كتاب غاية المأمول من علم الأصول

الجزء الأوّل

بقلم

محمّد تقي الجواهري

من تقريرات بحث أستاذه الأوحد

العلّامة العلم زعيم الحوزة العلميّة الكريمة

آية الله المحكمة جناب السيّد أبو القاسم الخوئي أدام الله أيّام إفاداته القيّمة

وإفاضاته العامّة وجمع به شمل العلم وشمل أهله وأدام فضله

بعميم فضله إنّه المتفضّل المنّان والمبتدي بالإحسان



كلمة المجمع

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله كما هو أهله ، وأفضل الصلاة والسلام على خاتم رسله محمّد وآله الأطهرين.

يسرّ مجمع الفكر الإسلامي أن يقطف ثمرة جديدة من الشجرة المباركة العريقة ، الحوزة العلوية الشريفة في النجف الأشرف ليقدّمها إلى ذوي الفضل والعلم.

وان نظرة إلى سير الدراسات العلميّة ولا سيّما الفقهية والاصوليّة الصادرة عن هذه المدرسة المباركة خلال تاريخها الوضّاء تكشف عن عدم فتور وتوقّف دورها الفاعل وبحوثها العلميّة ، بل تعرب عن تطوّرها وتكاملها رغم الظروف العسيرة والأحداث المرّة التي مرّت عليها ، فكان لها الحظّ الأوفر في إكمال مسيرة الفقه الإمامي واصوله.

ومن النتاجات الاصولية المتميزة لهذه المدرسة هي ما قرّره الحجّة الشهيد آية الله الشيخ محمد تقي آل صاحب الجواهر ـ تغمّده الله برحمته الواسعة ـ اثناء تتلمذه لاستاذه المرجع الأعلى سماحة آية الله العظمى السيّد الخوئي قدس‌سره وحضوره في أكثر من دورة واحدة من دروسه لاصول الفقه.


وممّا يلفت النظر أنه رحمه‌الله التزم بتدوين الملاحظات التي أبداها الاستاذ في دوراته التدريسية المتتالية ممّا قد يكون رجوعا أو تعميقا أو تعديلا لما أملاه سابقا.

وها هو (غاية المأمول) نقدّمه في حلّته الأنيقة وبتحقيق شامل لشتّى جوانبه ، وذلك بفضل جهود نخبة من العلماء المختصّين بشئون التحقيق ، وهم :

١ ـ سماحة حجة الإسلام والمسلمين الشيخ رحمة الله الرحمتي الأراكي.

٢ ـ سماحة حجة الإسلام والمسلمين الشيخ أحمد المحسني.

حيث قاما بتدقيق المتن ووضع العلامات الفنيّة وما إلى ذلك من مستلزمات التحقيق.

وجدير بالذكر أن هناك ـ مثلما أسلفنا ـ إضافات كثيرة مكتوبة في هامش النسخة الخطيّة ، قد عيّن المقرّر كثيرا من مواردها وترك بعضها الآخر دون إعلام بمواضعها. كما يلاحظ أحيانا أنّه عدل عن بعض المقاطع ممّا كتبه واستبدله بكتابة اخرى لكنّه لم يحذف ولم يشر إلى حذف المقطع المعدول عنه. فكلّ هذا ممّا عولج بإجراءات لازمة مناسبة.

وفي بعض الموارد أضاف المقرّر ملاحظاته وآراءه الخاصّة وختمها بتوقيعه (جواهري) ونحن أيضا ميّزنا هذه التعليقات عن سائر تعاليقه باضافة اللقب (الجواهري) إلى آخرها. علما بأنّ هوامش المقرّر كلّها فصلت عن هوامش التحقيق بعلامة النجمة (*).

٣ ـ سماحة حجة الإسلام والمسلمين السيّد حافظ موسى زاده.

٤ ـ سماحة حجة الإسلام والمسلمين الشيخ محمد باقر حسن پور.

حيث عهدت إليهما مهمّة استخراج المصادر والتثبّت منها.

٥ ـ الأخ الفاضل رعد المظفّر.

٦ ـ الأخ الفاضل صباح البهبهاني.


وقد تولّيا مقابلة الكتاب بعد الطباعة.

وهنا نقدّم خالص شكرنا لهؤلاء الأخوة الأفاضل وسائر المساهمين في إنجاز هذا المشروع. وندعو لهم بحسن التوفيق. كما ونشكر جزيل الشكر لسماحة العلّامة حجة الاسلام والمسلمين الشيخ حسن الجواهري ـ نجل المؤلّف ـ دام مجده على مراجعته للكتاب والإشراف على مراحل تحقيقه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

مجمع الفكر الإسلامي

١٤٢٨ ه



بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ترجمة المؤلف

اسمه ونسبه :

هو الشيخ محمد تقي ابن الشيخ عبد الرسول ابن الشيخ شريف ابن الشيخ عبد الحسين ابن الشيخ الأكبر محمد حسن قدس‌سره صاحب كتاب جواهر الكلام في شرح كتاب شرائع الإسلام ، وهو شيخ الأسرة الجواهرية وعلمها في زمانه.

هذا نسبه من قبل الآباء ، أما نسبه من جهة الأمهات فأمّه من الأسرة الجواهرية ، وهي كريمة آية الله الشيخ محمد حسين ابن الشيخ علي ابن الشيخ عبد الحسين ابن الشيخ صاحب الجواهر قدس‌سره.

كانت أخلاقه العالية وعلمه وفقاهته الواسعة وملكاته العالية في تربية طلّاب الحوزة ؛ من عراقيين وإيرانيين ولبنانيين وبحرانيين وأحسائيين وقطيفيين وهنود وباكستانيين وأفغانيين ، قد جعلته ممن يشار إليه في تسلّم مسئولية إدارة المرجعية والحوزات العلمية ، فلا تجد في أي قطر من أقطار الشيعة الإمامية ممن يتّبع مدرسة النجف إلّا وله فيها طلّاب قد تسنموا كرسي التدريس والإرشاد والدفاع عن الدين الحقّ والوكالة عن المرجعية الدينية.


مولده ونشأته :

اختلفت المصادر التي أرّخت للشيخ المؤلف ولادته ، فذكر بعضها أنّ ولادته كانت سنة (١٣٤٢ هجري قمري) وذكر البعض الآخر أنّها كانت سنة (١٣٤١ هجري قمري) كما ذكر البعض أنّ ولادته كانت سنة (١٣٤٠ هجري قمري) ، ولكن الذي وجدناه في سجلّه الرسمي كان يشير إلى أنّ ولادته كانت سنة (٣١ / ١ / ١٣٠٤ هجري شمسي).

وقد نشأ المترجم له رحمه‌الله نشأة دينية في محيط علمي ، فليس هو مبتدأ في اختياره المسلك الديني ، بل ورث ذلك من أسرته العلمية الذائعة الصيت ، وآبائه العلماء الأعلام ، المنتسبون إلى شيخ الطائفة (صاحب جواهر الكلام) الذي كان على سيرة آبائه العلماء الأعلام في النشأة الدينية أبا عن جد.

فقد ذكر صاحب ماضي النجف وحاضرها عن أسرة آل الجواهري فقال :

«من مشاهير الأسر العلمية النجفية ودوحة من دوحات الفضل العليّة ، بزغ بدرها في أفق النجف ، واشتهرت بعنوانها (الجواهر) الذي صار علما لها ومتسما اتسمت به في أواسط القرن الثالث عشر. وكان لآبائها في النجف ذكر قبل ذلك في أوائل القرن الثاني عشر ، فإن جدها الأعلى عبد الرحيم الشريف الموصوف بالكبير النجفي كتب له بعض تلامذته شعرا سنة ١١٤٩ ه‍.

شعّ ضوء هذه الأسرة وطار صيتها من حين نبوغ جدّها الأعلى الشيخ صاحب الجواهر ، فتقمّص أبراد الفضل والعلوم الروحية ، وتوارثها منه ابناؤه الغرّ الاماثل فتكونت على تعاقب الأعوام والسنين منه أسرة علمية شهيرة نبغ فيها علماء مشاهير وأدباء وشعراء فطاحل وضمّ بعضهم إلى فضله الغزير أدبه الوافر ، كما حاز رجال منها الزعامة العلمية والبلدية.

أقول : نشأ المترجم له في محيط علمي أدبي ، إذ رأى أن أسرته قد حازت جناحي السبق في العلوم الدينية والعالي من الأدب العربي والشعر ، فاينما


يحطّ يجد علما عاليا وأدبا وشعرا راقيا ، ومما نقله لنا السيد حسين ابن السيد محمد تقي بحر العلوم «وقد كنّا نلتقي به في مكتبة العلمين» : «إن ديوان أسرة آل الجواهري كان يلتقي فيه أكثر من سبعين شيخا منهم ، تعلوهم العمائم والكرائم البيضاء».

وكان أكثر بل كل هؤلاء من الأدباء الكبار كما يشهد بذلك تراجمهم التي ذكرها لهم مؤرخو زمانهم.

في هذا الجوّ وتحت ظلّ أب عالم زاهد «ترك التصدي للمرجعية الدينية رغم اصرار تلامذته واقرانه على ذلك» فوجهه وجهة أهل العلم والفضل والكمال ، فنبغ في العلوم الدينية مبكرا وحاز شاعرية فياضة قوية ، في مقتبل عمره كما سنعرض نماذج من شعره فيما بعد.

هذا هو الجوّ العلمي والأدبي الذي نشأ به المترجم فكان أفضل مثال للطالب النجفي والعالم المتقي والأديب الهادف والشاعر المدافع عن كيان الشريعة الغراء.

ما كتب عنه المؤرخون :

وقد كتب عنه المؤرخون رغم حداثة سنّة وبداية تطلّعه ، فقد كتب عنه صاحب شعراء الغري (أو النجفيات) فقال :

هو الشيخ محمد تقي ابن الشيخ عبد الرسول ابن الشيخ شريف ابن الشيخ عبد الحسين ابن الشيخ الأكبر محمد حسن صاحب جواهر الكلام : عالم فاضل ، وأديب بارع ، وشاعر مطبوع.

ولد في النجف (٢٥ جمادى الأولى من عام ١٣٤١ ه‍) ونشأ بها على والده الحجة الفقيه فقرأ عليه المقدّمات وعني بتوجيهه وتدريسه فنال العلم الجم على صغره ، واختلف على حلقات أعلام عصره كحلقة والده في الفقه ، وفي الأصول على حلقة السيد أبو القاسم الخوئي والشيخ ميرزا باقر الزنجاني.


والمترجم له شاب يحمل عقل الشيوخ ، وإنسان يتصف بصفات الإنسان الصحيح ، عرفته منذ طفولته فلم أجد فيه همزة أو غمزة ، ولاحظته وهو يختلف على مجالس أهل العلم فكان يصغي لما يدور فيها من حوار علمي ، فإذا وجد الظرف ملائما والمجادل قد اتّصف بالهدوء النفسي نزل إلى ساحة النقاش معه ، وهذه أبرز الظواهر التي شاهدتها منذ خمس وعشرين عاما حتى الآن في والده ـ حفظه الله ـ وبذلك لم أجد من أولاد العلماء من تأثر بخلق أبيه كصاحبنا الذي جمع بين جمال الخلق وحسن الخلق (١).

وقال عنه صاحب ماضي النجف وحاضرها :

الشيخ محمد تقي ابن الشيخ عبد الرسول ابن الشيخ شريف ، ولد في النجف يوم الخامس والعشرين من جمادى الأولى سنة (١٣٤٠ ه‍) ، ربّاه والده تربية أهل العلم ، وهذبه تهذيب أهل الكمال ، فهو مع صغر سنّه يحمل أخلاقا فاضلة وخلالا حميدة ، ويضم مع حسن خلقه الفضل والأدب فينظم الشعر ويحسن صوغه ، وهو مع ذلك محافظ على محلّه العلمي ووقته الثمين الذي لا يصرفه إلّا في خدمة والده وما يتوخاه من طلب العلم (٢).

وقال عنه صاحب معجم رجال الفكر والأدب في النجف :

محمد تقي ابن الشيخ عبد الرسول ابن الشيخ شريف ولد (١٣٤٠ / ١٩٢٢).

عالم فاضل مجتهد جليل ، شاعر نحرير من أجلاء المشتغلين في الفقه والأصول.

ولد في النجف الأشرف وأنهى مقدّمات العلوم وحضر على والده وعلى السيّد أبو القاسم الخوئي ، والسيّد محسن الحكيم ، وتصدّى للتدريس ، ينظم الشعر ويحسن

__________________

(١) شعراء الغري أو النجفيات ، علي الخاقاني ٧ : ٣٣٧.

(٢) ماضي النجف وحاضرها ٢ : ١٢٦ / ٢١.


صوغه ويبرهن على قريحته الفياضة وشاعريته الرصينة. ترك الشعر وانصرف بكامله إلى دراسة وتدريس الفقه والأصول ، بعد أن نشرت له قصائد قيمة في الصحف النجفية. أولاده : أمين ، كاظم ، صادق ، الدكتور حسين ، الشيخ حسن ، الشيخ علي ، الشيخ محمد ، محمد رضا.

له : ديوان شعر ، كتابات وحواشي في الفقه والأصول ، مدارك العروة الوثقى ، منظومة في فروع العلم الإجمالي (١).

وقال عنه الشيخ المؤرخ الكبير : شيخ آقا بزرك الطهراني في طبقات أعلام الشيعة :

هو الشيخ محمد تقي ابن الشيخ عبد الرسول ابن الشيخ شريف ابن الشيخ عبد الحسين ابن الشيخ محمد حسن مؤلف : (الجواهر) : عالم أديب.

«آل الجواهري» من أسر العلم والزعامة في النجف نبغ فيها جماعة من الفقهاء الفطاحل والشعراء العباقرة والزعماء الدينيين ، يأتي ذكر كلّ منهم في محلّه إن شاء الله تعالى ، ولد المترجم له في النجف (٢٥ / ١ : ١٣٤١) فأخذ الأوليات وقرأ السطوح على بعض الأعلام والأفاضل وحضر على والده وعلى السيّد أبي القاسم الخوئي والشيخ الميرزا باقر الزنجاني وغيرهم ، وقرض الشعر فأجاد فيه وله آثار علمية وأدبية منها «غاية المأمول» في علم الأصول و «مدارك العروة الوثقى» ومنظومة في فروع العلم الإجمالي ، وديوان شعر صغير سمّاه «درر الجواهر» ووالده من علماء النجف ، يأتي ذكره وقد صلّى في مسجد جدّه صاحب الجواهر رحمه‌الله يوم وفاة والده المقدّس سنة (١٣٨٧) (٢).

__________________

(١) معجم رجال الفكر والأدب في النجف ١ : ٣٧٤.

(٢) طبقات أعلام الشيعة ، نقباء البشر في القرن الرابع عشر ١ : ٢٥٩.


وقد قال عنه الحاج حسين الشاكري :

«على رغم قلّة التشرف بخدمته إلّا في مناسبات نادرة ، ولكنّي أعرف الكثير عن متانة خلقه وعلمه الجمّ ومركزه الاجتماعي وأدبه وجرأته في كلام الحقّ ولو كان مرّا ، وتصدّى لرموز الضلال والانحراف وطغاة أرباب الأفكار المسمومة الوافدة ، سواء كان في المدّ الأحمر ، وهذه الفئة الضالّة المضلّة المجرمة (يقصد حزب البعث العميل الكافر) ، ممّا حملهم على التخطيط لاختطافه وإيداعه في غياهب السجون وظلم المطامير كساداته من الأئمة الطاهرين وذلك في سنة (١٩٧٩ م).

تحقّقت شهادة آية الله الشيخ محمد تقي الجواهري والأستاذ شفيق ابن العلّامة الشيخ محمد حسن الجواهري وبعض المؤمنين شيبا وشبّانا من أسرتهما بعد سقوط حكم صدام التكريتي وزمرته الكافرة حين اكتشفت مقابر جماعية سنة (١٤٢٤ ه‍ ـ ٢٠٠٣ م) من الشهداء الأبرار في جميع أنحاء العراق» (١).

وآخر ما وجدناه ممّن كتب عن المؤلف هو ما جاء في كتاب شهداء العلم والفضيلة الصادر من المجمع العالمي لأهل البيت فجاء فيه :

ولد الشهيد آية الله الشيخ محمد تقي الجواهري نجل آية الله الشيخ عبد الرسول في مدينة النجف الأشرف عام (١٣٤٢ ه‍ ، ١٩٢٢ م) واعتقله جلاوزة حزب البعث عام (١٣٩٩ ه‍ ، ١٩٧٩ م) واقتادوه إلى سجون صدام الرهيبة.

جدّه الشيخ عبد الحسين نجل صاحب الجواهر.

ينحدر الشهيد السعيد من أسرة أصيلة ومعروفة بالفضل والأدب والتقوى.

نشأ الشهيد في أحضان والده. وكان الأدب لا يألو جهدا في تربية ولده ؛ فقد بدأ تعليمه في سنّ مبكرة جدّا لما عرف عنه من ذكاء حاد وفطنة.

__________________

(١) ذكرياتي / الأعلام الذين عاصرتهم خلال ستين عاما / القسم الخامس : ٢٣٠.


منزلته العلمية :

ارتقى الشهيد سلّم العلم ، وبلغ في ذلك مراتب متقدمة ، رأى فيه البعض أهليّته للمرجعية بعد السيّد أبي القاسم الخوئي ؛ لسعة علمه وتقواه وما وهبه الله من فضائل أخلاقية.

كانت حلقاته الدراسية التي تعقد في مسجد الجواهري المعروف تكتظ بالتلاميذ وتغص بطلّاب العلم والمعرفة.

وإضافة إلى تضلعه في الفقه والعلوم الحوزوية فقد كان يتمتع بشاعرية فيّاضة ، وله ديوان مليء بالأشعار الجميلة ، اضطرت أسرته بعد اعتقاله إلى إتلافه خوفا من السلطات الظالمة ؛ ذلك أن أشعاره كانت مفعمة بالحماسة وروح المقاومة التي تدعو إلى مواجهة كلّ اشكال الانحراف والفساد.

أساتذته :

تتلمّذ الشهيد السعيد والعالم الرباني على أيدي أساتذة كبار نشير إلى طائفة منهم :

١ ـ والده آية الله الشيخ عبد الرسول الجواهري.

٢ ـ آية الله الميرزا باقر الزنجاني.

٣ ـ آية الله العظمى السيّد الخوئي.

٤ ـ آية الله الشيخ حسين الحلّي.

جهاده :

كان الشهيد السعيد رجلا شجاعا ومجاهدا جريئا لا يخاف في الله لومة لائم ، ولهذا وقف في مواجهة النظام البعثي دفاعا عن حرمة الإسلام.

وبعد اعتقاله من قبل مرتزقة حزب البعث أبناء الصهيونية العالمية ، قام السيّد الخوئي بمساعي حثيثة من أجل إطلاق سراحه.


وفي مقابل إصرار السيّد الخوئي على إطلاق سراحه ، قام النظام بإرسال شريط مسجل بصوت الشهيد جاء فيه : لا يجوز التعاون مع البعثيين ؛ لأنهم أنجس وأقذر من اليهود.

وشعر السيّد الخوئي بالإعجاب لهذا الشهيد الشجاع قائلا : أتعجب من الشيخ الجواهري كيف لا يرهب البعثيين القتلة ولا يخشاهم؟!

وقف الجواهري بكلّ وجوده مساندا للثورة الإسلامية في إيران وقائدها الخميني الراحل رضى الله عنه وكان يؤكد باستمرار على أنّ مساندة الثورة واجب شرعي.

ولشدّة حبّه للإمام الخميني فقد أنشد أبيات أرسلها إلى الإمام الراحل :

أبا المصطفى سدّدت في كلّ خطوة

وحالفك التوفيق في القرب والبعد

غضبت لدين الله ديست أصوله

وبدّل من أحكامه محكم القصد

فيا قامعا للظلم والجور ناصرا

لدين الهدى تملو البسيطة بالرشد

تغيّب عنّا بدر وجهك بازغا

بطهران شمسا بعد ليل الدجى تهدي

هبطت «وروح الله أنت من السماء»

ليملأها عدلا بنصرتك المهدي

استشهاده :

كان النظام البعثي الحاقد ينظر إلى الشهيد السعيد ويرى في وجوده خطرا يهدّد استمراره في الحكم والهيمنة والتحكم بمقدّرات الشعب العراقي ؛ ولهذا قام جلاوزة النظام باعتقاله واقتياده إلى سجون البعث وطواميره المظلمة.

وقد اخفقت وساطة آية الله العظمى السيّد الخوئي في إطلاق سراحه.

وانقطعت أخبار الجواهري منذ ذلك التاريخ. وبعد سقوط نظام حزب البعث المنحط تبيّن أن الشيخ الجواهري قد نال وسام الشهادة على أيدي البعثيين القتلة الجناة.


تغمد الله الشهيد برحمته الواسعة وأسكنه فسيح جنّاته (١).

هذا ما كتبه عنه المؤرخون في حياته وهو ما زال في ريعان شبابه.

أقول : وقد سمعت من علماء كثيرين وصلوا إلى مرتبة الاجتهاد «كالشيخ ميرزا أحمد الدشتي حفظه الله تعالى شارح اللمعة الدمشقية وقد خرج له منها أربعة أجزاء» ثناءهم على الوالد رحمه‌الله بحدّ يصل إلى تسنّم مقام المرجعية لو بقي على قيد الحياة بعد مرجعية السيّد الخوئي قدس‌سره فكانت كلّ صفات المرجع المتّقي المتضلّع موجودة فيه. ولا زالت عبارته ترنّ في أذني إذ قال : لو بقي الشيخ لما وصلت المرجعية لغيره. وكذا قال عميد جامعة النجف الدينية المرحوم السيّد محمد كلانتر المعروف ببعد النظر إلى صهره الأخ الشيخ محمد الجواهري وكان يقسم على ذلك.

وكان رحمه‌الله مما أوصانا به : عدم استلام المال من غير المراجع ومن يرتبط بهم ؛ وذلك لأمرين :

الأول : لا يناسب المعمم المرتبط أن يكون محتاجا إلى غير المراجع ومن يرتبط بهم.

الثاني : خشية أن يكون هذا المال مؤديا إلى انزلاق المعمم فيما لا يرضاه الشارع المقدس أو مقدمة لعمل ينفع صاحب المال من دون تصريح بذلك فيكون المعمم مستأجرا لصاحب المال.

نعم ، استلام الحقوق الشرعية شيء آخر لا ربط له بأخذ المال الذي هو أعم من كونه حقّا شرعيّا ويحتمل أن يكون لمآرب أخرى غير صحيحة.

__________________

(١) شهداء العلم والفضيلة في العراق : ٩٨ ـ ١٠١.


تربيته لأولاده :

كان الشهيد المترجم له رحمه‌الله حريصا أشدّ الحرص على تربية أولاده تربية دينية حوزوية ، وكان يعمل كل ما في وسعه لانخراطهم في نهج الحوزة العلمية الدينية ، حيث كان يؤكد على أن هذا الطريق فيه خير الدنيا وخير الآخرة ، فيحفظ الانسان دينه ودين غيره بالارشاد والتوعية ، وفيه رضا الله تعالى ، وهذه كلها أمور تنفع الانسان في آخرته ، أما سعادته في دنياه : فهي عبارة عن ثقة الناس به واحترامهم له باعتباره ملتزما بما التزمه على نفسه من العلم والتقوى في سلوكه.

وكان رحمه‌الله يعدّ العدّة لهذا الأمر ، فكان يصحب أولاده في مقتبل عمرهم معه إلى مدرسة الخليلي الدينية ، وإلى الصحن الحيدري الشريف ، وإلى درس السيّد الخوئي ، وإلى مجالس التعزية والمناسبات الدينية بغية تمهيدهم للأمر الذي يريده منهم.

وعند ما لم تكن ظروف الانخراط في نهج الحوزة ـ في ذلك الجوّ البعيد عن العلم والتقوى ـ مواتية ، وكانت ظروف طالب العلم تعيسة بالنسبة للموظف عند الحكومة ، آثر الأخ الأكبر الأستاذ محمد أمين ـ حفظه الله ـ الدخول في جامعة بغداد ونهج منهج الموظفين بعد ذلك ، وحينئذ ما كان من الشيخ الشهيد رحمه‌الله إلّا أن يسلك معه سلوكا آخر للحفاظ على دين هذا الولد الذي سيغادر مجتمع النجف ويندمج في مجتمع بغداد الذي هو يختلف عن المحيط الديني العلمي النجفي ، فكان قد أوصاه بهاتين الوصيتين :

١ ـ قراءة صفحة من القرآن الكريم بعد صلاة الصبح.

٢ ـ صلاة الوتيرة بعد صلاة العشاء.

ثمّ قدّم له خاتمه العقيق.

وكانت هاتان الوصيتان بمثابة الالتزام بالمستحبات فضلا عن الواجبات. ثمّ حرص الشيخ الشهيد على دخول ولديه (الشيخ حسن والشيخ علي) كلّية الفقه


بعد إنهاء مرحلة الإعدادية رغم حضورهم الدروس الدينية في مساجد النجف الأشرف وحضور مجالس الوعظ والإرشاد في الصحن الحيدري الشريف لتوسعة معارفهم الدينية التقليدية ، وهكذا كان ، فتمكن أن يغرس في نفسيهما محبة مواصلة الدروس العلمية الدينية وحضور المناسبات الاسلامية.

وبعد الانتهاء من كلية الفقه ، حصلت لنا فرصة لمقايسة الدراسات العالية في النجف الأشرف المتمثلة بدروس السيّد الخوئي قدس‌سره ودروس الشهيد الوالد رحمه‌الله ودروس الشهيد الصدر قدس‌سره ، والدراسات المتمثلة في دراسة الماجستير حيث اطلعنا على تفاهة دراسة الماجستير حيث كانت لا تتجاوز نقل الأقوال والاطلاع على التراث الفقهي والأصولي ليس إلّا ، فآثرنا الدراسة العالية في النجف الأشرف على دراسة الماجستير في علوم الشريعة في بغداد ، فحصلت الرغبة الاكيدة للالتحاق بالحوزة العلمية ، وقد قوبلت هذه الرغبة بمباركة السيّد الحكيم قدس‌سره والسيّد الخوئي قدس‌سره وكبار شخصيات الأسرة الكريمة ، وحصل الأمر الذي كان يعدّ له الشيخ الشهيد رحمه‌الله ولكن برغبة منّا.

وكان رحمه‌الله مما سلكه لمراقبة أولاده لعدم الانضمام إلى الأحزاب المنحرفة ، أن وظّف أحد الأفراد لمراقبة أولاده يوميّا في ذلك الجوّ البعيد نوعا ما عن خطّ الالتزام الديني ، وكان يحاسب أولاده عند ما يخبر عن سلوك مشبوه قد سلكه بعضهم ، فيحاول أن يردّه إلى الطريق الصحيح ، فيتابع الأمر بنفسه أو بمساعدة آخرين لا يعرفهم الأولاد حتى يطمئن إلى نبذ ذلك الطريق نبذا تامّا.

الاعتماد على النفس والاقتصاد في المعيشة :

كان رحمه‌الله يقتصد في المعيشة فيحاول جهد إمكانه أن يصرف ما يصل إليه من شهرية العلماء ويقسّمها على الشهر بحيث لا يحتاج إلى الاستدانة من أحد ، وكان رحمه‌الله يحاول محاولات متعددة لاعتماد أولاده على أنفسهم في المعيشة والاقتصاد فيها ،


فكان يحاول أن ينظم أمور أولاده ، فمما قاله لي ذات مرّة ونحن في طريقنا إلى حيّ الحنانة : إن راتبك الشهري خمسة عشر دينارا ، فإذا نصفته نصفين كان لكل يوم من الشهر مقدار نصف دينار (أي عشرة دراهم) فقال لي : حاول أن لا تصرف في اليوم الواحد أكثر من نصف دينار على غذائك.

ولكن قائد السيارة تدخل في الأمر وقال : يا شيخ كيف يمكن أن يقتصر الانسان على نصف دينار في اليوم مع أن حقّة (١) الرقّي بثمانية دراهم؟!

فأجابه الشيخ قائلا : ليس من الواجب أن يأكل الرقيّ إذا كان سعره مرتفعا ، فليأكل الخيار ، فإنّ الرقّي يحتاج إليه الانسان للبرودة ، والخيار أيضا يستعمل للبرودة ، وسعر كيلو الخيار ثلاثين فلسا ، فما هي الضرورة لاستعمال الرقّي؟

وعند ما سمع قائد السيارة هذا الجواب ، قال : هذا صحيح يا عمي ولكن النفس دنيئة تحتاج إلى الرقّي.

فأجابه قائلا : نعم سوف نأكل الرقّي عند ما تكون قيمة الحقّة خمسين فلسا.

أعماله الحسينية :

كان رحمه‌الله يواظب على المجالس الحسينية حضورا ويشجّع عليها ، ويطلب من الخطباء التعرض للوعظ والارشاد في ضمن تعرضهم لمصائب سيد الشهداء ومصائب أهل البيت عليهم‌السلام.

وكانت من سيرته التي كنّا نشاهدها : اخراج درهمين من كل دينار «يصل إليه لمعيشته» للحسين عليه‌السلام ، وعند ما يقترب شهر محرم الحرام يستخرج هذه الأموال ويقسّمها على أهله ومحبيه لشراء السواد ولبسه حزنا على سيد الشهداء كشعار عرفته الشيعة بعد واقعة كربلاء.

__________________

(١) الحقّة : تساوي أربعة كيلوات.


وبالمناسبة ، كان حزب البعث الكافر يمنع أي شعار على سيد الشهداء حتى لبس السواد حتى للأجانب الذين يزورون العراق في شهري محرم وصفر ، فقد كان لنا اصدقاء لبنانيون يسكنون استراليا ، وقد وردوا العراق أيام حكم الطاغية «صدّام» وكانوا يلبسون القمصان السوداء حزنا على سيد الشهداء ، فتعرض لهم أزلام النظام وأعلموهم أن لبس القميص الأسود ممنوع في العراق ، فاضطر هؤلاء الأجانب إلى خلع ملابسهم السوداء حين وجودهم في العراق.

وكان الشهيد رحمه‌الله يعقد بعض المجالس في البيت مع أهله وذويه ، ويقرأ التعزية ، لهم بنفسه. وكان مواظبا على صنع الشربت في مجلس صاحب الجواهر «الذي يعقد في مسجد صاحب الجواهر قدس‌سره في اليوم السابع».

وفي اليوم الثالث عشر عند ما يأتي الموكب الذي يمثّل مجيء قبيلة بني أسد لدفن الحسين عليه‌السلام وأصحابه ، ويمرّ ذلك الموكب على حيّ الحنانة متّجها إلى الصحن الشريف كان يوزّع الماء والشربت بنفسه عند ما يمرّ الموكب على البيت الواقع في حيّ الحنانة.

وكان رحمه‌الله يقرأ المقتل في اليوم العاشر بنفسه في مجلس شيخ الطائفة صاحب الجواهر قدس‌سره وكان الحضور لهذا المجلس من أهل الفضل والعلم ، وقد كنّا نراه ليلة العاشر يقرأ المقتل في البيت تمهيدا لقراءته يوم العاشر وهو ينتحب ويجهش بالبكاء رحمة الله عليه.

احترامه للمراجع :

وأما ما لاحظناه عنه في حياته أيضا ، فقد كان يحترم أهل العلم الطلبة فضلا عن العلماء ، مساندا للمرجعية الدينية مقوّيا لها ، فقد كان ممّن يقدّس السيّد الحكيم ويؤيده ويدعم السيّد الخوئي أيام مرجعيته ، فقد كان يحضر درس


السيّد الخوئي فقها وأصولا رغم استغنائه وبلوغه مرحلة الاجتهاد ، وكان مورد انتقاد من يرى ذلك لا يناسب مكانة الشيخ ، إلّا أنه كان يردّ عليه قائلا حضوري في درس المرجع فيه فائدة تأييد المرجعية.

وفي قبال ذلك فقد كان السيّد الخوئي قدس‌سره يحترم الشيخ أشدّ الاحترام فكنّا نرى أنّه لا يجيب أحدا إذا تكلّم في درسه الأصولي أو الفقهي إلّا الشيخ الذي كان يجلس إلى جنب منبره ، فإذا أشكل عليه أو تكلّم معه ، فإنه يجيبه على إشكاله ، وفي مرات متعددة كان يتراجع السيّد الخوئي في اليوم الآخر عمّا قاله نتيجة استشكال الشيخ في درسه كما كنّا نشاهد ذلك أيام حضورنا درس السيّد الخوئي في بحث الصوم.

وكان إذا رأى السيّد الحكيم في الطريق ينكبّ عليه فيقبّل يده ، وكذا كانت سيرته مع أستاذه السيّد الخوئي ، وكان يقول : نقبّل أياديهم أمام الناس ليعرف الناس مكانة المرجع والعالم حينما يروننا هكذا نتعامل معهم ونحن من يعرفون.

قضاء حاجات الناس :

كثيرا ما كان يهتم بقضاء حاجات الناس الذين يطلبون منه قضاء حاجاتهم ، فقد رأيناه المستجيب لكل من يطلب منه قضاء حاجته إما مباشرة أو بتوسّطه لمن يتمكن من قضائها ، سواء كانوا من أهل العلم أو من غيرهم وهنا قصّة في الموضوع أخبرنا بها السيّد الفاضل الحجّة الكبير السيّد طالب الرفاعي ، حيث رواها لنا أكثر من مرّة في قم المقدّسة ، وفي مشهد الإمام الرضا بصحبة السيّد عبد الكريم القزويني ـ حفظه الله تعالى ـ حيث قال السيّد الرفاعي : في يوم من الأيام ونحن في حلقة الدرس إذ قال الشيخ : وردتني رسالة من الأردن يطلب فيها صاحبها قضاء حاجته عند الدولة العراقية في ذلك الوقت ، وقد كان الشيخ يفكر في كيفية ذلك.

يقول السيّد الرفاعي فقلت له : يا شيخنا هل تعرف صاحب الرسالة؟ فقال : لا أعرفه. فقلت له : هل هو على طريقتك في نهج الحياة؟ فقال : لا أدري ، فقلت له :


اتركها ولا تفكّر في قضاء حاجة صاحبها ما دام الأمر كذلك. فقال : وكيف ذلك؟ إنه قد قصدني بحاجته ولا بدّ من السعي لتحقيقها.

يقول السيّد الرفاعي : فقلت له : فما العمل؟

فقال الشيخ : تذهب إلى بغداد لأجل قضاء حاجته.

يقول السيّد الرفاعي : فيممت راحلتي نحو بغداد كما أمر الشيخ حيث لا يمكن مخالفته وذهبت إلى بيت رئيس عشيرة في بغداد ، وقلت له : هيّئ لي سيارة غدا تأخذني إلى المكان المعين لحاجة هناك ، فقال رئيس العشيرة : أنا بخدمتك مع سيارتي ، وفعلا ذهبنا إلى المكان المعين وأنجزنا ما أراده صاحب الرسالة ، ورجعنا إلى النجف وأخبرنا الشيخ بذلك ، فحينئذ كتب الشيخ رسالة جوابية لصاحب الرسالة في قضاء حاجته عند الحكومة العراقية.

اهتمامه بأهل العلم :

كان يهتم ويعتني ويعمل كلّ ما في وسعه بأهل العلم ، حيث كان يحترمهم ويقدّرهم ويساعدهم ويراقبهم في تصرفاتهم ، ويرشدهم وينصحهم في ملبسهم وسيرتهم وسلوكهم ، فقد كان كثيرا ما يراقب الطلبة اللبنانيين في ملابسهم وينصحهم بأن تكون ملابسهم مناسبة للطالب الروحاني بعيدا عمّا لا يناسب أهل العلم في ذلك الزمان.

إذ كان يقول : إن الطالب الروحاني هو قدوة يقتدي به الناس فلا يجوز له أن يلبس من الملابس ما فيه نقص أو عيب أو لمز وهمز على أهل العلم ، ولا يجوز له أن يكون مظهره الخارجي مخالفا لتوجهات طلّاب العلوم الدينية.

وكان حريصا أشد الحرص على أن تدوم سلسلة أهل العلم في أسرته (أسرة صاحب الجواهر) فكان يرغّب ويشوّق أفراد الأسرة النابهين في الانخراط في سلك الحوزة في جوّ كان العزوف عن سلك الحوزة هو الرائج ؛ لما تعانيه الحوزة العلمية من قلّة الموارد وضنك المعيشة نسبة إلى الموظّفين في ذلك الوقت وأهل العمل الحرّ.


وقد كان رحمه‌الله يعاني من مرض الفتق لمدّة مديدة وكان ممتنعا من اجراء العملية له رغم الآلام التي كان يعانيها من ذلك المرض حتى وفق الله كاتب هذه السطور إلى الانخراط في سلك الحوزة العلمية النجفية فلبس زيّ أهل العلم في سنة (١٣٨٧ هجري قمري) وهي سنة وفاة آية الله العظمى الشيخ عبد الرسول الجواهري (والد المترجم له).

وبعد هذا الحدث : اتجه الشيخ المترجم له مع ولده الشيخ حسن بعد تلبّسه بزيّ أهل العلم وتخصّصه للدراسة الحوزوية (بعد إنهاء الدراسة الأكاديمية في كلية الفقه سنة ١٩٦٩ ـ ١٩٧٠ م) إلى بغداد ، فقال الشيخ لولده : الآن يهون عليّ الموت ، لأنّني اطمأننت بأن طريقي يشغله ابن لي ، وقد كنت متيقنا بأن سريرة صاحب الجواهر قدس‌سره الطاهرة لا تدع انقطاع سلسلة أهل العلم في الأسرة ، ولكن الآن تحقق هذا اليقين بانخراطك في هذا الطريق ، فالآن أقدم على إجراء العملية ولا يهمّني ما إذا توفيت تحت العملية ؛ لأن هناك من يديم طريق أهل العلم في أولادي وأسرة الشيخ صاحب الجواهر.

وفعلا : فقد أجريت العملية ، وكانت عملية شاقة طويلة ، نتيجة إهماله للمرض لمدّة أكثر من عشرين سنة كان يعاني من آلام الفتق ولا يقدم على العملية.

ثمّ رغب الشيخ محمد (حفظه الله) بتحريض من والده وتشويق وهو ابن المترجم له في الانخراط في طريق أهل العلم فامتثل لذلك. ثم وفق الله الشيخ علي (حفظه الله) إلى الاقتداء باخويهما ثمّ لحقه بعد ذلك الشيخ كاظم في مدينة الهجرة قم المقدسة.

وكان من نعم الله على الأسرة الكريمة استجابة بعض أفرادها النابهين لهذا الطريق الطاهر ، فانتسب إلى الحوزة أولادنا الكرام ، وهم أولاد الكاتب (الشيخ محمد جواد والشيخ محمد مهدي) وأولاد الشيخ محمد وهم (الشيخ محمد


حسن والشيخ مهدي والشيخ عبد الرسول) وابن الأخ صادق وهو الشيخ جعفر حفظه الله تعالى.

كما أن من نعم الله علينا أن استجاب الأستاذ الكبير الشيخ ضياء حفظه الله تعالى ابن آية الله الشيخ محمد حسن إلى الانخراط في هذا الطريق اللاحب ، كما استجاب لهذا الطريق الشيخ كاظم ابن آية الله الشيخ محمد حسن أيضا ، وكذلك ولدي الشيخ ضياء (الشيخ فرقد والشيخ علي) حفظهما الله تعالى وكان من نعم الله علينا أن التحق بهذا الرعيل المهتدي الشيخ إحسان ابن محمد ابن الشيخ محسن كثّر الله من أمثالهم في هذه الأسرة الكريمة.

فكان كما اعتقد بذلك الشيخ المترجم له وتنبّأ به حيث قال : إن سريرة الشيخ صاحب الجواهر وإخلاصه مع الله تعالى تأبى أن تنقطع سلسلة أهل العلم في أسرته.

جدّه واجتهاده :

كان المترجم له مثالا للجدّ في دراساته الحوزوية حيث لم يغب عن درس أساتذته ولا يوما واحدا كما كان يحدّثنا بذلك مرارا ، وقد كان مكبّا على دروسه من أول طلوع الفجر وحتى الظهر وبعد الظهر وفي الليل ، حيث كان يحضر بحث أستاذه السيّد الخوئي في جامع الخضراء ، ومما قاله لنا : إنه لم يغب عن درس أستاذه الخوئي ولا يوما واحدا ، وكان قد كتب تقريرات بحث أستاذه في دورته الأولى بأكملها ثمّ حضر دورته الثانية ، وقد كان يكتب الفروق بين الدورتين كما شاهدنا في تقريرات درس أستاذه التي هي بين يديك الفروق بين الدورتين السابقتين والدورة الثالثة والرابعة ، وهذا مما يؤكد عدم انقطاعه عن الدروس العلمية حتى بعد استغنائه عنها وكتابتها.

وقد ذكر لي الشيخ محسن الأراكي حفظه الله تعالى حيث حضر درس المترجم له في المكاسب في النجف الأشرف فقال : أنّ الشيخ رحمه‌الله عند ما بدأ بتدريسنا مكاسب


الشيخ الأنصاري ذكر أنّ هذه الدورة هي الدورة الثلاثين لتدريس المكاسب ، وهذا أمر غريب عند من يعرف أن دورة المكاسب تستغرق سنتين على أقل تقدير ، فكيف تكون هذه الدورة الثلاثين ولم يتجاوز عمر المترجم له في تلك الدورة العشرة الخامسة من عمره الشريف؟!

أقول : من المحتمل قويا أن يكون للشيخ في اليوم الواحد درسان في المكاسب إضافة إلى دروسه الأخرى.

وقد كان مدرّسا بارزا في جامعة النجف الدينية التي أسسها سماحة الحاج محمد تقي اتفاق وكان عميدها السيّد محمد كلانتر ، فكان ملازما للتدريس هناك عصرا وبعد انتهاء درسيه فيها كان يعود إلى مسجد صاحب الجواهر لإقامة صلاة الجماعة هناك ، ولم يتخلف عن التدريس فيها ولا يوما واحدا.

عمله الاجتماعي :

١ ـ عند ما انتقل المترجم له إلى حيّ الحنانة بعد أن بنى له بيتا هناك وكان والده يقيم الجماعة في جامع الشيخ صاحب الجواهر قدس‌سره كان يؤم جامع الحنانة لأداء الصلاة فيه منفردا ، وعند ما شاهده بعض الساكنين هناك وبعض الفلاحين الذين يرتادون جامع الحنانة أخذوا في الائتمام به في الصلاة فتكونت صلاة جماعة في ذلك الجامع.

وبعد رحيل والد المترجم له (آية الله الشيخ عبد الرسول صاحب الجواهر) إلى الرفيق الأعلى انتقل المترجم له إلى جامع صاحب الجواهر ليؤم الناس هناك.

٢ ـ وكان رحمه‌الله قد اقترح على أهالي حيّ الحنانة أن تحيى ليالي شهر رمضان بمجالس دينية يقرأ فيها التعزية مع النصائح والإرشادات تدور في البيوت كل ليلة في بيت أحد المؤمنين ، حيث لم يكن من المقدور في ذلك الزمان التبليغ بأكثر من هذا الأمر ، فكانت تدار تلك المجالس بأحسن وجه ، وكان هو ممّن يدعو إلى حضور هذه المجالس ويشجع عليها ، وكان لها الأثر الفعّال في هداية كثير من الشباب في


ذلك الوقت. كما كان يلاحظ الخطباء الذين يسمعون كلامه ويحثهم على عدم الاقتصار على ذكر المصيبة ، ويطلب منهم أن يتعرضوا إلى الوعظ والإرشاد وبيان الأحكام وتقوية عقائد المؤمنين حتى كان يطلب من الخطيب الشيخ صالح الدجيلي رحمه‌الله أن يقوم بهذا الدور في عشرة محرم الحرام التي كانت مخصصة لمسيرة قدوم الحسين من مكة إلى كربلاء والاقتصار على المصيبة فقط ، وكان الشيخ الدجيلي رحمه‌الله يستجيب لذلك ويصرح بطلب الشيخ منه ذلك ليدفع عن نفسه انتقاد المنتقدين في ذلك الوقت.

٣ ـ كان رحمه‌الله يهتم بأمر التبليغ ، فقد رأيناه يمنح بعض طلبته عند ما يغادرون النجف الأشرف للإرشاد والتبليغ كتابا ، يحثّ فيه المؤمنين على الالتفاف حول العالم المغادر مدينة العلم للارشاد والتبليغ في بلده أو في بلد آخر ، وكنموذج على هذا العمل ما كتبه لأحد العلماء وهذا نصّه :

بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف خليقته في بريته محمد وآله الطاهرين.

وبعد : فلا يخفى على كافة اخواننا المؤمنين وفقهم الله لخير الدارين : أن جناب العلّامة المجاهد الشيخ جعفر الصائغ العاملي سلّمه الله تعالى قد صرف مدّة مديدة من عمره في تحصيل العلوم الدينية في النجف الأشرف التي هي الجامعة العظمى للعلوم الدينية الاسلامية حتى نال مكانه مرموقة سامية في ذلك.

ولمّا سافر إلى لبنان وجد الدعايات الضالة المضلّة قد ضربت بجرانها على تلك البلاد الوادعة الهادئة ، وهي وإن اختلفت في الأساليب والطرق إلّا أن لها هدفا واحدا تشترك فيه ، وهو القضاء على الدين الإسلامي الحنيف ، وهذا هو أسلوب المستعمر الذي لم يجد طريقا يقضي فيه على المسلمين ومثلهم العليا إلّا بهذه الأساليب الخدّاعة.


فعلى المسلمين أن يتيقظوا ويلتفتوا إلى ما يريده بهم المستعمر الخدّاع ، ولذلك رأى الشيخ جعفرزاده الله بصيرة : من أهم الفروض عليه أن يخلق جيلا مثقفا بالثقافة الاسلامية الصحيحة ليقف في وجه هذا التيار الجارف والسيل المتفجر ولا ريب أن هذه الخطوة الجبارة منه أيده الله تستدعي أن يشيّد مدرسة دينيّة على غرار مدارس النجف الأشرف يدرس فيها مميّزات الدين الإسلامي وخصائصه والفقه الجعفري ليقوم خريجها ببث المبادئ الإسلامية الصحيحة في المدارس الرسمية والأهلية في لبنان وغيرها ، وهذا المجهود العظيم يستدعي أن يوازره عليه كل غيور على الدين من أهل الورع والتقوى والصلاح ، ولا ريب أن مساعدته هذه من أهم القربات والعبادات ومن أرجح الراجحات ، فرجاؤنا من اخواننا المؤمنين وفقهم الله تعالى أن يساعدوه في مشروعه هذا بكل ما يستطيعون من الحقوق الشرعية المنطبقة على هذه المشاريع الخيرية ونسأل الله أن يأخذ بساعده وأن يشدّ أزره فإنه ولي التوفيق. وما توفيقي إلّا بالله عليه توكلت وإليه أنيب والسلام عليه وعليهم ورحمة الله وبركاته.

محمد تقي الجواهري

٤ ـ كان رحمه‌الله ممتحنا للطلبة الذين يريدون الحصول على راتب المرجع الديني الأعلى السيّد الخوئي قدس‌سره فقد كان هو أحد أربعة من الأعلام :

الأول : هو آية الله الشيخ ملّا صدرا البادكوبي.

الثاني : هو آية الله الشيخ مجتبى اللنكراني.

الثالث : هو آية الله الشيخ محمد علي المدرس الأفغاني.

الرابع : المترجم له.

واتذكر أن الوالد (المترجم له) قد دعاني للامتحان في ذلك المجمع ، فجئت يوم الجمعة ، وقد عيّنوا لي موقعا من كتاب الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية لمطالعته هناك والامتحان به ، فذهبت إلى الغرفة المجاورة وكتبت المطلب بانشائي


الخاص وطعمته بابيات شعر تناسب الموضوع وجئت به إليهم ، فقرأ والدي رحمه‌الله المطلب المكتوب ، فقال الشيخ مجتبى رحمه‌الله : إن كتابة المطلب تدلّ على فهم الموضوع فهما كاملا فلا حاجة إلى الامتحان ، ولكن الوالد رحمه‌الله قال لي وبصوت عال : اجلس واقرأ المطلب ، فما أن قرأت شيئا من المطلب المعيّن لي حتى سألني في النحو ، فأجبته ، ثمّ قرأت قليلا حتى سألني في الأصول ، فأجبته. ثم قرأت فسألني في المنطق لمناسبة طرأت في البحث ، فأجبته ، وهكذا أخذ يسأل من خارج الكتاب وأجيبه على أسئلته حتى قال الشيخ مجتبى اللنكراني رحمه‌الله : «إنما الشبل من الأسد» وهكذا تمّ الامتحان ، وقد أخبرني الوالد رحمه‌الله بعد ذلك أن نتائج الامتحان وكتابتي للمطلب عند ما ذهبت إلى السيّد الخوئي قدس‌سره قرر أن يدفع لي راتبا مضاعفا كجائزة على الدرجة الرفيعة التي نلناها في الامتحان.

أقول : هذه العملية ، إن دلّت على شيء فإنما تدلّ على عدم تفرقته بين من ينتسب إليه ومن لا ينتسب ، فكلهم خاضع للامتحان ولا يحابى شخص على آخر وإن كان ممن ينتسب إليه بالبنوّة.

٥ ـ بعد رحيل السيّد الحكيم قدس‌سره وقيام السيّد الخوئي قدس‌سره باعباء المرجعية ، ضغطت السلطة البعثيّة على الشعائر الحسينية فمنعت المواكب الحسينية من الخروج والمشاعل من الانطلاق في ليلة الثامن والتاسع والعاشر ، وكانت عادة النجف خروج المشاعل في موكب مهيب يعيد للمسلمين ذكرى حرق خيام سيد الشهداء ، وكان موكبا يحضره الشيعة من كل أقطار العراق ، فما كان من السيّد عبد الرضا الشخص «وهو ابن المرجع الديني السيد باقر الشخص وكان تلميذا للمترجم له» إلّا أن يتصل بالوالد رحمه‌الله ويطلب منه التدخل لكفالة الموكب حتى تعود الأمور لمجاريها الطبيعية ، وقد ضمن للوالد وأخبره بأن قائم مقام النجف ومدير الأمن يوافقون على ذلك حلّا للأزمة بين الحكومة والمواكب الحسينية الثائرة ، حيث كانا يتخوّفان من نشوب عصيان نجفي يتبعه عصيان عراقي بعد ذلك.


ولكن الشيخ رحمه‌الله أبى التدخّل في ذلك الأمر وذلك لأمرين :

الأول : لأن السيّد الخوئي موجود ، وهو زعيم الحوزة والمرجع في ذلك الوقت ، فهو المسئول عن كل ما هو مرتبط بأمر الدين والمواكب الحسينية.

الثاني : أن الشيخ رحمه‌الله كان يخشى من هذا التدخل (حتى وإن أذن به السيّد الخوئي) أن يكون عملية خداع من الدولة لضرب المواكب الحسينية واعتقال رؤسائها بعد تسجيلهم ومعرفتهم بالتفصيل ، وسيكون هو المسئول عن ذلك ، فإنّ حزب البعث علّمنا كيف لا يفي بعهوده ومقرراته التي يقطعها للعلماء وغيرهم.

٦ ـ ومن أعماله العلمية حضوره المجلس الخاص الذي كان يعقده السيد الخوئي قدس‌سره في بيته ، وهو مجلس الاستفتاء الخاص الذي يعقده عند عروض بعض الاستفتاءات العويصة للمباحثة مع جمع من تلامذته لحلّها ، وهذا ما سمعناه منه مشافهة ، وقد أكّده آية الله العظمى الشيخ الوحيد الخراساني ، حيث ذكر لي ان سماحة الوالد الشهيد كان يحضر معهم هذا المجلس الخاص الذي يضم جمعا من أفاضل طلاب السيّد الخوئي ومنهم أيضا آية الله العظمى الميرزا جواد التبريزي الذي سمعت منه هذا الأمر أيضا.

وقد ذكر لنا ذات مرّة ان السيّد الخوئي قد دعاهم إلى بيته في الكوفة وعرض عليهم سؤالا قد ورده ، مفاده ان أهل السنّة الذين لا يأتون بطواف النساء بعد أعمال الحج ، كيف يتعامل مع أولادهم ، فهل هم ابناء غير شرعيين باعتبار حرمة النساء عليهم ما لم يأتوا بطواف النساء أو هم أولاد شرعيون؟

فقال الشهيد رحمه‌الله : وكان الجواب المتفق عليه هو : أن أهل السنّة يأتون بطواف الوداع الذي يعتبرونه سنّة مؤكّدة ، وتوجد روايات عن أهل البيت مفادها أن طواف الوداع يقوم مقام طواف النساء ، لذا فإنّ أولادهم شرعيون إذا جاءوا بطواف الوداع بعد اعمال الحج.


إخلاصه للمرجعية الدينية وللثورة المباركة :

بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران بقيادة السيّد الإمام الخميني رحمه‌الله كان المترجم له من المدافعين عن هذه الثورة المباركة في دواوين النجف الأشرف ضدّ من كان ينبزها بأنها تحرّك من خارج حدود إيران ويربطها بالاستعمار فكان مما يقول ويصرح به : إن هذه ثورة قام بها مرجع من مراجع الدين ولا بدّ من تأييد هذا المرجع في عمله السياسي ولا يجوز مخالفته ، وكان هذا بمثابة الطعنة الواضحة لنظام البعث الذي اعتبر نفسه معاديا للثورة في إيران وكان مما كتبه لنا (ونحن في قم) أبيات شعر تنبئ عن هذا الأمر وأمر بقراءتها على السيّد الإمام رحمه‌الله ، فما كان مني إلّا أن ذهبت إلى بيت الإمام في قم ودخلت عليه ولكن كان الجوّ غير مساعد لقراءة هذه الأبيات عليه حيث كان آباء وأمهات الشهداء يصرخون بالبكاء عند ما يدخلون على السيد الإمام ومشاهدته ، وكان هو كالأسد الرابض في عرينه ينظر إليهم ويسليهم ويدعو لهم بالتوفيق والتسديد ولكن عند ما شاهدت السيّد حسين ابن المرحوم السيد مصطفى الخميني وقلت له الأمر الذي امرني به والدي فقال لي : اعطني أبيات الشعر وأنا أقرأها على السيد الإمام عند ما يدخل إلى داخل البيت حيث يكون الجوّ مناسبا لذلك وهكذا فعلت.

وأما الأبيات فهي :

أبا المصطفى سدّدت في كلّ خطوة

وحالفك التوفيق في القرب والبعد

غضبت لدين الله ديست أصوله

وبدّل من أحكامه محكم القصد

فيا قامعا للظلم والجور ناصرا

لدين الهدى تملو البسيطة بالرشد

تغيّب عنّا بدر وجهك بازغا

بطهران شمسا بعد ليل الدجى تهدي (١)

هبطت ـ وروح الله ـ أنت من السماء

ليملأها عدلا بنصرتك المهدي

__________________

(١) يشير إلى أن السيّد الإمام غادر النجف وذهب إلى نوفل لوشاتو ثم دخل طهران وأحدث الانقلاب الكبير فيها.


صراحته :

كان المترجم له رحمه‌الله لا يهادن ولا يجامل ، بل كان مصارحا لإخوانه وأساتذته ، فكان هذا المسلك الذي يسلكه قد قلل من أصحابه وأصدقائه ، وقد ذكر لنا بعضا من هذه الصراحات نذكر بعضها :

١ ـ ذكر لنا في ذات مرّة أن شاهد أحد أبناء المراجع وهو يضرب بيده ويركل برجله شخصا في وسط الطريق ، وقد تأثر المترجم له لذلك المنظر فنهاه ونهره عن عمله هذا ولم يكتف بذلك بل أنبه على عمله فكان جوابه : انه يزاحمني في طلباته الكثيرة المتكررة ويحتال عليّ في أموره ، ولم يكتف الشيخ الوالد بعمله هذا بل أوصل الأمر إلى ذلك المرجع الكبير فما كان من السيّد المرجع إلّا أن أرسل على ولده وأنبه على عمله ونهره عن ذلك ، ثمّ قال الوالد : إن السيّد المرجع قال لي : يا شيخنا أنت لم تبتل بهؤلاء الأشخاص ، وسوف يطول بك العمر فتبتلي بهم.

٢ ـ ذكر لنا الشيخ الوالد ذات مرّة فقال : زرت ديوان السيّد الحكيم فوجدت بعض الحضار ممن لم يكونوا محسوبين على جهاز السيّد الحكيم ينالون ويغتابون بعض المؤمنين فنهيتهم عن ذلك العمل ، ثمّ ذهبت إلى السيد الحكيم وأخبرته بما يجري في ديوانهم ، فما كان من السيّد الحكيم إلّا أن أمر بتعطيل الديوان.

وعند ما سمع السيّد محمد رضا (نجل السيد الحكيم) أن والده أمر بتعطيل الديوان سأل عن السبب فقالوا له إن الشيخ محمد تقي تكلم معه بكلام فأمر بغلق الديوان بعد ذلك ولا نعلم ما ذا قال له.

فما كان من السيّد محمد رضا إلّا أن ذهب إلى بيت الشيخ الجواهري ليسأله عن سبب أمر السيد باغلاق الديوان ، فما كان من الشيخ إلّا أن أجابه فقال له : إن ديوان السيّد هو بيت الأمة ، ويجب أن يكون على مستوى من النزاهة والالتزامات الشرعية فما معنى أن يتعدّى على فلان وفلان بالاستغابة والتوهين ،


فأنا أخبرت السيّد بذلك ، فإذا اعطيتموني عهدا بعدم السماح لامثال هؤلاء باستغابة الناس فسوف اطلب من السيّد فتح الديوان ، وهكذا كان.

٣ ـ اخبرنا ذات مرّة ونحن على مائدة الطعام ظهرا في نهار من أشهر الصيف ، فقال : إنّ السيد الخوئي سألني «في زمان حياة السيّد الحكيم» ، فقال : من هو الأعلم بنظرك؟

يقول الشيخ الوالد : فقلت له على الفور : السيد الحكيم هو أفقه منك.

فقال السيّد الخوئي : وكيف تصارحني بذلك.

يقول الشيخ الوالد : فقلت له أنا أصارحك بما أعلم وبما اعتقد ولو كنت تتأذى من مصارحتي لك بما أعلم واعتقد فسوف لن أكون من أصحابك.

يقول الشيخ الوالد : إنّ السيّد الخوئي أخذ في شرب السيكارة وسكت.

ثمّ يقول الوالد : فقلت له : إن السيّد الحكيم أفقه منك ولكنك أدقّ منه في الأصول ، فسكت السيّد الخوئي.

ثمّ بعد دقيقة أو أكثر قال السيّد الخوئي : أيها الشيخ الجواهري الحقّ معك أنا أدقّ منه في الأصول وهو الأفقه ، ما تقوله هو الصحيح. ونكتفي بهذا القدر من مصارحات الشيخ لأن بعضها لا يناسب ذكره هنا.

تأليفاته :

له مؤلفات مخطوطة عثرنا عليها ، وهي :

١ ـ غاية المأمول من علم الأصول (لخّص فيه بحث أستاذه السيّد الخوئي قدس‌سره) وهو هذا الأثر الذي بين يديك.

٢ ـ مدارك العروة الوثقى في الفقه الاستدلالي وصل به إلى باب الوضوء ، وقد أخبرنا الشيخ عبد الهادي الفضلي انه كان من حضّار هذا البحث وكان الشيخ قد شرع في خارج الفقه في سنّ الثلاثين من عمره ، وقد عطّل هذا الدرس


بعد ذلك ثمّ أعاد بحث الخارج الفقهي في سنة (١٩٧٥ م) على كتاب الصوم والزكاة والخمس والنكاح وقد كنت أحضر هذا البحث حتى خرجت من العراق إلى إيران وبقي بحثه مستمرا ولقد شاهدت هذا الكتاب في النجف عند ما كانت له غرفة في مدرسة الخليلي.

وقد كان يكتب الدرس الذي يمليه علينا ، فكان بعد أن ينتهي من الدرس يقول ملخص هذا الدرس عبارة عن هذه الأسطر الأربعة أو الثلاثة ويقرأها علينا. ولكن وبعد سقوط الطاغية صدام ورجوعنا إلى العراق لم نجد أثرا لذلك الكتاب فيما هو موجود من كتبه الخاصة.

٣ ـ منظومة في فروع العلم الاجمالي. أقول قد عثرنا على هذه المنظومة بخط الشيخ رحمه‌الله.

٤ ـ نتائج العقول في علم الأصول : قال رحمه‌الله في أوله : قد رقمته من إفادات السيّد أبو القاسم الخوئي أيام حضوري مجلس درسه الموقر ، وقد أضفت إليه بعض ما فيه فلهذا لا أستطيع نسبته إليه والله الموفق وهو الهادي ، حررّه يوم ٥ / ربيع الثاني / ١٣٦٧ ه‍ ، وهو جزء واحد يشتمل على مباحث الألفاظ.

٥ ـ الجواهر السنيّة في الأصول العقلية : ذكر في أوله : هي ما التقطتها من افادات الأستاذ الأوحد المحقق المدقق العالم الرباني الشيخ ميرزا باقر الزنجاني أيام حضوري مجلس بحثه الزاهر ...

٦ ـ رسالة في الرضاع : كتب في آخرها ، وقد وقع الفراغ منها على يد محرّرها الأقل محمد تقي نجل آية الله المحكمة الشيخ عبد الرسول صاحب الجواهر وقد اتفق الفراغ من هذه الوريقات ليلة الاثنين المصادف ليلة الخامس والعشرين من شهر رمضان المبارك في الثلث الثاني من الليل سنة الألف والثلاثمائة والخامسة والسبعين من هجرة سيد المرسلين صلوات الله عليه وعلى آله الطاهرين.


٧ ـ له تعليقة على المسائل المنتخبة للسيد الخوئي ، شاهدناه يعلّق عليها حين كنّا في النجف إلى سنة (١٩٧٤ م) ، ثمّ فقدناها عند رجوعنا إلى النجف بعد سقوط نظام الطاغية صدام وحزبه الكافر.

٨ ـ ديوان شعره وقد سمّاه «درر الجواهر» : وقد كان هذا الديوان يحتوي على قصائد تهاجم الماركسية والبعثية في سنّ الأربعينيات ، ضمن قصيدة له في رثاء ابن عمه الشيخ باقر ابن الشيخ محمد حسن ابن الشيخ جواد الجواهري يقول فيها :

واهنأ بأنك قد فارقت مجتمعا

برغبة الغرب أضحى جمعه قسما

هذا بقومية (١) يدعو لتفرقة

وذا برأي ستالين قد اعتصما

وذاك يزعم أن الدين أخّره

لولاه حطّ على الجوزا له قدما

وذاك يزعم أن الفرد كان له

جدا تطور عنه خلقة وسما

إلى أن يقول وهو مستنهض للعلماء ضد الوضع الفاسد في العالم العربي :

ما ذا السكوت وكفّ الغرب نحوكم

مدّت لتستأصل الإسلام مغتنما

وعند ما اعتقل الشيخ رحمه‌الله ، خشى متعلقوه من ظفر السلطة بهذا الديوان «وقد فاتهم ان هذه القصيدة قد نشرها صاحب شعراء الغري في كتابه» فدفن ولده الشيخ محمد الديوان في الطابق الأسفل من البيت خوفا من السلطة الحاكمة ، وبعد فترة من الزمن أراد اخراجه فلم يفلح به (ويبدو أن الأرض قد أكلته فلم يبق منه أثر) وهكذا ضاع هذا الديوان باستثناء بعض القصائد التي أودعها صاحب شعراء الغري في موسوعته وباستثناء قصيدته في الإمام الحسين التي أودعها صاحب مقتل الحسين الحجة المقرّم في آخر كتابه مقتل الحسين وبعض الشذرات من شعره وستأتيك فيما بعد.

__________________

(١) سمعناه يقرأ هذا البيت لبعض زائريه :

هذا ببعثية يدعو لتفرقة

رذا برأي ستالين قد اعتصما


نماذج من شعره :

وقد ذكر صاحب شعراء الغري في ترجمة الشيخ رحمه‌الله نماذج من شعره فقال :

والتقي لم يتظاهر بالشاعرية طيلة الزمن الذي مرّ عليه غير أنه ظهر عند ما افتقد الوجود أعلاما لهم أثرهم في نفسه فنعاهم برثاء اعرب فيه عن الم وزفرة وبعد وقوفي على شاعريته طلبت منه الوقوف على مجموعة شعره فاعتذر ، وسألته هل نظمت في غير الرثاء؟ فأجابني بنعم كالغزل والنسيب والوصف ، وعند ما طلبت اثبات بعضه اعتذر ، فعرفت أنه يحاول أن يصل إلى مرتبة زعيم في الدين وهو متأثر برأي والده الذي قال شعرا حسنا وتنصل منه لبلوغه مرتبة الاجتهاد منذ زمن بعيد ، وبذلك رأينا أن لا نجور عليه بالاغفال لعلمنا ان الزمن سيثبت له ان الخلود لا يصيبه إلّا عن هذا الطريق. أما خدمة العلم والدين فشيء بينه وبين الله تعالى. وإليك مراثيه الثلاثة قوله يرثي الحجة الشيخ محمد رضا آل يس وعنوانها :

إعادة الذكرى

متى غبت عنا كي تعاد لك الذكرى

ومثواك روض القلب لو لم يعد جمرا

متى غبت والتأريخ في كل ساعة

يعطره نشر لآثارك الغرا

يرتل منها آية إثر آية

ومنقبة من بعد منقبة اخرى

متى غبت ذكرا والأرامل أعولت

تغذي يتاماها بأدمعها الحمرا

وواعية الايمان والعلم والنهى

لفرط الأسى بالنوح صدعت الصخرا

فيا لك خطبا ثل للدين عرشه

وحادثة غص الزمان بها بكرا

ويا لمصاب عم حزنا وقرحة

وما خص شهرا في الشهور ولا قطرا

فهذي بحار العلم جف معينها

وهذي رياض الفضل قد صوحت قفرا

بك ازدان اكليل الزعامة شامخا

وكم من صفاء القلب رصعته درا

وكم كنت مهما أمكن الحال معرضا

ولكن بأمر الله توجته قهرا

فألقت لكفيك المقاليد أمرها

وخفت لك الدنيا فطلقتها عشرا


ورحت نقي الذيل لم تتخذ وفرا

وخلفت حسن الذكر لا البيض والصفرا

وما الفضل أن يرقى المنصة عالم

بل الفضل ان ينقض عن ظهرها طهرا

وتمسى ملايين الألوف بكفه

وتصبح من صفرائها كفه صفرا

* * *

تبعناك بالتقليد في الدين برهة

وان كان رأي الحر في غيره حرا (١)

فسرنا على ضوء الحقيقة نغتدي

ببلغتك الغراء ونستكشف السرا

وسرعان ما غيبت عن أفق الهدى

يودعك التقليد في كبد حرّى

فعدنا حيارى بعد غرتك التي

بلألائها عن ليلنا تكشف الفجرا

وكنا جهلناها بمحياك نعمة

وتجهل حتى تفقد النعم الكبرى

فيا شمس آفاق المعارف والهدى

وقد حجبت عنا أشعتها قسرا

أهل هلال الصوم بعدك كاسفا

إذ الأرض حالت بين جرميكما قبرا

وهذا الذي أخفاه عن أعين الورى

فجئنا إلى مثواك نستطلع البدرا

فقم وأعد للدين أيامك الغرا

وأوضح بمشكوك الهلال لنا الأمرا

ومحص شهادات الشهود وعدلهم

فإن حماة الدين أخلت لك الصدرا

فهل كان يوم الأربعاء بدء شهرنا

بحكمك أم كان الخميس لنا الشهرا

ودع عنك حكما في الثلاثاء كما ادعت

طوائف في بغداد أنت بها أدرى

تفرق بين المسلمين بباطل

صريح وفي (فرق تسد) سادت المصرا

فتبدي هلالا كامنا في محاقه

عنادا وتخفي الشمس ناصعة ظهرا

__________________

(١) أقول : هذه إشارة منه إلى أنه قد قلّد الشيخ آل ياسين برهة من عمره في بعض المسائل ، وكان قد اجتهد في زمانه حيث كانت له آراء تخالف آراء الشيخ آل ياسين في مسائل أخرى. فإذا كانت ولادته سنة (١٣٤٢ ه‍. ق) ووفاة الشيخ آل ياسين سنة (١٣٧٠ ه‍. ق) فيكون قد حصل على ملكة الاجتهاد قبل سنّ (٢٨ سنة).


تذكرت يوما فيه زرتك عائدا

فأورت تباريح الأسى تلكم الذكرى

دخلت به صبحا عليك مكفكفا

دموع الأسى كي لا ترى مدمعا غمرا

خصصتك فيه بالسلام مرجيا

جوابا به اطفي من الوجد ما اورى

وكنت طريحا فاستويت بجلسة

تساءل عن احواله ولدا برا

وقبلت كفا كهربتني برعشة

دعت ساكن الاحشاء مضطربا ذعرا

فعللت آمالي بقولي خديعة

رويدك ان الصل مرتعشا يضرى

وقابلت وجها يخجل البدر نوره

وإن وكفت ألطافه أخجل القطرا

وجسما ذوي ضعفا ومهما تضاعفت

به علل الاسقام ضاعفتها شكرا

* * *

أنفت على السبعين تنفق خصبها

بحفظ كيان الدين والشرعة الغرا

وغذيت أهل الفضل من طيب ما جنت

رياضك عرفانا تنير به الفكرا

فكم بلبان الفضل غذيت طالبا

فإن اعوز استنزفت من دمك الدرا

فكنت تشكي ضغطة الدم فانثنت

لضعفك دقات الحشى تشتكي الفقرا

وصدر كزهر الروض سال ضميره

عليه وعم الخافقين به نشرا

على الهمم الشماء فيه تزاحمت

هموم إلى أن ضاق بالنفس المجرى

وعيبة علم تلتقي جنباتها

بمسترسل كان البيان به سحرا

* * *

وكم سهرت عيناك ان حل حادث

بدين الهدى حتى تعيد له النصرا

فكيف تنام اليوم عيناك والهدى

بفقدك حلت فيه حادثة نكرا

وتثكل شهر الله في قرباته

نهارا وليلا في مناجاته سرا

وتوحش محرابا زها بك مدة

وقد عاد لو لا المرتضى مظلما قفرا

فيا نشأ دار العلم يا سادة الدنيا

ورواد بيت الوحي يا قادة الأخرى

ومعقد آمال الشريعة في غد

وذخر الهدى والدين ما طلب الذخرا


أكبوا على التحصيل والليل دامس

فليل السرى في صبحه يحمد المسرى

ولا تهنوا ما استسخر الناس فيكم

فمن قبلكم بالمصطفى سخروا جهرا

وجدوا وان جد الزمان واهله

عليكم فإن الحر من خاصم الدهرا

ولا تهنوا ان حقرتكم بهيمة

على تبنها تجثوا وتحتقر التبرا

فذا الملك الروحي يبسط نفسه

إذا سرتم من تحت أقدامكم فخرا

ولا غرو أن الجنس يألف جنسه

وإن بغاث الطير لا تألف الصقرا

* * *

فيا حاملي وقر الرسالة بلغوا

رسالاتكم في الله واحتسبوا العمرا

ولا تتشكوا اليتم فاليتم ذلة

عليكم وان أنتم فقدتم أبا برا

فباب علوم المصطفى الطهر حيدر

أبوكم لكم من فيضه حكم تترى

فخوضوا بحار العلم بالعزم واطعموا

ولو كسرات الخبز وائتدموا الصبرا

فإن جمال الحر أثواب فضله

ترف نقيات وإن لبس الطمرا

وأحيوا نفوسا غالها الجهل غرة

بماء حياة من بحار بني الزهرا

عسى أن تؤدوا للفضيلة حقها

وان تنتجوا مثل الرضا سيدا حبرا

أرى روحه رفت عليكم بحفلكم

تحوم كطير ممسيا ألف الوكرا

تناجيكم لطفا وعطفا كعهدها

بني اخلعوا ثوب الأسى والبسوا الصبرا

ولا تتشكوا ظلمة الليل حالكا

فإني تركت المرتضى عندكم بدرا

إذا اقفرت بعدي رياض ذوي النهى

وأمحل روض الفضل فاض لكم بحرا

أبا حسن عفوا فلست بشاعر

يغرّد في ألحانه للورى شعرا

وما كان ترك النظم مني ترفّعا

ولكن صرف العمر في غيره أحرى

ولكن جعلت الشّعر فيك وسيلة

لإخماد نار القلب فاضطربت جمرا

وإن هزّ ذا الحفل المهيب استعاده

فمن قدرك السامي استمد له قدرا

ولست أعزّي فيه شخصا وإنما

أعزي الهدى طرّا وآل الهدى طرا

فكل أخي فضل من الوجد واجم

تعبّر عن آلامه مقل عبرا


وله يرثي ابن عمه الشيخ باقر ابن الشيخ محمد حسن ابن الشيخ جواد الجواهري قوله :

نفس سمت بك ما بين الورى عظما

ضاقت بها الأرض فاجتازت سما فسما

ضاقت بصدر عظيم ضمّها سعة

فيه وضم إليها الهمّ والهمما

فاضت لتعتاض عن ضيق المدى سعة

وكي تفارق من آلامها السقما

لم تلف بعد حماها منك متسعا

لها سوى رحمة الباري فسيح حمى

أنعاك حزنا لناد كنت بهجته

وكنت عقدا بزاهي صدره انتظما

أضحى وقد غبت عنه موحشا عطلا

وإن تحلى بأهل الفضل وازدحما

ساد الوجوم على أكنافه رهبا

وفاض حزنا وغصّت ساحه ألما

يكاد يفصح بالآلام قاسية

جماده وتفيض العين منه دما

في كلّ بضعة أيّام له علم

طوعا لأمر المنايا يقتفي علما

أنعاك للهمّة الشمّاء والخلق ال

سامي وللعفة البيضاء يدا وفما

وللرّجاحة في نهج نهجت به

وللنزاهة في نفس سمت شمما

أنعاك للصفوة الأمجاد يثكلهم

بك القضاء على رغم بما حكما

وفوا وواسوك حتى لو يتاح لهم

لضاجعوا مثلك الأحجار والرخما

ما غمضت عين فرد منهم سنة

إلّا انتقشت له في عينه حلما

الله أكبر ما وافاك من رجل

ترعى الأخوة بعد الموت والذمما

تزور كل أخي ود برقدته

لترفع الحزن عن أحشاه مبتسما

فتستمران في انس وفي مرح

حتى كأن الردى ما حال بينكما

* * *

أنعاك حزنا لأم كنت سلوتها

عمّا إليها من الأحزان قد رسما

كيف استطاعت نواك اليوم راغمة

ولم تكن قبل تسطيع النوى رغما

وكان جلّ مناها أن تهيل بكف

يك التراب على جثمانها برما


وأن تسير وقورا في جنازتها

وأن تقيم عليها مأتما وجما

عوّدتها البر حتى أنها طمعت

بأن تبرّ بها حيا ومخترما

آلت عليك بوجد الأمّ ثاكلة

وبالرضاع الذي غذتكه قسما

بأن تعود ولو يوما لرؤيتها

حتى تودّع منك المجد والكرما

* * *

أبا محمد أستحفيك مسألة

جاشت بقلبي فأورت وجده ضرما

هل أنت في عالم غضّ عرجت له

كعالم رحت عنه تشتكي البرما

شاع النفاق به بين الورى خلقا

والغدر والجور والتدليس فيه نما

هذا يداهن في أعماله وثنا

وذا يراوغ في أقواله صنما

وذاك يرغب في الألقاب فارغة

وذاك يضمر حقدا في حشاه طمى

فلا يغذيه إلّا لحم صاحبه

ولا ترويه إلّا من أخيه دما

ما ضمه الحفل إلّا قام منتقدا

ولا تمكن إلّا قام منتقما

وضع على عكس ما جاء النبي به

من التحابب والتأليف قد وسما

فمن تعاطاه في لذاته نعما

ومن تحاشاه من لذاته حرما

وضع منى كل فذ أن يفارقه

لو احرز العفو عمن كان مجترما

فافخر بأنك قد خالفته خلقا

واهنأ بأنك قد فارقته سئما

* * *

أبا محمد أضحى الموت مكرمة

فافخر بأنك قد عجلته قدما

واهنأ بأنك قد جاورته ملكا

بالعدل والعطف والاحسان متّسما

واهنأ بأنك قد فارقت مجتمعا

برغبة الغرب أضحى جمعه قسما

هذا بقومية يدعو لتفرقة

وذا برأي ستالين قد اعتصما

وذاك يزعم ان الدين آخره

لولاه حط على الجوزا له قدما

وذاك يزعم ان القرد كان له

جدا تطور عنه خلقة وسما


والقرد يفضله نفسا وان هو قد

دعاه جدا فحق القرد قد هضما

فالقرد لم يجد الباري وحكمته

ولا تقلب في نعمائه وعمى

يا قادة الدين والاصلاح ان لنا

بكم منار هدى يستأصل الظلما

ما ذا السكوت وكف الغرب نحوكم

مدت لتستأصل الاسلام مغتنما

وله يرثي الإمام السيد أبو الحسن الاصفهاني قوله :

خطب وكل خطير بعده هانا

خطب أسال لعين الدين انسانا

خطب كسا الدين من أهواله بززا

سودا وأقرح للايمان اجفانا

فتلك واعية الاسلام قارعة

في كل آن لنا بالنوح آذانا

تنعى أبا الحسن الهادي وقد وجمت

لفرط فادحه شيبا وشبانا

تنعاه في أعين تهمي وأفئدة

جوفاء ليس ترى إلاه سكانا

وقائل لي اقصر والدموع دم

فشاهد الحال أقوى منك برهانا

يا راحلا بز هذا العيد بهجته

فعاد يوم حداد عم دنيانا

عايدت ربك يوم العيد مبتهجا

وصافحت يدك البيضاء رضوانا

كأن رضوان يوم العيد محتفل

في الخلد حين ذكت روحا وريحانا

وقد دعا اولياء الله كلهم

وحيث إنك منهم سرت عجلانا

يا راحلا بجميل الصبر اصغ لنا

سمعا وإن كان لا يجديك نجوانا

فلت عرى الدين وانهدت جوانبه

غداة لبيت داعي الحق جذلانا

وهيئة بحماها طالما سهرت

عيناك للدين ترعاها وترعانا

عزت عليك بأن تمسي مشتتة

أيدي سبا بعد جهد منك أزمانا

يا راحلا ترك الألباب ذاهلة

وكم برغم جميل الصبر أبكانا

قد شيعت نعشك الأبصار شاخصة

إليك مدهوشة شجوا واحزانا

هذي الأرامل والأيتام قانطة

وكم ترى ابن سبيل ظل حيرانا

بعدت عنهم زمانا ثم عدت لهم

على الرءوس وقد ادرجت اكفانا


عدوا إلى النعش يستوفون حاجتهم

إذ كنت عوّدتهم برّا وإحسانا

وكدت تقضي على الأعناق بغيتهم

عطفا وعطفك لا يحتاج تبيانا

لذاك أعوال بالتكبير صارخهم

ومدّ نحوك طرف اليأس خذلانا

عجبت كيف أقلّت نعشه فئة

وفيه أودع «حكم الله» ثهلانا

نعش بمن فيه قد طال السماء على

إذ قد أكنّ رواسي العلم أكنانا

لكن رأيت بعين الحقّ قد هبطت

لهم ملائكة الرحمن أعوانا

وكم ترى فئة والحزن يغمرها

برفع نعشك إسرارا وإعلانا

قد أيقنت أنّ بيت الله مرتفع

برفعه وأوان الحجّ قد حانا

فأحرمت وبه طافت ملبّية

وبادرت لاستلام منه أركانا

حسرى الرءوس سعت قد أشعرت بدم

الآماق أبدانها للنعش قربانا

وكم رمت جمرات من حشاشتها

وهرولت دهشة من عظم ما كانا

تالله ما دار يوما قطّ في خلدي

أبقى فأنعاك بل تبقى فترعانا

ما القبر واراك إذ واراك منفردا

وإنّما جدث واراك وارانا

وإن يغب عن عيون الناس منك سنا

فالبدر يشرق فوق الأرض أحيانا (١)

وممّا قاله في رثاء المرجع الديني الشيخ محمّد رضا آل ياسين في الفاتحة المقامة على روحه :

على الرغم من عين الشريعة أن ترى

وقد فقدت عين الرضا بعد محجرا

فتبيضّ ثكلى حيث أودى سوادها

وتفترّ ثرّى تذرف الدمع أحمرا

وبالرغم منّي أن أقوم مؤبّنا

بمحفلك الزاكي وتمسي معفّرا

ولكنّما الرحمن خارك وافدا

وكان قضاء الله حتما مقدّرا

__________________

(١) شعراء الغري ٧ : ٣٣٨ ـ ٣٤٥.


أبا الحسن الزاكي وهاتيك كنية

يهشّ لها ما كرّرت مسمع الورى

لقد هتف الناعي بفقدك معولا

فذابت حشى الدين الحنيف تزفّرا

هوى عمد الدين الحنيف وأصبحت

علوم بني يس واهية العرى

وأظلم محراب الصلاة ولم يزل

بطلعتك الغرّاء في الليل مزهرا

وأيتمت أهل العلم طرّا لأنّهم

رأوك أبا برّا ، وأوحشت منبرا

فكلّ وقور سار حيران خاشعا

أسى يتمنى قبله السمع موقرا

إذا جرّ من أعماق أحشاه زفرة

عليك ظننّا قلبه قد تفزّرا

يسائل همسا كيف أيتمنا الردى

وكيف يخلّي غابه أسد الشرى

وساد على الناس الوجوم فلا ترى

سوى مدمع عن فادح الخطب عبّرا

كأنّهم قد بعثروا من قبورهم

فكان لهم يوم ارتحالك محشرا

حفاة عراة لا يرون وسيلة

سوى النعش فانثالوا على النعش حسّرا

* * *

فيا شعلة العرفان يا قبس الهدى

وشيخ رعاة الدين قولا ومزبرا

نهضت بعبء الدين حيّا وميّتا

وأسهرت في حفظ الشريعة محجرا

فربيت للدين الحنيف فطاحلا

ليمسوا إذا أغمضت للدين مفخرا

فأنهلتهم من منهل الفضل صافيا

وغذّيتهم من معدن العلم جوهرا

* * *

اليك أتت تسعى على الرأس رغبة

زعامة دين الله خاضعة الذرى

أتت تتوخّى منك شيخا محنّكا

لروّاد دين الله وردا ومصدرا

فألفتك عنها معرض الطرف غير أن

تشيّد معروفا وتنكر منكرا

ولجت بها كرها وسرعان ما لها

تركت نقيّ الذيل طهرا مطهّرا

فلا الدرهم المبيضّ تعرق كفّه

عليه ولا الدينار يغريه أصفرا


فأنت زعيم الدين حقا ولم تزل

لقطب رحى فقه الشريعة محورا

فوا أسفا كيف استقلّ بك الثرى

ووا عجبا كيف استطاب لك الكرى

* * *

يصوّرك الإيمان والعلم والنهى

وفي كلّ قلب لا تزال مصوّرا

فما ريشة الفنان تقوى بفنّها

على رسم شيء غير ما كان مظهرا

وليس لها حظّ بتمثيل طبعه

وأخلاقه مهما تجلّى وأسفرا

وكامرة الإيمان إن مثّلت فتى

تجلّى بها ما كان أبدى وأضمرا

* * *

أيتّحد المظروف والظرف مرّة

وقد كان أمرا مستحيلا مقرّرا

فكيف مثال الدين واروه حسرة

فشقّوا بقلب الدين للدين مقبرا

* * *

أبن لي أبا التبيان فالفكر حائر

وكم كنت عن فكري تميط التحيّرا

لمن أتلقى بالعزاء ولا أرى

سوى كبد حرّى وطرف تفجّرا

أنا الثاكل الولهان والكلّ ثاكل

أذو الثكل يرجى أن يكون مصبّرا

ولكنّني أنحو بشعري معزّيا

مؤسس هذا المذهب الحقّ جعفرا

* * *

فيا حسنا في كلّ خلق وخصلة

وما الشبل إن ضاهى العفرنى مقصّرا

يمينا بأن الرزء ما خصّ واحدا

ولكنّه رزء به اشترك الورى

فكلّ أخي فضل توسمه ترى

من الوجد في أحشائه مثل ما ترى

أخيّ أسل من محجر العين عبرة

وخفّف بها من نار وجدك ما ورى

فإنّا أسلنا ذائب القلب عبرة

قريضا فما خفّ المصاب ولا سرى

فإن لم نكن نسطيع صبرا فإنّنا

على الرغم منّا نستطيع التصبّرا

فإن حجبت شمس الهدى عنك بغتة

قليل الدجى بالمرتضى عاد مقمرا

قد انتهلا من بحر آل محمّد

إلى أن أفاضا للشريعة أبحرا

* * *


أخيّ جمال الدين (١) غرّدت بلبلا

وسامرت في نظم الدراريّ عبقرا

ولكن أهجت الليث من عقر غابه

فعفوا إذا ما الليث بالنقد أصحرا

عهدتك ذا لبّ دقيق وفطنة

وأنّك لا ترعى من الشيء مظهرا

فما الأزهر المغري الفتى غير أنّه

بزبرجة الألفاظ قد صار أزهرا

فكم طالب منّا وقد حلّ مصرهم

تسنّم في تلك المعاهد منبرا

فأصبح استاذ المعاهد عندهم

يرون له ما ليس في حلم يرى

وإنّ (أتى زيد) إذا كنت منصفا

أعفّ وأغلى من (تذوّقت مزهرا)

فإنّ ينابيع المعارف عندنا

ومنّا لهم بعض الينابيع قد جرى

إذا أمحلوا استسقوا بطه وهيكل

وإنّا لنستسقى أبا الغيث حيدرا

* * *

وممّا قاله في رثاء الإمام الحسين عليه‌السلام ، وقد تلقفها الخطباء لقراءتها على المنابر الحسينيّة :

دعاني فوجدي لا يسليه لائمه

ولكن عسى يشفيه بالدمع ساجمه

ولا تكثرا لومي فربّ مولّه

(أعقّ خليليه الصفيين لائمه)

فما كلّ خطب يحمد الصبر عنده

ولا كلّ وجد يكسب الأجر كاتمه

فإن ترعيا حقّ الإخاء فأعولا

معي في مصاب أفجعتنا عظائمه

غداة أبو السجاد قام مشمّرا

لتشييد دين الله إذ جدّ هادمه

ورام ابن ميسون على الدين إمرة

فعاثت بدين الله جهرا جرائمه

__________________

(١) اشارة إلى الشاعر الكبير السيّد مصطفى جمال الدين الذي ألقى قصيدة في الفاتحة المقامة على روح المرجع الديني الشيخ محمّد رضا آل ياسين حيث فضّل الأزهر الشريف بدراسته ونظمه على دراسة حوزة النجف الأشرف ونظمها ودعا إلى التأسي فمما قاله :

هلا تکونون من مصر وازهرها

کما یکون من السلسال منبعه

أم لا فنحن اناس عمرنا سفه

ان لم نکن بـ (أتی زيد) نضيّعه


فقام مغيثا شرعة الدين شبل من

بصمصامه بدءا أقيمت دعائمه

وحفّ به (إذ محص الناس) معشر

نمته إلى أوج المعالي مكارمه

فمن أشوس ينميه للطعن حيدر

وينميه جدا في قرى الطير هاشمه

ورهط تفانى في حمى الدين لم تهن

لقلته بين الجموع عزائمه

إلى ان قضوا دون الشريعة صرّعا

كما صرّعت دون العرين ضراغمه

أراد ابن هند خاب مسعاه ان يرى

حسينا بأيدي الضيم تلوى شكائمه

ولكن أبى المجد المؤثل والإبا

له الذل ثوبا والحسام ينادمه

أبوه عليّ وابنة الطهر أمّه

وطه له جدّ وجبريل خادمه

إلى ابن سمّي وابن ميسون ينثني

يمد يدا والسيف في اليد قائمة

فصال عليهم صولة الليث مغضبا

وعسّاله خصم النفوس وصارمه

فحكّم في أعناقهم نافذ القضاء

صقيلا فلا يستأنف الحكم حاكمه

إلى أن أعاد الدين غضا ولم يكن

بغير دماء السبط تسقى معالمه

فإن يك إسماعيل أسلم نفسه

إلى الذبح في حجر الذي هو راحمه

فعاد ذبيح الله حقا ولم يكن

تصافحه بيض الضبا وتسالمه

فإن ـ حسينا ـ أسلم النفس صابرا

على الذبح في سيف الذي هو ظالمه

ومن دون دين الله جاد بنفسه

وكلّ نفيس كي تشاد دعائمه

ورضّت قراه العاديات وصدره

وسيقت على عجف المطايا كرائمه

فإن يمس فوق الترب عريان لم تقم

له مأتما تبكيه فيه محارمه

فأي حشى لم يمس قبرا لجسمه

وفي أي قلب ما اقيمت مآتمه

وهب دم يحيى قد غلا قبل في الثرى

فإن حسينا في القلوب غلا دمه

وإن تر قدما مذ دعا بخت نصر

بثارات يحيى واستردّت مظالمه

فليس دماء السبط تهدأ قبل ان

يقوم بإذن الله للثار (قائمة)

أبا صالح يا مدرك الثار كم ترى

وغيضك وار غير أنك كاظمه

وهل يملك الموتور صبرا وحوله

يروح ويغدو آمن السرب غارمه


أتنسى أبيّ الضيم في الطف مفردا

تحوم عليه للوداع (فواطمه)

أتنساه فوق الترب منفطر الحشا

تناهبه سمر الردى وصوارمه

وربّ رضيع أرضعته قسيّهم

من النبل ثديا درّه الثر فاطمه

فلهفي له مذ طوّق السهم جيده

كما زيّنته قبل ذاك تمائمه

ولهفي له لمّا أحس بحرّه

وناغاه من طير المنية حائمه

هفا لعناق السبط مبتسم اللمى

وداعا وهل غير العناق يلائمه

ولهفي على أم الرضيع وقد دجى

عليها الدجى والدوح ناحت حمائمه

تسلل في الظلماء ترتاد طفلها

وقد نجمت بين الضحايا علائمه

فمذ لاح سهم النحر ودّت لو انها

تشاطره سهم الردى وتساهمه

أقلته بالكفين ترشف ثغره

وتلثم نحرا قبلها السهم لاثمه

وأدنته للنهدين ولهى فتارة

تناغيه ألطافا واخرى تكالمه

بني أفق من سكرة الموت وارتضع

بثديك علّ القلب يهدأ هائمه

بني فقد درّا وقد كضك الظما

فعلّك يطفى من غليلك ضارمه

بني لقد كنت الانيس لوحشتي

وسلواي إذ يسطو من الهم غاشمه (١)

وقد كان رحمه‌الله معروفا بالتواريخ الشعرية ، فمما قاله :

١ ـ تاريخ مدرسة السيّد البروجردي في كربلاء فقال :

زعامة الحسين (٢) لم تنصرم

عنّا برغم الموت أيّامها

شيّدها مدرسة غضة

بعلم أهل البيت أحكامها

قد أعلن التاريخ في أنها

رفّت بنصر الله (٣) أعلامها (١٣٨٣ ه‍)

__________________

(١) نشرها السيّد عبد الرزاق المقرم في كتابه مقتل الحسين عليه‌السلام : ٥١٧.

(٢) إشارة إلى المرجع الكبير السيد البروجردي حيث كان اسمه السيّد حسين.

(٣) إشارة إلى سماحة الوجيه الكبير الحاج الشيخ نصر الله الخلخالي الذي كان وكيلا للسيد البروجردي رحمه‌الله.


وفي سفرة إلى كربلاء كنت مع الشيخ الوالد رحمه‌الله ، فاحتجنا إلى تجديد الوضوء من أجل زيارة الإمام الحسين عليه‌السلام وأخيه أبي الفضل العباس عليه‌السلام فدخلنا مدرسة السيّد البروجردي رحمه‌الله وقد حانت من الشيخ الوالد التفاتة فرأى البيت الأول والثالث قد كتبا على أحد جدران المدرسة بالكاشي ، فقال لي : لقد وقعوا في خطأ كبير فإن البيت الأول كان في الزعامة الدينية للسيد البروجردي ، واما البيت الثاني فكان راجعا إلى مدرسته التي أنشأ التاريخ لها والبيت الثالث تاريخ بناء المدرسة ، ولكن بحذفهم البيت الثاني فقد أرجعوا التاريخ إلى الزعامة الدينية ، وهو خطأ واضح.

٢ ـ تاريخ الشيخ «محمد جواد» ابن الشيخ حسن «كاتب هذه السطور» الذي ولد سنة (١٣٩٨ ه‍) فقال في تاريخه :

بزغ الجواد محمد ربّ الهدى

غيظ العدى فيض الهدى وأخو الندى

من معشر فاقوا الورى بعلومهم

طابت ولادتهم وطابوا محتدا

هذي جواهرهم وبحر علومهم (١)

لا تنتهي أبدا وليس لها مدى

مذ أشرقت أنواره أرّخته

«بزغ الجواد محمد ربّ الهدى»

(١٣٩٨ ه‍)

٣ ـ تاريخ جامعة النجف الدينية «في النجف الأشرف» :

قم وهنّي سبط النبي محمد

من بعين الإله دام مؤيد

شكر الله سعيه فاياديه

على الدين لا تزال تجدّد

قد بنى في الغري جامعة للعلم

تهوي بها الملائك سجّد

فبها فقه جعفر شعّ نورا

عن نبي الهدى عن الله يسند

__________________

(١) إشارة إلى أنه متولد من أب جواهري وأم من آل بحر العلوم وهي كريمة الحجة السيد موسى بحر العلوم رحمه‌الله تعالى.


عمّرتها كفّ اتفاق ببذل

والتقى إن يضف له المال يرشد

خلّدته الدنيا بآثاره الغرّا

وأخراه في الجنان مخلّد

ورجال الإله من جاد با

لمال بدنياه كي بأخراه يسعد

فهي باب إلى علوم عليّ

وهو باب الهدى إلى علم أحمد

فازه وافخر بها وأرّخ (بلطف

أسسها كفّ التقي محمد)

(١٣٨٢ ه‍)

٤ ـ تاريخ وفاة آية الله العظمى الشيخ عبد الرسول الجواهري قدس‌سره والد المترجم له :

بوركت من بقعة قدس زهت

فخرا بأنوار الهدى والندى

ومن ضريح بثرى طيبه

عبد الرسول الطهر قد وسدا

ضم رواسي العلم في طيّه

والزهد والتقوى به الحدا

جواهر العلم به نظّمت

وجوهر الكون به نضّدا

ضم فتى أثكل في فقده

المنبر والمحراب والمسجدا

وأثكل الأسحار في نغمة

عنها سماء الغفران لن توصدا

ضريح قدس جاء تاريخه

(غاب به رسول آل الهدى)

(١٣٨٧ ه‍)

٥ ـ تاريخ وفاة آية الله العظمى الشيخ ميرزا باقر الزنجاني قدس‌سره :

مصاب باقر مصاب فادح

أثكلت العلم به يد القضاء

مضى نقيّ التوب ملء برده

عفافه فاسودّ للزرء الفضا

قد شغر المنبر من تدريسه

وايتمت ذووا العلوم مذ مضا

بمنتهى الأسى عليه أعولوا

وأرخوه «باقر العلم قضى»

(١٣٩٤ ه‍)


ومما وجدناه بخطه الشريف يخاطب شخصا قد أرسل له رسالة فيجيبه عليها وقد آثرنا نشرها لما فيها من النصح والموعظة لمن أركن إلى الدنيا يقول فيها :

وافت رقيمتك الشهية دارنا

وبمنظر منها اخوك ومسمع

فرأيت فيها الذكريات سوانحا

من صاحب جمّ المكارم أروع

أبدى بها شوقا واني عاجز

عن أن أبثّ إليه أشواقا معي

* * *

وافت وقد غصّت بوسع رحابها

داري باضيافي الكرام ومربعي

فمن الرجال ثلاثة في خمسة

ومن النساء ثلاثة في أربع (١)

عذرا إذا أخرت عنك جوابها

والاعتذار متى اعتذرت مشيفعي

* * *

يا أحمدا بحميد سيرته العلى

هتفت وفرط ذكاه غاظ الأصمعي

اسمع مقالة ناصح واعمل بها

فالنصح نصح أخ كريم طيّع

إن الزمان تغيّرت ابناؤه

وتمزلقت بسرابه المتوقع

زعموا بأن الدين أكسد سوقه

فيئوب رائده بكفّ بلقع

ولووا إلى الدنيا أعنة خيلهم

مستهزءين بسجّد وبركّع

لمحت لهم ميساء أدلت برقعا

وسرت بافئدة صباة ولّع

حتى إذا سكنوا لها محجوبة

كشفت لهم ما تحت ذاك البرقع

فتطلّعت شوهاء نكرى كشّرت

أنيابها عن وخز سمّ منقع

ومذ انجلت ظلم القتامة أعربت

عنهم وهم صرعى باشنع مصرع

لا ألفينك خائضا في جمعهم

فالداء يسري من مراحل أربع

__________________

(١) يبدو أن الرسالة كانت مع جماعة وردوا على دار المترجم له (١٥) رجلا و (١٢) امرأة.


حاشاك إن الدين آل محمد

أملا بمثلك موطدا لم يقطع

شمّر له عن ساعديك وكن له

الحصن الحصين وكن باشرف موقع

إني وإن خصصت شخصك قائل

إياك أعني ويا جويرتي اسمعي

ووجدنا بخطه الشريف هذه الأبيات في مدح الإمامين العسكريين في سامراء فقال :

لكم في محكم الذكر الثناء

مدح تقصر عنها الشعراء

آية التطهير فيكم نزلت

تثبت العصمة ما فيها مراء

ولكم في آية القربى على

مسلح الكون وداد وولاء

جدكم طه أبوكم حيدر

أمّكم فاطم إن عدّ النساء

خيرة الله من الخلق هم

ولهم انتم نتاج ونماء

* * *

ارض سامراء يا أرض الحمى

طبت من أرض تفدّيها السماء

ضمنت قبر علي وابنه

الحسن الزاكي فنالت ما تشاء

أين من مصرك في ملكه

وله فيك ازدهار وازدهاء

أين من اجرى بك انهاره

وسرى من جنده فيه انتشاء

أين قصر الفاسق الفضّ الذي

عكف الفن عليه والبناء

أين منك الوزرا والأمراء

وبيوت الخلفا والخلفاء

فإذا الكل تراب هامد

وإذا من عمّر الدنيا هباء

وإذا قبر عليّ شامخ

قصرت عن شأوه حتى السماء

يسجد التبر على أعتابه

خاشعا يعلوه ذلّ وازدراء

يلثم الترب لكي يقبله

من حمى الهادي ويرضاه فناء

* * *


وكان مما عثرنا عليه بخطّه الشريف مهنئا نجله الشيخ حسن «كاتب هذه السطور» عند زواجه :

حسن الخلق يا ربيب العباقر

وحليف النهى وجمّ المآثر

خذ تهانيّ من ولاء صميم

يتهادى إليك من كلّ خاطر

وافتخر أن تكون من بيت علم

أتحف الناس كلّها بالجواهر

أنت رمز البيت العظيم فجدّد

بمعاليك كل رسم داثر

أحي ذكرى الأجداد بالجد وانهل

علم آل الهدى وجدّ وثابر

* * *

فعليك الآمال تعقد فارفق

برجاها وحز رضاها وجاهر

وتجمّل بالعلم والحلم والدين

فحسن الفتى بحسن المشاعر

شخصت نحوك العيون فاحسن

ظنّها واعطها مناها الباهر

طبت جدا ووالدا فحريّ

أن ترى طيّبا لطيب العناصر

* * *

أي يوم قد أنجز الله فيه

وعده الحق مفعما بالبشائر

واستدامت به المسرات تختال

علينا مشي العذارى البواكر

أزهرت دوحة الكمال ففاحت

بشذاها لكل باد وحاضر

يوم قام التقى يخطب خدنا

لابنه خير من نمته الحرائر

فانتقى من لئالي البحر غوصا

خير الماسة لخير الخناصر

ثم زفّت ربيبة العزّ والمجد

وأم الكمال بنت المفاخر

لكريم مهذب المعيّ

بارع في العلوم للدين ناصر

* * *


يا ربيب العلى ويا حسن الخلق

ونورا يجلى به كل ناظر

لك فضل تقلّ فيه النظائر

وكمال يرقيك أعلى المنائر

وضمير أنقى من المزن طهرا

حيث طيب الرجال طيب الضمائر

وخصال ورثتها عن جدود

طهروا والمديح عن ذاك قاصر

لهم الأرض زيّنت فاستطالت

بافتخار على النجوم الزواهر

فاشكر الله أن حباك بطهر

هي فرع عن الأصول الطواهر

بنت بحر العلوم زفّت عروسا

لك يا خير من نمته الجواهر

وافتخر أن تصير صهرا لموسى (١)

من به جمّعت جميع المفاخر

يد موسى عليك بيضاء رفّت

وهي إحدى آيات طيب السرائر

قم وقبّل يديه شكرا وإلّا

فعصاه يصلى بها كل كافر

بارك الله في زواجك فاهنأ

وزواج الأخ المهنئ باقر (٢)

وزفاف لهاشم (٣) دوحة المجد

وعروس الهادي سليل الأكابر (٤)

ومما وجدناه من شعره في مدح علي أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال :

تسابقا وجباه السّجد الذهب

أعتاب قدسك إذ للسابق الرتب

فغودر التبر مغلوبا لأنك قد

أقصيته وغدا للسجّد الغلب

لكنه بعد لأي عاد ملتمسا

دعني ليفقأ عين الناصب الغضب

__________________

(١) إشارة إلى آية الله السيد موسى بحر العلوم والد الزوجة الكريمة.

(٢) باقر إشارة إلى سماحة الشيخ باقر الإيرواني نجل آية الله الشيخ محمد تقي الإيرواني.

(٣) هاشم إشارة إلى سماحة السيد هاشم الهاشمي نجل آية الله السيد محمد جمال الهاشمي.

(٤) الهادي إشارة إلى سماحة الشيخ محمد هادي الشيخ راضي نجل سماحة آية الله الشيخ محمد جواد الشيخ راضي. وقد كانت مناسبات قرانهم متقاربة نشئوا في وسط علمي وديني واحد.


يا أول الناس ايمانا بخالقه

ومن تصدّق في النجوى بما يجب

ونفس طه ونصّ الوحي يثبته

ويا أخا لرسول الله ينتخب

ومعرضا عن هوى الدنيا وبهجتها

فالملح قوتك اما كضك السغب

ورافعا راية الاسلام خافقة

بذي الفقار إذا ما دارت النوب

وواقيا لرسول الله مهجته

في مضجع من طغاة الكفر يرتقب

ويا وليدا ببطن البيت طهّره

بطنا وظهرا من الأصنام تنتصب

ومشبعا سغب المسكين في سغب

تناقلته شفاه الوحي والكتب

ومبلغا عن فم الهادي براءته

من كل باغ وطاغ سيفه العطب

وصهر طه من الرحمن زوجه

بفاطم دون من حاطت به الريب

ويا أميرا على الاسلام توجّه

الهادي بخم وربّ العرش منتخب

نادى وكفك في يمناه يرفعها

من كنت مولاه ذا مولى له وأب

فبايعوك ونار الغيض وارية

وبخبخوا لك والاحقاد تلتهب

ويا صبورا على البلوى وقد قبض

الهادي وأصحابه من بعده انقلبوا

أكبرت شخصك أن يمسي ثناي له

مدحا ومدحك في القرآن مكتتب

لكن ولاك على قلبي طمى فغدت

أمواجه من فم الإخلاص تنسكب

* * *

ومما وجدناه بخطّه الشريف في الأوراق المبعثرة قصيدة في مدح إمام المتقين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام إذ قال :

ببابك الذهب الابريز يفتخر

والجوهر الفرد من معناك يعتصر

وروضة القدس من مثواك جللها

لطف الإله فمنها اللطف ينتشر

طافت بارجائها لله خاشعة

شوقا ملائكة الرحمن والبشر

وتبسط الكف للرحمن سائلة

فليس ترجع إلّا ملئها الظفر

تهوى باعتابها لله ساجدة

من آمنوا بك تصديقا من كفروا

وكلّ رائد حق مصلح يقض

في منتهى الشوط رغم الجور ينتصر


التبر يرجو قبولا من علاك له

سعيا على الرأس وافى منك يعتذر

يا باب علم رسول الله أنت لنا

نعم الإمام فمنك الورد والصدر

وأنت بعد رسول الله خير فتى

تمخضته رحى التدبير والعصر

آمنت بالله لم تسجد إلى صنم

واهي العرى ما له نفع ولا ضرر

قد اصطفاك رسول الله خير اخ

وخير صهر به الاكوان تفتخر

ولدت بالكعبة الغراء فكنت لها

شبلا بيمناك عنها الشرك يندحر

نهجت للناس نهجا كله حكم

وعشت في الناس دهرا كله عبر

ويوم خم وقد أعلاك في يده

ليسمع الجمع قولا فيك يبتدر

من كنت مولى له حقا فانت له

مولى ولكنهم عن رشدهم قصروا

فبايعوك ونار الغيض ملهبة

وبخبخوا لك والاحقاد تستعر

وربّ معترض مستمطرا حجرا

لم يخط هامته من كفره الحجر

ومعشر كتموا نياتهم فرقا

حتى إذا أمنوا وحي السماء جهروا

* * *

ومما عثرنا عليه مبعثرا بخطّه ما نظم عند المدّ الشيوعي وما عمله المجرمون من مجازر بشعة في ذلك الزمان وهم يدعون للسلم فمما قاله مخاطبا هذه الفئة المجرمة :

أيها الداعون للسلم اخسئوا

والبسوا الخزي فقد زال الطلاء

اقتفوا منهاج طه انه

بلسم من كلّ داء ودواء

أفتدعون لما لم يرعه

شرع طه حين أوحته السماء

ديننا السلم فامنا به

كل سلم غيره فهو هراء

كل سلم غيره تبغونه

فهو كذب وخداع ورياء

أفيدعو السلم أن تسفح في

أرض كركوك دماء ودماء

أفيدعو أن تجزّى قطعا

فيه أطفال وتستحيى نساء

أم يسنّ السلم أن يدفن

في أرضه أحياء أضناها العياء

أو يجرّون على وجه الثرى

بحبال أبرمتها العملاء


لو عقلتم لسكتّم زمنا

خجلا لكنّما أين الحياء؟

أنتم الأحرار حقّا إنكم

عن قيود الدين أحرار برآء

أنتم الأحرار؟ كلّا انكم

لخروشيف عبيد وإماء

كلكم عن أمره مؤتمر

ولكم عن كل ما ينهى انتهاء

أفهل جاء نبيّا لكم

بعد طه أم تجلّ الأنبياء

* * *

يا شباب الدين أنتم طعمة

تتوخاها سغاب وظماء

لبني الشرق على أوطانكم (١)

كبني الغرب صراع وعواء

فغرت فاها عليكم طمعا

كافاع كل ما فيها بلاء

غاظهم أن لكم دينا به

تدفع البلوى ويستوفى الرجاء

وصمودا هائلا زعزعهم

في وغى شبّ لظاها العلماء

يوم بالكوت أضعنا رشدهم

وعلى الفاو صنعنا ما نشاء

فغزوا أفكاركم في منطق

كلّه لو أنصف الفكر هراء

فهو (٢) للروح ملاك نافع

أبد الدهر وللعقل غذاء

طبّقوا احكامه كي تنعموا

بحياة جللتها النعماء

بلغوا أحكامه كي تفحموا

كلّ داع دحرجته العملاء

بيّنوا أحكامه كي ترشدوا

كلّ من حادوا وبالخيبة باءوا

* * *

إجازاته :

رأينا أن نذكر فقط إجازة الشيخ الكبير آقا بزرك الطهراني رحمه‌الله : وها هي بخط يده الشريفة المرتعشة.

__________________

(١) أجسادكم.

(٢) الضمير راجع إلى الدين.



أساتذته :

حضر المترجم له على حلقات دراسية مختلفة.

١ ـ حضر على والده آية الله العظمى الشيخ عبد الرسول الجواهري قدس‌سره وقد سمعته يقول : جلّ استفادتي الفقهية من درس الوالد حيث كانت استنباطاته وارتكازاته العرفية عالية ، وكان فقيها بارعا ، تنحّى عن المرجعية رغم إصرار تلامذته وأقرانه على قبولها.

٢ ـ حضر على آية الله العظمى الشيخ محمد رضا آل ياسين. من المراجع الكبار في النجف الأشرف وكانت له حلقة درس مهمة يحضرها المجتهدون وممن شارف على الاجتهاد.

٣ ـ حضر على آية الله العظمى الميرزا باقر الزنجاني ، وهو من المدرسين البارزين في حوزة النجف الأشرف.

٤ ـ حضر على آية الله العظمى الشيخ حسين الحلي ، وهو من المدرسين البارزين في حوزة النجف الأشرف ، تربّى على يديه جيل كبير من المجتهدين ، كان عزوفا عن هذه الدنيا رحمه‌الله ، عملاقا في أفكاره الجديدة ولكنه قبل إلقائها على طلابه يهوّن منها تواضعا منه.

٥ ـ حضر على آية الله العظمى السيد محسن الحكيم المرجع العام للمسلمين في حياته ، ومدرّس الفقه في حوزة النجف الأشرف.

٦ ـ حضر على آية الله العظمى السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي وقد اختصّ به أخيرا ولازمه ملازمة تامة حيث كان يحضر بحثه لدورات متعددة رغم تصدّيه للبحث الخارج بنفسه ، فقد كان السيد الخوئي قدس‌سره أستاذا يخرّج المجتهدين ، وقد تسنّم زمام المرجعية لمدّة أكثر من خمسة وعشرين سنة وهو زعيم الحوزة العلمية ، بلا مزاحم.

طلابه :

ان طلاب المترجم له لا يمكن حصرهم وعدّهم ولكن نذكر عدّة منهم :


١ ـ الشهيد السيد محمد باقر الصدر ، مفجّر الثورة الإسلامية في العراق ، وصاحب الفكر الإسلامي الثوري في مجابهة الماركسية والرأسمالية ، وهو مرجع كبير في العالم الإسلامي وكتبه غنيّة عن التعريف.

ولم يكن المترجم له رحمه‌الله يذكر ذلك حين نبغ نجم السيد الشهيد كعالم ديني كبير ، ولكن عند ما أخذنا كتاب والدنا الكفاية للشيخ الخراساني لدراسته ، رأينا على غلافه هذه العبارة : «شرعت في تدريسه إلى ... والسيد باقر الحيدري ..». وقد عرفنا جميع من ذكرهم إلّا السيد باقر الحيدري ، فلم نعرفه ، فسألناه عن السيد باقر الحيدري من هو؟ فقال : هو السيد محمد باقر الصدر ، فإنه عند ما جاء للنجف للدراسة كان يلقب نفسه بالحيدري ، وكان لابسا العمامة الخضراء ، فقلنا له ، وقد درس الكفاية عندكم فقال : نعم قد درس عندي كتاب الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية وأحد جزئي الكفاية وهو الجزء الأول.

٢ ـ السيد حسين ابن السيد محمد تقي بحر العلوم ، أصبح بعد ذلك من مراجع الدين وله رسالة عملية وقد كان يعبّر عن المترجم له : شيخي وأستاذي.

٣ ـ الدكتور السيد مصطفى جمال الدين : وهو من أكابر الشعراء المعاصرين العرب وأستاذ في جامعة بغداد وكلية الفقه في النجف الأشرف وله مؤلّفات قيّمة في أصول الفقه واللغة ، تغرّب عن العراق نتيجة ظلم البعثيين ومطاردتهم له وتوفي ودفن في دمشق (السيدة زينب).

٤ ـ الشيخ عبد الهادي الفضلي ، عالم كبير ، له مؤلفات قيّمة ، وهو يسكن السعودية الآن وهو وكيل من قبل آية الله السيد الخامنئي هناك ، وله أعمال اجتماعية في قم فقد أسس كليّة للدراسات الإسلامية فيها.

٥ ـ الشيخ عبد الأمير قبلان : وهو الآن رئيس المجلس الشيعي في لبنان ، وهو وكيل المراجع هناك ، يخدم أهل العلم وغيرهم بقضاء حاجاتهم ، فقد نذر نفسه لذلك أثابه الله على عمله.


٦ ـ السيد رءوف جمال الدين ، عالم بارع في العلوم العربية ، له مؤلفات جمّة في اللغة والأدب.

٧ ـ الشيخ جعفر بدر الدين الصائغ ، عالم كبير ومبلغ في المهجر (في أبيدجان).

٨ ـ الشيخ محمود الكوثراني ، عالم كبير في لبنان ، له أعمال اجتماعية.

٩ ـ الشيخ حسن طراد العاملي ، عالم كبير يؤدي رسالته الدينية في لبنان وهو شاعر مطبوع ظريف الطبع ، كان من المتفانين في محبة واحترام المترجم له.

١٠ ـ الشيخ عيسى قاسم ، عالم كبير في البحرين ، له أعمال اجتماعية مع علماء البحرين ، متفتح الذهن محتاط في العمل ، كسب ثقة أهل البحرين فهو يعدّ في طليعة علماء البحرين ، لنا معه زمالة قبل كلية الفقه ومعها وبعدها.

١١ ـ الشيخ حسين الفرطوسي ، من علماء الأهواز ، مبلغ جيد.

١٢ ـ السيد طالب الرفاعي ، من علماء العراق الثوريين ، له أعمال اجتماعية مع جماعة العلماء ، شرّد من قبل البعثيين فقطن القاهرة ، مبلغا بها ، ثم في أميركا ، وهو أديب جيد.

١٣ ـ الشيخ محمد جعفر شمس الدين ، عالم جيد ، يؤدي رسالته في لبنان ، وله أعمال اجتماعية كثيرة ومؤلفات حسنة عصرية.

١٤ ـ الشيخ عبد الأمير شمس الدين الذي ما زال يواصل عمله العلمي والاجتماعي في لبنان بكفاءة عالية.

١٥ ـ الشيخ حسن الجواهري (نجل المؤلف كاتب هذه المقدمة).

١٦ ـ الشيخ محمد الجواهري (نجل المؤلف).

١٧ ـ الشيخ أحمد السماوي ، من علماء العراق ، لاقى صنوف الأذى والتعذيب والشهادة من جهاز حزب البعث.

١٨ ـ الشيخ مهدي السماوي ، من علماء العراق المبلغين لاقى صنوف الأذى والتعذيب والشهادة من جهاز حزب البعث.


١٩ ـ السيد عدنان البكّاء ، عالم ومبلغ في العراق ، يدرّس في جامعات النجف والكوفة ، له مؤلفات جيدة وعصرية.

٢٠ ـ الشيخ محسن العراقي (الأراكي) ، عالم فاضل ، مبلّغ قدير ، مارس العمل الإسلامي في إيران ولندن حيث كان وكيلا للسيد الخامنئي في المركز الإسلامي في لندن فأداره خير إدارة ، حيث جعله ملجأ للشيعة المشرّدين ، وهو الآن عضو في مجلس الخبراء لانتخاب المرشد الديني والقائد في إيران.

٢١ ـ السيد جواد الشهرستاني : وهو الوكيل المطلق للمرجع الديني الأعلى السيد السيستاني أوجد مشاريع مهمة وكثيرة في العالم ، تهدف إلى دعم المرجعية الرشيدة ، نشط في ادارته لجهاز مرجعية السيد السيستاني.

٢٢ ـ السيّد جعفر مرتضى العاملي : وهو صاحب المؤلّفات القيّمة المدافع عن مسلّمات الشريعة ضدّ خطّ الانحراف والتشكيك.

أولاده :

له ثمان أولاد ذكور وبنت واحدة توفيت في ريعان شبابها ، أولاده الثمان أربعة منهم معممون وهم :

١ ـ الشيخ علي ، كان يؤم الناس في جامع الشيخ صاحب الجواهر بعد اعتقال والده ولجوء أخيه الشيخ محمد إلى إيران.

٢ ـ الشيخ حسن ، كان قد سفّر من قبل النظام الصدامي بحجة خطره على أمن الدولة.

٣ ـ الشيخ محمد ، كان يؤم الناس في جامع الشيخ صاحب الجواهر بعد اعتقال الشيخ الوالد.

٤ ـ الشيخ كاظم ، وهو الآن مسئول مؤسسة أهل البيت مستمر على دروسه الحوزوية ومن حضّار بحث الشيخ الوحيد الخراساني حفظه الله تعالى.

والأربعة الباقون : اثنان منهم أطباء وهم :

١ ـ الدكتور حسين (باطنية وجلدية).

٢ ـ الدكتور محمد رضا (طبّ الأسنان).


وأحد أولاده وهو أكبرهم الأستاذ محمد أمين أستاذ في ثانوية النجف ، نقل إلى دائرة الإحصاء بعد أن امتنع من الدخول في حزب البعث ، ثم أحيل على التقاعد لنفس السبب. والثاني الحاج صادق كاسب من خدّام سيد الشهداء ويفضّل عمله الثاني على الأول حتى وقد اشترط على من أوجد له عملا ومحلا للكسب ، أن يعطّل كسبه إذا عارض الشعائر الدينية والحسينية.

وله بنت واحدة كانت مريضة قد توفيت في قم ودفنت في مقبرة البقيع رحمة الله عليها.

سبب سجنه واستشهاده :

١ ـ لقد كان الشيخ رحمه‌الله صريحا جريئا يستنكر المواقف اللادينية والخبيثة من قبل سلطة حزب البعث الكافر ، وكان يدافع عن الطلبة والعلماء والحوزات العلمية فضلا عن المراجع العظام.

فقد ذكر في سبب سجنه ـ كما نقل لنا ذلك ـ أن بعض الأفراد كانوا يتّهمون السيد الإمام الخميني بالعمالة للأجانب ، ويصفون الثورة الإسلامية في إيران بارتباطها بالاستعمار تبعا لتوجهات السلطة الحاكمة في العراق. ولكن الشيخ كان يردعهم عن كلامهم هذا الفضيع مصرّحا بأن السيد الإمام مرجع كبير يعمل برأيه في سيرته السياسية ، وهو عادل لا يشك في عدالته فكلّ كلام يخالف هذين الأصلين فهو كلام باطل ، وكان هذا هو دأبه في محافل النجف ، وقد سجّل عليه البعثيون هذه النقطة.

٢ ـ لقد سئل الشيخ رحمه‌الله عن جواز أو عدم جواز الدخول في دائرة الأوقاف العراقية البعثية ، حيث كان البعثيون يصرّون على الطلبة بالدخول في هذه الدائرة ليكون التسلط عليهم سهلا وتسييرهم حسب ما يريدون ، فكان الشيخ يجيب الطلبة ، بعدم جواز التعامل مع البعثيين ودائرة الأوقاف في زمانهم ، حيث يستدل على أن خططهم في عداء الدين جهنمية ، وأنهم أنجس من اليهود في أعمالهم لمحاربة الدين. ويبدو أن السؤال قد تكرر عليه مرارا حيث تمكن بعض الطلبة أن يسجّل


عليه هذا الجواب في مسجل صوتي ، وعند ما طالب السيد الخوئي الحكومة مرارا بالإفراج عنه جاءوا له بالمسجل وأسمعوه صوت الشيخ في تهجّمه على البعثيين وأنهم أنجس من اليهود في خططهم الجهنمية ، فقال السيد الخوئي بعد ذلك لأصحابه : عجبا من الشيخ الجواهري فإنه لا يتقي منهم ويصرح ضدّهم.

٣ ـ عند ما سفّر ولد الشيخ (الشيخ حسن) من قبل الزمرة الصدامية بأمر من المخابرات المركزية بحجة أن الشيخ حسن خطر على أمن الدولة ففي أول رسالة أرسلها الشيخ المترجم له لولده ، «وكان الرقيب العسكري في بغداد قد فتحها وختم على الرسالة بختم يقول : فتحها الرقيب العسكري ببغداد» كان ضمن الرسالة ما يأتي :

«يقول السيد الخوئي : قل للشيخ حسن ، نجوت من القوم الظالمين» ويقصد بذلك أن الشيخ حسن نجا من بطش البعثيين به. كما كان في الرسالة إخبار لي بأنّ البعثيين عادوا إلى عملهم في التضييق على طلبة العلوم الدينية بالاعتقال والتعذيب حيث يقول لي : «لقد عادت حليمة لعادتها القديمة».

٤ ـ ذكر لنا الأخ «شيخ محمد» ان الوالد الشهيد رحمه‌الله قال لبنّاء كبير يشتغل عندنا في البيت «إن ولدك سيكون سببا في قتلي» ، وما سمع البناء ذلك الكلام إلّا وأخذته الدهشة من ذلك الكلام ، وبعد مضي سنوات متمادية رأى الشيخ محمد ان الوالد يتكلّم مع شخص بكلام فيه قسوة على البعثيين والنظام ، مما يستنتج منه ان هذا النظام الموجود في العراق هو نظام غير شرعي ، ويجب مراجعة السيد الإمام الخوئي في الأمر ، وكان هذا الكلام في ذلك الجوّ المرعب والمدهش والدموي بمثابة القاء النفس إلى التهلكة ، يقول الشيخ محمد لقد خفت عن كلام الشيخ مع هذا الشخص الذي معه ، وبعد ذهاب هذا الشخص سألت الشيخ الوالد عنه وكيف لا يتّقي من هذا الرجل؟ فقال : انه ابن بنائنا وجيراننا فلان «وكأنه اطمأن إليه لذا تكلّم معه هذا الكلام الجريء».

وبعد أن حدثت الانتفاضة الشعبانية ودخول الجيش إلى النجف ، واعتقال الأخوين الشيخ محمد والشيخ علي مع جماعة كبيرة من أهل العلم منهم السيد


السيستاني حفظه الله تعالى والسيّد محمد كلانتر والشيخ البروجردي والشيخ الغروي وسوقهم نحو طريق كربلاء تمهيدا لأخذهم إلى بغداد ، يقول الشيخ محمد : أوقفونا في طريق كربلاء وكانت طائرة نائب رئيس الجمهورية «طه ياسين رمضان» موجودة في الطريق : فرأيت ذلك الشاب الذي كان يتكلّم معه الشيخ ضدّ النظام البعثي ، وهو يعاملنا بكراهية وحقد ، فتذكرت ذلك المنظر وتذكرت أنّ الشيخ قد اعتقل بعد تلك المحاورة بيومين أو ثلاثة ، فعرفت انه أحد الأسباب أو السبب الأكبر في استشهاد الشيخ.

وهكذا حصلت نبوءة الشيخ.

أقول : لم يكن الشيخ معروفا بالتنبؤات ، ولا نعرف السرّ في قوله للبناء تلك المقولة والله العالم بالسرائر.

ولهذه الأمور ولغيرها من المواقف الجريئة الحقّة التي كانت للشيخ ضدّ الزمرة الصدّامية الحاقدة على الدين «رغم مجاملتهم للعلماء والمراجع حيث كانوا يزورون الشيخ رحمه‌الله في شهر رمضان نيابة عن رئيس الجمهورية أحمد حسن البكر أو صدّام ويقدّمون قرآنا هدية من الرئيس للوالد رحمه‌الله» فقد جاءوا إليه في ذات ليلة يقولون له : إن محافظ النجف عازم على زيارتكم ، ولكن جاءه ضيوف من بغداد لذا أمرنا أن نكون بخدمتكم لنقلكم إليه لمدّة خمسة دقائق لأمر هامّ ليكون بخدمتكم ، وما كان من الشيخ إلّا أن يستجيب لهم ؛ لأنه يعلم أنه لا يتركونه عند اعتذاره ، فخرج معهم ولم يعد إلى البيت ، وكان ذلك في ليلة ٢٠ / جمادى الأولى / ١٤٠٠ ه‍ ، المصادف ليلة ١٧ / فروردين / ١٣٥٩ ه‍. ش ، المصادف ٦ / أبريل / ١٩٨٠ م.

أقول : إن القرائن تشير إلى أن النظام البعثي الصدامي قد عزم على مهاجمة الجمهورية الإسلامية في إيران وإلغاء اتفاقية الجزائر ، وضمّ منطقة خوزستان إلى العراق ؛ لأنها عربية وتركيع النظام القائم في طهران أو إسقاطه وكان يعدّ العدة لذلك ، ومن أعماله التي قام بها لتهيئة الأجواء لذلك الهجوم هو تسفير عدد كبير من


المؤمنين الرساليين الحسينيين في جنوب العراق ، وكان يخشى من العلماء الذين قد يتصدون للفتوى بحرمة قتال المسلمين في إيران ، وكانوا يخشون من المجتهدين والمراجع العراقيين ، أما الأجانب فلا خوف منهم لعدم تصديهم لذلك ، وكانوا يخشون من السيد الشهيد الصدر ومن الشهيد الوالد حيث كانت العلامات تدلّ على إمكان أن تصدر منهم فتوى بإدانة هذه الحرب وإدانة الهجوم على الجمهورية الإسلامية ، كما كانت قد صدرت من الشيخ فتوى بتحريم التعاون مع البعثيين والدخول في دائرة الأوقاف المسيطر عليها من قبل النظام الصدامي لذا فقد قام النظام بتسفير من يرتبط بالحوزات والحسينيات والمواكب بحجة أنهم إيرانيين أو من أصول إيرانية ، وقام بتصفية من يخاف منهم من الفتوى ضدّ هجوم البعث الكافر على الجمهورية الإسلامية تمهيدا للهجوم المشئوم ، وهكذا كان قبل بدء الهجوم الصدامي البعثي بستة أشهر.

وقد كان الأمر المجمع عليه عند المراجع والحوزة وأهل الفقيد الشهيد أنه محجوز عند النظام وسيأتي اليوم الذي يخرج فيه من السجن ، إذ لم يكن للشيخ أي عمل عسكري أو تحريضي ضدّ الدولة إلّا التصريح بما يعتقد فيهم ، وهذا إن كان صحيحا فلا داعي للمعاقبة عليه وإن كان غير صحيح فلا يكون الحكم عليه هو الاعدام.

ولكن بعد أن سقط النظام تبيّن أن الزمرة الكافرة الصدامية قد قتلت كل من كان يعتقد فيه السجن والحجز ، ومنهم الشيخ المترجم له.

ومما وقع بأيدينا من اضبارة المرجع السيد حسين بحر العلوم رحمه‌الله حيث كانت داره ملاصقة لدار الشيخ رحمه‌الله ، وكان البعثيون يحاولون توظيف كل من كان حول دار السيد للتعامل معهم ضدّ السيد بحر العلوم فكانت التقارير عن أولاد الشيخ ونساء أولاد الشيخ وعن أولادهم وأعمالهم وعن الشيخ حسن المبعّد خارج العراق ، موجودة في اضبارة السيد بحر العلوم ، وقد سلّموها لنا لعلاقتها بنا وكان من ضمنها الاعتراف بأن السلطة الحاكمة في العراق قد أعدمت الشيخ بعد اعتقاله.


التأبينات :

وقد صدرت تأبينات كثيرة للعلماء الذين يعتقد احتجاز السلطة لهم بعد أن تبيّن تصفيتهم من قبل النظام البعثي الصدامي ، منها بيان الحوزة العلمية العراقية في تاريخ ٣ / ربيع الأول / ١٤٢٤ ه‍. ق.

بسمه تعالى

بيان الحوزة العلمية العراقية

بيان تعزية بمناسبة الفاجعة الأليمة باستشهاد كوكبة من فقهاء وفضلاء الحوزة العلمية في النجف الأشرف وغيرهم من أبناء الشعب العراقي.

بسم الله الرحمن الرحيم

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً.)

لم يكد شعبنا العراقي المظلوم يستشعر طعم الحرية والخلاص من الطاغوت حتى استفاق على مصيبة عمّت أرجاءه ومزقت أحشاءه إذ كانت عيون الملايين من شعبنا المظلوم شابحة إلى نجاة عشرات الآلاف من أولادها وفلذات أكبادها الذين غيبتهم سجون الطاغية لسنين طويلة يصل بعضها إلى أكثر من ربع قرن.

وإذا بهذا الشعب المنكوب لا يجد في مطامير السجون سوى آثار الدماء وأدوات التعذيب ، فكانت مصيبة من أمضّ ما ذاقه شعبنا الصابر من ظلم واضطهاد واستهانة بالأرواح والنفوس ، وخسارة فادحة يواجهها بعد تاريخ طويل من الخسائر المؤلمة المتتالية. لا سيما وأن في مقدمة أولئك الشهداء ثلة من خيرة علمائها


وفقهائها ومجتهديها وعيون حوزتها العلمية في النجف الأشرف ، ممن غصت بهم السجون لفترات تراوحت بين العشر سنين والعشرين سنة والأكثر من ذلك ، دون جرم ولا تهمة ، سوى أنهم جندوا أنفسهم لحماية الدين وحفظ القيم والمبادئ الحقّة. وإن بعضهم وقف إلى جانب الأمة أيام انتفاضة شعبان (١٤١٠ ه‍) وسعى إلى ترتيب أوضاع البلاد وحفظ مصالح العباد تحت توجيه ورعاية المرجع الأعلى للمسلمين في زمانه آية الله العظمى السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي قدس‌سره ، الذي تعرض هو والخواص من أصحابه الذين كانوا من خيرة علماء الحوزة العلمية في النجف الأشرف فضلا وعلما وعملا ، إلى صنوف العذاب والاعتقال والامتهان بسبب مواقفهم الدينية الشريفة لحماية الناس والوقوف إلى جانبهم في محنتهم ، حتى دفعوا ثمنا غاليا لتلك المواقف المبدئية فقضوا بين شهيد بأيدي الظلمة ، وسجين مغيب لا يعلم له أثر.

ولما زال هذا الكابوس عن صدر شعبنا المظلوم تكشفت وقائع الإثم والعدوان التي ملأ بها النظام البائد بقاع العراق من شماله إلى جنوبه وتبدّل الأمل بنجاة أولئك المظلومين إلى رزية عظيمة ولله درّ القائل :

وكانوا رجاء ثم عادوا رزيّة

لقد عظمت تلك الرزايا وجلت

ونحن إذ نعزي صاحب الأمر (عجل الله تعالى فرجه) ، ومراجع التقليد ، والحوزات العلمية ، والأمة الإسلامية ، وكافة طبقات الشعب العراقي ، بهذا المصاب الجلل نبتهل إليه تعالى أن يجعل الصبر لهم قرينا والأجرة عاقبة ، والعاقبة للمتقين ، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

الحوزة العلمية العراقية

٣ ربيع الأول ١٤٢٤ ه


ومنها :

بيان أسرة الشيخ صاحب الجواهر في خصوص شهداء الأسرة الكريمة

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ)

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)

صدق الله العلي العظيم

بعد انتظار طويل دام أكثر من أربعة وعشرين عاما من الصبر والمعاناة والأمل بخلاص السجناء من سطوة النظام البعثي الكافر.

وبعد سقوط النظام الصدامي الديكتاتوري وانتهاء عهد الجور والبؤس والحرمان ، تلقينا نبأ استشهاد كوكبة من أسرة شيخ الطائفة (الشيخ صاحب الجواهر قدس‌سره) يبلغ عددهم حوالي عشرة أشخاص وعلى رأسهم الفقيه الكبير آية الله الشيخ محمد تقي الجواهري والأستاذ الكبير شفيق الجواهري نجل آية الله الشيخ محمد حسن الجواهري.

وقد بذلت جهود مخلصة ومكثّفة لمعرفة بصيص الأمل بوجود هذه الكوكبة من المؤمنين ، ولكن دون جدوى ، واستنادا إلى الوثائق التي تمّ العثور عليها في مراكز الإجرام في المخابرات الصداميّة انكشف أنّ النظام المقبور قد ارتكب جريمته النكراء ضد العلماء والمجاهدين والمؤمنين فأعدم هذه الصفوة من آبائنا وإخواننا من هذه الأسرة العلمية العريقة وغيرهم الكثير الكثير من أبناء العراق المسلمين الغيارى.

في هذه المناسبة ننعى للأمة الإسلامية والحوزات العلمية عامّة وحوزة النجف الأشرف ومراجعها العظام والشعب العراقي المظلوم استشهاد هذه النخبة المؤمنة


الصالحة ونعاهد الله والأمة على أن نكون جنودا أوفياء لهذه المبادئ الحقّة التي استشهدوا من أجلها ، وأن تكون دماؤهم أعلام عزّ في طريق النصر والكرامة ، وسيبقى النظام البعثي الكافر والصدّامي المجرم يلاحقه العار والشنار على مرّ العصور لما قدّمه لشعبه من ظلم ودمار ، ولم يترك بيتا إلّا وجعل فيه ناعية ومظلمة وشيّد أيامه السّود على جثث الضحايا المؤمنين ، وكانت عاقبة أمره خسرى.

اللهم ارحم تلك الأرواح التي قدّمت في سبيلك وسبيل دينك فقد بذلوا أنفسهم من أجل الحق وإعلاء كلمة لا إله إلّا الله ودفن الكفر في بلادك.

وقد أقيم مجلس الفاتحة في قم المقدسة (مسجد أعظم) يوم الأربعاء ٥ ربيع الأول ١٤٢٤ ه‍ الساعة ١٠ ـ ١٢ قبل الظهر.

كما وأقيم مجلس الفاتحة في طهران نفس اليوم في مسجد أرك ، الساعة ٣٠ / ٤ ـ ٣٠ / ٦ بعد الظهر.

وإنا لله وإنا إليه راجعون.

أسرة صاحب الجواهر


ومنها :

البيان المشترك لأسرة الشيخ صاحب الجواهر وأسرة السيّد بحر العلوم

(قدّس سرهما)

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ* أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)

صدق الله العلي العظيم

إن الشهداء الأبرار هم أحياء عند ربهم يرزقون.

وإذا كانوا من العلماء في شرع الله فشهادتهم رفع درجات لهم عند الله ، وذووهم إذا صبروا وعلموا أنّ الملك لله وحده وكلّ إليه راجع ، فالله يصلي عليهم ويرحمهم ويهديهم.

ما أحلى الشهادة في سبيل الله وخصوصا لأهل العلم.

إنّها حياة عند الرب ورفع درجات لا تنال إلّا بالشهادة.

وصلاة من الله ورحمة لذويهم إذا صبروا واتقوا.

سبحانك يا رب أنت العزاء لنا في شهادة الكوكبة المؤمنة من أتباع أهل البيت بعد تلقي نبأ استشهادهم بعد سقوط الطاغية صدام وحزبه الخبيث ، إنّهم استشهدوا في سبيلك يا رب وفي سبيل تحكيم شرعك الحنيف.

وإذ تقدّم اسرة شيخ الطائفة «الشيخ صاحب الجواهر قدس‌سره» شهداءها الأبرار الذين يبلغ عددهم تسعة شهداء ، وتقدّم اسرة سيد الطائفة السيد بحر العلوم قدس‌سره ،


شهدائها الأبرار الذي يبلغ عددهم خمسة عشر شهيدا ، تعلن الأسرتان العلميتان الكريمتان عن إقامة مجلس الفاتحة (على أرواح الشهداء وخصوصا الكوكبة من الأسر العلمية) في مدينة قم المقدسة.

لذا ندعو سائر المؤمنين وطلاب العلم والعلماء والمراجع العظام لحضور هذا المجلس التأبيني تخليدا لأرواح الشهداء من فقهاء وعلماء وطلاب علوم دينية وأساتذة مؤمنين ، ومن يعظّم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب.

الزمان : يوم الأربعاء بعد صلاتي المغرب والعشاء المصادف يوم ١٢ ربيع الأول ١٤٢٤ ه‍.

المكان : قم ـ مسجد الإمام الرضا عليه‌السلام ـ گذرخان.

أسرة الشيخ صاحب الجواهر قدس‌سره

أسرة السيد بحر العلوم قدس‌سره


ومنها :

البيان التأبيني الصادر من قبل آية الله مرشد الجمهورية الإسلامية

السيد علي الخامنئي حفظه الله تعالى

بمناسبة استشهاد أعداد كبيرة من علماء الحوزة العلمية في النجف الأشرف

بسم الله الرحمن الرحيم

استنادا إلى الأخبار الموثقة الواردة من العراق والتي أيدها أيضا سماحة آية الله السيّد محمد باقر الحكيم فإن اعدادا كبيرة من العلماء والمجتهدين والفضلاء وطلبة الحوزة العلمية في النجف الأشرف الذين اعتقلوا قبل سنوات من قبل النظام الدموي البعثي في العراق ، وكنا نأمل أن يكونوا على قيد الحياة في السجون ، قد نالوا الشهادة على يد ذاك النظام.

هذا إنما جزء من جرائم النظام البعثي في العراق ومظالمه وهؤلاء الشهداء المظلومين إنما كوكبة معينة من عشرات آلاف الشهداء من مختلف قطاعات ذاك الشعب الذين تضرجوا بدمائهم في الفترة السوداء من حكم هذا النظام الدموي بمعونة أو صمت منحاز للدول الاستكبارية.

ان قادة ذاك النظام ليسوا وحدهم المسئولين امام الله والشعب العراقي عن هذه الجرائم بل كل من ساندهم بمساعداته وسياساته في تقويتهم وتجهيزهم وتسليطهم على الشعب العراقي ، وهكذا المنفذين.

إنني بعد تقديم العزاء إلى ساحة بقية الله الأعظم ارواحنا فداه أعزي حوزة النجف الأشرف المقدسة والمراجع العظام والعلماء الأعلام وعموم أسر أولئك الشهداء المظلومين وخاصة الأسر المعظمة : آل الحكيم وآل بحر العلوم وآل صاحب الجواهر والأسر المعززة : الخلخالي ، والهاشمي الشاهرودي والأنصاري القمي والخوئي والشيرازي والمرعشي والاشكوري والفقيه ، وسائر الأسر العلمية.


وأحيا ذكر الشهداء العظام آية الله السيّد محمد باقر الصدر وآية الله السيّد محمد الصدر وآية الله الحاج ميرزا علي الغروي التبريزي وآية الله الحاج الشيخ مرتضى البروجردي ، وأسأل الله أن يقطع يد الظلمة والمعتدين عن العراق وفلسطين وسائر البلاد الاسلامية.

السيد علي الخامنئي

٢ / ربيع الأول / ١٤٢٤ ه‍. ق

١٤ / ٢ / ١٣٨٢ ه‍. ش


دمعة وافتخار

يا من بهم عقدت آمال امّتنا

وجاوزت في مراقي مجدها الأمما

وكنتم زهرة الدنيا وبهجتها

إذ صنتم المثل العلياء والقيما

أوحشت محرابنا (الزاهي بنغمتكم)

وظلّ مسجدنا العالي بغير حمى

ومنبر الدرسي يشكو حاله سقما

ترعرع الشوك فيه والندى انحسما

أيّامنا البيض عادت بعد بينكم

سودا ، وقد ملئت من فقدكم ضرما

يا صاحب العود خلّ العود ، إنّ لنا

شيخا جليلا بقعر السجن فاض دما

واعزف بألحانك الحرّى لعلّ يدا

غيبيّة تفتق الأستار والرخما

فيرتقي بين أشبال الهدى علم

يقوى على مشكلات تصنع الإزما

قد كان للعلم بدرا يستضاء به

وكان من فمه نبع الصلاح نما

لسانه صارم بالحق ذو لهج

يصبّ فوق رءوس افسدت حمما

وطالما حذروا منه مناهضة

لفكرهم ، إذ مضى في رفضه قدما

ولم يصافح أكفّا أو يسغ فكرا

بالغيّ دنّست القرطاس والقلما

ولا تردّد في فضح الجناة يرى

فريضة حرب من في غيّه ارتطما

ولا يداهن باغ رغم سطوته

حتى وإن قيّد الايدي وسدّ فما

فليضحك الفخر ريّانا تعانقه

إنّ الذي صنع الإعزاز ما ندما

* * *

سمت نفوسكم للحق وابتسمت

وخلّفت شجنا في القلب محتدما

هيهات أن يئدوا نهجا اقيم على

التقوى فأفرع روّادا لنا وسما

أئمة أشرقت علياؤهم ألقا

وحوزة زانها التعليم والعلما

نهج له من رسول الله معتصم

ونهجهم صار للشيطان معتصما

يا خائبين متى راجت تجارتكم

ورأس مالكم جور وسفك دما


تجارة نهجها التخريب مقترنا

بالقتل والحرب والتشريد منسجما

لقد أمتّم ربيع الكون في بلدي

قيثارتي لا تحيي العود والنغما

أتلطمون جبين الدين إن أفلت

أفكاركم وتمادت روحكم سأما

وتذبحون الهدى والعلم من نزق

وتتبعون الهوى والرجس والصنما

وتعشقون من القصاب مهنته

قد قسّموا لحمنا من بغيهم قسما

وكيف يبقى أبيّ الضيم بينهم

حرّا وبين أياديه الهدى ظلما

غدوا على شرعة الهادي ومدرسة

الاسلام تجتثّ منهم للأصول دمى

كأنهم ما دروا أنّ الحسين لنا

شرع ومنطقهم يوم الحسين عمى

خاضوا فكانت دماء المسلمين لهم

قيدا فقادهم للموت وابتسما

* * *

أبت سريرتك المثلى لهم تبعا

وبين جنبيك نور الحقّ قد رسما

ما خاب من صلحت حقّا سريرته

وحارب الظلم والإرهاب واللؤما

وناصر الحق مزهوّا بطلعته

يزيل عنه بنور الشّرعة الظّلما

هذي الحياة طريقان ، استقام بها

طريق رشد لمن بالخالق اعتصما

وآخر ضلّ في الدّيجور سالكه

ولم يثبّت على نهج الهدى قدما

كنتم لحوزة دين المصطفى سندا

لولاكم ما سما دين ولا نجما

برهان منطقكم وحي السماء هدى

والعقل فيه بغير النصّ ما حكما

وصارعت كفرهم أفكاركم فغدا

يجرّ ذيلا على الاعقاب منهزما

وسرت منتصرا تطوي لهم علما

بغير حكم إله العرش قد حكما

* * *

حطمت باب مخازي ظلمهم بيد

حمراء فافتضح المخزي وانهزما

لما رأيت عمود الدين منخفضا

شراعه ـ بيد شلاء ـ منقسما

فقلت قولتك المثلى بحقّهم

أخزى من الكفر حزب البعث واللؤما


يا من ترومون أن تملا دنانكم

خمرا فلم تجدوا من كرمكم كرما

لقد أحلتم رياض الأرض مسبعة

لعفلق ورفاق للدماء ظما

فقد أفقنا على أجداث أمّتنا

«بعد السقوط» بساحات الفلا رمما

والعرب تنظر جلّادا يغازلهم

من ينظر الجلد لا يعرف له ألما

مهازل حاكها سادات محنتنا

خلّ الكثير وخذ من هاهنا لمما

وليهنِ شعب أبينا ما ونى أبدا

ولا تكتم في البلوى وما جثما

ما كل عود إذا أحرقته خمدا

بعض من العود يذكي العطر لا جرما

* * *

صبرا على حكمة الباري ولوعتنا

بعض الطيور تغني الدمع والضرما

فروضنا قد خلا منه الهزار فلا

تسلّق الغصن جدرانا بها وسما

ولا تفتّح ورد من كمائمه

ولا شدا الطائر الميمون بينهما

ولا تموسق في ظلّ الغدير منى

جيّاشة تكسح الآهات والصمما

يا لائمي إنّ عودي لا يساعدني

على الربابة وترا ينشد النغما

يعقوب عيناه غاضت حين فارقه

محبوبه والتلاقي منه قد علما

عشرين عاما وخمسا من (١) مفاصلها

كنّا نرجّي التقى والعلم والقيما

بناتنا ذابلات الورد من شبح

وولدنا سخط الباغي له قصما

ودربنا بات بالأشواك مزدحما

يسيل ـ من احتياط السير فيه ـ دما

تحكّم؟ وامتحان؟ او هما حكم

الذئب (٢) يبقى ويورى في الثرى العظما

__________________

(١) إشارة إلى الأربعة والعشرين عاما التي كان أتباع الشهيد ينتظرون قدومه «اعتقادا منهم أنه مسجون في سجن الطاغية صدام» ليؤدي رسالته في الحوزة العلمية.

(٢) كانت هذه القصيدة قد نظمت قبل إعدام الطاغية صدام.


الفاسقون وما شاءوا وما عملوا

والمهتدون على البلوى تحوم حمى

تعبّد؟ أم قوانين الحياة إذا

ما رمت شيئا عظيما يعتلي القمما

طريقه تضحيات بالدماء كما

ضحّى النبيون في أعصارهم كرما

الأنبياء وأنتم في معاقلكم

صنوان دربكما بالمسك قد ختما

أهدافكم سنّة الباري ويؤنسكم

صلب الجهاد له ربّ الورى قسما

وما وهنتم وفلّت ذلّ موقفهم

صيحاتكم فهوت أشلاؤهم خذما

من رام أن يطأ الذؤبان مستبقا

زمانه فلتغازل روحه الألما

وليبق جيل أبينا في بطولته

يجنى الجنى وثمار النصر قد لثما

* * *

واخيرا نتقدم بشكرنا الجزيل إلى مؤسسة مجمع الفكر الاسلامي لقيامها بدور التحقيق لهذا الأثر المهم ، فجزاهم الله خير جزاء العاملين ، كما نختم هذه المقدّمة بقوله تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبادِي* وَادْخُلِي جَنَّتِي) وسلام على شيخنا الشهيد يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيّا.

حسن محمد تقي الجواهري

٢٦ / ج ٢ / ١٤٢٧ ه


بعد أن اطّلع العلّامة الكبير المحقّق الشيخ باقر شريف القرشي «حفظه الله» على مشروع طبع هذا الكتاب تفضّل بهذه الكلمة الكريمة :

بسم الله الرحمن الرحيم

من الأسر الكريمة التي ظهرت على مسرح الحياة العلميّة والأدبيّة في النجف الأشرف اسرة آل الجواهري ، فقد اتحفت العالم الإسلامي والعربي بكوكبة من النوابغ والأفذاذ الذين يعدّ بعضهم من أساطين العلماء ، كان منهم الفقيه الكبير الإمام الشيخ محمّد حسن عميد هذه الأسرة ، وزعيم الفقهاء ، وهو مؤلّف كتاب «جواهر الكلام» وهو أهمّ موسوعة في الفقه الإمامي ، ومن المصادر المهمّة التي يتخرّج منها المجتهدون والفقهاء ، ونظرا لأهميّته البالغة في الأوساط العلمية فقد سميّت اسرة المؤلّف باسمه فقيل اسرة آل الجواهر ، كما سميّت بعض الأسر العلميّة باسم الكتاب الذي ألّفه بعض أعلامها كاسرة آل كاشف الغطاء ، فإنّ هذا اسم للكتاب الفقهي الثمين الذي ألّفه الإمام الشيخ جعفر وبه سمّيت اسرته.

ومن نوابغ هذه الأسرة شاعر العرب الأكبر محمّد مهدي الجواهري متنبئ العصر ، ولا أعتقد أنّ أديبا أو مثقّفا في العالم العربي إلّا قرأ شعره أو حفظ منه.

ومن نوابغ هذه الأسرة الكريمة سماحة آية الله العظمى الشهيد الشيخ محمّد تقي الجواهري الذي أجهد نفسه في تحصيل العلوم والمعارف الإسلامية مذ كان صبيا وفي رعاية أبيه حجّة الإسلام آية الله العظمى الشيخ عبد الرسول الذي كان صديقا لوالدنا المغفور له الشيخ شريف القرشي.

لقد تمرّس شيخنا التقي في العلوم التي درسها كعلم النحو والصرف والمنطق والبلاغة والأصول والفقه ، وغيرها ... واتذكّر أنّي كنت معه في أيام عاشوراء في مجلس عقد لسيّد الشهداء عليه‌السلام فقدّم له كتاب خطّي في مقتل الإمام الحسين عليه‌السلام


وطلب منه أن يقرأ منه على الحاضرين ، وأخذت الكتاب منه ونظرت فيه فإذا هو مليء بالأخطاء النحوية وغيرها ، فقلت له بذلك فقال : لا يهمنا ، في أثناء القراءة سوف أصلحه ، وفعلا قرأه خاليا من الأخطاء.

وعلى أيّ حال ، فقد عاش شيخنا الشهيد مكبّا على تحصيل العلم لم يخلد إلى الراحة ولم يألف السكون ، وقد قضى عشرات السنين من حياته في مدرسة الخليلي في النجف الأشرف ، على تدريس الحوزات العلميّة ، وقد تخرّج على يده مجموعة من العلماء والأفاضل.

وكان من ألمع تلاميذ سيّدنا الإمام الخوئي قدس‌سره مربي الأعلام ، وأستاذ المجتهدين ، ولم يتخلّف من الحضور في مجلس بحثه عشرات السنين ، وكان يشكل عليه في أثناء تدريسه ، كان الأستاذ ربّما يوافقه أو يردّ عليه ، وقد كتب معظم بحوثه في علم الفقه والأصول ، وقد تصدّى نجله حجّة الإسلام شيخنا المكرّم الشيخ حسن لطبعها وهو من أفضل المبرّات التي يقدّمها لوالده ، كما أنّه من أفضل الخدمات التي يسديها على طلّاب علم الفقه والأصول.

ولم تقتصر معارف شيخنا الشهيد على علم الفقه والأصول ، وإنّما شملت الأدب العربي ، فقد كان من أفاضل الشعراء ، وله ديوان مخطوط قد تلف مع الأسف ، وقد ذكر الشيخ علي الخاقاني بعض قصائده في موسوعته «شعراء الغري».

وقد شاء الله تعالى أن يرزق هذا العالم الكبير الشهادة على أيدي أعتى خلقه البعثيين ، فقد عزّ عليهم أن يكون في الحوزة العلميّة في النجف الأشرف مثل هذا العالم في فضله وثرائه العلمي فألقوا عليه القبض ، ونفّذوا فيه الإعدام وقد خسرت الهيئة العلميّة فذا من أفذاذها وعلما من أعلامها اللامعين ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.


وإنّا نأمل من نجله حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ حسن حفظه الله تعالى أن يملأ الفراغ ، ويعيد لهذه الأسرة المكرّمة مكانتها العلميّة في الأوساط الاجتماعيّة ، سائلين الله تعالى أن يمدّ في توفيقه ويتفضّل عليه بلطفه ، إنّه تعالى ولي ذلك والقادر عليه.

باقر شريف القرشي

٢١ / ج ١ / ١٤٢٧ ه‍

كتبت هذه الكلمة في قم المقدسة


تواريخ الاستشهاد

وقد تفضّل علينا الأستاذ الكبير العلّامة المؤرّخ السيد عبد الستار الحسني بتواريخ ثلاثة لسنة استشهاد الفقيه آية الله الشيخ محمد تقي الجواهري ، وها هي كما قدّمها بقلمه :

باسمه تعالى (١)

اعتذار :

شيخنا الآية الشيخ حسن الجواهري دامت بركاته :

بعد السّلام والدّعاء مشفوعين بوافر الحمد والثّناء :

* * * * *

حضرني هذان التأريخان الماثلان أمامكم بعد اللقاء المبارك مباشرة فقيّدتهما على علّاتهما من غير تنويق أو تنميق على أمل إعادة النظر فيهما لكن حالتي الصحيّة وانحراف المزاج المفاجئ حالا دون ذلك فألتمس من سماحتكم العذر والإغضاء عمّا عسى أن يكون قد اعتورهما من الهنات الهيّنات ـ وليس بملوم من اعتذر ـ.

تاريخ استشهاد سماحة آية الله مربّي العلماء الأعلام الفقيه المحقّق الشيخ محمد تقي الجواهري النجفي قدس الله تعالى سرّه ، وفي فراديس النعيم المقيم سرّه :

عيلم العلم والتقى قرّ عينا

حيث قد بوّئ النعيم المخلّد

إذ قضى نحبه شهيدا سعيدا

وهو في عالم الكرامة أسعد

__________________

(١) لا يحذف (ألف الوصل) إلّا من (البسملة) الكاملة ؛ فما شاع من حذفه في نحو : بسمه تعالى ، غير سديد ، وإن سدك به وغري برسمه على هذه الصورة كثير من الأفاضل.


إن يضع مشهد ؛ ففي كلّ قلب

لابن (عبد الرسول) قد قام مشهد

قد فقدناه صرح علم منيفا

شاد أركانه الإله ووطّد

في معاليه كان (عقدا فريدا)

سمطه من (جواهر) قد تنضّد

كيف أستطيع وصف من حاز قدرا

لا يوفّي أوصافه (الرّسم) و (الحدّ)

أوحديّ شرواه (١) عزّ وجودا

هو من (مذهب الهدى) العين واليد

كم عليه تخرّجت من فحول

كلّ فرد بأفق علياه فرقد

وله من بنيه خير ادّكار

إذ قفوا نهجه القويم المسدّد

في ضروب العلوم فاز بسبق

وبآثاره الأعاظم تشهد

لم يزل في محافل العلم حيّا

إنّ من عاش فكره ليس يفقد

بيد أن القلوب تندب وجدا

فقد (وجه) به الرّشاد تجسّد

لصراط الصواب كان سراجا

بسناه أخو الغواية (٢) يرشد

مخذم في الجهاد غير كهام

وعجيب في باطن التّرب يغمد

والمعزّى برزئه علم طه

والهداة (٣) الأطياب من آل أحمد

ومذ الدّين قد نعاه بشجو

وبهول المصاب في الخلق ردّد

ب (دم) (٤) الأعين الورى أرّخوه :

«ثكل العلم ب (التّقيّ محمّد)»

٤٤+

٥٥٠+ ١٧١+ ٢+ ٥٤١+ ٩٢ ـ

سنة (١٤٠٠ ه‍)

__________________

(١) شرواه : مثله ، نظيره.

(٢) الغواية ، بفتح الغين المعجمة وليس بكسرها كما شاع خطأ. ومثلها : الرّضاعة والرّضاع وكسر رائها غير فصيح.

(٣) الهداة معطوفة على (طه) وليس على (علم) أي وعلم الهداة .. الخ.

(٤) في عبارة (دم) إشارة إلى إضافة (٤٤) إلى مادّة التأريخ. وقد حسّن التورية ترشيحها لما يأتي في مادة التأريخ.


تأريخ آخر لشهادة آية الله الجواهري قدس‌سره :

علم الفضيلة قد قضى في سجنه

صبرا ؛ فعزّ (شرائع الإسلام)

قد غادر الدّنيا فغشّاها الأسى

وتجلببت لمصابه بظلام

وبفقده ، مذ قيل عن أفق الهدى

قد غاب ـ وا أسفاه ـ بدر تمام

(ناع) (١) أتى ليصيح في تأريخه :

(بكت التّقيّ جواهر الأحكام)

١٢١+

٤٢٢+ ٥٤١+ ٢١٥+ ١٠١ ـ

سنة (١٤٠٠ ه‍)

تأريخ ثالث لرحيل فقيد العلم والتقى والجهاد آية الله الفقيه الشيخ محمد تقي الجواهري قدس‌سره حضرني بعد التأريخين المتقدمين :

لله خطب ـ في البريّة ـ فادح

أورى القلوب أسى وزاد شجاها

فلقد قضى صنو المكارم والعلى

وطوى الحمام من العلوم لواها

ومعاهد التّدريس دارسة غدت

إذ كان محيا مثله محياها

رزئت بفقد (أبي الأمين) أمينها

وسنا محجّتها وقطب رحاها

وبكت (محمّدا التّقيّ) نواظر

قد كان في الليل البهيم ضياها

وخبت مصابيح الرّشاد لهول ما

قد ناب ذاك المخبت الأوّاها

لا غرو إن نعت (الشّرائع) للورى

من ب (الجواهر) جدّه حلّاها

(علّامة) الدّهر (المحقّق) من به

دين المهيمن بالمفاخر باهى

ذاك (المفيد) (المرتضى علم الهدى)

(شيخ الشريعة) حصنها وحماها

وبيوم ودّعها هتفت مؤرّخا :

[[فقدت (جواهرها) (شرائع) طه]]

٥٨٤+ ٢٢١+ ٥٨١+ ١٤ ـ

سنة (١٤٠٠ ه‍)

__________________

(١) في كلمة (ناع) تورية بإضافتها إلى مادّة التأريخ وبها يتم المطلوب.


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ثمّ الصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين المعصومين.

فهرست علم الاصول

الدين عبارة عن جملة من أحكام لها تعلّق بعمل المكلّف ، سواء كان جوانحيّا أو جوارحيّا.

فإن كان المقصود منه هو الالتزام والاعتقاد فالمتكفّل ببيانه هو علم الكلام ، كوجود الباري ووحدانيّته وعدله وكماله وصفاته الثبوتيّة والسلبيّة ، وكالنبوّة وما يعتبر في منصبها من العصمة وغيرها وكالإمامة وما يعتبر فيها.

وإن كان المقصود منها العمل الجوارحي فالمتكفّل ببيانه هو علم الفقه. وحيث إنّه ليس من العلوم البديهيّة ، بل هو من العلوم النظريّة فله مقدّمات ومبادئ تتوقّف معرفته عليها. وأهمّ تلك المقدّمات هو علم الاصول ؛ ضرورة أنّ من ليس عنده من الاصول شيء فهو ناقل للفتوى ، كما أنّ من كان عنده من الاصول شيء ولم يكن مجتهدا في مبانيه فهو مقلّد في المباني.

وقد ظهر لك وجه تسميته بعلم الاصول ؛ فإنّ الاصول في اللغة هي مباني الأشياء ، وظهر أيضا وجه تسمية الفقه بالفروع أيضا ؛ فإنّها من متفرعات تلك الاصول. ومن هنا ظهر أهمّيّة علم الاصول وضرورة قراءته.


وقد كانت سيرة المتقدّمين من علمائنا أنّهم يبحثون عن المسألة الأصولية عند التعرّض لها في الفقه ، حتّى انتهى الأمر إلى صاحب الحدائق وصاحب المعالم ومن قارب عصرهما فدوّنوا الاصول قبل الخوض في المطالب الفقهيّة في مقدّمات الكتاب. ولكن جملة من علمائنا المتقدّمين وجميع المتأخّرين التزموا تدوين الاصول في كتب مستقلّة عن الفقه.

ولا يخفى أنّ ذلك ليس بدعة ـ كما نسبه إليهم بعض الأخباريين (١) ـ ضرورة أنّ البحث عنها لا بدّ منه ، واستقلالها لا ضير فيه ، فأيّ بدعة في البحث عنها مستقلّة ، إلّا أن يكون مراد من زعم كونه بدعة أنّه شيء جديد حادث ، لا أنّه حرام ، وهو مع كونه خلاف مساق كلامه غير حادث أيضا ، بل إنّ الاستقلال في تدوينه من زمن الشيخ الطوسي قدس‌سره (٢) فليس بحادث.

ثمّ إنّ هذه الاصول تارة تكون كافلة بأحكام الشاكّ ومبيّنة لوظيفته العمليّة وتسمّى بالأصول العمليّة ، وتارة تكون كافلة ببيان الأحكام الواقعية ، وهي على أقسام ؛ ضرورة أنّ البحث فيها :

تارة : يكون فيما يتعلّق بالأدلّة اللفظية ، وتسمّى بالأصول اللفظية ، مثل كون الأمر دالّا على الوجوب أم لا ، وكون النهي دالّا على التحريم أم لا ، وكون الجملة الشرطية دالّة على المفهوم أم لا.

واخرى : يكون في ملازمات الأحكام ، سواء استفيد الحكم من دليل لفظي أم لا ، مثل البحث عن مقدّمة الواجب وقاعدة الضدّ وباب اجتماع الأمر والنهي واقتضاء النهي الفساد.

__________________

(١) المولى محمّد أمين الأسترآبادي في الفوائد المدنيّة : ٣.

(٢) ويكفينا كتابه عدّة الاصول.


وثالثة : يكون البحث فيه عن حجّيّة دليل وعدم حجّيّته ، وهو المعبّر عنه ببحث الحجج ، مثل البحث عن حجّيّة الظواهر وخبر الواحد والشهرة والإجماع المنقول وغيرها.

ورابعة : يكون البحث فيها عن تعارض الأدلّة وهي :

تارة : في تعارض الأدلة الواردة على الأشياء بعناوينها الأوّليّة مع ما ورد عليها بعناوينها الثانويّة كقاعدة لا ضرر مع بقيّة الأحكام.

وتارة : نفس أدلّة العناوين الأوّليّة متعارضة كالأخبار المتعارضة ، ويسمّى الجميع باب التعادل والترجيح.

وقد جرى ديدن الأصوليين ولا سيّما المتأخّرين على تقديم البحث عن امور تسمّى بالمبادئ على هذه الاصول المذكورة ، مثل البحث عن موضوع العلم وغايته ومباديه والوضع والمعنى الحرفي والمشتق والصحيح والأعمّ والحقيقة الشرعيّة وغيرها. ونحن نجري على منوالهم فنقول وبالله الاستعانة ومنه المدد (*) :

__________________

(*) ذكر المقرّر في الحاشية بيانا آخر للمسائل الأصولية عن الدورة اللاحقة للدرس ، وهذا نصّه :

إذا علم المكلّف إجمالا بوجود تكاليف شرعية متّجهة نحوه فلا بدّ له من تحصيل الامتثال لها بنحو يكون محصّلا للمؤمّن الشرعي من جهتها فلا بدّ له من الخوض في علم الأصول.

فإمّا أن يكون علم الأصول محصّلا للعلم القطعي الوجداني بالحكم الشرعي كالاستلزامات العقلية ، ككون وجوب الشيء مستلزما لوجوب مقدمته مثلا ، وكون الأمر بالشيء مقتضيا للنهي عن ضدّه ، وكون النهي مقتضيا للفساد ، وباب اجتماع الأمر والنهي وغيرها من المبادئ العقلية المقتضية للعلم بالحكم الشرعي.


__________________

ـ أو يكون محصلا للعلم التعبدي بالحكم الشرعي ، وهذا إما أن يكون باحثا عن صغريات مسلّمة الكبرى ، ككون الأمر ظاهرا في الوجوب مثلا أم لا ، وهذا أيضا تارة يكون بلحاظ نفسه كما مرّ ، أو بلحاظ أمر آخر ككون الأمر عقيب الحظر للوجوب أم لا.

أو يكون باحثا عن كبريات محرزة الصغرى كبحث حجية خبر الواحد مثلا وحجية الاجماع المنقول وحجية أيّ الخبرين أو الإجماعين المتعارضين.

وإذا لم نحصل العلم بالحكم الشرعي لا وجدانا ولا تعبدا فلا بدّ أن نحصل العلم بالوظيفة الشرعية ، وهي الأصول العملية الشرعية المجعولة لمعرفة الوظيفة الشرعية المجهولة.

ومع تعارض الأدلة الشرعية فلا بدّ من الرجوع إلى الحكم العقلي المعيّن للوظيفة عقلا ، وهي الأصول العقلية كالبراءة العقلية والاحتياط والتخيير ، وبهذه الأمور يحصل للمكلّف المؤمّن في مقام امتثال الحكم الشرعي أو إتيانه بوظيفته.

ومن هنا صحّ تعريف علم الأصول بأنه المسائل المحصّلة للعلم بالوظيفة شرعا أو عقلا ، وتعريفه بغير هذا التعريف إن رجع إليه وإلّا فلا مخصّص له باستنباط الأحكام الشرعية.

والفرق بين الأصول وبقية العلوم التي يتوقف عليها العلم بالوظيفة الشرعية كعلم الرجال واللغة وغيرها أن مسائل علم الأصول يترتّب معرفة الوظيفة فيها على كل مسألة ، بمعنى أن كل مسألة على حيالها واستقلالها مما يمكن أن يستنبط منها حكم شرعي بخلاف بقية العلوم ، مثلا إذا قلنا ان الأمر ظاهر في الوجوب فلو وقع الأمر في سنّة متواترة قطعية استنبط منه الحكم ، وإن قلنا إن خبر الواحد حجة فلو كان صريحا ونصا ترتّب عليه معرفة الحكم الشرعي بلا وساطة مسألة أخرى.

نعم قد يتوقّف معرفة الوظيفة على أكثر من مسألة واحدة إلّا أنه يمكن أن تعرف الوظيفة من مسألة واحدة في الجملة ولو بصورة نادرة مثلا ، بخلاف بقية المسائل من بقية العلوم الأخر كعلم الرجال وغيره.

فقد تلخّص أن المسائل الأصولية هي المسائل التي لو ضمّ إليها صغرياتها لأنتجت


__________________

ـ بيان الوظيفة الشرعية بنحو كلي ، فتخرج حينئذ قاعدة اليد والضرر والحرج والطهارة ، لأنها تبين أحكام الشبهة الموضوعية ، فهي لبيان الحكم الشخصي لا الكلي.

وتخرج أيضا قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده وما يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده ، لأنها وإن أفادت حكما كليا إلّا أنه تطبيق للحكم الكلي المستنبط على مصاديقه لا استنباط لحكم كلي.

وظهر أيضا أن ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره من أن المسألة الأصولية لا يمكن أن تلقى إلى المقلّد وان المسألة الفقهية هي التي يمكن إلقائها إلى المقلّد ليس معيارا بل المعيار ما ذكرنا ، لأن مسألة التسامح في أدلة السنن مسألة فقهية قطعا ولا يمكن القائها إلى المقلد ، لعدم معرفته بالخبر الصحيح والضعيف ، نعم هذه القاعدة غالبية لا دائمية.

ثمّ انه يكفي في كون المسألة أصولية ترتّب الاستنباط على أحد طرفيها فلا يرد عدم ترتب الاستنباط على عدم جواز اجتماع الأمر والنهي ، إذ يكفي ترتب الاستنباط على القول بالجواز في البحث عنها في الأصول.

ولا يرد أيضا ان اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده مسألة فقهية ، لأنها بحث عن تحريم الضد وعدم تحريمه ، مضافا إلى أنها لا يستنبط منها الحكم إلّا بضميمة أن النهي يقتضي الفساد ، إذ يكفي ترتب الحكم على القول بعدم الاقتضاء ، إذ الحكم المستنبط حينئذ هو الصحة.

ولا يرد أن بحث مقدمة الواجب بحث عن الوجوب فهو مسألة فقهية كلية ، نظير قاعدة الضرر والحرج ، وتطبيقها على مصاديقها مثلها ، فإن البحث عن الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ليس حكما شرعيا ، نعم يستنبط منها الحكم بوجوب المقدمة وهو ميزان المسألة الأصولية.

ولا يرد أيضا أن بحث البراءة الشرعية والاحتياط ليس مسألة أصولية ، إذ هو كقاعدة ما يضمن بصحيحه ، ضرورة إنه وإن كان مثله إلّا أنه يترتب عليه الأمن من العقوبة الشرعية بخلاف تلك القاعدة.



[مبادئ علم الأصول]

ويقع الكلام في أنّ كلّ علم لا بدّ أن يكون له موضوع أم لا؟ وفي العوارض الذاتية والغريبة وميزانهما ، وفي أنّ الموضوع لا بدّ أن يكون باحثا عن العوارض الذاتيّة دون الغريبة أم لا؟

([المرحلة الأولى] : في موضوع كل علم)

فيقع الكلام الآن في المرحلة الأولى من هذه المراحل الثلاثة :

فنقول : قد ذكروا أنّه لا بدّ لكلّ علم من موضوع يكون جامعا بين موضوعات مسائله المتشتّتة ، ويكون مؤثرا لترتّب الغرض المتوخّى من ذلك العلم ترتّب العلة على المعلول أو المشروط على شرطه أو غير ذلك من أنحاء الترتّبات ؛ لأنّه لو لم يكن موضوع جامع يلزم ترتّب الأثر الواحد على متعدّد ، وصدور الواحد من المتعدّد مستحيل ؛ لما برهن عليه في الفلسفة (١) ؛ إذ إنّ مسائل كلّ علم متشتّتة ومتفرّقة ، فلا بدّ من جامع بين هذه المسائل ليترتّب عليه الغرض الواحد.

__________________

(١) انظر الأسفار الأربعة ٢ : ٢٠٤ ـ ٢٠٩ ، وشرح المنظومة ، قسم الحكمة : ١٣٢ ـ ١٣٣ ، ونهاية الحكمة : ١٦٥ ، الفصل الرابع في أنّ الواحد لا يصدر إلّا عن الواحد.


ولا يخفى عليك ما فيه :

أمّا أولا : فلأنّ هذه القاعدة وهي استحالة صدور الواحد من المتعدّد ـ إن سلمت ـ ففي غير العلوم ؛ لأنّ جملة من العلوم ليس لها غرض مترتّب عليها وراء نفسها ، بل الغرض منها ليس إلّا نفس المعرفة والكمال ، نظير علم الفلسفة العالية فإنّه ليس وراء المعرفة شيء يترتّب عليها ، والغرض المذكور في كلامهم لا يمكن أن يكون نفس الشيء ؛ إذ إنّ الترتّب المذكور في كلامهم قاض بتغايره مع المترتّب عليه.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الغرض المترتّب ليس واحدا شخصيّا ، وهي إن سلمت ففي الواحد الشخصي ، والوحدة في المقام نوعيّة ؛ لأنّه ليس واحدا حقيقة بل آحاد ؛ فإنّ لكلّ مسألة غرضا مترتّبا عليها ، فإنّ باب الفاعل مثلا له غرض واحد مترتّب عليه ، وهو صون اللسان عن الخطأ في المقال فيه ، وهكذا كلّ مسألة. والجامع بينها جامع عنواني ، وحينئذ فالأغراض متكثّرة. ونظيره في علم الاصول ، فإنّ استنباط الوجوب من الأمر غرض مترتّب على خصوص مبحثه ، وكذا كون النهي مفيدا للتحريم وهكذا ، وحينئذ فالأغراض المترتّبة كثيرة ، فلا بدّ من كون المؤثّر متعدّدا.

وأمّا ثالثا : فلأنّ ذلك الأثر حينئذ إنّما يكون مترتّبا على مجموع المسائل لا على آحادها ، وحينئذ فالمجموع هو المؤثر فيه ، فلم يلزم صدور الواحد من المتعدّد ، بل صدور الواحد من الواحد ، نعم لو ترتّب الأثر على كلّ واحد واحد من المسائل لزم ما ذكر ، فافهم.

وأمّا رابعا : فلأنّ المؤثّر في الغرض ليس هو موضوع العلم ليلزم من وحدته وحدته ، بل مجموع المسألة بوجودها الواقعي ليس مؤثّرا في حصول الغرض ، وإنّما المؤثّر هو العلم بالمسألة ، فلا بدّ من جامع بين أفراد علم باب الفاعل وعلم باب المفعول وعلم باب الحال والتمييز وغيرها في علم النحو مثلا ، فلا بدّ من جامع بين أفراد هذه العلوم.


وأمّا خامسا : فلأنّ جملة من العلوم يستحيل أخذ الجامع الحقيقي وتصويره بين أفراد مسائله ، مثل علم الفقه مثلا الذي هو أشرف العلوم بعد علم أصول الدين ، فإنّه تارة يبحث عن الجواهر مثل الماء وحكمه ، واخرى عن الأعراض مثل شرب الخمر ، وتارة عن الأمور الحقيقيّة مثل الماء أيضا ، واخرى عن الانتزاعيّة كالغصب ، وتارة عن الأمور الوجودية مثل الصلاة ، واخرى عن الأمور العدميّة مثل الصوم وتروك الإحرام ، وتارة عن بعض المقولات ، واخرى عن بعض آخر ، ومعلوم في محلّه استحالة الجامع بين الأمور الوجوديّة والعدميّة وجامع بين مقولتين وبين الجواهر والأعراض وبين الحقيقي والانتزاعي.

ودعوى أنّ الجامع هو أفعال المكلّفين مدفوعة بأنّه جامع انتزاعي لا حقيقي والكلام في الحقيقي ، مضافا إلى أنّ كون أفعال المكلّفين هو الجامع أوّل الكلام ؛ فإنّ نجاسة الماء وطهارته ونجاسة الخمر وطهارته ومثل كون المال ميراثا وغيرها من الأحكام التي موضوعها ليس هو أفعال المكلّفين.

وبالجملة فقد ظهر أنّه لا يلزم أن يكون للعلم موضوع أصلا ؛ لأنّ ما ذكر دليلا على لزوم الموضوع قد عرفت ما فيه.

ومن هنا سقط كون البحث عن عوارض ذلك الموضوع الذاتيّة دون الغريبة ؛ إذ لا يلزم أن يكون له موضوع حتّى يترتّب عليه ذلك.

(واعلم أنّ تمايز العلوم إن كان ليكون القارئ لذلك العلم على بصيرة ممّا يقرأه فهو يكون بالغرض وبالموضوع وبالمحمول ، فيقال له : إنّ علم النحو يفيد صون اللسان عن الخطأ في المقال ، فيذكر له الغرض المقصود منه. وقد يقال له : إنّه يبحث فيه عن الفاعل والمفعول مثلا فيميّزه بذلك.

وقد يقال له : إنّه يبحث عن الحركات العارضة لآخر الكلمة فيميّزه بمحموله. وإن كان تمايز العلوم إنّما يراد كي يكون ميزانا لذكر مسألة فيه في مقام التدوين


وترك اخرى فهو يكون بالأغراض غالبا. وإذا لم يكن للعلم غرض وراء نفسه كالمعرفة فتميّزه بموضوعه ، كأن يبحث الإنسان عن معرفة عوارض الإنسان من حيث نفسه وبدنه ، وقد يكون بمحموله كما إذا أراد البحث عما يعرضه الحركة والسكون مثلا) (١).

هذا تمام الكلام في الجهة الأولى من الجهات الثلاثة ويقع الكلام في :

(المرحلة الثانية : في العوارض)

المحمولات على الشيء تارة تكون ذاتية له واخرى غريبة عنه.

والذاتي قد يطلق كما في الكلّيات ويراد به الجنس والنوع والفصل بمعنى ما يكون الشيء متألّفا منه. ويقابله العرضي وهو ما يكون عارضا على الشيء من غير أن يتألف منه وقسّموه على قسمين : عرض خاصّ كالضحك للإنسان ، وعامّ كالماشي بالإضافة إليه.

وقد يطلق كما في باب البرهان ، ويراد به ما يكون تصوّر نفس الشيء كافيا في لحوقه وحمله عليه بلا حاجة إلى شيء آخر كالإمكان بالإضافة إلى الإنسان ، فإنّ الإنسان لو لوحظ بنفسه من غير مدخليّة شيء آخر كان وجوده ممكنا وعدمه ممكنا ، ويقابله غير الذاتي وهو ما لا يكون تصوّر نفس الشيء كافيا في حمله ولحوقه. ولكنّ الذاتي في المقام لم يطلق على كلّ من هذين القسمين ؛ ضرورة أنّ المحمولات في مقامنا ليست مما يتقوّم بها ذات الموضوع ، ولا تصوّر الموضوع كاف في لحوقها ، بل أغلبها ـ إن لم يكن كلّها ـ نظريّة محتاجة إلى أدلّة. بل إنّ المراد بالذاتي هنا قسم من العارض ؛ ضرورة أنّ العوارض قسمان : ذاتية وغريبة.

__________________

(١) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.


[المرحلة الثالثة : في أنّ موضوع العلم هل هو العوارض الذاتية فقط؟]

والمقصود من هذا الكلام بيان أنّ موضوع العلم ما يبحث فيه عن العوارض التي ليست واسطتها واسطة في العروض ، سواء كان لها واسطة أم لم تكن لها واسطة ، والواسطة سواء كانت في الثبوت أو في الإثبات ، وهذه هي (المرحلة الثالثة) من مراحل البحث.

بيان ذلك أنّ جملة من المحمولات لا تحتاج إلى واسطة أصلا كحمل الإمكان على الممكن والامتناع على الممتنع ، ولكنّ أغلب المحمولات لا بدّ لها من واسطة بمعنى علّة محقّقة لحمل المحمول على الموضوع ، مثلا الوجوب المحمول على الصلاة لا بدّ له من علّة تثبته لها ، وهي إرادة المولى مثلا ، فالعلّة المثبتة تسمّى واسطة في الثبوت ، فالعلّة المحقّقة لثبوت النسبة بين الموضوع والمحمول واقعا تسمّى واسطة في الثبوت ، وعلّة العلم بذلك الثبوت تسمّى واسطة في الإثبات. وأمّا واسطة العروض فهي الواسطة الموجبة لعروض شيء على شيء ثمّ تنسبه إلى آخر بالمجاز فهذه واسطة في العروض ، كالواسطة الموجبة لعروض الجريان على الماء ثمّ تنسبها إلى الميزاب بالعرض والمجاز فتقول : جرى الميزاب بعلاقة الحالّ والمحلّ.

ثمّ إنّ العوارض سبعة أقسام : قسم منها يعرض بلا واسطة أصلا كعروض إدراك الكليات للنفس الناطقة ، فإنّها بلا واسطة. وستة بواسطة : وهي إمّا داخلية مساوية للمعروض أو أعمّ ، وإمّا خارجية مساوية للمعروض أو أعمّ أو أخصّ أو مباينة ، فالعارض بواسطة الداخل المساوي اتفقوا على كونه ذاتيّا كالتكلّم العارض للإنسان بواسطة النطق ، فإنّ الناطق بما أنّه به فعليّة الإنسان لا يحسب عارضا. واتفقوا على كون العارض بواسطة المباين غريبا ، وكذا ما كان بواسطة الخارج الأعمّ والأخصّ ، واختلفوا فيما كان بواسطة الجزء الأعمّ ،


فذهب بعضهم (١) إلى أنّه ذاتي ؛ لصحّة الحمل الحقيقي ، فيقال : الإنسان طويل وذهب بعضهم (٢) إلى أنّه غريب ؛ لأنّ الحمل عنده مجازي.

ولا يترتّب على هذه الأبحاث كثير فائدة ، وإنّما المقصود في المقام دفع الشبهة الواردة في المقام ، وهي : أنّ العارض بواسطة الخارج الأخصّ غريب بالاتفاق ، مع أنّ عروض أغلب المحمولات على موضوع العلم إنّما تكون بواسطة الخارج الأخص ، مثلا قولنا : الفاعل مرفوع ، فإنّ عروض الرفع على الكلمة التي هي موضوع علم النحو بواسطة الخارج الأخصّ ، وهو الفاعل ، أو الأعمّ كعلم الاصول ، فإنّ موضوعات مسائله أعمّ من الموضوع المذكور له ، فإنّ الموضوع له هو الأدلة الأربعة ، ولكن موضوع مسائله مثلا كون الأمر للوجوب أم لا ، والنهي للتحريم أم لا من غير تقييد بالأدلّة الأربعة ، بل بنحو العموم لها ولغيرها ، فإن قلنا بأنّ العارض بواسطة الجزء الأعمّ ذاتي ارتفع الإشكال في علم الاصول وإلّا فالإشكال محكّم.

وقد شرّقوا وغرّبوا في الجواب عن هذا الإيراد ولم يأتوا بشيء ينفع ، ولا فائدة في ذكر أجوبتهم وردّها ، فنقتصر على ذكر جواب الميرزا النائيني قدس‌سره (٣) والتنظر فيه ، فقد ذكر في مقام الجواب عن هذا الإشكال أنّ الموجودات الخارجية لا تخلو من أقسام ثلاثة :

ـ جواهر ، وهي مشتملة على جنس وفصل ذهنا ، فالجنس ما به الاشتراك والفصل ما به الامتياز ، ومشتملة على صورة ومادّة ، فقد تذهب الصورة منها وتبقى المادّة بصورة اخرى ، كانقلاب الحيوان ملحا وصيرورة الإنسان ترابا.

__________________

(١) كالمحقق النائيني ، انظر أجود التقريرات ١ : ٨.

(٢) كصاحب الفصول ، انظر الفصول : ١٠ ونسبه إلى المشهور وهو ظاهر الكفاية أيضا ، انظر حقايق الاصول ١ : ٧.

(٣) أجود التقريرات ١ : ٧ ـ ١٠.


ـ وأعراض ، وهي في عالم الذهن لها جنس وفصل ، إلّا أنّها في عالم الخارج ليس لها مادّة بها الاشتراك وصورة بها الامتياز ، بل ما به الامتياز خارجا هو بعينه ما به الاشتراك ، فلو تبدّل القيام بالقعود فهو في الخارج غيره.

ـ وامور اعتباريّة وانتزاعيّة ، وهذه ليس لها لا في الذهن ولا في الخارج شيء به الامتياز ولا شيء آخر به الاشتراك ، فهي امور بسيطة وما به الامتياز فيها هو عين ما به الاشتراك ذهنا وخارجا.

إذا عرفت هذا فالموضوع في العلوم إن كان في النحو مثلا هو الكلمة والكلام على الإطلاق لزم ما ذكر من كون البحث فيها عن امور تلحق النوع أوّلا ثمّ تعرض الجنس فتكون غريبة ، ولكن الموضوع هو الكلمة والكلام من حيث الإعراب والبناء ، فالموضوع مقيّد بهذه الحيثية الانتزاعية ، والمقيّد بشيء يكتسب حكم ذلك الشيء ، نظير المقيّد بالعدم فإنّه يكون أمرا معدوما. وحينئذ فالمقيّد بالانتزاعي يكون انتزاعيا ، والانتزاعي ما به الاشتراك فيه هو عين ما به الامتياز ، فلا يكون أمرا آخر غير موضوع المسألة بل هو هو ، وليس عروض الرفع على الفاعل من حيث إنّه فاعل لانطباق ذلك العنوان الانتزاعي عليه ، بل من حيث الإعراب والبناء ، وهذه الحيثية مقيّدة للموضوع فيرتفع الإشكال.

ولا يخفى عليك ما فيه :

أمّا أوّلا : فلأنّ الموضوع هو الكلمة والكلام ، والحيثيّة هي حيثيّة للبحث لا للموضوع ، فإنّ الرفع يعرض الكلمة ، لا الكلمة بقيد كونها من حيث الإعراب والبناء ، وكذا الوجوب يعرض الصلاة لا الصلاة من حيث اقتضائها الوجوب.

وأمّا ثانيا : فلو سلّمنا تقييد الموضوع بالحيثيّة فإن كان الموضوع للعلم مأخوذا بنحو يكون مشيرا إلى موضوعات المسائل ، فهذا إنكار لموضوع العلم ، بل يكون عليه موضوع العلم هو موضوعات المسائل المشار إليها بهذا الموضوع ، وهو خلف الفرض. وإن اخذ بنحو يكون جامعا لها ومنطبقا عليها ومتّحدا معها فلا يكون


أقوى من اتّحاد النوع مع الجنس ، وقد صرّحوا بكون حمل عوارض النوع على الجنس حملا غريبا مجازيا ، فمقامنا أولى ؛ لأنّ المتّحد أمر انتزاعي وفي النوع أمر حقيقي ، فافهم جدا.

وأمّا ثالثا : فإنّ التغاير بين موضوعات المسائل أمر وجدانيّ بديهيّ ، فكون منشأ الانتزاع أمرا كليّا ما به الامتياز فيه عين ما به الاشتراك لا يجدي في اتّحاد الموضوعات المتباينة.

وأمّا رابعا : فلأنّ التقييد بالأمر الانتزاعي لا يجعل المقيّد أمرا انتزاعيا ؛ فإنّ تقييد الدار بكونها ملك زيد لا يجعل الدار امرا اعتباريا ، وكذا المقيّد بالانتزاعي كالمقيّد بالفوقيّة والتحتيّة مثلا لا يلزم أن يكون أمرا انتزاعيا ، بل هو باق على جوهريّته أو عرضيّته ، فتأمل جدا.

والتحقيق في الجواب أن يقال : إنّ موضوع العلم على تقدير وجوده هو ما يبحث فيه عن الغرض المترتّب على ذلك العلم ، سواء كان الغرض مترتّب على العوارض الذاتية أو الغريبة ؛ إذ لم يرد عندنا دليل يقتضي أن يكون البحث عن العوارض الذاتية في العلم لنلتزم بذلك ، بل إنّ البحث في العلم عن كلّ ما يترتّب الغرض المتوخّى عن ذلك العلم عليه كان ذاتيّا أو غريبا.

ولو سلّمنا أنّ البحث يلزم أن يكون عن العوارض الذاتية للموضوع فلا دليل يقتضي كون العارض بواسطة الأخصّ أو الأعمّ غريبا ، حيث يكون وجود الأخصّ عين وجود الأعمّ وبالعكس. نعم ، إذا كان إسناد العارض إلى المعروض بنحو المجازيّة نلتزم بكون ذلك العارض غريبا بالنسبة إلى ما كان الإسناد إليه مجازيّا ، وأمّا حيث يتّحد الأخصّ مع الأعمّ لا ريب حينئذ في كون عارض النوع يصحّ إسناده إلى الجنس حقيقيّا ، مثلا الضحك الذي هو عارض الإنسان لا ريب في صحّة نسبته حقيقة إلى الحيوان بنحو القضيّة المهملة فنقول : الحيوان ضاحك ، فإنّ الضحك حقيقة عارض على الحيوان ؛ لأنّ الإنسان هو بنفسه حيوان أيضا ،


وهكذا العكس ؛ فإنّ الحركة بالإرادة التي هي عارض الحيوان عارض للإنسان حقيقة وإسناده إليه أيضا حقيقي.

وبالجملة ، فلا ملزم يكون عارض الأخصّ غريبا بالإضافة إلى الأعمّ كما لا ملزم بكون عارض الأعمّ غريبا بالإضافة إلى الأخصّ. هذا تمام الكلام في البحث عن الموضوع كلية.

[موضوع علم الأصول]

(وأمّا موضوع علم الاصول فقد ذكر المشهور أنّه الأدلّة الأربعة بما هي أدلّة.

ويرد عليه خروج مباحث الألفاظ ؛ فإنّ البحث فيها ليس عن دليليّة الدليل ، والالتزام بالاستطراد فيها كما ترى.

ومن هنا التجأ بعضهم (١) إلى جعل الموضوع هو الأدلّة الأربعة من حيث أنفسها وذاتها لا من حيث دليليّتها. ويرد عليه خروج مباحث الحجج كحجّية خبر الواحد والاستصحاب والتعادل والترجيح عنها ؛ لأنّ البحث فيها ليس عن ذوات الأدلّة بل عن دليليّتها ، وإرجاعه إلى ثبوت السنة بالخبر الواحد ـ كما عن الشيخ (٢) ـ إن تمّ فهو في خصوص خبر الواحد ، أمّا في غيره فالإشكال بحاله ، على أنّه في الخبر الواحد غير تامّ أيضا ؛ إذ الثبوت الواقعي غير معقول ؛ لأنّ الخبر معلول له فكيف يكون محقّقا له؟ وأمّا عندنا فغير معقول أيضا ؛ إذ الفرض احتماله الصدق والكذب ، ولو لم يحتمل الكذب لكان العمل بالعلم لا بالخبر. والثبوت التعبّدي من أوصاف الحاكي للسنة لا من أوصاف السنة نفسها. فالظاهر أنّ علم الاصول لا موضوع له ليجمع مسائله إلّا انتزاعا) (٣).

__________________

(١) وهو صاحب الفصول كما في المحاضرات ١ : ٢٩ ، وراجع الفصول : ١١ ـ ١٢.

(٢) فرائد الاصول ١ : ٢٣٨ ـ ٢٣٩.

(٣) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.


[تعريف علم الأصول]

وأمّا تعريف علم الاصول فقد عرّفه غير واحد من الأصوليين (١) بأنّه العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة. وقد أورد الآخوند عليه بعدم شموله للأصول العمليّة ولا لحجّية الظنّ الانسدادي بناء على الحكومة (٢).

ووجه ذلك أنّه قدس‌سره فسّر الحكم في قولهم : لاستنباط الحكم الشرعي بالحكم الواقعي ، نظير الحكم في عبارة الشيخ الأنصاري (٣) في قوله : إنّ المكلّف إذا التفت إلى حكم شرعي ... وإلّا فلا يصحّ تثليث الأقسام وهو واضح. فلمّا فسّر الحكم بالحكم الواقعي قصر التعريف عن الشمول للأصول العمليّة ؛ إذ لا يعرف الحكم الواقعي فيها ، وكذا الظنّ على الحكومة فإنّها أيضا لبيان الوظيفة ، أمّا الحكم الواقعي فمجهول فيها ؛ ولذلك عرّفه بما عرّفه من قوله : صناعة يعرف بها ... (٤) إلى آخره ، وأضاف قوله : أو التي ينتهى إليها في مقام العمل. وقد ذكر الفعل مبنيّا للفاعل في باب البراءة (٥) فقال : أو التي ينتهي إليها الفقيه في مقام العمل.

والظاهر عدم الحاجة إلى هذا الإلحاق ؛ لأنّ المراد من الحكم في قولهم : لاستنباط الأحكام الشرعيّة هو الحكم الشرعي الفعلي الأعمّ من الظاهري والواقعي ، وبهذا تدخل الاصول العمليّة الشرعيّة كلّها ؛ إذ مؤدّياتها أحكام عند الشكّ وعند عدم العلم ، فهي أحكام ظاهرية. ويشهد لما ذكرنا قولهم (٦) في تعريف الفقه : هو العلم

__________________

(١) مثل المحقق القمي في القوانين ١ : ٥ ، والميرزا حبيب الله الرشتي في بدائع الأفكار : ٢٦.

(٢) كفاية الاصول : ٢٣ ـ ٢٤.

(٣) فرائد الاصول ١ : ٢٥.

(٤) كفاية الاصول : ٢٣.

(٥) كفاية الاصول : ٣٨٤.

(٦) معالم الاصول : ٢٦.


بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة ، ومعلوم أنّ أغلب الأحكام الشرعيّة مظنونة ، فليس إلّا لأنّ المراد من الحكم : الظاهري الذي لا ينافيه كونه مظنونا. وليس الغرض بيان أنّ مؤدّى الأمارات أحكام ظاهريّة بل هي أحكام واقعية ، وإنّما الغرض بيان أنّ المراد من الحكم هو الحكم الفعلي الأعمّ من الظاهري وغيره.

نعم ، البراءة العقليّة ـ وهي قبح العقاب بلا بيان ـ والتخيير العقلي ـ وهو قبح الترجيح من غير مرجّح ـ وقاعدة الاحتياط العقلي ـ المعبّر عنها بقاعدة الشغل كما في أطراف العلم الإجمالي المنجّز ـ خارجة عن التعريف ، ولكنّها ليست قواعد اصوليّة ولا يبحث عنها في الاصول.

أمّا قبح العقاب بلا بيان فهي من فروع قبح الظلم على الله تعالى فهي مسألة كلاميّة ، وكلّ من الأصوليّين والأخباريّين معترفون بها ، وإنّما يدّعي الأخباريّ أنّ أخبار الاحتياط بيان ، فتكون واردة على هذه القاعدة ، وينكر الأصوليّ ذلك ، وإلّا فالقاعدة غير قابلة للجدال إلّا من الأشعري الذي يجوّز القبيح على الله ، قبّحه الله. وكذا قبح ترجيح المرجوح على الراجح أيضا مسألة كلامية وكلّ معترف بها ، وبعد قبحه تخلو المسألة عن الحكم فيتخيّر بحكم العقل ؛ لاحتمال الإصابة والإطاعة ، وإنّما البحث فيها عن أن دعوى كون دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة ثابت أم لا؟

وأمّا قاعدة الشغل فدفع الضرر المحتمل واجب عقلا وهي أيضا كلاميّة ، وبها يثبت وجوب معرفة الله والنظر في المعجزة. وإنّما يدّعي بعضهم (١) شمول أدلّة البراءة لجميع أطراف العلم الإجمالي أو لبعضها (٢) وينكر الآخر (٣). فهذه المسائل ليست مسائل اصولية وإنّما تذكر لما ذكرنا.

__________________

(١) هو العلّامة المجلسي في أربعينه : ٥٨٢ ، على ما حكاه عنه في القوانين ٢ : ٢٧.

(٢) المحقق القمي في قوانين الاصول (الأقوى فيه أيضا أصالة البراءة ...) ٢ : ٢٥ ، وصاحب المدارك ١ : ١٠٧ ، وصاحب الذخيرة : ١٣٨.

(٣) كالشيخ في الفرائد ٢ : ٢١٠ ، وفي المدارك ١ : ١٠٧ : أنّه مذهب الأصحاب.


وأمّا حجيّة الظنّ على الحكومة فهي بهذا العنوان ليست مسألة أصولية. نعم ، كلّي حجيّة الظنّ على الانسداد مسألة اصولية ؛ لأنّ حجّيّته على الكشف يستنبط منه حكم شرعي ، وبناء على الحكومة ليس كذلك. ويكفي في كون المسألة اصولية ترتّب الاستنباط على أحد شقوقها كما هو واضح.

فالظاهر صحّة تعريف علم الاصول بما عرّفه الجماعة ، ولا حاجة إلى تعريف الآخوند قدس‌سره ولا إلى إضافته (١) ؛ لما عرفت من أنّ ما كان من المسائل الأصوليّة فهو داخل ، والخارج ليس منها.

نعم ، هناك شبهة معروفة ملخّصها أنّه لو اريد من المسألة الممهّدة ما يستنبط منها الحكم بلا واسطة فليس ثمة مسألة تكون اصوليّة ؛ لأنّ مسألة من المسائل الفقهية إنّما تستنبط من عدّة مسائل اصوليّة لا من مسألة واحدة. وإن اريد ما يستنبط منها ولو مع الواسطة فكثير من مسائل النحو والصرف والمنطق داخل في المسائل الأصوليّة ؛ لأنّها أيضا يتوقّف الاستنباط عليها.

والجواب أنّ المراد أنّ المسائل الأصوليّة كلّ مسألة هي ممّا يمكن أن يترتّب عليها استنباط الحكم بلا أيّ واسطة ، مثلا حجيّة خبر الواحد مسألة يمكن أن يستنبط منها حكم شرعي ، كما إذا صرّح بوجوب شيء وأنّ تاركه مخلّد في النار ، فلا يتوقّف على كون الأمر للوجوب أم لا ؛ لمعلوميّة كونه مريدا للوجوب بغير الأمر ، ولا يتوقّف على حجيّة الظواهر بأن نفرضه نصّا ، مضافا إلى أنّ حجيّة الظواهر ليست مسألة اصوليّة ، إذ لا مناقشة في حجيّة الظواهر ، وإنّما وقع الخلاف في بعض خصوصيّاتها ، مثل كونها حجّة للمشافه أو الأعمّ ، وأنّها حجّة حتّى مع قيام الظنّ بخلافها أم لا ، وحجّة حتّى في ظواهر الكتاب أم لا ؛ لأنّه ليس بظاهر أو أنّه ظاهر ولكنّه لم يرد ظاهره. ولا إلى باب التعادل والترجيح ؛ لفرضه لا معارض له وهكذا.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٣.


وبهذا تدخل جميع المسائل الأصوليّة وتخرج غيرها من مسائل النحو والمنطق ؛ لأنّه ليس فيها مسألة يستنبط منها حكم بلا توسّط ولو فرضا ، فافهم.

ثمّ المراد من الحكم هو الحكم الشرعي الكلّي ، وبهذا تمتاز المسائل الأصوليّة ؛ فإنّ المسائل الأصوليّة مسائل يعلمها المجتهد بخلاف المسائل الفقهيّة فإنّها تلقى إلى المكلّف ابتداء ، مثلا في المسألة الأصوليّة لا يلقي المجتهد : رفع ما لا يعلمون إلى المقلّد ليعمل بها وإنّما يطبّقها على مواردها ، فيفتي بجواز شرب التتن مثلا وعدم وجوب صلاة ركعتين عند رؤية الهلال وهكذا ، وهذا بخلاف المسائل الفقهيّة كقاعدة التجاوز والفراغ ، فإنّ المجتهد يلقي إلى المكلّف قوله : كلّما شككت في صحّة عمل قد عملته فلا تعتني بشكّك.

ومن هنا يعلم أنّ مسألة أصالة الطهارة في الشبهات الحكميّة مسألة اصوليّة ؛ إذ نقول في مقام الإلقاء إلى المكلّف : الحديد طاهر مثلا وأشباهه.

ومن هنا ظهر أنّ التعريف المذكور صحيح وأنّ لفظة الاستنباط فيه واقعة بمعناها وأنّه الاستخراج. وظهر أنّه لا وجه لما ذكره بعض مشايخنا (١) من أنّ المراد منه تحصيل الحجّة وأنّه شامل حتّى للأصول العقليّة ، فإنّ المجعول في جميعها التنجير والإعذار عند الإصابة والخطأ ؛ ضرورة أنّ معنى الاستنباط ليس ما ذكره أوّلا كما هو معلوم لمن راجع اللغة (٢).

وثانيا : أنّ ما ذكره إنّما يتمّ حيث يكون الحكم الواقعي إلزاميّا ، فإن أصابه الأصل أو الأمارة نجّزه وإن أخطأه فهو معذور ، ولا يتمّ حيث يكون الحكم الواقعي عدم الوجوب والحكم الظاهري أيضا عدم الوجوب ، أو كان الحكم الظاهري الإباحة ؛ فإنّ التنجيز والإعذار لا مجال لهما ، مضافا إلى أنّ المجعول إنّما هو صفة الطريقيّة كما سيأتي لا التنجير والإعذار ، فافهم.

__________________

(١) بحوث في الاصول للشيخ محمد حسين الاصفهاني : ٢٠ ، ونهاية الدراية ١ : ٤٢.

(٢) مختار الصحاح للجوهري : ٦٤٣ ، (نبط).



الكلام في الوضع

فهم المعنى من اللفظ هل هو محتاج إلى الوضع ، أم إنّه غير محتاج إلى الوضع وإنّما يكون من مناسبة بين اللفظ والمعنى تكون هي المتكفّلة لفهم ذلك المعنى من اللفظ؟ المشهور هو الأوّل ونسب القول الثاني إلى بعض العامّة (١) فإن أراد أنّ تلك المناسبة بين اللفظ والمعنى علّة لفهم المعنى منه فهذا باطل بالوجدان ولا يتوهّمه أحد من العقلاء ؛ لأنّ لازمه أن يكون كلّ إنسان عالما بكلّ لغة من اللغات وهو باطل وجدانا.

وإن أراد أنّ هذه المناسبة هي التي توجب أن يكون هذا اللفظ موضوعا لذاك المعنى وذاك اللفظ موضوعا للمعنى الآخر دون العكس ؛ ضرورة أنّه لو لم يكن ربط بين هذا اللفظ ومعناه وبين اللفظ الآخر ومعناه لكان وضع هذا لهذا المعنى وذاك لذاك ترجيحا من غير مرجّح ، وأنّه مستحيل إن كان الواضع هو الله تعالى ، وقبيح إن كان غيره ، فهذا المعنى أمر ممكن إلّا أنّ إثباته يحتاج إلى دليل وبرهان وهو مفقود في المقام.

__________________

(١) قال العلّامة : فذهب بعضهم إلى أنّ دلالة اللفظ طبيعيّة أي لذاته وهو منقول عن عبّاد بن سليمان الصيمري وبعض المعتزلة وأصحاب الإكسير ، انظر نهاية الاصول : ٢٠ (مخطوط) ، والفصول الغرويّة : ٢٣.


ودعوى أنّ الدليل هو لزوم الترجيح من غير مرجّح (١).

مدفوعة : أولا بأنّ الترجيح من غير مرجح لا قبح فيه فلا يستحيل على الله ؛ لأنّ سبب الاستحالة عليه قبحه.

بيان ذلك : أنّ الترجيح من غير مرجّح لو كان قبيحا للزم أن يكون المريض الذي قد وصف له الطبيب المشي مثلا ، المتحقّق بمشيه إلى الجهات الأربع المفروض تساويها من جميع الجهات يتوقّف ولا يمشي إلى إحداها حتّى يموت ، وللزم أن يكون الفارّ من الأسد الواجد لبابين مفتوحين متساويين من جميع الجهات متوقّفا حتّى يأتي إليه السبع فيأكله ، فمن هنا نستكشف أنّه إذا كان الغرض متعلّقا بطبيعة تتحقّق بكلّ فرد من أفرادها يكون اختيار بعضها ترجيحا من غير مرجّح وليس بقبيح أصلا.

وثانيا : أنّ القبيح لا مانع من ارتكابه على غير الله تعالى ، فلو كان الواضع هو يعرب بن قحطان مثلا نقول بأنّه ارتكب القبيح.

وثالثا : أنّا لو سلّمنا قبح الترجيح من غير مرجّح على غير الله واستحالة القبيح على الله تعالى فهو يقتضي أن يكون هناك مرجّح ، أمّا أنّ ذلك المرجّح يلزم أن يكون هو المناسبة بين اللفظ والمعنى فغير معلوم ، بل لعلّها أمر آخر كما نشاهد بالوجدان مناسبات تقتضي اختيار بعض الألفاظ لبعض المعاني ، مثلا يسمّي الإنسان ابنه باسم أبيه لئلّا يندرس اسم أبيه في عالم الدنيا وغيرها من المناسبات ، كأن يسمّيه حسينا ؛ لأنّ ولادته يوم ولادته أو يوم قتله أو غير ذلك.

