المقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :

إن نبوة نبينا محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» حقيقة ثابتة فى أنفسنا نحن المسلمين ، الإيمان بها نفس يتردد فينا ، فهل لنا أن نقيم الدلائل على صحة أنفاسنا المترددة بين جوانحنا؟!

لقد شغلت نبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» كثيرا من الفلاسفة والمؤرخين ، مسلمين ، وغير مسلمين : مستشرقين ومنصرين.

أما المسلمون : فلأنهم معنيون برسولهم ، وأما غيرهم ، فالبعض تناول نبوته وسيرته بشيء من الإنصاف ، أما البعض الآخر فلم يستطع مجاوزة نطاق التعصب لمعتقده وظل حبيس هذه الدائرة غير المحمودة فى معايير المنهج العلمى ..

لم يستطع الحياد فى الحكم والنزاهة في القصد والتجرد من الهوى ، أى لم تقم أحكامه على العقل مبرأ من الهوى وأحكام العقل معايير صحيحة إذا ما آزرتها الفطرة وصاحبها الإنصاف.

والاستشراق فلسفة غربية متعددة الأهداف ، ومن أبرز أهدافها النيل من الإسلام ونبى الإسلام ، فلقد حاولوا ـ إلا القليل منهم ـ ، تحليل نصوص القرآن الكريم ، وكذلك تحليل نصوص الأدب العربى الجاهلى علهم يجدوا امتداد الأول عند الأخير ، فأخفقت المحاولة ، لجأ بعض المستشرقين إلى إثارة شبهة التأثر والأخذ من التوراة والإنجيل ، فباءت محاولتهم ـ أيضا ـ بالفشل ، كما سيتضح لنا من خلال بحثنا هذا.

فى العصر الحالى ظهرت محاولة ـ مغفلة بالعلمية والمنهجية ـ إرجاع القرآن إلى عامل باطنى ، داخلى ، فليس ثمة وحى من خارج النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» المتلقى ، وإنما انبعاث من داخل النبى ، أى حديث نفسه وتوقد ذهنه ، أو كما تصور «مونتجمرى واط» حين أرجع نبوة محمد ـ دون نبوة غيره من الأنبياء ـ إلى التصور الخلاق أو التصور الخالق ، فالوحى إلى نبينا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» لا يعدو نوعا من النشاط الذهنى المتوقد ، كما هو الحال عند بعض الموهوبين.

هكذا كان الإسلام بالنسبة لهم من عمل الشيطان ، والمسلمون ليسوا سوى نوع من المتوحشين ، فقد كانوا يقولون : «فى العالم فئتان : نحن والبرابرة ... والبرابرة في نظرنا ، أو الشرق ، هو كل أسيا وإفريقيا ... أى أننا نضع في مكان


واحد المسلمين والبوذيين والهندوس والوثنيين» (١).

وفي عصرنا الحالى تغيرت العبارة وأصبحت أقل فظاظة ولكنها ما تزال أقل وضوحا. وأما معناها فهو هو.

خلاصة القول : إن ألوان التحامل القديم قد تضاءلت منذ فجر هذا القرن إلا أنها ما زالت تعيش قوية ، وما زالت فئة المستشرقين تعمل على نشرها في الغرب وفي الشرق على السواء. فهناك من الشواهد ما يدل على أن الرصيد المختزن من مشاعر العداوة للإسلام قد اتسع وامتد من هذه الشواهد حرب الإبادة التى يمارسها الصرب والكروات ـ ومن خلفهم أوربا كلها ـ ضد مسلمى البوسنة والهرسك.

فضلا عن تطور أساليب ومناهج الاستشراق عما كانت عليه في الماضى ، فبعد أن كان هجومه على الإسلام ونبى الإسلام مباشرا ، وجارحا لمشاعر المسلمين ، أصبحت كتاباتهم وأهدافهم مغلفة بالمكر والدهاء ، وحتى اختلط أمر ـ الاستشراق ـ على الكثير من المسلمين فلم يعد يميز بين المادح منهم من القادح ، فضلا عن أن بعض كتابات الإسلاميين جاءت دون التوثيق العلمى مما أفقدها قوتها وتأثيرها.

لذلك رأيت أن أنهض ـ مع الناهضين ـ كاشفا عن أحدث شبهات الفلسفة الاستشراقية حول الوحى القرآنى ، محللين لها ومفندين في ضوء العقل والنقل.

وبحثنا هذا يعد محاولة للانفتاح على فلاسفة الاستشراق وما يكتبونه عنا ، فالخطوة الأولى لمقاومة أى فكر منحرف أو معاد هى التعرف الدقيق عليه وسبر أغواره وجمع المعلومات الشاملة عنه وتحليل تلك المعلومات ونقدها بدقة وأمانة ، ومعرفة الأطوار التى مر بها والمنطلقات التى انطلق منها والأهداف التى يسعى إليها ، ثم يأتى بعد ذلك : التحليل والتفنيد في إطار منهج علمى واضح.

ولكى يتسنى لنا تطبيق هذا المنهج تناولنا في فصل تمهيدى : فلسفة الاستشراق ، من حيث المفهوم والأهداف والمنهج ، وتناول الفصل الثانى خصائص الوحى الإلهى إلى أنبياء الله جل وعلا ، مبينا تناقض بعض المستشرقين حين يثبتون الوحى إلى موسى وعيسى وينكرونه إلى محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» رغم وحدة الصفات والخصائص ، ثم عرض للوحى إلى نبينا محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» : بداياته ومظاهره.

__________________

١ ـ جان بول رو : الإسلام في الغرب ، تعريب : نجدة هاجر ص ٧ بيروت لبنان ١٩٦٠ م.


وفي مجال تعرية المنهجية الاستشراقية تساءل الفصل الثالث عن دلالة المعجزات على النبوات ، بمعنى : إذا تحققت المعجزة على يد مدعى النبوة فهل ينهض هذا دليلا على أنه مبعوث يوحى إليه؟

فإذا دلت المعجزة على نبوة موسى وعيسى فكيف لا تدل على نبوة محمد وله من المعجزات ما لموسى وعيسى بل له ما هو أزيد وأوضح وأدوم؟

جاء الفصل الرابع ليقيم الأدلة والبراهين على نبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

أما أوجه التشابه ، بل التطابق بين الوحى الإلهى إلى موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام فلا مرية فيه وإذا كان الدين واحدا لأنه صادر من مشكاة واحدة ، وإذا كانت صفات الوحى إلى محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» هى نفسها إلى موسى وعيسى عليهما‌السلام ، فما ذا يريد فلاسفة الاستشراق؟

إن الادعاء سهل ، ولا سيما مع الضّغن. وعند ما نتهم المستشرقين بالبعد عن الموضوعية فلأن كثيرا من دراساتهم للإسلام. ونبى الإسلام جاءت من خلال دراساتهم للإنجيل أو اللاهوت ، بل الواقع أن من هؤلاء المستشرقين من ينتظم باستمرار في سلك هيئات دينية وكنسية. فضلا عن وقوعهم في التميز المقصود إلى درجة سوء النية الإرادية والأهداف غير المعلنة (١).

ونحن لا نريد من المستشرق أن يكون مسلما ـ إلا إذا انتهت به أبحاثه ودراساته إلى ذلك ـ يعتقد ما يعتقده المسلم ، ولكننا نقول : ليس من الصعب ـ بل هو من المنهج العلمى ـ أن يضع المستشرق مفهوم المسلم لدينه في تعبير المسلم واصطلاحه ، وهو حين يفعل ذلك لن يكون أكثر اقترابا من المنهج العلمى الموضوعى فحسب ، ولكنه سيجعل نفسه في مركز أفضل لكى يدرك مكان نبوغ الإسلام بين أحداث التاريخ.

هذه مناقشة صريحة لشبهات بعض فلاسفة الاستشراق تناولها الفصل الخامس بمباحثه الخمسة.

وأخيرا لعل هذ البحث يكشف عن أهم أهداف فلسفة الاستشراق ، وهى «إبعاد سلطان الدين عن النفوس» (٢) أما الوسيلة الفعالة إلى ذلك فهى التعليم حيث يقول «جب» : «والتعليم أكبر العوامل الصحيحة التى تعمل على

__________________

١ ـ د. حسن حنفى : مقدمة في علم الاستغراب ص ٣٢ الدار الفنية بمصر ١٤١١ ه‍ ١٩٩١ م.

٢ ـ ه. أ. جب : وجهة الإسلام ترجمة د. محمد عبد الهادى أبو ريدة ص ٢١٤ الطبعة الأولى القاهرة


الاستغراب» (١) «الخالصة لهذه الحركة التعليمية أنها حررت ـ بقدر ما كان لها من تأثير ـ نزعة الشعوب الإسلامية من سلطان الدين دون أن تحس الشعوب بذلك غالبا وهذا هو وحده تقريبا جوهر كل نزعة غربية فعالة في العالم الإسلامى» (٢).

الاستشراق حركة فكرية غير محايدة غلبت عليها مناهج تعبر عن بنية الوعى الأوروبى التى تكونت عبر حضارته الحديثة مثل المناهج التاريخية ، والتحليلية ، والإسقاطية ، والأثر والتأثر (٣).

فهل يمكننا القيام بعمل يعبر عن قدرة الأنا باعتبارها شعورا محايدا؟ هذا ما أرجوه من الله جل وعلا أن يكون عملى هذا لبنة في العمل الكبير المرجو.

وأصلى وأسلم على نبينا محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

__________________

١ ـ ا. جب السابق ص ٢١٤ ، ٢١٧

٢ ـ جب السابق ص ٢١٤ ، ٢١٧

٣ ـ د حسن حنفى السابق ص ٣١



الفصل الأول

مباحث تمهيدية

الاستشراق

المفهوم ـ الأهداف ـ المنهج.



مفهوم الاستشراق

قلنا إن دراساتنا تتناول الوحى إلى نبينا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» وموقف المستشرقين منه ، لذلك سنقتصر هنا على مجرد إشارات إلى مفهوم الاستشراق «ORIENTALISM».

الاستشراق هو الوجه الآخر والمقابل ، بل والنقيض من الاستغراب ، أو هو رؤية الأنا الشرق) من خلال الآخر (الغرب) (١).

وذهب المستشرق الألمانى (بارت) إلى أن «كلمة استشراق مشتقة من كلمة شرق (٢) وكلمة شرق تعنى مشرق الشمس وعلى هذا يكون الاستشراق هو علم الشرق أو علم عالم (الشرق)».

ويرى بارت أن لفظة الشرق تختلف باختلاف الموقع الجغرافى ، وينتهى إلى «أن المفروض أن اسم الاستشراق يختص بالبلدان الشرقية دون غيرها ، ومهما يكن من أمر فإن الاسم لا يبين بوضوح مستقيم المقصود منه بالضبط ، والمهم هو الموضوع ذاته (٣).

وذهب صاحبا (المفصل في تاريخ الأدب العربى) إلى أن المستشرق هو «كل من تجرد من أهل الغرب لدراسة بعض اللغات الشرقية ، وتقصى آدابها طلبا لتعرف شأن أمة أو أمم شرقية من حيث أخلاقها وعاداتها وتاريخها ودياناتها أو علومها وآدابها ، أو غير ذلك من مقومات الأمم. والأصل في كلمة (استشرق) أنه صار شرقيا أنه كما يقال (استعرب) إذا صار عربيا (٤).

لا يمكننا الموافقة على أن الباحث الغربى بعد البحث في علوم الشرق يصير شرقيا. يقول صاحب (مقدمة في علم الاستغراب) : الاستشراق «هو دراسة الحضارة الإسلامية من باحثين ينتمون إلى حضارة أخرى ولهم بناء شعورى مخالف لبناء الحضارة التى يدرسونها» (٥) ، فالمستشرق لا ينسى أبدا لغته وثقافته وبيئته التى فيها نشأ وتربى. يقول الدكتور أحمد الشرباصى : إن المستشرقين «قوم من أوربا نسبوا أنفسهم

__________________

١ ـ د. حسن حنفى : مقدمة في علم الاستغراب ص ٢٩ لدار الفنية القاهرة ١٩٩١ م.

٢ ـ يعنى الاستشراق لغة طلب علوم الشرق ، لأن الالف والسين والتاء إذا دخلت على فعل فإنها تعنى الطلب.

٣ ـ رودى بارت : الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية ترجمة د. مصطفى ماهر. ص ١١. ١٢ دار الكتاب العربى القاهرة. ١٩٦٧ م. وانظر أيضا : د. ميشال جحا : الدراسات العربية والإسلامية في أوربا ص ١٥ مون الإنمار العربى ط أول بيروت ١٩٨٢ م.

٤ ـ أحمد الاسكندرى ، أحمد أمين : المفصل في تاريخ الأدب العربى ٢٠ / ٤٠٨. القاهرة ١٩٣٤ م.

٥ ـ د. حسن حنفى : السابق ص ٣١


إلى العلم والبحث وشغلوها في أغلب الأحيان بالبحث في التاريخ والدين والاجتماع ولكل منهم لغته الأصلية التى رضع لبانها من أمه وأبيه ومجتمعه وبيئته ، فصارت له اللغة الأم كما يعبرون ، فهو يغار عليها ويتأثر بها ، ويستجيب لموحياتها ، ولكنه مع ذلك تعلم اللغة العربية بجوار لغته الأصلية» (١).

البيئة والثقافة واللغة إذن في وعى المستشرق ، تعمل عملها وهو يتعامل مع الغير ، بمعنى آخر : الاستشراق مرتبط بحضارته يقول فالزرWalzer «حركة الاستشراق كانت تسير جنبا إلى جنب مع التحولات والتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التى سادت العصور التى عاش فيها أولئك المستشرقون فلا يمكن أن نفصل بين ما شهدته من ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية وبين ما أنتجه أولئك المستشرقون من دراسات ..» (٢) فالاستشراق مرتبط بأيدلوجية الغرب الساعية إلى السيطرة والهيمنة على الغير ، فالاستشراق «يتضمن الموقف التنفيذى السلطوى للاستعمار الأوربى» (٣) كما أنه منهج غربى في رؤية الأشياء ، أو كما يقول إدوارد سعيد : هو «أسلوب من الفكر قائم على تمييز وجودى (Antalogy) ومعرفى (Epstalogy) بين الشرق والغرب»

ويعرف الهراوى الاستشراق بأنه «مهنة ، وحرفة ، كالطب والهندسة ، والمحاماة ، وهو أقرب الشبه إلى مهنة التبشير ، ولا يخفى ... أن التاريخ الإسلامي ينقسم إلى قسمين : القسم الأول منه : هو الإسلام من حيث هو دين ، وعناصره : القرآن والحديث ، وحياة سيدنا محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» والقسم الثانى منه : تاريخ الدولة العربية ـ الأحرى أن تكون الدولة الإسلامية ـ التى نشأت وعاشت في الإسلام ، وهذا القسم قد خدمه المستشرقون لأنه نوع من المباحث التاريخية الحرة ، أما القسم الأول منه فهو بيت القصيد ، ولا يتصدى له كل المستشرقين ، والذين يتصدون له ترى كلامهم مملوءا بالتشكيك والاستنتاج الخاطئ واللمز ، إن لم يكيلوا التهم جزافا ، ويرموا الدين الإسلامى بما شاءت عقائدهم الخاصة وفائدتهم المادية» (٤).

__________________

١ ـ د. أحمد الشرباص : التصوف عند المستشرقين ص ٦

(٢) ـ. ٤١.GeuthnerParisp ؛ R.Walzer ـ L.EveilDelaphl osaphieIslamique مصطفى نصر السلامونى : الاستشراق السياسى طرابلس. ليبيا ١٣٩٦ ه‍ ـ ١٩٨٦ م.

٣ ـ إدوارد سعيد : الاستشراق ص ٣٨.

٤ ـ حسين الهراوى : نحن والمستشرقون (مجلة المعرفة ١٩٣٢ م) وكلام الهراوى فضلا عن التعريف يتناول بعض أهداف وأعمال المستشرقين ، غير أن الذى تصدى ـ منهم ـ لدراسة الدولة الإسلامية تجنى الكثير منهم على الدولة الأموية وعلى مؤسسها معاوية بن أبى سفيان وهو كاتب الوحى ، والطعن فيه مقصور لما بعده ، والذين عالجوا الدولة العباسية ، اعتمدوا بالدرجة


أما صاحب كتاب «الاستشراق» فيضع مفهوما آخر للاستشراق من واقع الاستشراق ، فينظر إليه نظرة شمولية فالاستشراق «ليس مجرد موضوع أو ميدان سياسى ينعكس بصورة سلبية في الثقافة ، والبحث ، والمؤسسات ، كما أنه ليس مجموعة كبيرة ومنتشرة من النصوص حول الشرق ، كما أنه ليس معبرا عنه ، وممثلا لمؤامرة إمبريالية غربية شنيعة لإبقاء العالم الشرقى حيث هو. بل إنه بالحرى ، توزيع للوعى الجغراسى (أى الجغرافى السياسى) إلى نصوص جمالية ، وبحثية واقتصادية ، واجتماعية ، وتاريخية ، وفقه لغة ، وهو إحكام لا لتمييز جغرافى أساسى وحسب (العالم يتألف من نصفين غير متساويين ، الشرق والغرب) بل كذلك لسلسلة كاملة من المصالح التى لا يقوم الاستشراق بخلقها فقط ، بل بالمحافظة عليها أيضا بوسائل كالاكتشاف البحثى ، والاستبناء فقه اللغة ، والتحليل النفسى والوصف الطبيعى والاجتماعى ، وهو إرادة ، بدلا من كونه تعبيرا عن إرادة ، معينة أو نية معينة لفهم ما هو بوضوح ، عالم (أو بديل طارئ) والسيطرة عليه أحيانا ، والتلاعب به ، بل حتى ضمه ، وهو قبل كل شىء إنشاء ليس على الإطلاق على علاقة تطابقية مباشرة مع القوة السياسية في شكلها الخام ، بل إنه لينتج ويوجد في تفاعل غير متكافئ مع مختلف أنماط القوة مكتسبا شكله إلى حد ما من تفاعله مع القوة السياسية ، كما هى الحال في تفاعله كمؤسسة استعمارية أو إمبريالية ، والقوة الفكرية ، كما هى الحال مع علوم تحتل مركز الصدارة مثل الألسنية المقارنة ، وعلم التشريح المقارن ، أو أى من علوم السياسة الحديثة ، والقوة الثقافية : كما هى الحال مع المذاهب السنية الأرثوذكسية ، وشرائع الذوق والنصوص والقيم ، والقوة الأخلاقية : كما هى الحال مع أفكار تدور حول ما نفعله «نحن» ، وما يعجزون «هم» عن فعله أو فهمه ، كما نفعله «نحن» ، وبالفعل ، فإن منظومتى الحقيقة هى أن الاستشراق لا يمثل ببساطة بعدا هاما من أبعاد الثقافة السياسية ـ الفكرية الحديثة ، بل إنه هو هذا البعد ، وهو بهذه الصورة أقل ارتباطا بالشرق منه بعالمنا نحن ...» (١).

الاستشراق ـ إذا ـ ليس محصورا في الجوانب الأكاديمية في جامعات الغرب ، أو في جوانب الفكر والأدب والشعر. والاستشراق لا يمثل إرادة المستعمر بل هو هذه الإرادة ، ولما كان الفكر يسبق العمل ، كان النظر إلى الاستشراق بمعزل عن السياسة ،

__________________

ـ الأولى على كتاب الأغانى للأصفهانى ، فشوهوا تاريخنا من خلاله ، فهارون الرشيد الذى كان يحج عاما ويجاهد عاما والذى شهدت بلاد الإسلام نهضة علمية رائعة في عصره صوروه زير نساء (!) فأى خدمة تلك التى قدمها المستشرقون؟.

١ ـ إدوارد سعيد : الاستشراق ص ٤٦ ـ ٤٧.


أقصد بمعزل عن قوى الاستعمار يعد خطا كبيرا.

المستشرق ـ إذا ـ ينتمى إلى الغرب ، ولو كان يابانيا أو هنديا أو إندونيسيا لما استحق أن يوصف بالمستشرق لأنه شرقى بحكم مولده وبيئته وحضارته ... وليس من الضرورى أن يرحل المستشرق ـ فيما يقول الدكتور الخربوطلى ـ إلى الشرق ليعيش فيه أو ليتطبع بطباعه أو حضارته ، فقد يقوم بدراسته في جامعته الغربية أو في وطنه ، وإن كان رحيله إلى الشرق يجعل دراسته أكثر فائدة وأقرب إلى الواقعية ، وليس من الضرورى أن يعتنق هذا المستشرق الإسلام أو أحد الأديان السائدة في الشرق ، كما أنه ليس من الضرورى أيضا أن يتحدث باللغات الشرقية ، وإن كان الإلمام بها أو إجادتها يعينه كثيرا في دراسته وأبحاثه (١).

غير أننا نتساءل : كيف يتسنى لباحث جاد ، غير عربى ـ أى غير شرقى ـ أن يدرس الإسلام : سواء أكانت العقيدة أو الشريعة أو التاريخ ... كيف يتسنى له ذلك إذا لم يكن يجيد العربية؟ كيف يتسنى له دراسة القرآن وهو يجهل لغة القرآن؟ من هنا شدد البعض على ضرورة إتقان المستشرق لغة القوم الذين يقوم بدراستهم ، فليس «صاحب علم الشرق الجدير بهذا اللقب بالذى يقتصر على معرفة بعض اللغات المجهولة أو أن يستطيع أن يصف عادات بعض الشعوب ، بل إنه من جمع بين الانقطاع إلى درس بعض أنحاء الشرق ، وبين الوقوف على القوى الروحية الأدبية الكبيرة التى أثرت على تكوين الثقافة الإنسانية (٢).

وأخيرا ، فإن السؤال الذى يتبادر إلى الذهن : ما معنى أن يوجد في بلادنا أناس من بنى جلدتنا ، ولكنهم يحملون فكر المستشرقين ، يرددون ما يقولون ، ويدعون إلى ما يدعون؟

هل هو الشعور بالنقص أمام زحف الحضارة الغربية وعجز العالم الإسلامى وانهياره من جراء صدمة عنيفة أحدثها الانقلاب في موازين القوى فأصبح المتقدم متخلفا والعكس؟

يقول المفكر مالك بن نبى : «.. ولقد أحدثت هذه الصدمة عند قبيل من المثقفين المسلمين شبه شلل في جهاز حصانتهم الثقافية ، حتى أدى بهم مركب النقص إلى أن ولّوا مدبرين أمام الزحف الثقافى الغربى ، وألقوا أسلحتهم في الميدان كأنهم فلول

__________________

١ ـ د. على الخربوطلى : المستشرقون والتاريخ ص ٢٢ الهيئة المصرية العامة للكتاب بمصر ١٩٨٨ م.

٢ ـ ميخائيل أنجلو جويدى : علم الشرق وتاريخ الأديان ص ١١ ، ١٤ مجلة الزهراء. عدد ربيع الأول ١٣٤٧ ه‍ القاهرة.


جيش منهزم في اللحظة التى بدأ فيها الصراع الفكرى يحتدم بين المجتمع الإسلامى والغرب ، فأصبح هذا القبيل من المثقفين يبحث عن نجاته في التزيى بالزى الغربى ، وينتحل في أذواقه وسلوكه» (١).

هل هذا من تخطيط الاستشراق كقوة مفكرة ، قائدة لقوى الاستعمار ، بحيث يأتى التفجير ـ فيما يظنون ـ من داخلنا؟ هل خلق تلاميذ للاستشراق من أهل الشرق ـ أعنى الشرق الإسلامى ـ يعد طورا من أطوار الاستشراق ذاته ، طالما أنهم يحققون أهدافه؟

وسواء حسنت نية التلاميذ أو كانت سيئة ، فما زال «المستشرقون يجدون من يفتح لهم أذرعتهم من الباحثين الذين هم امتداد الاستشراق في بلادهم ، والذين وقعوا ضحية مناهجهم والذين لم يبلغوا بعد درجة الوعى القومى ، والذين ما زالوا يسلكون (بعقدة الخواجة) أو الذين تربطهم بالاستشراق الغربى مصالح مشتركة من مناصب أو درجات أو دعوات أو مؤتمرات» (٢).

وطالما أن هؤلاء امتداد للاستشراق ألا يعدون مستشرقين حتى وإن كانوا عربا أو شرقيين؟

لقد اعتبر نجيب العفيفى ـ وهو شرقى / عربى ـ نفسه مستشرقا ، فيقول في كتابه «المستشرقون» : «.. إننا في دراستنا لا نسعى إلى نوايا جانبية غير صافية ، بل نسعى إلى البحث عن الحقيقة الخالصة» (٣) فهو ينسب نفسه للمستشرقين ، فضلا عن أنه يتكلم عن المدرسة المارونية ضمن مدارس الاستشراق ، ويجعل نفسه واحدا من رجالها (٤).

وإذا كان الاستشراق يمثل خطرا على الإسلام ، فلقد ظهر «علماء مسلمون فى الشرق والغرب هم أعظم خطرا من المستشرقين إذا ما عد هؤلاء من تلاميذ المستشرقين» (٥).

ننتهى من هذه الإشارات إلى أن الاستشراق قوة : سياسية وعقائدية ، واجتماعية ،

__________________

١ ـ مالك بن نبى : إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامى الحديث ص ١٣ ـ ١٤ مكتبة عمارة. القاهرة.

٢ ـ د. حسن حنفى : التراث والتجديد ص ٩٣ مكتبة الجديد

٣ ـ نجيب العفيفى : المستشرقون ج ٣ ص ٥٩٨

(٤)؟ ـ د. عبد العظيم الديب : المستشرقون والتراث ص ١٠ الهامش مكتبة ابن تيمية / البحرين ١٤٠٦ ه‍ ـ ١٩٨٦ م.

٥ ـ د. على بن إبراهيم النملة : كنه الاستشراق .. ص ٢٩ الكتاب الدورى لقسم الاستشراق كلية الدعوة بالمدينة المنورة ١٤١٢ ه‍.


وعسكرية ، وثقافية ، وعلمية ، ونفسية ، وتخيلية ، .. فهل بذلك يمكننا أن نكتنه الاستشراق؟ وإذا كان ذلك كذلك فهل يمكننا التعامل مع الاستشراق بالروية والموضوعية والنفس الطويل؟

يمكننا ذلك إذا صلحت النيات ، وغيرنا ما بأنفسنا (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد : ١١].


اهداف الاستشراق

تتداخل أهداف الاستشراق ، بحيث لا يستطيع الباحث ـ بسهولة ـ وضع خطوط أو فواصل بينها ، فالهدف الدينى والهدف العلمى ، والهدف السياسى أو الاستعمارى ، ... هذه الأهداف جميعها حاضرة في التخطيط الاستشراقى بحيث تؤدى جميعها في نهاية المطاف إلى تحقيق هدف وحيد هو ـ فيما نرى ـ قهر الإسلام وأهله وإعلاء المسيحية وسيادتها.

يقول المستشرق الإنجليزى ه. أ. جب محددا الهدف النهائى للاستشراق «كانت النتيجة الخالصة لهذه الحركة التعليمية أنها حررت ـ بقدر ما كان لها من تأثير ـ نزعة الشعوب الإسلامية من سلطان الدين دون أن تحس الشعوب بذلك غالبا ، وهذا وحده تقريبا هو جوهر كل نزعة غربية فعّالة في العالم الإسلامي» (١).

الهدف النهائى للاستشراق إبعاد سلطان الدين عن نفوس المسلمين بأى وسيلة ، عن طريق التعليم ـ أو غيره ـ فالتعليم «أكبر العوامل الصحيحة التى تعمل على الاستغراب». رغم هذا التداخل فإننا سنحاول تناول أهداف الاستشراق ، وسنقتصر هنا على ثلاثة منها :

أولا : الهدف الدينى :

الهدف الدينى للاستشراق من الأهداف الواضحة فقد صاحب الاستشراق طوال مراحل تطوره يقول الدكتور إدوارد سعيد : «إن الاستشراق السامى والاستشراق الإسلامى لم يكونا قد حررا نفسيهما ، إلا إلى درجة ضئيلة جدا ، من إسار الخلفيّة الدينية التى اشتق منها أصلا» (٢).

صاحب كتاب «الاستشراق» يشير إلى بدايات الاستشراق الكنسية ، كالذى جاء في الخطاب الموجه إلى مؤسس كرسى اللغة العربية في جامعة كمبردج والمؤرخ فى ٩ مارس من سنة ١٦٣٦ م : «ونحن ندرك أننا لا نهدف من هذا العمل إلى الاقتراب من الأدب الجيد بإلقاء الضوء على المعرفة وهى ما تزال بعد محتبسة في نطاق هذه اللغة التى نسعى لتعلمها ، ولكننا نهدف أيضا إلى تقديم خدمة نافعة إلى الملك والدولة عن طريق تجارتنا مع الأقطار الشرقية ، وإلى تمجيد الله بتوسيع حدود الكنيسة والدعوة إلى الديانة النصرانية بين هؤلاء الذين يعيشون الآن في الظلمات» (٣).

__________________

١ ـ جب : وجهة الإسلام ص ٢١٧ ، ٢١٤ ترجمة د. محمد عبد الهادى أبو ريدة المطبعة الإسلامية بمصر. الطبعة الأولى.

٢ ـ إدوارد سعيد : الاستشراق ص ٢٦٥ ترجمة كمال ابو ديب مؤسسة الأبحاث العلمية.

٣ ـ د. عبد اللطيف الطيباوى : المستشرقون الناطقون بالإنجليزية ص (٢١ ، ٢٢) ترجمة د. قاسم السامرائى. مطبوعات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ١٤١١ ه‍ ـ ١٩٩١ م.


ومهما قيل عن أهداف تعلم العربية وإنشاء كرسى لها ، فإن الهدف التنصيرى واضح ، «فهذا أول جالس على كرسى اللغة العربية في جامعة كمبردج قد أعد مشروعا لم يكتمل تنفيذه قط لتفنيد القرآن» (١).

وبداية أخرى ـ سبقت إنشاء كرسى اللغة العربية في جامعة كمبردج ـ على يد الراهب «بطرس المبجل» (١٠٩٢ ـ ١١٥٦) رئيس ديركلونى الشهير ، فقد استقر رأيه على ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة اللاتينية بغية فهمه أولا ثم الرد عليه ثانيا.

هدف هذا الراهب من وراء ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة اللاتينية هو هداية المسلمين ـ فيما يظن ـ إلى الديانة النصرانية ـ وهذا هدف تبشيرى بالدرجة الأولى ، استخدم المبشرون فيه العلم لرد المسلمين عن دينهم (٢).

يقول الدكتور محمد البهى : «.. والسبب الرئيسى المباشر الذى دعا الأوربيين إلى الاستشراق ، هو سبب دينى في الدرجة الأولى .. فقد تركت الحرب الصليبية فى نفوس الأوربيين ما تركت من آثار مرة عميقة ، وقد تركزت أهداف الاستشراق ـ مع تنوعها أخيرا ـ فى خلق التخاذل الروحى ، وإيجاد شعور بالنقص في نفوس المسلمين والشرقيين عامة ، وحملهم من هذا الطريق على الرضا والخضوع للتوجيهات الغربية» (٣).

والهدف الدينى للاستشراق ـ أو قل للتنصير ـ سار في اتجاهين متعاكسين ، اتجاه الشمال ، واتجاه الجنوب ، اتجاه إلى العقل الأوربى المسيحى وآخر إلى العقل المسلم اتجه إلى الأول ليحول بينه وبين الإسلام بتشويهه وحجب محاسنه ، واتجه إلى الثانى بغرض التشكيك في العقيدة الإسلامية وزعزعة ثقته في نبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، فقد ظهرت في القرن الحادى عشر الميلادى كتب تناولت الإسلام ، قد حفلت بالاتهامات والشتائم ، وكلها تتصف بالتهور والافتراءات الغريبة التى لا تدل على تفكير سليم ، ولم تبذل محاولة جدية لفهم الإسلام أو دراسة حياة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٤).

من أجل هذا كانت ترجمة القرآن الكريم ، وإنشاء المدارس والمعاهد لتعليم العربية وكل ما يتعلق بالدين الإسلامى ، بغرض الجدل ومحاولة الإفحام.

__________________

١ ـ د. عبد اللطيف الطيباوى : المستشرقون الناطقون بالإنجليزية ص (٢١ ، ٢٢) ترجمة د. قاسم السامرائى. مطبوعات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ١٤١١ ه‍ ـ ١٩٩١ م.

٢ ـ دكتور : ساسى سالم الحاج : الظاهرة الاستشراقية ج ١ ص ٤٣ ـ ٤٤ (مالطا) ط أولى ١٩٩١ م.

٣ ـ د. محمد البهى : الفكر الإسلامى الحديث وصلته بالاستعمار الغربى ص ٤٣. مكتبة وهبة القاهرة. الطبعة العاشرة وأيضا : مصطفى خالدى ، وعمر فروخ : التبشير والاستعمار ص ٢٤ ، ٢٥ بيروت ١٩٨٢ م.

٤ ـ د. على حسنى الخربوطلى : المستشرقون والتاريخ الإسلامى ص ٥٦ ، ٥٧ الهيئة المصرية للكتاب بالقاهرة ١٩٨٨.


الهدف الدينى وراء نشأة الاستشراق حتى اليوم «فحين نسأل التاريخ عن حركة الاستشراق والتبشير كيف نشأت؟ يلقانا جوابه الصريح بأنها قامت أول ما قامت فى رعاية الكنيسة الكاثوليكية للإشراف المباشر من كبار أحبارها» (١).

أما عن المستشرقين اليهود ، فقد لاحظ بعض الباحثين ـ فيما يقول الدكتور محمد البهى ـ أنهم أقبلوا على الاستشراق لأسباب دينية : هى محاولة إضعاف الإسلام والتشكيك في قيمة بإثبات فضل اليهودية على الإسلام بادعاء أن اليهودية فى نظرهم هى مصدر الإسلام الأول ، والأسباب سياسية تتصل بخدمة الصهيونية : فكرة أولا ثم دولة ثانيا.

يقول الدكتور البهى : هذه وجهة نظر ربما لا تجد مرجعا مكتوبا يؤيدها غير أن الظروف العامة ، والظواهر المترادفة في كتابات هؤلاء المستشرقين تعزز وجهة النظر هذه ، وتخلع عليها بعض خصائص الاستنتاج العلمى (٢).

ويمكننا تلخيص غايات الهدف الدينى في نقاط :

١ ـ زعزعة إيمان المسلمين بقرآنهم ونبيهم «صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

٢ ـ تشكيك المسلمين في الشريعة الإسلامية وعجزها ـ فى زعمهم ـ عن مسايرة التطور ، فالدراسات الاستشراقية الحديثة تحاول «التركيز على أهمية القوانين الوضعية وتطبيقها على المسلمين بدلا من شريعة القرآن (٣).

٣ ـ حجب محاسن الإسلام عن العقل المسيحى حتى لا يقتنع به ثم يعتقده.

٤ ـ زرع تخاذل روحى وشعور بالنقص في نفوس المسلمين خاصة والشرقيين عامة.

وإذا كان الهدف الدينى لم يعد ظاهرا الآن في كتابات المستشرقين المعاصرين ، فليس معنى ذلك أنه قد اختفى تماما ، إنه لا يزال يعمل من وراء ستار (٤). لأنه من الصعب على المستشرقين وأكثرهم مسيحيون متدينون ، أن ينسوا أنهم يدرسون دينا ينكر عقيدة التثليث وعقيدة الصلب والفداء ، وهما أسس الدين المسيحى ، كما أنه

__________________

١ ـ د. عائشة عبد الرحمن : تراثنا بين ماض وحاضر ص ٥٢ معهد البحوث والدراسات العربية. القاهرة ١٩٦٨ م.

٢ ـ د. محمد البهى : المصدر السابق ص ٤٣١.

٣ ـ د. عدنان وزان : الاستشراق والمستشرقون ص ١٢٩ مطبعة رابطة العالم الإسلامى بمكة المكرمة ط ١٤٠٤ ه‍.

٤ ـ د. محمود حمدى زقزوق : الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضارى ص ٨٧ دار المنار. القاهرة ١٤٠٩ ه‍ ١٩٨٩ م.


من العسير أن يتغافلوا عن الفتوحات الإسلامية التى قضت على المسيحية وأحلت الإسلام محلها (١).

يقول برنارد لويس (اليهودى) : «لا تزال آثار التعصب الدينى الغربى ظاهرة فى مؤلفات عدد من العلماء المعاصرين ومستترة في الغالب وراء الحواشى المرصوصة فى الأبحاث العلمية» (٢). ورغم هذا الاعتراف من برنارد لويس إلا أنه يحذو حذو سابقيه ومعاصريه فتراه يتخذ موقفا عقائديا عدائيا للإسلام ، فضلا عن تأثيره على صانعى القرار الأمريكى فيما يتعلق ببلاد الإسلام.

الهدف الدينى الصليبى لا يحتاج إلى جهد لتبينه أو لإثباته في إنتاج المستشرقين ، فلا يخفى أن معظمهم من الرهبان والقساوسة.

ثانيا الهدف الاستعمارى أو التسلطى :

تعانقت حركة الاستشراق مع الحركة الاستعمارية الغربية. يقول الدكتور إدوارد سعيد : «إذا اتخذنا من أواخر القرن الثامن عشر نقطة للانطلاق محددة تحديدا تقريبيا ، فإن الاستشراق يمكن أن يناقش ويحلل بوصفه المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق ، التعامل معه بإصدار تقريرات حوله ، وإجازة الآراء فيه وإقرارها ، وبوصفه ، وتدريسه ، والاستقرار فيه ، وحكمه : وبإيجاز الاستشراق كأسلوب غربى للسيطرة على الشرق ، واستبنائه وامتلاك السيادة عليه» (٣).

تلاقت الأهداف والغايات ، أهداف ملوك أوروبا الصليبية مع أهداف مفكريها من مستشرقين ومنصرين ، «تلقف الاستعمار هذه الحركة ـ حركة الاستشراق ـ وكان ملوك الدول الاستعمارية رعاتها ، وكان قناصلهم فى «بلدان الشرق عمالها» (٤).

كانت رغبة المحتل «الحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات عن البلاد التى وقعت تحت الاحتلال الأوربى حتى تستغل هذه المعلومات في فهم روح الشعوب القاطنة هناك حتى تسهل السيطرة عليها ومخاطبتها بلغتها ، كانت الغاية جمع المعلومات إلى الوطن الأم وهى ـ أوربا ـ عند ما كانت دولها سيدة البحار ، وكان المستشرقون هم الوسيلة لذلك» (٥).

يؤكد هذا ما ذهب إليه مارسيل بوازار ، من أن «الاستشراق كان في الأصل أحد

__________________

١ ـ إبراهيم اللبان : المستشرقون والإسلام ص ٣٦. القاهرة ١٩٧٠.

٢ ـ لويس : العرب في التاريخ ص ٦٣ نقلا عن. اللبان : المصدر السابق.

٣ ـ د. إدوارد سعيد : الاستشراق ص ٣٨.

٤ ـ زكريا هاشم : المستشرقون والإسلام ص ٦٥ المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ١٩٦٥ م.

٥ ـ د. حسن حنفى : التراث والتجديد ص ٩٢ مكتبة الجديد. القاهرة.


الفروع العلمية المرتبطة بالعلوم الاستعمارية في فرنسا وفي بريطانيا العظمى ... فقد كان المطلوب إجمالا فهم العقلية الإسلامية فهما جيدا لتسهيل الإدارة الاستعمارية للشعوب الإسلامية» (١).

وفي مطلع القرن العشرين ، لم يكن بإمكان رجال مثل بلفور وكرومر ـ وهم من عتاة ودهاة المحتل البريطانى ـ أن يقولوا ما قالوه ، وبالطريقة التى بها قالوا : إلا «لأن تراثا من الاستشراق ، أقدم من تراث القرن التاسع عشر ، زودهم بمفردات ، وصور ، وبلاغة ، ومجازات ليتولوه بها. ومع ذلك فإن الاستشراق عزّز ، وعزّر بالمعرفة الأكيدة لكون أوربا أو الغرب تسيطر ..» (٢) كان الاستشراق سجلا من المعلومات ، استخدمها المحتل ـ إنجليزى وفرنسى ـ للسيطرة على الشرق الإسلامى والسيادة عليه.

ومن الأمثلة العديدة لارتباط الاستشراق بالاستعمار ، يذكر الدكتور محمود حمدى زقزوق ، بعض النماذج للمستشرقين الذين كانوا أداة في يد الاستعمار ، منهم (كارل هينريس بيكر) (ت ١٩٣٣ م) مؤسس «مجلة الإسلام» الألمانية الذى قام بدراسات تخدم الأهداف الاستعمارية الألمانية في إفريقيا.

أما المستشرق الروسى (بارثولدBarthold) (ت ١٩٣٠ م) وهو مؤسس «مجلة عالم الإسلام» الروسية ، فقد تم تكليفه عن طريق الحكومة الروسية بالقيام ببحوث تخدم مصالح السيادة الروسية في آسيا الوسطى.

أما عالم الإسلاميات الهولندى (سنوك هورجرونية) (ت ١٩٣٦) فإنه في سبيل استعداده للعمل في خدمة الاستعمار توجه إلى مكة في عام ١٨٨٥ م ، بعد أن انتحل اسما إسلاميا ، وأقام هناك ما يقرب من نصف عام ، وكان يجيد العربية ، وقد لعب هذا المستشرق دورا مهما في تشكيل السياسة الثقافية والاستعمارية في المناطق الهولندية في الهند الشرقية ، كما شغل مناصب قيادية في السلطة الاستعمارية الهولندية في إندونيسيا (٣).

من المعروف أن معظم المستشرقين من المنصرين أو كانوا منصرين ، لذلك فإن التقاء المحتل الغاصب المنصرين هو التقاء بالمستشرقين ، يقول الدكتور محمد البهى : «أقبل الأوربيون على الاستشراق ليتسنى لهم تجهيز المبشرين وإرسالهم للعالم الإسلامى ، والتقت هنا مصلحة المبشرين مع أهداف الاستعمار فمكن لهم ، واعتمد

__________________

١ ـ مارسيل بوازار : الإسلام اليوم ص ١٩ ـ ٢٠ بيروت ١٩٨٦ م

٢ ـ د. إدوارد سعيد : المصدر السابق ص ٧٢.

٣ ـ د. محمود حمدى زقزوق : الاستشراق والخلفية الفكرية ص ٥٥ ـ ٥٦ مصدر سابق.


عليهم في بسط نفوذه في الشرق. وأقنع المبشرون زعماء الاستعمار بأن المسيحية ستكون قاعدة الاستعمار الغربى في الشرق ، وبذلك سهل الاستعمار للمبشرين مهمتهم وبسط عليهم حمايته ، وزودهم بالمال والسلطان ، وهذا هو السبب في أن الاستشراق قام في أول أمره على أكتاف المبشرين والرهبان ثم اتصل بالاستعمار» (١).

وأصبح دور المستشرق في ظل المد الاستعمارى يماثل دور المنصر ، وكأن الاستشراق ولد من أبوين غير شرعيين هما : الاستعمار والتنصير يضاف إليهما الصهيونية التى تهدف من سيطرتها على الاستشراق إلى الحيلولة دون تجمع المسلمين العرب في وحدة تقاوم الصهيونية (٢).

يقول أحد قادة فرنسا العسكريين في المغرب العربى ، مقالة المستشرقين : «أليس من الواجب أن نقلل من درجة قوتهم وديانتهم الزاهرة ... أقول هذا ، ويقينى بأننى لو كنت عالما بأن المسلمين سيطلعون على مقالى هذا ما غيّرت من لهجته» (٣).

قد يظن ظان أنه بعد رحيل العسكر عن بلادنا توارى الهدف الاستعمارى للاستشراق ، نقول : لا. لقد تنامى هذا الهدف ، فلقد كانوا يحتلون الأرض ، وأصبحوا الآن في ضوء هدفهم هذا يحتلون العقل والفكر ، تم لهم ذلك ، بعد أن «سقطت معظم الجامعات المنشأة في بلاد المسلمين ، تحت الأيدى الخفية للاستشراق والتبشير والدوائر الاستعمارية ، وغدت خططها ومناهجها تخضع بطريق غير مباشر لما تفرضه وغلبة هذه الأيدى الخفية ، وغدت الكنيسة الغربية تفخر بأن العلوم الإسلامية والعلوم العربية تدرس على طريقتها التى تخدم أغراضها في بلاد المسلمين. وبأن المشرفين على تدريس هذه العلوم من تلامذة أبنائها.

وأى انتكاس أقبح من هذا الانتكاس. أن يتعلم المسلمون دينهم ولغاتهم ، وفق طرائق أعدائهم وأعداء دينهم ، ووفق دسائسهم وتشويهاتهم ، وتحويراتهم وأكاذيبهم وافتراءاتهم : هل يقبل اليهود والنصارى أن يتعلموا أصول دياناتهم وفروعها على أيدى علماء المسلمين ، وأن يأخذوا منهم الشهادات كذلك؟

إن الاستعمار المادى أهون من هذا اللون من ألوان الاستعمار ، الذى وصل إلى

__________________

١ ـ د. محمد البهى : المصدر السابق ص ٤٣٠.

٢ ـ د. أحمد عبد الرحيم السائح : العلاقة بين الاستشراق والتبشير ص ٢٩١ ، د. محمد أحمد محمد : منهج نقد الاستشراق ... ص ١٨٥. الكتاب الدورى لقسم الاستشراق بكلية الدعوة بالمدينة المنورة العدد الأول ١٤١٣ ه‍ ـ ١٩٩٣ م.

٣ ـ جريدة الفتح : محب الدين الخطيب السنة الخامسة جمادى الآخرة ع ٢٢٢ ، مصطفى نصر المسلاتى : الاستشراق السياسى ص ١٣٤ ـ ١٣٥ الطبعة الأولى. منشورات اقرأ طرابلس.


القاعدة الكبرى التى تقوم عليها الأمة الإسلامية ، وهى قاعدة دينها وعلومه المتصلة بهذا الدين» (١).

يتضح مما سبق أن أهداف الاستشراق والتبشير والاستعمار واحدة ، فأكثر المستشرقين كانوا عملاء للاستعمار في بلاد العروبة والإسلام ، ودأبوا على تقويض الخصائص والمقومات الدينية والتاريخية للعرب وللمسلمين ، كى يمكنوا للاستعمار في هذه البلاد ، وليشيعوا النزعة الصليبية الغربية في مجالات مختلفة ومنها بطبيعة الحال مجال التظاهر بالبحث العلمى الصرف المحايد (٢).

وهكذا أصبح الاستشراق وسيلة فعالة لخدمة الاستعمار الغربى بعد أن أنجز تقمصه وتحوله من إنشاء بحثى إلى مؤسسة أمبريالية (٣).

الهدف العلمى :

هذا النفر من المستشرقين هم أفضلهم ـ والفضل هنا نسبى أيضا ـ إذ أنهم أقبلوا على الدراسات العربية والإسلامية بدافع المعرفة الحقة أو البحث عن الحقيقة التى افتقدها الكثير منهم فيما هم عليه من نصرانية ، ومن ثم جاءت أبحاثهم متسمة بالموضوعية والاعتدال.

قد تأتى دراسات البعض ـ إذن ـ لغرض علمى الافادة من الجوانب المشرقة فى تاريخ الشرق ، كالوقوف على تاريخ العلوم التى ازدهرت في رحاب الحضارة الإسلامية ... أو الوقوف على حلقات غامضة من تاريخ الحضارة الأوربية ولكنها تتضح من خلال معرفتهم بتاريخ الحضارة الإسلامية. ومن ذلك محاولتهم الوقوف على تاريخ اليونان والرومان .. من خلال المصادر الإسلامية ... (٤) ومن هؤلاء من يؤدى بهم البحث العلمى الخالص لوجه الحق إلى اعتناق الاسلام والدفاع عنه في أوساط أقوامهم الغربيين (٥).

ويرى المستشرق (بارت) أن ظهور هذه الفئة من المستشرقين كان على وجه التقريب منتصف القرن التاسع عشر. يقول : «إننا نعنى أن الصفة العلمية بالمعنى الحديث ظهرت في هذا الوقت على الاستشراق بوضوح أكثر من ذى قبل .. وذلك

__________________

١ ـ الشيخ عبد الرحمن حبنكة : أجنحة المكر الثلاثة ص ٨٨ ط. دمشق

٢ ـ د. أحمد الشرباصى : التصوف عند المستشرقين ص ٨ ، ٩ مصدر سابق.

٣ ـ د. ادوارد سعيد : السابق ص ١٢٠.

٤ ـ د. اسماعيل عميرة : الجذور التاريخية للظاهرة الاستشراقية ص ٦٠ دار حزين. عمان ١٩٩٢ م.

٥ ـ د. مصطفى السباعى : الاستشراق والمستشرقون ص ٢٤.


عند ما اجتهدوا في نقل صورة موضوعية لعالم الشرق متجردين من الآراء السبقية وعن كل لون من ألوان الانعكاس الذاتى» (١).

ويرى إدوارد سعيد في كلام بارت تعميما ، فيوافقه على أن في هذه الفترة بدأ طموح بعض المستشرقين لصياغة اكتشافاتهم ، وتجاربهم ، ونظراتهم الثاقبة ، بلغة حديثة مناسبة ، أو لجعل أفكارهم حول الشرق على اتصال وثيق بالواقع الحديث ... ومع أن الاستشراق مثل كثير من العلوم الطبيعية والاجتماعية ، له منطلقات للبحث وجمعياته العلمية ومؤسسته الخاصة إلا أنه أخضع للامبريالية ، والوضعية المنطقية ، والطوباوية والدارونية والعرقية والفرويدية والماركسية (٢) ...

ويدافع بارت عن الهدف العلمى للاستشراق بقوله : «نحن معشر المستشرقين ، عند ما نقوم اليوم بدراسات في العلوم العربية والعلوم الإسلامية لا نقوم بها فقط لكى نبرهن على صفة العالم العربى الإسلامى ، بل على العكس ، نحن نبرهن على تقديرنا الخالص للعالم الذى يمثله الإسلام ومظاهره المختلفة والذى عبر عنه الأدب العربى كتابة» (٣) ...

يبدو أن بارت فضلا عن أسلوبه التعميمى الفضفاض يبالغ في توجهات المستشرقين العلمية المجردة ، ومع الإقرار بتوافر نزعة التحرر ـ من سلطان الكنيسة والاستعمار ـ العلمية لدى القليل من المستشرقين «ولكن لا يشك كثيرا أيضا في أن الوصول إلى هذا الهدف لم يتحقق لعدد كبير من الدارسين للإسلام سواء من مات منهم أو من لم يزل حيا. وتنقسم جهودهم بطبيعتها إلى قسمين متميزين : نشر النصوص ، والدراسات التحليلية ... ولكن يمكن أن نقرر هنا على سبيل الإجمال أن النظرة العلمية للدارسين للإسلام ... كانت أقل عمقا في دراسات هؤلاء منها فى نشرهم النصوص. ولا تعوذنا الشواهد على نقص التجرد العلمى حتى بالنسبة لتحقيق أو ترجمة النصوص حيث كان الموضوع يستسلم لأهواء الآراء الثابتة المقررة عن الإسلام مما لا يزال قائما في عقول بعض الباحثين الغربيين (٤).

ويرجع بعض الباحثين الإسلاميين نمو الأغراض العلمية للدراسات الاستشراقية إلى أسباب عديدة منها : انحسار المد الاستعمارى المباشر بعد الحرب العالمية الثانية

__________________

١ ـ روى بارت : الدراسات العربية والاسلامية .. ص ١٧.

٢ ـ إدوارد سعيد : المصدر السابق ص ٧٣ ، ٧٤.

٣ ـ بارت السابق ص ١٠.

٤ ـ د. طيباوى : المستشرقون الناطقون بالإنجليزية ص ٢٤ ، ترجمة د. قاسم السامرائي.


وبروز أفكار جديدة تنادى بالمساواة بين الدول ، وحق الشعوب فى تقرير مصيرها ، وإلغاء الهيمنة الاستعمارية وخلق جهاز دولى جديد كالأمم المتحدة ، يحاول طبقا لمجهوداته حفظ الأمن والسلام ، والمساواة بين الشعوب ، ومنها تطور طرق البحوث العلمية في مجال العلوم الإنسانية (١).

إننا نرى أن الهدف العلمى الخالص ينبع من ذاتية المستشرق وأمانته العلمية ، أما أى شىء آخر فيأتى كعامل مساعد وإن لم يوجد فعلى الباحث ـ المستشرق ـ التخلى عن الموضوع.

وإذا كان صحيحا ما ذهب إليه الدكتور ساسى فإلى أين سيتجه الاستشراق أو هذه الفئة المتجردة للعلم من المستشرقين بعد انحسار دور الأمم المتحدة وتخاذلها أمام ما يسمى بالنظام الدولى الجديد؟ ومعروف أنه محاولة أمريكية أوروبية للسيطرة والهيمنة بشكل أو بآخر؟

إن إعجاب البعض منا بتوجهات هؤلاء المستشرقين العلمية لا يجب أن يحول «دون مناقشتهم في آراء لهم غير سديدة قال بها من قال ذهابا مع أهواء النفس الكثيرة» (٢).

وأخيرا ، إذا أراد الاستشراق أن يلعب دورا فعالا في ميادين العلوم ، وخاصة العلوم الإنسانية ، فعليه أن يدرك ، وقد آن الأوان لذلك ، أن قيمة دراساته لا تعتمد على ما فيها من مشاحنات وانفعالات ، بل على ما فيها من صدق ، وإخلاص ومنهجية موضوعية (٣).

يجمع الاستشراق وحدة الهدف الذى يتمثل في معرفة الآخر ، أى معرفة الشرق عامة والشرق الإسلامى خاصة ، ومعرفة الشرق أو الشرقيين لا حذر منها ، ولكنهم سعوا إليها ويسعون بغرض فهم شعوبه أكثر ، ليتسنى لهم السيطرة والسيادة عليه ـ بأساليب غير الاحتلال المباشر ٤ ـ وذلك بإضعاف مثل الإسلام وقيمه العليا من جانب ، وإثبات تفوق المثل الغربية وعظمتها من جانب آخر ، وإظهار أى دعوة للتمسك بالإسلام بمظهر الرجعية والتأخر (٥).

__________________

١ ـ د. ساسى سالم الحاج : المرجع السابق ص ١٨٥.

٢ ـ محمد كرو على : الإسلام والحضارة العربية ج ١ ص ١٩٣٣ م.

٣ ـ د. أحمد سمايلوفتش : المصدر السابق ص ١٠٢.

٤ ـ أمام عجزهم عن تنصير المسلمين ، أذاعوا ونشروا المذاهب الفكرية الحديثة ، كالشيوعية ، والوجودية ، والدارونية ، والبراجماتية ، والوضعية المنطقية ...

٥ ـ د. عبد الكريم عثمان : معالم الثقافة الإسلامية ص ٩٩.


كلمة في المنهج

إن المنهج الذى يتبعه جل المستشرقين في دراساتهم للإسلام عامة ، والوحى القرآنى خاصة يقوم على مسلمة ـ بالنسبة لهم ـ تلك هى : أن محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ليس نبيا يوحى إليه ، ثم يسيرون في هذا الاتجاه للتدليل على صحته ، ولا شك أن هذا حكم أو نتيجة وضعوها وحددوها قبل وضع المقدمات ، ومع هذا يحاولون إلباس مناهجهم ـ المدعاة ـ ثياب العلمية والمنهجية والموضوعية.

