فقد روى عن سعيد بن خالد القارظي : أن النبيّ أعطاه لعبد الله بن مسعود ، وروى عن خارجة بن كعب القرظي : أن النبيّ دفعه الى معاذ بن عمرو بن الجموح.

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ١٠٠ و ١١٤.

(٢) قالوا في معناه : أي جعل من رأى تفضيله فوق بعض.

(٣) وهذا أول مورد للعمل بالقرعة في تقسيم الأسرى للمقاتلين.

(٤) سوى الأسرى فانه صلى‌الله‌عليه‌وآله جعلهم لمن أسرهم ثم لم يسلمهم لهم بل اقترع عليهم بينهم كما مرّ ويأتي.


ثم روى بسنده عن عبد الله بن مكنف الأنصاري قال : كان الرجال ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، وكانت السهام ثلاثمائة وسبعة عشر سهما ، أربعة أسهم للمقداد والزبير لخيلهما ، وثمانية أسهم لثمانية نفر لم يحضروا وأسهم لهم رسول الله (١) ثلاثة من المهاجرين : سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وطلحة بن عبيد الله اللذان بعثهما رسول الله يتحسّسان العير (٢) قال ابن اسحاق : وكان عثمان بن عفّان بن أبي العاص بن أميّة بن عبد شمس قد تخلّف على امرأته رقيّة بنت رسول الله ، فضرب له رسول الله بسهمه (٣) وقال الواقدي : خلّفه رسول الله (٤).

ومن الأنصار : أبو لبابة بن عبد المنذر ، خلّفه على المدينة. وعاصم بن عدي ، خلّفه على قباء وأهل العالية. والحارث بن حاطب ، أمره بأمره في بني عمرو بن عوف. وخوّات بن جبير ، والحارث بن الصّمة ، كسر بهم بالروحاء في الطريق الى بدر.

وقد روى أنه ضرب لأربعة رجال آخرين ليس بمجتمع عليهم كاجتماعهم على الثمانية ، منهم سعد بن عبادة ، وقد مرّ خبره أنه كان قد نهش فمنعه ذلك عن الخروج. وسعد بن مالك الساعدي ، وكان قد تجهّز الى بدر فمرض ، ومات خلاف رسول الله ، ولرجلين آخرين.

__________________

(١) كذا ، ولا يخفى ما فيه من اختلال في التقسيم ، فإنّ السبعة عشر بعد الثلاثمائة لا تزيد على الثلاثة عشر بعد الثلاثمائة الا بأربعة ، فلو ذهب منها اثنان للفارسين بقيت سهمان لا ثمانية.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ١٠١ وقال قبل ذلك : فقدم طلحة وسعيد المدينة اليوم الذي لاقاهم رسول الله ببدر ، واستقبلا الرسول فلقياه على المحجة ـ لتربان بعد السّيّالة وقبل ملل ١ : ٢٠ والسيالة أولى المنازل الى مكة وملل ثانيتها. وقال ابن اسحاق فيهما في السيرة ٢ : ٢٣٩ و ٢٤١ : كانا في الشام وقدما.

(٣) سيرة ابن هشام ٢ : ٣٣٤.

(٤) وسيأتي الكلام عليه في وفاة رقية في ذي الحجة.


وكانت الابل التي غنموها يومئذ مائة وخمسين بعيرا معها أدم كثير حملوه للتجارة. وغنموا من خيولهم عشرة أفراس وسلاحا. فكانت تصيب الرجل بعير ومتاع وآخر أنطاع (١).

وكان لرسول الله صفيّ من الغنيمة قبل أن تقسم ، فكان جمل أبي جهل له صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكان يغزو عليه حتى ساقه هدي الحديبية (٢). وتنفّل رسول الله سيف المنبّه بن الحجاج وكان يقال له : ذا الفقار (أي الفقرات بمعنى الحفر).

وكان لا يردّ سؤالا ، فسأله الأرقم بن أبي الأرقم سيف المرزبان لابن عائذ المخزومي فأعطاه اياه. وسأله سعد بن أبي وقاص سيف العاص بن منبّه فأعطاه.

وكان مماليك اربعة حضروا بدرا فلم يسهم لهم ولكن اعطاهم شيئا منه : غلامه شقران استعمله على الاسرى فاعطي شيئا من فداء كل اسير. وغلام لسعد ابن معاذ ، وغلام لعبد الرحمن بن عوف وغلام حاطب بن أبي بلتعة ، أعطاهم من الغنائم (٣).

بعث البشير بالفتح :

قال الواقدي : وقدّم رسول الله عبد الله بن رواحة (بشيرا الى أهل العالية من المدينة ، وزيد بن حارثة الى أهل السافلة منها) (٤).

وافترق عبد الله بن رواحة عن زيد بن حارثة من العقيق فاتبع دور

__________________

(١) وهذا هو معنى الفواق بعضهم فوق بعض أو بتفاوت ، وهو طبيعي مع هذه الغنائم ، وعليه فلا يصح ما في سيرة ابن هشام ٢ : ٢٩٧ وغيرها : أنه قسّمه على السّواء. وكيف؟!

(٢) في تحديد الحديبية انظر مجلة ميقات الحج ٢ : ٦٥.

(٣) مغازي الواقدي ١ : ٩٩ ـ ١٠٥.

(٤) سيرة ابن هشام ٢ : ٢٩٦ وذكر ابن رواحة في ٣ : ٥٤.


الأنصار بالعالية وهم بنو خطمة وبنو عمرو بن عوف وبنو وائل ، وجعل ينادي على راحلته :

يا معشر الأنصار أبشروا بسلامة رسول الله وقتل المشركين وأسرهم ، قتل ابنا ربيعة ، وابنا الحجاج ، وابو جهل ، وأميّة بن خلف وزمعة بن الأسود ، واسر سهيل بن عمرو ذو الأنياب في أسرى كثيرين ، وغدا يقدم رسول الله ان شاء الله ومعه الأسرى مقرّنين. وجعل الأطفال يشتدّون معه ويقولون : قتل أبو جهل الفاسق ، قتل ابو جهل الفاسق.

وقدم زيد بن حارثة الى المدينة على الناقة القصواء ، للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلما بلغ المصلى صاح : قتل عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وابنا الحجاج ، وابو جهل وابو البختري ، وأميّة بن خلف ، وزمعة بن الأسود ، واسر سهيل بن عمرو ذو الأنياب في اسرى كثيرة.

فقال رجل من المنافقين لأبي لبابة بن عبد المنذر : هذا زيد لا يدري ما يقول من الرعب ، وقد قتل محمد وقتل معه علية أصحابه ، وقد تفرق أصحابكم تفرّقا لا يجتمعون بعده أبدا ، وهذه ناقة محمد نعرفها!

وقال آخر من المنافقين لاسامة بن زيد : قتل صاحبكم ومن معه!.

قال اسامة : فجئت حتى خلوت بأبي (وقال ابن اسحاق : فجئته وهو واقف بالمصلى قد غشيه الناس) فقلت : يا أبه ، أحق ما تقول؟ قال : إي والله حقا يا بني (١).

قال ابن اسحاق : وكان كعب بن الأشرف من (يهود) بني نبهان من طيّ وأمه من بني النضير ، فلما بلغه الخبر قال : أحقّ هذا؟ أترون محمدا قتل هؤلاء

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ١١٥.


الذين يسمّيانهم هذان الرجلان : زيد وعبد الله؟ فهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس! والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم فبطن الأرض خير من ظهرها! (١).

استقبال الرسول :

واستقبله الناس بالروحاء يهنّئونه بفتح الله عليه.

ولقيه في تربان عبد الله بن انيس فقال : يا رسول الله ، الحمد لله على سلامتك وظفرك ، كنت يا رسول الله ليالي خرجت مورودا (محموما بالنوبة) فلم يفارقني حتى أمس ، فأقبلت إليك. فقال : آجرك الله.

ولقيه اسيد بن حضير فقال : يا رسول الله ، الحمد لله الذي ظفّرك وأقر عينك! والله يا رسول الله ما كان تخلّفي عن بدر وأنا أظن أنك تلقى عدوّا ، ولكنّي ظننت أنها العير ، ولو ظننت أنه العدو ما تخلّفت. فقال رسول الله : صدقت.

أما الأسرى فقد قدموا بهم المدينة قبله أو بعده بيوم أو بعض يوم (٢).

ولما التقى برسول الله وجوه الخزرج يهنئونه بفتح الله ، قال سلمة بن سلامة ابن وقش : ما الذي تهنّئوننا به؟ فو الله ما قتلنا إلّا عجائز صلعا.

فتبسم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : يا ابن أخي اولئك الملأ ، لو رأيتهم لهبتهم ولو

__________________

(١) ابن هشام ٣ : ٥٥.

(٢) وقد قال في مرجعه من بدر : كان قتل عصماء بنت مروان لخمس ليال بقين من رمضان مرجع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من بدر ١ : ١٧٤ ونقل الطبري عن بعضهم قال : كان رجوعه الى المدينة يوم الاربعاء لثماني ليال بقين من رمضان ٢ : ٤٨٢ ولعله عنه أخذ المسعودي في التنبيه والاشراف : ٢٠٦ : وكانت غيبة رسول الله الى أن عاد الى المدينة تسعة عشر يوما ، ودخلها لثمان بقين من شهر رمضان. اي في الحادي أو الثاني والعشرين من رمضان.


أمروك لأطعتهم ، ولو رأيت فعالك مع فعالهم لاحتقرته ، وبئس القوم كانوا لنبيّهم!

فقال سلمة : أعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله ، انك يا رسول الله لم تزل عني معرضا منذ كنّا بالروحاء في بدأتنا؟!

فقال رسول الله : أما ما قلت للأعرابي : وقعت على ناقتك فهي حبلى منك! ففحشت وقلت ما لا علم لك به! وأما ما قلت في القوم ، فانك عمدت الى نعمة من نعم الله تزهدها! فاعتذر الى النبيّ ، فقبل منه رسول الله معذرته (١).

البكاء على الشهداء :

وعقد اسر الشهداء مناحة على شهدائهم منهم آل العفراء على ولديهم معوّذ وعوف ابني العفراء ، وشاركتهم سودة بنت زمعة زوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان ذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب (٢).

وروى الواقدي بسنده عن داود بن الحصين عن رجال من بني عبد الأشهل قالوا : لما بلغ مقتل حارثة بن سراقة الى امّه بالمدينة ، وكان مقتله على حوض بدر إذ أتاه سهم غرب (٣) فوقع في نحره فقتل ، قالت أمه : فو الله لا أبكيه حتى يقدم رسول الله فأسأله ، فان كان ابني في الجنة لم أبك عليه ، وان كان ابني في النار بكيته!

فلما قدم رسول الله من بدر جاءت أم حارثة الى رسول الله فقالت :

يا رسول الله ، قد عرفت موضع حارثة من قلبي فأردت أن أبكي عليه فقلت : لا أفعل حتى أسأل رسول الله فان كان في الجنة لم أبك عليه ، وان كان في

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ١١٦.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ١١٤ ـ ١١٨ والخبر الأخير في سيرة ابن هشام أيضا ٢ : ٢٩٩.

(٣) غرب : لا يعرف راميه.


النار بكيته.

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : هبلت (هلكت) أجنّة واحدة؟ انها جنان كثيرة! والذي نفسي بيده انه لفي الفردوس الأعلى!.

فقالت : فلا أبكي عليه أبدا.

فدعا رسول الله بماء فغمس يده فيه ومضمض فاه ثم ناول أم حارثة فشربت ثم ناولته ابنتها فشربت ، ثم أمرهما فنضحتا منه في جيوبهما ففعلتا. فرجعتا من عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وما بالمدينة امرأتان أقرّ عينا منهما ولا أسرّ (١).

الأسرى في المدينة :

قال : ولما قدموا بالأسرى لم يبق بالمدينة يهودي ولا مشرك ولا منافق الّا ذل ، وقال كعب بن الأشرف اليهودي : بطن الأرض اليوم خير من ظهرها ، هؤلاء أشراف الناس وساداتهم وملوك العرب وأهل الحرم والأمن قد اصيبوا (٢).

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ٩٣ ، ٩٤.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ١٢١. وروى الواقدي بسنده عن كعب بن مالك ، وجابر بن عبد الله الأنصاري قالا : لما رأى ابن الأشرف الأسرى مقرّنين كبت وذلّ وقال لهم : ويلكم! والله لبطن الأرض خير من ظهرها اليوم! هؤلاء سراة القوم قد قتلوا واسروا ، فما عندكم؟ قالوا : عداوته ما حيينا! قال : وما أنتم وقد وطأ قومه وأصابهم؟! ولكني أخرج الى قريش فأحضّهم وأبكي قتلاهم ، فلعلهم ينتدبون فاخرج معهم.

فخرج حتى قدم مكة ، ووضع رحله عند أبي ودّاعه بن ضبيرة السّهمي (وهو صهر بني أميّة وأوّل أسير افتدي) فجعل يرثي قريشا ـ المغازي ١ : ١٨٥.

وروى ابن اسحاق عن رواته قالوا : خرج حتى قدم مكة .. وجعل ينشد الأشعار يبكي أصحاب القليب من قريش الذين اصيبوا ببدر ، ويحرّض بذلك على رسول الله ـ ٣ : ٥٥.


وقال آخر منهم : هو الذي نجده منعوتا ، والله لا ترفع له راية بعد اليوم الّا ظفرت!

وقال عبد الله بن نبتل : ليت أنّا كنا خرجنا معه حتى نصيب معه غنيمة! وخرج كعب الى مكة ، ورثي قتلى بدر من المشركين وهجى المسلمين. فدعا رسول الله حسّان بن ثابت الأنصاري فأخذ يهجو من نزل كعب عنده (أبا وداعة السهمي) حتى رجع كعب الى المدينة (١).

وروى ابن اسحاق عن نبيه بن وهب قال : لما أقبل رسول الله بالاسارى فرّقهم بين أصحابه واستوصاهم بهم خيرا (٢).

فداء الأسرى :

وكان أبو وداعة بن ضبيرة (السهميّ) أول من افتدي. وكان رسول الله قد قال لهم : إن له بمكة ابنا كيّسا تاجرا ذا مال ، وكأنّكم به قد جاء في طلب فداء أبيه (٣) وهو مغل فداءه (٤) فلما قدم الحيسمان الخزاعي مكة بخبر قتلاهم

__________________

ـ أمّا عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين فقد قال الواقدي فيه : كان لعبد الله بن ابيّ مقام يقومه كل جمعة شرفا له لا يريد تركه ، فلما رجع رسول الله من (بدر) الى المدينة جلس على المنبر يوم الجمعة فقام ابن أبيّ فقال : هذا رسول الله بين أظهركم قد اكرمكم الله به ، فانصروه وأطيعوه ـ ١ : ٣١٨. وكلمة (بدر) في المطبوع (احد) ويبدو خطؤه من سياق الكلام.

(١) مغازي الواقدي ١ : ١٢١ ، ١٢٢ باختصار.

(٢) سيرة ابن هشام ٢ : ٢٩٩.

(٣) سيرة ابن هشام ٢ : ٣٠٣.

(٤) مغازي الواقدي ١ : ١٢٩.


وأسراهم (١) انسلّ المطلب بن أبي وداعة ليلا وأخذ شرقيّ مكة فسار أربع ليال الى المدينة ، فافتدى أباه بأربعة آلاف درهم وانطلق به (٢) ثم قدم بعده بثلاث ليال خمسة عشر رجلا منهم في فداء أصحابهم : ابيّ بن خلف الجمحي ، وجبير بن مطعم ، وخالد بن الوليد المخزومي ، وطلحة بن أبي طلحة ، وعبد الله بن أبي ربيعة المخزومي ، وعثمان بن أبي حبيش المخزومي ، وعكرمة بن أبي جهل المخزومي ، وعمرو بن قيس السهمي ، وعمرو بن الربيع أخو أبي العاص بن الربيع صهر الرسول ، وفروة بن السائب المخزومي ، ومكرز بن حفص ، وهشام بن الوليد المخزومي ، والوليد بن عقبة بن أبي معيط.

وكان الفداء من أربعة آلاف ، الى ثلاثة آلاف ، الى ألفين ، الى ألف درهم ، الى قوم لا مال لهم منّ عليهم رسول الله (٣).

وقد مرّت رواية الواقدي عن سهل بن حثمة الأنصاري قال : أمر رسول الله أن يردّوا الأسرى ثم أقرع بينهم فيهم (٤) وروى عن أبي عفير قال : لما أمر النبيّ أن يردّوا الأسرى ، كان سعد بن أبي وقاص قد أسر الحارث بن أبي وجزة من بني عبد شمس ، فردّه ، ثم صار إليه أيضا بالقرعة. فقدم في فدائه الوليد بن عقبة بن أبي معيط (فوجد أباه قد قتل) ففدى الحارث بأربعة آلاف درهم (٥) وكان ممن أسره أبو اليسر الأنصاري : ابو عزيز بن عمير اخو مصعب بن عمير ، ثم اقترع عليه فصار لمحرز بن نضلة الأنصاري ، فبعثت أمه فيه بأربعة آلاف درهم.

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ٣٠٠ ومغازي الواقدي ١ : ١٢٠.

(٢) سيرة ابن هشام ٢ : ٣٠٣ ومغازي الواقدي ١ : ١٢٩.

(٣) مغازي الواقدي ١ : ١٢٩ ، ١٣٠.

(٤) مغازي الواقدي ١ : ١٠٠.

(٥) مغازي الواقدي ١ : ١٣٩.


وافتدى عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي : أميّة بن أبي حذيفة ، وخالد بن هشام ، وعثمان بن عبد الله ، كل رجل منهم بأربعة آلاف درهم.

وافتدى خالد بن الوليد أخاه الوليد بن الوليد بأربعة آلاف درهم ، وخرج به هو وأخوهم هشام حتى بلغا بالوليد الى ذي الحليفة (بينها وبين المدينة ستة أميال اثنا عشر كيلومترا) فأفلت منهم وأتى النبيّ فأسلم وقال : كرهت أن اسلم قبل أن افتدى.

وافتدى مكرز بن حفص : أبا يزيد سهيل بن عمرو بأربعة آلاف ، فلما قالوا له : هات المال. قال : اجعلوا رجلا مكان رجل وخلّوا سبيله. فخلّوا سبيل سهيل وحبسوا مكرز ، وبعث سهيل بالمال مكانه من مكة ، فأطلقوه (١).

قال ابن اسحاق : وممن سمّي لنا من الاسارى ممن منّ عليه بغير فداء : ابو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي ، قال لرسول الله : يا رسول الله لقد عرفت أن ليس لي مال وأني ذو حاجة وذو عيال ، فامنن علي (ومدحه بخمسة أبيات من الشعر) فأخذ عليه رسول الله أن لا يعين عليه أحدا ومنّ عليه فأطلقه (٢).

وروى الواقدي عن سعيد بن المسيّب قال : قال لرسول الله : يا محمد ، لي خمس بنات ليس لهن شيء فتصدّق بي عليهن. ففعل رسول الله ، فقال : اعطيك موثقا لا اقاتلك ولا اكثر عليك أبدا! فأرسله رسول الله (٣).

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ١٣٨.

(٢) ابن هشام ٢ : ٣١٥.

(٣) مغازي الواقدي ١ : ١١١. وخالف يوم احد فحرض على رسول الله وشارك في احد فاسر فقتل ، كما مرّ ويأتي.


ولم يكن لربيعة بن درّاج الجمحي مال ، فاخذ منه شيء يسير وارسل. ولم يكن للسائب بن عبيد ، وعبيد بن عمرو من بني المطّلب بن عبد مناف ، مال ، فلم يقدم في فدائهما أحد ، ففكّ رسول الله عنهما بغير فدية.

وكان ابو أيوب الأنصاري قد أسر المطّلب بن حنطب من بني أبي رفاعة ، ولم يكن له مال ، فأرسله بعد حين.

ولم يكن لصيفيّ بن أبي رفاعة مال ، فمكث عندهم مدة ثم أرسلوه.

بينما افتدي اخوه ابو المنذر بن أبي رفاعة بألفين.

وافتدي منهم عبد الله بن السائب بألف درهم ، وكان قد أسره سعد بن أبي وقاص (١).

وروى ابن سعد في «الطبقات» قال : كان رسول الله يفادي الأسرى على قدر أموالهم. وكان أهل مكة يكتبون وأهل المدينة لا يكتبون ، فمن لم يكن له فداء (وكان يكتب) دفع إليه عشرة من غلمان المدينة فيعلّمهم (الكتابة) فاذا حذقوا (في الكتابة) فهو فداؤه (٢).

صهر النبيّ أبو العاص بن الربيع (٣) :

مرّ ذكر الواقدي فيمن سماهم ممن قدموا في فداء الأسرى من المشركين :

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ١٣٨ ـ ١٤٣.

(٢) الطبقات ٢ : ١٤.

(٣) قال ابن اسحاق : وكان أبو العاص من رجال مكة المعدودين مالا وأمانة وتجارة ، وكان لهالة بنت خويلد ، فكانت خديجة خالته وكانت تعده بمنزلة ولدها ، فسألت خديجة رسول الله أن


عمرو بن الربيع أخو أبي العاص بن الربيع صهر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ولما رأت زينب بنت رسول الله أهل مكة يبعثون (الرجال بالأموال) في فداء أسراهم ، نقل في مجمع البيان عن كتاب علي بن ابراهيم القمي قال : بعثت زينب في فداء زوجها أبي العاص بن أبي الربيع (مع أخيه عمرو بن الربيع) قلائد لها كانت خديجة جهّزتها بها ـ وكان ابو العاص ابن اخت خديجة ـ فلما رأى رسول الله تلك القلائد قال : رحم الله خديجة ، هذه قلائد هي جهزتها بها. فأطلقه رسول الله بشرط أن يبعث إليه زينب ولا يمنعها من اللحوق به. فعاهده على ذلك ووفى له (١).

وكان الذي أسره عبد الله بن جبير (٢) وكان ابو العاص عند رسول الله. فأطلقوه ، وردّوا على زينب متاعها (٣).

قال ابن اسحاق : ولم يظهر من رسول الله أنه قد أخذ على صهره أبي

__________________

ـ يزوّجه ، وذلك قبل أن ينزل عليه الوحي ، وكان رسول الله لا يخالفها ، فزوّجه ، فلمّا اكرم الله رسوله بنبوّته آمنت به خديجة وبناته ، وثبت ابو العاص على شركه.

فلما بادى رسول الله قريشا بالعداوة قالوا فيما بينهم : ردّوا عليه بناته فاشغلوه بهن! فمشوا الى أبي العاص فقالوا له : فارق صاحبتك ونحن نزوّجك أي امرأة من قريش شئت!

قال : لا والله ، اني لا افارق صاحبتي ولا احب أن لي بامرأتي امرأة من قريش فلما سارت قريش الى بدر (أخرجوا معهم) ابا العاص بن الربيع ، فاسر يوم بدر ، فكان عند رسول الله بالمدينة ـ ابن هشام ٢ : ٣٠٦ ، ٣٠٧.

(١) مجمع البيان ٤ ، ٨٥٩ وليس في تفسير القمي.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ١٣١.

(٣) سيرة ابن هشام ٢ : ٣٠٨ والواقدي ١ : ١٣١.


العاص ، أو كان فيما شرط عليه في إطلاقه ولم يظهر من أبي العاص أنه وعد رسول الله بشيء بشأن زينب بنت الرسول ، الا أنه لما اخلي سبيل أبي العاص وخرج الى مكة ، قال رسول الله لزيد بن حارثة ورجل آخر من الأنصار : كونا ببطن يأجج (١) حتى تمرّ بكما زينب فتصحباها حتى تأتياني بها (٢).

فعلم أن ذلك كان إما بشرط من النبيّ عليه أو وعد منه له صلى‌الله‌عليه‌وآله. وقد مرّ أن الواقدي قال : كان المطلب بن أبي وداعة أول من قدم المدينة بعد بدر في فداء المشركين ، وسار من مكة إليها في أربع ليال ، وبعده بثلاث ليال قدم خمسة عشر رجلا منهم عمرو بن الربيع أخو أبي العاص بن الربيع في فدائه (٣) وهذا يعني أن قدومهم المدينة كان في أواخر شهر رمضان أو أوائل شوال.

أما ارسال الرسول للرجلين الى بطن يأجج ليأتيا بزينب ابنته ، فقد قال ابن اسحاق : كان ذلك بعد بدر بشهر أو شيعه (٤) أي قريب منه ، أي في أواسط شوال (٥).

__________________

(١) موضع مسجد الشجرة بينه وبين مسجد التنعيم ميلان ، أي بينه وبين مكة أربعة أميال اي ٣ كم تقريبا.

(٢) سيرة ابن هشام ٢ : ٣٠٨ والواقدي قال : اخذ النبيّ عليه بذلك ١ : ١٣١.

(٣) مغازي الواقدي ١ : ١٢٩.

(٤) سيرة ابن هشام ٢ : ٣٠٨ ويأتي تمام الخبر.

(٥) أما عن تاريخ بدر : فقد قال الطوسي في التبيان ٥ : ١٦٦ : كانت في صبيحة السابع عشر من شهر رمضان على رأس ثمانية عشر شهرا من الهجرة. ورواه ابن اسحاق في السيرة ٢ : ٢٧٨ عن الامام الباقر عليه‌السلام ونقله عنه الطبري ٣ : ٤٤٦ ورواه عن حسن بن علي عليهما‌السلام وزيد ابن ثابت وعبد الله بن مسعود في احدى الروايتين عنه ٣ : ٤١٩ ، ٤٢٠ وأطلقه الواقدي


أسير اطلق لفكّ الرهينة :

روى ابن اسحاق قال : كان من أسرى بدر : عمرو بن أبي سفيان صخر بن حرب ، وكانت أمه بنت عقبة بن أبي معيط (أو أخته أو عمّته على قول ابن هشام) وقد أسره عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

فقيل لأبي سفيان : افد ابنك عمرا.

فقال : قتلوا حنظلة وأفدي عمرا؟! دعوه في أيديهم يمسكوه ما بدا لهم!.

وكان بالنقيع (من المدينة) شيخ مسلم من بني عمرو بن عوف يدعى سعد ابن النعمان بن أكّال ، وكان في غنم له. وكان ظنّه أنّ قريشا لا يعرضون لأحد جاء حاجّا أو معتمرا الا بخير ، ولا يظنّ أنه يحبس بمكة ولا يخشى ذلك. فخرج من النقيع معتمرا ومعه امرأته. فعدا عليه أبو سفيان بن حرب فحبسه بازاء ابنه عمرو (رهينة).

فمشى بنو عمرو بن عوف الى رسول الله فأخبروه خبره وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبي سفيان فيفكّوا به صاحبهم. ففعل رسول الله ذلك (وأعطاهم عمرو ابن أبي سفيان) فبعثوا به إلى أبي سفيان. فخلّى سبيل سعد بن النعمان. وكان أبو سفيان قد قال شعرا :

أرهط ابن أكّال أجيبوا دعاءه

تعاقدتم لا تسلموا السيّد الكهلا

__________________

ـ وقال : يوم الجمعة ١ : ٥١. ولكن روى الطوسي في التبيان ٥ : ١٢٥ عن الصادق عليه‌السلام أنه كان التاسع عشر منه ، ورواه الطبري عن زيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود برواية اخرى عنهما ٣ : ٤١٩ و ٤١٨.


وإن بني عمرو لئام أذلّة

لئن لم يفكّوا عن أسيرهم الكبلا

فأجابه حسّان بن ثابت فقال :

ولو كان سعد يوم مكة مطلقا

لاكثر فيكم ـ قبل أن يؤسر ـ القتلا

بعضب حسام ، أو بصفراء نبعة

تحنّ اذ ما انبضت تحفز النبلا (١).

تحويل القبلة من القدس الى الكعبة :

«بعد رجوعه صلى‌الله‌عليه‌وآله من بدر» صرف رسول الله الى الكعبة ، فيما رواه الشيخ الطوسي في «التهذيب» عن رسالة «ازاحة العلة في معرفة القبلة» لشاذان بن جبرئيل القمي عن معاوية بن عمار عن الصادق عليه‌السلام (٢).

ونقلها عنها الحرّ العاملي في «وسائل الشيعة» وفيها تمامها : وكان يصلي في المدينة الى بيت المقدس سبعة عشر شهرا ، ثم اعيد الى الكعبة (٣) والخبر جواب على سؤال ابن عمار.

وفي خبر آخر أخرجه الحميري في «قرب الأسناد» بسنده عن الصادق عليه‌السلام بدأ به عن أبيه الباقر عليه‌السلام قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله استقبل بيت المقدس تسعة عشر شهرا ، ثم صرف الى الكعبة وهو في العصر (٤).

ونقله عنه الحرّ العامليّ في «وسائل الشيعة» واعتمد على نسخة سجّلت كما

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ٣٠٥ ، ٣٠٦. والنبعة شجر ذو خشب اصفر كان يصنع منه الأقواس ، يقول : اذ ما مدّ وترها تقذف النبل وترميه. وأشار الى أصل الخبر الواقدي في المغازي ١ : ١٣٩.

(٢) التهذيب ٢ : ٤٣ ح ١٣٥.

(٣) وسائل الشيعة ٤ : ٢٩٨ ط آل البيت (ع).

(٤) قرب الأسناد : ٦٩ وعنه في وسائل الشيعة ٤ : ٣٠٣ ط آل البيت (ع).


سبق : تسعة عشر شهرا. وأشار الى نسخة اخرى بين قوسين (سبعة عشر شهرا). والصحيح هو ما اعتمده أولا : تسعة عشر شهرا ، بناء على الخبر الأول : أن ذلك كان بعد رجوعه من بدر ، فان بدرا كان في رمضان الشهر التاسع عشر بعد الهجرة ، وليس سبعة عشر شهرا. وكذلك الأمر في الخبر الأول أيضا.

وقد يفهم من قوله عليه‌السلام في الخبر الأول : ثم اعيد الى الكعبة. أنّ الكعبة كانت قبلته الاولى فاعيد إليها بعد بيت المقدس ، ولكن في الخبر التالي عنه عليه‌السلام تفسير لذلك ، بأنه كان يصلي الى بيت المقدس ولكنه في مكة كان يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس فلا يجعل الكعبة خلف ظهره ، فكان يبدو أنه يصلي الى الكعبة ، واعيد إليها مرة اخرى :

فقد روى الكليني في «فروع الكافي» بسنده عن الحلبي قال : سألت أبا عبد الله الصادق عليه‌السلام : هل كان رسول الله يصلي الى بيت المقدس؟ قال : نعم. فقلت : أكان يجعل الكعبة خلف ظهره؟ فقال : أما اذ كان بمكة فلا ، وأما اذ هاجر الى المدينة فنعم ، حتى حوّل الى الكعبة (١).

بل نقل الطبرسي في «الاحتجاج» عن الامام العسكري عليه‌السلام قال : لما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكة أمره الله أن يتوجّه نحو بيت المقدس في صلاته ويجعل الكعبة بينه وبينها اذا أمكن ، واذا لم يمكن استقبل بيت المقدس كيف كان. فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يفعل ذلك طول مقامه ثلاث عشرة سنة. فلما كان بالمدينة وكان متعبّدا باستقبال بيت المقدس استقبله وانحرف عن الكعبة (٢).

وقال القمي في تفسيره : إن اليهود كانوا يعيرون رسول الله ويقولون له :

__________________

(١) فروع الكافي ٣ : ٢٨٦ ح ١٢ وعنه في وسائل الشيعة ٤ : ٢٩٨.

(٢) الاحتجاج ١ : ٤٣.


أنت تابع لنا تصلي الى قبلتنا. فاغتمّ من ذلك رسول الله غمّا شديدا ، وخرج في جوف الليل ينظر في آفاق السماء ينتظر أمر الله تبارك وتعالى في ذلك ، فلما أصبح وحضرت صلاة الظهر كان في مسجد بني سالم قد صلّى بهم (من) الظهر ركعتين ، نزل جبرئيل عليه‌السلام فأخذ بعضديه فحوّله الى الكعبة فصلى ركعتين الى الكعبة وأنزل عليه قوله سبحانه : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ* وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ* الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ* الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ* وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ* وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ* كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ* فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ)(١).

قال القمي : فقالت اليهود والسفهاء من الناس : ما ولّاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟! فنزل قوله سبحانه : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ

__________________

(١) البقرة : ١٤٤ ـ ١٥٢.


قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ)(١).

قال القمي : صلى رسول الله الى بيت المقدس بمكة ثلاثة عشر سنة ، وبعد مهاجرته الى المدينة سبعة أشهر ، ثم حوّل الله القبلة الى البيت الحرام (٢).

هذا ما قاله القمي في تفسيره ، ولكنّ الطبرسي رواه عنه في «مجمع البيان» باسناده عن الصادق عليه‌السلام (٣) واختصر الخبر في «إعلام الورى» قال : قال علي بن ابراهيم : وكان رسول الله يصلي الى بيت المقدس مدة مقامه بمكة ، وبعد هجرته حتى أتى سبعة أشهر ، فلما أتى له سبعة أشهر عيرته اليهود وقالوا له : أنت تابع لنا تصلي الى قبلتنا ، ونحن أقدم منك في الصلاة. فاغتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من ذلك ، وأحبّ أن يحوّل الله قبلته الى الكعبة ، فخرج رسول الله في جوف الليل ونظر الى آفاق السماء ينتظر أمر الله. وخرج في ذلك اليوم الى مسجد بني سالم الذي جمّع فيه أول جمعة كانت بالمدينة ، وصلّى بهم الظهر هناك ، بركعتين الى بيت

__________________

(١) البقرة : ١٤٢ و ١٤٣.

(٢) تفسير القمي ١ : ٦٣ ويقول القمي : إن قوله تعالى : «قد نرى تقلب وجهك في السماء» نزل أولا ، ثم نزل : «سيقول السفهاء من الناس» فهذه الآية متقدمة على تلك في الجمع. ونقله الطوسي عن قوم قالوا به (التبيان ١ : ١٣) وهذا انما يلزم فيما لو كان تحويل القبلة بالآيات ، وردّه يستلزم القول بأن تحويل القبلة لم يكن بالآيات بل كان بعمل جبرئيل وتحوّل الرسول ، فقال سفهاء اليهود : ما ولّاهم؟! فنزلت الآيات كلها دعما لعمل الرسول.

(٣) مجمع البيان ١ : ٤١٣.


المقدس وركعتين الى الكعبة ، ونزل عليه : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ، فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)(١).

وقال الصدوق ابن بابويه القمي في «من لا يحضره الفقيه» : صلى رسول الله الى بيت المقدس بعد النبوة ثلاث عشرة سنة بمكة ، وتسعة عشر شهرا بالمدينة ، ثم عيّرته اليهود فقالوا له : انك تابع لقبلتنا ، فاغتمّ لذلك غمّا شديدا ، فلما كان في بعض الليل خرج يقلّب وجهه في آفاق السماء.

فلما أصبح صلّى الغداة ، فلما صلّى من الظهر ركعتين جاء جبرئيل عليه‌السلام فقال له : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ثم أخذ بيد النبيّ فحوّل وجهه الى الكعبة ، وحوّل من خلفه وجوههم ، حتى قام الرجال مقام النساء والنساء مقام الرجال. فكان أول صلاته الى بيت المقدس وآخرها الى الكعبة.

وبلغ الخبر مسجدا بالمدينة وقد صلّى أهله من العصر ركعتين فحوّلوا نحو الكعبة ، وكان أول صلاتهم الى بيت المقدس وآخرها الى الكعبة ، فسمّي ذلك المسجد مسجد القبلتين.

فقال المسلمون : صلاتنا الى بيت المقدس تضيع يا رسول الله؟

فأنزل الله عزوجل : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) يعني : صلاتكم الى بيت المقدس.

ثم قال الصدوق : وقد اخرجت الخبر في ذلك على وجهه في

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ١٦٢. وأما تأريخه الحدث بسبعة أشهر بعد الهجرة يصحّ فيما لو قدّرنا ذلك بعد السنة الاولى للهجرة ، فيكون المجموع تسعة عشر شهرا وينسجم مع ما جاء في الخبر الأول : بعد بدر ، ومع الخبر الثاني : تسعة عشر شهرا.


«كتاب النبوة» (١).

والخبر على وجهه في المسجد بالمدينة الذي بلغ أهله الخبر وقد صلوا من العصر ركعتين :

هو ما أخرجه شاذان بن جبرئيل القمي في رسالة «ازاحة العلة في معرفة القبلة» بسنده عن أحدهما عليهما‌السلام قال : ان بني عبد الأشهل أتوهم وهم في الصلاة قد صلوا ركعتين الى بيت المقدس ، فقيل لهم : ان نبيّكم حرف الى الكعبة. فتحوّل النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء ، وجعلوا الركعتين الباقيتين الى الكعبة ، فصلّوا صلاة واحدة الى قبلتين ، فلذلك سمّي مسجدهم مسجد القبلتين (٢).

وكذلك الخبر على وجهه في قوله سبحانه : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) فقد روى العياشيّ في تفسيره عن الصادق عليه‌السلام قال : لما حرف الله نبيّه عن بيت المقدس قال المسلمون للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أرأيت صلاتنا التي كنا نصلي الى بيت المقدس ما حالنا فيها؟ وحال من مضى من موتانا وهم كانوا يصلون الى بيت المقدس؟ فأنزل الله الآية (٣).

وروى الطوسي في «التبيان» عن ابن عباس وقتادة والربيع قالوا : لما حوّلت القبلة قال ناس : كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الاولى؟ وكيف من مات من اخواننا قبل ذلك؟ فأنزل الله الآيات (٤).

__________________

(١) كتاب من لا يحضره الفقيه ١ : ٢٧٤ ، ٢٧٦ ط طهران. فعلم أن النصّ كان تلخيص خبر.

(٢) ازاحة العلة : ٢ ، وعنها في التهذيب ٢ : ٤٣ ح ١٣٨ ، ورواه في التبيان ٢ : ١١ وعن ابن عباس أيضا ، وعنه في مجمع البيان ١ : ٤١٧.

(٣) تفسير العياشي ١ : ٦٣.

(٤) التبيان ٢ : ١١ وعنه في مجمع البيان ١ : ٤١٧.


وروى الطبرسي في «الاحتجاج» عن العسكري عليه‌السلام قال : لما كان هوى أهل مكة في الكعبة أراد الله أن يبيّن متّبعي محمد ممن خالفه باتباع القبلة التي كرهها هو ومحمد يأمر بها. ولما كان هوى أهل المدينة في بيت المقدس أمرهم بمخالفتها والتوجه الى الكعبة ليبيّن من يوافق محمدا فيما يكرهه. قال : ذلك في قوله : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا ...)(١).

آيات أخرى من سورة البقرة :

مرّ أن بني العفراء كانوا قد عقدوا مجلس عزاء على أبنائهم الشهداء عوف ومعوّذ ، وأن سودة زوج النبي كانت قد حضرت مأتمهم ذلك اذ دخل رسول الله المدينة راجعا من بدر.

وقد مرّ آنفا أنّ تحويل القبلة من المقدس الى الكعبة كان بعد بدر ، ونزلت بشأنه آيات هي لعلّها العشرة من الآية ١٤٢ الى الآية ١٥٢ من سورة البقرة آخرها قوله سبحانه : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ).

ولم أجد فيما بأيدينا شأن نزول خاص للآية التالية ، ولكنّي استظهر أنها نزلت بشأن شهداء بدر ، قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(٢) أما قوله سبحانه : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ* أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ

__________________

(١) الاحتجاج ١ : ٤٥ ، ٤٦.

(٢) البقرة : ١٥٣.


وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)(١) فقد نقل الطبرسي في «مجمع البيان» عن ابن عباس أنها نزلت في قتلى بدر ، كانوا يقولون : مات فلان فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وقد قتل يومئذ من المسلمين أربعة عشر رجلا : ستة من المهاجرين ، وثمانية من الأنصار (٢) وعليه فهذا اول بيان بهذه الفكرة : فكرة حياة الشهداء ، مع أول عدد من الشهداء في أول غزوة مصيريّة بينهم وبين مشركي مكة عاصمة الشرك والوثنية ولعلهم لذلك سمّوا شهداء أي هم شهود حضور.

أما الآية التالية : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ)(٣).

فقد روى العيّاشي في تفسيره عن بعض أصحابنا قال : سألت أبا عبد الله الصادق عليه‌السلام قلت : أليس الله يقول : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما)؟

قال : إن رسول الله كان شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام (عن الصفا والمروة) في عمرة القضاء؟ فتشاغل رجل من أصحابه حتى اعيدت الأصنام ، فجاؤوا الى رسول الله وقيل له : إن فلانا لم يطف وقد اعيدت الأصنام؟ فأنزل الله الآية (٤).

ونقل القمي معناه وقال : فلما كان عمرة القضاء في سنة سبع من الهجرة (٥)

__________________

(١) البقرة : ١٥٤ ـ ١٥٧.

(٢) مجمع البيان ١ : ٤٣٣.

(٣) البقرة : ١٥٨.

(٤) تفسير العياشي ١ : ٧٠ ورواه الطبرسي في مجمع البيان ١ : ٤٤٠ وأشار إليه قبله الطوسي في التبيان ٢ : ٤٤.

(٥) تفسير القمي ١ : ٦٤.


وعليه فالآية في غير محلّها من حيث ترتيب النزول في السورة.

ولكن روى الطبرسي في «مجمع البيان» خبرا آخر عن الصادق عليه‌السلام أيضا قال : كان المسلمون يرون أن الصفا والمروة مما ابتدع أهل الجاهلية ، فأنزل الله هذه الآية (١) وقد مرّ أن بعض المسلمين كانوا يحجون أو يعتمرون قبل عمرة القضاء ومنهم سعد بن النعمان بن أكّال الأنصاري بعد بدر ، الذي حبسه أبو سفيان رهينة لابنه الأسير عمرو بن أبي سفيان حتى أطلقه المسلمون بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. كما اعتمر قبله قبل بدر سعد بن معاذ أيضا (٢).

فلعلّ هذا الظنّ من المسلمين كان اذ ذاك ، فنزلت الآية في سياق آيات سورة البقرة بعد بدر لتدفع ذلك الوهم لديهم.

وكما أن الآية السابقة غير متحدة السياق مع ما قبلها من آيات القبلة (٣) كذلك هي غير متحدة السياق مع ما بعدها ، فهي في الذين يكتمون الهدى والبيّنات من كتاب الله السابق ، وهو التوراة حسب ابتلاء المسلمين بهم في المدينة : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(٤).

وروى ابن اسحاق بسنده الى ابن عباس قال : سأل معاذ بن جبل ، وسعد ابن معاذ ، وخارجة بن زيد نفرا من أحبار اليهود عن بعض ما في التوراة

__________________

(١) مجمع البيان ١ : ٤٤٠.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٣٥.

(٣) الميزان ١ : ٣٨٨.

(٤) البقرة : ١٥٩ ، ١٦٠ الى ١٦٩ او اكثر.


فكتموهم اياه وأبوا أن يخبروهم عنه فأنزل الله تعالى فيهم الآيات (١).

وروى الطوسي عنه أيضا : انهم اليهود مثل كعب بن الأشرف ، وكعب بن اسيد ، وابن صوريا ، وزيد بن تابوه ، الذين كتموا أمر محمد ونبوته وهم يجدونه مكتوبا في التوراة. او علماء النصارى وهم يجدونه مكتوبا في الانجيل مبيّنا فيهما (٢) والآيات متّسقة الى الآية ١٦٩.

والآية : ١٧٠ : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) الى الآية ١٧٧ متّسقة السياق موصولة في المعنى.

وروى ابن اسحاق بسنده عن ابن عباس : انّ رسول الله دعا اليهود من أهل الكتاب الى الاسلام ورغّبهم فيه وحذّرهم عذاب الله ونقمته ، فقال رافع بن خارجة ومالك بن عوف : بل نتّبع ما وجدنا عليه آباءنا ، فهم كانوا أعلم وخيرا منّا. فأنزل الله في ذلك : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ..)(٣).

بل إن الآية ١٧٧ : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ...) وما نقله الطوسي في «التبيان» قال : قيل : لما حوّلت القبلة وكثر الخوض في ذلك ، فصار كأنه لا يراعى بطاعة الله الّا التوجه للصلاة ، أنزل الله تعالى هذه الآية ، وبين فيها : أن البرّ ما ذكره فيها. ودلّت على أن الصلاة انما يحتاج إليها لما فيها من المصلحة الدينية ، وأنه إنما يأمر بها لما في علمه أنها تدعو الى

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ٢٠٠.

(٢) التبيان ٢ : ٤٦ وعنه في مجمع البيان ١ : ٤٤١.

(٣) سيرة ابن هشام ٢ : ٢٠٠ ورواه عن ابن عباس الطوسي في التبيان ٢ : ٧٦. وعنه في مجمع البيان ١ : ٤٦١.


الصلاح وتصرف عن الفساد ، وإن ذلك يختلف بحسب الأزمان والأوقات (١).

ونقل الطبرسي عن قتادة أنها نزلت في اليهود ، وعن أبي القاسم البلخي : أن القبلة لما حوّلت وكثر الخوض في نسخ القبلة السابقة واكثر اليهود ذكرها كأنه لا يراعى بطاعة الله الا التوجه للصلاة أنزل الله هذه الآية (٢).

فالآية وهذا الشأن في النزول يدلّان أو يشيران الى اتحاد سياق الآيات من الآية الاولى في القبلة : ١٤٢ حتى هذه الآية ، ولا مانع من ذلك مع سبق الأسباب المذكورة.

وهنا آيتان في القصاص : ١٧٨ و ١٧٩. ثم ثلاث آيات في الوصية : ١٨٠ ـ ١٨٢ لم أجد بشأنها سببا خاصا للنزول.

ثم تأتي أربع آيات ١٨٣ ـ ١٨٦ في صيام شهر رمضان والدّعاء ، لا يذكر بشأنها سوى أنها نزلت لصيام شهر رمضان للسنة الثانية من الهجرة ، ولا نجد تحديدا لنزولها قبل شهر رمضان أو قبل سفر الرسول فيه للتعرّض لعير قريش ، ولا نجد تصريحا بأن تشريع صيام شهر رمضان كان بها لا بسنة الرسول. وحيث نجدها في المصحف بعد آيات تحويل القبلة ، وقد مرّت النصوص المصرّحة بكون ذلك بعد بدر ، فلا مانع من أن يكون صيام شهر رمضان شرّع بسنة الرسول قبل نزول الآيات ، وكذلك افطار الصيام في الأسفار بعد حدّ الترخّص كما مر ، وبعد رجوع الرسول من بدر وتحويل القبلة ونزول الآيات ، نزلت معها آيات الصيام.

أو نزلت مع ما يذكر من شأن نزول للأخيرة من آيات الصيام الخمس : ١٨٧ : ففي تفسير العياشي عن الصادق عليه‌السلام قال : كانوا من قبل أن تنزل هذه

__________________

(١) التبيان ٢ : ٩٥.

(٢) مجمع البيان ١ : ٤٧٥.


الآية اذا نام أحدهم حرم عليه الطعام ، وكان خوّات بن جبير مع رسول الله في الخندق وهو صائم ، فأمسى على ذلك ، فرجع الى أهله فقال : هل عندكم طعام؟ فقالوا : لا تنم حتى نصنع لك طعامك. فاتّكأ فنام. فقالوا : قد فعلت؟ قال : نعم ، فبات على ذلك وأصبح ، فغدا الى الخندق ، فجعل يغشى عليه. فمرّ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلما رأى الذي به سأله فأخبره كيف كان أمره. فنزلت الآية (١).

ورواه القمي في تفسيره عن أبيه ابراهيم بن هاشم مرفوعا عن الصادق عليه‌السلام قال : كان النكاح والاكل محرّمين في شهر رمضان بالليل بعد النوم ، وكان النكاح حراما في الليل والنهار في شهر رمضان (كذا) وكان رجل من أصحاب رسول الله يقال له : خوّات بن جبير الأنصاري أخو عبد الله بن جبير : شيخا كبيرا ضعيفا ، وكان صائما ، فأبطأت أهله بالطعام فنام قبل أن يفطر ، فلما انتبه قال لأهله : قد حرّم الله عليّ الاكل في هذه الليلة. فلما أصبح حضر حفر الخندق ، فاغمي عليه ، فرآه رسول الله فرقّ له ، وكان قوم من الشباب ينكحون بالليل سرّا في شهر رمضان ، فأنزل الله عزوجل : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ ..)(٢).

والخبران يذكران أنّ ابن جبير كأنه كان مجبورا على الصيام وهو في حفر الخندق مع رسول الله ، والخندق قيل : كان في شوال أو ذي القعدة من السنة الخامسة! (٣) وليس في شهر رمضان فلما ذا الصوم مع ذلك وبتلك الكلفة على من لا يطيقه وهو في غير شهر رمضان ، ولا في رجب أو شعبان كي يحتمل أن كان عليه واجب مضيّق ، فلما ذا هذا التضييق؟ ولم لم يأمره الرسول بالافطار إذ رقّ له؟

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٨٣.

(٢) تفسير القمي ١ : ٦٦.

(٣) تفسير القمي ١ : ٦٦.


أما ما نقله الطوسي في «التبيان» فهو سليم عن كل هذا ، ومنسجم مع اوائل تشريع صيام شهر رمضان : قال : قيل : إن هذه الآية نزلت في شأن أبي قيس بن حرمة كان يعمل في أرض له ، فاراد الاكل ، فقالت امرأته : نصلح لك شيئا ، فغلبته عيناه ، ثم قدمت إليه الطعام فلم يأكل ، فلما أصبح لاقى جهدا ، فأخبر رسول الله بذلك ، فنزلت الآية.

ثم قال : وروي عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام حديث أبي قيس ، سواء (١).

وروي : أن عمر أراد أن يواقع زوجته ليلا ، فقالت : اني نمت. فظنّ أنها تعتلّ عليه فوقع عليها ، ثم أخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك من الغد ، فنزلت الآية فيهما (٢).

ورواه الطبرسي عن السدّي عن ابن عباس : جاء الى رسول الله فقال : يا رسول الله ، عملت في النخل نهاري أجمع حتى اذا أمسيت أتيت أهلي لتطعمني ، فأبطأت ، فنمت ، فأيقظوني وقد حرم عليّ الأكل واصبحت وقد جهدني الصوم؟

فقال عمر : يا رسول الله ، أعتذر إليك من مثله : رجعت إلى أهلي بعد ما صليت العشاء ، فأتيت امرأتي.

وقام رجال فاعترفوا بمثل الذي سمعوا. فنزلت الآية (٣).

وإذ قال الله سبحانه : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) فلعل ذلك استدعى بعضهم ليسأل عن وجه الحكمة في زيادة الأهلة ونقصانها (٤) وحيث كان

__________________

(١) التبيان ٢ : ١٣٧ و ١٣٨.

(٢) التبيان ٢ : ١٣٧.

(٣) مجمع البيان ٢ : ٥٠٣.

(٤) التبيان ٢ : ١٤١.


بعضهم قد يحجّون أو يعتمرون كما فعل في تلك الفترة سعد بن النعمان بن اكّال كما مرّ ، وكان قوم في الجاهلية اذا أحرموا ـ أو رجعوا من الحج ـ ينقبون في ظهر بيوتهم نقبا يدخلون منه ويخرجون (١) ، ولا يدخلون بيوتهم من أبوابها ، نزل قوله سبحانه : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(٢).

واذا كان تأليف الآيات ضمن كل سورة وفق ترتيب نزولها ، فتكتب واحدة تلو الاخرى تدريجيا حسب النزول حتى تنزل بسملة اخرى فيعرف أن السورة قد انتهت وابتدأت سورة اخرى ، حسب ما رواه العياشي في تفسيره عن الصادق عليه‌السلام قال : وانما كان يعرف انقضاء سورة بنزول بسم الله الرحمن الرحيم ابتداء للاخرى (٣) وكما رواه اليعقوبي في تاريخه عن ابن عباس قال :

كان يعرف فصل ما بين السورة والسورة بنزول بسم الله الرحمن الرحيم فيعلمون أن الاولى قد انقضت وابتدئ بسورة اخرى (٤).

... فالآيات التالية في القتال نزلت في أجواء ما بعد بدر ، وبعد سريّة النخلة في آخر يوم من شهر رجب الحرام : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ* وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ

__________________

(١) التبيان ٢ : ١٤٢. وعنه في مجمع البيان ٢ : ٥٠٩. وفي وجه السؤال عن الهلال نقل : أن معاذ بن جبل قال : يا رسول الله ، إن اليهود يكثرون مسائلتنا عن الأهلة فنزل.

(٢) البقرة : ١٨٩.

(٣) تفسير العياشي ١ : ١٩.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٤ والحاكم في المستدرك ١ : ٢٣١ وانظر التمهيد ١ : ٢١٢ وبحوث في تاريخ القرآن وعلومه : ١٠٤ ـ ١٠٨.


أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ* فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ* الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(١).

فالآيات أمرت بالقتال في سبيل الله ، ولكنّها نهت عن الاعتداء وعن القتال عند المسجد الحرام (أو الحرم) (٢) الا دفاعا ، وعن القتال في الشهر الحرام الا قصاصا.

وكأنّ بعض الأنصار قال لبعضهم سرّا دون رسول الله : إن أموالنا قد ضاعت ، وإن الله قد أعزّ الاسلام وكثر ناصروه ، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها. فأنزل الله على نبيّه يردّ عليهم ما قالوه : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(٣) قال ابو أيوب الأنصاري : فكانت التهلكة : الاقامة في الأموال واصلاحها وتركنا الغزو (٤).

ثم تعود الآيات التالية الى فهرسة بعض احكام الحج في ثماني آيات من الآية : ١٩٦ الى الآية : ٢٠٣. ولم أجد فيما بأيدينا سببا خاصا لنزولها ، فهي عود على الآية : ١٨٩ بمناسبة اعتمار بعض المسلمين من الأنصار مثل سعد بن النعمان بن

__________________

(١) البقرة : ١٩٠ ـ ١٩٤.

(٢) روى الطوسي عن عطا عن ابن عباس قال : إن المسجد الحرام : الحرم كله ـ التبيان ٢ : ٢٠٨.

(٣) البقرة : ١٩٥.

(٤) السيد ابن طاوس في مقدمة الملهوف على قتلى الطفوف ، والسيد الطباطبائي في الميزان ٢ : ٧٣ عن الدر المنثور.


اكّال كما مرّ ، أضف الى ذلك أن وقوع القتال في سرية النخلة في آخر شهر رجب الحرام من جانب المسلمين. واستتباعه لاثارة غزوة بدر من جانب المشركين ، استتبع أن قالت قريش : استحلّ محمد الشهر الحرام (١) وقاتل أهل البلد الحرام ولا سيما بجوار الحرم في النخلة ، وكأنه لا يعتدّ بالبلد الحرام ولا بالشهر الحرام. فاستدعى ذلك وبمناسبة السؤال عن وجه الحكمة في زيادة الأهلة ونقصانها : أن تعنى هذه الآيات بالحج والعمرة وأحكامها ، ردا على ما قالوه وأشاعوه على الاسلام والمسلمين.

ونسخت الآيات : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها)(٢)(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ)(٣) حيث كانت قريش تقول : نحن أولى الناس بالبيت! وكانوا لا يفيضون الا من المزدلفة. فأمرهم الله أن يفيضوا من عرفة كما عن الصادق عليه‌السلام (٤).

وفي خبر آخر عنه عليه‌السلام أيضا قال : كانت قريش في الجاهلية تفيض من المزدلفة وتقول : نحن أولى بالبيت من الناس! فأمرهم الله أن يفيضوا من حيث أفاض الناس من عرفة (٥).

وفي آخر : إن أهل الحرم كانوا يقفون على المشعر الحرام ، ويقف سائر الناس بعرفة (٦).

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ١٦٧.

(٢) البقرة : ١٨٩.

(٣) البقرة : ١٩٩.

(٤) تفسير العياشي ١ : ٩٦ ، ٩٧.

(٥) تفسير العياشي ١ : ٩٦ ، ٩٧.

(٦) تفسير العياشي ١ : ٩٦ ، ٩٧.


وفي آخر : إن قريشا كانت تفيض من جمع (المزدلفة) وربيعة ومضر من عرفات (١).

وفي آخر : إن ابراهيم عليه‌السلام أخرج اسماعيل الى الموقف (بعرفات) فأفاضا منه ، وكان الناس يفيضون منه. فلما كثرت قريش قالوا : لا نفيض من حيث أفاض الناس! فكانوا يفيضون من المزدلفة ، ومنعوا الناس أن يفيضوا معهم ، الا من عرفات. فلما بعث الله محمدا ـ عليه الصلاة والسلام ـ أمره أن يفيض من حيث أفاض الناس (٢).

والخرافة الثالثة المردودة : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً ...)(٣) حيث روى العياشي في تفسيره عن الحسين بن سعيد ، عن فضالة بن أيوب ، عن العلاء الحضرمي ، عن محمد بن مسلم قال : سألت أبا جعفر الباقر عليه‌السلام عن قول الله : (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) قال : كان الرجال في الجاهلية اذا قاموا بمنى بعد النحر يفتخرون بآبائهم يقولون : أبي الذي حمل الديات والذي قاتل كذا وكذا ، وكانوا يحلفون بآبائهم : لا وأبي لا وأبي (٤).

ومن هنا تبدأ آيات ثلاث تصف بعض الناس ممن تأخذه العزّة بالاثم فهو من المفسدين في الأرض وشديد الخصومة على الدنيا ولكنّه شديد القول في ذمّها ، فهو منافق في ذلك : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ* وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ* وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٩٦ ، ٩٧.

(٢) تفسير العياشي ١ : ٩٦ ، ٩٧.

(٣) البقرة : ٢٠٠.

(٤) تفسير العياشي ١ : ٩٨ بالتلفيق بين خبرين هما واحد سندا.


بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ)(١).

وقد نقل الطوسي في «التبيان» عن السدّي : أنها نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة (٢) وكان يظهر الرغبة في دين النبيّ ويبطن خلاف ذلك (٣).

ويتبادر الى الذهن من هذا أنه كان من منافقي المسلمين بالمدينة ، بينما الرجل كان معدودا في رجال قريش من مكة يوم خروجهم لحرب بدر ، حتى فتح مكة ، فلم يكن من منافقي المدينة يومئذ. ولعله لذلك نقل عن قوم غير السدّي منهم ابن عباس والحسن البصري : أن المعنيّ بهذه الآية كل منافق ومراء (٤) ونقله الطبرسيّ في «مجمع البيان» وأضاف : وهو المرويّ عن الصادق عليه‌السلام (٥).

ثم تنفرد الآية : ٢٠٧ في وصف بعض عباد الله ممّن باعوا أنفسهم لله طلبا لرضاه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) وقال القمي : ومعنى يشري نفسه أي : يبذل نفسه ، وذلك أمير المؤمنين عليه‌السلام (٦).

وروى العياشي في تفسيره عن ابن عباس قال : شرى عليّ نفسه اذ لبس ثوب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ونام مكانه ، فكان المشركون يرون رسول الله ... وجعل يرمى بالحجارة كما كان يرمى رسول الله وهو يتضوّر (٧) ورواه الطبرسي عن

__________________

(١) البقرة : ٢٠٤ ـ ٢٠٦.

(٢) التبيان ٢ : ١٧٨ و ١٨١.

(٣) مجمع البيان ٢ : ٥٣٤.

(٤) التبيان ٢ : ١٧٧ و ١٨١.

(٥) مجمع البيان ٢ : ٥٣٤ ولعله يعني ما في تفسير القمي ١ : ٧١.

(٦) تفسير القمي ١ : ٧١.

(٧) تفسير العياشي ١ : ١٠١.


السدّي عن ابن عباس (١).

وروى العياشي في تفسيره عن الباقر عليه‌السلام قال : انها انزلت في علي بن أبي طالب عليه‌السلام حيث بذل نفسه لله ولرسوله ليلة اضطجع على فراش رسول الله لما طلبته قريش (٢).

وروى الطوسي في «التبيان» عن الباقر عليه‌السلام أيضا قال : نزلت في علي حيث بات على فراش رسول الله لما أرادت قريش قتله ، حتى خرج رسول الله وفات المشركين أغراضهم (٣).

وعليه وعلى القول بالترتيب الطبيعيّ للآيات ، فالآيات هذه نزلت بعد بدر تذكّر باختلاف الناس في مراتب الايمان والتفاني فيه ، ومنهم المثل الأعلى عليّ عليه‌السلام.

وعلى القول بالترتيب الطبيعيّ للآيات ، فالآيات هذه نزلت بعد بدر ، بعد ما زلّ بعض المؤمنين فاتّبعوا خطوات الشيطان فتنازعوا في الغنائم والأسرى ، ولم يستسلموا لله ولرسوله مطلقا ، بعد ما جاءتهم البيّنات بنزول الملائكة مددا لهم! فهل هم أيضا ينتظرون ما كان المشركون ينتظرون : أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام؟! (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)(٤).

__________________

(١) مجمع البيان ٢ : ٥٣٥.

(٢) تفسير العياشي ١ : ١٠١.

(٣) التبيان ٢ : ١٨٣.

(٤) البقرة : ٢٠٨ ـ ٢١٠.


ثم تذكرهم الآية التالية بمصير بني اسرائيل إذ لم يقدّروا نعمة الله عليهم : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)(١).

ثم عرّجت الآية التالية على مقارنة بين حال المؤمنين ورءوس المشركين : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)(٢).

فعن مقاتل : نزلت في عبد الله بن أبيّ وأصحابه كانوا يسخرون من ضعفاء المؤمنين.

وعن عطاء : نزلت في رؤساء اليهود من بني قريظة والنضير وقينقاع ، سخروا من فقراء المهاجرين.

وعن ابن عباس : نزلت الآية في أبي جهل وغيره من رؤساء قريش حيث بسطت لهم الدنيا فكانوا يسخرون من قوم من المؤمنين فقراء مثل عبد الله بن مسعود (٣).

وعلى الترتيب الطبيعيّ للآيات فالمناسب هو الأخير من النقول الثلاث ، ولا ننسى أن ابن مسعود هو الذي سعد في بدر بأن صعد على صدر أبي جهل فكان فوق صدره يفري نحره!.

والآية التالية انتقلت تذكّر بأن هذا الاختلاف في الحق قديم قدم البشر منذ عهد نوح وآدم عليهما‌السلام : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ

__________________

(١) البقرة : ٢١١.

(٢) البقرة : ٢١٢.

(٣) مجمع البيان ٢ : ٥٤٠ ، ٥٤١.


وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(١).

روى العياشي عن الصادق عليه‌السلام قال : لما انقرض آدم وصالح ذرّيته بقي شيث وصيّه لا يقدر على اظهار دين الله الذي كان عليه آدم وصالح ذرّيته ، ذلك أن قابيل توعّده بالقتل كما قتل أخاه هابيل. فسار فيهم بالتّقيّة والكتمان ، فازدادوا كلّ يوم ضلالا ، حتى لم يبق على الأرض معهم الا من هو سلف ... فبدا لله تبارك وتعالى أن يبعث الرسل.

قلت : أفضلّالا كانوا قبل النبيّين؟ أم على هدى؟

قال : لم يكونوا على هدى كانوا على فطرة الله التي فطرهم عليها لا تبديل لخلق الله ، ولم يكونوا ليهتدوا حتى يهديهم الله ، أما تسمع ابراهيم يقول : (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) (٢) أي ناسيا للميثاق (٣).

وروى الطوسي في «التبيان» عن الباقر عليه‌السلام قال : كانوا قبل نوح امة واحدة على فطرة الله ، لا مهتدين ولا ضلّالا ، فبعث الله النبيّين (٤).

__________________

(١) البقرة : ٢١٣.

(٢) الانعام : ٧٧.

(٣) تفسير العياشي ١ : ١٠٤ ، ١٠٥ وانتقل الامام عليه‌السلام هنا الى التذكير باستمرار الامامة امتدادا للنبوة فقال : ولو سئل هؤلاء الجهّال لقالوا : قد فرغ من الأمر. وكذبوا إنما (هو) شيء يحكم به الله في كل عام .. فيحكم الله بما يكون في تلك السنة من شدة أو رخاء أو مطر أو غير ذلك. وقرأ : «فيها يفرق كل أمر حكيم».

(٤) التبيان ٢ : ١٩٥ وعنه في مجمع البيان ٢ : ٥٤٣.


والآية التالية عادت تذكّر المؤمنين بحالهم قبل هذا النصر في بدر : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ)(١).

ونقل الطبرسي في «مجمع البيان» عن عطاء قال : نزلت في المهاجرين من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة ، إذ تركوا ديارهم وأموالهم ومسّهم الضرّ (٢).

أمّا ما نقله الطوسي في «التبيان» عن السدّي وقتادة : أنّها نزلت في يوم الخندق (٣) فلا ينسجم مع الترتيب الطبيعيّ للآيات ، إلّا أن لا نتقيّد بذلك.

وقد قال العلّامة الطباطبائي في «الميزان» : إنّ هذه الآيات إلى آخر هذه الآية ذات سياق واحد يربط بعضها ببعض (٤).

وإذا كانت الآيات إلى آخر الآية السابقة ذات سياق واحد يربط بعضها ببعض ، فالظاهر أنّ الآية التالية منفردة ليست في السياق ولا ترتبط بما قبلها ولا بما بعدها ، إذ هي تبدأ بقوله سبحانه : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) والجواب : (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)(٥).

وقال الطبرسي في «مجمع البيان» : نزلت في عمرو بن الجموح ، وكان شيخا

__________________

(١) البقرة : ٢١٤.

(٢) مجمع البيان ٢ : ٥٤٦.

(٣) التبيان ٢ : ١٩٨ وعنه في مجمع البيان ٢ : ٥٤٦.

(٤) الميزان ٢ : ١٥٨.

(٥) البقرة : ٢١٥.


كبيرا ذا مال كثير ، فقال : يا رسول الله بما ذا أتصدّق؟ وعلى من أتصدّق؟ فنزلت الآية (١).

وطبيعيّ أن لا علاقة لهذا السؤال والجواب بوقائع بدر اللهم الا أن نعطف النظر الى الآية ما قبل عشر آيات ، وهي : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(٢) وما روي عن أبي أيوب الأنصاري سببا لنزولها ، اذ كان عمرو بن الجموح سيدا من سادات بني سلمة وأشرافهم (٣) ولم يكن ممن حضر بدرا ، وحضر بدرا ابناه معاذ وخلّاد ، وضرب معاذ رجل أبي جهل فقطعها ، فضرب عكرمة بن أبي جهل على يد معاذ فقطعها (٤) فلعلّ أباه عمرا سأل النبيّ عن الصدقة شكرا على حياة ابنه معاذ وكفّارة عن عدم حضوره هو في بدر فاجيب.

وتعود الآية التالية على موضوع القتال فتقول : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٥) والآية تقرير لعمل الرسول لا ابتداء تشريع للقتال.

ثم تنتقل الآيتان التاليتان الى الاجابة على السؤال عن القتال في الشهر الحرام حيث وقع ذلك قبل بدر في سرية النخلة في آخر يوم من شهر رجب ، فتقول : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ

__________________

(١) مجمع البيان ٢ : ٥٤٧.

(٢) البقرة : ١٩٥.

(٣) سيرة ابن هشام ٢ : ٩٥.

(٤) سيرة ابن هشام ٢ : ٣٦٨.

(٥) البقرة : ٢١٦.


اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ* إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١).

قال القمي في تفسيره : كان سبب نزولها .. أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث السرايا الى الطرقات التي تدخل مكة تتعرض لعير قريش ، حتى بعث عبد الله بن جحش في نفر من أصحابه الى نخلة. وساق الخبر الى أن قال : وأخذوا العير بما فيها وساقوها الى المدينة ... فعزلوا العير وما كان عليها ولم ينالوا منها شيئا.

وكتبت قريش الى رسول الله : انك استحللت الشهر الحرام وسفكت فيه الدم وأخذت المال! وكثر القول في هذا.

وجاء أصحاب رسول الله فقالوا : يا رسول الله أيحلّ القتل في الشهر الحرام؟

فأنزل الله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ ...)(٢).

وقال الطبرسي في «اعلام الورى» : واستاقوا العير فقدموا بها على رسول الله ـ وكان ذلك قبل بدر بشهرين (ونصف) ـ فقال لهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : والله ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام. وأوقف الأسيرين والعير ولم يأخذ منها شيئا.

وقالت قريش : استحلّ محمد الشهر الحرام ...

__________________

(١) البقرة : ٢١٧ و ٢١٨.

(٢) تفسير القمي ١ : ٧١ و ٧٢ وكأنّما يلتفت القميّ الى ان تقرير الشهر الحرام قد مرّ في الآية : ١٩٤ ، أي قبل اكثر من عشر آيات ، فيقول : ثم انزلت : «الشهر الحرام بالشهر الحرام».


واسقط في أيدي القوم وظنّوا أنهم قد هلكوا ..

فأنزل الله سبحانه : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ ..).

فلما نزل ذلك أخذ رسول الله المال وفداء الأسيرين (١).

أما في تفسيره «مجمع البيان» فقد نقل القول عن المفسّرين الى أن قال :

فركب وفد كفار قريش حتى قدموا على النبيّ فقالوا : أيحلّ القتال في الشهر الحرام؟ فأنزل الله هذه الآية وانما سألوا ذلك على جهة العيب للمسلمين باستحلالهم القتال في الشهر الحرام (٢) وعليه فالسائل هو وفد مشركي قريش من مكة ، وقبله نقله الطوسي في «التبيان» عن الحسن البصري (٣) فلعله هو الوفد الذي وفد عليه لفداء أسراء بدر بعد بدر ، وهم أربعة عشر رجلا ، وفدوا عليه بعد رجوعه من بدر بأربعة أيام أو خمسة ، أي في شهر رمضان قبل انقضائه. وهذا هو المنسجم مع الترتيب الطبيعيّ للآيات.

وروى الواقدي بسنده عن أبي بردة بن نيار قال : إن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقّف غنائم أهل نخلة ومضى الى بدر ، فلما رجع من بدر ... قالوا : ونزل القرآن وفيه : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ) قسّمها مع غنائم أهل بدر واعطى كل قوم حقّهم قالوا : وكان فداؤهم أربعين أوقيّة لكل واحد ، والاوقيّة أربعون درهما.

وروى بسنده عن محمد بن عبد الله بن جحش قال : كان لأهل الجاهلية المرباع (أي ربع الغنيمة للرئيس) فلما رجع عبد الله بن جحش من نخلة خمّس ما غنم للنبيّ ، فكان أول خمس خمّس في الإسلام ، ثم نزل بعد : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ١٦٧.

(٢) التبيان ٢ : ٢٠٤.

(٣) مغازي الواقدي ١ : ١٨.


مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ...)(١).

وروى ابن اسحاق عن الزهري عن عروة قال : أما عثمان بن عبد الله الذي استؤسر فافتدي فلحق بمكة حتى مات بها كافرا ، وأما الحكم بن كيسان الذي استؤسر هو أيضا فقد أسلم وحسن اسلامه وأقام عند رسول الله حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا (٢).

وروى الواقدي بسنده عن كريمة ابنة المقداد بن عمرو عن أبيها المقداد قال : أنا أسرت الحكم بن كيسان .. فقدمنا به على رسول الله ، فجعل رسول الله يدعوه الى الاسلام وأطال كلامه. فقال عمر بن الخطاب : تكلّم هذا يا رسول الله؟ والله لا يسلم هذا آخر الأبد! دعني أضرب عنقه ويقدم الى أمه الهاوية! فجعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يقبل على عمر حتى أسلم الحكم.

وروى عن الزهري قال : قال الحكم : وما الاسلام؟ قال : تعبد الله وحده لا شريك له ، وتشهد أنّ محمدا عبده ورسوله. قال : قد أسلمت.

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ١٧ ، ١٨ وانما يعني ذلك نزول آية الخمس في سورة الأنفال بعد تخميس ابن جحش لغنيمة نخلة وقبل ذلك اذ قال : وقسمها مع غنائم بدر. لا بد أن نفترض فيه مسامحة في التعبير ، اذ نصّ الواقدي ١ : ١٠٠ وقبله ابن اسحاق ٢ : ٢٩٧ على أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قسم غنائم بدر في مضيق شعب سير بالصفراء في منصرفه من بدر الى المدينة وقبل أن يصلها ، ونصّا أيضا أن ذلك كان بعد نزول سورة الأنفال الواقدي ١ : ١٣١ وابن هشام ٢ : ٣٢٢ وطبيعي أن تقسيمه لغنيمة نخلة انما كان بعد رجوعه من بدر ووصوله الى المدينة من دون أن يكون قد حملها معه الى بدر ليكون قد قسمها مع غنائم بدر في شعب سير. وعليه فقد نزلت سورة الأنفال حين الاقفال من بدر فقسم غنائمها في شعب سير ، ثم وصل المدينة ونزلت الآيات من سورة البقرة : «يسألونك عن الشهر الحرام» فقسّم غنيمة نخلة.

(٢) سيرة ابن هشام ٢ : ٢٥٥.


فالتفت النبيّ الى أصحابه فقال : لو أطعتكم فيه آنفا فقتلته دخل النار!.

فأسلم ، وحسن اسلامه ، وجاهد في الله حتى قتل شهيدا يوم بئر معونة (١).

والآيتان التاليتان قوله سبحانه : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ* فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٢).

قال الطبرسي في «مجمع البيان» : آيتان في الكوفي ، وآية واحدة فيما عداه ، عدّ الكوفي «تتفكّرون» آية ، وتركها غيره (٣).

وقد التزم بعض المفسّرين بذكر وجه انتظام الآيات في السورة ، بل والسور في المصحف ، والطبرسي من هؤلاء كما في تفسيره وفي مقدمته : ثم اقدّم في كل آية ذكر الاختلاف في القراءات ، ثم ذكر انتظام الآيات (٤) وقد ذكر وجها لاتصال الآيات السابقة بما قبلها ، أمّا في هاتين الآيتين فكأنّه استبدل عن ذلك بذكر سبب النزول فقال : نزلت في جماعة من الصحابة أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : أفتنا في الخمر والميسر فانها مذهبة للعقل مسلبة للمال. فنزلت الآية (٥).

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ١٥ بتصرف يسير.

(٢) البقرة : ٢١٩ و ٢٢٠.

(٣) مجمع البيان ٢ : ٥٥٥.

(٤) مجمع البيان ١ : ٧٧.

(٥) مجمع البيان ٢ : ٥٥٧.


وقد روى الكليني في «الكافي» عن علي بن يقطين قال : سأل المهدي (العبّاسيّ) أبا الحسن (الكاظم) عليه‌السلام عن الخمر : هل هي محرمة في كتاب الله عزوجل؟ فان الناس انما يعرفون النهي عنها ولا يعرفون تحريمها!

فقال له أبو الحسن عليه‌السلام : بل هي محرمة.

فقال : في أي موضع هي محرمة في كتاب الله عزوجل يا أبا الحسن؟

فقال : قول الله تعالى : (... إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ...)(١) فأما الاثم فهي الخمر بعينها وقد قال الله تعالى في موضع آخر : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما).

فقال المهدي : يا علي بن يقطين ، هذه فتوى هاشمية.

فقلت له : صدقت يا أمير المؤمنين ، الحمد لله الذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل البيت. فو الله ما صبر المهدي أن قال لي : صدقت يا رافضي! (٢).

وقد نقل الطوسي في «التبيان» هذا المعنى عن العامة منهم الحسن البصري قال : هذه الآية تدل على تحريم الخمر ، لأنّه ذكر أن فيها إثما ، وقد حرّم الله الاثم بقوله : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ) على أنه قد وصفها بأنّ فيها اثما كبيرا ، والكبير يحرم بلا خلاف (٣).

وقال الطبرسي في «مجمع البيان» : قال الحسن : في الآية تحريم الخمر من وجهين : احدهما : قوله : (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) فانه اذا زادت مضرة الشيء على منفعته اقتضى العقل الامتناع عنه.

__________________

(١) الاعراف : ٣٣.

(٢) فروع الكافي ٦ : ٤٦ ، الحديث الأوّل.

(٣) التبيان ٢ : ٢١٣.


والثاني : أنه بيّن أنّ فيهما الإثم ، وقد حرّم في آية اخرى الإثم فقال : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ)(١).

ولا ارتباط بين هذا السؤال والجواب وبين بدر وما تلاها.

أمّا المقطع الآخر من الآية : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ)؟

وقد سبقت الآية المماثلة : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ)؟ قبل أربع آيات ، واختلف الجواب : فهناك (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) وهنا : (قُلِ الْعَفْوَ) وقد مرّ هناك أنّ السائل كان عمرو بن الجموح ، وقد مرّ هناك احتمال أن يكون الباعث على السؤال الآية التي تسبقها بعشر آيات : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(٢) وهنا يكرّر الطبرسي : أنّ السائل عمرو بن الجموح ، ويصرّح بأنّه : سأل عن النفقة في الجهاد (٣) فلعلّه قد تكرّر السؤال مرة اخرى عن حدّ الانفاق فاجيب (قُلِ الْعَفْوَ).

وروى الطوسي في «التبيان» عن الباقر عليه‌السلام قال : العفو : ما فضل عن قوت السنة.

وروى عن الصادق عليه‌السلام قال : العفو هاهنا : الوسط (٤).

وروى العياشي في تفسيره عنه عليه‌السلام أربع روايات بذلك عن يوسف ، وأبي بصير ، وعبد الرحمن ، وجميل بن درّاج ، وتلا قوله سبحانه : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) وقال : هذه هي الوسط (٥).

__________________

(١) مجمع البيان ٢ : ٥٥٨.

(٢) البقرة : ١٩٥.

(٣) مجمع البيان ٢ : ٥٥٨.

(٤) التبيان ٢ : ٢١٤. وعنه في مجمع البيان ٢ : ٥٥٨.

(٥) تفسير العياشي ١ : ١٠٦.


أمّا الآية التالية : (... وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) فهي مناسبة مع توالي وقعة بدر وسقوط شهداء فيها وبقاء يتامى لهم بين المسلمين لأوّل مرة ، فيسألون عن تكليفهم بالنسبة إليهم. فاجيبوا بأنهم اخوانهم فليخالطوهم وليصلحوا أمرهم وشأنهم.

زكاة الفطرة وعيد الفطر :

وكأنه لما تكرّر السؤال عن الانفاق لما حصل المسلمون على ما يعتدّ به من المال من غنائم بدر وفداء الاسراء ، ناسب أن يأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله باخراج زكاة الفطر في هذه السنة ، كما قال المسعودي (١). وخرج بالناس الى المصلّى في العيد ولم يخرج قبل ذلك ، وذبح في المصلّى شاة أو شاتين بيده ، ووضعت العنزة ـ وهي الرمح الصغيرة ـ بين يديه ، كما قال اليعقوبي (٢).

وروى الواقدي في العنزة عن الزبير بن العوّام قال : كانت في يدي يوم بدر عنزة ، اذ لقيت عبيدة بن سعيد بن العاص على فرس وعليه لامة كاملة لا يرى منه الا عيناه ، فطعنت بالعنزة في عينه ، فوقع ، فوطأت برجلي على خدّه حتى أخرجت العنزة من حدقته فأخرجت حدقته. فأخذ رسول الله العنزة فكانت تحمل بين يديه (٣).

وروى في «الجعفريات» بسنده عن الصادق عن علي عليهما‌السلام قال : كانت

__________________

(١) التنبيه والاشراف : ٢٠٦.

(٢) اليعقوبي ٢ : ٤٦.

(٣) مغازي الواقدي ١ : ٨٥ بهامشه عن نوادر ثعلب : ١٢٦ قال : كان الامام اذا صلّى جعلها بين يديه ووقف دونها ، فتكون على ناحية منه ، فسمّيت العنزة من قولهم : اعتنز الرجل ، اذا تنحّى.


لرسول الله عنزة في أسفلها عكاز يخرجها في العيدين يصلي إليها ويتوكّأ عليها (١).

بينما روى بسنده عن علي عليه‌السلام أيضا قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى أن يخرج السلاح الى العيدين ، الا أن يكون عدوا حاضرا (٢) ولا منافاة بينهما ووجه الجمع ظاهر.

وفسّر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا اليوم ما جاء في آيات الصيام : (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

فقد روى الكليني في «اصول الكافي» عن الريان بن الصلت وياسر خادم الرضا عليه‌السلام أنّ المأمون العباسيّ لمّا حضر العيد سأل الرضا عليه‌السلام أن يصلّي العيد ويخطب ، فاستعفاه الرضا عليه‌السلام وقال : إن لم تعفني خرجت كما خرج رسول الله وأمير المؤمنين عليهما‌السلام. فقال المأمون : اخرج كيف شئت. فلما طلعت الشمس قام فاغتسل ، وتعمّم بعمامة بيضاء من قطن القى طرفا منها على صدره وطرفا بين كتفيه .. ثم أخذ بيده عكازا ثم خرج ... فلما مشى ... كبّر أربع تكبيرات قال : الله اكبر ، الله أكبر ، الله اكبر ، الله اكبر على ما هدانا ، والله أكبر على ما أولانا (٣).

وروى الكليني في «فروع الكافي» بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : أما إنّ في الفطر تكبيرا ، ولكنّه مسنون. قلت : كيف أقول؟ قال : تقول : الله اكبر الله اكبر الله اكبر ، لا إله الا الله والله أكبر ، الله أكبر ولله الحمد ، الله اكبر على ما هدانا. ثم قال : وهو قول الله : (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ)(٤).

__________________

(١) الجعفريات : ١٨٤ وفي من لا يحضره الفقيه مثله خبران ١ : ٥٠٩ ط طهران.

(٢) الجعفريات : ٣٨. وفي فروع الكافي ٣ : ٤٦١ الحديث ٦ والتهذيب ١ : ٢٩٢ مثله خبران.

(٣) اصول الكافي ، باب مولد الرضا عليه‌السلام ١ : ٤٨٩ ط طهران.

(٤) فروع الكافي ٤ : ١٦٦ ح ١ ورواه العياشي في تفسيره ١ : ٨٢ والصدوق في الفقيه ٢ : ١٦٧ ط طهران والخصال ٢ : ٦٠٩ والطوسي في التهذيب ٣ : ١٣٨ ح ٣١١.


غزوة بني سليم :

قال الطبرسي في «إعلام الورى» : ولم يقم رسول الله بالمدينة لما رجع إليها من بدر الا سبع ليال حتى غزا بنفسه يريد بني سليم ، حتى بلغ ماء من مياههم يقال له : الكدر (١) ، فأقام عليه ثلاث ليال ولم يلق كيدا فرجع الى المدينة (٢).

واختصر الخبر ابن شهرآشوب في «مناقب آل أبي طالب» (٣) وأظن أن الطبرسي نقله عن نص ابن اسحاق في السيرة (٤) ، ولم يعين فيها يوم خروجه ، ولكن الطبري بعد نقله لنص ابن اسحاق نقل عن بعضهم قال : خرج من المدينة يوم الجمعة غرّة شوال أي يوم عيد الفطر بعد ما ارتفعت الشمس من السنة الثانية للهجرة (٥).

ونقل الطبري عن بعضهم قال : لم يلق النبي كيدا في غزوة الكدر وساق الرّعاء والنعم فغنم وسلم ، وكان قدومه منها لعشر خلون من شوّال (٦).

سرية بني سليم :

قال : ويوم الأحد ولعشر ليال مضين من شوال بعث غالب بن عبد الله الليثي في سرية الى بني سليم وغطفان ، فقتلوا فيهم وقتل منهم ثلاثة

__________________

(١) قرارة الكدر على ثمانية برد من المدينة الى جهة مكة ـ الطبقات ٢ : ١٢.

(٢) اعلام الورى ١ : ١٧٢.

(٣) المناقب ١ : ١٩٠.

(٤) ابن هشام ٣ : ٤٦.

(٥) الطبري ٢ : ٤٨٢.

(٦) الطبري ٢ : ٤٨٣.


وأخذوا النعم وانصرفوا بالغنيمة الى المدينة يوم السبت لأربع عشرة ليلة بقيت من شوال (١).

وعن سبب الغزوة والسرية الى بني سليم وغطفان قال : بلغه اجتماعهم عليه (٢). اذ كان البدء بحصار بني قينقاع يوم السبت للنصف من شوال في قول الواقدي (٣) وعليه فمقدمات الغزوة وقعت في هذه الفترة (ثلاثة أيام) بين عودة الرسول من بني سليم وحصر بني قينقاع. وحيث يستمر حصارهم الى هلال ذي القعدة فقبل نقل خبرهم هناك خبران آخران مما وقع في شوال هذه السنة ، ولعل الخبر الأول يرتبط بالآيات التالية من سورة البقرة في :

تزويج المشركين والزواج بالمشركات :

قوله سبحانه : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)(٤) وقد رووا في شأن نزولها أخبارا مختلفة منها ما لا علاقة لها بأحداث ما بعد بدر ، كما :

روى السيوطي في «الدر المنثور» عن مقاتل قال : بلغنا : أنها كانت أمة (لحذيفة بن اليمان) فأعتقها وتزوجها .. فطعن عليه ناس وقالوا : نكح أمة!

__________________

(١) الطبري ٢ : ٤٨٣.

(٢) الطبري ٢ : ٤٨٢.

(٣) مغازي الواقدي ١ : ١٧٦.

(٤) البقرة : ٢٢١.


فأنزل الله فيهم ذلك (١).

وروى الواحدي في «أسباب النزول» عن السدّي عن ابن عباس قال : إن عبد الله بن رواحة كانت له أمة سوداء ، وانه غضب عليها فلطمها ، ثم فزع ، فأتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبره خبرها ، فسأله النبيّ : ما هي يا عبد الله؟ قال : تشهد أن لا إله الا الله وأنك رسول الله ، وتحسن الوضوء وتصلي وتصوم. فقال : يا عبد الله هذه مؤمنة. فقال عبد الله : فو الذي بعثك بالحق لأعتقنّها ولأتزوّجنّها. ففعل. فطعن عليه ناس وقالوا : نكح أمة! فأنزل الله فيهم : (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ)(٢).

ومن الأخبار ما لعله يرتبط بما حدث بعد بدر : فقد قال الطبرسي في «مجمع البيان» : نزلت في مرثد بن أبي مرثد الغنوي ، بعثه رسول الله الى مكة ليخرج منها ناسا من المسلمين. وكان قويا شجاعا ، وكانت بينه وبين امرأة يقال لها عناق خلّة في الجاهلية ، فدعته الى نفسها فأبى. فقالت : هل لك أن تتزوّج بي؟ فقال : حتى أستأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فلما رجع استأذن في التزويج بها ، فنزلت الآية (٣).

ونقله الطباطبائي في «الميزان» وقال : رواه السيوطي عن ابن عباس أيضا.

ثم قال : ولا تنافي بين هذه الروايات الواردة في أسباب النزول ، لجواز وقوع عدة حوادث تنزل بعدها آية تشتمل على حكم جميعها (٤).

وأقول : ولا يبعد أن يكون مرثد بن أبي مرثد الغنويّ في ارسال رسول

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٢٥٦ ، ٢٥٧.

(٢) أسباب النزول للواحدي : ٦٥.

(٣) مجمع البيان ٢ : ٥٦٠ ، وأسباب النزول للواحدي : ٦٥ ، ٦٦.

(٤) الميزان ٢ : ٢٠٦.


الله له الى مكة ، هو الرجل الآخر مع زيد بن حارثة ، حينما ـ كما ذكر ابن اسحاق ـ بعثهما رسول الله مع صهره أبي العاص بن الربيع لمّا خلّى سبيله الى مكة ، وقال لهما : كونا ببطن ياجج (١) حتى تمرّ بكما زينب ، فتصحباها حتى تأتياني بها. وذلك بعد بدر بشهر أو قريب منه.

ثم روى عن زينب : أنها لما فرغت من جهازها قدّم لها كنانة بن الربيع أخو زوجها بعيرا فركبته ، فخرج بها في هودج لها يقودها نهارا.

وتحدث بذلك رجال من قريش ، فخرجوا في طلبها حتى أدركوها بذي طوى ، فكان أول من سبق إليها هبّار بن الأسود و (نافع بن عبد القيس) الفهري ، فروّعها هبّار بالرمح وهي في هودجها ، وكانت المرأة حاملا فلما ريعت طرحت ما في بطنها!

فبرك حموها كنانة بن الربيع وقال : والله لا يدنو منّي رجل الا وضعت فيه سهما!

وأتى أبو سفيان في جمع من قريش فقال له : أيها الرجل ، كفّ عنّا نبلك حتى نكلّمك. فكفّ. فأقبل ابو سفيان حتى وقف عليه فقال : إنك لم تصب ، خرجت بالمرأة على رءوس الناس علانية ، وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا وما دخل علينا من محمد! فاذا خرجت بابنته من بين أظهرنا ، إليه علانية على رءوس الناس يظن الناس أن ذلك عن ذلّ أصابنا من مصيبتنا التي كانت ، وأن ذلك منّا ضعف ووهن. ولعمري ما لنا بحبسها عن أبيها من حاجة وما لنا في ذلك من ثأر ، ولكن ارجع بالمرأة حتى اذا هدأت الأصوات وتحدّث الناس أن قد رددناها ، فسلّها سرّا

__________________

(١) يأجج : اسم لمكانين : على ثمانية أميال من مكة ، وأقرب منه على موضع مسجد الشجرة بينه وبين مسجد التنعيم ميلان ٣ كم تقريبا. ومسجد التنعيم اليوم متصل بمكة.


وألحقها بأبيها.

فقبل كنانة وفعل ذلك. فأقامت ليالي حتى اذا هدأت الأصوات خرج بها ليلا حتى أسلمها الى زيد بن حارثة وصاحبه ، فقدما بها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

وعليه ، فالآية اذ نزلت كان تأييدا لما فعل الرسول من الفصل بين ابنته المسلمة وزوجها المشرك.

ومن آيات الاحكام التي لها ارتباط تام بما بعد بدر وشهادة الشهداء الأربعة عشر فيها : آية عدة المتوفّى عنها زوجها أو الشهيد ، وفيها آيتان هما الآية ٢٣٤ و ٢٤٠. وقبلهما وبينهما آيات احكام هي وأسباب نزولها من تاريخ صدر الاسلام ، فلا بأس بالامام بها.

روى السيوطي في «الدر المنثور» عن أنس بن مالك قال : كان اليهود اذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ولم يواكلوها ولم يشاربوها ولم يجتمعوا معها في البيوت. وروى عن السدّي ومقاتل قال : فسأل ثابت بن الدحداحة الأنصاري (٢) فأنزل الله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ٣٠٨ ـ ٣١٠. وذكر السهيلي في «الروض الانف» في شرح هذا الموضع من السيرة : أن هبارا نخس بها الراحلة فسقطت على صخرة وهي حامل ، فهلك جنينها ، ولم تزل تهريق الدماء. ماتت بالمدينة بعد اسلام بعلها أبي العاص بن الربيع. ولذلك روى ابن اسحاق عن أبي هريرة قال : بعث رسول الله بسريّة أنا فيها وقال لنا : ان ظفرتم بهبّار بن الأسود أو نافع بن عبد القيس الفهري فاقتلوهما ـ سيرة ابن هشام ٢ : ٣١٢.

(٢) هو الذي صاح يوم احد : يا معشر الأنصار ان كان محمد قد قتل فان الله حي لا يموت فقاتلوا عن دينكم فالله ناصركم. فنصره نفر من الأنصار. فوقفت له كتيبة خالد بن الوليد


فِي الْمَحِيضِ) ، فقال رسول الله : جامعوهن في البيوت واصنعوا كل شيء الا النكاح. فبلغ ذلك اليهود فقالوا : ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا الا خالفنا فيه (١).

وروى الطوسي عن الحسن والربيع وقتادة قالوا : إنما سألوا عن المحيض لأنهم كانوا على تجنّب امور من : مواكلة الحائض ومشاربتها ، حتى كانوا لا يجالسونها في بيت واحد. فاستعلموا : أواجب هو أم لا (٢).

ونقله عنه الطبرسي في «مجمع البيان» وبيّن : أنهم كانوا في الجاهلية يتجنّبون ذلك (٣) فان كان فقد تأثروا في ذلك واقتبسوه من أهل الكتاب واليهود خصوصا.

والآية أمرت باعتزالهنّ : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) ولكنها فسّرت الاعتزال : (وَلا تَقْرَبُوهُنَ) وحددت ذلك بأجله : (حَتَّى يَطْهُرْنَ) ثم شرعت التطهير منه (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَ) أو قاربوهنّ ، جوازا ، اذ هو أمر عقيب الحظر ، ولتكن المقاربة (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) باجتنابه ، وهو الفرج (٤).

فلو كان المسلم يقاربها ولا يعتزلها فهو الآن يشعر وكأنه كان عاصيا مذنبا ، ولو كان يعتزلها اكثر من اللازم كاليهود فكذلك أيضا ، فقال الله : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) ثم علّل الاعتزال حتى التطهير بقوله سبحانه : (وَيُحِبُ

__________________

ـ وحمل عليه خالد فطعنه بالرمح فقتله شهيدا ـ مغازي الواقدي ١ : ٢٨١ وهذا يليق به أن يكون متقيا يسأل عن ذلك.

(١) الدر المنثور ١ : ٢٥٨.

(٢) التبيان ٢ : ٢١٩ ، ٢٢٠.

(٣) مجمع البيان ٢ : ٥٦٢.

(٤) التبيان ٢ : ٢٢٢ عن الربيع ومجاهد وقتادة عن ابن عباس.


الْمُتَطَهِّرِينَ)(١) الطالبين للنظافة عن الحيض والاغتسال منه ومن كل حدث وخبث ، ومنه التطهير من الغائط ، فالآية تشمله باطلاقها ، وقد طبّقها عليه الرسول :

فقد روى العياشي في تفسيره عن الصادق عليه‌السلام قال : كانوا يستنجون بثلاثة أحجار ، لأنهم كانوا يأكلون البسر وكانوا يبعرون بعرا ، فأكل رجل من الأنصار الدّباء (القرع) فلان بطنه فاستنجى بالماء ... (ثم أتى النبيّ وقال) : يا رسول الله ، اني والله ما حملني على الاستنجاء بالماء الا أني أكلت طعاما فلان بطني ، فلم تغن عني الحجارة شيئا فاستنجيت بالماء.

فقال رسول الله : فكنت أول من صنع ذا ... فان الله قد أنزل فيك الآية : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)(٢) بمعنى التطبيق لا النزول الخاص.

وعن جريان السنة به روى الكليني في «الكافي» عنه عليه‌السلام أيضا قال : كان الناس يستنجون بالأحجار والكرسف (القطن) ثم احدث الوضوء (اي التطهير بالماء) وهو خلق كريم ، فأمر به رسول الله وصنعه (٣).

عليه فالآية اشارت الى التطهير بالماء من الحيض ، وسنّ الرسول الكريم الغسل منه ، والتطهير من الغائط. ولعل مع تشريع الحيض والغسل منه كان وضع

__________________

(١) وقارن بالميزان ٢ : ٢١٢.

(٢) تفسير العياشي ١ : ١٠٩ ، ١١٠ ورواه الصدوق في الفقيه ، وقال الطباطبائي في الميزان ٢ : ٢١٦ : والأخبار في هذا المعنى كثيرة ، وفي بعضها : أن أول من استنجى بالماء البراء بن عازب والفيض في الوافي نقل الخبر عن الفقيه وقال : يقال : إن هذا الرجل كان البراء بن مبرور الأنصاري. وأقول : الصحيح هو البراء بن عازب لا ابن مبرور ، فان ابن مبرور كان قد توفي قبيل هجرة الرسول فصلى على قبره كما مرّ.

(٣) فروع الكافي ٣ : ١٨ ، الحديث ١٣.


الصلاة والصيام عن الحائض مع قضاء الصيام.

وكما كان اليهود مبتدعين باعتزال الحائض اكثر من اللازم ، كذلك كانوا مبتدعين بالمضايقة في كيفية إتيان النساء.

فقد روى العياشي في تفسيره عن الصادق والرضا عليهما‌السلام قالا : إن اليهود كانت تقول : اذا أتى الرجل من خلفها خرج ولده أحول! فأنزل الله : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) يعني من خلف أو قدام ، خلافا لقول اليهود ، ولم يعن في أدبارهن (١) وهو بذلك يردّ على ما ورد في صدر الخبر ، حيث نقل له معمّر بن خلّاد عن أهل المدينة أنهم كانوا لا يرون بأسا في اتيان النساء في أعجازهن. ويبدو أنهم أخذوا ذلك من فقيههم مالك بن أنس :

فقد نقل السيوطي في «الدر المنثور» عن أبي سليمان الجوزجاني قال : سألت مالك بن أنس عن وطء الحلائل في الدبر ، قال : الساعة غسلت رأسي عنه.

واستند مالك في ذلك الى ما أسنده عن نافع القارئ قال : قال لي ابن عمر : أمسك عليّ المصحف يا نافع. فأمسكت وقرأ حتى أتى على قوله سبحانه : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) فقال لي : يا نافع تدري فيمن نزلت هذه الآية؟ قلت : لا ، قال : نزلت في رجل من الأنصار أصاب امرأته في دبرها فأعظم الناس ذلك ، فأنزل الله الآية. قلت له : من دبرها في قبلها. قال : لا ، إلا في دبرها. ولذلك كان ابن عباس يأخذ ذلك على ابن عمر :

ففيه عن مجاهد عن ابن عباس قال : إن ابن عمر ـ والله يغفر له ـ أوهم ، إنما كان هذا الحيّ من الأنصار ـ وهم أهل وثن ـ مع هذا الحيّ من يهود وهم أهل

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ١١١.


كتاب ، وكان يرون لهم فضلا عليهم في العلم ، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم. وكان من أمر أهل الكتاب أن لا يأتوا النساء الا على حرف ، فكان هذا الحيّ من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم. بينما كان هذا الحيّ من قريش يشرحون النساء شرحا منكرا ويتلذّذون ، مقبلات ومدبرات ومستلقيات ، فلما قدم المهاجرون المدينة تزوّج رجل منهم امرأة من الأنصار فذهب يصنع بها ذلك فانكرته عليه وقالت : إنما كنّا نؤتى على حرف ، فاصنع ذلك ، والا فاجتنبني! فسرى أمرهما حتى بلغ ذلك رسول الله فأنزل الله عزوجل : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) أي مقبلات ومدبرات ومستلقيات ، يعني بذلك موضع الولد ورواه ابن داود في سننه.

كما روى السيوطي مختصره عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : كانت الأنصار تأتي نساءها مضاجعة ، بينما كانت قريش تشرح شرحا كثيرا. فتزوّج رجل من قريش امرأة من الأنصار فأراد أن يأتيها فقالت ، لا ، الا كما نفعل. فاخبر رسول الله بذلك فانزل : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) أي قائما وقاعدا ومضطجعا في صمام واحد (١) أي في مدخل واحد هو القبل دون الدبر.

ولذلك روى العياشي في تفسيره عن صفوان بن يحيى عن بعض أصحابنا قال : سألت أبا عبد الله الصادق عن قول الله : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) فقال : من قدّامها ومن خلفها في القبل.

وعن زرارة قال : سألت أبا جعفر الباقر عليه‌السلام عن قول الله : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) قال : من قبل.

وعليه تحمل الرواية الاخرى عن زرارة أيضا عن الباقر عليه‌السلام قال : حيث

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٢٦١.


شاء. يعني من القبل (١).

وعن النظم والترتيب الطبيعيّ لنزول الآيات الأربع التالية من الآية ٢٢٤ حتى الآية ٢٢٧ قال الطبرسي في «مجمع البيان» : لما بيّن سبحانه أحوال النساء وما يحل منهنّ عقّبه بذكر الايلاء ، وهو : اليمين التي تحرّم الزوجة ، فابتدأ بذكر الأيمان أولا تأسيسا لحكم الايلاء فقال : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٢) ثم بيّن سبحانه أقسام اليمين فقال : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ)(٣) ثم بيّن تعالى حكم الايلاء لأنه من جملة الأيمان والأقسام ، وشريعة من شرائع الاسلام ، فقال : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٤) ثم بيّن سبحانه حكم الطلاق والمطلقات ومتعلقاتها في خمس عشرة آية من الآية ٢٢٨ حتى الآية ٢٤٢ ، فالاولى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ...) في سبب نزولها في سنن أبي داود عن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية قالت : طلّقت على عهد رسول الله ولم يكن للمطلّقة عدة ، فانزل حين طلّقت العدة للطلاق : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)(٥).

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ١١١.

(٢) مجمع البيان ٢ : ٥٦٦ ونقل أن عبد الله بن رواحة حلف أن لا يصلح بين اخته وزوجها ، فكان يقول : اني حلفت بهذا فلا يحل لي أن أفعله ، فنزلت الآية. ولا يستقيم هذا مع الحكم الفقهي في المسألة فان عقد اليمين غير مشروط بالرجحان ، فهو مردود. ولعله لذلك لم يذكره الطوسي في التبيان ولا العلامة في الميزان.

(٣) مجمع البيان ٢ : ٥٦٨.

(٤) مجمع البيان ٢ : ٥٧٠.

(٥) سنن أبي داود ٢ : ٢٨٥.


وما يتعلق منها صدقا وانطباقا على أزواج شهداء بدر هو ما يبيّن حكم عدة المتوفى عنها زوجها ، وقد نزل بهذا الشأن آيتان ، احداهما الآية : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(١).

وقد نقل المرتضى عن تفسير النعماني بسنده عن علي عليه‌السلام قال : إنّ العدة كانت في الجاهلية على المرأة سنة كاملة ، كان اذا مات الرجل القت المرأة خلف ظهرها شيئا بعرة أو ما يجري مجراها وقالت : البعل أهون عليّ من هذه ، ولا اكتحل ولا أمتشط ولا أتطيّب ولا أتزوّج سنة. فكانوا لا يخرجونها من بيتها بل يجرون عليها من تركة زوجها سنة. فأنزل الله في أول الاسلام : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) فلما قوي الاسلام أنزل الله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ...)(٢).

وقد روى العياشي في تفسيره عن ابي بصير قال : سألت ابا جعفر الباقر عليه‌السلام عن الآية : (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) قال : هي منسوخة ، نسختها : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) قلت : وكيف كانت؟ قال : كان الرجل اذا مات انفق على امرأته من صلب المال حولا ثم اخرجت بلا ميراث ، ثم نسختها آية الربع والثمن ، فالمرأة

__________________

(١) البقرة : ٢٤٠.

(٢) وسائل الشيعة ١٥ : ٤٥٣.


ينفق عليها من نصيبها (١).

وقال القمي في تفسيره : كانت عدّة النساء في الجاهلية إذا مات الرجل اعتدّت امرأته سنة ، فلمّا بعث رسول الله تركهم على عاداتهم ولم ينقلهم عن ذلك بل أنزل الله تعالى بذلك قرآنا فقال : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) فكانت العدّة حولا. فلمّا قوي الإسلام أنزل الله : (الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) فنسخت قوله : (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ)(٢).

وهنا نتوقّف عن النظر في أخبار الآيات التالية من سورة البقرة ، لنعرّج على الخبر الآخر الواقع في شوّال من هذه السنة قبل البدء بأخبار بني القينقاع ، وهو الخبر عن :

قتل المحرّض على النبيّ ، نذرا :

روى الواقدي عن إسماعيل بن مصعب بن إسماعيل بن زيد بن ثابت الأنصاري ، عن أبيه عن جدّه عن زيد بن ثابت قال : كان في بني عمرو بن عوف شيخ كبير يدعى أبا عفك بلغ مائة وعشرين سنة لم يدخل في الإسلام بل كان يحرّض على عداوة النبيّ ، ولمّا خرج رسول الله إلى بدر ونصره الله حسده وقال شعرا :

لقد عشت حينا وما (إن) أرى

من الناس دارا ولا مجمعا

بأولى عقولا وآتى إلى

منيب سراعا إذا ما دعا

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ١٢٢ و ١٢٩ وروى مثله عن ابن أبي عمير عنه عليه‌السلام.

(٢) تفسير القمي ١ : ٦.


فسلّبهم أمرهم راكب

حراما حلالا لشتى معا

فلو كان بالملك صدّقتم

وبالنصر تابعتم تبّعا

فقال سالم بن عمير من بني النجار : عليّ نذر أن أقتل أبا عفك أو أموت دونه! وفي شوّال على رأس عشرين شهرا (من الهجرة) كانت ليلة صائفة (١) نام فيها ابو عفك بفناء بني عمرو بن عوف ، فأقبل سالم بن عمير حتى وضع السيف على كبده وحتى غرزه في الفراش ، وصاح الرجل ، وثاب إليه ناس فقبروه في منزله (٢).

غزوة قينقاع :

ويبدو أن حسد الرسول على نصر الله له ببدر والتحريض عليه لم يكن خاصا بهذا الشيخ من بني عمرو بن عوف.

فقد روى الواقدي عن ابن كعب القرظي قال : لما أصاب رسول الله أصحاب بدر وقدم المدينة ، بغت يهود (بني قينقاع) وقطعت ما كان بينها وبين النبي من عهد (٣). ثمّ لم يسم بغيهم وقطيعتهم ، ولكنه قال :

فبيناهم على ما هم عليه ... اذ جاءت امرأة من العرب كانت تحت رجل من الأنصار الى سوق بني قينقاع وجلست عند صائغ في حليّ لها ، وجاء رجل من يهود قينقاع فجلس من ورائها وهي لا تشعر فربط درعها الى ظهرها بشوكة ، فلما قامت المرأة بدت عورتها فضحكوا منها.

__________________

(١) صائفة : شديدة الحر.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ١٧٤.

(٣) مغازي الواقدي ١ : ١٧٦.


فقام رجل من المسلمين واتّبع (الرجل اليهودي الذي فعل ذلك بها) فقتله! فاجتمعت بنو قينقاع على (المسلم) فقتلوه! و (بذلك) حاربوا رسول الله ونبذوا العهد بينهم وبينه (١).

قال القمي في تفسيره : فأتاهم رسول الله فقال : يا معشر اليهود ، قد علمتم ما نزل بقريش ، وهم اكثر عددا وسلاحا وكراعا منكم ، فادخلوا في الاسلام.

فقالوا : يا محمد ، انك تحسب حربنا مثل حرب قومك؟! قد والله لو لقيتنا للقيت رجالا (٢) وقد تضمّنت دعوته هذه لهم انذارا وتبشيرا : انذارا بحرب كحرب بدر لأنهم حاربوه ونقضوا عهده ، وتبشيرا بأنهم لو دخلوا في الاسلام فالاسلام يجبّ ما قبله ، فلا يطالبهم بالانتقام للمسلم المقتول الا قصاصا بل وعفوا.

وقال الواقدي : قالوا : ولقد كانوا أشجع اليهود ، وقد كان عبد الله بن ابيّ ابن سلول الخزرجي معهم في حلف سابق ، وهو الذي كان قد أمرهم أن يتحصّنوا ، وزعم لهم أنه سيدخل معهم ولم يدخل (٣).

فروى عن عروة قال : لما رجع رسول الله من بدر واظهر اليهود الغش ، نزل جبرئيل عليه‌السلام بالآيات : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ١٧٦ ، ١٧٧. وابن هشام في السيرة ٣ : ٥١.

(٢) تفسير القمي ١ : ٩٧ واعلام الورى ١ : ١٧٥ بلفظ آخر والمناقب ١ : ١٩٠ مختصر الخبر وابن اسحاق في السيرة ٣ : ٥٠ والواقدي في المغازي ١ : ١٧٤.

(٣) مغازي الواقدي ١ : ١٧٨.


لا يُعْجِزُونَ) فلما فرغ جبرئيل قال له رسول الله : فأنا أخافهم (١) الى قوله : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) قال الواقدي : يعني قريظة والنضير فانهم قالوا : نحن نسلم ونتّبعك (٢).

فاستخلف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر ، كما كان (٣) وسار إليهم حسب الآية فحاصرهم في حصنهم خمس عشرة ليلة أشدّ الحصار (٤) وهم لزموا حصنهم فما رموا بسهم ولا قاتلوا (٥) إذ قذف الله في قلوبهم الرعب ، فقالوا : أفننزل وننطلق؟ قال رسول الله : لا ، الا على حكمي. فنزلوا على (٦) صلح رسول الله وحكمه ، على أن تكون أموالهم لرسول الله (٧) وكانوا صاغة ، فكانت لهم آلات صياغة وسلاح كثير ... ولم تكن لهم مزارع ولا أرضون (٨) فكانت أموالهم لرسول

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ١٨٠ و ١٧٧ و ١٣٥ ونقله الطوسي في التبيان ٥ : ١٤٦ وعنه في مجمع البيان ٤ : ٨٥٠.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ١٣٥ ونقله عنه الطوسي في التبيان ٥ : ١٥١ و ١٥٢. وهذا هو الذي يفسّر سرّ اختلاف الحال بينهم وبين قينقاع ، على أنهم كانوا حلفاء الأوس وهؤلاء حلفاء الخزرج بما بينهما من خلاف.

(٣) مغازي الواقدي ١ : ١٨٠ عن أبي بكر بن حزم.

(٤) مغازي الواقدي ١ : ١٧٧ وفي السيرة ٣ : ٥٢ ولم يعيّنا البداية والنهاية الا أن الواقدي أرّخ الغزوة : يوم السبت للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة ١ : ١٧٦ فتكون البداية أوائل شوال.

(٥) مغازي الواقدي ١ : ١٧٨.

(٦) مغازي الواقدي ١ : ١٧٧.

(٧) مغازي الواقدي ١ : ١٧٨.

(٨) مغازي الواقدي ١ : ١٧٩.


الله ، ولهم الذرية والنساء (١) فلما نزلوا وفتحوا حصنهم ، قبض محمد بن مسلمة أموالهم (٢) وأمر رسول الله المنذر بن قدامة السلمي أن يربطهم ، فكانوا يكتّفون كتافا.

فوثب ابن أبيّ الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأدخل يده في جيب درعه من خلفه وقال : يا محمد! أحسن الى مواليّ!

فتغيّر وجه النبيّ وأقبل عليه مغضبا وقال له : ويلك أرسلني!

فقال : لا ارسلك حتى تحسن في مواليّ ، أربعمائة دارع وثلاثمائة حاسر (٣) منعوني يوم بعاث ويوم الحدائق من الأحمر والأسود تريد أن تحصدهم في غداة واحدة؟! إني والله امرؤ أخشى الدوائر (٤) ، فلما تكلم ابن أبيّ فيهم تركهم رسول

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ١٨٠.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ١٧٨.

(٣) وفي ابن هشام عن ابن اسحاق : أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع ٣ : ٥٢.

(٤) وفيه نزل بعد ذلك قوله : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ) ، المائدة : ٥٢. وقد روى ابن اسحاق عن أبيه عن عبادة بن الوليد ابن عبادة بن الصامت عن أبيه الوليد : أنّ بني قينقاع لمّا حاربت رسول الله مشى أبوه عبادة ابن الصامت إلى رسول الله فخلعهم من حلفه وتبرّأ إليه منه ، ففيه وفي عبد الله بن ابي نزلت من سورة المائدة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الى قوله : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) سيرة ابن هشام ٢ : ٥٢ ، ٥٣ وهذا في ذيله وشموله لآية الولاية والزكاة في الركوع معارض بالكثير الكثير من الحديث بشأن نزول الآية بسبب تصدق علي أمير


الله من القتل ، وأمر بهم أن يجلوا من المدينة (١). وأمر رسول الله عبادة بن الصامت أن يجليهم.

فجعلت قينقاع تقول له : يا أبا الوليد ، تفعل بنا هذا ونحن مواليك من بين الأوس والخزرج؟! فقال عبادة : لما حاربتم رسول الله جئت إليه وقلت له : اني أبرأ إليك منهم ومن حلفهم. فقال ابن ابيّ : تبرّأت من حلف مواليك؟ ما هذه بيدهم عندك. وذكّره بمواطن بلائهم. فقال عبادة : أبا الحباب أما والله انك لمعصم بأمر سترى غبّه غدا ، فلقد محا الاسلام العهود.

فقالت قينقاع : يا محمد ، إن لنا دينا في الناس. وطلبوا التنفّس.

فقال عبادة : لكم ثلاث ، لا أزيدكم عليها ، وهذا أمر رسول الله ، ولو كنت أنا لما نفّستكم! (٢) فأخذوا بالخروج.

وجاء ابن أبي ببعضهم يريد أن يكلم رسول الله أن يقرّهم في ديارهم.

فوجد على باب النبيّ عويم بن ساعدة ، فذهب ليدخل فردّه عويم وقال :

لا تدخل حتى يأذن لك رسول الله. فدفعه ابن ابي ، فغلظ عليه عويم ودفعه فجرح وجهه وسال دمه ، فأخذ يمسح الدم عن وجهه ، وتصايح حلفاؤه من

__________________

ـ المؤمنين عليه‌السلام بخاتمه على المسكين في ركوع صلاته في مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا نسلّم به ، ونحوّل البحث في ذلك الى الكثير الكثير مما كتب في ذلك من التفسير والعقائد والكلام في الامامة وفضائل الامام أمير المؤمنين علي ـ عليه الصلاة والسلام ـ. وسورة المائدة من أواخر ما نزل وليس هنا. وقد روى خبر شفاعة ابن ابيّ لهم ونزول الآيات الى قوله «نادمين» اعلام الورى ١ : ١٧٥ والمناقب ١ : ١٩١.

(١) مغازي الواقدي ١ : ١٧٨ وفي السيرة ٣ : ٥١ ، ٥٢.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ١٧٩.


اليهود؟! قالوا : يا أبا الحباب لا نقيم بدار أصاب وجهك فيها هذا ولا نقدر أن نغيره! فجعل ابن ابي يصيح عليهم يقول : ويحكم قرّوا! وجعلوا هم يتصايحون : لا نقيم بدار أصاب وجهك فيها هذا ولا نستطيع تغييره!

وقبض محمد بن مسلمة أموالهم (١) وخمّس رسول الله ما أصاب منهم (وهو أول خمس خمّسه بعد آية الخمس) وقسّم ما بقي على أصحابه. ووهب لمحمد بن مسلمة درعا من دروعهم ، وأعطى سعد بن معاذ درعا يقال لها السّحل .. وأخذ هو من سلاحهم ثلاث قسيّ : قوس تدعى الكتوم كسرت باحد ، وقوس تدعى الرّوحاء ، وقوس تدعى البيضاء. وأخذ من سلاحهم أيضا درعين : درعا يقال لها الصّغدية واخرى : فضة. وثلاثة أسياف : البتّار والقلعي (نسبة الى قلعة بالبادية) وثلاثة أرماح.

ولما مضت ثلاثة أيام خرج عبادة في آثارهم ، حتى بلغ بهم خلف دباب سالكين طريق الشام ، ثم رجع.

فلما نزلوا في يهود وادي القرى أقاموا فيهم شهرا ... وكانوا قد حملوا الذريّة والنساء على الابل وهم يمشون راجلين .. فحمل يهود وادي القرى من كان راجلا منهم ، وأعانوهم ، ثم ساروا حتى لحقوا بأذرعات ، ولم يبقوا بها الا قليلا (٢).

وقد روى القمي في تفسيره وابن اسحاق عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس وعنه في «التبيان» بأن الآيات التي نزلت في بني قينقاع هي الآيات من سورة آل عمران : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ* قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ١٧٨.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ١٧٨ ـ ١٨٠. وأذرعات كانت أول بلدة بحدود الاردن من الحجاز.


يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ)(١).

وفي الآيات بوحدة سياقها قوله سبحانه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) مما يومىء الى وقوع دعوة الرسول لفريق من أهل الكتاب (بني قينقاع) وتولّيهم وإعراضهم. فهي نزلت بعد الواقعة.

وفي تاريخ الغزوة قال الواقدي : حاصرهم النبيّ يوم السبت للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا (من الهجرة) الى هلال ذي القعدة (٢) وكان لواء رسول الله مع حمزة (٣) وفي ذي القعدة قعد النبيّ عن القتال ، ولعله كان من حوادث ما بعد بدر :

صفوان يريد اغتيال الرسول :

روى ابن اسحاق عن عروة بن الزبير : أن عمير بن وهب الجمحي كان شيطانا من شياطين قريش ، وممن كان يؤذي رسول الله وأصحابه ، ويلقون منه عناء وهو بمكة. وكان ممن حضر بدرا مع المشركين واسر ابنه وهب. وكان بعد بدر بيسير جالسا مع صفوان بن أميّة الجمحي ، في حجر الكعبة ، فذكر مصاب أهل بدر من قريش وأصحاب القليب منهم.

__________________

(١) تفسير القمي : ١ : ٩٧ وابن هشام ٣ : ٥١ وعنه في التبيان ٢ : ٤٠٦ وعنه في مجمع البيان ٢ : ٧٠٦.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ١٧٤.

(٣) الطبري ٢ : ٤٨١.


فقال صفوان : والله لا خير في العيش بعدهم!

قال له عمير : صدقت والله ، أما والله لو لا دين عليّ ليس عندي ما يقضيه وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي ، لركبت الى محمد حتى أقتله ، ولي عندهم حجة فانّ ابني أسير في أيديهم.

فقال صفوان : دينك علي فانا أقضيه عنك ، وعيالك مع عيالي ما بقوا.

فأمر عمير بسفه فشحذ وسمّ ، ثم انطلق حتى قدم المدينة.

فبينا عمر بن الخطّاب في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر ، واذا بعمير بن وهب أناخ راحلته على باب المسجد متوشحا سيفه. فقال عمر : هذا الكلب عدوّ الله عمير بن وهب ، والله ما جاء الا لشرّ ، وهو الذي حرّش بيننا يوم بدر.

ثم دخل عمر على رسول الله فقال له : يا نبيّ الله ، هذا عدوّ الله عمير بن وهب قد جاء متوشّحا سيفه. قال : فأدخله عليّ.

فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه فلبّبه بها ، وقال لرجال من الأنصار كانوا معه : ادخلوا على رسول الله فاجلسوا عنده واحذروا عليه من هذا الخبيث فانه غير مأمون. ثم دخل به على رسول الله.

فلما رآه رسول الله قال : أرسله يا عمر. ثم قال لعمير : ادن يا عمير. فدنا وقال : انعموا صباحا.

فقال رسول الله : قد أكرمنا الله بتحيّة خير من تحيّتك يا عمير ، بالسلام تحية أهل الجنة.

فقال عمير : أما والله يا محمد ، إنّي لحديث عهد بها.


قال : فما جاء بك يا عمير (١)؟

فقال : جئت في فكاك ابني (وهب).

فقال له : كذبت! بل قلت لصفوان بن أميّة وقد اجتمعتم في الحطيم وذكرتم قتلى بدر وقلتم : والله للموت أهون علينا من البقاء مع ما صنع محمد بنا! وهل حياة بعد أهل القليب؟!

فقلت أنت : لو لا عيالي ودين علي لأرحتك من محمد!

فقال صفوان : عليّ أن أقضي دينك وأن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهنّ ما يصيبهنّ من خير أو شر!

فقلت أنت فاكتمها علي وجهّزني حتى أذهب فأقتله! فجئت لتقتلني!

فقال : صدقت يا رسول الله ، فأنا أشهد أن لا إله إلّا الله وأنك رسول الله (٢).

فقال رسول الله : أطلقوا له أسيره ، وفقّهوه في دينه وأقرئوه القرآن.

فقال عمير : يا رسول الله ، إني كنت جاهدا على إطفاء نور الله ، شديد الأذى لمن كان على دين الله عزوجل ، وأنا احب أن تأذن لي فأقدم مكة فأدعوهم الى الله تعالى والى رسوله وإلى الاسلام ، لعلّ الله يهديهم ، وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت اوذي أصحابك في دينهم؟

فأذن له رسول الله ، فلحق بمكة.

فلما قدم عمير مكة أقام بها يدعو الى الاسلام ويؤذي من خالفه أذى

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ٣١٦ ، ٣١٧ ومغازي الواقدي ١ : ١٢٥ ـ ١٢٨ بطريق آخر.

(٢) الاحتجاج على أهل اللجاج ١ : ٣٣٤ عن علي عليه‌السلام ، ورواه في بحار الأنوار ١٩ : ٣٢٦ عن المنتقى للكازروني عن ابن اسحاق. وفي ١٨ : ١٤٠ مختصر خبره عن مناقب آل أبي طالب للحلبي ١ : ١١٣.


شديدا. فأسلم على يديه ناس كثير (١).

وروى مثله الواقدي في «المغازي» بسنده عن عاصم بن عمر بن قتادة. ثم روى عن عبد الله بن عمرو بن أميّة قال : لما قدم عمير بن وهب نزل في أهله ولم يقرب صفوان بن أميّة ، وأظهر الاسلام ودعا إليه ، فبلغ صفوان .. ووقف عليه عمير وهو في الحجر فقال : أبا وهب! فأعرض صفوان عنه ، فقال عمير : أنت سيد من ساداتنا ، أرأيت الذي كنا عليه من عبادة حجر والذبح له؟ أهذا دين؟! أشهد أن لا إله الا الله ، وأنّ محمدا عبده ورسوله! فلم يجبه صفوان بكلمة (٢).

زواج علي بالزهراء عليهما‌السلام (الزفاف):

مرّ أن الزهراء عقدت لعلي عليهما‌السلام لليلتين بقيتا من شهر صفر بعد الهجرة ، أي قبل تحول حول الهجرة ، فبعضهم قال : بعد سنة من الهجرة ، وبعضهم قال : في شهر صفر من السنة الثانية للهجرة وهو يقصد البدء بالسنة الثانية من المحرم ، فكلاهما كان يقصد معنى واحدا.

وأما ـ على المصطلح العربي القديم ـ بناء علي عليه‌السلام بها أي الزفاف : فقد نقل الطبري عن الواقدي بسنده عن الباقر عليه‌السلام قال : إن علي بن أبي طالب بنى بفاطمة عليهما‌السلام في ذي الحجة على رأس اثنين وعشرين شهرا (٣) وقد روى صدره في موضع قبل هذا (٤) وبنفس السند والنص (تقريبا) رواه الدولابي في «الذرية

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ٣١٦ ـ ٣١٨ بتصرف.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ١٢٥ ـ ١٢٨.

(٣) الطبري ٢ : ٤٨٥ ، ٤٨٦.

(٤) الطبري ٢ : ٤١٠.


الطاهرة» عن الصادق عليه‌السلام ، وعنه الأربلي في «كشف الغمة» وعنه المجلسي في «بحار الأنوار» (١).

أما عن اليوم فقد عيّنه المفيد في «مسارّ الشيعة» (٢) والطوسي في «المصباح» باليوم الأول منه (٣). وعليه فزفافها كان بعد قدوم اختها زينب زوجة أبي العاص بن الربيع الى المدينة اذ كان ذلك بعد بدر بشهر أو شيعه (٤) أي قريب منه.

ومع حضور اختها الاخرى أمّ كلثوم ، أما الاخرى : رقية زوجة عثمان ، فقد قالوا : انها مرضت قبل بدر وماتت بعد بدر وقبل رجوع الرسول الى المدينة ، أي قبل زفاف اختها فاطمة في أول ذي الحجة بأكثر من الأربعين يوما تقريبا.

ولكن سيأتي ترجيح أنها توفيت في ذي الحجة او محرم أي بعد زفاف فاطمة ، فهي أيضا كانت حاضرة شاهدة.

من سنن ليلة الزفاف :

من سننه صلى‌الله‌عليه‌وآله ليلة زفاف ابنته عليها‌السلام ما رواه الخوارزمي في «المناقب» والكنجي الشافعي في «كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب عليه‌السلام» عن الحافظ ابن بطة العكبري بسند وصفه بالحسن العالي عن ابن عباس قال :

__________________

(١) الذرية الطاهرة : ٩٣ وكشف الغمة ١ : ٣٦٤ وبحار الأنوار ٤٣ : ٩٢ وراجع فصل زواجها من هذا الكتاب : ١٠٤.

(٢) مسارّ الشيعة : ٥٣ ولكنه يقصد العقد لا الزفاف ، وأما الزفاف فذكره في الواحد والعشرين من المحرم لسنة ثلاث من الهجرة : ٦١ ، ٦٢ ط قم. وكذلك في حدائق الرياض له نقله في الاقبال ونقله عنه في بحار الأنوار ٤٣ : ٩٢.

(٣) كما في بحار الأنوار ٤٣ : ٩٢.

(٤) ابن هشام ٢ : ٣٠٨.


إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دخل على النساء فقال لهن : اني قد زوّجت ابنتي لابن عمّي ، وقد علمتن منزلتها مني ، واني دافعها إليه ، ألا فدونكن ابنتكن.

فقمن فجعلن في بيتها فراشا ، حشوه ليف ، ووسادة ، وكساء خيبيريا ، ومخضبا وهو المركن (١) وصارت أم أيمن البوّابة. وقمن الى الفتاة فعلّقن عليها من حليهنّ وطيبنّها. ودعا رسول الله بلالا فقال له : اني قد زوّجت فاطمة ابنتي بابن عمي وأنا احب أن يكون من سنن امتي الطعام عند النكاح ، اذهب يا بلال الى الغنم وخذ شاتا وخمسة أمداد (٢) شعيرا ، واجعل لي قصعة (٣) فلعلّي أجمع عليها المهاجرين والأنصار! ففعل ذلك ، وأتاه بها حين فرغ فوضعها بين يديه ، فطعن في أعلاها وبرّك (من فمه) ثم قال : يا بلال ، ادع الناس من المسجد ، زفّة زفّة (٤).

فجعل الناس يزفّون ، كلما فرغت زفة وردت اخرى حتى فرغ الناس ، وفضل منها. فعمد النبيّ الى فضل ما فيها فبارك فيه (من فمه) ثم قال : يا بلال ، احمل الى امّهاتك فقل لهن : كلن وأطعمن من غشيكن. ففعل بلال ذلك.

ثم ان رسول الله جاء الى بيته ومعه علي عليهما‌السلام ، فهتف بفاطمة ، فلما أقبلت رأت زوجها مع رسول الله! فقال لها رسول الله : ادني مني. فدنت منه ، فأخذ بيدها ويد علي ، فلما أراد أن يجعل كفّها في كفّ علي ضاق صدرها ودمعت عيناها! فأشفق رسول الله أن يكون بكاؤها لأن عليا لا مال له! فرفع رسول الله رأسه وقال لها :

ما يبكيك؟! فو الله ما ألوتك (٥) في نفسي ، ولقد أصبت بك القدر وزوّجتك خير أهلي ، وأيم الله لقد زوجتك سيدا في الدنيا وانه في الآخرة لمن الصالحين.

__________________

(١) يغسل فيه الثياب.

(٢) المد : ثلاثة ارباع الكيلو أو أقل ، ولعله ٧٠٠ غراما.

(٣) القصعة : اناء كبير يسع لعشرة أشخاص.

(٤) جماعة ثمّ جماعة.

(٥) قصّرت عنك.


فلانت وأمكنته من كفّها (فجعل كفّها في كف علي) وقال لهما : اذهبا الى بيتكما (١) ، بارك الله لكما ، وأصلح بالكما ، ولا تهيجا شيئا حتى آتيكما.

فأقبلا حتى جلسا مجلسهما ، وحولهما امهات المؤمنين من وراء حجاب (٢).

ثم أقبل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى دقّ الباب فقالت أم أيمن : من هذا؟ فقال : أنا

__________________

(١) روى الطبرسي عن علي بن ابراهيم القمي خبرا عن حوادث أوائل ما بعد الهجرة ، وبناء المسجد النبوي الشريف فقال : وابتنى رسول الله منازله ومنازل أصحابه حول المسجد ، وخطّ لاصحابه خططا فبنوا منازلهم فيها ... وخطّ لعلي بن ابي طالب عليه‌السلام مثل ما خطّ لهم ، فكانوا يخرجون من منازلهم فيدخلون المسجد. ثم روى سدّ الأبواب ، ثم زواج علي بالزهراء عليها‌السلام فقال : قال له رسول الله : هيّئ منزلا حتى تحوّل إليه فاطمة. فقال : يا رسول الله ما هاهنا منزل الّا منزل حارثة بن النعمان. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : والله لقد استحيينا من حارثة! قد أخذنا عامة منازله!

فبلغ ذلك حارثة ، فجاء الى رسول الله فقال : يا رسول الله أنا ومالي لله ولرسوله ، والله ما شيء أحبّ إليّ من ما تأخذه ، والذي تأخذه أحبّ إليّ مما تترك.

فجزاه رسول الله خيرا.

وحوّلت فاطمة الى علي عليهما‌السلام في منزل حارثة. اعلام الورى ١ : ١٦١ والطبقات الكبرى لابن سعد ٨ : ١٤. ولكن فأين المنزل الذي خطّه لعلي عليه‌السلام؟ وما هي عامة منازل حارثة التي أخذها منه النبي؟ الا منزلين أنزل فيها صفية بنت حيّي بن اخطب بعد خيبر في اوائل السابعة ، وكذلك مارية القبطية أمّ ابراهيم قبل أن ينقلها الى المشربة ولم نعهد منزلا أخذه منه قبل هذا.

(٢) هذا ولم يجب الحجاب بعد. وفاصل بيتهما عن بيته صلى‌الله‌عليه‌وآله قليل ، وليس في هذا الخبر المعتبر ما جاء في القصص من أراجيز النساء : سرن بعون الله جاراتي ، نقلها الحلبي في مناقب آل ابي طالب ٣ : ٤٠٣ عن كتاب مولد فاطمة للصدوق ، وفيه حضور سلمان وجعفر وعقيل! وهم يومئذ لم يكونوا بالمدينة قطعاً ، واُم سلمة وحفصة بوصف : نساء النبي صلّى الله عليه وآله ، ولم يتزوجها يومئذ ، ولم يذكر سند الخبر حتى ينظر فيه من أين هو؟


رسول الله. ففتحت له الباب وهي تقول : بأبي أنت وأمي. فقال لها رسول الله : أثمّ أخي يا أم أيمن؟ فقالت له : ومن أخوك؟ فقال : علي بن أبي طالب. فقالت : يا رسول الله هو أخوك وزوّجته ابنتك؟ فقال : نعم. فقالت : انما نعرف الحلال والحرام منك يا رسول الله.

ثم إن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله دخل ، فلما رآه النساء من وراء الستار وثبن وخرجن مسرعات ، فلما بصرت به (أسماء بنت عميس) تهيّأت للخروج ، فقال لها رسول الله : على رسلك ، من أنت؟

قالت : أنا التي أحرس ابنتك ، إن الفتاة ليلة يبنى بها لا بدّ لها من امرأة تكون قريبة منها إن عرضت لها حاجة أو أرادت شيئا أفضت بذلك إليها.

فقال لها رسول الله : فاني أسأل الله أن يحرسك من بين يديك ومن خلفك ، وعن يمينك وعن شمالك من الشيطان الرجيم. ناوليني المخضب واملئيه ماء.

فنهضت (أسماء) فملأت المخضب ماء وأتته به ، فغسل النبيّ منه وجهه وقدميه ومجّ فيه. ثم دعا بفاطمة فقامت إليه وعليها ازارها والنقبة (١) فأخذ كفا من الماء فضرب به على رأسها وكفا بين يديها ، ثم رش منه على جيده وجلدها ، ثم قال : اللهم انها مني وأنا منها ، فكما أذهبت عني الرجس وطهرتني تطهيرا فطهّرها. ثم أمرها أن تشرب من الماء وتغسل وجهها وتتمضمض وتستنشق ، ثم دعا بمخضب آخر ودعا عليا وصنع به كما صنع بها ودعا له كما دعا لها ، ثم قال : جمع الله بينكما ، وبارك في نسلكما ، وأصلح بالكما ، قوما الى بيتكما.

ثم خرج وأغلق عليهما الباب وانطلق ، ودخل فاغلق عليه بابه.

ثم علق الكنجي على الخبر فقال : هكذا رواه الحافظ ابن بطة العكبري ، وهو حسن ، الا أن ذكر أسماء بنت عميس في هذا الحديث غير صحيح ، لأن أسماء

__________________

(١) هذا ولم يجب الحجاب بعد.


هذه امرأة جعفر بن أبي طالب عليه‌السلام وكانت مع زوجها جعفر بن أبي طالب بالحبشة في الهجرة الثانية ، وقدم بها يوم فتح خيبر سنة سبع ، وقال النبيّ : ما أدري أنا بأيهما أسرّ : بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟ وكان زواج فاطمة عليها‌السلام بعد وقعة بدر بأيام يسيرة ، فما أرى نسبتها في هذا الحديث الا غلطا وقع من بعض الرواة ، نعم يصح أن أسماء المذكورة في هذا الحديث التي حضرت في عرس فاطمة انما هي أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصاري ، وهي لها أحاديث عن النبيّ ، وروى عنها شهر بن حوشب وغيره من التابعين (١).

ونقل الحديث عنه الأربلي في «كشف الغمة» ولكنه اختار وجها آخر : فقد نقل عن كتاب «الذرية الطاهرة» لأبي بشر بن حمّاد الأنصاري الدولابي : بسنده عن (أسماء بنت عميس) قالت : رهن علي عليه‌السلام درعه عند يهودي فأولم لفاطمة .. وكانت وليمته آصعا (٢) من شعير وتمر وحيس (٣).

قالت : ولقد جهّزت فاطمة بنت رسول الله الى علي بن أبي طالب عليهما‌السلام وما كان حشو فراشهما ووسائدهما الا ليفا!

ثم علق عليه فقال : قد تظاهرت الروايات ـ كما ترى ـ بأن (أسماء بنت عميس) حضرت زفاف فاطمة ... وأسماء كانت مهاجرة بأرض الحبشة مع

__________________

(١) كفاية الطالب : ٣٠٧.

(٢) جمع الصاع ٧٥٠ / ٢ كيلو غراما.

(٣) يبدو أنهم أعدّوا من الشعير خبزا ومن التمر حيسا ، ونجد معنى الحيس فيما رواه الخوارزمي في مناقبه بسنده عن علي عليه‌السلام : أن النبيّ أخذ دراهم فدفعها الي وقال : اشتر سمنا وتمرا وأقطا (لبنا مجفّفا متحجرا) فاشتريت واقبلت بها الى رسول الله ، فدعا بسفرة من أدم وحسر عن ذراعيه وجعل يشدخ التمر والسمن ويخلطهما بالاقط حتى اتخذه حيسا ـ كما في كشف الغمة ١ : ٣٦١.


زوجها جعفر بن أبي طالب عليه‌السلام ، ولم تعد هي ولا زوجها الا يوم فتح خيبر وذلك في سنة ست من الهجرة ، ولم تشهد الزفاف لأنه كان في ذي الحجة من سنة اثنتين. والتي شهدت الزفاف (سلمى بنت عميس) اختها وهي زوجة حمزة بن عبد المطلب ، ولعلّ الاخبار عنها ، ولكن كانت أسماء أشهر من اختها عند الرواة فرووا عنها ، أو سهى راو واحد فتبعوه! (١).

وقد ورد التنبيه الى هذا في هامش النسخة الخطية من كتاب الدولابي المطبوع أيضا من دون الذيل (٢).

ولنا أن نجمع فنقول بحضور الاثنتين ، وقد يقرّب توجيه الاربلي بما مرّ عن أسماء أنها أجابت رسول الله : إن الفتاة ليلة يبنى بها لا بد لها من امرأة تكون قريبة منها (٣) على أن تكون قريبة من القرابة ـ لا من القرب ـ فان سلمى زوجة حمزة واخت أسماء زوجة جعفر تكون قريبة من الزهراء ، وليس كذلك اسماء بنت السكن الأنصارية.

ولكن محقق البحار المرحوم الرّباني الشيرازي رجّح توجيه الكنجي الشافعي (٤) لأنها كان يقال لها خطيبة النساء ، وكانت تكنى بام سلمة ، فما روي في قصة زفاف الزهراء عن أمّ سلمة انما هي أسماء بنت السكن لا أمّ سلمة التي تزوجها النبي بعد ذلك باكثر من سنة (٥). والحق معه.

__________________

(١) كشف الغمة ١ : ٣٦٦ ، ٣٦٧.