ورابعا : أنّ هذه المناسبة لا تنافي الوضع بل هي الداعية إلى تعيين اللفظ للمعنى الذي هو الوضع ، وإنّما تنافيه لو كانت علّة تامّة للتفهيم.

__________________

(١) انظر نهاية الاصول للعلّامة : ٢٠ (مخطوط) ، ونهاية الأفكار ١ : ٢٥.


فيقع الكلام في الوضع : الظاهر من كلام الآخوند قدس‌سره (١) أنّ الوضع أمر واقعي بين اللفظ والمعنى ينشأ هذا الأمر الواقعي من التخصيص أو كثرة الاستعمال ، وهذا أمر مستحيل ؛ لأنّ الأمور الواقعيّة لا تخلو من أن تكون جواهرا أو أعراضا أو ملازمات ، فالجواهر منتفية في الوضع قطعا ، وكذا احتمال كونه عرضا ؛ إذ ليس للوضع وجود خارجا والجواهر والأعراض لها وجودات متأصّلة إمّا بنفسها وإمّا بسبب ما هي عرض له ؛ إذ العرض لا بدّ له من موضوع يتحقّق به ، والموضوع هنا منتف ؛ إذ ليس إلّا اللفظ والمعنى ، ولا يتوقّف الوضع على وجودهما الخارجي ، بل الوضع متحقّق وإن لم يوجدا أصلا.

فبقي احتمال كونه من الملازمات العقليّة ، وهذا أيضا منتف ؛ لأنّه لو كان من الملازمات العقليّة لكان أزليّا ؛ ضرورة أنّ الملازمات العقليّة كلّها أزليّة. وثانيا : لو كان من الملازمات الذاتيّة لم يجهل معنى اللفظ بعد وضعه أصلا لكلّ إنسان وإن كان أجنبيّا عن تلك اللغة ، لتحقّق الملازمة الذاتيّة بعد تحقّق الوضع بين اللفظ والمعنى ، والجهل بالمعاني حتّى بعد الوضع لا تحتاج إلى مثبت في الخارج ، فافهم.

فظهر بما ذكرنا أنّ الوضع ليس أمرا واقعيا ، فيقع حينئذ الكلام في أنّ حقيقة الوضع ما هي؟ الأقوال في المقام ثلاثة :

الأوّل : أنّه أمر اعتباري صرف (٢).

الثاني : أنّه أمر حقيقي صرف (٣).

الثالث : أنّه أمر متوسّط بين الحقيقيّة والاعتباريّة (٤).

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٤.

(٢) انظر نهاية الأفكار ١ : ٢٣ ـ ٢٥.

(٣) انظر كفاية الاصول : ٢٤.

(٤) انظر أجود التقريرات ١ : ١٩.


أمّا الأوّل فقد يقرّب بأحد نحوين :

أحدهما : أن يعتبر الواضع اللفظ وجودا تنزيليّا للمعنى ، بأن يكون التلفظ بزيد كما أنّه وجود تكويني لفرد من أفراد الكيف المسموع يكون وجودا تنزيليّا لذاته أيضا ، كما يعتبر زيد وجودا تنزيليّا للأسد حيث يستعير لزيد لفظ الأسد فيقول : جاء الأسد عند مجيئه.

وفيه أولا : أنّ التنزيل يحتاج إلى مشابهة بين المنزّل والمنزّل عليه ، ولا بدّ من كونها من أظهر خواصّ المنزّل عليه حتّى يصحّ التنزيل ، وهذا الأمر مفقود في المقام ، ضرورة أن لا مناسبة بين لفظ الجبل مثلا وما وضع له ، ولا بين أيّ لفظ مع أيّ معنى.

وثانيا : أنّ التنزيل أمر محتاج إلى أن يكون المنزّل من العقلاء ، ونحن لا نرى اختصاص الوضع بهم ، بل إنّ الأطفال الصغار يضعون ألفاظا لمعان بحسب ما يختارون ، فتراهم يعبّرون عن العصا بالديدمّ مثلا ، بل الحيوانات أيضا كما هو مشاهد في الهرّة ، فإنّ لها عند ندائها أطفالها صوتا يغاير صوتها عند زجرهم ، ولها صوت عند طلبها الطعام يغايرهما معا ، وهكذا بقيّة الحيوانات كالديك ؛ فإنّ له صوتا خاصا عند نداء انثاه مفقود في غير تلك الحال. فهؤلاء يضعون مع عدم تعقّلهم التنزيل أصلا.

الثاني من الوجهين لتصوير كون الوضع أمرا اعتباريا أن يكون الواضع قد اعتبر هذا اللفظ موضوعا لهذا المعنى فقد اعتبر نفس الوضع ، وبهذا يكون الملحوظ هو الهوهويّة والاعتبار فإنّ الوضع من الأمور القابلة للاعتبار ، كما يعتبر الواضع للعلم على رأس الفرسخ هذا العلم علامة لانتهاء الفرسخ مثلا ، فيكون الواضع قد اعتبر اللفظ علامة ويكون الوضع أمرا اعتباريّا باعتباره.

وفيه أوّلا : ما ذكرناه ثانيا من أنّه محتاج إلى معتبر ونراه يصدر من الأطفال والحيوانات.


وثانيا : أنّ الوضع يحتاج إلى موضوع وموضوع عليه وموضوع له ، ففي مثل علامة الفرسخ الموضوع عليه هو المكان ، والموضوع له هو الدلالة على الفرسخ ولكن في مقام الوضع ليس أمرا يكون موضوعا عليه أصلا.

فالتحقيق أن يقال بكون الوضع عبارة عن أمر حقيقي وهو القول الثاني ، وهو عبارة عن التزام وبناء صادر عن الواضع في أنّه متى أراد المعنى الفلاني يتكلّم باللفظ الفلاني ، وهذا معنى لا يرد عليه شيء مما أورد على ما تقدّمه ، ويكون جامعا بين وضع الأطفال والحيوانات ومثل وضع العلم للدلالة على الفرسخ وغيرها ، (ويكون موافقا لمعناه اللغوي (١) فإنّ الوضع هو الجعل والالتزام مجعول من نفس الجاعل وفعل من أفعاله وعرض من أعراضه.

ودعوى أنّ العرض لا يقوم بالكليّات وقد يوضع اللفظ للكلّي كما يوضع للشخصي يدفعها أنّ الكلّي والجزئي ممّا يتعلّق بهما هذا العرض وليسا موضوعا له كي يستحيل عروض العرض عليه ، بل الموضوع نفس الواضع والوضع فعل من أفعاله كقيامه وأكله) (٢).

ويؤيّده أنّ هذا البناء موجود في كثير من العقلاء في أفعالهم ، فإنّه قد يبني على أنّه متى رفع عمامته فمعناه : هات الشاي للضيف أو أنّه متى صفّق فمعناه : أسرعوا في القيام ، فالوضع أيضا بناء منه على أنّه متى تكلّم بهذا اللفظ فهو مريد لهذا المعنى ، والوضع بناء على ذلك داخل في أفعال الواضع.

وأمّا القول بأنّ الوضع أمر بين أمرين فهو متوسّط بين الحقيقيّة والاعتباريّة كما هو رأي الميرزا النائيني قدس‌سره بتقريب أنّ البشر لمّا كان انتظام امورهم لا يتمّ إلّا بالتفهيم والتفهّم ، وكان التفهيم والتفهّم بالإشارة عسرا أو غير ميسور دائما كما في الظلمة

__________________

(١) انظر المفردات والمنجد : (وضع).

(٢) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.


والعمى مثلا فقد ألهمهم يعني ألهم المتكلّم النطق بهذا اللفظ مثلا عند إرادة هذا المعنى ، فاستعمل المتكلّم هذا اللفظ في هذا المعنى بعد إلهام الله له ذلك اللفظ له لمناسبة ذاتيّة بينه وبين المعنى اطّلع الله عليها وخفيت علينا. فباعتبار أنّ المناسبة تكوينيّة من الإنسان فليس أمرا جعليّا صرفا كما في وجوب الصلاة مثلا. وباعتبار أنّ الملهم هو الله تعالى فليس أمرا تكوينيّا صرفا كالجوع والعطش ، فهو أمر بين الحقيقي والاعتباري الجعلي ، (وبهذا الاعتبار يصحّ إسناد الوضع إلى الله تعالى كما هو مقتضى قوله : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها)(١).

وقد أيّد دعواه بأمرين :

الأوّل : أنّ المعاني غير متناهية فالوضع لها غير متناه فلا يصدر من البشر.

الثاني : أنّه لو صدر منهم لذكر الواضع ؛ لأنّه خدم البشر خدمة عظيمة ولم نر في التاريخ له أثرا مع عدم غرض في الإخفاء) (٢).

ففيه أوّلا : أنّ ما ذكرت من اعتبار المناسبة بين اللفظ والمعنى وإن كان أمرا ممكنا إلّا أنّه لا دليل على وقوعه. ودعوى لزوم الترجيح بلا مرجّح لولاه قد عرفت عدم قبحه حيث تكون المصلحة قائمة بما يشمله وغيره من أفراد تلك الحقيقة ، بل اختيار خصوص فرد من الأفراد مع فرض وفاء الجميع بالغرض ترجيح من غير مرجّح.

وثانيا : أنّ ما ذكره قدس‌سره من أنّه أمر بين الحقيقيّة والاعتباريّة لا نفهم معناه ؛ إذ إنّ الشيء إن كان له وجود في الخارج فحقيقي ، وإن لم يكن له وجود فاعتباري ، فجعل الوضع أمرا بين الأمرين لا نفهم له معنى ، فإن أراد أنّ كون الملهم هو الله هو الذي أدخله في الاعتباريّة باعتبار إلهامه فجميع الأفعال التي يفعلها البشر مستندة إلى إلهامه من حفر الآبار وغيرها ، بل وجميع العلوم أيضا كذلك وجميع الصناعات فهذا لا يخرجها عن كونها أمورا حقيقيّة.

__________________

(١) البقرة : ٣١.

(٢) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.


(وأمّا ما ذكره مؤيّدا من عدم التناهي في المعاني فهو صحيح إلّا أنّ الواضع لا يلزمه أن يضع لجميع المعاني ، بل يضع بمقدار حاجته.

وأمّا عدم ذكره في التاريخ فإنّما هو لكون الوضع تدريجيّا فيضع آدم مثلا بمقدار حاجته ثمّ ولده بمقدار الحاجة المتجدّدة وهكذا ؛ ولذا لم يذكر واضع لكثرة الواضعين بحيث لا يمكن ذكرهم ولا مقتضى له لسهولة الوضع) (١).

وبالجملة ، فالظاهر ما ذكرنا من كون الوضع هو البناء والالتزام والتعهد أنّه متى أراد المعنى الفلاني يتلفّظ باللفظ الفلاني ، وإنّما أطلنا الكلام في هذا المقام مع أنّا بنينا على الاختصار في هذه المباحث التي لا يترتّب عليها كثير فائدة لأمرين :

أحدهما : ما سيأتي من عدم جواز استعمال المشترك في معنيين بإطلاق واحد ، بدعوى كون اللفظ ملحوظا فانيا في المعنى فناء الوجه في ذي الوجه والعنوان في المعنون ، فكيف يصحّ استعماله في معنيين؟ إلّا أن يكون اللاحظ أحول العينين كما في الكفاية (٢).

فقد ظهر صحّة الاستعمال ؛ إذ لا مانع من أن يبني أنّه متى تلفّظ بهذا اللفظ فهو يريد كلا هذين المعنيين كلّا على حدة ، كما يلتزم الواضع للعلم كونه علامة لانتهاء الفرسخ وكون الطريق من هاهنا.

نعم ، سيأتي أنّ هذا خلاف الظاهر من المتعهد والملتزم فلا يصار إليه بغير قرينة ، وهذا مانع إثباتي لا ثبوتي كما ادّعاه الآخوند قدس‌سره (٣).

وثانيهما : كون المعاني التي قد وضعت لها الألفاظ هي إرادة تفهيم هذه المعاني دون نفس المعاني ، ودلالة اللفظ على معناه إنّما هي دلالة أنسية لا ربط لها بالوضع.

__________________

(١) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) كفاية الاصول : ٥٣.

(٣) المصدر : ٥٤.


ويؤيّده ، بل يدلّ عليه أنّ وضع اللفظ لنفس المعاني من غير كون المتكلّم مريدا للتفهيم لا فائدة له ولا تترتّب عليه ثمرة ونحن غير محتاجين إليه أصلا ، فليس وضعه من الحكمة ؛ ولهذا لو سمعنا لفظ زيد من اصطكاك حجرين لانتقلنا إلى معناه لكن قيد الإرادة في المقام مفقود ، فالمتكلّم إنّما يريد إفهام السامع أنّه مريد لهذه المعاني.

فما ذكره الشيخ الرئيس (١) والمحقق الطوسي (٢) من أنّ الدلالة تابعة للإرادة مرادهما الدلالة اللفظيّة الوضعيّة لا الأنسيّة ، فلا مجال للردّ عليهما بأنّا بمجرّد سماع هذا اللفظ من اصطكاك حجرين نفهم هذا المعنى ويسبق إلى أذهاننا ؛ لأنّ هذه الدلالة هي الدلالة الأنسيّة ولا ينكرها هذان العلمان ، وإنّما ينكران الوضعيّة عند التكلّم بلا شعور ولا اختيار ، فافهم أنّ الحقّ معهما في كون ما يدلّ عليه الوضع هو كون المتكلّم في صدد إفهام السامع أنّه مريد لمدلول هذا اللفظ مثلا.

ومن هنا يظهر أنّ كلّ إنسان واضع ؛ لأنّه عند تكلّمه إنّما يريد إفهام المخاطب مداليل هذه الألفاظ ، فهو متعهّد بهذا الإفهام فهو واضع أيضا إلّا أنّه واضع تبعا لا استقلالا ، بل بتبع الواضع الأوّل كما هو واضح.

ثمّ إنّ هذا التعهّد تارة يستكشف من تصريح الواضع بذلك التعهّد إمّا بلفظه أو بكتابته وتسمّى بالوضع التعييني ، واخرى يستفاد من كثرة استعماله هذا اللفظ عند إرادة هذا المعنى وتسمّى بالتعيني ، كما هو مشاهد في أكثر اللغات ؛ فإنّ غير العالم باللغة الإيرانيّة مثلا إذا استفاد أنّهم متى عطشوا أطلقوا لفظ (آب) مثلا فيؤتون بالماء يعرف أنّهم تعهّدوا أنّهم متى أرادوا هذا المعنى أطلقوا لفظة (آب) عليه فيعرف تعهّدهم حينئذ.

__________________

(١) انظر الشفاء ، قسم المنطق ، المقالة الأولى من الفن الأول ، الفصل الثامن ، الصفحة ٤٢.

(٢) انظر الجوهر النضيد : ٨ ، ونهاية الدراية ١ : ٧٢ حكى عنه من شرح منطق الإشارات.


في أقسام الوضع

ثمّ إنّ الوضع سواء كان هو التعهد (١) كما ذكرنا أو الوجود التنزيلي (٢) أو اعتبار نفس الوضع (٣) أو كونه علامة (٤) أو غير ذلك ممّا قيل في حقيقته لا بدّ من أن يكون مسبوقا بتصوّر معنى ، فذلك المعنى المتصوّر للواضع تارة يكون معنى كلّيا واخرى يكون معنى جزئيّا.

فإن كان كلّيا فتارة يضع اللفظ لذلك المعنى الكلّي ، كما إذا تصور حقيقة الإنسان الكلّية فوضع لتلك الحقيقة لفظ الإنسان مثلا ، وهذا يسمّى بالوضع العام ؛ لعموم المعنى المتصوّر عند الوضع ، والموضوع له عامّ ؛ لعمومه أيضا ، ضرورة كون المتصوّر هو ما وضع اللفظ بإزائه.

واخرى يضع اللفظ لأفراد ذلك المعنى الكلّي باعتبار أنّه مرآة لها ؛ فإنّ الكلّي مرآة لأفراده ، وهذا القسم يسمّى بالوضع العامّ أيضا ؛ لعموم المعنى المتصوّر ، والموضوع له خاصّ ، لكونها أفراد ذلك الكلّي.

وإن كان المعنى المتصوّر جزئيّا فوضع اللفظ بإزائه ممّا لا ريب فيه كما في الأعلام الشخصيّة ، ويسمّى هذا بالوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ لخصوصهما معا.

وإنّما الكلام بين الأعلام في إمكان أن يكون الوضع خاصّا لخصوصيّة المعنى المتصوّر ولكن الموضوع له عامّ واستحالته ، ذهب بعضهم (٥) إلى الإمكان والمساواة

__________________

(١) انظر تشريح الاصول للشيخ علي النهاوندي : ٢٦ ، ٢٩.

(٢) أصول الأصول للمحقّق الإيرواني : ٩.

(٣) نهاية الدراية ١ : ٤٦ ـ ٤٧.

(٤) شرح الكافية ١ : ١٠.

(٥) بدائع الأفكار للمحقّق الرشتي : ٤٠.


بينه وبين القسم الثاني ، وهو كون الوضع عامّا والموضوع له خاصّا بدعوى أنّه كما يكون تصور الكلّي موجبا لتصوّر الأفراد كذلك الفرد يكون موجبا لتصور الكلّي ، فإنّ الكلّي إنّما يتصوّر بأفراده الخارجية.

وبالجملة ، إن كان التصوّر المعتبر في الوضع لا بدّ أن يكون موجبا لتصوّر الموضوع له بتمام خصوصيّاته فليس هذا التصوّر موجودا في القسم الثاني فكيف التزمتم به؟ وإن كان التصوّر بنحو ما كافيا فلا فرق بين هذا القسم الرابع والقسم الثاني.

ولا يخفى عليك ما في هذا الكلام ، فإنّ الكلّي مرآة لأفراده فتصوّره تصوّر لها.

بيان ذلك : أنّ تصوّر الكلّي يكون بنحوين :

ـ فتارة يتصوّر للحكم عليه بحكم يخصّه ولا يسري إلى أفراده أصلا كما في قولنا : الإنسان كلّي أو نوع ، فإنّ هذا الحكم حكم خاصّ بالكلّي من غير أن يكون هذا المحمول ثابتا لفرد من أفراده ، وتسمّى هذه المحمولات بالمعقولات الثانوية ، وفي هذه لا يكون تصوّر الكلّي تصوّرا لأفراده أصلا ؛ ضرورة أنّ الكلّية والنوعيّة ليستا من أحكام الأفراد.

ـ واخرى يتصوّر للحكم عليه بحكم لا يصدق إلّا في الخارج كما في قولنا : النار حارّة ، فهذا الحكم إنّما يثبت للنار باعتبار وجودها الخارجي الكائن في ضمن الأفراد ، وإلّا فتصوّر النار ليس محرقا والوضع من الأحكام أيضا على الماهيّة بلحاظ أفرادها الخارجيّة ، فهو يعني الكلّي مرآة لها حينئذ ، فيصحّ أن يتصوّر ذلك المعنى ويوضع ذلك اللفظ لأفراد ذلك المعنى الكلّي المتصوّر ، وهذا بخلاف العكس فإنّ تصوّر الفرد إن كان مع خصوصيّته الفرديّة فلا يوجب تصوّر الأمر الكلّي أصلا ، وإن كان مجرّدا عن خصوصيّته الفرديّة فهذا تصوّر لنفس الكلّي لا الجزئي ، غاية الأمر أنّه صار واسطة في ثبوت التصوّر للكلّي.


وما يقال من أنّا يمكن أن نتصوّر كلّيا من غير تشخيص فرده ويكون ذلك الفرد هو السبب في تصوّره ، كما إذا رأينا من بعيد شيئا لا نعرفه فنضع لفظا لكلّي ذلك الجزئي الخارجي الغير المعلوم.

ففيه : أنّ هذا الكلام مغالطة فإنّك عند وضعك قد لحظت كلّي ذلك الفرد وهذا مفهوم عامّ وهو الموضوع له.

وبالجملة ، فالفرد لا يوجب تصوّر الكلّي وليس مرآة له أصلا.

نعم ، قد يكون واسطة في ثبوت تصوّره. فالأقسام الممكنة هي الثلاثة الأوليّة ، والرابع مستحيل.

(ثمّ إنّه كما يكون المعنى الموضوع له عامّا تارة وخاصّا اخرى كذلك اللفظ الموضوع قد يكون خاصّا من حيث المادّة والهيئة وهو وضع الجوامد ، وقد يكون عامّا كوضع الهيئة في المشتقات فإنّه عامّ ، وكذا وضع المادّة في المشتقّات ؛ فإنّ المادّة موضوعة للمعنى في أيّ هيئة تحقّقت كما في مادة ق ع د ، وهيئة فاعل موضوع لاسم الفاعل من أيّ مادة تركّب ، ويسمّى بالوضع النوعي ، فافهم) (١).

فيقع الكلام في الواقع من هذه الأقسام في الخارج.

فنقول : أمّا القسم الأوّل فلا ريب في وقوعه كما في الوضع للكلّيات ، وكذا القسم الثالث كما في وضع الأعلام. وأمّا القسم الثاني فقد ادّعي (٢) وقوعه خارجا ومثّلوا له بوضع الحروف بدعوى أنّ المعنى المتصوّر عند وضعها عامّ والموضوع له خاصّ ؛ لأنّه الأفراد.

فيقع الكلام في المعنى الحرفي وتحقيقه أوّلا ، ثمّ يقع الكلام في كون القسم الثاني واقعا أم أنّه لم يقع وإن أمكن وقوعه.

__________________

(١) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) منهم السيد مير شريف الجرجاني والتفتازاني في حاشيته على المطوّل في مبحث الاستعارة ، وصاحب الفصول في فصوله : ١٦.


في المعنى الحرفي

والأقوال فيه ثلاثة :

الأوّل : أنّ الحرف لم يوضع للدلالة على معنى وإنّما هو علامة نظير حركات الإعراب ، فهي علامة لكيفيّة إرادة المدخول ، مثلا : الدار تارة تستعمل ويراد منها أنّها عين موجودة في الخارج فيقال : دار فلان وسيعة ، واخرى بما أنّها ظرف مكان فيقال : زيد في الدار ، فلفظة «في» دالّة على المعنى الأيني الظرفي ، كما أنّ رفع زيد في قولنا : ضرب زيد ، علامة لكون الضرب صادرا منه ونصب عمرو ، علامة كون الضرب واقعا عليه ، كذا الحروف أيضا علامات وقرائن لكيفيّة إرادة المدخول (١).

ولا يخفى عليك ما فيه ؛ فإنّ هذه العلاميّة المتحقّقة في المقام هل هي بوضع أم أنّها ليست بوضع؟ لا ريب في كونها بوضع ، كما نلتزم ذلك في المقيس عليه أيضا فإنّ حركات الإعراب أيضا ببناء وتعهّد من الواضع ، وكذا الهيئة التركيبيّة في قولنا : ضرب موسى عيسى ، فإنّ تقديم ما لا تظهر عليه الحركة أمارة كونه فاعلا إنّما كانت لتعهّد العرب بذلك حيث يلتبس الحال.

وبالجملة ، فالوضع لا يختص بالمفردات بل يسري حتّى في الهيئات التركيبيّة وفي المركبات أيضا كما سيأتي.

القول الثاني : أنّ المعنى في الأسماء والحروف واحد ، وإنّما تفترق في الاستعمال وكيفيّته ، فإن استعمل بنحو الآليّة كان المعنى معنى حرفيّا وإن استعمل بنحو الاستقلاليّة فهو معنى اسمي ، فمفهوم المعنى الاسمي والحرفي مفهوم واحد ، وإنّما يفرّق بينهما في كيفيّة الاستعمال ، فقد يلحظ آلة وقد يلحظ استقلالا ، إلّا أنّ هذين اللحاظين إنّما هما من شئون الاستعمال لا من خصوصيّات المعنى. وقد اختار

__________________

(١) انظر شرح الكافية للشيخ نجم الدين الرضي ١ : ١٠.


هذا القول صاحب الكفاية (١) تبعا للشريف الرضي (٢) على ما نسب إليه كما نسب إليه القول الأوّل وهما على طرفي نقيض.

وقد أشكل على الآخوند قدس‌سره (٣) بأنّه لو اتّحد المعنى الاسمي والحرفي لصحّ استعمال أحدهما في مقام استعمال الآخر ، فيكون قولنا : سرت ابتداء البصرة بدلا عن سرت من البصرة ، كما يكون قولنا : من البصرة حسن بدلا عن قولنا : ابتداؤها حسن ، وبطلانهما في لغة العرب بل وغيرها من اللغات غير محتاج إلى بيان.

وقد أجاب الآخوند (٤) عن ذلك بعبارة تحتمل أوجها :

الأوّل : أنّ الواضع قد اشترط أن يكون استعمال لفظ الابتداء عند إرادة المعنى الاستقلالي ولفظ «من» عند إرادة المعنى الآلي ، فأشكل عليه النائيني قدس‌سره (٥) بأنّ شرط الواضع لا يجب الالتزام به أوّلا ، وثانيا إنّ مخالفة شرط الواضع لا توجب سوى الإثم على تقدير كون شرطه واجب الالتزام ، ولا يصحّ استعمال أحدهما في موضع الآخر ولو خولف ألف شرط وتحمّل ألف إثم.

الثاني : أن يكون مراد الآخوند بعبارته : أنّ المعنى واحد بحسب الجنس وإن تحصّص الابتداء الاستقلالي بلفظ الابتداء والآلي بلفظ «من» فالمعنى واحد جنسا ولكنّه متحصّص إلى حصّتين لكلّ حصّة لفظ خاصّ ، نظير زيد وعمرو فإنّهما مشتركان في كون جنسهما واحدا وإن تحصّص كلّ منهما بحصّة منه غير حصّة الآخر.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٦.

(٢) شرح الكافية ١ : ١٠.

(٣) كفاية الاصول : ٢٦.

(٤) كفاية الاصول : ٢٧.

(٥) أجود التقريرات ١ : ٢٣.


وفيه أوّلا : أنّ هذا لا يلائم مذاق الآخوند ؛ إذ بناء عليه يكون الوضع عامّا والموضوع له خاصّ ومدّعاه عمومهما.

وثانيا : أنّ هذا يرد عليه ما أورده الآخوند قدس‌سره من عدم الانطباق على ما في الخارج ؛ لأنّ التقييد باللحاظ الآلي والاستقلالي للمعنى يوجب أن لا يكون له وجود خارجي.

وثالثا : أنّ هذا يوجب أن تكون جميع الكلّيات موضوعة وضع الحروف إذا كانت متحصّصة بالحصص.

فالأولى أن يكون مراد الآخوند من عبارته ـ كما يظهر ذلك من عبارته في المشتق عند تعرّضه للمعنى الحرفي ـ الثالث ، وهو : أنّ الواضع لمّا كان وضعه بيده فقد يضع اللفظ ويتعهّد أنّه متى أراد المعنى الفلاني أطلق هذا اللفظ بأيّ نحو أريد ذلك المعنى ، وقد يضع اللفظ لهذا المعنى ويجعل العلقة الوضعيّة في صورة خاصّة لا على الإطلاق ، مثلا يتعهّد أنّه متى أطلق لفظ زيد في الليل فهو يريد زيد بن عمرو ، ومتى أطلقه في النهار فهو يريد زيد بن بكر ، فكذا هنا يضع اللفظ للابتداء الغير الملحوظ فيه الآليّة والاستقلاليّة أصلا ، ويشترط بمعنى أنّه يجعل العلقة الوضعيّة بين لفظ الابتداء ومعناه عند إرادة استعماله مستقلّا ، وبين لفظ «من» والابتداء الذي هو المعنى الكلّي عند استعماله آلة ، وحينئذ فلا يكون استعمال أحدهما في محلّ الآخر صحيحا لفقده العلقة الوضعيّة بين اللفظ والمعنى ، فهو وإن كان مستعملا فيما وضع له إلّا أنّه بغير ما وضع له.

ومن هنا ظهر أنّ إيراد الميرزا قدس‌سره (١) بأنّ خلوّ المعنى عن كونه مستقلّا وغير مستقلّ نفي للضدّين ليس كما ينبغي ؛ إذ المعنى واحد والمنفيّ ليس استقلال المعنى

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٣.


وعدم استقلاله ، بل المنفيّ اللحاظ الاستقلالي والآلي وهما منفيّان عن المعنى قبل تعلّق اللحاظ به ؛ ضرورة أنّهما من أوصاف اللحاظ اللاحق للمعنى لا من أوصاف نفس المعنى.

ولا يخفى أنّ هذا الوجه هو الذي ينبغي أن يحمل عليه كلام صاحب الكفاية قدس‌سره وحينئذ فلا يرد عليه شيء إلّا أنّ افتراق المعنى الحرفي عن المعنى الاسمي بكون المعاني الاسمية مستقلّة والمعاني الحرفية آلة وحالة للغير لا نهتدي إليه ؛ لأنّه إن أريد من كون المعاني الحرفية آلة أنّه مرآة لطرفيها ، مثلا في : سرت من البصرة تكون «من» مرآة للسير والبصرة ، ففساده واضح ؛ إذ المباين كيف يكون مرآة لمباينه؟ ومعلوم مباينة معنى «من» لمعاني طرفيها ، وإن أريد من كونها مرآة كونها مشخّصة لفرد من أفراد ذلك المعنى الكلّي فهي آلة لتحقيق فرد من أفراده فهو مسلّم لكنّه يقتضي أن تكون المعاني الاسميّة كلّها كذلك أي معاني حرفية ؛ إذ المعنى الاسمي الكلّي قد يلحظ بما هو هو فيقال : الإنسان نوع ، وقد يلحظ من حيث الوجود الخارجي فيقال : الإنسان ضاحك ، ضرورة أنّ الضحك ليس من عوارض مفهوم الإنسان وإنّما هو من عوارض وجوده الخارجي الذي يكون الإنسان في المثال مرآة له ، ونظيره قولنا : النار حارّة.

وأمّا حديث كون المعنى إن اتصف بكونه حالة لغيره كان حرفيّا فلا نتصوّر له معنى ؛ إذ المعنى الحرفي كونه حالة لغيره ذاتي له فكيف يكون وصفا له ، وذاتي الشيء لا يعتبر وصفا فيه؟

إلّا أن يقال : إنّ المعنى تارة يلحظ من حيث نفسه ويحكم عليه بذلك اللحاظ فيكون معنى اسميا ، واخرى يلحظ بما أنّه حالة من أحوال الغير فيكون معنى حرفيّا ، كما ذكروا نظير ذلك في الفرق بين المصادر وأسمائها فقالوا ـ يعني الفلاسفة ـ : إنّ المعنى المصدري إن لوحظ حالة لغيره فهو مصدر وإن لوحظ في نفسه فهو اسم المصدر.


وبالجملة ، فحيث كان العرض ذا جنبتين فإنّها أوصاف في نفسها لكنّها لغيرها ، فإن لوحظت باللحاظ الأوّل فهي اسم مصدر ، وإن لوحظت باللحاظ الثاني فهي المصادر.

ولا يخفى عليك أنّ صرف كونها حالة لغيرها لو كان مقتضيا لكون المعنى حرفيّا لزم كون المصادر كلّها معاني حرفيّة وهو بمكان من البطلان ، فافهم.

وحيث بطل هذان المعنيان تعيّن الثالث يعني القول الثالث وهو كون المعاني الحرفية مغايرة للمعاني الاسمية بنحو المباينة وأنّ الموضوع له لأحدهما غير الموضوع له للآخر وقد ذكروا في تقريبه وجوها :

الأوّل : إنّ الحروف موضوعة للنسب بين الجواهر والأعراض ، مثلا زيد معنى مستقل والدار أيضا معنى مستقلّ ، فكما أنّ المعاني المستقلّة محتاجة إلى وضع لتفهيمها فكذلك الربط بين هذه المعاني المستقلّة له وجود خارجي ، فلا بدّ له من دالّ يدلّ عليه وهي الحروف. فإذا قلت : زيد في الدار فقد ربطت بين زيد وبين الدار ، وكذا قولك : زيد في السفر مثلا ، (مع أنّ المعنى الاسمي والحرفي لو كانا واحدا واختلافهما باللحاظ الآلي والاستقلالي الناشي من الاستعمال خارجا عن مدلولهما لكان استعمال أحدهما بمكان الآخر جائزا ، وكان أولى من المجاز المتّفق على صحته ؛ لأنّ المجاز استعمال في غير ما وضع له من جهة المشابهة أو غيرها ، وهنا الاستعمال في ما وضع له وإن كان بغير ما وضع له ، ونحن نرى من يستعمل أحدهما في مورد الثاني يعتبر مجنونا فهذا دليل اختلاف المعنى الموضوع له) (١).

وفيه : إنّ الحروف لو لم تستعمل إلّا بين الجواهر أو الأعراض لكان هذا الوجه وجيها ، ولكنها تستعمل في غيرها مما هو فوق الجواهر والأعراض كما في قولك : الملك لله ، فإن هذه اللام ربطت بين الملك وبين أي شيء؟

__________________

(١) ما بين القوسين من اضافات الدورات اللاحقة.


وكذا تستعمل فيما هو دون الجواهر والأعراض كما في قولك : اجتماع الضدّين في الخارج محال ، فلفظ «في» في المثال ربط بين الخارج وبين أيّ شيء؟

وبالجملة ، فقد تستعمل الحروف في أماكن لا يمكن تحقّق الربط والنسبة الرابطة ، إذ المراد بالنسبة النسبة الخارجيّة ، فتأمل.

(توضيح هذا الوجه الذي قد ذكره بعض مشايخنا المحققين (١) في توجيه وتوضيح المعنى الذي وضع له الحرف فذكر أنّ الوجود قسمان :

ـ وجود في نفسه وينقسم إلى وجود في نفسه لنفسه بنفسه وهو وجود الواجب ، ووجود في نفسه لنفسه إلّا أنّه بغيره كما في وجود الجواهر ، ووجود في نفسه لغيره بغيره وهو وجود العرض ، فهذه الثلاثة أقسام القسم الأول من قسمي الوجود وهو الوجود في نفسه.

ـ القسم الثاني هو الوجود في غيره وهو نحو من الوجود له تحقّق خارجي قطعا ، والبرهان على ذلك أنّه قد يكون المرء قاطعا بوجود زيد وقاطعا بوجود العلم إلّا أنّه شاكّ في ثبوت العلم لزيد ، ولا ريب في أنّ المشكوك غير المتيقّن وجودا ، فلهذا المشكوك فيه وجود يغاير وجود المتيقّن.

إذا عرفت هذه المقدّمة فاعلم : أنّ المعاني الاسمية هي المعاني الموضوعة بإزاء الموجودات في نفسها ، أمّا المعاني الموجودة في غيرها فقد وضعت الحروف لها ، فالحروف موضوعة للربط الخارجي بين المرتبطين ، فهي موضوعة للوجود الربطي وهو وجود خارجي نظير الوجود الرابطي إلّا أنّه غيره فيربط بين زيد وبين العلم ، وليست موضوعة لمفهوم الربط والنسبة ؛ لأنّها مفهوم موجود في نفسه وإنّما هي موضوعة لتلك النسبة الخارجيّة المتحقّقة بين زيد وبين العلم.

__________________

(١) الشيخ محمد حسين الأصفهاني ، بحوث في الاصول : ٢٥ ـ ٢٦.


أقول : الكلام يقع في مقامين (١) وذلك أنّه يقع أولا في أنّ الوجود في غيره له واقع أم أنّ الموجودات غير الواجب منحصرة في الجواهر والأعراض ، وأن الوجود الربطي بعينه هو الوجود الرابطي؟ الظاهر : الثاني وما ذكر من البرهان لا يقتضي المغايرة ؛ إذ قد يكون الكلّي متيقّنا والفرد مشكوك ، وهذا لا يقتضي مغايرة الفرد للكلّي وجودا ، فإذا تيقّنّا بوجود إنسان في الدار إلّا أنّا نشكّ في أنّه زيد أم غيره فهذا لا يقتضي بأنّ زيدا غير إنسان ؛ لأنّ المتيقّن غير المشكوك ، ومقامنا من هذا القبيل ؛ فإنّ كلّي العلم وإن كان متيقّنا إلّا أنّ كون زيد فردا له مشكوك.

ويقع الكلام ثانيا في أنّه لو سلّمنا أنّ الوجود في غيره له تحقّق إلّا أنّه لا يمكن أن تكون الحروف موضوعة له ؛ لأنّ الموضوع له لا بدّ من تصوّره ذهنا حتّى توضع الألفاظ له ، والوجود الربطي الخارجي يستحيل وجوده ذهنا فكيف يوضع الحروف له؟

وثالثا أنّ هذا المعنى لو وضع له الحرف لم يصح استعماله إلّا في ربط الأعراض بالجواهر ، ونحن نرى صحّة استعمال الحروف فيما هو فوق الجوهر والعرض وهو الواجب ، فيقال : واجب الوجود موجود في نفسه ، فلفظ «في» قد استعملت كما تستعمل في غيره ، والوجود الربطي بينه وبين الأعراض مستحيل. وتستعمل الحروف أيضا فيما هو دون الجوهر والعرض وهو الاعتباريّات كقولنا : اجتماع الضدّين مستحيل في نفسه ، وقولنا : العدم مقابل للوجود ، ولا معنى للوجود الربطي الخارجي بين اجتماع الضدّين والاستحالة كما لا معنى له بين العدم ومقابلة الوجود.

وبهذا الوجه الأخير يظهر فساد ما ذكره بعض المحقّقين (٢) في توجيه المعنى الحرفي بعد اعترافه بمباينته للمعنى الاسمي ، فإنّه زعم أنّ الوجود الربطي قد وضعت له

__________________

(١) بل في ثلاث مقامات.

(٢) بدائع الأفكار : ٤٩ ـ ٥١.


الهيئات وأمّا الحروف فقد وضعت للأعراض النسبيّة كالكم والكيف ، بل هذا أظهر فسادا من سابقه ، وجه فساده أنّه يستعمل فيما لا يتصور ظرفيّته للأعراض النسبيّة كالواجب تعالى كما مثّلنا ، ووجه أظهرية فساده أن الأعراض النسبيّة كغيرها مفاهيم اسمية مستقلة وقد اعترف بمباينة المعاني الحرفية للاسمية ذاتا وهذا يقتضي اتّحادها وكون الاختلاف باللحاظ فإنّ الكمّ والكيف والظرفية كلّها معاني اسمية) (١).

الوجه الثاني : من الوجوه المذكورة في تصوير المعنى الحرفي بعد فرض مغايرته للمعاني الاسمية وأنّهما سنخان من المعنى ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) وملخّصه : أنّ المعاني الاسمية معان إخطارية ؛ لأنّها توجب إخطار المعنى عند ذكره ، مثلا إذا قلنا : زيد فهذه الكلمة توجب إخطار ذات زيد في ذهن السامع مثلا ، والمعاني الحرفية معان إيجادية ، فإنّك إذا تكلّمت بحرف «في» فقد أوجدت خارجا فردا من أفراد الظرفيّة مثلا ؛ ضرورة أنّك توجد الربط بين المفردات الإخطارية ، مثلا لفظ زيد لفظ مفرد يوجب إخطار ذاته ولفظ دار كذلك أيضا ، فلو ذكرت هذه الألفاظ متسلسلة من غير ذكر الحرف مثلا لم تكن مربوطة ، بل ولو جيء بالمعنى الاسمي بدل الحرف أيضا لا يحصل الربط ، كما إذا قلنا : زيد ظرفية تعريف دار تزداد عدم مربوطيّتها ، فيكون المحدث لهذا الربط هو الحرف ، مثل لفظة «في» في قولك : زيد في الدار. فالحروف تكون بمعانيها الإيجادية محدثة للربط ، فهي موجدة لواقع الظرفيّة في الخارج ومحدثة للربط بين المعاني الاسمية ، وهذا الربط المحدث إذا كان موافقا للربط الواقعي بين هذه المفردات فالقضيّة صادقة وإلّا فكاذبة.

__________________

(١) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٥.


ولا يخفى أنّ ما ذكره (من كون المعاني الحرفيّة إيجاديّة لأنّها ليست إخطاريّة ممنوع ؛ لأنّ عدم كونها إخطاريّة بنفسها لا تستلزم كونها إيجاديّة ؛ لأنّ عدم كونها إخطاريّة بنفسها لا ينفي كونها إخطاريّة بتبع متعلّقها ، كما نبيّنه إن شاء الله) (١) [كما أنّ ما ذكره](٢) من حدوث معنى عند الإتيان بالحرف لم يكن قبل الإتيان به مسلّم إلّا أنّ هذا المعنى ليس من لوازم الحرف الذاتيّة حتّى لا يحتاج إلى وضع بل هو محتاج إلى الوضع ، فكلامنا نحن في المعنى الذي وضعت له هذه الحروف حتّى صارت تفيد الربط كما ذكرتم.

وبالجملة ، فما ذكره مسلّم إلّا أنّه لا يثبت المقصود.

فالتحقيق أن يقال : إنّ معاني الحروف ـ بعد اشتراكها في كونها معان في الغير ـ ليس لها ضابط كلّي بل إنّها مختلفة لا يمكن حصرها في ضابط كلّي ، وإنّها ممتازة معنى عن المعاني الاسمية وسنخ مغاير لها.

بيان ذلك أن يقال : إنّ المفاهيم الاسمية متفاوتة في الضيق والسعة كما في مفهوم الحيوان ومفهوم الإنسان ، فإنّ الثاني أضيق من الأوّل ، وإنّ الألفاظ غالبا قد وضعت للماهيات المهملة المسمّاة باصطلاح القوم باللاشرط المقسمي غير ملحوظ بها حتّى الوجود أو العدم ، فترى بعض الماهيّات لم يعرضها الوجود أصلا.

ثمّ إنّ هذه المعاني الاسميّة سواء كانت كليّة أو جزئيّة تنحلّ إلى حصص ، مثلا الإنسان الذي هو كلّي ينحلّ إلى حصص غير متناهية ؛ لأنّه ينحلّ إلى طويل وقصير ، أبيض وأسود في الليل أو في النهار ، عربي أو غير عربي ، هاشمي أو غيره ، عالم أو غيره ، عادل أو غيره ، ولد ليلا أو نهارا إلى غير ذلك من الانقسام إلى المعاني الغير المتناهية ، فهو منقسم إلى حصص لا تتناهى ، وكذا إذا كان

__________________

(١) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) ما بين المعقوفتين زيادة اقتضاها السياق.


المعنى الاسمي جزئيا فهو منقسم إلى حالات غير متناهية ، كما في انقسام زيد إلى الصحيح والمريض ، الأسود والأبيض ، الطويل والقصير ، الصغير والكبير ، النائم والقاعد ، الماشي والقائم ، المسافر والحاضر إلى غير ذلك من حالاته التي يمكن أن يتصف بها.

فالمعاني الاسمية كلّية كانت أو جزئيّة هي مطلقة بحيث لو ألقاها المولى في مقام البيان لشملت جميع هذه الحصص والحالات ، وإن وجد بعض الألفاظ موضوعا لحصّة خاصّة من حصص الماهيّة كما في الجلوس فإنّه موضوع لهذا المعنى حيث يكون مسبوقا بالقيام ، بخلاف القعود فإنّه موضوع لذلك المعنى حيث يكون مسبوقا بالاضطجاع فقد وضع الواضع هذين اللفظين لحصّتين من ماهيّة واحدة ، إلّا أنّ ذلك لمّا كان نادرا في لغة العرب وغيرها ، ولما كان تضيّقها بوضع معان اسمية لكلّ حصّة من هذه الحصص يحتاج إلى وضع غير متناه أو تطويلا بغير ملزم فقد وضعت الحروف لتضييق تلك المعاني الاسمية وتحصيصها إلى الحصص التي هي مرادة للمتكلّم ، مثلا قوله : الصلاة في المسجد أفضل من الصلاة في الدار فلفظ «في» في المقامين أبرز الحصّة المرادة المفضّلة على الحصّة المفضّل عليها ، ولو لم يؤت ب «في» في المقامين لبقيت الصلاة على إطلاقها.

فالحروف موضوعة لمعان إيجادية واقعية وهي التضيّق وهذا هو ما نسب إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام من قوله : الحروف هي ما دلّت على معنى في غيرها (١) فإنّها قد دلّت على التضييق في غيرها وهي المعاني الاسمية. هذا هو القسم الغالب من الحروف ، وهذه الحروف نسمّيها اصطلاحا بالحروف الاختصاصية.

ثمّ إنّ هذا التضييق قد يستفاد من الإضافة كما في غلام زيد ، وقد يستفاد من التوصيف واستفادته من هيئتهما وهي معنى حرفي أيضا.

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٠ : ١٦٢.


وبالجملة ، فهذه الحروف ـ وهي الاختصاصية ـ موضوعة لتقييد المعاني الإفرادية ، كهيئة المشتقّات فإنّها موضوعة لتقييد المادّة وتضييقها بالصدور مثلا في ضارب وبالوقوع عليه في مضروب وكذا غيرها.

القسم الثاني منها هو ما وضع بإزاء المعاني الاسمية بلا فارق ، بحيث يصحّ استعمال الحرف والاسم فيه ، وذلك هو حروف التشبيه بأسرها ؛ فإنّه لا يستفاد من قولنا : زيد كالأسد ، إلّا ما يستفاد من قولنا زيد مثل الأسد أو نظير الأسد أو شبيه الأسد أو غيرها ، فهذه الحروف تسمّى باصطلاحنا بالحروف الاسمية ؛ لأدائها نفس المعاني الاسمية ، كما سمّيت أسماء الأفعال أسماء مع [أنّ] عملها عمل الأفعال (*).

وقسم من الحروف وهو الثالث ما كانت لسلب ما يستفاد من المعنى في الجملة الخبرية الإيجابية ، فإذا استفيد معنى في قولنا : زيد قائم مثلا فما يستفاد منها تكون تلك الحروف سالبة له لو دخلت ، فقيل : ما زيد بقائم أو ليس زيد بقائم أو لا يقوم زيد أو لم يقم أو لن يقوم.

وبالجملة ، فحروف السلب إنّما وضعت لمفهوم إيجادي وهو سلب المعنى المستفاد من الجملة الإيجابية وليس هي حرف وإن عدّت من الأفعال إلّا أنّها حرف حقيقة ، وعلامة ذلك أدائها معنى الحروف كما ذكرنا. ثمّ إنّ هناك أقساما أخر للحروف لا حاجة إلى ذكرها.

__________________

(*) لا يخفى أنّه لا وجه لعدّ حروف التشبيه قسما آخر غير سابقه. ودعوى صحّة قيام المعاني الاسمية مقامها ، مدفوعة ؛ فإنّ الكاف موضوعة للتشبيه ، ولو جيء بلفظ التشبيه مكانه لم يرتبط ، بأن يقال : زيد تشبيه تعريف أسد. ولو اريد التشبيه بمشتقّاته كأن يقال : زيد شبيه الأسد صحّ مثله في غير حروف التشبيه فيقال : زيد مظروف الدار ومستعلي السطح وهكذا (الجواهري).


وبالجملة ، فالحروف بأسرها موضوعة لمعنى في غيرها وهو التقييد والتحصيص كما ذكرنا ، غايته أنّ التحصيص تارة يكون في معنى مفرد كما في قولك : زيد في الدار ، فهو تحصيص لزيد من ناحية الظرفية ، واخرى يكون التحصيص في معنى جملة كما في أداة الشرط والاستفهام وغيرها (*) ، وكالحروف المشبّهة بكان ، فمثل قولك : أكرم زيدا إن جاءك مثلا لمّا كان لفظ أكرم زيدا مطلقا من حيث مجيئه وعدمه ، فبإطلاقه كان يجب إكرامه على كلّ تقدير فتقييده بالشرط تقييد له وبيان لكون الحصّة المطلوبة من الإكرام حصّة خاصّة. وكذا الاستفهام على ما سيأتي في بيان معنى الجملة إن شاء الله تعالى.

وبالجملة ، فالتخصص والتقيّد هو المعنى الذي وضعت له الحروف وهو معنى قائم بالغير ؛ ضرورة أنّ التقييد لا يكون إلّا بين مقيّد ومقيّد به فهي تدلّ على معاني في غيرها.

بقي الكلام في أنّ هذه المعاني التي هي المعاني الحرفية يمكن أن تستقلّ باللحاظ أم إنّها ـ كما هو المشهور وإليه ذهب صاحب الكفاية (١) ـ لا يمكن أن تلحظ إلّا باللحاظ الآلي ، بل ذكر بعضهم (٢) أنّ المعاني الحرفية معان مغفول عنها في مقام الاستعمال؟ الظاهر : إمكان أن تستقل باللحاظ وإن كان المعنى في غيره ، فإنّ معنى كون المعنى في غيره أنّه بذاته غير مستقلّ ، ولا يلزم منه أن يكون تعلّق اللحاظ الاستقلالي به ممتنعا ، بل إنّ تعلّق اللحاظ الاستقلالي به أمر وجداني ؛ فإنّه ربّما يكون الذات والقيد

__________________

(*) قد أفاد في الدورة اللاحقة أنّ ما وضع له حرف الاستفهام والترجّي والتمنّي هو ما وضعت له الهيئات التركيبية في الجمل الإنشائية ، وهو إبراز كونه مستفهما عن كذا أو مترجّيا لكذا أو متمنّيا لكذا على ما اختاره فيما وضعت له الجمل ولم يذكر فيها غير هذا القسم مع القسم الأوّل.

(١) كفاية الاصول : ٢٧.

(٢) فوائد الاصول ١ : ٤٥ و ١٨١.


متحقّقين في الخارج قطعا ويسأل السائل عن تحقّق ذلك التقيّد وعدمه ، فيقول : صلاة زيد في المسجد أم في الدار مثلا؟ وضرب زيد بالعصا أم بالسوط؟ إلى غير ذلك مما يقع السؤال فيه عن نفس المعنى الحرفي ليس إلّا ، فهو ملحوظ بالاستقلال أيضا كالمعاني الاسميّة. فكما أنّ المعاني الاسمية تلحظ استقلالا كذلك المعاني الحرفيّة ، وهذا لا ينافي كونها بذاتها غير مستقلّة ، فإنّ غير المستقل قد يلحظ بلحاظ استقلالي كما مثلنا ، فافهم.

والغرض من هذا التطويل هو بيان كون المعاني الحرفيّة قابلة للّحاظ الاستقلالي. ويترتّب على ذلك صحّة اعتبار المفهوم ، ولا يتوجّه عليه الإشكال بأنّ معنى الهيئة معنى حرفي فكيف يصحّ أن يقيّد والتقييد يستدعي اللحاظ الاستقلالي وهو مفقود في المعاني الحرفيّة؟ لأنّ تعلّق اللحاظ الاستقلالي به أيضا ممكن فلا إشكال في استفادة المفهوم حينئذ سواء كان مفهوم شرط أو غاية أو وصف ، فافهم.

بقي الكلام في أنّ الموضوع له في الحروف عامّ كما ذهب إليه في الكفاية (١) بدعوى اتّحاد المعنى الاسمي والحرفي ، والفرق بينهما إنّما هو باللحاظ الآلي في الثاني والاستقلالي في الأول ، وهما ناشئان من الاستعمال ، أو أنّ الموضوع له خاصّ؟ الظاهر : الثاني ؛ فإنّ الواضع تصوّر مفهوم التقييد والتضييق إلّا أنّه وضع الألفاظ بإزاء واقعهما ، فإنّ لفظة «في» غير مفيدة لمفهوم التقييد على سعته وإطلاقه ، وإنّما هي مفيدة لتقييد واقعي وموجدة له ، فهي موجدة لفرد من أفراد التقييد والتضييق وكذا غير لفظ «في».

وبالجملة ، فالظاهر أنّ وضعها عامّ والموضوع له فيها هو واقع التقييدات لا مفهومها فيكون الموضوع له فيها حينئذ خاصّا. هذا تمام الكلام في المعنى الحرفي والكلام فيه أزيد من هذا تضييع للعمر وخسران للوقت.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٥.


في وضع الهيئات

روت العامّة (١) والخاصّة (٢) عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه أمر أبا الأسود الدؤلي أن يدوّن علم النحو وأملى هو عليه‌السلام عليه : الاسم ما أنبأ عن المسمّى والفعل ما دلّ على حركة المسمّى والحرف ما أوجد معنى في غيره ، وقد اتّضح بما ذكرنا معنى الفقرة الأولى والأخيرة بقي الكلام في معنى الفقرة الثانية ، وإرادة الحركة بالمعنى المعروف لها غير صحيح ؛ إذ إنّ جملة من الأفعال لا تدلّ على الحركة وإنّما تدلّ على السكون فلا بدّ من ذكر معنى جامع لجميع الأفعال ومانع عن دخول غيرها ولنتكلّم قبل ذلك فيما وضعت له الهيئات.

فنقول : أمّا الجملة الاسمية كما في قولنا : زيد قائم بل مطلق الجملة الإخبارية وإن كانت فعليّة [فقد] ذكر القوم ـ ولعلّه متسالم عليه بينهم ـ أنّ هيئة الجملة الاسمية موضوعة لثبوت النسبة في الخارج إن كانت إيجابية ، وسلبها إن كانت سلبيّة ، فإن كانت الجملة موافقة لنفس الأمر فالخبر صادق ، وإن خالف فكاذب.

ولا يخفى عليك عدم استقامة ذلك ، بيانه : أنّ جملة من الجمل الخبرية لا يمكن ثبوت النسبة الخارجية فيها بين المحمول والموضوع كما في قولنا : الإنسان حيوان ناطق ، وكما في قوله : أنا أبو الصقر وشعري شعري (٣) ، وكما في قولنا : الإنسان بشر وغيرها ممّا لا يكون معنى للنسبة فيها بين المحمول والموضوع ؛ لاتّحادهما ذاتا وخارجا والتغاير بينهما مفهومي ليس إلّا ، بل في بعض الجمل لا وجود للموضوع

__________________

(١) كنز العمال ١٠ : ٢٨٣ / ٢٩٤٥٦ ، أمالي الزجاجي : ٢٣٨.

(٢) بحار الأنوار ٤٠ : ١٦٢. وفيه : والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل.

(٣) لم نقف عليه ولكن وجدنا هكذا :

أنا ابوالنجم وشعري شعري

لله درّي ما اجن صدري

وهو لأبي النجم العجلي. انظر جامع الشواهد : ٧٠.


خارجا حتّى ينسب إليه المحمول كما في قولنا : العنقاء معدوم أو شريك الباري مستحيل ؛ فإنّ الموضوع لا وجود له خارجا حتّى ينسب إليه في الخارج ، فلا بدّ فيها من التجريد والتجوّز ، ونحن لا نرى تفاوتا في الاستعمال بينها وبين غيرها كما في زيد قائم ، بل نرى استعمال الجملة فيهما واحد ، فهذا كاشف عن اتّحاد المستعمل فيه في كلتا الجملتين ، فلا بدّ من كونه غير ثبوت النسبة.

وثانيا : أنّ الهيئة لو كانت موضوعة لثبوت النسبة في الخارج لأوجبت إثباتها في الخارج ، وقولك : زيد قائم مثلا بعد صدوره نحتمل ثبوت القيام ونحتمل سلبه بالوجدان ، فهذا كاشف أنّ ما وضعت هيئة الجملة له معنى آخر غير ثبوت النسبة ، وإلّا لافادتها.

فالتحقيق أن يقال : إنّ الهيئة وضعت لإفادة كون المتكلّم قاصدا للحكاية ، وهذا واضح بناء على أنّ الوضع هو التعهّد ، فإنّ الواضع قد تعهّد والتزم أنّه متى أتى بجملة خبرية فهو بصدد الحكاية والإخبار ولا ضير في ذلك أصلا ، وحينئذ فتسميتها بالجملة الخبرية إنّما هو باعتبار أنّ صدورها من المتكلّم بقصد الحكاية والإخبار يحقّق فردا من أفراد الإخبار ومصداقا من مصاديقه ، وجميع العناوين القصدية تابعة للقصد ، فافهم ، فاتّصاف الجملة الخبرية بالصدق والكذب حينئذ لا معنى له ؛ إذ دلالتها على معناها دائما صادق ، فإنّ دلالة المفردات على المعاني التصورية لا تنتفي ولو علم بانتفاء النسبة. والهيئة إنّما وضعت لإبراز كون المتكلّم بصدد الحكاية فإذا كان بصدد الحكاية واقعا كان الاستعمال صحيحا وإلّا كان غلطا.

نعم ، لو كان ظهور حاله لا يقضي كونه بصدد الحكاية كما إذا طلب منه أن يأتيهم بجملة فيها مبتدأ وخبر فقال : زيد قائم فهذه لا تتصف لا بالصحّة ولا الغلط ، فافهم.

وبعبارة اخرى ، إنّ الهيئة للجملة الخبرية قد وضعت لإفادة المخاطب أنّ المتكلّم بصدد الإخبار بهذه النسبة ، فإذا نطق بها وكان بذلك القصد فهي صحيحة ؛ لمطابقتها لمدلولها وإلّا فهي غلط ، فالصدق والكذب تابع للمدلول وهو المحكيّ لا للدلالة ،


فإنّها متحقّقة على كل تقدير ؛ ضرورة دلالتها على كون المتكلّم قاصدا للحكاية على كلّ تقدير ، كان قاصدا واقعا أم لا ، ولكنّ المحكي إن كان واقعا في الخارج كان صادقا ، وإلّا كان كاذبا ، فافهم.

وأمّا هيئة الأفعال بل جميع المشتقّات فإنّ الأفعال بل جميع المشتقّات مشتملة على مادة وهيئة ، فأمّا المادّة فقد ذكر جمع من النحاة أنّها الفعل الماضي ، كما ذكر جمع آخر أنّه المصدر ، وذكر جمع آخر أنّه اسم المصدر.

والتحقيق بطلان هذه الأقوال كلّها ؛ لأنّ المادّة يلزم أن تكون بمعناها متحقّقة في جميع ما هي مادّة له ، ومعلوم أنّ الفعل الماضي له خصوصية لا تتحقّق تلك الخصوصيّة في الفعل المضارع ، كما أنّ المصدر واسم المصدر كذلك ؛ فإنّ المعنى الحدثي إن لوحظ وجوده في غيره وكونه حالة لغيره وأنّ وجوده هو الوجود في غيره فهو المصدر ، وإن لوحظ غير منتسب إلى غيره بل لوحظ هو في نفسه فهو اسم المصدر ، فالأوّل مشروط بكونه ملحوظا حالة للغير ، والثاني مشروط بعدم لحاظه حالة لغيره ، بل مشروط بلحاظه في نفسه ، فكلّ منهما قد أخذت فيه خصوصيّة غير موجودة في الآخر فضلا عن بقيّة المشتقّات ، فكيف يصير أصلا لها؟

وبالجملة ، فمادّة المشتقّات هي هذه الحروف الغير المتهيئة بهيئة غير التقديم والتأخير ، والمعنى الذي يكون لها هو المعنى الكلّي لا بشرط المقسمي المتجرّد عن كلّ قيد حتّى عن قيد تجرّده عن القيود ، فتلك الحروف المعلومة كالضاد والراء والباء بهذا المعنى المتجرّد عن كلّ قيد هي أصل المشتقات.

وأمّا الهيئات فهيئة المصدر واسم المصدر قد علم وضعهما لأيّ شيء ، وأمّا فعل الماضي فتارة يسند إلى المجرّدات فيقال : علم الله ، واخرى إلى نفس الزمان فيقال : مضى أمس بما فيه ، وثالثة إلى الزمانيات كما في قولنا : قال زيد أو قام عمر ، والموضوع له في الجميع واحد وهو كون الناطق بها قاصدا حكاية تحقّق الفعل المنسوب سابقا ، فتارة يكون السبق مطلقا كما في قام زيد ، واخرى يكون مقيّدا


كما في قولك : يجيء زيد بعد سنة وقد ضرب قبله بأيام ، فإنّ السبق هنا مقيّد بالمجيء بعد سنة ، فإنّ الظاهر أنّ هذا الإطلاق أيضا حقيقي ليس فيه تجريد ومجازية أصلا إذ إنّ هذا المعنى معنى جامع بين هذه الأمثلة بأسرها ؛ إذ لم يؤخذ فيما وضعت له الهيئة تحقّق الفعل في زمان قبل النطق حتّى نحتاج إلى التجريد في الإسناد إلى نفس الزمن ؛ لأنّ الزمن لا يتحقّق في الزمن وإلّا لتسلسل ، كما أنّه لم يؤخذ فيه الزمن حتّى يكون الإسناد فيه إلى الله في : علم الله ، وقال الله مفتقرا إلى التجريد ؛ لأنّ علمه عين ذاته وبعض أقواله كذلك فلا تتحقّق في زمان أصلا كما ذهب إليه بعضهم (١).

نعم ، إذا كان الفعل زمانيّا وقد أسند إلى زماني فلازمه التحقّق في زمان قبل النطق إلّا أنّ ذلك ليس مدلولا لنفس الفعل إلّا بالملازمة العقليّة نظير قولنا : زيد شرب السمّ ؛ فإنّ لازمه العقلي أنّه مات ولكنه ليس مدلولا له ، وأمّا نفس فعل الماضي فلا دلالة له على الزمان أصلا ، ولعلّ هذه الملازمة العقليّة في بعض الأفعال الماضيّة هي التي دعت النحاة إلى أخذ الزمان في مفهوم الفعل.

وأمّا فعل المضارع فهيئته إنّما تدلّ على كون المنسوب إليه الفعل متلبّسا به حال النطق ، ففعل المضارع إنّما تدلّ هيئته على كون المتكلّم قاصدا الإخبار عن تلبّس المنسوب إليه الفعل حال النطق ، وإذا جيء بالسين أو سوف فهو يدلّ على كون المتكلّم قاصدا للحكاية عن أنّ المنسوب إليه الفعل يتلبّس فيما يأتي من الزمن قريبا أو بعيدا بالفعل.

وأمّا هيئة بقيّة المشتقّات فإنّما تدلّ على كون المتكلّم بها قاصدا الحكاية عن ذات مبهمة من كلّ شيء إلّا من حيث إنّها متلبّسة بالمبدإ على أحد أنحاء التلبّسات من كونها مصدّرة أو واقع عليها أو كونها آلة للإصدار أو اسم زمان لصدور أو مكان أو غير ذلك ، وحديث كون المشتقّات بسيطة المفهوم سيأتي تضعيفه أو توجيهه إن شاء الله تعالى في المشتقّ.

__________________

(١) لم نعثر عليه.


فالهيئة في جميع ما ذكر من المعاني الحرفيّة ، وهي دالّة على تضييق ذلك المعنى الكلّي المهمل الذي هو الماهيّة اللابشرط المقسمي المعبّر عنها عندنا بالماهيّة المهملة حتّى عن قيد الإهمال ، فتارة تضيّقه الهيئة بنحو يكون تحقّق النسبة المحكيّ قبل النطق ، واخرى حاله ، واخرى بنحو يكون مصدرا للمعنى ، واخرى واقعا عليه ، واخرى حادثا به ، واخرى مظروفا له زمانا أو مكانا وغير ذلك من المشتقّات.

وأمّا فعل الأمر فلمّا كانت مادّته إنّما تدلّ على الماهيّة المجرّدة عن جميع الخصوصيّات حتّى خصوصيّة كونه متعلقا للبعث والزجر فهيئته تدلّ على أنّ هذه الماهيّة التي كانت قابلة لأن تكون متعلّقا للبعث وأن لا تكون متعلّقا له قد انتقلت من قابليّتها لتعلّق البعث إلى فعليّة تعلّق الطلب بها والبعث نحوها ، ولا يخفى أنّ الفرق بينها وبين الفعل الماضي والمضارع واضح ؛ ضرورة أنّ هيئتهما إنّما تدلّ على كون المتكلّم في مقام الحكاية والإخبار عن الخارج ، ومن هنا يتّصف بالصدق والكذب بلحاظ مدلولها وهو متعلّق الحكاية ، وهذا بخلاف فعل الأمر فإنّه ليس حاكيا عن أمر خارجي ؛ ضرورة أنّه ليس إلّا طلب الفعل وليس وراءه أمر ليتّصف بالصدق والكذب.

إذا عرفت هذا عرفت معنى قول الأمير عليه‌السلام على ما نسب إليه من أنّ الفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى أي ما أنبأ عن انتقال تلك المادّة المهملة القابلة لتعلّق الطلب بها وعدمه ، والقابلة للتحقّق سابقا وعدمه ، والقابلة للتحقّق فعلا وعدمه قد خرجت عن هذه القابلية إلى فعليّة أحد الطرفين وهو التعلّق والتحقّق في الإيجاب وعدمهما في النفي.

لا يقال : عليه فالأفعال إنّما تدلّ على التضييق فلا حاجة إلى تثليث الأقسام ؛ لأنّا نقول إنّ التضييق هنا غير التضييق في الحروف ؛ فإنّ التضييق في الحروف تضييق في المفهوم مع قطع النظر عن الإمكان وعدمه ، فقولنا القيام على السطح مقيّد


بنوع من أنواع القيام بحسب مفهومه مع قطع النظر عن إمكانه فضلا عن وقوعه خارجا ؛ ولهذا قد يكون خبره مستحيل أو غير واقع. وهنا تضيّق في الواقع والخارج ونفس الأمر مع قطع النظر عن المفهوم ، فتأمّل.

نعم ، يبقى هنا أمران :

أحدهما : أسماء الأفعال فإنّها تدلّ على نفس ما يدلّ عليه فعل الأمر.

والجواب : أنّ اسم الفعل ليس له مادّة وهيئة وإنّما هو اسم ؛ لدخول التنوين عليه كما في رويدا وحيث إنّ معناه معنى الفعل سمّي اسم فعل.

الثاني : الجملة الاسمية كما في زيد قائم فإنّها أيضا دالّة على حركة المسمّى وخروج القيام المبهم عن قابليّة الصدور وعدمه إلى فعليّة أحدهما.

والجواب : أنّ ما ذكر وإن كان صحيحا إلّا أنّ كلام الأمير عليه‌السلام إنّما هو في تقسيم الكلمة والجملة الاسمية ليست كلمة فلا إيراد.

الفرق بين الخبر والإنشاء

ذكر جماعة (١) أنّ الفرق بين الخبر والإنشاء أنّ الخبر حاك عما في الخارج والإنشاء موجد لمعناه بعد أن لم يكن. وذكر صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) أنّ الموضوع له في الخبر والإنشاء واحد وإنّما الاختلاف في الدواعي ، ففي مثل لفظ : بعت أو هي طالق وأشباههما إن استعملت بداعي الإخبار كانت إخبارا وإن استعملت بداعي الإنشاء كانت إنشاء ، وإنّما الموضوع له فيهما هو ثبوت النسبة.

ولا يخفى عليك أنّه قد ظهر لك أنّ الموضوع له في الجملة الخبرية ليس ثبوت النسبة وإنّما هو قصد الحكاية كما تقدّم ، وأنّ دلالتها على قصد الحكاية لا تتّصف

__________________

(١) منهم المحقّق العراقي في نهاية الأفكار ١ و ٢ : ٥٦ ـ ٥٨.

(٢) كفاية الاصول : ٢٧ و ٨٦.


بالصدق والكذب وإنّما تتّصف بالوجود والعدم ؛ لأنّ التعهد إنّما كان أنّه إذا أراد إبراز قصد الحكاية يتكلّم بقوله : زيد قائم ، فإذا نطق بها ولم يكن قاصدا للحكاية كان غالطا ، نظير من نطق بزيد وأراد عمرا فهو غالط. فهو إن لم يكن قاصدا للحكاية عن تحقّق قيام زيد خارجا ومع ذلك تكلّم بقوله : زيد قائم فهو غالط ومستعمل للّفظ في غير ما تعهّد به ، وإنّما يتّصف الخبر بالصدق والكذب بلحاظ المدلول لا بلحاظ الدلالة ، ضرورة تحقّقها عند النطق بالجملة على كلّ تقدير ، فالجملة الإنشائيّة من ناحية إبرازها اعتبار المعتبر النفساني مثل الجملة الخبرية ، غير أنّها تفارق الجملة الخبرية في أنّ في الجملة الخبرية وراء إبراز قصد الحكاية خارج متعلّق للحكاية يتصف بالصدق والكذب من جهته ، وهذا بخلاف الجملة الإنشائيّة فإنّه ليس وراء إبراز الاعتبار أمر آخر كي يتّصف الإنشاء بالصدق والكذب من جهته ، فهما من ناحية دلالتهما على إبراز قصد الحكاية والاعتبار النفساني متساويان لا يتّصفان بالصدق ولا بالكذب ، والخبر باعتبار أنّ وراء قصد الحكاية أمر آخر خارجي وهو متعلّق الحكاية يتّصف بالصدق والكذب ، لكن الإنشاء باعتبار أنّه ليس وراء الاعتبار أمر آخر لا يتّصف بهما. وممّا يدلّ على اختلاف الخبر والإنشاء معنى وليس الاختلاف بالدواعي عدم صحّة استعمال الجملة الاسمية في الطلب الإنشائي ، ولو كان الاختلاف في الداعي فقط للزم أن يصحّ ذلك.

وأمّا حديث أنّ الإنشاء موجد (١) فهو صرف لقلقة لسان ؛ لأنّ الإيجاد الحقيقي لمعناه غير متحقّق قطعا ؛ إذ ليس من الجواهر والأعراض ، والوجود الاعتباري عند المعتبر قائم بنفسه ، نطق باللفظ أم لا ، واللفظ مبرز لذلك الاعتبار ، والوجود الاعتباري عند العقلاء أو عند الله وإن تحقّق بتلفّظ المتكلّم بهذا اللفظ لكنّه إذا كان قاصدا لمعناه والكلام بعد في المعنى الذي يقصد ، فافهم.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣١.


في وضع اسم الإشارة والضمائر والموضوع له فيها

ذكر الآخوند قدس‌سره (١) أنّ الضمائر وأسماء الإشارة الموضوع له والمستعمل فيه كالوضع عامّ ، والخصوصيّة إنّما نشأت من قبل الاستعمال كالمعنى الحرفي بالنسبة إلى المعنى الاسمي ، فكما أنّ الاختلاف بينهما من جهة لحاظ الآلية والاستقلالية ، وهما إنّما يكونان ناشئين من قبل الاستعمال ، كذلك المقام فالموضوع له في «هذا» هو مفهوم المفرد المذكّر والخصوصيّة الموجودة للمشار إليه إنّما تنشأ من قبل الاستعمال.

ولا يخفى عليك ضعفه ، فإنّا لو سلّمنا ما ذكره في المعنى الحرفي والاسمي من كون المعنى متّحدا والاختلاف في اللحاظ ، لا نسلّم ما ذكره هنا ؛ وذلك لأنّ اللحاظ من ضروريات استعمال اللفظ في المعنى ولكن خصوصية الإشارة في المقام ليست من ضروريات استعمال اللفظ في المعنى ، فلا بدّ أن تكون هذه الخصوصيّة ناشئة من خصوصيّة في المعنى الموضوع له اللفظ.

وبما ذكرنا ظهر ما في كلام الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) من أن أسماء الإشارة والضمائر موضوعة للمعاني المشار إليها بنحو يكون قيد الإشارة خارجا والتقييد داخلا ، فإنّه ما المراد بالمعنى المشار إليه؟ فإن أريد من المشار إليه كون اللفظ مستعملا فيه فهذا غير مختص بأسماء الإشارة والضمائر ، بل هو سار في كلّ لفظ بالإضافة إلى معناه ، وإن كان هناك غير الاستعمال فالكلام في تشخيصه.

وقد ذكر بعض المحققين (٣) أنّ اسم الإشارة والضمير موضوعة للمعاني التي يشار إليها باليد أو الرأس أو العين أو غيرها من الأعضاء بنحو يكون معنى «هذا» المفرد

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٧.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢١.

(٣) نهاية الدراية ١ : ٦٤.


المذكّر المشار إليه بأحد الأعضاء ، فالإشارة دخيلة في المعنى وجزء منه (*) وهذا حسن لو كان أسماء الإشارة مستعملة في الأشياء الحسيّة ، أمّا إذا كانت هي والضمائر قد تستعمل في الحسيّات كزيد وعمرو وقيامهما ودارهما ، وقد تستعمل في غيرها كما في استعمالها في العقليّات مثل أن يقال : إمّا أن يكون الأمر كذا أو كذا ، فعلى الأوّل فذلك غير صحيح وعلى الثاني فهو صحيح مثلا ، فقد استعمل اسم الإشارة والضمير في امور عقليّة فأين المعنى المشار إليه بالأعضاء؟

والتحقيق أن يقال : إنّ أسماء الإشارة والضمائر موضوعة لنفس الإشارة ليس إلّا ، فهي قائمة مقام اليد التي يشار بها ، فكما يمدّ الإنسان يده إلى دار زيد فيقول دار زيد كذلك يبدّل مدّ يده بالنطق ب «هذه» مثلا ، فهي موضوعة بإزاء نفس الإشارة ، والإيماء والإشارة في قبال التصريح ، ومنه الإيماء بدل الركوع والسجود للعاجز عنهما ، فكأنّه حين كان يركع ركوع الصحيح يصرّح بالركوع ولكنّه الآن حيث إنّه عاجز يومي ويشير إليه ، فهي والضمائر موضوعة لنفس الإشارة بدل مدّ الإصبع كما ذكرنا ذلك ، ومن حيث إنّها للإشارة والإشارة ـ كما ذكرنا ـ في قبال التصريح سمّيت بالألفاظ المبهمة ويوضّحها عطف البيان المذكور بعدها. كما يقال جئني بهذا الرجل فهو بيان لما أبهم فيها.

لا يقال : إنّه إذا كان موضوعا لنفس الإشارة المجرّدة عن المعنى فكيف يصحّ حمل زيد عليه فيقال : هذا زيد مثلا؟ إذ إنّ زيدا ليس نفس الإشارة ، بل هو المشار إليه ، فلا بدّ من أن يكون لفظ «هذا» موضوعا للمعنى المشار إليه.

لأنّا نقول : إنّها موضوعة للإشارة الفانية في المشار إليه فهي طريق إليه ، نظير الإشارة باليد وقول : دار زيد فهل ترى أنّك تحمل دار زيد على اليد؟ كلّا بل يحمل لفظ دار زيد على المشار إليه ؛ إذ اليد ليست هي دار زيد.

__________________

(*) قد اختار الأستاذ في دورته اللاحقة هذا القول واستضعف ما ذكره تحقيقا بعد ذلك.


وبالجملة ، فمن رجع إلى الوجدان ظهر له أنّ لفظة «هذا» موضوعة لنفس الإشارة كما قال ابن مالك : بذا لمفرد مذكّر أشر ... (١) إلى آخره.

في أنّ الاستعمال المجازي بالوضع أم بالطبع؟

لا ريب في كون الألفاظ محتاجة في الدلالة على معانيها الحقيقيّة إلى وضع وليست دلالتها بذاتها كما ذهب إليه الصيمري (٢) وقد تقدّم الكلام فيه. وإنّما الكلام في أنّ نفس هذا الوضع للمعنى الحقيقي ـ بأيّ معنى فسّرنا الوضع من التعهّد أو الوجود التنزيلي أو غيرهما ـ هل هو كاف في الاستعمال المجازي ، بمعنى أنّ أيّ معنى ناسب ذلك المعنى الحقيقي يجوز فيه الاستعمال ، أم لا بدّ من الوضع لذلك؟ الظاهر أنّ الوجدان مساعد على عدم الاحتياج إلى الوضع وأنّه دائر مدار الاستحسان الطبعي ، ففي كلّ مورد استحسن الطبع الاستعمال لمناسبة يجوز وإن لم يكن وضع ، وإن لم يكن استحسان طبعي لم يجز وإن وضع الواضع ورخّص ، مثلا يقال : فلان سلمان زمانه ولا يتوقّف بعد فرض المشابهة في التقوى إلى رخصة من واضع لفظ سلمان اسما لسلمان الفارسي ، ويؤيّده أنّ هذه الاستعمالات في جميع اللغات جارية بالنسبة إلى لفظة لفظة ، ويبعد أن يتّفقوا جميعا على المعنى المجازي ووضعه مع اختلافهم في الوضع للمعنى الحقيقي ، فافهم.

قد أفاد في دورته اللاحقة أنّ هذا الكلام الذي ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (٣) وغيره موقوف على أمرين :

__________________

(١) البهجة المرضيّة : ٥٨.

(٢) الفصول الغرويّة : ٢٣ س ٢٠.

(٣) كفاية الاصول : ٢٨.


أحدهما : أن يكون هناك استعمال مجازي بحيث يكون اللفظ مستعملا في معنى غير معناه الحقيقي ، أمّا إذا ادّعي ـ كما عن السكاكي (١) ـ أنّه مستعمل في معناه الحقيقي المطبّق على فرده الادّعائي بحيث لا يكون المجاز في الكلمة بل في خصوص الاسناد ؛ ولذا يفيد المبالغة كما هو غير بعيد فلا مجال حينئذ لهذا الكلام ؛ إذ ليس حينئذ استعمال في معنى غير ما وضع له حقيقة.

الثاني : أن لا يكون كلّ استعمال مسبوقا بالوضع والتعهّد كما ذكرنا ، أمّا إذا بنينا على أن كلّ مستعمل واضع ؛ لأنّ الوضع هو التعهّد بأنّه متى أراد هذا المعنى استعمل هذا اللفظ ليكون اللفظ مبرزا لذلك التعهّد ، فيكون متعهّدا أنّه إذا أورده مقرونا بالقرينة يريد المعنى الآخر فلا مجال لهذا الكلام أيضا.

استعمال اللفظ في نوعه وجنسه وفصله ونفسه

ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) أنّ استعمال اللفظ في نوعه كما في : زيد لفظ ، وفي صنفه كما في : زيد في ضرب زيد فاعل إذا لم يقصد شخصه ، وفي مثله كما في المثال إذا قصد شخصه لا يحتاج إلى وضع ، بل هو أمر طبعي ، فهو حسن طبعا ومع حسنه طبعا لا يحتاج إلى رخصة من قبل الواضع ؛ ولأنّ العلقة بين اللفظ ونوعه وصنفه ومثله أكيدة جدا ، فهي آكد من العلقة الوضعيّة في المعاني الحقيقيّة فضلا عن المجازات ؛ لأنّها بنفسها حاضرة في الكلام وبينها وبين النوع والصنف مناسبة ذاتيّة ، فهي أقوى من المناسبة العرضيّة الحاصلة بالوضع فلهذا كانت أقوى.

ثمّ إنّه قدس‌سره تردّد في أنّ استعمال اللفظ في شخصه هل هو كذلك أم لا؟ واختار أنّه كذلك أيضا ، بعد ردّ ما ذكره صاحب الفصول (٣) من اتّحاد الدالّ والمدلول أو تركّب

__________________

(١) شرح المختصر : ٦١.

(٢) كفاية الاصول : ٢٩.

(٣) الفصول الغرويّة : ٢٢.


القضيّة من جزءين بكفاية المغايرة الاعتبارية ، وكون التركّب من جزءين إنّما يكون إذا لم يكن شخص اللفظ بنفسه موضوعا ، أمّا إذا كان بنفسه موضوعا فلا يلزم تركّبها من جزءين ، وقد استدلّ صاحب الكفاية (١) على ما ذكره ـ من كون صحّة الاستعمال بالطبع لا بالوضع ـ بصحّته في المهملات أيضا كما في ديز في قولنا : ديز مهمل أو لفظ ، ولو كان بالوضع للزم الوضع في المهملات أيضا وهو باطل.

ونحن نقول : إنّ إطلاق اللفظ على نوعه وصنفه ومثله وشخصه ليس من باب الاستعمال أصلا كي يقع الكلام في أنّه بالطبع أم بالوضع ، وبيان ذلك موقوف على مقدّمتين :

إحداهما : أنّ الاستعمال سواء كان وجودا تنزيليا للمعنى أو علامة دالّة عليه كما ذكرنا إنّما يكون من حيث إنّ إخطار المعنى في ذهن المخاطب لا يمكن في كثير من الموارد إلّا بذكر اللفظ المختص به ، كما في الأمور العقلانيّة وكما في الأشياء الغائبة عن مجلس المخاطبة مثلا ، فالوضع من المنن الإلهية على البشر لبيان مقاصدهم ، وإليه ـ والله العالم ـ الإشارة بقوله : (عَلَّمَهُ الْبَيانَ)(٢) فتقول : زيد سافر في هذا اليوم ، فبمجرّد النطق بلفظ زيد يرتسم في ذهن السامع ذاته فيحمل عليه المحمول المذكور وهو السفر في هذا اليوم وكذا غيره ، وحينئذ فاستعمال اللفظة الخاصّة إنّما هو لإخطار ذلك المعنى في ذهن المخاطب ، فإذا أمكن إخطار المعنى بغير الاستعمال بذكر نفس ما يحمل عليه المحمول من غير واسطة فلا حاجة إلى الاستعمال حينئذ.

المقدّمة الثانية : إنّ المعاني الحرفية كما ذكرنا إنّما هي غالبا تضييقات للمعاني الاسميّة ، وحينئذ فكما أنّ الإنسان إذا أراد حصّة خاصّة من الصلاة يقول : الصلاة في المسجد حكمها كذا ، أو الصلاة الجهريّة ، فبالهيئة الوصفيّة التي هي معنى حرفي

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٩.

(٢) الرحمن : ٤.


أيضا يضيّقها ويبيّن إرادة الحصّة الخاصّة وأنّ المصلحة قائمة بها ، وقد تكون المصلحة قائمة بالطبيعي من حيث هو فيقال : الصلاة خير موضوع فمن شاء استقلّ ومن شاء استكثر (١) بلا تقييد بحرف أو هيئة.

إذا عرفت هاتين المقدّمتين عرفت أنّ إطلاق اللفظ على نوعه وصنفه ومثله وشخصه ليس من باب الاستعمال أصلا ؛ لأنّه في إطلاقه وإرادة نوعه وطبيعته نفس الطبيعة تحضر في الذهن ، كما في قولك : زيد ثلاثي ؛ فإنّ زيد بنفسه ينتقل إلى ذهن السامع ، وبما أنّه فرد والطبيعي موجود في ضمن أفراده ينتقل الذهن إلى الطبيعي أيضا ، فهو بنفسه موجود في الذهن بلا واسطة شيء من الأشياء ، وكذا في إطلاقه وإرادة شخصه أيضا نفسه ينتقل إلى الذهن ؛ إذ المفروض أنّ نفس المحكوم عليه قد أحضر في الذهن فأيّ حاجة إلى الاستعمال؟

وأمّا إطلاقه على الصنف أو المثل فتذكر الطبيعة أولا فيقال : زيد ثمّ تضيّقه بواسطة حرف الجر أو الهيئة الوصفيّة حسب ما تريد من التضييق لذلك الكلّي من صنف أو مثل ، فتقول : زيد الواقع بعد ضرب فاعل مثلا ، أو زيد في ضرب زيد فاعل إذا قصدت شخصه في المثال المذكور.

فقد ظهر أنّ هذه الإطلاقات ليست من باب الاستعمال أصلا وإلّا فلا يمكن صحّة الاستعمال في الإطلاق على الشخص ؛ ضرورة أنّ الشيء لا يكون وجودا تنزيليّا لنفسه ؛ لكونه وجودا حقيقيّا ولا يكون علامة لنفسه أصلا ، فافهم ، لا لما ذكره صاحب الفصول (٢) لاندفاعه بكفاية المغايرة الاعتباريّة وكون القضية التي يلزم تركّبها من جزءين لو لا الاستعمال هي غير القضيّة اللفظيّة ، وأمّا القضيّة اللفظيّة فالجزء الثالث لها نفس اللفظ فأين التركّب من جزءين؟ وبهذا ظهر فساد ما يورد علينا من جهة إنكار الاستعمال.

__________________

(١) مستدرك الوسائل ٣ : ٤٣ ، الباب ١٠ من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ، الحديث ٩.

(٢) الفصول الغرويّة : ٢٢.


(وإذا بنينا على أنّ الإطلاق استعمال فما ذكره صاحب الفصول في الشقّ الأوّل من الترديد متين لا يردّه ما في الكفاية (١) من كفاية المغايرة الاعتباريّة ، فبما أنّه صادر من لافظه دالّ ، وبما أنّه مراد مدلول ؛ وذلك لأنّ كلّ فعل يصدر من المكلّف لا بدّ أن يكون مرادا إذا لم يكن بالقهر كقيامه أو قعوده وغيرهما ولم يكن طبعيّا أيضا ، فجهة كونه مرادا هي جهة صدوره لا غيرها. وكذا لا يردّه ما ذكره بعض المحققين (٢) من عدم البأس بوحدة الدالّ والمدلول ؛ لأنّ التضايف ليس من التقابل دائما ، بل قد يكون من التقابل وقد لا يكون منه ، كما دلّ الله على ذاته بذاته فهو دالّ ومدلول ، وكعلم زيد بنفسه فهو عالم ومعلوم ؛ وذلك لأنّ هذا وإن كان صحيحا إلّا أنّه في غير باب الاستعمال ، أمّا باب الاستعمال فلا يمكن أن يدلّ اللفظ على نفسه) (٣).

في تبعيّة الدلالة للإرادة وعدمها

اللفظ له دلالة على معناه توجب تصوّر معناه متى صدر هذا اللفظ ، فمتى سمع السامع لفظ السيف مثلا يحضر في ذهنه معناه ، سواء صدر ذلك الصوت من إنسان أو من اصطكاك الحجر بالحجر ، وهذه الدلالة هي الدلالة التصوريّة.

وهناك دلالة اخرى وهي دلالة اللفظ على كون الناطق به مريدا لإفهام معناه للمخاطب ، سواء في ذلك أن يتلفّظ بلفظ مفرد أو جملة تركيبية ، فهو متى نطق بلفظ مفرد يفهم أنّه في صدد إبراز كونه مريدا لذكره ، وإن تلفّظ بجملة فهو مبرز لكونه في مقام الإخبار على ما حقّقناه في مفاد هيئة الجملة الخبرية ، وهذه الدلالة تسمّى بالدلالة الاستعماليّة أو التصديقيّة في اصطلاح المشهور.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٩.

(٢) نهاية الدراية ١ : ٦٥.

(٣) ما بين القوسين من اضافات الدورة اللاحقة.


وهناك دلالة ثالثة وهي دلالة الألفاظ على كون المتكلّم مريدا للإخبار وبصدده بإرادة جدّيّة لا هازلا أو كان في سخرية. ولا ريب في أنّ هذه الدلالة الثالثة إنّما هي ببناء العقلاء وليست بوضع فهذه الدلالة الثالثة أجنبيّة عن محل الكلام ، وإنّما الكلام في أنّ دلالة اللفظ الوضعيّة بإزاء المعنى الأوّل أم بإزاء الثاني ، وأنّ العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى الذي ذكرناه أوّلا أم بين اللفظ والمعنى الثاني؟ ذهب المشهور إلى كون العلقة بين اللفظ والمعنى التصوّري ، فهو يدلّ على معناه بالدلالة التصوريّة ، وذهب الشيخ الرئيس (١) والمحقق الطوسي (٢) إلى الثاني وهو الذي يقتضيه النظر الدقيق.

بيان ذلك : أنّا ذكرنا أنّ ظاهر حال الناطق أنّه في صدد إفهام ما ينطق به فدلالته على المعنى تابعة لإرادته منه ؛ إذ لو لم يرد المعنى لم تكن الدلالة الاستعماليّة متحقّقة أصلا ، بل على ما ذكرنا من معنى الوضع وأنّه التعهد والالتزام لا بدّ من كون العلقة الوضعية كما ذكرنا ؛ إذ لا معنى لأن يتعهّد الواضع أنّ اللفظ دالّ على معناه وإن صدر بغير شعور واختيار ؛ ضرورة أنّ دلالته حينئذ ليست باختيار الواضع حتّى يتعهّد بها.

وما يقال من أنّا نتصوّر المعنى وإن صدر اللفظ من اصطكاك الحجرين فهو مسلّم إلّا أنّ هذه الدلالة هي الدلالة الأنسية وهي لا تتبع الوضع ، بل لو صرّح الواضع بأنه يضعها للمعنى المراد للمتكلّم لم تزل تلك الدلالة الأنسية ولو صدر اللفظ من اصطكاك الحجرين ، مضافا إلى أنّ حكمة الوضع كما أسلفنا ذلك هي التفهيم ليس إلّا ، فلا بدّ من كون دلالتها موقوفة على تحقّق قصد التفهيم.

__________________

(١) راجع الشفاء : قسم المنطق ، المقالة الأولى من الفنّ الأوّل ، الفصل الثامن : ٤٢ ـ ٤٣.

(٢) انظر الجوهر النضيد : ٨.


وما ذكره الآخوند قدس‌سره (١) من لزوم التجريد وكون الإرادة ناشئة من الاستعمال فلا تؤخذ في المستعمل فيه وهو المعنى ، وكون الوضع حينئذ في الجميع عامّا والموضوع له خاصّا إنّما يتمّ لو أخذ الإرادة جزءا من المعنى ، وليس كذلك بل المراد أنّ العلقة الوضعية إنّما تحقّقت حال الإرادة ، بمعنى أنّ التعهّد إنّما صار بين اللفظ وإرادة تفهيم المعنى ، لا أنّ اللفظ موضوع للمعنى المراد كي يتمّ ما ذكر. وأمّا بناء على كون الوضع علامة أو وجودا تنزيليا فبقرينة أنّ المقصود منه التفهيم يعلم أنّ إرادة الإفهام ملحوظة أيضا فيه.

هل للمركّبات وضع أم لا؟

إن أريد من وضع المركّبات أنّ المركب موضوع بوضع غير وضع مفرداته فهذا لا يليق بكلّ عاقل أن يدّعيه ؛ لأنّ المركبات لا تتناهى كما هو معلوم والوضع لغير المتناهي غير متناه ، فلا يستطيع البشر الوضع لها.

وثانيا : أنّ الوضع كما قرّرناه للتفهيم والتفهّم ومعلوم عدم توقّفهما على أكثر من وضع المفردات ؛ لأنّ الإنسان بعد اطّلاعه على وضع المفردات يؤدّي مقصوده بها من غير توقّف.

وثالثا : أنّا نرى الناس في مقام إبراز مقاصدهم بالمركّبات لا يتوقّفون حتّى يعلموا أنّ العرب أو الفرس أو الترك قد وضعوا هذا المركّب ونطقوا به أم لا ، بل يبرزون مقاصدهم بغير توقّف.

وإن أريد بوضع المركّبات وضع الهيئة التركيبيّة فهذا النزاع له وجه ؛ إذ حينئذ يكون النزاع في أنّ ما دلّت عليه الجملة الخبرية من ثبوت النسبة أو كون المتكلّم بصدد إبراز الإخبار والحكاية مستند إلى أيّ وضع؟ هل هو مستند إلى «هو»

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣١.


المضمر في الخبر أو إلى الهيئة؟ والظاهر استنادها إلى الهيئة وكون هيئة الجملة الخبرية موضوعة لإبراز قصد حكاية المتكلّم.

ثمّ لا يخفى أنّ الميرزا النائيني قدس‌سره (١) قصّر الكلام على الجملة الاسمية ، والظاهر سريانه إلى الجملة الفعلية أيضا ؛ فإنّا نستفيد من الجملة الفعليّة معان لا نستفيدها من المفردات كما في الحصر في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) وكون الفاعل المتقدّم في : ضرب موسى عيسى في كل اسمين قدّرت عليهما الحركات الإعرابية ، وغيرها من كون المتكلّم بصدد قصر الصفة على الموصوف أو العكس في قولنا : القائم زيد أو زيد القائم ، وغيرها ، وهذه المعاني لم تكن المفردات مفيدة لها فلا بدّ من كون الهيئة التركيبية موضوعة لذلك.

وقد ذكر الآخوند قدس‌سره (٢) التعبير بالوضع النوعي بالنسبة إلى الهيئات والشخصي بالنسبة إلى المادّة ، وأشكل بعضهم (٣) على هذا الاصطلاح بأنّ المراد من النوعيّة إن كان الوجود في غير الشخصي فهو سار في المادّة والهيئة ؛ إذ كما أنّ الهيئة لا تخصّ «ضارب» بل تسري في «قائم» ، كذلك مادّة «ضرب» لا تخصّ هيئة «ضارب» ، بل تجري في «ضرب ويضرب» وغيرها ، فلا وجه للتعبير عن بعضها بالنوعي وعن الآخر بالشخصي.

والظاهر أنّ المراد أنّ الهيئة لما لم يمكن تصوّرها إلّا في ضمن مادّة فتلك المادّة التي يتصوّرها فيها ليس لها موضوعيّة فمن هنا كان وضع الهيئة نوعيّا ، ولكن المادّة يمكن تصوّرها من دون تكيّفها بهيئة ، فيقول : الضاد والراء والباء موضوعة للحديث الفلاني فيكون وضعها لخصوصها فيكون وضعها شخصيّا.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٤٧.

(٢) كفاية الاصول : ٣٢ ـ ٣٣.

(٣) انظر نهاية الدراية ١ : ٧٧.


ثمّ إنّ بعضهم (١) ذكر في المركّبات التشبيه والمجاز ومثّل للأوّل بقوله : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً)(٢) وللثاني بقولهم : أراك تقدّم رجلا وتؤخّر اخرى.

ولا يخفى أنّ التشبيه في المركّبات ممكن سواء كان تشبيها بنحو العموم المجموعي لمثله أو بنحو العموم الاستغراقي ، يعني يكون كلّ جزء من مضمون أحدهما مشبّها بجزء من مضمون الآخر.

وأمّا المجاز فغير متصوّر ؛ لأنّ المجاز فرع الوضع ولا وضع لها كما قدّمنا ذلك ، وتمثيله بالمثال من باب التشبيه أو الكناية التي تفقد الإرادة الجدّيّة لمدلولها اللفظي.

ولا يخفى أنّ الكلام في علائم الحقيقة والمجاز لا جدوى فيه بعد أن كان المتّبع هو الظهور ، سواء كان الظاهر هو المعنى الحقيقي أو المجازي ، ولو فقد الظهور فالرجوع إلى الاصول العمليّة. وحينئذ فالكلام فيه في هذه الظروف الحرجة لا يخلو عن إشكال فلهذا أعرضنا عن الخوض فيه.

في الحقيقة الشرعيّة

ولا يخفى أنّا نجمل الكلام في الحقيقة الشرعيّة ؛ لعدم الفائدة المهمّة بها ؛ إذ ما ذكروه (٣) فائدة لها من لزوم حمل الألفاظ المشكوكة المراد على المعنى الشرعي على القول بالثبوت ، أو اللغوي أو التوقّف على القول بعدم الثبوت إنّما تتمّ حيث يكون جهل بالمراد ، وليس ؛ إذ القرآن معلوم مراداته والأخبار النبويّة إنّما تردنا غالبا على لسان الأئمة ، وثبوت الحقيقة المتشرعيّة غير قابلة للإنكار عند أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في زمانه فضلا عمّا تأخّر عنه من الزمان.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٤٨.

(٢) البقرة : ١٧.

(٣) كفاية الاصول : ٣٧.


الوضع التعييني والتعيّني

ثمّ إنّ الوضع قد يكون تعيينيّا ، وقد يكون تعيّنيا والوضع التعييني على قسمين : فإنّه تارة يكون بأن يصرّح الواضع بأنّه قد وضع اللفظ الفلاني للمعنى الفلاني ، وهذا القسم من التعييني مقطوع العدم ؛ إذ لو وضع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الألفاظ للمعاني المخترعة لنقل ذلك إلينا متواترا ولا أقلّ من الآحاد ، ولم يرد ذلك أصلا.

وقياسه على نصّ الخلافة باطل ، أمّا أولا فلأنّ نصّ الخلافة لعليّ يوم الغدير قد زاد على التواتر من طرق أبناء العامّة فضلا عن الخاصّة.

وأمّا ثانيا فلأنّ القياس مع الفارق ؛ لوجود دواعي الإخفاء هناك ليتمّ مرامهم ، وليس لهم غرض في إخفاء وضع الألفاظ لمعانيها.

وتارة يكون الوضع التعييني بالاستعمال ، بأن يضع مستعملا بالقرينة ، وهذا أمر ممكن.

وما زعمه الميرزا النائيني قدس‌سره (١) رادّا على الكفاية (٢) بأنّ الاستعمال يقتضي كون اللفظ ملحوظا آلة والوضع يقتضي كون اللفظ والمعنى معا ملحوظين بنحو الاستقلال ، ولحاظ الآليّة والاستقلاليّة للّفظ غير ممكنة ، مردود أوّلا : بأنّ الاستعمال قد يوجب كون اللفظ ملحوظا استقلالا أيضا كما إذا كان الرجل عطشانا وأراد إفهام شخص آخر أنّه عارف باللغة العربيّة فيقول : أعطني ماء مثلا ، فهذا اللفظ ملحوظ بكلّ من اللحاظين ، الآليّة ؛ لعطشه ، والاستقلاليّة ؛ لكونه مريدا إعلامه معرفته العربيّة لغرض من الأغراض.

وثانيا أنّ الوضع سواء كان عبارة عن الاعتبار النفساني أو جعل اللفظ علامة على المعنى أو وجودا تنزيليا له أو تعهّدا هو أمر نفساني ، فلا يعقل أن يكون الاستعمال الخارجي محقّقا له ، نعم يكون كاشفا عن تحقّقه وسبقه وحينئذ فأين اجتماع اللحاظين؟

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٤٩.

(٢) كفاية الاصول : ٣٦.


وبالجملة ، فهذا النحو من الوضع التعييني ممكن وقريب جدّا تحقّقه. ومن هنا ظهر أنّ دعوى تحقّقه قريبة جدا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه ، كما ظهر بطلان كلام صاحب الكفاية (١) من كونه حينئذ لا حقيقة ولا مجاز ؛ للزوم سبق الوضع وهو منتف ، ووجه الفساد أنّ سبق الوضع متحقّق فيكون الاستعمال حقيقة.

وبالجملة ، فدعوى تحقّق الوضع بهذا النحو قريبة جدا خصوصا مع ملاحظة انتفاء العلائق المجوّزة للتجوّز غالبا.

ثمّ إنّه لا يتفاوت ثبوت الوضع بهذا النحو بين أن تكون هذه المعاني ثابتة في الشرائع السابقة على شرعنا وبين أن لا تكون ثابتة ؛ لأنّ الغرض من ثبوت الحقيقة الشرعيّة هو حمل الألفاظ عليها عند الشكّ ، وهذا لا يتفاوت فيه ثبوته في الشرائع السابقة وعدمه حتّى لو كانت هذه الألفاظ مستعملة عندهم ، وإنّما المهمّ أن يكون نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله قد عيّن هذا اللفظ لهذا المعنى ، سواء عيّن من قبله له أم لا.

وثانيا أنّ ثبوت هذه المعاني لا يضرّ بثبوت الحقيقة الشرعيّة كما في قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)(٢) وقوله : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ)(٣) وقوله : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ)(٤) لأنّ ثبوت هذه المعاني لا يقتضي استعمال هذه الألفاظ فيها والذي يضرّنا هو ذلك وهو الذي ينفي الحقيقة الشرعيّة ، ومعلوم أنّ استعمالهم كان باللغة السريانية والعبرانية وغيرها من اللغات ، فما ذكره صاحب الكفاية (٥) لا يخفى عليك ما فيه.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٦.

(٢) البقرة : ١٨٣.

(٣) مريم : ٣١.

(٤) الحجّ : ٢٧.

(٥) كفاية الاصول : ٣٦.


ثمّ إنه لو لم يثبت الوضع التعييني بنحويه فدعوى الوضع التعيني ـ وهو القسم الثاني من أقسام الوضع ـ قريبة جدا بأن يستعمل اللفظة مجازا في المعنى مع القرينة ثمّ تشتهر فتفيده بلا قرينة حتّى في لسان نفس الشارع ، فإنّ إطلاق لفظ الصلاة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله على هذه الأفعال كثيرة جدّا كما هو معلوم من الأوضاع العرفيّة للأمور المخترعة عند مخترعيها. ومنع صاحب الكفاية (١) من حصولها في لسانه ممنوع فإنّ استعماله في الإقامة وفي سورة الجمعة عند صلاة الجمعة وفي غيرها من سور القرآن المبارك ، بل وغير القرآن من موارد تعليم من أسلم جديدا وغيرها كلّه يورث القطع بحصول الوضع في لسانه ، مضافا إلى أنّ كثرة الاستعمال منه ومن أصحابه مع القرينة حتّى يستغنى عنها كاف في ترتّب الأثر المهمّ ، كما ذكرنا من كفاية ثبوت الحقيقة المتشرعيّة وهي ثابتة في زمان الصادقين قطعا وفي زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله اطمئنانا.

__________________

(١) المصدر نفسه : ٣٧.



في الصحيح والأعمّ

لا ريب في أنّ ألفاظ العبادات عندنا وفي زماننا قد صارت حقائق شرعيّة بلا كلام ، ولا إشكال وبما قرّرناه هي حقيقة عند الشارع المقدّس أيضا إمّا بالوضع بالاستعمال وهو الوضع التعييني أو بالاستعمال مع القرينة حتّى استغنى عنها وهو الوضع التعيني إلّا أنّ الكلام في أنّ ذلك المعنى الذي هو حقيقة عندنا يعني المتشرعة الذي استظهرنا أنّه من قبل الشارع بوضعه كما قدّمنا هل هو العمل الجامع لتمام الأجزاء والشرائط ليكون استعماله في الفاقد بالمجاز والقرينة أم أنّه الأعمّ من الجامع لها والفاقد وهو القول بالأعمّ. وذلك المعنى هو الموضوع له اللفظ؟

وثمرة النزاع التمسّك بالإطلاق عند الشكّ في اعتبار شيء في المأمور به على الأعمّ ؛ لصدق الماهيّة ، وعدمه على الصحيح ؛ للشكّ في صدق الماهيّة ؛ لاحتمال دخل المشكوك في الصحّة ، فافهم.

ثمّ إنّه على كلّ تقدير لا بدّ من جامع ليوضع اللفظ له سواء قلنا بالوضع للصحيح أو قلنا بالوضع للأعم ؛ إذ احتمال أن يكون الوضع من قبيل الوضع العامّ والموضوع له خاصّ مقطوع العدم ؛ إذ أنّا قد نلحظ اللفظ خاليا من جميع الخصوصيّات ونطلقه عليه من غير فرق بين إطلاقه عليه حينئذ وإطلاقه عليه حيث تلحظ الخصوصيّة ، وذلك نظير قولنا : الصلاة معراج المؤمن ، والصوم جنّة من النار.


وثانيا أنّه أيضا لا بدّ له من جامع ؛ إذ لولاه كيف يكون الوضع عاما؟ إذ لا بدّ من جامع له يتصوّر كي يتمّ كون الوضع عاما.

وبالجملة ، لا بدّ من القول بجامع.

وللميرزا النائيني تقريب (١) في الاستغناء عن الجامع ملخّصه : أنّ اللفظ موضوع للفرد الذي هو في أعلى مراتب الصحّة والكمال ، وإطلاقه على غيره ممّا كان صحيحا كصلاة الجلوس للعاجز من باب تنزيله ادّعاء منزلة الواجد ، لمشابهته في الأثر وهو الصحّة ، كما أنّ إطلاقه على الفاقد لبعض الأجزاء والشرائط ممّا كان فاسدا للمشابهة في الصورة مجازا ، فيكون اللفظ موضوعا لخصوص مرتبة واستعماله في الباقي مجاز لادّعاء كونه فردا من أفراده مجازا بناء على مذاق السكاكي (٢). وحينئذ فترتفع ثمرة النزاع ؛ إذ لا يمكن التمسّك بالإطلاق للشكّ في تنزيل الشارع الفاقد منزلة الواجد ولا نحتاج إلى جامع.

ولا يخفى عليك ما فيه أمّا أوّلا : فلأنّ هذا خلاف الوجدان ؛ لأنّا نرى أنّ إطلاقه على الكامل والناقص بنحو واحد ولا يحتاج إلى قرينة فيهما معا ، ثمّ نرفع هذا الذي نراه شيئا فشيئا حتّى ينتهي إلى المعصوم وزمانه.

وأمّا ثانيا : فلأنّ المرتبة الكاملة ذات أفراد مختلفة ، فإنّ المرتبة الكاملة لصلاة الوتر ركعة ولصلاة الصبح ركعتان ولصلاة المغرب ثلاث ركعات وللعشاء أربع ركعات وللآيات عشر ركوعات فلا بدّ حينئذ من جامع على هذا القول أيضا.

ثمّ إنّ الصحيح الذي يدّعى الوضع له ليس هو الصحيح من جميع الجهات ، بل الصحّة من حيث الجمع لأجزاء المسمّى وشرائطه ، وأمّا عدم النهي عنه أو عدم المزاحم له أو قصد القربة فليس داخلا في الصحيح (لا لما ذكره الميرزا قدس‌سره (٣)

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٥٢ ـ ٥٣ ، أمّا الأولى فتصوير الجامع.

(٢) مفتاح العلوم : علم البيان ، الفصل الثالث في الاستعارة : ١٥٦.

(٣) أجود التقريرات ١ : ٥٥.


من الاستحالة ؛ لأنّ الأمر بالشيء وعدم النهي عنه وكذا الأمر به إنّما هو بعد انتهاء تسميته كما ذكره ، فإنّه فاسد ؛ لإمكان لحاظ هذه الأشياء في مقام وضع الاسم ، فإنّ الموضوع له لا بدّ أن يكون موجودا في مقام اللحاظ لا في الخارج ، بل لأنّ الاسم إنّما يوضع بإزاء المعنى العرفي ، والمعنى العرفي يصدق على واجد هذه الأمور وفاقدها) (١) ، فليس المراد من الصحيح الصحيح من جميع الجهات كما هو واضح ؛ إذ بناء عليه لا ينبغي أن يتكلّم القائل بالصحيح في أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضدّ أو لا يقتضي أو أنّ النهي عن العبادة يقتضي فسادها أم لا.

وكيف كان ، فلا بدّ على كلا القولين من جامع. وقد ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) تصوير الجامع على الصحيح بدعوى اشتراك جميع أفراد الصحيح في الأثر المستفاد من قوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى ...)(٣) وغيرها من الأخبار ، وبقاعدة استحالة صدور الواحد من المتعدّد لا بدّ من جامع بينها يكون هو المؤثّر لذلك الأثر ، وعدم الاطلاع عليه لا يضرّ في جامعيّته ، فنشير إليه بلوازمه وعناوينه فنقول : إنّ الجامع هو عنوان الناهية عن الفحشاء والمنكر. وادّعى عدم تحقّق استحالة تصويره على الأعمّ ؛ لعدم اشتراكها في الأثر كي ننتقل إنّا إلى المؤثّر وهو الجامع (٤).

ولا يخفى عليك ما فيه :

أمّا أولا فلأنّ الجامع يلزم أن يكون أمرا يعرفه العامّة ليحمل عليه عند الإطلاق والشكّ ، وهذا الجامع لا يعرفه العامّة ؛ لتوقّفه على استحالة صدور الواحد من المتعدّد.

__________________

(١) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) كفاية الأصول : ٣٩.

(٣) العنكبوت : ٤٥.

(٤) كفاية الاصول : ٤٠.


وأمّا ثانيا فلأنّ المستحيل هو صدور الواحد الشخصي من المتعدّد لا الواحد العنواني كما في المقام.

وأمّا ثالثا فلأنّ الأثر إنّما يترتّب على خصوصيات الأفراد من التسليم على ركعتين مثلا في الصبح وعلى ثلاث في المغرب وهكذا ، ولو كان على الجامع لم يكن للخصوصيّات أثر.

وأمّا رابعا فإنّ ما ذكره إنّما يتمّ على تقدير أن يكون المراد من الصحيح هو الصحيح الفعلي ؛ إذ هو الذي يكون مؤثّرا للأثر ، وليس كذلك لما تقدّم. وإذا أراد بالصحيح ما كان قابلا لأن يكون صحيحا دخل كثير من الفاسد فثبت مدّعى الأعمّ ، فإنّ الصلاة من جلوس فاسدة للقادر إلّا أنّها قابلة لأن تكون صحيحة كما إذا مرض ، وصلاة الظهر حضرا ركعتين فاسدة إلّا أنّها قابلة لأن تكون صحيحة إذا سافر أو كانت صادرة من مسافر.

ثمّ إنّ هذا الجامع إمّا أن يكون مركبا وهو محال ؛ إذ المركب بالنسبة إلى الشخص المأمور به صحيح وبالنسبة إلى من أمر بأزيد أو أنقص منه فاسد ، وإما أن يكون بسيطا وهو أيضا لا يعقل تصوّره في صلاة واحدة ؛ لاشتمالها على النيّة التي هي من الكيف النفساني والقراءة التي هي من الكيف المسموع والركوع الذي هو من مقولة الوضع ، واستحالة أخذ الجامع الحقيقي لمقولتين غير محتاج إلى البيان.

(وأمّا خامسا فلأنّ الأثر إنّما يترتّب على الصحيح المأمور به الغير المنهي عنه والغير المزاحم بواجب أهمّ ، فإنّه الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر ، ومن المعلوم أنّ الصحيح الذي هو محلّ الكلام لا تعتبر فيه هذه الخصوصيّات كما مرّ) (١) ، وحينئذ فمعنى قوله : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)(٢) أنّ الصلاة تنهى

__________________

(١) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) العنكبوت : ٤٥.


عن الفحشاء والمنكر إمّا أنّها توجب القرب الروحاني فينتهي المرء بسببها ، أو أنّ معناها أنّها مشروطة بشروط فإذا أراد الإنسان الإتيان بها بشروطها فلا بدّ أن لا يغصب لتقع صلاته في ثياب غير مغصوبة وفي مكان غير مغصوب ، وأن يؤدّي الحقوق الشرعيّة ؛ لعدم صحّة الصلاة في ثيابه التي هي متعلّق لحقّ الفقراء ، ويجتنب النجاسات من الخمر والميتة وأشباهها ؛ لاشتراط الصلاة بالطهارة من الخبث ، فافهم.

ومن الغريب ما ذكره بعض الأعاظم (١) من أنّ استحالة أخذ الجامع بين مقولتين وإن أوجب استحالة الجامع بين الماهيّات ، فلا يمكن تحصيله في الماهيّة إلّا أنّه يمكن تحصيله من ناحية الوجود ، فإنّه جامع بين جميع الوجودات ، فبالتضييق يمكن أن يصوّر به الجامع.

وجه الغرابة أولا : أنّ الصلاة من قبيل الماهيّات فلا معنى لجعل جامعها الوجود.

وثانيا : أنّ الوجودات في الصلاة متعدّدة ومختلفة ، فإنّ التكبير وجود والقراءة وجود والنيّة وجود وهكذا ، فيعود المحذور ؛ لأنّ هذه الوجودات يستحيل الجامع بينها لما تقدّم من كونها مقولات متعدّدة ، مضافا إلى أنّه ما هو الجامع الحقيقي بين هذه الوجودات الاعتباريّة؟

وبالجملة ، فقد انقلبت الدعوى وصار تصوير الجامع على الصحيح مستحيلا عكس ما ذكر من أنّ تصويره على الأعمّ مستحيل ، فافهم وتأمّل.

وربّما ذكر بعض مشايخ أستاذنا المحققين (٢) تصويرا للجامع من غير ناحية الأثر على الصحيح بتقريب أنّ هناك أشياء مهملة الذات من جميع الوجوه والخصوصيّات إلّا من جهة واحدة ، كما في الخمر فإنّه اسم للمسكر ـ كان قليلا أم كثيرا متخذا من الحنطة أم الشعير أم الزبيب أم غيرها ـ فهو مهمل من جميع الجهات

__________________

(١) انظر نهاية الدراية ١ : ٩٩.

(٢) نهاية الدراية ١ : ١٠١ ـ ١٠٢.


والخصوصيّات إلّا خصوصيّة كونه مسكرا ، ونظيره الفداء لما يؤكل نهارا عند الزوال سواء كان خبزا أو ارزا أو شعيرا أو غيرها ، وحينئذ فيمكن أن تكون الصلاة مهملة من جميع الجهات إلّا جهة كونها وظيفة الوقت.

وفيه : أنّه إمّا أن يكون موضوعا لهذا المفهوم فيكون وضعه عامّا والموضوع له عامّا وحينئذ فيلزم أن يكون بينهما ترادف ، ومعلوم بالوجدان عدم الترادف بين لفظ الصلاة ووظيفة الوقت عرفا أو بينه وبين الناهية عن الفحشاء والمنكر.

وإمّا أن يكون موضوعا لمصاديقه الخارجية فيكون من الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ولم يدّعه هذا المحقّق أصلا بل الوجدان على فساده ؛ إذ أنّا نستعمل لفظ الصلاة كما نستعمل الألفاظ الموضوعة للماهيّات والطبائع كما في قولنا : الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.

وقد ذكر بعض المحققين (١) وجها رابعا لتصوير الجامع على الصحيح وملخّصه : أنّ الأفعال ذات العناوين الأوليّة لا يتفاوت صدق عنوانها الأوّلي عليها بين الناس ، بخلاف عناوينها الثانويّة فإنّها تختلف ، مثلا القيام عنوانه الأوّلي كونه قياما وهذا لا يختلف أصلا عند جميع الأصناف ؛ إذ لا يخرج عن كونه قياما عند الجميع ، لكن كونه تعظيما يختلف باختلاف العادات ، فإنّ التعظيم قد يكون به وقد يكون برفع ما على الرأس وقد يكون بالإطراق إلى الأرض وقد يكون برفع اليد ، والتعظيم قد يكون باختراع الإنسان واختياره فيقول : إنّ احترامي بالسكوت في مجلسي مثلا وقد يكون غير ذلك ، فهذه العناوين الثانويّة تختلف اختلافا بيّنا ، وحينئذ فيمكن أن تكون الصلاة معنونة بالعنوان الثانوي ، بالعطف مثلا لكن هذا العطف يختلف فإنّ الخضوع والعطف صبحا يكون عنده بصلاة العبد مثلا ركعتين وظهرا بأربع وعصرا بمثلها ومغربا بثلاث ركعات وهكذا.

__________________

(١) لم نعثر عليه.


ولا يمكن المساعدة على هذا الوجه أيضا ؛ إذ إن أراد أنّها موضوعة بإزاء هذا العنوان فيلزمه الترادف وليس بينهما عرفا ترادف أصلا ، وإن أراد أنّها موضوعة بإزاء الأفراد الخارجيّة فيلزمه كون الموضوع لها خاصّا ، ويرد عليه جميع ما ذكرناه إيرادا على ذلك ، وإن أراد أنّه يشار بهذا العنوان إلى الجامع فيلزمه عدم جواز التمسّك بالإطلاق ؛ إذ حينئذ يكون من قبيل الشكّ في الامتثال بعد إحراز التكليف ومعلوم أنّه مجرى قاعدة الشغل ، فافهم.

هذه الوجوه هي عمدة الوجوه المذكورة لتصوير الجامع على الصحيح وقد عرفت فسادها وأنّه لا يمكن ؛ إذ لا جامع بين المقولات المختلفة كما تقدّم.

فيقع الآن الكلام في الجامع على الأعمّ فنقول : ذكروا له وجوها :

أحدها : ما ذكره بعض المحققين (١) من أنّ كل ما صوّر جامعا على الصحيح يكون جامعا على القول بالأعمّ حيث نلغي منه اعتبار صدوره من الشخص المكلّف به ، مثلا صلاة الجلوس صحيحة إذا صدرت من المريض العاجز عن القيام فما كان هو الجامع على الصحيح إذ ألغي منه اعتبار صدوره ممّن خوطب به كان هو الجامع على الأعم.

ولا يخفى عليك ما فيه فإنّه موقوف على مقدّمتين :

الأولى : أن يكون ثمّة جامع على الصحيح وقد ذكرنا استحالته.

الثانية : أنّه موقوف على أن تكون كلّ صلاة فاسدة تكون صلاة صحيحة في وقت من الأوقات كعكسه ، وليس هذا تامّا فإنّ بعض أفراد الصلاة الفاسدة لا يتصوّر فيها أن تقع صحيحة كما في الصلاة بلا طهارة أو بلا ركوع ولا بدله ، فهذه تخرج من الجامع ؛ إذ لا تصحّ من كلّ أحد أصلا ، فظهر بطلان تصوير الجامع.

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ١١٣.


ثانيها : ما في الكفاية (١) نقلا عن صاحب القوانين قدس‌سره (٢) من أنّ الجامع هو الأركان وغيرها من الأجزاء المعتبرة في المأمور به لا في المسمّى.

وقد أورد عليه في الكفاية (٣) بلزوم كون استعمالها في الجميع من الأجزاء والشرائط مجازا بعلاقة الجزء والكلّ ، وبلزوم صدقها على الفرد الغير الحاوي إلّا للأجزاء فقط ، وبلزوم عدم صدقها على العمل الحاوي لجميع الأجزاء والشرائط إلّا الركوع مثلا أو إلّا تكبيرة الإحرام وهي لوازم فاسدة ؛ ضرورة أنّ صدقها حقيقة على الجامع للأجزاء والشرائط وأنّها لا تصدق لو كانت الأركان فقط دون بقيّة الأجزاء وأنّها تصدق ولو فقدت بعض الأركان.

وتمام الكلام في هذه الردود يأتي في ذيل الوجه الثالث من وجوه الجامع وهو ما ذكره بعض المحققين (٤) وهو أنّ الجامع مقدار من الأجزاء تدور التسمية مدارها ، توضيحه أنّ المركّبات على قسمين :

أحدهما : ما لا يتفاوت بالنظر إلى الكلّ كما في المركبات الحقيقيّة ، كالإنسان المركّب من الحيوان والناطق ، وتركّب الإنسان منهما تركّب حقيقي فإنّ الإنسان ليس النصف العالي منه هو الحيوان والسافل منه هو الناطق ، وهذا لا يتفاوت فيه نظر ونظر ولا حال وحال وهو غير قابل للزيادة والنقصان.

الثاني : هو المركبات الاعتباريّة وهي نظير الدار مثلا ، فإنّها عبارة عن أجزاء متباينة كالجدار والغرفة مثلا والسطح فإنّها أجزاء متغايرة وهي قابلة للزيادة ، بمعنى أنّها قد أخذت بلا شرط من حيث الزيادة فإن وجدت كانت جزءا وإلّا فلا تكون جزءا ، مثلا الدار أقلّ ما تصدق عليه أن تكون جدران وغرفة فلو فقد

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٠.

(٢) القوانين ١ : ٤٤ و ٦٠.

(٣) كفاية الاصول : ٤٠.

(٤) في تقريرات الشيخ (نسبه البعض إلى جماعة من القائلين بالأعمّ) مطارح الأنظار ١ : ٥٤.


أحدهما لا تصدق الدار ، لكن قابلة للزيادة في الأجزاء فإنّها لو اشتملت على غرفتين كانت كلّ واحدة جزءا منها ولو اشتملت على ثلاث فكذلك أيضا إلّا أنّها لو انعدمت أحد الغرفتين تصدق الدار مع ذلك ، وكذا لو اضيف إليها حمام كان جزءا ولو فقد لم يخلّ فقده بالتسمية وهكذا فلا يكون الاستعمال في واجد الحمام بنحو المجاز لكونه جزءا من المعنى كما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (١).

ثمّ إنّ هذه الأجزاء بما أنّها غير معلومة لنا لا بدّ من مراجعة مخترع هذه الماهيّة في تعيينها كما هي العادة ، فإنّ المرجع في تعيين الأجزاء المقوّمة لكلّ مخترع هو المخترع له ، فيرجع إلى الشارع المقدّس في تعيين تلك الأجزاء التي هي الجامع التي تدور التسمية مدارها ، فننظر الأخبار فنرى منها ما يقول افتتاحها التكبير واختتامها التسليم فنعرف أنّ التكبير من الأجزاء الرئيسيّة التي تدور التسمية مدارها والتسليم كذلك على ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) من أنّ المخرج ليس إلّا التسليم ، فلو فقدته ولو نسيانا كانت باطلة ، فيكون من الأجزاء الرئيسيّة وإن لم نقل بما اختاره قدس‌سره لأنّ «لا تعاد الصلاة إلّا من خمس» شامل لما إذا نسي التسليم ، كما هو الصحيح ، فنخرج التسليم من الأجزاء الدخيلة في التسمية أيضا (*).

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٠.

(٢) ذكره في هامش العروة ، انظر العروة الوثقى ٢ : ٥٩٢ طبع ونشر مؤسسة النشر الإسلامي ذيل «فصل في التيمم».

(*) وملخّص القول في التسليم : أنّه ذهب صاحب العروة قدس‌سره أنّه لو نسي السلام حتّى أحدث صحّت صلاته بحديث لا تعاد ، وذهب جماعة منهم : الميرزا النائيني قدس‌سره إلى بطلان الصلاة حينئذ ؛ لوقوع الحدث أثناء الصلاة فيكون داخلا في التسمية حينئذ. ولا يخفى أنّ كونه في أثناء الصلاة موقوف على بقاء جزئيّته حتّى حال النسيان ، وحديث لا تعاد يلغي الجزئيّة حينئذ ، فلا حدث في أثناء الصلاة بل بعدها.


ثمّ ننظر دفعة اخرى إلى الأخبار فنرى خبرا يقول : الصلاة ثلثها الركوع وثلثها السجود (١) ، فنعرف أنّهما جزءان دخيلان في المسمّى أيضا ، ثمّ ننظر ثالثة فنراه يقول : لا صلاة إلّا بطهور (٢) ، وثلثها الطهور (٣) فنعرف دخل الطهارة أيضا ، فيكون الجامع بين الأفراد على الأعمّ هو التكبير والركوع والسجود والسلام متطهّرا ، وفي السلام ما تقدّم.

بقي الكلام في الإيرادين اللذين ذكرهما في الكفاية (٤) فنقول : أمّا دعواه لزوم صدق الصلاة على الجامع لخصوص هذه الأجزاء وإن خلا عن غيرها فصحيح لكنّ اللازم ليس باطلا ، بل حتّى على مختاره من كون الجامع على الصحيح هي الناهية عن الفحشاء تصدق على هذه الأجزاء ، كما إذا كبّر ثمّ نسي كلّ شيء ، فركع ونسي كلّ شيء ، فسجد ونسي كلّ شيء فيه ، فسلّم إذا كانت صلاة من ركعة

__________________

ـ ودعوى أنّه لا بدّ من مخرج من الصلاة ، وهو إمّا التسليم ، والفرض نسيانه ، وإمّا الحدث مثلا ، وهو مستلزم لوقوعه أثناء الصلاة ؛ لأنّه علّة للخروج والعلّة سابقة على المعلول رتبة كما ذكره بعض الأعاظم مدفوعة بمنع بناء الأحكام الشرعيّة على الدّقة الفلسفيّة ، فالتقدّم الرتبي لا أثر له ، بل العبرة بالزمان ، وزمان الحدث والخروج واحد.

على أنّه لو سلّم فإنّما يتمّ في الموانع التي يعتبر عدمها في الصلاة ، أمّا مثل الحدث والقهقهة من القواطع فإنّما تضر من جهة قطع الأجزاء السابقة عن اللاحقة ، والمفروض أن لا جزئية للّاحق بحديث «لا تعاد» فلا تضر حينئذ.

على أنّا يمكن أن نقول أن المخرج للمصلّي الناسي للتسليم هو التشهد بحديث «لا تعاد». (الجواهري).

(١) الوسائل ٤ : ٩٣١ ، الباب ٩ من أبواب الركوع ، الحديث الأوّل.

(٢) الوسائل ١ : ٢٥٦ ، الباب الأوّل من أبواب الوضوء ، الحديث الأوّل.

(٣) الوسائل ٤ : ٩٣١ ، الباب ٩ من أبواب الركوع ، الحديث الأوّل.

(٤) انظر كفاية الاصول : ٤٠ ـ ٤١.


كالوتر فتصدق عليه الصلاة الصحيحة لا لفظ الصلاة فقط ، فما زعمه من عدم الصدق حينئذ باطل.

وأمّا ما ذكره من لزوم عدم الصدق بمجرّد فقد واحد منها وإن اشتمل العمل على بقيّة الأجزاء فمسلّم أيضا ، وليس اللازم منفيّا ، بل لو فقد أحد هذه الأجزاء من العمل كالركوع أصلا فليس ذلك العمل صلاة ، نعم لو فقد من ركعة من ركعاته ثمّ وجد في الثانية تصدق حينئذ الصلاة ؛ لأنّ الدخيل في التسمية طبيعي الركوع لا الركوع المتعدّد.

فتلخّص أنّ الجامع هو التكبير والركوع والسجود والسلام بطهور ، وبقيّة الأجزاء معتبرة في المأمور به لا في التسمية أصلا.

وأمّا القبلة فإنّها وإن ذكرت في خبر لا تعاد لكنّ الصلاة إلى غير القبلة كثيرا ما تكون صحيحة ، كما في العاجز عن الاستقبال أصلا ، وكذلك الوقت إنّما اعتبر في بعض الصلاة.

بقي الكلام في أنّ الركوع الذي هو دخيل في التسمية هل هو الركوع الحقيقي أم الأعمّ منه ومن بدله ليرد ما ذكره الآخوند قدس‌سره من لزوم تبادل الأجزاء؟ الظاهر أنّ الركوع الذي هو جزء الصلاة ، والسجود والطهارة التي هي شرطها هي الأعمّ من الحقيقيّة والتنزيليّة ، فإنّ الجزء الذي هو دخيل في المسمّى أعمّ من الركوع القيامي والركوع الجلوسي والإيماء بالرأس وبالعينين ، فالجزء هو أحدها. وكذا السجود ، هو السجود الحقيقي والتنزيلي من الإيماء بالرأس والعينين. والطهارة التي هي شرط دخيل في التسمية هو الأعمّ من الطهارة المائيّة والترابيّة. وتبادل الأجزاء الذي ذكره الآخوند محذورا إنّما يتمّ في المركّبات الحقيقيّة ، فإنّها هي التي يتمّ فيها منع تبادل الأجزاء. وأمّا المركّبات الاعتباريّة فلا يضرّ فيها لك ، كالحلوى فإنّها اسم لما يكون أحد أجزائه السكر ، فإن أضيف إليه الحنطة والدهن تكون قسما. وإن أضيف إليها الأرز تكون قسما آخر. وإن أضيف إليه الحمّص كانت آخر ، وهكذا.


وكذا ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره من أنّ التبادل إنّما يكون في مقام الامتثال ، وأمّا في مقام التسمية فتبادل الأجزاء لا معنى له.

وجوابه أنّ الجزء الذي وضع اللفظ بإزائه وبإزاء بقيّة الأجزاء هو أحد هذه الأمور من الركوع القيامي والجلوسي والإيمائي بالرأس أو العينين ، لا أنّه وضع لفظ الصلاة بإزاء التكبير والركوع والسجود الحقيقيين ثمّ ابدل مكانهما غيرهما.

وبالجملة ، فكلّما ذكر من الإيرادات على تصوير الجامع على الأعمّ مبنيّ على المركّب الحقيقي ، سواء ما ذكره الآخوند أو الميرزا النائيني ـ قدّس سرهما ـ وكذا ما ذكره الثاني قدس‌سره من استحالة التشكيك في الوجود وعدم تعقّله وإمكان التشكيك في الماهيّات أيضا مبنيّ على المركّب الحقيقي.

وأمّا ما استدلّ على الصحيح من قوله عليه‌السلام : «الصلاة معراج المؤمن» (١) ، و «قربان كلّ تقي» (٢) وقوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)(٣) وغيرها ، فلا يخفى ما فيه أوّلا : لأنّ المراد منها بقرينة المحمول هو خصوص الصحيحة.

وثانيا : أنّ هذا لا يتمّ حتّى على القول بما اختاره من الصحيح ، لأنّ الصحيح الذي هو محلّ الكلام هو الصحيح من حيث الأجزاء والشرائط لا من جميع الجهات ، ومعلوم أنّها لا تنهى عن الفحشاء والمنكر وليست معراجا ولا قربان كلّ تقيّ ما لم تضمّ إليها قصد القربة وتنتفي عنها الموانع من المزاحمات وغيرها. وإطلاق الصلاة في الأخبار على الفاسدة أو الأعمّ أكثر من أن يحصى.

__________________

(١) لم نعثر عليه في المجاميع الحديثية رغم توفر نقله في الكتب الفقهيّة ، نعم جعله المجلسي في موضع من البحار ٨٢ : ٢٤٨ ظاهرا من الخبر الوارد في علل الصلاة وفي ٣٠٣ منه نقله عن والده.

(٢) الوسائل ٣ : ٣٠ ، الباب ١٢ من أعداد الفرائض ، الحديث ١ و ٢.

(٣) العنكبوت : ٤٥.


فتلخّص أنّ الجامع بين أفراد الصلاة على الأعمّ يمكن أن يكون هو التكبير والركوع بمراتبه والسجود بمراتبه والسلام ـ على الكلام فيه ـ مقرونا بالطهارة بمراتبها أيضا ، وبعد استحالة الجامع الصحيحي ـ لما ذكرناه ـ لا بدّ من الجامع الأعمّي ، فيكون تصوّره كافيا في إثباته. نعم لا بدّ من أن يضاف إلى الأركان المذكورة : الموالاة ، ضرورة أنّه لا يصدق الصلاة على هذه الأجزاء المذكورة مع الطهارة إلّا إذا كانت مشتملة على الموالاة ، وبدونها لا تصدق. فهي أيضا من جملة الأركان التي تدور التسمية مدارها.

نعم ، عليه تخرج صلاة الغرقى والصلاة على الميّت عن الصلاة ؛ إذ ليس فيهما ركوع ولا سجود ولا سلام ، وخروج الصلاة على الميّت تساعد عليه الأخبار وتصرّح به أنّها ليست صلاة ، وإنّما هي دعاء للميّت (١) ومن ثمّ لم يشترط المشهور فيها شرائط الصلاة من الطهارة من الحدث والخبث وكون الثياب ليست ذهبا ولا حريرا ، بل إنّ بعضهم لم يشترط فيها شرائط الاقتداء من العدالة وشبهها (٢).

وأمّا صلاة الغرقى فلا ضير في خروجها أيضا ، وإنّما هي عمل أقيم مقام الصلاة ليكون العبد في آخر لحظة من حياته متذكّرا لربّه. ويؤيّده عدم اشتمالها على التسليم مع قدرته عليه فافهم ، فإنّه لا ضير في خروج هذين الفردين عن كونهما صلاة أيضا.

في ثمرة القولين

قد ذكروا لهذين القولين ثمرتين :

__________________

(١) راجع الوسائل ٢ : ٧٨٤ ، الباب ٨ من أبواب صلاة الجنازة و ٧٩٨ ـ ٧٩٩ ، الباب ٢١ من الأبواب.

(٢) مثل بحر العلوم في الدرّة النجفيّة : ٧٧ ، وقوّى النراقي عدم اعتبار العدالة في المستند ٦ : ٢٩٧.


الثمرة [الأولى] : ذكرها بعضهم (١) وملخّصه أنّه بناء على الصحيح لا يمكن نفي الجزء المشكوك بالبراءة ؛ للشكّ في صدق المسمّى ؛ إذ يحتمل أن يكون هذا الجزء ممّا له دخل في المسمّى. وبناء على الأعمّ ينفى بالبراءة ؛ إذ المسمّى قد حصل حسب الفرض ، فنشكّ في اعتبار أمر زائدا على ما أتينا به وعدمه فينفى بالبراءة لكونه شكّا في التكليف.

وأشكل عليه الشيخ الأنصاري قدس‌سره (٢) بأنّ جريان البراءة وعدمه مبنيّ على انحلال الأمر بالمركّب وعدمه ، فإن قلنا بالانحلال تجري البراءة وإلّا فلا تجري ، وليس مبنيّا على أنّ العبادات اسم للصحيح أم الأعمّ. ولذا ذهب المشهور القائلون بالصحيح إلى البراءة ، لبنائهم على انحلال الأمر ، فينحلّ العلم الإجمالي بالتكليف إلى متيقّن ومشكوك ، فينفي المشكوك بالبراءة. وبناء على عدم انحلال الأمر إلى أوامر بأجزاء المركّب بل هو أمر واحد بشيء واحد فإذا شكّ في اعتبار شيء وعدمه يكون المشكوك فيه مردّدا بين المتباينين إذ المركّب المكلّف به لا ندري أنّه أخذ بالنسبة إلى هذا الجزء المشكوك لا بشرط أو أخذ بشرط شيء ، ولا ريب أنّهما قسمان للماهيّة المهملة التي لا يمكن أخذها متعلّقا للتكليف ، لاستحالة الإهمال في الواقعيات (*).

__________________

(١) ذكرها المحقّق القمي في القوانين ١ : ٤٣ ، والمحقّق الأصفهاني في هداية المسترشدين ١ : ٤٨٤.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٣٤١ ـ ٣٤٧.

(*) سيأتي إن شاء الله في الأقلّ والأكثر الارتباطيين استحالة الانحلال الحقيقي للعلم الإجمالي من جهة أنّ الإطلاق بالنسبة إلى الجزء المشكوك جزئيّته أو التقييد بعد استحالة الإهمال في الواقعيّات لا بدّ منهما فحينئذ فالمقام من قبيل دوران الأمر بين المتباينين إلّا أنّ الانحلال الحكمي مختصّ من جهة أنّ الإطلاق ليس في رفعه امتنان ولا فيه احتمال العقاب فتجرى البراءة عقلا وشرعا في رفع التقييد من غير معارضة بالطرف الثاني.


وقد أورد عليه الميرزا النائيني قدس‌سره (١) بأنّه على القول بالأعمّ تبتني المسألة على القول بالانحلال كما ذكره قدس‌سره. وأمّا على القول بالصحيح فلكون الجامع لا بدّ أن يكون بسيطا فلا بدّ من القول بالاشتغال ، قلنا بالانحلال أم لم نقل. وذهاب المشهور إلى البراءة مع قولهم بالصحيح غفلة عن حقيقة الحال ، فافهم.

ولا يخفى أنّه على الأعمّ ، الحقّ كما ذكره الشيخ الأنصاري وأقرّه عليه الميرزا ، لكن على الصحيح ليس لا بدّ من القول بالاشتغال ، بل يمكن أيضا القول بالبراءة.

بيان ذلك : أنّ الجامع على الصحيح قد ذكرنا استحالة كونه مركّبا ؛ إذ كلّما فرض مركّبا يجوز أن يكون صحيحا وفاسدا كما تقدّم ، فلا بدّ من فرض الجامع بسيطا ، وحينئذ فهذا الجامع البسيط إمّا أن تكون نسبته إلى الفرد المأتي به نسبة الكلّي إلى الفرد بحيث يكون فردا لذلك الكلّي.

وإمّا أن يكون ذلك الجامع مسببا عنها ، فتكون الأفراد من قبيل الأسباب التوليديّة. وإمّا أن يكون أمرا انتزاعيّا منها.

إمّا على الأوّل فتجري البراءة على القول بالانحلال ؛ لأنّ الكلّي هو عين الفرد ، فإذا فرضنا انحلال الأمر فمعناه أنّ هذا المقدار من الأجزاء متيقّن ونشكّ في التقييد بما زاد ، فتجرى البراءة من الزائد.

وحينئذ فالحقّ مع الشيخ الأنصاري في الدوران على الانحلال ، لكن كون الجامع هو الكلّي المنطبق على الأفراد غير تامّ ؛ لأنّ الجامع البسيط كيف ينطبق على المركّب؟ فهو أمر مستحيل.

وبناء على تصوير الجامع بأحد النحوين الآخرين من كونه مسبّبا أو أمرا انتزاعيّا فلا ريب في الاشتغال حينئذ ؛ لأنّ الجامع مشكوك الحصول ؛ للشكّ في حصول المحصّل له والمنتزع منه.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٦٦ ـ ٦٧.


والظاهر أن يفصّل في صورة فرض الجامع كلّيا بين القول بوجود الكلّي الطبيعي في الخارج وأنّه عين فرده ، فيلحق بالقسمين المذكورين في الابتناء على الانحلال وعدمه ؛ للشكّ حينئذ في كون هذا الفرد فردا لذلك الكلّي المأمور به ومحصّلا له أم ليس فردا له. وإن قلنا بعدم وجود الكلّي الطبيعي في الخارج ، وإنّما هو عنوان مشير إلى الفرد ، وإنّ الفرد هو المأمور به في الحقيقة ، وإنّما أخذ العنوان مشيرا له ، فتجري حينئذ البراءة.

فقد ظهر أنّ هذه الثمرة ثمرة صحيحة وغير مبنيّة على الانحلال على هذا الفرض الأخير في الصحيح وهو كاف في جعلها ثمرة (*).

الثمرة الثانية

التمسّك بالإطلاق. ولا بدّ قبل ذلك من الكلام في مقدّمة ، وهي أنّ الإطلاق قسمان :

إطلاق مقامي : وهو الذي يقتضيه المقام لا الكلام ، كأن يكون الشارع في مقام بيان أجزاء الصلاة بأسرها فلا يذكر الاستعاذة ، فالإطلاق المقامي يكشف عن عدم جزئيّتها. وكذا لو كان في مقام بيان شرائط الصلاة فإذا أهمل ذكر شيء نفهم عدم كونه شرطا.

وإطلاق كلامي : وهو الذي يستفاد من إطلاق الكلام ، وهذا الإطلاق يتوقّف على مقدّمات :

__________________

(*) قد ذكر في دورته اللاحقة نفي هذه الثمرة وتصويب ما ذكره صاحب الكفاية وأنّه في صورة فرض الجامع عنوانا انتزاعيّا فليس المأمور به عنوان الصحيح ، بل المنتزع منه وهو ذوات الأجزاء وحينئذ فيبتني القول بالبراءة على الانحلال أيضا وعدمه. نعم ، لو قلنا بكونه من قبيل الأسباب والمسبّبات لكان القول بالاشتغال هو الصحيح إلّا أنّ القائل بالصحيح لا يدّعيه وإنّما يدّعي أنّ المأمور به هو نفس الأفعال الخارجيّة.


الأولى : صدق اللفظ على الخارج ، فلو شكّ في صدقه على الفرد لا مجال للتمسّك به. مثلا إذا قال : ائتني بماء ، فلفظ ماء بإطلاقه شامل للحارّ والبارد والحلو والمرّ ، مثلا لكن بعد إحراز كونه ماء ، فلو شكّ فيه مفهوما كماء الزاج والكبريت فإنّه يشكّ في كونه ماء ؛ لعدم إحراز صدق مفهوم الماء عليه ، أو شكّ فيه مصداقا كأن شكّ أنّه ماء أو لبن مثلا فلا يمكن التمسّك بالإطلاق في المقام.

وله مقدّمات اخرى مثل : كون المولى في مقام البيان لا الإهمال والإجمال. وعدم القرينة على إرادة البعض. وعدم القدر المتيقّن على القول به وغيرها من المقدّمات. وحينئذ فإذا تمّت هذه المقدّمات وتبيّنت لك عرفت عدم إمكان التمسّك بالإطلاق على الصحيح ؛ للشكّ في صدق الصلاة حينئذ. وليس لأخذ مفهوم الصحيح فيه ، بل لأنّ المسمّى حينئذ لم يحصل. بخلافه على الأعمّ ، فإنّ اللفظ يصدق على المشكوك حينئذ فينفى الزائد الذي يشكّ في اعتباره وعدمه بالإطلاق.

فما ذكره بعضهم ـ يعني بعض الأساطين (١) ـ من أنّ التمسّك بالإطلاق لا يصحّ على الصحيح إذا أخذ فيه وصف الصحّة قيدا أو تقيّدا ، ولا يقول به الصحيحي فيجري التمسّك بالإطلاق حتّى على الصحيح.

لا يخفى عليك ما فيه ، فإنّ وصف الصحّة غير مأخوذ على الصحيح أصلا لا قيدا ولا تقيّدا ، وليس عدم التمسّك بالإطلاق لذلك ، بل للشكّ في صدق الصلاة حينئذ ؛ إذ مفهومها مجمل وإنّما أخذناه بالإشارة إليه ، وقد ذكرنا أنّ صدق المطلق على الفرد المأتيّ به أوّل مقدّمة من مقدّمات التمسّك بالإطلاق المقامي.

فقد ظهر أنّه على الصحيح لا يمكن التمسّك بالإطلاق في نفي الجزء المشكوك جزئيّته ، وهذا بخلافه على الأعمّ في غير الأجزاء التي هي دخيلة في التسمية ، فلو شكّ في وجوب السورة وعدمها يمكن التمسّك بالإطلاق في نفي وجوبها.

__________________

(١) لم نعثر عليه بعينه ولعلّه يستفاد من كلام الشيخ في الفرائد ٢ : ٣٤٢ ـ ٣٤٣.


وقد أوردوا (١) على هذه الثمرة بإيرادين :

الأوّل : أنّ عدم التمسّك بالإطلاق في ألفاظ العبادات لا يخصّ الصحيحي بل يشمل الأعمّ أيضا ؛ إذ ليس في المطلقات مطلق في مقام البيان كي يتمسّك بالإطلاق على الأعمّ فالتمسّك بالإطلاق منفي ، غاية الأمر أنّه على الصحيح لعدم إحراز الصدق ، وعلى الأعمّ لأجل عدم البيان. وعلى تقدير أن يكون مقام فيه بيان وليس في مقام التشريع ، بل في مقام بيان تمام الأجزاء والشرائط فالصحيحي أيضا حينئذ يتمسّك بالإطلاق.

والجواب : أنّ دعوى كون جميع المطلقات في مقام التشريع إن كان في مطلقات الكتاب فنعم ، وإن كان حتّى لمطلق السنة فلا ؛ فإنّ أغلب مطلقات السنّة كانت في مقام البيان ؛ فإنّ الأئمّة عليهم‌السلام كانوا في مقام بيان مجملات الكتاب من دون فرق بين ألفاظ العبادات والمعاملات أصلا. وتمسّك الصحيحي بإطلاق رواية حمّاد (٢) فهو تمسّك بالإطلاق المقامي لا الكلامي ، فافهم.

الثاني من الإيرادين : أن يقال : إنّه لا يصحّ التمسّك بالإطلاق حتّى على الأعمّ أيضا ؛ لأنّ المأمور به ليس هو الطبيعة على إطلاقها بل هي الطبيعة الصحيحة قطعا ، فعند صدق الطبيعة إذا شكّ في صدقها بما هي مقيّدة بالصحّة لا يصحّ التمسّك بالإطلاق أيضا.

والجواب : أنّ قيد الصحّة غير مأخوذ في المأمور به على الصحيح فكيف يؤخذ على الأعمّ؟ بل وصف الصحّة وصف انتزاعي ينتزع من بعد الإتيان بالأجزاء ، فمرتبة الأمر واحدة ، ثمّ مرتبة الامتثال مرتبة ثانية ، ثمّ ينتزع وصف الصحّة وعدمها

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ١ : ٦٧ ، وفوائد الاصول ١ : ٧٧ ـ ٧٨.

(٢) الواردة في تعليم الصلاة لحمّاد ، راجع الوسائل ٤ : ٧٤ ، الباب الأول من أبواب أفعال الصلاة ، الحديث الأول.


بعد الإتيان والامتثال ، فهو متأخّر عن الأمر بمرحلتين كما ذكرنا ، فكيف يؤخذ في الأمر؟ بل بعد الإتيان بالأجزاء إن كانت تامّة الأجزاء والشرائط انتزع وصف الصحّة وإلّا انتزع وصف الفساد ، فافهم.

نعم ، لو كان منشأ عدم التمسّك بالإطلاق على الصحيح أخذ قيد الصحّة أو تقيّدها كان ما ذكر تامّا ولكنّه ليس كذلك ، وموارد التمسّك بالإطلاق في العبادات وغيرها كثيرة لا حاجة إلى ذكرها.

ثمّ إنّه قد ذكرنا في الدورة السابقة أنّه يمكن أن يكون من ثمرات القول بالصحيح والأعمّ المسألة المعروفة بناء على عدم جواز محاذاة الرجل المرأة في الصلاة وبطلان الصلاة حينئذ ، فلو تقارنا في الدخول في الصلاة بطلت صلاتهما معا ؛ لعدم المرجّح حينئذ ولصدق المحاذاة لكلّ منهما. وإن كان الرجل شارعا في صلاته فشرعت المرأة بطلت صلاتها حينئذ قطعا ؛ للمحاذاة. وإنّما الكلام في صلاة الرجل ، فعلى القول بوضع الألفاظ للصحيح لا يصدق [أن] المرأة حذاءه تصلّي ؛ لأنّ صلاتها باطلة فتكون صلاته صحيحة. وعلى الأعمّ تكون صلاته باطلة ؛ لصدق [القول بأنّ] المرأة حذاءه تصلّي. وكذا لو كانت تصلّي صلاة باطلة ، فعلى الصحيح ، للرجل حينئذ أن يصلّي حذاءها. وعلى الأعمّ ليس له ذلك.

وهذه الثمرة ثمرة ، لكنّها ليست ثمرة مسألة أصولية ؛ لأنّ ثمرة المسألة الأصوليّة يلزم أن تكون كلّية ، وهذه في مقام تشخيص أنّ هذه الصلاة يقال لها صلاة أم لا يقال لها صلاة ، فهي نظير لفظ «الصعيد» وكون المراد منه خصوص التراب أو وجه الأرض مثلا.

هذا كلّه في الثمرة بين القولين في العبادات وألفاظها. وأمّا ألفاظ المعاملات فنزاع الصحيحي والأعمّي فيها مبنيّ على أنّها أسماء للأسباب ؛ إذ هي المتّصفة بالصحّة وغيرها لتركّبها من أجزاء وشرائط. وأمّا بناء على أنّها أسماء للمسبّبات


كما هو الظاهر ، فهي إنّما تتّصف بالوجود والعدم. والظاهر من الفقهاء التمسّك بالإطلاق فيها على كلا التقديرين ، وإنّما الكلام في وجه ذلك.

وربّما وجّه بأنّ الشارع بما أنّه واحد من أهل العرف وقد أمضى معاملاتهم العرفيّة ، وإن اعتبر فيها أشياء جعلها شروطا لها كالقبض في بيع الصرف ، فلا يفرق حينئذ بين القول بالصحيح وعدمه في التمسّك بإطلاقها في نفي ما يشكّ في اعتباره فيه بعد صدق المسمّى من كونه بالعربيّة أم لا ، وكونه محتاجا إلى لفظ أم تكفي المعاطاة ، وكون تقدّم الإيجاب معتبرا فيه أم لا.

ولا يخفى عليك ما في هذا الكلام ، فإنّ أسماء المعاملات إن كانت موضوعة للأسباب كان لهذا الكلام مجال واسع ، ولكنّها موضوعة للمسبّبات ، فإنّ قوله : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) ليس المراد منه أنّه أحلّ قول «بعت» و «قبلت» وإنّما المراد أنّه أحلّ المبادلة بين الطرفين ، وكذا قوله : «النكاح سنّتي» المراد منه المسبّب ، وهو العلقة الزوجية لا لفظ «أنكحت» وأشباهها.

وحينئذ فالإمضاء متحقّق في المسبّبات ، وأمّا الأسباب فلا دليل يدلّ على إمضائها.

نعم ، لو لم يكن للمسبّب إلّا سبب واحد ، أو كانت له أسباب متعدّدة عرفا وليس بينها قدر متيقّن ، فبدلالة الاقتضاء يستفاد إمضاء السبب من إمضاء مسبّبه ، صونا لكلام الحكيم عن اللغويّة.

وربّما يتوهّم دلالة (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(٢) على إمضاء الأسباب ؛ لظهور العقد في الإيجاب والقبول ، لكنّ الظاهر عدم دلالتها ؛ فإنّ لفظ العقد وإن كان ظاهرا في العقد إلّا أنّ لفظة «أوفوا» التي هي بمعنى : أنهوا المعاملة إنّما يصحّ تسليطها

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

(٢) المائدة : ١.


على أمر ذي استمرار ، والعقد بمعنى اللفظ ليس أمرا ذا استمرار ، فلا بدّ من أن يراد منه المسبّب وهو المبادلة في البيع مثلا.

وقد تخلّص الميرزا قدس‌سره (١) من إشكال عدم إمضاء الأسباب واختصاص الإمضاء بالمسبّبات بنفي كون ألفاظ العقود أسبابا ونتيجتها مسبّبات نظير الأفعال التوليديّة ، بل جعلها آلة والمسبّبات هي ذوات الآلة ، والإرادة الإمضائية من الشارع قد تعلّقت بالمعاملة ، فهي حينئذ وجود واحد قد تعلّق الإمضاء بها.

ولا يخفى أنّ كونها آلة لا يرفع الإشكال ؛ فإنّ الآلة وجودها غير وجود ذي الآلة ، فإمضاء ذي الآلة لا يكون إمضاء للآلة إلّا إذا لم يكن قدر متيقّن ، فصونا لكلام الحكيم وإمضائه عن اللغويّة نقول بإمضائه للجميع. لكن القدر المتيقّن في المعاملات من ناحية الأسباب موجود ، وهو اللفظ العربي المشتمل على الإيجاب الخاصّ والقبول المترتّبين على نحو لا تفوت الموالاة مع بقيّة الشرائط. وحينئذ فلا إمضاء للأسباب فيعود المحذور. والتمسّك بإطلاق الآلة في قولك : اقتل زيدا لأنّها من الأمور التكوينيّة فيتخيّر بمقتضى الإطلاق في تعيينها ، وهذا بخلاف الأمور التشريعيّة سواء كانت اختراعيّة له أم كانت إمضائية ، فإنّ التخيير فيها قبل الإمضاء لا معنى له.

والتحقيق في حلّ الإشكال أن يقال : إنّ حديث السبب والمسبّب وكذا حديث الآلة وذي الآلة ليس له واقعيّة أصلا. وكذا حديث أن الصيغة الإنشائيّة ايجاديّة فإنّا قد ذكرنا أنّه لا معنى له ، فإنّا إذا نظرنا إلى وجداننا لا نرى في موارد المعاملات إلّا اعتبارا نفسانيّا يعتبره البائع ، وهو أنّ هذه العين التي كانت ملكا له قد صارت بحسب اعتباره النفساني ملكا لعمرو مثلا. ثمّ إنّه يبرز ذلك الاعتبار بمبرز فيقول : بعت. ثمّ يأتي له الإمضاء الثابت من العقلاء ، فتارة تمضيه العقلاء إذا كان صادرا

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٧٣ ـ ٧٤ ، وفوائد الاصول ١ : ٨١.


من مالكه بالشرائط ، واخرى لا تمضيه كما إذا كان البائع غير مالك مثلا مع عدم رضى المالك مثلا.

فالبيع في الحقيقة اسم لذلك الاعتبار النفساني منضمّا إلى مبرزه سواء أكان مبرزه لفظا أو عملا كتسليم المبيع في المعاطاة أو كان المبرز إشارته أو غيرها من الإشارات.

ثمّ إنّ هذا الاعتبار منضمّا إلى المبرز قد يمضيه العقلاء والعرف وقد لا يمضيه. وقد يمضيه الشارع وقد لا يمضيه أيضا. فكون ألفاظ المعاملات اسم للصحيح معناه أنّها اسم لذلك الاعتبار المبرز بقيد الإمضاء العقلائي. ومعنى أنّها اسم للأعمّ أنّها اسم لذلك الاعتبار المبرز الغير المقيّد بشيء أصلا.

وحينئذ فعلى كلا التقديرين يتمسّك بالإطلاق. وعند الشكّ ، فالصحيحي بعد إحراز الاعتبار النفساني المبرز الممضى عند العقلاء لو شكّ في اعتبار شيء آخر فيه عند الشارع المقدّس يتمسّك بالإطلاق. والأعمّي بعد إحراز أنّه اعتبار نفساني مبرز لو شكّ في أنّ الشارع اعتبر فيه العربيّة مثلا أم لم يعتبرها يتمسّك بالإطلاق أيضا.

ثمّ لو تنزّلنا وقلنا بأنّ المعاملات من قبيل الأسباب والمسبّبات فما ذكر من أنّ إمضاء المسبّب لا يلزم منه إمضاء السبب صحيح لو كان الإمضاء شخصيّا ، أمّا لو كان بنحو القضية الحقيقيّة المنحلّة إلى أفراد بعدد أفراد الموضوع لها فالمسبّب سواء كان عبارة عن الاعتبار النفسي أو الوجود التنزيلي أو اعتبار العقلاء أفراد عديدة ، فإنّ الاعتبار النفسي للإنسان تارة يتعلّق بتمليك داره ويكون مبرزه الفعل ، واخرى يعتبر بتمليك دكانه ويكون مبرزه القول العربي واخرى القول الفارسي وثالثة الهندي ، وكذا الوجود التنزيلي أو اعتبار العقلاء ، فإذا كان المسبّب أفرادا عديدة فالإمضاء ينحلّ إلى كلّ فرد فرد منها ، وإمضاؤه حينئذ شرعا يدلّ على إمضاء سببه بالملازمة كما هو واضح جدّا ، فافهم.


نعم ، تظهر الثمرة بين القولين فيما لو شكّ في أنّ هذا الاعتبار المبرز ممضى عند العقلاء أم غير ممضى عندهم ، فعلى الصحيح لا يمكن أن يتمسّك فيه (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) مثلا ؛ للشكّ في صدق البيع عنده. بخلافه على الأعمّ فإنّه يتمسّك بها فيه. فالثمرة بين القولين تظهر في ذلك ليس إلّا ، وهذه ثمرة مهمّة تظهر في المعاملات الحادثة الآن التي لم تكن قبل موجودة ، فعلى الصحيح لا يمكن التمسّك فيها بأحلّ الله البيع ، وعلى الأعمّ مثلا يمكن التمسّك بها فيها.

وأمّا الإمضاء الشرعي فغير معتبر قطعا في أسماء المعاملات ؛ إذ لا معنى لأن يقال : أحلّ الله المعاملات التي هي حلال عنده أصلا ، مضافا إلى أنّها مستعملة قبل الشرع والشريعة ، والشارع لم يخالفهم في الاستعمال بل استعمل على طبقهم. غير أنّه اعتبر بعض الأشياء في بعض الأحيان كما في عدم كون البيع غرريّا ، فإنّ العقلاء يرونه نافذا مع علم الطرفين وإقدامهم ولكنّ الشارع لم ينفذه بحسب ما يعلم من المصالح.

كما أنّه معلوم أنّه ليس له حقيقة خاصّة في ألفاظ المعاملات ، فإنّها عند العرب بمعناها عنده. وأمّا لفظ العقد فإنّه بمعنى العقدة ، كأنّ الشخص يعقد التزامه بالتزام صاحبه وبالعكس أيضا ، فمعنى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) كما تقدّم في معنى الوفاء وأنّه الإنهاء و (به آخر رساندن) ويستفاد منها صحّته بالملازمة ؛ إذ لو لا الصحّة لما أمر بالالتزام به. كما يستفاد منه لزومه ما لم يخصّصه دليل آخر على الجواز.

وبالجملة ، فبعد إحراز العقد الذي جعله الشارع مبرزا لذلك الاعتبار ، لو شكّ في أنّ الشارع اعتبر فيه شيئا أم لم يعتبر ، من عربيّة وماضويّة وغيرها ينفى بالبراءة أيضا على كلا القولين. هذا تمام الكلام في الثمرة.

فصل [في محل النزاع في الصحيح والأعم]

قد ذكرنا في صدر مبحث الصحيح والأعمّ أنّ النزاع ليس في الصحّة من تمام الجهات ، وإنّما النزاع في أنّ الألفاظ موضوعة للصحيح أو الأعمّ ؛ الصحيح من حيث جامعيته للأجزاء والشرائط ، والأعمّ بمعنى الأعمّ من الجامع لها والفاقد لبعضها.


وأمّا الصحّة والفساد الناشئتان من قصد الأمر وعدمه أو من جهة الابتلاء بالمزاحم وعدمه أو من جهة وجود النهي عنه وعدمه فهي غير دخيلة في محلّ النزاع ؛ ضرورة أنّها أمور ناشئة من الأمر أو النهي المتعلّقين بالمسمّى ، كما أنّ ما ذكره بعضهم (١) من أنّ النزاع في الصحيح من ناحية الأجزاء فقط دون الشرائط ليس ما يقتضي الالتزام به.

(ودعوى أنّ رتبة الأجزاء رتبة المقتضي ورتبة الشرط رتبة فعليّة الأثر وهي متأخّرة عن رتبة المقتضي ، فلا يمكن أخذهما دفعة.

مدفوعة بإمكان ذلك في مقام التسمية الغير الموقوفة على غير لحاظ المسمّى الممكن تحقّقه بالإضافة إلى المراتب ، لتفاوته) (٢).

[الكلام في الخصوصيات الفردية]

ثمّ إنّه قد ذكر بعضهم ومنهم صاحب الكفاية (٣) أجزاء مستحبّة وشرائط مستحبّة وعبّروا عنها بخصوصيّات الفرد ، ومثّلوا للأوّل بمثل الاستعاذة للفاتحة وبمثل القنوت ، ومثّلوا للثاني بمثل الصلاة في المسجد. ولم يظهر وجه تسميتهم لها بالخصوصيّات الفرديّة ؛ فإنّ كلّ فرد من أفراد الطبيعة المأمور بها إمّا مشتمل على هذه الخصوصيّة أو غيرها وكلّ منها هي أفراد للطبيعة ، ولكن حيث إنّ الطبيعة لا توجد إلّا بمشخّصات فلا بدّ لها من خصوصيّة تتخصص بها الطبيعة حتّى توجد ، فقد تكون تلك الخصوصيّة هي الاستعاذة أو القنوت أو عدمهما ، وقد تكون كونها في المسجد أو في الحمّام أو في الدار أو غيرها.

__________________

(١) لم نعثر على البعض بعينه ، نعم ذكر الشيخ الأعظم في مطارح الأنظار ١ : ٤٥ حكاية عن الوحيد البهبهاني أنّه نسب ذلك إلى القوم.

(٢) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٣) كفاية الأصول : ٥٠ ـ ٥١.


وبالجملة ، فهي خصوصيّات لازمة للفرد ولها أمر استحبابي مستقلّ غير مربوط بأمر الصلاة ، فيكون من قبيل تعدّد المطلوب ، غاية الأمر أنّ أمرها الاستحبابي إنّما هو لتكون الصلاة (المأمور بها مطبقة على خصوص هذا الفرد دون غيره. وهناك مقارنات مستحبة لا تؤثّر محبوبيّة زائدة في الواجب ، ومحبوبيّتها فيما إذا صار الواجب) (١) ظرفا لها وإلّا فلا محبوبيّة لها ، فهي مستحبّة حال كون الصلاة ظرفا لها مثلا ، كقراءة : اللهمّ لك صمت عند إفطار الصائم.

وبالجملة ، فلم يعلم الوجه في تسميتهم لهذه الأشياء المقارنة بالنحو الأوّل بالخصوصيّات الفردية ، ضرورة كونه من قبيل المستحبّ في الواجب ، فإن أتى بالفرد مشتملا عليه كان له كلا الثوابين وإلّا كان له ثواب أصل الطبيعة فقط. نظير من نذر أن يصلّي الفرض في المسجد ، فهو من قبيل المطلوب في المطلوب ، فإن أرادوا هذا فوفاق.

__________________

(١) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.



مبحث الاشتراك

الأقوال في الاشتراك ثلاثة : وجوبه واستحالته وإمكانه ، ومعلوم أنّ المراد من الوجوب والاستحالة الوجوب الوقوعي والاستحالة الوقوعيّة لا الذاتيّة ؛ إذ لا يلزم من تصوّر عدم الوجوب أو عدم الاستحالة محال كاجتماع النقيضين والضدّين ، وإنّما يدّعي القائل بهما ترتّب لازم باطل على عدمهما.

فالقول الأوّل هو لزوم الاشتراك ؛ لعدم تناهي المعاني وتناهي الألفاظ ، فلا بدّ من الاشتراك ليحصل الوضع لجميع المعاني.

وقد أجاب عنه صاحب الكفاية (١) بأنّ المعاني الجزئيّة غير متناهيّة أمّا الكلّية فمتناهية. وعلى تقدير عدم التناهي فلا حاجة إلى الوضع لجميعها ؛ لأنّ المقصود منه التفهيم والتفهّم وهما حاصلان بالوضع لجملة من المعاني. وعلى تقدير الاحتياج لبقيّة المعاني فباب المجاز واسع ؛ إذ لا ملزم لكون الاستعمال حقيقيّا بل يجوز كونه مجازيّا. (مع أنّ المعاني الغير المتناهية يستحيل الاشتراك فيها ؛ لاستدعائه وضعا غير متناه وهو محال) (٢).

__________________

(١) كفاية الاصول : ٥٢.

(٢) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.


وأنت خبير بأنّ الجواب الأوّل غير تامّ ؛ فإنّه أيّ معنى لتناهي المعاني الكلّية؟ فإنّ المعاني الكلّية الموجودة واقعا وإن كانت متناهية إلّا أنّ الكلّيات الفرضيّة غير متناهية أيضا. نعم جوابه الثاني حسن ولو فرضنا عدم قلعه للإشكال نقول بأنّ الألفاظ أيضا غير متناهية ، فإنّ قاعدة أنّ المركّب من المتناهي متناه تامة في ذوات الأجزاء الحسيّة ، وإلّا فالأعداد غير متناهية مع تركّبها من الأرقام المتناهية. وإليك تقريب المدّعى : فإنّ الحروف الهجائية التي هي ثمانية وعشرون حرفا تركّبها الثنائي ينوف على الألف. ثمّ لو أضيف إليها حرف واحد فهذا الحرف الواحد قد يكون أوّلا وقد يكون وسطا وقد يكون آخرا وعلى جميعها قد يكون مرفوعا وقد يكون منصوبا وقد يكون مخفوضا وقد يكون ساكنا. ثمّ لو أضفنا حرفا رابعا وهكذا صنعنا به كم تكون الاحتمالات؟

وبالجملة ، فالألفاظ بهذا التقرير أيضا غير متناهية قطعا ، فافهم.

وأمّا الذاهبون إلى استحالته فقد استدلّوا بأنّ الاشتراك يستدعي الإخلال بحكمة الوضع وهي التفهيم والتفهّم ، سواء قلنا بجواز استعمال المشترك في معنييه أم لم نقل ، غاية الأمر أنّا إن قلنا بالجواز يكون إرادة المجموع أحد المحتملات أيضا. وإذا استلزم الإخلال فكلّ وضع يلزم منه الإخلال بحكمة الوضع محال.

ولو كان الإشكال هذا فحسب فجوابه ما ذكره في الكفاية (١) من أنّ الغرض قد يتعلّق بالإجمال أحيانا وأنّ القرينة الحاليّة أو المقاليّة ترفع الإجمال.

وقد ذكر بعضهم (٢) أنّ وضع اللفظ للمعنى من قبيل وضع طبيعي اللفظ لطبيعي المعنى ، فمثلا إذا وضع لفظ «الإنسان» لهذه الطبيعة فمعناه وضع طبيعي لفظ الإنسان من أيّ متكلّم صدر ومن أيّ لغة صدر وفي أيّ وقت صدر فهو يفيد طبيعي

__________________

(١) كفاية الاصول : ٥١.

(٢) انظر نهاية الدراية ١ : ٤٤.


ذلك المعنى الغير المتقيّد بقيد والغير المتخصّص بخصوصيّة ، فإذا جعل ذلك اللفظ بطبيعيّة لمعنيين فهو مناف لكونه بطبيعيّة يفيد طبيعيّ المعنى الأوّل.

والحقّ أن يقال : إنّ جواز الاشتراك واستحالته مبنيّ على ما تقدّم في الوضع وحقيقته ، فإن قلنا بكون الوضع وجودا تنزيليّا للمعنى أو أنّه اعتبار كونه علامة على المعنى ، كوضع العلم على رأس الفرسخ والعمامة على الرأس فلا ينبغي الريب في جواز الاشتراك ؛ لجواز أن يكون اللفظ وجودا تنزيليا لشيئين يميّز بينهما بالقرينة. وكذا لا مانع من أن يعتبر الواضع اللفظ وجودا تنزيليّا لهذا مرّة ، ووجودا تنزيليّا لذاك اخرى ويميّز بينهما بالقرينة الحاليّة أو المقاليّة. وتكون فائدة الوضع حينئذ هو كون اللفظ مفيدا للمعنى بنحو الاقتضاء ، بمعنى كون اللفظ له أهليّة الاستعمال في أيّ المعنيين واقتضاء الإفادة وإن كان تمامها موقوفا على القرينة المعيّنة.

وأمّا بناء على ما ذكرنا من كون الوضع هو التعهّد بأنّه متى أراد المعنى جعل مبرزه هذا اللفظ ، فلا يعقل أن يتعهّد ثانيا بأنّه متى أراد معنى آخر جعل مبرزه نفس هذا اللفظ إلّا بعد إعراضه عن تعهّده السابق أو جعل اللفظ مبرزا لأحدهما وكلاهما مناف للاشتراك اللفظي. فلا بدّ من القول باستحالة الاشتراك لمنافاته لأصل الوضع لا لحكمة الوضع.

فلا بدّ فيما نراه من الاشتراكات من التزام أحد أمور :

إمّا القول بأنّ الوضع للجامع بين تلك المعاني كما هو الواقع في كثير من المشتركات كما هو ظاهر لمن أمعن النظر في كتب اللغة.

وإمّا القول بأنّه قد تعهّد عند الوضع للأوّل أنّه متى أطلق هذا اللفظ أراد هذا المعنى ، ثمّ أعرض عن تعهّده الأوّل وتصوّر جامعا يشمل الأوّل والثاني فوضع اللفظ بنحو الوضع العامّ الموضوع له الخاصّ.

وإمّا القول بتعدّد الواضع كما نقل عن جرجي زيدان المؤرّخ الشهير : أنّ منشأ وقوع الاشتراك في لغة العرب هو ضمّ لغات القبائل بعضها إلى بعض ، فافهم.


في جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى وعدمه

ولا يخفى أنّ الكلام لا يخصّ المشترك بل هو بالنسبة إلى استعمال اللفظ في المعنيين الحقيقيّين والمجازيّين والمعنى الحقيقي والمجازي.

وقد ذهب صاحب الكفاية قدس‌سره (١) إلى الاستحالة بدعوى كون اللفظ وجودا تنزيليّا للمعنى ، وكون الألفاظ غير ملحوظة في مقام الاستعمال الدالّة ، بل قد تكون غير ملتفت إليها أصلا ، وحينئذ فاستعمالها في معنيين يوجب أن يلحظ اللفظ بلحاظين آليّين وهو محال.

ولا يخفى أنّه لو كان الأمر حقيقة كما ذكر للزم القول بالاستحالة ولكن اللفظ ليس غير ملحوظ الدلالة ، نعم قد يتّفق أنّ الإنسان لا يلتفت إلى لفظه في مقام الاستعمال لكنّه ليس دائميّا ، بل اللفظ في مقام الاستعمال ملحوظ استقلالا ، كما نشاهده كثيرا بالنسبة إلى الخطباء والشعراء ؛ فإنّ الخطباء يعنون بكلامهم حتّى لا يصدر منه الألحان والمخالفات للقواعد العربيّة وللفصاحة والبلاغة. والشعراء لو لا اعتناؤهم بالألفاظ لما تكوّنت القصائد والأشعار.

وبالجملة ، فبناء على ما ذكرنا من أنّ الوضع هو التعهّد لا مانع من أن يجعل المبرز لتعهّدين لفظا واحدا ويتعلّق اللحاظان بالمعنيين المبرزين ، فلا يتعلّق لحاظان بملحوظ واحد أصلا.

وبالجملة ، فلا ثمرة في هذا المبحث ، فإنّ استعمال اللفظ في أكثر من معنى إنّما يكون مع القرينة ، ومعها لا بدّ من تصوير جامع قد استعمل اللفظ فيه إن قلنا بالامتناع ، وإلّا فالمحقّق عندنا هو الجواز.

بقي الكلام فيما ذكره صاحب الكفاية (٢) من الروايات الدالّة على أنّ للقرآن سبعة أبطن أو سبعين بطنا ، فقد ذكر صاحب الكفاية أنّه يمكن أن يكون المراد بها

__________________

(١) كفاية الاصول : ٥٣.

(٢) المصدر : ٥٥.


معاني اريدت بإرادات مستقلّة عند النطق بهذا اللفظ ، فلا تكون من قبيل استعمال المشترك في معنييه.

ولكنّ الإنصاف أنّه لا يمكن تفسير البطون بما ذكره ، فإنّ باطن اللفظ ما له نسبة إليه ، وإرادة اللوازم الأجنبيّة لا نسبة لها إلى نفس اللفظ.

نعم ، لو وجد مثل ذلك في الأخبار لم يبعد أن يكون المراد : اللوازم التي لا تظهر لكلّ ناظر إلى القرآن ، كما إذا قال القائل : إنّ زيدا أكل عشر حبّات من الحبّ الفلاني مثلا ، فالعالم بخاصيّة ذلك الحبّ يعلم بأنّ زيدا قد مات ، وغير العالم لا ينتقل إلى مدلول اللفظ ، أمّا مثل هذه اللوازم فلا. ولا بدّ أن يكون الكتاب الإلهي المشتمل على علم ما كان وما يكون وما هو كائن مشتملا على مثل هذه اللوازم التي لا تظهر لنا ، وإنّما تظهر لمن خوطب به ؛ ضرورة أنّ الاطّلاع على لوازم الكتب العادية لا يحصل لكلّ أحد مثل فرائد الشيخ قدس‌سره فكيف بكتاب الله.

وممّا يؤسفنا جدّا أنّا لم نجد أخبارا بلسان سبعة بطون أو سبعين بطنا فيما وجدناه من الأخبار (١) ، وإنّما وجدنا : أنّ للقرآن ظهرا وبطنا وظاهرا وباطنا (٢) ، وقد فسّر في حديث أهل البيت الظهر والظاهر بما يعرفه أهل اللسان ، والباطن بكونه موعظة للبشر وعبرة للخلق (٣) ، كما ورد أنّ له تفسيرا وتأويلا (٤).

وبالجملة ، فهذا كلّه أجنبيّ عن استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، فافهم.

__________________

(١) انظر تفسير الصافي ١ : ٢٨ ، وتفسير الميزان ١ : ٧ ، وكتاب الأربعين للماحوزي : ٢٨٠ ولكن لم نجد ذلك في المصادر الأولية.

(٢) انظر البحار ٩٢ : ٧٨ ـ ١٠٦.

(٣) المصدر السابق.

(٤) الوسائل ١٨ : ١٤٥ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٧ وغيره.



في المشتقّ

لا ريب في أنّ استعمال المشتقّ بلحاظ حال التلبّس حقيقة مطلقا ، سواء كان حال التلبّس سابقا على حال النطق ، أم كان متأخّرا عنه ، أم كان النطق حاله. كما لا ريب في كون المشتقّ مجازا فيمن لم يتلبّس بعد بالمبدإ بعلاقة الأوّل.

وإنّما الكلام في كونه حقيقة في خصوص حال التلبّس أم في الأعمّ منه ومن انقضى عنه المبدأ ، ذهب إلى الأوّل عموم الأشاعرة ، وإلى الثاني عموم المعتزلة. وقبل الخوض في المبحث على نحو الإجمال نقدّم مقدّمة ، ولا نطيل الكلام في هذا المبحث ؛ لعدم فائدة مهمّة مترتّبة عليه.

فنقول ومنه الاستعانة : إنّ جميع المحمولات المحمولة على الموضوعات لا تخلو عن أقسام خمسة :

الأوّل : المحمولات التي بها قوام الذات كلّا أو بعضا ، كما في حمل الذاتيّات في باب الكلّيات على الذات ، كما في حمل حيوان أو ناطق أو هما على الإنسان فتقول : الإنسان حيوان ناطق أو حيوان أو ناطق.

الثاني : حمل الذاتي في باب البرهان على الذات ، ويسمّى بالخارج المحمول ؛ ضرورة أنّه خارج عن الذات ، وحيث إنّ تصوّر الذات وحدها كاف في حمل هذا المحمول عليها ، كما في حمل الإمكان على الإنسان ، فإنّ صفة الإمكان صفة خارجة


عن الإنسان ولكن نفس تصوّره كاف في حملها عليه ، ضرورة أنّه لو كان صفة الإمكان بواسطة أمر خارج لكان بحسب ذاته واجبا أو ممتنعا وهو محال.

الثالث : المحمول بواسطة الأمور الخارجيّة ، وهي إمّا أن تكون بواسطة عرض من الأعراض له وجود حسّي يدرك بحسب الحواسّ ، كما في البياض ، فإنّه عارض وله وجود حسّي في قبال معروضه ، فإنّ البياض له وجود غير وجود الجسم.

الرابع : العارض بواسطة أمر خارجي هو منشأ الانتزاع ، كما مثّلوا له في الفوقية ، فإنّ الفوقية أمر انتزاعي ينتزع من كون شيء في محلّ دونه شيء ، فهو بالإضافة إلى ذلك الشيء عالي ؛ ولذا لا يقال عالي من دون إضافة إلى شيء ، كما لا يقال سافل لذلك.

الخامس : ما كان عارضا بواسطة اعتبار المعتبر ، بحيث لا وجود لها مع قطع النظر عن ذلك الاعتبار أصلا ، كما في الزوجيّة والملكيّة والرقيّة والحريّة وشبهها ، فإنّها لو لا اعتبار الزوجيّة لم يكن المحمول محمولا.

أمّا القسم الأوّل فلا ريب في خروجه عن محلّ النزاع للمشتقّ ؛ لعدم بقاء الذات مع نفي ما به قوامها وانقضائه ؛ ولذا لا يقال للتراب إنسان ولو مجازا ، هذا إذا كان جامدا ، وأمّا إذا كان مشتقّا كناطق وحيوان التي هي صفة مشبّهة باسم الفاعل فلا ريب في كون وضع الهيئة لاسم الفاعل يشملهما. وعدم تحقّق بعض أفراد المعنى ، وهو المنقضي عنه المبدأ فيهما على القول بالأعمّ لا يوجب خروجهما عن محلّ النزاع.

نعم فيما كان جامدا حيث لا وضع لهيئته يتمّ الخروج ، فافهم.

وأمّا القسم الثاني فقد ذهب الميرزا النائيني قدس‌سره (١) إلى خروجه أيضا ؛ لعين الوجه الذي خرج به القسم الأوّل ، فإنّ الذات بعد ذهاب الإمكان وانقضائه لا تبقى أصلا حتّى يقع النزاع في كونه حقيقة فيه أو مجاز كما هو واضح.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٧٩.


والإنصاف دخوله في محلّ النزاع ؛ إذ النزاع في هيئة فاعل ، والهيئة موجودة في المقام وإن استحال أحد أفراده على تقدير كونه حقيقة في الأعمّ ، نظير لفظ «غني» أو «عالم» أو «قادر» بالإضافة إلى الله ، فإنّ استحالة كونها ينقضي عنها المبدأ مع بقاء الذات لا يوجب خروجها عن النزاع.

وبالجملة ، الكلام فيما وضعت له هيئة المشتقّ وهي قاعدة عامّة ، واستحالة صدق بعض الموادّ مع انقضاء المبدأ لا يوجب قصر النزاع في غيرها ، فافهم.

وبالجملة ، فهذا القسم مع ما ذكر من المشتقّات من الأوّل مع بقيّة الأقسام وهي الثلاثة المتأخّرة هي محلّ الكلام. ومنه يظهر دخول اسم الزمان في محلّ النزاع ؛ لأنّ هيئته مشتركة بين اسم الزمان والمكان ، فعدم بقاء الزمان بعد انقضاء المبدأ لا يوجب خروج الهيئة عن محلّ النزاع ؛ لأنّها هيئة اسم المكان الممكن فيه تحقّق النزاع.

فمحلّ الكلام المشتقّات الاصطلاحيّة بأسرها والجوامد ممّا كان محمولا بضميمة الأمور الخارجيّة ، بل الكلام في مطلق ما يصحّ حمله وإن كان جامدا. فالجامد إمّا داخل في نفس النزاع أو إنّ حكمه وحكم المشتقّ واحد ، كما يشهد له ما ذكره فخر المحقّقين قدس‌سره (١) فيمن أرضعت زوجته الصغيرة زوجتاه الكبيرتان من أنّ المرضعة الثانية هل تحرم أم لا ، فبناه على مسألة المشتقّ مع كونه من الجوامد.

فيقع الكلام في ذلك ، وقبل الخوض في ذلك نتكلّم في أنّ بحث المشتقّ له ثمرة عمليّة أم أنّه بحث علمي صرف ، فنقول : الظاهر أنّه لا ثمرة له ؛ ضرورة أنّه لو قلنا بأنّه حقيقة في الأعمّ لكان المنصرف من الإطلاقات هو خصوص المتلبّس ، فلو قال القائل : «أكرم العالم» لا يتوهّم أحد وجوب إكرام من كان عالما ثمّ صار جاهلا. وكذا لو قال : «أهن الفاسق» فإنّه لا يتوهّم أحد وجوب إهانة من كان فاسقا ثمّ صار عادلا أصلا.

__________________

(١) إيضاح الفوائد ٣ : ٥٢.


وبالجملة ، فالمدار الظهور وهو متحقّق بالنسبة إلى خصوص المتلبّس.

وأمّا ما ذكره فخر المحقّقين قدس‌سره من مسألة الزوجتين الكبيرتين والصغيرة المرتضعة فممّا لا تبتني على مسألة المشتقّ ، بل لها مبنى آخر نذكره إن شاء الله تعالى ، وبما أنّها مسألة شريفة فقهيّة فلا بأس بالتعرّض لها بشقوقها وبيان حكمها وصورها وذكر الأخبار أيضا.

في الكلام في مسألة الزوجتين والصغيرة الرضيعة

قد ذكر فخر المحقّقين قدس‌سره في من له زوجتان كبيرتان قد ارضعتا زوجته الصغيرة الثالثة ما لفظه : تحرم المرضعة الاولى والصغيرة مع الدخول بإحدى الكبيرتين ، أمّا المرضعة الأخيرة ففي تحريمها خلاف ، فاختار والدي المصنّف رحمه‌الله وابن إدريس تحريمها ؛ لأنّ هذه يصدق عليها أمّ زوجته ؛ لأنّه لا يشترط في المشتقّ بقاء المشتقّ منه ، هكذا هاهنا (١) انتهى.

والظاهر كما أشرنا إليه عدم ابتناء المسألة على مسألة المشتقّ ، بيان ذلك أنّ هذه المسألة تفرض بثلاث صور :

الاولى : أن يفرض عدم الدخول بكلتا الكبيرتين.

الثانية : أن يفرض الدخول بالكبيرة الاولى فقط.

الثالثة : أن يفرض الدخول بالكبيرة الثانية فقط. وقبل الخوض في هذه الصور لا بدّ من ذكر أمرين تمهيدا للمسألة :

الأوّل : أنّ تحريم الجمع بين نكاح امرأتين كما في ما بين الاختين يقتضي بطلان عقدهما معا لو اقترن ، فلو تزوّج بكلتا الاختين في آن واحد ، بأن عقد هو على امرأة ووكيله على اختها في آن واحد بطلا معا ؛ لعدم بقاء الزوجية بالنسبة إلى كلتيهما

__________________

(١) إيضاح الفوائد ٣ : ٥٢.


قطعا ، فلا بدّ من بطلان عقد واحدة منهما معيّنة أو غير معيّنة أو بطلان عقدهما معا ، وحيث إنّ بطلان عقد واحدة بلا تعيين إن اريد به تخيير الزوج فلا دليل عليه ، وإن اريد به واحدة لا بعينها في الواقع فلا وجود لها ، وبطلان عقد واحدة معيّنة ترجيح بلا مرجّح فيبطلان معا حينئذ ، فلو فرضنا أنّ الزوجة وامّها من هذا القبيل لزم بطلان عقدهما معا بانتهاء الرضاع ؛ لعين ما ذكر ، ولكنّ الظاهر أنّ الحرمة ليست بينهما من جهة الجمع.

الثاني من الأمرين : أنّه كما ذكرنا بناء على انصراف المشتقّ إلى المتلبّس كما هو الظاهر لا بدّ من تحقّق عنوان أمّ لزوجة فعليّة وعنوان بنت لزوجة فعليّة ، ولازمه أنّه لو كانت له زوجة وطلّقها وبعد انقضاء العدّة تزوّجها شخص آخر فأولدها بنتا ، لازم ما ذكرنا أنّه يجوز للزوج الأوّل أن يتزوّجها يعني يتزوّج البنت ؛ إذ إنّها ليست بنتا للزوجة الفعلية له ، وكذا لو حدث لها رضاع لبنت بعد مفارقته بلبن غيره ؛ إذ هي ليست بنتا رضاعية لزوجته ؛ إذ قد خرجت هذه عن كونها زوجته ، ولكن هذا لا يلتزم به أحد من الفقهاء ، فالإجماع قائم منهم على أنّ الزوجيّة متى تحقّقت في آن من الآنات حرمت بنتها السابقة على التزويج واللاحقة له ، والظاهر أنّ الزوجة متى تحقّقت زوجيتها حرمت أمّها أيضا السابقة نسبا ورضاعا واللاحقة رضاعا أيضا ، ولا يعقل أن تكون لها أمّ لاحقة نسبا ، فقيام الإجماع دليل على كفاية التلبّس بالزوجيّة آناً ما في تحريم امّها وبنتها نسبا ورضاعا.

إذا عرفت هذين الأمرين فنقول :

أمّا الكلام في الصورة الاولى وهي التي لم يتحقّق فيها دخول أصلا إذا فرضنا الحرمة من باب حرمة الجمع بين الأمّ والبنت كما فيما بين البنتين فالظاهر أنّه لا يكون بينهما إلّا بطلان العقد فقط ؛ لأنّه بمجرّد انقضاء ما يعتبر في الرضاع بطل العقدان معا ؛ لما قدّمنا من استحالة بقائهما والواحد الغير المعيّن لا معنى له والمعيّن ترجيح من غير مرجّح ، ولم تتحقّق زوجيّة مع امومة أو بنتية ؛ لأنّ بمجرّد تحقّق الأمومة والبنتيّة بطل العقدان ، فلم يمض أنّ المرضعة أمّ ولا المرتضعة بنت إلّا وليستا زوجتين.


نعم ، تحقّق الرضاع قبل زوال الزوجيّة رتبة ، فإذا ضممنا إلى ذلك ما ذكرنا في المقدّمة الثانية من كفاية كونها زوجة في آن تحريم ابنتها وأمّها حرمتا معا ، وحرمت الكبيرة الثانية إذا أرضعتها تمام النصاب ؛ لعين الملاك المذكور في تحريم الاولى.

فليس التحريم مستندا إلى الخلاف في المشتقّ ومبنيّا على أن يكون للأعمّ ؛ لأنّ المبنى في التحريم كفاية كونها أمّ زوجة ولو كانت زوجة آناً ما ، فحتّى لو قلنا بأنّ المشتقّ حقيقة في خصوص المتلبّس لقلنا بالتحريم أيضا.

وأمّا إذا قلنا بأنّ التحريم في المقام ليس تحريما من باب حرمة الجمع ـ إذ لا دليل عليه ـ وإنّما الحرمة من جهة المصاهرة فالظاهر حينئذ بطلان عقد المرضعة بمجرّد تمام الرضاع وحرمتها الأبديّة دون المرتضعة ؛ لأنّ مناط تحريم الربيبة هو الدخول بالامّ وهو منتف ، وليس مناط البطلان تحريم الجمع حتّى يبطلا معا ، بل مناط البطلان صدق أمّ الزوجة وهو متحقّق ، فتحرم الأمّ مؤبّدا بعد بطلان عقدها ، وكذا المرضعة الثانية يبطل عقدها وتحرم مؤبّدا لما ذكرناه حرفا بحرف.

أمّا المرتضعة فلا يبطل عقدها ؛ إذ لا موجب لبطلانه أصلا بخلاف المرضعة ؛ إذ إنّها أمّ للزوجة الفعليّة وأمّ الزوجة من المحرّمات الأبديّة ، فتحقّق الرضاع يوجب بطلان عقد أمّ الزوجة ؛ لتحقّق العنوان الذي بسببه يتحقّق التحريم المؤبّد ، بخلاف بنت الزوجة فإنّها لا يتحقّق تحريمها إلّا مع الدخول بالامّ المفروض انتفاؤه في المقام. فصحّة عقد الصغيرة يرفع صحّة عقد الكبيرة ولكن صحّة عقد الكبيرة لا يوجب رفع عقد الصغيرة ؛ إذ لا دخول بالكبيرتين.

الصورة الثانية : أن يفرض الدخول بالكبيرة الاولى فقط فتحرمان معا الصغيرة المرتضعة والكبيرة المرضعة.

أمّا حرمة الصغيرة فلأنّا قد ذكرنا أنّ البنت للزوجة المدخول بها تحرم وإن تحقّقت بعد ذلك نسبا ، كما لو طلّقها الزوج فتزوّجت بآخر فأولدها بنتا فإنّها تحرم


كما دلّت عليه النصوص (١) فتحرم لو تحقّقت لها بنت رضاعية أيضا ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» (٢) فبنت الزوجة المتأخّرة عن زمن زوجيّة امّها محرّمة أبدا أيضا.

وأمّا حرمة الكبيرة فهي وإن كان بمجرّد إكمال الرضاع انتفت الزوجيّة وتحقّقت الأمومة والبنوّة في آن واحد إلّا أنّ هذا المقدار كاف في صدق عنوان أمّ الزوجة فتحرم أيضا.

وأمّا المرضعة الثانية الغير المدخول بها فإذا أكملت الرضاع لا يصدق أنّها أمّ الزوجة الفعليّة ؛ لانتفاء زوجيّة الصغيرة بتمام إرضاع الاولى ، وقد يكون بينهما مدّة ستّة أشهر مثلا أو أزيد فتبتني حرمتها على ما تقدّم من أنّه إن تمّ الإجماع على أنّ أمّ الزوجة محرّمة وإن كانت الامومة الرضاعيّة متأخّرة عن زمن الزوجيّة فتحرم ؛ لأنّها أمّ من كانت زوجة ، وإن لم يتمّ الإجماع فلا تحرم أصلا.

ويتفرّع على ذلك أنّه لو كان متزوّجا لامرأة من غير دخول يجوز له العقد على ابنتها النسبيّة أو الرضاعيّة ، فلو عقد بطل عقد الامّ وثبت عقده على البنت ، وكذا لو اقترن عقدهما يبطل عقد الامّ ويصحّ عقد البنت.

وبالجملة ، فليست المسألة مبتنية على المشتقّ.

وأمّا الصورة الثالثة : وهي ما لو كانت الكبيرة الاولى غير مدخول بها والكبيرة الثانية مدخولا بها فقد ظهر حكمها من أنّ المرضعة الاولى تحرم ؛ لأنّها أمّ الزوجة فيبطل عقدها ، بخلاف البنت فإنّه لا موجب لبطلان عقدها ؛ لأنّ المرضعة لها غير مدخول بها ،

نعم ، إذا ثبت بإجماع أو غيره حرمة الجمع بينهما بطلا معا ؛ لبطلان الترجيح من غير مرجّح ولكنّه لم يثبت ، فيكون ترجيح بطلان المرضعة بمرجّح وهو كونها

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٣٥٠ ، الباب ١٨ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، الحديث ١ و ٣ و ٤.

(٢) الوسائل ١٤ : ٢٨٠ ، الباب الأوّل من أبواب ما يحرم بالرضاع ، الحديث الأوّل.


امّا لزوجة بأحد الأزمنة فتحرم ، ولكن البنت المرتضعة لا تحرم ؛ لعدم الدخول بامّها حسب الفرض ، فهي باقية تحت الزوجيّة ، فلو أرضعتها الكبيرة الثانية حرمتا معا ؛ لفرض الدخول بالكبيرة الثانية فصارت البنت بنتا لزوجة مدخول بها فتحرم لما ذكرنا ويصدق على الكبيرة أنّها أمّ الزوجة عرفا وإن انتفت الزوجيّة عند تحقّق الامومة ، ولكنّ الصدق العرفي كاف في ذلك ، فليست المسألة بشقوقها مبنيّة على النزاع في المشتقّ أصلا ؛ ضرورة أنّه لو قلنا بأنّ المشتقّ حقيقة في الأعمّ فلا أقلّ من انصرافه إلى خصوص المتلبّس وظهوره فيه ، فافهم (*).

الكلام في ما ذكره صاحب الكفاية من اختلاف المبادئ

ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره (١) أنّ مبادئ المشتقّات مختلفة ، فقد يكون المبدأ حرفة وصناعة كما في «نجّار» و «بنّاء» ، وقد يكون المبدأ قوّة وملكة كما في المجتهد بالمعنى الاصطلاحي لا اللغوي ، وقد يكون المبدأ فعليّا كما في «قائم» و «قاعد» ، وزعم أنّ المنقضي بالنسبة إلى ما كان مبدأ فعليّا الانصرام الفعلي ، بخلاف ما كان مبدؤه حرفة

__________________

(*) قد ذكر أستاذنا في دورته الأخيرة (١٣٨٣ ه‍) تبعا لبعض المحقّقين ـ انظر أجود التقريرات ١ : ٨٠ ـ ٨١ ـ : أنّ الصغيرة تحرم مطلقا لما دلّ ـ راجع الوسائل ١٤ : ٣٥٠ ، الباب ١٨ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ـ على تحريم بنت الزوجة المدخول بها مطلقا وأمّا الزوجة الثانية الكبيرة والأولى فقد بنى تحريمهما على مسألة المشتقّ ، أمّا الثانية فواضح ، وأمّا الاولى فلأنّ زمان زوال الزوجيّة وزمان انتهاء الرضاع المحرّم هو زمان تحقّق الأميّة والبنتيّة ، فلم تصر الزوجة الكبيرة أمّ الزوجة الصغيرة إلّا وقد صارت الصغيرة بنت الزوجة الكبيرة ، فلم ترضع الكبيرة زوجته الصغيرة الفعليّة بل من كانت زوجته ، غايته أنّه في الثانية واضح جدّا وفي الاولى بتأمّل.

(١) كفاية الاصول : ٦٢.


وصناعة ، فإنّ انقضاء مبدئه بالإعراض عن ذلك ، كما أنّ ما كان مبدؤه قوّة ، الانقضاء فيها بذهاب تلك القوّة والملكة.

وما ذكره في لفظ «مجتهد» صحيح ؛ فإنّ الظاهر أنّ معناها الاصطلاحي هو واجد الملكة فإذا انقضى وجدانه للملكة انتفى عنه المبدأ وانقضى ، إلّا أنّ منشأ ما ذكره ليس اختلاف المبادئ ؛ إذ يلزم على ذلك أن يكون استعمال تلك المبادئ مثل لفظ بنى يبني مثلا مجازا في الفعل الخارجي وكذلك نجر ينجر مثلا وصاغ يصوغ ؛ ضرورة عدم استعمال ذلك المبدأ في الحرفة والصناعة ، أو يلتزم بالاشتراك في المبدأ.

والظاهر أنّ المبدأ في الجميع بمعنى واحد وإنّما نشأ الاختلاف المذكور من الهيئات ، فمثل نجّار وبنّاء بما أنّها من أمثلة المبالغة فمعناها من يتكرر منه ذلك العمل بكثرة ، وهذا المعنى منه موجود بالفعل ما دام لم يعرض ، والمادّة موضوعة لهذا العمل بإطلاقه ، ومثل مفتاح مثلا بما أنّه نسبة الفعل إلى اسم الآلة فلا بدّ من كونه اسم آلة بالفعل ؛ ولذا لو انكسر سنّ من أسنانه لا يصدق حينئذ اسم الآلة فلا تكون نسبة الفعل إلى اسم الآلة.

وأمّا مثل قاضي مثلا وأشباهه فإنّما اخذ فيه القضاوة الشأنيّة فمبدؤه القضاوة الشأنيّة فلا ينافي صدقها اشتغاله بالأكل أو الشرب أو الصلاة ، وكذا الحاكم مثلا فإذا عزل عزلا خارجيّا كما في عزل السلطان أو عزلا إلهيّا كما إذا فسق مثلا فالقضاوة الشأنيّة قد انقضت عنه ، فقد أخذ في مثل هذه المبادئ الشأنيّة ، فالمادّة فيها موضوعة للمادّة المنتسبة بأيّ نحو كان تلبّسه بذلك المبدأ ، فالاختلاف فيها في أنحاء التلبّس لا في المبدأ أصلا ، فإنّ نحو التلبّس بهذا المبدأ هو بنحو الشأنيّة كما أنّه في غيرها بنحو الفعليّة ، فافهم فإنّه دقيق.


ثمّ إنّه قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ النزاع يجري في جميع المشتقّات وبعض الجوامد وهي الغير المنتزعة عن مقام الذات ، إلّا أنّ الميرزا النائيني قدس‌سره (١) ذكر خروج اسم الآلة مثل مفتاح ومقراض ؛ لأنّه لا يعتبر في صدقه التلبّس أصلا بل يصدق مفتاح وإن لم يفتح به أصلا. ولا يخفى عليك ما فيه ؛ فإنّ صدق النسبة الآن لأنّه نسبة الفعل إلى آلة الفتح وكونها آلة الفتح متحقّقة بالفعل وإن لم يفتح به أصلا.

كما أنّه قد ذكر قدس‌سره (٢) خروج اسم المفعول فإنّه بعد وقوع الفعل عليه خارجا لا ينقلب عمّا وقع عليه ، فلا يتصوّر فيه الانقضاء حتّى يقال إنّه حقيقة في خصوص المتلبّس أو في الأعمّ منه ومن المنقضي عنه المبدأ. ولا يخفى عليك غرابة صدور مثل هذا من قلمه الشريف ؛ لأنّ الضارب خارجا أيضا لا ينقلب عمّا وقع عليه ؛ فإنّه من صدر منه الضرب وهو لا يتصوّر فيه الانقضاء وكذا جميع المشتقّات.

وثانيا أنّ ضارب ومضارب لم يوضعا لمن وقع عليه الضرب في الخارج ومن صدر منه الضرب في الخارج ، بل هما موضوعان لمفهوم كلّي ينطبق ذلك المفهوم الكلّي على أفراده ومصاديقه الخارجيّة ، وإلّا فليس الصدور في الخارج أو الوقوع عليه في الخارج ممّا اخذ جزءا لمفهوم المعنى ، فالظاهر أنّ جميع المشتقّات داخلة ، فافهم.

في المراد من الحال في العنوان

ذكر الآخوند قدس‌سره (٣) أنّ المراد بالحال هو حال التلبّس لا حال النطق ، واستشهد على ذلك بأنّ قولنا : «كان زيد قائما أمس ، وسيكون قائما غدا» حقيقة بلحاظ اتّحاد زمان النسبة والتلبّس ، ولو اريد من الحال حال النطق لزم كون الثاني مجازا قطعا

__________________

(١ و ٢) أجود التقريرات ١ : ١٢٣ ـ ١٢٤.

(٣) كفاية الاصول : ٦٢.


والأوّل داخلا في محلّ النزاع وليس كذلك. ثمّ قال : ولا ينافيه الاتّفاق على أنّ زيد ضارب غدا مجازا ؛ لإمكان كون الحمل عليه بالفعل بلحاظ كونه ضاربا غدا وكون غدا قرينة عليه. ثمّ ذكر بعد ذلك أنّ زيد قائم غدا وكان زيد قائما حقيقة إذا كان زيد متّصفا بالقيام غدا في الثاني وإذا اتّصف بالقيام في الأوّل.

ولا يخفى ما في كلامه من التشويش ، أمّا أوّلا : فلأنّ ما زعمه من الاتّفاق على أنّ زيد ضارب غدا مجاز ليس كذلك ؛ إذ لا اتّفاق وإنّما ذكره العضدي (١) ، ولا يخفى أنّه إن اريد منه حال التلبّس كان حقيقة وإن اريد منه كون الحمل بالفعل وكون غدا قرينة على المجازيّة فلا ريب في بطلانه وكونه غلطا ؛ إذ أيّ معنى لكون الحمل بالفعل وكون غدا قرينة على أنّ الحمل بالفعل بلحاظ أنّه مشارف للتلبّس غدا؟ إذ لا بدّ من مناسبة بين القرينة وبين ذي القرينة ، ولا مناسبة بين الحمل الفعلي وكون غد قرينة عليه.

وثانيا : أنّ ما ذكره من كون الحمل في قولنا : «كان زيد قائما ، وسيكون قائما» حقيقة إذا كان متلبّسا به في الماضي أو إذا تلبّس به في المستقبل غير تامّ أيضا ؛ لأنّ التلبّس من زيد فيما مضى أو يأتي يوجب صدق القضيّة ، وعدمهما يوجب كذبها ، لا أنّ التلبّس يوجب الحقيقة وعدمه يوجب المجاز كما هو ظاهر كلامه قدس‌سره ؛ إذ الألفاظ إنّما وضعت لمفاهيمها المطلقة ولم توضع لمفاهيمها المقيّدة بالوجود ؛ إذ الوجود والعدم أجنبيّ عن مدلول الألفاظ.

ولا يخفى أن المعنى للمشتقّ يكون هو المفهوم الذي لو وجد فرده في الخارج كان فرده خصوص المتلبّس أو الأعمّ ، فإذا استعمل اللفظ في ذلك المفهوم كان حقيقة قطعا وإن لم يوجد فرده ؛ إذ الحقيقة هو استعمال اللفظ فيما وضع له ، فإذا فرضنا أنّ المشتقّ حقيقة في خصوص المتلبّس والمتكلّم أطلقه على ذلك

__________________

(١) شرح المختصر ١ : ٥٨.


المفهوم لكنّه أسند ذلك المفهوم إلى زيد وكان كاذبا في إسناد ذلك المفهوم إلى زيد لا يكون الاستعمال مجازا بل هو حقيقة ، غير أنّ القضيّة كاذبة كما إذا قال : جاء زيد وكان الجائي عمرا ، فقد استعمل لفظ زيد في معناه ولكنّه كان كاذبا قطعا ، ومنشأ هذا الكلام كلّه هو أخذ لفظ الحال في مفهوم المشتقّ ، ولو أنّه عبّر هكذا : هل المشتقّ حقيقة في خصوص المتلبّس أو في الأعمّ منه ومن المسبوق بالتلبّس؟ لسلم من هذا كلّه ، فافهم.

في تأسيس الأصل في المشتقّ

أمّا في المسألة اللغويّة فلا أصل. يعني إذا أقمنا أدلّة على كون المشتقّ حقيقة في خصوص المتلبّس أو أقمنا أدلّة على كونه حقيقة في الأعمّ منه ومن المسبوق فلا كلام ، وإن شككنا في كلّ من القولين فهل هناك أصل يرجع إليه؟ الظاهر أنّه في المسألة اللغويّة لا أصل.

وأصالة عدم الخصوصيّة غير تامّة ، أوّلا : لأنّ كلّا من الوضع لخصوص المتلبّس أو الأعمّ حادث يشكّ فيه والأصل عدمه فيتعارض الأصلان.

وثانيا : أنّ العموم هو لحاظ القيد ورفض دخله كما ذكرناه مرارا في الإطلاق من أنّه رفض القيود ، فالعموم أيضا يحتاج إلى ملاحظة الخصوصيّة وإلغائها كما يحتاج الوضع لخصوص المتلبّس إلى ملاحظته واعتباره.

وثالثا : أنّه أصل مثبت ؛ إذ عدم ملاحظة الخصوصيّة يستلزم ملاحظة العموم عقلا ، فهو مبنيّ على حجيّة الأصل المثبت وقد ذكرنا عدم حجيّته ، فافهم.

بقي الكلام في الأصل العملي ، وقد ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره (١) اختلافه باختلاف الموارد ، فإن ورد الحكم وقد انقضى المبدأ عن الذات فمقتضى الأصل العملي هو

__________________

(١) كفاية الاصول : ٦٣ ـ ٦٤.


البراءة من التكليف ؛ للشكّ في تعلّق التكليف بما زاد على المتلبّس فتجرى البراءة عنه ؛ لقبح العقاب من غير بيان ولرفع ما لا يعلمون.

وإن ورد الحكم والذات متلبّسة بالمبدإ ثمّ انقضى بعد ذلك فأراد العبد الامتثال فمقتضى الاستصحاب تعلّق الحكم حينئذ.

ولا يخفى أنّ ما ذكره في الشقّ الأوّل من إجراء البراءة متين لا كلام لنا فيه ، إلّا أنّ ما ذكره من إجراء الاستصحاب فلو سلّمنا جريان الاستصحاب في الأحكام الكليّة إلّا أنّ استصحاب الحكم هنا لا يجري ؛ إذ يحتمل كون الحكم متعلّقا بعنوان العالم لا بالذات ، وحينئذ فبقاء الموضوع مشكوك ؛ إذ لو كان المشتقّ حقيقة في خصوص المتلبّس لكان الموضوع الذي تعلّق به الحكم مرتفعا قطعا ، ولو كان حقيقة في الأعمّ من المتلبّس والمنقضي لكان الموضوع باقيا ؛ إذ لو كان الموضوع هو الذات لكانت باقية ، أو العنوان لكان منتفيا ، وحينئذ فيكون المورد شبهة مصداقيّة لقوله : لا تنقض اليقين بالشكّ (١) ، وحينئذ فلا يجري الاستصحاب ؛ لأنّ إحراز الموضوع شرط فيه. هذا إن اريد استصحاب الحكم كما هو ظاهر كلام صاحب الكفاية أو صريحه.