فالمستشرق الألمانى «رودى بارت» يقول : «... فنحن معشر المستشرقين ، عند ما نقوم اليوم بدراسات في العلوم العربية والعلوم الإسلامية لا نقوم بها قط لكى نبرهن على ضعة العالم العربى الإسلامى ، بل على العكس ، نحن نبرهن على تقديرنا الخاص للعالم الذى يمثله الإسلام ومظاهره المختلفة والذى عبر عنه الأدب العربى كتابة. ونحن بطبيعة الحال لا نأخذ كل شىء ترويه المصادر على عواهنه دون أن نعمل فيه النظر ، بل نقيم وزنا فحسب لما يثبت أمام النقد التاريخى أو يبدو وكأنه يثبت أمامه ، ونحن في هذا نطبق على الإسلام وتاريخه ، وعلى المؤلفات العربية التى نشتغل بها المعيار النقدى نفسه الذى نطبقه على تاريخ الفكر عندنا وعلى المصادر المدونة لعالمنا نحن» (١).

ما ذهب إليه «بارت» لا غبار عليه ، إلا ما يبدو أنه خلط بين العقيدة الإسلامية والفكر الإسلامى فهل يصح وضع العقيدة بجوانبها الغيبية على محك البحث والنظر العقلى؟ والعقل البشرى ناقص ، وإذا أجاب بارت : بنعم. فهل يقبل أن نضع العقيدة النصرانية على نفس المحك؟ أم أن عقيدتهم من الغيبيات فلا تعرض على العقل ومن ثم يؤمن بها وهو مغمض العينين؟!

على كل حال «القوم يدرسون العلوم الإسلامية العربية ، ويضعون نظريات ويكونون آراء في أثناء ما يقومون به من دراسات ، ويهتمون بتقديم أدلة وأسانيد لهذه الآراء والنظريات ، يستمدونها من المراجع الإسلامية نفسها ، وهذا العمل في ظاهره عمل علمى سليم. ولكن عند الفحص الدقيق أثبت أن كثيرا منه مصنوع ، وكثيرا ما يكون الدافع إليه الرغبة في التجريح ، وتوهين العقيدة الدينية والشريعة الإسلامية» (٢).

يقول ليوبولد فايس (محمد أسد) : «... أما تحامل المستشرقين على الإسلام فغريزة موروثة ، وخاصة طبيعية تقوم على المؤثرات التى خلفتها الحروب الصليبية ، بكل ما لها

__________________

١ ـ بارت : الدراسات العربية ... ص ١٠ مصدر سابق.

٢ ـ إبراهيم اللبان : المستشرقون والإسلام ص ٣٢ سنة ١٩٧٠ م.


من ذيول ، فى عقل الأوربيين» (١).

ويعترف بعض المستشرقين بهذا الخلل المنهجى ، فيقول المستشرق مونتجمرى واط :

«أما أوسع الدراسات فهى دراسة كيتانى في كتابه (حوليات الإسلام) وليس من الصعب تصحيح مبالغاته في الشك ...» (٢). ولكن يبدو أن هذا الاعتراف من باب المداهنة ، لأنه وقع في نفس المحظور الذى عابه على كايتانى ـ على ما سوف نرى ـ.

يقول الدكتور جواد على : (كان كايتانى) «ذا رأى وفكرة ، وضع رأيه وكونه فى السيرة قبل الشروع في تدوينها فإذا شرع بها استعان بكل خبر من الأخبار ظفر به ، ضعيفها وقويها ، وتمسك بها كلها ولا سيما ما يلائم رأيه ولا يبالى بالخبر الضعيف بل قوّاه وسنّده وعده حجة وبنى حكمه عليه ، ومن يدرى فلعله كان يعلم بسلاسل الكذب المشهورة والمعروفة عند العلماء ولكنه عفا عنها وغض نظره عن أقوال أولئك العلماء فيها لأنه صاحب فكرة يريد إثباتها بأية طريقة كانت ، وكيف يتمكن من إثباتها وإظهارها وتدوينها إذا ترك تلك الروايات ، وعالجها معالجة نقد وجرح وتعديل على أساليب البحث الحديث» (٣). إن الكثير من كتابات كثير من المستشرقين سارت على هذا النهج ، مدفوعة في أغلب الأحيان بآراء مسبقة وأفكار متصورة سبق أن اعتقدها المستشرق حول : ما ذا يجب أن يكون الإسلام ونبى الإسلام ، فضلا عن الضلال ، والكذب ، وادعاء العلمية والموضوعية.

يقول الدكتور عبد الرحمن بدوى عن المستشرق اليسوعى (هنرى لامانس) : وأبشع ما فعله خصوصا فى (كتابه فاطمة وبنات محمد) هو أنه كان يشير فى الهوامش إلى مراجع بصفحاتها. وقد راجعت معظم هذه الإشارات في الكتب التى أحال عليها ، فوجدت أنه إنما يشير إلى مواضع غير موجودة إطلاقا فى هذه الكتب.

أو يفهم النص فهما ملتويا خبيثا. أو يستخرج إلزامات بتعسف شديد يدل على فساد الذهن وخبث النية ، ولهذا ينبغى ألا يعتمد القارئ على إشارته إلى مراجع ، فإن معظمها تمويه وكذب وتعسف في فهم النصوص. ولا أعرف باحثا من بين المستشرقين المحدثين قد بلغ هذه المرتبة من التضليل وفساد النية (٤).

وهكذا نتبين أن منهج كلا من كايتانى ولامانس هو اللامنهجية ، إذ كيف يستقيم ادعاء التزام المناهج العلمية في تناول الإسلام مع هذا العبث؟ كيف يستقيم

__________________

١ ـ محمد أسد : الإسلام على مفترق الطرق ص ٦٠.

٢ ـ واط : محمد في مكة ص ٩.

٣ ـ د. جواد على : تاريخ العرب في الإسلام ١١٨ بيروت ١٩٨٣ م.

٤ ـ د. عبد الرحمن بدوى : موسوعة المستشرقين ص ٣٤٧ ـ ٣٤٩.


هذا مع الأحكام الجزافية بتلفيق الأسانيد ووضعها لتأييد الآراء المسبقة؟

أما رأى الدكتور بدوى ، فله اعتباره لأنه صادر عن أستاذ ، باحث ، منهجى ، له باع طويل في الدراسات الإسلامية والاستشراقية.

وإلى سوء النية والقصد لدى بعض المستشرقين يشير «واط» فيقول «... وإذا حدث أن كانت بعض آراء العلماء الغربيين غير معقولة عند المسلمين ، فذلك لأن العلماء الغربيين لم يكونوا دائما مخلصين لمبادئهم العلمية ، وأن آراءهم يجب إعادة النظر فيها من وجهة النظر التاريخية الدقيقة (١).

ومع أن هذه شهادة من «واط» تستحق التقدير ، إلا أنه لم يستطع «الفكاك من نقاط الشد الأخرى التى تمسك بتلابيب العقل الغربى : النزوع العلمانى والمسلمات المادية والرؤية الوصفية ..» (٢).

المستشرق الموضوعى هو الذى يبدأ في عرض موضوع بحثه من وجهة نظر أهله وأتباعه كما يعتقدونه. فمثلا : القرآن بالنسبة للمسلم هو كلام الله ـ جل وعلا ـ الأزلى ، غير المخلوق ، أوحاه الله تعالى عن طريق جبريل الأمين إلى نبيه محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ومحمد ليس نبيا ورسولا فحسب وإنما خاتم الأنبياء. هكذا دون ما حذف أو إضافة ، ثم يعرض لرأيه إما بالموافقة أو بالمعارضة. المهم : يضع الحقيقة ـ من وجهة نظر المسلمين ـ مقترنة برأيه هو ، أمام القارئ فلا يمارس عليه ضغطا بتشويه ثم بوضع رأيه بمقتضى هذا التشويه.

«غير أن هذا المنهج المنطقى والطبيعى في العرض قلما يتبع ـ مع الأسف الشديد ـ إذ أن الحقائق كثيرا ما تحرّف فيتعرض القارئ نتيجة لذلك ـ إذا لم يكن على علم واسع ـ إلى شىء من الإيحاء برأى معين أو أنه يتعرض في الأقل إلى اختلاط في الأمور تجعله عاجزا عن التمييز بين الأصل المتوارث لدى جماعة المسلمين وبين رأى الكاتب. وهكذا نجد كثيرا من المستشرقين الذين يحمّلون غيرهم أعباء معارفهم الخاصة ، يهملون ملاحظة أية مبادئ أولية يفترضها المنهج العلمى في معالجة المسائل التاريخية ، فهم يؤكدون مثلا : أن القرآن من إنشاء محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، ثم يذهبون مذهبا بعيدا في تأسيس الأحكام التاريخية والعقيدية والأدبية وغيرها على هذا التأكيد ، وسرعان ما ترتفع هذه التأكيدات بمجرد التكرار إلى مرتبة الحقائق الثابتة (٣)».

__________________

١ ـ واط : السابق ص ٦.

٢ ـ د. عماد الدين خليل : السابق ص ٦٨.

٣ ـ د. طيباوى : المستشرقون الناطقون بالإنجليزية ص ٢٩.


لا شك أن هناك فرقا أساسيا بين العلوم المادية وبين العلوم الإنسانية ، فإن «كلا من الملحد والروحانى يتفقان على تحليل قطعة الصوديوم كلورايد (الملح) ولكن شتان بين رأييهما حول الذات الإنسانية» (١) ومن ثم تتباين مناهج هذه العلوم.

غير أن جل المستشرقين وقع في هذا الخطأ باعتبار أن مناهجهم (٢) تقوم على دراسة الظاهرة الفكرية كظاهرة مادية خالصة ، وكتاريخ خالص مكون من شخصيات وأنظمة اجتماعية وحوادث تاريخية محضة ، يمكن فهمها بتحليلها إلى عوامل مختلفة سياسية واقتصادية واجتماعية تحدد نشأتها وطبيعتها ، وهكذا تفقد الظاهرة طابعها المثالى ، وتنقطع عن أصلها في الوحى وتصبح ظاهرة مادية خالصة.

وسبب هذا الخطأ أن جل المستشرقين يهود ونصارى وهم ينكرون الوحى إلى نبينا محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، فاليهود ينكرون الوحى إلى عيسى ومحمد ـ عليهما‌السلام ـ بينما النصارى ينكرونه إلى محمد ، وهذا في حد ذاته يعد حاجزا نفسيا.

أمام إرجاع ما يدرسونه من إسلاميات إلى أصولها في الكتاب والسنة ـ بل إن هذا الحاجز تأدى بهم إلى إرجاع الوحى القرآنى إلى نتاج تاريخى (٣).

من ناحية أخرى فإن المستشرق ابن بيئته التى تربى فيها ورضع لغتها وثقافتها ومناهجها. نقصد أن هذه المناهج جاءت بعد خيبة الأمل التى حصلت ـ لهم ـ من كشف أخطاء الموروث ـ عندهم ـ وكل مصدر سابق للمعرفة باسم الوحى أو الدين نتيجة تسلط الكنيسة باسم الدين وحدوث الخلاف بين العلم والدين في الغرب ، ثم الحملة على الدين بصفة عامة ـ مع أنهم لم يكونوا قد عرفوا الإسلام ـ مع أن الخلاف كان بين العلماء وبين تفسيرات دين الغرب.

وقد ترتب على ذلك ، فضلا عن الثقة المطلقة في المعرفة العقلية ، ظهور أو انتعاش المذاهب المادية وسيادتها بظهور المذهب الوضعى على يد أوجست كونت فى القرن التاسع عشر ، فأصبح ـ من وجهة نظرهم ـ كل فكر تاريخا ، وكل وحى أصبح من نتاج البيئة وفعل الأساطير وإسقاطات الشعوب (٤).

إن الصدام التقليدى بين الدين والعلم ـ فى أوربا ـ نتاج من نتاج القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وهما العصران اللذان ظهرت فيهما العلوم الحديثة. وبعد ظهور هذه

__________________

١ ـ ٧.p (١٩٦١) Mantheunknown : CarleL

٢ ـ اعتمدنا في هذا الجزء على كتاب : التراث والتجديد للدكتور حسن حنفى مكتبة الجديد. القاهرة.

٣ ـ د. حسن حنفى : التراث والتجديد ص ٨٠ ـ ٨٢ مكتبة الجديد القاهرة.

٤ ـ وحيد الدين خان : الدين في مواجهة العلم ص ٥٠ كتاب المختار الإسلامى القاهرة ١٩٧٨ م.


الاكتشافات الحديثة بدأ كثير من الأوربيين يظنون أنهم لم يعودوا بحاجة إلى الإيمان بالله. وهكذا أصبح «الإله» فى نظرهم فكرة غير ضرورية ، وكل فكرة غير ضرورية لا تقوم على أساس!. ولعله لا يغيب عنا مقالة نيتشه : لقد مات الإله الآن!!.

تأثر المستشرقون أو معظمهم بهذه الموجة المادية الإلحادية التى سادت أوربا ، فطبقوا المنهجية الوضعية على العلوم الإنسانية ، ومنها العلوم الإسلامية التى يلعب الوحى الدور الرئيسى فيها ، ومن ثم جاءت نتائج أبحاثهم فى الأعم خاطئة ، لعدم الدقة في اختيار المنهج وكيفية تطبيقه فضلا عن البون الشاسع بين بيئة المنهج المطبق وبيئة موضوع الدراسة بين بيئة المستشرق وبين بيئة الشرق الإسلامى.

وبذلك فقد المستشرق الشعور بالتعاطف مع موضوعه الذى يدرسه ، أو على الأقل نقول : فقد الحياد في التعامل معه ، لأن الصلة العقلية والعاطفية بين الباحث وموضوعه تماثل في الأقل تلك الصلة التى توجد بين القاضى العادل وبين الخصوم (١).

وترتيبا على هذا يقول الدكتور حسن حنفى «الاستشراق ليس جزءا من الحضارة الإسلامية ولا يرتبط بها ولا يفيد شيئا ، بل هو جزء من الحضارة الغربية يكشف عن تكوين الباحث الأوربى ومزاجه ، ويكشف عن حقيقة ما يسمى بالموضوعية أو العلمية ، كما يبين عمل شعور الباحث الأوربى في دراساته لحضارات أخرى غير حضارته ويعرض تحيزاته» (٢).

وإزاء هذه الالتواءات ، والانثناءات ، فى نشأة المنهج وتطبيقاته ، نتساءل : ما هذه المناهج التى يزعم المستشرقون التعويل عليها في كتاباتهم؟ وهل كلها صالحة لكل الموضوعات البحثية؟ بمعنى : هل مناهج العلوم الطبيعية صالحة للتطبيق على العلوم الإنسانية؟ وهل ما يصلح للعلوم الإنسانية يمكن إخضاع العلوم والمعارف الغيبية لها؟

بمعنى آخر : هل المنهج المتّبع يتطابق مع موضوع الدراسة؟ وإذا لم يكن فما مدى التزام المستشرق حين التطبيق؟

استخدم المستشرقون عدة مناهج في دراساتهم للإسلام : عقيدة وشريعة ، وفكرا وتاريخا .. منها : المنهج التاريخى ، والمنهج الإسقاطى ، ومنهج الأثر والتأثر.

١ ـ المنهج التاريخى :

هو عبارة عن وصف وتسجيل ما مضى من وقائع تاريخية أو اجتماعية ووضعها بجوار بعضها البعض وترتيبها ثم الإخبار عنها والتعريف بها باعتبارها الظاهرة الفكرية

__________________

١ ـ د. طيباوى : السابق ص ٦١.

٢ ـ د. حسن حنفى : السابق ص ٨٣.


ذاتها. وليس المنهج التاريخى مقتصرا على دراسة علم التاريخ فحسب ، بل له استخداماته في مجالات العلوم الطبيعية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. والمنهج التاريخى ليس منهجا وصفيا وحسب أو لا يقف عند مجرد الوصف ، وإنما يدرس ظاهرة ما كالظاهرة السياسية ويحللها ويفسرها على أسس منهجية علمية دقيقة ، بقصد التواصل إلى حقائق تساعد على فهم الماضى والحاضر.

من المعروف أن البيئة الثقافية الغربية تنسب الأفكار والمذاهب إلى قائليها ، كالديكارتية إلى ديكارت ، والكانطية إلى كانط ، والهجلية إلى هيجل ، والماركسية إلى ماركس ، حتى انعكس ذلك أيضا على الدين فالمسيحية تنسب إلى المسيح.

ظن المستشرق أن كل حضارة لا بد وقد نشأت بالضرورة على نمط الحضارة الغربية ، فيصنفون مفكرى الإسلام كالغزالى ، والأشعرى ، وابن تيمية باعتبارهم أصحاب مدارس تماما كما يفعلون في بيئتهم الغربية ، فيشيرون إلى الغزالية والأشعرية و... وكما نسبوا الدين إلى المسيح ، يقولون : المحمدية أو المذهب المحمدى ، وعند ما يتكلمون عن محمد ـ «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» يقولون : إنه كان تاجرا كبيرا وناجحا (١) ، وعند ما يتناولون دعوته يقولون : إنها جاءت للانقضاض على الأرستقراطية القرشية.

والمستشرق ـ فى ضوء المنهج التاريخى ـ عند ما ينسب الأفكار إلى الذين صاغوها يهدف من وراء ذلك إلى القول : بأن هذه الأفكار وهذه العلوم نشأت أساسا من هؤلاء الأشخاص. بينما في الإسلام : المفكر المسلم عارض ومحلل ومفسر لتيارات فكرية تتخلله ، فهناك علوم عامة تنشأ من الوحى وتحولت إلى حضارة.

المقصود أن واقع المؤلف وفكره يلزمانه اللجوء إلى النصوص الموحى بها خشية أن يستبدل الناس الحضارة بالوحى ، وترك الأصول وأخذ الفروع.

أما في الغرب ـ فكما قلنا ـ فينسب الفكر إلى قائله «وقد يكون هدف المستشرق من نسبة الفكر إلى القائل به هو إثبات جدب الحضارة ، وصمت الوحى ، وأنه لو لا الفيلسوف أو العالم لما ظهر الفكر ، فالإنسان هو خالق الفكر وليس الوحى هو مصدر الفكر ، فإذا كان هؤلاء المفكرين والعلماء معظمهم غير عرب وإن كانوا مسلمين ، فإن المستشرق بذلك يكون قد حقق هدفه من إثبات نظرته القومية على الحضارة الإسلامية وإرجاع الإبداع إلى الخصائص القومية للحضارة وحتى لا تكون هى الحضارة العربية» (٢).

__________________

١ ـ واط : محمد في مكة.

٢ ـ د. حسن حنفى : السابق ص ٩٠ ـ ٩١


ولكن المستشرق غفل أن العمل الفكرى في تراثنا عملا جماعيا ، لم يحدث باجتماع المفكرين معا في حلقة بحث واحدة ، بل عمل جماعى قامت به الحضارة الناشئة من مركز واحد وهو الوحى ، وكأن الوحى المتحول إلى حضارة هو الذى يضفى على المؤلفين من وحدتهم ، ويجعلهم جميعا وسائل يظهر هو فيها من خلالهم.

هدف الباحث ـ المسلم ـ إذن ليس الإخبار والتعريف بل إرجاع الظواهر الفكرية إلى أصولها الأولى التى خرجت منها ـ الكتاب والسنة ـ لمعرفة كيفية خروجها منها ومحاولة العثور على منهج أو مناهج دائمة ومتكررة يمكن بواسطتها العثور على منهج إسلامى عام.

أما الفهم الغربى للمنهج التاريخى ، فإنه «يقضى على وحدة الظاهرة واستقلالها.

ويرجعها إلى عناصر مادية وإلى عوامل تاريخية مع أن هذه العناصر المادية إن هى إلا عوامل للفكر وليست مصدرا لموضوعاته فالطبيعة لا تنتج فكرا» (١).

هذه كلها تفعل فعلها في حقل الدراسة الاستشراقية وتمسك بتلابيب الباحث ، فلا يستطيع منها فكاكا ، فضلا عما تفرضه مكونات البيئة في الزمان والمكان من مؤشرات قد تصلح لهذا القرن ولكنها لا تصلح البتة لقرن مضى أو واقعة تاريخية سبق وأن تخلقت في بيئة أخرى .. فى مكان آخر وزمان غير الزمان. وهى مؤشرات قد تكون كذلك خاطئة أو مضلّلة ، لكن المستشرق ، ابن القرن العشرين يتشبث بها ويعض عليها بالنواجز معتقدا أنها مفاتيح الحل ومفردات المنهج العلمى السليم (٢).

استخدم الأوربيون المنهج التاريخى لدراسة المسيحية ودراسة المؤثرات الخارجية على نصها الدينى ، كالبابلية والأشورية والفنوصية ، ويبيح هذا المنهج للباحث الكشف عن العناصر الأساسية التى ساعدت على تكوين المسيحية الأولى ـ عهد بولس ـ ، وعند ما يطبق المستشرق هذا المنهج على الظواهر الفكرية الإسلامية ـ والتى هى فى حقيقتها ليست مادية ، أى أنها موضوعات مستقلة وليست موضوعات تاريخية ـ تأتى نتائجه غير صحيحة لأنه يحيل كل شىء إلى ظواهر تاريخية ، وطبقا لهذا المنهج ينكرون نبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ويصنفونه مع حكماء الفرس وذلك عند ما يعقدون المقابلات بينه وبين زرادشت ومانى. وهكذا يصبح هذا المنهج أداة لمحو نبوة محمد وتفسيرها ضمن النبوءات الأخرى التاريخية. وهو بذلك يقوم على فكرة مسبقة

__________________

١ ـ د. حسن حنفى : السابق ص ٩٤.

٢ ـ د. عماد الدين خليل : المستشرقون والسيرة ، ص ٦٦ مصدر سابق.


وعلى تميز حضارى وتعصب دينى (١).

وإذا كان هذا المنهج التاريخى يمارس بصراحة إمبريالية على التاريخ ، يبرز ما يريد ويقمع ما يريد ، فإن المناهج الأخرى التى تختلف ـ والتى سنعرض لبعضها بعد قليل ـ لم تكن تمس أبدا الإطار الذى قام هذا المنهج من أجل تشييده وتقويته ، إطار المركزية الأوربية بوصفها مرجعا لكل شىء يقع خارج أوربا (٢).

والمنهج التاريخى إذا أريد له النجاح في تناول السيرة فإن ذلك يقتضى ثلاثة شروط :

أولها : .. احترام المصدر الغيبى لرسالة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» وحقيقة الوحى الذى تقوم عليه.

ثانيها : اعتماد موقف موضوعى بغير حكم مسبق يعرقل عملية الفهم.

ثالثها : تقنية تتمثل في الإحاطة جيدا بأدوات البحث التاريخى بدءا باللغة وجمع المادة الأولية وانتهاء بطرق المقارنة والموازنة والنقد والتركيب ...» (٣).

٢ ـ المنهج التحليلى (٤) :

يقوم المنهج التحليلى على تفتيت الظاهرة الفكرية إلى مجموعة من العناصر يتم التأليف بينها في حزمة لا متجانسة من الوقائع أو العوامل التى أنشأتها. بمعنى أنه إذا كان المنهج التاريخى يقوم باستبدال واقعة مادية بالظاهرية الفكرية ، فإن المنهج التحليلى يقوم بعد ذلك بتفتيت هذه الظاهرة وردها إلى عناصرها الأولية ، كأن تكون ظروفا اجتماعية أو سياسية أو دينية.

وطبقا لهذا المنهج وهذه الخطوة يصبح العنصر الدينى مع أنه الدافع الأول لتكوين الظاهرة عنصرا مساعدا لبقية العناصر ، ضامرا ، متقوقعا.

وهذا المنهج مخالف لطبيعة الظاهرة الفكرية المدروسة التى تكونت أساسا من تحويل النص الموحى به إلى معنى والمعنى إلى بناء نظرى. لأن فكرة العوامل التى تحدد تكوين الظاهرة وتتحكم فيها ، وفكرة العناصر التى تتكون منها مادة الظاهرة لا يمكن أن تساعد على فهم الظاهرة الفكرية التى نشأت طبقا لمنهج التفسير في تفسير النصوص ، أى طبقا لمنطق في فهم الوحى ، وحسب منطق عقلى آخر حدد طبيعة

__________________

١ ـ د. حسن حنفى : دراسات إسلامية ص ٢٢٧ ـ ٢٢٨ دار التنوير ١٩٨٢ م ، د. ساسى سالم الحاج : الظاهرة الاستشراقية ... ج ١ ص ٢٠١.

٢ ـ د. محمد عابد الجابرى : الرؤية الاستشراقية في الفلسفة الإسلامية (مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية) ج ١ ص ٣١٩.

٣ ـ د. عماد الدين خليل : المستشرقون والسيرة ... ص ٨ مصدر سابق.

٤ ـ د. حسن حنفى : السابق ص ٩٧ ـ ١٠١.


البناء النظرى للظاهرة الفكرية الناشئة من تحول الوحى إلى حضارة ليست ظاهرة مركبة تركيبا صناعيا من عناصر ووقائع مادية أنشأتها عوامل تاريخية ، فالظاهرة الفكرية هنا امتداد للنص الدينى (١).

وقد عارض المستشرق السويدى «تور أندريه TorAndrac» صاحب كتاب (محمد حياته وعقيدته) هذا المنهج العقيم الذى سلكه بعض المستشرقين في البحث ، مبينا أن جوهر النبوة ، لا يمكن تحليله إلى مجموعة من آلاف العناصر الجزئية ، ويرى أن مهمة الباحث : أن يدرك في نظرة موضوعية كيف تتألف من العناصر والمؤثرات المختلفة وحدة جديدة أصيلة تنبض بالحياة (٢).

ومنهج تفتيت الظواهر إلى جزيئات لا يمكن أن تكون منهجا عاما متفقا عليه ، لأنه نابع من عقلية الباحث الغربى ومزاجه وثقافته وبيئته وطبيعة الدين الذى نشأ فيه. ومن هنا يتضح خطأ المستشرق حين يطبق هذا المنهج ـ الإقليمى أو المحلى ـ على الظاهرة الدينية الإسلامية.

أما المسيحية ، فطبقا لها يمكن تقسيم الظاهرة إلى عوامل دينية وأخرى غير دينية ، وذلك لأن الدين المسيحى لا ينظم إلا الجانب الروحى ، أما الجوانب المادية التى تتضمن ، عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية فلا شأن للدين بها.

ومن أخطاء المستشرقين ـ أيضا ـ فى تطبيق هذا المنهج على النبوة والوحى ، والقرآن والسيرة ... :

١ ـ أنه قد يلجأ إليه عامدا للقضاء على الطابع الكلى الشامل وهو أهم ما يميز الحضارة الإسلامية التى قامت ـ أيضا ـ على وحى كلى شامل.

٢ ـ قد يلجأ إليه بطريقة لا شعورية ، عن رغبة دفينة في الهدم والقضاء على الظاهرة.

٣ ـ قد يلجأ إليه حتى يمكن رد كل جزء إلى أجزاء شبيهه في حضارات معاصرة ، ومن ثم يكون التحليل مقدمة لإثبات الأثر الخارجى وتفريغ الظاهرة ـ الوحى والنبوة ـ من مضمونها الأصيل.

وأخيرا فإن نظرة المستشرقين إلى هذا المنهج ـ نتاج الفكر الاستشراقى الغربى على أنه منهج عام وشامل ، يمكن تطبيقه على أى دراسة إنسانية ، كدراساتهم للإسلام ،

__________________

١ ـ د. حسن حنفى : السابق ص ٩٧.

٢ ـ محمد كامل عياد : مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق ج ٤ ص ٧٩٧ ، ١٩٦٩ م.


هذه النظرة أدت بهم إلى أخطاء جسيمة كإصدار أحكام عامة على الحضارة الإسلامية بالجدب ، وعلى الدين بالجمود ، وعلى الوحى بالاضطراب والاختلاط وعلى التوحيد بالتجريد ، وعلى العقائد بالقضاء والقدر وعلى الشعوب بالتخلف (١)

٣ ـ المنهج الإسقاطى :

منهج التصورات والانطباعات الزائفة عن موضوع البحث ، والتى تنشأ من خضوع المستشرق لهواه وعدم استطاعته التخلص من الانطباعات التى تركتها بيئته لديه بيئته الثقافية المعينة ـ مع أن التحرر من الأحكام المسبقة العقلية والانفعالية معا هو الشرط الأول للبحث العلمى ـ.

هذه الانطباعات والتصورات والأحكام المسبقة تؤدى بالباحث ـ المستشرق ـ إلى أخطاء جسيمة : فالظاهرة الموجودة بالفعل بما أنها لا توجد كصورة عقلية في ذهنه فإنه يحكم عليها بالنفى. والظاهرة التى لا وجود لها بالفعل ولكنها توجد كصورة ذهنية عند المستشرق فإنه يحكم عليها بالوجود الفعلى (٢).

ومعنى هذا أن أصحاب هذا المنهج من المستشرقين : يعينون لهم غاية ويقررون فى أنفسهم تحقيق تلك الغاية بكل طريق ، ثم يقومون لها بجمع معلومات من كل رطب ويابس ... وإن كانت هذه المواد تافهة لا قيمة لها ، ويقدمونها بعد التمويه بكل جراءة ، ويبنون عليها نظرية لا يكون لها وجود إلا في نفوسهم وأذهانهم (٣).

وطبقا لهذا المنهج فإن الباحث يصدر أحكاما قيمة يعلى فيها من شأن الصور الموجودة في ذهنه ، ويقلل من شأن الموضوعات المدركة بالفعل.

وبتطبيق هذا المنهج على الدراسات الإسلامية فإن المستشرق يسقط تصوره للمسيحية على الإسلام ، فتصبح المسيحية المتصورة هى الإسلام في الواقع ، والإسلام الحقيقى منفى ، فلا وجود له ، كأن يسمى الإسلام بالمحمدية كما تنسب المسيحية للمسيح ، والبوذية لبوذا ، وكثيرا ما تحدث المستشرقون على الكنيسة الإسلامية أو السلطة الدينية وعلاقتها بالدولة ، أو اتهام التوحيد الإسلامى بأنه تجريد خالص ، والحكم على التنزيه بأنه تجريد إسقاط من التجسيم والتشبيه الذى تعج بهما اليهودية والنصرانية.

__________________

١ ـ د. حسن حنفى : السابق ص ١٠٠ ـ ١٠١.

٢ ـ د. حسن حنفى : السابق ١٠١.

٣ ـ أبو الحسن الندوى : الإسلام والمستشرقون ص ٢٠ ط ندوة العلماء لكنهؤ. الهند ، وأنظر د. محمد الدسوقى : الفكر الاستشراقى في ميزان النقد العلمى ص ١٠٨ الكتاب الدورى لقسم الاستشراق بكلية الدعوة بالمدينة المنورة. العدد الأول ١٤١٣ ه‍.


وواضح أن كل حكم نفى يقوم به المستشرق يقوم على نفى لما لا يوجد في ذهنه ، وكل حكم إيجاب يقوم على إثبات لما يقوم في ذهنه (١).

يشير المستشرق الفرنسى بوكاى إلى تطبيقات هذه المناهج لدى بعض المستشرقين بقوله : «إن الأحكام المغلوطة تماما التى تصدر في الغرب عن الإسلام ناتجة عن الجهل حينا وعن التسفيه العامد حينا آخر ، ولكن أخطر الأباطيل المنتشرة تلك التى تخص الأمور الفعلية ، وإذا كنا نستطيع أن نغفر لأخطاء خاصة بالتقدير فإننا لا نستطيع أن نغفر لتقديم الوقائع بشكل ينافى الحقيقة».

ويسوق بوكاى مثالا على ذلك : فى دائرة المعارف أونيفر ساليس الجزء السادس تحت عنوان «الأناجيل» يقول المؤلف : (إن المبشرين ـ لا يدّعون ـ كما يفعل القرآن ـ نقل سيرة ذاتية أملاها الله بشكل معجز على محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم»). وحقيقة الأمر ألا صلة بين القرآن وما يسميه المؤلف : بالسيرة الذاتية. القرآن رسالة. ولو كان المؤلف قد استعان حتى بأسوإ ترجمة للقرآن لثبت له ذلك. إن الدعوى تنافى الواقع هى الأخرى .. إن المسئول عن هذه الأكذوبة الخاصة بالقرآن أستاذ بجامعة اليسوعيين اللاهوتية بمدينة ليون. إن نشر أكاذيب من هذا النوع يساهم في إعطاء صورة زائفة عن القرآن والإسلام» (٢).

وعلى ذلك يمكن القول بأن الإسقاط خطأ في الإدراك يجعل المستشرق في عزلة ذهنية ، ويضعه في موقف نرجسى خالص.

والإسقاط بهذه الصورة لا يؤسس منهجا ولا يعطى رؤية لأنه إسقاط لهوى أو مصلحة أو صورة ذهنية بيئية هى الذاتية عند ما تتوقف عن أداء دورها في كشف الموضوع (٣).

٤ ـ منهج الأثر والتأثر :

المفهوم المستقيم لهذا المنهج هو : أن تبادل الآراء قديما وحديثا ، والتفاعل والتأثير والتأثر بين الناس ، وبين العلماء سنة اجتماعية لا يمكن انكارها.

ولكننا في ضوء هذا المفهوم ننبه إلى أمرين :

١ ـ الاستفادة ـ نتيجة التأثر والأثر ـ شىء وإنشاء مذهب مستقل شىء آخر.

٢ ـ أن التأثر ينطبق على الفكر البشرى فهذه طبيعته ، يؤثر ويتأثر وذلك لمحدودية

__________________

١ ـ د. حسن حنفى : السابق ص ١٠٤.

٢ ـ موريس بوكاى : دراسة الكتب المقدسة ... ص ١٣٥ مصدر سابق.

٣ ـ د. حسن حنفى : السابق.


المعرفة البشرية المحصورة في الحس والعقل.

أما طور ما وراءهما ، نقصد الوحى ، والمعرفة الآتية من قبله ، فلا تتأثر بشيء ، باعتبار مصدرها الإلهى ، فهى معرفة فوق الزمان والمكان مؤثرة غير متأثرة.

أما منهج الأثر والتأثر عند نفر من المستشرقين فإنه يقوم على نزعة التعالى والترفع والعلمنة ، لاعتقادهم أن الحضارة اليونانية ـ وحضارتهم الأوربية امتداد لها ـ هى أصل الحضارات ، ومن ثم فهى المؤثرة دائما ، وكل شىء يرد إليها.

فلما رأى المستشرق أن حضارته الغربية ما هى إلا مردود للحضارة اليونانية ، متأثرة بها كل التأثر ظن أن كل الحضارات كذلك لا بدّ آخذة من اليونان ، مردودة إلى حضارتهم. فى حين لو أنه قارن مقارنة موضوعية منصفة بين الفكر الإسلامى ، والحضارة اليونانية لوجد أن ما بينهما كانت علاقة رفض أكثر منها علاقة قبول (١). وخطأ المستشرق ـ أيضا ـ ناتج عن تصور العلاقة بين الثقافات على أنها أحادية الطرف ، الأولى معطية منتجة مبدعة وهى الثقافة الأوربية ، والثانية مستقبلة ـ دائما ـ مجدبة فارغة ، خاوية وهى الثقافة غير الأوربية (٢).

ولو أنصف المستشرق لعلم أن هيرودت وأفلاطون قد زارا مصر ، وتأثرا بالحضارة الفرعونية ، كما أن انطباعات فيثاغورث عن الشرق غير خافية في فلسفته.

بعض المستشرقين يتجاهلون الثوابت التاريخية ، وينكرون الجميل ـ إذا صح التعبير ـ ويقابلون الحسنة بالسيئة ، من الثابت أن أوربا تأثرت بالحضارة الإسلامية تأثرا عظيما ، يقول «جوستاف لوبون» : «كان الشرق يتمتع بحضارة زاهرة بفضل العرب (٣) ، وأما الغرب فكان غارقا في بحر من الهمجية ، ولم يكن عند أولئك البرابرة ـ يقصد الحملات الصليبية على ديار الإسلام ـ ما يفيد الشرق ولم ينتفع الشرق منهم بشيء في الحقيقة ، ولم يكن للحروب الصليبية عند أهل الشرق من النتائج سوى بذرها في قلوبهم الازدراء للغربيين على مر الأجيال» (٤).

التبادل إذن ليس أحادى ، بل العكس كانت الحضارة الإسلامية هى الأصل وهى النبع.

وتطبيقات هذه الفئة من المستشرقين لهذا المنهج على الإسلام وعلومه تكمل عملية الهدم التى مارسها المنهج التاريخى ، والمنهج التحليلى وكذلك المنهج الإسقاطى.

__________________

١ ـ د حسن حنفى : السابق ص ١٠٧ ـ ١٠٨.

٢ ـ د حسن حنفى : السابق ص ١٠٧ ـ ١٠٨.

٣ ـ بل قل بفضل المسلمين.

٤ ـ جوستاف لوبون : حضارة العرب ص ٣٣٤.


فبعد أن يقوم المنهج التاريخى بمهمة الفصم بين مصدر الظاهرة الفكرية وهو النص الدينى وبين هذه الظاهرة نفسها ، مرجعا إياها إلى مصدر تاريخى محض ، وبعد أن يقوم المنهج التحليلى بمهمة تفتيت الظاهرة الفكرية إلى آلاف العناصر والجزئيات ، وبعد أن يقوم المنهج الإسقاطى بمهمة سد اعتبار الوجود الذهنى للظاهرة دون الوجود الفعلى ، يقوم منهج الأثر والتأثر بالقضاء التام على ما تبقى من الظاهرة مفرغا إياها من مضمونها ، ومرجعا إياها إلى مصادر خارجية ، دون وضع أى منطلق سابق لمفهوم الأثر والتأثر ، بل بإصدار هذا الحكم دائما بمجرد وجود اتصال بين بيئتين ثقافيتين وظهور تشابه بينهما.

وغفل المستشرق أن هذا التشابه قد يكون كاذبا وقد يكون حقيقيا ، وقد يكون لفظيا ، وقد يكون معنويا (١).

وطبقا لمنهج الأثر والتأثر فإن المسيحية «مسيحية بولس» (٢) تنهار من أساسها ، لأن أصولها التى قامت عليها هى هى الأصول التى كانت في الديانات الوثنية ، لذلك شكك كثير من الباحثين الأوربيين في حياة المسيح ـ عليه‌السلام ـ لأنهم وجدوها صورة من الآلهة الوثنية القديمة مثل : مثرا ، وأودنيس ، وإيزيس ، وبوذا ... وكلها آلهة متشابهة. ومسيحية بولس خلعت صفاتها على المسيح (!).

يقول الأب بولس إلياس اليسوع : «لقد لقحت الكنيسة الفكر الوثنى المسيحى ، فحمل مرسلوها إلى اليونان حكمة التوراة وآداب الإنجيل ، وأخذوا منهم وضوح التعبير ودقة التفكير ، فنتج عن ذلك التلاقح تراث جديد نقلوه إلى روما ، ولقد احترمت الكنيسة تعاليم الشعوب وحافظت على تنوع الطقوس في مختلف الطوائف ، فما فرضت صيغة موحدة لصلاة ...» ثم يستطرد قائلا : «إنه في مفتتح القرن السابع الميلادى ، كتب البابا (غريغوريوس) ... إلى القديس (أوغطينوس) أسقف (كنتربرى) ببريطانيا ، يقول : دع البريطانيين وعاداتهم وابق لهم أعيادهم الوثنية واكتف بتنصير تلك الأعياد والعوائد واضعا إله المسيحيين موضع آلهة الوثنيين ..» (٣). فكان تطعيم وكان مزج بين المسيحية والوثنية ، نزولا على حكم الأخيرة في عباداتها وصلاتها

__________________

١ ـ د. حسن حنفى : السابق ص ١٠٤ ـ ١٠٥.

٢ ـ دخل بولس المسيحية بعقلية مصبوغة بالصبغة الهيلنية ، محشوة بمعلومات وعقائد وثنية فأفرغها فى مسيحية جديدة.

٣ ـ الأب بولس إلياس كتاب يسوع المسيح ص ١٩٩.

د. محمد أبو الغيط الفرت : تحقيق تاريخ الأناجيل ... ص ٦١ ـ ٦٢ مجلة كلية أصول الدين ع. لأول ١٣٩٧ ه‍ ـ ١٣٩٨ ه‍. جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.


وطقوسها بكل وضوح وصراحة (١).

وقد عقد الدكتور أحمد شلبى موازنة طويلة بين المسيحية والعقائد الوثنية التى كانت في سوريا وما حولها ، نجتزئ منها هذه الإشارات :

١ ـ من التشابه بين مثرا (٢) ويسوع :

ـ كل منهما كان وسيطا بين الله والبشر.

ـ ولد مثرا في كهف ، وولد عيسى في مزود البقر.

ـ ولد كل منهما في الخامس والعشرين من ديسمبر.

ـ كل منهما كان له اثنى عشر حواريا.

ـ كل منهما مات ليخلص البشر من خطاياهم.

ـ كل منهما دفن وعاد للحياة بعد دفنه.

ـ كل منهما صعد إلى السماء ليخلص تلاميذه.

ـ كل منهما كان يدعى منقذا ومخلصا.

ـ كل منهما كان له اتباع يعمرون باسمه ويقام عشاء مقدس في ذكراه (٣).

ويقول الأستاذ العقاد في كتابه «حياة المسيح في الكشوف والتاريخ» أن عبادة مثرا هذه انتقلت إلى الدولة الرومانية ، وامتزجت بعبادة ايزوريس المصرية ومنها جاءت عبادة ديمتر ، وهى في جملتها هى الديانة المصرية التى حوربت ، وقد صوروها فى صورة أم تحتضن طفلها الرضيع دلالة على (الحنان والبراءة) ، والصورة هى صورة إيزيس وحوريس ، ثم هى هى أيضا صورة مريم العذراء التى تحتضن المسيح (٤).

٢ ـ وهناك موازنة أطول بين حياة عيسي وحياة بوذا (٥).

ومع ذلك ـ وهو قليل من كثير ـ فهمّ المستشرقين ـ دون خجل أو حياء ـ الطعن فى الإسلام باسم العلم والبحث العلمى ، مع أنهم لا يعالجون الإسلام كموضوع من موضوعات البحث العلمى بل باعتباره متهما يقف أمام قضاته ، وحقيقة أمرهم أنهم «ليسوا من العلم ولا من الأمانة كما يتصورهم الناس ، وأنهم ممن لا يوثق بهم فى

__________________

١ ـ د. محمد أبو الغيط : المصدر السابق ٦٢.

٢ ـ مثرا ديانة فارسية ازدهرت في فارس في القرن السادس قبل الميلاد.

٣ ـ د. أحمد شلبى ك المسيحية ص ١٧٢.

٤ ـ عن. د. عبد الجليل شلبى : رد مفتريات على الإسلام ص ٩٧ دار القلم. الكويت ١٤٠٢ ه‍ ، ١٩٨٢ م.

٥ ـ أنظر : المبحث الرابع من الفصل الخامس في هذا الكتاب.


البحث العلمى» (١) ، فبعض مناهجهم تنضح بالتعصب الذميم ، وتتخطى أصول المنهج العلمى.

فضلا عن نزعة التعالى والغرور. فالمستشرق يتعامل مع موضوعه ـ وهو هنا الإسلام والمسلمين ـ تعامل المغرور الذى يستأنس في نفسه المقدرة الفائقة ـ وموضوعه العجز ـ يشعر أن أصوله قوية ومتينة ، وأصول الغير أو الآخر منهارة أو هباء ونأخذ مثلا على ذلك «ماسينيون» وقد غمره الشعور بالرحمة المسيحية الحانية على الشرق وأهله ، فيقول : «فيما يخص الشرقيين ، علينا أن نلجأ إلى علم الرحمة الحانية هذا ، إلى هذه المشاركة حتى في بناء لغتهم وبنيتهم العقلية ، التى ينبغى بحق أن نشارك فيها ، لأن هذا العلم في نهاية المطاف يشهد إما لحقائق هى لنا أيضا ، أو لحقائق فقدناها وعلينا أن نستعيدها.

وأخيرا لأن كل ما هو موجود هو ، بمعنى عميق خير بطريقة ما. هؤلاء البشر المساكين المستعمرون لا يوجدون لأغراضنا وحسب بل يوجدون بذاتهم ولذاتهم (٢).

وحول نزعة التعالى والبعد عن الموضوعية يقول الدكتور «فرانتز روزنتال» : ومن المزالق التى يندر أن يتحاشاها الباحثون الغربيون عند تقديرهم البحث العلمى عند المسلمين أنهم يضعون مقاييس صارمة يحكمون بموجبها على ما أنتجه الفكر الإسلامى ، مقاييس أشد صرامة من تلك التى نطبقها على ذواتنا نحن الغربيين. فإن العدل والإنصاف يقتضياننا أن نميز بين مختلف أنواع النشاط الأدبى ومراتبه التى من شأنها أن تترك أثرا بعيد الغور في طبيعة النتاج العلمى الرفيع ، على أننا قلّ أن نرى عالما غربيا يراعى هذا التمييز عند ما يحكم على البحث العلمى عند المسلمين» (٣).

وأخيرا ، وبعد الإشارات السابقة عن بعض مناهج الكثير من المستشرقين فى تناولهم الإسلام وعلومه ، فإننا لا نستطيع أن نخرج إلا بدرس واحد هو : الريبة وعدم الثقة بكثير من الكتابات التى تعرض تحت : الأكاديمية والمنهجية وهى تخفى آراء عقائدية وأحقادا مختلفة ، فضلا عن الأحكام المسبقة وما لها من تأثير ـ شعورى أو لا شعورى ـ يؤدى إلى اختلال المنهج.

وأين هذه الادعاءات المنهجية من قول الله جل وعلا في قرآننا الكريم : (وَلا

__________________

١ ـ د. حسن الهراوى : ضرر المستشرقين أكثر من نفعهم مقال بمجلة الهلال. ع ٣ ، ١٩٣٣ م.

٢ ـ د. إدوارد سعيد : السابق ص ٢٧٣.

٣ ـ د. فرانتز روزنتال : مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمى ترجمة د. أنيس فريحة ص ١٩. دار الثقافة. بيروت ١٤٠٠ ه‍ ـ ١٩٨٠ م.


يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨].

وأين تلك المناهج المدعاة من قول الحسن بن الهيثم في المنهج : «الحق مطلوب لذاته ، وكل مطلوب لذاته فليس يعنى طالبه غير وجوده» (١). فإن كنت ناقلا فالصحة ، أو مدعيا فالدليل.

لقد استجابت المناهج الاستشراقية للثقافة التى انتجتها أكثر مما استجابت لموضوعها المزعوم (٢).

__________________

١ ـ مقالة الشكوك على بطليموس تحقيق د. عبد الحميد صبرة ص ٣ القاهرة ١٩٧١ م.

٢ ـ إدوارد سعيد : الاستشراق ص ٥٥.



الفصل الثانى

الوحي

الوحى في اللغة والاصطلاح.

مراتب الوحى.

أشكال الوحى.

الوحى إلى الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

بدايات الوحى.

مظاهر الوحى وكيف كان يجيء.


الوحي في اللغة والاصطلاح : ـ

جرب الإنسان ارتياد عالمه بحواسه وعقله ، وثبت عجزه عن تجاوز هذا العالم المشاهد ، فضلا عن عدم إحاطته بهذا العالم. ومن ثم أصبح الإنسان بحاجة إلى وسيلة معرفية أخرى ـ غير الحس والعقل ـ وسيلة مأمونة مضمونة تبدد هذه الحيرة وهذا الاضطراب ، لا بدّ من وسيلة موصولة بخالق الكون ومدبره ، لا بدّ من وحى من الله تعالى يكشف للإنسان عن بعض ما غيب عن الحس والعقل.

الوحى الإلهى إلى الإنسان مقصود به هدايته وتكميل إدراكاته ، ووصل إدراكه الجزئى بالمدركات الكلية وراء الكون المشاهد.

نريد أن نقول أن الوحى والعقل ضروريان ومتكاملان وأن هذا التكامل لا يكون ولا يتحقق إلا بإدراك أن للعقل ميدانه لا يتجاوزه. فالعقل آلة إدراكية محدودة كمحدودية الحواس.

يقول الإمام الشاطبى : «إن الله جعل للعقل في إدراكه حدا تنتهى إليه ، لا تتعداه ، ولم يجعل لها سبيلا إلى الإدراك في كل مطلوب ولو كانت كذلك لاستوت مع البارى ـ تعالى ـ فى إدراك جميع ما كان وما لا يكون» (١).

الوحى لا يضاد طبيعة العقل كعقل ، فلا تنافر بينهما بشرط أن يكون المعقول صريحا والمنقول صحيحا كما يقول الإمام ابن تيمية : (٢) لا يستقل عقل دون هداية* بالوحى تأصيلا ولا تفصيلا كالطرف دون النور ليس بمدرك* حتى تراه بكرة وأصيلا نور النبوة مثل نور الشمس* للعين البصيرة فاتخذه دليلا (٣)

حقيقة الوحي : ـ

الوحى هو «الإشارة والكتابة والرسالة والإلهام والكلام الخفى ، وكل ما ألقيته إلى غيرك ، يقال : وحيت إليه الكلام ، ووحى وحيا ، وأوحى أيضا أى كتب» (٤)

__________________

١ ـ الشاطبى : الاعتصام ج ٢ ص ٣١٨. دار عمر بن الخطاب بالإسكندرية / مصر.

٢ ـ ابن تيمية : نقض المنطق ص ٥٣.

٣ ـ ابن القيم : مختصر الصواعق المرسلة ص ١٤٦ ـ ١٤٧ مكتبة المتنبى. القاهرة.

ومباحث في المعرفة في الفكر الإسلامى للمؤلف.

٤ ـ ابن منظور : لسان العرب ح ٣ دار المعارف بمصر ١٩٨٢ م.


وقيل أيضا : «أصل الوحى في اللغة : إعلام في خفاء ، ولذلك صار الإلهام وحيا (١) ويقال : «فى فعله وحى وأوحى» (٢) ويحتمل أن يكون الوحى اسما ومصدرا ، فهو اسم «ومعناه الكتاب ، ومصدرا وله معان منها ، الإرسال والإلهام والكتابة والكلام والإشارة والإفهام» (٣) وقد «يطلق ويراد به اسم المفعول منه أى الموحى وهو كلام الله المنزل على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٤).

الوحى ـ إذن ـ إعلام الله تعالى من اصطفاه من عباده كل ما أراد اطلاعه عليه من ألوان الهداية والعلم ، ولكن بطريقة خفية ، غير معتادة للبشر ، أى خارجة عن طوق البشر.

ولما كانت صفة الوحى إلى نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، توافق صفة الوحى إلى من تقدمه من النبيين (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) [الشورى : ٣] فإن عمدة الأدلة فى الوحى : الشرع ، قرآنا وسنة.

قد يبدأ الوحى بالرؤيا المنامية يراها العبد المصطفى ويوقن أنها وحى الله تعالى ورؤيا الأنبياء ليست من أضغاث الأحلام التى تترجم بها النفس عن رغباتها المكبوتة ، فأفئدتهم معدة إعدادا إلهيا.

كانت الرؤيا الصالحة أول مطالع الوحى إلى نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أخرج أبو نعيم عن علقمة بن قيس قال : «إن أول ما يؤتى به الأنبياء في المنام حتى تهدأ قلوبهم ، ثم ينزل الوحى بعد في اليقظة» (٥). وعن عائشة أنها قالت : «أول ما بدئ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الوحى الرؤيا الصالحة ـ أو الصادقة ـ فى النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء ، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك ، فقال : اقرأ» (٦).

من هذا الحديث يمكن استنباط ثلاث نتائج هى :

أولها : أن قول أم المؤمنين عائشة (من الوحى) يحتمل أن يكون (من) تبعيضية ، أى من أقسام الوحى للأنبياء ، والرؤيا وإن كانت جزءا من النبوة باعتبار صدقها لا غير

__________________

١ ـ المصدر السابق.

٢ ـ ابن القيم : مدارج السالكين ج ١ ص ٢٩ دار الكتاب العربى.

٣ ـ الرازى التفسير الكبير ج ٢٨ ص ٢٤٢ ط ثانية طهران.

٤ ـ العسقلانى : فتح البارى ج ١ ص ٢٧ عام ١٣٧٩ ه‍.

٥ ـ العسقلانى : المصدر السابق ج ١ ص ٩ ، ٢٣ ، صحيح مسلم بشرح النووى ج ٢ ص ١٩٧. دار الفكر بيروت.

٦ ـ صحيح مسلم بشرح النووى.


وإلا لساغ لصاحبها أن يسمى نبيا» (١).

ثانيها : أن خلوة النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» مترتبة على الرؤيا الصالحة التى هى قسم من أقسام الوحى ، فإن قيل : «أمر الغار قبل الرسالة ، فلا حكم. أجيب بأنه أول ما بدئ به من الوحى الرؤيا الصالحة ثم حبب إليه الخلاء ... فدل ذلك على أن الخلوة حكم مترتب على الوحى لأن كلمة ثم للترتيب ، فكان ذلك أمعن في الذهاب إلى أن التحنث لم يكن تبعية لعادة ولا رياضة نفسية خاصة ، بل كان وحيا بوحى من عند الله ، والله أعلم حيث يجعل رسالته» (٢).

ثالثها : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» خاف على نفسه لما رأى الملك أول مرة ...» (٣) فلم يكن «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ينتظر النبوة ولا متهيئ لها ، وإلا لما خاف على نفسه ، ولو كان كذلك «لظهر عقب ذلك ما كانت تنطوى عليه نفسه الوثابة» (٤).

ولكن لا يعنى ذلك أن كل من رأى رؤيا صادقة تحنث.

والمعنى أن النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» كان يرى الرؤيا فتقع كما رأى ، وتلك إرهاصات الوحى ، وكانت مدته قبل وحى اليقظة الصريح ستة أشهر (٥). ولقد كان ذلك هو الحال مع إبراهيم عليه‌السلام حين نزل الأمر بذبح إسماعيل (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) [الصافات : ١٠٢] فضلا عن دلالته على أن رؤيا الأنبياء أمر إلهى يترتب عليه آثار سلوكية ، فإنها «كلها وحى مقطوع على صحته» (٦).

مراتب الوحي ووسائله : ـ

حددت الآية (٥١) من سورة الشورى ضروب تكليم الله تعالى لأنبيائه ـ وإن كان هذا الأمر لا يعرف كنهه ـ : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١)).

تضمنت الآية ثلاث مراتب للوحى :

المرتبة الأولى : وهو المراد بقوله تعالى : (أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) وهو نفث

__________________

١ ـ العسقلانى : السابق.

٢ ـ القسطلانى : إرشاد السارى لشرح صحيح البخارى ج ٦ ص ٣٤. المطبعة الأميرية بمصر سنة ١٣٠٤ ه‍.

٣ ـ رشيد رضا : الوحى المحمدى ص ٩٣ ـ ٩٤ الطبعة السادسة ١٣٨٠ ه‍.

٤ ـ المرجع السابق.

٥ ـ البيهقى : دلائل النبوة ج! ص ٣٩٣ ط أولى. دار النصر للطباعة. القاهرة.

٦ ـ ابن حزم الفصل ج ٥ ص ١٤. مكتبة السلام العالمية. القاهرة (ب ـ ت)


ينفث في قلبه فيكون إلهاما (١) فقد جاء في صحيح ابن حبان عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» أنه قال : «إن روح القدس نفث في روعى أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها ...» (٢) وهى حالة فيض إلهى يتعرض لها النبى حتى إذا ما فارقته كان قد وعى تماما ما ألهم به.

المرتبة الثانية : وهو الذى «وصل إليه الوحى لا بواسطة شخص آخر ولكنه سمع عين كلام الله» (٣) والسامع لا يبصر من يكلمه ، وهو المقصود بقوله تعالى : (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) كما حدث لموسى عليه‌السلام (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٤].

والله تعالى فضل بعض الرسل على جميعهم بالتكليم في اليقظة من وراء حجاب دون وساطة ملك ، لكن بكلام مسموع بالآذان معلوم بالقلب زائد على الوحى المسموع من الملك عن الله تعالى (٤) وهذا النوع كما هو ثابت لموسى ثابت لنبينا محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ليلة الإسراء والمعراج. قال تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) [البقرة : ٢٥٣].