(٢) وتاريخ النسخة : ٦٦٩ ه‍ ووفاة الاربلي ٦٩٣ ه‍.

(٣) كشف الغمة ١ : ٣٥١.

(٤) بحار الأنوار ٤٣ : ١٨٢.

(٥) بحار الأنوار ٤٣ : ١٣٢.


صباح النكاح :

ومن سنّته صلى‌الله‌عليه‌وآله صباح النكاح : ما أخرجه ابن سعد في «الطبقات» بسنده عن (أسماء بنت عميس) قالت : كنت في زفاف فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلما أصبحنا جاء النبيّ الى الباب فقال : يا أم أيمن ، ادعي لي أخي! قالت : هو اخوك وتنكحه ابنتك؟ قال : نعم ، يا أم أيمن. وسمعن النساء صوت النبيّ فتخبّأن ، واختبأت في ناحية.

فجاء علي ، فنضح النبيّ عليه من الماء ودعا له. ثم قال : ادعي لي فاطمة. فجاءته تمشي على استحياء وخجل ، فقال لها رسول الله : اسكني (اي اطمئني) فقد أنكحتك أحبّ أهل بيتي إليّ. ثم نضح النبيّ عليها من الماء ودعا لها ، ثم رجع.

فرآني بين يديه فقال : من هذا؟ قلت : أنا. قال : أسماء؟ قلت : نعم. قال : جئت تكرمين فاطمة بنت رسول الله في زفافها؟ قلت : نعم. فدعا لي (١).

وحدّث سبط ابن الجوزي في «تذكرة الامة» عنه عن الخطيب القزويني صاحب «المناقب» وبسنده عن عبد الرزاق عن معمر بن راشد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد عن ابن عباس قال : لما زوّج رسول الله فاطمة من علي عليهم‌السلام

__________________

(١) الطبقات ٨ : ٢٤ وابن حنبل في الفضائل في موضعين برقمي : ٩٥٨ و ١٣٤٢ والدولابي في الذرية الطاهرة : ٩٦ ، ٩٧ وعنه في كشف الغمة ١ : ٣٦٦ وعنه في بحار الأنوار ٤٣ : ١٣٧ والبحراني في العوالم ١١ : ١٦٨. ويبدو لي أن هذا النص هو الاصل فيما مرّ عن الخوارزمي في المناقب والكنجي الشافعي في كفاية الطالب عن ابن عباس ، وفيه أن الوليمة كانت من النبيّ خلافا للسنة ، وفيه تجاهل للفاصل الزمني الطويل : عشرة أشهر بين عقد الزواج والزفاف ، بل تجاهل للعقد أصلا وبلا ائتمار من الزهراء عليها‌السلام ، ومستبعدات أخر أيضا ، فراجع.


قالت له : يا رسول الله ، زوّجتني من عائل لا شيء له؟

فقال لها رسول الله : أما ترضين أن يكون الله اطلع على أهل الأرض فاختار منهم رجلين : أحدهما : أبوك ، والآخر بعلك؟!

ثم علّق عليه فقال : قد تكلّموا في هذا الحديث وقالوا : رواه عبد الرزاق وكان منسوبا الى التشيع!

ثم قال : وقد ذكرنا أن عبد الرزاق هذا من كبار العلماء وأنه شيخ أحمد بن حنبل وقد أخرج عنه الشيخان في الصحيحين ، فلا يلتفت الى من تكلم فيه لغرض فاسد! (١).

غزوة السّويق (٢) :

روى ابن اسحاق بسنده عن عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري : أن أبا سفيان حين رجع الى مكة ، ورجعت فلول المنهزمين من قريش من بدر ، نذر أن لا يمسّ رأسه ماء من جنابة (٣) حتى يغزو محمدا ـ صلى الله عليه (وآله) وسلم ـ.

فخرج في أربعين راكبا (٤) أو مائتين ، ليبرّ يمينه. فسلك الطريق النجدية (صحراء نجد) حتى نزل على قناة الى جبل ثيب ، على نحو بريد (٥) من المدينة.

__________________

(١) تذكرة الامة : ٣٠٨ ، ٣٠٩.

(٢) السّويق : قمح أو شعير يقلى ثم يطحن زادا للمسافر يخلطه بلبن أو بسمن أو عسل أو ماء فيأكله. وسميت الغزوة به لكثرة ما طرح منه المشركون في انصرافهم يتخفّفون منه.

(٣) كان الاغتسال من الجنابة من بقايا الحنفيّة الابراهيمية في الجاهلية ، كما قاله في الروض الانف.

(٤) كما عن محمد بن كعب القرظي في الواقدي ١ : ٤٧.

(٥) تساوي ٢٢ كيلومترا.


ثم خرج ليلا حتى أتى الى حييّ بن أخطب من رءوس بني النضير ، فطرق عليه بابه ، فخافه وأبى أن يفتح عليه ، فانصرف عنه الى سلّام بن مشكم صاحب كنزهم (١) فأذن له وسقاه وقراه وأعلمه بأسرار الأخبار ثم رجع الى أصحابه.

ثم بعث رجالا من قريش الى ناحية العريض من المدينة ، فوجدوا بها رجلا من الأنصار وحليفا له في حرث لهما ، فقتلوهما وحرّقوا حرثهما أو صغار النخل ، ثم رجعوا.

فاستعمل رسول الله على المدينة أبا لبابة بشير بن عبد المنذر (كما كان من قبل) ثم خرج في طلبهم حتى بلغ قرقرة الكدر (بناحية المعدن تبعد عن المدينة ثمانية برد) وفاته أبو سفيان وأصحابه ، فرجع. فقال أصحابه : أنطمع أن تكون لنا غزوة؟

قال : نعم. فسمّوها : غزوة السّويق ، لأنهم رأوا سويقا كثيرا قد طرحه المشركون يتخفّفون منه ليسرعوا هربا. وكان ذلك في ذي الحجة (٢). يوم الأحد لخمس ليال خلون من ذي الحجة على رأس اثنين وعشرين شهرا ، فغاب خمسة أيام (٣) ومعنى هذا أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله رجع الى المدينة ليلة عيد الأضحى.

عيد الأضحى :

وفي عيد الأضحى روى النميري البصري بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : كان أول أضحى رآه المسلمون صبيحة عشر من ذي الحجة بعد

__________________

(١) بيت مالهم.

(٢) ابن هشام ٣ : ٤٧ ، ٤٨ وإعلام الورى ١ : ١٧٢ والمناقب ١ : ١٩٠ مختصرا.

(٣) مغازي الواقدي ١ : ١٨١.


ما رجعنا من بني قينقاع وذبحنا في بني سلمة ، فعددت سبع عشرة اضحية (١).

وقال اليعقوبي : وضحى رسول الله بالمدينة ، وخرج بالناس الى المصلى ..

وكانت العنزة بين يديه ، وذبح بالمصلى شاة أو شاتين بيده ، ومضى من طريق ورجع من اخرى (٢).

وفاة عثمان بن مظعون :

قال الطبري : وفي ذي الحجة من هذه السنة مات عثمان بن مظعون ، فدفنه رسول الله بالبقيع وجعل عند رأسه حجرا علامة لقبره (٣).

روى ابن عبد البر في «الاستيعاب» عن عائشة قالت : إن النبيّ قبّل عثمان ابن مظعون وهو ميت وهو يبكي وعيناه تهراقان (٤).

وروى ابن شبّة النميري في «تاريخ المدينة» بسنده عن عمر المخزومي قال : كان عثمان بن مظعون من أول من مات من المهاجرين. فقالوا : يا رسول الله أين ندفنه؟ قال : بالبقيع. ولحد له رسول الله ، وفضل حجر من حجارة لحده فحمله رسول الله فوضعه عند رجليه (٥).

__________________

(١) تاريخ المدينة ١ : ١٣٧ ، ١٣٨ ونقله الطبري ٢ : ٤٨١ عن الواقدي : وليس في المغازي فلعله في سيرته.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٦ ومثله الطبري ٢ : ٤٨١ والمسعودي في التنبيه والاشراف : ٢٠٧ وعن الطبري الجزري في الكامل ٢ : ٩٨ وعنه في بحار الأنوار ٢٠ : ٨.

(٣) الطبري ٢ : ٤٨٥ وعنه في الكامل ٢ : ٩٨ وعنه في بحار الأنوار ٢٠ : ٨.

(٤) الاستيعاب ٣ : ٨٥.

(٥) تاريخ المدينة ١ : ١٠١ ، ١٠٢ وتمامه : فلما ولي مروان بن الحكم المدينة مرّ على ذلك الحجر


وروى بسنده عن المطلّب بن عبد الله عن رجل من الصحابة قال : لما دفن النبيّ عثمان بن مظعون قال لرجل : هلّم تلك الصخرة أضعها على قبر أخي أتعلّمه بها ، أدفن إليه من دفنت من أهلي. فقام الرجل إليها فلم يقدر عليها. فكأني أنظر الى بياض ساعدي رسول الله احتملها حتى وضعها عند قبره (١).

وروى الكليني في «فروع الكافي» بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : لما مات عثمان بن مظعون سمع النبيّ امرأته تقول : يا أبا السائب هنيئا لك الجنة. فقال النبي : وما علمك؟ حسبك أن تقولي : كان يحبّ الله ورسوله (٢).

وروى النميري البصري عن قدامة بن موسى قال : كان في البقيع (شجر) غرقد ، فلما مات عثمان ودفن بالبقيع قال رسول الله للموضع الذي دفن فيه : هذه الرّوحاء وأشار الى جهة الطريق من دار محمد بن زيد الى زاوية عقيل بن أبي طالب. ثم أشار الى ناحية اخرى وقال : وهذه من الرّوحاء ، وأشار الى جهة الطريق من دار محمد بن زيد الى أقصى البقيع يومئذ (٣).

__________________

ـ فأمر به أن يرمى وقال : والله لا يكون على قبر عثمان بن مظعون حجر يعرف به. فقالوا : عدت الى حجر وضعه النبيّ فرميت به؟! بئس ما عملت ، فأمر به فليرد. فقال : أم والله إذ رميت به فلا يرد! ولعله لأنه قتل رجلا وأسر آخر في بدر!.

(١) تاريخ المدينة ١ : ١٠٢.

(٢) فروع الكافي ١ : ٧٢. والغريب أن الحميري في قرب الاسناد : ٧ بسنده عن الباقر عليه‌السلام والصدوق في الخصال ٢ : ٣٧ بسنده عن الصادق عليه‌السلام رويا : أن عثمان تزوج أمّ كلثوم فماتت ولم يدخل بها ، فلما ساروا الى بدر زوّجه رسول الله رقية .. وهذا يخالف مسلّمات التاريخ والسيرة ، وفي طريق الأول هارون وفي الثاني علي بن أبي حمزة البطائني فلعلّ الخلل منهما. وسيأتي وفاة أمّ كلثوم أيضا فيما بعد هذا.

(٣) تاريخ المدينة ١ : ١٠٠.


وفاة رقيّة بنت الرسول :

روى ابن اسحاق مرسلا عن اسامة بن زيد قال : إن رسول الله بعث أبي زيد بن حارثة من بدر الى أهل السافلة (من المدينة) بشيرا بما فتح الله عليه .. وكان رسول الله قد خلّفني مع عثمان بن عفان على رقيّة ابنته التي كانت عند عثمان ، فأتاه الخبر حين سوّينا التراب عليها (١).

بينما روى الواقدي : أن رسول الله عرض عسكره في بيوت السقيا حين خرج الى بدر فردّا اسامة بن زيد فيمن ردّه لصغره ، ولم يرو أنه خلّفه على ابنته رقية مع عثمان بن عفان (٢) بل روى ردّه في احد أيضا (٣) وتوفي رسول الله واسامة ابن تسع عشرة سنة (٤) بل كان أول ما قدم المدينة غلاما يسيل مخاطه على فيه فتتقذّر منه عائشة حتى غسل وجهه رسول الله (٥) هذا وغزوة بدر في منتصف الثانية من الهجرة فكيف يكون قد خلّفه النبيّ مع عثمان على أمر رقيّة؟! وانما راوي الخبر الزهري عن عروة عن اسامة بن زيد (٦) أو النميري البصري بسنده عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه عن جده (٧) ولم يذكروا متى خلّفه رسول الله على ابنته رقية ، ولم يذكروا عثمان فيمن ردّه الرسول من الطريق ، اللهم الا ما رواه النميري البصري في «تاريخ المدينة» مرسلا : أن عبد الرحمن بن عوف عتب على

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ : ٢٩٦.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٢١.

(٣) مغازي الواقدي ١ : ٢١٦.

(٤ و ٥) مغازي الواقدي ٣ : ١١٢٥.

(٤ و ٥) مغازي الواقدي ٣ : ١١٢٥.

(٦) وفاء الوفاء ٢ : ٨٦.

(٧) تاريخ المدينة ١ : ١٠٣.


عثمان فذكر أنه شهد بدرا ولم يشهدها عثمان. فأرسل إليه عثمان : اني قد خرجت للذي خرجت له فردّني رسول الله من الطريق الى بنته التي كانت تحتي! لما بها من المرض ، فوليت من بنت رسول الله الذي يحق عليّ حتى دفنتها ، ثم لقيت رسول الله منصرفه من بدر فبشرني بأجري وأعطاني سهما (١).

وقبله نقله الواقدي مرسلا أيضا فقال : ويقال : كان بين عثمان وعبد الرحمن كلام فأرسل عبد الرحمن الى الوليد بن عقبة فدعاه وقال له : اذهب الى أخيك (من الرضاعة) فبلّغه عني ما أقول لك ، فاني لا أعلم أحدا يبلّغه غيرك! قل له : يقول لك عبد الرحمن : شهدت بدرا ولم تشهد ... فجاءه فأخبره فقال عثمان : صدق أخي! تخلّفت عن بدر على ابنة رسول الله وهي مريضة ، فضرب رسول الله بسهمي وأجري (٢).

وليس فيه أن رسول الله ردّه من الطريق ، ولا أنه دفنها يومئذ ، وكذلك فيما رواه ابن حنبل عن عبد الله بن عمر في «المسند» (٣) بل والبخاري في «الجامع الصحيح» (٤) واذ كان ابن عوف حاضرا في بدر وعند ضرب سهامها وتقسيمها فكيف لم يعرف ذلك لعثمان؟!

وثمة رواية اخرى تقول : انه تخلف عن بدر لانه كان مريضا بالجدري (٥).

__________________

(١) تاريخ المدينة ١ : ١٠٤.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٢٧٨.

(٣) مسند أحمد ١ : ٦٨ و ٢ : ١٠١.

(٤) صحيح البخاري ٦ : ١٢٢.

(٥) السيرة الحلبية ٢ : ١٤١ و ١٨٥. وروى الواقدي ١ : ١٣١ : عن ابن جريج في قوله سبحانه : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ.


وقد روى ابن سعد في «الطبقات» بسنده عن ابن عباس ـ وأهل البيت أدرى بالبيت ـ قال : لما ماتت رقية بنت رسول الله ، قال رسول الله الحقي بسلفنا الخير عثمان بن مظعون.

وبكى النساء ، فجعل عمر يضربهن بسوطه! فأخذ النبيّ بيده وقال : دعهنّ يا عمر! ثم قال للنساء : اياكنّ ونعيق الشيطان ، فانه مهما يكن من العين والقلب فمن الله ومن الرحمة ، ومهما يكن من اليد واللسان فمن الشيطان.

فجلست فاطمة على شفير القبر وبكت ، وجعل النبيّ يمسح دموعها بثوبه (١)

ومن قبله نقله شيخه الواقدي ولكنه علق عليه بقوله : هذا وهم .. لأن الثبت أن رقية ماتت ببدر. ولعلها غيرها من بناته ، أو يحمل على أنه أتى قبرها بعد بدر (٢) وفات الواقدي أن نصّ الخبر لا يحتمل هذا التأويل : لما ماتت رقية بنت رسول الله قال .. وقد روى الخبر الكليني في «فروع الكافي» بسنده عن أحدهما عليهما‌السلام قال : لما ماتت رقية ابنة رسول الله قال رسول الله : الحقي بسلفنا

__________________

ـ يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) قال : كره خروج رسول الله الى بدر أقوام من أصحابه قالوا : نحن قليل ، وما الخروج برأي. وقال قبل ذلك ١ : ٢١ : وكان من تخلّف لم يلم لأنهم ما خرجوا على قتال وانما خرجوا للعير! وتخلف قوم من أهل البصائر والنيّات لو ظنوا أنه يكون قتال ما تخلفوا. هذه وجوه ثلاثة : الجدري ، وظن الغنيمة ، وكراهية القتال ، ولعل تخلّف عثمان من أحدها.

(١) الطبقات ٨ : ٢٤ ، ٢٥.

(٢) الاصابة ٤ : ٢٩٧ وبه قال السمهودي في وفاء الوفاء ورواه النميري البصري في تأريخ المدينة ١ : ١٠٢ عن غير ابن سعد والواقدي.


الصالح عثمان بن مظعون وأصحابه. وكانت فاطمة على شفير القبر تنحدر دموعها ، ورسول الله قائم يتلقاها بثوبه ويدعو لرقية ثم قال : سألت الله عزوجل أن يجيرها من ضمّة القبر (١).

وفيه بسنده عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله الصادق عليه‌السلام : أيفلت من ضغطة القبر أحد؟ قال : نعوذ بالله منها ، ما أقل من يفلت من ضغطة القبر ، إن رقية لما قتلها (٢) عثمان وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على قبرها فرفع رأسه الى السماء ودمعت عيناه وقال : اللهم هب لي رقية من ضمّة القبر. فوهبها الله له فقال للناس : إني ذكرت هذه وما لقيت ، فرققت لها واستوهبتها من ضمة القبر (٣).

أما تاريخ وفاتها : فقد تبيّن ممّا مرّ أنها توفيت بعد عثمان بن مظعون ، وحيث نصّوا على وفاته في ذي الحجة فهي كذلك بعده ، كما نصّ عليه النووي (٤) الّا أن ابن قتيبة دقّق فقال : توفيت لسنة وعشرة أشهر وعشرين يوما من مقدمه المدينة (٥) أي في العشرين من شهر محرم الحرام أواخر السنة الثانية للهجرة أو أول الثالثة. وعن سبب وفاتها روى النميري البصري عن الزهري قال : أصابتها الحصبة (٦).

__________________

(١) فروع الكافي ١ : ٦٦.

(٢) وروى النميري البصري عن الزهري قال : أصابتها الحصبة ١ : ١٠٤.

(٣) فروع الكافي ١ : ٦٤ ويروي خبرا آخر عنه عليه‌السلام في منع عثمان عن الدخول في قبرها ، وانما فيها : بنت رسول الله وليس فيها اسم رقية ولا أمّ كلثوم ولكنها تشتمل على حوادث ما بعد خيبر ولذلك فهي واخرى عن خرائج الراوندي في أمّ كلثوم وليس رقية ، وسيأتي فيما بعد وفاة أمّ كلثوم.

(٤) تاريخ الخميس ١ : ٤٠٦.

(٥) ذخائر العقبى : ١٦٣.

(٦) تاريخ المدينة ١ : ١٠٤.


أهم حوادث

السنة الثالثة للهجرة



وقعة ذي قار :

قال اليعقوبي : وكان يوم ذي قار بعد وقعة بدر بأشهر أربعة أو خمسة ، اذ حاربت ربيعة كسرى وقالوا : عليكم بشعار التّهامي ، فنادوا : يا محمد يا محمد ، فقتلوا من جيوش كسرى حتى هزموهم ، فلما بلغ ذلك رسول الله قال : اليوم أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم ، وبي نصروا (١).

وقال المسعودي : كان الوقعة بذي قار بين بكر بن وائل (من ربيعة) وعليهم حنظلة بن سيار .. وبين الجيش الذي أرسله إليهم الملك خسرو پرويز عليهم الهامرز.

وذلك لمّا امتنع هانئ بن قبيصة الشيباني من تسليم ما كان النعمان بن المنذر اللخمي ملك الحيرة أودعه إيّاه من أهله وماله وسلاحه قبل قتل كسرى إيّاه. فاقتتلوا قتالا شديدا فهزمت الفرس ومن كان معها من العرب من تغلب

__________________

(١) اليعقوبي ٢ : ٤٦.


وعليها بشر بن سوادة التغلبي ، وطئ وعليها إياس بن قبيصة الطائي ، وضبّة وتميم وعليهما عطارد بن حاجب ، والنمر وعليها أوس بن الخزرج النمري ، وبهراء وتنوخ وغيرهم من العرب ...

فلمّا بلغه ظهورهم على العجم قال : هذا أوّل يوم انتصفت فيه العرب من العجم ، وبي نصروا (١) وكأنّ المسعودي يرى أنّ تمجيد الرسول لهم لوفائهم وحفظهم لوديعتهم وأمانتهم ، لأنّهم عرّضوا أموالهم للزوال ، وأنفسهم للقتل وحرمهم للسبي دون أن يضيعوا وديعتهم وأمانتهم (٢).

وذكر الوقعة في «مروج الذهب» مرّة في أيام خسرو پرويز من ملوك الساسانيين ، وفيها قال : وفي رواية أنّها كانت بعد وقعة بدر بأشهر ـ أو بأربعة أشهر ـ ورسول الله بالمدينة ، وهو اليوم الذي قال فيه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «هذا أوّل يوم انتصفت فيه العرب من العجم ، ونصرت عليهم بي» وكانت بين بكر بن وائل والهرمزان صاحب كسرى پرويز. ثمّ قال : وقد أتينا على هذه الأخبار بالشرح والإيضاح في «الكتاب الأوسط» (٣).

ومرّة أخرى في ملوك الحيرة بشأن النعمان بن المنذر اللّخمي قال : حين أراد المضيّ إلى كسرى مرّ على بني شيبان فأودعهم سلاحه وعياله عند هانئ بن مسعود الشيباني ، فلمّا قضى كسرى على النعمان بعث إلى هانئ بن مسعود وطالبه بتركته ، فامتنع وأبى أن يخفر الذمّة ، فكان ذلك السبب الذي أهاج حرب ذي قار. وقد أتينا على ذلك في «الكتاب الأوسط» (٤).

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٢٠٧ ، ٢٠٨.

(٢) التنبيه والإشراف : ٢٠٨.

(٣) مروج الذهب ١ : ٣٠٦ ، ٣٠٧.

(٤) مروج الذهب ٢ : ٧٨.


وقد مرّ عن «التنبيه والإشراف» أن هانئا هو ابن قبيصة الشيباني ، وقد روى الطبري عن معمر بن المثنى عن فراس بن خندق أنه : هانئ بن مسعود ، ثم قال ابو عبيدة المثنّى : قال بعضهم : إن هانئ بن مسعود لم يدرك هذا الأمر ، وانما هو هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود ، ثم قال : وهو الثبت عندي (١) والمسعودي في «التنبيه والإشراف» أشرف به على سائر كتبه السابقة ونبّه به عليها ، فلعل هذا أيضا من موارد التنبيه (٢).

غزوة قرقرة الكدر (٣) :

مرّ أن ابن اسحاق ذكرها بعد رجوع الرسول من بدر باسبوع ، والطبري نقل تحديد الخروج إليها في غرة شوال بعد الزوال ، ولكن الواقدي قال : للنصف من المحرم على رأس ثلاثة وعشرين شهرا ، وغاب فيها خمس عشرة ليلة.

ثم روى عن يعقوب بن عتبة قال : بلغ رسول الله أن بقرارة الكدر جمعا من بني سليم وغطفان (على العدوان) فاستخلف على المدينة عبد الله بن أمّ مكتوم يصلي بهم ، ثم سار إليهم بمائتي رجل حتى أخذ عليهم الطريق ، فرأى آثار النعم ومواردها ولم يجد في المجال أحدا ، فأرسل نفرا من أصحابه الى أعلى الوادي ... فوجدوا ـ كما عن أبي أروى الدّوسي ـ خمسمائة بعير يرعاها غلام يسمّى يسار ،

__________________

(١) الطبري ٢ : ٢٠٦.

(٢) وننبّه هنا الى أننا قد أوردنا خبر ذي قار في أوائل الكتاب ، ولكني رجّحت ذكره هنا لما ترجّح عندي من العلاقة بين قولهم : نادوا بشعار التهامي فنادوا : يا محمد يا محمد ، وبين قوله : وبي نصروا ، وهذا أنسب أن يكون بعد بدر لا قبله.

(٣) قرقرة الكدر : بناحية معدن بني سليم قريب من الأخضية وراء سدّ معونة ثمانية برد عن المدينة ١٧٦ كيلومترا.


فساقوها في بطن الوادي ، واستقبلهم رسول الله في بطن الوادي فسألهم عن الناس فقال يسار : انما أنا في النعم والناس قد ذهبوا الى المياه ولا علم لي بهم.

فاغتنم النعم النبيّ ، واسترقّ العبد وانحدر الى المدينة ، فلما صلّى الصبح رأى العبد يصلي ، فتقبّله عن سهمه في الغنيمة واعتقه. ولما انصرفوا الى صرار ـ على ثلاثة أميال ٥ كيلومترات من المدينة ـ خمّس النعم فأخرج خمسها مائة بعير ، ثم قسّم أربعة أخماسها على المسلمين فأصاب كل رجل منهم بعيران بعيران (١).

بينما قال ابن اسحاق : لما رجع رسول الله من غزوة السّويق أقام بالمدينة بقية ذي الحجة ثم غزا نجدا يريد غطفان .. فأقام بها صفرا كله ولم يلق كيدا ، ثم رجع الى المدينة. وقال : وهي غزوة ذي أمرّ (٢) بينما قال الواقدي :

غزوة ذي أمرّ :

على رأس خمسة وعشرين شهرا خرج رسول الله يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع ، فغاب أحد عشر يوما (٣).

والواقدي أتم واكمل من ابن اسحاق في تاريخ الحوادث بصورة عامة ، ولكن هذا التاريخ من التواريخ التي علينا أن نتأمّل فيها ، فانه سيقول في تاريخ إرسال الرسول السرية لقتل كعب بن الاشرف : إنه مشى معهم حتى أتى البقيع ثم وجّههم في ليلة أربع عشرة من ربيع الأول على رأس خمسة وعشرين شهرا (٤) بينما

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ١٨٢ ، ١٨٤.

(٢) ابن هشام ٣ : ٤٩. وذو أمرّ : واد قرب قرية النخيل على ثلاث مراحل برد ٦٧ كيلو مترا من المدينة الى طريق فيد ، كما في وفاء الوفاء ٢ : ٢٤٩.

(٣) مغازي الواقدي ١ : ١٩٣.

(٤) مغازي الواقدي ١ : ١٨٩.


لا يمكن أن يرافق النبيّ محمد بن مسلمة في الطريق بعد خروجه (لذي أمرّ) بيومين (١).

ونجده في تاريخه لغزوة بني سليم ببحران بناحية الفرع يقول : لليال خلون من جمادى الاولى ... ثم يروي عن الزهري أن غيبته فيها كانت عشر ليال (٢) وهذا يقرب من نص ابن اسحاق إذ قال : فأقام بها (من) شهر ربيع الآخر وجمادى الاولى ثم رجع الى المدينة (٣).

فلو كان خروجه لغزوة ذي أمرّ ـ كما قال الواقدي ـ في الثاني عشر من ربيع الأول تنافي ذلك مع مشايعته لسريّة قتل ابن الأشرف في الرابع عشر منه ، مع وجود التسالم على تاريخ مقتله ذلك ، وعليه فلو اثبتنا تاريخ مقتل ابن الأشرف واحتملنا في تاريخ الواقدي لغزوة ذي أمرّ أن «ربيع» في نصّه هو «ربيع الآخر» لا الأول ، وكانت غيبته فيها أحد عشر يوما بعد الثاني عشر منه تقارب بل تقارن رجوعه منها مع خروجه لغزوة بحران بناحية الفرع ، مما يبعد أيضا.

فيغلب في الظنّ أن نرجّح هنا رواية ابن اسحاق : بأن غزوة ذي أمرّ كانت في شهر صفر ، سيما مع خلوّه من ذكر غزوة غيرها فيه أو سرية سواها ، ولا سيما مع سلامة روايته من المعارض. الا أننا نأخذ تفصيل الرواية من الواقدي ، إذ تخلو رواية ابن اسحاق عن ذلك.

روى الواقدي عن جمع قالوا : بلغ رسول الله أنّ رجلا من بني محارب يدعى دعثور بن الحارث جمع جمعا منهم ومن ثعلبة بذي أمرّ يريدون أن يصيبوا

__________________

(١) مقدمة المحقق : ٣٢.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ١٩٧.

(٣) سيرة ابن هشام ٣ : ٥٠.


من أطراف رسول الله. فندب رسول الله المسلمين فخرج في أربعمائة وخمسين رجلا ، فأخذ على المنقى ثم مضيق الخبيت (على بريد ٢٢ كيلومترا من المدينة) ثم خرج الى ذي القصّة (الى جهة نجد) فأصابوا بها رجلا من بني ثعلبة يدعى جبّارا فأدخلوه على رسول الله فدعاه الى الاسلام فأسلم ، فقالوا له : هل بلغك لقومك خبر؟ قال : لا ، الّا أنه بلغني أنّ دعثور بن الحارث قد اعتزل في اناس من قومه وإنهم إن سمعوا بمسيرك هربوا في رءوس الجبال ولن يلاقوك ، وأنا سائر معك ودالّك على ثغراتهم.

فضمّه النبيّ الى بلال ، وخرج بهم فأخذ طريقا أهبطهم من كثب ، فلما رآه اولئك الأعراب هربوا منه فوق الجبال ، فلم يلاق النبيّ منهم أحدا ، الّا أنه يراهم ويرونه من فوق الجبال (١).

ونزل رسول الله وعسكر في معسكرهم ، ثم ذهب لحاجته فأصابه مطر فبلّ ثوبه فنزع ثيابه ونشرها على شجرة لتجفّ واضطجع تحتها ينتظر جفافها.

فقال الاعراب لسيدهم دعثور : ها قد انفرد محمد من أصحابه بحيث اذا استغاث بهم لا يغيثوه حتى تدركه فتقتله! فقد امكنك محمد!

فاختار من سيوفهم سيفا صارما واشتمل عليه وأقبل حتى قام على رأس النبيّ شاهرا سيفه وقال : يا محمد! من يمنعك مني اليوم؟! قال رسول الله : الله ، واندفع ووقع السيف من يده ، فأخذه رسول الله وقام به عليه وقال : وأنت من يمنعك مني؟ قال : لا أحد ، وأنا أشهد أن لا إله الّا الله وأنّ محمدا رسول الله ، والله لا اكثر عليك جمعا أبدا! فأعطاه رسول الله سيفه فأخذه وأدبر حتى أتى قومه ،

__________________

(١) ونقل قريبا منه ابن الأثير في الكامل ٢ : ٩٩ وعنه في بحار الأنوار ٢٠ : ٩ وقال : وكان مقامه اثنتي عشرة ليلة.


فقالوا : قد أمكنك والسيف في يدك فأين ما كنت تقول؟ قال : والله كان ذلك ، ولكنّي نظرت الى رجل أبيض طويل دفع في صدري فوقعت لظهري ، فعرفت أنه ملك ، وشهدت أن لا إله الّا الله وأن محمدا رسول الله ، والله لا أكثر عليه ، وجعل يدعو قومه الى الاسلام (١).

ومن الحوادث في هذا الشهر الربيع من هذه السنة الثالثة : أن عثمان خطب من عمر ابنته حفصة ـ بعد وفاة زوجها خنيس بن حذافة السهمي (٢) ـ فأبى عمر أن يزوّجه فبلغ ذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فخطبها وتزوجها (٣) ، وعوّض عثمان عنها وعن ابنته رقية بابنته الاخرى أمّ كلثوم فزوجها اياه (٤) بعد أن كان عمر وأبو بكر قد خطباها فلم يزوّجهما (٥) ولعله لكبرهما ، ولعله زوّجها عثمان لتكون لابن اختها عبد الله بن عثمان من رقية كأمّه (٦).

سريّة قتل ابن الأشرف :

مرّ أن كعب بن الأشرف النّبهاني الطائي لما رأى سراة قريش ببدر أسرى بالمدينة لم يتحمّل ذلك دون أن خرج الى قريش بمكة ليبكي قتلاهم فيحثهم بذلك

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ١٩٣ ـ ١٩٦ ونقله الطبرسي في اعلام الورى ١ : ١٧٣ ، ١٧٤ بلفظ الواقدي بلا اسناد ، وصدره في مناقب آل أبي طالب ١ : ١٩٠.

(٢) هو اخو خارجة بن حذافة مدير شرطة عمرو بن العاص السهمي والذي قتل بدلا عنه بيد الخوارج المتأمرين على علي عليه‌السلام ومعاوية وعمرو.

(٣) وسيأتي التفصيل عن زواجه بها قبل شهر رمضان.

(٤) ذخائر العقبى : ١٦٥ والمواهب اللدنية ١ : ١٩٧ عن الخجندي.

(٥) مستدرك الحاكم ٤ : ٤٩.

(٦) تاريخ المدينة المنورة لابن شبّة ٣ : ٩٥٢.


ليخرجوا للانتقام من المسلمين فيخرج معهم ، فخرج حتى قدم مكة على أبي وداعة بن ضبيرة السّهمي ، وزوجته عاتكة بنت اسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس ، فجعل ينشد الأشعار ويبكي للذين اصيبوا من قريش ببدر ويحرّض على رسول الله (١).

فدعا رسول الله حسّان بن ثابت (٢) فأخبره بنزول كعب على عاتكة بنت اسيد وأن يهجوها ، فقال حسّان :

ألا أبلغوا عني اسيدا رسالة

فخالك عبد بالسراب مجرّب

لعمرك ما أوفى اسيد بجاره

ولا خالد ، لا والمفاضة زينب (٣)

وعتّاب عبد غير موف بذمة

كذوب ، شئون الرأس ، قرد مدرّب!

فلما بلغها هجاؤه قالت لزوجها : ما لنا ولهذا اليهودي؟! ألا ترى ما يصنع بنا حسّان؟! ونبذت رحله! فتحوّل عنهم الى غيرهم ، وكلما كان يتحوّل الى قوم كان رسول الله يدعو حسّان فيخبره بنزول كعب على فلان ، فلا يزال حسّان يهجوهم حتى يخرجوه من عندهم ، وحتى لم يجد مأوى في مكة ، فرجع الى المدينة.

فلما بلغ النبيّ قدوم ابن الأشرف قال : اللهم اكفني ابن الأشرف بما شئت في إعلانه الشرّ وقوله الأشعار (٤).

__________________

(١) ابن هشام ٣ : ٥٥ ومغازي الواقدي ١ : ١٨٧.

(٢) وهذا أول مورد ورد فيه ذكر حسّان شاعرا للرسول بالمدينة.

(٣) اسيد أبو عاتكة ، وخالد لعله اسم أبي العيص ، وزينب أمه أو أم عاتكة ، والمفاضة : المرأة الضخمة البطن!

(٤) مغازي الواقدي ١ : ١٨٦ ، ١٨٧.


ثم روى ابن اسحاق عن عبد الله بن المغيث بن أبي بردة الظفري (عن أبيه عن جده) قال : رجع ابن الأشرف الى المدينة فشبّب بنساء المسلمين حتى آذاهم.

فقال رسول الله لأصحابه : من لي بابن الأشرف؟

فقال محمد بن مسلمة (الأوسي) وكان أخا ابن الأشرف من الرضاعة : أنا لك به يا رسول الله ، أنا أقتله.

قال : فافعل ان قدرت على ذلك.

فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثة أيام لا ياكل ولا يشرب الّا ما يحفظ به نفسه ، فذكر ذلك لرسول الله ، فدعاه فقال له : لم تركت الطعام والشراب؟ فقال : يا رسول الله قلت قولا لا أدري هل أفينّ لك به أم لا؟ فقال : إنما عليك الجهد (١) ، وشاور سعد بن معاذ في أمره.

فاجتمع محمد بن مسلمة ونفر من الأوس منهم عبّاد بن بشر بن وقش وأخوه سلكان بن سلامة بن وقش ، وكان أخا ابن الأشرف من الرضاعة ، والحارث بن أوس ، وابو عبس بن جبر .. فقالوا : يا رسول الله ، نحن نقتله ، فأذن لنا فلنقل (٢) فانه لا بدّ لنا منه (٣) قال : قولوا ما بدا لكم فانتم في حلّ من ذلك (٤).

وقبل أن يذهبوا الى كعب قدّموا إليه أخاه من الرضاعة سلكان بن سلامة أبا نائلة وكان يقول الشعر ، فخرج إليه وهو في نادي قومه وجماعتهم ، وانما كان

__________________

(١) ابن هشام ٣ : ٥٨.

(٢) يعني القول الكذب والباطل حيلة.

(٣) مغازي الواقدي ١ : ١٨٧.

(٤) ابن هشام ٣ : ٥٨.


سلكان يريد أن يجعل كعبا لا ينكرهم اذا هم جاءوا بالسلاح ، فقال له : حدثت لنا حاجة إليك. فقال كعب : ادن منّي فخبّرني بحاجتك. فتحدثا ساعة وتناشدا الأشعار ، ثم قال كعب : لعلك تحب أن يقوم من عندنا؟ فلما سمع القوم ذلك قاموا.

فقال أبو نائلة : اني كرهت أن يسمع القوم بعض كلامنا فيظنّون بنا ، كان قدوم هذا الرجل من البلاء علينا ، عادتنا به العرب وحاربتنا ورمتنا عن قوس واحدة وتقطّعت السبل عنا حتى جهدت الأنفس وضاع العيال!

فقال كعب : أنا ابن الأشرف! أما والله لقد كنت اخبرك ـ يا ابن سلامة ـ أن الأمر سيصير الى ما أقول.

فقال ابو نائلة : ومعي رجال من أصحابي على مثل رأيي ، وقد اردنا أن نأتيك فنبتاع منك طعاما او تمرا وتحسن في ذلك إلينا ، ونرهنك ما يكون لك فيه ثقة.

قال كعب : أما والله ما كنت احب ـ يا أبا نائلة ـ أن أرى بك هذه الخصاصة (١) وأنت أخي ومن اكرم الناس علي ... فما ذا ترهنونني ، أبناءكم ونساءكم؟ (٢).

قال أبو نائلة : لقد أردت أن تفضحنا وتظهر أمرنا! ولكنّا نرهنك من الحلقة (٣) ما ترضى به. فقال كعب : وإنّ في الحلقة لوفاء. وعيّن الليلة الآتية ميعادا وخرج من عنده.

__________________

(١) الجوع.

(٢) يعلم منه أنه كان أمرا معروفا لديهم غير منكر عندهم!

(٣) أصله في حلقات الدروع ثم كناية عن كل سلاح.


ورجع سلكان الى أصحابه فأخبرهم خبره ، فأجمعوا أمرهم أن يذهبوا إليه على ميعاده. ثم أتوا النبيّ عشاء في ليلة أربع عشرة من ربيع الأول ، وبعد أن صلوا العشاء أخبروه فمشى معهم حتى البقيع ثم قال لهم : امضوا على بركة الله وعونه. ورجع رسول الله الى بيته (١).

وروى ابن اسحاق عن عكرمة عن ابن عباس عن محمد بن مسلمة قال : انهم اقبلوا حتى انتهوا الى حصن ابن الأشرف ، فهتف به ابو نائلة.

فنزل في ملحفته (٢) من الحصن ، فتحدث معهم وتحدثوا معه ، ثم قال له أبو نائلة : هل لك ـ يا ابن الأشرف ـ أن نتماشى الى شعب العجوز (٣) فنتحدث. فخرجوا يتماشون (٤).

وكان كعب حديث عهد بعرس ، وكان جميلا ويتطيّب بالمسك والعنبر ، وكان شعره جعدا (٥) فأدخل أبو نائلة يده في مقدم رأسه ثم شمّ يده وقال : ما رأيت طيبا أعطر قط! ثم مشوا ، ثم عاد لمثلها ، ثم مشوا ، ثم عاد لمثلها وأمسك به وقال : اضربوا عدوّ الله ، فضربوه فاختلفت أسيافهم عليه فلم تغن شيئا ، وأصاب بعض أسيافنا الحارث بن أوس فجرحه في رجله.

قال محمد : فحين رأيت أسيافنا لم تغن شيئا ذكرت مغولا (٦) في سيفي

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ١٨٩.

(٢) ما يلتحف به من شملة واسعة شاملة ، وكأنهم كانوا في غير صيف.

(٣) موضع بظهر المدينة.

(٤) ابن هشام ٣ : ٦٠.

(٥) مغازي الواقدي ١ : ١٨٩.

(٦) سكين صغير.


فأخرجته ووضعته قرب سرّته ثم تحاملت عليه فوقع عدوّ الله.

فخرجنا على بني اميّة بن زيد ، ثم على بني قريظة ، ثم على بعاث ، فصعدنا في حرّة العريص (من وادي المدينة) فوقفنا لصاحبنا الحارث بن أوس فأتانا يتبع آثارنا ، فاحتملناه فجئنا به رسول الله آخر الليل ، فخرج إلينا وتفل على جرح صاحبنا (١) فلم يؤذه (٢) فأخبرناه بقتل عدوّ الله.

وأصبحنا وقد خافت اليهود لوقعتنا بعدوّ الله ، فلم يبق بها يهودي الّا خاف على نفسه (٣). ففزعت اليهود ومن معها من المشركين. فجاؤوا الى النبيّ حين أصبحوا فقالوا : قد طرق صاحبنا كعب بن الأشرف الليلة (البارحة) وهو سيد من ساداتنا ، قتل غيلة بلا جرم ولا حدث علمناه!

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : انه لو قرّ ـ كما قر غيره ممن هو على مثل رأيه ـ ما اغتيل ، ولكنّه هجانا بالشعر ونال منا الأذى ، ولم يفعل هذا أحد منكم الّا كان له السيف.

ودعاهم رسول الله الى أن يكتب بينهم كتابا ينتهون الى ما فيه.

فكتبوا بينهم وبينه كتابا تحت العذق في دار ملة بنت الحارث.

فحذرت اليهود وخافت وذلّت من يوم قتل ابن الأشرف (٤) وكتابة الكتاب.

__________________

(١) ابن هشام ٣ : ٦٠.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ١٩٠.

(٣) ابن هشام ٣ : ٦٠ وعنه في الكامل ٢ : ١٠٠ والمنتقى : ١١٦ وعنهما في بحار الأنوار ٢٠ : ١٠ ـ ١٢.

(٤) مغازي الواقدي ١ : ١٩٢ ولم يذكر الكتاب ، وروى : أن يهوديا يدعى ابن يامين النضري (من بني النضير) كان يمرّ على مروان بن الحكم وهو والي المدينة من قبل يزيد أو معاوية ، فكان عنده يوما ومحمد بن مسلمة جالس وهو شيخ كبير ، إذ قال مروان لابن يامين : يا ابن


غزوة بحران من الفرع :

روى الواقدي عن الزهري قال : بلغ رسول الله أن جمعا كثيرا (قد اجتمع عليه) من بني سليم في بحران. فتهيّأ رسول الله لذلك ، ولم يبد وجها خاصا ، واستخلف على المدينة ابن أمّ مكتوم.

ثم خرج في ثلاثمائة رجل من أصحابه ، فأسرعوا السير حتى اذا كانوا دون بحران بليلة لقوا رجلا من بني سليم فاستخبروه عن اجتماع القوم فأخبرهم : أنهم قد افترقوا ورجعوا إلى مائهم.

فسار النبيّ حتى ورد بحران فاذا ليس به أحد ، فأقام أياما ولم يلق كيدا فرجع. وكانت غيبته عشر ليال.

قال الواقدي : كانت الغزوة لليال خلون من جمادى الاولى (١).

__________________

ـ يامين كيف ترى كان قتل ابن الأشرف؟ قال ابن يامين : كان غدرا! فلم ينكر عليه مروان! فقال محمد بن مسلمة : يا مروان! أيغدر رسول الله عندك؟ والله ما قتلناه الا بأمر رسول الله ، والله لا يؤويني واياك سقف بيت الا المسجد. ثم التفت الى ابن يامين وقال له : وأما أنت يا ابن يامين فلله عليّ إن أفلتّ وقدرت عليك وفي يدي السيف الا ضربت به رأسك!

وفي يوم من الأيام كان محمد بن مسلمة في تشييع جنازة بالبقيع ، وبالبقيع ابن يامين أيضا ورآه محمد بن مسلمة فقام الى نعش عليه جرائد رطبة فحلّه وقام الى ابن يامين فلم يزل يضربه بها وكلما تنكسر جريدة يضربه بجريدة أخرى حتى كسّر تلك الجرائد على رأسه ووجهه ثم قال : والله لو قدرت على السيف لضربتك به ، ثم أرسله ولا قدرة به!

(١) مغازي الواقدي ١ : ١٩٦ ، ١٩٧ وفي نسخة اخرى : جمادى الآخرة ، ويرجح الاولى ما ـ


سرية القردة (١) :

قال الواقدي : خرج فيها زيد بن حارثة الكلبي مولى رسول الله أميرا ، لهلال جمادى الآخرة. ثم حدّث بحديثها عن محمد بن الحسن بن اسامة بن زيد عن أبيه عن جده قال :

قدم من مكة الى المدينة نعيم بن مسعود الأشجعي وهو على دين قومه ، فنزل على كنانة بن أبي الحقيق من بني النضير .. وكان سليط بن النعمان بن أسلم يذهب إليه ، فشربوا عنده ـ ويومئذ لم تحرّم الخمر ـ فذكر نعيم خروج صفوان بن أميّة الجمحي بعير قريش وما معه من الأموال : ثلاثمائة مثقال ذهب وقطع مذابة من الفضة وآنية فضة بوزن ثلاثين الف درهم وبضائع اخرى ، في رجال من قريش منهم حويطب بن عبد العزّى وعبد الله بن أبي ربيعة ، وأنهم خرجوا على ذات عرق (٢).

فخرج سليط بن النعمان بن أسلم من ساعته الى النبيّ فأخبره خبره.

فأرسل رسول الله زيد بن حارثة في مائة راكب ، فاعترضوا لها ، فاصابوا العير وأفلت أعيان القوم وأسروا رجلا هو فرات بن حيّان العجلي ،

__________________

في ابن هشام ٣ : ٥٠ وأن الواقدي بعد بحران يذكر سرّية القردة في أول هلال جمادى الآخرة ، وعنهما في الكامل ٢ : ٩٩ وعنه في بحار الأنوار ٢٠ : ٩.

(١) القردة : طريق نجد الى العراق الى ناحية ذات عرق بعد الربذة وقبل الغمرة كما في الطبقات ٢ : ٢٤.

(٢) ذات عرق : من منازل الطريق الى العراق وهو الحدّ بين نجد وتهامة كما في معجم البلدان ٦ : ١٥٤.


وكان من حديثه :

أن صفوان بن أميّة قال يوما لأصحابه : نحن في دارنا هذه ان أقمنا ناكل من رءوس أموالنا فما لنا بها من نفقات ، وانما نزلناها على التجارة في الصيف الى الشام وفي الشتاء الى أرض الحبشة ، وإن محمدا وأصحابه قد عوّروا علينا طريق تجارتنا على الساحل الى الشام لا يبرحونه وقد وادعوا أهله ودخل عامتهم معهم ، فما ندري أين نسلك؟

فقال له الأسود بن المطّلب : فنكّب عن الساحل وخذ طريق العراق.

قال صفوان : لست عارفا بها.

قال الأسود : فأنا أدلك على أخبر دليل بها يسلكها وهو مغمض العين! وهو فرات بن حيّان العجلي. فرضي به صفوان ، فأرسل إليه فجاءه.

فقال له صفوان : اني اريد الشام ، وطريق عيرنا على محمد وقد عوّره علينا محمد ، فاردت طريق العراق؟

قال فرات : فأنا أسلك بك في طريق العراق ، وليس يطأها أحد من أصحاب محمد. فتجهّزوا وخرجوا.

فلما أصابوهم ، وقدموا بالعير على النبيّ خمّسها فكان خمسها قيمة عشرين الف درهم ، وقسم ما بقي على أهل السرية.

وقيل لفرات بن حيان : إن تسلم نتركك من القتل ، فأسلم ، فتركوه (١).

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ١٩٧ : ١٩٨ واختصر الخبر ابن اسحاق وقال : كان فيها ابو سفيان ابن حرب ٣ : ٥٣ ونقل الطبري مختصر خبر الواقدي عنه وذكر فيه صفوان وأبا سفيان كليهما ٢ : ٤٩٢ ، ٤٩٣ ويبدو أنه نقله عن سيرة الواقدي لا المغازي. واختصر خبرهما الطبرسي في اعلام الورى ١ : ١٧٤ ـ ١٧٥.


زفاف أمّ كلثوم إلى عثمان :

وفي حوادث هذه السنة الثالثة في شهر جمادى الثانية نقل الطبري عن الواقدي قال : إن أمّ كلثوم بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله زفّت الى عثمان بن عفان ، وكان قد تزوّجها بعد وفاة اختها رقية بثلاثة أشهر في ربيع الأول من هذه السنة (١).

أمّ شريك تهب نفسها للنبي :

وفي شهر رجب الحرام لم يذكر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر من قتال وغيره. وفي أزواج رسول الله بعد خديجة ثم سودة ثم عائشة عدّ اليعقوبيّ :

أمّ شريك غزيّة بنت دودان العامرية ، وقال : وهبت نفسها للنبيّ. ثم عدّ حفصة بنت عمر (٢).

وقال الطوسي في «التبيان» : روي عن علي بن الحسين : أن المرأة التي وهبت نفسها للنبيّ هي امرأة من بني أسد يقال لها أمّ شريك (٣).

ونقله في «مجمع البيان» بزيادة قال : عن علي بن الحسين عليه‌السلام والضحاك وقتادة قالوا : هي امرأة من بني أسد يقال لها أمّ شريك بنت جابر. وقيل : انها لما وهبت نفسها للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قالت عائشة : ما بال النساء يبذلن أنفسهنّ بلا مهر؟!

__________________

(١) الطبري ٢ : ٤٩١ عن الواقدي وليس في مغازي الواقدي فلعله عن السيرة. وعن الطبري في الكامل ٢ : ١٠٠ والمنتقى ١١٦ وعنه في بحار الأنوار ٢٠ : ١٢.

(٢) اليعقوبي ٢ : ٨٤.

(٣) التبيان ٨ : ٣٥٢.


فنزلت الآية : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(١).

فقالت عائشة : ما أرى الله الا يسارع في هواك؟!

فقال رسول الله : وإنك إن أطعت الله سارع في هواك (٢).

ولكن في رواية «الكافي» ما يدل على أن ذلك كان بعد زواجه بحفصة وأن ذلك القول كان من حفصة ، فقد روى بسنده عن الباقر عليه‌السلام قال : جاءت امرأة من الأنصار الى رسول الله فقالت : يا رسول الله ، إن المرأة لا تخطب الزوج ، وأنا امرأة أيّم لا زوج لي منذ دهر ولا ولد ، فهل لك من حاجة؟ فان تك فقد وهبت نفسي لك إن قبلتني. فقال لها رسول الله : يا اخت الأنصار ، جزاكم الله عن رسول الله خيرا ، فقد نصرني رجالكم ورغبت فيّ نساؤكم!

فقالت لها حفصة : ما أقل حياءك وأجرأك وأنهمك للرجال!

فقال رسول الله : كفّي عنها يا حفصة فانها خير منك ، رغبت في رسول الله ولمتها وعبتها.

ثم قال للمرأة : انصرفي رحمك الله ، فقد أوجب الله لك الجنة لرغبتك فيّ وتعرضك لمحبّتي وسروري ، وسيأتيك أمري إن شاء الله.

__________________

(١) الاحزاب : ٥٠. وسورة الاحزاب لم تكن قد نزلت في السنة الثالثة بل السادسة ، فالارجح ما يأتي في السادسة.

(٢) مجمع البيان ٨ : ٥٨١. وفي الدر المنثور ١ : ٢٠٩ روى عن علي بن الحسين : أنها أمّ شريك الأزدية.


فأنزل الله عزوجل : (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) فأحل الله عزوجل هبة المرأة نفسها للنبيّ ولا يحلّ ذلك لغيره (١) ومفاد هذا الخبر هو أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان متزوجا بحفصة ثم وهبت المرأة نفسها له.

وجعل الطبرسي في «إعلام الورى» الرابعة من أزواجه : أمّ شريك غزيّة بنت دودان التي وهبت نفسها للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وكانت قبله عند أبي العكر بن سميّ الازدي فولدت له شريكا. وهذا غريب وعليه فلا يصح الخبر السابق ، ولكنه لم يذكر سندا ولا مصدرا.

وجعل الخامسة : حفصة بنت عمر بن الخطاب. وقال : تزوّجها بعد ما مات زوجها خنيس بن حذافة السهمي (٢).

وابن شهرآشوب في «المناقب» ذكر أمّ شريك فيمن لم يدخل بهن وسماها : غزيّة بنت جابر من بني النجار ، وذكر حفصة فيمن تزوّجها بعد بدر في السنة الثانية (٣).

بينما قال الطبري : في هذه السنة (الثالثة) في شعبان تزوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حفصة بنت عمر ، وكانت قبله تحت خنيس بن حذافة السهمي (٤) وكان ممن شهد

__________________

(١) فروع الكافي ٥ : ٥٦٨ ، الحديث ٥٣.

(٢) إعلام الورى ١ : ٢٢٧ وقال : وكان رسول الله وجّهه الى كسرى فمات. ومفاد هذا أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله تزوّجها بعد عام الحديبية في السنة السابعة ، وهذا غريب مردود. وخنيس بن حذافة هو اخو خارجة بن حذافة السهمي صاحب شرطة عمرو بن العاص السهمي على مصر ، وهو الذي قتل بدلا عنه كما مرّ.

(٣) مناقب آل أبي طالب ١ : ١٦٠ ، ١٦١.

(٤) الطبري ٢ : ٤٤٩ وفي المنتقى ١١٧ وعنه في بحار الأنوار ٢٠ : ١٢.


بدرا مع رسول الله من بني سهم (١) وقالوا : نالته ثمة جراحة فمات منها بالمدينة (٢) وأصدقها رسول الله أربعمائة درهم (٣).

زواج النبيّ من بنت نفيل ثم من بنت خزيمة :

قال اليعقوبي : ثم بنت نفيل بن عبد العزّى العدوي.

ثم زينب بنت خزيمة بن الحارث ، أم المساكين (٤).

وقال ابن اسحاق : كانت تسمى أم المساكين لرحمتها ورقتها عليهم ، زوّجه اياها قبيصة بن عمرو الهلالي (وهي هلالية) وأصدقها رسول الله أربعمائة درهم.

وكانت قبله عند عبيدة بن الحارث بن المطلب (٥) ولعبيدة بن الحارث (منها) بنات (٦).

وقال المسعودي : وفيه (النصف من شهر رمضان للسنة الثالثة) تزوج

__________________

(١) ابن هشام ٢ : ٣٤١ والمغازي ١ : ١٥٦ وأغرب الطبري فقال : كانت تحت خنيس بن حذافة في الجاهلية فتوفي عنها ٢ : ٤٩٩ وتبعه في المنتقى : ١١٧ وعنه في بحار الأنوار ٢٠ : ١٢.

(٢) ابن هشام ٢ : ٦ في الهامش ، وعليه فهي أرملة شهيد اكرمها النبيّ لزوجها فتزوّجها.

(٣) ابن هشام ٤ : ٢٩٤.

(٤) اليعقوبي ٢ : ٨٤ ، هذا ، ولا يعرف نفيل بن عبد العزى العدوي الا أنه جدّ عمر بن الخطاب ، فهل تزوّج النبيّ جدّته؟! الا أن يكون في الأصل اكمالا لنسب حفصة ، المذكورة قبل ذلك ، ثم وقع الالتباس والغلط!

(٥) ابن هشام ٤ : ٢٩٦ ، ٢٩٧. فهي أيضا زوج شهيد تزوّجها إكراما لزوجها الشهيد ابن عمه. فكان أبا الأرامل والأيتام.

(٦) ابن هشام ٣ : ٣٦٦.


رسول الله زينب بنت خزيمة المعروفة بام المساكين (١) أي بعد شهادة زوجها بسنة ، واكراما له.

وعدّها الطبرسي التاسعة من أزواجه (٢) وهو غريب ، ولم يذكر مصدره.

وعدّها ابن شهرآشوب ممن لم يدخل بها (٣).

ميلاد الحسن عليه‌السلام :

نقل الدولابي في «الذرية الطاهرة» عن الليث بن سعد قال : ولدت فاطمة بنت رسول الله الحسن بن علي في شهر رمضان سنة ثلاث (٤).

قال الطبري : في سنة ثلاث من الهجرة في النصف من شهر رمضان ولد الحسن بن علي بن أبي طالب (٥) ومن قبل قال :

وقيل : إن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام ولد في هذه السنة (الثانية) ثم نقل عن الواقدي بسنده عن الباقر عليه‌السلام : أن علي بن أبي طالب بنى بفاطمة في ذي الحجة على رأس اثنين وعشرين شهرا. ثم قال : فان كانت هذه الرواية صحيحة فالقول الأول (في السنة الثانية) باطل (٦) وقد مرّ تقرير ذلك وتثبيته ، فهو كما قال.

__________________

(١) التنبيه والاشراف : ٢١٠ والمنتقى : ١١٧ وعنه في بحار الأنوار ٢٠ : ١٢ وقال : وتوفيت بعد ثمانية أشهر. وقال المسعودي في مروج الذهب ٢ : ٢٨٨ : توفيت بعد شهرين.

(٢) إعلام الورى ١ : ٢٧٨.

(٣) المناقب ١ : ١٦٠.

(٤) الذرية الطاهرة : ١٠١ ، ٢٠٢ وعنه في كشف الغمة ١ : ٥١٤ وعنه في بحار الأنوار ٤٤ : ١٣٦. ونقل الدولابي قبله عن قتادة قال : ولدت حسنا بعد احد بسنتين. ولا يصح وفي المناقب ٤ : ٢٨.

(٥) الطبري ٢ : ٥٣٧.

(٦) الطبري ٢ : ٤٨٥ ، ٤٨٦.


وقال المسعودي في السنة الثالثة : وللنصف من شهر رمضان كان مولد الحسن بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام (١).

وفي «مروج الذهب» والأصفهاني في «مقاتل الطالبيين» إنما ذكر السنة الثالثة (٢) وفي «الإرشاد» روى المفيد بسنده عن الصادق عليه‌السلام : أنه ولد ليلة النصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة (٣).

تسمية الحسن وبعض السنن :

روى الطوسي في «الأمالي» بسنده عن الرضا عليه‌السلام عن آبائه عن علي بن الحسين عليهم‌السلام عن أسماء (بنت عميس) (٤) قالت : إن فاطمة لما حملت بالحسن عليه‌السلام

__________________

(١) التنبيه والاشراف : ٢١٠ وعليه قال في عمره : توفي في سنة ٤٩ وله ٤٦ سنة : ٢٦٠ وكذلك نقل الاربلي في كشف الغمة ٢ : ١٤٠ عن ابن طلحة في مطالب السئول ، وعن الكنجي الشافعي في كفاية الطالب.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٢٨٨ ومقاتل الطالبيين : ٣١ وقال : كانت وفاته سنة خمسين. ومع ذلك تردد في مبلغ سنّه وقت وفاته بين خبرين عن الصادق عليه‌السلام أحدهما : ٤٨ والآخر ٤٦ وهو المتعين. ولكنه في : ٥٢ قال : ان الحسن بن علي ولد سنة ثلاث من الهجرة وتوفي سنة احدى وخمسين ولا خلاف في ذلك ، وسنه على هذا ثمان واربعون سنة أو نحوها.

(٣) الارشاد ٢ : ٥ ويؤيده ما رواه الكليني في اصول الكافي ١ : ٤٦١ بسنده عنه عليه‌السلام قال : قبض الحسن وهو ابن سبع وأربعين سنة في عام خمسين. ومع ذلك سبق الخبر فقال : ولد الحسن في شهر رمضان في سنة بدر ، وروي في سنة ثلاث. وفي الارشاد ٢ : ١٥ قال : مضى لسبيله في شهر صفر سنة خمسين وله ٤٨ سنة. وفي اعلام الورى ١ : ٤٠٢ و ٤٠٣ تبع الارشاد في الميلاد وتبع خبر الكليني في الوفاة. والمناقب ٤ : ٢٨ و ٢٩ كذلك في الميلاد والوفاة.

(٤) فيه الاشكال بعدم حضور أسماء بنت عميس ، والجواب بأنها هي بنت يزيد بن السكن الأنصارية الولّادة الخطّابة ، وإنما الاشتباه والخلط من الرواة.


وولدته جاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا أسماء ، هلمّي ابني.

فدفعته إليه في خرقة صفراء فرمى بها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأذّن في اذنه اليمنى وأقام في اذنه اليسرى ، ثم قال لعليّ عليه‌السلام : بأي شيء سمّيت ابني؟

قال : ما كنت لأسبقك باسمه يا رسول الله (١).

فقال النبيّ : ولا أنا أسبق باسمه ربّي.

فهبط جبرئيل عليه‌السلام فقال : يا محمد ، العلي الأعلى يقرؤك السلام ويقول : عليّ منك بمنزلة هارون من موسى ، ولا نبيّ بعدك ، سمّ ابنك هذا باسم ابن هارون.

فقال النبيّ : وما اسم ابن هارون؟ قال : شبّر. قال النبيّ : لساني عربي. قال جبرئيل : سمّه الحسن. فسماه الحسن.

فلما كان يوم سابعه عقّ النبيّ عنه بكبشين أملحين وأعطى القابلة فخذا ودينارا ، ثم حلق رأسه وتصدّق بوزن الشعر ورقا (فضة) وطلى رأسه بالخلوق ثم قال : يا أسماء ، الدم فعل الجاهلية (٢).

وروى الخبر الصدوق في «الأمالي» بسنده عن زيد بن علي عن أبيه علي ابن الحسين ـ بلا اسناد عن أسماء ـ قال : لما ولدت فاطمة الحسن قالت لعليّ عليه‌السلام : سمّه. قال : ما كنت لأسبق باسمه رسول الله. فجاء رسول الله فاخرج إليه في خرقة صفراء فقال : ألم أنهكم أن تلفوه في صفراء؟! ثم رمى بها ، وأخذ خرقة بيضاء

__________________

(١) وروى الخبر الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٥ بسنده عنه عليه‌السلام أيضا ، وفيه هنا زيادة : «قد كنت احبّ أن اسمّيه حربا» وليس هذا فيما اخرجه الطوسي ، وهو الأولى ، فمن المستبعد جدا أن يحبّ علي عليه‌السلام التسمية بحرب!

(٢) عيون أخبار الرضا ٢ : ٢٥ ويعلم منه بعض السنن وأن العرب كانوا يطلّون رأس الوليد بالدم ليصبح دمويّا جريئا! فنسخه الاسلام.


فلفّه فيها. ثم قال لعلي عليه‌السلام : هل سمّيته؟ قال : ما كنت لأسبقك باسمه. فقال : وما كنت لأسبق باسمه ربي عزوجل.

فأوحى الله تبارك وتعالى الى جبرائيل : انه قد ولد لمحمد ابن فاهبط فاقرأه السلام وهنّه وقل له : إنّ عليّا منك بمنزلة هارون من موسى ، فسمّه باسم ابن هارون.

فهبط جبرائيل فهناه من الله عزوجل ثم قال : ان الله تبارك وتعالى يأمرك أن تسمّيه باسم ابن هارون. قال : وما كان اسمه؟ قال : شبّر. قال : لساني عربي! قال : سمّه الحسن. فسماه الحسن (١).

قضاء وشفاعة :

ومن الحوادث بعد بدر وقبل احد ما رواه الواقدي قال : خاصم الى رسول الله قبل احد يتيم من الأنصار أبا لبابة (ابن عبد المنذر) في عذق نخل بينهما ، فقضى رسول الله لأبي لبابة ، فجزع اليتيم على العذق ، فطلب رسول الله العذق من أبي لبابة لليتيم فأبى أبو لبابة! فجعل رسول الله يقول له : ادفعه إليه ولك به عذق في الجنة! فأبى أبو لبابة.

فتقدم ثابت بن الدحداحة فقال : يا رسول الله أرأيت إن اعطيت اليتيم عذقه ما لي؟ قال : عذق في الجنة!

فذهب ثابت بن الدّحداحة فاشترى من أبي لبابة ذلك العذق بحديقة نخل ، ثم ردّ العذق على الغلام (اليتيم).

فقال رسول الله : ربّ عذق مذلّل لابن الدحداحة في الجنة! (٢).

__________________

(١) أمالي الصدوق : ١١٦.

(٢) فقتل باحد ـ مغازي الواقدي ١ : ٢٨١.


ابو عامر الى مكة :

مرّ في أخبار مواجهة كفّار المدينة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : رواية ابن اسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة : أنه كان يشارك عبد الله بن ابي بن سلول العوفي الخزرجي في شرفه في قومه : ابو عامر عبد عمرو بن صيفي الأوسي ، فانه كان في الأوس شريفا مطاعا ، وكان قد ترهّب في الجاهلية ولبس المسوح فكان يقال له : الراهب.

وروى عن جعفر بن عبد الله : أنه حين قدم رسول الله المدينة واجتمع قوم أبي عامر على الاسلام فارق قومه وأتى رسول الله وجادله في الحنيفية دين ابراهيم عليه‌السلام ، واتّهم رسول الله بأنه قد أدخل في الحنيفية ما ليس منها! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما فعلت بل جئت بها بيضاء نقيّة. فقال ابو عامر : أمات الله الكاذب (منّا) طريدا غريبا وحيدا ، وهو يعرّض بذلك برسول الله. فقال النبيّ : أجل ، فمن كذب فعل الله تعالى به ذلك.

فحين اجتمع قومه على الاسلام أبى ابو عامر الا الفراق لقومه فخرج ببضعة عشر رجلا منهم مفارقا الاسلام ورسوله الى مكة ، منهم علقمة بن علامة الكلابي وكنانة بن عبد ياليل الثقفي (١).

وقال الواقدي : دعا قومه فقال لهم : إنّ محمدا ظاهر (منتصر) فاخرجوا بنا الى قوم نؤازرهم (عليه) فخرج الى قريش يحرّضها ويعلمها أنها على الحق وما جاء به محمد باطل! (٢)

__________________

(١) ابن هشام ٢ : ٢٣٤ ، ٢٣٥.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٢٠٥ ، ٢٠٦ وتمام كلامه : فسارت قريش الى بدر ولم يسر معها.


فروى ابن اسحاق عن بعض آل أبي عامر : أن رسول الله لما سمع بخبره قال : لا تقولوا : الراهب ولكن قولوا : الفاسق (١).

وبقي ابنه حنظلة بن أبي عامر وصاهر عبد الله بن ابيّ بن سلول (٢) ولكنه أسلم وامن وقتل في احد وهو غسيل الملائكة (٣).

غزوة احد :

قال القمي في تفسيره : كان سبب غزوة احد : أن قريشا لمّا رجعت من بدر الى مكة وقد أصابهم ما أصابهم من القتل والأسر ، فقد قتل منهم سبعون واسر منهم سبعون .. قال أبو سفيان : يا معشر قريش! لا تدعوا النساء يبكين على قتلاكم ، فان البكاء والدمعة اذا خرجت أذهبت الحزن والحرقة والعداوة لمحمد ، ويشمت بنا هو وأصحابه! (٤).

__________________

ـ وهذا مسلّم أنه لم يكن معهم في بدر ولكن الصحيح انه لم يسر إليهم قبل بدر بل بعده مثل كعب بن الأشرف ، الا أن كعبا رجع قبل احد وابو عامر لم يرجع.

(١) ابن هشام ١ : ٢٣٥.

(٢) تفسير القمي ١ : ١١٨.

(٣) ابن هشام ٢ : ٢٣٤.

(٤) تفسير القمي ١ : ١١٠ ، ١١١ وروى ابن اسحاق بسنده عن ابن الزبير قال : ناحت قريش على قتلاهم ثم قالوا : لا تفعلوا فيبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بكم ٢ : ٣٠٢ ورواه الواقدي بسنده عنه عن عائشة ١ : ١٢٣. وفصّل فقال : قام فيهم أبو سفيان بن حرب فقال : يا معشر قريش لا تبكوا على قتلاكم ولا تنح عليهم نائحة ولا يبكيهم شاعر ، وأظهروا الجلد والعزاء ، فانكم اذا نحتم عليهم وبكيتموهم بالشعر أذهب ذلكم غيظكم فأكلّكم ذلك عن


__________________

ـ عداوة محمد وأصحابه. مع أنه إن بلغ محمدا وأصحابه شمتوا بكم فيكون أعظم المصيبتين شماتتهم ، ولعلكم تدركون ثأرهم. والدّهن والنساء عليّ حرام حتى أغزو محمدا. فمكثت قريش شهرا لا يبكيهم شاعر ولا تنوح عليهم نائحة ١ : ١٢١. ولكنه نقل بعد ذلك أن كعب بن الأشرف اليهودي لما خرج الى مكة بعد بدر فنزل على أبي وداعة بن ضبيرة ، جعل ينظم شعرا في رثاء قتلى بدر من قريش ، ومن يلقاه من الصبيان والجواري ينشدهم الأبيات ، فأخذها الناس منه ، ورثوا بها وأظهروا المراثي وناحت قريش على قتلاها شهرا ، ولم تبق دار بمكة الّا فيها نوح ، وجزّ النساء شعر الرءوس ، كان يؤتى براحلة الرجل منهم أو بفرسه فتوقف بين أظهرهم فينوحون حولها ، وخرجن الى السكك في الأزقة وقطعن الطرق لينحن! ١ : ١٢٢. ثم قال : قالوا : ومشى نساء قريش الى هند بنت عتبة فقلن : الا تبكين على أبيك وأخيك وعمك وأهل بيتك؟ قالت : أنا أبكيهم فيبلغ ذلك محمدا وأصحابه ونساء بني الخزرج فيشمتوا بنا؟ لا والله حتى أثأر محمدا وأصحابه ، والدّهن عليّ حرام إن دخل رأسي حتى نغزو محمدا. والله لو أعلم أنّ الحزن يذهب من قلبي لبكيت ، ولكن لا يذهبه الا أن أرى ثأري بعيني من قتلة الأحبّة. فمكثت على حالها.

وبلغ نوفل بن معاوية الديلي أن قريشا بكت على قتلاها فقدم مكة وقال لقريش : يا معشر قريش ؛ لقد خفّت أحلامكم وسفه رأيكم وأطعتم نساءكم! ومثل قتلاكم يبكى عليهم؟! هم أجلّ من البكاء ، مع أن ذلك يذهب غيظكم عن عداوة محمد وأصحابه ولا ينبغي أن يذهب الغيظ عنكم الا أن تدركوا ثأركم من عدوّكم.

فلما سمع أبو سفيان كلامه قال : يا أبا معاوية ، والله ما ناحت امرأة من بني عبد شمس على قتيل لها الى اليوم ، ولا بكاهن شاعر الا نهيته حتى ندرك ثارنا من محمد وأصحابه ، واني لأنا الموتور الثائر ، قتل ابني حنظلة وسادة أهل هذا الوادي ١ : ١٢٤ ، ١٢٥.

إذن فنهي أبي سفيان انما كان نافذا في بني عبد شمس ، أما سائر قريش فلم يتمالكوا اكثر


فلما أرادوا أن يغزوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الى احد ساروا في حلفائهم من كنانة وغيرها ، فجمعوا الجموع والسلاح (١).

وخرجوا من مكة في ثلاثة آلاف (٢) : ألف فارس وألفي راجل. وأخرجوا معهم النساء يذكّرنهم ويحثّثنهم على حرب رسول الله ، وخرجت معهم هند بنت

__________________

ـ من شهر ثم ناحوا شهرا ولم يتمكن أبو سفيان من منعهم ثم منعهم نوفل بن معاوية وقد قربوا من موسم الحج بعد بدر.

(١) القمي ١ : ١١١. وروى الواقدي بأسناده : أن قريشا كانوا اذا قدموا بالعير مكة وأهل العير غائبون أوقفوها في دار الندوة حتى يحضر أهلها فلما قدم أبو سفيان مكة في أيام بدر أوقفها في دار الندوة ولم يفرّقها لغيبة أهلها. فلما رجع من حضر بدرا من المشركين الى مكة مشى أشرافهم الى أبي سفيان فقالوا : يا أبا سفيان ، انظر هذه العير .. إنها أموال أهل مكة ولطيمة قريش ، وهم طيّبوا الأنفس أن يجهّزوا بهذه العير جيشا الى محمد ، وقد ترى من قتل من آبائنا وأبنائنا وعشائرنا. فاحتبس العير لذلك.

قال أبو سفيان : وقد طابت أنفس قريش بذلك؟ قالوا : نعم. قال : فانا أول من أجاب الى ذلك وبنو عبد مناف معي ، فانا والله الموتور الثائر ، قد قتل ابني حنظلة ببدر وأشراف قومي.

وكانت العير الف بعير ، والمال خمسين الف دينار ، وكانوا يربحون للدينار دينارا. فيقال : قالوا له : يا أبا سفيان ، بع العير ثم اعزل أرباحها. فأخرج القوم أرباح العير ، وانما أخذ من لا عشيرة له ولا منعة كل ما كان لهم في العير ١ : ١٩٩ ، ٢٠٠ ولعله باعها في الموسم.

(٢) وكذلك في ابن هشام ٣ : ٧٠ وقال الواقدي : خرجت قريش وهم ثلاثة آلاف بمن انضم إليهم ، وكان فيهم من ثقيف مائة رجل .. على ثلاثة آلاف بعير وفيهم سبعمائة دارع ، وقادوا مائتي فرس ١ : ٢٠٣ وفي اعلام الورى ١ : ١٧٦ والمشركون في ألفين. وفي المناقب ١ : ١٩١ في ثلاثة آلاف ويقال في الفين لهم سبعمائة درع ومنهم مائتا فارس والباقون ركب.


عتبة بن ربيعة ، وعمرة بنت علقمة الحارثية (١).

فلما بلغ رسول الله ذلك جمع أصحابه وأخبرهم : أن الله قد أخبره : أن قريشا قد تجمعت تريد المدينة (٢).

__________________

(١) وهي الكنانية التي حملت لواءهم بعد مقتل حملة الألوية التسعة من بني عبد الدار ، واضاف ابن اسحاق : وخرج الحارث بن هشام بن المغيرة بفاطمة بنت الوليد ، وخرج صهره عكرمة بن أبي جهل بام حكيم بنت الحارث بن هشام ، وخرج عمرو بن العاص بريطة بنت منبّه بن الحجاج ، وخرج صفوان بن أميّة ببرزة بنت مسعود الثقفي ، وخرج طلحة بن عبد الله (حامل اللواء) بسلافة بنت سعد الأوسي ، وخرج ابو عزيز بن عمير اخو مصعب بن عمير العبدري بامه خناس بنت مالك ٣ : ٦٦. وأضاف الواقدي : خرج ابو سفيان بامرأتيه : هند واميمة الكنانية ، وخرج صفوان بن أميّة بامرأتيه : برزة والبغوم الكنانية. وخرج الحارث بن سفيان بامرأته رملة بنت طارق ، وخرج كنانة بن علي بامرأته أم حكيم بنت طارق. وخرج النعمان بن مسك الذئب وأخوه جابر بامهما الدغنيّة ، وخرج سفيان بن عويف (حامل اللواء) بامرأته قتيلة بنت عمرو مع عشرة من ولده منهم ابنه غراب بن سفيان ومعه امرأته عمرة بنت الحارث بن علقمة (الكنانية) التي رفعت لواء قريش حين سقط حتى تراجعت قريش الى لوائها ١ : ٢٠٢ ، ٢٠٣ وسبق عن ابن اسحاق أنه نسبها الى جدها علقمة.

(٢) تفسير القمي ١ : ١١١. وقال ابن اسحاق : فأقبلوا حتى نزلوا بجبل ببطن السبخة على قناة عينين على شفير الوادي مقابل المدينة ، وسمع بهم رسول الله والمسلمون أنهم نزلوا حيث نزلوا ، فقال للمسلمين : اني قد رأيت بقرا (لي تذبح) ورأيت في ذباب سيفي ثلما ، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة. وزاد ابن هشام : فأما البقر فهي ناس من أصحابي يقتلون ، وأما الثلم في ذباب سيفي فهو رجل يقتل من أهل بيتي ، وأما الدرع الحصينة فأوّلتها المدينة. فان رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا ، فان أقاموا أقاموا بشر مقام ، وان هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها ٣ : ٦٧.


__________________

ـ وروى الواقدي بسنده عن ابن أبي حكيمة الأسلمي قال : لما أصبح ابو سفيان بالأبواء اخبر : أن عمرو بن سالم الخزاعي وأصحابا له مرّوا بهم راجعين الى مكة.

فقال ابو سفيان : أحلف بالله أنهم قد ذهبوا الى محمد فأخبروه بمسيرنا وعددنا ، فهم الآن يلزمون صياصيهم ، فما أرانا نصيب منهم شيئا في وجهنا!

فقال صفوان بن أميّة : إن أصحروا لنا فعددنا أكثر من عددهم ، وسلاحنا اكثر من سلاحهم ولنا خيل ولا خيل لهم ، ونقاتل على وتر ولا وتر لهم. وإن لم يصحروا عمدنا الى نخل الأوس والخزرج فقطعناه فتركناهم ولا أموال لهم ولا يجبرونها أبدا!

ولكنه نقل قبل ذلك : أنهم لما أجمعوا المسير كتب العباس بن عبد المطلب كتابا الى رسول الله يخبره فيه : أن قريشا قد اجمعت المسير إليك فما كنت صانعا اذا حلّوا بك فاصنعه ، وقد توجهوا إليك وهم ثلاثة آلاف ومعهم ثلاثة آلاف بعير وقادوا مائتي فرس وفيهم سبعمائة دارع. وختمه واستأجر رجلا من بني غفار وشرط عليه أن يسير الى رسول الله ثلاثا.

فقدم الغفاري فلم يجد رسول الله بالمدينة ووجده بقباء ، فخرج حتى وجده على باب مسجد قباء يركب حماره فدفع إليه الكتاب.

فدعا رسول الله ابيّ بن كعب فقرأه عليه ، فاستكتم رسول الله ابيّا ما في الكتاب. وكان قد دخل منزل سعد بن الربيع فقال له : في البيت أحد؟ قال سعد : لا ، فتكلم بحاجتك ، فكان قد أخبره بكتاب العباس بن عبد المطلب ، واستكتم سعدا الخبر ثم خرج الى المدينة.

فلما خرج ، خرجت امرأة سعد فقالت له : ما قال لك رسول الله؟ قال : مالك وذلك؟! فأخبرت سعدا بالخبر ، فأخذ بلمّتها ثم خرج يعدو بها حتى أدرك النبيّ عند الجسر (جسر بطحان) وقد أعيت. فقال : يا رسول الله ، إن امرأتي سألتني عمّا قلت فكتمتها ، فجاءت بالحديث كله ، فخشيت أن يظهر شيء فتظن أني أفشيت سرك! فقال رسول الله : خلّ سبيلها. وشاع الخبر في الناس بمسير قريش ١ : ٢٠٤ ، ٢٠٥.


قال الطبرسي : واستشار أصحابه ، وكان رأيه أن يقاتل الرجال على أفوه السكك ، ويرمي الضعفاء من فوق البيوت (١).

قال القمي فقال عبد الله بن ابي (الخزرجي) : يا رسول الله ، لا تخرج من المدينة حتى نقاتل في أزقّتها ، فيقاتل الرجل الضعيف ، والمرأة والعبد والأمة على السطوح ، فما أرادنا قوم قط فظفروا بنا ونحن في حصوننا ودورنا ، وما خرجنا الى أعدائنا قط الا كان الظفر لهم (٢).

__________________

ـ ويظن أن هذا الخبر مما ابتدع تقربا لبني العباس فيما بين تاريخ ابن اسحاق بأمر المنصور لوليّ عهده المهدي ، وبين عهد الواقدي المعاصر للمأمون والقاضي له ببغداد. وتلوح لوائح الكذب من بين جوانحه. والا لما خلت منه سيرة كتبت لهم من أول يوم مرّتين.

وفي علل الشرائع خبر عن البزنطي عن بعض أصحابه عن الصادق عليه‌السلام قال : كان مما منّ الله عزوجل به على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنه كان يقرأ (كذا) ولا يكتب ، فلما توجه أبو سفيان الى احد كتب العباس الى النبيّ فجاءه الكتاب وهو في بعض حيطان المدينة ، فقرأه (كذا) ولم يخبر أصحابه ، وأمرهم أن يدخلوا المدينة ، فلما دخلوا المدينة أخبرهم ـ علل الشرائع : ٥٣ كما في بحار الأنوار ٢٠ : ١١١ والخبر عن البزنطي عن بعض أصحابه ، ففيه ارسال ، ثم يكفيه أنه خلاف المتفق عليه من أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن يقرأ ولا يكتب.

(١) إعلام الورى ١ : ١٧٦ وقصص الأنبياء : ٣٤٠ ومناقب آل أبي طالب ١ : ١٩١ بينما قال القمي في تفسيره : وحث أصحابه على الجهاد والخروج ١ : ١١١.

(٢) وقال ابن اسحاق : وكان عبد الله بن ابيّ بن سلول يرى رأي رسول الله في ذلك بأن لا يخرج إليهم فقال : يا رسول الله ، أقم بالمدينة لا تخرج إليهم ، فو الله ما خرجنا الى عدوّ لنا قطّ الا أصاب منّا ، ولا دخلها علينا الا أصبنا منه ، فدعهم يا رسول الله ، فان أقاموا أقاموا بشر محبس ، وان دخلوا قاتلهم الرجال في وجههم ، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم ، وان رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا ٣ : ٦٧.


فقام سعد بن معاذ ؛ من الأوس فقال : يا رسول الله ، ما طمع فينا أحد من العرب ونحن مشركون نعبد الأصنام ، فكيف يطمعون فينا وأنت فينا؟! لا ، حتى نخرج إليهم فنقاتلهم ، فمن قتل منا كان شهيدا ، ومن نجى منّا كان قد جاهد في سبيل الله (١).

__________________

ـ وقال الواقدي : ورأى رسول الله أن لا يخرج من المدينة ، وكان يحب أن يوافق على مثل ما رأى وعبر عليه الرؤيا ، وقال : أشيروا عليّ. فقام عبد الله بن ابيّ فقال : يا رسول الله ، كنا نقاتل في الجاهلية فيها ونجعل النساء والذراري في هذه الصياصي ونجعل معهم الحجارة ، وترمي المرأة والصبيّ من فوق الصياصي والآطام ، ونقاتل بأسيافنا في السكك.

يا رسول الله ، إن مدينتنا عذراء ، ما فضت علينا قط ، وما خرجنا الى عدو قط الا أصاب منا ، وما دخل علينا قط الا أصبناه. فدعهم يا رسول الله ، فانهم إن أقاموا أقاموا بشرّ محبس ، وان رجعوا رجعوا خائبين مغلوبين لم ينالوا خيرا.

يا رسول الله ، أطعني في هذا الأمر واعلم أني ورثت هذا الرأي من أكابر قومي وأهل الرأي منهم ، فهم كانوا أهل الحرب والتجربة. وكان ذلك رأي اكابر أصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار ١ : ٢٠٩ ، ٢١٠.

(١) تفسير القمي ١ : ١١١. وفي مغازي الواقدي ١ : ٢١٠ : وقال رجال من أهل السنّ وأهل النية منهم سعد بن عبادة : إنا نخشى ـ يا رسول الله ـ أن يظنّ عدوّنا أنا كرهنا الخروج إليهم جبنا عن لقائهم فيكون هذا جرأة منهم علينا ، وقد كنت يوم بدر في ثلاثمائة رجل فظفّرك الله عليهم ، ونحن اليوم بشر كثير ، قد كنّا نتمنّى هذا اليوم وندعو الله به ، فقد ساقه الله إلينا في ساحتنا.

وقال مالك بن سنان الخدري ابو (أبي سعيد) : يا رسول الله ، نحن والله بين احدى الحسنيين : إما أن يظفّرنا الله بهم فهذا الذي نريد ، فيذلّهم الله لنا فتكون هذه وقعة مع وقعة بدر فلا يبقى منهم الا الشريد ، والاخرى ـ يا رسول الله ـ : يرزقنا الله الشهادة ، والله ـ يا


__________________

ـ رسول الله ـ ما ابالي ايهما كان ، فان كلّا لفيه الخير.

هذا ورسول الله لما يرى من الحاحهم كاره ، ولكنّه سكت ولم يرد عليهم قولا. فقال حمزة بن عبد المطلب : والذي أنزل عليك الكتاب ، لا أطعم اليوم طعاما حتى اجالدهم بسيفي خارجا من المدينة. وكان صائما.

وقال النعمان بن مالك : يا رسول الله ، أنا أشهد أن البقر المذبّح قتلى من أصحابك وأني منهم ، فلم تحرمنا الجنة؟ فو الذي لا إله الا هو لأدخلنّها.

قال رسول الله : بم؟ قال : اني احب الله ورسوله ، ولا أفر يوم الزحف. قال : صدقت. وقال إياس بن اوس : يا رسول الله ، نحن بنو عبد الأشهل من البقر المذبّح ، نرجو أن نذبّح في القوم ويذبّح فينا فنصير الى الجنة ويصيرون الى النار ، مع أني ـ يا رسول الله ـ لا احب أن ترجع قريش الى قومها فيقولون : حصرنا محمدا في صياصي يثرب وآطامها ، فيكون هذا جرأة لقريش ، وقد وطئوا سعفنا ، فاذا لم نذبّ عن عرضنا لم نزرع ، وقد كنا ـ يا رسول الله ـ في جاهليّتنا والعرب يأتوننا ولا يطمعون بهذا منّا حتى نخرج إليهم بأسيافنا حتى نذبّهم عنّا ، فنحن اليوم أحق ـ إذا أيدنا الله بك وعرفنا مصيرنا ـ أن لا نحصر أنفسنا في بيوتنا. وقال أنس بن قتادة : يا رسول الله ، هي إحدى الحسنيين : إمّا الشهادة واما الغنيمة والظفر في قتلهم.

فقال رسول الله : اني أخاف عليكم الهزيمة!.

فقام ابو (سعد) خيثمة (من شهداء بدر) قال : يا رسول الله ، إن قريشا مكثت حولا تجمع الجموع وتستجلب العرب في بواديها ومن تبعها من أحابيشها ، ثم جاءونا قد قادوا الخيل وامتطوا الابل حتى نزلوا بساحتنا ، فيحصروننا في بيوتنا وصياصينا ثم يرجعون وافرين لم يكلموا؟! فيجرّئهم ذلك علينا حتى يشنّوا الغارات علينا ويصيبوا أطرافنا ، ويضعوا العيون والأرصاد علينا ، مع ما قد صنعوا بحروثنا ، ويجترئ علينا العرب من


قال الطبرسي : فلما صار على الطريق قالوا : نرجع. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما كان لنبيّ إذا قصد قوما أن يرجع عنهم (١).

__________________

ـ حولنا حتى يطمعوا فينا اذا رأونا لم نخرج إليهم فنذبّهم عن جوارنا ، وعسى الله أن يظفّرنا بهم فتلك عادة الله عندنا ، أو تكون الاخرى فهي الشهادة. لقد أخطأتني وقعة بدر وقد كنت عليها حريصا ، لقد بلغ من حرصي أن ساهمت ابني في الخروج فخرج سهمه فرزق الشهادة ، وقد كنت حريصا على الشهادة. وقد رأيت ابني البارحة في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها وهو يقول : الحق بنا ترافقنا في الجنة ، فقد وجدت ما وعدني ربّي حقا! وقد ـ والله يا رسول الله ـ أصبحت مشتاقا الى مرافقته في الجنة ، وقد كبرت سنّي ودق عظمي وأحببت لقاء ربيّ ، فادع الله ـ يا رسول الله ـ أن يرزقني الشهادة ومرافقة سعد في الجنة. فدعا له رسول الله بذلك ، ١ : ٢١٠ ـ ٢١٣.

(١) إعلام الورى ١ : ١٧٦ وقصص الأنبياء : ٣٤٠ ومناقب آل أبي طالب ١ : ١٩١. وقال ابن اسحاق : وكان ذلك يوم الجمعة ، وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار يقال له : مالك ابن عمرو من بني النجار ، فصلى عليه رسول الله ثم دخل بيته فلبس لأمته ثم خرج عليهم. وندم الناس وقالوا : استكرهنا رسول الله ولم يكن لنا ذلك. فلما خرج عليهم رسول الله قالوا : يا رسول الله استكرهناك ولم يكن لنا ذلك ، فان شئت فاقعد. فقال رسول الله : ما ينبغى لنبيّ إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل ٣ : ٦٨.

بينما قال الواقدي : فلما أبوا الّا الخروج ، صلى رسول الله الجمعة بالناس ، ثم وعظ الناس (أي بخطبة بعد الصلاة؟!) وأمرهم بالجدّ والجهاد وأخبرهم أنّ لهم النصر ما صبروا. وأمرهم بالتهيّؤ لعدوّهم فاعلمهم بذلك بالشخوص الى عدوّهم ، ففرح الناس بذلك ، وكرهه كثير من أصحابه. وحشد الناس وحضر أهل العوالي وصعد النساء على الآطام ، وحضر بنو عمرو بن عوف وحلفاؤهم والنبيت وحلفاؤهم وقد لبسوا السلاح لصلاة العصر فصلى بهم رسول الله. ثم دخل بيته .. واصطفّ له الناس ما بين حجرته الى


وفي تاريخ معالم المدينة : ان من معالمها مسجد يسمى مسجد الدرع على يسار طريق احد قبله بكيلومتر ونصف تقريبا ، يسمى بالدرع لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله وضع فيه درعه الخاص به في حربه. والظاهر أنه كان في حرب احد.

وقبل احد بكيلومتر وثلاثمائة متر كانت أجمة فيها أطمان ليهود ، بلغها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المغرب فصلى والعشاء واستراح فيها حتى صلّى فيها الصبح.

ثم استعرض عسكره فردّ من استصغره منهم.

وفيها عرض عليه جمع ممن حالفه من يهود المدينة نصرتهم له ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا نستعين بالمشركين على المشركين!

وعندها رجع عبد الله بن ابي بن سلول بمن اطاعه من المنافقين وهم ثلاثمائة ثلث عسكر المسلمين ، متذرعا بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ برأي غيره (١).

__________________

ـ منبره ينتظرون خروجه.

فجاءهم اسيد بن حضير وسعد بن معاذ فقالا : قلتم لرسول الله ما قلتم واستكرهتموه على الخروج ، والأمر ينزل عليه من السماء؟! فردّوا الأمر إليه فما أمركم به فافعلوه وما رأيتم له فيه هوى أو رأي فأطيعوه. وكان بعضهم كارها للخروج فقالوا : القول ما قال سعد ، ما كان لنا أن نلحّ على رسول الله أمرا يهوى خلافه ، وبعضهم مصرّ على الشخوص ، إذ خرج رسول الله قد لبس لأمته ودرعين ظاهر بينهما (أي جعل ظهر أحدهما لوجه الآخر) وتحزّم وسطها بمنطقة من حمائل سيف من أدم ، واعتمّ وتقلد سيفا.

فقالوا : يا رسول الله ما كان لنا أن نخالفك ، فاصنع ما بدا لك.

فقال : قد دعوتكم الى هذا فأبيتم ولا ينبغي لنبيّ إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه. انظروا ما آمركم به فاتّبعوه ، امضوا على اسم الله فلكم النصر ما صبرتم. ١ : ٢١٣ ، ٢١٤.

(١) معالم المدينة : ١٣٤. انظر طبقات ابن سعد ٢ : ٣٩ وتحقيق النصرة : ١٥٤ والدر الثمين : ١٧٤ ومجلة الميقات ٤ : ٢٦١.


أبو البنين وأبو البنات :

روى ابن اسحاق عن ابيه اسحاق بن يسار ، عن بعض بني سلمة قالوا : لما كان يوم احد ، كان لعمرو بن الجموح أربعة بنين كليوث العرين ، وكان ابوهم ابن الجموح أعرج شديد العرج ، فقالوا له : إن الله عزوجل قد عذرك ، وأرادوا حبسه.

فأتوا رسول الله ، فقال عمرو : يا رسول الله ، إن بنيّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج فيه معك ، وو الله اني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة!

فقال له رسول الله : أما أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك.

وقال لبنيه : لا تمنعوه ، لعل الله يرزقه الشهادة. فخرج (١) وكان صهر عمرو ابن حرام (٢).

وكان لعبد الله بن عمرو بن حرام أبي جابر بن عبد الله سبع بنات سوى عبد الله ، فقال لعبد الله : يا بني ، انه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن ، ولست بالذي اؤثرك بالجهاد مع رسول الله على نفسي ، فتخلّف على أخواتك. فتخلّف عبد الله ، وخرج ابوه (٣).

قال الطبرسي في «اعلام الورى» : وكانوا الف رجل ، فلما كانوا في بعض الطريق انخذل عنهم عبد الله بن ابيّ بثلث الناس ، وقالوا : والله ما ندري على ما نقتل أنفسنا والقوم قومه؟! وهمت بنو حارثة وبنو سلمة بالرجوع ثم

__________________

(١) ابن هشام ٣ : ٩٦. ومغازي الواقدي ١ : ٢٦٤.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٢٦٥.

(٣) ابن هشام ٣ : ١٠٧.


عصمهم الله عزوجل (١).

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ١٧٦ وقصص الأنبياء : ٣٤١ ومناقب آل أبي طالب ١ : ١٩١. وقال ابن اسحاق : فخرج رسول الله في ألف من أصحابه ، حتى إذا كانوا بالشوط بين المدينة واحد انخذل عنه عبد الله بن ابيّ بن سلول بثلث الناس وقال : أطاعهم وعصاني ، لا ندري علام نقتل أنفسنا أيها الناس! فرجع بمن اتّبعه من قومه من أهل النفاق والريب.

فاتبعهم عبد الله بن عمر بن حرام أبو جابر يقول لهم : يا قوم اذكّركم الله ألا تخذلوا قومكم ونبيّكم عند ما حضر من عدوّهم! فقالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم ، ولكنا لا نرى أنه يكون قتال. فقال : أبعدكم الله أعداء الله سيغني الله عنكم نبيّه ـ ٣ : ٦٨.

وقال الواقدي : سلك على البدائع ثم زقاق الحسى (ببطن الرمة) ثم توجّه الى اطمى الشيخين ، حتى انتهى الى رأس الثنية ، فالتفت فنظر الى كتيبة خشناء خلفه لها صوت مرتفع ، فقال : ما هذه؟ قالوا : هؤلاء حلفاء ابن ابيّ من اليهود! فقال : لا نستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك! ومضى حتى أتى على اطمى الشيخين فعسكر به. وأقبل ابن ابي فنزل ناحية من العسكر.

فجعل من معه من المنافقين وحلفاؤه اليهود يقولون له : أشرت عليه بالرأي ونصحته .. فأبى أن يقبله وأطاع هؤلاء الغلمان الذين معه! فرأوا فيه غشا ونفاقا.

وغابت الشمس فأذّن بلال المغرب ، فصلى رسول الله بأصحابه ثم أذن بالعشاء فصلى بأصحابه .. وبات بالشيخين .. ونام حتى أدلج ، فلما كان السحر قال النبيّ : من رجل يدلّنا فيخرجنا على القوم من كثب فسلك به في بني حارثة ثم مر بحائط المنافق مربع بن قيظي ومضى رسول الله .. حتى انتهوا الى موضع ابن عامر .. فلما انتهى الى موضع القنطرة اليوم من احد حانت الصلاة ، فأمر بلالا فأذن وأقام فصلى بأصحابه الصبح صفوفا.

وانخذل ابن ابيّ من ذلك المكان في كتيبته يقدمهم كانه ذكر النعام.

فاتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام ابو جابر فقال : اذكّركم الله ودينكم ونبيكم وما شرطتم له أن تمنعوه مما تمنعون منه أنفسكم وأولادكم ونساءكم.


وقال القمي : وقعد عبد الله بن ابي واتبع رأيه قومه من الخزرج .. وعدّ رسول الله أصحابه فكانوا سبعمائة رجل (١) وفي رواية أبي الجارود عن الباقر عليه‌السلام : هم ثلاثمائة منافق رجعوا مع عبد الله بن ابي بن سلول ، فقال لهم ابو جابر بن عبد الله : انشدكم الله في نبيكم ودينكم ودياركم! فقالوا : والله لا يكون اليوم قتال ، ولو نعلم أنه يكون قتال لاتبعناكم (٢).

قال القمي : فضرب رسول الله معسكره مما يلي طريق العراق (٣).

اللواء والراية :

قال الطبرسي : وأصبح رسول الله فتهيّأ للقتال ، وجعل على راية

__________________

ـ فقال ابن ابيّ : لئن أطعتني ـ يا أبا جابر ـ لترجعن ، فان أهل الرأي والحجى قد رجعوا ، ونحن ناصروه في مدينتنا ، وقد اشرت عليه بالرأي فأبى الاطواعية الغلمان. وما أرى أن يكون بينهم قتال.

فلما أبى على عبد الله أن يرجع قال لهم أبو جابر : أبعدكم الله ، إن الله سيغني النبيّ والمؤمنين عن نصركم. وانصرف عبد الله بن عمرو يعدو حتى لحق برسول الله وهو يسوّي الصفوف ١ : ٢١٧ ـ ٢١٩.

(١) تفسير القمي ١ : ١١١.

(٢) تفسير القمي ١ : ١٢٢.

(٣) تفسير القمي ١ : ١١١ وقال ابن اسحاق : نزل الشعب من احد في عدوة الوادي الى الجبل ٣ : ٦٩ وقال الواقدي : يقال : استدبر النبيّ الشمس وجعل عينين خلف ظهره ، فواجه المشركون الشمس ، والأثبت عندنا : أنه جعل احدا خلف ظهره واستقبل المدينة ، فاستقبل المشركون احدا واستدبروا المدينة. وقال من قبل : الى موضع القنطرة اليوم في أرض ابن عامر اليوم ١ : ٢١٩ ، ٢٢٠.


المهاجرين عليا عليه‌السلام وعلى راية الأنصار سعد بن عبادة ، وقعد رسول الله في راية الأنصار (١).

وقال القمي : عبّأ رسول الله اصحابه ودفع الراية الى امير المؤمنين صلوات الله عليه (٢).

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ١٧٦ وقصص الأنبياء : ٣٤١ ومناقب آل أبي طالب ١ : ١٩١ و ١٩٢.

وقال ابن اسحاق : دفع اللواء الى مصعب بن عمير من بني عبد الدار ٣ : ٧٠ فلما قتل أعطى رسول الله اللواء لعلي بن أبي طالب .. وجلس رسول الله تحت راية الأنصار (ولم يقل بيد سعد) وأرسل رسول الله الى عليّ أن : قدّم الراية. فتقدم علي وهو يقول : أنا أبو القضم ٣ : ٧٨.

وقال الواقدي : ثم دعا رسول الله بثلاثة أرماح فعقد ثلاثة ألوية : للأوس والخزرج والمهاجرين ، فدفع لواء الأوس الى اسيد بن حضير ، ودفع لواء الخزرج الى سعد بن عبادة او الحباب بن المنذر بن الجموح ، ودفع لواء المهاجرين الى مصعب بن عمير او علي بن أبي طالب عليه‌السلام. ثم دعا النبيّ بفرسه فركبه ، وأخذ بيده قناة زجّ رمحها من شبة (من النحاس الأصفر) وأخذ قوسا. وفي المسلمين مائة دارع ١ : ٢١٥ و ٢٢٥.

وقد جمع مقال ابن اسحاق اللواء والراية فأما اللواء فصارت إليه عليه‌السلام بعد مقتل مصعب وأما الراية فكانت بيده من الأول. ولعل هذا هو وجه الترديد عند الواقدي وهو حلّه ، وبهذا قال الشيخ المفيد اذ قال في الارشاد ١ : ٧٨ : وكانت راية رسول الله فيها بيد أمير المؤمنين كما كانت بيده يوم بدر ، فصار إليه اللواء يومئذ دون غيره ، فكان هو صاحب الراية واللواء جميعا ، وكان الفتح له كما كان له ببدر سواء. ثم استشهد لذلك بأخبار ثلاثة عن أبي البختري القرشي وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود.

وعليه فلا يصح ما نقله الواقدي عن أبي معشر وابن الفضل قالا : لما قتل مصعب أخذ اللواء ملك على صورته ، فكان رسول الله يقول له في آخر النهار : تقدم يا مصعب! فالتفت إليه الملك فقال : لست بمصعب! فعرف النبيّ أنه ملك ايّد به!

(٢) تفسير القمي ١ : ١١٢.


الرّماة على الشعب :

ووضع صلى‌الله‌عليه‌وآله عبد الله بن جبير في خمسين من الرماة على باب الشعب ، أشفق أن يأتي كمين المشركين من ذلك المكان ، وقال رسول الله لعبد الله بن جبير وأصحابه : إن رأيتمونا قد هزمناهم حتى أدخلناهم مكة فلا تخرجوا من هذا المكان ، وإن رأيتموهم قد هزمونا حتى أدخلونا المدينة فلا تبرحوا والزموا مراكزكم (١).

وقال : اتقوا الله واصبروا ، وإن رأيتمونا يخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم حتى ارسل إليكم. وأقامهم عند رأس الشعب (٢).

وقال : لا تبرحوا مكانكم هذا وان قتلنا عن آخرنا ، فانما نؤتى من موضعكم هذا (٣).

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١١٢.

(٢) إعلام الورى ١ : ١٧٦ ، ١٧٧ وقصص الأنبياء : ٣٤١.

(٣) الارشاد ١ : ٨٠ ومناقب آل أبي طالب ١ : ١٩٢. وقال ابن اسحاق : وتعبّأ رسول الله للقتال .. وأمّر على الرماة عبد الله بن جبير من بني عمرو بن عوف ، وهو في ثياب بيض ، والرماة خمسون ، فقال له : انضح (ادفع) الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا. إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتينّ من قبلك ٣ : ٧٠. وقال الواقدي : وجعل رسول الله يصفّ أصحابه : فجعل الرماة خمسين رجلا على جبل عينين ، وعليهم عبد الله بن جبير ١ : ٢١٩ وأقبل المشركون قد صفّوا صفوفهم : على الميمنة خالد بن الوليد ، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل وعلى الخيل صفوان بن أميّة ، وعلى الرماة عبد الله بن أبي ربيعة وكانوا مائة رام ١ : ٢٢٠.


الألوية في قريش :

روى المفيد في «الارشاد» بسنده عن عبد الله بن مسعود قال : كانت ألوية قريش في بني عبد الدار ، مع طلحة بن أبي طلحة وكان يدعى كبش الكتيبة فجاء أبو سفيان الى أصحاب اللواء فقال : يا أصحاب الألوية ، انكم تعلمون أنما يؤتى القوم من قبل ألويتهم ، وانما اوتيتم يوم بدر من قبل ألويتكم ، فان كنتم ترون أنكم قد ضعفتم عنها فادفعوها إلينا نكفيكموها.

فغضب طلحة بن أبي طلحة وقال : ألنا تقول هذا؟! والله لاوردنّكم بها اليوم حياض الموت (١).

__________________

ـ وتقدم رسول الله الى الرماة فقال لهم : احموا لنا ظهورنا فانا نخاف أن نؤتى من ورائنا والزموا مكانكم لا تبرحوا منه ، وان رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل عسكرهم فلا تفارقوا مكانكم ، وان رأيتمونا نقتل فلا تعينونا ولا تدفعوا عنا ، وارشقوا خيلهم بالنبل ، فان الخيل لا تقدم على النبل. اللهم اني اشهدك عليهم! ١ : ٢٢٤.

(١) الارشاد ١ : ٨٠ وقال ابن اسحاق : وتعبأت قريش ، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد ، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل ٣ : ٧٠ وأصحاب اللواء من بني عبد الدار فأقبل عليهم ابو سفيان وقال لهم : يا بني عبد الدار ، إنكم قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم ، وانما يؤتى الناس من قبل راياتهم اذا زالت زالوا ، فاما أن تكفونا لواءنا ، واما أن تخلّوا بيننا وبينه فنكفيكموه!

فقالوا له : نحن نسلّم إليك لواءنا؟! ستعلم غدا اذا التقينا كيف نصنع؟! ٣ : ٧٢. وقال الواقدي : ودفعوا اللواء الى طلحة بن أبي طلحة .. وصاح أبو سفيان : يا بني عبد الدار ، نحن نعرف أنكم أحق باللواء منا ، وانما اتينا يوم بدر من اللواء ، وانما يؤتى القوم من قبل


خطبة الرسول :

قال الواقدي : وجعل رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلم ـ يمشي على رجليه يسوّي تلك الصفوف ، و «يبوّئ المؤمنين مقاعد للقتال» يقول : تقدم يا فلان ، وتأخّر يا فلان ، حتى إنه ليرى منكب الرجل خارجا فيؤخّره ..

ثم قام رسول الله فخطب الناس فقال :

يا أيها الناس ، اوصيكم بما أوصاني الله في كتابه من العمل بطاعته والتناهي عن محارمه. ثم انكم اليوم بمنزل أجر وذخر لمن ذكر الذي عليه ثم وطّن نفسه على الصبر واليقين ، والجدّ والنشاط ، فان جهاد العدوّ شديد كربه ، قليل من يصبر عليه الا من عزم الله رشده ، فان الله مع من أطاعه وان الشيطان مع من عصاه. فاستفتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد ، والتمسوا بذلك ما وعدكم الله ، وعليكم بالذي أمركم به ، فاني حريص على رشدكم ، فان الاختلاف والتنازع والتثبيط من أمر العجز والضعف مما لا يحبّه الله ولا يعطي عليه النصر ولا الظفر.

يا أيها الناس قذف في صدري : أنّ من كان على حرام فرّق الله بينه وبينه ، ومن رغب عنه غفر الله ذنبه .. وإنه نفث في روعي الروح الأمين : أنه لن تموت

__________________

ـ لوائهم ، فالزموا لواءكم وحافظوا عليه ، أو خلّوا بيننا وبينه فانا قوم موتورون مستميتون نطلب ثأرا حديث العهد ، واذا زالت الألوية فما قوام الناس وبقاؤهم بعدها؟!

فغضب بنو عبد الدار وقالوا : نحن نسلّم لواءنا؟! لا كان هذا أبدا! فأما المحافظة عليه فسترى! وأغلظوا لأبي سفيان بعض الإغلاظ ، وأحدقوا باللواء واسندوا إليه الرماح. فقال أبو سفيان ، فنجعل لواء آخر؟ قالوا : ولا يحمله الا رجل من بني عبد الدار ، لا كان غير ذلك أبدا ـ ١ : ٢٢١.


نفس حتى تستوفي أقصى رزقها لا ينقص منه شيء وإن أبطأ عنها ، فاتقوا الله ربكم وأجملوا في طلب الرزق ، ولا يحملنّكم استبطاؤه أن تطلبوه بمعصية ربكم ، فانه لا يقدر على ما عنده الا بطاعته ، وقد بين لكم الحلال والحرام ، غير أن بينهما شبها من الأمر لم يعلمها كثير من الناس الا من عصم ، فمن تركها حفظ عرضه ودينه ، ومن وقع فيها كان كالراعي الى جنب الحمى أوشك أن يقع فيه ، وليس ملك الا وله حمى ، ألا وإن حمى الله محارمه.

والمؤمن من المؤمنين كالرأس من الجسد ، اذا اشتكى تداعى له سائر الجسد ، ومن أحسن من مسلم (أو كافر) وقع أجره على الله في عاجل دنياه أو آجل آخرته ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة الا صبيا أو امرأة أو مريضا أو عبدا مملوكا ، ومن استغنى عنها استغنى الله عنه ، والله غني حميد.

ما أعلم من عمل يقربكم الى الله الا وقد امرتكم به ، ولا أعلم من عمل يقربكم الى النار الا وقد نهيتكم عنه .. ومن صلّى عليّ (مرّة) صلى الله عليه وملائكته عشرا. والسلام عليكم.

نشوب الحرب :

ثم روى بسنده عن المطّلب بن عبد الله قال : إن أوّل من أنشب الحرب أبو عامر عبد عمرو (بن صيفي الراهب الفاسق) اذ طلع في خمسين من قومه ومعه عبيد قريش ، فنادى : يا آل أوس ، أنا أبو عامر! (وكان رسول الله سمّاه الفاسق ، فلما سمعه قومه) قالوا : لا مرحبا بك ولا أهلا يا فاسق! (فلما سمع ردّهم عليه) قال : لقد أصاب قومي بعدي شرّ ، ثم تراموا فيما بينهم والمسلمين بالحجارة ، ثم


ولّوا مدبرين (١).

وكانوا قد حفروا حفرا للمسلمين ليقعوا فيها ، ومنها الحفيرة التي وقع فيها الرسول (٢).

وتقدم نساء المشركين أمام صفوفهم قبل اللقاء يضربن بالدفوف والطبول الكبار ، ثم رجعن فكنّ في أواخر الصفوف (٣) خلف الرجال وبين اكتافهم يذكرن من اصيب ببدر ويحرّضن بذلك الرجال ويضربن بالدفوف ويقلن :

نحن بنات طارق

نمشي على النمارق

ان تقبلوا نعانق!

او تدبروا نفارق

 فراق غير وامق (٤)

وكان في المدينة في بني ظفر رجل غريب لا يدرى ممن هو يقال له قزمان ، وكان ذا بأس معروفا بالشجاعة ، ولم يخرج معهم الى احد ، فعيّره نساء بني ظفر

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ٢٢١ ـ ٢٢٣.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٢٥٢.

(٣) مغازي الواقدي ١ : ٢٢٥ ، وسيرة ابن هشام ٣ : ٧٢.

(٤) وفي الطبري ٢ : ٢٠٨ في وقعة ذي قار : أن امرأة من عجل كانت تحرّضهم تقول :

إن تهزموا نعانق

ونفرش النمارق

او تهربوا نفارق

فراق غير وامق

وعن الروض الانف ٢ : ١٢٩ : أن الرجز لهند بنت طارق بن بياضة الايادي في حرب ذي قار ، ولذلك قالت : نحن بنات طارق. ولا يعرف وجه لنسبة هند بنت عتبة الى طارق. فلعلها تمثلت به بعد أن سمعت به عن هند بنت طارق.

وروى الحميري في قرب الاسناد : ٦١ بسنده عن الصادق عن الباقر عليهما‌السلام قال : أمر رسول الله يوم الفتح بقتل فرتنا وأم سارة ، وكانتا قينتين ترثيان وتغنيان بهجاء النبيّ وتحضضان يوم احد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. كما في بحار الأنوار ٢٠ : ١١١ ، ١١٢.


وقلن له : يا قزمان قد خرج الرجال وبقيت؟! يا قزمان ألا تستحي مما صنعت؟! ما أنت الا امرأة ، خرج قومك وبقيت في الدار! فدخل بيته وأخرج سيفه وقوسه وجعبته ، وخرج يعدو الى احد حتى انتهى الى الصف الأول فكان فيه ، فكان هو أول من رمى من المسلمين (١).

الملتحقون باحد :

قزمان وإن اختلف عن اولئك المنافقين المتخاذلين عن النبيّ والمسلمين ، حيث تخاذل اولئك والتحق هذا ، لكنه لم يختلف معهم في عاقبة النفاق ، كما سنأتي على خبره.

وإن تخلّف عن رسول الله اولئك فقد التحق به عدد مذكورون ، أولهم حنظلة بن أبي عامر الراهب الفاسق وصهر ابن ابيّ بن سلول المنافق! وقد مرّ أن الرسول سمّى أباه بالفاسق وسيأتي أن النبيّ يصف الولد بغسيل الملائكة!

قال القمي في تفسيره : كان حنظلة بن أبي عامر رجلا من [الأوس](٢) وفي تلك الليلة التي كان في صبيحتها حرب احد تزوّج بنت عبد الله بن ابيّ بن سلول ، واستأذن رسول الله أن يقيم عندها ، فأنزل الله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٣) فأذن له رسول الله.

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٣ : ٩٣ ومغازي الواقدي ٢٢٣ ، ٢٢٤.

(٢) في المطبوع : الخزرج ، وهو وهم ، فانه كان من الأوس كما مرّ في أبيه ، ولعل مصاهرته لابن ابيّ الخزرجي كان من التقارب المقرّر بين الأوس والخزرج.

(٣) النور : ٦٢ وقال القمي : وهذه الآية في سورة النور ، وأخبار احد في سورة آل عمران ، فهذا دليل على أن التأليف على خلاف ما أنزله الله.


فدخل حنظلة بأهله ووقع عليها فأصبح وهو جنب ، فلما أراد حنظلة أن يخرج من عندها ليحضر القتال بعثت امرأته الى أربعة نفر من الأنصار فأشهدت عليه : أنه قد واقعها.

فقيل لها : لم فعلت ذلك؟

قالت : رأيت في هذه الليلة في نومي كأن السماء قد انفرجت فوقع فيها حنظلة ثم انضمّت ، فعلمت أنها الشهادة ، فكرهت أن لا اشهد عليه.

وخرج وهو جنب فحضر القتال (١).

هذا شأن حنظلة بن أبي عامر وأبيه الراهب المتنصر الفاسق.

وهناك من الملتحقين بالمسلمين باحد يهودي من أحبارهم بالمدينة يدعى مخيريق من بني ثعلبة ، قال ابن اسحاق : قال (لأصحابه) : يا معشر يهود ، والله لقد علمتم أن نصر محمد لحق عليكم! ثم أخذ عدّته وسيفه فقال : إن اصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء. ثم غدا (صباحا) الى النبيّ ـ صلى الله عليه [وآله] وسلم ـ فأسلم وكان معه حتى قتل ، فقال رسول الله فيه : مخيريق خير يهود (٢) فكانت صدقات النبيّ منها (٣).

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١١٨ وكرر مختصر الخبر في تفسير الآية من سورة النور ٢ : ١١٠ ونقل الخبر الواقدي في مغازي الواقدي ١ : ٢٧٣ من دون الآية. ومن المظنون ـ وليس من سوء الظن ـ أن ابن ابيّ أبى الا الزفاف في تلك الليلة ليعوق حنظلة عن القتال ، فلم يفلح.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٣ : ٩٤.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٢ : ١٦٤ ، ١٦٥ و ٣ : ٩٤ وأمواله الحوائط السبع وهي : الاعراف وبرقة وحسنى والدلال والصافية والميثب والمشربة التي أسكنها فيما بعد زوجته مارية القبطية اُمّه ابنه ابراهيم فسمّيت المشربة بها : مشربة اُمّ ابراهيم. وأوقفهنّ النبيّ سنة سبع (أو تسع) للهجرة على ابنته الزهراء عليها السلام ، فأوصت بها الزهراء لعليّ ثمّ للحسن ثمّ


ومن الداخلين في الاسلام يومئذ والملتحقين بالمسلمين باحد : عمرو بن ثابت بن وقش من بني عبد الأشهل ، وكان قومه قد أسلموا وهو يأبى ذلك ، ثم بدا له في الاسلام إذ خرج رسول الله الى احد فأسلم ، ثم أخذ سيفه فعدا حتى التحق بهم ودخل في عرضهم (١).

ولعل هذا الموقف من عمرو بن ثابت هو ما أثر في أبيه ثابت بن وقش حيث كان مع صاحبه اليماني حسيل بن جابر أبي حذيفة بن اليمان وهما شيخان كبيران كانا في الآطام مع النساء والصبيان اذ قال أحدهما لصاحبه : لا أبا لك ما تنتظر؟ فو الله ما بقي لواحد منّا من عمره الا بمقدار ما بين شربي الحمار (ظمء حمار) إنما موتتنا اليوم أو غد ، أفلا نأخذ بأسيافنا ثم نلحق برسول الله لعل الله يرزقنا شهادة مع رسول الله؟!

ثم أخذا أسيافهما وخرجا حتى دخلا في الناس ، ولم يعلم بهما (٢).

وكان عبد الله بن عمرو بن حرام ابو جابر بن عبد الله قد رأى في النوم قبل احد بأيام البشر بن عبد المنذر ـ وهو من شهداء بدر ـ يقول له : أنت قادم علينا في أيام. فقال عبد الله : قلت له : وأين أنت؟ قال : في الجنة نسرح منها حيث نشاء قلت له : ألم تقتل يوم بدر؟ قال : بلى. فذكر ذلك لرسول الله فقال :

__________________

للحسين عليه السلام ثمّ للاكبر من وُلدها ، وأشهدت عليها المقداد بن الاسود والزبير بن العوام ، كما عن الباقر عليه السلام في الكافي ٧ : ٤٨ و ٤٩ ح ٥ و ٦ ، والفقيه ٤ : ٢٤٤ ح ٥٥٧٩ ، ودلائل الامامة : ٤٢ ، وتاريخ وقف النبيّ لهن في وفاء للسمهودي ٢ : ١٥٢ ، ١٥٣ واُنظر وفاة الصدّيقة للمقرّم : ١٠٤.

(١) ابن هشام ٣ : ٩٥ والواقدي ١ : ٢٦٢ وتفسير القمي ١ : ١١٧ مع تغيير يسير.

(٢) ابن هشام ٣ : ٩٢ وذكره الواقدي في المغازي ١ : ٢٣٣ : رفاعة بن وقش ، وهو عمّه.


هذه الشهادة يا أبا جابر. وكان عبد الله رجلا أحمر أصلع غير طويل (١).

وكان له سبع بنات فقال لابنه جابر : إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن ، ولست بالذي اوثرك بالجهاد مع رسول الله على نفسي ، فتخلّف على أخواتك. فتخلّف جابر عليهن (٢) وحضر أبوه القتال ، فكان أول من قتل قبل الهزيمة فصلى عليه رسول الله (٣).

أداء حقّ السيف :

قال ابن اسحاق : ومدّ رسول الله سيفا وقال : من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقام إليه رجال ـ منهم الزبير بن العوام ـ (٤) فأمسكه عنهم حتى قام إليه أبو دجانة سماك بن خرشة من بني ساعدة ، فقال : وما حقه يا رسول الله؟ قال : أن تضرب به العدو حتى ينحني! قال : انا آخذه يا رسول الله بحقه! فأعطاه اياه. فلما أخذ السيف من يد رسول الله أخرج عصابة له حمراء فعصب بها رأسه ، ثم أخذ يمشي متبخترا! (٥).

فروى الكليني في «فروع الكافي» بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : إن أبا دجانة الأنصاري اعتم يوم احد بعمامة ، وأرخى عذبة العمامة بين كتفيه ،

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ٢٦٦ ، ٢٦٧.

(٢) ابن هشام ٣ : ١٠٧.

(٣) مغازي الواقدي ١ : ٢٦٦.

(٤) ابن هشام ٣ : ٧٢ ، ٧٣. وقال الواقدي : قالوا : وما حقه؟ قال : يضرب به العدو! فقال عمر : أنا ، فأعرض عنه رسول الله ، ثم عرضه بذلك الشرط فقام الزبير فقال : أنا ، فأعرض عنه حتى وجد عمر والزبير في أنفسهما ، ثم عرضه الثالثة فقال أبو دجانة : أنا يا رسول الله آخذه بحقه! فدفعه إليه ١ : ٢٥٩. ولعل ابن اسحاق او ابن هشام اختصر الخبر على ما قاله في مقدمته أنه يحذف ما يشنع او يسوء بعض الناس ذكره ١ : ٤.

(٥) ابن هشام ٣ : ٧١ ومغازي الواقدي ١ : ٢٥٩.


وجعل يتبختر ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ هذه لمشية يبغضها الله عزوجل الا عند القتال في سبيل الله (١).

قال ابن اسحاق : وكان يقول :

أنا الذي عاهدني خليلي

ونحن بالسفح لدى النخيل

أن لا أقوم الدهر بالكبول

أضرب بسيف الله والرسول (٢)

بدء البراز باحد :

قال القمي في تفسيره : كانت راية قريش مع طلحة بن أبي طلحة العبدوي (أي) من بني عبد الدار ، فبرز ونادى :

يا محمّد! تزعمون أنّكم تجهزونا بأسيافكم إلى النار ، ونجهزكم بأسيافنا إلى الجنّة ، فمن شاء أن يلحق بجنّته فليبرز إليّ!

فبرز إليه أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول :

يا طلح إن كنت كما تقول

لنا خيول ولكم نصول

فاثبت لننظر أيّنا المقتول

وأيّنا أولى بما تقول

فقد أتاك الأسد الصؤول

بصارم ليس به فلول

 ينصره القاهر والرسول

فقال طلحة : من أنت يا غلام؟ قال : أنا علي بن أبي طالب.

قال طلحة : قد علمت ـ يا قضيم (٣) ـ أنّه لا يجسر عليّ أحد غيرك!

__________________

(١) فروع الكافي ١ : ٣٢٩ كما في بحار الأنوار ٢٠ : ١١٦.

(٢) ابن هشام ٣ : ٧٣.

(٣) ثم حدّث القمي عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام قال : سئل الصادق عليه‌السلام عن معنى قول طلحة بن أبي طلحة لمّا بارزه علي عليه‌السلام : يا قضيم؟ فقال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان لا


فشدّ عليه طلحة ، فاتقاه أمير المؤمنين بالجحفة (الترس) ، ثم ضربه أمير المؤمنين عليه‌السلام على فخذيه فقطعهما جميعا ، فسقط على ظهره وسقطت الراية ، فذهب علي عليه‌السلام ليجهز عليه فحلّفه بالرحم فانصرف عنه ، فقال المسلمون : الا أجهزت عليه؟ قال : قد ضربته ضربة لا يعيش منها أبدا.

وأخذ الراية ابو سعيد بن أبي طلحة ، فقتله علي عليه‌السلام وسقطت الراية الى الارض.

__________________

يجسر عليه أحد بمكّة لموضع أبي طالب ، فأغروا به الصبيان ، فكانوا إذا خرج رسول الله يرمونه بالحجارة والتراب ، فشكى ذلك إلى علي عليه‌السلام فقال : بأبي أنت وامّي يا رسول الله ـ اذا خرجت فأخرجني معك. فخرج رسول الله ومعه علي عليه‌السلام فتعرض الصبيان لرسول الله كعادتهم ، فحمل عليهم أمير المؤمنين عليه‌السلام وكان يقضمهم في وجوههم وآنافهم وآذانهم ؛ فكانوا يرجعون باكين الى آبائهم ويقولون : قضمنا علي ، قضمنا علي فلذلك سمّي القضيم ١ : ١١٤.

وروى ابن هشام ٣ : ٧٨ : أن ابا سعيد بن أبي طلحة لما خرج بين الصفّين فنادى : أنا قاصم من يبارزني ، فمن يبارز برازا؟ فلم يخرج إليه أحد! فقال : يا أصحاب محمد! زعمتم أن قتلاكم في الجنة وأن قتلانا في النار! كذبتم واللّات! لو تعلمون ذلك حقا لخرج الي بعضكم!

فخرج إليه علي بن أبي طالب .. فتقدم وقال : أنا أبو القصم!

فناداه ابو سعد بن أبي طلحة وهو صاحب لواء المشركين ، قال : هل لك ـ يا أبا القصم ـ من حاجة في البراز؟ قال : نعم. فبرزا بين الصفّين فاختلفا بضربتين فضربه علي فصرعه. فقيل قتله ، وقيل : انه انصرف عنه ولم يجهز عليه ، فقال له أصحابه : أفلا أجهزت عليه؟! فقال : انه استقبلني بعورته! فقيل : إن سعد بن أبي وقاص طعنه فقتله ٣ : ٧٨.

والقصم : الكسر البين ، ويبدو أن أبا القصم تصحيف عن القضيم بمعنى القاضم أي الذي كان يقضم الآذان والانوف ، وان رغمت انوف!.


فأخذها مسافع بن طلحة ، فقتله علي عليه‌السلام فسقطت الراية الى الأرض.

فأخذها عثمان بن أبي طلحة ، فقتله علي عليه‌السلام فسقطت الراية الى الأرض.

فأخذها الحارث بن أبي طلحة ، فقتله علي عليه‌السلام فسقطت الراية الى الأرض.

فأخذها ابو عذير بن عثمان ، فقتله علي عليه‌السلام فسقطت الراية الى الأرض.

فأخذها عبد الله بن حميد ، فقتله علي عليه‌السلام فسقطت الراية الى الأرض.

وقتل أمير المؤمنين التاسع من بني عبد الدار ارطاة بن شرحبيل فسقطت الراية الى الأرض.

فأخذها مولاهم صوأب ، فضربه أمير المؤمنين على يمينه فقطعها فأخذها بشماله فضربه أمير المؤمنين على شماله فقطعها ، فاحتضنها بيديه المقطوعتين ثم قال : يا بني عبد الدار ، هل أعذرت فيما بيني وبينكم؟ فضربه أمير المؤمنين عليه‌السلام على رأسه فقتله ، وسقطت الراية.

فأخذتها عمرة بنت علقمة (عمرة بنت الحارث بن علقمة الكنانيّة) فقبضتها (١).

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١١٢ ، ١١٣. وروى المفيد في الارشاد ١ : ٨٥ ، ٨٦ بالاسناد عن ابن عباس : أن طلحة بن أبي طلحة خرج يومئذ فوقف بين الصفين فنادى : يا أصحاب محمد انكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم الى النار ونعجلكم بسيوفنا الى الجنة ، فأيكم يبرز الي؟

فبرز إليه أمير المؤمنين عليه‌السلام وقال له : والله لا افارقك اليوم حتى اعجلك بسيفي الى النار! فاختلفا بضربتين ، فضربه علي بن أبي طالب عليه‌السلام على رجليه فقطعهما فسقط فانكشفت (عورته) فانصرف عنه الى موقفه ، فقال له المسلمون : الا أجهزت عليه؟ فقال : ناشدني الله والرحم ، وو الله لا عاش بعدها أبدا ، ومات طلحة في مكانه ، وبشر به النبيّ فسر


__________________

ـ وقال : هذا كبش الكتيبة.

وروى فيه ١ : ٨٠ بالاسناد الى عبد الله بن مسعود قال : تقدم طلحة بن أبي طلحة وتقدم علي بن أبي طالب ، فقال علي له : من أنت؟ قال : أنا طلحة بن أبي طلحة أنا كبش الكتيبة! فمن أنت؟ قال : أنا علي بن أبي طالب بن عبد المطلب. ثم تقاربا فاختلفت بينهما ضربتان فضربه علي بن أبي طالب ضربة على مقدم رأسه فبدرت عينه وصاح صيحة لم يسمع مثلها قط ، وسقط اللواء من يده.

فأخذه اخ له يقال له مصعب ، فرماه عاصم بن ثابت الأنصاري بسهم فقتله ثم أخذ اللواء أخ له يقال له عثمان ، فرماه عاصم أيضا بسهم فقتله. فأخذه عبد لهم يقال له صوأب ، وكان من أشد الناس ، فضرب علي عليه‌السلام يده اليمنى فقطعها فأخذ اللواء بيده اليسرى فضربه علي عليه‌السلام على يده اليسرى فقطعها ، فأخذ اللواء على صدره وجمع يديه ـ وهما مقطوعتان ـ فضربه علي عليه‌السلام على أم رأسه فسقط صريعا ، فانهزم القوم.

وقال ابن اسحاق : وقاتل علي بن أبي طالب ٣ : ٧٧ وعاصم بن ثابت ٣ : ٧٩ ثم لم يذكر لعلي عليه‌السلام شيئا! اللهم إلّا ما استدركه ابن هشام كما مر. وقال عن عاصم بن ثابت أنّه قتل مسافع بن طلحة وأخاه الجلاس بن طلحة بسهم ، وعثمان بن أبي طلحة قتله حمزة بن عبد المطلب ٣ : ٧٩ ثم قال : وكان اللواء مع صوأب غلام حبشيّ لهم وهو آخر من أخذه منهم ، فقاتل به حتى قطعت يداه فأخذ اللواء بصدره حتى قتل عليه. ولم يقل هنا من قتله. قال : ولم يزل اللواء صريعا (كذا) حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعته لقريش فلاثوا به ٣ : ٨٣ وفي ذكر قتلى المشركين ذكر طلحة بن أبي طلحة قتله علي عليه‌السلام ، ومسافع والجلاس وعثمان كما مر ، وارطاة بن شرحبيل قتله حمزة ، وعبد الله بن حميد بن زهير قتله علي عليه‌السلام. وابو سعيد بن طلحة قتله سعد بن أبي وقاص ، وصوأب قتله قزمان وقال ابن هشام : ويقال قتلهما علي بن أبي طالب ٣ : ١٣٤. هذا على النسخة المطبوعة من سيرة ابن هشام. وبينما


معصية الرّماة :

فحمل الأنصار على مشركي قريش فانهزموا هزيمة قبيحة ، ووقع أصحاب رسول الله في سوادهم. وانحط خالد بن الوليد في مائتي فارس فلقي عبد الله بن جبير (وأصحابه) فاستقبلوهم بالسهام (فردّوا).

ونظر أصحاب عبد الله بن جبير الى أصحاب رسول الله ينهبون سواد القوم ، فقالوا لعبد الله بن جبير : تقيمنا هاهنا وقد غنم أصحابنا ونبقى نحن بلا غنيمة؟!

__________________

للشيخ المفيد في «الارشاد» بنفس سند الكتاب : ابن هشام عن البكّائي عن ابن اسحاق ، رواية تختلف عن هذه ، فهي ، بعد قتل طلحة بن أبي طلحة : وقتل ابنه أبا سعيد ابن طلحة ، وقتل أخاه خالد (كلدة) بن أبي طلحة ، وقتل عبد الله بن حميد بن زهرة ، وقتل أبا الحكم بن الأخنس بن شريق ، وقتل الوليد بن أبي حذيفة بن المغيرة ، وقتل أخاه أميّة بن أبي حذيفة ، وقتل أرطاة بن شرحبيل ، وقتل هشام ابن أميّة ، وعمرو بن عبد الله الجمحي ، وبشر بن مالك وقتل صوأبا مولى بني عبد الدار. وكان الفتح له ورجوع الناس من هزيمتهم الى النبيّ بمقامه يذب عنه دونهم ، وتوجه العتاب من الله الى كافتهم لهزيمتهم يومئذ سواه ومن ثبت معه من رجال الأنصار ، وكانوا ثمانية ، وقيل : أربعة أو خمسة الارشاد ١ : ٩١ ، والله أعلم بحقيقة القلم وما أجرم!. أما الواقدي فقال : طلحة بن أبي طلحة قتله علي عليه‌السلام ، وعثمان بن أبي طلحة قتله حمزة ، وابو سعد بن أبي طلحة قتله سعد بن أبي وقاص ، ومسافع ابن طلحة قتله عاصم ، وكلاب بن طلحة قتله الزبير بن العوام ، والجلاس بن طلحة قتله طلحة بن عبيد الله ، وارطاة بن شرحبيل قتله علي عليه‌السلام ، وصوأب قتله علي عليه‌السلام أو سعد أو قزمان مغازي الواقدي ١ : ٢٢٦ ـ ٢٢٨.


فقال لهم عبد الله : اتّقوا الله ، فان رسول الله قد تقدم إلينا أن لا نبرح!

فلم يقبلوا منه وأقبل ينسلّ رجل فرجل حتى أخلوا مركزهم ، وبقي عبد الله ابن جبير في اثني عشر رجلا (١).

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١١٢ وقال الواقدي كان ضرار بن الخطّاب الفهري يحدث عن وقعة احد يقول : لما التقينا ما أقمنا لهم شيئا حتى هزمونا فانكشفنا مولّين ، فقلت في نفسي : هذه أشد من وقعة بدر وجعلت أقول لخالد بن الوليد : كرّ على القوم! فجعل يقول : وترى وجها نكرّ فيه؟ حتى نظرت الى الجبل ـ الذي عليه الرماة ـ خاليا ، فقلت : أبا سليمان ، انظر وراءك! فعطف عنان فرسه ، فكرّ وكررنا معه ، فانتهينا الى الجبل فلم نجد عليه أحدا له بال ، وجدنا نفيرا فأصبناهم ، ثم دخلنا العسكر والقوم غارّون ينتهبون العسكر فأقحمنا الخيل عليهم فتطايروا في كل وجه ووضعنا السيوف فيهم حيث شئنا ١ : ٢٨٣.

وقال الواقدي : وقد روى كثير من الصحابة ممن شهد احدا ، قال كل واحد منهم : والله اني لأنظر الى هند وصواحبها منهزمات ما دون أخذهن شيء لمن أراد ذلك. وكلما كان خالد يأتي من قبل ميسرة النبيّ ـ صلى الله عليه [وآله] وسلم ـ ليجوز حتى يأتي من قبل السفح كان يردّه الرماة ، وفعل ذلك مرارا وفعلوا.

وانهزم المشركون وتبعهم المسلمون يضعون السلاح فيهم حيث شاءوا حتى أبعدوهم عن معسكرهم وأخذوا ينتهبونه ، فقال بعض الرماة لبعض : لم تقيمون هاهنا في غير شيء؟ قد هزم الله العدوّ ، وهؤلاء إخوانكم ينتهبون عسكرهم ، فادخلوا عسكر المشركين فاغنموا مع إخوانكم! وأجابهم بعضهم : ألم تعلموا أن رسول الله قال لكم : احموا ظهورنا ولا تبرحوا من مكانكم ، وان رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا ، وإن رأيتمونا غنمنا فلا تشركونا؟! فقال الآخرون : لم يرد رسول الله هذا وقد أذلّ الله المشركين وهزمهم ، فادخلوا المعسكر فانتهبوا مع اخوانكم!

فلما اختلفوا خطبهم أميرهم عبد الله بن جبير وأمرهم بطاعة الله وطاعة رسوله وأن لا يخالفوا أمر رسول الله. فعصوه وانطلقوا حتى لم يبق منهم مع أميرهم عبد الله بن جبير إلّا


وانحطّ خالد بن الوليد على عبد الله بن جبير وقد فرّ أصحابه وبقي في نفر قليل ، فقتلوهم على باب الشعب ، واستعقبوا المسلمين فوضعوا فيهم السيف (١).

__________________

ـ نفير ما يبلغون العشرة.

ثم روى عن نسطاس مولى صفوان بن أميّة قال : دنا القوم بعضهم من بعض واقتتلوا ساعة ، ثم اذا أصحابنا منهزمون ، ودخل أصحاب محمد عسكرنا ، فاحدقوا بنا وأسرونا وانتهبوا العسكر .. وضيعت الثغور التي كان بها الرماة وجاءوا الى النهب ، فأنا أنظر إليهم متأبّطين قسيهم وجعابهم كل رجل منهم في يديه أو في حضنه شيء قد أخذه ١ : ٢٣١.

ثم روى عن رافع بن خديج قال : لما انصرف الرماة الا من بقي ، نظر خالد بن الوليد الى خلأ الجبل وقلة أهله ، فكرّ بالخيل ، وتبعه عكرمة في الخيل ، فانطلقا الى بقية الرماة فحملوا عليهم ، فراموا القوم حتى اصيبوا ، ورامى عبد الله بن جبير حتى فنيت نبله ، ثم طاعن بالرمح حتى انكسر ، ثم كسر جفن سيفه فقاتلهم حتى قتل (قتله عكرمة ١ : ٣٠١ ، ٣٠٢).

وكان ابو بردة بن نيار وجعال بن سراقة آخر من انصرف من الجبل بعد مقتل عبد الله ابن جبير ١ : ٢٣٢.

قال نسطاس : فدخلت خيلنا على قوم غارّين آمنين ، فوضعوا فيهم السيوف فقتلوا فيهم قتلا ذريعا ، وتفرق المسلمون في كل وجه وتركوا ما انتهبوا واخلوا العسكر ، وخلّوا أسرانا. واسترجعنا متاعنا وما فقدنا منه شيئا ، حتى الذهب وجدناه في المعركة ١ : ٢٣١.