وإن أراد استصحاب الموضوع كما يستصحب لو شكّ في انتفاء العالميّة عن العالم عالميّته فيرد عليه أوّلا : أنّ هذا يجري في الفرض الأوّل ، فكيف اجريت البراءة مع استصحاب الموضوع؟

وثانيا : وهو الحلّ أنّه ما ذا يستصحب؟ فإنّ الذات باقية قطعا فلا معنى لاستصحابها ، والعنوان منتف قطعا فلا معنى لاستصحابه ، وصدق العالم عليه الذي كان قبل ذلك لا معنى أيضا لاستصحابه ؛ لأنّ الشبهة فيه في مفهوم العالم وإنّ مفهومه بأيّ مقدار من السعة.

__________________

(١) انظر الوسائل ١ : ١٧٥ ، الباب الأوّل من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث الأوّل.


وقد ذكرنا فيما تقدّم أنّه لا معنى لاستصحاب الصدق إذا كانت الشبهة مفهوميّة ، كما في المغرب الذي يشكّ في مفهومه أنّه سقوط القرص أو ذهاب الحمرة المشرقيّة ، فإنّ سقوط القرص معلوم وعدم ذهاب الحمرة المشرقيّة أيضا كان معلوما والمغرب لا يخرج عنهما ، فأيّ معنى حينئذ لاستصحاب عدم المغربيّة؟

وبالجملة ، فالاستصحاب إنّما يجري حيث يشكّ في وجود شيء كان معدوما أو انعدام شيء كان موجودا وفي الشبه المفهوميّة ليس شيء من ذلك ، فالظاهر جريان البراءة في كلتا الصورتين ، فافهم.

في أدلّة الطرفين

الظاهر كما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (١) كون تشعّب الأقوال المفصّلة بين المحكوم عليه وبه ، والمفصّلة بين بعض المشتقّات وبعض ، وبين مبادئ بعضها ومبادئ البعض الآخر حادثا بين المتأخّرين بعد أن كانت المسألة ذات قولين بين المتقدّمين : كونه حقيقة في خصوص المتلبّس وإليه ذهب عموم الأشاعرة ، أو الأعمّ وإليه ذهب المعتزلة ، والحقّ هو الأوّل وفاقا للأشاعرة.

والدليل على ذلك هو التبادر ، ولا يخفى أنّ التبادر في وضع الهيئات أمر يمكن إثباته بسهولة بخلاف التبادر في الوضع الشخصي ؛ وذلك لأنّ الوضع الهيئي لا يخصّ لغة خاصّة بل يعمّ سائر اللغات ، فيكون دعوى التبادر فيه سهلة الإثبات بالرجوع إلى أيّ لغة شاء وملاحظتها ، وهذا بخلاف الوضع الشخصي مادّة فإنّه يختصّ بتلك اللغة دون غيرها.

وبالجملة فالمتبادر لكلّ من أنصف نفسه ولم يتعصّب هو خصوص المتلبّس بالمبدإ وإن اختلفت أنواع التلبّس كما تقدّم.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٦٤.


كما أنّه يصحّ الاستدلال بصحّة السلب عن المنقضي عنه المبدأ ، وهذا الدعوى أيضا سهلة الإثبات ؛ لما تقدّم من كون الوضع النوعي لا يختصّ بلغة دون لغة. وهذان الدليلان يعني التبادر لخصوص المتلبّس وعدم صحّة السلب عنه ـ بناء على ما اختاره المحقق الشريف (١) والدواني (٢) وجملة من المتأخّرين منهم الميرزا قدس‌سره (٣) من بساطة مفهوم المشتقّ وأن لا فرق بينه وبين المبدأ إلّا بالاعتبار يعني اعتبار اللابشرطية وبشرط لا كما سيأتي ـ في غاية الوضوح ؛ إذ المفهوم البسيط ينتفي بانتفاء المبدأ وإن بقيت الذات ، وأمّا بناء على التركيب وأنّ معنى المشتقّ الذات المبهمة المتّحدة مع القيام مثلا فكذلك ؛ لأنّ المبدأ هو الركن الموجب لتحقّق الاتّحاد مع المبدأ وبانتفائه لا يتحقّق ذلك. فقد ظهر أنّ دعوى تبادر خصوص المتلبّس وعدم صحّة السلب عنه على كلا التقديرين.

وربّما يقال : إنّ التبادر مفقود وأمّا هذا فهو انصراف إلى بعض أفراد الحقيقة ، فلا يحقّق انحصار المعنى الحقيقي بخصوص المتلبّس.

وجوابه أوّلا : أنّ المقصود لنا ـ كما مرّ مرارا ـ هو انعقاد ظهور اللفظ في معنى ، فمع تحقّق الانصراف ينعقد الظهور ، ولا أثر يترتّب على معرفة خصوص ما وضعه الواضع الأوّل في لغة العرب.

وثانيا : أنّ استعمال المشتقّ في المنقضي كثير جدّا ، غاية الأمر كما أنّ القائل بالوضع لخصوص المتلبّس يدّعي أنّها مستعملة بلحاظ حال التلبّس ، والأعمّي يدّعي أن لا فرق بين الاستعمال بلحاظ حال التلبّس أو الأعمّ ، فما هو الموجب حينئذ لانصراف خصوص المتلبّس.

__________________

(١) نسبه إليه في بدائع الأفكار : ١٧٤ عن حواشيه على شرح المطالع.

(٢) لم نقف عليه.

(٣) أجود التقريرات ١ : ٩٧ ـ ٩٨.


وبالجملة فمدّعي الانصراف إن سلّم أنّ اللفظ حقيقة في خصوص المتلبّس فهو وإلّا فيسأل ما هو سبب الانصراف مع عدم الفرق بموجب دعواه بين الاستعمال في خصوص الصحيح أو الأعمّ.

بل يمكن أن يقال : إنّ تصوير جامع بين المتلبّس والمنقضي لا يمكن أصلا فيستحيل القول بالوضع للأعمّ من المنقضي والمتلبّس ، بيان ذلك ـ وهو الذي اختاره الميرزا النائيني قدس‌سره وبنى عليه هو استحالة الجامع بين المتلبّس بالمبدإ والمنقضي عنه ـ أمّا على البساطة في مفهوم المشتقّ فواضح ؛ إذ لا فرق بينه وبين المبدأ إلّا باعتبار المبدأ بشرط لا واعتبار المشتقّ لا بشرط من حيث الحمل وعدمه ، فمع انقضاء المبدأ لا يبقى شيء حينئذ موجودا ، بخلافه في المتلبّس فالمبدأ موجود ولا جامع بين الموجود والمعدوم.

وأمّا على القول بالتركيب فلا جامع بين المنقضي عنه المبدأ والمتلبّس به إلّا مفهوم الزمان وقد ذكرنا أنّ الاسم لا يدلّ على الزمان ، فالقول بكون المشتقّ حقيقة في الأعمّ من المتلبّس بالمبدإ في الحال ومن انقضى عنه المبدأ لا بدّ له من القول بالاشتراك اللفظي وتكرّر الوضع لهذا مرّة ولذاك اخرى ، وإلّا فالجامع لا يمكن تصوّره.

أقول : أمّا ما ذكره من استحالة الجامع على البساطة بالمعنى الذي ذكره منها فصحيح إلّا أنّ البساطة بالمعنى الذي ذكره أمر موهوم كما سيأتي. وأمّا على التركيب فالاسم لا يدلّ على الزمان لا أنّه يستحيل دلالته عليه ، فلو فرض التصريح بوضعه للزمان صحّ ، على أنّا نتمكّن من أخذ عنوان ينطبق على المتلبّس بالمبدإ والمنقضي عنه ، بأن يوضع اللفظ في عالم مثلا (١) أو ضارب لمن قلّب صفحة عدم الضرب إلى صفحة وجوده ، ولو لم يمكن فالوضع لمفهوم أحدهما وهو الجامع الانتزاعي كاف كما تصوّرناه في وضع المشترك ، فيتصوّر المتلبّس مع المنقضي ويضع اللفظ لمفهوم أحدهما.

__________________

(١) كذا في الأصل.


في أدلّة القول بالأعمّ

ذهب العدليّة إلى كون المشتقّ حقيقة في الأعمّ من المتلبّس بالمبدإ والمنقضي عنه المبدأ وقد استدلّ بامور :

الأول : التبادر.

ولا يخفى عليك ما فيه : أوّلا : لأنّه لا جامع بين المتلبّس والمنقضي كما تقدّم فأيّ شيء يتبادر؟

ولو سلّمنا تصوير الجامع إلّا أنّ المتبادر ـ كما ذكرنا ـ هو خصوص المتلبّس ، ولذا اعترف القائل بكون الوضع للأعمّ بالانصراف إلى خصوص المتلبّس.

الثاني : عدم صحّة السلب عمّا انقضى عنه المبدأ ، فإنّ عدم صحّة السلب علامة للحقيقة.

والجواب : أنّ صحّة السلب ممّا لا تنكر قطعا ، فإنّ من كان نائما فانتبه يصحّ أن يقال : ليس بنائم ، نعم سلب النوم عنه حتّى في الزمن الماضي ـ فيقال : إنّه ليس بنائم في جميع الأزمنة أو في خصوص الزمان الماضي ـ لا يصحّ ، وأمّا سلب النوم عنه فعلا فأمر لا يمكن إنكاره.

الثالث : كثرة استعمال المشتقّ فيما انقضى عنه المبدأ ، فإذا فرض كونه حقيقة في خصوص المتلبّس لزم كثرة المجاز فلا بدّ من القول بالأعمّ.

وجوابه أوّلا : أنّ كثرة المجاز ليس محذورا بعد ما قيل : إنّ أكثر محاورات العرب مجازات.

وثانيا : أنّ المجازيّة إنّما تلزم لو علم أنّ استعماله في المنقضي كان بلحاظ حال النطق ، أمّا لو كان بلحاظ حال التلبّس فهو حقيقة وكلا الأمرين محتمل ، وانصراف الحمل إلى الحمل الفعلي وإن كان مسلّما إلّا أنّ القرينة ترفع ذلك الانصراف الناشئ من الإطلاق ، فإنّ الصبيان كانوا يشيرون إلى عمر بن سعد


وهو مثلهم صبيّ فيقولون : هذا قاتل الحسين عليه‌السلام مع كون الحسين حينئذ حيّا يرزق ، فحياة الحسين حينئذ أمارة كون الاستعمال بلحاظ حال التلبّس وكذا إطلاق «قاتل» عليه بعد ذلك.

وربّما توهّم بعضهم أنّ من ذلك : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما)(١) ، (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ)(٢) فزعم أنّ صدق السارق والزاني مبنيّ على القول بالأعمّ ، وليس كما توهّم ؛ ضرورة أنّ الشارع المقدّس علّق وجوب القطع على صدق السارق لا أنّه علّق القطع بذلك ، والوجوب متحقّق حال السرقة والزنا وإن تأخّر الامتثال والتنفيذ ، والقطع حال السرقة كالجلد حال الزنا إمّا غير ممكن أو فرد نادر فلا يمكن أن يكون هو المنظور فيها ، نعم بالنسبة إلى جملة من المشتقّات يكون الحكم دائرا مع المبدأ كما في قوله : اجتنب النجس ، ولكن جملة اخرى منها لم يعلّق الحكم فيها على المبدأ الفعلي بقرينة كما في موردنا ، فإنّ عدم إمكان التنفيذ حال السرقة والزنا قرينة على ما ذكرنا.

الرابع : استدلال الإمام عليه‌السلام على عدم لياقة الثلاثة لمنصب الإمامة الرفيع بقوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (٣) بتقريب أنّهم لم يكونوا عابدين للوثن ظاهرا حال التصدّي للخلافة ، فالاستدلال لا يتمّ إلّا على القول بكون المشتقّ حقيقة في الأعمّ.

وردّه الفخر الرازي (٤) بكون المشتقّ حقيقة في خصوص المتلبّس.

والتحقيق أن يقال : إنّ استدلال الإمام عليه‌السلام ليس مبنيّا على القول بالأعمّ ليورد عليه الفخر الرازي ، بل إنّ كلامه يشير إلى شيء ذكره المتكلّمون في كتبهم من أنّ العصمة وإن لم تكن معتبرة قبل النبوّة والإمامة إلّا أنّ عدم ارتكاب ما يوجب خسّة

__________________

(١) المائدة : ٣٨.

(٢) النور : ٢.

(٣) الكافي ١ : ١٧٤ ـ ١٧٥ ، الحديث الأوّل ، وبحار الأنوار ٢٥ : ١٩٩ ـ ٢٠٠ ، الحديث ١٠.

(٤) التفسير الكبير ٤ : ٤١ ـ ٤٢.


النفس ومهانتها معتبر قبل زمان النبوّة والإمامة لئلّا تنفر عنه الطباع ، فلا يصدّق فيما يقول ، بل يقول له الناس إنّك بالأمس كنت تفعل كذا ، فهو عليه‌السلام في مقام بيان أنّ من أشرك بالله آناً ما الذي هو أخسّ الرذائل وأمهن المنفّرات عنه لا يليق لأن يكون منصوبا من قبل الله في ذلك المقام الإلهي الرفيع.

وليس الاستدلال في المقام مبنيّا على كون المشتقّ حقيقة في خصوص المتلبّس أو الأعمّ منه ومن المنقضي ، بل لو قلنا بأنّ المشتقّ حقيقة في خصوص المتلبّس أيضا يتمّ الاستدلال ؛ لأنّ القضيّة في المقام حقيقيّة وهي محمولة على الموضوع على تقدير وجوده ، فافهم وتأمّل.

تنبيهات

[التنبيه] الأول : [مفهوم المشتق]

ذكر جمع من المنطقيّين أنّ المنطق ترتيب امور معلومة لتحصيل أمر مجهول فأشكل على ذلك بعضهم (١) بأنّ تحصيل المجهول لا يتوقّف على امور ، بل قد يفيده أمر واحد كما يقال في جواب السؤال عن أنّ الإنسان ما هو؟ : ناطق فإنّ ناطق واحد وبه يحصل المجهول.

وقد أجاب صاحب شرح المطالع (٢) بأنّ «ناطق» مركّب من شيئين ، فإنّ معناه : شيء له النطق.

وأشكل السيّد الشريف (٣) بأنّه إن اريد من الشيء مفهومه لزم دخول العرض العام في الفصل ، وإن اريد مصداقه لزم انقلاب الممكنة إلى ضرورية ، فإنّ ثبوت الشيء لنفسه ضروري وكلاهما باطل.

__________________

(١) انظر شرح المطالع : ١١.

(٢) انظر المصدر المتقدّم.

(٣) نقل عنه في حاشيته على شرح المطالع.


وقبل الخوض في ذلك لا بدّ من بيان معنى البساطة والتركيب اللذين هما محلّ الكلام فنقول :

المراد من التركيب أنّه بالتحليل العقلي ينحلّ إلى أكثر من شيء واحد.

والمراد من البساطة عدم الانحلال حتّى بالتعمّل العقلي إلى شيئين ، بل لا يتصوّر منه إلّا ما يتصوّر من إطلاق لفظ المبدأ غير أنّ بينهما فرقا اعتباريّا كما سيأتي ، بخلاف القول بالتركيب فإنّه ينحلّ إلى شيء له المبدأ.

وبهذا ظهر أنّ صاحب الكفاية قدس‌سره وإن عبّر باختيار بساطة مفهوم المشتقّ وظاهر كلامه أوّلا دال عليه إلّا أنّه أخيرا صرّح بأنّ البساطة التي يختارها لا تنافي الانحلال بالتعمّل العقلي (١) وهذا هو القول بالتركيب ، فافهم.

ثمّ إنّ ما ذكره السيّد الشريف في الشقّ الثاني من أنّ أخذ المصداق في مفهوم المشتقّ باطل صحيح لا لأنّه يلزم انقلاب الممكنة إلى ضرورية ، بل من جهة أنّ أخذ الذات في مفهوم المشتقّ يلزم منه :

إمّا الاشتراك في كلّ لفظ من ألفاظ المشتقّات ؛ إذ الذات تارة تكون ذات إنسان ، واخرى ذات جدار ، وثالثة ذات شجر وهكذا ، بل جزئيات الإنسان أيضا كغيره غير متناهية فنحتاج الوضع الغير المتناهي ؛ لتباين الذوات.

وإمّا القول بأنّ المشتقّ موضوع بالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ وليس كذلك قطعا ؛ إذ صدق القائم على الأفراد كصدق الإنسان على أفراده. هذا كلّه على تقدير صحّة ما ذكره صاحب الفصول قدس‌سره (٢) فهذا الشقّ باطل.

بقي الكلام في الشقّ الأوّل وهو أخذ مفهوم الشيء في المشتقّ ، وقد اورد عليه بثلاث إيرادات :

__________________

(١) كفاية الاصول : ٧٠ ـ ٧٤.

(٢) راجع الفصول : ٦١.


أحدها : دخول العرض العامّ في الفصل. وجوابه ما ذكره في الكفاية (١) من عدم كونه فصلا حقيقيّا ، بل هو فصل باصطلاح المنطقيّين الذين يأخذون الأعراض الملازمة للفصل فيجعلونها فصلا ؛ لعدم عثورهم عليه ، بل استحالته كما ذكره بعضهم ؛ لأنّه لا يطّلع عليه إلّا علّام الغيوب ؛ ولذا قد يجعل أمران مكانه كما في الطائر الولود للخفّاش.

وقد ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) أنّه بناء على أخذ مفهوم الشيء فالمحذور هو دخول الجنس في الفصل ، بناء على ما اختاره قدس‌سره من عدم كون مفهوم الشيء عرضا عامّا ، بل هو جنس الأجناس ، وأنّ ما ذكره الفلاسفة من المقولات العشر لا وجه لها ، بل لفظ الشيء بمفهومه جنس الأجناس ، فإذا قلنا إنّ مفهومه داخل في ناطق فيدخل الجنس ـ وهو ما به الاشتراك ـ في الفصل ـ وهو ما به الامتياز ـ وهذا محال ، وكذا إذا قلنا بأنّ ناطق خاصّة ، فإنّ الجنس الذاتي لا يدخل في الخاصّة التي هي عرض خاصّ.

والظاهر أنّه ليس كذلك بل الظاهر أنّ مفهوم الشيء ليس جنسا ؛ لصدقه على الموجود والمعدوم بل لصدقه على ذات الواجب ، وحينئذ فلو كان جنسا لاحتاج إلى ما به الامتياز في الواجب أيضا وهذا محال ، بل مفهوم الشيء من المفاهيم العامّة المبهمة الصادقة كما ذكرنا على وجود الواجب والممكن والممتنع وعلى الماهيّات الاعتباريّة (والانتزاعيّة وعلى الأعراض التسعة وعلى الجوهر ، ولا يعقل الجامع بين الأعراض وحدها فضلا عن انضمام الجوهر إليها فضلا عن انضمام الامور الاعتباريّة والانتزاعيّة ، فافهم) (٣). فهو حينئذ كما ذكره الفلاسفة عرض عامّ.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٧١.

(٢) انظر فوائد الاصول ١ : ١١١ ـ ١١٣ ، وأجود التقريرات ١ : ١٠٢ ـ ١٠٤.

(٣) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات المتأخرة.


(وما ذكره الميرزا : من أنّ العرض العامّ لا بدّ أن يكون خاصّة بالإضافة إلى الجنس الأعلى منه ، صحيح في العرض لا في العارض ، والناطق عارض لا عرض ؛ فإنّ العرض هو النطق ، فتأمّل) (١). ولا يلزم إلّا ما ذكره السيّد الشريف وقد عرفت جوابه.

الثاني : ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) من لزوم كون المشتقّات مبنيّة ؛ لشبهها الحرف بالمعنى ؛ إذ فيها بناء على التركيب شيء له الضحك مثلا فمنتسب ومنتسب إليه ونسبة فيكون الشيء المأخوذ فيه منتسبا إلى المبدأ ؛ إذ لا معنى لأخذه مستقلّا أجنبيّا عن الآخر ، فهو مشابه للحرف في افتقاره إلى النسبة فيلزم أن يكون مبنيّا دائما وهو معرب ، فهذا يدلّ على عدم أخذ الذات فيه.

وجوابه أوّلا : أنّ ما ذكره النحويّون ليس حكما كليّا عقليّا غير قابل للتخصيص ؛ إذ كلّها علل بعد الورود فيجوز أن يكون هذا المشابه خارجا بالتخصيص عن ذلك الحكم الكلّي.

وثانيا : بالنقض بالمصادر فإنّ النسبة التقيّديّة مأخوذة فيه مع كونه معربا.

والحلّ الذي يكون هو الجواب ، ثالثا : أنّ كلام النحويّين فيما كان موضوعا بوضع واحد من حيث المادّة والهيئة ، وهذا بخلاف المقام فإنّ النسبة مستفادة من الهيئة التي هي معنى حرفي فلا يوجب البناء.

الثالث : انقلاب الممكنة إلى ضروريّة في قولك : الإنسان ضاحك ، فإنّ مفهوم شيء له الضحك ينحلّ إلى قضيّتين ضروريّة وممكنة.

وجوابه ما ذكره في الكفاية (٣) من عدم الانقلاب ، فإنّ الشيء المقيّد بالقيد

__________________

(١) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات المتأخرة.

(٢) انظر فوائد الاصول ١ : ١٠٨ ـ ١٠٩ ، وأجود التقريرات ١ : ٩٨.

(٣) كفاية الاصول : ٧٣.


المذكور ليس ضروريّ الثبوت بل قد يكون المقيّد ممتنعا ، وإن خلا عن القيد يكون جائزا كما في قولك : حيوان له الضحك بالنسبة إلى الحمار ، فإنّ حيوان وحدها صادقة وبهذا القيد تكون ممتنعة.

وبهذا يظهر فساد ما ذكره الميرزا النائيني (١) وجعله إيرادا رابعا وهو انقلاب الإدراك التصوّري تصديقيّا ، فإنّه لا انقلاب أصلا بل هو بتركيبه مفهوم إفرادي تصوّري ؛ إذ لا بدّ من ذكر خبر له أو مخبر عنه فتقول : الإنسان ضاحك أو بالعكس ، فافهم.

وبالجملة ، فقد ظهر أن لا محذور من القول بالتركيب بمعنى الانحلال العقلي إلى شيئين ، فيقع الكلام في أنّ هذا الممكن واقع أم لا فنقول : نعم ، الحقّ هو التركيب ، فإنّ ما يفهم من المشتقّ شيء متّصف بالمبدإ ، وما ذكروه من كون المغايرة بينه وبين مبدئه مغايرة اعتباريّة لا وجه لها أصلا ؛ فإنّ اللابشرطيّة والبشرطلائيّة لا توجب هذا التغاير المفهومي لنا ، والمبدأ يستحيل اتّحاده مع الذات المتصفة به خارجا ، فإنّ وجوده غير وجودها ، وكذا كلّ عرض وجوده غير وجود معروضه فكيف يتّحدان حينئذ؟

مع أنّ ما ذكروه في الأعراض ، وليس جميع المشتقّات من الأعراض ، فإنّ المشتقّ قد يكون من الامور الاعتباريّة كالزوجيّة فهل وجودها عين وجود الزوج والزوجة؟ وكالملكيّة فهل وجودها عين وجود المالك والمملوك؟ مضافا إلى شموله للفظ : ممكن وممتنع ، بل هل يتصوّر أحد الاتّحاد بين خلق وخالق فيما كان من صفات الفعل؟ مضافا إلى أنّه لو كان المشتقّ كذلك فهو عند الفلاسفة ، وأمّا العرف لا يفهمون منه إلّا ما ذكرناه ، فافهم.

فالحقّ أنّ مفهومه مركّب بما ذكرنا من معنى التركيب من كونه ينحلّ بالتعمّل العقلي إلى شيء له المبدأ.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٠٠.


التنبيه الثاني : في الفرق بين المشتقّ ومبدئه

قد ذكر الفلاسفة الذاهبون إلى كون مفهوم المشتقّ بسيطا إلى أنّ الفرق بين المشتقّ ومبدئه هو أنّ المشتقّ معتبر بلا شرط من ناحية الحمل ، والمبدأ معتبر بشرط لا أي بشرط عدم صحّة الحمل.

وقد أشكل في الفصول (١) بأنّ العلم لو أخذ بلا شرط أيضا لم يصحّ حمله على الذات أيضا ، فليس التفاوت بينهما بما ذكر ، بل التفاوت بينهما مفهومي.

وقد أجاب صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) بأنّ مرادهم من أخذ المفهوم ليس هو المفهوم الواحد كما هو المتعارف عند إطلاق هذه العبارة ، بل مرادهم أنّ التفاوت بينهما تفاوت ذاتي وأنّ المشتقّ ذاته غير آبية عن الحمل ، بخلاف المبدأ فإنّ ذاته آبية عنه ، واستشهد لذلك بما ذكروه في الفرق بين المادّة والهيولى وبين الجنس وبين الصورة والفصل.

ولا يخفى أنّ ما ذكره صاحب الفصول قدس‌سره متين جدّا ، فإنّ ظاهر كلامهم أنّ الماهيّة الواحدة المشتركة في جامع واحد يجمعها إن لوحظت لا بشرط كانت مشتقّا مثلا ، وإن لوحظت بشرط لا كانت مبدأ بنحو يكون هذان القيدان هما المميّزان للمشتقّ ومبدئه.

وما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره من شهادة كلامهم في الهيولى والصورة على ما ذكره كافل بعكس مقصوده ، فإنّ الهيولى والجنس شيء واحد إنّما اختلفا باعتبار أخذ الهيولى بشرط لا والجنس لا بشرط ، فالذات فيهما واحدة ليس بينهما تغاير ذاتي أصلا ، وذلك أنّهم ذكروا أنّه تارة يتصوّر الشيء بتمامه فيتصوّر الإنسان بأنّه حيوان ناطق وهو النوع ، واخرى يتصوّر بأجزائه ، فإن تصوّر بما به الاشتراك فهيولى وإن تصوّر بما به الامتياز فصورة.

__________________

(١) الفصول : ٦٢.

(٢) كفاية الاصول : ٧٤ ـ ٧٥.


وقد اختلفوا في أنّ الهيولى والصورة تركيبهما اتّحادي أم انضمامي ، فذهب المحقّقون إلى الأوّل واستدلّوا عليه بأنّه لو كان انضماميّا فذلك الجزء أيضا له ما به الامتياز وما به الاشتراك ، وهذا يلزم منه التسلسل الباطل.

وكيف كان ، فظاهر كلام الفلاسفة في باب الهيولى والصورة والجنس والفصل يقضي بالمغايرة الاعتباريّة بل يصرّح به قولهم : إنّ طور الشيء لا يكون مباينا له ،

وكيف كان ، فلا محيص عن القول بأخذ مفهوم الشيء في المشتقّ ، وبهذا يحصل التغاير الذاتي بين المبدأ والمشتقّ مفهوما ، فإنّ مفهوم أحدهما غير مفهوم الآخر وما ذكر من أنّه من أطواره مختصّ أوّلا بالعرض ، والمشتقّ ليس عرضيا دائما حتّى يكون وجودها في أنفسها عين وجودها لغيرها ، فإنّ المبادئ في المشتقّ قد يكون أمرا اعتباريّا كالإمكان والوجوب والامتناع. وثانيا أنّ العرض مغاير للذات التي يعرض ذلك العرض عليها فكيف يدّعى اتّحادهما؟

وبالجملة ، فالحقّ مع صاحب الفصول في كون مفهوم المشتقّ مركبا كما تقدّم تحليلا.

التنبيه الثالث : في ملاك الحمل

لا بدّ بين المحمول والموضوع من اتّحاد من جهة ومغايرة من جهة اخرى لئلّا يكون الحمل حملا للضدّ على ضدّه ولئلّا يكون حملا للشيء على نفسه.

فقد يكون الاتّحاد في مقام الذات والتغاير في أمر خارج عن الذات كما في قولنا : الإنسان حيوان ناطق ، فإنّ الذات متّحدة فيهما والمغايرة إنّما هي بالإجمال والتفصيل ليس إلّا ، فإنّ الإنسان إجمال للحيوان الناطق وهما تفصيل لإجماله. ومنه الإنسان بشر ، فإنّ الذات متّحدة والتغاير اعتباري كما قيل ، فإنّ الإنسان مشتقّ من الانس كما قيل (١) فهو في قبال الوحش ، والبشر في قبال ملك فإنّه من المباشرة التي لا تكون للملك ، وهذا الحمل يسمّى أوّليا ذاتيّا كما يسمّى بالذاتي فقط.

__________________

(١) انظر لسان العرب ١ : ٢٣١ ـ ٢٣٣.


وقد يكون الاتّحاد بين المحمول والمحمول عليه خارجيّا والمغايرة في المفهوم فقط كما في قولك : زيد قائم ، وكما في قولك : الناطق حيوان ، فبين المفهومين مغايرة صرفة ، فإنّهما مفهوما متباينان ولكن اتّحادهما بحسب الوجود الذي هو خارج عن الذات ؛ إذ الألفاظ موضوعة للماهيّات الصرفة مع قطع النظر عن الوجود والعدم ، ويسمّى هذا الحمل بالشائع لشيوعه في الاستعمال ، وبالصناعي لأنّ صناعة الشكل الأوّل في المنطق موقوفة عليه ؛ إذ لا بدّ فيه من كلّية الكبرى فلا بدّ من كون المحمول في الصغرى فردا لكلّي وهو المناط في الشائع.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ صاحب الفصول قدس‌سره لمّا رأى أن لا جهة تقتضي صحّة الحمل في قولنا : «الإنسان حيوان ناطق» لتغايرهما ذاتا ؛ إذ إنّه قدس‌سره زعم أنّ التركيب بينهما انضمامي لا اتّحادي ، فكلّ واحد من الجزءين غير الكلّ قطعا مفهوما وخارجا ، فاشكل عليه حينئذ صحّة الحمل ، ولكنّه تخلّص (١) بدعوى كفاية الاتّحاد الاعتباري ، فإنّا نعتبرهما أمرا واحدا فيصحّ الحمل.

ولا يخفى عليك أنّ اعتبارهما متّحدين إنّما يصحّح الحمل في مقام الاعتبار لا الخارج ، وبعبارة اخرى المغايرة الخارجيّة توجب صحّة الحمل خارجا والاعتباريّة تصحّحه اعتبارا ، ومن المعلوم أنّ صحّة الحمل في «الإنسان حيوان ناطق» خارجيّة لا اعتباريّة فلا يصحّ الحمل الخارجي حينئذ.

التنبيه الرابع : في مغايرة المبدأ مع الذات

ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) كفاية مغايرة المبدأ مع الذات مفهوما وإن اتّحدا خارجا ردّا على صاحب الفصول ، فإنّ صاحب الفصول قدس‌سره (٣) ادّعى لزوم المغايرة

__________________

(١) الفصول : ٦٢.

(٢) كفاية الاصول : ٧٦.

(٣) الفصول : ٦٢.


الخارجيّة بين المبدأ والذات ، فأشكل عليه الأمر في صفات الذات من صفات الله تعالى وتقدّس بناء على ما هو الحقّ عند العدليّة من اتّحاد صفاته وذاته ، فالتزم بالنقل أو التجوّز في صفاته.

وقد أشكل الميرزا قدس‌سره (١) ـ تبعا لصاحب الكفاية قدس‌سره ـ بأنّه تكون صفاته صرف لقلقة لسان وألفاظ بلا معنى ؛ إذ لا نعرف لها معنى إلّا المعنى الذي يصحّ حمله حقيقة ولا نعرف معنى لذلك ؛ إذ إنّ المراد بالمشتقّ حينئذ المبدأ ليس إلّا وهو مفهوم ، فأيّ معنى حينئذ لهذا الكلام؟

وبالجملة فالآخوند قدس‌سره في مقام الردّ على صاحب الفصول حيث اعتبر المغايرة الخارجيّة ذكر (٢) أنّه يكفي المغايرة المفهوميّة ، وحينئذ فيكون الحمل حقيقيّا حتّى في صفات الذات من صفاته تعالى وتقدّس.

ونحن نقول : إنّ المغايرة المفهوميّة بين الذات التي هي الموضوع وبين المبدأ غير معتبرة أصلا ؛ ولذا يصحّ الحمل بلا تجوّز في قولنا : النور منير والضوء مضيء والعلم معلوم ، مع كون المبدأ في المقام متّحدا مفهوما مع الذات المحمول عليها ، فإنّ الموضوع هو نفس المبدأ. نعم يعتبر المغايرة بين الموضوع والمحمول ولا يعتبر أزيد من ذلك قطعا ، فافهم.

التنبيه الخامس : في اعتبار قيام المبدأ بالذات وعدمه

قد ذكر صاحب الفصول قدس‌سره (٣) عدم صحّة الحمل في صفات الذات من صفات الله من جهة اخرى غير المغايرة الخارجيّة ، وهو أنّه يعتبر قيام المبدأ بالذات ولا قيام في صفاته ؛ إذ المبدأ فيها عين الذات والقيام يقتضي المغايرة ، فالتزم بالتجوّز في صفاته تعالى وتقدّس.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ١ : ١٢٥ ـ ١٢٦.

(٢) كفاية الاصول : ٧٦.

(٣) الفصول : ٦٢.


وقد ذهب جماعة (١) إلى عدم اعتبار القيام بالذات أصلا لا في صفاته ولا في غيرها مستدلّين بصدق الضارب والمؤلم مع قيام الضرب والألم بالغير.

ولا يخفى أنّ هذا القول من المضحكات ؛ إذ لو لم يعتبر القيام فلم لم يصدق ضارب ومؤلم على غيرهما؟ بل الظاهر ـ كما ذكره في الكفاية ـ اعتبار التلبّس وإن اختلفت أنحاؤه في كونه بنحو الصدور في «ضارب» و «مؤلم» وبنحو آخر في غيرهما.

بقي الكلام فيما ذكره صاحب الفصول من عدم القيام لاقتضائه حينئذ الاثنينيّة المنفيّة في حقّه تعالى وتقدّس.

وقد أجاب في الكفاية (٢) بأنّ العينيّة نحو من أنحاء التلبّس المختلفة.

والجواب الحقيقي أن يقال : إنّ المعاني الحرفيّة ـ كما قدّمنا ذلك في المعنى الحرفي ـ تضييقات في المفاهيم فهي تضييقات في مقام المفاهيم الاسميّة ، والمشتقّ ـ كما ذكرنا ـ مركّب من مفهوم شيء مع نسبة المبدأ ، فهيئة المشتقّ تضييق مفهوم شيء بقوله : له العلم ، فيكون مفهوم عالم : شيء له العلم ، ولا ريب في أنّه مفهوم يصحّ حمله على الذات ، وكون مصداقه عين الذات لا يخلّ بمقام المفهوم أصلا.

وبالجملة ، النسبة التي تفيدها هيئة المشتقّ إنّما تتحقّق بين مفهوم شيء والمبدأ ، فهي لتضييق ذلك المفهوم ، ولا يلزم أن تكون خارجيّة أصلا ، بل قد يستحيل تحقّق النسبة في الخارج كما في قولنا : اجتماع النقيضين محال وشريك الباري ممتنع ، وكون مصداقه حقيقة عين الذات لا ربط لها بالمفهوم.

وبالجملة ، حمل عالم على الله لا يضرّ أصلا ؛ إذ هو حمل لمفهوم على مفهوم ، وكون مصداق أحدهما عين مصداق الآخر لا يضرّ بمسألة المفهوم.

__________________

(١) منهم المعتزلة كما في شرح المختصر ١ : ٦٠ ، واختاره الكلباسي في الإشارات الورقة : ٣٢ ، ونسبه إلى معظم الأصحاب والحكماء وغيرهم.

(٢) كفاية الاصول : ٧٧.


بقي الكلام في أنّ الشيء الواحد كيف يكون تنتزع منه هذه الامور المتكثّرة؟ إذ كما لا يعقل أخذ الجامع من امور متشتتة كذلك لا يمكن أن يكون الشيء الواحد منشأ لامور كثيرة.

وجوابه : أنّ كثرتها لفظيّة لا حقيقيّة وإلّا فهي في الحقيقة شيء واحد وإنّما الاختلاف في الأسماء ، فهي نظير قول القائل : عباراتنا شتّى ...

توضيح الإشكال أن يقال : كما أنّ أخذ الجامع من امور متكثّرة على تكثّرها مستحيل ، بل لا بدّ له من جهة مشتركة حتّى بلحاظها يصحّ أخذ الجامع وانتزاعه منها ، كذلك لا يمكن انتزاع مفاهيم متعدّدة من شيء واحد بسيط ليس فيه نقص ولا تركيب أصلا ، فكيف يمكن انتزاع عالم وقادر وحيّ وغيرها منه على بساطته؟

والجواب : أنّ الألفاظ موضوعة للماهيّات الصرفة الغير المقيّدة بالوجود والعدم فقد تكون موجودة وقد تكون معدومة ، وقد ذكروا في أوّل علم الكلام وفي كثير من موارد علم الفلسفة أنّ أوّل ما يدركه الإنسان أنّه موجود ، والثاني ممّا يدركه أنّه غير غيره ؛ ولذا ترى أحد أفراده يغضب إذا غصب منه شيء مع أنّه لا وجه له لو لا إدراك أنّه غير غيره ؛ إذ لو لم يدرك ذلك فأيّ فرق بين أن يأخذه هو أو يأخذه شخص آخر؟ إذ كلاهما حينئذ غيران ، فلا مرجّح لأحدهما على الآخر أصلا.

وحينئذ فجواب هذه الشبهة هو أنّ المفاهيم المتعدّدة لا يمتنع انتزاعها من الشيء البسيط إذا كانت باعتبارات متعدّدة ، فباعتبار أنّه هو الذي منه يستمدّ الوجود في جميع الأشياء وإليه ينتهي ، ينتزع منه القدرة ، وباعتبار انكشاف جميع الأشياء عليه ينتزع منه العلم فيقال عالم. وحينئذ فانتزاع المفاهيم المتعدّدة ممكنة من البسيط كما ينتزع من الطول الخاصّ مثلا أنّه أطول من كذا وأقصر من كذا باختلاف اعتبار المعتبر كما هو واضح.

وبالجملة ، فالاختلاف في المفاهيم لا يضرّ بوحدة المصداق ولا ببساطته.


التنبيه السادس : في لزوم التلبّس بالمبدإ حقيقة

ذكر صاحب الفصول قدس‌سره (١) في صدق الحمل حقيقة تلبّس الذات المحمول عليها المشتقّ بالمبدإ حقيقة. وأشكل عليه في الكفاية (٢) بأنّ في مثل «جرى الميزاب» يصحّ أن يقال : الميزاب جار ، فيصحّ الحمل ؛ لأنّ جار مستعملة في معناها من غير تجوّز في الكلمة وإنّما التجوّز في الإسناد.

وقد ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره (٣) وجها لما ذكره في الفصول وهو أنّ النسبة الناقصة الموجودة في المشتقّ نسبة مجازيّة قطعا تبعا للنسبة الخبرية التامّة فإنّها نسبة مجازيّة حسب الفرض ، لكن هذا على التركيب أمّا على البساطة فليس المشتقّ إلّا المبدأ والفرق بينهما اعتباري.

وردّه بأنّه على التركيب كذلك ؛ إذ المدرك وحدة المشتقّ وإن انحلّ بالتعمّل العقلي إلى شيئين.

والحقّ أن يقال : إنّ النسبة الناقصة الموجودة في المشتقّ لا ربط لها بالنسبة الخبرية ؛ إذ هي حقيقة على كلّ حال ؛ إذ المأخوذ في المشتقّ على تقدير التركيب هو المفهوم لا الذات ومفهوم شيء له الجريان حقيقة قطعا.

نعم ، على تقدير أخذ الذات تتحقّق المجازيّة حينئذ.

والتحقيق أن يقال : إنّه إن أراد صاحب الفصول توقّف صدق المشتقّ في الخارج على الذات على تلبّسها بالمبدإ فالحقّ معه إذ لو لم تتلبّس بالمبدإ لا تكون من أفراده فيستحيل انطباقه عليها ، وإن أراد صاحب الفصول توقّف استعمال المشتقّ

__________________

(١) الفصول : ٦٢.

(٢) كفاية الاصول : ٧٨.

(٣) أجود التقريرات ١ : ١٢٧.


على التلبّس الحقيقي فأصل التلبّس غير معتبر فضلا عن كونه حقيقيّا ؛ إذ إذا قال الإنسان زيد عالم فقد استعمل لفظ عالم في معناها الحقيقي وإن كذب في دعواه علميّة زيد الذي هو أجهل الجهّال.

وبالجملة ، فالصدق موقوف على التلبّس حقيقة ليتحقّق كونه من أفراده فينطبق عليه ، لكنّ الاستعمال غير موقوف على التلبّس كلّية حتّى بنحو المجاز لجواز استعمالها فيمن ليس عالما أصلا كذبا.

هذا تمام الكلام في المقدّمات ، ويقع الكلام في مبحث الأوامر إن شاء الله تعالى.



في الأوامر

ويقع الكلام في مادّة الأمر وهيئته.

أمّا الكلام في المادّة فيقع في جهات :

[الجهة] الأولى : فيما وضع له لفظ «أمر»

وقد استعملت في معان كثيرة كما هو مذكور في كتب الاصول ، وإنّما الكلام في الموضوع له.

فقد ذكر الآخوند قدس‌سره (١) أنّه موضوع بنحو الاشتراك اللفظي لمفهوم الطلب والشيء.

وقد زعم الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) إرجاعهما إلى جامع واحد وهو الواقعة المهمّة ، فإنّ الطلب أيضا واقعة مهمّة وفرد من أفرادها.

ولا يخفى عليك ما في كلام الميرزا قدس‌سره فإنّ «أمر» التي هي بمعنى الطلب مشتقّة وببعض المعاني الآخر جامدة كما في الشأن ، فإن قولنا : «شغله أمر زيد» أي شأنه ، فهو جامد ، وحينئذ فكيف يمكن أخذ الجامع بين المشتقّ والجامد؟

__________________

(١) كفاية الاصول : ٨١.

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٣١.


وثانيا : أنّها تجمع في الاولى على «أوامر» وفي الثانية على «امور» واختلاف الجموع أمارة اختلاف المعاني.

وثالثا : أنّه قد يقال : «هذا أمر غير مهمّ» أو «امور غير مهمّة» ولو أخذت الأهميّة فيها للزم التناقض أو المجاز ، والحال أنّا لا نرى تفاوتا في إطلاقها بين الموارد في الاستعمال.

وكيف كان ، فكونها حقيقة في الطلب بالقول أمر مسلّم ، ومعرفة بقيّة معانيها غير ضروريّ ؛ لعدم اشتباه المراد منها في مورد حتّى يحقّق ويدقّق.

وما ذكره الآخوند قدس‌سره أيضا غير تامّ ؛ إذ لفظ «شيء» الذي هو المعنى الثاني لمادّة الأمر يطلق على الجواهر والأعراض ولا يطلق لفظ «أمر» على الجواهر ، لا يقال : «جاء أمر» كما يقال «جاء عمر» ويشار إلى الجدار فيقال : «هذا شيء» ولا يقال له : «هذا أمر» مع أنّه لو كان معناه «الشيء» لصدق حيث يصدق ، كما أنّ ما ذكره من استعماله في الفعل في (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) غير تامّ إذ المراد منه الطلب ؛ لأنّ الآية (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ)(١) كما أنّ ما ذكره من كونه حقيقة في القول المخصوص أيضا غير تامّ ؛ إذ ليس اسم القول المخصوص أمرا وإنّما هو اسم للطلب به.

الجهة الثانية : في اعتبار العلوّ والاستعلاء في معنى الأمر وعدمه

والاحتمالات أربعة : اعتبارهما ، وعدم اعتبارهما ، واعتبار العلوّ دون الاستعلاء ، واعتبار أحدهما لا بعينه. والظاهر اعتبار العلوّ في معنى الأمر ، إذ لو قال المساوي لمساويه : «آمرك بكذا» يغضب ، وليس إلّا لفهمه الاستعلاء من هذا الكلام.

__________________

(١) هود : ٩٧.


وأمّا الاستعلاء : فإن اريد به أن يكون الآمر لاحظا كونه مولى وأنّ المأمور عبد ، فهذا أيضا يكون معتبرا. وإن اريد من الاستعلاء الجبروتية والطاغوتية فهو غير معتبر ، لصدق الأمر على أمر المولى المستخفض لجناحه.

والظاهر اعتبار كون الأمر بنحو المولوية والطلب الجدّي ، فلا يصدق على الأمر الصادر بنحو الاستهزاء والسخرية والإرشاد ونحوها ، ويشهد له قوله [صلى‌الله‌عليه‌وآله] بعد قول جويرية : أتأمرني يا رسول الله؟ «لا بل إنّما أنا شافع» (١) فإنّ ظاهره أنّ الشفاعة ليست أمرا ، فافهم.

الجهة الثالثة : في أنّه حقيقة في الوجوب أم لا؟

وقد ذكرنا أنّه حقيقة في الطلب بالقول المخصوص ، فإن كان القول المخصوص وهو صيغة «افعل» حقيقة في الوجوب كان حقيقة في الوجوب وإلّا فلا ، وسيأتي الكلام فيها.

__________________

(١) المستدرك ١٥ : ٣٢ ، الباب ٣٦ من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث ٣.


في مبحث الطلب والإرادة

ويقع الكلام في موارد أربعة :

الأوّل : في اتّحاد مفهوم الطلب والإرادة أو مصداقهما وتغايرهما.

الثاني : في مفاد الجملة الخبريّة والصيغة الإنشائيّة. والبحث في هذين الأمرين لغويّ صرف.

الثالث : في وجود صفة اخرى غير تصوّر الشيء والتصديق بفائدته والشوق والعزم والجزم تسمّى بالكلام النفسي ، وعدم وجودها.

الرابع : في مبحث الجبر والتفويض. والكلام فيهما جهة كلاميّة.

أمّا الكلام في الجهة الاولى : [مفهوم الطلب والإرادة]

فنقول : ذهب الآخوند قدس‌سره (١) إلى اتّحاد مفهوم الطلب والإرادة وأنّهما مفهوما شيء واحد وإن انصرف الأوّل إلى الإنشائي والثاني إلى الحقيقي. وربّما زعم بعضهم اتّحاد مصداقهما وإن تغاير المفهوم ، فهما من قبيل اتّحاد الضاحك بالقوّة مع الكاتب بالقوّة مصداقا متّحدان وإن كانا بحسب المفهوم متغايرين.

والظاهر اختلافهما مفهوما ومصداقا.

بيان ذلك : أنّ الإرادة من الصفات النفسانيّة ، وهي لا يصدق عليها الطلب أصلا ، فإنّه لا يقال : «طالب العلم» إلّا لمن يبرز طلبه باشتغاله بمقدّمات تحصيله كما لا يقال : «طالب الضالّة» لمن يريد حصولها بيده من غير أن يشتغل بالفحص عنها ، وكذلك «طالب الماء» في باب التيمّم.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٨٥.


وبالجملة ، فالإرادة عبارة عن تلك الصفة النفسية المنبعثة عن ذلك التصوّر والتصديق بالفائدة وبقية المقدّمات ، فقد يكون ذلك الشيء المراد من الأشياء التي يكون تحقّقها في الخارج بفعل نفس المريد كما إذا أراد التمشّي ، وقد يكون من الأشياء التي يكون صدورها منوطا بشخص آخر غير نفس المريد ، أو أنّ إرادته تعلّقت بنحو يكون صدورها من غيره وإن أمكن صدورها من نفسه.

وهذه تارة تكون بنحو يكون مطلق صدورها من الغير وافيا بمصلحة المولى الآمر ، واخرى بنحو يكون صدورها بنحو الاختيار وافيا بالمصلحة ، فيأمر بها ويتصدّى لإيجادها بنفسه في الأوّل وبأمره في الباقي.

وحينئذ فقوله : «افعل» مثلا بما أنّه نوع تصدّ يكون مصداقا من مصاديق الطلب بما أنّه إبراز ، لا أنّه به ينشأ مفهوم الطلب كما ذكره الآخوند (١).

وبالجملة ، فمفهوم أحدهما غير مفهوم الآخر ، ضرورة عدم صدق الطلب على الإرادة الصرفة أصلا فهي متقدّمة عليه برتبة أو رتبتين ، كما سيأتي. فكيف يدّعي اتّحادهما مفهوما؟ مع أنّ أحدهما من الصفات النفسيّة والاخرى من الفعل ، إمّا العمل المباشري الذي يصدر من المولى أو أمره به ، وكلاهما من الأفعال الخارجيّة التي لا ربط للصفات النفسيّة بها أصلا.

وبما ذكرنا ظهر تباينهما مصداقا أيضا ، فإنّ مصداق الإرادة غير مصداق الطلب الذي هو التصدّي نحو المطلوب بأنحائه كما تقدّم ، فافهم.

بل يمكن أن يكون معنى الطلب أضيق ممّا ذكرنا ، بأن يكون هو التصدّي نحو المطلوب الذي يمكن حصوله وعدم حصوله نوعا وإن انضمّت إليه قرائن أو مقدّمات دالّة على الحصول كما في أمر الله أولياءه وملائكته ، أو عدم الحصول

__________________

(١) كفاية الاصول : ٨٤.


كما في أمر الله الكفّار والعصاة ، إلّا أنّ نوع أمره ممّا يمكن فيه الحصول بعده أو عدم الحصول بعده نوعا.

هذا تمام الكلام في الجهة الاولى ، وقد ظهر تباين الطلب والإرادة مفهوما ومصداقا.

الجهة الثانية : الكلام في مدلول الجمل الخبرية والصيغ الإنشائيّة

مدلول الجملة الخبريّة والصيغة الإنشائيّة ـ بضميمة ما ذكرنا ـ فيه أقوال ثلاثة :

الأوّل : ما ذهب إليه المشهور ، وهو أنّ الجملة الخبرية موضوعة لإثبات النسبة في الخارج يعني نفس الأمر ، والصيغة الإنشائيّة موضوعة لإيجاد معانيها في الخارج.

ولا يخفى أنّا قد ذكرنا أنّ الذي نفهمه من الجملة الخبرية هو كون المتكلّم بصدد إفهام المخاطب متعلّق خطابه.

وقد ذكرنا في باب الوضع : أنّ الوضع هو التعهّد والالتزام وأنّ التعهّد إنّما يكون طرفاه أمرين اختياريّين ؛ إذ لا معنى للتعهّد بأنّه «متى طلعت الشمس فالنهار موجود» فالتعهّد يكون منه بأنّه متى أراد إفهام قيام زيد لأحد أن يقول : زيد قائم.

فالمستفاد من الجملة الخبرية كون المخبر بها بصدد إفهام متعلّقها ، وأمّا أنّ متعلّقها واقع أم ليس بواقع؟ فليست الجملة دالّة على ذلك أصلا. واتّصافها بالصدق والكذب باعتبار أنّ لمتعلّقها خارجا وإلّا فهي لا تتّصف بالصدق والكذب إلّا باعتبار متعلّقها ، فإن اتّفق كون متعلّقها مطابقا لما أخبر به فهو صادق وإلّا فهو كاذب لا الجملة الخبرية ومفادها ، وأمّا إنّها تدلّ على ثبوت النسبة فهو فاسد ؛ إذ قول : «زيد قائم» لا يوجب ثبوت القيام له أصلا.

كما أنّ ما ذكروا من كون الجملة الإنشائيّة توجد معناها ، إن اريد أنّها توجدها في الخارج فمن المعلوم عدم تحقّق الإيجاد خارجا بها ، وإن اريد الإيجاد في مقام


الاعتبار فمن المعلوم أنّ اللفظ لا يوجد ذلك الاعتبار ؛ إذ هو من الامور النفسيّة ، فكيف يوجده اللفظ في الخارج؟

نعم ، يكون اللفظ حينئذ كاشفا عن ذلك الاعتبار النفساني ، فهي مع الجملة الخبرية إلى هنا سواء في أنّ الخبرية كاشفة عن كون المتكلّم بصدد إفهام متعلّق إخباره والإنشائية كاشفة عن اعتباره النفساني ، غير أنّ الجملة الخبرية بما أنّ لمتعلّقها خارج تحكي عنه تتّصف بالصدق والكذب ، بخلافها فإنّ الجملة الإنشائية وإن كانت حاكية عن اعتباره النفساني ، إلّا أنّه على تقدير عدم الاعتبار خالف تعهّده والتزامه لا أنّه كاذب ، فافهم وتأمّل.

وهذا القول الذي ذكرناه في مفاد الجملة الخبرية والإنشائية هو ثاني الأقوال.

والقول الثالث : هو القول الذي ذهبت إليه الأشاعرة (١) وهو أنّ الجمل الخبرية موضوعة لإبراز الكلام النفسي ، والانشائية موضوعة لإبراز الطلب النفسي. ولو أنّهم اقتصروا على هذا لكان عين ما ذكرناه ، إلّا أنّهم زعموا أنّ الكلام النفسي والطلب كذلك من صفات النفس الحقيقيّة كالعلم واستشهدوا على ذلك بقول الشاعر : إنّ الكلام ... إلخ ، وبقول الرجل لصاحبه : إنّ في قلبي كلاما كثيرا لا يسعني بيانه. وسيأتي ذكر الأدلّة لهم وردّها.

فيقع الكلام في أنّه هل هناك صفة اخرى غير الشوق والإرادة ومقدّماتهما صفة تسمّى بالكلام النفسي أو الطلب النفسي ، أم ليس؟ وليعلم : أنّه على تقدير وجودها فلا تكون الجمل خبريّة وإنشائيّة موضوعة لتلك الصفات ، وإنّما تكون مبرزة لها ، فكونها موضوعة لذلك أمر مقطوع العدم ، إلّا أنّ الكلام في وجود صفة اخرى وعدمها ، وهو الجهة الثالثة من جهات البحث.

__________________

(١) راجع شرح المواقف ٨ : ٩٧ ـ ٩٩.


الجهة الثالثة : في الكلام النفسي والطلب النفسي وعدمهما

ذهبت الأشاعرة (١) إلى ثبوت صفة حقيقيّة في المتكلّم غير العلم تسمّى بالكلام النفسي ، وأنّ الكلام اللفظي كاشف عنه كشف الفعل الخارجي عن تعلّق الإرادة به ، لا أنّ الكلام النفسي يكون مدلولا للكلام اللفظي كما هو المنسوب إليهم في كتب الاصول التي بأيدينا.

وبالجملة ، فهم يدّعون أنّ في النفس كلاما نظير الكلام اللفظي ، غير أنّ الكلام اللفظي تدريجي الحصول وذاك أمر دفعي الحصول في النفس ، ويكون الكلام اللفظي كاشفا عنه ، كما تقدّم. وهذا الكلام النفسي الذي يدّعونه غير تصوّر الشيء وبقيّة مقدّمات طلبه من العزم والجزم والتصديق بالفائدة والشوق ، ولكنّ الكلام كلّ الكلام في إثبات هذا الكلام النفسي المدّعى. وقد استدلّوا عليه بامور :

الأوّل : قول الشاعر : إنّ الكلام لفي الفؤاد ... إلخ (٢) وقول الشخص للآخر : إنّ في نفسي كلاما لا احبّ بيانه ، وقوله تعالى : (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ)(٣).

الثاني : أنّ كلّ متكلّم لا يتكلّم إلّا بعد أن ينظّم كلامه في نفسه ، وهذا هو المراد من الكلام النفسي.

والجواب عنهما : أنّه إن كان المراد بالكلام النفسي هو هذا المعنى فهذا هو عين العلم بكلامه قبل تحقّقه ، مع أنّه موجود في جميع الأفعال الاختياريّة ، فإنّ الأكل أيضا مسبوق بتصوّره ، وهكذا الشرب والنوم وغيرها من أفعاله الاختياريّة ،

__________________

(١) راجع شرح المواقف ٨ : ٩٣ ـ ٩٤.

(٢) قاله الأخطل كما في شوارق الإلهام : ٥٥٥.

(٣) يوسف : ٧٧.


فيلزم أن يكون عندنا أكل نفسي وشرب نفسي ونوم نفسي ... وهكذا ، وهذا لا يلتزم به الأشاعرة أصلا.

الثالث : اتّصاف الله بالمتكلّم كما ورد في الدعاء وصفه بالمتكلّم بل وبالقرآن في قوله : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً)(١) وحيث إنّ صفاته عين ذاته فلا يمكن أن تكون صفاته حادثة وذاته قديمة ، فلا بدّ من كون الصفات قديمة ، فلا بدّ من التزام أنّ هناك كلاما نفسيّا قديما بقدمها ، والاتّصاف بالمتكلّم إنّما هو بلحاظها. وذكروا في القرآن الذي هو كلام الله نظير ذلك ، والتزموا بأنّ في نفس الله كلاما نفسيّا على طبق هذا القرآن الخارجي.

والجواب أوّلا : أنّ (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) إذا كانت التكلّم قديما فلا بدّ من كون موسى قديما أيضا ؛ إذ الكلام القديم إنّما يكون مع القديم.

وثانيا : فيلزم أن يكون له رزق قديم وخلق قديم وغيرها من صفاته ، إذ هي كلّها صفات الله تعالى.

وبالحلّ ثالثا : وذلك أنّ صفات الله على قسمين :

ـ صفات الذات : وهي التي تتّصف بها الذات مع قطع النظر عن وجود شيء وعدمه وهذه ترجع إلى صفة العلم والقدرة ، والحياة منتزعة منهما ؛ إذ كلّ عالم قادر حيّ ، فالذات متّصفة بالعلم حيث لا معلوم وبالقدرة حيث لا مقدور ، وهذه الصفات هي عين الذات وهي قديمة بقدمها.

ـ والقسم الثاني صفات الفعل : وهذه هي المنتزعة عن مقام الفعل ، وهذه ليست عين الذات وهي حادثة بحدوث الفعل الذي تنتزع عن مقامه ، وحينئذ فليست هذه الصفات عين الذات فلا مانع من كونها حادثة ولا يلزم لازم باطل من ذلك ، والتكلّم منها.

__________________

(١) النساء : ١٦٤.


وقد ذكروا للفرق بين صفات الذات وصفات الفعل فروقا :

فمنها : أنّ ما لا يصحّ سلبه فهو من صفات الذات ، وما يصحّ سلبه فهو من صفات الفعل ، فيقال : ليس برازق لزيد ألف دينار هذا اليوم ، ولا يقال : ليس بعالم وليس بقادر.

ومنها : أنّ ما كان مسبوقا بالعلم والقدرة فهو من صفات الفعل وما لم يكن مسبوقا فهو من صفات الذات.

ومنها : أنّ ما كان مسبوقا بالإرادة فهو من صفات الفعل وما لم يكن مسبوقا بها فهو من صفات الذات.

وأحسنها الوسط ، أمّا الأخير فيرجع إليه ، إذ المسبوقيّة بالإرادة تستلزم المسبوقيّة بالعلم أيضا. وأمّا الأوّل فلأنّه وإن كان تامّا في الصفات المنتزعة من نفس الفعل ، إلّا أنّه لا يتمّ في الصفات المنتزعة من كيفيّة الفعل كما في الصدق ، فلا يقال : ليس بصادق مع أنّها من صفات الفعل ، وكذا ليس بعادل. وعلى ما ذكر في الأوّل يلزم كونه من صفات الذات.

الرابع : من الوجوه التي ذكرها الأشاعرة في إثبات الكلام النفسي هو : أنّ الله يوصف بالمتكلّم واتّصافه بها ليس بمعنى خالق الكلام ، بل لا بدّ من قيام المبدأ به ، ولو صحّ الاتّصاف مع عدم قيام المبدأ بل بمجرّد أنّه خالقه ومكوّنه لصحّ أن يوصف الله بالنائم والمتحرّك والساكن ؛ لأنّه خالق لها مع عدم صحّة ذلك ، وليس إلّا لعدم قيام المبدأ بالذات.

والجواب : أنّ المبدأ إن اريد به الكلام فليس قائما إلّا بالهواء ، فإنّ الكلام كيفيّة قائمة بالهواء ينشأ من تموّجات الهواء بتموّجات خاصّة ، وليس قائما بذات زيد في قولك : زيد متكلّم ، فضلا عن الله. وإن اريد بالمبدإ التكلّم ـ كما صرّح به بعضهم ـ فالتكلّم تفعّل بمعنى قبول الفعل ، والقبول في المقام بنحو الإيجاد والإصدار في جميع أمثلته في قولك : زيد متكلّم ، أو الله متكلّم.


وأمّا ما ذكر من عدم صحّة النسبة بمجرّد الإيجاد والتكوين وإلّا لصدق «نائم» فلا يخفى جوابه ، فإنّ الصفة تحتاج إلى نسبة ما إلى الموصوف ، فقد تكون نسبة حلول ، وقد تكون نسبة صدور ، وقد تكون نسبة قيام ، وقد تكون غير ذلك. وهذا ليس له ميزان كلّي بل المتّبع استعمال العرب ، فتراهم في بعض الأحيان لا يستعملون إلّا مع قيام المبدأ بالذات قياما حلوليّا وقد يستعملون مع قيامه قياما صدوريّا كما في «خالق» و «رازق» و «متكلّم» فهل يلتزمون في «خالق» و «رازق» و «قابض» و «باسط» وغيرها برزق نفسي وخلق نفسي وقبض وبسط نفسيّين؟ إلى غير ذلك. وصدور ذلك منه إنّما هو بإيجاد المبدأ واتّصافه به بذلك اللحاظ. ولا يضرّ الاتّصاف ؛ لأنّه من صفات الفعل إنّما ينتزع من الفعل ، وليس من صفات الذات حتّى يلتزم بالاتّحاد.

وبالجملة ، فلا نعقل للكلام النفسي معنى متصوّرا ، والتصديق فرع التصوّر.

هذا تمام الكلام في الكلام النفسي وقد اتّضح أنّ استدلال بعضهم بقوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ)(١) أجنبيّ عن المقام ؛ إذ هو من قبيل النيّة ، ومكافاة الله عليها إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ ليس لها ربط بالكلام النفسي.

[الجهة الرابعة] : في أنّ أفعال العباد لمن تستند؟

وقع الكلام في أفعال البشر وأنّها صادرة قهرا على العبد ، أم أنّها صادرة باختياره وإن كان اختياره مستندا إلى إرادة الله ، أم أنّها صادرة باختياره من غير أن يستند اختياره إلى إرادة الله ، أم أنّها أمر بين الأمرين؟

__________________

(١) البقرة : ٢٨٤.


صار إلى الأوّل الأشاعرة هربا من قول اليهود : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ)(١) وتنزيها لله تعالى عن أن يوجد له شريك في إيجاد الممكنات ، فذهبوا إلى أنّ الأفعال الصادرة من العباد كلّها مستندة إليه تعالى وصادرة بإرادته واختياره وإن قارنت إرادة العبد واختياره ، إلّا أنّهما ليس لهما أثر في صدور الفعل ، فالفعل صادر قهرا على العبد وقسرا عليه ، بحيث لو أراد الامتناع عن صدور الفعل لم يتمكّن من الامتناع.

ومن هنا ذكر أبو هذيل (٢) : أنّ الأشاعرة لا يميّزون بين الفعل المقدور وغيره وأنّ حمار الأشعري أفهم من الأشعري! فإنّ الحمار إذا جيء به إلى نهر عميق لا يقتحمه إذا كان عريضا ، لعلمه بعدم قدرته عليه ، بخلاف ما إذا لم يكن عريضا ، فإنّه يقتحمه حينئذ لعلمه بقدرته عليه ، فهو أفهم من صاحبه. وقد ذكروا أنّ الثواب والعقاب على كسب العقل ، ولم نفهم معنى لذلك.

وصار إلى الثاني عموم الفلاسفة ، ومنهم صاحب الكفاية قدس‌سره (٣) فزعموا أنّ الفعل يصدر بإرادة العبد واختياره ، إلّا أنّ هذه الإرادة من العبد لا بدّ أن تنتهي إلى إرادة الله تعالى.

والفرق بين هذا القول وسابقه واضح ، فإنّ الأشاعرة يزعمون أنّ إرادة العبد من المقارنات الغير المؤثّرة في تحقّق الفعل وعدمه ، بخلاف الفلاسفة ، فإنّهم يزعمون استناد الفعل إلى إرادة العبد ، لكنّهم يدّعون انتهاءها إلى إرادة الحقّ جلّ شأنه.

ولمّا رأى المعتزلة أنّ هذين المذهبين ينسبان الظلم إلى الله تعالى في عقاب العاصين ، لصدور العصيان بعمل يستند إليه ابتداء أو من جهة انتهاء إرادة العبد إليه تعالى وإلى إرادته ـ وعلى كلّ حال فلا يحسن منه العقاب إذ هو ظلم منه لمن يعاقبه ـ

__________________

(١) المائدة : ٦٤.

(٢) شرح منهاج الكرامة للعلّامة الحلّي : ٩٢.

(٣) راجع كفاية الاصول : ٨٨ ـ ٩٠ ، وراجع ما قاله الفلاسفة في شرح المواقف ٨ : ١٤٧.


صاروا إلى القول الثالث (١) ، فذهبوا إلى أنّ أفعال العباد مفوّضة إليهم ؛ ولذا يحسن منه الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية ، وأنّه ليس له في أفعال العباد إرادة ولا اختيار.

ولا يخفى أنّ هذا القول وإن رفع الظلم عن الله تعالى ، إلّا أنّ هذا سلب لسلطان الله تعالى ، فإنّه لا يستطيع أن يمنع العبد عن عمل تكوينا أصلا ، فهو سلب لسلطنة الله وقدرته.

ومن هنا ذهب الإماميّة تبعا لأئمّتهم ـ المعصومين من الزلل ومن الخطأ في القول والعمل ـ إلى أنّ أفعال العباد أمر بين الجبر والتفويض. وهذا في الحقيقة والتأمّل الصادق برهان إمامتهم عليهم‌السلام فإنّ الاهتداء إلى هذه النكتة الخفيّة في تلك العصور المظلمة برهان قاطع ودليل ساطع على خروجهم عن مستوى العقل البشري وبلوغهم رتبة لا يرقاها فلاسفة تلك الأعصار وحكمائها فضلا عن غيرهم ، ولا غرو ممّن هم باب مدينة علم المصطفى ومعدن العلوم والحكم وكفى.

ولنذكر مثالا للجبر المحض : كما إذا كان إنسان مصابا بالفلج الموجب لارتعاش اليد مثلا ، فارتعاش يده ليس أمرا اختياريا له وإن فرض أنّ إرادته المقارنة للارتعاش متعلّقة بذلك الارتعاش ، إلّا أنّها لا تصيّر العمل اختياريا ؛ إذ لا يستطيع أن يوقفها عن الارتعاش أصلا ، وهذا معنى خروجه عن اختياره.

ولنذكر أيضا مثالا للتفويض : وهو ما إذا فوّض الملك المستبدّ إلى شخص ولاية بلد من البلدان ، فهو يفعل فيها ما يشاء من دون علم ذلك الملك بما يصنعه ولا تعلّق إرادة منه بذلك الذي يعمله الوالي.

ولنذكر أيضا مبنى قول المفوّضة : وهو أنّ الممكن لا يحتاج إلّا إلى علّة محدثة وأنّه لا يفتقر إلى علّة مبقية ، بل بقاؤه حينئذ لا يحتاج إلى مؤثّر. ومثّلوا لذلك بالحجر

__________________

(١) راجع شرح المواقف ٨ : ١٤٦.


الملقى على الأرض ، فإنّ علّة إلقائه هي السبب في بقائه فبقاؤه لا يحتاج إلى مؤثّر يؤثّر البقاء. وسيأتي تفصيل البحث في هذا الكلام.

ولنذكر أيضا مثالا للأمر بين الأمرين : مثلا لو اصيب رجل بالفلج بحيث لا يقدر على الحركة أصلا ، فوصلت به القوّة الكهربائية من شخص يستطيع قطعها وإبقاءها موصولة به ، فبسبب هذا الاتّصال قوي على الحركة فقام بإرادته واختياره حتّى أتى زيدا فقتله والقوّة الكهربائيّة المحقّقة لقدرته على التحرّك والقتل بعد متّصلة به من دون أن يقطعها الموصل لها به القادر على قطعها عنه في كلّ آن من آنات حركته ، فإنّه يصحّ أن يسند القتل إلى هذا المباشر وأن يسند إلى ذلك الموصل للقوّة الكهربائيّة بهذا المباشر ، فالفعل الذي يصدر من العبد باعتبار صدوره عن إرادته واختياره يكون عملا اختياريا له وإن كان هذا العمل الاختياري له يصحّ أن يسند إلى الله باعتبار أنّ الله مفيض للوجود والقدرة عليه في كلّ آن من آنات عمله ، بحيث لو أراد أن لا يعمل يسلب عنه القدرة أو الوجود فلا يعمل ، كقاطع تيّار الكهرباء عن المفلوج ، وهذا هو معنى قولهم عليهم‌السلام : «لا جبر ولا تفويض بل هو أمر بين هذين الأمرين» (١) فافهم هذا المدّعى (*).

ثمّ يقع الكلام في البراهين ، ولنتكلّم أوّلا في قول الأشاعرة الذي ذهب إليه أبو الحسن الأشعري (٢) ـ المنتهى نسبه إلى أبي موسى الأشعري ـ فنقول لهم :

__________________

(١) الكافي ١ : ١٦٠ ، الحديث ١٣.

(*) ورد في هامش الأصل زيادة من دون إيعاز إلى موضعها ، وهي ما يلي : وليس المقصود أنّ الله تعالى قادر على إيجاد المانع من فعل العبد بنفسه ؛ لأنّ هذا الأمر لا ينكره المفوّضة أيضا ، ولا يصحّ نسبة الفعل إلى من لم يوجد المانع عن فعل غيره ثانيا ، بل المراد أنّ الله تعالى هو الموجد للمقتضي للفعل ، فإنّ من مقتضياته الحياة والقدرة والشعور مثلا ، صحّ.

(٢) راجع شرح المواقف ٨ : ١٤٥ ـ ١٤٦.


بناء على ما ذكرتم من كون الفعل مخلوقا لله تعالى وأن ليس للعبد تركه وإن قارنته إرادته ، إلّا أنّها ليس لها تأثير في تحقّق الفعل خارجا ، فهل تفرّقون بين حركة نبض الإنسان وحركة يده؟

فإن التزموا أن لا فرق بينهما أصلا فهو مكابرة مع الوجدان وليس عندنا دليل أقوى منه.

وإن زعموا أنّ هناك فرقا بينهما ، فنسألهم عن الفرق بينهما ، فإن أجابوا بأنّ هذا مقارن لإرادة العبد وذاك ليس مقارنا لإرادته ، فنقول : إنّ المقارنة من دون أن يكون لها تأثير في الفعل لا توجب فرقا ، فإنّ الإنسان إذا أراد حركة نبضه وقارنت حركته هذه الإرادة لا يكون لهذه الإرادة في حركة النبض أثر أصلا ، فلا يصلح هذا فارقا بينهما ، فلا بدّ من القول بعدم الفرق بينهما وأنّ هذا الأمر الوجداني صورة فرق وليس له واقع.

وهذا أمر معلوم الفساد بالبديهة أوّلا ؛ ولذا لو سقط حجر على رأس الأشعري لا ينتقم منه ، بخلاف ما لو لطمه لاطم فإنّه يخاصمه ويحاجّه ، وعلى مسلكه لا فرق بينهما.

وثانيا فلما ذا يعاقب الله العصاة على عصيانهم؟ وهل هو إلّا أنّ العبد صار محلّا لفعل الله تعالى كما يصير الجسم محلّا للسواد ومحلّا للبياض باختيار الصبّاغ ، فلما ذا يعاقبه الله تعالى؟

فإن كان جهة عقابه مقارنته للإرادة المتكوّنة للعبد ، فمع فرض عدم تأثيرها في الفعل أصلا ينقل الكلام إليها ، فإن كان الله هو موجدها فلما ذا يعاقب العبد على العمل الصادر مقترنا بها؟ وإن كانت هذه الإرادة أوجدها العبد نفسه فقد تحقّق الشرك الذي فرّوا منه ؛ إذ لا فرق بين الموجودات الخارجيّة والموجودات النفسيّة في كونها ممكنة تحتاج إلى موجد ، فإذا كان العبد هو الموجد لها تحقّق الشرك.


وإن كان جهة عقابه هو الكسب ـ كما صرّح به أبو الحسين البصري في جواب هذه المصيبة المتوجّهة إليه ـ فنقول : ما معنى الكسب الذي ذكرتم أنّه هو سبب الإطاعة؟ فإن كان الكسب بمعناه الظاهري في قوله (١) [تعالى] : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ)(٢) فهو معناه : لها ما فعلته فعلا ناشئا من اختيار مستندا إلى إرادة نفسانيّة ، وإن أراد من الكسب معنى آخر فهو لا يعقله ـ كما اعترف جملة منهم به ـ فما لا يعقل أولى أن لا يعاقبنا الله تعالى بسببه.

وقد ذكر أبو بكر الباقلاني (٣) جوابا آخر هو : أنّ الفعل له جهتان : الاولى جهة كونه فعلا وهذه الجهة مسندة إلى الله تعالى ، وجهة كونه طاعة أو معصية وهذه مستندة إلى العبد وبسببها الثواب والعقاب.

والجواب : أنّ هذه الجهة وهي جهة كونها طاعة أو معصية انتزاعيّة ؛ إذ الطاعة ليست إلّا مطابقة المأتيّ به للمأمور به ، فموجدها هو موجد منشأ انتزاعها ، وإن لم تكن انتزاعيّة فهي أيضا موجود من الموجودات المتأصّلة فينقل الكلام إليها ، فنقول : من يوجدها؟ فإن كان العبد هو الموجد لها فهو الشرك المتوهّم الذي فررتم منه قد وقعتم فيه ، فلما ذا التزمتم بأنّ الله هو الخالق للأفعال ، فالتزموا من أوّل الأمر بأنّ العبد هو الموجد وحده أو بمعونة غيره ، وإن أوجد هذه الصفة الله ، فلما ذا يعاقب العبد عليها؟

وقد أجاب بعضهم بجواب آخر ملخّصه إنكار الحسن والقبح العقليّين (٤) ، والتزم بأنّ الله له أن يدخل أشرف أنبيائه في أسفل درك من جهنّم وأن يدخل أعصى

__________________

(١) في الأصل : قولها ، وهو سهو.

(٢) البقرة : ٢٨٦.

(٣) شرح المواقف ٨ : ١٤٧.

(٤) راجع شرح المواقف ٨ : ١٨١ وما بعدها و ٢٠٢ وما بعدها.


العصاة أرقى مراقي جنّته! وأنّ الظلم منه لا يتحقّق وإن عاقب غير المستحقّ للعقاب كما في العصاة ، فإنّ الظلم هو التصرّف في سلطان الغير ، وكلّ ما في العالم تحت سلطان الله تعالى ، فله أن يتصرّف فيه كيف شاء ، وإنّه لا يسأل عن شيء ، فله أن يعاقب العصاة (١) وليس ذلك ظلما لهم ؛ إذ هم تحت سلطانه والآيات الواردة في نفي الظلم عنه في الحقيقة من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع ، وكيف يحكم المربوب على ربّه بلزوم الثواب ووجوبه للمطيع ووجوب العقاب للعاصي؟ وهل يمكن أن يحكم العبد على مولاه؟ ... إلى آخر كلماتهم الفارغة عن المعاني المعقولة.

والجواب : أنّ معنى حكم العقل ليس بمعنى أنّ العقل يلزمه بذلك ، بل بمعنى أنّ العقل يدرك أنّ الله كذلك ، كما يدرك أنّه موجود وأنّه قادر وأنّه قديم أزليّ ... إلى آخر الصفات الثبوتيّة. فهذا العقل المدرك لذلك مدرك أنّه عادل وليس بظالم ؛ لأنّ الظلم إمّا أن ينشأ من الجهل أو العجز وتعالى الله عنهما ؛ إذ إنّه إمّا أن يكون مريدا لشيء في يد الغير فيعجز عنه فحينئذ يأخذه منه بغير حقّ فيكون ظلما ، أو يكون جاهلا بأنّ الظلم قبيح ، وكلاهما منفيّان عنه تعالى.

وأمّا ما ذكروه : من أنّ الظلم لا يتحقّق إذ كلّ ما في العالم فهو ملك له وليس تصرّفه فيه تصرّفا في غير ملكه ففيه ما لا يخفى ؛ إذ إنّ الظلم غير منحصر في التصرّف في ملك الغير ، بل الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير محلّه ؛ ولذا يقال : ظلم نفسه ، كما ورد في القرآن مرارا وكرارا. وحينئذ فإثابة العاصي وحرمان المطيع بل عقابه وضع للشيء في غير محلّه ، ويشهد لذلك ما نراه في الموالي العرفيّة ، فإنّ السيّد إذا كان له عبدان ملكا له وأحدهما من بدء أمره مطيع والآخر من بدء أمره عاص ، فهل يحسن منه أن يثيب العاصي ويمنع المطيع؟ كلّا! بل يعدّونه ظالما أو سفيها.

__________________

(١) كذا ، والظاهر : المطيعين.


مضافا إلى أنّ تجويز عقاب المطيع وثواب العاصي يرفع حكمة إرسال الرسل وإنزال الكتب ؛ إذ يجوز أن يعاقب من لم يخرج عن طاعته وهو المؤمن ويثيب من لم يخرج عن معصيته وهو المشرك.

فإن أجابوا ـ كما أجابوا ـ بأنّ وعده تعالى للمؤمن بالثواب وللعاصي بالعقاب هو الذي يحسن بعث الرسل وإنزال الكتب.

قلنا : ما المانع من أن يخلف وعده؟

فإن أجابوا بأنّه أخبر أنّه لا يخلف الميعاد ، قلنا : ما المانع من كذبه؟ إذ ليس عمله قبيحا حسب الفرض. وربّما أجابوا بأنّ الله قد جرت عادته على إثابة المطيع ومؤاخذة العاصي وإن كان لو عكس لم يفعل قبيحا. وليت شعري! كم عاشره الأشاعرة من السنين فعرفوا عادته؟

وبالجملة ، فهذه كلمات فارغة ليس تحتها شيء.

وقد احتجّوا على ذلك بوجوه :

أحدها : نقليّ ، وهو الاستدلال بظواهر بعض الآيات من أنّ الله ليس له شريك في خلق الممكنات وأفعال العباد من الممكنات.

والجواب أوّلا : أنّ البحث عقليّ فلا يحسن فيه الاستدلال بالظواهر. وثانيا : أنّ كونه خالقا لا شريك له نحن نقول به أيضا ، إلّا أنّ معناه خالق كلّ شيء ، يعني ليس هو خالق السماء وخالق الأرض غيره وليس هو خالق الإنس وخالق الجنّ غيره ، بل هو خالق جميع الأشياء من الجواهر بقرينة قوله تعالى لعيسى : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ)(١) فنسب الخلق إلى عيسى ، وكذا قوله : (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً)(٢) فنسب الخلق إليهم ، وقوله : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ)(٣) فإذا لم يكن

__________________

(١) المائدة : ١١٠.

(٢) العنكبوت : ١٧.

(٣) المؤمنون : ١٤.


خالق سواه فما معنى أحسن الخالقين؟ والحقّ أنّ الخلق بمعنى الإيجاد فكما نقول : أوجد زيد القيام ، تقول : خلقه.

وقد استدلّ بعضهم (١) بقوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ.)

والجواب : أنّ الآية (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ* وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ)(٢) فالمراد من (ما تَعْمَلُونَ) الصنم الذي تنحتونه بأيديكم من الصخر والحجار.

ثانيها : ما ذكره الفخر الرازي (٣) ، وملخّصه : أنّ الأفعال الصادرة من المكلّفين صورة إمّا أن يعلم الله صدورها أو لا يعلم ، لا سبيل إلى الثاني لاستلزامه نسبة الجهل إلى الله تعالى فلا بدّ من تعلّق علمه بصدورها ، وحينئذ فيستحيل أن يتركها العبد ، وهذا هو معنى الجبر ؛ إذ لا قدرة للعبد إلّا على فعلها. ثمّ إنّه بعد أن أرعد وأبرق ذكر أنّ هذا الدليل لا يستطيع أحد ردّه إلّا أن يلتزم بمذهب هشام بن الحكم فينكر علم الله بذلك وينسبه إلى الجهل.

أقول : وقد ذيّل بعض الأشاعرة (٤) هذا البرهان بأنّ أبا لهب قد أخبر الله عنه بأنّه (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ)(٥) فهل يكون أبو لهب قادرا على الإسلام؟

والجواب : أنّ الله تعالى عالم بصدور هذا الفعل منه ، لكن علم الله بمعنى أنّه انكشف لديه أنّه يفعل ، لكن هذا الكشف ليس له دخل في إيجاد الفعل ، فهو نظير علمنا بأنّ زيدا لا يترك الصلاة أو أنّ الشمس تطلع غدا ، فهل لعلمنا بهذه الأشياء دخل في طلوع الشمس وعدم ترك زيد لصلاته؟ فكذلك علم الله من هذه الجهة ،

__________________

(١) انظر شرح المواقف ٨ : ١٥٨.

(٢) الصافات : ٩٥ و ٩٦.

(٣) انظر التفسير الكبير ٢٥ : ١٤٩ ـ ١٥٠ ذيل الآية ، وشرح المواقف ٨ : ١٥٥.

(٤) انظر شرح المواقف ٨ : ١٥٦.

(٥) المسد : ٣.


فإنّه انكشف لديه أنّ زيدا يصلّي باختياره وأنّ عمرا يزني باختياره ، إلّا أنّ انكشاف ذلك له لا ربط له بأصل الصدور ؛ إذ ليس هذا العلم هو المحقّق له ، بل بما أنّه يتحقّق واقعا تعلّق علم الله به لا بالعكس ، بل لو صدر العمل منه بغير الاختيار لنسب الجهل إلى الله ، تعالى عمّا يقوله الظالمون علوّا كبيرا! لعلمه بصدوره منه اختيارا.

والظاهر أنّ كلامهم مغالطة ، فإنّ عندنا علما له مدخليّة في العمل الخارجي ، وهو تصوّر نفس الفاعل له ، إلّا أنّ هذا العلم إنّما هو من المكلّف لا من الله تعالى. ولو كان علمه بصدور الفعل يوجب الجبر لكانت أفعاله جبرية عليه أيضا ، لتعلّق علمه بأنّه يخلق ويرزق وينزل الغيث .. إلى آخر معلوماته ، فهل يلتزم الأشعري بأنّ أفعاله تعالى جبريّة عليه؟ ولا بعد في التزامه ذلك بعد نفي الحسن والقبح.

ثالثها : أنّ كلّ ممكن لا بدّ له من علّة حتّى يتحقّق ؛ إذ نسبته إلى طرفي الوجود والعدم متساوية ، فلا يعقل أن يتحقّق أحد الطرفين ما لم يحصل مرجّح له ، لاستحالة الترجيح من غير مرجّح ، فهذا المرجّح إن كان محقّقا لوجوب ذلك الفعل فلا يستطيع العبد ترك الفعل بعد وجوبه ، وإن لم يكن محقّقا لوجوبه فلا يوجد ؛ إذ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، فلا بدّ من مرجّح آخر ليجب ، فإن وجب فيستحيل تركه ، وإلّا فلا يوجد ، وهكذا حتّى يجب صدوره وحينئذ فلا يقدر العبد على تركه وهو معنى الجبر.

والجواب : أنّا نرى وجدانا عند صدور عمل منّا أنّا نتصوّره أوّلا ، ثمّ نتصوّر فائدته لنا ، ثمّ نتصوّر عدم المانع منه ، أو نوطّن أنفسنا على ما يحدث بسببه من الموانع ، ثمّ نميل إليه ، ثمّ نرى أنفسنا قادرين على إيجاده وعلى استمرار عدمه ، وهذه هي القدرة ، ثمّ نختار أحد الأمرين ، وهذه هي رتبة الاختيار ومعنى الاختيار طلب الخير ، فليت شعري! متى صار الفعل جبريا وهو يصدر بالاختيار؟ ولو أراد أن لا يصدره لا يصدره.


وقول : إنّه لما ذا وجد؟ نقول : لأنّ الموجد اختار إيجاده لملاءمته لطبعه فقد اختاره.

ودعوى : أنّ الممكن لا بدّ له من علّة مسلّمة لكنّها بمعنى الموجد وهو متحقّق في المقام ، وأمّا أنّ الفعل حينئذ يلزم أن يكون جبريا وواجب الصدور فلا ، ولو كان كذلك لنقل الكلام إلى أفعاله تعالى حرفا بحرف ، فهل يلتزمون بالجبر فيها؟ وغير بعيد منهم ذلك بعد نفي القبح والحسن عن أفعاله ، تعالى الله عمّا يقولون علوّا كبيرا!

ومن الظرائف المنقولة : أنّ ناصر الدين شاه سأل المحقّق السبزواري ـ لمّا مرّ على سبزوار ـ عن الجبر والتفويض والأمر بين الأمرين ، فقال افصّل لك أم اجمل؟

فقال : بل أجمل ، فقال : الجبر «لا حول ولا قوّة إلّا لله» والتفويض «لا حول ولا قوّة إلا لي» والأمر بين الأمرين «لا حول ولا قوّة إلّا بالله». وقصّة بهلول رحمه‌الله مع أبي حنيفة ورميه له بالحجر مشهورة ومسطورة ، فافهم.

وبالجملة ، فليس في الأفعال الصادرة منّا غير ذلك كما ذكرنا.

وما ذكره بعضهم : من أنّ الفعل مستند إلى الإرادة وأنّها الشوق الأكيد النفساني ، فلا نعلم مستنده أصلا هل المستند إلى هذا هو الحاجبي أم هو العضدي أم غيرهما؟ وليس له أصل في كتب اللغة ، فإنّ الإرادة في اللغة بمعنى المشيئة ، ومنه : إذا أراد الله شيئا ... الخ ، يعني إذا شاء. ومنه : ما ورد في الحديث : «إنّ الله خلق المشيئة بنفسها وخلق الأشياء بالمشيئة» (١).

وبالجملة ، فالإرادة في جميع الأخبار الواردة عن أهل البيت المراد بها المشيئة ، وهي في العرف أيضا بهذا المعنى مشهورة الاستعمال. وقد تطلق لغة على معنى آخر وهو التهيّؤ في قوله [تعالى] : (جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ)(٢) وبهذا المعنى تسند إلى الجامدات أيضا.

__________________

(١) الكافي ١ : ١١٠ ، الحديث ٤.

(٢) الكهف : ٧٧.


وبالجملة ، فليست الإرادة من صفات الذات في الحقّ وإنّما هي من صفات الفعل ، كما يظهر من جملة من الأخبار المعقّبة لها بالعلم والقدرة التي مؤدّاها : أنّ الله عالم قادر ثمّ أراد ، التي يظهر تراخي الإرادة عنهما.

وبالجملة ، فالفعل الاختياري هو العمل المسبوق بالعلم والقدرة وتوجده النفس بتحريك العضلات ، والشوق هو المرجّح لاختيار النفس إعماله وإيجاده ، فالموجد هو نفس الإنسان لا الإرادة ولا الاختيار ؛ إذ الاختيار ـ كما قدّمنا ـ هو طلب الخير ، وليس صفة نفسانية ، بل انتزاعية من إعمال النفس قدرتها في ايجاد الفعل الملائم لها ، فافهم.

ثمّ إنّ الأفعال الصادرة من العبد على قسمين :

أحدهما : طريقي ، وهو الأفعال النفسانيّة من العزم والبناء على إيجاد الفعل خارجا وقصده ذلك ، وهذا القصد والعزم لا يكون مسبوقا بعزم وقصد ، بل هو من الأفعال التي توجدها النفس بمجرّد تحقّق الملاءمة لإحدى قوى النفس ، وإلّا لزم التسلسل.

الثاني : الأفعال النفسيّة ، وهي الأفعال الجوارحيّة ، وهذه الأفعال تكون مسبوقة بالتصوّر والقصد إليها والبناء.

وبالجملة ، فقد اندفعت هذه الشبهة بأنّ كلّ فعل اختياريّ لا بدّ له من موجد وهو موجود في المقام ، ولا بدّ في اختيار النفس للفعل من مرجّح ليتحقّق الاختيار بمعنى طلب الخير والمرجّح هو ميلها الناشئ من إدراكها ملائمة ذلك الفعل لإحدى قواها.

ولهم شبهة اخرى تكون هي الشبهة الثالثة من الشبه العقليّة ، وملخّصها : أنّ فعل المكلّف لا بدّ أن تتعلّق إرادة الله بفعله أو تركه ، ويستحيل عدم تعلّق الإرادة به ، لاستحالة نفي الضدّين ، وإذا تعلّقت الإرادة فيستحيل تخلّف المراد عن الإرادة ، فلا بدّ من تحقّق الفعل إن كانت الإرادة قد تعلّقت بإيجاده ، أو استمرار الترك إن كانت الإرادة قد تعلّقت بعدمه.


والظاهر أنّ نظر الآخوند قدس‌سره إلى هذه الشبهة ، حيث أجاب (١) بأنّ الإرادة الأزليّة قد تعلّقت بالفعل الاختياري ، فمع صدوره قسرا يلزم التخلّف.

ومعلوم أنّ جوابه عين الالتزام بالجبر ؛ إذ لو تعلّقت الإرادة بصدوره اختيارا فهو مقسور على اختياره ، فليس هو إلّا اسم الاختيار لا واقعه وحقيقته.

والحقّ في الجواب أن يقال : إنّ الإرادة بمعنى المشيئة إنّما تكون من كلّ فاعل بالإضافة إلى فعله ، ولا معنى لتعلّق المشيئة بفعل الغير ، وحينئذ فمشيئته تعالى إنّما تتعلّق بأفعاله التي منها استمرار إفاضة الوجود والقدرة على العبد ، ومشيئة العبد نفسه تتعلّق بأفعاله الصادرة منه ، فنفس الفعل يصدر من العبد المباشر وإن صحّ نسبته إلى الله باعتبار إفاضته الوجود والقدرة على العبد. وآية : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ)(٢) أيضا بهذا المعنى ، يعني أنّ الله تعالى إذا تعلّقت إشاءته بعدم هذا الفعل فيرفع قدرة المكلّف عنه أو يرفع عنه الحياة.

هذه شبه الجبر ، وقد ظهر أنّ انتفاء الإرادة عن أفعال العبيد وجودا وعدما ممكن وأنّه ليس من نفي الضدّين ؛ إذ التقابل تقابل عدم وملكة ، فهما إنّما لا يجوز ارتفاعهما عمّا هو قابل لتعلّق الإرادة به ، وهو فعل الله نفسه وفعل كلّ فاعل (٣) وحيث انتهى الكلام إلى هنا ، فقد ظهر بحمد الله ـ جلّت عظمته ـ انتفاء شبه الجبر وأنّ الأفعال مخلوقة للعبيد وهم الموجدون لها وإن صحّ نسبتها إليه تعالى بما أنّه مفيض للوجود والقدرة ، فافهم.

هذا تمام الكلام في المجبّرة وجوابهم.

وأمّا الفلاسفة فحيث بنوا على أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد وطبّقوها على أفعال العباد زعموا أنّ فعل العبد ما لم يجب لم يوجد ؛ إذ لا بدّ لكلّ فعل من علّة يكون الفعل

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٨٩.

(٢) الإنسان : ٣٠ ، التكوير : ٢٩.

(٣) كذا في الأصل ، والصحيح ظاهرا : لا فعل كلّ فاعل.


معلولا لها ، وعلى هذا أرجعوا الأفعال كلّها إلى الله وزعموا أنّه علّة العلل ومع تحقّق علّة الفعل وهو الإرادة يتحقّق الفعل بعدها بغير اختيار المكلّف نظير حمرة الخجل وصفرة الوجل ، فكما أنّ الإنسان عند الخوف يصفرّ وجهه بغير اختياره كذلك عند تحقّق الإرادة ، فيكون الفعل حينئذ واجبا حتّى يوجد خارجا ، فهو مستند إلى إرادة العبد ومع تحقّقها فلا بدّ أن يوجد. وعلى هذا بنوا القول بقدم العالم ، حيث إنّ إرادة الله تعالى قديمة بقدمه ، فلا بدّ من قدم العالم ، وعلى ذلك بنوا القول بالعقول العشرة وبقيّة مزخرفاتهم.

وقد ظهر لك ممّا قدّمنا سابقا أنّ الثابت عندنا هو أنّ الشيء لا بدّ له من موجد والموجد في المقام متحقّق وهو نفس العبد ، فإنّه تصوّره فمال إليه فبنى على إيجاده فأوجده ، وهذا البناء ليس هو صفة الإرادة ، وإنّما هو فعل من أفعال النفس كتصوّره ومطالعته ، بل إنّ نفس تصوّر ذلك الشيء أيضا من أفعاله. ويدلّ عليه أنّه بعد بنائه على إيجاده هو قادر على ترك إيجاده فيستمرّ العدم السابق مثلا ، فهذا العمل الذي يعمله المكلّف مستند إلى بنائه على إيجاده الناشئ من تصوّره وإدراكه ملائمة الفعل لإحدى قواه النفسية ، فإنّه قد جبلت النفس على جلب ما تميل إليه ودفع ما تكره ، من جهة أنّ الإنسان يحبّ نفسه.

وقد ظهر ممّا ذكرنا كثير ممّا في كلام صاحب الكفاية قدس‌سره ونذكر منها أمرين :

الأوّل : تقسيمه الإرادة إلى تكوينيّة وأنّها العلم بالنظام على النحو الكامل التامّ ، وتشريعية وهي العلم بالمصلحة في فعل المكلّف (١).

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ الإرادة ـ وهي البناء على الإيجاد ـ أمر تكويني دائما ، ولا يمكن أن يكون تشريعيا. نعم ، قد تتعلّق بأمر تكويني كخلق زيد ، وقد تتعلّق بأمر تشريعي كجعل الحكم بحسب ما يعلم من المصلحة ، أمّا أنّ الإرادة تكون نفسها

__________________

(١) كفاية الاصول : ٨٨.


تشريعيّة فلا ، نعم ، الإرادة التكوينية من العبد لمصالحه ، ومن الله لمصالح المخلوق ؛ لأنّ الله كامل ليس فيه نقص كي يستكمل تعالى بخلقه ، بل إرادته لمصالحهم أيضا.

الثاني : ما ذكره (١) من انتهاء الطاعة والمعصية إلى الشقاوة والسعادة الذاتيّة أيضا. ولا يخفى ما فيه ، فإنّ الذاتي لا يتخلّف ، وقد شاهدنا كثيرا كانوا عصاة فسقة ثمّ صاروا من أولياء الله تعالى وبالعكس ، ولو كانت الشقاوة والسعادة ذاتيتين لم يعقل الاختلاف ، بل نرى الشخص الواحد قد يطيع في هذا الآن ويعصي بعده بغير مهلة من دون زمان بينهما.

وقد وجّه بعض الأساطين (٢) من تلامذته كلامه (قدس‌سرهما) وقدّم على التوجيه مقدّمة هي : أنّ العوارض قسمان : عوارض مفارقة وهذه تحتاج إلى جعل مستقلّ بعد جعل المعروض ، وعوارض ملازمة وهي قسمان أيضا : ملازمة للماهية ، وملازمة للوجود ، وكلّ منهما لا تحتاج إلى جعل غير جعل المعروض. ثمّ طبّق هذه الكلّية على المقام ، فذكر : أنّ العلم من العوارض المفارقة ؛ ولهذا يحتاج إلى جعل يستند إليه ، بخلاف الاختيار فهو من الأعراض الملازمة ، فجعل الإنسان جعل له ، وحينئذ فهو من الذاتيات له ، وبما أنّ بقيّة المقدّمات من العلم والقدرة وغيرها مجعولة لله تعالى بجعل مستقلّ فاستند الفعل إلى الاختيار ، وهو من ملازمات النفس ، وإلى العلم والقدرة وهما من الله ، فهو معنى أمر بين الأمرين.

وهذا الكلام كما ترى غير تامّ كبرى وصغرى ونتيجة :

أمّا الكبرى : ففيها أوّلا : أنّ جعل العوارض الملازمة قسمين : عوارض الماهيّة وعوارض الوجود ، فلا يخفى ما فيه ؛ إذ الماهيّة بما هي ماهيّة ليس لها عوارض أصلا وإنّما تعرضها العوارض بلحاظ وجودها ولو ذهنا ، فليس عندنا عوارض للماهية في قبال عوارض الوجود.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٨٩ ـ ٩٠.

(٢) مقالات الأصول ١ : ٢١٢.


وثانيا : مع الغضّ عن هذا الإشكال فهل العرض الملازم ومعروضه وجودان أم لا؟ ولا ريب في كونهما وجودين ، فلا بدّ لهما من إيجادين ؛ إذ الوجود والإيجاد منتزعان من أمر واحد بلحاظين ، فلا يمكن أن يكون وجودان بإيجاد واحد أصلا ، فكيف يمكن جعلهما بجعل واحد؟

والمناقشة في الصغرى ـ مع غضّ النظر عمّا اورد على الكبرى ـ فبأنّ الاختيار الذي زعم أنّه عرض لازم هل المراد منه الاختيار بالقوّة وشأنا؟ فهو في جميع صفات الإنسان من العلم والقدرة والكتابة والضحك ، فلم عدّ العلم من العوارض المفارقة؟ وإن كان المراد الاختيار الفعلي فهو مفارق كغيره ، فأيّ معنى لجعله من الأعراض الملازمة مع انفكاكه عنه؟ كما في المجبور وكما في الطفل الصغير والمجنون وغيرهم.

وأمّا المناقشة في النتيجة فمع الغضّ عن جميع ما ذكرنا في الصغرى والكبرى نقول : إنّ جعل الاختيار بجعل الإنسان وجعل الإنسان وخلقه مستند إلى الله تعالى ، وبقيّة المقدّمات من العلم والقدرة أيضا مجعولة له ، فالفعل بجميع مقدّماته مستند إلى الله تعالى فلزم الجبر ، فأين الأمر بين الأمرين؟ وقد اتّضح لك بما قدّمناه معنى الأمر بين الأمرين وأنّ الفعل بما أنّ إيجاده مستند إلى بناء العبد على إيجاده والبناء من أفعال النفس فهو مستند إلى الإنسان وبما أنّ إفاضة الوجود والقدرة حال العمل من الله تعالى يتحقّق معنى أمر بين الأمرين.

وذلك كلّه ببركة ما ورد إلينا من الأخبار عن أئمّتنا ، وهذا هو شاهد إمامتهم وكونهم ممدودين باليد الغيبيّة ؛ إذ هذه الأمور دقيقة وكلّ من خاض فيها ذهب إلى الجبر أو التفويض إلّا هم ـ سلام الله عليهم ـ فقد ورد عنهم ما مضمونه : إنّ راويا سأل الإمام عليه‌السلام هل المكلّف يعمل العمل بنفسه من غير احتياج إلى الله؟ فقال الإمام : «هو أعجز من ذلك» فقال السائل : فهل يفعل الله ذلك العمل؟ فقال عليه‌السلام :


«الله أعدل من أن يعاقب على فعل يجبر العبد عليه» (١) إلى آخر الرواية المثبتة لكون الأفعال التي يفعلها العبيد أمر بين الأمرين.

وقد ظهر بطلان القول بالتفويض أيضا ، فإنّ الممكن كما يحتاج في وجوده إلى مؤثّر كذلك يحتاج في بقائه إلى المؤثّر أيضا ، فالإنسان مفتقر في كلّ آن من آنات وجوده إلى أن يفيض الله عليه الوجود والقدرة والفعل مستند إليهما وإلى بنائه الذي هو فعل من أفعال نفسه ، فثبت ما ذكرنا من كون الفعل أمرا بين الجبر والتفويض. هذا تمام الكلام في هذه المسألة العويصة.

بقي الكلام في أمرين لا بأس بالتنبيه عليهما :

أحدهما : أنّ ما ذكرناه من كون فعل العبد أمرا بين الأمرين ، إذ أنّه مستند إلى إرادة العبد بمعنى عزمه وإعمال قدرته في العمل وبنائه وهذه فعل من أفعال العبد وبما أنّ الله تعالى هو الذي يفيض عليه الوجود والقدرة آناً فآنا فالعمل منسوب إليه ، فهذا الذي ذكرناه هو مدلول قول المصلّي في صلاته : «بحول الله وقوّته أقوم وأقعد» فإنّه نسب الفعل إلى نفسه حيث يقول : «أقوم وأقعد» إلّا أنّ هذا العمل هو بحول الله ، إذ لو لا إفاضته الوجود والقدرة آناً فآنا لا يستطيع العمل.

وأمّا قوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً* إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ)(٢) فقد قال الاستاذ الخوئي في مجلس بحثه الموقّر : إنّ المجموع من المستثنى والمستثنى منه مدخول للنفي ، والمعنى : لا تقولنّ إنّي فاعل ذلك غدا إلّا أن يشاء الله خلافه ، بل علّق نفس الفعل الذي تريد أن تفعله على المشيئة ؛ إذ نفس الفعل ليس مفوّضا إليك والله قادر على منعك عنه ، بل نفس الفعل محتاج لمقدّمات إعدادية من إفاضة الوجود والقدرة وغيرهما من مقدّمات العمل.

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ١٤١ ـ ١٤٢ ، الحديث ٤٣.

(٢) الكهف : ٢٣ ـ ٢٤.


الثاني : أنّ ما ورد من الحديث القدسي من قوله مضمونا : «إنّ مشيئة العبد بمشيئة الله تعالى ، فالله أولى بحسنات العبد منه والعبد أولى بسيّئاته من الله» (١) فإنّ هذا الحديث القدسي بظاهره ربما يورد عليه : أنّه إن كان العمل لله فلا أولوية وإن كان للعبد فلا أولويّة وإن كان أمرا بين الأمرين فلا أولويّة أيضا ، فما معنى هذه الأولويّة المثبتة؟

والجواب : أنّ ما ذكروا وإن كان صحيحا دقّة ، إلّا أنّ العرف يفرّق في ذلك بين السيّئات والحسنات ، بيان ذلك يتّضح بمثال عرفي نذكره لك : لو أنّ مولى سلّم إلى عبده مالا وأرشده إلى طريق التجارة وحذّره من القمار وما يتلف المال ، فذهب العبد فتاجر بتلك الأموال فربح ربحا عظيما ، فإنّه يقال : إنّ هذا الربح ببركة مولاه العرفي الذي أرشده ودفع إليه المال ، فهو أولى بأن ينسب إليه العمل من نفس العبد. ولو أنّ العبد لعب بها قمارا وكان المولى يعلم ذلك مع ذلك ينسب اللوم إلى ذلك العبد فيكون أولى بسيّئاته عرفا من سيده. وهكذا في الله تعالى عينا حرفا بحرف ، بل أولى كما لا يخفى على اولي البصائر ؛ إذ جميع النعم من الله ، بخلاف المولى العرفي ، فافهم.

بقي الكلام في معنى روايتين :

إحداهما : «الناس معادن كمعادن الذهب» وقد رواها الصدوق قدس‌سره في توحيده (٢). والظاهر من معناها : أنّ الناس يختلفون في القرب إلى المعاصي والبعد عنها ، فمن تربّى في دار لا يرى فيها غير الطاعات الصادرة من أبويه الصالحين أقرب إلى الطاعة ممّن تربّى في دار لا يرى فيها غير الفسق والفجور ، فإنّه أقرب إلى الفسق والفجور من الأولى ، وهذا أمر معلوم بالوجدان وليس له مدخليّة في كون الفعل الذي يفعله مجبورا عليه.

__________________

(١) الكافي ١ : ٢٥٢ ، الحديث ٦ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ١٤٣ ، الحديث ٤٦.

(٢) لم نعثر عليه في التوحيد نعم رواها في الفقيه ٤ : ٣٨٠ ، الرقم ٥٨٢١.


وبالجملة ، فمدّعانا كون هذه الأفعال صادرة بالإرادة والعزم والاختيار وليس العبد مجبورا عليها ، وهذا

لا يضرّ بكون بعض مقدّمات الطاعة أو المعصية أمرا غير اختياريّ ، بل أمر قسريّ ـ كما ذكرنا ـ وإن أمكن نادرا التخلّف كما في كثير من أولاد الصلحاء صاروا في الفسق الغير المتناهي وبالعكس ، إلّا أنّ النوع غالبا كما ذكرناه ، فإنّ الأوّل أقرب إلى الصلاح من الثاني والثاني أقرب إلى الفسق أو الفجور من الأول.

وبالجملة ، فكون الناس مختلفين لا يضرّ بمدّعانا أصلا كاختلافهم في الملكات النفسيّة من البخل والكرم والشجاعة والجبن وغيرهما.

الثانية : ما ورد من قولهم : «السعيد سعيد وهو في بطن أمّه والشقيّ شقيّ وهو في بطن أمّه» (١) والظاهر من معناها : إن قلنا بعالم الذرّ وإنّ من أطاع في عالم الذرّ أو عصى فيه فهو في هذا العالم يجري على منوال ذلك العالم ، فهو سعيد في بطن أمّه وشقي في بطنها ، لمسبوقيّته في ذلك العالم ومعرفة حاله. وإن لم نقل بذلك فهو بما أنّه عالم بعواقب العبد من أنّه سعيد فهو سعيد في بطن أمّه ، والشقيّ أيضا كذلك ، فهو مكتوب في ديوان السعداء لعلمه تعالى بنتيجة أمره ، وكذلك الشقيّ. وهذه الكتابة ليست هي العلّة في سعادته وشقاوته ، وإنّما هي بما أنّها انكشفت لمن لا يخفى عليه شيء.

وبالجملة ، فالسعادة والشقاوة ليستا من الصفات الذاتيّة لهذا المخلوق ؛ ولذا قد يتخلّفان معا كما في المجنون من أوّل بلوغه إلى آخر عمره أو الطفل المتوفّى ، فهذا لا يتّصف بكلّ منهما أصلا ، فافهم.

__________________

(١) التوحيد : ٣٥٦ ، الحديث ٣.


وقد ظهر بما ذكرنا بطلان ما ذكره الآخوند قدس‌سره (١) من أنّ العمل الذي يصنعه العبد مستند إلى اختياره والاختيار مستند إلى السعادة أو الشقاوة الذاتيين والذاتيّ لا يعلّل ، فإنّ السعادة والشقاوة وصفان ينتزعان من الطاعة وهي الإتيان بالمأمور به والمعصية وهي ترك الإتيان بذلك ، فأين هما من الذاتيّ الذي لا يعلّل وهو الجنس والفصل ، وهما من العوارض.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٨٩ ـ ٩٠.


الكلام في هيئة «افعل»

قد ذكر بعضهم للهيئة معان أنهاها إلى خمسة عشر (١) ، وربما زاد بعضهم عليها (٢). وقد وقع الكلام في أنّها حقيقة في أيّها أو مجاز في أيّها ، أو أنّها مشتركة بينها اشتراكا لفظيّا ، أو بين بعضها ومجاز في الباقي.

وقد ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره (٣) ، أنّها مستعملة في الطلب وحقيقة فيه ـ يعني في إنشاء الطلب ـ وأنّها في جميع تلك الأمثلة مستعملة في إنشاء الطلب ، إلّا أنّ الداعي لذلك الإنشاء قد يكون هو الطلب الحقيقي وقد يكون هو التعجيز والسخرية وغيرهما ، فهي مستعملة في إنشاء الطلب في الجميع فهي حقيقة ، لاستعمالها في معنى واحد وإن اختلفت الدواعي. ثمّ ذكر أنّه لو لم يقل بذلك فلا أقلّ من القول بأنّه مستعمل في الجميع في إنشاء الطلب ، إلّا أنّه حقيقة حيث يكون الداعي هو الطلب الحقيقي ومجاز حيث يكون الداعي غيره (*).

__________________

(١) ذكرها العلّامة في نهاية الوصول (مخطوط) : ٦٤.

(٢) كما في مفاتيح الاصول حيث عدّ خمسة وعشرين من معانيها وقال بعد تعداد معانيها : ولا بعد في إرجاع بعضها إلى بعض ومثله في هداية المسترشدين ١ : ٥٩٦.

(٣) كفاية الاصول : ٩١.

(*) هذا ما ذكره في الدورة اللاحقة :

ذكر صاحب الكفاية [: ٩٢] : أنّ الصيغة حقيقة في الوجوب ، وقد استدلّ على ذلك بالتبادر وأيّده بعدم صحّة الاعتذار في مخالفتها باحتمال إرادة الندب وذكر أنّ كثرة استعمالها في الندب وإن كان محقّقا ، إلّا أنّه ليس أكثر من استعمالها في الوجوب ، مع أنّه مع القرينة ولا تضرّ بالحقيقة ، وقايسه بصيغ العموم المستعملة في الخصوص.

ولا يخفى أنّ التبادر وإن كان صحيحا ، إلّا أنّ كونه من حاقّ لفظ الصيغة تحتاج إلى إثبات ، بل قد يكون من جهة حكم العقل كما سيأتي. كما أنّ ما ذكره مؤيّدا من عدم صحّة


وقد ذكرنا فيما تقدّم : أنّ معنى الطلب هو عبارة عن التصدّي نحو المراد بنحو من أنحاء التصدّي ومثّلنا لذلك بطالب العلم وطالب الضالّة حيث لا يصدقان بمجرّد الشوق ما لم يتصدّ لذلك ، وبما أنّ التصدّي أنواع ، فإذا تعلّق غرض المولى بصدور فعل العبد باختياره فتصدّيه نحوه إنّما يكون بإنشاء الصيغة ، فيقول له : «افعل» فيكون قول : «افعل» من المولى محقّقة لمصداق من مصاديق الطلب ، لا أنّها ينشأ بها الطلب ، ضرورة أنّ الطلب عنوان واقعي غير قابل لأن ينشأ باللفظ ؛ إذ التصدّي هو أمر واقعي يكون نفس النطق بالصيغة محقّقا له كما يحقّقه اشتغال طالب العلم وتفحّص طالب الضالّة.

ومن هنا ظهر : أنّ ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (١) من أنّ الصيغة موضوعة لإنشاء النسبة الإيقاعيّة ، وما ذكره بعض الأساطين (٢) من أنّها للبعث النسبي ، في غير محلّه ؛ إذ إنّها محقّقة بنفسها للبعث ولإنشاء النسبة ، لا أنّها موضوعة لذلك ؛ إذ بها يتحقّق فرد من أفراد التصدّي والبعث والإنشاء.

وبالجملة ، فليست الصيغة موضوعة لذلك وإنّما وضعت الصيغة لإبراز الاعتبار النفساني الذي اعتبره المولى ، فإنّه اعتبر في نفسه كون العمل في ذمّة المكلّف ،

__________________

ـ الاعتذار عند العقلاء لا يصلح مؤيّدا ؛ لأنّه لازم أعمّ ، لإمكان استفادة الوجوب من حكم العقل.

نعم ، ما ذكره في كثرة الاستعمال صحيح وحسن ، إلّا أنّ مقايسته بالعموم والخصوص غير تامّة ؛ لأنّ للعموم ألفاظ مختلفة موضوعا كلّ واحد منها بوضع يغاير وضع الآخر ، ولم يثبت استعمال كلّ لفظ منها في الخصوص استعمالا كثيرا حتّى يقال بأنّ كثرة الاستعمال مع القرينة لا يضرّ بالحقيقة ، مضافا إلى ما ذكره هو من أنّ الخصوص ليس استعماله مجاز حتّى يصحّ المقايسة.

(١) أجود التقريرات ١ : ١٣٤.

(٢) نهاية الأفكار ١ : ١٧٨.


نظير «الدين» الذي اعتبره العقلاء ، وقد اطلق على بعض الواجبات لفظ «الدين» في بعض الأخبار ، فتكون الصيغة موضوعة لإبراز ذلك الاعتبار النفساني الذي اعتبره المولى في ذمّة المكلّف.

ودعوى كونها حقيقة في إبراز الشوق ـ كما عن بعض (١) ـ يدفعها استعمالها في الواجبات المشروطة التي لم يتحقّق شرطها ، فلا شوق في المقام لتبرزه. ودعوى وجود الشوق فعلا يخرجه عن المشروط الذي هو محلّ الفرض والنقض إلى المعلّق. مضافا إلى أنّ الظاهر أنّ الحكم أمر قابل للوضع والرفع شرعا والشوق ليس قابلا لذلك أصلا ؛ إذ هو أمر واقعي.

وبالجملة ، فالصيغة موضوعة لإبراز ذلك الاعتبار النفساني ، فاستعمالها في إبرازه حقيقة واستعمالها في إبراز غيره من السخرية وشبهها مجاز ، وفي جميع المعاني التي ذكرت للصيغة ـ من التهديد والتعجيز والتسخير وغيرها ـ استعمالها مجازيّ ، لعدم تحقّق استعمالها في معناها ، وهو إبراز اعتبار شيء في ذمّة المكلّف. مضافا إلى استحالة الجامع بين هذا الاعتبار والتهديد.

ثمّ إنّ الكلام يقع في بيان معنى الوجوب والاستحباب ليظهر أنّ ذلك الاعتبار الذي وضعت الصيغة لإبرازه واف بمعنى الوجوب أو الاستحباب؟

فنقول : ذكر صاحب المعالم قدس‌سره (٢) : أنّ الوجوب عبارة عن طلب شيء والمنع عن تركه وأنّ الاستحباب طلب شيء والإذن في تركه. وقد أورد عليه المتأخّرون (٣) :

__________________

(١) لم نقف عليه.

(٢) يستفاد ذلك من تضاعيف كلماته ، انظر المعالم : ٤٩ ، ٦٦ ، ٨٩ ، ونسب هذا المعنى في أجود التقريرات ١ : ١٤٣ ، إلى متقدّمي الأصحاب.

(٣) مثل المحقّق الأصفهاني في الفصول : ٦٥ ، وأخيه المحقّق في هداية المسترشدين ١ : ٦٠٧ ، والكلباسي في الإشارات ، الورقة ٤٣.


أنّ الوجوب والاستحباب أمران بسيطان ، فما معنى التركيب المذكور؟ واجيب عنه بأنّه وإن كان بسيطا إلّا أنّهم في مقام تحديد ذلك الأمر البسيط حدّدوه بلوازمه ، لا أنّه مركّب حقيقة من هذين الأمرين ، بل الوجوب هو الطلب الأكيد الحتمي ، والاستحباب هو الطلب الضعيف ، وقد ذكرنا أنّ الصيغة ليست موضوعة للطلب لتقع الكلام في أنّه الطلب الأكيد أو مطلق الطلب. مضافا إلى أنّ معنى الطلب هو التصدّي نحو المطلوب ، وهو أمر واقعي لا ينشأ بالصيغة كما مرّ. والشوق وإن كان قابلا للشدّة والضعف ، إلّا أنّ الصيغة لم توضع له.

وقد ذكر الميرزا قدس‌سره (١) بأنّ الفرق بينهما بالمبادئ ، فالوجوب ما كانت مصلحته ملزمة بخلاف الاستحباب ، فإنّ مصلحته غير ملزمة. ولا يخفى أنّ المنكر للمصالح والمفاسد ـ وهو الأشعري ـ عنده أيضا وجوب واستحباب. مضافا إلى أنّ الأوامر الظاهرية هو يعترف بعدم المصالح في متعلّقاتها ، فما معنى الوجوب الظاهري والاستحباب الظاهري؟ مضافا إلى الأوامر الجزافيّة من الموالي العرفيّة ، ففي جميع هذه الوجوب والاستحباب متحقّقان ولا مصلحة في المتعلّق وإنّما هي في نفس الأمر.

والأظهر أن يقال : إنّ الصيغة إنّما وضعت كما ذكرنا لإبراز ذلك الاعتبار النفساني ، وحينئذ فإذا اقترن ذلك الاعتبار بالمرخّص في تركه ثبت الاستحباب ، وإن لم يتحقّق ذلك المرخّص يكون هو الوجوب. فالصيغة المبرزة لاعتبار شيء في ذمّة المكلّف إن اقترنت بالمرخّص في الترك فهي مثبتة للاستحباب ، وإن لم تقترن بالمرخّص تدلّ على الوجوب ؛ إذ الوجوب ليس إلّا عبارة عن الإلزام وثبوت شيء في ذمّة المكلّف.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٤٤.


وبالجملة ، فالصيغة إنّما تبرز ذلك الاعتبار النفساني ، فإذا اقترن إبراز ذلك الاعتبار بعدم المرخّص في الترك ينتزع الوجوب حينئذ ، وإذا اقترن إبراز ذلك الاعتبار بالمرخّص في الترك ينتزع الاستحباب ، فكلّ من الوجوب والاستحباب خارجان عن معنى الصيغة ، إلّا أنّ الصيغة دالّة عليهما بضميمة عدم الترخيص أو الترخيص.

وقد ظهر بما ذكرنا : أنّ الدلالة على الوجوب ليس بحكم العقل ـ كما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (١) ـ بل بالدلالة من نفس الصيغة بضميمة عدم ذكر المرخّص.

ويترتّب على ما ذكرنا من معنى الوجوب امور :

أحدها : أنّه لا مجال لما ذكره صاحب المعالم (٢) من كونها حقيقة في الوجوب ومجازا مشهورا في الندب وما يتفرّع على ذلك ، ولا مجال لاحتمال كونها مشتركة اشتراكا لفظيّا بين الوجوب والندب أو معنويا ، فإنّ ذلك كلّه منفيّ بما ذكرنا.

وثانيها : أنّه لا مجال لما ذكره في الكفاية (٣) من كون الصيغة حقيقة في الوجوب أو أنّها منصرفة إليه.

ثالثها : أنّه إذا استعملت الصيغة في اعتبار أشياء بنحو المجموع كما في قوله : «لا صلاة إلّا بأذان وإقامة» فورود الترخيص بترك الأذان يكون ترخيصا في مخالفة ذلك الاعتبار المتعلّق بالمجموع ؛ إذ الترخيص في ترك بعض ما تعلّق الاعتبار به كاشف عن أنّ ذلك الاعتبار الواحد لم يقترن بعدم المرخّص بل اقترن به ،

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٤٤.

(٢) المعالم الدين : ٤٦ و ٥٣.

(٣) كفاية الاصول : ٩٢.


فيجوز مخالفته في جميع ما اعتبر بنحو المجموع. وهذا بخلاف ما إذا تعلّق الاعتبار بأشياء بنحو الاستغراق ، فإنّه ينحلّ في الحقيقة إلى اعتبارات متعدّدة ، فورود المرخّص في بعضها لا ينافي عدم ورود المرخّص في الثاني ، بل يبقى على وجوبه. ولا مجال لدعوى استعمال الصيغة في القدر الجامع بين الوجوب والاستحباب وغيرها من كلمات القوم ، فافهم.

في الجمل الخبريّة

ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره (١) وغيره (٢) من المحقّقين : أنّ الجملة الخبرية الفعليّة مستعملة في معنى واحد ، غاية الأمر أنّ الداعي للتكلّم بها قد يكون قصد الإخبار فتكون خبريّة محتملة للصدق والكذب ، وقد يكون الداعي الطلب بها وبيان أنّ الطالب لا يرضى بتركه فتكون أظهر في الطلب من صيغة «افعل» لاقترانه بما يدلّ على أنّه لا يرضى بتركه وأنّه أخبر بوقوعه إيذانا بأنّه لا يرضى بتركه ، وحينئذ فلا تتّصف بصدق ولا بكذب ، نظير الكناية التي يكون صدقها وكذبها بملزومها لا بالمدلول اللفظي الذي هو كثرة الرماد في قولك : «كثير الرماد» بل بالكرم وإن لم يكن له رماد يتحقّق صدقه ، وبالبخل وإن كان له رماد يتحقّق كذبه.

ثمّ تنزّل فزعم أن لو قلنا بالمجازيّة فهذه المناسبة ـ وهي أنّ المتكلّم لا يرضى إلّا بوجوده ـ تعيّن الوجوب دون بقيّة المعاني المجازيّة.

ولا يخفى عليك : أنّه بعد ما ذكرنا أنّ الوجوب عنوان ينتزع من إبراز اعتبار

__________________

(١) كفاية الاصول : ٩٢ ـ ٩٣.

(٢) انظر بدائع الأفكار : ٢٣٣ ـ ٢٣٤ ، أجود التقريرات ١ : ١٣٤.


المولى كون شيء في ذمّة العبد يظهر لك مغايرة معنى الجملة الخبرية والإنشائيّة وأنّ الأولى موضوعة لقصد الحكاية عن متعلّق له وجود خارجا يتحقّق الصدق والكذب بلحاظه ، بخلاف الثانية فإنّه ليس وراء اعتبار المولى شيء آخر ، فهما معنيان ، فلا تكون الجملة الفعليّة الخبريّة المستعملة في مقام الطلب مستعملة في معناها الخبري بداع الطلب ، بل هي مستعملة في معنى آخر ، فلا بدّ إمّا من القول بالاشتراك اللفظي أو المجاز بالقرينة. والظاهر الثاني ، فإنّها لا ينكر ظهورها في قصد الإخبار فاستعمالها في الإنشاء يلزم أن يكون بالقرينة ، وحينئذ فتكون دلالتها على إبراز اعتبار المولى كون شيء في ذمّة المكلّف كدلالة الصيغة عينا بلا تفاوت ، إلّا أنّه مجازي.

وممّا يؤيّد ما ذكرنا من تغاير المعنى : أنّ الجملة الاسمية لا تصلح للإنشاء يعني إنشاء الطلب ، فلا يقال : «زيد قائم» في مقام طلب قيامه ، بل يختصّ ذلك بالمضارع والماضي الواقع جوابا للشرط ، ولو كانت هذه الخصوصيّة هي المعيّنة لهذا المعنى المجازي لصحّ في الجملة الاسمية والفعل الماضي ... (١) لوجودها فيهما كالمضارع.

__________________

(١) هنا كلمة غير واضحة.



في التعبديّة والتوصّلية

قد ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره (١) : أنّ الوجوب التوصّلي ما كان الغرض يحصل منه بمجرّد حصول الواجب ، وأنّ الوجوب التعبّدي ما لا يحصل الغرض منه إلّا بالإتيان بالواجب متقرّبا به إلى الله تعالى.

والظاهر أنّ في كلامه قدس‌سره تسامحا ، فإنّ المولى إذا تعلّق غرضه بفعل عبده الصادر باختياره يبرز اعتباره كون الفعل في عهدة المكلّف وذمّته ، ويترتّب على لفظه إبراز الاعتبار وجعل الداعي للمكلّف لإتيانه وامتثاله ، وهذا الأثر هو الذي يترتّب على الوجوب ، وهذا لا يفرق فيه بين التعبديّة والتوصّليّة ، إذ إبراز الاعتبار وجعل الداعي مشترك بينهما.

نعم ، الغرض المقصود من الواجب مختلف فقد يحصل بمجرّد إتيان الفعل وإن لم يكن بقصد القربة وهو التوصّلي ، وقد لا يحصل غرض المولى الذي دعاه إلى الاعتبار إلّا بإتيان الفعل مضافا إلى الله تعالى وهو التعبّدي.

ثمّ إنّ المعنى المعروف للتوصّلي والتعبّدي هو ما ذكرناه. وقد يطلق التعبّدي على العمل الذي يعتبر صدوره من المكلّف مباشرة مختارا بصورة محلّلة ، ولو فقد واحد من هذه الثلاثة فهو التوصّلي ، وبين هذا المعنى والمعنى المتقدّم عموم من وجه ؛

__________________

(١) كفاية الاصول : ٩٤.


إذ قد يتحقّق التعبّدي بالمعنى الأوّل دون الثاني كما في قضاء الوليّ عن الميّت عباداته ، فإنّها تعبّديّة بالمعنى الأوّل لافتقارها إلى القربة دون الثاني ، لسقوطها بتبرّع الغير أو الاستيجار. وقد يتحقّق التعبّديّة بالمعنى الثاني دون الأوّل كما في ردّ السلام ، فإنّه لا يعتبر فيه القربة ، ويعتبر فيه أن يكون من المسلّم عليه مختارا محلّلا.

وكيف كان ، فلو علم أنّ الواجب تعبّدي بالمعنى الأوّل أو الثاني ـ كما في العناوين القصديّة كالتعظيم والتحقير وكما في الصلاة والصوم ـ أو توصّلي بالأوّل أو الثاني فحكمه واضح. ولو شكّ في ذلك فهل مقتضى الأصل التوصّلية أو التعبّدية؟ وهل هناك دليل لفظي يعيّن أحد الأمرين أم لا؟ وعلى تقدير عدم الدليل اللفظي فهل الأصل العملي يقتضي التوصّلية أو التعبّدية أو لا يقتضي شيئا منهما؟ ويقع الكلام في جهات :

الاولى : هل يقتضي التكليف صدور الفعل عن اختيار أم يكفي صدوره وإن لم يكن عن اختيار؟

ربّما يقال بأنّ مادّة الفعل مثل «ضرب فلان» منصرفة إلى ما لو كان الضرب اختياريا له ، أو أنّ الضرب الذي هو المصدر منصرف إلى الضرب الاختياري ، وهذه المادّة هي نفس المادّة المتحقّقة في ضمن فعل الأمر ، فيكون قوله : «اضرب» مثلا منصرفا إلى الضرب الاختياري الصادر بإرادة واختيار. وربّما يدّعى الانصراف من الهيئة ، بدعوى : أنّ هيئة فعل الأمر منصرفة إلى الفعل الاختياري الصادر بإرادة واختيار.

ولا يخفى عليك ما في هذين الدعويين ؛ إذ بعد استعمال الموادّ والهيئات في الفعل الاختياري تارة وفي غيره اخرى كما في قولنا : «مات زيد» و «وقع من السطح» وكذا قولنا : «اضرب زيدا» في غير الفعل الاختياري فأيّ سبب للانصراف؟ والانصراف إنّما يكون إمّا لضعف الفرد بحيث لا يعدّه العرف فردا له كما في مثل «دقّ الباب» حيث إنّه لضعف كونه تصرّفا انصرف التصرّف في مال الغير المنهيّ عنه إلى


غيره من أفراد التصرّفات ، أو يكون منشأ الانصراف تكامل الفرد في طرف العلوّ بحيث لا يعدّ من أفراده أصلا عند العرف وإن كان من أفراده حقيقة كما في انصراف «الحيوان الغير المأكول اللحم» عن الإنسان ، والمفروض انتفاء كلّ من الأمرين في المقام ؛ إذ الفعل الاختياري فرد من أفراد الضرب كالاضطراري بلا رجحان لأحدهما على الآخر أصلا.

وقد ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره (١) وجهين لظهور الفعل المطلوب في الاختياري :

أحدهما : أنّ ملاك طلب المولى الحسن الفاعلي لا الحسن الفعلي وإن كان الفعل حسنا ذا مصلحة ذاتية ، إلّا أنّ ملاك أمره هو الحسن الفاعلي ، والحسن الفاعلي إنّما يتحقّق بإتيان الفعل عن إرادة واختيار متقرّبا به إلى الله تعالى.

والجواب أوّلا : أنّ هذه الدعوى بلا دليل ؛ إذ أيّ دليل دلّ على أنّ ملاك الأمر هو الحسن الفاعلي لا الفعلي؟ بل الظاهر تبعيّته للحسن الذاتي في الفعل ، للزوم تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد في نفس الفعل.

وثانيا : أنّ هذا يقتضي أن لا يمتثل الأمر في التوصّليّات إلّا باقتران العمل بالقربة ؛ إذ صرف إتيانه باختياره لا يقتضي حسنه الفاعلي ، وحينئذ فيكون سدّا للأوامر التوصّليّة.

الثاني : أنّ الأمر بما أنّه باعث للمكلّف وموجد لداعي الامتثال ، ومعلوم أنّ البعث إنّما يكون نحو أمر قابل للبعث وهو الأمر المقدور ، فنفس الأمر بما أنّه طلب وبعث نحو الفعل وتحريك لعضلات العبد نحو المطلوب بإرادته واختياره ، ومعلوم أنّ جعل الداعي إنّما يكون لخصوص الفعل الصادر بإرادة واختيار ، وإلّا فالفعل الصادر بدون إرادة واختيار لا حاجة إلى جعل الداعي له ، فالطلب إنّما يتوجّه نحو الفعل الاختياري ، فهو بنفسه ـ يعني الأمر ـ يقتضي كون العمل مقدورا أو بإرادة

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٥٣ ـ ١٥٤.


واختيار ، فنفس الأمر يقتضي القدرة في متعلّقه وكونه بالإرادة والاختيار ، فالطلب إنّما يتوجّه نحو خصوص ما كان صادرا بإرادة واختيار ، فإجزاء غيره عنه يحتاج إلى دليل ، فإنّ إطلاق الأمر يقتضي إتيان متعلّقه سواء أتى بغيره أم لا ، ولو لم يكن له إطلاق فالاستصحاب يقتضي بقاء الشغل اليقيني إلى الفراغ اليقيني ، ولم يتحقّق الفراغ اليقيني في المقام بإتيان ما هو خارج عن الإرادة.

والجواب عن ذلك : أنّ ما ذكر تامّ على ما بنى الميرزا عليه مبناه من أنّ مفاد الأمر إنشاء الطلب والبعث والنسبة الإيقاعيّة.

وأمّا على ما ذكرناه سابقا : من أنّ مفاد الأمر ليس إلّا إظهار اعتبار المادّة في ذمّة المكلّف فغير تامّ ؛ إذ بعد فرض كون الطبيعة ذات أفراد مقدورة وأفراد غير مقدورة وكون الجامع بين الأفراد هو الذي يترتّب عليه غرض المولى ، فلا موجب لأمر المولى بخصوص المقدور ، وإنّما يأمر بالجامع ، فإنّ الجامع بين المقدور وغيره مقدور قطعا ، والقدرة إنّما تعتبر في مقام الامتثال. نعم لا معنى لاعتبار المكلّف طبيعة كلّ أفرادها غير مقدورة ؛ إذ لا يترتّب على ذلك الاعتبار شيء أصلا ، لا لاعتبار القدرة في اعتبار الفعل في ذمّة المكلّف. وهذا بخلاف ما إذا كانت الطبيعة مشتملة على المقدور وغيره وكان الجامع وافيا بالغرض المطلوب للمولى ، فإنّه لا وجه لاختصاص طلبه بخصوص المقدور ، ولا وجه أيضا للإهمال ؛ لاستحالة الإهمال في مقام الواقع ، فلا بدّ أن يأمر بالطبيعة ، وأثر هذا الأمر هو سقوطه لو صدر غير المقدور من المكلّف وكما إذا صدر بغير إرادة منه واختيار ، فإطلاق الدليل يقتضي الاكتفاء بمطلق الوجود بموجب تعلّقه بمطلق الطبيعة الغير المقيّدة بالقدرة ، ولو لم يكن إطلاق فالشكّ يكون في التكليف ؛ لأنّا نشكّ أنّه هل اعتبر أمر زائد على وجود أصل الطبيعة أم لم يعتبر؟ فالأصل عدم الاعتبار.

فتلخّص أنّ مقتضى الأصل اللفظي والعملي هو عدم اعتبار صدوره بإرادة واختيار. وهذا كلّه مبنيّ على أنّ القدرة من شرائط التكليف ويدلّ عليها الأمر


بمنطوقه ؛ إذ لا يعقل البعث نحو غير المقدور. أو أنّها من شرائط تنجّز التكليف وأنّها إنّما تعتبر في موضوع التكليف عقلا. وبهذا المبنى يصحّ دعوى كفاية الملاك في مبحث الضدّ لو لم نقل بالترتّب ، وإلّا فالمأمور به هو خصوص المقدور ، فإجزاء غيره عنه بدعوى كونه واجدا للملاك إنّما يتمّ إذا احرز الملاك ، ولا يحرز الملاك إلّا إذا كان الأمر متوجّها نحو الطبيعة الجامعة بين المقدور وغيره ، وإلّا فمن أين يحرز وجود الملاك؟ وسيأتي في مبحث الضدّ توضيحه إن شاء الله تعالى.

الجهة الثانية : أنّ التكليف إذا توجّه نحو العبد ، فهل يقتضي صدوره منه بالمباشرة أم لا يقتضي ذلك؟

فنقول : إنّ قيام الغير بالعمل يتصوّر بصورتين :

إحداهما : أن يقوم بذلك العمل لا بقصد النيابة عمّن توجّه التكليف إليه ، كأن يتوجّه التكليف نحو زيد بالضرب فيضرب عمرو ، فمقتضى إطلاق الأمر المتوجّه لزيد بقاء متعلّقه فيدعو إلى متعلّقه ؛ إذ إنّ «اضرب» مطلقة سواء قام عمرو بالضرب أم لم يقم ، فإطلاقها يقتضي البقاء في ذمّة زيد ، ولو لم يكن لها إطلاق فالاستصحاب يقتضي البقاء في ذمّته ، فإنّه قبل أن يأتي عمرو بالضرب كانت ذمّة زيد مشغولة ، ومقتضى الاستصحاب بقاء الشغل لو جرى الاستصحاب في الأحكام الكلّية ، وإلّا فقاعدة «أنّ الشغل اليقيني محتاج إلى الفراغ اليقيني» يقتضي لزوم الإتيان به. ولو قام دليل في مثل الفرض على السقوط فلا يتصوّر إلّا بكون الواجب مشروطا بعدم إتيان غير زيد بالضرب ، وفي المقام لم يتحقّق شرط التكليف ، فإذا كان الشرط شرطا لحدوث التكليف فتخلّفه بعد ذلك كاشف عن عدم التكليف ، ولو كان شرطا لبقاء التكليف فتخلّفه كاشف عن عدم البقاء ، فلو شكّ في تخلّفه فالاستصحاب يقتضي البقاء للتكليف ، فافهم. أو بكون الوجوب كفائيا (١) وكلّ منهما خلاف إطلاق الأمر ، كما سيأتي.

__________________

(١) عطف على قوله : فلا يتصوّر إلّا بكون الواجب.


الصورة الثانية : ما إذا قام عمرو بالعمل بقصد النيابة عن زيد ، فإن قلنا بمقالة الميرزا النائيني قدس‌سره : من أنّ الأمر يختصّ بالمقدور وأنّ القدرة شرط للتكليف فلا ريب في أنّ القاعدة تقتضي عدم السقوط ؛ إذ الأمر إنّما توجّه نحو الفعل المقدور وفعل الغير غير مقدور للمكلّف فإجزاؤه عن المأمور به يحتاج إلى دليل وإلّا فالأمر باق ؛ إذ لم يمتثل بعد ، وكفاية نيابة الغير تحتاج إلى دليل.

وإن لم نقل بما ذكره الميرزا قدس‌سره وقلنا بأنّ الأمر يتوجّه نحو مطلق الطبيعة بجامعها بين المقدور وغيره وأنّ القدرة معتبرة شرطا عقليّا في مقام الامتثال فإن كان الدليل لفظيّا مطلقا فلا ريب في أنّ مقتضى إطلاقه وإن كان عدم اعتبار القدرة فيه نظير الصدور بإرادة واختيار ، إلّا أنّ ظهور الأمر اللفظي بالمباشرة ممّا لا ينكر ، فيفارق الجهة الاولى ؛ إذ الصدور فيها كان مباشريا غير أنّه قهريّ ، أمّا في المقام فالمفروض قيام الغير به بقصد النيابة فلا مباشرة أصلا ، فمقتضى ظهور الدليل اللفظي اعتبار المباشرة. وإن لم يكن للدليل ظهور بالمباشرة ـ بأن كان الدليل مجملا لفظيّا أو كان إجماعا ـ فمقتضى الأصل العملي البراءة ؛ إذ اعتبار خصوص المباشرة مشكوك فتجري فيه أصالة البراءة من التكليف بهذه الخصوصيّة ، فافهم.

الجهة الثالثة : أنّه لو أتى المكلّف بتكليفه مباشرا مختارا في إتيانه غير مجبور عليه ولكنّه أتى به في ضمن فرد محرّم ، فتارة يكون الإتيان به ملازما للمحرّم ، واخرى يكون متّحدا معه ، ففي الصورة الاولى تبتني المسألة على مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فإن قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي وأنّهما شيئان انضمّ أحدهما إلى الآخر فلا إشكال في سقوط التكليف ، لتحقّق متعلّقه. وإن قلنا بعدم جواز الاجتماع للاتّحاد والسريان فتكون داخلة في الصورة الثانية ـ وهي صورة كون الفرد المحرّم متّحدا مع الواجب ـ والحكم فيها عدم السقوط ؛ لأنّ الفرد المتّحد مع المحرّم لا أمر به قطعا ، فيبقى الأمر حينئذ غير ممتثل فإطلاقه حينئذ يقتضي الإتيان بمتعلّقه ولو لم يكن له


إطلاق. وهذا يترتّب عليه أنّه لو أنفق على زوجته بمال محرّم لا تبرؤ ذمّته من نفقتها ؛ لعدم الأمر بالفرد المحرّم. وفروعه كثيرة أيضا ، فالاستصحاب يقتضي بقاءه في عهدة المكلّف. هذا إن قلنا بجريان الاستصحاب في الأحكام الكليّة ، وإلّا فلا يجري الاستصحاب.

هذا تمام الكلام في التوصّلي بالمعنى الثاني ، وقد ظهر أنّ الأصل العملي في الجميع هو البراءة وأنّه يقتضي عدم اعتبار الصدور بالاختيار مباشرة إلّا في المحرّم ، فالاستصحاب يقتضي الشغل.

في التعبّدي والتوصّلي بالمعنى المعروف

إذا شكّ في واجب أنّه توصّلي بمعنى أنّه لا يحتاج سقوط الأمر به إلى قصد الأمر ، أو تعبّدي بمعنى أنّه لا يسقط الأمر به إلّا إذا أتى به بقصد الأمر أو غيره من الدواعي القربيّة ، فهل هناك دليل يقتضي التوصّليّة أو التعبّديّة أم لا؟ والكلام في خصوص قصد الأمر يقع في ثلاث مقامات :

الأوّل : في ما يقتضيه نفس دليل ذلك الواجب المشكوك.

الثاني : في أنّه لو لم يقتض دليل ذلك الواجب شيئا ، إمّا لعدم إطلاقه لكونه مجملا أو مهملا ، أو لاستحالة الإطلاق فلم يثبت به التوصّليّة ، فهل هناك دليل لفظي خارجي من آية أو رواية تقتضي التعبّديّة أم لا؟

الثالث : في أنّ الأصل العملي ما هو مقتضاه لو فرض عدم الدليل اللفظي؟

أمّا الكلام في المقام الأوّل : وهو أنّ نفس دليل الواجب هل يقتضي التوصّليّة أم لا؟ نسب إلى الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١) أنّه يدّعي أنّ استحالة تقييد الأمر بقصد الأمر يقتضي إطلاقه بالضرورة فيكون توصّليّا.

__________________

(١) راجع مطارح الأنظار ١ : ٣٠١ ـ ٣٠٤.


وقد اورد (١) عليه بأنّ التمسّك بالإطلاق فرع تحقّق مقدّمات الحكمة ، وهي ورود الأمر على المقسم وكونه في مقام البيان وكون المتروك بيانه ممّا يمكن أخذه فيه ، وحينئذ فعدم أخذه يكشف عن عدم دخله في ملاك ذلك الواجب ، ولكن قصد الأمر لا يمكن أخذه فعدم أخذه لعدم إمكان الأخذ ، لا لعدم دخله.

وبالجملة ، فردّ كلام الشيخ مبنيّ على مقدّمتين :

إحداهما : عدم إمكان تقييد المأمور به بقصد الأمر.

الثانية : أنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق ، فمتى خدش في إحدى هاتين المقدّمتين بطل الردّ وثبت كلام الشيخ الأنصاري قدس‌سره ومتى بطلتا معا لم يمكن التمسّك حينئذ بأدلّة نفس الواجب لإثبات توصّليّته ، فلا بدّ من دليل آخر.

فنقول :

أمّا المقدّمة الاولى : فقد ذهب جمع إلى عدم إمكان أخذ قصد الأمر في متعلّقه ، لوجهين هما عمدة ما ذكر في المقام :

أحدهما : ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) وملخّصه : أنّ للتكليف مرحلتين : إحداهما : مرحلة الإنشاء ، وهي لا تفتقر إلى أزيد من فرض وجود الموضوع بتمام قيوده ، فينشأ الحكم على هذا الفرض ، والثانية : مرحلة الفعلية ، وهي تارة تأخذ في موضوع الأمر شيئا مقدورا للمكلّف ، نظير قوله : «أكرم زيدا» و (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فقد يفهم العرف من الدليل وجوب إيجاده كالطهارة والستر ، وقد لا يفهم وجوبه بل يفهم تنجّز التكليف على تقدير إيجاد المكلّف له كما في وجوب الوفاء في العقد ، فإنّه يفهم العرف أنّه على تقدير تحقّقه يجب الوفاء به ، هذا إذا كان أمرا مقدورا.

__________________

(١) أورد عليه في أجود التقريرات ١ : ١٦٨ ـ ١٦٩ ، وراجع كفاية الاصول : ٩٧ أيضا.

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٦٠ ـ ١٦٢.


وأمّا إذا لم يكن مقدورا فلا ريب في أنّ تعلّق التكليف بأمر غير اختياري يستدعي كونه مفروض الوجود ، مثلا إذا قال المولى : «إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة» يقتضي أن يكون زوال الشمس مفروض التحقّق ، وكذا فعليّة «صلّ إلى القبلة» تستدعي تحقّق القبلة في نفس الأمر ؛ إذ توجّه التكليف نحو الأمر الغير المقدور مستحيل ؛ لعدم محرّكيته حينئذ ، بل في بعض المقدورات أيضا كذلك ، إلّا أنّه منوط بفهم العرف مثل (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فإنّ معناه : إذا تحقّق عقد يجب الوفاء به ، كما سلف في مقام الفعلية. فتوجّه الأمر مثلا بالصلاة حينئذ ينحلّ إلى أمر بالنيّة وبتكبيرة الإحرام وغيرهما من بقيّة الأجزاء وبقصد الأمر. وبما أنّ الأمر غير مقدور للمكلّف فلا بدّ من فرض تحقّقه ليقصده المكلّف ، وتحقّقه غير ممكن ؛ إذ لا يمكن أن يتوجّه الأمر بشرط تحقّق الأمر ؛ إذ معناه حينئذ : يجب الصلاة إن وجبت ، وهذا مستحيل ؛ لكون الوجوب مشروطا بنفسه وهو محال.

وهذا هو مراد الميرزا قدس‌سره : «أنّ الأمر ليس تحت قدرة المكلّف» لا «قصد الأمر» ليرد عليه ما أورده بعض الأساطين (١) : من أنّه ممكن للمكلّف ، فافهم. ومراده أنّ فعليّة الأمر غير ممكنة ، فلا وجه لما عن بعضهم من أنّ قصد الأمر ممكن بفرض الأمر ، فإنّه خلط بين مرتبة الإنشاء ومرتبة الفعلية ؛ إذ الفرض إنّما يجدي في مقام الإنشاء ، والفعليّة لا تتحقّق إلّا بعد تحقّق الموضوع الذي هو شرط فعليّته ، فإنّ شرط الفعليّة تحقّق موضوع التكليف ، وهذا غير ممكن لاستدعائه كون الوجوب شرطا لنفسه ، فافهم.

والجواب : أنّ ما ذكره قدس‌سره وإن كان متينا بحسب الكبرى ، فإنّ موضوع التكليف إنّما يكون مفروض الوجود حيث يقتضي فهم العرف ذلك ، كما في قولك : «إنّ نذرت يجب عليك الوفاء» وقريب منه (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) أو حيث يكون خارجا عن قدرة

__________________

(١) أورده في المحاضرات ٢ : ١٥٧ أيضا ، والظاهر أنّ المراد هو المحقّق العراقي ، انظر نهاية الأفكار ١ : ١٩٧ ـ ١٩٩ ، ومقالات الاصول ١ : ٢٣٧ ـ ٢٤٢.


المكلّف كما في «صلّ إلى القبلة» ففي هذين الموردين يلزم كون موضوع التكليف مفروض الوجود ، إمّا بفهم العرف أو بالبرهان العقلي ، وهو قبح التكليف بغير المقدور. ولكن الصغرى ليست صغرى لهذه الكبرى المسلّمة ، فإنّ قصد الأمر ليس فهم العرف مقتضيا لكون الأمر مفروض الوجود ولا البرهان العقلي مساعدا على ذلك. ومن هنا التزمنا بفعلية أمر المحرّمات المقدور إيجاد موضوعها للمكلّف ، فنلتزم بفعلية تحريم الشرب للخمر لمن تمكّن من إيجاد الخمر خارجا وإن كان معدوما فعلا.

بيان ذلك : أنّ المولى يتصوّر ما يريد أن يعتبره في ذمّة المكلّف وما يكون واجدا للمصلحة الملزمة ، فيراه في عالم التصوّر أنّه عبارة عن هذه الأفعال الصلاتية وقصد الأمر الذي هو فعل نفساني ، فيوجّه الأمر نحو ذلك العمل المركّب ، فلا يفهم العرف كون الأمر مفروض الوجود ، ولا يلزم التكليف بالمحال ؛ إذ في ظرف الامتثال الأمر موجود ، والقدرة إنّما تعتبر في ظرف الامتثال لا في ظرف توجّه الأمر ، فليس العمل بقصد الأمر حينئذ تكليفا محالا أصلا ، فلا مانع حين إطلاق الأمر من التمسّك بإطلاقه ؛ لإمكان أخذ قصد الأمر فيه ولم يؤخذ ، فيكشف عن عدم دخله في تحصيل غرض المولى ، فيثبت توصّليّة المشكوك تعبّديّته وتوصّليّته بالإطلاق.

نعم ، في مثل الصلاة إلى القبلة لا بد من كون القبلة مفروضة الوجود ؛ إذ إنّها غير مقدورة للمكلّف بدون وجود القبلة ، بخلاف المثال المذكور ، فإنّ الأمر يتحقّق بنفس إنشائه الوجوب ، وقصد الأمر ممكن للمكلّف ، فإنّ قصد الأمر بما أنّه فعل نفساني [مقدور](١) للمكلّف ، فيتوجّه الوجوب نحو المركّب وينحلّ حينئذ إلى أمرين : أمر بذات الفعل ، وأمر بإيجاده بداعي الأمر الأوّل ، فيكون داعيا إلى إتيان الأوّل بهذا الداعي فيكون متمّما له. وهذا أمر ممكن منشؤه الانحلال الرافع لداعويّة الشيء إلى نفسه. وهو الوجه الثاني لاستحالة التقييد وهذا الوجه يقرر بوجوه :

__________________

(١) أضفناه لاقتضاء السياق.


أحدها : ما ذكره بعض المحقّقين ـ وهو الشيخ محمّد حسين الأصفهاني قدس‌سره (١) ـ إنّ داعوية الأمر إلى متعلّقة ذاتي له ، وأخذ قصد الأمر في متعلّقه يستلزم أن يدعو الأمر إلى داعويّة نفسه وهو على حدّ أنّ يكون الشيء علّة لعلّية نفسه [وهو] مستحيل.

ثانيها : ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) أنّ أمر المولى بالتشريع مستحيل ، فإذا فرض أنّ أمره بالتشريع مستحيل فلا يكون العبد قادرا على امتثال الأمر الذي اخذ فيه قصد الأمر ، وذلك لأنّ أمر المولى بأن يأتي بالعمل بداعي الأمر المتعلّق به وإن كان ممكنا ، إلّا أنّ امتثال العبد مستحيل ؛ إذ لا أمر بالعمل المطلق حسب الفرض ، فإنّ الأمر قد تعلّق بالمقيّد ، فالمطلق لا أمر به كي يأتي المكلّف به بداعي أمره.

نعم ، لو جاز للمولى أن يأمر بالتشريع لأمكنه الامتثال ، إلّا أنّ التشريع قبيح عقلا فلا يأمر به المولى.

ثالثها : ما ذكره بعض المحقّقين ووضّحه آخر (٣) ، وملخّصه : لزوم الخلف لو أخذ قصد الأمر في متعلّقه ؛ لأنّ قصد الأمر بالعمل يستدعي أن يكون أمر بالعمل ، ولكن المفروض : أنّ أمر المولى قد تعلّق به مقيّدا ، فأخذ قصد الأمر موقوف على أن يكون العمل مطلوبا بنحو التقييد ، وقصد الأمر بالعمل موقوف على أن لا يكون العمل مطلوبا بنحو التقييد ، وهذا خلف.

والجواب عن هذه الوجوه الثلاثة يتوقّف على مقدّمة ملخّصها : أنّ غرض المولى ـ بل كلّ آمر ـ قد يتعلّق بشيء فيأمر به ولا غرض له إلّا أن يتحقّق ما أمر به كما إذا كان المولى ظمآنا فأمر عبده بإحضار الماء ، وقد يكون غرض المولى متعلّقا بإتيان

__________________

(١) انظر نهاية الدراية ١ : ٣٢٣ ـ ٣٢٥.

(٢) كفاية الاصول : ٩٥ ـ ٩٦.

(٣) انظر نهاية الدراية ١ : ٣٢٧.


الماء بقصد أمره بحيث لو احضر الماء اتّفاقا فلا يفي بغرضه ، بل لا بدّ من أن يقوم العبد فيأتي به بداعي أمره وامتثالا لذلك الأمر ، فإذا كان غرضه موقوفا على ذلك فلا بدّ أن يعتبر العمل المقيّد في ذمّة المكلّف ؛ إذ المفروض أنّ المطلق لا يفي بالغرض ، وإبراز هذا الاعتبار أيضا لا مانع منه ؛ إذ لا يحتاج إلى أزيد من أن يتصوّر المولى العمل ويتصوّر أمره اللاحق فيأمر به بداعي الأمر المتعلّق به.

إذا عرفت هذا ، فداعويّة الأمر إلى داعويّة نفسه إنّما تلزم لو كان هناك أمر واحد متعلّق بالعمل بداعي الأمر ، أمّا إذا فرضنا أنّ الأمر بكلّ مركّب من أجزاء أو مقيّد بشروط ينحلّ إلى أوامر متعدّدة بتعدّد الأجزاء والشروط ، فلا يبقى لنا إشكال حينئذ ؛ إذ نفس الصلاة مثلا صار متعلّقا للأمر الضمني وإتيانها بداعي أمرها متعلّق لأمر ضمني آخر مباين للأمر الأوّل ، فهنا أمران :

أحدهما متعلّق بالعمل الخارجي ، والآخر متعلّق بالعمل النفسي ، وداعويّة أمر إلى أمر آخر كثير ، كما في من نذر أن يقصد القربة بغسل ثوبه مثلا ، فإنّ الأمر الناشئ من قبل النذر مثلا أو اليمين يكون داعيا إلى أن يقصد المكلّف أمر غسل الثوب عند غسله. وكذا مسألة عدم القدرة إلّا أن يأمر المولى بالتشريع أيضا يندفع بالانحلال ، فإنّ هناك أمرا ضمنيا قد تعلّق بالعمل ، والعبرة بقدرة المكلّف في وقت العمل لا عند أمر المولى ، وعند الامتثال الأمر موجود قطعا ، فيتمكّن المكلّف حينئذ من إتيانه كما في الحائض لو نذرت الصلاة بعد عشرة أيّام مثلا. وكذا تندفع مسألة الخلف ، حيث ظهر أن لا خلف ؛ إذ قد تعلّق الأمر الضمني بنفس الفعل ، فأين الخلف؟

نعم ، هذه الإيرادات الثلاثة تتمّ على تقدير أن لا نقول بالانحلال إمّا مطلقا أو في خصوص الشرائط ويبتني على أنّ قصد الأمر شرط. وسيأتي في الأقلّ والأكثر بيان أنّ الأمر بالمركّب والمقيّد ينحلّ إلى أوامر متعدّدة حسب تعدّد أجزائه أو شروطه ، فافهم وتأمّل فإنّه ربّما دقّ.


وقد ظهر بما ذكرنا إمكان أخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر ولو سلّمنا عدم إمكان أخذ قصد الأمر في متعلّقه.

فالمقدّمة الثانية التي ذكرها الميرزا قدس‌سره (١) من أنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق غير مسلّمة في المقام. وقد أفاد في وجه ما ذكره ـ من أنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق ـ أنّ انقسام الأشياء قد يكون بالانقسامات الأوّليّة وهي التي تنقسم إليها الأشياء مع قطع النظر عن كلّ شيء غيرها من أمر أو آمر ، مثل انقسام الماء إلى القليل والكثير ، وانقسام الإنسان إلى أسود وأبيض ، ومثل هذه الانقسامات لو توجّه التكليف نحو شيء من تلك الطبيعة فإمّا أن يتوجّه نحو المقيّد بأحد القيدين ، أو يتوجّه مطلقا ـ يعني من غير أن يكون لأحد القيدين مدخليّة في الحكم ـ ويستحيل أن يكون الحكم مهملا ؛ لاستحالة الإهمال في مقام الثبوت من العالم الملتفت لموضوع حكمه ؛ إذ إنّه إمّا أن يحكم عليه مقيّدا بأحد القيدين أو يحكم عليه مطلقا ، ولا يمكن الإهمال ؛ إذ يستحيل جهل الحاكم بموضوع حكمه.

نعم ، قد يكون الدليل الدالّ على الحكم مهملا أو مجملا لغرض يتعلّق بهما ، وهذا هو الإجمال في مقام الإثبات.

وقد يكون انقسام الأشياء بالانقسامات الثانوية ، وهي الانقسامات التي تكون بعد التكليف بها ، مثلة انقسام العمل بين أن يؤتى به بقصد الأمر أو لا بقصده وانقسام المكلّف إلى العالم بالتكليف والجاهل به ، فإنّ هذين التقسيمين فرع وجود الأمر والتكليف ، فمثل الطبيعة المنقسمة إلى هذه التقسيمات إذا استحال التقييد فيها استحال الإطلاق أيضا ؛ لأنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، فمتى استحال أحدهما استحال الآخر ، والمفروض أنّ التقييد بقصد الأمر مستحيل ، فالإطلاق مثله في الاستحالة.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٥٧ ـ ١٥٨.


والجواب : أنّ جهة استحالة الإهمال في الواقع في الطبائع بحسب تقسيماتها الأوليّة هو استحالة جهل الحاكم بموضوع حكمه ، وهذا بعينه وارد في الانقسامات الثانوية ؛ إذ المولى الملتفت إلى أنّ حكم هذا يكون معلوما لبعض المكلّفين ومجهولا لبعض آخر لا بدّ أن يقيّد التكليف بخصوص العالمين أو يطلق أو يقيّد بالطرف الآخر ؛ لاستحالة الإهمال في الواقعيّات لأدائه إلى جهل الحاكم بموضوع حكمه. وكذا الآمر بشيء إذا التفت أنّ أداء ذلك العمل ينقسم إلى أداء بقصد الأمر وأداء لا بقصده لا ينفكّ أن يقيّده بقصد الأمر أو لا بقصده أو يطلق ، فالإهمال مستحيل في مقام الثبوت من غير فرق بين الانقسامات الأوّلية والثانوية أصلا ؛ لعموم الملاك. وحينئذ فإذا التفت إلى انقسام موضوع التكليف إلى ثلاثة : ما قصد به الأمر ، وما لم يقصد به الأمر ، والمطلق ، فالمصلحة الباعثة على التكليف إن كانت كائنة من صرف العمل فيطلق التكليف ، وإن كانت مقيّدة بصدوره بقصد الأمر أو لا بقصده يلزمه التقييد بأحدهما أيضا.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره : من أنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق ؛ لأنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة فهو ـ أي الإطلاق ـ عدم التقييد ممّا هو قابل للإطلاق والتقييد معا ، فهو مسلّم إلّا أنّه في باب التقابلات يريدون القابلية النوعيّة أو الصنفيّة أو الجنسيّة أو غيرها لا خصوص القابليّة الفرديّة ، مثلا يقال للعقرب : إنّه أعمى مع أنّ فرده أو نوعه غير قابل للبصر ، ومع ذلك يطلق عليه العمى باعتبار قابليّته النوعيّة ؛ إذ الحيوان قابل ، فقد يكون استحالة أحد المتقابلين تقابل العدم والملكة يستدعي ضروريّة الطرف الثاني ، مثلا نحن يصدق علينا أنّا جاهلون بمعرفة كنه الحقّ وصفاته الذاتية مع استحالة العلم لنا بذلك ، كما أنّه لا يصدق في حقّه أنّه غير عالم بعبيده ، فهل يستحيل العلم حينئذ؟ كلّا! ثمّ كلّا! تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ، بل استحالة أحد المتقابلين تستدعي ضروريّة الآخر في هذه الأمثلة وفي مقامنا أيضا ، فإنّ غرضه إمّا أن يتعلّق بما يؤتى به بقصد الأمر ، أو يتعلّق بما يؤتى به لا بقصد الأمر ،


أو يتعلّق بالمطلق ، فإذا فرض استحالة التقييد بقصد الأمر والقطع بعدم التقييد بعدمه ثبت حينئذ الإطلاق ؛ لاستحالة الإهمال في الواقع ، فاستحالة التقييد تستدعي ضروريّة الإطلاق. وهذا هو الذي نقله الميرزا النائيني قدس‌سره (١) عن الشيخ من أنّ استحالة التقييد تستلزم ضروريّة الإطلاق.

هذا كلّه بالنسبة إلى مقام الثبوت ، وقد ظهر أنّ استحالة التقييد في مقام الثبوت يستلزم ضروريّة الإطلاق.

نعم ، لو كان هناك مانع عن التقييد في مقام الإثبات لم يمكن التمسّك حينئذ بالإطلاق ؛ إذ من جملة مقدّمات الإطلاق في مقام الإثبات أنّه لو كان القيد دخيلا لأخذه المولى ، فلمّا لم يأخذه دلّ على عدم دخله ولكن عدم الأخذ في المقام لا يدلّ على عدم الدخل ، بل قد يكون دخيلا ولا يأخذه المولى ، لعدم قدرته على أخذه. ولكن الكلام في أنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق في مقام الثبوت لا في مقام الإثبات ، وقد ذكرنا استلزامها ضروريّة الإطلاق في مقام الثبوت ، وليس الكلام في مقام الإثبات ، وإلّا فلم يدّع أحد استحالة أخذ قصد الأمر في متعلّقه إثباتا ، لضرورة إمكان أن يقول المولى : صلّ بقصد الأمر.

وبالجملة ، فقد ظهر إمكان أخذ قصد الأمر في متعلّقه ، فلو لم يأخذه المولى بل أورد الحكم على الطبيعة في مقام الإثبات فبتبعيّة مقام الإثبات لمقام الثبوت يستفاد عدم دخل قصد الأمر في مصلحة العمل.

ولو سلّمنا استحالة أخذ قصد الأمر في متعلّقه فهو يستدعي ضروريّة الإطلاق أو التقييد بعدم قصد الأمر ، وحيث إنّ الثاني مقطوع العدم فيثبت ضروريّة الإطلاق ثبوتا ، ولكن لا يمكن التمسّك بالإطلاق في مقام الإثبات حينئذ ؛ لإمكان دخله في الغرض وعدم أخذه لعدم إمكان أخذه.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٦٨.


هذا كلّه في أخذ قصد الأمر.

وأمّا أخذ بقية الدواعي القربيّة ـ من الخوف من عقاب المولى أو الطمع في ثوابه أو لكونه أهلا للعبادة أو للمصلحة الموجودة بها ـ فلو سلّم (*) كونها دواعي قربيّة وأغمض النظر عن كونها ملازمة لقصد الأمر ، فقد ذكروا أنّها غير مأخوذة في المأمور به ؛ لأنّه لو أتى به بداعي الأمر كان صحيحا ، ولو اخذ في الفعل أحد هذه الامور لم يتّصف بالصحّة بمجرّد إتيانه بقصد الأمر (* *).

__________________

(*) أشرنا بقولنا : «لو سلّم» إلى ما سطرناه في الدورة السابقة : من كون الإتيان به خوفا من العقاب وطمعا في الثواب ملازم لقصد الأمر ؛ لعدم حصول الثواب ورفع العقاب إلّا بذلك ، وكذا لو أتى به من جهة المصلحة الموجودة ، فإنّه ليس قربيا بل من جهة مصلحته ، وكذا لو أتى به لكونه أهلا للعبادة ، ضرورة أنّه أهل للعبادة التي لا تتحقّق إلّا بعد قصد الأمر ، فهذه ليست بنفسها دواعي قربيّة بل ملازمة نعم ، إتيانه بقصد المحبوبية الذاتية في نفسه أمر قربي قطعا.

(الجواهري).

(* *) في هامش الأصل استدراك لم يرمز إلى موضعه ، والمناسب إيراده هنا ، وهو ما يلي :

وقد زعم الميرزا النائيني قدس‌سره ـ أجود التقريرات ١ : ١٦٤ ـ ١٦٥ ـ استحالة أخذ جميع الدواعي القربيّة في متعلّق الأمر ، بدعوى : أنّها محرّكة نحو العمل وباعثة إليه تكوينا ، فلا يعقل أن تؤخذ في متعلّق الأمر به تشريعا ؛ لأنّ ما لا يمكن الأمر به تكوينا لا يمكن أخذه في المتعلّق تشريعا.

وفيه أوّلا : أنّها تقتضي استحالة أخذ قصد الأمر حتّى بالأمر الثاني المتمّم للجعل الذي قد صرّحت فيه بالجواز والإمكان ؛ لعدم الفرق في ملاك الاستحالة المذكور بين كونه مأخوذا في الأمر الأوّل أم في الأمر الثاني.

وثانيا : أنّ هنا عملين : أحدهما جوارحي وهو الإتيان بالأجزاء الخارجية ، والآخر جوانحي : وهو قصد الأمر ، وكلّ منهما عمل اختياري مسبوق بالإرادة والاختيار وهو كاف في التكليف به.


هذا ، ولكن يمكن أن يقال : إنّ ما ذكر إنّما يدلّ على عدم أخذ كلّ واحد من هذه الامور بخصوصيّتها ، ولكن لا يدلّ على نفي أخذ الجامع ، فيكون العمل مطلوبا بشرط إضافته إلى المولى وتحقّق الصحّة مع قصد الأمر لتحقّق فرد من أفراد الإضافة إلى المولى. وحينئذ فلو سلّمنا عدم إمكان أخذ قصد الأمر ولكن أخذ الجامع بينه وبين بقيّة الدواعي القربية ممكن ، فبعدم أخذ الجامع يستكشف عدم توقّف الفرض على القربة. ولو سلّمنا عدم إمكان أخذ الجامع أيضا ، فالميزة بين التعبّدي والتوصّلي إنّما هو بأن يكون للتعبّدي أمران : أحدهما يتعلّق بذات الفعل والآخر بإتيانه بقصد القربة ، والتوصّلي يكتفى فيه بالأمر الواحد.

وتوضيح هذا بنحو لا يرد عليه ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (١) من حصول الغرض بإتيان متعلّق الأمر الأوّل فلا داعي إلى الثاني ، و [على فرض](٢) عدم الحصول فالعقل يكفي [للإلزام](٣) من دون حاجة إلى الأمر الثاني .. إلى آخره ، بأن يقال : إنّ الأمر الثاني المتعلّق بمتعلّق الأمر الأوّل يتصوّر بنحوين :

أحدهما : أن يتعلّق بمتعلّق الأمر الأوّل بنحو يكون الأمر الأوّل داعيا إلى متعلّقه مستقلا ويكون الأمر الثاني أيضا داعيا لكيفيّة من كيفيّات متعلّق الأمر الأوّل ، وحينئذ فيكون لكلّ واحد من الأمرين امتثال وعصيان وثواب وعقاب. وهذا نظير أن ينذر الإنسان أن يغسل ثوبه متقرّبا إلى الله تعالى فأمر الغسل بحاله داع إلى متعلّقه ، فإن غسل امتثله واثيب عليه وإن تركه عصى وعوقب عليه ، وأمر النذر أيضا بحاله في كونه داعيا إلى متعلّقه ، فإن قصد القربة بالغسل وفى بنذره وامتثل الأمر النذري واثيب عليه ، وحينئذ فلو غسل ثوبه متقرّبا اثيب بثوابين ، ولو غسله بلا تقرّب اثيب بثواب الغسل فقط ، فإن كان ناسيا لنذره مثلا فلا عقاب ، وإن كان ملتفتا فقد أخلف نذره فعليه العقاب والكفّارة.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٩٦ ـ ٩٧.

(٢) أضفناه لاقتضاء السياق.

(٣) في الأصل : بالإلزام.


الثاني : أن يكون متمّما للأمر الأوّل بحيث لا يكون الأمر الأوّل وافيا بغرض المولى ، وهذا يتصور بنحوين أيضا :

أحدهما : أن يكون كاشفا عن تقيّد الأمر الأوّل في مرحلة الثبوت والواقع وأنّ الدليل الأوّل كان مهملا أو لم يكن إطلاقه مرادا بالإرادة الجديّة ، وهذا نظير أوامر إيقاع الصلاة إلى القبلة أو متستّرا أو متطهّرا أو غير ذلك من شروطها ، فإنّها كاشفة عن كون الغرض الباعث على التكليف لا يحصل إلّا بالصلاة بهذه الشروط المذكورة ، فالدليل الأوّل مهمل أو أنّ إطلاقه غير مراد جدّا.

ولا يخفى أنّ أخذ قصد الأمر ليس من القسم الأوّل ؛ لضرورة أنّ الأمر المتعلّق بالصلاة لا يسقط بإتيانها مجرّدة عن قصد الأمر ، ولا من هذا القسم أيضا ؛ لأنّه إنّما يكشف عن التقييد ثبوتا حيث يكون التقييد ممكنا والمفروض استحالته في المقام ، فلا بدّ أن يكون أخذ قصد الأمر في الصلاة ليس بالنحو الأوّل من النحوين ، بل بثانيهما ، وهو أن يكون الغرض الواحد الداعي على الأمر بالصلاة مثلا لا يترتّب عليها وحدها وإنّما يترتّب عليها بقصد الأمر ، وحيث إنّ أخذ قصد الأمر في متعلّقه مستحيل فرضا في مقام الثبوت فيتوسّل المولى إلى الأمر بما يحصّل غرضه بهذه الوسيلة وهي الأمر الثاني ، فيقول : صلّ ولتكن صلاتك بقصد الأمر.

وهذا الأمر الثاني هو الذي كان يعبّر عنه الميرزا النائيني قدس‌سره (١) بمتمّم الجعل أو نتيجة التقييد ، فإنّه يفيد نتيجة التقييد حيث كان التقييد مستحيلا. وحينئذ فللمولى ـ في مقام التوصّل إلى غرضه ـ أن يأمر بالأمر الثاني ، وحيث لا أمر ثان فيستكشف عدم دخل القربة في تحصيل الغرض ، وإلّا لبيّن بالأمر الثاني ، فيستدلّ بالإطلاق ـ أي إطلاق الأمر الأوّل ـ في عدمه (٢) إلّا أنّ بين الإطلاقين فرقا ، فإنّ الإطلاق الاولى إطلاق لفظي ولكن الإطلاق الثاني إطلاق حالي.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ١ : ١٧٣ ـ ١٧٤.

(٢) كذا ، والمناسب : على عدمه.


أمّا أنّ الأوّل إطلاق لفظي ؛ فلأنّه لم يقيّد فيقول : «صلّ بقصد الأمر» مع إمكانه كما هو المفروض ، فلو كان دخيلا في الغرض لذكره كما ذكرنا.

وأمّا أنّ الإطلاق الثاني حالي ؛ فلأنّ المفروض استحالة أخذ قصد الأمر في متعلّقه ، وذكرنا أنّ ميزان العباديّة حينئذ الأمر الثاني ، والمفروض عدم الأمر الثاني ، فحينئذ نقول لو كان دخيلا في الغرض لذكره بالأمر الثاني ، فعدم ذكره كاشف عن أن متعلّق الأمر الأوّل على إطلاقه مسقط للأمر وواف بالغرض.

ثمّ لو قلنا بمقالة الميرزا قدس‌سره : من أنّ استحالة التقييد تقتضي استحالة الإطلاق فيكون الأمر مهملا حينئذ. أو قلنا بإمكان أخذ قصد الأمر في متعلّقه أو أخذ قصد القربة الذي هو الجامع ـ كما قرّرنا ـ ولكن كان المولى في مقام التشريع لا في مقام البيان ، فحينئذ تنعدم الاصول اللفظية وتنتهي المسألة إلى الاصول العملية. والظاهر هو الرجوع إلى البراءة في جميع شقوق المسألة.

بيان ذلك : أنّا إن قلنا بإمكان أخذ قصد الأمر في متعلّقه ـ كما هو الظاهر ـ ولكن لم يكن إطلاق فجريان البراءة حينئذ مبنيّ على مسألة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، وحيث بنينا على جريان البراءة فيها عن الأكثر والتمسّك بالمتيقّن وهو الأقلّ وهذا مصداق من مصاديقها وفرد من تلك الكليّة.

وإن قلنا بعدم إمكان أخذ قصد الأمر في متعلّقه وانتهت النوبة إلى الأمر الثاني فأولى بإجراء البراءة. بل ولو قلنا بعدم جريان البراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين وأجرينا قاعدة الاشتغال ، ففي المقام نجري البراءة ؛ إذ القائلون بالاشتغال في الأقلّ والأكثر إنّما قالوا به من جهة زعمهم عدم الانحلال ، بدعوى أنّ الأمر في مقام الثبوت كما يمكن أن يكون مطلقا بالإضافة إلى تحقّق هذا الجزء وعدم تحقّقه يمكن أن يكون مقيّدا بتحقّقه ، ولا إطلاق في مقام الإثبات ؛ لأنّ المفروض الإهمال ، ومعلوم أنّ هذا إنّما هو حيث يكون الأمر واحدا ، وإن دفعنا هذه الشبهة في محلّه حتّى على تقدير الوحدة ، إلّا أنّ هذا إنّما يتأتّى حيث يكون الأمر واحدا ،


أمّا حيث يكون هناك أمران فلا ترد هذه الشبهة ؛ إذ المفروض أنّ الأمر الأوّل حينئذ مهمل والتقييد يستند إلى الأمر الثاني المفروض انتفاؤه.

ولو فرضنا استحالة أخذ قصد الأمر أو القربة في متعلّق الأمر الأوّل والثاني أيضا ـ كما ذهب إليه صاحب الكفاية قدس‌سره (١) ـ فالمرجع هي البراءة أيضا ، ولا تنتهي النوبة إلى الاشتغال من ناحية الغرض وحكم العقل بتحصيله كما زعمه قدس‌سره (٢) ؛ وذلك لأنّ البراءة الشرعيّة وإن لم يمكن جريانها في رفع قصد الأمر ؛ إذ لا بدّ في المرفوع بها من أن يكون قابلا للرفع والوضع الشرعيين ، إلّا أنّ البراءة العقليّة ـ وهو قبح العقاب بلا بيان ـ جارية ؛ إذ لا اختصاص لها بالأجزاء الشرعيّة التي يستطيع المولى من أخذها أجزاء شرعيّة ، بل كلّ ما أمكن بيانه شرعا تجري فيه القاعدة ، ولا إشكال في إمكان البيان بالجملة الخبريّة بقوله : «إنّ غرضي لا يسقط بغير قصد الأمر بالعمل» فإنّ المفروض استحالة أخذه في متعلّق الأمر الأوّل والأمر الثاني. وأمّا إخباره ـ كما ذكرنا ـ ممكن ، وحينئذ فإذا لم يبيّن ولو بهذا النحو فبقاعدة قبح العقاب بلا بيان يتمّ إجراء البراءة العقليّة.

فاتّضح أنّه كلّما شكّ في واجب أنّه توصّلي أو تعبّدي إن كان لدليله إطلاق يتمسّك به في نفي قصد القربة ، وإلّا فالبراءة ، فيثبت بالإطلاق أو البراءة عدم المدخليّة لقصد الأمر أو القربة في متعلّق الأمر ، فيثبت بما ذكرنا أنّ الأصل في الأوامر هي التوصّليّة.

ثمّ إنّه ربما يدّعى الخروج عن هذا الأصل بدليل عامّ في جميع الأوامر والنواهي الشرعيّة بأدلّة عامّة ، فلا بأس بالتعرّض لها وأنّها تامّة الدلالة في المقصود فينقلب الأصل ويصير الأصل في الأوامر الشرعيّة هو التوصّلية ، أم أنّها غير تامّة فلا ينقلب الأصل بل يبقى على حاله ، وقد ذكر لذلك امور عديدة :

__________________

(١) كفاية الاصول : ٩٥ ـ ٩٧.

(٢) انظر كفاية الاصول : ٩٧.


في الأدلّة الخارجيّة الدالّة على أصالة التعبّديّة

أحدها : ـ وهو أقواها ـ الدليل العقلي ، وهو أنّ أمر الشارع فعل من أفعاله الاختياريّة ، وكلّ فعل اختياري صادر من العاقل يلزم أن يكون له به غرض يتوخّاه منه ، فلا بدّ أن يكون للشارع من أمره غرض يقصده ، ومن المعلوم أيضا أنّ صدور الفعل خارجا مقيّدا بعدم الإضافة إلى المولى يستحيل أن يكون غرضا ؛ إذ لو لم يكن الأمر باعثا إلى فعله بل كان يفعله وإن لم يأمر به المولى فالأمر حينئذ لغو ، وإن كان باعثا إلى فعله لزم الخلف ؛ إذ المفروض أنّ المأمور به ما لم يكن باعثه أمر المولى ، كما يستحيل أن يكون مطلق وجوده خارجا هو الغرض ؛ لاستحالة هذا الشقّ منه بما قرّرنا ، فتعيّن أن يكون الغرض منه إيجاده مضافا إلى المولى. وحينئذ فإن قام دليل على كون صرف صدور الفعل خارجا كافيا نخرج للدليل وما بقي نحكم فيه بعدم حصول الغرض إلّا بالإتيان به مضافا إلى الله تعالى.

والجواب عن هذا البرهان المناقشة في الصغرى والكبرى.

أمّا الكبرى : فبأنّا لسنا مأمورين بتحصيل غرض المولى إذا لم يدلّ عليه أمره ؛ إذ الغرض لا يكون أعظم من الأمر ، فكما أنّ الأمر الغير الواصل لا يلزم امتثاله ، كذلك الغرض الغير الواصل لا يلزم تحصيله ، ويشهد لذلك النواهي مطلقا والأوامر التوصّليّة الكثيرة ، فإنّه لا إشكال في سقوطها وإن لم يكن حين الفعل أو الترك مسندا لهما إلى الله ، وهل يمكن التخصيص في الحكم العقلي؟

وأمّا الصغرى : فبأنّا نمنع كون الغرض من الأمر هو صدور الفعل خارجا ، كيف؟ والغرض ما يترتّب على الشيء ، ومن المعلوم أنّ صدوره خارجا لا يترتّب عليه ؛ لكثرة العصاة والكفرة بناء على تكليفهم بالفروع كالاصول كما هو الحقّ ، بل الغرض من الأمر ليس إلّا قابليّته لأن يكون داعيا إلى متعلّقه ، وهذا متحقّق في جميع الأوامر توصّليّة وتعبّديّة.


وبما ذكرنا يندفع إشكال معروف وإن كان أجنبيّا عن التعبّدي والتوصّلي ، وملخّصه : أنّه إذا كان الغرض من الأوامر الشرعيّة والنواهي هي الداعويّة إلى فعل الواجبات وترك المحرّمات ، فمن المعلوم أنّ كثيرا من الواجبات يفعلها الإنسان وإن لم يأمر بها المولى كالإنفاق على الزوجة والأولاد ، وكثيرا من المحرّمات يتركها وإن لم ينه عنها الشارع كأكل القاذورات ، فما فائدة الأمر والنهي هنا؟ وملخّص الجواب : أنّ قابليّة كونه باعثا وزاجرا هو الفائدة في ذلك.

ثمّ يعود إشكال آخر : أنّ الغرض التوصّل إلى وجود الأوّل خارجا وترك الثاني ، والمفروض تحقّقهما ، فما فائدة قابليّة الباعثيّة والزاجريّة؟

وجوابه : أنّ فائدة ذلك هو تكميل النفس ، فإنّه إذا علم الإنسان الكامل بوجود أمر أو نهي يضيف عمله إلى مولاه فيحصل له بذلك تكميل نفسه وبلوغها أوج الرفعة الروحيّة ، والمقصود الأوّلي من تشريع الأحكام هو ذلك ، فإنّ المولى المشرّع ليس محتاجا إلى شيء وإنّما أراد تكميلنا بلطفه فشرع الأحكام ، فافهم وتأمّل فإنّه مبحث دقيق.

ثانيها : ما ذكره بعضهم (١) وهو قوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)(٢) بتقريب : أنّه حصر أمره بما كان عبادة وجعل الغاية من أمره هو العبادة ليس إلّا ، فإذا دلّ دليل على عدم كون المأمور به عباديا نخرج بالتخصيص عن مقتضى هذه الآية ، وإذا لم يدلّ الدليل كما في موارد الشك فمقتضى كونه عبادة عدم سقوط الأمر بغير قصد التقرّب.

ويرد عليها أوّلا : لزوم تخصيص الأكثر ، فإنّ أكثر الواجبات بل جميع الواجبات المشرّعة لحفظ النظام من كفائية وعينيّة توصّليّة ليس إلّا ، وتخصيص الأكثر مستهجن.

وثانيا : أنّ المقصود من هذه الآية بقرينة ما قبلها : أنّ التفرّق الموجود في أهل الكتاب لم يكن إلّا بعد إتمام الحجّة عليهم نتيجة تقليدهم واتّباعهم لعلمائهم وعبادتهم

__________________

(١) نسبه في أجود التقريرات ١ : ١٧١ إلى الكلباسي في الإشارات ١ : ٥٦ ـ ٥٧.

(٢) البيّنة : ٥.


لهم ، ولم يؤمروا من قبل الله تعالى إلّا بالعبادة مخلصين لله دينهم غير مشركين به أحدا من علمائهم ، وحينئذ فالآية أجنبيّة عن اعتبار قصد القربة في سقوط الأمر وعدمه.

الثالث : هو قوله عليه‌السلام : «لا عمل إلّا بنيّة» (١) وقوله عليه‌السلام : «إنّما الأعمال بالنيّات» (٢) فإذا كان العمل الفاقد للنيّة ليس بعمل فبمقتضى الحكومة لزم تحصيل النيّة ليحصل العمل المأمور به.

ويرد عليه أوّلا : ما ذكرنا من لزوم تخصيص الأكثر.

وثانيا : أنّ المقصود من النيّة هو القصد وهو أجنبيّ عن قصد القربة ، ضرورة استحالة خلوّ العاقل في عمل من الأعمال عن القصد له ، فيكون الخبر في مقام بيان أنّ الأعمال السهوية لا أثر لها ، أو أنّ المراد أنّ كلّ عمل من الأعمال يمكن أن يكون حسنا وأن يكون قبيحا بالوجوه والاعتبارات ؛ ضرورة أنّ الحسن الذاتي والقبح الذاتي في الأفعال قليل أو معدوم. نعم ، هو موجود في العناوين ، وحينئذ فضرب اليتيم ـ مثلا ـ للتأديب حسن وظلما وتشفيّا قبيح ، ورفع الحجر عن وسط الطريق لئلّا يعثر به المارّة حسن ، ووضعه وسط الطريق ليأخذه محتاجه حسن أيضا. وعلى كلّ حال فهي أجنبيّة عن عدم سقوط الأمر إلّا بعد قصد القربة.

وقد فسّرت هذه الأخبار بجملة من الأخبار بما ذكرنا في باب الجهاد وأنّ الخارج للجهاد لله وتشييد الدين ثوابه على الله ، ومن خرج طلبا للغنيمة فليس له إلّا ما طلب ، فلكلّ امرئ ما نوى.

هذا تمام الكلام في التعبّدي والتوصّلي. وقد تحصّل : أنّ كلّ مورد لم يقم دليل على التعبّديّة لا نحتاج إلى قصد القربة في إسقاط أمر المولى عملا بإطلاق الأمر ، ومع التنزّل فبعدم أخذ الجامع وهو مطلق القربة ، ومع التنزّل فبعدم أخذ العدم ، ومع التنزّل فبالأخبار ، ومع التنزّل فبالأمر الثاني المتمّم للجعل ، فافهم.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٣ ، الباب ٥ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ١ و ٣.

(٢) الوسائل ١ : ٣٥ ، الباب ٥ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ١٠.


في وقوع الأمر عقيب الحظر أو توهّمه

وقد اطيل الكلام في ذلك كما أشار إليه صاحب الكفاية قدس‌سره (١).

والذي ينبغي أن يقال : (إنّه بناء على ما ذكرنا من أنّ الوجوب ليس مستفادا من لفظ «الأمر» وإنّما هو بحكم العقل ، فالعقل لا يحكم في مثل هذا الأمر بالوجوب كلّية. وكذا إن قلنا بظهوره في الوجوب وضعا أو إطلاقا وانصرافه إليه.

فنقول) (٢) : إنّه بعد ظهور الصيغة في الوجوب وضعا أو إطلاقا أنّ هذا الظهور مرتفع حيث يقع الأمر عقيب الحظر أو توهّمه ؛ إذ لو لم يكن قرينة على رفع الحظر فلا أقلّ من قابليّته للقرينيّة ، فيكون من احتفاف الكلام بما يصلح للقرينيّة ، فلا ينعقد له ظهور في الوجوب ولا في الإباحة ولا في التبعيّة لما قبل النهي.

نعم ، لو كان في المقام قرينة معيّنة لأحد الامور المذكورة فهي متّبعة ، إلّا أنّ الكلام في الخالي عن القرينة ، ولا يثبت به أزيد من عدم كونه محرّما دون الوجوب أو الاستحباب أو الإباحة أو الكراهة.

نعم ، الأصل العملي يقتضي البراءة من التكليف حيث يشكّ في الوجوب ، فافهم.

وكذا الكلام في النهي الوارد بعد الوجوب أو توهّمه يرتفع ظهوره في التحريم أو انصرافه إليه.

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٩٩ ـ ١٠٠.

(٢) هذا من اضافات بعض الدورات اللاحقة.


في دلالة الأمر على المرّة أو التكرار وعدمها

وهذا النزاع يأتي ، سواء قلنا بأنّ المراد من المرّة الفرد أو الدفعة ، ومن التكرار الأفراد أو الدفعات. كما أنّ النزاع غير مبتن أيضا على ما يأتي : من أنّ الأمر متعلّق بالطبائع أو الأفراد ؛ وذلك لأنّ الفرد هناك إنّما هو بمعنى أنّ الخصوصيّة الفرديّة داخلة تحت حيّز الأمر ، بخلاف القول بالطبائع فإنّ الخصوصيّات من لوازم الوجود لا دخل لها بالمأمور به. وهذا بخلاف الفرد في المقام ، فإنّ المراد به الوجود الصرف فهو غير مبنيّ عليها كما أفاد صاحب الكفاية قدس‌سره (١).

وكيف كان ، ففي مثل الصلاة والصوم لا يفرق بين القول بالدفعة والفرد أصلا.

نعم ، في مثل الإكرام ـ مثلا ـ يتحقّق الفرق بين القولين فيما لو أكرمه بإكرامات عديدة دفعة واحدة ، فعلى القول بالمرّة لم يتحقّق الامتثال لعدم تحقّقها ، بخلافه على القول بالدفعة.

وينبغي أن يعلم أنّ مثل الأمر الذي ينحلّ بانحلال الأفراد مثل قوله : «إذا دخل الوقت فقد وجب الطهور والصلاة» مثلا هو خارج عن محلّ النزاع كلّية ، إذ هو ليس معناه : أنّ الأمر للتكرار ، بل الأمر الكلّي ينحلّ إلى أفراده.

وكيف كان ، فلا دلالة للأمر على المرّة ، كما لا دلالة لها على التكرار ، وإنّما تدلّ على طلب الطبيعة ؛ وذلك لأنّ الدلالة المدّعاة إمّا أن تدّعى من مادّة الصيغة أو هيئتها ، وكلّ منهما غير تامّ.

أمّا المادّة : فلأنّها مشتركة بين صيغة الأمر وبقيّة المشتقّات ، ولو دلّت على وحدة أو تكرار لدلّت عليه في الجميع ، مع أنّه لم يدّع ذلك أحد أصلا.

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ١٠١ ـ ١٠٢.


وأمّا الهيئة : فلأنّه لم يدّع أحد وضعها لغير ما مر من المذاهب التي مرّ ذكرها من كونها موضوعة للتحريك أو لإيقاع النسبة أو لإبراز الاعتبار وغير ذلك ، ولم يذكر أحد دلالتها على مرّة أو تكرار ، فهي لطلب الطبيعة ليس إلّا.

ولو فرض حصول الشكّ في دلالتها على المرّة أو التكرار فالمرجع في بيان الوظيفة هي الاصول العمليّة أو اللفظيّة ، فحيث يشكّ المكلّف في أنّ المطلوب هو الفرد بشرط الوحدة أو التكرار ، فالأصل اللفظي لو كان للدليل إطلاق يقتضي عدم تقيّد المأمور به بالوحدة وعدم تقيده بالأكثر أيضا ، فيجوز له الاقتصار على الفرد ، كما يجوز له الزيادة والإتيان بالأفراد المتعدّدة دفعة. ولو لم يكن للدليل إطلاق فالأصل العملي وهو البراءة أيضا يقتضي ذلك حرفا بحرف. وإذا كان للواجب أفراد طولية وأتى بفرد جامع لشرائط المأمور به فقد سقط الأمر ، فلا أمر حينئذ حتّى يكون إتيانه بها ثانيا امتثالا لذلك الأمر. وإذا أتى به غير جامع للشرائط فالأمر لم يسقط وهو داع إلى متعلّقه ، ولكن ليس هذا من التكرار في شيء.

وما ذكره صاحب الكفاية (١) من جواز تبديل الامتثال حيث يكون الفرد الثاني أوفى للغرض لم يعلم وجهه لنا ، إذ الذي تحت حيّز الأمر إنّما هو فعل المكلّف ، والغرض المترتّب عليه تمكّن المولى وقد حصل ، والغرض ـ وهو رفع العطش ـ ليس المكلّف مكلّفا بتحصيله حسب الفرض ، لأنّه يترتب على فعل الآمر وشربه.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٠٣.


مبحث الفور والتراخي في صيغة الأمر

ويقع الكلام في مراحل ثلاثة :

الاولى : في أنّ الصيغة تدلّ على الفور بنفسها ، وعلى تقدير عدم الدلالة لها فهل هناك دليل خارجي يقتضي الفور؟

الثانية : في أنّه على تقدير الدلالة على الفور ، فهل يسقط إذا لم يسارع العبد في امتثاله ، أم يجب إتيانه ثانيا؟

الثالثة : في أنّه على تقدير وجوب الإتيان به ثانيا ، فهل يجب فورا ففورا أم لا؟

أمّا الكلام في المرحلة الاولى : فملخّصه : أنّك قد عرفت أنّ الأمر مشتمل على مادّة وهيئة وأنّ المادّة لا تدلّ إلّا على صرف الطبيعة وأنّ الهيئة أيضا لا تدلّ إلّا على الطلب بأحد الأنحاء المذكورة ، فالمجموع منهما لا يستفاد منه إلّا طلب الطبيعة ، أمّا كونه فورا فلا ، كما لا يستفاد منها كونه متراخيا أيضا.

وأمّا الدليل الخارجي الذي ادّعي دلالته على الفور فهو آية (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ)(١) وآية (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ)(٢).

وكلّ منهما لا دلالة فيه على الفوريّة ، لا لما ذكره في الكفاية : من أنّهما لو كانا واجبين لكان التحذير عن تركهما أنسب (٣) لأنّه إن أراد عموم هذا المطلب لجميع الواجبات لزم تأسيس فقه جديد. وإن أراد خصوص هذا المورد باعتبار أنّ المسارعة إلى المغفرة لو لم يتحقّق لوقع الإنسان في الشرّ والغضب ، فمن المعلوم أنّ المسارعة والاستباق لا يلزم من تركهما ترك المغفرة ، بل يؤتى بالمغفرة يعني بأسبابها بلا مسارعة ، بل إنّما نقول بعدم دلالتهما ، لما ذكره ثانيا من شمولهما للمستحبّات (٤)

__________________

(١) آل عمران : ١٣٣.

(٢) البقرة : ١٤٨.

(٣ و ٤) كفاية الاصول : ١٠٣.


فإنّ الجمع المحلّى باللام مفيد للعموم ، ومعلوم أنّ المستحبّات لا تجب فيها الفوريّة ، فيلزم كثرة التخصيص أو حملها على مطلق الرجحان ، وكلّ منهما محتمل ، فلو لم نقل بأنّ حملها على مطلق الرجحان متعيّن فلا أقلّ من كونهما متساويين ، فلا يكون لهما ظهور في الوجوب.

وأمّا ما ذكره ثالثا : من كون الأمر بهما إرشاديّا لاستقلال العقل بحسن المسارعة والاستباق إلى أسباب المغفرة لما في التأخير من الآفات (١) فغير تامّ ؛ لأنّ الأمر إنّما يحمل على الإرشاد حيث لا يمكن فيه المولويّة كما في أوامر الإطاعة ، وأمّا حيث يمكن ـ كما في المقام ـ فلا. ومجرّد استقلال العقل لا يمنع عن كون الأمر مولويا ، وإلّا لزم كون أداء الدين وجوبه إرشادي واستحباب الصدقة إرشادي ولا يقول هو به فضلا عن غيره. والذي يحتمل قريبا كون الآية في مقام الإعجال إلى التوبة ؛ إذ هي سبب المغفرة لجميع الذنوب ، أمّا غيرها من أفراد الواجب فلا يكون سببا للمغفرة كليّا.

نعم ، بعض الواجبات كالحجّ (٢) والمستحبّات كزيارة الحسين عليه‌السلام في أوقات خاصّة ورد فيها المغفرة لجميع الذنوب كلّية (٣).

المرحلة الثانية : في أنّه إذا بنينا على الفوريّة فهل يجب الإتيان بالعمل بعد تركه في أوّل الأزمنة عصيانا أو نسيانا ، أم لا؟ قولان مبنيّان على وحدة المطلوب فلا يجب أو تعدّده فيجب. أمّا إذا كانت الصيغة بنفسها دالّة فلا ريب في كونها كاشفة عن كون الواجب هو العمل الفوري وهو المطلوب بنحو الوحدة. وأمّا إذا كان دليل الفورية الآيات ، فإنّه وإن كان الدليل المنفصل كالمتّصل في التقييد عندنا ـ كما سيأتي في القضاء إن شاء الله تعالى ـ إلّا أنّ في المقام خصوصيّة تقتضي كونه بنحو تعدّد المطلوب ، وهي أنّ المغفرة لا تفوت بفوات الاستباق وإنّما تحصل بغير استباق.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٠٤.

(٢) راجع الوسائل ٨ : ٦٤ ، الباب ٣٨ من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه.

(٣) الوسائل ١٠ : ٣١٨ ، الباب ٣٧ من أبواب المزار.


المرحلة الثالثة : في أنّه على تقدير وجوب الإتيان به ثانيا ، فهل يجب فورا ففورا؟ الظاهر العدم ، فإنّ دليل المسارعة إنّما يقتضي الإتيان به في أوّل الأزمنة العرفيّة ، أمّا في ثاني الأزمنة العرفيّة فلا ؛ إذ لا يقال له عند العرف : مسارعة واستباق ، فمن صلّى صلاة الظهر ـ مثلا ـ أوّل الظهر عرفا كان مسارعا ومن أخّرها إلى بعد الظهر فليس بمسارع عرفا ، بل هو مؤخّر عرفا ، وإن كانت المسارعة إضافية إلّا أنّها يلزم أن تكون بنحو يصدق عرفا ولا يصدق في المقام.

وبالجملة ، فما ذكره صاحب الكفاية من ابتناء الفوريّة في الزمن الثاني على اتّحاد المطلوب وتعدّده (١) غير تامّ أصلا ؛ إذ لا ربط لوحدته أو تعدّده في ذلك.

هذا تمام الكلام في هذا المقام ، والحمد لله وهو خير ختام.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٠٤.


في مقتضى الأصل في دوران الوجوب بين النفسيّة والتخييريّة والعينيّة وما يقابلها

والكلام في مقتضى الأصل العملي حيث يكون الدليل لبيّا أو لفظيّا لا إطلاق فيه كما إذا كان المتكلّم في مقام الإهمال أو الإجمال في ذيل مبحث البراءة والكلام هنا في مقتضى الأصل اللفظي.

ذهب صاحب الكفاية قدس‌سره إلى التمسّك بالإطلاق حيث تتمّ مقدّماته في إثبات كون الوجوب نفسيّا تعيينيّا عينيّا (١) بدعوى أنّ ما يقابلها يحتاج إلى ذكر قيد ، فإنّ الوجوب الغيري يحتاج إلى إضافة «إن وجب الغير» والتخييري محتاج إلى قوله : «إن لم تأت بذاك» والكفائي محتاج إلى قوله : «إن لم يؤدّه غيرك» فبمقتضى الإطلاق تنفى هذه القيود وبه يثبت ما يقابلها.

وقد أشكل عليه بعضهم بأنّ الإطلاق لا يستفاد منه أزيد من الجامع بين الوجوب النفسي والغيري (٢) ؛ إذ الوجوب النفسي كالغيري محتاج إلى قيد ، وليس كما ذكره قدس‌سره : من كون الوجوب النفسي غير محتاج إلى قيد ليكفي الإطلاق ، فإنّ بين الوجوبين مباينة ؛ مباينة الماهيّة بشرط شيء والماهيّة لا بشرط ، فالوجوب النفسي مثلا محتاج إلى إضافة قوله : «وإن لم يجب غيره».

ويمكن الجواب عن ذلك بأنّه متين لو اريد به إثبات الوجوب النفسي ، ولكن أصل الوجوب معلوم حسب الفرض ، والمقصود إثبات خصوصيّته فقط ، فإذا كان اللفظ مطلقا حسب الفرض فمقتضى إطلاقه أنّ المولى يريد هذا العمل سواء وجب غيره أم لم يجب ، ولازم ذلك هو الوجوب النفسي ، ولوازم الاصول اللفظيّة حجّة.

وبهذا الكلام عينا يتمّ الاستدلال في إثبات الوجوب العيني دون الكفائي ، والتعيّني دون التخييري فلا حاجة إلى التكرار.

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ١٣٦.

(٢) لم نقف عليه.


مبحث الإجزاء

والكلام في إجزاء المأمور به بالأمر الظاهري عن أمره والمأمور به بالأمر الاضطراري عن أمره والمأمور به بالأمر الواقعي عن أمره ممّا لا ينبغي أن يدوّن ؛ إذ بعد فرض حصول الغرض الباعث على الأمر لا يبقى الأمر كلّية ؛ إذ إنّما أمر المولى بهذا العمل للغرض المترتّب عليه ، فبعد تحقّق الغرض بوجود المأمور به لو بقي الأمر لبقي المعلول بعد ذهاب علّته وهو محال ، فلا نزاع في هذا المقام بحسب الظاهر ، وإن وقع النزاع فيه فشاذّ لا يعبأ به بعد فرض قيام البرهان العقلي على الإجزاء.

وتوهّم احتمال كون الغرض مترتّبا على وجوداته المتعدّدة لا الوجود الواحد خروج عن محلّ الكلام الذي هو إتيان المأمور به على وجهه ، يعني على ما ينبغي أن يكون عليه من الأجزاء والشرائط ، وما ذكر معناه أنّه لم يؤت به على وجهه ؛ إذ عليه يكون المأمور به متعدّدا لا واحدا ، فإتيان الواحد إتيان به على غير ما ينبغي أن يكون عليه.

فالذي ينبغي أن يقع الكلام فيه إجزاء المأمور به بالأمر الظاهري عن الواقعي لو انكشف الخلاف في الوقت عن الإعادة وفي خارجه عن القضاء ، وإجزاء المأمور به بالأمر الاضطراري عن الواقعي لو ارتفع الاضطرار في الوقت أو خارجه.

وقد ظهر ممّا ذكرنا من تحرير محلّ النزاع أنّ مسألة المرّة والتكرار أجنبيّة عن محلّ النزاع ؛ إذ هي في تشخيص أنّ المأمور به ما هو؟ هل هو المرّة أو التكرار؟ وكلامنا


في أنّ المأمور به بأيّ نحو كان يجزئ عن أمره لو كان النزاع في ذلك أو أنّ المأمور به بالأمر الظاهري والاضطراري يجزئ عن الواقعي أم لا يجزئ ، فبين المسألتين بون شاسع ، إذ الاولى صغرى لمسألة الإجزاء. نعم ، لو كان النزاع في إجزاء المأمور به عن أمره وقلنا بعدم الإجزاء لكانت نتيجته ونتيجة القول بالتكرار واحدة ، لكنّه بملاكين لا بملاك واحد كما هو واضح لا يخفى.

كما أنّ الفرق بين مسألتنا ومسألة تبعيّة القضاء للأداء وعدمها أيضا واضح ؛ إذ مسألة تبعيّة القضاء للأداء فرع فوت الواجب في وقته ، فنقول : هل إنّ أمره به في الوقت كان من باب وحدة المطلوب؟ فلا يقتضي القضاء ، بل لا بدّ من أمر جديد يلزم بالقضاء حتّى يجب القضاء ، أم كان من باب تعدّد المطلوب؟ فهو بنفسه يقتضي القضاء. ومقامنا في أنّه لو أتى به في وقته فلا فوت ، فهل يجزئ عن أمره أم لا؟ فأيّ جامع بين الفوت وعدمه؟ ولو أنّ نزاعنا في أنّ الأمر الظاهري أو الاضطراري يجزئ عن الواقعي أم لا؟ فالفرق أيضا واضح ، فإنّ معنى عدم الإجزاء عدم الوفاء بالغرض ، فإذا كان هناك وفاء فلا فوت أيضا ؛ إذ إنّ الأمر الظاهري إذا كان وافيا بغرض الواقع وكذا الاضطراري فلا فوت أيضا ، فهو أجنبيّ عن مسألة تبعيّة القضاء للأداء.

ثمّ ليعلم أنّ الكلام في أنّ الأمر الظاهري أو الاضطراري يجزئان عن الواقعي أم لا يجزئان؟ مبنيّ على مقدّمتين :

الاولى : أن يكون لدليل الأمر الواقعي إطلاق لما لو أتى بالمأمور به بالأمر الظاهري أو الاضطراري ، أمّا إذا لم يكن له إطلاق لهذه الصورة فدليل الحكم الواقعي قاصر الشمول لهذه الصورة ، كما هو واضح.

الثانية : أن لا يكون لدليل الأمر الظاهري أو الاضطراري لسان بدليّة عن الواقع ، أمّا لو كان له لسان بدلية لم يكن لعدم الإجزاء مجال ، فالقول بالإجزاء مبنيّ على عدم


استفادة الإطلاق من دليل الحكم الواقعي وعدم استفادة البدليّة من دليل الحكم الظاهري أو الاضطراري والقول بعدم الإجزاء مبنيّ على إنكار كلا هاتين المقدّمتين.

فالكلام يقع في أدلّة الأحكام الواقعيّة وفي استفادة الإطلاق منها وعدمه ، وبعد إحراز إطلاقها يقع الكلام في أدلّة الأحكام الظاهريّة أو الاضطراريّة وفي استفادة بدليّتها عن الواقع وعدمها. هذا كلّه في إجزاء المأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري عن الواقعي بعد ارتفاع الاضطرار أو انكشاف الخلاف. وأمّا إجزاؤهما عن أمرهما كإجزاء الواقعي عن أمره فلا يعقل النزاع فيه.

نعم ، ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره (١) جواز تبديل الامتثال بالامتثال ومثّل له بما إذا أمر المولى عبده بماء ليشرب فجاءه بالماء ، فما لم يتحقّق منه الشرب له تبديله بفرد آخر أحسن منه ، وقد ذكرنا في مسألة المرّة والتكرار استحالة تحقّق الامتثال بعد الامتثال ، ولا بأس بالتعرّض له هنا أيضا.

فنقول : إنّ تبديل الامتثال بالامتثال مستحيل ؛ إذ بعد فرض الإتيان بالمأمور به بتمام ما يعتبر فيه فإنّ إتيانه الثاني إن كان مع بقاء الأمر الأوّل فواجب لا جائز ، وإلّا فليس امتثالا ؛ إذ الامتثال فرع الأمر ، فمع سقوطه أيّ معنى للامتثال الثاني.

وما ذكره من المثال العرفي ، فأوّلا : الغرض في الموالي العرفيّة في أفعالهم أنفسهم بعد فعل العبد كأن يشرب الماء مثلا ، وفي المولى الحقيقي الغرض في نفس فعل العبد ليس إلّا ، وقد حصل.

وثانيا : أنّا ذكرنا فيما تقدّم أنّ الغرض ليس إلّا تمكّن المولى من الشرب وقد حصل ، لا الشرب ليجوز له تبديله.

نعم ، ورد في جملة من الموارد الشرعيّة ما يوجب توهّم ذلك ، كما ورد في صلاة الآيات من التكرار ما دام الآية (٢) وكما ورد في من صلّى منفردا أنّه يكرّر صلاته إذا

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ١٠٣ و ١٠٧.

(٢) انظر الوسائل ٥ : ١٥٣ ، الباب ٨ من أبواب صلاة الكسوف.


طلبت منه الإمامة لقوم (١) وكما ورد في المنفرد إذا وجد جماعة أنّه يعيدها جماعة (٢). وقد دلّت على ما ذكرنا الأخبار الكثيرة ، وهي محتملة لأمرين على سبيل منع الخلوّ :

الأوّل : أن يكون الأمر الثاني مثبتا للاستحباب النفسي فيكون تكرارها مستحبّا نفسيّا ، فيكون الأوّل هو الفرض والثاني مستحبّ نفسي ، كما التزموا بذلك في صلاة الآيات (٣) ولم يحتملوا غيره فيها أصلا.