وسماع النبى من الله ـ فيما يقول الغزالى ـ يكون بخلق الله علما ضروريا يدرك به الرسول ثلاثة أمور.

أولها : أن المتكلم هو الله تعالى. وثانيها : أن ما سمعه هو كلام الله.

وثالثها : مراد الله من كلامه (٥).

أما المرتبة الثالثة : فإنها تكون عن طريق الملك الذى يأتى النبى فينقل إليه كلام الله ، أى «وصل إليه الوحى بواسطة شخص آخر ، وهو المراد بقوله تعالى : (أو يرسل رسولا فيوحى بإذنه ما يشاء)» (٦) والمعنى بالرسول ملك الوحى المعبر عنه بالروح الأمين وهو جبريل (٧) عليه‌السلام.

والله سبحانه ميز بين هذه المراتب الثلاثة ، ففرق بين «الوحى وبين إرسال الرسول

__________________

١ ـ القرطبى : الجامع لأحكام القرآن ص ٥٨٧٣ كتاب الشعب مصر

٢ ـ ابن كثير : تفسير القرآن العظيم ج ٢ ص ١٢١ الحلبى مصر

٣ ـ الرازى : التفسير الكبير ج ٢٧ ص ١٨٦

٤ ـ ابن حزم الفصل ج ٢ ص ٨

٥ ـ عبد اللطيف السبكى : الوحى إلى الرسول محمد ص ٨٣ ـ ٨٤. مطبوعات المجلس الأعلى للشئون الإسلامية. القاهرة.

٦ ـ الرازى : السابق.

٧ ـ يتساءل المستشرق (دى بور) ساخرا : ما السبيل إلى معرفة الروح الذى هو أسمى من روحنا والذى نحن في حاجة إلى هدايته؟ ثم يقول : هذا سؤال إذا نظرنا إليه بمنظار العقل المجرد فقد يتحطم على صخرته كل مذهب دينى يقول بوساطة إنسان ما (انظر : تاريخ الفلسفة في الإسلام ترجمة د. أبو ريدة ـ


الذى يوحى بإذنه ما يشاء ، كما فرق بين ذلك وبين المتكلم في قوله تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) إلى قوله تعالى (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٣ ـ ١٦٤] ففرق بين الإيحاء العام المشترك بين الأنبياء وبين تكليمه موسى ، كما فرق بين الإيحاء وبين إرسال رسول يوحى بإذنه ما يشاء (١). هذه مراتب الوحى الخاص الذى لا يكون لغير الأنبياء ، وذكر الإمام ابن القيم فى مدارج السالكين مراتب أخرى دون الوحى الخاص هى مرتبة التحديث أو الإلهام (٢).

نخلص مما سبق إلى أن النبوة «ليست صفة راجعة إلى النبى ولا درجة يبلغ إليها أحد بعلمه وكسبه ولا استعدادا نفسيا يستحق به اتصالا بالروحانيات ، بل رحمة من الله يمن بها على من يشاء ..» (٣).

كيف كان يأتى الوحى؟ :

لا شك في تلقى الملك من الله تعالى ثم تلقى النبى منه ، أما «صفة تلقى الملك من الله فلا نعلمها لأنها من الغيب ولا صفة تلقى النبى من جبريل لأنه من شأن النبوة» (٤).

أما عن كيفية مجىء الوحى ، فيقول الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» : «أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس ، وهو أشده على فيفصم عنى وقد وعيت ما قال ، وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا فيكلمنى فأعي ما يقول» (٥).

ذهب العلماء في طرق التنزيل مذهبين :

الأول : يقول بانخلاع «النبى من صورة البشرية إلى صورة الملكية وأخذه من جبريل» (٦) لأن النبى إذا «شارك الناس في البشرية والإنسانية من حيث الصورة باينهم من حيث المعنى ، إذ بشريته فوق بشرية الناس لاستعداد بشريته لقبول الوحى : (قُلْ

__________________

ص ٢٢٨ سنة ١٣٥٧ ه‍). ونسأل دى بور : ما رأيك في اليهودية. ألا تؤمن بها؟ فإن أجاب بنعم. فلا محل لسؤاله وتهكمه لأن الذى جاء بالتوراة متوسط جسمانى هو موسى عليه‌السلام. وإن أجاب : بلا. فهو كافر باليهودية وعهدها القديم كافر بالنصرانية ، ومن ثم يقول ولا حرج ، فإن لم يستح فليصنع ما يشاء.

١ ـ ابن تيمية : الصفدية ص ٢٠٤ ، تحقيق د. محمد رشاد وسالم مطابع حنيفة بالرياض ١٣٩٦ ه

٢ ـ ابن القيم : مدارج السالكين ج ١ ص ٤٥ ـ ٥١ عام ١٣٩٢ ه‍.

٣ ـ الشهرستانى : الملل والنحل ص ٨٤ بهامش الفصل ١٩٦٨ م.

٤ ـ رشيد رضا : تفسير المنار ج ١.

٥ ـ ابن حجر : فتح البارى ... ج ١ ص ٤٥ ، والدهلوى : حجة الله البالغة ج ٢ ص ٢٠٦ دار التراث بالقاهرة.

٦ ـ السيوطى : الإتقان في علوم القرآن ج ١ ص ٤٤ ط ٣ الحلبى القاهرة.


إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أشار إلى طرف المشابهة من حيث الصورة (يُوحى إِلَيَ) أشار إلى طرف المباينة من حيث المعنى» (١). وهذا معنى مجىء الملك إلى النبى وظهور أثر التغير على الرسول ، فيغيب كما لو كان مغشيا عليه وهو ليس كذلك وإنما هى حالة انسلاخه من حالته البشرية العادية. وعلم النبى في تلك الحالة «علم شهادة وعيان ـ لا وهم وخيال ـ لا يلحقه الخطأ والزلل ولا يقع فيه الخطأ والزلل ، ولا يقع فيه الخطأ والوهم ، بل المطابقة فيه ذاتية لزوال حجاب الغيب وحصول الشهادة الواضحة عند مفارقة هذه الحالة البشرية» (٢).

ولأصحاب هذا المذهب دليلان :

الأول : نزول جبريل ـ عليه‌السلام ـ فى زمن صبا النبى ليطهر قلبه من المادة التى تمنعه من الترقى ، فقد روى أنس «أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، أتاه جبريل ذات يوم وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه ، فشق عن قلبه فاستخرج منه علقه ، فقال : هذا حظ الشيطان منك ...» (٣).

الثانى : أن صعود الآدمى ببدنه إلى السماء قد ثبت في أمر المسيح فإنه صعد إلى السماء ... وكذلك إدريس صعد إلى السماء. وكذلك عند أهل الكتاب أن إلياس صعد إلى السماء ببدنه» (٤).

المذهب الثانى : القائل بانسلاخ الملك من صورته الملائكية إلى الصورة البشرية ، فالملائكة قادرة على التشكيل بأشكال مختلفة (٥) ، فالملك الروحانى قد يتمثل للنبى بمثال صورة البشر (٦) تمثل المعنى الواحد بالعبارات المختلفة أو تمثل الصورة الواحدة فى المرايا المتعددة أو الظلال المنكسرة للشخص الواحد فيكالمه مكالمة حسية ويشاهده مشاهدة عينية» (٧) وإذا تصور صعود البشر فلم لا يتصور نزول الملك؟ وإذا تصور أنه خلع لباس البشرية فلما لا يجوز أن يلبس الملك لباس البشرية؟

__________________

١ ـ الغزالى : معارج القدس ص ١٤٧. والملل والنحل للشهرستانى ج ٢ ص ١٠٥.

٢ ـ ابن خلدون : المقدمة ص ٣٩٥. كتاب الشعب. بمصر.

٣ ـ أخرجه مسلم ج ١ ص ٢١٦ بشرح النووى ، دار الفكر بيروت وأخرجه أحمد في مسنده ج ٢ ص ١٢١ ، ١٤٩ وزاد في آخره : وقال أنس : وكنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره «صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

٤ ـ ابن تيمية : الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ج ٤ ص ١٧٠ ـ ١٧١ مطابع المجد التجارية. مصر.

٥ ـ أنظر عصمة الأنبياء في اليهودية والمسيحية والإسلام للمؤلف. دار الإيمان بالإسكندرية.

٦ ـ ينكر مونتجمرى واط انسلاخ الملك من الحالة الملائكية إلى الحالة البشرية وسوف نفند شبهته فى الفصل الخامس من هذا الكتاب. إن شاء الله.

٧ ـ الشهرستانى : السابق ج ٢ ص ١٠٥ ، السيوطى : السابق ص ٤٤.


هكذا كانت حال جبريل إذا جاء النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، فقد كان يأتيه في صورة دحية الكلبى ، وكذلك لما أتى الملائكة «إبراهيم ولوطا ورأتهم سارة وقوم لوط ، لم يأتوا إلا فى صور رجل ..» (١).

وبعد فالآيات القرآنية والأحاديث المتواترة تقرر هذين الطريقين للتلقى عن الملك.

نخلص مما سبق إلى أن للوحى طرقا مختلفة ووسائل متنوعة منها : الرؤيا المنامية والتعليم المباشر من الملائكة في صورتها البشرية ، والتعليم بصوت من الملائكة فى طبيعتها النورانية ، وتعليم الملائكة في خفاء ، والكلام من وراء حجاب.

الوحى كله هبة واصطفاء من الله جل وعلا.

__________________

١ ـ ابن تيمية : الرد على المنطقيين ص ٥٣٩ ط ٣ (١٣٩٧ ه‍ ـ ١٩٧٧ م).


الفصل الثالث

دلالة المعجزات علي النبوات



دلالة المعجزات علي النبوات

يجيء هذا الفصل توطئة لإثبات نبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، بأدلة غير قرآنية ، وذلك من خلال الإجابة على هذه التساؤلات :

هل حقا المعجزات دلالة على النبوات؟ بمعنى هل من يجرى الله تعالى على يديه أفعالا أو أقوالا خارقة أو من قبيل المعجزات يكون نبيا؟ وكيف نستدل على صدقه؟

وحتى لا تثار الشبهات : ما الفرق بين المعجزة والسحر؟ وما هى المعجزة وما أوصافها وما شروطها؟

المعجزة في اللغة والاصطلاح :

المعجزة في اللغة مأخوذة من العجز الذى هو نقيض القدرة (١) أما في الاصطلاح : «الفعل الذى يدل على صدق المدعى للنبوة» (٢) وسمى معجزة لعجز المرسل إليهم عن المعارضة بمثلها.

المعجزة إذن أمر يظهر على يد مدعى النبوة يجريه الله جل وعلا على وجه يعجز الناس عن الإتيان بمثله ، كما يقول الإمام ابن تيمية : إن «لفظ المعجز يدل على أنه أعجز غيره ، كما قال تعالى : (وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) [الزمر : ٥١] وقال تعالى (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢)) [العنكبوت : ٢٢]» (٣).

أوصاف وشروط المعجزة :

وضع العلماء شروطا عدة للأمر المعجز منها :

الأول أن «تكون المعجزة فعلا من أفعال الله تعالى ... نازل منزلة قوله تعالى لمدعى النبوة : صدقت» (٤) أو كأنه من جهته «لأن المعجز ينقسم إلى ما لا يدخل جنسه تحت مقدور القدر كإحياء الموتى ... وقلب العصا وما شاكل ذلك وإلى ما يدخل جنسه تحت مقدور القدر مثل قلب المدن رأسا على عقب ونقل الجبال ...» (٥)

__________________

١ ـ البغدادى : أصول الدين ص ١٧٠.

٢ ـ عبد الجبار المعتزلى : شرح الأصول الخمسة ص ٥٦٨ والرازى التفسير الكبير ج ٢١ ص ٦٥

٣ ـ ابن تيمية : الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ج ٤ ص ٦٩

٤ ـ الجوينى الإرشاد إلى قواطع الأدلة ص ٣٠٨ ط السعادة بمصر ١٩٥٠ م

٥ ـ عبد الجبار السابق ص ٥٦٩


بمعنى أن جنس الفعل مما يقدر عليه قومه إلا أن النوع المعجز لا يقدرون عليه ، فالقرآن الكريم نوع في جنس الكلام ، فهم يقدرون على الكلام كجنس إلا أنهم عجزوا عن الإتيان بمثل هذا النوع من الكلام.

ومن علماء المسلمين من رفض أن يكون جنس المعجزة مما يقدر عليه العباد ، يقول الباقلانى فى إعجاز القرآن فلا «يصح دخوله تحت قدرة العباد وإنما ينفرد الله تعالى بالقدرة عليه .. لأنه لو صح أن يقدروا عليه بطلت دلالة المعجز» (١).

غير أن كلام الباقلانى مدفوع باعتبار أن كل حادث مقدور لله تعالى ، وأفعال العباد مقدورة لله وهو خالقها والاعتبار في فعل مدعى النبوة كونه خارقا.

الثانى : أن يكون خارقا للعادة إذ لا إعجاز دونه (٢) لأنه لو كانت «المعجزة عادة معتادة يستوى فيها البار والفاجر والصالح والطالح ومدعى النبوة المحق بها والمفترى بدعواه لما أفاد ما يقدر معجزا وتنصيصا على الصادق» (٣). أى أن يكون خارقا لما اعتاده الناس واستمروا عليه مرة بعد أخرى لتمييز المدعى عن غيره ، وهذا الأمر «قد يكون إتيانا بغير المعتاد وقد يكون منعا من المعتاد» (٤).

ولكن قد يقول قائل : كيف «يتيقن العاقل كون ما جاء به النبى خارقا للعادة ، وقد استقر في نفسه ما اطلع الحكماء عليه من خواص الأجسام وبدائع التأثيرات ، حتى توصلوا إلى قلب النحاس ذهبا إبريزا ... فما يؤمننا أن يكون مدعى النبوة قد عثر على سر من هذه الأسرار وتظاهر به؟» (٥).

أجاب الجوينى بأننا نضطر إلى العلم بأنه ليس في القوى البشرية والفكر الحكيمة إحياء العظام بعد ما رمت وإبراء الأكمه والأبرص وقلب العصا حية.

المقصود أن حجة النبى لا تكون كذلك حتى تعجز الناس ـ بل الأنس والجن ـ وتخرج عن حد طاقتهم.

الشرط الثالث : اقتران المعجزة بدعوة النبى ، بمعنى أن يقع الأمر المعجز عقب دعوى المدعى للنبوة. أى يجب أن يكون المعجز حادثا في المدلول عليه وفي زمانه.

غير أن الإمام ابن تيمية رفض هذا الشرط ، لأن الآيات ما هى إلا «شهادة من

__________________

١ ـ الباقلانى : إعجاز القرآن ج ١ ص ٢٨٨ بهامش الإتقان في علوم القرآن ط الحلبى ١٣٧٠ ه‍.

٢ ـ الايجى : شرح المواقف ج ٢ ص ٤١٠.

٣ ـ الجوينى : السابق ص ٣٠٩.

٤ ـ الرازى : محصل أفكار المتقدمين ... ص ١٥١.

٥ ـ الجوينى : السابق ص ٣١٢.


الله وإخبار منه بنبوتهم فلا يجب أن يكون في محل النبوة ولا زمانها ولا مكانها» (١) ، ولكنه يشرح ما ذهب إليه بقوله : «... فإذا أريد بأن آيات الأنبياء مختصة بهم وأنها لا تكون لغيرهم وأنها لا تكون مع انتفاء النبوة المدلول عليها) فحدوثها في محل المدلول عليه وفي زمانه أمر ضرورى. أما إذا «أريد أنها لا توجد إلا في ذات النبى أو مقترنة عن نبوته أو المكان الذى كان فيه أو الزمان فهذا كله غلط».

الشرط الرابع : أن يتحدى النبى بالمعجزة لأنه «لا معنى للمعجزة إلا ما يقترن بتحدى النبى عند استشهاده على صدقه على وجه يعجز الخلق عن معارضته» (٢). ويكفى في التحدى «قرائن الأحوال ، مثل أن يقال له : إن كنت نبيا فأظهر معجزا ففعل بأن دعا الله فأظهره فيكون ظهوره دليلا على صدقه ونازلا منزلة التصريح بالتحدى» (٣).

غير أن ابن حزم والإمام ابن تيمية ذهبا إلى أن مقتضى شرط التحدى «أن ما كان يظهر على يد النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فى كل وقت من الأوقات ليس دليلا على نبوته لأنه لم يكن كلما ظهر شىء من ذلك احتج به وتحدى الناس الإتيان بمثله ، ولا نقل التحدى عن غيره من الأنبياء مثل موسى وصالح» (٤).

ولكننا نرى أن المعجزة تتضمن التحدى أو هى نازلة منزلة التحدى وإن لم يصرح النبى بذلك ، كما أن القرآن الكريم وهو معجزة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» جاءت تحديا للعرب على فصاحتهم وبلاغتهم ، بل التحدى يتعداهم ليشمل الإنس والجن.

الشرط الخامس : وهو أن تقع المعجزة على وفق الدعوى لا على خلافه ، لأنها حينئذ تكون تكذيبا له. روى أن مسيلمة الكذاب طلب من أصحابه أن يتفل في بئر ليكثر الماء فغارت البئر فدل على كذبه (٥).

دلالة المعجزات على النبوات :

وبمقتضى الشروط السابقة : فإذا تحققت في أمر معجز فهل يعد هذا دليلا على صدق مدعى الرسالة؟ بمعنى آخر. هل إذا طالب الناس مدعى النبوة بالدليل على صدقه ، فأجرى الله تعالى على يديه ما طلبوا فهل ينهض هذا دليلا على أنه مبعوث يوحى إليه؟ أم يكفى إخبار المدعى أنه يوحى إليه؟ بمعنى أنه هل يكفى سلامة ما

__________________

١ ـ ابن تيمية : النبوات ص ٢٧١ ـ ٢٧٢.

٢ ـ الغزالى : الاقتصاد في الاعتقاد ص ١٠٥.

٣ ـ الإيجي : شرح المواقف ص ٤١٠.

٤ ـ ابن تيمية : النبوات ص ١٣٠ ، وابن حزم : الفصل ج ٥ ص ٥.

٥ ـ القرطبى : الجامع لأحكام القرآن ج ١ ص ٣٠.


جاء به من شرع؟

المشهور عند جمهور العلماء تقرير نبوة الأنبياء بالمعجزات ، بمعنى أنه لا بد من إظهار معجزة تدل على صدق المدعى «فإذا أتى بها وبان لقومه وجه الإعجاز فيها لزمهم تصديقه وطاعته» (١) وبالغ بعضهم حتى قال : إن نصب دليل على صدق النبى غير المعجزة غير ممكن (٢) حتى لو «صدق بالخبر لم يستغن عن معجز ، وإذا دل عليه بالمعجز استغنى عن الخبر» ، فالدليل على نبوة أنبياء الله المعجزات ، وإن كان يدل بالخبر على جهة التأكيد (٣).

نخلص من ذلك إلى ضرورة المعجزات للدلالة على النبوة أما الذين لم يشترطوها واكتفوا بسلامة شرع المدعى دلالة على صدقه فإننا نقول : إن الله لم يخلق شيئا عبثا فلا بد للمعجزة من وظيفة هى إخضاع العقول وإجبارها على التصديق ، ومن ثم يمكن القول ـ أيضا ـ بأن سلامة شرعه حجة وليست الحجة. أما إذا أنكر المستشرقون خرق العادة أو القانون ـ كما أنكر أسلافهم انشقاق القمر لنبينا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ـ فهم بذلك منكرون للمعجزات ، منكرون معجزات موسى وعيسى ، منكرون للنبوات كلها ، وعندئذ يكون كلامنا معهم على محور آخر.

أما إذا خلطوا بين المعجزة والسحر ـ كما قالوا : ساحر أو مجنون ـ فذلك متهافت من وجهين ، كما يقول الإمام الماوردى الشافعى : الأول : «أن الشعبذة تظهر لذوى العقول وتتدسس على الغر الجهول ، فخالفت المعجزة التى تذهل لها العقول» الثانى : «أن الشعبذة تستفاد بالتعليم فيتعلمها من ليس يحسنها فيصير مكافئا لمن أحسنها ويعارضه بمثلها والمعجزة مبتكرة لا يتعاطاها غير صاحبها ولا يعارضه أحد بمثلها كما انقلبت عصا موسى حية تسعى تلتقف ما أفكه السحرة» (٤) فلو كان السحر معجزة إلهية لما ظهر من السحرة العجز والانقياد لموسى ـ عليه‌السلام ـ عند مشاهدة قلب العصا حية.

فضلا عن أن السحر «تخييل يخدع الأعين فيريها ما ليس بكائن كائنا ، قال تعالى : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) [طه : ٦٦] ، والكلام في حبال السحرة وعصيهم وفي آية أخرى (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) [الأعراف : ١١٦].

السحر إذن إظهار شىء للإحساس على خلاف حقيقته بوجه من وجوه التمويه ،

__________________

١ ـ البغدادى : أصول الدين ص ١٧٣.

٢ ـ الجوينى : السابق

٣ ـ الرازى : محصل أفكار. ص ١٥١ ، ابن حزم : الفصل ج ١ ص ٩١.

٤ ـ الماوردى : أعلام النبوة ص ١٥ ، ١٦ مطبعة التمدن المصرية ١٣٣٠ ه


وهذا يحدث في نفس الرائى وإحساسه.

كما أن الساحر لا يمكنه التحدى والدعوة ، وانتفاء هما يخرجان السحر «عن أن يكون معجزا مشبها لآيات الرسل» (١) أما إذا ادعى صاحب خارقة النبوة وتحدى بها كذبا فإن الله تعالى يعجزه ويبطل ادعاءه بوسائل عديدة منها :

الأولى : ينسيه الله تعالى عمل السحر.

الثانية : يقدر الله تعالى بعض خصومه على معارضته بمثلها في حال دعواه فيها فيعلم أنه كاذب في دعواه الرسالة (٢).

ومع هذا فإن علماءنا فرقوا بين المعجزة والسحر ، بين الصادق والكاذب تفريقا حاسما ودقيقا وذلك بوجوه :

الأول : أن النبى صادق فيما يخبر به ـ عن الله ـ لا يكذب قط ، أما السحرة والكهان لا بدّ أن يكذبوا ، كما قال تعالى : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢)) [الشعراء ٢٢١ ، ٢٢]» (٣). السحر إذا لا يأتيه إلا الفاسق.

الثانى : المعجزة «غير مكتسبة ولا معروف بها النبى قبل إتيانها» (٤). أما السحر «والكهانة فيناله الإنسان بتعلمه وسعيه واكتسابه وهذا مجرب عند الناس» (٥). يؤيد ذلك ما كان من سحرة فرعون لما انقلبت عصا موسى حية وتلقفت عصيهم فقد خروا له ساجدين وما دفعهم إلى ذلك إلا علمهم أن موسى لم يعرف السحر ولم يتعلم فنونه لأنه تربى بينهم وهم قد تعلموه ونبغوا فيه.

الثالثة : الحيلة «تفتقر إلى آلات وأدوات لو فقدت واحدة منها لم تنفذ وليس كذلك المعجزة» (٦).

الرابعة : أن آيات الأنبياء «لا يمكن أن تعارض بالمثل ، فضلا عن الأقوى ، ولا يمكن لأحد إبطالها بخلاف خوارق السحرة والشياطين فإنه يمكن معارضتها بمثلها وأقوى منها» (٧) الخامسة : أن المشعود والمحتال إنما ينفذ حيلته على من ليس من أهل صناعته ،

__________________

١ ـ الباقلانى : كتاب البيان ص ٩٤ ، الرازى : التفسير الكبير ج ٢١ ص ٨٥

٢ ـ البغدادى : أصول الدين ص ١٧٤.

٣ ـ ابن تيمية : النبوات ص ١٣٦

٤ ـ ابن الوزير : ايثار الحق على الخلق

٥ ـ ابن تيمية : السابق ص ١٣٦

٦ ـ عبد الجبار المعتزلى : السابق ٥٧٢

٧ ـ ابن تيمية : الجواب الصحيح ج ١ ص ١٤


ومن ليس له بها دراية ومعرفة ، بينما معجزة كل نبى جعلها الله جل وعلا مما يتعاطاه أهل زمانه.

ننتهى مما سبق إلى أن المعجزة ضرورية للنبى «لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل». وقد تبين أن علماء المسلمين يرون أن للإقناع إحدى سبيلين : إما العقل والبرهان ، وإما المعجزة المبنية على خرق العادة وإذا كان البرهان العقلى لا يخضع له إلا ذوو العقول المستنيرة ، والأذهان الصافية ، والقلوب المستشرفة للعرفان ، فإن من البشر من لا يصلح لدعوته إلا أن يروا أمرا خارقا ، ويلمسوا بأيديهم شيئا متصورا بالعقل ، معجزا للبشر ، فتقوم الحجة.


الفصل الرابع

كيفية الاستدلال علي نبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم»

المبحث الأول : ادعاؤه النبوة وإظهار ذلك ، شأنه شأن إخوانه من الأنبياء السابقين.

المبحث الثاني : ظهور المعجزات على يديه :

أ ـ المعجزة القرآنية.

ب ـ معجزات الأحداث.

الرد على منكرى نبوته من اليهود والنصارى ـ انشقاق القمر نبع الماء من بين يديه ـ تسبيح الحصا في يديه.

المبحث الثالث : أحواله قبل النبوة وبعدها وأخلاقه وأوصافه

ـ شهادة هرقل.

المبحث الرابع : أخبار الأنبياء المتقدمين عليه عن نبوته بشهادات العهدين : القديم والجديد ...



كيفية الاستدلال على نبوة محمد

لم يكن محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» .. محتاجا إلى تقرير جنس النبوة إذ كان الرسل قبله قد جاءت بما أثبتت به ذلك.

وقومه كانوا مقرين بالصانع ، وإنما كانت الحاجة داعية إلى تثبيت نبوته» (١) والطريق .. التى بها تثبت نبوّة الأنبياء تثبت بها نبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ... لأن كل ما يستدل به على نبوة نبى فمحمد أحق بجنس ذلك الدليل من غيره وما يعارض به نبوة نبى فالجواب عن محمد أولى ...» (٢).

الناس أمام النبوات فريقان :

أحدهما : مكذب بجنسها وهؤلاء هم البراهمة. وقد رددنا عليهم حججهم.

والثانى : وهم اليهود والنصارى وهؤلاء آمنوا بجنس الرسالة وكذبوا بالعين. واليهود فريقان :

الأول : منهم ينكر نبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» لمنعهم نسخ الشرائع.

الثانى : لا ينكرون نبوته «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ولكنهم «يقولون إنه كان نبيا ولكن كان مبعوثا إلى العرب دون العجم» أما النصارى فإنهم ينكرون نبوته «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» جملة لمماراتهم فى آياته ومعجزاته.

__________________

١ ـ ابن تيمية : الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ج ٤ ص ٢٨٤

٢ ـ ابن تيمية : المصدر السابق ج ٣ ص ٢٩٩


المبحث الأول

ادعاؤه النبوة وإظهار ذلك ، شأنه شأن إخوانه من الأنبياء السابقين.

ونبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» نثبتها بوجوه منها :

ـ أنه ادعى النبوة وأظهر ذلك.

ـ والمعجزات التى ظهرت على يديه وهى قسمان :

(أ) المعجزة القرآنية ، ولن نفيض فيها لما أثبتناه (١) للقرآن الكريم من أوجه إعجاز وباعتبار ذلك معجزة محمد الخالدة ومن ثم دليل نبوته.

(ب) ما يمكن أن نصطلح على تسميته بمعجزات الأحداث.

ـ ثم أحواله قبل النبوة وبعدها. وأخلاقه العظيمة ..

وأخيرا إخبار الأنبياء المتقدمين عليه عن نبوته (بشارات العهدين القديم والجديد) :

أنه «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ادعى النبوة وأظهر ذلك وآية صدقه : لا شك أن محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ادعى النبوة ودعا قومه إلى التصديق برسالته ورسالة الرسل كافة من قبله وظهر المعجز عقيب دعواه .. والمعجز يدل ـ كما سبق القول ـ على صدق من ظهر عليه أى أن اقتران دعوى محمد بالمعجز دلالة على صدقه فيما ادعاه.

أما أنه ادعى النبوة فهذا معلوم بالاضطرار ، فنحن نعلم أنه «هو الذى كان بمكة ثم هاجر إلى المدينة وأنه كان يدعى النبوة ويجعل الدلالة على نبوته القرآن ويتحدى به العرب ، كل ذلك بالنقل المتواتر «كالعلم بالبلدان» وإخبارها وإخبار الملوك بالنقل» (٢) ونشير هنا إلى أمر هام وهو أن التواتر موجب للعلم لأننا نجد في أنفسنا ضرورة العلم بوجود مكة والمدينة وإن لم نبصرهما بل نقول إن «ظهور الأنبياء مما نؤرخ به الحوادث في العالم لظهور أمرهم عند الخاصة والعامة ...

ولهذا جعل عمر تاريخ المسلمين من الهجرة النبوية فإنها أظهر أحوال الرسول المشهورة» (٣).

وكما نقل إلينا ظهور «الخارق على يد موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء عليهم‌السلام. نقل إلينا أيضا ظهور الخارق على يد محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فإن رددنا التواتر

__________________

١ ـ أنظر كتابنا : النبوة في الإسلام.

٢ ـ القاضى عبد الجبار : المختصر في أصول الدين ضمن مجموعة رسائل العدل والتوحيد تحقيق د محمد عمارة ص ٢٣٨ ، والبغدادى أصول الدين ص ١٦١

٣ ـ ابن تيمية : الرد على المنطقيين ص ٣٩٢ دار المعرفة بيروت


أو قبلناه قلنا :

إن المعجزة لا تدل على الصدق ، فحينئذ تبطل نبوة سائر الأنبياء وإن اعترفنا بصحة التواتر ، واعترفنا بدلالة المعجزة على الصدق ثم إنهما حاصلان في حق محمد وجب الاعتراف قطعا بنبوة محمد.

ضرورة عند الاستواء في الدليل لا بدّ من الاستواء في حصول المدلول (١).

على أية حال فإن «محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ادعى النبوة بين قوم لا كتاب لهم ولا حكمة فيهم بل كانوا معرضين عن الحق معتكفين إما على عبادة الأوثان كمشركى العرب ، وإما على دين التشبيه وصفة التزوير وترويج الأكاذيب المفتريات كاليهود وإما على عبادة الإلهين ونكاح المحارم كالمجوس. وإما على القول بالأب والابن والتثليث كالنصارى فقال لهم إنى بعثت من عند الله بالكتاب والحكمة الباهرة لأتمم مكارم الأخلاق وأكمل الناس في قوتهم العلمية بالعقائد الحقة والعملية بالأعمال الصالحة وأنور العالم بالإيمان والعمل الصالح ، ففعل ذلك وظهر دينه على الدين كله كما وعده الله. ولا معنى للنبوة ـ فيما يقول الرازى ـ إلا ذلك لأنه كان لا معنى للنبوة إلا تكميل الناقصين في القوة النظرية وفي القوة العملية ورأينا أن ما حصل من هذا الأثر بسبب مقدم محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» أكمل وأكثر مما ظهر بسبب مقدم موسى وعيسى ـ عليهما‌السلام ـ علمنا أنه كان سيد الأنبياء (٢).

ويمثل الشيخ رشيد رضا لذلك برجل «ادعى في بلاد كثرت فيها الأمراض أنه طبيب وأن دليله .. يداوى المرضى .. فيبرءون .. ثم عرض عليه ما لا يحصى عددا من المرضى وقبلوا ما وصفه لهم من الأدوية فبرءوا من عللهم وصاروا أحسن الناس صحة فهل يمكن المراء في صحة هذه الدعاوى ..؟ كلا.

(فضلا عن أن) العلم بطب الأرواح أعلى وأعز منالا من العلم بطب الأجساد وأن معالجة أمراض الأخلاق وأدواء الاجتماع أعسر من مداواة أعضاء الأفراد ... ومن المعلوم بالضرورة أن النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» عالج (بالقرآن) أمة عريقة في الشقاق وحمية الجهل ، عريقة في الجهل والأمية ورذائل الوثنية فشفيت واتحدت وتعلمت الكتاب والحكمة .. مع أنه كان أميا ..» (٣).

ادعى محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ـ إذن ـ أنه نبى يأتيه وحى السماء واقترنت دعوته بوقوع

__________________

١ ـ الرازى : مناظرة في الرد على النصارى ص ٢٢. تحقيق د. عبد المجيد النجار. دار الغرب الإسلامى ـ بيروت ١٩٨٦ م.

٢ ـ الرازى : محصل أفكار المتقدمين .. ص ٩٦ ـ ٩٧.

٣ ـ رشيد رضا : تفسير المنار ج ١ ص ١٨٣.


المعجزات على يديه.

المبحث الثاني ظهور المعجزات على يديه :

أولا : المعجزة القرآنية : نود ابتداء الإشارة إلى بعض أوجه إعجاز القرآن ، ثم نبين بعد ذلك كيف أن هذا القرآن المعجز معجزة لمحمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

١ ـ الإعجاز البلاغي :

تأليف القرآن ونظمه معجز محال وقوعه منهم كاستحالة إحياء الموتى منهم وإنه علم لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» يقول الإمام ابن تيمية : إن «نفس نظم القرآن وأسلوبه عجيب بديع ليس من جنس أساليب الكلام المعروفة ولم يأت أحد بنظير هذا الأسلوب فإنه ليس من جنس الشعر ولا الرجز ولا الرسائل ولا الخطابة ولا نظمه شىء من كلام الناس عربهم وعجمهم ونفس فصاحة القرآن وبلاغته هذا عجيب خارق للعادة ليس له نظير في كلام جميع الخلق» (١). تحدى البلغاء والخطباء والشعراء بنظمه وتأليفه فى المواضع الكثيرة والمحافل العظيمة فلم يرم ذلك أحد ولا تكلفه ولا أتى ببعضه ولا شبيه منه ولا ادعى أنه فعل ، وليس قول جميعهم أنه كان كاذبا معارضة لهذا الخبر إلا أن يسمعوا الإنكار معارضة وإنما المعارضة مثل الموازنة والمكايلة فمتى قابلونا بأخبار في وزن أخبارنا ومخرجها ومجيئها فقد عارضونا ووازنونا وكايلونا وقد تكافينا وتدافعنا ولكنهم اختاروا الحرب والمنابذة وفقد الأهل والولد توهينا لأمر محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ودليل نبوته ، اختاروا هذا ولم يقل أحدهم : لم تقتلون أنفسكم وتستهلكون أموالكم وتخرجون من دياركم والحيلة في أمره يسيرة والمأخذ في أمره قريب. ليؤلف واحد من شعرائكم وخطبائكم كلاما في نظم كلامه. كأقصر سورة يخذلكم بها وكأصغر آية دعاكم إلى معارضتها.

وهذا الجانب البلاغى من القرآن معجز بمقتضى نقض العادة ـ فيما يقول الرمانى ـ لأن العادة «كانت جارية بضروب من أنواع الكلام معروفة منها الشعر ومنها السجع ومنها الخطب ومنها الرسائل ومنها المنثور الذى يدور بين الناس في الحديث ، فأتى القرآن بطريقة مفردة خارجة عن العادة لها منزلة في الحسن تفوق به كل طريقة مفردة خارجة عن العادة لها منزلة في الحسن تفوق به كل طريقة» (٢). ويفوق

__________________

١ ـ ابن تيمية : الجواب الصحيح ، ج ٤ ص ٧٨.

٢ ـ الرومانى : النكت في إعجاز القرآن ص ١١١ ضمن ثلاث رسائل تحقيق ، محمد خلف الله والدكتور زغلول سلام. دار المعارف بمصر.


الموزون الذى هو أحسن الكلام.

«... وأما قياسه بكل معجزة فطنه يظهر إعجازه من هذه الجهة إذا كان سبيل فلق البحر وقلب العصا حية وما جرى هذا المجرى في ذلك سبيلا واحدا في الإعجاز إذا خرج عن العادة قعد الخلق فيه عن المعارضة».

القرآن إذن خالف جميع الكلام «الموزون والمنثور ، وهو منثور غير مقفى على مخارج الأشعار والأسجاع فصار نظمه من أعظم البرهان وتأليفه من أكبر الحجج (١) وليس وجه الإعجاز في نظم القرآن لأنه حكاية عن كلام الله وإلا كانت التوراة والإنجيل مثله في الإعجاز فأى منهما ليس بمعجز في النظم والتأليف وإن كان معجزا كالقرآن فيما يتضمن من الأخبار بالغيوب.

ولكن كيف يمكن الوقوف على الجانب الإعجازى للقرآن؟.

يقول الزمخشرى : «... لا يغوص على شىء من تلك الحقائق إلا رجل قد برع فى علمين مختصين بالقرآن وهما علم المعانى وعلم البيان ، وتمهل في ارتيادهما آونة وتعب في التنقير عنهما أزمنة وبعثته على تتبع مظانهما همة في معرفة لطائف حجة الله وحرص على استيضاح معجزة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» بعد أن يكون آخذا من سائر العلوم بحظ فارسا في علم الإعراب ... ذا دراية بأساليب النظم والنثر ... قد علم كيف يرتب الكلام ويؤلف .. وكيف ينظم ويرصف ...» (٢).

يقول (أتيين دينيه) : «إن نبى الإسلام هو الوحيد من بين أصحاب الديانات الذى لم يعتمد في إتمام رسالته على المعجزات وليست ... الكبرى إلا بلاغة التنزيل الحكيم» (٣).

لقد كان القرآن معجزا في كلامه البين الواضح الذى تحداهم الإتيان بمثله ، وهذا التحدى هو أحد أوجه إعجازه ، فقد جاء في التنزيل في نص التلاوة (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨)) [الإسراء : ٨٨]. وقال : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) [هود : ١٣].

ويدلل الجرجانى على عجز العرب حين تلا عليهم القرآن وتحدوا إليه وذلك

__________________

١ ـ الجاحظ : البيان والتبيين ج ١ ص ٣٩٣.

٢ ـ الزمخشرى : الكشاف ج ١ ص ٣ الطبعة الأولى المطبعة الشرقية.

٣ ـ دينيه (ناصر الدين) : أشعة خاصة بنور الإسلام ص ١٦ ترجمة راشد رستم. المكتب الفنى بيروت ١٩٦٠ م.


بدلالة أحوالهم. ودلالة الأحوال ـ فيما يرى ـ تتلخص فيما يأتى :

١ ـ المتعارف من عادات الناس التى لا تختلف وطبائعهم التى لا تتبدل أن لا يسلموا لخصومهم الفضيلة ، وهم يجدون سبيلا إلى دفعها ، ولا ينتحلون العجز وهم يستطيعون قهرهم والظهور عليهم» (١).

٢ ـ فإذا كان كذلك فكيف يجوز أن يظهر في صميم العرب ، وفي قريش ذوى الأنفس الأبية والهمم العالية ... من يدعى النبوة ويخبر أنه مبعوث من الله تعالى إلى الخلق كافة .. ثم يقول : حجتى كتابا عربيا مبينا تعرفون ألفاظه وتفهمون معانيه ... إلا أنكم لا تقدرون على أن تأتوا بمثله ولا بعشر سور منه ولا بسورة واحدة ... ثم لا تدعوهم نفوسهم إلى أن يعارضوه ويبينوا سرفه في دعواه مع إمكان ذلك» ..؟ (٢) وقال (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] مبالغة في تقريعهم بالعجز عنه.

٣ ـ هل يجوز أن يخرج خارج من الناس على قوم لهم رئاسة ولهم دين ونحلة فيؤلب عليهم الناس ويدبر في إخراجهم من ديارهم وأموالهم وفي قتل صناديدهم وكبارهم وسبى ذراريهم وأولادهم وعدته التى يجد بها السبيل إلى تألف من يتألفه ، ودعاء من يدعوه دعوى إذا بطلت بطل أمره كله وانتقض عليه تدبيره ، ثم لا يعرض له في تلك لدعوة ولا يشتغل بأبطالها مع إمكان ذلك ومع أنه ليس بمعتذر ولا ممتنع؟ (٣).

ولا معنى لهذا إلا العجز التام عن أبطال حجة النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

ثم يخبر الله تعالى أن عجزهم هذا ينسحب على الماضى والمستقبل وذلك فى قوله (.. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) يعنى فيما مضى (وَلَنْ تَفْعَلُوا) أى تطيقوا ذلك فيما يأتى. وفيه إشارة لهم لتحريك نفوسهم ليكون عجزهم بعد ذلك أبدع وهذا من الغيوب التى أخبرهم بها القرآن قبل وقوعها» (٤).

من هنا لا يجوز لقائل أن يقول : إن كان أهل عصر النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» قد عجزوا عن الإتيان بمثله فإن أهل الأعصار التالية لن يعجزوا ، وذلك لأن أهل ذلك العصر كانوا عاجزين عن الإتيان بمثله فمن بعدهم أعجز لأن فصاحة أولئك ... مما لا يزيد عليه فصاحة من بعدهم وأحسن أحوالهم أن يقاربوهم أو يساووهم فأما أن يتقدموهم أو يسبقوهم فلا ، فضلا عن أن التحدى في الكل على جهة واحدة والتنافس فى

__________________

١ ـ الجرجانى : الرسالة الشافية ص ١١٩ ـ ١٢١. ثلاث رسائل المصدر السابق.

٢ ـ الجرجانى : الرسالة الشافية ص ١١٩ ـ ١٢١. ثلاث رسائل المصدر السابق.

٣ ـ الجرجانى : الرسالة الشافية ص ١١٩ ـ ١٢١ ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن.

٤ ـ القرطبى : الجامع لأحكام القرآن ج ١ ص ٢٢٠١ ، وابن كثير تفسير القرآن العظيم ج ١ ص ٥٩.


الطباع على حد (واحد) والتكليف على منهاج لا يختلف ولذلك قال تعالى (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ)(١) الآية. ولكن الذى يمكن أن يقال هو : وما مثله هذا حتى نأتى بسورة من ذلك المثل؟ وعنه يجيب صاحب الكشاف بأن «معناه فأتوا بسورة مما هو على صفته في البيان الغريب وعلو الطبقة في حسن النظم» (٢).

أو فأتوا : بسورة من بشر أتى من مثله لا يحسن الخط ولا الكتابة ولا يدرى الكتب وهذا قول من اعتبر الضمير في مثله عائد على محمد عبد الله ورسوله.

ولكن إذا كان التحدى بالقرآن قد وقع. ألم تقع منهم المعارضة؟

ادعى قوم أن ابن المقفع عارض القرآن غير أنه لا يوجد لابن المقفع كتاب يدعى مدع أنه عارض فيه القرآن بل يزعمون أنه اشتغل بذلك مدة ثم مزق ما جمع واستحيا لنفسه من إظهاره. فإن كان كذلك فقد أصاب وأبصر القصد (٣). بيد أنه قيل إنهم يجوز أن يكونوا قد عارضوه ، ولمصلحة الدين والحفاظ عليه لم تنقل المعارضة؟

لقد أفرد القاضى عبد الجبار ـ المعتزلى ـ فصلا للإجابة على هذا السؤال ، بعنوان «فى بيان الدلالة على أنهم لم يعارضوه عليه‌السلام لتعذر المعارضة» قال فيه إنهم لو «تكلفوا المعارضة وبلغوا النهاية لا يزيدون على من تقدم من طبقات الشعراء ، لأن مزية شعرهم وخطبهم على من كان في زمنه «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، معروفة في الجملة فكان يجب أن يحتج بذلك الجم الغفير ، وإن تواطأت الجماعة اليسيرة على ترك المعارضة أو إخفائها لأن هذا الاحتجاج أسهل من إيراد المعارضة وأقوى في بطلان أمره «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» لأنه لا فرق بين أن يبينوا أن الذى جاء من القرآن معتاد بذكر مثله فيما تقدم أو بإيراد مثله في الوقت ، وبعد فإنا لا نجوز على الجمع اليسير ما ظنة السائل على كل حال لأنه من التنافس الشديد والتقريع العظيم وتحرك الطباع ودخول الحمية والأنفة وبطلان الرئاسة والأحوال المعتادة والدخول تحت المذلّة لا يجوز في كثير من الأحوال على الواحد أن يسكت عن الأمر الذى يزيل به عن نفسه الوصمة والعار والأنفة وكيف على الجماعة القليلة أو الكثيرة» (٤). ثم يذكر ابن تيمية أن القرآن «لما كذب به المشركون واجتهدوا في إبطاله بكل الطرق مع أنه تحداهم بالإتيان بمثله ثم بالإتيان بعشر سور ثم الإتيان بسورة واحدة ، كان ذلك مما دل ذوى الألباب على عجزهم عن المعارضة مع شدة الاجتهاد وقوى الأسباب» (٥).

__________________

١ ـ ابن تيمية : الجواب الصحيح ج ٤ ص ٧٣ ـ ٧٤.

٢ ـ الزمخشرى : الكشاف ج ١ ص ٤٠.

٣ ـ الباقلانى : إعجاز القرآن ج ١ ص ١٦.

٤ ـ القاضى عبد الجبار : المغنى ج ١٦ ـ إعجاز القرآن ص ٣٧٢.

٥ ـ ابن تيمية الجواب الصحيح .. ج ١ ص ١٤.


يقول الشيخ محمد عبده عند (آية ٢٣ : البقرة) : (فهذا القضاء الحاكم منه بأنهم لن يستطيعوا أن يأتوا بشيء من مثل ما تحداهم به ليس قضاء بشريا ، ومن الصعب بل من المتعذر أن يصدر عن عاقل التزم كالذى التزمه وشرط كالذى شرطه على نفسه ، لغلبة الظن عند من له شىء من العقل أن الأرض لا تخلو من صاحب قوة مثل قوته وإنما ذلك هو الله المتكلم ، والعليم الخبير ، هو الناطق على لسانه ـ أى محمد ـ وقد أحاط علمه بقصور جميع القوى من تناول ما استنهضهم له وبلوغ ما حثهم عليه» (١).

نخلص من ذلك إلى أنهم حاولوا فعجزوا «وهل يذعن الأعراب وأصحاب الجاهلية للتقريع بالعجز والتوقيف على النقص ثم لا يبذلون مجهودهم ولا يخرجون مكنونهم وهم أشد خلق الله أنفة وأفرط حمية وأطلبه بطائله وقد سمعوه في كل منهل» (٢).

فمع أن الكلام كان سيد عملهم فقد عجزوا عن المعارضة مع بذلهم المحاولة تلو الأخرى. وهو كذلك معجز أى لتركهم المعارضة مع التحدى.

ننتهى مما سبق إلى أن القرآن الكريم لم يلتزم شيئا مما كانوا يلتزمون بسجعهم وإرسالهم ورجزهم وإشعارهم بل جاء على النمط الفطرى والأسلوب العادى الذى يتسنى لكل إنسان أن يحذو مثاله ولكنهم عجزوا فلم يأتوا ولن يأتى غيرهم بسورة من مثله فثبت أنه معجز ببلاغته وفصاحته وحسن نظمه ، الذى هو أم إعجازه والقانون الذى وقع عليه التحدى. فالرسول «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» تحداهم الإتيان بمثله. وكيف يتصور أن يكون الفصحاء والبلغاء من العرب كثيرين مشهورين بالعصبية والحمية فيتركون الأمر الأسهل الذى هو الإتيان بقدر أقصر سورة ويختارون الأصعب مثل الحرب وسفك الدماء والسبى.

الجانب الثانى : الإخبار عن الغيوب.

رأينا أن الإعجاز القرآنى لا يرد إلى بلاغته فقط بل أن هناك وجوها أخرى منها : ما تضمنه من الأخبار عما سيكون في مستقبل الزمان ، وأخبار الأمم السابقة ، وكل ما بعد عن إدراك الإنسان فهو غيب ، حتى النفس : خلجاتها ونزعاتها فهى غيب أيضا.

فالدليل على كون القرآن معجز إنما هو كما يقول الإمام ابن تيمية : ليس من جهة فصاحته وبلاغته فقط ، أو نظمه وأسلوبه فقط ، ولا من جهة اخباره بالغيب

__________________

١ ـ محمد عبده : «رسالة التوحيد ص ١٧٠ ج ١ المنار بمصر.

٢ ـ الجاحظ : حجج النبوة بهامش الكامل للمبرد ج ٢ ص ١٣٠.


فقط ولا من جهة صرف الدواعى عن معارضته فقط ، ولا من جهة سلب قدرتهم عن معارضته فقط.

بل هو آية بينة معجزة من هذه الوجوه جميعا. من جهة معانيه التى أخبر بها عن الغيب الماضى وعن الغيب المستقبل ، ومن جهة ما أخبر به عن المعاد ومن جهة ما فيه من الدلائل اليقينية والأقيسة العقلية التى هى الأمثال المضروبة. كما قال تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤)) [الكهف : ٥٤].

وقال تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) [الاسراء : (٨٩)](١). يقول الزمخشرى عند قول الله تعالى : (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤)) [هود : ١٤]. أى أنزل متلبسا بما لا يعلمه إلا الله من نظم معجز وأخبار لغيوب لا سبيل لهم إليه واعلموا عند ذلك أنه لا إله إلا الله» (٢). وهذا التحدى كان بمكة ، فهود مكية ، ثم أعاد التحدى في المدينة ، فقال تعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤)) [البقرة : ٢٣ ، ٢٤].

يقول الإمام ابن تيمية في الجواب الصحيح : الله تعالى ذكر هنا أمرين :

أحدهما : قوله (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ) أى إذا لم تفعلوا فقد علمتم أنه حق ، فخافوا الله أن تكذبوه فيحيق بكم العذاب الذى وعد به المكذبين ..

والثانى : قوله (وَلَنْ تَفْعَلُوا) و (لن) لنفى المستقبل فثبت للخبر أنهم فيما يستقبل من الزمان لا يأتون بسورة من مثله (٣).

وإذا قيل : من أين لكم أنه إخبار بالغيب على ما هو به حتى يكون معجزة؟ أجاب صاحب الكشاف : لأنهم لو عارضوه بشيء لم يمتنع أن يتواضعه الناس ويتناقلوه إذ خفاء مثله فيما عليه مبنى العادة محال لا سيما والطاعنون فيه أكثف عددا من الذابين عنه فحين لم ينقل علم أنه إخبار بالغيوب على ما هو به فكان معجزة (٤).

أما الإنباء بالمستقبل القريب أو البعيد ، فقد حفل القرآن الكريم بالكثير منها وتم

__________________

١ ـ الجواب الصحيح .. ج ٤ ص ٧٤.

٢ ـ الكشاف ج ٢ ص ٤٣٧.

٣ ـ الزمخشرى : السابق ج ١ ص ٤٢.

٤ ـ ابن تيمية : الجواب الصحيح ج ٤ ص ٧٣.


وقوعها طبق الأصل على مدى قريب أو بعيد :

أولا : نحو قوله تعالى : (الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥)) [الروم : ١ ـ ٥].

لقد تضمنت هذه الآية ثلاثة من الأخبار عن الغيوب. «أحدها قوله عزوجل (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) هذا من الغيب الذى لا يعلمه إلا الله عزوجل. والثانى : قوله (فِي بِضْعِ سِنِينَ) والبضع فوق الثلاثة ودون العشرة وهذا التحدى أيضا من الغيب الذى لا يعلمه إلا الله. والثالث : قوله (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) فأخبر أنهم يفرحون في ذلك الوقت بنصر الله ، وهذا أيضا من الغيب لأنه خبر عن بقاء المؤمنين إلى ذلك الوقت مع قلتهم وطمع الأعداء في انتسافهم ، وعن أنهم يفرحون ولا تعترض هناك أحوال تمنعهم من الفرح لأن هذه الآية نزلت بمكة قبل الهجرة ، فى حال ضعف المسلمين وقلتهم واستيلاء المشركين عليهم» (١) وهذه القصة مشهورة.

أما النصر الذى له سر المسلمون ، فقد قيل : «إن فرحهم إنما كان لإنجاز وعد الله تعالى إذ كان فيه دليل على النبوة لأنه أخبر تبارك وتعالى بما يكون في بضع سنين فكان فيه».

أما ما قيل من أن سبب ذلك أن الروم أهل كتاب كالمسلمين فإنه يعلل «بما يقتضيه النظر من محبة أن يغلب العدو الأصغر لأنه أيسر مئونة ومتى غلب الأكبر كثر الخوف». يعضد هذا ، ما كان يرجوه الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» من ظهور دينه وشرع الله الذى بعثه به وغلبته على الأمم».

يعلق «جيبون» على هذه الآيات بقوله : «فى ذلك الوقت حين تنبأ القرآن بهذه النبوءة لم تكن أية نبوءة أبعد منها وقوعا لأن السنين الاثنتى عشرة الأولى من حكومة هرقل كانت تؤذن بانتهاء الامبراطورية الرومانية» (٢). أى أنه باستقراء الواقع واقع الإمبراطورية الرومانية ـ آنذاك ـ المتهالكة ، وبمقياس العقل البشرى ـ الناقص فإن علامات الكذب والبعد عن الواقعية بادية على النبوءة القرآنية. وهى كذلك لو كانت

__________________

١ ـ أبى الحسن أحمد بن الحسين الزيدى : إثبات نبوة النبى ص ١٢٨.

٢ ـ We sternCivilistion عن : الإسلام والمستشرقين ص ٤١٠ (مقال للأستاذ محمد صدر الدين الحسن الندوى جدة ١٤٠٥ ه‍).


نبوءة بشر ـ كما يزعم كثير من المستشرقين ـ يقول الأستاذ محمد صدر الدين الحسن الندوى : ولكن من المعلوم أن هذه النبوءة جاءت من لدن من هو مهيمن على الوسائل والأحوال .. ولم يكن جبريل يبشر النبى بهذه البشرى حتى أخذ الانقلاب يظهر على شاشة الامبراطورية الرومانية» (١).

ولا شك أن هذا كله إخبار يعلم كل عاقل عجز الخلق عن معرفتها والتوصل إلى إدراكها وكما في قول الله تعالى : (.. لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ ..) [الفتح : ٢٧]. فدخلوه كما وعدهم.

ثانيا : من ذلك أيضا قصة أبى لهب وقد كان من المؤذين لرسول الله ، فبشره الله بأن ذلك لا يضره وأخبره أن أبا لهب «وامرأته يموتان على الكفر به ويصيران إلى النار. نزل ذلك بمكة وهما حيان سليمان فكان ذلك كله على ما قال وعلى ما أخبر وكما نقل وبشر ... وهذه غيوب كثيرة لا يكون فعلها بالاتفاق ولا بالحدس ولا بالزرق (٢).

ولا يتفق لحذاق المنجمين أقل القليل من هذا» (٣).

ثالثا : من الأمور التى وقعت في المستقبل كما أخبر القرآن ويستدل بها على إعجازه قوله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) [فصلت : ٥٣]. من حيث أنه «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» أخبر عن مكة أنه يستولى عليها ويقهر أهلها ويصير أصحابه قاهرين للأعداء ، فهذا إخبار عن الغيب وقد وقع مخبره مطابقا لخبره فيكون هذا إخبارا صدقا عن الغيب والإخبار عن الغيب معجزة.

رابعا : ما أخبر به الله عن اليهود وتحداهم به ، لما قالوا (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨]. أفحمهم بقوله (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) وإذ زعم اليهود أنهم (أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ) أعجزهم بقوله تعالى : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الجمعة : ٦] ثم أمعن في السخرية منهم قائلا (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) [الجمعة : ٧]. وهذا إخبار من الله تعالى أنهم لا يتمنون الموت أبدا.

وروى عن ابن عباس أنه قال «كان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» يقول لهم : إن كنتم صادقين في مقالتكم فقولوا اللهم أمتنا ، فو الذى نفسى بيده لا يقولها رجل منهم إلا

__________________

١ ـ محمد صدر الدين الحسن الندوى السابق.

٢ ـ الزرق : الخداع وفي اللسان رجل زراق أى خدّاع.