(١) تفسير القمي ١ : ١١٣ وروى المفيد في الارشاد ١ : ٨١ : بسنده عن عبد الله بن مسعود قال : فانهزم القوم ، واكب المسلمون على الغنائم. ولما رأى أصحاب الشعب الناس يغنمون قالوا : يذهب هؤلاء بالغنائم ونبقى نحن؟! فقالوا لعبد الله الذي كان رئيسا عليهم : نريد أن نغنم كما غنم الناس ، فقال : إن رسول الله أمرني أن لا أبرح من موضعي هذا! فقالوا له : انه أمرك بهذا وهو لا يدري أن الأمر يبلغ الى ما ترى! ومالوا الى الغنائم وتركوه ، ولم يبرح هو من موضعه ، فحمل عليه خالد بن الوليد فقتله ، ثم جاء من ظهر رسول الله يريده.


ونظرت قريش في هزيمتها الى الراية قد رفعت ، فلاذوا بها.

هزيمة المسلمين :

وانهزم أصحاب رسول الله هزيمة قبيحة ، وأقبلوا يصعدون في الجبال وفي كلّ وجه.

فلما رأى رسول الله الهزيمة كشف البيضة عن رأسه وقال : إنّي أنا رسول الله ، فإلى أين تفرّون عن الله وعن رسوله (١).

__________________

ـ وقال الطبرسي في إعلام الورى ١ : ١٧٧ : وكانت الهزيمة على المشركين وحسّهم المسلمون بالسيوف حسّا. فقال أصحاب عبد الله بن جبير : الغنيمة! ظهر أصحابكم فما ذا تنتظرون؟! فقال عبد الله : أنسيتم قول رسول الله؟! أما أنا فلا أبرح موقفي الذي عهد إليّ فيه رسول الله ما عهد. فتركوا أمره وعصوه بعد ما رأوا ما يحبّون من الغنائم وأقبلوا عليها.

فخرج كمين المشركين عليهم خالد بن الوليد فانتهى الى عبد الله بن جبير فقتله ، ثم أتى الناس من أدبارهم ، فوضع السلاح فيهم فانهزموا : ٨١ (وقال الواقدي ١ : ٣٠٢ قتله عكرمة).

وروى ابن اسحاق عن يحيى بن عبّاد ، عن أبيه عبّاد بن عبد الله ، عن أبيه عبد الله بن الزبير ، عن ابيه الزبير بن العوام قال : والله لقد رأيتني انظر الى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمّرات هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير ، واذا بالرماة مالوا الى العسكر (للغنيمة) وخلّوا ظهورنا للخيل فاتينا من خلفنا ـ ابن هشام ٣ : ٨٢ ولا يذكر من أتاهم من خلفهم؟! بل لا يذكر خالد بن الوليد في احد الا أنه كان على ميمنة خيل قريش ٣ : ٧٠. اللهم الا أن يكون من حذف ابن هشام لقوله في مقدمته بأنه يحذف ما يشنع ويسوء بعض الناس ذكره ١ : ٤.

(١) تفسير القمّي ١ : ١١٤.


موقف علي عليه‌السلام وسائر الصحابة :

قال القمّي : وحمل عليّ عليه‌السلام كفّا من الحصى فرمى به في وجوههم ثمّ قال : شاهت الوجوه وقطّت ولطّت (أي قطعت وشقّت وضربت) إلى أين تفرّون؟! إلى النار؟! فلم يرجعوا ، فكرّ عليهم ثانية وبيده صحيفة يقطر منها الموت فقال لهم : بايعتم ثمّ نكثتم؟! فو الله لأنتم أولى بالقتل ممّن قتل! وكأنّ عينيه قدحان مملوءان دماء أو زيتان يتوقّدان نارا!

ولم يبق مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا أمير المؤمنين وأبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري ، وكلّما حملت طائفة على رسول الله استقبلهم أمير المؤمنين فيدفعهم عن رسول الله ويقتل فيهم حتى انقطع سيفه (١).

فلمّا انقطع سيف أمير المؤمنين عليه‌السلام جاء إلى رسول الله ، فقال : يا رسول الله إنّ الرجل يقاتل بالسلاح ، وقد انقطع سيفي! فدفع إليه رسول الله سيفه «ذا الفقار» وقال : قاتل بهذا.

فلم يكن يحمل على رسول الله أحد إلّا يستقبله أمير المؤمنين عليه‌السلام فإذا رأوه رجعوا.

وانحاز رسول الله إلى ناحية احد فوقف ، وكان القتال من وجه واحد ، وقد انهزم أصحابه ، فلم يزل أمير المؤمنين عليه‌السلام يقاتلهم حتى أصابه في وجهه وصدره وبطنه ويديه ورجليه تسعون جراحة.

وسمعوا مناديا ينادي من السماء : «لا سيف إلّا ذو الفقار ، ولا فتى إلّا علي».

__________________

(١) تفسير القمّي ١ : ١١٥.


ونزل جبرئيل على رسول الله وقال : هذه والله المواساة يا محمّد!

فقال رسول الله : لأنّي منه وهو منّي!

فقال جبرئيل : وأنا منكما (١).

قال : ولم يبق مع رسول الله إلّا أبو دجانة سماك بن خرشة وأمير المؤمنين عليه‌السلام.

موقف نسيبة الخزرجية :

وبقيت معه نسيبة بنت كعب المازنيّة ، وكانت تخرج مع رسول الله في غزواته تداوي الجرحى ، وكان ابنها معها ، فأراد أن ينهزم ويتراجع فحملت عليه وقالت : يا بني إلى أين تفرّ عن الله وعن رسوله؟! فردّته!

فحمل عليه رجل يقتله فأخذت سيف ابنها وحملت على الرجل فضربته على فخذه فقتلته!

فقال رسول الله : بارك الله عليك يا نسيبة! وكانت تقي رسول الله بصدرها ويديها حتى أصابتها جراحات كثيرة.

__________________

(١) تفسير القمّي : ١١٦ ، ومثله روضة الكافي عن الصادق عليه‌السلام : ٣٢٠ ، وفي بحار الأنوار ٢٠ : ١٠٧ و ١٠٨ ، وفي علل الشرائع عن كتاب أبان بن عثمان الأحمر البجلي عن الصادق عليه‌السلام أيضا ، وفي بحار الأنوار ٢٠ : ٧٠ و ٧١ ، وفي الخصال ٢ : ٥٥٦ عن علي عليه‌السلام ، وفي عيون أخبار الرضا ١ : ٨٥ عن الكاظم عليه‌السلام ، وفي تفسير فرات الكوفي عن حذيفة بن اليمان : ٢٤ ـ ٢٦ ، وفي بحار الأنوار ٢٠ : ١٠٣ ـ ١٠٥ ، وعن ابن عبّاس : ٢٢ ، وفي بحار الأنوار ٢٠ : ١١٣ ، وشرح الأخبار للقاضي النعمان ٣ : ٢٨٦ برقم : ٢٨٠ عن أبي رافع ، وشرح النهج للمعتزلي ١٤ : ٢٥٠ عن أمالي محمّد بن حبيب ، وقال : رواه جماعة من المحدّثين ووقفت عليه في بعض نسخ مغازي ابن إسحاق ورأيت بعضها خاليا عنه!


ونظر رسول الله إلى رجل من المهاجرين وقد ألقى ترسه خلف ظهره وهو ينهزم ، فناداه : يا صاحب الترس ألق ترسك ومرّ إلى النار! فرمى بترسه ، فقال رسول الله : يا نسيبة خذي الترس. فأخذت الترس. وكانت تقاتل المشركين ، فقال رسول الله : لمقام نسيبة أفضل من مقام فلان وفلان وفلان!

وحمل ابن قميئة على رسول الله فقال : أروني محمّدا ، لا نجوت إن نجا محمّد! فضربه على حبل عاتقه ونادى : قتلت محمّدا واللات والعزّى!

وروي أنّ مغيرة بن العاص كان رجلا أعسر ، فحمل في طريقه إلى احد ثلاثة أحجار وقال : بهذه الأحجار أقتل محمّدا! فلمّا حضر القتال نظر إلى رسول الله وبيده السيف ، فرماه بحجر فأصاب به يد رسول الله فسقط السيف من يده ، ثمّ رماه بحجر آخر فأصاب جبهته فقال : قتلته واللات والعزّى! وقال رسول الله : اللهم حيّره (١).

مقام علي عليه‌السلام :

وروى الكليني في «روضة الكافي» بسنده عن أبان بن عثمان بن الأحمر البجلي الكوفي ، عن نعمان الرازي ، عن الصادق عليه‌السلام قال : انهزم الناس عن رسول الله فغضب غضبا شديدا .. ونظر فإذا عليّ إلى جنبه فقال له : ما لك لم تلحق (بهم)؟ فقال عليّ عليه‌السلام : يا رسول الله ، أكفرا بعد إسلام؟! إنّ لي بك اسوة. فقال : أمّا إذا لا (أي لا تنصرف) فاكفني هؤلاء. فحمل علي عليه‌السلام فضرب أوّل من لقي منهم.

__________________

(١) تفسير القمّي ١ : ١١٥ ـ ١١٩ ، وتمامه : فلمّا انكشف الناس تحيّر فلحقه عمّار بن ياسر فقتله. وسلّط الله على ابن قميئة الشجر فكان يمرّ بالشجرة فتأخذ من لحمه! وظلّ كذلك حتى مات.


فقال جبرئيل : إنّ هذه لهي المواساة يا محمّد!

قال : إنّه منّي وأنا منه. قال جبرئيل : وأنا منكما (١). ورواه الطبرسي في «إعلام الورى» (٢).

وروى المفيد في «الإرشاد» بالإسناد إلى زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود (٣) قال : جاء خالد بن الوليد من خلف رسول الله يريده ، حتى نظر إليه وهو في قلّة من أصحابه ، فقال لمن معه : دونكم هذا الذي تطلبون فشأنكم به! فحملوا عليه حملة رجل واحد ضربا بالسيوف وطعنا بالرماح ورميا بالنبال ورضخا بالحجارة.

وثبت أمير المؤمنين عليه‌السلام وأبو دجانة وسهل بن حنيف يدفعون عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكثر عليهم المشركون واغمي على النبيّ ممّا ناله ، وفتح عينيه ونظر إلى عليّ عليه‌السلام فقال له : ما فعل الناس؟ قال : نقضوا العهد وولّوا الدبر (وقصده عدّة منهم فقال) : فاكفني هؤلاء الذين قد قصدوا قصدي. فحمل عليهم أمير المؤمنين فكشفهم ، ثم عاد إليه وقد حملوا عليه من ناحية اخرى فكرّ عليهم فكشفهم ، وأبو دجانة وسهل بن حنيف قائمان على رأسه بيد كلّ واحد منهما سيفه يذبّ عنه (٤).

قال زيد بن وهب : فقلت لابن مسعود : انهزم الناس عن رسول الله حتى لم يبق معه إلّا عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وأبو دجانة وسهل بن حنيف؟! فقال :

__________________

(١) روضة الكافي : ١١٠ ، وفي بحار الأنوار ٢٠ : ١٠٧ ، ومرّ بعض مصادره الاخرى ، ومنها عن أبان عن الصادق عليه‌السلام في علل الشرائع ١ : ٧ وعنه في بحار الأنوار ٢٠ : ٧٠.

(٢) اعلام الورى ١ : ١٧٧ ، ١٧٨.

(٣) الارشاد ١ : ٨٠ ـ ٨٤.

(٤) الارشاد ١ : ٨٢.


ولحقهم طلحة بن عبيد الله.

فقلت : وأين كان أبو بكر وعمر؟ قال : كانا ممّن تنحّى! (١)

قلت : وأين كان عثمان؟ قال : جاء بعد ثلاثة أيّام من الوقعة! فقال له رسول الله : لقد ذهبت فيها عريضة!

فقلت له : وأنت أين كنت؟ قال : كنت ممّن تنحّى.

فقلت : فمن حدّثك بهذا الحديث؟ قال : عاصم وسهل بن حنيف.

فقلت له : إنّ ثبوت عليّ في ذلك المقام لعجب!

فقال : وإن تعجب من ذلك فقد تعجّبت منه الملائكة ، أما علمت أنّ جبرئيل عليه‌السلام قال في ذلك اليوم وهو يعرج إلى السماء : لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا عليّ!

قلت : فمن أين علم أنّ ذلك من جبرئيل عليه‌السلام؟ قال : سمع الناس صائحا يصيح في السماء بذلك ، فسألوا النبيّ عنه فقال : ذاك جبرئيل (٢).

ثمّ روى عن عكرمة مولى ابن عبّاس قال : سمعت عليّا يقول : لمّا انهزم الناس عن رسول الله يوم احد لحقني من الجزع عليه ما لم يلحقني قطّ ولم أملك نفسي ، وكنت أمامه أضرب بسيفي بين يديه ، فرجعت أطلبه فلم أره! فقلت (في نفسي) : ما كان رسول الله ليفرّ ، وما رأيته في القتلى ، وأظنّه رفع من بيننا إلى السماء! فكسرت جفن سيفي وقلت في نفسي : لاقاتلنّ به عنه حتى اقتل! وحملت على القوم فأفرجوا عنّي فإذا أنا برسول الله قد وقع على الأرض (فوقعت عليه فإذا به حيّ مغشيّ عليه) فقمت على رأسه ، فنظر إليّ فقال : ما صنع الناس يا علي؟ فقلت : كفروا يا رسول الله وولّوا الدبر من العدوّ وأسلموك! ونظر النبيّ إلى

__________________

(١) وكما في بحار الأنوار أيضا ٢٠ : ٧٠ و ٧١.

(٢) الارشاد ١ : ٨٣ ـ ٨٥.


كتيبة قد أقبلت إليه فقال لي : ردّ عنّي هذه الكتيبة يا عليّ. فحملت عليها أضربها بسيفي يمينا وشمالا حتى ولّوا الأدبار. فقال لي : يا علي ، أما تسمع مديحك في السماء؟ إنّ ملكا يقال له رضوان ينادي : لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا عليّ! فبكيت سرورا وحمدت الله ـ سبحانه وتعالى ـ على نعمته (١).

ثمّ روى بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : لمّا انهزم الناس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في يوم احد وثبت أمير المؤمنين عليه‌السلام قال له النبيّ : مالك لا تذهب مع القوم؟ قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : أذهب وأدعك يا رسول الله؟! والله لا برحت حتى اقتل أو ينجز الله لك ما وعدك من النصر!

فقال له النبيّ : أبشر يا عليّ ، فإنّ الله منجز وعده ، ولن ينالوا منّا مثلها أبدا.

ثمّ نظر إلى كتيبة قد أقبلت إليه ، فقال له : احمل على هذه يا عليّ. فحمل أمير المؤمنين عليه‌السلام عليها فقتل منها هشام بن أميّة المخزومي وانهزم القوم.

ثمّ أقبلت كتيبة اخرى فقال له النبيّ : احمل على هذه. فحمل عليها فقتل منها عمرو بن عبد الله الجمحي وانهزمت أيضا.

ثمّ أقبلت كتيبة اخرى فقال له النبيّ : احمل على هذه ، فحمل عليها فقتل منها بشر بن مالك العامري وانهزمت الكتيبة (٢).

وأقبل أميّة بن أبي حذيفة (المخزومي) وهو يقول : يوم بيوم بدر ، فعرض له رجل من المسلمين فقتله اميّة. فصمد له علي بن أبي طالب فضربه بالسيف على هامته فنشب في بيضة مغفره ، وضرب اميّة بسيفه فاتّقاها أمير المؤمنين عليه‌السلام بدرقته فنشب فيها ، ونزع عليّ عليه‌السلام سيفه من مغفر اميّة ، وخلص اميّة سيفه من

__________________

(١) الارشاد ١ : ٨٦ ، ٨٧.

(٢) الإرشاد ١ : ٨٩.


درقة عليّ أيضا ثمّ تناوشا ، فنظر عليّ إلى فتق تحت إبط اميّة فضربه بالسيف فقتله وانصرف عنه (١).

ولم يعد بعدها أحد منهم ، وتراجع المنهزمون من المسلمين إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

وروى عن عمران بن حصين قال : لمّا تفرّق الناس عن رسول الله في يوم احد ، جاء عليّ عليه‌السلام متقلّدا سيفه حتى قام بين يديه ، فرفع رسول الله رأسه إليه فقال له : ما بالك لم تفر مع الناس؟! فقال : يا رسول الله ، أرجع كافرا بعد إسلامي؟! فأشار له إلى قوم انحدروا من الجبل فحمل عليهم فهزمهم ، ثمّ أشار إلى قوم آخر فحمل عليهم فهزمهم ، ثمّ أشار إلى قوم آخر فحمل عليهم فهزمهم.

فجاء جبرئيل عليه‌السلام فقال : يا رسول الله : لقد عجبت الملائكة من حسن مواساة عليّ لك بنفسه! فقال رسول الله : وما يمنعه من هذا وهو منّي وأنا منه! فقال جبرئيل : يا رسول الله وأنا منكما (٣).

وروى الطبرسي في «اعلام الورى» خبر أبان بن عثمان عن الصادق عليه‌السلام ثمّ قال : وثاب إلى رسول الله جماعة من أصحابه.

وأقبل ابيّ بن خلف (الجمحي) وهو دارع على فرس له وهو يقول : هذا ابن أبي كبشة! لا نجوت إن نجوت! ورسول الله بين سهل بن حنيف والحارث بن الصمّة يعتمد عليهما ، فحمل عليه ، فوقاه مصعب بن عمير بنفسه فطعن مصعبا فقتله (٤) فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عنزة كانت في يد سهل بن حنيف فطعن به ابيّا في

__________________

(١) الإرشاد ١ : ٨٨.

(٢) الإرشاد ١ : ٨٩.

(٣) الإرشاد ١ : ٨٥ ، ومرّ بعض مصادره الاخرى.

(٤) وقال ابن إسحاق : وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله حتى قتله ابن قميئة الليثي وهو


__________________

ـ يحسبه رسول الله ، فرجع يقول : قتلت محمّدا! ولمّا قتل مصعب بن عمير أعطى النبيّ اللواء عليّ بن أبي طالب. وقاتل عليّ بن أبي طالب ورجال من المسلمين ٣ : ٧٧ ، هذه الجملة غير الكاملة هو كلّ ما عن ابن إسحاق في سيرة ابن هشام من موقف عليّ عليه‌السلام ، اللهم إلّا ما أضافه ابن هشام هنا من ذكر مبارزته لأبي سعد بن طلحة ، ثمّ نقل عن ابن إسحاق أنّ سعد ابن أبي وقّاص قتله ٣ : ٧٨ ، ويروي عن الزبير قوله : اتينا من خلفنا فانكفأنا وانكفأ القوم علينا بعد أن أصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنو منه أحد من القوم ٣ : ٨٢ ، ولا يذكر من أصاب أصحاب الألوية؟!

وقال ابن إسحاق : وانكشف المسلمون فأصاب فيهم العدوّ حتى خلص إلى رسول الله حتى ارتثّ بالحجارة ووقع لجانبه فاصيبت رباعيّته وشجّ وجهه ، وجرحت شفته.

ثمّ روى ابن هشام : عن أبي سعيد الخدري : أنّ الذي جرح شفته السفلى وكسر رباعيته السفلى اليمنى هو عتبة بن أبي وقّاص الزهري أخو سعد ، والذي شجّه في جبهته عبد الله بن شهاب الزهري ، والذي جرح وجنته هو ابن قمئة حتى دخلت حلقتا المغفر في وجنته.

ووقع رسول الله في حفرة من الحفر التي عملها أبو عامر (الراهب الفاسق) ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون ، فأخذ علي بن أبي طالب بيد رسول الله ورفعه طلحة بن عبيد الله التيمي حتى استوى قائما ٣ : ٨٥.

بينما روى ابن إسحاق بسنده عن سعد بن معاذ : أنّ رسول الله لمّا غشيه القوم نادى : من يشر لنا نفسه؟ فقام إليه زياد بن السكن ـ أو عمارة بن يزيد بن السكن ـ ومعه خمسة نفر من الأنصار فقاتلوا رجلا رجلا دون رسول الله حتى قتلوا دونه ، ثم فاءت إليه فئة من المسلمين فدفعوهم عنه.

ثمّ روى عن سعيد بن زيد الأنصاري : عن أم سعد بنت سعد بن الربيع عن أمّ عمارة نسيبة بنت كعب المازنية : أنها لما انهزم المسلمون انحازت إلى رسول الله ، وباشرت القتال


__________________

ـ وذبت عنه بالسيف ورمت عنه بالقوس ، وأقبل ابن قمئة ينادي : دلّوني على محمد! فلا نجوت إن نجا ، فاعترضت له هي ومصعب بن عمير واناس ممن ثبت مع رسول الله ، فضربها على عاتقها ضربة غائرة.

قال : ورمى دونه سعد بن أبي وقاص ، وترس دونه بنفسه أبو دجانة فكان يقع النبل في ظهره وهو منحن على رسول الله حتى كثر فيه النبل.

ثم روى عن القاسم بن عبد الرحمن من بني النجار قال : كان عمر بن الخطاب وطلحة ابن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار قد ألقوا بأيديهم (مستسلمين للأمر الواقع) فانتهى إليهم أنس بن النضر ، ـ عم أنس بن مالك ـ فقال لهم : ما يجلسكم؟ قالوا : قتل رسول الله! قال : فما ذا تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله! ثمّ استقبل القوم فقاتل حتى قتل ووجد به يومئذ سبعون ضربة حتى ما عرفته إلّا اخته ببنانه.

ثم روى عن ابن شهاب الزهري وعن كعب بن مالك : أنّه أوّل من عرف رسول الله بعد الهزيمة ، قال : عرفت عينيه تزهران من تحت المغفر ، فناديت بأعلى صوتي : يا معشر المسلمين ، أبشروا ، هذا رسول الله! فأشار إليّ رسول الله : أن أنصت!

قال : فلما عرف المسلمون رسول الله نهضوا به ونهض معهم نحو الشعب ، معه أبو بكر وعمر وعلي بن أبي طالب ، وطلحة بن عبيد الله ، والزبير بن العوام ، والحارث بن الصمّة ، ورهط من المسلمين ٣ : ٨٧ و ٨٨.

نعم ، هذا ما يذكره ابن اسحاق عن موقف علي عليه‌السلام وساير الصحابة ، ولا يذكر نداء المنادي ، فاستدركه ابن هشام عن ابن أبي نجيح قال : نادى مناد يوم احد : لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا عليّ ٣ : ١٠٦.

ولم يروه الواقدي أيضا. فاستدركه عليه ابن أبي الحديد المعتزلي الشافعي بروايته عن


__________________

ـ أمالي محمد بن حبيب ، وأبي عمرو غلام ثعلب اللغويّ الزاهد : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما فرّ معظم أصحابه عنه يوم احد كثرت عليه كتائب المشركين وقصدته كتيبة من بني كنافة فيها بنو سفيان بن عويف وهم : خالد بن سفيان ، وأبو الشعثاء بن سفيان ، وأبو الحمراء بن سفيان ، وغراب بن سفيان.

فقال رسول الله : يا عليّ ، اكفني هذه الكتيبة ، وهي تقارب خمسين فارسا ، فحمل عليها وهو راجل فما زال يضربها بالسيف فتفترق عنه ثم تتجمع عليه مرارا حتى قتل بني سفيان الأربعة وتمام العشرة ممن لا يعرف ، فقال جبرئيل عليه‌السلام لرسول الله : يا محمّد ، إنّ هذه المواساة ولقد عجبت الملائكة من مواساة هذا الفتى : فقال رسول الله : وما يمنعه وهو مني وأنا منه! فقال جبرئيل عليه‌السلام : وأنا منكما. وسمع ذلك اليوم صوت من قبل السماء لا يرى شخص الصارخ به ينادي مرارا : لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا علي. فسئل رسول الله عنه فقال : هذا جبرئيل. ثم قال : وقد روى هذا الخبر جماعة من المحدثين ، ووقفت عليه في بعض نسخ مغازي محمد بن اسحاق ورأيت بعضها خاليا عنه!

وسألت شيخي عبد الوهاب بن سكينة ؛ عن هذا الخبر فقال : خبر صحيح. فقلت : فما بال الصحاح لم تشتمل عليه؟ قال : أو كلما كان صحيحا اشتملت عليه كتب الصحاح؟! كم قد أهمل جامعو الصحاح من الأخبار الصحيحة! ١٤ : ٢٥٠ و ٢٥١. ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ١٢٨ و ١٢٩.

والواقدي لم ينقل هذا لعلي عليه‌السلام ، ولكنه نقل لسعد بن أبي وقاص ما يضاهيه عن ابنته عائشة عنه قال : لقد رأيتني ارمي بالسهم يومئذ فيردّه علي رجل أبيض حسن الوجه لا أعرفه ، فبعد ذلك ظننت انه ملك ١ : ٢٣٤ فهلّا سأل عنه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

وكأنّ حفيده ابراهيم بن سعد رأى أن عمته عائشة ادّعت عن أبيها سعد تأييد الملك له دون رسول الله ، فجبر ذلك بآخر رواه عنه أيضا قال : لقد رأيت رجلين عليهما ثياب بيض


__________________

ـ أحدهما عن يمين رسول الله والآخر عن يساره ، يقاتلان أشدّ القتال ، ما رأيتهما قبل ولا بعد ١ : ٢٣٤.

بينما روى الواقدي أيضا بسنده عن عبيد بن عمير قال : لم تقاتل الملائكة يوم احد ، ولما رجعت قريش من احد جعلوا يقولون : لم نر الخيل البلق ولا الرجال الذين كنا نراهم في بدر.

وبالغ عكرمة (عن ابن عباس) وعمر بن الحكم اذ قال : لم يمد رسول الله يوم احد بملك واحد.

وذكر روايتين عن مجاهد (عن ابن عباس) قال في احداهما : لم تقاتل الملائكة إلّا يوم بدر ، واعتنت الاخرى بدقة اكثر فقالت : حضرت الملائكة يومئذ ولم تقاتل.

وفصّلت رواية عن أبي هريرة قال : كان الله وعدهم لو صبروا أن يمدّهم ، فلما انكشفوا لم تقاتل الملائكة يومئذ ١ : ٢٣٥ ـ فلا منافاة أن تكون الملائكة قد أمدت عليا عليه‌السلام الصابر المجاهد ببعض ما يساعده من القول ، والفعل عمليا بالأخذ بالساعد.

ثم روى بسنده عن عبد الله بن معاذ قال : انكشف المسلمون ذلك اليوم فما لهم لواء قائم ولا فئة ولا جمع ، وإن كتائب المشركين لتحوسهم مقبلة ومدبرة في الوادي يلتقون ويفترقون ما يرون أحدا من الناس يردهم. فاتبعت رسول الله فانظر إليه وهو يقصد أصحابه وما معه إلّا نفير من المهاجرين والأنصار وانطلقوا به إلى الجبل ١ : ٢٣٨.

ثم روى بسنده عن المقداد بن عمرو قال : هزم المشركون الهزيمة الاولى ثم كرّوا على المسلمين فأتوا من خلفهم فتفرّق الناس. واقتتلوا باختلاط الصفوف ، ونادى المشركون بشعارهم : يا للعزى يا لهبل ، فأوجعوا والله فينا قتلا ذريعا ، ونالوا من رسول الله ما نالوا.

ولا والذي بعثه بالحق ما رأيت رسول الله زال شبرا واحدا ، انه لفي وجه العدو وتثوب إليه طائفة من أصحابه مرة وتتفرق عنه مرة ، فربما رأيته قائما يرمي عن قوسه أو يرمي بالحجر


__________________

ـ حتى تحاجزوا.

وبايعه يومئذ ثمانية على الموت : ثلاثة من المهاجرين وخمسة من الأنصار : علي والزبير وطلحة. وأبو دجانة والحارث بن الصمة ، والحباب بن المنذر ، وعاصم بن ثابت ، وسهل بن حنيف. فلم يقتل منهم أحد.

وقالوا : ثبت رسول الله في أربعة عشر رجلا ، وسمّوهم ، فأضافوا إلى هؤلاء ستة.

وقالوا : ثبت بين يديه ثلاثون رجلا ، ولم يسمّوهم ١ : ٢٤٠.

وقالوا : كان مالك بن زهير الجشمي وحبان بن العرقة متسترين بصخرة يرميان المسلمين قد أضعفوا المسلمين بالرمي ١ : ٢٤٢ ورمى مالك بسهم يريد رسول الله فاتقاه طلحة فأصاب خنصره فشل اصبعه ١ : ٢٥٤ ، فبينا هم على ذلك إذ أبصر سعد ابن أبي وقاص مالك بن زهير وقد أطلع رأسه من وراء الصخرة يرمي ، فرماه سعد فأصاب عينه حتى خرج من قفاه فنزا ثم سقط فمات ١ : ٢٤٢.

وكانت أم ايمن جاءت تسقي الجرحى فرماها حبّان بن العرقة بسهم فأصاب ذيلها فقلبها وانكشف عنها ، فاستغرق حبّان ضحكا ، فشق ذلك على رسول الله ، فدفع الى سعد بن أبي وقاص سهما لا نصل له وقال : إرم ، فرماه ، فوقع السهم في ثغرة نحر حبّان فوقع وبدت عورته ، فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه ١ : ٢٤١.

ولكن في ١ : ٢٧٧ يقول : ولما صاح ابليس : إن محمدا قد قتل. تفرّق الناس فمنهم من ورد المدينة ... وكان ممن ولّى فلان وفلان. ولقيتهم أم أيمن تحثي في وجوههم التراب وتقول : هاك المغزل فاغزل به وهلم سيفك ثم توجهت هي ونسوة معها إلى احد. وعليه فلا يستقيم قوله السابق : كانت تسقي الجرحى. وبينهما تهافت ظاهر ، والظاهر أنّ الثاني هو الراجح الصحيح وفيه ما يكذّب الأول. ويبدو لي أن في أخبار مغازي الواقدي تأكيدا خاصا على دور سعد بن أبي وقاص الزهري ، ولعلها من أخبار الزهري أو بعض بني زهرة.


جريبان درعه ، فاعتنق فرسه ، فانتهى إلى عسكره وهو يخور خوار الثور! فقال له أبو سفيان : ويلك ما أجزعك ، إنما هو خدش ليس بشيء! فقال ابيّ : ويلك يا ابن حرب ، أتدري من طعنني؟ إنما طعنني محمد ، وهو قال لي بمكة : إني سأقتلك ، فعلمت أنه قاتلي! والله لو أن ما بي بجميع أهل الحجاز لقضى عليهم ، ثم مات.

ونقل الطبرسي عن كتاب أبان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي عن الصباح

__________________

ـ قال : وكان أبو طلحة يوم احد قد نثر كنانته بين يدي النبيّ وكان راميا صيّتا ، وكان في كنانته خمسون سهما ، فلم يزل يرمي بها سهما سهما ، فكان النبيّ قد يأخذ العود من الأرض فيقول : إرم يا أبا طلحة فيرمي بها سهما جيدا ١ : ٢٤٣.

ورمي يومئذ أبو رهم الغفاري بسهم فوقع في نحره فجاء إلى رسول الله ، فبصق عليه فبرأ فكان أبو رهم يسمى المنحور ١ : ٢٤٣.

واصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته ، فأخذها رسول الله فردّها فأبصرت وعادت كما كانت ١ : ٢٤٢.

وباشر رسول الله الرمي بالنبل حتى انقطع وتره وبقيت في سية القوس قطعة منه تكون شبرا ، فأخذ القوس عكاشة بن محصن يوتره له فقال : يا رسول الله لا يبلغ الوتر ، فقال : مدّه يبلغ. فمدّه حتى بلغ وطوى منه ليّتين أو ثلاثا على سية القوس ، ثم أخذ رسول الله قوسه فما زال يرمي القوم ، وأبو طلحة يترّس عنه ، حتى فنيت نبله وتكسرت سية قوسه ، وحتى صارت شظايا ، فأخذها قتادة بن النعمان فكانت عنده ١ : ٢٤٢.

وروى الواقدي ١ : ٢٣٦ خبر الزهري عن كعب بن مالك ، ثمّ روى بسنده عن محمّد بن مسلمة قال : أبصرت عيناي رسول الله وقد انكشف الناس إلى الجبل وهم لا يلوون عليه وهو يقول : إليّ يا فلان! إليّ يا فلان! أنا رسول الله! فما عرّج عليه واحد منهما ومضيا! ١ : ٢٣٧.

ثمّ روى بسنده عن خالد بن الوليد قال : حين انهزموا يوم احد رأيت عمر بن الخطّاب وهو متوجّه إلى الشعب وما معه أحد. فعرفته ونكبت عنه لئلّا يصمدوا له! ١ : ٢٣٧.


ابن سيابة عن الصادق عليه‌السلام قال : ورمى رسول الله ابن قميئة بقذافة فأصاب كفّه حتى ندر السيف من يده ، فقال : أذلّك الله وأقمأك. ورماه عبد الله بن شهاب بقلاعة فأصاب مرفقه. وضربه عتبة بن أبي وقاص حتى أدمى فاه (١). قال :

__________________

(١) وقال الواقدي : ورمى عتبة بن أبي وقاص رسول الله بأربعة أحجار ؛ فكسر رباعيته اليمنى السفلى.

وكان أبو عامر الراهب الفاسق قد حفر حفرا للمسلمين كالخنادق ، وكان رسول الله واقفا لدى بعضها وهو لا يشعر به ، وأقبل ابن قميئة (الفهري) وهو يقول : دلّوني على محمد! فو الذي يحلف به لئن رأيته لأقتلنّه! وعرفه فقصده وعلاه بالسيف ، ورماه عتبة بن أبي وقاص في الحال التي جلّله ابن قميئة فيها بالسيف ، وكان ـ عليه الصلاة والسّلام ـ فارسا وعليه درعان ، فوقع في الحفرة التي أمامه فجرحت ركبتاه.

فروى بسنده عن أبي بشير المازني قال : رأيت ابن قميئة علا رسول الله بالسيف فرأيته وقع على ركبتيه في حفرة أمامه حتى توارى ، فجعلت أصيح ، حتى رأيت الناس ثابوا إليه ، وانتهض رسول الله وعلي آخذ بيديه وطلحة يحمله من ورائه حتى استوى قائما ١ : ٢٤٤.

ثم روى بسنده عن كعب بن مالك : أن ابن ابيّ بن كعب كان قد اسر في بدر وافتداه أبوه ، فأقبل يوم احد يحمل على رسول الله ، فقتله النبي بطعنة بالحربة ١ : ٢٥٠ و ٢٥١.

ثم قال : وكان عثمان بن عبد الله المخزومي مأسورا في سرية بطن نخلة ، وافتدي ورجع إلى مكّة ، وأقبل يوم احد على فرس له أبلق يريد رسول الله وهو متوجه إلى الشعب ، ويصيح : لا نجوت ان نجوت! فوقف له رسول الله ، وعثر الفرس بعثمان في بعض تلك الحفر التي كان أبو عامر (الراهب الفاسق) قد حفرها ، فوقع الفرس لوجهه وخرج فعقره أصحاب رسول الله ، ومشى الحارث بن الصمّة إلى عثمان فتضاربا بالسيف ، حتى ضرب الحارث رجله فبرك ، فأجهز عليه. فقال النبيّ : الحمد لله الذي أحانه (أي أهلكه).

ورأى مصرعه عبيد بن حاجز العامري ، فأقبل يعدو حتى ضرب الحارث بن الصمّة على عاتقه فجرحه ، وأقبل أبو دجانة على عبيد فتناوشا ثمّ حمل عليه أبو دجانة فاحتضنه ثم


__________________

ـ جلد به الأرض ثم ذبحه بسيفه ثم انصرف إلى رسول الله ١ : ٢٥٢ و ٢٥٣.

وأقبل رجل من بني عامر بن لؤي يجرّ رمحا له على فرس كميت أغر مدجّجا بالحديد يصيح : أنا أبو ذات الودع ، دلوني على محمد! فضرب طلحة بن عبيد الله عرقوب فرسه فانكسع الفرس ثم تناول برمحه عينه فوقع يخور بدمه كما يخور الثور. وضرب ضرار بن الخطاب الفهري طلحة بن عبيد الله على رأسه ضربتين إقبالا وإدبارا ، ونزف منهما الدم حتى غشي عليه. فروى عن أبي بكر قال : جئت إلى النبيّ يوم احد فقال لي : عليك بابن عمّك! فأتيت طلحة وقد نزف منه الدم حتى غشي عليه فجعلت أنضح على وجهه الماء حتى أفاق ١ : ٢٥٥.

إذن فلم يكن أبو بكر حاضرا لدى رسول الله وإلّا لما كان يغفل عن حال ابن عمّه طلحة ، وإنّما هو ابن عمّه لأنّهما تيميّان ، وليس ابن عمّه اللح.

ثمّ نقل عن عليّ عليه‌السلام قال : كنت يومئذ أذبهم في ناحية ، وأبو دجانة في ناحية يذبّ طائفة منهم ، وسعد بن أبي وقّاص يذب طائفة منهم ، وانفردت منهم في فرقة خشناء فيها عكرمة ابن أبي جهل فدخلت وسطها بالسيف فضربت به واشتملوا عليّ حتى أفضيت إلى آخرهم ، ثم كررت فيهم الثانية حتى رجعت من حيث جئت ، واستأخر الأجل ، ويقضي الله أمرا كان مفعولا وحتى فرج الله ذلك كله ١ : ٢٥٦.

قالوا : وكانت أمّ عمارة نسيبة بنت كعب الخزرجية امرأة غزية بن عمرو ، شهدت احدا هي وزوجها وابناها ، وخرجت من أول النهار معها قربة تسقي منه الجرحى ، فقاتلت يومئذ وأبلت بلاء حسنا ، فجرحت اثني عشر جرحا بين طعنة برمح أو ضربة بسيف.

قالت : وأقبل ابن قميئة وقد ولّى الناس عن رسول الله يصيح : دلّوني على محمّد فلا نجوت إن نجا فاعترض له مصعب بن عمير واناس معه فكنت فيهم ، فضربني هذه الضربة ، وأشارت لام سعد بنت سعد بن الربيع فرأت على عاتق نسيبة جرحا أجوف له غور ، وسمع


__________________

ـ الرسول يقول : لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان! وهو يراها تقاتل يومئذ أشدّ القتال ، وهي حاجزة ثوبها على وسطها حتى جرحت ثلاثة عشر جرحا ١ : ٢٧٠. وعنه في شرح النهج للمعتزلي ١٤ : ٢٦٦ وقال : من أمانة المحدّث أن يذكر الحديث على وجهه ولا يكتم منه شيئا ، فما باله كتم اسم هذين الرجلين؟ ليت الراوي لم يكنّ هذه الكناية وكان يذكرهما باسمهما حتى لا تترامى الظنون إلى امور مشتبهة!! ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ١٣٣ ثم علق عليه تعليقا دقيقا فراجعه.

ثم روى عنها قالت : انكشف الناس عن رسول الله فما بقي إلّا نفير ما يتمّون عشرة! وأنا وابناي (عمارة وعبد الله) وزوجي (غزية بن عمرو) بين يديه نذبّ عنه ، والناس يمرون به منهزمين ، وأنا لا ترس معي ، ورأى رجلا مولّيا معه ترس فقال له : يا صاحب الترس ، ألق ترسك إلى من يقاتل! فألقى ترسه ، فأخذته فجعلت أترّس عن رسول الله به ، فأقبل رجل على فرس فضربني فترّست له فلم يصنع سيفه شيئا وولّى ، وضربت عرقوب فرسه فوقع على ظهره ، وصاح النبيّ ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ لابني : يا ابن أم عماره ، امّك امّك! فعاونني عليه حتى أوردته الموت ١ : ٢٧٠.

ثم روى بسنده عن ابنها عبد الله بن زيد أن رجلا طويلا ضربه على عضده اليسرى ومضى عنه ، فجرح ولم يرقأ الدم وناداه الرسول : اعصب جرحك ، فاقبلت إليه أمه ومعها عصائب في حقويها قد اعدّتها للجراح ، فربطت جرحه ثم قالت له : انهض يا بني فضارب القوم ، والنبي واقف ينظر ، فقال لها : ومن يطيق ما تطيقين يا أمّ عمارة!

وعاد الرجل الضارب فقال لها رسول الله : هذا ضارب ابنك! فاعترضت له فضربت ساقه فبرك ، فتبسّم رسول الله حتى بدت نواجذه! وعلوه بالسلاح حتى مات فقال لها النبيّ : الحمد لله الذي ظفّرك وأقرّ عينك من عدوّك وأراك ثأرك بعينك ١ : ١٧١.

ثم روى بسنده عنه أيضا قال : لما تفرق الناس عن النبيّ بقيت امّي تذبّ عنه ودنوت


__________________

ـ منه لذلك ورميت بين يديه رجلا من المشركين بحجر وهو على فرس فأصبت عين الفرس ، فاضطرب الفرس حتى وقع هو وصاحبه ، والنبيّ ينظر ويتبسّم ، ونظر إلى جرح بعاتق امّي فقال لي : اعصب جرحها ، بارك الله عليكم من أهل بيت ، مقام امّك خير من مقام فلان وفلان ومقامك لخير من مقام فلان وفلان ، رحمكم الله أهل البيت ، فقالت له أمي : ادع الله أن نرافقك في الجنة فقال : اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة ، فقالت : ما ابالي ما أصابني من الدنيا ١ : ٢٧٢ و ٢٧٣.

وروى عن عمر بن الخطاب قال : سمعت رسول الله يوم احد يقول : ما التفتّ يمينا ولا شمالا إلّا وأرى نسيبة تقاتل دوني ١ : ٢٧١.

إذن فلم يكن عمر حاضرا إذ ذاك ، وإلّا لكان بامكانه أن يشهد لها بذلك شهادة مباشرة ، ولم يكن بحاجة إلى أن يروي ذلك عن النبيّ رواية وحكاية.

ثمّ روى أن وهب بن قابوس المزني لمّا جاءت الخيل من خلف المسلمين بقيادة خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل ، واختلطوا ، قاتل المزني اشد القتال .. فما زال كذلك وهم محدقون به حتى اشتملت عليه أسيافهم ورماحهم فقتلوه ومثل به أقبح المثلة .. فكان عمر ابن الخطّاب يقول : إنّ أحب ميتة أموت عليها لما مات عليها المزني ١ : ٢٧٥ هذا ولم يرو عنه طعنة برمح ولا ضربة بسيف ولا رمي بسهم ولا رشق بنبل ولا رضخ بحجر فكيف كان يتمنّى ذلك؟

ثم قال : وكان ممّن ولّى عمر وعثمان (في النسخة المطبوعة : فلان ، وفي أنساب الأشراف ١ : ٣٢٦ ، عن الواقدي : عثمان ، وفي شرح النهج لابن أبي الحديد ١٥ : ٢٤ ، عن الواقدي : عمر وعثمان) ثمّ عدّ سبعة سواهما.

ثم قال : ويقال : كان بين عبد الرحمن (بن عوف) وعثمان كلام ، فأرسل عبد الرحمن إلى الوليد بن عقبة فدعاه فقال له : اذهب إلى أخيك فبلّغه عنّي ما أقول لك ، قل : يقول لك


قلت : كسرت رباعيته كما يقول هؤلاء؟ قال : لا والله ولكنّه شجّ في وجهه .. وقيل له : ألا تدعو عليهم؟! قال : اللهم اهد قومي فإنّهم لا يعلمون. قلت : فالغار في احد الذي يزعمون أنّ رسول الله صار إليه؟ قال : والله ما برح مكانه.

وروى الصدوق في «معاني الأخبار» بسنده عن زرارة قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : يروى لنا أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كسرت رباعيته؟ فقال : لا ، ولكنّه شجّ في وجهه (١).

__________________

عبدالرحمن : شهدت بدرا ولم تشهد ، وثبتّ يوم احد وولّيت عنه ١ : ٢٧٨.

ونظر عمر إلى عثمان فقال : هذا ممّن عفا الله عنه .. كان تولّى يوم التقى الجمعان ١ : ٢٧٩.

وحضر عبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلي الشافعي البغدادي (ت ٦٥٦) عند السيّد محمّد بن معدّ العلوي الموسوي الفقيه على رأس الشيعة الإماميّة في داره بدرب الدواب ببغداد سنة ٦٠٨ وقارىء يقرأ عنه (مغازي الواقدي) فقرأ روايته بسنده عن محمّد بن مسلمة : أنّه رأى رسول الله يوم احد وقد انكشف الناس عنه إلى الجبل وهو يدعوهم وهم لا يلوون عليه وهو يقول : إليّ يا (فلان) ، إليّ يا (فلان) أنا رسول الله فما عرّج عليه واحد منهما ومضيا. فأشار ابن معد إلى ابن أبي الحديد : أن اسمع : قال : فقلت : وما في هذا؟

قال : هذه كناية عنهما! فقلت : ويجوز أن لا يكون عنهما ، لعلّه عن غيرهما. فقال : ليس في الصحابة من يحتشم ويستحيا من ذكره بالفرار وما شابهه من العيب فيضطر القائل إلى الكناية إلّا هما! قلت له : هذا وهم ممنوع! فقال : دعنا من جدلك ومنعك! ثم بان في وجهه التنكّر من مخالفتي له وحلف أنه ما عنى الواقدي غيرهما ، وأنّه لو كان غيرهما لذكره صريحا ، شرح نهج البلاغة ١٥ : ٢٣ و ٢٤.

(١) معاني الأخبار : ١١٥ ، كما في بحار الأنوار ٢٠ : ٧٤٠.


صرخة إبليس؟!

أمّا عن سبب الهزيمة ، ففي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : إنّ الله لمّا أخبر المؤمنين بالذي فعل بشهدائهم يوم بدر ومنازلهم في الجنة ، رغبوا في ذلك فقالوا : اللهم أرنا القتال نستشهد فيه! فأراهم الله إيّاه في يوم احد ، فلم يبق إلّا من شاء الله منهم وذلك قوله : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ ...)(١) ، وكسبب لهذا الانقلاب على الأعقاب قال : جرح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم احد وعهد العاهد به على تلك الحال ، فجعل الرجل يقول لمن لقيه : النجاء ، فإنّ رسول الله قد قتل! (٢).

أمّا عن صرخة إبليس : فإنّ القمّي بعد ذكره أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله بجمع القتلى وصلاته عليهم ودفنهم قال : وصاح إبليس بالمدينة : قتل محمّد! فلم يبق أحد من نساء المهاجرين والأنصار إلّا خرجن ، وخرجت فاطمة بنت رسول الله ، تعدو على قدميها حتى وافت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣).

وأرشدنا المفيد في «إرشاده» إلى روايته بسنده عن عبد الله بن مسعود قال : ثبت أمير المؤمنين وأبو دجانة وسهل بن حنيف .. وأبو دجانة وسهل بن حنيف قائمان على رأس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالسيف يذبّان عنه .. وكثر عليهم المشركون .. فحمل عليهم أمير المؤمنين فكشفهم ثمّ عاد إليه وقد حملوا عليه من ناحية اخرى فكرّ عليهم فكشفهم .. وثاب إليه من أصحابه المنهزمين أربعة عشر رجلا منهم طلحة بن عبيد الله وعاصم بن ثابت .. وصعد الباقون في الجبل ...

__________________

(١) آل عمران : ١٤٣.

(٢) تفسير القمّي ١ : ١١٩.

(٣) تفسير القمّي ١ : ١٢٣ و ١٢٤.


وصاح صائح بالمدينة : قتل رسول الله ، فانخلعت لذلك القلوب وتحيّر المنهزمون فأخذوا يمينا وشمالا (١).

وعليه فالصحابة كانوا منهزمين من كرّة عكرمة بن أبي جهل وخالد بن الوليد المخزوميين ، وانما سببت صيحة الصائح ان تحيّر اولئك المنهزمون من قبل فأخذوا يمينا وشمالا. وقال الطبرسي : وصاح ابليس ـ لعنه الله ـ : قتل محمد ، ورسول الله في اخراهم ... وذهبت صيحة إبليس حتى دخلت بيوت المدينة ، فصاحت فاطمة ، وخرجت تصرخ ولم تبق هاشميّة ولا قرشيّة إلّا وضعت يدها على رأسها وخرجت (٢) فهو جمع بين أمرين : بين صيحة في احد وسماعها في المدينة ، ولكنّها كانت والرسول في اخراهم فهم منهزمون من قبل.

وقال في تفسيره «مجمع البيان» : ورمى عبد الله بن قميئة الحارثي رسول الله بحجر فكسر أنفه ورباعيّته وشجّه في وجهه وأقبل يريد قتله ، فذبّ مصعب بن عمير عن رسول الله حتى قتله ابن قميئة ، فرجع وهو يرى أنّه قتل رسول الله وقال : إنّي قتلت محمّدا!

وصاح صائح : ألا إنّ محمّدا قد قتل!

ويقال : إنّ ذلك الصائح كان إبليس لعنه الله فانكشف الناس!

وفشا في الناس : أنّ رسول الله قد قتل ، فقال بعض المسلمين : ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن ابيّ فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان!

__________________

(١) الإرشاد ١ : ٨٢.

(٢) إعلام الورى ١ : ١٧٧ ، واختصر الخبر ابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب ١ : ١٩٢ قال : وصاح إبليس من جبل احد : ألا إنّ محمّدا قد قتل ، فصاحت فاطمة ووضعت يدها على رأسها وخرجت تصرخ وكلّ هاشميّة وقرشيّة.


وبعضهم جلسوا وألقوا بأيديهم (أي استسلموا للحادث).

وقال اناس من أهل النفاق : إن كان محمّد قد قتل فالحقوا بدينكم الأوّل!

فقال أنس بن النضر ـ عمّ أنس بن مالك ـ : يا قوم إن كان قد قتل محمّد فربّ محمّد لم يقتل ، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله؟! فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله ، وموتوا على ما مات عليه! ثمّ قال : اللهم إنّي أعتذر إليك ممّا يقول هؤلاء ، وأبرأ إليك ممّا جاء به هؤلاء! ثمّ شدّ بسيفه فقاتل حتى قتل.

ثمّ إنّ رسول الله انطلق إلى صخرة (الجبل) وهو يدعو الناس (يقول : إليّ عباد الله).

فأوّل من عرف رسول الله كعب بن مالك قال : عرفت عينيه تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي : يا معشر المسلمين أبشروا فهذا رسول الله! فأشار إليّ : أن اسكت!

فانحازت إليه طائفة من أصحابه (اجتمع إليه ثلاثون رجلا) فلامهم النبيّ على الفرار فقالوا : يا رسول الله فديناك بآبائنا وامهاتنا ، أتانا الخبر بأنّك قتلت فرعبت قلوبنا فولّينا مدبرين (١).

فالطبرسي هنا بدأ بصرخة ابن قميئة ثمّ رجل آخر من المشركين بناء على نداء ابن قميئة ، وفي آخر الخبر قال : أتانا الخبر بأنّك قتلت ، ولم يذكر صرخة إبليس إلّا قولا قيل كجملة معترضة بين الخبر ، وهو وان جعل من أثر الصرخة : انكشف الناس ، لكنّه قدم قبله الخبر عن الهزيمة قبل الصرخة.

وابتدأ الطبرسي الخبر بالاسناد إلى الزبير ، ونجد بعض الخبر من دون الجملة المعترضة عند ابن اسحاق بسنده عن الزبير أيضا قال : لقد رأيت خدم هند

__________________

(١) مجمع البيان ٢ : ٨٤٩.


بنت عتبة وصواحبها ، مشمّرات هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير ، اذ مالت الرماة الى العسكر وخلّوا ظهورنا للخيل فاتينا من خلفنا ، وصرخ صارخ : ألا إنّ محمدا قد قتل! فانكفأنا وانكفأ القوم علينا ، بعد أن أصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنو منه أحد من القوم.

ثمّ قال ابن هشام : الصارخ هو الشيطان (أزبّ العقبة) (١).

فابن اسحاق من دون أن يصرّح بأن الصارخ هو الشيطان جمع بين اتيان القوم من خلف المسلمين وصرخة الصارخ فجعلهما السبب معا في تراجع المسلمين ثم تراجع المشركين عليهم.

ولم يذكر ابن اسحاق الشيطان (وانما ابن هشام) بل صرّح بأنّ القائل هو ابن قمئة : لقول ابن قمئة لهم : إنّي قد قتلت محمّدا (٢). وروى عن القاسم بن عبد الرحمن من بني النجّار : أنّ رجالا من المهاجرين والأنصار منهم عمر بن الخطّاب وطلحة بن عبيد الله اعتذروا عن جلوسهم واستسلامهم للأمر الواقع لمّا قال لهم أنس بن النضر : ما يجلسكم؟ قالوا : قتل رسول الله. وهو قال : فما ذا تصنعون بالحياة بعده؟! قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله (٣) ، ممّا يفيد أنّهم اتّخذوا الصرخة ذريعة للقعود عن القتال.

ولكنّ الواقدي قد كرّر الخبر عن صرخة إبليس في أربعة مواضع بدأها بالرواية عن رافع بن خديج قال : لمّا انصرف الرماة وبقي من بقي ، نظر خالد بن الوليد إلى خلأ الجبل وقلّة أهله ، فكرّ عليهم بالخيل وتبعه عكرمة في الخيل ، فانطلقا إلى بعض الرماة فحملوا عليهم ، فراموا القوم حتى اصيبوا ، ورامى عبد الله

__________________

(١) ابن هشام ٣ : ٨٢ ، وفي أزبّ العقبة قال ابن الأثير في النهاية ١ : ٢٨ : من أسماء الشياطين.

(٢) ابن هشام ٣ : ٩٩.

(٣) ابن هشام ٣ : ٨٨.


ابن جبير حتى فنيت نبله ، ثم طاعن بالرمح حتى انكسر ، ثمّ كسر جفن سيفه فقاتلهم حتى قتل رضى الله عنه. وكان جعال بن سراقة وأبو بردة بن نيار آخر من انصرف من الجبل بعد أن قتل عبد الله بن جبير ، حتى لحقا بالقوم ، فإنّه ليقاتل مع المسلمين أشدّ القتال إلى جنب أبي بردة بن نيار وخوّات بن جبير (أخي عبد الله ابن جبير) إذ ابتلي يومئذ جعال بن سراقة ببلية عظيمة : إذ تصوّر إبليس بصورته ونادى ثلاث مرّات : إنّ محمّدا قد قتل! هذا وجعال يقاتل مع المسلمين أشدّ القتال! فو الله ما رأينا أسرع من انتقال الدولة للمشركين علينا ، فأقبل المسلمون على جعال بن سراقة يقولون : هذا الذي صاح : إنّ محمّدا قد قتل! وهم يريدون قتله لذلك! حتى شهد له أبو بردة بن نيار وخوّات بن جبير بأنّه حين صاح الصائح كان إلى جنبهما فالصائح غيره (١).

إذن فالمسلمون أقبلوا على جعال بن سراقة يقولون : هذا الذي صاح ، وحتى أنّهم أرادوا قتله لذلك! ولكن إذ شهد له أبو بردة وخوّات بن جبير أنّه ليس هو الذي صاح ، تركوه ، ولكنّهم حيث رأوا الصائح في صورة جعال ، ونفى جعال ذلك ، وشهد له الشاهدان ، وبنوا على قبول الشهادة بالنفي ، قالوا : إذن فالصائح المتصوّر بصورة جعال هو إبليس ، كما في هذا الخبر.

ثمّ روى الواقدي بسنده عن أبي بشير المازني قال : لمّا صاح الشيطان (أزبّ العقبة) : إنّ محمّدا قد قتل ـ لما أراد الله من ذلك؟! ـ سقط في أيدي المسلمين وتفرّقوا في كلّ وجه وأصعدوا في الجبل (٢).

وواضح على هذا الخبر عن المازني أنّه ينسب الصيحة إلى الشيطان (وليس إبليس) رأسا دون القول بتصوّره بصورة جعال ، وعليه يبني فيعلّل ذلك

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ٢٣٢.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٢٣٥.


بأنّ الله أراد امورا من وراء تلك الصيحة ؛ إذن فتفرّق المسلمين كان خارجا عن أيديهم : سقط في أيدي المسلمين! فكان جبرا لا اختيارا! وهذا صريح في الغاية من النسبة في الخبر.

ثمّ روى الواقدي بسنده عن الأعرج قال : لمّا صاح الشيطان (وليس إبليس) : إنّ محمّدا قد قتل. قال أبو سفيان بن حرب : يا معشر قريش أيّكم قتل محمّدا؟! قال ابن قميئة : أنا قتلته! قال : سنفعل بك كما تفعل الأعاجم بأبطالها : نسوّرك (١).

وفي هذا الخبر يعرّج الأعرج بمفاد الخبر إلى أنّ الصيحة لم تشرّد بالمسلمين فحسب ، بل إنّ أبا سفيان أذعن بمفادها وأخذ يسأل عن القاتل ، فادّعاها حينئذ ابن قميئة ، دون أن يكون هو الصائح الصارخ. ثمّ يتبيّن له كذب ابن قميئة.

ثمّ قال الواقدي : قالوا : ولمّا صاح إبليس (وليس الشيطان مطلقا) : إنّ محمّدا قد قتل .. تفرّقوا في كلّ وجه ، وجعل الناس يمرّون على النبيّ لا يلوي عليه أحد منهم ، ورسول الله يدعوهم في اخراهم ... ووجّه رسول الله إلى الشعب يريد أصحابه فيه (٢).

وهذا قول الواقدي نقلا لمعنى الخبر الأوّل عن رافع بن خديج ، نعم زاد إليه ذيله : وجّه رسول الله إلى الشعب. بعد ما قال : ورسول الله يدعوهم في اخراهم. وكأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله حينما دعاهم وهم لا يلوون عليه ولا أحد منهم! يئس منهم فتبعهم بدل أن يتبعونه! اللهم إلّا أن يكون الكلام اختزالا بدل الاختصار.

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ٢٣٦. ونسوّرك : أي نلبسك سوارا ـ الصحاح : ٦٩٠ أو نجعلك استوارا أي قائدا.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٢٩٣.


ثمّ نقل الواقدي عن عمر قال : كان عمر يقول : لمّا صاح الشيطان : قتل محمّد ، أقبلت أرقى في الجبل كأنّي ارويّة (١) فانتهيت إلى النبيّ وهو يقرأ : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ...)(٢).

وفي هذا عكس الأمر فكأنّ النبيّ كان قد سبق أصحابه إلى الجبل قبل الصيحة! فلمّا صاح الشيطان أقبلوا إليه فنزلت عليه الآيات من آل عمران ثمّ انتهوا إليه وهو يقرأ بها! اللهم لم يكن لهم أن ينكشفوا عن نبيّك من سفح الجبل حتى يعلونه بحجّة أنّ نبيّك قد سبقهم إليه فأقبلوا حتى انتهوا إليه ، ولهم الحجّة أيضا : أنّ الشيطان أو إبليس من الشياطين صاح أو صرخ بقتل رسولك ، وأنّك أردت من ذلك امورا ، كما قالوها (٣).

هذا ، وقبل أن ننتقل إلى عرض أخبار الصيحة أو الصرخة عرضنا لكثير من أخبار النكسة أو الهزيمة ولم تصرح بصرخة ولا صيحة إلّا قول ابن قميئة بأنّه قتل محمّدا ، مع أنّها لو كانت لكانت من أكبر أسباب الانكشاف عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهمّ عوامل القلاقل ، فكيف يخلو خبر من علل انكسار الكثرة وبقاء القلّة عن أكبر أسبابه وأهمّ علله؟!

ثمّ كيف يصيح الشيطان ويريد الرحمن من ذلك امورا كما قالوا (٤) ، ثمّ هو يذكر ذلك في آيات من كتابه تتلى آناء الليل وأطراف النهار إلى يوم الخلود ، يخلّد فيها ذلك يلومهم بها ويؤنّبهم ويقرعهم ويوبّخهم؟! عفوك اللهم أنت أعدل من ذلك وأفضل ، وهيهات! ما ذلك الظنّ بك ، ولا المعروف من فضلك ، ولا مشبه لما

__________________

(١) الاروية : الانثى من الوعل ، أي حمار الوحش ، ويشبّه بها في سرعة العدو والمشي.

(٢) آل عمران : ١٤٤.

(٣) انظر مغازي الواقدي ١ : ٢٣٥.

(٤) مغازي الواقدي ١ : ٢٣٥.


عاملت به عبادك من فضلك وكرمك ، وعطفك ولطفك ورأفتك ورحمتك.

ثمّ كيف يصيح الشيطان ويريد الرحمن من ذلك امورا ، ثمّ يعاتبهم على ذلك ويتلو الرسول آياته تلك عليهم وهم لا يحيرون جوابا يعتذرون به إليه ، بل هم يسمعون فينصتون وينكصون ويسكتون؟!

ثمّ كيف يصيح الشيطان ، ويصرّح المازني بأنّ الله أراد من ذلك امورا (١) ولا ينقل مثل ذلك أو شيء منه عن النبيّ وآله ولا أنّهم سألوهم عنه؟!

ويكفينا هذا العرض لردّ مثل هذه المزعمة التبريريّة ، وقالوا قديما : توجيه الغلط غلط آخر ، بل أكبر.

ولذلك لم يعتمد على ذلك المحقّقون في السيرة والمغازي :

قال ابن أبي الحديد : قرأت هذه الغزاة (احد) من كتاب الواقدي على النقيب أبي يزيد ؛ وقلت له : إنّي أستعظم ما جرى لهؤلاء في هذه الوقعة! فكيف جرى ذلك؟

قال : بعد قتل أصحاب الألوية حمل قلب المسلمين على قلب المشركين فكسره ، فلو ثبتت مجنّبتا رسول الله اللتان فيهما اسيد بن حضير والحباب بن المنذر بإزاء مجنّبتي المشركين لم ينكسر عسكر الإسلام ، ولكن مجنّبتا المسلمين أطبقت إطباقا واحدا على قلب المشركين مضافا إلى قلب المسلمين ، فصار عسكر رسول الله قلبا واحدا وكتيبة واحدة ... فلمّا رأت مجنّبتا قريش أن ليس بإزائها أحد استدارت المجنّبتان من وراء عسكر المسلمين ، وصمد كثير منهم للرماة الذين كانوا يحمون ظهر المسلمين فقتلوهم عن آخرهم لأنّهم لم يكونوا ممّن يقومون لخالد وعكرمة وهما في ألفي رجل وإنّما كانوا خمسين رجلا ، لا سيّما وقد شره كثير

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ٢٣٥.


منهم إلى الغنيمة فترك مركزه وأكبّ على النهب! والذي كسر المسلمين يومئذ ونال منهم كلّ منال خالد بن الوليد ، وكان فارسا شجاعا ومعه خيل كثيرة ورجال أبطال موتورون ، واستدار خلف الجبل فدخل من الثغرة التي كان الرماة عليها فأتى من وراء المسلمين ، وتراجع قلب المشركين بعد الهزيمة فصار المسلمون بينهم في مثل الحلقة المستديرة واختلط الناس ، فلم يعرف المسلمون بعضهم بعضا وضرب الرجل منهم أخاه وأباه بالسيف وهو لا يعرفه لشدّة النقع والغبار ، ولما اعتراهم من الدهشة والعجلة والخوف ، فكانت الدبرة عليهم بعد أن كانت لهم. ومثل هذا يجري دائما في الحرب (١) وليست الصرخة ولا الصيحة ، اللهم إلّا تبريرا وتوجيها للغلطة ، وتخفيفا لدور ابن الوليد! ولم يذكر الصرخة النقيب أبو يزيد ، ولا استدرك بها عليه ابن أبي الحديد.

وينتبه ابن أبي الحديد في كتابه بعد هذا إلى منافاة وتهافت في أخبار الصيحة ، فيقول : سألت المحدّث ابن النجّار عن هذا الموضع فقلت له : قصّة احد تدلّ على أنّ الدولة بادئ الحال كانت للمسلمين ، فلمّا صاح الشيطان : قتل محمّد انهزم أكثرهم ثمّ ثاب أكثرهم فحاربوا حربا كثيرة طالت مدّتها حتى صار آخر النهار ، ثمّ اصعدوا في الجبل ورسول الله معهم فتحاجزوا. إلّا أنّ بعض روايات الواقدي يقتضي غير ذلك ، نحو روايته : أنّه لمّا صاح الشيطان : إنّ محمّدا قد قتل ، كان رسول الله ينادي المسلمين فلا يعرّجون عليه فوجّه نحو الجبل فانتهى إليهم وهم أوزاع يتذاكرون القتلى ، فهذه الرواية تدلّ على أنّه اصعد في الجبل حيث صاح الشيطان ، وصياح الشيطان كان حال غشيان خالد بن الوليد المسلمين من وراء الجبل وهم مشتغلون بالنهب ، فكيف هذا؟

__________________

(١) شرح النهج ١٤ : ٢٤٤ و ٢٤٥.


فكان ابن النجّار لا يرى حلّا للمشكل إلّا أن يدعى : أنّ الشيطان صاح دفعتين : في أوّله وآخره لمّا تصرّم النهار ، وما اعتصم بالجبل في الصرخة الاولى ، بل ثبت ولم يفارق عرصة الحرب ، وإنّما فارقها في صرخته الثانية حيث علم أنّه لم يبق له وجه مقام (١).

وإذ لم يذكر حمزة في الثابتين علم أنّه قتل في الحملات قبل النكسة ، وقد يكون مقتله من عوامل التراجع عند المسلمين والتجرّؤ لدى المشركين ، فلننتقل إلى :

مقتل حمزة عليه‌السلام :

قال القمّي في تفسيره : كان حمزة بن عبد المطّلب يحمل على القوم فإذا رأوه انهزموا ولم يثبت له واحد منهم.

وكان وحشي عبدا حبشيّا لجبير بن مطعم.

وكانت هند بنت عتبة قد أعطت وحشيّا عهدا : لئن قتلت محمّدا أو عليّا أو حمزة لأعطينّك رضاك؟!

فقال وحشي : أمّا محمّد فلا أقدر عليه ، وأمّا عليّ فرأيته رجلا حذرا كثير الالتفات فلم أطمع فيه. فكمنت لحمزة فرأيته يهدّ الناس هدّا ، فمرّ بي فوطأ على جرف نهر فسقط ، فأخذت حربتي فهززتها ورميته بها فوقعت في خاصرته وخرجت مغمّسة بالدم (٢).

وروى المفيد في «الإرشاد» بسنده عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود قال : كانت هند بنت عتبة جعلت لوحشيّ جعلا على أن يقتل رسول الله

__________________

(١) شرح النهج ١٥ : ٢٨ و ٢٩ ، مختصرا ، ولا مسند لدعوى النجّار.

(٢) تفسير القمّي ١ : ١١٦.


أو أمير المؤمنين أو حمزة بن عبد المطّلب ـ سلام الله عليهم ـ. فقال : أمّا محمّد ، فلا حيلة لي فيه لأنّ أصحابه يطيفون به ، وأمّا عليّ فإنّه إذا قاتل كان أحذر من الذئب ، وأمّا حمزة فإنّي أطمع فيه ، لأنّه إذا غضب لم يبصر بين يديه. وكان حمزة يومئذ قد أعلم بريشة نعامة في صدره.

فكمن له وحشيّ في أصل شجرة ، فرآه حمزة فبدر إليه.

قال وحشيّ : وهززت حربتي حتى إذا تمكّنت منه رميته فأصبته في اربيته فأنفذته ، وتركته حتى إذا صرت إليه فأخذت حربتي ، وشغل عنّي وعنه المسلمون بهزيمتهم.

وجاءت هند فأمرت بشقّ بطن حمزة وقطع كبده والتمثيل به ، فجدعوا أنفه واذنيه ومثّلوا به ، ورسول الله مشغول عنه لا يعلم بما انتهى إليه أمره (١).

وقال الطبرسي في «إعلام الورى» : كان وحشيّ يقول : كنت عبدا لجبير ابن مطعم فقال لي : إنّ عليّا قتل عمّي (طعيمة) يوم بدر ، فإن قتلت محمّدا فأنت حرّ ، وإن قتلت عمّ محمّد فأنت حرّ ، وإن قتلت ابن عمّ محمّد فأنت حرّ.

قال : وكنت لا أخطئ في رمي الحراب تعلّمته من الحبشة عندهم. فخرجت مع قريش بحربة لي إلى احد اريد العتق لا اريد غيره ، ولا أطمع في محمّد ، ولكنّني قلت : لعلّي اصيب من عليّ أو حمزة فازرقه. وكان حمزة يحمل حملاته ثمّ يرجع إلى موقفه (٢).

__________________

(١) الإرشاد ١ : ٨٣.

(٢) رواه ابن إسحاق بسنده عن جعفر بن عمرو الضمري عن وحشي قال : كنت غلاما لجبير ابن مطعم ، وكان عمّه طعيمة بن عديّ قد اصيب يوم بدر ، فلمّا سارت قريش إلى احد قال لي جبير : إن قتلت حمزة عمّ محمّد بعمّي فأنت عتيق.

قال : وكنت رجلا حبشيّا أقذف بالحربة قذف الحبشة قلّما أخطئ بها شيئا ، فخرجت


__________________

ـ مع الناس. فلمّا التقى الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصّره حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق يهدّ الناس بسيفه هدّا ما يقوم له شيء. وأنا اريده واستتر منه بشجرة أو حجر ليدنو منّي ، إذ تقدّمني إليه سباع بن عبد العزّى (وكانت امّه أمّ أنمار مولاة شريق بن الأخنس الثقفي وكانت ختّانة للبنات بمكّة) ٣ : ٧٤. فلمّا رآه حمزة قال له : هلمّ إليّ يا ابن مقطّعة البظور! فضربه ضربة ما أخطأ رأسه. وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت في ثنّته (قرب عانته) حتى خرجت من بين رجليه ، وقام متثاقلا نحوي فسقط ، فتركته حتى مات ، ثمّ أتيته فأخذت حربتي ورجعت إلى المعسكر.

فلمّا رجعت إلى مكّة اعتقت فأقمت بها حتى افتتح رسول الله مكّة فهربت إلى الطائف فمكثت بها. فلمّا أراد وفد الطائف أن يخرج إلى رسول الله ليسلموا قلت في نفسي ألحق ببعض البلاد اليمن أو الشام إذ قال لي رجل : إنّه والله ما يقتل أحدا من الناس دخل دينه وتشهّد شهادته. فلمّا قال لي ذلك خرجت (معهم) حتى قدمت على رسول الله المدينة وقمت على رأسه أشهد شهادة الحقّ فلمّا رآني قال : أوحشيّ؟ قلت : نعم يا رسول الله. قال : اقعد فحدّثني كيف قتلت حمزة؟ فحدّثته ، فلمّا فرغت من حديثي قال : ويحك غيّب عنّي وجهك فلا ارينّك. فكنت أتنكّب طريق رسول الله حيث كان لئلّا يراني حتى قبضه الله. ٣ : ٧٦ ، وكان بحمص ٣ : ٧٥ ، ولم يزل يحدّ في شرب الخمر حتى اخرج اسمه من ديوان العطاء ومات بحمص ، وكان عمر يرى ذلك من سوء توفيقه فقال : علمت أنّ الله لم يكن ليدع قاتل حمزة اي حتى يجعله من أهل النار ٣ : ٧٧.

ولم يذكر ابن إسحاق هنا شيئا عمّا فعلت هند بحمزة ، وذكر ذلك في موضع آخر قال : حدّثني صالح بن كيسان قال : وقعت هند والنسوة اللاتي معها يمثّلن بالقتلى من أصحاب رسول الله : يجدّعن الآذان والانف ، حتى اتخذت هند من آذان الرجال وانفهم خلخالا وقلائد ، وأعطت خلخالها وقلائدها وقرطها لوحشيّ غلام جبير بن مطعم ، وبقرت عن كبد


__________________

ـ حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها. ثمّ علت على صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها فقالت :

نحن جزيناكم بيوم بدر

والحرب بعد الحرب ذات سعر

ما كان عن عتبة لي من صبر

ولا أخي وعمّه ، وبكري

شفيت نفسي وقضيت نذري

شفيت وحشيّ غليل صدري

فشكر وحشي عليّ عمري

حتى ترمّ أعظمي في قبري

ومرّ الحليس بن زبّان بأبي سفيان وهو يضرب بزجّ الرمح في شدق حمزة بن عبد المطّلب ويقول : ذق يا عقق (يا عاقّ) فقال الحليس : يا بني كنانة ؛ هذا سيّد قريش يصنع بابن عمّه ما ترون! فقال أبو سفيان : ويحك اكتمها عنّي فإنّها كانت زلّة!

وقالت هند أيضا :

شفيت من حمزة نفسي باحد

حتى بقرت بطنه عن الكبد

أذهب عنّي ذاك ما كنت أجد

من لذعة الحزن الشديد المعتمد

فأنشد عمر بن الخطّاب بعض ما قالت لحسّان بن ثابت ، فقال حسّان :

أشرت لكاع وكان عادتها

لؤما ـ إذا أشرت ـ مع الكفر

واقذع فيها فتركناها ٣ : ٩٢ ـ ٩٣.

وروى الواقدي بسنده عن وحشيّ قال : كنت عبدا لجبير بن مطعم بن عدي ، فلمّا خرج الناس إلى احد دعاني فقال : قد رأيت مقتل طعيمة بن عدي قتله حمزة بن عبد المطّلب يوم بدر فلم تزل نساؤنا في حزن شديد إلى يومي هذا ، فإن أنت قتلت حمزة فأنت حرّ.

قال : فخرجت مع الناس ولي مزاريق (رماح قصار) وكنت أمرّ بهند بنت عتبة فتقول : ايه أبا دسمة ، اشف واشتف! فلمّا وردنا احدا نظرت إلى حمزة يقدم الناس يهدّهم هدّا ، فرآني وأنا قد كمنت له تحت شجرة فأقبل نحوي ، واعترض له سباع الخزاعي (وكانت امّه


__________________

ـ ختّانة للبنات) فأقبل عليه حمزة وهو يقول : وأنت أيضا يا بن مقطّعة البظور ممّن يكثر علينا! هلمّ إليّ! فاحتمله ثمّ ضرب به الأرض ثمّ قتله وأقبل نحوي سريعا ، فاعترض له جرف فوقع فيه ، فزرقته بمزراقي فوقع في ثنّته (ما بين السرّة والعانة) حتى خرج من بين رجليه ، فقتلته. ومررت بهند بنت عتبة فآذنتها ، وكان في ساقيها خلخالان من جزع ظفار ، ومسكتان (سواران معضدان) من ورق (فضّة) وخواتيم منها كنّ في أصابع رجليها ، فأعطتني ذلك ١ : ٢٨٦ ـ ٢٨٨.

وقال قبل ذلك : قالوا : كان وحشيّ عبدا لجبير بن مطعم أو لابنة الحارث بن عامر ، فقالت له : إنّ أبي قتل يوم بدر ، فإن أنت قتلت أحد الثلاثة فأنت حرّ إن قتلت محمّدا ، أو حمزة ، أو علي بن أبي طالب ، فإنّي لا أرى في القوم كفؤا لأبي غيرهم.

قال وحشيّ : وقد علمت أنّ رسول الله لا أقدر عليه وأنّ أصحابه لن يسلموه! وأمّا حمزة فو الله لو وجدته نائما ما أيقظته من هيبته! وأمّا عليّ فالتمسته ، فبينا أنا في الناس ألتمسه إذ طلع عليّ فكان رجلا ممارسا حذرا كثير الالتفات! فقلت في نفسي : ما هذا صاحبي الذي ألتمس! فرأيت حمزة يفري الناس فريا ، فكمنت إلى صخرة (لا شجرة) فاعترض له سباع بن أم أنمار ـ وكانت امّه مولاة لشريف بن علاج الثقفي ختّانة بمكّة ـ فقال له حمزة : وأنت أيضا يا بن مقطّعة البظور ممّن يكثر علينا! هلمّ إليّ! ثمّ احتمله فرمى به وبرك عليه وشحطه شحط الشاة! ثمّ لمّا رآني أقبل إليّ مكبّسا ، فلمّا بلغ المسيل وطأ على جرف فزلّت قدمه ، فهززت حربتي حتى رضيت منها فضربت بها في خاصرته حتى خرجت من مثانته. وكرّ عليه طائفة من أصحابه سمعتهم ينادونه : أبا عمارة! فلا يجيب فعلمت أنّه قد مات! وانكشف عنه أصحابه حين أيقنوا بموته.

وذكرت هندا وما لقيت من مصابها على أبيها وعمّها وأخيها (وبكرها) فكررت عليه فشققت بطنه فأخرجت كبده فجئت بها إلى هند بنت عتبة فقلت لها : ما ذا لي إن قتلت قاتل


ثمّ روى عن الصادق عليه‌السلام قال : وزرقه وحشيّ فوق الثدي ، فسقط ، وشدّوا عليه فقتلوه (١). فأخذ وحشي الكبد فشدّ بها إلى هند بنت عتبة ، فأخذتها وطرحتها في فيها فصارت مثل الداغصة (عظم الركبة) فلفظتها!

وجاء أبو سفيان على فرس وبيده رمح حتى وقف على حمزة فوجأ به في شدق حمزة وقال : ذق! يا عقق! (أي يا عاقّ الرحم) فنظر إليه الحليس ابن علقمة فقال : يا معشر بني كنانة ، انظروا إلى من يزعم أنّه سيّد قريش ما يصنع بابن عمّه الذي صار لحما! فقال أبو سفيان : صدقت! إنّما كانت زلّة منّي! فاكتمها عليّ! (٢).

وقال القمّي في تفسيره : وجاءت إليه هند فقطعت مذاكيره وقطعت اذنيه

__________________

ـ أبيك؟ قالت : سلبي! فقلت : فهذه كبد حمزة! فأخذتها إلى فيها فمضغتها ثم لفظتها فلا أدري أقذرتها أم لم تسغها! ثمّ نزعت حليّها وثيابها! فأعطتنيه ثم قالت : إذا جئت مكّة فلك عشرة دنانير! ثمّ قالت : أرني مصرعه. فأريتها مصرعه ، فقطعت مذاكيره وجدعت أنفه وقطعت اذنيه ثمّ جعلتها معضدين وخلخالين ١ : ٢٨٥ و ٢٨٦.

وقال قبل ذلك : وكانت هند أوّل من مثّل بأصحاب النبيّ وأمرت النساء بالمثل : جدع الانوف والآذان! فلم تبق امرأة إلّا عليها معضدان وخلخالان ، ومثّل بهم كلّهم ، إلّا حنظلة ابن أبي عامر الراهب الفاسق لأنّه نادى فيها : يا معشر قريش : حنظلة لا يمثّل به وإن كان خالفكم وخالفني! فمثّل بالناس وترك فلم يمثّل به ١ : ٢٧٤.

(١) قيل : اصيب حمزة عليه‌السلام في الركن الجنوبي الشرقي من جبل الرماة ثم سقط شهيدا في الجهة الشرقية منه ودفن في موضعه كما في مقال عبد الرحمن خويلد في مجلة الميقات ٤ : ٢٦٣.

(٢) إعلام الورى ١ : ١٨١. وفي مناقب آل أبي طالب ١ : ١٩٢ و ١٩٣.


وجعلتها خرصين (حلقتين) وشدّتهما في عنقها ، وقطعت يديه ورجليه (١).

مقتل حنظلة غسيل الملائكة :

ووقع إلى جانب حمزة حنظلة بن أبي عامر ، وقال القمّي في تفسيره عنه :

لمّا حضر القتال نظر حنظلة إلى أبي سفيان على فرس يجول بين العسكرين ، فحمل عليه فضرب عرقوب فرسه فاكتسعت الفرس وسقط أبو سفيان إلى الأرض وصاح : يا معشر قريش ، أنا أبو سفيان وهذا حنظلة يريد قتلي! وعدا أبو سفيان ، وحنظلة في طلبه ، فعرض له رجل من المشركين فطعنه ، فمشى حنظلة مع طعنته إلى طاعنه فضربه فقتله ، وسقط حنظلة إلى الأرض بين حمزة وعمرو بن الجموح وعبد الله بن حرام (أبي جابر) وجماعة من الأنصار.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : رأيت الملائكة يغسّلون حنظلة بين السماء والأرض بماء المزن من صحائف من ذهب! فكان يسمّى : غسيل الملائكة (٢).

__________________

(١) تفسير القمّي ١ : ١١٧.

(٢) تفسير القمّي ١ : ١١٨ ، الفقيه ١ : ١٥٩ ح ٤٤٥ ط. طهران. و ١ : ٩٧ ح ٤٦ ط. نجف. وقال ابن إسحاق : والتقى حنظلة بن أبي عامر الغسيل وأبو سفيان ، فلمّا استعلاه حنظلة بن أبي عامر رآه شدّاد بن الأسود بن شعوب ، فضربه فقتله. فقال رسول الله : إنّ صاحبكم (حنظلة) لتغسّله الملائكة. فاسألوا أهله ما شأنه؟ فسئلت صاحبته (جميلة بنت عبد الله بن أبي سلول) عنه فقالت : خرج حين سمع (الصيحة) وهو جنب ٣ : ٧٩.

وقال الواقدي : لمّا انكشف المشركون اعترض حنظلة بن أبي عامر لأبي سفيان بن حرب فضرب عرقوب فرسه فاكتسعت الفرس ووقع أبو سفيان إلى الأرض ، فجعل يصيح : يا معشر قريش ؛ أنا أبو سفيان بن حرب ؛ وحنظلة يريد ذبحه ، حتّى عاينه الأسود


وقال الطبرسي في «إعلام الورى» : قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : من ذلك الرجل الذي تغسله الملائكة في سفح الجبل؟ فسألوا امرأته ، فقالت : إنّه خرج وهو جنب! (١).

مقتل جمع من الشهداء :

أمّا عمرو بن الجموح فإنّه كان في الرعيل الأوّل ممّن ثاب من المسلمين بعد الانكشاف ، كان يعرج وهو يقول : والله أنا مشتاق إلى الجنّة ، وأخذ ابنه يعدو في أثره حتى قتلا جميعا (٢).

أمّا عبد الله بن جحش فإنّه قبل يوم احد بيوم قال لرسول الله : يا رسول الله ، إنّ هؤلاء قد نزلوا حيث نرى ، وقد سألت الله ـ عزوجل ـ فقلت : اللهم إنّي

__________________

ـ ابن شعوب فحمل على حنظلة بالرمح فأنفذه فيه ، فمشى حنظلة إليه بالرمح فجرحه به ثمّ ضربه الثانية فقتله. وهرب أبو سفيان يعدو على قدميه فلحق ببعضهم فردفه على فرسه ١ : ٢٧٣.

وقال رسول الله : إنّي رأيت الملائكة تغسّل حنظلة بن أبي عامر بين السماء والأرض بماء المزن في صحاف الفضّة (لا الذهب) ثمّ أرسل إلى امرأته فسألها فأخبرته أنّه خرج وهو جنب! (بدون ذكر الصيحة).

ولمّا قتل حنظلة مرّ عليه أبوه أبو عامر وهو مقتول إلى جنب حمزة بن عبد المطّلب وعبد الله بن جحش ، فقال : والله إن كنت لبرّا بالوالد شريف الخلق في حياتك ، وإنّ مماتك لمع سراة أصحابك وأشرافهم. وإن كنت احذّرك هذا الرجل من قبل هذا المصرع! ثمّ نادى : يا معشر قريش حنظلة لا يمثّل به وإن كان خالفني وخالفكم ، فمثّل بالناس وترك فلم يمثّل به ١ : ٢٧٤.

(١) إعلام الورى ١ : ١٨٢.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٢٦٤ و ٢٦٥.


اقسم عليك أن نلقى العدوّ غدا فيقتلونني ويبقرونني ويمثّلون بي ، فألقاك مقتولا قد صنع بي ذلك فتقول : فيم صنع بك هذا؟ فأقول : فيك. وأنا أسألك ـ يا رسول الله ـ اخرى ، وهي أن تلي تركتي بعدي. فقال رسول الله : نعم.

فبرز يوم احد فقاتل حتى قتل ، ومثّل به كلّ المثل (١).

وقال الواقدي : قالوا : مرّ مالك بن الدخشم على خارجة بن زيد بن أبي زهير ـ وهو قاعد وبه ثلاثة عشر جرحا كلّها قد خلصت إلى مقتل ـ فقال له : أما علمت أنّ محمّدا قد قتل! فقال خارجة : فإن كان قد قتل فإنّ الله حيّ لا يموت ، فقد بلّغ محمّد ، فقاتل عن دينك!

ومرّ على سعد بن الربيع ـ وبه اثنا عشر جرحا كلها قد خلصت إلى مقتل ـ فقال له : أما علمت أنّ محمّدا قد قتل! فقال سعد بن الربيع : أشهد أنّ محمّدا قد بلّغ رسالة ربّه ، فقاتل عن دينك ، فإنّ الله حيّ لا يموت.

ومرّ أنس بن النضر بن ضمضم ـ عم أنس بن مالك ـ على رهط من المسلمين قعود وفيهم عمر بن الخطّاب ، فقال لهم : ما يقعدكم؟ قالوا : قتل رسول الله ، قال : فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه. ثمّ قاتل حتى قتل.

وأقبل ثابت بن الدحداحة والمسلمون أوزاع (متفرّقون) قد سقط في أيديهم ، فجعل يصيح : يا معشر الأنصار ، إليّ إليّ أنا ثابت بن الدّحداحة ، إن كان محمّد قد قتل فإنّ الله حيّ لا يموت ، فقاتلوا عن دينكم ، فإنّ الله مظهركم وناصركم! فنهض إليه نفر من الأنصار فجعل يحمل بمن معه من المسلمين على المشركين ، فوقفت لهم منهم كتيبة خشناء فيها رؤساؤهم : خالد بن الوليد ،

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ٢٩١.


وعمرو بن العاص ، وعكرمة بن أبي جهل ، وضرار بن الخطّاب (أخو عمر) ، فجعلوا يناوشونهم حتى قتل من مع ثابت من الأنصار ، وحمل خالد على ثابت بالرمح فطعنه فأنفذه فوقع ميّتا. فهؤلاء آخر من قتل من المسلمين. ولم يكن بعدهم قتال.

ووصل حينئذ رسول الله مع أصحابه إلى الشعب .. فتوقّف القتال (١).

نهايات الحرب :

وتراجع المنهزمون من أصحاب رسول الله فصاروا على الجبل .. وصعدت جماعة من قريش على الجبل فيهم أبو سفيان ، فنادى : أعل هبل (أي أعل دينك يا هبل).

قال القمّي في تفسيره : فقال رسول الله لأمير المؤمنين عليهما‌السلام : قل له : الله أعلى وأجلّ. فقال عليّ ذلك ، فقال أبو سفيان : يا عليّ ، إنّه قد أنعم علينا : فقال عليّ عليه‌السلام ، بل الله أنعم علينا.

ثمّ قال أبو سفيان : يا عليّ ، أسألك باللات والعزّى هل قتل محمّد؟

فقال له عليّ عليه‌السلام : لعنك الله ولعن الله اللات والعزّى معك ، والله ما قتل محمّد ، وهو يسمع كلامك (٢). ثمّ نادى أبو سفيان : موعدنا وموعدكم في عام قابل.

فقال رسول الله لعليّ عليه‌السلام : قل : نعم (٣).

وروى الطوسي في «التبيان» عن عكرمة عن ابن عبّاس قال : لمّا أصاب

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ٢٨٠ و ٢٨١.

(٢) تفسير القمّي ١ : ١١٧.

(٣) تفسير القمّي ١ : ١٢٤.


المسلمين ما أصابهم وصعد النبيّ الجبل وجاء أبو سفيان وقال : يا محمّد ، يوم لنا ويوم لكم ، فقال رسول الله : أجيبوه. فقال المسلمون : لا سواء ، لا سواء ، قتلانا في الجنّة وقتلاكم في النار! فقال أبو سفيان : عزّى لنا ولا عزّى لكم! فقال النبيّ : قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم. قال أبو سفيان : أعل هبل ، قال النبيّ : قولوا له : الله أعلى وأجلّ. فقال أبو سفيان : موعدنا وموعدكم بدر الصفراء (١).

وقال الطبرسي في «إعلام الورى» : نادى أبو سفيان : أحيّ ابن أبي كبشة؟

فقال عليّ عليه‌السلام : أي والذي بعثه بالحقّ وإنّه ليسمع كلامك.

فقال أبو سفيان : إنّ ابن قميئة أخبرني أنّه قتل محمّدا ، وأنت أبرّ عندي وأصدق.

ثمّ قال : إنّه قد كانت في قتلاكم مثلة ، وو الله ما أمرت ولا نهيت.

ثمّ قال : إنّ ميعادنا بيننا وبينكم موسم بدر في قابل ، هذا الشهر.

فقال رسول الله لعليّ : قل : نعم. فقال له عليّ : نعم. فولّى إلى أصحابه وقال لهم : اتّخذوا الليل جملا وانصرفوا (٢).

__________________

(١) التبيان ٣ : ٣١٤ ، وعنه في مجمع البيان ٣ : ١٦٠. وفيهما : بدر الصغرى ، وفي الواقدي ١ : ٢٩٧ : بدر الصفراء ، وهو الصحيح ، لأنها إنّما وصفت بالصغرى بعد وقوعها.

(٢) إعلام الورى ١ : ١٨١. وقال ابن إسحاق : ثمّ إنّ أبا سفيان بن حرب حين أراد الانصراف أشرف من على الجبل ثمّ صرخ بأعلى صوته فقال : أنعمت فعال (أي أنعمت فعلك فارتفع بنفسك يخاطب نفسه) إنّ الحرب سجال ، يوم بيوم ، أعل هبل (أي : أظهر دينك) ، سيرة ابن هشام ٣ : ٩٩.

فقال رسول الله : قم يا عمر فأجبه فقل : الله أعلى وأجلّ ، لا سواء ، قتلانا في الجنّة


__________________

ـ وقتلاكم في النار. فلمّا أجاب عمر أبا سفيان ، قال له أبو سفيان : هلمّ إليّ يا عمر.

فقال رسول الله لعمر : ائته فانظر ما شأنه؟ فذهب إليه.

فقال له أبو سفيان : انشدك الله يا عمر أقتلنا محمّدا؟

قال عمر : اللهم لا ، وإنّه ليسمع كلامك الآن.

فقال أبو سفيان : أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبرّ.

ثمّ قال أبو سفيان : إنّه قد كان في قتلاكم مثل ، والله ما رضيت وما سخطت ، وما نهيت وما أمرت. ثمّ نادى : إنّ موعدكم بدر ، للعام القابل.

فقال رسول الله لرجل من أصحابه : قل : نعم ، هو بيننا وبينكم موعد. ٣ : ٩٩ و ١٠٠.

وقال الواقدي : وتوجّه رسول الله يريد أصحابه في الشعب ...

ويقال : إنّه كان يتوكّأ على طلحة بن عبيد الله ، وكان قد جرح ، فما صلّى الظهر إلّا جالسا. فقال له طلحة : يا رسول الله ، إنّ بي قوّة ، فحمله حتى انتهى إلى الصخرة على طريق احد إلى شعب الجزّارين ، ثمّ حمله حتى ارتفع عليها لم يتعدّاها إلى غيرها ، فمضى إلى أصحابه ومعه النفر الذين ثبتوا معه (من دون أن يحمله طلحة).

ويقال : إنّه لمّا طلع في النفر الأربعة عشر الذين ثبتوا معه ـ سبعة من المهاجرين وسبعة من الأنصار ـ فلمّا نظر المسلمون إلى من مع رسول الله ظنّوا أنّهم من المشركين فجعلوا يولّون في الشعب ، فلمّا جعلوا يولّون في الجبل جعل رسول الله يتبسّم إلى أبي بكر وهو إلى جنبه وقال له : ألح إليهم ، فجعل أبو بكر يلوّح لهم ولا يرجعون ، حتى نزع أبو دجانة عصابة حمراء على رأسه وصعد على الجبل فجعل يصيح ويلوّح لهم ، فوقفوا حتى لحقوا بهم. قال : وطلع رسول الله على أصحابه في الشعب بين السعدين : سعد بن عبادة وسعد بن معاذ يتكفّأ في الدرع.

وروى عن كعب بن مالك المازني قال : كنت ـ وأنا في الشعب ـ أوّل من عرف رسول الله


__________________

ـ وعليه المغفر ، فجعلت أصيح ، هذا رسول الله حيّا سويّا. فجعل رسول الله يومي إليّ بيده على فيه : أن اسكت. ثمّ دعا بلأمتي ـ وكانت صفراء ـ فنزع لأمته ولبسها. ١ : ٢٩٤.

وانتهى رسول الله إلى الشعب وأصحابه في الجبل أوزاع (متفرّقون) يذكرون مقتل من قتل منهم ويذكرون ما جاءهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. ١ : ٢٩٣.

فروى عن رافع بن خديج قال : كنت إلى جنب أبي مسعود الأنصاري وهو يذكر من قتل من قومه ويسأل عنهم فيخبر برجال منهم ، منهم : سعد بن الربيع وخارجة بن زهير ، وهو يسترجع ويترحّم عليهم. وبعضهم يسأل بعضا عن حميمه فهم يخبر بعضهم بعضا.

قال أبو أسيد الساعدي : لقد رأيت أنفسنا وإنّا لسلم لمن أرادنا لما بنا من الحزن! فالقي علينا النعاس فنمنا حتى تناطح الجحف (التروس من جلود).

وقال أبو اليسر : لقد رأيت نفسي يومئذ في أربعة عشر رجلا من قومي إلى جنب رسول الله وقد أصابنا النعاس (أَمَنَةً مِنْهُ) ، ما منهم رجل إلّا يغطّ غطيطا ، حتى تناطح الجحف ، ولقد رأيت سيف بشر بن البراء بن معرور سقط من يده وما يشعر به ، وتثلّم.

وقال أبو طلحة : القي علينا النعاس ، حتى سقط سيفي من يدي ، وإنّما أصاب أهل الإيمان واليقين ، ولم يصب أهل النفاق والشكّ ، فكانوا يتكلّمون بما في أنفسهم.

وقال الزبير بن العوّام : غشينا النعاس ... فسمعت معتّب بن قشير ـ وأنا كالحالم ـ يقول : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا. ١ : ٢٩٦. وفيه نزلت الآية ١٥٤ من سورة آل عمران : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا ...).

فبينا هم على ذلك إذ ردّ الله كتائب المشركين فإذا عدوّهم قد علوا فوقهم ، ليذهب الله


قريش إلى أين؟

قال القمي في تفسيره : وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من رجل يأتينا بخبر القوم؟

فلم يجبه أحد : فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : أنا آتيك بخبرهم. قال : اذهب ، فإن ركبوا الخيل وجنّبوا الإبل فهم يريدون المدينة ، والله لإن أرادوا المدينة لا يأذن الله فيهم. وإن كانوا ركبوا الإبل وجنّبوا الخيل فإنّهم يريدون مكّة.

فمضى أمير المؤمنين عليه‌السلام على ما به من ألم الجراحات ، حتى كان قريبا من القوم فرآهم قد ركبوا الإبل وجنّبوا الخيل. فرجع أمير المؤمنين إلى رسول الله

__________________

ـ بذلك الحزن عنهم ، فنسوا ما كانوا يذكرون. ١ : ٢٩٥.

قالوا : وأقبل أبو سفيان يسير على فرس له انثى حوّاء (أي حمراء سوداء) فنادى بأعلى صوته : أعل هبل! ثمّ صاح : أين ابن أبي كبشة؟ ... يوم بيوم بدر ، ألا إنّ الأيّام دول ، وإنّ الحرب سجال ، وحنظلة بحنظلة (حنظلة بن أبي عامر بحنظلة بن أبي سفيان).

فقال عمر : يا رسول الله ، اجيبه؟ قال : أجبه ... فقال عمر : لا سواء ، قتلانا في الجنّة وقتلاكم في النار! قال أبو سفيان : إنّكم لتقولون ذلك ، لقد خبنا إذن وخسرنا. ثمّ قال : قم إليّ يا بن الخطّاب اكلّمك. فقام عمر إليه ، فقال أبو سفيان : انشدك بدينك هل قتلنا محمّدا؟

قال عمر : اللهم لا ، وإنّه ليسمع كلامك الآن. قال : أنت أصدق عندي من ابن قميئة. لأنّه أخبرهم أنّه قتل محمّدا.

ثمّ رفع أبو سفيان صوته قال : إنّكم واجدون في قتلاكم عيثا ومثلا ، ألا إنّ ذلك لم يكن عن رأي سراتنا ، أما إذا كان ذلك فلم نكرهه! ثمّ نادى : ألا إنّ موعدكم بدر الصفراء على رأس الحول! فوقف عمر وقفة ينتظر ما يقول رسول الله ، فقال رسول الله : قل : نعم ، فقال عمر : نعم. فانصرف أبو سفيان إلى أصحابه وأخذوا في الرحيل. ١ : ٢٩٦ و ٢٩٧.

بينما مرّ عن ابن إسحاق : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لرجل من أصحابه : قل : نعم. ولم يقل : عمر.


فأخبره ، فقال رسول الله : أرادوا مكّة (١).

وقال الطبرسي في «إعلام الورى» : ثمّ دعا رسول الله عليّا عليهما‌السلام فقال له : أتبعهم فانظر إلى أين يريدون ، فإن كانوا ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنّهم يريدون المدينة ، وإن كانوا ركبوا الإبل وساقوا الخيل فهم متوجّهون إلى مكّة ـ وقيل : إنّه بعث لذلك سعد بن أبي وقّاص ـ فرجع فقال : رأيت خيولهم تضرب بأذنابها مجنوبة مدبرة ، ورأيت القوم قد تحملوا سايرين. فطابت أنفس المسلمين بذهاب العدو (٢).

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١٢٤.

(٢) إعلام الورى ١ : ١٨١. وقال ابن إسحاق : ثمّ دعا رسول الله عليّ بن أبي طالب فقال له : اخرج في آثار القوم فانظر ما ذا يصنعون وما يريدون؟ فإن كانوا قد جنّبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنّهم يريدون مكّة ، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنّهم يريدون المدينة. والذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرنّ إليهم فيها ثمّ لأناجزنهم.

قال علي عليه‌السلام : فخرجت في آثارهم أنظر ما ذا يصنعون. فجنّبوا الخيل وامتطوا الإبل ووجّهوا إلى مكّة. ٣ : ١٠٠.

وقال الواقدي : وأشفق رسول الله والمسلمون واشتدّت شفقتهم من أن يغيروا على المدينة فتهلك الذراري والنساء!

فقال رسول الله ـ لسعد بن أبي وقّاص ـ : ائتنا بخبر القوم ، فإن ركبوا الإبل وجنّبوا الخيل فهو الظّعن ، وإن ركبوا الخيل وجنّبوا الإبل فهي الغارة على المدينة والذي نفسي بيده لئن ساروا إليها لأسيرنّ إليهم ثمّ لاناجزنهم. ١ : ٢٩٨. وروى بسنده عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : فإن رأيت القوم يريدون المدينة فأخبرني فيما بيني وبينك ولا تفتّ في أعضاد المسلمين! فذهب فرآهم قد امتطوا الإبل ، فرجع فما ملك نفسه أن جعل يصيح سرورا بانصرافهم. ١ : ٢٩٩. وهذا إن صحّ عن الباقر عليه‌السلام فإنّما يدلّ على أنّ الرسول بعث سعدا وعليّا فبدا ما بينهما من تفاوت في حكمة التصرّف والعمل.


تفقّد الجرحى والقتلى :

قال الطبرسي في «إعلام الورى» : وطابت أنفس المسلمين بذهاب العدوّ فانتشروا يتتبّعون قتلاهم ، فلم يجدوا قتيلا إلّا وقد مثّلوا به إلّا حنظلة بن أبي عامر ، كان أبوه مع المشركين فترك له. ووجدوا حمزة وقد شقّ بطنه وجدع أنفه وقطعت أذناه واخذ كبده (١).

وقال الواقدي : قال رسول الله : من له علم بذكوان بن عبد القيس؟ فقال عليّ عليه‌السلام : أنا ـ يا رسول الله ـ رأيت فارسا يركض في أثره حتى لحقه وهو يقول : لا نجوت إن نجوت! فحمل عليه بفرسه ، وذكوان راجل ، فضربه وهو يقول : خذها وأنا ابن علاج! فأهويت إليه وهو فارس ، فضربت رجله بالسيف حتّى قطعتها عن نصف الفخذ ثمّ طرحته من فرسه فذففت عليه ، وإذا هو أبو الحكم بن الأخنس بن شريق بن علاج الثقفي (٢).

وقال القمي في تفسيره : وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من له علم بسعد بن الربيع؟ فقال رجل : أنا أطلبه. فأشار رسول الله إلى موضع فقال : اطلبه هناك ، فإنّي قد رأيته في ذلك الموضع قد شرعت حوله اثنا عشر رمحا (٣).

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ١٨١ ، ١٨٢.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٢٨٣ ، وروى المفيد في الإرشاد ١ : ٨٨ بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : وبارز عليّ عليه‌السلام الحكم (أبا الحكم) بن الأخنس فضربه فقطع رجله من نصف الفخذ فهلك.

(٣) تفسير القمي ١ : ١٢٢. هذا وقد روى الواقدي عن ضرار بن الخطّاب الفهري قال : لمّا كررنا مع خالد بن الوليد وانتهينا إلى الجبل وأقحمنا الخيل عليهم تطايروا في كلّ وجه


وروى الصدوق في «معاني الأخبار» بسنده عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه قال : بعثني رسول الله في طلب سعد بن الربيع وقال لي : إذا رأيته فاقرأه منّي السّلام وقل له : كيف تجدك؟

فجعلت أطلبه بين القتلى حتى وجدته بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم ، فقلت له : إنّ رسول الله يقرأ عليك السّلام ويقول لك : كيف تجدك؟ فقال : سلّم على رسول الله ، وقل لقومي الأنصار : لا عذر لكم عند الله إن وصل إلى رسول الله وفيكم شغر يطرف! وفاضت نفسه (١) فجئت إلى رسول الله فأخبرته ، فقال : رحم الله سعدا نصرنا حيّا وأوصى بنا ميتا (٢).

__________________

ـ وهربوا حتى أنّي جعلت أطلب الأكابر من الأوس والخزرج لأقتلهم بأحبّتي في بدر فلا أرى أحدا ... وما كان حلب ناقة حتى تداعت الأنصار بينها فأقبلوا وخالطونا راجلين ونحن فرسان ، فصبروا لنا وبذلوا أنفسهم حتى عقروا فرسي وترجّلت ولقيت من رجل منهم الموت الناقع وعانقني فما فارقني حتى أخذته الرماح من كلّ ناحية فوقع ١ : ٢٨٣. فيبدو أنّه هو سعد بن الربيع ، ولذلك افتقده الرسول.

(١) بحار الأنوار ٢٠ : ٧٤ و ٧٥. عن معاني الأخبار : ١٠٢. وروى الخبر ابن إسحاق في سيرته ٣ : ١٠٠ عن محمّد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة المازني من بني النجّار (عن أبيه عن جدّه) قال : وفزع الناس لقتلاهم فقال رسول الله : من رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع أفي الأحياء هو أم في الأموات؟ فقال رجل من الأنصار : أنا أنظر لك ـ يا رسول الله ـ ما فعل سعد. ٣ : ١٠٠.

وقال الواقدي : وقالوا : وقال رسول الله : من يأتيني بخبر سعد بن الربيع؟ فإنّي قد رأيته وقد شرع فيه اثنا عشر سنانا ، وأشار بيده إلى ناحية من الوادي. قال : فخرج محمّد ابن مسلمة ، ويقال : أبيّ بن كعب ، فخرج نحو تلك الناحية قال ... ١ : ١٠٠.

(٢) تفسير القمي ١ : ١٢٣. وقال الواقدي : فاستقبل رسول الله القبلة رافعا يديه يقول : اللهم الق سعد بن الربيع وأنت عنه راض. ١ : ٢٩٣.


مصرع حمزة :

ثمّ قال رسول الله : من له علم بعمّي حمزة؟ فقال الحارث بن الصمّة : أنا أعرف موضعه. فجاء حتى وقف على حمزة فكره أن يرجع إلى رسول الله فيخبره.

فقال رسول الله لأمير المؤمنين عليه‌السلام : يا عليّ ، اطلب عمّك. فجاء عليّ عليه‌السلام فوقف على حمزة فكره أن يرجع إليه.

فجاء رسول الله حتى وقف عليه (١).

فروى العيّاشي في تفسيره عن الحسين بن حمزة عن الصادق عليه‌السلام قال : لمّا رأى رسول الله ما صنع بحمزة بن عبد المطّلب قال : اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان على ما أرى. ثمّ قال : لئن ظفرت لامثلنّ ولأمثلنّ. فأنزل الله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ)(٢).

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١٢٣ ، وفيه الحارث بن سميّة مصحّفا.

وقال الواقدي : سمعت الأصبغ بن عبد العزيز قال : وجعل رسول الله يقول : ما فعل عمّي؟ ما فعل عمّي حمزة؟ فخرج الحارث بن الصمّة فأبطأ ، فخرج عليّ بن أبي طالب وهو يرتجز ويقول :

يا ربّ إنّ الحارث بن الصمّة

كان رفيقا وبنا ذا ذمّه

قد ضلّ في مهامه مهمّة

يلتمس الجنّة فيما يمّه

حتى انتهى إلى الحارث ووجد حمزة مقتولا. (فرجع) فأخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فخرج النبيّ يمشي حتى وقف عليه فقال : ما وقفت موقفا قطّ أغيظ إليّ من هذا الموقف! ١ : ٢٨٩. وابن إسحاق في السيرة ٣ : ١٧٤ و ١٧٥ نقل الشعر أبياتا ثلاثة.

(٢) النحل : ١٢٦.


فقال رسول الله : أصبر ، أصبر (١).

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ : ٢٧٤ و ٢٧٥. ونقل الطوسي في التبيان ٦ : ٤٤ عن الشعبي وقتادة وعطاء (عن ابن عبّاس) أنّ المشركين لمّا مثّلوا بقتلى احد من المسلمين قال المسلمون : إذا أظهرنا الله عليهم لنمثّلنّ بهم أعظم ممّا مثّلوا بنا. ونقله الطبرسي في مجمع البيان ٧ : ٦٠٥ وقال في إعلام الورى : ٨٤ : فلمّا انتهى إليه رسول الله خنقته العبرة وقال : لامثلنّ بسبعين من قريش ، فأنزل الله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : بل أصبر. واختصره في المناقب ١ : ١٩٣.

وقال القمي في تفسير الآية : ذلك أنّ المشركين يوم احد مثّلوا بأصحاب النبيّ الذين استشهدوا ، منهم حمزة ، فقال المسلمون : أما والله لئن أولانا الله عليهم لنمثّلنّ بأخيارهم ، فذلك قول الله (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا ...) ١ : ٣٩٢. وفي حرب احد قال : فجاء رسول الله حتى وقف عليه ، فلمّا رأى ما فعل به بكى ثمّ قال : والله ما وقفت موقفا قطّ أغيظ عليّ من هذا المكان ، لئن أمكنني الله من قريش لامثّلنّ بسبعين رجلا منهم! فنزل عليه جبرئيل فقال : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا ...) فقال رسول الله : بل أصبر. ثمّ قال القمي : فهذه الآية في سورة النحل : (١٢٦) وكان يجب أن تكون في هذه السورة (آل عمران) التي فيها أخبار احد ١ : ١٢٣.

هذا ، والآية من سورة النحل التي تحمل رقم السبعين في السور المكيّة والتي هي تزيد على الثمانين ، فهي من السور النازلة قبل الهجرة بأكثر من عشرة. وفي سبب نزول الآية نقل الطوسي القول الأوّل الذي نقلناه ، والثاني : عن إبراهيم وابن سيرين ومجاهد (عن ابن عبّاس أيضا) قال : إنّه في كل ظالم يغصب ونحوه ، فإنّما يجازى بمثل ما عمل (اقتصاصا) ٦ : ٤٤١. ونقله الطبرسي في مجمع البيان وقال : قال الحسن : نزلت الآية قبل أن يؤمر النبيّ بقتال المشركين ، على العموم ٧ : ٦٠٥. ونقل ابن إسحاق في السيرة ٣ : ١٠٢ نزول الآية في مقتل حمزة بسنده عن ابن عبّاس ومحمّد بن كعب القرظي. وقال الواقدي : ورأى رسول الله مثلا شديدا فأحزنه فقال : لئن ظفرت بقريش لامثّلنّ بثلاثين منهم! فنزلت هذه


قال القمي : فألقى رسول الله على حمزة بردة كانت عليه ، فكانت إذا مدّها على رأسه بدت رجلاه ، وإذا مدّها على رجليه بدا رأسه ، فمدّها على رأسه وألقى على رجليه الحشيش.

وأمر رسول الله أن يجمعوا القتلى فصلّى عليهم (مع حمزة) وكبّر على حمزة سبعين تكبيرة. ودفنهم في مضاجعهم (١).

__________________

ـ الآية ... فعفا رسول الله فلم يمثّل بأحد ١ : ٢٩٠. ولعلّ جبرئيل نزل بالآية مذكّرا بها لا إنزالا.

(١) وروى ابن إسحاق في السيرة ٣ : ١٠٢ بسنده عن ابن عبّاس قال : أمر رسول الله بحمزة فسجّي ببردة ، ثمّ صلّى عليه فكبّر سبع تكبيرات ، ثمّ اتي بالقتلى (واحدا واحدا) يوضعون إلى جانب حمزة فكان يصلّي عليه وعليهم (في كلّ مرّة) حتى صلّى عليه اثنتين وسبعين صلاة ٣ : ١٠٢.

وروى عن الزهري عن العذري قال : إنّ رسول الله أشرف على القتلى يوم احد فقال : أنا شهيد على هؤلاء أنّه ما من جريح يجرح في الله إلّا والله يبعثه يوم القيامة يدمي جرحه ، اللون لون دم والريح ريح مسك.

ورواه كذلك عن عمّه موسى بن يسار عن أبي هريرة ٣ : ١٠٤ وكأنّه كان في مقام الاكتفاء بدمائهم عن غسلهم ، فقد روى الخبر الواقدي قال : ولم يغسّل رسول الله الشهداء يومئذ (ممّا يوهم غسلهم قبل ذلك) وقال : لفّوهم بدمائهم وجراحهم فإنّه ليس أحد يجرح في سبيل الله إلّا جاء يوم القيامة لون جرحه لون الدم وريحه ريح المسك. ثمّ قال : ضعوهم فأنا الشهيد على هؤلاء يوم القيامة.

قال : وكان حمزة أوّل من جيء به إلى النبيّ فصلّى عليه رسول الله ... ثمّ جمع إليه الشهداء فكان كلّما أتي بشهيد وضع إلى جنب حمزة فصلّى عليه وعلى الشهيد حتى صلّى عليه سبعين مرّة ، لأنّ الشهداء سبعون. ويقال : كان يؤتى بتسعة وحمزة عاشرهم فيصلّي


__________________

ـ عليهم وترفع التسعة ويترك حمزة مكانه ويؤتى بتسعة آخرين فيوضعون إلى جنب حمزة فيصلّي عليه وعليهم ، فعل ذلك سبع مرّات.

قال : وكان ابن عبّاس وجابر بن عبد الله وطلحة بن عبيد الله يقولون : صلّى رسول الله على قتلى احد وقال : أنا شهيد على هؤلاء. فقال أبو بكر : ألسنا إخوانهم أسلمنا كما أسلموا وجاهدنا كما جاهدوا! قال : بلى ، ولكنّ هؤلاء لم يأكلوا من اجورهم شيئا ، ولا أدري ما تحدثون بعدي! فبكى أبو بكر وقال : إنّا لكائنون بعدك! ١ : ٣٠٩ ، ٣١٠.

ونقل ابن إسحاق ـ أيضا ـ عن آل عبد الله بن جحش ، وهو ابن اميمة بنت عبد المطّلب أخت حمزة ، فحمزة خاله ، قالوا : إنّ رسول الله دفنه مع حمزة في قبره. وكانوا يدفنون الاثنين والثلاثة في القبر الواحد.

ثمّ روى عن بني سلمة قالوا : إنّ رسول الله حين أمر بدفن القتلى قال : انظروا إلى عمرو ابن الجموح وعبد الله بن عمرو بن حرام (أبي جابر بن عبد الله) فاجعلوهما في قبر واحد فإنّهما كانا متصافيين في الدنيا ٣ : ١٠٣ و ١٠٤.

وقال الواقدي في عبد الله بن جحش : دفن هو وحمزة في قبر واحد ١ : ٢٩١.

وقال : قال جابر (بن عبد الله الأنصاري) : كان أبي (عبد الله بن عمرو بن حرام) أوّل قتيل قتل يوم احد من المسلمين ، قتله سفيان بن عبد شمس السّلمي فصلّى عليه رسول الله قبل الهزيمة ١ : ٢٦٦.

وقال أبو طلحة : كان عمرو بن الجموح في الرعيل الأوّل حين ثاب المسلمون (بعد الهزيمة) ولكأنّى انظر إلى ضلعه (عوج في رجله خلقة) وهو يقول : أنا والله مشتاق إلى الجنّة ، وابنه يعدو في أثره ، فقاتلا حتى قتلا جميعا ١ : ٢٦٥.

فوجد (هو وعبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر) وقد مثل بهما كلّ المثل قد قطعت أعضاؤهما حتى لا يعرف أبدانهما ، فقال النبيّ : ادفنوا هذين المتحابّين في الدنيا في قبر


__________________

ـ واحد ، وكان عبد الله بن عمرو رجلا أحمر أصلع ، وكان عمرو بن الجموح طويلا.

فلمّا أراد معاوية أن يجري عين كظامة (قناة من احد إلى المدينة) نادى مناديه : من كان له قتيل باحد فليشهد. فخرج الناس إلى قتلاهم فوجدوهم طرايا يتثنون ، وأصابت المسحاة رجلا منهم فانبعث دما! وكلّما حفروا التراب فاح عليهم المسك ١ : ٢٦٨ وحفر عنهما وعليهما نمرتان (شملتان). وكانت يد عبد الله على جرح وجهه فاميطت يده فانبعث الدم فردّت إلى مكانها فسكن الدم ، وما تغيّر من حاله قليل ولا كثير ، كأنّه نائم وبين ذلك وبين دفنه ست وأربعون سنة ١ : ٢٦٧ وكانت القناة تمرّ على قبرهما فحوّل إلى مكان آخر ١ : ٢٦٨.

قال الواقدي : قال رسول الله للمسلمين يومئذ : احفروا وأوسعوا وأحسنوا ، وادفنوا الاثنين والثلاثة في القبر وقدّموا أكثرهم قرآنا. فكان المسلمون يقدّمون في القبر أكثرهم قرآنا.

وكان ممّن يعرف أنّه دفن في قبر واحد : خارجة بن زيد وسعد بن الربيع ، والنعمان بن مالك وعبدة بن الحسحاس في قبر واحد ١ : ٣١٠.

وقال : وقد كان رسول الله يزورهم في كلّ حول ، فإذا صار بفم الشعب رفع صوته ، يقول : السّلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار!

ومرّ رسول الله على مصعب بن عمير فوقف عليه وقرأ : (... رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب : ٢٣) ثمّ قال لأصحابه : أشهد أنّ هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة ، فاتوهم وزوروهم وسلّموا عليهم ، والذي نفسي بيده لا يسلّم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلّا ردّوا عليه.

وكان يقول : ليت أنّي غودرت مع أصحاب الجبل (شهداء احد).

وكانت أمّ سلمة زوج النبيّ تذهب فتسلّم عليهم في كلّ شهر فتظلّ يومها عندهم ،


وخرجت فاطمة بنت رسول الله تعدو على قدميها حتى وافت رسول الله (١).

فنقل الطبرسي في «إعلام الورى» عن كتاب أبان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي قال : لمّا انتهت فاطمة وصفيّة إلى رسول الله ونظرتا إليه (ونظر إليهما) قال لعليّ : أمّا عمّتي فاحبسها عنّي ، وأمّا فاطمة فدعها.

فلمّا دنت فاطمة من رسول الله ورأته قد شجّ في وجهه وادمي فوه إدماء ، صاحت وجعلت تمسح الدم وتقول : اشتدّ غضب الله على من أدمى وجه رسول الله (٢). وقال القمي : وقعدت بين يديه فكان إذا بكى رسول الله بكت لبكائه وإذا

__________________

ـ فجاءت يوما ومعها غلامها نبهان فلم يسلّم ، فقالت له : يا لكع (لئيم) ألا تسلّم عليهم؟! والله لا يسلّم عليهم أحد إلّا ردّوا إلى يوم القيامة!

وكانت فاطمة بنت رسول الله تأتيهم بين اليومين والثلاثة فتبكي عندهم وتدعو.

وعدّ من الزائرين : سلمة بن سلامة ، ومحمّد بن مسلمة وأبا سعيد الخدري وأبا هريرة وأبا بكر وعمر وعثمان وسعد بن أبي وقّاص ومعاوية ١ : ٣١٣ و ٣١٤.

(١) تفسير القمي ١ : ١٢٣ و ١٢٤.

(٢) إعلام الورى ١ : ١٧٩. وقال ابن إسحاق : وبلغني أنّ صفيّة بنت عبد المطّلب أقبلت لتنظر إليه (حمزة) ـ وكان أخاها لأبيها وامّها ـ فقال رسول الله لابنها الزبير بن العوّام : القها فأرجعها لا ترى ما بأخيها. فقال لها : يا امّه ، إنّ رسول الله يأمرك أن ترجعي. قالت : ولم؟ وقد بلغني أن قد مثّل بأخي ، وذلك في الله ، فما أرضانا بما كان في ذلك ، لأحتسبنّ ولأصبرنّ إن شاء الله!

فلمّا جاء الزبير إلى رسول الله فأخبره بذلك قال : خلّ سبيلها. فأتته فنظرت إليه فصلّت واسترجعت واستغفرت له ٣ : ١٠٢ و ١٠٣.


انتحب انتحبت (١).

__________________

ـ وحدّث الواقدي عن صفيّة قالت : عرفت انكشاف أصحاب رسول الله .. فخرجت والسيف في يدي حتى إذا كنت في بني حارثة أدركت نسوة من الأنصار ومعهنّ أم أيمن ، فعدونا حتى انتهينا إلى رسول الله وأصحابه أوزاع (متفرّقون) فأوّل من لقيت عليا ابن أخي ، فقال : ارجعي يا عمّة ، فإنّ في الناس تكشّفا. فقلت : ورسول الله؟ فقال : صالح بحمد الله. قلت : ادللني عليه حتى أراه ، فأشار لي إليه إشارة خفيّة من المشركين ، فانتهيت إليه وبه الجراحة.

ولمّا وقف النبيّ على حمزة وحفر له طلعت صفيّة ، فقال رسول الله للزبير : يا زبير أغن عنّي امّك. فقال الزبير لامّه : يا امّه ، إن في الناس تكشّفا (فارجعي) فقالت : ما أنا بفاعلة حتى أرى رسول الله ، فلمّا رأت رسول الله قالت : يا رسول الله أين ابن أمي حمزة؟ قال رسول الله : هو في الناس! قالت : لا أرجع حتى أنظر إليه. فجعل الزبير يوطّدها إلى الأرض حتى دفن حمزة ١ : ٢٨٨ و ٢٨٩.

وقال : فيقال : قال رسول الله : دعوها (فجاءت) حتى جلست عند (النبيّ على قبر حمزة) فجعلت تبكي ويبكي رسول الله ، وتنشج وينشج رسول الله ، وفاطمة ابنته تبكي فيبكي رسول الله ، ويقول : لن اصاب بمثل حمزة أبدا!

ثمّ قال لهما رسول الله : أبشرا ، فقد أتاني جبرئيل فأخبرني أن حمزة مكتوب في أهل السموات السبع : حمزة بن عبد المطّلب أسد الله وأسد رسوله ١ : ٢٩٠ وابن هشام ٣ : ١٠٢ هذا الحديث الأخير فقط.

(١) تفسير القمي ١ : ١٢٤. وقال الواقدي : قالوا : وخرجت فاطمة في نساء ... كنّ يحملن الطعام والشراب على ظهورهنّ ويسقين الجرحى ويداوينهم ، وهنّ أربع عشرة امرأة منهنّ فاطمة بنت رسول الله ... وأمّ سليم بنت ملحان وعائشة على ظهورهما القرب يحملانها ، وحمنة بنت جحش (بنت اميمة ابنة عبد المطّلب اخت حمزة) تسقي العطشى وتداوي


__________________

ـ الجرحى ، وأم أيمن تسقي الجرحى.

ورأت فاطمة الذي بوجه رسول الله فاعتنقته وجعلت تمسح الدم عن وجهه ، ورسول الله يقول : اشتدّ غضب الله على قوم أدموا وجه رسوله! وقال علي عليه‌السلام لفاطمة : أمسكي هذا السيف غير ذميم ، وذهب يأتي بماء من المهراس (اسم لنقر كبار وصغار يجتمع فيها ماء المطر في أقصى شعب احد ، كما في وفاء الوفاء ٢ : ٧٩ عن المبرّد) فأتى بماء في مجنّته (الترس) فمضمض منه فاه ليغسل به الدم من فيه ، وغسلت فاطمة الدم عن أبيها ، وعليّ يصبّ عليها الماء بالمجن (الترس) ... وجعل النبيّ يقول : لن ينالوا منّا مثلها حتى تستلموا الركن!

ولمّا رأت فاطمة أنّ الدم لا يرقأ أخذت قطعة حصير ـ أو صوفة ـ فأحرقته حتى صار رمادا ثمّ ألصقته بالجرح فاستمسك الدم ١ : ٢٤٩ و ٢٥٠.

ولكنّ المفيد في الإرشاد قال : لمّا انصرف النبيّ إلى المدينة استقبلته فاطمة عليها‌السلام ولحقه أمير المؤمنين وقد خضّب الدم يده إلى كتفه ومعه ذو الفقار فناوله فاطمة وقال لها : خذي هذا السيف فقد صدقني اليوم ... وقال رسول الله : خذيه يا فاطمة فقد أدّى بعلك ما عليه ، وقد قتل الله بسيفه صناديد قريش. الإرشاد ١ : ٨٩ ، ٩٠.

اللهم إلّا أن تكون قد حضرت احدا مع النساء ثمّ رجعت قبل انصراف المسلمين فاستقبلتهم.

وقد قال الواقدي قبل ذلك : وكان سالم مولى أبي حذيفة (ابن المغيرة المخزومي) يغسل الدم عن وجه رسول الله وهو يقول : كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله ١ : ٢٤٥.

وكأنّ الرواة رأوا مولى أبي حذيفة أولى برسول الله من ابنته فاطمة عليها‌السلام!

هذا بالإضافة إلى ما رووه أنّه قال لعليّ عليه‌السلام : إن كنت أحسنت القتال فقد أحسن عاصم بن ثابت والحارث بن الصمّة وسهل بن حنيف وسيف أبي دجانة غير مذموم ١ :


وقال القمي : ومرّ رجل من الأنصار بعمرو بن وقش فرآه صريعا بين القتلى (المسلمين) وكان قد تأخّر إسلامه ، فقال له : يا عمرو ، أنت على دينك الأوّل؟ فقال : معاذ الله ، والله إنّي أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا رسول الله ، ثمّ مات.

فسأل رجل رسول الله ، يا رسول الله إن عمرو بن وقش قد أسلم ، فهو شهيد؟

فقال : إي والله إنّه لشهيد ، وما رجل لم يصلّ لله ركعة دخل الجنّة غيره! (١).

__________________

ـ ٢٤٩ وذلك من أخلاق الرسول الكريم بعيد جدّ البعد أن يهوّن من شأن عليّ وسيفه ذي الفقار في ذلك اليوم!

(١) تفسير القمي ١ : ١١٧. وروى ابن إسحاق في السيرة ٣ : ٩٥ عن محمود بن أسد قال : كان (عمرو بن ثابت بن وقش) يأبى الاسلام على قومه ، فلما كان يوم خرج رسول الله إلى احد بدا له في الاسلام فأسلم ودخل في عرض الناس وقاتل حتى أثبتته الجراحة. فبينا رجال من بني عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذا هم به ، فقالوا : ما جاء به؟ وسألوه فقالوا : ما جاء بك يا عمرو؟ أحدب على قومك؟ أم رغبة في الاسلام؟ قال : بل رغبة في الاسلام ، آمنت بالله وبرسوله وأسلمت ثم أخذت سيفي فغدوت مع رسول الله ثم قاتلت حتى أصابني ما أصابني : ثم لم يلبث أن مات في أيديهم.

فذكروه لرسول الله فقال : إنّه لمن أهل الجنة ٣ : ٩٥.

وقال الواقدي : وجد في القتلى جريحا فدنوا منه وهو في آخر رمق فقالوا : ما جاء بك يا عمرو؟ قال : آمنت بالله ورسوله ثم أخذت سيفي وحضرت ، ومات في أيديهم. فقال رسول الله : انه لمن أهل الجنة ١ : ٢٦٢ وقتله ضرار بن الخطاب وأخوه سلمة بن ثابت قتله أبو سفيان بن حرب ورفاعة بن وقش قتله خالد بن الوليد ١ : ٣٠١. وقد ذكرنا عمرو بن ثابت وأباه ثابت بن وقش مع الملتحقين ببدر ورأينا ذكره هنا مع المستشهدين.


قال ابن إسحاق : وكان ممن قتل يوم احد ، مخيريق (اليهودي) من بني ثعلبة بن فطيون ... (أسلم) وغدا إلى رسول الله فقاتل معه حتى قتل ، فبلغنا أن رسول الله قال : مخيريق خير يهود (١).

وبعض النفل :

روى الواقدي بسنده عن عمر بن الحكم قال : ما بقي شيء مع أحد من أصحاب رسول الله الذين أغاروا على النهب فأخذوا ما أخذوا من الذهب ، إلّا رجلين :

أحدهما : عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح ، والآخر : عباد بن بشر ، فانهما أتيا رسول الله باحد ، فجاء عباد بصرّة فيها ثلاثة عشر مثقالا كان قد ألقاها في جيب قميصه وفوقها الدرع قد حزم وسطه ، وجاء عاصم بمنطقة وجدها في العسكر فيها خمسون دينارا فشدّها على حقويه من تحت ثيابه. فنفّلهما رسول الله ولم يخمّسه (٢).

بعض النساء المفجوعات :

روى القمي في تفسيره قال : واستقبلته حمنة (٣) بنت جحش ، فقال لها

__________________

(١) وكان قد قال لقومه : يا معشر يهود ، والله لقد علمتم أنّ (محمدا نبيّ) وأنّ نصره عليكم لحقّ ... وأخذ عدّته وسيفه وقال لهم : إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء ـ ٣ : ٩٤. وقال الواقدي : يضعها حيث أراه الله. فهي عامة صدقات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ١ : ٢٦٣. وقد ذكرناه مع الملتحقين ببدر ورأينا ذكره هنا مع المستشهدين.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٢٣١ ـ ٢٣٢.

(٣) في الأصل المطبوع : زينب ، وهي اخت حمنة ، وكانت زوج النبيّ ولم تكن زوج مصعب ،


رسول الله : احتسبي. فقالت : من يا رسول الله؟ قال : أخاك (عبد الله بن جحش) قالت : إنا لله وانا إليه راجعون ، هنيئا له الشهادة. ثم قال لها : احتسبي. قالت : من يا رسول الله؟ قال : حمزة بن عبد المطلب (خالك) قالت : إنا لله وإنّا إليه راجعون ، هنيئا له الشهادة. ثم قال لها : احتسبي. قالت : من يا رسول الله؟ قال : زوجك مصعب بن عمير. قالت : وا حزناه!

فقيل لها : لم قلت ذلك في زوجك (دون سواه)؟

قالت : ذكرت يتم ولده.

وقال رسول الله : إنّ للزوج عند المرأة لحدّا ما لأحد مثله! (١).

__________________

ـ وأما زوج مصعب فهي اختها حمنة ، كما في ابن هشام ٣ : ١٠٤. والواقدي ١ : ٢٩١ وتزوجها بعد مصعب طلحة بن عبيد الله التيمي كما في الواقدي ١ : ٢٩٢.

(١) تفسير القمي ١ : ١٢٤. وقال ابن إسحاق في السيرة ٣ : ١٠٤ ذكر لي : أن حمنة بنت جحش استقبلت رسول الله لما انصرف راجعا الى المدينة ، فلما لقيها الناس نعوا إليها أخاها عبد الله بن جحش ، فاسترجعت واستغفرت له. ثم نعوا لها خالها حمزة بن عبد المطلب فاسترجعت واستغفرت له. ثم نعوا لها زوجها مصعب بن عمير فصاحت وولولت!

فلما رأى رسول الله تثبّتها عند ذكر أخيها وخالها وصياحها على زوجها قال : إن زوج المرأة منها لبمكان! ـ ٣ : ١٠٣.

وقال الواقدي : وأقبلت حمنة بنت جحش فقال لها رسول الله : يا حمن احتسبي! قالت : من يا رسول الله؟ قال : خالك حمزة ، قالت : إنا لله وإنّا إليه راجعون غفر الله له ورحمه ، هنيئا له الشهادة! ثم قال لها : احتسبي! قالت : من يا رسول الله؟ قال : أخوك. قالت : إنا لله وانا إليه راجعون ، غفر الله له ورحمه ، هنيئا له الجنة! ثم قال لها : احتسبي! قالت : من يا رسول الله؟ قال : بعلك مصعب بن عمير! قالت : وا حزناه! فقال لها رسول


ونقل الطبرسي في «إعلام الورى» عن كتاب أبان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي قال :

ودنت امرأة من بني النجار قد قتل أبوها وأخوها وزوجها مع رسول الله ، دنت من رسول الله والمسلمون قيام على رأسه فقالت لرجل منهم : أحيّ رسول الله؟ قال : نعم ، قالت : استطيع أن أنظر إليه؟ قال : نعم ، فأوسعوا لها فدنت منه وقالت : كل مصيبة بعدك جلل! وانصرفت (١).

__________________

ـ الله : لم قلت هذا؟ قالت : يا رسول الله ذكرت يتم بنيه فراعني. فدعا رسول الله لولده أن يحسن عليهم الخلف. وقال : إنّ للزوج من المرأة مكانا ما هو لأحد! ١ : ٢٩١ ـ ٢٩٢.

(١) إعلام الورى ١ : ١٨٣ وروى ابن اسحاق في السيرة ٣ : ١٠٥ بسنده عن سعد بن أبي وقّاص قال : ان امرأة من بني دينار قد اصيب أبوها وأخوها وزوجها مع رسول الله باحد ، فلما نعوا لها قالت : فما فعل رسول الله؟ قالوا : يا أم (فلان) هو بحمد الله كما تحبّين. قالت : أرونيه أنظر إليه. فأشاروا إليه ، فلما رأته قالت له : كل مصيبة بعدك جلل ، تريد : صغيرة ـ ٣ : ١٠٥.

وقال الواقدي : إن السميراء (وفي شرح النهج ١٥ : ٣٧ : السمراء) بنت قيس من بني دينار اصيب ابناها (من زوجيها) : سليم بن الحارث والنعمان بن عبد عمرو ، أصيبا مع النبيّ باحد ، فلما خرجت ونعيا لها قالت : ما فعل رسول الله؟ قالوا : هو بحمد الله صالح على ما تحبّين. قالت : أرونيه انظر إليه. فأشاروا لها إليه ، فلما رأته قالت له : يا رسول الله ، كل مصيبة بعدك جلل.

ثمّ خرجت ببعير إلى أحد فحملت ابنيها الى المدينة ، فلقيتها عائشة فقالت لها : ما وراءك؟ قالت : أما رسول الله فبخير بحمد الله ، واتّخذ الله من المؤمنين شهداء! فقالت لها عائشة : فمن هؤلاء معك؟ قالت : ابناي ١ : ٢٩٢.

وقال : وكانت عائشة قد خرجت مع نسوة تستروح الخبر ، ولم يضرب الحجاب يومئذ ،


__________________

ـ فلما هبطت من بني حارثة الى الوادي حتى اذا كانت بآخر الحرّة (أرض الحجارة السود) لقيت هند بنت عمرو بن حرام اخت عبد الله بن عمرو بن حرام وزوج عمرو بن الجموح ، وكانت تسوق بعيرا عليه أخوها عبد الله وزوجها عمرو وابنها خلّاد بن عمرو ، فقالت لها عائشة : عندك الخبر فما وراءك؟ فقالت هند : أما رسول الله فصالح ، وكل مصيبة بعده جلل واتخذ الله من المؤمنين شهداء. قالت : فمن هؤلاء؟ قالت : أخي وزوجي وابني خلّاد. قالت : فأين تذهبين بهم؟ قالت : الى المدينة أقبرهم فيها ... ثم قالت لبعيرها : حل حل ، تزجره. فبرك (ولم يتحرك) فزجرته اخرى فقام فوجّهته الى المدينة فبرك ، فوجّهته راجعة الى احد فأسرع! فرجعت الى النبيّ فأخبرته بذلك فقال رسول الله : إن الجمل مأمور .. يا هند ، ما زالت الملائكة مظلة على أخيك من لدن قتل الى الساعة ينظرون أين يدفن! ثم مكث رسول الله حتى قبرهم ، ثم قال : يا هند ، ترافقوا في الجنة جميعا : عمرو بن الجموح وابنك خلاد وأخوك عبد الله. فقالت هند : يا رسول الله فادع الله عسى أن يجعلني معهم! ١ : ٢٦٥ ـ ٢٦٦.

هذا وقد مرّ عنه أن عائشة خرجت مع أربع عشرة امرأة على ظهورهن قرب الماء يسقين الجرحى ، وعائشة على ظهرها قربة ١ : ٢٤٩ ، فيعلم من هذا أنهن كن متأخرات في ذلك ، ولعلهن خرجن بعد خروج ابنة خديجة الكبرى : فاطمة الزهراء وعمة النبيّ صفية بنت عبد المطلب وأم أيمن حاضنة النبيّ ، وكان خروجها حين وصل إلى المدينة المنهزمون فلقيتهم أمّ أيمن تحثي في وجوههم التراب وتقول لهم : هاك المغزل فاغزل به وهلمّ سيفك! ١ : ٢٧٨.

وأما مأمورية الجمل فلعله هو ما قاله ابن اسحاق في السيرة ٣ : ١٠٣ : أن رسول الله لما بلغه أن أناسا من المسلمين قد احتملوا قتلاهم الى المدينة نهى عن ذلك وقال : ادفنوهم حيث صرعوا ٣ : ١٠٣. ولعل السميراء مرقت بولديها الى المدينة قبل نهي الرسول عن


رجوع الرسول من احد :

قال الواقدي : فلمّا فرغ رسول الله من دفن أصحابه دعا بفرسه فركبه ، وخرج المسلمون حوله ، عامتهم جرحى ، وأكثرهم في بني سلمة وبني عبد الأشهل ... فلمّا كانوا بأصل الحرّة (أول الحجارات السود) قال : اصطفّوا فنثني على الله. فاصطفّ الناس ... فرفع يديه فدعا :

«اللهم لك الحمد كلّه ، اللهم لا قابض لما بسطت ولا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا هادي لمن أضللت ولا مضلّ لمن هديت ، ولا مقرّب لما باعدت ولا مباعد لما قرّبت!

اللهم إنّي أسألك من بركتك ورحمتك ، وفضلك وعافيتك.

اللهم إنّي أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول!

اللهم إنّي أسألك الأمن يوم الخوف ، والغناء يوم الفاقة ، عائذا بك اللهم من شرّ ما أعطيتنا وشرّ ما منعت منّا. اللهم توفّنا مسلمين.

اللهم حبّب إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا ، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.

اللهم عذّب كفرة أهل الكتاب الذين يكذّبون رسلك ويصدّون عن سبيلك.