الثاني : أن يكون فرضا عمّا في ذمّته من قضاء واجب أو مستحبّ كما في موارد احتمال الفوات.

والأخبار مختلفة ، ففي بعضها «فليجعلها الفريضة» (*)(٤) وهذه مجملة ؛ إذ أيّ فريضة يعني؟ وفي بعضها الآخر «يجعلها قضاء عمّا في ذمّته» (٥) والطائفة الاولى تحمل على الثانية ، فيقال : المراد بالفريضة في الاولى هي الفائتة.

الطائفة الثالثة من الأخبار تقول : «إنّ الله يختار أحبّهما إليه ويكتب له أتمّهما» (٦) وما أدّى هذا المؤدّى. ولا يخفى أنّها لا تدلّ إلّا على أنّ الله يكتب له في ديوان

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٤٥٥ ، الباب ٥٤ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث ٣ ـ ٥.

(٢) الوسائل ٥ : ٤٥٥ ـ ٤٥٧ الباب ٥٤ من أبواب الجماعة ، الحديث ١ ـ ٢ و ٨ ـ ١١.

(٣) انظر مفتاح الكرامة ٣ : ٢١٢ ، والجواهر ١١ : ٤٥٢ ـ ٤٥٣.

(*) لا يخفى أنّ قوله : «فليجعلها الفريضة» لا يعارض ما دلّ على جواز جعلها قضاء ؛ إذ هما صورتان لذلك. ودعوى إجمال الاولى ضعيف ؛ إذ هو ظاهر في جعلها الفريضة الاولى ؛ إذ اللام فيها عهدية. كما أنّ إنكار ظهور الطائفة الثالثة من الأخبار في كونه امتثالا بعد امتثال ضعيفة أيضا ، فافهم. (الجواهري).

(٤) الوسائل ٥ : ٤٥٥ ـ ٤٥٧ ، الباب ٥٤ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث ١ و ١١.

(٥) لم نعثر عليه بعينه ، نعم ورد في رواية إسحاق بن عمّار : صلّ واجعلها لما فات. انظر الوسائل ٥ : ٤٥٧ ، الباب ٥٥ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث الأوّل.

(٦) الوسائل ٥ : ٤٥٥ ـ ٤٥٧ ، الباب ٥٤ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث ٤ و ١٠.


حسناته الثانية ، ولا ملازمة بينه وبين كونه امتثالا بعد امتثال. ولو فرض ظهوره فلا بدّ من تأويله ، لما ذكرنا من استحالته.

ثمّ إنّ الكلام يقع في إجزاء الظاهري أو الاضطراري عن الواقعي لو ارتفع الاضطرار أو انكشف الخلاف ، والكلام الآن يقع في الاضطراري.

في إجزاء إتيان المأمور به اضطرارا عن الواقع وعدمه

والكلام يقع في مقامين أيضا :

الأوّل : فيما لو ارتفع الاضطرار في خارج الوقت فهل يجب القضاء أم لا؟

الثاني : فيما لو ارتفع الاضطرار في الوقت فهل يجب الإعادة أم لا؟

أمّا إجزاء إتيان المأمور به بالأمر الاضطراري عن القضاء خارج الوقت إذا استمرّ العذر فممّا لا إشكال فيه ؛ إذ الأمر الواقعي لم يتوجّه إليه في الوقت أصلا ، فليس الواقع منجّزا عليه فلا فوت ، فإن كان القضاء بأمر جديد فهو فرع الفوت ولا فوت أصلا للمأمور به ، وإن كان فوت ملاك المأمور به فمع احتمال استيفاء المصلحة الاضطراري لا يحرز الفوت كي يجب القضاء ، مضافا إلى أنّ الأوامر الاضطراريّة ظاهرة في استيفاء المصلحة المترتّبة على الواقع على متعلّقاتها ، بل ظاهر آية التيمّم (١) تنويع التكليف إلى طهارة مائيّة واخرى ترابيّة ، وإذا كان القضاء بالأمر الأوّل فلا أمر أوّلا بالواقعي كي يدلّ على القضاء في خارج الوقت ، فافهم.

هذا تمام الكلام فيما لو ارتفع العذر في خارج الوقت.

أما لو ارتفع العذر في الوقت [و] الكلام في هذه المسألة مبنيّ على جواز البدار لذوي الأعذار ، فيقع حينئذ الكلام في أنّ العذر إذا زال في الوقت بعد أن أتى بالوظيفة العذريّة ، فهل يجب عليه حينئذ الإتيان بالواجب الاختياري أم لا؟

__________________

(١) الواردة في سورة النساء الآية : ٤٣ ، وسورة المائدة الآية : ٦.


قد ذكر الآخوند قدس‌سره (١) أنّه يمكن أن يكون العمل وافيا بتمام الملاك حال الاضطرار وأن لا يكون وافيا ، بل يبقى منه مقدار إلزامي أو غيره يمكن تداركه أو لا يمكن ، وحينئذ فإن وفى أو بقي من الملاك ما لا يلزم تداركه يجزئ ، وإن لم يف بل كان الباقي إلزاميا يمكن تداركه فلا يجزئ ، فلا بدّ في مقام الإثبات من مراجعة دليل الأمر الاضطراري وفهم دلالته بعد أن كان مقام الثبوت ممّا يمكن فيه الإجزاء وعدمه.

وقد ادّعى الميرزا النائيني (٢) الملازمة بين وجود الأمر الاضطراري واقعا والإجزاء بدعوى أنّه لو فرض أنّه صلّى صلاة المضطرّ التي قد امر بها حال الاضطرار ، فلو وجب عليه الصلاة الاختيارية بعد رفع الاضطرار يلزم وجوب ما زاد على خمسة صلوات ، والأخبار والإجماع بل الضرورة قائمة بعدم وجوب أكثر من خمس صلوات في اليوم والليلة (٣).

ولا يخفى أنّ ما ذكره متين في خصوص الصلاة التي هي مورد الإجماع والضرورة والنصوص. وأمّا في غير الصلاة فلا يتمّ ، إلّا أنّ الظاهر تحقيق الملازمة بين تحقّق الأمر الاضطراري واقعا وبين الإجزاء ؛ وذلك لأنّ الفرض الذي ذكره الآخوند قدس‌سره لصورة عدم الإجزاء غير ممكن ثبوتا ؛ إذ بعد فرض إمكان تحصيل الملاك الملزم آخر الوقت بالعمل الاختياري يكون أمره بالعمل الاضطراري في أوّل الوقت لغوا محضا ؛ إذ الفرض أنّ الأمر بالاختياري محقّق وملزم ولا بدّ من الإتيان به ، وهو واف بالملاك إذا لم يستوف منه شيء ، فأيّ داع حينئذ إلى أمره الاضطراري بالعمل الاضطراري الذي لا يغني عن الواجب الاختياري الممكن حصوله فيما بعد. وما ذكره الآخوند (٤) من الوجوب التخييري غير تامّ أيضا ؛ لأنّه تخيير بين الأقلّ

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٠٨ ـ ١٠٩.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٨٤ ـ ٢٨٥.

(٣) انظر الوسائل ٣ : ٥ ، الباب ٢ من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها وغيره من الأبواب.

(٤) انظر كفاية الاصول : ١٠٩.


والأكثر ، وهو غير معقول ؛ لأنّه تخيير بين فعل وتركه وهو محال. فينبغي تقديم الكلام على البدار وأنّه هل القاعدة تقتضي جوازه إلّا ما خرج بالدليل؟ أم القاعدة تقتضي عدم الجواز إلّا ما خرج بالدليل؟

فنقول ذكر السيّد اليزدي قدس‌سره في عروته عدم جواز البدار إلّا في التيمّم (١) للنصوص الدالّة على جواز البدار فيه (٢). وذكر بعض المحشّين عليها (٣) جواز البدار إلّا في التيمّم للنصوص الدالّة على عدم جواز البدار فيه (٤). والظاهر هو الأوّل.

بيان ذلك : أنّ دليل الواجب الموقّت الموسّع مثل الصلاة فبمقتضى قوله : «إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة» (٥) ومثل قوله : «ثمّ أنت في وقت» (٦) إلى آخره ـ تخيّر العقل في أفراد الواجب المستوية في وجدان الأجزاء والشرائط وفقدانها ، فحيث تكون الأفراد كلّها واجدة للقيام أو للطهارة المائيّة أو كلّها فاقدة ، فالعقل يخيّرك حينئذ. أمّا لو كان بعضها واجدا وبعضها فاقدا فالعقل يحتّم عليك الواجد دون الفاقد ولا يسيغ لك البدار إلى الفاقد ، كما لا يجيز لك ترك الواجد فعلا وتأخيرك العمل إلى وقت تعلم بأنّك تكون فاقدا فيه ، فمقتضى حكم العقل عدم جواز البدار ، فجواز البدار محتاج إلى دليل ، فإمّا أن يدلّ عليه دليل شرعي تعبّدي ،

__________________

(١) العروة الوثقى ١ : ٥٠٠ ، المسألة ٣.

(٢) انظر الوسائل ٢ : ٩٨٣ ـ ٩٨٥ ، الباب ١٤ من أبواب التيمم ، الأحاديث ٩ ، ١١ ، ١٣ ، ١٧ ، ١٥ وغيرها في غير الباب.

(٣) انظر العروة الوثقى ١ : ٥٠٠ ، المسألة ٣ وتعليقات المراجع عليها.

(٤) انظر الوسائل ٢ : ٩٨٢ ـ ٩٨٣ ، الباب ١٤ من أبواب التيمم ، الحديث ٣ و ٨ و ٩٩٣ ـ ٩٩٤ ، الباب ٢٢ من الأبواب ، الأحاديث ١ و ٣ و ٤.

(٥) الوسائل ١ : ٤٨٣ ، الباب ١٤ من أبواب الجنابة ، الحديث ٢ وفيه : إذا دخل الوقت وجب الطهور.

(٦) الوسائل ٣ : ٩٢ و ٩٥ ، الباب ٤ من أبواب المواقيت ، الحديث ٥ و ٢٢.


وإمّا أن يقطع المكلّف أو يطمئنّ بعدم ارتفاع الاضطرار إلى آخر الوقت ليتحقّق الموضوع للتخيير العقلي ، أو يشكّ في ارتفاع العذر وعدمه فيستصحب بقاءه بناء على ما اخترناه من جريان الاستصحاب في الامور المتأخّرة ، فيتحقّق موضوع حكم العقل بالتعبّد أيضا.

فإن أجرى الاستصحاب ثمّ انكشف الخلاف وارتفاع عذره قبل خروج الوقت فحينئذ تكون المسألة من صغريات إجزاء الحكم الظاهري عن الواقعي وعدمه ، وهي المسألة الآتية.

وإن قطع أو اطمئنّ فصلّى ثمّ انكشف أنّ قطعه كان مخالفا للواقع فهو من تخيّل الأمر ؛ إذ قد انكشف أن لا أمر واقعا بهذه الصلاة ولا ظاهرا ، فلا شيء حتّى يجزئ عن الواقعي أم لا ، وإنّما هو من تخيّل الأمر.

وإن كان هناك دليل يدلّ على جواز البدار مثل ما استندوا إليه في قوله عليه‌السلام : «إذا قوي فليقم» (١) ممّا يستكشف منه أنّ العبرة بحال الصلاة وإرادتها وأنّه غير منوط بالتأخير ، ففي مثل الصلاة لا إشكال في الإجزاء وعدم لزوم الإعادة في الوقت ، لقيام الإجماع بل الضرورة والأخبار المتواترة على «أنّ الله لم يكلّف العبد في اليوم الواحد بأكثر من خمس صلوات» (٢) فيستفاد منه : أنّ الصلاة المأتيّ بها حال الاضطرار متداركة لمصلحة الواقع الفائتة ، والمفروض أنّها كانت صحيحة واجدة لتمام الأجزاء والشرائط بالإضافة إلى المضطرّ ، فهو من قبيل تبدّل العنوان عند ارتفاع اضطراره فهو واجبان واقعيّان كلّ في حال كالسفر والحضر في الصلاة.

أمّا في غير الصلاة اليوميّة مثل ما لو نذر أن يصلّي صلاة جعفر مثلا فصلّاها بطهارة ترابيّة لعدم المائيّة ثمّ في الوقت قدر على المائيّة بعد ذلك ، فمقتضى القاعدة

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٦٩٩ ، الباب ٦ من أبواب القيام ، الحديث ٣.

(٢) انظر الوسائل ٣ : ٥ ، الباب ٢ من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها وغيره من الأبواب.


لزوم الإتيان بها ثانيا ، لعدم دليل يدلّ على إجزائها عن المكلّف به الواقعي ؛ إذ ليس عندنا إجماع ولا ضرورة ولا أخبار بذلك.

نعم ، لو كان لدليل الاضطرار إطلاق يفيد حصر المكلّف به بخصوص الفعل الاضطراري فيستكشف بذلك تنويع الواجب الواقعي وأنّ المأمور به بالأمر الاضطراري حال الاضطرار واف بتمام مصلحة الواجب الواقعي الاختياري بلا نقيصة أصلا وأنّهما عنوانان كالسفر والحضر بالإضافة إلى قصر الصلاة وإتمامها.

ولا يتوهّم أنّه عليه يجوز التفويت للقدرة على الواجب الاختياري لتحصيل تمام المصلحة بالواجب الاضطراري بعد أن يكون المكلّف من أفراد المضطرّين ، لإمكان أن يقال : إنّ الوفاء بالمصلحة من المأمور به بالأمر الاضطراري مختصّ بالمضطرّ بحسب طبعه لا بمن يصير نفسه مضطرّا بإذهاب قدرته بالاختيار. هذا لو استفيد من إطلاق دليل الواجب الاضطراري انحصار التكليف به.

أمّا لو لم يكن الإطلاق في مقام بيان الحصر ، ففي مقام الثبوت يمكن أن يفي المأمور به بالأمر الاضطراري بتمام المصلحة ، ويمكن أن لا يفي فلا يجزئ. ولا إطلاق يقتضي الحصر كما لا إجماع ولا أخبار تقتضي الإجزاء ، فإن كان لدليل الواجب الاختياري إطلاق تمسّك به في لزوم الإتيان به وإن لم يكن له إطلاق أيضا فيصار حينئذ إلى الاصول العمليّة ، فنقول : إنّها تقتضي البراءة ؛ لأنّه يشكّ في الوفاء كي لا يجب الإعادة وعدم الوفاء كي تجب الإعادة فهو يشكّ في توجّه التكليف نحوه بالإعادة وعدمه ولا ريب في أنّه شكّ في التكليف فتجري فيه البراءة العقليّة والشرعيّة.

لا يقال : إنّ الأمر الأوّلي يقتضي الإعادة لعدم إحراز استيفاء المصلحة.

لأنّا نقول : إنّ الأمر بالطبيعة الجامعة بين الفرد الاختياري والاضطراري قد امتثل ، والأمر بالاختياري من أوّل الأمر يشكّ في شموله لمن أتى بواجبه الاضطراري ، فمن المحتمل أن لا يكون أمر حتّى يقيّده ما دلّ على تقييده حال الاختيار بذلك الجزء الذي اضطرّ إلى تركه ثمّ زال اضطراره عنه في الوقت ، فافهم.

هذا تمام الكلام في إجزاء الواجب الاضطراري عن الواقعي ، فافهم.


في إجزاء المأمور به الظاهري عن الواقعي وعدمه

إذا أتى بالمأمور به الظاهري ثمّ انكشف مخالفته للواقع وأنّ المأمور به الواقعي غيره ، فهل القاعدة تقتضي الإجزاء؟ أم تقتضي عدم الإجزاء ولزوم الإعادة في الوقت والقضاء خارجه؟ والكلام يقع في مقامين :

أحدهما : ما لو انكشفت المخالفة للواقعي بالقطع.

الثاني : ما لو انكشفت المخالفة بالتعبّد الشرعي كتبدّل رأي المجتهد مثلا عن عدم وجوب السورة إلى وجوبها.

أمّا الكلام في المقام الأوّل : وهو ما لو انكشفت المخالفة بالقطع

فيقع في مقامين أيضا ؛ إذ تارة يكون مستند ذلك الحكم الظاهري الذي قد انكشفت مخالفته للواقع أمارة. واخرى يكون أصلا عمليّا.

فإن كان أمارة ـ كأن استند في الحكم الشرعي إلى رواية وفي الموضوع الخارجي إلى قول ذي اليد فصلّى بلا سورة من جهة الأمارة الشرعيّة أو صلّى بالجلد عملا بيد المسلم مثلا ثمّ قطع بوجوب السورة واقعا أو بكون الجلد جلد ميتة ـ الظاهر اتّفاق الأصحاب على عدم الإجزاء عن الواقعي وأنّه يلزمه الإعادة لو انكشف في الوقت والقضاء لو انكشف في خارجه ؛ لأنّ المأمور به الواقعي لم يؤت به ، فمصلحته لم تستوف والمأتيّ به لم يعلم إجزاؤه لعدم الدليل على الإجزاء.

وقد ذكر بعضهم ـ كالشهيد ـ ابتناء الإجزاء في المقام على القول بالتصويب الأشعري وكون الحكم دائرا مدار العلم به (١). والظاهر هو ذلك أيضا ، إلّا أنّه إنّما يتمّ في الأحكام ؛ إذ الإجماع إنّما قام على بطلان التصويب في الأحكام وكذا الأخبار أيضا (*).

__________________

(١) لم نعثر عليه.

(*) قد ذكر في دورته اللاحقة : أنّ التصويب في الموضوعات باطل ، ولم ينسب القول به حتّى إلى المصوّبة أنفسهم.


وأمّا التصويب في الموضوعات وهو عبارة عن أخذ العلم جزء موضوع لترتّب الحكم فلا إجماع على بطلانه ، فيمكن أن يكون المانع عن صحّة الصلاة هو الجلد المعلوم عدم تذكيته بنحو يكون العلم جزءا فتدور المانعيّة مدار العلم بعدم التذكية ، فيلتزم بالإجزاء في الموضوعات ، إلّا أنّ المانع عن الإجزاء أمران :

أحدهما : ظواهر الأدلّة ، فإنّها بإطلاقها يعلم أنّ الموضوع للحكم بالمانعيّة ـ مثلا ـ هو غير المذكّى الواقعي علم به أم لا ، فليس العلم جزءا للموضوع في لسان الأدلّة كي يلتزم بالإجزاء.

الثاني : عدم القول بالفصل ، فإنّ الأمارات إن كانت حجّة من باب الطريقيّة ففي الأحكام والموضوعات ، وإن كانت من باب السببيّة المستلزمة للتصويب ففيهما معا. أمّا أنّها من باب الطريقيّة في الأحكام والسببيّة في الموضوعات فلا قائل به ، وبما ذكرنا يتمّ القول بعدم الإجزاء في الموضوعات أيضا.

وإن كان مستند الحكم الظاهري أصلا كأصالة الطهارة مثلا أو استصحابها في وجه قويّ ـ على ما ذكره صاحب الكفاية (١) ـ ثمّ انكشف أنّ ذلك الشيء نجس قطعا ، فقد ذهب صاحب الكفاية قدس‌سره إلى الإجزاء وقد قرّبه بأنّ الأمارة إنّما تنظر إلى الواقع فيتنجّز بتحقّق ما هو الشرط واقعا ، فإذا انكشف الخلاف انكشف أنّ الشرط الواقعي مفقود. أمّا الاصول فإنّما تثبت وجود الشرط في الظاهر ، فإذا شكّ المكلّف مثلا في الطهارة فاستند إلى أصالة الطهارة ثمّ انكشف أنّه ليس بطاهر واقعا فلم يكشف عن عدم وجدان الماء للطهارة الظاهريّة ، بل كان واجدا لها ما دام الشكّ ، نعم من الآن لا يكون واجدا ، لارتفاع الشكّ بالقطع ، فلا شكّ حتّى يجري الأصل ، فالاصول في الحقيقة توسّع الطهارة المعتبرة في ذلك الماء شرطا إلى الطهارة الظاهريّة والواقعيّة ، فما دامت الطهارة الظاهريّة موجودة العمل واجد لشرطه. نعم الآن

__________________

(١) كفاية الاصول : ١١٠.


باعتبار القطع بنجاسته الواقعية ارتفع موضوع الطهارة الظاهرية ، فهو من قبيل الأوامر الاضطراريّة والعناوين في كونه من تبدّل العنوان في الحقيقة ومن باب انقلاب الموضوع ، وقد أشار بقوله : «بل واستصحابهما في وجه قويّ» إلى ما اختاره من كون المجعول في الاستصحاب الحكم المماثل للحكم السابق كأصالة الطهارة وغيرها كأصالة الحليّة.

أقول : قد ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره (١) عدّة إيرادات على ما ذكر صاحب الكفاية ، إلّا أنّ أكثرها غير وارد عليه ، ونحن لا نتعرّضها اقتصارا.

نعم ، يرد على ما ذكره إيرادان : أحدهما نقضي ، والآخر حلّي.

فالأوّل : هو أنّه إذا كانت أصالة الطهارة كما ذكرت تحكم على أدلّة الشرائط وتوسّعها إلى الظاهريّة والواقعيّة ، فينبغي أن يترتّب على مجراها جميع آثار الطهارة ولا يختصّ بخصوص الصلاة بالإضافة إلى الطهارة الحدثيّة ، فكان ينبغي أنّه إذا غسل بالماء المستصحب طهارته ثوب أن يحكم بطهارته حتّى بعد انكشاف الخلاف في الماء ؛ إذ انكشاف الخلاف كأنّه هو الذي نجّسه وإلّا فهو طاهر قبل انكشاف الخلاف وعند تنجّسه بانكشاف الخلاف لم يلاق الثوب كي يحكم بنجاسته ، ومن المعلوم : أنّ الثوب لا يحكم أحد بطهارته أصلا ، بل كان ينبغي الحكم بصحّة الصلاة فيما لو صلّى بطهارة بماء محكوم بالطهارة ثمّ انكشف خلافه ، ولا قائل من الفقهاء بالصحّة فيها أصلا.

الثاني : الحلّ ، وهو أنّ الحكومة في المقام وإن كانت مسلّمة ، إلّا أنّها لا توجب توسعة في الشرط واقعا ، بل أقصى إفادتها ترتيب آثار الطهارة على المشكوك ما دام الشكّ ، فإذا انكشف خلافه يرتفع أثره ويكشف عن عدمه من أوّل الأمر.

نعم ، بعض موارد الحكومة توجب التوسعة في الموضوع الواقعي مثل قوله : «كلّ مسكر خمر» بعد قوله : «الخمر حرام نجس» وبعض موارد الحكومة توجب التضييق في الحكم الواقعي مثل قوله : «لا حكم لشكّ الإمام إذا حفظ عليه

__________________

(١) راجع أجود التقريرات ١ : ٢٨٧ ـ ٢٨٩.


من خلفه» (١) فإنّها توجب تضييق أحكام الشكّ ، ولكنّ المقام لا يدلّ دليله على أكثر من الحكومة الظاهريّة ، وأنّ هذا الحكم الظاهري ما دام الشكّ ، فمقتضى ما ذكرنا هو أنّه إذ انكشفت مخالفته للحكم الواقعي أن لا يلتزم بالإجزاء.

وأمّا مسألة من صلّى جاهلا بنجاسة بدنه أو ثوبه ثمّ انكشف بعد الفراغ من الصلاة له ذلك ، ففتوى العلماء بالإجزاء فيها إنّما هو لقيام أدلّة خاصّة تدلّ على ذلك ؛ ولذا لا يفرق فيها بين القطع بالطهارة أو قيام البيّنة أو قول ذي اليد ، بل ظاهر الأدلّة أنّ المانع إنّما هو العلم بالنجاسة ، فمع الغفلة أيضا لو صلّى لكانت صلاته صحيحة وإن لم يحرز فيها طهارة الثوب والبدن ، فافهم.

[المقام الثاني] : فيما لو انكشفت مخالفة الحكم الظاهري بالتعبّد

وهو على قسمين أيضا ، إذ تارة يكون مستند الحكم الظاهري قطع المكلّف ، واخرى يكون مستنده أمارة.

فالكلام في القسم الأوّل مثل أن يقطع مثلا بأنّ لفظ «الصعيد» اسم لمطلق وجه الأرض ثمّ ينكشف بواسطة أمارة شرعية أنّه اسم لخصوص التراب ، كما يتّفق أن يقطع المجتهد ثمّ يظهر له بواسطة أمارة مخالفة قطعه لرواية تعبّدية أو لدليل تعبّدي آخر. والظاهر اتّفاق الأصحاب على عدم الإجزاء حيث تكون الشبهة موضوعيّة والخلاف في الحكميّة.

ويرد عليهم ـ كما عن الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) ـ أنّه ما وجه التفرقة بين الشبهة الموضوعيّة والحكميّة ليتّفقوا على عدم الإجزاء في الأوّل ويختلفوا في الثانية مع اتّحاد المأخذ؟ والظاهر عدم الإجزاء وكون المقام خارجا عن محلّ الكلام ؛ إذ ليس في المقام حكم ظاهري ليدخل تحت محلّ الكلام.

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٣٤٠ ، الباب ٢٤ من أبواب الخلل ، الحديث ٨ ولفظه هكذا : ليس على الإمام سهو إذا حفظ عليه من خلفه سهوه.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٩٠ ـ ٢٩١.


ووجه لزوم الإعادة أو القضاء هو عدم الإتيان بالواقع وبدله وكون المكلّف غير محرز لذلك. وأيضا فإنّ عدم الإتيان بالمأمور به كما يقتضي حدوث التكليف كذلك يقتضي بقاءه ، فإذا انكشف له مخالفة الحكم الظاهري للواقعي فالحكم الواقعي يدعو إلى متعلّقه بقاء فيقتضي الإتيان بالمأمور به.

أمّا الكلام في القسم الثاني ـ وهو ما إذا اجتهد بموجب الأمارة الشرعيّة فحكم بعموم لعدم وجدانه لمخصّصه بعد الفحص ثمّ انكشف له أنّ الحكم الظاهري في بعض الأفراد كان مخصّصا واقعا ولم يكن هو مطّلعا على ذلك المخصّص ـ فبما أنّ الحكم بحجيّة العموم ما لم يجد المخصّص فهو حجّة منوطة بعدم المخصّص واقعا ، فالحكم الظاهري ثابت عليه واقعا ، وعند انكشاف الخلاف ارتفعت حجّيّة ذلك العموم ، فعند انكشاف الخلاف أيضا الحكم الواقعي يدعو إلى متعلّقه بقاء كما يدعو إليه حدوثا ـ كما أسلفنا ـ فهو يقتضي لزوم الإتيان بالواجب الواقعي ولا ببدله. أمّا عدم الإتيان به فواضح. وأمّا عدم الإتيان ببدله فلأنّ لا دليل على بدليّة ما أتى به عن الواقع ، فيلزمه الإتيان به في الوقت إعادة وفي خارجه قضاء ؛ لأنّ فوت الواقع محرز بانكشاف المخالفة وأنّ الواجب بمقتضى المخصّص لذلك العموم لم يأت به ، فافهم.

وهذا بخلاف ما لو اطلع على معارض لذلك الدليل الأوّلي كما إذا بنى على أنّ من سافر إلى أربعة فراسخ فحكمه التمام وإن لم ينو العود لرواية مصرّحة بذلك ، ثمّ اطّلع على رواية تقتضي لزوم القصر في هذا الفرض ، فيفرق بين الوقت فيجب الإتيان به لقاعدة الاشتغال ، وخارج الوقت فلا يجب القضاء ، لعدم إحراز الفوت بعد إتيان الإتمام ولا بدّ من إحراز الفوت حتّى يتحقّق موضوع القضاء. والفرق بينه وبين سابقه واضح ؛ إذ بعد فرض أنّه في الاولى قد تبدّل رأيه برأي آخر فهو بحكم رأيه الثاني لم يأت بالمأمور به. بخلاف الثانية ، فإنّ رأيه السابق ارتفع ولم يتبدّل إلى رأي آخر ، فهو يحتمل تحصيل الواقع ، ويحتمل عدمه ، ففي الوقت


قاعدة الاشتغال تحتّم عليه الإعادة ، ولكن موضوع القضاء تحقّق الفوت ولم يحرز ، لاحتمال إتيان الواقع فتجري قاعدة البراءة ؛ لأنّه من الشكّ في التكليف.

وليعلم أنّ محلّ الكلام فيما لو ارتفع اجتهاد المجتهد السابق بحيث لا يفتي الآن بالحكم السابق الذي كان يراه. أمّا لو تبدّل مستند الحكم السابق مع بقاء رأيه كما إذا استند إلى رواية تدلّ على عدم وجوب السورة في الصلاة التي هي قوله عليه‌السلام : «يجزئك فاتحة الكتاب في صلاتك كلّها» (١) ثمّ بعد مدّة اطّلع على روايات تعارض هذه الرواية وتدلّ على وجوب قراءة سورة بعد الحمد ثمّ استند أيضا في عدم وجوب السورة إلى أصالة البراءة فهنا الاجتهاد لم يتبدّل وإنّما تبدّل المستند. هذا كلّه بناء على الطريقيّة. وأمّا بناء على السببيّة.

في الإجزاء بناء على السببيّة وعدمه

فنقول قبل الخوض في ذلك : إنّ السببيّة على أقسام على ما ذكرها الشيخ الأنصاري قدس‌سره (٢) :

القسم الأوّل : السببيّة الأشعرية ، وهي المنسوبة إلى الأشاعرة وإن لم نجدها في كتبهم ، وهي أنّ الله تعالى بحسب اطّلاعه وإحاطته جعل الأحكام على طبق ما يرتئيه المجتهد ويؤدّي إليه نظره ، فيجعل وجوب الجمعة يوم الجمعة في حقّ هذا المجتهد ومقلّديه ، ويجعل عدم الوجوب في حقّ الثاني ومقلّديه أيضا. وهذا القسم مع إجماع الإماميّة على فساده وتواتر أخبارهم به (٣) ادّعى العلّامة الحلّي قدس‌سره استحالته (٤) ؛

__________________

(١) انظر الوسائل ٤ : ٧٣٤ ، الباب ٢ من أبواب القراءة ، الحديث ٣. وفيه : أنّ فاتحة الكتاب تجزئ وحدها في الفريضة.

(٢) انظر مطارح الأنظار ١ : ١٣٥ ـ ١٣٧ ، وفرائد الاصول ١ : ١١٢ ـ ١١٦.

(٣) انظر الكافي ١ : ٢١٦ ، الحديث الأوّل ، و ٥٩ : الحديث ٢.

(٤) انظر نهاية الوصول (مخطوط) : ٤٣٩.


لأنّه إذا لم يكن ثمّة واقع ، فعن أيّ شيء يبحث المجتهد؟ ويؤدّي رأيه إلى أيّ شيء؟

القسم الثاني : السببيّة المعتزليّة ، وهي أنّ الله تعالى له أحكام واقعيّة مثبتة في اللوح المحفوظ ، إلّا أنّ قيام الأمارة الشرعيّة توجب انقلاب الحكم الواقعي من حاله السابق إلى ما يطابق هذه الأمارة الواصلة إلى هذا المجتهد ، فهي من العناوين الثانوية الموجبة لقلب الحكم عن عنوانه الأوّلي ، نظير أمر المولى الموجب لقلب المباح واجبا ، ونظير الشرط في ضمن العقد الموجب لوجوب ذلك الشرط المباح بحسب حكمه السابق مثلا.

وهذه السببيّة وإن لم يرد عليها إيراد العلّامة ، ضرورة اعترافها بثبوت حكم واقعي يبحث عنه المجتهد ؛ ولذا استدلّوا عليها بما رووا من «كون المصيب ذا أجرين والمخطئ ذا أجر واحد» (١) إلّا أنّ السببيّة بهذا المعنى خلاف الإجماع من الإماميّة والمتواتر من أخبارهم باشتراك الأحكام الواقعيّة بين العالم بها والجاهل والملتفت والغافل (٢) ، فافهم.

ثمّ إنّ السببيّة بهذين المعنيين يستلزمان الإجزاء ، ضرورة عدم الحكم الواقعي ثبوتا أصلا أو بعد قيام الأمارة وكون الحكم الواقعي هو ما أدّت إليه الأمارة ، فقد امتثل الحكم الواقعي ، ولا ظاهري أصلا كي يقع الكلام في إجزائه وعدمه ؛ ولذا ذكر الشهيد قدس‌سره أنّ القول بالإجزاء في الأحكام الظاهرية يلازم القول بالتصويب المجمع على بطلانه (٣) وهو كما ذكره قدس‌سره.

__________________

(١) مسند أحمد ٤ : ١٩٨.

(٢) راجع الكافي ١ : ٤٠ ، باب سؤال العالم وتذاكره ، والصفحة ٥٨ ، الحديث ١٩ ، والصفحة : ٥٩ ، الحديث ٢ ، والصفحة ١٩٩ ، الحديث الأوّل.

(٣) الظاهر أنّ المراد ما قاله الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٣٢٢ ـ ٣٢٣ ، كما نقله الشيخ في فرائد الاصول ١ : ١١٩.


وأمّا القسم الثالث من أقسام السببيّة : وهي السببيّة على مذهب الإماميّة المعبّر عنها بلسان جماعة بالمصلحة السلوكيّة ، فالكلام يقع :

أوّلا في تصويرها.

وثانيا في إجزائها وعدمه.

وثالثا في إمكانها واستحالتها.

ورابعا في وقوعها.

أمّا الكلام في الأوّل : فقد صار جماعة إلى القول بها فرارا عمّا ذكره ابن قبة من استلزام جعل الخبر الواحد حجّة ـ بل مطلق الظنّ في فرض انفتاح باب العلم ـ تحريم الحلال وتحليل الحرام ، فالتزموا بأنّ ما يفوت من مصلحة الواقع يتدارك بسلوك الأمارة ، بمعنى أنّه لو قامت الأمارة عنده على وجوب القصر مثلا فيما لو سافر أربعة فراسخ فصلّى قصرا ثمّ انكشف له في آخر الوقت وجوب التمام ومخالفة الأمارة للواقع ، فالمتدارك بسلوك هذه الأمارة إنّما هو فضيلة الوقت ؛ لأنّها الفائتة دون مصلحة الوقت لعدم الفوات ، ولو استمرّت الأمارة غير منكشفة الخلاف حتّى مضى الوقت فلا بدّ من كون سلوكها إلى خارج الوقت وافيا بمصلحة الوقت كلّه. ولو لم ينكشف حتّى مات فسلوكها واف بمصلحة فضيلة الوقت ونفس الوقت ونفس صلاة التمام ؛ لأنّ الأمارة حجّة ما لم ينكشف خلافها ، فعدم الإتمام في كلّ من هذه المراتب الثلاث مستند إلى حجّة شرعية لم ينكشف خلافها ، فهي واجبة الاتّباع شرعا.

أمّا المقام الثاني : وهو أنّها لو انكشف خلافها فالظاهر أنّها لا تجزئ حينئذ ؛ لعدم إدراك مصلحة الواقع ولا بدله ، وما استوفي من مصلحة الواقع فهو ما لا يمكن تداركه. وأمّا ما يمكن كمصلحة الوقت لو انكشف الخلاف فيه فلم يفت وكمصلحة أصل الصلاة لو انكشف الخلاف خارجه فلم تفت أيضا ، فلا إجزاء أصلا ، لا في الوقت ولا في خارجه (*).

__________________

(*) قد ذكر في دورته اللاحقة التفصيل بين انكشاف الخلاف في الوقت فلا يجزئ لما ذكر


أمّا المقام الثالث : فقد ذهب الشيخ الأنصاري قدس‌سره إلى إمكانها وعدم محذور مترتّب عليها (١) وتبعه على ذلك الميرزا النائيني قدس‌سره (٢).

والظاهر استحالتها ؛ لأدائها إلى تغيير الواقع أيضا ، بيان ذلك : أنّ مصلحة الواقع إذا كانت مترتّبة على أمرين بحيث تترتّب على كلّ واحد منهما فلا بدّ من تعلّق أمر المولى بأحدهما على البدل ، فيكون الوجوب تخييريا. ولا يجوز أن يتوجّه الأمر إلى أحدهما بخصوصه إلّا حيث يكون هو المستوفي للمصلحة دون الآخر ، وحينئذ فإذا فرضنا أنّ مصلحة الواقع في فرض الجهل مترتّبة إمّا على التمام أو القصر المستند إلى الأمارة التي لا ينكشف خلافها حتّى يموت فمعناه أنّ المجعول الواقعي في حقّه هو الوجوب التخييري ، وقد فرضنا أنّه التمام بالوجوب التعييني ، فلزم من القول بالمصلحة السلوكيّة تغيير الواقع عمّا كان عليه ، وحينئذ فهو محال ، لما ذكر.

أمّا المقام الرابع : فلو لم يلزم محذور من القول بهذه السببيّة أو بغيرها من السببيتين المتقدّمتين أو لزم التصويب ولم يكن التصويب محذورا يقتضي المنع ، فهل تفي الأدلة بإثباته؟ الظاهر العدم ، فإنّ الظاهر أنّ الشارع المقدّس عهد إلى جملة من الطرق العقلائيّة التي جعلها العقلاء طريقا كالقطع يرتّبون عليها نظامهم ، ضرورة أنّه لو لم يرتّبوا إلّا على خصوص القطع لزم اختلال النظام ، والشارع إنّما أمضى ما بنى عليه العقلاء ، ومن المعلوم أنّ العقلاء لا يجعلون حكما على طبق هذه الأمارة وإنّما كانوا يجعلونها طريقا يسلكونها لتسهيل أغراضهم ولا يذمّون لو سلكوها

__________________

ـ في المتن ، وبين انكشافه خارج الوقت فيجزئ ؛ لأنّ الأمر بالصلاة في الوقت واحد وقد فاتت الصلاة في الوقت ، فالسلوك يقتضي استدراكها ؛ إذ القضاء بأمر جديد معلّق على الفوت ولا فوت بحسب الفرض للمصلحة ، فافهم.

(١) فرائد الاصول ١ : ١١٤ ـ ١١٥.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٩٣ ـ ٢٩٤.


فظهر الخلاف ، والشارع إنّما أمضى ذلك ، فلا أساس للسببيّة أصلا بجميع معانيها. نعم ، لو أنّ الشارع جعلها جعلا ابتدائيا لاحتمل فيها ذلك لكنّه إنّما أمضى العقلاء على عملهم ، ومعلوم أنّ العقلاء لم يجعلوا حكما وليس من شأنهم ذلك كما تقدّم ، فافهم.

وينبغي التنبيه على امور :

[الأمر] الأوّل :

أنّه فرّق صاحب الكفاية قدس‌سره على القول بالسببيّة بين تعلّق الأمارة بمتعلّق التكليف وبين تعلّقه بنفس التكليف (١) ، فحكم بالإجزاء وسقوط الأمر الواقعي لو كان مؤدّى الأمارة متعلّق التكليف ، وبعدم الإجزاء وعدم سقوط الواقع حيث تتعلّق الأمارة بنفس التكليف ، وذلك لاستيفاء المصلحة في المتعلّق حسب الفرض ، فلا مجال للواقع. وأمّا نفس التكليف فاستيفاء مصلحة الظهر مثلا لا ينافي أن يستوفي المكلّف مصلحة الجمعة أيضا ؛ لأنّها مشتملة على مصلحة ملزمة ولا مضادّة بين المصلحتين.

وللنظر فيما أفاده مجال واسع ، فإنّ الأمارة سواء تعلّقت بالواجب أو بالحكم إن كانت ناظرة إلى الواقع وأنّ ذلك المتعلّق المعلوم إجمالا أو الحكم المعلوم إجمالا هو هذا ، فلا بدّ من الالتزام بالإجزاء على السببيّة من غير فرق بين الحكم والمتعلّق. وإن لم تكن ناظرة إلى أنّ المتعلّق أو الحكم المعلوم إجمالا هو هذا ، بل إنّها تذكر متعلّقا أو حكما بلا نظر إلى الواقع فاستيفاء مصلحته لا تنافي بقاء مصلحة الواقع على إلزامها غير مستوفاة ، فإنّ استيفاء مصلحة بعض الأحكام أو المتعلّقات لا يتدارك مصلحة الأحكام والمتعلّقات الأخر (*).

__________________

(١) كفاية الاصول : ١١٢.

(*) لا يخفى أنّ هذا إنّما يتمّ على السببيّة الإماميّة لو قلنا فيها بالإجزاء ، وعلى السببيّة المعتزليّة أيضا تتمّ ؛ لأنّ وجود مصلحة على طبق مؤدّى الأمارة لا يرفع مصلحة الواقع ؛ إذ لا طريقية ، فافهم.


الأمر الثاني :

لو قلنا بالسببيّة الملازمة للإجزاء وإمكانها ودار حجّيّة الأمارات بين هذه السببيّة الممكنة وبين الطريقيّة ، فقد ذكر الآخوند قدس‌سره أنّ مقتضى القاعدة لزوم الإعادة في الوقت ؛ لأنّه يشكّ في استيفاء مصلحة الواقع ، فقاعدة الاشتغال تقتضي لزوم الإعادة في الوقت ؛ لعدم إحراز الإتيان بالواقع ولا ببدله. ولا يجب القضاء خارج الوقت ؛ لعدم إحراز موضوعه وهو الفوت ، فإنّه يشكّ في الفوت ؛ إذ على تقدير السببيّة فلا فوت. ومجرّد احتمال عدم الفوت يوجب الشكّ في لزوم القضاء (١).

(وللنظر فيما أفاده من لزوم الإعادة في الوقت مجال واسع ؛ إذ على السببيّة الأشعرية لا واقع غير ما قامت عليه الأمارة وأدّى إليه نظر المجتهد ، فأيّ واقع يشكّ في استيفاء مصلحته؟ وكذا على السببيّة المعتزليّة ؛ إذ المفروض أنّ قيام الأمارة يوجب محو الواقع ، فأيّ مصلحة فائتة؟

فالظاهر أنّ القول بالسببيّة بالمعنيين المذكورين ملازم للإجزاء. نعم ، السببيّة بالمعنى الثالث كالطريقيّة في عدم الإجزاء ، فإذا دار الأمر بين السببيّة والطريقيّة يكون المكلّف شاكّا في توجّه التكليف نحوه فيتمسّك بالبراءة) (٢).

الأمر الثالث :

في أدلّة القول بالإجزاء :

فمنها : لزوم الهرج والمرج لو قلنا بعدم الإجزاء ولزوم العسر والحرج في ذلك ، فإنّ من صلّى عشرين عاما ـ مثلا ـ باجتهاده ثمّ تبدّل اجتهاده إلى وجوب السورة التي كان بانيا في اجتهاده السابق على عدم وجوبها وعمله عليه ، فمثل هذا لو كلّف بالإعادة لزم العسر والحرج.

وفيه : أنّ العسر والحرج لا يصلحان حجّة للقول بالإجزاء ، إذ هما يتبعان

__________________

(١) كفاية الاصول : ١١١ ـ ١١٢.

(٢) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.


موضوعهما في بقيّة الأحكام أيضا ، مضافا إلى أنّ القول بعدم الإجزاء ليس ملازما للعسر والحرج ، إذ لو اجتهد المجتهد فأفتى بعدم وجوب السورة وصلّى صلاة واحدة ثمّ تبدّل رأيه فأيّ عسر وحرج حتّى يصار من أجله إلى القول بالإجزاء؟ ولو صلح العسر والحرج إلى رفع الحكم لقيل بعدم الوجوب في القضاء للفوائت المعلومة حيث تكون فرائض خمسين سنة مثلا ، فهل يلتزم من أجله بعدم وجوب القضاء كليّة؟

نعم ، موارد العسر والحرج ترتفع بمقدار يلزم منه العسر والحرج المختلفين بحسب الأزمنة والأمكنة والأشخاص ، فقد يكون الحكم حرجيّا في حقّ شخص وليس حرجيّا في حقّ آخر ، وحرجيّا في الصيف وليس حرجيّا في الشتاء ، وحرجيّا في بلد وغير حرجي في بلد آخر .. وهكذا.

وبالجملة ، فمتى تحقّق الحرج في حقّ الشخص سقط الحكم عنه في جميع التكاليف الحرجيّة. وليس العبرة بالحرج النوعي ، فإنّه ـ مضافا إلى أنّه ليس له في الأخبار ذكر وأثر ـ لا معنى لإناطة الحكم به ؛ إذ إنّه لو فرضنا أنّ برودة الهواء موجبة لحرجيّة الوضوء بالنسبة إلى نوع الناس ، فليس هذا موجبا لجواز تيمّم من عنده ماء سخن للحرجيّة النوعية.

نعم ، ربّما تكون الحرجيّة النوعيّة موجبة لعدم جعل الشارع الحكم من أوّل الأمر ، كما ورد «لو لا أن أشقّ على امتي لأمرتهم بالسواك» (١) و «لو لا المشقّة لأخّرت العشاء إلى نصف الليل» (٢) وأشباهها إلّا أنّ هذا شأن الشارع التي بيده الجعل وعدمه ، لا شأن الفقيه ، فافهم.

الثاني من الأدلّة التي ذكرت للقول بالإجزاء : ما ذكره بعضهم : من أنّ الاجتهاد الثاني كالاجتهاد الأوّل ، فلم تعاد الأعمال الجارية على طبق الاجتهاد الأوّل؟ وأيّ مرجّح للاجتهاد الثاني على الأوّل.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٥٤ ، الباب ٣ من أبواب السواك ، الحديث ٤.

(٢) الوسائل ٣ : ١٤٦ ، الباب ٢١ من أبواب المواقيت ، الحديث ٥.


والجواب : أنّ مقتضى ما ذكرت عدم وجوب ترتيب آثار اجتهاده الثاني حتّى في أعماله اللاحقة أيضا ، ولا يلتزم به أحد من الفقهاء.

وثانيا : أنّ اجتهاده الأوّل إن كان رافعه الاطّلاع على معارض للخبر الذي استند إليه في الاجتهاد السابق فقد سقط المستند بالمعارضة ، ففي الاجتهاد الثاني استند إلى أصل عملي هو حجّة عليه ، فما معنى قولكم : إنّه كالأوّل؟

وإن كان رافع الاجتهاد هو الاطّلاع على دليل يتقدّم على الدليل الأوّل ـ كمخصّص أو حاكم أو وارد ـ فالاجتهاد السابق وإن كان في ظرفه حجّة ؛ لعدم وصول المخصّص إليه أو الحاكم ، إلّا أنّ حجّيّته بمعنى عدم العقاب له على مخالفة الواقع ، لا بمعنى سقوط الواقع عنه ولم يؤت به ولا ببدله.

الثالث من أدلّة القول بالإجزاء : ما ذكره صاحب الفصول قدس‌سره في مبحث الاجتهاد والتقليد ، وهو قوله : إنّ الواقعة الواحدة لا تتحمّل اجتهادين (١).

وهذه العبارة المجملة لم يعلم ما ذا أراد قدس‌سره منها وأنّها لا تتحمّل اجتهادين ولو من شخصين أو ولو من شخص واحد في زمانين؟ أو أنّ المراد لا تتحمّل اجتهادين من شخص واحد في زمان واحد؟ وهذا مسلّم لكن لا ربط له بما نحن فيه. وبالجملة ، لم يعلم معنى محصّل لما ذكره هذا المحقّق.

الرابع : ما ذكره بعضهم من أنّ تبدّل الرأي نسخ في الأحكام الظاهريّة كالنسخ في الأحكام الواقعيّة ، فكما أنّ انتهاء أمد الحكم في الأحكام الواقعيّة لا يوجب بطلان العمل السابق ، فكذا هذا.

والجواب : أنّ ما ذكره إن كان بالإضافة إلى الحجيّة فمتين ، ولكنّه لا ملازمة بين الحجيّة والإجزاء ، فإنّ مدار الإجزاء هو الإتيان بالواقع أو ببدله ، والمفروض عدم الإتيان بالواقع ولا ببدله ؛ لأنّ البناء على الطريقيّة لا السببيّة ، فافهم.

__________________

(١) الفصول : ٤٠٩.


الخامس : دعوى الإجماع على الإجزاء ؛ إذ لو لا الإجزاء لذكر الفقهاء لزوم الإعادة والقضاء في موارد تبدّل رأي المجتهد ، ولم يذكروا ذلك أصلا ، فيستفاد حكمهم بالإجزاء ، وإلّا لذكروا ذلك.

وقد أجاب الميرزا النائيني قدس‌سره بتقسيم الموارد التي يتبدّل فيها رأي المجتهد إلى أقسام ثلاثة :

الأوّل : العبادات إعادة وقضاء.

الثاني : الأحكام الوضعيّة التي لم يبق موضوعها ولكن لها أثر ، كما إذا اشترى بالمعاطاة خبزا فأكله ثمّ ذهب إلى عدم إفادة المعاطاة الملك أو الإباحة ، فهنا الموضوع تالف ولكن له أثر ، وهو الضمان لصاحب المال التالف.

الثالث : الأحكام الوضعيّة التي موضوعها باق كما إذا بقي الخبز في المثال.

وزعم أنّ الإجماع القائم على الإجزاء متيقّنة تناول القسم الأوّل وهو العبادات أداء وقضاء ، كما أنّ القسم الثالث خارج قطعا عن الإجماع ، والقسم الثاني مشكوك الشمول.

وحيث إنّ الإجماع لا بدّ من إحرازه حتّى يكون حجّة ولا إحراز في القسم الثاني ، فيبقى على مقتضى القاعدة الأوّليّة من عدم الإجزاء (١).

أقول : ما ذكره قدس‌سره من قطعيّة شمول الإجماع العبادات لم نتحقّقه ، فإنّ الإجماع إنّما يتمّ التمسّك به وجعله دليلا حيث يتحقّق اتّفاق من قسم معتدّ به من العلماء بحيث يكون كاشفا عن رأي المعصوم عليه‌السلام. ولا بدّ أن لا يكون مدركهم دليلا معلوم الفساد عند المتأخّرين أو غير معلوم الصحّة ، وكلا هذين الأمرين مفقود في المقام.

أمّا الأوّل : فلعدم تعرّض من قدماء الفقهاء لهذه المسألة نفيا ولا إثباتا.

وأمّا الثاني : فمن الجائز أن يكون مدركهم دليل حجّيّة الحكم الظاهري ، وحينئذ فلا يكون إجماعهم مدركا يمكن التعويل عليه أو يمنع من الفتيا بالخلاف ؛

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٩٩ ـ ٣٠٠.


ولهذا أجمع المتأخّرون ـ إلّا من شذّ (١) ـ على عدم نجاسة البئر بوقوع النجاسة فيها بعد إجماع المتقدّمين على تنجّسها بذلك ، وما ذاك إلّا لاطّلاع المتأخّرين على فساد مدرك القدماء في ذلك.

وبالجملة ، فالإجماع غير محقّق وعلى تقدير تحقّقه فمعلوم فساد مدركه.

نعم ، في خصوص الصلاة نلتزم بالإجزاء في غير الركوع والسجود والطهارة والوقت والقبلة وتكبير من فرضه القيام جالسا وبالعكس ، لحديث «لا تعاد» (٢) بناء على ما هو الحقّ من شمولها للقاصر. وفي غير الصلاة من العبادات فضلا عن غيرها لا نلتزم بالإجزاء بل نبقى على مقتضى القاعدة من عدم الإجزاء.

ثمّ إنّ ما ذكرناه من الإجزاء وعدمه لا يفرق فيه بين المجتهد والمقلّد ، فكما لا يجزئ للمجتهد لا يجزئ للمقلّد أيضا ؛ لعدم إدراك الواقع ولا بدله.

ودعوى كون فتوى المفتي من قبيل السببيّة بالإضافة إلى المقلّد ـ ولذا يعتمد عليه وإن ذهب المشهور إلى خلافه مع أنّ ذهاب المشهور يوجب الظنّ بخطاه ؛ لأنّه أقرب من خطاهم جميعا ـ مردودة [أوّلا] بما ذكرنا : من أنّ التقليد ليس أمرا مستقلّا بالجعل الشرعي ، بل رجوع الجاهل إلى العالم أمر عقلائي ارتكازي والشارع أمضى ذلك ، ومعلوم أن ليس جعل العقلاء إلّا من باب الطريقيّة لا السببيّة.

وثانيا : أنّه لا معنى للسببيّة ، لأدائها إلى التصويب كما تقدّم أيضا. وما ذكره دليلا من وجوب العمل به وإن وجد الظنّ بخلافه فهذا لا يلازم السببيّة ؛ إذ جميع المجعولات الشرعيّة من الطرق والأمارات لم يعتبر فيها عدم الظنّ بالخلاف كما في حجّيّة الظواهر والبيّنة والخبر الواحد وغيرها ، فليكن المقام من قبيلها.

الأمر الرابع :

لا يخفى أنّ ما ذكرنا من الإجزاء وعدمه حيث يكون حكم شرعي ظاهري ،

__________________

(١) مثل الشهيدين في اللمعة وشرحها ، انظر الروضة البهيّة ١ : ٢٥٧ ـ ٢٥٨.

(٢) الوسائل ١ : ٢٦٠ ، الباب ٣ من أبواب الوضوء ، الحديث ٨.


أمّا إذا لم يكن حكم شرعي ، بل كان حكم عقلي كما في موارد قطع المجتهد بالحكم فإنّ اتّباع القطع ليس حكما شرعيّا بل حكم عقلي ، فلو تبدّل رأي المجتهد بعد ذلك فمقتضى القاعدة لزوم الإعادة ؛ لعدم إتيان الواقع ولا بدله. وكذا إذا تخيّل المجتهد أنّ راوي الرواية أبو بصير الثقة ثمّ انكشف أنّه الضعيف ، أو توهّم كون لفظ «الصعيد» ظاهرا في مطلق وجه الأرض فتيمّم به ثمّ انكشف له أنّه هو التراب الخالص ... وهكذا ؛ لأنّه من موارد تخيّل الأمر كما تقدّم. وكما إذا اعتقد أنّ هذا المورد من صغريات الترتّب فانكشف له الخلاف بعد أن عمل على طبق ما يقتضيه رأيه في الترتّب من الصحّة ، أو زعم أنّ المورد من صغريات باب اجتماع الأمر والنهي ثمّ انكشف له الخلاف. وجميع موارد الاشتباه في التطبيق من هذا القبيل ، فإنّه لا إجزاء ؛ لعدم الحكم الشرعي في جميع ذلك ، فافهم.

الأمر الخامس :

فيما لو اختلف المجتهدان أو مقلّداهما في حكم ، فهل يجزئ الحكم الظاهري الذي يراه أحدهما في حقّ الآخر أم لا؟ مثلا إذا رأى أحدهما صحّة بيع المعاطاة فاشترى خبزا بالمعاطاة فهل يجوز للمجتهد الذي يرى عدم تأثير المعاطاة شيئا حتّى الإباحة أن يأكل من هذا الخبز لو دعاه المجتهد الأوّل أم لا يجوز؟

ويقع الكلام في ذلك في موارد ثلاثة :

الأوّل : في النكاح.

الثاني : في الطهارة.

الثالث : في بقية الامور من عبادات ومعاملات.

أمّا الكلام في الأوّل : فنقول : لا ريب في لزوم ترتيب آثار الصحّة ممّن لا يرى الصحّة ، فلو تزوّج رجل امرأة بالعقد الفارسي ـ لأداء رأيه إلى تأثير الفارسي كالعربي ـ لا يجوز للمجتهد الآخر الذي يرى فساد العقد الفارسي أن يرتّب آثار الفساد ، فلا يجوز له أن يتزوّجها لكونها خليّة عن زوج بحسب رأيه.


وهذا مسلّم لقوله عليه‌السلام : «إنّ لكلّ قوم نكاحا» (١) إذ لا معنى له إلّا ترتيب آثار النكاح الصحيح عليه ، فافهم.

وأمّا الكلام في الثاني : وهي الطهارة ، فالظاهر أنّه لا كلام في عدم جواز ترتيب آثار الطهارة لمن لا يراها ، فمن يكتفي بغسل يده من البول مرّة واحدة إذا باشر ـ بعد الغسل مرّة ـ ثياب من يرى التعدّد برطوبة لا يجوز لمن يرى التعدّد الصلاة بتلك الثياب ، كما لا يجوز للثاني الأكل من طعام الأوّل الذي باشره برطوبة ، لتحريم أكل النجس وبطلان الصلاة فيه ، وهذا نجس برأيه ولا يتوقّف أحد في عدم جواز ترتيب آثار الطهارة لمن لا يراها.

نعم ، لو غاب بعد الغسل مرّة من البول فهل يحكم بطهارته ، لإطلاق أدلّة مطهّرية الغيبة وورودها في أبناء العامّة الذين يرون طهارة جملة ممّا نراه نجسا كالخمر والمنيّ عند بعضهم ، أو أنّ الأدلّة لا إطلاق فيها لذلك. وهذا بحث فقهي لا ربط له بالمسألة.

وأمّا القسم الثالث : كمثال بيع المعاطاة الذي مرّ ذكره ، وكبيع العقد الفارسي ـ مثلا ـ فمقتضى القاعدة وإطلاق تحريم التصرّف في مال الغير تحريم التصرّف فيه.

ولا دليل يدلّ على جواز ترتيب آثار الطهارة كما ورد في النكاح فيبقى على عدم الإجزاء كسابقه ، غير أنّ السابق ـ وهي مسألة الطهارة ـ عدم الإجزاء فيها اتّفاقي ، وهذه وهي مسألة بقيّة المعاملات الحكم فيها يكاد أن يكون اتّفاقيّا. ومن فروعه : مسألة اقتداء أحد الشخصين بصلاة الآخر التي يرى بطلانها برأيه ويرى المصلّي نفسه صحّتها ، فافهم.

هذا تمام الكلام في الإجزاء وشراشره.

والحمد لله وحده والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين.

تمّ على يد محرّره العبد الآثم محمّد تقي آل صاحب الجواهر في ليلة السادس والعشرين من شوّال المكرّم من سنة السبعين بعد الألف والثلاثمائة هجرية.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٣١ ، الباب ٧٣ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ٢.


في مقدّمة الواجب

وهذه المسألة من المسائل الاصوليّة المهمّة وليست مسألة فقهيّة كما يظهر من عنوان صاحب المعالم قدس‌سره للمسألة بقوله : «الأكثرون على إيجاب ما لا يتمّ الواجب إلّا به» (١) المشعر بكون محلّ الكلام هو الوجوب. وليس كذلك ، لا لما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره : من أنّ ليس كلّ ما كان يبحث فيه عن الوجوب مسألة فقهيّة ، بل لا بدّ أن يكون معنونا بعنوان خاصّ كالصلاة والصوم والزكاة والحجّ ... إلى آخرها ، وليس المقام منها ، فإنّ مقدّمة الواجب عنوان كلّي منطبق على الامور المتباينة ، فلا يكون البحث عن وجوبها مقتضيا لكونها مسألة فقهيّة (٢) ، لفساد ما ذكره قدس‌سره فإنّ الوجوب الشرعي المقتضي لكون المسألة فقهية ليس خصوص المعنون بعناوين خاصّة ، بل مثل وجوب الوفاء بالشرط الذي في ضمن العقد وجوب شرعي ومسألة فقهيّة مع كونه عنوانا عامّا شاملا للامور المتباينة ، وكوجوب الوفاء بالنذر والعهد واليمين ، ووجوب إطاعة الزوجة لزوجها والولد لوالده والعبد لسيّده ، وحرمة هتك المؤمن ، كلّها من هذا القبيل عناوين كلّيّة ، مع أنّها من الأحكام الشرعيّة ، بل الوجه في كونها مسألة اصوليّة أنّ البحث فيها عن الملازمة بين حكم

__________________

(١) معالم الدين : ٦٠.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٣١٠.


الشيء وحكم مقدّمته وجوبيّا كان أم استحبابيّا ، واختصاص الوجوب في كلام الأصحاب للاهتمام به ، وهذه الكبرى لو ضمّت إليها الصغرى لانتجت حكما شرعيّا ، فنتيجتها واقعة في طريق استنباط الحكم الشرعي الفرعي. وهذا هو الميزان في عدّها مسألة اصوليّة.

وهذه المسألة ليست من العقليّات المستقلّة ؛ لأنّها محتاجة إلى مقدّمة اخرى في استنباط الحكم الشرعي منها ، فإنّ قولنا : «لو كان هذا واجبا لوجبت مقدّمته لكنّه واجب فمقدّمته واجبة» محتاج إلى إثبات الوجوب الشرعي.

كما أنّ الوجوب المبحوث عنه في المقام ليس هو الوجوب العقلي بمعنى اللابدّيّة ، ضرورة عدم النزاع في اللابدّيّة ومسألة المقدّمة ممّا قام النزاع فيها على قدم وساق.

وليس أيضا الوجوب الشرعي المتوجّه إلى ذيها ، فإنّه ينسب إلى المقدّمة بالعرض والمجاز أم لا ليقع الكلام في ذلك ؛ لأنّ الكلام لو كان في هذا لناسب الكلام فيه أن يقع في مبحث المعاني والبيان لا الاصول.

وليس أيضا المراد بالوجوب حينئذ الوجوب الاستقلالي المترشّح من وجوب ذي المقدّمة كما زعمه صاحب القوانين (١) واختار عدم الوجوب ، لدعواه كثرة الأمر من الموالي العرفيّة مع عدم الالتفات إلى أنّ له مقدّمة أم لا بل ومع عدم العلم ، فكيف يقال بالوجوب مع كونه من أفعاله الاختيارية التي يستحيل صدورها من غير قصد؟

بل المراد بالوجوب الوجوب الشرعي الترشّحي التبعي ، فلا ينقض بعدم الالتفات ، فإنّ الالتفات لا بدّ منه في الاستقلالي لا التبعي كما هو واضح. والثمرة في هذا الوجوب التبعي الذي لا يورث قربا ولا بعدا يأتي الكلام عليها في آخر بحث المقدّمة تبعا لصاحب الكفاية قدس‌سره وإن ناسب ذكرها هنا.

__________________

(١) القوانين ١ : ١٠١.


ثمّ إنّ الكلام يقع الآن في تقسيمات المقدّمة وتقسيمات الواجب.

أمّا تقسيمات المقدّمة ، فمنها تقسيمها إلى :

المقدّمة الداخليّة والخارجيّة

والمراد بالمقدّمة الخارجيّة : ما كان وجودها منحازا عن وجود ذي المقدّمة ، فيشمل الشرط أيضا. وبالداخليّة : ما كان وجودهما واحدا. لا ريب في دخول المقدّمة الخارجيّة في محلّ النزاع. وأمّا الداخليّة : فهي محلّ الكلام بين الأعلام.

وتحقيق الكلام فيها أنّها تنقسم إلى أقسام ثلاثة :

أوّلها : المركّبات الاعتباريّة.

ثانيها : المركّبات الحقيقيّة ، كالجواهر.

ثالثها : المركّبات الحقيقيّة التي هي بسائط بحسب الوجود ، إلّا أنّ العقل يحلّلها إلى امور كالأعراض.

أمّا الأخير : فلا ريب في خروجه عن محلّ النزاع كالبياض مثلا ، فإنّه وجود واحد بسيط ولكنّ العقل يحلّله إلى ما به الاشتراك وما به الامتياز ، فيقول : إنّه لون مفرّق للبصر مثلا ، ولكنّه وجود واحد بسيط يوجد بوجود واحد وينعدم بانعدام واحد ، وليس مركّبا إلّا أن العقل يحلّله في مقام التحديد كما مرّ ، فليس فيه جزء كي يقع الكلام في أنّه مقدّمة أم لا؟ واجبة أم لا؟

وأمّا القسم الثاني : وهو المركّب الحقيقي ، فلا ينبغي الشكّ في خروجه أيضا عن محلّ النزاع ؛ لأنّه مختصّ بالجواهر كما تقدّم ، ومعلوم أنّ الجواهر لا يتعلّق بها حكم أصلا ؛ إذ الحكم إنّما يتعلّق بأفعال المكلّفين ولا يتوجّه إلى الجواهر أصلا ، مضافا إلى أنّه وإن كان مركّبا في الواقع وحقيقة إلّا أنّ وجوده إنّما يكون بوجود واحد ،


ضرورة أنّ الجنس والفصل لا ينفكّ أحدهما عن الآخر ، فكلّ ما به الاشتراك ـ يعني المادّة ـ لا يتحقّق في الخارج إلّا في صورة وهي ما به الامتياز ، فلا يمكن أن يكونا وجودين انضماميّين كي يقع الكلام في أنّ أحد الوجودين مقدّمة للآخر أم لا؟

وأمّا القسم الثالث : وهو المركّبات الاعتباريّة ، يعني المركّبات التي لا ربط بين أجزائها إلّا باعتبار المعتبر لها شيئا واحدا ، أو باعتبار اجتماعها تحت أمر واحد ، أو باعتبار وفائها بغرض واحد كما في أجزاء الصلاة ، فإنّ النيّة ـ مثلا ـ أجنبيّ عن تكبيرة الإحرام ، وهما أجنبيّان عن القراءة ـ مثلا ـ وهكذا.

وقد وقع الكلام فيما بين الأعلام في ذلك ، فذهب بعضهم إلى أنّها ليست مقدّمة ، وآخرون إلى أنّها مقدّمة ولكن ليست بواجبة ولا داخلة في محلّ النزاع ، وآخرون إلى كونها مقدّمة وداخلة في محلّ النزاع.

أمّا الكلام في كونها مقدّمة أم لا؟ فالظاهر أنّ النزاع فيه لفظي ؛ لأنّه إن اريد بالمقدّمة «ما يتوقّف وجود ذي المقدّمة على وجوده» فمعلوم انتفاؤها في محلّ الكلام ؛ إذ ليس في المقام وجودان كي يتوقّف أحدهما على الآخر. وإن اريد بالمقدّمة ما يكون له تقدّم بالطبع ، وهو ما يتوقّف عليه المركّب ولا يتوقّف هو على المركّب كالواحد والاثنين ، فإنّ الواحد لا يتوقّف وجوده على وجود الاثنين ولكنّ الاثنين يتوقّف وجودهما (١) على وجود الواحد فإن اريد بالمقدّمة هذا المعنى فلا ريب في كون الجزء مقدّمة.

أمّا الكلام في كونه داخلا في محلّ النزاع أم لا؟ فظاهر قولهم : إنّ المشتاق إلى شيء مشتاق إلى ما يتوقّف عليه في الوجود بحيث يتوقّف وجود الواجب على وجوده كون النزاع مختصّا بالمقدّمة بالمعنى الأوّل ، فيختصّ بالمقدّمة الخارجيّة وتخرج المقدّمة الداخليّة عن محلّ النزاع.

__________________

(١) كذا ، والمناسب : وجوده.


(وقد ذكر صاحب الكفاية خروجها عن محلّ النزاع (١) لوجود المانع ، وهو اجتماع المثلين : الوجوب النفسي والغيري ، وهو محال ، فهي خارجة عن محلّ النزاع لذلك وإن كان ملاك الوجوب الغيري فيها موجودا. وذكر في هامش الكفاية انتفاء الملاك أيضا ، بدعوى أنّ حكم العقل بالوجوب إنّما هو في صورة توقّف وجود على وجود آخر يغايره ويباينه ، ومعلوم فقدانه في المقام.

وما ذكره في الهامش هو الصحيح. وأمّا ما ذكره من لزوم اجتماع المثلين ، فليس محذورا بعد إمكان التأكّد فيلتزم على تقدير وجوبها الغيري بالتأكّد كما في نظائره ، فافهم) (٢).

بقي الكلام في أنّه هل هناك ثمرة فقهيّة تترتّب على دخول المقدّمة الداخلية في النزاع وخروجها ، أم أنّ النزاع علمي بحت؟

ذكر بعض الأساطين (٣) ـ قدس الله أسرارهم ـ ترتّب ثمرة مهمّة على القول بدخول الأجزاء في محل النزاع وعدمه ، وهي القول بالبراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين على القول بعدم دخول الأجزاء في محلّ النزاع ، والقول بالاشتغال على القول بدخولها ؛ وذلك لأنّه إن كانت الأجزاء داخلة في محلّ النزاع فالعلم الإجمالي بثبوت التكليف المردّد بين الأقل والأكثر ليس بمنحلّ إلى أقلّ معلوم وجوبه نفسيّا وأكثر مشكوك وجوبه النفسي ليرجع إلى البراءة بالإضافة إلى الأكثر ، بل يكون الأقلّ معلوما جنس وجوبه ولا يدرى أنّه نفسي أو غيري ، وكلّي الوجوب الجامع بين النفسي والغيري لا يوجب انحلال الوجوب النفسي المعلوم. وهذا بخلاف ما إذا لم تكن الأجزاء داخلة في محلّ النزاع ؛ إذ وجوبها الغيري معلوم

__________________

(١) كفاية الاصول : ١١٥ ـ ١١٦.

(٢) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٣) وهو المحقّق العراقي في نهاية الأفكار ١ ـ ٢ : ٢٦٩.


الانتفاء ووجوبها النفسي معلوم التحقّق ، فينحلّ العلم الإجمالي بجريان البراءة في الأكثر لمجانسة المعلوم الإجمالي والمعلوم التفصيلي ، فإنّه نوع واحد فينحلّ بخلاف الوجوب الكلّي.

ولا يخفى عليك : أنّ ما ذكره إنّما يتمّ على تقدير أن يكون اتّصاف الأجزاء بالوجوب الغيري مانعا عن اتّصافه بالوجوب النفسي وبالعكس ؛ إذ حينئذ يدور الأمر بينهما وتتمّ الثمرة المذكورة ، ولكن ليس الأمر كذلك ، فإنّ القائل بالوجوب الغيري لا ينكر الوجوب النفسي المنبسط على جميع الأجزاء بل يضيف إليه وجوبا غيريّا آخر مضافا إلى وجوبه النفسي. وحينئذ فتحقّق الوجوب النفسي كاف في الانحلال ؛ إذ انضمام الغيري له لا يوجب انعدامه حسب الفرض.

وبالجملة ، فكما في صورة انعدام الأمر الغيري يكون تعلّق الوجوب النفسي في الأقلّ موجبا لانحلال العلم الإجمالي إلى أقلّ متيقّن وأكثر مشكوك تجري فيه البراءة ، فكذا عند انضمام الوجوب الغيري إليه ، فإنّ الوجوب النفسي حينئذ منبسط على الأجزاء ، فبالإضافة إلى الأقلّ معلوم وبالإضافة إلى الأكثر منفيّ بالأصل ، فافهم. فظهر أن لا ثمرة مترتّبة على ذلك.

في دخول الشرائط في النزاع وعدمه

قد تطلق المقدّمة الداخليّة على الشرط المعتبر في المأمور به ولكن تكون مقدّمة داخليّة بالمعنى الأعمّ ؛ إذ الداخليّة المحضة مختصّة بالأجزاء وبما أنّ ذات الشرط خارجة عن المأمور به وتقيّد المأمور به بها جزء فهي داخليّة بالمعنى الأعمّ ؛ إذ ليست داخليّة محضة باعتبار خروجها عن المأمور به.

إنّما الكلام في أنّ المقدّمة الداخليّة بالمعنى الأعمّ داخلة في محلّ النزاع في ثبوت الملازمة فتكون كالخارجيّة المحضة ، أم أنّها خارجة فتكون كالداخليّة المحضة؟ كما عرفت.


وتحقيق الحال : أنّ الشرط خارج عن المأمور به حقيقة ، إلّا أنّ تقيّد المأمور به جزء من أجزاء المأمور به ، وهذا الشرط الذي قيّد به الواجب على قسمين ؛ إذ تارة يكون من الامور الغير المقدورة كالقبلة والوقت ، واخرى يكون من الامور المقدورة كالطهارة ، فإنّها مقدورة بالقدرة على ما به تحصل من غسلات ومسحات. وما ذكره الميرزا : من أنّه لا بدّ من كون الشرط مقدورا حتّى يقيّد به المأمور به (١) سيأتي ما فيه ، فإنّ المناط في التقيّد القدرة على التقيّد وليس المناط فيه القدرة على القيد نفسه.

فما كان خارجا عن القدرة ـ كما في الوقت والقبلة ـ فلا ريب في خروجه عن محلّ النزاع ، لعدم جواز التكليف بغير المقدور. وما كان من المقدورات ـ كما في الطهارة من الحدث أو الخبث المقيّد بها الصلاة مثلا ـ فهل هي داخلة في محلّ النزاع في ثبوت الملازمة أم خارجة؟ الظاهر الأوّل ، فإنّ وجودها غير وجود المأمور به وليسا وجودا واحدا كما في الأجزاء ليخرجا عن الكلام في الملازمة ؛ إذ ظاهرها الملازمة بين الوجودين ؛ إذ المقام من الوجودين أيضا ، فإذا أمر بتقيّد المأمور به بالطهارة مثلا وكان التقيّد موقوفا على الوضوء مثلا ، فلا بدّ من كون المشتاق إلى التقيّد مشتاقا إلى مقدّماته الوجوديّة التي منها الوضوء كما ذكر في المقدّمة الخارجيّة حرفا بحرف.

وبالجملة ، فالمقدّمة الخارجيّة داخلة في محلّ النزاع في ثبوت الملازمة وعدمه ، وهي المقدّمة العقليّة التي يتوقّف عليها وجود الواجب مع قطع النظر عن أخذ الشارع لها ، كما في نصب السلّم مثلا للصعود على السطح ، وكما في اكتراء الدابّة في السفر إلى الحجّ. وهذه هي المقدّمة الخارجيّة المحضة ، وتقابلها الداخليّة المحضة ، وهي خارجة عن محلّ الكلام ، وبينهما ما كان تقيّد الواجب بها داخليّا وذات المقيّد به خارجيّا ، وقد عرفت أنّ الظاهر دخوله في محلّ النزاع ، لما ذكرنا.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٩٦ ـ ١٩٧ و ٣٢٢ ـ ٣٢٣.


ثمّ إنّه بهذا التقسيم ظهر أن لا حاجة إلى تقسيم المقدّمة إلى عقليّة وشرعيّة وعاديّة ؛ إذ العقليّة هي المقدّمة الخارجيّة ، والشرعيّة هي الداخليّة بالمعنى الأعمّ ، والعاديّة إن اريد بها ما تفعل عادة من دون توقّف كما في الدرج التي يكون ارتفاعها شبرا مثلا المتوسّطة بين درجتين مثلها فمعلوم أنّها خارجة لعدم التوقّف ، وإن اريد ما يتوقّف عليها الواجب ، لكن من جهة استحالة أمر آخر عادة كما في الصعود إلى السطح بالسلّم لغير الطائر من جهة استحالة الجناح للإنسان عادة ، فيؤول إلى العقليّة أيضا.

كما ظهر أنّ تقسيمها إلى مقدّمة وجود ومقدّمة صحّة ومقدّمة علم ومقدّمة وجوب أيضا لا مقتضى له ؛ إذ مقدّمة الوجود هي المقدّمة العقليّة ، ومقدّمة الصحّة هي الشرط ، ومقدّمة الوجوب خارجة عن محلّ الكلام ؛ إذ قبل وجودها لا وجوب وبعده يحصل الوجوب لذي المقدّمة ، ولكنّها لا معنى لوجوبها حينئذ لتحصيل الحاصل ، ومقدّمة العلم أيضا خارجة لكونها مقدّمة للعلم بتفريغ الذمّة الواجب عقلا ، لا أنّها مقدّمة للواجب الشرعي حقيقة ، بل مقدّمة للعلم بحصول الواجب.

وبالجملة ، هذان التقسيمان لا وجه لهما ، لخروج بعض أقسامهما عن محلّ الكلام ، والباقي هو المقدّمة الخارجيّة والداخليّة بالمعنى الأعمّ وإن غيّرت ألفاظهما بألفاظ أخر ، فافهم.

في ذكر المقدّمة المقارنة والمتقدّمة والمتأخّرة

ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره تقسيم المقدّمة إلى المقارنة والمتقدّمة والمتأخّرة ، ثمّ ذكر الإشكال في المقدّمة المتأخّرة المعبّر عنها بالشرط المتأخّر ، بدعوى أنّ الشرط من أجزاء العلّة وبما أنّه يجب تقدّم العلّة بجميع أجزائها على المعلول فكيف يتأخّر الشرط ويتحقّق معلوله قبله؟ ثمّ سرّى الإشكال في المقدّمة المتقدّمة ، بدعوى لزوم


مقارنة العلّة للمعلول بتمام أجزائها فلا تتقدّم عليه ، لوجود ملاك الاستحالة في كلا المقامين من الشرط والمقتضي المتقدّمين والشرط المتأخّر (١).

ولا يخفى عليك ما في كلامه من المسامحة أوّلا ، فإنّ قوله أوّلا : ويجب تقدّم العلّة بتمام أجزائها على المعلول ، إن أراد به التقدّم الرتبي فمتين ، إلّا أنّه كيف يفرّع عليه استحالة الشرط المتأخّر زمانا؟ وإن أراد به التقدّم الزماني ، فلما ذا استشكل في المقدّمة المتقدّمة زمانا؟ حتّى سرّى الإشكال إلى العقد الواحد بالإضافة إلى غالب أجزائه لتصرّمها حين حصول الأثر الذي هو الملكية مثلا.

وثانيا : أنّ ما ذكره قدس‌سره من سراية الإشكال في المقدّمة المتقدّمة غير صحيح أصلا ، فإنّ أجزاء العلّة لا يعتبر مقارنتها بتمامها للمعلول ، وإليك مثال التكوينيّات ، مثلا إذا كان الصعود على السطح موقوفا على رقى عشر من الدرجات فرقى الاولى قطعا من أجزاء العلّة ، ومعلوم أنّه يتحقّق ولا يتحقّق الصعود على السطح إلّا بعد رقيّها بأسرها ، فالأخيرة هي الجزء الأخير من أجزاء العلّة وهي التي يستحيل انفكاكها عن المعلول ؛ إذ الجزء الأخير هو العلّة التامّة وهو الذي يستحيل فيه انفكاكه عن المعلول.

وبالجملة ، فأجزاء العلّة المركّبة لا يمكن مقارنتها للمعلول حتّى يلزم ذلك.

وبالجملة ، فقد ظهر أنّ الإشكال إنّما يختصّ بخصوص المقدّمة المتأخّرة المعبّر عنها بالشرط المتأخّر.

فيقال : إنّه إن وجد المعلول قبل حصول الشرط المتأخّر فقد وجد قبل علّته ، ويستحيل ذلك ؛ إذ الممكن لا يترجّح وجوده وعدمه إلّا بمرجّح ؛ لاستحالة الترجّح من دون مرجّح ، إذ هو بمعنى وجود المعلول قبل علّته. وإن لم يوجد استحال الشرط المتأخّر ، فيقع الكلام في الشرط المتأخّر.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١١٨.


في إمكان الشرط المتأخّر واستحالته

والشروط المتأخّرة على قسمين ؛ إذ تارة تكون شرائط الحكم التكليفي أو الوضعي. واخرى تكون شرائط للمأمور به.

وثمرة النزاع في الشرط المتأخّر : أنّه إن بنينا على إمكان الشرط المتأخّر تكون الأخبار الواردة الظاهرة في كون إجازة المالك في عقد الفضولي كاشفة عن صحّة العقد من حينه واردة على طبق القاعدة ، وإن منعنا من الشرط المتأخّر فلا بدّ من رفع اليد عن ظهورها في الكشف الحقيقي والالتزام بالنقل كما ذهب إليه بعضهم (١) أو الالتزام بالكشف الحكمي كما ذهب إليه الشيخ الأنصاري قدس‌سره (٢) فيقع الكلام في شرائط المأمور به أوّلا لاختصاره بالإضافة إلى شرائط الحكم التكليفي أو الوضعي.

فنقول :

في الشرط المتأخّر للمأمور به

ذكر بعضهم استحالة الشرط المتأخّر (٣) بدعوى أنّ المعلول بما أنّه من الامور الممكنة وكلّ ممكن إنّما يترجّح أحد طرفي وجوده وعدمه بعلّته ، فإن وجد قبل حصول الشرط المتأخّر فليس للشرط دخل في حصوله ، وإن لم يوجد المشروط حتّى يوجد الشرط فليس الشرط متأخّرا عنه في الوجود ، بل مقارن ، ولو فرض وجوده قبل شرطه للزم الترجّح بلا مرجّح ، بمعنى وجود المعلول بلا علّة ، وهو محال.

__________________

(١) مثل فخر المحقّقين في الإيضاح ١ : ٤٢٠ ، والمحقّق الأردبيلي في المجمع ٨ : ١٥٩.

(٢) المكاسب ٣ : ٤٠٨ ـ ٤٠٩.

(٣) كالمحقّق النائيني في أجود التقريرات ١ : ٣٢٨ ـ ٣٣٠.


وذكر بعضهم إمكان كون الشرط متأخّرا (١) وقد ذكر في تصوير الإمكان وجوه :

أحدها : ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) وملخّصه : أنّ الحسن والقبح من الصفات التي تعرض الشيء بوجوه واعتبارات ، فقد يكون الشيء حسنا بالإضافة إلى شخص وقبيحا بالإضافة إلى آخر. وليس معنى كون الشيء شرطا لشيء إلّا كونه طرفا للإضافة ويكون الطرف الآخر هو نفس المشروط ، فقد يكون الشيء حسنا ومحصّلا للغرض بشرط هذه الإضافة ، وبما أنّ الإضافة من الامور الخفيفة المئونة فهي تحصل بوجود طرف منها وإن لم يتحقّق الطرف الآخر. وبعبارة اخرى : أنّ الشرط بوجوده المتأخّر يكسب المشروط وجها وعنوانا به يكون محصّلا للغرض وحسنا.

ولا يخفى عليك : أنّ ما ذكره متين بالإضافة إلى الحسن والقبح ؛ لأنّهما بالوجوه والاعتبارات ، وليس لهما واقع إلّا اعتبار المعتبر ليس إلّا ، ولكن الأحكام ـ كما عليه العدليّة ـ إنّما تتبع المصالح والأغراض في المأمور بها ، فليس المأمور به مأمورا به إلّا لتحصيله الغرض الذي اطّلع عليه الشارع وخفي علينا ، وحينئذ فبما أنّ المصالح امور واقعيّة ، فإن حصّلها العمل قبل حصول الشرط المتأخّر لزم إمّا انتفاء شرطيّته أو حصول المعلول قبل علّته ، وإن لم يحصّلها العمل قبل حصول الشرط فكيف يسقط أمره ويحصل الامتثال؟

وهذا هو الذي دعا الميرزا النائيني قدس‌سره إلى أن يلتزم بعدم حصول الامتثال وعدم سقوط الأمر إلّا بعد حصول الشرط ، وقال : إنّ الإيراد يرد لو التزمنا بحصول الامتثال وسقوط الأمر عند الإتيان بالمشروط قبل حصول شرطه ، ولكنّا لا نلتزم

__________________

(١) منهم المحقّق العراقي في نهاية الأفكار ١ ـ ٢ : ٢٧٨ وما بعدها ، وانظر مقالات الاصول ١ : ٣٠٥ ـ ٣٠٦.

(٢) كفاية الاصول : ١٢٠.


بذلك ، بل نقول : بأنّه لا يسقط الأمر ولا يحصل الامتثال إلّا مقارنا لحصول الشرط ، وتسمية الشرط بالمتأخّر في الحقيقة إنّما هو لتأخّره عن الواجب الذي هو العمل ، وإلّا فليس بمتأخّر عن حصول الامتثال وسقوط الغرض ، ولا فرق بين الجزء والشرط ، فكما لا يسقط الأمر بالمركّب قبل تماميّة أجزائه لا يسقط قبل تماميّة شرائطه أيضا.

وقد أفاد في وجه ذلك : أنّ الأمر بالامور الانتزاعيّة إنّما هو في الحقيقة أمر بمنشإ الانتزاع ، والشرط بما أنّه يوجب تقيّد المأمور به ، فالأمر بالتقيّد أمر بإيجاد القيد خارجا ، فلا يصدق الامتثال إلّا بعد إيجاد المأمور به بتمام قيوده التي منها الشرط المتأخّر (١).

ولا يخفى عليك ما في هذين الأمرين :

أمّا الأوّل ـ وهو كون الأمر بالشيء أمرا بمنشإ انتزاعه ـ فإنّما يتمّ في الامور الانتزاعيّة التي لا وجود لها في الخارج وإنّما الوجود لمنشا انتزاعها وإنّما ينسب الوجود لها بالعرض والمجاز كما في العناوين الاشتقاقيّة ، فمثل قائم وعالم مثلا لا وجود لها وإنّما الموجود الذات والعلم والقيام ، والأمر الانتزاعي إنّما ينتزع من هذين الوجودين كما لا يخفى.

وأمّا الامور الانتزاعيّة التي لها وجود حقيقي في الخارج ـ كما في العلو والسفل والكبر والصغر ونحوها من المقولات ذوات الإضافة ـ فلها وجود ، فالأمر بها في الحقيقة أمر بإيجادها في الخارج ، ويكون منشأ انتزاعها مقدّمة ، فتبنى على أنّ الأمر بالشيء أمر بمقدّمته أم لا.

وأمّا ما ذكره ثانيا : من أنّ الأمر يشمل الشرط لأنّ التقيّد يكون مشمولا للأمر كالجزء ، فهو مناقض لما ذكره من دخول الأجزاء في الأمر النفسي والشروط في

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ١ : ٣٢٢ ـ ٣٢٥.


الأمر الغيري وأنّ الشروط داخلة في نزاع وجوب مقدّمة الواجب وعدمه بخلاف الأجزاء ، مضافا إلى أنّ القيد لا يلزم أن يكون أمرا اختياريّا كما في الوقت والقبلة ، فإنّها غير اختياريّة ، ولكن تقيّد الواجب بها مقدور للمكلّف. وحينئذ فالأمر النفسي لم يتعلّق بالشرط فلا بدّ من سقوط الأمر بالواجب النفسي عند إتيان المأمور به ، للإتيان بمتعلّقه ، فيحصل الامتثال فيسقط الأمر ، فيعود إيراد الشرط المتأخّر بحاله من كونه من أجزاء العلّة فكيف يحصل المعلول قبل حصول علّته؟ فافهم.

والتحقيق أن يقال : إنّ الشرط الشرعي ليس المراد به الشرط الحكمي الذي هو من قبيل المؤثّر والعلّة ليقال : إنّه كيف يحصل المعلول قبل تماميّة علّته؟ بل الشرط الشرعي ليس إلّا بمعنى كونه مربوطا به المأمور به ؛ إذ الشرط في اللغة بمعنى الربط ، ومنه قيل للرابط الكهربائي «الشريط الكهربائي» باعتبار كونه رابطا بين الطرفين ، ومنه الشرط في ضمن العقد ، بمعنى أنّ العقد مربوط به ، لا بمعنى أنّه مؤثّر في صحّة العقد. وحينئذ فمعنى كون الشيء شرطا للمأمور به ليس إلّا بمعنى أنّ تقيّد المأمور به مطلوب للشارع ، ومعنى ذلك : أنّ خصوص الحصّة المقيّدة به هي المطلوبة للشارع لا المطلق على إطلاقه. وحينئذ فالشرط المتأخّر كالمقارن في كون الحصّة المقيّدة به هي المطلوبة للشارع ، فكما يكون المأمور به كالصلاة مثلا المقارنة للتستّر مؤثّرة في المصلحة الواقعيّة دون مطلق الصلاة ، فالمؤثّر في حصول المصلحة الواقعيّة ذات هذه الحصّة ، فكذلك في المتأخّر أيضا حرفا بحرف ، فيقال مثلا : إنّ صوم المستحاضة الملحوق بالغسل ليلا هو المؤثّر في تحصيل المصلحة الواقعيّة ، فوجود الغسل بعد ذلك إنّما هو لتحقّق طرف الإضافة ، فيكشف تحقّقه بعد ذلك عن كون الفرد المأتيّ به من خصوص الحصّة المأمور بها دون غيرها ، فيكون المأمور به هو المتقدّم ، وبحصوله يحصل الغرض ويسقط الأمر. وليس وجود القيد بعد ذلك إلّا كاشفا عن كون الفرد واقعا كان من حين وقوعه من أفراد الحصّة المأمور بها بحسب علم الله تعالى ،


فيحصل الامتثال وسقوط الأمر بالمأمور به نفسه ولا يتوقّف على حصول الشرط أصلا ، نعم يكون ذلك كاشفا ، فافهم فإنّه دقيق.

وبما أنّ هذه المسألة من عويصات المسائل فلا بأس بزيادة توضيحها ، فنقول : إنّ اتّصاف الزمان بالسبق واللحوق أمر واقعي ذاتي له ، فالليل مثلا متأخّر عن النهار واقعا والنهار متقدّم عليه حقيقة ، وليس تقدّم النهار وتأخّر الليل أمرا دائرا مدار الاعتبار ، بل هو أمر حقيقي واقعي. وأمّا الزمانيات فالتقدّم والتأخّر فيها أيضا أمر واقعي ، إلّا أنّه ليس أمرا ذاتيا وإنّما تتّصف الزمانيات الغير التدريجيّة بالتقدّم والتأخّر بلحاظ نفس الزمان ، فنقول : وجود زيد قبل وجود عمرو ، ووجود عمرو بعد وجود زيد ، فالبعديّة والقبليّة فيهما أمر واقعي ، إلّا أنّه ليس ذاتيّا لهما ، بل من جهة نفس الزمان.

إذا عرفت ذلك ، فشرط المأمور به ـ كما عرفت ـ ليس إلّا تقيّد المأمور به في مقام الأمر ، ونتيجة ذلك هو كون متعلّق الأمر هو خصوص هذه الحصّة الملحوقة مثلا بذلك الشيء ، وهذه الحصّة الملحوقة بذلك الشيء في الواقع وبحسب علم الله تعالى كانت متّصفة بكونها ملحوقة مثلا بذلك الشيء المعبّر عنه بالشرط ، فبمجرّد إتيانها سقط الأمر لحصول متعلّقه وحصل الغرض المقصود من ذلك ، غاية الأمر أنّ المكلّف لا يعلم بذلك ، فحصول الشرط بعد ذلك يكون محصّلا للعلم للمكلّف بذلك ، فهو كاشف عن تحقّق الإطاعة في ظرفها وعن سقوط الأمر في وقته. وحينئذ فالشرط هو اتّصاف هذا العمل بالملحوقيّة بذلك الزماني وهي أمر حقيقي ـ كما عرفت ـ وواقعي حاصل للمأمور به حين حصوله.

الكلام في شرائط الحكم التكليفي والوضعي

ومعلوم ـ كما تقدّم ـ أنّ الإشكال في تأخّر شرط الحكم إنّما يتمّ لو قلنا بحصول الحكم التكليفي والوضعي قبل حصول الشرط. أمّا لو قلنا بأنّ الحكم لا يترتّب إلّا


بعد حصول الشرط فلا إشكال ، مثلا إذا قلنا بأنّ الملكيّة لا تحصل إلّا بعد حصول الإجازة من المالك في بيع الفضولي فليست الإجازة حينئذ شرطا متأخّرا وإنّما هي شرط مقارن.

نعم ، يتوجّه إشكال الشرط المتقدّم ، بداهة كون العقد متقدّما على الإجازة الناقلة. وقد تقدّم أنّ تقدّم أجزاء العلّة التكوينيّة على المعلول لا بدّ منه في العلّة المركّبة فضلا عن التشريعيّة ، فلا إشكال في الشرط المتقدّم ، بل الإشكال إنّما يختصّ بخصوص الشرط المتأخّر.

وقد أفاد صاحب الكفاية قدس‌سره : أنّ شرط التكليف وكذا شرط الوضع إنّما هو أمر مقارن له دائما (١) ، وذلك أنّ الحكم التكليفي والوضعي بما أنّه فعل من أفعال المولى فليس يتحقّق إلّا بعد تصوّره بأطرافه ، ولا معنى لاشتراط الفعل الاختياري للمولى بأمر غير اختياري له كفعل المكلّف ؛ ضرورة خروجه عن كونه اختياريّا حينئذ ، فلا شرط في مقام التكليف والوضع إلّا لحاظ المولى لذلك الأمر المتأخّر أو المقارن ، واللحاظ أمر مقارن للحكم التكليفي والوضعي ، مثلا إذا كان الإنسان ذا إحسان على شخص فلو أراد ذلك الإنسان المحسن الاستقراض من المحسن إليه فلا ريب أنّ لحاظ إحسانه السابق هو الذي يدعو إلى إقراضه ؛ إذ جزاء الإحسان إحسان ، فعلمه بإحسانه السابق شرط إقراضه لا نفس الإحسان السابق ؛ ولذا لو تخيّله أنّه هو المحسن أيضا يقرضه وإن لم يصادف أنّه المحسن إليه في السابق ، بأن اشتبه هذا المقرض في تطبيقه ، ولو غفل عن إحسانه السابق أيضا لا يقرضه ، فالشرط للإقراض في الحقيقة هو علمه بالإحسان لا نفس الإحسان.

وكذا الكلام بالإضافة إلى الامور المتأخّرة ، مثلا إذا كان يعلم أنّه لو أكرم زيدا اليوم فزيد يكرمه في التوسّط إلى السلطان في أمر من الامور المهمّة ، فعلمه بذلك

__________________

(١) كفاية الاصول : ١١٨ ـ ١١٩.


الأمر المتأخّر شرط إكرامه له لا نفس الأمر المتأخّر ؛ ولذا قد لا يتوسّط له إلى السلطان مع تحقّق الإكرام منه لزيد ، وقد يتوسّط وإن لم يكرمه ، فنفس علمه هو الشرط لا ذلك الأمر المتأخّر ، وحينئذ فهو مقارن ، فليس متأخّرا ليلزم الإشكال ، وتسميته بالشرط المتأخّر باعتبار أنّ المتأخّر طرف إضافته.

أقول : لا يخفى أنّ للحكم مقامين :

أحدهما مقام الجعل ، والآخر مقام المجعول.

أمّا مقام الجعل : فهو مقام الإنشاء عند الآخوند قدس‌سره كأن يقول : «الخمر نجس» ومعلوم أنّ الحكم في هذا المقام مجعول بنحو القضيّة الحقيقيّة ، فلا يفتقر إلى خمر في الخارج أصلا. وهذا الحكم لا يرتفع إلّا بالنسخ.

وأمّا مقام المجعول : وهو مقام المنشأ والفعليّة عند الآخوند ، فهو مقام وجود موضوع الحكم في الخارج كأن يتحقّق فرد من أفراد الخمر في الخارج فبتحقّقه يتحقّق الحكم في مرتبة الفعليّة ، ولا يرتفع إلّا بارتفاع موضوعه في الخارج ، فقد يعبّر عن موضوعه بموضوع الحكم كما في الخمر ، وقد يعبّر عنه بشرط الحكم كما في الاستطاعة ، وقد يعبّر عنه بسبب الحكم كما في الزوجيّة فإنّها سبب حلّية الوطء مثلا ، ولم نطّلع على السبب الباعث لتغيير هذه الأسماء بالإضافة إلى الموضوع الواحد. هذا كلّه في القضايا الحقيقية.

وأمّا الخارجية : فلا شرط لها إلّا قدرة المكلّف عليها ، لفرض وجود موضوعها خارجا والحكم فيها مفتقر إلى تصوّر المولى وغيره من مقدّمات العمل الاختياري ولا يتوقّف على شيء مربوط بالغير ، لخروجه حينئذ عن كونه اختياريّا ، ولا يعقل فيه الشرط المتأخّر ، لكنّه من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع ، فافهم.

إذا عرفت ما ذكرنا ، فما ذكره الآخوند قدس‌سره ـ من كون الحكم من الأفعال الاختياريّة للحاكم فلا بدّ من تصوّره بأطرافه ، ولا يعقل تعليقه واشتراطه بأمر


غير اختياري ، لخروجه به عن كونه اختياريّا (١) ـ متين جدّا ، إلّا أنّه إنّما يتمّ في القضايا الخارجيّة ، لعدم توقّفها على موضوع ، فالحكم فيها إنّما يتوقّف على تصوّر المولى لمصلحته وبقيّة مقدّمات الطلب. ويتمّ كلامه أيضا في الحقيقيّة في مقام الجعل للحكم فقط ، فإنّ المولى في مقام جعل الحكم لا بدّ أن يتصوّر أنّ جعل هذا الحكم ذو مصلحة إلزاميّة فيجعله.

إلّا أنّ كلامنا إنّما هو في القضايا الحقيقيّة ؛ لأنّه هو محطّ أنظار الفقهاء ، والكلام فيها إنّما هو في الحكم في مقام المجعول ، ومعلوم أنّ الحكم حينئذ دائر مدار تحقّق موضوعه وانعدامه ، وتحقّق الموضوع وانعدامه أمران أجنبيّان عن المولى ، مثلا جعل الحكم الذي هو وجوب الحجّ على المستطيع أمر اختياري للمولى ، فلا بدّ من لحاظه بأطرافه والجزم بما فيه من المصلحة حتّى يجعله ، ولكن مقام المجعول الذي هو مقام فعليّة الحكم تدور مدار موضوعها الذي هو المستطيع ، فإن تحقّقت الاستطاعة بلغ الحكم مرتبة الفعليّة ، فإن انتفت ارتفعت حينئذ فعليّته ، وهكذا بقيّة الموضوعات.

ونظير ذلك في أفعالنا باب الوصيّة ، فإنّ الموصي يلحظ انقسام ثلثه مثلا إلى الإطعام وبناء المساجد ، فيجعله في ذلك ، وهذا مقام الجعل. ثمّ مقام الفعليّة دائر مدار تحقّق موضوع الوصيّة وهو الموت ، فمرادنا بشرط الحكم إنّما هو موضوعه ، وهل يعقل الحكم بكون الحكم فعليّا مع عدم فعليّة موضوعه؟ بل كان موضوعه متأخّرا عن حصوله ، فمثلا قوله : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ)(٢) فبجعل هذا الحكم لا يكون الإنسان مالكا لشيء ؛ لأنّ صرف جعل هذا الحكم لا يوجب الملكيّة ، بل إنّ الملكيّة التي هي الحكم الوضعي دائر مدار موضوعه وهو التجارة عن تراض ، فكما لا يعقل تحقّق الملكيّة قبل تحقّق التجارة عن تراض ، لا يعقل تحقّقها

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ١١٩.

(٢) النساء : ٢٩.


بصرف التجارة بلا تحقّق التراضي كما في الفضولي ، فكيف يحكم بتحقّق الملكيّة قبل تحقّق التراضي الذي هو بعض موضوعها؟

ومن هنا التزم الميرزا قدس‌سره باستحالة الشرط المتأخّر للحكم ، وحكم بكون الأخبار الواردة في صحّة بيع الفضولي التي ظاهرها الكشف عن تحقّق الملكيّة من حين العقد إذا تعقّبته الإجازة مفيدة للكشف الحكمي لاستحالة الكشف الحقيقي عنده (١) ؛ لأنّه نظير الحكم بتحقّق المعلول قبل تحقّق علّته ، فإنّ الحكم بالإضافة إلى موضوعه كذلك ، فإنّ الحكم متفرّع على موضوعه تفرّع المعلول على علّته.

فيقع الكلام في أنّ قيود الموضوع هي كالموضوع في استحالة تحقّق الحكم قبله ، أم أنّ قيود الموضوع يمكن أن يتحقّق الحكم قبلها بمجرّد تحقّق ذات الموضوع؟ وقد أصرّ الميرزا النائيني قدس‌سره على الأوّل كما ذكرنا ، فحكم قدس‌سره باستحالة الشرط المتأخّر ، وحكم بالكشف الحكمي في الفضولي لاستحالة الكشف الحقيقي (٢).

والظاهر إمكان الشرط المتأخّر ، بيان ذلك : أنّ القضايا الحقيقيّة تحتاج إلى فرض وجود الموضوع ، ولكنّها لا تقتضي وجوده المقارن ، بل يجوز أن يفرض متقدّما كما في من استطاع وعصى فلم يحجّ ، فإنّه لا ريب في وجوب الحجّ عليه ، مع أنّ شرط وجوب الحجّ عليه فعلا استطاعته السابقة المنضمّة إلى عصيانه. وكذا موضوع وجوب قضاء الصوم هو الحائض التي فاتها الصوم ، كما يجوز أن يفرض متأخّرا كما وقع في جملة من الموارد بحسب دلالة دليله كما في إرث الحمل ، فإنّه يرث مشروطا بسقوطه حيّا ، فسقوطه حيّا شرط للإرث من حين موت المورّث ؛ ولذا تكون النماءات المتخلّلة له أيضا. وكما في إرث المسلمين من الورثة مال مورّثهم مشروطا بعدم إسلام الوارث الكافر قبل القسمة ، وإلّا فيختصّ بالإرث أو يشاركهم ، ولا بدّ

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٣٠ ـ ٣٣١.

(٢) انظر منية الطالب ٢ : ٦٤ ، والمكاسب والبيع ٢ : ٨١ ـ ٨٥.


من أن يكون من قبيل الشرط المتأخّر أمر التدريجيّات ، فإنّ وجوب التكبير في الصلاة ـ مثلا ـ مشروط ببقاء قدرة المصلّي إلى السلام ، فالقدرة على السلام شرط متأخّر لوجوب التكبير ، لفرض ارتباطيّة الأجزاء وكون وجوبها ضمنيّا لا استقلاليّا.

نعم ، يبقى الكلام في مسألة إجازة الفضولي وأنّها بم تفي أدلّتها؟ فهل تفي بالكشف أم بالنقل؟ ولكنّه كلام في مرحلة الإثبات بعد الفراغ عن الإمكان في مرحلة الثبوت ، فيقع الكلام حينئذ فيما يستفاد من الأدلّة بخصوص المقام.

فنقول : إنّ ظاهر الآية المباركة وهي قوله تعالى : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ)(١) أن يكون الحكم بالملكيّة موقوفا على أن يتحقّق الموضوع بتمام قيوده كما في الصرف والسلم الموقوف تحقّق الملكيّة فيهما على قبض العوضين أو خصوص الثمن ، فينبغي أن يكون تحقّق الرضا بعد ذلك موجبا لتحقّق الملكيّة من حين تحقّق الرضا ؛ إذ لا يصير العقد منسوبا إليه إلّا بعد تحقّق الرضا منه ، فلا بدّ من أن يلتزم بكون الإجازة اللاحقة ناقلة كما في القبض في الصرف والسلم. ولكن بما أنّ الإجازة والرضا المتأخّر من الصفات النفسيّة الحقيقيّة ذوات الإضافة ، ضرورة أنّ الرضا لا بدّ من أن يتعلّق بشيء مرضيّ به ، والشيء المرضيّ به هو الملكيّة السابقة ، وحينئذ فهذا هو الفارق بين الإجازة في العقد الفضولي حيث تكون الإجازة فيه كاشفة ، وبين القبض في الصرف والسلم حيث لم يتوهّم أحد فيهما الكشف أصلا ، فإنّهما لم يتعلّقا بأمر سابق كما في الإجازة ، فإذا أمضى الشارع الرضا اللاحق فمقتضى الرضا اللاحق هو ترتّب آثار الملكيّة من حين صدور العقد ، ضرورة أنّ الرضا بالعقد صيّر العقد منتسبا إلى المجيز من حين صدوره وتحقّقه. وحينئذ فمقتضى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ترتّب الآثار عليه من حينه ، أي من حين صدور العقد.

__________________

(١) النساء : ٢٩.


وليس ما ذكرناه كشفا حكميّا كما ذهب إليه الشيخ الأنصاري (١) وتبعه عليه الميرزا النائيني (٢) ـ قدس‌سرهما ـ بل هو كشف حقيقي كما قرّرنا.

فتلخّص إمكان الكشف الحقيقي ، وعليه تنزل حينئذ الروايات بلا توقّف ، مثل الرواية الواردة في إجازة أحد الزوجين بعد بلوغ نكاح الزوج الثاني الميّت (٣) فإنّ الإمام عليه‌السلام حكم باستحلافه وتوريثه ، ولا معنى له إلّا أنّه حكم بالزوجيّة حين الحياة. وكذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «بارك الله لك في صفقه يمينك» (٤).

بقي الكلام في أمور ربّما تورد على الكشف الحقيقي.

فمنها : ما ذكره الشيخ الأنصاري (٥) وأصرّ عليه الميرزا النائيني قدس‌سره (٦) وهو أنّ العقد إنّما أفاد الملكيّة الغير المقيّدة في زمان ، فالإجازة أيضا إجازة لذلك العقد ، فلا يلزم أن تكون موجبة للنقل من حين صدور العقد ، لعدم التقييد.

والجواب بالنقض أوّلا بالإجازة ، فإنّها تقع مقيّدة بالزمان فتحقّق الإجازة بعد ذلك لا بدّ من كونها كاشفة. مثلا إذا وقع عقد الإيجار للدار في أوّل شهر محرّم الحرام وفي شهر صفر تحقّقت الإجازة ، فهل يحكم بكون المستأجر مالكا للمنفعة من حين الإجازة أم من حين صدور العقد؟ وهل يلتزم أحد بكونه حينئذ انتقل إليه ملك المنفعة؟ كلّا! لأنّ العقد إنّما وقع بالتمليك من أوّل محرّم والرضا ـ كما تقدّم ـ رضا بما وقع من العقد ، فينسب العقد بشئونه إلى المجيز.

__________________

(١) المكاسب ٣ : ٤٠٨ ـ ٤٠٩.

(٢) منية الطالب ٢ : ٦٤ ، والمكاسب والبيع ٢ : ٨١ ـ ٨٥.

(٣) الوسائل ١٧ : ٥٢٧ ، الباب ١١ من أبواب ميراث الأزواج ، الحديث الأوّل.

(٤) المستدرك ١٣ : ٢٤٥ ، الباب ٢٨ من أبواب عقد البيع وشروطه ، الحديث الأوّل.

(٥) المكاسب ٣ : ٤٠٣.

(٦) انظر المكاسب والبيع ٢ : ٧٧ و ٨٧ ، ومنية الطالب ٢ : ٥٤.


وثانيا : أنّ العقد وإن لم يقيّد الملكيّة بالزمان السابق فهو أيضا لم يقيّدها بالزمان اللاحق أيضا ، وبما أنّ الإهمال في الواقع مستحيل فهو مطلق بالإضافة إلى الزمان ، فالمنشأ بالعقد هو الملكيّة المطلقة الشاملة لحال الإنشاء ، فإذا اجيزت من المالك انتسبت تلك الملكيّة المطلقة الشاملة إليه.

نعم ، الإجازة مقارنة لإمضاء الشارع ، ولكنّ الممضى هو المنشأ بالعقد ، فافهم.

ومنها : أنّ المال قبل الإجازة إن كان ملكا للمشتري فمعناه : أنّ الإجازة ليست شرطا ، وإن كانت ملكا للبائع فكيف بالإجازة تنقلب فتكون ملكا للمشتري؟ وهل يمكن في آن واحد اتّصاف المال الواحد بكونه ملكا لشخصين؟

والجواب : أنّا نختار الثاني ونقول بأنّها قبل الإجازة ملك البائع وبعدها تكون من حين العقد ملكا للمشتري ، ولا مانع من تعلّق الاعتبار الذي هو الملكيّة لشيء في زمان واحد لشخصين إذا تغاير زمان اعتبار المعتبر ، ضرورة أنّه لا مانع من تصوّر وجود زيد يوم الجمعة فيه ، ثمّ تصوّر عدم زيد يوم الجمعة في يوم السبت واعتبار الملكيّة كالتصوّر قائم بنفس الاعتبار.

ومنها : أنّه لو جاز ذلك لجاز بيع زيد في هذا اليوم داره قبل سنة ولا قائل بجوازه.

والجواب : أنّه ممكن ولكن لا دليل على وقوعه ، بخلاف إجازة الفضولي.

وبالجملة ، فإن دلّ الدليل عليه لقلنا به كما قلنا بالفضولي ، ولكن لا دليل عليه ، فلذا لم يقل أحد به.

ثمّ لا يخفى أن الشرط المتأخّر للحكم قد يكون الحكم فيه موجودا ولكنّه مربوط بالشرط المتأخّر ، كما في مثل الواجبات التدريجيّة ، فإنّ وجوب التكبيرة للصلاة موجود فعلا غير أنّه مشروط ببقاء الحياة والقدرة إلى زمان التسليم ، وقد لا يكون الحكم موجودا وإنّما يوجد في ظرفه عند تحقّق الشرط المتأخّر عنه ، كما في مثل إجازة المالك ، فإنّ المال قبل إجازة المالك باق على ملكه ،


وبتحقّق الإجازة ينقلب هذا المال في ذلك الزمان الذي كان محكوما بكونه ملك زيد عن كونه ملك زيد المجيز إلى كونه ملك عمرو المشتري من الفضولي. وكون المال الواحد في الزمان الواحد ملكا لشخصين لا يضرّ إذا تغاير زمان الاعتبار وإن اتّحد زمان المعتبر ؛ لأنّه من الاعتباريّات. وهذا جائز في الامور الحقيقيّة ذات الإضافة فضلا عمّا هو من الاعتبارات الصرفة ، فإنّك تكون يوم السبت جاهلا بقيام زيد يوم الجمعة وفي يوم الأحد تكون عالما بقيامه يوم الجمعة ، ولا محذور في ذلك أصلا. هذا تمام الكلام في الشرط المتأخّر.


في الوجوب المطلق والمشروط

لا ريب في كون الواجب المطلق والمشروط من الامور التي ليس فيها اصطلاح خاصّ للاصوليّين ، وإنّما هما بمعناهما اللغوي استعملا عندهم ، فالواجب المطلق بمعنى : الملزم به الغير المقيّد بشيء ، والمشروط يعني : المقيّد بشيء. وحينئذ فلا معنى لإطالة الكلام في تعريفهما ؛ لأنّ التعاريف إنّما هي لشرح الاسم والاسم معلوم من اللغة. كما أنّ وصف الإطلاق والاشتراط أمر إضافيّ ، فيجوز أن يكون المطلق بالإضافة إلى شيء مشروطا بالإضافة إلى شيء آخر ، والمشروط مطلقا بالإضافة إلى شيء آخر ، وإلّا فلو اريد بالمطلق ما لا يتوقّف على شيء لم يكن له مصداق واحد ، إذ كلّ واجب لا بدّ أن يتوقّف على وجود موضوعه وعلى حياة المكلّف وقدرته وعقله.

ومعلوم أيضا : أنّ التعبير في المقام بالواجب المطلق والمشروط مسامحة ؛ إذ الوجوب هو الذي يكون مطلقا أو مشروطا ، فالتعبير بالواجب إنّما هو من قبيل الوصف بلحاظ المتعلّق ، أي الواجب الذي يكون وجوبه مطلقا أو مشروطا ، أو أنّ المراد الواجب بما أنّه متّصف بالوجوب لا ذاته.

وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الشرط يكون شرطا للتكليف لا للمكلّف به ، ويختصّ الوجوب بالذكر من باب المثال ، وإلّا فالاستحباب كذلك ، والكراهة والتحريم


كلّ منها قد يكون مطلقا وقد يكون مشروطا. والشرط يلزم أن يكون راجعا إلى نفس الوجوب لا إلى ذات الواجب ؛ لأنّه هو ظاهر الجملة الشرطيّة ، فإنّ قوله : «إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة» (١) يقتضي توقّف الوجوب على الزوال ؛ لأنّ مفادها تعليق الجزاء على الشرط والجزاء هو الوجوب لا الواجب.

وقد نسب إلى الشيخ الأنصاري قدس‌سره دعوى لزوم كون الشرط شرطا للواجب ذاته (٢). وقد نقل النائيني قدس‌سره عن السيّد الشيرازي الكبير تكذيب هذه النسبة (٣). ويؤيّده أنّ الشيخ في المكاسب في تعليق البيع استدلّ على عدم جواز البيع المعلّق بالإجماع على عدم جوازه (٤). ولو كان بانيا على استحالته لنفاه بالاستحالة. كما يظهر أيضا أنّه قائل بالشرط لنفس الوجوب من موارد أخر.

وكيف كان ، فيقع الكلام في أصل المطلب ـ وإن لم يقل به الشيخ الأنصاري قدس‌سره ـ فقد زعم رجوع القيد إلى المادّة لأمرين : أحدهما استحالة رجوعه إلى الهيئة ، الثاني لزوم رجوعه إلى المادّة.

ولا يخفى أنّ رجوعه إلى المادّة ليس بنحو يجب تحصيله بل بنحو لا يجب وإنّما هو على تقدير اتّفاق حصوله ، ضرورة أنّ جملة «إن جاءك زيد فأكرمه» لا يحتمل فيها إيجاب مثل هذا الشرط ولو في غير هذا المثال ، مثل «إن دخلت السوق فاشتر اللحم» بل استعمال هذه الجملة في طلب ذلك غلط قطعا.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٨٣ ، الباب ١٤ من الجنابة ، الحديث ٢ ، وفيه : إذا دخل الوقت وجب ....

(٢) انظر كفاية الاصول : ١٢٢ ، وأجود التقريرات ١ : ١٩٣.

(٣) أجود التقريرات ١ : ١٩٤.

(٤) المكاسب ٣ : ١٦٣.


أمّا الكلام في استحالة رجوع القيد إلى الهيئة : فقد ذكر أنّ مفاد الهيئة معنى حرفيّ والمعنى الحرفيّ غير قابل للإطلاق والتقييد. وهذه العبارة تحتمل معنيين (*) :

أحدهما : ما استفاده صاحب الكفاية قدس‌سره كما يظهر من جوابه قدس‌سره وملخّصه : أنّ المعنى الحرفي بما أنّ الموضوع له خاصّ فهو جزئي والجزئي غير قابل للإطلاق والتقييد ، فلا بدّ من الالتزام بإرجاع القيد إلى المادّة (١) فإن كان مراد الشيخ ـ على تقدير صحّة النسبة ـ هو هذا ، فالجواب عنه بامور :

أحدها : أنّ هذا إنّما يتمّ حيث يكون الوجوب مستفادا من الهيئة. أمّا لو استفيد من معنى اسمي كما ورد في قوله عليه‌السلام : «إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة» فلا يتمّ ، ضرورة كونه حينئذ معنى اسميّا كليّا قابلا للإطلاق والتقييد.

ثانيها : أنّ المعنى الحرفي كلّي ـ كما ذكرنا ـ لا جزئي ، فهو من حيث الكلّية كالمعنى الاسمي قابل للإطلاق والتقييد.

ثالثها : أنّا لو سلّمنا كونه جزئيا فإنّ الجزئي قابل للإطلاق والتقييد من حيث الحالات وإن لم يكن قابلا من حيث الأفراد لكونه جزئيّا حقيقيّا.

رابعها : أنّه لو سلّمنا عدم قابليّته للتقييد حتّى من حيث الحالات ، إلّا أنّ الإطلاق والتقييد الذي هو بمعنى الإرسال والتضييق هو الذي يكون مستحيلا في الجزئي.

أمّا الإطلاق والتقييد الذي هو بمعنى التعليق والربط لا يستحيل في الجزئي أصلا ، ومقامنا من قبيل الثاني ، فإنّ المراد بكونه مطلقا : كونه غير مربوط بشيء ،

__________________

(*) لا يخفى أنّ عبارة التقريرات لو كانت بهذا النصّ لاحتمل فيها المعنيان ، ولكن عبارتها صريحة فيما استظهره صاحب الكفاية قدس‌سره فلا مجال حينئذ لاحتمال النائيني قدس‌سره أصلا فلاحظ.

(الجواهري).

(١) كفاية الاصول : ١٢٢ ـ ١٢٣.


وبكونه مقيّدا : كونه مربوطا بشيء ، والجزئي قابل لذلك ، فإنّ زيدا ـ مثلا ـ قد يكون وجوده مربوطا بأمر وقد لا يكون وجوده مربوطا بأمر مثلا. على أنّ الوجوب الذي هو اعتبار شيء على ذمّة المكلّف ليس من مفاد الهيئة التي هي معنى حرفي بل هو مستفاد من حكم العقل بالمحبوبيّة وعدم الترخيص في الترك ، فافهم فتأمل.

المعنى الثاني : لما يحتمله عبارة الشيخ الأنصاري قدس‌سره ما احتمله الميرزا النائيني قدس‌سره (١) وملخّصه : أنّ المعنى الحرفي بما أنّه غير ملحوظ استقلالا وإنّما يلحظ آلة فهو غير قابل للإطلاق والتقييد ، لافتقارهما إلى لحاظ استقلالي وهو مفقود في المعاني الحرفيّة. وهذا التقريب لا يفرق فيه بين أن يكون الحروف الموضوع له فيها خاصّا أو عامّا ، كما هو واضح.

والجواب أوّلا : أنّ المعنى الحرفي كالمعنى الاسمي قابل للّحاظ استقلالا ، فإنّ المخبر قد يخبر عن خصوص مؤدّى المعنى الحرفي ، كما إذا أخبر زيد عمرا بكون بكر عندهم على السطح مع كون عمرو عالما بكونه عندهم ، إلّا أنّه لا يدري بكونه على السطح ، فأراد المخبر إخباره بهذه الخصوصيّة. وقد تقدّم الكلام في ذلك مفصّلا في المعنى الحرفي ، وذكرنا أنّ ما ذكروه من كون المعنى الحرفي غير قابل للّحاظ الاستقلالي غير تامّ ، بل هو قابل لذلك كالمعنى الاسمي ، وذكرنا الفرق بينهما وأنّه ذاتي لا من جهة اللحاظ ، فراجع.

وثانيا : لو سلّمنا كون المعنى الحرفي غير قابل للّحاظ الاستقلالي ، فلا يلزم أن لا يكون قابلا للإطلاق والتقييد ؛ إذ حينئذ بعد تعلّق اللحاظ به يكون غير قابل ، ولكنّه قابل قبل تعلّق اللحاظ به ، فإنّ الملحوظ ذاتا لا يخلو من أن يكون مطلقا أو مشروطا في الواقع.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٩٥.


وثالثا : أنّه أخصّ من المدّعى ؛ إذ هو خاصّ بما إذا افيد الوجوب بالهيئة ، لا بما إذا افيد بمعنى اسمي كما في قوله : «إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة».

وربما ذكر محذور ثالث لعدم جواز إرجاع القيد إلى الهيئة. وقد ذكره الآخوند قدس‌سره بلفظ «إن قلت» (١) وملخّصه : أنّ الإيجاب يعني إنشاء الوجوب بالفعل ، فإن كان الوجوب المنشأ فعليّا ثبت المطلوب ولا بدّ من إرجاع القيد حينئذ إلى المادّة ، وإن كان الوجوب بعد تحقّق الشرط ـ كما هو مقتضى إرجاع القيد إلى الهيئة ـ فيلزم تخلّف الوجوب عن الإيجاب ، وهو على حدّ تخلّف الوجود عن الإيجاد محال.

وقد أجاب الآخوند عنه بأنّ الإنشاء على تقدير كالإخبار به بمكان من الإمكان ، وحينئذ فلو تحقّق الوجوب قبل تحقّق الشرط لزم التخلّف ؛ لأنّ المفروض أنّ الإيجاب كان على تقدير ، فيكون الوجوب أيضا على تقدير ، فيلزم تقدّم الوجود على الإيجاد.

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ الإخبار على تقدير ممكن ؛ لأنّه إخبار عن أمر واقع في الخارج فتقول : «إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود» إلّا أنّ الإنشاء بما أنّه إيجادي على مقتضى كلامهم ويوجد معناه به ، فلا يعقل حينئذ أن يتحقّق الإيجاد ويتأخّر الوجود.

نعم ، لو فرض إمكانه كان تقدّمه على زمان الشرط مستحيلا كما ذكر ، لكنّ الكلام في الإمكان ، فافهم.

وحينئذ فالجواب عن الإشكال أن يقال : إنّ الإنشاء ليس أمرا إيجاديّا يوجد به مؤدّاه ، بل هو كالإخبار في كونه مبرزا لأمر نفساني ، وهو كونه في مقام قصد الحكاية عمّا في نفسه ، ففي الإخبار إنّما تفيد الجملة الخبريّة كونه بصدد الإخبار ، ولا تفيد ثبوت النسبة في الخارج كما هو المشهور على الألسنة ؛ ولذا لو أخبر بعدم وجود

__________________

(١) و (٢) كفاية الاصول : ١٢٣.


الصانع لا تحقّق تلك النسبة في الخارج وإنّما يستفاد منه كونه في صدد الإخبار بذلك فيحكم بكفره مثلا ، فإذا أنشأ الجملة الإنشائيّة فإنّما يدلّ إنشاؤه على كونه بصدد إخباره عن نفسه أنّه اعتبر الشيء الفلاني على ذمّة المكلّف.

نعم ، فرق بين الإخبار والإنشاء ، وهو كون الإخبار له متعلّق خارجي يتّصف بالصدق والكذب بلحاظه ، أمّا هذا فليس وراء ما في النفس شيء أصلا ، فإذا كان الإنشاء إخبارا عمّا في نفسه وقد قدّمنا ، أنّ الوجوب هو اعتبار شيء في ذمّة المكلّف ، فإذا أنشأ فقد أبرز ذلك الاعتبار النفساني (*) ومعلوم أنّ الاعتبار ـ يعني اعتبار كون شيء على ذمّة المكلّف ـ قد يكون مطلقا على جميع التقادير ، وقد يكون معلّقا على تقدير كالإخبار. وتخلّف الاعتبار عن المعتبر ليس محالا ، بل هو كتخلّف التصوّر عن المتصوّر ، وهو أمر ممكن ؛ إذ يجوز أن يتصوّر الإنسان الآن ذهابه إلى مكّة بعد شهر مثلا.

وإذا أردت توضيح ذلك فلننظر لكلّ من الواجب المطلق والمعلّق والمشروط مثالا اعتباريّا عقلائيّا ، فإنّ زيدا ـ مثلا ـ قد يملّك عمرا داره فعلا بهبته إيّاه ، فالملكيّة التي هي أمر اعتباري اعتبرت الآن ، فالدالّ على الاعتبار هو الهبة وهي موجودة بالفعل ، والمدلول أيضا وهو الملكيّة أيضا موجودة ، والدلالة وهي اعتبار هذا الواهب أيضا موجود بالفعل. وقد يملّك زيد عمرا منفعة داره بعد سنة كما لو آجرها إيّاه بعد سنة ، فالاعتبار لملكه المنفعة بعد سنة موجود بالفعل ، والمعتبر وهي الملكيّة لها أيضا موجودة بالفعل ؛ ولذا لو مات عمرو انتقلت منفعة الدار إلى وارثه وإن كان زمن الملكيّة متأخّرا.

__________________

(*) فإذا قال المولى : «صلّ» مثلا ، فقد أبرز اعتبار الصلاة على ذمّة المكلّف فالإبراز فعلي ، والاعتبار فعلي ، لكن متعلّق الاعتبار ـ وهو لزوم شيء على ذمّة المكلّف ـ قد يكون مطلقا كما في المثال ، وقد يكون معلّقا كما في : حجّ إن استطعت.


وقد يتحقّق الاعتبار والمعتبر بعد موقوف على شيء آخر كالوصيّة ، فإنّ اعتبار ملكيّة الوصيّ للمال الموصى له به متحقّق فعلا ، إلّا أنّ المعتبر وهو الملكيّة لا تحصل إلّا بعد موته الذي يتأخّر عن الوصيّة عشر سنين مثلا ، فالأوّل مثال الواجب المطلق ، والثاني مثال المعلّق ، والثالث مثال المشروط. وبما أنّ الوجوب عبارة عن الاعتبار ـ كما ذكرنا ـ فجواز هذه الامور الاعتباريّة تقتضي جوازه أيضا ، فافهم.

ثمّ إنّه قد ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره وجها ثالثا لرجوع القيد (١) فإنّه بعد أن ذكر أنّ رجوع القيد إلى المادّة خلاف ظاهر الجملة التعليقيّة ، ورجوعه إلى الهيئة محال ـ لكونها جزئيّات أو لكونها غير ملحوظة استقلالا ـ زعم أنّ القيد راجع إلى المادّة المنتسبة ، بدعوى أنّ الجملة الشرطيّة إنّما وضعت لتعليق جملة على جملة ، فنتيجة الجملة يكون هو المعلّق ، فالقيد راجع إلى نتيجة الجملة.

والجواب عمّا ذكره قدس‌سره : أنّ تعليق مفاد المادّة المنتسبة ليس أمرا آخر غير تعليق الوجوب ، فإنّ قولنا : «صلّ» لها عبارتان ، فتارة نقول : مفادها وجوب الصلاة ، واخرى نقول : مفادها اتّصاف الصلاة بالوجوب ، فليس ما ذكره إلّا تغييرا للعبارة ، ضرورة كون القائل برجوع القيد إلى الوجوب إنّما يقول برجوعه إلى الوجوب المنتسب إلى الصلاة في مثل «إذا زالت الشمس فصلّ» مثلا ، لا إلى الوجوب المنتسب لأمر آخر ، فإنّ ذلك لا يعقل أن يصدر من أحد.

وثانيا : أنّ مفاد الجملة إنّما هو مفاد المادّة والهيئة معا ، فإذا لم يجز رجوع القيد إلى الهيئة نفسها فكيف يجوز رجوعه إلى معنى مشتمل على معنى الهيئة. وبالجملة ، فظاهر كلامه قدس‌سره لا محصّل له.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٩٣ ـ ١٩٤.


الدليل الثاني الذي ذكره الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١) للزوم كون القيد قيدا للمادّة لبّا : أنّه ذكر أنّ الإنسان إذا تصوّر شيئا ، فإمّا أن يطلبه أو لا يطلبه ، لا كلام على الثاني ؛ لأنّها حينئذ سالبة بانتفاء الموضوع ؛ إذ لا طلب كي يقال إنّه مطلق أو مشروط.

وعلى الأوّل فإمّا أن يطلبه على جميع تقاديره أو على تقدير خاصّ ، لا كلام على الأوّل ؛ إذ يكون وجوبه مطلقا ، فلا قيد كي يتنازع في رجوعه إلى المادّة أو الهيئة.

وعلى الثاني فإمّا أن يكون ذلك التقدير أمرا اختياريا أو لا.

وعلى الأوّل إمّا أن يكون موردا للتكليف أم لا. وجميع هذه التقادير في هذا الحصر العقلي القيد فيها راجع إلى المادّة ، فأين يكون رجوع القيد إلى الهيئة كما ذكرت؟

وظاهر الآخوند قدس‌سره تسليم ما ذكره في هذا الحصر (٢) إلّا أنّه سلّم في كون الحكم من ناحية المقتضي كما ذكره الشيخ ، إلّا أنّه ادّعى أنّه ربما يحصل مانع يمنع تأثير المقتضي للحكم ، فزعم أنّ الواجب المشروط كلّه ممّا اقترن مقتضيه بالمانع من الطلب الفعلي ، فعلّق الطلب فيه على حصول الشرط.

ثمّ قال : هذا بناء على تبعيّة الأحكام لمصالح فيها في غاية الوضوح ، وأمّا على تقدير كون المصالح في المأمور به والمنهيّ عنه فيشكل.

ثمّ ذكر أنّ ذلك في المأمور به الواقعي لا الظاهري ، ومنع عن فعليّة الواقعي ، ونظّر له بعدم فعليّة كثير من الأحكام في أوّل البعثة ، بل وفي زماننا هذا إلى ظهور القائم ، مع كون حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلالا إلى يوم القيامة ... الخ (٣).

__________________

(١) مطارح الأنظار ١ : ٢٦٧.

(٢) كفاية الاصول : ١٢٢.

(٣) المصدر السابق : ١٢٤.


أقول : لا يخفى أنّ ظاهر كثير من الواجبات المشروطة أنّ المقتضي فيها غير موجود ، كما في عدم تكليف الطفل حتّى يبلغ وحتّى يعقل المجنون ، فلا مقتضي للتكليف قبل ذلك ، لا أنّه مقرون بالمانع ، وفي مثل الحائض لا مقتضي للأمر بالصلاة ... وهكذا.

فأمّا الأحكام التي ذكرها ، فيمكن أن يكون عدم تشريعها لعدم المقتضي. ويمكن أن يكون لوجود المانع ـ والله أعلم ـ إذ لا علم لنا بالمغيّبات ، فمن الجائز أن يكون حالنا بالإضافة إلى الكمّل الذين يوجدون في زمن الحجّة ـ عجّل الله تعالى فرجه الشريف ـ حال الصبيّ بالإضافة إلى البالغ ؛ لكون المؤمنين حينئذ في أعلى درجات الكمال الديني.

وقد ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره في مقام الجواب عمّا ذكر في التقريرات منسوبا إلى الشيخ الأنصاري : أنّه كما يمكن أن يتصوّر الإنسان الشيء فيشتاقه الآن ، كذلك يمكن أن يتصوّره فيشتاقه على تقدير كما يشتاق الإنسان الغير الضمآن الماء على تقدير العطش فيوجبه على تقدير ، بمعنى أن يكون الوجوب مشروطا بوجود ذلك التقدير (١).

ولا يخفى أنّ ما ذكره قدس‌سره غير تامّ أيضا ؛ إذ الموجودات ليس لها وجودان : أحدهما مطلق ، والآخر على تقدير ؛ ضرورة أنّه إن وجدت أسبابه وجد وإن فقدت أسبابه لم يوجد ، أمّا الوجود على تقدير فلا أصل له كليّة. نعم ، الوجود الاستعدادي موجود من الموجودات كما في النواة ، فإنّ استعدادها لأن تكون شجرة متحقّق بالفعل وليس على تقدير ، وحينئذ فإن تمّت مقدّمات الشوق تحقّق بالفعل وإن لم تتحقّق لم يتحقّق.

فالتحقيق في الجواب أن يقال إنّ عندنا في مقام الطلب امورا ثلاثة : أحدها الشوق ، والثاني الإرادة ، والثالث الطلب.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٠٤ ـ ٢٠٥.


أمّا الشوق : فالحقّ أنّه كما ذكره الشيخ قدس‌سره من كونه موجودا بالفعل في جميع الصور ومتعلّقه الفعل أيضا ، إلّا أنّه لا يلزم منه فعليّة الحكم كما قدّمنا ذلك ومثّلنا له بالوصيّة ، فإنّ الشوق من الصفات والحكم من الأفعال.

وأمّا الإرادة : والمراد بها إعمال الإنسان قدرته في ما يشتاقه ؛ لأنّها على ما استفدناه من الأخبار أنّها صفة فعل لا صفة ذات ، فلا تتعلّق إلّا بما يكون فعلا من أفعاله ، كأن يمدّ يده فيشرب الماء. ولا يعقل تعلّقها بفعل الغير كلّية كما لا يعقل تعلّقها بالفعل المتأخّر ولو لنفسه أيضا ؛ ضرورة أنّه لا معنى للتحريك نحو الأمر المتأخّر.

وأمّا الطلب : الذي هو بمعنى الإيجاب الذي هو عبارة عن اعتبار الفعل على ذمّة المكلّف ، فالاعتبار وإن تحقّق بالفعل ، إلّا أنّ المعتبر الذي هو الوجوب لا يلزم أن يكون بالفعل ؛ ضرورة عدم ملازمة فعليّة مقام الجعل لفعليّة المقام المجعول كما تقدّم في الوصيّة. وبيان عدم الملازمة : أنّ ذلك القيد المذكور المعبّر عنه بالشرط تارة يكون محقّقا لملاك ذلك المشروط وموجدا لمصلحته ، بحيث إنّ المشروط بدونه لا مصلحة ولا ملاك فيه أصلا. واخرى لا يكون كذلك ، بل الفعل متّصف بالملاك والمصلحة ، إلّا أنّ استيفاء تلك المصلحة موقوف على تحقّق هذا الشيء ، ففي الثاني يكون الاعتبار والمعتبر فعليّا ومتعلّق الاعتبار متأخّرا وهو الفعل ، وفي الثاني (١) يكون الاعتبار فعليّا ، إلّا أنّ المعتبر الذي هو الوجوب يكون موقوفا على حصول ذلك القيد ؛ إذ بدونه لا ملاك حينئذ ، فيستحيل أن يتحقّق وجوبه قبل حصول الشرط ، فإذا كان مقام القيد على هذين النحوين ، فالوجوب المشروط حينئذ ممكن ويكون القيد راجعا إلى الهيئة كما قرّرنا. ولا يمكن أن يكون راجعا إلى المادّة ، للزوم فعليّة الوجوب حينئذ ، والمفروض عدم المقتضي له ؛ لعدم المصلحة حينئذ.

__________________

(١) كذا ، والظاهر : في الأوّل.


وبالجملة ، فقد اتّضح ـ بحمد الله ـ ممّا ذكرنا الفرق بين الوجوب المشروط والوجوب المعلّق وأنّ الأوّل من قبيل الوصيّة والثاني من قبيل الاستيجار لدار بعد سنة ، ولا ريب في مغايرة كلّ منهما للثاني ، من حيث إنّ الأوّل لا وجوب قبل حصول الشرط ، بخلافه في المعلّق ، فالوجوب فيه فعليّ وإن تأخّر زمان الوجوب.

وبعبارة اخرى : الواجب المشروط يكون اتّصاف الفعل فيه بالمصلحة بعد تحقّق الشرط ، بخلافه في المعلّق ، فإنّ اتّصاف الفعل بالملاك والمصلحة بالفعل ، ولكن استيفاء تلك المصلحة منوط بالقيد أو الشرط مثلا.

ثمّ إنّ النزاع في وجوب المقدّمة وإن ذكر صاحب الكفاية أنّه لا يختصّ بمقدّمات الواجب المطلق ، بل يعمّ المشروط بالإضافة إلى غير شرط الوجوب (١) ، غير أنّ المقدّمة تتبع ذا المقدّمة في الإطلاق والاشتراط ، إلّا أنّه لا ثمرة عمليّة فيه ؛ إذ قبل تحقّق شرط الوجوب لا يجب تحصيل بقيّة المقدّمات وبعد حصوله يكون الوجوب مطلقا ، فما ذكره من كونها واجبة وتابعة في الإطلاق والاشتراط لذي المقدّمة صحيح ، إلّا أنّه لا يثمر ثمرة كما قرّرنا.

نعم ، على مذاق الشيخ من كون القيد راجعا للمادّة يكون الوجوب فعليّا فيجب مقدّماته. وأمّا شرط الوجوب فلا يجب على ما اخترناه ؛ لعدم وجوب الواجب قبل وجوده ، وبعد وجوده يجب الواجب حينئذ ، ولا معنى لوجوبه حينئذ ، للزوم تحصيل الحاصل.

وأمّا على مذاق الشيخ قدس‌سره فلا يجب أيضا ؛ إذ المفروض أنّه جعل الشيء واجبا على تقدير حصوله ومع حصوله كيف يطلب؟ وهل هو إلّا طلب الحاصل؟

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٢٠.


[المقدّمة المفوّتة]

بقي الكلام في شيء ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره وهو أنّ المقدّمة التي لا يتمكّن منها في زمان الواجب فهل يجب الإتيان بها قبل زمان الواجب أم لا؟ وهل يجب حفظها لو كانت موجودة أم لا (١)؟ وليعلم أنّ الوجوب المبحوث عنه في المقام ليس هو الوجوب المقدّمي ؛ ضرورة عدم تحقّقه قبل وجوب ذي المقدّمة ، إنّما الكلام في وجوب عقلي آخر وعدمه.

وهذا المطلب لم يتعرّض له الاصوليّون غير الميرزا ، وإنّما تعرّض له الفقهاء في بعض الموارد الخاصّة لا قاعدة كليّة ، في ما لو كان عنده ماء قبل الوقت وعلم بعدم الماء بعد الوقت فهل يجب عليه حفظ الماء إلى ما بعد الوقت أم لا؟ وفي من استطاع في غير موسم الحجّ فهل يجب عليه إبقاء استطاعته إلى أيّام الموسم أم لا؟ وفي من عنده عصا يتوكّأ عليها في الصلاة فهل يجوز له إتلافها قبل وجوب الصلاة عليه؟ وغيرها من الموارد الجزئية.

فنقول : أمّا إذا كان الوجوب فعليّا والقيد إنّما هو للواجب فكان القيد شرطا في استيفاء المصلحة لا ثبوتها ، فلا ريب في وجوب المقدّمة فعلا حينئذ ، ولا ريب في ذلك ، لكنّه لا بدّ من دلالة الدليل على كون الواجب من قبيل الواجب المعلّق كما دلّ الدليل عليه في الحجّ ، فإنّ المستطيع يجب عليه الحجّ بمقتضى الآية ، ولكن زمان وقوع الحجّ متأخّر إلى أشهر الحجّ.

وبالجملة ، فلا بدّ من دلالة الدليل على كون الواجب معلّقا ليكون الوجوب فعليّا ، فإنّ صرف إمكان الواجب التعليقي لا يجدي في وقوعه.

ولا يخفى أنّ هذا خارج عن محلّ الكلام ؛ إذ الكلام في الواجب المشروط الذي لم يكن وجوبه فعليّا. وإن كان الوجوب مشروطا فهو يقع على أنحاء.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢١٧.


وقبل الخوض في بيانها لا بدّ من تقديم مقدّمة يتوقّف توضيح المرام عليها.

فنقول : إنّ قاعدة «الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار» ذكرت في كلام الاصحاب في مقامين :

أحدهما : في المباحث الكلاميّة في ردّ الأشاعرة الذاهبين إلى أنّ العبيد مجبورون على أعمالهم. فقد استدلّ الأشاعرة على كون الإنسان مجبورا على أعماله بأنّ كلّ ما وجد في الخارج فهو واجب لتماميّة علّته ، وكلّ ما لم يوجد فعدمه واجب ووجوده ممتنع لعدم علّته ، فليس في الخارج ممكن أصلا ؛ إذ جميعها بين واجب الوجود أو ممتنع الوجود ، فأين الفعل الممكن؟

وقد أجاب المحقّق الخواجه نصير الدين الطوسي والعلّامة (١) عن هذا الدليل بالقاعدة المزبورة ، فإنّهم ذكروا أنّ هذا الوجوب والامتناع بالاختيار ؛ ضرورة أنّ من أجزاء علّة الفعل الصادر في الخارج اختيار المكلّف لوجوده أو لعدم وجوده ، وحينئذ فهذا الوجوب إنّما يتحقّق بالاختيار كما أنّ الامتناع إنّما تحقّق بعدم اختيار المكلّف له فالامتناع أيضا بالاختيار ، وهما لا ينافيان الاختيار ، يعني لا ينافيان كون الفعل صادرا باختيار المكلّف وإرادته. والقاعدة في هذا المقام خارجة عن محلّ الكلام.

المورد الثاني من الموردين اللذين ذكرت فيهما هذه القاعدة : الاصول في مبحث الضدّ ، لمناسبة ما ، فإنّهم ذكروا أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، مثلا من ألقى نفسه من شاهق فهو في حال هويّه غير قادر على حفظ نفسه ، ولكن بما أنّ مقدّمته كانت مقدّمة اختيارية فامتناع الحفظ عليه حينئذ كان بالاختيار وهو لا ينافي الاختيار. وكذا شارب السمّ ورامي السهم قبل إصابته ، كما هو واضح. وهذه القاعدة في المقام ثلاثية الأقوال.

__________________

(١) انظر شرح التجريد : ٢٨٢ و ٣٠٧ و ٣١٤.


فالمشهور فيها : أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا وإن كان ينافيه خطابا ، لقبح خطابه ؛ لأنّه تكليف بغير المقدور ، وحسن عقابه عقلا.

وذهب أبو هاشم (١) الجبّائي إلى أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار خطابا وعقابا (٢) ؛ لأنّه زعم أنّ قبح الخطاب بغير المقدور إنّما يتمّ إذا لم يكن المكلّف بنفسه سببا له ، وأمّا إذا كان المكلّف سببا له فلا قبح فيه ، فيجوز أن يقول المولى : «إذا صعدت إلى السطح فاجمع بين النقيضين» ولا يجوز أن يقول : «اجمع بين النقضين».

وذهب جماعة إلى أنّ الامتناع بالاختيار مناف للاختيار عقابا وخطابا. ولا ريب أنّ التدبّر يقتضي أن يقال بالقول الأوّل وإنّه مناف خطابا لا عقابا.

إذا عرفت هذه المقدّمة فالواجب المشروط تارة يكون مشروطا بشرط ليس له دخل في تحقّق ملاك المأمور به أصلا ، بل المأمور به واجد للملاك كان ذلك الشرط موجودا أو لم يكن ، وليسمّ هذا الشرط بالشرط العقلي.

واخرى يكون مشروطا بشرط له دخل في تحقّق الملاك في المأمور به بحيث لولاه لا ملاك أصلا.

فالأوّل كما في القدرة ، فإنّها شرط عقلي للتكليف. وحينئذ فإن كان قادرا على المأمور به أو قيده فلا يجوز له تعجيز نفسه ؛ لأنّ الملاك في المقام ليس مشروطا بالقدرة ، وتفويت الملاك الفعلي كتفويت المأمور به الفعلي قبيح عقلا ، فيجب عليه حفظ قدرته إن كانت أو تحصيلها إن لم تكن وإن لم يكن وجوب ذي المقدّمة فعليّا ؛ لعدم التفرقة عقلا بين قبح ترك التكليف وترك الملاك الملزم الفعلي.

ومن ثمّ حكم الفقهاء بوجوب تعلّم الصبيّ اصول دينه عقلا ليكون في أوّل أزمان بلوغه مؤمنا ، بل يجب عليه أن يحفظ قدرته على الصلاة حال بلوغه لو فرض علمه أنّه إن لم يحفظها من الآن لم يتمكّن عليها في ظرفها.

__________________

(١) كذا ، والصواب : أبو عليّ.

(٢) البرهان في أصول الفقه ١ : ٢٠٨ ، والمنخول : ١٢٩.


إنّما الكلام في أنّ هذا الحكم العقلي هل يستكشف به حكم شرعي يسمّى بمتمّم الجعل ـ كما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (١) ـ أم لا يستكشف به حكم شرعي؟ الظاهر هو الثاني ؛ لأنّ استكشاف الحكم الشرعي من الحكم العقلي إنّما يكون حيث يستكشف العقل ملاك الحكم ، كما في قبح الظلم حيث استكشف العقل أنّه يؤدّي إلى انعدام العالم بسبب تعدّي القويّ على الضعيف ، فهنا يستكشف الحكم الشرعي من الحكم العقلي. أمّا حيث لا يدرك العقل إلّا العقاب وقبح الترك فلا يستكشف حينئذ الحكم الشرعي ، ولا داعي له ؛ لكفاية حكم العقل في ردع العبد عن تفويت الملاك.

ولا يخفى أنّ ما ذكرناه في المقام إنّما هو بعد إحراز كون الفعل ذا ملاك فعلي ملزم ، وهذه الكبرى ـ وهي أنّ تفويت الملاك الملزم كتفويت الواجب الفعلي قبيح ـ مسلّمة ومتينة ، إلّا أنّ الكلام في تحقّق صغراها ؛ إذ ما هو المثبت لكون الصوم في وقته ذا ملاك ملزم حال العجز عنه ؛ إذ لعلّ ملاكه موقوف على القدرة عليه في وقته ، ولا يجب على العبد أن يصيّره ذا ملاك ملزم في ظرفه بحفظ القدرة عليه.

نعم ، لو أحرز الملاك تمّ ما ذكر كما هو كذلك بالإضافة إلى حفظ بيضة الإسلام فلا يجوز للمكلّف أن يعجّز نفسه عن حفظها في الوقت المتأخّر الذي يجب فيه الحفظ. ولكن ثبوت ذلك ـ يعني الملاك في الجميع ـ يحتاج إلى علم الغيب ، بل الظاهر من الفقهاء الجزم به حالة القدرة عليه في ظرفه في حصول الملاك ، وإلّا لأوجبوا حفظ القدرة مع احتمال وجود الملاك ؛ إذ حكم احتمال الملاك كاحتمال الخطاب منجّز لا بدّ له من مؤمّن.

نعم ، ذكروا في مبحث الضدّ أنّ قول المولى : «إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة» يستفاد منها بالمطابقة وجوب الصلاة وبالالتزام وجود الملاك وبالحكم العقلي وهو «قبح تكليف العاجز» بل والشرعي وهو «رفع ما لا يطيقون»

__________________

(١) راجع أجود التقريرات ١ : ٢٢١ و ٢٢٩.


وقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)(١) يقيّد التكليف فيبقى الملاك على إطلاقه. وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ في محلّه تبعيّة الدلالة الالتزاميّة ، فإذا قيّدت المطابقة بالحكم العقلي والشرعي بالقدرة قيّد الالتزام بهما ، فلا يبقى على إطلاقه حينئذ. ولزوم القضاء مع اختصاصه بما يقضى من المؤقّتات إنّما هو لوجود ملاك أصل الفعل بعد انعدام ملاك الوقت.

وأمّا القسم الثاني : وهو ما كانت القدرة قيدا للملاك ، فهي على أنحاء ثلاثة :

الأوّل : أن تكون القدرة آناً ما ولو قبل زمان الواجب قيدا للملاك ، وعليه فيجب إبقاء القدرة حينئذ أيضا ، لتحقّق الملاك بالقدرة آناً ما ، وتفويت الملاك كتفويت الخطاب في القبح. والجواب أنّه كبرى مسلّم ، إلّا أنّ الكلام في الصغرى.

الثاني : أن تكون القدرة دخيلة في الملاك بعد تحقّق بعض المقدّمات ، فيجوز تفويت القدرة قبل تحقّق ذلك البعض لا بعدها وقبل زمان الواجب. وقد مثّلوا لذلك بالحجّ ، فإنّ القدرة قبل تحقّق الاستطاعة يجوز تفويتها لا بعدها. وهذا المثال يتمّ إذا قلنا باستحالة الواجب المعلّق ـ كما ذهب إليه الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) ـ أمّا بناء على إمكانه فعدم جواز التفويت لفعليّة الوجوب وإن تأخّر زمان الواجب ، وحينئذ فهو أجنبيّ عن محلّ الكلام.

الثالث : أن تكون القدرة دخيلة في الملاك في زمان الواجب ، فيجوز التفويت قبل ذلك قطعا ؛ ضرورة أنّ المكلّف بتفويته القدرة يخرج نفسه عن موضوع التكليف ، فلا يكون مكلّفا ولا مفوّتا للملاك ؛ لعدم تحقّق فعليّة الملاك في حقّه أصلا.

وبالجملة ، فهذه الأقسام وإن أمكنت في مقام الثبوت ويختلف الحكم باختلافها أيضا ، إلّا أنّ إثباتها غير ممكن فيجوز التفويت للقدرة في جميعها ، فافهم وتأمّل.

__________________

(١) البقرة : ٢٨٦.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٠١ و ٢١٨.


ثمّ إنّ الميرزا النائيني قدس‌سره فرّق بين من كان عنده ماء قبل الوقت فلا يجوز إراقته إذا علم بعدم قدرته على الماء ، وبين من كان متوضّئا فيجوز له أن ينقض وضوءه وإن قطع بعدم الماء بعد ذلك (١).

وقد ذكر الاستاذ السيّد أبو القاسم الخوئي ـ أيّده الله تعالى ـ أنّه سأله عن الفرق ، فأسنده إلى الرواية وأنّ الإشارة إلى الرواية موجود حتّى في العروة (٢) ، وبعد المراجعة اعترف قدس‌سره (٣) بعدم رواية تدلّ على ذلك والظاهر أنّه أشار إلى الرواية الموجودة الصحيحة الواردة في الرجل يجنب بإتيان أهله بعد دخول الوقت وهو يعلم أنّه لا يقدر على الماء بعد ذلك ، فأجاز الإمام ذلك (٤) ولكنّه اشتباها تخيّل دلالتها في المقام.

بقي الكلام في أنّ التعلّم حكمه حكم بقيّة المقدّمات من عدم لزوم تحصيله قبل الوقت لمن علم بعدم التمكّن بعد الوقت عليه أم أنّ له حكما خاصّا؟ فنقول :

الكلام في التعلّم

والكلام في التعلّم يقع في ثلاثة موارد :

إذ قد يكون ترك التعلّم غير موجب لفوت المكلّف به ولا لفوت إحرازه ، وقد يكون موجبا لفوت الإحراز فقط ، وقد يكون موجبا لفوت المكلّف به.

أمّا الكلام في المورد الأوّل : وهو ما إذا لم يفت بترك التعلّم شيء لا الواقع المكلّف به ولا إحرازه ، فالظاهر جواز ترك التعلّم حينئذ كما إذا كان الشخص

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٢٥.

(٢) راجع العروة الوثقى ١ : ٤٧٥ ، مسألة ٢١ من أحكام التيمّم.

(٣) راجع أجود التقريرات ١ : ٢٢٥ ، الهامش رقم ٢.

(٤) وسائل الشيعة ١٤ : ٧٦ ، الباب ٥٠ من أبواب مقدّمات النكاح ، الحديث الأوّل.


لا يعلم أنّ تكليفه في السفر إلى أربع فراسخ هو القصر أم الإتمام وكان قادرا أن يستعلم حكم المسألة ، ولكنّه لم يتعلّم فاحتاط فأتى بفرضين : أحدهما القصر والآخر الإتمام ، فأحرز الواقع بذلك ؛ لعدم اعتبار نيّة الوجه الجزميّة عنده. ولا قائل بحسب الظاهر بلزوم التعلّم في المقام ؛ لأنّ القائل بوجوب التعلّم النفسي يقول بوجوبه النفسي لغيره لا لنفسه ليكون عقاب على تركه لذاته ، والمفروض حصول الواقع وإحرازه أيضا بالاحتياط. ومعنى وجوبه النفسي لغيره : أنّ وجوبه ليس ترشّحيّا ، بل بأمر صادر من المولى ، وليس لأجل كون التعلّم كمالا في نفسه بل لأجل العمل ، فهو نظير ما إذا أراد المولى شرب الدواء فأمر عبده بشرائه فأمره حينئذ نفسي لغيره لا لنفسه ، أي للشرب لا لنفس الشراء ، فافهم.

وأمّا الكلام في المورد الثاني : وهو ما إذا كان ترك التعلّم موجبا لفوت الإحراز للامتثال ، كما في دوران الأمر بين المحذورين الوجوب والحرمة ، فإنّ الإتيان أو الترك مكلّف بهما ، إلّا أنّه لو تعلّم حكمه لعلمه ، ولكنّه لم يتعلّم. أو تردّد الواجب بين أطراف كثيرة وكان غير قادر على فعل الجميع وقادرا أن يتعلّم حكمه بالسؤال ، فالظاهر وجوب السؤال ؛ لأنّ الواجب الواقعي لا بدّ من إحرازه حيث يمكن وهو في المقام ممكن ، فلو ترك التعلّم فاتّفق أنّ الذي أتى به غير الواجب كان للمولى عقابه على ترك الواجب ، ولو اتّفق لحسن حظّه أنّه الواجب كان متجرّئا ؛ لأنّه أقدم على ترك الواجب لو كان هو الثاني ، فافهم.

وأمّا المورد الثالث : وهو ما إذا كان ترك التعلّم مقتضيا لفوت الواجب ، كما في من لا يعرف القراءة في الصلاة ، فإذا ترك التعلّم قبل الوقت يفوته الواجب في ظرفه. فإذا قلنا بمقالة المحقّق الأردبيلي (١) ومن تبعه (٢) وهو أنّ التعلّم واجب نفسي لغيره ، وجب

__________________

(١) انظر مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ١١٠.

(٢) انظر المدارك ٢ : ٣٤٤ ـ ٣٤٥ و ٣ : ٢١٩.


على هذا الشخص التعلّم كما هو الظاهر ، فإنّ الروايات الدالّة على وجوب التعلّم (١) لا يبعد أن يستظهر منها ذلك. وحينئذ فلا إشكال في وجوب التعلّم قبل الوقت.

وإن لم نقل بذلك أشكلت المسألة وبنيت على ما تقدّم من المقدّمة المفوّتة بتمام شقوقها. وحينئذ فمقتضى ما تقدّم منّا جواز التعجيز ؛ لأنّه الآن ليس بواجب ، وبعد وقته أيضا لا يتّصف بالوجوب لعدم القدرة ، فلم يفوّت هذا الشخص واجبا عليه ، بل منع نفسه عن أن يكون موردا للتكليف فأخرج نفسه عن موضوعه ، كما تقدّم.

ولكن قد عرفت قوّة ما ادّعاه الأردبيلي قدس‌سره من كون التعلّم واجبا نفسيّا لغيره ، فلا عقاب على تركه لنفسه بل لغيره ، فافهم.

(وهناك قسم رابع ، وهو أن يترتّب على ترك التعلّم فوت الغرض الملزم ولا يترتّب عليه فوت التكليف ، كما إذا كان الوجوب للواجب النفسي مشروطا بالوقت ، إلّا أنّ الوقت لا يسع التعلّم والعمل ، فالتكليف حينئذ بعد الوقت تكليف بما لا يطاق ، إلّا أنّ الغرض كالتكليف ـ بل هو روح التكليف ـ فتفويته حرام عقلا ، فلا بدّ من التعلّم حينئذ.

نعم ، لو لم يترتّب على ترك التعلّم فوت الواجب ولا فوت الغرض الملزم ـ لكونهما مشروطين بالقدرة في ظرف الفعل المنفيّة حسب الفرض ، والمشروط عدم عند عدم شرطه ـ ففي مثله يحتاج القول بوجوب التعلّم إلى ما التزم به المحقّق الأردبيلي من الوجوب النفسي المتقدّم ذكره ، إلّا أنّ الذي يستظهر من النصوص عدم مشروطيّة الملاك الملزم بالقدرة من ناحية التعلّم في ظرف العمل ، فافهم) (٢).

هذا كلّه إذا أحرز الابتلاء به ، أمّا لو لم يحرز الابتلاء به بل ولم يظنّه بالظنّ الاطمئناني فهل يجب عليه تعلّم حكم تلك الوقائع التي لا يحرز ولا يطمئنّ بالابتلاء

__________________

(١) راجع الكافي ١ : ٣٠ ، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه.

(٢) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.


بها ، أم لا يجب؟ أمّا إذا أحرز عدم الابتلاء بتلك الواقعة ، فمثال ذلك ما إذا أحرز عدم الاستطاعة وقطع بذلك ، فهل يجب عليه تعلّم أحكام الحجّ؟ وما إذا قطع بأنّه لا يبتلي بمعاملة ربوية ، فهل يجب عليه تعلّم أحكام الربا؟ والظاهر عدم وجوب التعلّم في ذلك ؛ لأنّ وجوب التعلّم ـ كما استفدناه من الأدلّة ـ وجوب نفسي لغيره وللعمل ، فإذا احرز عدم الابتلاء فلا وجوب.

وأمّا إذا شكّ في أنّه يبتلي بهذه الواقعة أم لا ، فهل يجب عليه تعلّم حكمها أم لا؟

ربّما يقال بعدم وجوب التعلّم ، لاستصحاب عدم الابتلاء بها بعد ذلك.

وقد نوقش في جريان الاستصحاب في مثل هذه الموارد من الامور المتأخّرة ؛ لعدم كونه شاكّا حينئذ ، بل هو الآن متيقّن بعدم كونه محلّ ابتلائه ظاهرا فعلا. نعم ، إنّما يجري الاستصحاب في شيء كان على يقين منه ثمّ شكّ فيه فعلا ؛ لكونه متيقّنا سابقا ومشكوكا بالفعل.

ولا يخفى عليك ما في هذه المناقشة. وقد ذكرنا في مبحث الاستصحاب أنّ العبرة في الاستصحاب بتقدّم المتيقّن وتأخّر المشكوك وإن كان زمان اليقين والشكّ فعليّا. وحينئذ فلا مانع من إجراء الاستصحاب في الامور المتأخّرة ؛ ولذا أفتى جملة من الأصحاب بجواز البدار لذوي الأعذار إذا شكّوا في ارتفاع العذر إلى آخر الوقت وعدمه (١) اعتمادا على استصحاب عدم التمكّن. نعم ، هذا الحكم ظاهري ، فإن صادف التمكّن فلا بدّ من الإعادة.

__________________

(١) في جواز البدار وعدمه لذوي الأعذار خلاف وذكروا في مبحث التيمّم أقوالا ثلاثة : عدم جواز البدار ، وجواز البدار ، والتفصيل بين العلم باستمرار العذر فيجوز البدار وعدمه مع العدم ، فالقولان الأوّلان منسوب إلى المشهور ، والثالث مذهب العلّامة في بعض كتبه ونسبه في جامع المقاصد ١ : ٥٠٠ إلى أكثر المتأخّرين ، وراجع لتفصيل الأقوال المسالك ١ : ١١٤ ، والمهذّب البارع ٢ : ٢٠٠ ـ ٢٠٢ ، وجواهر الكلام ٥ : ١٥٨ ـ ١٥٩.


وربّما نوقش في استصحاب عدم الابتلاء بمناقشة اخرى ، وهي أنّ الابتلاء المستصحب عدمه ليس حكما شرعيّا وليس له أثر شرعي ، فلا معنى للتعبّد حينئذ.

أمّا إنّه ليس حكما شرعيّا فمعلوم ، وأمّا إنّه ليس بذي أثر شرعي فلأنّ احتمال الابتلاء كاف في وجوب التعلّم من جهة لزوم دفع الضرر المحتمل وهذه المناقشة ذكرها الميرزا النائيني قدس‌سره (١).

والجواب : أنّ هذا متين إذا قلنا بأنّ المجعول في الاستصحاب هو الحكم المماثل. أمّا إذا قلنا بأنّ المجعول هو الطريقيّة وجعل المتيقّن السابق في الزمن اللاحق بمعنى كون المجعول هو طريقيّة اليقين ، فباستصحاب عدم الابتلاء يندفع احتمال الضرر ، وأثره حينئذ هو عدم وجوب التعلّم ، وهو كاف في الأثر.

نعم ، المانع من إجراء الاستصحاب هو إطلاق أدلّة وجوب التعلّم مع كون الغالب عدم إحراز الابتلاء ، فأمره عليه‌السلام بالتعلّم مع كون الغالب عدم إحراز ابتلاء كاشف عن عدم الاعتماد على الاستصحاب ، وحينئذ فلا بدّ أن يتعلّم ما لم يحرز عدم الابتلاء ، فافهم.

بل يمكن القول بعدم جريان الاستصحاب مع قطع النظر عن إطلاق الأخبار ، بأن يقال : إنّ للمكلف علما إجماليّا بالابتلاء بواقعة على الأقلّ من الوقائع ، فبمقتضى ذلك العلم الإجمالي يجب التعلّم ، كما يجب على المجتهد الفحص عن المعارض في العمل بالخبر وعن الأخبار في إجراء البراءة ، للعلم الإجمالي بوجود المعارض في الأخبار ، وبوجود الأخبار في موارد البراءة.

وبالجملة ، فقد ظهر الفرق بين التعلّم وغيره من المقدّمات ، فيجب التعلّم وإن كان الواجب مشروطا بشرط لم يحصل بعد. نعم ، لو احرز عدم الابتلاء لا يجب التعلّم. وهذا بخلاف بقيّة المقدّمات ، فإنّها لا يجب تحصيلها قبل حصول شرط الوجوب

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٣١.


لذلك الوجوب المشروط ؛ لعدم إحراز كون الملاك مطلقا ، فيحتمل كونه مشروطا بالقدرة في زمان الوجوب ، وحينئذ فلم يستقرّ الوجوب عليه قبل الشرط ؛ لعدم الشرط ، وبعد حصول الشرط للعجز حينئذ عنه.

(ثمّ إنّ ما ذكرناه من وجوب التعلّم محافظة على إحراز الواجب أو عليه نفسه أو على غرض المولى إنّما هو بالإضافة إلى البالغين. أمّا الصبيّ فلا يجب عليه التعلّم قبل بلوغه وإن علم عدم تمكّنه من إحراز التكليف أو من الامتثال له أو من تحصيل غرض المولى بعد البلوغ لو لم يتعلّم ؛ وذلك لأنّ السبب في العقاب إنّما هو ترك التعلّم وترك التعلّم في ظرفه مرفوع برفع قلم التكليف عن الصبيّ حتّى يبلغ ، وبعد البلوغ يكون التكليف محالا لقبح التكليف بما لا يطاق ، فلا مجال لما ذكره الميرزا قدس‌سره (١) من لزوم تعلّم الصبيّ الأحكام قبل بلوغه حتّى يتمكّن من امتثال أوامر المولى بعده.

وتوهّم أنّ رفع القلم شرعي فلا يرفع وجوب التعلّم الذي هو حكم عقلي ، مدفوع بأنّه يرفع موضوع حكم العقل وهو احتمال الضرر ، فيرتفع الحكم العقلي حينئذ قهرا) (٢).

بقي هنا أمران :

أحدهما : أنّه إذا ترك التعلّم حيث يجب فترتّب عليه ترك الواجب ، أو أحرز إطلاق الملاك فترك المقدّمة التي يفوت بها الملاك ، فهل يستحقّ العقاب من الآن أم عند ترك الواجب النفسي؟ ظاهر كلام بعضهم الفرق بين التعلّم وغيره ، فحكم في ترك التعلّم باستحقاق العقاب عند ترك الواجب النفسي وفي غيره باستحقاق العقاب عند ترك المقدّمة.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٢٧.

(٢) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.


وفرّق بينهما بأنّ ترك التعلّم لا يلزم منه ترك الواجب في ظرفه ، بل قد يترك وقد لا يترك. بخلاف غيره ، فإنّ ترك المقدّمة التي لا يقدر على فعل الواجب بتركها صيّر الواجب غير مقدور ، فيكون شروعا في المعصية من الآن ، فيعاقب من الآن ؛ لعدم مقدوريّة فعل الواجب في ظرفه.

أقول أوّلا : قد يكون ترك التعلّم ملازما لترك الواجب في وقته كبقيّة المقدّمات ، كمن لم يتعلّم الصلاة وكان غير عربي ، فإنّه لا يمكن أن يتعلّم الصلاة بعد دخول وقتها ويصلّي ، فهو محال عادة ؛ لاحتياج التعلّم إلى مدّة طويلة.

وثانيا : أنّ صيرورة الفعل غير مقدور لا يحقّق معصية بالفعل ، والعقاب إنّما هو على المعصية ، فمن ألقى رجلا من شاهق لا يكون قاتلا له قبل أن يصل إلى الأرض فيموت ؛ ولذا لا يجوز القصاص منه حينئذ ولا أخذ الدية أصلا. فالظاهر أنّ العقاب في ترك التعلّم الموجب لترك الواجب وفي ترك المقدّمة المفوّت للواجب في ظرفه هو عند حصول ترك الواجب النفسي ؛ إذ حينئذ تتحقّق المعصية وعدم القدرة عليه قبل وقته ليس بنفسه معصية بل الترك في ظرفه معصية ، فحينئذ يستحقّ العقاب.

الأمر الثاني : أنّه ذكر الشيخ الأنصاري قدس‌سره فسق تارك التعلّم في مسائل الشكّ في الصلاة والسهو اللذين يبتلى بهما المكلّف غالبا (١).

فهو إمّا مبنيّ على كون التعلّم واجبا نفسيّا لنفسه وأنّ ترك التعلّم حينئذ كبيرة من الكبائر. أو مبنيّ على كون التجرّي كبيرة من الكبائر. أو مبنيّ على الفرق بين مسائل الشكّ والسهو ممّا يبتلى بها المكلّف غالبا ، فتركها مستلزم لترك الواجب وهو الصلاة. بخلاف غيرها ، فإنّ تركها ليس مستلزما لترك الواجب ، لندرة الابتلاء بها.

__________________

(١) صراط النجاة : ١٧٥ ، مسألة ٦٨٢.


والأوّل لا يقول هو به. وكذا الثاني ، لتصريحه (١) بعدم حرمة التجرّي. وكذا الثالث ؛ لأنّ تعلّم أجزاء الصلاة وشرائطها أيضا يوجب فوت الواجب ، فلا وجه للفرق.

ويمكن أن يكون كلامه مبنيّا على أنّ العدالة ملكة إتيان الواجبات وترك المحرّمات في ظرف العلم ، كما صرّح بكون العدالة هي تلك الملكة (٢). وحينئذ فترك التعلّم كاشف عن عدم تلك الملكة ؛ لأنّه حينئذ عازم على ترك الواجب وهو الصلاة ، فلا ملكة حينئذ ، ويكون ذكره لخصوص مسائل الشكّ والسهو مثالا لما يبتلى به المكلّف غالبا ، لا مختصّا به. وكذا إذا كان التعلّم واجبا نفسيّا لغيره ، فإنّ تركه بما أنّه يتبع ما يترك بسببه ، فترك الصلاة كبيرة ، فيكون ترك التعلّم موجبا للفسق ؛ لأنّه ترك للصلاة ، فافهم.

هذا تمام الكلام في التعلّم وشئونه. ويمكن أن يكون كلامه مبنيّا على وجوب التعلّم وجوبا طريقيّا ، فإنّ المعصية يتحقّق بمخالفة الحكم الظاهري كما تتحقّق بمخالفة الحكم الواقعي أيضا. وحينئذ فيكون هذا الشخص فاسقا ؛ لكونه عاصيا للحكم الظاهري الطريقي.

__________________

(١) راجع فرائد الاصول ١ : ٣٩ ـ ٤٠.

(٢) انظر رسالة في العدالة (المطبوعة ضمن رسائل فقهيّة) : ١٠ ـ ١٥.


في المعلّق والمنجّز

قسّم صاحب الفصول قدس‌سره الوجوب إلى مطلق ومشروط ، ثمّ قسّم المطلق إلى المعلّق والمنجّز (١) وإنّما قسّم المطلق إلى المعلّق والمنجّز قصدا للتخلّص عن إيراد وجوب بعض مقدّمات الواجب قبل وجوبه كالغسل في ليل شهر رمضان وكحفظ القدرة في المقدّمة المفوّتة بدعوى فعليّة الوجوب في ذلك كلّه ؛ ولذا تجب المقدّمة في جميع ذلك وإنّما القيد قيد للواجب لا للوجوب ؛ ضرورة أنّ مناط وجوب المقدّمة هو فعليّة وجوب ذيها من غير فرق بين كون الواجب فعليّا أو استقباليّا.

ولا يخفى أنّ ما ذكره : من كون الواجب تارة يكون فعليّا واخرى يكون استقباليّا والوجوب في الجميع فعلي متين جدّا ، وبه نستغني عمّا ذكروه في ذلك من حكم العقل ومتمّم الجعل ، إلّا أنّه غير مصيب في عدّه الوجوب المعلّق من قسم المطلق بل هو من قسم المشروط.

فالأولى أن يقال : إنّ الوجوب مطلق ومشروط ، والمشروط تارة يكون مشروطا بالشرط المتقدّم والمقارن واخرى يكون مشروطا بالشرط المتأخّر ، والمشروط بالشرط المتأخّر قد صوّرناه وأثبتنا إمكانه. وتوضيح كون الوجوب

__________________

(١) الفصول الغروية : ٧٩.


المعلّق من المشروط : هو أنّه لا يقدر على ذلك الواجب إلّا بعد مجيء وقته أو ذلك الأمر الغير الاختياري المعلّق عليه ، فمجيء الوقت من محقّقات القدرة ، وكلّ تكليف بالإضافة إلى الشرائط العامّة مشروط ؛ إذ التكليف مشروط بالقدرة.

وبالجملة ، فالوجوب مشروط في الحقيقة ، إلّا أنّ ذلك الشرط لمّا كان معلوم الحصول والتحقّق بحسب العادة صار الوجوب فعليّا فوجبت المقدّمات ، للعلم بحصول الشرط في ظرفه ؛ ولذا لو مات ذلك الشخص قبل حلول الوقت كشف عن عدم الوجوب من أوّل الأمر ، نظير من استطاع ثمّ مات قبل أيّام الموسم بعد سفره ، فإنّه يكشف عن عدم استطاعته من أوّل الأمر وأن لا وجوب للحجّ عليه.

ثمّ إنّه يقع الكلام الآن في إمكان الواجب المعلّق واستحالته ، فنقول : ذكر بعضهم استحالته لوجوه :

أحدها : ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره وملخّصه أنّ القدرة من شرائط التكليف فكيف يتحقّق التكليف مع كون المكلّف عاجزا حينئذ (١).

والجواب : أنّ القدرة في ظرف العمل شرط للتكليف لا القدرة حال التكليف ، وفي ظرف العمل القدرة حاصلة حسب الفرض.

الثاني : ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) وهو أنّ القدرة مفقودة في الجميع ؛ ضرورة أنّ الواجب مقيّد بأمر غير اختياري ، فإن لم يقيّد الوجوب به لزم التكليف بغير المقدور ؛ لأنّ المقيّد بأمر غير مقدور ينبسط التكليف عليه وعلى قيده ، وحينئذ فهو غير مقدور فالتكليف به محال وإن قيّد الوجوب به أيضا لزم أن يكون من قبيل الشرط المتأخّر وهو محال كما مرّ.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٢٠.

(٢) انظر أجود التقريرات ١ : ١٩٧ وما بعدها.


والجواب أوّلا : أنّ الشروط ـ كما قدّمنا ـ لم يتوجّه التكليف نحوها ، وإنّما توجّه التكليف نحو تقيّد الواجب بها بأن تكون ظرفا له ، وهذا أمر مقدور للمكلّف ، ونفس الشرط هو التقيّد أمّا ذات القيد فهي غير داخلة في حيّز التكليف أصلا. وحينئذ فلا تكليف بغير المقدور. نعم ، ما ذكره من كون القيد راجعا إلى الوجوب أيضا متين على ما قرّرناه ، إلّا أنّ استحالة الشرط المتأخّر قد عرفت بطلانها وأنّ الشرط المتأخّر ممكن كما مرّ ، بل واقع ، بل ضروري كما عرفت بالإضافة إلى أجزاء العمل المتلاحقة ، فإنّ وجوب الأجزاء الاول مشروط بالقدرة على الأجزاء المتأخّرة في ظرفها ، وهو واضح كما مرّ.

الثالث : من وجوه استحالة الواجب المعلّق عبارة عن مقدّمتين :

الاولى : أنّ الإرادة التشريعيّة على حدّ الإرادة التكوينيّة إمكانا واستحالة ، فكلّ ما أمكن تعلّق الإرادة التكوينيّة به أمكن تعلّق الإرادة التشريعيّة به ، وكلّ ما استحال استحال ، ولا فرق بينهما إلّا أنّ الإرادة التكوينيّة تتعلّق بفعل نفس المريد والتشريعيّة تتعلّق بفعل الغير.

الثانية : أنّ تعلّق الإرادة التكوينيّة بأمر متأخّر مستحيل فكذا التشريعيّة.

وقد أجاب عن هذه المقدّمة الثانية في الكفاية بأنّ تعلّق الإرادة التكوينيّة بالأمر المتأخّر لا مجال لإنكاره فكذا التشريعيّة (١) فانقلبت دعوى الاستحالة إلى الإمكان. ومن ثمّ ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره في المقدّمة الثانية عوض ما ذكرنا : أنّ تعلّق الإرادة التكوينيّة بأمر غير مقدور ومقيّد بغير مقدور مستحيل ، سواء كان متأخّرا أو متقدّما أو مقارنا (٢).

والجواب عن هذه المقدّمة الثانية بكلا وجهيها أنّه ما المراد من الإرادة؟

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ١٢٨.

(٢) انظر أجود التقريرات ١ : ١٩٢ ـ ٢٠١.


فإن كان المراد منها الشوق الذي هو من صفات النفس فتعلّقه بالأمر المتأخّر وبالأمر الغير المقدور ممكن. وكم نشتاق زيارة الحسين عليه‌السلام في الأيّام المتأخّرة عن زمن الاشتياق! وكم نشتاق إلى فعل الغير! وإن كان المراد منها الاختيار الذي هو من أفعال النفس فتعلّقه بالأمر المتأخّر والغير المقدور مستحيل في الإرادة التكوينيّة ، إلّا أنّ المقام ليس متعلّقا بالقيد كما مرّ وإنّما تعلّق بالتقيّد وهو أمر مقدور. هذا حال الإرادة التكوينيّة وأمّا التشريعيّة : فتعلّقها بفعل الغير بالمعنى الأوّل ممكن ، وبالمعنى الثاني لا يمكن ؛ إذ لا معنى لاختيار فعل الغير إلّا حمله على الاختيار المنافي للتكليف.

هذا كلّه حال الإرادة ، وقد ظهر أن لا وجه لعدوله ـ يعني الميرزا النائيني قدس‌سره ـ عن التقرير الأوّل في المقدّمة الثانية إلى التقرير الثاني ؛ إذ هما سواء في الإمكان إن اريد بالإرادة الشوق وبالاستحالة إن اريد بها الاختيار.

وأمّا الإيجاب فهو أجنبيّ عن الإرادة ؛ إذ هو ليس إلّا عبارة عن اعتبار فعل في ذمّة المكلّف ، وهو كما يمكن أن يكون اعتبار فعل حالي ، كذا يمكن أن يكون اعتبار فعل استقبالي في ذمّة المكلّف من غير فرق بينهما ، وقد مثّلنا لذلك في العرف بأن يستأجر زيدا غدا لصوم بعد غد ، فيملك عليه من حين إجراء العقد العمل في اليوم المعيّن له. ولا يخفى أنّ الكلام في الإيجاب من أوّل الأمر أولى من جعل الكلام أوّلا في الإرادة ثمّ بعد تلك المناقشات يرجع الكلام إلى الإيجاب.

وبالجملة ، فقد ظهر أنّ تعلّق الإيجاب بالأمر المتأخّر ممكن ، وكذا تعلّقه بالمقيّد بقيد غير مقدور إذا كان التقيّد مقدورا ، وإلّا لزم عدم الأمر بجميع المؤقّتات ؛ إذ الوقت غير مقدور ، وهو كما ترى.

بقي أمران لا بأس بالتنبيه عليهما :

أحدهما : أنّه قيّد صاحب الفصول (١) الواجب المعلّق بما كان معلّقا على أمر

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٧٩.


غير اختياري مع عموم ملاكه لما علّق على أمر اختياري أخذ مفروض الوجود أولا كما هو مذكور في الكفاية (١) فلاحظ.

الثاني : أنّه ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) أنّه لا ينحصر التفصّي عن عويصة وجوب المقدّمة قبل وجوب ذي المقدّمة بالتعلّق بالتعليق أو بما يؤول إليه ، بل هناك طريق آخر هو : الالتزام بكونه من الواجب المشروط بالشرط المتأخّر الذي علم وجوده بعد ذلك.

ولا يخفى عليك أنّ شرط الوجوب المتأخّر إن لم يقيّد به الواجب أيضا كما قيّد به الوجوب خرج عن محلّ الفرض في العويصة ؛ إذ هي في المقدّمة التي تجب قبل ذيها المقيّد بالزمان. وإن قيّد به الواجب فقد صار الواجب معلّقا ؛ إذ الواجب المعلّق ـ كما مرّ ـ يؤول إلى الواجب المشروط وقسم منه ، غير أنّه مشروط بالشرط المتأخّر ، فليس ما ذكره صاحب الكفاية أمرا آخر ، بل هو هو ، فافهم.

بقي الكلام في أنّه بعد أن كان الواجب المشروط المصطلح والواجب المعلّق ممكنين ، فإن كان في لسان دليل الواجب ما يعيّن كونه معلّقا فيلتزم بلوازمه ، من وجوب المقدّمات وغيرها ، كما في آية الحجّ ، فإنّ ظاهرها تعلّق الوجوب بمجرّد الاستطاعة المفسّرة بالزاد والراحلة وتخلية السرب ، ولكن أداء الواجب في أيّام الحجّ المعلومة ، وإن كان لسان الدليل يعيّن أنّه من المشروط ، كما في قوله : إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة ، فيلتزم بكونه مشروطا وبلوازمه أيضا.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٣٠.

(٢) كفاية الاصول : ١٣١ ـ ١٣٢.


وإذا دار الأمر بين كونه معلّقا أو مشروطا فهل هناك مرجّح لأحد الأمرين أم ليس هناك مرجّح؟ فإن كان هناك مرجّح لأحدهما عمل به ، وإلّا فالمرجع هي الاصول العمليّة (*).

وقد ذكرت بعض المرجّحات التي تكون من قبيل القرينة المنفصلة :

الأوّل : ما ذكره الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١) وملخّصه أنّه إذا دار الأمر بين تقييد المادّة والهيئة ، وقلنا بإمكان تقييد الهيئة فتقييد المادّة أولى من تقييد الهيئة ؛ لأنّ إطلاق الهيئة شمولي وإطلاق المادّة بدلي ، وتقييد الإطلاق البدلي أولى من تقييد الإطلاق الشمولي.

ولا بدّ من الكلام في هذا المطلب صغرى وكبرى :

أمّا الصغرى فهي أنّ إطلاق الهيئة شمولي ؛ لأنّ الوجوب غير مقيّد بشيء من الأشياء ، فالوجوب حال طلوع الشمس متحقّق ، وحال غيبوبتها كذلك ، وحال نزول المطر وحال انقطاعه كذلك ، وعلى هذا جميع الأحوال ولكن إطلاق المادّة بدلي ؛ ضرورة أنّه لا يريد إلّا إكراما واحدا على سبيل البدل.

وأمّا الكبرى وهي أنّ تقييد الإطلاق البدلي أولى فقد ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) له وجوها ثلاثة ، موجّها بها كلام الشيخ الأنصاري قدس‌سره بعد أن اختاره :

أحدها : أنّ قولنا : أكرم عالما ، مع قولنا : لا تكرم فاسقا إذا اطلقا في الكلام فكلّ منهما انعقد له ظهور ، الأوّل في لزوم إكرام عالم ما على البدل ، والثاني في حرمة إكرام الفاسق. وبما أنّ «لا تكرم فاسقا» ينحلّ إلى حرمة إكرام كلّ فرد من أفراد الفسّاق

__________________

(*) وتظهر الثمرة فيما لو دار أمر الواجب بين كونه معلّقا على أمر يعلم حصوله فيما بعد أو مشروطا بالشرط المقارن لتجب مقدّماته فعلا على الأوّل دون الثاني ، فتأمّل فهو دقيق. (الجواهري).

(١) انظر مطارح الأنظار ١ : ٢٥٢ ـ ٢٥٣.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٣٥ ـ ٢٣٦.


فهو متعدّد بتعدّد أفراد المتعلّق ، فإذا علمنا بلزوم رفع اليد عن أحد الظهورين ـ إذ العالم الفاسق لا يمكن أن يكون محكوما بكلا الحكمين معا ـ فرفع اليد عن إطلاق «لا تكرم فاسقا» موجب لتخصيص «لا تكرم فاسقا» بغير العالم ، فيكون مؤدّاها «لا تكرم فاسقا غير عالم». ولكن «أكرم عالما» إذا رفعنا اليد عنها فإنّما رفعنا اليد عن كونها شائعة بين أفراد كثيرة إلى كونها شائعة بين أفراد أقلّ من المقدار الذي كانت قبل شائعة فيه ؛ إذ إنّ «أكرم عالما» كان قبل التقييد مشاعا بين أفراد كلّ عالم وهم مائة ، ولكنّه أصبح شائعا بين خمسين وهم العالم الغير الفاسق مثلا ، ولا ريب في أنّه أخفّ مئونة وأقلّ كلفة من التخصيص فيقدّم عليه.

أقول : لا يخفى أنّ «أكرم عالما» ذات حكمين :

أحدهما : المدلول المطابقي ، وهو لزوم إكرام عالم ، وهذا الحكم له إطاعة واحدة وعصيان واحد ؛ لعدم انحلاله له إلى أفراد ، كما في «لا تكرم فاسقا».

الثاني : مدلوله الالتزامي ، وهو الترخيص في تطبيق ذلك العالم على كلّ فرد فرد من أفراد العلماء ؛ لعدم تحقّق مقيّد تضيق به دائرة التطبيق ، وهذا الحكم حكم شمولي ، فرفع اليد عن الإطلاق في البدلي مخالفة لعموم شمولي ورفع يد عنه ، غير أنّ هذا الحكم شمولي مستفاد من دلالة الالتزاميّة لا مطابقيّة ، وهذا ليس فرقا ، وحينئذ فلا مرجّح لرفع اليد عن أحد الإطلاقين.

وثانيا : أنا لو سلّمنا أنّ الحكم في المطلق بدلي محض ولا يستلزم حكما شموليّا ، فلما ذا يتقدّم الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي مع كون كلّ منهما خلاف ظهور اللفظ؟ إذ المطلق الشمولي ظاهر في الشمول ، والمطلق البدلي ظاهر في سعة الدائرة ، وكلّ من هذين الظهورين إنّما انعقد بالإطلاق ومقدّمات الحكمة. وإنّما يصحّ رفع اليد عن أحد الظهورين حيث يكون أحدهما أقوى ، كما إذا كان إطلاق أحدهما وضعيّا فإنّه حينئذ غير موقوف على مقدّمات الحكمة ، فيكون بيانا للثاني فلا يتمّ عدم البيان فيه الذي هو من جملة مقدّمات الإطلاق ، فافهم.


الوجه الثاني من الوجوه التي ذكرها الميرزا النائيني قدس‌سره هو : أن الإطلاق البدلي حكم واحد على الطبيعة كما تقدّم ، وجواز تطبيقه على الأفراد الداخلة تحت تلك الطبيعة إنّما هو بحكم العقل بعد إحراز تساوي أفراد الطبيعة في الوفاء بالغرض ، ولكن العموم الشمولي قاض بعدم تساوي الأفراد ، فلا يحكم العقل حينئذ بجواز تطبيقه على الأفراد بتلك السعة.

والجواب : أنّ جواز التطبيق على الأفراد من تلك الطبيعة ليس حكما عقليّا ، وإنّما هو حكم شرعي يقتضيه عدم التقييد وحمل الحكم على المطلق ، وحينئذ فجواز التطبيق ليس حكما عقليّا حتّى يتوقّف على إحراز المساواة ، ليكون الشمولي مانعا ، بل هو حكم شرعي منشؤه الإطلاق اللفظي كما تقدّم.

الوجه الثالث ممّا ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره هو : أنّ جواز تطبيق المطلق البدلي على جميع أفراد الطبيعة التي تعلق بها الأمر موقوف على عدم المانع ، والإطلاق الشمولي مانع ؛ إذ لا ترفع مانعيّته من قبل نفسه ، ولا يمكن رفعها بإطلاقه للزوم الدور.

والجواب : أنّ ما ذكر متين إلّا أنّ المطلق الشمولي كذلك أيضا موقوف إطلاقه على عدم المانع ، والمطلق البدلي يصلح مانعا ، فرفع مانعيّته من قبل نفسه مستحيلة ، وبالإطلاق مستلزمة للدور ، وحينئذ فكلّ من الإطلاقين يمكن أن يكون مانعا عن الآخر ولا مرجّح لأحدهما بخصوصه على التقدّم. هذا كلّه حيث يتعارض الإطلاقان الشمولي والبدلي.

أمّا لو تعارض الإطلاق الشمولي أو البدلي مع العموم فظاهر كلامهم الاتّفاق على تقديم العموم الشمولي على الإطلاق شموليّا كان أم بدليّا ، وهذا لا يتمّ بناء على ما صرّح به صاحب الكفاية (١) وتبعه عليه بعض من تأخّر عنه كالميرزا النائيني (٢)

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٥٤ ـ ٢٥٥ و ٢٩٢.

(٢) انظر أجود التقريرات ١ : ٢٣٦ ـ ٢٣٨ و ٢ : ٢٩١ و ٤١٥ ـ ٤١٦.


في مبحث العموم والخصوص من أنّ مدخول أداة العموم لا يكون عامّا إلّا بإجراء مقدّمات الحكمة ، وأنّ أداة العموم إنّما هي لعموم ما اريد من المدخول ، وأمّا كون المراد هو جميع أفراد الطبيعة أو بعضها فلا يدلّ عليه.

فبناء على ذلك يشكل تقديم العموم الاصولي على الإطلاق بدليّا كان أم شموليّا ؛ لأنّه يؤول إلى تقديم أحد الإطلاقين على الآخر ؛ ضرورة كون مدخول أداة العموم لا بدّ من إثبات إطلاقه بمقدّمات الحكمة ، وحينئذ فكما يمكن أن يكون عمومه بيانا لعدم إرادة الإطلاق في المطلق يمكن أن يكون إطلاق المطلق قرينة على المراد من مدخول أداة العموم ، مثلا «أكرم كلّ عالم» مع «لا تكرم فاسقا» فكما يمكن أن يكون «أكرم كلّ عالم» بيانا لكون المراد من الفاسق المحرّم الإكرام الفاسق الغير العالم ، كذا يمكن أن يكون «لا تكرم فاسقا» قرينة على كون المراد من عالم المدخول لكلّ هو خصوص العادل ، ولا مرجّح لأحدهما على الآخر ؛ لأنّ كلّا منهما إنّما ثبت إطلاقه بمقدّمات الحكمة ، فوجه الدلالة فيهما واحد.

نعم ، على ما اخترناه في مبحث العموم والخصوص من أنّ أداة العموم بنفسها تقتضي عموم المدخول من غير حاجة إلى إجراء مقدّمات الحكمة في المدخول ، وأنّ أداة العموم بمنزلة قوله : «أكرم كلّ عالم سواء كان عادلا أم فاسقا طويلا أم قصيرا هاشميّا أم غيره» يتّجه تقديم العموم الاصولي على الإطلاق شموليّا كان أم بدليّا ؛ لأنّ عموم العامّ يصلح بيانا للمطلق فيرتفع إطلاقه دون العكس ؛ لتحقّق العموم بلا حاجة إلى مقدّمات الحكمة التي منها عدم البيان. ولعلّ هذا هو مراد الشيخ الأنصاري قدس‌سره بقوله : إنّ دلالة العامّ تنجيزيّة ودلالة المطلق تعليقيّة (١). يعني أنّ دلالة العام غير موقوفة على عدم البيان ودلالة المطلق معلّقة عليه.

__________________

(١) فرائد الاصول ٤ : ٩٨.


هذا كلّه إنّما هو في الكبرى الكلّية من أنّه إذا تردّد الأمر بين تقييد المطلق الشمولي أو البدلي فأيّهما يقدّم إطلاقه فيقيّد الثاني ، وقد ذكرنا أنّه لا موجب لترجيح أحدهما على الآخر.

ثمّ لو سلّمنا ترجيح المطلق الشمولي فيقيّد المطلق البدلي فهو في غير ما نحن فيه من الصغرى ؛ لأنّ هذا الكلام إنّما هو حيث يتنافى الإطلاقان بحسب المدلول كما في «أكرم عالما» و «لا تكرم فاسقا» فإطلاق الطبيعة في كليهما في نفسه محال ؛ للزوم كون العالم الفاسق واجب الإكرام ومحرّم الإكرام في آن واحد وهو محال ، فلا بدّ من رفع اليد عن أحدهما بجعل الأظهر منهما قرينة على المراد من الظاهر حيث يكون متّصلا وعلى عدم حجّيته حيث يكون منفصلا.

وهذا بخلاف مثل «صلّ» المطلق بحسب المادّة والهيئة ، ولا تنافي بين الإطلاقين بحسب مدلولهما ، إلّا أنّ لنا علما إجماليّا بتقييد أحدهما ، فإنّ التنافي إنّما نشأ من العلم الإجمالي ، ومعلوم أنّ نسبة العلم الإجمالي إلى جميع أطرافه نسبة واحدة لا ترجيح فيها لبعض الأطراف على بعض ، فيكون مورد الدوران بين كون القيد راجعا إلى المادّة أو الهيئة من الموارد المجملة من حيث الدليل اللفظي ، فلا بدّ حينئذ من الرجوع إلى الاصول العمليّة في ذلك المقام والعمل بما يقتضيه الأصل العملي من براءة أو اشتغال أو استصحاب ، فافهم.

وأيضا هذا الكلام الذي ذكرناه من تقديم الإطلاق الشمولي على البدلي لو سلّمناه فهو غير منطبق على ما نحن فيه من جهة اخرى ؛ إذ محلّ الكلام هو دوران الأمر بين رجوع القيد إلى المادّة أو إلى الهيئة ، وحيث يدور الأمر بين المعلّق والمشروط الذي هو محلّ الكلام لا دوران ؛ ضرورة أنّا قد ذكرنا أنّ المعلّق قسم من أقسام الواجب المشروط ، وهو المشروط بالشرط المتأخّر ، وحينئذ فالهيئة مقيّدة قطعا ، إنّما الكلام في أنّها مقيّدة بقيد متأخّر إذا فرض كون الوجوب فعليّا ، أو بقيد مقارن إذا فرض أنّ الوجوب عند حصول القيد.


وبالجملة ، فعند دوران الأمر بين المعلّق والمشروط لا دوران بين تقييد المادّة والهيئة. وكلام الشيخ قدس‌سره مبنيّ على كون المعلّق قسما من أقسام المطلق وهو غير تامّ كما تقدّم.

نعم ، لو دار الأمر بين المطلق والمشروط كان لهذا الكلام مجال مع قطع النظر عمّا ذكرنا من عدم انطباقه من الجهة الاولى ، وهي أنّ هذا الكلام إنّما هو في التنافي في الدلالة لا التنافي من ناحية العلم الإجمالي ، فافهم.

هذا تمام الكلام في الوجه الأوّل لتقديم تقييد المادّة على تقييد الهيئة.

الوجه الثاني من الوجهين اللذين ذكرهما الشيخ الأنصاري على ما في تقريراته (١) مرجّحا لتقييد المادّة ـ لو سلّم إمكانه ـ أنّ تقييد الهيئة يوجب بطلان محلّ الإطلاق من المادّة ؛ ضرورة أنّه إذا كان القيد شرطا للوجوب فلا بدّ من إيقاع العمل الواجب بعد تحقّقه ، وحينئذ فلا إطلاق في المادّة حينئذ. وهذا بخلاف تقييد المادّة فإنّه معه يبقى إطلاق الهيئة بحاله ، فيدور الأمر بين تقييد الهيئة فيثمر نتيجة تقييدين وبين تقييد المادّة فقط ، ولا ريب في أنّ نتيجة التقييدين مخالفة للظاهر أكثر من تقييد المادّة وحدها فيتقدّم الأقلّ ظهورا.

وذكر الميرزا النائيني تقريبا لهذا الكلام (٢) [وهو] أنّ تقييد المادّة معلوم إجمالا ، وتقييد الهيئة غير معلوم ، فينحلّ العلم الإجمالي بتقييد أحدهما إلى تقييد معلوم على كلا التقديرين وهو تقييد المادّة ، وآخر مشكوك وهو تقييد الهيئة ، فيرجع فيه إلى أصالة الإطلاق.

وقد أورد الآخوند قدس‌سره (٣) وجملة ممّن تأخّر عنه منهم الميرزا (٤) على ما ذكره الشيخ

__________________

(١) مطارح الأنظار ١ : ٢٥١ ـ ٢٥٣.

(٢) انظر أجود التقريرات ١ : ١٩٣ وما بعدها من الصفحات و ٢٤٢.

(٣) كفاية الاصول : ١٣٤ ـ ١٣٥.

(٤) انظر أجود التقريرات ١ : ٢٣٤ ـ ٢٣٦.


بأنّ مخالفة الظاهر إنّما هي حيث ينعقد لكليهما إطلاق فيخالف برجوع القيد إلى الهيئة ، أمّا إذا كان تقييد الهيئة يوجب عدم إطلاق في المادّة أصلا فليس فيه مخالفة لظاهرين بل مخالفة ظاهر واحد ، وهو إمّا رفع إطلاق المادّة أو رفع إطلاق الهيئة ، ورفع نتيجة الإطلاق إذا لم يكن فيه مخالفة للظاهر فليس به بأس.

نعم ، إذا كان التقييد بمنفصل فقد انعقد لكلّ من الإطلاقين ظهور في الإطلاق فحينئذ يتمّ ما ذكره الشيخ قدس‌سره ، ففصّل الآخوند فوافق الشيخ في المخصّص المنفصل دون المتّصل ثمّ أمر بالتأمّل في آخر كلامه.

والظاهر عدم تماميّة أصل الترجيح وعدم تماميّة الإيراد أيضا. وبيان ذلك يتوقّف على بيان معنى رجوع القيد إلى المادّة ورجوع القيد إلى الهيئة :

فنقول : إنّ معنى رجوع القيد إلى الهيئة أخذ القيد مفروض الوجود عند توجّه الوجوب ، ومعنى رجوع القيد إلى المادّة أنّ التقيّد ـ أي تقيّد المأمور به بالقيد ـ داخل تحت الأمر لا نفس القيد كما زعمه الميرزا النائيني قدس‌سره ؛ ضرورة لزوم التهافت في فرض كون القيد قيدا لهما ؛ ضرورة أنّه إذا كان مفروض الوجود فكيف يدخل التقيّد تحت الأمر؟ إذ يكون طلبا للحاصل. وحينئذ فمعنى كون القيد قيدا للهيئة أنّه اخذ مفروض الوجود ، ومعنى كونه قيدا للمادّة أنّ التقيّد داخل تحت الأمر ، فهما معنيان متباينان ، فقد يجتمعان كما في : إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة ، فهنا اخذ الزوال مفروض الوجود بالإضافة إلى الوجوب ، وتقيّد الصلاة في الوقت أخذ في المأمور به ، فصار المأمور به حصّة خاصّة.

وقد يكون القيد مفروض الوجود ولكن ليس التقيّد داخلا في المأمور به ، كما في الوجوب المشروط بالشرط المتأخّر ، فإنّ الشرط المتأخّر اخذ مفروض الوجود ولكنّ الواجب لم يقيّد به ، وكما في صلاة الزلزلة فإنّ الزلزلة اخذت مفروضة الوجود ولكنّ الصلاة لم تقيّد بوقتها. وقد يكون التقيّد تحت الأمر ولكنّ القيد ليس مفروض الوجود ، كما في : صلّ قائما ؛ فإنّ القيام ليس شرطا للوجوب ولكنّ الصلاة مقيّدة به ،


فتقيّد الصلاة به تحت الأمر. وحينئذ فلا ملازمة بين تقييد الهيئة وتقييد المادّة ، فقوله : تقييد الهيئة يستلزم تقييد المادّة ، قلنا : ليس كذلك ، بل لا ملازمة كما مثّلنا في صلاة الزلزلة. وحينئذ فقد سقط أصل الاستدلال ، وكذلك الجواب بتسليم الملازمة ، فإنّه ساقط أيضا.

وأيضا هناك فرق آخر وهو : أنّ جعل القيد راجعا للهيئة معناه جعله موضوعا للوجوب ، وجعله راجعا للمادّة معناه جعله ـ أي جعل التقيّد به ـ متعلّقا للوجوب ، فهو في الاولى سابق على الوجوب ويكون الوجوب من العوارض عليه ، وفي الثانية يكون التقيّد به متأخّر الوجود عن الوجوب ؛ ضرورة توجّه الأمر نحوه. ومن هنا ظهر أنّ ما ذكره الميرزا من تيقّن تقييد المادّة على كلّ تقدير غير تامّ ؛ لعدم التيقّن. وحينئذ فكلّما دار أمر القيد بين كونه راجعا للهيئة أو للمادّة ولم يكن في المقام قرينة على أحدهما فالمرجع هي الاصول العملية ، ونتيجتها نتيجة رجوع القيد إلى الهيئة ؛ للشكّ في الوجوب الفعلي والأصل عدمه.

هذا تمام الكلام في الواجب المعلّق والمشروط ودوران الأمر بينهما.



في الوجوب النفسي والغيري

وثمرة الكلام في ذلك إنّما تظهر في مقام الشكّ في الواجب أنّه نفسي أو غيري ، فعلى تقدير كونه واجبا غيريّا لا يجب لسقوط ما وجب له بأحد موجبات السقوط ، بخلاف ما لو كان واجبا نفسيّا ، فإنّ سقوط أحد الواجبين النفسيين للعجز عنه لا يقتضي سقوط الواجب الآخر ، وهذا ظاهر. والكلام في الدوران يقع في ثلاثة مواضع :

الأوّل : في تقسيم الواجب إليهما وتعريفهما.

الثاني : فيما يقتضيه الأصل اللفظي من النفسيّة أو الغيريّة.

الثالث : ما يقتضيه الأصل العملي.

أمّا الكلام في المقام الأوّل فقد عرّف الواجب الغيري ـ كما في الكفاية (١) ـ بأنّه ما كان الداعي فيه التوصّل إلى واجب آخر لا يمكن التوصّل بدونه إليه ، ويقابله النفسي. ثمّ أشكل صاحب الكفاية عليه بأنّه يقتضي كون جلّ الواجبات ـ لو لا الكلّ ـ غيريّة ؛ لأنّها واجبة على مذهب العدليّة للمصالح الإلزاميّة المترتّبة عليها المقدورة بالواسطة ، أي بواسطة القدرة على سببها. نعم ، خصوص المعرفة بالله واجبة لحسنها الذاتي ، أمّا غيرها فالجميع بمقتضى هذا التعريف غيريّة. وبهذا عدل

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٣٥ ـ ١٣٦.


عن هذا التعريف ومال إلى تعريف بعضهم للنفسي بما وجب لنفسه والغيري بما وجب لغيره ، بدعوى أنّ السبب الباعث للمولى على إيجابه إن كان حسنه الذاتي فهو نفسي وإن ترتّب عليه مصلحة إلزاميّة ، وإن كان السبب الباعث هو ما يترتّب عليه فهو غيري وإن كان فيه حسن ذاتي.

ولا يخفى أنّ هذا الذي ذكره لا يمكن الالتزام به ؛ فإنّ الحسن الذاتي الباعث على الوجوب إن كان من جهة ما يترتّب عليه من المصلحة عاد الإشكال بذاته ؛ ضرورة أنّ هذا الحسن الذاتي ناشئ من تلك المصلحة المترتّبة عليه ، وإن كان فيه حسن ذاتي مع قطع النظر عن تلك المصلحة ففيه :

أوّلا : أنّه دون إثباته خرط القتاد ، إذ كيف يمكن إثبات ذلك وأيّ دليل يدلّ عليه؟

وثانيا : أنّه يقتضي أن يكون الإيجاب ناشئا من كلّ من جنبتي النفسيّة والغيريّة ؛ إذ تخصيص الوجوب النفسي به وكون هذا الإيجاب من جهة الحسن الذاتي ترجيح من غير مرجّح وقول بغير دليل ، مع صلاحيّته لكلّ منهما بحسب ذاته ؛ لوجود كلتا الجنبتين فيه حسب الفرض.

وقد أجاب الميرزا النائيني قدس‌سره (١) عن الإشكال على تعريف المشهور بأنّ المصالح الواقعيّة ليست بواجبة على المكلّف ؛ لعدم قدرته عليها. وما قيل من أنّ المقدور مع الواسطة مقدور بالقدرة على الواسطة فإنّما هو فيما كانت الواسطة من قبيل العلّة والسبب التامّ ، وليس المقام من ذلك ؛ فإنّ مثل النهي عن الفحشاء والمنكر في الصلاة والوقاية من النار في الصوم ليس معلولا للصلاة والصوم ، وإنّما هذه الأفعال الخارجيّة من تكبير وركوع وسجود وإمساك بالنسبة إليها من قبيل العلل الإعداديّة ، نظير الزرع وإلقاء البذر ؛ فإنّه علّة إعداديّة بالنسبة إلى خروج السنبل

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٤٣ ـ ٢٤٤.


واستيفاء الحاصل ، وهناك مقدّمات أخر غير نثر البذر ليست باختيار المكلّف ولا تحت قدرته ، وإنّما هي في اليد الغيبيّة ، وكذا المصالح المرتّبة على هذه الأفعال الخارجيّة.

ويدلّ على كون المصالح غير داخلة تحت قدرة المكلّف العلم الوجداني بعدم القدرة عليها وظواهر الأدلّة ؛ إذ لو كانت مقدورة لأمر الشارع بها رأسا كما أمر بالعتق والطلاق والتزويج ، فإنّها غير مقدورة إلّا بأسبابها مع أنّه أمر بها لكونها مقدورة ، فلو كانت هذه مقدورة أيضا لأمر بها أيضا. وحينئذ فالمصالح لخروجها عن اختيار المكلّف غير واجبة. فلا يرد على تعريف المشهور للواجب النفسي بما وجب لا لواجب آخر ، وللغيري بما وجب لواجب آخر هذا الإشكال المشهور.

نعم ، ذكر بعد هذا كلّه أنّه يرد على هذا التعريف أنّه يدخل في الواجبات الغيريّة بعض الواجبات النفسيّة مثل الغسل في ليل شهر رمضان ، فإنّه واجب لواجب آخر مع كونه من الواجبات النفسيّة ؛ فلذا عدل عن هذا التعريف وعرّفه بما ترشّح وجوبه من واجب آخر ، كما عرّف النفسي بما لم يترشّح وجوبه من واجب آخر.

والظاهر عدم تماميّة ما ذكره دفعا وحلّا للإشكال كما لا وجه لنقضه أيضا.