٣ ـ عبد الجبار : تثبيت دلائل النبوة ج ١ ص ٣٦.


غص ريقه فمات مكانه وفي ذلك أعظم دلالة على صدق نبينا محمد وصحة نبوته لأنه أخبر بالشىء قبل كونه فكان كما أخبر ولو لم يكن هذا الإخبار من الله تعالى لما جاز للنبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» أن يخبر به خشية أن يظهر منهم ما يوجب تكذيبه إن هذه الأخبار الصادقة عن المستقبل دليل على ربانية القرآن الكريم وأنه كلام الله إلى خلقه.

أما ما ورد من غيب مضى ، أى أخبار الأنبياء السابقين وما كان من أممهم معهم وما نزل بالذين كفروا وكذبوا وذكر ما شجر بينهم وكان في أعصارهم ما لا يجوز حصول علمه إلا لمن كثر لقاؤه لأهل السير ودرسه لها وعنايته بها ومجالسته لأهلها وكان مما يتلو الكتب ويستخرجها ، مع العلم بأن النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» لم يكن يتلو كتابا ولا يخطه بيمينه.

وكثيرا ما كان أهل الكتاب يتعمدون إحراجه ويسألونه عن هذه الأمور «فينزل عليه من القرآن ما يتلو عليهم منه ذكرا كخبر موسى والخضر ويوسف وإخوته وأصحاب الكهف وذى القرنين ولقمان وابنه وبدء الخلق» (١).

ومن أخبار القرآن عن الغيوب السالفة وعجب ذلك إذ ورد ممن لا يعرف كتابة ولا قراءة ولم يجالس أصحاب التواريخ.

من ذلك ما قاله تعالى على أهل السفينة وإجرائها وإهلاك الكفرة واستقرار السفينة واستوائها وأوامر التسخير إلى الأرض والسماء بقوله تعالى : (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) [هود : ٤١] تناول القرآن صفحات من تواريخ الأمم السابقة للإسلام لم تكن معروفة لأنها موغلة في القدم ، ولم يكن النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» مؤرخا ولا ملما بدراسة اللغات القديمة ولا كان أحد من العرب يعرف هذه الأحداث التاريخية. (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) [هود : ٤٩].

وصف القرآن ملكة سبأ بأنها (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) [النمل : ٢٣]. وقد أثبتت الدراسات التاريخية ازدهار هذه المملكة وأن حضارتها كانت تضارع حضارة قدماء المصريين وأن أهلها برعوا في إقامة السدود المائية العظيمة والقنوات العديدة .. فكانت الحدائق الغناء عن يمين وشمال : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥)) [سبأ : ١٥].

__________________

١ ـ القاضى عياض : الشفا ج ١ ص ٢٧٠ ـ ٢٧١.


(كانت) إحدى الجنتين عن يمين الوادى والأخرى عن شماله. أى كانت بلادهم ذات بساتين وأشجار وثمار» (١). ومحمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» لم يصف هذه الحضارة من عند نفسه وإنما هو من عند الله علام الغيوب.

من ذلك أيضا قول الله تعالى : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) [آل عمران : ٤٤] فيه دلالة على نبوة محمد حيث أخبر عن قصة زكريا ومريم ولم يكن يقرأ الكتب. وأخبر عن ذلك وصدقه أهل الكتاب بذلك».

القرآن إذن معجز بتضمنه الأخبار عن الغيوب ووجه الإعجاز في القصص القرآنى أى فيما يتعلق بالغيب هو أمّية الرسول فمن المعلوم ـ كما قلنا ـ أنه نشأ أميّا لا يقرأ ولا يكتب.

وقبل أن أنتهى من موضوع الإعجاز أود أن أنبه إلى أن للمحدثين اجتهادات قيمة حول إعجاز القرآن ، من ذلك ...

١ ـ إعجازه بالعلوم الدينية والتشريعية.

٢ ـ إعجازه لما فيه من التنبيه على دلائل العقول فإن ذلك جاء على طريقة انتقضت به العادة.

٣ ـ إعجازه. لخلوه من الاختلاف والتناقض مع ما فيه من الطول.

٤ ـ صنيعه في القلوب وتأثيره في النفوس ومن ذلك أيضا :

أولا : ذهب المرحوم سيد قطب إلى أن وجه الإعجاز للقرآن كامن في صميم النسق القرآنى ذاته لا في الموضوع الذى يتحدث عنه وحده ، فيقول : يجب أن نبحث عن «منبع السحر في القرآن قبل التشريع المحكم ، وقبل النبوءة الغيبية وقبل العلوم الكونية وقبل أن يصبح القرآن وحدة مكتملة تشمل هذا كلّه ، فقليل القرآن هو الذى كان في أيام الدعوة الأولى كان مجردا من هذه الأشياء التى جاءت فيما بعد وكان مع ذلك محتويا على النبع الأصيل الذى تذوقه العرب فقالوا : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ...).

لنجد الجمال الفنى الخالص عنصرا مستقلا بجوهره خالد في القرآن بذاته يتملاه الفن في عزلة عن جميع الملابسات والأغراض وأن هذا الجمال ليتملى وحده ، فيغنى وينظر في تساوقه مع أغراض الدعوى الدينية فيرتفع في التصوير ، التصوير هو

__________________

١ ـ القرطبى : الجامع لأحكام القرآن


الأداة المفضلة في أسلوب القرآن ، وهو القاعدة الأولى فيه للبيان وهو الطريقة التى يتناول بها جميع الأغراض ، وهو الحقيقة التى لا يخطئها الباحث في جميع الأجزاء» (١).

ثانيا : ذهب الدكتور عبد الحليم محمود إلى أن إعجاز القرآن يكمن فى (المثلية) ذلك أن القرآن كرر لفظ (مثل) فى آيات كثيرة «... والمثلية لا تختص بجانب دون جانب وإنما تعم جميع النواحى ... والواقع أن النقاش في القرآن أمعجز بأسلوبه أو بمعانيه أو بقصصه أو بأخباره عن المغيبات أو بغير ذلك من وجوه إنما هو نقاش لا يتمشى مع الفكرة الدينية التى هى في التماثل من جميع النواحى ، قال صاحب البحر المحيط (والمثلية في حسن النظم وبديع الوصف وغرابة الأسلوب والإخبار بالغيب مما كان ومما يكون وما احتوى عليه من الأمر والنهى والوعد والوعيد والقصص والحكم والمواعظ والأمثال والصدق والأمن من التحريف والتبديل).

ومنشأ الاختلاف في تحديد وجوه الإعجاز في القرآن راجع إلى اختلاف درجة الاستعدادات الفطرية والاتجاهات الفكرية لإدراكها ومعرفتها» (٢).

ثالثا : ما ذهب إليه الرافعى من أن القرآن بآثاره النامية معجزة أصيلة في تاريخ العلوم كلّه ... فقد استخرج بعض علمائنا من القرآن ما يشير إلى مستحدثات الاختراع وما يحقق بعض خواص العلوم الطبيعية (٣).

رابعا : يقول المستشرق الفرنسى موريس بوكاى : «لقد أثارت هذه الجوانب العلمية التى يختص بها القرآن ... والتى جاءت مطابقة تماما للمعارف العلمية الحديثة .. وذلك في نص كتب منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا ... كان هدفى الأول هو قراءة القرآن ودراسة نصه جملة بجملة مستعينا بمختلف التعليقات اللازمة للدراسة النقدية. وانتبهت بشكل خاص إلى الوصف الذى يعطيه عن حشد كبير من الظاهرات الطبيعية ... أذهلتنى مطابقتها للمفاهيم التى نملكها اليوم عن نفس هذه الظاهرات ، التى لم يكن ممكنا لأى إنسان في عصر محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» أن يكوّن عنها

أدنى فكرة ... وعلى حين نجد في التوراة أخطاء علمية ضخمة لا نكتشف فى القرآن خطأ. وقد دفعنى ذلك إلى تساؤل :

لو كان مؤلف القرآن إنسانا ، كيف استطاع في القرن السابع من العصر المسيحى

__________________

١ ـ سيد قطب : التصوير الفنى في القرآن ص ١٨ ، ٢٣ ، ٦١ ، دار المعارف سنة ١٩٦٦.

٢ ـ د. عبد الحليم محمود : التفكير الفلسفى في الإسلام ، ج ١ ص ٥٧ الطبعة الثالثة سنة ١٩٦٨.

٣ ـ مصطفى الرافعى : إعجاز القرآن ص ١٠٨.


أن يكتب ما اتضح أنه يتفق اليوم مع المعارف العلمية الحديثة ..؟ ليس هناك أى مجال للشك ، فنص القرآن الذى نملك اليوم هو فعلا نفس النص الأول .. ليس هناك سبب خاص يدعو للاعتقاد بأن أحد سكان شبه الجزيرة العربية في هذا العصر ، استطاع أن يملك ثقافة علمية تسبق بحوالى عشرة قرون ثقافاتنا العلمية.

«.... فيما يتعلق بالأمور التى يمكن أن تخضع للملاحظة مثل تطور الجنين البشرى يمكن تماما مقابلة مختلف المراحل الموصوفة في القرآن مع معطيات علم الأجنة الحديثة لنكشف اتفاق الآيات القرآنية التام مع العلم» (١).

تعقيب :

رأينا خلال هذا الفصل أن القرآن الكريم معجزة نبينا الخالدة تعرض للطعن والتشكيك مما جعل علماء المسلمين يهبون منافحين عنه ومن ثم تعرضوا لقضية الإعجاز بحثا علميا. ودار البحث حول وجوه إعجاز القرآن آثرت اثنين منها بالتفصيل :

«الإعجاز البلاغى ، والإعجاز بالأخبار بالغيوب»

أما وقد عجز العرب عن معارضة القرآن فقد قامت الحجة عليهم ، وإذا كان قد أعجز العرب أصحاب اللسان فهو لغيرهم أعجز.

والحقيقة أن الإعجاز هو هذه النواحى جميعا فهو في اللفظ العجيب والتركيب البلاغى البديع وهو في اخباره عن الغيوب وأنباء الأمم السابقة ... فلا نستطيع أن نقول بحصر الإعجاز في جانب واحد لأن القرآن معجزة النبى الخاتم إلى الناس كافة فى كل مكان وزمان لذا كان لا بد أن يتضمن هذه الوجوه المتعددة أو كما يقول الإمام ابن تيمية : كل ما ذكره الناس من الوجوه في إعجاز القرآن هو حجة على إعجازه ولا يناقض ذلك بل كل قوم تنبهوا لما تنبهوا له.

وحسبى ما وصفه به الحق تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء : ٨٢] أى هو شفاء للمؤمنين يزدادون به إيمانا ويستصلحون به دينهم ، فموقعه منهم موقع الشفاء من المرضى.

نعود بعد ذلك إلى بيان كيف أن هذا القرآن المعجز ، معجزة لمحمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

مر بنا أن من شروط تصديق المدعى ـ عند جمهور العلماء ـ اقتران دعواه بالأمر

__________________

١ ـ موريس بوكاى : دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة ص ١٤٤ ـ ١٤٨ دار المعارف لبنان ١٩٧٧.


الخارق للعادة يجريه الله تعالى على يديه وهنا نبين اكتمال هذا الشرط وتحققه فى دعوة نبينا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» وندلل عليه بوجوه :

أحدها : أن محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ظهر القرآن عليه ، والقرآن ـ معجزته الكبرى ـ كما اتضح لنا من قبل ـ كتاب شريف بالغ في فصاحة اللفظ وفي كثرة العلوم ... علوم الأخلاق وعلوم السياسات وعلم تصفية الباطن وعلم أحوال القرون الماضية.

ثانيها : أن محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» تحدى العالمين بمعارضة القرآن وقرعهم بالعجز عن الإتيان بمثله فلم يأتوا به لا لوجه سوى عجزهم وقصورهم عن الإتيان بمثله فضلا عن أن القرآن الذى أوحى إليه موجود محفوظ ينطوى على وجوه من الإعجاز لا تنحصر ، أبدا عن جوانب منها.

وإذا كان «سبيل تعريف الله تعالى عباده صدق الرسل بالآيات الخارقة للعادة كسبيل تعريفه إياهم الصفات الإلهية بالآيات الدالة عليها ... (فكما) علم آدم الأسماء كلها ثم عرضها على الملائكة ، وكما علم المصطفى القرآن وقال فأتوا بسورة من مثله فكما عجزت الملائكة عن معارضة آدم بالأسماء عجزت العرب والعجم عن معارضة المصطفى بآيات القرآن. ودلت الآيات على صدق النبى الأول والنبى الآخر ولما ثبت صدق الأول كان مبشرا بمن بعده إلى الآخر ولما ثبت صدق الآخر كان هو مصدقا لمن قبله إلى الأول (١).

والذى يدل على صدق محمد أيضا أن اليهود لا ينازعون «فى أن الله تعالى أنزل التوراة على موسى ـ عليه‌السلام ـ وجعل هذا الكتاب إماما يقتدى به ، ثم أن التوراة مشتمل على البشارة ـ كما سنبين ذلك بعد ـ بمقدم محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» لذلك نقول لهم : «... فإذا سلمتم كون التوراة إماما يقتدى به فاقبلوا حكمه في كون محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» حقّا من الله» (٢).

أثبتنا في غير هذا المكان أن المعجزات براهين من الله تعالى إلى عباده بصدق رسله وأنبيائه ، فإذا «ظهر على مدعى النبوة من فعل الله تعالى ما ينقض العادة عند دعوى المدعى رسالة وكان الذى ظهر مطابقا لدعواه ... علم بذلك أنه تعالى قصد بذلك تصديقه في دعواه وصار إظهاره لذلك مطابقا لدعواه بمنزلة قول الله : صدق ؛ هو رسولى إليكم فلما ادعى محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» النبوة وجاء بالقرآن خارقا عادة العرب في الفصاحة

__________________

١ ـ الشهرستانى : الملل والنحل ج ١ ص ١٠٩ بهامش الفصل لابن حزم.

٢ ـ الرازى : التفسير الكبير ج ٢٨ ص ١٢.


والبلاغة متحديا أن يأتوا بسورة من مثله وظهر عجزهم مع التقريع صباح مساء دل ذلك على أن الله تعالى خصه به ليدل به على نبوته كما دل على نبوة موسى لما تحدى به السحرة وعجزوا عن مثله وكما دلّ إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص على نبوة عيسى لما تحدى به الأطباء وجعل الله المعجزات لمحمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ما يجانس الفصاحة التى هى من طبائعهم وطريقتهم لئلا يلتبس الحال فيه كما أجرى الأمر فى معجزة موسى وعيسى ـ عليهما‌السلام ـ على هذه الطريقة.

ولما لم يأت العرب بمثل القرآن علمنا أنهم إنما أعرضوا عن الإتيان به للعجز عنه كما أن سحرة فرعون في زمان موسى عجزوا عن معارضته فبان به كونه محقا فى دعواه ، وكما أن عيسى في أيامه أعجز الأطباء عن مثل ما أتى به» (١). يقاس على ذلك ما كان في عهد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فقد بلغت البلاغة إلى الدرجة العليا وكان بها فخارهم حتى علقوا القصائد السبع بباب الكعبة تحديا بمعارضتها كما تشهد به كتب السيرة فلما أتى النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» بما عجز عن مثله جميع البلغاء علم أن ذلك من عند الله قطعا» (٢).

وقد قيل : إن الذى أورده محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» على العرب من الكلام الذى أعجزهم عن الإتيان بمثله أعجب في الآية وأوضح في الدلالة من أحياء الموتى وإبراء الأكمه لأنه أتى أرباب أهل البلاغة وأرباب الفصاحة ... بكلام مفهوم المعنى عندهم وكان عجزهم عنه أعجب من عجز من شاهد المسيح ـ عليه‌السلام ـ عند إحياء الموتى ، لأنهم لم يكونوا يطمعون فيه ولا في إبراء الأكمه والأبرص وقريش كانت تتعاطى الكلام الفصيح والبلاغة والخطابة فدل ذلك على أن العجز عنه إنما كان ليصير علما على رسالته وصحة نبوته وهذه حجة قاطعة.

ولما ثبت أن «الطريق إلى معرفة نبوة الأنبياء ظهور المعجز عليهم ولما ظهر المعجز على يد محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» وجب الاعتراف بنبوته والإيمان برسالته فإن تخصيص البعض بالقبول وتخصيص البعض بالرد يوجب المناقضة في الدليل وأنه ممتنع عقلا». (٣)

وفي هذا رد برهانى على اليهود : لأنه إذا كان الدليل الذى يدل على نبوة الأنبياء هو المعجزة لزم الجزم بأنه حيث حصل المعجزة حصلت النبوة ، فإذا جوزنا في بعض الحالات حصول المعجزة بدون الصدق فإنه يتعذر الاستدلال به على الصدق وحينئذ

__________________

١ ـ الإسفرايينى : التبصير في الدين ص ١٠٦

٢ ـ رحمة الله الهندى : إظهار الحق ج ٢ ص ٣٣

٣ ـ الرازى التفسير الكبير ج ٤ ص ٨٢.


يلزم تكذيب جميع الأنبياء.

لذلك نقول : إن من لم يقبل نبوة أحدهم يلزمه التكذيب جميعهم ، فكل من نصر بعثة رسول مخصوص بما يؤدى إلى بطلان بعثة كل الرسل فيجب فساد قول الله.

نقول إن في ذلك رد برهانى على اليهود لأنهم زعموا أنه لا نبى بعد موسى ـ عليه‌السلام ـ ومن ثم أنكروا نبوة عيسى ومحمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» محتجين بوجوه :

أحدها : قولهم إن «النسخ محال في نفسه لأنه يدل على البدء والتغيير وذلك محال على الله» (١).

الثانى : زعمهم أن موسى قال لهم «عليكم بدينى ما دامت السموات والأرض.

وأنه قال : إنى خاتم الأنبياء».

الثالث : إن محمدا لم تظهر على يده معجزة فلذلك هو ليس نبيا.

وهذا ما غرهم به ابن الراوندى الملحد ، فهو الذى لقنهم «الاحتجاج على عدم جواز النسخ ... بأن قال لهم : قولوا إن موسى ـ عليه‌السلام ـ أمرنا أن نتمسك بالسبت ما دامت السموات والأرض ولا يجوز أن يؤمر الأنبياء إلا بما هو حق» (٢). وقول ابن الراوندى ولا يجوز أن يؤمر الأنبياء إلا بما هو حق» قولة حق يراد بها باطل.

أما افتراء اليهود على موسى ـ عليه‌السلام ـ فإنه لو ثبت هذا القول ـ وحاشاه ـ .. لكان مبطلا لنبوة نفسه ... (فيلزمه) إذا كانت الآيات لا توجب تصديق غيره إذا أتى بها في شىء دعا إليه.

فهى غير موجبة تصديق موسى فيما أتى به ، إذ لا فرق بين معجزاته ومعجزات غيره. إذ بالآيات صحت الشرائع ولم تصح الآيات بالشرائع لأن تصديق الشريعة موجبة للآية. والآيات موجبة تصديق الشريعة» (٣).

فإن أنكروا شيئا من معجزات عيسى ومحمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» لزمهم في شرع موسى لزوما لا يجدون عنه محيصا وإذا اعترفوا به لزمهم تكذيب من نقل إليهم من موسى ـ عليه‌السلام ـ قول الله إنى خاتم الأنبياء» (٤). فلو لم تثبت نبوة نبينا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» لم يثبت شىء

__________________

١ ـ الغزالى : الاقتصاد في الاعتقاد ص ١٠٤.

٢ ـ باول كراوس وترجمة د. عبد الرحمن بدوى : من تاريخ الإلحاد في الإسلام ص ٧٨ مكتبة النهضة المصرية سنة ١٩٤٥ م.

٣ ـ ابن حزم : الفصل ج ١ ص ٨٨.

٤ ـ الغزالى : السابق ص ١٠٤.


من معجزات موسى وعيسى ـ عليهما‌السلام ـ لأن مجىء محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» تصديق لهما من جهتين :

الأولى : «من جهة إخبارهم بمجيئه ومبعثه» (١) وسنأتى على تفصيل هذا فى غير هذا الموضع.

الثانية : «من جهة إخباره بمثل ما أخبروا به ومطابقته ما جاء به لما جاءوا به».

فإن الرسول الأول إذا أتى بأمر لا يعلم إلا بوحى ثم جاء نبى آخر لم يقارنه فى الزمان ولا في المكان ولا تلقى عنه ما جاء به وأخبر به سواء. دل ذلك على صدق الرسولين الأول والآخر».

ولا يشترط في إخبار النبى المقدم عن النبى المتأخر «أن يخبرنا بالتفصيل التام بأنه يخرج من القبيلة الفلانية في السنة الفلانية في البلد الفلانى ... وقد يبقى خفيا لا يعرفون مصداقه إلا بعد دعاء النبى اللاحق أن النبى المقدم أخبر عنى وظهور صدق ادعائه بالمعجزات وعلامات النبوة». (٢)

أما نفيهم النسخ وإنكارهم نبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» لهذا السبب فلا حجة لهم فيه بعد أن أوضحنا جوازه ، فقد كان «يوشع نبيا في زمن موسى وبقى بعده وقد نسخ شريعته بشريعة موسى» (٣).

كذلك فإن قول العيسوية ـ من اليهود ـ أنه «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» رسول إلى العرب خاصة فظاهر البطلان لأنهم لما صدقوا بالرسالة لزمهم تصديقه في كل ما يخبر به ، فمتى «ثبت أنه نبى ، فالنبى لا يكذب وقد قال : (بعثت إلى الناس كافة) وقد كتب إلى قيصر وكسرى وسائر ملوك العجم» (٤) وهذا معلوم متواتر «كما علم وجوده ودعواه ورسالته» ولما ثبت أنه «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ادعى «أنه مبعوث إلى الكافة ثم صدقه الله تعالى بالإعلام المعجزة فإنه لا بد من أن يكون مبعوثا إلى الأحمر والأسود» (٥).

وطبيعى أن من صدق به نبيا إلى العرب يلزمه التصديق به نبيا إلى الناس كافة ما دام الأمران ثابتين بالروايات التى يحتج بها ، فضلا عن أنه «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» لم يعدم المعجزة الدالة على صدقه. فلا حجة إذن لمن أنكر نبوته من العنانية من اليهود أو من حدها بالعرب.

__________________

١ ـ ابن القيم : إغاثة اللهفان ج ٢ ص ٣٥١.

٢ ـ رحمة الله الهندى : إظهار الحق ج ٢ ص ١٣٤

٣ ـ ابن القيم : إغاثة اللهفان ج ٢ ص ٣٥١ وأيضا : النبوة في الإسلام للمؤلف.

٤ ـ ابن الجوزى : تلبيس إبليس ص ٧١ ادار الطباعة المنيرة.

٥ ـ القاضى عبد الجبار : شرح الأصول الخمسة ٥٨٣.


ثانيا : معجزات الحوادث : ـ

لما كانت لرسل الله تعالى السابقين على محمد مؤيدات لدعوتهم كان لمحمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» تلك المؤيدات بل تزيد.

وهذه نماذج من هذه الواقعات المؤيدات التى لا تفسر إلا بالقدرة الإلهية المؤيدة لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» مع ملاحظة ـ كما قلنا ـ أن المعجزة الأساسية لمحمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» والتى بها قامت الحجة على خلق الله في كل العصور هى القرآن الكريم الذى رأينا بعض ما فيه مما يشهد أنه كتاب الله.

ومع ملاحظة ـ ثانيا أننى لم أرد الاستقصاء وإنما أردت ضرب الأمثلة فقط وإلا فمعجزات الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» كثيرة جدا.

ونعنى بمعجزات الحوادث ما نقل عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» من خوارق العادات ما بلغ حد التواتر وإن كانت تفاصيلها آحادا كانشقاق القمر وانطاق العجماء ونبع الماء من خلل الأصابع وتسبيح الحصا وتكثير الطعام القليل.

١ ـ انشقاق القمر : ـ

وله تعالى (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢)) [القمر : ١ ، ٢].

ولما رواه البخارى عن ابن مسعود أنه قال : «انشق القمر ونحن مع النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» بمنى ، فقال : اشهدوا» ولأبى ذر فقال النبى «اشهدوا أى اضبطوا ذلك بالمشاهدة وذهبت فرقة من القمر نحو الجبل المعروف بحراء وبقيت الأخرى مكانه حتى صار حراء بينهما».

وما أخرجه الشيخان عن أنس «أن أهل مكة سألوا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما» (١).

وما روى عن جبير بن مطعم قال : «انشق القمر على عهد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فصار فرقتين فقالت قريش : سحر محمد أعيننا ، فقال بعضهم لئن كان سحرنا فما يستطيع أن يسحر الناس كلهم فكانوا يطلقون الركبان فيخبرونهم بأنهم قد رأوه فيكذبونهم» (٢).

وروى أن النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» كان يمر «بمكة في ليلة قمراء فاجتاز بنفر من

__________________

١ ـ العلامة القسطلانى : إرشاد السارى لشرح صحيح البخارى ج ٦ ص ١٩٥.

٢ ـ أخرجه الترمذى.


المشركين فقالوا له : يا محمد إن كنت رسول الله كما تزعم فاسأل ربك أن يشقق هذا القمر فسأل الله ذلك فشقه «فقالوا سحر القمر حتى انشق» وسرى سحره من الأرض إلى السماء فنزل قوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ)(١).

وقد صرح القرآن بانشقاق القمر على صيغة الماضى وسماه آية من الآيات التى أعرضوا عنها وقالوا سحر مستمر.

وقيل فى معنى انشقاق القمر «أى وضح الأمر وظهر. قيل : هو انشقاق الظلمة عنه بطلوعه فى أثنائها كما يسمى الصبح فلقا لانفلاق الظلمة عنه ... وقد يعبر عن انفلاقه بانشقاقه».

وقيل أيضا فى معنى الآية : ينشق القمر يوم القيامة.

ولكن هذا القول مدفوع بوجوه خمسة :

ـ الأول : أن قول الله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) وكفى به ردا قراءة حذيفة : قد انشق القمر أى اقتربت (٢) وأن القمر قد انشق على عهد نبيكم» (٣).

وفى هذا دلالة على أنها آية مرئية وحجة ثابته.

الثانى : أن الله تعالى ، قال : «على نسق الكلام (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ). وهذا الإخبار من الله تعالى لا يقال فيما لم يقع ولم يكن» (٤) لأنه أخبر «باعراضهم عن آياته والإعراض الحقيقى عنها لا يتصور قبل وقوعها» (٥) فلو لم ينشق القمر على عهد النبى ولم يشاهده كفار مكة لكذبوه وصار تكذيبهم له حادثة هامة تتناقلها الألسنة والأقلام.

الثالث : أن ما يقع يوم القيامة وعند قيام الساعة لا يكون حجة على المكلفين ولا يعنفون فى ترك النظر» (٦).

كما أنهم لا يقولون فى الآيات يوم القيامة إنها سحر لأنهم حينئذ يعرفون الأحوال

__________________

١ ـ القاضى عبد الجبار : تثبيت دلائل النبوة ج ١ ص ٥٥.

٢ ـ القرطبى : الجامع لأحكام القرآن «مصدر سابق».

٣ ـ الزمخشرى : الكشاف ج ٢.

٤ ـ القاضى عبد الجبار : المصدر السابق ص ٥٦.

٥ ـ رحمة الله الهندى : إظهار الحق ج ٢ ص ٤٧١.

٦ ـ القاضى عبد الجبار : المصدر السابق.


ضرورة.

الرابع : أن الانشقاق قد وقع على عهد النبى كعلامة من أشراط الساعة لما ثبت «فى الصحيح عن ابن مسعود أنه قال (خمس مضين : الروم والدخان واللزام والبطشة والقمر)». ويعقب ابن كثير على قول ابن مسعود بأن هذا «أمر متفق عليه بين العلماء أن انشقاق القمر قد وقع فى زمان النبى وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات» (١) وإليه ذهب الخازن حيث قال : «... وانشقاق القمر من آيات رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» الظاهرة ومعجزاته الباهرة» (٢).

الخامس : أن الآية «على التقديم والتأخير وتقديره (انشق القمر واقتربت الساعة) فالفعلين إذا كانا متقاربين فلك أن تقدم وتؤخر» (٣).

انشقاق القمر إذن من أشراط الساعة وليس يقع يوم الساعة ـ كما فى ـ قوله تعالى : (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها)(٤) فقوله (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) يدل على أن أشراطها قد تحققت لأن لفظة ـ قد ـ إذا دخلت على الماضى تكون نصا على وجود الفعل فى الزمان الماضى القريب من الحال» (٥). ولأن الله تعالى «ذكر بلفظ الماضى (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) وحمل الماضى على المستقبل بعيد» (٦).

وفى التفسير الكبير للرازى : «أشراط العلامات. قال المفسرون هى مثل انشقاق القمر ورسالة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٧). وكذلك عند البيضاوى وفى الجلالين.

ولو لم يكن هذا ظاهرا بينهم لأنكروا ذلك وكذبوا قوله ولقالوا : لم ينشق القمر ولم يكونوا بحاجة إلى القول : إنه سحر مستمر فوضح بذلك أن انشقاق القمر من آيات رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ومن معجزاته النيرة.

أما اليهود والنصارى فقد أنكروا هذه المعجزة ـ فضلا عن إنكارهم معجزات نبينا كلها ـ وساقوا لذلك حجتين :

الأول : قولهم أنه «لو كان هذا لم يخف على أهل الأرض إذ هو شىء ظاهر لجميعهم إذ لم ينقل لنا عن أهل الأرض أنهم رصدوه تلك الليلة فلم يروه انشق» (٨).

__________________

١ ـ ابن كثير : تفسير القرآن العظيم ج ٤.

٢ ـ تفسير الخازن ج ٤ ص ٢٢٦.

٣ ـ القرطبى : المصدر السابق.

٤ ـ محمد : من الآية ١٨.

٥ ـ رحمة الله الهندى : إظهار الحق ج ٢ ص ٤٧٨.

٦ ـ تفسير الخازن ج ٤ ص ٢٢٦.

٧ ـ الرازى : التفسير الكبير.

(٨) ـ القاضى عياض : الشفا ج ١ ص ٢٨٣.


الثانية : أن «الأجرام العلوية لا يأتى فيها الخرق والالتئام» (١) وفى مجال دفع هذه المزاعم ذهب الإمام القرطبى إلى أنه «قد ثبت بنقل الآحاد العدول أن القمر انشق بمكة وهو ظاهر التنزيل».

ويستدل على ذلك بوجوه :

الأول : لأنها «كانت ـ معجزة ـ ليلية لا يلزم أن يستوى الناس فيها» (٢) وقل من «يترصد السماء ولعله كان فى قدر اللحظة التى هى مدرك البصر» (٣) أى أنها لم تمتد زمانا طويلا.

الثانى : أنها من آيات التحدى فقد كانت باستدعاء النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» من الله تعالى عند التحدى. فروى أن حمزة بن عبد المطلب حين أسلم غضبا من سب أبى جهل الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» طلب أن يريه آية يزداد بها يقينا فأراهم انشقاق القمر».

الثالث : أن القمر لاختلاف مطالعه «ليس فى واحد لجميع أهل الأرض فقد يطلع على قوم قبل أن يطلع على الآخرين ... أو يحول بين قوم وبينه سحاب أو جبال ولهذا نجد الكسوفات فى بعض البلاد دون بعض وفى بعضها جزئية وفى بعضها كلية وفى بعضها لا يعرفها إلا المدعون لعلمها (٤).

الرابع : ما جاء فى الإصحاح العاشر من سفر يوشع على وفق الترجمة العربية سنة ١٨٤٤ م .. هكذا : «حينئذ تكلم يوشع أمام الرب فى اليوم الذى وقع الأمورى فى يدى بنى إسرائيل. وقال إمامهم : أيتها الشمس مقابل جبعون لا تتحركى والقمر مقابل قاع ايلون فوقفت الشمس والقمر حتى انتقم الشعب من أعدائه .. فوقفت الشمس فى كبد السماء ولم تكن تعجل إلى الغروب يوما تاما» (٥).

وهذه الرواية باطلة لأن «قول يشوع (أيتها الشمس لا تتحركى) وقوله (فوقفت الشمس) يدل على أن الشمس متحركة والأرض ساكنة وإلا كان عليه أن يقول (أيتها الأرض لا تتحركى فوقفت الأرض) وهذا الأمر باطل بحكم علم الهيئة الجديدة الذى يعتمد عليه حكماء أوربا كلهم الآن ويعتقدون ببطلان القديم. لعل يشوع ما كان يعلم هذه الحال. أو هذه القصة كاذبة» (٦).

__________________

١ ـ رحمة الله الهندى : إظهار الحق ج ٢ ص ١٠٨.

٢ ـ القرطبى : الجامع لأحكام القرآن ج ١٧ ص ١٢٥.

٣ ـ القسطلانى : إرشاد السارى ج ٦ ص ١٩٦.

٤ ـ القاضى عياض : المصدر السابق ج ١ ص ٢٨٣.

٥ ـ يشوع : الأصحاح ١٠ : ١٢ ـ ١٣.

٦ ـ رحمة الله الهندى : إظهار الحق.


الخامس : رجوع الشمس معجزة لأشعيا ، فقد جاء فى الآية الثامنة من الإصحاح ٣٨ من يشوع : «فرجعت الشمس عشر درجات فى المراقى التى كانت انحدرت» (١) وهذه الحادثة «عظيمة ولما كانت فى النهار فلا بد أن تظهر لأكثر أهل العالم ، وكانت قبل ميلاد المسيح ـ كما يقولون ـ (ولكنها) ليست مكتوبة فى تواريخ الهند والصين والفرس. وأيضا يفهم منها حركة الشمس. وهذا أيضا باطل على حكم علم الهيئة الجديد» (٢).

ومع ورود هذا فى كتبهم إلا أنهم يتبجحون وينكرون انشقاق القمر لمحمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» بحجة أن الأجرام العلوية لا يتأتى فيها الخرق والالتئام.

٢ ـ نبع الماء من بين أصابع النبى :

وهذه المعجزة أعظم وأبلغ فى الأعجوبة من تفجر الماء من الحجر كما وقع لموسى «لأن نبوع الماء من بين اللحم والعظم أعجب وأعظم من خروجه من الحجر» لأن ذلك من عادة الحجر أمّا من اللحم فما «روى قط ولا سمع فى ماضى الدهر بماء نبع وانفجر من أحاد بنى آدم حتى صدر عنه «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٣).

أخرج النجار عن جابر قال : «عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» بين يديه ركوة فتوضأ منها ثم أقبل الناس نحوه فقال رسول الله ما لكم؟ قالوا : يا رسول الله ليس عندنا ما نتوضأ به ولا نشرب إلا ما فى ركوتك. فوضع النبى يده فى الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه. أى من اللحم الكائن بين أصابعه (٤).

وعن أنس بن مالك أنه قال : «رأيت رسول الله وحانت صلاة العصر فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه فأتى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» بوضوء فوضع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فى ذلك الإناء يده وأمر الناس أن يتوضئوا منه قال : فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فتوضأ الناس حتى توضئوا عن عند آخرهم (٥) وأخرج البخارى عن ابن مسعود قال : إنكم تعدون الآيات عذابا ولكنا نعدها بركة على عهد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ونحن نسمع تسبيح الطعام. وأتى النبى بإناء فجعل ينبع الماء من بين أصابعه فقال النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» : حى على الطهور المبارك والبركة من الله حتى توضأنا كلنا» (٦).

ولا شك أن نبع الماء من أصابعه «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» أو تكثير الطعام بدعائه «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» معجزة

__________________

١ ـ يشوع : ٣٨ : ٨.

٢ ـ إظهار الحق : ص ٤٧٣ ـ ٤٧٤.

٣ ـ الأصبهانى : دلائل النبوة ج ١ ص ١٤٤.

٤ ـ القسطلانى : إرشاد السادى ... ج ٦ ص ٣٤٧.

٥ ـ القاضى عياض : الشفا ج ١ ص ٢٨٥.

٦ ـ القسطلانى : إرشاد السارى مصدر سابق.


نقلها متواتر والذى «حصل للنبى أولا الماء القليل أو الطعام القليل ثم كثرة ولم يخترع من بدء الأمر من العدم إلى الوجود الماء الكثير أو الطعام الكثير ... ليعلم أن الموجد هو الله .. وإن كان التكثير أيضا فى الحقيقة من جانب الله كالإيجاد» (١).

وهكذا فعل الأنبياء كما يظهر من معجزة اليشع فى تكثير «عشرين رغيفا من شعير وسويق» (٢) حتى شبع مائة رجل وفضل عنهم ومن معجزة المسيح فى تكثير خمسة أرغفة وسمكتين : «فأكل الجميع وشبعوا ... والآكلون نحو خمسة آلاف (٣).

٣ ـ تسبيح الحصى :

فعن أنس قال : «أخذ النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» كفا من حصى فسبحن فى يد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» حتى سمعنا التسبيح» (٤).

ومع أن «آحاد هذه المعجزات لا يثبت تواترا لكن مجموعها يفيد العلم قطعا لاختصاصه بخوارق العادات كما أن آحاد البذل من حاتم ـ الطائى ـ لا تثبت تواترا ولكن مجموعها يفيد العلم على الضرورة بسخائه وكذلك القول فى جسارة أمير المؤمنين علىّ وشجاعته» (٥).

وقوع هذه الأحداث إذن من نبينا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» معلوم ضرورة كما يعلم ضرورة وجود حاتم الطائى وكرمه وشجاعة الإمام علىّ لاتفاق الأخبار عن كل واحد منهما على كرم هذا وشجاعة ذلك.

كما أن «فى استسقاء النبى وفى إخباره عن المقتولين فى غزوة مؤتة وفيما كان النبى وأهل مكة من المراجعة فى غلبة الروم على فارس علم ضرورى» (٦).

وإن قال اليهود إن الذى ظهر من عيسى ومحمد من قبيل السحر وعمل الشياطين «وعلى كل تقدير جميع ما يقولونه يلزمهم فى قلب العصا ثعبانا واليد بيضاء وفلق البحر ونتق الجبل وسائر معجزات رسلهم» (٧).

__________________

١ ـ رحمة الله الهندى : المصدر السابق.

٢ ـ سفر الملوك الثانى ٤ : ٤٢ ـ ٤٣.

٣ ـ متى ١٤ : ١٥ ـ ٢١.

٤ ـ القاضى عياض : المصدر السابق ج ١ ص ٣٠٦.

٥ ـ الجوينى : الإرشاد ... ص ٣٥٣ ـ ٣٥٤.

٦ ـ القاضى عبد الجبار : تثبيت دلائل النبوة ج ٢ ص ٥١١.

٧ ـ الأجوبة الفاخرة ... ص ٩٩ ، ٢٠٨ مصدر سابق.


المبحث الثالث

الاستدلال بأحوال النبى قبل النبوة وبعدها :

إنه لا بد لكل رسول لله أن يكون متصفا بصفات أساسية حتى يكون أهلا للرسالة من هذه الصفات الصدق والأمانة بحيث لو امتحن كل قول له لكان مطابقا للواقع إذا وعد أو عاهد أو جد أو داعب أو أخبر أو تنبأ وإذا انتقضت هذه الصفة أى نقض فإن دعوى الرسالة تنتقض لأن الناس لا يثقون برسول كاذب.

والمكيون على خصومتهم لرسول الله ما كانوا يشكون فى أنه صادق لأنه لو أخبرهم أن خيلا وراء الوادى ستغير عليهم لصدقوه لأنهم لم يعهدوا فيه كذبا ، لم يكذب قط فى مهمات الدين ولا فى مهمات الدنيا ، ولو كذب مرة لاجتهد أعداؤه فى تشهيره ولم يقدم على فعل قبيح لا قبل النبوة ولا بعدها.

كما أنه «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» تحمل المتاعب فى الرسالة لا طمعا فى جاه بينما المتنبئ دعا من أجل طلب الدنيا.

وقد صبر على هذه المشاق والمتاعب «بلا فتور فى عزيمة ولما استولى على الأعداء وبلغ الرتبة الرفيعة فى نفاذ أمره فى الأموال والأنفس لم يتغير عما كان عليه ، ينضم إلى ذلك «أخلاقه العظيمة وأحكامه الحكيمة واحترامه حيث يحجم الناس ولو لا ثقته بعصمة الله إياه من الناس ... لامتنع ذلك عادة.

ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» وإن تلونت به الأحوال إلا أن حاله لم تتلون بل ظل على طريقة واحدة فلو تتبعنا علمنا «أن كل واحد منها وإن كان لا يدل على نبوته لأن امتياز شخص بمزيد فضيلة عن سائر الأشخاص لا يدل على كونه نبيا لكن مجموعها لا يحصل إلا للأنبياء قطعا فاجتماع هذه الصفات فى ذاته من أعظم الدلائل على نبوته» (١) فضلا عن أن أمر النبوة لم يشغله قبل البعثة ، «فلم تزل أمارات النبوة لائحة (فيه) حين تدرج إليها وهو غافل عنها وغير متصنع لها» (٢).

وهذه شهادة خصم عنيد لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» وأعنى به أبا سفيان ـ قبل أن يمن الله عليه بالشهادتين.

أخرج الإمام البخارى عن ابن عباس حديث أبى سفيان مع هرقل عظيم الروم ومنه يمكن الوقوف على الكيفية التى استدل بها هرقل ـ النصرانى ـ على صدق محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

__________________

١ ـ الإيجي : شرح المواقف ج ٢ ص ٤٢٧.

٢ ـ الماوردى : إعلام النبوة ص ٣٧.


لما جاء «قيصر» كتاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم». قال حين قرأه : التمسوا لى هاهنا أحدا من قومه لأسألهم ... عن نسبه ونعته وما يدعو إليه.

قال ابن عباس : فأخبرنى أبو سفيان بن حرب أنه كان بالشام فى رجال من قريش قدموا تجارا فى المدة التى كانت بين رسول الله وبين كفار قريش ـ مدة صلح الحديبية.

قال أبو سفيان : فوجدنا رسول قيصر ببعض الشام. فانطلق بى وبأصحابى حتى قدمنا إيلياء فأدخلنا عليه ـ أى على هرقل ـ فإذا هو جالس فى مجلس ملكه ... فقال لترجمانه : سلهم أيهم أقرب نسبا إلى هذا الرجل الذى يزعم أنه نبى؟.

قال أبو سفيان : فقلت. أنا أقربهم إليه نسبا.

فقال : أدنوه. وأمر بأصحابى فجعلوا خلف ظهرى عند كتفى ـ لئلا يستحيوا أن يواجهوه بالكذب إن كذب ـ ثم قال لترجمانه : قل لأصحابه إنى سائل هذا الرجل ـ أبا سفيان ـ عن الرجل الذى يزعم أنه نبى فإن كذب فكذبوه.

قال أبو سفيان : والله لو لا الحياء يومئذ من أمر يأثر أصحابى عنى الكذب لكذبته حين سألنى عنه. ولكنى استحييت أن يأثروا الكذب عنى فصدقته.

قال ـ هرقل ـ : كيف نسب هذا الرجل فيكم؟

قلت : هو فينا ذو نسب عظيم.

قال : فهل قال هذا القول أحد منكم قبله؟

قلت : لا. (قال) : فهل كان من آبائه من ملك؟. (قلت) : لا فقال : هل كنتم تتهمونه على الكذب قبل أن يقول ما قال؟

قلت : لا.

قال : فأشراف الناس ـ أى أصحاب النخوة والتكبر منهم ـ يتبعونه أم ضعفاؤهم؟

قلت : بل ضعفاؤهم.

قال : فيزيدون أو ينقصون؟

قلت : بل يزيدون.

قال : فهل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟

قلت : لا.


قال : فهل يغدر؟

قلت : لا.

قال : فهل قاتلتموه وقاتلكم؟

قلت : نعم قال : فكيف كانت حربه وحربكم؟

قلت : كانت دولا وسجالا.

قال : فما ذا يأمركم؟

قلت : يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا وينهانا عما كان يعبد آباؤنا ـ من عبادة الأصنام ـ ويأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة.

فقال لترجمانه : قل له إنى سألتك عن نسبه فيكم فزعمت أنه ذو نسب ـ أى عظيم ـ وكذا الرسل تبعث فى أشرف نسب قومها.

وسألتك : هل قال أحد منكم هذا القول قبله فزعمت أن لا فقلت ـ أى هرقل ـ لو كان أحد منكم قال هذا القول قبله قلت رجل يأتم ـ أى يقتدى ـ بقول قد قيل قبله وسألتك هل كان من آبائه من ملك فزعمت أن لا. فقلت لو كان من آبائه ملك. قلت يطلب ملك آبائه.

وسألتك : أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم. فزعمت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل.

وسألتك هل يزيدون أم ينقصون. فزعمت أنهم يزيدون وكذلك الإيمان متى يتم.

وسألتك : هل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فزعمت أن لا. فكذلك الإيمان حين تخلط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد.

وسألتك هل يغدر؟ فزعمت أن لا. وكذلك الرسل لا يغدرون.

وسألتك : هل قاتلتموه وقاتلكم؟ فزعمت أن قد فعل وأن حربكم وحربه تكون دولا ويدال عليكم المرة وتدالون عليه الأخرى. وكذلك الرسل تبتلى وتكون لها العاقبة وسألتك : بما ذا يأمركم؟ فزعمت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وينهاكم عما كان يعبد آباؤكم ويأمركم بالصلاة والصدقة والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة ... وهذه صفة النبى.


قد كنت أعلم أنه خارج ـ قال ذلك لما رأى من علامات نبوته المتمثلة فى سيرته ـ ولكن لم أظن أنه منكم. وإن يك ما قلت حقا فيوشك أن يملك موضع قدمى هاتين ولو أرجو أن أخلص إليه لتجشمت لقيه».

وفى مرسل ابن إسحاق أن هرقل قال : «ويحك والله إنى لأعلم أنه نبى مرسل ولكنى أخاف الروم على نفسى ولو لا ذلك لاتبعته» (١).

إن النبوة قائمة على الصدق والذين اتبعوه «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» اتبعوه لأنه صادق ، ولو رأوا وهم الذين يخالطونه ـ ليل نهار ـ ذرة شبهة لأنكروا وبينوا وهم من هم.

لقد كانت صورة الصدق والإخلاص سمة من السمات التى اتصف بها الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» قبل البعثة وبعد بعثته ... أعلن الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» إلى قريش نبوته فقال لهم : (أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا وراء هذا الوادى تريد أن تغير عليكم أكنتم تصدقونى؟) لقد كانت إجابتهم : تعبر عن الحقيقة التى لمسوها. لقد قالوا : نعم أنت عندنا غير متهم وما جربنا عليك كذبا قط وفى هذا يقول النضر بن الحارث لقريش «لقد كان محمد فيكم غلاما حدثا أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثا وأعظمكم أمانة حتى إذا رأيتم فى صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم قلتم ـ إنه ـ ساحر. لا والله ما هو بساحر» (٢). هذا ما ركز عليه هرقل فاستدل بمنطقه ورحب تفكيره على نبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

رابعا : إخبار الأنبياء المتقدمين عليه عن نبوته :

إن ظاهرة عامة كنبوة نبينا محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» للعالمين جميعا تحتاج إلى مقدمات ومبشرات توجد استعدادا عاما عند الناس لها. والدارس للنصوص التاريخية التى تتحدث عن الفترة السابقة على بعثته وأثنائها يلاحظ أن الناس الذين لهم صلة بكتاب سماوى كان واضحا فى أذهانهم أنه سيبعث نبى وكانوا يترقبون ظهوره وأن بعض علمائهم قد أعلن إسلامه بمجرد لقائه بهذا النبى الأمى كعبد الله بن سلام حبر اليهود وعالمهم.

من ذلك أيضا قصة سلمان الفارسى كما تذكرها الروايات وتنقله من عالم إلى عالم فى النصرانية ... حتى دله آخرهم على الترقب لنبى كاد أن يبعث من أرض العرب. وذلك بسبب مجيئه إلى أرض العرب (٣).

__________________

١ ـ القسطلانى : إرشاد السارى لشرح صحيح البخارى ج ٥ ص ١١٣.

والعسقلانى : فتح البارى بشرح صحيح البخارى ج ١ ص ٢٦ ـ ٢٧.

٢ ـ البيهقى : دلائل النبوة ج ١ ص ٤٤٨ المكتبة السلفية بالمدينة المنورة.

٣ ـ ابن كثير : السيرة ج ١ ص ٢٩٦ ـ ٣٠٣ مطبعة الحلبى.


ومن ذلك القصة التى يرويها الإمام البخارى ـ والتى سقت جانبا منها ـ عن أبى سفيان عند ما استدعاه هرقل في بلاد الشام إذ يقول هرقل فى آخرها «وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أعلم أنه منكم» (١).

ومن ذلك أيضا قصة إسلام عبد الله بن سلام. قال ابن هشام في سيرته : «قال ابن إسحاق وكان من حديث عبد الله بن سلام كما حدثنى بعض أهله عنه عن إسلامه وكان حبرا عالما قال : «لما سمعت برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» عرفت صفته واسمه وزمانه الذى كنا نتوقف له فكنت مسرا لذلك صامتا عليه حتى قدم رسول الله إلى المدينة فلما نزل بقباء ... أقبل رجل حتى أخبر بقدومه وأنا في رأس نخلة لى أعمل فيها وعمتى ... تحتى جالسة فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» كبرت. فقالت لى عمتى حين سمعت تكبيرى : خيبك الله لو سمعت موسى بن عمران قادما ما زدت. قال : فقلت لها : أى عمة والله أخو موسى ابن عمران وعلى دينه بعث بما بعث به. قال فقالت : أى ابن أخى أهو النبى الذى كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة؟ قال فقلت لها نعم. قال : فقالت : فذاك إذن ، قال : ثم خرجت إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فأسلمت ثم رجعت إلى أهل بيتى فأمرتهم فأسلموا» (٢) ومن ذلك أيضا قصة النجاشى وموقفه من أصحاب الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فى هجرتهم إليه وقوله بعد نقاش وعرض عند ما أوفدت قريش وفدا لإخراجهم.

«... أشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا» (٣).

على كل حال الأخبار متواترة عمن أسلم ومن اقتنع ولم يسلم «وهذا يوجب القطع بأنه «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» مذكور فيها ـ فى التوراة ـ مما يدل على صدقه في دعوى النبوة وليس فيها ما يخبر بكذبه والتحذير منه» (٤) على ما سنرى.

المبحث الرابع

بشارات العهدين : القديم والجديد :

قبل أن نتناول هذه البشارات يجب أن ننبه :

أن رسالة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ليست في حاجة إلى دليل يقام عليها من خارجها. بحيث إذا لم يوجد هذا الدليل ـ الخارجى ـ بطلت تلك الرسالة فهى رسالة دليلها

__________________

١ ـ القسطلانى : المصدر السابق.

٢ ـ ابن هشام : سيرة النبى تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد ج ٢ ص ٣٦٠ ـ ٣٦١ مطبعة المدنى.

٣ ـ البيهقى : دلائل النبوة ج ٢ ص ٧٩ الطبعة الأولى المكتبة السلفية بالمدينة المنورة.

٤ ـ ابن تيمية : ـ الجواب الصحيح ... ج ٣ ص ٢٩٧.


فيها ووجود بشارات بها في كتب متقدمة ـ زمنا عليها لا يضيف إليها جديدا ، وعدم تلك البشارات لا ينال منها شيئا قط. فهى حقيقة قائمة بذاتها لها سلطانها الغنى عما سواه.

فلا يظنن أهل الكتابين ولا غيرهم أننا حين نتحدث عن بشارات الكتب السابقة برسول الإسلام إنما نتلمس أدلة نحن في حاجة إليها لإثبات صدق محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فى دعواه الرسالة (١).

إن الإخبارات الواقعة في حق نبينا «وأماراته في التوراة والإنجيل أكثر من أن تحصى. ولقد كان لموسى بيت صور ـ يعنى صور الأنبياء ـ يدخله فيطالع الصور كل سبت. فلو لم يظهر النبى معجزة قط كان ما مضى من الدلائل كافيا فلهذا اقتصرت معجزاته على إظهار الأمر للأميين من العرب دون أهل الكتاب ... فإنهم كانوا محجوجين بما ثبت عندهم من الأخبار عن الصادقين» (٢).

__________________

١ ـ د. عبد العظيم المطعنى : الإسلام في مواجهة الاستشراق العالمى ص ٥٩٠ دار الوفاء بمصر ١٤٠٧ ه‍ / ١٩٨٧ م.

٢ ـ الشهرستانى : نهاية الأقدام في علم الكلام ص ٤٤٣.


بشارات العهد القديم :

أولا ... فى التوراة التى بين أيديهم «جاء الله من سينا وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فران» (١).

وسيناء هى الجبل الذى كلم الله فيه موسى أى هو «موضع مبعث موسى ـ عليه‌السلام ـ بلا شك ، وساعير هو موضع مبعث عيسى وفاران بلا شك هى مكة موضع مبعث محمد» (٢).

وليس من شك أن فاران هى مكة ، فقد جاء في التوراة : «أن إبراهيم أسكن هاجر واسماعيل فاران ـ يعنى مكة ـ» (٣).

وهذا نصها :

«وكان الله مع الغلام ـ يعنى إسماعيل ـ فكبر وسكن في البرية وكان ينمو رامى قوس وسكن في برية فاران ..» (٤).

«وجاء في كتاب «تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب» لمؤلفه أبى محمد عبد الله الترجمان الميورقي (ت ٨٣٢ ه‍) وكان مسيحيا وأسلم. وكان اسمه : «أنلم توميدا» : «وجبال فاران هى مكة وأرض الحجاز ، فإن فاران اسم رجل من ملوك العمالقة الذين اقتسموا الأرض فكان الحجاز وتخومه لفاران فسمّى القطر كله باسمه» (٥).

ثبت بالتوراة ـ إذن ـ أن جبل فاران مسكن لآل إسماعيل.

ومن المعلوم ضرورة أنه «لم يبعث أحد من الأنبياء ابتعاثا ظاهرا ، فشا أمره فى مشارق الأرض ومغاربها كما اقتضى قوله : (استعلن) لأن (استعلن) بمعنى (علن) إذا ظهر وانكشف ولم يستعلن غير محمد فلم يبق ريب في أنه هو المراد بهذه اللفظة» (٦).

والله تعالى ذكر هذا على الترتيب الزمانى «فذكر إنزال التوراة ثم الإنجيل ثم القرآن ... وقال في الأول : جاء أو ظهر وفي الثانى أشرق وفي الثالث استعلن وكان

__________________

١ ـ سفر التثنية ٣٣ : ١ ـ ٣ (فى بعض الطبعات : وتلألأ من جبل فاران)

٢ ـ ابن حزم : الفصل ـ ج ١ ص ٩٠.

٣ ـ أبى الحسن الزيدى : إثبات نبوة النبى ص ١٥٨ مصدر سابق

٤ ـ سفر التكوين ٢١ : ٢٠ ـ ٢١.

٥ ـ تحفة الأريب ... ص ٢٦٥ تحقيق الأستاذ عمرو وفيق الداعوق دار البشائر الإسلامية. بيروت ٨؟ ١٤ ه‍ / ١٩٨٨ م. وانظر الأجوبة الفاخرة للقرافى ص ٢٣٨ عام ١٤٠٧ ه‍.

٦ ـ أبى الحسن أحمد الزيدى : المصدر السابق.


مجىء التوراة مثل طلوع الفجر ... ونزول الإنجيل مثل إشراق الشمس ازداد به النور والهدى.