__________________

ـ ذلك. وقال الواقدي : ثم إن الناس حملوا قتلاهم الى المدينة ، فنادى منادي رسول الله : ردوا القتلى الى مضاجعهم! وكان الناس قد دفنوا قتلاهم في البقيع وغيره فلم يرد أحد أحدا إلّا شماس بن عثمان المخزومي مات عند أمّ سلمة بعد يوم وليلة ولم يدفن بعد فأمر رسول الله أن يرد الى احد فيدفن هناك كما هو في ثيابه التي مات فيها ـ شرح النهج ١٥ : ٣٩ عن الواقدي وليس فيه.


اللهم أنزل عليهم رجسك وعذابك ، إله الحقّ آمين» (١).

قال : وكان أبو سعيد الخدري يحدّث يقول : كنت من الذين ردّهم رسول الله ولم يجزهم مع المقاتلين من موضع الشيخين (في طريق احد) فلما كان نهار احد وبلغنا مصاب رسول الله وتفرّق الناس عنه ، جئت مع غلمان من بني خدرة (عشيرته) ننظر إلى سلامة رسول الله فنرجع بذلك إلى أهلنا ، فلقيناهم بوادي بطن قناة. فلما نظر إليّ رسول الله قال : سعد بن مالك؟ قلت : نعم ؛ بأبي وامّي! ودنوت منه فقبّلت ركبته وهو على فرسه. فقال : آجرك الله في أبيك.

ثمّ نظرت إلى وجهه فإذا في كلّ وجنة من وجنتيه موضع (حلقة المغفر) مثل الدرهم ، وإذا شجّة عند اصول الشعر (في جبهته) وإذا شفته السفلى تدمى ، وإذا رباعيته اليمنى شظية ، وعلى جرح (جبهته) شيء أسود ، فسألت : ما هذا على وجهه؟ قالوا : حصير محترق. وسألت : من دمّى وجنتيه؟ قيل ابن قميئة. قلت : من شجّه في جبهته؟ قيل : ابن شهاب. قلت : من أصاب شفته؟ قيل : عتبة (بن أبي وقاص الزهري أخو سعد) فجعلت أعدو بين يديه (٢).

ونقل الطبرسي في «إعلام الورى» عن كتاب أبان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي قال :

وانصرف رسول الله إلى المدينة ، فمرّ بدور بني الأشهل وبني ظفر فسمع بكاء النوائح على قتلاهنّ ، فترقرقت عينا رسول الله وبكى ثمّ قال : لكنّ حمزة لا بواكي له اليوم! فلمّا سمعها سعد بن معاذ واسيد بن حضير قالا : لا تبكينّ امرأة

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ٣١٤ و ٣١٥.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٢٤٧ و ٢٤٨.


حميمها حتى تأتي فاطمة فتسعدها (١).

قال الواقدي : وخرج النساء ينظرن الى سلامة رسول الله.

فروى عن أمّ عامر من بني عبد الأشهل قالت : كنّا في نوح على قتلانا إذ قيل لنا : قد أقبل النبيّ ، فخرجنا ننظر إليه ، فنظرت إليه والدرع عليه فقلت له : كلّ مصيبة بعدك جلل!

وكان رسول الله على فرسه وسعد بن معاذ آخذ بعنان فرسه ، إذ خرجت امّه تعدو نحوه ، فقال سعد : يا رسول الله امّي! فقال رسول الله : مرحبا بها! فدنت حتى تأمّلت رسول الله فقالت : أمّا إذ رأيتك سالما فقد أشوت (٢) المصيبة.

فعزّاها رسول الله بابنها عمرو بن معاذ (أخي سعد) فقال لها :

يا أمّ سعد أبشري وبشّري أهليهم أنّ قتلاهم قد ترافقوا في الجنّة جميعا ، وقد شفّعوا في أهليهم (وكانوا اثني عشر رجلا).

فقالت : رضينا يا رسول الله ، ومن يبكي عليهم بعد هذا؟! يا رسول الله ادع لمن خلّفوا.

فقال : اللهم أذهب حزن قلوبهم واجبر مصيبتهم ، وأحسن الخلف على من خلّفوا.

ثمّ قال لسعد بن معاذ : خلّ يا أبا عمرو الدابّة. فخلّى الفرس ، وتبعه الناس. فقال رسول الله له : يا أبا عمرو ، إنّ الجراح في أهل دارك فاشية وليس فيهم مجروح إلّا يأتي يوم القيامة جرحه كأغرز ما كان ، اللون لون دم والريح ريح

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ١٨٣ ، وصدر الخبر عن أبي بصير عن الصادق عليه‌السلام. وزاد الصدوق في الفقيه : فآلى أهل المدينة أن لا ينوحوا على ميّت ولا يبكوه حتى يبدءوا بحمزة فينوحوا عليه ويبكوه ، فهم الى اليوم على ذلك ١ : ١٨٣ ح ٥٥٣.

(٢) اشوت : قلّت.


المسك ، فمن كان مجروحا فليقرّ في داره وليدا وجرحه ، ولا يبلغ معي بيتي ، عزمة منّي!

فنادى فيهم سعد : عزمة رسول الله ، ألّا يتّبع رسول الله جريح من بني عبد الأشهل! فتخلّف كلّ مجروح ، وإنّ فيهم لثلاثين جريحا. ولكن سعد بن معاذ مضى معه إلى بيته (١).

وروى عن أبي سعيد الخدري قال : جعلت أعدو بين يديه حتّى انزل ببابه يتّكئ على السعدين : سعد بن عبادة وسعد بن معاذ ، ورأيت ركبتيه مجروحتين (٢).

وروى المفيد في «الإرشاد» قال : فاستقبلته فاطمة عليها‌السلام ومعها إناء فيه ماء ، فغسل به وجهه. ولحقه أمير المؤمنين وقد خضّب الدم يده إلى كتفه ، ومعه ذو الفقار ، فناوله فاطمة عليها‌السلام وقال لها : خذي هذا السيف فقد صدقني اليوم ، وأنشأ يقول :

أفاطم هاك السيف غير ذميم

فلست برعديد ولا بمليم

لعمري لقد أعذرت في نصر أحمد

وطاعة ربّ بالعباد عليم

أميطي دماء القوم عنه فإنّه

سقى آل عبد الدار كأس حميم

فقال رسول الله : خذيه يا فاطمة ، فقد أدّى بعلك ما عليه ، وقتل الله بسيفه صناديد قريش (٣).

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ٣١٥ و ٣١٦.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٢٤٨.

(٣) الإرشاد ١ : ٩٠ ، وقد مرّ عن الطبرسي والواقدي : حضور الزهراء إلى احد ، فلعلّها رجعت قبل رجوعهم فاستقبلته. وقد روى البيتين الأوليّين عن محمّد بن إسحاق ، المعتزلي في شرح النهج ١٥ : ٣٥ ، وليس في المطبوع من ابن هشام.


وقال ابن إسحاق : فلمّا رجع سعد بن معاذ واسيد بن حضير إلى دور بني عبد الأشهل أمرا نساءهم أن يتحزّمن ويذهبن (؟) فيبكين على عمّ رسول الله (١).

وقال الواقدي : ورجع (سعد بن معاذ) إلى نسائه فساقهنّ إلى بيت رسول الله (٢) ويقال : وجاء معاذ بن جبل بنساء بني سلمة ، وجاء عبد الله بن رواحة بنساء بني الحارث بن الخزرج (٣).

وروى عن أبي سعيد الخدري قال : فلمّا غربت الشمس وأذّن بلال بالصلاة خرج رسول الله على مثل تلك الحال يتوكّأ على السعدين ، ثمّ انصرف إلى بيته (٤).

قال : فبكين النساء بين المغرب والعشاء (٥) وبقي الناس في المسجد يوقدون النيران يكمّدون بها الجراح.

ثمّ أذّن بلال بالعشاء حين غاب الشفق ، وكان رسول الله نائما فلم يخرج ، فجلس بلال عند بابه حتى ذهب ثلث الليل ثمّ ناداه : الصلاة يا رسول الله (٦).

قال : وقام رسول الله حين فرغ من النوم لثلث الليل فسمع البكاء فقال : ما هذا؟ فقيل : نساء الأنصار يبكين على حمزة. فقال لهنّ رسول الله : رضي الله عنكنّ وعن أولادكنّ. وأمر النساء أن يرجعن إلى منازلهنّ. قالت أمّ سعد بن معاذ : فرجعنا إلى بيوتنا معنا رجالنا (٧).

__________________

(١) ابن هشام ٣ : ١٠٥.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٣١٦ فكان حاضرا للصلاة.

(٣) مغازي الواقدي ١ : ٣١٧.

(٤) مغازي الواقدي ١ : ٢٤٨.

(٥) مغازي الواقدي ١ : ٣١٦.

(٦) مغازي الواقدي ١ : ٢٤٨.

(٧) مغازي الواقدي ١ : ٣١٦ و ٣١٧.


وقال الطبرسي : فلمّا سمع رسول الله الواعية على حمزة على باب المسجد ـ وهو عند فاطمة ـ قال لهنّ : ارجعن ـ رحمكن الله ـ فقد آسيتنّ بأنفسكنّ (١) ورواه ابن إسحاق بسنده عن بعض رجال بني عبد الأشهل. ورواه ابن هشام عن أبي عبيدة (٢).

فروى الواقدي بسنده قال : لمّا كان ليلة الأحد ... وبلال جالس على باب النبيّ وقد أذّن ، وهو ينتظر خروج النبيّ ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلم ـ. فلمّا خرج نهض إليه عبد الله بن عمرو بن عوف المزنيّ فقال له : يا رسول الله ، أقبلت من أهلي حتى إذا كنت بملل ، فإذا قريش قد نزلوا (فيه) فقلت (في نفسي) : لأدخلنّ فيهم ولأسمعنّ من أخبارهم. فجلست معهم ، فسمعت أبا سفيان وأصحابه يقولون : ما صنعنا شيئا ، أصبتم شوكة القوم وحدّتهم ، فارجعوا نستأصل من بقي! وصفوان يأبى ذلك عليهم (٣).

أمّا عن كيفيّة خروجه لصلاة العشاء ففي روايته عن أبي سعيد الخدري قال : فخرج (للعشاء) فإذا هو أخفّ في مشيته منه حين دخل بيته ، فصلّيت معه العشاء ، ثمّ رجع إلى بيته يمشي وحده ، وقد صفّ له الرجال ما بين مصلاه إلى بيته حتى دخل بيته ، وبقي وجوه الأوس والخزرج على باب النبيّ يحرسونه ، خوفا من

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ١٨٣.

(٢) ابن هشام ٣ : ١٠٥.

(٣) مغازي الواقدي ١ : ٣٢٦ ضمن تفسيره لآيات آل عمران المشيرة إلى غزوة حمراء الأسد ، ولكن النص هكذا : «لمّا كان في المحرّم (؟!) ليلة الأحد» وليلة الأحد مساء يوم احد لم تكن في غير شوّال ، ولم يعلّق على الخبر بشيء ، وفيه أنّه «لمّا سلّم أمر بلالا فنادى في الناس بطلب عدوّهم» أي بعد صلاة العشاء ليلا.


أن تكرّ عليهم قريش (١). وهم : سعد بن عبادة وسعد بن معاذ ، وحباب بن المنذر ، وأوس بن خوليّ ، وقتادة بن النعمان ، وعبيد بن أوس (٢).

ونقل الطبرسي فيه عن كتاب أبان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي عن أبي نصير عن الصادق عليه‌السلام قال : وكان قزمان قد قتل ستّة أو سبعة من المشركين وقاتل قتالا شديدا حتى أثخنته الجراح فاحتمل إلى دور بني ظفر ، فقال له المسلمون : أبشر يا قزمان! فقد أبليت اليوم! فقال : بم تبشّروني؟! فو الله ما قاتلت إلّا عن أحساب قومي ، ولو لا ذلك ما قاتلت! ولمّا اشتدّت عليه الجراحة أخذ من كنانته مشقصا فقتل به نفسه!

فأتي رسول الله وقيل : إنّ قزمان استشهد ، وذكر لرسول الله حسن معونته لإخوانه ، فقال يفعل الله ما يشاء ، إنّه من أهل النار! فقيل : إنّه قتل نفسه! (٣)

__________________

(١) ورجعت إلى أهلي فأخبرتهم بسلامة رسول الله فحمدوا الله على ذلك وناموا ـ ١ : ٢٤٨ و ٢٤٩.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٣٣٤.

(٣) إعلام الورى ١ : ١٨٢ ، ١٨٣. وروى ابن إسحاق في السيرة ٣ : ٩٣ عن عاصم بن عمر بن قتادة الظّفري (من بني ظفر) قال : لمّا كان يوم احد كان فينا رجل ذو بأس يقال له قزمان لا يدرى ممّن هو ، قاتل قتالا شديدا حتى قتل وحده سبعة أو ثمانية من المشركين ، فأثبتته الجراحة ، فاحتمل إلى دور بني ظفر ، وجعل رجال من المسلمين يقولون له : والله لقد أبليت اليوم يا قزمان ، فابشر. قال : بما ذا أبشر؟ فو الله إن قاتلت إلّا عن أحساب قومي ، ولو لا ذلك ما قاتلت. ولمّا اشتدّت عليه جراحته أخذ من كنانته سهما فقتل به نفسه ـ ٣ : ١٠٣ و ١٠٤.

وقال الواقدي : وكان قزمان لا يدرى ممّن هو معدودا في بني ظفر مقلّا لا زوجة له ولا ولد ، وكان شجاعا ، وشهد احدا فقاتل قتالا شديدا فقتل ستّة أو سبعة


فقال : أشهد أنّي رسول الله.

وروى ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري الظفري (من بني ظفر) عن أبيه عن جدّه قال : كان منهم رجل يدعى يزيد بن حاطب بن اميّة ، أصابته جراحة يوم احد ، فاتي به إلى دار قومه وهو في سكرات الموت ، فاجتمع إليه المسلمون من أهل بيته : أبشر يا بن حاطب بالجنّة!

وكان أبوه حاطب منافقا فاظهر يومئذ نفاقه فقال : بأي شيء تبشّرونه؟

بجنّة من حرمل (حول قبره)؟ والله غررتم هذا الغلام عن نفسه! (١).

وقال الواقدي : لمّا رجع به قومه إلى منزله ، رأى أبوه أهل الدار يبكون عنده ، ولم يكن يقرّ بالإسلام فقال لهم : والله أنتم صنعتم به هذا! قالوا له : وكيف؟

قال : غررتموه من نفسه حتى خرج فقتل ، ثم صرتم تعدونه جنّة يدخل فيها؟! (أجل) جنّة من حرمل (حول قبره) (٢).

قال : ويقال : إنّ عبد الله بن عبد الله بن ابيّ رجع وهو جريح وبات يكوي الجراحة بالنار وجعل أبوه يقول : ما كان خروجك معه إلى هذا الوجه برأي! عصاني محمّد وأطاع الولدان ؛ والله لكأنّي كنت أنظر إلى هذا! وابنه يقول : صنع

__________________

ـ وأصابته الجراح. فقيل له : يا أبا الغيداق هنيئا لك الشهادة! قال : بم تبشّرون؟ قالوا : بشّرناك بالجنّة ، قال : والله ما قاتلت على جنّة ولا نار إنّما قاتلت على الأحساب! ثمّ أخرج من كنانته سهما فجعل يتوجّأ به نفسه ، ولمّا أبطأ عليه أخذ السيف فاتّكأ عليه حتى خرج من ظهره! فذكر ذلك للنبيّ فقيل : قزمان قد أصابته الجراح ، فهو شهيد؟ قال : هو من أهل النار ـ ١ : ٢٦٣ و ٢٦٤.

(١) ابن هشام ٣ : ٩٣.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٢٦٣.


الله لرسوله وللمسلمين خيرا (١).

قال : ويقال : إنّ أبا سلمة بن عبد الأسد (زوج أمّ سلمة) أصابه جرح باحد ، فلم يزل جريحا حتى مات به بعد ذلك (بسنة) (٢).

غزوة حمراء الأسد (٣) :

نقل الطبرسي في «إعلام الورى» عن كتاب أبان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي قال : خرج أبو سفيان (بالمشركين) حتى إذا انتهى إلى الرّوحاء (٤) فأقام بها وهو يهمّ بالرجعة على رسول الله ويقول : قد قتلنا صناديد القوم ، فلو رجعنا استأصلناهم (٥).

وقال في «مجمع البيان» : لمّا انصرف أبو سفيان وأصحابه من احد فبلغوا الرّوحاء ، ندموا على انصرافهم عن المسلمين وتلاوموا فقالوا : لا محمّدا قتلتم ، ولا الكواعب أردفتم قتلتموهم حتى إذا لم يبق منهم إلّا الشريد تركتموهم ، فارجعوا فاستأصلوهم (٦).

وقال القمي في تفسيره : نزلت قريش الروحاء ، فقال عكرمة بن أبي جهل ، والحارث بن هشام ، وعمرو بن العاص ، وخالد بن الوليد : نرجع فنغير على المدينة فقد قتلنا سراتهم وكبشهم (٧).

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ٣١٧.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٣٠٠.

(٣) حمراء الأسد ، وهي من المدينة على ثمانية أميال إلى مكّة ـ مجمع البيان ٢ : ٨٨٦.

(٤) الرّوحاء : كانت لعديّ بن حاتم الطائي وهي على أربعين ميلا من المدينة إلى مكّة.

(٥) إعلام الورى ١ : ١٨٤.

(٦) مجمع البيان ٢ : ٨٨٦.

(٧) تفسير القمي ١ : ١٢٥.


قال : ونزل جبرئيل على رسول الله فقال له : إنّ الله يأمرك أن تخرج في أثر القوم ، ولا يخرج معك إلّا من به جراحة! (١)

وقال الطبرسي : فبلغ ذلك الخبر رسول الله فأراد أن يرهب العدوّ ويريهم من نفسه وأصحابه قوّة. فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان وقال :

«ألا عصابة تشدّد لأمر الله تطلب عدوّها؟ فإنها أنكى للعدو وأبعد للسمع» (٢).

وقال القمي : فأمر رسول الله مناديا ينادي : يا معشر المهاجرين والأنصار ، من كانت به جراحة فليخرج ، ومن لم تكن به جراحة فليقم! (٣).

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١٢٤.

(٢) مجمع البيان ٢ : ٨٨٦.

(٣) تفسير القمي ١ : ١٢٥.

[لجوء ابن عمّ عثمان إليه]

وهنا قبل أن نخرج بالجرحى من صحابة الرسول إلى حمراء الأسد ، حادث حدث صباحا :

كان ممّن انهزم من المشركين يوم احد في الحملة الاولى وقبل النكسة : معاوية بن المغيرة ابن أبي العاص (ابن عمّ عثمان بن عفّان بن أبي العاص) ولكنّه ضلّ الطريق.

قال الواقدي : فنام قريبا من المدينة ، فلمّا أصبح دخل المدينة فأتى منزل عثمان بن عفّان فضرب بابه ، فقالت امرأته أمّ كلثوم بنت رسول الله : ليس هو هاهنا هو عند رسول الله.

فقال معاوية : فأرسلي إليه فإنّ له عندي ثمن بعير اشتريته منه عام أوّل فجئته بثمنه ، وإلّا ذهبت.

فأرسلت إلى عثمان فجاء ، فلمّا رآه قال : ويحك أهلكتني وأهلكت نفسك ، ما جاء بك؟! قال : يا بن عمّ لم يكن لي أحد أقرب إليّ ولا أحقّ منك. فأدخله عثمان في ناحية البيت.

وقال الرسول لأصحابه : إنّ معاوية (ابن المغيرة) قد أصبح بالمدينة فاطلبوه.


__________________

ـ فطلبوه فلم يجدوه.

وخرج عثمان إلى النبيّ يريد أن يأخذ له أمانا. وقال بعض الصحابة لبعض : اطلبوه في بيت عثمان. فدخلوا بيت عثمان وسألوا عنه أمّ كلثوم. فأشارت إلى حمارة لهم (ثلاثة أعواد تربط رءوسها ويخالف بين أرجلها وتعلّق بها الإداوة ليبرد الماء) فاستخرجوه من تحتها وانطلقوا به إلى النبيّ وعثمان جالس عند رسول الله ، فلمّا رآه عثمان قد اتي به قال : والذي بعثك بالحقّ ما جئتك إلّا أن أسألك أن تؤمّنه ، فهبه لي يا رسول الله. فوهبه له وأمّنه مؤجّلا بثلاثة أيّام فإن وجد بعدهنّ قتل! فخرج عثمان فاشترى له بعيرا وجهّزه وقال له : ارتحل ... وخرج عثمان مع المسلمين إلى حمراء الأسد. فأقام معاوية حتى كان اليوم الثالث ثمّ ارتحل وخرج ـ ١ : ٣٣٣.

واختصر خبره ابن هشام في السيرة ٣ : ١١١ قال : ويقال : كان معاوية بن المغيرة (ابن أبي العاص) لجأ إلى عثمان بن عفّان (ابن أبي العاص) فاستأمن له رسول الله فأمّنه على أنّه إن وجد بعد ثلاث قتل! فأقام ثلاثا وتوارى ـ ٣ : ١١١.

وروى خبره الكليني في الجزء الأوّل من فروع الكافي : ٦٩ كما في بحار الأنوار ٢٢ : ١٦٠ عن عليّ بن إبراهيم القمي بسنده عن يزيد بن خليفة الحارثي الخولاني قال : كنت حاضرا عند أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام إذ سأله عيسى بن عبد الله (القمي الأشعري) عن خروج النساء للجنازة ، فقال عليه‌السلام : كان المغيرة بن ابي العاص (كذا) ممّن ندر رسول الله دمه ، فآوى (عثمان) عمّه وقال لابنة رسول الله : لا تخبري أباك بمكانه! وكأنه لا يوقن أنّ الوحي يأتي محمّدا! فقالت : ما كنت لأكتم عن رسول الله عدوّه! وجعله بين مشجب له ولحّفه بقطيفة. وأتى رسول الله الوحي فأخبره بمكانه ...

وروى الخبر القطب الراوندي في الخرائج أخرجه من طريق آخر عن يزيد بن خليفة كما فيما مرّ ، إلّا أنّ فيه : أنّ عثمان خرج إلى رسول الله فاستأمنه لعمّه ، بينما في الكافي : أنّه أخذ


وفي خبر الطبرسي عن كتاب أبان البجلي الكوفي قال : فلمّا كان الغد من يوم احد ، نادى منادي رسول الله في المسلمين : (أن يخرجوا على علّتهم) فخرجوا على علّتهم وما أصابهم من القرح والجرح. وقدّم عليّا براية المهاجرين. حتى انتهوا إلى حمراء الأسد (١).

وقال الطبرسي في «مجمع البيان» : ونادى منادي رسول الله : ألا لا يخرجنّ أحد إلّا من حضر يومنا بالأمس. فانتدبت عصابة منهم مع ما بهم من القراح والجراح الذي أصابهم يوم احد ... فخرج في سبعين رجلا ، حتى بلغ حمراء الأسد ، وهي من المدينة على ثمانية أميال (٢).

قال القمي : فوافاهم رجل خرج من المدينة ، فسألوه الخبر فقال : تركت محمّدا وأصحابه بحمراء الأسد يطلبونكم جدّ الطلب (٣).

وفي خبر الطبرسي عن كتاب أبان البجلي الكوفي قال : والتقى بأبي سفيان معبد الخزاعي فقال له : ما وراءك يا معبد؟ فقال معبد : قد والله تركت محمّدا وأصحابه وهم يحرّقون عليكم ، وهذا عليّ بن أبي طالب قد أقبل على مقدّمته في الناس ، وقد اجتمع عليه من كان تخلّف عنه ، وقد دعاني ذلك إلى أن قلت شعرا في ذلك.

قال أبو سفيان : وما قلت؟ قال : قلت :

__________________

ـ بيد عمّه وأتى به النبيّ واستأمنه له. وفي خبر الخرائج أنّه كان بعد يوم الخندق دون احد ـ كما في بحار الأنوار ٢٢ : ١٥٨.

(١) إعلام الورى ١ : ١٨٣ ، ١٨٤.

(٢) مجمع البيان ٢ : ٨٨٦.

(٣) تفسير القمي ١ : ١٢٥.


كادت تهدّ من الأصوات راحلتي

إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل

تردي باسد كرام لا تنابلة

عند اللقاء ولا خرق معازيل (١)

فظلت عدوا أظنّ الأرض مائلة

لمّا سموا برئيس غير مخذول

وقلت : ويل ابن حرب من لقائكم

إذا تغطمطت البطحاء بالجيل (٢)

إني نذير لأهل البسل ضاحية

لكل ذي إربة منهم ومعقول (٣)

من جيش أحمد لا وخش تنابلة

وليس يوصف ما أثبتّ بالقيل (٤)

فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه (٥).

__________________

(١) تردي : تسرع. التنابلة : القصار الضعاف. معازيل : الأعزل من السلاح.

(٢) تغطمطت : ماجت. الجيل : الخيل.

(٣) البسل : الشجاعة.

(٤) الوخش : الأوباش.

(٥) إعلام الورى ١ : ١٨٤ وروى بيتين من الشعر. وروى ابن إسحاق في السيرة ٣ : ١٠٨ خبر معبد الخزاعي هنا ، وكرّر ذكره ومروره بالرسول والمسلمين في بدر الصفراء (الموعد) وبيتين من شعر آخر له ٣ : ٢٢١. وكذلك الواقدي في المغازي ١ : ٣٣٩ و ٣٨٩ فهل تكرّر دوره المشابه؟

وروى ابن إسحاق في السيرة ٣ : ١٠٨ عن عبد الله بن أبي بكر قال : إنّ أبا سفيان ومن معه لمّا كانوا بالروحاء قالوا : أصبنا حدّ أصحابه وأشرافهم وقادتهم ثم نرجع قبل أن نستأصلهم! لنكرّنّ على بقيّتهم فلنفرغنّ منهم. وأجمعوا على الرجعة إلى رسول الله وأصحابه ـ ٣ : ١٠٨.

قال ابن إسحاق : وكان يوم احد يوم السبت للنصف من شوّال ، فلمّا كان الغد يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوّال ، أذن مؤذّن رسول الله في الناس بطلب العدو ، وأن : لا يخرجنّ معنا أحد إلّا أحد حضر يومنا بالأمس! فخرج رسول الله حتى انتهى إلى حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال (١٤ كيلومترا تقريبا) فأقام بها الاثنين


__________________

ـ والثلاثاء والأربعاء.

ومرّ به معبد بن أبي معبد الخزاعي وهو مشرك فقال لرسول الله : يا محمّد ، أما والله لقد عزّ علينا ما أصابك ، ولوددنا أن الله عافاك فيهم.

ثمّ خرج ورسول الله بحمراء الأسد ، حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالرّوحاء.

فلمّا رأى أبو سفيان معبدا قال له : ما وراءك يا معبد؟

قال : محمّد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط ، يتحرّقون عليكم تحرّقا ، قد اجتمع معه من كان تخلّف عنه في يومكم ، وندموا على ما ضيّعوا ، فيهم من الحنق عليكم ، شيء لم أر مثله قط!

قال أبو سفيان : ويحك ما تقول؟ قال : والله ما أرى أن ترتحل حتى أرى نواصي الخيل!

قال : لقد أجمعنا الكرّة عليهم لنستأصل بقيّتهم! قال : فإنّي أنهاك عن ذلك! ولقد حملني ما رأيت على أن قلت فيهم شعرا. قال : وما قلت؟ قال : قلت : (الأبيات) فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه ـ ٣ : ١٠٦ ـ ١٠٩.

وروى ابن هشام عن أبي عبيدة : أنّ أبا سفيان لمّا انصرف من احد وأراد الرجوع إلى المدينة ليستأصل بقيّة أصحاب رسول الله ، قال له صفوان بن اميّة : إنّ القوم قد حربوا ، وقد خشينا أن يكون لهم قتال غير الذي كان ، فارجعوا ، فرجعوا ـ ٣ : ١١٠.

ومرّ به ركب من عبد القيس ، قال لهم : أين تريدون؟ قالوا : نريد المدينة. قال : ولم؟ قالوا : نريد الميرة. قال : فهل أنتم مبلّغون عنّي محمّدا رسالة ارسلكم بها إليه؟ واحمّل لكم هذه (العير) غدا زبيبا بعكاظ إذا وافيتموها؟ قالوا : نعم. قال : فإذا وافيتموه فأخبروه : أنّا قد أجمعنا المسير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيّتهم.

فمرّ الركب برسول الله وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان ، فقال : حسبنا الله ونعم الوكيل ... وقال : والذي نفسي بيده لقد سوّمت لهم حجارة لو صبحوا بها لكانوا


__________________

ـ كأمس الذاهب ـ ٣ : ١٠٧ ـ ١١٠.

وقال الواقدي : كان وجوه الأوس والخزرج : سعد بن عبادة وسعد بن معاذ ، وحباب ابن المنذر وأوس بن خوليّ ، وقتادة بن النعمان وعبيد بن أوس في عدّة منهم ، كانوا قد باتوا في المسجد على باب رسول الله يحرسونه (ليلة الأحد لثمان خلون من شوّال).

فلمّا صلّى صلاة الصبح وانصرف منها أمر بلالا أن ينادي : إنّ رسول الله يأمركم بطلب عدوّكم ، ولا يخرج معنا إلّا من شهد القتال بالأمس!

فخرج سعد بن معاذ راجعا إلى داره يأمر قومه بالمسير ، هذا والجراح فاشية في الناس عامّة! فجاء سعد بن معاذ فقال : إنّ رسول الله يأمركم أن تطلبوا عدوّكم.

وجاء سعد بن عبادة قومه بني ساعدة فأمرهم بالمسير ، فتلبّسوا ولحقوا.

وجاء (أبو) قتادة أهل خربى وهم يداوون الجراح فقال لهم : هذا منادي رسول الله يأمركم بطلب عدوّكم. فوثبوا إلى سلاحهم وما عرّجوا على جراحاتهم ...

واستأذنه رجال لم يحضروا القتال فأبى ذلك عليهم. فلم يخرج معه أحد لم يشهد القتال بالأمس غير جابر بن عبد الله الأنصاري فإنّه قال لرسول الله : يا رسول الله ، إنّ مناديا نادى : أن لا يخرج معنا إلّا من حضر القتال بالأمس ، وقد كنت حريصا على الخروج والحضور (بالأمس) ولكنّ أبي خلّفني على أخوات لي وقال : يا بنيّ لا ينبغي لي ولك أن ندعهنّ ولا رجل عندهن ، وأخاف عليهنّ وهنّ نسيّات ضعاف ، وأنا خارج مع رسول الله لعلّ الله يرزقني الشهادة. فتخلّفت عليهن ، فاستأثره الله عليّ بالشهادة وقد كنت رجوتها ، فأذن لي يا رسول الله أن أسير معك! فأذن له رسول الله صلّى الله عليه [وآله].

ودعا رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] ـ بلوائه وهو معقود لم يحلّ من الأمس فدفعه إلى عليّ عليه‌السلام ... وخرج رسول الله وهو مجروح في وجهه أثر الحلقتين ومشجوج في جبهته في اصول الشعر ، وقد انكسرت رباعيته ، وجرحت شفته من باطنها ، وهو متوهّن منكبه


__________________

ـ الأيمن بضربة ابن قميئة ، وركبتاه مجحوشتان ... فدخل المسجد فركع ركعتين والناس قد حشدوا. ثمّ دعا بفرسه على باب المسجد ... فركب وعليه الدرع والمغفر ما يرى منه إلّا عيناه!

ثمّ قال لطلحة بن عبيد الله : ترى (أين) القوم الآن؟ قال : هم بالسيّالة. فقال رسول الله : ذلك (هو) الذي ظننت ، أما إنّهم يا طلحة لن ينالوا منّا مثل أمس حتى يفتح الله مكّة علينا!

وبعث رسول الله ثلاثة نفر من أسلم طليعته في آثار القوم ، سليطا ونعمان ابني سفيان السهمي الدارمي ـ ومعهما ثالث لم يسمّ ـ ولحقا القوم بحمراء الأسد فبصروا بهما فأصابوهما ـ ١ : ٣٣٧.

فروى عن بكير بن مسمار قال : إنّما نزل المشركون بحمراء الأسد في أوّل الليل ساعة ، ثمّ رحلوا وتركوا أبا عزة (عمرو بن عبد الله الجمحي) نائما مكانه ، حتى لحقه المسلمون نهارا وهو منتبه يتلفّت يمينا وشمالا ، فأخذه عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأنصاري ـ ١ : ٣٠٩.

فروى عن سعيد بن المسيّب أنّه قال للنبيّ : يا محمّد ، إنّما خرجت مكرها ولي بنات فامنن عليّ!

فقال رسول الله : أين ما أعطيتني من العهد والميثاق ، لا والله لا تمسح عارضيك بمكّة تقول : سخرت بمحمّد مرّتين! ١ : ١١١ وقال : إنّ المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين! ثمّ أمر عاصم بن ثابت فضرب عنقه ١ : ٣٠٩.

وعسكر هناك واقبروا (الأخوين الرسولين) في قبر واحد فقيل لهما : القرينان. وكان عامّة زاد المسلمين التمر حمّل منه سعد بن عبادة ثلاثين بعيرا ، وساق جزرا فنحروا في يوم الإثنين والثلاثاء. وكان رسول الله يأمرهم في النهار بجمع الحطب فإذا أمسوا أمرهم أن يوقدوا النيران فكانوا يوقدون خمسمائة نار ، حتى ذهب ذكر نيرانهم ومعسكرهم في كلّ ـ


__________________

ـ وجه ، وكان ذلك ممّا كبت الله به عدوّهم ١ : ٣٣٨.

قال : وكان ممّا ردّ الله به أبا سفيان وأصحابه كلام صفوان بن اميّة إذ قال لهم : يا قوم لا تفعلوا ، فإنّ القوم قد حربوا وأخشى أن يجمعوا عليكم من تخلّف من الخزرج ، فارجعوا والدولة لكم ، فإنّي لا آمن إن رجعتم أن تكون الدولة لهم عليكم ـ ١ : ٣٣٩ وقال لهم : قد أصبتم القوم ، فانصرفوا ، ولا تدخلوا عليهم وأنتم كاللّون ، ولكم الظفر ، وإنّكم لا تدرون ما يغشاكم ، وقد ولّيتم يوم بدر فما تبعوكم والظفر لهم عليكم ١ : ٢٩٨.

وانتهى معبد بن أبي معبد الخزاعي إلى النبيّ وهو مشرك ولكنّه سلم للإسلام ، فقال له : يا محمّد ، لقد عزّ علينا ما أصابك في نفسك وما أصابك في أصحابك ، ولوددنا أنّ الله أعلى كعبك (شرفك) وأنّ المصيبة كانت بغيرك! ١ : ٣٣٨.

ثمّ مضى معبد حتى وجد أبا سفيان وقريشا بالرّوحاء وهم مجمعون على الرجوع وعكرمة بن أبي جهل يقول : ما صنعنا شيئا أصبنا أشرافهم ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم من قبل أن يكون لهم وقر! فلمّا بدا معبد قال أبو سفيان : هذا معبد وعنده الخبر ، ما وراءك يا معبد؟

قال معبد : تركت محمّدا وأصحابه خلفي يتحرّقون عليكم بمثل النيران ، وقد أجمع معه من تخلّف عنه بالأمس من الخزرج والأوس ، وتعاهدوا أن لا يرجعوا حتى يلحقوكم فيثأروا منكم! وغضبوا لقومهم ولمن أصبتم من أشرافهم غضبا شديدا! قالوا : ويلك ما تقول؟ قال : والله ما أرى أن ترتحلوا حتى تروا نواصي الخيل ، ولقد حملني ما رأيت منهم أن قلت شعرا :

كادت تهد من الأصوات راحلتي

إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل

تعدو باسد كرام لا تنابلة

عند اللقاء ، ولا ميل معازيل

فقلت : ويل ابن حرب من لقائهم

إذا تغطمطت البطحاء بالجيل


__________________

ـ فانصرف القوم سراعا خائفين من الطلب لهم. ومرّ بأبي سفيان نفر من عبد القيس يريدون المدينة ، فقال لهم : هل أنتم مبلغو محمّد وأصحابه ما ارسلكم به على أن اوقر لكم أباعركم (هذه) زبيبا غدا بعكاظ إذا جئتموني؟ قالوا : نعم. قال : حيثما لقيتم محمّدا وأصحابه فأخبروهم : أنّا قد أجمعنا (على) الرجعة إليهم! وانطلقوا.

وقدم الركب على النبيّ وأصحابه بالحمراء فأخبروهم بالذي أمرهم أبو سفيان ، فقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل.

وأرسل معبد رجلا من خزاعة إلى رسول الله يعلمه : أن قد انصرف أبو سفيان وأصحابه خائفين وجلين. فانصرف رسول الله راجعا إلى المدينة ١ : ٣٤٠ فيقال : إنّ رسول الله قال : نهاهم صفوان بن اميّة ١ : ٢٩٨. أو قال : أرشدهم صفوان وما هو برشيد. ثمّ قال : والذي نفسي بيده! لقد سوّمت لهم الحجارة ، ولو رجعوا لكانوا كأمس الذاهب! ١ : ٣٣٩.

[باقي خبر ابن عمّ عثمان]وقال ابن إسحاق في السيرة ٣ : ١١٠ : وأخذ رسول الله قبل رجوعه إلى المدينة معاوية ابن المغيرة بن أبي العاص بن اميّة ، وهو أبو عائشة أم عبد الملك بن مروان ـ بعث عليه زيد ابن حارثة وعمّار بن ياسر وقال لهما : إنّكما ستجدانه بمكان كذا وكذا ، فوجداه فقتلاه ـ ٣ : ١١٠ و ١١١.

وقال الواقدي : وأقام معاوية بن المغيرة بالمدينة حتى كان اليوم الثالث ، فجلس على راحلته وخرج ، حتى كان في أوائل وادي العقيق (وكان رسول الله قريبا منه) فقال : إنّ معاوية قد أصبح قريبا فاطلبوه.

فخرج الناس في طلبه ، حتى أدركوه في اليوم الرابع ، أدركه عمّار بن ياسر وزيد بن حارثة بالجمّاء ... ويقال : أدركاه بثنيّة الشريد على ثمانية أميال من المدينة (وعليه فهو قريب من حمراء الأسد) فاتّخذاه غرضا فلم يزالا يرميانه بالنبل والحجارة حتى مات ١ :٣٣٣ و ٣٣٤.


قال القمي : وقال أبو سفيان : هذا النكد والبغي ، قد ظفرنا بالقوم وبغينا ، والله ما أفلح قوم قطّ بغوا!

ووافاهم نعيم بن مسعود الأشجعي ، فقال أبو سفيان : أين تريد؟ قال : المدينة لأمتار لأهلي طعاما. قال : هل لك أن تمرّ بحمراء الأسد وتلقى أصحاب محمّد وتعلمهم أنّ حلفاءنا وموالينا من الأحابيش قد وافوا حتى يرجعوا عنّا ، ولك عندي عشرة قلايص (من الإبل) أملؤها زبيبا (وتمرا؟!) قال : نعم.

فوافى من غد ذلك اليوم حمراء الأسد فقال لأصحاب محمّد : أين تريدون؟ قالوا : قريشا. قال : ارجعوا ، فإنّ قريشا قد اجنحت إليهم حلفاؤهم ومن كان تخلّف عنهم ، وما أظنّ [الّا أن] أوائل القوم قد طلعوا عليكم الساعة! فقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل (١).

__________________

ـ وجاء في الخبرين عن «فروع الكافي» و «الخرائج» الذين مرّ صدرهما اسم المدركين لهذا الرجل ، مع الاختلاف في اسمه واسمهما : فاسم الرجل جاء ـ كما مرّ ـ المغيرة بن أبي العاص (عم عثمان لا معاوية بن المغيرة ، ابن عمّه) وجاء اسم الرجلين المدركين له : زيد بن حارثة وعمّار ، ولكن في الخبرين : ففي خبر «الكافي» : فانتهى إلى شجرة سمرة فاستظلّ بها ، فأتى رسول الله الوحي فأخبره بذلك ، فدعا عليّا عليه‌السلام فقال له : خذ سيفك فانطلق أنت وعمّار فأت المغيرة بن ابي العاص تحت شجرة كذا وكذا. وفي خبر «الخرائج» : فأتى شجرة فجلس تحتها فجاء الملك فأخبر رسول الله بمكانه ، فبعث إليه رسول الله زيدا والزبير وقال لهما : ائتياه في مكان كذا وكذا فاقتلاه. وكان رسول الله قد آخى بين زيد والحمزة ، فقال زيد للزبير : إنّه ادّعى أنّه قتل أخي حمزة فاتركني أقتله فتركه الزبير فقتله زيد. الخرائج والجرائح ١ : ٩٤ ـ ٩٦ وفروع الكافي ٣ : ٢٥١ ح ٨ وفي التهذيب ٣ : ٣٣٣ ح ٦٩.

(١) تفسير القمي ١ : ١٢٥ و ١٢٦. ويذكر له دور مثل هذا في بدر الأخيرة ، وفي حرب الأحزاب : الخندق. فهل تكرّر دوره المشابه أيضا؟


وفي خبر الطبرسي عن كتاب أبان الأحمر البجلي الكوفي قال : فمرّ به ركب من عبد القيس يريدون الميرة من المدينة ، فقال لهم أبو سفيان : أبلغوا محمّدا : أنّي أردت الرجعة إلى أصحابه لأستأصلهم ، واوقر لكم ركابكم زبيبا إذا وافيتم عكاظ!

فأبلغوا ذلك إلى رسول الله وقد بلغ حمراء الأسد ، فقال : حسبنا الله ونعم الوكيل (١).

قال القمي : ونزل جبرئيل على رسول الله فقال : ارجع يا محمّد ، فإنّ الله قد أرهب قريشا ومرّوا لا يلوون على شيء!

فرجع رسول الله إلى المدينة. وأنزل الله عليه (الآيات من آل عمران) (٢).

وفي خبر الطبرسي عن كتاب أبان البجلي الكوفي قال : ورجع النبيّ إلى المدينة يوم الجمعة (٣).

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ١٨٤.

(٢) تفسير القمي ١ : ١٢٦.

(٣) فروى ابن إسحاق في السيرة ٣ : ١١١ عن ابن شهاب الزهري قال : كان لعبد الله ابن ابيّ ابن سلول مقام يقومه كلّ جمعة ، بين يدي رسول الله إذا جلس يوم الجمعة يخطب الناس ، قام فقال : أيّها الناس ، هذا رسول الله بين أظهركم ، أكرمكم الله وأعزّكم به ، فانصروه وعزّروه ، واسمعوا له وأطيعوا. ثم يجلس. فلمّا صنع يوم احد ما صنع إذ رجع بالناس ، وقام (يوم الجمعة) يفعل ذلك كما كان يفعله! أخذ المسلمون بثيابه من نواحيه وقالوا له : اجلس أيّ عدوّ الله! لست أهلا لهذا وقد صنعت ما صنعت! فخرج يتخطّى رقاب الناس وهو يقول : والله لكأنّما قلت بجرا (هجرا) أن قمت أشدّ أمره!

وبباب المسجد لقيه رجل من الأنصار فقال له : ويلك ما لك؟ قال : قمت أشدّ أمره فوثب عليّ رجال من أصحابه يجذبونني ويعنّفونني لكأنّما قلت بجرا أن قمت أشد أمره! فقال


قتل سابّ النبيّ (فاسقة بني خطمة):

ونقل الطبرسي عن كتاب أبان البجلي الكوفي قال : لمّا غزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حمراء الأسد وثبت فاسقة من بني خطمة يقال لها العصماء أم المنذر تمشي في مجالس الأوس والخزرج وتقول شعرا تحرّض على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ولم يكن يومئذ في بني خطمة مسلم إلّا واحد يقال له : عمير بن عديّ.

فلمّا رجع رسول الله (من حمراء الأسد) غدا إليها عمير فقتلها ، ثمّ أتى رسول الله فقال له : إنّي قتلت أمّ المنذر لما قالته من هجو؟ فضرب رسول الله على كتفه وقال : هذا رجل نصر الله ورسوله بالغيب! أما إنّه لا ينتطح فيها عنزان!

قال عمير بن عديّ : فأصبحت فمررت ببنيها وهم يدفنونها فلم يعرض

__________________

ـ الأنصاري له : ارجع يستغفر لك رسول الله! قال : والله ما أبتغي أن يستغفر لي! ٣ : ١١١.

وقال الواقدي : قالوا : لمّا رجع رسول الله من (بدر) إلى المدينة جلس على المنبر يوم الجمعة ، فقام ابن ابيّ فقال : هذا رسول الله بين اظهركم قد أكرمكم الله به فانصروه وأطيعوه! فكان له هذا المقام يقومه كلّ جمعة ، وكان شرفا له لا يريد تركه. فلمّا كان يوم احد وصنع ما صنع وقام ليفعل ذلك ، قام إليه المسلمون فقالوا له : اجلس يا عدوّ الله! وقام إليه أبو أيّوب وعبادة بن الصامت ، فأخذ أبو أيّوب بلحيته وجعل عبادة يدفع في رقبته ويقولان له : لست أهلا لهذا المقام حتى أرسلاه! فخرج يتخطّى رقاب الناس ويقول : قمت لأشدّ أمره فكأنّما قلت هجرا.

فلقيه معوّذ بن عفراء الأنصاري فقال له : ارجع فيستغفر لك رسول الله!

فقال : والله ما أبغي يستغفر لي! أخرجني محمّد من مربد سهل وسهيل!

هذا ، وابنه (عبد الله الجريح يوم احد) جالس في الناس ما يشدّ الطرف إليه!

ونزلت فيه الآيات من سورة «المنافقون» ١ : ٣١٨ و ٣١٩.


لي أحد منهم (١).

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ١٨٥ وعليه فيكون مقتلها ليلة السبت مساء يوم الجمعة يوم رجوع الرسول من حمراء الأسد ، وعبر الواقدي عن هذه العمليّة لعمير بن عديّ بأنّها سريّة وقال : كان قتلها لمرجع النبيّ من بدر لخمس ليال بقين من شهر رمضان على رأس تسعة عشر شهرا. أي في السنة الثانية. وكذلك ذكرها الكازروني في «المنتقى» قال : وفي هذه السنة كانت سريّة عمير بن عديّ بن خرشة إلى عصماء بنت مروان اليهودي. ونقله المجلسي (بحار الأنوار ٢٠ : ٧). وإخباره للرسول صبيحة يوم السبت بعد الصلاة حيث قال : غدا إليها فقتلها. وكان دفنها كذلك صبيحة السبت حيث قال : فأصبحت فمررت ببنيها وهم يدفنونها.

ووافقت في أكثر ذلك رواية الواقدي ، وقال : كانت تقول شعرا تحرّض على النبيّ وتؤذيه وتعيب الإسلام ، فبلغ قولها ذلك إلى عمير بن عدي الخطمي ، ورسول الله يومئذ ببدر ، فقال عمير : اللهم إنّ لك عليّ نذرا لئن رددت رسول الله إلى المدينة لأقتلنها (ويلاحظ أنّ صيغة النذر شرعيّة).

قال عمير : فلمّا رجع رسول الله من بدر جئتها في جوف الليل حتى دخلت عليها في بيتها وحولها نفر من ولدها نيام ، فجسستها بيدي فوجدت صبيّا ترضعه فنحّيته عنها ، ثم وضعت سيفي في صدرها حتى أنفذته من ظهرها. ثمّ خرجت حتى صلّيت الصبح مع النبيّ بالمدينة ، فلمّا انصرف النبيّ نظر إليّ فقال : أقتلت بنت مروان؟

قلت : نعم ، بأبي أنت وامّي يا رسول الله ، فهل عليّ في ذلك شيء يا رسول الله؟

قال : لا ، لا ينتطح فيها عنزان! (فذهب مثلا) ثمّ التفت النبيّ إلى من حوله فقال :

إذا احببتم أن تنظروا الى رجل نصر الله ورسوله بالغيب فانظروا إلى عمير بن عديّ!

فقال عمر بن الخطّاب : انظروا إلى هذا الأعمى الذي تشدّد في طاعة الله!

فقال النبيّ : لا تقل الأعمى ولكنّه البصير.

فلمّا رجع عمير من عند النبيّ وجد بنيها في جماعة يدفنونها ، فلمّا رأوه مقبلا من المدينة


__________________

ـ أقبلوا إليه فقالوا له : يا عمير ، أنت الذي قتلها؟! قال : نعم! فكيدوني جميعا ثمّ لا تنظرون ، فوالذي نفسي بيده لو قلتم بأجمعكم ما قالت لضربتكم بسيفي هذا حتى أموت أو أقتلكم!

فيومئذ ظهر الإسلام في بني خطمة.

ومن شعرها :

ل فباست بني مالك والنبيت

وعوف ، وباست بني الخزرج

أطعتم أتاويّ من غيركم

فلا من مراد ولا مذحج

ترجّونه بعد قتل الرءوس

كما يرتجى مرق المنضج

والأتاوي : الغريب. وقولها هذا يقتضي أن يكون بعد مقتل الكثير منهم في احد لا في بدر.

فقال حسّان يقبّح فعلها ويحسّن فعل ابن عديّ :

بني وائل وبني واقف

وخطمة ، دون بني الخزرج

متى ما دعت اختكم ـ ويحها ـ

بعولتها ، والمنايا تجي

فهزّت فتى ماجدا عرقه

كريم المداخل والمخرج

فضرّجها من نجيع الدما

قبيل الصباح ، ولم يحرج

فأوردك الله برد الجنا

جذلان في نعمة المولج

مغازي الواقدي ١ : ١٧٢ ـ ١٧٤. هذا عن يوم السبت بعد مرجعه من حمراء الأسد.

وفي يوم الأحد بعده كان ما جاء في خبر «فروع الكافي» عن الصادق عليه‌السلام بشأن أمّ كلثوم بنت رسول الله ، قال : فرجع عثمان من عند النبيّ فقال لامرأته : إنّك أرسلت إلى أبيك فأعلمتيه بمكان عمّي (المغيرة بن أبي العاص أخي عفّان بن أبي العاص) فحلفت له بالله ما فعلت فلم يصدّقها ، فأخذ خشبة القتب فضربها ضربا مبرحا!


__________________

ـ فأرسلت إلى أبيها تشكو ذلك وتخبره بما صنع. فأرسل إليها : إنّي لأستحي للمرأة أن لا تزال تجرّ ذيولها تشكو زوجها! وقال : أقني حياءك ، فما أقبح بالمرأة ذات حسب ودين في كلّ يوم تشكو زوجها! فأرسلت إليه مرّات ، كلّ ذلك يقول لها ذلك! فلمّا كان في الرابعة أرسلت إليه ؛ أن قد قتلني! فلمّا كان ذلك دعا عليّا عليه‌السلام وقال له : خذ السيف واشتمل عليه ، ثمّ ائت بنت ابن عمّك فخذ بيدها ، فمن حال بينك وبينها فاضربه بالسيف! فدخل عليّ عليها فأخذ بيدها وجاء بها إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا نظرت إليه رفعت صوتها بالبكاء! فاستعبر رسول الله وبكى وأدخلها منزله ، فكشفت عن ظهرها فأرته ظهرها! فلمّا أن رأى ما بظهرها قال ـ ثلاث مرّات ـ ما له قتلك؟! قتله الله!

وكان ذلك يوم الأحد ، وبات عثمان ملتحفا بجاريتها! فمكثت الاثنين والثلاثاء ، وماتت في اليوم الرابع. فلمّا حضر أن يخرج بها (الخروج بها) أمر رسول الله فاطمة عليها‌السلام فخرجت ومعها نساء المؤمنين. وخرج عثمان يشيّع جنازتها! فلمّا نظر إليه النبيّ قال : من أطاف البارحة بأهله أو بفتاته فلا يتبعنّ جنازتها. أو قال : من ألمّ بجاريته الليلة فلا يشهد جنازتها. قال ذلك ثلاثا ، فلم ينصرف ، فقال في الرابعة : لينصرفنّ ، أو لاسميّن باسمه! أو : ليقومن أو لاسمين باسمه واسم أبيه! فأقبل عثمان متوكئا على (مهين) مولى له ممسكا ببطنه فقال : يا رسول الله إنّي أشتكي بطني فإن رأيت أن تأذن لي أن أنصرف؟! فقال : انصرف!

وخرجت فاطمة ونساء المؤمنين والمهاجرين فصلّين على الجنازة ـ الخرائج والجرائح ١ : ٩٤ ـ ٩٦. وفروع الكافي ٣ : ٢٥١. وفي التهذيب ٣ : ٣٣٣. ويخلو الخبران عن اسمها ولكنّها أمّ كلثوم التي تزوّجها عثمان بعد وفاة اختها السابقة رقيّة. ولم يسمّها المجلسي ولكنّه أورد الخبرين ضمن أخبار رقيّة ، وليست هي.

وقد تعرّض العلّامة الأميني لأخبار زواج عثمان برقيّة وأمّ كلثوم ووفاتهما ومتع النبيّ إيّاه من تشييعها أو النزول في قبرها لدفنها ، من أرادها فليراجعها بعنوان : الخليفة في ليلة وفاة


__________________

ـ أمّ كلثوم. بدأه بخبر البخاري بسنده عن أنس بن مالك قال : شهدنا بنت رسول الله ورسول الله جالس على القبر فرأيت عينيه تدمعان ، ثمّ قال : هل فيكم أحد لم يقارف الليلة؟ فقال أبو طلحة زيد بن سهل الأنصاري : أنا ، قال : فانزل في قبرها. قال : فنزل في قبرها فقبرها.

وقد جاء الخبر في لفظ أحمد : أنّها رقيّة ، وعقّبه السهيلي قال : هو وهم بلا شكّ. الروض الانف ٢ : ١٠٧ ـ الغدير ٨ : ٢٣١ ـ ٢٣٤.

وروى خبر أنس بن مالك ، الدولابي في الذريّة الطاهرة : ٨٨ برقم ٧٧ في أخبار أمّ كلثوم ، ثمّ روى بسنده عن فاطمة الخزاعيّة عن أسماء بنت عميس قالت : أنا غسلت أمّ كلثوم مع صفيّة بنت عبد المطّلب. وفيه ما في خبر حضور أسماء بنت عميس في زفاف الزهراء عليها‌السلام.

ثمّ روى بسنده عن أم عطيّة قالت : توفيت (إحدى بنات النبيّ) فقال : اغسلنها ثلاثا ... واغسلنها بالسدر ، واجعلن في الآخرة شيئا من كافور ، فإذا فرغتنّ فاذنّني. فلمّا فرغنا آذنّاه ، فطرح إلينا حقوا فقال : أشعرنها إيّاه.

وروى بسنده عن ليلى بنت قانف الثقفيّة قالت : كنت فيمن غسل أمّ كلثوم بنت رسول الله عند وفاتها ، ورسول الله جالس على الباب معه كفنها يناولناه ثوبا ثوبا ، فكان أوّل ما أعطانا رسول الله الحقا (الحقوة : معقد الإزار) ثمّ الدرع ، ثمّ الخمار ، ثمّ الملحفة ، ثمّ ادرجت بعد في الثوب الآخر. وروى أنّه جلس على حفرتها عليّ والفضل واسامة بن زيد ، ولكنّه نقل عن محمّد بن عمر (؟) قال : ماتت أمّ كلثوم بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في شعبان في سنة تسع؟! الذريّة الطاهرة : ٨٧ برقم ٧٦ ، ولعلّ التسع محرّف عن الأربع ، وشعبان عن شوّال.

وعلى أيّ حال ، فالأخبار هذه تحتوي على تأريخ الأغسال الثلاثة للميّت وقطع الأكفان للنسوان.


موقف اليهود والمنافقين :

ولو كانت عصماء يهوديّة فهي من مفردات ما قال الواقدي : وأظهرت اليهود القول السيئ فقالوا : ما محمّد إلّا طالب ملك ، اصيب في أصحابه واصيب في بدنه! وما اصيب هكذا نبيّ قطّ!

وجعل المنافقون يقولون لأصحاب رسول الله : لو كان من قتل منكم عندنا ما ماتوا وما قتلوا (١) فيخذلون بذلك عن رسول الله أصحابه ويأمرونهم بالتفرّق عنه.

قال : حتى سمع ذلك عمر بن الخطّاب في أماكن ، فمشى إلى رسول الله يستأذنه في قتل من سمع ذلك منه من اليهود والمنافقين!

فقال رسول الله : يا عمر ؛ إنّ الله مظهر دينه ومعزّ نبيّه ، ولليهود ذمّة فلا أقتلهم.

فقال عمر : فهؤلاء المنافقون يا رسول الله؟!

فقال رسول الله : أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله؟

قال : بلى يا رسول الله ولكنهم إنّما يفعلون ذلك تعوّذا من السيف ، فقد بان لهم أمرهم وأبدى الله أضغانهم عند هذه النكبة.

فقال رسول الله : نهيت عن قتل من قال : لا إله إلّا الله وإنّ محمّدا رسول الله. يا بن الخطّاب إنّ قريشا لن ينالوا منّا مثل هذا اليوم حتى نستلم الركن (٢).

__________________

(١) وقال الله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) آل عمران : ١٥٦.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٣١٧ و ٣١٨ وكأنّه بهذا أراد أن يستدرك ما فاته من قوله في عمير بن


قصاص الحارث بالمجذّر :

قال ابن هشام : كان المجذّر بن ذياد قتل سويد بن الصامت في بعض الحروب التي كانت بين الأوس والخزرج ، فلمّا كان يوم احد طلب الحارث بن سويد غرة المجذّر بن ذياد ليقتله بأبيه فقتله (١).

قال : فبينا رسول الله في نفر من أصحابه إذ خرج الحارث بن سويد من بعض حوائط المدينة ، فأمر رسول الله عثمان بن عفّان ـ أو بعض الأنصار ـ فضرب عنقه (٢).

__________________

ـ عديّ وردّ الرسول فيه عليه ، فيجبر بهذا كسره بذلك ، ولعلّه يدرك كذلك فضل ما وسم به الرسول عمل ابن عدي. بل وفي هذا أيضا ردّت عليه الآيات إذ قالت : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) ، وإذا كان المشيرون والمشاورون هؤلاء فليس لهم العزم بل (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) ، آل عمران : ١٥٩ ، وقال الواقدي : أمره أن يشاورهم في الحرب وحده ، وكان لا يشاور أحدا إلّا في الحرب ـ مغازي الواقدي ١ : ٣٢٤.

(١) ابن هشام ٢ : ٦٧.

(٢) ابن هشام ٣ : ٩٥. ونقل الواقدي تفصيل قصّة قتل المجذّر بن ذياد لسويد بن الصامت قال : جاء حضير الكتائب إلى أبي لبابة بن عبد المنذر وخوّات بن جبير وسويد بن الصامت فقال لهم : تزوروني فأنحر لكم وأسقيكم وتقيمون أيّاما. فقالوا : نأتيك يوم كذا وكذا.

فلمّا كان ذلك اليوم جاءوه فنحر لهم جزورا فأقاموا عنده ثلاثة أيّام حتى تغيّر اللحم فقالوا : نرجع إلى أهلنا. وكان سويد شيخا كبيرا وكان حضير قد سقاهم خمرا فخرج أبو


__________________

ـ لبابة وخوّات يحملان سويدا من الثمل حتى كانوا قريبا من بني غصينة تجاه بني سالم ، فجلس سويد يبول وهو سكران ، فبصر به انسان من الخزرج ، فذهب إلى المجذّر بن ذياد وقال له : هذا سويد ثمل أعزل لا سلاح معه (وكان سويد قد قتل معاذ بن عفراء) فخرج المجذّر مصلتا سيفه ، فلمّا رآه أبو لبابة وخوّات وهما أعزلان لا سلاح معهما فانصرفا سريعين ، وثبت سويد لا حراك به ، فوقف عليه المجذّر وقال : قد أمكن الله منك! فقال : ما تريد منّي؟ قال : أقتلك ، فقتله ، فكان قتله هو الذي هيّج وقعة بعاث.

فلمّا قدم رسول الله المدينة أسلم المجذّر والحارث بن سويد وشهدا بدرا ، وجعل الحارث يطلب مجذّرا ليقتله بأبيه فلم يقدر عليه يومئذ.

فلمّا كان يوم احد وجال المسلمون تلك الجولة أتاه الحارث من خلفه فضرب عنقه.

ونظر إليه خبيب بن يساف فجاء إلى النبيّ فأخبره.

ولمّا رجع الرسول من حمراء الأسد أتاه جبرئيل عليه‌السلام فأخبره : أنّ الحارث بن سويد قتل مجذّرا غيلة وأمره بقتله.

وكان رسول الله يأتي قباء كلّ سبت واثنين ، وركب إليه في اليوم الذي أخبره جبرئيل ـ وكان يوما حارّا لا يذهب فيه إلى قباء ـ فلمّا دخل رسول الله مسجد قباء صلّى فيه ، وسمعت الأنصار فجاءت تسلّم عليه ، فجلس رسول الله يتحدّث ويتصفّح الناس حتى طلع الحارث بن سويد في ملحفة مورّسة (أي مصبوغة بالورس وهو نبات أصفر كان يصبغ به) ، فلمّا رآه رسول الله دعا عويم بن ساعدة فقال له : قدّم الحارث بن سويد إلى باب المسجد فاضرب عنقه بمجذّر بن ذياد فإنّه قتله يوم احد.

فأخذه عويم ، فقال الحارث : دعني اكلّم رسول الله. ونهض رسول الله يريد أن يركب ودعا بحماره ، فجعل الحارث يقول : قد والله قتلته يا رسول الله ، والله ما كان قتلي إيّاه رجوعا عن الإسلام ولا ارتيابا فيه ، ولكنّه حميّة الشيطان وأمر وكلت فيه إلى نفسي ، وإنّي


أحكام الإرث وسورة النساء :

روى الواقدي عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : لمّا قتل سعد بن الربيع باحد ... جاء أخو سعد بن الربيع فأخذ ميراثه ، وكان لسعد ابنتان وكانت امرأته حاملا ، وكان المسلمون يتوارثون على ما كان في الجاهليّة ولم تنزل الفرائض.

وكانت امرأة سعد امرأة حازمة ، فدعت رسول الله وطبخت لحما وخبزا ، وكانت بموضع الأسواق.

فبينا نحن جلوس عند النبيّ ونحن نذكر وقعة احد ومن قتل من المسلمين ، إذ قال لنا رسول الله : قوموا بنا ، فقمنا معه ونحن عشرون رجلا ـ بينما أعدّت طعاما بقدر ما يأكل رجل واحد أو اثنان ـ حتى انتهينا إلى الأسواق ... فنجدها قد رشّت ما بين نخلتين أو نخيل صغار وطرحت خصفة (١) بلا بساط ولا وسادة ، فجلسنا.

وعاد رسول الله يحدّثنا عن سعد بن الربيع ويترحّم عليه ويقول : لقد رأيت الأسنّة شرعت إليه يومئذ حتّى قتل. وسمعن النسوة فبكين ، ودمعت عينا

__________________

ـ أتوب إلى الله وإلى رسوله ممّا عملت ، واخرج ديته ، وأصوم شهرين متتابعين واعتق رقبة واطعم ستين مسكينا (ممّا يدلّ على تشريع هذه من قبل) وجعل يمسك بركاب رسول الله ، وكان بنو المجذّر حضورا لا يقولون شيئا ولا يقول لهم رسول الله شيئا ، حتى إذا استوعب الحارث كلامه فقال لعويم : قدّمه يا عويم فاضرب عنقه. وركب رسول الله.

وقدّمه عويم على باب المسجد فضرب عنقه ـ ١ : ٣٠٣ ـ ٣٠٥.

وهو أوّل قصاص بين المسلمين قصّ خبره في السيرة.

(١) خصفة : حصير من الخوص.


رسول الله وما نهاهنّ ... ثمّ قال : يطلع عليكم رجل من أهل الجنّة. فنظرنا من خلال السعف فإذا عليّ عليه‌السلام قد طلع ، فقمنا فبشّرناه بالجنّة فسلّم ثمّ جلس. ثمّ اتي بالطعام ، بقدر ما يأكل رجل واحد أو اثنان ، فوضع رسول الله يده فيه وقال : كلوا باسم الله ، فأكلنا منها حتّى نهلنا وما أرانا حرّكنا منه شيئا. ثمّ جاءوا برطب قليل في طبق فقال رسول الله : بسم الله كلوا. قال : فأكلنا حتّى نهلنا وإنّي لأرى في الطبق نحوا ممّا اتي به.

ودخلت الظهر فصلّى بنا رسول الله ولم يمسّ ماء (كان غداؤهم قبل الصلاة ولم يكن ناقضا للوضوء) ثمّ رجع إلى مجلسه فتحدّث.

ثمّ جاءت العصر فاتي ببقيّة الطعام ... ثمّ قام النبيّ فصلّى العصر ولم يمسّ ماء.

ثمّ جاءت امرأة سعد فقالت : يا رسول الله ، إنّ سعد بن الربيع قتل باحد ، فجاء أخوه فأخذ ما ترك ، وترك ابنتين لا مال لهما ، وإنّما ينكح النساء على المال يا رسول الله!

فقال رسول الله : اللهم أحسن الخلافة على تركته. ثمّ قال : لم ينزل عليّ في ذلك شيء ، عودي إليّ إذا رجعت.

فلمّا رجع رسول الله إلى بيته جلس على بابه وجلسنا معه ، فأخذ رسول الله برحاء الوحي ثمّ سرّي عنه والعرق يتحدّر عن جبينه مثل الجمان. فقال : عليّ بامرأة سعد.

فخرج أبو سعود عقبة بن عمرو حتى جاء بها. فقال لها : أين عمّ ولدك؟ قالت : في منزله يا رسول الله. فبعث رجلا يعدو إليه فأتى به من بني الحارث بن الخزرج وهو متعب. فقال له رسول الله ، ادفع إلى بنات أخيك ثلثي ما ترك أخوك ، وادفع إلى زوجة أخيك الثمن ، وشأنك وسائر ما بيدك. فكبّرت امرأة سعد


تكبيرة سمعها أهل المسجد (١).

ولم يذكر الخبر اسم المرأة ولا اسم عمّ بناتها ولا بناتها ، وروى السيوطي في «الدرّ المنثور» بأسناده عن عكرمة (عن ابن عباس) ما يحتمل الانطباق على هذا المورد ، قال :

نزلت في أمّ كلثوم أو أم كحلة وابنته كحلة ، وثعلبة بن أوس وسويد وهم من الأنصار ، كان أحدهم زوجها والآخر عم ولدها ، فقالت : يا رسول الله توفي زوجي وتركني وابنته (كحلة أو كلثوم أو كليهما) فلم نورّث من ماله؟!

فقال عمّ ولدها : يا رسول الله لا تركب فرسا ولا تنكئ عدوا ولا تكتسب! فنزلت (٢).

فمن المحتمل القريب أن يكون سويد مصحفا عن سعد بن الربيع وأن ثعلبة ابن أوس كان كلالته ، ولا سيما أنّ الآية الثانية عشرة تتكلم عن إرث الزوج والزوجة مع الأولاد وبدونها ومع الكلالة والأخ.

وهذا يقتضي نزول أوائل سورة النساء حتّى الآية الرابعة عشرة بهذه المناسبة.

وقد روى الطبرسي في «مجمع البيان» عن السدّي قال : مات عبد الرحمن ابن ثابت الأنصاري أخو حسان بن ثابت الشاعر ، وترك امرأة وخمسة إخوان ، فجاءت الورثة فأخذوا ماله ولم يعطوا امرأته شيئا ، فشكت ذلك إلى رسول الله فأنزل الله آية المواريث (٣).

وفي رواية أبي الجارود في «تفسير القمي» عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال :

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ٣٢٩ ـ ٣٣١.

(٢) الدر المنثور ٢ : ١٢٢.

(٣) مجمع البيان ٣ : ٢٤.


إنّ أهل الجاهلية كانوا لا يورثون الصبيّ الصغير ولا الجارية من ميراث آبائهم شيئا ، وكانوا لا يعطون الميراث إلّا لمن يقاتل ، وكانوا يرون ذلك في دينهم حسنا! فلما أنزل الله المواريث وجدوا من ذلك وجدا شديدا ، فقالوا : انطلقوا إلى رسول الله فنذكّره ذلك لعلّه يدعه أو يغيره!

فأتوه فقالوا : يا رسول الله ، للجارية نصف ما ترك أبوها وأخوها ويعطى الصبيّ الصغير الميراث وليس أحد منهما يركب الفرس ولا يحوز الغنيمة ولا يقاتل العدو؟!

فقال رسول الله : بذلك أمرت (١).

***

أما سورة آل عمران قبلها ، فهي ثالث سورة مدنية نزلت بعد الأنفال ، وآياتها مائتان ، قال ابن اسحاق عنها : مما أنزل الله في يوم احد من القرآن ستون آية من آل عمران فيها صفة ما كان في يومهم ذلك ومعاتبة من عاتب منهم (٢). وروى الواقدي في «المغازي» مسندا : أنّ المسور بن مخرمة قال لعبد الرحمن بن عوف : حدثنا عن احد. فقال : يا بن أخي عدّ بعد العشرين ومائة من آل عمران فكأنك قد حضرتنا : (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ)(٣). وكذلك بدأ ابن اسحاق ، وختم الستين آية بالآية المائة والثمانين : (... وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ)(٤). وإن لم يعيّنوا تأريخ نزولها متى؟

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١٥٤. وروى السيوطي قريبا منه في الدر المنثور ٢ : ١٢٣. كما في الميزان ٥ : ١٠٤.

(٢) ابن هشام ٣ : ١١٢.

(٣) مغازي الواقدي ١ : ٣١٩.

(٤) ابن هشام ٣ : ١٢٨ واسترسل الواقدي إلى آخر السورة استطرادا ـ ١ : ٣٢٩.


ولكنّ المفسّرين وأرباب علوم القرآن ذكروا فيما بين آل عمران والنساء سورتي الأحزاب والممتحنة (١) ، فلعلّ النساء نزلت بعد احد وحمراء الأسد بفاصل لا بتوالي.

هل جرح علي عليه‌السلام؟!

روى ابن شهرآشوب في «المناقب» عن «الخصائص العلوية» : عن علي عليه‌السلام قال : أصابني يوم احد ست عشرة ضربة سقطت إلى الأرض في أربع منهن ، فأتاني رجل حسن الوجه حسن اللمّة (الشعر) طيب الريح ، فأخذ بضبعي (عضدي) فأقامني ثمّ قال : أقبل عليهم فإنّك في طاعة الله وطاعة رسول الله وهما عنك راضيان!

قال علي عليه‌السلام : فأتيت النبيّ فأخبرته فقال : يا عليّ ، أقرّ الله عينك ، ذاك جبرئيل. ونقل عن ابن الفياض (القاضي النعمان) في «شرح الأخبار» بسنده عن سعيد بن المسيب ، مختصر الخبر (٢) ، وليس في «شرح الأخبار» المطبوع.

وروى الطبرسي في «مجمع البيان» عن أبان البجلي الكوفي عن الباقر عليه‌السلام قال : أصاب عليا عليه‌السلام يوم احد ستون جراحة ، فأمر النبيّ أمّ سليم وأمّ عطية أن تداوياه ، فقالتا : إنّا لا نعالج منه مكانا إلّا انفتق مكان آخر وقد خفنا عليه. فدخل عليه رسول الله والمسلمون يعودونه وهو قرحة واحدة ، فجعل يمسحه بيده ويقول : إنّ رجلا لقي هذا في الله فقد أبلى وأعذر! وكان الجرح الذي يمسحه رسول الله بيده يلتئم ، فقال علي عليه‌السلام : الحمد لله إذ لم أفرّ ولم أولّ الدبر. فشكر الله له ذلك في موضعين من القرآن وهما : قوله (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) من الرزق في

__________________

(١) التمهيد ١ : ١٠٦ ثمّ لا ريب أن الاحزاب لم تنزل مرّة واحدة بل في طول سنين ، وكذلك الممتحنة ، كما يأتي.

(٢) مناقب آل أبي طالب ١ : ٢٤٠.


الدنيا ، و (سَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ)(١).

وروى قبله مختصر الخبر عن أنس بن مالك قال : اتي رسول الله بعلي عليه‌السلام وفيه نيف وستون جراحة من طعنة وضربة ورمية ، فجعل رسول الله يمسحها وهي تلتئم بإذن الله كأن لم تكن (٢).

وروى الصدوق في «الخصال» بسنده عن الباقر عليه‌السلام أيضا فيما عدّ أمير المؤمنين عليه‌السلام على رأس اليهود من محنه في حياة الرسول وبعده قال : أما الرابعة يا أخا اليهود فانّ أهل مكة أقبلوا إلينا ـ إلى أن قال : ثم ضرب الله وجوه المشركين وقد جرحت بين يدي رسول الله نيّفا وسبعين جراحة ، منها هذه وهذه. ثم ألقى رداءه وأمرّ يده على جراحاته (٣).

وفي كتاب «الاختصاص» المنسوب إلى المفيد نقلا عن كتاب ابن دأب (معاصر موسى الهادي العباسي) قال : إنّه لما انصرف من احد كانت به ثمانون جراحة ، فشكت المرأتان (الممرّضتان) إلى رسول الله قالتا : يا رسول الله ، قد خشينا عليه كثرة الجراحات فإنّ الفتائل تدخل في موضع منها فتخرج من موضع آخر! فدخل عليه رسول الله عائدا وهو مثل المضغة على نطع! فلما رآه رسول الله بكى وقال : إنّ رجلا يصيبه هذا في الله لحقّ على الله أن يفعل به ويفعل! فبكى علي عليه‌السلام وقال : بأبي أنت وأمي ، الحمد لله الذي لم يرني أنّي ولّيت عنك ولا فررت ، فكيف حرمت الشهادة؟! فقال : إنّها من ورائك إن شاء الله (٤).

وقال القمي في تفسيره : فلم يزل أمير المؤمنين عليه‌السلام يقاتلهم حتى أصابه في

__________________

(١) مجمع البيان ٢ : ٨٥٢. ونقله في مناقب آل أبي طالب ٢ : ١١٩ و ١٢٠.

(٢) مجمع البيان ٢ : ٨٤٣ و ٨٤٤. ونقله في مناقب آل أبي طالب ٢ : ١١٩ عن تفسير القشيري.

(٣) الخصال ١ : ٣٦٧ و ٣٦٨. وفي الاختصاص : ١٦٤ عن الباقر عن محمّد بن الحنفية!

(٤) الاختصاص : ١٥٨.


وجهه ورأسه وصدره وبطنه ويديه ورجليه تسعون جراحة ، فتحاموه (١).

وكأنّ الشيخ المفيد لم تفده هذه الأخبار إلّا اضطرابا في مضمونها فقال في «الإرشاد» :

ومن آيات الله الخارقة للعادة في أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه : لم يعهد لأحد من مبارزة الأقران ومنازلة الأبطال ما عرف له عليه‌السلام من كثرة ذلك على مرّ الزمان ، ثم انه لم يوجد في ممارسي الحروب إلّا من عرته بشرّ ونيل منه بجراح أو شين ، إلّا أمير المؤمنين فإنه لم ينله مع طول زمان حربه جراح من عدو ولا شين ، ولا وصل إليه أحد منهم بسوء ، حتى كان من أمره مع ابن ملجم على اغتياله إيّاه ما كان. وهذه اعجوبة أفرده الله بالآية فيها ، وخصّه بالعلم الباهر في معناها ، ودلّ بذلك على مكانه منه وتخصصه بكرامته التي بان بفضلها من كافة الأنام (٢).

خبر قريش في مكّة :

قال الواقدي : ولمّا انكشف المشركون باحد وانهزموا كان أول من قدم بخبرهم عبد الله بن أبي أميّة بن المغيرة ، فكره أن يقدم مكة فقدم الطائف فأخبرهم : إنّ أصحاب محمد قد ظفروا وانهزمنا وأنا أول من قدم عليكم.

ثمّ لما تراجع المشركون بعد فنالوا ما نالوا كان أول من أخبر قريشا بقتل أصحاب محمد وظفر قريش : وحشي. سار على راحلته أربعة أيام فانتهى إلى الثنية التي تطلع على الحجون (٣) فنادى بأعلى صوته مرارا : يا معشر قريش! حتى ثابت إليه الناس وهم خائفون أن يأتيهم بما يكرهون فلما رضي منهم قال : أبشروا ، قد قتلنا أصحاب محمد مقتلة لم يقتل مثلها في زحف قط ، وجرحنا محمدا

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١١٦.

(٢) الإرشاد ١ : ٣٠٧.

(٣) اقرأ عنه في معجم معالم مكة لعاتق البلادي ، وعنه في مجلة ميقات الحج ٤ : ١٩٥ ـ ١٩٨.


فأثبتناه بالجراح ، وقتلت رأس الكتيبة حمزة!

فتفرّق الناس عنه في كل وجه بالشماتة واظهار السرور بقتل أصحاب محمد.

ولما خلى وحشي بمولاه جبير بن مطعم قال : ما تقول؟ قال وحشي : والله قد صدقت! قال : أقتلت حمزة؟ قال : والله قد رزقته بالمزراق في بطنه حتى خرج من بين رجليه ، ثم نودي فلم يجب ، فأخذت كبده وحملتها إليك لتراها!

فقال جبير : لقد أذهبت حزن نسائنا وبرّدت حرّ قلوبنا! وأمر نساءه بالدهن (١).

وقال : ولما قدم أبو سفيان على قريش بمكة لم يصل الى بيته حتى أتى هبل فقال له :

قد أنعمت ونصرت وشفيت نفسي من محمد وأصحابه ؛ وحلق رأسه (شكرا) (٢).

قصيدة ابن الزّبعرى :

قال ابن اسحاق : وقال عبد الله بن الزّبعرى في يوم احد :

يا غراب البين اسمعت فقل

إنما تندب أمرا قد فعل

إنّ للخير وللشرّ مدى

وكلا ذلك وجه وقبل

والعطيّات خساس بينهم

وسواء قبر مثر ومقل

كل عيش ونعيم زائل

وبنات الدهر (٣) يلعبن بكل

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ٣٣٢.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٢٩٩.

(٣) بنات الدهر : حوادثه.


أبلغا حسّان عنّي آية

فقريض الشعر يشفي ذا الغلل

كم ترى بالجرّ (١) من جمجمة

وأكفّ قد أترّت (٢) ورجل

وسرابيل حسان سريت

عن كماة أهلكوا في المنتزل (٣)

كم قتلنا من كريم سيّد

ماجد الجدّين مقدام بطل

صادق النجدة قرم بارع

غير ملتاث لدى وقع الأسل (٤)

فسل المهراس من ساكنه

بين أقحاف وهام كالحجل (٥)

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل (٦)

حين حكّت بقباء بركها

واستحرّ القتل في عبد الأشل (٧)

ثمّ خفّوا عند ذاكم رقّصا

رقص الحفّان يعلو في الجبل (٨)

فقتلنا النصف من أشرافهم

وعدلنا ميل بدر فاعتدل

لا ألوم النفس إلّا أنّنا

لو كررنا لفعلنا المفتعل

__________________

(١) الجرّ : أصل الجبل.

(٢) اترّت : قطعت.

(٣) السرابيل جمع السربال : الدرع المسربل أي المرسل. سريت : أي ذهب بها وسلبت. والمنتزل : محلّ النزال : الحرب.

(٤) أي عند تأثير الرماح لا يلتاث أي لا يتلوّث أي لا يصاب بلوثة أي ضعف العقل.

(٥) المهراس : نقر كبار وصغار فيها مياه الأمطار في أقاصي جبل احد. يقول : اسأل احدا من يسكنه؟ ثمّ يجيب : بين رءوس كالحجل الطائر وعظام كأقحاف الخزف.

(٦) يقول ليت الشيوخ الذين قتلوا ببدر كانوا يرون اليوم جزع الخزرج من أثر الرماح فيهم.

(٧) يقول : حين حكّت ناقة الحرب صدرها بأرض قباء ـ كناية عن المدينة ـ وأصبحت الحرب حارّة في بني عبد الأشهل ، وعيّرهم فقال : الأشل.

(٨) يقول ثمّ خفّ المسلمون عدوا كعدو صغار النعام إذ تصعد في الجبل.


بسيوف الهند تعلو هامهم

عللا تعلوهم بعد نهل (١)

فأجابه حسّان بن ثابت بقصيدة مماثلة في الوزن والقافية والروي وعدد الأبيات.

ثمّ ذكر قصيدة اخرى لابن الزبعرى عينيّة في سبعة عشر بيتا ، وجوابا من حسّان كذلك.

ثمّ قصيدة اخرى لحسّان ميميّة في ٢٣ بيتا ، واخرى حائيّة في ٤٣ بيتا في رثاء حمزة عليه‌السلام واخرى لاميّة في عشرين بيتا كذلك في رثاء حمزة. ومقطوعة في خمسة ابيات جوابا لقصيدة هبيرة بن أبي وهب المخزومي. وجوابا آخر لكعب بن مالك الأنصاري نحو خمسين بيتا يقول في سادسها :

مجالدنا عن جذمنا كلّ فخمة

مدرّبة ، فيها القوانس تلمع (٢)

فقال رسول الله له : أيصلح أن تقول : مجالدنا عن ديننا؟ فقال كعب : نعم. فقال رسول الله : فهو أحسن ، فقال كعب : مجالدنا عن ديننا (٣) ولكعب اخرى في رثاء حمزة بقافية الجيم في سبعة عشر بيتا. ولعمرو بن العاص مقطوعة في ستّة أبيات واخرى في عشرة أجابهما كعب بقصيدة لاميّة في ٢٣ بيتا. ثمّ قصيدة اخرى داليّة في ٢١ بيتا في رثاء حمزة عليه‌السلام. ثمّ اخرى نونيّة بروي الألف في احد في ٢٩

__________________

(١) يقول : لفعلنا نفس الفعل بسيوف هنديّة تعلو هام المسلمين بشربة ثانية بعد الشربة الاولى ـ ٣ : ١٤٣ و ١٤٤ ، وتمثّل بأبيات منها يزيد بن معاوية في مجلسه العام بالشام شماتة بقتل الامام الحسين بن رسول الله عليه‌السلام ، كما في بلاغات النساء : ٢١ لابن طيفور البغدادي (م ٢٨٠ ه‍) وزاد :

لست للشيخين ان لم أنتقم

م من بني أحمد ما كان فعل

(٢) الجذم : الأصل ، والفخمة : الكتيبة الضخمة. مدرّبة : معلّمة على القتال. القوانس : رءوس السلاح الأبيض.

(٣) ابن هشام ٣ : ١٤٣.


بيتا. واخرى بائيّة في احد في عشرة أبيات. ثمّ اخرى لاميّة في رثاء حمزة في ١٦ بيتا له أو لعبد الله بن رواحة. ومقطوعة لاميّة في خمسة أبيات في قتلى احد. ومقطوعة اخرى في أربعة أبيات تائيّة في رثاء حمزة عليه‌السلام. ثمّ مقطوعة اخرى في ثمانية أبيات رائيّة في رثاء حمزة أيضا لصفيّة بنت عبد المطلّب اخته. وأورد مقطوعة في ثلاثة أبيات لاميّة بروي الألف للحجّاج بن علاط السّلمي يمدح أبا الحسن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام في قتله لصاحب لواء المشركين يوم احد طلحة بن أبي طلحة من عبد الدار ، أوردها المفيد في «الإرشاد» أيضا قال :

لله أيّ مذبّب عن حرمة

أعني ابن فاطمة المعمّ المخولا (١)

سبقت يداك له بعاجل طعنة

تركت طليحة للجبين مجدّلا (٢)

وشددت شدّة باسل فكشفتهم

بالجرّ ، إذ يهوون أخول أخولا (٣)

وعللت سيفك بالدماء ولم تكن

لتردّه حرّان حتى ينهلا (٤)

ملحوظة مهمّة :

وعلى ذكر هذه الأشعار وقصيدة ابن الزّبعرى اللاميّة ، فقد لاحظته يقول :

ثم خفّوا عند ذاكم رقّصا

رقص الحفّان تعدو في الجبل

__________________

(١) مذبّب من الذبّ أي الدفع. ابن فاطمة : فاطمة بنت أسد أمّ عليّ عليه‌السلام. المعمّ : الكريم الأعمام. المخول : الكريم الأخوال.

(٢) في الإرشاد : جادت يداك له ..

(٣) في الإرشاد : بالسفح إذ يهوون أسفل أسفلا. والسفح يعني الجرّ ، وأخول أخولا أي واحدا بعد واحد. ابن هشام ٣ : ١٥٨ و ١٥٩. ومجموع شعره ٤٠ صفحة من ١٣٦ ـ ١٧٦.

(٤) الإرشاد ١ : ٩١ ، ٩٢. ولم يورده ابن هشام. وعللته بالدماء : أي سقيته بالدماء شربة ثانية. حرّان : عطشان. ينهل : يشرب فيرتوي.


أي : أنّ المسلمين ـ ويخصّ الخزرج منهم لأنّهم الأكثر ـ لمّا جزعوا من كثرة القتل ، واستحرّ القتل في بني عبد الأشهل منهم ، عند ذلك خفّوا يرقصون أي يمشون سراعا مثل العدو السريع لصغار النعام إذ تعدو في الجبل ، جبل احد. ولا يقول بأنّ الليل أيضا حال بينهم وبين المشركين وبين المسلمين لمّا اعتصموا بالجبل فصعدوا فيه. ويقول في الاخرى العينيّة :

ولو لا علوّ الشعب غادرن أحمدا

ولكن علا والسّمهريّ شروع

أي : لو لا أنّ طريق الجبل ـ جبل احد ـ كان عاليا مرتفعا ، لغادرت السيوف أحمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو قتيل ، ولكنّه علا وصعد في الجبل والرماح شارعة أي متّجهة نحوه لطعنه.

أي كان كما نقل المعتزليّ الشافعيّ ابن أبي الحديد عن شيخه النقيب أبي يزيد أنّه قال : إنّما تحاجز الفريقان بعد أن عرف أبو سفيان أنّ النبيّ حيّ ولكنّه في أعلى الجبل وأنّ الخيل لا تستطيع الصعود إليه ، وأنّ القوم إن صعدوا إليه رجّالة لم يثقوا بالظفر به ، لأنّ معه أكثر أصحابه وهم مستميتون إن صعد القوم إليهم ، وأنّهم لا يقتلون منهم واحدا حتّى يقتلوا منهم اثنين أو ثلاثة ، لأنّهم لا سبيل لهم للهرب لكونهم محصورين. فالرجل منهم يحامي عن خيط رقبته ... كفّوا عن الصعود ، وقنعوا بما وصلوا إليه من قتل من قتلوه في الحرب ، وأمّلوا يوما ثانيا يكون لهم فيه الظفر الكلّي بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

ولكنّه قبل ذلك قال : قلت له : ما كانت حال رسول الله لمّا انكشف المسلمون وفرّوا.

قال : ثبت في نفر يسير من أصحابه يحامون عنه. قلت : ثمّ ما ذا؟

قال : ثمّ ثابت إليه الأنصار وردّت إليه عنقا واحدا بعد فرارهم وتفرّقهم ،

__________________

(١) شرح النهج ١٤ : ٢٤٦.


وامتاز المسلمون عن المشركين وكانوا ناحية ، ثمّ التحمت الحرب واصطدم الفيلقان.

قلت : ثمّ ما ذا؟

قال : لم يزل المسلمون يحامون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والمشركون يتكاثرون عليهم ويقتلون فيهم ، حتى لم يبق من النهار إلّا القليل والدولة للمشركين (١).

وقال بعد هذا : كنت بالنظاميّة ببغداد وأنا غلام ، فحضرت في بيت خازن الكتب بها عبد القادر بن داود المحب الواسطي ، وعنده في البيت باتكين الرومي (التركي) الذي ولي إربل أخيرا ، وعنده أيضا جعفر بن مكّي الحاجب أيضا ـ وكان باتكين مسلما وكان جعفر سامحه الله مغموصا عليه في دينه. فجرى ذكر يوم احد وشعر ابن الزّبعرى وأنّ المسلمين اعتصموا بالجبل فأصعدوا فيه وأنّ الليل حال أيضا بين المشركين وبينهم ، فأنشدنا ابن مكّي بيتين لأبي تمام متمثّلا :

لو لا الظلام وقلّة علقوا بها

باتت رقابهم بغير قلال

فليشكروا جنح الظلام وذرودا

فهم لذرود والظلام موالي

فقال باتكين : لا تقل هذا ولكن قل : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)(٢).

والآية الكريمة ـ كشعر ابن الزبعرى ـ تخلو عن ذكر الظلام ، بل هو ظلم من الكلام ، فقد مرّ أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله صلّى الظهر في الجبل جالسا ثمّ صلّى على القتلى وحضر دفن بعضهم ثمّ انحدر إلى المدينة عصرا فدخل داره ثمّ أذّن بلال للمغرب فخرج فصلّى. فأين الظلام في احد؟!

__________________

(١) شرح النهج ١٤ : ٢٤٥ و ٢٤٦.

(٢) آل عمران : ١٥٢.


والغريب أنّ ابن أبي الحديد كيف غاب ذلك عن نظره الحديد؟

وفي تأريخ الغزوتين : احد وحمراء الأسد ، قال ابن إسحاق : وكان يوم احد يوم السبت للنصف من شوّال. فلمّا كان الغد يوم الأحد لستّ عشرة ليلة مضت من شوّال أذّن مؤذّن رسول الله في الناس بطلب العدوّ (١).

قال : فخرج رسول الله حتى انتهى إلى حمراء الأسد ... فأقام بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء ثمّ رجع إلى المدينة (٢).

وقال الواقدي : غزوة احد يوم السبت لسبع خلون من شوّال على رأس اثنين وثلاثين شهرا (٣). وقال : وكانت غزوة حمراء الأسد يوم الأحد لثمان خلون من شوّال على رأس اثنين وثلاثين شهرا ، وغاب خمسة أيّام ودخل المدينة يوم الجمعة (٤).

ولم يسمّ القمي في تفسيره والطبرسي في «إعلام الورى» أجلا لهما ، إلّا أن قال : ثمّ كانت غزوة احد على رأس سنة من بدر (٥). وقال في «مجمع البيان» كان القتال يوم السبت للنصف من الشهر (٦). وفي غزوة حمراء الأسد قال : قال أبان بن عثمان : لمّا كان الغد من يوم احد ... ورجع رسول الله إلى المدينة يوم الجمعة (٧).

ثمّ كانت شهور الحجّ : ذو القعدة وذو الحجّة ، فقعد فيهما الرسول عن القتال.

__________________

(١) ابن هشام ٣ : ١٠٦ و ١٠٧.

(٢) ابن هشام ٣ : ١٠٨.

(٣) مغازي الواقدي ١ : ١٩٩.

(٤) مغازي الواقدي ١ : ٣٣٤.

(٥) إعلام الورى ١ : ١٧٦.

(٦) مجمع البيان ٢ : ٨٢٦.

(٧) إعلام الورى ١ : ١٨٣ ، ١٨٤.


أهم حوادث

السنة الرابعة للهجرة



غزوة الرجيع :

قال الطبرسي في «إعلام الورى» : ثمّ كانت غزوة الرجيع .. وهو ماء لهذيل (١).

مرّ في وقعة احد عن القمي أنّه عدّ أصحاب لواء المشركين : طلحة بن أبي طلحة ، وأبا سعيد بن أبي طلحة ، ومسافع بن طلحة بن أبي طلحة ، وعثمان ابن أبي طلحة ، والحارث بن أبي طلحة ، وأبو عذير بن عثمان بن أبي طلحة ، كلّهم من بني عبد الدار ، وكلّهم قتلهم عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام (٢).

ولكن جاء في خبر المفيد في «الإرشاد» عن عبد الله بن مسعود قال : كان لواء المشركين مع طلحة بن أبي طلحة ، فأخذه أخ له يقال له مصعب فرماه عاصم ابن ثابت (بن أبي الأقلح الأنصاري) بسهم فقتله ، ثمّ أخذه أخ له يقال له

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ١٨٥.

(٢) تفسير القمي ١ : ١١٢ و ١١٣.


عثمان فرماه عاصم أيضا بسهم فقتله (١).

وقال ابن إسحاق : ومسافع بن طلحة ، والجلاس بن طلحة قتلهما عاصم بن ثابت (٢).

وقال الواقدي : ومسافع بن طلحة بن أبي طلحة ، والحارث بن طلحة قتلهما عاصم بن ثابت (٣).

وقال ابن إسحاق في النساء اللواتي خرجن إلى احد : وخرج طلحة بن أبي طلحة بسلافة بنت سعد بن شهيد الأنصاريّة (كذا) وهي أمّ بنيه : مسافع والجلاس وكلاب ، وقتلوا مع أبيهم (٤) وكذلك ذكر الواقدي وأضاف : الحارث. وقال : هي من الأوس (٥).

وقال : حمل مسافع إلى امّه سلافة فقالت : من أصابك؟ قال : سمعته يقول :

خذها وأنا ابن أبي الأقلح. فيومئذ نذرت أن تشرب الخمر في قحف رأسه وقالت : لمن جاء به مائة من الإبل (٦). قال : وعلمته بنو لحيان والعرب (٧).

وقال ابن إسحاق : قدم على رسول الله بعد احد (٨) رهط من

__________________

(١) الإرشاد ١ : ٨١.

(٢) ابن هشام ٣ : ١٣٤.

(٣) مغازي الواقدي ١ : ٣٠٧.

(٤) ابن هشام ٣ : ٦٦.

(٥) مغازي الواقدي ١ : ٢٠٢.

(٦) مغازي الواقدي ١ : ٢٢٨ و ٣٥٦ ، وبدون المائة ناقة ابن إسحاق في السيرة ٣ : ٧٩ و ١٨٠ ، والطبرسي في إعلام الورى عن كتاب أبان ١ : ١٨٦.

(٧) مغازي الواقدي ١ : ٣٥٦.

(٨) وقد أرّخ يوم الرجيع في سنة ثلاث ٣ : ١٧٨ وقال : أقام خبيب في أيديهم حتّى انقضت


عضل والقارة (١).

ونقل الطبرسي في «إعلام الورى» عن كتاب أبان البجلي الكوفي قال : قدم عليه رهط من عضل والديش (٢) فقالوا : ابعث معنا نفرا من قومك يعلّموننا القرآن ويفقّهوننا في الدين.

فبعث رسول الله : خالد بن بكير ، وخبيب بن عدي ، وزيد بن الدثنة ، وعاصم بن ثابت بن ابي الأقلح ، وعبد الله بن طارق ، وجعل أمير القوم مرثد بن أبي مرثد الغنوي حليف حمزة (عمّه).

فخرجوا مع القوم إلى بطن الرجيع ، وهو ماء لهذيل.

فهجم عليهم حيّ من هذيل يقال لهم بنو لحيان فأصابوهم جميعا.

وكان عاصم بن ثابت قد أعطى الله عهدا أن لا يمسّ مشركا ولا يمسّه مشرك في حياته أبدا. فلمّا قتلته هذيل أرادوا قطع رأسه ليبيعوه لسلافة بنت سعد (أو ليحصلوا على المائة ناقة جعالتها لمن جاءها برأسه انتقاما لابنيها المقتولين بيده في احد) فمنعتهم الزنابير ، فقالوا : دعوه حتى نمسي فتذهب الزنابير عنه. فلمّا أمسوا بعث الله الوادي سيلا فاحتمل عاصما فذهب به ، ومنعه الله بعد وفاته ممّا امتنع هو منه في حياته (٣).

__________________

ـ الأشهر الحرم ثمّ قتلوه ٣ : ١٨٣. وقال الواقدي : ادخلا إلى مكّة في الشهر الحرام ذي القعدة فحبسوا ـ ١ : ٣٥٧ ، فيعلم أنّه إنّما أرّخ لرجيع في صفر على رأس ستّة وثلاثين شهرا ، لقتلهم فيه.

(١) ابن هشام ٣ : ١٧٨.

(٢) عضل والديش ابنا هون بن خزيمة ، كما في القاموس.

(٣) إعلام الورى ١ : ١٨٦. ومناقب آل أبي طالب ١ : ١٩٥ ، والبداية والنهاية ٤ : ٦٤.


وقال ابن شهرآشوب في «المناقب» : وأمّا زيد وخبيب وعبد الله فأعطوا بأيديهم ، فخرجوا بهم إلى مكّة ، وانتزع عبد الله يده (ليقاتلهم) فرموه بالحجارة حتّى قتلوه.

وأمّا زيد فابتاعه صفوان بن اميّة ليقتله بأبيه (اميّة بن خلف قتل ببدر).

وأمّا خبيب فابتاعه حجير بن إهاب التميمي لعقبة بن الحارث ليقتله بأبيه ، فلمّا أحسّ قتله قال : ذروني اصلي ركعتين ، فتركوه فصلّى ركعتين ، فجرت سنّة لمن يقتل صبرا أن يصلّي ركعتين. ثمّ قال :

وذلك في ذات الإله وإن يشأ

يبارك في أوصال شلو ممزّق (١)

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ١ : ١٩٥. وروى ابن إسحاق قال : غدروا بهم ، فلم يرعهم إلّا الرجال من هذيل قد غشوهم والسيوف بأيديهم ، فأخذوا سيوفهم ليقاتلوهم فقالوا لهم : إنّا ما نريد قتالكم ولكنّا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكّة.

فقال مرثد بن أبي مرثد وخالد بن بكير وعاصم بن ثابت : والله لا نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا أبدا. فقاتلوا حتى قتلوا.

وأمّا زيد بن الدثنة وخبيب بن عدي وعبد الله بن طارق فلانوا وأعطوا بأيديهم فأسروهم ، وخرجوا بهم إلى مكّة ليبيعوهم بها ، فلمّا كانوا بالظهران انتزع عبد الله بن طارق يده من القران وأخذ سيفا (ليقاتلهم) فاستأخروا عنه ورموه بالحجارة حتى قتلوه ، فقبره بالظهران.

وقدموا بزيد بن الدثنة وخبيب بن عدي إلى مكّة ، فابتاع خبيبا حجير بن أبي إهاب التميمي لعقبة بن الحارث ليقتله بأبيه. وابتاع زيد بن الدثنة صفوان بن اميّة ليقتله بأبيه اميّة بن خلف. وحبس خبيب في دار حجير بن أبي إهاب في بيت لمولاته ماويّة (أو ماريّة) ٣ : ١٧٩ و ١٨٠. وروى الواقدي قال : فلم يرعهم إلّا القوم مائة رام بأيديهم السيوف ، فقاموا واخترطوا سيوفهم ، فقال لهم العدو : ما نريد قتالكم وما نريد إلّا أن نصيب بكم


__________________

ـ ثمنا من أهل مكّة.

فأمّا خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة وعبد الله بن طارق فاستأسروا.

وأمّا عاصم بن ثابت ومرثد وخالد بن بكير ومعتّب بن عبيد فأبوا أن يقبلوا أمانهم وجوارهم فقاتلوهم حتى قتلوا.

وخرجوا بخبيب بن عدي ، وزيد بن الدثنة ، وعبد الله بن طارق إلى مكّة ، وفي مرّ الظهران نزع عبد الله بن طارق يده من رباطه وأخذ سيفا ، فانفرجوا عنه ورموه بالحجارة حتى قتلوه ، فقبروه.

وخرجوا بخبيب بن عدي وزيد بن الدثنة إلى مكّة ، فدخلوا بهما في شهر ذي القعدة الحرام.

فأمّا خبيب فابتاعه حجير بن أبي إهاب بخمسين بعيرا أو ثمانين مثقالا من الذهب ـ وقيل اشترته ابنة الحارث بن عامر بمائة من الإبل ـ وإنّما اشتراه حجير لابن أخيه عقبة بن الحارث ليقتله بأبيه المقتول ببدر. فحبس حجير خبيبا في بيت مولاة لبني عبد مناف يقال لها ماويّة.

وأمّا زيد بن الدثنة فاشتراه صفوان بن اميّة بخمسين بعيرا ليقتله بأبيه ، فحبسه عند ناس من بني جمح أو عند غلامه نسطاس (الرومي) ١ : ٣٥٥ ـ ٣٥٧ لتنسلخ الأشهر الحرم فيخرجوهم من الحرم فيقتلوهم بالتنعيم أوّل الحلّ كما في السيرة ٣ : ١٨١ ، والمغازي ١ : ٣٥٨. ولذلك فنحن نؤجّل مقتلهم إلى حينه. بل يبدو من قوله : دخلوا بهما إلى مكّة في شهر ذي القعدة الحرام : أنّ مؤامرة بني لحيان من هذيل من خلال رجال من عضل والقارة والديش وفودهم إلى المدينة وتظاهرهم بالإسلام ودعوتهم دعاة الإسلام إلى قومهم في بطن الرجيع وارتحالهم إلى هناك وحتى الوقعة لم يكن كلّ ذلك في ذي القعدة بل كان قبله في أواخر شوّال ، وإلّا لكانت تذكر حرمة الأشهر قبل ذلك ، وعليه فقدوم القوم إلى المدينة


وفاة زينب بنت خزيمة :

في شهر ذي القعدة توفّيت زينب بنت خزيمة أمّ المساكين أمّ المؤمنين التي كانت زوجة عبيدة بن الحارث بن المطّلب الشهيد ببدر ، والتي مرّ بشأنها عن المسعودي في «التنبيه والإشراف» أنّ رسول الله تزوّجها في شهر رمضان من السنة الثالثة (١) وفي «مروج الذهب» وكان وفاتها بعد شهرين (٢) أي في شهر ذي القعدة.

سريّة أبي سلمة إلى بني أسد في قطن :

وعماد الحديث عنها عن الواقدي بسنده عن سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة ، عن أبيه عن جدّه أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي قالوا : إنّ أبا سلمة حين تحوّل من قباء كان نازلا في بني اميّة بن زيد بالعالية ، ومعه زوجته أمّ سلمة بنت أبي اميّة المخزومي ، وشهد أبو سلمة احدا فجرح جرحا على عضده ، فرجع

__________________

ـ للدعوة كان بعد بدر كما روى ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة.

هذا وقد أرّخ الواقدي غزوة الرجيع في صفر على رأس ستّة وثلاثين شهرا من الهجرة ، وذكر أنّ الهجوم على المسلمين في تلك الغزوة كان عقب مقتل سفيان بن خالد الهذلي بيد المسلمين ، فكان ذلك انتقاما. بينما هو يؤرّخ مقتل سفيان على رأس أربعة وخمسين شهرا : ٥٣١. وهذا ممّا نبّه عليه المحقّق للمغازي مارسدن جونس في مقدّمته : ٣٣.

(١) التنبيه والإشراف : ٢١٠.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٢٨٨ ، ونقل تأريخ وفاتها في جمادى الاولى من السنة الرابعة المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ١٨٥ عن المنتقى للكازروني : ١٢٨ بلا مصدر.


إلى منزله ، فجاءه الخبر أنّ رسول الله سار إلى حمراء الأسد فركب وسار مع النبيّ إلى حمراء الأسد ، فلمّا رجع رسول الله إلى المدينة انصرف ورجع من العصبة بالعقيق إلى منزله ، فأقام شهرا يداوي جرحه حتّى رأى أن قد برأ ، ولا يدري أنّ الجرح قد دمل على فساد في داخله.

وقدم الوليد بن زهير الطائي إلى المدينة ونزل على صهره طليب بن عمير من أصحاب رسول الله فأخبره أنّه قد ترك سلمة وطليحة ابني خويلد قد سارا بدعوتهما في قومهما إلى حرب رسول الله يقولون :

نسير إلى محمّد في عقر داره فنصيب من أطرافه وسرحهم يرعى في جوانب المدينة ، ونخرج على متون الخيل ، فإن أصبنا نهبا لم ندرك ، وإن لاقينا جمعهم كنّا قد أخذنا للحرب عدّتها ، معنا خيل ولا خيل لهم ، والقوم منكوبون قد أوقعت بهم قريش حديثا ..

فخرج طليب بن عمير بالوليد بن زهير الطائي إلى النبيّ فأخبره ما أخبر الرجل.

وكان هلال المحرّم على رأس خمسة وثلاثين شهرا من الهجرة (١) ، فدعا رسول الله أبا سلمة وقال له : اخرج في هذه السريّة (خمسون ومائة) فقد استعملتك عليها حتى ترد أرض بني أسد ، فأغر عليهم قبل أن تلاقي عليك جموعهم ، وأوصاه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرا. وعقد له لواء.

فخرج به الوليد بن زهير الطائي دليلا معهم ، ونكب بهم عن سنن الطريق ، وأسرعوا السير وسار بهم ليلا ونهارا ـ أو كمنوا النهار ـ فسبقوا الأخبار حتى انتهوا في أربعة ليال إلى قطن من مياه بني أسد ، فوجدوا سرحا معه مماليك رعاء

__________________

(١) وإنّما جاز القتال دفاعا ووقاية لا ابتداء.


للسرح ، فأخذوا ثلاثة منهم وأفلت سائرهم ، وضمّوا السرح إليهم ، وذهب المفلتون منهم إلى جمعهم فأخبروهم الخبر وحذّروهم من جمع أبي سلمة (١).

فأحاط بهم أبو سلمة في عماية الصبح ، فوعظ القوم وأمرهم بتقوى الله ورغّبهم في الجهاد وحضّهم عليه ، وأوعز إليهم في الإمعان في الطلب ، وألّف بين كلّ رجلين منهم. وانتبه القوم قبل الحملة عليهم فتهيّئوا وأخذوا السلاح وصفّوا للقتال.

وحمل عليهم أبو سلمة فانكشف المشركون وتبعهم المسلمون فتفرّقوا في كلّ وجه ، وأمسك أبو سلمة عن الطلب وانصرف راجعا إلى محلّه ، وأخذوا ما خفّ لهم من متاع القوم ، ولم يكن في المحلّة ذريّة (٢).

وفرّق أصحابه ثلاث فرق : فرقة أقامت معه وفرقتان أغارتا على ناحيتين في طلب النعم والشياة على أن لا يمعنوا في الطلب ولا يبيتوا إلّا عنده ، فرجعوا سالمين قد أصابوا إبلا وشياتا ولم يلقوا أحدا.

وانحدر بذلك كلّه أبو سلمة راجعا إلى المدينة ومعهم الطائي ، فأعطاه أبو سلمة رضاه من المغنم ، ثمّ أخرج عبدا صفيّا لرسول الله ، ثمّ أخرج الخمس ، ثمّ قسّم ما بقي بين أصحابه (٣).

ثمّ انصرفوا راجعين إلى المدينة ، حتّى إذا كانوا من مائهم على مسيرة ليلة أخطئوا الطريق ... فلمّا أخطئوا الطريق استأجروا دليلا من العرب يدلّهم على الطريق فقال : أنا أهجم بكم على نعم ، فما تجعلون منه لي؟ قالوا : الخمس. فدلّهم على النعم فيه رعاؤهم ، فأخذوا الرعاء واستاقوا

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ٣٤٠ ـ ٣٤٢.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٣٤٥.

(٣) مغازي الواقدي ١ : ٣٤٣.


النعم وفيها سبعة أبعرة ... وأخذ الدليل خمسه. حتّى دخلوا المدينة (١). وغاب بضع عشرة ليلة (٢).

مقتل أصحاب الرجيع :

روى ابن إسحاق : أنّ خبيب بن عدي كان قد حبس في بيت ماويّة مولاة حجير بن أبي إهاب التميمي (وزيد بن الدثنة عند صفوان بن اميّة) مع مولى له يقال له : نسطاس (٣) وذلك لما روى الواقدي قال : دخل بهما إلى مكّة في شهر ذي القعدة الحرام (٤) فلذلك انتظروا بهم خروج الأشهر الحرم : ذي القعدة وذي الحجّة ومحرّم.

قال ابن إسحاق : اجتمع رهط من قريش لقتله فيهم أبو سفيان ، وأخرجوا زيد بن الدثنة من الحرم ليقتلوه ، بعث به صفوان مع مولاه نسطاس إلى التنعيم (أوّل الحلّ) فلمّا قدّم ليقتل قال له أبو سفيان : انشدك الله يا زيد ، أتحبّ أنّ محمّدا عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه وأنّك في أهلك؟ قال : والله ما احبّ أنّ محمّدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنّي جالس في أهلي! ثمّ قدّمه نسطاس فقتله رحمه‌الله.

ثمّ خرجوا بخبيب وجاءوا به إلى التنعيم ليصلبوه ، فقال لهم : إن رأيتم أن تدعوني أركع ركعتين. قالوا : دونك فاركع ، فركع ركعتين فأتمّهما وأحسنهما ثمّ أقبل على القوم فقال : أما والله لو لا أن تظنّوا أنّي إنّما طوّلت جزعا من القتل لاستكثرت من الصلاة. فكان أوّل من سنّ هاتين الركعتين عند القتل للمسلمين.

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ٣٤٥ و ٣٤٦.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٣٤٣ ، وفي ثلاث بقين من جمادى الآخرة انتقض به الجرح فمات ، فغسل وحمل إلى المدينة فدفن بها. واعتدّت زوجته أمّ سلمة فتزوّجها رسول الله في شوّال.

(٣) ابن هشام ٣ : ١٨١.

(٤) مغازي الواقدي ١ : ٣٥٧.


ثمّ أوثقوه ليرفعوه على خشبته فقال :

اللهم قد بلّغنا رسالة رسولك ، فبلّغه الغداة ما يصنع بنا ، ثمّ قال : اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تغادر منهم أحدا!

وكان المشركون يزعمون أنّ الرجل إذا دعي عليه فاضطجع لجنبه زالت عنه! وكان أبو سفيان حاضرا ومعه معاوية فألقى معاوية على الأرض خوفا من إصابة دعوة خبيب (١).

وروى الواقدي قال : دخل بهما إلى مكّة في شهر ذي القعدة الحرام ، فحبس حجير خبيب بن عدي في بيت امرأة يقال لها ماوية مولاة لبني عبد مناف ، وحبس صفوان زيد بن الدثنة عند ناس من بني جمح. ويقال : عند غلامه نسطاس ... فلمّا انسلخت الأشهر الحرم أجمعوا على قتلهما.

فأخرجوا خبيبا بالحديد إلى التنعيم (أوّل الحلّ) (٢) وخرج معه النساء والصبيان والعبيد وجماعة من أهل مكّة إمّا موتور يريد أن يتشافى بالنظر في وتره ، وإمّا غير موتور مخالف للإسلام وأهله. وأخرجوا معه زيد بن الدثنة ، وأمروا فحفر لخشبتهما.

فلمّا قرّبوا خبيبا إلى خشبته قال : هل أنتم تاركيّ فاصلّي ركعتين؟ قالوا : نعم. فركع ركعتين فاتمّهما من غير أن يطوّل فيهما. ثمّ قال : أما والله لو لا أن تروا أنّي جزعت من الموت لاستكثرت من الصلاة. ثمّ قال : اللهم احصهم عددا واقتلهم بددا ولا تغادر منهم أحدا!

__________________

(١) ابن هشام ٣ : ١٨١ و ١٨٢.

(٢) بل قال عاتق البلادي في مختصر معجم معالم مكّة التاريخية : إنّ موضع قتل خُبيب في شمال وادي يأجج والذي يُعرف اليوم باسم ياج ، تخفيفاً ، ويعرفه عامّة أهل مكّة باسم وادي بئر مقيت ، وهو في شمال التنعيم يمرّ به حتّى يصبّ في مرّ الظهران بطول ٣٣ كم ، كما عنه في مجلّة ميقات الحجّ ٧ : ٢٤١. س


فقال الحارث بن برصاء : والله ما ظننت أنّ دعوة خبيب تغادر أحدا منهم!

وقال جبير بن مطعم : لقد رأيتني يومئذ أتستّر بالرجال خوفا من أن أشرف لدعوته!

وقال حكيم بن حزام : لقد رأيتني أتوارى بالشجر خوفا من دعوة خبيب!

وقال حويطب بن عبد العزّى : لقد رأيتني أدخلت إصبعي في اذني واهرب خوفا من سماع دعائه!

وقال معاوية بن أبي سفيان : ولقد جذبني أبي يومئذ جذبة سقطت منها على عجب ذنبي فأوجعتني!

وقال نوفل بن معاوية الديلي : كنت قائما فأخلدت إلى الأرض خوفا من دعوته ، وما كنت أرى أنّ أحدا ينفلت من دعوته ، ولقد مكثت قريش شهرا أو أكثر ما لها حديث في أنديتها إلّا دعوة خبيب.

ثمّ حملوه إلى الخشبة ووجّهوه إلى المدينة وأوثقوه رباطا ثمّ قالوا له : ارجع عن الإسلام نخلّ سبيلك! قال : لا والله ما احبّ أنّي رجعت عن الإسلام وأنّ لي ما في الأرض جميعا! قالوا : فتحبّ أنّ محمّدا في مكانك وأنت جالس في بيتك؟ قال : والله ما احبّ أن يشاك محمّد بشوكة وأنا جالس في بيتي! فجعلوا يقولون له : ارجع يا خبيب! وهو يقول : لا أرجع أبدا! قالوا : أما واللات والعزّى لئن لم تفعل لنقتلنّك! قال : إنّ قتلي في الله لقليل! ثمّ قال : اللهم اني لا أرى إلّا وجه عدو ، اللهم إنّه ليس هاهنا أحد يبلّغ رسولك السّلام عنّي ، فبلّغه أنت عنّي السّلام!

فروى الواقدي بسنده عن زيد بن حارثة الكلبي مولى رسول الله قال : إنّ رسول الله كان جالسا مع أصحابه إذ أخذته غشية كما كانت تأخذه إذا انزل عليه


الوحي ثمّ سمعناه يقول : وعليه‌السلام ورحمة الله. ثمّ قال : هذا جبرئيل يقرئني من خبيب السّلام.

ثمّ دعوا أبناء من قتل ببدر فوجدوهم أربعين غلاما فأعطوا كلّ غلام رمحا ثمّ قالوا : هذا الذي قتل آباءكم فطعنوه برماحهم .. ثمّ طعنه أبو سروعة حتى أخرجه من ظهره ، فمكث ساعة يوحّد الله ويشهد أنّ محمّدا رسول الله.

قال : وكان زيد محبوسا في الحديد عند آل صفوان بن اميّة ، وكان يصوم بالنهار ويتهجّد بالليل ، ولا يأكل من ذبائحهم فأرسل إليه صفوان : فما تأكل من الطعام؟ قال : لست آكل ممّا ذبح لغير الله ، ولكنّي أشرب اللبن ، فأمر له صفوان بعسّ من لبن عند إفطاره فيشرب منه.

وخرج به غلام صفوان نسطاس إلى التنعيم ، وخرجوا بخبيب في يوم واحد ، فالتقيا فالتزم كلّ منهما صاحبه وأوصى كلّ واحد منهما صاحبه بالصبر على ما أصابه ثمّ افترقا ، ورفعوا لزيد جذعا ، فقال : اصلّي ركعتين ، فصلّى ركعتين ، ثمّ حملوه على الخشبة ثمّ جعلوا يقولون له : ارجع عن دينك المحدث واتّبع ديننا ونرسلك! قال : لا والله لا افارق ديني أبدا. فقالوا له : أيسرّك أنّ محمّدا في أيدينا مكانك وأنت في بيتك؟ قال : ما يسرّني أنّ محمّدا اشيك بشوكة وأنّي في بيتي! ثمّ ولي نسطاس قتله (١).

سريّة الجهني الى اللحياني :

روى الواقدي : أن بني لحيان من هذيل كانوا قد نزلوا في عرنة (بقرب عرفة من مكة) وما حولها. وبلغ رسول الله أن قائدهم سفيان بن خالد قد جمع

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ٣٥٧ ـ ٣٦٢.


الجموع له وقد ضوى إليه بشر كثير من أفناء الناس.

فروى عن عبد الله بن انيس الجهني : أن رسول الله دعاه (في أوائل المحرّم للسنة الرابعة للهجرة (١)) وأخبره الخبر وأمره أن ينبعث إليه وحده ليقتله. قال ابن انيس : وكنت لا أهاب الرجال ، ولكنّي لم اكن أعرفه فقلت : يا رسول الله ما أعرفه فصفه لي. فقال رسول الله : انك اذا رأيته هبته وفرقت منه وذكرت الشيطان! فقلت : يا رسول الله ما فرقت من شيء قط. فقال : بلى تلك آية لك أن تجد له قشعريرة اذا رأيته! فاستأذنت النبيّ أن أقول ما شئت. فقال : قل ما بدا لك : وانتسب الى خزاعة.

قال : فأخذت سيفي لم أزد عليه ، وخرجت أمشي على رجلي يوم الاثنين لخمس خلون من المحرم فأخذت على الطريق حتى انتهيت الى قديد ، فوجدت بها خزاعة كثيرا وانتسبت إليهم ، وكنت ماشيا فعرضوا عليّ أن يحملوني ويصحبوني فلم أرد ذلك.

وخرجت أمشي حتى خرجت على عرنة فجعلت اخبر من لقيت أني اريد سفيان بن خالد لأكون معه ، حتى اذا كنت ببطن عرنة وقد دخل وقت العصر فلقيته يمشي وهو يتوكأ على عصا ووراءه الأحابيش ومن استجلب وضوى إليه ، فلما رأيته هبته على النعت الذي نعته لي رسول الله ، فقلت في نفسي : صدق الله

__________________

(١) روى ابن اسحاق هذه السرية بلا تاريخ ٤ : ٢٦٧ ، وانما رواها الواقدي مضطربا في تاريخها : فذكرها في فهرسه للمغازي والسرايا في مقدمة كتابه : ٣ تارة : على رأس خمسة وثلاثين شهرا. واخرى : ٤ في المحرم سنة ست. ثم ذكر التفصيل على التاريخ الثاني : على رأس أربعة وخمسين شهرا : ٥٣١. بينما ذكر في غزوة الرجيع : ٣٥٤ : أن قتل عاصم بن ثابت كان انتقاما لقتل سفيان بن خالد ، وهذا يرجّح التاريخ الأول : ٣٥ شهرا. كما ذكرها المسعودي كذلك في التنبيه والاشراف : ٢١٢.


ورسوله ، فصليت العصر ايماء برأسي وأنا أمشي.

فلما دنوت منه قال : من الرجل؟ فقلت : من خزاعة ، سمعت بجمعك لمحمد فجئتك لأكون معك. قال : أجل اني لفي الجمع له. فمشيت معه وأنا أقول : عجبا لما أحدث محمد من هذا الدين المحدث ، فارق الآباء وسفّه الأحلام! فقال : لم يلق محمد أحدا يشبهني! وأنشدته شعرا وحدّثته فاستحلى حديثي وانتهى الى خبائه (١) وتفرق عنه أصحابه الى منازل قريبة منه ، فقال لجاريته : احلبي. فحلبت ثم ناولتني فمصصت ثم دفعته إليه ، فعبّ منه ثم قال : اجلس ، فجلست معه حتى اذا هدأ الناس وناموا ، وهدأ هو فقتلته وأخذت رأسه وأقبلت حافيا حتى صعدت في جبل فدخلت غارا واختفيت فيه ، وضربت العنكبوت على الغار ، وأنا اذكر تهامة وحرّها وكان أهم أمري عندي العطش.

وتفقّدنه نساؤه فاخذن يبكين عليه ، وأقبل الرجال على الخيل في طلبي وتوزّعوا في كل وجه ، وأقبل رجل نعلاه في يده ومعه إداوة ضخمة فوضعها على باب الغار وقال لأصحابه : ليس في الغار أحد فانصرفوا راجعين وجلس هو على باب الغار يبول ، فخرجت الى الاداوة فشربت منها وأخذت النعلين فلبستهما ، وأقبلت أتوارى النهار وأسير الليل حتى قدمت المدينة في يوم السبت لسبع بقين من المحرم (٢) فوجدت رسول الله في المسجد ، فلما رآني قال : أفلح الوجه! قلت : أفلج وجهك يا رسول الله! ثم وضعت رأسه بين يديه وأخبرته خبري. فدفع إلي عصا وقال : تخصّر بهذه في الجنة فان المتخصّرين في الجنة قليل. ولذلك أوصى

__________________

(١) وفي ابن اسحاق ٤ : ٢٦٨ : حتى اذا أمكنني حملت عليه بالسيف فقتلته ثم خرجت وتركت نساءه منكبّات عليه. وهذا النص أبعد عن التصنّع.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٥٣٢ ، ٥٣٣ ، ٥٣١ وانظر سيرة ابن هشام ٤٢ : ٢٦٧ ، ٢٦٨.


أهله أن يدرجوها في كفنه (١).

غزوة بئر معونة :

روى الواقدي بسنده عن أبي سعيد الخدري قال : كان سبعون رجلا شابّا من الأنصار إذا أمسوا اجتمعوا في ناحية من المدينة فصلّوا وتدارسوا القرآن حتى سمّوا القرّاء ، حتى إذا كان الصبح جمعوا حطبا واستعذبوا ماء فحملوه إلى حجر رسول الله فكان أهلهم يظنّون أنّهم في المسجد وأهل المسجد يظنّون أنّهم جاءوا من أهليهم.

وقال الواقدي : وأرى أنّهم كانوا أربعين رجلا فهو الثبت (٢) وكذلك قال ابن إسحاق (٣).

ونقل الطبرسي في «إعلام الورى» عن كتاب أبان البجلي الكوفي قال : قدم على رسول الله بالمدينة أبو براء عامر بن مالك ملاعب الأسنّة ، فعرض عليه الإسلام فأسلم (٤) وقال : يا محمّد! إن بعثت رجالا إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك!

فقال الرسول : أخشى عليهم أهل نجد (٥)! فقال أبو براء : أنا لهم جار!

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٥٣٣. والتخصّر أن يتكئ الشخص بخاصرته على العصا.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٣٤٧.

(٣) ابن هشام ٣ : ١٩٤.

(٤) فلم يسلم ولم يبعد ، إعلام الورى ١ : ١٨٦ ، ابن إسحاق في السيرة ٣ : ١٩٣. والواقدي ١ : ٣٤٦. وهو الثبت وإلّا فكيف يقول : يا محمّد؟!

(٥) وإنّما يتوجّه هذا الكلام بعد خيانة رجال عضل والقارة والديش ولحيان من هذيل ، لا قبل ذلك.


فبعث رسول الله المنذر بن عمرو في بضعة وعشرين رجلا ـ وقيل : في أربعين ، وقيل : في سبعين رجلا ـ من خيار المسلمين ، منهم : الحارث بن الصمّة ، وحرام بن ملحان ، وعامر بن فهيرة (١) ومعهم كتاب رسول الله.

فساروا حتى نزلوا بئر معونة ، وهي بين أرض بني عامر وحرّة بني سليم. فبعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله إلى عامر بن الطفيل ، فلمّا أتاه لم ينظر (عامر) في كتابه حتى عدا على الرجل فقتله وهو يقول : الله أكبر! فزت (٢) وربّ الكعبة!

ثمّ دعا (عامر) بني عامر إلى قتالهم ، فقالوا : لا نخفر أبا براء! فاستصرخ قبائل من بني سليم : عصيّة ورعلا وذكوان فأجابوه وأحاطوا بالقوم في رحالهم. فلمّا رأوهم أخذوا أسيافهم وقاتلوا القوم حتى قتلوا عن آخرهم (٣) وإنّما كانوا قد خلّفوا في سرحهم عمرو بن اميّة الضمري ورجلا آخر من الأنصار (المنذر بن محمّد (٤)) فلم ينبئهما بمصاب القوم إلّا الطير تحوم على العسكر ، فقالا ، والله إنّ لهذا الطير لشأنا! فأقبلا لينظرا فإذا القوم في دمائهم! فقال الأنصاري (المنذر بن محمّد) لعمرو الضمري : ما ترى؟ قال : أرى أن نلحق برسول الله فنخبره الخبر ، فقال الأنصاري (المنذر بن محمّد) : لكني لم أكن أرغب بنفسي عن موطن قتل فيه

__________________

(١) وقال الواقدي : هؤلاء هم القرّاء الذين بعثهم إلى بئر المعونة.

(٢) روى ابن إسحاق عن جبّار بن سلمى العامري قال : طعنت يومئذ رجلا منهم بالرمح بين كتفيه فخرج سنان الرمح من صدره فسمعته يقول : فزت والله! فسألت عن قوله فقالوا : للشهادة ـ ٣ : ١٩٦. ورواه الواقدي ١ : ٣٤٩.

(٣) وقال ابن إسحاق : إلّا كعب بن زيد من بني النجّار فإنّهم تركوه وبه رمق فرفع من بين القتلى فعاش ورجع إلى المدينة ثمّ قتل يوم الخندق ٣ : ١٩٤.

(٤) ابن هشام ٣ : ١٩٥.


المنذر بن عمرو (الساعدي أميرهم ، وحمل) فقاتل القوم حتى قتل.

ورجع عمرو الضمري (١) إلى المدينة فأخبر رسول الله. فقال : هذا عمل

__________________

(١) وروى ابن إسحاق قال : وأخذ عمرو بن اميّة الضمري أسيرا ، فلمّا أخبرهم أنّه من مضر جزّ ناصيته عامر بن الطفيل واعتقه عن رقبة زعم أنّها كانت على امّه ـ ٣ : ١٩٥ ، ونقله عنه الطبرسي في مجمع البيان ٢ : ٨٨٢ ، وعنه في بحار الأنوار ٢٠ : ١٤٨.

وروى الواقدي قال : كان في سرحهم : عمرو بن اميّة الضمري والحارث بن الصمّة ... فقاتلهم الحارث حتّى قتل منهم اثنين ثمّ أخذوه أسيرا ومعه عمرو الضمري. وقالوا للحارث : ما تحبّ أن نصنع بك؟ قال : احبّ أن أرى مصرع حرام بن ملحان (رسولهم) والمنذر بن عمرو الساعدي (أميرهم) ثمّ ترسلوني فاقاتلكم ، فأروه مصرعهما ثمّ أرسلوه ، فقاتلهم فقتل منهم اثنين آخرين ثمّ قتل. وقال عامر بن الطفيل لعمرو الضمري (لما عرفه أنّه من مضر) : كانت على امّي نسمة ، فأنت حرّ عنها ، ثمّ جزّ ناصيته فأطلقه! ـ ١ : ٣٤٨.

وروى ابن إسحاق قال : فخرج عمرو بن اميّة حتّى كان بالقرقرة من أوّل القناة (واد يأتي من الطائف ويصبّ في الأرحضيّة وقرقرة الكدر بناحية المعدن بينه وبين المدينة ثمانية برد ٨٠ كيلومترا ـ معجم البلدان) فأقبل رجلان من بني عامر ونزلا معه في ظلّ هو فيه ، فسألهما : ممّن أنتما؟ قالا : من بني عامر ، فأمهلهما حتى إذا ناما عدا عليهما فقتلهما ثأرا لأصحابه. فلمّا قدم على رسول الله وأخبره الخبر قال رسول الله : لقد قتلت قتيلين ، لأدينّهما ـ لأنّهما كانا في جوار رسول الله ـ ثمّ قال النبيّ : هذا عمل أبي براء ، قد كنت لهذا كارها متخوّفا ٣ : ١٩٥ ـ وقال الواقدي : فقال النبيّ : بئس ما صنعت قتلت رجلين كان لهمها مني أمان وجوار ، لأدينّهما ١ : ٣٥٢ فقال عمرو : كنت أراهما على شركهما ، وكان قومهما قد نالوا منّا ما نالوا من الغدر بنا. وكان قد جاء بسلبهما ، فأمر رسول الله بعزل سلبهما حتى يبعث به مع ديتهما ـ ١ : ٣٦٤.

وقال : ودعا رسول الله على قتلتهم في صلاة الصبح من تلك الليلة التي جاءه فيها الخبر ،


أبي براء ، قد كنت لهذا كارها.

فبلغ ذلك أبا براء فشقّ عليه إخفار عامر (بن الطفيل) إيّاه وما أصاب من أصحاب رسول الله فحمل ابنه ربيعة بن أبي براء على عامر بن الطفيل فطعنه فأصاب فخذه ، فقال عامر :

هذا عمل عمّي أبي براء ، إن متّ فدمي لعمّي لا تطلبوه به ، وإن أعش فسأرى رأيي فيه (١).

__________________

ـ رفع رأسه من الركوع وقال : سمع الله لمن حمده ثمّ قال : اللهم اشد وطأتك على مضر ، اللهم عليك ببني لحيان وزعب ورعل وذكوان وعصية ، فإنّهم عصوا الله ورسوله ، اللهم عليك ببني لحيان وعضل والقارة ... اللهم انج المستضعفين من المؤمنين : غفار غفر الله لها وأسلم سالمها الله. ثمّ سجد. قال ذلك خمس عشرة يوما وقيل : أربعين يوما ـ ١ : ٣٤٩ و ٣٥٠. وهذا الدعاء أيضا يشير بل صريح في سبق قصّة بني لحيان وعضل والقارة في بطن الرجيع.

(١) إعلام الورى ١ : ١٨٧. وفي مجمع البيان ٢ : ٨٨١ و ٨٨٢ ، ينقل عن ابن اسحاق : أن عمل ربيعة هذا كان بعد أن بلغه قول حسّان بن ثابت فيه :

بني أمّ البنين ألم يرعكم

وأنتم من ذوائب أهل نجد

تهكّم عامر بأبي براء

ليخفره ، وما خطأ كعمد

ألا أبلغ ربيعة ذا المساعي

فما أحدثت في الحدثان بعدي؟!

أبوك أبو الحروب أبو براء

وخالك ماجد : حكم بن سعد

 (ابن هشام ٣ : ١٩٧).

وأيضا ينقل عن ابن اسحاق قول كعب بن مالك :

لقد طارت شعاعا كلّ وجه

خفارة ما أجار أبو براء

بني أمّ البنين أما سمعتم

دعاء المستغيث مع النساء

وتنويه الصريخ؟! بلى ولكن

عرفتم أنّه صدق اللقاء


غزوة بني النضير :

في تفسير القمي ـ وكأنّه عن كتاب أبان بن عثمان (١) البجلي الكوفي ـ قال : كان بالمدينة ثلاثة أبطن من اليهود : بنو قينقاع وبنو قريظة والنضير ، وكان بينهم وبين رسول الله عهد فنقضوا عهدهم.

وكان السبب في نقض بني النضير عهدهم : أنّه أتاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يستسلفهم ـ يعني يستقرض منهم ـ دية رجلين قتلهما رجل من أصحابه غيلة (٢) وقصد كعب بن الأشرف.

فلمّا دخل على كعب (ومعه جمع من أصحابه) قال له : مرحبا يا أبا القاسم وأهلا. وقام كأنّه يصنع لهم الطعام ، وحدّث نفسه أن يقتل رسول الله ثمّ يتبعه أصحابه.

فنزل جبرئيل عليه‌السلام فأخبره بذلك ، فرجع رسول الله إلى المدينة (٣).

وقال الطبرسي في «إعلام الورى» : فنزل جبرئيل عليه‌السلام فأخبره بما همّ القوم من الغدر ، فقام رسول الله كأنّه يقضي حاجة ، وعرف أنّهم لا يقتلون أصحابه وهو حيّ ، فأخذ الطريق نحو المدينة.

__________________

ـ وليس في ابن هشام. مجمع البيان ٢ : ٨٨٢ ، وعنه في المناقب ١ : ١٩٥.

وقال الواقدي : وبعث عامر بن الطفيل نفرا من أصحابه وكتب معهم إليه : إنّ رجلا من أصحابك قتل رجلين من أصحابنا ولهما منك أمان وجوار ـ ١ : ٣٥٢ ـ فابعث بديتهما إلينا ١ : ٣٦٤.

(١) انظر تفسير القمي ١ : ٣٦٠.

(٢) هو عمرو بن اميّة الضمري الذي قتل رجلين عامريّين مسلمين أو هما في جوار رسول الله.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٣٥٨ و ٣٥٩.


وكان كعب قد أرسل بعض أصحابه إلى من يستعين بهم على رسول الله ، فاستقبلوا رسول الله ، فأخبروا كعبا بذلك ، فأخبر أصحاب النبيّ فساروا راجعين.

وكان عبد الله بن صوريا أعلمهم فقال لهم : والله إنّ ربّه أطلعه على ما أردتموه من الغدر! ولا يأتيكم ـ والله ـ أوّل ما يأتيكم إلّا رسول محمّد يأمركم عنه بالجلاء! فأطيعوني في خصلتين لا خير في الثالثة : أن تسلموا! فتأمنوا على دياركم وأموالكم ، وإلّا ، فإنّه يأتيكم من يقول لكم : اخرجوا من دياركم! فقالوا : هذه أحبّ إلينا! فقال : أما إنّ الاولى خير لكم منها ، ولو لا أن أفضحكم لأسلمت (١).

قال القمي : فقال رسول الله لمحمّد بن مسلمة الأنصاري : اذهب إلى بني النضير فأخبرهم : إنّ الله ـ عزوجل ـ قد أخبرني بما هممتم به من الغدر! فإمّا أن تخرجوا من بلدنا! وإمّا أن تأذنوا بحرب! (٢) ثمّ بعثه إليهم (٣).

فقالوا : نخرج من بلادك.

فبعث إليهم عبد الله بن أبيّ : أن لا تخرجوا ، وأقيموا وتنابذوا محمّدا الحرب ، فإنّي أنصركم أنا وقومي وحلفائي ، فإن خرجتم خرجت معكم ، وإن قاتلتم قاتلت معكم!

فأقاموا وأصلحوا حصونهم وتهيّأوا للقتال وبعثوا إلى رسول الله : إنّا لا نخرج فاصنع ما أنت صانع!

فقام رسول الله وكبّر ، وكبّر أصحابه ، وقال لأمير المؤمنين : تقدّم إلى بني النضير.

فأخذ أمير المؤمنين الراية وتقدّم ، وجاء رسول الله وأحاط بحصنهم وأمر

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ١٨٨.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٣٥٩.

(٣) إعلام الورى ١ : ١٨٨.


بقطع نخلهم ، فجزعوا من ذلك وقالوا : يا محمّدا أيأمرك الله بالفساد؟ إن كان هذا لك فخذه وإن كان لنا فلا تقطعه (١).

وقال المفيد في «الإرشاد» : وضرب رسول الله قبّته في أقصى بني خطمة من البطحاء (٢) فلمّا جنّ الليل رماه رجل من بني النضير بسهم! فأصاب القبّة! فأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أن تحوّل قبّته إلى السفح ، وأحاط به المهاجرون والأنصار.

فلمّا اختلط الظلام فقدوا أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال الناس : يا رسول الله لا نرى عليّا؟! فقال : أراه في بعض ما يصلح شأنكم. فلم يلبث أن جاء برأس اليهوديّ الذي رمى النبيّ ، وكان يقال له : عزورا (أو عازورا (٣) عزرا) فطرحه بين يدي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : كيف صنعت يا أبا الحسن؟ قال عليه‌السلام :

إنّي رأيت هذا الخبيث جريئا شجاعا ، فقلت : ما أجرأه أن يخرج إذا اختلط الليل يطلب منا غرة! فكمنت له ، فأقبل مصلتا بسيفه في تسعة نفر من اليهود ، فشددت عليه وقتلته ، وأفلت أصحابه ولم يبرحوا قريبا ، فابعث معي نفرا فإنّي أرجو أن أظفر بهم.

فبعث رسول الله معه عشرة فيهم أبو دجانة سماك بن خرشة ، وسهل بن حنيف ، فأدركوهم قبل أن يلجوا الحصن فقتلوهم وجاءوا برءوسهم إلى

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٣٥٩.

(٢) وهو الموضع الذي كان نفر من الانصار يشربون فيه نبيذ التمر (الفضيخ) وبلغهم تحريم الخمر فأراقوا قربتهم ، وبنوا فيه فيما بعد مسجداً أسموه مسجد الفضيخ (تأريخ المدينة لابن شبّة ١ : ٦٩) وهو جنوب مشربة اُمّ ابراهيم في الشارع الموصل بين شارع العوالي وخطّ الحزام على طريق مستشفى المدينة الوطني كما ذكره عبدالرحمان خويلد في كتابه : المساجد والاماكن الاثرية المجهولة ، وعنه في مجلّة ميقات الحجّ ٧ : ٢٧٥.