أمّا عدم تماميّة ما ذكره حلّا للإشكال فلأنّ ما ذكره من كون الصلاة والصوم من قبيل المعدّات للنهي عن الفحشاء والمنكر والوقاية من النار فهو متين إلّا أنّه لا يجديه ؛ وذلك لأنّ الغرض الأقصى منها هو ما ذكره كالغرض من نثر البذر ، إلّا أنّ هناك غرضا آخر يترتّب على هذه الامور بنفسها ترتّب المعلول على علّته التامّة ، بحيث يستحيل انفكاكه عنها ، وهو أنّه يكوّن في النفس أهليّة للفيوضات الإلهيّة واستعدادا لقبول ألطافه الغير المتناهية ، وهذه هي المصالح الملزمة ، وأمّا النهي عن الفحشاء والمنكر فهو الغرض الأقصى. فهذه الكمالات النفسيّة هي المصالح الملزمة وهي واجبة ومقدورة ، نظير نثر الحبّ في الأرض ليس مكوّنا إلّا استعدادا وقابليّة لأن يخرج سنبلا في كلّ سنبلة مائة حبّة ، وهذا هو الغرض الملزم ، وهو واجب ومقدور قطعا فعاد الإشكال وهو أنّه لا واجب نفسيّا غير المعرفة.


وأمّا ما ذكره قدس‌سره من دخول مثل الغسل في ليل شهر رمضان في الغيري مع خروجه عنه وكونه نفسيّا ففيه :

أوّلا : أنّ ظاهر كلامهم في قولهم في تعريف الغيري بما وجب لغيره كون غيره واجبا حين وجوب هذا الواجب الغيري ، وهذا مفقود في مثل الغسل ؛ فإنّه واجب ولا وجوب للصوم حينئذ ؛ لعدم مجيء وقته.

وثانيا : أنّ كلامنا ليس في الاصطلاح وأنّ النفسيّ والغيريّ موضوعان بحسب الاصطلاح لما ذا ، وإنّما المقصود هو الثمرة التي أسلفنا ذكرها من الرجوع إلى الاصول اللفظيّة أو العمليّة حيث يشكّ في سنخ الوجوب ، وكونه نفسيّا أو غيريّا ، وهذا يرد حتّى في مثل الغسل في ليل شهر رمضان ، فلا مانع من دخوله في تعريف القوم.

وأمّا أصل الإشكال وهو أنّه على تعريف المشهور لا يبقى واجب نفسي غير المعرفة فيدفعه أنّه إذا بنينا على أنّ الأمر المتوجّه إلى السبب هو بنفسه متوجّه إلى المسبّب ـ كما يؤيّده الميرزا النائيني قدس‌سره في كثير من كلامه (١) ـ فالجواب واضح ؛ إذ الأمر بنفسه متوجّه إلى كلّ منهما ، وليس متوجّها إلى خصوص الأفعال الخارجيّة ليرد الإشكال. وأمّا إذا لم نبن على هذا المبنى فنقول : إنّ مثل هذه المصالح كالاستعداد للفيوضات الإلهيّة والكمالات النفسيّة فليست بواجبة ؛ لأنّها غير معلومة للناس ، والواجب لا بدّ أن يكون أمرا يفهمه عامّة الناس كالتكبير والقراءة والركوع والسجود والاستقبال والضرب وأشباهها ، فإذا كانت هذه المصالح المترتّبة الغير المنفكّة غير معلومة للمكلّفين فلا يوجبها عليهم ، بخلاف مثل الوضوء والطلب للماء فإنّها مفهومة لكلّ واحد من أهل العرف.

وحينئذ فتعريف المشهور متين لا يرد عليه شيء أصلا ، وعلى تقدير أن يرد عليه إيراد فحيث إنّ الغرض من هذا البحث إنّما هو تعيين وظيفة المكلّف في مقام الدوران

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ١ : ٢٥٣.


بين الوجوب النفسي والغيري فلا بأس بأن يعرّف النفسي بما وجب لغرض فيه نفسه ، والغيري بما وجب لغرض في غيره ، وهذا التعريف لا يرد عليه شيء ممّا تقدّم.

(ثمّ إنّ هناك نوعا آخر من الواجبات يشكّل عددا من الواجبات الغيرية. وهي المقدّمة التي يكون تركها مفوّتا لملاك ملزم ، كالغسل في ليل شهر رمضان بناء على أنّ وجوب الصوم إنّما هو عند الليل ، فبترك الغسل ليلا لا يتمكّن من الصوم فجرا ، إلّا أنّ الصوم ليس بواجب ليلا حسب الفرض ، وإنّما يحدث وجوبه عند الفجر ، فليس الغسل ليلا مقدّمة للواجب ، وإذا لم يغتسل لم يأمره الشارع بالصوم المشروط بالغسل ؛ لأنّه تكليف بما لا يطاق. نعم ، ترك الغسل مفوّت للملاك الملزم ، فإن قلنا ـ كما هو المعروف ـ من أنّ الوجوب الغيري ما يترشّح من الوجوب النفسي فليس هذا بواجب غيري ، وإن قلنا ـ كما هو الصحيح ـ من أنّ الواجب الغيري ما يترشّح من ملاك الواجب النفسي ، فيكون كلّ من الواجب النفسي والغيري معلولا للملاك الملزم فلا بأس بتسميته بالواجب الغيري لذلك) (١).

وأمّا المقام الثاني وهو ما إذا شكّ في واجب أنّه نفسي أم غيري فما هو مقتضى الأصل اللفظي؟

فنقول : إنّه إذا كان ثمّة إطلاق لفظي يتمسّك به في إثبات النفسية ؛ لأنّ الوجوب الغيري محتاج إلى التقييد بوجوب الغير ، فإذا كان هناك إطلاق فيتمسّك به في نفي الغيريّة ، كما يتمسّك به في نفي العدل حيث يحتمل التخييريّة ، وكما يتمسّك به في نفي الوجوب عن الإنسان بفعل غيره حيث يحتمل الكفائيّة في الوجوب.

وقد أورد الشيخ الأنصاري قدس‌سره على ما نسب إليه (٢) أنّه لا يمكن التمسّك بالإطلاق ، إمّا لأنّ المعاني الحرفيّة جزئيّة فهي غير مطلقة حتّى تصلح للتقييد كما هو

__________________

(١) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) نسبه في أجود التقريرات ١ : ٢٤٥ وانظر مطارح الأنظار ١ : ٣٣٢ ـ ٣٣٣.


المعروف المنسوب إليه ، وإمّا لأن المعاني الحرفيّة ملحوظة باللحاظ الآلي فهي غير قابلة للتقييد ؛ لاحتياجه إلى لحاظ استقلالي ، كما احتمله الميرزا النائيني قدس‌سره (١). فلا مجال للتمسّك بالإطلاق.

أقول : قد تقدّم نظير هذا الكلام في الوجوب المشروط والمطلق وذكرنا بعد إنكار الشيخ الأنصاري للوجوب المشروط ، وكان الكلام فيه على تقدير صحّة النسبة.

ولكن في المقام لا يعقل إنكار الشيخ الأنصاري للوجوب الغيري كليّة ، ولازم هذا الكلام إنكاره بنحو القضيّة الكليّة ، وهذا أمر لا يعقل أن يذهب إليه الشيخ.

وحينئذ فنرجع إلى بيان الفرق بين الوجوب النفسي والغيري فنقول : هما ثبوتا نوعان متباينان من الوجوب قد اخذ في كلّ منهما خصوصيّة لم تؤخذ في الآخر بل اخذ عدمها فيه.

وأمّا في مقام الإثبات فالوجوب الغيري بحسب لسان الدليل يتصوّر بنحوين :

أحدهما : أن يذكر قيدا لواجب نفسي ، كأن يقول المولى : صلّ قائما أو متطهّرا ، فيستفاد منه أنّ القيام أو الطهارة قيد للصلاة ، بحيث لا بدّ من أن تشتمل عليهما بحيث تكون قيدا للواجب لا للوجوب.

الثاني : أن يكون قيدا لمفاد الهيئة على مسلكنا وقيدا للهيئة المنتسبة على ما اختاره الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) أو قيدا للمادّة على ما نسب إلى الشيخ الأنصاري قدس‌سره (٣) كأن يقول المولى : تطهّر إن وجبت الصلاة ، وحينئذ فكلّ على مسلكه ، فمن لا يرى إمكان تقييد الوجوب للطهارة يقيّد الواجب ، وهو نفس الطهارة بالأمر الغير الاختياري ، وهو وجوب الصلاة على تقدير تحقّقه في الخارج. وحينئذ فالوجوب

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٤٥ ـ ٢٤٦.

(٢) انظر أجود التقريرات ١ : ١٩٤ و ٢٤٦.

(٣) نسبه في الكفاية : ١٢٢ ، وانظر مطارح الأنظار ١ : ٢٥٢ ـ ٢٥٣.


الغيري إثباتا لا بدّ فيه من تقييد الوجوب أو الواجب. فمثل الشيخ لا بدّ أن يلتزم بتقييد الواجب به ؛ لأنّه لا بدّ من أن يقيّد الوجوب أو الواجب في الغيري ، ومع تحقّق هذا التقييد في بعض أدلّة الواجب الغيري يحمل المطلق عليه حيث لا يحتمل فيه وجوبا نفسيّا وغيريّا معا ، بل كان هناك وجوب واحد ليس إلّا ، فوجود المقيّد كاشف عن تقييد المطلق ومثبت له ومثبت الأصل اللفظي حجّة قطعا.

(ويمكن تصوير التمسّك بالإطلاق على مذهب الشيخ بصورتين :

إحداهما : أن يكون الوجوب المشكوك قد انشئ بالمعنى الاسمي القابل لأن يقيّد ، فإذا لم يقيّد يتمسّك حينئذ بالإطلاق في إثبات كون الوجوب نفسيّا.

الثانية : أن يتمسّك بإطلاق ما يكون ذلك الوجوب الغيري على تقديره مقدّمة له ؛ إذ لا بدّ أن يقيّد وجوبه بالتقيّد بالثاني ، فإذا لم يقيّد وأوجب مطلقا دلّ على أنّ وجوبه غير منوط بتحقّق ذلك التقيّد ، ومثبت الأصل اللفظي حجّة قطعا) (١).

إنّما الكلام حيث يتردّد الأمر وليس إطلاق لفظي إمّا لكون الدليل لبّيا وإمّا لكون الكلام مهملا أو مجملا ، فحينئذ يرجع إلى ما تقتضيه الاصول العمليّة.

وقد ذكر الآخوند قدس‌سره (٢) أنّ مقتضى الأصل العملي حيث يشكّ في كون الواجب نفسيّا أو غيريّا هو البراءة ، حيث يكون ما هو مقدّمة له على تقدير الغيريّة غير واجب.

وقد أشكل الميرزا النائيني قدس‌سره (٣) عليه بأنّ المقام نظير دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر ، فإنّ الأقلّ لا يكون مجرى للبراءة ؛ للعلم بوجوبه قطعا إمّا ضمنيّا وإمّا استقلاليّا ، فالمقام من هذا القبيل أيضا ، فإنّ المشكوك واجب قطعا وإن تردّد بين

__________________

(١) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) كفاية الاصول : ١٣٨.

(٣) أجود التقريرات ١ : ٢٤٩ ـ ٢٥٠.


كونه واجبا نفسيّا أو غيريّا إلّا أنّ الإلزام به معلوم ، إمّا لكونه واجبا نفسيّا وإمّا لكون تركه سببا لترك الواجب النفسي ، فإنّ تركه يستوجب ترك الواجب النفسي حسب الفرض.

والإنصاف أنّ كلام كلّ منهما تامّ فيما هو فيه ، ولا يرد ما أورده الميرزا على الآخوند أصلا وإن كان كلام الميرزا أيضا متينا في محلّه.

بيان ذلك أنّه :

تارة : يحرز عدم وجوب ذلك الواجب النفسي من غير جهة المقدّمة ، مثلا الحائض إذا شكّت في كون الوضوء واجبا نفسيّا لها ليجب ، أو غيريّا للصلاة ليرتفع وجوبه حينئذ تبعا لوجوب الصلاة ، وفي هذا المقام يتمّ كلام صاحب الكفاية قدس‌سره وإليه نظره ؛ لأنّ البراءة حينئذ محكّمة ؛ للشكّ في الوجوب الفعلي ، فإنّ الوجوب على تقدير الغيريّة ليس فعليّا ، نعم على تقدير النفسيّة هو فعلي ، لكنّه مشكوك الوجوب النفسي فيجرى في ذلك المشكوك البراءة.

واخرى : يكون ذلك الشيء الذي يحتمل كون هذا مقدّمة له مشكوك الوجوب ، كما إذا أمر المولى بالذهاب إلى السوق وتردّد الذهاب بين كونه واجبا نفسيّا أو مقدّميّا إلى شراء اللحم الذي يشكّ في وجوبه ، وفي هذه الصورة لا بدّ من الحكم بالاشتغال بالنسبة إلى الذهاب إلى السوق وإن جرت البراءة بالإضافة إلى شراء اللحم ؛ للعلم بوجوب الذهاب على كلّ تقدير ، فإنّه على تقدير كونه واجبا غيريّا فتركه يوجب ترك الواجب النفسي الواصل بهذا المقدار ، فإنّ التنجّز لا يكون دائرا مدار تنجّز ذي المقدّمة ، نعم الملازمة بينهما في الوجوب الواقعي لا الفعلي ، وأمّا الفعلي فقد تجب المقدّمة بالوجوب الفعلي المنجّز ولا يجب ذوها بالوجوب الفعلي المنجّز ، والسرّ في ذلك أنّ التروك تنحلّ ، فالترك من جهة قد يوجب العقاب ومن جهة اخرى لا يوجب العقاب. وهذا هو ما ذكرناه في الأقلّ والأكثر وقد سمّيناه هناك بالتوسّط في التنجيز.


وحينئذ ففي المقام لو ترك الذهاب إلى السوق المنجّز عليه ، إمّا لكونه واجبا نفسيّا وإمّا لكونه مقدّمة لواجب نفسي واصل بمقدّمته بم يعتذر عند المولى في مقام عقابه؟ وهذا بخلاف الشقّ الأوّل فإنّه يعتذر بأنّه على تقدير الغيريّة غير واجب قطعا ؛ لكونه غير واجب من غير جهة ترك المقدّمة فهو متروك من غير جهتها ولكن في المقام على تقدير الوجوب الغيري فمن جهة المقدّمة يكون ذلك الواجب واصلا ، فيجب سدّ باب العدم من هذه الجهة.

توضيح ما ذكرنا هو : أنّ العلم الإجمالي بوجوب نفسي أو غيري للذهاب إلى السوق منجّز ، فأصالة عدم النفسيّة معارضة بأصالة عدم الغيريّة ، فإن جرى الأصلان وتساقطا فاللازم الاحتياط ، وإن لم تجر حينئذ لوجود قدر متيقّن ، وهو أنّ ترك الذهاب إلى السوق محرّم إمّا لنفسه أو لتفويت الواجب الثاني الواصل بهذا المقدار ، فلا بدّ من الإتيان به ؛ لأنّه متيقّن كما يأتي نظيره في الأقلّ والأكثر. وإلى هذه الصورة ينظر الميرزا النائيني قدس‌سره وكلامه متين فيها.

وثالثة : يحرز وجوبهما معا ويشكّ في كون أحدهما مقدّمة للآخر. أم لا ، كما إذا علمنا بواجبين ودار أمرهما بين كونهما نفسيّين أو أحدهما غيريّ والآخر نفسيّ ، وهذا على صورتين أيضا.

فإنّهما تارة : يكونان مطلقين أو مشروطين بشيء معا على كلا التقديرين ، كما إذا قال المولى : إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة ، ودار الأمر بين كونهما واجبين نفسيّين أو أن تكون الطهارة مقدّمة للصلاة مع اشتراطهما معا بدخول الوقت ، وفي مثل هذا ذهب الميرزا النائيني قدس‌سره (١) إلى البراءة من التقيّد أي تقيّد الصلاة بالطهارة ، فحكم بصحّة الصلاة وإن ترك الطهارة وعوقب عليها خاصّة ؛ لأصالة عدم الشرطيّة.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٤٧ ـ ٢٤٨.


ولا يخفى أنّه لا يمكن المساعدة على ما ذكره قدس‌سره ؛ لأنّ كلّا من الوجوب النفسي والتقيّد وإن كان لو خلّي ونفسه مجرى للبراءة مستقلّا إلّا أنّ المقام من مقامات الاشتغال العقلي ؛ للعلم الإجمالي بالوجوب النفسي أو تقييد الصلاة به ، فبمقتضى هذا العلم الإجمالي وتنجّزه ـ بتعارض الاصول وتساقطها ـ أن لا يحكم بصحّة الصلاة حيث تفقد الطهارة المحتمل تقيّدها بها ؛ للعلم الإجمالي بالتقيّد أو الوجوب النفسي فيرتّب أثرهما معا ، فيجب الإتيان بالطهارة قبل الصلاة ليحرز كلا محتملي العلم الإجمالي به حينئذ.

واخرى : يكون أحدهما مشروطا بما بعد الوقت كالصلاة في المثال ، والثاني مشروطا قبل الوقت كالطهارة على تقدير كونها واجبة نفسيّا ، وعلى تقدير الغيريّة فهي مقيّدة بما بعد الوقت لكنّها متردّدة بين كون وجوبها نفسيّا أو غيريّا ، وفي مثله لا ريب في كون مقتضى القاعدة الاشتغال ؛ للعلم الإجمالي بوجوب الطهارة لنفسها أو تقيّد الصلاة بها كالسابق ، فيتنجّز العلم الإجمالي ؛ لتعارض الاصول وتساقطها بناء على ما اخترناه من تنجّز العلم الإجمالي في التدريجيّات. وحينئذ يكون احتمال التكليف في كلّ منهما منجّزا فيجب الإتيان بالطهارة قبل الوقت وبعده وحفظها إلى ما بعد الوقت للصلاة ، ولا وجه لما ذكره الميرزا النائيني من إجراء البراءة من التقييد.

نعم ، لو كان وجوب الصلاة مقيّدا بما بعد الوقت وكذا الطهارة على تقدير كون وجوبها غيريّا ، أمّا على تقدير النفسيّة فهو مطلق فلا يجب الوضوء قبل الوقت ، لكنّه بعد الوقت واجب ؛ للعلم الإجمالي بوجوبه حينئذ المردّد بين النفسيّة والغيريّة المنجّزة فيجب.

نعم ، لو كان توضّأ قبل دخول الوقت لا يجب التكرار بعده ؛ لعدم العلم الإجمالي بوجوبه حينئذ ؛ لاحتمال كون وجوبه نفسيّا مطلقا وقد أتى به ، وعلى تقدير الغيريّة فالوجوب الغيري بعده ، أمّا الجواز فلا ، وحينئذ فيكون من المقدّمات الحاصلة فلا يجب تحصيلها.


في ترتّب الثواب على الواجب الغيري وعدمه :

لا ريب في استحقاق الثواب بالمعنى الآتي على امتثال الأمر النفسي ، كما لا ريب في استحقاق العقاب على مخالفته ، ولكن بين استحقاق العقاب واستحقاق الثواب فرقا وهو : أنّ استحقاق العقاب بمعناه المعلوم «فإن عفا فبفضله وإن عذّب فبعدله» إلّا أنّ استحقاق الثواب ليس بمعنى أنّ للعبد مطالبته ، كلّا ، فإنّ إطاعته من مقتضيات عبوديّته وليس أجيرا للمولى كي يستحقّ أجرته ، بل معنى استحقاقه الثواب هو حسن إثابة المولى له ، بمعنى كون إثابة المولى له كانت إثابة لأهلها لا كإثابة العاصي فإنّها إثابة في غير محلّها.

ومن هذا القبيل ورد : من تاب كان كمن لا ذنب له (١) ، فإنّ التوبة رجوع العبد إلى مولاه ، والعبد الآبق رجوعه إلى مولاه من وظائف عبوديّته فليس له استحقاق المطالبة ، ولكن غفران ذنوبه تفضّل من المولى. فجميع موارد الإثابة كلّها من باب التفضّل ، والتعبير بالاستحقاق بمعنى كون المحلّ أهلا لذلك ، لا بمعنى حسن المطالبة كالأجير. نعم للعبد مطالبة المولى بوعده ؛ فإنّه وعد المحسنين أن يعفو عنهم ويتجاوز عن سيّئاتهم ويدخلهم الجنّة التي عرّفها لهم وغير ذلك ، إلّا أنّ هذه المطالبة من جهة لطف الله وكماله وأنّ المؤمن لا يخلف وعده فكيف بالله عزوجل ، وليس المطالبة لإطاعة العبد ، كلّا ثمّ كلّا (*). هذا كلّه في الواجبات النفسيّة.

وأمّا الواجبات الغيريّة فقد ذكر صاحب الكفاية (٢) أنّها لا ثواب في موافقتها ولا عقاب في مخالفتها ، وإنّما يترتّب الثواب والعقاب على موافقة النفسي ومخالفته.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٥٩ ـ ٣٦٠ ، الباب ٨٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ٨ و ١٤.

(*) ولعلّ ما ورد من قولهم : خف الله خوفا لو أتيته بحسنات الثقلين لعذّبك وارجه رجاء لو أتيته بذنوب الثقلين لغفر لك ، ـ الوسائل ١١ : ١٦٩ ـ ١٧٠ ، الباب ١٣ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ١ و ٦ ـ إشارة إلى ذلك. (الجواهري).

(٢) كفاية الاصول : ١٣٨.


والظاهر أنّ مخالفته لا توجب عقابا بنفسها كما ذكر ؛ إذ لا فرق مع ترك الواجب النفسي بين الإتيان بمقدّماته وعدم الإتيان بها إلّا أنّ موافقة الواجب الغيري إذا اسندت إلى الله فتقرّب بها إلى الله تعالى وأتى بها بما أنّها مقدّمات ذلك الواجب النفسي يثاب العبد عليها قطعا ؛ إذ مناط الثواب النفسي بعينه موجود فيه وهو القرب. فما ذكره الآخوند من عدم الثواب عليها لا وجه له. نعم ليس نفس الأمر الغيري مسبّبا له بل القربة هي المسبّبة لذلك ، وعلى ذلك يحمل ما ورد من الثواب على المقدّمات كالمشي لزيارة الحسين عليه‌السلام والحج والجهاد وغيرها (١).

الإشكال في الطهارات الثلاث :

وبناء على ترتّب الثواب على امتثال الأمر الغيري فإشكال ترتّب الثواب على الطهارات لا وقع له ؛ إذ هي كغيرها من الواجبات الغيريّة يثاب العبد عليها إذا تقرّب بها ، إلّا أنّ هنا إشكال آخر. ملخّصه أنّ الأمر الغيري توصّلي يكتفى بإتيان ذات العمل في سقوطه فلم يعتبر قصد القربة في سقوط أمره؟

وقد اجيب عنه بوجوه :

أحدها ما في الكفاية (٢) من أنّ بها أمرا نفسيّا صيّرها عبادة ، والأمر الغيري توجّه إلى ما هو عبادة ، فالإتيان بها بغير قربة ليس إتيانا بمتعلّق الأمر الغيري ، نظير ما لو أمر الوالد ولده أو المولى عبده بصلاة الليل ، فإنّ أمرهم مع كونه توصّليّا لا يسقط إلّا بإتيان متعلّقه ، وهو الصلاة المتقرّب بها. أمّا غير المتقرّب بها فلا يأمر المولى بها ولا يدعو الأمر إليها ؛ إذ الأمر لا يدعو إلّا إلى متعلّقه ، فافهم.

__________________

(١) انظر كامل الزيارات : ١٣٢ ـ ١٣٥ ، الباب ٤٩ وص ١٤٤ ، الباب ٥٧ ، والكافي ٤ : ٢٦١ ـ ٢٦٢ ، الحديث ٣٧.

(٢) كفاية الاصول : ١٣٩ ـ ١٤٠.


وقد ردّ الميرزا قدس‌سره (١) هذا الجواب بامور :

الأوّل : أنّ هذا إنّما يتمّ في الوضوء والغسل ؛ لوجود الأمر بهما ذاتا ، وأمّا في التيمّم فلا يتمّ ؛ إذ ليس التيمّم مستحبّا نفسيّا.

وفيه : أنّا نلتزم باستحبابه النفسي ؛ ضرورة أنّه قد ورد في الروايات : أنّ التراب أحد الطهورين (٢) كما ورد : أنّ التيمّم أحد الطهورين (٣) فهو طهور بموجب هذه الأخبار ، وقد قال الله في كتابه : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)(٤) فثبت محبوبيّته النفسية بالدليل وبقوله : الطهور على الطهور نور على نور (٥) ، كما هو واضح لا يخفى.

الثاني : أنّ الأمر الاستحبابي ينعدم عند عروض الوجوب ؛ لاستحالة اجتماع الضدّين والأحكام متضادّة.

وفيه : أنّا لو قطعنا النظر عمّا نذكره غير بعيد من التوجيه لذلك ، ففيه : أنّ الطلب لا يرتفع وإنّما ترتفع رتبته الضعيفة ، فتتبدّل إلى رتبة أكيدة ، وحينئذ فيصحّ الإتيان بها بداعي ذات الطلب الموجود في مرتبة الاستحباب.

الثالث : أنّ الطهارات يصحّ الإتيان بها بقصد أمرها الغيري ولو لم يقصد المكلّف أمرها النفسي المتعلّق بها.

ودعوى أنّه لا يدعو إلّا إلى متعلّقه فلا حاجة إلى قصده ، غير مسموعة فيما لو كان ملاك العباديّة متقوّما بأمر نفسي ؛ ولذا لا يصحّ الإتيان بصلاة الظهر بقصد الأمر

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٥٤.

(٢) الوسائل ٢ : ٩٩٤ ـ ٩٩٥ ، الباب ٢٣ من أبواب التيمّم ، الحديث ١ و ٦.

(٣) الوسائل ٢ : ٩٩١ ـ ٩٩٢ ، الباب ٢١ من أبواب التيمّم ، الحديث الأوّل.

(٤) البقرة : ٢٢٢.

(٥) الوسائل ١ : ٢٦٥ ، الباب ٨ من أبواب الوضوء ، الحديث ٨ ، وفيه : الوضوء على الوضوء نور على نور.


الغيري المتوجّه إليها من صلاة العصر ؛ لأنّ شرطها تقدّم الظهر عليها ، ولو أتى بها كذلك كانت فاسدة ، بل لا بدّ من قصد أمرها الذي يكون مقوّما لملاك العباديّة وحينئذ فلا بدّ أن يكون ملاك عباديّة الطهارات هو الأمر الغيري ؛ ولذا تسقط لو قصده ، قال الاستاذ الخوئي أيّده الله : هذا الإشكال وارد وصحيح ، فتأمّل.

الجواب الثاني عن اعتبار قصد القربة في الطهارات ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (١) وملخّصه : أنّ اعتبار قصد القربة فيها إنّما نشأ من اشتراط الصلاة التي هي عبادة به ، فإنّ الأمر النفسي متوجّه إلى الصلاة بأجزائها وشرائطها ، فالأمر النفسي بالغاية هو منشأ عباديّتها.

وفيه : أنّه مبنيّ على مبناه من كون الشرائط داخلة تحت الأمر ، وقد ذكرنا أنّ ذات الشرط غير داخلة وإنّما الداخل تحت الأمر النفسي هو التقيّد ، وكيف يدخل الشرط تحت الأمر مع كونه ليس تحت الاختيار كالوقت والقبلة مثلا؟ ولو فرض اتّصافها بالوجوب النفسي كالأجزاء لاستحال اتّصافها بالوجوب الغيري كالأجزاء أيضا.

فالصحيح في الجواب أن يقال : إنّ الطهارات الثلاث بما هي عبادة مقدّمة فليست ذاتها هي المقدّمة بخصوصها ، بل هي جزء المقدّمة والجزء الثاني هو التقرّب بها إلى الله تعالى. والوجه في عباديّتها أمران على سبيل منع الخلو : إمّا أمرها النفسي المتعلّق بها وإمّا عنوان مقدّميّتها فإن أتى المكلّف بها بداعي أمرها النفسي الاستحبابي أو بداعي التوصّل بها إلى الأمر النفسي بذيها كان متقرّبا بها ، فإنّها حينئذ منسوبة إليه. وهذا لا يفرق فيه بين القول بوجوب المقدّمة والقول بعدم الوجوب كما هو الحقّ ، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى. وحينئذ فلا يرد إيراد

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٥٥.


الميرزا قدس‌سره (١) من أنّ من أتى بها بداعي الغير من دون التفات إلى الأمر النفسي المتعلّق بها يلزم أن لا يجوز له الدخول في الصلاة ، ووجه عدم الورود أنّ عنوان المقدّميّة إضافته إلى الله ؛ إذ المقصود به التوصّل إلى مطلوبه النفسي.

بقي هنا فرعان :

أحدهما : أنّه يجوز الوضوء قبل دخول وقت الصلاة بداعي أمره النفسي المتعلّق به ، بل وكذا يجوز بداعي التوصّل به إلى إحدى الغايات التي يعتبر الوضوء فيها شرط صحّة أو كمال ، فإن بقي الوضوء إلى ما بعد دخول الوقت فلا خلاف في جواز الدخول في الصلاة بذلك الوضوء.

الثاني : أنّه يجوز الوضوء بعد دخول الوقت لواجب نفسي مشروط به بقصد التوصّل به إلى ذلك الواجب النفسي قطعا ، وهل يجوز الوضوء بقصد أمره النفسي المتعلّق به نفسه؟ ربّما يقال بعدم الجواز ؛ لكون الوقت وقت وجوبه لا استحبابه ، فلو أعرض عن الصلاة فعلا بل قصد الوضوء لمحبوبيّته النفسيّة فليس له أن يصلّي بذلك الوضوء.

وفيه : أنّ طلب الاستحباب لم ينعدم وإنّما انعدم الترخيص في الترك وتبدّل بعدم الترخيص فيه ، وحينئذ فالطلب الاستحبابي موجود قطعا فلا مانع من صحّة الوضوء باستحبابه النفسي حينئذ والدخول به في الصلاة.

وما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) من الاندكاك مبنيّ على اشتراك الوجوب والاستحباب في جامع الطلب ، وليس كذلك ، بل الظاهر اختلافهما في الملاك وأنّ الوجوب مغاير للاستحباب بحسب الملاك ، وحينئذ فلا مجال للاندكاك ، نعم يرتفع الترخيص في الترك ويحلّ محلّه المنع من الترك.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٥٧ ـ ٢٥٨.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٥٨.


وينبغي التعرّض لفرع ثالث وهو أنّه لو توضّأ أو اغتسل أو تيمّم بقصد غاية من الغايات كالصلاة مثلا ثمّ بدا له في تركها فهل يجوز له الدخول في مشروط بتلك الطهارة غير ما تطهّر له أم لا؟

ربّما يقال بعدم الجواز بناء على القول بوجوب خصوص المقدّمة الموصلة أو بمحبوبيّة خصوصها ، بدعوى أنّ محبوبيّتها أو وجوبها كان تخيّليا لا واقع له ؛ إذ هما مشروطان بالإيصال ولو بنحو الشرط المتأخّر ولم يتحقّق ، فلا أمر بهما. نعم ، لو قلنا بوجوب مطلق المقدّمة أو محبوبيّتها كانت صحيحة فيجوز الدخول في بقية الغايات الغير المقصودة.

ولكنّه فاسد ، بل التحقيق أنّ المناط في عباديّة كلّ عمل أمران :

أحدهما : قابليته للتقرّب.

الثاني : تحقّق القربة والإضافة له إلى الله تعالى ، وتحقّق إضافة هذا العمل إلى الله محقّقة قطعا.

أمّا القابليّة فهي وإن كانت مفقودة من جهة الأمر الغيري أو المحبوبيّة الغيريّة على القول بخصوص المقدّمة الموصلة إلّا أنّ لها محبوبيّة نفسيّة وهي موجودة قطعا ، وحينئذ فقد تحقّق المناط في العباديّة ، غاية الأمر أنّه قصد الأمر الغيري أو المحبوبيّة الغيريّة وهي مفقودة لكنّه لا يضر ؛ لأنّه من باب الاشتباه في التطبيق.


الكلام هنا في تبعيّة وجوب المقدّمة لذيها

في الإطلاق والاشتراط وعدمها

هل يعتبر في وجوب المقدّمة أكثر من تحقّق ذاتها أم لا يعتبر؟ الأقوال في المقام خمسة :

أحدها : أنّه لا يعتبر في وجوب مقدّمة الواجب المطلق شيء غير تحقّق ذاتها (١).

الثاني : أنّه يعتبر في وجوبها إرادة ذي المقدّمة وهو المنسوب إلى صاحب المعالم (٢).

الثالث : أنّه يعتبر في الواجب منها قصد التوصّل ، سواء أوصلت أم لا ، وهو قول الشيخ الأنصاري على ما في التقريرات (٣). والفرق بينه وبين قول صاحب المعالم أنّ قول صاحب المعالم تقييد الوجوب بإرادة ذي المقدّمة ، وقول الشيخ تقييد الواجب مع إطلاق الوجوب.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٤٢ ـ ١٤٣.

(٢) معالم الدين : ٧١.

(٣) مطارح الأنظار ١ : ٣٥٣ ـ ٣٥٤.


الرابع : أنّه يعتبر في وجوبها الإيصال ، سواء قصد بها التوصّل أم لا ، وهو قول صاحب الفصول (١).

الخامس : هو اعتبار قصد التوصّل والإيصال الخارجي معا ، وهو قول بعض مشايخ استاذنا المحقّقين.

ولا يخفى أنّ هذا المبحث كان الأنسب به تأخيره عن نتيجة المسألة ، وهي القول بالوجوب أو عدمه فيقال : وهذا الوجوب الثابت ثابت لجميع أفراد المقدّمة أم لخصوص الموصلة مثلا ، إلى آخره.

أمّا قول صاحب المعالم قدس‌سره فواضح البطلان ؛ ضرورة أنّه لو لم يرد الواجب فإن كانت المقدّمة واجبة لزم عدم الاشتراط ، وإن لم تكن واجبة فيلزم التفكيك بين وجوبها ووجوب ذيها إن بقي وجوب ذيها ، وإن ارتفع لزم دوران الوجوب له مدار إرادة المكلّف وعدمها وتخرج المقدّمة حينئذ عن كونها مقدّمة واجب.

وبالجملة ، بما أنّ الوجوب للمقدّمة ترشّحي من ذيها فمتى وجب ذو المقدّمة وجبت المقدّمة بنفس الوجوب المطلق كما هو واضح ، ولا يعقل وجوب ذي المقدّمة مطلقا ووجوبها مشروطا.

الكلام في اعتبار قصد التوصّل في الوجوب وعدمه :

ذكر صاحب التقريرات (٢) ونسب إلى الشيخ الأنصاري اعتبار قصد التوصّل في وقوع المقدّمة على صفة الوجوب ، وأنّه استدلّ على وجوب خصوص المقدّمة الموصلة بأنّ قصد عنوان المقدميّة لا بدّ منه في وقوعها على صفة الوجوب ، نظير الامور القصديّة كالتعظيم والتأديب ، وقصد المقدّميّة عند الامتثال هو قصد التوصّل بها. وقد أوضحه بعض المحقّقين قدّس الله أسرارهم (٣) بمقدّمتين بعد اختياره له :

__________________

(١) الفصول : ٨١ و ٨٦.

(٢) مطارح الأنظار ١ : ٣٥٣ ـ ٣٥٥.

(٣) أجود التقريرات ١ : ٣٤٢.


الاولى : أنّ الحيثيّة التعليليّة لحكم العقل حيثيّة تقييديّة له بنحو تكون هي موضوع حكم العقل ، بحيث يكون المعلّل إنّما حكم بهذا الحكم لكونه صغرى من صغريات ذلك الحكم ، فالحكم على العالم بالحدوث إنّما هو لكونه متغيّرا ، ولا فرق في ذلك بين حكم العقل النظري المعبّر عنه في الاصطلاح بما ينبغي أن يعلم ، وهو المنتهى إلى استحالة اجتماع النقيضين ، كأن يقال : لا يجوز اجتماع الأمر والنهي ؛ لكونه اجتماع ضدّين فمعناه : الضدّان لا يجتمعان ، والحكم بعدم اجتماع الأمر والنهي بما أنّهما صغرى لتلك الكبرى الكلّية ، وبين حكم العقل العملي المعبّر عنه بما ينبغي أن يعمل ، وهو المنتهى إلى حسن العدل وقبح الظلم ، كحكم العقل بقبح شرب التتن لكونه ضررا ، فمعناه : قبح الضرر ، وشرب التتن إنّما حكم بقبحه ؛ لكونه صغرى لتلك الكبرى الكلّية.

المقدّمة الثانية : أنّ الذي هو تحت الأمر هو الامور الاختياريّة ، أمّا ما ليس تحت الاختيار فليس يجوز التكليف به ، نعم قد يكون مسقطا للواجب.

وإذا تمّت هاتان المقدّمتان ثبت وجوب خصوص المقدّمة المقصود بها التوصّل. بيان ذلك : أنّ الوجوب توجّه نحو ذات الفعل لكونه مقدّمة ، وبما أنّ المقدميّة الواقعيّة ليست تحت الاختيار فلا بدّ من أن يقصد بها عنوان المقدّميّة ، وهو عبارة عن قصد التوصّل بها في وقوعها على صفة الوجوب.

ولا يخفى أنّ المقدّمة الاولى وإن كانت صحيحة ولكن يرد عليه :

أوّلا : أنّ الكلام ليس في حكم العقل بوجوب المقدّمة ، بل في حكم الشارع بها من الملازمة العقليّة.

وبالجملة ، الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته بحكم العقل وهي غير معلّلة والوجوب معلّل ولكنّه وجوب شرعي ، وليس العلل فيه عللا تقيّدية كحكم العقل ، بل هي علل للمحبوبيّة فافهم. وإطلاق حكم العقل عليه مسامحة باعتبار كون العقل هو الكاشف لحكم الشارع.


(وثانيا : أنّ ما ذكر من المقدّمتين لا يستلزم قصد التوصّل ، وإنّما يستلزم التفات المكلّف إلى المقدّمة وإن أتى بها بقصد آخر ، كأن يلتفت إلى وجوب الصلاة وإلى توقّفها على إزالة نجاسة الثوب مثلا ولكنّه يغسل الثوب بقصد أن يذهب إلى المحلّ الفلاني بثوب طاهر من غير أن يقصد بغسله الصلاة أصلا.

وأمّا المقدّمة الثانية فغير تامّة ؛ لأنّ العجز عن بعض أفراد الماهيّة لا يخرجها عن الوجوب ؛ لأنّ الوجوب منوط بالقدرة على بعض أفراد الماهيّة ، فيتوجّه التكليف بالماهيّة ، فالذات التي يترتّب عليها الواجب مثلا يكون هو الواجب وإن لم يقصد به التوصّل ، فافهم.

واحتمل الميرزا النائيني كون مقصود الشيخ الأنصاري اعتبار قصد التوصّل في الامتثال كما ذكرنا ، واحتمل أيضا أن يكون كلامه مخصوصا بخصوص صورة المزاحمة مع الحرام حيث تكون المقدّمة محرّمة ، فيرتفع التحريم مع أهميّة ذي المقدّمة عن خصوص المقدّمة المقصود بها التوصّل ؛ لتحقّق التزاحم بين الحرام النفسي والواجب الغيري.

والحقّ : أنّ التزاحم إنّما هو بين الواجب النفسي والحرام النفسي ، فإذا كان الأوّل أهمّ قدّم فتجب ذات المقدّمة الموصلة ؛ لأنّها التي يتوقّف وجوده عليها لا ما قصد بها التوصّل وإن لم توصل. نعم يكون معذورا إذا قصد بها ذلك ولم توصل كما صحّ أن يكون متجرّيا لو لم يقصد التوصّل وأوصلت اتّفاقا) (١).

في ثمرة القول باعتبار قصد التوصّل :

وقد ذكر صاحب التقريرات (٢) في المقام ثمرات :

الاولى : إنها لا تقع على وجه الصحّة إذا لم يقصد بها التوصّل إلى ذي المقدّمة ، فمن وجب عليه الصلاة إلى أربع جهات إذا صلّى إلى جهة بانيا على الاكتفاء بها يلزم

__________________

(١) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٢) مطارح الأنظار ١ : ٣٥٤.


أن لا تقع صحيحة ؛ لعدم قصد التوصّل بها ، بخلاف ما لو لم يعتبر قصد التوصّل في وجوب المقدّمة فإنّها تقع حينئذ إذا صادفت الواقع واجبة وصحيحة.

أقول : لا يخفى أنّ الكلام في المقدّمة الوجوديّة لا العلميّة ، فلا ربط لهذه الثمرة بأصل المبحث.

الثمرة الثانية : ما ذكره في التقريرات أيضا إنّه على القول بالمقدّمة المقصود بها التوصّل لو توضأ بقصد غاية ليس له أن يفعل بذلك الوضوء غاية اخرى ؛ لعدم قصد التوصّل بالوضوء إليه. ثمّ أعرض عن هذه الثمرة بأنّ الوضوء متى صحّ ، صحّ أن تقع به جميع الغايات ؛ لكونه حقيقة واحدة ، ولكنّها تتمّ في الغسل ؛ فإنّ الغسل ماهيّات عديدة فلو قصد مثلا بغسله الصوم فليس له أن يصلّي بذلك الغسل على القول باعتبار قصد التوصّل ، وله أن يصلّي على القول بعدم الاعتبار.

ولا يخفى أنّ هذا الكلام من الغرابة بمكان ؛ فإنّ اختلاف ماهيّات الأغسال ليس من حيث غاياتها وإنّما هي من حيث أنفسها ، فغسل الجنابة غير غسل الحيض وهما غير غسل النفاس ، فلو قصد أحدها لا يتحقّق الثاني ، لا بالإضافة إلى الغايات فإنّ الغسل من حيث الغايات كالوضوء فافهم فهذه الثمرة كسابقتها ، ومن هنا احتمل الميرزا النائيني قدس‌سره (١) أنّ هذه الثمرات من المقرّر وهو غير بعيد.

الثمرة الثالثة : ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) فيما لو كانت المقدّمة محرّمة وذو المقدّمة أهمّ ملاكا من مفسدة الحرام ، كما لو توسّط الأرض المغصوبة غير قاصد للتوصّل إلى إنقاذ المؤمن الغريق ، فعلى القول بوجوب مطلق المقدّمة ليس عليه غير التجرّي على ترك الإنقاذ ، وعلى القول بوجوب خصوص ما قصد به التوصّل يستحقّ العقاب بدخول ملك الغير بغير إذنه ، وبغير إذن الشارع أيضا لعدم كونه

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٤٠.

(٢) كفاية الاصول : ١٤٣ ـ ١٤٤.


واجبا حينئذ لعدم قصد التوصّل به ، ولا ريب في استغراب كون الدخول في ملك الغير مباحا مع عدم قصد الإنقاذ وكونه مخالفا لمقتضى الوجدان ، وهذا هو الذي دعا صاحب الفصول (١) إلى اعتبار الإيصال في وجوب المقدّمة وادّعى عليه الضرورة ، كما ادّعى الشيخ الأنصاري إلى اعتبار قصد التوصّل ولا ريب أنّ قصد التوصّل معتبر في الثواب لا في الوجوب ، والمعتبر في وقوع المقدّمة على صفة الوجوب إنّما هو الوصول الخارجي كما اعتبره صاحب الفصول قدس‌سره وادّعى عليه الضرورة فإنّ الظاهر أنّ الحقّ معه وأنّ المقدّمة إنّما تقع على صفة الوجوب حيث يترتّب عليها ذو المقدّمة.

في اعتبار الوصول في وجوب المقدّمة وعدمه :

وقد ذهب صاحب الفصول قدس‌سره إلى أنّ المقدّمة إنّما تتّصف بالوجوب إذا ترتّب عليها ذو المقدّمة ، والظاهر صحّة مدّعاه ، ولنذكر مثالا تمهيدا للخوض في كلامه وما اورد عليه من الإيرادات : مثلا من سقط إحدى محارمه في البحر وكان نجاتها موقوفا على مسّ الأجنبيّ لجسمها أو لشعرها ، فهل تراه يرضى أن يمسّها الأجنبيّ مسّا لا يخرجها به متعمّدا بل يمسّها لأمر آخر ، بدعوى : أنّ المسّ مقدّمة لواجب أهمّ فقد ارتفع تحريمه الشرعي ، فهو جائز فيمسّها ولا يخرجها؟ كلّا ، بل لا يرضى بذلك ويبغضه أشدّ البغض. وكذا الرجل يعطي لولده الدراهم ليشتري القرطاس والقلم ليكتب ، فهو يشتري القرطاس والقلم ثمّ يرميهما في البحر ، فهل ترى أنّ الأب يرضى بهذا الشراء ويشتاق إليه؟ كلّا ثمّ كلّا ، وأمثلة ذلك كثيرة جدّا لمن تأمّلها.

فالإنصاف أنّ الحقّ مع صاحب الفصول حيث ادّعى بداهة اعتبار الإيصال الحقيقي في وقوعها على صفة الوجوب لو تأمّل المتأمّل.

__________________

(١) الفصول : ٨٦.


ثمّ إنّ صاحب الفصول (١) بعد أن ادّعى ضرورة وجوب خصوص الموصلة من المقدّمات وبداهة ذلك ، وأنّ العقل الحاكم بالملازمة لا يدلّ عليه زائدا على القدر المذكور استدلّ بدليل ملخّصه : جواز منع الشارع عن غير الموصلة عقلا مع استحالة منعه عن الموصلة بخصوصها أو مطلق المقدّمة عقلا (*).

وقد أجاب صاحب الكفاية (٢) عن هذا الدليل بأمرين :

أحدهما : أنّ اختصاص الوجوب بخصوص الموصلة حينئذ للنهي عن غيرها لا يقضي بكون الملازمة خاصّة بها ؛ فإنّ الأمر بالطبيعة إنّما ينصرف إلى ما لا مانع فيه ، والمنهيّ عنه مقرون بالمانع ، فلا يدلّ على اختصاص الملازمة بخصوص الموصلة.

الثاني : أنّه يؤدّي إلى جواز ترك الواجب ؛ لاختصاص جواز مقدّمته لو كانت محرّمة بصورة الإتيان به ، فقبل الإتيان به لا جواز فلا وجوب لها حينئذ فيتركها ، وبتركها يترك الواجب لكونه محال والتكليف بالمحال محال على الله تعالى.

والجواب عمّا ذكره صاحب الكفاية من الإيرادين :

أمّا عن الأوّل فبأنّ الكلام إن كان في توجّه الأمر نحو طبيعة ذات أفراد بعضها منهيّ عنه فلا ريب في اختصاص الأمر حينئذ بما لا نهي فيه ، أمّا الفرد الواحد من المقدّمة إذا كان محرّما وذا حالين فإمكان توجّه النهي نحوه في حال منهما كاف في وقوعه ؛ إذ النهي مطلق وإنّما يقيّد حيث يستحيل بقاؤه مطلقا ، فإمكان توجّه النهي نحوه كاف في وقوعه ، كالترتّب ، فافهم.

__________________

(١) الفصول : ٨٦.

(*) قد أفاد في دورته اللاحقة أنّ هذا الإيراد أورده السيّد اليزدي على الآخوند في مجلس وسلّم الآخوند هناك ، ثمّ أجاب عنه في مجلس الدرس وأنّ إيراد صاحب الفصول جواز التصريح بإيجاب خصوص الموصلة وعدم وجوب غيرها.

(٢) كفاية الاصول : ١٤٨ ـ ١٥٠.


وثانيا : أنّ الكلام في صحّة نهي المولى عن بعض المقدّمات ؛ إذ لو كانت الملازمة ثابتة بين الجميع لكان نهي المولى محالا عقلا ، فصحّة نهيه دليل عدم ثبوت الملازمة على الإطلاق ، وهذا المقدار كاف لصاحب الفصول في إثبات دعواه ؛ ولذا لا يجوز النهي عن خصوص الموصلة أو مطلق المقدّمة ، فهو دليل الملازمة ولو في الجملة كما في الثاني.

وأمّا الثاني فينبغي أن يعدّ من كبوة الجواد ؛ ضرورة أنّ صاحب الفصول لم يعتبر الإيصال قيدا في الوجوب وإنّما اعتبره قيدا للواجب كما نقله عنه هو قدس‌سره ، وأنّ الإيصال قيد لوقوعها على صفة الوجوب ، وحينئذ فالجواز للمقدّمة المحرّمة موقوف على الوجوب وهو متحقّق وإن كان الإيصال شرطا للواجب ولوقوعه على صفة الوجوب ، نعم لو كان الإيصال شرطا للوجوب تمّ ذلك الإيراد وليس كذلك.

أدلّة القائلين بوجوب مطلق المقدّمة :

ثمّ إنّه قد استدلّ جماعة على وجوب مطلق المقدّمة لا خصوص الموصلة واستحالة التخصيص بها. ولنبدأ بكلام صاحب الكفاية قدس‌سره (١) وقد استدلّ بامور :

الأوّل : أنّ إيجاب المولى للمقدّمة ، لا بدّ أن يكون لغرض ، ولا غرض إلّا حصول ما لولاه لما أمكن حصول ذي المقدّمة ، وإذا كان الغرض هو الإمكان لذي المقدّمة فهو مترتّب على مطلق المقدّمة ، ومع عموم الملاك لا وجه لاختصاص الوجوب بخصوص الموصل.

والجواب : أنّ المقدّمة هي ما لولاها لما أمكن ذو المقدّمة ، فكيف تكون الغاية من إيجابها حصول ما لولاه لما أمكن ذو المقدّمة؟ وهل يكون معناه إلّا أنّ الغرض من إيجاب المقدّمة هو وجود المقدّمة؟

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٤٥.


ثمّ لو قلنا بأنّ مراده أنّ الغرض هو إمكان ذي المقدّمة وإن قصرت عبارته عنه ، ففيه : أنّ ذا المقدّمة قبل مقدّمته أيضا ممكن بسبب القدرة على نفس المقدّمة ، فذو المقدّمة أيضا مقدور بالقدرة على مقدّمته ، وإلّا فلو لم يكن مقدورا كيف يجب لتجب مقدّمته؟ وحينئذ فإمكان التوصّل ليس مما يترتّب على المقدّمة أصلا. وحينئذ فالغرض من إيجاب المقدّمة هو التوصّل إلى ذي المقدّمة كما ذكره صاحب الفصول قدس‌سره.

وقول صاحب الكفاية : إنّ الوصول ليس بأثر تمام المقدّمات فضلا عن خصوص إحداها ، يندفع بأنّ الوجوب الغيري وجوب واحد متوجّه إلى مجموع المقدّمات ومنبسط عليها كما أفاده بعض المحقّقين (١) ـ قدس‌سرهم ـ وهذا المحقّق وإن زعم أن لا غرض في مقدّمة كلّ واجب إلّا التوصّل بها إلى ذي المقدّمة ، ولا نوافقه على ذلك ، بل ترتّب ذي المقدّمة هو الغرض الأقصى ، وهناك أغراض تترتّب على نفس المقدّمات ، وقد عبّرنا عنه بسدّ باب العدم من تلك الجهة ، إلّا أنّا نوافقه في كون الوجوب الغيري واحدا ، وحينئذ فالوجوب واحد منبسط على جميع المقدّمات ، فإن أتى بجميع المقدّمات حصل امتثاله وإن أتى ببعضها كان امتثاله مراعى بإتيان الباقي من المقدّمات ، فإن أتى بها سقط أمرها وإلّا فلا ، فإذا كان وقوعها على صفة الوجوب مشروطا بالإيصال بنحو الشرط المتأخّر كان سقوط أمرها الغيري منوطا بحصولها بشروطها.

الثاني ممّا ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) : أنّه إن أتى بمقدّمة من مقدّمات الواجب ولم يأت بالواجب بعد ، فإن سقط أمرها ثبت المطلوب وهو أنّ مطلق المقدّمة واجب ؛ ضرورة أنّ سقوط الأمر كاشف عن حصول الغرض الذي من أجله

__________________

(١) انظر نهاية الأفكار ١ ـ ٢ : ٣٤١.

(٢) كفاية الاصول : ١٤٦.


وجبت المقدّمة ؛ إذ سقوط الوجوب إمّا بالعصيان أو ارتفاع موضوع التكليف أو الامتثال ، وليس في المقام إلّا الأخير ، وإن لم يسقط الأمر فيلزم الإتيان بهذه المقدّمة ثانيا لبقاء أمرها ولا يلتزم به.

والجواب أوّلا : بالنقض بأنّ المكلّف لو كبّر في الصلاة التي هي واجب نفسي فإمّا أن يسقط أمره لحصول الغرض أو يكبّر ثانيا لبقاء الأمر ، فما هو الجواب هنا هو الجواب في الواجب الغيري إن شاء الله تعالى.

وثانيا : بالحلّ بما ذكرناه قبل أسطر من كون الأمر الواحد المنبسط إنّما يمتثل بإتيان متعلّقه ، ومتعلّقه جميع أجزاء ذلك المركّب ، فإذا أتى بها فحينئذ يسقط أمرها ، وإذا كان الواجب المركّب مشروطا فلا بدّ في وقوعه على صفة الوجوب من حصوله بشرطه كما هو واضح. وحينئذ فالتكليف بالصلاة من هذا القبيل ؛ فإنّ الأمر بالصلاة أمر بجميع أجزائها من تكبير وقراءة وغيرها إلّا أنّ وقوعها على صفة الوجوب مشروط بإتمامها وهو على صفة التكليف ، فلو خرج عن صفة التكليف كشف عن عدم وقوعها على صفة التكليف من أوّل الأمر ، وكذلك المقام الأمر الغيري إنّما يتوجّه إلى جميع المقدّمات ، ووقوعها على صفة الوجوب مشروط بالإيصال ، وحينئذ فلا يسقط الأمر بصرف حصول أوّل مقدّمة من مقدّماته ولا بجميعها وإنّما يسقط بحصولها بشرطها الذي اعتبر فيها في وقوعها على صفة الوجوب كما هو واضح لا يخفى فافهم.

الثالث من الوجوه التي استدلّوا بها على عموم الوجوب لمطلق المقدّمة وعدم اختصاصه بخصوص الموصلة ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (١) وهو : أنّ اختصاص الوجوب بخصوص المقدّمة الموصلة مستلزم للدور. وقد قرّب بتقريبين :

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٤٥.


أحدهما : ما استفاده استاذنا الخوئي ـ مد ظلّه ـ منه وهو الدور من ناحية الوجوب ، وملخّصه : أنّه لو اختصّ الوجوب بخصوص الموصلة للزم أن يكون قيد الإيصال شرطا للواجب ، والإيصال عنوان ينتزع من ترتّب ذي المقدّمة على المقدّمة ، وحينئذ فمنشأ الانتزاع يلزم أن يكون واجبا بوجوب المقدّمة ، فيكون ذو المقدّمة واجبا بوجوب مترشّح من المقدّمة ، وقد فرضنا أنّ وجوبها مترشّح منه فيلزم تقدّم وجوب كلّ منهما على الآخر ، فينتج تقدّم الشيء على نفسه وهو الدور.

والجواب عن هذا التقرير هو : أنّ الوجوب الذي ترشّح منه الوجوب الغيري للمقدّمة هو الوجوب النفسي ، والذي يترشّح من المقدّمة إليه هو الوجوب الغيري فلا دور ؛ إذ الموقوف عليه وجوب المقدّمة هو الوجوب النفسي وما ينشأ من المقدّمة هو الوجوب الغيري فلا دور. نعم يلزم أن يكون الواجب النفسي مجمعا لوجوبين :

أحدهما نفسي والآخر غيري وهذا لا بأس به ؛ إذ يتأكّد الوجوب على المشهور وملاكه على رأينا.

التقرير الثاني من تقريري الدور ما قرّره بعض المقرّرين لبحث الميرزا النائيني قدس‌سره (١) وهو الدور من ناحية المقدّمية. وملخّصه : أنّ الوجوب لو اختصّ بالمقدّمة الموصلة للزم كون ذي المقدّمة مقدّمة للمقدّمة وهو باطل ؛ إذ كونه ذا المقدّمة يقتضي تقدّمه على المقدّمة رتبة ، وكونه مقدّمة يقتضي تأخّره رتبة.

والجواب : أنّ الإيصال ليس قيدا للمقدّمة وإنّما هو قيد لوقوعها على صفة الوجوب ، فليس ذا المقدّمة قيدا للمقدّمة ومقدّمة له ، بل إنّ كلّ فرد من الموصل وغيره مقدّمة ولكنّ صاحب الفصول يدّعي أنّ الواجب حصّة خاصّة من المقدّمة ، وهي خصوص الموصلة ، فليس مقدّميّتها موقوفة كما ذكر ، بل قيد الإيصال شرط لوقوعها على صفة الوجوب ، فافهم.

__________________

(١) فوائد الاصول ١ ـ ٢ : ٢٩٠.


والظاهر أنّ بيان الدور بما ذكر أوّلا أولى ويدفع بما ذكرنا من أنّه يلزم اجتماع المثلين وليس بضائر كما مرّ.

ولا يخفى أنّ ما ذكرناه من الجواب تنزّلي ، والحقّ أنّه ليس أصل الدور بوارد ؛ إذ الإيصال ليس قيدا لا للوجوب ولا للواجب وإنّما ذكر مشيرا إلى الواجب وإنّ المقدّمة الواجبة هي المقدّمة الملازمة في الوجود لذي المقدّمة ، والتعبير بالإيصال إنّما هو مشير إليها ، وإلّا فليس الإيصال قيدا أصلا ، بل المراد أنّ العلّة التامّة له هي الواجبة ، وحينئذ فالوجوب الغيري وجوب واحد مترشّح من ذي المقدّمة على جميع ما له دخل في وجود الواجب من المقدّمات الوجوديّة ، لا أنّ كلّ مقدّمة لها أمر غيري مستقلّ ، بل الأمر الغيري واحد ليس إلّا منبسط على جميع المقدّمات التوأمة بحسب الوجود مع ذي المقدّمة.

وبهذا البيان اندفع ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (١) ثانيا من أنّ ذات المقدّمة المقيّدة بقيد الإيصال بما أنّها جزء المقدّمة واجبة أم لا؟ لا سبيل إلى الثاني فلا بدّ من كونها واجبة ، وحينئذ فهي واجبة ، فإن كانت واجبة بغير قصد الإيصال إلى جزئها الآخر فليلتزم في مجموع المقدّمة بذلك ، وإن اعتبر فيها قيد الإيصال إلى جزئها فينتقل الكلام إلى الذات ويلزم التسلسل الباطل.

ووجه دفعه ظاهر ممّا قرّرنا ؛ فإنّ الإيصال ليس قيدا وإنّما هو معرّف ومشير إلى المقصود ، والظاهر أنّ مراد صاحب الفصول هو هذا أيضا ، فلذا ادّعى الضرورة ، بداهة أنّ ما لا يترتّب عليه الواجب لما ذا يطلبه وأيّ غرض يتعلّق له به حتّى يوجبه المولى ويبعث نحوه؟ فالإنصاف أنّا لو قلنا بوجوب مقدّمة الواجب لخصّصناه بما يكون توأما في الوجود مع ذي المقدّمة ؛ لأنّه الذي يتعلّق به غرض المولى دون غيره ، فافهم.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٤٦.


تحرير الكلام في ما اختاره صاحب هداية المسترشدين :

بقي الكلام فيما اختاره صاحب الحاشية (١) وقوّاه الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) فإنّهما بعد أن حكما باستحالة القول بوجوب خصوص المقدّمة الموصلة للزوم الدور أو التسلسل كما تقدّم اختارا نتيجة كلام صاحب الفصول ، غير أنّه بتقريب آخر وهو موقوف على مقدّمتين :

إحداهما : أنّ استحالة تقييد وجوب المقدّمة بالموصلة يستدعي استحالة الإطلاق ؛ لأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة الذي يعتبر فيه قابليّة المحلّ لكلّ من الأمرين لا تقابل الإيجاب والسلب ، وحينئذ فلا بدّ من كون الحكم بوجوب المقدّمة مهملا.

الثانية : أنّ الغرض من إيجاب المقدّمة لمّا كان هو الوصول إلى ذي المقدّمة فلو كانت المقدّمة محرّمة فإنّما يرتفع تحريمها حيث يترتّب ذلك الغرض ، أمّا حيث لا يترتّب الغرض فلا يرتفع التحريم لعدم المقتضي له ، فهما في النتيجة وافقا صاحب الفصول من أنّ التحريم إنّما يرتفع حيث توصل المقدّمة ، إلّا أنّ صاحب الفصول ادّعى اختصاص الوجوب بها وهؤلاء ادّعوا أنّ الوجوب متّجه نحو المقدّمة المهملة ولكن ارتفاع التحريم إنّما يكون تابعا للغرض ، فيختصّ الوجوب به من جهة الغرض ، فحكموا بوجوب خصوص الموصلة من باب الترتّب.

وتقريب الترتّب كان بنحوين :

أحدهما : ما ذكره صاحب الحاشية (٣) من جعل الحرمة مترتّبة على عدم تحقّق الوجوب المقدّمي ، فحكم بكون المقدّمة واجبة حيث توصل وإلّا فهي محرّمة ، فحكم

__________________

(١) هداية المسترشدين ٢ : ١٧٧.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٣٤٨ ـ ٣٥١.

(٣) هداية المسترشدين ٢ : ١٧٨ ، وانظر الصفحة : ٢٢٨ أيضا.


بوجوب ترك الصلاة مقدّمة للإزالة ، أمّا إذا لم يترك الصلاة مقدّمة للإزالة فترك الصلاة حينئذ يكون محرّما ، فالحرمة مترتّبة على عدم الوجوب المقدّمي.

ولا يخفى أنّا وإن كان الترتّب عندنا ممكنا واقعا إلّا أنّه لا بدّ أن يكون في متعلّقين لا في متعلّق واحد ، فإنّ المقام من قبيل الثاني ؛ إذ ترك الصلاة متعلّق واحد للحرمة على تقدير عدم الإيصال ، والوجوب على تقدير الإيصال ، وهذا لا يمكن تحقّق الترتّب فيه للزوم اللغوية ؛ إذ لا معنى لقوله : وإن عصيت أمر المقدّمة فالمقدّمة محرّمة ؛ لأنّها تؤول إلى أنّه إن لم تأت بالمقدّمة فلا تأت بالمقدّمة وهو طلب الحاصل كما يأتي في محلّه إن شاء الله تعالى.

ومن هنا عدل الميرزا النائيني قدس‌سره (١) فجعل المترتّب عليه ترك الواجب النفسي لا الغيري ، وهذا هو التقريب الثاني وملخّصه : أنّ المقدّمة إذا أوصلت تكون واجبة وإذا لم يؤت بالواجب النفسي تكون الحرمة حينئذ مترتّبة ، فالحرمة مترتّبة على عصيان الأمر بالواجب النفسي فالترتّب بين متعلّقين لا واحد كما في التقريب الأوّل.

ولا يخفى عدم تماميّة المقدّمة الاولى ؛ إذ قد تقدّم في مبحث التوصّلي والتعبّدي استحالة الإهمال في الواقعيّات بل في كلّ حكم بالإضافة إلى حاكمه ، فكلّ حاكم لا بدّ أن يكون عالما بموضوع حكمه واقعا ، نعم في مرحلة الإثبات يمكن الإهمال ، ومرّ أيضا أنّ استحالة التقييد بخصوص الموصلة يوجب ضرورية الإطلاق أو التقييد بغير الموصلة ، وحيث إنّ تقييد الوجوب بخصوص غير الموصلة محال فلا بدّ من القول بوجوب مطلق المقدّمة كما مرّ ، وإنّ ما ذكره من كون تقابل العدم والملكة لازمه أنّ استحالة أحدهما تستدعي استحالة الآخر غير صحيح ، بل قد يستدعي ضروريّة الآخر كما في العلم والجهل ؛ فإنّ علمنا بذات الحقّ محال فجهلنا ضروري

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٥٢ ـ ٣٥٣ و ٢ : ١٠٧.


قطعا لا محال ، وكذا جهل الله بشيء محال فعلمه به ضروري ، وفقره إلى شيء محال فغناه عنه ضروري قطعا ، ولو كان استحالة أحد المتقابلين بتقابل العدم والملكة يستدعي استحالة الآخر لاستدعى استحالة العلم والغنى في ذات الله عزوجل ، وتعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

على أنّ جميع ما ذكرناه إنّما كان من باب المماشاة وإلّا فالإطلاق والتقييد في الواقعيّات التقابل بينهما تقابل الإيجاب والسلب ؛ إذ الإطلاق في الواقع بمعنى لحاظ رفض القيود فهو من تقابل الضدّين ، نعم الإطلاق والتقييد في مقام الإثبات تقابلهما تقابل العدم والملكة ؛ إذ لو لم يمكنه التقييد كيف يمكن التمسّك بالإطلاق الذي هو عدم لحاظ القيد؟

هذا ما كان من أمر المقدّمة الاولى ، وأمّا المقدّمة الثانية وهي كون الغرض من المقدّمة هو الوصول إلى ذي المقدّمة فمتينة لا مجال فيها للمناقشة إلّا أنّ النتيجة غير تامّة ؛ إذ الترتّب وإن بنينا على إمكانه ووقوعه إلّا أنّه في المقام ممنوع.

أمّا ترتّب الحرمة للمقدّمة على عصيان أمرها فغير خفي ما فيه من لزوم اللغوية كما مرّ.

وأمّا ما ذكره الميرزا من ترتّب الحرمة للمقدّمة على عصيان أمر ذي المقدّمة فلا ريب أن الحرمة المترتّبة حرمة فعليّة إلّا أنّها مشروطة بالعصيان وهو أمر متأخّر ، والميرزا قدس‌سره بان على استحالة الشرط المتأخّر (١) وأمّا على ما اخترناه من إمكان الاشتراط بالشرط المتأخّر ففي المقام لا يجوز ؛ لخصوصيّة فيه وهي أنّه إذا كان التحريم مشروطا بالعصيان فلا بدّ من كون جواز المقدّمة المحرّمة أو وجوبها مشروطا بالإطاعة ، وحينئذ فإذا كان مشروطا بالإباحة توجّه إيراد صاحب الكفاية قدس‌سره من توقّف وجوب ذي المقدّمة على الإتيان به ؛ إذ وجوب ذي المقدّمة

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ١ : ٢١٤ ، ٣٥٢ و ٢ : ١١٠ ـ ١١٢.


موقوف على الإتيان بمقدّمته وهو موقوف على جوازها وجوازها موقوف على الإتيان بها ، ولا يرتفع هذا الإيراد بما دفعناه به عن صاحب الفصول قدس‌سره من كون الإيصال قيدا للواجب ، ضرورة كون الإتيان بذي المقدّمة قيدا للوجوب.

بقي شيء وهو : أنّ الثمرة وهو ارتفاع الحرمة من المقدّمة المحرّمة عند إيصالها لا يفرق فيه بين القول بوجوب خصوص المقدّمة الموصلة وبين القول بإنكار الوجوب في كلّيّ المقدّمة ؛ إذ على القول بعدم الوجوب يتزاحم حرمة المقدّمة مع وجوب ذي المقدّمة ، حيث يستحيل بلوغهما مرتبة الفعلية معا ، فلا بدّ من سقوط أحدهما في هذا الحال ، وحيث إنّ الإنقاذ أهمّ فيتقدّم فتكون الحرمة حينئذ ساقطة أيضا.

هذا تمام الكلام في هذا المقام ، وقد ظهر أنّ المقدّمة على تقدير القول بوجوبها فهو في خصوص المقدّمة الملازمة مع ذي المقدّمة وجودا من دون أن تؤخذ الملازمة قيدا بل عنوانا مشيرا إلى تلك الحصّة الخاصّة من المقدّمة.

تنبيه : [ثمرة القول بوجوب المقدّمة الموصلة]

قد ذكرنا أنّ الواجب من المقدّمة ـ على تقدير القول بوجوب المقدّمة ـ هو خصوص المقدّمة التوأمة مع ذي المقدّمة في الوجود ، وهي المقدّمة الموصلة بجعل الإيصال عنوانا مشيرا إليها لا قيدا في الوجوب. وذكرنا أنّ ثمرة هذا القول هو ارتفاع تحريم المقدّمة حيث تكون محرّمة في خصوص صورة الإيصال ، وفي غيرها لا يرتفع تحريمها ؛ لعدم الوجوب. وهذه ثمرة مهمّة واضحة.

وقد ذكر صاحب الفصول (١) ثمرة اخرى وهي صحّة ضدّ الواجب لو كان عبادة بيان ذلك : أنّا لو أمرنا الشارع مثلا بإزالة النجاسة عن المسجد وكان من مقدّماته ترك الصلاة ؛ لأنّ ترك الضدّ مقدّمة لفعل ضدّه كان ترك الصلاة واجبا ، فكان فعلها

__________________

(١) الفصول الغروية : ٩٧ ـ ٩٨.


محرّما فتكون فاسدة بناء على القول بوجوب مطلق المقدّمة. وأمّا بناء على ما ذكره صاحب الفصول فالواجب خصوص ترك الصلاة الموصل إلى الإزالة ، أمّا الترك الغير الموصل فليس واجبا ، وإذا كان الواجب هو الترك الموصل فالمحرّم ترك الترك الموصل ، وفعل الصلاة من مقارناته ولا يسري حكم الشيء إلى ما يلازمه فضلا عمّا يقارنه أحيانا.

وقد أشكل عليه الشيخ الأنصاري قدس‌سره على ما في التقريرات (١) بأنّ الصلاة الواقعة ضدّا للأمر بالإزالة باطلة على جميع التقادير ، أمّا على القول بوجوب مطلق المقدّمة فواضح. وأمّا على القول بوجوب خصوص الموصلة فلأنّ عدم المقدّمة الموصلة الذي هو نقيض للواجب عنوان ينطبق على فردين ، أحدهما : مطلق عدم المقدّمة ، والثاني : عدم المقدّمة المقيّدة بقيد الإيصال يعني عدم الإيصال ، وإن وجدت المقدّمة المجرّدة عن قيد الإيصال ، وحينئذ فالصلاة من أفراد النقيض للواجب فتكون محرّمة ، والنهي في العبادات موجب لفسادها.

وقد أجاب صاحب الكفاية (٢) عن إيراد الشيخ الأنصاري قدس‌سره بأنّ النقيض ليس إلّا المعاند بحسب الوجود ، ومادّته وهي النقض مشعرة بذلك ؛ إذ هو حلّ الأمر المبرم ، فالوجود ناقض للعدم بمعنى [أنّه] رافع له ، وحينئذ فالنقيض ما لا يجتمع مع النقيض الآخر بحسب الوجود وإلّا فلا يتحقّق التناقض بين الشيئين ، وحينئذ فالفعل للصلاة على القول بوجوب مطلق المقدّمة محرّم ؛ لكونه عين نقيض ترك الصلاة الواجب مقدّمة ، ولكنّه على القول بالمقدّمة الموصلة فليس إلّا مقارنا فلا يكون محرّما.

أقول : إنّ هذه الثمرة غير تامّة ؛ لأنّها مبنيّة على مقدّمات كلّها فاسدة ؛ إذ هي مبنيّة على القول بوجوب المقدّمة ولا نقول بها كما سيأتي ، ومبنيّة على القول بأنّ ترك

__________________

(١) مطارح الأنظار ١ : ٣٧٨ ـ ٣٧٩.

(٢) كفاية الاصول : ١٥١.


الضدّ مقدّمة لفعل ضدّه ولا نقول به أيضا كما سيأتي. ولو سلّمنا هاتين المقدّمتين فقلنا بوجوب المقدّمة وقلنا بأنّ ترك الضدّ مقدّمة لوجود ضدّه إلّا أنّ النهي الناشئ من الأمر الغيري المتوجّه إلى نقيض المقدّمة أيضا غيري وسيأتي أنّه لا يدلّ على الفساد ؛ إذ الدالّ على الفساد إنّما هو النهي الناشئ عن مفسدة في الفعل وليس النهي التبعي كاشفا وسيأتي الكلام فيه.

في الأصلي والتبعي :

قد ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره (١) امورا في مقدّمات بحث المقدّمة ؛ ذكر في الأوّل منها ما هو المهمّ في بحث المقدّمة وهو الملازمة. وذكر في الثاني أقسام المقدّمة. وفي الثالث أقسام الواجب. وفي الرابع تبعيّة الوجوب في المقدّمة إطلاقا واشتراطا لذي المقدّمة. ثمّ ذكر في هذا الأمر انقسام الواجب إلى الأصليّ والتبعيّ وكان ينبغي ذكره في الأمر الثالث الذي عقد لأقسام الواجب ، ونحن تبعا له نتعرّض لهما في المقام.

فنقول : الأصالة والتبعيّة إن فسّرا بالمقصود بالدلالة وعدمه كان التقسيم فيهما تابعا لمقام الدلالة والإثبات ، فكان الانقسام بلحاظهما ، ولا ريب في انقسام النفسي والغيري إليهما كما هو واضح.

وإن فسّرا بالمقصود بالإرادة وعدمه كان التقسيم تابعا لمقام الواقع والثبوت ، ولا ريب في انقسام الغيري إليهما. أمّا النفسي فقد ذكر صاحب الكفاية (٢) اختصاصه بالأصالة ؛ إذ وجوبه لا بدّ من أن يكون لمصلحة فيه ، ومعها لا يكون إلّا مقصودا بالإرادة ، والظاهر إمكان التبعي فيه ، كما إذا رأى المولى الجاهل لا الحكيم شخصا

__________________

(١) راجع للأوّل الكفاية : ١١٤ ، وللثاني : ١١٦ ، وللثالث : ١٢١ ، وللرابع : ١٤٢ ، ولتقسيم الواجب إلى الأصلي والتبعي : ١٥٢.

(٢) الكفاية : ١٥٢.


يغرق في البحر فلا إرادة له إلى إنقاذه ؛ لجهله بكونه ابنه ولكن إرادته لإنقاذه الإجماليّة الارتكازيّة موجودة ، وحيث لا يعلم به تفصيلا فهو غير أصلي ؛ إذ لم يقصد بالإرادة.

وإن فسّرا بما امر به لمصلحة في نفسه وما امر به لمصلحة في غيره فهو النفسي والغيري عينا إلّا أنّه سابقا بحث عنه بملاك كون وجوبه ترشّحيّا أو استقلاليّا وهنا بملاك المصلحة.

ثمّ لا يخفى أنّ تقسيم الواجب إلى الأصليّ والتبعيّ بالمعنى الأوّل والثاني لا ثمرة فيه ، وبالمعنى الثالث له ثمرة في مقام الشكّ وغيرها إلّا أنّ البحث في النفسيّ والغيريّ مغن عنها هنا ، ولعلّه لذلك لم يتعرّض لها الميرزا النائيني قدس‌سره.

بقي الكلام في أمرين ، أحدهما : ثمرة البحث في وجوب المقدّمة. الثاني : الخوض في وجوب المقدّمة وعدمها.

في ثمرة البحث في وجوب المقدّمة :

أمّا الكلام في تحقّق الثمرة وعدمها ، الظاهر أنّا لو قلنا بوجوب المقدّمة فلا ثمرة لذلك أصلا ؛ إذ الوجوب العقلي التكويني كاف عن الشرعيّ. وقد ذكروا للوجوب ثمرات كلّها مخدوشة :

فمنها : ما ذكره صاحب الكفاية (١) وهو : أنّه لو قلنا بوجوب المقدّمة فعند وجوب ذي المقدّمة تضمّ صغرى وهي : هذه مقدّمة فيستنتج وجوبها الشرعي ، بخلاف ما لو لم نقل بالوجوب فلا يستنتج الحكم الشرعي بالوجوب.

ولا يخفى أنّ ما ذكره وإن كان صحيحا إلّا أنّه أيّ فائدة تترتّب على العلم بوجوب المقدّمة شرعا وعدمه بعد أن كانت لا بدّ منها تكوينا.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٥٣ ـ ١٥٤.


ومنها : ما لو توقّف الواجب على ترك عبادة كما لو توقّف الإزالة على ترك الصلاة بناء على أنّ ترك الضدّ مقدّمة لفعل ضدّه فتكون تلك العبادة فاسدة ؛ إذ النهي عنها مقتض لفسادها.

وقد قدّمنا أنّ ترك الضد ليس مقدّمة وأنّ الأمر التبعيّ لا ينشأ منه إلّا نهي تبعيّ وهو لا يقتضي الفساد.

ومنها : أنّه لو كانت المقدّمة واجبة شرعا لصحّ التقرّب بها ، بخلاف ما لو لم تكن واجبة بالوجوب الشرعي فإنّه لا يصحّ التقرّب بها.

والجواب : أنّ المقدّمة وإن لم تكن مأمورا بها شرعا [لكن] إذا جيء بها مسندة إلى المولى كانت مقرّبة ؛ إذ القربة عبارة عن الإسناد إلى الله لأمر قابل للإسناد ، وبما أنّ الشروع في المقدّمة شروع في ذي المقدّمة فهو قابل ، امر به شرعا أم لم يؤمر به شرعا.

ومنها : برء النذر فيما لو نذر إعطاء درهم لمن أتى بواجب شرعيّ فيما لو أعطاه للآتي بالمقدّمة على القول بوجوبها ، وعدم البرء على القول بعدم وجوبها.

والجواب أوّلا : أنّا ذكرنا أنّ الواجب هو المقدّمة التوأمة مع حصول ذي المقدّمة بعدها ، ومع حصول ذي المقدّمة يبرئ بإعطائه الدرهم على كلّ تقدير ، نعم لو نذر إعطاء درهم لمن أتى بواجبين شرعيّين تظهر الثمرة.

وثانيا : أنّ النذر يتبع قصد الناذر فإن قصد الأعمّ من النفسيّ وما هو مثل المقدّمة برء أيضا وإن لم يكن واجبا شرعا ، وإن قصد خصوص النفسيّ ـ كما هو المنصرف منه ـ لا يبرئ بالغيريّ وإن قيل بوجوبه. نعم لو قصد الإعطاء لمن أتى بواجب شرعي واقعا تظهر الثمرة.

وثالثا : أنّ ثمرة المسألة الاصولية هي استنباط الأحكام الشرعيّة لا تطبيق الكلّيات على الجزئيّات ، وكون هذا برءا أم لا من قبيل الثاني كما هو واضح ، فافهم.


ومنها : أنّه لو قلنا بوجوب المقدّمة اتّصف بالفسق تارك الواجب ذي المقدّمات العديدة ؛ لصدق الإصرار على الصغائر ، دون ما إذا لم نقل بوجوب المقدّمات.

وقد أجاب في الكفاية (١) عن هذه الثمرة بأنّ المكلّف بترك أوّل مقدّمة يسقط وجوب الواجب فيسقط وجوب بقيّة المقدّمات ، فلا يكون تركها حينئذ معصية ، فلا يكون حينئذ إصرار على الصغائر ، فلا يتّصف بالفسق على كلا التقديرين.

ولا يخفى أنّ الإصرار على الصغائر إن كان عبارة عن ارتكاب معاص متعاقبة كان جوابه متينا ، وأمّا إذا كان عبارة عن ارتكاب الصغائر المتعدّدة ولو دفعة فيمكن أن يقال بحصول الإصرار ؛ لأنّ امتناع الواجب حينئذ امتناع بالاختيار وهو لا ينافي الاختيار عقابا وإن نافاه خطابا ، فهو بتركه المقدّمة الاولى قد ترك الواجب بجميع مقدّماته فتترتّب حينئذ الثمرة.

فالصحيح في الجواب عن هذه الثمرة أن يقال : إنّ ترك الأمر الغيري لا يوجب معصية ؛ لأنّها من توابع القرب والبعد ، وليس في الأمر الغيريّ بما هو غيريّ قرب ولا بتركه بعد ؛ إذ هما من لوازم الأمر النفسيّ ، وحينئذ فهو لم يعص إلّا معصية واحدة بترك الواجب النفسي بالاختيار.

ومنها : أنّه لو قلنا بوجوب المقدّمة لم يصحّ أخذ الاجرة عليها ، بخلاف ما لو لم نقل بالوجوب فإنّه يجوز أخذ الاجرة عليها.

وقد أجاب الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) عن هذا الإيراد بأنّ الوجوب لا ينافي جواز أخذ الاجرة على الواجب ؛ وذلك أنّ الواجب تارة : يكون هو المعنى المصدري وهو بذل العمل والمال مع بقاء ماليّتهما ، كالبذل للطعام في المخمصة ، فإنّ صاحبه يجب أن يبذله لكن لا يجب كون البذل مجّانيا ، وكذا الخياطة والحياكة والبناء فإنّه يجب كفاية بذلها لكن لا يجب بذلها مجّانا ، ومثل هذا لا مانع من أخذ الاجرة عليه.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٥٤.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٣٥٧.


واخرى : يكون الواجب هو الاسم المصدري الموجب لكون العمل مملوكا لله تعالى ، فإن كان عينيّا كالصلاة والصوم لم يجز أخذ الاجرة عليه. وإن كان كفائيّا غير قابل للنيابة فيه بأن اعتبرت فيه المباشرة فكذلك. وإن كان قابلا للنيابة كما في الجهاد لمريد الحجّ جاز أخذ الاجرة عليه. والمقدّمات في جميع ذلك تتبع ذا المقدّمة ، فإن جاز أخذ الاجرة في نفس ذي المقدّمة جاز فيها وإلّا فلا ، قلنا بالوجوب الشرعي فيها أم لم نقل.

ولا يخفى أنّ ما ذكره الميرزا قدس‌سره من تفرقته بين المصدر واسم المصدر ممّا تعطي التباين بينهما وليس كذلك ، بل هو أمر وحدانيّ ، وإنّما الفرق بينهما أنّه إن لوحظ المعنى الحدثي ماهيّة من ماهيّات العالم فهو اسم مصدر ، وإن لوحظ منتسبا فهو المصدر ، فالفرق بينهما اعتباري محض ليس إلّا وليس بينهما تباين أصلا ، والمطلوب في المقامين واحد وهو صدور الفعل من المكلّف في الخارج.

وأيضا زعمه تبع المقدّمة لذيها في جواز أخذ الاجرة وعدمها مما لم يعلم وجهه ؛ إذ لو فرض قيام الدليل على عدم جواز أخذ الاجرة على واجب كالصلاة فلا يلازمه عدم جواز أخذ الاجرة على مقدّماتها ، فلا بدّ من دليل يدلّ على ذلك.

فالصحيح في الجواب أن يقال : إنّ منافاة الوجوب لأخذ الاجرة إن كان من جهة منافاة الاجرة لقصد القربة والإخلاص فليس المانع فيه هو الوجوب ؛ إذ ذلك يأتي في المستحبّات أيضا وسيأتي الكلام فيه. وإن كان من جهة كونه مملوكا لله فالمملوكيّة بمعناها عندنا في إيجار الإنسان نفسه لعمل من الأعمال لم تثبت لله من الأدلّة ، وبمعنى الإحاطة فهو مالك لجميع ما في السماوات والأرض ، وبهذا المعنى لا تنافي أخذ الاجرة. فالصحيح أنّ مقتضى القاعدة جواز أخذ الاجرة على الواجبات إلّا أن يدلّ دليل على العدم كما ورد في الصلاة والصوم وما شاكلها. وحينئذ فلا ثمرة بين القول بوجوب المقدّمة وعدمه في جواز أخذ الاجرة ؛ إذ في الواجبات النفسيّة يجوز أخذها ما لم يدلّ دليل على العدم فكيف بالواجبات الغيريّة ، فافهم.


وحيث انتهى الكلام إلى هنا فلا بأس بالتعرّض إلى أنّ جهة العباديّة منافية لأخذ الاجرة أم لا؟ فنقول : إنّ المكلّف كزيد إذا آجر نفسه للصلاة عن عمرو سنة بخمس دنانير مثلا ، فبما أنّ الإجارة من العقود المملّكة فقد ملك بالعقد الاجرة كما ملك المستأجر بالعقد أيضا العمل عليه ، فإذا سلّمه الاجرة فهو يتصرّف بها تصرّف المالك في ملكه شرعا ، وحينئذ فأيّ شيء يدعوه إلى الإتيان بالصلاة؟ ومعلوم أنّه لا يدعوه إلّا أمر الشارع بالوفاء بالعقد ؛ إذ قد ملك الدراهم وتصرّف بها حسب الفرض فليس له داع إلى العمل حينئذ إلّا الخوف من الله أن يخالف الأمر بالوفاء بالعقد فلا يدعوه إلّا أمر الله. هذا إن كان الأجير ثقة ـ كما هو الغالب ـ فيأتي بالعمل فيما بينه وبين نفسه من غير اطّلاع المستأجر على ذلك ، وأمّا إذا كان غير ثقة فاستأجره للصلاة مثلا بحضوره فلأيّ داع ينوي الصلاة عن من استؤجر عنه ؛ إذ قد لا ينوي أو ينوي الصلاة عن نفسه أو أبيه ، فلا يدعوه إلى العمل الصحيح إلّا الخوف من عذاب الله عزوجل.

وكذا الجعالة فإنّها وإن كانت توجب الملكية بعد العمل إلّا أنّه لو كان داعيه أخذ المال لم يكن موجب لإتيان العمل صحيحا ؛ إذ المال يسلّم إليه بدعواه العمل أو بصدور صورة العمل منه. فالداعي إلى إتيان العمل حقيقة أمر الشارع بالوفاء ، وهو وإن كان توصّليّا إلّا أنّه إذا تعلّق بتعبّديّ يكون تعبّديا. هذا مختصر الكلام في عدم منافاة أخذ الاجرة لجهة العباديّة ويأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.

ومن جملة الثمرات ما ذكره بعضهم (١) من أنّه إذا قلنا بوجوب المقدّمة ففيما لو كانت محرّمة تكون مبنيّة على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه في الصحّة وعدمها ، فتكون صحيحة على القول بجواز الاجتماع وعلى القول بعدم الجواز تكون فاسدة ،

__________________

(١) وهو المنسوب إلى الوحيد البهبهاني ، انظر القوانين ١ : ١٠١ ، ومطارح الأنظار ١ : ٣٩٦ ، وبدائع الأفكار : ٣٤٦.


بخلاف ما لو لم نقل بالوجوب للمقدّمة فإنّها تكون فاسدة فيكون الواجب النفسيّ المتوقّف عليها فاسدا أيضا.

أقول : لا يخفى أنّه لا بدّ أن يكون مراد من ذكرها : ثمرة المقدّمة العباديّة كالوضوء والغسل والتيمّم ؛ إذ المقدّمة التوصّليّة لا يكون الواجب النفسي فاسدا لو أتى بها محرّمة.

وقد أجاب صاحب الكفاية (١) عنه بأنّ الواجب ليس هو عنوان المقدّميّة ، وسيأتي أنّ باب اجتماع الأمر والنهي لا بدّ فيه من عنوانين تقييديّين ، وعنوان المقدّمة عنوان تعليلي ، فليس هذا من باب الاجتماع أصلا بل هو من باب النهي عن العبادة وهو مقتض للفساد مطلقا ، قلنا بوجوب المقدّمة أم لم نقل.

ولا يخفى ما في هذا الجواب كما ذكره النائيني قدس‌سره (٢) فانّ المستدلّ لم يرد أنّ عنوان المقدّميّة عنوان تقييدي ليرد عليه ما ذكر ، بل مراده ما إذا وجب ذلك العمل بعنوان من العناوين وكان محرّما بعنوان آخر ، كما في الوضوء في الماء المغصوب أو في آنية الذهب ، فهو بعنوان الوضوء واجب وبعنوان الغصب حرام ، وحينئذ فعلى القول بالوجوب للمقدّمة وجواز الاجتماع فالعمل صحيح ، وعلى القول بالامتناع أو عدم وجوب المقدّمة فهو فاسد ، وحينئذ فالثمرة تامّة.

وقد أجاب الميرزا النائيني قدس‌سره (٣) عنها تبعا للآخوند في كفايته بأنّ المقدّمة إمّا منحصرة أو غير منحصرة ، فإن كانت منحصرة فلا بدّ للشارع من رفع اليد عن تحريمها أو عن وجوب الواجب النفسي ؛ ضرورة أنّ بقاءهما تكليف بما لا يطاق فيقدّم ما هو أهمّ منهما. وإن كانت غير منحصرة فالوجوب ينصرف إلى المباح ، وحينئذ فالمحرّم غير مأمور به فأين اجتماع الأمر والنهي؟

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٥٥.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٣٦٠.

(٣) أجود التقريرات ١ : ٣٥٨.


أقول : لا يخفى أنّه في صورة عدم الانحصار ـ لأيّ علة ـ يختصّ الوجوب بغير الحرام مع اشتراك الحرام وغيره بالوفاء بالغرض ؛ إذ على القول بجواز الاجتماع لا مانع ؛ إذ القيدان انضماميّان لا اتّحاديّان فهما طبيعتان منضمّتان انضمّت إحداهما إلى الاخرى ، نعم على القول بالامتناع فالطبيعتان متّحدتان ، وحينئذ فالثمرة بحالها ، وحينئذ فالمحرّم داخل في أفراد المأمور به على القول بجواز الاجتماع وتترتّب الثمرة ، فافهم.

وقد اختصّ الميرزا النائيني قدس‌سره بجواب لدفع هذه الثمرة وهو أنّها إنّما تتمّ لو اعتبرنا في صحّة العبادة قصد الأمر ، أمّا لو اكتفينا بقصد الملاك في صحّة العمل لم تظهر ثمرة أصلا ؛ لأنّها حينئذ تصحّ على الامتناع أيضا بقصد الملاك ؛ إذ سقوط الأمر لا يوجب انتفاء الملاك فلا ثمرة أيضا ؛ إذ العبادة صحيحة على القول بالجواز والامتناع.

وفيه أوّلا : أنّا قد ذكرنا فيما تقدّم أنّه بأيّ طريق احرز الملاك في المقام؟

وثانيا : أنّ الملاك على تقدير تحقّقه واكتشافه إنّما يجدي في صحّة العمل حيث لا يكون العمل مبغوضا ومزاحما بملاك أقوى وهو في المقام كذلك ؛ إذ على الامتناع يكون مبغوضا ؛ للنهي عنه الكاشف عن الملاك في الترك ، فلم يتمّ هذا الجواب أيضا.

فالصحيح في الجواب عن هذه الثمرة أن يقال : إنّ المقدّمة التي هي عبادة منحصرة في الطهارات الثلاث ، فإن قلنا بأنّها ذوات أوامر نفسيّة مع قطع النظر عن الأمر الغيري ، فسواء قلنا بوجوب المقدّمة أم لم نقل فالطهارات صحيحة لو قصد أمرها النفسي الاستحبابي على القول بالجواز ؛ إذ لا يفرّق القائل بجواز الاجتماع بين أن يكون المجامع للنهي الأمر الوجوبي أم الاستحبابي ، فصحّتها على القول بالجواز غير مبنيّة على القول بوجوب المقدّمة بل وإن لم نقل بوجوبها ؛ إذ الأمر الاستحبابي كاف في الصحّة ، وإن لم نقل بالأمر الاستحبابي لها فقد ذكرنا أنّه لا يعتبر في كون الفعل مقرّبا أزيد من أن يفعل مضافا إلى الله ومسندا إليه ، كان به أمر أم لا.


وحينئذ فعلى القول بجواز الاجتماع يصحّ العمل ؛ إذ ليس لفظ اجتماع الأمر والنهي بخصوص أمر ونهي محلّا للكلام ، بل المراد به المقرّب المنهيّ عنه يصحّ أم لا ، فبناء على الجواز وكون التركيب انضماميّا لا اتّحاديّا وأنّهما شيئان لا واحد فتكون المقدّمة إذا اتي بها مضافة إلى المولى ومسندة إليه مقرّبة فتصحّ حينئذ ويصحّ العمل المشروط بها ، سواء قلنا بوجوب المقدّمة أم لم نقل بوجوبها وحينئذ فلا ثمرة للقول بوجوب المقدّمة في شيء أصلا.

ومنها : أي ومن جملة [الثمرات] ما ذكره بعضهم (١) من أنّه إذا أمر زيد عمرا بعمل له مقدّمات ، فعمل عمرو وبعض المقدّمات ثمّ لم يأت بذي المقدّمة اختيارا أو لعجزه عنه ، فإن قلنا بأنّ الأمر بالشيء أمر بمقدّماته كان على زيد أن يسلّم لعمرو واجرة مثل هذه المقدّمات التي عملها ، وإن لم نقل بأنّ الأمر بالشيء أمر بمقدّماته لا يستحقّ عمرو اجرة مثل عمله ؛ لأنّه لم يأمره بالمقدّمات ؛ إذ الأمر بالشيء ليس أمرا بمقدّماته. فهذه ثمرة هذا البحث.

والجواب أوّلا : أنّ هذه الثمرة إنّما تتمّ لو قلنا بوجوب مطلق المقدّمة كما ذهب إليه صاحب الكفاية قدس‌سره ، وأمّا إذا قلنا بوجوب خصوص الموصلة فلا يستحقّ اجرة المثل على كلا التقديرين.

وثانيا : أنّ لزوم الاجرة على زيد لو أمر عمرا بعمل ليس مدلول رواية أو آية ليتمسّك بإطلاقها وإنّما هو بالسيرة العقلائيّة مع إمضاء الشارع لذلك ، وحينئذ فإن اقتضت السيرة لزوم الاجرة على المقدّمات لزمت زيدا الاجرة ، قلنا بوجوب المقدّمة أم لم نقل ؛ إذ دليل لزوم الاجرة هو السيرة ، وإن لم تقتض السيرة لزوم الاجرة لم تلزم ، قلنا بوجوب المقدّمة أم لم نقل. وحينئذ فلا ثمرة لبحث وجوب المقدّمة أصلا.

__________________

(١) لم نعثر عليها بعينها.


ويقع الكلام الآن تبعا للأساطين في وجوب المقدّمة وعدم وجوبها. وقبل الخوض في ذلك لا بدّ من تأسيس الأصل فنقول :

في تأسيس الأصل في المقام :

بمعنى أنّه لو [لم] تتمّ أدلّة الطرفين فما هو مقتضى الأصل في ذلك؟ فنقول : أمّا الملازمة فليست محلّا لجريان الاصول ؛ إذ الملازمة على تقديرها ـ كعدمها على تقدير العدم ـ أزليّة ليست مسبوقة بالعدم.

وأمّا الوجوب فجريان البراءة العقليّة منه بمعنى قبح العقاب بلا بيان فليس له مجال ؛ إذ قد ذكرنا أنّه لا عقاب على ترك المقدّمة حتّى بناء على وجوبها شرعا.

وأمّا البراءة الشرعيّة واستصحاب العدم الثابت قبل وجوب ذي المقدّمة فقد اشكل عليهما بأنّ الوجوب على الملازمة من قبيل لوازم الماهيّة غير مجعول وليس له أثر مجعول فلا تجري الاصول فيه ؛ ضرورة لزوم كون موردها قابلا للجعل وللرفع والوضع ، ولوازم الماهيّة غير قابلة [للجعل]. وقد أجاب في الكفاية (١) بأنّها مجعولة بالتبع وهو كاف في جريان الاصول.

والظاهر أنّ الإيراد غير تامّ كجوابه ؛ وذلك لأنّ لوازم الماهيّة لا ربط لها بالمقام ، فإنّ الكلام في وجوب شرعي جعلي مولوي مترشّح من وجوب ذي المقدّمة ، فهما وجوبان مستقلّان غير أنّ أحدهما علّة للآخر فأين هذا من لوازم الماهيّة وأيّ ربط لها به؟ ومن هذا يظهر النظر في جواب الآخوند من قابليّتها للجعل التبعي ، فإنّ المقدّمة قابلة للجعل الاستقلالي.

وقد اشكل ثانيا بأنّ النزاع في إمكان الانفكاك بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها إثباتا إنّما يتمّ بعد إحراز إمكان الانفكاك في مقام الثبوت ، وعلى الملازمة لا

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٥٦.


يمكن الانفكاك ، فكيف يمكن التفكيك؟ ضرورة أنّ الاصول إنّما تجري في محلّ قابل للرفع والوضع ، والوجوب على تقدير الملازمة غير قابل للرفع والوضع أصلا ، ومن المحتمل تحقّق الملازمة.

والجواب : أنّ هذا الإشكال نظير الإشكال المذكور في جريان الأصل في حجّيّة الظنّ وعدمها من أنّ إجراء الأصل إنّما هو بعد إحراز الإمكان ، فمع احتمال استحالة جعل حجّيّة الظنّ ثبوتا ـ لما ذكره ابن قبة من لزوم تحريم الحلال وتحليل الحرام ـ لا يمكن جريان الأصل للنفي إثباتا.

والجواب قد ذكرناه في مباحث حجّيّة الظنّ وملخّصه : أنّ بناء العقلاء مستقرّ على العمل بالظواهر مع احتمال استحالة الجعل ، نعم لو تحقّق محاليّة الجعل لا يعملون بالظواهر ، فمع احتمال استحالة الجعل يرون تارك العمل بالظاهر متمرّدا على مولاه ، وفي المقام أيضا كذلك يعملون بالأصل من براءة أو استصحاب وإن احتملوا استحالة الجعل ولا يتوقّفون حتّى يحرز إمكان الجعل بل يعملون ما لم تحرز الاستحالة.

بقي هنا شيء وهو : أنّ المدّعي للملازمة بين الوجوبين إن ادّعاها بين الوجوبين الواقعيّين فلا كلام لنا معه ، وإن ادّعاه بين الوجوبين في جميع مراتبهما حتّى في الظاهر فالأصل ينفي قوله ؛ ضرورة تحقّق الوجوب الظاهري بالإضافة إلى ذي المقدّمة وعدم تحقّقه بالنسبة إلى نفس المقدّمة ظاهرا بمقتضى الأصل ، فيكفي الأصل في بطلان قوله.

الإيراد الثالث ـ وهو أهمّ الإيرادات ـ : أنّ الاصول الشرعيّة إنّما تجعل حيث يكون لجعلها أثر يترتّب عليه وينتفي لو لا ذلك الجعل ، والمفروض في المقام أن لا ثمرة ولا أثر يترتّب لو نفي الوجوب بحيث لو لا النفي لكان مترتّبا كلّيّة ، بل القول بالوجوب والقول بعدمه سيّان من حيث الآثار. وبهذا الإيراد الثالث نمنع من جريان الأصل في المقام لو شككنا في الوجوب وعدمه.


هذا تمام الكلام في تأسيس الأصل وقد ظهر أن لا أصل في المسألة الاصولية وهي الملازمة ؛ لأزليّتها ، ولا في المسألة الفرعيّة وهي الوجوب ؛ لعدم الأثر لذلك.

الكلام في أصل الوجوب وعدمه :

إنّ أهمّ الأدلّة المذكورة لوجوب المقدّمة هو دعوى قضاء الوجدان بأنّ من أراد شيئا تكوينا أراد مقدّماته أيضا ، والإرادة التشريعيّة كالتكوينيّة غير أنّ متعلّقها فعل الغير وتلك متعلّقها فعل النفس.

والجواب : أنّه إن اريد من الإرادة في قولكم : من أراد شيئا أراد مقدّمته الشوق ، فلو سلّمنا أنّه كما ذكروا لكنّه صفة من صفات النفس والوجوب فعل من أفعالها كما مرّ ، فهو أجنبيّ عنه. وإن أراد إنشاء الوجوب فنحن نرى بالوجدان أنّ الإنسان قد يأمر بالشيء ولا يأمر بمقدّمته ، فلا ملازمة في مقام الإنشاء أيضا.

وبالجملة ، الوجوب هو عبارة عن اعتبار شيء في ذمّة المكلّف واعتباره مدينا به كما يعتبره مدينا بالمال ، ولا نرى ملازمة بين اعتبار شيء في ذمّة المكلّف واعتبار مقدّمته. مضافا إلى أنّ هذا الاعتبار لو صدر منه فهو من اللغو المحض ؛ ضرورة كون العقل مستقلّا بلزوم الإتيان به مقدّمة للإطاعة اللازمة بحكمه ، فلا يجدي هذا الاعتبار شيئا أصلا ؛ إذ لزوم الإتيان بالمقدّمة لا بدّ منه عقلا فلا يكون لاعتبار الشارع أثر أصلا.

ودعوى كون الوجوب قهريّا ومثله لا تضرّ فيه اللغوية مدفوعة بأنّ الوجوب كما ذكرنا اعتبار شيء في ذمّة المكلّف وهو فعل اختياري. نعم لو كان الوجوب هو الشوق كان قهريا. على أنّا نمنع تحقّق الملازمة حتّى في الشوق ؛ إذ قد لا يكون له غرض إلّا في خصوص ذي المقدّمة ، بحيث لو فرض إمكان حصوله بدون مقدّمته لكان تمام المطلوب بلا قصور أصلا ، فتأمّل.


ومن هنا ظهر أنّ قياس الإرادة التشريعيّة بالإرادة التكوينيّة قياس مع الفارق ؛ إذ الإرادة التكوينيّة تتعلّق بفعل الإنسان نفسه والشوق إلى ذي المقدّمة شوق إلى المقدّمة في فعله نفسه إلّا أنّ الإرادة التشريعيّة بما أنّ متعلّقها فعل الغير فلا ملازمة بين اعتبار ذي المقدّمة في ذمّة المكلّف واعتبار المقدّمة نفسها في ذمّته أيضا.

الدليل الثاني لوجوب المقدّمة : ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (١) من أنّ الأوامر الغيريّة بالمقدّمات موجودة في الشرعيّات والعرفيّات ، ولا وجه للأمر الغيري بالمقدّمات إلّا جهة التوقّف والمقدّميّة ، وهذا يقتضي وجوب الجميع ؛ لاتّحاد الملاك.

والجواب : أنّ هذا الدليل متين لو أثبت تحقّق أمر غيري بمقدّمة من المقدّمات ولو واحدا ؛ فإنّ الأوامر الموجودة بالمقدّمات إمّا أن تكون إرشادا إلى الشرطيّة كما في : اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه ، وكما في قوله : لا صلاة إلّا إلى القبلة وأشباهها ؛ فإنّ مثل هذه إرشاديّة إلى الشرطيّة. وإمّا أن تكون تأكيدا للأمر الأوّل النفسي ، كما إذا أمر المولى عبده بشراء اللحم فتوانى العبد ولم يسارع في الشراء يقول له : البس ملابسك واذهب إلى السوق ، فإنّ الأمر هنا بهذه المقدّمات تأكيد للأمر الأوّل ليس إلّا ، فليس مورد من الموارد قد ورد أمر غيريّ بمقدّمة واحدة من مقدّمات الواجب ، ولو وجد لكفى في إثبات وجوب المقدّمة ، فافهم وتأمّل.

الدليل الثالث : ما ذكره أبو الحسين البصري (٢) وأظنّه أقدم الأدلّة وهو : أنّه لو لم تجب المقدّمة لجاز تركها ، وحينئذ فإن بقى الواجب على وجوبه لزم تكليف ما لا يطاق وإلّا خرج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٥٧.

(٢) المعتمد في اصول الفقه ١ : ٩٤ ـ ٩٥.


والجواب عنه : كما في الكفاية (١) من أنّ ما اضيف إليه الظرف إن كان جواز الترك فلا يلزم التكليف بما لا يطاق ؛ لأنّ فعل المقدّمة جائز أيضا والعقل يدرك لزوم الإتيان به ليتحقّق امتثال ذي المقدّمة. نعم لو حرّم الشارع فعلها لزم التكليف بما لا يطاق ، وكذا إذا رخّص فعلا في تركها ولكن المفروض أنّه لم يمنع عن تركها لا أنّه حكم بجواز الترك. وإن اريد ممّا اضيف إليه الظرف الترك نفسه فالواجب وإن صار ممتنعا إلّا أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، ولما ذا ترك المقدّمة باختياره حتّى يصير ذو المقدّمة غير مقدور له؟ وحينئذ فيعاقب على ترك ذي المقدّمة ؛ لأنّ امتناعه كان باختيار من المكلّف وهو لا ينافي الاختيار عقابا.

وبالجملة فقد ظهر عدم تحقّق وجوب المقدّمة وأنّه يصير لغوا لا يترتّب عليه أثر أصلا.

بقي الكلام في بعض التفاصيل في المقام. وهنا تفصيلان :

التفصيل بين السبب وغيره :

أحدهما ما في الكفاية (٢) من أنّ المقدّمة السببيّة واجبة دون غيرها من الشرط والمعدّ لأنّ المسبّب لا يتوجّه إليه التكليف ؛ لضروريّته بعد الإتيان سببه فلا بدّ من صرف الأمر المتوجّه إلى المسبّب إلى سببه.

والجواب : كما في الكفاية (٣) من أنّ الكلام في الوجوب الغيري والأمر المتوجّه إلى المسبّب الذي لا بدّ من توجيهه إلى السبب كما يقول هو الأمر النفسي. وثانيا أنّ المسبّب لا مانع من توجّه الأمر نحوه ؛ لأنّ المقدور بالواسطة مقدور.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٥٧ ـ ١٥٨.

(٢) كفاية الاصول : ١٥٨.

(٣) كفاية الاصول : ٥٨.


الثاني : ما ذكره بعضهم (١) من أنّ المقدّمة السببيّة ليست بواجبة ؛ لأنّها قبل الإتيان بها لا أمر بالمسبّب ؛ لكونه ممتنعا فمن أين يجيء الأمر الغيري ويترشّح إليها؟ وبعد الإتيان بالمقدّمة المسبّب ضروري ، فلا معنى للأمر به حينئذ ، فالمقدّمة الغير السببيّة هي الواجبة.

والجواب : أنّ ما ذكره من كون المسبّب ممتنعا قبل سببه فليس كذلك ؛ لأنّه مقدور بالواسطة ، وهذا كاف في توجّه الأمر نحوه ، وكونه ضروريّا أيضا باختياره ؛ لأنّ المكلّف أتى بسببه فصار ضروريا ، فوجوبه وامتناعه بالاختيار وهو لا ينافي القدرة والاختيار ، فلا فرق بينهما أي بين المقدّمة السببية وغيرها. نعم قد تطلق السببيّة على القيام للتعظيم مثلا فيقال : إنّ القيام سبب للتعظيم ولكنّه خارج عن محلّ الكلام ؛ إذ ليس هنا شيئان أحدهما سبب والآخر مسبّب ليقع الكلام في أنّ المقدّمة واجبة أم لا ، والتعبير بالسببيّة فيه مسامحة ، فلعلّ إنّ مراد من نفى الوجوب عن السبب أراد هذا ، فتأمّل.

التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره :

فصّل بعضهم (٢) بين الشرط الشرعي وغيره فحكم بالوجوب في الشرط الشرعي ؛ لأنّ شرطيّته منتزعة من الأمر به ، وحكم بعدم الوجوب في غير الشرط الشرعي ؛ لعدم الأمر به شرعا.

والجواب : كما في الكفاية (٣) من أنّ الشرطيّة منتزعة من الأمر النفسي بالمقيّد كانتزاع الجزئيّة من الأمر النفسي في المركّب ، والكلام في توجّه الأمر الغيري

__________________

(١) لم نعثر على القائل ونقله في أجود التقريرات ١ : ٣١٨ بلفظ : ومنهم من ذهب.

(٢) فصّله ابن الحاجب والعضدي ، راجع المختصر وشرحه : ٩٠ ـ ٩١.

(٣) كفاية الاصول : ١٥٩.


نحو ذات الشرط. وبالجملة فالأمر النفسي تعلّق بتقييد العمل بالطهارة مثلا ، فنفس الطهارة صارت مقدّمة بسبب الشارع ، فيكون حكمها من ناحية الأمر الغيري حكم غيرها من المقدّمات التكوينيّة غير أنّها مقدّمة جعلها الشارع مقدّمة.

وبالجملة ، فقد ظهر أنّ الشرط الشرعي وغيره سواء من ناحية الأمر الغيري ، والظاهر عدم الوجوب للمقدّمة على الإطلاق ، وعلى تقدير القول بالوجوب فهو في خصوص المقدّمة التوأمة مع الإيصال كما تقدّم ، فافهم.

واعلم أنّ الكلام في مقدّمة المستحبّ هو الكلام في مقدّمة الواجب نفيا وإثباتا وتفصيلا فلا نعيد الكلام فيه.

في مقدّمة الحرام :

والكلام في حرمتها قد يكون من جهة الحرمة النفسيّة وقد يكون من جهة الحرمة الغيريّة ، ونحن نتكلّم في هذا المقام عن كلّ منهما فنقول : إنّ مقدّمة الحرام قد تكون بنحو يكون صدق المقدّمة وذي المقدّمة عليها بلحاظ عنوانين ، بأحدهما تكون مقدّمة وبالآخر يكون ذا المقدّمة وإلّا فليس في الوجود إلّا شيء واحد ، نظير هتك زيد بالجلوس عند دخوله وعدم القيام لاحترامه ، فهذا الجلوس بعنوانه الأوّلي مقدّمة وبعنوانه الثانوي وهو هتك زيد هو ذو المقدّمة ، ومثل هذا يكون محرّما بالحرمة النفسيّة الأوّليّة وهو خارج عن محلّ الكلام في مقدّمة الحرام ؛ إذ الكلام في مقدّمة الحرام التي يكون لها وجود خارجا غير وجود ذي المقدّمة وهي على أقسام :

[القسم] الأوّل : ما يكون الحرام بعده ضروريّ الوجود إمّا لكونها علّته التامّة أو لكونها جزءا من أجزاء العلّة إلّا أنّ بقيّة أجزاء العلّة توجد أيضا قطعا. مثال الأوّل : الذبح وإزهاق الروح ، فإنّ الذبح مقدّمة لكنّها علّة تامّة للذبح. ومثال الثاني من دخل دارا يعلم أنّه يجبر فيها على شرب الخمر. وهذان وإن كانا نوعين إلّا


أنّهما في عدم التخلّف متّفقان ، ولا ريب أنّ المقدّمة فيهما لا تتّصف بالحرمة النفسية زائدا على حرمة ذي المقدّمة ، فلا يعاقب بعقابين : أحدهما للمقدّمة والآخر لذي المقدّمة ؛ لعدم المقتضي لذلك ، بل في المقام حرمة نفسيّة واحدة إلّا أنّ الكلام أنّها على المقدّمة أو على ذي المقدّمة؟

ذهب الميرزا النائيني قدس‌سره (١) إلى أنّها ـ أي المعاقبة ـ على المقدّمة ؛ لعدم القدرة على ذي المقدّمة قبلها ، وبعدها يكون ضروريا فالتحريم والعقاب عليها لا على ذي المقدّمة.

والجواب : أنّ المقدور بالواسطة مقدور كما التزم به في الوجوب في المقدّمة السببيّة فالظاهر أنّ التحريم لذي المقدّمة والعقاب عليه وتبقى المقدّمة ، فعلى القول بوجوب المقدّمة للواجب تكون محرّمة شرعا وعلى القول بعدم الوجوب لا تكون محرّمة شرعا ؛ لأنّ حكم العقل بلزوم تركها كاف في لزوم الاجتناب ويكون منع الشارع لغوا لا فائدة فيه أصلا.

القسم الثاني : ما لا يكون الحرام بعده ضروريّ الوجود بل يتوسّط اختيار العبد بينه وبين الحرام ويأتي به المكلّف لا بقصد التوصّل إلى الحرام ، وهذا جائز بضرورة الشرع ؛ ضرورة أنّ الخروج من الدار لكلّ أحد مقدّمة لقتل الأنفس المحترمة الكائنة خارج الدار ومقدّمة لشرب الخمر خارج الدار ولغير ذلك من المحرّمات.

القسم الثالث : هو القسم الثاني إلّا أنّه يفعله المكلّف بقصد التوصّل به إلى الحرام إلّا أنّ اختياره لفعل الحرام بعده موجود بحيث يستطيع أن يفعل الحرام وأن يتركه ، وهذا القسم لا وجه لاتّصافه بالحرمة الغيريّة ؛ لبقاء اختيار المكلّف بعده ، ولا وجه أيضا للاتّصاف بالحرمة النفسيّة إلّا بناء على حرمة نيّة السوء إذا اشتغل بمقدّمات ذلك السوء ، وهذا هو أحد وجوه الجمع بين الأخبار في نيّة السوء. وقد ذكرنا أنّ هذا الوجه غير تامّ وأنّ الحقّ هو الوجه الثاني للجمع بين تلك الأخبار.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ١ : ٣١٩ و ٣٦١.


نعم ، قد يقال بالحرمة لهذه المقدّمة من باب حرمة الإعانة على الإثم بناء على عموم ملاكها لإعانة الإنسان نفسه.

والجواب : أنّا لم نجد دليلا يدلّ على حرمة الإعانة على الإثم والآية المباركة (١) إنّما حرّمت التعاون ، وهو أن يصدر العمل العدواني المحرّم من الجميع لا مثل إعطائه السكين مثلا الذي هو محل الكلام.

وثانيا : أنّ الفقهاء لا يلتزمون بذلك ؛ ولذا لا يلتزمون إلّا بعقاب واحد لفاعل المحرّم وإن كان لذلك المحرّم عشرون مقدّمة.

وثالثا : أنّ عموم ملاكه لإعانة الإنسان نفسه غير ثابتة بل عدمها ثابت ، نعم يعاقب على مثل هذه المقدّمة من جهة التجرّي وهتك حرمة المولى ، فافهم.

هذا تمام الكلام في مبحث المقدّمة ويليه مبحث الضدّ.

__________________

(١) وهي : (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) المائدة : ٢.



مبحث الضدّ

هل الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضدّ العامّ بمعنى الترك أو بمعنى أحد الأضداد الوجوديّة لا على التعيين أو عن الضدّ الخاصّ أو لا يقتضي؟ وعلى تقدير الاقتضاء فهل يقتضيه بنحو العينيّة أو الجزئيّة أو اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ أو الأعمّ؟ وجوه بل أقوال.

وقبل التكلّم في ذلك (ينبغي أن يعلم أنّ المراد من الأمر بالشيء محبوبيّته ومن النهي عن ضدّه مبغوضيّته ، كانت بالأمر أو النهي أو بغيرهما من الأدلّة العقليّة أو اللبيّة.

كما أنّ المسألة اصوليّة ؛ إذ الميزان في كون المسألة اصوليّة ترتّب استنباط حكم شرعي عليها مستقلّة ، وهي وإن كان لو قلنا بالاقتضاء لا يترتّب عليها ثمرة إلّا بضميمة : أنّ النهي هل يقتضي الفساد أم لا ، إلّا أنّا إذا قلنا بعدم الاقتضاء يستنبط بقاء الضدّ على حكمه قبل كونه ضدّا. وحينئذ فالمسألة اصوليّة لتحقّق الميزان المزبور على أحد شقّيها وهو كاف كما مرّ) (١).

ثمّ لا يخفى أنّ المراد من الضدّ ليس الضدّ الاصطلاحي المختصّ بأحد الامور الوجوديّة المعاند لوجوديّ آخر ، بل المراد مطلق معاند الشيء ومزاحمه في نفسه وجوديّا كان أم عدميّا. ويقع الكلام أوّلا في الضدّ العامّ بمعنى الترك ثمّ في غيره.

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.


فنقول : ذهب جماعة (١) إلى أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضدّ العامّ بمعنى الترك مطابقة وآخرون (٢) إلى أنّه يقتضيه بالتضمّن وآخرون (٣) إلى الالتزام البيّن بالمعنى الأخصّ وآخرون (٤) إلى البيّن بالمعنى الأعمّ.

ونحن نقول بأنّ المولى إذا أمر بشيء كالصلاة مثلا فالنهي عن ضدّه بمعنى الترك فالنهي عن تركه ، وإذا كان معنى النهي طلب الترك ومتعلّقه الترك فيكون معنى النهي عن ضدّه طلب ترك تركه ، ومعلوم أنّ الوجود والعدم امور موجودة في دائرة التحقّق قطعا ، فزيد الآن موجود قطعا وقبل ألف عامّ معدوم قطعا ، فالوجود والعدم امور متحقّقة في دائرة التحقّق وكلّ عنوان عداهما من العناوين الانتزاعيّة عنها. وحينئذ فطلب ترك الترك هو نفس الوجوب ، وإذا اضيف إليه لفظ ترك آخر كان عنوانا منطبقا على التحريم وإذا اضيف إليه لفظ ترك آخر كان وجوبا وهكذا ، وحينئذ فإذا كان طلب ترك الترك معناه هو الأمر بالشيء فهل يعقل البحث عن أنّ الأمر بالشيء يقتضي الأمر بالشيء أم لا يقتضي؟ وهل ينبغي أن يجعل هذا محلّا للبحث؟ كلّا ثمّ كلّا ، فالبحث عنه ساقط.

نعم ، لو كان معنى النهي عن الضدّ الزجر عن الضدّ ـ كما هو الحقّ ـ لا طلب الترك كما ادّعاه الآخوند (٥) كان البحث عن الاقتضاء وعدمه متّجها ؛ إذ حينئذ يمكن أن يقال إنّ البعث للشيء يقتضي الزجر عن تركه أم لا ، إلّا أنّ دعوى العينيّة حينئذ ساقطة كدعوى الجزئيّة ؛ ضرورة أنّ البعث والزجر من الصفات المتقابلة فكيف يدّعى اتّحادهما أو جزئيّة أحدهما للآخر وهو واضح؟

__________________

(١) منهم المحقّق الأصفهاني في الفصول : ٩٢.

(٢) منهم صاحب المعالم في المعالم : ٦٣ ـ ٦٤.

(٣) منهم المحقّق النائيني كما في أجود التقريرات ٢ : ٧ و ١٠.

(٤) مثل المحقّق القمي في القوانين ١ : ١١٣.

(٥) كفاية الاصول : ١٨٢.


نعم ، ذهب الميرزا النائيني قدس‌سره (١) إلى أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ بالملازمة وادّعى أنّ النهي من قبيل اللازم البيّن بالمعنى الأخصّ ، بحيث لا ينفكّ تصور الأمر بالشيء عن النهي عن ضدّه العامّ بمعنى الترك وهو غريب منه قدس‌سره ؛ إذ قد لا يتصوّر الآمر بالشيء ضدّه بمعنى تركه كي ينهى عنه ، بل هو قدس‌سره اعترف بذلك في إنكار العينيّة.

وذهب جماعة إلى اللزوم البيّن بالمعنى الأعمّ بمعنى أنّه إذا تصوّر الأمر بالشيء وتصوّر النهي عن ضدّه وتصوّر الملازمة بينهما يجزم بالملازمة. بل ادّعى بعضهم الإجماع على النهي عن الضدّ العامّ بمعنى الترك بأحد هذه الوجوه على سبيل منع الخلوّ ، ولكن دقيق النظر يقتضي خلافه ، وذلك أنّ الأمر بالشيء لا يكون إلّا عن مصلحة فيه ، والنهي عنه لا يكون إلّا عن مفسدة فيه ، وحينئذ فالواجب هو ما كان في فعله المصلحة وليس في تركه مفسدة ، والحرام ما كان في فعله مفسدة وليس في تركه مصلحة ، وحينئذ فإذا أمر بشيء كشف عن مصلحة في متعلّق أمره فبأيّ ملاك ينهى عن تركه؟ وليس في الترك مفسدة قطعا ، ولهذا لا يعاقب التارك لذلك الواجب عقابين. أحدهما لتفويت المصلحة ، والآخر للوقوع في المفسدة ، بل ليس عليه إلّا عقاب واحد. وكذا لو امتثل فليس له إلّا ثواب واحد لا ثوابان : أحدهما لاستيفاء المصلحة ، والآخر لعدم الوقوع في المفسدة. وبالجملة فهذا واضح لمن تأمّل.

وحينئذ فلا يقتضي الأمر بالشيء النهي عن الضدّ العامّ بمعنى الترك كلّية ، بل سيأتي أنّ تحريم الضدّ بهذا المعنى ـ أي بمعنى الترك ـ محال ؛ لأدائه إلى اللغويّة ، مضافا إلى عدم التزامهم بأنّ تارك الواجب مستحقّ لعقابين ، نعم لو اريد من النهي عن الترك أنّ الأمر به كما يكون إيجابا له حقيقة يكون تحريما لتركه مجازا كان صحيحا ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٧.


ومن ثمّ يقال للإنسان مثلا : لا تترك الصلاة ، وليس المراد به تحريم الترك بل المراد به الأمر بالفعل وإنّما يعبّر بهذا اللفظ تجوّزا.

في الضدّ الخاصّ :

إذا أمر المولى بإزالة النجاسة من المسجد مثلا فهل يقتضي هذا الأمر المنع عن كلّ أمر يضادّه في الوجود أم لا؟

أمّا دعوى العينيّة والجزئيّة فالظاهر أنّه لم يدّعهما أحد من القائلين بالاقتضاء ، نعم ادّعى جماعة الاقتضاء من جهة الدلالة الالتزاميّة ، وقد ادّعوا أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ التزاما لوجهين :

أحدهما : أنّ فعل المأمور به ملازم لترك ضدّه والمتلازمان يستحيل اختلافهما في الحكم.

وقد فصّل الميرزا النائيني قدس‌سره (١) فقبل ما ذكر في الضدّين اللذين لا ثالث لهما كما في الحركة والسكون ، بناء على أنّ السكون أمر وجودي لا أنّه منتزع من عدم الحركة.

والجواب عن دليل المشهور : أنّ المتلازمين يستحيل أن يختلفا في الحكم ، فلا يمكن أن يكون استقبال القبلة واجبا واستدبار الجدي حراما في العراق مثلا ، بل ولا مرخّصا في تركه ترخيصا فعليا ، إلّا أنّ اتّفاقهما في الحكم ليس بلازم بل يجوز أن يكون أحدهما واجبا والآخر غير محكوم بحكم أصلا ، بل جعل الحكم على طبق حكم الملازم لغو ؛ لعدم الحاجة إليه.

ولو تمّ ما ذكر من لزوم الاتّفاق في الحكم للزم أيضا في الملازم للشيء من طرف واحد ، كما في حركة الجسم مع القيام ، فإنّ القيام يلزمه حركة الجسم ولكن

__________________

(١) فوائد الاصول ١ و ٢ : ٣٠٣ ـ ٣٠٤.


حركة الجسم لا يلزمها القيام ، فيلزم أن تكون حركة الجسم واجبة بوجوب القيام مثلا فلا يختص الكلام في الضدّين اللذين لا ثالث لهما.

ومن هنا يعلم أنّ هذا الكلام وهو عدم اختلاف المتلازمين في الحكم كالوجه الثاني الآتي من كون ترك الضدّ مقدّمة لفعل ضدّه مبنيّان على كون النهي بمعنى طلب الترك ليتّحد سنخ الطلب للضدّ ولترك ضدّه ، لا بمعنى الزجر كما هو الحقّ وحقّقناه فيما تقدّم ، فافهم.

بقي الكلام في أمرين :

أحدهما : التفصيل الذي ذهب إليه الميرزا النائيني قدس‌سره وهو التفصيل بين الضدّين اللذين لهما ثالث ، فالأمر بأحدهما لا يقتضي النهي عن الضدّ الآخر ، وبين الضدّين اللذين ليس لهما ثالث كالحركة والسكون ، زاعما أنّ ملاك النقيضين سار إليهما ؛ فإنّه قدس‌سره حيث اختار كون الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضدّ العامّ ـ وهو الترك ـ باللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ ، فزعم أنّ ملاك الاقتضاء في الضدّ العامّ سار إلى الضدّ الخاصّ حيث لا يكون لهما ثالث ، غير أنّه ادّعى أنّ الاقتضاء باللزوم البيّن بالمعنى الأعمّ وأنّه أخفى من الاقتضاء في الضدّ العامّ.

ولا يخفى أنّه إن تمّ لزوم اتّفاق المتلازمين في الحكم فلا فرق في ذلك بين الضدّين اللذين ليس لهما ثالث واللذين لهما ثالث ؛ فإنّ المناط للاتّفاق في الحكم إنّما هو ملازمة الضدّ الواجب لعدم الآخر ، لا ملازمة عدم الآخر لوجود ذلك الضدّ الواجب ، مثلا إذا كان القيام ملازما لحركة الجسم فملازمة القيام لحركة الجسم هي المقتضية لأن يكون حكم القيام وحركة الجسم واحدا ، ولا يضرّ عدم ملازمة حركة الجسم للقيام لتحقّقها حال الجلوس أيضا ، فالتلازم من طرف وجود الواجب وعدم الضدّ الآخر هو المناط في اتّحاد الحكم ، ولا يضرّ كون اللازم أعمّ بل ولا يعتبر كونه مساويا ، فالتفصيل لا وجه له ، وقد عرفت أنّ المتلازمين لا يجوز اختلافهما في الحكم أمّا اتّفاقهما فلا يلزم ، فالحقّ عدم الاقتضاء.


ثانيهما : أنّه قد يقال بأنّ الضدّين في المقام دائما ليس لهما ثالث باعتبار أنّ الضدّ للواجب هو عنوان أحد الأضداد الوجوديّة الأخر ، وهما حينئذ ليس لهما ثالث ، باعتبار أنّ الخارج لا يخلو منه أو من أحد الأضداد الوجوديّة الأخر.

وهذا الكلام فاسد من أصله ؛ إذ التضادّ إنّما هو بين نفس الصلاة ونفس الأكل والشرب والنوم والإزالة وغيرها ، لا بين الصلاة وأحد الأضداد الوجوديّة الأخر ، الذي هو عنوان انتزاعي من مجموع الأضداد ، وإن سلّمنا أنّ السواد بمراتبه ضدّ للبياض ، وأنّ جامع السواد هو الضدّ ولكنّه جامع حقيقي ، بخلاف أحد هذه الامور.

هذا ، مضافا إلى أنّه لو كان جميع الأضداد من قبيل ما لا ثالث له فقد ذكرنا عدم الاقتضاء حتّى في النقيض كما تقدّم في الضدّ العام بمعنى الترك ، فلا اقتضاء للأمر بالشيء للنهي عن النقيض فضلا عن الضدّ.

بقي الكلام في بقيّة أقسام التقابل وهو تقابل المثلين وتقابل العدم والملكة :

أمّا تقابل المثلين فهو داخل في تقابل الضدّين ؛ إذ قد ذكرنا أنّ المراد بالضدّ مطلق المعاند والمنافر في الوجود ، ولا ريب أنّ المثل كذلك وكثيرا ما يعبّر الفقهاء عن المثلين بالضدّين في الكتب الفقهيّة بهذا اللحاظ.

وأمّا تقابل العدم والملكة فداخل في النقيضين ؛ إذ العدم والملكة هما عبارة عن الوجود والعدم مع اشتراط قابليّة المحلّ على ما مضى من القابليّة وتفسيرها ولو بالقابلية الجنسيّة كما مرّ.

هذا تمام الكلام في بيان عدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ الخاصّ من جهة الملازمة.

وأمّا بيان عدم الاقتضاء من جهة المقدّمية فالاقتضاء مبنيّ على مقدّمتين :

الاولى : أنّ وجود الضد مانع عن الضدّ الآخر.

والثانية : أنّ عدم المانع من المقدّمات ، فإن تمّت هاتان المقدّمتان وثبت أنّ مقدّمة الواجب واجبة ، فيجب عدم المانع فيحرم الضدّ.


أمّا المقدّمة الثانية وهي أنّ عدم المانع من المقدّمات فلا ريب فيها ؛ إذ إنّ المقتضي والشرط وعدم المانع أجزاء للعلّة ، والمعلول إنّما يتحقّق بعد تمام علّته. وإنّما الكلام في المقدّمة الاولى يعني في الصغرى ، فنقول : هل وجود أحد الضدّين مانع من وجود الآخر وعدم أحد الضدّين مقدّمة لوجود الآخر أم لا؟ فنقول : الأقوال في المقام خمسة :

الأوّل : منع المقدّميّة من الطرفين ، فلا عدم أحد الضدّين مقدّمة لوجود الآخر ولا وجود أحدهما مقدّمة لعدم الآخر (١).

الثاني : القول بالمقدّمية من الطرفين ، وهو ظاهر كلام الحاجبي والعضدي (٢) ، حيث منعا اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضدّ الخاصّ بإنكار وجوب المقدّمة ، فيظهر منهما الاعتراف بأنّ ترك أحد الضدّين مقدّمة ، إلّا أنّ المقدّمة ليست بواجبة ، وردّا شبهة الكعبي (٣) ـ القائل بعدم المباح بدعوى أنّ ترك المحرّم موقوف على فعل أحد الأضداد الوجوديّة ـ أيضا بعدم وجوب المقدّمة. فيظهر منهما تسليم المقدّميّة أيضا. ولا يخفى أنّ تسليم المقدّميّة في المقامين دور ظاهر.

القول الثالث : أنّ العدم موقوف على وجود الضدّ ولكن وجود الضدّ ليس موقوفا على عدم ضدّه (٤).

__________________

(١) هذا هو مختار النائيني ، انظر فوائد الاصول ١ و ٢ : ٣٠٦.

(٢) انظر شرح مختصر الاصول : ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

(٣) انظر المصدر المتقدّم ، وهداية المسترشدين ٢ : ٢٨٣ ، ونهاية الوصول : ٩٩.

(٤) نسب هذا إلى المحقّق القمي في القوانين ١ : ١٠٨ ، والسبزواري في ضمن الرسائل : ٦٠ ـ ٦١ وغيرهما. انظر فوائد الاصول ١ : ٣٠٦.


الرابع : أنّ وجود أحد الضدّين موقوف على عدم ضدّه ولكنّ العدم ليس موقوفا على وجود ضدّه بل [على عدم](١) العلّة (٢).

الخامس : توقّف وجود أحد الضدّين على عدم الضدّ الموجود لا مطلق الضدّ وهذا القول منسوب إلى المحقّق الخونساري (٣).

ولا ريب أنّ أصحّ الأقوال أوّلها وهو نفي المقدّميّة من كلا الطرفين.

وقد ذكر في منع المقدّميّة وجوه :

أحدها : ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (٤) وملخّصه : أنّ بين أحد الضدّين والضدّ الآخر كمال المنافرة ، ولكن بين الضدّ وما هو نقيض الآخر كمال الملاءمة ، فلا يكون عدم الضدّ مقدّمة لوجود ضدّه.

وهذا الكلام لم نعرف له معنى محصّلا ؛ إذ إنّه إن أراد بكمال الملاءمة المذكورة كمال الملاءمة في الخارج فكلّ معلول مع أجزاء علّته ملتئم وليس بينهما منافرة. وإن أراد كمال الملاءمة في الرتبة فهو أوّل الكلام. وبالجملة فكمال الملاءمة خارجا لا يضرّ بكون وجود الضدّ مانعا ؛ إذ عدم المانع ملائم لوجود المعلول في الخارج وكذا بقيّة أجزاء العلّة ، وكمال الملاءمة رتبة إن تمّ فهو كاف في منع المقدّميّة إلّا أنّه أوّل الكلام.

ثانيها : ما ذكره في الكفاية أيضا (٥) وهو : أنّ بين النقيضين اتّحادا في الرتبة ، فبين وجود الشيء وعدم نفسه اتّحاد في الرتبة ، وبما أنّ استحالة اجتماع الضدّين تؤول إلى

__________________

(١) في الأصل : لعدم.

(٢) نسب إلى الجمهور كما في الضوابط : ٩٧ ، وإلى الأكثر كما في المطارح ١ : ٤٩٩ ، وعليه يبتني شبهة الكعبي من نفي المباح كما في الفوائد ١ : ٣٠٦.

(٣) انظر الرسائل للمحقّق الخونساري : ١٥٠ ـ ١٥١ ، والمطارح ١ : ٤٩٩ و ٥٠٩.

(٤) كفاية الاصول : ١٦١.

(٥) كفاية الأصول : ١٦٣.


استحالة وجود المتناقضين ، فالضدّ لذلك الشيء أيضا في رتبته ؛ لأنّه ضدّه ، وإذا كان في رتبته فهو في رتبة عدمه ؛ إذ المفروض اتّحاد رتبة وجوده وعدمه ، فما كان في رتبة أحدهما فهو في رتبة الآخر بقياس المساواة ؛ إذ قد فرض تساوي وجود الشيء وعدمه في الرتبة ، فما يكون مساويا لأحدهما يكون مساويا للآخر ، وقد فرضنا أنّ ضدّ ذلك الشيء مساو له في الرتبة ؛ لأنّه ضدّه ، والضدّان متساويان في الرتبة ، كما إذا كان زيد مساويا لعمرو ، وعمرو مساو لبكر فزيد مساو لبكر أيضا بقياس المساواة الذي هو من الاصول الموضوعيّة في علم الهندسة (*).

والجواب كما أفاده بعض المحقّقين (١) وهو : أنّ المساواة بحسب الرتبة وبحسب الطبع لا يلزم فيهما ذلك ، نعم إنّما يكون مساوي المساوي مساويا والمتقدّم على المساوي متقدّما على مساويه والمتأخّر عن المساوي متأخّرا عن مساويه بحسب الزمان ، وأمّا بحسب الرتبة والطبع فلا ؛ إذ التأخّر بحسب الرتبة تابع لملاكه وهو الترشّح ، مثلا المعلول متأخّر عن علّته رتبة فلا يلزم أن يكون نفس المعلول متأخّرا عن عدم علّته رتبة ؛ إذ لا يترشّح المعلول عن عدم علّته ، كما لا يكون عدم المعلول في رتبة وجود علّة المعلول ؛ لأنّ عدم المعلول لا يترشّح من وجود علّة تحقّق المعلول ، مع أنّ قياس المساواة وارد في الجميع ، وكذا التقدّم الطبعي ؛ فإنّ تقدّم الواحد على الاثنين في الرتبة لا يقتضي تقدّم الواحد على عدم الاثنين فيها ؛ إذ هو مناطه التقدّم بحسب الوجود ، وليس الواحد متقدّما وجودا على عدم الاثنين ، نعم هو متقدّم على الاثنين.

__________________

(*) قد ارتضى في الدورة اللاحقة هذا الوجه الذي ذكره في الكفاية وزعم أنّ ما ذكر في الجواب لا يرد عليه ؛ لأنّ مراد صاحب الكفاية أنّ وجود الضدّ في كلّ رتبة عدم ضدّه في رتبته فلا يكون مقدّمة له.

(١) لم نعثر عليه.


الثالث من الوجوه : أنّ المتناقضين لا ريب في عدم كون أحدهما مانعا عن الآخر ، كما لا يكون عدم أحدهما مقدّمة لوجود الآخر ، فالمتضادّان فرع المتناقضين فكيف يكون وجود أحدهما مانعا عن الآخر مع عدم المانعيّة في الأقوى؟

ولا يخفى ما فيه ؛ فإنّ عدم المانعيّة إن كانت من جهة المضادّة والمعاندة تمّ عدم الفرق بين الضدّين والنقيضين ، وإن كان من جهة أنّ المقدّمية تقتضي الاثنينيّة وهو مفقود في النقيضين ؛ فإنّ عدم الوجود إذا كان مقدّمة للعدم فهو يقتضي كونه غيره والمفروض أنّه هو ، فكيف يعقل المقدّميّة وكون أحدهما مانعا عن الآخر؟ وهذا بخلاف المتضادّين فإنّ عدم البياض غير السواد فيجوز أن يقال فيه بالمقدّميّة. وبالجملة فعدم المقدّميّة في المتناقضين لا يلزم منه عدم المقدّميّة في المتضادّين.

الوجه الرابع : ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (١) وهو موقوف على مقدّمة هي : أنّ العلّة التامّة تختلف أجزاؤها. فمنها : ما يسمّى بالمقتضي ، وهو ما يترشّح منه الأثر كوجود النار بالإضافة إلى الإحراق ؛ إذ الإحراق مترشّح من النار.

ومنها : ما يسمّى بالشرط ، وهو ما يكون له مدخليّة في فعليّة الأثر ، كقابليّة المحلّ في الاحتراق وكالمماسّة أيضا ، فإنّ فعليّة الأثر مستندة إليهما.

ومنها : ما يسمّى بعدم المانع ، وهو ما يكون رافعا للمزاحم كالرطوبة ، فعدم الرطوبة لا بدّ منه في تأثير النار في إحراقها ، لا بمعنى أنّ العدم مؤثّر بل بمعنى رفعه لمزاحم التأثير.

فالوجود لا بدّ فيه من وجود هذه الامور الثلاثة حتّى يتحقّق بتحقّق علّته ، إلّا أنّ العدم لا بدّ فيه من ارتفاع أحد هذه الامور الثلاثة ، إلّا أنّه إذا كان الارتفاع لعدم المقتضي ، كأن لم يوجد الإحراق لعدم النار لا يقال : إنّ الإحراق لم يتحقّق لعدم المماسّة أو للمزاحم وهو الرطوبة ، بل يهزأ ممّن يقول ذلك ، وكذا إذا لم يتحقّق

__________________

(١) فوائد الاصول ١ : ٣٠٧ ـ ٣٠٨ ، وأجود التقريرات ٢ : ١١ ـ ١٢.


الإحراق لعدم المماسّة لا يقال : لم يتحقّق الإحراق لوجود الرطوبة ، بل إنّما يكون الشرط شرطا بعد تحقّق المقتضي ، وإنّما يكون المانع مانعا بعد تحقّق الشرط ؛ إذ حينئذ يكون متّصفا بالمزاحم في التأثير ، وحينئذ فالشرط غير عدم المانع بل المانع إنّما يكون مانعا بعد فرض وجود الشرط.

ومن هنا منع قدس‌سره من أن يكون الوجود شرطا والعدم مانعا ومنع من كون أحد المتناقضين شرطا والآخر مانعا ؛ إذ مانعيّة الثاني إنّما يكون بعد وجود الشرط والمفروض أنّ وجود الشرط لا يمكن مع تحقّق المانع ؛ لتناقضهما.

ثمّ إنّه بعد هذه المقدّمة ذكر أنّ وجود أحد الضدّين لا بدّ أن يكون بعد حدوث علّته التامّة ، فالمقتضي للبياض مثلا والشرط له وعدم المانع كلّه متحقّق ، وحينئذ فعدم السواد إن لم يوجد مقتضيه فليس عدمه مستندا إلى المانع ، وإن وجد مقتضيه فكيف يعقل تحقّق مقتضيه مع أنّه يلزم تحقّق مقتضى المتناقضين؟ والمتناقضان في جميع المراتب يستحيل اجتماعهما ؛ إذ لو وجد المقتضي للسواد لاستند عدمه إلى وجود المانع ، وحينئذ فيكون الممتنع بالذات ممتنعا بالغير وهو محال.

ثمّ إنّه لو وجد المقتضي ولكنّه استند العدم إلى عدم الشرط فكذلك لم يستند لعدم المانع ؛ إذ إنّما يكون مانعا بعد وجود الشرط ، فهو قبل وجود الشرط ليس بمانع أصلا فليس عدمه من المقدّمات.

والجواب : أنّ مقتضى المحال محال كما قرّر لكنّه بمعنى تحقّق مقتض واحد للضدّين معا ، وهذا ممّا لا ريب في استحالته ، ولكن محلّ الكلام أن ينظر إلى مقتضى الشيء من حيث هو لا من حيث اجتماعه مع ضدّه ، وحينئذ لا مانع من تحقّق كلا المقتضيين في المقام. مثلا إذا كان هنا إناء ذو عروتين فأمسك زيد إحدى العروتين جاذبا له إلى جهة الشرق ، وأمسك عمرو عروته الاخرى جاذبا له إلى جهة الغرب فلا ريب حينئذ في تحقّق كلا المقتضيين ، وحينئذ فإن تكافأت القوّتان للجاذبين يبقى في مكانه ولا ينجذب إلى إحدى الجهتين أصلا ، فالمقتضى لكلا الضدّين لا مانع من تحقّقه ويكون حينئذ وجود أحدهما مانعا عن تحقّق الآخر.


الوجه الخامس : ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره أيضا (١) وهذا الوجه هو الوجه الصحيح وعليه نعتمد في منع كون الضدّ مانعا لوجود ضدّه.

وملخّصه : أنّ الضدّ الموجود لا بدّ من تحقّق علّته بتمام أجزائها ، فالمقتضي موجود والشرط أيضا موجود ولا مانع له ، فالضدّ الثاني إن لم يكن له مقتض فهو معدوم لعدم المقتضي ، وإن كان له مقتض فإن كان مساويا لمقتضي الضدّ الأوّل فلازمه التمانع وعدم تحقّق أحدهما في الوجود ، والمفروض تحقّق الأوّل ، فلابدّ من كون مقتضيه أقوى ، وحينئذ فوجود المقتضي الأقوى هو المانع من تحقّقه في الخارج ، فالمزاحم هو المقتضي للضدّ لا نفس الضدّ ، فلا تمانع بين نفس الضدّين ليكون أحدهما مانعا عن وجود الآخر ، بل التمانع دائما بين المقتضيين أنفسهما لا المقتضيين ، وحينئذ فلا مانعيّة بالنسبة إلى نفس وجود الضدّ فليس عدمه من المقدّمات. وهذا الوجه عند التأمل هو الذي ينبغي أن يعوّل عليه في منع مانعيّة الضدّ فتأمّل.

وممّا يؤيّد ذلك وأنّه لا مقدّميّة أنّه لو كان وجود أحد الضدّين موقوفا على عدم الضدّ الآخر لكان من جهة مانعيّة الضدّ ، وحينئذ فيكون عدم الضدّ موقوفا على وجود الضدّ الآخر ؛ ضرورة تحقّق المانعيّة من الطرفين ، وهذا هو الدور الصريح.

بيان ذلك : أنّ البياض إذا كان موقوفا على عدم السواد ـ لفرض وجود مقتضيه وشرطه ـ فعدم السواد أيضا موقوف على تحقّق البياض ، وهذا هو الدور الصريح ؛ إذ فرض عدم الضدّ في مرتبة العلّة ينافي فرضه في مرتبة المعلول.

فلو ذهب الذاهب إلى أنّ العدم غير موقوف على وجود الضدّ فليس هو إلّا لأنّ الضدّ ليس بمانع وهو يرفع المقدّمية من أصلها.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ١٤.


بقي الكلام فيما ذهب إليه المحقّق الخوانساري (١) ومال إليه الشيخ الأنصاري على ما في التقريرات (٢) وهو التفصيل بين الضدّ الموجود فيتوقّف ضدّه على رفعه وبين الضدّ المعدوم فلا يتوقّف ، بتقريب أنّ الضدّين إن لم يتحقّق منهما شيء في الخارج ، فقابليّة الخارج للاتّصاف بكلّ منهما متحقّقة بالفعل ، وحينئذ فمع تحقّق المقتضي لأحدهما فقط يوجد ، ومع تحقّق المقتضي لكلّ منهما فلا بدّ من خلوّ صفحة الوجود عنهما معا لو تساوى المقتضيان ، ومع غلبة أحدهما لا بدّ من تحقّق مقتضاه دون المغلوب ، وأمّا إذا كان الضدّ موجودا في صفحة الوجود ، كأن اتّصف الجسم بالبياض فالجسم المتّصف بالبياض لا قابلية له للاتّصاف بالسواد أصلا ، فلا بدّ من عدمه أوّلا ليتّصف الجسم بالسواد ، فعدمه من المقدّمات لتحقّق القابلية. وهذا بخلاف ما لو لم يكن أحدهما موجودا فقابليّة الجسم حينئذ حاصلة بالفعل بلا توقّف على شيء.

أقول : لو بني على أنّ الموجود لا يحتاج في بقائه إلى علّة بل إنّه إذا وجد المعدوم استمرّ بلا حاجة إلى مؤثّر كان لهذا الكلام وجه ، إلّا أنّ هذا الأمر غير تامّ ؛ فإنّ مناط الاحتياج إلى المؤثّر مشترك بين تمام الممكنات ، ولا ريب أنّ بقاء البياض في الجسم محتاج إلى مؤثّر وعلّة ، وحينئذ فمقتضى البقاء للبياض يجتمع مع مقتضي السواد ، فإن تساويا فلا يتّصف الجسم بأحدهما بقاء ، ومع غلبة أحدهما يتوقّف وجوده على رفع ضدّه كغير المتّصف بأحدهما. وبالجملة فلا فرق بين أن يكون المحلّ مشغولا بأحد الضدّين أو لا في أنّه إن كان توقّف في البين فلا فرق في المقامين ، وإن لم يكن توقّف في البين فلا فرق [أيضا] بين المقامين.

__________________

(١) نسب إليه في مطارح الأنظار ١ : ٥٠٩.

(٢) انظر المصدر المتقدّم.


ثمّ إنّه يقع الكلام في أنّ الحادث هل يحتاج في بقائه إلى علّة أم لا ، الظاهر أنّه بعد أن كان البقاء ممكنا فلا بدّ من حاجته إلى علّة ومؤثّر.

وما يقال : من أنّ الحجر إذا القي في مكان يبقى ولا يزول فليس إلّا لأنّ علّة الحدوث لا يحتاج معها إلى علّة البقاء.

مدفوع : بأنّ عدم زوال الحجر لكون العلّة وهي جاذبيّة الأرض له مقارنة ، ومع مقارنة العلّة يستمرّ المعلول قطعا. ونظير ذلك ما لو لصق مسمار بالمغناطيس فإنّه يبقى ملتصقا ؛ لأنّ الجاذبية فيه مقارنة لبقائه فيستمرّ المعلول لاستمرار علّته وهو واضح.

ثمّ لو سلّمنا أنّ الباقي غير محتاج في بقائه إلى مؤثّر فهو في الامور التكوينيّة كما في المثال المذكور ، أمّا الامور الاختياريّة فمعلوم دورانه مدار تحقّق الإرادة والاختيار ؛ إذ لا معنى لكون الأمر الاختياري باقيا بغير اختيار ، وحينئذ فالإزالة في المقام مع أجزاء الصلاة التي هي فعل اختياري من قراءة وركوع وسجود إن تحقّق المقتضي لكلّ من الإزالة والقراءة لا يتحقّق أحدهما ، وإن وجد المقتضي لأحد الأمرين فعدم الثاني لعدم مقتضيه لا لوجود المانع فافهم ، وتأمّل فإنّ المقام من مزالّ الأقدام.

الكلام في شبهة الكعبي :

وذلك أنّه أنكر غير الحكمين الإلزاميّين من الوجوب والتحريم بدعوى أنّه يجب ترك الحرام ، وترك الحرام موقوف على الاشتغال ببعض الأفعال الوجودية ؛ لاستحالة خلوّ المكلّف من كلّ فعل.

والجواب : أنّا ذكرنا أنّ ترك شيء لا يتوقّف على فعل ضدّه كالعكس ، بل إنّ ترك الشيء إنّما يكون لعدم مقتضيه ، نعم لو علم أنّه لو ترك أحد الأعمال لا بدّ أن يقع في الحرام فالعقل يدرك أنّه لا بدّ له أنّ يشتغل بأحد الأعمال لئلّا يقع في الحرام فيستحقّ العقاب ، وحكم العقل هنا ليس من باب المقدّميّة وإنّما هو فرارا عن محذور الحرام ، فافهم.


الكلام في ثمرة بحث الضدّ :

قد ذكروا ثمرتين لبحث الضدّ :

الاولى : ما إذا كان هناك واجبان مضيّقان ، كما إذا كان في آخر وقت الظهرين وآخر وقت كسوف الشمس بحيث كان الوقت لا يسع إلّا لأحدهما ، وكان أحدهما أهمّ كاليوميّة على ما دلّت عليه الأخبار ، فلو ترك اليوميّة واشتغل بصلاة الكسوف فإن قلنا بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه تقع صلاة الكسوف فاسدة ؛ لأنّ النهي عن العبادة مقتض لفسادها ، وإن لم نقل بالاقتضاء كان العمل صحيحا لفقد النهي حينئذ.

وعن البهائي قدس‌سره (١) أنّه أنكر الثمرة ، فإنّه ادّعى فساد العبادة على كلّ حال. أمّا على القول بالاقتضاء فظاهر. وأمّا على القول بعدم الاقتضاء فالصلاة التي هي الكسوف باطلة ؛ لعدم الأمر بها ؛ إذ لا يعقل الأمر بالضدّين معا ، فصلاة الكسوف باطلة إمّا للنهي وإمّا لعدم الأمر.

وقد اشكل على البهائي ـ كما في الكفاية (٢) ـ بكفاية الملاك في صحّة العمل ، فلا يتوقّف على الأمر ، ومن ثمّ منع بعضهم (٣) هذه الثمرة كلّية وهو الصحيح ؛ إذ لو اكتفينا بالملاك وأحرزناه فالعمل صحيح حتّى على القول بالاقتضاء ؛ لأنّ النهي في المقام تبعي ، إمّا من جهة المقدّميّة أو من جهة الملازمة ، والنهي التبعي لا يقتضي الفساد ؛ لعدم كشفه عن مبغوضيّة نفس العمل. وإن لم نكتف بالملاك واعتبرنا الأمر في صحّة العبادة أو لم نحرز الملاك وإن قلنا بكفايته فالصلاة للكسوف حينئذ فاسدة ؛ لعدم الأمر بها وعدم كفاية الملاك في صحّتها أو عدم إحرازه لو قلنا بكفايته ، فافهم.

__________________

(١) انظر زبدة الاصول : ٨٢ ـ ٨٣ (مخطوط) ، وهداية المسترشدين ٢ : ٢٧٥.

(٢) كفاية الاصول : ١٦٥.

(٣) انظر كشف الغطاء ١ : ١٧٠ ـ ١٧١ ، وهداية المسترشدين ٢ : ٢٦٩.


الثمرة الثانية : فيما لو كان هناك واجبان : أحدهما موسّع كصلاة الظهر عند الزوال ، والآخر مضيّق كصلاة الكسوف في آخر وقت الكسوف الذي هو أوّل الظهر ، فإن اكتفينا بالملاك فلا تظهر ثمرة أصلا ، وإن اعتبرنا الأمر في صحّة العبادة. فإن قلنا بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه فلا ريب في توجّه النهي إلى صلاة الظهر في المثال فتقع فاسدة ؛ لخروج الفرد المنهيّ عنه عن إطلاق الأمر أو عمومه ؛ لاستحالة اجتماع الأمر والنهي وإن كان النهي غيريّا. وإن قلنا بعدم الاقتضاء فهذا الفرد من صلاة الظهر وهو المزاحم بصلاة الكسوف غير مأمور به بخصوصه كغيره من الأفراد الغير المزاحم ، ضرورة أنّ الأمر بصلاة الظهر أمر بصرف الوجود وهو الطبيعة ، وكفاية الفرد في مقام الامتثال لانطباق عنوان المأمور به عليه لا أنّه هو المأمور به ، وهذا الانطباق قهري فيصحّ الإتيان بهذا الفرد بداعي الأمر بالطبيعة ، فما هو المأمور به وهو الطبيعة غير مزاحمة ، وما هو مزاحم وهو الفرد غير مأمور به بخصوصيّاته ، وحينئذ فإن لم ينه عن الفرد فالإتيان به يوجب انطباق الطبيعة عليه قهرا فيكون الفرد من صلاة الظهر في المثال صحيحا.

وحينئذ فقد ظهرت لهذا البحث ثمرة مهمّة وهو فساد العمل على القول بالاقتضاء وعدم كفاية الملاك أو عدم إحرازه ، وصحّة العمل بناء على عدم الاقتضاء ، وهي ثمرة شريفة ذكرها المحقّق الثاني (١) وأوضحها بعض الأعاظم (٢) ، وبمثل هذا التحقيق منح بلقب المحقّق الثاني.

وقد أورد على المحقّق الثاني بامور :

الأوّل : أنّ توجّه الأمر إلى الطبيعة المهملة لا يعقل ؛ لأنّ الطبيعة من حيث هي ليست إلّا هي ، فلا ينفكّ توجّه الأمر إلى الطبيعة بلحاظ خصوصيّتها المزاحمة من

__________________

(١) انظر جامع المقاصد ٥ : ١٤.

(٢) انظر هداية المسترشدين ٢ : ٢٦٩ وما بعدها ، والفصول : ٩٥ ـ ٩٧ ، والقوانين ١ : ١١٦.


كونها مقيّدة بعدم المزاحمة ، وحينئذ فليس المزاحم مصداقا للمأمور به ؛ لأنّ المأمور به هو الطبيعة الغير المزاحمة بصلاة الكسوف ، فالمزاحم ليس مصداقا للطبيعة المأمور بها أو مقيّدة بالمزاحمة وهو أيضا محال ؛ لأدائه إلى الأمر بالضدّين أو مطلقة من حيث المزاحمة وعدمها ، وإذا كان التقييد بالمزاحمة محالا فالإطلاق بنحو يشملها محال أيضا ؛ لعين المحذور.

والجواب أنّ الشقّ الثالث وهو الإطلاق لا مانع منه ؛ فإنّ الإطلاق إن كان لحاظ جميع الخصوصيّات كان ما ذكر متينا إلّا أنّ الإطلاق ـ كما مرّ منّا ـ رفض القيود ، وحينئذ فلا مانع من استحالة أخذ قيد وإمكان رفضه ، فيستحيل لحاظ الطبيعة المأمور بها بقيد المزاحمة ؛ لأدائه إلى طلب الضدّين إلّا أنّ رفض قيد المزاحمة في الطبيعة لا مانع منه أصلا ؛ لعدم محذور فيه فتعمّه الطبيعة بما هي مأمور بها فتنطبق على هذا الفرد قهرا ويكون الإجزاء عقليّا.

الأمر الثاني : أنّ الفرد المزاحم غير مقدور فلا يتوجّه التكليف نحوه ؛ لقبح التكليف بغير المقدور ، وحينئذ فالفرد المزاحم ليس به أمر فلا يكون صحيحا بناء على اعتبار الأمر في صحّة العبادة.

والجواب : أنّ الأمر إنّما هو بالطبيعة وصرف الوجود ، واعتبار القدرة في المأمور به إمّا لحكم العقل بقبح التكليف بما لا يطاق ، أو لأنّ التحريك نحو الشيء إنّما هو لإحداث الداعي والإرادة له ، فهو يختصّ بصورة يمكن التحريك والإرادة وهو خصوص المقدور ، ولا ريب أنّ الطبيعة لو اشتملت على أفراد مقدورة وأفراد غير مقدورة فلا يقتضي شيء من هذين الأمرين اختصاص الأمر بخصوص المقدور منها ؛ إذ لا يلزم التكليف بما لا يطاق مع مقدوريّة فرد واحد منها ، ولا يلزم أن يكون التحريك نحو شيء لا يتحقّق التحريك والإرادة له ؛ إذ مقدوريّة بعض الأفراد كاف في التحريك نحو الطبيعة ، وحينئذ فالطبيعة بما هي مأمور بها شاملة لهذا الفرد ومنطبقة عليه قهرا وحينئذ فيكون الإجزاء عقليّا.


ثمّ إنّ الميرزا النائيني قدس‌سره (١) ذكر إشكالا على المحقّق الثاني وهو : أنّ التكليف إذا كان بالطبيعة فالطبيعة بما هي مأمور بها لا تنطبق على الفرد المذكور ؛ لاستحالة تحريك المولى نحو الأمر الممتنع شرعا ؛ لعدم القدرة عليه. فنفس التكليف بذاته يقتضي مقدوريّة متعلّقه ، فإذا لم يكن مقدورا لا يشمله الأمر بالطبيعة. نعم لو كان اعتبار القدرة في متعلّق التكليف من جهة حكم العقل بقبح التكليف بما لا يطاق تمّ ما ذكره المحقّق الثاني ، إلّا أنّ اعتبار القدرة من ذات التكليف ، فالاستناد في اعتبار القدرة إلى التكليف أمر ذاتي وهو سابق على الاستناد إلى حكم العقل بالقبح وهو أمر عرضي.

ثمّ إنّه أوضحه بأنّ الآمر إنّما يأمر بشيء ليحرّك عضلات العبد نحو ذلك الشيء بالإرادة والاختيار ليختار إيجاده بترجيح أحد طرفي الممكن ، وهذا هو بنفسه يقتضي أن يكون العمل ممّا يمكن التحرّك نحوه ، وبما أنّ هذا الفعل وهو صلاة الظهر منهيّ عنها فهي غير مقدورة فلا يشملها الأمر بالطبيعة ، فهو فرد من أفراد الطبيعة لكنّها لا بما هي مأمور بها ، فلا تنطبق الطبيعة بما هي مأمور بها عليها ليكون الإجزاء حينئذ عقليّا.

والجواب من وجوه :

أحدها : أنّ تسليم الصحّة التي ذكرها المحقّق الثاني إذا كانت القدرة بحكم العقل غير تامّ على ما يراه الميرزا نفسه من استحالة توجّه التكليف نحو الأمر المتأخّر على ما ذكره في الواجب التعليقي (٢) ؛ لأنّ صلاة الظهر في المثال المذكور وهو ما إذا كانت مزاحمة بصلاة كسوف مضيّقة ، فهذا الفرد المزاحم بالمضيّق لا أمر به حسب الفرض للمزاحمة ، وبقيّة الأفراد متأخّرة ولا يتوجّه التكليف الفعلي نحو الأمر المتأخّر على رأيه ، نعم يتمّ على ما اخترناه من صحّة ذلك.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٣.

(٢) انظر أجود التقريرات ١ : ٢٠١ ـ ٢٠٢.


الثاني : أنّه لو أمكن الجمع بين كلا الواجبين كالصلاة المضيّقة والإزالة في آن واحد في بعض أفراد الإزالة ، كما لو أزالها [بالأنبوب] ونحوه ممّا هو كالكثير ، فلو ترك الإزالة وصلّى يحكم بصحّة صلاته حتّى إذا كانت القدرة معتبرة من نفس الأمر ؛ لتحقّق القدرة حينئذ.

والثالث بالحلّ ، وهو : أنّ التكليف بنفسه لا يقتضي التحريك ، بل إنّما يحرّك إذا وصل إلى المكلّف ، والتكليف عبارة عن اعتبار شيء على ذمّة المكلّف إذا ابرز ، فهو إبراز الاعتبار وهو لا يقتضي بنفسه التحريك ليتمّ ما ذكره قدس‌سره من أنّ التحريك إنّما يكون نحو أمر قابل للتحرّك نحوه وهو المقدور ، فاعتبار القدرة إنّما هو بحكم العقل ليس إلّا وليس بأمر ذاتي ليتقدّم على الأمر العرضيّ ، (ولعلّ ما ذكره الميرزا قدس‌سره مبنيّ على أنّ الوجوب هو الطلب الإلزامي فالطلب لا يكون متعلّقا إلّا بالمقدور) (١).

الأمر الثالث : أنّ هذا الفرد غير داخل تحت الطبيعة المأمور بها ؛ لأنّ شمول الطبيعة لهذا الفرد لغو.

والجواب : أنّ هذا الكلام تامّ في غير المقدور تكوينا ، أمّا غير المقدور من جهة أمر الشارع بضدّه فليس بلغو ؛ لأنّ هذا الفرد بعد أن كان كغيره في الوفاء بالغرض والمصلحة فكيف يكون شمول الطبيعة المأمور بها له لغوا ، مع أنّه لو أتى به لسهو أو جهل أو غفلة كان صحيحا ، فأين اللغويّة مع تحقّق هذه الثمرة المهمّة؟ نعم لا يصحّ أن يخصّ التكليف بالمنهيّ عنه شرعا ، للزوم جمع الضدّين. وما ذكر من أنّ الممنوع شرعا كالممتنع عقلا ممنوع.

الأمر الرابع : أنّ تمام الأفراد في ظرف المزاحمة غير مقدور ؛ لفرض أمر الشارع للمكلّف بصرف قدرته في صلاة الكسوف ، فتمام أفراد صلاة الظهر غير مقدورة حينئذ ، فكيف يؤمر حينئذ بطبيعة صلاة الظهر مع أنّ هذه الطبيعة غير مقدورة؟

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.


والجواب : أنّ القدرة إن اعتبرت حال الأمر تمّ ما ذكر بناء على استحالة الواجب المعلّق ، أمّا بناء على إمكانه وأنّ القدرة إنّما تعتبر حال الامتثال فلا ؛ فإنّ صلاة الظهر مقدورة بعد الإتيان بصلاة الكسوف المضيّقة ، وهذا كاف في توجّه الأمر بالطبيعة ، فافهم.

ثمّ ليعلم أنّ ما كان من قبيل المثال المذكور ممّا كان أحد الواجبين موسّعا والآخر مضيّقا لا نحتاج فيه إلى الترتّب وإثبات إمكانه بل نصحّحه بما ذكره المحقّق الثاني قدس‌سره. وتوضيح هذا الكلام يأتي في الترتّب إن شاء الله تعالى.

ثمّ إنّ كلام المحقّق الثاني قدس‌سره مبنيّ على عدم كفاية الملاك في تصحيح العبادة ولزوم قصد الأمر في صحّتها ، فيقع الكلام الآن في كفاية الملاك في تصحيح العبادة وعدم الكفاية وفي كيفيّة إحراز الملاك.

في إحراز الملاك وكفايته وعدمهما :

والكلام يقع في مقامين :

أحدهما : في كفاية قصد الملاك أو لزوم قصد الأمر. وقد ذكرنا في مبحث التوصّلي والتعبّدي أنّ قصد الأمر غير لازم في صحّة العمل ، بل يعتبر في صحّة العمل بعد صلاحيّته لقصد التقرّب أن تكون له إضافة إلى المولى ، وليس في الأخبار ما يعيّن قصد الأمر ، بل فيها ما يظهر منه كفاية النيّة الصالحة كما ورد في الوضوء إذا كان بنيّة صالحة يريد بها ربّه (١).

__________________

(١) الرواية التي أشار إليها الميرزا في الصلاة لا في الوضوء وهي هذه : يونس بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قيل له وأنا حاضر : الرجل يكون في صلاته خاليا فيدخله العجب ، فقال : إذا كان أوّل صلاته بنيّة يريد بها ربّه فلا يضرّه ما دخله بعد ذلك فليمض في صلاته وليخسأ الشيطان. الوسائل ١ : ٨٠ ، الباب ٢٤ من أبواب مقدّمات العبادات ، الحديث ٣. راجع أجود التقريرات ١ : ١٦٣ و ٣ : ٥٤٢.


وبالجملة ، فإذا احرز الملاك لا ريب في كفاية قصده إنّما الكلام في إحرازه.

وهو المقام الثاني : وذلك فإنّه يقال إنّ الملاك إنّما نحرزه نحن بالأمر انتقالا من المعلول إلى العلّة بناء على مذهب العدليّة من أنّ الله لا يأمر جزافا بل لا بدّ من مصالح في متعلّق أمره ومفاسد في متعلّق نهيه ، فإذا فرضنا أنّ إطلاق الأمر ليس شاملا لهذا الفرد فهذا الفرد خارج عن تحت إطلاق الأمر أو عمومه ، فمن أين يستكشف كونه واجدا للملاك؟ فإن ادّعي القطع بكونه باقيا على ملاكه وأنّ الأمر إنّما لم يشمله بإطلاقه لوجود المانع وهو تعلّق النهي ، لا لقصور في ملاكه وإلّا فهو على ملاكه ومصلحته فلا كلام لنا مع القاطع ؛ إذ القطع حجّة لكنّه لخصوص القاطع كصاحب الكفاية قدس‌سره.

وأمّا نحن فقد رجعنا إلى وجداننا فلم نجد لنا قطعا بذلك بل احتملنا أن لا يكون الفرد المزاحم ذا ملاك أصلا ، فلا بدّ لنا من برهان به نحرز الملاك ، وقد ذكروا لإحراز الملاك أمرين :

أحدهما : أنّ لكلّ لفظ دلالة مطابقيّة ودلالة اخرى التزاميّة والمراد بها ما يعمّ التضمّنيّة فإنّها أيضا التزاميّة ، ولا ريب في حجّية كلتا هاتين الدلالتين بنحو لا يفرّق بينهما في المحاورات أصلا بل يلتزم بهما في الأقارير كما هو ظاهر ، بل قد استدلّ الأئمة عليهم‌السلام بجملة من الدلالات الالتزاميّة في القرآن ، كما في آيتي أقصى الحمل (١) وقوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها)(٢) على عدم كفاية العقد المنقطع في التحليل ، وحينئذ ففي الأمر المتوجّه بشيء دلالة مطابقيّة وهي كون ذلك الشيء في عهدة المكلّف ، ودلالة التزاميّة وهي وجود المصلحة في المأمور به ، فإذا كانت الدلالة المطابقيّة لا يمكن

__________________

(١) البقرة : ٢٣٣ ، والأحقاف : ١٥ ، وراجع تفسير كنز الدقائق ٩ : ٤٥٠ فقد ذكر أخبارا في تفسير الآية ، والكافي ١ : ٤٦٤ ، باب مولد الحسين عليه‌السلام.

(٢) البقرة : ٢٣٠.


الأخذ بها لمانع عقلي وهو توجّه النهي إلى المأمور به فلا مانع من الالتزام بالدلالة الالتزاميّة ؛ لعدم المزاحم لها.

وما ذكره الميرزا قدس‌سره من كون المصلحة قائمة بالطبيعة وأنّ اعتبار القدرة في رتبة الطلب ، فلا يكون عدم القدرة كاشفا عن عدم الملاك ؛ إذ ليس في رتبته ، الظاهر ـ والله العالم ـ رجوعه إليه.

والجواب : أنّ الدلالة الالتزاميّة تابعة للدلالة المطابقيّة ثبوتا وحجّيّة ، فإذا لم تكن الدلالة المطابقيّة حجّة لا تكون الدلالة الالتزاميّة حجّة أيضا. وتوضيحه بذكر مثاله : مثلا إذا كان درهم تحت يد زيد فقامت البيّنة على أنّ الدرهم لعمرو فالبيّنة لها دلالتان ، إحداهما مطابقيّة وهو كون الدرهم لعمرو ، [و] الثانية التزاميّة وهو أنّه ليس لزيد ، فلو اعترف عمرو بأنّ الدرهم ليس له ففي المقام لا قائل بأنّ الإقرار يعارض الدلالة المطابقيّة ولا يرفع الدلالة الالتزاميّة وهو عدم كونه لزيد ، فيؤخذ الدرهم من زيد ويعامل معاملة مجهول المالك. ومقتضى ما ذكر من أنّ سقوط الدلالة المطابقيّة لا يقتضي سقوط الدلالة الالتزاميّة ذلك. وأمثلة ذلك لا تحصى.

والسرّ في ذلك أنّ اللازم إنّما هو لازم خصوص ذلك المعنى لا مطلق ذلك الشيء ، فاللازم في المثال هو عدم ملكيّة زيد الملازمة لملكيّة عمرو لا عدم ملكيّة زيد مطلقا ؛ فإنّ المخبر عن النار يخبر عن حرارة النار لا عن مطلق الحرارة لتبقى بواسطة الشمس والحركة وما شابههما ، وكذا من أخبر بولوغ الكلب في الإناء إنّما يخبر بالنجاسة المستندة إلى الولوغ أمّا نجاسة اخرى فلا يخبر عنها ؛ ولذا لو انكشف خطأ المخبر يحكم بطهارته ولا يعتنى باحتمال نجاسة اخرى.

هذا ، وتطبيق ذلك فيما نحن فيه أن يقال إنّ الأمر دالّ على الملاك الذي يكون باعثا إلى تحقّقه خارجا ، فإذا لم يتحقّق الأمر في الخارج بقصور شمول الإطلاق أو العموم له لفرض أهميّة غيره في ذلك الوقت فيستحيل الأمر بالضدّين ، فالملاك الذي هو لازم الأمر انتفى بنفيه ، فمن أين يجيء حينئذ الملاك؟ فالحقّ أنّ الملاك لازم لتحقّق الأمر ولا سبيل إلى إحرازه غيره ، فإذا انتفى فلا سبيل إلى إحرازه.


وما ذكره الميرزا النائيني إن رجع إلى هذا فجوابه جوابه ، وإن أراد إثبات الملاك بمقدّمات الحكمة فالجواب حينئذ أظهر ؛ إذ من شرط مقدّمات الحكمة كون المولى في مقام البيان للملاك ، فمعلوم أنّه ليس إلّا في مقام بيان متعلّق أمره. ولو سلّمنا أنّه في مقام بيان الملاك فخروج هذا الفرد عن حيّز الأمر بفعليّة الأمر لغيره ممّا يصلح للقرينة في نفي الملاك ، فمن أين يحرز أنّه لم يبيّن انتفاء الملاك ، ومن المحتمل أنّه اعتمد على عدم الأمر في بيان عدمه.

وهذا هو الأمر الثاني الذي به يستكشف الملاك. فتلخّص أنّ قصد الملاك يجزي حيث يحرز الملاك ، ولكن لا طريق إلى إحرازه غير الأمر ، فالواجب يعتبر فيه القدرة ، فغير المقدور تارة يكون غير مقدور عقلا واخرى يكون غير مقدور شرعا والأوّل على قسمين :

تارة : يكون غير مقدور بتمام أفراده ، وهذا لا يجوز أن يكون موردا للتكليف ؛ لأنّه تكليف بما لا يطاق كالطيران إلى السماء فإنّه بتمام أفراده غير مقدور.

واخرى : يكون بعض أفراد الطبيعة مقدورا وبعضها الآخر غير مقدور ، فهنا لا ريب في عدم دخول الأفراد الغير المقدورة تحت الأمر ؛ لأنّها غير مقدورة عقلا فالأمر بها لغو. كما لو أمره بأكل حيوان فإنّه يقدر على أكل العصفور بتمامه والحمامة بتمامها إلّا أنّ البعير لا يمكنه أكله بتمامه ، وبما أنّ الإطلاق رفض القيود فالقيود والخصوصيّات تلحظ فترفض ، فهو في الحقيقة بيان لعدم دخل الخصوصيّات ، فشمول الأمر لمثل هذه الأفراد الغير المقدورة لغو صرف لا يترتّب عليه أثر ، فلا بدّ من اختصاص الأمر بالمقدور عقلا لئلّا تلزم اللغويّة.

نعم ، قد يكون الشيء غير مقدور ؛ لأنّه لا يقع بالإرادة والاختيار ، كما إذا زلقت قدمه فسقط في البحر فغسلت ثيابه النجسة ، فمثل هذه الأفراد من غير المقدور لا بأس بشمول إطلاق الأمر لمثله ؛ لعدم لزوم اللغويّة ؛ فإنّ ثمرته سقوط الوجوب


بفعله قهرا على الفاعل ، وهذا بخلاف غير المقدور عقلا فإنّه لا يتصوّر وقوعه في الخارج أصلا.

وأمّا غير المقدور شرعا فهو على قسمين ؛ لأنّه قد يكون فردا واحدا وغير مقدور ، وقد يكون أفرادا بعضها مقدور وبعضها غير مقدور ، ففي الثاني لا ريب في صحّة الإتيان بالفرد الغير المقدور شرعا ، كما إذا أمر بصلاة الظهر في وقت موسّع وبصلاة الكسوف في وقت مضيّق ، فبما أنّ صلاة الكسوف مضيّقة فالأمر بها ، ففي هذا الحال لا أمر بصلاة الظهر ، إلّا أنّه لو عصى فلم يصلّ الكسوف وصلّى الظهر مثلا فلا مانع من صحّته بالأمر واستكشاف الملاك به بما مرّ من المحقّق الثاني قدس‌سره من أنّ الأمر بالطبيعة انطباقه عليه قهريّ فإجزاؤه عقليّ كما تقدّم. وحينئذ فهذا الفرد ممّا احرز ملاكه بنفس الأمر كما تقدّم.

وأمّا إذا كان فردا واحدا غير مقدور كما إذا كان الواجبان مضيّقين معا ، كما إذا كان وقت الظهر أيضا ضيّقا ، فبما أنّ ذات الوقت أهمّ فيكون الأمر بها ، فتخلو صلاة الكسوف عن الأمر ، فلو عصى وترك صلاة الظهر وصلّى الكسوف فلا يمكن إحراز صحّتها ؛ لعدم إحراز الملاك ؛ لعدم الأمر الذي به يحرز الملاك ، فينحصر وجه صحّتها بما سيجيء إن شاء الله تعالى من القول بالترتّب وإنّ الأمر به في ظرف ترك الآخر موجود ، فيقع الكلام في إمكان الترتّب وعدم إمكانه.

وقبل الخوض في ذلك نتكلّم في التزاحم بين الواجبين وفي التعارض وبيان موضوعهما وحكمهما ؛ لأنّ بعض الأصحاب على ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (١) توهّم أنّ تقديم أحد الأمرين لأهميّته يقتضي سقوط الأمر الثاني كما في تعارض الدليلين ، ولا بدّ من بيان أنّ ذلك حكم المتعارضين وأنّ المتزاحمين ليس تقديم أحدهما مقتضيا لكون الآخر كالعدم فنقول :

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ٣٢.


في التزاحم والتعارض :

ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره (١) أنّ بعضهم ذكر التزاحم والتعارض وأصّل أصلا في مقام دوران الأمر بينهما. ثمّ ذكر الميرزا النائيني في مقام الردّ عليه أنّه لا جامع بينهما كي يدور الأمر بينهما ، فهو نظير أن يقال هل الأصل في الأشياء الطهارة أم الأصل البطلان في البيع الفضولي؟ فلا يمكن تصادقهما على مورد ما ليكون الأصل فيه التعارض أو التزاحم. وما ذكره قدس‌سره صحيح ومتين. فإنّه لا جامع بينهما إلّا مفهوم التنافي.

وتوضيح ذلك : أنّ التنافي إن كان في مقام الجعل بحيث كان صدق أحد الدليلين مستلزما لكذب الثاني وإنه غير مجعول فهو باب التعارض ، وهذا التنافي قد يكون بالذات وقد يكون بالعرض :

فالأوّل كأن يدلّ دليل على جزئيّة السورة في الصلاة ، ويدلّ دليل على عدم الجزئية ، فإنّ الجزئيّة وعدمها لا يمكن جعلهما في الشريعة المقدّسة ذاتا ؛ للزوم جمع الضدّين.

والثاني كأن يدلّ الدليل على وجوب الجمعة يوم الجمعة ويدلّ الدليل الآخر على وجوب الظهر يوم الجمعة ، فإنّ الإجماع على عدم وجوب صلاتين في يوم واحد أوقع التكاذب بين الدليلين بعد أن لم يكن بالذات ، فصدق أحدهما يستلزم كذب الآخر وإن لم يلزم من كذب أحدهما صدق الآخر ؛ لإمكان كذبهما معا ويكون الواجب صلاة اخرى غيرهما.

وأمّا التنافي في التزاحم فليس في مقام الجعل وإنّما هو في مقام الامتثال ، فإنّ جعل صلاة الكسوف على القادر لا ينافي جعل وجوب صلاة الظهر على القادر أيضا ، وإنّما التنافي بينهما في الامتثال إذا كان مضيّقا زمانهما بحيث لا يسع إلّا

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ٣٢.


أحدهما ؛ فإنّ قدرة المكلّف حينئذ لا يمكن صرفها فيهما معا ، فإن صرفها في صلاة الكسوف انتفى موضوع صلاة الظهر ؛ لعدم كونه قادرا حينئذ. وهذا بخلاف باب التعارض فإنّ تقديم أحدهما تعيينا أو تخييرا يوجب أن ينتفي حكم الآخر عن نفس الموضوع مع حفظ الموضوع.

وبالجملة ، فالتقديم في باب التزاحم يوجب انعدام موضوع الآخر ، وفي باب التعارض يوجب نفي حكمه مع بقاء الموضوع. وقد ذكر الميرزا قدس‌سره للتزاحم من غير جهة القدرة مثالا يأتي الكلام فيه ، وأنّه ليس من باب التزاحم وإنّما هو من باب التعارض ، غاية الأمر أنّ التنافي بينهما عرضي لا ذاتي ، فالتزاحم مختصّ بما إذا كان تقديم أحدهما سالبا للقدرة على الثاني فيكون رافعا لموضوعه ؛ إذ موضوعه القادر والمكلّف ومع تقديم أحدهما لا يكون قادرا على الثاني فتنتفي فعليّته ؛ لأنّ فعليّة كلّ حكم بتحقّق موضوعه في الخارج فافهم. فظهر بما ذكرنا أنّ باب التعارض وباب التزاحم بابان متباينان فيقع الكلام في أحكامهما.

في أحكام التعارض والتزاحم :

المتعارضان إن كان أحدهما بحسب العرف قرينة على الآخر ومفسّرا له ومبيّنا للمراد منه فليس بينهما حينئذ تعارض أصلا كما في العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد والحاكم والمحكوم وغيرها. وإن لم يكن أحدهما قرينة عرفيّة على الآخر كما في العامّين من وجه بالإضافة إلى مورد الاجتماع ، وكما في المتباينين كما في أكرم زيدا ولا تكرم زيدا ، فهنا لا يمكن أن يشملهما معا دليل الحجيّة ؛ للزوم جعل الحجيّة في أمرين متناقضين وهو محال ، وجعل الحجيّة لأحدهما الغير المعيّن يعني لمفهوم أحدهما محال أيضا ؛ إذ ليس له وجود في الخارج ، وجعل الحجيّة لأحدهما المعيّن يعني الفرد الخارجي ترجيح من غير مرجّح ، فلا يشملهما حينئذ دليل الحجيّة


فيتساقطان ويرجع إلى عموم أو إطلاق فوقهما لو كان وإلّا فالمرجع الاصول العمليّة. هذا بناء على القول بالطريقيّة ؛ إذ الواقع لا يعقل ارتسام المتناقضين فيه.

وأمّا بناء على السببيّة الأشعريّة أو المعتزليّة ففي مؤدّى كلّ من الأمارتين مصلحة إلزاميّة لازمة التحصيل ، وحينئذ فلا تكاذب بينهما ؛ ضرورة أنّ مؤدّى كلّ من الأمارتين إن كانت فيه مصلحة إلزاميّة يجب تحصيلها على القادر فيكون بينهما حينئذ التزاحم في مقام الامتثال كما في التزاحم ، فيكون فعليّة كلّ منهما موجبا لعدم فعليّة الآخر ؛ لعدم موضوعه وهو القادر.

وأمّا على القول بالسببيّة الإماميّة فلا بدّ من القول بالتعارض وإعمال عمله ؛ لأنّ القائل بالمصلحة السلوكيّة من الإماميّة إنّما يقول بها في سلوك الحجّة ، والمفروض أنّ دليل الحجيّة يستحيل أن يشملهما معا. هذا كلّه مقتضى القاعدة في المتعارضين المتكاذبين وقد عرفت أنّه التساقط. نعم ورد في خصوص تعارض الخبرين مرجّحات يعمل بها إن وجدت ، وإلّا فالشارع حكم بالتخيير مع عدمها فيخرج عن مقتضى القاعدة في خصوص الخبرين المتعارضين ، وفي غيرهما المرجع التساقط كما تقدّم.

وهذا بخلاف باب التزاحم فإنّ دليل الحجيّة شامل لهما معا وكلّ منهما واجد لشرائط الحجيّة ، غاية الأمر أنّ امتثال أحدهما يوجب انعدام القادر الذي هو موضوع الدليل الثاني ، فبعد شمول دليل الحجيّة لهما يكون التخيير لو لم يمكن مرجّح والترجيح عند تحقّق المرجّح بمقتضى القاعدة ؛ لأنّ الضرورة فيه تقدّر بقدرها ، فالعجز عن أحدهما لا عنهما ، فحينئذ يحكم العقل بترجيح أحدهما فتتقدّم على الثاني ، وإن لم يكن مرجّح فالتخيير.

فالحاكم بالترجيح والتخيير في باب التزاحم هو العقل على طبق القاعدة ، والحاكم في باب التعارض بالتخيير والتراجيح الشرع على خلاف القاعدة. وحينئذ فيقع الكلام في مرجّحات باب التزاحم فنقول :


في مرجّحات باب التزاحم :

المرجّح الأوّل : ما إذا كان لأحد الواجبين بدل ولم يكن للآخر بدل فيقدّم ما لا بدل له ، وهو يكون على نحوين :

أحدهما : أن يكون البدل عرضيّا كما إذا تردّد أمره بين صوم الكفّارة فيفوته الحجّ وبين السفر إلى الحجّ فيفوته صوم الكفّارة. ولا ريب في تقدّم سفر الحجّ ؛ إذ الحجّ لا بدل له بخلاف صوم الكفّارة فإنّ له بدلا ، وهو بقيّة خصال الكفّارة من عتق أو إطعام ، مضافا إلى أنّه ليس من باب التزاحم ؛ إذ الواجب التخييري ـ كما سيأتي الكلام فيه ـ راجع إلى وجوب الجامع بين الخصال ، وحينئذ فكلّ واحد من الخصال لا أمر به وإنّما الأمر بالجامع ، وحينئذ فهذا الصوم ليس واجبا فلا مزاحمة أصلا.

الثاني : أن يكون البدل طوليّا كما في من كان عنده ماء بقدر وضوئه وهناك نفس محترمة تموت من العطش لو توضّأ به ، فبإطلاق أدلّة وجوب حفظ النفس المحترمة لهذه الصورة يتقدّم على الوضوء فيشرب الماء ثمّ يتيمّم للصلاة ، وحينئذ فلم تفته مصلحة كلّية ؛ لأنّ الصلاة مع الطهارة المائيّة مشروطة بالقدرة الشرعيّة على الاستعمال ، بخلاف حفظ النفس فإنّه ليس القدرة فيه إلّا شرطا عقليّا كما سيأتي أنّه من صغريات تلك القاعدة ، وحينئذ فقد أدرك مصلحة حفظ النفس وملاك الصلاة بتمامه بالطهارة الترابيّة ، كما هو مقتضى التقسيم في الآية القاضي بالتنويع كما في المسافر والحاضر ، غير أنّا علمنا من الخارج أنّ إدخال النفس تحت العجز بالاختيار محرّم ، بخلاف المسافر والحاضر فإنّه جائز ولو اختيارا.

ثمّ إنّه تفريعا على ذلك ذكر السيّد اليزدي قدس‌سره (١) في عروته ويتبعه جملة من المحشّين أنّه إن كان عنده ماء بقدر الطهارة المائيّة ودار أمره بين استعماله في الطهارة المائيّة

__________________

(١) العروة الوثقى : فصل في أحكام النجاسات ، المسألة ١٠.


وغسل ثوبه النجس المحتاج إليه في ستر الصلاة ، فأفتوا بلزوم صرفه في غسل الثوب أو البدن النجس والتيمّم عوض الطهارة المائيّة ؛ لأنّها لها بدل ، بخلاف غسل الثوب فإنّه ليس له بدل ؛ إذ الصلاة عاريا أو في الثوب النجس على الخلاف ليس بدلا وإنّما هو صلاة فاقدة لشرطها.

هذا ، ولنا في المقام كلام ملخّصه : أنّ الأمر بالستر في الصلاة والأمر بالطهارة فيها كبقيّة أوامر الأجزاء والشرائط أوامر ضمنيّة ولا يقع التزاحم بينها ، وإنّما التزاحم بين الأوامر بالمركّبات أو المقيّدات ، فهنا أمر بالصلاة مع الطهارة المائيّة وبدلها الأمر بالصلاة بالطهارة الترابيّة ، كما أنّ هنا أمرا أيضا بالصلاة في الثوب الطاهر ومع تعذّره وعدم القدرة عليه يصلّي عاريا أو في الثوب النجس ، فهذه الصلاة أيضا بدل عن تلك الصلاة ، وحينئذ فكلّ من الصلاتين ذات بدل فلا مقتضي لتقديم أحدهما على الاخرى فيتخيّر ، فتأمّل.

قال الاستاذ الخوئي ـ تعليقا على أصل الترجيح بما ذكر من كون ما ليس له البدل مقدم على ما له البدل ـ : إنّ كون شيء ذا بدل وشيء آخر ليس بذي بدل لا يقضي بتقديم الثاني على الأوّل ، نعم لو رجع إلى ما يأتي من كون القدرة في أحدهما عقليّة غير دخيلة بالملاك وفي الثاني شرعيّة دخيلة في وجود الملاك صحّت وقدّم ما لم تكن القدرة فيه شرعيّة ؛ لإطلاق دليله حينئذ وفوت الثاني فوت ما لا ملاك فيه ؛ لعدم القدرة الشرعيّة حينئذ ، والمفروض دخالتها في تحقيق الملاك ، وإلّا فلو فرض اعتبار القدرة الشرعيّة فيهما معا لم يكن وجود البدل لأحدهما مرجّحا لتقديم الآخر عليه ، مثلا الكفّارة المرتّبة أوّل خصالها العتق ثمّ الصيام ثمّ الإطعام ، وجعل البدل ظاهر في اعتبار القدرة شرعا في الواجب الأوّل الذي هو العتق ، فإذا فرض أنّ المكلّف عنده مقدار من المال يفي بالرقبة أو بالحجّ بحيث لا يفي بهما معا ، وفي كلّ منهما قد أخذت القدرة الشرعيّة في الملاك ، أمّا في الكفّارة فبظهور جعل البدل كما مرّ ، وأمّا في الحجّ فبقوله تعالى : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) المفسّر بالزاد والراحلة وأمن


الطريق ، ففي مثل المقام لا وجه لترجيح الحجّ ؛ لأنّه لا بدل له ؛ لأنّه إنّما يكون الحجّ ذا ملاك ملزم إذا استطاع إليه ، والاستطاعة موقوفة على تقدّمه ولا دليل عليه أصلا. هذا في أصل الكبرى التي ذكرها الميرزا النائيني قدس‌سره.

ولو سلّمنا صحّة الكبرى فتطبيقها على الصغرى التي ذكرها من مسألة : من عنده ماء ودار أمره بين الوضوء به وغسل ثوبه النجس به في غير محلّه ؛ لأنّ الأمر بالمركّب أمر بالصلاة مع الطهارة المائيّة بثوب طاهر ، وبما أنّ المكلّف المفروض غير قادر على صلاة جامعة للطهارة المائيّة وللثوب الطاهر فقطعا الأمر بالمركّب ساقط ؛ لقبح التكليف بما لا يطاق ، فالأوامر الضمنيّة بما أنّها تابعة للأمر بالمركّب فبذهابه ذهبت أيضا ، ولكنّ الحيرة الآن في أنّ الصلاة المجعولة في حقّه صلاة بطهارة مائيّة وثوب نجس أو صلاة بثوب طاهر وطهارة ترابيّة ، وحينئذ فالمقام من صغريات باب التعارض ؛ إذ الشكّ إنّما هو في المجعول شرعا وإنّه أيّ الفردين من الصلاة ، لا في باب التزاحم ؛ لعدم كون الشك في الامتثال.

هذا ، وسيأتي إن شاء الله أنّ دوران الأمر بين الركوع عن قيام بلا اطمينان مثلا أو الركوع من جلوس مع الاطمينان كلّه من باب التعارض ؛ للشكّ في مقام الجعل لا في مقام الامتثال ، فافهم.

ثمّ إنّ الميرزا النائيني قدس‌سره (١) طبّق ما ذكره من القاعدة الكلّية المزبورة وهي تقديم ما لا بدل له على ما له البدل على ما إذا دار أمر المكلّف بين الصلاة في الوقت مع التيمّم والصلاة مع الطهارة المائيّة بإدراك ركعة من الوقت ، فحكم الميرزا بتقديم الصلاة مع الطهارة الترابية في الوقت على الصلاة مع الطهارة المائيّة وإدراك ركعة من الوقت ، بدعوى أنّ الوقت لا بدل له وأنّ الطهارة المائيّة لها بدل. ثمّ نقل الميرزا عن بعض أنّ السيّد الشيرازي الكبير حكم بتقديم الطهارة المائيّة وإدراك الركعة ثمّ استبعد صدور ذلك منه.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ٤٩.


أقول : أمّا تطبيق تلك القاعدة الكلّية على هذا المورد فقد عرفت أنّه ليس بصحيح وأنّ المقام من مقامات باب التعارض لا التزاحم. وأمّا المسألة فهي غير منصوصة ، فإنّ التيمّم لضيق الوقت لم يرد نصّ به ، فإن قلنا بمقالة الشيخ حسين قدس‌سره (١) الذي هو من أساطين الأخباريّين إنه لا يشرّع التيمّم للضيق كلّية ؛ لأنّ المسوّغ للتيمّم عدم الوجدان وهذا واجد فلا كلام حينئذ في أنّه يتوضّأ أو يغتسل ويصلّي وإن أدرك ركعة من الوقت. وإن سوّغنا التيمّم للضيق كما هو المشهور بدعوى كون المراد من عدم الوجدان في الآية عدم القدرة بقرينة ذكر المريض الذي يندر فقد الماء عنده حينئذ ، فيكون معنى الآية أنّ القادر يغتسل أو يتوضّأ والعاجز يتيمّم ، ثمّ نأتي إلى آية (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ)(٢) وتفسيرها الوارد عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام (٣) : أنّ الله فرض أربع صلوات ما بين هذين الحدّين وأنّ صلاة الظهر والعصر يلزم أن تقعا قبل غروب الشمس ، فإذا كان الوقت لا يسعهما يعني لا يسع الصلاة والطهارة المائيّة يكون عاجزا عن الطهارة المائيّة ، فيتيمّم حينئذ للصلاة لدخوله تحت عنوان غير المتمكّن الذي فرضت الآية الاولى عليه التيمّم ، فيتيمّم ويصلّي قبل خروج الوقت. وخبر من أدرك (٤) ليس له نظر إلى الأجزاء والشرائط وإلغائهما وإنّما هو متعرّض إلى أنّ الصلاة بتمام أجزائها وشرائطها إذا عرض عارض فأخّرت قهرا عليه بحيث أدرك ركعة فقد أدرك الوقت كلّه ؛ ولذا لو تيمّم وأدرك ركعة فقد أدرك الصلاة كلّها في الوقت بتنزيل الشارع المقدّس.

__________________

(١) هو الشيخ حسين آل عصفور كما صرّح به في دراسات في علم الاصول ٢ : ١٥.

(٢) الإسراء : ٧٨.

(٣) الوسائل ٣ : ١١٥ ، الباب ١٠ من أبواب المواقيت ، الحديث ٤.

(٤) قال الشهيد في الذكرى : روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ، الذكرى ٢ : ٣٥٥ ، راجع التهذيب ٢ : ٣٨ ، الحديث ١١٩.


الثاني من مرجّحات باب التزاحم : أن يكون الملاك في أحد الواجبين مطلقا فالقدرة معتبرة فيه عقلا ، ويكون الملاك في الواجب الثاني مشروطا بالقدرة شرعا بحيث لا يكون في العمل ملاك بالإضافة إلى العاجز ، ولنعبّر عن الثاني بما اعتبرت فيه القدرة الشرعيّة وعن الأوّل بما اعتبرت فيه القدرة العقليّة.

بيان ذلك : أنّ الواجبين قد لا تكون القدرة فيهما معتبرة في تحقّق الملاك بل الملاك متحقّق فيهما مطلقا.

وقد تكون القدرة شرطا في تحقّق الملاك بحيث لا ملاك له بالإضافة إلى العاجز أصلا.

وقد تكون القدرة شرطا في تحقّق الملاك في أحدهما وليست شرطا في تحقّق الملاك في الثاني. وهذا القسم الثالث هو مورد هذا المرجّح ، فإنّه لا ريب في تقدّم ما كان مشروطا بالقدرة العقليّة على ما كان مشروطا بالقدرة الشرعيّة ثبوتا وإثباتا ؛ فإنّ أمر الشارع بغيره يعني بغير ما كانت القدرة فيه عقليّة تفويت لملاك هذا الواجب مع إطلاق ملاكه حسب الفرض ، بخلاف الأمر به فإنّه حينئذ لا يتحقّق ملاك في الثاني لعدم القدرة ، وبانعدامها ينعدم الملاك ؛ لتعليقه على القادر ، فيكون عدم الثاني لعدم ملاكه فلا تفويت فيه للملاك ، ومن المعلوم أنّ الشارع لا يفوّت الملاك الملزم.

ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يقترن زمانهما أو يتقدّم أحدهما على الآخر ؛ لجريان ما ذكر في جميع هذه الصور بعد فرض تحقّق التزاحم بينهما ، مثال ذلك : ما إذا كان جواب السلام موجبا لفوات الحجّ عليه ، والحجّ مشروط بالقدرة الشرعيّة ، بخلاف وجوب ردّ السلام فهو مشروط بالقدرة عقلا ، فملاك وجوب ردّ السلام مطلق وملاك وجوب الحجّ مشروط بالقدرة الشرعيّة ، فيتقدّم وجوب ردّ السلام وإن كان الحجّ أهمّ ؛ لأنّ أهميّته بعد فرض وجوبه ، والمفروض أنّه لا وجوب له ؛ لعدم ملاكه حال العجز. هذا كلّه في الفرض الثالث.


وأمّا الفرض الثاني وهو ما إذا كان الوجوب مشروطا بالقدرة الشرعيّة في كليهما فليس حينئذ الوجوب إلّا لأحدهما ؛ لأنّه ليس له قدرتان بل له قدرة واحدة ، فإمّا أن تصرف في هذا أو ذاك ، وحينئذ فإن كان لأحدهما تقدّم بحسب الزمان تقدّم ؛ لوجود موضوعه بلا مزاحم حينئذ ، فإذا جاء ظرف الثاني كان عاجزا فينتفي ملاكه في حقّه ، وإن لم يكن لأحدهما تقدّم زماني بل كانا متقارنين فالتخيير حينئذ إذا تساويا في الملاك وهو بحكم العقل ، يعني أنّ العقل يدرك حكم الشارع بالتخيير حيث يتساويان في الملاك ؛ إذ إيجابهما عليه محال ، وإيجاب أحدهما معيّنا بلا مرجّح ، وتفويت الملاك غير جائز من الشارع فلا بدّ من إيجاب أحدهما تخييرا بحكم الشارع والكاشف هو العقل.

وأمّا إذا كان أحدهما أهمّ ملاكا فقد ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره (١) التخيير أيضا بدعوى كونه أهمّ إذا اختاره لصرف قدرته فيه ، ولا يجب عليه اختياره ؛ إذ لا يجب على الإنسان أن يصيّر الشيء أهمّ ملاكا في حقّه. والظاهر لزوم تقديم الأهمّ ؛ لأنّ شرط فعليّته ليس إلّا كونه قادرا عليه مع عدم المنع الشرعي عنه بالاستلزام بأمره بضدّه ، وهنا القدرة قبل الاختيار لأحدهما موجودة قطعا ، ولا يمكن أن ينهى الشارع عن الأهمّ حتّى استلزاما ، فالأهمّ حينئذ قد وجد موضوعه وهو القادر العقلي والشرعي ؛ إذ العجز الشرعي إنّما هو بالأمر بالضدّ فعلا ، ولا يعقل أن يأمر الشارع به ؛ للزومه تفويت الملاك الأهمّ ، فلا يعقل أن يعيّن غير الأهمّ ؛ للزوم ترجيح المرجوح ، على الراجح فيدور الأمر بين التعيين والتخيير وفي مثله لا بدّ من القول بالتعيين ، مثال ذلك : ما إذا كان قادرا على قيام إمّا في صلاة الظهر أو العصر فيقدّم القيام في صلاة الظهر وعند مجيء صلاة العصر يكون عاجزا ،

__________________

(١) فوائد الاصول (١ و ٢) : ٣٣١.


فلا يكون لقيامه ملاك حينئذ ليفوت. وكذا إذا كان ممّن يجب عليه الوضوء لكلّ صلاة كالمسلوس والمبطون ولم يتمكّن إلّا من وضوء واحد.

ثمّ إنّهم ذكر بعضهم من أمثلة ذلك : ما إذا نذر حال فقره صلاة ركعتين عند قبر الحسين عليه‌السلام يوم عرفة ثمّ استطاع للحجّ في تلك السنة ، فهل يتقدّم النذر لأسبقيّة زمانه كما ذهب إليه صاحب الجواهر قدس‌سره (١) وتبعه جملة ممّن تأخّر عنه حتّى من المعاصرين أيضا (٢) ويسقط الحجّ ؛ لعدم القدرة عليه ، أو يتقدّم الحجّ وليس داخلا تحت هذا الباب كلّية ولا من فروع هذه المسألة أصلا فنقول وبالله الاستعانة :

في مزاحمة الحجّ لنذر ركعتين عند الحسين عليه‌السلام :

قد ذكر الشيخ صاحب الجواهر قدس‌سره أنّ من نذر أن يصلّي ركعتين عند الحسين عليه‌السلام في كلّ يوم عرفة ثمّ استطاع للحجّ بوجدان الزاد والراحلة وتخلية السرب لا يجب عليه الحجّ ؛ لأنّه قد اشترط في وجوب الحجّ القدرة الشرعيّة ، فالملاك للحجّ بدون القدرة غير حاصل ، وليس له قدرة شرعيّة ؛ لسبق النذر زمانا على زمان تعلّق وجوب الحجّ.

وظاهر الميرزا النائيني (٣) وجملة ممّن تأخّر عن صاحب الجواهر (٤) المناقشة في تقدّم النذر مع تسليم كون المقام من صغريات ما نحن فيه من تقدّم أحد الواجبين على الآخر.

__________________

(١) حكي عنه هذا الرأي في أكثر من مصدر ولم نقف في الجواهر.

(٢) انظر العروة الوثقى في شرائط وجوب الحج الثالث : الاستطاعة ، مسألة : ٣٢ ، والمستمسك ١٠ : ١١٨ ـ ١٢٠ ذيل تلك المسألة.

(٣) انظر فوائد الاصول (١ و ٢) : ٣٣٠.

(٤) انظر الهوامش في العروة الوثقى في شرائط وجوب الحجّ ، ذيل المسألة ٣٢ ، وكتاب الحجّ للسيّد الخوئي ١ : ١٤٦ ـ ١٥٥.


والظاهر أنّ المقام ليس من صغريات ما نحن فيه والحجّ هو المقدّم ، أمّا كونه ليس من صغريات المقام فلأنّه إنّما قدّمنا في مقام الترجيح ما كان الواجب فيه متقدّما لا ما كان الوجوب فيه أو سبب الوجوب مقدّما ، وفي مسألة الحجّ والنذر ليس المتقدّم إلّا الوجوب إن قلنا بالوجوب التعليقي ، أو سبب الوجوب إن لم نقل به ، وأمّا الواجبان فهما متقارنان ، بخلاف ما نحن فيه من القيام في صلاة الظهر والعصر والتيمّم لأحدهما والوضوء للآخر حيث يحتاج المكلّف إلى وضوءين ، فالحجّ والنذر ليس من صغريات المقام من تقديم ما كان زمانه أسبق.

وأمّا وجه تقديم الحجّ فلأنّ النذر وإن شارك الحجّ في اشتراطه بالقدرة الشرعيّة إلّا أنّ الوفاء بالنذر إنّما يجب إذا لم يك مقتضيا لتحريم الحلال وتحليل الحرام وإلّا فلا يتوجّه حينئذ الوجوب نحو الوفاء والوفاء ، في المقام في نفسه ومع قطع النظر عن توجّه الوجوب إليه موجب لتحليل الحرام وهو ترك الحجّ فإذا كان كذلك فلا يتوجّه وجوب الوفاء نحوه في تلك السنة ، وحينئذ فلا مزاحم لوجوب الحجّ وإلّا لجاز لكلّ أحد تفويت وجوب الحجّ بنذر صلاة ركعتين عند أهله ولا يلتزم بذلك أحد.

هذا مع إمكان أن يقال : إنّ القدرة في جانب النذر شرط من جميع الجهات ولكنّها في الحجّ ليست كذلك ، فإنّ استطاعة السبيل إلى الحجّ التي أخذت في موضوع وجوب الحج قد فسّرت في أخبار أهل البيت عليهم‌السلام (١) بصحّة البدن والزاد والراحلة وتخلية السرب ، وحينئذ فهو غير مشروط بالقدرة المطلقة ، بل بقدرة خاصّة وهي حاصلة حتّى مع النذر ، بخلاف النذر فإنّ شرطه القدرة المطلقة حتّى أنّ الأمر بالحجّ يرفعها ؛ لعدم القدرة حينئذ شرعا.

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢٣ ، الباب ٨ من أبواب وجوب الحج ، الحديث ٤ و ٧ و ١٠.


بقي الكلام في فرعين :

أحدهما جواز الإحرام قبل الميقات بالنذر و [ثانيهما](١) الصوم في السفر ، فإنّهما ليسا في أنفسهما راجحين فكيف ينعقد النذر بالنسبة إليهما؟ فهل يكونان مخصّصين لاعتبار رجحان المنذور أو أنّ الرجحان من قبل تعلّق النذر بهما كاف ، كما في الوعد فإنّ متعلّقه إذا لم يكن في نفسه راجحا إلّا أنّ تحقّق الوعد به يصيّره راجحا. فالإحرام قبل الميقات والصوم في السفر في نفسهما ليسا راجحين إلّا أنّ تعلّق النذر بهما يصيّرهما راجحين كما ذهب إلى ذلك السيّد الطباطبائي في عروته (٢) ، وقد أشكل عليه الميرزا النائيني (٣) بأنّ كلّ شيء وإن كان مرجوحا يجوز أن ينذر بناء على ذلك ؛ لأنّه بمجرّد نذره يكون راجحا ، ويكفي الرجحان من قبل النذر حسب الفرض فيكون حينئذ اشتراط الرجحان لغوا.

ولا يخفى أنّ ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره غير وارد ؛ لأنّ حرمة الكذب مثلا مطلقة بمقتضى الدليل المثبت لها فهو محرّم قبل تعلّق النذر به وبعد تعلّق النذر به فلا يكون تعلّق النذر به كاشفا عن رجحانه ، وهكذا غير الكذب من المحرّمات ، وهذا بخلاف الإحرام قبل الميقات والصوم في السفر فإنّ إطلاق دليل تحريمهما قد قيّد بما إذا لم ينذر ، فإذا وقع متعلّقا للنذر لا يكون حينئذ محرّما ومرجوحا بمقتضى هذه الأخبار الخاصّة بها (٤). نعم لو ورد في غيرهما دليل يدلّ على رجحان محرّم آخر حيث يتعلّق به النذر لكان مقيّدا لإطلاق تحريمه أيضا إلّا أنّه ليس فليس. هذا كلّه حيث يكونان معا مشترطين بالقدرة الشرعيّة.