وأما نزول القرآن فهو بمنزلة ظهور الشمس في السماء. ولهذا قال : استعلن كما يظهر نور الشمس إذا استعلنت في مشارق الأرض ومغاربها (١) وإذا كانت التوراة «قد أشارت في الآية التى تقدم ذكرها إلى نبوة تنزل على جبل فاران ، لزم أن تكون النبوة على آل إسماعيل لأنهم سكان فاران» (٢). ومع أن ابن كمونة ـ اليهودى ـ ينكر أن تكون فاران هى مكة إلا أنه ذكر أن بعض الناس ـ يصدق بعض الناس ولا يصدق التوراة ـ وجدوا هذا الاسم بالخط الكوفى في كتاب منازل مكة (٣).

فضلا عن أن اعتراف اليهود بأن الوحى هو المراد في طور سيناء. فلا بد أن يكون الأمر كذلك في ساعير وفاران. ويكون في ذلك إشارة لأماكن الرسالات الثلاث وإلا فأين الموضع الذى استعلن الله منه ، واسمه فاران؟

وأين النبى الذى أنزل عليه كتاب بعد المسيح؟

وأى نبوة خرجت فاستعلت استعلاء ضياء الشمس ، وتلألأت وظهرت فوق ظهور النبوتين السابقتين؟ وأى دين ظهر وانتشر في مشارق الأرض ومغاربها غير الإسلام؟ (٤). وقد جاء في سفر التكوين أيضا «وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه. ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدا اثنى عشر رئيسا يلد واجعله أمة كبيرة» (٥) ومحمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» من «أبناء إسماعيل الموعود بالبركة والإثمار في أبنائه» (٦).

ثانيا : جاء في التوراة إنذار بين «برسول الله من قوله تعالى فيها (سأقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك واجعل كلامى في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به) (٧). وفي هذا الكلام أدلة على نبوة نبينا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» منها :

ـ الأول ـ قوله نبيا من اخوتهم يدل «على أن الموعود به لا يكون من بنى إسرائيل» لأن موسى وقومه من بنى إسحق «واخوتهم بنو إسماعيل كما تدل عليه الآية ١٨ من الإصحاح ٢٥ تكوين (وسكنوا أى أبناء إسماعيل ـ من حويلة إلى آشور التى أمام مصر حينما تجرد نحو آشور أمام جميع إخوته نزل وحويلة هى بلاد خولان على

__________________

١ ـ ابن تيمية السابق ص ٣٠١ ، ٣٠٢

٢ ـ الحكيم السموأل بذل المجهود في افحام اليهود ص ٦٩ تحقيق الأستاد عبد الوهاب الطويلة الدار الشامية بيروت

٣ ـ ابن كمونة : تنقيح الأبحاث ص ٩٤

٤ ـ ابن تيمية الجواب الصحيح ج ٣ ص ٣٠١

٥ ـ تكوين ١٦ ـ ٢٠

٦ ـ عبد الوهاب النجار قصص الأنبياء ص ٣٥٠ ـ ٣٥١

٧ ـ تثنية ١٨ ـ ١٨


تخوم اليمن مما يلى الحجاز ولا مقابل لأبناء إسماعيل في جهة آشور سوى بنى إسرائيل» (١).

ولو كان هذا النبى المبشر به من بنى إسحاق لكان من أنفسهم لا من إخوتهم.

جاء في سفر التكوين في بشارة هاجر بإسماعيل.

«وأمام جميع إخوته يسكن (٢) وأيضا أمام جميع إخوته نزل» (٣) أى فى وسطهم.

وإخوة إسماعيل هم أولاد إبراهيم ـ عليهما‌السلام ـ وإخوة بنى إسرائيل هم بنو إسماعيل ـ أى العرب ـ وبنو العيسى ـ أى الروم.

فأما بنو العيسى فلم يقم فيهم نبى سوى أيوب ، وكانت بعثته قبل أن يخلق موسى ، فلا يجوز أن يكون هو الذى بشرت التوراة به. فلم يبق إلا العرب بنو إسماعيل فتعين أن يكون المبشر به منهم. فلم يخرج من ولد إسماعيل نبى سوى محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فيكون هو المبشر به وهو المنتظر (٤).

الثانى : قوله نبيا مثلك وقد جاء في التوراة : «ولم يقم بعد ذلك في بنى إسرائيل مثل موسى عرفه الرب وجها لوجه» (٥) فبنى إسرائيل لم «يبعث فيهم نبى مثل موسى له شريعة ظاهرة قبل المسيح. ولا يصح أن يقال : أن المراد به هو المسيح لأن القائل به إما أن يكون يهوديا منكرا لنبوته أو نصرانيا» والنصارى يدعون أنه إله وإنسان فلا يكون مثل موسى فلم يبق «إلا أن يكون المراد به نبينا محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» على أن عيسى ـ عليه‌السلام ـ لم يكن مثل موسى لأن شريعته مبنية على شريعة موسى وشريعة نبينا مثل شريعة موسى» (٦) بل إنه أجل لعموم دعوته «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ولا يمكن أن يقال إن المعنى بهذه البشارة يوشع بن نون «لأن يوشع كان حاضرا معهم عند موسى مقيما بخدمته. ففي الإصحاح الأول من التثنية (فليكن يوشع بن نون خادمك) (٧).

فضلا عن أن يوشع من بنى إسرائيل لا من إخوتهم كما أنه لم يأت بشريعة مثل موسى بل هو متبع لموسى.

الثالث : قوله (واجعل كلامى في فمه) ظاهر أن المعني به محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» لأن معناه

__________________

١ ـ عبد الوهاب النجار : قصص الأنبياء ص ٣٥١.

٢ ـ تكوين ١٦ : ١٢

٣ ـ تكوين ٢٥ : ١٨.

٤ ـ الحكيم السموأل : السابق من تعليقات المحقق ص ٨١.

٥ ـ تثنية : ـ ٣٤ : ١٠.

٦ ـ أبى الحسن الزيدى : إثبات نبوة النبى ص ١٦٣.

٧ ـ رحمة الله الهندى : إظهار الحق ج ٢ ص ٩٠ ، ٩١.


أنه «يكون أميا لا يقرأ ولا يكتب» فيوحى الله إليه بكلامه فينطق به على النحو الذى يسمعه «ولم يدع أحد من أبناء (إسماعيل) ذلك سوى محمد ولم يقم نبى أمى سواه منذ خلق الله الدنيا إلى اليوم» (١) فلم «تكن هذه الصفة لغير محمد». (٢)

هذه الأوصاف إذن لا تنطبق إلا على النبى محمد الذى هو من نسل إسماعيل أخو إسحاق وبذا كان بحق نبيا من وسط إخوة بنى إسرائيل وهو ما لا ينطبق على المسيح.

فإذا أصر مسيحيو اليوم على إسناد كل نبوءات العهد القديم إلى المسيح وأنه هو المعنى بهذه النبوءة وافقناهم بشرط الإقرار بأن عيسى مثل موسى ، وموسى عبد الله ورسوله وعليه يكون المسيح عبد الله ورسول له وليس إلها أو ابن إله. فإن آمنوا بذلك فقد اهتدوا وكانت علّة هدايتهم هى نبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

٢ ـ بشارات العهد الجديد : ـ

رأينا كيف أن الله تعالى وعد بنى إسرائيل على لسان موسى أن يرسل من بين إخوتهم نبيا مثل موسى يجعل كلامه في فمه ويخبرهم بكل ما يوحى إليه.

كذلك من المعلوم أن اليهود كانوا ينتظرون ظهور ثلاثة أنبياء لذلك لما ظهر يوحنا ذهب إليه أحبارهم يسألونه : «من أنت؟ فاعترف ولم ينكر وأقر : إنى لست أنا المسيح.

فسألوه : إذا ما ذا؟ إيليا أنت؟

فقال : لست أنا.

النبى أنت؟ فأجاب : لا.

فقالوا له : من أنت لنعطى جوابا للذين أرسلونا.

ما ذا تقول عن نفسك؟

قال : أنا صوت صارخ في البرية. قوموا طريق الرب كما قال أشعياء النبى».

فسألوه وقالوا له : فما بالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبى؟

أجابهم يوحنا قائلا : أنا أعمد بماء ولكن في وسطكم قائم الذى لستم تعرفونه. الذى لست بمستحق أن أحل سيور حذائه» (٣) ومن هذا النص نستطيع أن نستنتج أمرين :

ـ الأول : أن الذين كان ينتظرهم اليهود هم : إيلياء والمسيح والنبى.

__________________

١ ـ النجار : المصدر السابق ص ٢٥١.

٢ ـ ابن حزم : المصدر السابق.

٣ ـ يوحنا ١ : ١٩ ـ ٢٧.


الثانى : أن آخر الثلاثة ظهورا هو النبى فهو آخر من سأل عنه اليهود وندلل أيضا على أنهم كانوا ينتظرون ظهور النبى أنهم عند ما ظهر «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» خلطوا بينه وبين النبى المنتظر ففي «اليوم الأخير العظيم من العيد وقف يسوع ونادى قائلا : إن عطش أحد فليقبل إلىّ ويشرب ... فكثيرون من الجمع لما سمعوا هذا الكلام قالوا : هذا بالحقيقة هو النبى وآخرون قالوا : هذا هو المسيح .. فحدث انشقاق في الجمع لسببه» (١).

وحتى بعد ميلاد المسيح كان اليهود ينتظرون ظهور إيليا أو من يتقدم بروحه. ومن المعلوم أنه لم يظهر نبى بعد المسيح إلا النبى محمد. فمتى ـ إذن ـ ظهر إيليا؟.

لقد ظهر إيليا قبل المسيح. فما إيليا إلا يوحنا المعمدان. فلقد بشر الملاك زكريا بيحيى (يوحنا) وأنه يتقدم بروح إيليا. «وخمرا ومسكرا لا يشرب ومن بطن أمه يمتلئ بالروح القدس ويرد كثيرين من بنى إسرائيل للرب إلههم ويتقدم أمامه بروح إيليا وقوته» (٢).

ثم «ابتدأ يسوع يقول للجموع عن يوحنا ما ذا أخرجكم لتنظروا؟ أنبيا؟ نعم أقول لكم وأفضل من نبى .. الحق أقول لكم : لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان .. إن أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيليا المزمع أن يأتى» (٣) ثم هو فى موضع آخر من إنجيل متى يقول «... ولكنى أقول لكم أن إيليا قد جاء ـ قبله طبعا ـ ولم يعرفوه بل عملوا به كل ما أرادوا ... حينئذ فهم التلاميذ أنه قال لهم عن يوحنا المعمدان ...» (٤).

هذا تقرير من المسيح وشهادة منه بأن إيليا قد جاء في شخص يوحنا المعمدان.

إيليا إذن قد جاء والمسيح ها هو بين ظهرانيهم يخبرهم هذه الإخبارات فلم يبق ـ بعد إيليا والمسيح ـ إلا أن يأتى النبى المبشر به والذى كان اليهود ينتظرونه.

يقول يوحنا في إنجيله عن المسيح أنه قال لتلاميذه : «إن كنتم تحبوننى فاحفظوا وصاياى. وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم معزيا ٥ ـ فارقليط ـ آخر ليمكث معكم إلى الأبد روح الحق الذى لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه» (٦).

«ومتى جاء المعزى الذي سأرسله إليكم من الأب روح الحق الذى من عند الأب فهو يشهد لى وتشهدون أنتم أيضا لأنكم معى من الابتداء» (٧).

__________________

١ ـ يوحنا ٧ : ٣٧ ـ ٤٣.

٢ ـ لوقا ١ : ١٥.

٣ ـ متى ١١ : ٧ ـ ١٤.

٤ ـ متى ١٧ ـ ١٠ ـ ١٣.

٥ ـ فى التراجم العربية المطبوعة سنة ١٨٢١ وسنة ١٨٣١ وسنة ١٨٤٤ طبعة لندن وردت لفظة (فارقليط) بدلا من لفظة (معزيا).

٦ ـ يوحنا ١٤ : ١٥ ـ ١٧.

٧ ـ يوحنا ١٥ : ٢٦ ـ ٢٧.


«عند ما ستأتى روح الحقيقية فسيجعلكم ترقون إلى الحقيقة بكاملها لأنه لن يتكلم بإرادته وإنما سيقول ما يسمع وسيعرفكم بكل ما سيأتى. وسيجرى ...» (١). ووجه الاستدلال بهذا النص على أن المراد (بفارقليط) النبى المبشر به وهو محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» لا الروح النازل على تلاميذ عيسى ـ عليه‌السلام ـ يوم الدار فيما يزعم نصارى اليوم. وجوه عدة منها :

الأول : أن «عيسى ـ عليه‌السلام ـ قال : أولا (إن كنتم تحبونى فاحفظوا وصاياى) ثم أخبر عن فارقليط. فمقصوده ـ عليه‌السلام ـ أن يعتقد السامعون بأن ما يلقى عليهم يعد ضرورى واجب الرعاية. فلو كان فارقليط عبارة عن الروح النازل يوم الدار لما كانت الحاجة إلى هذه الفقرة».

الثانى : أن هذا «الروح ـ على زعمهم ـ متحد بالأب مطلقا وبالابن نظرا إلى لاهوته اتحادا حقيقيا فلا يصدق في حقه (فارقليط آخر) بخلاف النبى المبشر به فإنه يصدق هذا القول في حقه بلا تكلف (٢).

فإن معنى (الفارقليط) إن كان هو الحامد أو الحامد أو الحمد أو المعزى فهذا الوصف ظاهر في محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٣).

«ومهما اعتقد العلماء الباحثون أن حديث يسوع المسيح عن المعزى بلسانه الآرمى بأنه يمثل في دقة متناهية الترجمة اليونانيةPeroklytos التى تعنى المعجب Admirable أو الممجدLoriflied فكلمة الفارقليط تطابق كلمة محمد أو محمود فى اللغة العربية» (٤).

كما أن عبارة (الروح أو روح الحق لا تعنى أن النبى الآتى سيكون غير إنسان ، ففي كتاب العهد الجديد اليوناني أن عبارة (الروح) استخدمت عن الإنسان الموحى إليه. (الإنسان المحتوى بالاتصال الروحى بالسماء) أو (الإنسان المحتوى بالوحى).

فالإنسان الذى يصبح مستحوذا بالوحى السماوى هو الإنسان الذى ينطبق عليه عبارة (الروح) (٥).

والمثال على ذلك ما جاء في رسالة يوحنا الأول ٤ : ١ ـ ٣ «أيها الأحباء لا

__________________

١ ـ يوحنا ١٦ : ١٣ ـ ١٤.

٢ ـ رحمة الله الهندى : إظهار الحق ج ٢ ص ٥٤١ ـ ٥٤٢

٣ ـ ابن تيمية : الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ج ٤ ص ١٦.

٤ ـ ٥٦٧ ـ ١٤.p ،.Cit ،.JamesHastingop عن إبراهيم خليل أحمد : محمد في التوراة والإنجيل والقرآن ص ٥١ ـ دار المنار. القاهرة ١٤٠٩ ه‍ ـ ١٩٨٩ م.

٥ ـ إبراهيم خليل أحمد : السابق ص ٥٣.


تصدقوا كل روح ، بل امتحنوا الأرواح هل هى من الله ، لأن أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا إلى العالم بهذا تعرفون روح الله. كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء فى الجسد فهو من الله وكل روح لا يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فليس من الله ، وهذا هو روح ضد المسيح» (١).

وفضلا عن المعنى المقصود أن الروح مقصود بها الإنسان فإن هذا النص يشير إشارة واضحة إلى روح الحق الموعود به والمنتظر يعزف بالمسيح أن الله أوجده بكلمة منه في جسد مريم البتول بدون أب ثم أرسله رسولا منه.

ولا شك أنها لا تنطبق إلا على محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ويدلى المستشرق الفرنسى بوكاى بدلوه ويزيد الأمر وضوحا بأدلة منطقية تلمسها العقول النيرة والفطر السليمة فيقول : «إن ما يسود الرواية ـ رواية يوحنا السابقة ـ هو مستقبل البشرية الذى يتحدث عنه المسيح ... معطيا إرشاداته وأوامره ومحددا بشكل نهائى المرشد الذى على الإنسانية أن تتبعه بعد اختفائه» ولما ذهب بعض شراح إنجيل يوحنا أن الفارقليط هو الروح القدس.

مع أن النص يقول : أنه سمع ويتكلم.

يقول بوكاى. أن المعروض هنا من الدلالة المحددة لفعلى (يسمع) و (يتحدث) يسرى على كل محفوظات إنجيل يوحنا ... وفعل يسمع يعنى استقبال أصوات. أما فعل يتحدث معناه العام إصدار أصوات ، وخاصة صوت الكلام.

يبدو إذن أن الاتصال بالناس المقصود هنا لا يمكن مطلقا في إلهام من عمل الروح القدس. إنما هو اتصال ذو طابع مادى واضح وذلك بسبب مفهوم إصدار الصوت وهو المفهوم المرتبط بالكلمة اليونانية التى تعرفه (Parakletas) الفعلان اليونانيان Akouo وLaleo يعنيان فعليين ماديين لا يمكن أن يخصا إلا كائنا يتمتع بجهاز للسمع وآخر للكلام وبالتالى فتطبيق هذين الفعلين على الروح القدس أمر غير ممكن وذهب بعض الشراح إلى أن المقصود بكلمة (بارقليط) هو المسيح نفسه ، غير أن نص يوحنا الأول (١٤ : ١٥ ـ ١٦) «إذا كنتم تحبوننى ... سيعطيكم بارقليط آخر» يكذب ذلك إذ أنه يعنى أنه سيرسل وسيطا آخر ، كما كان هو وسيطا بين الله والبشر أثناء حياته.

يقول بوكاى : «يقودنا ذلك بمنتهى المنطق إلى أن نرى في الParaclet عند يوحنا كائنا بشريا مثل المسيح يتمتع بحاستى السمع والكلام وهما الحاستان اللتان

__________________

١ ـ أنظر إبراهيم خليل أحمد : السابق ص ٥٣.


يتضمنهما نص يوحنا بشكل قاطع.

«إذن فالمسيح يصرح بأن الله سيرسل فيما بعد كائنا بشريا على هذه الأرض ليؤدى الذى عرفه يوحنا ، ولنقل باختصار أنه دور نبى يسمع صوت الله ويكرر على مسامع البشر رسالته ، ذلك هو التفسير المنطقى لنص يوحنا إذا أعطينا الكلمات معناها الفعلى.

ويكشف بوكاى عن أن وجود كلمتى (الروح القدس) فى النص الذى نملك اليوم قد يكون نابعا من إضافة لاحقة إرادية تماما تهدف إلى تعديل المعنى الأول لفقرة تتناقض بإعلانها بمجيء نبى بعد المسيح ، مع تعاليم الكنائس المسيحية الوليدة التى أرادت أن يكون المسيح خاتم الأنبياء» (١).

إن هذا النبى الآتى لن يكون من شيعة النصارى دليل ذلك قول المسيح لتلاميذه : «فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه ، بل كل ما يسمع يتكلم به» (٢).

بل زاد إيضاحا فأنبأ بأن هذا النبى المنتظر سيرشد إلى حقائق لم يبلغها المسيح عيسى بن مريم ذاته فقال : «ويخبركم بأمور آتية».

والقرآن الكريم هو الآية الخالدة إلى أن تقوم الساعة إنه الإعجاز البيانى والإعجاز العلمى ...

الثالث : أن عيسى قال : «(هو يشهد لأجلى) وهذا الروح ما شهد لأجله بين أحد من تلاميذه الذين نزل عليهم ما كانوا محتاجين إلى الشهادة لأنهم كانوا يعرفون المسيح حق المعرفة قبل نزوله أيضا فلا فائدة للشهادة بين أيديهم. والمنكرون الذين كانوا محتاجين للشهادة فهذا الروح ما شهد بين أيديهم» (٣).

بخلاف محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فإنه شهد للمسيح شهادة سمعها عامة الناس .. وأظهر أمر المسيح وشهد له بالحق حتى سمع شهادته له عامة أهل الأرض وعلموا أنه صدق المسيح ونزهه عما افترته عليه اليهود وعما غلت فيه النصارى. ولهذا لما سمع النجاشى من الصحابة ما شهد به محمد للمسيح قال لهم (ما زاد عيسى على ما قلتم) (٤).

__________________

١ ـ بوكاى : دراسة الكتب المقدسة .. ص ١٢٨ ، ١٢٩. (مصدر سابق).

٢ ـ يوحنا ١٦ : ١٣ وانظر أيضا : إبراهيم خليل أحمد : السابق ص ٥١ ـ ٦٠.

٣ ـ رحمة الله الهندى : المصدر السابق.

٤ ـ ابن تيمية : المصدر السابق ص ١٧.


الرابع : أن عيسى قال .. (وأنتم أيضا تستهدون لأنكم معى من الابتداء) فهذا القول يدل دلالة ظاهرة على أن شهادة الحواريين غير شهادة (فارقليط) فلو كان المراد الروح النازل يوم الدار فلا توجد مغايرة للشهادتين لأن الروح المذكور لم يشهد شهادة مستقلة غير شهادة الحواريين بل شهادة الحواريين هى شهادته بعينها. فلا يصح هذا القول بخلاف ما إذا كان المراد به النبى المبشر فإن شهادته غير شهادة الحواريين» (١).

خلاصة هذا أن الله تعالى سيبعث نبيا آخر (فارقليط) يقوم مقام المسيح في تبليغ رسالة ربه وسياسة الخلق وهذا النبى لم يعاصر المسيح وإنما جاء بعده وهذا معنى قول المسيح «الحق أنه من الخير لكم أن انطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزى ولكن إذا ذهبت أرسله لكم» أى أنهما لا يجتمعان في زمن واحد لأن المسيح علق مجيئه بذهابه ... والمعزى هو روح الحق الذى لا يتكلم من نفسه وإنما بوحى من الله «وأما متى جاء ذلك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل بكل ما يسمع ويخبركم بأمور آتية» (٢).

بعد ذلك نشير إلى أن محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» لو تقول على الله شيئا من عنده لجاءه القتل عقابا سريعا لا راد له من الله : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧)) [الحاقة : ٤٤ ـ ٤٧].

ونجد التوراة تذكر أن الموت العاجل لا بد وأن يفاجئ كل من يدعى كذبا أنه نبى لله يوحى إليه ويتكلم باسمه زورا «وأما النبى الذى يطغى فيتكلم باسمى كلاما لم أوصه أن يتكلم به أو الذى يتكلم باسم آلهة أخرى فيموت ذلك النبى» (٣).

بل جاء في السامرية : «فليقتل ذلك النبى» فالموت هنا لا يعنى به الموت الطبيعى الذى تذوقه كل نفس وإنما يقصد به القتل أو الموت غير الطبيعى الذى ينهى حياة مدّعى الرسالة كذبا. ووسائل هذا الموت العاجل كثيرة مثل : القتل أو الغرق ونحوه لأنها وسائل تفضى إلى الموت العاجل.

وأمثلة ذلك ما جاء في التوراة : «نهاية كل بشر قد أتت أمامى لأن الأرض قد امتلأت ظلما منهم. فها أنا آت بطوفان الماء على الأرض لأهلك كل جسد فيه روح حياة من تحت السماء كل ما في الأرض يموت ...» وكان الطوفان على الأرض

__________________

١ ـ رحمة الله الهندى المصدر السابق.

٢ ـ يوحنا ١٦ : ٧ ، ١٣.

٣ ـ تثنية : ١٨ : ٢٠.


أربعين يوما ... فمات كل ذى جسد كان يدب على الأرض ... كل ما في أنفه نسمة روح حياة من كل ما في اليابسة مات» (١).

ومن الواضح أن الموت هنا تم عن طريق الغرق الذى لا يعتبر موتا طبيعيا.

وهذا المعنى جاء في حكم من يحاول قتل صاحبه «إذ بغى إنسان على صاحبه ليقتله بغدر فمن عند مذبحى تأخذه للموت» (٢).

يتبين لنا من هذا أن إحدى العلامات التى يعرف بها مدعى النبوة كذبا هو أن يقتلع من الأرض قبل أن يتم دعوته ويكون ذلك بالموت قتلا أو غيره.

ولكن محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» حفظه الله (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧] وأتم دينه واكتملت دعوته وبلغ الأمر غايته.

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) [المائدة : ٣] ذكر صاحب كتاب (الإنجيل والصليب) أنه جاء فى (إنجيل لوقا) ٢ : ١٤ «الحمد لله في الأعالى وعلى الأرض إسلام وللناس أحمد» ولكن المترجمين ترجموها فى الإنجيل هكذا :

«الحمد لله في الأعالى وعلى الأرض السلام وبالنّاس المسرة» ومؤلف الكتاب يرى أن الترجمة الصحيحة ما ذكره هو. يقول المؤلف أن ثمة كلمتين وردتا في اللغة الأصلية لم يدرك أحد ما تحتويان عليه من المعانى تماما فلم تترجم هاتان الكلمتان كما يجب في الترجمة القديمة من السريانية :

هاتان الكلمتان هما :

أيرينى ـ التى يترجمونها : السلامة.

وأيودكيا ـ التى يترجمونها : حسن الرضا.

فالأولى من الكلمتين اللتين هما موضوع بحثنا الآن هى (أيرينى) فقد ترجمت بكلمات «سلامة» «مسالمة» «سلام» والمؤلف يرى أن ترجمتها الصحيحة «إسلام» فيقول في ص ٤٠ «ومن المعلوم أن لفظ «إسلام» يفيد معانى واسعة جدا ويشتمل على ما تشتمل عليه ألفاظ (السلم ، السلام) (الصلح ، المسالمة) (الأمن ، الراحة) ... وتتضمن معنى زائدا وتأويلا آخر أكثر وأعم وأشمل وأقوى مادة ومعنى ،

__________________

١ ـ تكوين ٦ : ١٣ ، ١٧ ، ٧ : ١٧ ، ٢١ ، ٢٢ ١٠٣

٢ ـ خروج ٢١ : ١٤.


ولكن قول الملائكة «على الأرض سلام» لا يصح أن يكون بمعنى الصلح العام والمسالمة لأن جميع الكائنات وعلى الأخص الحية منها ولا سيما النوع البشرى الموجود على كرة الأرض دارنا الصغيرة هى بمقتضى السنن الطبيعية والنواميس الاجتماعية خاضعة للوقائع والفجائع الوخيمة كالاختلافات والمحاربات والمنازعات ... ، فمن المحال أن يعيش الناس على وجه الأرض بالصلح والمسالمة».

ثم يستشهد بقول المسيح «ما جئت لألقى نادراً على الأرض ما جئت لألقى سلاما بل سيفا» (متى ١٠ : ٣٤).

ويستشهد بقول آخر للمسيح : «جئت لألقى نادرا على الأرض فما ذا أريد لو اضطرمت؟ أتظنون أنى جئت لأعطى سلاما على الأرض كلا أقول لكم بل انقساما» (لوقا ١٢ : ٤٩ ـ ٥٣)

وعلى هذا فالترجمة لا تنطبق ورسالة المسيح وأقواله والصواب «وعلى الأرض إسلام». (أنظر البحث من ص ٣٨ ـ ٤٤) كما يرى أن (أيادوكيا) بمعنى (أحمد) لا (المسرة أو حسن الرضا) كما يترجمها القسس وذلك لأنه لا يقال في اليونانية لحسن الرضا (أيودوكيا) بل يقال (ثليما) ويقول أن كلمة «دوكوته» هى بمعنى (الحمد ـ الاشتهاء ـ الشوق ـ الرغبة ـ بيان الفكر). وها هى ذى الصفات المشتقة من هذا الفعل (دوكسا) وهى (حمد ، محمود ممدوح ، نفيس ، مشتهى ، مرغوب ، مجيد).

واستشهد بأمثلة كثيرة من اليونانية لذلك. قال : إنهم يترجمون (محمديتو) فى (أشعياء ٦٤ : ١١) ب (اندوكساهيمون) ويترجمون الصفات منها (محمد أحمد ، أمجد ، ممدوح محتشم ، ذو الشوكة) ب (ايندكسوس).

واستدل بهذا التحقيق النفيس أن الترجمة الحقيقية الصحيحة لما ذكره لوقاهى (أحمد ، محمد) لا (المسرة) فتكون الترجمة الصحيحة لعبارة الإنجيل :

«الحمد لله في الأعالى وعلى الأرض إسلام وللناس أحمد» (١).

نخلص مما سبق إلى أن :

صفات رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ونعوته ، بل اسمه مذكور بالاسم قبل التحريف والتعديل ، وهم يعرفون ذلك حق المعرفة ، ومع اعترافهم إلا أنهم يقولون إن المقصود بها غيره وقد رددنا على هذه المزاعم.

__________________

١ ـ أنظر كتاب (الإنجيل والصليب) للأب عبد الأحد داود ص ٣٤ ـ ٥٣ [أسلم وحسن إسلامه] وأنظر أيضا : نبوة محمد من الشك إلى اليقين ص ٣٠٠ مكتبة البشائر عمان ١٤٠٣ ه‍. مصدر سابق.


ومن المعلوم أن رسول الله كان يطالعهم صباح مساء أنه مكتوب عندهم والوحى يبين صفاته ونعوته عندهم بكشف زيوفهم ولو لم يعلم محمد أنه مكتوب عندهم بل علم انتفاء ذلك لامتنع أن يخبر بذلك مرة بعد مرة ويستشهد به ويظهر ذلك لموافقيه ومخالفيه وأوليائه وأعدائه فإن هذا لا يفعله إلا من هو أقل الناس عقلا لأن فيه إظهار كذبه عند من آمن به منهم وعند من يخبرونه» (١).

لا يستطيع الكاذب أن يخاطب اليهود والنصارى ـ والتوراة والإنجيل بين أيديهم ـ بقوله على لسان القرآن (يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) ثم يوبخهم ويقرعهم بأنهم يجدونه فيها وأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، وليس من المتصور أن يجترئ على ذلك وهو يعلم كذب نفسه ، والكاذب ضعيف حتى عند نفسه.

كما أن اليهود ـ ومن خلفهم من المستشرقين ـ لا يعارضون في أن «حقيقة المعجزة لا تختلف وهى فعل خارق يقترن به التحدى ، وهذا قد وجد ـ كما أوضحنا فيما سبق ـ فى حق محمد بن عبد الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» كما وجد في حق موسى ـ عليه‌السلام ـ فإن كانت المعجزة لا تفيد النبوة يلزمهم أن لا يعتقدوا بنبوة موسى وإن أفادت يلزمهم اعتقاد نبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فقد جاء بالمعجزات ، جاء بالقرآن في زمن الفصحاء والبلغاء وسأل جميعهم أن يأتوا بمثله فأعجزهم ، فسألهم سورة منه ... فعجزوا فنادى بينهم على رءوس الأشهاد (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء : ٨٨]

وأخيرا ـ وكما سبق أن بيّنا ـ فإن تبشير الأنبياء به في الكتب المنزلة عليهم يقوم مقام المعجزات.

__________________

١ ـ ابن تيمية : الجواب الصحيح ج ٣ ص ٢٩٢.



الفصل الخامس

شبهات المستشرقين حول

الوحي إلي محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم». وتفنيدها

تقديم :

المبحث الأول : أمية الرسول.

المبحث الثاني : الأخذ عن ورقة بن نوفل.

المبحث الثالث : الوحى النفسى المبحث الرابع : رد القرآن إلى أصول : يهودية ونصرانية.



كشفنا ـ فيما سبق ـ أن نبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، ثابتة ـ على وجه القطع واليقين ـ بوجوه عديدة منها : دلالة المعجزات على النبوات ، وقد ثبت أن الله جل وعلا قد جمع له جميع أنواع المعجزات والخوارق : المادى والحسى منها ، والعقلى. وأجلها المعجزة القرآنية.

كما ثبت أن نبوته «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» مقررة في التوراة والإنجيل ، فلم يأت نبى من بعد إبراهيم إلا من ذريته : إسماعيل وإسحاق.

ولم يكن في ولد إسماعيل من ظهر فيما بشرت به النبوات غير محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، وقد دعا إبراهيم لذرية إسماعيل بأن يبعث فيهم رسولا منهم.

كما اتضحت أوجه التشابه ، بل التطابق بين الوحى الإلهى إلى موسى وعيسى ومحمد عليهم‌السلام.

وكما ثبت أن رسالتى موسى وعيسى وحى الله تعالى ثبت أيضا ـ فى التوراة والإنجيل ـ أن رسالة النبى الآتى ، محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» وحى من الله تعالى ، كما أنها تصديقا وتثبيتا للرسالات السابقة ومهيمنة عليها.

فإن الله القادر على كل شىء أبان شخصيته قائلا : «وأجعل كلامى في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به» (١) فضلا عن وجوب اتفاق هذه الكلمات مع كلمات الوحى للرسالات السماوية السابقة لأنها ولا ريب من مصدر واحد هو الله الواحد الأحد ، مع ملاحظة الفارق الكبير بين الاتفاق والنقل (٢).

والمحصلة النهائية لما سبق أن الدين واحد ، لأنه صادر من مشكاة واحدة ، صفات الوحى إلى محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» هى نفسها إلى موسى وعيسى عليهما‌السلام فما ذا يريد المستشرقون بعد هذا البيان المدعم بالأدلة العقلية والنقلية؟

التشكيك في الوحى إلى محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

تجاهل كثير من المستشرقين ، تلك الحقائق عن الوحى وذهبوا مشككين فى مجىء الوحى الإلهى إلى نبينا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، وتباينت آراؤهم : فمن قائل : إنه حالة نفسية ، أو ما يطلقون عليه الوحى النفسى ، ومن قائل : إنها حالة مرضية ، كالصرع (٣) الهستيرى ، ومن قائل : إن محمدا كان من أعلى حالات الصحة النفسية والجسمية

__________________

١ ـ تثنية ١٨ : ١٨.

٢ ـ إبراهيم خليل أحمد : محمد في التوراة والإنجيل والقرآن ص ٥٤ ـ ٥٦ «مصدر سابق».

٣ ـ وقد فندنا هذا الزعم في ردنا على كولدتسين (أنظر بحثنا : موقف جولدتسين من القرآن الكريم.

منشور بالكتاب الدورى بقسم الاستشراق. كلية الدعوة ـ جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية).


والعقلية ـ تناقض مع القول السابق ـ وأن ما جاء به جمعه من البيئة المكية التى كانت تعج بالرهبان والآباء والقسس (!) ، ثم زعم هذا الفريق أن محمدا كان تلميذا نابها لورقة بن نوفل ـ رئيس الأكاديمية العلمية المكية.

أما أن محمدا كان أميا لا يقرأ ولا يكتب فهذا محض افتراء وكذب ـ عندهم ـ بدليل أنه نقل قصصه القرآنى من التوراة والإنجيل.

ونحن نقول : إن الادعاء سهل ، ولا سيما مع الضّغن ، ولكن العقلاء ، المنهجيين الذين لا يبغون إلا الحقيقة ، والحقيقة وحدها ، فإنهم يعولون على الوقائع والبراهين ، وفي الصفات التالية سنتناول ـ بإذن الله افتراءات المستشرقين وجهالتهم ومزاعمهم بالعرض والتفنيد.


المبحث الأول

شبهتهم حول أمية الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

أمية محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ثابتة تاريخيا ، وقد نقل إلينا بالتواتر ، أنه كان لا يعرف الكتابة ولا القراءة ، قال الله جل وعلا : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨)) [العنكبوت : ٤٨].

فلم يقرأ في صحيفة ، ولم يكتب شيئا بيده منذ ولد إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى.

ذهب بعض المستشرقين إلى تكذيب الحقائق التاريخية ، وإنكار التواتر كمصدر موثوق فيه من مصادر المعرفة ، فادعى مستشرق يدعى (ستوبرت) أن محمدا لم يكن أميا ، فيقول : «... ويغلب على ظنى أن محمدا لم يكن أميا ، لأن هناك بعض الآثار الإسلامية تدل بأنه كتب صلح الحديبية بيده» (١).

أما «مونتجمرى واط» فلأنه موضوعى ومنهجى ، ومحايد وقطع على نفسه عهدا ألا يقول شيئا يجرح به مشاعر المسلمين ، فإنه حاور وناور حول أمية الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ليصل إلى الهدف الذى أشار إليه مباشرة «سنوبرت» ألا وهو إنكار أو التشكيك فى أمية الرسول.

ذهب «واط» يفسر لنا المقصود ب (ما أنا بقارئ) إجابة على طلب جبريل : «اقرأ». يقول : «يجب تفسير قول محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (ما أقرأ) فى رده على قول الملك (اقرأ) ب (لا أستطيع القراءة) أو (التلاوة). يتضح لنا ذلك من وجود رواية تقول : ما أنا بقارئ وفي التمييز عند ابن هشام : (ما أقرأ)؟ و (ما ذا أقرأ)؟ حيث التعبير الثانى لا يمكن أن يعنى إلا (ما ذا أتلو) وهذا هو المعنى الطبيعى لقوله (ما أقرأ)؟.

«ثم يضيف (واط) قوله : «ويبدو من المؤكد ، تقريبا ، أن المفسرين التقليديين اللاحقين تجنبوا المعنى الطبيعى ـ الذى اكتشفه هو ـ لهذه الكلمات ليجدوا أساسا للعقيدة التى تريد أن محمدا لم يكن يعرف الكتابة ، وهذا عنصر رئيسى للتدليل على طبيعة القرآن المعجزة» (٢).

واضح من كلام «ستوبرت» و «واط» وحدة الهدف.

وهو نفى أوجه إعجاز القرآن ، من ناحية أخرى إقامة الدليل على أن محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم»

__________________

١ ـ. ٥٥ ـ ٥٣.Isla manditsFounderPP : NonC hristianReligion

٢ ـ واط : محمد في مكة : ص ٨٥ تعريب شعبان بركات المطبعة العصرية. بيروت.


قد قرأ التوراة والإنجيل وعنهما نقل قرآنه.

غير أننا نلاحظ أن المستشرق الأول ساق كلامه دون دليل تاريخى لا يقبل النقض ، فزعم أن محمدا هو الذى كتب بيده صلح الحديبية.

وقصة صلح الحديبية معروفة ومشهورة في الكتب الصحاح. التى تؤكد أن على بن أبى طالب هو الذى كان يكتب. والجدل الذى دار بين رسول الله وبين رسول الكفار أشهر من أن ينكر.

أخرج الإمام مسلم من حديث البراء بن عازب : «كتب على بن أبى طالب الصلح بين النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» وبين المشركين يوم الحديبية ، فكتب : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله ، فقالوا : لا تكتب رسول الله ، فلو نعلم أنك رسول لم نقاتلك ، قال النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» لعلىّ : امحه. فقال : ما أنا بالذى أمحاه ، فمحاه النبى بيده» (١).

وعند مسلم رواية أخرى : «.. فأمر ـ أى الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» عليّا أن يمحاه ، فقال على لا والله لا أمحاه ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» : أرنى مكانها ، فأراه مكانها ، فمحاه وكتب ـ أى على ـ ابن عبد الله» (٢).

ويستفاد من رواية الإمام مسلم أن الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» لم يستدل على العبارة المطلوب محوها إلا بإرشاد علىّ. وفي قول الرسول لعلىّ أى للكاتب : أرنى مكانها ، دلالة على أنه لا يعرف القراءة ولا الكتابة فلجأ إلى الكاتب.

هذا عن الواقعة التى أراد (ستوبرت) الاستشهاد بها ، ويبدو أنه لم يكلف نفسه مئونة الرجوع إلى المصادر الإسلامية ، واكتفى بالتخمين ، أو يكون قد اطلع على كتب السنة الصحيحة إلا أنه آثر التشويش.

أما القرآن فإنه يؤكد حقيقة أمية رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) وفي قوله تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) [الأعراف : ١٥٧] وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الجمعة : ٢] فهل بعد ذلك يقال : إن محمدا كان يعرف القراءة والكتابة؟

لقد أجاب القرآن بالنفى ، وبرهن بأمية الرسول الكريم على ربانية تعاليمه ، إنه لا يقرر فحسب أنه أمى من شعب أمى ، أى غير متعلم وإنما يؤكد ، بصريح العبارة ، أنه

__________________

١ ـ أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير. باب صلح الحديبية ج ١٢ ص ١٣٥ بشرح النووى.

٢ ـ إخراج مسلم : السابق.


لم يسبق له أن قرأ كتابا قبل القرآن أو كتب بيده. ولا شك أن معارضيه كانوا يعرفون أنه أمى لم يقرأ ولم يكتب من قبل ، لذلك (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الفرقان : ٥] لم يجرءوا أن يقولوا «كتبها» وإنما قالوا «اكتتبها» أى كتبها له غيره ، وهما عبارتان مختلفتان تمام الاختلاف (١).

وعند آية العنكبوت (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ). يقول الإمام ابن تيمية : «بيّن سبحانه من حاله ما يعلمه العامة والخاصة وهو معلوم لجميع قومه الذين شاهدوه متواتر عند من غاب عنه وبلغته أخباره من جميع الناس أنه كان أميا لا يقرأ ولا يخط كتابا من الكتب المنزلة ولا غيرها ولا يقرأ شيئا مكتوبا لا كتابا منزلا ولا غيره ولا يكتب بيمينه ولا ينسخ شيئا من كتب الناس لا المنزلة ولا غيره» (٢).

أما «واط» فإن كتب السيرة التى عرضت لحياة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» أى الواقع التاريخى له ينكر ما ذهب إليه ، ففضلا عما أجبنا به ، جاء فى «فتح البارى للإمام ابن حجر» حول «ما أنا بقارئ» : «ما نافية ، إذ لو كانت استفهامية لم يصح دخول الباء ، وإن حكى عن الأخفش جوازه فهو شاذ ، والباء زائدة لتأكيد النفى ، أى ما أحسن القراءة» (٣) يقول الطيبى : «إن ما أنا بقارئ يفيد التقوية والتأكيد. والتقدير : لست بقارئ البتة.

إن محمدا لم يكن يعيش في كوكب غير كوكب الأرض ، ولو كان يعرف شيئا من الكتابة والقراءة لارتاب في أمره المبطلون من المشركين ، فقالوا : لعله تعلمه من غيره ، وكتبه بيده ، لقد شهد قومه المعادون له أنه : لم يكن يقرأ شيئا من الكتب لا نسخا ولا حفظا لأنه أمى (٤).

فضلا عن أن «واط» تعامل مع رواية «ابن هشام» تعامل «لا تقربوا الصلاة» و «فويل للمصلين» فبالرجوع إلى ابن هشام وجدنا الرواية تقول : «قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» : فجاءنى جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال : اقرأ. قال : قلت ما اقرأ ...».

يقول الدكتور «جعفر شيخ إدريس» : واضح من الرواية إذن أن المقصود قراءة شىء مكتوب فيكون معنى «ما اقرأ» : «لا أعرف القراءة».

__________________

١ ـ د. محمد عبد الله دراز : مدخل إلى القرآن الكريم ص ١٤٠ دار القلم الكويت ١٣٩٤ ه‍ ـ ١٩٧٤ م.

٢ ـ ابن تيمية : الجواب الصحيح ج ٤ ص ٣١.

٣ ـ ابن حجر : فتح البارى لشرح صحيح البخارى ج ١ ص ٢٤ ، السيرة النبوية لابن كثير ج ١ ص ٣٩٣.

٤ ـ ابن تيمية : الجواب الصحيح ج ١ ص ١٤١ ، ج ٤ ص ٣٤.


وتقول الرواية بعد ذلك «قال : فغتنى به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلنى فقال : اقرأ. قال : قلت ما ذا اقرأ؟ قال : فغتنى به حتى ظننت أنه الموت ، ثم أرسلنى فقال : اقرأ. قال : فقلت : ما ذا أقرأ؟ ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لى بمثل ما صنع بى فقال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)(١)(٢).

وواضح أن الرواية أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» قال لجبريل : لا أعرف القراءة ، فلما غته أراد الرسول تفادى هذه الغتة مرة أخرى فقال له : ما ذا تريدنى أن أقرأ؟.

من ناحية أخرى فإن «واط» يغمز رواة الحديث بأنهم وضاعون فتصرفوا في رواية ابن هشام ـ وغيرها ـ بحيث تؤدى إلى تقرير أمية محمد ، أى أن حقيقة أمية محمد من اختراع الرواة المتأخرين ، و «واط» هنا يتجاهل تقرير القرآن لهذه الحقيقة إذ يقول : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) [العنكبوت : ٤٨].

إن مقتضيات البحث العلمى تلزم الباحث الجاد ألا يقتصر على رواية واحدة ، بل عليه فحص الروايات الأخرى المتعلقة بنفس الموضوع.

ثم يعود «واط» إلى رمى الإسلام بما ليس فيه فيقول : «إن الإسلام التقليدى يقول بأن محمدا لم يكن يقرأ ولا يكتب. ولكن هذا الزعم مما يرتاب فيه الباحث الغربى ، لأنه يقال لتأكيد الاعتقاد بأن إخراجه للقرآن كان معجزا. وبالعكس لقد كان كثير من المكيين يقرءون ويكتبون ، ولذلك يفترض أن تاجرا ناجحا كمحمد لا بد أن يكون قد عرف شيئا من هذه الفنون» (٣).

وإن تعجب فعجب قوله : الإسلام التقليدى. الإسلام التقليدى هو الذى يقرر أمية محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» أما الإسلام المتحرر ، الإسلام الاستشراقى فإنه يرتاب في تقريرات الإسلام التقليدى.

ما ذا يقصد «واط» بالإسلام التقليدى؟ لا إجابة ، ونحن نهديها إليه.

الإسلام هو القرآن الكريم ، لأنه هو الذى قدر حقيقة واقعة هى أمية رسولنا الكريم ، وذلك قبل أن يتكلم أو يسجل رواة الأحاديث مع أنهم عدول ثقات جاء هذا التقرير في آيات عديدة ذكرنا جانبا منها : فى سورة العنكبوت آية ٤٨ وسورة الأعراف آية ١٥٧ ، وسورة الجمعة آية ٢.

__________________

١ ـ ابن هشام : السيرة النبوية تحقيق مصطفى السقا وآخرين ج ١ ص ٢٥٢ ـ ٢٥٣ ، دار إحياء التراث العربى.

٢ ـ د. جعفر شيخ إدريس : منهج «واط» فى دراسة نبوة محمد ص ٢٢٣ (مناهج المستشرقين فى الدراسات العربية والإسلامية ج ١).

٣ ـ واط : محمد نبيا ورجل دولة ص ٣٩ ـ ٤٠ ، د. جعفر شيخ إدريس : المصدر السابق ص ٢٢٥.


هذا هو إسلامنا التقليدى الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والذى يرتاب فيه الباحث الغربى الحديث.

ويبدو أن «واط» لم يستطع أن يفرق بين الارتياب والرفض والإنكار ، فللباحث أن يرتاب فيما يدعيه خصمه إلى أن يثبت لنفسه أو لخصمه فإن كان لخصمه قبله حتى لو كان فيه تأييدا لما كان ينكره من قبل ، وإن كان له عده تأييدا لدعواه.

غير أن حاصل كلام «واط» الرفض والإنكار دون إبداء الأسباب أو الأدلة ، فقد سارع ـ دون مناقشة ـ إلى إصدار حكمه ، كشفا عن خبيئة نفسه ، فيقول : «وبالعكس لقد كان كثير من المكيين يقرءون ويكتبون ، ولذلك يفترض أن تاجرا ناجحا كمحمد لا بد أن يكون قد عرف شيئا من هذه الفنون». لم يف «واط» بما قاله في مقدمة كتابه «محمد في مكة» من أنه لن يقول شيئا يمس دين المسلمين ولا يجرح مشاعرهم ، لقد أساء المستشرق إلى ديننا ، وإلى مشاعرنا. لقد أراد هدم القرآن ، فى سبيل تأييد موقف اتخذه مسبقا. وفيه ، وفي أمثاله يصدق قول الدكتور (سنوك هير غونجة) : «إن سيرة محمد الحديثة تدل على أن البحوث التاريخية مقضى عليها بالعقم إذا سخرت لأية نظرية أو رأى سابق» (١).

وإذا كان قد كان قد افترض أن تاجرا ناجحا كمحمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» قد تعلم شيئا من الفنون والعلوم التى كانت تدرس في مكة وما حولها! فلما ذا لم يدلل على صحة فرضه هذا؟

من جهة أخرى : هل البحث العلمى الأصيل ، أو الفرض العلمى الجاد يحتمل مثل هذا التأكيد الذى أطلقه (واط) ، (لا بد)؟ أم أنها كما قلنا نتيجة معدة سلفا؟ وإذا كان القسيس «واط» أكد أن محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» كان قارئا كاتبا ، فإن مستشرقا آخر يرى غير ذلك ويدفع فرية «واط» ، يقول «ول ديورانت» «إن أحدا لم يعن بتعليم محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» القراءة والكتابة .. ولم يعرف عنه أنه كتب بنفسه ... ولكن هذا لم يحل بينه وبين قدرته على تعرف شئون الناس تعرفا قلّما يصل إليه أرقى الناس تعلما» (٢).

وقد عقد «توماس كارليل» فصلا رائعا عن النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، تكلم فيه ـ فيما تكلم ـ عن أميته ، فقال : «إن محمدا لم يتلق دروسا على أستاذ أبدا ... ويظهر لى أن الحقيقة هى أن محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» لم يكن يعرف الخط والقراءة» (٣).

__________________

١ ـ د. عماد الدين خليل : المستشرقون والسيرة ص ٢٣ دار الثقافة. الدوحة ١٤١٠ ه‍ ـ ١٩٨٩ م.

٢ ـ ديورانت : قصة الحضارة ج ١٣ ص ٢١ ، ٢٢ ترجمة محمد بدران وآخرين لجنة التأليف والترجمة القاهرة ط ٢.

٣ ـ توماس كارليل : الأبطال. ترجمة محمد السباعى ص ٥ الدار القومية. القاهرة (ب. ت).


هذان مستشرقان غربيان وليسا بإسلاميين ، وفقا هنا حين أنصفا الحقيقة التى لا يمارى فيها إلا مكابر.

وأخيرا وقع المستشرق «واط» فى مأزق ـ وهو الباحث الحازق ـ حين أوقف إعجاز القرآن على أمية محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فقط. فهل نلتمس له العذر باعتباره لم يستطع الوقوف على أوجه إعجاز القرآن لاعتبارات عديدة هو مفتقر إليها منها ـ فيما يقول صاحب الكشاف ـ «... لا يغوص على شىء من تلك الحقائق إلا رجل قد برع فى علمين مختصين بالقرآن وهما : علم المعانى وعلم البيان ، وتمهل في ارتيادهما آونة وتعب في التنقير عنهما ، وبعثته على تتبع مظانهما همة في معرفة لطائف حجة الله ، وحرص على استيضاح معجزة رسول الله بعد أن يكون آخذا من سائر العلوم بحظ ... فارسا في علم الإعراب .. ذا دراية بأساليب النظم والنثر ... قد علم كيف يرتب الكلام ويؤلف ... وكيف ينظم ويرصف» (١).

لقد خاض المستشرق في بحر لجى لا يحسن السباحة فيه.

و «واط» متخبط ، فهو فى «محمد في مكة» يعتبر أمية الرسول هى العنصر الرئيسى للتدليل على إعجاز القرآن ، بحيث إذا سقطت الأمية انتفى الإعجاز القرآنى وهذا ما فندناه منذ قليل. ثم يعود في كتابه «محمد نبيا ورجل دولة» ليقر بأن أمية الرسول من الأدلة المؤيدة لإعجاز القرآن. وقد أصاب هنا «وذلك لأن القرآن يقول : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨)) [العنكبوت : ٤٨].

فالقرآن لا يقول : «إذن لثبت أن القرآن ليس وحيا» وإنما قال : (إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) أى لوجد الجاهلون في ذلك شبهة يتمسكون بها ، فالأمية دليل مؤيد وليس دليلا ضروريا» (٢).

وثمة مأخذ آخر على «واط» إذ يقول «ويبدو من المؤكد ، تقريبا» (٣). فكيف يجتمع التأكيد الذى هو اليقين ، والتقريب الذى هو الاحتمال والإمكان؟

ننتقل بعد ذلك إلى تناول الوحى من زاوية أخرى ولكنها متصلة بأمية الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

__________________

١ ـ الزمخشرى : الكشاف ج ١ ص ٣ ط. أولى المطبعة الشرقية.

٢ ـ د. جعفر شيخ إدريس : المصدر السابق ص ٢٢٥.

٣ ـ محمد في مكة ص ٨٥.


المبحث الثاني

الأخذ عن ورقة بن نوفل

منابع الوحى إلى محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فى الرؤية الاستشراقية :

دأب أهل الكتاب قديما ، وخلفهم المستشرقون حديثا على الطعن في الوحى إلى نبينا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، باتهامه : أنه تعلم من غيره ، ثم من هذا الذى جمعه من هنا وهناك لفق الدين الذى جاء به ، فزعمت النصارى أنه تعلم من ورقة بن نوفل ، والراهب بحيرى ، وزعمت اليهود أنه تتلمذ لعبد الله بن سلام ، وأنه قرأ التوراة والإنجيل ونقل عنهما ، وردد كثير من المستشرقين ـ محدثين ومعاصرين ـ هذه الافتراءات. وسوف نرى فى الصفات التالية نماذج من هذه المزاعم ثم نأتى عليها مفندين ، لنظهر ما فيها من تهافت وما تنطوى عليه من بطلان.

الأخذ عن ورقة بن نوفل :

ذهب المستشرق «إميل درمنغام» إلى أن محمدا التقى «بورقة بن نوفل» وأخذ عنه أصول دينه ، وحاذاه المستشرق المعاصر «مونتجمرى واط» حذو النعل بالنعل ، وإن حاول أن يجعل كلامه محبوكا بقدر الإمكان.

كلام «واط» عن الأثر العلمى لورقة مبنى على شكه في أمية الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» وقد كان يكفينا ذلك في إبطال شكوكه ، لأنه بانهيار فروضه وشكوكه حول أمية محمد ، ينهار زعمه الأخذ عن ورقة ، غير أننا آثرنا تناول هذه الفرية كما عرضها ، لأن تناوله لها كان فجا ، قبيحا في افتراءاته ، ففي تناوله لموضوع الأمية حاول التدثر بالمنهجية تارة وبالدقة أخرى ، غير أنه هنا لم يراع لا دين ولا مشاعر للمسلمين.

يتحدث «واط» عن المنابع الرئيسية للوحى إلى نبينا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فيؤكد على ارتباط محمد ، من خلال زوجته خديجة بورقة ، ثم ذهب يستنتج ، وليت استنتاجه خضع لأبسط القواعد المنهجية.

يقول صاحب «محمد في مكة» : كانت خديجة «ابنة عم رجل يدعى ورقة بن نوفل بن أسد ، وهو رجل متدين اعتنق أخيرا المسيحية. ولا شك أن خديجة قد وقعت تحت تأثيره ، ويمكن أن يكون محمد قد أخذ شيئا من حماسه وآرائه» (١).

أما عن تنصر ورقة فأمر ثابت في كتبنا الصحاح ، جاء في أسد الغابة : «خرج زيد

__________________

١ ـ واط : محمد في مكة ص ٧٤ ـ ٧٥.


بن عمرو بن نفيل في الجاهلية يطلب الدين وورقة بن نوفل ، فلقيا اليهود ، فعرضت عليهما يهود دينهم فتهود ورقة ، ثم لقيا النصارى فعرضوا عليهم دينهم ، فترك ورقة اليهودية وتنصر ، وأبى زيد بن عمرو بن نوفل أن يأتى شيئا من ذلك. وقال : ما هو إلا كدين قومنا ، تشركون ويشركون ، ولكنكم عندكم من الله ذكر ، ولا ذكر عندهم ، فقال له راهب : إنك لتطلب دينا ما هو على الأرض اليوم ، فقال : وما هو؟ قال : دين إبراهيم كان يعبد الله ولا يشرك به شيئا (١).