(٣) عن الإرشاد في بحار الأنوار ٢٠ : ١٧٢.


النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأمر أن تطرح في بعض آبار بني خطمة (١).

قال القمي : وبعد ذلك قالوا : يا محمّد نخرج من بلادك واعطنا مالنا.

فقال : لا ، ولكن تخرجون ولكم ما حملت الإبل. فلم يقبلوا ذلك.

فبقوا أيّاما ثمّ قالوا : نخرج ولنا ما حملت الإبل.

فقال : لا ، ولكن تخرجون ولا يحمل أحد منكم شيئا ، فمن وجدنا معه شيئا من ذلك قتلناه!

فخرجوا على ذلك ، خرج قوم منهم إلى فدك ووادي القرى ، وخرج قوم منهم إلى الشام (٢) وقال في «المناقب» : فخرجوا إلى خيبر والحيرة وأريحا وأذرعات ، لكلّ ثلاثة منهم بعير (٣).

قال المفيد في «الإرشاد» واصطفى رسول الله أموال بني النضير ، وكانت أوّل صافية (٤).

نزول سورة الحشر فيهم :

قال القمّي : وأنزل الله فيهم : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ... (، سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ

__________________

(١) الإرشاد ١ : ٩٢ ، ٩٣. ثمّ قال : وفي تلك الليلة قتل كعب بن الأشرف. ولم يذكر الكيفيّة ، فلو كان ذلك كما قاله المؤرّخون كما مرّ بعد بدر فإنّ ذلك لا يتناسب مع حال الحصار الذي بدءوا به عليهم. وفي المناقب ١ : ١٩٦ قال إنّ كعبا قصد مكّة بعد احد وتعاهد مع أبي سفيان وغيره على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ورجع ونزلت سورة الحشر فبعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله محمّد بن مسلمة لقتله فقتله بالليل ثمّ قصد إليهم وحاصرهم. وهذا أيضا لا ينسجم مع طبيعة الأحداث يومئذ.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٣٥٩.

(٣) مناقب آل أبي طالب ١ : ١٩٧.

(٤) الإرشاد ١ : ٩٣. ومناقب آل أبي طالب ١ : ١٩٧.


الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ ، لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ، ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ ، فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ، يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ، فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ ، وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ ، وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ* ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ* وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ ، وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ ، وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١).

ففيه بسنده عن أبي بصير : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال للأنصار : إن شئتم دفعت إليكم فيء المهاجرين منها [وأخرجتهم عنكم] وإن شئتم قسمتها بينكم وبينهم ، وتركتهم معكم؟

فقالوا : قد شئنا أن تقسمها [كلّها] فيهم.

فقسمها رسول الله بين المهاجرين ولم يعط الأنصار ، إلّا رجلين منهم ذكرا حاجة : أبو دجانة ، وسهل بن حنيف (٢).

وفي «الإرشاد» : فقسمها بين المهاجرين الأوّلين ، وأمر عليا عليه‌السلام فحاز ما لرسول الله منها فجعله صدقة ، وكانت بيده مدّة حياته ، ثمّ بيد أمير المؤمنين بعده (٣).

__________________

(١) الحشر : ١ ـ ٦ ، وهي السورة ١٠١ في النزول ، أي الخامسة عشر في النزول بالمدينة ، أي منتصف العدد النازل بالمدينة تقريبا ، ممّا يتناسب زمنيا مع نهاية حرب بني النضير في حدود الخامسة من الهجرة تقريبا.

(٢) تفسير القمّي ٢ : ٣٦٠.

(٣) الإرشاد ١ : ٩٣.


ونقل الطبرسي في «مجمع البيان» عن الكلبي قال : قال رؤساء المسلمين لرسول الله : يا رسول الله ، خذ صفيّك والربع ، ودعنا [الرؤساء] والباقي ؛ فهكذا كنّا نفعل في الجاهلية ، وأنشدوا :

لك المرباع منها والصفايا

وحكمك والنشيطة والفضول (١)

فنزلت [السورة وفيها] الآية : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ، كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ ، وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ، وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)(٢) ، فقالوا : سمعا وطاعة لأمر الله وأمر رسوله (٣).

قال الطبرسي : فجعل الله أموال بني النضير لرسول الله خاصّة يفعل بها ما يشاء (٤).

قال : ولكنّ النبيّ قال للأنصار : إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم ، وتشاركونهم في هذه الغنيمة ، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ، ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة؟

فقال الأنصار : بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ، ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها. فنزلت فيهم [السورة وفيها] الآيات : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ ، يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً ، وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ ، وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا ، وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ

__________________

(١) النشيطة : ما يغنمه الغزاة في الطريق قبل الوصول إلى المقصد.

(٢) الحشر : ٧.

(٣) مجمع البيان ٩ : ٣٩٢.

(٤) مجمع البيان ٩ : ٣٩١.


كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ ، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(١).

فنقل الطبرسي عن الزجّاج النحويّ قال : بيّن الله سبحانه من «المساكين» الذين لهم الحقّ ـ في الآية السابقة ـ ثمّ ثنّى سبحانه بوصف الأنصار ومدحهم حيث طابت أنفسهم عن الفيء (٢) ثمّ قال : فقسّمها رسول الله بين المهاجرين ، ولم يعط الأنصار منها شيئا ، إلّا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة : أبو دجانة ، وسهل بن حنيف ، والحارث بن الصمّة (٣).

ومن حوادث ما بعد بني النضير : أنّ عامر بن الطفيل العامري تآمر مع صاحبه أربد بن قيس ـ أخي لبيد بن ربيعة الشاعر ـ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال له : إذا قدمنا على الرجل (٤) فإنّي شاغل عنك وجهه فإذا فعلته فاعله بالسيف!

فلمّا قدموا عليه قال عامر : يا محمد خالني (أي تفرّد لي خاليا).

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا ، حتّى تؤمن بالله وحده. فلمّا أبى عليه رسول الله قال عامر : والله لأملأنّها عليك خيلا حمرا ورجالا! ثمّ ولّى ، فقال رسول الله : اللهمّ اكفني عامر بن الطفيل. ولمّا خرجوا قال عامر لأربد : أين ما كنت أمرتك به؟ قال : والله ما هممت بالذي أمرتني به إلّا دخلت بيني وبين الرجل أفأضربك بالسيف؟!

__________________

(١) الحشر : ٨ و ٩.

(٢) مجمع البيان ٩ : ٣٩٢.

(٣) مجمع البيان ٩ : ٣٩١ ، وقال : والآية تشير إلى أنّ تدبير الامّة إلى النبيّ ، ولهذا فقد أجلى بني قينقاع وبني النضير وترك لهم شيئا من مالهم وقسم أموالهم على المهاجرين ، وقتل رجال بني قريظة وسبى نساءهم وذراريهم وقسم أموالهم على المهاجرين أيضا ، ومنّ على أهل خيبر في رقابهم وقسم أموالهم (فيمن حضر) ومنّ على أهل مكّة في أرضهم وديارهم وأموالهم وأنفسهم ونسائهم وذراريهم ٩ : ٣٩٢. وانظر في نزول السورة سيرة ابن هشام ٣ : ٢٠٢ ، ومغازي الواقدي ١ : ٣٨٠ ـ ٣٨٣.

(٤) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢١٣.


فلمّا كانا في الطريق أصابه الله بغدّة طاعون في عنقه فقتلته ، ثمّ أصاب صاحبه أربد بصاعقة فقتلته (١).

وفيما كان من أمر أمير المؤمنين في هذه الغزاة وقتله اليهوديّ ومجيئه إلى النبيّ برءوس التسعة يقول حسّان بن ثابت :

لله أيّ كريمة أبليتها

ببني قريظة ، والنفوس تطلّع

أردى رئيسهم وآب بتسعة

طورا يشلهم وطورا يدفع (٢)

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ٢٥٠ و ٢٥١ ونقل كون ذلك بعد غزوة بني النضير من كتاب أبان الأحمر البجلي الكوفي ، وهذا أقرب من أن يكون ذلك في عام الوفود سنة تسع أو عشر.

(٢) الإرشاد ١ : ٩٤. وروى ابن إسحاق خبر بني النضير عن يزيد بن رومان فقال : كان رهط من بني عوف من الخزرج منهم عبد الله بن ابيّ بن سلول ووديعة ومالك بن ابي قوقل وسويد وداعس وقد بعثوا إلى بني النضير : أن اثبتوا وتمنّعوا فإنّا لن نسلمكم ، إن قوتلتم قاتلنا معكم ، وإن أخرجتم خرجنا معكم.

فتربّصوا ذلك ، فلم يفعلوا ، فسألوا رسول الله أن يجلهم ويكفّ عن دمائهم ، على أنّ لهم من أموالهم ما حملت الإبل ، إلّا الحلقة (السلاح) فقبل رسول الله فاحتملوا من أموالهم ما استقلّت الإبل ، فخرجوا إلى خيبر ، ومنهم من سار إلى الشام. ومن أشرافهم الذين ساروا إلى خيبر : حييّ بن أخطب ، وسلام بن أبي الحقيق ، وابن أخيه كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق. وحملوا الأموال والنساء والأبناء معهم القيان يعزفن بالمزامير والدفوف. وخلوا (بقية) الأموال لرسول الله فكانت له خاصّة يضعها حيث يشاء ، فقسّمها رسول الله على المهاجرين الأوّلين دون الأنصار إلّا سهل بن حنيف وأبا دجانة سماك بن خرشة.

ولم يسلم من بني النضير إلّا رجلان : أبو سعد بن وهب ، ويامين بن عمير ، أسلما على أموالهما ، فابقيت لهما.

ونزل في بني النضير سورة الحشر بأسرها.

وكان يامين بن عمير بن كعب ، ابن عم عمرو بن جحاش بن كعب الذي انتدب ليعلو


__________________

ـ على البيت (البيت الذي كان إلى جداره رسول الله قاعدا) فيلقي صخرة على رسول الله. فروى ابن إسحاق عن آل يامين أنّ رسول الله قال له بعد ما أسلم : ما ذا لقيت من ابن عمّك وما همّ به من شأني؟! فجعل يامين جعلا لرجل على أن يقتل ابن عمّه عمرو بن جحاش ، فيزعمون أنّه قتله.

وقال ابن هشام : استمرّ حصارهم ستّ ليال من شهر ربيع الأوّل ٣ : ٢٠٠ ـ ٢٠٢.

وكذلك قال الواقدي : غزوة بني النضير في ربيع الأوّل على رأس سبعة وثلاثين شهرا من مهاجرة النبيّ ـ صلى الله عليه [وآله] وسلم ـ.

خرج رسول الله يوم السبت ومعه رهط من المهاجرين والأنصار ، منهم علي ، وطلحة والزبير ، وأبو بكر وعمر ، وسعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، واسيد بن حضير ، فصلى في مسجد قباء ١ : ٣٦٤ وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله يأتي إلى قباء يوم السبت ويوم الإثنين ١ : ٣٠٤ ثمّ سار إلى بني النضير يستعين بهم في دية الرجلين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن اميّة الضمري غير عالم بهما ، فوجدهم في ناديهم ، فجلس رسول الله وأصحابه ، فكلّمهم رسول الله أن يعينوه في دية الكلابيّين اللذين قتلهما عمرو بن اميّة ، فقالوا : نفعل ـ يا أبا القاسم ـ ما أحببت ، اجلس حتّى نطعمك.

ثمّ خلا بعضهم إلى بعض فتناجوا فقال حييّ بن أخطب : يا معشر اليهود ، قد جاءكم محمّد في نفير من أصحابه لا يبلغون عشرة فاطرحوا عليه حجارة من فوق هذا البيت الذي هو تحته فاقتلوه ، فلن تجدوه أخلى منه الساعة ، فإنّه إن قتل تفرّق أصحابه ، فلحق من كان معه من قريش بحرمهم ، وبقي من هاهنا من الأوس والخزرج حلفاؤكم ، فما كنتم تريدون أن تصنعوا يوما من الدهر فمن الآن!

فقال عمرو بن جحاش : أنا أظهر على البيت فأطرح عليه صخرة.

فقال سلّام بن مشكم : يا قوم أطيعوني هذه المرّة وخالفوني الدهر ، والله إن فعلتم ليخبرن


__________________

ـ بأنّا قد غدرنا به ، وإنّ هذا نقض للعهد الذي بيننا وبينه ، فلا تفعلوا ، ألا فو الله لو فعلتم الذي تريدون ليقومنّ بهذا الدين منهم قائم إلى يوم القيامة يستأصل اليهود ويظهر دينه!

فلما هيّأ عمرو بن جحاش الصخرة وأشرف بها جاء رسول الله الخبر من السماء بما همّوا به!

فنهض رسول الله سريعا كأنّه يريد حاجة وتوجّه إلى المدينة.

وجلس اصحابه يتحدّثون وهم يظنّون أنّه قام يقضي حاجة ، فلما يئسوا من ذلك قاموا.

فقال حييّ : عجّل أبو القاسم قد كنّا نريد أن نقضي حاجته ونغدّيه.

وتبعه أصحابه فلقوا رجلا خارجا من المدينة فسألوه : هل لقيت رسول الله؟ قال : لقيته بالجسر داخلا.

ولمّا انتهى أصحابه إليه وجدوه قد أرسل إلى محمّد بن مسلمة يدعوه. فقال أبو بكر : يا رسول الله ، قمت ولم نشعر؟ فقال : همّت اليهود بالغدر بي فأخبرني الله بذلك فقمت.

وجاء محمّد بن مسلمة ، فقال له رسول الله : اذهب إلى يهود بني النضير فقل لهم : إنّ رسول الله أرسلني إليكم : أن اخرجوا من بلده!

وقال لهم كنانة بن صويراء : هل تدرون لم قام محمّد؟ قالوا : لا ندري ولا تدري.

قال : بلى والتوراة إنّي لأدري : قد اخبر محمّد بما هممتم به من الغدر ، والله إنّه لرسول الله ، وما قام إلّا لأنّه اخبر بما هممتم به ، وإنّه لآخر الأنبياء. كنتم تطمعون أن يكون من بني هارون فجعله الله حيث شاء ، وإن كتبنا والذي درسناه في التوراة التي لم تغير ولم تبدّل : أنّ مولده بمكّة ودار هجرته يثرب ، وصفته بعينها ما تخالف حرفا ممّا في كتابنا. وما يأتيكم به أولى من محاربته إيّاكم ، ولكأني أنظر إليكم ظاعنين يتضاعن (يتصايح) صبيانكم ، قد تركتم دوركم وأموالكم ، وإنّما هي شرفكم. فأطيعوني في خصلتين والثالثة لا خير فيها!

قالوا : ما هما؟ قال : تسلمون وتدخلون مع محمّد ، فتأمنون على أموالكم وأولادكم ، وتكونون من علية


__________________

ـ أصحابه ، وتبقى بأيديكم أموالكم ، ولا تخرجون من دياركم.

قالوا : لا نفارق التوراة وعهد موسى!

قال : فإنّه مرسل إليكم : اخرجوا من بلدي. فقولوا : نعم ، فإنّه لا يستحلّ لكم دما ولا مالا فتبقى لكم أموالكم ، إن شئتم بعتم وإن شئتم أمسكتم. قالوا : أمّا هذه فنعم.

قال : أما والله إنّ الاخرى خيرهنّ لي ، أما والله لو لا أنّي أفضحكم لأسلمت ، ولكن لا تعير شعثاء (ابنته) بإسلامي أبدا حتى يصيبني ما أصابكم!

ثمّ قال سلّام بن مشكم لحييّ : قد كنت لما صنعتم كارها ، وهو مرسل إلينا : أن اخرجوا من داري ، فلا تعقب كلامه ـ يا حييّ ـ وأنعم له بالخروج واخرج من بلاده!

قال : نعم أفعل.

فلما جاءهم محمّد بن مسلمة قال لهم : إنّ رسول الله أرسلني إليكم برسالة ، ولست أذكرها لكم حتّى اعرّفكم شيئا تعرفونه : انشدكم بالتوراة التي أنزل الله على موسى ، هل تعلمون أنّي جئتكم قبل أن يبعث محمّد وبينكم التوراة ، فقلتم لي في مجلسكم هذا : يا بن مسلمة ، إن شئت أن نغدّيك غدّيناك ، وإن شئت أن نهوّدك هوّدناك؟ فقلت لكم غدّوني ولا تهوّدوني فإنّي والله لا أتهوّد أبدا! فقلتم لي : ما يمنعك من ديننا إلا أنّه دين يهود كأنّك تريد دين الحنيفيّة التي سمعت بها ... أتاكم صاحبها الضحوك القتّال! في عينيه حمرة ، يأتي من قبل اليمن ، يركب البعير ويلبس الشّملة ويجتزئ بالكسرة! سيفه على عاتقه ، ليست معه آية ، ينطق بالحكمة. والله ليكوننّ بقريتكم هذه قتل ومثل وسلب!

قالوا : اللهم نعم ، قد قلناه لك ، ولكن ليس به. قال : قد فرغت. إنّ رسول الله أرسلني إليكم يقول لكم : قد نقضتم العهد الذي جعلت لكم بما هممتم به من الغدر بي! ـ وأخبرهم بما كانوا ارتئوا من الرأي وصعود عمرو بن جحاش على البيت ليطرح الصخرة ، فسكتوا ولم يقولوا حرفا ـ ويقول لكم : اخرجوا من بلدي ، فقد أجّلتكم عشرا ، فمن رئي بعد ذلك


__________________

ـ ضربت عنقه!

قالوا : يا محمّد ، ما كنا نرى أن يأتي بهذا رجل من الأوس! قال محمّد : تغيّرت القلوب!

فمكثوا أيّاما يتجهّزون ، وأرسلوا اناسا إلى ذي الجدر (مسرح بناحية قباء على ستة أميال من المدينة ١٠ كيلومترا) ليجلبوا لهم مراكبهم هناك ، واكتروا أيضا من أشجع.

فبينما هم على ذلك إذ جاءهم رسولا ابن ابيّ : داعس وسويد فقالا لهم :

يقول لكم عبد الله بن ابيّ : لا تخرجوا من دياركم وأموالكم ، أقيموا في حصونكم ، فإنّ معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب يدخلون معكم حصنكم فيموتون من آخرهم قبل أن يوصل إليكم! وتمدّكم قريظة فإنّهم لن يخذلوكم ويمدّكم حلفاؤهم من غطفان!.

ولم يزل يرسل إلى حييّ بذلك حتى طمع حييّ فيما قال ابن ابيّ ، فقال : نرمّم حصوننا ثمّ ندخل ماشيتنا وندرّب أزقّتنا ، وننقل الحجارة إلى حصوننا ، وعندنا من الطعام ما يكفينا سنة ، وماؤنا واتن في حصوننا لا نخاف قطعه (وهو الواتن) فترى محمّدا يحصرنا سنة؟! لا نرى هذا!

فقال سلّام بن مشكم : منّتك نفسك ـ يا حييّ الباطل ، إنّي والله لو لا أن يسفّه رأيك أو يزرى بك لاعتزلتك بمن أطاعني من اليهود! فلا تفعل يا حييّ ، فو الله إنّك لتعلم ونعلم معك ـ أنّه لرسول الله وأنّ صفته عندنا ، فإن حسدناه من حيث خرجت النبوّة من بني هارون فلم نتّبعه فتعال لنقبل ما أعطانا من الأمن ونخرج من بلاده ، فإذا كان أوان الثمر جئنا أو جاء من جاء منّا إلى ثمره فباع أو صنع ما بدا له ثمّ انصرف إلينا فكأنّا لم نخرج من بلادنا إذا كانت أموالنا بأيدينا ، فإنّا إنّما شرّفنا على قومنا بأموالنا وفعالنا ، فإذا ذهبت أموالنا من أيدينا كنّا كغيرنا من اليهود في الذلّة والإعدام! وإنّ محمّدا إن سار إلينا فحصرنا في هذه الصياصي يوما واحدا ثمّ عرضنا عليه ما أرسل به إلينا أبى علينا ولم يقبله منّا!

قال حييّ : إنّ محمّدا لا يحصرنا ، إن اصاب منّا نهزة (فرصة وعورة) فبها ، وإلّا


__________________

ـ انصرف! وقد وعدني ابن ابيّ ما قد رأيت!

فقال ابن سلّام : ليس قول ابن ابيّ بشيء ، إنّما يريد ابن ابيّ أن يورّطك في الهلكة حتى تحارب محمّدا ثمّ يجلس في بيته ويتركك ... وإلّا فإنّ ابن ابيّ قد وعد حلفاءه من بني قينقاع مثل ما وعدك حتّى حاربوا ونقضوا العهد وحصروا أنفسهم في صياصيهم وانتظروا نصرة ابن ابيّ ، فجلس في بيته ، وسار محمّد إليهم فحصرهم حتّى نزلوا على حكمه ، فابن ابيّ لا ينصر حلفاءه ومن كان يمنعه من الناس كلّهم ، ونحن لم نزل نضربه بسيوفنا مع الأوس في حروبهم كلّها إلى أن قدم محمّد فحجز بينهم فتقطّعت حروبهم. وابن أبيّ لا يهوديّ على دين يهود ، ولا على دين محمّد ، ولا على دين قومه ، فكيف تقبل قولا قاله؟!

قال حييّ : تأبى نفسي إلّا عداوة محمّد ، وإلّا قتاله!

قال ابن سلّام : فهو والله جلاؤنا من أرضنا وذهاب أموالنا وذهاب شرفنا ، أو سباء ذرارينا مع قتل مقاتلينا!

فأبى حييّ إلّا محاربة رسول الله.

وكان فيهم رجل ضعيف عندهم في عقله كأنّه مجنون يقال له ساروك بن أبي الحقيق ، فقال :

يا حييّ ، أنت رجل مشئوم! تهلك بني النضير!

فغضب حييّ وقال : كلّ بني النضير قد كلّمني حتى هذا المجنون! فقام إليه إخوته فضربوه. وقالوا لحييّ : أمرنا لأمرك تبع لن نخالفك.

فقال حييّ : أنا ارسل إلى محمّد اعلمه أنّا لا نخرج من دارنا وأموالنا فليصنع ما بدا له.

وأرسل أخاه جديّ بن أخطب إلى رسول الله : أنّا لا نبرح من دارنا وأموالنا فاصنع ما أنت صانع. وأمره أن يأتي ابن ابيّ فيخبره برسالته إلى محمّد ويأمره بتعجيل ما وعد من النصر!


__________________

ـ فذهب جديّ بن أخطب إلى رسول الله بالذي أرسله حييّ ، فجاء إلى رسول الله وهو جالس في أصحابه فأخبره ، فأظهر رسول الله التكبير وكبّر المسلمون لتكبيره.

وخرج جديّ حتى دخل على ابن ابيّ وهو جالس في بيته مع نفير من حلفائه ، فقال : أنا ارسل إلى حلفائي فيدخلون معكم!

ونادى منادي رسول الله يأمرهم بالمسير إلى بني النضير ...

فدخل عبد الله بن عبد الله بن ابيّ على أبيه فلبس درعه وأخذ سيفه وخرج يعدو!

وأرسل ابن أبيّ إلى كعب بن أسد يكلّمه أن يمدّ أصحابه ، فقال كعب بن أسد : لا ينقض العهد من بني قريظة رجل واحد!

وسار رسول الله في أصحابه فصلّى العصر بفضاء بني النضير ، فلمّا رأوا رسول الله وأصحابه قاموا على جدر حصونهم معهم الحجارة والنبل ، فجعلوا يرمون ذلك اليوم بالحجارة والنبل حتّى أظلموا. وصلّى رسول الله العشاء واستعمل على العسكر عليّا عليه‌السلام ورجع في عشرة من أصحابه إلى بيته على فرسه وعليه الدرع. وبات المسلمون يحاصرونهم حتّى أصبحوا.

وأذّن بلال بالمدينة فاستخلف على المدينة ابن أمّ مكتوم وغدا رسول الله في أصحابه الذين كانوا معه فصلّى بالناس في فضاء بني خطمة ، وحملت له قبّة من أدم أو مسوح (كساء الشعر) أرسل بها سعد بن عبادة ، فأمر بلالا فضربها في موضع بفضاء بني خطمة ، فدخل قبّته. فرماه رجل من اليهود رام يقال له عزوك ، فبلغ نبله قبّة النبيّ ، فأمر بقبّته فحوّلت إلى موضع مسجد الفضيخ اليوم فتباعد عن النبل.

وأمسوا ، وبات رسول الله بدرعه ، وظلّ محاصرهم.

وفي ليلة من الليالي فقد عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام قرب العشاء ، فقال الناس. ما نرى عليّا يا رسول الله؟ قال : دعوه فإنّه في بعض شأنكم! فلم يلبث أن جاء برأس عزوك فطرحه بين


__________________

ـ يدي رسول الله ، فقال : يا رسول الله إنّي كمنت لهذا الخبيث ، قلت : ما أجرأه أن يخرج إذا أمسينا يطلب مناغرة (وهذا يقتضي الليلة الاولى) فأقبل مصلتا سيفه في نفر من اليهود فشددت عليه فقتلته ، وأجلى أصحابه ولم يبرحوا قريبا ، فإن بعثت معي نفرا رجوت أن أظفر بهم!

فبعث رسول الله معه أبا دجانة وسهل بن حنيف في عشرة من أصحابه ، فأدركوهم قبل أن يدخلوا حصنهم ، فقتلوهم وأتوا برءوسهم ، فأمر رسول الله برءوسهم فطرحت في بعض بئار بني خطمة.

وأمر رسول الله رجلين من أصحابه بقطع نخلهم : عبد الله بن سلام وأبا ليلى المازني ، وكان عبد الله بن سلام يقطع غير البرني والعجوة ، وأبو ليلى يقطع العجوة ، فلمّا قطعت العجوة دعون النساء بالعويل وضربن الخدود وشققن الجيوب ، فقال رسول الله : ما لهنّ؟ قيل : يجزعن على قطع العجوة!

وأرسل حييّ إلى رسول الله : يا محمّد ، إنّك كنت تنهى عن الفساد ، فلم تقطع النخل؟ نحن نعطيك الذي سألت ونخرج من بلادك.

فقال رسول الله : لا أقبله اليوم ، ولكن اخرجوا منها ولكم ما حملت الإبل إلّا الحلقة (السلاح).

فقال سلّام لحييّ : اقبل ويحك قبل أن تقبل شرّا من هذا! فأبى حييّ أن يقبل يوما أو يومين ، فلمّا رأى ذلك أبو سعد بن وهب ويامين بن عمير قال أحدهما لصاحبه : وإنّك لتعلم أنّه لرسول الله ، فما تنتظر أن نسلم فنأمن على دمائنا وأموالنا؟ فنزلا من الليل فأسلما. فأحرزا دماءهما وأموالهما.

وحاصرهم رسول الله خمسة عشر يوما ، ثمّ نزلت اليهود على أنّ لهم ما حملت الإبل إلّا الحلقة ، وقالوا : إنّ لنا ديونا على الناس إلى آجال! فقال رسول الله : تعجّلوا وضعوا.


__________________

ـ فكان لأبي رافع سلّام بن أبي الحقيق على اسيد بن حضير مائة وعشرون دينارا إلى سنة ، فصالحه على أخذ رأس ماله ثمانين دينارا ، وأبطل ما فضل (فيعلم أنّه كان قرضا ربويّا).

وحملوا النساء والصبيان ، وخرجوا على بني الحارث بن الخزرج ثمّ على الجبليّة ثمّ على الجسر حتى مرّوا بالمصلى ، ثمّ سوق المدينة ، والنساء في الهوادج عليهن من الحرير والديباج وقطف الخزّ الخضر والحمر ، وقد صفّ الناس ، فجعلوا يمرّون قطارا في إثر قطار على ستمائة بعير! ومرّوا وهم يضربون بالدفوف ويزمّرون بالمزامير ، وعلى النساء المعصفرات وحليّ الذهب ، قد أبرزوا ذلك تجلّدا. ونادى أبو رافع سلّام ابن أبي الحقيق وهو يرفع زمام الجمل : هذا ما كنّا نعدّه لخفض الأرض ، فإن يكن النخل قد تركناها فإنّا نقدم على نخل بخيبر!

وقبض رسول الله الأموال وقبض الحلقة ، فوجد من الحلقة : خمسين درعا وخمسين بيضة وثلاثمائة وأربعين سيفا.

فلمّا غنم رسول الله بني النضير دعا ثابت بن قيس بن شمّاس فقال له : ادع لي قومك. قال ثابت : الخزرج يا رسول الله؟ قال : الأنصار كلّها. فدعا له الأوس والخزرج.

فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثمّ ذكر الأنصار وما صنعوا بالمهاجرين وإنزالهم إيّاهم في منازلهم وآثرتهم على أنفسهم ، ثمّ قال : إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين ممّا أفاء الله عليّ من بني النضير ، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم ، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم؟

فتكلّم سعد بن عبادة وسعد بن معاذ فقالا : يا رسول الله بل تقسّمه للمهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا. ونادت الأنصار : رضينا وسلّمنا يا رسول الله. فقال رسول الله : اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار.

ثمّ قسّم رسول الله ما أفاء الله عليه وأعطى المهاجرين ولم يعط أحدا من الأنصار من ذلك الفيء شيئا ، إلّا رجلين كانا محتاجين : سهل بن حنيف وأبا دجانة ، وأعطى سعد بن


__________________

ـ معاذ سيف بن أبي الحقيق ، وكان سيفا مذكورا عندهم. وكان مال سهل بن حنيف وأبي دجانة معروفا يقال له : مال ابن خرشة ، وأعطى الزبير بن العوّام وأبا سلمة بن عبد الأسد : البويلة ، وأعطى حبيب بن سنان : الضرّاطة ، وأعطى عبد الرحمن بن عوف شؤالة ، وأعطى أبا بكر بئر حجر ، وأعطى عمر بئر جرم.

واستعمل رسول الله على أموال بني النضير مولاه أبا رافع (وهذا أوّل ذكر لأبي رافع) وإنّما كان ينفق على أهله من بني النضير إذ كانت خالصة له ، وكان يزرع تحت النخل زرعا كثيرا ، منها قوت أهله سنة من الشعير والتمر لأزواجه وبني عبد المطّلب ، فما فضل جعله في السلاح والخيل. وكانت منها صدقاته ، ومن أموال مخيريق (اليهوديّ الشهيد ببدر) وهي سبعة حوائط : الميثب ، والصافية ، والدلال ، وحنى ، وبرقة ، والأعواف ، والمشربة التي سمّيت بعد بامّ إبراهيم.

وكان ذلك بعد نزول سورة الحشر وفيها قوله ـ سبحانه ـ : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ* لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحشر : ٧ و ٨) ومع ذلك قال عمر لرسول الله : يا رسول الله ألّا تخمّس ما أصبت من بني النضير كما خمّست ما أصبت من بدر؟!

فقال رسول الله : لا أجعل شيئا جعله الله لي من دون المؤمنين كما وقع فيه السهمان للمسلمين ـ مغازي الواقدي ١ : ٣٦٤ ـ ٣٨٠. هذا وهو لم يخمّس في بدر.

وبصورة ضمنيّة تبيّن تأريخ خروج المهاجرين الفقراء من دور الأنصار أيضا.

وقال ابن إسحاق : قال عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام يذكر إجلاء بني النضير :

عرفت ، ومن يعتدل يعرف

وأيقنت حقّا ولم أصدف


ومن قصص الغنائم :

نقل العلامة الحلّي عن السدّي قال : لما فتح الله بنى النضير فغنم أموالهم ،

__________________

عن الكلم المحكم اللّاء من

لدى الله ذي الرأفة الأرأف

رسائل تدرس في المؤمني

ن بهنّ اصطفى أحمد المصطفي

فأصبح أحمد فينا عزيزا

عزيز المقامة والموقف

فيا أيّها الموعدوه سفاها

ولم يأت جورا ولم يعنف

ألستم تخافون أدنى العذا

ب ، وما آمن الله كالأخوف

وأن تصرعوا تحت أسيافه

كمصرع كعب أبي الأشرف

غداة رأى الله طغيانه

وأعرض ، كالجمل الأجنف

فأنزل جبريل في قتله

بوحي إلى عبده ملطف

فدسّ الرسول رسولا له

بأبيض ذي ضبة مرهف

فباتت عيون له معولات

متى ينع كعب لها تذرف

وقلن لأحمد ذرنا قليلا

فإنّا من النوح لم نشتف

فخلّاهم ثمّ قال : اظعنوا

دجورا على رغم الآنف

وأجلى النضير إلى غربة

وكانوا بدار ذوي زخرف

إلى أذرعات ردافى وهم

على كلّ ذي دبر أعجف

سيرة ابن هشام ٣ : ٢٠٧.

وعليه ، فقتل كعب بن الأشرف كان من قبل ، ولعلّ اسمه جاء في خبري أبان والقمي خطأ ، بدلا عن حيي بن أخطب زعيم بني النضير. ولم ننس أنّ الحرب هذه بدأت بعد أن استعان بهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على دية القتيلين من بني كلاب العامريين ، ونصّ التأريخ على أنّه ودّاهما وإن لم يتذكروا ذلك بعد نهاية أمر بني النضير ، وزاد الواقدي : عزل رسول الله سلبهما حتّى بعث به مع ديتهما ـ ١ : ٣٦٤ ـ.


قال عثمان بن عفان لعلي عليه‌السلام : ائت رسول الله فاسأله ارض كذا ، فان أعطاكها فانا شريكك فيها. وانا آتيه فاسأله ذلك ، فان اعطانيها فأنت شريكي فيها.

فسأله عثمان قبل علي عليه‌السلام فاعطاه اياها ، وأبى أن يشرك عليا معه ، فدعاه الى حكم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأبى ذلك أيضا ، فقيل له : لم لا تنطلق معه الى النبيّ؟ قال : هو ابن عمه فأخاف أن يقضي له. فنزلت الآيات من سورة النور : (لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ* وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ* وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ* أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ* إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ)(١) فلمّا علم النبيّ بذلك حكم بالحق لعلي عليه‌السلام (٢).

تشديد تحريم الخمر :

قال ابن هشام : في شهر ربيع الأوّل ... نزل تحريم الخمر (٣) وقد مرّ تحريمها في السنة الثانية الثانية : ١٨٥.

__________________

(١) النور : ٤٦ ـ ٥٢ ، والسورة هي ١٠٣ في النزول اي السابعة عشرة في النزول بالمدينة.

(٢) كشف الحق : ٢٤٧. وقريبا منه القمي في تفسيره ٢ : ١٠٧ وعن الصادق عليه‌السلام وفي التبيان ٧ : ٤٥٠ بلا اسناد الى الامام. وفي مجمع البيان ٧ : ٢٣٦ عن الباقر عليه‌السلام ، ولعله وهم. وروى الآلوسي في روح المعاني عن الضحاك : أن النزاع كان بين علي عليه‌السلام والمغيرة بن وائل.

(٣) ابن هشام ٣ : ٢٠٠ ، وبه قال المسعودي في التنبيه والاشراف : ٢١٣ ، ثمّ المقريزي في إمتاع الأسماع : ١٩٣ ثمّ الكازروني عنه في المنتقى : ١٢٦ ، ثمّ عنه في بحارالانوار ٢ : ١٨٣ ، ونقله


وذكر القمي في تفسير قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ* وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(١) قال : ذلك أنّ رجلا من الصحابة شرب قبل أن يحرم الخمر ، فجعل يقول الشعر ويبكي على قتلى المشركين من أهل بدر ، فسمع رسول الله ، فقال : اللهم أمسك على لسانه. فأمسك على لسانه فلم يتكلّم حتى ذهب عنه السكر ، فأنزل الله تحريمها بعد ذلك (٢) (٣).

فلمّا نزل تحريمها خرج رسول الله فقعد في المسجد (٤) ثمّ دعا بآنيتهم التي كانوا ينبذون فيها (فضيخ البسر والتمر) فأكفأ عليها ، ثمّ قال : هذه كلّها خمر ،

__________________

الشوكاني في تفسيره ٢ : ٧١ عن جابر قال : حُرّمت الخمر بعد اُحد بل بعد غزوة بني النضير كما عن جابر نفسه فيما يأتي. وأظن تشديد التحريم هنا بمناسبة نزول سورة النساء وفيها الآية ٤٣ : «لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى».

(١) المائدة ٩٠ ، ٩١ ، ٩٢.

(٢) تفسیر القمی ١ : ١٨٠ والهادي في صلاته هو عبدالرحمان بن عوف كما في الغدير ٦ : ٢٥٢ عن أحكام القرآن للجصاص ٢ : ٢٤٥.

(٣) بل اخرج ابن شبّة بسنده عن جابر بن عبدالله الانصاري قال : ضُربت قبة النبي صلّى الله عليه وآله في محاصرته لبني النضير قريباً من موضع مسجد الفضيخ فكان يصلي هناك سِت ليال. فلما حُرمت الخمرة كان ابو ايوب الانصاري مع جمع من الانصار معه يشربون فيه فضيخاً ، فبلغهم خبر تحريمها فحلوا أسقيتهم فسمّى مسجد الفضيخ. تاريخ المدينة المنورة ١ : ٦٩.

(٤) أي في مصلاه الذي اُتخذ بعد ذلك مسجداً ، كما سيأتي. واقرأ عنه في كتاب : المساجد والأماكن الأثرية المجهولة في المدينة لعبدالرحمن خويلد الحجازي ، وعنه في مجلة ميقات الحج ٧ : ٨٧٩.


وقد حرّمها الله. فكان أكثر شيء أكفئ من ذلك يومئذ من الأشربة : الفضيخ ، ولا أعلم أكفئ يومئذ من خمر العنب شيء إلّا إناء واحد كان فيه زبيب وتمر جميعا ، وأمّا عصير العنب فلم يكن يومئذ بالمدينة منه شيء ... وسمّي المسجد الذي قعد فيه رسول الله يوم اكفئت المشربة : مسجد الفضيخ من يومئذ لأنّه كان أكثر شيء أكفئ من الأشربة (١).

قال : فلمّا نزل تحريم الخمر والميسر والتشديد في أمرهما قال الناس من المهاجرين والأنصار : يا رسول الله ، قتل أصحابنا وهم يشربون الخمر ، وقد سماه الله رجسا وجعله من عمل الشيطان ، وقد قلت ما قلت ، أفيضرّ أصحابنا ذلك شيئا بعد ما ماتوا؟ فأنزل الله : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(٢). فهذا لمن مات أو قتل قبل تحريم الخمر ، والجناح على من شربها بعد التحريم (٣).

وروى العياشي في تفسيره عن أبي الصباح الكناني قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام :

أرأيت رسول الله كيف كان يضرب في الخمر؟ فقال : كان يضرب بالنعال ، ويزيد كلّما اتي بالشارب ، ثمّ لم يزل الناس يزيدون حتى وقف على ثمانين (جلدة) (٤).

__________________

(١) هذا ، وقد مرّ في خبر بني النضير ومضرب خباء النبيّ لحربهم : أنّ جمعاً من الانصار كانوا قد اجتمعوا في الموضع يشربون نبيذ التمر (الفضيخ) فيه ، فبلغهم تشديد التحريم فأراقوا قربتهم ، وفيما بعد بنوا فيه مسجداً سمّوه مسجد الفضيخ ، وهو أوجه.

(٢) المائدة : ٩٣.

(٣) تفسير القمي ١ : ١٨٠ ـ ١٨٢.

(٤) تفسير العيّاشي ١ : ٣٤٠ و ٣٤١.


وروى القمي في تفسيره قال : وقال رسول الله : من شرب الخمر فاجلدوه ، ومن عاد فاجلدوه ، ومن عاد فاجلدوه ، ومن عاد في الرابعة فاقتلوه (١).

ونقل الطوسي في «التبيان» في سبب نزول الآية : أنّه لمّا نزل قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ...)(٢) قال عمر : اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا (٣) ..

وقد روى ابن اسحاق في سيرته عن خلاد بن قرّة السدوسي من بكر بن وائل : أن أعشى بني قيس بن ثعلبة من بكر بن وائل ، أراد الإسلام فقال قصيدة يمدح فيها رسول الله وخرج إليه يريد الاسلام.

قال : فلمّا كان بمكّة أو قريبا منها اعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره فأخبره أنّه جاء يريد رسول الله ليسلم ، فقال له : يا أبا بصير ، إنّه يحرم الزنا ، فقال الأعشى : والله إنّ ذلك لأمر ما لي فيه من أرب. فقال له : يا أبا بصير ، فإنّه يحرم الخمر ، فقال الأعشى : أما هذه فو الله إنّ في النفس منها لعلالات ، ولكنّي منصرف فأتروّى منها عامي هذا ثمّ آتيه فاسلم. فانصرف فمات في عامه ذلك ولم يعد إلى رسول الله.

وذكر قصيدة في أحد وعشرين بيتا يقول فيها :

ألا أيّهذا السائلي : أين يمّمت

فإنّ لها في أهل يثرب موعدا

وآليت لا آوي لها من كلالة

ولا من حفيّ حتّى تلاقي محمّدا

متى ما تناخي عند باب ابن هاشم

تراحي ، وتلقي من فواضله ندى

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١٨٠.

(٢) النساء : ٤٣.

(٣) التبيان ٤ : ١٨ وانظر مصادره الكثير في الغدير ٦ : ٢٥٢ و ٢٥٣.


نبيّا يرى ما لا ترون وذكره

أغار لعمري في البلاد وأنجدا

له صدقات ما تغبّ ونائل

وليس عطاء اليوم مانعه غدا (١)

ولذلك قال السهيلي في «الروض الانف» إن صحّ خبر الأعشى فلم يكن هذا بمكّة وإنّما كان بالمدينة ، وفي القصيدة ما يدلّ على هذا قوله : «فإن لها في أهل يثرب موعدا». وقد ألفيت للقالي رواية عن أبي حاتم عن أبي عبيدة قال : لقي الأعشى عامر بن الطفيل في بلاد قيس وهو مقبل إلى رسول الله ، فذكر انّه يحرّم الخمر فرجع. فهذا أولى بالصواب. وهذه غفلة من ابن هشام ومن قال بقوله ، فإنّ الناس مجمعون على أنّ الخمر لم ينزل تحريمها إلّا بالمدينة بعد أن مضت بدر واحد ، وحرّمت في سورة المائدة ، وهي من آخر ما نزل (٢) بل حُرّمت في سورة البقرة وشدّدت اليوم واُكّدت في المائدة ، وسيأتي الحديث عنها هناك.

غزوة ذات الرقاع :

قال الطبرسي في «إعلام الورى» : ثمّ كانت غزوة ذات الرقاع (٣) بعد غزوة بني النضير بشهرين. لقي بها جمعا من غطفان ، ولم يكن بينهما حرب ، ولكن خاف الناس فصلّى بهم رسول الله صلاة الخوف ، ثمّ انصرف بالناس (٤).

وقال في تفسيره «مجمع البيان» في تفسير الآية من سورة النساء :

(وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً* وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ

__________________

(١) ابن هشام ٢ : ٢٥ ـ ٢٨.

(٢) الروض الاُنف ٢ : ١٣٦.

(٣) قيل : إنّما سمّيت ذات الرقاع لأنّه جبل فيه بُقع حمر وسود وبيضاء إعلام الورى ١ : ١٨٩ والواقدي ١ : ٣٩٥.

(٤) إعلام الورى ١ : ١٨٩ وهي عبارة ابن إسحاق في السيرة ٣ : ٢١٤.


لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً)(١).

قال : نزلت والنبيّ بعسفان ، والمشركون بضجنان ، فتواقفوا ، فصلّى النبيّ وأصحابه صلاة الظهر بتمام الركوع والسجود ، فهمّ المشركون بأن يغيروا عليهم ، فقال بعضهم : إنّ لهم صلاة اخرى أحبّ إليهم من هذه ـ يعنون صلاة العصر. فأنزل الله عليه هذه الآية ، فصلّى بهم صلاة الخوف.

ثمّ ذكر فيها رواية اخرى عن تفسير أبي حمزة الثمالي قال : إنّ النبيّ غزا بني أنمار ، فنزل رسول الله والمسلمون وهم لا يرون أحدا من العدوّ ، فوضعوا أسلحتهم ، وخرج رسول الله ليقضي حاجته وقد وضع سلاحه ، والسماء نرشّ ، فعبر الوادي وجلس في ظلّ شجرة.

فبصر به (بنو المحارب فقالوا) لغورث بن الحارث المحاربي : يا غورث ، هذا محمّد قد انقلع من أصحابه! فقال : قتلني الله إن لم أقتله! وانحدر من الجبل ومعه السيف ، ولم يشعر به رسول الله إلّا وهو قائم على رأسه ومعه السيف ، قد سلّه من غمده وقال : يا محمّد ، من يعصمك منّي الآن؟ فقال الرسول : الله. فانكبّ عدوّ الله لوجهه ، فقام رسول الله فأخذ سيفه وقال : يا غورث من يمنعك منّي الآن؟ قال : لا أحد! قال : تشهد أن لا إله إلّا الله وأنّي عبد الله ورسوله؟ قال : لا! ولكنّي أعهد أن لا اقاتلك أبدا ولا اعين عليك عدوّا. فأعطاه رسول الله سيفه! فقال له غورث : والله لأنت خير منّي. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّي أحقّ بذلك.

__________________

(١) النساء : ١٠١ و ١٠٢.


وخرج غورث إلى أصحابه ، فقالوا : يا غورث ، لقد رأيناك قائما على رأسه بالسيف فما منعك منه؟ قال : أهويت له بالسيف لأضربه فما أدري من طعنني بين كتفيّ فخررت لوجهي وخرّ سيفي ، فسبقني إليه محمّد فأخذه.

ونزلت الآيات ، ولم يلبث الوادي أن سكن ، فقطعه رسول الله إلى أصحابه فأخبرهم الخبر وقرأ عليهم الآيتين (١).

ونقله في «إعلام الورى» مختصرا مرسلا ، ويبدو لي أنّه نقله عن أبان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي عن أبي بصير عن الصادق عليه‌السلام ، كما أسنده عنه الكليني في «روضة الكافي» قال : في غزوة ذات الرقاع نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تحت شجرة على شفير واد ، فأقبل سيل فحال بينه وبين أصحابه ، وهم قيام على شفير الوادي ينتظرون متى ينقطع السيل ، فرأى (النبيّ) رجل من المشركين فقال لقومه : أنا أقتل محمّدا! وجاء فشدّ على رسول الله بالسيف ثمّ قال : من ينجّيك منّي يا محمّد؟! فقال : ربّي وربّك! فنسفه جبرئيل عليه‌السلام عن فرسه ، فسقط على ظهره ، فقام رسول الله وأخذ السيف وجلس على صدره وقال : من ينجّيك منّي يا غورث؟! فقال : جودك وكرمك يا محمّد! فتركه ، فقام وهو يقول : والله لأنت خير منّي وأكرم (٢).

وردّد ابن شهرآشوب صلاة الخوف بين غزوتين : غزوة بني لحيان في جمادى الاولى (من السنة الرابعة) في عسفان. ثمّ قال : ويقال : في ذات الرقاع مع غطفان ، وكان ذلك بعد النضير بشهرين (٣).

__________________

(١) مجمع البيان ٣ : ١٥٧ و ١٥٨.

(٢) روضة الكافي : ١١٠ ح ٩٧ ط النجف الاشرف.

(٣) مناقب آل أبي طالب ١ : ١٩٧.

وذكر ابن هشام عن هذه الغزوة حديثا مفصّلا عن جابر بن عبد الله الأنصاري حدّث به بعد وقعة الحرّة سنة ٦٢ ه‍ كما في آخر الخبر.


__________________

قال : خرجت مع رسول الله إلى غزوة ذات الرقاع من نخل ، على جمل لي ضعيف ، فلمّا قفل رسول الله ، جعلت الرفاق تمضي وجعلت أتخلّف ، حتى أدركني رسول الله ، فقال : ما لك يا جابر؟ قلت : يا رسول الله أبطأ بي هذا. قال : أنخه. فأنخته وأناخ رسول الله ثمّ قال : أعطني هذه العصا من يدك. ففعلت ، فأخذها رسول الله فنخسه بها نخسات ثمّ قال : اركب. فركبت ، فخرج ـ والذي بعثه بالحقّ ـ يواهق (أي يوازي) ناقته ، وتحدثت مع رسول الله ، فقال لي : أتبيعني جملك هذا يا جابر؟ قلت : يا رسول الله ، بل أهبه لك. قال : لا ولكن بعنيه. قلت : فسمنيه يا رسول الله قال : قد أخذته بدرهم. قلت : لا ، إذن تغبنني يا رسول الله. فقال : فبدرهمين. قلت : لا. قال : فلم يزل يرفع لي رسول الله في ثمنه حتى بلغ الاوقية ، فقلت : فقد رضيت يا رسول الله. قال : نعم. قلت : فهو لك. قال : قد أخذته.

ثمّ قال : يا جابر ، هل تزوّجت؟ قلت : نعم يا رسول الله. قال : أثيّبا أم بكرا؟ قلت : بل ثيبا. قال : أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك؟! قلت : يا رسول الله ، إنّ أبي اصيب يوم احد وترك له بنات سبعا ، فنكحت امرأة جامعة تجمع رءوسهنّ وتقوم عليهن. قال : أصبت إن شاء الله ، أما إنا لو قد جئنا صرارا أمرنا بجزور فنحرت وأقمنا عليها يومنا ذاك ، وسمعت بنا فنفضت نمارقها. قلت : والله يا رسول الله ما لنا من نمارق. قال : انها ستكون ، فإذا أنت قدمت فاعمل عملا كيّسا.

قال جابر : فلمّا جئنا صرارا أمر رسول الله بجزور فنحرت وأقمنا عليها ذلك اليوم ، فلمّا أمسى رسول الله دخل ودخلنا ، فحدثت المرأة الحديث وما قال لي رسول الله ، فلمّا أصبحت ـ أخذت برأس الجمل فاقبلت به حتى أنخته على باب مسجد رسول الله ثمّ جلست في المسجد قريبا من (مجلسه) وخرج رسول الله فرأى الجمل فقال : ما هذا؟ قالوا : يا رسول الله ، هذا جمل جاء به جابر. قال : فأين جابر؟ فدعوني إليه فقال : يا ابن أخي! خذ برأس جملك فهو لك. ودعا بلالا فقال له : اذهب بجابر فأعطه أوقية. فذهبت معه فأعطاني أوقية وزادني


__________________

شيئا يسيرا ، فو الله ما زال ينمى عندي ويرى مكانه في بيتنا حتّى اصيب أمس فيما اصيب لنا. يعني يوم الحرّة ـ ٣ : ٢١٦ ـ ٢١٨ والواقدي ١ : ٣٩٩ ـ ٤٠١ ، إلّا أنّه قال في آخر الخبر : حتى اصيب هاهنا قريبا ، يعني الجمل! بدل : يعني الحرّة.

ونقل قبله عن جابر قال : إنا لمع النبيّ إذ جاء رجل من أصحابه بفرخ طائر ورسول الله ينظر إليه ، فأقبل أبواه أو أحدهما حتى طرح نفسه في يدي الذي أخذ فرخه فرأيت الناس عجبوا من ذلك ، فقال رسول الله : أتعجبون من هذا الطائر؟ أخذتم فرخه فطرح نفسه رحمة لفرخه! والله لربّكم أرحم بكم من هذا الطائر بفرخه!

قال جابر : وصحنا صاحبا لنا يرعى ظهرنا وعليه ثوب متخرّق ، فقال رسول الله : أما له غير هذا (الثوب)؟ فقلنا : بلى يا رسول الله ، إنّ له ثوبين جديدين في العيبة. فقال له رسول الله : خذ ثوبيك. فأخذ ثوبيه (القميص والازار) فلبسهما وأدبر. فقال (لنا) رسول الله : أليس هذا أحسن؟ ما له ضرب الله عنقه! وسمع ذلك الرجل ، فقال : في سبيل الله يا رسول الله. فقال رسول الله : في سبيل الله. فضربت عنقه بعد ذلك في سبيل الله.

و (كنت) تحت ظل شجرة فأتانا رسول الله فقلت : هلمّ إلى الظلّ يا رسول الله. فدنا إلى الظلّ فاستظل ، فذهبت لاقرّب إليه شيئا فما وجدت إلّا جروا من قثّاء في أسفل الغرارة ، فكسرته ثمّ قرّبته إليه ، فقال رسول الله : من أين لكم هذا؟ فقلنا : شيء فضل من زاد المدينة ، فأصاب منه رسول الله.

فبينا رسول الله يتحدث عندنا إذ جاءنا علبة بن زيد الحارثي بثلاث بيضات أداحي ، ـ فقال : يا رسول الله ، وجدت هذه البيضات في مفحص نعام. فقال رسول الله : دونك يا جابر فاعمل هذه البيضات. فوثبت فعملتهنّ ، ثمّ جئت بالبيض في قصعة وجعلت أطلب خبزا فلا أجده. فجعل رسول الله يأكل من ذلك البيض بغير خبز ... وأمسك يده ... ثمّ قام والبيض في القصعة كما هو ... فأكل منه عامّة أصحابنا. ثمّ رحنا مبردين.


غزوة بني لحيان :

وقبل قصّة بطن الرجيع كانت قصّة بئر معونة بدعوة أبي براء الخزاعي العامري وخيانة بني لحيان من هذيل وبيعهم خبيب بن عدي وزيد الدثنة إلى أهل مكّة وقتلهم هناك.

__________________

وروى بسند آخر عن جابر أيضا قال : لمّا انصرفنا راجعين فكنّا بالشقرة ، قال لي رسول الله : يا جابر ، ما فعل دين أبيك؟ فقلت : يا رسول الله انتظرت أن يجذّ نخله. فقال لي رسول الله : فمتى تجذّها؟ قلت : غدا. قال : يا جابر ، فإذا جذذتها فاعزل العجوة على حدتها وألوان التمر على حدتها ... وإذا جذذت فأحضرني. قلت : نعم. ثمّ قال : فمن أصحاب دين أبيك؟ قلت : أبو الشحم اليهودي ، له على أبي سقة تمر (جمع الوسق ، وهو الحمل ، وقدّره الشرع بستّين صاعا ـ النهاية ٢ : ١٦٩).

قال جابر : ففعلت (كما أمر) فجعلت الصّيحاني على حدة ، والعجوة على حدة ، وامّهات الجرادين على حدة ، ثمّ عمدت إلى مثل نخبة وشقحة وقرن وغيرها من الأنواع فجعلته حبلا واحدا وهو أقل التمر. ثمّ جئت رسول الله فخبّرته ، فانطلق رسول الله ومعه علية أصحابه ، فدخلوا الحائط ، وحضر أبو الشحم.

فلمّا نظر رسول الله إلى التمر مصنّفا قال : اللهم بارك له. ثمّ جلس وسطها ثمّ قال : ادع غريمك. فجاء أبو الشحم ، فقال له : اكتل. فاكتال حقه كلّه من العجوة وبقي التمر كما هو.

ثمّ قال لي رسول الله : يا جابر ، هل بقي على أبيك شيء؟ قلت : لا.

وبعنا منه وأكلنا منه دهرا حتى أدركت الثمرة من قابل ، ولقد كنت أقول : لو بعت أصلها ما بلغت ما كان على أبي من الدين ـ الواقدي ١ : ٣٩٨ ـ ٤٠٢.

وروى خبر الجمل والدين قطب الدين الراوندي في الخرائج والجرائح ١ : ١٥٤ ح ٢٤٢ و ١٥٨ ح ٢٧٤ عن عمّار بن ياسر.

والخبر كما ترى ليس فيه ذكر عن الزكاة المفروضة ، ممّا يؤيّد عدم فرض الزكاة حتّى ذلك العهد.


وفي «إعلام الورى» قال : وكانت بعد غزوة بني النضير غزوة بني لحيان (١).

وفي «المناقب» قال : كانت غزوة بني لحيان في جمادى الاولى (بعد بني النضير بشهرين) (٢).

وكذلك قال ابن الأثير في «الكامل في التأريخ» إلّا أنّه قال : في السنة السادسة ، خرج رسول الله إلى بني لحيان يطلب بأصحاب الرجيع ، خبيب بن عدي وأصحابه ، وأظهر أنّه يريد الشام ليصيب من القوم غرّة ، وأسرع السير حتى نزل غرّان منازل بني لحيان بين أمجّ وعسفان ، فوجدهم قد حذروا وتمنّعوا في رءوس الجبال.

فلما أخطأه ما أراد منهم خرج في مائتي راكب حتى نزل عسفان تخويفا لأهل مكّة ، وأرسل فارسين من الصحابة حتّى بلغا كراع الغميم ، ثمّ عاد (٣).

وفاة عبد الله بن عثمان :

ومن الحوادث في هذا الشهر جمادى الاولى من السنة الرابعة ، أن توفّي فيه عبد الله بن عثمان من رقية بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ١٨٨.

(٢) مناقب آل أبي طالب ١ : ١٩٧.

(٣) الكامل في التأريخ ١ : ١٢٨ وعنه في بحار الأنوار ٢٠ : ١٧٩. وهنا قال الطبرسي : وهي الغزوة التي صلّى فيها صلاة الخوف بعسفان حين أتاه الخبر من السماء بما همّ به المشركون. وكذلك ذكر ابن شهرآشوب في المناقب. ولكنهما كرّرا ذكر ذلك في الغزوة التالية : ذات الرقاع ، وكذلك قال الطبرسي في تفسيره مجمع البيان ٣ : ١٥٧ تفسيرا للآية ١٠٢ من سورة النساء : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) بينما نقل عن الكلبي قصّة موعد بدر الصفراء في تفسير الآية ٨٤ من السورة : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) والأصل أن نأخذ بترتيب الآيات إذ لا دليل على خلافه.


تزوّجها عثمان قبل الهجرة بها إلى الحبشة ، ثمّ عاد بها في أوّل من عاد ، فولدت له غلاما سماه عبد الله ، قبل الهجرة بسنتين ، وكنّي به أبا عبد الله ، ثمّ هاجر بهما إلى المدينة وعمر الولد سنتان ، وتوفّيت امّه رقية بالحصبة في ذي القعدة من السنة الثالثة ، وعمر الولد خمس سنين ، فخطب عثمان حفصة ابنة عمر فردّه عمر ، فخطبها رسول الله وتزوّجها وهي أرملة شهيد ، وزوّج عثمان ابنته الاخرى أمّ كلثوم كي تكون لابنه عبد الله كامّه رقية اختها ، وبعد احد ولجوء عمّ عثمان المغيرة أو ابنه معاوية بن المغيرة إليه ، وقتله بأمر رسول الله ، وظنّ عثمان بام كلثوم أنّها أخبرت به أباها ، ضربها ، فماتت ودفنها رسول الله ، في شوّال.

وبقي الولد عبد الله بلا أم ولا خالة هي له بمنزلة أمه رقية ، فقالوا عنه :

بلغ عبد الله ستّ سنين ، فنقره ديك على عينيه فمرض ومات في جمادى الاولى سنة أربع من الهجرة ، فصلّى عليه رسول الله ، ونزل في حفرته عثمان بن عفّان (١).

وفاة فاطمة بنت أسد :

ومن الحوادث فيه : أن توفيت فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف ، أم علي عليه‌السلام ، وأسلمت ، وكانت صالحة ، وكان رسول الله يزورها ويقيل في بيتها (٢).

قال اليعقوبي : وكانت مسلمة فاضلة ، ويروى أنّها لمّا توفّيت قال رسول الله : اليوم ماتت امّي! وكفّنها بقميصه ونزل في قبرها واضطجع في لحدها!

__________________

(١) الطبقات ٣ : ٥٢ ، طبعة بيروت. وذكره في التنبيه والاشراف : ٢٥٥ ولم يؤرخ وفاته. ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ١٨٥ عن المنتقى للكازروني : ١٢٨. وفي إعلام الورى ١ : ٢٨٦ أنّ عثمان تزوّج رقية بالمدينة فولدت له عبد الله ونقره ديك على عينيه فمرض ومات. وكذلك في مناقب آل أبي طالب ١ : ١٦٢.

(٢) بحار الأنوار ٢٠ : ١٨٥ ، عن المنتقى : ١٢٨.


فقيل له : يا رسول الله ، لقد اشتدّ جزعك على فاطمة!

قال : إنّها كانت امّي ، إن كانت لتجيع صبيانها وتشبعني ، وتشعّثهم وتدهنني ، وكانت امّي (١).

وروى البلاذري في «أنساب الأشراف» بسنده عن علي عليه‌السلام أنّه قال لامّه فاطمة بنت أسد (بعد زواجه بالزهراء) : اكفي فاطمة بنت رسول الله ما كان خارجا ، من السقي وغيره ، وتكفيك ما كان داخلا ، من العجن والطحن وغير ذلك (٢).

وروى ابن الأثير في «اسد الغابة» بسنده عن جعدة بن هبيرة المخزومي عن علي عليه‌السلام قال : اهدي إلى رسول الله حلّة مسيّرة (مخطّطة مخلوطة) بحرير إما سداها واما لحمتها ، فبعث النبي بها إليّ ، فقلت : ما أصنع بها؟ ألبسها؟ قال : أرضى لك ما أكره لنفسي؟! اجعلها خمرا بين الفواطم. قال : فشققت منها أربعة أخمرة : خمارا لفاطمة بنت أسد ، وخمارا لفاطمة بنت محمّد ، وخمارا لفاطمة بنت حمزة. وذكر فاطمة اخرى فنسيتها (٣).

ويعلم من الخبر كراهة بل حرمة لبس الحرير للرجال وجوازه للنساء من يومئذ.

ويعلم من الخبرين أنّ فاطمة بنت أسد توفيّت بعد زواج ابنها عليّ بالزهراء.

__________________

(١) تأريخ اليعقوبي ٢ : ١٤.

(٢) أنساب الأشراف ٢ : ٣٧ و ٣٨ وفي اسد الغابة ٥ : ٥١٧ والإصابة ٧ : ١٦١. بينما روى الطوسي في أماليه بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : كان عليه‌السلام يحطب ويستقي ويكنس ، وكانت فاطمة عليها‌السلام تطحن وتعجن وتخبز : ٦٦٠ ح ١٣٦٩ ولعل ذلك كان بعد وفاة أمه فاطمة.

(٣) اسد الغابة ٥ : ٥١٨ ، والإصابة ٨ : ١٦١ برقم ٨٣٢ ، كما في هامش أنساب الأشراف ٢ : ٣٦ و ٣٧ للمحقّق المحمودي.


ويعلم من تأريخ وفاتها أنّها توفّيت بعد ميلاد الحسن عليه‌السلام ، ومع ذلك نفتقد ذكرها في زفاف الزهراء وميلاد الحسن عليه‌السلام ، ونجد بدلا عنها اسم أسماء بنت عميس مصحفا عن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصاريّة الخطيبة (خطيبة النساء).

وروى الاصفهاني الأموي في «مقاتل الطالبيّين» بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : كانت فاطمة بنت أسد أمّ علي بن أبي طالب حادية عشرة (امرأة أسلمت) وكانت بدريّة (من النساء اللواتي حضرن بدرا بعد الوقعة).

ثمّ روى بسنده عن الزبير بن العوّام قال : لمّا نزلت الآية : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ ...) سمعت النبيّ يدعو النساء إلى البيعة ، فكانت فاطمة بنت أسد أوّل امرأة بايعته صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقال الاصفهاني : ولما حضرتها الوفاة أوصت إليه فقبل وصيّتها (١).

وروى الكليني في «الكافي» بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : إن فاطمة بنت أسد أمّ أمير المؤمنين عليه‌السلام كانت أول امرأة هاجرت الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من مكة الى المدينة على قدميها (٢) وكان لها جارية فقالت لرسول الله يوما : إني اريد أن اعتق جاريتي هذه ... فلما مرضت اعتقل لسانها فجعلت تومى الى رسول الله ايماء بالوصية فقبل رسول الله وصيتها. فبينما هو ذات يوم قاعد إذ أتاه أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو يبكي فقال له رسول الله : ما يبكيك؟ فقال : ماتت امّي فاطمة. فقال رسول الله : وامّي والله. وأتاها فنظر إليها (وذلك قبل وجوب الحجاب) فبكى ثم أمر النساء أن يغسلنها ، فلما فرغن أعلمنه بذلك ، فأعطاهن

__________________

(١) مقاتل الطالبين : ٤ و ٥.

(٢) لا ينافي هذا ما تقدم من حمل علي عليه‌السلام امّه فاطمة وسائر الفواطم الهواشم الى المدينة ، فلا يبعد أنها التزمت أن تهاجر معه على قدميها.


احدى قميصيه الذي يلي جسده وأمرهنّ أن يكفّنها فيه. فلمّا فرغن من غسلها وكفنها دخل فحمل جنازتها على عاتقه فلم يزل تحت جنازتها حتى أوردها (مقبرتها) فوضعها ودخل القبر فاضطجع فيه ثم قام فأخذها على يديه (قبل الحجاب) حتى وضعها في القبر ، ثم انكبّ عليها يناجيها .. ثم خرج وسوّى عليها (١).

وروى الاموي الأصفهاني بسنده عن عطاء عن ابن عبّاس قال : لما ماتت فاطمة أمّ عليّ ألبسها رسول الله قميصه واضطجع معها في قبرها. فقال له أصحابه : يا رسول الله ما رأيناك صنعت بأحد ما صنعت بهذه المرأة؟! قال : إنّه لم يكن أحد بعد أبي طالب أبرّ بي منها ، وإنّي إنّما ألبستها قميصي لتكسى من حلل الجنّة ، واضطجعت معها في قبرها ليهون عليها!

وروى بسنده عن عليّ عليه‌السلام : أنّ رسول الله دفن فاطمة بنت أسد بالرّوحاء مقابل حمام أبي قطيفة (٢).

وقال المالكي في «الفصول المهمّة» : لمّا ماتت كفنها النبيّ بقميصه ، وأمر أبا أيّوب الأنصاري واسامة بن زيد وعمر وغلاما أسودا فحفروا قبرها ، فلمّا بلغوا لحدها حفره النبيّ بيده وأخرج ترابه فلمّا فرغ اضطجع فيه وقال :

«الله الذي يحيي ويميت وهو حيّ لا يموت. اللهم اغفر لامّي فاطمة بنت أسد ، ولقّنها حجّتها ، ووسّع عليها مدخلها ، بحق نبيّك محمد والأنبياء الذين من

__________________

(١) اصول الكافي ١ : ٤٥٣ ح ٢ وعليه فلا يصح ما رواه الاموي الاصفهاني بسنده عن علي عليه‌السلام قال : أمرني رسول الله فغسلت أمي فاطمة بنت أسد. مقاتل الطالبيين : ٥. وان كان ذلك قبل وجوب الحجاب.

(٢) مقاتل الطالبيّين : ٤ و ٥ وعنه في مقدّمة شرح النهج للمعتزلي ١ : ١٤ وعنه في بحار الأنوار ٢٠ : ١٨١ ، والرّوحاء اسم البقيع كما مرّ أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله سمّاها كذلك.


قبلي ، فانك أرحم الراحمين».

فقيل : يا رسول الله ، رأيناك صنعت شيئا لم تكن تصنعه بأحد قبلها؟!

فقال : ألبستها قميصي لتلبس من ثياب الجنّة ، واضطجعت في قبرها ليخفّف عنها من ضغطة القبر. إنّها كانت من أحسن خلق الله صنعا بي بعد أبي طالب (١).

وروى الخبر الصفار في «بصائر الدرجات» بسنده عن الصادق عليه‌السلام إلى أن قال :

فلمّا خرج قيل له : يا رسول الله ، لقد صنعت بها شيئا في تكفينك إيّاها ثيابك ، ودخولك في قبرها وطول صلاتك وطول مناجاتك ما رأيناك صنعته بأحد قبلها؟!

قال : أما تكفيني إيّاها فإنّي لما قلت لها : يعرض الناس عراة يوم يحشرون من قبورهم! صاحت : وا سوأتاه! فألبستها ثيابي وسألت الله في صلاتي عليها أن لا يبلي أكفانها حتّى تدخل الجنّة. فأجابني إلى ذلك. وأمّا دخولي في قبرها فإنّي قلت لها يوما : إنّ الميّت إذا ادخل وانصرف الناس عنه دخل عليه ملكان : منكر ونكير ، فيسألانه. فقالت : وا غوثاه بالله ، فما زلت أسأل ربّي في قبرها حتّى فتح لها روضة من قبرها إلى الجنّة ، فقبرها روضة من رياض الجنة (٢) ولعلّ في سائر الأخبار اختصارا لهذا ، ومنه يعلم تأريخ نشر هذه الأفكار والمفاهيم الاخروية والبرزخية بين المسلمين الأوائل.

وفاة أبي سلمة :

ومن الحوادث في شهر جمادى الثانية وفاة أبي سلمة (عبد الله) بن

__________________

(١) الفصول المهمّة : ١٣ وعنه في بحار الأنوار.

(٢) بصائر الدرجات : ٧١ وعنه في بحار الأنوار.


عبد الأسد المخزومي :

روى الواقدي بسنده عن عمر بن أبي سلمة قال : رمى أبا سلمة : أبو اسامة الجشمي بمعلبة في عضده باحد ، فمكث شهرا يداويه ، فبرأ فيما كان يرى ، وبعثه رسول الله ـ في المحرّم على رأس خمسة وثلاثين شهرا ـ إلى قطن ، فغاب بضع عشرة ليلة ، فلمّا قدم المدينة انتقض عليه جرحه فمات ، لثلاث ليال مضين (١) من جمادى الآخرة (من السنة الرابعة) فغسل بين قرني بئر اليسيرة في بني أميّة بن يزيد ، ثم حمل إلى المدينة فدفن بها. وابتدأت امّي (أمّ سلمة) بعدّتها (أربعة أشهر وعشرا) (٢).

وروى عنها : أنّها كانت قد سمعت من أبي سلمة عن رسول الله قال : لا يصاب أحد بمصيبة فيسترجع عند ذلك ويقول : اللهم عندك أحتسب مصيبتي هذه ، اللهم اخلفني فيها خيرا منها. إلّا أعطاه الله عزوجل. فلمّا اصبت بأبي سلمة قلت : اللهم عندك أحتسب مصيبتي. ولم تطب نفسي أن أقول : اللهم اخلفني فيها خيرا منها ، لأنّي قلت : من خير من أبي سلمة؟! ثم قلت ذلك (٣).

__________________

(١) في الكتاب : «بقين» ولكن لا تتمّ لزوجته أمّ سلمة ١٣٠ يوما ثمّ خطبتها من قبل أبي بكر وردّها له ثمّ خطبتها من قبل عمر وردّها له ، ثمّ خطبتها من قبل رسول الله وقبولها له وزواجها به في شهر شوّال ، كما يأتي ذلك ، إلّا باحتمال استبدال «بقين» من مضين ، وأن الصحيح هو مضين محرّفة أو مصحفة إلى بقين. ولعلّ لذلك بدّل بعضهم الآخرة من (جمادى الآخرة) بالاولى كما في المنتقى : ١٢٨ وعنه في بحار الأنوار ٢٠ : ١٨٥.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٣٤٣ و ٣٤٤. وروى الطبري عن الكلبي قال : وكان ابن عمة رسول الله ورضيعه ، وامّه برّة بنت عبد المطلب. فلمّا مات صلّى عليه رسول الله فكبّر عليه تسع تكبيرات. فقيل : يا رسول الله أسهوت أم نسيت؟ قال : لم أسه ولم أنس ، ولو كبّرت على أبي سلمة ألفا كان أهلا لذلك ٣ : ١٦٤.

(٣) بحار الأنوار ٢٠ : ١٨٥ ، عن المنتقى : ١٢٨ ونقله في ٢٢ : ٢٢٧ عن دعوات الراوندي.


ميلاد الحسين عليه‌السلام :

ومن الحوادث في أوائل شهر شعبان المعظّم من السنة الرابعة ميلاد الإمام الحسين بن علي عليهما‌السلام.

روى الدولابي في «الذريّة الطاهرة» بسنده عن الليث بن سعد قال : ولدت فاطمة بنت رسول الله الحسين في ليال خلون من شعبان سنة أربع (١) وكذلك الطبري (٢) والمسعودي (٣) وعيّن الاصفهاني اليوم فقال : كان مولده لخمس خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة (٤) وكذلك المفيد في «الارشاد» (٥) من دون رواية خبر.

وروى خبره الطوسي في «المصباح» عن الحسين بن زيد عن الصادق عليه‌السلام قال : ولد الحسين لخمس ليال خلون من شعبان سنة اربع من الهجرة. ولكنه روى أيضا عن القاسم بن العلاء الهمداني وكيل العسكري عليه‌السلام قال : خرج إليه من الناحية المقدسة : أن مولانا الحسين عليه‌السلام ولد يوم الخميس لثلاث خلون من شعبان (٦) واختاره المفيد في «مسارّ الشيعة» (٧) ولذلك تردّد الطبرسي في «إعلام الورى» فقال : ولد بالمدينة قيل : يوم الخميس لثلاث خلون

__________________

(١) الذرية الطاهرة : ١٠٢ ح ٩٤ و ١٢١ ح ١٣٥ وعنه الاربلي في كشف الغمة ١ : ٥١٤ وعنه في بحار الأنوار ٤٤ : ١٣٦.

(٢) الطبري ٢ : ٥٥٥.

(٣) مروج الذهب ٢ : ٢٨٩ والتنبيه والاشراف : ٢١٣.

(٤) مقاتل الطالبيّين : ٥١.

(٥) الارشاد ٢ : ٢٦.

(٦) مصباح المتهجد : ٧٥٧.

(٧) مسار الشيعة : ٣٧ من المجموعة : ٧٣.


من شعبان ، وقيل : لخمس خلون منه ، سنة أربع من الهجرة (١) ورجع ابن شهرآشوب فرجّح رواية الخمس وزاد مدّة الحمل فقال في «المناقب» : ولد الحسين في المدينة ، لخمس خلون من شعبان ، سنة أربع من الهجرة ، بعد أخيه بعشرة أشهر وعشرين يوما (٢).

وروى القمي في تفسيره مرسلا عن الصادق عليه‌السلام قال : وكان بين الحسن والحسين عليهما‌السلام طهر واحد. وكان الحسين عليه‌السلام في بطن أمه ستة أشهر وفصاله أربعة وعشرون شهرا ، وهو قول الله : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً)(٣).

أسنده الكليني في «الكافي» عن عبد الرحمن العزرمي عن الصادق عليه‌السلام قال : كان بين الحسن والحسين عليهما‌السلام طهر. وكان بينهما في الميلاد ستّة أشهر وعشرا (٤) ولم يذكر الكليني من تأريخ الميلاد اليوم ولا الشهر واكتفى بذكر السنة الثالثة خلافا للمشهور المعروف في سنة الولادة ، وهو ما تقتضيه المدّة التي ذكرها بين الميلادين بعد أن ذكر ميلاد الحسن عليه‌السلام في شهر رمضان سنة بدر وهي سنة اثنتين من الهجرة (٥) ولعلّه لذلك لم يعيّن اليوم ولا الشهر ، لعدم نصّ عليه.

ووافقه واختاره الشيخ أبو جعفر الطوسي قدس‌سره في «التهذيب» والشيخ الشهيد في «الدروس» والبهائي في «توضيح المقاصد» بتعيين آخر شهر ربيع الأوّل سنة ثلاث (٦) مستندين إلى ذينك الخبرين وخبرين آخرين عن زرارة

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ٤٢٠.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٧٦.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٢٩٧ ، وعنه في بحار الأنوار ٤٣ : ٢٤٧ وعنه في نفس المهموم : ١٠.

(٤) اصول الكافي ١ : ٤٦٣ ، ٤٦٤.

(٥) اصول الكافي ١ : ٤٦١.

(٦) التهذيب ٦ : ٤١ ، والدروس ، كتاب المزار : ٦ ، وتوضيح المقاصد : ١٠ ، من المجموعة :


وهشام بن سالم عنه عليه‌السلام عن «الكافي» و «أمالي الطوسي» كما في «بحار الأنوار» (١).

ورواه الطبراني في «المعجم الكبير» وعنه في «الحسين والسنّة» بسنده عن حفص بن غياث عنه عليه‌السلام أيضا قال : كان بين الحسن والحسين عليهما‌السلام طهر (٢) من دون الزيادة : وكان بينهما في الميلاد ستّة أشهر وعشرا. وهذا ينسجم مع المدّة الطبيعيّة للحمل التي ذكرها ابن شهرآشوب في «المناقب» بلا منافاة.

وأظنّ الزيادة من الرواة استنباطا من تطبيق الآية : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) على الحسين عليه‌السلام ، كما مرّ عن تفسير القمي ، والكليني أردف قوله ذلك بما أسنده عن الصادق عليه‌السلام أيضا قال : لما حملت فاطمة عليها‌السلام بالحسين جاء جبرئيل إلى رسول الله فقال : إنّ فاطمة عليها‌السلام ستلد غلاما تقتله أمّتك من بعدك! فلمّا حملت فاطمة بالحسين عليه‌السلام كرهت حمله ، وحين وضعته كرهت وضعه. ولم تر في الدنيا أمّ تلد غلاما تكرهه ولكنّها كرهته لما علمت أنّه سيقتل. وفيه نزلت الآية : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً)(٣).

وقال المجلسي في «جلاء العيون» المشهور بين علماء الشيعة : أنّه ولد لثلاث خلون من شعبان سنة اربع من الهجرة. ثمّ نقل عن «المصباح» حديث الحسين بن زيد عن الصادق عليه‌السلام في ذلك ، ونقل عنه التوقيع للقاسم بن العلاء الهمداني وعن

__________________

ـ ٥٢٢.

(١) بحار الأنوار ٤٣ : ٢٥٨.

(٢) الحسين والسنّة : ١٠٩.

(٣) اصول الكافي ١ : ٤٦٤ ، والآية : ١٥ من الأحقاف وهي مكّيّة ، وفي الخبر : حسنا بدل احسانا. والخبر عن أبي خديجة وهو مخدوش فيه.


«التهذيب» قول الشيخ به ثمّ قال : وهو خلاف المشهور (١).

تسمية الحسين عليه‌السلام :

روى الطوسي في «الأمالي» بسنده عنه عن أبيه عن آبائه عن علي بن الحسين عليهم‌السلام قال : حدّثتني أسماء (بنت عميس) (٢) قالت : لمّا حملت فاطمة عليها‌السلام بالحسن وولدته ... وكان بعد حول ولدت الحسين وجاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا أسماء هلمّي ابني.

فدفعته إليه في خرقة بيضاء ، فأذّن في اذنه اليمنى وأقام في اليسرى ووضعه في حجره فبكى!

فقلت : بأبي أنت وامّي ممّ بكاؤك؟ قال : على ابني هذا.

قلت : إنّه ولد الساعة يا رسول الله!

فقال : تقتله الفئة الباغية من بعدي ، لا أنالهم الله شفاعتي! ثمّ قال : يا أسماء لا تخبري فاطمة بهذا ، فإنّها قريبة عهد بولادته.

ثمّ قال لعليّ : أيّ شيء سمّيت ابني هذا؟

قال : ما كنت لأسبقك باسمه يا رسول الله (٣).

__________________

(١) جلاء العيون ٢ : ٢ و ٣ للسيّد شبر وهو تعريب لجلاء العيون للمجلسي.

(٢) يتكرّر فيه الإشكال بعدم حضور أسماء بنت عميس زوجة جعفر الطيّار بالمدينة قبل فتح خيبر ، ويجاب بما مرّ في زفاف الزهراء عليها‌السلام بأنّها أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصاريّة القابلة والخطّابة ، وإنّما الخلط من الرواة.

(٣) وروى الخبر الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٥ بسنده عنه ، وفيه هنا زيادة : «قد كنت احبّ أن اسمّيه حربا» وليس فيما أخرجه الطوسي ، فمن المستبعد جدا أن يحبّ علي التسمية بحرب!


فقال النبيّ : ولا أسبق باسمه ربّي ـ عزوجل ـ.

ثمّ هبط جبرئيل فقال : يا محمّد ، العليّ الأعلى يقرؤك السّلام ويقول لك : عليّ منك كهارون من موسى ، سمّ ابنك هذا باسم ابن هارون. قال النبيّ : وما اسم ابن هارون؟ قال : شبير. قال النبيّ : لساني عربيّ. قال جبرئيل : سمّه الحسين.

فلمّا كان يوم سابعه عقّ عنه النبيّ بكبشين أملحين ، وأعطى القابلة فخذا ودينارا ، ثمّ حلق رأسه وتصدّق بوزن الشعر ورقا (فضّة) وطلى رأسه بالخلوق. وقال : يا أسماء ، الدم فعل الجاهليّة (١).

وروى الخبر الصدوق في «الأمالي» بسنده عن زيد بن علي عن أبيه علي ابن الحسين عليه‌السلام ـ بلا إسناد إلى أسماء ـ قال : لمّا ولد الحسين أوحى الله ـ عزوجل ـ إلى جبرئيل : أنّه قد ولد لمحمّد ابن ، فاهبط إليه فهنّئه وقل له : إنّ عليّا منك بمنزلة هارون من موسى فسمّه باسم ابن هارون. قال : فهبط جبرائيل فهنّاه من الله تبارك وتعالى ثمّ قال : إنّ عليّا منك بمنزلة هارون من موسى فسمّه باسم ابن هارون. قال : وما اسمه؟ قال : شبير. قال : لساني عربيّ. قال : سمّه الحسين.

فسمّاه الحسين (٢) من دون ذكر لسنن اليوم السابع.

زواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأم سلمة :

روى الواقدي بسنده عن عمر بن أبي سلمة قال : انتقض جرح أبي (أبي سلمة) فمات منه لثلاث مضين (٣) من جمادى الآخرة ... واعتدّت امّي حتى خلت

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٣٦٧ ح ٧٨١.

(٢) أمالي الصدوق : ١١٦.

(٣) مرّ أنّ النصّ : «بقين» ولكن لا تتمّ العدّة أربعة اشهر وعشرا لليال بقين من شوّال كما يأتي


أربعة اشهر وعشرا (١).

فلمّا انقضت عدّتها أرسل إليها أبو بكر يخطبها فأبت ، ثمّ أرسل إليها عمر يخطبها فأبت (٢).

وخطبها رسول الله فقالت له : يا رسول الله : إنّي امرأة فيّ غيرة شديدة وأخاف أن ترى منّي شيئا يعذّبني الله عليه ، وقد كبر سني وتخطّيت الشباب ، ومع ذلك فإنّي امرأة ذات عيال وأحتاج لأن أعمل في قوتهم.

فقال لها : أمّا ما ذكرت من الغيرة ، فسيذهبها الله عنك. وأمّا السنّ فقد أصابني ما اصابك ، وأمّا ما ذكرت من العيال ، فعيالك عيالي. فرضيت (٣).

وقال الطبرسي في «إعلام الورى» هي هند بنت أبي اميّة بن المغيرة المخزومي ، فهي ابنة عمّ أبي جهل ... وكانت عند أبي سلمة بن عبد الأسد وامّه برّة بنت عبد المطّلب ، فهو ابن عمّة رسول الله ، وكان لأمّ سلمة منه زينب وعمر (٤).

وروى الكليني في «فروع الكافي» بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : تزوّج رسول الله أمّ سلمة ، زوّجها إيّاه عمر بن أبي سلمة ، وهو صغير لم يبلغ الحلم (٥).

__________________

ـ إلّا إذا احتملنا استبدال «بقين» من : مضين ، فالصحيح : مضين ، محرّفة أو مصحّفة إلى : «بقين».

(١) مغازي الواقدي ١ : ٣٤٣ و ٣٤٤.

(٢) طبقات ابن سعد ٨ : ٦٢ ، ونقله في بحار الأنوار ٢٠ : ١٨٥ عن المنتقى.

(٣) البداية والنهاية ٤ : ٩١.

(٤) وكان عمر مع علي عليه‌السلام يوم الجمل ، وولّاه البحرين ، وله عقب بالمدينة. ومن مواليها خيرة أمّ الحسن البصري ، وشيبة بن مصباح إمام أهل المدينة في القراءة ـ إعلام الورى ١ : ٢٧٧.

(٥) فروع الكافي ٢ : ٢٤ ، كما في بحار الأنوار ٢٢ : ٢٢٤. وقال الطبرسي في إعلام الورى :


وروى الواقدي عن عمر بن أبي سلمة قال : اعتدّت امّي حتّى خلت أربعة أشهر وعشرا ثمّ تزوّجها رسول الله ودخل بها في ليال بقين من شوّال. فكانت امّي تقول : ما بأس في النكاح في شوّال والدخول فيه ، قد تزوّجني رسول الله وأعرس بي في شوّال (١).

وروى ابن سعد في «الطبقات» عن عائشة قالت : لمّا تزوّج رسول الله أمّ سلمة حزنت حزنا شديدا لمّا علمت جمالها ، فتلطّفت حتّى رأيتها ، فرأيت أضعاف ما وصفت من الحسن والجمال (٢).

وفي قصص أسباب النزول حكى العلّامة الحلّي في «كشف الحقّ» عن الحميدي عن السدّي قال : لمّا توفّي أبو سلمة وعبد الله بن حذافة وتزوّج النبيّ امرأتيهما : أمّ سلمة وحفصة ، وقد نزل قوله سبحانه : (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً* إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)(٣) قال عثمان : أينكح محمّد نساءنا إذا متنا ولا ننكح نساءه إذا مات؟ والله لو قد مات أجبلنا على نسائه بالسهام. وكان هو يريد أمّ سلمة.

وكذلك قال طلحة وهو يريد عائشة (فهي من تيم وهو منها).

__________________

ـ روي أن رسول الله أرسل إلى أمّ سلمة أن مري ابنك أن يزوّجك. فزوّجها ابنها سلمة بن أبي سلمة وهو غلام لم يبلغ. وأدّى عنه النجاشي صداقها أربعمائة دينار عند العقد. إعلام الورى ١ : ٢٧٧. وقال ابن هشام : أصدقها النبي فراشا حشوه ليف وقدحا ورحى ٤ : ٢٩٤.

(١) مغازي الواقدي ١ : ٣٤٤.

(٢) طبقات ابن سعد ٨ : ٦٦ وعنه في الإصابة ٤ : ٤٥٩.

(٣) الأحزاب : ٥٣ ، ٥٤.


فأنزل الله : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً)(١).

رجم زانيين يهوديّين :

قال المسعودي في سياق حوادث السنة الرابعة في شهر شوّال ، بعد ذكر تزوّج رسول الله بام سلمة : وفي هذا الشهر ـ فيما ذكر ـ رجم يهودي ويهوديّة كانا قد زنيا (٢) ونقله المجلسي في «بحار الأنوار» عن «المنتقى» قال : وفيها رجم رسول الله اليهوديّ واليهوديّة في ذي القعدة ، ونزل قوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(٣).

وروى الشيخ الطوسي في «التبيان» عن الباقر عليه‌السلام قال : إنّ امرأة من خيبر في شرف منهم زنت وهي محصنة ، فكرهوا رجمها ، فأرسلوا إلى يهود المدينة يسألون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله طمعا أن يكون أتى برخصة! فسألوه.

فقال : هل ترضون بقضائي؟ قالوا : نعم ، فأنزل الله عليه الرجم ، فأبوه ، فقال جبرئيل : سلهم عن ابن صوريا ثمّ اجعله بينك وبينهم. فقال : تعرفون شابّا أبيض أعور أمرد يسكن فدكا يقال له : ابن صوريا؟ قالوا : نعم هو أعلم يهودي على ظهر الأرض بما أنزل الله على موسى. قال : فأرسلوا إليه. فأرسلوا إليه فأتى.

فقال له رسول الله : فإنّي اناشدك الله الذي لا إله إلّا هو القوي إله بني

__________________

(١) الأحزاب : ٥٧. وسورة الأحزاب هي ٩٠ في النزول ، والرابعة او الخامسة في النزول بالمدينة بعد البقرة والأنفال وآل عمران والنساء ، فلا بعد في نزولها يومئذ. والخبر في كشف الحق : ٢٤٧ ط بغداد ، بتصرف يسير.

(٢) التنبيه والإشراف : ٢١٣.

(٣) بحار الأنوار ٢٠ : ١٨٣ عن المنتقى : ١٢٦ ـ ١٢٨ والآية من المائدة : ٤٧.


إسرائيل الذي أخرجكم من أرض مصر ، وفلق لكم البحر فأنجاكم وأغرق آل فرعون ، وظلّل عليكم الغمام وأنزل عليكم المنّ والسلوى ، وأنزل عليكم كتابه فيه حلاله وحرامه ، هل تجدون في كتابكم الذي جاء به موسى الرجم على من أحصن؟

قال عبد الله بن صوريا : نعم ، والذي ذكّرتني ، ولو لا مخافتي من ربّ التوراة أن يهلكني إن كتمت ، ما اعترفت لك به!

فأنزل الله فيه : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ...)(١).

فقام ابن صوريا فوضع يديه على ركبتي رسول الله ثم قال : هذا مقام العائذ بالله وبك أن تذكر لنا الكثير الذي امرت أن تعفو عنه. فأعرض النبيّ عن ذلك.

ثمّ سأله ابن صوريا عن نومه ، وعن شبه الولد بأبيه وامّه ، وما حظّ الأب من أعضاء المولود وما حظّ الامّ؟

فقال : تنام عيناي ولا ينام قلبي.

والشبه يغلبه أيّ الماءين علا.

وللأب العظم والعصب والعروق ، وللام اللحم والدم والشعر.

فقال : أشهد أنّ أمرك أمر نبيّ ، وأسلم. فشتمه اليهود.

فلمّا أرادوا الانصراف تعلّقت قريظة ببني النضير (٢) فقالوا :

يا أبا قاسم ، هؤلاء إخواننا بنو النضير إذا قتلوا منّا قتيلا لا يعطونا القود ويعطونا سبعين وسقا من تمر ، وإن قتلنا منهم قتيلا أخذوا القود ومعه سبعون وسقا من تمر ، وإن أخذوا الديّة أخذوا منّا مائة وأربعين وسقا ، وكذلك جراحاتنا على

__________________

(١) المائدة : ١٥.

(٢) بعد جلائهم إلى خيبر وفدك.


أنصاف جراحاتهم؟!

فأنزل الله ـ تعالى ـ : (... وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ...)(١) فحكم بينهم بالسواء ، فقال (بنو النضير) : لا نرضى بقضائك (٢) ، فأنزل الله : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(٣) وقال : (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ)(٤) شاهدا لك ما يخالفونك ، ثمّ فسّر ما فيها من حكم الله فقال : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(٥) إلى قوله ـ سبحانه ـ : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ)(٦) وهو إجلاؤهم من ديارهم (٧).

وروى الطبرسي في «مجمع البيان» عن الباقر عليه‌السلام أيضا قال : إنّ امرأة من خيبر ذات شرف بينهم زنت مع رجل من أشرافهم وهما محصنان ، فكرهوا

__________________

(١) المائدة : ٤٢.

(٢) يستبعد أن يكون هذا بعد إجلائهم وإذلالهم ، اللهم إلّا أن يكون قبل ذلك ، كما يأتي في آخر الخبر ما يفيد ذلك أيضا.

(٣) المائدة : ٥٠.

(٤) المائدة : ٤٣.

(٥) المائدة : ٤٥.

(٦) المائدة : ٤٩.

(٧) التبيان ٣ : ٥٢٥ و ٥٢٦. ونقله في ١ : ٣٦٣ (عن ابن عباس) وآخر الخبر يفيد أن الامر كان قبل اجلائهم وإذلالهم.


رجمهما ، فأرسلوا إلى يهود المدينة وكتبوا إليهم : أن يسألوا النبيّ عن ذلك طمعا في أن يأتي لهم برخصة!

فانطلق قوم ، منهم : كعب بن الأشرف (١) وكعب بن اسيد وشعبة بن عمرو ومالك بن الصيف وكنانة بن أبي الحقيق وغيرهم فقالوا : يا محمّد ، أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا ما حدّهما؟ فقال : وهل ترضون بقضائي في ذلك؟ قالوا : نعم فنزل جبرئيل بالرجم ، فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به. فقال جبرئيل : اجعل بينك وبينهم ابن صوريا ، ووصفه له. فقال النبيّ لهم : هل تعرفون شابّا أمرد أبيض أعور يسكن فدكا يقال له : ابن صوريا؟ قالوا : نعم. قال : فأيّ رجل هو فيكم؟ قالوا : اعلم يهودي بقي على ظهر الأرض بما أنزل الله على موسى! قال : فأرسلوا إليه. ففعلوا فأتاهم.

فقال له النبيّ : إنّي انشدك الله الذي لا إله إلّا هو الذي أنزل التوراة على موسى وفلق لكم البحر وأنجاكم وأغرق آل فرعون ، وظلّل عليكم الغمام ، وأنزل عليكم المنّ والسلوى ، هل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن؟

قال ابن صوريا : نعم ، والذي ذكّرتني به لو لا خشية أن يحرقني ربّ التوراة إن كذبت أو غيّرت ما اعترفت لك ، ولكن أخبرني كيف هي في كتابك يا محمّد؟

قال : إذا شهد أربعة رهط عدول : أنّه قد أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة وجب الرجم.

قال ابن صوريا : هكذا أنزل الله في التوراة على موسى.

فقال له النبيّ : فما ذا كان أوّل ما ترخصتم به أمر الله؟

قال : كنّا إذا زنى الشريف تركناه وإذا زنى الضعيف أقمنا عليه الحدّ ، فكثر الزنا في أشرافنا حتى زنى ابن عمّ ملك لنا فلم نرجمه ، ثمّ زنى رجل آخر ، فأراد

__________________

(١) هذا وقد مر قتله قبل هذا ، اللهم الا ان يكون قتله متأخرا عن هذا الامر.


الملك رجمه ، فقال له قومه : لا ، حتى ترجم فرنا (ابن عمّه) فقلنا : تعالوا نجتمع فلنضع شيئا دون الرجم يكون على الشريف والوضيع ، فوضعنا الجلد والتحميم ، وهو أن يجلد أربعين جلدة ثمّ يسوّد وجوههما ثمّ يحملان على حمارين ويجعل وجوههما من قبل دبر الحمار ويطاف بهما. فجعلوا هذا مكان الرجم!

فقالت اليهود لابن صوريا : ما أسرع ما أخبرته به ، وما كنت لما أتينا عليك بأهل!

فقال : إنّه أنشدني بالتوراة ، ولو لا ذلك لما أخبرته به.

فقال رسول الله : (اللهم) أنا أوّل من أحيا أمرك إذ أماتوه. فأمر بهما فرجما عند باب المسجد.

وأنزل الله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) فقام ابن صوريا فوضع يديه على ركبتي رسول الله ثمّ قال : هذا مقام العائذ بالله وبك أن تذكر لنا الكثير الذي امرت أن تعفو عنه. فأعرض النبيّ عنه.

ثمّ سأله ابن صوريا عن نومه. فقال : تنام عيناي ولا ينام قلبي ، فقال : صدقت. وأخبرني عن شبه الولد بأبيه ليس فيه من شبه امّه شيء أو بأمّه ليس فيه من شبه أبيه شيء؟ فقال : أيّهما علا وسبق ماؤه ماء صاحبه كان الشبه له. قال : صدقت. فأخبرني ما للرجل من الولد وما للمرأة منه؟ فاغمي على رسول الله طويلا ثمّ خلي عنه محمرّا وجهه يفيض عرقا فقال : اللحم والدم والظفر والشعر للمرأة ، والعظم والعصب والعروق للرجل ، قال له : صدقت أمرك أمر نبيّ. يا محمّد ، من يأتيك من الملائكة؟ قال : جبرئيل ، قال : صفه لي ، فوصفه النبيّ فقال : أشهد أنّه في التوراة كما قلت وأنّك رسول الله حقّا. فأسلم ابن صوريا عند ذلك. فلمّا أسلم ابن صوريا وقع فيه اليهود وشتموه.


ولمّا أرادوا أن ينهضوا تعلّقت بنو قريظة ببني النضير فقالوا : يا محمّد ، بنو النضير إخواننا ، أبونا واحد وديننا واحد ونبيّنا واحد ، فإذا قتلوا منّا قتيلا لم يقد ، وأعطونا ديته سبعين وسقا من تمر ، وإذا قتلنا منهم قتيلا قتلوا القاتل وأخذوا منّا الضعف ؛ مائة وأربعين وسقا من تمر ، وإن كان القتيل امرأة قتلوا بها الرجل منّا وبالرجل منهم الرجلين منّا وبالعبد منهم الحرّ منّا ، وجراحاتنا على النصف من جراحاتهم! فاقض بيننا وبينهم.

فأنزل الله الآيات في الرجم والقصاص (١).

وقد تكرّر في الآية : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) والآية : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ)(٢) فقال الطوسي : إنّما كرّر ـ سبحانه ـ الأمر بينهم ... لأنّهم احتكموا إليه في الزنا المحصن ثمّ احتكموا إليه في قتيل كان بينهم وهو المرويّ عن أبي جعفر عليه‌السلام (٣).

والقمي في تفسيره في سبب نزول الآية : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ...)(٤) اكتفى بهذا الحكم الثاني فقال :

__________________

(١) مجمع البيان ٣ : ٢٩٩ ـ ٣٠١ ونقل مختصره في ١ : ٣٢٥ عن ابن عباس. ويختلف الخبر هنا عما في التبيان ببعض التفاصيل. ورواه الطبرسي في الاحتجاج ١ : ٤٦ ـ ٤٨ عن العسكري عليه‌السلام. ونقله ابن اسحاق في السيرة ٢ : ١٩١ ونقلته في ذيل الآية : «(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ») من سورة البقرة ، في الهامش. ويستبعد التعدد جدّا ، والأولى الثاني.

(٢) المائدة : ٤٨ ، ٤٩.

(٣) التبيان ٢ : ٥٤٧ و ٥٤٨ ، وعنه في مجمع البيان ٣ : ٣١٥ و ٣١٦.

(٤) المائدة : ٤١.


لما هاجر رسول الله إلى المدينة ودخلت الأوس والخزرج في الإسلام ضعف أمر اليهود ، فقتل رجل من بني قريظة رجلا من بني النضير ، فبعث بنو النضير إلى بني قريظة : أن ابعثوا إلينا بدية المقتول وبالقاتل حتّى نقتله.

وكانت قريظة سبعمائة والنضير ألفا ، وأكثر مالا وأحسن حالا من قريظة ، فكان إذا وقع بين قريظة والنضير قتل وكان القاتل من بني النضير قالوا لبني قريظة : لا نرضى أن يكون قتيل منّا بقتيل منكم! وجرت في ذلك بينهم مخاطبات كثيرة حتّى كادوا أن يقتتلوا ، ثمّ رضيت قريظة وكتبوا بينهم كتابا على أنّه : أيّ رجل من النضير قتل رجلا من بني قريظة فعليه أن يجنّب ويحمّم ، والتجنيب أن يقعد على جمل ويولّى وجهه إلى ذنب الجمل ، والتحميم : أن يلطّخ وجهه بالحمأة ، وأن يدفع نصف الدية. وأيما رجل من قريظة قتل رجلا من بني النضير فعليه أن يدفع دية كاملة ، ويقتل به!

(فلمّا كان ذلك) قالت قريظة : ليس هذا حكم التوراة وإنما هو شيء غلبتمونا عليه ، فإمّا الدية وإما القتل ، وإلّا فهذا محمد بيننا وبينكم ، فهلموا فلنتحاكم إليه (١).

وكان بنو النضير حلفاء لعبد الله بن ابيّ ، فمشوا إليه وقالوا : سل محمّدا أن لا ينقض شرطنا في هذا الحكم الذي بيننا وبين بني قريظة في القتل.

فقال عبد الله بن ابيّ : ابعثوا معي رجلا يسمع كلامي وكلامه ، فإن حكم لكم بما تريدون والّا فلا ترضوا به!

فبعثوا إليه رجلا فجاء معه إلى رسول الله فقال له :

__________________

(١) وإذا كان هذا بعد إجلاء بني النضير كان ذلك من بني قريظة انتهازا للفرصة انتصارا عليهم.


يا رسول الله ، إنّ هؤلاء القوم قريظة والنضير قد كتبوا بينهم كتابا وعهدا وثيقا تراضوا به ، والآن في قدومك يريدون نقضه ، وقد رضوا بحكمك فيهم ، فلا تنقض عليهم كتابهم وشرطهم ، فإنّ بني النضير لهم القوّة والسلاح والكراع ، ونحن نخاف الغوائل والدوائر (١).

فاغتمّ لذلك رسول الله ولم يجبه بشيء.

ونزل عليه جبرئيل بهذه الآيات : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ* سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)(٢). إلى قوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ)(٣) وقوله : (فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ)(٤).

وروى الطبري مختصر خبر الرجم عن عكرمة (عن ابن عباس) : أن اليهود سألوا رسول الله عن حكم الرجم ، فسأل عن أعلمهم؟ فأشاروا إلى ابن

__________________

(١) ولكنّ هذا لا يلائم إلّا أوائل قدوم الرسول وقبل إجلاء بني النضير وإذلالهم.

(٢) المائدة : ٤١ و ٤٢.

(٣) المائدة : ٤٤.

(٤) المائدة : ٥٢ ، والخبر في تفسير القمي ١ : ١٦٨ ـ ١٧٠.


صوريا ، فناشده بالله هل يجدون حكم الرجم في كتابهم؟ فقال : إنّه لمّا كثر فينا جلدنا مائة وحلقنا الرءوس ، فحكم عليهم بالرجم ، فأنزل الله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ ...) إلى قوله : (صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

وروى عن ابن عباس ـ أيضا ـ قال : أتى رسول الله ابن ابيّ وبحري بن عمرو ، وشاس بن عدي فكلّمهم وكلّموه ، فدعاهم إلى الله وحذّرهم نقمته ، فقالوا : ما تخوّفنا يا محمّد؟ نحن والله أبناء الله وأحباؤه. كقول النصارى. فأنزل الله فيهم : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ...).

وروى عن ابن عباس ـ أيضا ـ قال : دعا رسول الله اليهود ورغّبهم في الإسلام وحذّرهم ، فأبوا عليه ، فقال لهم معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب : يا معشر اليهود اتّقوا الله فإنّكم لتعلمون أنّه رسول الله ، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه لنا بصفته! فقال رافع بن حريملة ووهب بن يهودا : ما قلنا لكم هذا ، وما أنزل الله من كتاب بعد موسى ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا بعده! فأنزل الله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ)(١).

وسرق ابن ابيرق :

وقبل هذه الآيات وقبل ما نزل من سورة النساء في غزوة بدر الأخيرة ، آيات تتعلّق بسرقة اخرى هي سرقة ابن ابيرق ، وقد نقل المجلسي في

__________________

(١) تفسير الطبري ، ورواها السيوطي في الدر المنثور ٢ : ٢٦٩. لكن الآية هي ١٩ من المائدة النازلة بعد حجة الوداع في آخر العاشرة للهجرة.


«بحار الانوار» عن «المنتقى» قال في سياق حوادث السنة الرابعة : وفيها سرق ابن ابيرق (١).

وقال القمي في تفسيره لقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً)(٢) : كان سبب نزولها : أنّ قوما من الأنصار من بني ابيرق إخوة ثلاثة كانوا منافقين : بشر وبشير ومبشّر ، فنقّبوا على عمّ قتادة بن النعمان ، وكان قتادة بدريّا ، فسرقوا منه سيفا ودرعا وطعاما كان قد أعدّه لعياله ، فشكى قتادة ذلك إلى رسول الله قال : يا رسول الله ، إنّ قوما نقبوا على عمّي وأخذوا سيفا ودرعا وطعاما كان قد أعدّه لعياله.

وكان مع بني ابيرق في الدار رجل مؤمن يقال له لبيد بن سهل ، فقال بنو ابيرق لقتادة : هذا عمل لبيد بن سهل! فبلغ ذلك لبيدا فأخذ سيفه وخرج عليهم فقال : يا بني ابيرق ، أترمونني بالسرقة؟! وأنتم أولى بها منّي! انكم منافقون تهجون رسول الله وتنسبون ذلك إلى قريش! لتبيّنن ذلك أو لأملأنّ سيفي منكم! فبرّأوه من ذلك.

ثمّ مشوا إلى رجل من رهطهم يقال له اسيد بن عروة وكان منطيقا بليغا ، وطلبوا منه أن يبرّئهم عند رسول الله من قول قتادة.

فمشى اسيد بن عروة إلى رسول الله فقال : يا رسول الله ، إن قتادة بن النعمان عمد إلى أهل بيت منّا أهل شرف وحسب ونسب فرماهم بالسرقة واتهمهم بما ليس فيهم.

__________________

(١) بحار الانوار ٢٠ : ١٨٤ عن المنتقى : ١٢٦ ـ ١٢٨ وقال المجلسي : سيأتي شرح القصّة في باب أحوال أصحابه. ولم أجده فيه.

(٢) النساء : ١٠٥.


فاغتم رسول الله لذلك. وجاء إليه قتادة فأقبل عليه رسول الله فقال له : عمدت إلى أهل بيت شرف وحسب ونسب فرميتهم بالسرقة؟! وعاتبه عتابا شديدا. فاغتم قتادة من ذلك ، ورجع إلى عمّه وقال له : يا ليتني متّ ولم أكلّم رسول الله. فقد كلّمني بما كرهته. فقال عمّه : الله المستعان.

ثمّ أنزل الله في ذلك على نبيّه : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً* وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً* وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً* يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً* ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً)(١)؟!

وروى أبو الجارود عن الباقر عليه‌السلام قال : لمّا أنزل (ذلك) أقبل ناس من رهط بشير الأدنين وقالوا له : يا بشير استغفر الله وتب إليه من الذنب! فقال : والذي أحلف به ما سرقها إلّا لبيد! فنزلت : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً* وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً* وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً)(٢) فكفر بشير ولحق بمكة.

وأنزل الله في النفر الذين أعذروا بشيرا وأتوا النبيّ ليعذروه قوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا

__________________

(١) النساء : ١٠٥ ـ ١٠٩.

(٢) النساء : ١١٠ ـ ١١٢.


أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً)(١). ونزلت في بشير وهو بمكة : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً)(٢).

ورواه الطوسي في «التبيان» عن عدة منهم مجاهد وعكرمة عن ابن عباس ، إلّا أنّه قال إنّهم اتهموا بذلك يهوديا يقال له زيد بن السمين ، بدلا عن لبيد بن سهل. وأضاف : أنّ بشيرا لمّا مضى إلى مكّة نزل على سلامة بنت سعد بن شهيد امرأة من الأنصار كانت في بني عبد الدار بمكة ، فهجاها حسّان بن ثابت قال :

وقد أنزلته بنت سعد وأصبحت

ينازعها جلد استها وتنازعه

ظننتم بأن يخفى الذي قد صنعتم

وفينا نبيّ عنده الوحي واضعه

فحملت رحله على رأسها وألقته بالأبطح وقالت : ما كنت تأتيني بخير ، أهديت إليّ شعر حسّان!

فلم يزالوا بمكّة مع قريش حتّى فتحت مكة فهربوا إلى الشام (٣).

__________________

(١) النساء : ١١٣.

(٢) النساء : ١١٥ ، وليس معنى هذا أنّ الآية ١١٤ خارجة عن السياق بل هي منه غير مذكورة في الخبر ، وهي : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) ولعلّها تبرّئ اسيد ابن عروة وأنّه ما أراد إلّا الإصلاح. والخبر في تفسير القمي ١ : ١٥٠ ـ ١٥٢.

(٣) التبيان ٣ : ٣١٦ و ٣١٧ ، ونقله الطبرسي في مجمع البيان ٣ : ١٦١ بتغيير يسير وسمّى عم قتادة : رفاعة بن زيد.


بدر الأخيرة :

يبدو أنّ الطبرسي في «إعلام الورى» اختصر خبرها عن ابن اسحاق فقال : ثم كانت غزوة بدر الأخيرة في شعبان ، خرج رسول الله إلى بدر لميعاد أبي سفيان ، فأقام عليها ثماني ليال ... ووافق رسول الله وأصحابه السوق فاشتروا وباعوا وأصابوا بها ربحا حسنا.

وخرج أبو سفيان في أهل تهامة فلما نزل الظّهران بدا له في الرجوع (١) فرجع ورجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ولكنّه في تفسيره «مجمع البيان» نقل عن الكليني : أن أبا سفيان لمّا أراد الرجوع إلى مكّة يوم احد واعد رسول الله موسم بدر الصفراء (٢) وهو سوق تقوم في ذي القعدة.

فلما بلغ الميعاد قال رسول الله للناس : اخرجوا إلى الميعاد. فتثاقلوا وكرهوا ذلك أو بعضهم كراهة شديدة ، فأنزل الله هذه الآية : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً)(٣) فحرّض النبيّ المؤمنين فتثاقلوا عنه ولم يخرجوا ، حتّى خرج رسول الله في سبعين راكبا ، وأتى موسم بدر ، فكفاهم الله بأس العدو ، ولم يوافهم أبو سفيان ، ولم يكن قتال يومئذ ، وانصرف رسول الله بمن معه سالمين (٤).

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ١٩٠ وانظر ابن هشام ٣ : ٢٢٠.

(٢) في النصّ : الصغرى ، والصحيح ما أثبتناه عن الواقدي كما يأتي ، فهو اسم الموضع ، والصغرى إنّما هو وصف للغزوة بعد وقوعها لا قبله ، بالقياس إلى بدر الكبرى.

(٣) النساء : ٨٤.

(٤) مجمع البيان ٣ : ١٢٨.


وقال الواقدي : كان بدر الصفراء مجمعا يجتمع فيه العرب ، وسوقا تقوم لهلال ذي القعدة إلى ثماني ليال خلون منه ، فإذا مضت ثماني ليال منه تفرّق الناس إلى بلادهم.

ولمّا أراد أبو سفيان أن ينصرف يوم احد نادى : موعد بيننا وبينكم بدر الصفراء رأس الحول نلتقي فيه فنقتتل!

فافترق الناس على ذلك ، ورجعت قريش فخبّروا من قبلهم بالموعد وتهيّأوا للخروج وأجلبوا ، وطمعوا فيه بمثل ظفرهم حينما رجعوا من احد والدولة لهم.

ولما دنا الموعد كره أبو سفيان الخروج إلى رسول الله وأحبّ أن يقيم رسول الله وأصحابه بالمدينة لا يوافون الموعد ، فكان كل من يرد عليه مكة يريد المدينة يظهر له : أنا نريد أن نغزو محمدا في جمع كثيف!

وقدم نعيم بن مسعود الأشجعي مكة ، فجاءه أبو سفيان بن حرب في رجال من قريش وقال له : يا نعيم ، إنّي وعدت محمدا وأصحابه يوم احد أن نلتقي نحن وهو ببدر الصفراء على رأس الحوس ، وقد جاء ذلك.

فقال نعيم : ما أقدمني إلّا ما رأيت محمدا وأصحابه يصنعون من إعداد السلاح والكراع ، قد تجلّب إليه حلفاء الأوس من بليّ وجهينة وغيرهم ، فتركت المدينة أمس وهي كالرمّانة!

فقال أبو سفيان : أسمعك تذكر ما تذكر وما قد أعدّوا ، وهذا عام جدب ، وإنّما يصلحنا عام خصب غيداق ترعى فيه الظهر والخيل ونشرب اللبن ، وأنا أكره أن يخرج محمد وأصحابه ولا أخرج فيجترءون علينا ، ويكون الخلف من قبلهم أحبّ إليّ ، ونجعل لك عشرين فريضة : عشرا جذاعا (في الخامسة) وعشرا حقاقا (في الرابعة) وتوضع لك على يدي سهيل بن عمرو ويضمنها لك.


فقال نعيم لسهيل ـ وكان صديقا له ـ : يا أبا يزيد ، تضمن لي عشرين فريضة على أن أقدم المدينة فاخذّل أصحاب محمّد؟ قال : نعم قال : فإنّي خارج.

فخرج على بعيره وأسرع السير ، فقدم وقد حلق رأسه من العمرة ، فوجد أصحاب رسول الله يتجهّزون. فقالوا له : من أين يا نعيم؟ قال : معتمرا من مكة. قالوا : لك علم بأبي سفيان؟ قال : نعم تركت أبا سفيان قد جمع الجموع وأجلب معه العرب ، فهو جاء فيما لا قبل لكم به ، فأقيموا ولا تخرجوا ، فإنّهم قد أتوكم في داركم وقراركم فلن يفلت منكم إلّا الشريد ، وقتلت سراتكم ، وأصاب محمدا ما أصابه في نفسه من الجراح ، فتريدون أن تخرجوا إليهم فتلقوهم في موضع من الأرض؟ بئس الرأي رأيتم لأنفسكم ، والله ما أرى أن يفلت منكم أحد!

وجعل يطوف بهذا القول في أصحاب رسول الله حتّى رعّبهم وكرّه إليهم الخروج ، وحتى نطقوا أو بعضهم بتصديق قول نعيم ، واستبشر بذلك المنافقون واليهود وقالوا : إن محمّدا لا يفلت من هذا الجمع! وحتى بلغ ذلك إلى رسول الله وتظاهرت الأخبار عنه عنده وحتى خاف رسول الله أن لا يخرج معه أحد ... ثمّ قال : والذي نفسي بيده لأخرجنّ وإن لم يخرج معي أحد!

فلمّا تكلّم رسول الله بذلك بصّر الله المسلمين وأذهب عنهم رعب الشيطان ... فخرج في ألف وخمسمائة من أصحابه ، فيهم عشرة خيول للرسول والمقداد والزبير وغيرهم ... وكان يحمل لواء رسول الله الأعظم يومئذ علي بن أبي طالب عليه‌السلام. واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة. وخرجوا ببضائع لهم ونفقات وتجارات ... فانتهوا إلى بدر ليلة هلال ذي القعدة ، وقام السوق صبيحة الهلال ، فأقاموا ثمانية أيّام والسوق قائمة ... فربحوا للدينار دينارا ... وقال أبو سفيان لقريش : يا معشر قريش ، قد بعثنا نعيم بن مسعود ليخذّل أصحاب محمّد عن الخروج ، وهو جاهد ، ولكن نخرج فنسير ليلة أو ليلتين ثمّ نرجع. فإن كان


محمّد لم يخرج بلغه أنّا خرجنا فرجعنا لأنّه لم يخرج ، فيكون هذا لنا عليه ، وإن كان خرج أظهرنا أنّ هذا عام جدب ولا يصلحنا إلّا عام عشب. قالوا : نعم ما رأيت.

فخرج في قريش : وهم ألفان ومعهم خمسون فرسا ، حتى انتهوا إلى مجنّة (بناحية مرّ الظّهران على أميال من مكّة) ثمّ قال لهم : ارجعوا ، فإنّه لا يصلحنا إلّا عام خصب غيداق ، نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن ، وإنّ عامكم هذا عام جدب ، وإنّي راجع ، فارجعوا ، فرجعوا.

وأقبل رجل من بني ضمرة يقال له مخشيّ بن عمرو ، وهو الذي حالف رسول الله على قومه في غزوة رسول الله الاولى إلى ودّان ، وكان الناس مجتمعين في سوقهم ، وأصحاب رسول الله أكثر أهل ذلك الموسم ، فقال : يا محمّد ، لقد اخبرنا أنّه لم يبق منكم أحد! فما أعلمكم إلّا أهل الموسم!

فقال رسول الله : ما أخرجنا إلّا موعد أبي سفيان وقتال عدوّنا! وهو يريد أن يرفع ذلك إلى عدوّه من قريش ، وسمع بذلك معبد بن أبي معبد الخزاعي ، وكان مقيما هناك ثمانية أيّام ورأى أهل الموسم ورأى أصحاب رسول الله وسمع كلام مخشيّ ، فانطلق سريعا حتّى قدم مكّة ، فكان أوّل من قدم بخبر موسم بدر فسألوه فقال : وافى محمّد في ألفين من أصحابه ، وأقاموا ثمانية أيّام حتى تصدّع (وتفرّق) أهل الموسم!

فقال صفوان بن اميّة لأبي سفيان : والله لقد نهيتك يومئذ أن تعد القوم وقد اجترؤوا علينا ورأوا أن قد أخلفناهم ، وإنمّا خلّفنا الضعف عنهم.

وغاب رسول الله فيها ست عشرة ليلة ، ورجع إلى المدينة لأربع عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة (١).

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ٣٨٤ ـ ٣٨٩. هذا وقد قال : انتهوا إلى بدر ليلة هلال ذي القعدة ،


وبعدها ذكر الواقدي غزوة ذات الرقاع وقال : خرج إليها رسول الله ليلة السبت لعشر خلون من المحرم على رأس سبعة وأربعين شهرا. وغاب خمس عشرة (يوما) وقدم (راجعا) يوم الأحد لخمس بقين من المحرم (١).

ولكن ابن اسحاق ذكر ذات الرقاع بعد بني النضير قال : ثمّ أقام رسول الله بعد غزوة بني النضير شهر ربيع الآخر وبعض جمادى الاولى ، ثمّ غزا نجدا ...

وهي غزوة ذات الرقاع (٢) وتبعه الطبرسي في «إعلام الورى» فقال : كانت غزوة ذات الرقاع بعد غزوة بني النضير بشهرين (٣) وكذلك ابن شهرآشوب (٤) فنحن تبعناهما في تأريخ الغزوة.

__________________

وكانت السوق تقوم هناك منه إلى ثماني ليال منه. ولم يذكروا أنّهم مكثوا هناك أكثر من الموسم ، فلو رجع في ثمانية أيّام لكان خروجهم في شوال قبل ذي القعدة بثمانية أيام أيضا. والله العالم العاصم.

وقد مرّ في حمراء الأسد ذكر نعيم بن مسعود الأشجعي ومعبد الخزاعي بدورين مشابهين لما ذكر هنا فراجع. وهل تكرّر دورهما في الغزوتين؟

(١) مغازى الواقدي ١ : ٣٩٥.

(٢) ابن هشام ٣ : ٢١٣ و ٢١٤.

(٣) إعلام الورى ١ : ١٨٩.

(٤) مناقب آل أبي طالب ١ : ١٩٧.



أهمّ حوادث

السنة الخامسة للهجرة



غزوة الخندق (١) :

المقدّمات : قال علي بن إبراهيم القمي في تفسيره : لمّا أجلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بني قينقاع وبني النضير عن المدينة صاروا إلى خيبر ، وكان رئيس بني النضير حييّ بن أخطب ، فخرج إلى قريش بمكّة وقال لهم :

«إنّ محمّدا قد وتركم ، ووترنا وأجلانا من ديارنا وأموالنا من المدينة ، وأجلا بني عمّنا بني قينقاع. وقد بقي من قومي بيثرب سبعمائة مقاتل ، وهم بنو قريظة ، وبينهم وبين محمد عهد وميثاق ، فأنا أمشي إليهم فأحملهم على نقض العهد بينهم وبين محمد ، فيكونون معنا عليهم ... وسيروا أنتم في الأرض فاجمعوا حلفاءكم وغيرهم حتى نسير إليهم ... فتأتونه من فوق ، وهم من أسفل» إذ كان

__________________

(١) الخندق : معرّب كلمة : كنده ـ بالفارسيّة ـ أي الحفرة ، وذلك أنّ سلمان الفارسي (المحمّدي) هو الذي أشار به على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كما سيأتي. وتسمّى غزوة الأحزاب أيضا ، لقوله ـ سبحانه ـ : (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ) أي : أحزاب الكفّار ، كما سيأتي أيضا.


موضع بني قريظة بئر المطّلب على ميلين من المدينة (١).

وقال المفيد في «الإرشاد» : إن جماعة من اليهود منهم : سلام بن أبي الحقيق النضيري ، وحيي بن أخطب ، وكنانة بن الربيع ، وهوذة بن قيس الوالبي ، وأبو عمارة الوالبي في نفر من بني والبة ، خرجوا (من المدينة) حتّى قدموا مكّة ، إلى أبي سفيان صخر بن حرب ، لعلمهم بعداوته لرسول الله وتسرّعه إلى قتاله.

فذكروا له ما نالهم (من وقعة بني النضير) وسألوه المعونة لهم على قتاله.

وأضاف الطبرسي في تفسيره : أبا رافع وكعب بن الأشرف في جماعة من علماء اليهود (٢) ونقل عن أكثر المفسّرين : أنّه خرج في سبعين راكبا من اليهود إلى مكّة بعد وقعة احد ، ليحالفوا قريشا على رسول الله وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله ، فنزلت اليهود في دور قريش ونزل كعب بن الأشرف على أبي سفيان فأحسن مثواه.

فقال لهم أهل مكة : إنّكم أهل كتاب ومحمّد صاحب كتاب ، فلا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم! فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما! ففعل!

ثمّ قال لهم كعب : يا أهل مكة ليجيء منكم ثلاثون ومنّا ثلاثون فلنلصق أكبادنا بالكعبة فنعاهد ربّ البيت لنجهدنّ على قتال محمّد. ففعلوا ذلك.

فلمّا فرغوا قال أبو سفيان لكعب : إنّك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ، ونحن أميّون لا نعلم ، فأيّنا أهدى طريقا وأقرب إلى الحقّ نحن أم محمّد؟ قال كعب : اعرضوا عليّ دينكم. فقال أبو سفيان : نحن ننحر للحجيج الناقة الكوماء (٣)

__________________

(١) تفسير القمي ٣ : ١٧٦.

(٢) مجمع البيان ٣ : ٩٣.

(٣) الكوماء : العظيمة السنام.


ونسقيهم الماء ، ونقري الضيف ، ونفكّ العاني (١) ونصل الرحم ، ونعمر بيت ربّنا ونطوف به ونحن أهل الحرم. ومحمّد فارق دين آبائه وقطع الرحم وفارق الحرم ، وديننا القديم ، ودين محمّد الحديث. فقال : أنتم أهدى سبيلا ممّا عليه محمّد! وفي هذا نزل قوله ـ سبحانه ـ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً* أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً* أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً* أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً* فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً)(٢).

__________________

(١) العاني : الأسير.

(٢) مجمع البيان ٣ : ٩٢. واختصر خبره عن ابن كعب القرظي ٨ : ٥٣٣. وذكر الخبر القاضي النعمان في شرح الأخبار ١ : ٢٩١ ، واختصره المفيد في الإرشاد ١ : ٩٥. وزاد الواقدي : أبا عامر الراهب في بضعة عشر رجلا ... فقالوا لقريش : نحن معكم حتى نستأصل محمّدا. قال أبو سفيان : هذا الذي أقدمكم ونزعكم؟ قالوا : نعم ، جئنا لنحالفكم على عداوة محمّد وقتاله.

فقال أبو سفيان : أهلا ومرحبا ، أحبّ الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمّد.

قال النفر : فأخرج خمسين رجلا من بطون قريش كلّها وأنت فيهم ، وندخل نحن وأنتم بين أستار الكعبة حتى نلصق أكبادنا بها ، ثمّ نحلف بالله جميعا لا يخذل بعضنا بعضا ، ولتكوننّ كلمتنا واحدة على هذا الرجل ما بقي منّا رجل! ففعلوا ، وتحالفوا على ذلك وتعاقدوا.

ثمّ قالت قريش بعضها لبعض : قد جاءكم رؤساء أهل يثرب وأهل العلم والكتاب الأوّل ، فسلوهم عمّا نحن عليه ومحمّد أيّنا أهدى؟


قال المفيد في «الارشاد» : فنشطت قريش لما دعوهم إليه من حرب رسول الله. وجاءهم أبو سفيان فقال لهم : قد مكّنكم الله (!) من عدوّكم :! فهذه اليهود تقاتله معكم ولا تنفكّ عنكم حتى يؤتى على جميعها أو تستأصله ومن اتّبعه! فقويت عزائمهم إذ ذاك في حرب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله!

ثمّ خرج اليهود (من مكّة) إلى غطفان وقيس عيلان ، فدعوهم إلى حرب رسول الله وضمنوا لهم النصرة والمعونة ، وأخبروهم باجتماع قريش لهم على ذلك (١).

خروج الأحزاب للحرب :

قال المفيد في «الإرشاد» : وخرجت قريش وقائدها أبو سفيان ، وخرجت غطفان وقائدهم : عيينة بن حصن في بني فزارة ، والحارث بن عوف في بني مرة ، ووبرة بن طريف في قومه من أشجع. واجتمعت قريش معهم (٢).

ورواه الطبرسي في «مجمع البيان» عن ابن كعب القرظي وأضاف : وكتبوا

__________________

فقال لهم أبو سفيان : يا معشر اليهود : أنتم أهل العلم والكتاب الأول ، فأخبرونا عمّا أصبحنا نحن فيه ومحمد ، ديننا خير أم دين محمد؟ فنحن عمار البيت ، وننحر النوق ونسقي الحجيج ونعبد الأصنام.

قالوا : إنكم لتعظمون هذا البيت ، وتقومون على السقاية ، وتنحرون البدن ، وتعبدون ما كان عليه آباؤكم ، فأنتم أولى بالحق منه! وأنزل الله في ذلك قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا ...). مغازي الواقدي ٢ : ٤٤١ و ٤٤٢. والآيات من سورة النساء : ٥١ ـ ٥٥.

(١) الإرشاد : ١ : ٩٥ وإعلام الورى ١ : ١٩٠ ومجمع البيان ٨ : ٥٣٣ عن ابن كعب القرظي.

(٢) الإرشاد : ١ : ٩٥ وإعلام الورى ١ : ١٩٠ وهي عبارة ابن إسحاق في السيرة ٣ : ٢٦٦.


إلى حلفائهم من بني أسد فأقبل طلحة فيمن تبعه من بني أسد. وكتبت قريش إلى رجال من بني سليم فأقبل أبو الأعور السلمي فيمن تبعه من بني سليم مددا لقريش (١).

وذكرهم ابن شهرآشوب فقال : فكانوا ثمانية عشر ألف رجل. والمسلمون في ثلاثة آلاف (٢).

وقال المسعودي : فكان عدّة الجميع : أربعة وعشرين ألفا ، والمسلمون نحو من ثلاثة آلاف (٣).

وقال الواقدي : وخرجت قريش ومن تبعها من أحابيشها في أربعة آلاف ، وعقدوا اللواء في دار الندوة ، وقادوا معهم ثلاثمائة فرس ، ومعهم من الظهر ألف وخمسمائة بعير ... يقودها أبو سفيان بن حرب ... وأقبلت بنو سليم في سبعمائة يقودهم أبو الأعور سفيان بن عبد شمس حليف حرب بن أميّة ـ وكان مع معاوية بصفّين ـ. وخرجت بنو فزارة وهم ألف يقودهم عيينة بن حصن. وخرجت أشجع في أربعمائة وقائدها مسعود (كذا) بن رخيلة. وخرجت بنو مرة في أربعمائة يقودهم الحارث بن عوف. فكان جميع القوم الذين وافوا الخندق من قريش وسليم وغطفان وأسد : عشرة آلاف في ثلاثة عساكر ، وعناج (٤) الأمر إلى أبي سفيان.

ولمّا فصلت قريش من مكّة إلى المدينة خرج ركب من خزاعة إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فساروا من مكّة إلى المدينة أربعا فأخبروه بفصول قريش. (٥)

__________________

(١) مجمع البيان ٨ : ٥٣٣.

(٢) المناقب ١ : ١٩٧.

(٣) التنبيه والإشراف : ٢١٦.

(٤) أيّ انه كان صاحبهم ومدبّر أمرهم (لسان العرب) ، مادة (عنج).

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٤٤٤.


مشاورة الأصحاب للأحزاب :

قال القمي : وبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاستشار أصحابه ، وكانوا سبعمائة رجل.

فقال سلمان الفارسي (١) : يا رسول الله ، إن القليل لا يقاوم الكثير في المطاولة (أي المجادلة).

فقال له رسول الله : فما نصنع؟

قال سلمان : نحفر خندقا يكون بيننا وبينهم حجابا ، فيمكنك منعهم في المطاولة ، ولا يمكنهم أن يأتونا من كلّ وجه. فإنّا كنّا ـ معاشر العجم في بلاد فارس ـ إذا دهمنا دهم من عدوّنا نحفر الخندق ، فيكون الحرب من مواضع معروفة.

__________________

(١) اختصر الخبر الطبرسي في مجمع البيان ٨ : ٥٣٣ وقال : كان الخندق أوّل مشهد شهده سلمان مع النبيّ وهو حرّ. وفي الدرجات الرفيعة : ٢٠٥ عن شواهد النبوّة قال : كان سلمان في الرقّ ففاته بدر واحد حتى عتق في السنة الخامسة من الهجرة. وفي كمال الدين : ١٦٥ بسنده عن الكاظم عليه السلام : أنّ النبي صلّى الله عليه وآله مع جمع من خواصّه قدم يوماً على سلمان في حائط مولاته من بني سُليم ، فلمّا رأى سلمان في كتف النبيّ خاتم النبوّة وأسلم قال له : يا روزبه ادخل إلى هذه المرأة وقل لها : يقول لك محمّد بن عبدالله : تبيعينا هذا الرجل؟ فقالت : قل له : لا أبيعك إلّا بأربعمئة نخلة! وفي السيرة : على ثلاثمئة نخلة اُحييها له بالفقير (أي الحفر والغرس) فلمّا اجتمعت لي ثلاثمئة وديّة (نخلة صغيرة) قال لي رسول الله : اذهب يا سلمان ففقّر لها (= احفر لها) فاذا فرغت فأنا أضعها بيدي! فوضعها بيده فاُحييت ـ ابن اسحاق في السيرة ١ : ٢٣٦ وبُني على الموضع مسجد سمّي بمسجد الفقير وهو غرفة من الحجر مهملة ومسوّرة بسور حديدي أخيراً ، على يمين الطريق الموصل بين قربان والعوالي على أقلّ من كيلومترين من مسجد قُباء ، وعلي يمين محطّة نفط للبنزين للقادم من قُباء ، وعلى يمين محطّة نفط للبنزين للقادم من قُباء ، وعلى كيلومتر واحد من الاشارة الضوئية ـ كما ذكره عبدالرحمان خويلد في كتابه : المساجد والاماكن الأثرية المجهولة ، وعنه في مجلّة ميقات الحجّ ٧ : ٢٧١.


فنزل جبرئيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : اشار سلمان بصواب (١).

وقال المفيد في «الإرشاد» : فلمّا سمع رسول الله باجتماع الأحزاب عليه وقوّة عزيمتهم في حربه استشار أصحابه. فأجمع رأيهم على المقام بالمدينة وحرب القوم على أنقابها. وأشار سلمان عليه بالخندق فأمر بحفره وعمل فيه بنفسه ، وعمل فيه المسلمون (٢).

وقال الواقدي : فحين أخبروه بفصول قريش ندب رسول الله الناس وأخبرهم الخبر وأمرهم بالجدّ والجهاد ووعدهم النصر إن هم صبروا واتّقوا وأمرهم بطاعة الله ورسوله. وكان رسول الله يكثر مشاورتهم في الحروب ، فشاورهم فقال : أنبرز لهم من المدينة؟ أم نكون فيها ونخندقها (كذا) علينا؟ أم نكون قريبا ونجعل ظهورنا إلى هذا الجبل؟ فاختلفوا : فقالت طائفة : نكون ممّا يلي بعاث إلى ثنيّة الوداع إلى الجرف (٣).

فقال سلمان : يا رسول الله ، إنّا إذ كنّا بأرض فارس وتخوّفنا الخيل خندقنا علينا ، فهل لك ـ يا رسول الله ـ أن نخندق؟

فأعجب رأي سلمان المسلمين.

فركب رسول الله فرسا له ومعه نفر من أصحابه من المهاجرين والأنصار

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٧٧.

(٢) الإرشاد ١ : ٩٥. وأشار إلى مشورة سلمان في إعلام الورى ١ : ١٩١ ، ومناقب آل أبي ـ طالب ١ : ١٩٧. وابن هشام ٣ : ٢٣٥. واليعقوبي ٢ : ٥٠ والمسعودي في التنبيه والاشراف : ٢١٦.

(٣) وسيأتي في خبر خبير البحث في ثنية الوداع هل كانت قبل السابعة أو لا؟ واثبتوا للمدينة ثنتين شمالية على طريق الشام وهي التي عُرفت بهذا الاسم في خروجهم إلى خيبر ، والاخرى جنوبية ما زالت قبل مسجد قُباء بكيلومتر واحد على يمين طريق قُباء الطالع إلى قُباء وما زال عليها قلعة من العهد التُركي. کما فی کتاب : المساجد والاماكن الاثرية المجهولة في المدينة لعبدالرحمن خويلد الحجازي ، وعنه في مجلة ميقات الحج ٦ : ٢٦٨.


فارتاد موضعا ينزله ، فكان أعجب المنازل إليه أن يجعل سلعا (١) خلف ظهره ويخندق من المذاذ (٢) إلى ذباب إلى راتج (٣).

واستعاروا من بني قريظة آلة كثيرة من مساحي وكرازين ومكاتل (٤) يحفرون بها الخندق ، وكان بنو قريظة يومئذ سلما للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ويكرهون قدوم قريش.

ووكّل رسول الله بكلّ جانب من الخندق قوما يحفرونه : فكان المهاجرون يحفرون من جانب راتج إلى ذباب ، وكانت الأنصار تحفر من ذباب إلى جبل بني عبيد. وكان سائر المدينة مشبّكا بالبنيان (٥).

وروى عن ابن كعب القرظي قال : كان الخندق الذي خندق رسول الله ما بين جبل بني عبيد إلى راتج (٦). قالوا : وكان الخندق ما بين جبل بني عبيد بخربى إلى

__________________

(١) جبل سلع ويسمى أيضا جبل ثواب ، في الشمال الغربي للمسجد النبوي الشريف بثمانمائة متر تقريبا قريبا من مسجد السبق باتجاه المساجد السبعة ، وقد غطت العمائر العالية أغلب جهاته ويمكن الصعود إليه من ممر ضيق بين عمارتي جوهرة أمّ القرى وجوهرة المدينة ، وعليه كهف لا يزال حتى اليوم يعرف بكهف ابن حرام ، قيل : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يبيت فيه محروسا أيام غزوة الخندق ، كما في الدر الثمين : ٢٣٣ ومقال عبد الرحمن خويلد في مجلة الميقات ٤ : ٢٥٦ وانظر فيها : ٢٥٩ ففيها : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ضربت له قبة في الأيام الاولى من حفر الخندق على جبيل الراية خلف محطة الزغيبي للبنزين شمال المسجد النبوي الشريف ـ بكيلومتر وثمانمائة متر ، وفي موضع القبة اليوم مسجد يسمى مسجد الراية وقال السمهودي : هو جبل معروف بسوق المدينة ـ وفاء الوفاء ٢ : ٣٢٤ ـ.

(٢) المذاذ : اسم اطم لبني حرام من بني سلمة غربيّ مسجد الفتح ـ وفاء الوفاء ٢ : ٣٧٠ ـ.

(٣) راتج : هو جبل غربي بطحان إلى جنب جبل بني عبيد ـ وفاء الوفاء ٢ : ٣١٠ ـ.

(٤) جموع المسحاة والكرزن والمكتل ، وهي : المجرفة والفأس والزبيل الكبير.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٤٤٥ و ٤٤٦.

(٦) مغازي الواقدي ٢ : ٤٥١.


راتج ، فكان للمهاجرين من ذباب إلى راتج ، وكان للأنصار ما بين ذباب إلى خربى. وخندقت بنو عبد الأشهل بما يلي راتج إلى خلفها حتى جاء الخندق من وراء المسجد ، وخندقت بنو عبد الأشهل بما يلي راتج إلى خلفها حتى جاء الخندق من وراء المسجد ، وخندقت بنو دينار من عند خربى إلى موضع دار ابن أبي الجنوب (اليوم) وشبّكوا المدينة بالبنيان من كلّ ناحية فهي كالحصن (١).

وقال القمي : فأمر رسول الله بحفره من ناحية احد إلى راتج. وجعل على كلّ عشرين خطوة وثلاثين خطوة قوما من المهاجرين والأنصار يحفرونه (٢).