__________________

(١) زيادة اقتضاها السياق.

(٢) العروة الوثقى : كتاب الحجّ ، فصل في أحكام المواقيت ، المسألة ١.

(٣) انظر فوائد الاصول ١ و ٢ : ٣٣١ ـ ٣٣٢.

(٤) الوسائل ٨ : ٢٣٦ ، الباب ١٣ من أبواب المواقيت.


وأمّا القسم الثالث وهو ما لم يكن الملاك فيه مشروطا بالقدرة ، بل القدرة معتبرة فيه عقلا ، فتارة يكون أحدهما أهمّ ملاكا من الآخر أهميّة ملزمة وفي مثله لا بدّ من تقديمه على المهمّ ؛ لأنّه يكون من قبيل تزاحم المستحبّ والواجب ولا ريب في أنّ المهمّ لا يزاحم الأهمّ ، بل الشارع المقدّس لا يرفع اليد عن الأهمّ لأجل المهمّ فالعقل حينئذ يحكم بلزوم مراعاة الأهمّ ، من غير فرق بين أن يكون الأهمّ سابقا أو مقارنا أو لاحقا بحسب الزمان ، ولا فرق في اللاحق بحسب الزمان بين أن يكون وجوبه فعليّا وزمانه متأخّرا كما إذا قلنا بالوجوب المعلّق ، أو لم يكن فعليّا كالوجوب المشروط ؛ ضرورة أنّه يجب حفظ القدرة على الأهمّ في ظرفه ، مثلا إذا كان عنده مقدار من الماء لا يكفي إلّا ظمآن واحدا ودار الأمر بين أن يعطيه لزيد المؤمن فعلا لكنّه يعطش النبيّ بعد ساعة فيموت عطشا ، وبين أن يبقيه للنبيّ الذي يعطش بعد ساعة ، لا ريب في حكم العقل بلزوم حفظه وإن لم يكن وجوب فعلا لحفظ النبيّ ، لكنّه يحدث قطعا حسب الفرض وإن فات ملاك حفظ المؤمن إلّا أنّه بالعجز ، نعم لو عصى وقدّم الماء للمؤمن فهل أطاع أمره أم لا؟ كلام مبنيّ على الترتّب كما سيجيء.

وأمّا إذا كانا متساويين في الأهميّة (*) فلا ريب في كون الحكم هو التخيير بينهما ؛ لفرض وجدان كلّ منهما لملاكه وقدرة المكلّف على أحدهما قطعا فلا يفوت الشارع لكليهما ؛ إذ الضرورة تقدّر بقدرها ، إلّا أنّ الكلام في أنّ التخيير هنا شرعي أم عقلي :

ذهب جماعة (١) إلى كون التخيير شرعيّا بدعوى كون الخطاب بهما معا محال ؛ لقبح التكليف بما لا يطاق ، وبأحدهما معيّنا ترجيح من غير مرجّح فيسقط الخطابان ،

__________________

(*) المراد من كونهما متساويين عدم إحراز أهميّة أحدهما ، فلا ينافي احتمال الأهميّة لأحدهما بعينه كما سيأتي في ثمرات الميرزا. (الجواهري).

(١) منهم صاحب الحاشية في هداية المسترشدين ٢ : ٢٧١ ، والمحقّق الرشتي في بدائع الأفكار : ٣٦٧ ، على ما نسب إليهما في أجود التقريرات ٢ : ٤٥.


وبما أنّ ملاكهما باق فيستكشف العقل خطابا شرعيا لأحدهما الذي هو الجامع بينهما ؛ لأنّ تفويت الملاكين مع القدرة على أحدهما قبيح على الشارع.

وذهب آخرون منهم الميرزا النائيني قدس‌سره (١) إلى كون التخيير بينهما عقليّا بدعوى كون التزاحم بين إطلاقي الدليلين ، وأمّا تقيّد كلّ منهما بصورة ترك الآخر فلا تزاحم حينئذ بينهما ؛ إذ يكون كلّ منهما واجبا بشرط ترك الآخر ، وهو بشرط ترك الآخر مقدور ، فلا مقتضي لسقوط كلا الخطابين أصلا مع ارتفاع المحذور بسقوط إطلاقهما بما ذكرناه من التقييد.

ولا ريب أنّ الصناعة تقتضي الثاني فيكون المكلّف مخيّرا بين ترك هذا وفعل ذاك ـ لوجدان شرط وجوبه حينئذ ـ وبين العكس فالتخيير حينئذ عقلي بين فردي الواجب.

وقد ذكر الميرزا النائيني (٢) ثمرات للتفرقة بين التخييرين :

أحدها : أنّه على القول بالتخيير الشرعي لا يستحقّ تاركهما إلّا عقابا واحدا لترك الجامع المأمور به ، بخلافه على التخيير العقلي فإنّه إذا تركهما معا فقد وجد شرط وجوب كليهما فيستحقّ عقابين ، نعم لو اشتغل ـ عند ترك أحدهما ـ بفعل الآخر كان معذورا عن الآخر بالعجز عنه ، إلّا أنّه في ظرف عدم الاشتغال ليس له عذر.

وما يقال : من لزوم الأمر بالضدّين حينئذ ؛ لأنّه بترك الأوّل لم يسقط أمره فكيف يؤمر بالثاني؟ مدفوع بأنّ مآل ما ذكرنا إلى النهي عن الجمع بين التركين وهو أمر مقدور يمكن توجّه النهي نحوه ؛ لأنّه عند ترك أحدهما قادر على ترك الآخر وفعله معا فيتوجّه النهي عن تركه.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٦.

(٢) انظر المصدر المتقدّم.


ثانيها : ما إذا كان أحدهما محتمل الأهميّة بعينه دون الآخر ، فبناء على التخيير الشرعي يدخل تحت دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، فكلّ على مبناه من براءة واشتغال ، بخلاف ما إذا قلنا بالتخيير العقلي فيتعيّن محتمل الأهميّة حتّى على القول بالبراءة في تلك المسألة ؛ لأنّه لو أتى بغير محتمل الأهميّة يشكّ في الامتثال ؛ لاحتمال إطلاق دليل محتمل الأهميّة ؛ لأنّه على تقدير كونه أهمّ لا يقيّد إطلاق دليله ، بل يبقى على إطلاقه ، وإنّما يقيّد على تقدير التساوي في الواقع ، ففي صورة احتمال الأهميّة لا يحرز الامتثال بغير الأهمّ.

أقول : لا يخفى أنّ هذه الثمرة غير تامّة ؛ لأنّه وإن كان الاشتغال جاريا على التخيير العقلي إلّا أنّه على التخيير الشرعي أيضا كذلك وإن قلنا بالبراءة في دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، وذلك لأنّ البراءة في دوران الأمر بين التعيين والتخيير إن كان الدوران للتردّد في مقام الجعل ، أمّا لو كان من جهة المزاحمة ـ كما في المقام ـ فإنّ المفروض كون كلّ من الخطابين في مقام الجعل تعيينيا ، وإنّما تحقّق الدوران بين التعيين والتخيير من جهة المزاحمة ، وحينئذ فإطلاق الدليل لا يحرز سقوطه إلّا إذا تحقّق التساوي في الملاك ، أمّا إذا لم يتحقّق فلا يعلم حينئذ التقييد فيبقى إطلاقه فلا يحرز الفراغ حينئذ إلّا بالإتيان بمتعلّقه ، فلا ثمرة بين القولين من هذه الجهة ، فافهم وتأمّل.

ثالثها : أنّا لو قلنا بالتخيير الشرعي بدعوى سقوط كلا الخطابين واستكشاف العقل حكم الشارع بالوجوب التخييري من جهة قبح تفويت الملاك الملزم ففي ما إذا كان الواجبان المتزاحمان طوليّين من حيث الزمان ، كأن وجب عليه التصدّق في هذا اليوم وفي غده إلّا أنّه لا يقدر عليهما معا ؛ لعدم المال ، وإنّما يقدر على أحدهما ، فعلى التخيير الشرعي له ترك التصدّق هذا اليوم فيتصدّق غدا ، بخلاف ما إذا قلنا بالتخيير العقلي فيتعين عليه فعل الأسبق زمانا ؛ لأنّ شرط تركه فعل الآخر ولم يتحقّق.


أقول : إنّ هذه الثمرة كسابقتها غير تامّة ، فإنّه كما يتخيّر المكلّف على التخيير الشرعي كذلك يتخيّر على التخيير العقلي أيضا ؛ لفرض التساوي بين الملاكين وسقوط إطلاق كلا الخطابين وتقييده بترك الآخر ولو في ظرفه سابقا أو لاحقا ، فله أن يترك التصدّق هذا اليوم ويتصدّق غدا ، وله أن يتصدّق هذا اليوم ويترك غدا ولا مقتضي لترجيح التصدّق هذا اليوم ، غاية الأمر أنّ وجوب التصدّق يكون مشروطا بالشرط المتأخّر تارة ، والمتقدّم اخرى فليست هذه ثمرة.

ثمّ إنّ الميرزا قدس‌سره (١) ذكر ما إذا تردّد أمر المكلّف بين جزء لواجب أو شرط لواجب آخر ، فذكر كلّيات كتقديم الركن على غيره وكتقديم الجزء على الشرط وتقديم الجزء على وصف الجزء في الأداء ، وما ذكره قدس‌سره إن دلّ الدليل التعبّدي عليه فهو ، وإلّا فصرف كونه ركنا لا يقضي بأهميّته مثلا.

بقي الكلام فيما ذكره الميرزا قدس‌سره (٢) من إعمال تراجيح التزاحم بين القيام مثلا في الركعة الاولى والقيام في الركعة الثانية من الصلاة ، وكذا غير القيام من أجزاء العمل الواحد أو شرائطه ، والظاهر أنّ ذلك ليس داخلا في باب التزاحم ؛ لأنّ الخطاب واحد متّجه نحو العمل بتمام أجزائه وشرائطه ، فإن تعذّر الجزء أو الشرط فلا وجوب ـ لو لا عدم سقوط الصلاة بحال ـ فيجب الباقي ، فإذا تردّد المكلّف بين ترك القيام ويأتي بالركوع والسجود ، وبين ترك الركوع والسجود والإتيان بالقيام فيومئ لهما كما قد يتّفق في ركوب القطار.

فحينئذ المكلّف يعلم بأنّ الصلاة المشتملة على القيام والركوع والسجود ساقطة في حقّه قطعا ، وقطعا أيضا يجب عليه صلاة مردّدة بين أن تكون ذات ركوع وسجود ولكنّها فاقدة للقيام ، أو ذات قيام لكنّها فاقدة للركوع والسجود إلّا إيماء ، فالشكّ في أصل الجعل وهو من مصاديق باب التعارض لا التزاحم ؛ لكون الكلام

__________________

(١ و ٢) انظر أجود التقريرات ٢ : ٥٠.

(١ و ٢) انظر أجود التقريرات ٢ : ٥٠.


في الحكم في عالم الثبوت لا في عالم الإثبات ، وفي مقام الجعل لا في مقام الامتثال ، ومعلوم أنّ ميزان الفرق بينهما هو ذلك ، فإنّ التزاحم هو التنافي في مقام الثبوت ، والتعارض هو التنافي في مقام الإثبات وبين الدليلين كما هو واضح.

وبتقريب آخر : أنّ ملاك العمل الارتباطي الواحد واحد ، فمع فرض العجز عن بعض أجزائه أو شرائطه فمقتضى القاعدة فوات الملاك إن كان لكلّ منها دخل فيه حتّى حال العجز ، وهو خلاف الفرض ؛ لكون الصلاة لا تسقط بحال ، وعدم دخلها يوجب أن [يكون](١) له ترك كليهما ؛ لعدم دخلهما في الملاك. وهو خلاف الفرض أيضا فيبقى احتمالان : أحدهما دخل الجامع بينهما في الملاك. الثاني دخل أحدهما بخصوصه ، فيدور الأمر بين التعيين والتخيير والمختار فيه البراءة من الخصوصيّة فيجب الجامع بينهما ، وكذا إذا احتمل الخصوصيّة في كلّ منهما واحتمل وجوب الجامع أيضا فتجري البراءة من كلّ من الخصوصيّتين. ولا يخفى أنّه إذا علمت الخصوصيّة في أحدهما من غير تعيين فلا بدّ من تكرار العمل احتياطا بكلّ من الخصوصيّتين للعلم الإجمالي.

وحينئذ فدوران الأمر بين أجزاء العمل الواحد يتصوّر بوجوه :

أحدها : أن يدور الأمر بين جزءين قد تثبت جزئيّتهما بدليل واحد أو شرطين كذلك أو جزء وشرط كذلك كالقيام في الركعة الاولى والقيام في الركعة الثانية ، وكالطمأنينة في الركوع الأوّل أو الثاني ، ولا ريب في كون مقتضى القاعدة بعد سقوط الأمر بالمركّب منهما معا وقيام الدليل على لزوم الباقي هو التخيير بينهما من دون فرق بين السابق واللاحق أصلا ، نعم لو ظهر من الدليل تدريجيّة الجزء بحيث استفيد منه لزوم صرف القدرة في الأسبق بحسب الوجود تقدّم الأسبق كما هو غير بعيد في خصوص القيام ؛ لقوله : «إذا قوي فليقم» (٢).

__________________

(١) زيادة باقتضاء السياق.

(٢) الوسائل ٤ : ٦٩٨ ، الباب ٦ من أبواب القيام ، الحديث ٣.


الثاني : أن يكون الجزءان أو الشرطان أو الجزء والشرط قد ثبتت جزئيّتهما أو شرطيّتهما أو جزئيّة أحدهما وشرطيّة الآخر بدليلين ، فبعد سقوط المركّب منهما لعدم القدرة ولزوم الإتيان بالباقي فقد يكون الدليلان مجملين معا فحينئذ يتساقطان ، ويرجع إلى الاصول ، كالطمأنينة في ذكر السجود وطهارة محلّه إذا دار الأمر بينهما. وقد يكون أحد الدليلين مجملا كالاجماع والآخر مطلقا أو عامّا ، وفي مثله لا ريب في تقديم المطلق أو العامّ ؛ لأنّ دليل الثاني هو الإجماع ، والقدر المتيقّن منه غير هذه الصورة فلا يكون شاملا لها فلا معارض للعامّ ولا للمطلق.

الثالث : أن يكون أحد الدليلين مطلقا والآخر عامّا ولا ريب في تقديم ما كان عامّا ؛ لأنّه بالوضع ، والمطلق بمقدّمات الحكمة ، والعامّ يصلح بيانا فلا تحرز عدم البيان.

الرابع : أن يكونا مطلقين معا ففي مورد الاجتماع يتساقطان ويرجع إلى أصالة عدم ملاحظة الخصوصيّة فيتخيّر بين الواجبين ؛ للعلم بوجوب إتيان المقدور من الأجزاء.

الخامس : أن يكونا عامّين معا فهنا يرجع إلى مرجّحات باب التعارض ، وهي الأخذ بأشهر الروايتين إن كان أوّلا وإلّا فما خالف العامّة وإلّا فما وافق الكتاب وإلّا فالتخيير ، فإنّك حينئذ بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك.

وبالجملة ، فما يعتبر في واجب واحد ليس الدوران فيه من باب التزاحم كلّية وإنّما هو من باب التعارض والحكم فيه ما مرّ ، ولا فرق بين الركن فيه وغيره ، ولا بين السابق واللاحق ، هذا تمام الكلام فيما كان من قبيل ما يعتبر في العمل الواحد.

تنبيه : [التزاحم في مقام الجعل]

إنّ التزاحم بين الأحكام وهو الذي قد تكلّمنا فيه وقد ذكرنا مرجّحاته فيما تقدّم. وهناك تزاحم آخر في مقام الجعل وهو ما إذا كان في الفعل مصلحة من جهة


ومفسدة من جهة اخرى ، وأحكام هذا التزاحم ليست راجعة إلينا ، وإنّما هي راجعة إلى نفس الجاعل فقد تكون المصلحة الملزمة والمفسدة الملزمة متساويتين في الأهميّة فلا بدّ من جعل الإباحة ، وقد تكون المصلحة الملزمة أهمّ فلا بدّ من ملاحظة أنّ الأهميّة بمقدار يتسامح فيه وغير ملزم فيجعل الاستحباب أو بمقدار ملزم فيجعل الوجوب ، وقد تكون المفسدة أهمّ فإن كانت بمقدار غير ملزم فلا بدّ من جعل الكراهة ، وإن كانت بمقدار ملزم فلا بدّ من جعل التحريم ، إلّا أنّ هذا كلّه ليس من وظائفنا وإنّما هو وظيفة المشرّع للأحكام.

في أقسام التزاحم :

ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره (١) أنّ أقسام التزاحم ستّة ، والظاهر أنّها لا تزيد على ثلاثة كما سيظهر ذلك :

الأوّل : أن لا يقدر المكلّف على الامتثالين معا اتّفاقا كما إذا لم يكن قادرا إلّا على قيام واحد فهل يقوم في صلاة الظهر أم العصر؟

الثاني : ما إذا وقع التضادّ بين الواجبين اتّفاقا.

أقول : التضادّ من الامور الذاتية فلا يعقل تحقّقه اتّفاقا إلّا من جهة عدم جهة عدم قدرة المكلّف عليهما معا من باب الاتّفاق فيتضادّان من حيث قدرة المكلّف ، فهذا القسم ليس قسما في قبال القسم الأوّل ، بل هو هو وإن اختلف التعبير ، فافهم.

الثالث : ما إذا كان الحرام مقدّمة لواجب اتّفاقا فيتزاحم وجوب الواجب وحرمة الحرام ؛ إذ لا يمكن جعل الوجوب للواجب وتحريم مقدّمته ، ثمّ إنّه لا بدّ من كون التوقّف اتّفاقيا ، وإلّا فلو كان دائميّا فهما متعارضان.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ٥٢ ـ ٥٣.


الرابع : ما إذا كان فعل الواجب ملازما لفعل حرام من باب الاتّفاق ، لما تقدّم من أنّه لو كان التلازم دائميّا دخل في التعارض ، مثال ذلك ما إذا كان استقبال القبلة واجبا ، واستدبار الجدي حراما ففي مكّة مثلا لا ملازمة بينهما ، وفي اليمن كذلك وفي كثير من أقطار الأرض يمكن أن يؤتى بالواجب ويترك المحرّم ، ولكنّه في العراق لا يمكن ذلك فيقع التزاحم بين فعل الواجب وترك الحرام.

الخامس : مورد اجتماع الأمر والنهي فإنّا إن قلنا بامتناع الاجتماع ـ إمّا لكون الفعل الخارجي حقيقة واحدة كما ذهب إليه صاحب الكفاية (١) ، أو لكونه حقيقتين لكنّ الأمر يسري إلى متعلّق النهي وبالعكس ـ فهما من باب التعارض لا التزاحم ، وإن قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي ـ لأنّهما حقيقتان ولا سراية ـ فهما متزاحمان.

أقول : إن فرض تحقّق المندوحة فلا تزاحم ؛ لإمكان الصلاة في غير الدار المغصوبة فيفعل الواجب ويترك الحرام ، وإن فرض عدم المندوحة كان من باب التزاحم إلّا أنّه ليس خارجا عن المتلازمين اتّفاقا.

السادس : ما إذا كان التزاحم من غير جهة القدرة ، وقد ذكر الميرزا قدس‌سره (٢) أنّ هذا القسم نادر التحقّق وأنّه لم يجد له مثالا إلّا واحدا ، هو ما إذا ملك خمسا وعشرين من الإبل في أوّل محرّم الحرام ثمّ في رجب ملك ناقة اخرى ثمّ بقي حتّى عاد رجب ثانيا فبما أنّ حول الخمس وعشرين قد تمّ فعليه خمس شياه ، وبما أنّ حول الستّة والعشرين قد تمّ أيضا فعليه بنت مخاض من الإبل ، وبما أنّا نعلم أنّ المال الواحد لا يزكّى في العام الواحد مرّتين فيقع التزاحم من غير جهة القدرة ؛ لأنّ المفروض قدرة المكلّف على تسليم الشياه وبنت المخاض معا.

__________________

(١) انظر الكفاية : ١٨٤ و ١٩٤ ـ ١٩٥.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٥٣.


ولكن الظاهر خروج هذا القسم عن باب التزاحم ودخوله في باب التعارض ؛ لأنّ العلم بأنّ المال لا تجب فيه الزكاة مرّتين في حول واحد يوجب العلم بأنّ الجعل في المقام جعل لوجوب واحد مردّد بين الخمس شياه والبنت مخاض ؛ إذ لو كان الملاك موجودا في كلّ من الوجوبين لتحقّقا معا ، فالعلم بعدم تحقّقهما معا يدلّ على أنّ الجعل في مقام الثبوت واحد وإن تردّد بين أمرين ، نظير وجوب الظهر أو الجمعة في يومها.

وإذا علم أنّهما من قبيل المتعارضين فهل يرجع إلى مرجّحات باب المعارضة؟

المشهور كما عن الجواهر (١) تقديم زكاة النصاب الأوّل ، لا لأنّهما متزاحمان والعبرة بأسبقهما زمانا ، بل لأنّهما متعارضان ، ولكن تقديم أدلّة النصاب الأوّل لحكومتها على أدلّة النصاب الثاني فيخرج المورد عن موضوع وجوب زكاة نصاب الستّ والعشرين.

بيان ذلك : أنّ العلم بعدم وجوب زكاة المال الذي وجبت فيه الزكاة تقيّد أو تخصّص إطلاق أو عموم دليل وجوب بنت المخاض بما إذا لم تجب فيه الزكاة ، وحينئذ فبمجرّد تماميّة حول الخمس وعشرين تحقّق مصداق حول خمس وعشرين من الإبل وهي خمس شياه ، فإذا تمّ حول الستّ والعشرين لا يتحقّق موضوع وجوب زكاة الستّ والعشرين ؛ لأنّ موضوعها المال الذي لم تجب فيه الزكاة في ذاك الحول وقد وجبت في بعضه وهو الخمس وعشرين حسب الفرض ، وهذا متين وهو ظاهر.

فتلخّص أنّ أقسام التزاحم ثلاثة : تزاحم الواجبين وهو القسم الأوّل ، وتزاحم الواجب والحرام من جهة الملازمة وهو القسم الثاني ، أو من جهة المقدّميّة وهو القسم الثالث ، فيقع الكلام الآن وقد فرغنا من أقسام التزاحم في إمكان الترتّب في كلّ من هذه الأقسام الثلاثة الأوّل فالأوّل وعدم الإمكان ، ويقع الكلام الآن في الأوّل.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٥٣.


[القسم الأول من موارد الترتب : تزاحم الواجبين]

إذا تزاحم واجبان فإن تساويا بحسب الملاك ولم يكن أحدهما أهمّ من الثاني فيتخيّر المكلّف حينئذ في الإتيان بأيّهما شاء ، وإن كان أحدهما أهمّ فلا ريب في لزوم تقديم الأهمّ ، إلّا أنّ الكلام في أنّ تقديم الأهمّ يوجب سقوط خطاب المهمّ رأسا ، بحيث لو أتى به لم يكن إتيانا بواجب ، أو أنّ تقديم الأهمّ إنّما يوجب سقوط إطلاق خطاب المهمّ لا نفسه فيكون الأهمّ باقيا على إطلاقه فلو تركه عوقب على كلّ حال ، ويكون أمر المهمّ مشروطا بترك الواجب الأهمّ ، ولو ترك المهمّ بعد ترك الأهمّ فقد ترك واجبا ؛ لحصول شرط وجوبه وهو ترك الأهمّ.

ولا يخفى أنّ الترتّب إذا ثبت إمكانه لا يحتاج وقوعه إلى دليل آخر ؛ لإطلاق دليل كلا الواجبين ، وإنّما يرفع اليد عن إطلاقهما بالقدر الذي لا بدّ منه وهو الذي يستحيل من جهته بقاء الإطلاق ، فكلّما أمكن الترتّب فهو واقع ؛ لحصول دليل وقوعه وتحقّقه ، وإنّما المانع من الأخذ به الاستحالة فإذا فرض أنّه ليس بمستحيل فلا مانع من الأخذ بالإطلاق.

[في إمكان الترتّب وعدمه] :

وكيف كان ، فالقائل بالترتّب في الواجبين المتزاحمين لا بدّ له من مقدّمات لا بأس بالتعرّض لها :

المقدّمة الاولى : أنّ الساقط من جهة المزاحمة هو إطلاق خطاب المهمّ لا أصله ؛ لأنّ الموجب للتزاحم ليس صرف وجود الأمر بالأهمّ وإنّما الموجب للتزاحم هو امتثال الأمر ؛ إذ حينئذ يعجز عن إتيان الواجب الآخر ، وإلّا فصرف وجود الأمر بالواجب لا يعجز عن الواجب الآخر ، وحينئذ فشرط فعليّة الأمر بالمهمّ إنّما هو عصيان الأمر بالأهمّ فيقيّد إطلاق خطاب المهمّ بصورة عصيان الأمر بالأهمّ فيكون الأمر بالأهمّ مطلقا والأمر بالمهمّ مشروطا بعصيان الأمر بالأهمّ.


وبالجملة ، إن كان الساقط من جهة المزاحمة أصل الخطاب فالترتّب مستحيل ، وإن كان الساقط إطلاقه فالترتّب ممكن بل واجب ، فالقائل بالترتّب لا بدّ له من إثبات الثاني.

ومن هنا ظهر أنّه إذا كان الخطاب بالمهمّ مشروطا بالقدرة الشرعيّة فالترتّب غير معقول كما في المتيمّم ، فإذا كان عنده مقدار من الماء تعيّن صرفه في إحياء نفس محترمة فإذا لم يصرفه في إحيائها وتوضّأ به لا يكون وضوؤه صحيحا ؛ لاشتراطه بالقدرة الشرعيّة والعقليّة فهو الآن غير قادر شرعا على الوضوء فوضوؤه باطل ؛ لسقوط أصل خطابه لعدم الملاك ؛ لكون ملاكه مختصّا بالمقدور شرعا ، ومع وجوب صرفه في رفع عطش المؤمن مثلا فليس بقادر شرعا حينئذ ، هذا ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (١).

وحيث عرفت أن لا طريق لنا إلى إحراز الملاك أو نفيه إلّا أمر الشارع فحيث يوجد الأمر يوجد الملاك وحيث ينتفي ينتفي يعني لا نحرزه نحن ، فلا فرق بين ما أخذت القدرة فيه شرعا أو عقلا في أنّ المزاحمة بين المهمّ والأهمّ إن كانت رافعة للأمر بالأهمّ كلّية فلا أمر به ، وإن كانت رافعة لإطلاقه لصورة امتثال الأهمّ ففي صورة العصيان للأهمّ لم يرتفع إطلاق الأمر بالمهمّ فيصحّ الإتيان به ، كما أنّ ما ذكره ثانيا لمنع الترتّب في أمثال المقام من أنّ الأمر هنا بنفسه معجّز بخلاف موارد الترتّب فإنّ الامتثال للأهمّ فيها معجز ، لا يخفى ما فيه ، فإنّ فيه الامتثال أيضا معجّز والكلام فيما إذا عصى الأمر بالأهمّ في صحّة المهمّ. كما أنّ ما ذكره من جعله صورة الأمر بصرف الماء في الطهارة الخبثيّة من أمثلة الترتّب فلا يخفى ما فيه ، فإنّ الترتّب في صورة تزاحم الواجبات النفسيّة لا الغيريّة.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ٩٠ ـ ٩١.


المقدّمة الثانية : إنّ العصيان الذي هو شرط الأمر بالمهمّ [هل](١) هو العصيان المقارن أو المتقدّم أو المتأخّر؟ الظاهر أنّه المقارن ؛ لأنّ هذا الشرط لم يرد في نصّ لينظر النصّ وما يقتضيه لسانه ، وإنّما اعتبر هذا الشرط لتحقّق القدرة على إتيان المهمّ ، ومن المعلوم أنّ العصيان المحقّق للقدرة هو العصيان المقارن للمهمّ ، فهو الشرط ليس إلّا ولا ربط للعصيان المتقدّم أو المتأخّر أصلا ، ومن هنا ظهر أنّ الشرط إنّما هو العصيان المقارن فليس العزم عليه شرطا كما في الكفاية (٢).

المقدّمة الثالثة : إنّ الإطاعة والعصيان إنّما تكون للأمر الموجود ، وإلّا فالأمر المفقود فعلا سواء كان متقدّما ثمّ انعدم أو متأخّرا بعد لم يحدث فلا معنى لإطاعته أو عصيانه ؛ إذ أين الأمر حتّى يطاع أو يعصى.

ومن هنا ظهر أنّ الأمر بالأهمّ والأمر بالمهمّ وعصيان الأهمّ وإطاعة المهمّ كلّها في زمان واحد ، فهي متقارنة بحسب الزمان وإن كانت متفاوتة بحسب الرتبة ؛ إذ الأمر بالمهمّ متأخّر عن الأمر بالأهمّ بمرتبتين : مرتبة وجوده ومرتبة عصيانه ، إلّا أنّ زمان الجميع واحد كما عرفت.

المقدّمة الرابعة : وهي أهمّ المقدّمات في مبحث الترتّب ؛ إذ بها يظهر أنّ القول بالترتّب يلزم منه الجمع بين الضدّين أم لا فنقول : إنّا قد أسلفنا مرارا أنّ الإطلاق والتقييد ليس بينهما تقابل العدم والملكة حتّى يكون استحالة أحدهما موجبا لاستحالة الآخر ، بل قد يكون نفي أحدهما موجبا لضرورية الآخر ، كما فصّلناه فيما سبق ، كما مرّ مرارا أيضا أنّ الإطلاق عبارة عن نفي القيود لا أنّ الإطلاق عبارة عن دخالة القيود بأسرها في الملاك ، ومرّ أيضا أنّ الانقسامات الأوّليّة والثانويّة لموضوعات الأحكام لا بدّ من كونها مأخوذة في موضوع الحكم واقعا ؛ لاستحالة الإهمال في الواقع كما مرّ.

__________________

(١) أضفناها لاقتضاء السياق.

(٢) انظر كفاية الاصول : ١٦٦ ـ ١٦٧.


فحينئذ الحكم بالإضافة إلى كلّ قيد إمّا أن يكون دخيلا في ملاك الحكم بحيث يكون مأخوذا في موضوع الوجوب كما في قوله : إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة ، فالزوال مأخوذ في ملاك الحكم بحيث لا وجوب قبله ولا مصلحة في ذلك.

وإمّا أن يكون دخيلا في الموضوع لكن لا يدور الحكم مداره ، بل دخالته من جهة استحالة الإهمال وليس ينتفي الحكم بنفيه ، بل الحكم موجود ، وجد أم لم يوجد ، وذلك كما إذا قال المولى : إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة ، فهذا بالإضافة إلى كون المكلّف طويلا أو قصيرا كذلك ، لهما دخل في متعلّق التكليف إلّا أنّ دخلهما لأجل عدم اعتبارهما في فعليّة الحكم لا من جهة اعتبارهما.

وإمّا أن لا يكون دخيلا في الملاك وجودا ولا عدما ولا دخيلا في الموضوع ، ولكنّه مأخوذ في الموضوع ولكنّه لا بنحو يكون له دخالة في الحكم كما في الإطاعة والعصيان ، فإنّ كلّ تكليف يقتضي إطاعة نفسه وعدم عصيانه فهما مأخوذان في الموضوع لكن لا يدور الحكم مدار الإطاعة ، بل الحكم موجود أطاع أو عصى ، وإلّا فلا طاعة ولا عصيان.

إذا عرفت هذه الأقسام فنقول : إنّ الحكم بأيّ معنى فسّر سواء كان إبراز الطلب كما عليه الآخوند قدس‌سره (١) أو إيقاع النسبة أو الاعتبار النفساني أو غير ذلك ، قد ذكرنا في بحث اجتماع الحكم الظاهري والواقعي أنّ المانع من اجتماع الحكمين إمّا أن يكون مانعا من حيث المبدأ أو من حيث المنتهى ، مثلا استحالة اجتماع الأمر والنهي لمانع من حيث المبدأ ، وهو اجتماع الإرادة والكراهة معا في وقت واحد نحو شيء واحد ، وقد يكون من حيث المنتهى كما إذا اشتاق إلى شيء واشتاق إلى شيء آخر كأن اشتاق إلى اللباس الجيّد واشتاق إلى الطعام الجيّد إلّا أنّه ليس له دراهم

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٨٤.


يشتريهما معا ، بل له ما يشتري أحدهما ، وحينئذ ففي المقام لا مانع من حيث المبدأ إذ لا مانع من أن يشتاق المولى إلى كلّ من الضدّين شوقا أكيدا فيبقى الكلام في المانع من حيث المنتهى.

فنقول : إنّ توجّه الطلب الأهمّ للإزالة مثلا إنّما يقتضي إطاعته بصرف قدرة المكلّف في إزالة النجاسة من المسجد ويقتضي أن لا يعصى ، ولكنّ الأمر بالمهمّ إذا كان مشروطا بعصيان الأمر بالأهمّ فهو لا يقتضي العصيان ؛ لأنّ المفروض كون العصيان شرطا له ، فهو قبل تحقّقه لا ملاك له ؛ ضرورة أنّ كلّ مشروط إنّما يكون واجدا للملاك بعد فرض تحقّق شرطه في الخارج.

وبالجملة ، الأمر بالأهمّ وهو الإزالة إنّما يقتضي وجودها ، ويقتضي أيضا عدم عدمها ، فلو سئل نفس خطاب الأهمّ فقيل له : لو عصيت ولم تتحقّق الإزالة في الخارج فهل تقتضي شيئا في الخارج؟ يقول : لا أقتضي شيئا من الأشياء ، فسواء أكل أو شرب أو صلّى أو نام لا يفرق علي فيما يهمّني أصلا ؛ وذلك لأنّه قد اقتضى الإطاعة وعدم العصيان ، ولكن الأمر بالصلاة الذي هو المهمّ لا يقتضي العصيان ؛ لأنّه شرطه فيلزم أن يكون مفروض الوجود حتّى يتحقّق الملاك ؛ إذ هو من قبيل ما كان دخيلا في ملاك الحكم الذي هو القسم الأوّل ، والأمر بالأهمّ من قبيل القسم الثالث وهو ما تعرض للإطاعة والعصيان ولكن لم يكن دخيلا في الحكم.

وحينئذ فنحن نقول بأنّ الأمر بالضدّين بنحو الترتّب لا مانع منه أصلا ؛ إذ لو اقتضى الأمر بالمهمّ عصيان الأمر بالأهمّ كان هناك محذور من حيث المنتهى ؛ إذ كيف يقدر على عدم العصيان بمقتضى الأمر بالأهمّ ونفس العصيان بمقتضى الأمر بالمهمّ إلّا أنّ فرض العصيان شرطا للملاك في المهمّ رافع لذلك كلّه ، وهذا بخلاف ما إذا كان كلّ من الأمرين مطلقا أو كان أحدهما مقيّدا بغير عصيان المطلق فإنّه في هاتين الصورتين يكون طلبهما طلبا للمحال فيكون محالا ، وأمّا لو كان أحدهما مطلقا والآخر مقيّدا بعصيانه فهو وإن اجتمع هناك أمران إلّا أنّهما


غير متنافيين ، بيان ذلك : أنّ الأمر بالضدّين إنّما يكون باطلا إذا كان مستلزما لطلب الجمع بين الضدّين وإلّا فنفس طلب الضدّين بنحو الترتّب لا محذور فيه ؛ لأنّه ليس طلبا للجمع بينهما ، بل إنّ المهمّ مشروط بعصيانه الأهمّ فكيف يكون طلبا للجمع؟

وأوضح مثال به يتّضح عدم المنافاة مثال عرفي وهو ما لو كان شخص مريدا بيع داره فأراد جاره الذي هو على يمينه أن يشتريها وأراد جاره الذي هو على اليسار أن يشتريها أيضا فبينهما تمام المعارضة والمنازعة ، فإذا جاءه رجل ثالث فقال لصاحب الدار إن لم تبع دارك من أحد هذين فبعها لي فهل بين هذا الثالث وبين الأوّلين معارضة أو منافاة؟ وهل يتعرّضه أحدهما؟ كلّا ثمّ كلّا ، فهذا دليل أنّ الأمرين بنحو الترتّب لا مانع منهما ؛ لعدم المنافاة حينئذ.

ومن هنا ظهر أنّ ما ذكره في الكفاية (١) من أنّه وإن لم يكن في مرتبة طلب الأهمّ طلب للمهمّ إلّا أنّه في رتبة طلب المهمّ طلب الأهمّ محفوظ فهذا هو المانع ليس كما ينبغي ؛ فإنّ القائل بالترتّب ليس منكرا لوجود أمرين ، بل لا يرى بينهما منافاة.

وكذا ما ذكره صاحب الكفاية (٢) ثانيا من أنّ القائل بالترتّب لا ينكر كونه طلب المحال إلّا أنّه لا يرى به بأسا إذا كان سببه المكلّف نفسه ، فإنّه لو لم يترك الأهمّ لم يقع في محذور طلب المحال ، وردّه قدس‌سره على القائل بذلك بأنّ طلب المحال محال على كلّ حال وإن كان سببه المكلّف نفسه أيضا ليس كما ينبغي ، فإنّ القائل بالترتّب ليس يرى في اجتماع الأمرين محالا ، ولا يرى بين الأمرين تنافيا حتّى يدّعي أنّ المحال إذا كان سببه المكلّف فلا يضرّ ، بل لا يرى منافاة ولا ممانعة.

__________________

(١) انظر الكفاية : ١٦٧.

(٢) انظر المصدر السابق.


وقد ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره (١) مثالا لبيان أن ليس في الترتّب جمعا بين المتضادّين ولا بأس بذكره وهو أنّه لو قال المولى : ادخل المسجد فإن لم تدخل المسجد فصلّ على محمّد وآل محمّد خمس مرّات فلو أنّ هذا الشخص دخل المسجد وصلّى على محمّد وآله العدد المذكور فهل يعدّ هذا ممتثلا لكلا الأمرين؟ كلّا ، ولو كان الترتّب مقتضيا لطلب الضدّين لكان امتثالا لكلّ منهما ، كما لو كانا مطلقين ولم يقيّد أحدهما بعصيان الآخر وإن قيّد بغيره فإنّه حينئذ يكون امتثالا لكلّ منهما بلا ريب وتوقّف من جهة.

وبعبارة اخرى : أنّ الأمر بالواجبين إن كانا مطلقين فلا ريب في استحالته ؛ لكونه طلب الجمع بين الضدّين ، وكذا لو كانا معا مقيّدين بغير العصيان ، كأن يقول المولى : إن طلعت الشمس فتحرك نحو الجنوب ، وإن طلعت الشمس فتحرّك نحو الشمال ، وكذا لو كان أحدهما مطلقا والآخر مقيّدا بغير العصيان ضرورة أنّه بعد حصول القيد يتنافيان ، وإن كان أحدهما مطلقا والآخر مقيّدا بعصيان الأوّل وتركه فلا منافاة بين الأمرين حينئذ ؛ إذ إنّه ليس هنا طلب الجمع بين الضدّين وإن كان الأمران فعليّين ، والذي يدلّ أن لا أمر بالضدّين أنّه إمّا أن يأتي المكلّف بالأهمّ أو المهمّ أو بهما أو يتركهما معا ، فإن أتى بالأهمّ فقد ارتفع موضوع المهمّ وأصبح فاقدا للملاك ؛ لعدم حصول شرطه وهو عصيان الأهمّ ، فإنّ أمر الأهمّ دائما يدعو إلى إعدام موضوع المهمّ ، وإن أتى بالمهمّ بعد ترك الأهمّ فقد عصى الأمر بالأهمّ فتوجّه الأمر بالمهمّ لحصول موضوعه حينئذ ، وإن تركهما معا فقد استحقّ عقابين ، وإن فعلهما معا كان المهمّ لغوا غير مطابق للأمر المتعلّق به ؛ لفقد شرطه وهو موضوعه أعني عصيان الأهمّ وتركه.

وبالجملة ، فقد وقع الأمر بنحو الترتّب في العرف والشرع ، فقول الإنسان لابنه اذهب إلى المكتب وإن لم تذهب فاكتب في الدار صحيفتين مثلا فهل في هذا الكلام

__________________

(١) لم نقف عليه.


تناف أو طلب للجمع بين الضدّين؟ والسرّ في ذلك أنّ ترك كتابة الصحيفتين في الدار يكون له حصصا ، فالحصّة الملازمة مع الذهاب إلى المكتب غير مطلوبة ، وما عداها مطلوب ، ولا بدّ من إيجاد الكتابة فيه ، فإذا ترك الكتابة حينئذ كان عاصيا مضافا إلى ترك الذهاب إلى المكتب المحقّق للعصيان الأوّل.

والمثال الشرعي لذلك ما إذا وجب السفر بأمر المولى مثلا فعصى أمر السفر وبقي في بلاده وكان السفر

واجبا حدوثا وبقاء فدخل شهر رمضان فهل يجب الصوم على هذا أم لا؟ وهل يتمّ صلاته أم لا؟ فأمر الصوم وإتمام الصلاة لا يكون إلّا مترتّبا على عصيان الأمر بالسفر حدوثا وبقاء.

ومن هنا ظهر أنّ شرط الأمر بالمهمّ يلزم أن يكون هو العصيان المستمرّ إلى آخر زمان فعل المهمّ لا العصيان آناً ما ، وإلّا فلو كان العصيان آناً ما هو الشرط لكان طلبا للضدّين بعده ، وكأنّ منشأ توهّم استحالة الترتّب هو تخيّل كون الشرط هو العصيان آناً ما فيورد بكونه بعده يتحقّق طلب الجمع بين الضدّين ، ولو تأمّلوا كلام القائل بالترتّب وأنّ العصيان المقارن للمهمّ إلى آخر أجزائه هو الشرط لسلموا إمكانه وعدم تحقّق المنافاة فيه. نعم ، بعد الإتيان بالمهمّ لو فرض بقاء الأمر بالأهمّ فأتى به كان حينئذ موافقا لأمره بلا ريب.

وبالجملة ، فقد اتّضح بحسب الظاهر أنّ الترتّب لا منافاة فيه فهو ممكن في مقام الثبوت ، ولا محذور فيه كلّية ، فيقع الكلام الآن في بعض الامور التي مرّت الإشارة إليها في طيّ كلماتنا السابقة ، وها نحن نشير إليها في ضمن امور :

وينبغي التنبيه على امور :

[التنبيه] الأول :

أنّ لازم القول بالترتّب تعدّد العقاب عند ترك المهمّ والأهمّ ، بيان ذلك : أنّ المكلّف إمّا أن يترك الأهمّ ويأتي بالمهمّ أو بالعكس أو يتركهما معا ، فإن ترك الأهمّ


وأتى بالمهمّ فيعاقب حينئذ على ترك الأهمّ ، وإن أتى بالأهمّ وترك المهمّ فلا عقاب ، أمّا على الأهمّ فلفرض إتيانه به ، وأمّا على المهمّ فلعدم فعلّية تكليفه ؛ لعدم شرطه وهو ترك الأهمّ وإن تركهما فيعاقب على ترك الأهمّ وعلى ترك المهمّ أيضا ؛ لتحقّق شرطه وهو ترك الأهمّ حينئذ فيعاقب بعقابين.

وتوهّم أنّه ليس له إلّا قدرة واحدة فهو لا يقدر على المهمّ والأهمّ معا فكيف يعاقب عليهما؟ مندفع بأنّ ترك الأهمّ موجب للعقاب ، وترك المهمّ في فرض ترك الأهمّ مقدور ؛ لأنّه حينئذ يمكنه أن يفعل المهمّ وأن يتركه ، فالعقاب في الحقيقة على الجمع في الترك لا على ترك الجمع ليقال إنّه غير مقدور ، فإنّ الجمع في الترك مقدور وعدمه أيضا حينئذ ـ أي حين ترك الأهمّ ـ مقدور ، فالعقاب في المهمّ على ضمّ تركه إلى ترك الأهمّ.

وقد وقع نظير هذا في الشريعة المقدّسة في الواجبات الكفائيّة التي لا يمكن أن يقوم بها إلّا واحد ، فإنّه لو ترك الجميع فعقاب بعض معيّن من المكلّفين ترجيح من غير مرجّح والبعض الغير المعيّن لا وجود له ، فيعاقب الجميع مع كون الجميع غير قادرين عليه ، فليس العقاب إلّا على الجمع في الترك وضمّ تركه إلى ترك بقيّة المكلّفين مع كونه عند ترك غيره قادرا على أن يقوم بهذا الواجب فيعاقب على ترك هذا القيام وضمّ تركه إلى ترك بقيّة المكلّفين فيعاقب كلّ من المكلّفين على ذلك وهذا بحسب الظاهر واضح جدّا.

التنبيه الثاني :

إنّ إمكان الترتّب كافل بوقوعه ؛ لأنّ المفروض إطلاق الأمر في كلّ من الواجبين ، وحيث يستحيل بقاء الأمرين معا على الإطلاق فلا بدّ من عمل يرفع الاستحالة ، فرفع إطلاق خطاب المهمّ إذا كان كافيا في رفع الاستحالة فلا بدّ من تقييده بالعصيان للأهمّ فإذا جاز ذلك وقع ؛ لفرض رفع اليد بمقدار ترتفع المحاليّة عقلا فلا موجب حينئذ لسقوط خطاب المهمّ ؛ لعدم ضرورة تقتضي ذلك.


كما أنّ الأمرين مع فرض مساواتهما في الأهميّة لا بدّ من سقوط إطلاق خطابهما معا ، فصرف إمكان الترتّب مغن عن إثبات وقوعه.

التنبيه الثالث :

إنّ الترتّب إنّما يصحّ حيث يكون امتثال خطاب الأهمّ رافعا لموضوع المهمّ وأمّا إذا كان نفس الأمر بالأهمّ رافعا لموضوع المهمّ فلا يجري ، كما في موارد يعتبر في موضوع الأمر بالمهمّ القدرة الشرعيّة بحيث لا ملاك بدونها ، فإنّه حينئذ يكون الأمر بالأهمّ رافعا للقدرة الشرعيّة ، ففي مثل الوضوء إذا وجب صرف الماء في رفع عطش مؤمن ، إذا عصى لا يكون من الترتّب في شيء ، وذلك لأنّه فهم من آية التيمّم في قوله : (فَلَمْ تَجِدُوا)(١) أنّ المراد من عدم الوجدان عدم الوجدان الشرعي ، فيفهم بقرينة المقابلة أنّ الذي يجب عليه الوضوء الواجد الشرعي ، وهذا الشخص بعد وجوب بذل الماء للمؤمن ليس واجدا شرعا ، فلو توضّأ كان وضوؤه بلا أمر.

فما نسب إلى العروة للسيّد اليزدي قدس‌سره (٢) من التزامه بصحّة الوضوء حينئذ من باب الترتّب ليس على ما ينبغي ، وإن كنّا لم نتحقّق صحّة ما نسب إليه قدس‌سره بل الموجود في عروته (٣) في باب الوضوء الحكم بالبطلان عند خوف العطش ، وكذا في مسوّغات التيمّم إذا عارض الوضوء واجب أهمّ فقد حكم بالبطلان معلّلا بكونه مأمورا بالتيمّم (٤) ، إلّا أنّا قد ذكرنا في تعليقتنا على العروة (٥) إمكان جريان الترتّب

__________________

(١) النساء : ٤٣ ، والمائدة : ٦ وفيهما (فلم تجدوا).

(٢) لم نقف عليه.

(٣) انظر العروة الوثقى : مسوّغات التيمّم : الخامس.

(٤) انظر المصدر السابق : السادس.

(٥) انظر المصدر السابق ، الهامش رقم ٨.


في المقام ؛ وذلك لأنّ المشروط بالقدرة الشرعيّة إنّما هو الوضوء للصلاة ، أمّا الوضوء لبقيّة الغايات أو لاستحبابه النفسي فغير مشروط إلّا بالقدرة العقليّة ، وهذا معنى قولنا في التعليقة : «وللصحّة وجه حتّى على القول بوجوب صرف الماء في رفع الخبث» فافهم.

وينفتح من هذا الباب أبواب كثيرة :

منها : عدم وجوب الحجّ عليه ؛ لعدم الاستطاعة إذا كان مدينا بدين حالّ يقتضيه صاحبه ، وإن عصى بترك الأداء ؛ لفقد الاستطاعة شرعا ؛ لوجوب صرفه في أداء الدين ، ولكن يمكن أن يقال إنّ هذا الكلام ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (١) بناء على ما فهمه المشهور من الاستطاعة في آية الحجّ وإنّ المراد بها القدرة الشرعيّة والعقليّة ، وهذا الشخص ليس بقادر شرعا ؛ لوجوب صرف المال في أداء الدين فلا يكون قادرا على الحجّ ، ولكن الاستطاعة مفسّرة في الأخبار بالزاد والراحلة أو ثمنهما (٢) ، وهذا الشخص واجد لثمنهما فيتزاحم وجوب الحجّ ووجوب أداء الدين فيقدّم الدين لأهمّيته ؛ لكونه حقّ الناس ، فإذا لم يؤدّ الدين عصيانا وجب عليه الحجّ حينئذ ؛ لعدم ارتفاعه في غير صورة أداء الحجّ. على أنّا لو فسّرنا الاستطاعة في الآية بالقدرة الشرعيّة فلا تكون مرتفعة ؛ لأنّ الأمر بالدين لا يقتضي النهي عن الحجّ الذي هو ضدّه كما تقدّم.

ومنها : عدم وجوب الخمس في أرباح المكاسب إذا كان مدينا كما تقدّم بقدر الأرباح ؛ لوجوب صرفها في الدين الحال ، وكذا إذا لم يؤدّ إلى الزوجة نفقتها عصيانا بخلاف الوالدين أو الولد فإنّه لو عصى وجب الخمس والحجّ ، ثمّ لو كان عليه ديون من السنين السابقة فهل يخرجها من أرباح هذه السنة فلا خمس قبل إخراجها

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ٧٨.

(٢) انظر الوسائل ٨ : ٢١ ، الباب ٨ من أبواب وجوب الحجّ.


أو لا يخرجها؟ فالأحوط إن لم يكن أقوى إخراج الخمس بعد إخراج ديون هذه السنة وأداء ديون السنين السابقة إلى أربابها وإخراج خمسها من كيسه الخاصّ ، وتمام الكلام في الفقه.

التنبيه الرابع :

ذكر كاشف الغطاء قدس‌سره (١) على ما نقله الشيخ الأنصاري في رسائله (٢) أنّه وجّه ما ذهب إليه الأصحاب ونهضت به الروايات المعتبرة من صحّة صلاة التمام في مورد القصر جهلا بالحكم وصحّة الصلاة جهرا في موضع الإخفات وبالعكس جهلا أو نسيانا كما صرّحت به الأخبار (٣) وأفتى به الأصحاب ملتزمين بترتّب العقاب على فوات الواجب الأوّلي بأنّه مبنيّ على الترتّب وإمكانه ، وأنّ العقاب إنّما هو لعصيان الأمر الأوّل وكفاية الإخفات في موضع الجهر ولو مع بقاء الوقت ؛ لأنّه مأمور به في هذا الظرف.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري ردّه باستحالة الترتّب ؛ لأدائه إلى الأمر بالضدين وأنّه قدس‌سره لا يتعقّل الترتّب.

ولكنّ الميرزا النائيني قدس‌سره (٤) ذهب إلى أنّ هذا ليس مربوطا بباب الترتّب وأنّ الترتّب وإن قلنا بإمكانه ووقوعه إلّا أنّ هاتين المسألتين لا يمكن توجيههما بالترتّب أصلا وذلك لامور ذكرها :

الأوّل : أنّ الترتّب إنّما هو في مورد التنافي الاتّفاقي كما في الإزالة والصلاة ، حيث إنّ عدم قدرة المكلّف عليهما معا في زمان واحد فلا بدّ من رفع اليد حينئذ عن إطلاق

__________________

(١) كشف الغطاء ١ : ١٧١.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٤٣٩.

(٣) الوسائل ٤ : ٧٦٦ ، الباب ٢٦ من أبواب القراءة.

(٤) انظر أجود التقريرات ٢ : ٩١.


المهمّ وإبقاء إطلاق الأهمّ لأهمّيته. نعم ، في صورة عصيان الأمر بالأهمّ يتحقّق موضوع الأمر بالمهمّ ؛ لأنّه مقيّد بعدم الإتيان بالأهمّ وقد تحقّق حينئذ.

وأمّا في مسألة الجهر والإخفات والقصر والإتمام فالتنافي دائمي بحيث إنّ الأمر لو كان بهما معا كان الأمران متعارضين فهما أجنبيّان عن باب التزاحم وداخلان في باب التعارض فلا ترتّب فيهما أصلا.

أقول : إنّ ما ذكره قدس‌سره متين من جهة وغير وارد على كاشف الغطاء من جهة اخرى :

بيان ذلك : أنّ الترتّب الذي ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره ـ وذكر أنّ إمكانه مساوق لوقوعه ؛ إذ الدليلان للأهمّ والمهمّ مطلقان فلا يرفع اليد إلّا بمقدار الاستحالة العقليّة ، وأنّ تقييد المهمّ بعصيان الأهمّ وعدم إتيانه رافع للاستحالة العقليّة فتتقدّر الضرورة بقدرها ويبقى إطلاق الأهمّ بحاله ؛ لأهمّيته ـ وإن كان مختصّا بباب التزاحم وبباب التنافي الاتّفاقي إلّا أنّ علّة الإمكان فيه بعينها موجودة في المتعارضين عينا ، وهو أن يتوجّه أمر بالصلاة قصرا أو جهرا فإذا لم يأت بها فيتوجّه أمر حينئذ بالتمام أو الإخفات ، فإمكان الترتّب فيما تقدّم مستلزم لإمكانه فيما نحن فيه ، ولكن الفرق بينه ـ وبين الترتّب الذي التزم الميرزا النائيني قدس‌سره به أنّ إمكان ترتّب الميرزا كاف في وقوعه ، بخلاف هذا الترتّب فإنّه محتاج إلى دليل في مقام الإثبات ونصوص المقام في المسألتين وافية بالدليل.

الثاني من الامور التي ذكرها الميرزا لنفي الترتّب في المسألتين أنّ الترتّب إنّما يكون في الضدّين اللذين لهما ثالث كما في مثل الصلاة والإزالة ، فعند ترك الإزالة يمكن أن يشتغل بالصلاة وأن يشتغل بالأكل والشرب ، فهنا يأمره المولى بالصلاة ليحرّكه نحوها ويصرفه عن غيرها من الأضداد.

وأمّا الضدّان اللذان ليس لهما ثالث فترك أحدهما هو فعل للآخر ، فطلبه يكون طلبا للحاصل وهو محال ، مثلا الحركة والسكون لا يعقل فيهما الأمر بنحو الترتّب ،


ضرورة أنّه عند ترك الحركة ساكن لا محالة ، فيكون قوله : إن لم تتحرّك فاسكن بمثابة إن سكنت فاسكن وهل هو إلّا طلب الحاصل؟ والمسألتان من هذا القبيل ، ضرورة أنّه إن لم يجهر يخفت وإن لم يقصّر يتمّ فيكون الطلب حينئذ طلبا للحاصل.

أقول : أمّا القصر والإتمام فليسا من قبيل ما ليس لهما ثالث لإمكان أن لا يقصر ولا يتمّ بأن يصلّي ثلاث ركع أو ثلاث ونصف.

ومع الغضّ عن هذا الجواب فالجواب العامّ للمسألتين أنّ المأمور به أوّلا الصلاة القصريّة والصلاة الجهريّة ، وحينئذ فضدّ الصلاة القصريّة الصلاة تماما وعدم الصلاة ، وضدّ الصلاة الجهريّة الصلاة الإخفاتيّة وعدم الصلاة ، وحينئذ فهما ضدّان لهما ثالث ، وحينئذ فيمكن أن يكون الأمر بالإتمام أو الجهر صارفا عن عدم الصلاة كلّية ، ومحرّكا نحو خصوص الإتمام والإخفاتيّة دون ترك الصلاة كلّية.

نعم ، لو كان أصل الصلاة أو القراءة مفروغا عن تحقّقها في الخارج وكان الكلام في الكيفيّات صحّ ما ذكره ، ولكنّه ليس كذلك ، فافهم.

الثالث من الامور التي ذكرها الميرزا النائيني قدس‌سره في نفي كون المسألتين من الترتّب هو : أنّ الترتّب هو أن يقيّد موضوع الأمر الثاني بعصيان الأوّل ، وفي المقام لا يمكن ذلك ؛ إذ المفروض كون المخاطب بالأمر الثاني [هو](١) الجاهل بالحكم ، والجاهل إن فرض عاصيا لأمر القصر صار عالما وخرج عن كونه جاهلا ، وهذا نظير ما ذكر في الناسي من أنّه لا يمكن توجّه الحكم نحوه بعنوان الناسي ؛ لأنّه لا داعوية له للناسي ؛ إذ لو لم يلتفت إليه فلا داعوية فيه له ، وإن التفت إليه خرج عن كونه ناسيا ، والسرّ أنّ داعوية كلّ أمر فرع وصوله والالتفات إليه ، فإذا لم يلتفت إليه فلا داعوية له.

أقول : ما ذكره قدس‌سره متين إن كان الأمر الثاني مقيّدا بعصيان الأمر الأوّل ولكن لا ملزم لذلك ، بل إنّ الأمر الثاني مقيّد بترك القصر مثلا أو الجهر مثلا ، أمّا أنّ الترك يلزم أن يكون عصيانا فلا مقتضي له ؛ ضرورة أنّ طلب الضدّين يرتفع بالتقييد

__________________

(١) أضفناه لاقتضاء السياق.


بالترك ، فاعتبار العصيان حينئذ لا داعي له ، والتعبير فيما تقدّم بالعصيان إنّما هو لغلبة كون الترك به لا لأنّ له موضوعيّة ، بل لا بدّ من كون القيد هو مطلق الترك ؛ ضرورة صحّة الصلاة لو لم يعلم بالنجاسة أو كان مضطرّا إلى تركها ، ضرورة صحّة صلاته حينئذ مع عدم تحقّق العصيان قطعا.

فالإنصاف أنّ ما ذكره كاشف الغطاء قدس‌سره متين من هذه الجهات وإن كان ليس من الترتّب في خصوص هذين المثالين إلّا أنّه ليس من جهة عدم الإمكان ، بل من جهة عدم الوقوع ، فإنّ لازم الترتّب كما قرّرنا استحقاق عقابين عند تركهما معا مع أنّه لو تركهما معا ليس عليه إلّا عقاب واحد في المقام.

والسرّ في ذلك أنّ شرطيّة القصر في السفر والجهر والإخفات شرطيّة علميّة ، ففي حال الجهل لا وجوب للمتروك وحينئذ فهو غير مأمور به ولا يستحقّ عقابا على تركه ؛ لظاهر الأخبار من قوله عليه‌السلام : وقد تمّت صلاته (١) ، فإنّ ظاهرها كون هذه الصلاة هي المأمور بها دون الفائتة أصلا.

التنبيه الخامس :

إنّا قد ذكرنا فيما تقدّم أنّه لا نحتاج إلى الترتّب حيث يكون المهمّ موسعا ؛ إذ لا معارضة إلّا بين إطلاق خطاب المهمّ وخطاب الأهمّ إن قلنا بتعلّقه بالأفراد ، وإن قلنا بتعلّقه بالطبيعة فلا معارضة ؛ ضرورة أنّ المزاحمة حينئذ بين الإزالة مثلا وفرد من الصلاة ، والفرد غير مأمور به كما ذكره المحقّق الثاني قدس‌سره (٢) فما هو مزاحم غير مأمور به ليقع التزاحم بين الأمرين ، والطبيعة لا تزاحم الإزالة ، فإذا تحقّق الفرد كان الانطباق قهريّا والسقوط عقليّا.

نعم ، حيث يكون المهمّ مضيّقا لا بدّ من القول بالترتّب حتّى يتحقّق الأمر حينئذ ، وقد تقدّم بعض الكلام ممّا يناسب المقام ، فتأمّل.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٧٦٦ ، الباب ٢٦ من أبواب القراءة ، الحديث الأوّل.

(٢) انظر جامع المقاصد ٥ : ١٣ ـ ١٤.


ومن المناسب التعرّض لامور ثلاثة :

الأمر الأوّل : أنّ الواجبين المتزاحمين اللذين يكون أحدهما أهمّ من الثاني قد يكونان معا آنيّين ، نظير غريقين أحدهما نبيّ والآخر مسلم مثلا ، ففي مثله إذا ترك إنقاذ النبيّ وأنقذ المسلم مثلا فبناء على الترتّب وكون أمر إنقاذ المسلم مشروطا بترك إنقاذ النبيّ يكون عاصيا للأهمّ وممتثلا للمهمّ.

وقد يكون المهمّ آنيا والأهمّ مستمرّا ففي الآن الأوّل صحّة المهمّ موقوفة على الترتّب كما قرّرنا ، وبعد الآن الأوّل يكون الأهمّ حينئذ وحده وليس هناك أمر بالمهمّ.

وقد يكون الأهمّ آنيا والمهمّ مستمرّا فصحّة المهمّ حينئذ إن قلنا بمقالة المحقّق الثاني غير محتاجة إلى الترتّب ، وإن لم نقل بمقالة المحقّق الثاني فهي أيضا لا بدّ لها من القول بالترتّب ، وأمّا فيما بعد الآن الأوّل فالمهمّ حينئذ لا يعارضه الأمر بالأهمّ ؛ لانعدامه حسب الفرض.

وقد يكون كلاهما مستمرّا كالصلاة والإزالة ، فإنّ أهميّة الإزالة من جهة فوريّتها إلّا أنّها إذا لم يؤت بها فورا لا يسقط أمرها ، بل يبقى فورا ففورا ، فحينئذ يكون شرط الأهمّ حينئذ وهو الصلاة ترك الإزالة في تمام زمان أدائها من التكبير إلى التسليم.

الأمر الثاني : أنّه إذا عرضت النجاسة أثناء صلاة المصلّي في المسجد فقد زعم السيّد اليزدي في عروته (١) صحّة الصلاة من غير حاجة إلى الترتّب ، وتبعه الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) معلّلا بأنّه إنّما احتجنا إلى الترتّب في الابتداء لفوريّة الإزالة المنفيّة في المقام قطعا ؛ لحرمة قطع الصلاة.

__________________

(١) العروة الوثقى : في أحكام النجاسات ، فصل : يشترط في صحّة الصلاة ... ، المسألة ٥.

(٢) انظر أجود التقريرات ٢ : ١٠٠.


أقول : إن كان دليل حرمة قطع الصلاة دليلا لفظيّا كقوله : تحريمها التكبير وتحليلها التسليم (١) ، أو غير هذا الحديث من الأدلّة اللفظيّة فالحكم كما أفادا ؛ ضرورة أنّ إطلاقه يشمل هذا المورد قطعا ولا إجماع على لزوم الإزالة أو فوريّتها في مثل المقام.

وأمّا إذا كان دليل حرمة قطع العمل هو الإجماع فإن تمّ الإجماع ولم يناقش فيه كما ناقش فيه جماعة كثيرة وزعموا أن لا إجماع أصلا ، وبالجملة فإن تمّ الإجماع على حرمة قطع العمل فذاك وإلّا فكما لا إجماع على لزوم الإزالة في المقام كذلك لا إجماع على حرمة قطع العمل فيه بالخصوص ، وحينئذ فمقتضى القاعدة التخيير بين إتمام الصلاة وقطعها وليس يتعيّن عليه الإتمام.

الأمر الثالث : أنّه لو كان الماء في آنية الذهب وكان الرجل محتاجا إلى الوضوء والغسلى فلا ريب في أنّه لو أخذ منه غرفة تكفيه لوضوئه أو غسله فوضوؤه أو غسله صحيح ، وإن لم تكفه فهل يمكن تصحيح وضوئه بالأخذ في غرفات متعدّدة؟ الظاهر عدم صحّته ؛ لكونه أيّ الوضوء موقوف على غرفات ثلاثة مثلا فإذا اغترف غرفة بيده فبأيّ نيّة يريقها على وجهه؟ إذ لا يعقل الأمر بالوضوء والنهي عن مقدّمته وهي الغرفة الثانية والثالثة ، وحينئذ فلا أمر بالوضوء كلّية. إلّا أنّه يمكن تصحيح الوضوء فيما لو فرض عدم انحصار الماء في خصوص هذا المذكور باعتبار القدرة في ظرف الغرفة الثانية ، وعدم اعتبار القدرة حين الشروع في العمل ، بل تكفي ولو كانت في أثنائه ؛ لكون العقل لا يقتضي أكثر من ذلك. هذا كلّه لو كان الماء مباحا.

أمّا لو كان مملوكا له وغصبه صاحب الآنية فهل يجوز وضوؤه لكونه مالكا ، فبعموم السلطنة ترتفع حرمة الاستعمال في آنية الذهب ؛ لكونه تخليصا لماله

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٧٥١ ، الباب الأوّل من أبواب تكبيرة الإحرام ، الحديث ١٠.


كما ذهب إليه الميرزا النائيني قدس‌سره (١)؟ الظاهر عدم جواز ذلك ؛ لأنّ حرمة الاستعمال في آنية الذهب والفضّة لا ترتفع بقاعدة السلطنة ، نعم لو أمكنه تفريغه بإناء آخر بتفريغ لا يعدّ استعمالا عرفا وجب ذلك كما هو واضح.

الكلام في جريان الترتّب في الطوليّين وعدمه :

إذا كان الواجبان طوليّين وكان المكلّف غير قادر عليهما معا كالقيام في صلاة الظهر أو العصر ، فإن كانا متساويين بحسب الملاك فلا بدّ من تقديم الأسبق زمانا ؛ لعدم المسوّغ له شرعا في ترك القيام في صلاة الظهر ، وإذا أراد صلاة العصر فترك القيام فيها حينئذ لعجزه ، وقد تقدّم الكلام في ذلك وعدلنا عن مثال الميرزا النائيني من القيام في الركعة الاولى أو الثانية ؛ لعدم صحته كما تقدّم ذلك.

وإن كان أحدهما أهمّ كشخص معه مقدار قليل من الماء ، ودار أمره بين أن يصرفه في رفع عطش شخص يتضرّر لو لا شربه وبين أن يبقيه إلى بعد ساعة يعلم أنّ زيدا يعطش فيها بحيث لو لم يشربه لمات فلا ريب في وجوب حفظه لزيد إلى بعد ساعة ليشربه ؛ لأنّ حفظ زيد عن الموت أهمّ من دفع الضرر عن الأوّل ، وهل وجوب الحفظ شرعي أو عقلي؟ تقدّم الكلام فيه وأنّه عقلي خلافا للميرزا النائيني قدس‌سره (٢).

ثمّ إنّ هذا الشخص الذي يملك الماء لو علم من نفسه أنّه لا يعطيه لزيد بعد ساعة لعداوة بينه وبين زيد فهل يكون صرفه في رفع ضرر الآخر ـ الذي هو المهمّ ـ واجبا من باب الترتّب أم يختصّ الترتّب بالعرضيّين؟ ذهب الميرزا النائيني قدس‌سره (٣) إلى عدم

__________________

(١ و ٢) أجود التقريرات ٢ : ١٠٠.

(١ و ٢) أجود التقريرات ٢ : ١٠٠.

(٣) انظر فوائد الاصول ١ : ٣٧٦ و ٣٩٢.


جريان الترتّب في المقام ؛ لأنّه إمّا أن يكون وجوب صرفه في رفع الضرر مشروطا بعصيان الأمر الثاني بعد ذلك ، وهو الشرط المتأخّر وقد بنى قدس‌سره على استحالة الشرط المتأخّر ؛ لأنّ الشرط لا بدّ أن يكون جزءا للموضوع ، ويستحيل فعليّة الحكم قبل وجود موضوعه.

أو يكون مشروطا بالتعقّب بتركه وهو الشرط المقارن ، وهو وإن كان ممكنا إلّا أنّه محتاج إلى دليل يدلّ على هذا الاشتراط ، مضافا إلى أنّ اشتراط المهمّ بترك الأهمّ في الدفعيين إنّما كان لتحقيق القدرة ، وليس للعصيان المتأخّر ولا للتعقّب المقارن مدخليّة في تحقيق القدرة في المقام.

أو يكون مشروطا بالعزم على العصيان وهو مستلزم لطلب الجمع بين الضدّين على ما أفاد قدس‌سره.

أو يكون مشروطا بعصيان خطاب حفظ القدرة وهو غير معقول ؛ لأنّ عصيانه إمّا بصرف الماء في المهمّ وهو لا يعقل كونه شرطا لوجوب المهمّ للزوم طلب الحاصل ، وإمّا بصرف الماء في غيره بإراقته مثلا ، ويستحيل أن يكون شرطا للزوم تكليف المحال حينئذ ؛ إذ بعد صرف الماء في غيره كيف يعقل صرف ذلك الماء فيه أيضا؟ فلا يعقل الترتّب في ذلك.

أقول : إنّا نختار الشق الثاني وهو التعقّب. ودعوى عدم الدليل في مقام الإثبات فنقول : إنّ إمكانه كاف في وقوعه ؛ ضرورة أنّ الأمر بصرف الماء لدفع الضرر مطلق ، وحيث إنّ بقاء إطلاقه مع لزوم حفظ القدرة على رفع الموت عطشا عن زيد مستحيل فيقتصر على رفع ما يرتفع به الاستحالة وهو رفع إطلاقه ؛ لأنّ الضرورة تقدّر بقدرها ، ولا مقتضي لرفع اليد عن أصل الخطاب مع ارتفاع الاستحالة برفع الإطلاق ، وحينئذ فإمكانه مساوق لوقوعه ؛ لجريان ملاك الترتّب الدفعي فيه عينا ، ولا ريب أنّ اعتبار العصيان إنّما كان في الترتّب السابق ؛ لصحّة توجّه الأمر به


من المولى في هذا الحال ، وهذا بعينه موجود في المقام فلا ضير في الالتزام بالترتّب فيه ؛ لأنّ رفع اليد حينئذ عن ملاك المهمّ وتفويته بلا مقتض ، والمفروض أنّه ملاك ملزم لا مانع من الأمر به حال التعقّب الواقعي.

ولا يخفى أنّ في كلام الميرزا النائيني قدس‌سره مواقع للنظر تركنا التعرّض لها اعتمادا على ما في تعليقة سيّدنا الأستاذ (١) مدّ الله في عمره وأيّام إفاداته الزاهرة.

الكلام في القسم الثاني من موارد الترتّب ما دار الأمر بين الواجب والحرام

قد ذكرنا أنّ الكلام في إمكان الترتّب واستحالته يقع في موارد ثلاثة : ما إذا دار الأمر بين واجبين ، أو دار بين واجب وحرام ، أو كان من باب اجتماع الأمر والنهي ، وحيث انتهى الكلام فيما إذا دار الأمر بين واجبين ، فيقع الكلام الآن في الثاني وهو :

ما إذا توقّف إتيان الواجب على مقدّمة محرّمة أو توقّف ترك الحرام على ترك واجب ، مثلا إذا كان إنقاذ الغريق موقوفا على الاجتياز في الأرض المغصوبة فإن كان الواجب والحرام متساويين في الأهميّة فلا ترجيح لأحدهما على الآخر ، وإن كان الواجب المتأخّر أهمّ كما في إنقاذ الغريق فإنّه أهمّ من الغصب بالاجتياز فلا ريب في سقوط تحريم الاجتياز حينئذ ليصل المولى إلى غرضه الأهمّ.

إلّا أنّ الكلام في أنّه لو عصى الواجب ولم ينقذ الغريق فهل يسقط التحريم أم لا؟ فيكون التحريم مشروطا بعصيان الواجب الأهمّ وهو الترتّب أم لا يكون هنا تحريم وهو القول بعدم الترتّب؟ الظاهر عدم جريان الترتّب في المقام لا لكون العصيان بعد يكون من قبيل الشرط المتأخّر ولا دليل عليه لوجود الدليل عليه كما عرفت بإطلاق دليله ، بل لكون الترتّب حينئذ اجتماع ضدّين.

__________________

(١) انظر المحاضرات ٣ : ٣٤٤.


بيان ذلك : أنّا إن قلنا بأنّ الواجب من المقدّمة هو خصوص الموصلة ـ أي التوأمة مع الإيصال ـ فغير الموصلة لا وجوب لها ، فهي باقية على تحريمها السابق من غير حاجة إلى الترتّب ، وأمّا إن قلنا بأنّ مقدّمة الواجب واجبة مطلقا فالقول بكون التحريم مشروطا بالعصيان التزام بجمع حكمين متضادّين ، ضرورة كون المفروض فعليّة وجوب الإنقاذ فمقدّمته وهو الاجتياز واجب ، والمفروض أيضا حصول شرط التحريم وهو العصيان فيكون محرّما ، فيكون الاجتياز واجبا وحراما في آن واحد فيكون محالا ، ومحاليّته ليس لكونه طلبا للجمع بين الضدّين ، بل لكونه جمعا بين الضدّين المستحيل لاستحالة مبدئه ومنتهاه ، فإنّ الشوق إلى ذي المقدّمة شوق إلى المقدّمة وكراهتها لكونها محرّمة أيضا متحقّق ، وكذا من حيث المنتهى أيضا لعدم القدرة.

وقد دفع الميرزا النائيني قدس‌سره هذا الإيراد بدعوى : أنّ الحكمين مختلفان بحسب الرتبة ، وحينئذ فليس في المقام اجتماع ؛ لأنّ اجتماع الضدّين يعتبر فيه اجتماع الوحدات الثمانية ، وأضاف بعض المحقّقين إليها الرتبة ، فما لم يكن بينهما اتّحاد بحسب الرتبة لا اجتماع أصلا.

بيان اختلاف الرتبة : أنّ الوجوب بالإضافة إلى ذي المقدّمة نفسه ليس مقيّدا بوجوده ؛ لاستلزامه طلب الحاصل ، وليس مقيّدا بعدمه لاستلزامه طلب المحال. فليس مطلقا بالإضافة إليهما أيضا ؛ لأنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق فهو مهمل ، وإن كان الوجوب محفوظا في جميع الصور المذكورة فهو يقتضي إتيان متعلّقه وهدم عصيانه ، وكذا وجوب المقدّمة إنّما تقتضي إتيان ذي المقدّمة ؛ لعدم كونها مقصودة بالذات. وحينئذ فوجوب المقدّمة يكون كوجوب ذي المقدّمة أيضا من حيث الإهمال بالإضافة إلى هذه التقارير ، والتحريم لدخول الأرض المغصوبة مثلا إنّما هو على تقدير عصيان أمر ذي المقدّمة فقد اخذ في التحريم هدم موضوع الوجوب فهو متأخّر عنه رتبة فلا اجتماع (١).

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ١١١.


أقول يرد عليه :

أوّلا : أنّ اختلاف الرتبة لو سلّم فهو لا يوجب جواز اجتماع الضدّين في الخارج كالمثلين ، فلو فرض أنّ بياضا كان علّة لبياض آخر فإنّه مع ذلك لا يمكن أن يكون ذلك الجسم محلّا لبياضين ومتّصفا بهما معا.

وثانيا : أنّ الرتبة ليست مختلفة ؛ لأنّ اختلاف الرتبة كان مبنيّا على أنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق ، وقد بيّنّا بطلانه غير مرّة وأثبتنا أنّ استحالة التقييد تستلزم ضروريّة الإطلاق ؛ لاستحالة الإهمال في الواقع. وحينئذ فلا مانع من قول المولى : «إنّ إنقاذ الغريق عليك واجب أنقذت أم لا» ففي صورة عدم الإنقاذ يجتمع الحكمان في رتبة واحدة.

وثالثا : أنّ المقدّمة إنّما تقتضي إتيان متعلّقها وهدم عصيان نفس المتعلّق ؛ إذ كلّ أمر إنّما يدعو إلى متعلّقه في الخارج لا إلى متعلّق غيره ، فليس الوجوب الغيري في رتبة الوجوب النفسي من حيث اقتضاء الوجوب الغيري تحقّق الواجب النفسي. وحينئذ الترتّب في وجوب المقدّمة على تقدير كونها واجبة مطلقا إنّما تتبع ذا المقدّمة على تقدير الإهمال كما ادّعاه قدس‌سره بالإضافة إلى عصيان ذي المقدّمة المتأخّر بنحو يكون العصيان شرطا متأخّرا ، فالوجوب لذي المقدّمة قبل تحقّق العصيان المتأخّر حاصل لعدم سقوطه إلّا بعد تحقّق العصيان والحرمة أيضا فعليّة لفرض كون شرطها حاصلا في ظرفه ، فاجتمع الحكمان الفعليّان.

وبالجملة : فلو كان محذور هذا القسم من أقسام التزاحم هو طلب الضدّين ، فالجواب عنه بمنع ذلك وأنّ تقدير العصيان رافع لذلك كما مرّ ، إلّا أنّ المحذور في الحقيقة نفس الجمع بين الضدّين ولا يرتفع بما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (١). فعلى القول بوجوب مطلق المقدّمة لا بدّ من القول بكون الدخول في الأرض المغصوبة

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٠٦ ـ ١١٥.


حيث يكون إنقاذ الغريق متوقّفا عليها مباحا وإن لم يرد هو إنقاذ الغريق كما اختاره صاحب الكفاية قدس‌سره (١).

ومن هذا الكلام يظهر الكلام فيما لو توقّف الواجب الأهمّ على ترك واجب آخر فإنّ عين الكلام فيه جار وإنّ غير الأهمّ يرتفع وجوبه ويكون فعله محرّما ؛ لأنّه مفوّت للأهمّ إلى آخر الكلام المزبور. هذا تمام الكلام في القسم الثاني من أقسام التزاحم ، وقد عرفت عدم جريان الترتّب فيه ، فافهم.

القسم الثالث من أقسام التزاحم : وهو باب اجتماع الأمر والنهي

فلو لم يكن هناك مندوحة أصلا وقدّم النهي ، فلو عصى ذلك النهي فهل يمكن حينئذ أن يأتي بالمأمور به من باب الترتّب بنحو يكون الأمر به مشروطا بعصيان النهي أم لا يمكن ذلك؟ مثلا إذا نهي عن الغصب وامر بالصلاة فلو قدّم النهي فالعمل منهيّ عنه ولكن هل يمكن أن يؤمر بالصلاة مشروطا بعصيان نهي الغصب أم لا يمكن؟ ذهب الميرزا النائيني قدس‌سره إلى استحالة الترتّب ؛ لأنّ العصيان لنهي الغصب إمّا أن يكون بالغصب بنفس الصلاة أو بغيرها من الأفعال ، ويستحيل جعلهما شرطا للصلاة ، لرجوع الأوّل إلى قولك : «إن صلّيت فصلّ» وهو طلب الحاصل ، والثاني إلى قولك : «إن لم تصلّ فصلّ» ، وهو طلب المحال (٢).

أقول : إنّ باب اجتماع الأمر والنهي إن قلنا بامتناع اجتماع الأمر والنهي لوحدة المتعلّق أو لسريان الأمر من متعلّقه إلى متعلّق الثاني وبالعكس فليس من باب التزاحم وإنّما هو داخل في باب التعارض ؛ إذ المفروض أنّ جعل الأمر والنهي فيهما محال قطعا فليس الامتناع لعدم المقدوريّة فلا يتصوّر فيه الترتّب كما ذكره

__________________

(١) انظر كفاية الأصول : ٢٠٥ ـ ٢٠٦.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ١١٤ ـ ١١٥.


النائيني قدس‌سره. وإن قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي لفرض كون التركيب بينهما انضماميّا ولا يسري متعلّق الأمر إلى متعلّق النهي ولا العكس فحينئذ نقول : إن كان حرمة الغصب أهمّ من وجوب الصلاة والمفروض أنّه لا يقدر أن يترك الغصب ؛ لأنّه حينئذ يترك الصلاة ، ولا يقدر أن يصلّي ؛ لأنّه حينئذ يغصب ، فإذا فرض حرمة الغصب أهمّ فتكون أولى بالمراعاة ، لكن لو عصى وغصب لا مانع حينئذ من القول بوجود أمر بالصلاة مشروطة بالغصب. وما ذكره النائيني قدس‌سره غير وارد ؛ لأنّ الغصب ليس بالصلاة لفرض كونه أمرا آخر مباينا لها لكنّه ملازم لها ، فدعوى لزوم طلب الحاصل حينئذ لا وجه له أصلا. نعم لو بنينا على الامتناع صحّ ما ذكره قدس‌سره.


في أمر الآمر مع علمه بانتفاء الشرط

هل يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء الشرط أم لا يجوز؟ والكلام يقع في مقامين :

أحدهما : مقام الإنشاء المعبّر عنه في لسان الميرزا النائيني قدس‌سره بمقام الجعل. الثاني : في مقام الفعليّة المعبّر عنها في لسانه بمقام المجعول (١).

أمّا انتفاء شرط الإنشاء فلا مدخليّة للعلم والجهل به ، بل متى فقد أحد شرائط الإنشاء ـ من وجود المنشئ أو إرادته ـ فقد الإنشاء والجعل قطعا.

وأمّا انتفاء شرائط الفعليّة فتارة يكون انتفاء شرائط الفعليّة مستندا إلى جعل هذا الحكم كما إذا ورد مثلا (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ)(٢) فكان ورود هذا القانون مانعا من أن يقتل أحد أحدا فمثل انتفاء مثل هذا الشرط أعني الموضوع ، إذ كلّ شرط يرجع إلى كونه موضوعا ، وكلّ موضوع يرجع إلى كونه شرطا لا يمنع من جعل الحكم. وإن كان انتفاء الشرط ـ يعني الموضوع ـ أمرا غير مستند إلى جعل نفس الحكم كان جعل الحكم حينئذ لغوا من حيث متعلّقه. نعم قد يجعل مثل هذا الحكم للاختبار والامتحان كما في الموالي العرفيّة ، وقد عرفت غير مرّة أنّ الاختبار والامتحان ليس من جعل الحكم ، فافهم.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ١ : ١٥٨.

(٢) البقرة : ١٧٩.


في أنّ الأمر متعلّق بالطبائع أو بالأفراد؟

وقبل الخوض في ذلك لا بدّ من ذكر المباني لهذا النزاع ليعلم معنى النزاع ونقطة الخلاف فإنّهم متّفقون على أنّ الطبائع من حيث هي لا تصلح أن تكون متعلّقة للطلب ؛ لأنّ الطبائع من حيث هي ليست إلّا هي. وكما أنّهم متّفقون أيضا على أنّ مفاد الأمر طلب الإيجاد وأنّ الأمر لا يتوجّه نحو الطبيعة الموجودة ؛ لأنّه طلب الحاصل. فإذا عرفنا هذين الاتّفاقين فيقع الكلام في مباني هذا النزاع :

فنقول : يمكن أن يكون مبنى هذا النزاع هو أنّ الكلّي الطبيعي موجود في الخارج بوجود الأفراد أو أنّه ليس موجودا وإنّما الموجود في الأفراد الخارجيّة حصص منه ، فبناء على وجود الكلّي الطبيعي في الخارج بدليل صحّة حمله على الفرد المستدعية للاتّحاد بحسب الوجود ؛ لعدم الاتّحاد المفهوميّ بينهما فالأمر على ظاهره من كونه متعلّقا بالطبيعة ؛ ضرورة أنّ مفاد الهيئة ولو التزاما طلب الوجود ومفاد المادّة الطبيعة. وبناء على عدم وجود الكلّي الطبيعي في الخارج يعدل عن ظاهر الخطاب بهذه القرينة وهي استحالة وجود الطبيعة ويقال بأنّ المطلوب هو الفرد ، وإنّما عبّر بالطبيعة للاقتصار ولبيان أن لا خصوصيّة لفرد من الأفراد. وهذا المبنى مبنى حسن.

ويمكن أن يكون مبنى المسألة ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره : من أنّه بناء على أنّ الطبيعة موجودة بوجود الأفراد فهل التشخّص في مرتبة سابقة على الوجود اعتمادا على أنّ الشيء ما لم يتشخّص لم يوجد أو أنّ تشخّصه بنفس الوجود ، فعلى الأوّل لا بدّ من كون الأمر متعلّقا بالأفراد ، وعلى الثاني لا بدّ من تعلّقه بالطبائع (١) ، وبما أنّه اختار أنّ التشخّص بنفس الوجود اختار تعلّق الأمر بالطبائع.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٠٧.


أقول : لا أظنّ أحدا يختار أنّ التشخّص سابق على الوجود ، لوضوح بطلانه فكيف يكون مبنى لهذه المسألة التي قام النزاع فيها على قدم وساق؟ فليس هذا مبنى لهذه المسألة.

ويمكن أن يكون مبنى هذه المسألة ما تقدّم في مبحث الضدّ : من أنّ اللوازم بحسب الوجود لشيء يلزم أن تكون محكومة بحكمه أم اللازم أن لا تكون محكومة بخلاف حكمه؟ فعلى الأوّل فالأمر متعلّق بالأفراد ، وعلى الثاني بالطبائع.

بيان ذلك : أنّ الموجود في الخارج لا بدّ من أن يتشخّص ويحصل في ضمن مشخّصات ـ من زمان أو مكان أو غيرها ـ وهذه يعبّر عنها بالعوارض مسامحة ، وإلّا فهي كلّيات أيضا إلّا أنّها على البدل. فإن قلنا بأن الأمر بالشيء أمر بلوازمه فالأمر متعلّق بالفرد ، وإن لم نقل بذلك بل قلنا بأنّ الأمر بالشيء لا يكون أمرا بلوازمه بل يلزم أن لا تحكم اللوازم بخلاف حكمه فالأمر متعلّق بالطبائع. وهذا المبنى الأخير أقرب المباني لهذه المسألة ، وسيأتي بيان ثمرة هذه المسألة في مبحث اجتماع الأمر والنهي ، فافهم وتأمّل.

وكيف كان ، فالظاهر أنّ الأمر متعلّق بالطبائع دون الأفراد ؛ لأنّ الأمر مشتمل على مادّة مفادها الطبيعة ، وهيئة مفادها الطلب بالالتزام ، ولا مقتضى للعدول عن ظاهر الأمر.


في أنّ نسخ الوجوب مقتض للجواز أم لا؟

هل لدليل الناسخ أو المنسوخ أو هما معا دلالة على بقاء الجواز أم لا؟ والكلام يقع في مقامين :

أحدهما : دلالة الأدلّة الاجتهاديّة.

الثاني : دلالة الاصول العمليّة.

أمّا الكلام في الأوّل فنقول :

أمّا دليل الحكم المنسوخ وحده فلا يقتضي أكثر من إثبات الوجوب ، وأمّا أنّه ما يخلفه من الحكم عند ارتفاعه فلا يدلّ عليه.

وأمّا دليل الناسخ وحده فلا يدلّ على أكثر من رفع الحكم الذي هو الوجوب ، ولا يدلّ على أكثر من ذلك.

وأمّا مجموع الناسخ والمنسوخ فقد يقال بدلالتهما ، بدعوى أنّ الدليل الدالّ على الوجوب دلّ على امور ثلاثة :

أحدها الإباحة ، الثاني الرجحان ، الثالث الإلزام ، ودليل الناسخ يحتمل أن يرفع الجميع فلا بدّ من القول بالتحريم ، وقد يرفع خصوص الإلزام فيبقى الاستحباب ، كما قد يرفع الإلزام والرجحان فتبقى الإباحة بالمعنى الأخصّ فالقدر المتيقّن من رفع الناسخ هو رفع الإلزام فيبقى الاستحباب.

وفيه أوّلا : أنّ الأحكام ليست من سنخ الجواهر ولا الأعراض ، وإنّما هي اعتبارات محضة فكيف تكون مركّبة من امور مع كونها اعتبارات؟ وهذه الاعتبارات امور بسيطة متباينة بعضها يباين بعضا ، فالوجوب مباين للاستحباب ، وهما مباينان للإباحة وهكذا ، وحينئذ فإذا ارتفع الوجوب الذي هو أمر بسيط اعتباري فما هو الدليل على ثبوت الإباحة بالمعنى الأخصّ أو الأعمّ؟


وثانيا : أنّا قد ذكرنا أيضا أنّ المدلول بالدلالة الالتزامية تابع للدلالة المطابقيّة في الثبوت والسقوط ، فإذا كان المدلول المطابقي قد نسخ وهو الوجوب فكيف يبقى المدلول الالتزامي؟ وقد مرّ الكلام في ذلك مفصّلا.

فتلخّص أنّ الأدلّة الاجتهاديّة لا تقتضي ثبوت الإباحة بعد نسخ الوجوب لا بالمعنى الأخصّ ولا بالمعنى الأعمّ.

فيبقى الكلام في جريان الاصول في إثبات الإباحة ، فإنّه قد يقال : إنّ الإباحة كانت قبل نسخ الوجوب فتستصحب. والظاهر عدم جريان الاستصحاب إلّا على القول بجريانه في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي فإنّ الإباحة السابقة كانت في ضمن الوجوب وقد ارتفعت بارتفاعه ، وهذه الإباحة على تقدير تحقّقها فهي فرد آخر في ضمن حكم آخر ، وليست الأحكام من قبيل مراتب السواد والبياض المستتبعة لعدّ الباقي من مراتب السابق وأنّه هو هو عرفا.


في الواجب التخييري

وقد وقع الكلام في تصويره بعد الفراغ عن تحقّقه ـ كما في خصال الكفّارة ومواطن التخيير في قصر الصلاة ـ فذهب جمع إلى أنّه كيف يكون الواجب التخييري واجبا مع جواز تركه ، فذهبوا إلى أنّ الواجب هو خصوص ما يختاره المكلّف ، وقد ذكر في المعالم تبرّي كلّ من هذا القول ونسبته له إلى خصمه (١) وهذا كاف في بطلانه ، مضافا إلى أنّه في صورة العصيان أيّ واجب ترك مضافا إلى كونه خلاف واقع الواجب التخييري بحسب مرتكزاتنا وظهور الأدلّة.

وذهب جماعة إلى أنّ الواجب أحدهما (٢) ، وآخرون إلى أنّه واحد على البدل (٣).

وفصّل صاحب الكفاية قدس‌سره فحكم بوجوب الجامع حيث يكون هناك غرض واحد مترتّب على أحد امور ؛ لأنّ وحدة الغرض كاشفة عن وحدة الواجب ؛ لاستحالة صدور الواحد من المتعدّد لاعتبار نحو من السنخيّة بين العلّة والمعلول. وإن كان هناك غرضان في شيئين إلّا أنّ بينهما تمانعا بحسب الوجود فالوجوب متوجّه نحو أحدهما على البدل وأنّه سنخ وجوب يقتضي إتيان متعلّقه أو تركه إلى بدله لا مطلقا ، ويكون التخيير بينهما شرعيّا في الأخير ، بخلاف الأوّل فالتخيير فيه عقلي إذ الواجب هو الجامع (٤).

ولا يخفى أنّه لا يمكن المساعدة على ما ذكره من كلا الشقّين :

أمّا الأوّل : فلأنّا لو سلّمنا استحالة صدور الواحد من المتعدّد فإنّما نسلّم في الواحد الشخصي ، وأمّا الواحد بالنوع فلا ، ونعني بالواحد بالنوع ما كان يجمعه نوع واحد ، فلا مانع من أن يستند الواحد بالنوع إلى متعدّد. وليس ما ذكر برهانا على الاستحالة

__________________

(١) انظر المعالم : ٧٢.

(٢) انظر هداية المسترشدين ٢ : ٢٨٨ ، ومفاتيح الاصول : ٣٠٩.

(٣) انظر هداية المسترشدين ٢ : ٢٩٣.

(٤) انظر كفاية الأصول : ١٧٤.


ـ من لزوم السنخيّة بين العلّة والمعلول ـ شاملا له أصلا ، فإنّ من طلب حرارة بدنه يمكن أن تحقّق بمقابلة الشمس وبمواجهة النار وبشرب الشاي وبالحركة السريعة وبالغضب وبمقابلة القوّة الكهربائيّة وبالسرور الكثير وبلبس الصوف وغير ذلك ، فإنّ الواحد مستند إلى جميع هذه ، وليس هذا إلّا لأنّ الوحدة بالنوع والسنخيّة حاصلة بين كلّ سبب وفرد من أفراد حرارة الجسم ، وإلّا فأيّ جامع هو ماهوي بين هذه الامور المذكورة؟ وكيف يعقل الجامع الماهوي بين الجوهر كالنار والعرض كالحركة مثلا؟

وثانيا : أنّ مثل هذا الجامع الذي لا يدركه عامّة الناس غير قابل لأن يوجّه الوجوب نحوه ؛ لأنّ الوجوب إنّما يتوجّه نحو المفاهيم التي يفهمها العرف.

وأمّا الشقّ الثاني : فكون غرضين متعاندين بحسب ذاتيهما بحيث مع استيفاء أحدهما لا يمكن استيفاء الآخر أنياب أغوال لا واقع له وإنّما هو صرف تصوّر لا واقع له ولا حقيقة ، [هذا أوّلا].

وثانيا : إن فرضناهما متنافيين حيث يقعان متعاقبين فيجب على المولى إيجاب إتيانهما عرضا حيث يمكن محافظة على الغرضين معا ، وإن فرضناهما متنافيين مطلقا حتّى عرضا فلازمه عدم حصول واحد من الغرضين لو أتى بهما معا ؛ لأنّ تنافيهما يوجب عدم تحقّقهما في الخارج حيث يوجد السببان معا ، وممّا لا ريب فيه أنّ الواجبات التخييريّة ممّا تسقط لو أتى بخصلتين دفعة واحدة ، فليس ما ذكره منطبقا على الواجبات التخييريّة التي عندنا.

وذهب الميرزا النائيني قدس‌سره إلى أنّ الواجب التخييري هو ما توجّه الوجوب فيه إلى واقع أحدهما ، وذكر أنّ الإرادة التكوينيّة تفترق عن الإرادة التشريعيّة باشتراط كون متعلّقها شخصيّا بخلاف التشريعيّة فإنّها تتعلّق بالكليّات غالبا وأيضا تفترق بهذا وهو أنّها ـ أي التكوينيّة ـ لا بدّ أن تتعلّق بمشخّص ، والتشريعيّة تتعلّق بفرد مردّد في الواقع (١).

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ١ : ٢٦٦.


أقول : إن رجع هذا القول إلى القول الأوّل وهو كون الواجب معيّنا عند الله غير معيّن عندنا فجوابه جوابه ، وإلّا فلا يعقل أن يتعلّق الوجوب بأمر ليس له تحقّق في الواقع أصلا ، فإنّ واقع أحدهما ليس له وجود أصلا.

وذهب بعض المحقّقين ـ قدس‌سره ـ إلى أنّ الواجب التخييري هو أن يكون في كلّ من الواجبين ملاك ملزم ، إلّا أنّ الله تعالى إرفاقا بعبده يسقط عنه وجوب الثاني عند إتيانه بالأوّل (١).

وفيه أوّلا : أنّ الواجب التخييري ليس أمرا مبهم الحقيقة ، بل هو أمر نعرفه بوجداننا عند أمرنا بشيئين على سبيل التخيير فإنّا لا نرى أنفسنا قد أوجبنا وجوبين نسقط الثاني على تقدير الإتيان بالأوّل إرفاقا بالمأمور.

وثانيا : أنّ لازم ذلك هو أنّه لو تركهما معا لاستحقّ عقابين لتفويته لملاكين ملزمين على هذا ، ولا يلتزم به هذا المحقّق.

فالتحقيق في الجواب أن يقال : إنّ الواجب التخييري يمكن أن يكون بنحو تكون هناك مصلحة في الجامع بين هذه الخصال المذكورة في لسان الشارع المقدّس ، ويمكن أن يكون الواجب هو ذلك الجامع ، وهو في هذه المقامات مفهوم «أحدها» الذي هو من المفاهيم الانتزاعيّة المنطبقة على أيّ الخصال الموجودة في الخارج.

لا يقال : إنّ مفهوم أحدها لا يمكن أن يتوجّه التكليف ويتعلّق الاعتبار بها.

فإنّه يقال : إنّ هذا المفهوم قابل لتعلّق الصفات الحقيقيّة به مثل تعلّق العلم الإجمالي في أطراف العلم الإجمالي فإنّ المعلوم الإجمالي هو مفهوم أحدها ، وكذا يتعلّق الشوق مثلا بأحد الطعامين من غير مرجّح له على عدله ، وكذا نعلم عدالة أحد الرجلين وغيرها من الأمثلة ، فإذا تعلّق الصفات الحقيقيّة بهذه المفاهيم

__________________

(١) انظر نهاية الدراية ٢ : ٢٧١.


فلا مانع من جواز تعلّق الوجوب بمفهوم «أحدها» وهو كلّي انتزاعي يتعلّق به الوجوب ، ووجوده في الخارج بوجود أفراده. فالظاهر أنّ الواجب التخييري ليس إلّا وجوب الجامع المنطبق على كلّ واحد من الأفراد ، ويكون التخيير بين الأفراد عقليّا.

والفرق بين التخيير الذي اصطلح عليه الأصحاب أنّه شرعي ـ كما في المقام ـ والذي اصطلحوا عليه أنّه عقلي هو : أنّه إن عبّر عنه بلفظ بسيط كالصلاة مثلا فالتخيير عقلي ، وإن عبّر عنه في لسان الشارع بألفاظ كالخصال في الكفّارة كان تخييرا شرعيّا من غير فرق بينهما في الأثر أصلا ، فافهم. كما أنّه يمكن الفرق بأنّ التخيير العقلي ما يكون تطبيق أفراده بنظر العقل وهنا بيان الأفراد إلى الشارع ثمّ بعد بيان الأفراد ينتزع الجامع بينها ، وهذا هو حقيقة الواجب التخييري بحيث ليس له حقيقة غيرها فإنّا إذا راجعنا أنفسنا لا نجد غير ذلك في أوامرنا العرفيّة.

ودعوى : أنّ هذه الخصال في الكفّارة لا جامع بينها بل لا يتصوّر. مدفوعة بأنّ هذا إنّما يخلّ بالجامع الحقيقي لا الانتزاعي.

بقي الكلام في أنّه هل يمكن التخيير بين الأقلّ والأكثر أم لا يمكن فلا بدّ من حمل الأقلّ على الوجوب والأكثر على الاستحباب؟ يعني على استحباب الزيادة.

فنقول : إنّ الأقلّ والأكثر يختلف : فقد يكون الأكثر بنفسه وجودا واحدا والأقلّ وجودا واحدا أيضا بحيث ليس الأقلّ في ضمن الأكثر بل هما وجودان أحدهما أقلّ من الآخر ، كما في الخطّ الطويل بمقدار شبر والخطّ القصير بمقدار نصف شبر ، فإنّه لو أمر المولى برسم واحد من خطّين أحدهما بقدر شبر والآخر بمقدار نصفه فهذا لا ريب في صحّته وإمكانه ، لكنّه في الحقيقة تخيير بين المتباينين ؛ لأنّ القصير له وجود آخر ليس في ضمن الأكثر.


وقد يكون الأقلّ له وجود مستقلّ في ضمن الأكثر إلّا أنّ لسان الدليل الدالّ على وجوب أحدهما اعتبر الأقلّ بشرط عدم الزيادة والأكثر بشرط الزيادة ، وهذا أيضا ممكن وواقع ، كما في التخيير بين القصر والإتمام في مواطن التخيير ، ولكنّه أيضا تخيير بين المتباينين ، فإنّ «شرط لا» و «شرط شيء» متباينان.

وقد لا يكون الأقلّ محدّدا بحدّ بل كان «لا بشرط» من حيث الزيادة وعدمها فهل يمكن التخيير فيه بين الأقلّ والأكثر أم لا يمكن ذلك؟ الظاهر استحالته فإنّ الأقلّ بمجرّد وجوده في ضمن الأكثر سقط الأمر به لحصول الغرض فسقط الوجوب التخييري ، فإنّ سقوط الأمر بحصول متعلّقه ليس اختياريّا أصلا ، بل متى تحقّق متعلّقه سقط الأمر لتحقّق الامتثال حينئذ.

فدعوى بقاء الأمر حتّى يؤتى بالأكثر كما في الكفاية (١) إن رجع إلى المتباينين فهو ، وإلّا فلا نعقله أصلا.

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ١٧٥ ـ ١٧٦.


في الوجوب الكفائي وتصويره

كما ذكرنا في الفصل السابق أنّ ملاك الحكم والتكليف قد يكون متعلّقا بشيء معيّن يكون التخيير بين أفراده عقليّا ، وقد يكون متعلّقا بشيء يحصل بأحد امور فيؤمر بالجامع ويكون التخيير شرعيّا بين أفراد الجامع الانتزاعي ، فيسمّى الأوّل بالواجب التعييني ، والثاني بالواجب التخييري.

كذلك قد تقوم المصلحة بصدور فعل من كلّ فرد فرد من المكلّفين ، وتكون المصلحة في أن يعمل كلّ واحد من المكلّفين هذا العمل بنحو تكون المصالح متماثلة ، وقد اصطلح على ذلك بقيام المصلحة بمطلق الوجود أينما سرى.

وقد تكون المصلحة قائمة بصدور هذا الفعل من مكلّف بنحو صرف الوجود بلا أن يكون هناك غرض وخصوصيّة بمكلّف خاصّ. فالأوّل يسمّى بالوجوب العيني ، والثاني يسمّى بالكفائي.

ومن هنا ظهر أنّ الواجب الكفائي لو تركه جميع المكلّفين لكانوا جميعا مستحقّين للعقاب ؛ لأنّ كلّ فرد منهم قد توجّه التكليف إليه بما أنّه فرد من أفراد المكلّفين وقد ترك. ولو أتى به أحدهم كان ممتثلا ، وحينئذ يسقط الوجوب عن الجميع وإن لم يستحقّ الثواب غير ذلك الممتثل ، وهذا بحسب الظاهر واضح.

وقد أنكر بعضهم الواجب الكفائي وزعم أنّ كلّ ما يتصوّر أنّه من قبيل الواجب الكفائي فهو واجب عيني غير أنّه مشروط بترك بقيّة المكلّفين له (١).

وقد ارتضاه ثبوتا الميرزا النائيني قدس‌سره إلّا أنّه زعم أنّ الأدلّة في مقام الإثبات

__________________

(١) انظر هداية المسترشدين ٢ : ٣٧٢ ، فإنّه استظهره من الأصحاب وقال : بل المحكيّ عنهم في ذلك ...


لا تساعد عليه ؛ لأنّ الغرض الواحد لا يستدعي أكثر من إيجاب واحد (١). والظاهر عدم تماميّته ثبوتا أيضا ؛ لأنّ الواجب الكفائي يكون على نحوين :

أحدهما : ما لا يمكن صدوره إلّا من واحد كأكل لقمة واحدة ، وهذا لا يرد على أخذه واجبا مشروطا إلّا ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره.

الثاني : ما يكون قابلا للصدور من متعدّد كالصلاة على الميّت ، وفي مثله يكون المانع ثبوتيّا أيضا ؛ لأنّه لو كان من قبيل الواجب المشروط بالترك فهل الترك آناً ما بحيث يسع الفعل شرط؟ فهذا يقتضي الوجوب على جميع المكلّفين إذا ترك زمانا يسع فعله لوجود شرطه حينئذ ، فلو لم يأت به بعضهم عوقب وإن أتى به الباقون لتركه الواجب ، وإن كان مشروطا بالترك في جميع الوقت فهذا يقتضي أنّه لو أتى به المكلّفون دفعة واحدة أن لا يكونوا ممتثلين ، بل أن لا يكون العمل واجبا عليهم ؛ لعدم حصول شرطه ، ولا يمكن الالتزام بهذه الامور في الواجبات الكفائيّة فليس من قبيل الواجب المشروط. نعم يبقى احتمال أن يكون مشروطا بأن لا يسبق بفعله ، وقد زعم الاستاذ أنّ هذا لا يخلو عن تعسّف ، فتأمّل.

[فرع] :

بقي الكلام في فرع ذكر في المقام بمناسبة الواجب المشروط وهو أنّه لو ابيح ماء لشخصين لا يكفي الماء إلّا أحدهما لرفع حدثه وكانا محدثين ، فهل يتيمّمان معا أو يتوضّأ أحدهما؟ الظاهر أنّ وجوب الوضوء به على أحدهما مشروط بعدم مزاحمة الآخر له ، فلو سبقه وجب عليه الوضوء ، فالوجوب هنا مشروط بعدم المزاحمة. وهذا واضح إلّا أنّ الكلام في أنّهما لو كانا متيمّمين لفقد الماء ثمّ ابيح لهما ذلك الماء فهل ينتقض تيمّمهما معا لصدق الوجدان بالإضافة إلى

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ١ : ٢٧١.


كلّ منهما؟ زعم الميرزا النائيني قدس‌سره ذلك بدعوى كون كلّ منهما واجدا ، وقد علّق الانتقاض بالوجدان المتحقّق في المقام في قوله عليه‌السلام : ما لم يحدث أو يجد ماء (١) ، وإنّ بطلان الوضوء ليس فيه تزاحم وإنّما التزاحم في الحكم وهو وجوب الوضوء ففيه يتحقّق التزاحم (٢).

أقول : لا يخفى أنّ مفاد قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا)(٣) يستفاد منه أنّ القادر على استعمال الماء يجب عليه الوضوء ويبطل تيمّمه ، وأمّا غير القادر فيجب عليه التيمّم ، وحينئذ فالمتيمّمان إذا كان كلّ منهما إذا أراد استعمال الماء لا يمنعه الآخر وكذلك الثاني. فكلّ منهما قادر على استعمال الماء وأهملا ؛ إذ إنّ كلّا منهما على البدل قادر على استعمال الماء بغير مانع ؛ إذ المفروض أنّ الثاني لا يزاحمه. فلو مضت عليهما مدّة يمكنهما فيها الوضوء ، وهما على هذا الحال فقد انتقض تيمّمهما ووجب الوضوء عليهما بدلا ، فإذا استعمل بعد ذلك أحدهما الماء انعدم موضوع الماء للآخر فيجب عليه التيمّم ثانيا ؛ لأنّ تيمّمه السابق قد انتقض بالقدرة.

وإن كانا متزاحمين على استعمال الماء بحيث إنّ كلّا منهما مزاحم للآخر فلو غلب أحدهما ـ لقوّته مثلا ـ انتقض تيمّمه فيجب عليه الوضوء لوجدانه الماء حينئذ ، ويبقى تيمّم الثاني لانكشاف عدم كونه واجدا من أوّل الأمر ، وإنّما كان تخيّل وجدان. فانكشف أنّ بطلان التيمّم ملازم لوجوب الوضوء وبقاء التيمّم مساوق لعدم وجوب الوضوء وإنّهما لا يفترقان ، هذا تمام الكلام في الفرع.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٩٩٠ ، الباب ٢٠ من أبواب التيمّم.

(٢) انظر أجود التقريرات ١ : ٢٧٤.

(٣) النساء : ٤٣ ، والمائدة : ٦.


في الواجب الموسّع والمضيّق

الواجب قد يكون مؤقّتا ، وقد لا يكون مؤقّتا. فغير المؤقّت قد يكون فوريّا كقضاء الدين مع المطالبة والإمكان ، وقد لا يكون فوريّا كما في صلاة القضاء على ما هو المشهور والمنصور من كونه موسّعا.

والمؤقّت قد يكون مضيّقا كصوم شهر رمضان ، وقد يكون موسّعا كالصلاة اليوميّة.

وكلّ هذه الأقسام واقعة في الشريعة المقدّسة قطعا ، وإنّما الكلام في تصوير وقوعها مع ما يرد عليها من الإشكال.

أمّا الإشكال في المضيّق فلأنّ الامتثال إنّما يكون بعد التكليف والعلم به والتصوّر له والانبعاث نحوه ، فالامتثال متأخّر بمراتب عن التكليف فلا بدّ من كون التكليف في زمن الواجب ، فلا بدّ من كونه أوسع من الفعل لتتحقّق هذه المراتب فيمتثل.

والجواب أنّا قد ذكرنا أنّ تأخّر الامتثال عن البعث والتكليف إنّما هو تأخّر طبعي ولا يلزم فيه التأخّر بحسب الزمان أصلا ، وثانيا أنّه يمكن أن يكون بنحو الوجوب المعلّق أو المشروط بالوقت مثلا أو غير ذلك بحسب اختلاف الموارد.

وأمّا الإشكال في الموسّع فهو ما قدّمناه : من أنّ الواجب هو ما لا يجوز تركه ، وإذا كان موسّعا فقد رخّص في تركه ، وهذا الإيراد أيضا وارد في الأفراد العرضيّة ، فمن وجب عليه الصلاة إذا ترك الصلاة في المسجد وصلّى في بيته فقد ترك الواجب أيضا.

والجواب أنّ الوجوب إنّما تعلّق بالطبيعة من دون خصوصيّة في الأفراد ، فهو بترك الفرد العرضي لم يترك الطبيعة لتحقّقها في الفرد الثاني ، وأمّا في مقامنا فإنّ الواجب هو صرف الوجود فيما بين هذين الحدّين وليس كلّ فرد من أفراد هذين الحدّين ، فبترك الفرد الأوّل لم يترك الواجب إذا أتى به بعد ذلك ؛


ضرورة أنّ الملاك قائم بالعمل فيما بين هذين الحدّين فلا غرض بفرد وخصوصيّة فلا تجب ، وهذا كلّه لا ريب فيه.

وإنّما الكلام في أنّ المؤقّت إذا فات وقته فهل يجب الإتيان به بمقتضى الأمر الأوّل أم لا يجب بنفس الأمر الأوّل ، بل لا بدّ من دليل دالّ على ذلك فبدونه لا يجب؟

ظاهر كلام صاحب الكفاية قدس‌سره التفصيل بين كون التقييد بالزمان بالقرينة المتّصلة فلا يجب القضاء خارج الوقت ؛ لأنّ الوجوب قاصر وبين كونه بمنفصل فيجب (١) ، والظاهر أنّ مراد الميرزا النائيني قدس‌سره من البعض الذي نسب إليه هذا التفصيل هو صاحب الكفاية قدس‌سره فأورد عليه قدس‌سره بعدم الفرق بين القرينة المتّصلة والمنفصلة في كونها لبيان المراد وتقييده بزمان خاصّ فلا يجب في غيره (٢).

وما ذكره الميرزا وإن كان متينا في نفسه إلّا أنّه إن كان مراده التعريض بصاحب الكفاية قدس‌سره. فالإنصاف أنّ التأمّل في كلامه يقضي بخلاف ما نسب إليه ، وأنّ ما ذكره هو الصحيح ، بيانه أنّه قد ذكر قدس‌سره قاعدة كلّية في جميع القيود ملخّصها : أنّه إن كان الدليل المنفصل الدالّ على التقييد بذلك القيد مطلقا ، كما هو الغالب في المقيّدات فلا بدّ من تقييد دليل الواجب الأوّل ، سواء كان مطلقا أم مهملا ، فإنّه يكون المقيّد المطلق مبيّنا له ، وإن كان الدليل المقيّد فاقدا للإطلاق كالإجماع مثلا فإنّ القدر المتيقّن من تقييده هو حال الاختيار ، فلو اضطرّ إلى ترك القيد فلا دليل حينئذ على اعتباره ، فينظر حينئذ إلى دليل الواجب فإن كان مطلقا فلا بدّ من الإتيان بفاقد القيد بمقتضى إطلاق دليله الذي لم يعلم تقييده في هذا الحال ، وإن لم يكن مطلقا بل كان كالإجماع ونحوه فلا بدّ حينئذ من الرجوع إلى الاصول العمليّة.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٧٨.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٧٧.


ثمّ إنّ صاحب الكفاية قدس‌سره (١) طبّق هذه القاعدة الكلّية على التقييد بالوقت.

وربما نسب (٢) إلى المحقّق القمّي التفصيل في القيود بين ما كان دليله بمثل الأمر مثل : صلّ إلى القبلة ، فيكون قيدا حال العمد والاختيار ، وبين ما كان بمثل ، لا صلاة إلّا بطهور أو بفاتحة الكتاب (٣) ، فيكون قيدا مطلقا ؛ لأنّ الأمر لا يتوجّه نحو غير القادر لقبحه ، بخلاف مثل : لا صلاة ، ممّا تنفى فيه الماهيّة. وجوابه واضح فإنّ هذه الأوامر ليست مولويّة وإنّما هي إرشاد إلى الجزئيّة والشرطيّة فلا فرق حينئذ بين المقامين.

ثمّ إنّه إذ انتهت النوبة إلى الاصول العمليّة فهل يمكن التمسّك بالاستصحاب في إثبات الوجوب؟ الظاهر لا ؛ وذلك أنّ الشاكّ تارة يعلم بأنّ الوجوب مقيّد بالوقت ، ومع ذلك يشكّ في وجوب العمل خارج الوقت أم لا ، فهذا لا يجري الاستصحاب ؛ لأنّه يعلم أنّ ذلك الوجوب مرتفع ويحتمل حلول وجوب آخر محلّه ، فهو القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي ، وهو غير حجّة كما يأتي إن شاء الله تعالى.

واخرى يحتمل بقاء الوجوب ؛ لأنّه يحتمل أنّ وجوب القيد ـ وهو الزمان ـ من باب تعدّد المطلوب لا وحدته فالوجوب لأصل العمل باق فهذا يحتمل كون الوجوب كذلك فكيف يجري فيه الاستصحاب؟ والاستصحاب لا بدّ فيه من إحراز كون المستصحب متيقّنا في السابق ولا متيقّن في المقام ؛ لأنّ هذا الوجوب بهذا النحو محتمل لا متيقّن ، هذا كلّه في الشبهة الحكميّة.

وقد ظهر أنّ مقتضى الأدلّة الاجتهاديّة والاصول العمليّة في الشبهة الحكميّة احتياج القضاء خارج الوقت إلى أمر جديد فيما إذا لم يكن دليل الواجب مطلقا ودليل المقيّد مهملا ، وأنّ المرجع في غير هذه الصورة إلى أصالة البراءة إن لم يرد دليل بالخصوص.

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ١٧٨.

(٢) لم نتحقّقه.

(٣) مستدرك الوسائل ٤ : ١٥٨ ، الباب الأوّل من أبواب القراءة ، الحديث ٥ و ٨.


وأمّا الشبهة الموضوعيّة كما لو قلنا بلزوم القضاء ولو بالأمر الجديد ، فشكّ في عدم الصلاة في الوقت مع قطع النظر عن قاعدة الحيلولة ، أو يفرض الكلام في الصوم فهل يمكن إثبات وجوب القضاء باستصحاب عدم الإتيان في الوقت؟ الظاهر عدم

إجداء الاستصحاب ؛ لأنّ موضوع القضاء لو كان عدم الإتيان بالصلاة لنفع الاستصحاب ، إلّا أنّ الظاهر أنّ موضوع القضاء هو الفوت ، وهو أمر ملازم لعدم الإتيان في تمام الوقت لا نفسه ؛ ولهذا يقال في العرف : لم نأت بالشيء الفلاني ففاتنا.

ولا ريب أنّ إجراء الاستصحاب لإثباته من أظهر أنحاء الأصل المثبت ، ولو شككنا في كون الفوت نفس عدم الإتيان أو أمرا ملازما له فلا ريب في عدم جريان الاستصحاب ؛ لعدم العلم بترتّب أثر شرعي عليه فهو شبهة مصداقيّة لا يعلم كونها من موارد التعبّد بالاستصحاب أم لا ، ولا عموم لتدخل تحته لتكون من موارد النزاع في جواز التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقيّة في المخصّص ، بل هذه لا كلام في عدم جريان الاستصحاب فيها ، لعدم العموم. هذا تمام الكلام في الواجب المؤقّت.

نعم ، لو شكّ في الوقت وكان محدثا بالأصغر ، كما لو كان جنبا ثمّ غفل وصلّى صلاة الظهر مثلا ثمّ أحدث بالأصغر ثمّ شكّ بعد ذلك في أنّه اغتسل من جنابته قبل الصلاة أم لم يغتسل ، فهنا لا بد من إعادة ظهره بعد أن يغتسل ويتوضّأ لإحراز الطهارة ؛ إذ يعلم إجمالا بوجوب الوضوء عليه أو بإعادة الظهر ، ولا بدّ من الجمع بينهما تحصيلا للفراغ اليقيني بعد إحراز الشغل ، وليس كذلك ما لو كان محدثا بالأصغر وشكّ بعد الصلاة في تطهّره فإنّ قاعدة الفراغ لا تجري ؛ لمعارضتها باستصحاب الحدث ، إلّا أنّ أصالة البراءة عن الإعادة تجري فلا يجب إعادة الصلاة ، وأصالة الاشتغال تجري فيجب الوضوء للعصر ، ويجب الوضوء ؛ لقاعدة الاشتغال والعلم الإجمالي بوجوب إعادة الصلاة أو وجوب الوضوء لا ينافي جريان الاصول ؛ لعدم تعارضها فيجري كل في موضوعه ولا تنافي بينهما.

والعلم بالإجمال لا ينافي

فثمّ أصل مثبت ونافي


في الأمر بالأمر بالشيء

هل الأمر بالأمر بالشيء أمر به أم لا؟ الظاهر أنّ صوره في مقام الثبوت ثلاثة :

الاولى : أن يكون الغرض قائما بصرف أمر الواسطة من دون أن يكون هناك غرض في المأمور به أصلا ، ولا ريب في عدم كونه أمرا بذلك الشيء فللمأمور الثاني أن لا يمتثل ؛ إذ أمر المولى مفقود وأمر الثاني ليس بواجب الاتّباع حسب الفرض.

الثانية : أن يكون الواسطة طريقا محضا ولا غرض في أمره إلّا إبراز أمر المولى وإيصاله والغرض قائم بنفس المأمور به ، وفي مثله لا ريب في لزوم الإتيان به حينئذ إذا اطّلع عليه المأمور الثاني ولو من غير طريق هذه الواسطة.

الثالثة : أن يكون الغرض قائما بالفعل الصادر عن أمر الواسطة بحيث لا غرض في الفعل المطلق ولا في الواسطة فقط بل فيهما معا ، وحكمها أنّه لو فعل ذلك الفعل بعد أمر الواسطة كان وافيا بالغرض ومأمورا به وإلّا فلا ، هذه هي الصور في مقام الثبوت ، ولكن الذي يفهمه العرف من الأمر بالأمر كونه من قبيل الصورة الثانية وأن لا غرض إلّا التبليغ ، ويرون الشخص مستحقّا للعقاب لو لم يمتثل بعد التبليغ ، وهذه المسألة مهمّة عملا فإنّ شرعيّة عبادات الصبيّ وتمرينيّتها مبنيّة عليها. والظاهر أنّ جميع الوجوه المذكور للشرعيّة مخدوشة إلّا هذا الوجه ، فإنّ أوامر الصبيّ إنّما هي ب «مروهم بالصلاة» (١) بالصلاة وشبهها. وبما أنّ العرف يفهم أنّ توسيط الأب بالأمر لمجرد التبليغ ليس إلّا ، فقد أمر الصبيان بالصلاة فتكون عباداتهم شرعيّة (*).

__________________

(١) البحار ٨٨ : ١٣٢ نقلا عن نوادر الراوندي.

(*) روى الشيخ الحرّ في وسائله عن محمّد بن يعقوب قدس‌سره ، عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن محمّد بن يحيى ، عن طلحة بن زيد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ أولاد المسلمين موسومون عند الله شافع ومشفّع ، فإذا بلغوا اثنتي عشرة سنة كتبت لهم الحسنات ، وإذا بلغوا الحلم كتبت عليهم السيئات» ـ الوسائل ١٥ : ٩٤ ، الباب الأوّل من أبواب


في الأمر بعد الأمر

إذا أمر المولى بعمل قابل للتكرار ، ثمّ أمر به ثانيا فإن أسنده في كلّ من الأمرين إلى سبب غير الآخر فلا ريب في ظهوره في الإلزام بتعدّد المأمور به ، كما إذا قال : إن ظاهرت فأعتق رقبة ، وإن أنت أفطرت في يوم من شهر رمضان فأعتق رقبة ، فإذا فعل كلّا من السببين وجب عليه المسبّبان معا ، وهل يتداخلان أم لا؟ كلام يأتي التعرّض له في مبحث المفاهيم إن شاء الله تعالى.

وإن أسنده إلى فعل واحد كأن قال : إن ظاهرت فأعتق ، ثمّ كرّرها أو كرّر الأمر بالعتق من غير ذكر سبب ولم يقيّده بقوله : مرّة اخرى ، فالظاهر التأكيد. وظهور الجملة في التأسيس وإن كان مسلّما إلّا أنّه في غير صورة مسبوقيّتها بمثلها ، أمّا في صورة المسبوقيّة فظهورها في التأكيد لا ينكر. ولو فرض تحقّق الشكّ في ظهورها في التأكيد فعدم ظهورها في التأسيس مسلّم فتكون حينئذ مجملة فيرجع إلى أصالة البراءة من التكليف بالتكرار ، هذا تمام الكلام في الأوامر.

__________________

ـ أحكام الأولاد ، الحديث الأوّل ـ وهذه الرواية تكفي لإثبات مشروعيّة العبادة للصبيّ بضميمة عدم القول بالفصل ، مضافا إلى جملة من الروايات ذكرها الحرّ في وسائله ـ الوسائل ٣ : ١١ ، الباب ٣ من أبواب أعداد الفرائض ، الحديث ١ و ٢ و ٤ ـ خالية عن أمر الوالد ، فهذه الأخبار كافية في إثبات المشروعيّة من غير حاجة إلى إثبات أنّ الأمر بالأمر أمر أم لا. (الجواهري).


وأمّا الكلام في :

النواهي ومفاد النهي

ذكر جماعة أنّ النهي طلب الكفّ ؛ لأنّ عدم الفعل أزلي فلا يتعلّق النهي به (١).

وذهب المشهور إلى أنّ المطلوب بالنهي هو مطلق الترك وأن لا يفعل ، وأنّ الأزليّة المدّعاة في دليل الأوّل بالإضافة إلى عدم الفعل الأزلي الذي هو خارج عن اختيار المكلّف (٢). وأمّا استمرار ذلك العدم فهو مقدور للمكلّف ؛ لإمكان أن يفعل فينقطع الاستمرار ، وأن لا يفعل فيبقى حينئذ عدمه مستمرّا.

وهذا القول الثاني وإن كان متينا إلّا أنّ الظاهر أنّ باب النواهي ليست من أبواب الطلب كلّية ، وإنّما ذلك باب الوجوب الذي يكون الفعل فيه ذا مصلحة من دون أن يكون في الترك مفسدة وإنّما فيه فوات المصلحة ، وإنّما النواهي ما يكون وجود المنهيّ عنها فيه مبغوضا من دون أن يكون تركه محبوبا.

__________________

(١) منهم العلّامة في تهذيب الاصول : ١٢١ كما نسب إليه في المعالم ونسب إلى الحاجبي والعضدي وإلى الأشاعرة ، انظر هداية المسترشدين ٣ : ١٧.

(٢) انظر نهاية الاصول : ١١٥ ، والمعالم : ٩١ ، والقوانين ١ : ١٣٧ ، والفصول الغروية : ١٢٠.


فالظاهر أنّ مفاد النهي إنّما هو الزجر كما أنّ مفاد الأمر هو البعث ، ومتعلّقهما نفس الطبيعة التي إن كانت محبوبة فهي متعلّق الأمر ، وإن كانت مبغوضة فهي متعلّق النهي ، فإنّ ظاهر النهي صدوره عن مبغوضيّة في العمل كما أنّ صدوره الأمر إنّما هو ظاهر في محبوبيّة الفعل نفسه.

نعم ، يمكن أن يكون في الترك مصلحة كتروك الإحرام وفي الفعل مفسدة فيكون الترك حينئذ واجبا ـ ولذا عدّ تروك الإحرام من واجبات الإحرام ـ إلّا أنّ الظاهر خلافه بحيث كان محتاجا إلى القرينة.

ثمّ إنّ ما كان الترك فيه واجبا يكون على أنحاء ثلاثة :

أحدها : أن يكون الترك واجبا بنحو الانحلال ، كأن يكون لكلّ واحد من التروك أمر مستقلّ.

وثانيها : أن يكون بنحو العموم المجموعي ، فيكون للجميع إطاعة واحدة أو عصيان واحد.

وثالثها : أن يكون المطلوب خلوّ الصفحة عن وجود هذه الطبيعة ، فيكون الواجب ترك كلّ منضمّا إلى بقيّة التروك ، بنحو يكون الواجب هو الأمر البسيط المنتزع من هذه التروك أو الملازم لها.

وتظهر ثمرة هذه الأقسام في الشبهة المصداقيّة ، فلو شكّ في ترك من التروك أنّه من أفراد تروك تلك الطبيعة أم لا؟

فعلى الأوّل تجري البراءة فيه باتّفاق المحدّثين والاصوليين.

وإن كان من قبيل الثاني بنى على أنّ المجرى فيما إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر هو البراءة أو الاشتغال.

وإن كان من قبيل الثالث فلا ريب في إجراء قاعدة الاشتغال ، للشكّ في حصول ذلك العنوان البسيط بمجرّد بقيّة أفراد التروك ، والشغل اليقيني محتاج إلى فراغ يقيني.


ثمّ إنّه بعد ما ذكرنا من أنّ متعلق الأمر ومتعلّق النهي واحد وأنّها الطبيعة المطلقة فربّما يشكل بأنّه لما ذا في صورة الأمر بالطبيعة يكتفى بفرد واحد في مقام الامتثال ولا يكتفى في صورة النهي بترك واحد مع أنّ متعلّق كلّ من الأمر والنهي واحد وما هو المائز بين المقامين؟

وقد أجاب عن هذا صاحب الكفاية قدس‌سره (١) تبعا لغيره (٢) بأنّ الطبيعة توجد بأوّل الأفراد ولا تعدم إلّا بانعدام جميع الأفراد ، فهذا هو الفارق بين المقامين.

أقول : لا يخفى أنّ الطبيعة لها وجودات بعدد أفرادها ، ففي صورة الأمر يصدق وجدت الطبيعة باعتبار وجودها في ضمن الفرد الموجود ، ويصدق أنّها معدومة في ضمن الفرد الذي لم يتحقّق ، وكذا الكلام في متعلّق النهي ، فإنّه إن ترك أحد أفراد متعلّق النهي وأوجد فردا فقد ترك الطبيعة في ضمن الفرد المتروك وأوجدها في ضمن الفرد الموجود أيضا. فدعوى أنّها توجد بأوّل الوجودات ، كلام شعري فإنّها حينئذ يصدق أنّها موجودة ومعدومة ، كما في صورة النهي يصدق أنّه ترك الطبيعة بترك فرد تتحقّق الطبيعة في ضمنه ، وأوجد الطبيعة باعتبار الفرد الآخر الذي وجدت الطبيعة في ضمنه ، والطبيعة مع قطع النظر عن الأفراد لا وجود لها ، وباعتبار الأفراد تابعة لتلك الأفراد في الوجود والعدم.

فالصحيح في الجواب أن يقال : إنّ الفارق بين الأمر والنهي هو وجود القرينة على كون المتعلّق في النهي مأخوذا بنحو الطبيعة السارية ، وفي الأمر مأخوذ بنحو صرف الوجود المنطبق على أوّل الوجودات ، والقرينة أمران :

الأوّل : أنّ الغالب في الغرض أو المصلحة الداعية إلى الأمر تحقّقها بصرف الوجود ، بحيث تكون هذه الغلبة قرينة عامّة عند المتكلّم والمخاطب لا يعدل عنها إلّا

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٨٣.

(٢) انظر هداية المسترشدين ٣ : ٢٦.


بقرينة خاصّة كأن يقول : «ائتني بماء» مرّتين ، فهذا هو الذي اقتضى الكفاية في الأوامر بصرف وجود المتعلّق ، وهذا بخلاف النواهي فإنّ الغلبة فيها بعكس ذلك فإنّ الغرض والمفسدة الباعثين على الزجر غالبا قائمان بمطلق وجود تلك الطبيعة ، بحيث كانت هذه الغلبة قرينة عامّة لا يعدل عنها إلّا بقرينة خاصّة على خلافها ، فهذا هو السبب في ذلك. (وهذا الوجه مبنيّ على القول بوجود المصالح والمفاسد في متعلّقات الأحكام لا فيها نفسها كما اخترناه في الأحكام الظاهريّة ، مع أنّ الملاك إنّما يعرف بالأمر والنهي ولا طريق إلى معرفتهما غيره ، والمفروض أنّ مفادهما واحد فيعود السؤال عن الفرق بين الأمر والنهي) (١).

الأمر الثاني : ممّا هو قرينة لذلك هو أنّه في مقام الأمر حيث إنّ تمام أفراد المأمور به غير مقدورة للمكلّف فالأمر لم يتعلّق بها قطعا ، فامتنع كون متعلّق الأمر مأخوذا بنحو مطلق الوجود أينما سرى ، فتعيّن كونه مأخوذا بنحو صرف الوجود.

وفي مقام النهي حيث إنّ ترك بعض أفراد المتعلّق لا بدّ منه حتّى لو لم ينهه عنه فلا بدّ من كون المنهيّ عنه مطلق الوجود ؛ إذ لو كان خلوّ صفحة الوجود من فرد ما وافيا بغرض المولى لم يحتج إلى النهي ؛ لانتراك البعض قهرا فيحصل الغرض ، فتوجّه النهي كاشف عن كون الغرض متعلّقا بانعدام كلّ فرد من أفراد المتعلّق في النهي. وهذه القرينة عامّة لا تختصّ بخصوص الأوامر والنواهي ، بل هي جارية حتّى في الإخبارات ، فمن قال : عندي درهم ، بما أنّ وجود كلّ درهم عنده مستحيل عقلا فلا بدّ من كون إخباره بصدد صرف الدرهم المنطبق على أوّل الوجودات من الدراهم ، بخلاف ما إذا قال : ليس عندي درهم ، فإنّ فقدانه لبعض دراهم العالم غير محتاج إلى أخبار لمعلوميّته ، فلا بدّ من أن يكون بصدد الإخبار عن خلوّ صفحة الوجود عن درهم عنده ، فيكون مفاده نفي الوجود الساري ، هذا كلّه في الأفراد الدفعيّة.

__________________

(١) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.


وبعين الكلام يتمّ في الأفراد التدريجيّة أيضا ، وهذا هو مفاد قولهم : إنّ النهي مفيد للعموم.

وما ذكره الميرزا النائيني في الأفراد التدريجيّة : من أنّ انتراك الأفراد في بعض الأزمان متحقّق ، فلا يكون النهي حينئذ إلّا لغوا لو اريد به تركه في بعض الأزمان (١) فيمكن المناقشة فيه بأنّه يمكن ارتفاع اللغويّة بإرادة الترك في يوم مثلا أو شهر فلما ذا نلتزم بلزوم تركه إلى الآخر؟

ثمّ إنّه بهذه القرينة المذكورة يستفاد أنّ المتعلّق في النهي إذا وجد مرّة عصيانا فلا يرتفع النهي عن بقيّة الأفراد ؛ لأنّ النهي حيث كان مأخوذا بنحو الطبيعة السارية في أفراد المتعلّق ، فكلّ فرد منها يكون منهيّا عنه بانحلال النهي إلى تمام الأفراد ، فكلّ فرد له امتثال خاصّ وعصيان خاصّ لا ربط له في ذلك ببقيّة الأفراد ، وإطلاق المتعلّق بالإضافة إلى أفراده مسلّم.

ومن هنا يعلم أنّ ما ذكره في الكفاية : من لزوم كون الطبيعة مطلقة بالإضافة إلى حال العصيان أيضا ، وأنّه لا يكفي إطلاقها من سائر الجهات (٢) غير محتاج إليه ، بل يكفينا إطلاق المتعلّق من حيث الأفراد ، هذا تمام الكلام في مبحث النهي من حيث كونه نهيا.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ١٢٢ ـ ٢٣.

(٢) كفاية الاصول : ١٨٣.



وأمّا الكلام في باب :

مبحث اجتماع الأمر والنهي

ويقع الكلام والنزاع في امور :

الأوّل : أنّ الأمر هل يسري إلى متعلّق النهي وبالعكس حيث يتّحد المتعلّقان في الخارج أو لا يسري؟ وبعبارة اخرى هل المتعلّق فيهما واحد أم متعدّد؟ وعلى تقدير التعدّد فهل يسري الأمر إلى متعلّق النهي وبالعكس أم لا؟ أو أنّه واحد ويجوز ذلك كما يظهر من كلام بعضهم (١)؟ ومن هنا ظهر أنّ عنوان بعضهم (٢) لمحلّ النزاع في أنّه هل يجوز اجتماع الأمر والنهي في واحد أم لا يجوز؟ ليس كما ينبغي ؛ إذ الكلام في أنّه واحد أم متعدّد. نعم من لا يرى الوحدة مانعة لأنّ هذا الفرد ليس مأمورا به ولا منهيّا عنه ، يتمّ عنده ذلك.

ومن هنا يظهر الفرق بين هذه المسألة والمسألة الآتية من أنّ النهي عن العبادة موجب للفساد أم لا ، وأنّهما ليس بينهما جامع ، فإنّ الكلام هنا في توجّه النهي وعدمه ، وهناك بعد الفراغ عن التوجّه يقع الكلام في الفساد وعدمه.

__________________

(١) كالمحقّق الخوانساري في تداخل الأغسال من المشارق : ٦٦ وغيره.

(٢) انظر القوانين ١ : ١٤٠.


نعم ، على تقدير القول بالامتناع وقدّمنا جانب النهي كان المنهيّ عنه من صغريات تلك المسائل.

الثاني : في أنّ هذه المسألة اصوليّة أو فرعيّة أو كلاميّة أو من المبادئ التصديقية أم من المبادئ الأحكامية؟ ذهب صاحب الكفاية إلى كونها اصوليّة وإن وجدت فيها هذه الجهات بأسرها (١) ، والظاهر أنّها لا تصحّ إلّا أن تكون مسألة اصوليّة وليس فيها جهات غيرها.

أمّا عدم كونها فرعيّة فلأنّ البحث في المقام إنّما هو عن اجتماع حكمين في موضوع واحد وعدمه ، وصحّة العبادة وفسادها من ثمراته وليس البحث عنه.

وأمّا عدم كونها كلاميّة فلأن ليس كلّ مسألة عقليّة كلاميّة وإن كان كلّ مسألة كلاميّة عقليّة وهو واضح.

وأمّا عدم كونها من المبادي التصديقيّة وإن أصرّ عليه الميرزا النائيني قدس‌سره بدعوى أنّ القول بعدم جواز الاجتماع يحقّق موضوع باب التعارض فلا بدّ من رفع اليد عن أحد الإطلاقين فهو وإن كان صحيحا إلّا أنّ ملاحظة أنّه لو بنى على الجواز صح العمل تصحّح كونها مسألة اصولية ويكفي فيها ترتّب استنباط الحكم الشرعي على أحد طرفيها كما سيأتي.

وأمّا عدم كونها من المبادي الأحكاميّة ، والمراد بالمبادئ الأحكاميّة لوازم الحكم من حيث هو حكم ومقتضياته مع قطع النظر عن الحاكم ككون وجوب الشيء مقتضيا لوجوب مقدّمته أم لا مثلا فيتكلم هنا في أنّ الأمر يستلزم عدم النهي أم لا فهو وإن أمكن ذلك إلّا أنّ البحث ليس عن الاستلزام وعدمه ، بل عن نفس اجتماع الحكمين وعدمه مضافا إلى أنّا لا نعقل المبادئ الأحكامية ؛ لعدم خروجها عن المبادئ التصوريّة أو التصديقيّة.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٨٥.


وأمّا كونها مسألة اصوليّة فلأنّ الميزان في كون المسألة اصوليّة وقوع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الشرعي ، أو كبرى لو ضمّ إليها صغراها لأنتجت حكما شرعيّا ، وهذا بعينه موجود في المقام ، فإنّا لو قلنا بجواز الاجتماع فهو ينتج صحّة الصلاة ، وكونها على الامتناع لا يقع في طريق استنباط الحكم ، وإنّما تدخل في المتعارضين فيثبت لها حكمهما لا يخرجها عن كونها مسألة اصوليّة ؛ لأنّ وقوع أحد طرفي المسألة وبعض تقاديرها في طريق الاستنباط كاف في عدّها مسألة اصوليّة ، فحجّية الخبر مثلا الدالّ على وجوب السورة مسألة اصوليّة مع عدم ترتّب الوقوع في طريق الاستنباط لو قلنا بعدم حجّيته ، نعم يكون المورد من موارد عدم البيان فيكون صغرى لقاعدة البراءة العقليّة لقبح العقاب بلا بيان.

وبالجملة ، وقوع بعض تقادير المسألة في طريق الاستنباط كاف في عدّها اصوليّة ، وإلّا لم تبق عندنا مسألة اصوليّة أصلا.

الأمر الثالث : ذكر الآخوند قدس‌سره (١) اطّراد الكلام فيما إذا كان النهي غيريّا تخييريّا كفائيّا ؛ وأنّه لا يختصّ فيما إذا كان النهي نفسيّا تعيينيّا عينيّا ، إلّا أنّ الكلام في إمكان تصوير نهي كفائي أو تخييري ، نعم يمكن أن يكون النهي غيريّا حيث يقع مقدّمة وعلّة تامّة لمحرّم ، إلّا أنّ تصوير كونه تخييريّا في غاية الإشكال.

وما ذكره الآخوند قدس‌سره في التمثيل لا يجدي ؛ لكونه من قبيل تحريم المجموع من حيث المجموع لا من قبيل النهي التخييري ، كما في النهي عن صوم يوم العيد فهو يؤول إلى كون صوم مجموع اليوم محرّما فله أن يترك الصوم كلّية وأن يصوم إلى الظهر ثمّ يفطر أو إلى العصر ثمّ يفطر.

ومن هنا يظهر الإشكال في تصوير النهي الكفائي أيضا ؛ لأنّه يؤول إلى تحقّق المفسدة بفعل جميع المكلّفين بحيث لا مفسدة بفعل البعض كلّية ، فالفرد الأوّل حيث يفعل ذلك المنهيّ عنه لم يرتكب محرّما أصلا.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٨٦.


وبالجملة ، أنّ ملاك النزاع في جواز الاجتماع وعدمه هو سراية الأمر إلى متعلّق النهي وبالعكس ، وهذا الملاك يشمل جميع أقسام الوجوب والتحريم إلّا أنّ تصوّر التحريم التخييري غير معقول كالكفائي ؛ لرجوعه إلى تحريم المجموع أو التحريم على المجموع ، والتخيير يكون في الامتثال لا في أصل التحريم. والتكليف الغيري التحريمي وإن أمكن تصويره إلّا أنّ التحريم الغيري لا ينافي التقرّب بالملاك ، كما أنّ الأمر الغيري لا يقتضي التقرّب وإنّما يقتضيه الأمر النفسي ، فتأمّل فإنّه دقيق.

الأمر الرابع : في أنّ المسألة عقليّة لا لفظيّة ؛ لأنّا ذكرنا أنّ محور البحث هو سراية النهي إلى متعلّق الأمر وعدم سرايته ، وهو أمر عقلي لا مدخليّة للألفاظ فيه ، نعم يرجع إلى العرف بما أنّهم عقلاء. وما ذكره بعضهم من القول بالامتناع العرفي (١) في الحقيقة قول بالجواز وليس تفصيلا في المسألة ، فافهم.

الأمر الخامس : اعتبر بعضهم في جريان النزاع وجود المندوحة (٢) ، والظاهر كما ذكر في الكفاية (٣) عدم مدخليّتها في محور النزاع ـ وهو السراية وعدمها ـ لأنّ سراية الأمر إلى متعلّق النهي وعدمه لا يتوقّف على وجود المندوحة ، فإذا قلنا بالامتناع فلا أثر للمندوحة أصلا ، وإذا قلنا بالجواز وتقديم جانب الأمر اعتبر حينئذ وجود فرد آخر غير مزاحم بالتحريم ليمكن توجّه الأمر بالطبيعة حينئذ. فإذا قلنا بالجواز الفعلي ولم تكن ثمّة مندوحة كان من باب التزاحم قطعا فيقدّم ما هو أقوى ملاكا ، وأمّا إن كانت ثمّة مندوحة ومع ذلك أتى المكلّف بالفرد المنهيّ عنه فهل يكون من باب التزاحم أم لا؟ ذكر المحقّق الثاني قدس‌سره أنّه لا يكون من باب التزاحم ؛ لأنّ وجود

__________________

(١) الظاهر هو المحقّق الأردبيلي. انظر مجمع الفائدة ٢ : ١١٢.

(٢) الذي أخذ قيد المندوحة صريحا في موضع النزاع هو صاحب الفصول قال : في صدر المسألة ما هذا لفظه : وإن اختلفت الجهتان وكان للمكلّف مندوحة في الامتثال فهو موضع النزاع ، راجع الفصول : ١٢٤.

(٣) كفاية الاصول : ١٨٧.


فرد غير مزاحم جوّز توجّه الأمر بالطبيعة ، وبعد توجّه الأمر بالطبيعة ففي أيّ فرد تحقّقت الطبيعة كان الانطباق قهريّا ، وسقوط الأمر عقليّا ، والقدرة إنّما تعتبر في المأمور به عقلا (١).

ولكن الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) حيث زعم أنّ القدرة إنّما تعتبر من نفس الأمر ـ بدعوى أنّه لا يتوجّه نحو غير المقدور ، فلا يكون الفرد المحرّم محلّا للأمر أصلا ، بل يكون المأمور به هو الحصّة المقدورة من الطبيعة ليس إلّا ، فلا يكون الممنوع عنه شرعا مأمورا به أصلا ـ زعم تحقّق التزاحم أيضا بين خطاب الوجوب وخطاب التحريم. فإن قدّمنا جانب الوجوب ـ يعني قدّمنا الأمر ـ فلا كلام في صحّة العبادة حينئذ ، لسقوط إطلاق النهي حينئذ. وإن قدّمنا جانب التحريم ؛ لأنّ عموم النهي شمولي وعموم الأمر بدلي ، فيكون هذا الفرد المتّحد مع الحرام ولو مسامحة منهيّا عنه ، فيخرج عن حيّز الأمر ؛ لعدم كونه مقدورا ، والمفروض أنّ الأمر لا يتوجّه إلّا نحو المقدور. ومن هنا ذهب الميرزا النائيني قدس‌سره (٣) إلى فساد الصلاة في الدار المغصوبة مع المندوحة مع بنائه على جواز اجتماع الأمر والنهي وأنّ التركيب انضمامي.

أقول الكلام مع الميرزا النائيني قدس‌سره يقع في مقامين :

الأوّل : في المبنى المذكور وهو كون الأمر مقتضيا لمقدوريّة متعلّقه ، بل إنّ المقدوريّة إنّما تعتبر لقبح تكليف العاجز ، فالأمر بالطبيعة ممكن إذا قدر على بعض أفرادها ، وقد مرّ تفصيل الكلام في ذلك في مبحث الترتّب.

الثاني : في أنّا لو سلّمنا هذا المبنى إلّا أنّ هذه الكبرى الكلّية غير منطبقة على المورد ؛ لأنّا بعد أن فرضنا أنّا قائلون بجواز اجتماع الأمر والنهي ـ ومعناه كون

__________________

(١) انظر جامع المقاصد ٥ : ١٣ ـ ١٤.

(٢) انظر أجود التقريرات ٢ : ١٢٦.

(٣) انظر أجود التقريرات ٢ : ١٧٧ ـ ١٨١.


التركيب بينهما انضماميّا ـ فالمأمور به غير المنهيّ عنه وإن انضمّا ، فيكون الصلاة حينئذ مقدورة ، فإذا كانت مقدورة فإطلاق الأمر حينئذ شامل لها ؛ لأنّ عدم المقدوريّة لهذا الفرد إمّا تكوينيّة والمفروض أنّها مقدورة تكوينا ، وإمّا تشريعيّة وعدم المقدوريّة شرعا إمّا من جهة النهي عن نفس العبادة ، والمفروض أنّ المنهيّ عنه في المقام أمر منضمّ إلى المأمور به ، وإمّا من جهة كون مقدّمته محرّمة وكانت أهمّ بالمراعاة من نفس الواجب الموقوف عليها ، وكلّ هذه الامور مفقودة في المقام. فالظاهر أن ليس المقام من مقامات التزاحم على كلا المبنيين.

لا يقال : إنّ ملازم المحرّم لا يكون واجبا.

فإنّه يقال : هذا في الملازم مسلّم ، ولكن لا ملازمة في المقام لفرض وجود المندوحة وهو الفرد الآخر الغير المنضمّ إلى المحرّم ، وإنّما بسوء اختياره عمد إلى هذا الفرد المنضمّ إليه المحرّم.

الأمر السادس : أنّ محور النزاع في المقام في أنّ متعلّق الأمر والنهي أمر واحد ، وأنّ العناوين المنطبقة عليه عناوين انتزاعيّة وأنّها لا تقتضي تعدّد المعنون وأنّها تعليليّة ، وأنّ التركيب تركيب اتّحادي ، أو أنّ متعلّق الأمر غير متعلّق النهي وأنّ أحدهما لا يسري إلى الآخر وأنّ العناوين عناوين أصيلة وأنّها تقتضي تعدّد المعنون وأنّه تقييديّة وأنّ التركيب انضمامي.

فعلى الأوّل لا بدّ من القول بالامتناع كما ذهب إليه الآخوند قدس‌سره (١) وجماعة (٢).

__________________

(١) انظر الكفاية : ١٩٣ ـ ١٩٦.

(٢) منهم صاحب المعالم في المعالم : ٩٣ ، وقال : لا نعلم منه مخالفا من أصحابنا. وقال في القوانين : والقول بعدم الجواز هو المنقول عن أكثر أصحابنا والمعتزلة. القوانين ١ : ١٤٠ ، ومنهم العلّامة في نهاية الوصول : ١١٦ ، والفاضل التوني في الوافية : ٩١ ـ ٩٢ ، وصاحب الفصول في الفصول : ١٢٥.


على الثاني فيبتني على القول بأنّ متعلّق الأمر هو الأفراد ـ بمعنى أنّ المشخّصات داخلة تحت الأمر ـ أو أنّ الأمر متعلّق بالطبائع بمعنى أنّ المشخّصات غير دخيلة ، وإنّما هي من لوازم وجود المأمور به.

فإن قلنا بالأوّل أيضا فلا بدّ من القول بالامتناع.

وإن قلنا بالثاني فلا بدّ من القول بالجواز.

فالقول بالجواز موقوف على أن يكون التركيب انضماميّا ، وأنّ التكليف لا يسري إلى المشخّصات.

والقول بالامتناع مبنيّ على القول بأنّ التركيب اتّحادي أو أنّ التركيب انضمامي إلّا أنّ الأمر متعلّق بالأفراد بمعنى سرايته إلى مشخّصاته.

الأمر السابع : أنّ الكلام في أنّ اجتماع الأمر والنهي ممكن وليس اجتماعا للضدّين ؛ لأنّه ليس اجتماعا في الحقيقة وإن كان له اتّحاد صوري ، أو أنّه مستحيل لأنّه جمع للضدّين وهو محال ، فالنزاع في أنّ التكليف محال أو ليس بمحال. وهذا النزاع لا يكون موقوفا على القول بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد كما عليه العدليّة وأغلب المعتزلة (١) ، بل يجري حتّى على قول الأشاعرة القائلين بعدم التبعيّة ؛ لأنّ النزاع في كونه جمعا بين الضدّين أم لا ، ولا يرى الأشعري (٢) جواز اجتماع الضدّين وإمكانه.

وبالجملة ، فالنزاع مشترك بين القولين.

فإن قلنا بأنّ التركيب اتّحادي فلا بدّ من تقييد أحد الإطلاقين ؛ لاستحالة الجمع بين الضدّين ، ويكون المقام من قبيل المتعارضين.

وإن قلنا بأنّ التركيب انضمامي فلا يخلو الحال بين أن يكون هناك مندوحة أو لا يكون هناك مندوحة ، فإن لم يكن هناك مندوحة فالمقام من قبيل المتزاحمين ،

__________________

(١) انظر كشف المراد : ٣٠٦ ، وشرح المواقف ٨ : ٢٠٢.

(٢) انظر المستصفى في علم الاصول ١ : ٧٦.


وإن كان هناك مندوحة فعلى النزاع بيننا وبين الميرزا النائيني قدس‌سره لو اختار المكلّف الفرد المنهيّ عنه كما مرّ في الأمر الرابع.

ومن هنا ظهر أنّ ما ذكره صاحب الكفاية في الأمر السابع والثامن : من دوران النزاع مدار الملاك وأنّه لا يجري النزاع إلّا حيث يحرز إطلاق الملاكين (١) لا يخلو من تكلّف واضح.

الأمر الثامن : في ثمرة النزاع ، والكلام إمّا في العبادات وإمّا في المعاملات.

أمّا في العبادات فإن قلنا بالامتناع ؛ لأنّ المجمع واحد وجودا وماهيّة وأنّ تعدّد العنوان لا توجب تعدّد المعنون ؛ لأنّها عناوين انتزاعيّة ، فلا بدّ حينئذ إمّا من تقديم جانب الأمر أو تقديم جانب النهي.

فإن قدّمنا جانب الأمر لمرجّح يقتضيه فمعناه أنّا قيّدنا النهي بغير هذا الفرد ، فصار هذا الفرد مأمورا به ليس إلّا ، فهو عبادة صحيحة لا يشوبها شيء.

وإن قدّمنا جانب النهي لمرجّح ـ مثل كون عمومه شموليّا وعموم الأمر بدلي أو غير ذلك من المرجّحات ـ ففي صورة العلم والعمد لو صلّى في ذلك المكان المغصوب فلا ريب في عدم خروجه عن عهدة التكليف ؛ لأنّ تقديم النهي معناه جعل المجمع محكوما بالتحريم ، وبما أنّ الأحكام متضادّة فهو غير محكوم بالوجوب قطعا ، فلم يخرج عن عهدة الواجب لفرض عدم إطلاق يشمل هذا الفرد في أدلة الوجوب وعمل محرّما يستحقّ عليه العقوبة ، بل ولو قصد به الامتثال عوقب عقاب التشريع مضافا إلى عقاب المحرّم ، هذا كلّه في صورة العلم والعمد.

أمّا في صورة النسيان العذري أو الغفلة أو الجهل الموضوعي أو الحكمي حيث يكون الجهل عذريّا فهل يكون العمل صحيحا أم لا؟ ظاهر فتاوى الفقهاء الاتّفاق على الصحّة بحيث لم نظفر بمخالف ، بل في مفتاح الكرامة في مبحث الوضوء في الماء

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ١٨٨ ـ ١٨٩.


المغصوب المجهول غصبيّته دعوى الإجماع على ذلك (١) ، إلّا أنّ الكلام كلّ الكلام في وجه هذه الفتيا ، فإنّ مقتضى تقديم جانب النهي خروج المجمع عن إطلاق الأمر فهو غير مأمور به ، فهو نظير ما إذا ورد : «أكرم العالم» و «لا تكرم الفاسق» فيما لو قدّمنا «لا تكرم الفاسق» ثمّ نسي فأكرم عالما فاسقا فهل يتوهّم أحد أنّه امتثل بهذا الفرد أمر أكرم العالم؟ كلّا فإنّ مقتضى تقديم النهي خروج المجمع عن إطلاق الأمر.

وقد ذكر لذلك وجهان :

أحدهما : ما في الكفاية من كفاية الملاك فإنّه إنّما خرج عن إطلاق الأمر ، وأمّا ملاكه فباق على ما كان فتصحيحه بملاكه (٢).

والجواب :

أوّلا : أنّا إنّما نحرز الملاك بتوجّه الأمر ، فإذا قيّد الأمر فمن أين نحرز أنّ المجمع ذو ملاك مع خروجه عن إطلاق الأمر.

وثانيا : أنّ وجود الملاك وإن سلّمناه إلّا أنّ هذا الملاك مغلوب بمفسدة أقوى قدّم النهي على الأمر لأجلها ، وإنّما يجدي الملاك حيث لا يكون مزاحما كما في الضدّ بناء على عدم صحّة الترتّب ، وأمّا حيث يزاحم كما في المقام فلا.

الوجه الثاني : أنّ تقييد الأمر في المقام إنّما كان بحكم العقل فيقتصر فيه على القدر المتيقّن وهو صورة العلم والعمد ، وأمّا في غيرها فلم يعلم التقييد. وهذا بخلاف المخصّص اللفظي فإنّه لا يختصّ بخصوص حال العلم والعمد ، لإطلاقه المفقود في الدليل العقلي كما في المقام.

والجواب : أنّ هذا الكلام متين حيث يكون المقام من مقامات التزاحم بين الواجبين التي يكون المانع عن الإتيان بكلّ منهما عدم القدرة ، فلو جهل أحد

__________________

(١) مفتاح الكرامة ١ : ٣٠٣.

(٢) انظر كفاية الاصول : ١٩٢.


الخطابين ـ وإن كان هو الأهمّ ـ صحّ الإتيان بالمهمّ حينئذ لفرض بقاء ملاكه ، بل وأمره حينئذ كما مرّ ذلك ، أمّا في مقامنا بناء على الامتناع كما هو محلّ الفرض ، فمعنى تقديم جانب النهي فرض المقام خاليا من الأمر ؛ لكون وجود النهي مع الترخيص في التطبيق للامتثال للأمر على المنهيّ عنه فهو بنفسه غير معقول ؛ لأنّ التكليف حينئذ محال لا أنّه تكليف بالمحال ، كما في صورة التزاحم ليرتفع بالجهل عدم القدرة حينئذ ؛ لأنّ عدم القدرة مستند فيه إلى وصول كلا التكليفين إليه ، فإذا لم يصلّ أحدهما لا يتحقّق العجز.

وبالجملة ، دعوى كون التخصيص في المقام عقليّا ممنوعة ، بل المخصّص لفظي وهو قوله : لا يحل مال امرئ مسلم إلّا بطيب نفس (١) ، وهو بإطلاقه شامل للعالم والجاهل ، فافهم.

فالإنصاف أنّ الذهاب إلى صحّة العبادة ـ كما هو المشهور ، بل المجمع عليه ـ في صورة الجهل بناء على الامتناع وتقديم جانب النهي ممّا لم يعلم وجهه ، وقد أنكر الميرزا النائيني (٢) أن يكون المشهور بانين على الامتناع فزعم أنّهم بانون على جواز اجتماع الأمر والنهي ، وحينئذ فيقع الكلام في توجيه فتواهم بفساد العبادة مع العلم والعمد وإن صلحت فتواهم بصحّة العبادة في صورة الجهل. فنقول : وقبل الخوض في ذلك يقع الكلام في أنّ النسيان والاضطرار والإكراه ملحق بالجهل في الإشكال أم أنّ الإشكال مختصّ بخصوص صورة الجهل؟

__________________

(١) انظر الخلاف ٥ : ٥٠٩ ، وفي الوسائل : «فإنّه لا يحل دم أمر ومسلم ولا ماله إلّا بطيبة نفس منه». راجع الوسائل ٣ : ٤٢٤ ، الباب ٣ من أبواب مكان المصلّي ، الحديث الأول والثالث مع اختلاف.

(٢) فوائد الاصول ١ و ٢ : ٤٣٤.


ذهب الميرزا النائيني قدس‌سره (١) إلى الأوّل وأنّ الإشكال عامّ فالحكم في الجميع واحد ؛ لأنّ حديث الرفع (٢) إنّما رفع العقاب ، أمّا المفسدة فهي باقية على حالها غير مرتفعة ، ومع تحقّق المفسدة كيف يمكن أن يكون العمل مشمولا لإطلاق الأمر؟

والجواب : أنّ حديث الرفع وإن كان لم يرفع المفسدة وإلّا لم يكن مقتضى للحكم حينئذ فلا يناسبه التعبير بالرفع إلّا أنّا نسأل أنّ الحكم بالتحريم لمّا ارتفع واقعا في صورة الإكراه والاضطرار والنسيان كما مرّ في حديث الرفع فهل صار العمل مباحا واقعا أم لا؟ فإنّ مقتضى ارتفاع حرمته صيرورته مباحا واقعا ، بل ويقتضيه قوله : ما من محرّم إلّا وقد أحلّه الله في حال الاضطرار (٣). وإذا ثبتت الإباحة الواقعيّة فلا مقتضي لتقييد إطلاق الأمر الوجوبي ؛ لأن المقتضي لتقييده إنّما كان التحريم المفروض ارتفاعه واقعا في هذه الصور فلا مقتضي حينئذ لتقييده.

لا يقال : إنّ العمل لمّا كان مشتملا على المفسدة لم يكن صالحا للتقرّب به.

لأنّا نقول : إنّ المفسدة المغلوبة بمصلحة أقوى اقتضت دفع تأثيرها لا ترفع صلاحيّة العمل للتقرّب ، فحيث يرتفع التحريم الواقعي في صورة الإكراه والاضطرار والنسيان لا مانع حينئذ من الإطلاق في دليل الأمر. وهذا بخلاف الجهل فإنّ الرفع فيه ظاهري ، فالحكم الواقعي بالتحريم فيه موجود ، وبوجوده كيف يعقل الترخيص في تطبيق المأمور به على هذا الفرد؟ فافهم.

وإن شئت فطبّقه على مثال عرفي : إذا أمر المولى عبده بكتابة كتاب إلى بلد ونهاه أن يتصرّف بالحبر الفلاني مثلا حال اختياره أمّا إذا اكره فهو مرخّص بالتصرّف

__________________

(١) انظر فوائد الأصول ١ و ٢ : ٤٤٣.

(٢) الوسائل ١١ : ٢٩٥ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث الأوّل.

(٣) لم نقف عليه بعينه ولكن ما ورد عنهم عليهم‌السلام هكذا : ليس شيء ممّا حرّم الله إلّا وقد أحلّه لمن اضطرّ إليه. الوسائل ١٦ : ١٣٧ ، الباب ١٢ من كتاب الايمان ، الحديث ١٨.


فيه ، فاكره على التصرّف فيه فكتب به ذلك الكتاب ، فهل يكون غير ممتثل أمر الكتابة عرفا؟ كلّا بل يكون ممتثلا ، بخلاف ما لو لم يكن مكرها فكتب به فإنّه لا يكون ممتثلا بناء على الامتناع ، وليس ذلك إلّا لأنّ المانع عن جواز التطبيق إنّما كان النهي ، فإذا فرض زوال النهي واقعا فأيّ مانع ، والمفسدة إذا لم تؤثّر في المبغوضيّة لا تكون مانعة.

بقي الكلام في أنّه إذا اكره أو اضطرّ إلى دخول الدار المغصوبة والمكث فيها ، فهل يصلّي حينئذ صلاة المضطرّ فيومئ إلى الركوع أو السجود ـ لأنّ نفس الركوع والسجود الحقيقيين تصرّف زائد لم يضطرّ إليه ، والضرورة تقدّر بقدرها كما اختاره الميرزا النائيني قدس‌سره (١) ـ أم يصلّي صلاة المختار بركوع وسجود حقيقيّين؟ وجهان مبنيّان على أنّ التصرّف بالركوع والسجود الحقيقيّين يعدّ عرفا تصرّفا زائدا أم لا؟ وتحقيق ذلك يتوقّف على امور :

الأوّل : أنّ سلطة هذا المحبوس في هذه الدار لا تختلف إن بقي جالسا بمكانه أو تجوّل في المحبس يمينا وشمالا ، فإنّ «على اليد» إن شملته فلا يفرّق فيها بين الصورتين.

الثاني : أنّ جسده يحتاج إلى حيّز يشغله ، ولا فرق في ذلك الحيّز المحتاج إليه بين أن يكون جالسا أو متمشّيا أو نائما ، فإنّ حيّز جسمه لا يختلف وتصرّفه فيه بحركته وسكونه لا يتفاوت.

الثالث : أنّ تصرّفه في الأرض وإن كان تصرّفا زائدا على تصرّفه في الفضاء حقيقة إلّا أنّه في العرف لا يعدّ تصرّفا زائدا ، كما إذا تصرّف بسرير موضوع على جانب من الأرض فنام عليه فإنّ هذا تصرّف زائد ، بخلاف تقلّبه في الدار فإنّ نومه وإن أوجب شغل سبع أقدام من الأرض بخلاف وقوفه فإنّه لا يشغل أزيد من قدمين إلّا أنّ التصرّف عرفا فيهما واحد ، فبناء على ذلك لا مانع من أن يصلّي صلاة

__________________

(١) انظر فوائد الاصول ١ و ٢ : ٤٥٣.


المختار بركوع وسجود حقيقيّين ، بل في الجواهر (١) ما مضمونه : أنّه لو كلّف الاقتضاء على خصوص المضطرّ إليه فقد حبسه الله حبسا أشدّ من حبس ذلك الظالم ، بل لا يوجد مثل ذلك الحبس الإلهي إلّا أن يكون مثله يوم القيامة ، ثمّ عوذ الفقه من هذه الخرافات إلى آخر كلامه زيد في علوّ مقامه.

إذا عرفت ما ذكرنا فلنعد إلى ما كنّا فيه من المطلب الثامن الذي عقدناه لثمرة هذه المسألة فنقول : إنّا إذا بنينا على الامتناع وأنّ التركيب اتّحادي فالمقام من مقامات التعارض ، فإن قدّمنا جانب الأمر فالعمل صحيح وليس فيه معصية أصلا. وإن قدّمنا جانب النهي فلو صلّى في الدار المغصوبة عالما عامدا فلا ريب في فساد صلاته ؛ لأنّ تقديم جانب النهي معناه إبقاء «لا تغصب» و «لا تتصرّف في مال الغير» على إطلاقها ، وتقييد أمر صلّ بما ليس متّحدا مع الغصب والتصرّف ، فيكون هذا الفرد المتّحد غير مأمور به أصلا. وإن صلّى مكرها أو مضطرّا أو ناسيا ، فلا ريب في صحّة صلاته أيضا ؛ لأنّ النهي عن التصرّف في ملك الغير ساقط واقعا فلا تحريم ، فيبقى إطلاق الأمر سليما عن المعارض. وإن صلّى جاهلا بالغصبيّة فبما أنّ الجهل لا يرفع الحرمة الواقعيّة وإنّما يرفع العقاب فقط ، فالنهي حينئذ موجود ، وبتقديمه كما هو الفرض يخرج الفرد عن إطلاق الأمر ، فلا بدّ من كون الصلاة حينئذ فاسدة ، فحكم الأصحاب بصحّتها مع بنائهم على الامتناع لم يعلم وجهه كما مرّ.

وإن قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي وإنّ التركيب انضمامي ، فإن لم يكن للمكلّف مندوحة بل هو لا يتمكّن إلّا من صلاة في دار مغصوبة فلا ريب في كون المورد من موارد التزاحم ؛ إذ إنّ هذا العمل وإن كان عملين في الحقيقة انضمّا إلّا أنّهما لا بدّ من أن يصدرا معا حيث يصدران ، فكيف يصدر الأمر بالصلاة مع أنّها حيث تصدر لا بدّ أنّ تجامع غصبا ، فإن كانت مصلحة الصلاة أهمّ من مفسدة الغصب فلا ريب في

__________________

(١) انظر الجواهر ٨ : ٣٠٠.


أنّ الأمر بالصلاة يتقدّم فتصحّ الصلاة ولا يكون الغصب حينئذ حراما ، وإن كان مفسدة الغصب أهمّ من مصلحة الصلاة فلا ريب في جواز ترك الصلاة. إلّا أنّه لو غصب فصلّى فهل يحكم بصحّة صلاته أم لا؟ الظاهر هو الحكم بصحّة صلاته بناء على الترتّب ، غاية الأمر أنّ الترتّب المصطلح بين عصيان أمر وتوجّه أمر آخر ، وهنا بين عصيان نهي وتوجّه أمر آخر ولا إشكال في صحّته بناء على الترتّب. وقد زعم الميرزا النائيني قدس‌سره (١) عدم صحّته حتّى على الترتّب ، لزعمه أنّ وجودهما واحد فلا يكون الفعل قابلا لأن يتقرّب به إلى المولى مع كون وجوده ووجود المبغوض واحدا ؛ لاكتسابه القبح الفاعلي حيث يكون صدوره بنحو مبغوض للمولى لوحدة الإيجاد.

والجواب : أنّ مبنى الجواز كما هو محلّ الفرض كون العمل وجودين منضمّين ، وكونهما وجودين يقتضي أنّ هناك إيجادين ، لما تقدّم مرارا من أنّ التغاير بين الوجود والإيجاد اعتباري وبالنسبة ، وإذا كان هناك إيجادان فمحبوبيّة أحدهما موجبة لجواز التقرّب به ومحقّقة لقابليّته لذلك ، هذا كلّه مع عدم المندوحة.

وأمّا إذا كانت هناك مندوحة فالأمر أوضح ؛ وذلك لأنّا حيث سلكنا تبعا للمحقّق الثاني قدس‌سره (٢) بكفاية مقدوريّة الطبيعة لجواز الأمر بالطبيعة المطلقة ، فحيث يؤتى بالفرد المجامع للمحرّم يكون الانطباق قهريّا ، ويكون السقوط عقليّا فتكون الصلاة صحيحة من غير حاجة إلى الترتّب ، وإن لم نقل بمقالة المحقّق الثاني قدس‌سره كما ذهب إليه الميرزا النائيني قدس‌سره (٣) فالصحّة للصلاة تكون مبتنية على الترتّب.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٣ : ٤٨ ، وفوائد الاصول ١ و ٢ : ٣٩٢.

(٢) جامع المقاصد ٥ : ١٣ ـ ١٤.

(٣) انظر أجود التقريرات ٢ : ١٧٨ ـ ١٧٩.


فتلخّص ممّا ذكرنا : أنّه بناء على الجواز فلا بدّ من القول بصحّة الصلاة من غير فرق بين العالم والجاهل ، وبناء على الامتناع لا بدّ من القول بفساد العبادة ، من غير فرق أيضا بين العالم والجاهل في غير الموارد الخاصّة الخارجة بدليلها الخاصّ كما في الصلاة بناء على شمول : «لا تعاد» (١) للجاهل كما هو الصحيح. فما ذكره المشهور : من الحكم بالصحّة في صورة الجهل في جميع العبادات والفساد في الجميع أيضا في صورة العلم ، ممّا لم يعلم وجهه. هذا تمام الكلام في المقدّمات والثمرة ، ويقع الكلام الآن في تحقيق القول بجواز الاجتماع أو امتناعه فنقول وبالله العون :

الكلام في أدلّة القائلين بالامتناع والجواز

ذهب صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) إلى امتناع اجتماع الأمر والنهي ومهّد لذلك مقدّمات أغلبها بديهيّة ، فإنّ كون الأحكام الخمسة متضادّة ـ بالمعنى العرفي للتضادّ ـ ممّا لم يتنازع فيه اثنان ، وإنّما القائل بالجواز يدّعي أنّه لا اجتماع ؛ لأنّ محلّ أحدهما غير محلّ الآخر.

وكذا كون متعلّق الأحكام هو فعل المكلّف دون الاسم والعنوان أيضا ممّا لم يكن محلّا للخلاف ، وإنّما القائل بالجواز يدّعي أنّ الصادر منه في الخارج فعلان لا فعل واحد ، وكذا كون الموجود بوجود واحد ليس له إلّا ماهيّة واحدة وحقيقة فاردة أيضا غير قابل للتشكيك ، وإنّما يزعم القائل بالجواز أنّ هناك إيجادين ووجودين.

نعم ، عمدة خلاف القائلين بالجواز والامتناع ومركز نزاعهم هو المقدّمة الثالثة ، وهي : أنّ تعدّد الوجه والعنوان يقضي بتعدّد الموجه والمعنون أم لا؟ ولكن صاحب الكفاية قدس‌سره لم يستدلّ على إثباتها إلّا بالدعوى فإنّه ذكر فيها أنّه ربّما تنطبق العناوين المتعدّدة على المعنون الواحد (٣).

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٢٢٧ ، الباب ٩ من أبواب القبلة ، الحديث الأوّل.

(٢ و ٣) كفاية الاصول : ١٩٣.

(٢ و ٣) كفاية الاصول : ١٩٣.


ولكن لا يخفى أنّ ربّما لا تجديه ؛ إذ أيّ مثبت لكون الصلاة والغصب من ذلك القبيل ، بل لا بدّ له من إثبات كلّيتها ليكون المورد من مصاديق تلك الكلّية ، فإنّ الشكل الأوّل من القياس لا بدّ فيه من كلّية الكبرى حتّى ينتج ، ومن هنا ذهب الميرزا النائيني قدس‌سره (١) إلى أنّ تعدّد العنوان الذي يكون متعلّقا للأمر والنهي كافل بتعدّد المعنون.

وتوضيح ذلك : أنّ المأمور به والمنهيّ عنه قد يكون حقيقة واحدة كالإكرام ـ مثلا ـ إلّا أنّ محلّ الإكرام معنون بعنوان العالم مثلا في صورة الأمر بالإكرام ، وبعنوان الفاسق في صورة النهي عن الإكرام ، ففي مثل ذلك تكون الجهات تعليليّة ، وهي لا تقتضي تعدّد المعنون فإنّ زيدا العالم الفاسق واحد حقيقة وماهيّة ، ولكنّه يكون مصداقا لوجوب الإكرام ؛ لأنّه عالم ، ومصداقا للتحريم ؛ لعلّة كونه فاسقا ، ولهذا سمّيت هذه الجهات جهات تعليليّة. ومثل هذا المثال خارج عن مبحث اجتماع الأمر والنهي قطعا وإن ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره في التنبيه الثالث من تنبيهات الباب (٢) لحوق تعدّد الإضافات بتعدّد الجهات ، وجعل مثل أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق من موارد الاجتماع في العالم الفاسق ؛ ولذا ترى الفقهاء يعاملون مثل هذا في موارد العموم من وجه في مورد الاجتماع معاملة المتعارضين ، فإمّا الترجيح أو التساقط ، ولم نر من زعم كونه ممتثلا عاصيا مع كثرة الذاهبين منهم إلى الجواز كما هو واضح. وقد يكون زيد هذا مصداقا لألف عنوان ككونه عالما فاسقا طويلا هاشميّا أبيضا أبا يزيد بن عمر أخا بكر إلى غير ذلك من العناوين المتكثّرة التي لا ينثلم بها وحدة المعنون كلّية أصلا ، بل هو واحد فهو نفس العالم الفاسق الطويل الأبيض إلى آخر.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ١٣٦.

(٢) كفاية الاصول : ٢١٦.


نعم ، مبادئ هذه الامور متباينة فإنّ العلم غير الفسق ؛ ومن هنا قيل باستحالة صدق بعض الأعراض على البعض الآخر (١) إلّا أنّ الإكرام المتعلّق بهذه الذوات واحد ليس بمتعدّد.

وقد يكون متعلّق الأمر والنهي متعدّدا كما في «صلّ» و «لا تغصب» وهذا هو محلّ اجتماع الأمر والنهي ، ولكن تعدّد العنوان مقتض لتعدّد المعنون فيها ؛ فإنّ الصلاة الصادقة حيث لا غصب صادقة حال الغصب أيضا ، والغصب الصادق حيث لا صلاة صادق حال الصلاة أيضا ، فلا بدّ حينئذ من القول بجواز اجتماع الأمر والنهي.

ومجمل ما أفاده : أنّ العناوين إن كانت تعليليّة ـ بمعنى كون ثبوتها للذات معلولا لعلّة ـ فهي لا تقتضي تعدّد المعنون ، ولا ينثلم بتكثّرها وحدته كما في عنوان العالم والفاسق والطويل والأبيض إلى غير ذلك ، فإنّ صدق العالم على ذات زيد لعلّة حلول العلم بها ، وكذلك صدق الفاسق عليه إنّما هو لعلّة قيام الفسق به إلى غير ذلك ، ومثل هذا خارج عن باب الاجتماع وعن حكمه أيضا.

أمّا إذا كانت العناوين تقييديّة ـ بمعنى كون ثبوتها للذات غير معلول لعلّة ـ فمثل هذه هي باب الاجتماع والحكم فيها جواز الاجتماع ، وهذا نظير الصلاة والغصب فإنّ ثبوت الصلاتيّة للصلاة ليس معلولا لشيء ، وكذا ثبوت الغصبيّة للغصب ، ونظير صفة العلم والفسق فإنّ ثبوت صفة العلم للعلم والفسق للفسق تقييدي ، بمعنى كونه ذاتيّا غير معلول لشيء ، وبما أنّ هذه يستحيل انطباق عرضين فيها على معروض واحد ، فحيث يصدق العنوانان فهو كاشف عن تحقّق معنونيهما ، وحينئذ فهما موجودان ، فلا مانع من توجّه الأمر نحو أحدهما وتوجّه النهي نحو الثاني منهما ، ولا يلزم اجتماع للضدّين.

__________________

(١) انظر الأسفار الأربعة ٤ : ٣.


قال الاستاذ الخوئي أيّده الله تعالى : والحقّ في هذه المسألة التفصيل لا القول بالجواز على الإطلاق ولا القول بالامتناع كذلك ، بل إن كان العنوانان موجبين لتعدّد المعنون فالجواز وإلّا فالامتناع ، فلا بدّ من ملاحظة كلّ مورد بخصوصه ثمّ الحكم فيه بالجواز والامتناع لاختلافها.

بيان ذلك : أنّ العناوين التي تكون متعلّقا للأمر والنهي.

تارة تكون من العناوين المتأصّلة في الوجود وهي الأعراض التسعة المعلومة.

واخرى تكون من العناوين الانتزاعيّة.

وثالثة يكون أحد العنوانين أصيلا والآخر انتزاعيّا.

فإن كانا أصيلين فلا ريب في جواز الاجتماع ، لاستحالة اتّحاد عرضين في الخارج ، بل الأعراض كالجواهر في استحالة انطباق نوع على نوع آخر ، بل فردين يستحيل انطباقهما.

وإن كانا من نوع واحد كما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (١) فحيث ينطبقان يستكشف حينئذ تحقّقهما وكونهما وجودين وإيجادين أحدهما متعلّق للأمر والآخر للنهي ولا مانع منه ؛ إذ لم يتحقّق اجتماع في الحقيقة ؛ إذ متعلّق كلّ منهما غير متعلّق الآخر وإن كان الموجد واحدا.

وإن كان أحد العناوين متأصّلا كالصلاة ـ فإنّ تركيبها وإن كان اعتباريّا إلّا أنّ مجموع أفعالها من الأعراض التسعة من الكيف النفساني والكيف المسموع وغيرها من الأعراض المتأصّلة ـ وكان العنوان الآخر انتزاعيّا كالغصب فإنّ الغصب ليست حقيقته إلّا التعدّي على مال الغير ، وهو قد يكون بالأكل وقد يكون بالنوم وقد يكون باللبس وقد يكون بالركوب ، ومعلوم أنّها أعراض متعدّدة فيستحيل أن يتحقّق بينها جامع أصيل ، بل لا بدّ من كونه انتزاعيّا ، فحيث يكون المأمور به أصيلا

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ١٤٨.


والمنهيّ عنه انتزاعيّا ينظر إلى منشأ الانتزاع ، فإن كان هو عين المأمور به فلا بدّ من القول بالامتناع ، كما إذا أمره بالقيام ونهاه عن إكرام زيد الذي هو منتزع من القيام له ومن ابتدائه بالتحيّة ومن تصبيحه بالخير ومن سؤال أحواله ومن إعطائه مالا إلّا أنّ هذا المكلّف احترمه بإكرامه بالقيام فالمنشأ هو القيام فلا بدّ من القول بالامتناع ، فإنّ تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون ولا تنثلم به وحدته كما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (١).

فما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) من أنّ المأمور به قد يتفرّد عن المنهيّ عنه وقد يجتمع معه ، كما أنّ المأمور به كذلك لا يرفع وحدته الخارجيّة الحقيقيّة أصلا.

نعم ، حيث لا يكون منشأ الانتزاع منطبقا ومتّحدا مع المأمور به ، بل كان منضمّا إليه كما إذا كان قائما بالقيام المأمور به فأكرم زيدا بالتحيّة ، فحيث إنّ التحيّة غير القيام حقيقة ، وليس بمتّحد معها حقيقة أيضا لا مانع من الاجتماع الذي هو في الحقيقة ليس اجتماعا. ومن هنا إذا أمر بالصلاة ونهى عن التصرّف في مال الغير بغير إذنه إلّا أنّ الصلاة المأمور بها إيمائيّة ـ لمرض مثلا ـ فصلّى في الأرض المغصوبة لا مانع من صحّة الصلاة ؛ لأنّ الصلاة بهذه الكيفيّة ليست تصرّفا ، وليس الإيماء باعتبار اقتضائه تموّج الهواء عرفا تصرّفا. بخلاف ما إذا كانت الصلاة بركوع وسجود فإنّ الاعتماد في السجود من مقولة الفعل ، وهو منشأ انتزاع التصرّف المنهيّ عنه ، ومأخوذ في مفهوم السجود المأمور به ، فلا بدّ من القول حينئذ ببطلان الصلاة ؛ لاتّحاد المأمور به مع المنهيّ عنه حقيقة في اعتماد السجود. وكذلك الهويّ إلى السجود والنهوض إلى القيام إن قلنا بجزئيّتهما للصلاة ، وإن قلنا بخروجهما عنها وكونهما مقدّمة ـ كما هو الظاهر لاستحالة الطفرة ـ فلا مانع من كون المقدّمة محرّمة إذا لم تكن منحصرة ، ولا أمر بها شرعا ؛ لعدم كونها جزءا.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٩٣.

(٢) انظر أجود التقريرات ٢ : ١٥٨.


وكذلك الكلام حيث يكون المأمور به عنوانا انتزاعيّا كإكرام العادل والمنهيّ عنه عنوانا انتزاعيّا كإكرام الفاسق فإنّه ينظر إلى منشأ الانتزاع ، فإن كان واحدا فلا محيص عن الامتناع ، وإن كان متعدّدا فلا مانع من الجواز. فإذا دخل عادل وفاسق في مكان فأكرمهما أحد ، فإن أكرمهما بعمل واحد كقيام واحد فلا بدّ من القول بالامتناع ولزوم تقييد أحد الإطلاقين ، وإن أكرمهما بعملين كأن قام للعادل وحيّا الفاسق بتحيّة فلا مانع حينئذ من توجّه الأمر نحو القيام وتوجّه النهي نحو التحيّة ؛ لأنّهما شيئان لا ربط لأحدهما بالآخر ، غاية الأمر أنّه انضمّ أحدهما إلى الآخر في الوجود ، وهذا غير ضائر كما هو واضح.

وبالجملة ، فليس إطلاق القول بالجواز في محلّه كإطلاق القول بالامتناع ، بل الحقّ هو التفصيل الذي فصّلناه ، هذا كلّه حال الكبرى.

وأمّا تطبيقه على الصغريات : ففي الوضوء بالماء المغصوب بما أنّ الوضوء أمر انتزاعي من الغسلات والمسحات والتصرّف المنهيّ عنه أيضا أمر انتزاعي ، وحيث إنّ منشأ انتزاعهما هو نفس الغسل فلا محيص عن القول بالامتناع وبطلان الوضوء ، إلّا أنّ مقتضى ذلك التسوية بين صورتي العلم والجهل ؛ لأنّ الجهل لا يغيّر الواقع عمّا هو عليه ، وإنّما هو رافع للمؤاخذة والعقاب ، إلّا أنّ الأصحاب أفتوا بالصحّة في صورة الجهل ، وقد ادّعى صاحب مفتاح الكرامة الإجماع على الصحّة في صورة الجهل (١) فإن تمّ الإجماع وكان تعبّديّا (*) ، فبها ونعمت ، وإلّا فلا بدّ من القول بالبطلان كما هو الظاهر ؛ لأنّه بعد أن كان التصرّف مبغوضا واقعا فقد خرج عن إطلاق الأمر ، والجهل لا يوجب دخوله تحت الإطلاق ، فافهم وتأمّل في المقام فإنّه واضح.

__________________

(١) مفتاح الكرامة ١ : ٣٠٣.

(*) أشار بقوله وكان تعبّديّا ، إلى أنّ الإجماع إنّما كان لشبهة حصلت عندهم من أنّ النهي إنّما يرفع الفعليّة إلى آخره وليس تعبّديّا.


وأمّا إذا كان الماء مباحا إلّا أنّ المكان الذي يتوضّأ به مغصوب.

فتارة ينحصر المكان بذلك المكان فلا ريب في بطلان الوضوء ؛ لعدم الأمر به.

أمّا إذا لم ينحصر المكان به فتارة يكون محلّ وقوف المتوضّئ مغصوبا إلّا أنّ المصبّ ومحلّ الحركات مباح ، وفي مثله لا ريب في صحّة الوضوء الذي هو عبارة عن الغسلات والمسحات ؛ لعدم كونها غصبا.

واخرى يكون محلّ المتوضّئ مباحا والمصبّ مغصوب ، فتارة يراق الماء في مكان مباح يستطيع حبسه فيه عن السيلان إلى المحلّ المغصوب ولكنّه لم يحبسه ، فلا ريب أيضا في صحّة وضوئه وإن عصى بعدم الحبس.

واخرى يكون المصبّ مغصوبا رأسا ، ففي هذه الصورة تبتني صحّة الوضوء وعدمها في صورة عدم انحصار المصبّ بهذا المصبّ على سريان حرمة ذي المقدّمة إلى حرمة مقدّمته وعدم السريان ، وحيث بنينا على عدم السريان فالوضوء أيضا صحيح ، بل ولو بنينا على حرمة مقدّمة الحرام فليس نفس الوضوء مقدّمة ، بل إنّ صبّ الماء مقدّمة للوضوء ومقدّمة للصبّ المحرّم ، فالوضوء حينئذ صحيح إن لم ينحصر المصبّ بهذا.

وأمّا الوضوء من آنية الفضّة والذهب المحرّم استعمالها ، فحيث ينحصر الماء بها لا ريب في عدم وجوب الوضوء منها ووجوب التيمّم. وإن اغترف غرفة لا تكفي له لوضوئه فلا يجب عليه غسل الوجه بها ؛ لعدم التكليف بالوضوء لفرض انحصاره في المحرّم استعماله. وإن توضّأ منها حيث لا انحصار فحيث إنّ الاغتراف ليس وضوءا ، وإنّما الوضوء هو الغسلات والمسحات فاغترافه وإن كان محرّما إلّا أنّ الوضوء بعده ليس استعمالا لآنية الذهب والفضّة ، فلا ينبغي الريب في الصحّة ، وطريق الاحتياط غير خفيّ.

نعم ، الأكل منها محرّم بخصوصه ولو كان بالواسطة لصدق الأكل من الإناء وإن أخذه بيده ثمّ وضعه في فيه ؛ لأنّه متعارف الأكل من الإناء ، وقد ورد النهي عن


الأكل في آنية الذهب والفضّة ولكن الاغتراف من الإناء وإن كان استعمالا محرّما إلّا أنّ الوضوء بعده ليس استعمالا للآنية فافهم. وكذا الكلام حيث تكون الآنية مغصوبة والماء مباح.

وأمّا الصلاة في المكان الذي يحرم المكث فيه ، فتارة يقع الكلام فيما يحرم المكث فيه من جهة الغصب ، واخرى فيما يحرم المكث فيه من جهة اخرى غير الغصب ، كما في الوقوف بين الصفّين الذي يكون مظنّة للهلاك ، أو كمكث الزوجة في مكان لا يرضى زوجها بمكثها فيه ، أو كخروج المعتكف في اليوم الثالث من المسجد ومكثه خارج المسجد ، فلو صلّى أحد هؤلاء في المكان الذي يحرم المكث فيه من غير جهة الغصب فالصلاة صحيحة ؛ لأنّ الصلاة عبارة عن التكبير والقراءة والركوع والسجود إلى آخرها ، وليس شيء منها متّحدا مع الكون المنهيّ عنه ، نعم هو مقارن لها فالصلاة حينئذ تكون صحيحة وطريق الاحتياط غير خفيّ.

وأمّا إذا كانت حرمة المكث من جهة الغصب ، فإن قلنا بكون الهويّ إلى الركوع مقدّمة للركوع فلا ريب أيضا في الصحّة من هذه الجهة ؛ لأنّ حرمة المقدّمة مع عدم الانحصار لا ترفع وجوب ذي المقدّمة. وإن قلنا بأنّ الهويّ دخيل في حقيقة الركوع فإنّ الركوع هو الانحناء عن هويّ ؛ إذ من كان جالسا فقام منحنيا حتّى بلغ حدّ الركوع لا يصدق عند العرف أنّه ركع قطعا ، وحينئذ فهنا أمران :

تبدّل في الوضع ، وهو تغيير هيئته من القيام إلى كلّ مرتبة من مراتب الانحناء حتّى يصل إلى حدّ الركوع الذي بلغه.

وتبدّل في حركة الأين ، وهو تحوّل جسمه من مكان إلى مكان كذلك. فإن كان الدخيل في الركوع عرفا حركة الأين فالهويّ كنفس الركوع ليس غصبا. وإن كان هو الوضع فيشكل الحال في صحّة الركوع من جهة حرمة مقدّمته ؛ إذ هي تصرّفات في الفضاء فهذا الهويّ تصرّف في الفضاء فيكون محرّما فيتّحد الواجب والحرام.

وأيضا فإنّ السجود إن كان عبارة عن مجرّد الانحناء ومماسّة الجبهة ما يصحّ السجود


عليه كان الكلام السابق من صحّة الصلاة من جهته متّجها ، إلّا أنّه قد اعتبر فيه الوضع الذي قد اخذ الاعتماد في مفهومه ، والاعتماد تصرّف في الأرض المغصوبة فيكون متّحدا مع الحرام ، فالصلاة متّحدة مع الحرام في الهويّ والاعتماد فتكون من موارد اجتماع الأمر والنهي ، وتكون الصلاة حينئذ باطلة من هاتين الجهتين. وأمّا لو خلت الصلاة من هاتين الجهتين ـ كما إذا كانت إيمائيّة بالعين ـ فهي بمقتضى هذا الكلام صحيحة ؛ لعدم اتّحادها مع عمل منهيّ عنه ، بل هي مقارنة ، فتأمل (*).

هذا كلّه حال العالم ، وأمّا الجاهل بغصبيّة المكان فظاهر الأصحاب الحكم بصحّة صلاته ، بناء على ما تقدّم من زعمهم أنّ باب اجتماع الأمر والنهي من باب المزاحمة المرتفعة بجهل التحريم ، وحيث ذكرنا أنّها ليست من باب التزاحم ، وأنّها من باب التعارض فمقتضى القاعدة بطلان الصلاة حتّى في صورة الجهل أيضا ، إلّا أنّ الكلام في أنّ حديث : «لا تعاد» ، يقتضي صحّة الصلاة أم لا؟

وتفصيل الكلام في ذلك : أنّ حديث : «لا تعاد» دلّ على صحّة الصلاة حيث يكون المفقود من أجزاء الصلاة غير الخمسة ، ودلّ على بطلانها حيث يكون المفقود أحد الخمسة ، إلّا أنّ الكلام في أنّ الركوع والسجود اللذين تبطل الصلاة بنقصانهما هل هما طبيعة الركوع والسجود أو خصوص ما كان منهما جزءا صلاتيّا مأمورا به؟ والظاهر هو الثاني ؛ لأنّ الإمام في صدد بيان أجزاء الصلاة وشرائطها المفقودة ، وقد استثنى الركوع والسجود وظاهر الاستثناء كونه متّصلا ، وحينئذ فلا يجري حينئذ حديث : «لا تعاد» (١) لأنّ هذه الصلاة قد فقدت الركوع الشرعي والسجود الشرعي ، وفقدهما ممّا يوجب الإعادة بحكم الاستثناء. ولو تنزّلنا عن دعوى

__________________

(*) أشار بالتأمّل إلى أنّ التصرّف أمر عرفي ولا ريب في صدقه بالصلاة وإن كانت إيمائيّة. (الجواهري).

(١) الوسائل ٣ : ٢٢٧ ، الباب ٩ من أبواب القبلة ، الحديث الأوّل.


الظهور فلا أقلّ من الإجمال ، فالمرجع هو القاعدة الأوّلية المقتضية للبطلان ، لخروج الركوع أو السجود عن أفراد المأمور به بتوجّه النهي نحوه ، والجهل به لا يغيّره عن واقعه ليدخل في أفراد المأمور به كي يحكم بالصحّة ، هذا كلّه في المكان.

وأمّا اللباس إذا كان مغصوبا :

فتارة يقع الكلام في الساتر بالفعل.

واخرى في مطلق اللباس.

أمّا الكلام في الساتر بالفعل كما إذا تستّر بثوب مغصوب فالظاهر بطلان الصلاة مع العلم دون الجهل ، والوجه في ذلك : أنّ الستر المعتبر في الصلاة ليس كالستر المعتبر في غيرها من تأدّيه بكلّ ما يستر البشرة عن الناظر المحترم ـ كالظلمة والماء والطين ـ بل لا بدّ من كونه بثوب ، وحينئذ فإذا كان الثوب مغصوبا فاللبس من أظهر أفراد الغصب. وحينئذ فيستحيل أن يكون مأمورا به ؛ لاستحالة الاجتماع ، حيث يتّحد الوجود ـ كما قرّرنا ـ فهذا الستر ليس مأمورا به فهو في حكم العدم ، فهو كمن صلّى عاريا مع قدرته على الستر ولا ريب في بطلان صلاته.

ومن هنا ظهر ما في كلام صاحب الجواهر قدس‌سره : من كون مقدّمة الستر وهو لبس الثوب محرّما فيبتني على مبحث المقدّمة (١) ؛ وذلك لأنّ لبس الثوب ليس مقدّمة للستر الواجب في الصلاة ، بل هو نفسه ، نعم لبس الثوب مقدّمة للستر عن العيون في غير حال الصلاة.

وأمّا وجه الصحّة في حال الجهل فإنّما هو لحديث : «لا تعاد» إذ لم يذكر فيها الستر فيكون محكوما بالصحّة ، فتأمّل (*).

__________________

(١) انظر الجواهر ٨ : ١٤٣.

(*) أشار بالتأمّل إلى أنّ استثناء الركوع الشرعي والسجود الشرعي كاف في لزوم الإعادة ؛ لأنّه قد اشترط الستر في أجزاء الصلاة ؛ لأنّه معنى اشتراطه في الصلاة ؛ إذ هي ليست


والحكم بالصحّة في مثل المقام من جهة كونه سترا ، فلا ينافي ما سيأتي من كونه مبطلا حتّى في صورة الجهل بلحاظ كونه متصرّفا في الثوب بهويّة إلى الركوع والسجود في الحركات المقومة للركوع شرعا وعرفا.

وأمّا الكلام في لبس الثوب المغصوب حال التستّر الصلاتي بغيره ، ويلحق به المغصوب المحمول في الحكم أيضا ، فالظاهر هو الحكم بالصحّة في صلاة من فرضه الإيماء في ركوعه وسجوده ؛ لكونه غاصبا حال الصلاة ، وليس غاصبا بنفس الصلاة.

أمّا من جهة الستر فالمفروض تحقّقه بثوب مباح.

وأمّا من جهة التصرّف فالمفروض أنّه ليس في صلاته تصرّف في هذا المغصوب بشيء أصلا.

نعم ، لو كان فرضه الركوع الحقيقي والسجود الحقيقي أيضا فإن قلنا بأنّ الهويّ إلى ركوعه وسجوده مقوّم لهما فالصلاة حينئذ تكون فاسدة ، وإن قلنا بأنّه مقدّمة فتبتني الصحّة حينئذ على تحريم مقدّمة الحرام وعدمها كما تقدّم. ولا يفرق بين صورة العلم والجهل حينئذ ؛ لأنّه إذا خرج هذا الفرد عن المحبوبيّة إلى المبغوضيّة فلا يفرق فيه بين صورة العلم والجهل ؛ لأنّ الجهل لا يغيّر الواقع عمّا هو عليه ؛ إذ مع حرمة هذا الهويّ كيف يتوجّه الأمر نحوه؟ هذا تمام الكلام في كبرى باب الاجتماع وتطبيقها على صغرياتها.

وقد تلخّص : أنّ إطلاق القول بالامتناع كإطلاق القول بالجواز غير وجيه ، وأنّ الحقّ هو التفصيل الذي ذكرناه.

__________________

ـ إلّا الأجزاء ، فالركوع والسجود الحاليين ليسا من أجزائه حينئذ ، فالأحسن أن يكون الدليل على الصحّة حال الجهل الرواية الدالّة على صحّة الصلاة مع انكشاف العورة حال جهل المصلّي لا حديث : «لا تعاد» لما عرفت. (الجواهري).


بقي الكلام في توجيه ما استدلّ به بعضهم على الجواز : من توجّه النهي التنزيهي في العبادات قطعا ، والوقوع أدلّ دليل على الإمكان ، وتضادّ الأحكام مشترك بين الخمسة ، فما ذكر ليس إلّا برهانا في قبال الوجدان يرمى به عرض الجدار (١).

والجواب إجمالا : فباشتراك الإيراد بين القائلين بالجواز والقائلين بالامتناع في الإيراد ؛ لأنّ نوعها ممّا توجّه الأمر والنهي فيه بعنوان واحد ولا يلتزم به القائل بالجواز فضلا عن القائل بالامتناع.

وتفصيلا : أنّ هذه الموارد على أنحاء ثلاثة :

الأوّل : ما توجّه الأمر فيه إلى عنوان والنهي فيه إلى عنوان آخر بينهما عموم من وجه ـ كمورد اجتماع الأمر والنهي ـ غير أنّ النهي تنزيهي لا تحريمي.

الثاني : ما توجّه النهي فيها إلى نفس ما توجّه إليه الأمر وليس له بدل شرعي ، كقوله : لا تصم يوم عاشورا ، ولا تصلّ عند طلوع الشمس وغروبها.

الثالث : نفس القسم إلّا أنّه له بدل كقوله : لا تصلّ في الحمّام.

أمّا الكلام في القسم الأوّل فنقول :

إنّه تارة يكون المأمور به مغايرا للمنهيّ عنه ؛ ويكونان وجودين متأصّلين أو متأصّلا وانتزاعيّا ومنشأ انتزاعه مغاير للمتأصّل ، أو انتزاعيّين ومنشأ انتزاع كلّ منهما مغاير لمنشا انتزاع الآخر ، وقد عرفت أنّه لا مانع من توجّه الأمر والنهي التحريمي في مثله فضلا عن التنزيهي.

واخرى يكون المأمور به متّحدا مع المنهيّ عنه ، لأنّ وجودهما المتأصّل واحد ، أو لكون منشأ انتزاعهما واحدا ، أو لكون الوجود المتأصّل هو المنشأ للانتزاع للثاني ، وهذا القسم قد عرفت امتناع توجّه الأمر والنهي فيه حيث يكون النهي تحريميّا.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ١٧١.


وأمّا في النهي التنزيهي فهو على قسمين ؛ لأنّه قد يكون مع وجود المندوحة كما إذا كره استعمال الماء المسخّن في الشمس فتوضّأ أو اغتسل به مثلا مع وجود غيره ، واخرى لا مع المندوحة.

أمّا إذا كان هناك مندوحة فحيث إنّ أمر الصلاة متوجّه إلى الطبيعة لا الأفراد (*) ؛ لأنّه مأخوذ بنحو صرف الوجود والنهي انحلالي فالأمر متوجّه نحو الطبيعة ، والفرد الخارجي فرد للطبيعة لكنّه ليس فردا واجبا ؛ لأنّ الطبيعة بما هي واجبة لا تسري إلى الفرد ، كما لا تسري إليه بما هي كلّية في قولك : زيد إنسان. فالأمر متوجّه نحو الطبيعة ، فإذا وجد الفرد كان الانطباق قهريّا والإجزاء عقليّا ، ولكنّ الفرد الخارجي لا يتّصف بالوجوب ؛ ولذا لو صلّى الإنسان صلاة الظهر أوّل الظهر لا يكون ذلك الفرد بخصوصه فردا للواجب بحيث لو كان أخّره عنه كان خارج الوقت ، ولكنّ النهي بما أنّه انحلالي فهو يسري إلى كلّ فرد فرد من أفراد المنهيّ عنه ، فالكون في مواضع التهمة مثلا بتمام أفراده مكروه مثلا ، فالفرد الصلاتي بخصوصه منهيّ عنه وليس هو محطّ الأمر كما قرّرنا.

لا يقال : هذا الكلام بحذافيره يجري في النهي التحريمي فلم قلتم بالامتناع حيث يتّحدان ، وهل يعقل اتّحادهما بناء على ما قرّرتم؟

__________________

(*) هذا ما قرّره في الدورة السابقة ، ولكنّه أيّده الله اختار في الدورة اللاحقة ما اختاره الآخوند من كون النهي إرشاديا إلى بقيّة الأفراد الغير المشخّصة بالمشخّص المنافر كما اختاره في الكفاية [كفاية الاصول : ١٩٩]. وقد عدل عن هذا الجواب ؛ لأنّ كون النهي نهيا عن الأفراد إن رجع إلى كونه نهيا عن الخصوصيّات الفرديّة فليس نهيا عن العبادات ذاتها ، وإن كان نهيا عن الطبيعة فالفرد عين الطبيعة فكيف يكون محبوبا ومبغوضا في آن واحد؟ وهذا الكلام بعينه جار في الشقّ الثاني من القسم الثاني ، وهو ما نهى عن ذات العبادة وله بدل.


فإنّه يقال : نعم ، الأمر كما ذكرتم والتعبير بالاجتماع مسامحة إلّا أنّ الأمر إذا توجّه نحو الطبيعة فلازمه الترخيص في التطبيق حينئذ على تمام أفرادها ، وهو لا يجتمع مع التحريم المتوجّه نحو بعض الأفراد ؛ إذ الترخيص والتحريم لا يجتمعان في فرد ، وهذا هو المانع من الاجتماع هناك ، بخلاف النهي التنزيهي فإنّه يجتمع مع الترخيص قطعا.

ومن هنا ظهر : أنّ الاستدلال بالعبادات المكروهة على جواز اجتماع الأمر والنهي التحريمي ليس بصحيح ؛ إذ النهي التنزيهي يجتمع مع ترخيص التطبيق بخلاف النهي التحريمي. هذا كلّه مع وجود المندوحة بوجود ماء آخر غير المسخّن في الشمس ، أمّا إذا لم يكن غيره فلا ريب في ارتفاع كراهة خصوص هذا الفرد ؛ إذ لا يعقل حينئذ توجّه النهي التنزيهي عن خصوص هذا الفرد فلا يبقى إلّا ترخيص تطبيق الواجب عليه ، هذا تمام الكلام في القسم الأوّل.

وأمّا ما توجّه النهي فيه على ذات العبادة لكن مع وجود البدل له ، كما في : لا تصلّ في الحمام ، فيسري فيه عين الكلام المذكور في هذا القسم ، من كون النهي متوجّها نحو خصوص هذا الفرد لانحلاله ، ولكنّ الأمر متوجّه نحو صرف الطبيعة فلا يسري إلى الفرد ؛ إذ الطبيعة بما هي مأمور بها لا تسري إلى الفرد كما تقدّم ، ولو انحصر كما لو كان في آخر الوقت بحيث كان الخروج من الحمّام مفضيا للوقوع في خارج الوقت ارتفعت الكراهة حينئذ.

ويحتمل أن يكون مراد من قال : «إنّ الكراهة في العبادات بمعنى قلّة الثواب» هو ما ذكرنا ، بمعنى أنّ تطبيق الطبيعة على هذا الفرد أقلّ ثوابا من تطبيقه على غيره ممّا لا يبتلى بمزاحمة هذه الحزازة ، وإلّا فكون العبادة مكروهة بمعنى كونها أقلّ ثوابا من غيرها من الأفراد يفضي إلى تأسيس فقه جديد ، فتأمّل وافهم.

وأمّا القسم الثالث : وهو ما كان العنوان الذي تعلّق به النهي التنزيهي هو الذي تعلّق به الأمر إلّا أنّه لا بدل له ، كما في صوم يوم عاشوراء والصلاة عند طلوع الشمس وغروبها ؛ فبما أنّ الأمر في المقام ليس مأخوذا بنحو صرف الوجود ،


بل بنحو ينحلّ إلى كلّ فرد فرد من أفراد الطبيعة نظير النهي ، وحينئذ فالأمر والنهي قد تعلّقا بفرد واحد ، النهي به بخصوصه والأمر بانحلال أمر الصوم في مثله إلى كلّ فرد ، فما ذكر من التخلّص في القسم الثاني لا يتصوّر هنا.