ما سقنا هذا النص إلا لدلالته على فساد ما كان عليه اليهود والنصارى اللهم إلا بقية من الفطرة السليمة ، فضلا عن بشارة الراهب بنبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

ولنقف قليلا عند قوله «ولا شك أن خديجة قد وقعت تحت تأثيره ـ أى تأثير ورقة المسيحى ـ ويمكن أن يكون محمد قد أخذ شيئا من حماسه وآرائه».

فى هذا الكلام نشم رائحة التآمر بين خديجة ـ أم المؤمنين ـ وابن عمها ورقة ـ وحاشاهما ـ ليوقعا بمحمد تحت سيطرة ورقة وهدف المستشرق أبعد من هذه التلميحات. إنه يريد أن يقول : إن محمدا نهل من العلوم النصرانية التى كانت عند ورقة. لذلك نجده يصرح بهذا ـ بعد ذلك ـ فيقول «ويبدو أن ورقة من بين الذين اتصل بهم محمد لسبب معرفته بكتب المسيحية المقدسة ، ولا شك أن المقطع القرآنى حين ردده محمد قد ذكره بما هو مدين به لورقة ... ولهذا فمن الأفضل الافتراض بأن محمدا كان قد عقد صلات مستمرة مع ورقة منذ وقت مبكر ، وتعلم أشياء كثيرة وقد تأثرت التعاليم الإسلامية اللاحقة كثيرا بأفكار ورقة. وهذا ما يعود بنا إلى طرح مشكلة العلاقة بين الوحى الذى نزل على محمد والوحى السابق له» (٢).

يريد «واط» أن يقول : إن النبى محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» مدين بفكرة الوحى لورقة بن نوفل.

ما هى إذن حكاية ورقة وعلاقته بنبينا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، كما جاءت في الكتب الصحاح؟

يروى إمام المحدثين البخارى عن السيدة عائشة ـ رضى الله عنها ـ قصة بدء الوحى. إذ تقول : «أول ما بدئ به رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» من وحى الرؤيا الصالحة فى النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ، فكان يخلو بغار حراء ، فيتحنث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالى ذوات العدد قبل أن ينزع (٣) إلى

__________________

١ ـ تاريخ العرب في الجاهلية ص ٤٨٨ ، ٤٨٩.

٢ ـ محمد في مكة ص ٩٣.

٣ ـ ينزع : يرجع.


أهله ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق ـ الوحى وسمى حقا لأنه من الله الحق ـ وهو في غار حراء.

فجاء الملك ، فقال : اقرأ ، فقال : ما أنا بقارئ. قال : «فأخذنى فغطنى (١) حتى بلغ منى الجهد ، ثم أرسلنى ، فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد ، ثم أرسلنى ، فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذنى فغطنى الثالثة ثم أرسلنى فقال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥)) [العلق : ١ ـ ٥]. فرجع بها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد فقال : «زملونى ، زملونى (٢)» فزملوه حتى ذهب عنه الرّوع (٣) فقال لخديجة وأخبرها الخبر : «لقد خشيت على نفسى» فقالت : كلا والله ما يخزيك الله أبدا ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل وتكسب المعدوم (٤) ، وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق».

ما إن جاء «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» خديجة وقص عليها حتى انطلقت إلى ورقة بن نوفل ابن عمها ، وكان قد تنصر وقرأ الكتب ـ كما أسلفنا ـ فقالت خديجة : يا ابن عم اسمع من ابن أخيك.

فقال له ورقة. يا ابن أخى ما ذا ترى؟ فأخبره رسول الله خبر ما رأى. فقال له ورقة : هذا الناموس الأكبر الذى أنزل على موسى ، يا ليتنى فيها جذع ، ليتنى أكون حيا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» : «أو مخرجى هم؟». قال ورقة : نعم لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودى ، وإن يدركنى يومك أنصرك نصرا مؤزرا ، ثم لم ينشب ورقة أن توفى وفتر الوحى» (٥) ، وذكر صاحب «الطبقات الكبرى» رواية أخرى ، على النحو التالى : «ثم أتت ـ أى خديجة ـ ورقة بن نوفل فذكرت له ذلك. فقال : إن يك صادقا فهذا ناموس مثل ناموس موسى ، فإن يبعث وأنا حى فسأعزره وأنصره وأؤمن به» (٦).

لما ذا ذهبت خديجة إلى ورقة؟ الإجابة التى اجتمعت عليها المصادر التاريخية

__________________

١ ـ غطنى : ضمنى إليه وعصرنى.

٢ ـ زملونى : أى أدخلونى في ثياب وغطونى بها. ٤ ـ تعطى مالا يعطيه غيرك من المال وغيره.

٣ ـ وهو الفزع والخوف

٤ ـ أخرجه البخارى في صحيحه. وانظر : تاريخ الطبرى ج (٢) ص ٢٩٨ ـ ٢٩٩ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ط (٤) دار المعارف بمصر.

٥ ـ محمد في مكة ص ٩٣.

٦ ـ ابن سعد : الطبقات الكبرى ج (١) ص ١٩٥ طبعة بيروت.


المعتبرة لدى المسلمين وكتب السيرة أنها ذهبت لتخبر ورقة بأمر الملك الذى جاء رسولنا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ومنه يتضح :

١ ـ أن لقاء الرسول والسيدة خديجة مع ورقة كان بعد الوحى لا قبله.

٢ ـ أنه لم يسبق للرسول أن التقى مع ورقة من قبل.

هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن رواية ابن سعد ذكرت أن لقاء خديجة بورقة كان دون محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، وعليه يكون محمد لم يلتق بورقة إطلاقا.

غير أن المستشرق «واط» مصرّ على أن محمدا التقى مرات ومرات بورقة بل وبغيره من علماء مكة (!). فيقول : «ويبدو ورقة من بين الذين اتصل بهم محمد لسبب معرفته بكتب المسيحية المقدسة» (١).

افتراضات وظنون قائمة على التعصب البغيض أدت بالمستشرق ـ المنهجى المحايد (!) ـ إلى دائرة التصور الجاهلي للنبوة والوحى (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) [النحل : ١٠٣].

أما حديث إمام المحدثين ، البخارى ـ والذى مر بنا ـ عن بدء الوحى إلى نبينا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم». والذى ينتهى ب «ثم لم ينشب ورقة أن توفى وفتر الوحى» ، فيعقب المستشرق بقوله : «وأما بقية القصة ، من ناحية ثانية ، فهى تشعرنا بمحاولة لتفسير السبب الذى من أجله لم يصبح ورقة مسلما ، ولسبب آخر مشابه ، فإن النص الذى يجمع بين محمد وورقة أفضل من الذى يجعلهما لا يلتقيان» (٢).

هذا التشكيك ليس من كلام «واط» وإنما هو ل «كايتانى» استشهد به «واط» لتأييد شكه في واقعة غار حراء التى ينبنى عليها الوحى إلى نبينا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

والنص يتهم المحدثين والرواة بالوضع ، فمن ناحية يرون أن من مصلحة محمد أن يلتقى بورقة لما فيه من تأكيد واقعة غار حراء ، ولكنهم وقعوا في مأزق هو : إذا كان ورقة أكد لمحمد أن هذا الذى جاءه هو الناموس الذى جاء موسى ، أى أن ما جاء محمد هو الحق ، فلما ذا لم يؤمن به ورقة؟ لذلك لجئوا إلى وضع أو زيادة هذه العبارة : : «ثم لم ينشب ورقة أن توفى وفتر الوحى».

روى الإمام الترمذى عن النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» أنه رأى ورقة في المنام وعليه ثياب بيض. ورد أيضا قوله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» : «رأيت القسّ في الجنة وعليه ثياب الحرير ، لأنه أول من آمن بى» (٣).

__________________

١ ـ محمد في مكة ص ٩٣.

٢ ـ محمد مكة ص ٩٢.

٣ ـ الشيخ أبو بكر الجزائرى : هذا الحبيب محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ص ٨٦ مكتبة لينة بمصر ١٤٠٨ ه‍ ـ ١٩٨٨ م.


واضح أن شك «واط» يقوم على دليل ، غير أنه ليس إسلاميا ، فمراجعنا المعتبرة ، والموثوق فيها ، مشكوك فيها عنده ، دليله هنا نصرانى من بنى جلدته ، خصم لنا ، «كاتيانى» فى حولياته ، لذلك فهو موثق عنده ، ولكننا نسأل المستشرق ، العالم ، المحايد ـ فيما زعم ـ هل يجوز للعالم الباحث ، المحايد أن يعتمد على مصادر الخصم للوصول إلى نتيجة سلبية ، خاصة وأن الخصم غير حيادى؟ لقد أسقط الإسلام شهادة الخصم على خصمه.

إن المقدمة الكبرى لدى الاستشراق هى بطلان نبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، وكل أبحاثهم إنما هى للتوفيق بين الدلائل التاريخية الناصعة على صدقه وبين مقدمتهم تلك ، من أجل ذلك انتهجوا التشكيك في حقائق التاريخ التى لا تتلاءم مع مقدمتهم.

والحقيقة أن المستشرق «واط» يقول ما لا يفعل فهو يزعم الحيدة والموضوعية والبعد عن الإساءة إلى مشاعر المسلمين ، فضلا عن تناقضه هو وليس علماء الإسلام ، فهو في الوقت الذى يوجه فيه اللوم الشديد ل «كايتانى» بسبب نزعته الشكية المبالغ فيها ، فيقول : «وليس من الصعب تصحيح مبالغاته في الشك» (١) فى نفس الوقت يعول عليه كمصدر موثوق فيه.

ليس هذا فقط ولكنه هو الآخر ـ وكما رأينا ـ مارس «نوعا من المبالغة فى شكوكه ، ونفيه الكيفى ... ونفيه للعديد من معطيات السيرة عبر عصرها المكى» (٢).

ويبدو أن «واط» أدرك تهافت شكوكه الأخيرة أمام الحقائق التاريخية ، فلجأ إلى فرض الفروض ، وهو منهج علمى بشرط أن يقوم الدليل عليه سلبا أو إيجابا فهل فعل ذلك «واط»؟ لنر.

يقول : «لا شك أن المقطع القرآنى ، حين ردده محمد ، قد ذكره بما هو مدين به لورقة» (٣).

أى مقطع قرآنى هذا الذى ذكر محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» أنه مدين به لورقة؟ يجيب الكاتب بأنه : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) [سورة : العلق].

لو قرأ أى باحث محايد هذا الكلام في أصح الكتب لنسب قائله إلى التحامل المغالى فيه وإلى الوهم أثبتنا ـ وأثبت علماؤنا ـ أن لقاء ورقة بمحمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» كان اللقاء الأول والأخير ، الأول أفادته النصوص ـ التى أوردناها ـ القاطعة ، والأخير لأن

__________________

١ ـ محمد في مكة ص ٩.

٢ ـ د. عماد الدين خليل : المستشرقون والسيرة النبوية ص ٦٤.

٣ ـ محمد في مكة ص ٩٣.


حياة ورقة لم تدم طويلا بعد ذلك.

ولكن المستشرق ينطلق من المقدمة التى أشرنا إليها من قبل وهى إنكار نبوة محمد ، وينتهى إلى نتيجة يراها مؤكدة ، استدلالات «واط» هكذا :

«محمد عقد صلات مستمرة مع ورقة منذ وقت مبكر وتعلم أشياء كثيرة» (١).

«تأثرت التعاليم الإسلامية ـ التى جاء بها محمد ـ اللاحقة كثيرا بأفكار ورقة» (٢).

ساق «واط» مقدمته على أنها مسلمة ـ فى حين أنها كاذبة وباطلة ، وبنى عليها نتيجة يظن أنها صادقة ، ونسى أنه إذا كانت إحدى المقدمات كاذبة كانت النتيجة كاذبة بالضرورة.

__________________

١ ـ محمد في مكة ص ٩٣.

٢ ـ محمد في مكة ص ٩٣.


المبحث الثالث

الوحى النفسى

كما انتهى بعض المستشرقين ، وزعيمهم في الوقت المعاصر «واط» إلى التشكيك في أمية نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ لا بد له كتاجر ناجح أن يكون قد تعلم شيئا من الفنون والعلوم التى كانت منتشرة في مكة وما حولها. نقول : انتهوا كذلك إلى أنه لا شك قد تتلمذ على العالم الذى تنصر أخيرا ورقة بن نوفل وعقد معه لقاءات كثيرة ومتعددة. وقد كشفنا عن زيف هذه الادعاءات بالوثائق المعتبرة. فضلا عن الواقع التاريخى الذى يكذب ما افتروه وروجوا له.

وكما قلنا : لا نطالب هؤلاء أن يكونوا مسلمين أو كالباحث المسلم ، وإنما نطالبهم بالتعامل مع النصوص الشاهدة بحيدة وموضوعية ، أما أن يدع المستشرق معتقده ـ يهودية أو نصرانية أو علمانية مادية ملحدة ـ ولغته والرواسب السياسية الحاقدة ، تتحكم في بحثه وتوجهه ، فهذا كفيل باخراجه من دائرة الأبحاث العلمية المعتبرة والمستشرقون أو معظمهم يثيرون الشبهة ، ولعدم ثقتهم أنها تزعزع إيمان المسلم يبحثون في مخيلاتهم عن شبهة أخرى وهكذا ... والشبهة التى نعرض لها الآن ما يسمونه : بالوحى النفسى :

ويعنون به : أن القرآن فيض من خاطر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو انطباع لإلهامه ، أى أنه ناتج عن تأملاته الشخصية ، وخواطره الفكرية ، وسبحاته الروحية.

ولغ «درمنغام» فى هذه الشبهة ، فذهب يصور الحالة النفسية لنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أثناء تحنثه في غار حراء ، والانطباعات النفسية التى تركتها مشاهداته وتأملاته وسبحاته.

يقول : وهذه النجوم في ليالى صيف الصحراء كثيرة شديدة البريق حتى ليحسب الإنسان أنه يسمع بصيص ضوئها. وكأنه نفح نار موقدة :

«حقا إن في السماء لشارات للمدركين ، وفي العالم غيب ـ بل العالم غيب كله ـ لكن ألا يكفى أن يفتح الانسان عينيه ليرى ، وأن يرهف أذنه ليسمع؟ ليرى الحق ، وليسمع الكلم الخالد؟ لكن للناس عيونا لا ترى ، وآذانا لا تسمع ، أما هو ـ أى محمد ـ فيحسب أنه يسمع ويرى. وهل تحتاج لكى تسمع ما وراء السماء من أصوات إلا إلى قلب خالص ، ونفس مخلصة. وفؤاد ملىء إيمانا» (١).

__________________

١ ـ الشيخ رشيد رضا : الوحى المحمدى ص ٨٠ القاهرة ١٣٨٠ ه‍ ـ ١٩٦٠ م.


المستشرق هنا يخلط خلطا مفضوحا بين الوحى وحديث النفس ولا أظنه غير فاهم ، ولكنه يتعمد ، فقد أثبتنا ـ فيما مر ـ أن دلالات النبوة واحدة. وقد انطبقت على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدر انطباقها على موسى وعيسى عليهما‌السلام ـ بل أزيد ـ فما الذى يجعل مثل هذا المستشرق يقف ليصف لنا شاعرا أو فنانا عبقريا والنبوة ليست من هذا القبيل؟

يستطرد درمنغام قائلا : «... وهناك ـ فى غار حراء ـ كان يقلب في صحف ذهنه كل ما وعى (!) ... وهو لم يكن يطمع في أن يجد في قصص الأحبار وفى كتب الرهبان الحق الذى ينشده ، بل في هذا الكون المحيط ... فلما كانت سنة ٦١٠ م كانت الحالة النفسية التى يعانيها محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» على أشدها ... ووجد في غار حراء مسرة تزاد كل يوم عمقا ... وروحه تزداد بالصوم والسهر والإدمان على تقليب فكرته صفاء وحدة. ونسى الليل والنهار ، والحلم واليقظة ... وكأنه يسمع الأصوات تخرج من خلال أحجار الصحراء تناديه مؤمنة برسالته ... وفيما هو يوما نائم ـ «لاحظ» ـ بالغار جاءه ملك فقال له : اقرأ. قال : ما أنا بقارئ ، وكان هذا أول الوحى وأول النبوة» (١) بعض المستشرقين يقول بأن محمدا تأثر بالعناصر الأجنبية التى كانت سائدة فى مكة وما حولها ـ وسوف نفند هذا الزعم بعد ـ ودرمنغام ـ هنا ـ أيد هذا الزعم إلا أنه أضاف : أن محمدا لم يجد في هذه الكتب ـ التى كانت متداولة بين مدارس وجامعات مكة ـ ما ترنو إليه نفسه وترومه ، فعكف على التأمل ، والتأمل العميق فيما حوله ، حتى نسى كل شىء ، لم يفرق بين ليل ونهار ولا سماء ولا أرض (!) حتى خيل إليه أنه يسمع أصواتا وليس هناك أصوات ، ويرى أشباحا ـ وليس هناك أشباح ، فنام ، فجاءه جبريل وقال له اقرأ ... وهذا أول الوحى وأول النبوة.

ما ذا يريد المسلمون أكثر من هذا المستشرق يعترف بأن النبى جاءه جبريل وقال له : اقرأ. كما جاء في مصادرنا المعتبرة ، ولكن هذا كله حدث والنبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» شارد أو مغيب عن الوعى أو نائم.

يريد درمنغام أن يقول : القرآن فيض وجدان محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» وصورة من انطباع نفسه بما كان يدور حوله وأمام عينيه ، والوحى في رأى هذا المستشرق ليس إلا وحيا من داخل نفس الرسول لا من مصدر خارجى ، أى من العقل الباطن لا من رب العالمين.

«درمنغام» يردد كلاما جاء على لسان فيلسوف لا يؤمن بإله ولا ينبوه ، فأنزل

__________________

١ ـ المصدر السابق.


النبوة منزلة الهلوسة وحديث النفس ، ذلك هو «أرسطو» الذى ذهب إلى أن الجسد سجن النفس ، وأن الإنسان أى إنسان ، إذا أجاع الجسد وأمرضه ، انطلقت نفسه وعندها تتصل بالعالم العلوى فتسمع أصواتا وترى أشباحا ... هذه نظرية النبوة عند الإغريق. والمستشرق ، تبنى هذه الأفكار وأسقطها على محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ومع هذا كله ، ـ والكفيل بإسقاط هذا الكلام ـ نسأل من أين أتى درمنغام بهذه السيرة المدعاة لنبينا؟ هل بين يديه مصادر غير التى بين أيدينا؟

حديث بدء الوحى عرضنا له في الصفات السابقة ليس فيه شىء من هذا التجنى المفضوح ، أما ردنا على درمنغام فيتلخص في الآتى :

١ ـ النبوة اصطفاء ، واجتباء ، ليست عملا كسبيا (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [الحج : ٧٥].

٢ ـ لو كانت النبوة أمرا كان يرجوه محمد ويتوقعه وكان قد تم استعداده بالاختلاء والتعبد في الغار وكان فكره مضطربا وقلبه ملتهبا ... ثم تم له رجاؤه ومبتغاه ، لو كان الأمر كذلك لظهر عقب ذلك ما كانت تنطوى عليه نفسه الوثابة وفكرته الوقادة (١).

ولو كان اختلاؤه وتحنثه استعدادا للنبوة لاعتقد حين رأى جبريل حصول مأمولة وتحقق رجائه ، ولم يخف منه على نفسه.

يقول الشيخ محمد عبده : «من السنن المعروفة أن يتيما فقيرا أميا مثله ـ أى مثل محمد ـ تنطبع نفسه بما تراه من أول نشأته إلى زمن كهولته ، ويتأثر عقله بما يسمعه ممن يخالطه ، لا سيما إذا كان من ذوى قرابته ، وأهل عصبته ، ولا كتاب يرشده ، ولا أستاذ ينبهه ، ولا عضد إذا عزم يؤيده ، لو جرى الأمر فيه على جارى السنن لنشأ على عقائدهم ، وأخذ بمذاهبهم إلى أن بلغ مبلغ الرجال ، ويكون للفكر والنظر مجال ، فيرجع إلى مخالفتهم ، إذا قام له الدليل على خلاف ضلالاتهم كما فعل القليل ممن كانوا على عهده (٢).

ولكن الأمر لم يجر على سنته ، بل بغضت إليه الوثنية من مبدأ عمره ـ ليصنعه الله تعالى على عينه ٣ ـ فعاجلته طهارة العقيدة ، كما بادره حسن الخليقة» (٤) ،

__________________

١ ـ الوحى المحمدى ص ٩٤.

٢ ـ كعمرو بن نفيل وورقة وقد أشرنا إليهما من قبل وأمية ابن أبى الصلت.

٣ ـ أنظر : عصمة الأنبياء بين اليهودية والمسيحية والإسلام. للمؤلف.

٤ ـ رسالة التوحيد : ص ١١٩ ، ١٢٠ دار إحياء العلوم بيروت ١٣٩٩ ه‍ ـ ١٩٧٩ م.


فتجلى له الوحى الإلهى بأكمل معانيه.

٣ ـ أين كان استعداد محمد للوحى الذاتى المزعوم حين فتر الوحى ولزم محمد الصمت؟ إن هذا السكون في فترة الوحى دليل قاطع على بطلان ما أفك درمنغام وغيره من المستشرقين.

٤ ـ من أين خبر أو علم درمنغام أن محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» نسى الليل والنهار ، والحلم واليقظة ، إن المستشرق يتجاهل روايات السيرة ليفترى عليها وليستنبط من افتراءاته أن النبى فقد عقله فهو غائب عن حسه ، غارق في بحر لجى من خياله ، أثمر له انبثاق ذلك الوحى من نفسه وتخيله (!).

٥ ـ وهل العتاب الشديد ـ أحيانا ـ للرسول «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فى القرآن ، كان أيضا من عند نفسه؟ أما كان يخشى أن ينفض عنه الأصحاب والأصدقاء؟.

٦ ـ أما سأل «واط» ـ ومن يلف لفه ـ نفسه ، كيف أمكن أن يتوهم محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» نزول الملك عليه آلاف المرات في نحو ثلاث وعشرين سنة من غير أن يتبين خطأ نفسه ، أو يتبين أتباعه خطأه؟ أم كيف أمكن أن يتفق توهمه مع الحقائق الخارجية في تلك السنين الكثيرة؟ وما بعدها كغلبة الروم مثلا.

والمستشرق «واط» يجمع بين النقيضين حين يجمع بين الصدق والكذب فى آن واحد. فهو يقول بصدق محمد وكذب رسالته. ولقد كشفنا ـ فيما سبق ـ عن بعض أوجه إعجاز القرآن وهو لا يخفى عن المستشرقين عجز العرب ـ وهم أهل اللسان والبيان ـ قاطبة عن تحديه ، وعن الإتيان بأقصر سورة فيه.

إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن ـ فى حياته ـ معتزلا العالم في صومعة أوجب ولكنه كان في معترك الحياة ، يحاج ويدعو الناس إلى دين الله.

وفي نفس الوقت لن نعدم أن نجد من المستشرقين من يدفع هذه الضغائن ، وهذا الحقد ، يقول المستشرق (ليتن) (١) lightner «.. مرة أوحى الله تعالى إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحيا شديد المؤاخذة لأنه أدار وجهه عن رجل فقير (٢) ليخاطب رجلا غنيا من ذوى النفوذ ، وقد نشر ذاك الوحى ، فلو كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما يقول أغبياء النصارى بحقه لما كان لذلك الوحى من وجود» (٣)

__________________

١ ـ باحث انجليزى حصل على اكثر من شهادة دكتوراه في الشريعة والفلسفة واللاهوت. زار الآستانة عام ١٨٥٤ م.

٢ ـ إشارة إلى قوة تعالى : عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى.

٣ ـ لايتنر : دين الاسلام. ترجمة عبد الوهاب سليم ص ١٣٢ ، ١٣٣. المكتبة السلفية. دمشق ط ١٣٤٢ ه


أما أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان متهيأ مستعدا للنبوة متطلعا إليها ، فان «كارليل» يفند هذا الزعم بقوله : «ومما يبطل دعوى القائلين أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن صادقا فى رسالته ... أنه قضى عنفوان شبابه وحرارة صباه في تلك العيشة الهادئة المطمئنة ... لم يحاول أثناءها إحداث ضجة ولا دوى ، مما يكون وراءه ذكر وشهرة وجاه وسلطان ... ولم يك إلا بعد أن ذهب الشباب وأقبل المشيب ...» (١).

قد يقول قائل ممن يحسنون الظن بالمستشرقين المعاصرين ، لقد أطلت الوقفة عند كلام قديم وأخطاء اعتذر عنها وصححها ، كثير من المستشرقين المعاصرين.

نقول : قد يكون صحيحا القول بأن ألوان التحامل القديم على الإسلام قد خفت حدتها إلى درجة كبيرة منذ مطلع هذا القرن ، ولكنها للأسف الشديد لا تزال تعيش قوية ، ولا تزال هناك فئة من المستشرقين تحرص حتى اليوم على نشر ألوان التحامل القديم في العالم الغربى على نطاق واسع وبأساليب مختلفة (٢).

إن كتابات أمثال جولد تسيهر وكيثانى ودرمنغام أصبحت حجة عند من جاء بعدهم.

المستشرق «مونتجمرى واط» والذى يوصف كثيرا بأنه متعاطف مع المسلمين ، ويقول عن نفسه أنه محايد وأنه موضوعى ، وأنه يبحث بحثا تاريخيا دون ما أدنى إساءة إلى المسلمين.

رأيناه ـ فيما مر ـ يشكك في أمية الرسول ، ويقف طويلا أمام اللقاء الأول والأخير لنبينا محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» مع ورقة ، وقد فندنا كل ما أثاره بشأن الأمية وقصة ورقة.

يقول «واط» : «ولا بد أن محمدا قد عرف منذ شبابه بعض المشاكل الاجتماعية والدينية في مكة ، ولا شك أن وضعه كيتيم قد أطلعه على القلق السائد في المجتمع ، وربما كانت أفكاره من وجهة النظر الدينية ترجع إلى التوحيد الغامض الذى نلاحظه عند المكيين المثقفين ، ولكن يضاف إلى ذلك أنه ولا شك (!) فكر ببعض الإصلاح فى مكة ، وكان كل ما يحيط به يساعد على أن يوحى إليه بأن هذا الإصلاح يجب أن يكون أولا إصلاحا دينيا. ولهذا نرى محمدا يصبو إلى الخلوة للتفكير في الأمور الإلهية ويقوم ببعض العبادات ، وربما كان ذلك للتفكير عن الخطايا» (٣).

__________________

١ ـ كارليل : الأبطال ص ٥١ ، د. عماد الدين خليل : السابق ص ١٢٤.

٢ ـ د. محمود حمدى زقزوق : الاستشراق والخليفة الفكرية للصراع الحضارى ص ٩٦ دار المنار مصر ١٤٠٩ ه‍ ـ ١٩٨٩ م.

٣ ـ محمد في مكة ص ٨٢.


هذا الكلام ترديد لكلام «درمنغام» ، فضلا عن أفكار «أرنست رينان» فى الموسوعة البريطانية ، حيث صور المجتمع العربى في مكة بأنه كان مجتمعا موحدا يعبد الله الواحد ، وكان يصدر عن عقيدة التوحيد.

ثم إن «واط» كشف عن حقيقة منهجه في تناوله للإسلام ، حين قال : «... ذكر الحوادث التاريخية ليس بعيدا عن الاهتمام العقدى ، فإن مؤيدى علم الاجتماع المعرفى يرون أن الأفكار العقدية والفلسفية ذات مرجع سياسى أو اجتماعى» (١).

هكذا (!) الأفكار العقدية مصدرها ـ أحداث سياسية أو اجتماعية ، على كل حال «واط» يزيد موقفه وضوحا وتحديدا ، فيذكر أن عالم الاجتماع العلمانى يقبل آراء المتدينين كحقائق اجتماعية ، وليس كحقائق إيمانية غيبية.

أما كونها حقيقة (خاصة ما يثبت عن طريق الوحى الإلهى) أو غير حقيقية ، فهذا لا يدخل في دائرة اهتمام العالم الاجتماعى. وإنما يهتم بذلك الرجل المتدين ... والأول يتعامل مع هذه العقائد من خلال الواقع المشاهد.

و «واط» يفضل منهج عالم الاجتماع على نظرات المتدين ، باعتبار أن العالم الاجتماعى يعتمد على النظرة الموضوعية ـ حسب زعمه ـ الخالية من ذاتية المتدين لذلك نجده يصور لنا محمدا مصلحا اجتماعيا اشتراكيا أهمه مشاكل قومه الاجتماعية والسياسية والدينية ، ومحمد كاشتراكى أخذ يفكر في طريقة للإصلاح ، فكانت العزلة في غار حراء ، بعيدا عن ضجيج مكة ، وحتى تأتى أيديولوجية محمد متوافقة مع حالة المجتمع.

دوافع العزلة كما تصورها هذا المستشرق أمران :

الأول : الإصلاح الاجتماعى الذى وجده محمد فرصة لتحقيق ما كان يتطلع إليه وانطوت عليه نفسه طويلا وهو رغبته في النبوة (!).

الثانى : ليكفر عن خطاياه ، وهذا يفترض أن محمدا كان ـ وحاشاه ـ فحاشا ، لعانا ، طعانا ، فأراد العزلة لذلك (!).

هل هذه استنتاجات علمية؟ وهل هذه تقنع حتى العقل الأوربى؟ أما العقل المسلم فإنه موقن ، مصدق بما قاله ربنا جل وعلا في شأنه «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» : (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦)) [القصص : ٨٦] أى لم يكن يرجو أن يكون نبيا أو يتلو قرآنا ، ولا يعرف ذلك.

__________________

١ ـ : Britian ، IslamicPhilo SmallandTheology ، W.M.Watt


وفي مجال تفنيد هذه المزاعم والافتراءات نختار اثنين من المستشرقين بسبب آرائهما حول الموضوع وليس بسبب آرائهما في أى موضوع آخر.

يقول «مارسيل بوازار» : «.. لقد كان محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» نبيا لا مصلحا اجتماعيا ، وأحدثت رسالته في المجتمع العربى القائم آنذاك تغييرات أساسية ما تزال آثارها ماثلة فى المجتمع الإسلامى المعاصر» (١).

ثم يستطرد مارسيل قائلا : «مما لا ريب فيه أن محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» قد اعتبر ، بل كان في الواقع ، ثائرا في النطاق الذى كان فيه كل نبى ثائرا بوصفه نبيا ، أى بمحاولته تغيير المحيط الذى يعيش فيه» (٢).

أما زعم «واط» أن محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ما اعتزل الناس في غار حراء إلا تكفيرا عن بعض خطاياه ، أو هروبا من حر مكة ، كما صرح في موضع آخر ، فإن هذا مدفوع بما قدمناه من حقائق ، وأيضا بما يقوله المستشرق «هنرى دى فاسترى» الذى علل عزلة الرسول بالهروب (من عبادة الأوثان ومذهب تعدد الآلهة الذى ابتدعه المسيحيون ، وكان بعضهما متمكنا من قلبه وكان وجود هذين المذهبين أشبه بإبرة فى جسمه «صلى‌الله‌عليه‌وسلم») (٣).

مونتجمرى واط يكشف عن هدفه ، فيقول عن كيفية من كيفيات الوحى فى الفترة المكية : «ولا شك أننا أمام تعبير داخلى من النوع الفكرى أكثر منه من النوع الخيالى ، ولربما لم يصحب ذلك أية رؤية حتى ولو كانت فكرية» (٤).

ثم يتكلم «واط» عن كيفية أخرى ـ أكثر تطورا من سابقتها ـ فيقول : إن «الوحى كان عندئذ كما يبدو من نوع التعبير الخيالى ولكنه مصحوب بدون شك برؤية عقلية أو خيالية لجبريل ، ويوحى قول الحديث «على صورة إنسان» ... بأنها كانت رؤية خيالية» (٥).

يريد المستشرق أن يقول : إن الوحى القرآنى ليس شيئا خارجا عن الذات المحمدية ، وإنما منها نبع ، لقد وصل المكر بهذا المستشرق الاعتماد على القرآن ليلقى بهذه الفرية ، ولكن هيهات (٦) فاللقاء بين والتلقى كان يتم بين ذاتين : ذات النبى المتلقى ،

__________________

١ ـ مارسيل بوازار : إنسانية الإسلام ص ٩٩ ترجمة د ، عفيفى دمشقية. دار الأدب. بيروت ١٩٨٠ م

٢ ـ المصدر السابق.

٣ ـ هنرى دى فاسترى : الإسلام : خواطر وسوانح ص ١٦ ، ١٧. ترجمة أحمد فتحى زغلول باشا. مطبعة الشعب. القاهرة ١٩١١ م وانظر : د. عماد الدين خليل : السابق ص ٩٩ ، ١٠٨.

٤ ـ محمد في مكة ص ٩٨ ـ ٩٩.

٥ ـ محمد في مكة ص ١٠٠.

٦ ـ أنظر : منهج مونتجمرى واط في دراسة نبوة محمد للدكتور ، جعفر شيخ إدريس ص ٢٣١ (مناهج المستشرقين في الدراسات العربية ج ١).


وذات جبريل الملقى بأمر الله تعالى ، فهما ذاتان منفصلتان تمام الانفصال ، وآيات القرآن ووقائع السيرة النبوية تؤكدان على هذه الحقيقة ، فالموحى به من خارج ذات محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، فضلا عن أنه لم ينسب ما جاء به لنفسه وإنما أعلن أنه من خارج ذاته.

يقول صاحب «الإسلام خواطر وسوانح» : «... لو رجعنا إلى ما وضحه الحكماء عن النبوة ولم يقبله المتكلمون من المسيحيين لأمكننا الوقوف على حالة مشيد دعائم الإسلام وجزمنا بأنه لم يكن من المبتدعين ... ومن الصعب أن نقف على حقيقة سماعه لصوت جبريل ـ عليه‌السلام ـ إلا أن معرفة هذه الحقيقة لا تغير موضوع المسألة لأن الصدق حاصل في كل حال» (١).

و «واط» أساء فهم الحديث حين استدل بمجيء الوحى إلى الرسول على «صورة رجل» على أنها صورة تخيلها محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم». أم أنه يستبعد أن يتشكل الوحى بالصورة البشرية. إن كان كذلك فليقل هذا صراحة ولا يسيء فهم الحديث.

ونقول له : هل تنكر تشكل الوحى بالصورة أو الهيئة البشرية عند ما يكون الأمر يتعلق بالإسلام ونبى الإسلام ، ولا تستنكر ما فعله اليهود حين شبهوا الخالق بالمخلوق ، وزعموا أن الله جل وعلا تجسد فى صورة إنسان لكل من إبراهيم ويعقوب ، وأنه تعالى طعم مع الملكين اللذين حضرا معه لزيارة إبراهيم ، واستراح في ظل شجرة؟ (٢).

أما القرآن الكريم ـ الذى يعتبره كثير من المستشرقين أوهام وتخيلات تتنزل من مخيلة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فإنه يخبرنا أن الذين أتوا إبراهيم هم الملائكة وبشروه بإسحاق ويعقوب.

وما العجب أو ما وجه الاستنكار ـ والتجنى على الوحى الإلهى إلى رسول الله ـ أن ملائكة الله يمكن أن يظهروا للأنبياء والرسل في صور بشر (٣) ، كما في حديث رسول الله الذى ترويه أم المؤمنين عائشة «أن الحارث بن هشام ، سأل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فقال : يا رسول الله ، كيف يأتيك الوحى؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس ـ وهو أشده علىّ ـ فيفصم عنى وقد وعيت عنه ما قال ، وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا فيكلمنى ، فأعي ما يقول ، قالت عائشة ـ رضى الله عنها ـ : ولقد رأيته ينزل عليه الوحى في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا».

__________________

١ ـ هنرى دى فاسترى : السابق ص ٦.

٢ ـ سفر التكوين : الإصلاح ١٨ : ١ ـ ١٥.

٣ ـ أنظر : نبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» للمؤلف ، وأيضا : ابن خلدون : المقدمة.


ينكر «واط» أن يكون جبريل جاء الرسول على هيئة رجل ، وواضح أن الإنكار ليس لذات الواقعة وإنما ليصل أو ليوحى للقارئ الأوربى ، أنه لم يكن هناك وحى ، ولا جبريل ، وإنما هى تصورات وتخيلات نابعة من مخيلة محمد.

وفضلا عما سبق نسأله : ما رأيك في قيامة المسيح؟ ـ بصرف النظر عن كونها حدثت أم أنها افتراء ، وعن الاضطراب في إيرادها عند متى وعند مرقس ـ ذكر مرقس أن ملاك الرب كان جالسا داخل القبر وأنه ظهر أولا لمريم المجدلية ثم ظهر بهيئة أخرى لاثنين من تلاميذه ، ثم ظهر للأحد عشر ووبخهم لعدم إيمانهم بظهوره ثم ارتفع إلى السماء وجلس على يمين الله (١).

ملاك الرب عند مرقس يتفاءل وينكمش حتى يتمكن من الجلوس في حفرة (٢x ٢) ثم يتشكل ، ويظهر بهيئة أخرى ، ثم في هيئة ثالثة ـ لا عليك من جلوسه على يمين الله ـ هذا حلال للمستشرقين والمنصرين ، حرام وخرافة وتخيلات عندنا.

طرفة :

طرفة لأن المستشرق الإنجليزى «واط» أراد ـ عن غير قصد ـ أن يسرى عنا ، ويضحكنا بعد هذا الهراء المغلف بالمنهجية والموضوعية والحيادية.

يصر «واط» على أن القرآن كتاب بشرى ، وأن الوحى داخلى ، لذلك كان محمد مسيطرا عليه ، بإمكانه استدعائه وصرفه في أى وقت يشاء. فمخيلة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» كجهاز «الكمبيوتر» تخزن فيه المعلومات ثم تستدعى حسبما يريد الإنسان.

يقول في كتابه «محمد في مكة» : «ومن المهم أن نعرف إذا كان محمد يستخدم طريقة ما لإثارة الوحى ، ولا نستطيع التأكيد بأنه كان يرتدى دثارا من أجل هذا الغرض ، وكل شىء يحملنا على الاعتقاد أن الوحى كان ينزل عليه في بداية الأمر بصورة غير منتظرة ، ولكنه من الممكن أن يكون فيما بعد وسيلة فنية تقنية للسمع وربما كان ذلك بترتيل القرآن أثناء الليل.

وإذا كان يحدث لمحمد أن يثير تجارب الوحى بواسطة الاستماع فإن (التنويم المغناطيسى الذاتى) أو أى شىء آخر ليس من اختصاص حكم الفقيه» (٢).

اعترف «واط» بنزول الوحى على محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» بطريقة غير منتظرة ، وهذا جيد منه ، غير أنه لم يقم على هذا الاعتراف ، فبعد أسطر قليلة زعم أن محمدا كان

__________________

١ ـ مرقس : ١٦ : ١ ـ ١٥ يوحنا : ٢٠ : ١ ـ ١٨ ، بوكاى : دراسة الكتب المقدسة. ص ٨٤ عام ١٩٧٧ م.

٢ ـ محمد في مكة ص ١٠٢.


بإمكانه تحضير الوحى بالتنويم الذاتى تارة وثانية باستعمال الدثار «يا أيها المدثر» ، وثالثة بترتيل القرآن بشرط أن يكون ليلا وبتمهل (!)

تجاهل «واط» ـ وكثير غيره من المستشرقين ـ أحداث السيرة النبوية ـ وهو رجل التاريخ ، الموضوعى ، المحايد ـ والتى نقلت ـ فيما نقلت ـ أحداث ووقائع نزول الوحى ، وكيف أنه كان يأتى النبى فجأة ، وهو في المسجد ، وهو جالس مع صاحبته ، وهو على راحلته ...

وقد يتمثل الملك رجلا يراه من يكون في حضرة النبى ، على نحو ما جاء عن أمير المؤمنين عمر ، قال : بينما نحن جلوس عند رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثوب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه ، وقال : يا محمد أخبرنى عن الإسلام فقال رسول الله : «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله ... إلخ. قال صدقت.

قال : فعجبنا له يسأله ويصدقه ...» الحديث.

ظهر جبريل ـ إذن ـ ورآه بعض الصحابة في صورة رجل ، ولو كان السائل من المسلمين لعرفوه ولتكررت رؤيتهم له بعد ذلك.

نقول إنه تجاهل المصادر المعتبرة عندنا ورجع إلى خصوم ديننا كما هو ثابت فى ص ١٠٢ من كتابه محمد في مكة ـ رجع إلى «اهرنس» و «أرثر» و «نيوهفن» ويعد «كايتانى» من مراجعه الأصلية.

والمستشرق متأثر بالمدرسة الروحية الحديثة التى ظهرت في أمريكا في بداية هذا القرن والتى تدعى استحضار أرواح الموتى ، وأن وحى الأنبياء من هذا القبيل.

وفي كتاب آخر له زعم أن مصدر الوحى هو :

اللاوعى الجماعى Collectiv eunConseiousness أى أن موضوعات الوحى كانت موجودة في اللاوعى عند محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، وهى مستقاه من المحيط الجماعى الذى عاش فيه قبل البعثة ... وما كان الملك (جبريل) إلا خيالا أدى إلى حضور تلك الموضوعات إلى وعيه ، فى الحالة التى يسميها وحى (١).

يزعم «واط» أنه مؤمن غير مادى ولا ملحد ، ولنا أن نقابل زعمه : أن مصدر الوحى

__________________

١ ـ. ١٩١ ـ ١٩٠.PP ١٩٦٩.The IslamicRevoltion inTheModernwarld : Watt د. عبد الحميد غراب : رؤية إسلامية للاستشراق ص ١٠٨ سنة ١٤٠٨ ه‍.


هو : «اللاوعى» للنبى ، بما قاله المؤرخ الغربى الملحد «تونبى» : «إن المشاهدة القابلة للفهم على السطح الشعرى من اللاشعور تسمى النبوة» (١).

وفضلا عن كونها نظرة مادية إلى الدين فإن الوحى بمقتضاها لا وجود له.

ولو أن «واط» فكر في هذه النتيجة فإنه سيصل إلى تكذيب الوحى إلى موسى وعيسى أيضا.

وبمفهوم المخالفة فإن نظريتهم في اللاوعى أو اللاشعور تؤدى إلى إثبات الوحى إلى محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم». كيف؟.

اللاوعى أو اللاشعور ـ حسب مفهومهم ـ هو انطباع النفس بما تراه وتشاهده فى المجتمع ... وفي مرحلة متأخرة تظهر هذه الانطباعات ، أو تنفلت ، أو تطفو على السطح أى إلى الوعى أو الشعور ، أى أنها مختزنة ولا يشعر بها الإنسان إلا بعد انفلاتها ، وظهورها ومع هذا لا يعرف مصدرها.

فهل جرت حياة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» على هذا النمط؟ لقد «بغضت إليه الوثنية من مبدأ عمره ، فعالجته طهارة العقيدة ، كما بادره حسن الخليقة». (٢)

وقد كان يكفينا هذا وما اقتبسناه ـ فيما سبق ـ من رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده (٣). ولكن نطرح هذا السؤال فالإجابة لها فوائد عظيمة.

هل القرآن الكريم ، وهو وحى الله تعالى إلى محمد ـ انبثاق خلاق من اللاوعى المحمدى عند كثير من المستشرقين ـ يتوافق مع عقائد المجتمع المكى الذى نشأ فيه محمد حتى أوحى إليه؟

أولا : جاء القرآن بالتوحيد وهم مجتمع وثنى فنعى عليهم ذلك ، وعنفهم ، وندد بهم : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧)) [النحل : ١٧]. (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) [النمل ٦٠](أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [النمل : ٦١](أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤)) [النمل : ٦٤] ولكنهم تعجبوا أن جاءهم بغير ما هم عليه ، جاءهم بالتوحيد : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) [ص : ٥].

جاءهم محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» بالأخلاق السامية الرفيعة ، أما أخلاقهم فيبينها القرآن

__________________

١ ـ. ١٢٣.p ، sAp proachtoReligion Historian وحيد الدين خان : الدين في مواجهة العلم ص ٩٢ ترجمة : ظفر الإسلام خان. كتاب المختار بالقاهرة ط ٤

٢ ـ محمد عبده : رسالة التوحيد ص ١٢٠.

٣ ـ أنظر ص ١٢٣ من هذا الكتاب.


(وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [النحل : ٥٨ ، ٥٩]. (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) [الإسراء : ٣١ ، ٣٢]. (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) [الفرقان : ٧٢]. (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦)) [الإسراء : ٢٦].

جاء القرآن يستنكر عليهم الرق ويأمر بتحرير الرقيق (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣)) [البلد : ١٢ ، ١٣]. (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) [النساء : ٩٢].

وسؤال آخر هل يستطيع محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» بانطوائه على نفسه ، أن يكتشف حادثا ما ، وقع في تاريخ ما من الزمان الغابر؟ إن التاريخ الإنسانى لا يخضع لمنطقنا لأنه قد يشتمل على أحداث تتعارض مع ما يقبله العقل.

حسبنا هذا فليس من غرضنا الإحصاء ، وإنما إثبات زيف زعم هذا المستشرق ، فما ادعاؤه إلا خيال مريض.

نخلص مما سبق أن الوحى الخاص إلى محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، فى الرؤية الاستشراقية هو من نوع الصور الجميلة التى تكون في مخيلة الفنان أو الشعر الرائع الذى يكون فى وجدان الشاعر. أو هو ليس سوى صوت اللاشعور أو اللاوعى المحمدى (!).

ما أخذه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القصص التوراتى والإنجيلى :

من الكلمات التى يطلقها المستشرقون ويعتقدون مرورها في غفلة من المسلمين ، مثل قول المستشرق «جرينباوم» «إن الإسلام يمزج دائما بين المقدرة على تمثيل العناصر الأجنبية مع درجة معينة من العزوف عن الإقرار بالأصول التى استمدت منها» (١)

ما ذا يريد جرينباوم أن يقول؟ يشير «فيليب حتى» إلى بعض ما يريد قوله : «وتكاد كل القصص التاريخية في القرآن يكون لها نظير في التوراة باستثناء بعض قصص قلائل عربية خالصة تشير إلى عاد وثمود ولقمان وأصحاب الفيل ...» (٢) أما المستشرق اليهودى «جويتى» فقد نسج على منوال سابقيه ، فيقول : «.. ولقد أتى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقصص تكاد تطابق ما جاء في التوراة ، مع بعض التشويه لبعض الحقائق عن الأنبياء ، وربما نتج عن شعوره بأنه خير هؤلاء جميعا وخاتمهم ، ولقد

__________________

١ ـ Essaysimthen atureandGrawthof : Islam ، G.E.VonGrumebaum د. طبباوى ص ١٨٨ ٢٢٨ ، ١٩٦١ : london) c ulturelTradition

٢ ـ حتى : تاريخ العرب ص ١٥١ ط ٣ ١٩٥٣ دار العالم العربى. القاهرة.


شملت قصصه بعض أنبياء بنى إسرائيل : كنوح وسفينته ، وإبراهيم وزوجته ، وموسى ومعجزاته الحسية ، وداود وسليمان ، وتوليهما الملك ، وتزويدهما بالحكمة ، وغيرهم ، ولكن أغفل ذكر كثير من الأنبياء والملوك ذوى الشأن في الديانة اليهودية (١).

ولمجرد الطعن في القرآن أقدم بعض المستشرقين على إنكار عاد وثمود : «وأنكر الكوارث التى أصابتهم بغير حجة ، إلا أنه يحسب أن المنكر لا يطالب بحجة ، ولا يعاب على النفى الجزافى. فما لبثوا طويلا حتى تبين لهم أن عاداOadita وثمودThamudida مذكورتان في تاريخ بطليموس وأن اسم عاد مقرون باسم (إرم) فى كتب اليونان فهم يكتبونها (إدراميت) Adramitae ويؤيدون تسمية القرآن لها بعاد وإرم ذات العماد ... وعثر المنقب موزيل التشيكى Musil صاحب كتاب الحجاز الشمالى على آثار هيكل عند مدين منقوش عليه بالنبطية واليونانية وفيه إشارة إلى قبائل ثمود (٢).

الجميع يريد نزع ثوب قداسة الوحى القرآنى برده إلى اليهودية تارة وإلى النصرانية أخرى ، وجعل القرآن بشرى المولد! يقول كايتانى : «واستطاع ابن عباس زمن الفتوحات الكبرى أن يتفهم بوضوح تفوق الحضارة المسيحية ، وأن يتعرف على العديد من العيوب والثغرات المخجلة للعقيدة الجديدة التى حاول محمد خلق أساس لها في تاريخ اليهود القديم ، ولكنه لم يوفق بشكل تام في ذلك فتأهب ابن عباس لسد هذه الثغرة ودرء هذه العيوب» (٣).

قد تكون المسيحية من جانبها المادى الذى يعرف بالمدنية اكثر تفوقا ، ولكنها أكثر انحطاطا في جوانب الثقافة ، ودليل ذلك انهيارها بسرعة أمام الفتح الإسلامى. (٤)

ما هى هذه العيوب والثغرات في العقيدة؟ لا إجابة. أين مواضعها في الكتاب ـ وحاشاه ـ والسنة ، لا إجابة. وسوف نرى بعد قليل أن كايتانى يطعن الإسلام والتهم اللاصقة بعهديه : القديم والجديد ، أى رمتنى بدائها وانسلت!

لقد أشبعنا المستشرق ردا على افتراءاتهم ، كما أشبع القول حول مزاعمهم عدد من علمائنا ، غير أنى أدع المستشرق الفرنسى «بوكاى» يقول قولا لبنى جلدته : «إن

__________________

١. ٣٠ ـ ٢٨.JewsandArabes ــ PP : Goitein

٢ ـ الاستاذ العقاد : مطلع النور ص ٧٤ سلسلة كتاب الشهر. مصر ديسمبر ١٩٦٨ م.

٣ ـ كايتانى : مقدمة كتاب حوليات الإسلام ترجمة محمد احمد شلوف ص ٣٨٢ ضمن كتاب : (من قضايا الفكر الإسلامى كما يراها بعض المستشرقين) منشورات كلية الدعوة الإسلامية طرابلس. ليبيا ١٩٨٨ م.

٤ ـ د. الصديق بشير نصر : تعليقات على المصدر السابق ص ٤٢٤.


اليهود والمسيحيين والملحدين في البلاد الغربية يجمعون على الزعم ، وذلك دون أدنى دليل بأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب أو استكتب القرآن محاكيا التوراة ، ويزعم البعض أن هناك أقوالا قرآنية في التاريخ الدينى تفيد أقوال التوراة والإنجيل ، مثل هذا الموقف لا يقل استخفافا عن ذلك الذى يقود إلى القول بأن المسيح أيضا قد خدع معاصريه باستلهامه للعهد القديم في أثناء تبشيره. فكل إنجيل متى ، كما رأينا ، يعتمد على تلك الاستمرارية مع العهد القديم. أى مفسر هذا الذى تعن له فكرة أن ينزع صفته كرسول لله لذلك السبب؟

«ومع ذلك فهكذا في الغرب يحكم على محمد (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) فى غالب الأحيان : يزعمون أنه لم يفعل أكثر من أن نقل التوراة والإنجيل. وذلك حكم بلا محاكمة لا يضع مطلقا في اعتباره أن القرآن والتوراة والإنجيل قد تعطى عن نفس الحدث روايات مختلفة ، ولكنهم يفضلون السكوت على اختلاف الروايات ، ثم يعلنون أنها متماثلة وبالتالى يتماشون عن تدخل المعارف العلمية» (١)

وأقف وقفة قصيرة عند قول «جويتين» ـ الذى أسلفناه ـ أن. محمدا أخذ قصصه القرآنى من التوراة غير أنه جاء مشوها للحقائق عن الأنبياء ، وعلل ذلك بحقد محمد على إخوانه الأنبياء السابقين فغمط حقهم ، وحقرهم وقلل من شأنهم حتى يظهر هو بمظهر البطولة وأنه خاتم الأنبياء.

وهذا الكلام لا يقوله إلا إنسان لم يطلع ـ مجرد اطلاع ـ لا على القرآن ولا على التوراة.

الأنبياء في القرآن هم الصفوة الممتازة الذين اصطفاهم الله من بين البشر واختصهم بصفات الكمال الخلقية والخلقية وجعلهم السفراء الأمناء في حمل الدين وتبليغه إلى الناس.

والمتتبع لآيات الله في القرآن الكريم التى تتحدث عن الأنبياء والمرسلين يجدها تصفهم باسمى الصفات والمواهب العقلية والخلقية والعلمية ، كل ذلك يدل على أنهم صفوة الخلق ، والمثل الكامل للإنسانية ولعظم مهامهم ، اقتضت حكمة الله تعالى أن يحفظهم بعنايته ويكلؤهم برعايته ، ويربيهم على عينه ، قال تعالى للكليم موسى (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) [طه : ٣٩] وقال للنبى الخاتم محمد بن عبد الله (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) [الطور : ٤٨].

__________________

١ ـ موريس بوكاى : دراسات الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة ص ١٤٩. دار المعارف لبنان ١٩٧٧ م.


من هنا أجمع المسلمون على عصمتهم من الخطأ والزلل ، ونفوا عنهم الكذب والخيانة واتباع الباطل في الأقوال والأفعال ، وكل ما يشين.

والجمهور على أنهم معصومون قبل النبوة وبعدها واحتجوا بما نقل عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما هممت بقبيح مما كان أهل الجاهلية يهمون به إلا مرتين من الدهر كلتاهما يعصمنى الله منها» (١). وبقول تعالى : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) ففي ذلك دليل على أن الله رعاهم منذ الصغر ، وجعلهم سبحانه من المصطفين الأخيار. كما في قوله تعالى : (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) [ص : ٤٧] فلا بد إذن أن يكونوا معصومين ومحفوظين قبل النبوة وبعدها (٢).

الأنبياء والمرسلون في التوراة والإنجيل :

لم يكتف اليهود بنسبة المعصية إلى الأنبياء وعدم الاعتقاد بعصمتهم ، بل إنهم جعلوا منهم قادة وروادا للفجور والدعارة وارتكاب أعظم الآثام والشرك والكفر بالله.

وكتب أهل الكتاب ـ المقدسة ـ ترمى بعض كبار الأنبياء بكبائر الفواحش المنافية لحسن الأسوة بل المجرئة على الشرور والفساد.

١ ـ نسبت التوراة إلى «لوط» ـ عليه‌السلام ـ شرب الخمر حتى سكر ، ثم ضاجع ابنتيه فزنى بهما واحدة بعد أخرى (٣)

٢ ـ أما داود ـ عليه‌السلام ـ فإنه تآمر على قائد جيشه فقتله ودخل بزوجته ، جاء فى سفر صموائيل :

كان داود يتمشى : «على سطح بيت الملك فرأى من على السطح امرأة تستحم. وكانت المرأة جميلة جدا فأرسل داود وسأل عن المرأة .. فقال واحد : امرأة أوريا. فأرسل داود رسلا وأخذها فدخلت إليه فاضطجع معها وهى مطهرة من طمسها ثم رجعت إلى بيتها. وحبلت المرأة من داود. فكتب داود مكتوبا يقول فيه : اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت» (٤) هذا بعض ما نسبه اليهود إلى نبى الله داود الذى قال فيه الله تعالى في قرآنه الكريم : (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) [ص : ٤٤] وقال عنه : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ

__________________

١ ـ ابن كثير : السيرة النبوية ط ج ١ ص ٢٥٢

٢ ـ انظر : عصمة الأنبياء بين : اليهودية والمسيحية والإسلام للمؤلف.