رجز النبيّ والمسلمين :

قال القمي : وبدأ رسول الله فأخذ معولا فحفر في موضع المهاجرين بنفسه ، وأمير المؤمنين عليه‌السلام ينقل التراب من الحفرة ، حتّى عرق رسول الله وعيي ، فلمّا نظر الناس إلى رسول الله يحفر اجتهدوا في الحفر ونقل التراب (٣).

وروى الواقدي بسنده قال : كان المهاجرون والأنصار يحفرون والشباب ينقلون التراب على رءوسهم في المكاتل ، فيجعلونه ممّا يلي النبيّ وأصحابه ، حتّى صارت الخندق قامة : وكانوا يأتون بالحجارة من جبل سلع فيسطرونها ممّا يليهم كأنّها أكوام تمر ، فكانت من أعظم سلاحهم (٤).

وجعل رسول الله يعمل معهم في الخندق لينشّط المسلمين ، فجعلوا يعملون مستعجلين يبادرون قدوم العدو عليهم (٥) وكان رسول الله يحمل التراب في المكتل يطرحه ، ويقول :

هذا الجمال لا جمال خيبر

هذا أبرّ ـ ربّنا ـ وأطهر

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٤٥٠.

(٢ و ٣) تفسير القمي ٢ : ١٧٧.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٤٤٦.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٤٤٥.


فجعل المسلمون يرتجزون وإذا رأوا من الرجل فتورا ضحكوا منه (١).

وقال رسول الله يومئذ : لا يغضب أحد ممّا قال صاحبه لا يريد بذلك سوءا. ولكنّه عزم على حسّان بن ثابت وكعب بن مالك أن لا يقولا شيئا.

وغيّر النبيّ اسم جعيل بن سراقة إلى عمرو فجعلوا يرتجزون له يقولون :

سماه من بعد جعيل عمرا

وكان للبائس يوما ظهرا (٢)

فكان رسول الله يشاركهم في أعجاز أرجازهم يقول : عمرا ، ظهرا (٣).

وروى عن البراء بن عازب قال : رأيت رسول الله يومئذ في حلّة حمراء ، وكان أبيض شديد البياض كثير الشعر يضرب الشعر منكبيه. ولقد رأيته يومئذ يحمل التراب على ظهره حتّى حال الغبار بيني وبينه.

وروى عن أبي سعيد الخدري قال : رأيت رسول الله يحفر الخندق مع المسلمين والتراب على صدره وهو يقول :

لا همّ لو لا أنت ما اهتدينا

ولا تصدّقنا ولا صلّينا (٤)

وجعلت الأنصار ترتجز وتقول :

نحن الذين بايعوا محمّدا

على الجهاد ما بقينا أبدا

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله :

لا همّ لا خير إلّا خير الآخرة

فاغفر للأنصار وللمهاجرة

أو قال :

لا همّ إنّ العيش عيش الآخرة

فاغفر للأنصار وللمهاجرة

لا همّ والعن عضلا والقارة

هم كلّفوني أنقل الحجارة (٥)

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٤٤٦.

(٢) ورواه ابن إسحاق في السيرة ٣ : ٢٢٧.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٤٤٧ و ٤٤٨.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٤٤٩.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٤٥٣.


وفي سلمان الفارسي :

قال : وكان سلمان الفارسيّ قويّا عارفا بحفر الخندق. وروى بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : جعلوا لسلمان خمسة أذرع طولا وعرضا ، فما مرّ حين حتى فرغ منه وحده وهو يقول : اللهم لا عيش إلّا عيش الآخرة. فتنافس الناس فيه فقال المهاجرون : سلمان منّا! وقالت الأنصار : هو منّا ونحن أحقّ به! فبلغ رسول الله قولهم فقال : «سلمان رجل منّا أهل البيت» (١) ولقد كان يعمل عمل عشرة رجال حتّى أصابه بعينه قيس بن أبي صعصعة فسقط إلى الأرض! فبلغ ذلك رسول الله فقال : مروه فليتوضّأ ـ أو ليغتسل ـ ويكفأ الإناء خلفه. ففعل فكأنّما حلّ من عقال (٢).

وتفأل الرسول بالنصر :

قال القمي : ولمّا كان في اليوم الثاني بكّروا إلى الحفر وقعد رسول الله في «مسجد الفتح» (٣).

فروى الكليني في «روضة الكافي» عن أبان بن عثمان البجلي الكوفي عن الصادق عليه‌السلام قال : إنّهم مرّوا بكدية (٤) فتناول رسول الله المعول من يد

__________________

(١) ورواه الطبرسي في مجمع البيان ٨ : ٥٣٣ عن الحافظ البيهقي في دلائل النبوّة. وابن هشام في السيرة ٣ : ٢٣٥.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٤٤٦ و ٤٤٧.

(٣) أي في مكانه الذي بني بعد ذلك مسجدا وسمّي بمسجد الفتح ، لحصول الفتح بدعاء الرسول فيه.

(٤) الكدية : الصخرة الصلبة التي لا تعمل فيها المعاول شيئا ـ مجمع البحرين ١ : ٣٥٦.


سلمان رضى الله عنه فضرب بها ضربة ، فانفلقت ثلاث فلق ، فقال رسول الله : لقد فتحت عليّ في ضربتي هذه كنوز كسرى وقيصر!

فقال أحدهما لصاحبه : يعدنا بكنوز كسرى وقيصر ، وما يقدر أحدنا أن يخرج يتخلّى! (١)

وذكر القمي الخبر بتفصيل أكثر قال : قال جابر : فجئت الى المسجد ورسول الله مستلق على قفاه ورداؤه تحت رأسه وقد شدّ على بطنه حجرا ، فقلت : يا رسول الله ، إنّه قد عرض لنا جبل لم تعمل المعاول فيه.

فقام مسرعا حتّى جاء ثمّ دعا بماء في إناء فغسل وجهه وذراعيه ومسح على رأسه ورجليه (توضّأ) ثمّ شرب ومجّ من ذلك الماء ثمّ صبّه على الحجر ، ثمّ أخذ معولا فضرب ضربة فبرقت برقة فنظرنا فيها إلى قصور الشام ، ثمّ ضرب اخرى فبرقت برقة نظرنا فيها إلى قصور المدائن ، ثمّ ضرب اخرى فبرقت برقة اخرى نظرنا فيها إلى قصور اليمن ، فقال رسول الله : أما إنّه سيفتح الله عليكم هذه المواطن التي برقت فيها البرق. ثمّ انهال علينا الجبل كما ينهال الرمل (٢).

واختصره الطبرسي في «إعلام الورى» (٣) ثمّ روى عن سلمان الفارسي قال : ضربت في ناحية من الخندق ، فعطف عليّ رسول الله وهو قريب منّي ، فلمّا رآني اضرب ورأى شدّة المكان عليّ ، نزل فأخذ المعول من يدي فضرب به ضربة فلمعت تحت المعول برقة ، ثمّ ضرب اخرى فلمعت تحت المعول برقة

__________________

(١) روضة الكافي : ١٨٢ ج ٢٦٤.

(٢) تفسير القمي ٢ : ١٧٨. وذكر الخبر ابن إسحاق في السيرة ٣ : ٢٢٨ ، والواقدي ٢ : ٤٥٢ من دون ذكر البرقة.

(٣) إعلام الورى ١ : ١٩٠ واختصرهما الحلبي المازندراني في مناقب آل أبي طالب ١ : ١١٩.


اخرى ، ثمّ ضرب به الثالثة فلمعت برقة اخرى ، فقلت : يا رسول الله بأبي أنت وامّي ما هذا الذي رأيت؟ فقال : أمّا الاولى فإنّ الله فتح عليّ بها اليمن ، وأمّا الثانية فإنّ الله فتح بها عليّ الشام والمغرب ، وأمّا الثالثة فإنّ الله فتح بها عليّ المشرق (١).

ونقل في تفسيره عن تفسير الثعلبي و «المستدرك» للحاكم بسنده عن عمرو بن عوف قال : كنت أنا وسلمان وحذيفة بن اليمان والنعمان بن مقرن وستّة من الأنصار نقطع أربعين ذراعا ، فحفرنا حتى إذا بلغنا الثرى أخرج الله من بطن الخندق صخرة بيضاء مدوّرة فكسرت حديدنا وشقّت علينا. فقلنا لسلمان : يا سلمان ارق إلى رسول الله فأخبره عن الصخرة ، فإمّا أن نعدل عنها فإنّ المعدل قريب ، وإمّا أن يأمرنا فيها بأمره فإنّا لا نحبّ أن نجاوز خطّه.

فرقى سلمان حتى أتى رسول الله ـ وهو مضروب له قبّة ـ فقال : يا رسول الله خرجت صخرة بيضاء من الخندق مدوّرة فكسرت حديدنا وشقّت علينا حتى ما يحكّ فيها قليل ولا كثير ، فمرنا بأمرك.

فهبط رسول الله مع سلمان في الخندق وأخذ المعول وضرب به ضربة فلمعت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها (٢) حتّى لكأنّها مصباح في جوف ليل مظلم ، فكبّر رسول الله تكبيرة فتح ، فكبّر المسلمون ، ثمّ ضرب ضربة اخرى فلمعت برقة اخرى ، ثمّ ضرب به الثالثة فلمعت برقة اخرى ، فقال سلمان : بأبي أنت وامّي يا رسول الله ما هذا الذي أرى؟

فقال : أمّا الاولى فإنّ الله ـ عزوجل ـ فتح عليّ بها اليمن ، وأمّا الثانية فإنّ

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ١٩٠ واختصرهما الحلبي المازندراني في مناقب آل أبي طالب ١ : ١١٩.

(٢) اللابة : الحرّة ، وهي الأرض ذات الحجارة السود قد غطّتها بكثرتها ، والمدينة بين حرّتين.


الله فتح عليّ بها الشام والمغرب ، وأمّا الثالثة فإنّ الله فتح عليّ بها المشرق. فاستبشر المسلمون بذلك وقالوا : الحمد لله موعد صادق (١).

من دلائل النبوّة :

روى القمي في تفسيره عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : لمّا رأيت الحجر على بطن رسول الله علمت أنّه مقوي (أي جائع) فقلت : يا رسول الله ، هل لك في الغذاء؟ قال : ما عندك يا جابر؟ قلت عناق (٢) وصاع (٣) من شعير. فقال : تقدّم وأصلح ما عندك.

قال : فجئت إلى أهلي فأمرتها فطحنت الشعير ، وذبحت العنز وسلختها ، وأمرتها أن تخبز وتطبخ وتشوي ، فلمّا فرغت من ذلك جئت إلى رسول الله فقلت : بأبي أنت وامّي يا رسول الله قد فرغنا ، فاحضر مع من أحببت.

فقام إلى شفير الخندق ثمّ قال :

معاشر المهاجرين والأنصار ، أجيبوا جابرا.

ثمّ لم يمر بأحد من المهاجرين والأنصار إلّا قال : أجيبوا جابرا ، وكان في الخندق سبعمائة رجل ، فخرجوا كلّهم!

فتقدّمت وقلت لأهلي : والله لقد أتاك محمّد رسول الله بما لا قبل لك به!

فقالت : اعلمته أنت بما عندنا؟ قلت : نعم. قالت : فهو أعلم بما أتى به.

__________________

(١) مجمع البيان ٢ : ٧٢٧ و ٨ : ٥٣٤ ونقل خبر جابر الأنصاري عن دلائل النبوّة للبيهقي ، وروى خبر سلمان ابن إسحاق في السيرة ٣ : ٢٣٠. والواقدي ٢ : ٤٥٠ ولكنّه نسب الضربة الاولى إلى عمر بن الخطّاب ، رواية عن عمر بن الحكم!

(٢) انثى ولد المعز قبل الحول.

(٣) يساوي : ٧ / ٣ كيلو غرام.


قال جابر : فدخل رسول الله فنظر في القدر ثمّ قال : اغرفي وأبقي. ثمّ نظر في التنّور فقال : أخرجي وأبقي. ثمّ دعا بصحفة فثرد فيها وغرف ثمّ قال : يا جابر أدخل عليّ عشرة. فأدخلت عشرة فأكلوا حتّى نهلوا وما يرى في القصعة إلّا آثار أصابعهم! ثمّ قال : يا جابر ، عليّ بالذراع فأتيته بالذراع فأكلوه. ثمّ قال : أدخل عليّ عشرة ، فدخلوا فأكلوا حتّى نهلوا وما يرى في القصعة إلّا آثار أصابعهم. ثمّ قال : عليّ بالذراع فأكلوا وخرجوا. ثمّ قال : أدخل عليّ عشرة. فأدخلتهم فأكلوا حتّى نهلوا ولم ير في القصعة إلّا آثار أصابعهم. ثمّ قال : يا جابر عليّ بالذراع فأتيته وقلت : يا رسول الله كم للشاة من ذراع؟ قال : ذراعان. فقلت : والذي بعثك بالحقّ نبيّا لقد أتيتك بثلاثة! فقال : أما لو سكتّ يا جابر لأكل الناس كلّهم من الذراع!

قال جابر : فأقبلت ادخل عشرة عشرة فيأكلون حتّى أكلوا كلّهم وبقي والله لنا من ذلك الطعام ما عشنا به أيّاما (١).

وروى الحلبيّ المازندراني في «المناقب» قال : رأى صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الخندق عمرة بنت رواحة تذهب بتميرات إلى أبيها ، فقال لها : اجعليها على يدي. فجعلته ، ثمّ جعلها على نطع فجعل يربو حتّى أكل منه كلّهم (٢).

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٧٨ و ١٧٩ واختصره الطبرسي في إعلام الورى ١ : ٨٠ واشار إليه في ١٩١ وفي مجمع البيان ٨ : ٥٣٥ عن البخاري ٥ : ٩٠ ونقله المازندراني عن البخاري أيضا في مناقب آل أبي طالب ١ : ١٠٣. ورواه ابن إسحاق في السيرة ٣ : ٢٢٩ ومغازي الواقدي ٢ : ٤٥٢.

(٢) مناقب آل أبي طالب ١ : ١٠٢ وأجمل الخبر قبله شيخه القطب الراوندي في «الخرائج» قال : أصاب أصحاب النبيّ مجاعة في الخندق ، فدعا بكفّ من تمر وأمر بثوب فبسط فألقى


وروى الصدوق في «عيون أخبار الرضا» بسنده عنه عن عليّ عليه‌السلام قال : كنّا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في حفر الخندق ، إذ جاءته فاطمة ومعها كسيرة من خبز فدفعتها إلى النبيّ ، فقال : ما هذه الكسيرة؟ قالت : قرص خبزته للحسن والحسين جئتك منه بهذه الكسيرة! فقال النبيّ : أما إنّه أوّل طعام دخل فم أبيك منذ ثلاث (١).

قال القمي : وحفر رسول الله الخندق وفرغ منه قبل قدوم قريش بثلاثة أيّام ، وجعل على كلّ باب (منه) رجلا من المهاجرين ورجلا من الأنصار مع جماعة يحفظونه (٢).

واستعرض رسول الله الغلمان قال الواقدي : فكان ممن أجازه يومئذ البراء

__________________

ـ ذلك التمر عليه ، وأمر مناديا ينادي في الناس. هلمّوا إلى الغداء! فاجتمعوا وأكلوا وصدروا والتمر يبضّ من أطراف الثوب ـ كما عنه في بحار الأنوار ٢٠ : ٢٤٧.

ونقل ابن إسحاق تفصيل الخبر في سيرته ٣ : ٢٢٨ عن اخت النعمان بن بشير بن سعد الأنصاري قالت : دعتني امّي عمرة بنت رواحة اخت عبد الله بن رواحة فاعطتني حفنة من تمر في ثوبي وقالت لي : اذهبي بهذا غداء لأبيك وخالك. فأخذتها وانطلقت بها فمررت برسول الله وأنا ألتمس أبي وخالي ، فقال لي : تعالي يا بنيّة ما هذا معك؟ فقلت : هذا تمر ، بعثتني به امّي إلى أبي بشير بن سعد وخالي عبد الله بن رواحة. قال : هاتيه. فصببته في كفّي رسول الله فما ملأتهما. فأمر بثوب فبسط له ثمّ دحا بالتمر عليه فتبدّد فوق الثوب ، ثمّ قال لإنسان عنده : اصرخ في أهل الخندق أن هلمّ إلى الغداء فاجتمع أهل الخندق عليه ، فجعلوا يأكلون منه وجعل يزيد حتّى صدر أهل الخندق عنه وإنّه ليسقط من أطراف الثوب.

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٤٠.

(٢) تفسير القمي ٢ : ١٧٩.


ابن عازب وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وكلّهم أبناء خمس عشرة سنة (١).

قال : وكان زيد بن ثابت فيمن ينقل التراب مع المسلمين ... ثمّ غلبته عيناه فرقد على شفير الخندق حتى أخذ سلاحه سيفه وقوسه وترسه عمارة بن حزم وهو مع المسلمين الذين يطيفون بالخندق يحرسونه وتركوا زيدا نائما ، ففزع وقد فقد سلاحه ، حتى بلغ ذلك رسول الله ، فدعا زيدا فقال له : يا أبا رقاد! نمت حتى ذهب سلاحك؟! ثمّ قال : من له علم بسلاح هذا الغلام؟ فقال عمارة بن حزم : أنا يا رسول الله وهو عندي. فقال : فردّه عليه. ثمّ نهى النبيّ أن يروّع مسلم أو يؤخذ متاعه جادّا أو لاعبا (٢).

وصول الأحزاب :

قال القمي في تفسيره : وفرغ رسول الله من حفر الخندق قبل قدوم قريش بثلاثة أيّام ، وقدمت قريش وكنانة وسليم وهلال فنزلوا الزغابة ... ووادي العقيق (٣) وفي عددهم قال : فوافوا في عشرة آلاف (٤).

وقال الطبرسي في تفسيره : وأقبلت قريش حتّى نزلت بين الجرف والغابة (٥) في عشرة آلاف منهم وممّن تابعهم من بني كنانة وأهل تهامة. وأقبلت

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٤٥٣.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٤٤٨.

(٣) تفسير القمي ٢ : ١٧٩ وكذلك في الواقدي ٢ : ٤٤٤.

(٤) تفسير القمي ٢ : ١٧٦ و ١٧٧.

(٥) الجرف : على ثلاثة أميال (٥ كم) من المدينة نحو الشام. والغابة من المدينة نحو جبل سلع قبله بثمانية أميال (١٥ كم) وهو أبعد عن الخندق بكثير ، فالصحيح ما مرّ عن القمي : الزغابة كما في الواقدي ٢ : ٤٤٤ وكما في الروض الانف للسهيلي وبهامش السيرة ٣ : ٢٣٠ عنه.


غطفان ومن تابعهم من أهل نجد حتّى نزلوا إلى جانب احد (١).

وهم المعنيّون بقوله ـ سبحانه ـ في سورة الأحزاب : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) قال الطوسي في «التبيان» : يعني يوم الأحزاب وهو يوم الخندق ، حيث اجتمعت العرب على قتال النبيّ ، قريش وغطفان وبنو قريظة وتظافروا على ذلك ... (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ) وهم عيينة بن حصن في أهل نجد (وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) وهم أبو سفيان في قريش ، وواجهتم قريظة (٢).

وقال الطبرسي في «مجمع البيان» : «إذ جاءوكم من فوقكم» أي من فوق الوادي من قبل المشرق : قريظة والنضير وغطفان «ومن أسفل منكم» أي من قبل المغرب من ناحية مكّة : أبو سفيان في قريش ومن تبعه (٣).

وقال الواقدي : كان جميع القوم الذين وافوا الخندق عساكر ثلاثة ، وعناج (٤) الأمر إلى أبي سفيان. فنزلت قريش في أحابيشها ومن ضوى إليها من العرب برومة ووادي العقيق (٥) ونزلت غطفان بالزغابة إلى جانب احد.

وكان الناس قد حصدوا قبل قدومهم بشهر فقدموا وليس في الوادي زرع ، بل كانت المدينة حين قدموا جديبة. فجعلت قريش تسرّح ركابها في وادي العقيق وليس هناك شيء للخيل إلّا ما حملوه من علف الذرّة. وسرّحت غطفان

__________________

(١) مجمع البيان ٨ : ٥٣٥ ، والعبارة كما في سيرة ابن هشام عن ابن إسحاق ٣ : ٢٣٠ و ٢٣١. وقال المازندراني في المناقب ١ : ١٩٧. فكانوا ثمانية عشر ألف رجل. وقال المسعودي في التنبيه والإشراف : ٢١٦ فكان عدّة الجميع أربعة وعشرين ألفا.

(٢) التبيان ٨ : ٣٢٠.

(٣) مجمع البيان ٨ : ٥٣٢.

(٤) مرّ معناها في الصفحة ٤٦٩ الهامش ٤.

(٥) أرض بالمدينة بين الجرف وزغابة ـ معجم البلدان ٤ : ٣٣٦.


إبلها في الجرف إلى الغابة في أثلها وطرفائها وعضاهها والأتبان ، فكادت ابلهم تهلك من الهزال (١).

رسول الله والمسلمون :

قال الطبرسي : وخرج رسول الله والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين ، فضرب هناك عسكره ، والخندق بينه وبين القوم. وأمر بالذراري والنساء فرفعوا في الحصون (٢).

وروى الواقدي قال : نزل رسول الله دبر سلع فجعله خلف ظهره والخندق أمامه فكان عسكره هناك ، وضرب قبّة من أدم عند المسجد الأعلى بأصل الجبل ، وكان يعقب بين نسائه : عائشة وأمّ سلمة وزينب بنت جحش ، وسائر نسائه في حصن بني حارثة (٣).

نقض بني قريظة :

قال القمي في تفسيره : كان بنو قريظة في حصنهم قد تمسّكوا بعهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم ، فلمّا أقبلت قريش ونزلت العقيق جاء حييّ بن أخطب في جوف الليل إلى حصنهم ودقّ باب الحصن ، فلمّا سمع كعب بن أسد قرع الباب قال لأهله : هذا أخوك قد شأم قومه وجاء الآن يشأمنا ويهلكنا ويأمرنا بنقض العهد

__________________

(١) الواقدي ٢ : ٤٤٤.

(٢) مجمع البيان ٨ : ٥٣٥ والعبارة في ابن هشام ٣ : ٢٣١. وقد روى الكليني في فروع الكافي عن شهر بن حوشب أنّه روى للحجّاج عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : شهد رسول الله الخندق في تسعمائة ١ : ٣٤٠.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٤٥٤.


بيننا وبين محمّد ، وقد وفى لنا محمّد وأحسن جوارنا. ثمّ نزل إليه من غرفته وقال له : من أنت؟ قال : حييّ بن أخطب قد جئتك بعزّ الدهر! قال كعب : بل جئتني بذلّ الدهر! قال : يا كعب ، هذه قريش في قادتها وسادتها قد نزلوا بالعقيق مع حلفائهم من كنانة ، وهذه فزارة مع قادتها وسادتها قد نزلت الزغابة ، وهذه سليم وغيرهم قد نزلوا حصن بني ذبيان ، ولا يفلت محمّد وأصحابه من هذا الجمع أبدا! فافتح الباب وانقض العهد الذي بينك وبين محمّد!

فقال كعب : لست بفاتح لك! ارجع من حيث جئت!

فقال حييّ : ما يمنعك من فتح الباب إلّا جشيشتك (١) التي في التنور تخاف أن أشركك فيها ، فافتح ، فإنّك آمن من ذلك!

فقال له كعب : لعنك الله ، قد دخلت عليّ من باب ضيّق. افتحوا له ، ففتحوا له الباب ، فقال : يا كعب ، انقض العهد الذي بينك وبين محمّد ولا تردّ رأيي ، فإنّ محمّدا لا يفلت من هذا الجمع أبدا ، فإن فاتك هذا الوقت فلا تدرك مثله أبدا!

ثمّ اجتمع إليه كلّ من كان في الحصن من رؤسائهم مثل غزّال بن شموأل ، وباشي بن قيس ، ورفاعة بن زيد ، والزّبير بن باطا. فقال لهم كعب : ما ترون؟

قالوا : أنت سيّدنا والمطاع فينا وأنت صاحب عهدنا ، فإن نقضت نقضنا وإن أقمت أقمنا معك ، وإن خرجت خرجنا معك.

وكان الزّبير بن باطا شيخا مجرّبا كبيرا قد ذهب بصره فقال : قد قرأت التوراة التي أنزلها الله في سفرنا بأنه يبعث نبيّا في آخر الزمان ، يكون مخرجه بمكّة ومهاجرته بالمدينة إلى البحيرة ، يركب الحمار العاري ويلبس الشملة ، ويجتزئ بالكسيرات والتميرات ، وهو الضحوك القتّال ، في عينيه حمرة ، وبين كتفيه خاتم النبوّة ، يضع سيفه على عاتقه لا يبالي من لاقاه يبلغ سلطانه منقطع الخفّ والحافر.

__________________

(١) الجشيش : طعام يصنع من الشعير الجريش أو البر المطحون خشنا.


فإن كان هذا هو فلا يهولنّه هؤلاء وجمعهم ، ولو ناوته هذه الجبال الرواسي لغلبها!

فقال حييّ : ليس هذا ذلك ، ذلك النبيّ من بني إسرائيل وهذا من العرب من ولد إسماعيل ، ولا يكون بنو إسرائيل أتباعا لولد إسماعيل أبدا! لأنّ الله قد فضّلهم على الناس جميعا وجعل فيهم النبوّة والملك ، وقد عهد إلينا موسى : أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، وليس مع محمّد آية ، وإنّما جمعهم جمعا وسحرهم ويريد أن يغلبهم بذلك.

فلم يزل يقلبهم عن رأيهم حتّى أجابوه : فقال لهم : أخرجوا الكتاب الذي بينكم وبين محمّد ، فأخرجوه ، فأخذه حييّ بن أخطب ومزّقه وقال : لقد وقع الأمر ، فتجهّزوا وتهيّأوا للقتال.

ورجع حييّ بن أخطب إلى أبي سفيان وقريش فأخبرهم بنقض بني قريظة العهد بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ففرحت قريش بذلك (١).

تبيّن الخبر :

وبلغ رسول الله ، ذلك فغمّه غمّا شديدا وفزع أصحابه ، فقال رسول الله لسعد بن معاذ واسيد بن حضير (٢) ـ وكانا من الأوس وكانت بنو قريظة حلفاء الأوس ـ : ائتيا بني قريظة فانظروا ما صنعوا؟ فإن كانوا نقضوا العهد فلا تعلما أحدا بذلك إذا رجعتما إليّ ، وقولا : عضل والقارّة.

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٧٩ ـ ١٨١. ومجمع البيان ٨ : ٥٣٥ و ٥٣٦ وهي فيه عبارة ابن إسحاق في السيرة ٣ : ٢٣١ و ٢٣٢. والواقدي عن ابن كعب القرظي أكثر تفصيلا ٢ : ٤٥٤ ـ ٤٥٧.

(٢) ذكرهما الواقدي ٢ : ٤٥٨ وزاد سعد بن عبادة ، ثمّ روى رواية اخرى فيها إضافة. خوّات ابن جبير وعبد الله بن رواحة ثمّ قال : والأوّل أثبت عندنا. والثانية هي رواية ابن إسحاق في السيرة ٣ : ٢٣٢.


وذلك أنّه كانت عضل والقارة قبيلتين من العرب دخلتا في الإسلام ثمّ غدرتا ، فكان إذا غدر أحد ضرب بهما المثل فقيل : عضل والقارّة.

فجاء سعد بن معاذ واسيد بن حضير إلى باب الحصن ، فأشرف عليهما كعب من الحصن فشتم سعدا وشتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله!

قال له سعد : إنّما أنت ثعلب في جحر! لتولينّ قريش ، وليحاصرنك رسول الله ولينزلنّك على الصغر والقماع ، وليضربنّ عنقك!

ثمّ رجعا إلى رسول الله فقالا : عضل والقارّة.

فقال رسول الله : لعناء! (١).

أو قال : الله أكبر ، أبشروا يا معشر المسلمين.

تبيّن النفاق :

وعظم عند ذلك البلاء واشتدّ الخوف ، وأتاهم العدوّ من فوقهم ومن أسفل منهم ، حتى ظنّ المسلمون كلّ ظنّ ، وظهر النفاق من بعض المنافقين :

حتى قال معتّب بن قشير من بني عمرو بن عوف : كان محمّد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط! (٢).

وحتى قال أوس بن قيظيّ من بني حارثة : يا رسول الله ، إنّ بيوتنا عورة

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٨١. وقريب منه في ابن هشام ٣ : ٢٣٢ والواقدي ٢ : ٤٥٨ أكثر تفصيلا.

(٢) ومع ذلك قال ابن هشام : قال بعض أهل العلم : لم يكن معتّب من المنافقين! واحتجّ بأنّه كان من أهل بدر! ورواه الواقدي عن ابن كعب القرظي ٢ : ٤٥٩ و ٤٦٠.


للعدو فإنّها خارجة عن المدينة ، فأذن لنا أن نخرج فنرجع إلى دارنا (١).

فكانوا كما قال الله تعالى في سورة الأحزاب : (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا* هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً* وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً* وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً* وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً* وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً* قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً* قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً* قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً* أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً* يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً* لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً* وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً* مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً* لِيَجْزِيَ اللهُ

__________________

(١) ابن هشام ٣ : ٢٣٣. والواقدي ٢ : ٤٦٣ أكثر تفصيلا.


الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً* وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً)(١).

توهين للمشركين واختبار للمسلمين :

قال القاضي النعمان المصري : ولمّا صار المسلمون إلى حيث وصفهم الله ـ عزوجل ـ في كتابه بقوله : (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا* هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً* وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً)(٢) ولما رآه النبيّ من جزع المسلمين وفساد المنافقين وما تخوّفه من أن يكون المكروه ... أرسل إلى عيينة بن حصن فبذل له ثلث ثمرة المدينة في ذلك العام على أن يرجع عنه بغطفان ... ولم ينعقد بين رسول الله وبين عيينة بن حصن في ذلك عقد (٣).

وقال المفيد في «الإرشاد» : بعث إلى عيينة بن حصن ، والحارث بن عوف المرّي ، وهما قائدا غطفان ، يدعوهم إلى صلحه والكفّ عنه والرجوع بقومهما عن حربه ، على أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة.

واستشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فيما بعث به إلى عيينة والحارث.

فقالا : يا رسول الله : إن كان هذا الأمر لا بدّ لنا من العمل به لأنّ الله أمرك فيه بما صنعت والوحي جاءك ، فافعل ما بدا لك ، وإن كنت تختار أن تصنعه لنا كان

__________________

(١) الأحزاب : ١٠ ـ ٢٥.

(٢) الأحزاب : ١٠ ـ ١٢.

(٣) شرح الأخبار ١ : ٢٩٣.


لنا فيه رأي؟

فقال ـ عليه وآله السّلام ـ : لم يأتني وحي ، ولكنّي رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة ، وجاءوكم من كلّ جانب فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما.

فقال سعد بن معاذ : قد كنّا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعرف الله ولا نعبده ، ونحن لا نطعمهم من ثمرنا إلّا قرى أو بيعا ، والآن حين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا به وأعزّنا بك ، نعطيهم أموالنا؟! ما بنا إلى هذا من حاجة ، والله لا نعطيهم إلّا السيف حتّى يحكم الله بيننا وبينهم!

فقال رسول الله : الآن قد عرفت ما عندكم ، فكونوا على ما أنتم عليه ، فإنّ الله تعالى لن يخذل نبيّه ولن يسلمه حتّى ينجّز له ما وعده.

ثمّ قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المسلمين يدعوهم إلى جهاد العدو ، ويشجّعهم ويعدهم النصر من الله تعالى (١).

مبارزة عمرو لعليّ عليه‌السلام :

قال القاضي النعمان المصري : وجعل المشركون ينظرون إلى الخندق فيتهيّبون القدوم عليه ولم يكونوا قبل ذلك رأوا مثله ، فجعلوا يدورون حوله بعساكرهم وخيلهم ورجلهم ، ويدعون المسلمين : ألا هلمّ للقتال والمبارزة.

__________________

(١) الإرشاد ١ : ٩٥ ، ٩٦ ، وهي ألفاظ ابن إسحاق في السيرة ٣ : ٢٣٤ ، عن الزهري ، من دون جواب رسول الله الأخير. وفي المغازي للواقدي ٢ : ٤٧٧ عن الزهري عن سعيد بن المسيّب بتفصيل أكثر ، وفي أوّله : حصر رسول الله وأصحابه بضع عشرة ليلة حتى خلص إلى كلّ امرئ منهم الكرب ... فبيناهم على ذلك الحال إذ أرسل رسول الله إلى عيينة بن حصن ، وإلى الحارث بن عوف ...


والمسلمون قد عسكروا في الخندق وأمرهم رسول الله فأظهروا العدّة ولبسوا السلاح ووقفوا في مواقفهم ولزموا مواضعهم ، فلا يجيبون أحدا من المشركين ولا يردّون عليهم شيئا.

وأقاموا على ذلك شهرا لم يكن بينهم قتال إلّا نضح بالنبل ورمي بالحجارة من وراء الخندق (١) فلمّا طال ذلك بهم ونفدت أزوادهم اجتمعوا وندبوا من ينتدب منهم إلى اقتحام الخندق على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فانتدب لذلك منهم (رجال أبطال) وكان أشدّ من فيهم وأنجدهم عمرو ابن عبد ودّ (٢) يعرف له ذلك جميعهم ، وكان قد شهد بدرا مع المشركين وأثخن جراحة ونجا بنفسه فيمن نجا ، ولم يشهد احدا ، فأراد أن يبين بنفسه وأنّه من أبطال قريش ، فتعلّم بعلامة ليشهر نفسه.

وجاء القوم إلى الخندق فمشوا حوله حتى أتوا إلى موضع ضيّق منه فأقحموا خيلهم فيه فدخلوا ، ووقف الجميع من وراء الخندق ينتظرون ما يكون منهم ، وثبت الناس في معسكرهم حسبما أمرهم الرسول به ، ولما تداخلهم من الخوف وما عاينوه من الجموع (٣).

وقال القمي في تفسيره : وافى عمرو بن عبد ودّ وهبيرة بن وهب ، وضرار

__________________

(١) وفي إعلام الورى ١ : ١٩٢ : وأقبلت الأحزاب إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فهال المسلمون أمرهم ، فنزلوا ناحية من الخندق وأقاموا بمكانهم بضعا وعشرين ليلة لم يكن بينهم حرب إلّا الرمي بالنبل والحصى. وكذلك في مجمع البيان ٨ : ٥٣٦ عن أصحاب السير.

(٢) ودّ : اسم صنم بني عامر عشيرة عمرو ، وجاء اسمه في سورة نوح : (وَقالُوا : لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ، وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً ...) نوح : ٢٣.

(٣) شرح الأخبار ١ : ٢٩٢ و ٢٩٣ وقريب منه في مجمع البيان ٨ : ٥٣٧ عن أصحاب السير. وانفرد اليعقوبي ١ : ٥١ : أنّ البراز كان في اليوم الخامس.


ابن الخطّاب (١) إلى الخندق ، فصاحوا بخيلهم حتّى طفروا الخندق إلى جانب رسول الله. وركز عمرو بن عبد ودّ رمحه في الأرض وأقبل يجول حوله ويرتجز ويقول :

ولقد بححت من النداء

بجمعكم : هل من مبارز

ووقفت إذ جبن الشجاع

مواقف القرن المناجز

إنّي كذلك ، لم أزل

متسرّعا نحو الهزاهز

إنّ الشجاعة ـ في الفتى

 ـ والجود من خير الغرائز

فقال رسول الله : من لهذا الكلب؟ فلم يجبه أحد ، فقام إليه أمير المؤمنين وقال : أنا له يا رسول الله. فقال : يا علي ، هذا عمرو بن عبد ودّ فارس يليل (٢).

فقال عليّ عليه‌السلام : وأنا علي بن أبي طالب!

فقال رسول الله : ادن منّي. فدنا منه فعمّمه بيده ودفع إليه سيفه ذا الفقار وقال له : اذهب وقاتل بهذا.

ثمّ دعا له فقال : اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله ، ومن فوقه ومن تحته (٣).

وذكر الكراجكي : أنّ النبيّ قال ثلاث مرّات : أيّكم يبرز إلى عمرو وأضمن له على الله الجنّة؟! وفي كلّ مرّة يقوم عليّ عليه‌السلام والقوم ناكسو رءوسهم. فاستدناه وعمّمه بيده ، فلمّا برز قال : برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه.

وروى بسنده عن الباقر عليه‌السلام : أنّ النبيّ قال يومئذ : اللهم إنّك أخذت مني

__________________

(١) وزاد في الإرشاد : عكرمة بن أبي جهل ومرداس الفهري : ١ : ٩٦ وهو جدّ ضرار بن الخطّاب.

(٢) يليل : اسم موضع هجم فيه عمرو على عير وهزم ألف خيّال منهم ، قرب بدر.

(٣) وروى الطبرسي عن الحاكم الحسكاني بسنده عن حذيفة : أن رسول الله ألبسه درعه ذات الفضول وعمّمه السحاب تسعة أكوار. مجمع البيان ٨ : ٥٣٧.

(٤) تفسير القمي ٢ : ١٨٣.


عبيدة يوم بدر ، وحمزة يوم احد. وهذا أخي عليّ بن أبي طالب (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ)(١).

وقال ابن شهرآشوب في «المناقب» : ودعا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو جاث على ركبتيه باسط يديه باكية عيناه ينادي : يا صريخ المكروبين ، يا مجيب دعوة المضطرّين ، اكشف همّي وكربي ، فقد ترى حالي! (٢).

وقال القمي : فمرّ أمير المؤمنين عليه‌السلام يهرول في مشيه وهو يقول :

لا تعجلنّ ، فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز

ذو نيّة وبصيرة ، والصدق منجي كلّ فائز

إنّي لأرجو أن اقيم عليك نائحة الجنائز!

من ضربة نجلاء يبقى صوتها بعد الهزاهز! (٣)

فقال له عمرو : من أنت؟ قال : أنا عليّ بن أبي طالب ابن عمّ

__________________

(١) ورواه المعتزلي مرفوعا قال : إنّ رسول الله قال ذلك اليوم حين برز عليّ عليه‌السلام : برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه!

وما زال رافعا يديه مقمحا رأسه نحو السماء داعيا ربّه قائلا : اللهم إنّك أخذت منّي عبيدة يوم بدر ، وحمزة يوم احد ، فاحفظ عليّ اليوم عليّا (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) شرح النهج ١٩ : ٦١ والآية من سورة الأنبياء : ٨٩.

ونقل الحديث السيد ابن طاوس في الطرائف عن الأوائل للعسكري ، كما في بحار الانوار ٣٩ : ١.

أمّا حديثه المسند المستفيض عنه فيه : ضربة عليّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين ، فالظاهر أنّه كان بعد يوم الخندق يذكر يوم الخندق.

(٢) مناقب آل أبي طالب ١ : ١٩٨.

(٣) نقل الخبر والرجزين لعمرو ولعليّ عليه‌السلام الطبرسي في مجمع البيان ٨ : ٥٣٨ عن ابن إسحاق ، وليس في رواية ابن هشام.


رسول الله وختنه.

فقال عمرو : والله إنّ أباك كان لي صديقا قديما ، وإنّي أكره أن أقتلك. ما آمن ابن عمّك حين بعثك إليّ أن أختطفك برمحي هذا فأتركك شائلا بين السماء والأرض لا حيّ ولا ميّت!

فقال له عليّ عليه‌السلام : قد علم ابن عمّي أنّك إن قتلتني دخلت الجنّة وأنت في النار ، وإن قتلتك فأنت في النار وأنا في الجنّة!

فقال عمرو : وكلتاهما لك يا عليّ؟ تلك إذا قسمة ضيزى!

فقال علي عليه‌السلام : دع هذا يا عمرو ، وإني سمعت منك وأنت متعلّق بأستار الكعبة تقول : لا يعرضنّ عليّ أحد في الحرب ثلاث خصال إلّا أجبته إلى واحدة منها ، وأنا أعرض عليك ثلاث خصال فأجبني إلى واحدة. قال : هات يا عليّ.

قال : أحدها : أن تشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا رسول الله.

قال عمرو : نحّ عني هذه فاسأل الثانية.

فقال : أن ترجع وتردّ هذا الجيش عن رسول الله ، فإنّ يك صادقا فأنتم أعلى به عينا ، وإن يك كاذبا كفتكم ذؤبان العرب أمره!

فقال : لا تتحدّث نساء قريش بذلك ، ولا تنشد الشعراء في أشعارها : أنّي جبنت ورجعت على عقبي من الحرب وخذلت قوما رأسوني عليهم.

فقال عليّ عليه‌السلام : فالثالثة : أن تنزل إليّ ، فإنّك راكب وأنا راجل ، حتى أنابذك!

فوثب عن فرسه وعرقبه ، وقال : هذه خصلة ما ظننت أنّ أحدا من العرب يسومني عليها (١).

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٨٣ و ١٨٤. وعرقبه : ضرب عرقوب الفرس ، عقب أقدامه.


وقال القاضي النعمان : لمّا نظر رسول الله إلى أنّ عمرو بن عبد ودّ وأصحابه قد اقتحموا الخندق على المسلمين ، وأنّ خيلهم جالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع (١) وأنّهم قربوا من مناخ رسول الله ، وتخوّف أن يمدّهم سائر المشركين فيقتحموا الخندق ، دعا عليّا عليه‌السلام وقال له : امض بمن خفّ معك من المسلمين فخذ عليهم الثغرة التي اقتحموا منها ، فمن قاتلكم عليها فاقتلوه.

فمضى عليّ عليه‌السلام في نفر معه يريدون الثغرة ... وعطف عليهم عمرو بن عبد ودّ بمن كان معه حتى قربوا منهم.

فنادى عليّ عليه‌السلام عمرو بن عبد ودّ فأجابه ، فقال له عليّ عليه‌السلام : إنّه قد بلغني أنّك كنت عاهدت الله أن لا يدعوك أحد إلى إحدى خلّتين إلّا أجبت إلى إحداهما (٢).

وفي «الإرشاد» : فبرز إليه أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقال له عمرو : ارجع ، يا ابن الأخ فما احبّ أن أقتلك ، فقال له أمير المؤمنين : قد كنت يا عمرو عاهدت الله أن لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خصلتين إلّا اخترتها منه؟ قال : أجل فما ذاك؟ قال :

إنّي أدعوك إلى الله ورسوله والإسلام.

فقال عمرو : لا حاجة لي إلى ذلك.

قال عليّ عليه‌السلام : فإنّي أدعوك إلى النزال.

فقال عمرو : ارجع ، فقد كان بيني وبين أبيك خلّة ، وما احبّ أن أقتلك!

فقال عليّ عليه‌السلام : لكنّني والله احبّ أن أقتلك ما دمت أبيّا للحقّ!

__________________

(١) سلع : من جبال المدينة ، مر التعريف به في أوائل الغزوة.

(٢) شرح الأخبار ١ : ٢٩٤. وهي ألفاظ ابن إسحاق في السيرة ٣ : ٢٣٥ و ٢٣٦.


فحمي عمرو عند ذلك وقال : أتقتلني؟! ونزل عن فرسه فعقره وضرب وجهه حتى نفر ... وأقبل على عليّ عليه‌السلام مصلتا سيفه (١).

قال القاضي النعمان : فتجاولا ساعة ... ثمّ اختلفا بضربتين : فضرب عمرو عليّا على أمّ رأسه ـ وعليه البيضة ـ فقدّها وأثّر السيف في هامته. وضربه عليّ عليه‌السلام فوق طوق الدرع فرمى برأسه. وثارت لذلك عجاجة فما انكشفت إلّا وهم يرون عليّا عليه‌السلام يمسح سيفه على ثياب عمرو وقد خرّ صريعا.

ثمّ حمل هو وأصحابه على أصحاب عمرو فولّوا بين أيديهم هاربين من الثغرة التي اقتحموها ، وألقى عكرمة بن أبي جهل رمحه وهو منهزم في الخندق ، وانكشف المشركون عن الخندق ، وكبّر المسلمون وفرحوا وزال عنهم أكثر الخوف الذي كان بهم (٢).

وفي «الإرشاد» : فلمّا رأى عكرمة بن أبي جهل ، وهبيرة بن أبي وهب ، وضرار بن الخطّاب عمرا صريعا ولّوا بخيلهم منهزمين حتى اقتحموا الخندق لا يلوون على شيء ، وانصرف عليه‌السلام الى مقامه الأوّل (٣).

وفي تفسير القمي : قال له عليّ عليه‌السلام : يا عمرو أما كفاك أنّي بارزتك وأنت فارس العرب حتّى استعنت عليّ بظهير؟ فالتفت عمرو إلى خلفه ، فضربه أمير المؤمنين عليه‌السلام مسرعا على ساقيه فقطعهما جميعا.

وارتفعت بينهما عجاجة فقال المنافقون : قتل عليّ بن أبي طالب! ثمّ انكشفت العجاجة فإذا أمير المؤمنين عليه‌السلام على صدر عمرو قد أخذ بلحيته يريد

__________________

(١) الإرشاد ١ : ٩٧ ، ٩٩ ، وهي ألفاظ ابن إسحاق في السيرة ٣ : ٢٣٦.

(٢) شرح الأخبار ١ : ٢٩٦.

(٣) الإرشاد ١ : ٩٩.


أن يذبحه ، فلم يضربه (ليذبحه) قال الحلبي : فوقع المنافقون في علي عليه‌السلام ، فرد عنه حذيفة بن اليمان ، فقال له النبي : مه يا حذيفة فانّ عليا سيذكر سبب وقفته (١).

وقال له عمرو : يا بن عم ؛ إن لي إليك حاجة : لا تكشف سوأة ابن عمك ولا تسلبه سلبه. فقال علي عليه‌السلام : ذلك أهون شيء عليّ (٢).

ثم ذبحه وأخذ رأسه وأقبل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والدماء تسيل على رأسه من ضربة عمرو ، وسيفه يقطر منه الدم والرأس بيده وهو يقول :

أنا عليّ وابن عبد المطّلب

الموت خير للفتى من الهرب

فقال له رسول الله : يا عليّ ، ماكرته؟ (لان عمروا التفت الى خلفه فضرب عليّ ساقه).

قال : نعم ، يا رسول الله ، الحرب خديعة (٣).

قال الحلبي : فسأله النبي عن سبب وقفته؟

فقال : قد كان شتم أمي ، وتفل في وجهي ، فخشيت أن أضربه لحظّ نفسي! فتركته حتى سكن ما بي ثم قتلته في الله (٤).

وروى عن محمد بن اسحاق قال : فقال له عمر : فهلّا سلبت درعه فانها تساوي ثلاثة آلاف وليس في العرب مثلها؟!

فقال : اني استحيت أن اكشف ابن عمّي (٥).

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٢ : ١١٥.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٢ : ١١٧.

(٣) تفسير القمي ٢ : ١٨٥.

(٤) مناقب آل أبي طالب ٢ : ١١٥.

(٥) قال : وروي أنّه جاءت اُخت عمرو وورأته في سلبه فلم تحزن وقالت : إنّما قتله كريم مناقب آل ابي طالب ٢ : ١١٧ ، ١١٨ وقالت شعراً :

لو كان قاتل عمروٍ غير قاتله

لكنت أبكي عليه آخر الأبد

لكنّ قاتله من لا يُلام به

أبوه قد كان يُدعى بيضة البلد


قال القمي : وبعث رسول الله الزبير إلى هبيرة بن وهب فضربه على رأسه ضربة فلق هامته.

وأمر رسول الله عمر بن الخطّاب أن يبارز ضرار بن الخطّاب ، فلمّا برز إليه ضرار انتزع له عمر سهما ، فقال ضرار : ويحك ـ يا ابن صهاك ـ أترميني في مبارزة؟! والله لئن رميتني لا تركت عدويّا بمكّة إلّا قتلته!

فانهزم عنه عمر ، ومرّ نحوه ضرار وضربه على رأسه بالقناة ثمّ قال : احفظها يا عمر ، فإنّي آليت أن لا أقتل قرشيّا ما قدرت عليه (١).

وقال الكراجكي : صرعه أمير المؤمنين عليه‌السلام وجلس على صدره ، وهو يكبّر الله ويمجّده. فلمّا همّ أن يذبحه قال له عمرو :

يا عليّ ، قد جلست منّي مجلسا عظيما ، فإذا قتلتني فلا تسلبني حلّتي!

فقال عليه‌السلام : هي أهون عليّ من ذلك.

وذبحه ، وأتى برأسه وهو يتبختر في مشيته ، فقال عمر للنبيّ :

يا رسول الله ، ألا ترى إلى عليّ كيف يتبختر في مشيته؟!

فقال رسول الله : إنّها لمشية لا يمقتها الله في هذا المقام.

ثمّ تلقّاه النبيّ فمسح الغبار عن عينيه وقال له :

لو وزن اليوم عملك بعمل جميع أمّة محمّد لرجح عملك على عملهم ، وذلك أنّه لم يبق بيت من المشركين إلّا وقد دخله ذلّ بقتل عمرو ، ولم يبق بيت من المسلمين إلّا وقد دخله عزّ بقتل عمرو (٢).

__________________

(١) فكان عمر يحفظها له فلمّا ولي عمر ولّى ضرار ـ تفسير القمي ٢ : ١٨٥ ـ ، ويأتي عن مغازى الواقدي مثله ـ ٢ : ٤٧١ إلى ٥١٩.

(٢) كنز الفوائد : ١٣٨ ، كما في بحار الأنوار ٢٠ : ٢١٥ و ٢١٦ ، وما رواه هنا من قول النبيّ في


رجز عليّ عليه‌السلام :

قال القاضي النعمان : انصرف عليّ عليه‌السلام إلى رسول الله وهو يقول :

نصر الحجارة من سفاهة رأيه

ونصرت ربّ محمّد بصواب

فصددت حين تركته متجدّلا

كالجذع بين دكادك وروابي

وعففت عن أثوابه ولو انّني

كنت المصرّع بزّني أثوابي (١)

لا تحسبنّ الله خاذل دينه

ونبيّه ، يا معشر الأحزاب (٢)

ونقلها المفيد في «الإرشاد» وروى عن الكلبي أبياتا اخرى عن عليّ عليه‌السلام قال :

أعليّ تقتحم الفوارس هكذا

عنّي وعنها خبروا أصحابي

__________________

ـ قتل علي لعمرو ، هو ما جاء عنه فيما بعد في قولته الشهيرة : ضربة علي يوم الخندق أفضل من ـ أو تعدل ـ عبادة الثقلين.

(١) بزّ : من أسماء الأصوات ، اسم لصوت تمزّق الثياب ، أي قطّعها ونزعها عنّي.

(٢) شرح الأخبار ١ : ٢٩٦ والإرشاد ١ : ٩٩ وابن إسحاق في السيرة ، وشكّك في صحّتها ابن هشام ٣ : ٢٣٦.


اليوم تمنعني الفرار حفيظتي

ومصمّم في الرأس ليس بنابي

أرديت عمرا إذ طغى بمهنّد

صافي الحديد مجرّب قضّاب

فصددت حين تركته متجدّلا

كالجذع بين دكادك وروابي

ثمّ روى عن الحسن البصري قال : إنّ عليّا عليه‌السلام لمّا قتل عمرو بن عبد ودّ اجتزّ رأسه وحمله فألقاه بين يدي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقام أبو بكر وعمر فقبّلا رأس عليّ عليه‌السلام (١).

ثمّ روى عن ابن إسحاق ـ برواية يونس بن بكير ـ قال : لمّا قتل عليّ بن أبي طالب عمرا أقبل نحو رسول الله ووجهه يتهلّل ، فقال له عمر بن الخطّاب : هلّا سلبته يا عليّ درعه فإنّه ليس في العرب مثلها؟!

فقال عليه‌السلام : إنّي استحييت أن أكشف سوأة ابن عمّي (٢).

وقال رسول الله بعد قتله هؤلاء النفر : الآن نغزوهم ولا يغزونا (٣).

__________________

(١) ورواه الطبرسي في مجمع البيان ٨ : ٥٣٩.

(٢) ورواه الطبرسي في مجمع البيان ٨ : ٥٣٨ عن حذيفة بن اليمان بزيادة.

(٣) ثمّ روى عن المدائني قال : لمّا قتل علي بن أبي طالب عليه‌السلام عمرا نعي إلى اخته فقالت : من ذا الذي اجترأ عليه؟ فقالوا : علي بن أبي طالب. فقالت : لم يعد موته إلّا على يد كفؤ كريم ، لا رقأت دمعتي إن هرقتها عليه ، قتل الأبطال وبارز الأقران وكانت منيّته على يد كفؤ كريم من قومه ، ما سمعت بأفخر من هذا يا بني عامر ، ثمّ قالت :

لو كان قاتل عمر غير قاتله

لكنت أبكي عليه آخر الأبد


تواعد قريش وغطفان لليوم الثاني :

قال الواقدي : وهرب عكرمة وهبيرة فلحقا بأبي سفيان ... فلمّا رجعوا إلى أبي سفيان قال : هذا يوم لم يكن لنا فيه شيء ، ارجعوا. فرجعت قريش إلى العقيق (معسكرها) ورجعت غطفان إلى (معسكرها) وتواعدوا يغدون جميعا (إلى الخندق) ولا يتخلّف منهم أحد.

فباتت قريش يعبّئون أصحابهم ، وباتت غطفان يعبّئون أصحابهم.

ووافوا رسول الله بالخندق قبل طلوع الشمس!

وعبّأ رسول الله أصحابه وحضّهم على القتال ووعدهم النصر إن صبروا.

والمشركون قد جعلوا المسلمين في مثل الحصن من كتائبهم ، أخذوا بكلّ وجه من الخندق.

وروى جابر بن عبد الله الأنصاري قال : فرّقوا كتائبهم وبعثوا إلى رسول الله كتيبة غليظة فيها خالد بن الوليد ، فقابلهم (١) يومه ذلك إلى أوائل الليل ، ما

__________________

لكنّ قاتل عمر لا يعاب به

من كان يدعى أبوه بيضة البلد

الإرشاد ١ : ١٠٤ ـ ١٠٨. وقول الرسول ـ السابق ـ رواه الطبرسي في مجمع البيان ٨ : ٥٤١ عن سليمان بن صرد. وفي السيرة ٣ : ٢٦٦. وفي المغازي ٢ : ٤٧١ : ورجعوا هاربين وخرج في أثرهم الزبير بن العوّام وعمر بن الخطّاب ، فناوشوهم ساعة ، وحمل ضرار بن الخطّاب على عمر بن الخطّاب بالرمح ، حتّى إذا وجد عمر مسّ الرمح رفع عنه وقال : هذه نعمة مشكورة فاحفظها يا بن الخطّاب! إنّي كنت قد حلفت أن لا تمكنّني يداي من رجل من قريش أبدا. وانصرف ضرار راجعا إلى أبي سفيان وأصحابه عند الجبل ٢ : ٤٧١.

(١) في النصّ : فقاتلهم. ويبدو أنّ الصحيح ما أثبتناه ، إذ لم يكن في الخندق قتال إلّا قليلا.


يقدر رسول الله ولا أحد من المسلمين أن يزولوا من مواضعهم ... وجعل أصحابه يقولون : يا رسول الله ، ما صلّينا! فيقول : وأنا والله ما صلّيت!.

ثمّ رجعوا متفرّقين : فرجعت قريش إلى منزلها ، ورجعت غطفان إلى منزلها وانصرف المسلمون إلى قبّة رسول الله.

وأقام اسيد بن حضير في مائتين من المسلمين على شفير الخندق ، إذ كرّت عليهم خيل من المشركين عليهم خالد بن الوليد وفيهم وحشيّ قاتل حمزة ، يطلبون غرة من المسلمين ، فناوشوهم ساعة ، وزرق وحشيّ بمزرقته الطفيل بن النعمان الأنصاري فقتله.

ولمّا صار رسول الله إلى موضع قبّته أمر بلالا فأذّن وأقام صلاة الظهر ، فصلّاها كأحسن ما كان يصلّيها في وقتها ، ثمّ أقام صلاة العصر فصلّاها كأحسن ما كان يصلّيها في وقتها ، ثمّ أقام المغرب فصلّاها كأحسن ما كان يصلّيها في وقتها ، ثمّ أقام العشاء فصلّاها كأحسن ما كان يصلّيها في وقتها (١).

وأرسلت بنو مخزوم إلى النبيّ ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ بدية رجل يشترون بها جثّة نوفل بن عبد الله المخزومي (الذي وقع في الخندق فقتل بالحجارة).

فقال رسول الله : إنّما هي جيفة حمار! وكره ثمنه (٢).

إصابة سعد بن معاذ :

وكان من أثر الرمي بينهم أن رمى ابن العرقة سعد بن معاذ بسهم فأصاب

__________________

(١) وفي اليعقوبي ١ : ٥٠ : كان ذلك في اليوم الثالث.

(٢) الواقدي ٢ : ٤٧٢ ـ ٤٧٤. وفي مناقب آل أبي طالب ١ : ١٩٨ : فبعث المشركون بعشرة آلاف إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يشترون جيفة عمرو ، فقال النبيّ : هو لكم ، لا نأكل ثمن الموتى.


العرق الأكحل الغليظ من يده وقال حين رماه : خذها وأنا ابن العرقة. فأجابه ابن معاذ : عرّق الله وجهك في النار!

ثمّ دعا فقال : اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لحربهم ، فإنّه لا قوم أحبّ إليّ أن اقاتلهم من قوم كذّبوا رسولك وأخرجوه من حرمك ، اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة ، ولا تمتني حتى تقرّ عيني من بني قريظة!

وحملوه إلى رسول الله فبات عنده على الأرض (١).

وقال الواقدي : كواه رسول الله بالنار فانتفخت يده فتركه فسال الدم (٢).

وقال ابن إسحاق : وكانت امرأة من أسلم يقال لها : رفيدة ، تحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين ، فكانت تداوي الجرحى في مسجده ... فحين أصاب السهم سعدا قال رسول الله لقومه : اجعلوه في خيمة رفيدة (في المسجد) حتى أعوده من قريب (٣).

وقال الواقدي : كان لكعيبة بنت سعد بن عتبة الأسلميّة خيمة في المسجد (٤) تداوي فيها الجرحى وتلمّ الشعث وتقوم على الضائع الذي لا أحد له ... فكان سعد في المسجد في خيمتها (٥).

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٨٨ وإعلام الورى ١ : ١٩٣. وفي السيرة ٣ : ٢٣٨.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٤٦٩.

(٣) سيرة ابن هشام ٣ : ٢٥٠ ، وفي تفسير القميّ ٢ : ١٨٨ : وضرب رسول الله لسعد في المسجد خيمة ، وكان يتعاهده بنفسه.

(٤) ولم يقل (في مسجده) ولعلّه مسجد قبيلتها بني أسلم قريبا من الخندق.

(٥) الواقدي ٢ : ٥١٠.


أخبار نعيم بن مسعود في تحريش قريش على اليهود :

قال القمي في تفسيره : فلمّا كان في جوف الليل جاء نعيم بن مسعود الأشجعي إلى رسول الله ـ وكان قد أسلم قبل قدوم قريش بثلاثة أيّام ـ فقال له :

يا رسول الله ، قد آمنت بالله وصدّقتك ، وكتمت إيماني عن الكفرة ، فإن أمرتني أن آتيك وأنصرك بنفسي ، فعلت ، وإن أمرت أن اخذّل بين اليهود وبين قريش فعلت ، حتى لا يخرجوا من حصنهم؟

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : خذّل بين اليهود وقريش فإنّه أوقع عندي.

قال : فتأذن لي أن أقول فيك ما اريد؟ قال : قل ما بدا لك.

فجاء إلى أبي سفيان فقال له :

تعرف مودّتي لكم ونصحي ، ومحبّتي أن ينصركم الله على عدوّكم ، وقد بلغني أنّ محمّدا قد وافق اليهود أن يدخلوا عسكرهم ويميلوا عليكم ، ووعدهم إذا فعلوا ذلك أن يردّ عليهم جناحهم الذي قطعه لبني النضير وقينقاع. فلا أرى أن تدعوهم أن يدخلوا في عسكركم حتّى تأخذوا منهم رهنا تبعثوا بهم إلى مكّة ، فتأمنوا مكرهم وغدرهم!.

فقال أبو سفيان : وفّقك الله وأحسن جزاك ، مثلك أهدى النصائح.

ولم يعلم أبو سفيان بإسلام نعيم ، ولا أحد من اليهود.

ثمّ جاء من فوره إلى [كعب في] بني قريظة فقال له :

يا كعب ، تعلم مودّتي لكم ، وقد بلغني أنّ أبا سفيان قال : يخرج هؤلاء اليهود فنضعهم في نحر محمّد ، فإن ظفروا كان الذكر لنا دونهم ، وإن كانت علينا كانوا هؤلاء مقاديم الحرب! فلا أرى لكم أن تدعوهم أن يدخلوا عسكركم حتّى تأخذوا منهم عشرة من أشرافهم يكونون في حصنكم ، إنّهم إن يظفروا بمحمّد لم


يبرحوا حتّى يردوا عليكم عهدكم وعقدكم بين محمّد وبينكم ، لأنّه إن ولّت قريش ولم يظفروا بمحمّد غزاكم محمّد فيقتلكم!

فقالوا : أحسنت وأبلغت في النصيحة ، لا نخرج من حصننا حتّى نأخذ منهم رهنا يكونون في حصننا (١).

وقال القاضي النعمان : كان نعيم بن مسعود رجلا من غطفان مع المشركين ، وكان نديما لبني قريظة ، فأتاهم كالزائر لهم ، فرحّبوا به ووقّروه ، فلمّا خلا بهم قال :

قد عرفتم مودّتي لكم ، وقد جئت إليكم ناصحا إن قبلتم منّي.

قالوا : جزاك الله خيرا ، ما نتّهمك ، بل نحن ممّن نثق بمودّتك ونقبل نصيحتك ، فقل ما أردت.

فقال لهم : إنّكم قد فعلتم فعلا لم تحسنوا النظر فيه لأنفسكم : نقضتم حلف محمّد وصرتم مع قريش وغطفان ، ولستم كمثلهم ؛ إنّ قريشا وغطفان إنّما جاءوا لحرب محمّد وأصحابه على ظهور دوابهم ، فإن أصابوا منه ما أرادوا ، وإلّا انصرفوا عنه وتركوكم معه! وأنتم تعلمون أنّه لا طاقة لكم به وبأصحابه إن خلا بكم. وقد تداخل أصحابنا الفشل والاختلاف ، وطال مقامهم ، وخفّت أزوادهم. وكان من أمر ابن عبد ودّ وأصحابه ما قد عرفتم وإنّما كان المعتمد عليهم والنظر إلى ما يكون منهم عند اقتحامهم الخندق ، فإذا قد كان من ذلك ما كان فقد تداخل

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٨١ و ١٨٢. هذا هو الموجود في تفسير القمي من خبر نعيم بن مسعود الأشجعي ، وقد نصّ على إسلامه قبل قدوم قريش بثلاثة أيّام ، ثمّ ظاهره عرضه أمره على النبيّ بعد نقض بني قريظة من دون فصل طويل ، ويبدو أنّ نقضهم كان في أوائل قدوم قريش ، ولذلك ذكره القمي قبل مقتل عمرو بن عبد ودّ.


اليأس إلى قلوب الناس ، وأكثر ما يقيمون أيّاما قليلة ، فإن رأوا فرصة أصابوها وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وتركوكم!

قالوا : لقد صدقت ونصحت فيما قلت ، فجزاك الله خيرا ، فما الحيلة بعد هذا؟!

قال : الحيلة : أن لا تقاتلوا مع القوم حتّى تأخذوا منهم رهائن من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم أن لا ينصرفوا عنكم ويدعوكم!

قالوا : لقد أشرت بالرأي ، فأحسن الله عنّا جزاك.

ثمّ أتى عيينة بن حصن ، وأبا سفيان ، فقال :

إن بني قريظة بيني وبينهم ما قد علمتم ، وقد بتّ عندهم فاطّلعت منهم على سرّ خشيت منه علينا!

قالوا : وما هو؟!

قال : إنّ القوم ندموا على ما نقضوا من حلف محمّد لمّا رأوا مقامنا ولم نصنع شيئا ونظروا إلى ما كان من أمر عمرو بن عبد ودّ وأصحابه ، وخافوا أن ننصرف عنهم فيطأهم محمّد ، فأرسلوا إليه يرغبون في سلمه ، ويذكرون ندامتهم على ما كان منهم وقالوا له : نحن نرضيك بأن نأخذ من القبيلتين رجالا من أشرافهم فنسلّمهم إليك فتضرب أعناقهم أو تفعل فيهم ما رأيت ، ثمّ نكون معك على من بقي منهم.

فايّاكما أن تخدعكما اليهود أو أن يظفروا بأحد منكم!

فأرسل أبو سفيان وعيينة إليهم عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان يستخبرونهم ذلك ويدعونهم إلى القتال معهم ويقولون : إنّا لسنا بدار مقام ، وقد هلك الخفّ والحافر ونفد الزاد ، وأبى محمّد وأصحابه إلّا لزوما


لخندقهم ، وأنتم أعلم بعورة الموضع ، فاخرجوا إلينا بجماعتكم لنناجز محمدا وأصحابه ونقتحم عليهم الخندق بجماعتنا.

فلمّا جاء القوم بني قريظة بذلك ، قالوا : قد كنّا مع محمّد على حلف ، ولم نكن نرى منه إلّا خيرا ، ونقضنا ما كان بيننا وبينه ، ونحن نخشى ونخاف إن ضرستكم الحرب أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلادنا ولا طاقة لنا به ، فلسنا بالذي نقاتل معكم حتّى تعطونا رهائن من وجوه رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتّى نناجز محمّدا.

فلمّا انصرف بذلك القوم إلى أبي سفيان وعيينة علما أن الأمر ما قاله نعيم ابن مسعود ، وأبوا أن يدفعوا إليهم أحدا.

وقالت بنو قريظة : هذا مصداق قول نعيم بن مسعود ، ولزموا معاقلهم ، واستوحش بعض القوم من بعض وتنافرت قلوبهم ، ولم يجد الأحزاب إلّا الرحيل إلى بلادهم (١).

وروى في «قرب الإسناد» بسنده عن الصادق عن علي عليهما‌السلام قال :

إنّ رسول الله بلغه أنّ بني قريظة بعثوا إلى أبي سفيان : أنّكم إذا التقيتم أنتم ومحمّد أمددناكم وأعنّاكم. فقام النبيّ فخطبنا فقال : إن بني قريظة بعثوا إلينا أنّا إذا التقينا نحن وأبو سفيان أمدّونا وأعانونا! فبلغ ذلك أبا سفيان فقال : غدرت اليهود! (٢)

__________________

(١) شرح الأخبار ١ : ٢٩٧ ـ ٢٩٩. وروى خبره ابن إسحاق في السيرة ٣ : ٢٤٠ ـ ٢٤٢ وعنه الطبرسي في مجمع البيان ٨ : ٥٣٩ و ٥٤٠. وروى الواقدي خبره بسنده عنه ٢ : ٢٨٠ ـ ٢٨٤ ثمّ أخبارا اخرى أربعة ٢٨٤ ـ ٢٨٧ ، ثمّ قال : والأثبت قول نعيم الأوّل.

(٢) قرب الإسناد : ٦٢ و ٦٣ ، كما في بحار الأنوار ٢٠ : ٢٤٦.


وهزم الأحزاب وحده :

روى الكليني في «روضة الكافي» بسنده عن أبان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي عن الصادق عليه‌السلام قال :

في ليلة ظلماء قرّة (١) قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على التلّ الذي عليه «مسجد الفتح» في غزوة الأحزاب فقال : من يذهب فيأتينا بخبرهم وله الجنّة؟ فلم يقم أحد ، ثمّ أعادها فلم يقم أحد.

قال الصادق عليه‌السلام : وما أراد القوم؟ أرادوا أفضل من الجنّة؟! ثمّ قال :

ثمّ قال رسول الله : من هذا؟ فقال : حذيفة. فقال له : أما تسمع كلامي منذ الليلة ولا تكلّم؟! أقبرت؟! فقام حذيفة وهو يقول : القرّ والضّر ـ جعلني الله فداك ـ منعني أن اجيبك! فقال رسول الله : انطلق حتى تسمع كلامهم وتأتيني بخبرهم ... يا حذيفة ، ولا تحدث شيئا حتى تأتيني.

فلمّا ذهب قال رسول الله : اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله حتّى تردّه.

فأخذ (حذيفة) سيفه وقوسه وجحفته (٢).

قال حذيفة : فخرجت وما بي من ضرّ ولا قرّ ، فمررت على باب الخندق ...

ولمّا توجّه حذيفة قام رسول الله (فصلّى ثمّ (٣)) نادى : يا صريخ المكروبين ، ويا مجيب المضطرّين ، اكشف همّي وغمّي وكربي ، فقد ترى

__________________

(١) قرّة : باردة ـ الصحاح.

(٢) الجحفة : الترس من الجلود بلا خشب ولا عقب ـ الصحاح.

(٣) كما في رواية الطبرسي في إعلام الورى ١ : ١٩٣ عن الأحمر البجلي الكوفي أيضا.


حالي وحال أصحابي (١).

فنزل عليه جبرئيل عليه‌السلام فقال : يا رسول الله ، إنّ الله ـ عزّ ذكره ـ قد سمع مقالتك ودعاءك ، وقد أجابك وكفاك هول عدوّك!

فجثا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على ركبتيه وبسط يديه وأرسل عينيه ثمّ قال :

شكرا شكرا كما رحمتني ورحمت أصحابي. ثمّ قال رسول الله :

قد بعث الله ـ عزوجل ـ عليهم ريحا من سماء الدنيا فيها حصى ، وريحا من السماء الرابعة فيها جندل (٢).

قال حذيفة : وأقبل جند الله الأوّل : ريح فيها حصى ، فما تركت لهم نارا إلّا أذرّتها (٣) ولا خباء إلّا طرحته ، ولا رمحا إلّا ألقته ، حتّى جعلوا يتترّسون من الحصى ، وجعلنا نسمع وقع الحصى في الأترسة.

وقام إبليس في صورة رجل مطاع من المشركين فقال : أيّها الناس ، إنّكم قد نزلتم بساحة هذا الساحر الكذّاب ، ألا وإنّه لن يفوتكم من أمره شيء فإنّه ليس سنة مقام ، قد هلك الخفّ والحافر ، فارجعوا ولينظر كلّ رجل منكم من جليسه!

قال حذيفة : فنظرت عن يميني فضربت بيدي فقلت : من أنت؟ قال : معاوية.

فقلت للذي عن يساري : من أنت؟ قال : سهيل بن عمرو.

قال حذيفة : وأقبل جند الله الأعظم فقام أبو سفيان إلى راحلته ، وصاح في

__________________

(١) ورواه في فروع الكافي ١ : ٣١٨ وكامل الزيارات : ٢٤ والقمي في التفسير ٢ : ١٨٦ والتهذيب ٢ : ٦ و ٦٠.

(٢) الجندل : الحجارة أكبر من الحصى.

(٣) اي : فرّقتها.


قريش : النجاء النجاء!

وقال طلحة الأزدي : لقد زادكم محمّد بشر! ثمّ قام إلى راحلته ، وصاح في بني أشجع : النجاء النجاء!

وفعل عيينة بن حصن مثلها. ثمّ فعل الحارث بن عوف المزني مثلها. ثم فعل الأقرع بن حابس مثلها.

وذهب الأحزاب.

ورجع حذيفة إلى رسول الله فأخبره الخبر (١).

وروى ابن إسحاق الخبر عن محمّد بن كعب القرظي ، عن حذيفة بن اليمان قال :

فذهبت فدخلت في القوم والريح تفعل بهم ما تفعل ، لا تقرّ لهم قدرا ولا نارا ولا بناء. فقام أبو سفيان فقال : يا معشر قريش ، لينظر امرؤ من جليسه؟

قال حذيفة : فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي فقلت : من أنت؟

قال : فلان بن فلان (٢).

ثمّ قال أبو سفيان : يا معشر قريش ، إنّكم ـ والله ـ ما أصبحتم بدار مقام ، لقد هلك الكراع (٣) والخفّ (٤) وأخلفتنا بنو قريظة ، وبلغنا عنهم الذي نكره ، ولقينا من شدّة الريح ما ترون ، ما تطمئن لنا قدر ولا تقوم لنا نار ، ولا يستمسك لنا بناء ، فارتحلوا فإنّي مرتحل. ثمّ قام إلى جمله ... وسمعت غطفان بما فعلت قريش

__________________

(١) روضة الكافي : ٢٣٢ ، ح : ٤٢٠ ، وقريب منه في تفسير القمي ٢ : ١٨٦ و ١٨٧.

(٢) كذا ذكر الخبر في سيرة ابن هشام ، بينما نقله في شرح المواهب فذكر اسم معاوية بن أبي سفيان ثمّ عمرو بن العاص! ونقله عنه محقّقو السيرة بهامشها ٣ : ٢٤٣.

(٣) الكراع : الخيل.

(٤) الخف : الابل.


فانشمروا راجعين إلى بلادهم.

قال حذيفة : فرجعت إلى رسول الله وهو قائم يصلّي في كساء لبعض نسائه ، فلمّا رآني (وهو يصلّي) أدخلني إلى رجليه وطرح عليّ طرف الكساء ، ثمّ ركع وسجد. فلمّا سلّم أخبرته الخبر (١).

وروى الواقدي عن عبد الله بن عمر قال : صلّى رسول الله في موضع الخرق على الجبل إلى طرف بني النضير ، وهو اليوم موضع المسجد الذي بأسفل الجبل.

وروى عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : قام رسول الله على الجبل الذي عليه المسجد ، فدعا في إزار ، ورفع يديه مدّا ، ثمّ جاءه مرّة اخرى فصلّى ودعا.

وفي خبر آخر عنه قال : دعا رسول الله في مسجد الأحزاب على الأحزاب يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ، فاستجيب له بين الظهر والعصر يوم الأربعاء حتى عرفنا السرور في وجهه.

وروى عن حذيفة بن اليمان قال : اجتمع علينا الجوع والخوف في ليلة شديدة البرد ... وقال رسول الله : من رجل ينظر لنا ما فعل القوم جعله الله رفيقي في الجنّة! ثمّ عاد يقول ذلك ثلاث مرّات وما قام رجل واحد ، من شدّة البرد والجوع والخوف! فلمّا رأى رسول الله أنّه لا يقوم أحد دعاني فقال : يا حذيفة! فلم أجد بدّا من القيام حين نوّه باسمي ، فجئته ولقلبي وجبان (٢) في صدري.

فقال : تسمع كلامي منذ الليلة ولا تقوم؟

فقلت : ما قدرت على ما بي من الجوع والبرد!

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٣ : ٢٤٢ ـ ٢٤٤.

(٢) اي : خفقان.


فقال : فاذهب فانظر ما فعل القوم؟ ...

فقلت : ولكنّي أخاف أن يمثّلوا بي!

فقال : ليس عليك بأس! ثمّ قال :

فاذهب فادخل في القوم فانظر ما ذا يقولون ...

فأقبلت فجلست على نار مع القوم. فقام أبو سفيان فقال : احذروا الجواسيس والعيون ، ولينظر كلّ رجل جليسه.

فالتفتّ فقلت : من أنت؟ لمن عن يميني. فقال : عمرو بن العاص. والتفتّ فقلت : من أنت؟ (لمن عن يساره) فقال : معاوية بن أبي سفيان. ثمّ قال أبو سفيان : إنّكم ـ والله ـ لستم بدار مقام ؛ لقد هلك الخفّ والكراع وأجدب الجناب ، وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم ما نكره ، ولقد لقينا من الريح ما ترون! والله ما يثبت لنا بناء (١) ولا تطمئن لنا قدر ، فارتحلوا فإنّي مرتحل. وقام أبو سفيان وجلس على بعيره وهو معقول ، ثمّ ضربه فوثب على ثلاث قوائم ، فما اطلق عقاله إلّا بعد ما قام.

فناداه عكرمة بن أبي جهل : إنّك رأس القوم وقائدهم ، تقشع وتترك الناس؟!

فاستحيا أبو سفيان وأناخ جمله ونزل عنه وأخذ بزمامه وهو يقوده ويقول : ارحلوا.

فجعل الناس يرتحلون وهو قائم حتّى خفّ العسكر.

ثمّ قال لعمرو بن العاص : يا أبا عبد الله ، لا بدّ لي ولك أن نقيم في جريدة من خيل بإزاء محمّد وأصحابه ـ فإنّا لا نأمن أن نطلب ـ حتى ينفذ العسكر. فقال

__________________

(١) البناء : الخباء.


عمرو : أنا اقيم.

وقال لخالد بن الوليد : وأنت ما ترى يا أبا سليمان؟ فقال : أنا ـ أيضا ـ اقيم (١).

فأقام عمرو وخالد في مائتي فارس ، وسار سائر العسكر.

وذهب حذيفة إلى غطفان فوجدهم يرتحلون ... ولمّا ارتحلوا وقف فرسان من بني سليم في أصحابهم ، والحارث بن عوف في خيل من أصحابه ، ومسعود ابن رخيلة في خيل من أصحابه.

وأقامت خيل قريش حتى كان السحر ثمّ مضوا فلحقوا بالعسكر في ملل عند ارتفاع النهار.

وارتحلت بقيّة خيل غطفان فالتحقوا بقومهم في المراض (٢) ثمّ تفرّقت قبائلهم إلى محالّهم ، ورجع حذيفة ـ في الليل ـ إلى الرسول فأخبره الخبر.

قال الواقدي : فلمّا أصبح رسول الله بالخندق أصبح وليس حوله أحد من عساكر المشركين. فأذن للمسلمين بالانصراف إلى منازلهم ، فخرجوا مبادرين مسرورين.

ثمّ روى عن ابن عمر قال : وكره رسول الله أن يكون لقريش عين فيرى سرعتهم في ذلك ، فبعث من ينادي في أثرهم بردّهم.

قال عبد الله بن عمر : فجعلت أصيح في أثرهم في كلّ ناحية : إنّ رسول الله أمركم أن ترجعوا. فما رجع منهم رجل واحد من الجوع والبرد.

وقال جابر بن عبد الله : أمرني رسول الله أن أردّهم ، فجعلت أصيح بهم ،

__________________

(١) وفي تفسير القمي ٢ : ١٨٧ : قال أبو سفيان لخالد بن الوليد : يا أبا سليمان لا بدّ من أن اقيم أنا وأنت على ضعفاء الناس.

(٢) المراض : على ستّة وثلاثين ميلا من المدينة ـ وفاء الوفاء : ٣٧٠ (٧٠ كم).


فما يرجع أحد من جهد الجوع والبرد. فرجعت إلى النبيّ فأخبرته فضحك صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

ثمّ روى عن أبي وجزة قال : لمّا ملّت قريش المقام ... كتب أبو سفيان كتابا إلى رسول الله فيه : باسمك اللهم ، فإنّي أحلف باللات والعزّى ، لقد سرت إليك في جمعنا وإنّا نريد أن لا نعود إليك أبدا حتى نستأصلك ، فرأيتك قد كرهت لقاءنا وجعلت مضائق وخنادق! فليت شعري من علّمك هذا؟! فإن نرجع عنكم فلكم منّا يوم كيوم احد تبقر فيه النساء!

وبعث بالكتاب مع أبي اسامة الجشمي.

فلمّا بلغه الكتاب دعا رسول الله ابيّ بن كعب فدخل معه قبّته فقرأ عليه كتاب أبي سفيان.

وكتب إليه رسول الله :

من محمّد رسول الله ، إلى أبي سفيان بن حرب. أمّا بعد ، فقديما غرّك بالله الغرور. أمّا ما ذكرت أنّك سرت إلينا في جمعكم ، وأنّك لا تريد أن تعود حتى تستأصلنا ، فذلك أمر يحول الله بينك وبينه ، ويجعل لنا العاقبة حتى لا تذكر اللات والعزّى. وأمّا قولك : من علّمك الذي صنعنا من الخندق؟ فإنّ الله ـ تعالى ـ ألهمني ذلك لما أراد من غيظك به وغيظ أصحابك (٢) ، وليأتينّ عليك يوم تدافعني فيه بالراح ، وليأتينّ عليك يوم أكسر فيه اللات والعزّى وإساف ونائلة وهبل ، حتّى اذكّرك ذلك (٣).

__________________

(١) وقال القمي ٢ : ١٨٧ : فلمّا أصبح رسول الله قال لأصحابه : لا تبرحوا. فلمّا طلعت الشمس دخلوا المدينة ، وبقي رسول الله في نفر يسير.

(٢) لا ينافي هذا أن يكون المعنى أنّ الله ألهم سلمان وألهم نبيّه العمل بمشورة سلمان.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٤٨٨ ـ ٤٩٣. وفي شرح المواهب : كان دخول الرسول إلى المدينة في


غزوة بني قريظة (١) :

روى الطبرسي في «إعلام الورى» عن أبان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي عن الصادق عليه‌السلام قال : وأصبح رسول الله بالمسلمين حتى دخل المدينة ، فضربت فاطمة ابنته غسولا ، فهي تغسل رأسه (٢).

إذ أتاه جبرئيل على بغلة معتجرا بعمامة بيضاء (٣) عليه قطيفة من استبرق معلّق عليها الدرّ والياقوت ، وعليه الغبار.

فقام رسول الله فمسح الغبار من وجهه.

فقال له جبرئيل : رحمك ربّك ، وضعت السلاح ولم يضعه أهل السماء ، ما زلت أتبعهم حتى بلغت الروحاء. انهض إلى إخوانهم من أهل الكتاب ، فو الله لأدقنّهم دقّ البيضة على الصخرة! (٤).

__________________

ـ منصرفه من الخندق يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة. بينما مرّ عن الواقدي عن جابر : أنّ دعاء الرسول استجيب عصر الأربعاء ، فيكون منصرفه صباح الخميس.

(١) قال اليعقوبي ١ : ٥٢ : وهم فخذ من جذام ، ونزلوا بجبل يقال له قريظة فنسبوا إليه ، وقيل بل هو نسبة إلى جدّهم قريظة. ولعلّ الجبل منسوب إليه.

(٢) وفي مناقب آل أبي طالب ١ : ١٩٩ عن الزهري عن عروة. وفي الواقدي ٢ : ٤٩٧ : ودخل بيت عائشة! ...

(٣) الاعتجار بالعمامة : شدّها بلا إسدال شيء منها تحت الحنك.

(٤) إعلام الورى ١ : ١٩٤ ، ١٩٥.


وحيث كان بنو قريظة مع الأحزاب خارج حصونهم ...

قال المفيد في «الإرشاد» : أنّ رسول الله أنفذ أمير المؤمنين عليه‌السلام إليهم في ثلاثين من الخزرج وقال له : انظر هل نزل بنو قريظة في حصونهم؟

فلمّا شارف سورهم سمع منهم الهجر (فعلم رجوعهم إلى حصونهم).

فرجع إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبره ، فقال : دعهم فإنّ الله سيمكّن منهم ، إن الذي أمكنك من عمرو بن عبد ودّ لا يخذلك. فقف حتى يجتمع الناس إليك ، وأبشر بنصر من عند الله ، فإنّ الله تعالى قد نصرني بالرعب من بين يديّ مسيرة شهر.

قال علي عليه‌السلام : فاجتمع الناس إليّ ، فسرت ...

فقال لي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حين توجّهت إلى بني قريظة : سر على بركة الله تعالى ، فإنّ الله قد وعدكم أرضكم وديارهم!

فسرت متيقّنا لنصر الله ـ عزوجل ـ ، حتى ركزت الراية في اصل الحصن (١).

وفي خبر الطبرسي عن الأحمر البجلي الكوفي عن الصادق عليه‌السلام : أنّ رسول الله قال لعليّ عليه‌السلام : قدّم راية المهاجرين إلى بني قريظة ... ثمّ قال : عزمت عليكم أن لا تصلّوا العصر إلّا في بني قريظة (٢).

فقام علي عليه‌السلام ومعه المهاجرون وبنو عبد الأشهل وبنو النجّار لم يتخلّف منهم أحد ، وجعل النبيّ يسرّب إليه الرجال ، فما صلّى بعضهم العصر إلّا بعد العشاء (٣).

وقال القمي في تفسيره ـ وظاهرها الرواية ـ : أنّ جبرئيل ناداه : إنّ الله يأمرك أن لا تصلّي العصر إلّا ببني قريظة ...

__________________

(١) الإرشاد ١ : ١٠٩ و ١١٠.

(٢) وفي التبيان ٨ : ٣٣٢ : أنّ النبيّ أمر مناديه بأن ينادي : لا يصلينّ احد العصر الّا ببني قريظة.

(٣) إعلام الورى ١ : ١٩٥.


فخرج رسول الله (من داره) فاستقبله حارثة بن النعمان .. فقال له : ادعو لي عليّا. فجاء عليّ عليه‌السلام ، فقال له : ناد في الناس : لا يصلين أحد العصر إلّا في بني قريظة! فنادى أمير المؤمنين ، فخرج الناس فبادروا إلى بني قريظة. وخرج رسول الله وعلي بن ابي طالب بين يديه معه الراية العظمى (١).

وروى في «قرب الإسناد» بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : إنّ رسول الله بعث عليّا عليه‌السلام يوم بني قريظة بالراية ، وكانت سوداء تدعى العقاب ، وكان لواؤه أبيض (٢).

محاصرة بني قريظة :

روى المفيد في «الإرشاد» عن عليّ عليه‌السلام قال :

وسرت حتى دنوت من سورهم ، فأشرفوا عليّ ، فلمّا رأوني صاح صائح منهم : قد جاءكم قاتل عمرو! وقال آخر : أقبل إليكم قاتل عمرو ، وجعل بعضهم يصيح ببعض ويقولون ذلك ، وسمعت راجزا يرتجز :

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٨٩.

(٢) قرب الإسناد : ٦٢ كما في بحار الأنوار ٢٠ : ٢٤٦. وكذلك ذكر ابن إسحاق في السيرة ٣ : ٢٤٥ : أنّ الراية كانت مع علي عليه‌السلام. والراية للعسكر ، والألوية هي الأعلام وهي للأجنحة والأقسام ، فهي دون الراية ، كما في المصباح. وقد ذكر الواقدي في المغازي ٢ : ٤٩٧ : أنّ لواء الرسول في مرجعه من الخندق كان على حاله لم يحلّ بعد ، فدعا عليّا عليه‌السلام فدفع إليه لواء!

وذكر عروة بن الزبير : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث عليّا عليه‌السلام على المقدّم ، ودفع إليه اللواء. ونقله كذلك عنه الطبرسي في مجمع البيان ٨ : ٥٥٢.

وقال الواقدي : إنّ النبيّ سار إليهم يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة ـ مغازي الواقدي ٢ : ٤٩٦.


قتل علي عمرا

صاد علي صقرا

قصم علي ظهرا

أبرم علي أمرا

 هتك علي سترا

فقلت : الحمد الله الذي أظهر الإسلام وقمع الشرك ... وسرت متيقّنا بنصر الله ـ عزوجل ـ حتى ركزت الراية في أصل الحصن. فاستقبلوني في صياصيهم (حصونهم) يسبّون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فلمّا سمعت سبّهم له كرهت أن يسمع رسول الله ذلك ، فعملت على الرجوع إليه ، فإذا به قد طلع وسمع سبّهم له! فناداهم : يا إخوة القردة والخنازير ، إنّا إذا حللنا بساحة قوم (فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ)! ...

فقالوا له : يا أبا القاسم ، ما كنت جهولا ولا سبّابا!

فاستحيى رسول الله ورجع القهقرى قليلا.

ثمّ أمر فضربت خيمته بإزاء حصونهم (١).

وروى الطبرسي في «إعلام الورى» عن أبان الأحمر البجلي الكوفي عن الصادق عليه‌السلام قال :

لمّا أقبل رسول الله والمسلمون حوله تلقّاه أمير المؤمنين وقال له :

لا تأتهم ـ يا رسول الله ـ جعلني الله فداك ، فإنّ الله سيجزيهم (وصفهم).

فعرف رسول الله أنّهم قد شتموه فقال : أما إنّهم لو رأوني ما قالوا شيئا ممّا سمعت! وأقبل ، ثمّ قال : يا إخوة القردة! إنّا إذا نزلنا بساحة قوم (فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) يا عباد الطاغوت ، اخسئوا ، أخسأكم الله!

فصاحوا يمينا وشمالا : يا أبا القاسم ، ما كنت فحّاشا فما بدا لك؟

__________________

(١) الإرشاد ١ : ١٠٩ ، ١١٠.


فسقطت العنزة من يده ، وسقط رداؤه من خلفه ، وجعل يمشي إلى ورائه ، حياء ممّا قال لهم! (١).

وقال القمي في تفسيره : وجاء أمير المؤمنين عليه‌السلام وأحاط بحصنهم ، فأشرف عليهم كعب بن أسد من الحصن يشتمهم ويشتم رسول الله ، فأقبل رسول الله على حمار (٢) ، فاستقبله أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : بأبي أنت وامّي يا رسول الله لا تدن من الحصن! فقال رسول الله : يا علي ، لعلّهم شتموني؟! إنّهم لو قد رأوني لأذلّهم الله! ثمّ دنا من حصنهم فقال : يا إخوة القردة والخنازير وعبدة الطاغوت! أتشتموني! إنّا إذا نزلنا بساحة قوم ساء صباحهم!

فأشرف عليهم كعب بن أسد من الحصن فقال :

يا أبا القاسم : والله ما كنت جهولا!

فاستحيى رسول الله حتّى سقط الرداء من ظهره حياء ممّا قاله!

وأنزل رسول الله العسكر حول حصنهم فحاصرهم.

وبعد ثلاثة أيّام نزل إليه عزّال بن سموأل فقال :

يا محمّد! تعطينا ما أعطيت إخواننا من بني النضير : احقن دماءنا ونخلّي لك البلاد وما فيها ولا نكتمك شيئا؟

فقال : لا ، أو تنزلون على حكمي.

فرجع (٣) الرجل إلى حصنهم.

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ١٩٥ ، ١٩٦. وفي التنبيه والإشراف : ٢١٧ : أنّ ذلك كان لسبع بقين من ذي القعدة ، وكانوا على بعض يوم من المدينة.

(٢) وكذلك في اليعقوبي ١ : ٥٢.

(٣) تفسير القمي ٢ : ١٩.


وقال الواقدي : لبس رسول الله الدرع والبيضة والمغفر وأخذ قناة بيده وتقلّد ترسا وركب فرسه ، وتلبّس أصحابه السلاح وركبوا الخيل وحفّوا به وهم ستة وثلاثون فارسا (١) والخيل والرجالة حوله (٢) حتّى انتهى إلى بني قريظة فنزل على بئر لهم أسفل حرّتهم (٣).

ثمّ قدم الرماة من أصحابه (٤) وأمرهم برميهم بالنبال.

ثمّ روى عن سعد بن أبي وقّاص قال : قال لي رسول الله : تقدّم فارمهم.

وكان معي ما ينوف على الخمسين نبلا ، فتقدّمت حيث تبلغهم نبلي فرميناهم ساعة ...

وروى عن كعب بن عمرو المازني قال : رميت يومئذ بما في كنانتي حتى أمسكنا عنهم بعد أن ذهبت ساعة من الليل! ورسول الله واقف على فرسه وعليه السلاح وأصحاب الخيل حوله. ثمّ أمرنا رسول الله فانصرفنا إلى معسكرنا. وكان طعامنا أحمال تمر بعث بها سعد بن عبادة ، فبتنا نأكل منها ... ورسول الله يأكل منها ويقول : نعم الطعام التمر!

ثمّ كانت الغداة ، فقدم رسول الله الرماة ، وعبّأ أصحابه فأحاطوا بحصونهم من كلّ ناحية ، وجعل الرماة يرامونهم بالنبل والحجارة ، يعقب بعضهم بعضا.

وروى عن محمّد بن مسلمة قال : جعلنا ندنو من الحصن ونرميهم عن كثب ، ولزمنا حصونهم فلم نفارقها حتى أمسينا ...

وروى عن ابن عمر قال : كنّا نقوم حيث تبلغهم نبلنا ، وكانوا يراموننا من

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٤٩٧.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٤٩٨.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٤٩٩.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٥٠٠.


حصونهم بالنبل والحجارة أشدّ الرمي!

وقال ابن مسلمة : وما رجعنا إلى معسكرنا حتّى أمسكوا عن قتالنا وقالوا : نكلّمك.

فانزلوا نبّاش بن قيس ، فكلّم رسول الله فقال :

يا محمّد ، ننزل على ما نزلت عليه بنو النضير : لك الأموال والحلقة (١) وتحقن دماءنا ، ونخرج من بلادكم بالنساء والذراري ، ولنا ما حملت الإبل؟

فأبى رسول الله.

فقالوا : فتحقن دماءنا وتسلم لنا النساء والذريّة ، ولا حاجة لنا فيما حملت الإبل؟

فقال رسول الله : لا ، إلّا أن تنزلوا على حكمي.

فرجع نبّاش إلى أصحابه بمقالة رسول الله (٢).

شورى بني قريظة :

ونقل الطبرسي في «مجمع البيان» عن عروة قال :

حاصرهم رسول الله خمسا وعشرين ليلة حتى أجهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب ... فلمّا أيقنوا أنّ رسول الله غير منصرف عنهم حتى يناجزهم ، قال كعب بن أسد :

يا معشر يهود ، قد نزل بكم من الأمر ما ترون ، وإنّي عارض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا أيّها شئتم.

__________________

(١) الحلقة : السلاح.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٥٠٠ و ٥٠١.


قالوا : ما هنّ؟ قال : نبايع هذا الرجل ونصدّقه ، فو الله لقد تبيّن لكم أنّه نبيّ مرسل ، وأنّه الذي تجدونه في كتابكم ؛ فتأمنوا على دمائكم وأموالكم ونسائكم.

فقالوا : لا نفارق حكم التوراة أبدا ، ولا نستبدل به غيره!

قال : فإذا أبيتم عليّ هذه فهلمّوا فلنقتل أبناءنا ونساءنا ، ثمّ نخرج إلى محمّد رجالا مصلتين بالسيوف ولم نترك وراءنا ثقلا يهمّنا ، حتّى يحكم الله بيننا وبين محمّد ، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نسلا يهمّنا ، وإن نظهر لنجدنّ النساء والأبناء!

فقالوا : نقتل هؤلاء المساكين؟! فما خير في العيش بعدهم!

قال : فإذا أبيتم عليّ هذه فإنّ الليلة ليلة السبت ، وعسى أن يكون محمّد وأصحابه قد أمنوا فيها ، فانزلوا فلعلّنا نصيب منهم غرّة!

فقالوا : نفسد سبتنا ونحدث فيها ما أحدث من كان قبلنا فأصابهم ما قد علمت من المسخ؟!

فقال لهم : ما بات رجل منكم منذ ولدته امّه ليلة واحدة من الدهر حازما! (١).

مشورة أبي لبابة وخيانته :

نقل الطبرسي في «مجمع البيان» عن الكلبي عن الزهري : أنّ رسول الله لمّا أبى إلّا أن ينزلوا على حكمه ... قالوا : أرسل إلينا أبا لبابة. وكان ماله وعياله

__________________

(١) مجمع البيان ٨ : ٥٥٢. ونقله ابن إسحاق بلفظه بلا إسناد ٣ : ٢٤٦. ونقله الواقدي عن محمّد بن مسلمة أكثر تفصيلا ٢ : ٥٠١ و ٥٠٢.


وولده عندهم فكان مناصحا لهم (١).

ونقل القمي الخبر في تفسيره فقال : فقال رسول الله : يا أبا لبابة ، ائت حلفاءك ومواليك. فأتاهم ، فقالوا له : يا أبا لبابة ، ما ترى؟ ننزل على حكم محمّد؟ فقال : انزلوا واعلموا أنّ حكمه فيكم الذبح ـ بالإشارة إلى حلقه ـ! ثمّ ندم على ذلك فقال : خنت الله ورسوله! ونزل من حصنهم ولم يرجع إلى رسول الله ، ومرّ إلى المسجد وشدّ في عنقه حبلا ثمّ شدّه إلى الأسطوانة التي تسمّى «اسطوانة التوبة» وقال : لا أحلّه حتّى أموت أو يتوب الله عليّ!

فبلغ ذلك رسول الله فقال : أما لو أتانا لاستغفرنا الله له ، فأمّا إذا قصد إلى ربّه فالله أولى به (٢).

__________________

(١) مجمع البيان ٤ : ٨٢٣.

(٢) تفسير القمي ١ : ٣٠٣. وروى الواقدي في المغازي ٢ : ٥٠٦ بسنده عن السائب ابن أبي لبابة عن أبيه قال : لمّا أرسل بنو قريظة إلى رسول الله يسألونه أن يرسلني إليهم ، دعاني رسول الله فقال : اذهب إلى حلفائك ، فإنّهم أرسلوا إليك من بين الأوس.

قال : فدخلت عليهم فأسرعوا إلي وقالوا :

يا أبا لبابة ، نحن مواليك دون الناس كلّهم.

وقام كعب بن أسد فقال : أبا بشير ، قد علمت ما صنعنا في أمرك وأمر قومك يوم الحدائق وبعاث وكلّ حرب كنتم فيها ، وقد اشتدّ علينا الحصار وهلكنا ، ومحمّد يأبى أن يفارق حصننا حتى ننزل على حكمه ، ولو زال عنّا لحقنا بأرض الشام أو خيبر ولم نكثر عليه جمعا أبدا ... ثمّ قال كعب : فما ترى؟ فإنّا قد اخترناك على غيرك؟ إنّ محمّدا قد أبى إلّا أن ننزل على حكمه ، أفننزل؟

قال أبو لبابة : فقلت نعم فانزلوا. وأومأت إلى حلقي أنّه الذبح.

ثمّ نزلت والناس ينتظرون رجوعي إليهم ... وندمت واسترجعت وبكيت وأخذت من وراء الحصن طريقا آخر حتّى جئت إلى المسجد فارتبطت إلى الأسطوانة المخلّقة (المخلّقة :


وفي ليلة نزول بني قريظة على حكم رسول الله قام فيهم رجل يدعى عمرو بن سعدى ، فروى الواقدي أنّه قال لهم :

يا معشر اليهود ، إنّكم قد حالفتم محمّدا على ما حالفتموه عليه : أن لا تنصروا عليه أحدا من عدوّه ، وأن تنصروه على من دهمه ، فنقضتم ذلك العهد الذي كان بينكم وبينه ، فلم أدخل فيه ولم اشرككم في غدركم. فإن أبيتم أن تدخلوا معه فاثبتوا على اليهوديّة واعطوا الجزية (١) وو الله ما أدري يقبلها أم لا؟

فقالوا له : نحن لا نقرّ للعرب بخرج في رقابنا يأخذوننا به ، القتل خير من ذلك!

فقال لهم : فإنّي بريء منكم.

وقام منهم أسد بن عبيد ـ ومعه ابنا أخيه اسيد وثعلبة ابنا سعية ـ فقال لهم :

يا معشر بني قريظة ، والله إنّكم لتعلمون أنّه رسول الله وأنّ صفته عندنا ، حدّثنا بها علماؤنا وعلماء بني النضير. هذا أوّلهم ـ وأشار إلى حييّ بن أخطب وكان قد دخل حصن بني قريظة بعد رجوع قريش ـ مع جبير بن الهيّبان أصدق الناس عندنا ، فهو قد خبّرنا بصفته عند موته!

فقالوا له : لا نفارق التوراة.

__________________

ـ المطلاة بالخلوق : نوع من العطر العربيّ قديما).

وبلغ رسول الله ذهابي وما صنعت فقال : دعوه حتّى يحدث الله فيه ما يشاء ، لو كان جاءني استغفرت له ، فأمّا إذ لم يأتني وذهب فدعوه! (مغازي الواقدي ٢ : ٥٠٦ و ٥٠٧).

(١) هذا أوّل ذكر للجزية في صدر الإسلام من دون سبق قرآن أو سنّة فيها. وأصلها باليونانية : گزيت بمعنى الضريبة على الرءوس.


فلمّا رأى هؤلاء النفر إباء قومهم نزلوا في تلك الليلة فأسلم هؤلاء الثلاثة وأمّا عمرو بن سعدى ففرّ على وجهه فلم يدر أين ذهب (١).

نزولهم على الحكم :

قال القمي في تفسيره : وبقوا أيّاما ، حتّى جزعوا جزعا شديدا وبكت النساء والصبيان ... فلمّا اشتدّ عليهم الحصار نزلوا على حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأمر بالرجال فكتّفوا وكانوا سبعمائة ، وأمر بالنساء فعزلن (٢).

وقام الأوس إلى رسول الله فقالوا : يا رسول الله حلفاؤنا وموالينا من دون الناس ، نصرونا على الخزرج في المواطن كلّها ، وقد وهبت لعبد الله بن ابيّ سبعمائة دارع وثلاثمائة حاسر في صحيفة واحدة ، ولسنا نحن بأقلّ من عبد الله بن ابيّ!

فلمّا أكثروا على رسول الله قال لهم : أما ترضون أن يكون الحكم فيهم إلى رجل منكم؟!

فقالوا : بلى ، فمن هو؟ قال : سعد بن معاذ. قالوا : قد رضينا بحكمه.

فأتوا به في محفّة ، واجتمعت الأوس حوله يقولون له :

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٥٠٣ و ٥٠٤. واختصر خبرهما ابن إسحاق في السيرة ٣ : ٢٤٩.

(٢) وقال الواقدي : أمر رسول الله بأسرهم وجعل على كتافهم محمد بن مسلمة ، فكتّفوا رباطا ونحّوا ناحية. وأخرجوا النساء والذريّة من الحصون فكانوا ناحية. واستعمل رسول الله عليهم عبد الله بن سلام. وأمر رسول الله بجمع أمتعتهم وما وجد في حصونهم من الحلقة (السلاح) والأثاث والثياب.

فروى أنّهم وجدوا فيها ألفي رمح ، وألفا وخمسمائة سيف ، والفا وخمسمائة ترس وجحفة (من جلود) وثلاثمائة درع. وأخرجوا أثاثا كثيرا وآنية كثيرة ، وجرارا من خمر وسكر ، فأراقوها ولم يخمّسوها (وخمّسوا ما عداها) وجمالا وماشية ـ مغازي الواقدي ٢ : ٥٠٩ و ٥١٠.


يا أبا عمرو ، اتّق الله وأحسن في حلفائك ومواليك ، فقد نصرونا ببعاث والحدائق والمواطن كلّها.

فلمّا أكثروا عليه قال : لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم!

فقال الأوس : وا قوماه! ذهبت ـ والله ـ بنو قريظة! وبكت النساء والصبيان حول سعد ، فلمّا سكتوا قال لهم :

يا معشر يهود! أرضيتم بحكمي فيكم؟

فقالوا : بلى قد رضينا بحكمك ، وقد رجونا نصفك ومعروفك وحسن نظرك!

فأعاد عليهم القول ، فقالوا : بلى يا أبا عمرو!

فالتفت إلى رسول الله إجلالا له فقال :

ما ترى بأبي أنت وامّي يا رسول الله؟

قال : احكم فيهم يا سعد ؛ فقد رضيت بحكمك فيهم (١).

فروى الطبرسي في «إعلام الورى» عن الصادق عليه‌السلام قال : فحكم فيهم بقتل الرجال ، وسبي الذراري والنساء ، وقسمة الأموال ، وأن يجعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار.

فقال رسول الله : قد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة (السماوات) (٢). قال القمي : وساقوا الاسارى إلى المدينة. وكان يقول : اسقوهم العذب وأطعموهم الطيّب وأحسنوا إلى اُساراهم ...

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٩٠ و ١٩١. ونحوه في السيرة ٣ : ٢٤٩ ـ ٢٥١. وفي مغازي الواقدي ٢ : ٥١٠ ـ ٥١٢ أكثر تفصيلا.

(٢) إعلام الورى ١ : ١٩٦ وعنه المازندراني في مناقب آل أبي طالب ١ : ٢٠٠.


وأمر رسول الله باخدود فحفرت بالبقيع .. فقتلهم رسول الله في ثلاثة أيام بالغداة والعشيّ .. وكان يأمر باخراج رجل رجل ، فكان يضرب عنقه (١).

واختصر المفيد في «الإرشاد» فقال :

أقام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله محاصرا لبني قريظة خمسا وعشرين ليلة حتّى سألوه النزول على حكم سعد بن معاذ.

فحكم فيهم سعد : بقتل الرجال ، وسبي الذراري والنساء ، وقسمة الأموال.

فقال النبيّ له : يا سعد ، لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة.

وأمر النبيّ بإنزال الرجال وكانوا تسعمائة رجل ، فجيء بهم إلى المدينة ... وحبسوا في دور بني النجّار (٢).

وخرج رسول الله إلى موضع السوق ـ اليوم ـ فخندق فيه خنادق. وأمر بهم أن يخرجوا. وتقدّم إلى أمير المؤمنين أن يضرب أعناقهم في الخنادق (٣).

مقتل كعب بن أسد :

قال القمي في تفسيره : فأخرج كعب بن أسد مجموعة يداه إلى عنقه ، وكان جميلا وسيما ، فلمّا نظر إليه رسول الله قال له :

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٩١.

(٢) وقال الواقدي : فأمر بالسبي فسيقوا إلى دار اسامة بن زيد ، والنساء والذريّة إلى دار ابنه الحارث ، وأمر بأحمال التمر فنثرت عليهم. وأمر بالسلاح والأثاث والمتاع والثياب فحمل إلى دار بنت الحارث ، وتركوا الإبل والغنم هناك ترعى في الشجر.

ثمّ غدا رسول الله إلى السوق فأمر أن تحفر فيه خدود ما بين أحجار الزيت إلى موضع دار أبي جهم العدوي.

(٣) الإرشاد ١ : ١١١ ، وعددهم هنا تسعمائة ، وسيأتي أنهم كانوا سبعمائة. بل أربعمئة وخمسين : ٥٣٠.


يا كعب ، أما نفعتك وصيّة ابن خراش الحبر الذكي الذي قدم عليكم من الشام فقال :

«تركت الخمر والخمور ، وجئت إلى البؤس والتمور ، لنبيّ يبعث ، مخرجه بمكّة ومهاجرته في هذه البحيرة ، يجتزئ بالكسيرات والتميرات ، ويركب الحمار العاري (١) في عينيه حمرة ، وبين كتفيه خاتم النبوّة ، يضع سيفه على عاتقه لا يبالي من لاقى منكم ، يبلغ سلطانه منقطع الخفّ والحافر»!

فقال كعب : قد كان ذلك يا محمّد! ولو لا أنّ اليهود يعيّروني أنّي جزعت عند القتل لآمنت بك وصدّقتك ، ولكنّي على دين اليهود ، عليه أحيى وعليه أموت!

فقال رسول الله : قدّموه فاضربوا عنقه. فضربت عنقه (٢).

ثمّ قدّم حيي بن أخطب فقال له رسول الله :

يا فاسق ، كيف رأيت صنع الله بك؟!

فقال : والله ـ يا محمّد ـ ما ألوم نفسي في عداوتك ، ولقد قلقلت كلّ مقلقل وجهدت كلّ الجهد ، ولكن من يخذل الله يخذل (٣).

وزاد المفيد في «الإرشاد» : ثمّ أقبل على الناس فقال :

أيّها الناس ، إنّه لا بدّ من أمر الله ، كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل!

ثمّ اقيم بين يدي أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو يقول : قتلة شريفة بيد شريف!

فقال له أمير المؤمنين : إنّ خيار الناس يقتلون شرارهم ، وشرارهم يقتلون

__________________

(١) نذكّر بما سبق عن القمي : أنّ النبيّ دنا من حصن بني قريظة على حمار.

(٢) وفي مغازي الواقدي ٢ : ٥١٦ مختصرا.

(٣) تفسير القمي ٢ : ١٩١ وفي مغازي الواقدي ٢ : ٥١٣ و ٥١٤ مختصرا.


خيارهم ، فالويل لمن قتله الأخيار الأشراف ، والسعادة لمن قتله الأراذل الكفّار!

فقال حييّ : صدقت! لا تسلبني حلّتي.

قال علي عليه‌السلام : هو أهون عليّ من ذلك.

فقال : سترتني! سترك الله! ثمّ مدّ عنقه فضربه علي ولم يسلبه حلّته.

ثمّ قال لمن جاء به : ما كان يقول حييّ وهو يقاد إلى الموت؟

قال : كان يقول :

لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه

ولكنّه من يخذل الله يخذل

لجاهد حتى بلّغ النفس جهدها

وحاول يبغي العزّ كلّ مقلقل (١)

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام :

لقد كان ذا جدّ وجدّ بكفره

فقيد إلينا في المجامع يعتل

فقلّدته بالسيف ضربة محفظ (٢)

فصار إلى قعر الجحيم يكبّل

فذاك مآب الكافرين ، ومن يطع

لأمر إله الخلق في الخلد ينزل

وقد كان النبيّ أتاهم قبل مباينتهم له يوما يناظرهم ، فأرسلت عليه امرأة منهم حجرا ، فعرفها ، فأمر اليوم بقتلها فقتلت من بين سائر النساء (٣).

واصطفى من نسائهم امرأة هي عمرة بنت خنافة (٤).

__________________

(١) في سيرة ابن هشام ٣ : ٢٥٢ : نسب البيتين إلى جبل بن جوّال الثعلبي والمقلقل : المذهب في الأرض ، أي في كلّ وجه ـ أساس البلاغة : ٧٨٨.

(٢) أحفظه أي : أغضبه ، محفظ أي : مغضب.

(٣) وقال ابن هشام : هي التي طرحت الرحا على خلّاد بن سويد فقتلته. وكذلك في مغازي الواقدي ٢ : ٥١٦ و ٥١٧ أكثر تفصيلا.

(٤) الإرشاد ١ : ١١٢ ، ١١٣. وفي السيرة ٣ : ٧٥٦ : ريحانة بنت عمرو بن خنافة وعرض رسول الله عليها الإسلام فأبت إلّا اليهوديّة! فوجد لذلك في نفسه وعزلها. فبينا هو مع


واستمرّ قتلهم في الصباح وقرب المساء من ثلاثة أيّام (١) ، ولم يقتلهم في

__________________

ـ أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه ... فإذا هو ثعلبة بن سعية اليهودي الذي أسلم جاءه فقال : يا رسول الله ، قد أسلمت ريحانة ، فسرّه ذلك من أمرها ، فعرض عليها أن يتزوّجها فقالت : بل تتركني في ملكك فهو أخفّ عليّ وعليك! فتركها فكانت عنده حتى توفي عنها وهي في ملكه.

وروى الواقدي في المغازي ٢ : ٥٢٠ بالإسناد عن أيّوب بن بشير المعاوي قال :

أرسل بها رسول الله إلى بيت أمّ المنذر سلمى بنت قيس (إحدى خالاته من بني النجّار) فكانت عندها حتى حاضت وطهرت ، فجاءت أمّ المنذر فأخبرته فجاءها النبيّ في منزل أمّ المنذر فقال لها : إن أحببت اعتقك وأتزوّجك فعلت ، وإن أحببت أن تكوني بالملك فعلت؟ قالت : يا رسول الله ، إنّه أخفّ عليك وعليّ أن أكون في ملكك. فكانت في ملكه حتّى مات عنها.

ونقل عن الزهري قوله : إنّها كانت تحتجب في أهلها وتقول : لا يراني أحد بعد رسول الله.

ثمّ قال : وكانت قبله صلى‌الله‌عليه‌وآله متزوّجة برجل يدعى الحكم. وعليه فلم تكن بكرا.

وقال اليعقوبي ١ : ٥٢ : اصطفى رسول الله منهم ستّ عشرة جارية فقسمها على فقراء هاشم ، وأخذ لنفسه منهنّ واحدة يقال لها : ريحانة.

(١) بينما روى الواقدي عن عائشة قالت : قتل بنو قريظة يومهم حتّى الليل على شعل السعف!

وروى عن ابن كعب القرظي قال : قتلوا إلى أن غاب الشفق ، ثمّ ردّ عليهم التراب في الخندق. وكان من شكّ فيه منهم أن يكون بلغ نظر إلى مؤتزره ، فإن كان أنبت قتل وإن كان لم ينبت طرح في السبي وروى مثله الطوسي في الأمالي : ٣٩٠ ح ٨٥٧.

فروى عن ابن حزم أنّهم كانوا ستمائة ، وعن ابن المنكدر أنّهم كانوا ما بين ستمائة إلى


حرّ الظهر ، وكان يقول : أحسنوا إلى اساراهم أطعموهم الطيّب واسقوهم العذب (١).

ونقل الطبرسي في تفسيره عن عروة قال : زعموا أنّهم كانوا ستمائة مقاتل ، فقيل إنّما قتل منهم أربعمائة وخمسون رجلا ، وسبى سبعمائة وخمسين (٢).

شفاعتان مقبولتان :

روى ابن إسحاق بالإسناد عن عبد الله بن صعصعة من بني النجّار قال : كانت أمّ المنذر سلمى بنت قيس من بني النجّار من خالات رسول الله ، قد بايعته بيعة النساء وصلّت معه القبلتين ، وكان لها معرفة ببعض بني قريظة ، فلاذ بها منهم غلام قد بلغ يدعى رفاعة بن سموأل. فقالت لرسول الله :

يا نبيّ الله ، بأبي أنت وامّي ، هب لي رفاعة فإنّه قد زعم أنّه سيصلّي ويأكل لحم الجمل ... فوهبه لها. فبقي حيّا من بينهم (٣).

وكان بنو قريظة حلفاء الأوس على الخزرج ، فنصروهم عليهم يوم بعاث ، فظفر منهم الزبير بن باطا بثابت بن قيس بن شماس من الخزرج أسيرا ، فروى ابن

__________________

ـ سبعمائة ، وعن ابن عبّاس أنّهم كانوا سبعمائة وخمسين.

فلمّا أصبحن نساء بني قريظة وعلمن بقتل رجالهن صحن وشققن الجيوب ونشرن الشعور وضربن الخدود على رجالهن ـ المغازي ٢ : ٥١٧ و ٥١٨.

(١) تفسير القمي ٢ : ١٩٢ وفي مغازي الواقدي ٢ : ٥١٤ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تجمعوا عليهم حرّ الشمس وحرّ السلاح ، أحسنوا إسارهم وقيّلوهم واسقوهم حتّى يبردوا فتقتلوا من بقي.

(٢) مجمع البيان ٨ : ٥٥٣.

(٣) سيرة ابن هشام ٣ : ٢٥٥ وفي مغازي الواقدي ٢ : ٥١٤ و ٥١٥.


إسحاق عن الزهري عن بعض ولد الزّبير : أنّه جزّ ناصية ثابت وخلّى سبيله منّا عليه.

وكان الزّبير يوم بني قريظة شيخا كبيرا أسيرا فأراد ثابت أن يردّ عليه منّته عليه في الجاهليّة ، فأتى النبيّ فقال :

يا رسول الله ، إنّه قد كانت للزبير عليّ منّة ، وقد أحببت أن أجزيه بها ، فهب لي دمه.

فقال رسول الله : هو لك.

فأتاه فقال له : إنّ رسول الله قد وهب لي دمك ، فهو لك.

قال الزبير : شيخ كبير لا أهل له ولا ولد ، فما يصنع بالحياة؟!

فأتى ثابت إلى رسول الله فقال له :

بأبي أنت وامّي ، يا رسول الله ، هب لي امرأته وولده ، قال : هم لك.

فأتاه فقال له : قد وهب لي رسول الله أهلك وولدك ، فهم لك.

قال : أهل بيت بالحجاز لا مال لهم؟! فما بقاؤهم على ذلك؟!

فأتى ثابت إلى رسول الله فقال له : يا رسول الله ماله؟ قال : هو لك.

فأتاه ثابت فقال له : قد أعطاني رسول الله مالك ، فهو لك.

قال : أي ثابت ، ما فعل الذي كأنّ وجهه مرآة صينية يتراءى فيها عذارى الحيّ ، كعب بن أسد؟ قال : قتل.

قال : فما فعل سيد الحاضر والبادي حييّ بن أخطب؟ قال : قتل.

قال : فما فعل مقدّمتنا إذا شددنا وحاميتنا إذا فررنا عزّال بن سموأل؟ قال : قتل.

قال : فما فعل الحيّان بنو كعب بن قريظة وبنو عمرو بن قريظة؟ قال : قتلوا.


قال : يا ثابت ، فإنّي أسألك بيدي عندك إلا ألحقتني بالقوم ، فو الله ما في العيش خير بعد هؤلاء! فقدّمه ثابت فضرب عنقه (١).

ونقل الواقدي الخبر ولكنّه قال : قال الزبير : يا ثابت قدّمني فاقتلني. فقال ثابت : ما كنت لأقتلك. فقال الزبير : ما كنت ابالي من قتلني! ولكن يا ثابت ، انظر إلى امرأتي وولدي فإنّهم جزعوا من الموت فاطلب إلى صاحبك أن يطلقهم ويردّ إليهم أموالهم.

فأدناه ثابت إلى الزبير بن العوّام فقدّمه فضرب عنقه.

ثمّ طلب ثابت من رسول الله في أهل الزبير وولده وماله.

فترك رسول الله أهله من السباء ، وردّ على ولده الأموال من النخل والإبل والرثة ، إلّا الحلقة (السلاح) ، فكانوا مع آل ثابت بن قيس بن شماس (٢).

تقسيم الغنائم وبيعها :

قال الطبرسي في «مجمع البيان» : ثمّ قسّم رسول الله نساءهم وأبناءهم وأموالهم على المسلمين ، وبعث بسبايا منهم إلى نجد مع سعد بن زيد الأنصاري ، فابتاع لهم بها خيلا وسلاحا (٣).

وزاد ابن إسحاق : ثمّ إنّ رسول الله أخرج الخمس من أموال بني قريظة وقسّم ما سواه على المسلمين ، فكان للفارس ثلاثة أسهم : سهمان للفرس وسهم للفارس ، وسهم للراجل (٤).

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٣ : ٢٥٣ و ٢٥٤.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٥٢٠.

(٣) مجمع البيان ٨ : ٥٥٣. ونحوه في السيرة.

(٤) سيرة ابن هشام ٣ : ٢٥٥ و ٢٥٦.


وزاد الواقدي : أنّ المسلمين كانوا ثلاثة آلاف والخيل فيهم ستّة وثلاثون فرسا ، فكانت الأسهم على ثلاثة آلاف واثنين وسبعين سهما : للفرس سهمان ولصاحبه سهم.

وروى : أنّها جزّئت خمسة أجزاء فأخرج خمسه قبل بيع المغنم فأخذ خمسه ، فكان يهب ويخدم من أراد ويعتق منه ، وكذلك صنع بما أصاب من أثاثهم فقسمها قبل أن تباع ، وكذلك عزل خمس النخل.

والذي قسم المغنم بين المسلمين محميّة بن جزء الزّبيدي.

وروى : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال يومئذ : لا يفرّق بين الام وولدها حتّى يبلغوا.

فقيل : يا رسول الله ، وما بلوغهم؟

قال : تحيض الجارية ، ويحتلم الغلام.

فكانت الام تباع مع ولدها الصغار ، ويفرّق بين الام والبنت إذا بلغت ، وكذا بين الاختين إذا بلغتا ... فإذا كان الولد صغيرا لا أمّ له لم يبع إلّا من المسلمين.

وقيل : إنّ السبي لمّا قسّم جعل الشابات منهن على حدة والعجائز على حدة ... وباع طائفة منهما لعثمان بن عفّان وعبد الرحمن بن عوف ، فخيّر عبد الرحمن عثمان ، فأخذ عثمان العجائز ... فربح عثمان مالا كثيرا ، لما كان يوجد عند العجائز من المال دون الشواب.

وبعث طائفة منهم إلى الشام مع سعد بن عبادة يبيعهم ويشتري بهم خيلا وسلاحا. وبعث طائفة اخرى إلى نجد.

وروى عن محمّد بن مسلمة قال : كان حقّي وحقّ فرسي من السبي والأرض والأثاث خمسة وأربعون دينارا ، فاشتريت بها يومئذ من السبي امرأة ومعها ابناها. وغيري مثلي.


وروى عن أسلم بن نجرة الساعدي : أنّ أبا الشحم اليهودي اشترى امرأتين مع كلّ منهما ثلاثة أطفال بنين وبنات بمائة وخمسين دينارا.

وروى : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أسهم لخلّاد بن سويد الذي قتل تحت الحصن بالحجر ، ولأبي سنان بن محصن الذي مات في المقاتلين. وشهد بني قريظة خمس نساء فلم يسهم لهن ولكنّه أعطاهن شيئا (١).

ما نزل فيها من القرآن :

مرّ في حرب الأحزاب ذكر آيات الأحزاب من الآية ٩ إلى ٢٥ من سورة الأحزاب ، وقال القمي فيها : نزلت في قصّة الأحزاب من قريش والعرب الذين تحزّبوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) وفي الآيتين ٢٦ و ٢٧ قال :

ونزل في بني قريظة : (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً* وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً)(٣).

وهذا يقتضي نزول السورة بعد بني قريظة في السنة الخامسة.

والآيات السبع التوالي ٢٨ ـ ٣٤ تخاطب أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بدءا بقوله سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً* وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) وقد قال المفسرون بشأنها ومنهم القمي :

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٥٢١ ـ ٥٢٥.

(٢) تفسير القمي ٢ : ١٧٦.

(٣) تفسير القمي ٢ : ١٨٩ و ١٩٢.


كان سبب نزولها : أنه لما رجع رسول الله من غزاة خيبر (١) وخيبر كانت في أوائل السابعة.

بل قالوا : إن أزواجه صلى‌الله‌عليه‌وآله كنّ يومئذ تسعا وعدّوا منهنّ زينب بنت جحش ـ تزوّجها في أواخر الخامسة ـ وجويرية بنت الحارث زعيم بني المصطلق ـ في السادسة ـ وصفية بنت حييّ بن أخطب ـ في أوائل السابعة ـ وميمونة بنت الحارث الهلالية ـ آخر الثامنة ـ (٢).

وهذا يقتضي نزول السورة أو هذه الآيات منها في أواخر الثامنة بعد زواجه بميمونة بنت الحارث الهلالية في عمرة القضاء في آخر الثامنة.

والآية ٣٣ منها فيها قوله سبحانه : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) وهو ما استفاضت الأخبار بنزوله في بيت أمّ سلمة في من اشتمل عليهم كساء النبيّ : هو وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام (٣) وليس في خبر من أخباره ـ على كثرتها واختلاف ألفاظها ـ أنّ الحسن عليه‌السلام أو الحسين عليهما‌السلام كان رضيعا أو طفلا محمولا ، بل يبدو منها أنّهما كانا يافعين يمشيان ويدركان ظاهرا ، فلم يكن النزول في السنة الخامسة.

وعليه فأنا اؤجّل ذكر هاتين الحادثتين : تخيير النبيّ أزواجه ، ونزول آية التطهير الى أواخر السنة الثامنة ، وفيما قبل ذلك أذكر خبر «تفسير القمي» في تخيير أزواج النبيّ بعد خيبر ، لنصّه على ذلك.

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٩٢.

(٢) التبيان ٨ : ٣٣٦ ومجمع البيان ٨ : ٥٥٤ ، ٥٥٥.

(٣) تفسير القمي ٢ : ١٩٣ وفرات الكوفي : ٣٣١ ـ ٣٤٠ والتبيان ٨ : ٣٣٩ ـ ٣٤١ ومجمع البيان ٨ : ٥٥٩ ، ٥٦٠.


شهادة سعد بن معاذ :

في «مجمع البيان» للطبرسي : قالوا : فلمّا انقضى شأن بني قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ ، فردّه رسول الله إلى الخيمة التي ضربت عليه في المسجد.

وروى عن جابر بن عبد الله قال : جاء جبرئيل إلى رسول الله فقال له :

من هذا العبد الصالح الذي مات ففتحت له أبواب السماء وتحرّك له العرش؟! فخرج رسول الله فإذا سعد بن معاذ قد قبض (١).

__________________

(١) مجمع البيان ٨ : ٥٥٣. وقال الواقدي : ودخل عليه رسول الله يعوده في نفر من أصحابه ، فجلس رسول الله عند رأسه وجعل رأسه في حجره ثمّ قال : اللهم إنّ سعدا قد جاهد في سبيلك وصدّق رسولك وقضى الذي عليه ، فاقبض روحه بخير ما تقبض فيه أرواح الخلق.

ففتح سعد عينيه فقال : السّلام عليك يا رسول الله ، أشهد أنّك قد بلّغت رسالته.

فوضع رسول الله رأسه من حجره وقام ورجع إلى منزله ، فمكث ساعة من نهار أو أكثر من ساعة فمات.

ونزل جبرئيل عليه‌السلام على رسول الله فقال له : يا محمّد ، من هذا الرجل الصالح الذي مات فيكم؟ فتحت له أبواب السماء ، واهتزّ له عرش الرحمن.

فقال رسول الله لجبرئيل : عهدي بسعد بن معاذ وهو يموت.

ثمّ خرج فزعا إلى خيمة كعيبة يجرّ ثوبه مسرعا ، فوجد سعدا قد مات (وفي السيرة ٣ : ٢٦٢).

ثمّ أمر رسول الله أن يغسّل ، فغسّله ابن أخيه الحارث بن أوس بن معاذ ، وابن عمّه اسيد ابن حضير ، وكان سلمة بن سلامة يصبّ الماء ، ورسول الله حاضر ، فغسّل بالماء الاولى ، والثانية بالماء والسدر ، والثالثة بالماء والكافور ، ثمّ كفّن في ثلاثة أثواب صحاريّة (من صحار في عمان) وأدرج فيها إدراجا. واتي بسرير كان عند آل سبط يحمل عليه الموتى فوضع على


وروى الصدوق في «الأمالي» بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال :

__________________

ـ السرير ، ورأوا رسول الله يحمله بين عمودي سريره حين رفع من داره إلى أن أخرج ... وخرج الناس معه.

فلمّا برز إلى البقيع قال : خذوا في جهاز صاحبكم.

فروى بسنده عن أبي سعيد الخدري قال : كنت أنا ممّن حفر له قبره عند دار عقيل ـ اليوم ـ وكان يفوح علينا المسك كلّما حفرنا قبره من تراب حتّى انتهينا إلى اللّحد ... وطلع علينا رسول الله وقد فرغنا من حفرته ووضعنا اللّبن والماء عند القبر ... فوضعه رسول الله عند قبره ثمّ صلّى عليه والناس قد ملأوا البقيع.

فروى عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : نزل في قبره أربعة نفر : ابن أخيه الحارث ابن أوس بن معاذ ، وابن عمّه اسيد بن حضير ، وأبو نائلة ، وسلمة بن سلامة. ورسول الله واقف على قدميه على قبره. فلمّا وضع في لحده تغيّر وجه رسول الله وسبّح ثلاثا ، فسبّح المسلمون ثلاثا حتّى ارتجّ البقيع ، ثمّ كبّر رسول الله ثلاثا ، فكبّر أصحابه ثلاثا حتّى ارتجّ البقيع بتكبيره.

فسئل رسول الله عن ذلك : يا رسول الله رأينا لوجهك تغيّرا وسبّحت ثلاثا؟!

قال : تضايق على صاحبكم قبره ، وضمّ ضمّة لو نجا منها أحد لنجا منها سعد ، ثمّ فرّج الله عنه!

(رواه ابن إسحاق في السيرة ٣ : ٢٦٣).

وروى عن المسور بن رفاعة قال : جاءت أمّ سعد تنظر إليه في اللّحد ، فردّها الناس ، فقال رسول الله : دعوها. فأقبلت حتّى نظرت إليه وهو في اللحد قبل أن يبنى عليه اللّبن والتراب فقالت : احتسبك عند الله!

وعزّاها رسول الله على قبره ، وجعل المسلمون يردّون تراب قبره ويسوّونه. وتنحّى رسول الله فجلس حتّى سوّي على قبره ورشّ على قبره الماء. ثمّ أقبل فوقف عليه فدعا له وانصرف. (مغازي الواقدي ٢ : ٥٢٥ ـ ٥٣١).


اتي رسول الله فقيل له : سعد بن معاذ قد مات. فقام رسول الله وقام أصحابه معه فأمر بغسل سعد وهو قائم على عضادة الباب.

فلمّا حنّط وكفّن وحمل على سريره تبعه رسول الله بلا حذاء ولا رداء ، ثمّ كان يأخذ يمنة السرير مرّة ويسرة السرير مرّة حتّى انتهي به إلى القبر ، فنزل رسول الله حتّى لحّده وسوّى عليه اللّبن وجعل يقول : ناولوني حجرا ناولوني ترابا فيسدّ به ما بين اللّبن. فلمّا أن فرغ وحثا عليه التراب وسوّى قبره قال رسول الله : إنّي لأعلم أنّه سيبلى ويصل البلى إليه ولكنّ الله يحبّ عبدا إذا عمل عملا أحكمه!

فلمّا أن سوّى التربة عليه قالت أم سعد ـ من جانب ـ : يا سعد هنيئا لك الجنّة!

فقال رسول الله : يا أمّ سعد لا تجزمي على ربّك ، فإنّ سعدا قد أصابته ضمّة!

فلمّا رجع رسول الله ورجع الناس قالوا له : يا رسول الله ، لقد رأيناك صنعت على سعد ما لم تصنعه على أحد ، إنّك تبعت جنازته بلا حذاء ولا رداء؟!

فقال : إنّ الملائكة كانت بلا رداء ولا حذاء فتأسّيت بها!

قالوا : وكنت تأخذ يمنة السرير ويسرته؟!

فقال : كانت يدي بيد جبرئيل عليه‌السلام آخذ حيث يأخذ!

فقالوا : أمرت بغسله وصلّيت على جنازته ولحّدته في قبره ثمّ قلت : إنّ سعدا قد أصابته ضمّة!

فقال : نعم ، إنّه كان في خلقه سوء مع أهله (١).

__________________

(١) أمالي الصدوق وأمالي الطوسي : ٤٢٧ ح ٩٥٥ وعنهما في بحار الأنوار ٢٢ : ١٠٧ و ١٠٨.


توبة أبي لبابة :

قال القمي في تفسيره : كان أبو لبابة بن عبد المنذر يصوم النهار ، وإنّما يأكل بالليل ما يمسك به رمقه ممّا كانت تأتيه به ابنته ، وتحلّه عند قضاء الحاجة.

وذات ليلة كان رسول الله في بيت أمّ سلمة إذ نزلت توبته ، فقال رسول الله لام سلمة : يا أمّ سلمة ، قد تاب الله على أبي لبابة.

فقالت أمّ سلمة : أفأؤذنه بذلك؟ فأذن لها ، فأخرجت رأسها من الحجرة فقالت :

يا أبا لبابة ، أبشر! لقد تاب الله عليك. فقال : الحمد لله. ووثبوا ليحلّوه فقال :

لا والله ، حتّى يحلّني رسول الله! فجاءه رسول الله فقال :

يا أبا لبابة ، قد تاب الله عليك توبة لو ولدت من امّك يومك هذا لكفاك!

فقال : يا رسول الله ، أفأتصدّق بمالي كلّه؟ قال : لا ، قال : فبثلثيه؟ قال : لا. قال : فبثلثه؟ قال : نعم. فأنزل الله تعالى :

(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(١).

__________________

(١) التوبة : ١٠٢ ـ ١٠٤. والخبر في تفسير القمي ١ : ٣٠٣ ، ٣٠٤. وفي الآية ٢٧ من سورة الأنفال قال : نزلت هذه الآية مع الآية في سورة التوبة التي نزلت في أبي لبابة في غزوة بني


سريّة أبي عتيك إلى خيبر :

قال الطبرسي في «إعلام الورى» : وبعث رسول الله عبد الله بن عتيك إلى خيبر ليغتال أبا رافع (سلام) بن أبي الحقيق (١).

__________________

ـ قريظة في سنة خمس من الهجرة وقد كتبت في هذه السورة مع أخبار بدر على رأس ستّة عشر شهرا من الهجرة ١ : ٢٧١. وقال الطوسي في التبيان ٥ : ٢٩٠. وهو المرويّ عن الباقر والصادق عليهما‌السلام ونقله كذلك في مجمع البيان ٥ : ١٠١.

وروى ابن إسحاق في السيرة ٣ : ٢٤٨ بسنده عن أمّ سلمة قالت : فسمعت رسول الله في السحر وهو يضحك! فقلت : ممّ تضحك يا رسول الله؟ أضحك الله سنّك. قال : تيب على أبي لبابة! قلت : أفلا أبشّره يا رسول الله؟ قال : بلى إن شئت ـ وكان ذلك قبل أن يضرب عليهنّ الحجاب ـ فقمت على باب حجرتي فقلت :

يا أبا لبابة ، أبشر ، فقد تاب الله عليك!

فثار الناس إليه ليطلقوه ، فقال : لا ـ والله ـ حتّى يكون رسول الله هو الذي يطلقني بيده. فلمّا خرج رسول الله لصلاة الصبح أطلقه.

وبالإسناد تامّا رواه الواقدي في مغازي الواقدي ٢ : ٥٠٨.

وروى عن أمّ سلمة أيضا قالت : رأيت رسول الله يحلّ عنه رباطه ، وإن رسول الله ليرفع صوته ويكلّمه ويخبره بتوبته فما يدري كثيرا ممّا يقول ، من الجهد والضعف.

ثمّ قال : ويقال ... كان الرباط من شعر ولقد مكث خمس عشرة ليلة مربوطا ، فكان الرباط قد حزّ في ذراعيه ، فكان يداويهما دهرا بعد ذلك ، وبعد ما بريء كان ذلك بيّنا في ذراعيه.

وروى عن الزهري قال : إنّما ارتبط سبعا بين يوم وليلة ، عند الأسطوانة التي عند باب أمّ سلمة ، وكان ذلك في حرّ شديد ، وهو لا يأكل فيهن ولا يشرب ، حتّى إنّه ما كان يسمع الصوت من الجهد. هذا ، ومحاصرة بنى قريظة كانت بعد الخندق ، وهي كانت في برد شديد ، كما مرّ الخبر عنه في الصفحة : ٥٢٦ فما بعدها.

(١) إعلام الورى ١ : ١٩٦.


وقال ابن إسحاق : لمّا انقضى شأن الخندق وأمر بني قريظة ، كان سلّام بن أبي الحقيق ممّن حزّب الأحزاب على رسول الله.

فروى عن ابن شهاب الزهري ، عن عبد الله بن كعب ، عن أبيه كعب بن مالك الأنصاري قال : كان ممّا صنع الله لرسوله أن هذين الحيّين من الأنصار الأوس والخزرج كانا يتسابقان في نصرة رسول الله ، لا تصنع الأوس شيئا لا تنتهي الخزرج حتى تفعل مثله ، وتفعل الخزرج شيئا فتفعل الأوس مثله.

وكانت الأوس ـ بعد بدر وقبل احد ـ قتلت كعب بن الأشرف لتحريضه على رسول الله ... فاستأذنته الخزرج بعد الخندق في قتل ابن أبي الحقيق ، وكان في العداوة لرسول الله كابن الأشرف ، فأذن لهم في ذلك.

فانتدب لذلك منهم أربعة هم : الحارث بن ربعي ، وعبد الله بن أنيس ، وعبد الله بن عتيك ، ومسعود بن سنان ، وخامسهم الخزاعي بن الأسود الأسلمي حليفهم. وأمّر عليهم رسول الله منهم عبد الله بن عتيك. ونهاهم عن أن يقتلوا امرأة أو وليدا (١).