وأحسن ما قيل في التخلّص في هذا القسم هو ما ذكره الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١) : من كون النهي في المقام ليس ناشئا عن مفسدة في الفعل على غرار سائر النواهي ، وإنّما النهي هنا للإرشاد إلى ما في ترك الصوم في المقام من المصلحة الأقوى الآكد ، كما يظهر من مداومة الأئمّة عليهم‌السلام على الترك وأمرهم شيعتهم بذلك ، فيكون الإفطار مستحبّا آكد من استحباب الصوم فيكونان من قبيل المستحبّين المتزاحمين ؛ ولهذا لو صام لحصل الثواب المعدّ لصوم أيّ يوم من أيام السنة بلا منقصة في صومه ، وحينئذ فمتعلّق الأمر غير متعلّق النهي ، كما أنّ متعلّق النهي غير متعلّق الأمر ، فالأمر بالصوم والنهي إن قلنا بأنّه طلب الترك فهو على حقيقته طلب الإفطار على هيئة خاصّة من الأكل آخر النهار ، وإن قلنا بأنّه زجر عن الفعل فقد استعمل في الإرشاد إلى ما في الترك من المصلحة بهذه القرينة العقليّة ، وهي استحالة توجّه الأمر والنهي ولو تنزيهيّا نحو عمل واحد.

وقد أورد الميرزا النائيني (٢) بأنّ الأمر بأحد الضدّين اللذين ليس لهما ثالث محال تعيينا لكونه طلب المحال ، وتخييرا لكونه طلب الحاصل ؛ إذ المكلّف لا يخلو من الفعل أو الترك كما في مثل النقيضين عينا.

والجواب : أنّ الصيام مع النيّة للتقرّب أمر محبوب ، والإفطار المتعارف أيضا محبوب ، وهناك ضدّ ثالث لهما وهو الإمساك بغير نيّة التقرّب إلى الليل وإن تحقّق القصد إلى الصوم ؛ لأنّه هو الكفّ ، ومن ثمّ عدّ من الواجبات فيمكن أن يأمر بالضدّين تخييرا لئلّا يفعلا الضدّ الثالث فأين اللغويّة؟

__________________

(١) انظر مطارح الأنظار ١ : ٦٤٥ ـ ٦٤٦.

(٢) انظر أجود التقريرات ٢ : ١٧٣.


فالظاهر : أنّ ما ذكره الشيخ قدس‌سره متين جدّا ، وحيث إنّ الميرزا النائيني قدس‌سره (١) لم يرتض جواب الشيخ المذكور فقد استقلّ قدس‌سره بجواب موقوف على مقدّمة مهّدها قدس‌سره ملخّصها : أنّ الأمرين إذا توجّها إلى شيء واحد ، فإمّا أن يكونا عرضيّين بمعنى كونهما متعلّقين بشيء واحد ذاتا ، وإمّا أن يكونا طوليّين.

فإن كانا عرضيّين ، كما إذا نذر المكلّف صلاة الليل مثلا فهنا أمران : أحدهما : استحباب صلاة الليل النفسي. وثانيهما : وجوب ذات صلاة الليل من جهة النذر. وفي مثل المقام يسري الوجوب إلى الأمر الاستحبابي ، كما تسري تعبّديّة الأمر الاستحبابي إلى وجوب الوفاء بالنذر ، فيكون توصّليّا.

وإن كانا طوليّين ، كما إذا استؤجر زيد على زيارة الحسين عن عمرو فهنا الأمر الإيجاري طولي ؛ لأنّه يجب الوفاء بالعقد الذي استؤجر عليه ، وهو العمل المستحبّ لذات المنوب عنه ، فالأمر الإيجاري قد تعلّق الأمر الاستحبابي بذات المنوب ، فإنّه استؤجر على تفريغ ذمّة المنوب عنه عن هذا العمل المستحبّ في حقّ المنوب عنه فهو طولي ، وفي مثل هذا المقام لا تتحقّق سراية من أحد الأمرين إلى الثاني ولا اندكاك ؛ لأنّ متعلّق أحدهما مغاير لمتعلّق الآخر ، فإنّ متعلّق الأمر الأوّل هو ذات العمل ومتعلّق الأمر الاستيجاري هو العمل الذي طلب من عمرو في ذمّته.

إذا عرفت هذه المقدّمة فقد ذهب الميرزا النائيني (٢) إلى أنّ القسم الثالث من قبيل الأمرين الطوليّين وأن لا منافاة بينهما ، فإنّ الأمر الاستحبابي المتوجّه إلى صوم يوم عاشوراء بمقتضى الانحلال يقتضي استحباب ذات الصوم في هذا اليوم ، ولكنّ النهي التنزيهي متّجه إلى الصوم المستحبّ المقصود به الامتثال ، فصار متعلّق أحدهما غير متعلّق الآخر فلا سراية أصلا.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ١٧٤ ـ ١٧٥.

(٢) انظر أجود التقريرات ٢ : ١٧٦.


والجواب : أنّ هذه الكبرى غير مسلّمة ، فإنّ الأمر في مثالي النذر والإجارة من واد واحد ، وأنّ متعلّق كلّ منهما عين متعلّق الآخر وأنّهما عرضيّان. وأيضا لو سلّم أمر الكبرى فكون المورد من مصاديقها غير مسلّم.

أمّا الكبرى فإنّ في الإجارة ثلاثة أوامر :

أحدها : المتوجّه إلى المنوب عنه.

الثاني : المتوجّه إلى المنوب استحبابا ، فإنّ كلّ مستحبّ يستحب أن يؤتى به نيابة عن جميع المؤمنين ؛ لأنّه إحسان محض إليهم.

الثالث : الأمر المتوجّه إلى النائب من جهة الأمر الإجاري.

أمّا الأمر المتّجه إلى المنوب عنه فلا ربط له بالنائب ؛ إذ لا يعقل امتثال أمر متّجه إلى شخص من شخص آخر لم يخاطب بذاك الخطاب ، نعم الأمران المتوجّهان إلى النائب اللذان أحدهما استحبابي والآخر إلزامي وجوبي عرضيّان ، وهما من قبيل الأمر النذري ؛ إذ متعلّق كلّ منهما عين متعلّق الآخر ، وأحدهما تعبّدي وهو الاستحبابي والآخر توصّلي وهو وجوب الوفاء بالعقد ، فيتحقّق حينئذ الاندكاك والسراية من كلّ منهما إلى الآخر ، كما قرّرناه في النذر ، هذا ما كان من أمر الكبرى.

وأمّا الصغرى فلو سلّمنا ما ذكره قدس‌سره : من كون الأمر الإيجاري في طول الأمر الثاني لا في عرضه ، فكون المقام ـ وهو الكراهة في العبادة في القسم الثالث ـ من صغريات هذه الكبرى ممنوع.

بيان ذلك : أنّ الأمر المتوجّه إلى صوم يوم عاشوراء لم يتعلّق بذات العمل حتّى على مسلكه قدس‌سره فإنّ قصد القربة مأمور به شرعا بمتمّم الجعل على ما ذكره قدس‌سره وبنفس الأمر المتوجّه للعبادة على ما اخترناه ، فقصد التقرّب والامتثال ممّا تعلّق به الأمر الشرعي والنهي قد تعلّق بالتقرّب بالصوم إلى الله تعالى ، فمتعلّق كلّ منهما عين متعلّق الآخر ، فالصحيح في الجواب ما ذكرنا من جواب الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١).

__________________

(١) انظر مطارح الأنظار ١ : ٦٤٥ ـ ٦٤٦.


ثمّ إنّ كراهة الصوم في المثال إذا أتى به بعنوان أنّه صوم.

وأمّا إذا أتى به تبرّكا بذلك اليوم وشكرا على ظفر أعداء الدين بأوليائه فهو محرّم قطعا بلا كلام ولا خلاف.

وبالجملة ، فقد ظهر أنّ الاستدلال بكراهة هذه العبادات لا يصلح دليلا على جواز اجتماع الأمر والنهي بقول مطلق ، فالمعيار في جواز الاجتماع وعدمه ما ذكرناه فراجع.

فيما لو اضطرّ إلى المجمع :

بقي الكلام في أمرين :

أحدهما : ما نسب إلى المحقّق القمّي قدس‌سره من تصحيحه مورد الاجتماع ، بدعوى أنّ الأمر متوجّه نحو الطبيعة ، وأنّ الفرد الخارجي مقدّمة لها ، ولا مانع من حرمة المقدّمة حيث لا تكون منحصرة ، فيبقى الواجب على وجوبه (١).

وفيه :

أوّلا : أنّ وجود الطبيعي بوجود فرده ، وليس للفرد وجود مغاير لوجود الطبيعي ليصحّ ما ذكره في فرض عدم انحصار المقدّمة.

وثانيا : أنّا إن بنينا على أنّ وجود طبيعة الصلاة منضمّ إلى وجود طبيعة الغصب ـ مثلا ـ فنقول بصحّة العبادة من دون حاجة إلى حديث المقدّمة ، وإن بنينا على اتّحاد الوجود الخارجي ، فكما أنّ الطبيعتين متّحدتان كذلك الفردان أيضا متّحدان ؛ إذ ليس الفرد هو الغصب والطبيعة هي الصلاة ، بل الفرد فرد لهما والطبيعة أيضا لهما ، نعم لو كان الفرد ماهيّة اخرى غير الطبيعة أمكن هذا الكلام.

وبالجملة : فكلام المحقّق القمّي قدس‌سره موقوف على مقدّمتين :

__________________

(١) انظر القوانين ١ : ١٤١.


إحداهما : أنّ وجود الفرد غير وجود الطبيعة.

الثانية : أنّ ماهيّة الفرد غير ماهيّة الطبيعة التي هو فرد لها ، وكلا المقدّمتين باطل.

الثاني من الأمرين : أنّه لو ارتفع التحريم لاضطرار أو نسيان أو غفلة فهل يكون الإتيان بالمجمع صحيحا أم لا؟ نسب (١) إلى المشهور الصحّة كما اختاروها في صورة الجهل ، ولكنّ الميرزا النائيني (٢) ألحق صورة النسيان والاضطرار بصورة الجهل بالبطلان ؛ لأنّ المبغوض لا يصير محبوبا وإن ارتفع الإثم ، وقد ذكر مقدّمة لا بأس بذكرها تبعا له وهي : أنّ النهي المتوجّه إلى المركّب قد يكون إرشاديّا إلى المانعيّة ، كما في قوله : لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه ، فإنّ ظهور النهي في التحريم قد يخرج عنه بالقرينة ولو كانت قرينة عامّة إلى الإرشاد إلى المانعيّة كما في المركّبات ، ومثل هذا القسم لا يفرق فيه بين صور العلم والجهل والغفلة وغيرها من الأعذار ، فإذا اضطرّ فمقتضى اضطراره ارتفاع وجوب المقيّد لا ارتفاع مانعيّة المنهيّ عنه. وكذا الأمر حيث يكون إرشادا إلى الشرطيّة ، فإنّ إطلاقه يقتضي التقيّد به فلو لم يتمكّن من القيد سقط المركّب إلّا أن يقوم دليل يقتضي وجوب الباقي ، كما في مثل : الصلاة لا تسقط بحال (٣).

ثانيهما : أن يكون ظاهرا في التحريم.

فتارة يكون اجتماع التحريم والوجوب من باب المزاحمة ، كما إذا كان الواجب ذا مقدّمة محرّمة وحرمتها أهمّ من وجوب الواجب ، فلو غفل وأتى بتلك المقدّمة

__________________

(١) انظر مجمع البرهان ٢ : ١١٠ ، ومفتاح الكرامة ١ : ٣٠٣ ، والجواهر ٨ : ٣٠١ وغيرها.

(٢) انظر أجود التقريرات ٢ : ١٦٣.

(٣) هذه الجملة قاعدة مستفادة من الروايات كما صرّح به السيّد الحكيم [المستمسك ٤ : ٣٨٢] والخوئي [والتنقيح (الطهارة) للسيّد الخوئي ٢ : ٣٨٣ ، ٤٠٤ ، وغيرها] وليست برواية وكثيرا ما استعملت في كلمات الفقهاء. انظر الجواهر ٧ : ٤١٨ ، ومصباح الفقيه ٢ : ٩١ ، ١٠٠ ، ١٠٢ ، ١٧٦ و ٦ : ٥٧٢ وغيرها.


فلا ريب في صحّة ذلك الواجب ؛ لأنّ مزاحمة التحريم إنّما هي في صورة الوصول ، أمّا في صورة عدم الوصول فلا مزاحمة أصلا. وكذا الكلام في الأمر حيث يكون نفسيّا دالّا على وجوب واجب آخر أهمّ فإنّ مزاحمته للواجب الثاني إنّما هي فرع للوصول إلى المكلّف ، فلو لم يصل فلا مزاحمة ، ومن هنا حكمنا بصحّة الضدّ في صورة الجهل مع قطع النظر عن الترتّب.

واخرى يكون من باب المعارضة كما في مثل المقام فهل يلحق هذا القسم بالأوّل أم بالثاني؟ ذهب المشهور إلى اللحوق بالثاني ، وذهب الميرزا النائيني قدس‌سره إلى اللحوق بالأوّل ، وحاصل ما أفاده في وجه ذلك هو : أنّ التحريم قد يكون في عرض عدم الوجوب وقد يكون في طوله ، مثلا أنّ النهي في المقام إن قلنا بأنّه مقدّمة لرفع الوجوب لأهميّته ووجود أحدّ الضدّين مقدّمة لعدم ضدّه فالتحريم في طول عدم الوجوب ؛ لأنّه مقدّم عليه رتبة. وإن قلنا بأنّ النهي دالّ على التحريم ويلزمه عدم الوجوب فهما مدلولان عرضيّان للنهي ، وحيث بنى المشهور على الأوّل فارتفاع التحريم يقتضي ارتفاع عدم الوجوب فيعود الوجوب ؛ ولذا أفتوا بالصحّة في الفرض ، وحيث إنّ هذا المبنى فاسد عندنا وإنّ أحد الضدّين ليس مقدّمة لعدم الآخر وكذا العكس فهما في رتبة واحدة ومدلولان لدليل واحد فإذا جاء حديث الرفع فإنّما يرفع التحريم فلا يرتفع عدم الوجوب فيكون غير واجب فيكون باطلا (١) ، هذا ملخّص ما أفاده قدس‌سره.

أقول : ما أفاده قدس‌سره من كون عدم الضدّ في رتبة الضدّ الآخر ، متين جدّا. وكذا كون عدم الوجوب مع الحرمة في رتبة واحدة أيضا متين إلّا أنّه في مقام الثبوت فإنّهما في رتبة واحدة فيها ، وأمّا في مقام الإثبات فلا فإنّ دلالة النهي على التحريم مطابقة ودلالته على عدم الوجوب من جهة الملازمة ؛ إذ التحريم للفرد مع إيجابه أو

__________________

(١) فوائد الاصول ١ و ٢ : ٤٦٧.


الترخيص في تطبيق الواجب عليه ممّا لا يجتمعان ، فبدلالة الملازمة لا يكون واجبا ، ومن المعلوم أنّ الدلالة الالتزاميّة تتبع المطابقة حدوثا وبقاء. فإذا فرض ارتفاع التحريم الذي هو المدلول المطابقي واقعا يرتفع لازمه واقعا أيضا ؛ لأنّ المانع عن الاتّصاف بالوجوب هو ، فإذا ارتفع ارتفع عدم الوجوب أيضا فيكون واجبا فيجزي حينئذ. وهذا نظير التخصيص ، فإنّ المخصّص إذا خصّص «أكرم العلماء» أو قيّد إطلاق «أكرم عالما» ب «لا تكرم زيدا» فهو يقتضي خروج زيد من أوّل الأمر غايته أنّ الكاشف صدر الآن ، فإذا فرضنا أنّ المخصّص قد خصّص فلا مانع حينئذ من بقاء هذا المخصّص تحت عموم العامّ ؛ لأنّ المانع كان هو المخصّص الأوّل وهذا الفرد كزيد يوم الجمعة قد خصّص من لا تكرم زيدا فزيد يوم الجمعة داخل تحت عموم أكرم العلماء من أوّل الأمر. فلا فرق بين التخصيص وبين حديث الرفع الحاكم على العناوين الأوّلية ، فإنّه مثمر لنتيجة التخصيص.

وتوهّم الفرق بين التخصيص الذي هو عدم الحكم من أوّل الأمر وبين حديث الرفع فإنّ الرفع إنّما يصدق مع تحقّق المقتضي وهو المبغوضيّة ومع تحقّق المبغوضيّة كيف يحكم بتحقّق الترخيص في تطبيق الواجب على ما هو مبغوض؟

مندفع بأنّ المقتضي متحقّق وهو المفسدة لا المبغوضيّة ، وهذه المفسدة قد تدوركت بالمصلحة الأقوى ، وهي مصلحة التسهيل على هذه الامّة المرحومة التسهيل الذي لم يكن على من تقدّمها من الامم. فلا فرق بين التخصيص وما نحن فيه في أنّه لا مبغوضيّة حين الاضطرار أو الإكراه أو النسيان ممّا رفع الحكم فيه بالتحريم واقعا وثبتت فيه الحلّية الواقعيّة ، كما هو صريح قوله عليه‌السلام : ما من محرّم إلّا وقد أحلّه الله في حال الضرورة ، فإنّ مقتضى هذا الحديث أنّ الحلّية المجعولة من سنخ التحريم المرتفع في حال الاضطرار لا بسوء الاختيار.


بقي شيء قد أسلفنا الإشارة إليه فيما سبق وهو : أنّ المضطرّ إلى المكث في المكان المغصوب هل يجب عليه الاقتصار على أقلّ ما تندفع به الضرورة فلا يجوز له أن يصلّي بركوع وسجود أم يجوز له أن يصلّي بركوع وسجود عاديّين؟ فنقول : إنّ هنا امورا ثلاثة :

أحدها : شغل الجسم للحيّز ، وهذا لا يفرق فيه بين جميع هيئات المكلّف من قيام وجلوس وغيرهما ، فإنّ مقدار الحيّز لا يختلف كثرة وقلّة فليس مانع من أن يصلّي من هذه الجهة.

ثانيها : المماسّة للأرض حال السجود ، وهذا وإن زاد حال السجود عنه حال القيام ؛ لأنّه حال القيام لم يمسّ الأرض إلّا بقدميه بخلافه حال السجود فإنّ المساجد السبعة حينئذ تمسّها إلّا أنّ مجرّد المماسّة ليست تصرّفا عرفيّا ، ومن ثمّ لا يقال لمن مسّ جدار الغير : إنّه تصرّف فيه ، فلا مانع من الصلاة العاديّة من هذه الجهة أيضا.

ثالثها : الاعتماد ، وهذا أيضا ليس مانعا ؛ لأنّ الثقل للإنسان لا يزيد حال جلوسه ، بل إنّ ثقله واحد سواء كان حال القيام والاعتماد على القدمين أم كان حال الجلوس والاعتماد على مجموع الرجلين أم حال الجلوس والاعتماد على المساجد السبعة ، فإنّ الثقل واحد ولا يتفاوت بتفاوت الحالات.

وقد أسلفنا ما نقله صاحب الجواهر ١ في هذه المسألة من أنّ تكليف الله عبده المحبوس بأن يقتصر على مقدار ما يضطرّ إليه من الوقوف على أطراف أصابعه أوّلا ثمّ إذ صار عسرا وحرجيّا ينتقل إلى تمام الأصابع وهكذا ... حبس أشد من حبس الظالم له (١). هذا تمام الكلام في الغفلة والنسيان والاضطرار حيث لا يكون بسوء الاختيار ، وقد تلخّص أنّ مقتضى القاعدة في مثلها ممّا رفع فيه الحكم الواقعي هو الصحّة ، بخلاف الجهل فإنّ رفع الحكم فيه ظاهري رافع للإثم ولكن المبغوضيّة باقية.

__________________

(١) انظر الجواهر ٨ : ٣٠٠.


وأمّا الاضطرار بسوء الاختيار :

كمن دخل أرض الغير بغير إذنه فهو مضطرّ إلى الخروج منها فهل يرتفع النهي بهذا الاضطرار أم لا؟ والكلام هنا يقع في مقامين :

أحدهما : حكم الخروج في نفسه.

الثاني : حكم الصلاة في حال الخروج.

فالكلام الآن يقع في حكم الخروج نفسه ؛ لأنّ حكم الصلاة متفرّع عليه.

فنقول : ذهب جماعة (١) إلى أنّ الخروج منهيّ عنه ليس إلّا وأنّ حكمه قبل الاضطرار بعينه باق بعده لم يرفعه الاضطرار ؛ لأنّه بسوء الاختيار ، ولا قبح في التكليف بحرمة جميع ما يمكن أن يفعله المكلّف الآن من الخروج والبقاء والولوج أكثر ممّا هو والج فيه الآن ؛ لأنّ المكلّف قادر أن يترك الجميع بترك الدخول الذي كان اختياريّا له.

وذهب آخرون إلى أنّه مأمور به مع إجراء حكم المعصية عليه حيث يصدر العمل مبغوضا (٢).

وآخرون إلى أنّه مأمور به ليس إلّا ، واختاره الشيخ الأنصاري قدس‌سره وقوّاه الميرزا النائيني قدس‌سره (٣).

وآخرون إلى أنّه مأمور به ومنهيّ عنه بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار ، واختاره الميرزا القمّي تبعا لأبي هاشم الجبائي (٤).

__________________

(١) راجع نهاية الوصول : ١١٧ ، والمدارك ٣ : ٢١٧ ، وضوابط الاصول : ١٥١.

(٢) وهو المحكي عن الفخر الرازي ، راجع القوانين ١ : ١٥٤ ، وجنح إليه صاحب الفصول : ١٣٨.

(٣) مطارح الأنظار ١ : ٧٠٩ ، وأجود التقريرات ٢ : ١٨٦.

(٤) القوانين ١ : ١٥٣ ، وانظر نهاية الوصول : ١١٧.


وذهب صاحب الكفاية قدس‌سره إلى أنّه غير محكوم بحكم أصلا وإن كان مبغوضا للنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار ، وأنّ حكم العقل بالخروج حذرا من الوقوع في أشدّ القبيحين وتخلّصا بأخفّ القبيحين (١). فهذه الخمسة هي جملة الأقوال في المسألة.

أمّا القول الأوّل فمبنيّ على جواز التكليف بالمحال إذا كان المكلّف سببا له ، وهو باطل ، بل الظاهر أنّ التكليف بالمحال قبيح على كلّ حال لا يصدر من حكيم أصلا ؛ ولذا لا يحسن من المكلّف أن يقول : «إذا صعدت السطح فطر إلى السماء ، أو فاجمع بين النقيضين» وحينئذ فلا يمكن أن يكلّف المولى بعمل لا يقدر عليه المكلّف في هذا الحال ؛ لأنّ التكليف بعث وتحريك فلا بدّ أن يكون إلى عمل يمكن البعث نحوه والتحريك إليه.

وأمّا القول الثاني فيرد عليه :

أوّلا : أنّه إن كان الخروج محبوبا فما معنى إجراء حكم المعصية عليه ، وإن كان مبغوضا فما معنى الأمر به.

وثانيا : أنّه تكليف بالمحال.

وثالثا : أنّه لا مقتضي للأمر كما سيأتي.

وأمّا القول الرابع ـ وهو أنّه مأمور به ومنهيّ عنه وهو ما ذهب إليه الميرزا القمّي تبعا لأبي هاشم الجبائي ـ فيرد عليه :

أوّلا : أنّه لا مقتضي للأمر.

وثانيا : أنّه طلب الضدّين واختلاف زمان صدور الأمر مع زمان صدور النهي لا يجدي مع اتّحاد زمان المتعلّق وإنّما يجدي اختلاف زمان المتعلّق وإن اتّحد زمان صدورهما ؛ لأنّ الأحكام التكليفيّة ناشئة من مصالح ومفاسد في المتعلّق

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٢٠٤.


ويستحيل أن يكون فيه مصلحة ومفسدة في آن واحد لتكون منشأ للأمر والنهي ، فإنّهما إن تساويا تساقطا فلا يؤمر ولا ينهى وإن رجّحت إحداهما اندكّت الاخرى واضمحلّت.

نعم ، هذا يمكن في الأحكام الوضعيّة بأن يتّحد الموضوع زمانا ويختلف حكم الشارع عليه بأن يصدر يوم الخميس الحكم بالملكيّة لزيد ثمّ يصدر يوم الجمعة حكم الشارع على ذلك المال في ذلك الظرف الذي حكم يوم الخميس بملكيّته لزيد أنّه ملك عمر مثلا ، والسرّ في إمكانه أنّ مصلحة الحكم الوضعي في نفس الحكم ولا مانع من أن تكون المصلحة اليوم في أن يحكم بملك زيد له يوم الجمعة والمصلحة غدا أن يحكم بملك عمر له يوم الجمعة أيضا لتستوفى المصلحتان معا بالحكمين المحقّقان لهما. وعلى هذا جوّزنا الكشف في بيع الفضولي فإنّه قبل الإجازة محكوم بكونه ملك المالك وبعده يحكم بكونه ملك المشتري من حين العقد.

وثالثا : أنّ توجّه الأمر والنهي إلى واحد بعنوان واحد محال حتّى عند القائلين بجواز الاجتماع ، هذا تمام الكلام في بطلان هذه الأقوال الثلاثة.

بقي الكلام في قول الشيخ الأنصاري وقول الآخوند قدس‌سره وهما القول الثالث والخامس وهما أهمّ الأقوال في المقام.

فنقول : ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره ـ لمّا ارتضاه من قول الشيخ الأنصاري ـ دليلين : أحدهما مثبت لمختاره ، والآخر ناف لما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره.

أمّا المثبت لمختاره : فإنّه قدس‌سره زعم أنّ جامع التصرّف في مال الغير بغير إذنه وإن اضطرّ إليه الداخل باختياره إلّا أنّه ليس بمحرّم بتمام أفراده بل قد ينطبق عنوان على بعض أفراده ، فلا يكون محرّما من جهة انطباق ذلك العنوان عليه كما في المقام ، فإنّ الخروج ينطبق عليه عنوان التخلية لمال الغير وهذه التخلية واجبة ، فلا يكون الخروج من أوّل الأمر محكوما بالحرمة وإن حرم الدخول المسبّب له ، فالدخول لعدم انطباق عنوان التخلية عليه كالمكث والزيادة في الولوج محرّم


قطعا إلّا أنّ عنوان التخلية موجب لئلّا يقع الخروج محرّما أصلا بل هو واجب قطعا ليس إلّا (١).

والجواب : أنّه لا مقتضي لاتّصاف الخروج بالوجوب لا نفسيّا ولا غيريّا.

أمّا عدم الوجوب النفسي فلأنّ الخروج عبارة عن تعاقب الأقدام حتّى منتهى أرض الغير ، ومن المعلوم أنّه ليس تخلية بل هو إشغال كالدخول فليس بواجب وجوبا نفسيّا. وأمّا عدم الوجوب الغيري فلأنّ الخروج مقدّمة للكون خارج الأرض وليس هو واجبا بل الواجب عنوان التخلية والكون خارج الدار ملازم لها ، وهذا هو الذي ذكره الآخوند في هامش الكفاية في الردّ على دليل الشيخ من أنّ ... (٢) فما ذكره الآخوند في متن الكفاية كان تنزّلا وإلّا ففي الحقيقة لا مقدّمية ، هذا هو دليل الميرزا المثبت وجوابه.

وأمّا دليله النافي لكلام صاحب الكفاية قدس‌سره فهو : أنّه ينفي كون المورد من صغريات الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا وإن كان ينافيه خطابا التي استدلّ بها الآخوند على تحقّق العقاب الفعلي من جهة المبغوضيّة بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار. وقد أفاد في بيان كون المورد ليس من مصاديقها أدلّة أربعة ، نذكر الرابع منها أوّلا ؛ لأنّ جوابه جواب الكل فنقول : ذكر في الدليل الرابع أنّ القاعدة إنّما تنطبق حيث لا يمكن الأمر بالفعل كما إذا ترك السفر مع الرفقة إلى الحجّ حتّى ضاق الوقت فهنا حيث لا يمكن الأمر بالخروج تنطبق قاعدة الامتناع بالاختيار ، بخلاف المقام فإنّ الخروج مقدور وكذا البقاء أيضا والدخول أزيد من هذا المقدار كلّه مقدور تكوينا ؛ ولذا ذكرت أنّ الخروج واجب بحكم العقل إرشادا إلى أخفّ المحذورين (٣).

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٢) انظر الكفاية : ٢٠٤ وهامشها الرقم ٤.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ١٩٤.


والجواب : أنّ قاعدة الامتناع بالاختيار المراد بها امتناع امتثال التكليف ، فقد يكون التكليف وجوبيّا فالامتناع بامتناع الفعل ، وقد يكون تحريميّا فالامتناع بامتناع الترك ، ومقامنا من الثاني ، والبقاء والدخول أزيد من هذا المقدار ممنوع منه شرعا ، والممنوع شرعا كالممتنع عقلا فقد امتنع عليه غير الخروج ، فإذا كان مبغوضا بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار فقد امتنع عليه ترك الخروج لكنّه باختياره الدخول وهو لا ينافي الاختيار عقابا وإن نافاه خطابا. نعم في مثال الحجّ الامتناع تكويني وهو هنا تشريعي بالمنع شرعا عن الخروج كالبقاء والدخول أكثر ممّا هو داخل ، وهذا الفرق لا يمنع من جريان القاعدة.

الثاني من الوجوه التي ذكرها الميرزا النائيني قدس‌سره لبيان أنّ المقام ليس من صغريات قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار : أنّ مورد القاعدة هو حيث يكون العمل والتكليف ممتنعين وليس الخروج في المقام ممتنعا ؛ ولذا وجب عقلا باعترافكم ، وإذا وجب عقلا ففيه قابليّة الوجوب الشرعي لاعتبار القدرة في التكليف العقلي كالشرعي (١).

والجواب : أنّ ما كلّف به في المقام هو ترك الخروج لا الخروج نفسه وهو غير قابل للنهي عنه عقلا ولا شرعا بعد النهي عن المكث والدخول أزيد ممّا دخل ، وهذا خلط بين كون الواجب المكلّف به هو الخروج أو تركه ، وحينئذ فترك الخروج لا يمكن التكليف به فهو ممتنع شرعا ولكن باختياره الدخول ، ولا مقتضي للتكليف الوجوبي بالخروج وإن كان ممكنا فإنّ تحريم الضدّ وإيجاب ضدّه لا مانع منه ، فليس الخروج محكوما بحكم أصلا ولكن بما أنّ الامتناع بالاختيار وهو لا ينافي العقاب نقول بأنّه معاقب عليه.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ١٩٦ ، وفوائد الاصول ١ و ٢ : ٤٥٢.


وممّا ذكرنا يظهر الجواب عن الوجهين الباقين اللذين ذكرهما الميرزا وأحدهما يرجع إلى الثاني وملخّصهما : أنّ القاعدة إنّما تجري حيث يفعل المكلّف أمرا لا يمكن معه التكليف بذلك الشيء كأن يترك السير مع الرفقة فيمتنع عليه حينئذ فعل الحجّ ، وهذا عكس المورد الذي نحن فيه ، فإنّ الدخول الذي صدر من المكلّف هو الذي مكّنه من الخروج ، فإنّه لو لا دخوله لم يتمكّن من الخروج فهي عكس موردنا تماما.

ووجه ظهور الجواب ممّا مرّ : أنّ المكلّف به الذي لا يمكن التكليف به حسب ادّعاء الآخوند هو ترك الخروج لا الخروج وهذا الدخول هو الذي أوجب استحالة التكليف به ، فهو من موارد القاعدة لا عكسها وحيث أن لا مقتضي لإيجاب الخروج كما مرّ لم يحكم بحكم فعلا وإن كان مبغوضا ومعاقبا عليه ، لقاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا وإن نافاه خطابا.

فتلخّص : أنّ ما ذهب إليه الآخوند قدس‌سره في هذه المسألة ـ من كون الخروج غير محكوم بحكم أصلا وإن عوقب عليه للنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار (١) ـ هو الصحيح في هذه المسألة.

هذا كلّه حيث لا يكون الخروج من الأرض المغصوبة مقدّمة لواجب كما ذكرنا ذلك ، أمّا لو كان مقدّمة لواجب فهل يكون حينئذ كما لو لم يكن مقدّمة غير محكوم بحكم فعلي أصلا وإن كان مبغوضا منهيّا عنه بالنهي الساقط بحدوث الاضطرار كما ذهب إليه صاحب الكفاية أم يكون واجبا؟ الظاهر ابتناء الكلام على الكلام في وجوب مقدّمة الواجب وعدمه ، فإن بنينا على وجوب مقدّمة الواجب كان الخروج واجبا ، وإلّا فلا ؛ وحيث بنينا على العدم فالخروج كما لو لم يكن مقدّمة في كونه غير محكوم بحكم أصلا وإن كان مبغوضا بالنهي الساقط بحدوث الاضطرار.

وتوضيح ذلك موقوف على بيان أمرين :

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٠٤ ـ ٢٠٥.


أحدهما : أنّا إذا بنينا على الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته عقلا فيكون وجوب المقدّمة من قبيل لوازم الماهيّة لوجوب ذي المقدّمة فوجوبها عقلي ، والوجوب العقلي غير قابل للتخصيص في مورد أصلا. وما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره : من أنّ الوجوب إنّما هو في ظرف عدم الحرمة (١) غير تامّ ؛ إذ بعد فرض كون وجوب المقدّمة بحكم العقل والمفروض فعليّة وجوب ذي المقدّمة كيف يعقل أن لا يحكم بوجوب المقدّمة حينئذ؟ وأحكام العقل غير قابلة للتخصيص ؛ إذ المفروض تحقّق الملازمة بين كلّ مقدّمة وذيها في الوجوب.

الثاني : أنّه قد يقال ذكرتم في ردّ كلام صاحب الفصول القائل بكون الخروج واجبا ومبغوضا بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار (٢) أنّ العبرة بزمان الفعل فإن كان عند صدوره حسنا وذا مصلحة لم يحسن أن ينهى عنه وإن كان قبيحا لم يحسن أن يأمر به ، وهذا الكلام بعينه جار في المقام حرفا بحرف ، فإنّ الخروج المقدّمي إن كان حسنا فلم يجري عليه حكم المعصية ، وإن كان مبغوضا فلم يأمر به المولى.

والجواب : أنّ ما ذكر متين في الواجبات النفسيّة فإنّ المصلحة إن وجدت فيه وكانت أهمّ فلا معنى للنهي وإلّا فلا معنى للأمر ، إلّا أنّ هذا في الواجب الغيري لا يضرّ كما هو محلّ الكلام. والسرّ في ذلك أنّ الواجب النفسي ما كانت المصلحة في ذاته والمحبوبيّة لذاته وهما لا يجتمعان مع المفسدة الذاتيّة والمبغوضيّة النفسيّة فلا بدّ من الكسر والانكسار والحكم بفعليّة الأهمّ ملاكا ، وهذا بخلاف الوجوب والمحبوبيّة الغيريّة فإنّهما يجتمعان مع المبغوضيّة الذاتيّة.

وأحسن شاهد لذلك الوجدان فإنّ المبغوض قد يلجأ المولى إلى إيجابه وجوبا غيريّا كما في المقام ، فإنّ الخروج حيث يكون مقدّمة للواجب بناء على وجوب

__________________

(١) انظر كفاية الأصول : ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

(٢) انظر الفصول : ١٣٨.


المقدّمة يلجأ المولى إلى أن يوجبه غيريّا على المكلّف حيث يكون المكلّف سببا لإلجائه لدخوله فيها بسوء اختياره ، مثلا إذا كان المولى يكره أن يمسّ العبد زوجته فألقاها العبد في البحر والمولى لا يعرف السباحة نعم يعرفها العبد فقط ، ففي هذا المقام العبد بعمله يلجئ المولى إلى أن يأمره بإخراجها المستلزم لمسّها ، فيكون المسّ المبغوض ذاتا مأمورا به عرضا أمرا غيريّا وهو على مبغوضيّته الذاتيّة ومفسدته النفسيّة فهو مبغوض ذاتا مأمور به بالأمر الغيري ، فالأمر من المولى لعبده بإخراجها لا ينافي استحقاق العبد العقاب ؛ لأنّه ألجأ المولى بإلقائها في البحر إلى أمره بإخراجها. ومثله أن ينمّ العبد على مولاه بما يقتضي مصادرة أمواله فليلتجئ المولى إلى أن يأمر عبده بإعطاء الرشوة لتخلية الأموال ، فإنّ إعطاء الرشوة كان مبغوضا للمولى ذاتا ولكنّه صار محبوبا عرضا ولا ينافي استحقاق العبد للعقاب ؛ لأنّه نمّ على مولاه بذلك وأمثلة ذلك كثيرة. هذا كلّه حكم الخروج من حيث نفسه.

وأمّا حكم الصلاة حال الخروج : فالصلاة تارة تكون بركوع وسجود ، واخرى تكون بالإيماء.

والصلاة بالإيماء تارة تكون فرض المصلّي وتكليفه حتّى لو صلّى في خارج المكان المغصوب لخوف أو عدم قدرة عليهما وعلى الطمأنينة ، واخرى لا تكون فرضه.

أمّا الصلاة بالركوع والسجود فصحّتها موقوفة على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي ؛ لأنّ الخروج وإن سلّمنا كونه مأمورا به إمّا لكونه مقدّمة للتخلية أو لكونه مصداقا لها إلّا أنّ الركوع والسجود العاديّين يحتاجان إلى مكث زائد على الخروج ، فإن قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي وإنّ التركيب انضمامي فالصلاة صحيحة ، وإن لم نقل بجواز اجتماع الأمر والنهي بأن قلنا بالامتناع وإنّ التركيب اتّحادي فالصلاة باطلة.


وأمّا الصلاة بالإيماء حيث لا يكون فرضه الإيماء لو صلّى خارج المكان المغصوب فلا ريب في بطلانها مع القدرة على الصلاة خارج المكان المغصوب ؛ لأنّ الصلاة المطلوب تحقّق صرف الوجود منها ، ومع القدرة على إتيان الفرد الكامل الجامع للركوع والسجود والطمأنينة لا يكفي الفاقد لها ، فالفاقد باطل قلنا بجواز الاجتماع أو امتناعه ؛ إذ البطلان ليس من جهته كما مرّ. وأمّا الصلاة إيماء حيث يكون فرضه الإيماء وبلا طمأنينة فالظاهر صحّتها مطلقا قلنا بجواز الاجتماع أو بالامتناع ؛ لعدم كون الصلاة ـ التي هي عبارة عن النيّة وباقي الأقوال ـ غصبا أصلا ، كما تقدّم بيان ذلك مفصّلا. نعم الركوع العادي من جهة حركة الأين والسجود من جهة الاعتماد يكون غصبا. أمّا الخالي منهما كما هو الفرض مع كون تكليفه هو ذلك حتّى لو صلّى في خارج المكان فلا غصب فيه ، فتأمّل. هذا تمام الكلام في حكم الصلاة حال الخروج من الأرض المغصوبة التي دخلها بسوء اختياره.

بقي الكلام في امور :

أحدها : أنّا لو قلنا بالامتناع وأنّ التركيب اتّحادي فهل يتقدّم الأمر أو النهي ؛ لأنّ المورد لا يمكن فيه توجّههما معا نحوه للتعارض؟ وقد ذكر لترجيح النهي وجوه :

أحدها : ما ذكره الميرزا النائيني : من أنّ النهي بما أنّه انحلالي فهو متوجّه إلى كلّ فرد فرد ، وبما أنّ الأمر المقصود فيه صرف الوجود فهو مطلق متوجّه نحو الطبيعة. وقولنا : «إنّ الفرد واجب على البدل» مسامحة في التعبير ، لما تقدّم من عدم كون الفرد واجبا حتّى بعد الإتيان به ، نعم هو مصداق للواجب ، فيكون النهي متقدّما لأقوائيّة دلالته الذي هو ميزان التقديم في المزاحمة (١).

__________________

(١) فوائد الاصول ١ و ٢ : ٤٢٩ ـ ٤٣٠ و ٤٣٣.


والجواب : أنّ الأمر إذا كان مطلقا ففيه الترخيص في تطبيق الواجب على كلّ فرد فرد ، وهذا الحكم شمولي وهو لا يجتمع مع الحكم الشمولي بالتحريم ؛ إذ الترخيص في التطبيق مع التحريم لا يجتمعان ، فالباب باب التعارض لا باب التزاحم. مضافا إلى ما تقدّم من عدم أقوائيّة العموم الشمولي على البدلي إذا كان كلّ منهما بمقدّمات الحكمة ، نعم يتمّ تقديم ما كانت دلالته بالوضع ؛ لكونه بيانا رافعا لإطلاق الثاني الذي من جملة مقدّماته عدم البيان ، فافهم.

نعم ، في خصوص مثال «صلّ ولا تغصب» يتقدّم «لا تغصب» لأنّ له شبه الحكومة على العناوين الأوّليّة ، فيصير مفاد العناوين الأوّليّة تحقّق الحكم لها لو لا الغصب فإنّ النسبة بين «لا تغصب» وبين جميع الواجبات والمستحبّات العموم من وجه بل والمباحات أيضا ، والفهم العرفي يرى أنّ «لا تغصب» لها شبه الحكومة على جميع الواجبات والمستحبّات والمباحات ، فهي واجبة ومستحبّة ومباحة حيث لا غصب.

الثاني من وجوه ترجيح النهي ما قيل : من أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة (١).

وفيه ـ مع أنّه ليس لسان رواية لنتعبّد بها ، ولا هي مساعدة للاعتبار فإنّ المصالح كالمفاسد مختلفة ضعفا وأهمّية فلا يكون هذا معيارا ، مضافا إلى ما نراه من العقلاء من تحمّل الأخطار العظيمة لبعض المصالح كما هو معلوم ـ أنّ هذه القاعدة حيث يكون الفعل ذا مصلحة ومفسدة فيدور الأمر بينهما كما في باب التزاحم ، وفي المقام ، المجعول إمّا المصلحة أو المفسدة ، لأنّه باب التعارض كما مرّ.

الثالث من وجوه الترجيح : الاستقراء ، بالحائض في زماني الاستظهار ، ومن عنده الماء المشتبه ، حيث امرت الاولى بترك الصلاة والثاني بالتيمّم.

__________________

(١) انظر الفصول : ١٢٧ ، والقوانين ١ : ١٥٣.


وفيه أوّلا : أنّ مسألة المتيمّم خارجة عن محلّ الكلام ؛ لعدم تحريم الوضوء بالماء النجس ذاتا ومحلّ كلامنا المحرّم الذاتي. وترك الحائض للصلاة إن قلنا بعدم تحريم الصلاة ذاتا عليها فهي خارجة عن محلّ الكلام أيضا ، وإن قلنا بالتحريم الذاتي عليها ـ كما هو ظاهر بعض الأخبار ـ فهي أيضا أجنبيّة عن محلّ الكلام ، ولأنّ وجوب الصلاة على الطاهر كتحريمها على الحائض مجعول والمصداق مردّد بينهما ومحلّ الكلام هو أنّ أحدهما مجعول فهو أجنبيّ ، ولو سلّم فالاستقراء بفرد واحد لا يتحقّق ، فافهم.

مضافا إلى عدم حجّية الاستقراء على تقدير تحقّقه. والتحريم للصلاة على الحائض إنّما هو لقاعدة الإمكان والاستصحاب المثبتين لكون الدم حيضا ، وحينئذ فلا بدّ من الرجوع إلى الاصول العمليّة ، وهو البراءة بعد فرض تساقط أدلّة الوجوب والتحريم. أمّا صحّة العمل فلا يمكن إثباته.

ودعوى : أنّ انتفاء المانع وهو النهي كاف في صحّة العمل ، مدفوعة بأنّ عدم المانع غير كاف في صحّة العمل بل لا بدّ من وجود المقتضي وشموله له ثمّ ارتفاع المانع ، نعم في مثل الصلاة لكونها لا تسقط بحال فحينئذ المقتضي موجود ، فإذا جرت البراءة فيما إذا تردّد الأمر بين الأقلّ والأكثر ينفي مانعيّة الغصب حينئذ بها ، فتكون الصلاة حينئذ صحيحة كما هو واضح.

وبالجملة ، فهذه الوجوه المذكورة غير صالحة لترجيح النهي ، نعم ما ذكرناه نحن : من كون لا تغصب ناظرة إلى العناوين الأوّليّة ، صالح ومتين.

الأمر الثاني : أنّ الآخوند قدس‌سره (١) ذكر في مسألة المتيمّم عند اشتباه الإناء أنّ الأمر بالإهراق إنّما هو تعبّد محض أو إرشاد إلى عدم الابتلاء بنجاسة البدن المتحقّقة بمجرّد ملاقاة الإناء الثاني قبل انفصال الغسالة فإنّه حينئذ يقطع بنجاسة بدنه إمّا بالإناء

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢١٦.


الأوّل أو الثاني ويشكّ في ارتفاع تلك النجاسة ، فيكون استصحاب تلك النجاسة في ذلك الزمان المعيّن محكّما بخلاف ما لو كان الماء الثاني كثيرا فإنّه بمجرّد المماسّة لا يعلم التنجيس ؛ لاحتمال كون الأوّل هو النجس فقد طهر البدن حينئذ فلا علم له بالنجاسة ، فيجري استصحاب الطهارة اليقينيّة واستصحاب النجاسة اليقينيّة بناء على عدم اعتبار اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين فيتعارضان ويتساقطان فيرجع إلى أصالة الطهارة ، أو لا يجري الاستصحابان الكلّيان من حيث الزمان ، لعدم تعيّنه بناء على اعتبار اتّصال زمن الشكّ زمن اليقين كما ذهب إليه الآخوند قدس‌سره (١) فيرجع إلى أصالة الطهارة في البدن.

أقول : الظاهر أنّ الأمر بالإهراق بالنسبة إلى الإناءين تعبّد محض لإمكان تحصيل صلاة بطهارة حقيقيّة معلومة ، كما لو توضّأ بأحد الإناءين وصلّى ثمّ غسل أعضائه بالإناء الثاني وتوضّأ وصلّى فهو يعلم حينئذ بوقوع صلاة صحيحة بطهارة صحيحة قطعا ، غاية الأمر أنّها غير معيّنة عنده وهذا لا يضرّ ؛ لأنّ الإخلال بالنيّة الجزميّة غير مضرّ قطعا كما في الصلاة في الثوبين المعلوم نجاسة أحدهما أو إلى جهتين يعلم بكون القبلة إحداهما أو بمسجدين يعلم نجاسة أحدهما. وحينئذ فالأمر بالإهراق وتعيين التيمّم عليه تعبّد محض. كما أنّ ما ذكره الآخوند قدس‌سره : من جريان استصحاب النجاسة حيث يكون الإناء الثاني قليلا دون ما إذا كان كثيرا أيضا (٢) مبنيّ على مبناه من اعتبار اتّصال زمن الشكّ بزمن اليقين وهو متحقّق عند مماسّة الإناء القليل الثاني. وإلّا فبناء على ما اخترناه : من عدم الاعتبار وجريان الاستصحاب الكلّي من حيث الزمان ، ففيه أيضا يتعارض الاستصحابان ، فإنّ الطهارة الكلّية المتحقّقة لا مانع من جريان استصحابها ، وحينئذ فيتعارض

__________________

(١) انظر كفاية الأصول : ٢١٦ و ٤٨٦.

(٢) انظر المصدر المتقدّم.


الاستصحابان غير أنّ أحدهما شخصي من حيث الزمان ـ وهو النجاسة عند المماسّة للثاني ـ والثاني كلّي من حيث الزمان وعدم تشخّصه. كما أنّه بناء على هذا يجري كلا الاستصحابين حيث يكون الماء الثاني كثيرا أيضا ، ويتعارضان ويتساقطان.

وعلى كلّ حال ، فلا يرجع إلى أصالة الطهارة سواء كان الماء قليلا أم كثيرا ، للعلم الإجمالي بنجاسة بدنه عند إراقة الماء الثاني على وجهه ، إمّا لنجاسة رجله من مسح الوضوء الأوّل ، وإمّا لكون وجهه تنجّس الآن. نعم لو ارتمس مرّة واحدة حقيقيّة لا عرفيّة لا يكون له علم إجمالي حينئذ ، فافهم.

الأمر الثالث : ألحق الآخوند قدس‌سره في آخر أمر من لواحق اجتماع الأمر والنهي تعدّد الإضافات بتعدّد العنوانات في النزاع ، وذكر أنّ مثل «أكرم العلماء ، ولا تكرم الفسّاق» داخل في مسألة اجتماع الأمر والنهي من جهة أنّ الإكرام في المقام وإن كان واحدا إلّا أنّه بالإضافة إلى العالم غيره بالإضافة إلى الفاسق ، ثمّ استشكل في معاملة الفقهاء معه معاملة تعارض العموم من وجه ، وأجاب بأنّه لعلّه من جهة بنائهم على الامتناع أو اطّلاعهم على فقدان الملاك في أحدهما ، فيخرجان عن باب التزاحم الذي هو باب الاجتماع بنظره ويدخلان في باب التعارض (١).

ولا يخفى أنّ كلامه قدس‌سره مخدوش من جهات :

الاولى : توجيهه لعمل المشهور في مثل المثال معاملة التعارض بعدم الملاك ، فإنّهم لو أنّهم في مسألة أو مسألتين عملوا ذلك أمكن أن يكون ذلك لاطّلاعهم على عدم الملاك ، وأمّا إنّهم اطّلعوا على عدم الملاك في تمام الفقه حيث يتحقّق مثل هذا المثال فأمر مقطوع بعدمه.

الثانية : أنّ المثال ممّا لا يمكن أن يكون من أمثلة اجتماع الأمر والنهي لخصوصيّة فيه فإنّ «أكرم العلماء» ممّا ينحلّ إلى وجوبات متعدّدة بتعدّد الأفراد لمكان عمومه

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢١٦ ـ ٢١٧.


الأفرادي ، فهو بمثابة أن يقول : أكرم العلماء حتّى الفاسق منهم. وكذلك «لا تكرّم الفساق» بمثابة أن يقال : لا تكرم كلّ فاسق حتّى العالم منهم. وحينئذ فمثل هذا التكليف لا يمكن امتثاله ، فهو ممّا لا مندوحة فيه ؛ ولهذا إنّ مسألة الاجتماع لا يفرضها العلماء إلّا حيث يكون الأمر متّجها نحو المطلق لا العموم لتتحقّق المندوحة حينئذ.

الثالثة : أنّه لا يمكن إلحاق تعدّد الإضافات بتعدّد العنوانات في النزاع ؛ لأنّ الكلام في أصل المسألة دائر مدار وحدة الوجود وتعدده كما مرّ ، وهذا في العنوانات أمر قابل للنزاع ، ولكنّه في تعدّد الإضافات غير ممكن ولو فرض توجّه الأمر نحو المطلق لا العموم ؛ وذلك لأنّ الإكرام واحد قطعا وزيد الذي هو العالم الفاسق أيضا واحد قطعا ، نعم العلم والفسق متعدّدان وهما غير المأمور به والمنهيّ عنه بل هما من قبيل العلّة للوجوب والتحريم ، وحينئذ فمع وحدة المتعلّق قطعا لا يمكن أن يسري النزاع فيها أصلا. هذا تمام الكلام في باب اجتماع الأمر والنهي والحمد لله كما هو أهله.

في أنّ النهي يقتضي الفساد أم لا؟

هل النهي عن العبادة أو المعاملة يقتضي فساد تلك العبادة أو المعاملة المنهيّ عنها أم لا يقتضي ذلك؟ وقبل الخوض في ذلك نتكلّم في جهات :

الاولى : أنّ الفرق بين هذه المسألة والمسألة المتقدّمة واضح ، فإنّ الكلام في المتقدّمة في التوجّه وعدمه ، وهنا الكلام بعد فرض التوجّه فهل يقتضي الفساد أم لا؟ نعم لو قلنا بالامتناع وتقديم النهي كانت من صغريات هذه المسألة ، وقد مرّ تفصيل ذلك.

الثانية : أنّ هذه المسألة عقليّة صرفة ؛ لأنّ الكلام في تحقّق الملازمة بين الحرمة والفساد وعدمها ، وذكرها هنا بمناسبة أنّ الكلام في النواهي وأنّ الحرمة غالبا


مدلولة للنهي وإلّا فهي ـ يعني المسألة ـ أجنبيّة عن مباحث الألفاظ ؛ إذ لا دلالة للنهي المولوي المبحوث عنه في المقام على الفساد من حيث نفسه. نعم من حيث لازمه وهو الحرمة.

نعم ، إذا كان النهي إرشاديّا إلى مانعيّة المنهيّ عنه كان دالّا على فساد العمل حيث يقترن بذلك المنهيّ عنه كدلالة الأمر الإرشادي إلى الجزئيّة على فساد المركّب الخالي من ذلك الجزء ، وهذه الدلالة في المقامين مستندة إلى مدلول لفظ النهي والأمر لفقد المركّب بفقد جزئه والمشروط بفقد شرطه وهو عدم المانع ، ولكن هذا النحو من النهي الإرشادي ليست دلالته على الفساد محلّا للمناقشة أصلا ، بل هي مسلّمة عند الخاصّ والعامّ.

الجهة الثالثة : هل النهي المبحوث عنه في المقام خاصّ بالنفسي أم يعمّ الغيري؟ وعلى الأوّل فهل يختصّ بالتحريمي أم يعمّ التنزيهي؟ صرّح صاحب الكفاية قدس‌سره بعموم الملاك للغيري والنفسي بقسميه (١).

والظاهر : الاختصاص بالنفسي التحريمي وقسم من التنزيهي دون الغيري والقسم الآخر من التنزيهي.

أمّا خروج الغيري فواضح ؛ لأنّه لا ينشأ عن مفسدة في المنهيّ عنه إذ لا يوجب قربا ولا بعدا فلا يفيد تحريما ليقع الكلام في الملازمة بينها وبين الفساد كما هو واضح ، مضافا إلى أنّا ذكرنا في بحث الضدّ (٢) تصحيح الضدّ المنهيّ عنه عرضا من جهة كون تركه مقدّمة لفعل الضدّ الأهمّ بالترتّب ، وصحّحها في الكفاية (٣) بالملاك كما تقدّم ، وتقدّم الإشكال في الملاك.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢١٨.

(٢) راجع الصفحة : ٣٩٧ ـ ٣٩٩.

(٣) انظر الكفاية : ١٦٦.


وأمّا التنزيهي فهو على قسمين :

أحدهما : أن يكون نهيا عن تطبيق الواجب على هذا الفرد بحيث يكون الأمر متّجها نحو طبيعة بنحو صرف الوجود ، ومقتضاه الترخيص في التطبيق على جميع الأفراد ، والنهي التنزيهي لا يمنع من ذلك ، إذ فيه أيضا ترخيص في الفعل المنهيّ عنه بالنهي التنزيهي. فهذا الفرد من النهي التنزيهي خارج عن محلّ الكلام ، إذ لا منافاة فيه للأمر إذ لا جمع للضدّين ، إذ الفرض توجّه الأمر نحو الطبيعة لا الأفراد ، وتوجّه النهي التنزيهي نحو فرد لا ينافي الترخيص في التطبيق المستفاد بالملازمة من الأمر بالطبيعة المطلقة.

الثاني : أن يكون الأمر والإيجاب متوجّها نحو كلّ فرد بنحو العموم الاستغراقي ، كما إذا قال : أكرم كلّ عالم. والنهي التنزيهي في المقام عن فرد من أفراد العالم يؤدّي إلى اجتماع الوجوب والكراهة في فرد واحد بخصوصه ، وهو معنى اجتماع الضدّين ، إذ الأحكام الخمسة متضادّة بأسرها. والظاهر أنّ مراد الآخوند قدس‌سره بعموم ملاك المنع هذا القسم من التنزيهي لا الأوّل ، إذ هو بمثابة اجتماعهما في فرد بخصوصه وبطلانه غنيّ عن البيان.

الجهة الرابعة : في بيان مركز النزاع ، وقد ذكر الآخوند قدس‌سره أنّ المراد بالعبادة إمّا العبادة الذاتيّة ـ كالخضوع والسجود لله تعالى ـ أو ما لو أمر به لكان أمره عباديّا لا يسقط إلّا بقصد القربة كصلاة الحائض وصوم يومي العيدين لا العبادة التي أمر بها بالفعل ؛ لاستحالة اجتماع الأمر والنهي عن عبادة بعنوان واحد (١).

والظاهر : أنّ المراد من العبادة ما كان التقرّب بها إلى الله هو الأثر المقصود منها وإن كان بعد توجّه النهي يكون التقرّب بها إلى الله مبغوضا في تلك الحال مثلا أو من ذلك الشخص أو في هذا اليوم ، فإنّ الظاهر أنّ صوم العيدين إنّما حرم بقصد التقرّب

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢١٨ ـ ٢١٩.


به إلى الله ، وإلّا فصرف الإمساك عن المفطرات لا حرمة فيه. وكذا صلاة الحائض بناء على حرمتها الذاتيّة فإنّ التحريم بالتقرّب بها من الله تعالى ، وإلّا فلو أنّ حائضا أتت بصورة الصلاة لتعليم بنتها من دون إسناد أو تقرّب إلى الله تعالى فلا أظنّ أنّ أحدا يلتزم بتحريمها ، وهو واضح.

وأمّا المعاملات فلا ريب في دخول العقود في النزاع في دلالة النهي على الفساد وعدمها ؛ لأنّه المتيقّن منها ، كما أنّه لا مخصّص لخصوص المعاملات بالمعنى الأخصّ ممّا يحتاج إلى إيجاب وقبول ، بل الظاهر التعميم إلى المعاملات بالمعنى الأعمّ كالإيقاعات من العتق والطلاق وغيرها ممّا يحتاج إلى إيقاع يحقّقه. فيقال : إنّ الطلاق المنهيّ عنه هل يدلّ النهي على فساده بمعنى عدم ترتّب الأثر المقصود منه ـ وهو الفرقة مثلا ـ أم لا؟

وهل يختصّ محلّ الكلام بهذا أم يتسرّى إلى بقيّة الامور القصديّة ممّا لا يحتاج إلى إيقاع أيضا كالصيد والحيازة وغيرها؟ فيقال : هل النهي فيها يدلّ على عدم ترتّب الأثر المقصود منها من الحقّ أو الملك على اختلاف المقامات أم لا فيكون المراد من المعاملات تمام الامور القصديّة؟ زعم الميرزا النائيني قدس‌سره أنّه لم يتوهّم أحد التعميم لهذا (١) ولا أرى بأسا في العموم ، فالظاهر جريان النزاع فيه. نعم لا يجري فيما لا يكون قصديّا كغسل الثوب مثلا ، فمحلّ النزاع العبادات التي يقصد بها التقرّب الفعلي لو لا النهي أو الامور القصديّة من المعاملات.

الجهة الخامسة : في المراد من الصحّة والفساد ويقع الكلام في مقامين :

أحدهما : في بيان معنى الصحّة والفساد.

الثاني : في أنّهما وصفان حقيقيّان أو انتزاعيّان أو غير ذلك.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٠٣.


أمّا الكلام في المقام الأوّل فقد تطلق الصحّة في قبال العيب فيقال : هذا الكأس صحيح وذاك معيب ، ومعلوم عدم إرادة هذا المعنى منه في المقام ؛ إذ لم يدّع أحد دلالة النهي على العيب ، بل المراد الصحّة في مقابل الفساد اللذان هما منتزعان من ترتّب الأثر المقصود من ذلك العمل وعدم ترتّبه.

توضيح ذلك : أنّ العمل قد يكون بسيطا غير مركّب ولا مشروط ، وهذا لا يتّصف بالصحّة والفساد ، بل بالوجود والعدم. وقد يكون مركّبا مقيّدا لكنّ الأثر لا يترتّب على المجموع بل كلّ جزء له أثر نظير الدار فإنّها بفقد السرداب لا تكون فاسدة ولا بوجوده صحيحة ؛ لأنّ الأثر المطلوب منه ليس مستفادا من المجموع بل من كلّ جزء بالإضافة إلى أثره ، وهذا لا يقال له : فاسد عند فقده جزءا أو شرطا. وكذا الكلام في الكتاب حيث ينقص ورقة مثلا إذا لا يفوت إلّا الأثر المترتّب على خصوص هذه الورقة المفقودة دون الأثر المترتّب على بقيّة الأوراق.

ومن هنا ظهر : أنّ الصحّة والفساد ليستا بمعنى التماميّة والنقصان وإلّا لصدقت الصحّة والفساد بالإضافة إلى الكتاب. كما أنّه قد يكون الأثر مترتّبا على المجموع لكن ليس أثر مقصودا ومحبوبا للمولى كما في موضوعات التكليف كما في الرجل المستطيع فإنّه وإن كان الأثر المقصود منه في المقام هو ترتّب وجوب الحجّ عليه إلّا أنّ وجوب الحجّ عليه ليس أثرا مقصودا محبوبا للشارع ؛ لأنّ الإيجاب ليس محبوبا وإن كان يتحقّق بتحقّق موضوعه. ومن هنا لا يقال للرجل المستطيع : إنّه صحيح ، ولا لفاقد الاستطاعة : إنّه فاسد ، وإلّا لفسدت الطلبة بأسرها ، بل المراد بالصحّة والفساد ترتّب الأثر المقصود من المركّب المحبوب عند تحقّقه.

فظهر ممّا ذكرنا أمران :

أحدهما : أنّ الصحّة والفساد ليس بمعنى التماميّة والنقصان ، كما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (١).

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٢٠.


الثاني : أنّها بمعنى ترتّب الأثر المقصود المحبوب من ذلك المركّب فإنّ المصلّي إنّما يقصد فراغ ذمّته من التكليف وهو أثر مرغوب مترتّب على المركّب ، ومن يبيع يقصد ترتّب الأثر وهو النقل والانتقال وهو محبوب ومقصود لذلك الشخص من ذلك المركّب ، فافهم. فظهر : أنّ القابل للاتّصاف بالصحّة والفساد هو العبادات والمعاملات بالمعنى الأعمّ بنحو يشمل الامور القصديّة كما مرّ.

وأمّا الكلام في المقام الثاني : وهو بيان أنّ الصحّة والفساد أمران انتزاعيّان أم مجعولان ، ربّما يقال بأنّهما انتزاعيّان من المطابقة للمأتيّ به مع المأمور به وعدمها والمطابقة وعدمها أمر واقعي فهما منتزعان من الأمر الواقعي فهما واقعيّان. وربّما يقال بالتفصيل ـ كما في الكفاية ـ بين العبادات فهما انتزاعيّان ؛ لأنّ المطابقة وعدمها في العبادات واقعي ، وبين المعاملات فهما جعليّان ؛ لأنّ ترتّب الأثر فيها مجعول من قبل الشارع (١) والظاهر : أنّ ترتّب الأثر فيها إنّما هو أيضا من جهة انطباق ذلك الكلّي الذي جعله الشارع محقّقا للأثر على المعاملة المأتيّ بها ، فهما من هذه الجهة من واد واحد.

والظاهر : التفصيل بين أن يكون المأتيّ به بحسب الواقع منطبقا على المأمور به كما إذا أتى بالمركّب بتمام أجزاءه وشرائطه خاليا عن موانعه واقعا فالصحّة أمر انتزاعي من ترتّب الأثر المتحقّق بالانطباق الواقعي ، وبين أن يكون انطباق المأتيّ به على المأمور به جعليّا كما إذا حكم الشارع بتحقق الانطباق بمقتضى قاعدة التجاوز أو الفراغ فالصحّة أمر مجعول من قبل الشارع بجعله المورد من موارد الانطباق الواقعي تعبّدا. وإلى هذا الحدّ من التفصيل نشترك مع الميرزا النائيني قدس‌سره في التفصيل (٢) ونفترق في أنّ الصحّة المجعولة إن ظهر بعد ذلك الخطأ في الانطباق وإنّه لم يكن آتيا بما

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٢٢.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢٠٩.


دلّت قاعدة التجاوز على إتيانه فإن حكم الشارع بصحّته أيضا كما إذا شكّ في السورة وهو في القنوت فأجرى قاعدة التجاوز ثمّ بعد الركوع تذكّر أنّه لم يكن آتيا بالسورة ، فحينئذ ترتفع الصحّة الظاهريّة ؛ لأنّها ما دام الشكّ باقيا ، أمّا بعد ارتفاع الشكّ فلا وتكون الصحة حينئذ واقعيّة ؛ إذ لا يمكن صحّة العمل مع بقاء هذا الجزء على جزئيّته ، فلا بدّ أن ترتفع جزئيّته حينئذ بحكم الشارع بالإضافة إلى هذا الشخص ، ولا بدع في ذلك إذ أمر أجزاء المركّب الشرعي بيد الشارع فيجوز أن يجعل أجزاءه حال الذكر غير أجزائه حال الغفلة والنسيان. وبالجملة : الانطباق حينئذ للمأتيّ به على المأمور به هذا الشخص يكون واقعيّا.

فتلخّص : أنّ الصحّة والفساد وصفان عارضان ينتزعان من مطابقة المأتيّ به للمأمور به واقعا ، وجعليّان حيث ينتزعان من انطباق تعبّدي بجعل الشارع المقدّس ما لم يرتفع الشكّ.

الجهة السادسة في تأسيس الأصل : أمّا في الجهة الاصوليّة فلا أصل ؛ إذ الملازمة على تقديرها أزليّة بين الحرمة والفساد ، وعلى تقدير عدمها فعدمها أزلي أيضا فلا تكون مجرى للأصل. وأمّا في المسألة الفرعيّة فيفرق بين المعاملات والعبادات.

أمّا المعاملات فالأصل فيها الصحّة ؛ لأنّها وإن كان الأصل الأوّلي فيها عدم ترتّب الأثر إلّا أنّ العمومات والإطلاقات مثل : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) ومثل : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(٢) و (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ)(٣) ونحوها أصّلت فيها أصلا ثانويا وهو الصحّة ، فحيث يشكّ في المعاملة المنهيّ عنها أنّها فاسدة أم لا يتمسّك فيها بالصحّة بموجب الأصل الثانوي للشكّ في تخصيص هذا العموم وتقييد

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

(٢) المائدة : ١.

(٣) النساء : ٢٩.


ذلك الإطلاق فيتمسّك بالعموم فيه لعدم إحراز الملازمة بين الحرمة المحقّقة والفساد. وإن شئت قلت : إنّ العموم شامل والشكّ في التخصيص.

وأمّا العبادات فحيث إنّها توقيفيّة فالأصل فيها الفساد لحرمة التشريع ، فالعبادة التي تكون منهيّا عنها تكون فاسدة وإن كان هناك عموم يقتضي تشريعها ؛ لأنّ العموم يقتضي شمول تمام الأفراد وهو مع تحريم البعض لا يمكن ؛ إذ تشريع كلّ فرد مع المنع عن بعض الأفراد لا يجتمعان فلا بدّ من كون النهي مخصّصا لهذا الفرد من العموم ، وحينئذ فلا تشريع ؛ إذ تخصيص أدلّة التشريع توجب عدم تشريع هذا الفرد ، فيكون هذا الفرد خارجا عن تحت الأمر والعمل الغير المأمور به فاسد.

بقي الكلام في أنّه يمكن أن يؤتى به بالملاك أم لا؟ الظاهر العدم لعدم إحراز الملاك ، فإنّ الأمر محرز للملاك فحيث لا أمر كيف يحرز الملاك. وكونه من قبيل الأفراد الواجدة للملاك لا يقتضي وجدانه ؛ لأنّا نرى الأفراد مختلفة فبعضها ذات ملاك ملزم كصوم شهر رمضان وبعضها ذا ملاك غير ملزم كصوم رجب وشعبان وبعضها فاقدة للملاك أو أنّ ملاكها مزاحم بمفسدة أقوى حتّى نهى عنه الشارع فلا ملاك يمكن أن يصحّح العمل. وهذا المقدار من الكلام هو المناسب للمقام ، وما زاد على هذا خروج عن محلّ الكلام.

الجهة السابعة : في أنّ النهي تارة يتوجّه إلى ذات العبادة باعتبار تخصّصها بخصوصيّة من زمان كصوم يوم العيد ، أو مكان كالصلاة في المغصوب ، أو شخص كصلاة الحائض ، ولا ريب في أنّ هذا داخل في محلّ النزاع.

واخرى يكون نهيا عن جزء العبادة ، فإن كان من قبيل الرياء فهو مفسد قطعا لقوله : إذا دخل الرياء عملا أفسده (١) وإن لم يكن من قبيل الرياء : فإن كان

__________________

(١) لم نقف عليه في المجامع الروائيّة بل هو مضمون الروايات الواردة في مبطليّة الرياء للعمل ، انظر الوسائل ١ : ٤٣ ـ ٥٤ ، الباب ٨ و ١١ و ١٢ من أبواب مقدّمة العبادات ، ومستدرك الوسائل ١ : ٩٨ ـ ١١٤ ، الباب ٨ و ١١ و ١٢ من أبواب مقدّمة العبادات.


استبداله ممكنا بغير محذور فلا ريب في أنّ النهي يفسده بخصوصه دون العمل ، لإمكان استبداله. وإن لم يمكن استبداله كما في أجزاء الصوم من النهار فإنّ فساد الصوم في جزء من النهار مفسد للصوم كلّه ، فهذا ـ وهو الجزء المنهيّ عنه ـ لو فعله فهو داخل في محلّ الكلام في دلالته على فساد العمل كلّه أم لا.

وأمّا ما يمكن استبداله فالنهي إنّما يفسده له ، نعم قد يفسد العمل كلّه من جهة اخرى خاصّة كما في الصلاة لقوله عليه‌السلام : من زاد في صلاته فليستقبلها استقبالا (١) لكنّه لدليل خاصّ فهو من جهة الدليل الخاصّ لا من جهة قاعدة دلالة النهي على الفساد ، فافهم.

وللميرزا النائيني قدس‌سره وجوه ثلاثة تقتضي بطلان العمل بالزيادة : أحدها في مطلق الأعمال ، والآخرين في خصوص الصلاة.

أمّا الأوّل فتقريره : أنّ كلّ واجب بالإضافة إلى كلّ شيء يقارنه إمّا أن يكون وجوبه بالإضافة إلى ذلك المقارن مشروطا بتحقيقه أو بعدمه أو مطلقا ، فالعمل بالإضافة إلى الجزء المحرّم مشروط بعدمه لا محالة ، فيكون إتيانه في ضمنه موجبا لفقد شرط العمل ، والمشروط عدم عند عدم شرطه (٢).

ولا يخفى : أنّ الواجب مشروط بشرط لا بالإضافة إلى كون هذا جزءا له ، فإن أراد من كونه ب «شرط لا» بالإضافة إليه هذا المعنى فهو مسلّم لكن لازمه عدم الاكتفاء به ، والمفروض أنّه لا يكتفي به في المقام أيضا باستبداله. وإن أراد كون العمل ب «شرط لا» بالإضافة إلى مقارنة العمل له فهو غير مسلّم ، بل العمل بالإضافة إليه غير مشروط بشيء بل مطلق ، فإنّ أمر الصوم مطلق بالإضافة إلى

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٣٣٢ ، الباب ١٩ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث الأوّل ، مع اختلاف في العبارة.

(٢) انظر فوائد الاصول ١ و ٢ : ٤٦٥ ـ ٤٦٦.


الكذب المقارن وعدمه ، وكذا الصلاة بالإضافة إلى النظر إلى الأجنبيّة ، ويدلّ على كونه مطلقا بالإضافة إلى مقارنته صحّة الإطلاق تصريحا كما إذا قال : صم كذبت في النهار أم لم تكذب.

وأمّا الوجه الثاني : فهو أنّ الإتيان بصورة العمل الذي هو من سنخ أعمال الصلاة مبطل لها حيث يكون منهيّا عنه وإن لم يكتف به ؛ لصدق الزيادة عرفا ، ويشهد له ما ورد من أنّ السجود للعزيمة زيادة في المكتوبة (١).

وفيه : أنّ الزيادة في العمل موقوفة على أن يؤتى بها بقصد جزئيّة ذلك العمل وحيث يخلو عن قصد الجزئيّة به لا يكون زيادة ، نعم في خصوص السجود قد وردت رواية وأثبتت كون السجود زيادة وإن لم يقصد به الجزئيّة (٢) وألحق بها الركوع بعموم التعليل ويبقى غيره باقيا على حكم القاعدة من عدم صدق الزيادة بمجرّد الفعل من دون قصد الجزئيّة.

وأمّا الوجه الثالث ففي خصوص الأذكار وتقريبه : أنّ مقتضى المنع عن الكلام في الصلاة حرمة الكلام وإبطاله عمدا ، خرج منه الذكر والقرآن والدعاء الحلال ، فيبقى الباقي مقتضيا للإبطال كما لو دعا على مؤمن (٣).

وفيه : أنّ الكلام المنهيّ عنه كلام الآدميّين بقرينة أخبار كون السلام من سنخ كلام الآدميّين (٤) أمّا الدعاء بالحرام فليس من كلام الآدميّين فلا يكون مبطلا ؛ لأصالة عدم إبطاله. هذا تمام الكلام في العبادة وجزئها.

وأمّا الوصف فهو على قسمين : ملازم ومفارق.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٧٧٩ ، الباب ٤٠ من أبواب القراءة ، الحديث الأوّل.

(٢) المصدر المتقدّم.

(٣) انظر الوسائل ٤ : ١١٦٤ ، الباب ٥٣ من أبواب الدعاء ، الحديث ٢.

(٤) انظر مستدرك الوسائل ٨ : ٣٥٨ ، الباب ٣٢ من أبواب أحكام الشعر ، الحديث ١٠.


أمّا الملازم كالجهر والإخفات بالنسبة إلى القراءة فإنّ الجهر في القراءة ملازم للقراءة كالإخفات في القراءة بالإضافة إلى القراءة أيضا وإن كان الجهر قد ينفكّ عن القراءة كالإخفات كما في الكلام جهرا أو إخفاتا فالملازمة ، من أحد الجانبين. والوصف الملازم على قسمين :

أحدهما : أن يكون ملازما لجزء العبادة كما في الجهر في قراءة الصلاة ، وحكمه حكم النهي عن جزء الصلاة.

الثاني : أن يكون ملازما لنفس العبادة كما في الجهر في قراءة القرآن ، وحكمه حكم النهي عن ذات العبادة.

وأمّا الوصف المفارق كما في النظر إلى الأجنبيّة فإنّ النظر إلى الأجنبيّة في الصلاة من أوصاف الصلاة المقارن لها ؛ إذ قد ينفكّ كلّ منهما عن الآخر ، فهما أمران متقارنان ولا يكون النهي عن الوصف نهيا عن الموصوف ، فلا يكون النهي دالّا على الفساد إلّا أن يكون إرشاديّا إلى المانعيّة كما مرّ ، فيدلّ على الفساد حينئذ بلا كلام وخلاف. هكذا قيل في الأوصاف.

والإنصاف أن يقال : إنّ الوصف قد يكون منوّعا أو مصنّفا للموصوف بحيث يكون متّحدا معه عرفا ويكون محصّصا له ، ولا بدّ فيه من القول بفساد العمل المنهيّ عن وصفه المحصّص له منوّعا أو مصنّفا ، فلو أجهرت المرأة في القراءة أو في الصلاة بحيث يسمع الأجنبيّ صوتها فسد عملها ؛ لأنّ النهي عن الجهر في القراءة عرفا نهي عن القراءة الجهريّة. وإن لم يكن محصّصا له لا منوّعا ولا مصنّفا فمعناه أنّه لا اتّحاد له معه ، فلا يكون النهي عن ذلك الوصف نهيا عن موصوفه لعدم الاتّحاد عرفا حينئذ ، فهذا هو المعيار لا ما تقدّم من الملازمة ، فافهم.

وأمّا الشرط المنهيّ عنه فهو على قسمين : أحدهما : أن يكون الشرط تعبّديّا واخرى يكون توصّليا. فإن كان الشرط تعبّديّا كما في الطهارة بالإضافة إلى الصلاة فالنهي عنها يوجب فسادها فيفسد المشروط لفساد شرطه ، من غير


فرق بين القول بكون ذوات الغسلات والمسحات شرطا كما هو الظاهر وبين القول بكون الشرط هو الأثر المتولّد منها كما لعلّه المشهور ؛ لأنّ الأثر إنّما يترتّب على العمل الصحيح دون الفاسد قطعا. وما ذكره الميرزا النائيني : من كون الشرط دائما توصّلي وأنّه الأثر المتولّد (١) لا يخفى ما فيه ، فإنّ الأثر إنّما يتولّد من العمل الصحيح كما مرّ.

وأمّا الشرط التوصّلي فهو على قسمين :

أحدهما : ما يكون الشرط هو الأثر المتولّد منه كما في الطهارة الخبثيّة فإنّ الغسل السابق للثوب والبدن ليس شرطا وإنّما الشرط هو الطهارة المترتّبة عليه حال الصلاة ، والنهي عن هذا القسم ليس داخلا في محلّ النزاع في كون النهي مفسدا للصلاة أم لا ، فلو غصب ماء وغسل به ثوبه وبدنه وصلّى فيهما بعد الجفاف فلا تكون صلاته فاسدة أصلا.

ثانيهما : أن يكون الشرط نفس العمل كما في الستر في الصلاة ، فلو ستر في ثوب منهيّ عنه فهذا القسم داخل في محلّ النزاع قطعا ؛ لأنّ الفرد المنهيّ عنه خارج بمقتضى تقييد الأمر بما عدا المحرّم قطعا ، فهذا الفرد من الستر ليس فردا مأمورا به ، فهو في حكم العدم ، فتكون الصلاة فاسدة حينئذ.

وما في الجواهر : من أنّ صفة المستوريّة هي الشرط وهي حاصلة وإن كانت مقدّمتها ـ وهي ما به تتحقّق ـ محرّمة فهي نظير غسل الثوب (٢) لا يخفى ما فيه ، فإنّ الشرط في الصلاة ليس صفة المستوريّة كما في غيرها بل الستر بالثوب أو غيره ممّا يلبس ويعدّ ثوبا ، فإذا قيّد الثوب بغير الحرير صار مفاد الشرط الستر بالثوب الغير الحرير ، فإذا كان حريرا انتفى الشرط كما هو واضح ، فافهم وتأمّل.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ٢٢٠ ـ ٢٢١.

(٢) انظر الجواهر ٨ : ١٤٤ ـ ١٤٥.


الكلام في العبادات

ويقع الكلام في العبادات تارة ، وفي المعاملات اخرى. أمّا العبادات فلا ريب أنّ المشهور بنوا على دلالة النهي على فساد المنهيّ عنه فيها وهو الصحيح. بيان ذلك : أنّ العبادات صحّتها موقوفة على أمرين :

أحدهما : قصد القربة.

الثاني : قابليّة العمل لأن يتقرّب به من المولى.

إذا عرفت هذا ، فالعبادة المنهيّ عنها إن اعتبرنا الأمر في صحّتها ـ كما ذهب إليه صاحب الجواهر قدس‌سره (١) وهو الصحيح لما تقدّم من عدم إحراز الملاك بغير الأمر ـ ففسادها واضح لعدم الأمر ؛ لأنّ المأمور به لا ينهى عنه ، وإن قلنا بكفاية الملاك فكذلك ؛ لأنّ وجود النهي الفعلي كاشف عن عدم الملاك أو وجود الملاك المغلوب. هذا لو قلنا بالملاك لو لا النهي ، وإلّا فقد مرّ أن كشف الملاك من غير طريق الأمر محتاج إلى علم الغيب كما تقدّم ، لما نراه من اختلاف أفراد العمل بالإضافة إلى الزمان والمكان والمكلّف وغيرها كما هو ظاهر. وحينئذ فالعمل لفقده الملاك أو وجدان الملاك المغلوب فيه غير قابل لأن يتقرّب به إلى المولى ، مضافا إلى أنّ التقرّب به فعلا مستحيل من الملتفت ؛ لأنّ المنهيّ عنه مبغوض ولا يمكن التقرّب بعمل مبغوض أصلا ؛ إذ كيف يتقرّب إلى أحد بإتيان ما يعلم أنّه يبغضه وهذا ممّا لا كلام فيه. هذا إذا كان النهي عن الشيء نهيا ذاتيّا.

وأمّا إذا كان النهي نهيا تشريعيّا فتارة يكون النهي التشريعي عن فرد بخصوصه كما في الصوم المستحب سفرا ، وهذا لا كلام في اقتضاء نهيه التشريعي الفساد ؛ لعدم الأمر وعدم الملاك أو كونه مغلوبا فلا قابليّة للعمل أن يتقرّب به ، ولعدم إمكان التقرّب بما هو مبغوض.

__________________

(١) الجواهر ٨ : ٢٨٥.


وإنّما الكلام حيث يكون النهي التشريعي نهيا عامّا كما في الموارد التي لم يعلم الأمر بها كما في صلاة خمس ركع مثلا فهنا في الموارد الخاصّة يشكّ في وجود الأمر بها ، ولكنّ الظاهر كون هذا النهي العامّ أيضا دالّا على الفساد لأمرين : أحدهما أنّ هذا العمل بنفسه تشريع محرّم ؛ لأنّه لم يعلم أمر الشارع به وليس التشريع أمرا قلبيّا بل نفس ما به التشريع تشريع محرّم وحينئذ فهو غير قابل للتقرّب. مضافا إلى أنّ المكلّف لا يستطيع أن يتقرّب به أصلا ؛ لأنّه مبغوض قطعا ومحرّم بالأدلّة الأربعة كتابا وسنّة وإجماعا وعقلا كما هو واضح ، وحكم الجزء حيث يكون عبادة حكم الكلّ في جميع ما مرّ من الكلام ، فلا يحتاج إلى الكلام مستقلّا.

هذا تمام الكلام في العبادات وقد ظهر أنّ النهي فيها مطلقا مولويّا وإرشاديّا دالّ على الفساد.

الكلام في المعاملات

وقد قسّم النهي عنها إلى أقسام ثلاثة :

الأوّل : أن ينهى عن السبب وهو الإيجاب والقبول في العقود والإنشاء في الإيقاع.

الثاني : أن يكون النهي عن المسبب ، كما في تملّك الكافر المصحف والمسلم وطلاق الحائض.

الثالث : أن يكون النهي عن التسبيب بحيث لا يكون السبب مبغوضا ولا المسبّب بنفسه مبغوضا وإنّما المبغوض جعل هذا الأمر سببا لهذا المسبّب ، وهذا القسم الثالث يرجع إلى الثاني باعتبار رجوعه إلى النهي عن المسبّب عن هذا السبب ، فقيل باقتضاء النهي الفساد في تمام الأقسام (١) وقيل بالعدم مطلقا كما هو قول

__________________

(١) قال العلّامة : قال جمهور فقهاء الشافعيّة ومالك وأبو حنيفة والحنابلة وأهل الظاهر كافّة وجماعة من المتكلّمين : إنّ النهي يدلّ على الفساد مطلقا. انظر نهاية الوصول : ١١٨.


صاحب الكفاية (١) وقيل باقتضائه الفساد في النهي عن المسبّب سواء كان مبغوضا بذاته أو بسببه وهو القسم الثالث دون مبغوضيّة السبب بنفسه كما ذهب إليه الميرزا النائيني قدس‌سره (٢) أو أنّه دالّ على الصحّة كما ذهب إليه أبو حنيفة بدعوى أنّه إنّما ينهى عن البيع الصحيح فلو لم يكن مقدورا لما نهى عنه وأوجد الداعي لتركه (٣).

ولا يخفى : أنّ محلّ الكلام النهي النفسي الكاشف عن الحرمة بحيث تكون دلالته على الفساد بملازمته للحرمة كما هو واضح دون الإرشادي إلى الفساد لفقد جزء أو وجود مانع ، فإنّه دالّ على الفساد بلا كلام من غير جهة الحرمة كما هو واضح ، فافهم.

وقد استدلّ الميرزا النائيني قدس‌سره بأنّ صحّة البيع مثلا موقوفة على امور ثلاثة :

أحدها : ملك المتبايعين العوضين أو ما في حكم الملك كما في الوكيل.

الثاني : سلطنته على النقل وإلّا فلو ملك العين إلّا أنّها كانت غير قابلة للنقل كالأمة المستولدة أو مال المحجر عليه فلا يكون صحيحا.

الثالث : الإمضاء الشرعي لهذه المعاملة ، فمعنى نهي الشارع عن معاملة عدم قدرة العبد على المسبّب وهو الملكيّة لفقد السلطنة شرعا على هذه المعاملة ، وإذا لم يتسلّط فهي فاسدة لفقد السلطنة فلا مسبّب (٤).

والتحقيق أن يقال : إنّ النهي عن المعاملة إمّا أن يكون نهيا عن الالتزام أو المبرز أو الإمضاء ؛ لأنّ المعاملة تتكوّن من هذه الامور الثلاثة : الالتزام القلبي

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٢٥.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢٢٨ ـ ٢٣٣.

(٣) انظر المستصفى ٢ : ٢٨ ، والأحكام للآمدي ٢ : ٢١٤ ، ونهاية الوصول : ٢٢ ، والقوانين ١ :

١٦٣ ، ومطارح الأنظار ١ : ٧٦٣.

(٤) أجود التقريرات ٢ : ٢٢٨.


بأنّ هذا الشيء بإزاء الشيء الفلاني ، ومبرز هذا الاعتبار النفساني ، والإمضاء من المحاكم العرفيّة العقلائيّة.

أمّا الاعتبار النفساني فهو عمل من أعمال النفس وفعل من أفعالها ، وهو غير موقوف على شرع وشريعة ، مضافا إلى أنّه لا يطلق عليه المعاملة ما لم يتحقّق مبرزه في الخارج.

وأمّا المبرز فهو الذي يطلق المعاملة عليه.

وأمّا الإمضاء فليس من أفعال المكلّف المنهيّ عن المعاملة ، بل هو من أفعال الممضي ، فإن كان هو الله فهو من أفعاله ، وإن كان من العقلاء فهو من أفعالهم.

فالنهي المتوجّه إلى المعاملة لا يتصوّر توجّهه إلى الإمضاء ، لعدم كونه فعله. فلو كره الشارع الإمضاء لا يمضي لا أنّه ينهى المكلّف عن المعاملة.

وأمّا الاعتبار النفساني فهو لا يتّصف بالصحّة والفساد ليتكلّم في دلالة النهي عن فساده وعدمها بل إنّما يتّصف بالوجود والعدم ، مضافا إلى أنّ النهي عن الاعتبار لم يتحقّق في مورد من موارد الفقه على كثرتها ، وأيضا فإنّ الاعتبار بنفسه ليس هو المعاملة ما لم ينضمّ إليها المبرز.

وأمّا المبرز فهو تارة ينهى عنه لذاته لا لكونه مبرزا ، كما إذا نهى عن بيع داره في الصلاة ؛ لكونه كلاما وهو مبطل محرّم ، ومثل هذا لم يتوهّم أحد دلالته على الفساد ، لعدم كونه نهيا عن المعاملة ، ولعدم الملازمة بين تحريمه لكونه كلاما وبين فساده.

واخرى ينهى عنه لكونه مبرزا ومعاملة كما في بيع الربا وبيع الغرر وبيع المحاقلة وغيرها من موارد النهي عن المعاملة ، فهل هذا النهي دالّ على الفساد أم لا؟ غاية ما يقال في وجه دلالته ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره : من أنّ نهي المولى عنه دفع لسلطنة العبد عليه ، فيكون نظير تعلّق حقّ الغرماء بمال المحجر عليه وتعلّق حقّ المرتهن بمال الراهن (١).

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٢٩ ـ ٢٣٠.


ولا يخفى : أنّ فساد المعاملة في موارد الحجر والرهن وغيرها ليس بدلالة عقليّة ، وإنّما هي بالأخبار الخاصّة الواردة في موردها (١) وإلّا فلولا تلك الأخبار لجوّزنا المعاملة وإن كانت العين متعلّقا لحقّ الغير كما في بيع العبد القاتل وغيره ، وفي ما نحن فيه ليس أخبار خاصّة بفساد المعاملة ، ولا ملازمة بين التحريم المدلول عليه بالنهي وبين الفساد ، وحينئذ فالحقّ أنّ النهي النفسي عن المعاملة لا يدلّ على فسادها كلّية.

وممّا ذكرنا ظهر فساد ما ذكره أبو حنيفة : من دلالة النهي على الصحّة بدعوى أنّ النهي إنّما يكون لإيجاد الزاجر فلا بدّ من كون المعاملة الصحيحة مقدورة وإلّا فلا معنى للنهي عنها ، ووجه فساده : أنّ المبرز بما هو مبرز مقدور كانت المعاملة صحيحة أم فاسدة ، فافهم.

بقي الكلام في الأخبار الواردة في تزويج العبد نفسه بغير إذن سيّده فقد استدلّ بها القائل بدلالة النهي على الفساد كما استدلّ بها القائل بعدم دلالة النهي على الفساد.

أمّا استدلال القائل بدلالة النهي على الفساد فتقريره : أنّ ورود جواب الإمام عليه‌السلام في مقام الردّ على إبراهيم النخعي وابن عيينة حيث حكما بفساد عقد العبد بقوله عليه‌السلام : إنّه لم يعص الله وإنّما عصى سيّده فإذا أجاز فهو له جائز (٢) ، يستفاد منه أنّ العقد حيث يكون عصيانا لله ابتداء كما في موارد النهي النفسي يكون فاسدا ، فهو ـ يعني هذا الاستدلال ـ مبنيّ على أخذ العصيان في كلا الفقرتين بمعنى العصيان التكليفي.

وأمّا تقرير عدم دلالته على الفساد فهو مبنيّ على التفكيك بين لفظي العصيان في الرواية بجعل الأوّل بمعنى الوضع وعدم الإمضاء وجعل الثاني تكليفيّا ،

__________________

(١) انظر الوسائل ١٣ : ١٢٤ ، الباب ٤ من كتاب الرهن و ١٤١ ، الباب الأوّل من كتاب الحجر.

(٢) الوسائل ١٤ : ٥٢٣ ، الباب ٢٤ من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث الأوّل.


فيكون معنى الرواية أنّه لم يصنع ما لم يمضه الله وإنّما عصى سيّده وعصيانه عصيان لله ، فيستفاد منه أنّ صنع ما لم يمضه الله موضوع الفساد دون ما نهى عنه.

والظاهر : أنّ هذين التقريرين معا غير تامّين ؛ لأنّ مبناهما فاسد فإنّ الظاهر أنّ المراد من العصيان في الفقرتين بمعنى عدم الإمضاء ، فيكون معنى الرواية أنّه لم يصنع شيئا لم يمضه الله ، وإنّما صنع شيئا لم يمضه سيده فإذا أجاز فهو له جائز ، ويكون مفادها أنّ في خصوص عقد العبد يحتاج إلى إمضاء المولى مضافا إلى إمضاء الله تلك المعاملة. والقرينة على إرادة العصيان الوضعي أنّ مجرّد التزويج من غير نهي المولى ليس عصيانا أصلا صادرا من العبد ولا يخرج العبد عن العدالة بذلك. هذا تمام الكلام في كون النهي دالّا على الفساد أم لا ، وقد ظهر دلالته في العبادات دون المعاملات مطلقا.



فصل في المفاهيم

قد يطلق المفهوم ويراد به ما يقابل الألفاظ المنطوقة فيكون عبارة اخرى عن المعنى ، وقد يطلق على معنى أخصّ من ذلك ، وهو ما يستفاد من الجملة التركيبيّة باعتبار دلالتها على خصوصيّة تستدعي تلك الإفادة.

وملخّص الكلام : أنّ المداليل أفراديّة وتركيبيّة ، وكلّ منهما قد يكون بالمطابقة وقد يكون بالالتزام ، والدلالة الالتزاميّة شاملة للتضمّنيّة إذ المراد بالالتزام أعمّ من أن يكون جزء المعنى أو لازمه الخارج عنه ، فالمداليل الأفراديّة بأسرها خارجة عن محلّ الكلام في المفاهيم.

والكلام في المداليل التركيبيّة في أنّ الجملة الشرطيّة مثلا هل تدلّ بالوضع أو القرينة العامّة على حكمين أحدهما إيجابي والآخر سلبي أم أنّها لا يدلّ إلّا على حكم إيجابي فقط وأمّا الحكم السلبي فمسكوت عنه؟ ومن هنا ظهر أنّ المفهوم من صفات الدلالة فإنّ الكلام في الدلالة فهل فيها دلالة أم لا؟ فهو بصفات الدلالة أنسب منه بصفات المدلول ، كما ظهر أنّ قولهم : «إنّ المفهوم حكم غير مذكور أو حكم لغير مذكور» واحد أيضا ، فإنّ قولك «أكرم زيدا إن جاءك» مفهومه إن لم يجئ لا تكرمه ، فحرمة الإكرام حكم غير مذكور وحكم لغير مذكور أيضا وهو زيد الغير الجائي. وكذا في مفهوم الموافقة فإنّ حرمة الضرب غير مذكورة في


(فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ)(١) كما أنّ الضرب الذي هو متعلّق الحرمة غير مذكور أيضا. والكلام في المفهوم من حيث تحقّق الدلالة على ذلك الحكم إمّا من حيث الوضع أو من حيث القرينة العامّة دون الخاصّة ، فإنّ الموارد الخاصّة لا تكون معيارا للحكم الكلّي كما في قوله عليه‌السلام في جواب سؤال السائل عن الماء الذي لا ينفعل بالنجاسة : هو الكرّ (٢) ، فإنّ في المقام قرينة على أنّ غير الكرّ منفعل بالنجاسة ، فإنّ سؤال السائل يقضي بكون الماء قسمين قد سئل من تعيين أحدهما ، لكن هذه الموارد الخاصّة لا تجدي في تعيين الحكم الكلّي. فيقع الكلام في الجمل التي وقعت محلّا للكلام في ثبوت المفهوم لها وعدمه.

وقد ظهر أنّ الكلام في تحقّق المفهوم وعدمه ، لا في حجّيّته بعد تحقّقه كما هو ظاهر بعض العناوين.

الكلام في مفهوم الشرط

هل الجملة الشرطيّة تدلّ على خصوصيّة تقتضي نفي الحكم عن غير موضوعها أم لا؟ وقبل الخوض في ذلك لا بدّ من بيان أنّ دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم موقوفة على مقدّمات ثلاثة : أحدها أن يكون الترتّب بين الجزاء والشرط لزوميّا وليس اتفاقيّا ، وأن يكون بنحو ترتّب المعلول على العلّة. وأن تكون العلّة منحصرة.

والظاهر : أنّ استعمال الجملة الشرطيّة في الامور الاتّفاقيّة من دون ملازمة بين الشرط والجزاء يكاد أن يلحق بالغلط عرفا ، فالظاهر أنّ وضع الجملة الشرطيّة مفيد للملازمة بين الشرط والجزاء فإنّ قولك : «إن كان زيد نائما فأنا مالك

__________________

(١) الإسراء : ٢٣.

(٢) الوسائل ١ : ١١٨ ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٧.


لدينارين» يكاد أن يلحق بالهذر. وما ورد من قوله تعالى : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ)(١) فالجواب محذوف ، وهو فلا تحزن ، والمذكور علّة له ، والملازمة بين الجزاء المحذوف والشرط محقّقة.

ثمّ إنّ هذه الجملة هل تدلّ على أنّ هذا التلازم بنحو العلّية يعني بنحو يكون الجزاء معلولا للشرط والشرط علّة له؟ الظاهر عدم الدلالة فإنّ استعمالها في اللغة مختلف ، فيصحّ أن يقال : إن كان زيد محموما فهو متعفّن الأخلاط ، وإن كان متعفّن الأخلاط فهو محموم ، وإن كان سريع النبض فهو محموم ، فاستعماله في كون الشرط علّة للجزاء في كون الشرط معلولا للجزاء وفي كونهما معلولين لثالث على السواء. نعم في خصوص الأدلّة الشرعيّة بما أنّ الموضوع علّة لثبوت الحكم يستفاد أنّ الجزاء معلول للشرط ، وبقرينة التفريع في الفاء فبتبعيّة مقام الإثبات لمقام الثبوت يستفاد ذلك ، فهذا أيضا استفيد من القرينة العامّة في الجملة الشرطيّة في غير ما إذا كان الشرط حكما كالجزاء مثل : إذا أفطرت قصّرت وإذا قصّرت أفطرت ، فإنّه بقرينة ذكر الملازمة من الطرفين يستفاد عدم العليّة وإلّا لزم الدور ، كما هو واضح.

بقي الكلام في أنّه هل يمكن أن يستفاد من الجملة الشرطيّة بنفسها أو بقرينة عامّة أنّ الترتّب بنحو العلّة المنحصرة أم لا؟ أمّا الوضع فغير دالّ ؛ لأنّها تستعمل في غير المنحصرة كما تستعمل في المنحصرة ، كما في قولنا : إذا شرب زيد السمّ يموت مثلا (*).

وإنّما الكلام في القرينة العامّة.

ولا يخفى : أنّ محلّ الكلام بين القائلين بحجّيّة المفهوم وعدمها هي هذه المقدّمة ، فالقائل بالمفهوم يدّعي الانحصار ، والمنكر ينكر الانحصار فهو يجوّز حدوث علّة

__________________

(١) فاطر : ٤.

(*) لا يخفى أنّ استاذنا الخوئي قد اختار في دورته اللاحقة أنّ دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم وهو الانتفاء عند الانتفاء بالوضع وبناه على ما يأتي في الأمر الأوّل من الامور التي ينبغي التنبيه عليها من بيان مفاد الجملة الخبريّة والجملة الإنشائيّة كما سيأتي. (الجواهري).


اخرى لهذا الحكم ، فلا يكون نفي هذه العلّة قاضيا بنفي المعلول. وأحسن ما قيل في بيان أنّ الجملة مفيدة لكون الانحصار محقّقا هو ابتناء المسألة على كون الشرط راجعا إلى المادّة ، كما عليه الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١) فيكون معنى قوله : إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة ، يجب الطهور والصلاة عند زوال الشمس. ولا يخفى : أنّه لا يدلّ على عدم الوجوب عند انعدام هذا الحال ، لإمكان ثبوته بدالّ آخر.

كما أنّا لو قلنا برجوع القيد إلى الهيئة الذي هو الوجوب وهو المعنى الحرفي ، فتارة يكون القيد واقعيّا ذكره الشارع لبيان محطّ الحكم نظير قولك : إن رزقت ولدا فاختنه ، فهو وإن أفاد نفي الحكم بنفي الولد إلّا أنّه من باب أنّ الحكم مرتفع لارتفاع الموضوع ؛ إذ لا يعقل بقاء الحكم مع ارتفاع موضوعه.

واخرى يكون القيد قيدا جعليّا للشارع المقدّس ، فبناء على كون الوجوب الذي هو المعنى الحرفي كالاسمي قابل لأن يكون مقيّدا وقابل لأن يكون مطلقا فظاهر تعليق الشارع له على قيد كونه محقّقا على هذا التقدير بحيث لا تحقّق له بدونه ، فمثل قوله عليه‌السلام : إذا زالت .. إلى آخره (٢) ، لمّا كان إيجاب الطهور والصلاة يمكن أن يكون بنحو الإطلاق غير مقيّد بقيد كذلك يمكن أن يكون مقيّدا ببعض القيود ، فالقيد في المقام جعلي ، وهو يقتضي انتفاء الوجوب عند انتفائه. فإذا كان المولى في مقام البيان ولم يذكر هنا شيئا آخر غير هذا الشرط فهو دليل على أنّه لا يؤثّر في وجوب الإكرام إلّا هذا الشرط ، بنحو لو كان غيره يؤثّر فيه لكان السكوت في مقام بيان تمام ما له دخل في وجوب الإكرام منافيا لكونه في مقام البيان.

__________________

(١) انظر مطارح الأنظار ١ : ٢٥٠ ، وأجود التقريرات ١ : ١٩٤.

(٢) انظر الوسائل ٣ : ٩١ ، الباب ٤ من أبواب المواقيت ، و ١ : ٢٦١ ، الباب ٤ من أبواب الوضوء ، الحديث الأوّل.


وبالجملة ، فذكر هذا الشرط وتعليق الجزاء عليه إذا كان المولى في مقام البيان ولم يذكر إلّا هذا القيد ـ وهو خصوص المجيء ـ فهو دليل على كون الجزاء مطلق من جهة غير المجيء ، نظير استفادة كون الوجوب تعيينيّا من عدم ذكر العدل ؛ لأنّ الوجوب التخييري يحتاج إلى ذكر العدل ، فعدم ذكر العدل يستفاد منه إذا كان المولى في مقام البيان عدم العدل ، وهو معنى كون الوجوب تعيينيّا.

وقد أشكل الآخوند قدس‌سره على هذا الوجه بالفرق بين مقامنا ومقام الوجوب بأنّ الوجوب في الخارج على نحوين : أحدهما التعييني ، والآخر التخييري. وبما أنّ التعييني لا يحتاج إلى مئونة زائدة بخلاف التخييري فعدم ذكر المئونة مع كون المتكلّم في مقام البيان يفيد بيان ما لا عدل له. وهذا بخلاف المقام فإنّ الترتّب واحد ، كان بنحو العلّة المنحصرة أو بنحو العلّة الغير المنحصرة ، فلا ينبغي استفادة الانحصار من المقام كما استفيد تعينيّة الوجوب (١).

والجواب : أنّ الكلام في الوجوب المنشأ من الجزاء وأنّه مطلق من غير جهة المجيء أو مقيّد ، ولا ريب أنّ المطلق من الوجوب سنخ يغاير المقيّد ، فهما سنخان في الخارج كالوجوب التعييني والتخييري. وكما يستفاد التعيينيّة مع عدم ذكر العدل يستفاد كون الوجوب غير مقيّد بقيد آخر غير المجيء من عدم ذكر قيد غير المجيء ، فلو كان هناك علّة اخرى له في نظر الشارع لقال : إن جاءك زيد أو طلعت الشمس فأكرمه. نعم لو كنّا في مقام إثبات الترتّب تمّ ما ذكره في الكفاية من كون الترتّب بنحو واحد في صورة الانحصار وعدمه.

وقد ذكر الميرزا قدس‌سره لإثبات الانحصار نحوا آخر وملخّصه : أنّا كما نثبت استقلال علّية المجيء لوجوب الإكرام في المثال بنحو لا يتحقّق احتمال كونه جزء علّة كذلك نثبت انحصار العلّية به ، فكما نرفع احتمال كونه جزء علّة بعدم ذكر «الواو» حرفا

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٣٣ ـ ٢٣٤.


للعطف ، إذ لم يقل : «إن جاءك زيد وأكرمك فأكرمه» فننفي مدخليّة إكرام زيد لنا في وجوب إكرامه بعدم العطف بالواو ، كذلك يثبت انحصار العلّة بالمجيء بعدم العطف ب «أو» فنقول : إنّ عدم ذكر «أو» في مقام البيان ، إذ لم يقل : إن جاءك زيد أو أكرمك فأكرمه (١).

فاستدلّ قدس‌سره بإطلاق الشرط ، وقد ظهر أنّ استدلالنا إنّما هو بإطلاق الجزاء في مقام البيان ، وما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره وإن كان صحيحا بحسب المدّعى إلّا أنّ الدليل لا يخفى ما فيه.

وبالجملة ، فإفادة الجملة الشرطيّة للّزوم بين الجزاء والشرط بالوضع ولكون اللزوم بنحو العلّية بالقرينة العامّة ، ولكون العلّية منحصرة بالإطلاق ومقدّمات الحكمة. ودلالتها على المفهوم بحسب المتفاهمات العرفيّة ليست محلّ جدال وما ذكرناه كان لطريق ذلك ، بل يستفاد من بعض النصوص الاستدلال بمفهوم الجملة الشرطيّة حيث سأله عن الذبيحة لا تتحرّك بعد الذبح؟ فقال عليه‌السلام : لا تأكل ؛ لأنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : إذا تحرّكت فكل منها (٢) ، فافهم.

ثمّ إنّه بقيت امور لا بأس بالإشارة إليها :

الأوّل : ربّما يقال : إنّ الجملة الشرطيّة إن كان جزاؤها مفهوما اسميّا كما إذا قيل : إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة ، فبما أنّ الجزاء مفهوم عامّ يمكن أن يقال بأنّ مفاد المفهوم فيها رفع سنخ الحكم عند عدم الزوال. وأمّا إذا كان الجزاء مفهوما جزئيّا كما إذا قيل : إذا زالت الشمس فصلّ ، فإنّ شخص الحكم المنشأ يرتفع بارتفاع موضوعه قهرا ولو لم نقل بالمفهوم بل كلّ حكم شخصي

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٥٢.

(٢) الوسائل ١٦ : ٢٦٢ ، الباب ١١ من كتاب الصيد والذبائح ، الحديث ٦ و ٧ ، والباب ١٢ ، الحديث الأوّل مع اختلاف في العبارة.


يرتفع بارتفاع موضوعه قهرا ، وسنخ الحكم غير مذكور في القضيّة لتدلّ على نفيه (١).

وقد أجاب الآخوند قدس‌سره عنه بأنّ المنشأ في مفاد الهيئة كلّي وإن كان بالإنشاء يصير شخصيّا كما في المفاهيم الاسميّة (٢).

كما أجاب الميرزا النائيني قدس‌سره :

تارة بأنّ انتفاء سنخ الحكم هو مقتضى العلّية المنحصرة ؛ إذ الحكم الشخصي ينتفي وإن لم تكن علة منحصرة (٣).

وفيه : أنّ العلّية المنحصرة لشخص هذا الحكم لا للسنخ الغير المذكور.

واخرى بأنّ التعليق إنّما هو لنتيجة الجملة الشرطيّة لا لخصوص الوجوب ، فلا يفرق بين كون الجزاء معنى اسميّا أم حرفيّا (٤).

والصحيح أن يقال : إنّ أصل الإشكال مبنيّ على كون الجملة الإنشائيّة موجدة لمعناها ، وقد ذكرنا في الفرق بين الجملة الإنشائيّة والإخباريّة أنّ الجملة الإنشائيّة غير موجدة لمعانيها وإن اشتهر ذلك في لسان القوم ، إذ ما توجده ليس من سنخ الجواهر ولا الأعراض باعترافهم ولا من سنخ الاعتبارات إذ اعتبار الله أو العقلاء ليس من أفعال المنشئ ليوجده بإنشائه ، واعتبار نفس المنشئ وإن كان بيده إلّا أنّه قبل الإنشاء موجود فإنّه يعتبر كون ماله لزيد بعوض أو بغيره ثمّ يبرز ذلك الاعتبار بالإنشاء ، فاللفظ حينئذ في الجملة الخبريّة مبرزة لقصد الحكاية ، وفي الجملة الإنشائيّة مبرزة للاعتبار النفساني. وحينئذ فهذا الاعتبار النفساني في الجملة الشرطية هو الوجوب على تقدير الزوال من غير فرق بين كون المبرز لذلك الاعتبار المفاد الاسمي أو الحرفي ؛ لأن العبرة بالمنكشف لا الكاشف.

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٢٣٧.

(٢) انظر المصدر السابق.

(٣) انظر أجود التقريرات ٢ : ٢٥٤.

(٤) انظر أجود التقريرات ٢ : ٢٥٥.


الثاني : قد ذكرنا أيضا أنّ الجملة إن لم يمكن الإطلاق في جزائها كما في «إن رزقت ولدا فاختنه» فهي مسوقة لبيان تحقّق الموضوع ، وإن أمكن الإطلاق في جزائها كما في «إن جاءك زيد فأكرمه» فهي مفيدة للانتفاء عند الانتفاء بمقتضى الفهم العرفي كما تقدّم. هذا إذا كان الشرط واحدا كما في المثالين ، وإن كان الشرط متعدّدا بنحو يكون المجموع قيدا واحدا مثل «إن جاءك زيد وكان اليوم يوم الجمعة فأكرمه» فالمفهوم يكون أوسع في المقام ، فإنّ المفهوم يكون جملتين وهي : إن لم يجئ لا يجب إكرامه ، وكذا إن جاء ولم يكن اليوم يوم جمعة ، إلّا أنّ هذا حيث يمكن الإطلاق بكلّ واحد من القيدين. أمّا إذا لم يمكن مثل «إن رزقت ولدا وكان اليوم يوم جمعة فاختنه» فبالنسبة إلى ما لا يمكن الإطلاق فيه يكون القيد مسوقا لتحقّق الموضوع وبالنسبة إلى ما يمكن الإطلاق فيه وهو القيد الثاني بأن رزق ولدا يوم السبت فلا يجب ختانه ، ولا يكون عدم الإطلاق في البعض حينئذ رافعا لإطلاق الباقي لعدم المقتضي لذلك ، فافهم وتأمّل.

الأمر الثالث : أنّ الجزاء قد يكون حكما واحدا شخصيّا ، وقد يكون الجزاء عموم الحكم كما إذا قال : «إن طلعت الشمس فالحكم الفلاني» عامّ مثلا ، ومعلوم أنّ انتفاء الشرط في المقام يوجب ارتفاع الحكم في الجملة الشرطيّة ولو كان هو العموم. أمّا لو كان الجزاء الحكم بالعموم كما في قوله عليه‌السلام : إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجسه شيء (١) فهي جملة تنحلّ إلى قولنا : لا ينجّسه البول ولا الدم ولا الميتة ... إلى آخر النجاسات ، فهل المفهوم في المقام هو الموجبة الجزئيّة ؛ لأنّ نقيض السالبة الكلّية في المقام هو الموجبة الجزئيّة فيكون المفهوم أنّه إذا لم يكن قدر كرّ ينجّسه شيء ما ، أو أنّ المفهوم هو أنّه ينجسه كلّ شيء؟

__________________

(١) الوسائل ١ : ١١٧ ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١ و ٢ و ٥ و ٦ (بتفاوت يسير).


ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره في المقام كلاما اختار فيه الثاني ملخّصه : أنّ المنطقيّين لبنائهم على البراهين الغير القابلة للتخلّف ذكروا أنّ السالبة الكلّية نقيضها الموجبة الجزئيّة ، ولكنّ الاصوليّين لبنائهم على الأخذ بمفاهيم الألفاظ وظهوراتها وإن لم تساعدها البراهين المنطقيّة فلا تنافي بين كون السالبة الكلّية موجبة جزئيّة ولكن ظهورها في ثبوت الموجبة الكلّية عند انتفاء ذلك الشرط المأخوذ فيها ، وحينئذ فالحكم العامّ في الخبر بما أنّه ينحلّ إلى عدم تحقّق النجاسة بملاقاة البول وإلى عدم تحقّق النجاسة بملاقاة الدم ... إلى آخر النجاسات ، فالمعلّق على الكرّية هو نفي كلّ واحد واحد من التنجّسات ؛ إذ المعلّق هو ثبوت عدم الحكم بالتنجيس على ملاقاة كلّ واحد واحد من النجاسات ، فيكون المفهوم أيضا كلّيا ، فيكون المعنى ينجّسه كلّ واحد من النجاسات إن لم يكن قدر كرّ.

ثمّ ذكره قدس‌سره أنّ في خصوص هذا المثال لا تترتّب ثمرة عمليّة ؛ لأنّه إذا ثبت أنّ غير الكرّ يتنجّس بنجاسة ما ، فبعدم القول بالفصل بين ذلك الفرد وبقيّة الأفراد يتمّ المطلوب. ثمّ أورد على نفسه بظهور الثمرة بملاقاة المتنجّس ، فإن كان المفهوم موجبة كلّية يثبت التنجيس وإلّا فلا. وأجاب بأنّه ليس المراد من الشيء عموم الشيء بل عموم النجاسات من الأعيان النجسة ، وأمّا المتنجّس فيلحظ دليله فإن كان يقتضي نجاسة الملاقي فلا حاجة إلى المفهوم ، وإن لم يقتض النجاسة فلا يتنجّس الملاقي لعدم دخول المتنجّس في عموم الحكم (١).

أقول : لا يخفى أنّ الحكم المنشأ في القضيّة واحد بحسب الدلالة ، وانحلاله إلى الأفراد الكثيرة لا يوجب كون الحكم المنشأ أحكاما كثيرة ؛ إذ اللفظ إذا كان واحدا كما في المقام فالمعنى أيضا واحد ، وحينئذ فالمفهوم هو نفي ذلك الحكم الثابت في المنطوق ، فيكون المفهوم في الرواية أنّه إذا لم يبلغ كرّا ينجّسه شيء ، وهو وإن كان

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٥٥ ـ ٢٥٨.


بالإضافة إلى الأعيان النجسة لا يترتّب عليه ثمرة فقهيّة لما أفاده قدس‌سره من عدم القول بالفصل إلّا أنّه تظهر الثمرة بالإضافة إلى المتنجّس.

بيان ذلك : أنّ المتنجّس إن دلّ دليله على كون الملاقي له يكون متنجّسا حتّى الماء القليل فلا حاجة حينئذ إلى المفهوم ، وإن دلّ دليله الخاصّ على أنّه لا ينجّس خصوص الماء القليل كما ذهب إليه الآخوند (١) ، وتبعه بعض تلامذته المحقّقين (٢) مستظهرين ذلك من الروايات فلا حاجة أيضا إلى المفهوم. وأمّا إذا كان دليل المتنجّس قد دلّ على تنجيسه لما يلاقيه في الجملة من غير تعرّض للماء نفيا ولا إثباتا فهنا يثمر النزاع ، فإنّ المفهوم إن كان موجبة كلّية فيكون المفهوم إنّ الماء إن لم يكن قدر كرّ ينجسه كلّ شيء قابل لأن يكون منجّسا ، ولا ريب أنّ المتنجّس فرد من هذه الكلّية إذ قابليّته بالحكم بتنجيسه في الجملة محقّقة. وأمّا إن كان المفهوم موجبة جزئيّة فمعناه أنّ الماء القليل ينجّسه شيء ، وبما أنّه ليس كلّيا فلعدم القول بالفصل بين الأعيان النجسة يستفاد أنّ الأعيان النجسة تنجّسه كلّها ، أمّا المتنجّسة فلا لعدم الدخول تحت كلّية لعدم الكلّية. والقول بالفصل بين الأعيان النجسة والمتنجّسات مشهور ، وإن لم يكن قول بالفصل بين المتنجّسات كالنجاسات فلا تكون ملاقاة المتنجّس موجبة للتنجيس ، وهذه ثمرة عظيمة لهذه المسألة. فما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره : من عدم الثمرة حتّى في المتنجّس إذ العبرة بدليله ، متين حيث يفصح الدليل بالتنجيس للماء القليل أو عدمه ، أمّا مع عدم الإفصاح فالثمرة محقّقة قطعا كما ذكرنا.

الأمر الرابع : إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء مثل «إذا خفي الأذان فقصّر وإذا خفي الجدران فقصّر» فإن كانا متلازمين بحسب الوجود كما في الكرّ الوزني

__________________

(١) اللمعات النيرة للآخوند الخرساني : ١٢.

(٢) لم نقف عليه.


والشبري فلا إشكال ؛ لأنّهما حينئذ متساويان بحسب المورد. وكذا إذا كانا متباينين بحسب المورد بحيث لا يجتمعان مثل قولك : «إن كنت عند طلوع الفجر عند زيد في داره فصم ، وإن كنت عند طلوع الفجر عند عمر في داره فصم» فلا بدّ من كون الشرط أحدهما ، إذ لا يمكن كونهما معا شرطا قطعا. وكذا لا إشكال إذا كان بين المنطوقين عموم مطلق فإنّ ظهور الأخصّ في التحديد ينافي ظهور الأعمّ في التحديد ، فيقع التعارض بين المنطوقين.

ومن هنا ظهر أنّ المثال المذكور في ألسنة القوم «إذا خفي الأذان فقصّر وإذا خفي الجدران فقصّر» ليس صغرى لمحلّ الكلام ، إذ خفاء الأذان العادي غالبا يكون قبل خفاء الجدران فتكون النسبة العموم المطلق. نعم مثل «إن بلت فتوضّأ ، وإن نمت فتوضّأ» صحيح ؛ لأنّ بينهما عموما من وجه موردا بحيث يمكن افتراق كلّ منهما عن الآخر كما يمكن اجتماعهما وقلنا بأنّ الجملتين مشتملتان على المفهوم ، فحينئذ يقع الكلام في علاجهما ؛ لأنّ مقتضى «إن بلت فتوضّأ» إن لم تبل فلا تتوضّأ ، ومقتضى «إن نمت فتوضّأ» وجوب الوضوء عند عدم البول ، فيقع التعارض بين منطوقي كلّ منهما ومفهوم الآخر.

وقد ذهب بعضهم بأنّ الجملة الشرطيّة حيث تتعدّد كما في المثال لا يكون لكلّ منهما مفهوم ، نعم يكون لها مفهوم إذا انفردت (١).

ولا يخفى ما في هذه الدعوى ؛ إذ أنّ الضرورة إنّما تقدّر بقدرها فرفع اليد عن المفهوم كلّية لا مقتضي له ، بل لا بدّ من رفع اليد عن المفهوم في صورة وجود الشرط الثاني بمعنى تقييد المنطوق بكلمة أو لينتج ذلك ، وإلّا فالمفهوم غير قابل للتقييد بغير تقييد المنطوق ، فافهم.

__________________

(١) لم نعثر عليه.


وذهب بعضهم إلى تقييد كلّ من المفهومين بمنطوق الآخر فمثل «إن بلت فتوضّأ» مفهومه إن لم تبل فلا يجب الوضوء فيقيّد بقوله : إلّا إذا نمت ، وكذا العكس (١).

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ المفهوم لازم عقلي للمنطوق ، ومع حفظ ظهور المنطوق لا يمكن تقييد اللازم العقلي.

وذهب بعضهم بقرينة أنّ الواحد لا يصدر إلّا عن الواحد إلى أنّ الجامع بينهما هو الشرط (٢).

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ هذا إنّما يصحّ إذا احرز أنّ كلّا منهما بانفراده سبب ومؤثّر للوجوب ، والكلام بعد في تشخيص ذلك فإنّه من المحتمل أن يكون كلّ واحد بشرط الآخر مؤثّر لا باستقلاله.

فبقي أمران : أحدهما أن نقيّد المنطوق ب «أو» فيكون معناها إذا خفي الأذان أو خفي الجدران فقصّر ، فيكون الشرط أحدهما. أو تقييد المنطوق بالواو فيكون المعنى إذا خفي الأذان وخفي الجدران فقصّر ، فيكون الشرط هو مجموعهما. فيقع الكلام في ترجيح أحدهما على الآخر.

ذهب الميرزا النائيني قدس‌سره إلى أنّ في كلّ من الجملتين ظهورا في استقلال كلّ من الشرطين في الحكم في الجزاء ، كما أنّ لهما ظهورا آخر في الانحصار ، وبما أنّ كلا الظهورين لا يمكن أن يرادا من كلّ من الجملتين فإمّا أن يرفع اليد عن الظهور في الاستقلاليّة فيقيّد المنطوق بكلمة «و» فيكون معنى قوله : «إذا بلت فتوضّأ» إذا بلت ونمت فتوضّأ فيكون الشرط عبارة عن مجموعهما فقد رفعنا اليد عن ظهور كلّ من الشرطين بالاستقلاليّة في تأثير الوجوب للوضوء ، أو يرفع اليد عن الظهور في الانحصار فيقيّد المنطوق بكلمة «أو» فيكون معنى الجملة : إذا بلت أو نمت فتوضّأ ،

__________________

(١) انظر مطارح الأنظار ٢ : ٤٧.

(٢) هو صاحب الكفاية ، انظر كفاية الاصول : ٢٣٩.


فيكون الشرط حينئذ أحدهما. وبما أنّ لنا علما إجماليّا بعدم إرادة أحد هذين الظهورين من غير تعيين فيسقطان عن الحجيّة ، ولكن إذا بال ونام فهو حينئذ قاطع بوجوب الوضوء ؛ لأنّ الشرط إن كان مجموعهما فقد حصل ، وإن كان أحدهما فقد حصل أيضا (١). وأفتى في بعض حواشي العروة باعتبار خفاء الأذان والجدران معا في وجوب التقصير (٢) بانيا على ذلك.

وبالجملة : فبعد سقوط كلا الظهورين إذا اجتمع الشرطان فقد تحقّق شرط التقصير عنده ، وإن لم يجتمع الشرطان فيتمسّك بأصالة التمام.

(لا يخفى : أنّ ما ذكره الميرزا ممنوع صغرى وكبرى.

أمّا الصغرى ـ وهو خصوص المثال ـ فمع فرض تساقط كلا الظهورين من جهة العلم الإجمالي بإرادة خلاف الظاهر في أحدهما فإنّه يرجع إلى القصر المستفاد من عموم وجوب القصر على المسافر ، ولا يرجع إلى أصالة التمام ؛ لأنّ عموم وجوب القصر على المسافر محكّم ، يخرج عنه بالدليل وهو ما دلّ على اعتبار حدّ الترخّص ، ولولاها لحكمنا بوجوب القصر بمجرّد وضع رجله في خارج سور البلد لصدق المسافر بذلك.

نعم ، بناء على أنّ بلوغ حدّ الترخّص به يتحقّق السفر عرفا ، وقبل بلوغه لا يتحقّق كما احتمله بعضهم (٣) يتمّ ما ذكره الميرزا قدس‌سره.

وأمّا الكبرى فبما سيأتي في بيان تحقّق كون الحصر هو الموجب للتعارض لا الاستقلال) (٤).

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٦٠ ـ ٢٦١.

(٢) العروة الوثقى ٣ : ٤٦٠ (ط. مؤسسة النشر الإسلامي) في صلاة المسافر : الثامن : الوصول إلى حدّ الترخّص.

(٣) انظر مجمع الفائدة ٣ : ٤٠٢ ، والجواهر ١٤ : ٢٨٤.

(٤) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.


وبالجملة : فما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره موافق في النتيجة للتقييد للمنطوق بالواو ، والظاهر أنّه يرجّح التقييد ب «أو» فيكون الشرط أحدهما. والوجه في ذلك : أنّ التعارض إنّما هو بين الظهورين في الانحصار ، وإلّا فلو فرض ورود المثال : يجب الوضوء عند البول ويجب الوضوء عند النوم لم يكن بينهما تعارض أصلا ، وإنّما نشأ التعارض من النفي المستفاد من الشرط الذي استفيد منه الانحصار ، وإلّا فظهور كلّ منهما في الاستقلال لا يلزم منه تعارض أصلا كما مرّ في المثال. وحينئذ فيرفع اليد عن الانحصار بمقدار مدلول معارضه فإنّ قوله : «إن بلت فتوضّأ» بمفهومها إن لم تبل فلا تتوضّأ ، فيرفع اليد عن الإرادة الجدّيّة لهذا العموم بأن يقال : إلّا إذا نمت فحينئذ يجب الوضوء. وكذا الكلام في «إن نمت فتوضّأ» فإنّ مقتضى الحصر فيها إن لم تنم فلا تتوضّأ فيخصّص بقوله : إلّا إذا بلت ، فيقيّد المنطوق بما يفيد ذلك وهو كلمة «أو بلت» مثلا.

وما ذكر من رفع اليد عن الاستقلال في التأثير وإن كان يرتفع به محذور التعارض بل موضوعه إلّا أنّه لا وجه له بعد كون التعارض بين كلّ جملة والحصر في الثانية ، مثلا إذا ورد «أكرم العلماء ولا يجب إكرام زيد العالم» فالتعارض بين ظهور «كلّ» في العموم والجملة الثانية فمقتضى الجمع العرفي هو تخصيص العموم بالخصوص بلا توقّف ، وإن كان رفع اليد عن ظهور الأمر في «أكرم» للوجوب أيضا يرفع موضوع التعارض إذ لا تعارض بين يستحبّ إكرام العلماء ولا يجب إكرام زيد العالم ، إلّا أنّه لا يصار إلى هذا التصرّف لعدم التعارض بينهما من جهة ظهور الأمر في الوجوب ، وإنّما هو من جهة العموم ، فافهم.

وفي بعض نسخ الكفاية ما يظهر منه كفاية رفع اليد عن أحد المفهومين في رفع التعارض (١) ولا يخفى ما فيه ، فإنّ بقاء مفهوم الثانية محقّق للتعارض بينها وبين

__________________

(١) انظر الكفاية : ٢٣٩.


المنطوق في الثانية كما هو واضح. وقد نسب ذلك إلى ابن ادريس أيضا (١) وضعفه ظاهر ، وأظنّ أنّه من سهو قلم الكاتب ، والله العالم.

ثمّ إنّه يقع الكلام في مسألة اخرى متّحدة مع هذه المسألة في العنوان لكنّها مباينة لها في المعنون.

الأمر الخامس : فإنّهم عنونوه بعين عنوان المسألة السابقة وهو قولهم : إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء ، ومرادهم تعدّده في الخارج بأن بال مرّتين مثلا فهل يجب وضوءان أم وضوء واحد؟ بخلاف تلك المسألة فإنّها في بيان أنّ الحكم الواحد المنشأ هل علّته هذا أم ذاك أم المجموع أم أحدهما بعد الفراغ عن كونه واحدا؟ وفي هذا الأمر يتكلّمون بعد الفراغ عن كون الشرط الذي هو العلّة واحدا ولكن تحقّق في الخارج مرّتين فهل يجب حينئذ وضوءان مثلا أم لا؟

ثمّ في ذيل هذه المسألة يتعرّض إلى أنّه بعد الفراغ عن اقتضاء تعدّد الشرط خارجا تعدّد الوجوب في الجزاء فهل يكتفى بفرد واحد ، ويعبّر عنه بتداخل المسبّبات أم لا؟ فالكلام فيها في امتثال الأمرين بفرد وعدمه وهذه المسألة كمسألة اقتضاء تعدّد الشرط خارجا تعدّد الجزاء لا تختصّ بالمفهوم ، بل في جميع الأحكام سارية سواء افيد بالمفهوم أم بغيره.

فلنتعرّض للمسألة السابقة ـ وهي أنّ تعدّد الشرط في الخارج هل يقتضي التعدّد أم لا؟ ـ ولمسألة تداخل المسبّبات أيضا من حيث الأصل العملي أوّلا ثمّ من حيث الظهور اللفظي ، فنقول : مقتضى الأصل العملي في الاولى البراءة ؛ لدوران الأمر بين الأقلّ والأكثر فإنّ مثل قوله عليه‌السلام : «إن جامعت في نهار شهر رمضان فكفّر ، وإن ارتمست فكفّر» (٢) فإن فعل كلّا منهما فوجوب الكفّارة الواحدة متيقّن ، ووجوب

__________________

(١) انظر السرائر ١ : ٢٥٨.

(٢) لم نعثر عليه في المجامع الحديثة.


الأكثر مشكوك منفيّ بالبراءة. ومقتضى الأصل العملي في الثانية هو لزوم الإتيان بالكفّارة ثانيا أيضا ؛ لأنّه مقتضى الاستصحاب لشغل الذمّة. هذا كلّه في الأحكام التكليفيّة ، وأمّا الوضعيّة فقد ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره عدم ضابط كلّي لها وأنّها يراعى فيها مناسبات الموارد (١) ولم نعلم معنى محصّلا لهذا الكلام ، فإنّ الأحكام الوضعيّة كالتكليفيّة فحيث يشكّ في حدوث سببين للضمان مثلا الأصل هو الواحد لأنّه متيقّن ، بخلاف تداخل المسببات فإنّ الأصل عدم حصول مبرئ الضمان بأداء أحد الضمانين ، هذا كلّه في الأصل العملي.

وأمّا ما يستظهر من الأدلّة فقبل الخوض فيه يذكر أمران :

أحدهما : أنّ الجزاء لا بدّ أن يكون قابلا للتعدّد حقيقة أو حكما ، بيان ذلك : أنّ الجزاء قد يكون قابلا للتعدّد حقيقة كما في قولك : «أكرم زيدا إن جاءك» فإنّ الإكرام قابل للتعدّد حقيقة. وقد لا يكون قابلا للتعدّد كحقّ الفسخ بالخيار فإنّه غير قابل للتعدّد ؛ لأنّ حقّ الفسخ أمر واحد والعقد لا يفسخ مرّتين إلّا أنّ له حكم التعدّد فحيث تجتمع الخيارات فالخيارات بالإضافة إلى الحيثيّات التي تحقّق الخيار من جهتها محكومة بالتعدّد فتترتّب أحكام جميعها على تقدير اختلافها في الأحكام ، ومن هذا الباب حقّ القصاص إذا كان الشخص قاتلا لاثنين فمع عفو الأوّل وقبوله الدية للثاني حقّ القصاص. وقد لا يكون قابلا للتعدد لا حقيقة ولا حكما ، ولكنّه قابل للتأكّد كما في الوجوب ، فإنّ توجّه الوجوب مرّتين نحو طبيعة واحدة لا يمكن إلّا بتقييد الثاني بنحو «مرّة اخرى» إلّا أنّ الوجوب قابل للتأكّد. وقد لا يكون قابلا حتّى للتأكّد كما في الماء إذا تنجّس بالبول فإنّ إصابة البول له ثانيا لا توجب تأكّد النجاسة. وكيف كان فهذان القسمان خارجان عن محلّ الكلام.

__________________

(١) راجع أجود التقريرات ٢ : ٢٦٤.


الثاني : أنّه ربّما يبنى الكلام في تداخل الأسباب وعدمه على أنّ الأسباب الشرعيّة أسباب أم معرّفات ، فعلى الأوّل لا تداخل ، وعلى الثاني فالتداخل جائز (١) ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنّ كون الأسباب الشرعيّة من باب الأسباب لا معنى له فإنّ الكفّارة لا يحدثها الإفطار ، وإنّما يحدثها أمر الشارع بها فليس الإفطار سببا ، فليس علّة موجدة ولا علّة غائيّة ؛ لأنّ العلّة الغائيّة فيها هي المصالح المترتّبة عليها. كما أنّ كونها معرّفات بمعنى أنّها تكون معرفة عن موضوع الحكم بحيث يكون الحكم الشرعي عندها ؛ لأنّ عند الزوال مثلا يقترن الكوكب الفلاني مع الكوكب الفلاني ووجوب صلاة الظهر من تلك الجهة ، وقد جعل الزوال معرّفا لذلك خلاف ظاهر الأدلّة الشرعيّة ، فإنّ ظاهر الأدلّة الشرعيّة كون المأخوذ في الحكم هو نفس الموضوع. فالظاهر أنّ ما ذكر ونسب إلى فخر المحقّقين (٢) ليس هو الميزان في التداخل وعدمه ، وإنّما الميزان أنّ الجملة الشرطيّة لها ظهوران : أحدهما : الحدوث للجزاء عند حدوث الشرط ، الثاني : أنّه بما أنّ الطبيعة الواحدة لا يمكن أن يتوجّه الأمر نحوها مرّتين إلّا إذا حصّصت ، وإلّا لزم اجتماع المثلين وهو محال فلا بدّ عند توجّه أمرين من فرض تحصّصها بحصّتين يكون كلّ أمر متّجها نحو حصّة. وحينئذ فظهورها في كون الوجوب متّجها نحو الطبيعة من غير تحصّص مع ظهورها في الحدوث عند الحدوث لا يمكن ، فلا بدّ من رفع اليد عن أحدهما فيقع الكلام في ذلك ، ويكون هذا هو مبنى المسألة.

إذا عرفت هذين الأمرين فيقع الكلام فيما يستظهر من الأدلّة بعد أن عرفت أنّ مقتضى الأصل العملي هو وحدة التكليف لأصالة البراءة من التكليف الثاني ، فنقول : إنّ محلّ الكلام هو ما إذا كان السبب قابلا للتعدّد ، أمّا ما لا يقبل التعدّد مثل

__________________

(١) انظر المنتهى ١ : ١٠٧ ، والمسالك ١ : ١٩٩ ، وعوائد الأيام : ٢٩٤ وغيره.

(٢) انظر الإيضاح ١ : ٤٨.


قوله : «من أفطر في نهار شهر رمضان متعمّدا» بناء على أنّ المراد به نفس الإفطار لا كناية عن الأكل فليس داخلا في محلّ الكلام ؛ إذ بالأكل قد أفطر فلا يكون الأكل الثاني ولا الارتماس مفطرا حينئذ.

إذا عرفت هذا فنقول : الأقوال في المسألة ثلاثة : استظهار التداخل من الأدلّة. واستظهار عدم التداخل. والتفصيل بين تعدّد السبب جنسا فالتعدّد واتّحاده جنسا فالتداخل ، نظرا إلى أنّ الطبيعة هي موضوع الحكم والطبيعة لا تتعدّد بتعدّد أفرادها ، فلو أتى بالطبيعة مرّتين فالطبيعة لم تتعدّد فلم يتحقّق إلّا موضوع واحد ، بخلاف ما إذا كان الفردان من طبيعتين فإنّ كلّ فرد محقّق لطبيعة ، والمفروض أنّ كلّ واحدة من الطبيعتين موضوع لحكم الشارع ، فتكرّر الحكم حينئذ لتكرّر موضوعه.

ولا يخفى أنّ هذا التفصيل لا وجه له ؛ لأنّه إذا استظهرنا من الأدلّة كون كلّ من الموضوعين باستقلاله موضوعا لحكم الشارع مثلا فبإطلاقه يقتضي حدوث الحكم سبقه موضوع آخر أم لا ، فبحدوثه يحدث الحكم سواء سبقه موضوع آخر أم لم يسبقه. هذا إذا كان الجنس متعدّدا ، وكذا إذا تعدّد الفرد من جنس واحد فإنّ مقتضى جعل الحكم متعلّقا بالطبيعة كون الطبيعة موضوعا للحكم ، وحينئذ فهي منحلّة إلى كلّ فرد فرد من أفراد تلك الطبيعة ، فإنّها من قبيل القضايا الحقيقيّة كما في غير هذا المورد ، فإنّ كلّ موضوع لحكم شرعي ينحلّ الحكم فيه إلى أحكام بتعدّد أفراده من غير فرق بين كون القضيّة إخباريّة أم إنشائيّة. ولا يخفى أنّ هذا الظهور هو الذي يفهمه العرف من مثل هذه الجمل ، ومقتضاه نفي القول بالتفصيل ونفي القول بالتداخل. فيقع الكلام في أنّ هذا الظهور له معارض ليرفع اليد عنه أم لا؟

فنقول : ذكر القائلون بالتداخل أنّ هذا الظهور معارض بظهور الجملة بطلب صرف وجود الطبيعة وصرف الوجود غير قابل للاثنينيّة كما هو واضح ، فظهور الجزاء في الجملة الشرطيّة مثلا بصرف الوجود الغير القابل للاثنينيّة عقلا يكون رافعا لظهور الجملة الشرطيّة في تكرار الحكم ، فيرتفع ظهورها في الحدوث عند


الحدوث ، وإلّا لزم اجتماع المثلين وهو محال ، فإذا ارتفع الظهور فالمرجع هو الأصل العملي وهو وحدة التكليف لأصالة البراءة.

والجواب : أنّ صرف الوجود لا تدلّ عليه المادّة لعدم دلالتها على أزيد من الطبيعة ، ولا تدلّ عليه الهيئة لعدم دلالتها على أزيد من الطلب كما ذكره القوم. وعلى اعتبار الفعل في ذمّة المكلّف على ما ذكرناه فصرف الوجود غير مدلول لمادّة الجملة الإنشائيّة ولا لهيئتها ، والاكتفاء بالوجود الأوّل من جهة انطباق الطبيعة على أوّل الوجودات ، فافهم.

وحينئذ فلا مانع من أن يعتبر المولى في ذمّة المكلّف الطبيعة مرّتين ويكون مقتضى اعتبارها مرّتين أن يأتي بها المكلّف مرّتين من غير تعيين للأوّل ولا للثاني ، وإنّما يأتي بالطبيعة مرّتين نظير من استقرض من شخص خمسة دراهم ثمّ أتلف له شيئا قيمته خمسة دراهم فقد شغلت ذمّته بخمسة دراهم مرّتين فإذا أدّى خمسة دراهم بقيت عليه خمسة اخرى من غير تعيين لها أنّها للقرض أو للإتلاف لعدم التمييز في الواقع أصلا.

ثمّ إنّه ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره أنّه على تقدير التنزل وتسليم أنّ صرف الوجود مدلول للجملة فإنّه من باب عدم البيان فظهورها في التكرار يكون بيانا (١) ، ولا يخفى ما في هذا التنزّل ، فإنّ الصحيح هو الأوّل ، يعني إنكار دلالة الجملة على صرف الوجود وبه يرتفع المحذور ، وهذا الذي ذكرناه هو توضيح كلام العلّامة قدس‌سره فراجع.

ثمّ إنّ هذا الكلام كلّه كان في بيان أنّ التكليف واحد أم متعدّد ، وقد ظهر أنّ مقتضى الأصل العملي هو وحدة التكليف ؛ لأصالة البراءة ممّا زاد على المتيقّن.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ٢٦٨ ـ ٢٦٩.


ومقتضى الظهور اللفظي هو تعدّد التكليف ، ثمّ إذا ثبت تعدّد التكليف فهل يمتثل التكليفان بفرد واحد أم لا؟ ومقتضى الأصل العملي هنا هو عدم السقوط لاستصحابه ، إلّا أنّ الكلام في الظهور اللفظي فنقول : إنّ الظهور في المقام مختلف فإنّ متعلّقي التكليف لهذين التكليفين لا بدّ أن يكون بينهما إحدى النسب الأربعة :

فإن كانا متساويين كما إذا قال : «أكرم رجلا» ثمّ قال ثانيا بتكليف ثاني : «أكرم رجلا» بحيث إنّ هناك عقابين بمخالفتهما فمقتضى القاعدة في المقام والظهور العرفي لزوم إكرامين لهذه الطبيعة ، فبأحد الإكرامين يمتثل أحد الإكرامين ، ويبقى الواجب الثاني بغير امتثال ، وإن لم يتعيّن ما امتثل ممّا لم يمتثل لعدم المائز الواقعي بينهما والتداخل في المقام ، مضافا إلى كونه خلاف ظاهر اللفظ عرفا غير معقول ، للزوم اللغويّة حينئذ في الأمر الثاني ، إذ لو كان غرض المولى يحصل بأحد الإكرامين يكون أمره الثاني لغوا.

وإن كانا متباينين فهو أجنبيّ عن باب التداخل لعدم وحدة في الامتثال ، نعم قد يكون امتثال أحد التكليفين موجبا لسقوط التكليف الثاني لكنّه محتاج إلى بيان ، وإلّا فصرف اللفظ لا يقتضي ذلك.

وإن كان بينهما عموم مطلق كما إذا ورد : أكرم عالما ، ثمّ ورد بتكليف ثاني غير الأوّل : أكرم عالما هاشميّا ، فهنا لو أكرم أوّلا عالما غير هاشمي فلا بدّ من إكرام العالم الهاشمي بعد ذلك ، لعدم سقوط أمره. أمّا لو أكرم عالما هاشميّا فلا ريب في التداخل حينئذ ؛ لأنّه بعد أن كان الأمر الأوّل مطلقا بالإضافة إلى كونه هاشميّا وعدمه فالترخيص في التطبيق إلى المكلّف ، وقد ذكرنا أنّ الفرد الخارجي ليس بمأمور به وإنّما يكون به الامتثال ، لانطباق الطبيعة المأمور بها عليه. فإكرام العالم الهاشمي يمكن أن يكون امتثالا للأمر الأوّل وللأمر الثاني أيضا ، فينطبق كلا المأمور بهما عليه ، ولا يرد مثله في المتساويين للزوم اللغويّة المنفيّة في المقام بإمكان إكرام عالم غير هاشمي أوّلا فيكون الأمر الثاني بمحلّه.


وإن كان بينهما عموم من وجه فالكلام الكلام فإذا قال المولى : أكرم عادلا ، وقال ثانيا : أكرم عالما ، فلو أكرم العادل الغير العالم ، وأكرم العالم الغير العادل فقد سقط التكليفان لتحقّق امتثالهما ، وإن أكرم العالم العادل فقد سقط كلا التكليفين ؛ لأنّ أمر «أكرم عالما» مطلق بالإضافة إلى العادل وغيره ، وكذا أكرم عادلا مطلق بالإضافة إلى العالم وغيره ، فقد رخّص في تطبيق كلّ من الطبيعتين بما يجتمع مع الآخر بمقتضى الإطلاق. فهذا الفرد الخارجي ـ وهو إكرام العالم العادل ـ قد انطبق كلّ من التكليفين عليه ، فلا بدّ من سقوطهما معا. ومن هذا القبيل ما ذهب إليه بعضهم من إمكان نيّة صلاة الغفيلة بنافلة المغرب ؛ لأنّه لم يشترط في نافلة المغرب أن لا يقرأ فيها الآيات المعتبرة في صلاة الغفيلة والنسبة عموم مطلق ، فإذا أتى بها بنيّة نافلة المغرب فقد أتى بكلّ منهما (١) هذا في غير الامور القصديّة.

وأمّا الامور القصديّة فلا ريب في توقّفها على القصد كما ورد النصّ بذلك في الغسل (٢) ، فإذا قصد المكلّف بغسله الجنابة والحيض والجمعة والعيد ومسّ الميّت أجزأه ذلك الغسل قطعا ، وإن قصد بعضها لم يجزئ في غير الجنابة ، فإنّها مجزئة للنصّ بذلك أيضا (٣). وهل الوضوء كالغسل فيعتبر فيه قصد رفع الحدث من جهة النوم ، ومن جهة البول ، ومن جميع جهات الحدث ، فرفع جهات الحدث فيه موقوف على القصد أم لا؟ فلو قصد بعضها دون الآخر فهل يصحّ وضوؤه أم لا؟ وجهان بل قولان : فقول بالصحّة ؛ لأنّ قصد رفع الحدث متحقّق وهو لا يتبعّض ، وقول بالبطلان ؛ لأنّ قصد رفع حدث النوم بخصوصه دون حدث البول تناقض ، فيبطل لذلك لأوله إلى عدم قصد رفع الحدث. وقد اختار الميرزا النائيني

__________________

(١) انظر الجواهر ٧ : ٤٠ ـ ٤١.

(٢) انظر الوسائل ١ : ٥٢٥ ، الباب ٤٣ من أبواب الجنابة.

(٣) انظر المصدر السابق.


البطلان لذلك (١) ، والظاهر صحّة الوجه الأوّل وصحّة الوضوء ؛ لأنّ التناقض وإن كان متحقّقا كما أفاده الميرزا النائيني قدس‌سره إلّا أنّه لا يعتبر في صحّة الوضوء ورافعيّته للحدث إلّا إتيان أفعال الوضوء بنيّة صالحة كما في الخبر (٢) ولا يضرّ نيّة عدم الرفع ؛ لأنّ ترتّب رفع الحدث على الوضوء الصحيح ترتّب قهري ، فافهم فإنّه لا يخلو عن دقّة وتأمّل.

فصل في مفهوم الوصف

إذا علّق الحكم على وصف فهل يقتضي انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف أم لا؟ وقبل ذلك والخوض فيه ينبغي ذكر امور :

الأوّل : أنّ الكلام في الوصف المعتمد على موصوف ، فمثل الوصف الغير المعتمد خارج عن محلّ الكلام. وما قيل : من أنّ تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلّية (٣) وإن كان صحيحا إلّا أنّ مجرّد العلّية لا يثبت بها المفهوم ما لم يعلم انحصارها وهو معلوم.

ثمّ إنّه لا بدّ من كون الوصف مقتضيا للتضييق بالنسبة إلى الموصوف ، فمثل الوصف المساوي للموصوف ـ كأكرم الإنسان الكاتب بالقوّة ـ أو الأعمّ مثل أكرم الإنسان الماشي بالقوّة فهو كغير المعتمد على الموصوف خارج عن محلّ الكلام ، فمحلّ الكلام هو الوصف الأخصّ مطلقا ـ كأكرم الإنسان العالم ـ أو الأخصّ من وجه كأكرم الرجل العادل. فيقع الكلام حينئذ في أنّ أكرم الرجل العادل هل يتكفّل بيان حكمين ـ أحدهما إيجابي وهو إكرام الرجل العادل ، والآخر سلبي وهو حرمة

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ٢٧٢.

(٢) انظر الوسائل ١ : ٣٥ ، الباب ٦ من أبواب مقدّمات العبادات ، الحديث ٢.

(٣) انظر اللمعة الدمشقية وشرحها ١ : ٣٣ في مصادر التحقيق والحاشية على تهذيب المنطق : ٨.


إكرام غير العادل ـ أو أنّه لا يتكفّل إلّا حكم المنطوق وأنّ موضوع حكمه مخصّص بهذه الخصوصيّة ويكون غير واجد الخصوصيّة مسكوتا عنه فجاز أن يثبت بدليل آخر وجوب إكرامه أيضا.

الثاني من الامور : أنّ مسألة مفهوم الوصف أجنبيّة عن مسألة أنّ الأصل في القيود كونها احترازيّة ، وكذا هي أجنبيّة عن أنّ تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلّية.

أمّا الثاني فواضح ، وقد مرّ أنّ صرف العلّية لا تقتضي المفهوم ، بل لا بدّ من انحصارها.

وأمّا كون الأصل في القيود كونها احترازيّة فهي أيضا أجنبيّة عن محلّ الكلام ؛ لأنّها قيلت في مقام احتمال أنّ المولى إذا قال : «ائتني بماء بارد» أنّ قصده وطلبه قد تعلّق بمطلق الماء ، وإن ذكر البارد ؛ لأنّ الحارّ مثلا بعيد المسافة لا لخصوصيّة في البارد. ولا ريب أنّ هذا خلاف ظاهر اللفظ ، فإنّ ظاهر قوله : «ائتني بماء بارد» كون قيد البرودة مقصودا بالطلب لا أنّ الطلب مطلق إلّا أنّ هذا لا يقتضي إلّا تقييد موضوع المنطوق.

وأمّا دلالته على المفهوم ـ وهو انتفاء سنخ الحكم عن غير محلّ الوصف ـ فلا ، ومن هنا نقول بكون القيد ظاهرا في الاحتراز ، ولا نقول بمفهوم الوصف كما سيأتي.

ثمّ إنّ الوصف إذا كان أعمّ من وجه من الموصوف كما في أكرم الرجل الطويل مثلا ، فعلى تقدير القول بالمفهوم إنّما ينفي الحكم عن الرجل القصير بالدلالة المفهوميّة ، وأمّا المرأة القصيرة فلا يدلّ المفهوم على نفي الحكم عنها.

فما يظهر من بعض الشافعيّة (١) : من نفي الزكاة عن الإبل المعلوفة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : في الغنم السائمة زكاة (٢) ليس بصحيح ؛ لأنّ انتفاء الوصف عن الموضوع هو الدلالة

__________________

(١) انظر التذكرة ٥ : ٤٦ ، والمعتبر ٢ : ٥٠٥ في الشرط الثاني من شروط وجوب زكاة الأنعام.

(٢) انظر الوسائل ٦ : ٨٠ ، الباب ٧ من أبواب زكاة الأنعام ، وفي الحديث ٥ منه : «إنّما الصدقات على السائمة الراعية».


المفهوميّة على تقديرها ، وأمّا نفي الحكم لنفي الوصف عن غير الموضوع فلا هو من دلالة المفهوم ولا المنطوق ، فافهم.

ثمّ إنّ الوصف الذي هو محلّ الكلام ليس خصوص الوصف النحوي ، بل مطلق ما يكون مقيّدا جيء به للاحتراز وإن كان جامدا ، فيدخل فيه مثل الجارّ والمجرور في قوله : صلّ إلى القبلة مثلا. فلو ابدل بالقيد فقيل : مفهوم القيد كان أوضح دلالة على المقصود (١).

ثمّ [إنّ] الظاهر أنّ الوصف الذي ذكرناه لا يدلّ على المفهوم أصلا ؛ (لعدم الفرق في نظر العرف بين قولنا : «أكرم إنسانا ، وأكرم حيوانا ناطقا» في كون المفهوم لزوم إكرام الإنسان ، أمّا إكرام غيره فمسكوت عنه من غير دلالة على نفيه. نعم لو اريد من المفهوم أنّ للوصف دخلا في الحكم فليس وجوب الإكرام في «أكرم الرجل العالم» ثابتا لمطلق الرجل ، بل للعلم مدخليّة فيه ، فلا ريب في ظهور الجملة الوصفيّة في ذلك ، فافهم) (٢).

نعم ، إن كان القيد قيدا للحكم فمقتضى تقييد الحكم بذلك القيد انتفاؤه عن غير مورد القيد ، وقد ذكرنا مرارا إمكان رجوع القيد إلى الحكم ؛ لأنّ الحكم الذي هو اعتبار شيء على المكلّف يمكن أن يكون ذلك الاعتبار مطلقا ، ويمكن أن يكون الاعتبار على تقدير من التقادير ، فلا مانع منه. وأمّا إذا كان القيد قيدا للموضوع أو قيدا للمتعلّق فالأوّل نظير قوله : «المالك لمائتي درهم يجب عليه الزكاة» والثاني مثل قوله : «صلّ إلى القبلة» فلا يدلّ إلّا على أنّ موضوع الحكم خاصّ بهذا ، فهو ساكت عن غيره لا أنّه يقتضي نفي الحكم عن غيره لعدم دلالته على انحصار علّة الحكم ولو استفيدت العلّية في بعض الأوصاف ـ وهي الأوصاف النحويّة ـ إلّا أنّ صرف العلّية لا يجدي ما لم يثبت الانحصار.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٣٨ ، الباب ١٣ من أبواب مكان المصلّي ، الحديث ٣.

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.


وبالجملة ، فمحلّ الكلام في الوصف لا يدلّ على المفهوم إلّا أن يثبت انحصار علّة الحكم في الوصف.

وأمّا ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره : من ثبوت المفهوم في صورة انحصار العلّة وفي صورة كون القيد راجعا إلى الحكم (١) فصحيح بالنسبة إلى انحصار العلّة كما قرّرنا ، ولكنّه بالإضافة إلى رجوع القيد إلى الحكم فهو وإن صحّ كبرى إلّا أنّ هذه الكبرى لا مصداق لها فيما هو محل الكلام من الأوصاف ، فإنّ إرجاع القيد فيها إلى الحكم ولو بالقرينة ملحق بالغلط في المتفاهمات العرفيّة في اللغة العربيّة وغيرها.

هذا تمام الكلام في مفهوم الوصف.

(وقد استدلّ القائلون بحجّية مفهوم الوصف بلغويّة ذكر الوصف إن لم ينتف الحكم بانتفائه ، وهذا الدليل موقوف على عدم تحقّق فائدة لذكر القيد إلّا الانتفاء عند الانتفاء. وبكون القيود احترازيّة ، وقد تقدّم جوابه. وبكون تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلّية ، وقد تقدّم جوابه أيضا) (٢).

وقد وقع الفراغ من تحريره على يد محرّره محمّد تقي في الثلث الأوّل من ليلة الأربعاء المصادفة ليلة السادسة والعشرين من شهر ذي الحجة من شهور سنة الألف والثلاثمائة والحادية والسبعين هجريّة على مهاجرها أفضل الصلاة والتحيّة ـ نجف ـ محمد تقي آل صاحب الجواهر. ومن الله نستمدّ التوفيق فإنّه الكفيل بالهداية إلى سبيله لمن جاهد واجتهد وهو وليّ التوفيق ، والحمد لله أوّلا وآخرا ، والصلاة والسلام على محمّد وآله باطنا وظاهرا ، واللعنة الدائمة على أعدائهم غائبا وحاضرا.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٧٧.

(٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.


في مفهوم الغاية

هل الجملة المغيّاة بغاية تدلّ على انتفاء الحكم عمّا بعد الغاية أم لا؟ ولا يخفى أنّ الجملة المغيّاة بغاية فيها نزاعان :

أحدهما : راجع إلى المنطوق ، وهو أنّ الغاية داخلة في المغيّا في الحكم أم خارجة عنه؟

الثاني : نزاع المفهوم.

ولنقدّم الكلام في الثاني ، فنقول : هل تدلّ الجملة المغيّاة بغاية على أنّ ما بعد الغاية أو أنّ الغاية وما بعدها محكوم بخلاف الحكم المذكور قبل الغاية أم لا تدلّ؟ قد ذكرنا في مفهوم الشرط ضابطة للقول بالمفهوم وعدمه ، وهو : أنّ القيد إن كان قيدا للحكم فلا بدّ من انتفاء الحكم عند انتفائه ، وإلّا لم يكن قيدا له وهو خلاف الفرض ، وإن كان قيدا للموضوع أو للمتعلّق فلا يدلّ على أزيد من حكم المنطوق ؛ إذ إثبات شيء لشيء لا يلزم منه نفيه عمّا عداه. وقد استظهرنا أنّ الشرط راجع إلى الحكم فحكمنا بحجّية المفهوم في الجملة الشرطيّة ، وأنّ القيد راجع إلى الموضوع أو المتعلّق في الجملة الوصفيّة ومن ثمّ لم نحكم فيها بحجيّة المفهوم.

ولكن مفهوم الغاية وسط فلا يمكن أن يدّعى ظهوره في أحد الأمرين بل يختلف باختلاف المقامات :

فإن علم رجوع القيد فيها إلى الموضوع أو المتعلّق مثل قوله : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ)(١) فإنّ اليد لمّا كانت قد تطلق على المجموع إلى الكتف وتطلق على بعضها كالكفّ والأصابع وإلى المرفق حدّد الموضوع فيها فحكم بوجوب غسل هذا الموضوع فلا تدلّ الجملة على نفيه عمّا عداه كمفهوم الوصف.

__________________

(١) المائدة : ٦.


وإن لم يعلم ذلك فإن كان الحكم في الجملة مستفادا من الهيئة الذي هو معنى حرفي فالظاهر من جميع القيود كونها راجعة إلى الفعل ومادّة الهيئة ؛ لأنّها من ملابسات الأفعال وحينئذ فلا دلالة لها على المفهوم ، وإن لم يكن مستفادا من معنى حرفي بل من معنى اسمي فإن لم يكن المتعلّق مذكورا في الكلام ـ كأن قال : يحرم الخمر إلى أن يضطرّ إليه مثلا ـ فهو ظاهر في رجوع القيد إلى الحكم فتدلّ على المفهوم ، وإن كان المتعلّق مذكورا كأن قال المولى : «يجب الصيام إلى الليل» فالجملة محتملة لأن يرجع القيد فيها إلى الوجوب وأن يرجع فيها القيد إلى الواجب أيضا ولا معيّن من ظهور عرفي في أحدهما ، وحينئذ فإن كان هناك معيّن من قرينة حاليّة أو مقاليّة تدلّ على رجوعه إلى الوجوب عمل به فحكم بالمفهوم ، وإن كان هناك قرينة حاليّة أم مقاليّة تدلّ على رجوعه إلى الواجب حكم بمقتضاه وأن لا مفهوم ، وإن لم يكن قرينة أصلا كان الكلام مجملا فلا يدلّ على المفهوم. هذا تمام الكلام في النزاع في دلالة الغاية على المفهوم وعدم الدلالة.

وأمّا الكلام في النزاع الثاني (١) وهو دلالة المنطوق من أنّ الغاية داخلة في المغيّا أم أنّها خارجة عنه ، ولا يخفى أنّ هذا النزاع إنّما يتصوّر حيث تكون الغاية غاية للموضوع مثل قوله : (إِلَى الْمَرافِقِ) فيتكلّم في أنّ المرفق داخل في اليد حتّى يجب غسلها أم غير داخل فلا يجب غسل المرفق.

أو تكون غاية للمتعلّق مثل «صم إلى الليل» فإنّ الليل وإن لم يتصوّر كونه داخلا في الصوم إلّا أنّه داخل فيه حكما ، بناء على دخول الغاية في المغيّا.

وأمّا إذا كانت الغاية غاية للحكم فلا يتصوّر أن تكون غاية الحكم داخلة في الحكم موضوعا أو حكما ، ومن هنا ينحصر النزاع في دخول الغاية في المغيّا فيما تكون الغاية غاية للموضوع أو غاية للمتعلّق ولا مجال له حيث يكون غاية للحكم أصلا.

__________________

(١) كذا في الأصل ، والصواب : الأوّل.


وبالجملة : فالأقوال في المسألة كثيرة ، منها : القول بالدخول على الإطلاق ، والقول بالخروج على الإطلاق ، والتفصيل بين كون الغاية من جنس المغيّا فتدخل أو من غير جنسه فلا تدخل ، والتفصيل بين كون أداة الغاية «حتّى» فتدخل الغاية ؛ لأنّها موضوعة لإدخال الفرد الخفيّ أو «إلى» فلا تدخل الغاية ، واستقربه الميرزا النائيني قدس‌سره (١).

والظاهر أن لا قاعدة كلّية يمكن أن يستند إليها في دخول الغاية في المغيّا وخروجها عنه فلا بدّ من الاستناد في ذلك إلى قرائن المقام ، ومع انتفائها يحكم بإجمال اللفظ والرجوع إلى الأصل العملي. وما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره لا يخفى ما فيه فإنّ «حتّى» المستعملة في إدراج الفرد الخفيّ هي «حتّى» العاطفة كما في قولك : مات الناس حتّى الأنبياء ، وليس فيها دلالة على الغاية أصلا.

في مفهوم الحصر

لا ريب في دلالة «إنّما» على الحصر وإن اختلف في كونها كلمة برأسها أو مركّبة من «أن» و «ما». كما أنّه لا ريب في دلالة «إلّا» على الحصر حيث تكون استثنائيّة لا وصفيّة ، وتكون دالّة حينئذ على مخالفة حكم المستثنى منه للمستثنى. وهل دلالتها على الحصر مستند إليها وإنّها موضوعة لذلك مثل «إنّما» أم إنّها موضوعة لإثبات خصوصيّة في المستثنى منه تستدعي تلك الخصوصيّة تخصيص الحكم بالمستثنى منه فينتفي عن المستثنى؟ لا يترتّب على ذلك ثمرة مهمّة تستدعي البحث عن ذلك.

وقد نسب الخلاف إلى الإمام الرازي فزعم أنّ «إنّما» لا تدلّ على الحصر وقد ذكر ذلك في تفسيره في آية : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ)(٢) فإنّه بعد أن رمى كلّ سهم

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٧٩.

(٢) المائدة : ٥٥.


في كنانته في منع نزولها في عليّ عليه‌السلام ، وبعد تسليم نزولها زعم أن لا حصر ؛ لأنّ إنّما لا تدلّ على الحصر. واستدلّ على عدم إفادتها الحصر بقوله تعالى : (أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ)(١) فإنّ الحياة الدنيا ليست منحصرة في ذلك بل فيها عبادة وتقوى وصلاح وعلم وغير ذلك (٢)(*).

وفيه : أوّلا النقض بقوله تعالى : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ)(٣) مع تسليمه دلالة إلّا على الحصر.

__________________

(١) الحديد : ٢٠.

(٢) التفسير الكبير ١٢ : ٢٥ ـ ٣٠.

(*) لا يخفى أنّ الموجود في تفسير الرازي إصراره على عدم دلالة هذه الآية على ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام وقد ذكر في توجيه مدّعاه امورا لا تليق بمقامه العلمي ، منها : إنكار دلالة (إنّما) على الحصر ، وقد استدلّ بورودها لغير الحصر في القرآن بآيتين :

الاولى : هي قوله : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ) [يونس : ٢٤] بتقريب أنّه لا ينحصر مثل الحياة الدنيا بذلك بل كلّ فان فهو مثل من أمثال الحياة الدنيا.

وفيه : أوّلا : أنّ المراد من الدنيا (فعلى) صفة للحياة لا الإضافة ، وثانيا : أنّه إنّما حصر مثلها بمشابه الماء فكأنّه قال : كلّ مثل يذكر للحياة الدنيا هو مضافة مثل الماء إلى آخره. وهذا لا إيراد عليه ، نعم لو حصر مثل الحياة الدنيا بنفس الماء لكان الإيراد متوجّها إلّا أنّ الكاف بقوله : (كَماءٍ ...) إلى آخره ، رفع الإشكال.

الثانية : الآية التي ذكرناها بتقريب أنّ اللهو واللعب ليس منحصرا في الدنيا بل يجوز أن يكون في الجنّة لهو ولعب أيضا. والجواب هو ما ذكرناه في المتن. وأمّا الحصر فهو حصر الحياة الدنيا في اللهو واللعب لا حصر اللهو واللعب في الدنيا كي يتمّ ما ذكره من وجود اللهو واللعب في الجنّة أيضا ، فافهم وتأمّل.

(٣) الحديد : ٢٠.


وثانيا بالحلّ ، والظاهر أنّ تعصّبه أعماه عن الحقّ فإنّ الحياة في المقام ليست مضافة إلى الدنيا ليكون المراد بها الحياة في الدنيا ، وإنّما الدنيا بمعنى الدنيّة صفة للحياة ، والمراد إنّما الحياة الدنيئة لعب ولهو ، ولا ريب في أنّ الحياة الدنيئة منحصرة بما ذكر ، كيف تكون مضافة مع اقترانها باللام الذي لا يجتمع مع الإضافة كما قرّر في النحو ، ولكنّ التعصّب قد يبلغ بالإنسان حدّا يعمي فيه بصره مضافا إلى عمي بصيرته. اللهمّ إنّي أعوذ بك من هذا التعصّب الأعمى فإنّ إنكار دلالة إنّما على الحصر إنكار لبداهة اللغة العربيّة وضرورتها ، والرازي لا ينكر أدبه ومعرفته باللغة وأدبيّاتها ولكنّ التعصّب يعمي ويصمّ ويخرس.

وأمّا «إلّا» فدلالتها على الحصر وكون ما بعدها مخالفا لما قبلها حكما أمر عرفي لا يرتاب فيه ذو مسكة أصلا ، وقد خالف أبو حنيفة فزعم أنّها لا تفيد الحصر واستدلّ بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا صلاة إلّا بطهور» (١) وأنّه لو دلّت على الحصر للزم أن يكون الطهور صلاة وإن لم يضمّ إليه بقيّة الأجزاء والشرائط (٢).

ولا يخفى ما في هذا الكلام من الضعف فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقل : «لا صلاة إلّا طهور» ليتوهّم هذا المعنى وإنّما قال : «لا صلاة إلّا بطهور» فقرنه بالباء التي هي بمعنى «مع» أي لا صلاة إلّا مع الطهور نظير قوله : «لا عمل إلّا بنيّة» (٣) فهو لا يقتضي أنّ النيّة هي العمل إلى غير ذلك من الأمثلة.

وقد استدلّ على إفادة إلّا الحصر بقبول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إسلام من نطق بكلمة التوحيد ، فلولا إفادتها الحصر لم يكن معنى للقبول (٤). ولا يخفى أنّ دلالة «إلّا»

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٥٦ ، الباب الأوّل من أبواب الوضوء ، الحديث ١ و ٦.

(٢) انظر المستصفى من علم الاصول : ٣٢٩ ، ونهاية الوصول (مخطوط) : ١٥١ ، وشرح مختصر الاصول ١ : ٢٦٤ ـ ٢٦٥.

(٣) الوسائل ١ : ٣٣ ، الباب ٥ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث الأوّل.

(٤) مطارح الأنظار ٢ : ١٠٦.


الاستثنائيّة على الحصر ليست محتاجة إلى إقامة الدليل كي يحتجّ بما ذكر ليردّ بأنّ القبول كان للاحتفاف بالقرينة مثلا.

بقي الكلام في الإشكال المعروف في كلمة التوحيد وأنّ الخبر إن قدّر موجود فلا ينفي إمكان الغير فلا تنفي الشريك ، وإن قدّر ممكن فهو مثبت لإمكان «الله» لا لوجوده إذ ليس كلّ ممكن موجودا.

والجواب : أنّ الإمكان الخاصّ لا يمكن أن يتحقّق لله تعالى ؛ إذ المفروض أنّ لفظ «إله» بمعنى واجب الوجود ، ولا يمكن أن يثبت لواجب الوجود الإمكان الخاصّ ؛ لأنّ الكلام يتنافى ، فلا بدّ من أن يراد من الإمكان الإمكان العامّ. وحينئذ فنفي الإمكان العامّ عن غيره نفي لوجود غيره ، وإثبات الإمكان العامّ له إثبات لوجوده. فلا مانع من تقدير الخبر «ممكن» ويثبت التوحيد بوجوده ونفي إمكان الشريك له ، كما أنّه يمكن أن يقدّر «موجود» ونفي الوجود عن الواجب الوجود نفي لإمكانه. فاتّضح أنّه يمكن أن يقدّر كلمة «ممكن» ولا إيراد ، كما يمكن أن يقدّر لفظ «موجود» ولا إيراد أيضا. ثمّ إنّ الكلام في «بل» و «اللام» وإفادتهما الحصر وعدمها كالكلام في مفهوم اللقب والعدد قد كفانا مئونتها صاحب الكفاية قدس‌سره بكفايته (١)(*).

فيقع الكلام في العموم والخصوص.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٥٠.

(*) وقد نقل عن واعظ كان يعظ في بعض مساجد أصفهان وكان يبالغ في فضل التهليل فدخل حينئذ الجاحظ وجلس تحت منبره مقدارا ثمّ قال له : أيّها الشيخ إنّ لي إشكالا ، فقال له الواعظ بداهة : الذي كان يبلغنا عنك أنّ لك إشكالا في الولاية ولم يبلغنا عنك أنّ لك إشكالا في التوحيد أيضا ، وعاد الشيخ إلى وعظه. (الجواهري).



في العموم والخصوص

العموم الاصولي هو اللفظ الدالّ على شمول ما تحته من الأفراد بالوضع ، وأمّا ما يفيد الشمول بواسطة مقدّمات الحكمة كما في مثل (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) حيث إنّ حلّية بيع غير معيّن لا فائدة فيه ولا وجود له ، وواحدا معيّنا عنده غير معيّن عندنا لا جدوى فيه. فتعيّن إرادة العموم بمقدّمات الحكمة ، فهذا لا يسمّى بالعموم الاصولي ، بل يصطلح عليه الاصوليّون بالمطلق الشمولي ، ولا ثمرة في بيان هذا الاصطلاح إلّا ما سيأتي في باب الترجيح حيث يتعارض العامّ الاصولي مع الإطلاق الشمولي فقد ذكرنا هذا الاصطلاح لمعرفة مرادهم هناك.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ لفظ رجل بالنسبة إلى أجزائه ليس من قبيل العامّ الاصولي وإن صدق عليه العموم اللغوي باعتبار شموله لأجزائه إلّا أنّه ليس عامّا اصوليّا ؛ لأنّه لم يدلّ على شمول ما تحته من الأفراد بل من الأجزاء كألفاظ الأعداد من عشرة ومائة فإنّ ما تحتها أجزاء لها. نعم لو اضيف إليها كلمة «كلّ» فقيل كلّ عشرة خمستان كانت عامّة لكلّ فرد من أفراد العترة ، وهذا واضح جدّا.

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.


ثمّ إنّ العموم يختلف فإنّ المتكلّم قد يلحظ الطبيعة ويحكم عليها ملاحظا لها فانية في كلّ فرد فرد من الأفراد ، وهو المعبّر عنه بمطلق الوجود وبالعموم الاستغراقي ، وحكمه أنّه ينحلّ الحكم إلى أحكام بعدد الأفراد ، فيكون لكلّ فرد امتثال وعصيان مستقلّ.

وقد يلحظ الطبيعة فانية في جميع الأفراد فناء واحدا ويحكم عليها بهذا اللحاظ ، ويسمّى بالعموم المجموعي ، ويكون الامتثال عبارة عن الإتيان بإكرام مجموع العلماء حيث يقول : «أكرم العلماء» بهذا اللحاظ ؛ إذ المأمور به إكرام المجموع فلو أكرمهم إلّا واحدا فلم يمتثل ذلك التكليف ، إذ هو واحد ليس إلّا ، فإمّا أن يمتثل وأمّا أن يعصى.

وقد يلحظ الطبيعة فانية في أوّل وجود فرد من أفرادها ، وهو المعبّر عنه بصرف الوجود وبالعموم البدلي.

فمثال الأوّل أن يقول : أكرم كلّ عالم ، ومثال الثاني أن يقول : أكرم مجموع العلماء ، ومثال الثالث أن يقول : أكرم أيّ عالم. ويلزم العموم البدلي الترخيص في التطبيق على كلّ فرد من الأفراد.

ثمّ إنّه لا يكاد يشتبه العموم البدلي بأحد القسمين الأوّلين إلّا أنّ العموم الاستغراقي مع المجموعي كثيرا ما يشتبه المراد منه فهل هناك أمر يعيّن أحد العمومين؟ ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره أنّ الأصل في العموم الاستغراقي ، فإن علم إرادة المجموعي وإلّا فيحمل على الاستغراقي. وقد ذكر في وجهه أنّ المجموعي يحتاج إلى لحاظ المجموع والأصل عدمه (١). ولا يخفى أنّ المقام ليس من قبيل الأقلّ والأكثر بل من قبيل المتباينين ، فإنّ العموم المجموعي كالاستغراقي لا بدّ في كلّ منهما من لحاظ الطبيعة فانية فتارة في كلّ فرد فرد واخرى في المجموع فليسا من قبيل الأقلّ والأكثر ، وحينئذ ففي موارد الاشتباه لا بدّ من الرجوع إلى الاصول العمليّة لإجمال اللفظ ، فافهم.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٩٥.


في صيغ العموم

للعموم ألفاظ تخصّه مثل لفظ «كلّ» و «جميع» والجمع المحلّى باللام ، وللخصوص أيضا ألفاظ تخصّه أيضا مثل «بعض» وقد تستعمل ألفاظ العموم في الخصوص.

وقد ادّعى بعض أنّ جميع الألفاظ المفيدة للعموم موضوعة للخصوص ، لكونه قدرا متيقّنا ، ولكثرة التخصيص حتّى قيل : ما من عامّ إلّا وقد خصّ ، ولأنّه يلزم أن يكون المجاز أكثر من الحقيقة (١).

ولا يخفى ما في هذا الكلام ، فإنّ كونه متيقّنا لا يقتضي وضعه له ، كما أنّ كثرة التخصيص لا تستلزم ذلك ، وكون المجاز أكثر من الحقيقة ممنوع ، إذ التخصيص المتّصل ليس اللفظ مستعملا إلّا في ذلك المقدار من أوّل الأمر ، وأمّا المنفصل فغاية ما يدلّ على أنّ الإرادة الجدّية لم تكن موافقة للظاهر ، وكيف كان فالأمر أوضح من أن يحتاج إلى توضيح.

بقي الكلام في أنّ إفادة العموم في هذه الألفاظ المذكورة ـ من الجمع المحلّى باللام والنكرة في سياق النفي أو النهي ومن لفظ كلّ وجميع ـ هل هي بالوضع أم بمقدّمات الحكمة؟

ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره أنّ لفظ «كلّ» و «جميع» موضوعة لعموم المدخول ولكن لا تبيّن هي أنّ مدخولها ما هو ، فإذا قيل : «أكرم كلّ رجل» احتمل إرادة مطلق الطبيعة ، واحتمل إرادة نوع خاصّ منها تأخّر بيانه إلى وقت آخر واقتضت المصلحة تأخيره ، فلولا إجراء مقدّمات الحكمة في المدخول لم يتحقّق إرادة جميع الرجال.

__________________

(١) نسب ذلك إلى بعض المرجئة ، انظر المعتمد في اصول الفقه ١ : ١٩٤ ، والعدّة ١ : ٢٧٨.


وبالجملة ، فعموم مدخول كلّ موقوف على إجراء مقدّمات الحكمة فيه ثمّ عطف عليه في ذلك النكرة في سياق النفي والنهي والجمع المحلّى باللام (١). ووافقه على ذلك الميرزا النائيني قدس‌سره (٢).

والظاهر : التفصيل فإنّ النكرة في سياق النفي أو النهي كما أفادوا فإنّ «لا» النافية أو الناهية إنّما تنفي مدخولها وهو يختلف سعة وضيقا والنكرة في سياقه وإن اريد بها العموم إلّا أنّه عموم المدخول ، فتعيين المدخول يحتاج إلى معيّن وليس إلّا مقدّمات الحكمة. ولهذا إذا وردت النكرة في حكم إثباتي ووردت في نفي نفس ذلك الحكم وقع التعارض بينهما ، وليس إلّا لأجل أنّ النكرة في سياق النفي كالنكرة في الإثبات لا دلالة فيها على ما اريد منها سعة وضيقا إلّا أنّ لفظ «كلّ» و «جميع» ليس كذلك ، فإنّ الظاهر أنّ لفظ «كلّ» و «جميع» موضوعة لبيان عموم المدخول ، فهي بوضعها دالّة على إلغاء احتمال الخصوصيّات في المدخول. فلا يحتاج إلى إجراء مقدّمات الحكمة في إفادة عموم المدخول ؛ ولذا لو قال : «أكرم كلّ عالم» فسأله : من غير فرق بين العادل والفاسق؟ يقول : نعم. فإذا كرّر عليه السؤال يقول له : ألم أقل لك كلّ عالم فما معنى السؤال عن هذه الخصوصيّات إذ الظاهر أنّ لفظ «كلّ» و «جميع» بيان لذلك. وكم فرق بين ما كان العموم فيه من جهة بيان العموم وبين ما كان العموم فيه من جهة عدم بيان الخصوص. ومن ثمّ قدّمنا العموم فيها على العموم المحتاج عمومه إلى مقدّمات الحكمة عند تعارضهما ؛ لأنّ الثاني موقوف على عدم البيان وذاك بيان ، فافهم.

وأمّا الجمع المحلّى باللام فلا ريب في إفادته العموم ، ومن أنكر إفادته العموم فقد كابر وجدانه ، إلّا أنّ الكلام في أنّ هذه الإفادة مستندة إلى الوضع أم إلى مقدّمات الحكمة؟ الظاهر أنّها مستندة إلى الوضع لعين ما ذكر في لفظ «كلّ» من كونها

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٢٥٥.

(٢) انظر أجود التقريرات ٢ : ٢٩٢.


موضوعة لبيان إطلاق المدخول ، كما أنّه لو سأله عن الخصوصيّات لزبره ونسبه إلى عدم الفهم من جهة إهماله ما يستفاد من اللفظ ، لكنّ الكلام في أنّ إفادة العموم وإن استندت إلى الوضع إلّا أنّها هل هو وضع المدخول أم الهيئة التركيبيّة أم اللام؟ أمّا المدخول فليس موضوعا للعموم لعدم إفادة الجمع العموم في نفسه ، وأمّا الهيئة التركيبيّة فمع بعد تحقّق وضع للهيئة غير وضع المفردات في نفسه مستلزم لكون استعماله في العهد بأقسامه مجاز ، فتأمّل.

وأمّا اللام فالظاهر أنّها المفيدة للعموم والموضوعة لإفادته ؛ لأنّ اللام موضوعة للتعيين فإذا دخلت على الطبيعة أفادت تعيينها ، فقد تطلب تلك الطبيعة بنحو صرف الوجود فيكتفى بالفرد الأوّل ، وقد تطلب بنحو مطلق الوجود وقد يحكم عليه من حيث الطبيعة لا من حيث وجودها فيقال : الإنسان نوع مثلا. أمّا إذا دخلت على الجمع يعلم أنّ الأفراد ملحوظة للمتكلّم فليس مراده فيها الطبيعة قطعا بل المراد الأفراد ، وبما أنّ الأفراد مرادة بنحو التعيين ؛ لأن اللام مفيدة للتعيين فجميع الأفراد متعيّن دون غيره ؛ لأنّ غيره غير متعيّن بل مردّد.

وما يقال : من أنّ أقلّ الجمع متعيّن أيضا ، يدفعه أن غير متعيّن إذ كلّ ثلاثة أفراد من المدخول يحتمل أن يكون هو فهو معيّن من حيث كونه ثلاثة ، ولكن هذه الثلاثة غير مشخّصة أنّها أيّ الثلاثات ، فلا تعيين فيه من جميع الجهات ، كما هو شأن اللام.

وعلى هذا فاستعمالها في العهد بأقسامه حقيقة أيضا ؛ لأنّها للتعيين للمعهود إذ العهد معيّن. فهي ـ يعني اللام ـ مفيدة لكون مدخولها متعيّنا ، فقد يكون تعيينه بالعهد الذكري أو الذهني ، وقد يكون بعدم تعيّن غيره ، فافهم.

في العامّ المخصّص

والكلام في جهات :

الاولى في أنّ العامّ إذا خصّص فهل هو حقيقة أم مجاز أم يفصّل بين المتّصل فالأوّل والمنفصل فالثاني أو يفكّك في المتّصل بين الاستثناء وغيره؟


أقوال ، أمّا على ما ذهب إليه الآخوند قدس‌سره : من أنّ لفظ «كلّ» و «جميع» و «المعرّف باللام» مفيدة لعموم المدخول ، وأنّ المدخول لم يستعمل إلّا في الطبيعة المهملة ، وأنّ التعميم فيه كالتخصيص محتاج إلى دالّ آخر غيره فهو محتاج في استغراقه لجميع الأفراد إلى مقدّمات الحكمة فلا تخصيص في الحقيقة من أوّل الأمر بل إنّه لم يخصّص العامّ أصلا ، بل استعمل من أول الأمر في معناه وهو عموم المدخول ، وإنّ قول من قال «ما من عامّ إلّا وقد خصّ» كلام ليس على حقيقته ، بل مؤوّل ، من غير فرق بين المتّصل والمنفصل والاستثناء وغيره ، أمّا المتّصل فمن أوّل الأمر استعمل اللفظ في عموم المدخول فلم يستعمل في العموم أوّلا ثمّ عراه التخصيص فهو من قبيل ضيق فم الركيّة.

وبعبارة اخرى : المدخول ذو أفراد قليلة من غير فرق بين كون القيد المتّصل وجوديّا أم عدميّا كقولك : أكرم العلماء العدول أو غير الفسّاق. والاستثناء من قبيل القيود العدميّة ، وكذا المنفصل فإنّ وجود المخصّص كاشف عن أنّ المولى الذي لا يحتمل في حقه البداء ولا يكون حكم الثاني ناسخا بالمعنى المعروف للنسخ قد قيّد المدخول حينئذ بذلك المقدار الخاصّ لا أنّه استعمل في العموم ثمّ طرأ التخصيص.

وبالجملة ، فالتخصيص تقييد للمدخول سواء كان متّصلا أم منفصلا ، غايته أنّه في المتّصل يكون التقييد معلوما من أوّل الأمر ، وفي المنفصل ينكشف تقييد المدخول أخيرا عند العثور على المخصّص ، هذا كلّه بناء على ما ذهب إليه الآخوند قدس‌سره (١) ومتابعوه (٢).

وأمّا بناء على ما ذكرنا ـ من استناد العموم في المدخول إلى لفظ كلّ واللام وجميع ـ فقد يقال : إنّ استعمالها في بعض الأفراد استعمال في غير ما وضع له وليس

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٢٥٥ ـ ٢٥٧.

(٢) كالميرزا ، انظر أجود التقريرات ٢ : ٣٠٩ ـ ٣١٠.


المجاز إلّا ذلك ، إلّا أنّ التحقيق أنّه ليس مجازا أيضا في المتّصل والمنفصل. بيان ذلك محتاج إلى مقدّمة ، وهي أنّا قد ذكرنا في بحث الوضع أنّ الوضع هو تعهّد المتكلّم أنّه متى أراد تفهيم معنى من المعاني تكلّم باللفظ الفلاني الذي ينتقل السامع منه إلى المعنى من جهة الانس الحاصل من كثرة الاستعمال له فيه ، وحينئذ فتكون الألفاظ موضوعة لبيان أنّ المتكلّم في مقام بيان مراده فما يفيده اللفظ هو كون المتكلّم في مقام إبراز مراده به.

وأمّا الدلالة التصوّرية للألفاظ فليست مستندة إلى الوضع ، وقد مرّ تفصيل ذلك في بحث الوضع. وهناك إرادة اخرى وهي المعبّر عنها بالحجيّة وهي الإرادة الجدّية ، فإنّ من يريد إبراز مراده لا يلزم أن يكون جادّا ، بل قد يكون مراده الاستهزاء أو السخريّة أو التقيّة أو ضرب القانون أو غير ذلك من الإرادات الغير الجدّية ، وقد يكون جادّا إلّا أنّه إذا لم ينصب قرينة تحمل على أنّ الإرادة الجدّية على طبق الإرادة المستفادة من الوضع وإنّما يعدل عنها حيث تقوم القرينة على تخالف الإرادتين كما في المجاز وغيره.

ولا يخفى أنّ هذه الإرادة المعبّر عنها بالإرادة الجدّية ليست مستندة إلى وضع وإنّما استندت إلى بناء العقلاء.

إذا عرفت هذا عرفت أنّ التخصيص لا يستلزم المجازيّة ، أمّا في المتّصل فلأنّ بيان مراده كان مقتصرا على خصوص المقيّد بحيث لم ينعقد له ظهور بغيره.

وأمّا في المنفصل فلأنّ ظهور المخصّص المنفصل بعد ذلك إنّما يكشف عن أنّ الإرادة الجدّية لم تكن على طبق الإرادة الوضعيّة ولا تكشف عن أنّه لم يكن في مقام بيان مراده ليلزم استعمال اللفظ في غير ما وضع له ، بل إنّما تكشف عن عدم كون الإرادة للتعميم جدّية بل من باب ضرب القانون مثلا ، فليس فيه مخالفة للوضع أصلا فأين المجازيّة ، فافهم.

بقي الكلام في أمرين :


أحدهما : أنّ ما ذكرت وإن كان محتملا إلّا أنّه لا دليل على أنّ المولى قد استعمل اللفظ في العموم ، فمن المحتمل أنّه استعمله في الخصوص مجازا. وبالجملة فكلّ من الأمرين محتمل ولا معيّن لأحدهما.

والجواب : أنّ الاستعمال المجازي فيه مخالفة للوضع ومخالفة لبناء العقلاء ؛ إذ قبل ظهور المخصّص كان ظهور العموم مقتضيا لكون المولى أراد تفهيم العموم بهذا اللفظ ومقتضيا لكون الإرادة الجدّية على طبق الإرادة الاستعماليّة ، فبعد ظهور المخصّص يدور الأمر بين استعمال العموم في الخصوص فيرفع اليد عن كلا الظهورين وبين ما ذكرنا من مخالفة الإرادة الجدّية للإرادة الاستعماليّة وهو رفع لليد عن أحد الظهورين وهو الظهور المستند إلى بناء العقلاء.

وبالجملة ، فمخالفة الظهور إنّما يصار إليها عند الاضطرار إلى ذلك ، ولا ضرورة تقتضي رفع اليد عن كلا الظهورين لإمكان ما ذكرنا ، وإمكانه كاف في الالتزام به إذ بإمكانه تنتفي الضرورة إلى مخالفة الظهورين.

الثاني : أنّه ما الداعي للتكلّم بالعموم وتعلّق الإرادة الجدّية بغير العموم ، فلم لا يتكلّم بالخصوص من أوّل الأمر.

والجواب : أنّه في الموالي العرفيّة هو الجهل والغفلة عن التخصيص ، وفي المولى الحقيقي هو المصلحة في إظهار إرادة تفهيم العموم أو المفسدة في إظهار إرادة تفهيم الخاصّ من أوّل الأمر من تقيّة أو غير ذلك من الامور المختلفة باختلاف الموارد.

الجهة الثانية : في أنّ العامّ المخصّص حجّة في الباقي

لا ريب في كون العامّ المخصّص حجّة في الباقي من غير فرق بين كون المخصّص متّصلا أو منفصلا ، والدليل على ذلك فهم العرف من مثل العامّ إذا خصّص خروج خصوص ذلك الخاصّ عن حكمه وبقاء بقيّة الأفراد بحيث لو خالف فيها فلم يجر فيها حكم العامّ كان أهلا لأن يعاقب ، فهم يحتجّون بالعامّ على العبد حتّى بعد تخصيصه في غير ما خصّص.


وإنّما الكلام في وجه ذلك ، أمّا على مسلك الميرزا النائيني والآخوند قدس‌سرهما : من عدم كون ألفاظ العموم مستعملة في غير العموم ، وأنّها موضوعة لعموم المدخول ، وأنّ المدخول يختلف سعة وضيقا (١) فحجّيته ظاهرة ؛ لأنّ المدخول إذا ضاقت دائرته لم يخرج عن الحجّية من غير فرق بين المتّصل والمنفصل ، غاية الأمر أنّه في المنفصل ينكشف تقييد المدخول بعد ذلك وعند مجيء المخصّص المنفصل فهو قبل مجيئه توهم عموم للمدخول وأنّ دائرته واسعة ثمّ انكشفت حقيقة الحال بعد ذلك فظاهر إذ اللفظ بحاقّه دالّ على حجّيته في الباقي.

وأمّا على مسلكنا ـ من أنّ المتّصل من المخصّص ليس تخصيصا في الحقيقة بل هو من باب ضيق فم الركيّة ، وأنّ الإرادة الاستعماليّة والجدّية متّفقتان فيه ، وأنّ المنفصل من المخصّص وإن استعمل اللفظ فيه في العموم إلّا أنّ الإرادة الجدّية مختصّة بالخصوص وأنّ ذلك لا يضرّ بكون اللفظ مستعملا في معناه وحقيقة ـ فاللفظ بنفسه يدلّ على أنّ الباقي من الأفراد باق على حكمه السابق والدلالة حقيقة لا مجاز فيها أصلا.

وأمّا بناء على أنّ استعمال لفظ العموم في الخصوص مجاز فقد يقال بأنّ المعنى الحقيقي إذا لم يرد فالمجازات متكثّرة وتعيّن الباقي من بينها بلا معيّن ، وقد ذكر الشيخ الأنصاري قدس‌سره بتوضيح من الميرزا النائيني قدس‌سره لمرامه أنّ هذا المجاز ليس على حدّ غيره من المجازات الأفراديّة فإنّ لفظ الأسد مثلا قد وضع للحيوان المفترس ، فإذا علمنا بعدم إرادة المتكلّم لمعناه الحقيقي لا يمكن تشخيص المعنى المجازي المراد ؛ لأنّ المجازات حينئذ متباينة فتعيين بعضها بلا معيّن. وهذا بخلاف المجاز في لفظ العموم عند استعماله في الخصوص فإنّ دلالة العامّ على فرد غير منوطة بدلالته على الفرد الثاني ، وثبوت الحكم لبعضها أيضا لا يرتبط بثبوته للبعض الآخر. والمجازيّة في

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٥٥ ، وأجود التقريرات ٢ : ٣٠٩ ـ ٣١٠.


المقام إنّما طرأت من خروج بعض الأفراد ، وبما أنّ الدلالة على كلّ فرد في عرض دلالته على الفرد الثاني فخروج البعض لا يوجب دفع دلالته عن الباقي ، فافهم (١).

ولا يخفى أنّ هذه المقدّمات وإن سلّمت من كون ثبوت الحكم ثبوتا لبعض الأفراد غير مرتبط بثبوته بالباقي ودلالة كذلك ، إلّا أنّ دلالة العامّ على كلّ من البعضين موقوفة على استعماله في العموم فإذا لم يكن مستعملا في العموم حسب الفرض فلا يعلم دلالته على الباقي لإمكان إرادة مرتبة أقل من تلك المرتبة مثلا فلا معيّن لإرادة الباقي ، مضافا إلى أنّ هذا إنّما يتمّ في الاستغراقي ، وأمّا العموم المجموعي فالحكم ثبوتا وإثباتا مربوط بتماميّة الأفراد والتمسّك بإرادة الباقي مشتركة بين كلا العمومين. نعم بناء على ما ذكرنا من كون الاستعمال حقيقة إمّا على مسلكنا أو مسلك الميرزا النائيني قدس‌سره يرتفع الإشكال ، فافهم وتأمّل.

بقي شيء لا بأس بالتنبيه عليه ، وهو أنّه لو علم إرادة المتكلّم للعموم جدّا وأنّ الإرادة الاستعماليّة المستندة إلى الوضع وهي إرادة تفهيم العموم والإرادة الجدّية المستندة إلى بناء العقلاء متوافقتان ولكن نعلم أنّ المتكلّم مخطئ قطعا مثلا إذا قال : «كلّ إناء في داري نجس» وعلمنا أنّه يريد العموم جدّا ولكنّه جاهل بطهارة الإناء الفلاني الذي شاهدنا وقوع المطر فيه ، فلا ريب في أنّ الدلالة المطابقيّة تسقط ، وهل تسقط الدلالة التضمّنية فلا يحكم بنجاسة بقيّة الإناءات التي لم يعلم إصابة المطر لها أم تبقى؟

الظاهر التفصيل بين كون العموم استغراقيّا منحلّا إلى إخبارات عديدة بالنجاسة وإنّما جمعها للاختصار في البيان فلا تسقط الدلالة التضمّنية حينئذ ؛ لأنّ العلم بعدم كون أحد الإخبارات صحيحا لا يوجب سقوط حجيّة بقيّة الإخبارات ، وبين ما إذا كان مجموعيّا وكان الإخبار إخبارا واحدا فلا يكون للدلالة التضمّنية حينئذ مجال ؛

__________________

(١) انظر مطارح الأنظار ١ : ١٣٣ ، وأجود التقريرات ٢ : ٣١١.


لأنّها تابعة للدلالة المطابقيّة الزائلة قطعا الساقطة عن الحجّية. مثلا إذا قامت البيّنة على كونه قد نذر إطعام خمسين رجلا ليلة أوّل شهر رمضان وعلم أنّه لم ينذر إكرام خمسين قطعا فلا يقال : إنّه يجب عليه أن يكرم أربعين ؛ لأنّه يحتمل أنّه قد نذر إكرامهم كلّا ، لأنّ إكرام أربعين الذي قامت عليه البيّنة الأربعين في ضمن الخمسين لا مطلقا. وهذا بخلاف العموم الاستغراقي.

والسرّ في هذه التفرقة واضحة فإنّه في العموم الاستغراقي يكون الإخبار إخبارات متعدّدة بتعدّد الأفراد فسقوط أحدها عن الحجيّة لا يضرّ ببقاء الباقي من الإخبارات على حجّيته ، بخلاف العموم المجموعي فإنّ الإخبار فيه إخبار واحد فإذا فرض العلم بكذبه سقط عن الحجّية كلّية. هذا كلّه ـ يعني ما ذكرنا من حجّية العامّ المخصّص في بقيّة الأفراد ـ فيما إذا كان المخصّص معلوم المدلول.

وأمّا إذا كان مجملا فقد يكون مردّدا بين المتباينين كما إذا قال : «أكرم النساء إلّا ذات القرء» وقد يكون مردّدا بين الأقلّ والأكثر كما إذا قال : «أكرم العلماء إلّا الفسّاق» وشكّ في مفهوم الفاسق وأنّه مرتكب الكبيرة فقط أو مرتكب الصغيرة أيضا ، فحيث يكون مجملا ويكون متّصلا فلا ريب في سراية إجمال المخصّص إلى إجمال المراد من العموم بالإرادة الجدّية والاستعماليّة معا.

نعم يكون العامّ حجّة بالنسبة إلى ما قطع بعدم خروجه من الأفراد كما في غير مرتكب الصغيرة والكبيرة فإنّه واجب الإكرام قطعا بموجب العموم ، وأمّا ما احتمل دخوله تحت المخصّص فلا يمكن التمسّك فيه بالعموم لإجماله فيرجع فيه إلى الاصول العمليّة من غير فرق بين المتباينين والأقلّ والأكثر.

وأمّا إذا كان منفصلا فإن كان مرددا بين المتباينين فلا ريب في عدم كون العامّ حجّة في كلّ من المتباينين ، للعلم الإجمالي بعدم تحقّق الإرادة الجدّية بالنسبة إلى أحد المتباينين بمعنى كون الإرادة الجدّية مزاحمة بأظهر منها ، فنحن نعلم بأنّ العامّ ليس بحجّة في أحدهما قطعا فلا يكون العموم حجّة في أحدهما أصلا. وأمّا إذا دار الأمر


بين التخصيص والتخصّص كما إذا ورد «أكرم العلماء» ثمّ ورد «لا تكرم زيدا» وهو مردّد بين زيد العالم وزيد البقّال فالظاهر التمسّك بعموم العامّ فيجب إكرام زيد العالم ؛ لأنّ عموم العامّ لم يعلم رافع له بحسب الإرادة الجدّية ، فيتمسّك بالعموم ويجب إكرام زيد العالم ويحرم إكرام زيد البقّال ، والعلم الإجمالي بحرمة إكرام أحدهما ينحلّ بأصالة العموم ويثبت بها وجوب إكرام زيد العالم وحرمة إكرام زيد الفاسق ؛ لأنّ لوازمها حجّة شرعا.

وأمّا إذا كان المخصّص مردّدا بين الأقلّ والأكثر فقد انعقد للعموم ظهور في العموم وبمقتضى بناء العقلاء وافقته الإرادة الجدّية فكانت موافقة لإرادة تفهيم العموم وقد زاحم هذه الحجّة حجّة اخرى أقوى فتتقدّم على تلك الإرادة الجدّية التي كانت للعموم إلّا أنّ هذه الحجّة الثانية حجّيتها بالنسبة إلى الأقلّ ، فإنّ «لا تكرم الفاسق» عند تردّد الفاسق بين كونه خصوص مرتكب الكبيرة أو الأعمّ منه ومن مرتكب الصغيرة ـ مثلا ـ فدلالة «لا تكرم» إنّما تكون حجّة في خصوص ما علم دخوله في المفهوم ، وليست بحجّة بالإضافة إلى ما احتمل دخوله مع قطع النظر عن العموم. فإذا لم تكن حجّة فلم تزاحم العموم حجّة اخرى أقوى فيتمسّك بالعموم في وجوب إكرام مرتكب الصغيرة ؛ لأنّ عموم «أكرم العلماء» لم تزاحمه حجّة أقوى بالنسبة إلى مرتكب الصغيرة.

وما يقال : من أنّ قوله : «لا تكرم الفاسق» بمنزلة التقييد بقوله : «أكرم العلماء غير الفسّاق» وإذا شكّ في القيد فقد شكّ في المقيّد فيسري إجماله إلى العامّ أيضا (١).

مدفوع بأنّه غير الفسّاق تكون حجّة في خصوص من علم فسقه ، أمّا من لم يعلم فسقه فليس حجّة فيه ، فيكون العموم حجّة فيه. فافهم. هذا كلّه حيث تكون الشبهة مفهوميّة.

__________________

(١) انظر مطارح الأنظار ١ : ١٥٥.


وأمّا الشبهة المصداقيّة فإن كان المخصّص متّصلا فلا قائل بالتمسّك بالعموم حينئذ ؛ لأنّ القضيّة حقيقيّة كانت أم خارجيّة إنّما تثبت الحكم على تقدير تحقّق الموضوع ، وليست متكفّلة لتحقّق الموضوع وعدمه وإنّما تجعل الحكم بعد فرض تحقّق الموضوع.

وأمّا إذا كان المخصّص منفصلا في الشبهة الموضوعيّة فقد نسب (١) إلى المشهور التمسّك فيها بالعموم استنباطا له من تتبّع بعض الفروع الفقهيّة مثل حكمهم بالضمان فيما لو تلف ملك زيد بيد من يدّعي أنّ يده ليست يدا ضمانيّة وادّعى زيد كونها يدا ضمانيّة فقد حكموا بالضمان أخذا بعموم على اليد ، والمفروض تخصيصها باليد الأمانيّة المدّعاة. وسيأتي التكلّم في هذه الفروع بعد فراغنا عن حكم هذه المسألة الاصولية ونذكر إن شاء الله أنّ للتمسّك بالضمان في هذه المسألة وما شابهها وجها آخر غير التمسّك بالعموم ؛ ومن هنا لا يمكن المساعدة على ما نسب إلى المشهور من أمثال هذه الفروع ، نظير نسبتهم (٢) ذلك إلى صاحب العروة من بعض الفروع الغير المبتنية على ذلك أيضا.

وكيف كان ، فغاية ما يمكن أن يقرّب قولهم به أن يقال : إنّ الحكم لا يتوجّه إلى المكلّف إلّا بعد إحراز كبراه وانطباقها ، فإحراز الكبرى مثل حرمة شرب الخمر مع عدم إحراز الصغرى وهو كون هذا المائع خمرا لا تجدي في تحريم هذا المائع ، كما أنّ إحراز الصغرى ككون هذا شرب تتن لا يجدي مع عدم إحراز الكبرى وهي حرمة شرب التتن ، والسرّ في ذلك أنّ الكبرى لا تجدي ما لم يتوجّه الحكم الشخصي إلى الموضوع الخارجي.

__________________

(١) انظر المصدر السابق وحكى النسبة إلى المشهور في الأجود ، انظر أجود التقريرات ٢ : ٣٢٣.

(٢) انظر العروة الوثقى كتاب النكاح ، مسألة ٥٠ ، ومباني العروة الوثقى ١ : ١١٦.


إذا عرفت هذه المقدّمة فاعلم أنّه إذا ورد «أكرم كلّ عالم» فقد تحقّقت الإرادة الجدّية بعد الإرادة الاستعماليّة وأصبح العامّ حجّة في جميع أفراده ، فإذا ورد «لا تكرم شارب الخمر» مثلا وشككنا أنّ زيدا شرب الخمر أم لا فالكبرى وحدها لا تجدي ما لم يحرز انطباقها ، فإذا لم يحرز الانطباق فلا تجدي الكبرى ولكن هذا الفرد كان داخلا تحت العموم صغرى وكبرى فيكون العموم حجّة فيه ، إذ لم تزاحمه حجّة اخرى ، وهذا عين ما قدّمناه في الشبهة المفهوميّة.

ولا يخفى أنّ استثناء شارب الخمر بالدليل المنفصل لا يجتمع مع تحقّق الإرادة الجدّية للعموم ، إذ يستحيل جعل حكم للعموم بسريانه ثمّ جعل حكم مضادّ له لبعض أفراد ذلك العامّ ، فلا بدّ من رفع اليد عن أحدهما ، وبما أنّ الخاصّ أظهر يرفع اليد عن عموم العامّ بالنسبة إلى ذلك الفرد. فإذا تردّد الفرد بين كونه فردا للخاصّ أم لا فقد تردّد بين كونه مرادا بالإرادة الجدّية المتحقّقة للعموم أم لا ، وحينئذ فيشكّ في حجّية العامّ بالإضافة إلى هذا المصداق الخارجي.

وما ذكر : من كون العامّ حجّة فيه دون المخصّص لعدم إحراز الصغرى (١) خلط بين معاني الحجّية ، فإنّها قد تطلق الحجّية ويراد بها التنجّز ، ولا ريب في توقّفها على إحراز الصغرى والكبرى ؛ وقد تطلق الحجيّة ويراد بها قاطع العذر من الدليل الشرعي في مقام الفتيا ، ولا ريب في عدم توقّفه على إحراز الصغرى ، ضرورة كون الحكم في مقام الفتيا إنّما يحمل على المواضيع المقدّر وجودها وليس لها نظر إلى تحقّقها خارجا وعدمه.

لا يقال : كما يكون الخاصّ في الشبهة المصداقيّة معنونا للعامّ فيصير العامّ مجملا من ناحية انطباقه على المصداق الخارجي كذلك في الشبهة المفهوميّة.

__________________

(١) انظر مطارح الأنظار ٢ : ١٤٨ ، وأجود التقريرات ٢ : ٣١٩ ـ ٣٢١.


فإنّه يقال : إنّ المخصّص في الشبهة المفهوميّة إنّما يعنون العامّ بمقدار ما هو حجّة فيه وليس حجّة بالإضافة إلى ما زاد على مرتكب الكبيرة في المثال المتقدّم ، فإذا لم يكن حجّة فيما زاد فعنوانه للعامّ بخصوص المتيقّن ، فكأنّ المولى قال : «أكرم العلماء الّذين لا يرتكبون الكبائر» ويبقى عموم العامّ والإرادة الجدّية بالإضافة إلى الباقي غير معارضة بأقوى أصلا ؛ ولأنّ المخصّص لا بدّ وأن يكون مقيّدا لموضوع العام ومبيّنا للمراد بالإرادة الجدّية منه يكون نتيجة التخصيص هو الحكومة ، غاية الأمر أنّ الحكومة المصطلحة هي أن يكون تفسير المراد مدلولا بالدلالة اللفظيّة وهنا بنتيجتها.

وقد استدلّ للتمسّك بالعموم في الشبهات المصداقيّة بقاعدة المقتضي والمانع بدعوى أنّ العلم لشرفه مقتض لوجوب الإكرام وأنّ الفسق لانحطاطه مانع عنه ، فإذا احرز المقتضى في فرد وشكّ في المانع يجب إكرامه ، لبناء العقلاء على أصالة عدم المانع (١).

والجواب : أنّ هذا الدليل ممنوع صغرى وكبرى.

أمّا الكبرى فقاعدة المقتضي والمانع لم يثبت لها أساس في الشريعة المقدّسة لا تعبّدا ولا ببناء العقلاء ، وسيأتي التعرّض لها في الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

وأمّا الصغرى فليس مثال المخصّص المنفصل منحصرا بهذا المثال ، بل يجوز أن يكون المخصّص بلسان «وليكن العلماء عدولا» بعد قوله «أكرم العلماء» بمدّة وغير هذا المثال ممّا لا يكون مجرى لقاعدة المقتضي والمانع.

بقي الكلام في صحّة ما نسب إلى المشهور من تمسّكهم بالعموم في الشبهات المصداقيّة وعدم صحّته ، فإنّ من نسب ذلك إليهم إنّما استند إلى بعض فتاويهم.

__________________

(١) انظر معارج الاصول : ٩٩ و ٢٠٧.