٣ ـ سفر التكوين ١٩ : ٣٠

٤ ـ سفر صموائيل الثانى ١١ : ١٠٠


مَآبٍ (٤٠)) [ص : ٤٠]

غير أن ما نسبوه إلى داود يناقض ما جاء في نفس السفر على لسان داود «يكافئنى الرب حسب برى. حسب طهارة يدى يرد على. لأنى حفظت طرق الرب ولم أعص إلهى ، لأن جميع أحكامه أمامى وفرائضه لا أحيد عنها. وأكون كاملا لديه وأتحفظ من إثمى. فيرد الرب على كبرى وكطهارتى أمام عينيه» (١)

سفر واحد يجمع بين الشيء ونقيضه : «وهذا السفر يقرون أنه كتب بإلهام وهو واجب التسليم وكل ما فيه صدق عندهم. ومحال أن يكون الزنا من البر واتباع وصايا الله والمحافظة على شريعته» (٢)

٣ ـ زعمت التوراة أن نبى الله سليمان ـ عليه‌السلام ـ ارتد في آخر عمره وعبد الأصنام ، فهو عندهم «لم يكن قلبه كاملا مع الرب كقلب داود أبيه ... فغضب الرب على سليمان لأن قلبه مال عن الرب إله إسرائيل الذى تراءى له مرتين وأوصاه أن لا يتبع آلهة أخرى فلم يحفظ ما أوصاه به الرب» (٣)

وجاء أيضا : «وكان في زمان شيخوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى» (٤)

٤ ـ أما موسى وهارون فلم يكونا مؤمنين بالله ، والذى لا يكون مؤمنا يكون كافرا : فقال الرب لموسى وهارون : إنكما لم تؤمنا بى ، ولم تقدسانى على عيون بنى إسرائيل لذلك لا تدخلان أنتما هؤلاء الجماعة الأرض التى أعطيتها لهم .. (٥)

أما سفر الخروج فينسب إلى موسى ـ عليه‌السلام ـ أنه أوصى بنى إسرائيل ليلة خروجهم من مصر أن يسرقوا من المصريين حليهم وأمتعتهم ففعلوا. (٦)

٥ ـ زعمت التوراة أن الله حرض هوشع على الزنا : «أول من كلم الرب هوشع ، قال الرب لهوشع : اذهب لنفسك امرأة زنا لأن الأرض قد زنت زنى تاركة الرب. فذهب وأخذ جومر بنت حبلايم فحبلت وولدت له أبناء ..

وفي إصحاح آخر يقول «وقال الرب لى اذهب ... احبب امرأة حبيبة صاحب وزانية. (٧)

__________________

١ ـ صموايل الثانى ٢٢ : ٢١ ـ ٢٥

٢ ـ الشيخ عبد الوهاب النجار : قصص الأنبياء ص ٣١٣ ١٣٢٧ ه‍ ـ ١٩٥٣ م.

٣ ـ سفر الملوك الأول ١١ : ٥

٤ ـ سفر الملوك الثانى ١١ : ١ ـ ١٠

٥ ـ سفر العدد ٢٠ : ١٢

٦ ـ الخروج ١٢ : ٣٥

٧ ـ هوشع ١ : ٢ ـ ٤


لقد أبى العلماء المتقنون المحققون ، من المسلمين وغير المسلمين قبول هذه الافتراءات ، وقالوا : هذا من أباطيل اليهود ، غير أن كثيرا من المستشرقين يتعامون عن هذا الهراء فلا يثير عندهم أية شبهة!!

وقبل أن نلقى نظرة سريعة على ما في الأناجيل من قصص قد يكون محمد سطى ـ فى زعمهم ـ عليها ، نسأل جويتين وغيره من المستشرقين.

هل القصص الواردة في القرآن ـ وكما عرضنا ـ تشويه للحقائق عن الأنبياء. أم تنزيه؟

من من الأنبياء أغفل أو أسقط محمد ذكرهم؟ إن زعم المستشرق أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أغفل ذكر بعض أنبياء بنى إسرائيل ، يريد أن يقول : إن محمدا وهو عاكف ـ فى مكتبته في الأكاديمية العلمية المكية ، وفي مكتبة (المكيف) الملحق بغار حراء ـ على تأليف القرآن غفل عن ذكر بعض أنبيائهم ، هذا هو الهدف.

وإذا كان محمد قد أسقط ذكر هؤلاء الأنبياء فمن أسقط هذه الأسفار من توراتهم المقدسة؟

١ ـ جاء في سفر العدد العبارة التالية : «لذلك يقال في كتاب حروب الرب ـ فلا يوجد هذا السفر ضمن أسفار التوراة» (١)

٢ ـ أشار سفر الملوك الثانى إلى فقد ثلاثة أسفار هى :

أ ـ أخبار ناتان النبى.

ب ـ نبوة أخيا الشيلونتى.

ج ـ جهزوى يعدو الرائى على يريعام بن نباط. (٢) فإذا كان محمد قد أخذ من التوراة ، والإسلام يدور على محور واحد هو التوحيد المطلق ، والتوراة كما رأينا تعج بالتشبيه والتجسيم وهذا شرك صراح فكيف يكون التوحيد مأخوذا عن الشرك؟

وإذا كان محمد قد أخذ من التوراة ، فأى توراة تلك التى أخذ عنها؟

التوراة التى جاء فيها : «فمات هناك موسى عبد الرب في أرض موآب حسب قول الرب. ودفنه في الجواء في أرض موآب مقابل بيت فغور ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم. وكان موسى ابن مائة وعشرين سنة حين مات ولم تكل عينه ولا ذهبت

__________________

١ ـ سفر العدد ٢ : ٢١

٢ ـ سفر الملوك الثانى : الاصحاح ٩.


نضارته. فبكى بنو إسرائيل موسى في عربات موآب ثلاثين يوما». (١)

هل هذا السفر أنزل على موسى؟ وإذا انبروا وقالوا : نعم. فكيف يقول : «فمات هناك موسى»؟ أم يرون أنه نزل عليه بعد موته؟

إن من عنده مسكة من العقل يدرك أنها عبارات أضافتها يد بشر.

ألا يثير ذلك الشك في حجية التوراة التى ينسبونها إلى موسى؟

من البديهى أن العقائد تقوم على اليقين ، لا على الظن أو الاحتمال أو الشك ، لذلك لم تكن للتوراة أو الأناجيل أى حجية عقلية لأنه لا حجة مع الشك والتحريف.

أما موقع الأنبياء في الإنجيل ، فليس بأفضل منه في التوراة ، بل إن بعض النصوص تسيء إلى السيد المسيح ـ عليه‌السلام ـ وتلاميذه.

١ ـ ورد بإنجيل متى : أن عيسى من نسل سليمان بن داود وأن جدهم فارص الذى هو من نسل الزنى من يهوذا بن يعقوب. (٢)

٢ ـ أن يسوع ناقض نفسه حين قال لليهود مرة : إن كنت أشهد لنفسى فشهادتى ليست حقا. (٣)

ثم قال لهم مرة أخرى : إن كنت أشهد لنفسى فشهادتى حق (٤).

٣ ـ وجاء في يوحنا أيضا ، أن يسوع شهد بأن جميع الأنبياء الذين قاموا في بنى إسرائيل هم سراق ولصوص. (٥)

٤ ـ وجاء أن رئيس الكهنة المسمى فيافا الذى ثبتت نبوته في نفس الإصحاح ، أفتى بتكذيب المسيح وحكم بقتله مع أنه إلهه ـ فى زعمهم. (٦)

٥ ـ وفي نفس الإنجيل أن يسوع أهان أمه في وسط جمع من الناس. (٧) هذه النقول التى تثبت تناقضات العهد الجديد وتنسب نقائص تمس السيد المسيح وتلاميذه إنما هى على سبيل المثال لا الحصر.

بين القصص القرآنى والقصص التوراتى :

رأينا ـ فيما سبق ـ جانبا من نصوص توراتية وإنجيليه ، وكل ما جاء في القرآن

__________________

١ ـ سفر التثنية ٣٤ : ٥ ـ ٨

٢ ـ متى : ١ : ١٠

٣ ـ يوحنا : ٥ : ٣١

٤ ـ يوحنا : ٨ : ١٤

٥ ـ يوحنا : ١٠ : ٤٨

٦ ـ يوحنا : ١١ : ٤٩ وأيضا أنظر : محمد عزت الطهطاوى : محمد نبى الاسلام ... ص ١٤٧ مطبعة التقدم. مصر

٧ ـ يوحنا : ٢ : ٤.


بشأنها تكذيب وإنكار ، مما يقطع بإلهية النص القرآنى ، فلو أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ منهم لما خطأهم في بعض ما ذكر في كتبهم ، حتى لا يفتح عليه باب معارضتهم ، إذ لا يليق بالعاقل أن يقدم على فعل يمنعه من مطلوبة ، ويبطل مقصوده من غير فائدة (١) كما أن في القرآن ما لا وجود له في كتابهم المقدس مثل : قصة هود ، وصالح ، وشعيب.

والقصص المتشابه مثل قصة : إبراهيم وموسى ، وإيمان امرأة فرعون ، وسليمان وعيسى ، فيه من التفصيل ما ليس في التوراة أو الإنجيل.

والقرآن صحح كثيرا مما وقع في كتبهم من أخطاء كنفيه قتل المسيح وصلبه. ونفيه أن يكون هارون هو الذى صنع العجل ، وإنما هو السامرى (٢)

وإذا كان الوحى القرآنى إلى نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفى أن يكون لله ولد ، كما نفى أن يكون المسيح عليه‌السلام صلب أو قتل ، وعليهما تقوم المسيحية بعد القرن الرابع للميلاد. فكيف يأخذ عنها وهو كما نرى ينكر عليها ويكذبها؟

يباين القصص القرآنى القصص التوراتى : يقول المستشرق الفرنسى موريس بوكاى» : «يدعى كثير من المؤلفين الأوربيين أن رواية القرآن عن الخلق قريبة إلى حد كبير من رواية التوراة ، وينشرحون لتقديم الروايتين بالتوازى. إنى أعتقد أن هذا مفهوم خاطئ فهناك اختلافات جلية ، ففيما يتعلق بمسائل ليست ثانوية مطلقا من وجهة النظر العلمية نكتشف في القرآن دعاوى لا يجدى البحث من معادل لها في التوراة ، كما أن التوراة من ناحية أخرى ، تحتوى على معالجات تفصيلية لا معادل لها في القرآن». (٣)

ثم يبرز بوكاى هذا التباين في موضوعات عدة منها : طوفان نوح ـ عليه‌السلام ـ فيبين أولا أنه في ضوء المعارف الحديثة فإن رواية الطوفان في العهد القديم غير مقبولة. ثانيا : «على حين تتحدث التوراة عن طوفان عالمى لعقاب كل البشرية الكافرة ، يشير القرآن على العكس ، إلى عقوبات عديدة نزلت على جماعات محددة جيدا» (٤). (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧)) [الفرقان : ٣٧].

ثم يضيف بوكاى : «... فالقرآن يقدم كارثة الطوفان باعتبارها عقابا نزل بشكل

__________________

١ ـ ابن تيمية : الجواب الصحيح ج ٤ ص ٥٧

٢ ـ ابن تيمية السابق.

٣ ـ بوكاى : دراسات الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة ص ١٥٧ (المصدر سابق)

٤ ـ بوكاى. السابق ص ٢٤٤ ، ٢٤٦.


خاص على شعب نوح ، وهذا يشكل الفرق الأساسى الأول ، أما الفرق الجوهرى الثانى : فهو أن القرآن على عكس التوراة لا يحدد زمن الطوفان ولا يعطى أية إشارة عن مدة الكارثة نفسها ... والقرآن يحدد بشكل صريح محتوى سفينة نوح ، فقد أعطى الله أمرا لنوح بأن يضع في السفينة كل ما سيعيش بعد الطوفان ـ وقد أنجز نوح هذا الأمر بعناية ـ ... بالاضافة إلى الأسرة التى قطع منها هذا الابن الملعون ... «ولا تشير التوراة إلى هؤلاء من بين ركاب السفينة. إن التوراة في الواقع تقدم ثلاث روايات عن محتوى السفينة» (١)

وزعم بعض المستشرقين أن محمدا أخذ هذه القصة من أناجيلهم ـ والتى نقلوها من التوراة ـ يكذبهم العلم الحديث ـ كما قال بوكاى ـ والاكتشافات الحديثة فقد «دلت الكشوف الحديثة أنها موجودة في الديانات الصينية قبل أن ينزح السومريون إلى أرض الرافدين ، وجاءت القصة في القرآن مختلفة اختلافا كثيرا عما هو في التوراة» (٢)

أما عن التباين بين روايتى التوراة والقرآن حول خروج موسى ـ عليه‌السلام ـ من مصر وغرق فرعون في البحر ، فيمثل في أن : «التوراة لا تحتوى على أية إشارة خاصة بالعثور على جثة فرعون بعد موته ... بينما النص القرآنى يقول ببساطة وبشكل واضح تماما أن جسد فرعون قد أنقذ وتلك معطية رئيسية «وفي العصر الذى وصل فيه القرآن للناس عن طريق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت جثث كل الفراعنة الذين شك الناس في العصر الحديث صوابا أو خطأ أن لهم علاقة بالخروج ، كانت مدفونة بمقابر وادى الملوك بطيبة (بمصر) ... في عصر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان كل شىء مجهولا عن هذا الأمر ولم تكتشف هذه الجثث إلا في نهاية القرن التاسع عشر. وكما يقول القرآن : فقد أنقذ بدن هذا الفرعون ... وهو الآن في قاعة المومياءات في المتحف المصرى بالقاهرة ويستطيع الزوار أن يروه» (٣)

ومع أن هذا النص لبيان الفرق بين الرواية التوراتية حول حدث واحد والرواية القرآنية. إلا أنه يعد علما من أعلام نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ويختم بوكاى مقارناته بين القصص القرآنى والقصص في العهدين : القديم والجديد بقوله : «إن القرآن وقد استأنف التنزيلين اللذين سبقاه. لا يخلو فقط من

__________________

١ ـ بوكاى : السابق ص ٢٤٦ ، ٢٤٧.

٢ ـ د. عبد الجليل شلبى : الاسلام والمستشرقون ص ٤٤ مطابع دار الشعب بالقاهرة.

٣ ـ بوكاى : السابق ص ٢٥٤ ، ٢٦٩.


متناقضات الرواية ، وهى السمة البارزة في مختلف صياغات الأناجيل ، بل هو يظهر أيضا ـ لكل من يشرع في دراسته بموضوعية وعلى ضوء العلوم ـ طابعه الخاص وهو التوافق التام مع المعطيات العلمية الحديثة. بل أكثر من ذلك ـ وكما أثبتنا ـ يكتشف القارئ فيه مقولات ذات طابع علمى من المستحيل تصور أن إنسانا في عصر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد استطاع أن يؤلفها.

إن مقارنة عديد من روايات التوراة مع روايات نفس الموضوعات في القرآن تبرز الفروق الأساسية بين دعاوى التوراة غير المقبولة علميا وبين مقولات القرآن التى تتوافق تماما مع المعطيات الحديثة ... فبينهما فروق شديدة الأهمية تدحض كل ما قيل ادعاء ـ ودون أدنى دليل ـ عن نقل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم للتوراة حتى بعد نص القرآن.

«ولا يستطيع الإنسان تصور أن كثيرا من المقولات ذات السمة العلمية كانت من تأليف بشر وهذا بسبب حالة المعارف في عصر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لذا فمن المشروع تماما أن ينظر إلى القرآن على أنه تعبير الوحى من الله ... إن صحته أمر لا يمكن الشك فيه.

وحيث أن احتواءه على المعطيات العلمية المدروسة في عصرنا تبدو كأنها تتحدى أى تفسير وضعى ...» (١) نخلص مما سبق إلى أن أقوال المستشرقين تضاربت حول القرآن الكريم ومحاولة رده إلى أصول يهودية ونصرانية ، فتهافتت أقوال البعض فلم تحظ بعناية الرد ، أما المزاعم المنمقة والمتدثرة بالعلمية والمنهجية والحيدة ـ كأقوال واط ـ فجاءها الرد من كتبهم ـ المقدسة ـ وقد لجئوا إلى بتر النصوص ومقارنتها بنصوص أخرى عندهم فكان أحرى بنا ـ دون إسفاف ـ الكشف عن زيف ما في أيديهم ، بمثل هذه المقارنات.

القرآن الكريم كلام الله تعالى أوحاه إلى عبده ونبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشهادة نفسه :

التحدى القائم والمستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وما كشف عنه المستشرق الفرنسى موريس بوكاى» وأخيرا ، فلقد تعرت نوايا المستشرقين مما جعلنى أجزم أو أكاد أجزم : لو أن القرآن الكريم جاء خلوا من قصص الأمم البائدة أو قصص الأنبياء السابقين مع أقوامهم. لو جاء القرآن خلوا منها لقالوا :

إن هذا الكتاب من تأليفك يا محمد لأنه لم يشر إلى النبيين السابقين وما كان من أممهم معهم. وأنّى لك يا محمد بهذا الغيب الماضى الموغل في القدم؟

__________________

١ ـ بوكاى : السابق ص ٢٨٥ ، ٢٨٦


أما وقد أشار القرآن إلى هذا الغيب الماضى فقد تعلمه محمد من اليهود والنصارى! لو لم يشر القرآن إلى إيمان كثير من أهل الكتاب. وخشوعهم وبكائهم من خشية الله وسجودهم حين كان يتلى عليهم ، إيمانا وتصديقا.

لو لم يكن كذلك لقالوا : هذا من عندك وتأليفك بدليل أن واحدا من أهل الكتاب لم يؤمن بك وهم أعلم وأخبر ...

موقف معظم المستشرقين من الوحى إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ومن الإسلام عامة يثبت بجلاء أن كل حكم نفى يقومون به يقوم على نفى لما لا يوجد في أذهانهم وكل إيجاب يقوم على إثبات لما يقوم في أذهانهم (١) وتلك هى منهجيتهم وموضوعيتهم.

__________________

١ ـ د. حسن حنفى : التراث والتجديد ص ١٠٣ مكتبة الجديد بمصر.


المبحث الرابع

رد القرآن إلى أصول يهودية ونصرانية

تحدثنا فيما سبق عن زعم المستشرقين أن محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» كان قارئا كاتبا ، وكشفنا زيف هذا الزعم ، ودللنا على أن محمدا لم يقرأ كتابا ولم يخطه بيمينه.

كما كشفنا عن ضلال الادعاء بلقاءات عديدة لمحمد مع ورقة بن نوفل قبل بدء الوحى وبعده ، واتضح بجلاء أنه لقاء واحد بعد بدء الوحى ، وكان بمبادرة من أم المؤمنين خديجة ، وكشفنا عن بعض الروايات التى تقول إن خديجة وحدها هى التى ذهبت إلى ابن عمها ورقة تستطلع رأيه فيما رأى وسمع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» في غار حراء.

والآن نتناول زعما آخر ، وجهلا صراحا ، يكشف عن إصرار كثير من المستشرقين على أن محمدا كان قارئا كاتبا ؛ بدلالة كثرة مواطن التشابه بين القرآن وكتب العهدين : القديم والجديد.

فما هى إذن أوجه الشبه ، أو ما هى مواطن الشبه بين القرآن والتوراة والإنجيل؟ وهل في التشابه دلالة على أخذ القرآن منهما؟ هل بالضرورة ما وجد التشابه أن يكون اللاحق أخذ من السابق؟.

وإذا وجد التشابه ألا يمكن رده إلى علة أخرى غير الاطلاع والنقل كوحدة المصدر مثلا؟

وإذا كان التشابه يقتضى أخذ اللاحق عن السابق كقاعدة مضطردة عند المستشرقين من اليهود والنصارى ، فما تعليلهم للتشابه لدرجة التطابق بين الإنجيل وكتب البراهمة والبوذية وغيرها من الديانات الوضعية؟

يجمع الكثير منهم على أن الإنجيل كتاب إلهى ، فهل يصح ـ بمقتضى قاعدتهم ـ أن يأخذ الإلهى المعصوم عن البشرى الناقص؟

وإذا كان محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» قد قرأ توراتهم وإنجيلهم وأخذ منها القصص والتشريعات والأخلاقيات .. و.. فكيف يعللون وجود قصص في القرآن ليس في عهديهما؟ وهذا القصص أحداث وقعت قديما بل موغلة في القدم. كيف عرف محمد هذه الأخبار التى وقعت في الأزمان السحيقة ، وهى غير موجودة عندهم؟

قد يقول قائل منهم : مخيلة محمد المبدعة وخياله الشعرى الرائع. وعندئذ لا يكون لنا كلام مع السفهاء.


دأب كثير من المستشرقين على القول بأن محمدا أخذ عناصر دينية من الأحبار والرهبان ، وهذا القرار المسبق يحول بينهم وبين التعامل العلمى الصحيح مع القرآن ونبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

رد «جول تسيهر» الوحى إلى محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» إلى مصدرين : خارجى ، وداخلى فيقول : «فتبشير النبى العربى ليس إلا مزيجا منتخبا من معارف وآراء دينية عرفها بفضل اتصاله بالعناصر اليهودية والمسيحية التى تأثر بها تأثرا عميقا والتى رآها جديرة بأن توقظ في بنى وطنه عاطفة دينية صادقة ، وهذه التعاليم التى أخذها عن تلك العناصر الأجنبية كانت في وجدانه ضرورية لإقرار لون من الحياة في اتجاه يريده الله» (١).

ولم يكن اليهود والنصارى وحدهم هم الذين أخذ عنهم محمد بل امتدت همته العلمية والمعرفية إلى المجوس والوثنيين. يقول : فمحمد «انتخب تعاليم الإسلام من الديانات السائدة في عصره : اليهودية والنصرانية والمجوسية والوثنية بعد تهذيب وصقل.

«لقد تأثر بهذه الأفكار تأثرا وصل إلى أعماق نفسه ، وأدركها بإيحاء قوة التأثيرات الخارجية ، فصارت عقيدة انطوى عليها قلبه ، كما صار يعتبر هذه وحيا إلهيا» (٢).

أما «واط» فإنه على منوال «جولدتسيهر» نسج ، غير أنه لم يقطع بما قطع به «جولد تسيهر» وإنما اتبع أسلوب الاحتمالات حتى يكون ما يحدثه من تشكيك وبلبلة أشد وأوقع.

ألقى «واط» بفريته وهو يتحدث عن تحنث نبينا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» في غار حراء ، ثم علل ذهاب النبى إلى الغار بقوله : «يمكن أن يكون ذلك للفرار من أتون المدينة (مكة) خلال فصل الصيف للذين لا يستطيعون التوجه إلى الطائف. ويمكن أن يكون للتأثير اليهودى المسيحى ولا سيما مثل الرهبان. أو تجربة شخصية لمحمد» (٣).

ثم يقول في كتاب آخر له : «إن على الإسلام أن يقر بحقيقة أصله ، ذلك التأثير التاريخى للتراث الدينى اليهودى المسيحى» (٤).

__________________

١ و ٢ ـ جولد تسيهر : العقيدة والشريعة في الإسلام. (ترجمة د. محمد يوسف موسى وآخرون) ص ١٢ ، ٢٤ ، ٢٥ ، دار الكتب الحديثة بمصر ط ٢ ، وأنظر : موقف جولد تسيهر من القرآن الكريم ، «للمؤلف» مقال منشور بالكتاب الدورى لمركز الدراسات الاستشراقية والحضارية بكلية الدعوة بالمدينة المنورة / جامعة الأمير / محمد بن مسعود الإسلامية.

٣ ـ محمد في مكة ص ٨١.

٤ ـ. ٢٩٣p ١٩٦١Is lamandIntegratio nofSocietyLondon ، W.MWatt


أما أن ذهاب الرسول إلى الغار كان للتصييف ، فقد تولى الرد عليه علماء أفاضل (١) ، أما رده تحنث الرسول إلى أثر يهودى مسيحى ، وإلى تقليد الرهبان ، فإنه يلقى بها وهو يريد ما يعدها ، يريد أن يقول : من الناحية الاجتماعية ، فإن محمدا كان مخالطا لليهود والنصارى ، خاصة رهبانهم لدرجة تأثره بالرهبنة ، والعزلة ، والانقطاع للعبادة ، ففعل مثلما فعلوا. وإذا كان بدء الوحى كان أثناء عزلة محمد ، ولم يكن خاوى الوفاض ، وإنما كان يحمل الفكر اليهودى المسيحى ، فجاء الوحى ـ أى القرآن ـ ممزوجا بهذا الفكر.

أضف إلى هذه الافتراءات افتراء آخر المستشرق يهودى يدعى «جويتين». وضع هذا المستشرق كتابين للنيل من الإسلام ونبى الإسلام ، الأول تحت عنوان «دراسات في تاريخ الإسلام ونظمه ..» الثانى تحت عنوان :

JEWSandArabsThro uhtages

يقول : «نستطيع أن نتصور أن منشأ ادعاء نظرية الوحى عند محمد ، هو خواطره عن دوره الخاص في الإطار العام لهداية البشرية بطريق رسول الله ، وبينما كان يستمع إلى مواعظ المبشرين وقصص الأجانب خلد ببال محمد شعور قوى بأنه مطالب بتبليغ رسالة الله إلى عشيرته الأقربين ، كما بعثت رسل آخرون إلى أقوام عربية أخرى من قبله. وبدأ محمد إمعان النظر في الصحائف المكتوبة التى كان يحملها الأحبار والرهبان المتجولون في جزيرة العرب والتى تحتوى على أجزاء من الكتب السماوية ... وكانت تلك الصحائف مكتوبة بلغة أجنبية ... وفي أثناء تأمله في هذا الشأن استقر فيه الاعتقاد «بأن رسالة الله لا بد أن تنزل عليه دون غيره يوما من الأيام ، في نسخة عربية. وبطريقة الاستماع إلى المبشرين من مختلف الملل والطوائف أدرك أن أصول الأديان كلها واحدة لأنها منزلة من رب واحد ، وبالتالى أكد محمد مرارا أن الرسالة التى تبلغ بطريقة إنما هى نفس الرسالات التى أنزلت من قبل» (٢).

واستدل جويتين على مزاعمه ببعض آيات من القرآن ، ظن أنها تسعفه وقد ساق كلامه دون دليل ، أى دليل ، من هذه الآيات قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي

__________________

١ ـ أنظر الدكتور جعفر شيخ إدريس في بحثه القيم المنشور في (مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية ط. ١٤٠٥ م).

٢ ـ س. د جويتين : دراسات في تاريخ الإسلام ونظمه. نقلا عن : د. محيى الدين الألوائى : النبوة المحمدية ومفتريات المستشرقين ص ٤٥ ، ٤٦. ط أولى ١٤٠٠ ه‍ ـ ١٩٨٠ م.


إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩)) [الشعراء : ١٩٢ ـ ١٩٩].

رأى هذا المستشرق أن الآيات الأخيرة تدل على أن محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» تتلمذ على بنى إسرائيل وأخذ عن علمائهم ، ولكن كيف أخذ؟ متى كان ذلك؟ ما دليله على ذلك؟ لا شىء عنده.

كل ما في الآية أن هذه معلومات ثابتة من قبل ويعرفها ذو الديانات السماوية. وأن علماء بنى إسرائيل الذين على شريعة موسى يعلمون أن ما جئت به الحق.

وإذا كان القرآن من عند محمد كما يزعم هذا المستشرق فكيف يقول عن نفسه أنه أخذه من اليهود؟

أما أن محمدا أخذ عن اليهود أو أنه قرأ كتبهم فهذا مردود لأسباب عديدة منها :

١ ـ أن محمدا كان أميا ، فلم يتعلم شيئا من أحد في حضر أو سفر بشهادة قومه المعادين له.

٢ ـ أن العهد القديم لم يكن مترجما إلى اللغة العربية ، باعتراف المستشرق : أن صحائف الرهبان كانت بلغة أجنبية.

وقد أشارت الموسوعة البريطانية إلى عدم وجود ترجمة عربية لأسفار اليهود قبل الإسلام وأن أول ترجمة كانت في أوائل العصر العباسى وكانت بأحرف عبرية (أنظر : الموسوعة البريطانية : التوراة بين الوثنية والتوحيد للأستاذ سهيل ويب ص (٢٦ ، ٢٧).

٣ ـ لو أخذ محمد هذا القرآن من أهل الكتاب مع عداوتهم له لأذاعوه ، ولقالوا إن هذا تعلمه منا أو عن نظرائنا ، أو قرأه في كتبنا لا سيما وهو يفعل فيهم ما يفعل لغدرهم ، وتآمرهم في الخفاء ، ومن أسلم منهم ، فإنما كان يقبل على الحرمان والمقاطعة ، ولو أنهم قالوا ذلك لنقل إلينا وعرف ، فإنه من الحوادث التى تتوافر الهمم والدواعى على نقلها (١).

٤ ـ من المعلوم أن في القرآن مالا وجود له في كتب اليهود والنصارى ، مثل : قصة هود وصالح وشعيب ـ وما سنعرض له بالتفصيل بعد ذلك ـ ولو أن محمدا ـ «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» كان يتعلم من أهل الكتاب لما زاد هذه الزيادات ، ولما خطأهم في بعض ما ذكر في كتبهم حتى لا يفتح عليه باب معارضتهم إذ لا يليق بالعاقل أن يقدم على فعل يمنعه من مطلوبه ، ويبطل مقصوده من غير فائدة (٢)

__________________

١ ـ ابن تيمية : الجواب الصحيح ... ج ٣ ص ٢٥ ، ج ٥٧.

٢ ـ ابن تيمية : السابق ج ٤ ص ٥٤


٥ ـ يقول المستشرق الإنجليزى لايتنرLIGHTNER

«بقدر ما أعرف من دينى اليهود والنصارى أقول بأن ما علمه محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ليس اقتباسا بل قد أوحى إليه ربه ، ولا ريب بذلك طالما نؤمن بأنه قد جاءنا وحى من لدن عزيز عليم ، وإنى بكل احترام وخشوع أقول : إذا كان تضحية المصالح الذاتى ، وأمانة المقصد ، والإيمان القوى الثابت والنظر الصادق الثاقب بدقائق وخفايا الخطيئة والضلال ، واستعمال أحسن الوسائط لإزالتها ، فذلك من العلامات الظاهرة الدالة على نبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» وأنه قد أوحى إليه» (١).

إضافة إلى ذلك يقول هنرى دى كاسترى : «ثبت إذن أن محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» لم يقرأ كتابا مقدسا ولم يسترشد في دينه بمذهب متقدم عليه» (٢).

المستشرقون يخبطون في كل اتجاه فإن لم يصب السهم يصيب الآخر ، والثالث ... ولا شك أن هذه سمة الكذاب ، فهو يطلق الكلام عله يصيب ويصدقه أحد.

فلما ثبت أن محمدا لم يتلق شيئا من الأحبار ولا الرهبان ، فلعله تلقى وحيه من الشعراء العرب ، وما أفصحهم وما أعلمهم.

ادعى المستشرق «كليمان هوار» (HUAAR) أنه اكتشف مصدرا جديدا للقرآن ، هو شعر أمية بن أبى الصلت (٣).

لا شك أن أمية كان يعيش في نفس بيئة رسول الله ، وأن عمريهما متقارب ، وأعلن محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» على مسمع من جميع معاصريه بأنه يتلقى وحيه عن الله وأنه لا يتلقى شيئا عن بشر.

ولنأخذ في اعتبارنا موقف خصومه فلقد كانوا دائما على يقظة لأقل ثغرة ليواجهوا من خلالها ضربتهم. ألم يكن من الأيسر لهم أن يضعوا يده على مسروقاته المفضوحة من شعر أمية الذى لم يكن قد جف مداده ، بدلا من أن يوجهوا حججهم في كل اتجاه؟

إن هذه النتيجة تؤدى إلى نتيجة أخرى أهم هى : أن القرآن هو الذى كان أساس الإنتاج الأدبى في عصر نزوله ، فضلا عما بعده.

ولقد لاحظ «هوارت» أن شعر أمية يرجع إلى عدة مصادر مختلفة : فعند ما يتكلم

__________________

١ ـ لايتنر : دين الإسلام ص ٤ ، ٥ مصدر سابق.

٢ ـ هنرى دى كاسترى : المصدر السابق ص ٦ ، وأيضا : د. عماد الدين خليل : السابق ص ١٣٤.

٣ ـ المجلة الأسيوية ١٩٠٤ م ، د. تهامى نقره : القرآن والمستشرقون (مناهج المستشرقين ج ١) ص ٣٣.


الشاعر عن وصف النار يقلد أسلوب التوراة ، وعند ما يشرع في وصف الجنة يستخدم عبارات القرآن ، وعند ما يقص التاريخ الدينى يلجأ أحيانا إلى الأسطورة الشعبية (١).

ومع أننا نرفض أن تنزل السيرة النبوية منزلة أى رواية تاريخية لبعدها الدينى والعقدى ، إلا أننا نرى أن نقد الرواية التاريخية مطلوب إن لم يكن ضروريا ، والمستشرقون تناولوا السيرة النبوية من خلال منهج نقدى مبالغ فيه بينما شعر «أمية» لم يتعرض لمثل هذا المنهج «والغريب في أمر المستشرقين في هذا الموضوع وأمثاله ، أنهم يشكون في صحة السيرة نفسها ، ويتجاوز بعض الشك إلى الجحود ، فلا يرونها مصدرا تاريخيا صحيحا ، وإنما هى عندهم .. طائفة من الأخبار والأحاديث تحتاج إلى التحقيق والبحث العلمى الدقيق ، ليمتاز صحيحها من منحولها ، هم يقفون هذا الموقف العلمى من السيرة ويغلون في هذا الموقف ، ولكنهم يقفون من أمية وشعره موقف المتيقن المطمئن ، مع أن أخبار أمية ليست أدنى إلى الصدق ولا أبلغ في الصحة من أخبار السيرة فما سر هذا الاطمئنان الغريب إلى نحو من الأخبار دون الآخر؟ أيكون المستشرقون أنفسهم لم يبرءوا من هذا التعصب الذى يرمون به الباحثين من أصحاب الديانات؟» (٢).

هذا النقد له اعتباره ، ويمكن الاعتماد عليه في قياس ما كتب المستشرقون عن الإسلام.

وهناك عقبة يستحيل على المكابرين من المستشرقين تذليلها ، لأن في هذا الوقت ، لم تكن قد وجدت بعد توراة ولا إنجيل باللغة العربية (٣). ووجود هذه الوثائق بلغات أجنبية جعلها حكرا لبعض العلماء المتحدثين بأكثر من لغة الذين حفظوها بعناية (٤).

فضلا عن المستوى الثقافي المتدنى لليهود في جزيرة العرب يقول ابن خلدون : «إذا تشوقت العرب إلى معرفة شىء مما تتشوق إليه النفوس البشرية من أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود ، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدون منهم ، وهم أهل التوراة من اليهود ، ومن تبع دينهم من النصارى. وأهل التوراة الذين

__________________

١ ـ د. محمد عبد الله دراز : مدخل إلى القرآن الكريم ص ١٤٣ ـ ١٤٤.

٢ ـ د. طه حسين : في الأدب الجاهلى ص ١٤٣ ط لقاهرة ١٩٥٨ م.

٣ ـ أكد الدكتورGRAF أنه لم يظهر الكتاب المقدس باللغة العربية إلا بعد ذلك ـ بعد البعثة المحمدية ـ بقرون عديدة ولم تكن الحاجة ملحة لإنجيل باللغة العربية إلا في القرن التاسع والعاشر (مجلة العالم الإسلامى. إبريل ١٩٣٩) عن د. دراز : مدخل إلى القرآن العظيم. هامش ص ١٤١.

٤ ـ د. دراز : مدخل إلى القرآن العظيم ص ١٤١.


بين العرب يومئذ بادية مثلهم ، ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب ، ومعظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهودية فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التى يحتاطون لها مثل أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال ذلك» (١).

عجبا لأمر هذه الفئة من المستشرقين ، فبينما يزعمون أن محمدا أخذ التوحيد من توراتهم ، ومفاد هذا الزعم : أن الإسلام دين توحيد ولكنه بشرى المنبع يذهبون إلى أنه دين شرك ، فلقد أراد محمد استمالة مشركى مكة وما حولها إلى جانبه فأثنى على آلهتهم في قرآنه وهو ما يطلق عليه «واط» الآيات الإبليسية ، وهو يقصد قصة الغرانيق.

يريد «واط» أن يقول ، من خلال سروره لهذه القصة وتأكيده على حدوثها : إذا كان الله يوحى إلى محمد فالشيطان هو الآخر أوحى إليه (!).

والقصة ذكرت في بعض كتب التراث الإسلامى بروايات متباينة ، غير أن المستشرق «واط» ـ وهو الباحث المنهجى المدقق الذى يعرض كل أحداث الوحى على منهجه الشكى الصارم ـ لم ينظر في هذه الروايات ، وإنما اكتفى بالضعيف الشاذ منها ، وعول عليه ليفرز مكنون قلبه.

وردنا ينحصر في أمرين : الأول : تأكيد «واط» على حدوث القصة ، والثانى : موقف العلماء منها.

يؤكد «واط» على حدوث قصة الغرانيق بقوله : «نلاحظ واقعتين نستطيع أن نعتبرهما أكيدتين : أولا رتل محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» في وقت من الأوقات الآيات التى أوحى بها الشيطان على أنها جزء من القرآن ، لأنه لا يمكن أن تكون القصة قد اخترعها مسلمون فيما بعد أو دسها غير المسلمين. ثم أعلن محمد فيما بعد أن هذه الآيات لا يجب أن تعتبر جزءا من القرآن ويجب استبدالها بآيات تختلف عنها كثيرا في مضمونها ... وهناك واقعة ثالثة أو مجموعة وقائع نستطيع أن نكون واثقين منها. وهى أنه كان يجب على محمد ومعاصريه المكيين أن يشير في القرآن للآلهة : اللات .. والعزى .. ومناة .. ما تعنيه إذن الآيات الإبليسية أن الاحتفالات مقبولة في المعابد الثلاثة حول مكة. وأما معنى الآيات التى تقول بأن العبادة في هذه المعابد غير مقبولة فهى لا تحرم العبادة في الكعبة.

__________________

١ ـ ابن خلدون : المقدمة ص ٣٦٧. مؤسسة الأعلمى للمطبوعات بيروت ١٩٧١ م.


ثم يستطرد : «وهكذا فإن قيمة الآيات الإبليسية مهمة ، فهل اعترف محمد بصحتها لأنه كان يهمه كسب الأنصار في المدينة والطائف وبين القبائل المجاورة؟ كان يحاول التخفيف من تأثير الزعماء القرشيين المعارضين له باكتساب عدد كبير من الأتباع؟ ذكر هذه المعابد دليل على أن نظرته أخذت في الاتساع. (!) أما وقد نسخت هذه الآيات ـ المزعومة ـ فإن نسخها «مرتبط ـ في زعم المستشرق ـ أيضا بفشل هذه التسوية ـ أى بين محمد وزعماء مكة ـ ولا شىء يسمح لنا بالاعتقاد أن محمدا قد استسلم لخداع المكيين. ولكنه انتهى به الأمر إلى إدراك أن الاعتراف ببنات الله (كما كانت تسمى الآلهة الثلاثة وغيرها) يعنى إنزال الله إلى مستواها ، وعبادة الله في الكعبة لم تكن في الظاهر تختلف عن عبادتها في نخلة والطائف وقديد ..» (١).

ثم يذكر «واط» أن محمدا تحت وطأة الحاجات المادية كان مستعدا للاعتراف بهذه الأصنام باعتبارها آلهة ، ولما في هذا الاعتراف من تسهيل مهمته.

كلام المستشرق «واط» يشير إلى بشرية القرآن فمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حر مختار يضيف إلى القرآن ويحذف ما يشاء ، فأمر القرآن أو الوحى موكول لإرادته ـ وقد سبق له الادعاء بقدرة النبى على استدعاء الوحى بوسائله الخاصة ـ يتمثل في نحو قوله «أعلن محمد أن هذه الآيات لا يجب اعتبارها جزءا من القرآن» ، «كان يجب على محمد أن يشير في القرآن ..» ونحو قوله في موضوع آخر : «.. والحقيقة هى أن توحيده ـ توحيد محمد ـ كان في الأصل كما كان توحيد معاصريه المثقفين ، غامضا ، ولم ير بعد أن قبول هذه المخلوقات الإلهية ـ اللات والعزى ومناة مخلوقات إلهية (!) ـ كان يتعارض مع هذا التوحيد ..» (٢).

استغل واط هذه القصة للتشكيك في الوحى الإلهى إلى نبينا محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، لم يكلف نفسه البحث عما أثير حولها ورواياتها ، واستخلاص الصحيح من غيره ، والقوى من الضعيف ، أو يكون قد بحث ـ وهذا واضح ـ ولكنه ، ـ وقد كوّن فكرة مسبقة ـ وقع على الضعيف الشاذ فأخذه سندا لدعواه.

من ناحية أخرى كيف فات على «واط» أن الآيات الإبليسية المدعاة لو وضعت في سياق آيات السورة لظهر التناقض البين ، والذى لا يخفي على أحد؟ إنها ـ كما

__________________

١ ـ واط : محمد في مكة ص ١٦٧ ، ١٦٨ ، ١٧٠.

٢ ـ د. عماد الدين خليل : المستشرقون والسيرة ص ٧٢ مصدر سابق.


يقول الدكتور عماد الدين خليل ١ ـ فوضى فكرية ، وتصور مضطرب متهافت للدين ، لا هو بالمادى فيرفض الحقيقة الدينية ، ولا هو بالمؤمن فيعترف ببداهتها ومسلماتها.

أما القصة المفتراة : فهى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قرأ سورة النجم وقال : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) أضاف : تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) [النجم : ١٩ ـ ٢٤] قيل : فلما ختم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم السورة سجد وسجد معه المسلمون والمشركون ، وجاء في بعض الروايات أن الشيطان ألقاها على لسانه ، وأن النبى كان قد تمنى ألا ينزل عليه شيئ من الوحى يعيب آلهة المشركين لئلا ينفروا عنه.

أثبتنا في غير هذا الموضع (٢) أن عصمة الأنبياء واجبة حتى يؤخذ عنهم ، وأثبتنا ـ هنا ـ أن العلم المعجز يقع موقع التصديق لمدعى النبوة والرسالة ، جاريا مجرى قوله تعالى له : صدقت في أنك رسولى ومؤد عنى. فلا بد من أن يكون هذا المعجز مانعا من كذبه وافترائه على الله فيما يؤديه عنه لأنه تعالى لا يجوز أن يصدق الكذاب المفترى ، لأن تصديقه قبيح (٣).

لذلك يقول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما كان لنبى أن تكون له خائنة الأعين» فنفي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن جميع الأنبياء أن تكون لهم خائنة الأعين وهو أخف ما يكون من الذنوب ومن خلاف الظاهر للباطن ، فدخل في هذا جميع المعاصى صغيرها وكبيرها ، سرها وجهرها (٤).

في ضوء هذا نرد هذا الافتراء على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

أولا : عبارة : تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى. تقع بين ذمين ، مما يمنع حملها على المدح.

وإذا نظرنا إليها من جانب آخر نجد التناقض الواضح في هذا السياق ، فالغرانيق مدحت وذمت في ذات الوقت والجمع بين النقيضين فساد ، لا يعقله : لا المسلمون ولا المشركون وهم أصحاب الفصاحة والبلاغة.

يقول صاحب الظلال : ... وقد رفضت منذ الوهلة الأولى تلك الروايات جميعا ...

__________________

١ ـ المصدر السابق المستشرقون والسيرة.

٢ ـ انظر : عصمة الأنبياء بين اليهودية والمسيحية والإسلام للمؤلف.

٣ ـ القاضى عياض : الشفا بتعريف حقوق المصطفي ج ٣ ص ١٢٤.

٤ ـ ابن حزم : الفصل ج ٤ ص ٢٢


فهى فضلا عن مجافاتها لعصمة النبوة وحفظ الذكر من العبث والتحريف ، فإن سياق السورة ذاتها ينفيها نفيا قاطعا ، إذ أنه يتصدى لتوهين عقيدة المشركين في الآلهة وأساطيرهم حولها ، فلا مجال لإدخال هاتين العبارتين في سياق السورة بحال. حتى على قول من قال : إن الشيطان ألقى بهما في أسماع المشركين دون المسلمين فهؤلاء المشركون كانوا عربا يتقنون لغتهم. وحين يسمعون هاتين العبارتين المقتحمتين ، ويسمعون بعدها : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى؟ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ...) ويسمعون بعد ذلك : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ. إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ، وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) ويسمعون قبله : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) حين يسمعون هذا السياق كله فإنهم لا يسجدون مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن الكلام لا يستقيم ، والثناء على آلهتهم وتقرير أن لها شفاعة ترتجى لا يستقيم. وهم لم يكونوا أغبياء كالأغبياء الذين افتروا هذا الروايات التى تلقفها منهم المستشرقون مغرضين أو جاهلين (١) ثانيا : ما ذهب إليه الإمام الفخر الرازى نقلا عن الإمام البيهقى من أن : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ، كما أن رواتها مطعون فيهم ، فضلا عما جاء في صحيح البخارى : أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ سورة النجم وسجد وسجد المسلمون والمشركون ، والإنس والجن وليس فيه حديث الغرانيق وروى هذا الحديث من طرق كثيرة ، وليس فيها البتة حديث الغرانيق (٢)

ثالثا : ما ذهب إليه الشيخ محمد عبده : أن العرب لم يرد في نظمهم ولا في خطبهم وصف لآلهتهم بأنها الغرانيق ، ولم يكن مثل ذلك جاريا على ألسنتهم. فالذى ورد أن الغرنوق والغرنيق اسم لطائر مائى أسود أو أبيض وللشاب الأبيض الجميل. وكل ذلك لا يلائم معنى الآلهة أو وصفها عند العرب (٣)

رابعا : أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أرسل الله ـ جل وعلا ـ إليه الملك بوحيه ، فإنه يخلق له العلم به حتى يتحقق أنه رسول من عنده ، ولو لا ذلك لما صحت الرسالة ، ولا تبينت النبوة ، فاذا خلق الله له العلم به تميز عنده من غيره ، وثبت اليقين ، واستقام سبيل

__________________

١ ـ سيد قطب : في ظلال القرآن ج ٦ ص ٣٤٢٠ الطبعة العاشرة. دار الشروق.

٢ ـ الإمام الرازى : التفسير الكبير ج ٦ ص ١٩٣.

٣ ـ د. محمود حمدى زقزوق : الإسلام في الفكر الغربى ص ٤٤.


الدين (١) فكيف يقال : أن النبى اختلط عليه فلم يعرف من شافهه الملك بالوحى ، أم شيطان؟!

خامسا : لو حدث ذلك : لوجدت قريش بها على المسلمين الصولة ، ولأقامت بها اليهود عليهم الحجة كما فعلوا مكابرة في قصة الإسراء ، حتى كانت في ذلك لبعض الضعفاء ردة ... فلا فتنة أعظم من هذه البلية لو وجدت ، ولا تشغيب للمعادى حينئذ أشد من هذه الحادثة لو أمكنت ، فما روى عن معاند فيها كلمة ... فدل على بطلانها واجتثاث أصلها (٢).

سادسا : ما ذكره الرواة من أن هذه القضية فيها نزل قوله تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤)) [الإسراء : ٧٣ ، ٧٤]. يقول الإمام عياض : وهاتان الآيتان تردان الخبر الذى رووه ، لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا ليفتنونه حتى يفترى ، وأنه لو لا أن ثبته لكاد يركن اليهم ، فمضمون هذا ومفهومه أن الله تعالى قد عصمه من أن يفترى ، وثبته حتى لم يركن إليهم قليلا ، فكيف كثيرا؟ وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون ، الافتراء بمدح آلهتهم ، وأنه قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (افتريت على الله وقلت ما لم يقل) وهذا ضد مفهوم الآية وهى تضعف الحديث لو صح ، فكيف ولا صحة له؟ وقد روى عن ابن عباس : «كل ما في القرآن (كاد) فهو ما لا يكون (٣)

سابعا : يمكننا وضع آية سورة الحاقة في قياس استثنائى على النحو التالى :

(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) [الحاقة : ٤٤ ، ٤٥] (الكبرى)

لكننا لم نأخذ منه باليمين ولم نقطع منه الوتين (الصغرى).

.. فما تقول علينا بعض الأقاويل (النتيجة).

وأيضا آية الإسراء (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً). على النحو التالى :

أى : ولو فتنوك وافتريت علينا لاتخذوك خليلا. (كبرى)

__________________

١ ـ الإمام أبو بكر ابن العربى : فضل تنبيه الغبى على مقدار النبى نقلا عن الشيخ محمد ناصر الدين الألبانى : نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق ص ٢٦ المكتب الإسلامى. بيروت ص ٢

٢ ـ القاضى : عياض : السابق

٣ ـ القاضى عياض : السابق.


ولكنهم لم يتخذوك خليلا (صغرى ـ رفع فيها التالى) ..

لم يفتنوك ولم تفتر علينا (نتيجة ـ رفع فيها المقدم)

ولكن قد يقول قائل : إذا ثبت بطلان إلقاء الشيطان على لسانه «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» جملة (تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى) فلم إذن سجد المشركون؟

يقول الإمام الألوسي : «ليس لأحد أن يقول : إن سجود المشركين يدل على أنه كان في السورة ما ظاهرة مدح آلهتهم ، وإلا لما سجدوا ، لأننا نقول : يجوز أن يكونوا سجدوا لدهشة أحبائهم ، وخوف اعتراهم عند سماع السورة لما في قوله تعالى : (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤)) [النجم : ٥٠ ـ ٥٤] إلى آخر الآيات ، فاستشعروا نزول مثل ذلك بهم .. وقد ظنوا من ترتيب الأمر بالسجود على ما تقدم أن سجودهم لو لم يكن عن إيمان كاف في دفع ما توهموه. ولا تستبعد خوفهم من سماع مثل ذلك منه «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ...» فقد ذكر السيوطى أمثلة في أول «الإتقان» من حديث ابن عباس فلما سمع عتبة بن ربيعة قوله تعالى في سورة السجدة : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) أمسك على فم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» وناشده الرحم ، واعتذر لقومه حين ظنوا أنه صبأ وقال : (كيف وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب؟ فخفت أن ينزل بكم العذاب)» (١).

هذه هى قصة الغرانيق ، وضح أنها مرفوضة عقلا ، فضلا عن تهافتها من ناحية النقل ، ولا شك أن كلام «واط» ـ وبعض المستشرقين ـ حولها يظهر تحيزه في تطبيق نزعته الشكية ، فبمجرد أن يجد رأيا في غير صف الرسول وإن كان تافها ، أو كاذبا ، ينقلب شكه إلى يقين وتأييد ، ولا شك أن هذا يعد أسوأ نموذج للانحراف العلمى الموضوعى من جانب هذه الفئة من المستشرقين التى تتمسح في العلمية والمنهجية.

ما ذا أخذ محمد ـ «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» من التوراة والإنجيل؟!

ذهب كثير من المستشرقين أن محمد نقل عن التوراة قصص الأنبياء ، وتوحيد الألوهية ، وعرف الملائكة من خلالها ، وعقيدة القضاء والقدر ... إلى آخر هذه المزاعم.

__________________

١ ـ الألوسي : ج ٢٧ ص ٥٠ ـ ٥٩ دار إحياء التراث العربى بيروت ، وأنظر : الشيخ محمد ناصر الدين الألبانى : نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق ص ٣٨. المكتب الإسلامى بيروت ١٤٠٩ ه‍ ـ ١٩٨٩ م.


التوحيد :

أما التوحيد في القرآن ، فإن من يزعم أن اليهودية والمسيحية دينا توحيد وإن محمدا أخذ عنهما هذه العقيدة ، فعليه البينة : أولاً : أنهما دينا توحيد ثانياً : إن محمدا أخذ عنهما.

والبينة بين أيدينا كتابنا وكتاباهما فلنستعرض بعض مزاعمهم لنكشف عن هذا التوحيد في عهديهما وإن كنا لا نعلم ـ مسبقا ـ وجها ولا سببا للمقابلة بين نص قرآنى وآخر توراتى أو إنجيلى فالأول وحى الله تعالى ، والآخران نالتهما يد البشر باعتراف علمائهم ، غير أننا في حالة اضطرار ، فقد لجأ «الفريد جيوم» إلى مقابلة نص إسلامى بنص توراتى مستنتجا أخذ الإسلام من التوراة باعتبار الإسلام لاحقا.

فمثلا يقابل شطر حديث أخرجه الإمام البخارى عن ابن عباس ، يقول : «... أنت إلهى لا إله غيرك» (١) بنص توراتى يقول :

«لتعلم أن الرب هو الإله ، ليس إله سواه» (٢). ثم زعم أن الأول مأخوذ عن الثانى.

أما إقرار الله جل وعلا بالعبادة ، وكما جاء : في حديث معاذ بن جبل : «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا» (٣).

زعم «جيوم» أنه مأخوذ من نظير له في التوراة يقول : «الرب إلهكم تسيرون وإياه تتقون ووصاياه تحفظون وإياه تعبدون» (٤).

وعلى منوال جيوم نسج «ستوبرت» ، فحديث رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» وهو يحطم الأصنام حول الكعبة يوم الفتح مأخوذ أيضا من التوراة.

يقول عبد الله بن عباس : «دخل النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» مكة ، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نصبا ، فجعل يطعنها بعود ويقول : جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد» (٥).

هذا الحديث أخذه رسولنا الكريم ـ في زعم ستوبرت ـ من عبارة سفر التثنية ـ

__________________

١ ـ فتح البارى بشرح صحيح البخارى : كتاب التوحيد ، باب قول الله تعالى وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ج ١٣ ص ٣٧١.

٢ ـ تثنية الاشراع : ٤ : ٣٥.

٣ ـ صحيح مسلم بشرح النووى : كتاب الإيمان : باب حق العباد على الله ج ١ ص ٢٣١ ، ٢٣٢.

٤ ـ تثنية : ١٣ : ٥.

٥ ـ صحيح مسلم بشرح النووى. كتاب المغازى. باب فتح مكة ج ٢ ص ١٣٣.


لا يكون لك آلهة تجاهى ، لا تصنع لك تمثالا منحوتا ، صورة ما في السموات من فوق ، وما في الماء من تحت الأرض ، تسجد لها وتعبدها (١).

سبق لنا تقرير ما اتفق عليه العلماء ، أنه ليس بالضرورة أن يكون اللاحق آخذا من السابق ، فمرجعهما قد يكون وحدة المصدر ، وما دام كل من عند الله فليس من الضرورى أن يأتى الإسلام دائما بشيء مخالف وجديد ، ولا يقتضى هذا ـ كما قلنا ـ أن محمدا اقتبسه ، ولكن رسالة الأنبياء من عهد آدم واحدة وتختلف الشرائع فيقر الله منها ما يشاء وينفي ما يشاء حسب مصالح عباده (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) [فصلت : ٤٣].

وبالرغم من اعتراف كثير من علماء الغرب وباحثيه باللمسات البشرية في إعداد الكتاب المقدس ، حتى قالوا إن الكتاب المقدس المتداول حاليا لا يحتوى على التوراة والإنجيل المنزلين من الله.

نقول برغم هذا إلا أننا نوافق «جيمس هيستنج» على قوله «.. ومع هذا فإننا نتوقع أن نجد خلال صفحات الكتاب المقدس بعض الأجزاء من التوراة والإنجيل الأصليين مما يتحتم معه دراسة جادة لكى تجعل مضمون الكتاب المقدس مفهوما» (٢).

ثانيا : وعلى فرض صحة الاتفاق ، فإن هناك فرقا كبيرا بين الاتفاق والاقتباس ، فبينهما فراغ هائل.

وقبل أن نعرض لنماذج للتشبيه والتجسيم الغليظين في أسفار العهدين : القديم والجديد ـ مع تنزيه الله جل وعلا ، أو أن يكون هذا كلامه ـ نشير إلى مفهوم التوحيد في القرآن الكريم.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : التوحيد الذى جاءت به الرسل إنما يتضمن إثبات الإلهية لله وحده بأن يشهد أن لا إله إلا الله : لا يعبد إلا إياه ، ولا يتوكل إلا عليه ، ولا يوالى إلا له ، ولا يعادى إلا فيه ، ولا يعمل إلا لأجله ، وذلك يتضمن إثبات ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات. قال تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) [البقرة : ١٦٣] وقال تعالى : (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [النحل : ٥١] وقال تعالى : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) [الزخرف : ٤٥] وأخبر عن كل نبى من

__________________

١ ـ تثنية ٥ : ٧ ـ ٩.