وروى الواقدي بسنده عن عطية بن عبد الله بن أنيس ، عن أبيه ، قال : وقد كانت أمّ عبد الله بن عتيك بالرضاعة يهوديّة في خيبر (٢). فكان عبد الله يرطن باليهوديّة ، فقدّمناه لذلك (٣) وخرجنا من المدينة (في السحر ليلة الإثنين لأربع خلون من ذي الحجّة) حتّى انتهينا إلى خيبر ، فبعث عبد الله إلى امّه

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٣ : ٢٨٦ ، ٢٨٧.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٣٩١.

(٣) مغازي الواقدي ١ : ٣٩٢.


اليهوديّة بخيبر فأعلمها بمكانه خارج خيبر. فخرجت إلينا بجراب مملوء خبزا وتمرا كبيسا ، فأكلنا منه.

ثمّ قال لها عبد الله : يا امّاه ، إنّا قد أمسينا (١) فأدخلينا خيبر وبيّتينا عندك!

فقالت له : ومن تريد فيها؟ قال : أبا رافع. قالت : فادخلوا في غمار الناس فادخلوا عليّ ليلا ، فإذا هدأت الرجل فاكمنوا له. ففعلوا ودخلوا عليها ليلا ، فلمّا هدأت الرجل قالت لهم : انطلقوا (٢).

وروى ابن إسحاق عن الزهري ، عن عبد الله بن كعب ، عن كعب بن مالك الأنصاري قال : فخرجوا حتّى أتوا دار ابن أبي الحقيق ليلا ، فلم يدعوا بيتا في الدار إلّا أغلقوه على أهله ، وكان هو في قصر عال يصعد إليه بعجلة (٣).

وفي رواية الواقدي قال عبد الله بن أنيس : فقدّمنا عبد الله بن عتيك وصعدنا واستفتحنا عليه ، فجاءت امرأته فقالت : ما شأنك؟ فرطن ابن عتيك باليهوديّة وقال : جئت أبا رافع بهديّة ، ففتحت له ، فازدحمنا على الباب أيّنا يبادر إليه ، فلمّا رأت السلاح أرادت أن تصيح فأشرت إليها بالسيف ، فسكتت ، فقلت لها : أين أبو رافع؟ وإلّا ضربتك بالسيف! فقالت : هو ذاك في البيت.

فدخلنا عليه ، فما عرفناه إلّا ببياضه كأنّه قبطيّة (٤) ملقاة ، فعلوناه بأسيافنا ، فصاحت امرأته ، فهمّ بعضنا أن يخرج إليها ثمّ ذكرنا أنّ رسول الله نهانا عن قتل

__________________

(١) من هنا يعلم أنّ المسير من المدينة إلى خيبر استغرق بياض النهار.

(٢) مغازي الواقدي ١ : ٣٩١ و ٣٩٢.

(٣) سيرة ابن هشام ٣ : ٢٨٧. والعجلة : جذع النخلة يصعد عليها إلى الغرف العالية في الدار ـ لسان العرب ١٣ : ٤٥٦ ـ.

(٤) القبطية ـ بالكسر والضمّ ـ : ثياب بيضاء مصريّة منسوبة إلى أقباطها.


النساء. وكان سقف البيت منخفضا فكانت سيوفنا ترتدّ إلينا ، فاتّكأت بسيفي على بطنه حتّى سمعت صوت نفوذه في الفراش ، فعرفت أنّه قتل ، وأصابه من معي أيضا ، ولمّا تصايحت امرأته تصايح أهل الدار ولكنّهم لم يفتحوا أبوابهم طويلا حتّى نزلنا واختبأنا في منهر خيبر (١) ثمّ خرجت اليهود ومعهم كبيرهم الحارث أبو زينب في أيديهم النيران في شعل السعف يطلبوننا ، ونحن في بطن المنهر وهم على ظهره فلا يروننا. ولمّا أوعبوا في الطلب فلم يروا شيئا رجعوا إلى امرأته.

وقال قومنا فيما بينهم : لو أنّ بعضنا أتاهم فنظر هل مات الرجل أم لا؟ وكان أبو قتادة الأسود بن خزاعي (٢) قد نسي قوسه وذكرها بعد ما نزلنا ... فخرج الأسود وتشبّه بهم فجعل في يده شعلة كشعلهم حتّى دخل مع القوم ... وكرّ القوم ثانية إلى القصر فكرّ معهم فوجد الدار قد امتلأت ، وأقبلوا ينظرون إلى أبي رافع ، وأقبلت امرأته ومعها شعلة من نار وأحنت عليه تنظر أحيّ هو أم ميّت؟ فقالت : لقد فاضت نفسه وإله موسى! وإذا الرجل لا يتحرّك منه عرق. وأخذوا في جهازه يدفنونه.

قال الأسود : فخرجت معهم فانحدرت على أصحابي في المنهر فأخبرتهم.

ومكثنا في مكاننا يومين حتّى سكن عنّا الطلب ، ثمّ خرجنا مقبلين إلى المدينة.

فقدمنا على النبيّ ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ وهو على المنبر ، فلمّا رآنا قال : أفلحت الوجوه!

__________________

(١) المنهر النافذ من خارج الحصن إلى داخله يجري منه الماء في وقته ـ لسان العرب ٧ : ٩٥ ـ.

(٢) كذا في الواقدي ، وقد مرّ عن ابن إسحاق : خزاعي بن الأسود الأسلمي.


فقلنا : أفلح وجهك يا رسول الله! قال : أقتلتموه؟ قلنا : نعم ، وكلّنا يدّعي قتله!

فقال : عليّ بأسيافكم ، فأتيناه بأسيافنا ، فقال ـ مشيرا إلى سيف بن أنيس ـ : هذا قتله ، هذا أثر الطعام في السيف (١).

سريّة أبي عبيدة :

قال المسعودي في «التنبيه والإشراف» : ثمّ كانت سريّة أبي عبيدة بن الجرّاح الفهري القرشي ، إلى سيف البحر ، في ذي الحجّة (٢) للسنة الخامسة.

وقال الكازروني في «المنتقى» : في ذي الحجّة من هذه السنة (الخامسة) ركب رسول الله فرسا إلى الغابة (قرب المدينة) فسقط عنه فجرح فخذه الأيمن ، فأقام في البيت خمسة أيّام يصلّي فيها قاعدا.

وقال : وفي هذه السنة نزلت فريضة الحجّ ، وأخّره رسول الله (٣).

زواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بزينب بنت جحش :

قال المسعودي : وفي هذه السنة (الخامسة للهجرة) تزوّج رسول الله

__________________

(١) مغازي الواقدي ١ : ٣٩١ ـ ٣٩٤. وفيه بسنده عن ابن عباس انه لما قتل أبو رافع أمرت اليهود اسير بن رزام وكان رجلا شجاعا فأرسل إليه رسول الله سرية اخرى فقتلوه في شوّال سنة ست ، كما سيأتي فأمّروا بعده كنانة بن ابي الحقيق أخا سلام المقتول هذا ، فكانت معه غزوة خيبر. (٢ : ٥٦٦)

(٢) التنبيه والإشراف : ٢١٧.

(٣) عنه في بحار الأنوار ٢٠ : ٢٩٨.


بزينب بنت جحش ابنة عمّته اميمة بنت عبد المطّلب (١).

وفي رواية أبي الجارود في تفسير القمي عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال :

إنّ رسول الله خطب ابنة عمّته زينب بنت جحش لزيد بن حارثة (٢)

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٢٨٩ ، والتنبيه والإشراف : ٢١٧ وقال الكازروني في المنتقى : تزوّجها رسول الله لهلال ذي القعدة سنة خمس ، وهي يومئذ بنت خمس وثلاثين سنة ـ بحار الأنوار ٢٠ : ٢٩٧.

(٢) فقالت : يا رسول الله حتّى اؤامر نفسي فانظر! فأنزل الله : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (الاحزاب : ٣٦) فقالت : يا رسول الله ، أمري بيدك ... «تفسير القمي ٢ : ١٩٤ ونقل الطوسي في التبيان ٨ : ٣٤٣ مثله عن قتادة ومجاهد عن ابن عبّاس. وعنه الطبرسي في مجمع البيان ٨ : ٥٦٣».

هذا وقد ذكر في التبيان ٨ : ٣٣٤ وعنه في مجمع البيان ٨ : ٥٥٤ و ٥٥٥ في تفسير الآية ٢٨ من سورة الاحزاب : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ ...) : أنّهنّ كنّ يومئذ تسعا. وعدّا منهنّ زينب بنت جحش. ومقتضى هذا أن تكون هذه الآية متأخّرة عن الآية ٣٦ ولا أقلّ من عام.

والآية التالية لها : ٣٧ في طلاق زيد لزينب وزواج الرسول بها ، ولا بدّ من فصل معتدّ به بين خطبتها لزيد وطلاقها وزواج الرسول بها ، فكيف اقترنت الآيتان؟!

وقد قال القمي في تفسيره ٢ : ١٩٢ : أنّ نزول الآية ٢٨ كان بعد رجوع النبيّ من غزاة خيبر.

وتستمرّ الآيات في سياق واحد فتحتوي في الآية ٣٣ على قوله سبحانه : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) في علي والزهراء والحسنين عليهم‌السلام ، ويظهر من أخبار نزول الآية ما يؤيّد نزولها بعد خيبر ، ولذلك فنحن نؤجّل ذكر ذلك إلى حوادث ما بعد خيبر.


(الكلبي) (١) فزوّجها إيّاه. فمكثت عند زيد ما شاء الله.

ثمّ إنّهما تشاجرا في شيء إلى رسول الله ... فقال زيد :

يا رسول الله ، تأذن لي في طلاقها ، فإنّ فيها كبرا وإنّها لتؤذيني بلسانها!

فقال رسول الله : اتّق الله وأمسك عليك زوجك ، وأحسن إليها.

ثمّ إنّ زيدا طلّقها ، وانقضت عدّتها ... فأنزل الله نكاحها على رسول الله قال :

(... فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً* ما كانَ عَلَى

__________________

(١) روى القمي في تفسيره أيضا ٢ : ١٧٢ عن الصادق عليه‌السلام قال :

إنّ رسول الله لمّا تزوّج بخديجة بنت خويلد خرج إلى سوق عكاظ في تجارة لها ، ورأى زيدا يباع ، ورآه غلاما كيّسا حصيفا (عاقلا حكيما) فاشتراه (لها).

فلمّا نبّئ رسول الله دعاه إلى الإسلام ، فأسلم.

وكان أبوه حارثة بن شراحيل الكلبي رجلا جليلا ، فلمّا بلغه خبر ولده قدم مكّة فأتى أبا طالب فقال :

يا أبا طالب ، إنّ ابني وقع عليه السبي ، وبلغني أنّه صار إلى ابن أخيك ، فسله إمّا أن يبيعه وإمّا أن يفاديه ، وإمّا أن يعتقه.

فكلّم أبو طالب رسول الله ، فقال رسول الله : هو حرّ فليذهب كيف يشاء!

فقام حارثة فأخذ بيد زيد وقال له : يا بنيّ ، الحق بشرفك وحسبك!

فقال زيد : لست افارق رسول الله ما دمت حيّا!

فغضب أبوه فقال : يا معشر قريش ، اشهدوا أنّي قد برئت منه وليس هو ابني!

فقال رسول الله : اشهدوا أنّ زيدا ابني أرثه ويرثني! فكان يدعى : زيد بن محمّد.


النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً* الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً* ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)(١).

وقال الطوسي في «التبيان» : إنّ زيدا جاء إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مخاصما زوجته زينب بنت جحش على أن يطلّقها ، فقال له : أمسكها ولا تطلّقها ووعظه ... وكان الله قد أمره أن يتزوّجها إذا طلّقها زيد ، وخشي هو من إظهار هذا للناس وأخفاه في نفسه ، فقال الله له : إن تركت إظهار هذا خشية الناس فترك إضماره من خشية الله أحقّ وأولى.

فلمّا طلّق زيد امرأته زينب أذن الله لنبيّه أن يتزوّجها ، وأراد بذلك نسخ ما كان عليه أهل الجاهليّة من تحريم زوجة الدّعي (٢).

وروى الطبرسي في «مجمع البيان» عن زين العابدين عليه‌السلام قال :

إنّ الذي أخفاه في نفسه هو : أنّ الله سبحانه كان قد أعلمه أنّ زيدا سيطلّقها وأنّها ستكون من أزواجه. فلمّا جاء زيد وقال له : اريد أن اطلّق زينب وقال له : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) قال الله له : لم قلت : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) وقد أعلمتك أنّها ستكون من أزواجك؟! (٣).

وروى الصدوق في «عيون أخبار الرضا» عنه عليه‌السلام قال : جاء زيد بن حارثة إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال له : يا رسول الله ، إنّ امرأتي في خلقها سوء فأريد طلاقها!

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٩٤ والآية من سورة الأحزاب : ٣٧ ـ ٤٠.

(٢) التبيان ٨ : ٣٤٤ و ٣٤٥.

(٣) مجمع البيان ٨ : ٥٦٤.


فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ).

وقد كان الله ـ عزوجل ـ عرّفه عدد أزواجه وأنّ تلك المرأة منهنّ ، فأخفى ذلك في نفسه ولم يبده لزيد ، وخشي أن يقول الناس : إنّ محمّدا يقول لمولاه : إنّ امرأتك ستكون زوجة لي ، يعيّبونه بذلك. فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ) ثمّ إنّ زيد بن حارثة طلّقها واعتدت منه ، فزوّجها الله ـ عزوجل ـ من نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنزل بذلك قرآنا فقال ـ عزوجل ـ : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً)(١).

كان هذا في جواب المأمون الخليفة العبّاسي ، وكذلك علي بن الجهم في مجلسه :

روى الصدوق فيه عنه أيضا قال : وأمّا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وقول الله ـ عزوجل ـ : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ). فإنّ الله ـ عزوجل ـ عرّف نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أسماء أزواجه في دار الدنيا وأسماء أزواجه في دار الآخرة ، وممّن سمى له زينب بنت جحش ، وهي يومئذ زوجة زيد بن حارثة. فأخفى اسمها في نفسه ولم يبده ، لكي لا يقول أحد من المنافقين : أنّه قال في امرأة في بيت رجل أنّها إحدى أزواجه من امّهات المؤمنين ، وخشي قول المنافقين فقال الله ـ عزوجل ـ : (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ)(٢).

والآيات التالية : (ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ ، سُنَّةَ اللهِ

__________________

(١) عيون أخبار الرضا ١ : ٢٠٣.

(٢) عيون أخبار الرضا ١ : ١٩٥. والآية : ٣٧ من سورة الأحزاب.


فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً* الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً)(١) وكأنّ الآية استدراك على قوله سبحانه (... وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ ...) فتصفه مع (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) ثم ختمت الموضوع بالآية الاخيرة فيه : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)(٢).

وفي الآية ٤ و ٥ من أوائل السورة بداية التمهيد لهذا الحكم ، قوله سبحانه : (... ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ* ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ ...).

ثم تنصرف الآيات التالية عن هذا الموضوع الى حرب الأحزاب ، ثم بني قريظة ، ثم أزواج النبي وتخييرهم بين الحياة الدنيا وزينتها أو الله ورسوله والدار الآخرة. وقد قال المفسّرون أنهنّ كنّ يومئذ تسعا : سودة بنت زمعة ، وعائشة ، وحفصة ، وأمّ سلمة بنت ابي أميّة ، وزينب بنت جحش الاسدية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقية ، وصفية بنت حييّ بن أخطب الخيبرية ، وميمونة بنت الحارث الهلالية (٣) وقد تزوّج جويرية في السادسة ، وصفية وميمونة في أوّل وآخر السابعة ، وهذا يقتضي نزول السورة أو هذه الآيات منها بعد ذلك! ولذلك فنحن نؤخّر خبره الى هنالك ، بما ضمنت الآية ٣٣ من قوله سبحانه : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ

__________________

(١) الأحزاب : ٣٨ ـ ٣٩.

(٢) الأحزاب : ٤٠.

(٣) التبيان ٨ : ٣٣٤ ، ٣٣٥ ومجمع البيان ٩ : ٥٥٤ و ٥٧٣ و ٥٧٤.


لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) وبما بعدها من الآية ٣٥ : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ ...) لما جاء في شأن نزولها من ذكر أسماء بنت عميس بعد رجوعها من الحبشة في السابعة.

ثم تعود الآيات فتستأنف قصة زينب بنت جحش وزوجها زيد من الآية ٣٦ : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ ...) وتنهي الموضوع بالآية ٤٠ عددا وتنصيصا : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ ...).

ثمّ تتخلّل اثنتا عشرة آية منها ثلاث آيات تعود على أزواج النبيّ.

ثمّ تعود الآية ٥٣ الى ما يتعلق بوليمته صلى‌الله‌عليه‌وآله لزواجه بزينب وهو قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً).

ففي تفسير القمي : لمّا تزوّج رسول الله بزينب بنت جحش ... أولم ودعا أصحابه وكان أصحابه اذا اكلوا أحبوا أن يتحدثوا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو يحب أن يخلو مع زينب ، فأنزل الله الآية (١).

وروى الطبرسي عن أنس بن مالك قال : ان رسول الله ذبح شاة ، وأعدّ تمرا وسويقا ، وبعثت أمي أمّ سليم إليه بإناء من حجارة فيه حيس (وهو تمر يخرج نواه ويعجن في اقط وسمن) وأمرني رسول الله أن ادعو أصحابه الى الطعام.

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٩٥.


فدعوتهم ، فجعل القوم يجيئون ويأكلون ويخرجون ، ثم يجيء القوم فيأكلون ويخرجون حتى ما وجدت أحدا ادعوه فقلت ذلك لرسول الله فقال : ارفعوا طعامكم ، فرفعوه وخرج القوم ، وبقي ثلاثة نفر يتحدثون في البيت فأطالوا المكث ، فقام صلى‌الله‌عليه‌وآله فمشى حتى بلغ حجرة عائشة ، وظن أنهم قد خرجوا فرجع فاذا هم جلوس مكانهم! وكان رسول الله يريد ان يخلو له المنزل. فنزلت الآية (١) مما يقتضي نزولها في زواج النبي بزينب بعد الاحزاب في الخامسة.

وجوب الحجاب :

وفي الآية : (... وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ...) وفي الآية ٥٥ : (لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) وقبلها في الآية ٣٢ : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً* وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى ...) وبعدها في الآية ٥٩ : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).

وفي الآية الأخيرة في تفسير القمي قال : كان سبب نزولها أن النساء كنّ يخرجن الى المسجد يصلين خلف رسول الله ، فاذا كان بالليل وخرجن الى صلاة المغرب والعشاء الآخرة والغداة قعد الشبان لهنّ في طريقهنّ فيؤذونهنّ ويتعرضون لهنّ فانزل الله الآية (٢). وروى ابن سعد في «الطبقات» عن انس بن

__________________

(١) مجمع البيان ٩ : ٥٧٤.

(٢) تفسير القمي ٢ : ١٩٦ ونحوه في مجمع البيان ٩ : ٥٨٠.


مالك : أن وجوب الحجاب كان في سنة زواج النبي بزينب. وعن ابن سعد أيضا أنه كان في ذي القعدة (١).

امّهات المؤمنين :

وفي الآية السادسة : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ ...) وجاء في ذيل الآية ٥٣ : (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً).

وفي تفسير القمي : كان سبب نزولها : أنه لما أنزل الله (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ ...) ... قال طلحة [بن عبيد الله التيمي ابن عم عائشة] : تزوّج محمد نساءنا ويحرّم علينا نساءه؟! لئن أمات الله محمدا لنفعلنّ كذا وكذا ... فأنزل الله الآية (٢).

ونقل الطوسي عن السديّ قال : لما نزلت آية الحجاب ، قال رجل من بني تيم (؟!) أنحجب عن بنات عمّنا [عائشة] ان مات عرّسنا بهنّ ، فنزل قوله : (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا ...).

وعن الشعبي عن عكرمة قال : لما نزلت آية الحجاب قال آباء النساء وأبناؤهن : ونحن أيضا مثل اولئك؟ فأنزل الله : (لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً)(٣).

__________________

(١) كما في الميزان ١٦ : ٣٤٣.

(٢) تفسير القمي ٢ : ١٩٥.

(٣) التبيان ٨ : ٣٥٨ ومجمع البيان ٩ : ٥٧٧. وفي الميزان ١٦ : ٣٤٣ خبر السدّي عن الدر


وروى الطبرسي عن ابن عباس قال : قال رجل من الصحابة (؟!) : لئن قبض رسول الله لأنكحنّ عائشة بنت ابي بكر! وقال مقاتل : هو طلحة بن عبيد الله (١).

والآية ٥٠ : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ ...) قال القمي يعني من الغنيمة (٢) والتي أفاءها الله عليه من غنيمة الحرب هي : أوّلا : جويرية بنت الحارث زعيم بني المصطلق ، وغزوهم كان في السادسة. وثانية : صفية بنت حييّ بن أخطب في حرب خيبر في أوائل السابعة. فهذا يقتضي نزولها لا أقل بعد حرب بني المصطلق بما في الآية من قوله سبحانه : (... وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ ...) وشأن نزولها. فالى هنالك.

والآيتان : ٢٨ و ٢٩ وهما آيتا التخيير : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها ...) قد قال القمي في سبب نزولهما : أنه لما رجع رسول الله من غزاة خيبر (٣) بل في «التبيان» و «مجمع البيان» ما يدل على نزولهما بعد زواجه بميمونة بنت الحارث الهلالية في آخر السابعة (٤) فالى هنالك.

__________________

ـ المنثور ومرّ الخبر عن الحميدي عن السدي نفسه نزول الآيات بعد زواجه بام سلمة وحفصة وقول عثمان وطلحة عن كشف الحقّ للعلّامة الحلي : ٢٤٧ ط. بغداد ، في الصفحة ٤٦٢ من هذا الكتاب ، فراجع.

(١) مجمع البيان ٩ : ٥٧٤.

(٢) تفسير القمي ٢ : ١٩٥.

(٣) تفسير القمي ٢ : ١٩٢.

(٤) التبيان ٨ : ٣٣٤ و ٣٣٥ ومجمع البيان ٩ : ٥٥٤ و ٥٧٣.



أهمّ حوادث

السنة السادسة للهجرة



غزوة القرطاء :

قال المسعودي في حوادث السنة السادسة من الهجرة : في المحرّم كانت سريّة محمّد بن مسلمة الأنصاري إلى قبيلة القرطاء من بني بكر بن كلاب ، بموضع يقال له : البكرات بناحية ضريّة (١).

وروى الواقدي بسنده عن محمّد بن مسلمة : أنّ رسول الله بعثه في ثلاثين رجلا إلى بني بكر بن كلاب ، وأمره أن يسير الليل ويكمن النهار وأن يشنّ الغارة عليهم.

قال محمّد بن مسلمة : فخرجت بأصحابي في عشر ليال خلون من المحرّم على رأس خمسة وخمسين شهرا من الهجرة ، وانطلق حتّى إذا كان بموضع يطلعه على بني بكر فبعث عبّاد بن بشر إليهم فأومى عليهم ، فلمّا روّحوا ماشيتهم وحلبوها وروّوا إبلهم وردّوها إلى مباركها جاء إلى محمّد بن مسلمة فأخبره ، فخرج محمّد بن مسلمة فشنّ عليهم الغارة فقتل منهم عشرة ، واستاقوا النعم والشياه وانحدروا إلى المدينة

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٢١٨.


فأصبحوا في الضريّة (١).

قال : ثمّ خفنا الطلب فحدرنا النعم وطردنا الشياه أشدّ الطرد فكانت تجري معنا كأنّها الخيل ثمّ أبطأت علينا الشياة بالربذة فخلّفناها مع نفر من أصحابنا ، وطردنا النعم فقدمنا بها المدينة على النبيّ ، مائة وخمسين بعيرا وثلاثة آلاف شاة ، فخمّسها رسول الله وفضّ ما بقي منها على أصحابه ، وعدلوا كلّ جزور بعشر من الغنم فأصاب كلّ رجل منهم (٢).

غزوة بني لحيان :

روى الواقدي : أنّ رسول الله كان قد وجد على عاصم بن ثابت وأصحابه (الذين قتلوا يوم الرجيع في أوّل السنة الرابعة) فخرج في مائتي رجل فيهم عشرون فارسا (٣) لهلال ربيع الأوّل سنة ستّ (٤) ، فنزل بناحية الجرف ، فعسكر فيه أوّل النهار وهو يظهر أنّه يريد الشام (٥) ليصيبهم على غفلة. فسلك على جبل غراب بطريق الشام ثمّ على محيص ثمّ على البتراء ثمّ خرج على بين ثمّ على صخيرات اليمام ، ثمّ

__________________

(١) المغازي ٢ : ٥٣٤ وجاء في الخبر : بعد ضريّة مسيرة ليلة أو ليلتين. ثمّ يقول : وخرجت من ضريّة حتّى وردت بطن نخل. وهي على يومين من المدينة. وقبلها يقول : فأبطأت علينا الشياة بالربذة. وهي على ثلاثة أيّام من المدينة بل أربعة أيّام. وعليه فلا تصحّ مسافة ضريّة : ليلتين ، بل يقرب ما في الطبقات ٢ : ٥٦ : سبع ليال من المدينة. ولا يصحّ ما في التنبيه والإشراف : ٢١٨ : سبعة أميال ، ولعلّه تصحيف الليال.

(٢) المغازي ٢ : ٥٣٥.

(٣) المغازي ٢ : ٥٣٦. وروى العدد كذلك ابن إسحاق ٢ : ٢٩٢.

(٤) المغازي ٢ : ٥٣٥.

(٥) المغازي ٢ : ٥٣٦.


استقام على المحجّة من طريق مكّة فأسرع السير حتّى نزل منازل بني لحيان في غران واد بين أمج وعسفان إلى بلد يقال له ساية ، فوجدهم قد نذروا به فحذروا وتمنّعوا منه برءوس الجبال (١). فأقام يوما أو يومين وبعث السرايا في كلّ ناحية فلم يقدروا على أحد منهم (٢) فقال ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ : لو أنّا هبطنا عسفان لرأى أهل مكّة أنّا قد جئنا مكّة. فخرج في أصحابه حتّى نزل عسفان (٣). ثمّ بعث فارسين من أصحابه حتّى بلغا كراع الغميم (٤) ثمّ كرّا ، ورجع رسول الله إلى المدينة وهو يقول : آئبون تائبون ، لربّنا حامدون. أعوذ بالله من وعثاء السفر وكآبة المنقلب وسوء المنظر في الأهل والمال والولد (٥).

وغاب رسول الله عن المدينة أربع عشرة ليلة (٦).

سريّة الغمر (٧) :

روى الواقدي بسنده قال : بعث رسول الله عكاشة بن محصن الاسدي في أربعين رجلا (إلى بني أسد في الغمر) واخبروا به فهربوا من مائهم ، فانتهى إليهم فلم

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٣ : ٢٩٢.

(٢) المغازي ٢ : ٥٣٦.

(٣) وفي المنتقى : في مرجعه من بني لحيان جاز على قبر امّه فزاره ـ البحار ٢٠ : ٢٩٨ في قرية الأبواء.

(٤) واد بعد عسفان إلى مكّة بثمانية أميال.

(٥) ابن هشام ٢ : ٢٩٣.

(٦) المغازي ٢ : ٥٣٧.

(٧) ماء لبني أسد على ليلتين من فيد. في طريق العراق ـ التنبيه والإشراف : ٢١٩. وأشار الحلبي إلى السريّة باسم الغمرة. المناقب ١ : ٢٠١.


يجدهم ، فبعث الطلائع يطلبون خبرا أو أثرا ، فرجع أحدهم يقول : إنّه رأى لهم أثرا ، وكان القوم قد تركوا لهم ربيئة كان قد سهر ليلته يتسمّع الصوت فلمّا أصبح أخذه النوم ، فأصابه المسلمون فأخذوه وسألوه عن خبر الناس ... وضربه أحدهم بسوط ، فقال : تؤمّنني على دمي وأطلعك على نعم لبني عمّ لهم لم يعلموا بمسيركم؟ قالوا : نعم ، فانطلقوا معه فخرج حتّى أمعن ... ثمّ قال : تطلعون عليهم من هذا الدرب ، فأشرفوا فإذا بنعمهم ترتع ، فأغاروا عليهم فهربوا في كلّ وجه فأصابوا منهم مائتي بعير فاستاقوها إلى المدينة. وكان ذلك في شهر ربيع الأوّل سنة ست.

موادعة بني أشجع :

روى القمي في تفسيره خبرهم فقال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد هادن بني ضمرة ووادعهم قبل غزاة بدر الموعد (١) وكان على مقربة منهم بنو الأشجع بطن من كنانة في البيضاء والجبل والمستباح ، وكان بينهم وبين بني ضمرة حلف في المراعاة والأمان ، فأجدبت بلاد أشجع وأخصبت بلاد بني ضمرة فصارت أشجع إلى بلاد بني ضمرة ، فقربوا من رسول الله ، فهابوا لقربهم من رسول الله أن يبعث إليهم من يغزوهم.

فلمّا بلغ رسول الله مسيرهم إلى بني ضمرة وكان رسول الله قد خافهم أن يصيبوا من أطرافه شيئا ، همّ بالمسير إليهم ، وتهيّأ للمصير إليهم ليعقروهم ، للموادعة التي كانت بينهم وبين بني ضمرة.

فبينما هو على ذلك إذ جاءت أشجع ورئيسها مسعود بن رخيلة ، وهم سبعمائة ، فنزلوا شعب سلع ـ وذلك في شهر ربيع الأوّل سنة ست ـ فدعا رسول الله

__________________

(١) حسب نسخة بحار الأنوار ٢٠ : ٣٠٥ وفي طبعة النجف : الحديبية ، تحريفا.


اسيد بن حضير فقال له : اذهب في نفر من أصحابك حتّى تنظر ما أقدم أشجع؟

فخرج اسيد ومعه ثلاثة نفر من أصحابه حتّى وقف عليهم فقال لهم : ما أقدمكم؟

فقام إليه مسعود بن رخيلة فسلّم على اسيد وقال : جئنا لنوادع محمّدا.

فرجع اسيد إلى رسول الله فأخبره ، فقال رسول الله : خاف القوم أن أغزوهم فأرادوا الصلح بيني وبينهم. ثمّ قال : نعم الشيء الهدية قبل الحاجة ، ثمّ قدّم أمامه بعشرة أحمال من التمر. ثمّ أتاهم فقال لهم : يا معشر أشجع ما أقدمكم؟

قالوا : قربت دارنا منك ، وليس في قومنا أقلّ عددا منّا فضقنا بحربك لقرب دارنا منك ، وضقنا بحرب قومنا لقلّتنا فيهم ، فجئنا لنوادعك.

فقبل النبيّ ذلك منهم ووادعهم ، فأقاموا يومهم ، ثمّ رجعوا إلى بلادهم (١).

غارة الفزاري وردّها (٢) :

اجتمع للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من خمس الجمال الغنائم أو صفاياها عشرون ناقة لقحت فكانت حوامل ذوات ألبان يقال لها : اللقاح ، كانت ترعى في الغابة قرب المدينة على طريق الشام (٣) ، وكان الراعي يرجع بلبنها أصيل كلّ يوم عند المغرب.

وروى الكليني في «روضة الكافي» بسنده عن ابان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي عن الصادق عليه‌السلام : أن أبا ذر الغفاري استأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يرعى لقاحه ، وسمّى الموضع : مزينة قال : أفتأذن لي أن أخرج أنا وابن أخي الى مزينة فنكون بها؟

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١٤٦ ، ١٤٧.

(٢) أشار إليها الحلبي في المناقب ١ : ٢٠١ باسم ذي قرد.

(٣) على بريد من المدينة ـ التنبيه والإشراف : ٢١٨.


فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّي أخشى أن يغير عليك خيل من العرب فيقتل ابن أخيك فتأتيني شعثا فتقوم بين يدي متّكئا على عصاك فتقول : قتل ابن أخي واخذ السرح.

فقال ابو ذر : يا رسول الله بل لا يكون إلّا خيرا إن شاء الله.

فأذن له رسول الله. فخرج هو وابن اخيه وامرأته.

فلم يلبث هناك إلّا يسيرا حتى غارت خيل بني فزارة فيها عيينة بن حصن ، فأخذت السرح ، وقتل ابن اخيه ، وأخذت امرأته من بني غفار ... وطعنوه طعنة جائفة (١).

وروى الواقدي مثل ذلك وأضاف : وكان أبو ذرّ بعد ذلك يقول : عجبا لي! إنّ رسول الله كان يقول : لكأنّي بك وأنا ألحّ عليه ، فكان والله على ما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والله إنّا لفي منزلنا ولقاح رسول الله قد روّحت وعطّنت وحلبت عند العتمة ونمنا ، وفي الليل (ليلة الأربعاء لثلاث خلون من ربيع الآخر سنة ست) (٢) أحدق بنا عيينة بن حصن الفزاري في أربعين فارسا وقاموا على رءوسنا وصاحوا بنا ، وقتلوا ابني ونجت امرأته وثلاثة آخرون ، واشتغلوا عنّي بإطلاق عقل اللقاح فتنحّيت عنهم ، ثمّ صاحوا باللقاح فكان آخر العهد بها.

وفي خبر «روضة الكافي» : وأقبل ابو ذر يشتد حتى وقف بين يدي رسول الله فاعتمد على عصاه وقال : صدق الله ورسوله : أخذ السرح وقتل ابن أخي وقمت بين يديك على عصاي : فصاح رسول الله في المسلمين فخرجوا في الطلب فقتلوا نفرا من المشركين وردّوا السرح (٣).

وقال الواقدي : وكان سلمة بن الأكوع يقول : خرجت في الغداة اريد لقاح

__________________

(١) روضة الكافي : ١١٠ ح ٩٦ ط النجف الأشرف.

(٢) المغازي ٢ : ٥٣٧.

(٣) روضة الكافي : ١١٠ ح ٩٦ ط النجف الأشرف.


رسول الله في الغابة لآتيه بلبنها ، وكانت إبل عبد الرحمن بن عوف دون إبل النبيّ ، فيها غلام لعبد الرحمن فلقيته فأخبرني أنّ عيينة بن حصن قد أغار في أربعين فارسا على لقاح رسول الله.

فرجعت بفرسي إلى المدينة حتّى أشرفت على ثنية الوداع (١) فصرخت بأعلى صوتي ثلاثا : يا صباحاه! (٢) وبلغ رسول الله صياح بن الاكوع ، فصرخ بالمدينة : الفزع الفزع (٣) ثمّ طلع رسول الله مقنّعا في الحديد ووقف ، فكان أوّل من أقبل إليه المقداد بن عمرو عليه الدرع والمغفر شاهرا سيفه ، فعقد له رسول الله لواء في رمحه وقال له : امض حتّى تلحقك الخيول ونحن على أثرك.

قال المقداد : فخرجت وأنا أسأل الله الشهادة ، حتّى أدركت اخريات العدو وقد أعيا فرس لهم فنزل عنه صاحبه وارتدف خلف أحدهم ، وتأخر الفرس عنهم ، فأخذت الفرس وربطت في عنقه قطعة وتر وخلّيته ، وأدركت منهم رجلا يدعى مسعدة فطعنته برمح فيه اللواء فزلّ الرمح وأعجزني هربا ، ونصبت لوائي ليراه أصحابي فلحقني أبو قتادة على فرس له ، ثمّ استحثّ فرسه فتقدّم عليّ حتّى غاب عنّي ثمّ لحقته فإذا هو قد قتل مسعدة وسجّاه ببرده.

__________________

(١) سيأتي في خبر خيبر البحث في ثنية الوداع هل كانت قبل خيبر في السنة السابعة؟ تسمّى بذلك أم لا؟ وأثبت بعضهم للمدينة ثنتين : شمالية وهي على طريق الشام وهي التي عُرفت بهذا الاسم في خروجهم إلى خيبر ، والاخرى جنوبية على يمين طريق قُباء الطالع إلى قُباء قبل المسجد بكيلومتر واحد ، وهي معلم بارز للعيان ، وعليها ما زال قلعة من العهد التُركي. كما في كتاب : المساجد والاماكن الاثرية المجهولة في المدينة لعبدالرحمن خويلد الحجازي ، وعنه في مجلة ميقات الحج ٦ : ٢٦٨.

(٢) المغازي ٢ : ٥٣٩.

(٣) ابن هشام ٣ : ٢٩٤.


وقال سلمة : ولحقت القوم فجعلت أرميهم بالنبل وأقول : خذها وأنا ابن الأكوع! وما زلت اكافحهم وأقول : قفوا قليلا يلحقكم أربابكم من المهاجرين والأنصار ، حتّى انتهيت بهم إلى ذي قرد (١).

ثمّ كان أوّل فارس وقف على رسول الله بعد المقداد من الأنصار : عبّاد بن بشر الأشهلي ، ثمّ سعد بن زيد الأشهلي (٢).

فروى الواقدي عنه قال : أتانا الصريخ يوم السرح وأنا في بني عبد الأشهل ، فلبست درعي وأخذت سلاحي واستويت على فرسي ، فانتهيت إلى رسول الله وعليه الدرع والمغفر لا أرى إلّا عينيه ، والخيل تعدو باتّجاه القناة ، فالتفت إليّ رسول الله فقال : يا سعد قد استعملتك على الخيل فامض حتّى ألحقك إن شاء الله ، فلحقت بالمقداد بن عمرو ومعاذ بن ماعص ، وأبو قتادة في أثرهم ، ونظرت إلى ابن الأكوع يسبق الخيل يرشقهم بالنبل ، ولحقنا بهم ، فتناوشنا ساعة ، وحملت على حبيب بن عيينة بالسيف فقطعت منكبه الأيسر فخلّى العنان وأسرع فرسه فوقع لوجهه وداسه فرسه فقتله. وكان شعارنا : أمت أمت (٣) وقد أعطاه رسول الله رايته العقاب (٤).

وقال : قالوا : وذهب الصريخ إلى بني عمرو بن عوف ، فجاءت الأمداد ، فلم تزل الخيل والرجال تأتي على أقدامهم والإبل يتعقّبون الخيل والبغال والحمير ، حتّى انتهوا إلى النبيّ بذي قرد ، فاستنقذوا عشر لقائح ، وذهب القوم بالعشر الباقي (٥).

__________________

(١) نحو يوم من المدينة إلى غطفان.

(٢) ابن هشام ٣ : ٢٩٤ و ٢٩٥.

(٣) المغازي ٢ : ٥٤٥ و ٥٤٦.

(٤) المغازي ٢ : ٥٤٢.

(٥) المغازي ٢ : ٥٤٢.


قال سلمة بن عمرو الأكوع : لحقنا رسول الله والخيول عشاء ، فقلت : يا رسول الله ، إنّ القوم عطاش وليس لهم ماء دون كذا وكذا ، فلو بعثتني في مائة رجل استنقذت ما بأيديهم من السّرح وأخذت بأعناق القوم. فقال : ملكت فاسجح (١) ، إنّهم الآن في غطفان (٢).

وأقام رسول الله بذي قرد (٣) تلك الليلة ونهارها يتلقى الأخبار ، وكانوا خمسمائة إلى سبعمائة ، وقسم في كلّ مائة منهم جزورا ينحرونها ، وصلّى بهم صلاة الخوف.

وكان قد أقام في المدينة سعد بن عبادة في ثلاثمائة من قومه يحرسونها خمس ليال حتّى رجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. وهو الذي بعث إليه بعشرة جزائر محمّلة بالتمور مسيّرة لهم ، مع ابنه قيس بن سعد ، فقال له رسول الله : يا قيس بعثك أبوك فارسا وقوّى المجاهدين وحرس المدينة من العدو ، اللهم ارحم سعدا وآل سعد. ثمّ قال : نعم المرء سعد بن عبادة! فقال بعض الخزرج : يا رسول الله ، هو سيّدنا وابن سيّدنا ، وإنّ أهل هذا البيت كانوا يطعمون في المحل ويحملون الكلّ ويقرون الضيف ويعطون في النائبة ويحملون عن العشيرة. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : خيار الناس في الإسلام خيارهم في الجاهليّة إذا فقهوا في الدين (٤).

وروى ابن إسحاق عن الحسن بن أبي الحسن البصري : أنّ رسول الله رجع قافلا إلى المدينة فأقبلت امرأة الغفاري (أبي ذر أو ابنه) على ناقة من نوق رسول الله نجت عليها ، فأخبرته خبرها ثمّ قالت : يا رسول الله ، إنّي قد نذرت لله أن أنحرها إن نجّاني الله عليها؟ فتبسّم رسول الله ثمّ قال لها : بئس ما جزيتها أن حملك الله

__________________

(١) المغازي ٢ : ٥٤١.

(٢) ابن هشام ٣ : ٢٩٧.

(٣) أشار إليها الحلبي في المناقب ١ : ٢٠١.

(٤) المغازي ٢ : ٥٤٧.


عليها ونجّاك بها ثمّ تنحرينها؟! إنّه لا نذر في معصية الله ولا فيما لا تملكين ، وإنّما هي ناقة من إبلي. فارجعي إلى أهلك على بركة الله (١).

وروى الواقدي بسنده : أنّ رجلا يدعى عيينة عثر في بعض أطراف المدينة على ناقة من نوق النبيّ فجاء بها إليه وقال له : يا رسول الله أهديت لك هذه اللّقحة! فتبسّم النبيّ وقبضها منه ثمّ أمر له بثلاث أواق من فضّة ، ومع ذلك عرف في وجهه عدم الرضا ، فلمّا صلّى الظهر صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : إنّ الرجل ليهدي لي الناقة من إبلي أعرفها كما أعرف بعض أهلي ثمّ أثيبه عليها فيظلّ يتسخّط عليّ ، ولقد هممت أن لا أقبل هديّة إلّا من قرشيّ أو أنصاري.

وكان أبو هريرة يروي الخبر فيزيد فيه : أو ثقفي أو دوسي! (٢)

حرب بني محارب :

روى الواقدي : أجدبت بلاد بني ثعلبة وأنمار ومحارب فصاروا إلى تغلمين من أراضي المراض ، ثمّ أجمعوا أن يغيروا على سرح المدينة ببطن هيقا ، وبلغ ذلك رسول الله فبعث أبا عبيدة بن الجرّاح في أربعين رجلا من المسلمين بعد صلاة المغرب في ربيع الآخر سنة ستّ ، فباتوا يمشون ليلتهم حتّى وافوا ذي القصّة (٣) مع الصبح فأغاروا عليهم فأخذوا رجلا منهم وهرب الباقون في الجبال ، فاستاقوا النعم وغنموا المتاع فقدموا به المدينة ، وأسلم الرجل فتركه رسول الله ، وخمّس رسول الله

__________________

(١) ابن هشام ٣ : ٢٩٧ و ٢٩٨ ومغازي الواقدي ٢ : ٥٤٨ وفيه : امرأة أبي ذر ، مع ذكره لآخر الخبر : ارجعي إلى أهلك. وهذا إنّما يناسب امرأة ذرّ بن أبي ذرّ المقتول هنا ، ولو كانت امرأة أبي ذر لناسب أن يقول لها : الحقي بزوجك. وقد مرّ في خبر الكليني أنّ امرأة أبي ذر اخذت.

(٢) المغازي ٢ : ٥٤٨ و ٥٤٩ وهذه من زيادات أبي هريرة.

(٣) نحو عشرين ميلا من المدينة على طريق الربذة إلى العراق ـ التنبيه والإشراف : ٢١٩.


الغنيمة وقسّمها عليهم (١).

ثمّ بعث عليهم محمّد بن مسلمة في عشرة ، فورد ذي القصّة ليلا ، فكمن القوم حتّى نام المسلمون فأحدق بهم مائة رجل من بني ثعلبة وعوال ، فتراموا بالنبال ساعة من الليل ، ثمّ حمل الأعراب عليهم بالرماح فقتلوهم ، ووقع محمّد بن مسلمة جريحا لا يتحرّك ، فجرّدوهم ثيابهم وانطلقوا (٢).

فمرّ رجل على القتلى فاسترجع وسمعه محمّد فتحرّك له محمّد بن مسلمة فعرض عليه الماء والطعام ثمّ حمله إلى المدينة. فبعث النبيّ إلى ذلك الموضع (من ذي القصّة) أبا عبيدة بن الجرّاح مع الأربعين رجلا فلم يجدهم ووجد لهم نعما فاستاقها راجعا إلى المدينة (٣).

صلاة الاستسقاء :

مرّ في خبر تفسير القمي عن بني ضمرة وأشجع : أنّ بلادهم كانت قد أجدبت في هذه السنة السادسة شهر ربيع الأوّل. ومرّ آنفا في خبر الواقدي : أنّه قد أجدب بلاد بني أنمار وثعلبة ومحارب في شهر ربيع الآخر سنة ست.

وقد روى الكازروني في «المنتقى» في حوادث هذه السنة السادسة ، عن الزهري عن أنس بن مالك قال : أتى المسلمون رسول الله فقالوا :

يا رسول الله قحط المطر ، ويبس الشجر ، وهلكت المواشي وأسنّت الناس ، فاستسق لنا ربّك.

__________________

(١) المغازي ٢ : ٥٥٢ وأشار إليها في إعلام الورى ١ : ١٩٠ والحلبي في المناقب ١ : ٢٠١.

(٢) وأشار إليها الحلبي في المناقب ١ : ٢٠١ و ٢٠٢.

(٣) المغازي ٢ : ٥٥١ ، وأشار إليها الحلبي في المناقب ١ : ٢٠١.


فقال : إذا كان يوم ـ كذا وكذا ـ فاخرجوا ، وأخرجوا معكم بصدقات.

فلمّا كان ذلك اليوم خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ والناس معه ـ يمشي وعليه السكينة والوقار ، حتّى أتوا المصلّى ، فتقدّم النبيّ فصلّى بهم ركعتين يجهر فيهما بالقراءة ، في الاولى بفاتحة الكتاب والأعلى ، وفي الثانية بفاتحة الكتاب والغاشية.

فلمّا قضى صلاته استقبل القوم بوجهه وقلب رداءه ـ تفاؤلا لانقلاب القحط إلى الخصب ـ ثمّ جثا على ركبتيه ورفع يديه ثمّ قال : «الله أكبر ، اللهم اسقنا وأغثنا غيثا مغيثا ، وحيا ربيعا ، وجدى طبقا غدقا مغدقا عاما ، هنيئا مريئا مريعا ، وابلا شاملا ، مسبلا مجلجلا ، دائما دررا ، نافعا غير ضار ، عاجلا غير رائث ، غيثا اللهم تحيي به البلاد ، وتغيث به العباد ، وتجعله بلاغا للحاضر منّا والباد ، اللهم أنزل في ارضنا زينتها ، وأنزل علينا سكينتها. اللهم أنزل علينا من السماء ماء طهورا تحيي به بلدة ميتا ، واسقه ممّا خلقت أنعاما واناسيّ كثيرا».

قال أنس : فما برحنا حتّى أقبلت قزع من السحاب فالتأم بعضها إلى بعض ثمّ مطرت عليهم سبعة أيّام ولياليهن لا تقلع عن المدينة.

فأتاه المسلمون ـ وهو على المنبر ـ فقالوا : يا رسول الله ، قد غرقت الأرض وتهدّمت البيوت ، وانقطعت السبل ، فادع الله ـ تعالى ـ أن يصرفها عنّا.

فضحك رسول الله حتّى بدت نواجذه ، ثمّ رفع يديه فقال : «اللهم حوالينا ولا علينا ، اللهم على رءوس الظراب ومنابت الشجر وبطون الأودية وظهور الآكام».

فتصدّعت قطع السحاب عن المدينة حتّى كانت في مثل الفسطاط عليها ، تمطر على مراعيها ولا تمطر فيها.

قالوا : فلمّا صارت المدينة في مثل الفسطاط ضحك رسول الله حتّى بدت نواجذه ثمّ قال : لله أبو طالب ، لو كان حيّا قرّت عيناه ، من الذي ينشد قوله؟


فقام علي بن أبي طالب فقال : يا رسول الله كأنّك أردت قوله :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يلوذ به الهلّاك من آل هاشم

فهم عنده في نعمة وفواضل

كذبتم وبيت الله نبزي محمّدا

ولمّا نقاتل دونه ونناضل

ونسلمه حتّى نصرّع حوله

ونذهل عن أبنائنا والحلائل

فقال رسول الله : أجل (١).

مصادرة قافلة تجارة قريش :

كان رسول الله يحاول محاصرة قريش اقتصاديّا قبل أن يحاصرها عسكريّا ، واقتصاصا من أموالها لما استلبوا وصادروا من أموال المسلمين المهاجرين. فكانت وقعة بدر ردّا على محاولته ذلك للمرّة الاولى.

وقد نقلنا برواية ابن إسحاق : أنّ قريشا حين كان من وقعة بدر ما كان خافوا طريقهم الذي كانوا يسلكون إلى الشام ، فاستأجروا فرات بن حيان من بني بكر بن وائل يدلّهم على طريق العراق إلى الشام. فبعث رسول الله عليهم زيد بن حارثة فلقيهم في القردة ماء من مياه نجد ، فأصاب العير وفيها فضّة كثيرة لأبي سفيان ـ وأعجزه الرجال ـ فقدم بها على رسول الله (٢).

وبعد غزوة الغابة ـ فيما روى الواقدي ـ بلغه أنّ عيرا لقريش أقبلت من الشام ، فبعث زيد بن حارثة ـ أيضا ـ في مائة وسبعين راكبا ، فأخذوها ، وفيها يومئذ فضّة كثيرة لصفوان بن اميّة الجمحي وذلك في جمادى الاولى سنة ست (٣) في

__________________

(١) عنه في بحار الأنوار ٢٠ : ٢٩٩ ـ ٣٠٠.

(٢) سيرة ابن هشام ٣ : ٥٣ و ٥٤.

(٣) المغازي ٢ : ٥٥٣.


العيص من ناحية ذي المروة على ساحل البحر بطريق قريش التي كانوا يأخذون عليها إلى الشام (١).

وقال الطبرسي في «إعلام الورى» : فيها اخذت أموال أبي العاص بن الربيع وفيها بضائع لقريش ، وقدموا بها على رسول الله ، فقسّمه بينهم. وأفلت أبو العاص ولكنّه أتى المدينة فاستجار بزينب بنت رسول الله (زوجته) وسألها أن تطلب من رسول الله أن يردّ عليه ماله وما كان معه من أموال الناس.

فدعا رسول الله السريّة وقال لهم : إنّ هذا الرجل (أبو العاص بن الربيع) منّا بحيث قد علمتم ، فإن رأيتم أن تردّوا عليه فافعلوا.

فردّوا عليه ما أصابوا منه. فخرج (٢).

__________________

(١) ابن هشام ٣ : ٣٣٨ ، بينها وذي المروة ليلة ، وبينها والمدينة أربع ليال ـ الطبقات ٢ : ٦٣.

(٢) إعلام الورى ١ : ٢٠٣ وتمامه : وقدم مكّة وردّ على الناس بضائعهم ثمّ قال لهم : أما والله ما منعني أن اسلم قبل أن اقدم عليكم إلّا توقّيا أن تظنّوا أنّي أسلمت لأذهب بأموالكم ، وإنّي أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا عبده ورسوله. وأشار إليه الحلبي في المناقب ١ : ٢٠٢.

وروى الواقدي الخبر بتفصيل جاء فيه : أنّه دخل على زينب بنت رسول الله (امرأته) سحرا فاستجارها فأجارته ، فلمّا صلّى رسول الله الفجر قامت زينب على بابها (الملاصق للمسجد) فنادت بأعلى صوتها فقالت : إنّي قد أجرت أبا العاص!

وسمعها رسول الله فنادى : أيّها الناس ، هل سمعتم ما سمعت؟ قالوا : نعم. فقال : فو الذي نفسي بيده ما علمت بشيء ممّا كان حتّى سمعت الذي سمعتم ، والمؤمنون يد على من سواهم يجير عليهم أدناهم ، وقد أجرنا من أجارت. ثمّ انصرف إلى منزله.

فدخلت عليه ابنته زينب فسألته أن يردّ إلى أبي العاص ما اخذ منه من المال. فقبل بذلك رسول الله ، وأمرها : أن لا يقربها ، فإنّها لا تحلّ له ما دام مشركا. ـ

ثمّ كلّم رسول الله أصحابه في ذلك ، فقبلوا ، وأدّوا إليه كلّ شيء حتّى المطهرة والحبل.


سريّة إلى بني ثعلبة :

روى الواقدي : أنّ رسول الله بعث زيد بن حارثة في جمادى الآخرة سنة ست إلى بني ثعلبة في الطّرف (١) في خمسة عشر رجلا ، فخاف الأعراب أن يكون رسول الله قد سار إليهم فهربوا ، فلم يكن قتال ، وأصاب شياها ونعما فانحدر زيد بعشرين بعيرا منها إلى المدينة ، فخرجوا في طلبه فأعجزهم حتّى أصبح بالمدينة (٢).

غزوة دومة الجندل (٣) :

روى الواقدي : أنّ رسول الله دعا عبد الرحمن بن عوف الزهري (في شعبان

__________________

فرجع أبو العاص إلى مكّة وأدّى إلى كلّ ذي حقّ حقّه ، ثمّ قال لهم : يا معشر قريش ، هل بقي لأحد منكم شيء؟ قالوا : لا والله. قال : فإنّي أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا رسول الله ، لقد أسلمت بالمدينة ، وما منعني أن اقيم بالمدينة إلّا أن خشيت أن تظنّوا أنّي أسلمت لأذهب بالذي لكم معي.

ثمّ رجع إلى النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، فردّ عليه زينب بذلك النكاح ٢ : ٥٥٣.

(١) هو ماء على ستّ وثلاثين ميلا من المدينة دون النخيل قرب المراض ـ الطبقات ٢ : ٦٣. وأشار ابن إسحاق إلى الغزوة بلا تأريخ فقال : وغزوة زيد بن حارثة الطرف من ناحية نخل من طريق العراق ٤ : ٢٦٥. وأشار إليها الحلبي في المناقب ١ : ٣٠١.

(٢) المغازي ٢ : ٥٥٥ ، وأشار إليها ابن إسحاق في السيرة ٤ : ٢٦٥.

(٣) تابعة لمدينة دمشق الشام بينهما خمس عشرة ليلة ، كما في معجم البلدان ، وكان أهلها نصارى من كلب.


سنة ستّ) فقال له : تجهّز فإنّي باعثك في سريّة من يومك هذا أو من غد إن شاء الله. ثمّ أمره رسول الله أن يسير من الليل إلى دومة الجندل فيدعوهم إلى الإسلام. ومضى أصحابه في السحر فعسكروا بالجرف ، وهم سبعمائة رجل.

وصلّى رسول الله صلاة الصبح وإذا عبد الرحمن بن عوف في ناس من المهاجرين ، وهو متوشّح سيفا وقد لفّ على رأسه عمامة ، فقال له رسول الله : ما خلّفك عن أصحابك؟ فقال : يا رسول الله أحببت أن يكون آخر عهدي بك وعليّ ثياب سفري. فدعاه النبيّ فأقعده بين يديه فنقض عمامته بيده ثمّ عمّمه بعمامة سوداء فأرخى منها ذيلها بين كتفيه وقال : هكذا فاعتم يا بن عوف. ثمّ قال له : اغز باسم الله وفي سبيل الله ، فقاتل من كفر بالله ، لا تغل ولا تغدر ولا تقتل وليدا. ثمّ التفت إلى الناس فقال :

أيّها الناس ، اتّقوا خمسا قبل أن يحلّ بكم :

ما نقص مكيال قوم إلّا أخذهم الله بالسنين ونقص من الثمرات لعلّهم يرجعون!

وما نكث قوم عهدهم إلّا سلّط الله عليهم عدوّهم!

وما منع قوم الزكاة إلّا أمسك الله عليهم قطر السماء ، ولو لا البهائم لم يسقوا!

وما ظهرت الفاحشة في قوم إلّا سلّط الله عليهم الطاعون!

وما حكم قوم بغير آي القرآن إلّا ألبسهم الله شيعا وأذاق الله بعضهم بأس بعض!

ثمّ خرج عبد الرحمن حتّى لحق بأصحابه فسار بهم حتّى قدم دومة الجندل ، وهم نصارى من كلب ورئيسهم الأصبغ بن عمرو الكلبي ، فدعاه وقومه للإسلام ، فأبوا أن يعطونه إلّا السيف ، فمكث بها ثلاثة أيّام يدعوهم إلى الإسلام ، فلمّا كان

__________________

(١) سيأتي أن الزكاة انما وجبت في آخر السنة التاسعة ولأول العاشرة ، اللهم إلّا أن يراد بها هنا الصدقات المطلقة المندوبة لا خصوص الزكاة الواجبة.


اليوم الثالث أسلم الأصبغ بن عمرو الكلبي وأقام على إعطاء الجزية عن قومه (١). فكتب عبد الرحمن إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يخبره بذلك ، وبعث بذلك رجلا من جهينة يقال له : رافع بن مكيث ، وكتب معه يخبر النبيّ أنّه قد أراد أن يتزوّج منهم. فكتب إليه النبيّ أن يتزوّج تماضر بنت الأصبغ ، فتزوّجها عبد الرحمن ، ثمّ رجع بها إلى المدينة (٢).

سريّة عليّ عليه‌السلام إلى فدك :

روى الواقدي : أنّ بني سعد كانوا بفدك (وهي قرية بينها وبين المدينة ستّ ليال قريبة من خيبر) وقد بلغ رسول الله أنّ لهم جمعا لإمداد يهود خيبر (٣) فبعث إليهم عليّا عليه‌السلام في مائة رجل في شعبان سنة ستّ ، فسار الليل وكمن النهار حتّى انتهى إلى الهمج (ماء قرب فدك بينها وبين خيبر) فأصابوا رجلا منهم فأخذوه ، فقال له عليّ عليه‌السلام : هل لك علم بما وراءك من جمع بني سعد؟ قال : لا علم لي به ، فشدّوا عليه ، فأقرّ أنّه عين لهم بعثوه إلى خيبر يعرض على يهود خيبر نصرهم على أن يجعلوا لهم من تمرهم كما جعلوا لغيرهم. فقالوا له : فأين القوم؟ قال : تركتهم وقد تجمّع منهم مائتا رجل ورأسهم وبر بن عليم. قالوا : فسر بنا حتّى تدلّنا. قال : على أن تؤمّنوني! قالوا : إن دللتنا عليهم وعلى سرحهم آمنّاك وإلّا فلا أمان لك!

__________________

(١) أصلها باليونانية : گزيت ، بمعنى الضريبة عن الرءوس. وهذا أول مرّة تذكر في التأريخ الاسلامي ، ولم ترد في القرآن الكريم إلّا في سورة التوبة : ٢٩ وهي حسب المعروف آخر سورة نزلت ، وعليه فتشريعها بالسنّة.

(٢) المغازي ٢ : ٥٦١. وأشار إليها الحلبي في المناقب ١ : ٢٠٢.

(٣) ولعلّهم كانوا قد أعدّوا له بعد بني قريظة.


فخرج بهم وأوفى بهم على فدافد وآكام حتّى ساء ظنّهم به ، ثمّ أفضى بهم إلى سهول فإذا شياه كثيرة ونعم فقال : هذه شياههم ونعمهم ، فأرسلوني. قالوا : لا حتّى نأمن الطلب ، ثمّ أغاروا فغنموا النعم والشياه وهرب راعيها فأنذر أهله وحذّرهم فتفرّقوا وهربوا ، وانتهى المسلمون إلى محلّهم فلم يروا أحدا ، فأرسلوا الرجل. فمكث علي عليه‌السلام ثلاثا ، ثمّ عزل خمس الغنائم ، وصفى للنبيّ ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ لقوحا ، وقسّم سائر الغنائم ، وكانت خمسمائة بعير وألفي شاة (١).

غزوة ذات السلاسل (٢) :

روى الشيخ المفيد عن أصحاب السير : أنّه كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله جالسا ذات يوم إذ جاءه أعرابي فجثا بين يديه ثمّ قال : إنّي جئتك لأنصحك! قال : وما نصيحتك؟

قال : قوم من العرب قد عملوا على أن يبيّتوك بالمدينة (٣) فقد اجتمع بنو سليم بوادي الرمل عند الحرّة على أن يبيّتوك (٤).

فأمر أمير المؤمنين عليه‌السلام أن ينادي بالصلاة جامعة ، فاجتمع المسلمون ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أيّها الناس ، إنّ هذا عدوّ الله وعدوّكم قد اقبل إليكم يزعم انّه يبيّتكم في المدينة ، فمن للوادي؟ [وادي الرمل].

فقام رجل من المهاجرين (؟) فقال : أنا له يا رسول الله. فناوله اللواء ، وضمّ

__________________

(١) المغازي ٢ : ٥٦٢. وأشار إليها الحلبي في المناقب ١ : ٢٠٢.

(٢) وتسمّى غزوة وادي الرمل ، ذكرها الشيخ المفيد في الإرشاد ١ : ١١٤ ـ ١١٧ بعد بني قريظة وقبل المصطلق. وأشار إليها الحلبي في المناقب ١ : ٢٠٢ في حوادث السنة السادسة.

(٣) الإرشاد ١ : ١١٤.

(٤) المناقب ١ : ٢٠٢.


إليه سبعمائة رجل وقال له : امض على اسم الله. فمضى. فوافى القوم ضحوة فقالوا له : من الرجل؟ قال : أنا رسول لرسول الله ، فإمّا أن تقولوا : لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، أو لأضربنّكم بالسيف! فقالوا له : ارجع إلى صاحبك فإنّا في جمع لا تقوم له. فرجع الرجل وأخبر رسول الله بذلك!

فقام النبيّ وقال : من للوادي؟ فقام رجل آخر من المهاجرين (؟) فقال : أنا له يا رسول الله؟ فدفع إليه الراية ومضى. ثمّ عاد بمثل ما عاد به صاحبه الأوّل.

فقال رسول الله : أين عليّ بن أبي طالب؟ فقام أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : أنا ذا يا رسول الله. قال : امض إلى الوادي. قال : نعم.

ثمّ مضى إلى منزله ، وكانت له عصابة لا يتعصّب بها إلّا إذا بعثه النبيّ في وجه شديد ، فأخذ يلتمسها ، فقالت له فاطمة : أين بعثك أبي؟ قال : إلى وادي الرمل ، فبكت إشفاقا عليه ، وفي تلك الحال دخل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال لها : ما لك تبكين؟ أتخافين أن يقتل بعلك؟ كلّا إن شاء الله. فقال له عليّ عليه‌السلام : لا تنفس (١) عليّ بالجنّة يا رسول الله.

ثمّ خرج ، ومعه لواء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمضى حتّى وافى القوم بسحر ، فأقام حتّى أصبح ، فصلّى بأصحابه الغداة ، ثمّ صفّهم ، ثمّ أقبل على العدوّ واتّكأ على سيفه وقال لهم : يا هؤلاء ، أنا رسول رسول الله إليكم : أن تقولوا لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، وإلّا ضربتكم بالسيف!

فقالوا له : ارجع كما رجع صاحباك!

قال : أنا أرجع؟! لا والله حتّى تسلموا ، أو أضربكم بسيفي هذا ، وأنا علي بن أبي طالب بن عبد المطّلب. فلمّا عرفه القوم اضطربوا ، وثمّ اجترؤوا على مواقعته ،

__________________

(١) أي : لا تبخل.


فقتل منهم ستة أو سبعة ثمّ انهزموا ، فحاز المسلمون غنائمهم وانصرفوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فروى عن أمّ سلمة قالت : كان نبيّ الله عليه‌السلام قائلا في بيتي إذ انتبه فزعا من منامه ، فقلت له : الله جارك. قال : صدقت ، الله جاري. لكن هذا جبرئيل عليه‌السلام يخبرني أنّ عليّا قادم. ثمّ خرج إلى الناس فأمرهم أن يستقبلوا عليّا عليه‌السلام ، فقام المسلمون له صفّين مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فلمّا بصر بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ترجّل عن فرسه وأهوى إلى قدميه يقبّلهما ، فقال له عليه‌السلام : اركب فإنّ الله ورسوله عنك راضيان. فبكى أمير المؤمنين عليه‌السلام فرحا. وانصرف إلى منزله.

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لبعض من كان معه في الجيش : كيف رأيتم أميركم؟

قالوا : لم ننكر منه شيئا إلّا أنّه لم يؤم بنا في صلاة إلّا قرأ بنا فيها ب (قل هو الله أحد).

فقال النبيّ : سأسأله عن ذلك.

فلمّا جاءه قال له : لم لم تقرأ بهم في فرائضك إلّا بسورة الإخلاص؟

فقال : يا رسول الله ، أحببتها.

فقال له النبيّ عليه‌السلام : فإنّ الله قد أحبّك كما أحببتها. ثمّ قال له : يا عليّ لو لا أنّني اشفق أن تقول فيك طوائف ما قالت النصارى في عيسى بن مريم ، لقلت فيك اليوم مقالا لا تمرّ بملإ منهم إلّا أخذوا التراب من تحت قدميك! (١).

__________________

(١) الارشاد ١ : ١١٦ ـ ١١٧ ثمّ قال : ذكر كثير من أصحاب السيرة : أنّ في هذه الغزاة نزل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) إلى آخرها. كما في تفسير القمي ٢ : ٤٣٤. ومجمع البيان


غزوة بني المصطلق (١) :

روى الواقدي : أنّ بني المصطلق من خزاعة كانوا ينزلون بناحية الفرع ، وبدأ الركبان يأتون من ناحيتهم فيخبرون رسول الله أنّ الحارث بن أبي ضرار رأس المصطلق وسيّدهم قد سار في قومه ومن قدر عليه من العرب فدعاهم إلى حرب رسول الله.

__________________

ـ ٢ : ٨٠٢ و ٨٠٣ عن الصادق عليه‌السلام. ورواه الحلبي في المناقب ٣ : ١٤٠ بإسناد أبي الفتح الحفّار وأبي القاسم الوكيل. هذا ، وقد اشتهر أن سورة العاديات مكية وقد سبق في تفسيرها ما يناسب مكيّتها. ونقل عن مقاتل والزجاج ووكيع والثوري والسدّي وأبي صالح عن ابن عبّاس : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنفذ أبا بكر في سبعمائة رجل فهزموهم وقتلوا من المسلمين جمعا كثيرا ، ورجع عمر منهزما أيضا ، فقال عمرو بن العاص : ابعثني يا رسول الله فبعثه فرجع منهزما ، وفي رواية : أنه أنفذ خالدا فعاد كذلك. وهذا يعني أنّ ذلك لم يكن في سنة ست بل بعد سنة ثمان. هذا ، وقد أشار إليه من قبل في حوادث السنة السادسة ١ : ٢٠٢.

(١) من قبائل خزاعة ، وكان محلّهم يسمّى المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل بينه وبين الفرع نحو يوم. وفاء الوفاء ٢ : ٣٧٣. وقد اختلف الخبر عن تأريخ هذه الغزوة ، ففي مغازي الواقدي ١ : ٤٠٤ : في سنة خمس خرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الإثنين لليلتين خلتا من شعبان ، وقدم المدينة لهلال رمضان ، وفي سيرة ابن هشام ٣٢ : ٣٠٢ : في شعبان سنة ست. والقمي في تفسيره ٢ : ٣٦٨ والحلبي في المناقب ١ : ٢٠١ بنيا على الأوّل ، وذكرهما الطبرسي في إعلام الورى ١ : ١٩٦ ورجّحنا الأخير لبعض القرائن ، منها أنّ عليّا عليه‌السلام هنا فارس ، فلو كانت ...


فلمّا بلغ ذلك رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ بعث بريدة بن الحصيب الأسلمي يعلم علم ذلك ، فاستأذن النبيّ أن يقول ما شاء فأذن له. فخرج حتّى ورد ماءهم فوجد قوما مغرورين قد جمعوا الجموع. فقالوا له : من الرجل؟ قال : رجل منكم ، قدمت لمّا بلغني عن جمعكم لهذا الرجل ، فأسير في قومي ومن أطاعني ، فتكون يدنا واحدة حتّى نستأصله. فقال له الحارث : فنحن على ذلك فعجّل علينا. فقال بريدة : اركب الآن فآتيكم بجمع كثيف من قومي ومن أطاعني. فركب ...

ورجع إلى رسول الله فأخبره خبر القوم.

فندب رسول الله الناس وأخبرهم خبر عدوّهم ، فأسرع الناس للخروج. وفيهم ثلاثون فارسا ، عشرة من المهاجرين : رسول الله وعليّ عليه‌السلام والمقداد والزبير وطلحة وأبو بكر وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف. وعشرون من الأنصار منهم : أبيّ بن كعب واسيد بن حضير والحباب بن المنذر وسعد بن زيد وسعد بن معاذ ومعاذ بن جبل.

وخرج مع رسول الله بشر كثير من المنافقين لم يخرجوا في غزاة مثلها قطّ ، ليس لهم رغبة في الجهاد ، ولكن قرب السفر عليهم ، وأرادوا أن يصيبوا من عرض الدنيا.

وسلك رسول الله على الحلائق (١) فنزل بها. وفيها جاءه رجل من عبد القيس فسلّم على رسول الله ، فسأله : أين أهلك؟ قال : بالرّوحاء. قال : فأين تريد؟ قال : جئت لاؤمن بك وأشهد أنّ ما جئت به الحقّ واقاتل عدوّك. فقال رسول الله : الحمد لله الذي هداك للإسلام. فلمّا أسلم قال : يا رسول الله أيّ الأعمال أحبّ إلى الله؟ قال : الصلاة في أوّل وقتها (٢).

__________________

(١) المغازي ٢ : ٤٠٥.

(٢) المغازي ٢ : ٤٠٦.


وكان الرجل قد التقى يوم أمس بمسعود بن هنيدة مولى أبي تميم وقد أعتقه ، وكان أهله بموضع يعرف بالخذوات ، وقد رغب الناس حولهم في الإسلام وكثر ، قال : فتركت أهلي وجئت لاسلم على رسول الله ولقيت رسول الله في بقعاء (١). فقال له : يا رسول الله قد رأيتني أمس إذ لقيت رجلا من عبد القيس فدعوته إلى الإسلام فرغّبته فيه فأسلم. فقال له رسول الله : لإسلامه على يديك كان خيرا لك ممّا طلعت عليه الشمس أو غربت. ثمّ قال له : كن معنا حتّى نلقى عدوّنا ، فإنّي أرجو أن ينفّلنا الله أموالهم وذراريّهم (٢).

وفي بقعاء صادفوا رجلا من المشركين فسألوه : ما وراءك؟ وأين الناس؟ فقال : لا علم لي بهم. فقال له عمر بن الخطّاب : لتصدقن أو لأضربن عنقك! فقال : أنا رجل من بني المصطلق ، تركت الحارث بن أبي ضرار قد جمع لكم الجموع وجلب إليه ناسا كثيرا ، وبعثني إليكم لآتيه بخبركم وهل تحرّكتم من المدينة.

فأتى عمر إلى رسول الله فأخبره الخبر فدعا به رسول الله ودعاه إلى الإسلام فقال :

لست بمتّبع دينكم حتّى أنظر ما يصنع قومي ، فإن دخلوا في دينكم كنت كأحدهم ، وإن ثبتوا على دينهم فأنا رجل منهم!

فقال عمر : يا رسول الله أضرب عنقه؟ فأذن له ، فضرب عنقه.

__________________

(١) موضع على أربعة وعشرين ميلا من المدينة ـ وفاء الوفاء ٢ : ٢٦٤.

(٢) المغازي ٢ : ٤٠٩ وتمامه : فأعطاني رسول الله قطعة من الإبل وقطعة من غنم. فقلت : يا رسول الله كيف أقدر أن أسوق الإبل ومعي الغنم؟! اجعلها غنما كلّها أو إبلا كلّها. فتبسّم رسول الله وقال : أيّ ذلك أحبّ إليك؟ فقلت : تجعلها إبلا. قال : اعطه عشرا من الإبل. فاعطيتها.


فذهب خبره إلى بني المصطلق فساء بذلك زعيمهم الحارث بن أبي ضرار ومن معه وخافوا خوفا شديدا ، وتفرّق عنه من كان قد اجتمع إليه من أفناء العرب حتّى ما بقي منهم أحد سوى بني المصطلق.

وفي المريسيع :

حتّى انتهى رسول الله إلى ماء المريسيع فنزله ، وضربت له قبّة من أدم. وقد اجتمع بنو المصطلق على الماء وأعدّوا وتهيّأوا للقتال. فصفّ رسول الله أصحابه ، ودفع راية المهاجرين ـ فيما قيل ـ إلى عمّار بن ياسر رضى الله عنه وراية الأنصار إلى سعد بن عبادة رضى الله عنه.

فروى الواقدي عن ابن عمر : أنّ النبيّ أغار على بني المصطلق وهم غارّون ونعمهم تسقى على الماء.

ولكنّه روى بسنده عن زيد بن طلحة : أنّ رسول الله أمر عمر فنادى فيهم :

قولوا : لا إله إلّا الله ، تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم! فأبوا. ورمى رجل منهم المسلمين فرماهم المسلمون بالنبل ساعة (١).

ثمّ أمر رسول الله أصحابه أن يحملوا عليهم حملة رجل واحد ، فما أفلت منهم إنسان ، قتل منهم عشرة واسر سائرهم (٢) فقتل أمير المؤمنين عليه‌السلام رجلين من القوم هما مالك وابنه ... وكان هو الذي سبى جويريّة بنت الحارث أمير القوم ، فجاء بها إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاصطفاها النبيّ عليه‌السلام. واصاب رسول الله منهم سبيا كثيرا فقسمه في المسلمين.

__________________

(١) المغازي ٢ : ٤٠٤ ـ ٤٠٧.

(٢) إعلام الورى ١ : ١٩٧ وهو لفظ الواقدي ٢ : ٤٠٧.


وبعد إسلام بقيّة القوم جاء الحارث ابو جويريّة إلى النبيّ عليه‌السلام فقال : يا رسول الله إن ابنتي لا تسبى ؛ إنّها امرأة كريمة. قال : اذهب فخيّرها. قال : قد أحسنت وأجملت. وجاء إليها أبوها فقال لها : يا بنيّة لا تفضحي قومك! فقالت له : اخترت الله ورسوله! فقال لها أبوها : فعل الله بك وفعل!

وأعتقها رسول الله ، وجعلها في جملة أزواجه (١) فلمّا بلغ الناس أنّ رسول الله تزوّج جويريّة بنت الحارث قالوا : أصهار رسول الله! فأرسلوا ما كان في أيديهم منهم (٢).

__________________

(١) الإرشاد ١ : ١١٩. وقال الحلبي في المناقب ١ : ٢٠١. فجاء أبوها إلى النبيّ بفداء ابنته فسأله النبيّ عليه‌السلام عن جملين كان قد خبّأهما في شعب كذا. فقال الرجل : أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك لرسول الله ، والله ما عرفهما أحد سواي! ثمّ قال : يا رسول الله ، إنّ ابنتي لا تسبى إنّها امرأة كريمة ...

(٢) إعلام الورى ١ : ١٩٧ وتمامه : فما أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها ، وهو لفظ الواقدي رواية عن عائشة ٢ : ٤١١ ولكن صدر الرواية تخالف ما نقلناه عن المفيد في الإرشاد ، وما ذكره الطبرسي في إعلام الورى ، والحلبي في المناقب ، فقد روى الواقدي بسنده عن عائشة قالت : بينا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عندي ونحن على الماء (المريسيع) إذ دخلت عليه جويريّة ... فقالت : يا رسول الله ، إنّي امرأة مسلمة أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسول الله ، وأنا جويريّة بنت الحارث ابن أبي ضرار سيّد قومه ، أصابنا من الأمر ما قد علمت ووقعت في سهم ثابت بن قيس بن شمّاس وابن عمّ له ، فتخلّصني من ابن عمّه بنخلات له بالمدينة ، ثمّ كاتبني على ما لا طاقة لي به ولا يدان ، وما أكرهني على ذلك ، إلّا أنّي رجوتك ـ صلّى الله عليك ـ فأعنّي في مكاتبتي!

قالت عائشة : وكانت جويريّة جارية حلوة لا يكاد يراها أحد إلّا ذهبت بنفسه ... فكرهت دخولها على النبيّ وعرفت أنّه سيرى منها مثل الذي رأيت!


وروى عنها الطبرسي في «إعلام الورى» قالت : أتانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ونحن على المريسيع ، فكنت أسمع أبي يقول : أتانا ما لا قبل لنا به! وكنت أرى من الناس والخيل والسلاح ما لا أصف من الكثرة.

فلمّا أسلمت وتزوّجني رسول الله ورجعنا جعلت أنظر إلى المسلمين فليسوا كما كنت أرى ، فعرفت أنّه رعب من الله ـ عزوجل ـ يلقيه في قلوب المشركين (١).

__________________

ـ فقال رسول الله : أو خير من ذلك؟

فقالت : ما هو يا رسول الله؟

قال : اؤدّي عنك كتابتك وأتزوّجك؟!

قالت : نعم يا رسول الله قد فعلت!

فأرسل رسول الله إلى ثابت فطلبها منه وأدّى ما كان عليها من كتابتها وأعتقها وتزوّجها. وخرج الخبر إلى الناس ورجال بني المصطلق قد اقتسموا وملكوا ، ووطىء نساؤهم ، فقالوا : أصهار النبيّ! فأعتقوا ما بأيديهم من ذلك السبي ، فأعتق مائة أهل بيت بتزويج رسول الله إيّاها ، فلا أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها.

ثمّ روى بسنده عن مولاة جويريّة عنها قالت : إنّ أبي افتداني من ثابت بن قيس بن شمّاس بما كانت تفتدى به المرأة من السبي ، ثمّ خطبني رسول الله إلى أبي فأنكحني إيّاه. وإنّ رسول الله هو الذي سمّاها جويريّة وكان اسمها برّة.

وروى عنها ـ أيضا ـ قالت : رأيت قبل قدوم النبيّ ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ بثلاث ليال : كأنّ القمر يسير من يثرب حتّى وقع في حجري ، فكرهت أن اخبرها أحدا من الناس حتّى قدم رسول الله ، فلمّا سبينا رجوت الرؤيا ، فلمّا أعتقني وتزوّجني ما كلّمته في قومي ... وما شعرت إلّا بجارية من بنات عمّي تخبرني أنّ المسلمين هم أرسلوهم. فحمدت الله ـ عزوجل ـ ٢ : ٤١١ و ٤١٢ وسيأتي التفصيل عن سبايا بني المصطلق.

(١) إعلام الورى ١ : ١٩٧ وهو لفظ الواقدي بسنده عن مولاة جويرية ٢ : ٤٠٨ و ٤٠٩.


وممّا وقع في أثناء القتال : أنّ رجلا من بني عمرو بن عوف من الأنصار أو هشام بن صبابة أو هاشم بن صبابة ـ كما في الواقدي ـ تلقّى في ريح شديدة وعجاج رجلا آخر من الأنصار يقال له أوس ، فظنّ أنّه من المشركين ، فحمل عليه فقتله ، فعلم بعد أنّه مسلم. فأمر رسول الله أن تخرج ديته (١).

السبايا والغنائم :

وأمر رسول الله بالأسرى والذرية فكتّفوا وجعلوا ناحية ، واستعمل عليهم بريدة بن الحصيب. وأمر بما وجد في رحالهم من المتاع والسلاح فجمع ، وعمد إلى النعم والشياه فسيقت ، واستعمل عليهما (المتاع والنعم) مولاه شقران. ثمّ أخرج رسول الله الخمس من جميع المغنم ، واستعمل على مقسم الخمس وسهام المسلمين محميّة بن جزء الزّبيدي فكان يليه.

قال : قالوا : فاقتسم السبي وفرّق ، فصار في أيدي الرجال ، وقسّم المتاع والنعم والشياه ، فعدلت الجزور بعشر من الغنم ... وأسهم للفرس سهمان ولصاحبه سهم ، وللراجل سهم. وكانت الإبل ألفي بعير ، وخمسة آلاف شاة ، والسبي مائتي أهل بيت (٢) فاعتق مائة أهل بيت منهم بتزويج رسول الله بجويريّة بنت زعيمهم الحارث (٣).

__________________

(١) المغازي ٢ : ٤٠٨ وتمامه : فقدم أخوه مقيس على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأمر له بالدّية فقبضها ، ثمّ عدا على قاتل أخيه فقتله ثمّ خرج مرتدّا إلى قريش ونظم شعرا في ذلك ، فأهدر رسول الله دمه يوم فتح مكّة فقتل فيها. وعكس ابن هشام فجعل هشام بن صبابة هو المقتول ولم يذكر اسم القاتل ٣ : ٣٠٢ وذكر تتمّة الخبر ٣ : ٣٠٥ و ٣٠٦.

(٢) المغازي ٢ : ٤١٠.

(٣) المغازي ٢ : ٤١١ وقد مرّ الخبر عنه.


وضمنهم من منّ عليه رسول الله بغير فداء ، ومنهم من صار في أيدي الرجال ، فافتديت المرأة بستّ نياق ، وقدموا المدينة ببعض السبي فقدم عليهم أهلهم فافتدوهم ، فلم تبق امرأة من بني المصطلق إلّا رجعت إلى قومها (١).

وكان أبو سعيد الخدري يقول : قدمت علينا وفودهم فافتدوا النساء والذرّية ورجعوا بهم إلى بلادهم ، وخيّر بعضهنّ أن تقيم عند من صارت في سهمه فأبين إلّا الرجوع (٢) إلّا ما كان من جويرية بنت زعيمهم الحارث بن أبي ضرار فإنّها لمّا خيّرها رسول الله أبت الرجوع مع أبيها.

ووطىء النساء ـ كما في خبر الواقدي عن عائشة ـ ولكن لم تحمل أيّ منهنّ من المسلمين لعزلهم عنهنّ ، كما في خبر الواقدي بسنده عن أبي سعيد الخدري ـ أيضا ـ قال : أصبنا في غزوة بني المصطلق سبايا منهم ، وأحببنا فداءهنّ ، ولكن اشتدّت علينا الغربة فسألنا رسول الله عن العزل فقال : ما عليكم أن لا تفعلوا (٣)؟ أي ما يمنعكم عن ذلك؟ وقال رجل من اليهود لمّا علم بالعزل : تلك الموؤدة الصغرى! قال : فجئت رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ فأخبرته ذلك فقال : كذبت اليهود! كذبت اليهود! (٤)

__________________

(١) المغازي ٢ : ٤١٢ عن ابن أبي سبرة عن عمارة بن غزيّة. قال الواقدي : ويقال : جعل صداقها عتق أربعين من قومها. وعليه فمن منّ عليه النبيّ منهم أربعون ، وستّون منهم منّ عليهم سائر المسلمين وبقي منهم مائة أهل بيت افتدوا ، كلّ امرأة بستّ نياق ، كما مرّ الخبر عنه.

(٢) المغازي ٢ : ٤١٣.

(٣) المغازي ٢ : ٤١٣ ويلاحظ عليه عدم التصريح بمدة استبراء أرحامهنّ؟

(٤) المغازي ٢ : ٤١٣.


وفي طريق الرجوع :

قال القمي : لما رجع رسول الله من غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق ـ في سنة خمس من الهجرة ـ نزل على بئر ، وكان الماء فيها قليلا ، فاجتمعوا على البئر ، فتعلق دلو سيّار بن أنس (١) ـ حليف الأنصار ـ بدلو جهجاه بن سعيد الغفاري ـ وكان اجيرا لعمر بن الخطاب ـ فقال سيّار : دلوي ، وقال جهجاه : دلوي وضرب بيده على وجه سيّار ، فسال منه الدم ، فنادى سيار بالخزرج! ونادى جهجاه بقريش! وثارت الفتنة ، وسمع عبد الله بن ابي (بن سلول الخزرجي) النداء فسأل : ما هذا؟ فأخبروه الخبر.

فغضب غضبا شديدا وقال : إنّي لأذل العرب! قد كنت كارها لهذا المسير ما ظننت أن أبقى الى أن أسمع مثل هذا فلا يكن عندي تغيير!

ثم اقبل على اصحابه وقال : هذا عملكم! أنزلتموهم منازلكم ، وواسيتموهم بأموالكم ، ووقيتموهم بأنفسكم ، وأبرزتم نحوركم للقتل ، فأرمل نساؤكم ، وايتم صبيانكم. ولو اخرجتموهم لكانوا عيالا على غيركم. ثم قال : لئن رجعنا الى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ!

وكان ذلك في وقت الهاجرة ، وكان رسول الله في ظل شجرة وعنده قوم من أصحابه من المهاجرين والانصار. وكان زيد بن أرقم غلاما قد راهق (وقد سمع كلام ابن ابي) فجاء فأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بما قال عبد الله بن ابي.

فقال رسول الله : يا غلام لعلّك وهمت؟! قال : لا والله ما وهمت.

__________________

(١) يتكرر اسم سيّار في الخبر عدّة مرات ، وهنا : أنس بن سيار! بينما سيأتي عن ابن إسحاق أنّ اسمه سنان بن وبر الجهني حليف بني عمرو بن عوف من الخزرج.


فقال : لعلّك غضبت عليه؟! قال : لا ، ما غضبت عليه.

قال : فلعلّه سفه عليك؟! فقال : لا ، والله.

فقال رسول الله لمولاه شقران : أحدج (أي : اجعل الحدج على الجمل) فأحدج راحلته ، فركب رسول الله وارتحل ، وتسامع الناس بذلك فارتحلوا.

ولحقه سعد بن عبادة فقال : السّلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته. فقال : وعليك السّلام. فقال : ما كنت لترحل في هذا الوقت؟! فقال : أولا سمعت قولا قال صاحبكم؟! قالوا : وأيّ صاحب لنا غيرك يا رسول الله؟ قال : عبد الله ابن ابي زعم ان رجع الى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ!

فقال : يا رسول الله ، فأنت وأصحابك الأعزّ وهو وأصحابه الأذلّ! وسار رسول الله ذلك اليوم كلّه ، ولم ينزلوا إلّا للصلاة ، ثم سار ليله.

وروى بسنده عن أبان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي قال : سار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يومه وليلته ومن الغد حتّى ارتفع الضحى ، وإنّما أراد رسول الله أن يكفّ الناس عن الكلام ... ثم نزل ونزل الناس فرموا بأنفسهم نياما.

قال القمي : وأقبلت الخزرج على عبد الله بن ابي يعذلونه ، فحلف عبد الله أنه لم يقل شيئا من ذلك! فقالوا له : فقم بنا الى رسول الله حتى نعتذر إليه ، فلوى عنقه!

ثم جاء الى النبي فحلف أنّه ليشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا رسول الله ، وأنّه لم يقل ذلك وأنّ زيدا قد كذب عليه. وقبل منه رسول الله ذلك القول.

فأقبلت الخزرج على زيد بن أرقم يقولون له : كذبت على سيدنا عبد الله؟! ويشتمونه ، وزيد يقول : اللهم إنّك لتعلم أنّي لم اكذب على عبد الله بن ابي.

وارتحل رسول الله ... فما سار إلّا قليلا حتى أخذ رسول الله ما كان يأخذه من الشدّة عند نزول الوحي عليه ، فثقل حتى كادت ناقته تبرك من ثقل الوحي. ثم سري عن رسول الله وهو يسلت العرق عن جبهته. ثم دنا الى رحل زيد بن أرقم


فأخذ باذنه وقال : يا غلام صدق قولك ، ووعى قلبك ، وأنزل الله فيما قلت قرآنا.

فلما نزل جمع اصحابه حوله فقرأ عليهم السورة : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ* اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ* وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُ مْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ* وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ* سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ* هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ* يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ)(١) ففضح الله عبد الله بن ابي.

وقال أبان البجلي : وأتى ولد عبد الله بن ابي الى رسول الله فقال :

يا رسول الله ، إن كنت عزمت على قتله فمرني اكون أنا الذي أحمل إليك رأسه! فو الله لقد علمت الاوس والخزرج أني أبرّهم ولدا بوالد ، فاني اخاف ان تأمر غيري فيقتله فلا تطيب نفسي ان انظر الى قاتل عبد الله فأقتل مؤمنا بكافر فادخل النار!

فقال رسول الله : بل نحسن صحابته ـ لك ـ ما دام معنا (٢).

__________________

(١) المنافقون : ١ ـ ٨.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٣٦٨ ـ ٣٧٠.


وقال ابن اسحاق : وردت واردة الناس على الماء ... وازدحم عليه جهجاه ابن سعيد الغفاري أجير عمر بن الخطاب مع سنان بن وبر (أو تميم) الجهني حليف الخزرج ، واقتتلا ، فصرخ الجهني : يا معشر الانصار! وصرخ جهجاه : يا معشر المهاجرين! فغضب عبد الله بن ابي بن سلول وقال :

أو قد فعلوها؟! قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا ، والله ما عدنا وجلابيب قريش الا كما قال الاول : يسمّن كلبك يأكلك! أما والله لئن رجعنا الى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل! ثم اقبل على حضره من قومه ـ ومنهم زيد بن ارقم وهو غلام حدث ـ فقال :

هذا ما فعلتم بأنفسكم! احللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم اموالكم ، اما والله لو امسكتم عنهم بايديكم لتحولوا الى غير داركم!

فمشى زيد بن ارقم الى رسول الله فأخبره الخبر. وكان عنده عمر بن الخطاب فقال : مر عبّاد بن بشر فليقتله! فقال له رسول الله : يا عمر! فكيف اذا تحدث الناس : أن محمدا يقتل اصحابه! لا ، ولكن أذن بالرحيل في ساعة لا يرتحل فيها.

فلما استقل رسول الله راحلته وسار لقيه اسيد بن حضير فسلّم عليه بالنبوة ثم قال : يا نبي الله ، والله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها! فقال له رسول الله : أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟ قال : وأي صاحب يا رسول الله؟ قال : عبد الله بن ابي. قال : وما قال؟ قال : زعم أنه ان رجع الى المدينة ليخرجن الأعز منها الاذل! قال : فأنت يا رسول الله ـ والله ـ تخرجه منها ان شئت ، وهو ـ والله ـ الذليل وأنت العزيز. ثم قال : يا رسول الله ارفق به! فو الله لقد جاءنا الله بك وإنّ قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه ، فانه يرى أنك قد استلبته ملكا!

وحين بلغ ابن ابي ان زيد بن ارقم قد بلّغ النبيّ ما سمعه منه ، مشى الى رسول الله فحلف بالله : ما قلت ما قال ولا تكلمت به! فحدب عليه ودافع عنه من حضر


من الانصار قالوا : يا رسول الله ، عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل!

ومشى رسول الله بالناس يومهم ذلك حتى امسى ، وليلتهم حتى اصبح ، وصدر يومهم ذلك حتى أذنت الشمس بالزوال فنزل بالناس ، فلما وجد الناس الارض وقعوا نياما ، وانما فعل ذلك رسول الله ليشغل الناس عن حديث ابن ابي.

واتى عبد الله بن عبد الله بن ابيّ فقال : يا رسول الله ، إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن ابيّ فيما بلغك عنه ، فان كنت لا بدّ فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه! فو الله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرّ بوالده منّي ، واني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله ، فلا تدعني نفسي أن انظر الى قاتل عبد الله بن ابي يمشي في الناس فاقتله فاقتل مؤمنا بكافر فادخل النار!

فقال رسول الله : بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقى معنا.

ثم راح رسول الله بالناس حتى نزل على ماء يقال له بقعاء ... فهبّت ريح شديدة آذتهم ، فقال رسول الله : لا تخافوها ، فانما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار! فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد من عظماء يهود بني قينقاع ، وكان كهفا للمنافقين ، قد مات في ذلك اليوم.

ونزلت سورة المنافقون ... فأخذ رسول الله باذن زيد وقال : هذا الذي أوفى الله باذنه (١).

ونقل الطبرسي في «مجمع البيان» مثله وزاد : لما هاجت الريح الشديدة قال مات اليوم منافق عظيم النفاق بالمدينة. قيل : من هو؟ قال : رفاعة. وضلت ناقة رسول الله ليلا ...

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٣ : ٣٠٣ ـ ٣٠٥ ونحوه في مجمع البيان ٩ : ٤٤٢ ، ٤٤٣. ونقل مفصّل الاخبار الواقدي في المغازي ٢ : ٤١٥ ـ ٤٢٥.


فقال رجل من المنافقين : كيف يزعم أنّه يعلم الغيب ولا يعلم مكان ناقته؟! الا يخبره الذي يأتيه بالوحي؟!

فأتاه جبرئيل فأخبره بقول المنافق وبمكان الناقة ، وأخبر رسول الله بذلك أصحابه قال : ما أزعم أني أعلم الغيب ، وما اعلمه ، ولكن الله أخبرني بقول المنافق وبمكان ناقتي هي في الشعب. فاذا هي كما قال ، فجاؤوا بها. وآمن ذلك المنافق (؟).

قال زيد بن أرقم : فلما وافى المدينة جلست في البيت لما بي من الهمّ والحياء! فنزلت سورة المنافقين في تصديقي وتكذيب عبد الله بن ابيّ. فأخذ رسول الله باذني وقال : يا غلام صدق فوك ووعت أذناك ووعى قلبك ، وقد أنزل الله فيما قلت قرآنا.

فلما نزلت هذه الآيات وبان كذب عبد الله قيل له : نزلت فيك أي شداد! فاذهب الى رسول الله يستغفر لك. فلوى رأسه ثم قال : أمرتموني أن أؤمن فقد آمنت! وامرتموني ان اعطي زكاة مالي فقد اعطيت ، فما بقى الا ان اسجد لمحمد! (١).

ولم يلبث الا أياما قلائل حتى اشتكى ومات (٢).

ما تبقى من آيات الأحزاب :

مرّ في ما نزل من القرآن في أعقاب حرب الأحزاب وبني قريظة ، وزواج

__________________

(١) تمام الخبر : فنزل : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا ...) وهي الآية الخامسة ، وبعدها في الثامنة : (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا ...) وهذا يعني أن السورة نزلت أولا اربع آيات ، ثم نزلت الى آخرها ، مما يبعد صحة الخبر هكذا.

(٢) مجمع البيان ٩ : ٤٤٣ ، ٤٤٤. وموته في الخامسة في تأريخ الخميس ١ : ٤٧٣ وبعد المصطلق في الدر المنثور ٦ : ٢٢٦.


النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بزينب بنت جحش ، تأجيل ما قيل من التبيين لوجه تنزيل الآيات ٥٠ ـ ٥٢ من سورة الأحزاب الى ما بعد حرب بني المصطلق ، والوجه في ذلك.

قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(١).

روى الطوسي في «التبيان» عن علي بن الحسين عليه‌السلام في قوله سبحانه : (... وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً ...) أنها امرأة من بني اسد يقال لها : أمّ شريك (٢) ورواه الطبرسي وزاد : بنت جابر (٣) ورواه السيوطي في «الدر المنثور» ولكنه قال : الأزدية (٤).

وروى الكليني في «الكافي» بسنده عن الباقر عليه‌السلام قال : جاءت امرأة من الانصار الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : يا رسول الله ، إن المرأة لا تخطب الزوج ، وأنا امرأة أيّم لا زوج لي منذ دهر ولا ولد ، فهل لك من حاجة؟ فإن تك فقد وهبت نفسي لك إن قبلتني!

فقال لها رسول الله : يا اخت الأنصار جزاكم الله عن رسول الله خيرا ، فقد نصرني رجالكم ورغبت فيّ نساؤكم.

فقالت لها حفصة : ما أقل حياءك وأجرأك وأنهمك للرجال!

__________________

(١) الأحزاب : ٥٠.

(٢) التبيان ٨ : ٣٥٢ ، وقد مرّ ذكرها في السنة الثالثة للهجرة في الصفحة : ٢٤٤ من كتابنا ولكنّ الأرجح وقوع هذه القضية في السنة السادسة.

(٣) مجمع البيان ٨ : ٥٧١.

(٤) كما في الميزان ١٦ : ٣٤١.


فقال رسول الله : كفّي عنها يا حفصة فانها خير منك ، رغبت في رسول الله ولمتها وعبتها!

ثم قال للمرأة : انصرفي رحمك الله ، فقد أوجب الله لك الجنة لرغبتك فيّ وتعرضك لمحبتي وسروري ، وسيأتيك أمري ان شاء الله.

فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (... وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً ...) فأحل الله ـ عزوجل ـ هبة المرأة نفسها للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا يحل ذلك لغيره (١).

وفي تفسير القمي قال : كان سبب نزولها : أن امرأة من الأنصار أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد تهيأت وتزيّنت ، فقالت له : يا رسول الله ، هل لك فيّ حاجة؟ فقد وهبت نفسي لك!

فقالت عائشة : قبّحك الله! ما أنهمك للرجال؟!

فقال لها رسول الله : يا عائشة ، انها رغبت في رسول الله اذ زهدتنّ فيه!

ثم قال للمرأة : رحمكم الله يا معاشر الأنصار ، نصرني رجالكم ورغبت فيّ نساؤكم ، ارجعي رحمك الله فإني انتظر أمر الله.

فأنزل الله : (... وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً ...) فلا تحل الهبة الّا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

وقال الطبرسي : قيل : انها لما وهبت نفسها للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قالت عائشة : ما بال النساء يبذلن انفسهنّ بلا مهر؟! فنزلت الآية.

فقالت عائشة : ما أرى الله إلّا يسارع في هواك!

فقال رسول الله : وإنّك لو اطعت الله سارع في هواك (٣).

__________________

(١) فروع الكافي ٥ : ٥٦٨ ، الحديث ٥٣.

(٢) تفسير القمي ٢ : ١٩٥.

(٣) مجمع البيان ٩ : ٥٧١ وفيه وفي التبيان عن الشعبي : أنها زينب بنت خزيمة الأنصاري


والسورة التالية للاحزاب في النزول حسب الخبر المعتمد هي سورة الممتحنة (١) وهي قد نزلت في حاطب بن ابي بلتعة حيث كتب الى قريش في مكة أنّ النبي يريد غزوهم (٢) وهذا يعني أنها نزلت فيما بعد الحديبية وقبيل فتح مكة ، فالى هناك.

__________________

ـ أمّ المساكين. وعن ابن عباس : أنها ميمونة بنت الحارث كانت وهبت نفسها للنبيّ بلا مهر ـ مجمع البيان ٨ : ٣٥٠ ، وميمونة بنت الحارث هي الهلالية خالة ابن عباس نفسه ، والتي زوّجها النبي ابوه العباس في عمرة القضاء آخر السابعة ، وكانت بمهر فليست هي الواهبة نفسها للنبيّ بلا مهر ، وأظنه متزلفا به الى امراء بني العباس بأن خالتهم هي الواهبة نفسها للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله!

والآية التالية قوله سبحانه : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ ...) في التبيان ٨ : ٣٥٤ ومجمع البيان ٩ : ٥٧٤ وذكروا فيمن أرجأ منهن : جويرية ثم صفية ثم أم حبيبة ثم ميمونة ، وهي الآنفة الذكر ، وهذا يقتضي إرجاء الخبر الى هناك ، ولا سيّما وقد ربط الطبرسي بين هذه الآية وآيتي التخيير ٢٨ و ٢٩ من السورة وذكر هذه الثلاث فيمن خيرهن ٩ : ٥٥٤ وقبله الطوسي في التبيان ٨ : ٣٣٥ ، ٣٣٦.

ونقل الطبرسي في الآية التالية ٥٢ في قوله ـ سبحانه ـ : (... وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ ...) قال : قيل : إنّ التي أعجبه حسنها أسماء بنت عميس بعد قتل جعفر بن أبي طالب عنها ـ مجمع البيان ٩ : ٥٧٥. فهذا يقتضي تأخير الآية أو الآيات الى ما بعد غزوة موتة في التاسعة. ولا اقل من تأخير أخبار هذه الآيات ولا سيّما آية التخيير الى ما بعد حرب خيبر ، كما في تفسير القمي ٢ : ١٩٢ ، فالى هناك.

(١) التمهيد ١ : ١٠٦.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٣٦١.


سريّة زيد الى بني بدر :

روى الواقدي بسنده (١) قال : كان رسول الله قد بعث زيد بن حارثة الى الشام في تجارة بضائع لأصحاب النبي ، ومعه ناس من أصحابه ، فلما كان بوادي القرى (بعد خيبر) أغار عليهم ناس من بني بدر من بني فزارة فضربوهم حتى ظنوا أن قد ماتوا ، وأخذوا ما معهم.

فرجع زيد وأصحابه الى المدينة ، فبعثه رسول الله في سريّة إليهم في رمضان سنة ست ، وقال لهم : سيروا الليل واكمنوا النهار. وعلم بهم بنو بدر فجعلوا لهم ناطورا على جبل مشرف لهم على وجه الطريق الذي يرون أنهم يأتون منه. فصمد لهم زيد بن حارثة في الليل حتى صبّحهم ثم اوعز الى أصحابه أن لا يفترقوا ، وقال لهم : اذا كبّرت فكبّروا. وأحاطوا بهم فكبّر وكبّروا ، وقتلوا منهم عبد الله بن مسعدة ، وابن اخيه قيس بن النعمان بن مسعدة ، ورجل آخر ، وقتلت امرأة منهم يقال لها أم قرفة قتلها قيس بن المحسّر ، وسبى ابنتها سلمة بن الاكوع ، فوهبها لرسول الله ، فوهبها رسول الله لحزن بن ابي وهب فتزوّجها (٢).

سريّة ابن رواحة الى خيبر :

روى الواقدي بسنده عن ابن عباس قال : لما قتل ابو رافع (سلام بن ابي الحقيق ، زعيم اليهود في خيبر (٣)) أمّروا عليهم اسير بن زارم. وكان شجاعا ،

__________________

(١) قال : عن عبد الله بن جعفر ، عن عبد الله بن الحسن ، بن الحسن بن علي بن أبي طالب وهو الحسن المثنى ، وأمه من بني فزارة والخبر عن بني فزارة.

(٢) المغازي ٢ : ٥٦٤ ، ٥٦٥.

(٣) مرّ خبره في حوادث ما بعد الخندق وبني قريظة ، كما ذكره ابن اسحاق ٣ : ٢٨٦ ـ ٢٨٨


فقام فيهم فقال : إنه والله ما سار محمد الى أحد من اليهود الّا بعث احدا من أصحابه فأصاب منهم ما أراد ، ولكني اصنع ما لا يصنع اصحابي.

قالوا : وما عسيت ان تصنع ما لم يصنع أصحابك؟

قال : أسير في غطفان فأجمعهم ، ثم نسير الى محمد في عقر داره ، فانه لم يغز أحد في داره الا ادرك منه عدوّه بعض ما يريد.

قالوا : نعم ما رأيت. فسار في غطفان فجمعهم.

وقدم خارجة بن حسيل الأشجعي على رسول الله فاستخبره عمّا وراءه فقال : تركت اسير بن زارم يسير إليك في كتائب اليهود.

فروى عن عروة بن الزبير : أن النبي بعث عبد الله بن رواحة في ثلاثة نفر في شهر رمضان الى خيبر ليخبر عن حال اهلها وما يتكلمون به وما يريدون. فلما وصل الى خيبر فرّق أصحابه الثلاثة في ثلاثة من آطام خيبر : الشق ، والكتيبة ، والنطاة ، فأقاموا فيها ثلاثة أيام حتى وعوا ما سمعوه عن اسير وغيره ، ثم خرجوا بعد ثلاثة أيام فرجعوا الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لليالي بقين من شهر رمضان ، فأخبروه بما رأوا وسمعوا.

وعن ابن عباس قال : فندب رسول الله الناس فانتدب له ثلاثون رجلا. فاستعمل عليهم عبد الله بن رواحة.

وقال عبد الله بن انيس : جئت فوجدت أصحابي يوجهون الى اسير بن زارم ، وسمعت النبي يقول : لا أرى اسير بن زارم. يعني ان اقتلوه وكنت فيهم ، فخرجنا حتى قدمنا خيبر ، فأرسلنا الى اسير : إنا آمنون حتى نأتيك فنعرض عليك ما جئنا له؟ قال : نعم ، ولي مثل ذلك منكم؟ قلنا : نعم.

__________________

وذكره الواقدي ١ : ٣٩١ على رأس ستة واربعين شهرا ، وقال : ٣٩٥ ، ويقال : كانت السرية في شهر رمضان سنة ست.


فدخلنا عليه فقلنا : انّ رسول الله بعثنا إليك أن تخرج إليه فيستعملك على خيبر ، ويحسن إليك. فشاور اليهود في ذلك فقالوا له : ما كان محمد يستعمل رجلا من بني اسرائيل! قال : بلى ، وقد مللنا الحرب.

فخرج ومعه ثلاثون رجلا من اليهود. فسرنا حتى اذا كنّا بقرقرة ثبار (١) فأهوى بيده الى سيفي! ففطنت له فدفعت بعيري وقلت : أغدرا أي عدو الله؟ ثم دنوت منه مرة اخرى وتناومت لانظر ما يصنع؟ فتناول سيفي! فغمزت بعيري ونزلت عنه وسقت القوم حتى انفرد اسير فضربته بالسيف فقطعت فخذه وسقط عن بعيره ، ثم ملنا على أصحابه فقتلناهم الا واحدا منهم اعجزنا هربا ، ورجعنا الى رسول الله فاذا هو جالس في اصحابه مشرفين على الثنية (ثنية الوداع الى جهة الشام) فانتهينا إليه وحدثناه الخبر فقال : نجّاكم الله من القوم الظالمين (٢).

سرية الى بني ضبّة :

روى الكليني في «فروع الكافي» بسنده عن أبان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي ... عن الامام الصادق عليه‌السلام قال : قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قوم من بني ضبّة مرضى ، فقال لهم رسول الله : أقيموا عندي فاذا برأتم بعثتكم في سرية. فقالوا :

__________________

(١) موضع على ستة اميال من خيبر ـ وفاء الوفاء ٢ : ٢٧٣. وروى السمهودي الخبر عن موسى ابن عقبة ، وفاء الوفاء ٢ : ٣٦١.

(٢) المغازي ٢ : ٥٦٦ ـ ٥٦٨. وذكر ابن اسحاق مختصره في السيرة ٤ : ٢٦٦ والطبرسي في اعلام الورى ١ : ٢١١ بعد خيبر ، بلا تأريخ. ويصلح هذا ان يكون الباعث على حرب خيبر بفاصل أربعة أشهر وعشرا تقريبا. وسيأتي في أخبار خيبر البحث في ثنية الوداع هل كانت قبل خيبر أم لا؟ وهذه هي ثنية الوداع الشمالية ، وكانت معلماً بارزاً للعيان حتى اُزيلت لتوسعة ميدان ملتقى طريقي سلطانة وسيدالشهداء عليه السلام كما جاء في كتاب : المساجد والاماكن الاثرية المجهولة في المدينة لعبدالرحمن خويلد الحجازي ، وعنه في مجلة ميقات الحج ٦ : ٢٦٩.


أخرجنا من المدينة. فبعث بهم الى ابل الصدقة يشربون من ... البانها ، فلما برأوا واشتدوا قتلوا ثلاثة ممن كان في الابل [واستاقوها].

فبلغ الخبر رسول الله فبعث إليهم عليا عليه‌السلام [مع جمع ، وكانوا] في واد قد تحيّروا ليس يقدرون أن يخرجوا منه ... فأسرهم وجاء بهم الى رسول الله ، فنزلت الآية : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ...)(١) فاختار رسول الله القطع ، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف (٢).

وروى القاضي في «دعائم الاسلام» عنه عليه‌السلام عن جده أمير المؤمنين حكى ذلك الى أن قال : فأرسلني في طلبهم ، فلحقت بهم ... وهم في واد قد ولجوا فيه ليس يقدرون على الخروج منه ، فأخذتهم وجئت بهم الى رسول الله ، فتلى عليهم هذه الآية : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) ثم قال : القطع القطع ، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف (٣).

ونقل الطوسي في «التبيان» عن قتادة والسدّي وسعيد بن جبير وعن أنس ابن مالك : أن الآية نزلت في العرنيين والعكليين حين ارتدوا وأفسدوا في الارض ، فأخذهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف (٤).

__________________

(١) المائدة : ٣٣. هذا ، والمعروف أنها آخر سورة نزلت من القرآن الكريم.

ولعله لهذا ذهب الضحاك عن ابن عباس الى أن الآية نزلت في قوم كان بينهم وبين النبي موادعة فنقضوا العهد وأفسدوا في الارض ، فخيّر الله نبيه في ما ذكر في الآية. كما في التبيان ٣ : ٥٠٥ ، وعنه في مجمع البيان ٣ : ٢٩١. وعليه فلا يصدق ما يروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله سمل اعينهم ثم نزلت الآية فنهى عن المثلة بعد ذلك بل يصحّ انّه كان ينهى عن المثلة قبل نزول الآية في أواخر عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٢) فروع الكافي ٧ : ٢٤٥ ، ح ١ ، ورواه العياشي في تفسيره ١ : ٣١٤ ، ح ٩٠.

(٣) دعائم الاسلام ٢ : ٤٧٦ ، ح ١٧١١.

(٤) التبيان ٣ : ٥٠٥.


ونقله الطبرسي في «مجمع البيان» فقال : نزلت في العرنيين لما نزلوا المدينة للاسلام واستثقلوا هواءها فاصفرت ألوانهم فأمرهم النبي أن يخرجوا الى ابل الصدقة فيشربوا من ألبانها ... ففعلوا ذلك ، ثم مالوا الى الرعاة فقتلوهم واستاقوا الابل وارتدوا عن الاسلام ، فأخذهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف (١).

__________________

(١) مجمع البيان ٣ : ٢٩١ ، ورواه الواحدي عن قتادة عن أنس : ١٥٨. وروى الخبر الواقدي عن يزيد بن رومان (عن أنس بن مالك) قال : قدم ثمانية نفر من عرينة على النبي فأسلموا (وأصابهم الوباء بالمدينة) فأمر بهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الى لقاحه بذي الجدر (ذو الجدر على ستة اميال من المدينة من ناحية قباء قريبا من عير ، الطبقات ٢ : ٦٧) فكانوا بها حتى صحوا وسمنوا ... ثم غدوا على اللقاح فاستاقوها ، فأدركهم يسار مولى رسول الله ومعه نفر فقاتلوهم ، فأخذوه فقطعوا يده ورجله وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات تحت شجرة وانطلقوا بالسرح.

واقبلت امرأة من بني عمرو بن عوف فرأت يسار ميتا تحت شجرة ، فرجعت الى قومها وخبّرتهم الخبر ، فخرجوا حتى جاءوا به الى قباء. واخبروا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فبعث رسول الله في أثرهم عشرين فارسا واستعمل عليهم كرز بن جابر الفهري (كذا) فخرجوا في طلبهم حتى ادركهم الليل بالحرّة ، فباتوا بها ؛ وأصبحوا لا يدرون أين يسلكون؟ فاذا هم بامرأة تحمل كتف بعير ، فقالوا لها : ما هذا معك؟ قالت : مررت بقوم قد نحروا بعيرا فاعطوني منه هذا. فقالوا : اين هم؟ قالت : هم بتلك القفار من الحرّة اذا وافيتم عليهم رأيتم دخانهم.

فساروا حتى أتوهم فأحاطوا بهم فاستأسروا بأجمعهم ، فربطوهم وأردفوهم على الخيل حتى قدموا بهم المدينة ، فوجدوا رسول الله بالغابة ، فخرجوا إليه ، حتى التقوا بمربط في مجمع ـ السيول من الزغابة ، فأمر بهم فقطعت ايديهم وارجلهم وسملت أعينهم وصلبوا هناك.

ثم روي عن أبي هريرة (*) قال : لما قطع النبي أيدي أصحاب اللقاح وارجلهم وسمل اعينهم نزلت الآية : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) فلم تسمل بعد ذلك عين.


هجرة عقيل مسلماً :

قالوا : كانت قريش بعد هجرة المسلمين منهم تنهب المنقول من ماله وتهب غير المنقول منه لمن لم يسلم بعد من قبيلته ، فاعطت دور المسلمين المهاجرين إلى عقيل ، ولعلّه لغنى العباس ، فباعها عقيل. ولمّا اُسر مع العباس ببدر وفداه العباس عاد إلى مكّة ، ثمّ عاد إلى المدينة مسلماً مهاجراً قبل الحديبية ، فشهدها وما بعدها (١).

صلح الحديبية :

روى القمي في تفسيره بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : إن الله ـ عزوجل ـ أرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في النوم أنه دخل بأصحابه المسجد الحرام مع الداخلين ، وطاف مع الطائفين وحلّق مع المحلّقين ، وكان ذلك أمرا له بذلك.

__________________

لكنه روى بعد هذا عن الامام الصادق عليه‌السلام عن أبيه عن جده قال : لم يقطع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لسانا. قط ولم يسمل عينا ولم يزد على قطع اليد والرجل. وروي عن الامام الباقر عن أبيه عن جده قال : ما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ذلك بعثا الا نهاهم عن المثلة.

قال : ولما أقبل رسول الله من الزغابة الى المدينة وجلس في المسجد اذا اللقاح على باب المسجد ، ثم ردّها الى مكانها بذي الجدر فكانت هناك ، وكان يصله كل ليلة منها وطب (كيل) من لبن. وكانت خمس عشرة لقحة غزارا.

وقد أرّخ للسرية بشوال سنة ست. (المغازي ٢ : ٥٦٩ ـ ٥٧١).

هذا ، وقد مرّ حد السرقة ٢ : ٤٥٤ التنبيه إلى أن هذا الخبر فيه ذكر ابل الصدقة. وأخذ الصدقات انما بدأ في السنة التاسعة للهجرة ، ثمّ الآيتان في حدّهم من المائدة وهي الاخيرة نزولاً بعد حجة الوداع ، فالراجح أن القضية كانت يومئذ بعد رجوعهم من حجة الوداع.

(١) الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة : ١٥٤.


فأخبر أصحابه بذلك ، وأمرهم بالخروج ، فخرجوا (١).

فلما نزل ذا الحليفة (٢) ... وكان قد ساق رسول الله ستا وستين بدنة (٣) ،

__________________

(١) قال الواقدي : واغتسل رسول الله في بيته ولبس ثوبين من نسج حمار (بلدة بسلطنة عمان اليوم وقديما كانت من قرى اليمن ـ النهاية ٢ : ٢٥٣) ، وركب راحلته القصواء من عند بابه ... وخرج من المدينة يوم الاثنين لهلال ذي القعدة ... واستخلف على المدينة ابن أمّ مكتوم ... وكان قد أمر رسول الله بسر بن سفيان الكعبي أن يبتاع له بدنا ويبعث بها الى ذي الجدر ، فلما ـ حضر خروجه امر بها فجلبت الى المدينة ، ثم استعمل عليها ناجية بن جندب الأسلمي فأمره أن يقدمها الى ذي الحليفة. وخرج معه المسلمون وساق الهدي معه منهم أهل القوة عليه. وقال سعد بن عبادة : يا رسول الله ، لو حملنا السلاح معنا فان رأينا من القوم ريبا كنّا معدّين لهم!

فقال رسول الله : لست أحمل السلاح ، إنّما خرجت معتمرا. فقال عمر بن الخطاب : يا رسول تخشى علينا من ابي سفيان الله [الا] بن حرب وأصحابه ولم نأخذ للحرب عدّتها؟!

فقال رسول الله : ما أدري ؛ ولست أحب حمل السلاح معتمرا (المغازي ٢ : ٥٧٢ ـ ٥٧٣) وروى الكليني في روضة الكافي : ٢٦٦ ، بسنده عن الصادق عليه‌السلام : خرج النبي في وقعة الحديبية في ذي القعدة ... ومعه خيل الانصار : الاوس والخزرج وكانوا ألفا وثمانمائة.

وقال الطبرسي : خرج في الشهر الحرام ذي القعدة في ناس كثير من أصحابه يريد العمرة ، وساق معه سبعين بدنة ـ اعلام الورى ١ : ٢٠٣.

وقال الحلبي في المناقب ١ : ٢٠٢ ، اعتمر في ألف ونيف رجل وسبعين بدنة.

وروى ابن اسحاق بسنده ٣ : ٣٢٢ ، عن المولد بن مخرمة قال : كان الناس معه سبعمائة رجل ، والهدي سبعين بدنة ، وكل بدنة عن عشرة. وروي عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : كنا ألفا وأربعمائة رجلا.

(٢) في معاني الاخبار : ١٠٨ ، بسنده عن الصادق عليه‌السلام : كان بينهما (المدينة وذي الحليفة) ستة أميال. وهو كذلك في معجم البلدان ٥ : ١٥٥.

(٣) في اعلام الورى ١ : ٢٠٣. سبعين بدنة وكذلك في قصص الأنبياء : ٣٤٦ ومناقب آل أبي طالب ١ : ٢٠٢.


فأحرم بالعمرة وأشعرها عند احرامه ، وأحرم المسلمون ملبّين بالعمرة مشعرين (١).

وكان رسول الله في طريقه يستنفر بالأعراب ليكونوا معه ، فلم يتّبعه احد

__________________

(١) قال ابن اسحاق : وانما ساق معه الهدي وأحرم بالعمرة ليعلم الناس انه إنمّا خرج زائرا للبيت ـ ومعظما له ، فيأمن الناس من حربه ، ٣ : ٣٢٢.

وروى الواقدي ٢ : ٥٧٣ ، أن رسول الله صلّى الظهر بذي الحليفة ، ثم دعا بالبدن فجللت (جعل عليها الجلّ) ثم اشعر عددا منها بنفسه في شقها الايمن وهنّ موجّهات الى القبلة ... ثم أمر ناجية بن جندب باشعار ما بقى ، وقلّدها نعلا. فأشعر المسلمون بدنهم وقلدوهن النعال في رقابهن. ثم دخل رسول الله المسجد (؟) فصلى ركعتين ، ثم خرج ودعا براحلته فركبها من باب المسجد ، فلما انبعثت به مستقبلة القبلة أحرم وهو يقول :

«لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إنّ الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك لبيك» وأحرم عامة المسلمين باحرامه. ومعه أمّ سلمة.

ودعا رسول الله بسر بن سفيان الكعبي فقال له : إنّ قريشا قد بلغها اني اريد العمرة فخبّر لي خبرهم ثم القني بما يكون منهم. فتقدم بسر أمامه.

ودعا رسول الله عبّاد بن بشر فقدّمه طليعة في عشرين فارسا من خيل المسلمين من الانصار ومنهم محمد بن مسلمة ، ومن المهاجرين ومنهم المقداد بن عمرو. وقيل : بل كان اميرهم سعد بن زيد الأشهلي.

وروى الحميري في قرب الاسناد : ٥٩ ، بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : إنّ رسول الله لما انتهى الى البيداء حيث الميل قرّبت له ناقة فركبها ، فلما انبعثت به لبّى بالاربع.

وروى الكليني في فروع الكافي ٤ : ٣٣٤ ، بسنده عنه عليه‌السلام ـ أيضا ـ قال : إنّما لبّى النبي في البيداء لأن الناس لم يعرفوا التلبية فأحب أن يعلمهم كيف التلبية.

وروى الطوسي في الاستبصار والتهذيب بسنده عنه عليه‌السلام قال : إنّ رسول الله لم يكن يلبّى حتى يأتي البيداء ـ ٢ : ١٧ و ٥ : ٨٤. والبيداء هي الصحراء أمام الحجاج بعد ذي الحليفة الى جهة المغرب ـ وفاء الوفاء ٢ : ٢٦٧.


منهم وكانوا يقولون : أيطمع محمد وأصحابه أن يدخلوا الحرم وقد غزتهم قريش في عقر دارهم فقتلوهم؟! إنه لا يرجع محمد وأصحابه الى المدينة أبدا! (١).

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٣١ ، وقال ابن اسحاق ٣ : ٣٢٢ ، واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي ومن الاعراب ليخرجوا معه ، فأبطأ عليه كثير منهم ، وهو يخشى من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدّوه عن البيت.

وروى الواقدي ٢ : ٥٧٤ ، أن رسول الله جعل يمر بالاعراب فيما بين المدينة الى مكة : بني بكر ، وجهينة ، ومزينة ، فيستنفرهم معه فيتشاغلون له بأموالهم وأبنائهم وذراريهم ويقولون : أيريد محمد أن يغزو بنا الى قوم معدين مؤيدين في الكراع والسلاح وانما محمد وأصحابه أكلة جزور! لن يرجع محمد وأصحابه من سفرهم هذا أبدا! قوم لا سلاح معهم ولا عدد ، وانما يقدم على قوم عهدهم حديث بمن اصيب منهم يوم بدر! وخرج معه من أسلم سبعون أو مائة رجل. وخرج معه من المسلمين الف وست مائة أو ألف وخمسمائة أو ألف وأربعمائة وكان معه اربع نسوة : أمّ سلمة زوجه ، وأمّ عامر الأشهلية ، وأمّ عمارة ، وأمّ منيع.

وكان رسول الله يقدم الخيل ، ثم هديه ومعه هدي المسلمين مع ناجية بن جندب ومعه فتيان من اسلم ، ثمّ ويخرج هو ...

وراح رسول الله عصر يوم الاثنين من ذي الحليفة فأصبح يوم الثلاثاء بملل ، وراح من ملل فتعشّى بالسيّالة ثم اصبح بالروحاء.

وكان فيهم من لم يحرم ، فاشترى قوم منهم في الروحاء أو عرضوه على المحرمين فأبوا حتى سألوا رسول الله فقال : كلوا ، فكل صيد ليس لكم حلالا من الاحرام ، تأكلونه ، الا ما صدتم أو صيد لكم ٢ : ٥٧٥ ، فروى بسنده عن ابن عباس : أن الصعب بن جثامة أهدى لرسول الله في الابواء حمارا وحشيا (قد صاده) فردّه وقال : إنا لم نردّه الا أنا حرم. ولكنه روى عن أبي قتادة : أنه صاد في الابواء حمارا وحشيا لنفسه وأصحابه المحلين وطبخوه وعرضوه على المحرمين فشكوا في أكله فسأل النبي عن ذلك فقال : أمعكم منه شيء؟ فأعطاه


وروى المفيد في «الإرشاد» : نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في منزل الجحفة فلم يجد بها ماء ، فبعث سعد بن مالك (ابي وقاص الزهري) بالروايا ، حتى اذا كان غير بعيد رجع وقال : يا رسول الله ما استطيع أن امضي لقد وقفت قدماي رعبا من القوم! فبعث رسول الله رجلا آخر ، فخرج بالروايا حتى اذا كان بالمكان الذي انتهى إليه

__________________

الذراع فأكله وهو محرم ، لأنه لم يصده محرم أو لمحرم ، بل محل لمحل ـ ٢ : ٥٧٦.

وحين اقتربوا من الابواء عطب بعير من الهدي فأخبر بذلك ناجية بن جندب رسول الله فقال له : انحرها واصبغ قلائدها في دمها ، وخلّ بين الناس وبينها ولا تأكل أنت ولا أحد من أهل رفقتك منها شيئا.

وفي الابواء ـ أيضا ـ رأى رسول الله كعب بن عجرة على طبخ والقمل في رأسه يؤذيه فقال له : هل تؤذيك هوامك يا كعب؟ قال : نعم يا رسول الله ، فقال : فاحلق رأسك.

وروى الواقدي بسنده عن مجاهد : أن في كعب بن عجرة هذا نزلت الآيات من سورة البقرة : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) فروى مجاهد عن كعب بن عجرة قال : فأمرني رسول الله أن أذبح شاة «او نسك» أو أصوم ثلاثة أيام ، أو اطعم ستة مساكين مدّين ، وقال : أي ذلك فعلت أجزأك ـ ٢ : ٥٧٧ ، ٥٧٨.

والآيات في سورة البقرة من ١٩٦ ـ ٢٠٣. وعليه فهذه الآيات مما نزلت في السنة السادسة والحقت بسورة البقرة النازلة في السنة الاولى من الهجرة.


الأول (سعد) فرجع وقال : والذي بعثك بالحق ما استطعت ان امضي رعبا!

فدعا رسول الله علي بن ابي طالب فأرسله بالروايا وخرج معه السقاة وهم لا يشكّون في رجوعه كما رجع من قبله. فخرج علي عليه‌السلام بالروايا حتى ورد الخرار فاستقى ثم أقبل بها الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ... فكبّر النبي ودعا له بخير (١).

قال القمي : فلما بلغ قريشا ذلك بعثوا خالد بن الوليد في مائتي فارس ليستقبل رسول الله. فكان يكمن له في الجبال (٢).

__________________

(١) الارشاد ١ : ١٢١ ، ١٢٢ ، واختصره الحلبي في سطرين في المناقب ٢ : ٩٠ ، ونقله عن المفيد ابن حجر في الاصابة ٣ : ١٩٩. والغريب أن الواقدي ٢ : ٥٧٨ ، نقل الخبر بألفاظه إلّا أنه لم يسمّ أحدا لا سعدا ولا عليا عليه‌السلام! سترا للمثالب والمناقب ، أليس الانصاف كذلك؟!

(٢) تفسير القمي ٢ : ٣١٠ ، وفي روضة الكافي : أرسل إليه المشركون أبان بن سعيد (بن العاص الاموي) في الخيل فكان بازائه. وفي اعلام الورى : ٩٨ ، بعثوا مكرز بن حفص وخالد بن الوليد ، وكذلك في المناقب ٢ : ٢٠٢.

وروى الواقدي ٢ : ٥٧٩ ، لما بلغ المشركين خروج رسول الله الى مكة راعهم ذلك واجتمعوا له ... فأجمعوا أمرهم وجعلوه الى : صفوان بن أميّة ، وسهيل بن عمرو ، وعكرمة بن أبي جهل.

فقال صفوان : نرى أن نقدّم مائتي فارس الى كراع الغميم (على مرحلتين من مكة) ، ونستعمل عليها رجلا جلدا (قويا). فقالوا : نعم ما رأيت. فقدّموا على خيلهم ـ يقال ـ خالد ابن الوليد (أو) عكرمة بن أبي جهل. واستنفرت قريش من أطاعها من الأحابيش ومعهم ثقيف ، ووضعوا العيون على الجبال الى جبل يقال له : وزر وزع ، فكان العيون يوحي بعضهم ـ الى بعض حتى ينتهي ذلك الى قريش.

وخرجت قريش الى بلدح فضربوا بها القباب والأبنية ، وخرجوا بالنساء والصبيان فعسكروا هناك.


فلما قرب في الطريق الى مكة وحضرت صلاة الظهر أذن بلال ، وصلّى رسول الله الظهر بالناس ، فقال خالد بن الوليد : لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة لأصبناهم ، فانهم لا يقطعون صلاتهم. ثم قال : ولكن تجيء لهم بعد الآن صلاة اخرى احب إليهم من ضياء ابصارهم ، فاذا دخلوا في الصلاة أغرنا عليهم!

__________________

وروى ابن اسحاق بسنده عن المسور بن مخرمة قال : وخرج رسول الله حتى كان بعسفان (على مرحلتين من مكة ـ معجم البلدان) فلقيه بشر بن سفيان الكعبي (الذي كان قد بعثه النبي الى مكة عينا له) فقال له : يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك ، فخرجوا معهم العوذ المطافيل [العائذات ومعهن اطفالهن] قد لبسوا جلود النمور ، وقد نزلوا بذي طوى [قرب مكة] يعاهدون الله : لا تدخلها عليهم ابدا ، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدّموها الى كراع الغميم [واد بعد عسفان بثمانية اميال].

فقال رسول الله : يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب ، ما ذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر العرب ، فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الاسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة! فما تظن قريش؟! فو الله لا أزال اجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة [أي صفحة العنق ، كناية عن الموت].

ثم أمر رسول الله الناس أن يسلكوا ذات اليمين طريقا تخرجهم على ثنيّة المرار مهبط الحديبية في أسفل مكة.

فلما رأت خيل قريش من قتار جيش المسلمين أنهم خالفوا طريقهم ، الى مكة ـ سيرة ابن هشام ٣ : ٣٢٣ ، ٣٢٤. وهذه هي رواية ابن اسحاق عن ابن شهاب ، وعليها فقد كان كل ذلك على بعد فيما بين المسلمين والمشركين ، ولم يكن بينهم قبل الحديبية من القرب ما يوجب صلاة الخوف كما يظهر من الخبر الثاني عن تفسير القمي ومغازي الواقدي.


فنزل جبرئيل على رسول الله بقوله ـ سبحانه ـ : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً* فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً)(١).

ففرّق رسول الله أصحابه فرقتين ، فوقف بعضهم تجاه العدو وقد اخذوا سلاحهم ، وفرقة صلوا مع رسول الله قياما ومرّوا فوقفوا مواقف أصحابهم ، وجاء اولئك الذين لم يصلوا فصلى بهم رسول الله الركعة الثانية ، وقعد رسول الله يتشهد ، وقام أصحابه فصلوا الركعة الثانية (٢) فرادى.

__________________

(١) النساء : ١٠٢ ، ١٠٣. والخبر في تفسير القمي ٢ : ٣١٠.

(٢) تفسير القمي ١ : ١٥٠. وقال الطوسي في التبيان ٣ : ٣١١ : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعسفان ، والمشركون بضجنان ، فتواقفوا ، فصلى النبي بأصحابه صلاة الظهر بتمام الركوع والسجود ، فهمّ بهم المشركون أن يغيروا عليهم ، فقال بعضهم : لهم صلاة اخرى أحب إليهم من هذه. يعنون العصر. فأنزل الله عليه الآية فصلى بهم العصر صلاة الخوف ، ونقله عنه الطبرسي في مجمع البيان ٣ : ١٥٧ ، ثم ذكر خبر أبي حمزة الثمالي في تفسيره أن ذلك كان في حرب محارب وأنمار.

وروى الواقدي بسنده عن ابن عياش الزرقي (الانصاري) تفصيل ذلك قال : حانت صلاة الظهر فأذن بلال وأقام ، فاستقبل رسول الله القبلة وصفّ الناس خلفه فصلى بهم الظهر


وروى الكليني في «روضة الكافي» بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : لما بلغه أن المشركين أرسلوا خالد بن الوليد ليردّه قال : ابغوا لي رجلا يأخذني على غير هذا الطريق فاتي برجل من مزينة أو جهينة ، فسأله فلم يوافقه ، فقال : ابغوا لي رجلا غيره. فاتي برجل آخر (١).

وفي «المغازي» : قالوا : فلما أمسى رسول الله قال : أيّكم يعرف ثنيّة

__________________

ـ وسلم ، فقاموا الى ما كانوا عليه من التعبية ، فقال خالد بن الوليد : قد كانوا على غرّة ، لو كنّا حملنا عليهم لأصبنا منهم. ثم قال : ولكن تأتي الساعة صلاة هي أحب إليهم من أنفسهم وأبنائهم!

فنزل جبرئيل عليه‌السلام بين الظهر والعصر بهذه الآية : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ ...) الآية. فحانت العصر فأذن بلال وأقام ، فقام رسول الله مواجها القبلة ، والعدو امامه ، (والمسلمون خلفه صفّين) وكبّر رسول الله فكبّر الصفان وركعوا معا ، ثم سجد فسجد الصف الذي يليه ووقف الصف الآخر يحرسونهم ، فلما قضى رسول الله السجود بالصف الأول وقام وقاموا معه سجد الصف المؤخر السجدتين وقاموا ، فتأخر الصف الاول وتقدم الصف المؤخر ، فركع رسول الله وركعوا معا ، ثم سجد رسول الله فسجد الصف الذي يليه ووقف الصف المؤخر يحرسونهم ، فلما سجد رسول الله السجدتين ومن معه ورفعوا رءوسهم واستووا جالسين سجد الصف المؤخر السجدتين ، فتشهد رسول الله عليهم ٢ : ٥٨٣.

ورواها كذلك ـ أيضا ـ بسنده عن عكرمة عن ابن عباس ٢ : ٥٨٢.

ولكنه روى بسنده عن جابر بن عبد الله الانصاري : أن هذه الصلاة كانت في عسفان وأنها كانت صلاة الخوف الثانية بعد صلاته الاولى في غزوة ذات الرقاع ، بينهما اربع سنين. ثم قال الواقدي : وهذا أثبت عندنا ٢ : ٥٨٣. ويؤيد ذلك أن الآية من سورة النساء.

(١) روضة الكافي : ٢٦٦.


ذات الحنظل (١) فنزل عمرو بن عبد نهم الأسلمي فقال : أنا يا رسول الله أدلك. فقال : انطلق أمامنا ، فانطلق عمرو أمامهم حتى نظر رسول الله الى الثنيّة فقال : هذه ثنية ذات الحنظل؟ فقال عمرو : نعم يا رسول الله.

وعن أبي سعيد الخدري قال : انما كان عامّة زادنا التمر ، وانما مع رسول الله الدقيق ... فحين نزل رسول الله قال : من كان معه ثقل فليصطنع [أي : من كان معه دقيق فليخبز] فقلنا : يا رسول الله انا نخاف من قريش أن ترانا! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله سيعينكم عليهم ، إنهم لن يروكم.

فأوقدوا النيران فكانت اكثر من خمسمائة نار. فلما أصبحنا صلّى رسول الله بنا الصبح (٢).

وروى ابن اسحاق بسنده عن المسور بن مخرمة قال : خرج رسول الله حتى اذا سلك في ثنيّة المرار بركت ناقته ، فقال الناس : خلأت الناقة (٣) فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما خلأت ، وما هو لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة! لا تدعوني قريش اليوم الى خطة يسألونني فيها صلة الرحم الا أعطيتهم إيّاها (٤).

وروى الخبر الواقدي وفيه زيادة : ثم قامت فعادت حتى نزلت به على ثمد ظنون قليل الماء (٥) فقال رسول الله للناس : انزلوا! فقيل له : يا رسول الله ما

__________________

(١) ذات الحنظل : موضع كان في ديار بني أسد ـ معجم ما استعجم : ٢٨٨.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٥٨٣ ـ ٥٨٥.

(٣) خلأت : الخلاء في النوق كالحران في الدواب : إعياء يصيب الحيوان فلا يمشي.

(٤) سيرة ابن هشام ٣ : ٣٢٤. ورواه الطبرسي في مجمع البيان ٩ : ١٧٨ والحلبي في المناقب ١ : ٢٠٢.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٥٨٧ ومجمع البيان ٩ : ١٧٨ عن المسور بن مخرمة ، والثمد : الماء القليل ، والظنون : البخيل.


بالوادي ماء ننزل عليه (١).

وروى الواقدي بسنده عن أبي قتادة الانصاري : نزلنا على الحديبية والماء قليل ، فسمعت الجدّ بن قيس [المنافق] يقول : ما كان خروجنا الى هؤلاء القوم؟! نموت من العطش عن آخرنا! فقلت له : يا أبا عبد الله فلم خرجت؟ قال : خرجت مع قومي! قلت : فلم تخرج معتمرا؟ قال : لا والله ما أحرمت ، ولا نويت العمرة. فذكرت قوله للنبي صلّى الله عليه [وآله] وسلم ، فقال رسول الله : ابنه خير منه (٢).

الماء في الحديبية :

فروى بسنده عن ناجية بن الاعجم الأسلمي قال : كان المشركون قد سبقوا الى بلدح فغلبوا على مياهه ، والناس في حرّ شديد ، والبئر واحدة ، وقد شكى الناس الى النبي قلّة مائها ، فدعا بدلو من ماء البئر فجئته به فمضمض فاه ثم مجّه فيه ، وأخرج سهما من كنانته ودفعه إليّ وقال : انزل بالماء فصبّه في البئر ، وأثر ماءها بالسهم. ففعلت ، فوالذي بعثه بالحق لقد فارت كما تفور القدر وكاد الماء يغمرني وأنا أخرج حتى طمّت البئر واستوت بشفيرها ، فكان المسلمون يغترفون الماء منها حتى نهلوا عن آخرهم.

النفاق في الحديبية :

وكان يومئذ نفر من المنافقين جلوس ينظرون الى الماء وقد جاشت البئر وهم على شفيرها ، فقال أوس بن خولي لعبد الله بن ابي بن سلول : ويحك يا أبا الحباب :

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٣ : ٣٢٤.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٥٩٠.