وأقوى ما استند إليه حكمهم بالضمان فيما لو اختلف المالك ومن تلفت عنده عين المالك في كون يده يد ضمان حتّى يسلّم المثل أو القيمة أم أنّ يده ليست يد ضمان حتّى لا يجب عليه تسليم شيء؟ فقد حكم المشهور بالضمان حتّى يثبت أنّ يده لا توجب ضمانا ، ووجه التمسّك بالعموم في هذه الشبهة المصداقيّة أنّ عموم على اليد قد خصّص قطعا باليد الإجاريّة والعارية وغيرها ، فكيف يتمسّك بالعموم وهل هو إلّا تمسّك بالعموم في الشبهات المصداقيّة؟

وقد أنكر الميرزا النائيني قدس‌سره نسبة ذلك إلى المشهور ، وزعم أنّ الفتيا بالضمان ليست مبنيّة على ذلك كما أنّها ليست مبنيّة على قاعدة المقتضي والمانع ، وقد ذكر مبنى حكمهم بالضمان وأنّ موضوع الضمان مركّب من الاستيلاء على مال الغير وعدم رضا المالك ، والاستيلاء في المقام محرز بالوجدان ، وعدم الرضا يحرز بالأصل ، فإنّ الرضا صفة مسبوقة بالعدم فيجري فيها استصحاب العدم. وكلّ موضوع مركّب إذا احرز بعضه بالوجدان وبعضه بالأصل ترتّب حكمه مثل المقام ممّا كان أحد الجزءين من صفات شخص والجزء الآخر من صفات شخص آخر (١) كما اختاره الشيخ الأنصاري قدس‌سره في بعض تحقيقاته في مسألة المؤتمّ إذا شكّ في إدراك ركوع الإمام وعدمه (٢).

ثمّ إنّ الميرزا النائيني أيّد مدّعاه بأنّ المقام من قبيل ما كان المخصّص فيه متّصلا ؛ لأنّ قوله : «على اليد ما أخذت» (٣) ظاهر في كون الأخذ بنحو الغلبة والاستيلاء لا مجرّد وضع اليد (٤).

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ٣٢٤ ـ ٣٢٥.

(٢) انظر كتاب الصلاة (للشيخ الأنصاري) ٢ : ٤٢٧ ـ ٤٣٢.

(٣) سنن ابن ماجة ٢ : ٨٠٢ / ٢٤٠٠٠ ، سنن أبي داود ٣ : ٢٩٦ / ٣٥٦١ ، سنن الترمذي ٣ : ٥٦٦ / ١٢٦٦ ، سنن البيهقي ٦ : ٩٠ ، ٩٥ و....

(٤) أجود التقريرات ٢ : ٣٢٧.


ولا يخفى أنّ ما ذكره الميرزا قدس‌سره وإن كان متينا وأنّ حكمهم بالضمان ليس من باب التمسّك بالعموم في الشبهات المصداقيّة إمّا لما ذكره في معنى الأخذ أو لأنّ الوديعة خارجة من العموم قطعا ومن قبيل المخصّص المتّصل أيضا وقد حكموا بالضمان حتّى لو ادّعاها من تلفت العين عنده وقاعدة التمسّك بالعموم في المخصّص المتّصل لم يتوهّم بها أحد ، إلّا أنّه أيضا لا يمكن أن يكون مستند مذهب المشهور هو ما ذكره ؛ لأنّ المشهور لم يخصّوا الحكم بالضمان بخصوص من ادّعى استيجار العين وأنكر المالك وادّعى غصبها ، فإنّ ما ذكره الميرزا إنّما يتمّ بخصوص ذلك وفي خصوص الأمانة الشرعيّة أيضا يتمّ بأصالة عدم الإذن الشرعي ولكنّ المشهور قد حكموا بالضمان حتّى فيما اتّفقا على كون تصرّف المتصرّف كان برضا من المالك ، كما إذا ادّعى من تلفت العين عنده كونها عارية ، وادّعى المالك كونها إجارة ، فكلاهما في المثال متّفقان على كون التصرّف كان مقرونا بالرضا ، ومعلوم أنّ استصحاب عدم رضا المالك في المقام ممّا لا مجال له ، فكيف حكم المشهور بالضمان مع عدم إمكان إثبات الجزء الثاني من جزئي موضوع الضمان؟ بل وقد حكموا بالضمان أيضا فيما لو ادّعى المتلف كونها هبة وادّعى المالك كونها قرضا ممّا اتّفقا على كون تصرّف المتلف كان في ملكه إلّا أنّ العين مضمونة بالمثل أو القيمة على دعوى المالك الأوّل.

والذي يمكن توجيه كلام المشهور به من حكمهم بالضمان في جميع فروع المسألة هو استصحاب العدم الأزلي ، فإنّه عامّ لجميع فروع المسألة. فإن أجرينا استصحاب الأعدام الأزليّة ـ كما هو الحقّ ـ صحّت فتوى المشهور بالضمان في تمام الفروع ، وإن لم نجزه لم تتمّ ؛ وذلك لأنّ التسليط من المالك إذا كان بنحو المجانيّة كان التصرّف غير مضمون ، وهذا التسليط هو وصفة المجانيّة لم يكونا قطعا قبل التسليط وقد انتقض عدم التسليط القطعي بالتسليط القطعي ويشكّ في تحقّق صفة المجانيّة وعدمها ، فاستصحاب العدم الأزلي لصفة المجانيّة ينفي صفة المجانيّة ، فيكون التسليط تسليطا ليس مجانيّا ، وهو موضوع الضمان شرعا.


ثمّ إنّ الكلام يقع الآن في جريان الاستصحاب في العدم الأزلي وعدمه.

ذكر الآخوند قدس‌سره جريان الاستصحاب في الأعدام الأزليّة فيما كان الموضوع للعامّ غير مقيّد بعنوان وجودي بل بعنوان غير الخاصّ ، وهذا يكون في المخصّصات المنفصلة أو بالاستثناء من المتّصلة مثلا إذا ورد أن «كلّ امرأة تحيض إلى الخمسين» وورد «أنّ القرشيّة تحيض إلى الستّين» فإذا تردّدت المرأة الخارجيّة بين كونها قرشيّة أم لا ، فنقول : إنّه قد اخذ في موضوع التحيّض إلى الخمسين أن تكون امرأة غير قرشيّة ، فأصل المرأة كانت مسبوقة بالعدم إلّا أنّ عدمها انتقض بالوجود ، وأمّا كونها غير قرشيّة فلم يعلم انتقاضه ، فالاستصحاب يقضي بكونها غير قرشيّة ويقضي بعدم تحقّق النسبة بينها وبين قريش ، فتبقى تحت عموم ما دلّ على أنّ المرأة تحيض إلى الخمسين. نعم لو احتاج إلى انتسابها لغير قريش لم يكف استصحاب العدم الأزلي إلّا بالأصل المثبت (١).

وقد أنكر الميرزا النائيني قدس‌سره إجراء استصحاب العدم الأزلي في مثل المقام ، وقد مهّد لكلامه مقدّمات لا بأس بأن نشير إليها :

الاولى : أنّ العامّ إذا خصّص فلا بدّ من أن ترفع اليد عن عموم العامّ ، ضرورة أنّ بقاء عمومه مع العلم بتخصيصه متنافيان ؛ إذ العموم معناه وجوب إكرام كلّ فرد فرد من أفراد العالم سواء كان عادلا أم كان فاسقا ، وهذا لا يجتمع مع قوله : «إلّا الفاسق» أو قوله بدليل منفصل : «لا تكرم فسّاق العلماء» ضرورة أنّ أخذ العلماء على الإطلاق موضوع الحكم معناه أنّه بأقسامه المنقسم إليها موضوع حكمه والتخصيص مناف لذلك قطعا ، فكل تخصيص يستدعي تعنون العامّ بغير عنوان الخاصّ قطعا.

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٢٦١.


نعم ، هناك فرق بين المخصّص المتّصل كما في الاستثناء فإنّه يرفع الظهور في العموم حقيقة ، وأمّا ما كان بدليل منفصل فلا يرفع الظهور في العموم وإن رفع المراد الجدّي إلّا أنّه لا فرق بينهما في أنّهما يقتضيان تعنون موضوعهما الواقعي وهو العامّ بغير عنوان الخاصّ.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ ما ذكره بعض الأساطين : من كون التخصيص لا يقتضي تعنون العامّ وأنّه نظير موت فرد من أفراد العلماء لا يقتضي أن يتعنون العامّ بما عداه لخروجه عن الموضوع ، ليس بجيّد ؛ لأنّ الكلام في القضايا الحقيقيّة وليس الوجود الخارجي هو الملحوظ فيها ، وإنّما الملحوظ في القضايا الحقيقيّة المواضيع المقدّر وجودها من غير نظر إلى الوجود الخارجي وعدمه.

المقدّمة الثانية : أنّ الموضوع المركّب قد يتركّب من جوهرين أو من عرضين أو من جوهر وعرض لغير ذلك الجوهر ، وفي هذه الصور يمكن إحراز أحد جزأي ذلك الموضوع المركّب بالوجدان والآخر بالأصل.

فإذا كان الموضوع مركّبا من جوهرين كوجود زيد ووجود عمر وزيد محرز الوجود وجدانا لكن عمرا كان موجودا ويشكّ في بقائه موجودا فحينئذ باستصحاب وجوده يكمل موضوع الحكم.

وكذا إذا كانا عرضين كما في الاجتهاد والعدالة اللذين هما موضوع جواز التقليد فيحرز أحدهما بالوجدان والآخر بالأصل. وكذا إذا كان الموضوع مركّبا من جوهر وعرض لغير ذلك الجوهر كما إذا كان الموضوع وجود زيد وموت عمرو في الإرث مثلا فيحرز الموت بالوجدان ووجود زيد بالأصل. ففي جميع هذه الموارد يمكن إحراز ذلك الموضوع بعضا بالوجدان وبعضا بالأصل ، كما يحرز كلا جزئيه بالوجدان فقط أو بالأصل فقط ؛ لأنّ الجوهرين والعرضين والجوهر مع عرض الآخر ليس بينهما ارتباط واتّصاف. فأخذهما في الموضوع إنّما يكون بصرف تحقّق وجودهما ، وأخذ عنوان بسيط منتزع عن اجتماعهما مثل عنوان المقارنة والاجتماع


والمعيّة خلاف ظاهر جعلهما جزأي الموضوع. وهذا بخلاف ما إذا اخذ الموضوع مركّبا من العرض ومحلّه كالمرأة القرشيّة ، فإنّه يستلزم تقييد العامّ بالمرأة المتّصفة بكونها غير قرشيّة. ولا يكفي في تحقّق موضوع العامّ إحراز عدم القرشيّة بنحو العدم المحمولي الذي هو مفاد ليس التامّة ، بل لا بدّ من إحرازه بنحو العدم النعتي الذي هو مفاد ليس الناقصة ، كما أنّه بالإضافة إلى المخصّص أيضا لا بدّ من كون الوصف مأخوذا بنحو الصفتيّة ومفاد كان الناقصة لا التامّة. وقد برهن على ذلك بما لا حاجة إلى ذكره لما ستعرفه إن شاء الله.

المقدّمة الثالثة : أنّ الوجود المحمولي والعدم المحمولي بالإضافة إلى شيء واحد لا يمكن تحقّقهما للزوم الجمع بين الضدّين ولا يمكن نفيهما للزوم ارتفاع الضدّين ، إلّا أنّ الوجود الناعتي والعدم الناعتي لا يمكن جمعهما ولكن رفعهما ممكن فيقال : زيد المعدوم غير متّصف بالعلم ولا بعدمه ، والطفل قبل بلوغه ليس متّصفا بالعدالة ولا بعدمها ، لعدم قابليّة المحلّ. فالشيء قبل تحقّقه يمكن أن لا يتّصف بكلّ من الوجود الناعت والعدم الناعت ؛ لأنّ الوصف من عوارض ، الموضوع وثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له وتحقّقه في الخارج (١).

هذه هي المقدّمات التي ذكرها الميرزا النائيني قدس‌سره وقد رتّب عليها عدم جريان استصحاب الأعدام الأزليّة ، فإنّه بمقتضى المقدّمة الاولى يتعنون عنوان العامّ في المثال بالمرأة الغير القرشيّة ، وبمقتضى المقدّمة الثانية أنّها تتّصف بغير القرشيّة ، وبمقتضى المقدّمة الثالثة أنّها قبل وجودها غير متّصفة بكل من القرشيّة ولا عدمها ، فكيف يمكن استصحاب عدم القرشيّة؟

ولا يخفى أنّ المقدّمة الاولى ـ وهي أنّ تخصيص العموم يقتضي تعنون العامّ بغير أفراد الخاصّ بمقتضى الإرادة الجدّية أو تقييد المدخول ـ مسلّمة لا مناقشة فيها ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٢٩ ـ ٣٣٧.


كما أنّ المقدّمة الثانية ـ وهي أنّ الموضوع إذا كان مركّبا من العرض ومحلّه فلا بدّ من أخذ الاتّصاف في الموضوع ـ أيضا مسلّمة ، لا لما ذكره قدس‌سره من أنّه لو لم يؤخذ وصفا ومفاد كان الناقصة للزم التنافي أو الخلف ، بل لأنّ جعل الموضوع هو العرض ، ومحلّه هو ذات جعل العرض وصفا من أوصاف المعروض ، ضرورة أنّ أخذ مطلق الوصف وإن لم يكن عارضا على ذات ذلك المعروض ليس أخذا للعرض ومحلّ ذاك العرض ، بل هو أخذ لعرض محل آخر ، إلّا أنّ نقطة النزاع بيننا وبين الميرزا قدس‌سره التي يدور جريان العدم الأزلي في مثل المقام وعدمه عليها هي أنّ تقييد الموضوع بعدم الوصف هل يقتضي تعنون العنوان بالاتّصاف بعدم ذلك العنوان أو بعدم الاتّصاف بذلك العنوان (*)؟

__________________

(*) وقد استدلّ الميرزا قدس‌سره على مدّعاه : من أنّ الباقي تحت العامّ هو المتّصف بالعدم لا غير المتّصف ، بأنّ العامّ بالإضافة إلى هذا الاتّصاف إمّا أن يلحظ كونه متّصفا به أو كونه غير متّصف به أو مطلقا لاستحالة الإهمال في الواقع ، ولا ريب أنّ ملاحظة العامّ مطلقا كملاحظته متّصفا بالوجود مقطوع العدم من جهة وجود المخصّص حسب الفرض بالقرشيّة ، فلا بدّ أن يكون الباقي متّصفا بغير القرشيّة من جهة استحالة الإهمال في الواقعيّات.

والجواب بالنقض أوّلا : بأنّ كلّ مركّب حينئذ لا يمكن استصحابه حتّى الجوهرين ، ضرورة أنّ الموضوع إذا كان زيد وعمرو فهما في الواقع إمّا أن يلاحظا بالإضافة إلى صفة الاقتران مقيّدين بها أو بعدمها أو مطلقا ، ويأتي فيه الكلام حرفا بحرف.

وبالحلّ ثانيا : وهو أنّه قد لا يكون الموضوع مقيّدا بشيء ولا بعدمه ولا مطلقا ولا مهملا بل يكون التقييد به لغوا زائدا كما مثّلنا له فيما تقدّم مثلا مستقبل القبلة في العراق لا بدّ أن يكون مستدبرا للجدي ويده اليمنى إلى المغرب واليسرى إلى المشرق إلّا أنّ تقييده به لغو لا فائدة فيه ، وحينئذ فإذا قيّد الموضوع بعدم الانتساب إلى قريش ، فالتقييد حينئذ بالانتساب إلى غير قريش لازم له ، فالتقييد به لغو ، فافهم. (من إضافات بعض الدورات اللاحقة).


الظاهر أنّ المستفاد عدم الاتّصاف لا الاتّصاف بالعدم ؛ لأنّ الاتّصاف إنّما اعتبرناه في العرض ومحلّه ؛ لأنّ وجود العرض في نفسه عين وجوده لغيره. وهذا بخلاف عدم ذلك العرض كما في محلّ الكلام ، فإنّ العامّ يتعنون بالمرأة التي لا تكون قرشيّة لا التي تكون متّصفة بغير القرشيّة ، والسرّ في ذلك أنّ الشارع يلاحظ الموضوع الواقعي الذي لا يخرج عن كونه متّصفا بكذا أو غير متّصف به فيلاحظ المرأة الواقعيّة ، فإن كانت قرشيّة ومتّصفة بهذا الوصف كان حكمها التحيّض إلى ستّين ، وإن لم تكن متّصفة بكونها قرشيّة فهي موضوع التحيّض إلى خمسين. وحينئذ ففي مقام الشكّ في المرأة الخارجيّة فكونها مرأة محرز بالوجدان وعدم الاتّصاف بالقرشيّة محرز باستصحاب العدم الأزلي ؛ لأنّ قرشيّة هذه المرأة كانت معدومة بانعدامها قطعا إلّا أنّ القطع بالعدم بالنسبة إلى ذات المرأة انقلب إلى القطع بالوجود إلّا أنّ انتسابها إلى قريش يشكّ في تحقّقه وانقلاب عدمه إلى الوجود ، فيستصحب عدم الانتساب إلى قريش ويتمّ الموضوع.

ومن هنا ظهر أنّ عدم القرشيّة وعدم الانتساب إلى قريش واحد ، فلا وجه لما ذكره الميرزا قدس‌سره إيرادا على الآخوند قدس‌سره : من أنّه لم لم تستصحب عدم القرشيّة واستصحبت عدم الانتساب إلى قريش ، فإنّ ملاك الاستصحاب جار فيه بعينه (١).

ووجه عدم ورود هذا الإيراد : أنّ القرشيّة باعتبار اشتمالها على ياء النسبة عين الانتساب إلى قريش وهو معنى واحد ، فتأمّل جيّدا.

كما ظهر أنّ ما ذكره الميرزا النائيني في المقدّمة الثالثة : من أنّ الوجود النعتي والعدم النعتي قد تخلو صفحة الوجود عنهما وليس من قبيل ارتفاع النقيضين فإنّ نقيض الاتّصاف عدم الاتّصاف لا الاتّصاف بالعدم ، متين ومسلّم ، ولكنّه حيث يكون مفاد الدليل الاتّصاف بالعدم بمعنى كون القضيّة من قبيل الموجبة المعدولة

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ٣٢٩ و ٣٤٠.


المحمول فإنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له ، وأمّا إذا كان مفاد الدليل عدم الاتّصاف من قبيل السالبة المحصّلة فلا تحتاج إلى وجود الموضوع لعدم ثبوت شيء له من الأوصاف ، بل المراد عدم اتّصافه وعدم الاتّصاف لا يحتاج إلى وجود الموضوع. هذا تمام الكلام في إجراء استصحاب الأعدام الأزليّة.

[الصلاة في اللباس المشكوك]

بقي الكلام في مسألة من المسائل الفقهيّة مبتنية على استصحاب الأعدام الأزليّة لا بأس بالتعرّض لها تبرّكا وهي مسألة الصلاة في اللباس المشكوك ، ولا يخفى أنّه قد اخذ في اللباس الذي يلبسه المصلّي أن لا يكون من غير مأكول اللحم ، إلّا أنّ الكلام في أنّ مفاد الدليل ما هو؟ وهل مفاده أنّه يعتبر في المصلّي أن لا يكون لابسا لغير المأكول ، وعليه يجرى استصحاب عدم كونه لابسا لغير المأكول حتّى على القول بعدم جريان استصحاب الأعدام الأزليّة ؛ لأنّ العدم في المقام نعتي للمصلّي.

أم أنّ مفاد الأدلّة اعتبار كون اللباس في غير غير المأكول كما هو ظاهر بعض النصوص (١) وعليه فيفرّق بين ما إذا شكّ في نفس اللباس فلا يجري الاستصحاب ؛ لعدم العلم باتّصاف مادّته بكونها من غير غير المأكول بناء على عدم جريان استصحاب العدم الأزلي ، وبين ما إذا شكّ في شعرة وقعت عليه أنّها من أجزاء غير المأكول أو غيره فيستصحب عدم وقوع غير المأكول عليه الذي كان قطعيّا قبل وقوعها.

أم أنّ مفاد الأدلّة اعتبار كون الصلاة غير واقعة في غير المأكول ، كما هو ظاهر رواية ابن بكير الموثّقة (٢) وعليه فبناء على عدم جريان استصحاب العدم الأزلي لا يجري الاستصحاب لا في نفس الصلاة لعدم اتّصافها قبل بشيء لعدم تحقّقها

__________________

(١) انظر الوسائل ٣ : ٢٥٠ ، الباب ٢ من أبواب لباس المصلّي ، الحديث الأوّل وغيره.

(٢) انظر المصدر السابق.


ولا في اللباس ولا في عارضه ، وبناء على ما اخترناه من جريان الاستصحاب في الأعدام الأزليّة فيمكن تصحيح الصلاة على جميع هذه الاحتمالات.

وإنّما الكلام في أنّه بناء على عدم جريان الاستصحاب في الأعدام الأزليّة فهل يمكن تصحيح الصلاة باللباس المشكوك؟ الظاهر إمكان ذلك ، وذلك بتقريب مقدّمة ، هي : أنّ الاستصحاب كما يجري في الأعراض المفارقة ـ كالقيام والقعود والبياض والسواد ـ كذلك يجري في الصور النوعيّة كما في خمريّة الخمر ومائيّة الماء ، فمتى شكّ في زوال خمريّة هذا المائع تستصحب الخمريّة ويترتّب عليها آثارها ، وكذا مائيّة هذا المائع الذي كان ماء تستصحب أيضا ، وكذا إذا شكّ في انقلاب الكلب ملحا إذا كان في المملحة تستصحب كلبيّته. وحينئذ فقد ثبت بمقتضى الأخبار أنّ الغذاء الذي يأكله الإنسان أو بقيّة أفراد الحيوان هو الذي يتحلّل إلى أجزاء الجسم كما يظهر ذلك من أخبار الجلّال وأكل الحرام من الربا وغيره (١) وحينئذ فمتى يشكّ في أنّ ذلك الغذاء الذي تحلّل إلى جسم هذا الحيوان تحلّل إلى جسم حيوان غير مأكول فالأصل يقضي بعدم تحلّله إلى جزء حيوان غير مأكول اللحم ، ولا يعارضه أصالة عدم تحلّله إلى جزء حيوان مأكول لعدم الأثر له ؛ لأنّ الأثر مترتّب على مانعيّة جزء غير المأكول لا على شرطيّة كونه جزء مأكول. ولو تنزّلنا عن هذا الاستصحاب فحيث استظهرنا من الأخبار المانعيّة وبما أنّها انحلاليّة ففي مقام الشكّ في مصداق أنّه مانع أم لا الأصل البراءة من مانعيّته ، وسيأتي في مبحث البراءة إن شاء الله جريانها في المانعيّة.

هذا تمام الكلام في جواز الصلاة في اللباس المشكوك ، وآخر الكلام في استصحاب الأعدام الأزليّة ، وقد عرفت أنّ الأقوى جريانها.

__________________

(١) انظر الوسائل ١٦ : ٣٠٤ ، الباب ٢٧ و ٢٨ من أبواب الأطعمة والأشربة و ١٢ : ٤٢٧ ، الباب الأول من أبواب الربا ، الحديث ١٥ و ١١٩ ، الباب ٣٥ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٢ وغيره.


في المخصّص اللبّي

ثمّ إنّه قد ذكر الشيخ الأنصاري قدس‌سره أنّ عدم التمسّك بالعموم في الشبهات المصداقيّة إنّما هو في المخصّصات اللفظيّة ، وأمّا المخصّصات اللبّية فيتمسّك فيها بعموم العامّ ، والسرّ في ذلك أنّ المخصّص اللبّي لمّا لم يكن فيه إلّا حجّة واحدة من قبل المولى غاية الأمر يخرج عنها بالقطع بعدم إرادة المولى لهذا الفرد فإنّما يخرج عن تلك الحجّة بالقطع فإذا شكّ في فرد فلا قطع حتّى يخرج به عن الحجّة الصادرة من قبل الشارع ، وهذا بخلاف المخصّصات اللفظيّة فإنّ فيها حجّتين من قبل الشارع المقدّس ويشكّ في دخول الفرد في أيّ الحجّتين ، والفرق واضح (١).

وقد تنظّر الميرزا النائيني قدس‌سره فيما أفاده الشيخ الأنصاري وذكر أنّ المخصّص اللبّي قد يكون من قبيل المخصّص المتّصل في عدم انعقاد ظهور للعامّ في العموم بسببه فهو من قبيل تقييد العموم وإنشاء العامّ ضيقا من أوّل الأمر كما إذا قال المولى : «أكرم العلماء» فإنّ خروج العالم بالرقص أو الغناء قطعي من أوّل الأمر ، فحاله حال المخصّص اللفظي في كون المشكوك في كونه عالما بالرقص أو الفقه فهو من أوّل الأمر لم يعلم شمول العموم له لإمكان اعتماده على القرينة العقليّة التي هي كاللفظيّة (٢) ، والظاهر أنّ الشيخ لم يرد ما كان من هذا القبيل ، بل أراد ما كان من قبيل القرينة المنفصلة ، وقد ذكر الميرزا قدس‌سره في أنّ المخصّص اللبّي إذا كان من قبيل الإجماع مثلا يكون كاشفا عن عدم إرادة العموم والعبرة بالمنكشف لا الكاشف فهو مقيّد للعامّ بعدم المفهوم الذي قام الإجماع على خروجه عن حكم العامّ ، ففي تردّد فرد بين كونه

__________________

(١) انظر مطارح الأنظار ٢ : ١٤٣.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٤٢.


من أفراد ما قام الإجماع على خروجه أم لا ، لا يعلم دخوله في العامّ حينئذ فكيف يتمسّك فيه بالعموم (١)؟

وما ذكره الميرزا في المقام متين إلّا أنّه قدس‌سره قد وافق الشيخ الأنصاري في التمسّك بالعموم في الشبهات المصداقيّة في المخصّص اللبّي حيث يكون التخصيص لعدم الملاك فمثلا إذا قال المولى : أكرم جيراني ، ولكنّ العبد يعلم أنّ المولى لا يريد إكرام من يريد قتله ، ويعلم أنّ زيدا يريد قتله ، فهو خارج من العموم حينئذ قطعا لعدم الملاك ، فإذا شكّ في أنّ عمرا أيضا يريد قتله أم لا يتمسّك بالعموم في وجوب إكرامه. وذكر أنّ السرّ في ذلك أنّ العبد ليس من شأنه تطبيق الملاك وإنّما شأنه امتثال ظواهر كلام المولى وأمر الملاك إلى المولى فإذا كان حكيما لا يحكم إلّا مع الملاك ، ففي الشكّ في الملاك لا يعذر العبد في الترك مع ظهور الكلام في العموم.

والظاهر أنّ ما ذكره ليس مسلّما بنحو العموم ، فإنّ القضايا الحقيقيّة التي ليس نظر الشارع فيها إلّا إلى أفراد مفروضة الوجود مثلا إذا قال : «أكرم العلماء» فخروج زيد لا بدّ أن يكون لأمر من الامور بسببه لم يكن واجدا للملاك ، وذلك الأمر إذا فرض شرب الخمر مثلا أو ترك الصلاة مثلا أو أحدهما أو هما معا ، فإذا فرض الأوّل فبما أنّ زيدا ليس له خصوصيّة يستكشف خروج كلّ شارب للخمر عن الملاك ، فإذا شكّ في فرد فلا يمكن التمسّك بالعموم ؛ لأنّه تقيّد بعدم شرب الخمر والمفروض الشكّ في انطباق عنوان العامّ على هذا الفرد فكيف يمكن التمسّك بالعموم؟

وما ذكره : من أنّ الملاك ليس من وظيفة العبد تطبيقه ، متين إلّا أنّ العنوان الموجب لفقد الملاك بيد العبد تطبيقه. وكذا الكلام إن فرض عدم الملاك في تارك

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ٣٤٩.


الصلاة. وأمّا إذا عدم الملاك في أحدهما ولا نعلمه بعينه فيكون المخصّص من جهة الملاك مجملا ويسري إجماله إلى العامّ ، وإذا علمنا أنّ الملاك مفقود إمّا في تارك الصلاة أو في تارك الصلاة إذا شرب الخمر فهو من قبيل دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في المخصّص.

وبالجملة ، فجميع ما ذكرنا في المخصّص اللفظي بعينه سار في المخصّص اللبّي إذا كان العموم من قبيل القضايا الحقيقيّة.

نعم ، إذا كان من قبيل القضايا الخارجيّة فإن كان من قبيل «أكرم كلّ عالم موجود في هذا البلد» ولكن علم بدليل لبّي خروج زيد مثلا فننقل عين الكلام في القضايا الحقيقيّة من أنّ خروجه لا بدّ أن يكون لوصف يتقيّد العموم بعدمه فلا يمكن التمسّك بالعموم. نعم إذا طبّقه المولى بنفسه فليس للعبد إلّا أن يأخذ بظهور كلام المولى ، وفيه يتوجّه ما ذكره النائيني من الفرق بين المخصّص اللبّي الذي هو كالمتّصل أو كالمنفصل وفي الثاني لا مانع من التمسّك بالعموم ، فما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره من التمسّك بالعموم في محلّه ، والسرّ في ذلك أنّ القضايا الخارجيّة لمّا لوحظت فيها الأفراد موجودة فتطبيق الملاك حينئذ من شئون المولى. فإذا قال : «لعن الله بني اميّة قاطبة» ومعلوم بالدليل اللبّي أنّ المؤمن منهم لا ملاك في لعنه ، فكأنّه يقول : فلان ليس بمؤمن ، فلان ليس بمؤمن ، حتّى يأتي عليهم بالتنصيص واحدا واحدا. فإذا علم إيمان زيد ـ مثلا ـ فهو خارج قطعا ، وإذا شكّ في عمرو فلا يرفع اليد عن تنصيص المولى بالشكّ. فافهم وتأمّل ، فإنّه دقيق وبالتأمّل حقيق.

هذا تمام الكلام في تخصيص العموم ، وقد تمّ على يد محرّره محمّد تقي الجواهري في الربع الأوّل من ليلة الثلاثاء الموافق ١٥ صفر المظفّر من سنة الألف والثلاثمائة والثانية والسبعين من الهجرة النبويّة ، والحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.


والكلام فيما إذا شك في فرد من غير جهة التخصيص

هكذا عنون صاحب الكفاية (١) هذا المبحث ، والكلام فيه يقع تارة في الكبرى ، واخرى في الصغرى.

أمّا الكلام في الكبرى فنقول : إنّ الشكّ في فرد مع إحراز انطباق عنوان العامّ عليه لا يتصوّر إلّا من جهة التخصيص مثلا إذا أحرز أنّ زيدا عالم فهو داخل في عموم «أكرم العلماء» فالشكّ فيه إنّما يكون من جهة أنّ الحكم هل اخذ لمطلق العالم ليكون زيد فردا له ، أو أنّ هذا العامّ قد خصّص فاخذ فيه عنوان «العادل» أيضا ليخرج زيد لفسقه؟ أو يشكّ فيه من جهة الشبهة المصداقيّة ، كما إذا شكّ في كونه عالما أو ليس بعالم ، أو أنّه عادل أو ليس بعادل ـ مثلا ـ مع أخذ العدالة في موضوع وجوب إكرام العالم. وقد تقدّم الكلام في الشبهة المصداقيّة ولا قائل في مثل المقام ممّا اخذ في العنوان العامّ عنوان وجودي بدليل متّصل بالتمسّك في العموم ، نعم في المنفصل تقدّم تفصيل الكلام. فلا نتصوّر لما ذكره في الكفاية صغرى لهذه الكبرى الكلّية أصلا.

وأمّا صغرى المقام فنقول : إنّ مثل الوفاء بالنذر وأمر الوالد والشرط في ضمن العقد وأشباهها ـ من العناوين الثانويّة ـ تارة يؤخذ في موضوعها أن يكون محكوما بالإباحة أو بالرجحان في العنوان الأوّلي كما في النذر حيث اعتبر فيه الرجحان أو أمر الوالد أو الشرط في العقد أو متعلّق اليمين حيث اعتبر فيه أن يكون مباحا بعنوانه الأوّلي ، فمتى علم إباحته أو رجحانه فلا ريب في تحقّق موضوعه وحينئذ فلا شكّ ، ومتى شكّ فإن كان هناك أصل عملي يقتضي الإباحة أو الرجحان أيضا تحقّق الموضوع ، ومتى لم يكن أصل يحقّق الموضوع فيكون الشكّ في تحقّق الموضوع شكّا في أصل انعقاد النذر ووجوب إطاعة الوالد أو الوفاء بالعقد للشكّ في تحقّق

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٦١.


موضوعه ؛ لأنّ العامّ لا يحقّق موضوعه ولا معنى حينئذ للتمسّك بالعموم أصلا ؛ لأنّ العنوان الوجودي قد عنون العامّ فلا يمكن التمسّك به في الشبهات المصداقيّة.

واخرى لا يؤخذ فيه أن يكون محكوما بحكم بالعنوان الأوّلي ، ومثل هذا قد يكون محكوما بحكم بعنوانه الأوّلي مخالف لحكمه بعنوانه الثانوي :

فتارة يكون العنوان الثانوي مقدّما بنظر العرف ؛ لأنّهم يفهمون أنّ حكمه بعنوانه الأوّلي حكم له في نفسه فلا ينافيه حكمه الثانوي بحسب العوارض ، فيرتفع حكمه الذي هو بعنوانه الأوّلي ويثبت حكمه بعنوانه الثانوي كما في شرب الماء ، فإنّ حكمه الإباحة إلّا أنّه إذا كان مضرّا فحكمه الحرمة ، وليس بين الأدلّة تعارض أصلا ؛ لأنّ العرف يفهم تقديم العنوان الثانوي.

واخرى لا يكون العنوان الثاني مقدّما بنظر العرف ؛ لعدم فهمهم ما تقدّم ، فقد ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره تحقّق التزاحم فيرجع إلى أقوى المناطين مناط الحكم بالعنوان الأوّلي ومناط الحكم بالعنوان الثانوي إن كان بينهما ما هو أقوى ، وإن لم يكن بينهما ما هو أقوى يتساقطان ويرجع إلى حكم آخر غيرهما (١).

ولا يخفى أنّه لا يمكن المساعدة على ما ذكره من جهتين :

الاولى : أنّ المقام ليس من باب التزاحم ؛ لأنّا قد ذكرنا أنّ مناط التزاحم أن لا يمكن للمكلّف امتثال كلا التكليفين لعجزه بعد جعل المولى لكلّ من الحكمين ، وفي المقام لا يمكن الجعل ؛ إذ جعل الحكمين بعنوان أوّلي وثانوي لشيء واحد جعل للحكمين المتناقضين لشيء واحد ، فالمقام من مقامات التعارض.

الثانية : أنّ أقوائيّة المناط لا تقتضي إلزام التقديم ؛ إذ قد تكون الأقوائيّة بمقدار لا يقتضي الإلزام ، فليس الإطلاق صحيحا ، بل لا بدّ من تقييد تقديم أقوى المناطين حيث تكون الأقوائيّة ملزمة ، وإلّا فلا تحقّق الوجوب له ، بل إنّما تحقّق الاستحباب حينئذ.

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٢٦٢.


بقي الكلام في نذر الصيام في السفر والإحرام قبل الميقات اللذين جعل الخصم لهما مؤيّدين لمدّعاه من التمسّك بالعموم.

وقد أجاب صاحب الكفاية عنهما بأنّهما ـ يعني الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات ـ راجحان ، وإنّما لم يأمر الشارع بهما لمانع يرتفع مع النذر ، ومن هنا حكم بصحّتهما (١).

ولا يخفى أنّ هذا الوجه لا يمكن الحكم بصحّته ، فإنّ مقتضاه الصحّة في الامتثال وإن لم ينذر ، لأنّ المانع إنّما هو من الأمر وليس مانع من الامتثال والمفروض رجحانه فعلا ، والفعل الراجح يصحّ الإتيان به متقرّبا إلى الله وإن لم يأمر به بعد إحرازه رجحانه.

وأجاب ثانيا : بأنّ تعلّق النذر بهما اقتضى رجحانهما ، والرجحان المعتبر إنّما هو عند الامتثال لا عند النذر (٢) ، ولذا يصحّ نذر الحائض الصلاة في أيّام طهرها. وقد ذكر السيّد اليزدي هذا في عروته (٣) ، وأشكل الميرزا النائيني قدس‌سره عليه في الهامش بأنّ مقتضى ذلك جواز نذر المحرّمات ؛ لأنّها بنفس النذر ترجّح (٤).

ولا يخفى عدم ورود ذلك عليه ؛ إذ إطلاق دليل تلك المحرّمات كاف في التحريم ، وإنّما قال ذلك في خصوص نذر الصوم ونذر الإحرام لتحقّق الدليل في خصوص هذين المثالين ، فلو فرض ورود دليل في محرّم آخر غيرهما لقلنا به.

نعم ، يرد على هذا الوجه أنّ هذا خلاف ظواهر الأدلّة فإنّها ظاهرة في اعتبار الرجحان للفعل المنذور في نفسه ومع قطع النظر عن النذر لا أنّه بالنذر يكون راجحا.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٦٣.

(٢) انظر المصدر السابق.

(٣) انظر العروة الوثقى ، كتاب الصلاة ، فصل في أوقات الرواتب ، المسألة ١٧.

(٤) انظر ذيل المصدر المتقدّم المحشّى بحاشية الميرزا النائيني قدس‌سره.


وأجاب ثالثا : بتخصيص هاتين الروايتين لما دلّ على اعتبار رجحان الفعل المنذور فيعتبر رجحانه في نفسه ومع قطع النظر عن تعلّق النذر به إلّا في هذين الموردين فيكفي الرجحان الناشئ من قبل النذر (١).

وهذا الوجه الثالث هو الوجه الصحيح الذي يمكننا الاعتماد عليه فهو من قبيل التخصيص لعموم اعتبار رجحان الفعل في نفسه.

بقي الكلام في أنّه إذا ورد «أكرم العلماء» مثلا ثمّ ورد أنّه «لا تكرم زيدا» وتردّد زيد بين أن يكون ابن عمر ليكون تخصيصا أو أنّه ابن بكر ليكون تخصّصا لأنّه جاهل وليس بعالم ، فيتمسّك حينئذ بعموم أكرم العلماء وأصالة عدم التخصيص فيثبت بها وجوب إكرام زيد بن عمر ، ولازمه حرمة إكرام زيد بن بكر ، ولوازم العموم من الاصول اللفظيّة حجّة بلا كلام قطعا ، وهذا مما لا ريب فيه.

وإنّما الكلام في أنّه إذا علم خروج زيد بعينه وأنّه ابن خالد ودار الأمر بين كونه عالما خرج بالتخصيص أو أنّه جاهل فهو خارج لكونه ليس من أفراد العامّ فخروجه تخصّصي لا تخصيصي ، فهل يمكن التمسّك بالعموم؟ ولازمه كون زيد بن خالد جاهلا فيحكم عليه بما للجاهل من الحكم ، ومثاله الفقهي ماء الاستنجاء فإنّه لا ينجّس ما يلاقيه قطعا ، إلّا أنّ الكلام في أنّه نجس لا ينجّس فهو تخصيص من عموم تنجّس ملاقي النجس المائع ، أو أنّه طاهر فعدم تنجيسه لطهارته فيكون عدم تنجيسه تخصّصا لا تخصيصا؟ الظاهر أنّه لا يمكن التمسّك بالعموم ليلزم طهارته ؛ لأنّ أصالة العموم أصل عقلائي استقرّ بناء العقلاء عليه حيث يحرز كون الفرد فردا للعامّ ويشكّ في حكمه ، أمّا حيث يعلم حكمه ويشكّ في كونه فردا فلم يستقرّ بناء العقلاء حينئذ على التمسّك بالعموم أصلا ، ومن هنا لا دليل على أصالة العموم في المورد أصلا (وإن قلنا بطهارة ماء الاستنجاء للاستظهار من قوله عليه‌السلام :

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٢٦٣.


لا بأس به (١) ، لا من جهة هذه القاعدة. نعم لو لم نستظهر من قوله عليه‌السلام : لا بأس به ، الطهارة فحينئذ يقع التعارض بين ما دلّ على انفعال الماء القليل بمجرّد الملاقاة وما دلّ على نجاسة ملاقي الماء المتنجّس ؛ إذ لا بدّ من تخصيص أحد العمومين فإذا تعارضا وتساقطا يرجع إلى أصالة الطهارة في الماء.

أمّا إذا قدّمنا التخصّص على التخصيص تمسّكا بأصالة العموم نقول بأنّ الماء طاهر فلا بدّ من تخصيص أدلّة انفعال الماء القليل بمجرّد الملاقاة. أمّا إذا أنكرنا التمسّك بأصالة العموم إلّا حيث يحرز كون الفرد من أفراده فلا بدّ من البناء على نجاسة الماء وإجراء جميع أحكام النجس عليه إلّا أنّه معفوّ عنه في الصلاة ، وهذا هو وجه مذهب الشهيد قدس‌سره إلى النجاسة والعفو (٢) ، فافهم) (٣).

الكلام في عدم جواز العمل بالعموم قبل الفحص عن المخصّص

لا يجوز العمل بالعموم قبل الفحص عن المخصّص ، وليس الكلام في العموم لخصوصيّة فيه ، بل كلّ ظهور كذلك ، كما سيعلم من الدليل الذي يذكر لوجوب الفحص فإنّه عامّ لكلّ ظهور من الظهورات ولا خصوصيّة للعموم في ذلك. ولا يخفى أنّ الفحص هنا ليس نظير الفحص في الاصول العمليّة ؛ لأنّه لا موضوع للأصل العملي قبل الفحص ؛ لأنّ عدم البيان وعدم المرجّح لا يحرزان قبل الفحص. والأدلّة الشرعيّة ـ كحديث الرفع (٤) ، ولا تنقض اليقين بالشكّ (٥) ـ وإن كانت مطلقة إلّا أنّ

__________________

(١) الوسائل ٢ : ١٠٧٩ ، الباب ٦٠ من أبواب النجاسات.

(٢) انظر الذكرى ١ : ٨٣.

(٣) من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٤) الوسائل ١١ : ٢٩٥ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث الأوّل.

(٥) الوسائل ١ : ١٧٤ ، الباب الأوّل من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث الأوّل.


الإجماع على تقييدها بما بعد الفحص أو الأخبار كحديث الحجّة البالغة (١) أو آية (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ)(٢) على اختلاف المشارب في ذلك ، وهذا بخلاف الفحص في العموم فإنّه عمّا يزاحم الحجّة فإنّ العموم حجّة متحقّقة ، ولكنّ الكلام في أنّه هل هناك مزاحم لها ومانع عن الأخذ بمقتضاها أم لا؟ فالفحص هنا عمّا يزاحم المقتضي بعد تحقّقه وهناك عن أصل تحقّق المقتضي وعدمه ، هكذا أفاد صاحب الكفاية قدس‌سره (٣)(*).

وربّما قيل بعدم الفرق بين الفحص في المقامين ، فإنّه كما أنّ الشكّ بعد الفحص موضوع للاصول كذلك الظهور بعد الفحص موضوع للحجيّة الثابتة ببناء العقلاء ، وإلّا فلو استقرّ بناؤهم على العمل بالظهور قبل الفحص فلا مقتضي للفحص أصلا.

ومن هنا يظهر أنّ ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره على إطلاقه غير تامّ ؛ ولأنّا إن استندنا في وجوب الفحص إلى العلم الإجمالي بالمخصّصات في الكتب الأربعة أو فيها وفي غيرها فلا ريب في تحقّق الفرق بين الفحصين ، فإنّه حينئذ عن تحقّق المانع بعد

__________________

(١) الأمالي للشيخ الطوسي : ٩ المجلس الأوّل ، الحديث ١٠.

(٢) النحل : ٤٣.

(٣) انظر الكفاية : ٢٦٥.

(*) وملخّص الكلام : أنّ الفحص قد يكون عن المقتضي في كلا المقامين ، أمّا في الاصول فلتنقيح الموضوع ، وأمّا في العمومات فكذلك ؛ لأنّ بناء العقلاء إنّما جرى على العمل بها إذا كانت في معرض التخصيص كما في عمومات الكتاب والسنّة بعد الفحص عن المخصّص. وقد يكون عن المانع في كلا المقامين ، أمّا في العموم فواضح ، وأمّا في الاصول ففي أطراف الشبهة الموضوعيّة المقرونة بالعلم الإجمالي فإذا تردّد النجس بين إناءين فأصالة الطهارة تجري في كلّ منهما لو لا المعارضة ، فالفحص عن النجس منهما يوجب معرفته ، فيجري أصالة الطهارة حينئذ في الثاني ، فالفحص هو الذي رفع المانع من إجراء الأصل في الثاني. فافهم. (من اضافات بعض الدورات اللاحقة).


إحراز المقتضي ؛ لأنّ كلّ عموم هو من أطراف العلم الإجمالي ، فأصالة العموم فيه معارضة بأصالة العموم في بقيّة الأطراف. ونظيره في الاصول العمليّة أيضا أطراف الشبهة المحصورة ، فإنّ أصالة الطهارة والحلّية في كلّ من الإناءين معارض بأصالة الطهارة والحلّية في الآخر.

نعم إن استندنا فيها للسيرة وبناء العقلاء وقلنا بأنّ بناءهم في مثل عمومات الكتاب والسنّة ـ ممّا تعارف فيها التخصيص ـ هو الحجّية بعد الفحص لم يكن فرق بين الفحصين ، فليس إطلاق القول بالتفرقة بين الفحصين ممّا ينبغي ، إلّا أن يبنى على لزوم الفحص من جهة العلم الإجمالي ، وإلّا فقد عرفت أنّه إذا كان مدرك وجوب الفحص هو بناء العقلاء فلا فرق بين الفحص في المقامين.

وكيف كان ، فقد ذكر لوجوب الفحص قبل العمل بالعموم عن المخصّص وجوه :

الأوّل : أنّ العامّ لا يفيد الظنّ بالعموم إلّا بعد الفحص عن مخصّصه فيجب الفحص لذلك.

وفيه : أنّ الفحص لا يحقّق الظنّ بالعموم أيضا لقرب عدم الاطّلاع على المخصّص أو عدم وصوله. وثانيا : أنّ مناط حجّية العموم هو حجّية الظهور الغير المعتبر فيها الظنّ بالوفاق أو عدم الظنّ بالخلاف ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

الثاني : أنّ عموم الحكم للغائبين إنّما هو من باب ثبوت حكم المشافهين في حقّ الغائبين ، فلا بدّ من الفحص ليحصل لنا العلم بحكم المشافهين.

وفيه : أنّ الفحص لا يعلم فيه حكم الغائبين ، لإمكان عدم وصوله أو عدم الاطّلاع عليه. وثانيا بأن ليس جميع العمومات من قبيل خطاب المشافهة.

وبالجملة ، فالوجوه المذكورة لوجوب الفحص ضعيفة لا نتعرّض لها.

نعم العمدة في الأدلّة دليلان أو ثلاثة فلنتعرّض لها :

أوّلها : العلم الإجمالي بأنّ للعمومات المذكورة في الكتاب والسنّة مخصّصات ، وهذا العلم الإجمالي مانع عن التمسّك بالعمومات ؛ لأنّ كلّ فرد من أفراد العمومات


من أطراف العلم الإجمالي فيحتمل أنّه هو المخصّص ، وبعد الفحص يعلم حينئذ بعدم كونه من أطراف العمومات المخصّصة.

وقد ردّ صاحب الكفاية قدس‌سره هذا الاستدلال بأنّ هذا العلم الإجمالي قد انحلّ بالاطّلاع على جملة من المخصّصات لا يعلم بأكثر منها ، وحينئذ فبعد الانحلال يلزم جواز العمل بلا فحص. ومن المعلوم لزوم الفحص حتّى بعد الانحلال وليس إلّا أنّ العلم الإجمالي ليس هو المقتضي والعلّة لوجوب الفحص ، وإلّا لدار معه وجودا وعدما.

وبالجملة ، المدّعى لزوم الفحص عن مخصّص جميع العمومات حتّى بعد الانحلال ، فالدليل أخصّ من المدّعى (١).

وقد ردّه الميرزا النائيني قدس‌سره بأنّ عندنا في المقام علمين إجماليين : أحدهما العلم الإجمالي بتخصيص مائتي عامّ من عمومات الكتاب والسنّة ولا علم لنا بتخصيص أكثر من هذا المقدار وإن احتمل الأكثر.

وهناك علم إجمالي آخر بأنّ في الوسائل مثلا مقدار من المخصّصات لهذه العمومات فإنّ هذا العلم الإجمالي بعنوان كون المخصّص في الوسائل وليس دائرا بين الأقلّ والأكثر من حيث العدد فبالظفر بمائتي مخصّص ينحلّ العلم الإجمالي الأوّل دون الثاني ؛ لأنّه بعنوان كونه في الوسائل مثلا ، وحينئذ فالعلم الإجمالي لا ينحلّ وحينئذ فهو كاف في لزوم الفحص عن المخصّص للعامّ قبل العمل به ، ونظّر المقام بمن يعلم أنّه مديون وأنّ دينه في دفتر خاصّ ثمّ علم إجمالا بأنّ دينه خمسة دنانير ويحتمل كونها أكثر ثمّ نظر في مقدار من الدفتر حتّى انتهى إلى أن صار مقدار خمسة دنانير ، فلا يجوز له أن لا ينظر في بقيّة الدفتر ، بدعوى أنّ العلم الإجمالي قد انحلّ ؛ لأنّ العلم الإجمالي من حيث العدد والقلّة والكثرة قد انحلّ ، أمّا العلم الإجمالي الذي

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٢٦٥.


هو بمعرف كون دينه في دفتره فلم ينحلّ بعد ومقتضاه لزوم فحص الدفتر من أوّله إلى آخره ؛ لأنّ العلم الإجمالي الثاني ذو علامة وتعيّن ، والأكثر إنّما يرفع اليد عن احتماله إذا لم يكن طرفا لعلم إجمالي آخر كما في المقام (١).

أقول : إنّ العلم الإجمالي الثاني إن كان دائرا بين الأقلّ والأكثر أيضا فلازمه الانحلال كالأوّل.

مثاله : أن نعلم علما إجماليّا بنجاسة أحد الإناءات العشرة لوقوع قطرة بول قطعا في أحدها ولنا احتمال وقوعها في الأكثر من إناء واحد ولنا علم إجمالي آخر بأنّ إناء زيد نجس ونحتمل أن يكون لزيد إناءان بعد العلم بوجود إناء له فإذا علمنا بأنّ هذا هو إناء زيد وأن به وقعت قطرة البول ، فبالإضافة إلى كلّ من العلمين الإجماليين ينحلّ العلم الإجمالي إذا الآن يشكّ في نجاسة غير هذا الإناء شكّا بدويّا إذ ليس هذا الإناء الآن من أطراف العلم الإجمالي الأوّل ولا الثاني.

نعم لو كان العلم الإجمالي الثاني الذي هو ذو علامة وتعيّن غير مردّد بين الأقلّ والأكثر لم يوجب انحلال ما تردّد بين الأقلّ والأكثر انحلاله ؛ لأنّ الانحلال من الجهة الاولى لا يوجب الانحلال من الجهة الثانية ، مثاله : أن يعلم إجمالا بوجود إناء زيد النجس فيما بين هذه الإناءات العشرة ثمّ يعلم بقطرتي بول قد وقعتا في إناء واحد من هذه العشرة أو في إناءين ثمّ يفحص فيعلم أنّ هذا الإناء مثلا قد وقعت فيه قطرة بول قطعا فهنا ينحلّ العلم الإجمالي الثاني المردّد بين الأقلّ والأكثر ، فمن حيث قطرتي البول لا يجب الاجتناب إلّا أنّ الانحلال من هذه الجهة لا يوجب الانحلال من جهة كون إناء زيد النجس هو أحد الأطراف.

(نعم لو احتمل كون هذا الإناء هو إناء زيد نقول بالانحلال ؛ لأنّ العلم الإجمالي الثاني بنفسه لا يوجب التنجّز ، وإنّما يوجبه تساقط الاصول في أطرافه فمع فرض

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٥٨ ـ ٣٥٩.


عدم تساقط الاصول كما في المقام ؛ لأنّ هذا الإناء لا يجري فيه الأصل قطعا فلا يلزم من إجراء الأصل في الباقي طرح للمعلوم بالإجمال ولا ترجيح من غير مرجّح فتجري الاصول في بقيّة الأطراف) (*). ومقامنا من قبيل المثال الأوّل فإنّ العلم الإجمالي الثاني بوجود المخصص في كتاب الوسائل بهذا العنوان أيضا مردّد بين الأقلّ والأكثر ، وحينئذ فالعلم الإجمالي لا يوجب الفحص بعد الانحلال.

وأمّا ما ذكره : من مسألة الدين والدفتر وعدم الانحلال ، فهو من جهة أنّ عنده اطمئنانا بتحقّق الزيادة ، والاطمئنان كالعلم حجّة عقلائيّة ، مثلا إذا كان يعلم بأنّ ديونه في دفتره وهو يعلم أنّها خمسة دنانير قطعا ويشكّ في الزائد فإنّه إذا نظر إلى الدفتر بمقدار عشر أوراق فظفر بالخمسة إلى يوم نصف شهر رمضان إلّا أنّه يطمئنّ أنّه قد استقرض بعد هذا التاريخ قطعا مقدار دينارين ، وهذا الاطمئنان كالعلم حجّة فليس وجوب النظر في بقيّة الدفتر لعدم الانحلال للعلم الإجمالي ، بل لوجود حجّة اخرى تقتضي الفحص ؛ ولذا لو وجد بمقدار الدينارين الآخرين يجري الأصل في بقيّة أوراق الدفتر فيجري أصل البراءة في نفسه.

نعم لو قلنا بلزوم الفحص للمرء الذي يشكّ في تحقّق استطاعته أو بلوغ غلّته النصاب ؛ لأنّ إجراء أصالة العدم يقتضي فوات الواجب في أوّل سنته غالبا ولا يجوز إجراء الأصل في مثل ذلك ، لا يجري الأصل إلّا أنّه لهذا المانع لا للعلم الإجمالي. وممّا يؤيّد الانحلال أنّه لو ضاع ذلك الدفتر فإنّه لا ريب في جريان البراءة من الدين المشكوك ، ولو لا الانحلال المذكور للزم الاحتياط.

الثاني من أدلّة وجوب الفحص عن المخصّص قبل العمل بالعموم : ما ذكره الميرزا النائيني قدس‌سره (١) تبعا لصاحب الكفاية (٢) أنّ الألفاظ المفيدة للعموم إنّما تفيده ببركة

__________________

(*) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٦١.

(٢) انظر كفاية الأصول : ٢٥٥.


مقدّمات الحكمة فلا بدّ من الفحص حتّى يحرز عدم البيان الذي هو مقدّمة من مقدّمات الحكمة ، وإلّا ففي مثل تخصيص عمومات مثل الكتاب والسنّة ـ ممّا يرد العامّ فيه ثمّ يرد الخاصّ بعد مئات السنين من إمام آخر غير الناطق بالعموم ـ لا يمكن إحراز عدم البيان بعدم ذكره متّصلا به ، خصوصا كون مثل التخصيص المنفصل متداولا ومتعارفا ، إمّا لمصلحة في التأخير ، أو لمفسدة في التقديم من تقيّة وغيرها.

أقول :

يرد على هذا الوجه أوّلا : أنّ ألفاظ العموم غير محتاجة إلى مقدّمات الحكمة ليحرز عدم البيان ، بل هي بنفسها دالّة على العموم ، فعدم التخصيص من باب بيان عدم التخصيص لا من باب عدم بيان التخصيص ، والمتكفّل لبيان العدم هو لفظ العموم المفيد لإلغاء الخصوصيّات كما تقدّم.

وثانيا : أنّ الظهور لا يرتفع بالظفر بالمخصّص ، بل إنّما يرتفع بالمخصّص الإرادة الجدّية كما تقدّم ، وأمّا الظهور فبناء العقلاء يوجب حجّيته ، وتقديم المخصّص المنفصل حيث يتحقّق من باب تقديم أقوى الظهورين على الآخر ، ولو توقّف ظهوره على عدم المخصّص لم يصحّ ما ذكره الميرزا نفسه من التمسّك بالعموم حيث يكون المخصّص مجملا مفهوما مردّدا بين الأقلّ والأكثر فيما زاد على الأقلّ المتيقّن فإنّه قد ذكر أنّه يتمسّك بعموم العامّ ، فهل يتمسّك بما ليس بظاهر أم بما هو ظاهر؟ فالإنصاف أنّ هذا الوجه أيضا كسابقه لا يوجب الفحص.

الثالث من أدلّة وجوب الفحص عن مخصّص العموم قبل العمل به : ما ذكره الشيخ الأنصاري قدس‌سره في مقام لزوم الفحص عن الدليل قبل الرجوع إلى الاصول العمليّة من الدليل العقلي المذكور هناك والنقلي ، أمّا العقلي فقد ذكروا أنّه يلزم من الرجوع إلى الاصول من غير فحص اندراس الأحكام وعدم امتثالها إذ كلّما شكّ في حكم يرجع إلى البراءة ، وحينئذ فيلزم نقض الغرض من جعل الأحكام.


وأمّا النقلي فقد استدلّ على لزوم الفحص عن الحكم قبل الرجوع إلى الاصول العمليّة بآية (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١) وبما ورد من لزوم تعلّم الأحكام مثل قوله عليه‌السلام : طلب العلم فريضة على كلّ مؤمن ومؤمنة (٢) ، ومثل ما ورد من أنّه يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقال له : لم لا عملت؟ فيقول : ما علمت ، فيقال : لم لا تعلّمت (٣) وغيرها من الأخبار الدالّة على وجوب تعلّم الأحكام الشرعيّة (٤) ، فإنّه لو رجع إلى الأصل العملي في هذه الموارد خالف آية السؤال وترك تعلّم الحكم (٥).

وهذان الدليلان بعينهما يدلّان على وجوب الفحص عن المخصّص قبل العمل بعموم العامّ بمقدّمة هي أنّه جرى ديدن الشارع المقدّس تبليغ أحكامه تدريجا بنحو يذكر العموم في الكتاب الكريم ويكون مخصّصه مذكورا بعد مائتي سنة من العسكري عليه‌السلام ، وكذا يذكر العموم على لسان الباقر عليه‌السلام ويأتي التخصيص من الرضا عليه‌السلام أو الجواد عليه‌السلام. فقد استقرّ ديدنهم على هذا ، وحينئذ فبمجرّد ورود العموم لا يمكن العمل به مع استقرار سيرتهم على ما ذكرنا. فلو عمل بالعموم لزم نقض الغرض ، وترك السؤال من أهل الذكر الذي هو كناية عن التفحّص في أقوالهم ، وكذا ترك طلب العلم بالحكم الشرعي الذي هو مقدّمة للعمل ، فهذه الأدلّة تدلّ على لزوم الفحص عن المخصّص للعموم قبل العمل بعموم العامّ.

__________________

(١) النحل : ٤٣.

(٢) لم نعثر عليه بعينه ولكن الموجود : على كلّ مسلم ، انظر الوسائل ١٨ : ٩ ، الباب ٤ من أبواب صفات القاضي.

(٣) الأمالي للشيخ الطوسي : ٩ المجلس الأوّل ، الحديث ١٠.

(٤) انظر الكافي ١ : ٣٠ ، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه ، الحديث ٣ و ٦ و ٧ و ٨.

(٥) راجع الفرائد ٢ : ٤١٢ وما بعدها.


بقي الكلام في مقدار الفحص اللازم ، والاحتمالات ثلاثة :

الأوّل : أن يفحص حتّى يقطع بعدم الظفر بمخصّص.

الثاني : أن يفحص حتّى يطمئنّ بعدم ظفره بعد بمخصّص.

الثالث : أن يفحص حتّى يظنّ عدم الظفر بعد ذلك بمخصّص.

أمّا الأوّل : فهو وإن قرّبه تبويب الأصحاب قدس‌سره لكتب الأخبار ، إلّا أنّه مع ذلك نادر التحقّق جدّا.

وأمّا الثالث : فهو مع كونه ظنّا لا يغني عن الحقّ شيئا لا يمكن القول به ؛ لأنّه قول بالظنّ.

فالقول الوسط ، هو الذي ينبغي التعويل عليه في المقام بمعنى أن يفحص عن المخصّص حتّى يطمئنّ بعدم الظفر بمخصّص له ، بنحو يكون احتمال العثور غير معتدّ به عند العقلاء. فإن أراد صاحب الكفاية قدس‌سره بقوله : «يفحص حتّى يخرج العامّ عن معرضيّة التخصيص» (١) هذا المعنى فهو ، وإلّا فلم يتحصّل لنا معنى لعبارته ، فإنّه بالقطع بعدم التخصيص لا يخرج عن المعرضيّة ، فإنّ انتفاء التخصيص لا يوجب خروجه عن معرضيّة التخصيص أصلا. وهذا المقدار من الفحص كما هو لازم في الأخذ بدلالة العموم أيضا لازم في الأخذ بسنده ، فإنّ سيرة الأئمّة على ذكر كثير من الأحكام على خلاف الواقع تقيّة أو يوقعون الاختلاف بين شيعتهم حقنا لدمائهم أو غير ذلك ، ولذا كثرت الأخبار المتعارضة ، فلا بدّ في العمل بخبر من الفحص عن عدم معارض له بنحو يطمئنّ بعدم الظفر بالمعارض ، فافهم.

في الخطابات الشفاهيّة

هل الخطابات الشفاهيّة تختصّ بالمخاطبين أو تعمّ الغائبين والمعدومين؟ وقبل الخوض في هذه المسألة لا بأس بالتعرّض لثمرتها :

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٦٥.


فنقول : إن قلنا بأنّ الخطابات خاصّة بالمشافهين فظهورها إمّا أن يختصّ بهم أو يكون ظهورها حجّة مطلقا. وإن اختصّ الخطاب بهم فإن قلنا باختصاص حجّية الظهور بمن قصد إفهامه فلا يكون هذا الظهور حجّة في حقّنا ، فإذا شككنا في تكليف من جهة بعض الخصوصيّات فلا يمكننا الاستدلال بإطلاق أو عموم لعدم حجّيته لنا ، لأنّا لم نقصد بالخطاب.

وحينئذ فثبوت ذاك التكليف لنا إنّما هو بقاعدة الاشتراك المفتقرة إلى اتّحاد الجنس ، فإذا كان الحاضرون واجدين لصفة نحتمل دخلها في التكليف لا يمكن إثبات ذلك التكليف لنا ، فمثل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ)(١) لا يمكن بها إثبات التكليف لنا بوجوب الجمعة ؛ لأنّ صفة حضور الإمام المبسوط اليد نحتمل دخلها في الحكم بوجوبها. وهذا أيضا يجري لو قلنا بعموم حجّية الخطاب وإن اختصّ بالمخاطبين ؛ لاحتمال أن يكون لوصف الحضور مدخليّة في الحكم ، وعدم ذكر تقييد الحكم به لكون المخاطبين واجدين له فلا يحتاج إلى ذكره قيدا ، وحينئذ فهو وإن كان حجّة بالنسبة إلينا لنستدلّ به على تكليفهم إلّا أنّا لا نتمكّن أن نثبت به إطلاق التكليف بالنسبة إلى حضور الإمام وغيبته لإمكان كونه مقيّدا وعدم ذكر القيد لكون المخاطبين واجدين له فهو مغن عن الذكر لعدم فائدته حينئذ. وهذا بخلاف ما إذا قلنا بأنّ الخطابات الشفاهيّة تعمّ الغائبين بل المعدومين بحاقها فإنّا نستدلّ حينئذ بإطلاق الخطاب في نفي كلّ قيد نحتمل اعتباره.

فقد ظهر أنّ هذه المسألة اصوليّة ذات ثمرة فقهيّة ، وليس كما ذكره صاحب الكفاية من عدم كونها ذات ثمرة (٢).

__________________

(١) الجمعة : ٩.

(٢) كفاية الاصول : ٢٦٩ ـ ٢٧١.


وأمّا الكلام في نفس المسألة فقد ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره إمكان تصوير النزاع في الحكم العقلي من جهتين :

إحداهما : إمكان جعل الحكم في حقّ المعدومين وعدمه.

الثانية : إمكان خطاب المعدومين وعدمه (١).

وفي الحكم اللغوي وهو أنّ الأدوات الموضوعة لخطاب المشافهة هل يصحّ خطاب المعدومين بها أم لا؟ والميرزا النائيني قدس‌سره جعل النزاع في أمرين :

أحدهما : إمكان خطاب المعدومين ، والحكم اللغوي. وأسقط إمكان جعل الحكم عن محلّ النزاع (٢).

والظاهر أنّ النزاع في الحكم اللغوي ، وذلك أنّ جعل الحكم ممّا لا ريب في إمكانه بناء على أنّ جعل الحكم عبارة عن اعتباره على ذمّة المكلّف ، وهذا الاعتبار سهل المئونة جدّا كما تقدّم ، والبعث والزجر والطلب كلّها امور منتزعة منه. والحكم في القضايا الحقيقيّة مشهور ، بل وهذا في العرف واقع كثيرا ، كما في قوانين الحكومات ، وكما في الوقف على البطون. ويؤيّده أنّه لم ينقل عن أحد التوقّف في شمول الأحكام الموجّهة بغير أدوات الخطاب للمعدومين فضلا عن الغائبين.

وأمّا صحّة الخطاب فإن اريد الخطاب الحقيقي الذي يكون بقصد التفهيم والتفهّم فهذا لا يجوز مع غير الملتفت وإن كان حاضرا كالنائم والغافل والسكران والمجنون ، وإن اريد به الخطاب بمعنى إنشاء الخطاب فهذا يجوز ولو مع المعدوم ، بل الغير القابل للوجود. وكلّ هذا لا نزاع فيه ، وإنّما النزاع في صحّة مخاطبة المعدومين بمثل «يا أيّها» وغيرها ممّا وضع لخطاب المشافهة أم لا.

فلا نزاع إلّا في المسألة اللغويّة ، وهي : أنّ أدوات الخطاب موضوعة للخطاب الحقيقي فلا يصحّ المخاطبة بها للغائب فضلا عن المعدوم ـ إذ الخطاب الحقيقي ما فيه

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٦٦.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٦٥ ، وفوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٥٤٨.


قصد التفهيم ، ولا يمكن تحقّق قصد تفهيم الغائب ، بل لا يصحّ مخاطبة الحاضر إذا كان غافلا أو نائما أو جاهلا بتلك اللغة ـ أو أنّ هذه الأدوات موضوعة للخطاب الإنشائي فهو لإنشاء الخطاب وإظهاره فتكون شاملة للمعدومين فضلا عن الغائبين والحاضرين الغير الملتفتين؟

الظاهر الثاني ؛ لأنّا لا نرى تفاوتا في استعمالها في مخاطبة القابلين للتفهيم وغيرهم من غير القابلين حتّى الجمادات. وهذا كاشف عن أنّ المعنى الحقيقي متحقّق فيهما معا وهو الخطاب الإنشائي ، وحينئذ فنفس الخطاب يمكننا التمسّك بإطلاقه في نفي كلّ قيد يحتمل اعتباره لشموله لنا ذاتا ولا حاجة إلى التمسّك بقاعدة الاشتراك لنحتاج إلى الاتّحاد في الصنف كما مرّ.

هذا كلّه مع أنّ الّذين يحضرون مجلس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عند قراءة الآية عليهم ليس جميع المسلمين ، بل مقدار قليل من مسلمي خصوص المدينة ، فلو استعملت الأدوات في الخطاب الحقيقي لزم خروجهم أيضا فلا يقتصر على خروج المعدومين حينئذ ، بل مطلق الغائبين ، وهذا لا يلتزم به القائل بالاختصاص.

هذا كلّه بناء على أنّ إلقاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هو أوّل نزول القرآن فيكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله آلة لخطاب الله عزوجل ولا نلتزم بذلك ، بل إنّ قراءة النبيّ كقراءتنا للقرآن فالقرآن قد نزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيته ثمّ قرأه على من حضر بعد ذلك في المسجد ، وحينئذ فالحاضرون غير مشافهين أيضا ؛ لأنّ الله لم يشافههم بوساطة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنّما شافه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والنبيّ بلّغ ما شافهه به الله عزوجل فليس من الله خطاب مشافهة لأحد غير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهذا قريب جدّا.

في العامّ المتعقّب بضمير خاصّ

إذا ورد عامّ قد حكم عليه بحكم ثمّ ورد ضمير في حكم آخر راجع إلى ذلك العامّ إلّا أنّ المراد بالضمير الخصوص قطعا فهل يلتزم بكون المراد من العموم


الخصوص فيختصّ الحكم الأوّل بالخصوص أيضا حرصا على حفظ ظهور موافقة المرجع للضمير عموما وخصوصا أم يلتزم بأنّ الضمير قد رجع إلى ذلك العموم بمعنى آخر وهو الخصوص للاستخدام؟ ففي الأوّل مخالفة لأصالة العموم وفي الثاني مخالفة لظهور موافقة المرجع للضمير ، فأيّ الظهورين يقدّم؟ فقيل بتقديم أصالة العموم ، وقيل بتقديم الموافقة بين المرجع والضمير بتخصيص العموم في الحكم الأوّل أيضا ، وقيل بالإجمال لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينيّة. وقد ذهب الميرزا النائيني قدس‌سره إلى الأوّل (١) كما ذهب صاحب الكفاية قدس‌سره إلى الأخير (٢) والوسط مختارنا.

وكيف كان ، فأصالة عدم الاستخدام لا تجري على مذهب الميرزا النائيني وصاحب الكفاية ؛ لأنّ جميع الاصول اللفظيّة إنّما استقرّ بناء العقلاء على إجرائها حيث يشكّ في المراد بعد كون المعنى الحقيقي والمجازي مثلا معلومين ، أما حيث يعلم المراد ويشكّ في كيفيّة إرادته فلا استقرار لبناء العقلاء على الإجراء ، ومقامنا من صغريات الثاني ؛ إذ المراد بالضمير معلوم قطعا والشكّ في أنّه كيف اريد فإذا لم تجر أصالة عدم الاستخدام فالميرزا قدس‌سره يقول بأنّ أصالة العموم حينئذ جارية بلا معارض إلّا أنّ صاحب الكفاية استظهر عدم جريانها أيضا ؛ لأنّها إنّما تجري حيث لا يحتفّ الكلام بما يصلح للقرينيّة ، وكون المراد من الضمير خاصّا يصلح قرينة على أنّ المراد من العامّ الخصوص فلا تجري أصالة العموم أيضا.

والظاهر جريان أصالة عدم الاستخدام ؛ لأنّها إن اريد بها بيان حال الضمير وأنّه كيف اريد منه خصوص الرجعيّات مثلا كان ما ذكر في منعه متينا ، إلّا أنّ المراد أنّ وحدة المراد من الضمير ومن مرجعه أمر عرفي مسلّم غير قابل للجدال ، فمن قال : «رأيت اليوم أسدا وكلّمته» فإنّ المراد من الضمير في قوله : «وكلّمته»

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٦٩ ـ ٣٧٠.

(٢) كفاية الاصول : ٢٧١ ـ ٢٧٢.


الرجل الشجاع قطعا إلّا أنّ العرف يفهم أنّ الأسد الذي رآه اليوم هو الذي كلّمه ولا يتوقّف في ذلك ، وحينئذ فكون المراد من الضمير متّحدا مع المراد من مرجعه أمر عرفي لا يتوقّفون فيه ، فإذا علمنا المراد من الضمير وأنّه الخاصّ فبهذه القاعدة يفهم العرف كون المراد من العموم هو الخصوص في الاستعمال ، ويقدّم هذا الظهور على أصالة العموم. وحينئذ فحيث يدور الأمر بين الاستخدام والتخصيص يتقدّم أصالة عدم الاستخدام المراد بها أصالة اتّحاد المراد من الضمير ومرجعه الذي هو أمر عرفي يقدّم عندهم على أصالة العموم والإطلاق والحقيقة وغيرها ، هذا كلّه في الكبرى الكلّية.

وأمّا الآية المباركة فليست من صغريات المسألة ؛ لأنّ الضمير لم يرد به ما يغاير العموم ، بل المراد به نفس العموم السابق ، وعدم جواز رجوع أزواج غير الرجعيّات خارج بالدليل المخصّص الرافع للإرادة الجدّية دون الاستعماليّة ، فافهم.

في تخصيص العموم بمفهوم الموافقة والمخالفة

ذكر في الكفاية اتّفاقهم على جواز تخصيص العامّ بمفهوم الموافقة ، واختلافهم في مفهوم المخالفة على قولين ، وأنّهم استدلّوا لكلّ من القولين بما لا يخلو عن قصور. ثمّ ذكر هو أنّ العموم والمفهوم إن كانا بمقدّمات الحكمة فلا ريب في عدم حجّيتهما ؛ لعدم إحراز عدم بيان المولى لصلاحية كلّ منهما أن يكون بيانا للآخر وإن كانا بالوضع فكذلك ؛ لتعارضهما وتساقطهما لو لم يكن أحدهما أظهر فيرجع إلى الاصول العمليّة هذا إذا كان المخصّص متّصلا وإن كان منفصلا فهو مجمل لو لم يكن أحدهما أظهر فيكون قرينة التصرّف في الآخر (١).

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٧٢ ـ ٢٧٣.


ولا يخفى أنّ ما ذكره متين من حيث الكبرى الكليّة إلّا أنّ الكلام في الصغريات ، ومن هنا يقع الكلام تارة في مفهوم الموافقة ، واخرى في مفهوم المخالفة.

أمّا مفهوم الموافقة فقسمان : أحدهما مفهوم الأولويّة ، والآخر مفهوم المساواة. أمّا مفهوم الأولويّة فقسمان :

أحدهما : ما يفهم من نفس ظهور الكلام عرفا بحيث يفهم كلّ أحد أنّ الشيء الفلاني أولى في الحكم من المذكور في المنطوق مثل (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ)(١) فإنّ كلّ من يسمع هذا اللفظ وترجمته يحكم بتحريم الضرب والشتم بالأولويّة المستفادة من نفس هذا الخطاب.

الثاني : ما إذا كانت الأولويّة من المدركات العقليّة القطعيّة مثل تحريم سبّ نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله من تحريم سبّ الأئمّة عليهم‌السلام فإنّ العقل يقطع بأنّ تحريم سبّهم عليهم‌السلام إنّما هو من جهة احترامهم المقتضي بالأولويّة تحريم سبّ النبيّ ؛ لأنّ المقتضي لاحترامه أقوى. وهذا حيث تحرز الأولويّة بنحو القطع واضح ، وإن لم يقطع بها فهو الاستحسان وليس من طريقتنا العمل به ، نعم هو طريقة العامّة فإنّ ديننا لا يدرك بعقول الرجال.

وأمّا مفهوم المساواة فقسمان :

أحدهما : ما نصّ فيه على علّة الحكم ، وهل يفرق فيه بين ما كان وسطا في ثبوت الحكم وهو التعليل الذي يكون كافلا بتشكيل صغرى وكبرى كلّية وانطباق المورد الذي هو صغرى تلك الكبرى الكلّية مثل لا تشرب الخمر لأنّه مسكر ، وبين ما لم يكن كافلا بذلك مثل لا تشرب الخمر لإسكاره أم لا يفرق بينهما؟ ذهب الميرزا النائيني إلى الأوّل فعمّم الحكم إلى جميع موارد العلة في الأوّل دون الثاني

__________________

(١) الإسراء : ٢٣.


فزعم أنّه حكمة الجعل ولا يدور الحكم مداره وجودا وعدما ، ومن هنا لم يسر حكم كثير الشكّ لغير الوضوء والصلاة ؛ لأنّ مورد الروايات هو ذلك فقط (١).

والظاهر أنّ الإنصاف عدم الفرق بين المثالين ؛ لأنّ العرف يفهم منهما كون العلّة مدارا للحكم وجودا وعدما ولا يرى تفاوتا أصلا. نعم في بعض الموارد لا يفهم العرف ذلك مثل قوله : «ناولني تلك الرمّانة لكبرها» فإنّه لا يفهم رغبة الشخص في كلّ ما هو أكبر ، ولهذا لو عبّر بقوله : «لأنّها أكبر» كان الحكم كذلك أيضا ، فلا يفرق بين المثالين أصلا.

الثاني من قسمي مفهوم المساواة : ما قطع فيه بمناط الحكم ، وهذا نادر التحقّق إذ المناط قلّما يقطع به ، فإذا لم يقطع به كان من أظهر أنحاء القياس وهو تسرية حكم موضوع إلى موضوع آخر ، وليس من مذهبنا القياس. فإذا تحقّقت هذه الأقسام يقع الكلام في أنّ أيّا منها يقدم على العموم.

وربّما يقال بأنّ المفهوم غير قابل لأن يتصرّف فيه ؛ لأنّه لازم عقلي للمنطوق. فالتصرّف فيه مع بقاء المنطوق على حاله غير ممكن ، ومع التصرّف في المنطوق وإن كان ممكنا إلّا أنّ التصرّف في المنطوق حينئذ أيضا غير ممكن لعدم المعارضة مع المنطوق ، فهو رفع لليد عن الدليل الشرعي من غير معارض له فلا بدّ من التصرّف بالعموم لإمكانه. ولا يفرق في ذلك بين كون المفهوم أخصّ مطلقا أو من وجه أو غير ذلك ، لسراية المانع في الجميع.

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ المفهوم حيث يستفاد من المنطوق يكون لازما له نظير زوجيّة الأربعة فنفيه ، ـ يعني المفهوم ـ نفي للمنطوق كما أنّ نفي الزوجيّة مستلزم لنفي الأربعة قطعا ، وعلى هذا بني القياس الاستثنائي في المنطق ، وحينئذ فمعارض المفهوم معارض للمنطوق نفسه. وحينئذ فالتصرّف في المفهوم مستقلّا وإن كان غير ممكن

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٨٠ ـ ٣٨١.


إلّا أنّ التصرّف فيه تبعا للتصرّف في المنطوق ليس رفعا لليد عن الدليل الشرعي من غير سبب ؛ لأنّ المعارضة بين العموم والمنطوق محقّقة. وحينئذ فينبغي إعمال قواعد التعارض المقرّرة ، ولا خصوصيّة للمقام تقتضي أن لا يكون من باب التعارض ، فإنّ التصرّف في كلّ منهما ممكن فتجري قواعد المعارضة ، هذا كلّه في مفهوم الموافقة.

وأمّا مفهوم المخالفة فهل يخصّص به العموم أم لا؟ فإن كان أخصّ قدّم على العموم قطعا مثل قوله : إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجسه شيء (١) ، فمفهومه أنّه إن لم يكن قدر كرّ ينجّسه شيء ، وهذا المفهوم يعارضه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه شيء إلّا ما غيّر طعمه أو ريحه (٢) وفي بعض الروايات ذكر اللون أيضا (٣). فبمقتضى هذا العموم ينبغي أن لا يحكم بتنجيس الماء القليل ما لم يتغيّر بالنجاسة ، فإنّ الماء في العامّ وإن كان مطلقا إلّا أنّ ذكره في مساق الامتنان وعدم تقييده يقتضي عمومه ، ولكن لمّا كان المفهوم أخصّ ـ لأنّه في خصوص غير الكرّ ـ يقدّم على العموم للجمع العرفي ، فإنّ العرف يقدّم الخاصّ بحسب ارتكازه من غير فرق بين أن يثبت العموم بالوضع أو بمقدّمات الحكمة ويكون المفهوم بالوضع أو بمقدّمات الحكمة أو بهما كما اخترناه ؛ وذلك لأنّ العرف يرى الخاصّ قرينة على عدم إرادة العموم إرادة جدّية ، والقرينة وإن كانت في غاية الضعف تقدّم على ظاهر الثاني وإن كان في أرقى مراتب القوّة كما قدّم الظهور في مثل «رأيت أسدا يرمي» في الرجل الشجاع مع أنّ ظهور «أسد» في الحيوان المفترس وضعي ، والرمي ظاهر في رمي النبل من جهة الانصراف ومقدّمات الحكمة ، لإمكان رمي التراب.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١١٧ ـ ١١٨ ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الأحاديث ١ و ٢ و ٦ وفيها : لم ينجّسه.

(٢) الوسائل ١ : ١٠١ ، الباب الأوّل من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٨.

(٣) ورد في الرواية المتقدّمة ولم نعثر عليه في غيرها.


وبالجملة ، فأخصّية المفهوم مقتضية لتقديمه على العموم لعدّ العرف له قرينة على إرادة خلاف الظاهر في العموم ، وهذا بحسب الظاهر واضح ، ومن هنا عمل المشهور بذلك في الفتاوى الفقهيّة فحكموا بتنجيس الماء إذا كان قليلا بمجرّد الملاقاة وقدّموا المفهوم لأخصيّته في موارد كثيرة في الفقه جدّا وهو من المسلّمات عندهم من غير فرق بين كون المفهوم متّصلا بما له العموم أم منفصلا عنه. غاية الأمر أنّه إن كان من قبيل المتّصل منع عن انعقاد الظهور وفي المنفصل يمنع عن حجّيته ؛ لأنّ المفهوم يتقدّم عليه بدليل حجّيته. هذا إذا كان تقدّمه عليه من جهة دليل الحجّية فيكون مخصّصا لذلك العموم ؛ لأنّ العرف يرى الخاصّ قرينة على عدم إرادة ظهور العامّ إرادة جدّية.

وأولى من هذه الصورة بالتقدّم ما إذا كان المفهوم حاكما على العموم وموجبا لخروج هذا الفرد عن كونه فردا لذلك العامّ ، كما في مفهوم آية النبأ فإنّ مفهومها بناء على ثبوت المفهوم لها يعارض عموم التعليل في ذيلها وهو قوله : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(١) فإنّ خبر العادل لا يفيد اليقين ، بل إنّما يفيد الظنّ. فبمقتضى عموم الآيات المانعة عن اتّباع الظن (٢) وبمقتضى عموم التعليل في ذيل الآية لا يجوز التعويل على خبر العادل كالفاسق أيضا ، ولكنّ المفهوم على تقدير القول به يكون حاكما على هذه العمومات وموجبا لخروجه عن كونه ظنّا ، بل يكون علما تعبّديّا ، وكذا تكون الإصابة به إصابة بحجّة لا بجهالة ، فحينئذ بمقتضى حكومته خروجه موضوعا عن العمومات وعن عموم التعليل أيضا فإنّ عموم التعليل قضيّة حقيقيّة لا تحقّق لها موضوعا ، بل إنّما هي حكم على تقدير تحقّق موضوعه.

__________________

(١) الحجرات : ٦.

(٢) مثل : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ). الإسراء : ٣٦ ، ومثل : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً). يونس : ٣٦.


ومن هنا ظهر أنّ ما ذكره الشيخ الأنصاري : من كون المفهوم حاكما على العمومات المانعة عن اتّباع الظنّ دون عموم التعليل المذكور في الآية لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينيّة (١) لا يخلو عن تأمّل.

هذا كلّه إذا كان المفهوم أخصّ ، أمّا إذا كان بين المفهوم والعموم عموم من وجه كما في مثل أخبار الجاري وأخبار عدم انفعال الكرّ فإنّ قوله عليه‌السلام : ماء النهر يطهّر بعضه بعضا (٢) وغيرها (٣) بعمومه وإطلاقه يقتضي طهارة الماء الجاري مطلقا قليلا كان أم كثيرا ، ومقتضى مفهوم : إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء (٤) ، نجاسة القليل بملاقاة النجاسة وإن كان جاريا ، ففي الجاري القليل يقع التعارض ، فإن كان أحدهما كالعموم بالوضع والمفهوم بمقدّمات الحكمة قدّم العموم قطعا ، لكونه أقوى. وإن كان العموم بمقدّمات الحكمة كما في المثال المزبور فلا بدّ من الرجوع إلى المرجّحات الموجودة ، وهي في المقام لأخبار الجاري ؛ لأنّه لو قدّم أدلّة الانفعال خرج عنوان الجاري عن كونه عنوانا إلى اللغويّة. ومع انتفاء المرجّحات يرجع إلى عموم أعلى بعد تساقطهما في مورد الاجتماع ، ومع عدم عموم أعلى يرجع إلى الاصول العمليّة حينئذ. وبالجملة يكون من صغريات تعارض العموم من وجه.

في تعقّب العمومات بالاستثناء

إذا تعقّب الاستثناء عمومات متعدّدة مثل قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً

__________________

(١) انظر مطارح الأنظار ٢ : ٢١٥ ـ ٢١٦.

(٢) الوسائل ١ : ١١٢ ، الباب ٧ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٧ وفيه : ماء الحمام كماء النهر ...

(٣) انظر الوسائل ١ : ١١٧ ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق.

(٤) الوسائل ١ : ١١٧ ـ ١١٨ ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الأحاديث ١ و ٢ و ٦.


أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تابُوا)(١) فهل يرجع الاستثناء إلى خصوص الأخيرة فيرتفع الفسق فقط بالتوبة ، أو يرجع إلى الجميع فيسقط الحدّ وتقبل شهادته وينتفي فسقه بالتوبة؟ قيل بالأوّل كما عن جماعة (٢) وبالثاني عن آخرين (٣) وصاحب الكفاية ذهب إلى تخصيص الأخير للقطع به وإجمال بقيّة العمومات لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينيّة (٤) ، وهناك تفصيل للميرزا النائيني قدس‌سره يأتي الكلام فيه (٥).

والظاهر : أنّ تخصيص الأخير من العمومات مسلّم إلّا أنّ الكلام في اختصاصه به وعدمه ؛ إذ لا قائل بحسب الظاهر بتخصيص غير الأخيرة دونها ؛ لأنّه ليس على طبق المتفاهمات العرفيّة أصلا.

ولا يخفى أنّ العنوان وإن خصّ بخصوص الاستثناء إلّا أنّ البحث جار في جميع القيود المتعقّبة بالعمومات ، من الوصف والظرف والجارّ والمجرور وغيرها.

والصحيح في أصل المسألة هو ما ذهب إليه الميرزا النائيني قدس‌سره من التفصيل وملخّصه : أنّ تعدّد الجمل إمّا من جهة تعدّد الموضوع ، أو من جهة تعدّد المحمول ، أو من جهة تعدّد الطرفين معا. فإن كان من جهة تعدّد المحمول مع وحدة الموضوع فإمّا أن يكرّر الموضوع المذكور ثانيا أو لا يكرّر ، فإن لم يكرّر الموضوع كما إذا ورد «أكرم العلماء وأضفهم وسلّم عليهم إلّا الفسّاق» فالظاهر رجوع الاستثناء إلى

__________________

(١) النور : ٤ ـ ٥.

(٢) نسبه في عدّة الاصول إلى الكرخي وأكثر أصحاب أبي حنيفة وراجع المختصر وشرحه للعضدي : ٢٦٠ ـ ٢٦١ أيضا.

(٣) نسبه في عدّة الاصول ١ : ٣٢٠ ـ ٣٢١ إلى الشافعي وأصحابه وقوّاه.

(٤) كفاية الاصول : ٢٧٣.

(٥) أجود التقريرات ٢ : ٣٧٥ ـ ٣٧٧.


الجميع ، ووجه ذلك الظهور العرفي ، فإنّ الظاهر أنّ المتكلّم إنّما يريد أن يذكر حكما واحدا بوجوب مجموع هذه الامور الثلاثة من الإكرام والضيافة والسلام ، وحيث لا جامع لهذه الامور في اللغة فهو من باب قصور التعبير ذكرها متعاطفة ، وإلّا فلو كان ثمّة جامع بينها لذكره واستغنى عنها ، فكأنّه ليس في الكلام إلّا حكم واحد ليس إلّا ، وحينئذ فالاستثناء راجع إلى الموضوع الواحد المحكوم عليه بالحكم الواحد الذي من جهة قصور اللفظ ذكر فيه هذه الامور الثلاثة.

وإذا كرّر الموضوع كما إذا قيل : أكرم العلماء وأضفهم وسلّم عليهم وقلّد العلماء إلّا الفسّاق ، فلا بدّ من رجوع الاستثناء إلى الحكم الذي كرّر فيه الموضوع وما بعده من الأحكام إن كان ثمّ حكم آخر ، والوجه في ذلك أنّ تكرار الموضوع مع التمكّن من الإتيان به ضميرا لا بدّ أن يكون من جهة نكتة ، وهي فصل هذا الموضوع عمّا قبله من جهة هذا الحكم الخاصّ ؛ إذ لو لم يرد الفصل لذكره ضميرا ليتّحد السياق ، فالعدول تغيير للسياق وهو لنكتة وليست إلّا الفصل. والآية المباركة من هذا القبيل ؛ لأنّه كرّر الموضوع بقوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) فظهوره في اختصاص الاستثناء بخصوص الحكم بالفسق دون ما قبله فافهم. وهذا الكلام دعوى ظهور للجملة في ذلك. ولو تنزّلنا عن دعوى الظهور فلا أقلّ من إجماله فيرجع إلى أصالة العموم. هذا كلّه حيث يكون الموضوع واحدا والمحمول متعدّدا.

ولو انعكس الأمر ـ بأن كان الموضوع متعدّدا والمحمول واحدا ـ فعين الكلام المتقدّم : من أنّ المحمول الواحد :

تارة لا يتكرّر مثل قولنا : «أكرم العلماء والادباء والشعراء إلّا الفسّاق منهم» فهو راجع إلى الجميع ؛ لأنّه بمنزلة قوله : أكرم هذه الطوائف الثلاثة إلّا الفسّاق منهم ، ولا ريب في رجوعه إلى الجميع حينئذ.


واخرى يتكرّر مثل قولنا : «أكرم العلماء والادباء والشعراء وأكرم الامراء إلّا الفسّاق» فكأنّه قطع الكلام بتكرار المحمول عمّا قبله ، فيأخذ الاستثناء محلّه من الكلام فيرجع إلى خصوص ما بعد المحمول المتكرر من العمومات. ولو تكرّر الموضوع والمحمول في كلّ جملة فلا ريب باختصاص الاستثناء بالأخيرة ويرجع فيما عداها إلى أصالة العموم.

ودعوى : احتفاف الكلام بما يصلح للقرينيّة ، إن اريد به مجرّد احتمال جعله قرينة وإن لم يكن اعتماد العرف عليه في محاوراتهم فلا يرفع الظهور ، وإن اريد به المورد الذي يشكّ في تعويل العرف عليه بحيث نحتمل أن يعوّل العرف على إرادة الرجوع إلى الجميع على تلك القرينة ، ونحتمل أن لا يعوّل عليه ، فهذا المورد وإن كان رافعا للظهور إلّا أنّ المقام ليس من هذا القبيل ؛ لأنّا لا نحتمل أن يعوّل العرف على ذكر الاستثناء بعد الجملة المتكرّر فيها المحمول ويريد به الرجوع إلى الجميع (١).

وربّما يقال : إنّ الأمر دائر بين رفع اليد عن عموم العمومات السابقة وبين رفع اليد عن عموم المستثنى ، وذلك إنّ قولنا : «إلّا الفسّاق منهم» عامّ أيضا ، فإن أرجعناه إلى خصوص الأخيرة فقد رفعنا اليد عن عمومه ، وإن أرجعناه إلى الجميع فقد رفعنا اليد عن عموم العامّ السابق في صدر الكلام.

ولا يخفى ما في هذا الكلام ، فإنّ الفسّاق عمومه وخصوصه بحسب الحكم الذي يتوجّه إليه وهو الحكم الأخير في مثل قولنا : أكرم العلماء وأضف الادباء إلّا الفسّاق ، فعموم الفسّاق بلحاظ حكمه فإذا ورد «لا تضف زيدا الأديب» كان مخصّصا له ، وحينئذ فهو ضيق بحسب الحكم المتوجّه إليه ولا عموم له بلحاظ جميع الأحكام حتّى أنّ إرجاعه إلى خصوص الأخيرة تخصيص له بل هو ضيق من ذاته بحسب الفهم العرفي.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٧٥ ـ ٣٧٧.


في تخصيص الكتاب بخبر الواحد

والمناسب ذكرها في مباحث حجّية خبر الواحد ، ولكنّه بمناسبة العموم والخصوص حرّرت هنا. (ولا مخالف من أصحابنا في جواز التخصيص ، نعم خالف في المسألة بعض العامّة فذهب أبان بن عيسى إلى عدم جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد إذا كان العامّ الكتابي غير مخصّص بقطعي ، أمّا إذا كان مخصّصا بقطعي فيجوز تخصيصه بالخبر الواحد (١) ، وذهب بعضهم إلى جواز تخصيصه بالخبر الواحد إذا كان مخصّصا بدليل منفصل قطعي دون المتّصل ودون ما لم يخصّص (٢) وتوقّف الباقلاني في المسألة (٣)) (٤).

والكلام في جواز التخصيص وعدمه في مرحلتين : إحداهما في وجود المقتضي وعدمه ، والاخرى من ناحية المانع وعدمه.

أمّا الكلام في ناحية المقتضي فقد يقال بأنّ الدليل الدالّ على حجّية الخبر الواحد قاصر عن جعل الحجّية له حتّى في قبال العموم الكتابي ؛ لأنّ الدليل هو الإجماع والسيرة ولم يتحقّقا في العمل به في قبال العمومات الكتابيّة ، فمقتضى العمل به قاصر في المقام.

والجواب أوّلا : أنّ دليل الحجّية ليس هو الإجماع والسيرة ، بل بناء العقلاء على العمل بالخبر الواحد الموثّق أو الصحيح ، وهذا متحقّق حتّى في قبال العمومات الكتابيّة ، ولم يردع عنه الشارع في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو أحد الأئمّة عليهم‌السلام فالإمضاء لبناء العقلاء متحقّق أيضا. وثانيا : أن الإجماع والسيرة عامّان حتّى فيما كان في قبال

__________________

(١) الإحكام للآمدي ٢ : ٣٤٧ ، والمختصر وشرحه للعضدي : ٣٧٣.

(٢) وهو الكرخي كما في الإحكام ٢ : ٣٤٧ ، والمختصر وشرحه للعضدي : ٣٧٣.

(٣) الإحكام ٢ : ٣٤٧ ، والمختصر وشرحه للعضدي : ٣٧٣.

(٤) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.


العمومات الكتابيّة فإنّ من يرجع إلى الخصوصات في قبال ما كان من عمومات الكتاب في زمن الأئمّة يذعن بذلك.

ودعوى : كونه للقرينة القطعيّة ، كما ترى.

وأمّا الكلام في ناحية المانع بعد إحراز المقتضي فقد ذكر أمران :

أحدهما : أنّ الكتاب قطعي السند والخبر الواحد مظنونه ، فكيف يرفع اليد عن المقطوع بالمظنون؟

والجواب : أنّ التخصيص للكتاب إنّما هو في الدلالة وهي ظنّية فهو رفع يد عن ظنّي بظنّي ، وإن شئت قلت : إنّه رفع يد عن قطعي بقطعي ، بتقريب أنّ خبر الواحد بعد فرض حجّيته وشمولها للمقام يكون قطعي الحجّية فقد رفعنا اليد عمّا هو قطعي الحجّية وهو الكتاب بما هو قطعي الحجّية وهو الخبر الواحد ، فافهم.

توضيحه : أنّ العموم في نفسه وإن كان شموله للمورد ظنّيا مثلا قوله تعالى : (وَحَرَّمَ الرِّبا)(١) شموله للربا بين الوالد وولده ظنّي إلّا أنّ أصالة العموم جعلت شموله لكلّ فرد من أفراده حجّة لو لا المخصّص ، فهو حجّة قطعيّة مع قطع النظر عن المخصّص بحيث لو استند المجتهد إليه في مقام الفتيا لكان معذورا ومفتيا بحجّة قطعيّة. وكذا الخاصّ في نفسه مثل قوله : لا بأس بالربا بين الوالد وولده (٢) فإنّه مع قطع النظر عن العموم حجّة قطعيّة أيضا بعد فرض شمول دليل الحجيّة له. فآية النبأ مثلا قد جعلت الخبر الواحد حجّة قطعيّة أيضا بحيث لو استند إليه المفتي لكان مستندا إلى حجّة قطعيّة ، وحيث لا بدّ من رفع اليد عن إحدى الحجّتين لاستحالة جعل حجّتين متناقضتين في مورد واحد فلو رفع اليد بحجّية الخبر الواحد عن عموم العامّ لم

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

(٢) الوسائل ١٢ : ٤٣٦ ، الباب ٧ من أبواب الربا ، الحديث الأوّل ، وفيه : ليس بين الرجل وولده ربا.


يتحقّق حينئذ شكّ في كون المراد منه الخصوص. وبعبارة اخرى أنّ الشكّ في التخصيص مستند إلى الشكّ في صدور الخاصّ وعدمه ، فإذا تعبّدنا الشارع بصدور الخاصّ فلا شكّ حينئذ في تخصيص العموم ، فالتعبّد بالصدور حاكم على العموم ورافع للشكّ في التخصيص ، وهذا بخلاف ما إذا قدّمنا العموم فهو بالملازمة ينفي الصدور لا بالحكومة.

وبالجملة : يكون المقام من قبيل العامّ والخاصّ القطعيّين ، فإنّ الخاصّ قرينة على عدم العموم ، فهو مقدّم عليه تقدّم القرينة على ذيها.

وربّما يقال : إنّ الخبر الواحد لا بدّ أن يكون حجّة ومخصّصا للكتاب وإلّا للغت أدلّة حجّية أخبار الآحاد ؛ ضرورة ندرة خبر لم يكن مخالفا لعامّ كتابي. وحينئذ فلو قلنا بعدم الحجّية فيه لكانت أدلّة الحجيّة محمولة على الموارد النادرة.

أقول : لا يخفى أنّ هذه الدعوى لا يمكن المساعدة عليها ؛ إذ ليس في الكتاب عموم يستفاد منه حلّية جميع الأشياء لتكون الأخبار المبيّنة لحرمة جملة ممّا لم يذكر في الكتاب مخصّصة له ، وكذا ليس في الكتاب دليل عامّ يدلّ على طهارة الأشياء ليكون الخبر الواحد الدالّ على نجاسة البول أو غيره مخصّصا ، وكذا أدلّة أجزاء العبادات أو شرائطها فلا إطلاق لينفي الجزئيّة أو الشرطيّة ؛ لأنّها مجملة في مقام التشريع فلا إطلاق فيها ، وكذا أحكام الأموات مثلا وغيرها من أبواب الفقه.

الثاني ممّا ذكر مانعا عن حجّية خبر الواحد : الأخبار المتواترة معنى مثل قولهم عليهم‌السلام : ما خالف قول ربّنا زخرف (١) أو باطل (٢) أو لم نقله (٣) أو اضرب به

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٧٨ ـ ٧٩ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٢ و ١٤.

(٢) البحار ٢٢ : ٤٨٧ ، ذيل الحديث ٣١.

(٣) الوسائل ١٨ : ٧٩ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٥.


عرض الجدار (١) فهي شاملة للمخالفة بنحو العموم والخصوص المطلق. ودعوى : عدم كونها مخالفة ، فاسدة.

والجواب : أنّ المخالفة بنحو العموم والخصوص ليست مرادة منها ، للقطع بصدور خبر واحد مخالف. والالتزام بكون ذلك المقطوع مخصّصا لهذه العمومات كما ترى ، فإنّ لسانها آب عن التخصيص قطعا ، كما هو واضح لذي الذوق السليم. ويؤيّد ما ذكرنا أنّ موافقة الكتاب جعلت مرجّحة عند تعارض الأخبار في الرتبة الثالثة فقدّم أوّلا ما يقوله أعدلهما ثمّ المشهور ثمّ موافقة الكتاب (٢) ، فهو يعطي أنّ المشهور وكذا قول الأعدل يقدّم وإن كان مخالفا كما هو واضح ، فهذا يعطي أنّ المخالفة لا تضرّ.

المانع الثالث من حجّية خبر الواحد المخصّص للكتاب : أنّه لو جاز تخصيص الكتاب بخبر الواحد لجاز النسخ ؛ لأنّه تخصيص في الأزمان فهو نوع من أنواع التخصيص ، والتالي باطل إجماعا فالمقدّم مثله.

والجواب : أنّ الملازمة إن كانت في إمكان التعبّد بخبر الواحد الناسخ فمسلّمة ، فلو قامت الأدلّة على جواز نسخ الكتاب بالخبر الواحد لالتزمنا به. وإن كانت الملازمة المدّعاة في الوقوع فقط فهي ممنوعة ، فإنّ الإجماع من كافّة المسلمين قائم على أنّ نسخ الكتاب لم يقع ، والسرّ في عدم وقوعه بخبر الواحد أنّ النسخ بعد النبيّ لم يتحقّق قطعا وإن أمكن إلّا أنّه لم يقع ، وفي زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لو كان الكتاب قد نسخ بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لنقل متواترا. فنقله بخبر الواحد قرينة كذبه ؛ إذ الدواعي حينئذ متوفّرة لنقله ، لعدم تحقّق الاختلاف والافتراق إلّا بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٧ : ٢٧٥ ، ذيل الحديث ١١٦٩.

(٢) الوسائل ١٨ : ٧٥ ـ ٧٦ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل ، المعروف بمقبولة عمر بن حنظلة.


في دوران الأمر بين التخصيص والنسخ

إذا ورد عامّ وخاصّ فإمّا أن يقترنا ولا ريب في التخصيص حينئذ ، وإمّا أن يتقدّم العامّ ويتأخّر الخاصّ أو يتقدّم الخاصّ ويتأخّر العامّ ، وفي كلّ منهما إمّا أن يكون المتأخّر واردا قبل حضور وقت العمل بالتقدّم أو بعده ، وقد ذكر الميرزا النائيني قدس‌سره أن جميع هذه الصور يتقدّم فيها التخصيص ، وحينئذ فلا مورد يتردّد بين النسخ والتخصيص ليتكلّم في حكمه ؛ إذ جميع الصور المحتملة لا تخلو عن الحكم بالتخصيص ، فلا مجال للنسخ أصلا (١) ولا بدّ من التكلّم في هذه الصور الأربعة المذكورة ليتّضح الحال فنقول :

أمّا الصورة الاولى : وهي صورة ورود الخاصّ قبل حضور وقت العمل بالعامّ فالظاهر أنّه لا بدّ أن يكون الخاصّ مخصّصا للعامّ ، ويستحيل فيه النسخ ؛ إذ المراد بالنسخ نسخ الحكم الحقيقي ، والنسخ للحكم إنّما يكون بعد حضور وقت العمل بالعامّ بالإضافة إلى ذلك الفرد. فإذا فرض أنّ ذلك الفرد لم يحضر وقت عمله فما فائدة جعل الحكم له؟ إذ جعل الحكم لا بدّ أن يكون لمصلحة ، ومثل هذا الحكم لا يمكن أن يجعل ثمّ ينسخ من قبل العالم بالغيب. نعم يمكن من الجاهل إذا تخيّل أنّ في هذا الجعل مصلحة ثمّ انكشف له أن لا مصلحة ، أمّا محلّ كلامنا وهو العليم بكلّ شيء فلا يمكن في حقّه ذلك إلّا بعد حضور وقت العمل به ولو دفعة واحدة لتكون المصلحة التي جعل الحكم من أجلها منوطة بتلك الدفعة ثمّ تنتفي فنسخ الحكم دواما ، لانعدام مصلحته.

وللميرزا النائيني قدس‌سره (٢) في المقام كلام أثبت به إمكان النسخ في بعض فروض هذه الصورة وإن اختار عدم الوقوع إلّا أنّه ادّعى الإمكان في قبال الاستحالة ، فإنّه قسم

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٩٣.

(٢) انظر أجود التقريرات ٢ : ٣٩٤ ـ ٣٩٥.


القضيّة إلى خارجيّة وحقيقيّة ، والحقيقيّة إلى مؤقّتة مثل وجوب الصلاة والصيام ، ومطلقة وهي مثل حرمة الخمر والغيبة ، وقد زعم قدس‌سره أنّ النسخ بمعنى انتهاء أمد الحكم ممكن في القضايا الحقيقيّة المجعولة على الأفراد المقدّر وجودها ؛ لأنّها لا تحتاج إلى أكثر من فرض وجود الموضوع فقط ، فيصحّ الجعل إذا فرض وجود الموضوع وإن لم يتحقّق. وقد ذكر أنّ جعل الحكم مع العلم بانتفاء موضوعه وشرطه أيضا ممكن ، وقد ذكرنا في ذلك المبحث أنّ جعل الحكم مع العلم بانتفاء موضوعه وشرطه إذا كان الانتفاء مستندا إلى ذلك الجعل فهو ممكن ، بل هو مؤدّى الحكمة كما في مثل القصاص ، فإنّ جعل القصاص يصحّ وإن لم يوجد قاتل في العالم كلّه ولن يوجد إذا كان عدم تحقّقه مستندا إلى قوله : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)(١) فإنّ هذا الجعل أثمر هذه الثمرة المهمّة ، وهذا لا يفرق فيه بين القضيّة الحقيقيّة والخارجيّة.

وأمّا إذا لم يعلم بتحقّق الموضوع لا من جهة هذا الجعل فلا يصحّ الجعل كأن يقول : «من صعد إلى السماء الرابعة لا يجب عليه الصلاة ، أو يجب عليه التصدّق» فإنّ مثل هذا الجعل لا يصدر من الحكيم ، بل يحكم على من جعله بالجنون ، وكذا الكلام في المقام فإنّ جعل الحكم ـ ولو بنحو القضيّة الحقيقيّة ـ إذا كان ينسخ قبل حضور وقت العمل فأيّ فائدة في هذا الجعل من الحكيم؟ فالإنصاف أنّ الحقّ مع المشهور القائلين باستحالة النسخ وبالتعيّن للتخصيص ، فافهم.

وأمّا الصورة الثانية : وهي صورة ما إذا ورد الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعامّ بالنسبة إلى مورد الخاصّ فمقتضى ما ذكروا من استحالة تأخير البيان عن وقت الحاجة تعيّن النسخ حينئذ.

وحيث إنّ الخصوصات الواردة في شريعتنا المقدّسة قد صدرت في أيّام الصادقين عليهما‌السلام وبينها وبين عمومات الكتاب والسنّة زمان ليس بالقليل فقد يكون

__________________

(١) المائدة : ٤٥.


مائة سنة وقد يكون أكثر وحضور وقت العمل بالعموم بالنسبة إلى مورد الخاصّ قد حضر أكثر من مرّة قطعا ، أشكل عليهم الأمر من جهة أنّ التخصيص يقتضي تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وهو قبيح وإن جاز التأخير عن وقت الخطاب على الظاهر. والالتزام بالنسخ إمّا غير جائز أصلا بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو أنّه وإن أمكن بأن يكون الحكم مؤقّتا فيوعز النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى وصيّه أمد الحكم ثمّ وصيّه يوعز إلى وصيّه وهكذا إلّا أنّه لم يقع ، أو أنّه يقتضي كون جميع الأحكام منسوخة وهو ممنوع قطعا فقد وقعوا في حيص وبيص ؛ إذ إنّ الالتزام بالتخصيص مع حضور وقت العمل غير ممكن ، وبالنسخ لجميع العمومات المخصصة في زمن الصادقين عليهما‌السلام أيضا غير ممكن.

ومن هنا التجأ الشيخ الأنصاري (١) وتبعه صاحب الكفاية (٢) قدس سرّهما إلى كون العمومات الواردة في الكتاب والسنّة النبويّة عمومات ظاهريّة وإنّ ورود المخصّص نسخ للحكم الظاهري وبيان للمراد الجدّي ، والحكم الواقعي هو الذي لا ينسخ.

أقول : قد تقدّم في بعض المباحث المتقدّمة أنّ التخصيص للعامّ لا يقتضي مجازيّته وأنّه إنّما يكشف عن تخالف الإرادة الجدّية مع الإرادة الاستعماليّة ، وأنّ اللفظ مستعمل في معناه الحقيقي ، والتخصيص إنّما اقتضى عدم تطابق الإرادة الاستعماليّة مع الإرادة الجدّية ، وحينئذ فما ذكره هو عين التخصيص وهو عين تأخير البيان عن وقت الحاجة ، فما زعموه رافعا لقبح تأخير البيان لم يتّضح رفعه للقبح.

فالأولى أن يقال : إنّ قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة قبح في نفسه ، بمعنى أنّه باعتبار كونه على خلاف التعهّد الصادر من واضع الألفاظ فهو نظير خلف الوعد فقبحه ليس لازما لا ينفكّ كقبح الظلم مثلا ، بل قبحه في نفسه ، فإذا انضمّ إليه ما

__________________

(١) راجع مطارح الأنظار ٢ : ٢٣٢ ، وانظر فرائد الاصول ٤ : ٩٤ ـ ٩٥.

(٢) كفاية الاصول : ٢٧٨.


يرفع قبحه ارتفع قبحه ، نظير الكذب القبيح في نفسه فإذا انضمّ إليه ما يرفع قبحه كإنجاء مؤمن أو دفع ضرر جاز وارتفع قبحه. وحينئذ فتأخير البيان عن وقت الحاجة وإن كان في نفسه قبيحا إلّا أنّ قبحه يرتفع بالمصالح المترتّبة عليه من تقيّة أو غيرها من المصالح أو يكون إظهار العموم بنفسه ذا مصلحة مثلا ، بل يظهر من بعض الأخبار أنّ بعض الأحكام لم تبلغ حتّى يظهر الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف فيظهرها (١).

وبالجملة ، فقد ظهر أنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة ليس قبيحا مطلقا فنلتزم بالتخصيص وإن استلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ويكون التأخير لمصلحة ، مضافا إلى أنّ إيراد قبح تأخير البيان إنّما هو حيث يكون عموم سابق يقتضي الترخيص ثمّ خاصّ يقتضي التكليف والإلزام فيكون قد ترك ما فيه مصلحة ملزمة وهو الواجب ، وإلّا فلو عكس الأمر لكان فاعلا لجائز ولا قبح فيه أصلا.

وبالجملة ، فالالتزام بالتخصيص في المقام ممكن كما أنّ النسخ في نفسه أيضا ممكن ، ولكن لسان الدليل لا يساعد عليه ، فإنّ الخاصّ الوارد بعد حضور وقت العمل بالعامّ بالإضافة إلى الخاصّ ليس دالّا على أنّ الحكم من الآن على طبق الخاصّ ، وإنّما يبيّن أنّ الحكم من أوّل الأمر هو هكذا ، وحينئذ فظهوره في التخصيص مانع عن احتمال النسخ ، فافهم.

وأمّا الصورة الثالثة : وهي ما إذا تقدّم الخاصّ زمانا وتأخّر العامّ إلّا أنّه ورد قبل حضور وقت العمل بالخاصّ كأن ورد «لا تكرم زيدا العالم» ثمّ ورد «أكرم جميع العلماء» مع عدم حضور وقت العمل بالخاصّ فلا ريب في كونه مخصّصا ومبيّنا للمراد من العامّ بالإرادة الجدّية ، فإنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة إن كان مضرّا فتقديمه على وقت الحاجة ليس بمضرّ ، ولا يتصوّر النسخ في المقام لاستدعائه اللغو في جعل الحكم للخاصّ.

__________________

(١) راجع بحار الأنوار ٥٢ : ٣٠٩ ، الحديث ٢ و ٣٩ و ٧٣ و ٨٢ و ١١٤ و ١٦٢ وغيرها.


وأمّا الصورة الرابعة : وهي صورة تقدّم الخاصّ وتأخّر العامّ عن حضور وقت العمل بالخاصّ فهل يكون العامّ ناسخا لحكم الخاصّ ليجب إكرام العلماء جميعا حتّى زيدا من الآن أم يكون الخاصّ المتقدّم مخصّصا لحكم العامّ المتأخّر وبيانا لمقدار المراد الجدّي منه حتّى يجب إكرام ما عدا زيد من العلماء فيما يأتي؟ فالثمرة بين النسخ والتخصيص في هذا الفرض ظاهرة للعيان ، فهل يتقدّم التخصيص على النسخ؟ كما اختاره صاحب الكفاية تبعا لمشهور الاصوليّين بدعوى : أنّ أكثريّة التخصيص وندرة النسخ اقتضت تقديم التخصيص على النسخ. توضيح ذلك : أنّ «لا تكرم زيدا» له إطلاق من حيث الأزمان إلى يوم القيامة و «لا تكرم العلماء» له عموم أفرادي يشمل زيدا والجمع بين كلا هذين الظهورين مستحيل ، فلا بدّ من رفع اليد عن أحدهما ، إلّا أنّ كثرة التخصيص وندرة النسخ جعلت ظهور الخاصّ في الإطلاق الزماني أقوى من ظهور العامّ في العموم (١).

ولا يخفى ما في هذا الكلام ، فإنّ الكثرة الخارجيّة لا تودع ظهورا في الألفاظ خصوصا وظهور العموم في العموم الأفرادي وضعي ، وظهور المطلق بمقدّمات الحكمة فكيف تكون الكثرة محقّقة للظهور! نعم هي يفيد الظنّ بالتخصيص إلّا أنّه لا يغني عن الحقّ شيئا ، فالإنصاف أنّ القواعد تقتضي تقدّم النسخ.

وربما يقال : إنّ الخاصّ المتقدّم لا إطلاق فيه من حيث الأزمان ؛ لأنّ القضيّة مسوقة لبيان الحكم وتوجّهه على موضوعه واستمرار الحكم يلزم أن يكون بعد جعله ، والقضيّة إنّما تتكفّل أصل الجعل ، والقول بعدم النسخ ليس مفادا لها ، وإنّما هو قضيّة استصحاب الحكم ، ومعلوم أنّ الاستصحاب لا مجال له مع العموم اللفظي ؛ لأنّ العموم اللفظي رافع للشكّ.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٧٧.


ولا يخفى أنّ هذا الكلام فيه ما فيه ، فإنّ متعلّق الحكم مثلا شامل للأفراد الدفعيّة قطعا لعدم تقييده ببعضها فكذا الأفراد التدريجيّة أيضا فإنّ استفادة استمرار الحكم من حيث الزمن ليس من نفس الحكم ، وإنّما هو من عدم تقييد متعلّقه بزمان ، فالإنصاف أنّ الإطلاق لا مانع منه ، ومقتضى ذلك تقدّم العموم ؛ لأنّ دلالته بالوضع على الإطلاق ؛ لأنّ دلالته بمقدّمات الحكمة المنتفية بوجود البيان وهو العموم ، إلّا أنّا مع ذلك كلّه نقول بتقدّم التخصيص على النسخ ؛ لأنّ لسان هذه الأدلّة مثل العموم في المقام ليس إثبات الحكم على طبقه من الآن حتّى يحتمل النسخ ، بل ظاهره أنّ هذا الحكم حكم الشريعة المقدّسة من أوّل الأمر تأخّر بيانه لمصلحة تقتضي ذلك.

وحينئذ فظاهر العموم أنّ الحكم بوجوب إكرام العلماء موجود من حين صدور «لا تكرم زيدا» بل قبلها وإنّما تأخّر تبليغه لمصلحة ، وحينئذ فلا بدّ من كون الخاصّ وإن تقدّم وتأخّر العامّ عن وقت العمل به مخصّصا للعامّ وتقديم البيان لا ضرر فيه كما تقدّم ، وحينئذ فيتعيّن للتخصيص (١) لكن لا من جهة تقدّم الإطلاق على العموم ، بل من جهة عدم الجريان لأصالة العموم لوجود المخصّص ، بل لو لم يكن ثمّة إطلاق أيضا وقلنا باستمرار الحكم من حيث استصحاب عدم النسخ المسلّم عند الاصوليّين والأخباريّين مع ذلك يتقدّم التخصيص ؛ لأنّ أصالة العموم غير جارية في نفسها لا من جهة تقدّم ما هو أظهر عليها.

وبالجملة : فقد ظهر أنّ الحكم هو التخصيص في الصور الأربع فلا مورد يحتمل فيه النسخ ليتكلّم في مجهولي التاريخ ؛ لأنّه لا يخرج عن هذه الصور ، وقد عرفت أنّ الحكم في جميعها هو التخصيص ولا مجال للنسخ أصلا ، والحمد لله ربّ العالمين.

__________________

(١) كذا في الأصل ، والصواب : التخصيص.


في النسخ والبداء وإمكانهما واستحالتهما

[في النسخ] :

لا يخفى أنّ ما تقدّم من الكلام في دوران الأمر بين التخصيص والنسخ وكذا هنا إنّما هو في النسخ للحكم الحقيقي الذي يكون فيه بعث وزجر وإرادة وكراهة في المتعلّق لا في مثل الأوامر الصوريّة الامتحانيّة ، فإنّ الأوامر الصوريّة الامتحانيّة إنشاؤها فعل من أفعال المولى الاختياريّة ذو مصلحة في نفس إنشائه ، فيمكن أن تكون المصلحة قائمة بنفس ذلك الإنشاء من دون أن يكون في المتعلّق مصلحة ، بل قد يكون في المتعلّق مفسدة أيضا ، كما إذا أمره بقتل ابنه ليختبر انقياده لأوامره.

والأوامر الحقيقيّة أيضا تارة : تكون مؤقّتة كما في صلاة الجمعة والجهاد المؤقّتين بحضور الإمام عليه‌السلام عندنا ، ومثل هذا أيضا ليس من محلّ الكلام ، إذ ارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه ليس من النسخ.

واخرى : تكون مهملة من حيث الاستمرار وعدمه ، بل تكون مثبتة للحكم في الجملة كما إذا قال «أكرم العلماء» في الجملة ثمّ ورد بيان بعدم وجوب إكرامهم بعد خمس سنين ، فإنّ هذا الدليل الثاني يكون مبيّنا لإجمال الأوّل من حيث الزمان ورافعا إجماله ، وهذا أيضا خارج عن محلّ الكلام ؛ إذ لا حكم حتّى ينسخه الحكم الثاني أصلا.

وثالثة : يكون مطلقا فيظهر منه (١) أنّ هذا الحكم دائم إلى آخر الزمن ثمّ يأتي دليل ثان فيرفع هذا الحكم ، وهذا هو محلّ الكلام في إمكان النسخ واستحالته. وقد ذهب اليهود إلى استحالته كالنصارى ، وقد زعم اليهود أنّه لم يكن قبل موسى عليه‌السلام دين ولا نبيّ ، بل إنّما كان الناس يعملون بعاداتهم العرفيّة فيما بينهم ثمّ جاء موسى بشريعته المقدّسة وأنّ شريعته هذه لن تنسخ إلى يوم القيامة. واقتفى أثرهم النصارى

__________________

(١) كذا في الأصل ، والصواب : تكون مطلقة فيظهر منها.


فأحالوا النسخ أيضا ، وإن وقعوا في محذور النسخ باعتبار أنّ شريعة عيسى عليه‌السلام نسخت بعض أحكام شريعة موسى ، وقد أجابوا بأجوبة تافهة لا يهمّنا التعرّض لها.

وقد استدلّوا جميعا على استحالة النسخ بأنّه إن كان الحكم ذا مصلحة فلم ينسخه وإلّا فلم يجعله من أوّل الأمر ، نعم هو ممكن بالنسبة إلى الجاهل بالواقع ونفس الأمر.

والإنصاف أنّ ما ذكر متين لو كان معنى النسخ رفع الحكم ثبوتا ، ولكنّه ليس كذلك ، بل هو رفع له في مقام الإثبات ، فإنّ هذا الدليل المعبّر عنه بالناسخ إنّما رفع دلالة الدليل الأوّل على استمرار الحكم لا أنّه رفع استمرار الحكم ، بل الحكم قاصر من أوّل أمره عن شمول هذا الزمن ، فهو نظير التخصيص في كونه رافعا لدلالة الدليل ومبيّنا لإرادة المولى الجدّية وقصرها على بعض أفراد ذلك العامّ. فينبغي لليهود والنصارى الحكم باستحالة التخصيص والتقييد ، وهذا ممّا لا يمكن أن يتفوّه به عاقل أصلا ، بل إنّ الحكم من أوّل أمره خاصّ إلّا أنّه ابرز بمبرز عامّ لمصلحة مقتضية ثمّ بيّن المراد قبل حضور وقت العمل أو بعده ، وكذا الكلام في النسخ حرفا بحرف. وهذا ممّا لا يمكن أن يشكّ في إمكانه بل وقوعه ، وعليه فشريعة موسى قد نسخت بشريعة عيسى ؛ لأنّ شريعة موسى كانت ظاهرة في الدوام والاستمرار لمصلحة مقتضية لإظهار ذلك ثمّ بيّن المراد الواقعي ، وكذا شريعة عيسى عليه‌السلام بشريعة نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله. فما ذكره الطرفان من استحالة النسخ بهذا المعنى ممّا لا يساعده البرهان.

في البداء

ويقع الكلام في مقامين : الأوّل في إمكانه واستحالته ، الثاني في الإخبارات الصادرة عن الأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام ممّا لم يتحقّق ما أخبروا به في الخارج.

أمّا الكلام في المقام الأوّل فقد شارك اليهود والنصارى في دعوى الاستحالة العامّة العمياء ونسبوا إلى علماء الشيعة قدس‌سرهم ما لا يليق بمكانتهم من أنّهم


ينسبون الجهل إلى الله وهم برآء من ذلك براءة الذئب من دم يوسف عليه‌السلام ولكنّها شنشنة أعرفها من أحزم. وقد ذكروا في باب الجبر في أفعال البشر الذي أصرّ عليه أبناء العامّة أنّ الله إمّا أن يعلم أنّ زيدا يشرب الخمر أو لا ، لا سبيل إلى الثاني لاستلزامه الجهل ، وإذا كان يعلم فلا بدّ من وقوعه لئلّا يتخلّف المعلوم عن العلم.

وقد ذكرنا نحن في مبحث الجبر بأنّ علم الله تعالى لا يوجب جبر البشر على فعل شيء ، بل هو نظير ارتسام الصور في المرآة معلول للوجود لا أنّه علّة لها ، فعلمه لا يوجب صدور الفعل لا عن إرادة واختيار من العبد نفسه ، بل لا بدّ من تحقّقهما في الخارج عن إرادة واختيار ؛ لأنّه تعلّق علم الله بهما كذلك ، وحينئذ فتعلّق العلم وعدمه لا يوجب صدور الفعل. بل كما أنّ وجود المرآة لا يوجب صدور الفعل المرتسم بها في الخارج ، بل هو يصدر في الخارج كانت مرآة أم لم تكن ، كذلك علم الله تعالى. وهذا العلم كما أنّه متحقّق بالنسبة إلى أعمال البشر كذلك متحقّق بالنسبة إلى أفعاله نفسه تبارك وتعالى إلّا أنّ هذا العلم أيضا لا يقتضي صدور أفعاله مقهورا عليها ، كما أنّ علم الإنسان بأنّه ينام في هذه الليلة لا يوجب أن يكون نومه قهريّا عليه بحيث يخرج عن إرادته واختياره. والظاهر أنّ هذا واضح لا غبار ولا سترة عليه لمن تأمّل.

ثمّ إنّ المعلوم هو كلّ شيء حقيقي كان الخارج ظرفا له نفسه فيشمل الملازمات أيضا ولا يختصّ بما كان الخارج ظرفا لوجوده بل يشمل الملازمات التي قد لا توجد لعدم وجود طرفيها ومثل حكمنا بإمكان وجود زيد فإن إمكانه كاستحالة اجتماع النقيضين أمر حقيقي يكون الخارج ظرفا له.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الله تعالى له علم مكنون مخزون استأثر به فلا يطلع عليه أحد لا نبي مرسل ولا ملك مقرب ؛ لأنّهم مهما بلغوا من الشرف لا يحيطون به علما وأنّ شرفهم عليهم‌السلام إنّما هو بالنسبة إلى المخلوقات لا بالنسبة إلى الخالق تعالى وتقدّس كيف يحيطون به وهو خالقهم ومكوّنهم ولعلّه هو المسمّى بأمّ الكتاب.


وله علم آخر محتوم وهو الذي أخبر به أنبياءه وأوصياءه وأنّه لا محالة كائن كما أخبر بأنّ أبا لهب من أهل النار بقوله : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) إلى آخره.

وله علم آخر يسمى بالقضاء والقدر وهذا أيضا يخبر أنبياءه به إلّا أنّه معلّق على مشيئة فهم يطّلعون عليه معلّقا على ذلك وهذا هو العلم بالملازمات فإنّ وقوعه معلّق على عدم مشيئة خلافه كما في القوانين المدنيّة النافذة لو لا صدور مشيئة الملك بخلافها.

فالقسم الوسط من هذه الثلاثة لا بدّ من وقوعه فإنّ الله لا يكذب أنبياءه عليهم‌السلام وأوصياءه لأدائه على انتصار أعدائه عليهم فلا يكون منشأ للبداء ولا يكون فيه البداء أيضا ، والقسم الأوّل هو الذي يكون منه البداء فإنّ الله بعلمه المكنون يعلم أنّه يشاء صدور هذا الشيء أم عدمه ، والقسم الثالث هو الذي يكون فيه البداء فإن إخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بموت زيد هذا اليوم مثلا معلّق بأن لا يشاء الله خلافه ولكنّ الله يشاء خلافه أو لا يشاء فهذا أمر يجهله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الوصي ، ومن هنا ورد عن علي عليه‌السلام وعن الحسن عليه‌السلام والحسين عليه‌السلام وعلي بن الحسين عليه‌السلام ومحمد الباقر عليه‌السلام وجعفر الصادق عليه‌السلام أنّه لو لا آية من كتاب الله لأخبرناكم بما هو كائن إلى يوم القيامة وقد سألوا عن الآية فقالوا : هي قوله : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ)(١)(٢).

وبالجملة ، فهذا البداء معناه أنّ ما علمته الأئمّة عليهم‌السلام وأخبرت بوقوعه إنّما هو معلّق على عدم مشيئته خلافه ، وهذا المعنى من الامور المثبتة لقدرة الله ومشيئته واختياره وليس موجبا لنسبة الجهل إلى الله تعالى كما نسبه العامّة إلى علماء الإماميّة قدس‌سرهم ، بل هو عين توحيد الله وإثبات علمه بما لا يحيط به بشر من مخلوقاته بالغا ما بلغ.

__________________

(١) الرعد : ٣٩.

(٢) بحار الأنوار ٤ : ٩٧ ، الحديث ٤ و ٥.


ومن هنا ورد في الأخبار أنّه ما عبد الله بمثل البداء (١) ، وأنّه من المواثيق المأخوذة على الأنبياء (٢) ، وأنّه محض الإيمان (٣) إلى غير ذلك (٤) فإنّه يثبت بهذا سلطان الله وقصور العبد وقدرة الله وعجز العبد فإنّه يقدر أن لا يشاء فلا يكون. وحينئذ فإخبار الأئمّة عليهم‌السلام إن كان قد ذكر فيه أنّه حتمي فهو حتمي ، وإن كان مقيّدا بعدم المشيئة الإلهيّة لخلافه متّصلا به مثلا فيكون مقيّدا بعدمها التي يعلم الله بعلمه المخزون المكنون تحقّق مشيئته بالخلاف وعدمها. وكذا إن كان مطلقا فهو معلّق على عدم المشيئة من الله بالخلاف. ومن هنا ورد أنّه إذا حدّثناكم بشيء فكان فقولوا صدق الله ورسوله ، وإن لم يتحقّق فقولوا صدق الله ورسوله (٥) وذلك لأنّهم لم يكذبوا وإنّما أخبروا على تقدير عدم المشيئة المخالفة ولكن تحقّقت حينئذ المشيئة المخالفة ، فلو تحقّق ما أخبروا به فرضا كان خلفا وكذبا. وقد وردت الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام أنّه في ليلة القدر تنزل أخبار ما يكون فيها إلى حجّة ذلك العصر مع اشتراط المشيئة فيها أيضا (٦).

والظاهر أنّ البداء بهذا المعنى إنّما يوجب إحاطة الله بجميع المكوّنات من المخلوقات والموجودات وأنّ الله قادر على أن يتكوّن الشيء وأن لا يكوّنه. ومن هنا كان التضرّع والدعاء والابتهال إلى الله تعالى ـ بأن يوفّق العبد مثلا لطاعته ويجنّبه عن معصيته ويدفع عنه البلاء ويزيد في رزقه وتوفيقه ـ أمرا ذا شأن مهمّ. ولو كان

__________________

(١) الكافي ١ : ١٤٦ ، الحديث الأوّل ، وفيه : بشيء مثل البداء.

(٢) الكافي ١ : ١٤٧ ، الحديث ٣.

(٣) لم نعثر عليه.

(٤) انظر الكافي ١ : ١٤٦ ـ ١٤٩ ، باب البداء.

(٥) بحار الأنوار ٥٢ : ١٨٥ ، الحديث ٩.

(٦) بحار الأنوار ٤ : ١٠١ ، الحديث ١٢.


البداء محالا لما أمكن شيء من ذلك ؛ لأنّ ما جرى به قلم لا يتغيّر أصلا ، فهذا معناه نسبة العجز إلى الله أن يغيّر ما جرى به قلم التقدير ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

وبالجملة : ففي البداء بهذا المعنى إثبات إحاطة الله حدوثا وبقاء بجميع الممكنات فافهم وتأمّل ، كما أنّ إنكار هذا المعنى من العامّة العمياء نسبة للعجز إلى الله تعالى بقاء مع أنّ الأخبار عن أهل البيت عليهم‌السلام قد تواتر به وليست تعبّدية ، بل هي تنبيه لمدركات العقل وتوجيه لما يدركه لو تأمّل وتفكّر كما في كثير من الروايات الواردة عنهم عليهم‌السلام. والعامّة قد شنّعت على الشيعة وتمسخرت بهم واستهزأت من قولهم بالبداء بهذا المعنى مع أنّ رواياتهم بما ذكرنا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لو لم تكن بأكثر ممّا روته الخاصّة فلا أقلّ من المساواة ، كما يظهر ذلك ممّا رووه في تفسير آية (يَمْحُوا اللهُ ...)(١) إلى آخره ، من أنّ الله يمحو كلّ شيء ما عدا السعادة والشقاوة (٢) وبعضها خال عن هذا الاستثناء (٣) وقد ورد في دعاء عمر بن الخطاب ـ الذي لم يستجب ـ اللهمّ إن كنت كتبتني من السعداء فثبّتني ، وإن كنت كتبتني من الأشقياء فامحني واكتبني من السعداء (٤) إلى غير ذلك ممّا ورد في صحاحهم من تفسير تنزّل الملائكة والروح فيها وأنّهم ينزلون بكلّ شيء (٥) وأنّه قد يكون الشخص مكتوبا في الأشقياء فيدعو ليلة القدر فيمحى ويكتب في السعداء (٦) إلى غير ذلك من الأخبار المسطورة في كتبهم التي لا يسع المجال لذكرها. وهذه الأخبار مثبتة في صحاحهم

__________________

(١) الرعد : ٣٩.

(٢) جاء ذلك عن ابن عباس ومجاهد ، انظر التبيان ٦ : ٢٦٣ ، والدر المنثور ٤ : ٦٥.

(٣) انظر مجمع البيان ٣ : ٢٩٨ ، والدر المنثور ٤ : ٦٦.

(٤) انظر المصادر المتقدّمة وفيها نقل هذه الدعاء عن ابن مسعود.

(٥) لم نعثر عليه بعينه في تلك الصحاح ولكن ورد مثله في اصول الكافي ١ : ٢٤٩ ، الحديث ٥.

(٦) انظر الدر المنثور ٤ : ٦٦.


التي عليها معوّلهم والشيعة لا تقول إلّا بهذا المعنى من البداء المذكور في كتبهم ، فعلم أنّ تشنيعهم عليهم ناشئ من الشقاوة النفسيّة التي لا ينالها المحو والإثبات عندهم.

كما رووا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج يحمل كتابين : أحدهما في يده اليمنى وفيه أسماء أهل الجنّة ، والآخر في يسراه وفيه أسماء أهل النار ، وأنّ الله تعالى قد فرغ من تسجيل ذلك (١).

ولا يخفى أنّه إن اريد به العلم الأزلي فهو ممّا استأثر به الله تعالى ولا يطّلع حتّى نبيّه عليه ، وإن كان من القضاء الحتمي ففي الأخبار ما يدلّ على تحقّق المحو والإثبات فيهما كما أشرنا إلى ذلك ، وإن اريد به العلم الثالث فلا بأس بأن يكون المراد عدم تبدّل السعيد بالشقاوة إذا لم يشاء الله تبديلها بها. وأمّا وجه تسمية هذا النحو الذي هو في الحقيقة إبداء بالبداء فأوّلا الشباهة فإنّ هذا النحو في «العبد» هو من البداء وقد اطلق على هذا النحو في «الله» من جهة المشابهة به ، كما في قوله : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)(٢) أي ليعمل ما لو كان من العبد الجاهل لكان تمييزا ، وكما في قوله : «الآن علم الله فيكم ضعفا» (٣) فهذه الإطلاقات كلّها إنّما هي بجهة المشابهة ، وهناك وجه آخر لتسمية هذا الأمر بداء إلّا أنّه لغموضه رأينا أنّ الإعراض عنه أولى.

وأمّا البداء في إمامة موسى بن جعفر عليه‌السلام كما ورد في زيارتهما : السلام عليكما يا من بدا الله في شأنكما ، وكذا في الحسن العسكري عليه‌السلام (٤) فليس بمعنى أنّ الأئمّة أخبروا بإمامة إسماعيل والسيّد محمّد وعلّقوا الإخبار على إشاءة الله كلّا ، بل إنّ جعفر بن محمّد وكذا علي بن محمّد الهادي عليه‌السلام إنّما أخبروا بأنّ موسى هو الإمام دون إسماعيل ، وكذا الهادي أخبر بأنّ محمّدا ابنه ليس هو الإمام وإنّما الإمام هو الحسن العسكري عليه‌السلام في حياة إسماعيل ومحمّد. وكذا في الروايات الواردة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في

__________________

(١) كنز العمال ١ : ١١٢ ، الحديث ٥٢٦.

(٢) الأنفال : ٣٧.

(٣) الأنفال : ٦٧ ، والآية هكذا : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً.)

(٤) انظر التهذيب ٦ : ٨٣ ، الحديث ١٦٣ و ٩٤ ، والبحار ١٠٢ : ٦١.


تعداد الأئمّة الاثني عشر (١) وصحيفة فاطمة عليها‌السلام (٢) وما ورد من تعداد رجل الأئمّة واحدا بعد واحد بحضرة أمير المؤمنين ثمّ خروجه من المسجد وغيبته عن بصر من تبعه ثمّ إخبار أمير المؤمنين عليه‌السلام بأنّه الخضر عليه‌السلام (٣) فإنّ هذه الأخبار بأسرها ذكرت الأئمّة عليهم‌السلام متسلسلين على طبق ما نعتقد. وإنّما البداء هنا من جهة أنّه كان معروفا في أذهان سواد الشيعة أنّ الإمام هو الولد الأكبر دون الأخ ؛ لأنّ إمامة الأخوين منحصرة في الحسن والحسين عليهما‌السلام فالإمام هو الولد الأكبر إذا كان ورعا صالحا ، وكان الكبر والصلاح مجتمعين في إسماعيل ومحمّد فكانوا يقدّرون أنّ إسماعيل هو الإمام بعد الصادق عليه‌السلام وكذا قدّروا أنّ الإمام بعد الهادي عليه‌السلام محمّد ، فلمّا ماتا ظهر للشيعة خلاف ما كانوا يقدّرون ويتخيّلون ولم يكونوا سألوا الإمام فأجابهم بأنّ الإمام بعدي إسماعيل مثلا ثمّ بدا لله في ذلك كلّا ، بل بحسب مخيّلتهم ومرتكزاتهم وأنّهم لا يسألون عن الإمام بعد الإمام الحاضر تقيّة وخوفا على الإمام ، كما يشير إليه وصيّة الصادق عليه‌السلام إلى خمسة أحدهم المنصور (٤). فإطلاق البداء إنّما هو بحسب خيالاتهم الغير الناشئة عن إخبار الأئمّة ، ونسبة البداء إلى شأن الجواد ؛ لأنّ البداء في موسى يقتضي البداء فيه ؛ إذ لو كان إسماعيل هو الإمام لكانت الإمامة في ولده (٥).

هذا تمام الكلام في هذا المقام. والحمد لله الملك العلّام ، والصلاة على محمّد وآله سادات الأنام. وقد تمّ في ليلة الثلاثاء المصادف ١٢ / ربيع الثاني / ١٣٧٢ ه‍.

محمد تقي الجواهري

__________________

(١) انظر إثبات الهداة ١ : ٤٣١.

(٢) الكافي ١ : ٥٢٧.

(٣) المصدر السابق : ٥٢٥.

(٤) الكافي ١ : ٣١٠ ، الحديث ١٣.

(٥) كذا والعبارة لا تخلو من تشويش.



في المطلق والمقيّد

والظاهر أنّ الاصوليّين ليس لهم اصطلاح خاصّ في لفظ «المطلق» و «المقيّد» بل مرادهم منهما هو معناهما اللغوي ، فإنّ المطلق لغة هو المرسل ، ومنه فلان مطلق العنان أي غير مقيّد بشيء. والمقيّد أيضا بمعناه اللغوي ، وهو ظاهر. ثمّ إنّ الإطلاق والتقييد قد يعرضان المعاني ، وقد يعرضان الألفاظ. فإذا لحظ معنى مرسلا في مقام تصوّره أو معنى مقيّدا فهذا مقام إطلاق المعنى وتقييده. وقد ينطق بلفظ لم يقيّده بقيد وهو مقام إطلاق اللفظ. وبهذا ظهر أنّه لا مقتضي لذكر تعريف المطلق والمقيّد والإيراد بعدم الطرد والعكس فيها ؛ لأنّ المراد منها هو المعنى اللغوي.

فالمهمّ صرف الكلام بمناسبة المطلق والمقيّد إلى ما وضع له بعض الألفاظ :

فمنها : اسم الجنس ، وهل هو موضوع للطبيعة المهملة أو اللابشرط المقسمي؟ ولا بأس ببيان أمر ، هو أنّ الطبيعة قد تلحظ من حيث هي وحينئذ فهي ليست إلّا هي ، لا يصحّ أن يحمل عليها شيء أصلا ؛ إذ لم يلحظ معها شيء آخر خارج عن مقام ذاتها فلا يصحّ أن يحمل عليها إلّا ذاتها ، فيقال : الإنسان حيوان ناطق ، أو ذاتيّاتها فيقال : الإنسان حيوان أو ناطق.

وقد تلحظ ويلحظ معها ما هو خارج عن مقام ذاتها.


فقد يلحظ تجرّدها عن كلّ خصوصيّة قابلة لأن تلحقها في الخارج فتكون قد لحظ فيها عدم الصدق الخارجي أصلا ، وهذه لا يحمل عليها إلّا المعقولات الثانويّة فيقال : الإنسان نوع والحيوان جنس ـ مثلا ـ لأنّها حينئذ لا تصلح أن تنطبق على فرد خارجي ، وتسمّى بالماهيّة المجرّدة.

وقد يلحظ معها اعتبار خصوصيّة من الخصوصيّات الخارجيّة فيقال : الإنسان التقيّ مأمون الجانب ـ مثلا ـ وتسمّى بالماهيّة المخلوطة. ثمّ لا يخفى أنّ ما لحظ معها قد يكون أمرا وجوديّا ، وقد يكون أمرا عدميّا ، وهي في كلا الحالين تسمّى بالماهيّة بشرط شيء.

وقد يلحظ معها عدم دخل شيء من الأوصاف الخارجيّة أصلا ، وتسمّى بالماهيّة المطلقة ، وهذه تنطبق على كلّ فرد من الأفراد الخارجيّة.

وقد ظهر بهذا التقسيم أنّ الماهيّة من حيث هي غير الماهيّة الملحوظ معها شيء المنقسمة إلى هذه الأقسام الثلاثة ، وأنّ الكلّي الطبيعي هو الماهيّة المهملة الغير المقيّدة بشيء حتّى قيد الإهمال.

ودعوى : اشتراكها بين ما ينطبق على الخارج وما لا ينطبق فلا تكون كلّيا طبيعيّا لأنّه ما ينطبق على الخارج بالفعل وبعض أقسام المهملة لا ينطبق ، فاسدة إذ الكلّي الطبيعي ما كان قابلا لأن ينطبق على كثيرين ، وهذه المهملة أيضا قابلة للانطباق ولو ببعض الأقسام.

ومن هنا ظهر فساد ما ذكره النائيني : من أنّ الكلّي الطبيعي هو القسم الأخير وهو اللابشرط القسمي (١) لأنّه هو الذي ينطبق فعلا على الخارجيّات. كما أنّه ظهر أنّ اسم الجنس موضوع لنفس الماهيّة ، إذ إطلاقه في قولك : الإنسان حيوان ناطق ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٢١.


وفي قولك : الإنسان نوع ، وفي قولك : الإنسان العالم خير من الجاهل ، وفي قولك : الإنسان ضاحك بالقوّة واحد. وإذا كان الإطلاق في الجميع واحدا فهو علامة أنّ هذا الإطلاق في الجميع واحد ، فلا بدّ من كونه موضوعا لمعنى يشمل جميع هذه الإطلاقات ، وليس إلّا الماهيّة من حيث هي التي تكون معروضة إلى هذه اللحاظات الخمسة بمعنى الجامع بين هذه المعاني المذكورة ، فافهم.

في علم الجنس ، كأسامة ، والمراد به ما اقتضى تعيّن الطبيعة في الذهن من بين بقيّة الطبائع وباعتبار هذا التعيّن سمّي علما وأجرت النحاة عليه أحكام المعارف ، وقد أشكل الآخوند قدس‌سره على المشهور الذاهبين إلى وضعه للطبيعة بما هي متعيّنة بالتعيين الذهني بأنّه عليه لا يصدق على ما في الخارج ولا معنى لوضع الواضع لفظا لا ينطبق على الخارج ، بل يستحيل (١).

ويقع الكلام تارة في الإمكان ، واخرى في الوقوع.

أمّا الإمكان فالظاهر أنّ الوضع لهذا المعنى ليس فيه محذور أصلا ؛ لأنّ هذا اللحاظ الذهني ليس قيدا للمعنى ولا جزءا له ، وإنّما ذكر في الكلام معرّفا ومشيرا إلى الطبيعة ، نظير ما إذا قال المولى : «أكرم من علمت أنّه تقيّ» فهل يمكن أن يقال : إنّ هذا تكليف بما لا يطاق ؛ لأنّ العلم بالتقى مثلا قيد لموضوع الإكرام وإذا كان قيدا له استحال تحقّقه في الخارج ؛ لأنّ العلم إنّما يكون في الذهن؟ وكذا إذا قال : أكرم من عرفته مثلا. وحينئذ فالقيد باللحاظ يعني لحاظ التعيّن ذهنا إنّما اخذ معرّفا وفانيا في المعنى ومشيرا إليه ، وحينئذ فلا مانع من وضع علم الجنس للطبيعة بما هي متعيّنة بالتعيين الذهني.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٨٣.


وأمّا الوقوع فالظاهر أنّها ليست موضوعة للطبيعة المعينة بالتعيين الذهني ، فإنّا لا نرى فرقا بين لفظ أسد واسامة وثعلب وثعالة ، والظاهر أنّهما مترادفان ، وإجراء أحكام المعارف عليه نظير إجراء أحكام التأنيث في التأنيثات المجازيّة ، وكثير من الألفاظ التي يكون لمعناها لفظان يذكّر أحدهما ويؤنّث الثاني كما في جيد ورقبة. فإجراء أحكام المعارف عليه لا ينافي كونه نكرة وموضوعا للطبيعة المهملة الغير المقيّدة بشيء أصلا ، وهو ما وضع له اسم الجنس من غير فرق أصلا ؛ لأنّ هذا التعريف مجازي نظير التأنيث المجازي المسلّم عندهم كما في «يد» والتأنيث اللفظي كما في «طلحة» فهنا تعريفه لفظي.

في المفرد المعرّف باللام ، والمعروف أيضا إفادة اللام التعريف ، ومقتضاه وضع المدخول لما هو معيّن ذهنا.

ودعوى : استدعائه عدم الصدق على الخارج ، فاسدة عرفت ما فيها.

وقد أنكر الآخوند قدس‌سره دلالتها على التعريف وادّعى أنّها للتزيين مطلقا. وأنّ التعريف إنّما يستفاد من قرائن المقام التي لا بدّ منها على القول بالتعريف ؛ إذ لا بدّ من تعيين نوعه ـ من الجنس أو الاستغراق أو العهد الذكري أو الخارجي ـ ومع لزوم القرينة يستغنى عن وضعها للتعريف فيكون لغوا (١).

والظاهر أنّ إفادتها للتعريف واضحة ، فإنّها بمثابة الإشارة إلى الشيء المقتضية لتعيينه. غاية ما هناك تارة يكون المشار إليه الجنس والطبيعة فيتحقّق الحكم في كلّ فرد من أفرادها لوجود الطبيعة المحكومة بذلك الحكم فيه فينتج عين إنتاج ما إذا عيّنت اللام الاستغراق ، واخرى يكون المشار إليه العهد الذكري أو العهد الخارجي. وأمّا العهد الذهني فلم نتحقّق وضع اللام للعهد الذهني ؛ لأنّ هذه اللام نظير التنوين المعروف بتنوين الأمكنيّة فاللام هنا من باب أنّ اللفظ العربي لا يستعمل إلّا باللام

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٨٤.


أو بالتنوين ، مثل : ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني (١) ، فإنّ الظاهر أنّ اللام في المقام ليست للتعريف. فإن أراد الآخوند بكون اللام للتزيين هذه اللام فالحقّ معه.

وأمّا الجمع المحلّى باللام فقد تعرّضنا في مبحث العموم والخصوص ، وذكرنا أنّ اللام هناك فيه معيّنة للعموم ، إذ لا معيّن لسواه. وما ذكر : من أنّ أقلّ الجمع ثلاثة ، فاسد ، فإنّ أقلّ الجمع متيقّن وليس متعيّنا ، والمتيقّن غير المتعيّن. فافهم وتأمّل.

وبما ذكرنا من عدم إفادة العهد الذهني للتعريف صرّح الشيخ الرضيّ قدس‌سره فإنّه لم يفرّق بين «أعطني تمرة أو تمرتين» و «أعطني التمرة والتمرتين» كما صرّح بأنّ تعبير النحاة عنه بالمعرفة من باب التعريف اللفظي كما في التأنيث اللفظي في مثل طلحة مثلا (٢).

وبالجملة ، فما ذكرنا واضح لمن لم يقلّد النحاة واعتمد على فهمه في الملفوظ.

[النكرة] وأمّا النكرة فقد ذكر الآخوند قدس‌سره أنّها قد عرّفها المشهور بأنّها اللفظ الدالّ على الفرد المردّد من الطبيعة ،

وأشكل عليهم بأنّ الفرد المردّد لا تحقّق له في الخارج. ومن هنا قال : إنّ النكرة هي الحصّة الكلّية (٣). ولا يخفى أنّ مراد المشهور أنّ النكرة هي مصداق الفرد المنتشر لا مفهومه ، وحينئذ فمرادهم بالمنتشر عدم حصره في فرد ، وهذا هو معنى الحصّة الكلّية. وقد ذكر أنّ النكرة قد تكون معيّنة في الواقع مجهولة عندنا كما في جاء رجل ، واخرى تكون مردّدة حتّى في الواقع كما في : جئني برجل (٤). والظاهر أنّ النكرة في المقامين مستعملة في معنى واحد ليس إلّا ، والتعيين في الأوّل لقرينة الإخبار فإنّ الجائي معيّن في الواقع ، فالقرينة أفادت تعيينه وإلّا فاللفظ مستعمل فيهما معا بمعنى واحد.

__________________

(١) ومصراعه الآخر : فمضيت ثمت قلت لا يعنيني. السيوطي : ٢٧٣.

(٢) الكافية في النحو بشرح الرضي ٢ : ١٣٠ ، باب المعرفة والنكرة.

(٣ و ٤) كفاية الاصول : ٢٨٥ ـ ٢٨٦.

(٣ و ٤) كفاية الاصول : ٢٨٥ ـ ٢٨٦.


وكيف كان فالتنوين في النكرة مفيدة للوحدة ، وقد يسدّ مسدّ تنوين التمكّن ، فإنّ بين تنوين التمكّن الذي جيء به لإفادة تمكّن اللفظ وإقراره في المحاورة العرفيّة وتنوين التنكير الذي جيء به لإفادة الوحدة عموما من وجه ، ففي مثل زيد وعمر التنوين ليأخذ اللفظ قراره في المحاورة ، وفي مثل صه وغيرها من أسماء الأفعال للتنكير ، وفي مثل النكرة يكون تنوين التنكير كما في «أعطه درهما» ويكون اللفظ بسببه قد أخذ قراره من المحاورة. وحيث إنّ الكلام في المطلق وهو الطبيعة المبهمة كما تقدّم. فالنكرة مرسلة ، وكذا اسم الجنس ، وكذا زيد بلحاظ حالاته ، وكذا الماهيّة اللابشرط القسمي ، فإنّها أيضا مطلقة بمعنى كون الجميع مصداقا للمطلق.

[تقييد المطلق هل يستلزم المجاز أم لا؟]

ثمّ إنّ تقييد المطلق هل يستلزم المجازيّة أم لا؟ أقوال ، ثالثها : التفريق بين المنفصل فالأوّل ، والمتّصل فالثاني (١) وهذا التفصيل سخيف ، فإنّ المطلق إن كان هو اللابشرط القسمي فاستعماله في الطبيعة المقيّدة يلزم أن يكون مجازا ؛ لأنّ الطبيعة التي اخذ فيها عدم التقيّد مباينة لما اخذ فيها التقيّد. وإن كان المطلق هو الماهيّة الغير المشروطة بشيء أصلا التي هي الجامع بين أقسام الماهيّة كان حقيقة ؛ إذ اللفظ مستعمل في نفس الطبيعة والقيد مستفاد من دالّ آخر. نعم لو استعمل اللفظ في المقيّد وكان ذكر القيد لبيان أنّه اريد القيد من اللفظ ـ يعني لفظ النكرة ـ كان مجازا ، لكنّه خلاف المتفاهمات العرفيّة ، فافهم.

__________________

(١) في المسألة أقوال ثلاثة :

القول الأوّل : إنّ التقييد لا يوجب مجازا في المطلق. وهو الذي نسب إلى سلطان المحقّقين والشيخ الأنصاري والنائيني وغيرهم. انظر المطارح ٢ : ٢٤٩ ، وأجود التقريرات ٢ : ٤٣٩.

والقول الثاني : إنّه يوجب المجاز ، ذهب إليه المحقّق القمي في القوانين ١ : ٣٢٥.

والقول الثالث : التفصيل بين التقييد بالمتّصل والمنفصل كما هو في المتن وهو الذي ذهب إليه القزويني في ضوابط الاصول : ٣٢٥ ـ ٣٢٦.


وحيث عرفت أنّ المطلق هو الماهيّة الغير المشروطة بشيء المعبّر عنها بالماهيّة المهملة التي هي مقسم الجميع ظهر أنّ هذا التفصيل لا وجه له ، وأنّ اللفظ لا يستعمل إلّا في تلك الطبيعة ، وأنّ القيد يستفاد من دالّ آخر. فتقييد المطلق لا يقتضي المجازيّة أصلا ؛ إذ إنّ الإطلاق والتقييد كلاهما من دالّ آخر ، فلفظ المطلق لم يستعمل إلّا في تلك الماهيّة المهملة.

[مقدّمات الحكمة]

ثمّ إنّه إذا دار أمر اللفظ بين كون المراد به المطلق يعني الماهيّة اللابشرط القسمي أو الماهيّة بشرط شيء إذ هما اللذان يستعملان في مقام ترتيب الآثار الشرعيّة ، أمّا الماهيّة من حيث هي وكذا الماهيّة بشرط عدم الانطباق الخارجي فليسا موضوعا للأحكام الشرعيّة ، فإذا دار الأمر بين إرادة المطلق وهو الماهيّة لا بشرط القسمي أو المقيّد وهو الماهيّة بشرط شيء ، فإن كان هناك قرينة تعيّن ذلك فبها ، وإن لم تكن هناك قرينة فهل هناك قرينة عامّة تثبت الإطلاق؟ نعم ، وهي قرينة الحكمة وتسمى بمقدّمات الحكمة ؛ لأنّه يعتبر في جريانها حكمة المتكلّم بذلك الكلام ، وهي مقدّمات :

الاولى : أن يتمكّن المكلّف من التقييد ومع ذلك يورد الحكم على المقسم ، وإلّا فلو لم يتمكّن من التقييد لتقيّة أو غيرها فأورد الحكم على المقسم فلا يمكن التمسّك بإطلاق كلامه ؛ إذ لعلّه أراد التقييد فلم يتمكّن من جهة التقيّة أو غيرها.

توضيح هذه المقدّمة : أنّ الإطلاق والتقييد في مقام الثبوت متقابلان تقابل التضادّ ؛ إذ الإهمال غير معقول في الواقعيّات ، فإمّا أن يلحظ المولى الحكم على موضوع لحظ إرساله أو لحظ تقييده ، فاستحالة أحدهما في الواقع تستدعي ضروريّة الآخر. وليس التقابل تقابل العدم والملكة ليلزم من استحالة أحدهما


استحالة الآخر ، لعدم قابليّة المحلّ ، كما ذهب إليه الميرزا النائيني قدس‌سره (١) وقد تقدّم تفصيل ذلك في الواجب المطلق والمشروط.

وأمّا في مقام الإثبات فالتقابل تقابل العدم والملكة ؛ لأنّ الإطلاق في مقام الإثبات رفض القيود ، ورفضها إنّما هو في مقام إمكان أخذها ، فلا بدّ في الحكم بالإطلاق من قابليّة التقييد ، وأمّا مع عدم القابليّة للتقييد فلا يمكن التمسّك بالإطلاق.

المقدّمة الثانية : أن يكون المولى في مقام البيان من الجهة التي يراد التمسّك بالإطلاق بلحاظها ، فلو لم يكن في مقام البيان أصلا بل في مقام الإجمال أو الإهمال فلا إطلاق ، نظير قول الطبيب للمريض : «إنّك تحتاج إلى دواء» فليس للمريض أن يأخذ أيّ دواء ليشربه أخذا بإطلاق كلام الطبيب ، إذ ليس لكلامه إطلاق. ولو شكّ في أنّ المتكلّم في مقام البيان أم لا؟ فمقتضى الأصل العقلائي كونه في مقام البيان ، إذ لو اعتذر بإرادة الإجمال لا يقبل منه أصلا.

وكذا لو كان في مقام البيان من غير الجهة التي يراد الإطلاق لها فلا يجدي ذلك في التمسّك بالإطلاق ، نظير قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ)(٢) فإنّها مسوقة لبيان أنّ الصيد لا يحتاج إلى تذكية إذا لم يدرك حيّا وليس كالميتة فلا يتمسّك بإطلاق الآية كي يستغنى عن غسل عضّة الكلب والدم الخارج بسببها ؛ لأنّه ليس في مقام البيان من هذه الجهة. ونظير أدلّة العفو عن مقدار الدرهم من الدم في لباس المصلّي ، فإنّ العفو فيه من جهة النجاسة فلو كان من غير ما يؤكل لحمه لا يجوز الصلاة فيه ؛ لأنّ كونه من فضلات ما لا يؤكل لحمه مانع عن ذلك.

__________________

(١) انظر أجود التقريرات ٢ : ٤١٦.

(٢) المائدة : ٤.


ولو علم كونه في مقام البيان من جهة وشكّ في كونه في مقام البيان من الجهة الاخرى أم لا؟ فالظاهر عدم استقرار لبناء العقلاء على كونه في مقام البيان من جميع الجهات ، فلا يمكن التمسّك بالإطلاق في مثل ذلك.

وإنّما اعتبرنا كونه في مقام البيان ؛ لأنّه لو لم يكن في مقام البيان ـ بل في مقام التشريع مثلا ـ لا يمكن أن يقال : لو أراد قيدا لبيّنه ؛ لإمكان أن يكون قد أوكل بيان القيد إلى مقام تفصيل ذلك الحكم فلا يحرز عدم بيان المولى.

والسرّ في أنّه لو شكّ في كون المولى في مقام البيان أم لا ، فحينئذ نتمسّك بأنّه في مقام البيان ، وإذا أحرزنا أنّه في مقام البيان من بعض الجهات وشككنا في الجهات الأخر أنّه في مقام البيان منها أم لا؟ لا نتمسّك بكونه في مقام البيان هو أنّه في الصورة الاولى نشكّ في أنّه في مقام بيان مراده أم لا وقد جرى بناء العقلاء أنّه متى أرادوا بيان شيء من مراداتهم عوّلوا في بيانها على الألفاظ ، فمن تلفّظ بلفظ وأراد إجمال مراده يحتاج إلى قرينة على إرادة الإجمال أو الإهمال لئلّا يخالف الطريقة التي استقرّت سيرة العقلاء عليها في إفهام مراداتهم ، فما لم تكن قرينة يحمل على تلك السيرة المألوفة. وهذا بخلاف ما إذا أحرزنا كونه في مقام البيان من جهة وشككنا في الجهة الاخرى ، فإنّ هذا الشكّ يرجع إلى الشكّ في أنّ مراده بيان هذه الجهة فقط أو بيان كلا الجهتين ، وفي مثله لم يستقرّ من العقلاء بناء على شيء.

ثمّ إنّ «البيان» ليس المراد به البيان في الجملة فهذا موجود حتّى فيما ورد في أصل التشريع ، فإنّ قول الطبيب للمريض : «إنّك تحتاج دواء» فيه بيان في الجملة ، كما أنّه ليس المراد به بيان الحكم الواقعي ليكون وجدان المقيّد بعد ذلك كاشفا عن عدم كونه في مقام البيان ؛ وذلك لأنّ جميع المطلقات هي في مقام البيان وإن عثر على مخصّصات لها ، فوجود المخصّص لا يكشف عن كونه في مقام الإهمال. بل المراد بالبيان هو بيان ما يدلّ اللفظ عليه وإن كان اللفظ من الألفاظ المذكورة لضرب القانون والقاعدة ويكون ورود المقيّد كاشفا عن عدم كون الإطلاق مرادا جدّيا


وإن كان في مقام بيانه قانونا وقاعدة كلّية ، فهذا هو المراد بكون المولى في مقام البيان ، إذ هذا النحو هو مورد الاحتجاج من المولى على العبد لو لم يمتثل ، ومن العبد على المولى لو أراد المقيّد مثلا ولم يذكر قيده بل أطلق لفظه.

المقدّمة الثالثة : أن يخلو اللفظ عن المقيّد متّصلا ومنفصلا ، فإنّ وجود القيد المتّصل مانع عن انعقاد لفظ المطلق في الإطلاق فلا إطلاق حينئذ. وأمّا المنفصل فهو مانع عن تعلّق الإرادة الجدّية بظاهر المطلق. ومع كلّ منهما لا يكون في اللفظ مجال للاحتجاج من المولى على عبده ، ولا من العبد على مولاه.

وإذا تمّت هذه المقدّمات الثلاث فمقتضى حكمة المولى وتبعيّة مقام الإثبات لكشف مقام الثبوت ؛ إذ الإهمال في الواقع محال فلا بدّ من إرادة إطلاق ذلك المطلق وعدم تقييده بشيء ، إذ لو أراد المقيّد ومع ذلك لم يذكر القيد وقد كان متمكّنا من ذكره وكان في مقام يستدعي بيانه ولم يبيّنه لأخلّ بطريقة جرى ديدن العقلاء عليها. فالحكيم لا يخالف ديدن العقلاء إلّا إذا لم يتمكّن من أخذ القيد لتقيّة أو لم يكن مريدا لتفصيل الحال ، أو ذكر قيدا ، والمفروض انتفاء جميع ذلك. فمقتضى حكمته إرادة المطلق ، فهي بمثابة قوله : أكرم أيّ عالم شئت ؛ إذ إرادة غيره مخلّ بطريقة العقلاء ولا يليق ذلك به.

بقي الكلام في أنّ وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب مانع عن التمسّك بالإطلاق أم ليس بمانع؟ الظاهر أنّه ليس مانعا ، توضيح ذلك : أنّ القدر المتيقّن قد يكون خارجا عن مقام التخاطب ، وهذا لا يسلم منه عامّ من العمومات ، فإنّه لو قال : أكرم العلماء ، فالعدول قدر متيقّن بالنسبة إليهم ، وكذا إذا قال : الماء طاهر ، فالكرّ متيقّن أو قال : البول نجس ، فبول البالغ متيقّن وهكذا ... وهذا القدر المتيقّن باعتبار خروجه عن مقام التخاطب لم يحتمل أحد مانعيّته عن التمسّك بالإطلاق.

وقد يكون متيقّنا بلحاظ مقام التخاطب كما إذا سأل السائل عن دم الرعاف ؛ يصيب الثوب فهل يصلّي فيه أم لا؟ فأجابه الإمام بأنّ الدم إن كان أقلّ من الدرهم


جاز الصلاة فيه (١) ، فإنّ القدر المتيقّن منه هو مورد السؤال وهو دم الرعاف ، لأنّ خروج مورد السؤال عن الجواب مستهجن. إلّا أنّ هذا أيضا ليس مانعا عن التمسّك بالإطلاق فإنّ خروج المورد وإن كان مستهجنا إلّا أنّ دخول غيره معه ليس بمستهجن قطعا ، وهذا أمر قد اشير إليه بقولهم : إنّ المورد لا يقيّد الوارد. وهذا أمر واضح بحسب الظاهر ، وقد تسالم الأصحاب عليه حتّى الآخوند نفسه الذي اعتبر عدم القدر المتيقّن في مقام الخطاب في التمسّك بالإطلاق في كفايته (٢) لم يلتزم بذلك في الفقه وإلّا لأسّس فقها جديدا ، وبناء العقلاء على التمسّك بالإطلاق في مثله. بل ومبنى المحاورات العرفيّة على ذلك ، فمن سأل الطبيب عن الرّمان الحامض فأجابه حينئذ الطبيب بقوله : لا تأكل الحامض ، لا يستفيد خصوص حامض الرّمان ، بل كلّ حامض. وهذا بحسب الظاهر واضح جدّا.

بقي الكلام في أنّ الانصراف مانع عن التمسّك بالإطلاق أم ليس بمانع؟ الانصراف على أقسام ثلاثة :

فقد يكون زائلا بأدنى تأمّل وهو المعبّر عنه بالبدوي ، كأن يقول المولى : «يجب على كلّ نجفي شرب الماء عند الزوال» فينصرف إلى ماء النجف ، فلو أنّ نجفيّا كان معه ماء من كربلاء فشربه في النجف فهل يحتمل أنّه لم يمتثل؟ كلّا ؛ لأنّ هذا الانصراف زائل بأدنى تأمّل.

وقد يكون موجبا لظهور اللفظ بحيث لا يرى العرف غيره فردا كما في لفظ الحيوان فإنّه ينصرف إلى غير الإنسان انصرافا يوجب ظهور اللفظ في ذلك ، وهذا مانع عن التمسّك بالإطلاق ، إلّا أنّه قد خرج بقولنا : ورود الحكم على المقسم ، فإنّ الحكم ليس على مقسم يشمله بل نظر العرف لا يراه شاملا للإنسان.

__________________

(١) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : في الدم يكون في الثوب إن كان أقلّ من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة ... راجع الوسائل ٢ : ١٠٢٦ ، الباب ٢٠ من أبواب النجاسات ، الحديث ٢.

(٢) كفاية الاصول : ٢٨٧ ـ ٢٨٨.


وقد يكون وسطا فيوجب الشكّ في صدق المقسم عليه كما في ماء الزاج والكبريت ، فإنّه يوجب الشكّ في صدق الماء في : خلق الله الماء طهور لا ينجّسه شيء (١) عليه ، وهذا هو ما اصطلح الشيخ الأنصاري عليه بالشكّ في الصدق (٢) ، وهذا أيضا مانع عن التمسّك بالإطلاق للشكّ في ورود الحكم على المقسم حينئذ ، ومع الشكّ فيه لا يمكن التمسّك بالإطلاق. فالإنصاف أنّ مقدّمات الحكمة ثلاثة : ورود الحكم على المقسم ، مع إمكان التقييد ، وأن يكون المولى في مقام البيان وعدم ذكر المقيّد وحينئذ فالإطلاق محكّم.

في حمل المطلق على المقيّد

إذا ورد مطلق ومقيّد فإمّا أن يكونا مثبتين ، أو منفيّين ، أو متخالفين بأن كان المطلق مثبتا والمقيّد منفيّا. والكلام يقع في مقامين ، أحدهما : أن يكون الحكم بنحو صرف الوجود ، والثاني : أن يكون الحكم بنحو مطلق الوجود.

والأوّل منحصر بما إذا كان مثبتين أو متخالفين ، أمّا الثاني فبما إذا كانا منفيّين.

وحينئذ فيقع الكلام فيما إذا كان الحكم بنحو صرف الوجود فنقول : أمّا إذا كانا متخالفين كما إذا قيل : أعتق رقبة ولا تعتق رقبة كافرة ، فالظاهر الاتّفاق على حمل المطلق على المقيّد بغير خلاف يعرف بينهم. وأمّا إذا كانا مثبتين كما في «أعتق رقبة ، وأعتق رقبة مؤمنة» فمحلّ للقيل والقال ، ولم نعرف حتّى الآن السبب الذي دعا إلى الاختلاف في صورة الإثبات ، والاتّفاق في صورة اختلافهما إثباتا ونفيا.

وكلّ ما ذكر في صورة الاتّفاق : من احتمال كون المقيّد من باب أنّه أفضل الأفراد المعبّر عنه بالاستحباب في كلماتهم ومن كون ظهور الأمر في التعيين أقوى من ظهور

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٠١ ، الباب الأول من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٨.

(٢) انظر الطهارة للشيخ الأنصاري ١ : ٦٧ ـ ٦٨.


المطلق في الإطلاق ، مشترك بين الصورتين ، غاية ما هناك حمل النهي على الكراهة ونقول ظهور النهي في التحريم أقوى من ظهور الإطلاق في المطلق.

وبالجملة ، فلم يظهر لنا وجه تفريق القوم بين الصورتين ، وقد ذكر الآخوند أنّ الوجه في حمل المطلق على المقيّد أنّ ظهور الأمر في التعيين أقوى من ظهور الإطلاق في المطلق (١) وهو غريب ، فإنّه ذكر في أوّل بحث الأوامر أنّ ظهور الأمر في التعيين من جهة الإطلاق وعدم ذكر العدل ب «أو» (٢) ، وحينئذ فلا تفاوت بين الإطلاقين ، والظاهر أنّ هذا كلّه تكلّف.

والذي ينبغي أن يقال : إنّ المكلّف إذا أحرز أنّ الحكم الموجّه بالخطابين واحد فلا ريب في حمل المطلق على المقيّد ؛ لأنّ المقيّد حينئذ نسبته إلى المطلق نسبة القرينة إلى ذي القرينة ، فالمطلق هو ذو القرينة والمقيّد هو القرينة. وقد ذكرنا أنّ المدار في تشخيص القرينة فرضها متّصلة بالمطلق فإنّه حينئذ لا يبقى له إطلاق ؛ لأنّ من شروط الإطلاق مقدّمات الحكمة الغير الجارية حينئذ ، لانتفاء عدم البيان قطعا. وعدم إحراز مقدّمات الحكمة كاف في نفي الإطلاق. ولا فرق بين أن يكون الدليلان مثبتين أو أحدهما مثبتا والآخر منفيّا بعد إحراز وحدة التكليف ، فإن من أمر عبده بشراء دار فقال له : اشتر لنا دارا ، ثمّ قال له ثانيا : اشتر لنا دارا واسعة أو لا تشتر لنا دارا ضيقة ، لا ريب في كون المتأخّر قرينة على عدم إرادة الإطلاق من الدار في الأمر الأوّل. إلّا أنّ الكلام في أنّه من أين يحرز وحدة التكليف ، وأنّها تحرز من الخارج أو من نفس الدليلين؟ الظاهر أنّ الثاني كاف ، وتقريبه : أنّ الاحتمالات حينئذ أربعة :

أحدها : أن يكون التكليف واحدا وقد بيّن بالإطلاق ، وكان المقيّد مبيّنا للإرادة الجدّية وأنّ الإطلاق ليس هو المراد جدّا ، وهذا هو المطلوب لنا.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٩١.

(٢) انظر كفاية الاصول : ٩٩.


الثاني : أن يكون التكليف واحدا أيضا ويكون المقيّد لبيان أفضل الأفراد ، وقد ذكرنا أنّ الاحتمال الأوّل أرجح ؛ لأنّ المقيّد يكون قرينة على بيان المراد الجدّي وذكرنا المعيار في قرينيّتها ، والقرينة تتقدّم على ذي القرينة قطعا.

الثالث : أن يكون تكليفان ، أحدهما : متعلّق بصرف الطبيعة ، والآخر : وهو المقيّد بتقيّدها بهذا القيد. وهذا خلاف الظاهر أيضا ؛ لأنّه يلزم أن يكون المقيّد بلفظ «ولتكن تلك الطبيعة مقيّدة» وظاهرها استقلال التكليف.

الرابع : أن يكون المطلق تكليفا والمقيّد تكليفا آخر ، وهذا وإن كان ممكنا ثبوتا إلّا أنّه إثباتا غير ممكن ، والوجه في ذلك : أنّه مثلا لو قال : إن ظاهرت أعتق رقبة ، وإن ظاهرت أعتق رقبة مؤمنة ، فهنا وإن أمكن أن يكون الظهار موجبا لعتق مطلق الرقبة وعتق خصوص المؤمنة إلّا أنّ المكلّف لو أعتق الرقبة المؤمنة أوّلا فهل يجب عليه عتق مطلق الرقبة؟ كلّا ، إذ إنّ المؤمنة جامعة لمطلق الرقبة لصدق المطلق عليها وخصوص المؤمنة لفرض وجدان الوصف أيضا ، ولو فرض اعتبار عدم الإيمان في المطلقة كان عليه بيان ذلك والمفروض أنّ الأمر مطلق. نعم لو أتى بالمطلق أوّلا يجب عليه ثانيا الإتيان بالمقيّد ، ونتيجة ذلك هو أنّ الوجوب تخييري بين أن يأتي بعتق الرقبة المؤمنة أو يأتي بعتق مطلق الرقبة وعتق المؤمنة ثانيا ، ولا ريب في أنّ الوجوب التخييري بين الأقلّ والأكثر بهذا النحو لا يفي به المطلق والمقيّد ، فهو خلاف ظاهرهما. فقد ظهر أنّ وحدة التكليف أمر مستفاد من نفس لسان الدليلين ؛ لأنّ ما عداه خلاف الظهور كما قرّرنا.

نعم ، لو أحرزنا تعدّد التكليف كما في مثل : إن ظاهرت فأعتق رقبة ، وإن أفطرت فأعتق رقبة مؤمنة ، فلا ريب في ظهور التكليف في التعدّد للملاك ، وأنّ أحد الملاكين لا يكفي في تحصيل الملاك الثاني إلّا أنّ المقام ليس فيه إحراز ذلك. وكما ظهر الفرق بين ما إذا احرز تعدّد التكليف وما إذا لم يحرز ، ظهر الفرق أيضا بين ما نحن فيه ممّا لم يحرز فيه وحدة التكليف وبين المورد الذي يحرز فيه تكليفان بينهما عموم من وجه


مثل «أكرم عالما ، وأكرم هاشميّا» فإنّه وإن كان له أن يكرم هاشميّا عالما ويكون التداخل فيه صحيحا وعلى القاعدة ومقتضيا لسقوط كلا التكليفين ، إلّا أنّ ظهور الدليلين في تعدّد التكليف يظهر الفرق بينهما جدّا ، كما هو ظاهر.

وبالجملة : فقد ظهر أنّ حمل المطلق على المقيّد متعيّن حيث يحرز وحدة التكليف بظهور نفس المطلق والمقيّد ، ومن هنا كان الفقهاء يحملون المطلق على المقيّد من غير أن يقوم عندهم من الخارج ما يدلّ على وحدة التكليف ، لاستظهارهم ذلك من نفس مدلول الدليلين ، إذ الأمر بالمطلق وبالمقيد وإن أمكنا إلّا أنّ ظهور الدليلين في المقام ينفي الوقوع. هذا تمام الكلام في حمل المطلق على المقيّد ، وقد اتّضح بما لا مزيد عليه أنّ المقيّد بمثابة القرينة الكاشفة عمّا يراد من المطلق بالإرادة الجدّية.

هذا كلّه فيما كان هناك أمر بمطلق الطبيعة وأمر آخر بحصّة خاصّة منها ، كما مثّلنا بقولنا : أعتق رقبة ، وأعتق رقبة مؤمنة. وأمّا إذا كان الأمر الثاني بتقيّد الأمر الأوّل مثل قولنا : أعتق رقبة ، ثمّ يأتي أمر آخر بمثل : ولتكن الرقبة مؤمنة ، فهل يحمل المطلق على المقيّد فيكون الأمر الثاني مبيّنا للإرادة الجدّية من الأمر الأوّل فيكون الأمر الأوّل متعلّقا بالمقيّد واقعا وأظهر ذلك وجود الأمر الثاني ، أو يقال : إنّه من باب الواجب في الواجب فيكون الأمر الأوّل مبيّنا لواجب ذي مصلحة والأمر الثاني مبيّنا لواجب آخر ذي مصلحة اخرى؟ الظاهر الأوّل ، وإن كان الثاني ممكنا أيضا ، بل واقعا في مثل «من نذر أن يصلّي ظهره في المسجد» فصلاة الظهر واجب وإيقاعها في المسجد واجب آخر ، إلّا أنّ ظهور الدليلين المذكورين في التقيّد أقوى ، وذلك لانسلاخ ظهور الأمر الثاني في المولويّة وانعقاد ظهوره في الإرشاد إلى الجزئيّة حيث يمكن كون متعلّقه جزءا كما في مثل «صلّ ولتكن في صلاتك فاتحة الكتاب» أو إرشاد إلى الشرطيّة في مثل «ولتكن صلاتك بطهور» أو يكون المقيّد نهيا مرشدا إلى المانعيّة كما هو ظاهر. فظهور هذه الأوامر والنواهي في الإرشاد إلى الشرطيّة والجزئيّة والمانعيّة في نظر العرف أقوى من ظهورها في المولويّة.


ومن ثمّ ذهبوا إلى حمل المطلق على المقيّد في نظير ذلك في الفقه ولم يتوقّفوا ، وموارده أكثر من أن تحصى.

ثمّ إنّ حمل المطلق على المقيّد حيث يكون أمر بمطلق وآخر بمقيّد إنّما هو إذا احرز وحدة التكليف من الخارج أو من نفس الدليلين كما تقدّم كما إذا قال : «صلّ وصلّ إلى القبلة» أو أنّه ذكر الأمر بالصلاة فيهما معلّقا على أمر واحد كأن يقول : إن ظاهرت فأعتق رقبة ، وإن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة. وأمّا إذا كان أحدهما غير معلّق على شيء والآخر معلّقا كما إذا قال : «أعتق رقبة ، وإن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة» فلا ريب في ظهور الوجوب الذاتي في الأوّل والوجوب من جهة الظهار في الثاني ، فليس من موارد حمل المطلق على المقيّد. فضلا عمّا إذا علّق كلّ منهما على أمر غير ما علّق الآخر عليه ، كما في : إن ظاهرت فأعتق رقبة ، وإن أفطرت في نهار شهر رمضان فأعتق رقبة مؤمنة.

ثمّ إنّه كما يحمل المطلق على المقيّد في الأحكام الإلزاميّة فهل يحمل في المستحبّات؟ ربّما يقال كما في الكفاية : إنّه إذا كان المقيّد قرينة عرفيّة على إرادة المقيّد جدّا من الأمر بالمطلق فلا فرق بين الواجبات والمستحبّات (١).

والصحيح أن يقال : إنّ المطلق والمقيّد في باب المستحبّات على أنحاء ثلاثة (٢) :

الأوّل : أن يكون المقيّد ذا مفهوم ناف للاستحباب عمّا عداه كما إذا ورد : صم أوّل كلّ شهر ، ثمّ ورد : صم أوّل كلّ شهر إن لم ينهك أبوك عنه ، مثلا ، فمفهومه أنّه إن نهاك أبوك عنه فلا استحباب ، ففي مثل ذلك لا بدّ من حمل المطلق على المقيّد ، وإلّا لزم التنافي بين المفهوم والمطلق ، ولا يجدي في رفعه تفاوت مراتب الاستحباب أصلا.

الثاني : أن لا يكون المقيّد ذا مفهوم لكن كان المقيّد مبيّنا لاستحباب المقيّد ذاته لا استحباب التقيّد ، وفي مثل ذلك لا مجال لحمل المطلق على المقيّد ؛ لأنّ حمل المطلق

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٢٩١.

(٢) كذا في الأصل ، لكنّه أنهاها إلى خمسة.


على المقيّد في الواجبات إنّما كان للتنافي بين الوجوب التعييني لخصوص المقيّد ووجوب المطلق المقتضي للترخيص في تطبيقه على غير تلك الحصّة ، وفي المقام لا تنافي ؛ لأنّ ترك المقيّد ليس ذا محذور ، بل تركهما معا ليس ذا محذور ، وحينئذ فلو ترك المقيّد وأتى بالمطلق فلا محذور أصلا بخلاف صورة الوجوب. وهذا مثل أن يقول المولى : أذّن ، ثمّ يقول : أذّن قائما ، فإنّ مفاد الثاني استحباب الأذان قائما ، وليس مفاده حصر الاستحباب به ، فيكون من باب اشتهار تفاوت مراتب الاستحباب ، فافهم.

الثالث : أن لا يكون المقيّد ذا مفهوم ولكن كان دالّا على استحباب التقيّد كأن يقول المولى : صلّ صلاة الليل ، ثمّ يقول : صلّ صلاة الليل في المنزل ، وفي مثله لو لم تقم قرينة على كون المقيّد أفضل الأفراد فمقتضى القاعدة حمل المطلق على المقيّد ، وذلك لتحقّق ظهور الأمر في الوجوب الشرطي ، ومعناه تقييد المستحبّ بكونه بذلك القيد الخاصّ ، وحينئذ فلا دليل على استحبابه إذا خلا عن ذلك القيد.

وبالجملة : فقرينيّة المقيّد لرفع اليد عن المطلق محفوظة في مثل المقام ، نعم ليس في الأمر بالمقيّد احتمال الوجوب النفسي إلّا أنّ ظهوره في الوجوب الشرطي بمعنى اشتراط ذلك القيد في طبيعة المطلق المستحبّة فلا محبوبيّة حينئذ لغير المقيّد ، فيحمل المطلق على المقيّد في المقام.

الرابع : أن لا يكون للمقيّد مفهوم ولكن يكون المقيّد بلفظ «وليكن» كأن يقول : أذّن للصلاة ، ثمّ يقول : وليكن أذانك حال استقبال القبلة ، وفي مثله أيضا لا بدّ من حمل المطلق على المقيد لما ذكر من انسلاخ مثل هذا الأمر من المولويّة وتحقّق ظهوره في بيان الجزئيّة أو الشرطيّة. ومن هنا ذهبنا إلى اشتراط القيام والطهارة في الإقامة ، لورود ذلك بلفظ «أقم وأنت متطهّر ، وأنت قائم» (١) وإن كان خلاف المشهور.

__________________

(١) انظر الوسائل ٤ : ٦٢٧ ، الباب ٩ من أبواب الأذان والإقامة ، والباب ١٣ ، الحديث ١٤.


الخامس : أن ينهى عن حصّة من الطبيعة كأن يقول : صلّ صلاة الليل ، ثمّ يقول : لا تصلّ صلاة الليل في المسجد ، وفي المقام أيضا مقتضى القاعدة أن يكون النهي إرشادا إلى المانعيّة ، فيحمل المطلق على المقيّد كسابقه بعين تقريبه ، فافهم.

هذا كلّه حيث يكون الأمر بالمطلق وبالمقيّد بنحو صرف الوجود المتحقّق بأوّل وجود من تلك الطبيعة. أمّا لو كان بنحو مطلق الوجود كان يكون الحكم انحلاليّا بعدد أفراد تلك الطبيعة ، (فإن تخالفا في الإيجاب والسلب كما في قوله : خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه شيء إلّا ما غيّر لونه أو ريحه (١) وما دلّ على انفعال القليل بملاقاة النجاسة (٢) فلا ريب في حمل المطلق على المقيّد بأن يراد من المطلق ما عداه. وإن اتّفقا) (٣) مثل قوله : المسكر حرام ، ثمّ يرد مقيّد كقولك : الخمر حرام ، ففي مثله لا مجال لحمل المطلق على المقيّد سواء في موارد الإيجاب أو الاستحباب ؛ وذلك لأنّ الحكم بنحو مطلق الوجود انحلالي فليس حكما واحدا ليقع التنافي بينهما بالتعيين والترخيص ، فهو أحكام انحلاليّة أحدها غير الآخر ، فذكر الخاصّ المقيّد إنّما هو لبيان فرد من الأحكام المنحلّة فلا منافاة بينها.

نعم ، لو كان المقيّد ذا مفهوم ينفي الحكم عمّا عداه كما إذا قلنا بحجّية مفهوم الوصف في مورد لزوم اللغويّة بدونه كما يساعده الظهور العرفي واخترناه فيما تقدّم يقع التعارض بينه وبين المطلق إلّا أنّه ليس ممّا نحن فيه ، كما أنّه إذا كان في مقام التحديد كما إذا سئل الإمام عن الماء الذي لا ينجّسه شيء فقال عليه‌السلام : كرّ من الماء (٤) فإنّ ظاهره تحديده به ، فلا ريب في تقييده لقوله خلق الله الماء طهورا ... إلى آخره فيفيد أنّ ما قلّ عن الكرّ ليس كذلك ، فافهم.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٠١ ، الباب الأوّل من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٩ ، والسرائر ١ : ٦٤.

(٢) الوسائل ١ : ١١٢ ، الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، والباب ٩ ، الأخبار.

(٣) ما بين القوسين من اضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٤) الوسائل ١ : ١١٨ ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٧.


تنبيه

ذكرنا فيما تقدّم أنّ الإطلاق والتقييد قد يكونان في مقام الثبوت ، وقد يكونان في مقام الإثبات ؛ إذ المصلحة قد تكون ناشئة من مطلق الطبيعة ، وقد تكون ناشئة من حصّة خاصّة منها واقعا ، وهذا هو مقام الثبوت. كما أنّ الحكم قد يحمل على مطلق الطبيعة ، وقد يحمل على نوع وحصّة خاصّة منها ، وهذا هو مقام الإثبات. وقد ذكرنا أنّ الإطلاق والتقييد في مقام الإثبات كاشف عن الإطلاق والتقييد في مقام الثبوت إذا كان المتكلّم في مقام البيان ، ونريد التنبيه الآن على أنّ التقييد في مقام الإثبات ربّما يستكشف به الإطلاق والتوسعة في مقام الثبوت ، مثل إذا قال المولى : أكرم عالما أو هاشميّا ، فهذا يستفاد منه أنّ المصلحة في الواقع موسّعة كما أنّه إذا قال : أكرم عالما ، فأطلق يستفاد منه التقييد والتضييق في مقام الثبوت وأنّ المصلحة خاصّة ومقيّدة بإكرام العالم فقط دون غيره. فتأمّل جيّدا حتّى تعرف أنّ الصحيح ما ذكرناه أوّلا من تبعيّة مقام الإثبات وكاشفيّتها عن مقام الثبوت ، وهذا الكلام مناف صورة لا حقيقة (*).

ثمّ إنّ الإطلاق يختلف فقد يفيد العموم البدلي ، وقد يفيد العموم الاستيعابي وإن كان متّفقا في احتياج الجميع إلى مقدّمات الحكمة ، غاية الأمر اختلافها ففي مثل «أكرم عالما» ممّا كان الأمر بنحو صرف الوجود يكون مفاد مقدّمات الحكمة الفرد

__________________

(*) لا يخفى أنّ الإطلاق إذا كان في متعلّق الحكم كما في أكرم عالما أفاد التوسعة على المكلّف والترخيص في تطبيقها على أيّ فرد من أفراد تلك الطبيعة ، بخلاف ما إذا كان في الحكم فإنّه يفيد ثبوته في كلا الفرضين فيفيد ضيقا وكلفة على المكلّف. (من إضافات بعض الدورات اللاحقة).


على البدل وهو العموم البدلي ، وفي مثل «لا تكرم فاسقا» ممّا كان النهي بنحو مطلق الوجود المقتضي للانحلال إلى كلّ فرد فرد يكون مفادها العموم الاستيعابي. والفرق بينهما قد تقدّم ذكره في أوّل باب النواهي مفصّلا فراجع. هذا تمام الكلام في مبحث المطلق والمقيّد ، ويليه الكلام في المجمل والمبيّن ، والحمد لله ربّ العالمين والصلاة على محمّد وآله الطاهرين.


في المجمل والمبيّن

المجمل لغة ما لا تتّضح دلالته على مراد المتكلّم ، والمبيّن واضح الدلالة ، فمفهومهما من المبيّنات. والظاهر أنّ معناهما في اللغة هو معناهما بحسب الاصطلاح. والمجمل قد يكون إجماله بحسب ذاته كما في اللفظ المشترك ، وقد يكون إجماله عرضيّا كما في اللفظ الذي له ظهور في نفسه إلّا أنّه محفوف بما يدلّ على عدم إرادة ظهوره من غير تعيين للمراد فقط تكون القرينة صارفة ، وقد يكون مجملا حكميّا بمعنى أنّ أحكام المجمل ترتّب عليه كما إذا قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : لا تكرم زيدا ، وتردّد زيد بين عشرة أشخاص ، فنتيجة المجمل وهو التوقّف عن إكرام هذه العشرة جار في المقام وإن علم إرادة واحد منهم.

ثمّ إنّ المراد من المجمل والمبيّن ليس المراد الواقعي ولا المراد الاستعمالي ، بل المراد الذي يكون المتكلّم في مقام بيانه مثل أكرم عشرة إلّا اثنين مبيّن وإن لم يرد من عشرة المراد الذي يكون مرادا استعماليّا.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ وصف الإجمال والتبيين وصف واقعي ثابت للألفاظ نفسها لا أنّه إضافي كما ذكره صاحب الكفاية (١) ، بل هما وصفان حقيقيّان يمكن إقامة البرهان على أحدهما ، وعدم معرفة بعض ببعض الألفاظ لا يوجب كونها مجملة ، بل هو

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٩٤.


جاهل بها ، وجهله بها لا يحقّق وصفها بالإجمال ، بل إن كانت في الواقع مجملة ، فهي مجملة وإن كانت مبيّنة فهي مبيّنة ، وليس إجمالها وبيانها منوطا بفهم زيد لها وعدمه. واختلافهم في إجمال بعض الألفاظ وبيانها لا يقتضي كونها إضافيّة ، بل هو كاختلافهم في عدالة زيد.

وبالجملة ، جهل الإنسان بمعاني بعض الألفاظ لا يقتضي إجمالها ، بل هو جاهل فلا يقال : إنّ اللغة الفرنسيّة مجملة لأنّي لا أعرف معناها ، بل هي من المبيّنات وهكذا غيرها. فتأمّل.

ثمّ إنّه قد ذكروا مفردات اختلفوا في إجمالها وبيانها مثل لفظ «الصعيد» و «الغنى» كما ذكروا بعض التركيبات كذلك مثل لا صلاة ونحوها ، ومثل (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ)(١) ممّا اضيف التحريم أو التحليل إلى الأعيان التي لا بدّ من تقدير فعل ضرورة أنّ تحريم الأعيان لا معنى له ، وكذا مثل لا صلاة إلّا بطهور في أنّ المراد من مثله نفي الصحّة أو الكمال ، والأمثلة كثيرة ولا حاجة إلى ذكرها. فكلّ ما كان له ظهور عرفي يعوّل عليه ، وما ليس له ظهور عرفي يكون مجملا تترتّب عليه أحكامه. هذا تمام الكلام في المجمل والمبيّن.

والحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّد الأوّلين والآخرين محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أعداء الدين.

قد وقع الفراغ من تسويده في الربع الأوّل من ليلة الأربعاء المصادفة ليلة السابعة والعشرين من شهر ربيع الثاني من شهور سنة الألف والثلاثمائة والثانية والسبعين من هجرة خاتم النبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله أجمعين ، على يد محرّره ومقرّره الأقلّ محمّد تقي آل الشيخ الأكبر زعيم الشيعة ومحيي الشريعة الشيخ صاحب جواهر الكلام قدّس الله روحه ونوّر ضريحه.

__________________

(١) النساء : ٢٣.


الفهرس

كلمة المجمع..................................................................... ٧

ترجمة المؤلف.................................................................. ١١

فهرست علم الاصول.......................................................... ٨٧

* مبادئ علم الأصول......................................................... ٩٣

المرحلة الأولى : في موضوع كل علم............................................. ٩٣

المرحلة الثانية : في العوارض.................................................... ٩٦

المرحلة الثالثة : في أنّ موضوع العلم هل هو العوارض الذاتية فقط؟.................. ٩٧

موضوع علم الأصول........................................................ ١٠١

تعريف علم الأصول........................................................ ١٠٢

* الكلام في الوضع.......................................................... ١٠٧

في أقسام الوضع........................................................... ١١٥

في المعنى الحرفي............................................................. ١١٨

في وضع الهيئات............................................................ ١٣١

الفرق بين الخبر والإنشاء.................................................... ١٣٦

في وضع اسم الإشارة والضمائر والموضوع له فيهما.............................. ١٣٨

في أنّ الاستعمال المجازي بالوضع أم بالطبع؟................................... ١٤٠


استعمال اللفظ في نوعه وجنسه وفصله ونفسه................................. ١٤١

في تبعيّة الدلالة للإرادة وعدمها.............................................. ١٤٤

هل للمركّبات وضع أم لا؟.................................................. ١٤٦

في الحقيقة الشرعيّة......................................................... ١٤٨

الوضع التعييني والتعيّني...................................................... ١٤٩

* في الصحيح والأعمّ........................................................ ١٥٣

في ثمرة القولين............................................................. ١٦٥

الثمرة الأولى............................................................ ١٦٦

الثمرة الثانية............................................................ ١٦٨

فصل : محلّ النزاع في الصحيح والأعم......................................... ١٧٥

الكلام في الخصوصيات الفردية............................................... ١٧٦

* مبحث الاشتراك........................................................... ١٧٩

جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى وعدمه................................. ١٨٢

* في المشتقّ................................................................. ١٨٥

الكلام في مسألة الزوجتين والصغيرة الرضيعة................................... ١٨٨

الكلام في ما ذكره صاحب الكفاية من اختلاف المبادئ......................... ١٩٢

في المراد من الحال في العنوان................................................. ١٩٤

في تأسيس الأصل في المشتقّ................................................. ١٩٦

في أدلّة الطرفين............................................................ ١٩٨

في أدلّة القول بالأعمّ....................................................... ٢٠١

تنبيهات................................................................... ٢٠٣

التنبيه الأول : مفهوم المشتق.............................................. ٢٠٣

التنبيه الثاني : في الفرق بين المشتق ومبدئه.................................. ٢٠٨


التنبيه الثالث : في ملاك الحمل............................................ ٢٠٩

التنبيه الرابع : في مغايرة المبدأ مع الذات.................................... ٢١٠

التنبيه الخامس : في اعتبار قيام المبدأ بالذات وعدمه.......................... ٢١١

التنبيه السادس : في لزوم التلبس بالمبدإ حقيقة............................... ٢١٤

* في الأوامر................................................................. ٢١٧

الجهة الأولى : فيما وضع له لفظ «أمر»...................................... ٢١٧

الجهة الثانية : في اعتبار العلوّ والاستعلاء في معنى الأمر وعدمه................... ٢١٨

الجهة الثالثة : في أنّه حقيقة في الوجوب أم لا؟................................. ٢١٩

* في مبحث الطلب والإرادة.................................................. ٢٢٠

الجهة الاولى : مفهوم الطلب والإرادة.......................................... ٢٢٠

الجهة الثانية : الكلام في مدلول الجمل الخبرية والصيغ الإنشائيّة................... ٢٢٢

الجهة الثالثة : في الكلام النفسي والطلب النفسي وعدمهما...................... ٢٢٤

الجهة الرابعة : في أنّ أفعال العباد لمن تستند؟.................................. ٢٢٧

الكلام في معنى الروايتين..................................................... ٢٤٤

الكلام في هيئة «افعل»..................................................... ٢٤٧

في الجمل الخبريّة............................................................ ٢٥٢

* في التعبديّة والتوصّلية...................................................... ٢٥٥

في التعبّدي والتوصّلي بالمعنى المعروف.......................................... ٢٦١

في الأدلّة الخارجيّة الدالّة على أصالة التعبّديّة................................... ٢٧٥

في وقوع الأمر عقيب الحظر أو توهّمه.......................................... ٢٧٨

في دلالة الأمر على المرّة أو التكرار وعدمها.................................... ٢٧٩

مبحث الفور والتراخي في صيغة الأمر.......................................... ٢٨١

في مقتضى الأصل في دوران الوجوب بين النفسيّة والتخييريّة...................... ٢٨٤


* مبحث الإجزاء............................................................ ٢٨٥

في إجزاء إتيان المأمور به اضطرارا عن الواقع وعدمه.............................. ٢٨٩

في إجزاء المأمور به الظاهري عن الواقعي وعدمه................................. ٢٩٤

المقام الأول : ما لو انكشفت المخالفة بالقطع............................... ٢٩٤

المقام الثاني : ما لو انكشفت المخالفة بالتعبد................................ ٢٩٧

في الإجزاء بناء على السببيّة وعدمه........................................... ٢٩٩

وينبغي التنبيه على امور :................................................... ٣٠٣

الأمر الأوّل............................................................. ٣٠٣

الأمر الثاني............................................................. ٣٠٤

الأمر الثالث في أدلة القول بالإجزاء........................................ ٣٠٤

الأمر الرابع............................................................. ٣٠٨

الأمر الخامس........................................................... ٣٠٩

* في مقدّمة الواجب......................................................... ٣١١

تقسيمات المقدّمة.......................................................... ٣١٣

المقدّمة الداخليّة والخارجيّة................................................. ٣١٣

في دخول الشرائط في النزاع وعدمه......................................... ٣١٦

في ذكر المقدّمة المقارنة والمتقدّمة والمتأخّرة.................................... ٣١٨

في إمكان الشرط المتأخّر واستحالته........................................ ٣٢٠

في الشرط المتأخّر للمأمور به.............................................. ٣٢٠

الكلام في شرائط الحكم التكليفي والوضعي................................. ٣٢٤

* في الوجوب المطلق والمشروط............................................... ٣٣٣

المقدّمة المفوّتة.............................................................. ٣٤٤

الكلام في التعلّم............................................................ ٣٤٩


* في المعلّق والمنجّز........................................................... ٣٥٧

* في الوجوب النفسي والغيري................................................ ٣٧١

في تقسيم الواجب إليهما وتعريفهما........................................... ٣٧١

في ما يقتضيه الأصل اللفظي من النفسية والغيرية............................... ٣٧٥

ما يقتضيه الأصل العملي.................................................... ٣٧٦

في ترتّب الثواب على الواجب الغيري وعدمه................................... ٣٨١

الإشكال في الطهارات الثلاث............................................... ٣٨٢

* تبعيّة وجوب المقدّمة لذيها.................................................. ٣٨٧

الكلام في اعتبار قصد التوصل في الوجوب وعدمه.............................. ٣٨٨

في ثمرة القول باعتبار قصد التوصل............................................ ٣٩٠

في اعتبار الوصول في وجوب المقدّمة وعدمه.................................... ٣٩٢

أدلّة القائلين بوجوب مطلق المقدّمة............................................ ٣٩٤

تحرير الكلام في ما اختاره صاحب هداية المسترشدين............................ ٣٩٩

تنبيه : ثمرة القول بوجوب المقدّمة الموصلة...................................... ٤٠٢

في الأصلي والتبعي......................................................... ٤٠٤

في ثمرة البحث في وجوب المقدّمة............................................. ٤٠٥

في تأسيس الأصل في المقام................................................... ٤١٣

أدلّة وجوب المقدّمة......................................................... ٤١٤

الكلام في أصل الوجوب وعدمه.............................................. ٤١٥

التفصيل بين السبب وغيره.................................................. ٤١٧

التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره........................................... ٤١٨

في مقدّمة الحرام............................................................ ٤١٩


* مبحث الضدّ.............................................................. ٤٢٣

في الضدّ الخاصّ............................................................ ٤٢٦

الكلام في شبهة الكعبي..................................................... ٤٣٦

الكلام في ثمرة بحث الضدّ................................................... ٤٣٧

في إحراز الملاك وكفايته وعدمهما............................................. ٤٤٢

في التزاحم والتعارض........................................................ ٤٤٧

في أحكام التعارض والتزاحم.................................................. ٤٤٨

في مرجّحات باب التزاحم................................................... ٤٥٠

في مزاحمة الحجّ لنذر ركعتين عند الحسين عليه‌السلام.................................. ٤٥٦

الكلام في فرعين :......................................................... ٤٥٨

أحدهما : جواز الإحرام قبل الميقات بالنذر.................................. ٤٥٨

ثانيهما : الصوم في السفر................................................ ٤٥٨

تنبيه : التزاحم في مقام الجعل................................................. ٤٦٤

في أقسام التزاحم :......................................................... ٤٦٥

القسم الأول من موارد الترتب : تزاحم الواجبين.............................. ٤٦٨

في إمكان الترتّب وعدمه.................................................... ٤٦٨

وينبغي التنبيه على امور :................................................... ٤٧٥

التنبيه الأول............................................................... ٤٧٥

التنبيه الثاني............................................................... ٤٧٦

التنبيه الثالث.............................................................. ٤٧٧

التنبيه الرابع............................................................... ٤٧٩

التنبيه الخامس............................................................. ٤٨٢


ومن المناسب التعرّض لامور ثلاثة :........................................... ٤٨٣

الأمر الأول................................................................ ٤٨٣

الأمر الثاني................................................................ ٤٨٣

الأمر الثالث............................................................... ٤٨٤

الكلام في جريان الترتّب في الطوليّين وعدمه................................... ٤٨٥

القسم الثاني من موارد الترتّب : ما دار الأمر بين الواجب والحرام............... ٤٨٧

القسم الثالث من أقسام التزاحم : وهو باب اجتماع الأمر والنهي.............. ٤٩٠

في أمر الآمر مع علمه بانتفاء الشرط.......................................... ٤٩٢

في أنّ الأمر متعلّق بالطبائع أو بالأفراد؟....................................... ٤٩٣

في أنّ نسخ الوجوب مقتض للجواز أم لا؟..................................... ٤٩٥

في الواجب التخييري........................................................ ٤٩٧

في الوجوب الكفائي وتصويره................................................ ٥٠٢

في الواجب الموسّع والمضيّق................................................... ٥٠٥

في الأمر بالأمر بالشيء..................................................... ٥٠٩

في الأمر بعد الأمر......................................................... ٥١٠

* النواهي ومفاد النهي....................................................... ٥١١

* مبحث اجتماع الأمر والنهي................................................ ٥١٧

أدلّة القائلين بالامتناع والجواز................................................ ٥٣١

فيما لو اضطرّ إلى المجمع.................................................... ٥٤٨

الاضطرار بسوء الاختيار.................................................... ٥٥٣

الكلام في امور............................................................. ٥٦١


* في أنّ النهي يقتضي الفساد أم لا؟........................................... ٥٦٦

الكلام في العبادات......................................................... ٥٧٨

الكلام في المعاملات........................................................ ٥٧٩

* فصل في المفاهيم........................................................... ٥٨٥

الكلام في مفهوم الشرط..................................................... ٥٨٦

فصل في مفهوم الوصف..................................................... ٦٠٦

في مفهوم الغاية............................................................ ٦١٠

في مفهوم الحصر........................................................... ٦١٢

* في العموم والخصوص....................................................... ٦١٧

في صيغ العموم............................................................ ٦١٩

في العامّ المخصّص.......................................................... ٦٢١

الصلاة في اللباس المشكوك.................................................. ٦٣٩

في المخصّص اللبّي.......................................................... ٦٤١

الكلام فيما إذا شك في فرد من غير جهة التخصيص........................... ٦٤٤

الكلام في عدم جواز العمل بالعموم قبل الفحص عن المخصّص.................. ٦٤٨

في الخطابات الشفاهيّة...................................................... ٦٥٦

في العامّ المتعقّب بضمير خاصّ............................................... ٦٥٩

في تخصيص العموم بمفهوم الموافقة والمخالفة.................................... ٦٦١

في تعقّب العمومات بالاستثناء............................................... ٦٦٦

في تخصيص الكتاب بخبر الواحد............................................. ٦٧٠

في دوران الأمر بين التخصيص والنسخ........................................ ٦٧٤

في النسخ والبداء وإمكانهما واستحالتهما...................................... ٦٨٠

في النسخ............................................................... ٦٨٠

في البداء............................................................... ٦٨١


* في المطلق والمقيّد........................................................... ٦٨٩

اسم الجنس................................................................ ٦٨٩

علم الجنس................................................................ ٦٩١

المفرد المعرف باللام......................................................... ٦٩٢

النكرة.................................................................... ٦٩٣

تقييد المطلق هل يستلزم المجاز أم لا؟.......................................... ٦٩٤

مقدّمات الحكمة........................................................... ٦٩٥

في حمل المطلق على المقيّد.................................................... ٧٠٠

تنبيه...................................................................... ٧٠٧

* في المجمل والمبيّن........................................................... ٧٠٩

الفهرس..................................................................... ٧١١

غاية المامول - ١

المؤلف:
الصفحات: 719