أما آن لك أن تبصر ما أنت عليه؟ أبعد هذا شيء (١)؟! وردنا بئرا يتبرّض ماؤها (٢) فتوضأ رسول الله في الدلو ومضمض فاه فيه ، ثم افرغ الدلو فيها ونزل بالسهم فحثحثها فجاشت بالرواء.

فقال ابن ابي : قد رأيت مثل هذا!

فقال أوس : قبّحك الله وقبّح رأيك!

وقال له رسول الله : أي أبا الحباب ، أين رأيت مثل ما رأيت اليوم؟

قال : ما رأيت مثله قط!

فقال رسول الله : فلم قلت ما قلت؟

قال : استغفر الله (٣)!

وقال ابو قتادة الأنصاري : فلما دعا رسول الله الرجل وتوضأ بالدلو ومج فاه فيه ثم رده في البئر ونزل فيها بالسهم ، فجاشت البئر بالرواء ... رأيت الجدّ بن القيس على شفير البئر مادّا رجليه في الماء!

فقلت له : أبا عبد الله ، أين ما قلت؟

فقال : لا تذكر لمحمد مما قلت شيئا ، انما كنت أمزح معك (٤).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٥٨٨ ، ٥٨٩. وقد روى الكليني خبر البئر عن الصادق عليه‌السلام في روضة الكافي : ٢٦٦ ، وأشار إليه الطوسي في التبيان ٩ : ٣١٣ ، والطبرسي في مجمع البيان ٩ : ١٦٧ عن ابن اسحاق في السيرة ٣ : ٣٢٢ ، والراوندي في الخرائج والجرائح ١ : ٥٨ و ١٢٣ وخبر آخر مثله في الطريق ١ : ١٠٩.

(٢) يتبرّض : يخرج في القعب جرعة ماء.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٥٨٨ ، ٥٨٩.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٥٩٠.


وفي المساء مطرت السماء فكثر الماء ، فروى الواقدي بسنده عن أبي قتادة الأنصاري قال : فسمعت ابن ابي يقول : هذا نوء الخريف ، مطرنا بالشعري (١)!

فروى الواقدي بسنده عن زيد بن خالد الجهني قال : صلّى بنا رسول الله في الحديبية صبيحة مطر كان في الليل ، فلما انصرف أقبل على الناس فقال : هل تدرون ما ذا قال ربّكم؟ قالوا : الله ورسوله اعلم. فقال : إنه قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته ، فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب ، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا ، فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب (٢).

هدايا المشركين :

قال الواقدي : وقالوا : لما نزل رسول الله الحديبية ... أهدى عمرو بن سالم الخزاعي من ضجنان لسعد بن عبادة الخزرجي وكان صديقا له غنما وجزرا على يد غلام منهم ، فجاء سعد بالغنم والغلام الى رسول الله فأخبره : أن عمرا أهداها له ، فقال رسول الله : فبارك الله في عمرو! ثم قال للغلام : يا غلام أين تركت أهلك؟ قال : تركتهم قريبا بضجنان وما والاه ، فقال : فكيف تركت البلاد؟ فقال الغلام : تركتها وقد تيسّرت ... قد ابتليت الأرض فتشبّعت شاتها وشبع بعيرها مما جمعا من حوض الارض وبقلها الى الليل ، وتركت مياههم كثيرة تشرع فيها الماشية ، مع قلة حاجتهما الى الماء لرطوبة الأرض.

فأعجب رسول الله لسانه وكانت عليه بردة بالية ، فأمر له بكسوة ، فكسي الغلام. فقال الغلام : اني اريد أن أمسّ يدك أطلب بذلك البركة! فقال رسول الله :

__________________

(١) المغازي ٢ : ٥٩٠.

(٢) المغازي ٢ : ٥٨٩ ، ٥٩٠.


ادن [وأشار إليه بيده] فأخذ يد رسول الله فقبّلها ، فمسح رسول الله على رأسه وقال : بارك الله فيك (١).

ثم فرّق رسول الله الغنم كلّها على أصحابه ، وأمر بالجزر أن تنحر وتقسم في أصحابه.

وكانت أمّ سلمة معه فقالت : وشركنا في شاة فدخل علينا بعضها ، ودخل علينا من لحم الجزر كنحو مما دخل على رجل من القوم (٢)!

رسل المشركين :

روى ابن اسحاق بسنده عن المسور بن مخرمة قال : لما اطمأن رسول الله أتاه بديل بن ورقاء الخزاعي في رجال من خزاعة ـ وكانوا ناصحين لرسول الله لا يخفون عنه شيئا ـ فسألوه : ما الذي جاء به؟

فقال لهم مثل ما قال لبشر بن سفيان وأنه لم يأت يريد حربا وانما جاء زائرا للبيت ومعظّما لحرمته.

فرجع بديل الخزاعي ورجاله الى قريش فقالوا لهم : يا معشر قريش ، انكم تعجلون على محمد ، انّ محمدا لم يأت لقتال ، وانما جاء زائرا هذا البيت.

فقالوا : وان كان لا يريد قتالا فو الله لا يدخلها علينا عنوة ، ولا تحدث بذلك عنّا العرب (٣).

__________________

(١) قال : فبارك الله فيه حالا وفضلا حتى توفي في زمن الوليد بن عبد الملك ٢ : ٥٩٣.

(٢) المغازي ٢ : ٥٩٢.

(٣) سيرة ابن هشام ٣ : ٣٢٥. أما الواقدي فقد روى الخبر في ٢ : ٥٩٣ والظاهر أنه بسند ابن


__________________

ـ اسحاق أيضا ٢ : ٥٨٦ ، ٥٨٧ ولكنه قال : قال بديل : جئناك من عند قومك : كعب بن لؤي وعامر بن لؤي ، وقد استنفروا لك الأحابيش ومن اطاعهم معهم العوذ المطافيل (العائذات معها اطفالها) يسمون بالله : لا يخلون بينك وبين البيت حتى تبيد خضراؤهم (سوادهم جماعتهم).

فقال رسول الله : انا لم نأت لقتال أحد ، إنمّا جئنا لنطوف بهذا البيت ، فمن صدّنا قاتلناه! وقريش قوم قد أضرت بهم الحرب ونهكتهم ، فان شاءوا ماددتهم مدة يأمنون فيها ويخلون فيها بيننا وبين الناس ، والناس اكثر منهم ، فان ظهر أمري على الناس كانوا بين أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس ، أو يقاتلوا وقد جمعوا والله لأجهدن على أمري حتى تنفرد سالفتي (صفحة العنق ، كناية عن الموت) أو ينفذ الله أمره!

فقام بديل وركب ، وركب من معه الى قريش حتى هبطوا عليهم فقال ناس منهم : هذا بديل وأصحابه إنما جاءوا يريدون أن يستخبروكم! فلا تسألوهم عن حرف واحد (وكأنهم لم يرسلوا من قبل قريش).

فقال بديل : انا جئنا من عند محمد ، أتحبون أن نخبركم؟!

فقال عكرمة بن أبي جهل والحكم بن العاص : لا والله ما لنا حاجة بأن تخبرنا عنه! ولكن اخبروه عنا : أنه لا يدخلها علينا عامه هذا ابدا حتى لا يبقى منّا رجل!

فقال عروة بن مسعود : والله ما رأيت كاليوم رأيا أعجب! وما تكرهون أن تسمعوا من بديل وأصحابه ، فإن أعجبكم أمر قبلتموه وإن كرهتم شيئا تركتموه.

فقال صفوان بن أميّة والحارث بن هشام : أخبرونا بالذي رأيتم والذي سمعتم. فأخبروهم بمقالة النبي التي قال وما عرض على قريش من المدة.

فقال عروة : يا معشر قريش ... إنّ بديلا قد جاءكم بخطة رشد لا يردّها أحد أبدا إلّا أخذ


وفي خبر «روضة الكافي» عن الصادق عليه‌السلام قال : ثم ارسلوا الحليس [سيد الأحابيش](١) فرأى البدن (وقد تآكل أوبارها).

فرجع ... وقال لأبي سفيان : يا أبا سفيان ، أما والله ما على هذا حالفناكم على أن تردّوا الهدي عن محلّه.

فقال له ابو سفيان : اسكت فانّما أنت اعرابي!

فقال الحليس : أما والله لتخلّين عن محمد وما أراد ، أو لأنفردنّ بالأحابيش!

فقال أبو سفيان : اسكت حتى نأخذ من محمد ولثا (٢).

__________________

ـ شرا منها ، فاقبلوها منه ، وابعثوني حتى آتيكم بمصداقها من عنده ، وأنظر الى من معه واكون لكم عينا آتيكم بخبره ... فاني لكم ناصح شفيق عليكم لا ادّخر عليكم نصحا. فبعثوه ٢ : ٥٩٣ ، ٥٩٤ ورواه الطبرسي في مجمع البيان ٩ : ١٧٨ باختصار وبنفس السند. وأشار إليه الحلبي في المناقب ١ : ٢٠٢ ، ٢٠٣.

(١) قال ابن الأثير : الأحابيش : كانوا احياء من القارة انضموا الى بني ليث في محاربتهم لقريش ... ثم حالفوا قريشا عند جبل يسمى حبشي ، فسمّوا بذلك. وزاد الفيروزآبادي في القاموس المحيط : حبشي بالضمّ : جبل باسفل مكة ، ومنه أحابيش قريش ، لأنهم تحالفوا فيه بالله أنهم يد على غيرهم ما سجى ليل ، ووضح نهار ومارسى حبشي. وعنه في مجمع البحرين ، مادة : حبش.

(٢) روضة الكافي : ٢٦٧ وفي مجمع البحرين : الولث : العهد من غير قصد أو غير مؤكد. مادّة : ولث. روى خبر الحليس ابن اسحاق في السيرة ٣ : ٣٢٥ ، ٣٢٦. والواقدي في المغازي ٢ : ٥٩٩ ، ٦٠٠ وكلاهما عن الزهري عن عروة عن المسور بن مخرمة. وابن اسحاق روى الكلام بينه وبين قريش ـ بلا اسم ـ عن عبد الله بن ابي بكر ، وكان بمكة مشركا.


فأرسلوا إليه عروة بن مسعود [الثقفي](١) وقد كان جاء الى قريش في القوم الذين أصابهم المغيرة بن شعبة [الثقفي] كان قد خرج معهم من الطائف تجارا فقتلهم وجاء بأموالهم الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأبى رسول الله أن يقبلها وقال : هذا غدر ، ولا حاجة لنا فيه.

فأرسل [مقدّم المسلمين] الى رسول الله : يا رسول الله ، هذا عروة بن مسعود قد أتاكم ، وهو يعظّم البدن.

فقال [رسول الله] : فأقيموها [له] فأقاموها.

فقال : يا محمد ، مجيء من جئت؟

قال : جئت أطوف بالبيت وأسعى بين الصفا والمروة وأنحر هذه الابل واخلّي [بينكم] وبين لحماتها (٢).

وفي خبر القمي عن الصادق عليه‌السلام ـ أيضا ـ قال :

قال رسول الله : ما جئت لحرب ، وإنّما جئت لأقضي نسكي فأنحر بدني ، واخلّي بينكم وبين لحماتها.

وقال (عروة) : يا محمد ، تركت قومك وقد ضربوا الأبنية وأخرجوا العوذ المطافيل [العائذات معها اطفالها] يحلفون باللات والعزّى لا يدعوك تدخل مكة وفيها عين تطرف ، فإنّ مكة حرمهم. أتريد أن تبيد اهلك وقومك يا محمد (٣)؟!

وفي خبر الكليني قال : فلا واللات والعزّى ما رأيت مثلك ردّ عما جئت له ؛

__________________

(١) وهو صهر أبي سفيان على ابنته ميمونة فهو عديل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لزواجه بامّ حبيبة بنت أبي سفيان.

(٢) روضة الكافي : ٢٦٧.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٣١١.


إنّ قومك يذكرونك الله والرحم أن تدخل عليهم بلادهم بغير اذنهم ، وأن تقطع أرحامهم وأن تجرّي عليهم عدوّهم!

فقال رسول الله : ما أنا بفاعل حتى أدخلها.

وكان عروة حين كلّم رسول الله تناول لحيته ، وكان المغيرة [بن شعبة] قائما على رأس النبيّ ، فضرب يد عروة ، فقال عروة : من هذا يا محمد؟ فقال : هذا ابن اخيك المغيرة! فقال له عروة : يا غدر ، ما جئت الا في غسل سلحتك (١).

ثم رجع الى [مكة] فقال لأبي سفيان وأصحابه : لا والله ما رأيت مثل محمد ردّ عما جاء له (٢).

وقال الواقدي : فلما فرغ عروة بن مسعود من كلام رسول الله ... ركب حتى رجع الى قريش فقال لهم : يا قوم ، اني وفدت على الملوك : على كسرى وهرقل

__________________

(١) السلح : ضروق الطائر ـ مجمع البحرين.

(٢) روضة الكافي : ٢٦٧ ، ٢٦٨ ، ولعل علة عدم معرفة عروة للمغيرة ما رواه الواقدي في المغازي ٢ : ٥٩٥ : أنه كان على وجهه المغفر فلا يعرف. وفيه ان عروة قال له : وأنت بذلك يا غدر؟! لقد أورثتنا العداوة من ثقيف الى آخر الدهر! ثم قال : يا محمد ، أتدري كيف صنع هذا؟ انه خرج في ركب من قومه ، فلما كانوا بيننا وناموا طرقهم فقتلهم وأخذ حرائبهم (أموالهم) وفرّ منهم! قال الواقدي : ولحق بالنبيّ فأسلم ، وحين اخبر النبيّ خبرهم قال : هذا [مال] غدر لا اخمّسه.

قال : وكان عروة بن مسعود قد استعان في حمل ديته فأعانه الرجل بالفريضتين والثلاث وأعانه أبو بكر بعشر فرائض. فكانت هذه يد أبي بكر عند عروة بن مسعود. فلما قال عروة للنبي : وأيم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا! قال له ابو بكر : امصص بظر اللات! أنحن نخذله؟! فقال عروة : أما والله لو لا يد لك عندي لم أجزك بها بعد لأجبتك! يقصد عونه له بعشر ديات ـ المغازي ٢ : ٥٩٥ ، ٥٩٦. ومجمع البيان ٩ : ١٧٨. وفي الغارات ٥١٧ اشارة علي عليه السلام إلى غدره واسلامه.


والنجاشي ، واني ـ والله ـ ما رأيت ملكا قط اطوع فيمن هو بين ظهرانيه من محمد في أصحابه! والله ما يشدون إليه النظر ، وما يرفعون عنده الصوت ، ويكفيه أن يشير الى أمر فيفعل ، وما يتنخّم وما يبصق الا وقعت في يد رجل منهم يمسح بها جلده! وما يتوضأ الا ازدحموا عليه أيّهم يظفر منه بشيء! وقد حرزت القوم.

وأعلموا أنّكم إن أردتم السيف بذلوه لكم ، وقد رأيت قوما ما يبالون ما يصنع بهم إذا هم منعوا و (حموا) صاحبهم ، والله لقد رأيت معه أناسا لا يسلمونه على حال أبدا! فروا رأيكم ، واياكم والوهن في الرأي ، وقد عرض عليكم خطة فمادوه! يا قوم اقبلوا ما عرض ، فاني لكم ناصح ، مع أني أخاف أن لا تنصروا عليه (فانه) رجل أتى هذا البيت معظما له معه الهدي ينحره وينصرف!

فقالوا له : يا أبا يعفور ، لا تتكلم بهذا ، ولو غيرك تكلّم بهذا للمناه ، ولكن نردّه عن البيت في عامنا هذا ويرجع ، الى قابل (١).

رسل رسول الله :

روى ابن اسحاق : أنّ رسول الله دعا خراش بن أميّة الخزاعي فبعثه الى قريش مكة ، وحمله على بعير له ، ليبلّغ أشرافهم عنه ما جاء له.

فعقروا به جمل رسول الله وأرادوا قتله فمنعت عنه الأحباش وخلّوا سبيله (٢).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٥٩٨ ، ٥٩٩. وروى الطبرسي في مجمع البيان ٩ : ١٧٨ ، ١٧٩ : عن المسور بن مخرمة قريبا منه ، وذكر مختصره الحلبي في مناقب آل أبي طالب ١ : ٢٠٣.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٣ : ٣٢٨. وقال الواقدي في المغازي ٢ : ٦٠٠ كان أول من بعث رسول الله الى قريش خراش بن أميّة الكعبي ... ليبلّغ أشرافهم عن رسول الله ويقول لهم : إنما جئنا معتمرين معنا الهدي معكوفا ، فنطوف بالبيت ونحلّ وننصرف. فولي عكرمة بن ابي


فروى الكليني في «روضة الكافي» بسنده عن الصادق عليه‌السلام : «أن رسول الله أراد أن يبعث عمر ، فقال : يا رسول الله ، إنّ عشيرتي قليل ، وإنّي فيهم على ما تعلم ، ولكنّي أدلّك على عثمان بن عفّان (١).

فأرسل إليه رسول الله فقال له : انطلق الى قومك من المؤمنين فبشّرهم بما وعدني ربّي من فتح مكة (٢).

فلما انطلق عثمان لقى أبان [بن سعيد بن العاص الاموي] فتأخّر عن السرج

__________________

ـ جهل عقر جمل النبيّ وأراد قتل (الرجل) فمنع عنه من كان هناك من قومه ، وخلّوا سبيله ، فرجع الى النبي ولم يكد يرجع ، فأخبر النبي بما لقى وقال : يا رسول الله ابعث رجلا أمنع مني ـ ٢ : ٦٠٠.

(١) رواه ابن اسحاق في السيرة ٣ : ٣٢٩ بسنده عن عكرمة عن ابن عباس قال : ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه الى مكة ، فيبلّغ عنه أشراف قريش ما جاء له ، فقال : يا رسول الله ، إنّي أخاف قريشا على نفسي ، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني ، وقد عرفت قريش عداوتي إيّاها وغلظتي عليها ، ولكني أدلّك على رجل أعز بها منّي : عثمان بن عفّان ، فبعثه الى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم : أنّه لم يأت لحرب ، وأنّه إنّما جاء زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته. مغازي الواقدي ٢ : ٦٠٠. سيأتي التفصيل في عمرة القضاء في آخر السنة السابعة للهجرة.

(٢) قال الواقدي في المغازي ٢ : ٦٠١ : قال عثمان : ثم كنت أدخل على قوم مؤمنين من رجال ونساء مستضعفين فأقول : إنّ رسول الله يبشركم بالفتح ويقول : أظلّكم حتى لا يستخفى بالايمان بمكة. فكنت أرى المرأة منهم تنتحب والرجل ينتحب حتى اظن أنه يموت فرحا بما خبّرته ، فيسأل عن رسول الله فيحفى المسألة ويشد ذلك أنفسهم ويقولون : إنّ الذي أنزله بالحديبية لقادر أن يدخله مكة فاقرأ منّا السّلام على رسول الله.


وحمل عثمان بين يديه وأدخله مكة وأعلمهم (١).

ذكر الطبرسي في «اعلام الورى» : أن رسول الله بعث عثمان بن عفّان الى أهل مكة يستأذنهم أن يدخل مكة معتمرا.

فأبوا أن يتركوه واحتبس ، فظن رسول الله أنهم قتلوه! (٢).

الحراسة والغارة :

قال الواقدي : وكان رسول الله يأمر أصحابه بالحديبية يتحارسون الليل ،

__________________

(١) روضة الكافي : ٢٦٨. وقال ابن اسحاق في السيرة ٣ : ٣٢٩ : فخرج عثمان الى مكة ، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها ، فحمله بين يديه وأجاره ليبلّغ رسالة الله. فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلّغهم عن رسول الله ما أرسله به.

وقال الواقدي في المغازي ٢ : ٦٠٠ ، ٦٠١ : فخرج عثمان حتى أتى بلدح ، فوجد قريشا هنالك ، فقالوا له : أين تريد؟ فقال : بعثني رسول الله إليكم يدعوكم الى الله والى السّلام ؛ تدخلون في الدين كافة ، فان الله مظهر دينه ومعزّ نبيّه! واخرى : تكفّون ، ويلي هذا الأمر منه غيركم ، فان ظفروا بمحمد فذلك ما أردتم ، وان ظفر محمد كنتم بالخيار أن تدخلوا فيما دخل فيه الناس ، أو تقاتلوا وأنتم وافرون جامّون (مستريحون) ... واخرى : أنّ رسول الله يخبركم أنه لم يأت لقتال أحد ، إنما جاء معتمرا معه الهدي عليه القلائد ينحره وينصرف.

فقالوا : قد سمعنا ما تقول ، ولا كان هذا أبدا ، ولا دخلها علينا عنوة ، فارجع الى صاحبك فأخبره!

فقام إليه أبان بن سعيد بن العاص فرحّب به وأجاره ، ونزل عن فرسه وحمل عثمان على السرج وارتدف وراءه ، وأدخله مكة وقال له : لا تقصر عن حاجتك.

(٢) اعلام الورى ١ : ٢٠٤. وقال ابن اسحاق : فاحتبسته قريش عندها وبلغ رسول الله أنه قد قتل ٣ : ٣٢٩.


فكان ثلاثة منهم يتناوبون الحراسة : أوس بن خوليّ ، وعبّاد بن بشر ، ومحمّد بن مسلمة ، فكان الرجل منهم يبيت على الحرس يطيف بالعسكر حتى يصبح.

وكان عثمان قد اقام بمكة ثلاثا يدعو قريشا. وكان رجال من المسلمين قد دخلوا مكة باذن رسول الله الى أهليهم (١) وهم عشرة من المهاجرين : حاطب بن ابي بلتعة ، وأبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس ، وأبو الروم بن عمير ، وعمير بن وهب الجمحي ، وعبد الله بن ابي أميّة بن وهب ، وعبد الله بن حذافة ، وعبد الله بن سهيل بن عمرو العامري : سفير الصلح ، وعياش بن أبي ربيعة ، وكرز بن جابر الفهري ، وهشام بن العاص بن وائل (٢).

وليلة من تلك الليالي وعثمان بعد بمكة ، ومحمد بن مسلمة (على الحراسة) وقد كانت قريش بعثت خمسين رجلا ليلا (٣) عليهم مكرز بن حفص ، أمروهم أن يطيفوا بالنبي صلّى الله عليه [وآله] رجاء أن يصيبوا منهم أحدا ، أو يصيبوا منهم غرة ، فأخذهم محمد بن مسلمة وأصحابه وجاءوا بهم الى رسول الله.

وبلغ قريشا أن أصحابهم حبسوا ، فجاء جمع منهم الى المسلمين وتراموا بالنبل والحجارة ، وأسّر المسلمون منهم أسرى آخرين أيضا (٤).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٠٢.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٦٠٣.

(٣) وروى الطبرسي في مجمع البيان ٩ : ١٨٦ : عن انس بن مالك : أنهم كانوا ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا من جبل التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوهم ، فأخذهم المسلمون.

وروى قبله عن ابن عباس : أنهم كانوا أربعين رجلا بعثهم المشركون ليصيبوا المسلمين فاسروا ، واتي بهم الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فخلّى سبيلهم.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٦٠٢.


بيعة الرضوان :

ثم إنّ قريشا بعثوا سهيل بن عمرو [العامري] وحويطب بن عبد العزّى ، ومكرز بن حفص [قائد الأسرى الخمسين لرسول الله للصلح].

وقد بلغ رسول الله أنّ عثمان وأصحابه [المهاجرين العشرة] قد قتلوا ... فأقبل رسول الله يؤم منزل غزية بن عمرو المازني من بني النجّار ومعه زوجته أمّ عمارة ، فجلس في رحالهم ثم قال : إن الله أمرني بالبيعة. فتداكّ الناس يبايعونه ، بايعهم على أن لا يفرّوا (١).

وقال الطبرسي في «اعلام الورى» : فبايعوه تحت الشجرة على أن لا يفرّوا عنه أبدا (٢).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٠٢ ، ٦٠٣.

(٢) اعلام الورى ١ : ٢٠٤ ومثله في المناقب ١ : ٢٠٢. هذا ، وقد روى ابن اسحاق في السيرة ٣ : ٣٣٠ : عن عبد الله بن ابي بكر : أنّ الناس كانوا يقولون : بايعهم رسول الله على الموت ، وكان جابر بن عبد الله الانصاري يقول : إنّ رسول الله لم يبايعنا على الموت ، ولكن بايعنا على أن لا نفرّ ، فبايعه الناس ولم يتخلف عنه أحد حضرها من المسلمين ، الا الجد بن قيس من بني سلمة ، والله لكأنّي انظر إليه لاصقا بإبط ناقته يستتر بها من الناس. ثم أتى رسول الله أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل وروى الواقدي في المغازي ٢ : ٥٩١ : عن أبي قتادة الأنصاري قال : لما دعا رسول الله الى البيعة فرّ الجد بن قيس فدخل تحت بطن البعير ، وقلت له : ويحك ما أدخلك هاهنا؟ أفرارا مما نزل به روح القدس؟! قال : لا ، ولكنّي سمعت البيعة فرعبت!

ومات الجدّ بن قيس في خلافة عثمان في ماله بالواديين.

وروى الطبري في تأريخه ٢ : ٦٣٢ : بسنده عن سلمة بن الاكوع قال : بينما نحن قافلون من


وقال المفيد في «الارشاد» : إنّ عليا عليه‌السلام طرح ثوبا بينه صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين النساء فبايعنه بمسح الثوب ، ورسول الله يمسح الثوب مما يليه (١).

وروى الكليني : أن رسول الله ضرب باحدى يديه على الاخرى لعثمان (٢).

وأنبأ النبي عن الوصيّ :

وروى في «الارشاد» بسنده عن علي بن الحسين عليهما‌السلام قال : انقطع شسع نعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فدفعها الى علي عليه‌السلام يصلحها ، ثم مشى في نعل واحدة غلوة (رمية سهم) أو نحوها ، وأقبل على أصحابه فقال : ان منكم من يقاتل على التأويل كما قاتل معي على التنزيل.

فقال أبو بكر : أنا ذاك يا رسول الله؟ قال : لا.

فقال عمر : فأنا يا رسول الله؟ قال : لا.

فأمسك القوم ونظر بعضهم الى بعض ، فقال رسول الله : لكنّه خاصف النعل ـ وأومأ الى علي عليه‌السلام وقال ـ إنّه المقاتل على التأويل اذا تركت سنّتي ونبذت ،

__________________

ـ الحديبية اذ نادى منادي النبيّ : أيها الناس ، البيعة البيعة ، نزل روح القدس. فسرنا الى رسول الله وهو تحت شجرة سمرة فبايعناه.

ويبدو منه أن البيعة كانت بعد الصلح والرجوع! وهو أمر غريب منفرد ، ويبدو لي التصحيف في لفظ (قافلون من) عن (قائلون في) أي كنّا في نومة القيلولة قبل الزوال في الحديبية ، لا قافلين منها. ومعه ينسجم قوله : فسرنا الى رسول الله تحت الشجرة ، وأيضا نداء المنادي ، ولو كانوا قافلين لاقتضى الامر غير ذلك.

(١) الارشاد ١ : ١١٩.

(٢) روضة الكافي : ٢٦٨.


وحرّق كتاب الله ، وتكلّم في الدين من ليس له ذلك ، فيقاتلهم علي على احياء دين الله عزوجل (١).

وكأنّ الشيخ المفيد رأى وحدة أو تقارب هذا الحديث مع ما رواه في لقاء سهيل بن عمرو العامري برسول الله سفيرا للصلح معه قال : أقبل سهيل بن عمرو الى النبي فقال له : يا محمد إنّ أرقّاءنا لحقوا بك فارددهم علينا! فغضب رسول الله حتى تبين الغضب في وجهه ثم قال : لتنتهن ـ يا معشر قريش ـ أو ليبعثن الله عليكم رجلا امتحن الله قلبه للإيمان يضرب رقابكم على الدين!

فقال بعض من حضر : يا رسول الله ، أبو بكر ذلك الرجل؟ قال : لا.

قيل : فعمر؟ قال : لا ، ولكنه خاصف النعل في الحجرة.

فتبادر الناس الى الحجرة ينظرون من الرجل؟ فاذا هو امير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام (٢).

وفي «روضة الكافي» بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : فأرسلوا إليه سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى ... فأمر رسول الله فأثيرت البدن في وجوههم ، فقالا : مجيء من جئت؟

قال : جئت لأطوف بالبيت وأسعى بين الصفا والمروة وانحر البدن واخلّي بينكم وبين لحماتها.

فقالا : إنّ قومك يناشدونك الله والرحمة أن تدخل عليهم بلادهم بغير اذنهم

__________________

(١) رواه المعتزلي بسندين عن أبي سعيد الخدري ٣ : ٢٠٦ وقبله الحاكم في المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٢٢ وقبله أبو يعلى الموصلي في مسنده ٢ : ٣٤١. وقبله احمد في مسنده ٣ : ٨٢.

(٢) الارشاد ١ : ١٢٢ ـ ١٢٣.


وتقطع أرحامهم وتجرّئ عليهم عدوّهم. فأبى رسول الله إلّا أن يدخلها (١).

وفي خبر القمي في تفسيره بسنده عنه عليه‌السلام أيضا قال : فبعثوا [مكرز بن] حفص بن الاخيف وسهيل بن عمرو ... فوافوا رسول الله فقالوا :

يا محمد ، ألا ترجع عنا عامك هذا ، الى أن ننظر الى ما ذا يصير أمرك وأمر العرب (؟) فان العرب قد تسامعت بمسيرك ، فإن دخلت بلادنا وحرمنا استذلّتنا العرب واجترأت علينا. ونخلّي لك البيت في العام القابل في هذا الشهر [ذي القعدة] ثلاثة أيام حتى تقضي نسكك وتنصرف عنا؟

فأجابهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الى ذلك ، وقالوا له :

وترد إلينا كل من جاءك من رجالنا ، ونرد إليك كل من جاءنا من رجالك؟ فقال رسول الله : من جاءكم من رجالنا فلا حاجة لنا فيه ، ولكن :

على أن المسلمين بمكة لا يؤذون في إظهارهم الاسلام ، ولا يكرهون ، ولا ينكر عليهم شيء يفعلونه من شرائع الاسلام؟

فقبلوا ذلك. ورجع سهيل بن عمرو و [مكرز بن] حفص بن الاخيف الى قريش فأخبراهم بالصلح.

اعتراض بعض الصحابة :

قال القمي : فلما أجابهم رسول الله الى الصلح أنكر ذلك عامة الصحابة ، وأشد ما كان إنكارا [عمر بن الخطاب] فقال :

يا رسول الله ، ألسنا على الحق وعدونا على باطل؟

فقال : نعم.

__________________

(١) روضة الكافي : ٢٦٨.


قال : فنعطي الدنية في ديننا؟

فقال : إنّ الله وعدني ، ولن يخلفني ...

فقال عمر : يا رسول الله ألم تقل لنا أن ندخل المسجد الحرام ونحلّق مع المحلّقين؟!

فقال : أمن عامنا هذا وعدتك وقلت لك : إنّ الله ـ عزوجل ـ قد وعدني أن أفتح مكة وأطوف وأسعى مع المحلّقين؟ (١).

ولما أكثروا عليه قال لهم رسول الله :

ألستم أصحابي يوم بدر أنزل الله فيكم : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ)(٢).

ألستم أصحابي يوم احد : (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ

__________________

(١) وفي التبيان ٩ : ٣٣٥ : روى : أنّ رسول الله حيث قاضى أهل مكة يوم الحديبية وهمّ بالرجوع الى المدينة قال له عمر : يا رسول الله ، أليس وعدتنا أن ندخل المسجد الحرام محلّقين ومقصّرين؟! فقال له رسول الله : قلت لكم : إنّا ندخلها العام؟ فقال : لا. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : فإنّكم تدخلونها إن شاء الله.

ورواه الطبرسي في مجمع البيان ٩ : ١٨٠ ، عن الزهري عن المسور بن مكرمة عن عمر قال : والله ما شككت مذ أسلمت إلّا يومئذ فأتيت النبي فقلت : ألست نبي الله؟! فقال : بلى! قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟! قال : بلى! قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟! قال : إنّي رسول الله ولست اعصيه ، وهو ناصري. قلت : أو لست كنت تحدثنا : أنا سنأتي البيت ونطوف حقا؟! قال : بلى ، أفأخبرتك أن نأتيه العام؟! قلت : لا ، قال : فإنّك تأتيه وتطوف به.

وانظر سيرة ابن هشام ٣ : ٣٣١ ومغازي الواقدي ٢ : ٦٠٦ و ٦٠٩.

(٢) الأنفال : ٩.


يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ ...)(١).

ألستم أصحابي يوم كذا؟ ألستم أصحابي يوم كذا؟

فاعتذروا الى رسول الله وندموا على ما كان منهم ، وقالوا : الله أعلم ورسوله ، فاصنع ما بدا لك (٢).

قبول قريش بالصلح :

قال : ورجع [مكرز بن] حفص بن الاخيف وسهيل بن عمرو الى رسول الله وقالا :

يا محمد ، قد أجابت قريش الى ما اشترطت عليهم من إظهار الاسلام وان لا يكره أحد على دينه (٣).

ثم قال : يا أبا القاسم ، إنّ مكة حرمنا وعزّنا ، وقد تسامعت العرب بك أنّك قد غزوتنا ، ومتى ما تدخل علينا مكة عنوة تطمع فينا فنتخطف ، وإنّا نذكّرك الرحم ، فإن مكة بغيتك التي تفلّقت عن رأسك.

فقال له رسول الله : فما تريد؟

قال : اريد أن اكتب بيني وبينك هدنة ؛ على أن اخلّيها لك في قابل فتدخلها ، ولا تدخلها بخوف ولا فزع ولا سلاح ، إلّا بسلاح الراكب : القسّي ، والسيوف في القراب (٤).

__________________

(١) آل عمران : ١٥٣.

(٢) وروى مثله الواقدي في المغازي ٢ : ٦٠٩.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٣١١ ، ٣١٢.

(٤) اعلام الورى ١ : ٢٠٤.


قال المفيد في «الارشاد» لما ضرع سهيل بن عمرو الى النبيّ عليه‌السلام في الصلح نزل الوحي عليه بالاجابة الى ذلك ، وأن يجعل أمير المؤمنين عليه‌السلام كاتبه يومئذ والمتولي لعقد الصلح بخطّه (١).

نصّ معاهدة الصلح :

قال الطبرسي في «إعلام الورى» : فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، فأخذ أديما أحمر فوضعه على فخذه (٢).

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي عليه‌السلام : اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم.

فقال سهيل : ما أدري ما الرحمن ... إلّا اني أظنه هذا الذي باليمامة ، ولكن اكتب كما نكتب : باسمك اللهم [فكتب باسمك اللهم].

فقال : واكتب : هذا ما قاضى عليه رسول الله سهيل بن عمرو.

فقال سهيل : فعلام نقاتلك يا محمد؟!

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله (٣).

فقال له سهيل : لا اجيبك إلى كتاب تسمى فيه رسول الله ، ولو أعلم أنك رسول الله لم اقاتلك ، إنّي إذا ظلمتك إذ منعتك أن تطوف ببيت الله وأنت رسول الله ، ولكن اكتب : «محمد بن عبد الله» اجبك.

قال علي عليه‌السلام : فغضبت فقلت : بلى والله إنّه لرسول الله وإن رغم أنفك!

فقال رسول الله : يا علي ، إنّي لرسول الله ، وإنّي لمحمد بن عبد الله ، ولن يمحو

__________________

(١) الارشاد ١ : ١١٩ واشار إليه الحلبي في المناقب ١ : ٢٠٣.

(٢) إعلام الورى ١ : ٢٠٤.

(٣) روضة الكافي : ٢٦٨ ، ٢٦٩ باسناده عن الصادق عليه‌السلام.


عنّي الرسالة كتابي إليهم : من محمّد بن عبد الله ، فاكتب : محمد بن عبد الله. اكتب ما يأمرك ، إنّ لك مثلها ستعطيها وأنت مضطهد! (١)

فمحا رسول الله اسمه بيده ، وأمرني فكتبت : «محمد بن عبد الله (٢) والملأ من قريش وسهيل بن عمرو ، اصطلحوا على :

وضع الحرب بينهم عشر سنين (٣) على ان يكفّ بعض عن بعض ، وعلى أنّه لا إسلال ولا إغلال (٤) وأن بيننا وبينهم غيبة مكفوفة.

وأنه من أحبّ أن يدخل في عهد محمد وعقده فعل ، وأن من احبّ أن يدخل في عهد قريش وعقدها فعل.

وأنه من أتى من قريش الى أصحاب محمد بغير اذن وليّه يردوه إليه. وأنه من أتى قريشا من اصحاب محمد لم يردوه إليه.

__________________

(١) وقعة صفين : ٥٠٨ و ٥٠٩ بسنده عن علي عليه‌السلام قالها يوم صفّين. ورواه الطوسي في أماليه : ١٨٧ ح ٣١٥ عن أبي مخنف عنه عليه‌السلام قال : فامتنعت من محوه (لقول سهيل) فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : امحه يا علي ، وستدعى إلى مثلها فتجيب وأنت على مضض. وفي تفسير القمي ٢ : ٣١٣ : لتجيبن أبناءهم إلى مثلها وأنت مضيض مضطهد. ومثله في الارشاد ١ : ١٢١ وإعلام الورى ١ : ٢٠٤ و ٣٧٢ والخرائج والجرائح ١ : ١١٦ ح ١٩٢ ومناقب آل أبي طالب ٣ : ١٨٤.

(٢) اليعقوبي ٢ : ١٨٩ في صفين و ١٩٢ في النهروان وتفسير القمي ٢ : ٣١٣ والارشاد ١ : ١٢١. واعلام الورى ١ : ٢٠٤ و ٣٧٢ ومجمع البيان ٩ : ١٧٩ عن الزهري ومناقب الحلبي ٣ : ١٨٤. وفي أخبار الكافي وأمالي الطوسي وصفين للمنقري واليعقوبي : أنّه عليه‌السلام أبى أن يمحو وصف الرسالة على سهيل بن عمرو وليس على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٣١٤ وكذلك في خبر الطبرسي في مجمع البيان ٩ : ١٧٩ عن الزهري. وذكر الحلبي في المناقب ١ : ٢٠٣ : سبع سنين. واليعقوبي ٢ : ٥٤ : ثلاث سنين.

(٤) الاسلال : سل السيوف ، والإغلال من الغل أي الأسر ، أو الغلّ أي الغشّ.


وأن يكون الاسلام ظاهرا بمكة ، لا يكره أحد على دينه ولا يؤذى ولا يعيّر.

وأن محمدا يرجع عنهم عامه هذا وأصحابه ، ثم يدخل في العام القابل مكة فيقيم فيها ثلاثة أيام (١) ، ولا يدخل عليها بسلاح الّا سلاح المسافر : السيوف في القراب. وشهد على الكتاب المهاجرون والأنصار. وكتب علي بن ابي طالب».

ثم قال رسول الله لعلي عليه‌السلام : يا علي ، إنّك إن أبيت أن تمحو اسمي من النبوة فو الذي بعثني بالحق نبيا لتجيبنّ أبناءهم الى مثلها وأنت مضيض مضطهد (٢).

فلما كتبوا الكتاب قامت خزاعة فقالت : نحن في عهد محمد رسول الله وعقده.

وقامت بنو بكر فقالت : نحن في عهد قريش وعقدها.

وكتبوا نسختين ، نسخة عند رسول الله ، ونسخة عند سهيل بن عمرو (٣).

__________________

(١) وأن ترفع الاصنام (أي : في هذه الايام الثلاثة) عن الصادق عليه‌السلام كما في تفسير العياشي ١ : ٧٠.

(٢) قال القمي : فلما كان يوم صفين ورضوا بالحكمين ، كتب : هذا ما اصطلح عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومعاوية بن ابي سفيان. فقال عمرو بن العاص : لو علمنا أنك أمير المؤمنين ما حاربناك ، ولكن اكتب : هذا ما اصطلح عليه علي بن ابي طالب ومعاوية بن ابي سفيان. فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : صدق الله وصدق رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اخبرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك. ثم كتب الكتاب ٢ : ٣١٤. وروى المفيد في الارشاد ١ : ١٢١ : أن النبيّ قال لعلي عليه‌السلام : ستدعى الى مثلها فتجيب وأنت على مضض. ونقلها الطبرسي في اعلام الورى ١ : ٢٠٤ و ٣٧٢. وفي مجمع البيان ٩ : ١٨٠ عن محمد بن اسحاق عن بريدة بن سفيان عن محمد بن كعب. ولا يوجد الخبر في السيرة ، فلعله مما هذّبه ابن هشام. ورواه الراوندي عن علي عليه‌السلام في الخرائج والجرائح ١ : ١١٦.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٣١٤. وروى الطبرسي في مجمع البيان ٩ : ١٧٩ عن الزهري عن المسور


__________________

ـ ابن مخرمة : قال اكتب : «هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو ، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين ، يأمن فيهنّ الناس ويكفّ بعضهم عن بعض.

وعلى أنه من قدم مكة من أصحاب محمد حاجّا أو معتمرا ، أو يبتغي من فضل الله ، فهو آمن على دمه وماله. ومن قدم المدينة من قريش مجتازا الى مصر أو الى الشام فهو آمن على دمه وماله.

وأنّ بيننا عيبة مكفوفة. وأنه لا إسلال ولا إغلال.

وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.

وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلّا رددته إلينا. ومن جاءنا ممن معك لم نرده عليك.

وعلى أنّك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة ، فاذا كان عام قابل خرجنا عنها لك فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثا ، ولا تدخلها بالسلاح إلّا بالسيوف في القراب وسلاح الراكب. وعلى أن الهدي حيث ما حبسناه محله ، لا تقدمه علينا ...».

وتواثبت خزاعة فقالوا : نحن في عقد محمد وعهده.

وتواثبت بنو بكر فقالوا : نحن في عقد قريش وعهدهم.

وذكر الخبر مختصرا في اعلام الورى ١ : ٢٠٤ بدون ذكر المدة.

وذكر مختصر الخبر الحلبي في مناقب آل ابي طالب ١ : ٢٠٣ الا أنه ذكر المدة سبع سنين.

وأشار إليه وذكر مادتين منه الكليني في روضة الكافي : ٢٦٨ عن الصادق عليه‌السلام.

وهل كتب النسختين علي عليه‌السلام؟ قيل : كتب الثانية محمد بن مسلمة الانصاري كما في مكاتيب الرسول ١ : ٢٨٨.


ابو جندل بن سهيل :

في خبر الطبرسي في «مجمع البيان» عن المسور بن مخرمة : بينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده ، قد خرج من اسفل مكة ، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين. وكان [مسلما] قد عذّب عذابا شديدا.

فقال سهيل : هذا ـ يا محمد ـ أول ما اقاضيك عليه أن ترده.

فقال النبيّ : إنّا لم نقض بالكتاب بعد!

قال : والله ـ اذا ـ لا اصالحك على شيء أبدا.

فقال النبيّ : فأجره لي. فقال : ما أنا بمجيره لك. قال : بلى ، فافعل. قال : ما أنا بفاعل!

فقال مكرز بن حفص : بلى قد أجرناه.

فقال ابو جندل بن سهيل : معاشر المسلمين ، أارد الى المشركين وقد جئت مسلما؟! الا ترون ما قد لقيت؟! (١).

قال : فقام صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخذ بيده وقال : اللهم إن كنت تعلم أنّ أبا جندل لصادق فاجعل له من أمره فرجا ومخرجا.

ثم أقبل على الناس وقال : إنّه ليس عليه بأس ، إنّما يرجع الى أبيه وأمه ، وإنّي

__________________

ـ وروى الطبرسي في مجمع البيان ٩ : ١٨٦ عن عبد الله بن المغفل : بينما كان رسول الله جالسا في ظل شجرة وبين يديه علي عليه‌السلام يكتب كتاب الصلح ، فخرج ثلاثون شابا عليهم السلاح فدعا عليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخذ الله بأبصارهم ، فقمنا فأخذناهم ، فخلى سبيلهم.

(١) مجمع البيان ٩ : ١٨٠.


اريد أن أتمّ لقريش شرطها (١).

قال القمي : ورجع سهيل بن عمرو [بابنه ومعه مكرز بن] حفص بن الأخيف الى قريش ، فأخبراهم (٢) بالأمر.

خروجهم من إحرام العمرة :

روى القمي في تفسيره بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : وقال رسول الله لأصحابه : انحروا بدنكم ، واحلقوا رءوسكم. فامتنعوا وقالوا : كيف ننحر ونحلق ولم نطف بالبيت ، ولم نسع بين الصفا والمروة؟!

فاغتم رسول الله من ذلك ، وشكى ذلك الى أمّ سلمة.

فقالت : يا رسول الله ، انحر أنت واحلق.

فنحر رسول الله وحلق. فنحر القوم على حيث يقين وشكّ وارتياب! (٣).

__________________

(١) اعلام الورى ١ : ٢٠٥. وذكر مختصره الحلبي في المناقب ١ : ٢٠٣ ، ٢٠٤.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٣١٤ عن الصادق عليه‌السلام ، وعنه في روضة الكافي : ٢٦٨ بلفظ آخر.

(٣) وقال الواقدي في المغازي ٢ : ٦١٣ : لما فرغ رسول الله من الكتاب ... قال لاصحابه : قوموا فانحروا واحلقوا! فلم يجبه منهم رجل الى ذلك! فقالها رسول الله ثلاث مرات ، كل ذلك يأمرهم ، فلم يفعل واحد منهم ذلك!

فانصرف رسول الله حتى دخل على زوجه أمّ سلمة مغضبا شديد الغضب ، قالت : واضطجع ، فقلت له : ما لك يا رسول الله؟ مرارا [وهو] لا يجيبني. ثم قال : عجبا ـ يا أمّ سلمة ـ إنّي قلت للناس : انحروا واحلقوا وحلّوا مرارا ، فلم يجبني أحد من الناس الى ذلك وهم يسمعون كلامي وينظرون في وجهي!

فقلت : يا رسول الله ، انطلق الى هديك فانحره فانهم سيقتدون بك.


فقال رسول الله ـ تعظيما للبدن : رحم الله المحلّقين ؛ لأنّ من لم يسق هديا لم يجب عليه الحلق.

فقال قوم لم يسوقوا البدن : يا رسول الله ، والمقصّرين؟

فقال رسول الله ثانيا : رحم الله المحلّقين الذين لم يسوقوا الهدي.

فقالوا : يا رسول الله والمقصّرين؟

فقال : رحم الله المقصّرين (١).

__________________

ـ فقام واضطبع بثوبه [الاحرام ، جعل طرفه تحت ابطه الايمن والآخر على كتفه الايسر] وأخذ الحربة وخرج يزجر هديه ، وأهوى بالحربة الى البدنة رافعا صوته : بسم الله والله اكبر. فما أن رأوه نحر حتى تواثبوا الى هديهم فازدحموا عليه.

وأكل المسلمون من هديهم الذي نحروا ، وأطعموا المساكين والمعترّ (المتعرض للسؤال) ومن يسأل ممن حضر غير كثير.

وحين فرغ النبي من نحر البدن دخل قبة له من أدم حمراء فحلق الحلّاق رأسه ، فخرج من قبّته وهو يقول رحم الله المحلّقين ـ ثلاثا ـ فقيل يا رسول الله ، والمقصّرين؟ فقال : والمقصّرين. وقد حلق ناس ، وقصّر آخرون. وقصّر النساء. والذي حلق النبي صلّى الله عليه [وآله] وسلم خراش بن أميّة.

وقد أقام بالحديبية بضعة عشر يوما أو عشرين ٢ : ٦١٦.

(١) تفسير القمي ٢ : ٣١٤. وفي الاستبصار ٢ : ٤٢ ، والتهذيب ٥ : ٤٣٨ وعن الصادق عليه‌السلام في الفقيه ٢ : ١٣٩ والتهذيب ٥ : ٢٤٣ و ٤٣٨ و ٥١٦ والذي تولى ذلك خراش بن أميّة الخزاعي ، في فروع الكافي ١ : ٢٣٥ والفقيه ٢ : ١٥٥ والتهذيب ٥ : ٤٥٨ و ٥٧٨. وفي السيرة ٣ : ٣٣٣ وروى خبر المحلّقين والمقصّرين عن ابن عباس ، وأنّه كان في هديه جمل أبي جهل ليغيظ المشركين.


في طريق العودة :

قالوا : أقام رسول الله بالحديبية بضعة عشر يوما (١) ثم انصرف راجعا نحو المدينة ، فعاد الى التنعيم (٢) فجاء اصحابه الذين أنكروا عليه الصلح واعتذروا إليه واظهروا الندامة على ما كان منهم ، وسألوا رسول الله أن يستغفر لهم ... فنزل (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً)(٣).

وروى الطبرسي في «مجمع البيان» عن مجمع بن جارية (٤) الأنصاري ـ وكان من القرّاء ـ قال : شهدنا الحديبية مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهذون الأباعر (٥) فقال بعض الناس لبعض : ما بال الناس؟ قالوا : اوحي الى رسول الله. فخرجنا إليه فوجدناه على راحلته واقفا عند كراع الغميم (٦) فلما اجتمع إليه الناس قرأ :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ...).

فقال عمر : أفتح هو يا رسول الله؟!

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦١٦ والخرائج والجرائح ١ : ١٢٣ ، ١٢٤ برقم ٢٠٤.

(٢) كان أول منزل للخارج من مكة وهو اليوم مدخل مكة من جهة المدينة وجدّة. وتفسير القمي هنا : ونزل تحت الشجرة. وكأنه يشير الى أن بيعة الرضوان كانت بعد عقد الصلح! وهو غريب ، ولذلك أهملناه.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٣١٤. ونزول السورة في التبيان ٩ : ٣١٣ ومجمع البيان ٩ : ١٦٦ ، وإعلام الورى ١ : ٢٠٥. وقصص الأنبياء : ٣٧٤. والمناقب ١ : ٢٠٤.

(٤) في المجمع : حارثة ، عن الواقدي. في المغازي ٢ : ١١٧ : جارية ، ورجحناه ضبطا.

(٥) الهذي : سوق الابل سريعا.

(٦) على مرحلتين من مكة.


قال : نعم ، والذي نفسي بيده ، إنّه لفتح (١).

وفي معنى الفتح :

نقل الطوسي في «التبيان» عن البلخي عن الشعبي في معنى الفتح في الحديبية :

__________________

(١) مجمع البيان ٩ : ١٦٧ ولم يذكر المصدر ، وقد روى الواقدي في المغازي ٢ : ٦١٧ : عن مجمّع ابن يعقوب عن أبيه عن مجمع بن جارية قال : لما كنا بضجنان [بعد عسفان] راجعين من الحديبية رأيت الناس يركضون ، فاذا هم يقولون : انزل على رسول الله ... فركضت مع الناس حتى توافينا عند رسول الله فاذا هو يقرأ : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ...).

وقد روى الصدوق في «عيون أخبار الرضا» باسناده الى ابن الجهم : أن المأمون قال للامام الرضا عليه‌السلام أخبرني عن قول الله ـ عزوجل ـ : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ...).

فقال الرضا عليه‌السلام : إنّ مشركي مكة كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وستين صنما ، فلما جاءهم رسول الله بالدعوة الى كلمة الاخلاص كبر ذلك عليهم وعظم وقالوا : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ* وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ* ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ). فلما فتح الله على نبيّه مكة (كذا) قال : يا محمد(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ ...) عند مشركي مكة بدعائك الى التوحيد فيما تقدم.

(... وَما تَأَخَّرَ ...) لأنّ مشركي مكة أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكة ، ومن بقى منهم لم يقدر على انكار التوحيد اذ دعا الناس إليه ، فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفورا بظهوره عليهم.

فقال المأمون : لله درّك يا أبا الحسن (عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٠٢).


أن البئر فيها غارت فمجّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيها فظهر ماؤها حتى امتلأت به ، ثم بويع بيعة الرضوان ، ثم بلغ الهدي محله ، وظهرت الروم على فارس (١).

ونقله عنه الطبرسي في «مجمع البيان» وزاد : ففرح المسلمون بظهور أهل الكتاب وهم الروم على المجوس ، إذ فيه مصداق قول الله ـ تعالى ـ : (... وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ ...)(٢).

وقد قال المسعودي في «التنبيه والاشراف» في حوادث السنة السادسة : وفيها ظهرت الروم على قائد الفرس شهربراز صاحب پرويز فانكشف هو والفرس عن الروم (٣).

وقال في تعداد ملوك الروم بعد القيصر فوقاس : الثاني والعشرون من ملوك الروم المتنصّرة : هرقل بن فوقاس بن مرقس ، وكان من مدينة صلونيقية ... ملك لثلاث وثلاثين سنة مضت من ملك خسرو پرويز بن هرمز. وفي اول سنة من ملكه كانت هجرة رسول الله ... وملك خمسا وعشرين سنة (٤).

قال : وكان شهربراز صاحب جيش خسرو پرويز محاصرا للقسطنطينية ، فذهب هرقل إليه ومالأه على پرويز ، ففسد الحال بينه وبين پرويز ، وانكشف بجيشه

__________________

(١) التبيان ٩ : ٣١٣.

(٢) مجمع البيان ٩ : ١٦٧ والآيات من سورة الروم : ٣ ـ ٥.

(٣) التنبيه والاشراف : ٢٢٢ وتمام كلامه : وفيهم نزلت : (الم* غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ ...). ولا بد أنه يقصد بنزولها فيهم صدقها اليوم.

(٤) أي : الى اول خلافة عثمان.


عن محاصرة القسطنطينية ... فخرج هرقل في مراكب كثيرة في الخليج الى بحر الخزر واستنجد هناك بملوك اللان والخزر والسرير والانجاز وجرزان والأرمن وغيرهم على پرويز حتى صارت جيوشه الى الماهات من ارض الجبل واتصلت جيوشه الى ارض العراق ، فشن الغارات وقتل وسبى ، واحتال عليه پرويز بحيلة فانصرف راجعا الى القسطنطينية (١) هذا ، ولم يؤرخ هنا سنة هذه الغلبة الرومية على فارس.

وقال ابن العبري في «تأريخ مختصر الدول» : في السنة الخامسة عشرة من ملك هرقل ... غزا أهل هرقل (كذا) الفرس ، فافتتحوا مدينة كسرى (مدائن طسفون؟) وسبوا منها خلقا كثيرا وانصرفوا (٢).

فلعل لهذا الخبر أثرا في حال المسلمين والمشركين يومئذ.

وكرامة في عسفان :

وقال الواقدي في «المغازي» ثم نزل بمرّ الظهران ، ثم نزل عسفان وقد نفد زادهم (٣) فشكوا إليه ذلك فأمر أن يبسطوا الأنطاع ، وأن يأتوا ببقية أزوادهم فيطرحوها فيها.

ففعلوا. فقام ودعا بالبركة فيها ، ثم أمرهم أن يأتوه بأوعيتهم ، فملؤوها حتى لم يجدوا له محملا (٤).

__________________

(١) التنبيه والاشراف : ١٣٣ ـ ١٣٥.

(٢) تأريخ مختصر الدول : ٩١ ، ٩٢ واذا كانت الغلبة المشار إليها في الآية هي هذه وكانت في خبر السنة السادسة للهجرة والخامسة عشرة من ملك هرقل ، فلا تكون بداية ملكه مع اول الهجرة بل اوائل البعثة ، ولذلك قال ابن العبري : إنه ملك ثلاثين سنة.

(٣) المغازي ٢ : ٦١٦.

(٤) الخرائج والجرائح ١ : ١٢٣ ، ١٢٤ برقم ٢٠٤.


وكانوا صائفين لا يجدون ماء ، وأذّن رسول الله بالرحيل ، فمطروا ، فنزل رسول الله ونزلوا معه ، فشربوا ما شاءوا (١).

استعراض سورة الفتح :

قال القمي (٢) والطبرسي (٣) والراوندي (٤) والحلبي (٥) بنزول سورة الفتح بعد انتهاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من صلح الحديبية بدايات رجوعه الى المدينة. ونقل الطوسي عن قتادة (٦) والطبرسي عنه وعن جماعة من المفسرين (٧) وعن مجمع بن جارية الانصاري مرسلا (٨) ونقله الواقدي مسندا (٩).

وقد مرّ الخبر عن القمي قال : كان رسول الله يستنفر بالاعراب في طريقه معه ، فلم يتّبعه منهم أحد ، وكانوا يقولون : أيطمع محمد وأصحابه أن يدخلوا الحرم

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦١٦. وبعد هذا روى الواقدي بسنده عن مجمّع بن جارية الخبر السابق عن مجمع البيان ، وفيه أن الآيات : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) نزلت في كراع الغميم (على مرحلتين من مكة) وفيما رواه الواقدي : لما كنا بضجنان (٢ : ٦١٨) ... وهو بعد كراع الغميم وبعد مر الظهران وعسفان. ورأينا أن الاول أولى وأوفق وأضبط واكمل ذيلا وأتم.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٣١٤.

(٣) اعلام الورى ١ : ٢٠٥.

(٤) قصص الأنبياء : ٣٧٤.

(٥) المناقب ١ : ٢٠٤.

(٦) التبيان ٩ : ٣١٢ ، ٣١٣.

(٧) مجمع البيان ٩ : ١٦٦.

(٨) مجمع البيان ٩ : ١٦٧.

(٩) مغازي الواقدي ٢ : ٦١٧.


وقد غزتهم قريش في عقر ديارهم فقتلوهم؟! إنه لا يرجع محمد وأصحابه الى المدينة أبدا (١) فلما قصد المسلمون قريشا في عقر دارهم وسلموا منهم وانصرفوا عنهم بصلح وأمان فكأنّ ذلك كان (فتحا مبينا) بالنسبة الى ما كان يظنّ بهم المشركون والمنافقون ونجد في الآيات الاوائل من السورة اشارة الى ذلك اذ قال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ ...* لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً* وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) ... (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ ... بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً* بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً)(٢) وهنا قال القمي : أي : قوم سوء ، وهم الذين استنفرهم في الحديبية.

ثم قال : ولما رجع رسول الله من الحديبية الى المدينة غزا خيبر ، فاستأذنه المخلّفون من الأعراب أن يخرجوا معه ، فقال الله : (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً)(٣) وهذا بظاهره يفيد نزول هذه الآية ـ فما بعدها ـ بعد دخول الرسول الى المدينة وخروجه منها الى خيبر بعد الحديبية ، بينما لم يقل به القمي في نزول السورة ، وهنا قال : (فقال الله)

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٣١٠.

(٢) الفتح : ٤ ـ ١٢.

(٣) الفتح : ١٥.


وليس : فأنزل الله.

والآية من دون تعبير تفسير القمي غير ظاهرة في ذلك ، بل تحتمل أن تكون إخبارا عما سيكون ، وكذلك في تفسير الطوسي (١) والطبرسي (٢) وقول الواقدي (٣).

وبيعة الرضوان تحت الشجرة كانت قبل عقد الصلح ، فلو كان الفتح المبين هو الفتح بالصلح ، فليس من الغريب أن يكون الفتح القريب في قوله سبحانه : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً)(٤) هو نفس ذلك «الفتح المبين» أيضا كما قال الواقدي (٥) ، لا فتح مكة كما عن الجبائي ، ولا فتح خيبر كما عن قتادة (٦) ولكن هي من المغانم الكثيرة التي يأخذونها فيما يأتي ، والتي وعدهم الله بها في الآية التالية. وعليه فالاشارة في قوله سبحانه : (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) إشارة الى نفس ذلك الفتح المبين القريب ، وكذلك قال الشيخ الطوسي : يعني الصلح. وعليه فالصلح ليس فتحا مبينا قريبا فحسب بل هو ـ مع بيعة الرضوان ـ غنيمة معجّلة لهم ، وهذا ما رآه الطوسي بحاجة الى التفسير فقال : وسمّيت بيعة الرضوان (غنيمة) لقول الله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ)(٧) والآية بيّنت ما عجّل الله لهم من الفتح بعطف

__________________

(١) التبيان ٩ : ٣٢٢.

(٢) مجمع البيان ٩ : ١٧٣.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٦١٩.

(٤) الفتح : ١٨.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٦٢١ عن الزهري عن سعيد بن المسيب.

(٦) التبيان ٩ : ٣٢٨ ومجمع البيان ٩ : ١٧٦.

(٧) التبيان ٩ : ٣٢٨.


بيان : (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ) الذين كانوا طافوا بالنبي من المشركين رجاء أن يصيبوا من المسلمين غرة فأسرهم أصحاب رسول الله أسرا ، كما نقل الواقدي عن الزهري عن سعيد بن المسيب (١) وعاد فقال ـ تعالى ـ بعد اربع آيات : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ...)(٢). وفي معناه نقل الطوسي عن ابن عباس قال : كان المشركون بعثوا أربعين رجلا من المسلمين ، فأتوا بهم الى رسول الله فخلّى سبيلهم (٣) فكفّ الله ايدي المسلمين عن قتلهم (٤) بأن حجز بين الفريقين فلم يقتتلا حتى اتفق بينهم الصلح ، فكان اعظم من الفتح (٥).

وردّ الله على ترديد بعض المسلمين في صدق رؤيا النبي في دخول المسجد الحرام مقصّرين ومحلّقين الرءوس فقال : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ ...) ثم اوعز الى تأخيره والعلة في ذلك فقال : (فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا) أنتم من المصلحة في المقاضاة (المصالحة) واجابتهم الى ذلك (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٢١.

(٢) الفتح : ٢٤.

(٣) التبيان ٩ : ٣٣١ ومجمع البيان ٩ : ١٨٦ وعن انس أنهم كانوا ثمانين رجلا.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٦٢٢ عن الزهري عن سعيد بن المسيب.

(٥) مجمع البيان ٩ : ١٨٧ ونصّ البيان : نزلت في أهل الحديبية وأهل مكة لا في أهل خيبر. ولكنه في معنى : (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) قال : يعني أسدا وغطفان حيث كانوا مع يهود خيبر فصالحهم النبي فكفوا عنه. وقيل : يعني اليهود بالمدينة قبل الحديبية ٩ : ٣٢٩ ـ وقريب منه في مجمع البيان ٩ : ١٧٧ ـ وهذا غريب بعيد.


قَرِيباً) هو فتح الحديبية ، كما عن الزهري (١) وعليه فالفتح القريب في سورة الفتح

__________________

(١) التبيان ٩ : ٣٣٥ و ٣٣٦ وانظر مجمع البيان ٩ : ١٩١ وابن هشام ٣ : ٣٣٦ ومغازي الواقدي ٢ : ٦٢٣ عن الزهري أيضا.

قال الطباطبائي في الميزان ١٨ : ٢٩١ في تفسير الآية : سياق الآية يعطي أنّ المراد بها ازالة الريب عن بعض من كان مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : المؤمنون كانوا يزعمون من رؤيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله انهم سيدخلون المسجد الحرام آمنين في عامهم هذا ، فلما خرجوا الى مكة معتمرين واعترضهم المشركون فصدوهم في الحديبية عن المسجد الحرام ، ارتاب بعضهم في صدق رؤيا النبي ، فأزال الله ريبهم بما في الآية.

ومحصل الآية : أن الرؤيا صادقة وأنكم ستدخلون المسجد الحرام آمنين لا تخافون ، ولكنه أخّره الله وقدم قبله هذا الصلح الذي هو فتح لكم ليتيسر لكم دخول مكة ، وذلك لعلمه بأنه لا يمكن لكم دخوله آمنين لا تخافون الا من هذا الطريق.

قال : ومن هنا يظهر أنّ المراد بالفتح القريب في هذه الآية هو فتح الحديبية فهو الذي سوّى للمؤمنين الطريق لدخول المسجد الحرام آمنين ويسّر لهم ذلك ، ولو لا ذلك لم يمكن لهم الدخول فيه إلّا بالقتال وسفك الدماء ولا عمرة مع ذلك ، لكن صلح الحديبية وما اشترط من شرط أمكنهم من دخول المسجد الحرام معتمرين في العام القابل.

ومن هنا نعرف بأنّ قول بعضهم بأنّ المراد بالفتح القريب في الآية هو فتح خيبر ، بعيد عن السياق ، وأمّا القول بأنه فتح مكة فهو أبعد من ذلك. انتهى.

وفي الفتح القريب في الآية السابقة ١٨ قال : «قيل : المراد بالفتح القريب فتح مكة ، والسياق لا يساعد عليه» ولكنه قال : «المراد بالفتح القريب فتح خيبر على ما يفيده السياق» الميزان ١٨ : ٢٨٥. بينما السياق واحد ، والبعد فيهما واحد.

وبشكل عام لا نرى في كل آي سورة الفتح ما يفيد أن يكون بعض الفتوح فيها لسوى فتح الحديبية ممهّدة لفتح مكة ، ونرى أن سبب هذا الخلط والاشتباه هو قرب فتح خيبر من


في الموضعين هو نفس الفتح المبين في مفتتح السورة في صلح الحديبية فحسب ، لا فتح خيبر ، ولا فتح مكة.

وأين أبو سفيان وعمرو بن العاص؟

ولا نجد في أخبار الحديبية أثرا أو ذكرا لعمرو بن العاص السهمي ؛ ذلك لما رواه الواقدي بسنده عنه قال : حضرت بدرا مع المشركين فنجوت ، ثمّ حضرت احدا فنجوت ، ثمّ حضرت الخندق (فنجوت) (١).

__________________

ـ الصلح ، ووضوح الفتح فيه وغموضه في الصلح. وسبب الاشتباه بفتح مكة شدة ما بينهما من الارتباط واشتهار اطلاق الفتح عليه ، والا فلا داعي لهذا الخلط والالتباس.

بقى أن نقول : إنّ سورة الفتح ـ كما قالوا وحسب سياقها ـ نزلت بعد صلح الحديبية ، أي بعد مضي ست سنين من الهجرة وقبل وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأربع سنين ، تلك السنين العشر التي نزل فيها ثمان وعشرون سورة من السادسة أو السابعة والثمانين حتى الرابعة عشرة بعد المائة وسورة الفتح حسب الخبر المعتبر والمعتمد هي الثانية عشرة بعد المائة ، أي : هي الثالثة قبل نهاية القائمة ، وانما بعدها البراءة والمائدة أو العكس. وقبل الفتح بأكثر من عشر سور سورة الحشر النازلة في بني النضير ، وبعدها النصر المشتهر نزولها في فتح مكة (؟) وبعدها النور النازلة في قصة الإفك ، والتي قالوا : إنّها كانت بعد غزوة بني المصطلق في المريسيع في الخامسة أو السادسة للهجرة ، وضحيتها عائشة ، بينما سنبحث أن بطلها عائشة ولكن ضحيّتها ضرّتها أمّ ابراهيم مارية القبطية المهداة من المقوقس عظيم أقباط مصر في جواب كتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إليه لدعوته الى الاسلام بعد صلح الحديبية ، وعليه فنزول الآيات بشأنها في سورة النور بعد ذلك ونزول سورة الفتح قبلها ، اي : في حدود المائة لا بعد المائة والعشرة وحينئذ يكون المقطع الزمني لها مناسبا ، والفاصل الزمني بينها وبين نهاية السور ـ أيضا ـ كذلك.

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٧٤١.


ورواه قبله ابن اسحاق بسنده عنه ـ أيضا ـ قال : لما انصرفنا عن الخندق مع الاحزاب (١) قلت في نفسي : والله ليظهرنّ محمد على قريش! فخلّفت مالي بالرهط وأفلت ، أو قال : فلحقت بمالي بالرهط وأقللت من الناس ، فلم احضر الحديبية وصلحها ، وانصرف رسول الله بالصلح ورجعت قريش الى مكة (٢).

هذا عن عمرو بن العاص ، وأما عن أبي سفيان فقد مرّ الخبر عن «روضة الكافي» عن الصادق عليه‌السلام : أن قريشا لما ارسلوا الرسل الى رسول الله يستفسرونه عن قصده ، وفيهم الحليس سيد الأحابيش ، ورجع الحليس يقول لابي سفيان : أما والله لتخلينّ عن محمد وما أراد ، أو لانفردنّ بالأحابيش! فقال ابو سفيان : اسكت حتى نأخذ من محمد ولثا (٣).

وعليه فإنّ أبا سفيان كان يريد أن يعاهد محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله لمصلحته في «رحلة الشتاء والصيف» فلم يكن يريد النفير ، لرعاية العير ، وقد وصل بعهد الصلح الى ما كان يؤمل ، وكأنه من ابي سفيان خطوة نحو الائتلاف فما ذا عن ردّ النبيّ على ذلك؟

كأن الرد كان بزواجه صلى‌الله‌عليه‌وآله بابنته رملة الشهيرة بام حبيبة ، التي كانت قد اسلمت مع زوجها عبيد الله بن جحش الأسدي القرشي حليف بني أميّة ، وامّه اميمة بنت عبد المطلب ، فهو من اقرباء النبيّ ، أسلم وأسلمت معه زوجه بنت ابي سفيان ، وهاجر وهاجرت معه الى الحبشة النصرانية فتأثر بها وتنصّر حتى مات عليها (٤) ، وبقيت زوجه رملة أرملة مسلمة ، فأرسل الرسول عمرو بن أميّة الضمري القرشي لخطبتها ، وتقدم الرسول بذلك الى النجاشي أصحمة. والظاهر أن ذلك كان مع

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٣ : ٢٨٩.

(٢) مغازي الواقدي ٢ : ٧٤٢.

(٣) روضة الكافي : ٢٦٧ والولث : العهد من غير قصد أو غير مؤكد ـ مجمع البحرين.

(٤) ابن اسحاق في السيرة ١ : ١٣٧ ، ١٣٨ و ٤ : ٦.


كتابه صلى‌الله‌عليه‌وآله إليه بدعوته إيّاه الى الاسلام ، بعد الحديبية.

قصّة أبي بصير الثقفي :

كان من المسلمين المستضعفين المحبوسين في مكة رجل من ثقيف يدعى أبو بصير بن اسيد.

قال الطبرسي : لما رجع رسول الله الى المدينة (وقبل غزوة خيبر) انفلت ابو بصير بن اسيد الثقفي ، من يد المشركين ، ومعه خمسة آخرون مسلمين مهاجرين الى المدينة.

وبعث الأخنس بن شريق الثقفي في أثره رجلين يردّانه ، فقتل أحدهما وانفلت الآخر. وأقدم على رسول الله وحكى له قصّته ، فقال فيه رسول الله : مسعر حرب لو كان معه أحد ؛ ثمّ قال له : شانك بسلب صاحبك ، واذهب حيث شئت!

فخرج ابو بصير ومعه أصحابه الخمسة الى طريق عيرات قريش مما يلي سيف البحر في أرض جهينة بين العيص وذي المروة.

وانفلت بعده ابو جندل بن سهيل بن عمرو ومعه سبعون رجلا من مكة قد أسلموا ، فلحقوا بأبي بصير.

واجتمع إليهم ناس من جهينة وغفار وأسلم حتى بلغوا ثلاثمائة مقاتل وهم مسلمون (؟) لا تمر عير لقريش الّا قاتلوا أصحابها وأخذوها!

ومنها العير التي كان فيها ابو العاص بن الربيع صهر رسول الله زوج زينب ابنة النبيّ ، وكان حينما خرج من مكة الى الشام قد أذن لها أن تهاجر الى أبيها في المدينة. فلمّا رجع مع أصحابه من قريش من الشام ، أسروهم وأخذوا أموالهم ولم يقتلوا منهم أحدا وخلّوا سبيل أبي العاص ، فقدم المدينة على زينب.

وأرسلت قريش أبا سفيان بن حرب الى رسول الله يتضرّعون إليه أن يبعث


الى أبي بصير وأبي جندل ومن معهم فيقدموا عليه في المدينة ، وكل من يخرج من مكة إليه فلا حرج عليه أن يمسكه ولا يردّه إليهم حسب الصلح (١).

وعلم الصحابة أنّ طاعة رسول الله كانت خيرا لهم فيما كرهوا من قرار الصلح.

نزول آيتين من الممتحنة :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ٢٠٦ وحكى القصة ابن اسحاق في السيرة واسمه عنده عتبة (وفي الاستيعاب عبيد) وقال : إنّ الرجلين بعثهما الأخنس بن شريق وأزهر بن عبد عوف الزهري بكتاب الى رسول الله ، وإنّ ابا بصير كان قد قدم المدينة فقال له رسول الله : يا أبا بصير ، إنّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر ، وإنّ الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا ، فانطلق الى قومك! فقال : يا رسول الله ، أتردّني الى المشركين يفتنوني في ديني؟ قال : يا أبا بصير انطلق فإنّ الله تعالى سيجعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا. فانطلق معهما ، وفي ذي الحليفة (الميقات) قتل العامري أحدهما وفرّ الآخر ورجع هو الى النبيّ فقال : يا رسول الله ، وفت ذمتك وأدّى الله عنك ، أسلمتني بيد القوم وامتنعت أن افتن في ديني أو يبعث بي! فلم يقبله النبي وقال كلمته ، فخرج ابو بصير بأصحابه فاجتمع إليه قريب من سبعين رجلا ، فكتبت قريش الى رسول الله يسألونه أن يؤويهم ، فقدموا عليه المدينة فآواهم ـ السيرة ٣ : ٣٣٧ ، ٣٣٨ وهذا أقرب أنهم بلغوا سبعين رجلا وليس ثلاثمائة.

وكذلك في مغازي الواقدي ٢ : ٦٢٦ ـ ٦٢٩ وقال : كتب إليه النبيّ أن يقدم المدينة فجاءه الكتاب وهو يموت ، فقرأه ومات فدفن هناك ، وبنوا على قبره مسجدا!


يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ* وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ)(١).

واختصر خبرهما الشيخ الطوسي فذكر عن عروة بن الزبير في سبب نزول الآية : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد صالح قريشا يوم الحديبية على أن يرد عليهم من جاء بغير اذن وليّه ، فلما هاجرت إليه كلثم بنت ابي معيط (كذا) جاء أخواها فسألا رسول الله أن يردها عليهم ، فنزلت الآية فنهى الله أن تردّ الى المشركين (٢).

بينما نقل الطبرسي عن الجبائي : أنّ أمّ كلثوم بنت عقبة بن ابي معيط (وهو الصحيح في الاسم) كانت مسلمة فهاجرت من مكة الى المدينة بعد الحديبية ، فجاء أخواها الى المدينة يسألان رسول الله أن يردّها عليهما. فلم يردها عليهما وقال : إن الشرط بيننا في الرجال لا في النساء.

وروى عن ابن عباس : أن سبيعة بنت الحرث الأسلمية كانت مسلمة وزوجها مسافر من بني مخزوم كافر ، فلحقت بالمسلمين وهم في الحديبية بعد الفراغ من الصلح ، فأقبل زوجها يقول : يا محمد ، اردد عليّ امرأتي ، فإنّك قد شرطت لنا أن ترد علينا منا ، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد ، فنزلت الآية.

فاحضرها رسول الله فحلّفها بالله الذي لا إله إلّا هو أنّها خرجت من بغض

__________________

(١) الممتحنة : ١٠ و ١١ وقبلها آيات بشأن حاطب بن أبي بلتعة وكتابه الى أهل مكة يخبرهم بارادة النبيّ لغزو مكة ، قبل فتح مكة. وبعدهما آية بشأن بيعة النساء بعد فتح مكة ، وفي آخر السورة آية تعود على ما قبلهما في ابن ابي بلتعة. وانظر التمهيد ١ : ٢١٤.

(٢) البيان ٩ : ٥٨٤ وانظر خبر عروة في سيرة ابن هشام ٣ : ٣٤٠ وخبر الزهري عنه في المغازي ٢ : ٦٣١ ـ ٦٣٣.


زوج ولا رغبة عن ارض الى ارض ، ولا التماس دنيا ، إلّا حبا لله ولرسوله وإلّا رغبة في الاسلام. فحلفت. فلم يردها على زوجها وأعطاه مهرها وما انفق عليها.

واميمة بنت بشر كانت مسلمة وزوجها ثابت بن الدحداحة كافرا ، ففرت منه الى رسول الله ، فزوّجها رسول الله سهل بن حنيف (١).

وقال القمي في الآية الثانية (١١ ـ الممتحنة) : كان سبب نزول ذلك : أن عمر ابن الخطاب كانت عنده فاطمة (٢) بنت ابي أميّة بن المغيرة المخزومي (اخت أمّ سلمة) وكانت كافرة فكرهت الهجرة معه وأقامت بمكة (حتى نزلت هذه الآية) فنكحها معاوية بن ابي سفيان ، فأمر الله رسوله أن يعطي عمر مثل صداقها (٣) من غنائم الحرب. وتزوج عمر بن الخطاب سبيعة الاسلمية.

ثم نقل الطبرسي عن الزهري قال : كان جميع من رجع من نساء المؤمنين المهاجرين ، كافرات الى المشركين (بحكم الآية) ست نسوة : فاطمة بنت ابي أميّة المخزومي اخت أمّ سلمة ، كانت لعمر بن الخطاب فأبت أن تهاجر معه. وكلثوم بنت جرول الخزاعية كانت لعمر أيضا. وهند بنت ابي جهل بن هشام المخزومي كانت لهشام بن العاص بن وائل السهمي اخي عمرو بن العاص. وأم الحكم بنت ابي سفيان كانت لعياض بن شداد الفهري. وعبدة بنت عبد العزى وزوجها عمرو بن عبد ود (كذا) وبرذع بنت عقبة كانت لشماس بن عثمان (٤).

__________________

(١) مجمع البيان ٩ : ٤١٠ ، ٤١١.

(٢) وفي مجمع البيان ٩ : ٤١٠ : قريبة ... وأمّ كلثوم بنت عمرو الخزاعية فتزوجها ابو جهم العدوي. وهي أم عبيد الله بن عمر.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٣٦٣.

(٤) مجمع البيان ٩ : ٤١٣ وانظر خبر الزهري في سيرة ابن هشام ٣ : ٣٤١. ومغازي الواقدي ٢ : ٦٣١ ـ ٦٣٣.


وقد حكى الواقدي في مغازيه قصة هجرة أمّ كلثوم بنت عقبة بن ابي معيط المخزومي مع رجل من خزاعة ـ خلال ثمانية ايام ـ ودخولها على أمّ سلمة المخزومية ، وتتضمن ان ذلك كان بعد قصة ابي بصير وابي جندل ، وان النبيّ قال لها : إنّ الله قد نقض العهد في النساء فقد انزل فيهم «الممتحنة» وحكم في ذلك بحكم رضوه كلهم.

وقدم أخواها عمارة والوليد من الغد ، فقال لهما : قد نقض الله ذلك! فانصرفا.

وهذا يؤيد نزول الممتحنة قبل ذلك كما في خبر ابن عباس في سبيعة الأسلمية زوجة مسافر المخزومي ، كما مرّ.

ولكنه يروي بعده عن الزهري عن عروة قال : فرجعا الى مكة فأخبرا قريشا بذلك ، فرضوا بأن تحبس النساء ، فلم يبعثوا في ذلك احدا (١) فهذا بظاهره يدل على أنّ الأمر والخبر كان حادثا غير مسبوق.

رسل الرسول الى الملوك :

نقل ابن اسحاق عن كتاب وجده يزيد بن ابي حبيب المصري فيه : أن رسول الله [بعد الحديبية] خرج على اصحابه [يوما] فقال لهم :

إنّ الله بعثني رحمة ، وكافّة ، فأدوا عني يرحمكم الله ، ولا تختلفوا عليّ كما اختلف الحواريّون على عيسى بن مريم.

قالوا : يا رسول الله ، وكيف كان اختلافهم؟

قال : دعاهم لمثل ما دعوتكم له ، فأما من قرّب به فأحبّ ، وأما من بعّد به فكره وأبى ، فشكا ذلك عيسى منهم الى الله ، فأصبحوا وكل رجل منهم يتكلم

__________________

(١) مغازي الواقدي ٢ : ٦٢٩ ـ ٦٣٢.


بلغة القوم الذين وجّه إليهم (١).

أمّا ابن هشام فقد روى عن ابي بكر الهذلي : أنّ رسول الله خرج [يوما] بعد يوم الحديبية فقال :

أيها الناس ، إن الله بعثني رحمة وكافّة ، فلا تختلفوا عليّ كما اختلف الحواريون على عيسى بن مريم.

فقال أصحابه : وكيف اختلف الحواريون يا رسول الله؟

قال : دعاهم الى الذي دعوتكم إليه ، وأمّا من بعثه مبعثا قريبا فرضى ، وأما من بعثه مبعثا بعيدا فكره وجهه وتثاقل ، فشكا ذلك عيسى الى الله ، فأصبح المتثاقلون وكل واحد منهم يتكلم بلغة الامة التي بعث إليها (٢).

قالوا : ولما أراد أن يكتب الكتب الى الملوك قيل له : يا رسول الله ، إنّهم لا يقرءون كتاب غير مختوم بخاتم.

فيومئذ اتخذ رسول الله خاتما ؛ روى الكليني في كتاب الزيّ والتجمّل من «فروع الكافي» بسنده عن الصادق عليه‌السلام : أن خاتم رسول الله كان من فضة ونقشه

__________________

(١) ثم قال ابن اسحاق عن رسل عيسى عليه‌السلام من الحواريين وغيرهم :

يعقوبس الى اورشالم وهي ايليا قرية ببيت المقدس.

ويوحنّس الى أفسوس قرية أصحاب الكهف [في الاردن].

وابن ثلما [أو ثلمالي] الى الأرض الأعرابية وهي الحجاز.

وتوماس الى أرض بابل من المشرق.

وفيليبس الى قرطاجنّة وهي افريقية.

وسيمون الى ارض البربر.

وبطرس ـ ومعه بولس ـ الى رومية ٣ : ٢٥٥.

(٢) ابن هشام ٣ : ٢٥٤.


محمد رسول الله. في سطرين من اسفل الى اعلى (١).

قال الطبرسي في «مكارم الاخلاق» أهداه له معاذ بن جبل (٢).

وفي «أمالي الطوسي» بسنده عن زيد بن علي عن ابيه : ان رسول الله أعطى خاتما لعلي عليه‌السلام وقال له : يا علي ، خذ هذا الخاتم وانقش عليه : محمد بن عبد الله.

فاعطاه علي عليه‌السلام للنقّاش لينقش عليه ذلك ، فأخطأ النقاش ونقش عليه : محمد رسول الله. فأخذه النبي وتختم به وقال أنا محمد بن عبد الله وأنا رسول الله (٣).

تأريخ الكتب :

أقدم ما بأيدينا ممّن عيّن تأريخ الكتب ما نقله الطبري عن الواقدي ـ عن غير مغازيه ـ أن رسول الله بعث في ذي الحجة سنة ست ثلاثة رسل مرة واحدة مصطحبين في خروجهم :

شجاع بن وهب الأسدي القرشي ممن شهد بدرا الى الحارث بن ابي شمر الغسّاني من غساسنة الشام عمّالا للروم.

ودحية بن خليفة الكلبي الأنصاري الى قيصر الروم (وكان في الشام).

وحاطب بن ابي بلتعة القرشي ـ أيضا ـ الى المقوقس في الاسكندرية عاملا للروم.

وبعث سليط بن عمرو العامري إلى هوذة بن علي الحنفي في اليمامة.

وعمرو بن اميّة الضمري الى النجاشي في الحبشة عاملا للروم.

__________________

(١) فروع الكافي ٦ : ٤٧٤ الحديث ٧.

(٢) مكارم الاخلاق : ٣٨.

(٣) أمالي الطوسي : ٨٠ كما في البحار ١٦ : ٩١ ، ٩٢.


وعبد الله بن حذافة السهمي الى كسرى.

ثم نقل عن ابن اسحاق ـ وليس في السيرة ـ أن رسول الله قد فرّق رجالا من أصحابه الى ملوك العرب والعجم دعاة الى الله ـ عزوجل ـ في ما بين الحديبية ووفاته (١).

بدأ ابن هشام في رسل الرسول بدحية بن خليفة الكلبي الى قيصر ملك الروم ، وعبد الله بن حذافة السهمي الى كسرى ملك فارس ، وعمرو بن أميّة الضمري الى النجاشي ملك الحبشة (٢).

وبدأ اليعقوبي بعبد الله بن حذافة السهمي الى كسرى ، ودحية بن خليفة الكلبي الى قيصر ، وعمرو بن أميّة الضّمري الى النجاشيّ (٣).

هذا وقد ذكر الواقدي سرية في جمادى الآخرة سنة ست روى فيها : أن دحية الكلبي أقبل من عند قيصر وقد أجازه بمال وكساه كسوة ، فلما كان في حسمى لقيه ناس من جذام فقطعوا عليه الطريق وأصابوا كل شيء معه ... فلما وصل المدينة استخبره رسول الله عما كان من هرقل (٤) فالراجح أن ذلك كان سنة سبع لا ست.

ومن الرسل عمرو بن أميّة الضّمري الى النجاشي في الحبشة ، وأولى أن

__________________

(١) الطبري ٢ : ٦٤٤ ، ٦٤٥ وعنه الكازروني في المنتقى ، وعنه المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ٣٨٢. وربطها السيوطي برواية عن أنس بنزول آية : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ...) بينما الآية هي ١٩ من سورة الأنعام وهي ٥٥ في النزول بمكة.

(٢) ابن هشام ٤ : ٢٥٤.

(٣) اليعقوبي ٢ : ٧٧ ، ٧٨.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٥٥٥ ، ٥٥٦.


يكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد بدأ به ، لسوابقه الحسنة ، ولخطبة ابنة أبي سفيان لما مرّ آنفا ، فنبدأ به :

الى النجاشي في الحبشة :

روى الطبري بسنده عن ابن اسحاق ـ وليس في السيرة ـ قال : بعث رسول الله عمرو بن أميّة الضمري الى النجاشي وكتب معه كتابا :

«بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من محمد رسول الله ، الى النجاشي الأصحم ملك الحبشة ، سلم أنت ، فانّي أحمد إليك الله الملك القدوس السّلام المؤمن المهيمن وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ، ألقاها الى مريم البتول الطيّبة الحصينة فحملت بعيسى ، فخلقه الله من روحه ونفخه ، كما خلق آدم بيده ونفخه.

وإني أدعوك الى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته ، وأن تتّبعني و (توقن) بالذي جاءني ، فإنّي رسول الله ، وإنّي ادعوك وجنودك الى الله ، فقد بلّغت ونصحت ، فاقبلوا (نصيحتي) والسّلام على من اتّبع الهدى» (١).

فلما وصل الكتاب إليه أخذه ووضعه على عينيه ونزل عن سريره وجلس

__________________

(١) الطبري ٢ : ٦٥٢. والحلبي في سيرته ٣ : ٢٧٩ والمواهب اللدنيّة بشرح الزرقاني ٣ : ٣٩٣ وصبح الأعشى ٦ : ٣٧٩ لم يذكروا في الكتاب : «وقد بعثت إليكم ابن عمي جعفرا ومعه نفر من المسلمين ، فاذا جاءك فأقرهم ، ودع التحيّر» ولا توجد في نسخة الكتاب المكتشف كما في مجموعة الوثائق السياسية : ٤٣. والفقرة لا تناسب أول الهجرة الى الحبشة ولا بعد الحديبية ، ولذا رجحنا ما خلا منها ، ونقل الكتاب مع الفقرة البيهقي في دلائل النبوة عن ابن اسحاق وعنه الطبرسي في اعلام الورى ١ : ١١٨ ولعل عنه الراوندي في قصص الأنبياء : ٣٢٤ وعنهما المجلسي في البحار ١٨ : ٤١٨ ، ٤١٩.


على الأرض إجلالا وإعظاما ، ودعا بحقّ من عاج (١) وجعل الكتاب فيه (٢).

وروي عن عمرو بن أميّة أن قال له : يا أصحمة ، إنّ عليّ القول وعليك الاستماع ، انك كأنّك في الرقة علينا منّا ، وكأنّا في الثقة بك منك ، لأنا لم نظنّ بك خيرا قطّ الا نلناه ، ولم نحفظك على شرّ قطّ الا أمناه. وقد اخذت الحجة عليك من قبل آدم ، والانجيل بيننا وبينك شاهد لا يرد وقاض لا يجوز ، وفي ذلك موقع الخير واصابة الفضل ، والا فأنت في هذا النبيّ الامّي كاليهود في عيسى بن مريم ، وقد فرّق رسله الى الناس (٣) فرجاك لما لم يرجهم له ، وأمنك على ما خافهم عليه ، لخير سالف ، وأجر ينتظر.

فقال النجاشي : أشهد بالله أنّه النبي الذي ينتظره أهل الكتاب ، وأن بشارة موسى براكب الحمار (٤) كبشارة عيسى براكب الجمل (٥) وانه ليس الخبر كالعيان.

ولكن أعواني من الحبشة قليل ، فأنظرني حتى اكثر الأعوان ، وألين القلوب. وفي رواية : لو كنت استطيع أن آتيه لآتيته.

ثم أحضر النجاشي جعفرا وأصحابه وأسلم على يدي جعفر لله ربّ العالمين.

وعن الواقدي قال : كتب رسول الله الى النجاشي كتابين : في أحدهما يدعوه الى الاسلام ... وفي الكتاب الآخر يأمره أن يزوّجه بام حبيبة بنت أبي سفيان (٦).

__________________

(١) العاج : أنياب الفيل.

(٢) وهذا ما يؤيد امكانية بقاء الكتاب المكتشف أخيرا حيث احتفظ به.

(٣) ويستفاد من هذا تأريخ الكتاب وأنه كان مع ارسال الرسل.

(٤) وهذا مما يؤيد أن الكتاب كان بعد حرب بني النضير حيث ركب النبي إليهم الحمار.

(٥) كناية عن عربيته ، إذ اشتهر العرب بركوب الجمال.

(٦) نقله المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ٣٩٣ عن المنتقى عن الواقدي.


هي رملة ، وقد تزوّجها قبل الاسلام عبيد الله بن جحش الأسدي حليف بني أميّة ، وأمه اميمة بنت عبد المطّلب ، أدركته حنيفية جدّه لامّه عبد المطّلب ، فاجتمع في يوم اجتماع في عيد لهم عند صنم من اصنامهم مع ثلاثة آخرين هم : زيد بن عمرو بن نفيل العدوي ، وعثمان بن الحويرث ، وورقة بن نوفل ، ولعله هو الذي جمعهم ، فقال بعضهم لبعض : والله ما قومكم على شيء لقد أخطئوا دين أبيهم ابراهيم ، ما حجر نطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع؟! يا قوم التمسوا لانفسكم دينا ، فإنكم والله ما أنتم على شيء.

ثم تفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية ...

حتى أسلم عبيد الله بن جحش ، ثم هاجر مع المسلمين الى الحبشة وتبعته امرأته رملة بنت أبي سفيان وهاجرت معه ، فلما قدم الحبشة فارق الاسلام وتنصّر (١). فكان حين يمرّ بأصحاب رسول الله وهم بأرض الحبشة يقول لهم : فقّحنا وصأصأتم. أي : أبصرنا وأنتم تلتمسون البصر ولم تبصروا بعد (٢) حتى هلك نصرانيا (٣).

وروى ابن اسحاق في سيرته بسنده عن الامام الباقر عليه‌السلام قال : إنّ رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلم بعث الى النجاشي عمرو بن أميّة الضمري في [أم حبيبة] فخطبها له النجاشي (٤).

وروى الطبري عن الواقدي قال : فأرسل النجاشي الى أمّ حبيبة جارية يقال لها ابرهة (كذا) تخبرها بخطبة رسول الله اياها ، وأمرها أن توكل عنها من يزوّجها ،

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ١ : ٢٣٧ ، ٢٣٨.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ١ : ٢٣٨ و ٤ : ٦.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ١ : ٢٣٨.

(٤) ابن اسحاق في السيرة ١ : ٢٣٨.


فسّرت رملة بذلك واعطت الجارية بعض حليّها من الفضة ، وأوكلت خالد بن سعيد ابن العاص أن يزوّجها.

فخطب النجاشي لرسول الله ، وخطب خالد عن أمّ حبيبة ، ودعا النجاشي بأربعمائة دينار ودفعها الى خالد صداقا لها (١) ، وحملتها لها أبرهة ، فلما جاءتها بالدنانير أعطتها أم حبيبة خمسين مثقالا منها. فقالت لها أبرهة : قد أمرني الملك أن لا آخذ منك شيئا ، وأن أردّ إليك الذي أخذت منك. وأنا صاحبة دهن الملك وثيابه ... وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بما عندهن من عود. وقد صدّقت محمدا وآمنت به ، وحاجتي إليك أن تقرئيه مني السّلام.

قالت أم حبيبة : فخرجنا في سفينتين حتى قدمنا الجاز ، ثم ركبنا الظهر الى المدينة ، وكان رسول الله بخيبر ، فخرج إليه من خرج منا ، وأقمت بالمدينة حتى قدم رسول الله (٢).

__________________

(١) الطبري ٢ : ٦٥٣ ، ٦٥٤ وقال ابن اسحاق : حدثني محمد بن علي بن الحسين قال : ما نرى عبد الملك بن مروان وقف صداق النساء على أربعمائة دينار الا عن ذلك. وكان الذي املكها النبي خالد بن سعيد بن العاص بن أميّة ١ : ٢٣٨.

ورواه الكليني في فروع الكافي ٥ : ٣٨٢ عنه عليه‌السلام أيضا قال : أتدري من أين صار مهور النساء أربعة آلاف [درهما ٤٠٠ دينار]؟ قلت : لا ، فقال : إنّ أم حبيبة بنت ابي سفيان كانت بالحبشة فخطبها النبي وساق عنها النجاشي أربعة آلاف [درهما ٤٠٠ دينار] فمن ثم يأخذون به. فأمّا الاصل في المهر فاثنتا عشرة اوقية ونش (٤٥٠ درهما).

ورواه الصدوق في كتاب من لا يحضره الفقيه ، والقمي في تفسيره ١ : ١٧٩. وذكر المسعودي الزواج في حوادث السنة السادسة بعد الحديبية ـ مروج الذهب ٢ : ٢٨٩.

(٢) الطبري ٢ : ٦٥٣ ، ٦٥٤ وتمامه : ولما بلغ أبا سفيان تزوّج الرسول بام حبيبة قال : ذلك الفحل لا يقدع أنفه!


وقال القمي في تفسيره : وجهّزها وبعثها الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ... وبعث إليه بثياب وطيب وفرس.

وبعث ثلاثين رجلا من القسّيسين وقال لهم : انظروا الى كلامه والى مقعده ومشربه ومصلّاه (١).

ابن العاص عند النجاشي :

روى ابن اسحاق بسنده عن عمرو بن العاص قال : لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق (٢) قلت في نفسي : والله ليظهرنّ محمد على قريش! فخلّفت مالي بالرهط وأفلت ، أو قال : فلحقت بمالي بالرهط وأقللت من الناس ، فلم احضر الحديبية وصلحها ، وانصرف رسول الله بالصلح ورجعت قريش الى مكة.

فقدمت مكة ، فجمعت رجالا من قومي يقدّمونني فيما نابهم ويسمعون منّي ويرون رأيي ... فقلت لهم : والله إنّي لأرى أمر محمد يعلو الامور علوا منكرا! وإني قد رأيت رأيا. فقالوا : وما هو؟ قلت : نلحق بالنجاشي فنكون عنده ، فان كان يظهر محمد كنا عند النجاشي فنكون تحت يد النجاشي أحب إلينا من أن نكون تحت يد محمد! وإن تظهر قريش فنحن من قد عرفوا. فقالوا هذا الرأي. فقلت لهم :

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١٧٩ وإعلام الورى ١ : ١١٩ عن دلائل النبوة للبيهقي عن ابن اسحاق ، وعنه القطب الراوندي في قصص الأنبياء : ٣٣٤ وهؤلاء ذكروا مارية القبطية في هداياه ، وغيرهم على أنها من هدايا المقوقس ، وهو الصحيح. وعدّ الحلبي في المناقب ١ : ١٧١ من هداياه : خفّين اسودين ساذجين ، وفي ١ : ١٧٠ عنزة (عصا) كان يحملها بلال بين يديه في العيدين ، وفي اسفاره ، فيصلى إليها.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٣ : ٢٨٩.


فاجمعوا ما تهدونه له.

وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم (الجلود).

فجمعنا أدما كثيرا ، ثم خرجنا حتى قدمنا على النجاشي (الحبشة).

وكان رسول الله قد بعث عمرو بن أميّة الضّمري بكتاب الى النجاشي كتب فيه إليه أن يزوّجه أم حبيبة بنت ابي سفيان (١). فو الله إنّا لعند النجاشي إذ جاء عمرو الضّمري فدخل على النجاشي ثم خرج من عنده.

فدخلت على النجاشي ، فسجدت له ، كما كنت اصنع ، فقال : مرحبا بصديقي!

أهديت لي من بلادك شيئا؟ قلت : نعم أيها الملك ، أهديت لك أدما كثيرا. ثم قربته إليه فأعجبه ، وفرّق منه أشياء بين بطارقته ، ثم أمر بسائره فادخل في موضع ليحتفظ به وأمر أن يكتب.

فلما رأيت طيب نفسه قلت له : أيها الملك اني قد رأيت رجلا خرج من عندك ، وهو رسول رجل عدوّ لنا قد وترنا وقتل اشرافنا وخيارنا! فأعطينه فاقتله!

فرفع يده فضرب بها أنفي ضربة ظننت أنه كسره ، وابتدر منخري بالدم ، فجعلت أتلقى الدم بثيابي. فقلت له : أيها الملك لو ظننت أنك تكره ما فعلت ما سألتك. فقال : يا عمرو ، تسألني أن اعطيك رسول رسول الله الذي يأتيه الناموس الاكبر الذي كان يأتي موسى ، والذي كان يأتي عيسى بن مريم لتقتله؟!

فقلت له : أيها الملك أتشهد بهذا؟ قال : نعم ، أشهد به عند الله ، فأطعني واتّبعه ، والله إنّه لعلى الحقّ ، وليظهرن على من خالفه ، كما ظهر موسى على فرعون وجنوده!

__________________

(١) وفي رواية ابن اسحاق : قد بعثه إليه في شأن جعفر وأصحابه ـ ٣ : ٢٨٩.


فقلت له : أفتبايعني على الاسلام؟ قال : نعم. وبسط يده فبايعته على الاسلام وكانت ثيابي قد امتلأت من الدم فدعا لي بطست ، فألقيت ثيابي وغسلت عن نفسي الدم وكساني ثيابا ، فخرجت بها الى أصحابي (١).

قال ابن اسحاق : وكتب النجاشي الى رسول الله : بسم الله الرحمنِ الرحيم الى محمد رسول الله. من النجاشي الأصحم بن أبجر. سلام عليك يا نبيّ الله ورحمته وبركاته من الله الذي لا إله الا هو الذي هداني الى الاسلام.

أما بعد ، فقد بلغني كتابك ـ يا رسول الله ـ فيما ذكرت من امر عيسى. فو ربّ السماء والارض إنّ عيسى ما يزيد على ما ذكرت ثفروقا (٢) إنّه كما قلت. وقد عرفت

__________________

(١) ثم فارقتهم فعمدت الى موضع السفن فوجدت سفينة قد شحنت وتدفع ، فركبت معهم ، ودفعوها ، حتى انتهوا الى الشعيبة ، وكانت معي نفقة فابتعت بها بعيرا ، وخرجت اريد المدينة ، قال راوي الخبر يزيد بن أبي حبيب : إنّ عمرا لم يوقت حتى قدم المدينة الا انه كان قبيل فتح مكة. وقال جعفر : قدم المدينة لهلال صفر سنة ثمان ـ مغازي الواقدي ٢ : ٧٤٢ ـ ٧٤٥ وروى بسنده عن خالد بن الوليد قال : كان قدومهم الى المدينة في صفر سنة ثمان ٢ : ٧٤٩.

وسبق ابن اسحاق الواقدي في رواية الخبر عن يزيد بن ابي حبيب ، ولكنه ضمن حوادث السنة الخامسة بعد حرب الأحزاب ، وذلك لقوله في اول الخبر : لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق وفي أواخر الخبر ، وذلك قبيل الفتح. يعني فتح مكة ، ولكن ابن اسحاق قال بعيد الخبر : وكان فتح بني قريظة في ذي القعدة وصدر ذي الحجة. يعني سنة الخندق. فكأنّ ابن اسحاق حمل الفتح على فتح بني قريظة دون فتح مكة.

وحيث إنّ لا خلاف في تأريخ رجوع جعفر الطيار من الحبشة في فتح خيبر في شهر صفر من السنة السابعة ، ويستبعد جدا أن تكون أم حبيبة قد تخلّف عنه عند النجاشي ، لهذا يظهر أن سفر عمرو الضمري الى النجاشي كان بعيد الحديبية وكذلك سفر عمرو بن العاص ، وأنه استبطأ في القدوم الى المدينة الى ما بعد عام تقريبا ، وليس بدارا.

(٢) الثفروق : قمع التمر.


ما بعثت به إلينا ، وقد قرينا ابن عمك واصحابه ، فأشهد أنك رسول الله صادقا مصدّقا ، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك واسلمت على يده لله ربّ العالمين.

وقد بعثت إليك بابني أرها بن الأصحم بن ابجر ، فإني لا املك الا نفسي وإن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله ، فإني أشهد أن ما تقول حق. والسّلام عليك يا رسول الله (١).

وكان قد بعث ابنه أرها مع ستين من الحبشة في سفينة ، ولكنّهم غرقت بهم سفينتهم في وسط البحر (٢).

ونقل ابن عبد الباقي : أن النبي كان قد كتب الى النجاشي كتابا في تزويج أم حبيبة ، فكتب إليه النجاشي جوابا :

بسم الله الرحمنِ الرحيم ، الى محمد ، من النجاشي أصحمة ، سلام عليك يا رسول الله من الله ورحمة الله وبركاته.

أما بعد ، فاني قد زوجتك امرأة من قومك وعلى دينك ، وهي السيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان ، وأهديتك هدية جامعة : قميصا وسراويل ، وعطافا وخفين ساذجين. والسّلام عليك ورحمة الله وبركاته.

ونقل ـ أيضا ـ أنّ النبي كان قد كتب الى النجاشي أن يجهز إليه المسلمين الى المدينة ، فكتب النجاشي إليه جوابا :

بسم الله الرحمنَ الرحيم ، الى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله من النجاشي أصحمة ، سلام عليك يا رسول الله من الله ورحمة الله وبركاته. لا إله إلّا الذي هداني للاسلام.

__________________

(١) الطبري ٢ : ٦٥٢ ، ٦٥٣ واعلام الورى ١ : ١١٩ عن دلائل النبوة للبيهقي عن ابن اسحاق أيضا. وعنه القطب في قصص الأنبياء : ٣٢٤.

(٢) الطبري ٢ : ٦٥٣.


أما بعد : فقد ارسلت إليك ـ يا رسول الله ـ من كان عندي من أصحابك المهاجرين من مكة الى بلادي ، وها أنا أرسلت إليك ابني اريحا (كذا) في ستين رجلا من أهل الحبشة ، وان شئت أن آتيك بنفسي فعلت يا رسول الله ، فاني أشهد أن ما تقول حق والسّلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته (١).

وإلى المقوقس (٢) في الاسكندرية :

وقد مرّ عن الواقدي خبر وفد ثقيف معهم المغيرة بن شعبة على المقوقس في الاسكندرية ، وكانوا ثلاثة عشر رجلا ، فلما انصرفوا وكانوا في تبيان بين خيبر والمدينة سكروا ، فغدر بهم المغيرة وقتلهم ونهب اموالهم ولحق بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأسلم فكان معه في الحديبية (٣).

ولم يذكر الواقدي في الخبر شيئا عن أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذكر ابن حجر في الاصابة : أنهم لما دخلوا على المقوقس قال لهم : كيف خلصتم إليّ وبيني وبينكم محمد وأصحابه؟ قالوا : لصقنا بالبحر ، قال : فكيف صنعتم فيما دعاكم إليه؟ قالوا : ما تبعه منّا رجل واحد. قال : فالى ما ذا يدعو؟

__________________

(١) عن الطراز المنقوش ، الباب الأول ، وسواطع الأنوار : ٨١ في مجموعة الوثائق السياسية : ٨ وعنه في مكاتيب الرسول ١ : ١٢٩.

(٢) وانما ألحقناه بالنجاشي لذكر مارية القبطية في هداياه ، وهي من هدايا المقوقس. وقال زيني دحلان : المقوقس ـ بكسر الرابع ـ أي البناء العالي ـ سيرة زيني دحلان بهامش الحلبية ٣ : ٧٠.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٥٩٦.


قالوا : الى ان نعبد الله وحده ونخلع ما كان يعبد آباؤنا ، ويدعو الى الصلاة والزكاة ، ويأمر بصلة الرحم ، ووفاء العهد ، وتحريم الزنا والربا والخمر.

فقال المقوقس : هذا نبي مرسل الى الناس كافة ، ولو أصاب القبط والروم لا تبعوه وقد أمرهم بذلك عيسى. وهذا الذي تصفون منه بعث به الأنبياء من قبله ، وستكون له العاقبة حتى لا ينازعه أحد ويظهر دينه الى منتهى الخف والحافر!

فقال وفد ثقيف : لو دخل الناس كلهم ما دخلناه معه.

فأنغض المقوقس رأسه وقال : أنتم في اللعب (١).

فلعل المغيرة حين أغار على الرجال من بني مالك من وفد ثقيف وقتلهم ولحق بالنبي أسلم مندفعا بمثل هذا ، ولما عوتب على ذلك اعتذر بمضمون الخبر ، ولذلك جعل الرسول المقوقس ممن دعاه من الملوك يومئذ.

ارسل الكتاب إليه مع حاطب بن ابي بلتعة القرشي ، وفيه :

بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من محمد بن عبد الله ، الى المقوقس عظيم القبط ، سلام على من اتبع الهدى.

أمّا بعد فإنّي أدعوك بدعاية الاسلام ، أسلم تسلم [و] يؤتك الله اجرك مرّتين ، فإن تولّيت فإنّما عليك إثم القبط (... يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)(٢).

فجاء به حاطب حتى دخل الاسكندرية فلم يجده واخبر أنه في مجلس مشرف على البحر ، فركب حاطب سفينة وحاذى مجلسه وأشار بالكتاب إليه. فلما

__________________

(١) الاصابة : ٣ في ترجمة حاطب بن ابي بلتعة.

(٢) الاصابة : ٣ في ترجمة حاطب ، وانظر سائر المصادر في مكاتيب الرسول ١ : ٩٧. والآية : ٦٤ من سورة آل عمران.


رآه المقوقس أمر باحضاره بين يديه. فلما جيء به نظر الى الكتاب وفضه وقرأه ، ثم قال لحاطب : إن كان نبيا فما منعه أن يدعو على من خالفه وأخرجه من بلده الى غيرها أن يسلّط عليهم؟

فقال حاطب : ألست تشهد أن عيسى بن مريم رسول الله؟ فماله حيث أخذه قومه فأرادوا أن يقتلوه أن لا يكون دعا عليهم أن يهلكهم الله ـ تعالى ـ حتى رفعه الله إليه؟

فقال المقوقس : أحسنت ، أنت حكيم من عند حكيم (١).

ثم قال له حاطب : إنّه كان قبلك من يزعم أنه الربّ الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والاولى ، فانتقم به ثم انتقم منه ، فاعتبر بغيرك ولا يعتبر غيرك بك. إنّ هذا النبيّ دعا الناس فكان أشدهم عليه قريش وأعداهم له يهود وأقربهم منه النصارى ، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى إلّا كبشارة عيسى بمحمد ، وما دعاؤنا إيّاك الى القرآن إلّا كدعائك أهل التوراة الى الانجيل. وكل نبيّ أدرك قوما فهم امّته فالحق عليهم أن يطيعوه ، وأنت ممن أدرك هذا النبيّ ، ولسنا ننهاك عن دين المسيح بل نأمرك به (٢).

فقال المقوقس : إنّي نظرت في أمر هذا النبي فوجدته لا يأمر بمزهود عنه ولا ينهي عن مرغوب فيه ، ولم أجده بالساحر الضال ولا الكاهن الكذّاب ، ووجدت معه آلة النبوة باخراج الخبأ (المستور) والإخبار بالنجوى وسأنظر.

ثم أخذ الكتاب وجعله في حق وختم عليه ودفعه الى جاريته (٣).

__________________

(١) الاستيعاب في ترجمة حاطب ، وسائر المصادر في مكاتيب الرسول ١ : ٩٨ ، ٩٩.

(٢) سيرة زيني دحلان ٣ : ٧٠ والحلبية ٣ : ٢٨١ ، وفي مكاتيب الرسول ١ : ٩٩.

(٣) الطبقات الكبرى ١ : ٢٦٠ وسائر المصادر في مكاتيب الرسول ١ : ٩٩ وهذا الامر من


وروى ابن سعد عن حاطب قال : ما لبثت بباب المقوقس الا قليلا ، وأقمت عنده خمسة أيام (١).

وفي يوم من هذه الأيام أرسل الى حاطب فقال : أسألك عن ثلاث فقال : لا تسألني عن شيء الا صدقتك. قال : إلام يدعو محمد؟ قلت : الى أن نعبد الله وحده ويأمر بالصلاة خمس صلوات في اليوم والليلة ، ويأمر بصيام رمضان ، وحج البيت ، والوفاء بالعهد ، وينهى عن اكل الميتة والدم ...

قال حاطب : فقال المقوقس : صفه لي. فوصفت فأوجزت ، فقال المقوقس قد بقيت أشياء لم تذكرها : في عينيه حمرة قلما تفارقه ، وبين كتفيه خاتم النبوة ، يركب الحمار ، ويلبس الشملة ، ويجتزئ بالتمرات والكسر ، ولا يبالي من لاقى من عم أو ابن عم ... وكنت اعلم أن نبيّا قد بقى ، ولكنني كنت أظن أن مخرجه بالشام ، فهناك كانت تخرج الأنبياء قبله ، وأراه قد خرج في ارض العرب في ارض جهد وبؤس ، والقبط لا تطاوعني في اتباعه ، وسيظهر على البلاد وينزل أصحابه من بعد بساحتنا هذه حتى يظهروا على ما هاهنا. وأنا لا اذكر للقبط من هذا حرفا واحدا ، ولا احبّ أن تعلم بمحادثتي اياك (٢).

واحضره المرة الآخرة فقال له : إنّ القبط لا تطاوعني في اتباعه ، ولا احبّ أن تعلم بمحاورتي إيّاك ، وأنا أظنّ بملكي أن افارقه! وسيظهر على البلاد وينزل

__________________

ـ المقوقس في الكتاب يدعم امكانية بقاء الكتاب وفقا للمصادر حتى اكتشف قبل قرن تقريبا في كنيسة قرب أخميم في صعيد مصر ، ونشرت صورته مجلة الهلال العدد ٢١٩٠٤ ، كما في مكاتيب الرسول ١ : ٩٥.

(١) الطبقات الكبرى ١ : ٢٦٠.

(٢) الاصابة ٤ : ٥٠٣ وانظر مكاتيب الرسول ١ : ١٠٠.


بساحتنا هذه اصحابنا من بعده! فارجع الى صاحبك وارحل من عندي ، ولا تسمع منك القبط حرفا واحدا (١).

جواب المقوقس وهداياه :

ثم دعى كاتبه بالعربية فكتب الى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«بسم الله الرحمنِ الرحيم ، لمحمد بن عبد الله ، من المقوقس عظيم القبط. سلام عليك. أمّا بعد ، فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه ، وقد علمت أنّ نبيّا قد بقى وقد كنت أظن أنه يخرج بالشام ، وقد أكرمت رسولك ، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم ، وبثياب ، وأهديت إليك بغلة لتركبها والسّلام عليك» (٢).

احدى الجاريتين هي مارية القبطية أمّ ابراهيم (٣) وكان لها اخت معها يقال لها : سيرين (٤).

__________________

(١) سيرة زيني دحلان ٣ : ٧٢ ـ ٧٣ والحلبية ٣ : ٢٨١.

(٢) سيرة زيني دحلان ٣ : ٧١ والحلبية ٣ : ٢٨١ ونقل نبذا منه في الطبقات ١ : ٢٦٠.

(٣) كما في قرب الاسناد : ٧ بسنده عن الصادق عن ابيه الباقر عليهما‌السلام قال : أهداها إليه صاحب الاسكندرية ، مع البغلة الشهباء وأشياء معها. وعليه فلا يصح في تفسير القمي : ١٧٩ عن النجاشي : بعث الى النبيّ بمارية القبطية أمّ ابراهيم. والظاهر عنه في اعلام الورى ١ : ١١٩ مع انه ذكر في مولياته صلى‌الله‌عليه‌وآله : أن المقوقس صاحب الاسكندرية أهدى إليه جاريتين : احداهما ـ مارية القبطية : ١٤٧ وفي تفسيره ١٠ : ٤٧١ ، ٤٧٢ روى ذلك عن الشعبي ومسروق عن قتادة ، والظاهر أنه عن ابن عباس. ومثلهما (القمي والطبرسي) الراوندي في قصص الأنبياء : ٣٢٤.

(٤) مناقب الحلبي ١ : ١٦١ نقلا عن مبسوط الشيخ الطوسي وفي مختصر الدول : ٩٦ : شيرين وهي كلمة فارسية بمعنى الحلو.


ولم يذكر في نص جواب المقوقس في الهدايا ما عدا هاتين الجاريتين سوى البغلة ، وهي التي سمّاها الشهباء ، كما في الخبر عن الباقر عليه‌السلام عن «قرب الاسناد» (١).

وروى الاصفهاني عن محمد بن الحنفية : أن المقوقس كان قد أهدى مع الجاريتين خصيا اسمه مأبور (٢) وروى في خبر آخر عن محمد بن اسحاق ـ وليس السيرة ـ أنه كان ابن عم مارية (٣) وعن الكازروني انه ما يوشنج وانه كان اخاها (٤) وفي تفسير القمي عن الباقر عليه‌السلام أن اسمه جريح (٥).

وعدّ الحلبي في «المناقب» من هدايا المقوقس : فرسا سمّى باللزاز (٦).

وحماره اليعفور (٧).

وقالوا : أهدى إليه الف مثقال ذهبا ، وقدحا من قوارير ، وعمائم وقباطي ، وعودا ومسكا وقارورة دهن ، ومربعة فيها مكحلة ومشط ومقص ومرآة ومسواك.

__________________

(١) قرب الاسناد : ٧ وذكرها الحلبي في المناقب ١ : ١٦٩ وقال : هي الدلدل ، وكانت شهباء ، ودفعها النبيّ الى علي ثم كانت للحسن ثم كانت للحسين عليهم‌السلام ثم عميت.

(٢) كما في المناقب ٢ : ٢٢٥.

(٣) كما في المناقب ٢ : ٢٢٥.

(٤) كما في بحار الأنوار ٢١ : ٤٥.

(٥) تفسير القمي ٢ : ٩٩ وجريح اسم عربي ، وكذلك مأبور ، ويوشنج معرّب هوشنگ بالفارسية ، فلعله بدّل اسمه الى هذه الأسماء عملا باستحباب تغيير أسامي الموالي والعبيد ، أو أن اسمه كان بالنصرانية جورج وكان يصغر : جريج.

(٦) اللزاز أي المكتنز اللحم القوي المحكم.

(٧) مناقب الحلبي ١ : ١٦٩.


واكرم الرسول بخمسة أثواب ومائة دينار ، وبعث معه جيشا أوصلوه الى جزيرة العرب حتى وجدوا قافلة من الشام تريد المدينة ، فرافقها وردّ الجيش (١).

والى الحارث الغسّاني في الشام :

نقلنا عن الواقدي : أنّ رسول الله بعث في ذي الحجة سنة ست ، ثلاثة رسل مرّة واحدة مصطحبين في خروجهم (٢) ، وذكرنا واحدا منهم هو حاطب الى المقوقس في الاسكندرية عاملا للروم ، وننتقل الآن الى ذكر آخر منهم : شجاع بن وهب الأسدي القرشي الى الحارث بن أبي شمر الغسّاني من غساسنة الشام عاملا للروم أيضا (٣).

ورووا تفصيل الخبر عن ابن وهب نفسه قال : أتيت إليه ، وهو بغوطة دمشق (٤) مشغول بتهيئة مستلزمات النزول لقيصر (وكان قادما الى دمشق لينزل الى ايليا القدس).

وكان حاجبه روميّا يدعى (مري) فقال لي : لا تصل إليه حتى يخرج يوم

__________________

(١) انظر المصادر في مكاتيب الرسول ١ : ١٠١.

(٢) الطبري ٢ : ٦٤٤ وعنه الكازروني في المنتقى ، وعنه المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ٣٨٢.

(٣) قال في مروج الذهب ٢ : ٨٤ كان ملكه حين بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. وقلنا انه ملك بالتأريخ الميلادي ما بين ٥٢٨ ـ ٥٦٩ أنعم عليه الامبراطور يوسطينيانوس بالاكليل ومنحه لقب البطريرك والفلارك ، أي : شيخ القبائل. وهو العاشر من ملوك الغساسنة كما في مروج الذهب ٢ : ٨٦ وترجمة يوسطينيانوس انظر مختصر الدول : ٨٨ وبعده طيباريوس ثم موريقا ثم فوقا ثم هرقل معاصر الاسلام.

(٤) غوطة دمشق هي الكورة التي منها دمشق ، يحيطها جبال عالية ، استدارتها ثمانية عشر ميلا ـ معجم البلدان.


كذا. فأقمت على بابه يومين أو ثلاثة ، وأخذ الحاجب يسألني عن رسول الله وما يدعو إليه ، فاجيبه ، فيرقّ حتى يغلبه البكاء ويقول : إنّي قد قرأت الإنجيل ، وأجد صفة هذا النبي بعينه ، فأنا أومن به واصدقه. فكان الحاجب يكرمني ويحسن ضيافتي ويقول عن الحارث : أنه يخاف قيصر ، وهو يخاف من الحارث.

حتى كان يوم خروج الحارث (وكان ينزل هضبة الجولان) فجلس والتاج على رأسه ، واذن لي عليه ، فدفعت إليه كتاب رسول الله (١).

فروى الطبري عن الواقدي قال : كان قد كتب إليه : «سلام على من اتبع الهدى وآمن به ، إنّي ادعوك الى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له ، يبقى لك ملكك» (٢).

قال : فدفعت إليه كتاب رسول الله فقرأه ثم رمى به وقال : من ينتزع ملكي؟! ها أنا سائر إليه ولو كان باليمن.

ثم قال : أخبر صاحبك بما ترى من الجيوش والخيول ، وإنّي سائر إليه.

وكتب الى قيصر يخبره الخبر ... فلما رأى قيصر كتاب الحارث إليه كتب إليه : أن لا تسر إليه وآله عنه ، ووافني بإيليا لتهيئة قصر لنزول الملك.

قال : فلما جاءه كتاب قيصر دعاني وقال : متى تريد أن تخرج الى صاحبك؟ قلت : غدا. فأمر لي بمائة مثقال ذهب (كذا) ووصلني حاجبه بكسوة ونفقة وقال : اقرئ رسول الله مني السّلام ، وأعلمه أني متبع دينه (٣).

__________________

(١) الطبقات الكبرى ١ : ٢٦١. وعن المنتقى في بحار الانوار ٢٠ : ٣٩٣.

(٢) الطبري ٢ : ٦٥٢.

(٣) الطبقات الكبرى ١ : ٢٦١ وثالث المبعوثين الخارجين مصطحبين في ذي الحجة سنة ست ،


والى قبائل غطفان :

قال ابن اسحاق : وقدم على رسول الله في هدنة الحديبية قبل خيبر رفاعة بن زيد الجذامي الضبيبي ، وأسلم ، وأهدى لرسول الله غلامه [مدعم (١)] وكتب رسول الله كتابا معه الى قومه ، فيه :

بسم الله الرحمنِ الرحیم ، هذا كتاب من محمد رسول الله لرفاعة بن زيد. اني بعثته الى قومه عامة ، ومن دخل فيهم ، يدعوهم الى الله والى رسوله ، فمن أقبل منهم ففي حزب الله وحزب رسوله ، ومن أدبر فله أمان شهرين.

وقدم رفاعة الى قومه فأجابوا وأسلموا (٢) ثم ساروا الى حرّة الرّجلاء.

وقال : وكانت غطفان من جذام ووائل ومن كان معهم من سلامان وسعد بن هذيم ، حين جاءهم رفاعة بن زيد بكتاب رسول الله ، قد توجّهوا الى حرّة الرجلاء فنزلوها ، وكان رفاعة بن زيد في ناس من قومه بني الضّبيب في كراع ريّة (٣).

__________________

على خبر الطبري عن الواقدي (٢ : ٦٤٤) هو دحية بن خليفة الكلبي الأنصاري الى قيصر بالشام أيضا. ولكن دحية ذكر في من حضر خيبر في سيرة ابن هشام ٣ : ٣٤٥ ومغازي الواقدي ٢ : ٦٧٤ وعليه فلا يصح خبر سفره في ذي الحجة ، بل بعد خيبر فلعله في ربيع الاول سنة سبع ، فنؤخر ذكره.

(١) ذكره الواقدي باسم مدعم ، غلاما أسود ٢ : ٧٠٩.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٣٤ و ٢٦٠ وانظر كتاب مكاتيب الرسول ١ : ١٤٤ ، ١٤٥.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٦١ وحرّتهم كانت على أربع ليال من المدينة الى الشام.


ولم يعيّن الشهران للأمان ، ولعلّهما شهرا محرّم وصفر من أول السنة السابعة ولعلّ توقيته هذا كان لحين انتهائه من خيبر ليحسبوا حسابهم ليومئذ.

وسيأتي في أخبار خيبر : أنّ اليهود حاولوا أن يكتسبوا نصرة غطفان إليهم ، فلعلّ هذه الدعوة من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت مبادرة منه إليهم قبل اليهود.


فهرس الكتاب

أهم حوادث السنة الأولى للهجرة

وصول النبي إلى قباء.............................................................. ٩

اسلام سلمان.................................................................. ١٠

اسلام عبد الله بن سلام......................................................... ١١

بناء مسجد قباء................................................................ ١٣

أوّل صلاة جمعة وأوّل خطبة...................................................... ١٥

سائر أخبار وصول الرسول (ص)................................................. ١٩

بناء مسجد الرسول (ص)....................................................... ٢٤

وفاة أسعد بن زرارة وصلاة الجنائز................................................. ٢٨

يثرب أم طيبة؟................................................................. ٢٩

آبار المدينة وسيولها.............................................................. ٣٠

أسواق المدينة في الجاهلية والإسلام................................................ ٣٥

الدور حول المسجد............................................................. ٣٦

شريع أذان الإعلام.............................................................. ٤٤

المؤاخاة بين المهاجرين والانصار................................................... ٤٧


أوّل سرية بالمدينة............................................................... ٥٢

سرية عبيدة بن الحارث.......................................................... ٥٣

بيت سورة ثم عائشة............................................................ ٥٤

سريرة الخزّار.................................................................... ٥٥

موقف اليهود وأحبارهم.......................................................... ٥٦

اليهود من حلف الأوس والخزرج إلى عهد المسلمين.................................. ٥٧

يثرب أو المدينة؟................................................................ ٦٨

رأس المنافقين................................................................... ٦٩

منافقو الأوس والخزرج........................................................... ٧٢

المنافقون من اليهود............................................................. ٧٤

نزول سورة البقرة................................................................ ٧٤

أهم حوادث السنة الثانية للهجرة

اولى الغزوات : غزوة الأبواء....................................................... ٩٥

زواج علي بالزهراء عليهما‌السلام (العقد)................................................. ٩٦

غزوة بواط................................................................... ١٠٢

غزوة بدر الاولى (الصغرى)..................................................... ١٠٣

غزوة ذي العشيرة............................................................. ١٠٣

عليّ ابو تراب................................................................ ١٠٤

سرية نخلة.................................................................... ١٠٦

غزوة بدر الكبرى............................................................. ١٠٩

خروج رسول الله.............................................................. ١١٣

افطار الصوم وقصر الصلاة.................................................... ١١٣

اختبار الأنصار............................................................... ١١٧

مشورة الحباب................................................................ ١٢٠


نزول قريش................................................................... ١٢١

والتقى الجمعان............................................................... ١٢٣

المبارزة الاولى................................................................. ١٢٦

حامل راية قريش.............................................................. ١٢٨

مقتل أبي جهل............................................................... ١٣١

أسر العباس وعقيل............................................................ ١٣٢

قصة القطيفة والغلول.......................................................... ١٣٥

نزول سورة الأنفال............................................................ ١٣٦

في منزل أثيل................................................................. ١٣٩

العباس بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب...................................... ١٤١

الوصية بالأسرى.............................................................. ١٤٢

تقسيم الغنائم................................................................. ١٤٤

بعث البشير بالفتح............................................................ ١٤٧

استقبال الرسول............................................................... ١٤٩

البكاء على الشهداء........................................................... ١٥٠

الأسرى في المدينة............................................................. ١٥١

فداء الأسرى................................................................. ١٥٢

صهر النبي ابو العاص بن الربيع................................................. ١٥٥

أسير اطلق لفك الرهينة........................................................ ١٥٨

تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة.............................................. ١٥٩

آيات اخرى من سورة البقرة..................................................... ١٦٥

تحريم الخمر................................................................... ١٨٥

زكاة الفطرة وعيد الفطر........................................................ ١٨٨

غزوة بني سليم................................................................ ١٩٠

سرية بني سليم................................................................ ١٩٠


تزويج المشركين والزواج بالمشركات............................................... ١٩١

قتل المحرّض على النبيّ نذرا..................................................... ٢٠١

غزوة قينقاع.................................................................. ٢٠٢

صفوان يريد اغتيال الرسول..................................................... ٢٠٨

زواج علي بالزهراء عليهما‌السلام (الزفاف)............................................. ٢١١

من سنن ليلة الزفاف.......................................................... ٢١٢

صباح النكاح................................................................. ٢١٨

غزوة السويق................................................................. ٢١٩

عيد الأضحى................................................................ ٢٢٠

وفاة عثمان بن مظعون......................................................... ٢٢١

وفاة رقية بنت الرسول......................................................... ٢٢٣

أهم حوادث السنة الثالثة للهجرة

وقعة ذي قار................................................................. ٢٢٩

غزوة قرقرة الكدر............................................................. ٢٣١

غزوة ذي أمر................................................................. ٢٣٢

سرية قتل ابن الأشرف......................................................... ٢٣٥

غزوة بحران من الفرع........................................................... ٢٤١

سرية القردة.................................................................. ٢٤٢

زفاف أمّ كلثوم الى عثمان...................................................... ٢٤٤

أمّ شريك تهب نفسها للنبي..................................................... ٢٤٤

زواج النبي من بنت نفيل ثم من بنت خزيمة....................................... ٢٤٧

ميلاد الحسن عليه‌السلام............................................................ ٢٤٨

تسمية الحسن وبعض السنن.................................................... ٢٤٩

قضاء وشفاعة................................................................ ٢٥١


ابو عامر إلى مكة............................................................. ٢٥٢

غزوة احد.................................................................... ٢٥٣

ابو البنين وابو البنات.......................................................... ٢٦٣

اللواء والراية.................................................................. ٢٦٥

الرماة على الشعب............................................................ ٢٦٧

الألوية في قريش.............................................................. ٢٦٨

خطبة الرسول................................................................ ٢٦٩

نشوب الحرب................................................................ ٢٧٠

الملتحقون باحد............................................................... ٢٧٢

أداء حق السيف.............................................................. ٢٧٥

بدء البراز باحد............................................................... ٢٧٦

معصيه الرماة................................................................. ٢٨٠

هزيمة المسلمين................................................................ ٢٨٣

موقف علي عليه‌السلام وسائر الصحابة .............................................. ٢٨٤

موقف نسيبة الخزرجية......................................................... ٢٨٥

مقام علي عليه‌السلام .............................................................. ٢٨٦

صرخة ابليس................................................................. ٣٠٢

مقتل حمزة عليه‌السلام.............................................................. ٣١١

مقتل حنظلة غسيل الملائكة.................................................... ٣١٧

مقتل جمع من الشهداء......................................................... ٣١٨

نهايات الحرب................................................................ ٣٢٠

قريش إلى أين؟............................................................... ٣٢٤

تفقّد الجرحى والقتلى.......................................................... ٣٢٦

مصرع حمزة.................................................................. ٣٢٨

وبعض النفل................................................................. ٣٣٧


بعض النساء المفجوعات....................................................... ٣٣٧

رجوع الرسول من احد......................................................... ٣٤١

غزوة حمراء الأسد ............................................................ ٣٤٩

قتل ساب النبي (فاسقة بني خطمة)............................................. ٣٦١

موقف اليهود والمنافقين........................................................ ٣٦٦

قصاص الحارث بالمجذّر ........................................................ ٣٦٧

أحكام الإرث ................................................................ ٣٦٩

هل جرح علي عليه‌السلام .......................................................... ٣٧٣

خبر قريش في مكة ........................................................... ٣٧٥

قصيدة ابن الزبعرى............................................................ ٣٧٦

ملحوظة مهمة................................................................ ٣٧٩

أهم حوادث السنة الرابعة للهجرة

غزوة الرجيع.................................................................. ٣٨٥

وفاة زينب بنت خزيمة ........................................................ ٣٩٠

سرية أبي سلمة الى بني أسد في قطن............................................. ٣٩٠

مقتل أصحاب الرجيع......................................................... ٣٩٣

سرية الجهني الى اللحياني ...................................................... ٣٩٦

غزوة بئر معونة ............................................................... ٣٩٩

غزوة بني النضير .............................................................. ٤٠٣

نزول سورة الحشر فيهم......................................................... ٤٠٦

ومن قصص الغنائم............................................................ ٤٢٠

التشديد في تحريم الخمر........................................................ ٤٢١

غزوة ذات الرقاع.............................................................. ٤٢٥

غزوة بني لحيان................................................................ ٤٣٠


وفاة عبد الله بن عثمان........................................................ ٤٣١

وفاة فاطمة بنت أسد......................................................... ٤٣٢

وفاة أبي سلمة................................................................ ٤٣٦

ميلاد الحسين عليه‌السلام........................................................... ٤٣٨

تسمية الحسين عليه‌السلام.......................................................... ٤٤١

زواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بام سلمة...................................................... ٤٤٢

رجم زانيين يهوديين........................................................... ٤٤٥

وسرق ابن ابيرق.............................................................. ٤٥٣

بدر الأخيرة.................................................................. ٤٥٧

أهم حوادث السنة الخامسة للهجرة

غزوة الخندق................................................................. ٤٦٥

خروج الأحزاب للحرب........................................................ ٤٦٨

مشاورة الأصحاب للأحزاب.................................................... ٤٧٠

رجز النبي والمسلمين........................................................... ٤٧٣

وفي سلمان الفارسي .......................................................... ٤٧٥

وتفأل الرسول بالنصر......................................................... ٤٧٥

من دلائل النبوة .............................................................. ٤٧٨

وصول الأحزاب.............................................................. ٤٨١

رسول الله والمسلمون........................................................... ٤٨٣

نقض بني قريظة .............................................................. ٤٨٣

تبيّن الخبر ................................................................... ٤٨٥

تبيّن النفاق.................................................................. ٤٨٦

توهين للمشركين واختبار للمسلمين ............................................. ٤٨٨

مبارزة عمرو لعلي عليه‌السلام ....................................................... ٤٨٩


رجز علي عليه‌السلام .............................................................. ٤٩٨

تواعد قريش وغطفان لليوم الثاني................................................ ٥٠٠

إصابة سعد بن معاذ........................................................... ٥٠١

أخبار نعيم بن مسعود في تحريش قريش على اليهود ............................... ٥٠٣

وهزم الأحزاب وحده .......................................................... ٥٠٧

غزوة بني قريظة............................................................... ٥١٤

محاصرة بني قريظة............................................................. ٥١٦

شورى بنى قريظة.............................................................. ٥٢٠

مشورة أبي لباية وخيانته........................................................ ٥٢١

نزولهم على الحكم............................................................. ٥٢٤

مقتل كعب بن أسد........................................................... ٥٢٦

شفاعتان مقبولتان ............................................................ ٥٣٠

تقسيم الغنائم وبيعها........................................................... ٥٣٢

ما نزل فيها من القرآن......................................................... ٥٣٤

شهادة سعد بن معاذ ......................................................... ٥٣٦

توبة أبي لبابة ................................................................ ٥٣٩

سرية أبي عتيك الى خيبر....................................................... ٥٤٠

سرية أبي عبيدة............................................................... ٥٤٤

زواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بزينب بنت جحش............................................. ٥٤٤

وجوب الحجاب............................................................... ٥٥١

امّهات المؤمنين............................................................... ٥٥٢

أهم حوادث السنة السادسة للهجرة

غزوة القرطاء................................................................. ٥٥٧

غزوة بني لحيان................................................................ ٥٥٨


سرية الغمر................................................................... ٥٥٩

موادعة بني أشجع............................................................. ٥٦٠

غارة الفزاري وردها............................................................ ٥٦١

حرب بني محارب.............................................................. ٥٦٦

صلاة الاستسقاء.............................................................. ٥٦٧

مصادرة قافلة تجارة قريش....................................................... ٥٦٩

سرية إلى بني ثعلبة............................................................. ٥٧١

غزوة دومة الجندل............................................................. ٥٧١

سرية علي عليه‌السلام الى فدك....................................................... ٥٧٣

غزوة ذات السلاسل........................................................... ٥٧٤

غزوة بني المصطلق............................................................. ٥٧٧

وفي المريسيع.................................................................. ٥٨٠

السبايا والغنائم............................................................... ٥٨٣

وفي طريق الرجوع.............................................................. ٥٨٥

ما تبقّى من آيات الأحزاب..................................................... ٥٩٠

سرية زيد الى بني بدر.......................................................... ٥٩٤

سرية ابن رواحة الى خيبر....................................................... ٥٩٤

سرية الى بني ضبّة............................................................. ٥٩٦

هجرة عقيل مسلماً............................................................ ٥٩٩

صلح الحديبية................................................................ ٥٩٩

الماء في الحديبية............................................................... ٦٠٩

النفاق في الحديبية............................................................. ٦٠٩

هدايا المشركين................................................................ ٦١١

رسل المشركين................................................................ ٦١٢

رسل رسول الله............................................................... ٦١٧


الحراسة والغارة................................................................ ٦١٩

بيعة الرضوان................................................................. ٦٢١

وأنبأ النبي عن الوصي.......................................................... ٦٢٢

اعتراض بعض الصحابة........................................................ ٦٢٤

قبول قريش بالصلح........................................................... ٦٢٦

نصّ معاهدة الصلح........................................................... ٦٢٧

ابو جندل بن سهيل........................................................... ٦٣١

خروجهم من إحرام العمرة...................................................... ٦٣٢

في طريق العودة............................................................... ٦٣٤

وفي معنى الفتح............................................................... ٦٣٥

وكرامة في عسفان............................................................. ٦٣٧

استعراض سورة الفتح.......................................................... ٦٣٨

أين ابو سفيان وعمرو بن العاص؟............................................... ٦٤٣

قصّة أبي بصير الثقفي......................................................... ٦٤٥

نزول آيتين من الممتحنة........................................................ ٦٤٦

رسل الرسول الى الملوك......................................................... ٦٤٩

تأريخ الكتب................................................................. ٦٥١

الى النجاشي في الحبشة........................................................ ٦٥٣

ابن العاص عند النجاشي...................................................... ٦٥٧

الى المقوقس في الاسكندرية..................................................... ٦٦١

جواب المقوقس وهداياه........................................................ ٦٦٥

الى الحارث الغسّاني في الشام.................................................... ٦٦٧

الى قبائل غطفان.............................................................. ٦٦٩

استدراكات.................................................................. ٧٦٥

موسوعة التاريخ الاسلامي - ٢

المؤلف:
الصفحات: 680