(٢). ٥٦٩ ـ ٥٦٧.PP (١٩٦٣ ، NEWYork) Di catianaryofBible ، JamesHasting


الأنبياء أنهم دعوا الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له». (١)

هذا التوحيد الذى عليه اعتقادنا منشور في قرآننا من أوله إلى آخره ، فضلا عما جاءنا في صحيح السنة النبوية. فرسل الله وأنبياؤه من أولهم إلى آخرهم بعثوا لدعاء العباد إلى توحيد الله ـ جل وعلا ـ بتوحيد العبادة ، لقد دعت الرسل أممها إلى قول : لا إله إلا الله ، واعتقاد معناها لا مجرد قولها باللسان ، ومعناها هو إفراد الله بالإلهية والعبادة ، والنفي لما يعبد من دونه والبراءة منه.

ونشير إلى شهادة نصرانى منصف ، هو الدكتور نظمى لوقا حيث يقول : (.. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) وفي ذلك نقض لعقائد الشرك وتصحيح لعقائد أهل الكتاب أيضا ... فقد صار أتباع المسيح إلى القول بألوهيته وأنه ابن الله ... ولم يرد على لسان المسيح في أقواله الواردة في بشارات حواريه (الأناجيل) إشارة إلى شىء من ذلك بل كان يدعو نفسه على الدوام (بابن الإنسان).

«لا بد من رد الناس إلى بساطة الاعتقاد ولا بد من نفي اللبس وشوائب الريب عن جوهر هذه العقيدة وهو التوحيد ، مطلق التوحيد.

«إذن تعين أن يأتى الدين الجديد ـ الإسلام ـ بحسم هذا الاختلاف الوبيل (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)»

(لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ). فأقرب إلى العقل أن من يلد أحرى أن يولد ... وما كان سبحانه فردا في جنس وواحد في سلالة من نوعه ـ حاشاه ـ ... بل جل عن النظراء والأكفاء فمن ذا الكفء لله؟ (٢).

وينتهى بعض المستشرقين إلى القول : «ومحمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» لم يغرس في نفوس الأعراب مبدأ التوحيد فقط ، بل غرس فيها أيضا المدنية والأدب» (٣).

مظاهر اللمسات البشرية في إعداد التوراة والإنجيل :

طريقة المستشرقين في المقابلة بين النصوص ، طريقة غير علمية لافتقارها إلى الموضوعية ، فضلا عن مكابرتهم لإفحام الخصم ، أى إفحام المسلمين. يتكلمون

__________________

١ ـ الشيخ عبد الرحمن آل الشيخ : فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص ١٥ دار الفكر بيروت ١٤٠٩ ه‍ ـ ١٩٨٩ م. شرح العقيدة الوسطية للشيخ محمد خليل هراس ص ١٧. الكتاب الإسلامى بالمدينة المنورة ١٤١٢ ه‍.

٢ ـ د. نظمى لوقا : محمد الرسالة والرسول ص ٥٣ ، ٧٥ ، ٨٥ ، ٨٦ ط ١ ١٩٥٩ م.

٣ ـ هنرى سيروى : فلسفة الفكر الإسلامى ص ٨ ترجمة محمد إبراهيم سلسلة الثقافة الإسلامية عدد ٣٢. القاهرة ١٩٦١ م ، أيضا : رودى بارت : الدراسات العربية والإسلامية ص ١٥ مصدر سابق.


عن التوحيد في التوراة والإنجيل ، فيسوقون نتفا من هنا وأخرى من هناك ، أما تشبيه الله ـ جل وعلا وتجسيده ، ورميه بالتعب والنصب ، والجهل والندم وعجزه أمام نبى من أنبيائه ، وتحريضه موسى وبنى إسرائيل على الكذب والنفاق والسرقة ، كل هذا يسقطونه أو يتجاهلونه ، وهم بذلك أمام أمرين كلاهما مرّ : إمّا أنهم يعتبرون هذا توحيدا أو أنهم يظنون المسلمين جهلة أغبياء.

١ ـ جاء في سفر الخروج : «فقال الرب لموسى : انظر قد جعلتك إلها لفرعون وهارون اخوك يكون نبيا» (١)

النص ينسب إلى الله جل وعلا ـ أنه أشرك موسى معه في الألوهية.

٢ ـ ويبدو أن إلصاق النبوة لله تعالى ليس من صنع بولس وإنما أخذها من أحبار اليهود كتاب التوراة. جاء في نفس السفر أن الله جل وعلا قال : «إن إسرائيل ابني البكر» (٢) أى أنهم اعتقدوا بوجود ابن لله ، فهل هذا من التوحيد؟

٣ ـ نسب كاتب سفر التكوين إلى الله القصور عن الإدراك ، والجهل ـ فليس هو علام للغيوب ـ والندم والحزن. يقول : «ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض ، وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم. فحزن الرب أنه عمل الإنسان وتأسف في قلبه» (٣)

الله جل وعلا ـ لم يكن يعرف ان شر البشر سيكثر ، فندم على خلقهم بعد أن رأى شرورهم (!)

٤ ـ أما كاتب (يونان) فيقول : «فلما رأى الله أعمالهم أنهم (٤) رجعوا عن طريقهم الرديئة ندم الله على الشر الذى تكلم أن يصنعه بهم فلم يصنعه» (٥)

وجاء في سفر صموئيل الأول : «وكان كلام الرب إلى صموئيل قائلا : ندمت على أنى جعلت شاول ملكا. لأنه رجع من ورائى ، ولم يقم كلامى» (٦)

٥ ـ وجاء في سفر الخروج ، أن الرب غضب غضبا شديدا وقال لموسى : «رأيت هذا الشعب وإذا هو شعب صلب الرقبة ، فالآن اتركنى ليحمى غضبى وأفنيهم.

فتضرع موسى أمام الرب إلهه وقال : .. يتكلم المصريون قائلين : أخرجهم بخبث ليقتلهم في الجبال ... ارجع عن حمو غضبك واندم على الشر بشعبك ... فندم

__________________

١ ـ سفر الخروج ٧ : ١.

٢ ـ سفر الخروج ٤ : ٢٢.

٣ ـ تكوين : ٥ ـ ٦.

٤ ـ هم أهل نينوى وهى محافظة بشمال العراق الآن.

٥ ـ يونان ٣ : ١٠.

٦ ـ صموئيل الأول ١٥ : ١٠ ـ ١١ ، ٣٥.


الرب على الشر الذى قال أنه يفعله بشعبه» (١)

ما هذا الإله الذى يركبه الغضب فيتوعد ويهدد ثم يعظه موسى ، ويأمره أن يندم فيفىء إلى رشده ، ويندم على هذا التهديد وهذا الغضب ، ألمثل هذا الإله صورة في الإسلام؟

هذه صورة إله بدائى تسعه عقلية لم تسل عبادة الأشباح ، وكاتب السفر لم تشرق في عقله عقيدة التوحيد ، ولهذا جعله إله موسى ، وإله بنى إسرائيل فقط ، فهو إذن يسلم بوجود آلهة أخرى لأمم أخرى وهو بعد هذا إله (٢)

يا ترى ما ذا استفاد محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نبى الإسلام وسرقه منهم؟

يقول الإمام ابن القيم : ومن العجب تواطؤهم على امتناع النسخ على الله فيما شرعه لعباده ، لئلا يلزم منه البداء ، ثم يقولون : إن الله ندم وبكى على الطوفان ، وعض أنامله ، حتى رمدت عيناه ، وعادته الملائكة (٣)

٦ ـ نسب سفر التكوين التعب والنصب إلى الله ـ جل وعلا ـ بعد عمل ستة أيام «وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذى عمل فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذى عمله. وبارك الله اليوم السابع وقدسه لأن فيه استراح من جميع عمله الذى عمل الله خالقا» (٤)

بدل اليهود لفظ «استراح» بلفظ «فونغ» في الترجمة الأردية للكتاب المقدس ، لأنهم رأوا أن الاستراحة لا تليق بذات الله تعالى ، واستحيوا من انتماء هذا اللفظ إلى الله تعالى ، المنزه عن الصفات البشرية (٥) وفي النص الإنجليزى دلالة على ذلك :

And ؛andontheseventhd aygodendedworkwh ichhemade herestedonthesev enthdayfromallhi sworkwhichhehad made (٦)

__________________

١ ـ خروج ٣٣ : ٩ ـ ١٤

٢ ـ د. عبد الجليل شلبى : رد مفتريات على الإسلام ص ٨٨ دار القلم الكويت ١٤٠٢ ه‍ ـ ١٩٨٢ م

٣ ـ ابن القيم هداية الحيارى ص ٥٨٣ ـ ٥٩٠. وانظر : نبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» للمؤلف.

٤ ـ تكوين ٢ : ٢ ـ ٣

٥ ـ المودودى : تفهيم القرآن ج ٥ ص ١٢٥.

٦ ـ Genesis ، ١٦١١TheholyBible KingJamesversion


وفي سفر الخروج جاء : «لأنه في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض وفي اليوم السابع استراح وتنفس» (١)

ورد الله تعالى هذه الفرية في قرآنه الكريم (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨)) [ق : ٣٨]

يقول المستشرق الفرنسى «بوكاى» : وإنه لمن الجلى الاستراحة التى أخذها الله بعد عمل دام ستة أيام هى أسطورة» (٢)

٦ ـ يقرر سفر الخروج أن الله ـ جل وعلا ـ حرض اليهود على الكذب والنصب والاحتيال على المصريين حين خروج اليهود من مصر ، فيقول : «ولا تمضوا فارغين

بل تطلب كل امرأة من جارتها ، ومن نزيلة بيتها ، أمتعة فضة وأمتعة ذهب ، وثيابا ، وتضعونها على بنيكم وبناتكم ، فتسلبون المصريين» (٣)

عجيب أمر المستشرقين يثيرون الشبهات حسدا من عند أنفسهم وفي كتبهم ما يندى له الجبين

يقول كاتب سفر الخروج : «فتكلم الرب على مسامع الشعب ، أن يطلب الرجل من صاحبه ، والمرأة من صاحبتها أمتعة فضة وأمتعة ذهب ...

وآتى الرب الشعب حظوة في عيون المصريين فأعاروها لهم وسلبوا المصريين» (٤) فصنع بنو إسرائيل كما أمر موسى ، فطلبوا من المصريين أمتعة ذهب وثيابا.

هذه نظرة اليهود للألوهية ، وتلك منزلة الله جل وعلا في توراتهم ، يقول الدكتور نظمى لوقا : «لقد أسف الشعب المسف بالتوحيد نفسه حتى جعلوا الأوثان في بيوتهم ... أما الروح والضمير ، أما النظرة الشاملة لبنى الإنسان كافة .. فذلك وعى لم يكن لديهم إلا مطموسا» (٥) لا نريد أن نستطرد في ذكر افتراءاتهم على الله ـ جل وعلا ـ وأنبيائه ـ عليهم‌السلام ـ فهى في غاية الكثرة ولكننا أردنا ـ وفي عجالة ـ أن نضع طرفا منها أمام المستشرقين والمنصرين لعلهم يتأملون فيرجعون.

لقد أصاب الدكتور «طيباوى» حين نحى باللائمة على المستشرقين والمنصرين لإشعالهم نار الحرب على الإسلام ، ونبى الإسلام ، ووضعهم بذلك عقبات خطيرة

__________________

(١) خروج ٣١ : ١٧.

(٢) موريس بوكاى : التوراة والإنجيل والقرآن والعلم ص ٤٩ ـ ترجمة الشيخ حسن خالد المكتب الإسلامى دمشق / بيروت ١٤١١ ه‍ ـ ١٩٩٠ م

(٣) الخروج ١٢ : ٢٣ ـ ١٥.

(٤) الخروج ١١ ، ٢ ، ١٢ ، ٢٦ ، ٢٧

(٥) د. نظمى لوقا : السابق ص ٦٣ ـ ٦٤.


في طريق الحركة الفكرية بيننا وبينهم (١) لقد أصبح المستشرق ـ بدافع عدائى ـ مشغولا باستكشاف ما يسميه الأصول اليهودية المسيحية. ولما كان العين بالعين والسن بالسن فإننا نشير إلى بعض النصوص عند البراهمة والبوذيين وما يقابلها عند المسيحيين في ذات الوقت ننزه الله ـ جل وعلا ـ أن يكون هذا كلامه ، وننزه عيسى بن مريم ـ عليه‌السلام ـ أن يكون هو قائله ، فلن نجهل فوق جهل الجاهلين.

__________________

(١) د. عبد اللطيف الطيباوى : المستشرقون الناطقون بالانجليزية ترجمة د. قاسم السامرائى ص ٣١. ١٤١١ ه‍ ـ ١٩٩١ مطبوعات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.


مقارنة بين عقائد المسيحيين حاليا

وعقائد الوثنيين من البراهمة الهنود

أقوال الهنود الوثنيين في كريشنه

ابن الله (١)

أقوال النصارى المسيحيين في

عيسي أو يسوع ابن الله

١ ـ كريشنه هو المخلص والفادى والمعزى والراعى الصالح والوسيط وابن الله والأقنوم الثانى من الثالوث المقدس وهو الأب والابن والروح القدس.

٢ ـ ولد كريشنه من العذراء ديفاكى التى اختارها الله والدة لابنه بسبب طهارتها وعفتها.

٣ ـ مجدت الملائكة ديفاكى والدة كريشنه ابن الله وقالوا يحق للكون أن يفاخر بابن هذه الطاهرة.

٤ ـ عرف الناس ولادة كريشنه من نجمه الذى ظهر في السماء.

٥ ـ لما ولد كريشنه سبحت الأرض وأنارها القمر بنوره وترنمت الأرواح وهامت ملائكة السماء فرحا وطربا ورتل السحاب بأنغام مطربة.

٦ ـ كان كريشنه من سلالة ملوكانية

١ ـ يسوع المسيح هو المخلص والفادى والمعزى والراعى الصالح والوسيط وابن الله والأقنوم الثانى من الثالوث المقدس وهو الأب والابن والروح القدس.

٢ ـ ولد يسوع من العذراء مريم التى اختارها الله والدة لابنه بسبب طهارتها وعفتها.

٣ ـ فدخل إليها الملاك وقال سلام لك أيتها المنعم عليها الرب معك.

٤ ـ لما ولد يسوع ظهر نجمه من المشرق وبواسطة ظهور نجمه عرف الناس محل ولادته.

٥ ـ لما ولد يسوع المسيح رتل الملائكة فرحا وسرورا وظهر من السحاب أنغام طربه ٦ ـ كان يسوع المسيح من سلالة ملكية

__________________

١ ـ يرجع إلى كتاب تاريخ الهند المجلد الثانى من صفحة ٣١٧ ـ صفحة ٣٢٩ ـ ٣٣٦ وإنجيل لوقا الإصحاح ٣ إنجيل متى الإصحاح الثانى.


ولكنه ولد في غار بحال الذل والفقر.

٧ ـ لما ولد كريشنه أضىء الغار بنور عظيم وصار وجه ديفاك أمه يرسل أشعة نور ومجد.

٨ ـ ومن بعد ما وضعته صارت تبكى وتندب سوء عاقبة رسالته فكلمها وعزاها.

٩ ـ وعرفت البقرة أن كريشنه اله وسجدت له.

١٠ ـ وآمن الناس بكريشنه واعترفوا بلاهوته وقدموا له هدايا من صندل وطيب.

١١ ـ وسمع نبى الهنود (نارد) بمولد الطفل الإلهى كريشنه فذهب وزاره في (كركول) وفحص النجوم فتبين له من فحصها أنه مولود إلهى يعبد.

١٢ ـ أن كريشنا انبثق من الإله براهما الذى كان قبل الوجود حيث خالق العالم

٢. ويدعونه ملك اليهود ولكنه ولد في حالة الذل والفقر بغار في فلسطين ٧ ـ لما ولد يسوع المسيح أضىء الغار بنور عظيم أعيا بلمعانه عينى القابلة وعينى خطيب أمه يوسف النجار.

٨ ـ قال يسوع المسيح لأمه وهو طفل يا مريم أنا يسوع ابن الله وجئت كما أخبرك جبرائيل الذى أرسله أبى إليك وقد أتيت لأخلص العالم.

٩ ـ وعرف الرعاة يسوع وسجدوا له.

١٠ ـ وآمن الناس يسوع المسيح.

١١ ـ ولما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية في عهد هيرودوس الملك إذ الماجوس من المشرق قد جاءوا إلى أورشليم قائلين أين هو المولود ملك اليهود.

١٢ ـ أن الأب هو الأصل والابن هو الكلمة التى تجسدت في المسيح وأن

١ ـ يرجع إلى كتاب فيشنوبرانا صفحة ٥٠٢.

٢ ـ تاريخ الهند المجلد الثانى ص ٣١١.

٣ ـ كتاب الديانات الشرقية.

٤ ـ كتاب الديانات القديمة المجلد

١ ـ انجيل لوقا اصحاح ٢.

٢ ـ انجيل لوقا اصحاح ٢.

٣ ـ انجيل متى اصحاح ٢.


وسمى نفسه الخالق وكريشنا هو الذى خلص بنى الإنسان بتقديم نفسه للصليب فداء عنهم ومن ثم يصورونه مصلوبا مثقوب اليدين والرجلين وعلى قميصه صورة قلب إنسان معلق وهناك إله آخر انبثق من الإله براهما ويدعى سيفا موكل بالخراب والفناء.

اعدام المسيح صلبا كان تكفيرا منه عن خطيئة آدم الأزلية بعد أن أكل من شجرة المعرفة فانتقلت الخطية إلى ذريته جيلا بعد جيل وإلى جميع نسله حتى افتداهم المسيح وخلصهم من هذه الخطيئة بقتله وصلبه ـ وهناك أقنوم ثالث ضمن ثالوث الإله هو روح القدس.


مقارنة بين ما يقوله عباد الوثنية في بوذا ابن الله

وبين ما يقوله النصارى المسيحيون في يسوع المسيح ابن الله

أقوال الهنود الوثنيين

في بوذا ابن الله

أقوال النصارى والمسيحيين

في يسوع ابن الله

١ ـ ولد بوذا من العذراء مايا بغير مضاجعة رجل.

٢ ـ كان تجسد بوذا بواسطة حلول روح القدس على العذراء مايا.

٣ ـ لما نزل بوذا من مقعد الأرواح ودخل في جسد العذراء مايا صار رحمها كالبلور الشفاف النقى وظهر بوذا منه كزهرة جميلة.

٤ ـ وقد دل على ولادة بوذا نجم ظهر في أفق السماء ويدعونه نجم المسيح.

٥ ـ ولد بوذا من العذراء مايا التى حل فيها الروح القدس يوم عيد الميلاد أى في ٢٥ كانون الأول.

٦ ـ لما ولد بوذا فرحت جنود السماء ورتلت الملائكة أناشيد المجد للمولود المبارك قائلين ولد اليوم بوذا على الأرض كى يعطى الناس المسرات والسلام ويرسل النور إلى المجالات المظلمة ويهب بصرا للعمى.

١ ـ ولد يسوع المسيح من العذراء مريم بغير مضاجعة رجل.

٢ ـ كان تجسد يسوع المسيح بواسطة حلول الروح القدس على العذراء مريم.

٣ ـ لما نزل اليسوع من مقعده السماوى ودخل في جسد مريم العذراء صار رحمها كالبلور الشفاف النقى وظهر فيه يسوع كزهرة جميلة.

٤ ـ وقد دل على ولادة يسوع نجم ظهر في الشرق ومن الواجب أن يدعى نجم المسيح.

٥ ـ ولد يسوع بن العذراء مريم التى حل فيها الروح القدس يوم عيد الميلاد أى في ٢٥ كانون الأول.

٦ ـ لما ولد يسوع فرحت ملائكة السماء والأرض ورتلوا الأناشيد حمدا للواحد المبارك قائلين المجد لله في الأعالى وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة.


٧ ـ وعرف الحكماء بوذا وأدركوا أسرار لاهوته ولم يمض يوم على ولادته حتى جاء الناس ودعوه إله الآلهة.

٨ ـ وأهدوا بوذا وهو طفل هدايا من مجوهرات وغيرها من الأشياء الثمينة.

٩ ـ لما كان بوذا طفلا قال لأمه مايا أنه أعظم الناس جميعا.

١٠ ـ كان بوذا ولدا مخيفا وقد سعى الملك جمارا لقتله لما أخبروه أن هذا الغلام سينزع الملك من يده إن بقى حيا.

١١ ـ أن بوذا هو الابن الوحيد وأنه تجسد في الناسوت وقدم نفسه ذبيحة ليكفر عن ذنوب البشر ومن ثم يسمونه المسيح والمخلص والابن.

٧ ـ وقد زار الحكماء يسوع وأدركوا أسرار لاهوته ولم يمض يوم على ولادته حتى دعوه إله الآلهة.

٨ ـ وأهدوا يسوع وهو طفل هدايا من ذهب وطيب ومر.

٩ ـ لما كان يسوع طفلا قال لأمه مريم أنا ابن الله.

١٠ ـ كان يسوع ولدا مخيفا وسعى الملك هيردوس وراء قتله كى لا ينتزع الملك من يده.

١١ ـ أن الابن يسوع هو الكلمة التى تجسدت في المسيح نتيجة التقاء روح القدس بمريم العذراء وأنه صلب تكفيرا عن خطيئة آدم الأزلية التى انتقلت إلى ذريته حتى خلصهم المسيح بقتله وصلبه عن هذه الخطيئة.

١ ـ أنظر تاريخ الهند المجلد الثانى صفحة ٣١٧.

٢ ـ كتاب ديانة الهند الوثنية للولمبى صفحة ٨٢ ، ١٠٨ ،

٣ ـ كتاب تاريخ البوذيه صفحة ١٠٣ ، ١٠٤ تأليف بيل.

١ ـ أنظر إنجيل متى إصحاح ٢ عدد ١ ، ٢ وكذلك الإصحاح الأول.

٢ ـ كتاب الكونت امبرلى المدعو تحليل العقائد الدينية ص ٤٢٤.

٣ ـ إنجيل الطفولة إصحاح ١ عدد ٣.


الخاتمة

موضوع الوحى من أوسع الموضوعات وأدقها التى تناولها المفكرون الإسلاميون بالبحث والدرس والتحليل وإقامة الأدلة العقلية على إمكان الوحى وصحته وسلامته ، كذلك تناوله فريق كبير من المستشرقين في دراساتهم وأبحاثهم ، ولكن اتضح لنا ـ من خلال هذا البحث ـ الهوة الهائلة التى تفصل بين الفكرين : الفكر الإسلامى ، والفكر الغربى الاستشراقى ففي حين يقوم الأول على القرآن والسنة ، يقوم الثانى على العقل الأرسطى اليونانى. الأول يقوم على ميتافيزيقا القرآن ـ إذا جاز التعبير ـ والثانى يقوم على الميتافيزيقا الأرسطية وهى مخالفة كل المخالفة لإلهيات المسلمين.

الوحى كما جاء في القرآن الكريم وأخبرت به السنة تعليم خاص وهو المصدر الرئيسى لعلم الأنبياء ، وهو بعد ذلك تجربة شخصية ارتبطت أولا وأخيرا بمن تعرض لها ، وهو تجربة فرضت من الله ـ جل وعلا ـ ولم تأت قط بمشيئة إنسان.

إن أعظم دليل على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو لا يزال قائما ، موجودا بين أيدينا هو القرآن الكريم ، ذلك الذى أعجز أساطير البيان من العرب مع أنه منظوم من نفس الحروف والكلمات التى ينظمون بها كلامهم.

ولما أعجز القرآن أصحاب اللسان العرب ، فهو لغيرهم أعجز.

لقد ثبت عند جمهور العلماء ـ وعند اليهود والنصارى ـ تقرير نبوة الأنبياء بالمعجزات ـ فضلا عن الخبر ـ وثبت بدلالة الإخبار والحس والمشاهدة : ما أجرى الله جل وعلا على يدى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من معجزات حسية ، مادية ، تماما كالأحداث التى وقعت للأنبياء السابقين.

فإن ردوا التواتر قلنا : إن المعجزة لا تدل على الصدق ، فحينئذ تبطل نبوة سائر الأنبياء ، وإن اعترفوا بصحة التواتر ، واعترفوا بدلالة المعجزة على صدق من أجريت على يديه ـ ثم إنهما حاصلان في حق محمد ـ وجب الاعتراف قطعا بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضرورة عند الاستواء في الدليل لا بد من الاستواء في حصول المدلول (١)

وهم ـ أى أهل الكتاب ـ محجوجون بما ثبت عندهم من الأخبار عن الصادق المصدوق صلى‌الله‌عليه‌وسلم. كما بطل زعم العيسوية من اليهود : أن إرسال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إلى العرب خاصة ، لان مقتضى تسليمهم برسالته إلى العرب أن يصدقوه في كل ما جاء

__________________

١ ـ الرازى : مناظرة في الرد على النصارى ص ٢٢ مصدر سابق.


به ، ومن بين ما جاء به ، قول الله جل وعلا (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) [سبأ : ٢٨] بدا واضحا أن من أهم أهداف الاستشراق ، صد العقل الأوربى عن معرفة الإسلام الحق والوقوف عليه من مصادره ومنابعه الأصلية من ناحية أخرى محاولة تشكيك المسلمين في عقيدتهم وإضعاف روحهم المعنوية كى يخضعوا مستسلمين للاستعمار : العسكرى ثم الفكرى.

لقد أدرك المستشرقون أن قوة المسلمين تكمن في دينهم وأن روح المقاومة تكمن في عقيدتهم ، فسعوا جاهدين للنيل من الإسلام لتنهار روح المقاومة. وغير خاف ـ علينا ـ وسائلهم لتحقيق أهدافهم ـ فضلا تشويهاتهم ـ : من علمانية ، وجودية وفرويدية ، وبرمجاتيه و..

أما عن محاولة بعض المستشرقين رد القصص القرآنى إلى أصول يهودية مسيحية ، فقد باءت بالفشل ، للتباين الواضح بين هذه وتلك فضلا عن إفحام فريق آخر من المستشرقين لادعاءات الفريق الأول في هذا الصدد.

كما فشلت محاولات المستشرق الإنجليزى «مونتجمرى واط» ـ الذى يدعى الإيمان ـ رد القرآن الكريم إلى العنصر البشرى ممثلا في محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك حين حلل النبوة وأرجعها إلى ما أسماه التصور الخلاق أو التصور الخالق .....

creativeimmginat ion (١) ومعناه أن الوحى نوع من النشاط الذهنى غير العادى ، كما يظهر عند بعض الموهوبين ..

واتضح لنا أن القاسم المشترك بين المستشرقين ـ إلا قليل منهم ـ القدامى والمحدثين ، التشكيك في إلهية النص القرآنى ، والوحى إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يتورعوا عن دس الأكاذيب والأساطير ، كما فعل «هنرى لامانس» فى (كتابه فاطمة وبنات محمد) (٢). ويبدو أن هذا التوارث أمر طبيعى على اعتبار أن اللاحق ينقل عن السابق.

علما بأن التحرى العلمى يطلب من المستشرقين ـ وغيرهم من الباحثين ـ أن يتتبعوا جوهر حقيقة الإسلام حيث توجد في مظانها الأولى ، أى في القرآن وصحيح السنة ، لا أن يحكموا عليها من خلال وجهة نظر مستشرقين سابقين إليها ، مع ما عرف عنهم من عداء صريح للإسلام ونبى الإسلام.

__________________

١ ـ Muhammad ـ Prophetandst atesmanoxforduni ـ press : M.wat ٢٣٧p ، ١٩٧٨newyork

٢ ـ د. عبد الرحمن بدوى : موسوعة المستشرقين ص ٣٤٧ ـ ٣٤٩ مصدر سابق.


ذكرت المستشرقة الإنجليزية «تشاريس وادى» أن الغربيين لم يعرفوا الإسلام إلا من الغربيين ، ولم يعرفوه من أهله ولا من مصادره ، فهم عرفوه من أعدائه (١) ، ولو أن هؤلاء حذقوا اللغة العربية وتذوقوا بلاغة القرآن لأدركوا إعجازه وأنه تنزيل من حكيم حميد. وقد اعترف المستشرق «أندرسون». رئيس قسم قوانين الأحوال الشخصية المعمول بها في العالم الإسلامى ـ في جامعة لندن ـ وهو متخرج من كلية اللاهوت في جامعة كمبريج ، اعترف بأنه تعلم اللغة العربية من دروس اللغة العربية التى كان يلقيها بعض علماء الأزهر في الجامعة الأمريكية في القاهرة ساعة في كل أسبوع لمدة سنة واحدة (٢).

وقد حصل الدكتور طيباوى على معلومات مفصلة موثوقة من أحد الطلبة ممن درس اللغة العربية ـ في جامعة كمبردج ـ خلال فترة ثلاث سنوات وبالتالى منحته الجامعة في آخرها درجة الليسانس من الدرجة الأولى مع مرتبة الشرف : وهنا نشير فقط إلى المادة ومدرسها

ـ اللغة العربية الفصحى (المدرس : لاينز).

ـ اللغة العربية الحديثة (المدرس : هوبكنز).

والكتاب الذى يدرس : كتاب هنرى بيريس : الأدب العربى والإسلام

وكتاب نجيب محفوظ : اللص والكلاب.

وكتاب أحمد أمين : كتاب حياتى.

وكتاب كان يا ما كان : لمخائيل نعيمة. وكتاب توفيق الحكيم : يوميات نائب في الأرياف

(المدرس هو بكنز يساعده أحد الطلبة العرب) ـ القواعد العربية والقرآن (المحاضر : الطالب العربى المذكور أعلاه).

أما عدد الساعات وعدد الطلبة وكثرة غياب المدرس ، أنظر المرجع المذكور. (٣)

وقد تبين أنه مهما ادعى الملتزم من المستشرقين المنهجية وعدم جرح مشاعر المسلمين ـ كما ادعى «واط» في مقدمة كتاب «محمد في مكة» ـ فإنه سرعان ما يتخلى عن منهجيته وأمانته ، فمهما «كان المستشرق ملتزما بقواعد البحث

__________________

١ ـ Themuslemmind نقلا عن : د. عبد الجليل شلبى : ر د مفتريات .. ص ١٠٤ مصدر سابق.

٢ ـ د. مصطفي السباعى : الاستشراق والمستشرقون ص ٥١ مصدر سابق.

٣ ـ د. عبد اللطيف الطيباوى : المستشرقون الناطقون بالانجليزية ص ١٦٧ ـ ١٧٤.


التاريخى وأصوله فإنه من خلال رؤيته التاريخية ، وتغربه يمارس نوعا من التكسير والتجريح في كيان السيرة ونسيجها ، فيصدم الحس الدينى ، ويرتطم بالبداهات الثابتة ... وهو من خلال منظوريه : العقلى والوضعى يسعى إلى فصل الروح عن جسد السيرة ويعاملها كما لو كانت حقلا ماديا للتجارب والاستنتاجات وإثبات القدرة على الجدل ..». (١)

وإلى جانب هذا الخط العام للاستشراق ، تبين وجود فئة قليلة أنصفت الإسلام والنبى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جل كلامها وأبحاثها ، وإن كان بدرجة محدودة نظرا للخلفية الفكرية والثقافية والاجتماعية الضاغطة عليهم.

وقد صدرت أصوات إسلامية تحذيرية حتى لا يخدعنا الأسلوب الحديث للمستشرقين في تناولهم للإسلام.

«فالمفكرون المسلمون يعرفون جميعا أنه في العقدين الأخيرين قد تراجع الاستشراق عن أسلوبه القديم المباشر واستعمل أسلوبا أشد مكرا ، وأسوأ سبيلا ، وهو محاولة الدخول في الموضوعات من باب التقدير والمدح حتى يخدع القارئ ويكسب ثقته ، ثم لا يلبث بعد ذلك أن يثير شبهات خفيفة متتالية في إطار هذا التقدير العام الكاذب ، وقد تنبه كثير من الباحثين المسلمين اليقظين ، وأشاروا إلى خطورته وحذروا من الانخداع له» (٢)

ونسوق مقالا واحدا على هذا الخداع الذى حذر منه علماء المسلمين : جوستاف قرونبوم : «VonGrunebaum» يتحدث عن قبول العرب للدين الإسلامى فيقول :

١ ـ إن نظامه الدينى من أشد النظم والديانات إحكاما وأعظمها توافقا وتماسكا.

٢ ـ كان هذا النظام ينطوى على أجوبة مقنعة للمسائل الى كانت تشغل مواطنيه كما كان يتجاوب وروح العصر.

٣ ـ إنه رفع العالم الناطق بالعربية إلى مستوى العوالم الأخرى ذات الكتب المنزلة (٣)

__________________

١ ـ د. عماد الدين خليل : المستشرقون والسيرة ص ٦ مصدر سابق.

٢ ـ انور الجندى : شبهات التغريب في غزو الفكر الاسلامى ص ٢٩ المكتب الاسلامى / دمشق ، بيروت ١٩٧٨ ، د. محمود حمدى زقزوق : الاستشراق والخلفية الفكرية ... مصدر سابق.

٣ ـ جوستاف قرونبوم : حضارة الاسلام. ترجمة عبد العزيز جاويد ص ٩٨. القاهرة دار مصر للطباعة ١٩٥٦ م.


كلام المستشرق يوحى بالموضوعية والإقرار بالحقيقة فهل استمر والتزم بهذه الموضوعية في طول كتابه وعرضه؟ لننظر إليه يقول ـ بعد هذا الإطراء ـ : «كان الهواء يفوح بالزهد وكان الزهاد يحرمون الخمر ، ويستحبون الاعتدال الجنسى ، وكما حدث في الإسلام بعد ذلك فالراجح أن العناصر المسيحية غلبت اليهودية في تكوين وجهات نظرهم وسننهم ، ولكن العربى الذى كان يبحث عن الصدق لم يكن يعنيه كثيرا ممن يأخذ آراءه الدينية التى يستولى عليها ، ذلك أن حرمانه من كل ميراث قومى أجبره على الأخذ من مختلف العقائد» (١)

ومع أننا رددنا مثل هذه الادعاءات الكاذبة ، الضالة المضلة لأمثال هذا المستشرق ، إلا أننا ننبه : كيف أنه يتسلل برفق ولين ودهاء ، دون ضجيج ، ودون الإعلان عن خبيئة نفسه إلى التشكيك في القرآن الكريم.

إننا نحمد الذى أحسن وأنصف ـ فقد أنصف نفسه واحترم عقله ـ غير أننا لا ينبغى أن نستنيم إلى المديح حتى لا نخدر.

المآخذ علي جل المستشرقين ومناهجهم فيمكن اجمالها في الآتي :

١ ـ انتقاء الضعيف الشاذ من الروايات طالما أنها تحقق أهدافهم ، والإعراض عن الروايات الصحيحة المتواترة.

٢ ـ البعد عن الموضوعية ، والتأسيس على موقف مسبق مثل : «الإسلام لا يمثل منافسا رهيبا فحسب بالنسبة إلى الغرب ، بل إنه يمثل كذلك تحديا متأخرا للمسيحية» (٢) مما يتنافى وما يزعمه المستشرق (بارت) ٣ ـ مثلا ـ من نوايا علمية خالصة.

وتفتقد الموضوعية تماما في تناولهم للإسلام ، أما عند ما يتناولون البوذية والهندوكية وغيرهما يكونون موضوعيين في عرضهم لهذه الديانات (٤)

٣ ـ الرجوع إلى آراء وكتابات مستشرقين قدامى عرف عنهم العداء الشديد والخصام الألد للإسلام والمسلمين ، مما يؤكد التماثل بين الصورة ـ السيئة ـ التى ينظمها المحدثون للإسلام والصورة السيئة التى وضعها القدامى مع ادعاء المحدثين

__________________

١ ـ المصدر السابق ، مصطفي نصر المسلاتى : الاستشراق. السياسى ص ٤٢ مصدر سابق وأيضا : هاملتون جب : دراسة في حضارة الاسلام ، وأيضا : مونتجمرى واط؟ WhatisIslam

٢ ـ ادوارد سعيد : تغطية الاسلام ... ص ٣٦ ترجمة سميرة نعيم خورى بيروت ١٩٨٣ م.

٣ ـ بارت : المرجع السابق ص ١٠.

٤ ـ د. محمود حمدى زقزوق : السابق ص ١٤١.


الموضوعية ، ومعالجة أخطاء القدامى.

ويعترف «سوذرن» بذلك ، فيقول : «... وهكذا فإنه في ضوء العهد القديم الذى جعل فيه المسلمين أعقابا لإسماعيل ـ وجعلهم أعقابا لهاجر الجارية المصرية ـ أمكن فهم أخلاق وسلوك هؤلاء ـ أى المسلمين ويطلق عليهم الرازانيون ـ وما كان (بدا) ـ هو عالم بنصوص الكتاب المقدس في أوائل القرون الوسطى ـ أول من فعل ذلك ، كما لم يكن الأخير ، بيد أن أهمية ما قام به تكمن في أنه أول من أدخل المسلمين في تفسير العهد القديم وصار الآخر بعده بمثابة كليشية يستعمله الجميع في شروح الكتاب المقدس وخارجها» (١)

٤ ـ وبمقتضى ما سبق فإن الزعم بأن الاستشراق المعاصر قد تخلى عن الأفكار القديمة والتى كانت تسيء إلى الاسلام ونبى الإسلام ، غير صحيح ، فمن الواضح أن صورة العصور الوسطى النصرانية للإسلام قد ظلت في جوهرها دون تغيير ، وإنما نفضت عنها الثياب القديمة لأجل أن تضع عليها ثيابا جديدة أقرب إلى العصر ، وتتعدد أمثلة الإصرار على الأفكار العتيقة سواء فيما يتعلق بالقرآن ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو ما يتعلق منطقيا بالعقيدة والشريعة والتاريخ في الإسلام» (٢)

٥ ـ الاضطراب ـ أو قل الفوضى ـ في تطبيق المناهج ، كمحاولاتهم إخضاع ما هو غيب مناهج مادية صرفة ، علما بأنه إذا أخضع الغيب للحس والعقل لا يكون غيبا ولا يكون دينا (٣)

من ناحية أخرى لا يريد المستشرقون أن يستغل المسلمون نفس المقاييس التى استخدموها للتشكيك في الإسلام ، لأنه لو تمكن المسلمون من استغلالها وتطبيقها على عقيدة المستشرقين لاضطر هؤلاء إلى أن يسلموا على الأقل بأن الدين لا يجب أن يخضع لمثل هذه المقاييس.

يقول الدكتور مصطفي السباعى : «... ترى لو استعمل المسلمون معايير النقد العلمى التى يستعملها المستشرقون في نقد القرآن والسنة ، في نقد كتبهم المقدسة ، وعلومهم الموروثة ، ما ذا كان يبقى لهذه الكتب المقدسة والعلوم التاريخية عندهم من

__________________

١ ـ ريتشارد سوزرن : صورة الاسلام في أوربا في القرون الوسطى ص ٥٣ بيروت ١٩٨٤ م.

٢ ـ د. طيباوى : المصدر السابق ص ٣٥.

٣ ـ أنظر : مباحث في المعرفة في الفكر الاسلامى للمؤلف ، د. حسن حنفى : التراث والتجديد ص ٩٠ ١٠١ مصدر سابق.


قوة؟ وما ذا يكون فيها من ثبوت» (١)؟

وأخيرا ، لما ذا يقتصر عملنا على درس ما يكتبه المستشرقون والرد على ما يزعمون؟ لما ذا لا يتخصص منا من يقوم بدراسة تراثهم الدينى والفكرى وعرضه على مناهجهم ليتعرى ، ويظهر ما فيه من خلل ومثالب؟ لا أقصد بالطبع الأعمال الفردية التى تظهر هنا وهناك ، إنما أعنى عملا جماعيا مخططا له تخطيط علمى.

فهل آن لمؤسساتنا : العلمية والثقافية والاجتماعية والسياسية والإعلامية ، ... أن تأخذ المبادأة؟

أما بحثنا هذا فهو بداية لينطلق منها شباب الباحثين منافحين عن ما هم عليه من تفوق ، ذابين عن نبيهم فلا ينال منه عرق ينبض ...

والله ولينا ، وهو نعم المولى ونعم النصير.

المدينة المنورة

٢٩ ربيع الأول ١٤١٤ ه‍ ـ

١٥ سبتمبر ١٩٩٣ م

__________________

١ ـ د السباعى الاستشراق والمستشرقون ص ٦٤ ـ ٦٥ مصدر سابق.



قائمة بالمراجع

أ ـ مراجع القرآن الكريم وتفسيره :

* المصحف.

١ ـ ابن كثير. : تفسير القرآن العظيم. ط. الشعب ، الحلبي بمصر

٢ ـ احمد بن منير الاسكندري : الانتصاف بهامش الكشاف للزمخشري. الطبعة الاولى. الشرقية

٣ ـ فخرالدين الرازي. : مفاتيح الغيب الطبعة الثانية طهران

٤ ـ القرطبي. : الجامع لاحكام القرآن. كتاب الشعب. مصر

٥ ـ محمود بن عمر الزمخشري. : الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل الطبعة الاولى. المطبعة الشرقية.

ب ـ مراجع السنة :

٦ ـ ابن حجر العسقلاني. : فتح الباري شرح صحيح البخاري ١٣٧٩ هـ.

٧ ـ ابن كثير. : السيرة النبوية الحلبي بمصر.

٨ ـ ابن هشام. : السيرة النبوية تحقيق محمد محي الدين عبدالحميد. المدني بمصر.

٩ ـ البخاري. : الصحيح طبعة عيس الحلبي مصر

١٠ ـ القسطلاني. : إرشاد السارى لشرح صحيح البخاري. مصر ١٣٠٤ هـ.

١١ ـ مسلم. : الصحيح بشرح النووي. دار الفكر بيروت.

ج ـ المراجع العربية :

١٢ ـ ابراهيم بيومي مدكور (الدكتور) : في الفلسفة الاسلامية منهج وتطبيقه. دار المعارف ط ٣.

١٣ ـ ابراهيم خليل احمد (الدكتور) : محمد في التوراة والانجيل والقرآن. دار المنار. مصر ١٤٠٩ هـ ١٩٨٩.

١٤ ـ ابراهيم اللبان : المستشرقون والاسلام. القاهرة ١٩٧٠ م.

١٥ ـ ابن تيمية : الرد على المنطقيين ط لاهور ١٣٩٦ هـ ـ ١٩٧٦ م.


: نقض المنطق. مكتبة السنة المحمدية بمصر.

: النبوات. القاهرة ١٣٨٦ هـ

: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (٤ أجزاء) مطابع المجد التجارية العقيدة الوسطية. شرح وتعليق د. محمد خليل هراس. ط ٤ من مطبوعات الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة.

١٦ ـ ابن حزم : الفصل في الملل والنحل. مكتبة السلام (ب. ت).

١٧ ـ ابن خلدون : المقدمة. كتاب الشعب. دار القلم بيروت ١٩٨٤ م.

١٨ ـ ابن سعد. : الطبقات. طبعة بيروت.

١٩ ـ ابن القيم : مدارج السالكين. دار الكتاب العربي. بيروت ١٣٩٢ هـ.

: مختصر الصواعق المرسلة مكتبة المتنبي (ب. ت).

٢١ ـ ابن منظور. : لسان العرب دار المعارف بمصر ١٩٨٢ م.

٢٢ ـ ابن الهيثم (الحسن) : مقال الشكوك على بطليموس. تحقيق د. عبدالحميد صبرة. القاهرة ١٩٧١ ٢٣.

٢٣ ـ ابوبكر الجزائري. : هذا الحبيب (محمد صلى الله عليه وآله). مكتبة لينة بدمنهور / مصر ١٤٠٨ هـ ـ ١٩٨٨ م.

٢٤ ـ ابوالحسن الندوي. : الاسلام والمستشرقون. ط ندوة العلماء لكنهو. الهند (ب. ت).

٢٥ ـ د. أحمد سمايلوفتش (الدكتور) : فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر دارالمعارف بمصر ١٩٨٠ م.

٢٦ ـ أحمد الشرباصي. : التصوف عند المستشرقيين. القاهرة ١٩٦٦

٢٧ ـ أحمد شلبي (د). : مقارنة الاديان : المسيحية.

٢٨ ـ أحمد عبدالرحيم السائح (الدكتور) : العلاقة بين الاستشراق والتبشير (الكتاب الدوري لقسم الاستشراق بكلية دعوة بالمدينة المنورة. العدد الاول ١٤١٣ هـ ـ ١٩٩٣).

٢٩ ـ أنور الجندي : شبهات التغريب في غزو الفكر الاسلامي المكتب الاسلامي دمشق / بيروت ١٩٧٨ م.

٣٠ ـ الاسفراييني (ابوالمظفر عماد الدين). : التبصير في الدين ١٣٥٩ هـ.


٣١ ـ الإيجي (عبدالرحمن) : شرح المواقف. المطبعة العامرة ١٢٩٢ هـ.

٣٢ ـ الباقلانی : إعجاز القرآن. بهامش الاتقان في علوم القرآن للسيوطي ط ٣ الحلبي مصر.

٣٣ ـ البغدادي : أصول الدين. الخانجي بمصر ١٣٤٦ هـ.

٣٤ ـ البيهقي : دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة ط أولى. دار النصر بالقاهرة.

٣٥ ـ الجرجاني : الرسالة الشافية تحقيق د. زغلول سلام ، د. محمد خلف الله دار المعارف بمصر.

٣٦ ـ جواد علي (الدكتور) : تاريخ العرب في الاسلام. بيروت ١٩٨٣ م.

٣٧ ـ الجويني. : الارشاد الى قواطع الادلة. تحقيق د. محمد يوسف موسى مطبعة السعادة بمصر ١٩٥٠ م.

٣٨ ـ حسن حنفى (الدكتور) : مقدمة في علم الاستغراب. الدار الفنية ١٩٩١ م.

٣٩ ـ : التراث والتجديد. مكتبة الجديد.

٤٠ ـ : دراسات اسلامية دار التنوير ١٩٨٨ م.

٤١ ـ حسين الهراوي. : المستشرقون والاسلام. مطبعة المنار ١٩٣٦.

٤٢ ـ الحكيم السموءل : بذل الجهود في افحام اليهود. تحقيق د. عبدالوهاب الطويلة الدار الشامية بيروت.

٤٣ ـ الدهلوي. : حجة الله البالغة. دارالتراث القاهرة.

٤٤ ـ الرازي (فخرالدين) : أصول الدين. دارالكتاب العربي القاهرة.

: محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين دار الكتاب العربي ١٩٨٤ م.

: مناظرة في الرد على النصارى. تحقيق عبدالمجيد النجار. بيروت ١٩٨٦.

٤٥ ـ رحمة الله الهندي. : اظهار الحق.

٤٦ ـ الرماني : النكت في اعجاز القرآن. تحقيق د. زغلول سلام ، د، محمد خلف الله دارالمعارف بمصر.


٤٧ ـ رشيد رضا : الوحي المحمدي. القاهرة ١٣٨٠ هـ ١٣٦٠ هـ.

٤٨ ـ زكريا هاشم : المستشرقون والاسلام. المجلس الاعلى للشئون الاسلامية ١٩٦٥.

٤٩ ـ ساس سالم الحاج (الدكتور) : الظاهرة الاستشراقية مالطا ١٩٩١ م.

٥٠ ـ سيد قطب. : التصوير الفني في القرآن دارالمعارف بمصر ١٩٦٦ م.

٥١ ـ السيوطي. : الاتقان في علوم القرآن ط ٣ الحلبي بمصر.

٥٢ ـ الشاطبي. : الاعتصام. الاسكندرية (ب. ت).

٥٣ ـ الشهرستاني. : الملل والنحل بهامش الفصل لابن حزم ١٩٦٨ م.

٥٤ ـ الطبري. : تاريخ الطبري تحقيق محمد ابوالفضل ابراهيم ط ٤ دار المعارف.

٥٥ ـ د. طه حسين. : في الأدب الجاهلي. القاهرة ١٩٥٨ م.

٥٦ ـ د. عائشة عبدالرحمن. : تراثنا بين ماض وحاضر. ط معهد البحوث والدراسات العربية القاهرة. ١٩٦٨ م.

٥٧ ـ عباس محمود العقاد : مطلع النور سلسلة كتاب الشهر بمصر ديسمبر ١٩٦٨ م.

٥٨ ـ عبدالجليل شلبي (الدكتور) : الاسلام والمستشرقون. دارالشعب القاهرة.

٥٩ ـ عبدالجليل شلبي (الدكتور) : رد مفتريات على الاسلام. دارالقلم الكويت ١٤٠٢ هـ ١٩٨٢ م.

٦٠ ـ عبدالحليم محمود (الدكتور). : التفكير الفلسفي في الاسلام ط ٣ ـ ١٩٦٨ م.

٦١ ـ عبدالحميد غراب (الدكتور) : رؤية اسلامية للاستشراق ١٤٠٨ هـ.

٦٢ ـ عبدالرحمن آل الشيخ : فتح المجيد شرح كتاب التوحيد. دار الفكر بيروت ١٤٠٩ هـ ١٩٨٩.

٦٣ ـ عبدالرحمن بدوي (الدكتور) : موسوعة المستشرقين. دارالعلم للملايين بيروت ١٩٨٩ م.

٦٤ ـ عبدالعظيم الديب (الدكتور) : المستشرقون والتراث البحرين ١٤٠٦ هـ ـ ١٩٨٦ م.

٦٥ ـ عبدالعظيم المطعني (الدكتور) : الاسلام في مواجهة الاستشراق العالمي دار الوفاء بمصر ١٤٠٧ هـ ١٩٨٧ م.

٦٦ ـ عدنان وزان (الدكتور) : الاستشراق والمستشرقون ط. رابطة العالم الاسلامي (مكة المكرمة) ط ١٤٠٤ هـ.

٦٧ ـ عبداللطيف السكر : الوحي الى الرسول صلى الله عليه وآله.


: المجلس الأعلى للشئون الاسلامية القاهرة.

٦٨ ـ عبداللطيف الطيباوي : المستشرقون الناطقون بالانجليزية. ترجمة د قاسم السامرائي. مطبعة جامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية ١٤١١ هـ ١٩٩١ م.

٦٩ ـ عبدالوهاب النجار : قصص الانبياء ١٣٢٧ هـ ١٩٥٣ م.

٧٠ ـ على حسني الخربوطي (الدكتور) : المستشرقون والتاريخ الهيئة المصرية العامة للكتاب ١٩٨٨ م.

٧١ ـ عماد الدين خليل (الدكتور) : المستشرقون والسيرة. دار الثقافة الدوحة ١٤١٠ هـ ١٩٨٩ م.

٧٢ ـ الغزالي (الإمام) : الإقتصاد في الاعتقاد. بيروت ١٩٨٦ م.

٧٣ ـ المارودي. : أعلام النبوة مطبعة التمدن بمصر ١٣٣٠ هـ.

٧٤ ـ محمد البهى (الدكتور) : الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي مكتبة وهبة ط ١٠.

٧٥ ـ محمد عابد الجبري (الدكتور) : الرؤية الاستشراقية في الفلسفة الاسلامية (كتاب مناهج المستشرقين مكتب التربية العربي لدول الخليج).

٧٦ ـ محمد عبدالله دراز (الدكتور) : مدخل الى القرآن الكريم. دار القلم الكويت ١٣٩٤ هـ ١٩٧٤ م.

٧٧ ـ محمد عبدالله الميروفي : تحفة الاديب في الرد على أهل الصليب. تحقيق عمرو الداعوق. بيروت ١٤٠٨ هـ ١٩٨٨ م.

٧٨ ـ محمد عبده : رسالة التوحيد ط دار الشعب.

٧٩ ـ محمد الغزالي : دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين

٨٠ ـ محمد كرد علي : الاسلام والحضارة الغربية ١٩٣٣ م.

٨١ ـ محمد ناصر الالباني : نصب المجانيق لنسف قصة العرانيق المكتب الاسلامي دمشق ط ٢.


٨٢ ـ محمود حمدى زقزوق (الدكتور) : المستشرقون والخليفة الفكرية للصراع الحضاري. دارالمنار. القاهرة ١٤٠٩ هـ ١٩٨٩ م.

: الاسلام في الفكر الغربي. دارالقلم بيروت ١٤٠١ هـ ١٩٨١ م.

٨٣ ـ محي الدين الألوائي : النبوة المحمدية ومفتريات المستشرقين. ط ١٤٠٠ هـ ١٩٨١ م.

٨٤ ـ مصطفى السباعي : الاستشراق والمستشرقون. دمشق ١٣٩٩ هـ ١٩٧٩ م.

٨٥ ـ مصطفى السباعي : السنة ومكانتها في التشريع. بيروت ١٣٩٨ هـ ـ ١٩٧٨ م.

٨٦ ـ مصطفى نصر السلاموني : الاستشراق السياسي. ليبيا ١٣٩٦ هـ ١٩٨٦ م.

٨٧ ـ نجيب العقيقي. : المستشرقون (٣ أجزاء).

٨٨ ـ نظمي لوقا (الدكتور) : محمد الرسالة والرسول ط ١٩٥٩.

٨٩ ـ وحيد الدين خان : ـ الدين في مواجهة العلم. القاهرة ١٩٧٨ م.

د : مراجع مترجمة :

٩٠ ـ إدوارد سعيد. : الاستشراق (المعرفة ـ السلطة ـ الانشاء). تعريب كمال ابو ديب. مؤسسة الابحاث العملية.

٩١ ـ : تغطية الاسلام. ترجمة سميره نعيم خورى بيروت ١٩٨٣ م.

٩٢ ـ باول كراوس. : من تاريخ الالحاد في الاسلام. ترجمة د. عبدالرحمن بدوى. النهضة المصرية ١٩٤٥ م.

٩٣ ـ توماس كارليل. : الابطال. ترجمة محمود السباعي الدار القومية القاهرة (ب. ت).

٩٤ ـ جان بول رو. : الاسلام في الغرب. تعريب نجده هاجر بيروت لبنان ١٩٦٠ م.

٩٥ ـ جوستاف قرونبوم. : حضارة الاسلام ترجمة عبدالعزيز جاويد دار مصر


للطباعة ١٩٥٦

٩٦ ـ جوستاف لوبون : حضارة العرب.

٩٧ ـ جولد تسهير : العقيدة والشريعة في الاسلام ترجمة د محمد يوسف موسى وأخرون. دار الكتب الحديثة بمصر طبعة ٢ : دراسات محمدية. ترجمة الصديق بشير نصر.

٩٨ ـ دي بور. : تاريخ الفلسفة في الاسلام. ترجمة د. محمد عبدالهادي أبو ريده. لجنة التأليف والترجمة ١٣٥٧ هـ ـ ١٩٣٨ م.

٩٩ ـ رودى بارت : الدراسات العربية والاسلامية في الجامعات الالمانية. ترجمة د. مصطفى ماهر. دار الكتاب العربي بمصر ١٩٦٧ م.

١٠٠ ـ ريتشارد سودرن : صورة الاسلام في أوربا في القرون الوسطى. بيروت ١٩٨٤ م.

١٠١ ـ فرانتز روزنتال : مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي ترجمة د. أنيس فريحة. دار الثقافة بيروت ١٤٠٠ هـ ـ ١٩٨٠ م.

١٠٢ ـ فيليب حتى : تاريخ العرب. دارالعالم العربي القاهرة ١٩٥٣ م.

١٠٣ ـ كايتانى : مقدمة كتاب حوليات الاسلام ترجمة محمد أحمد شلوف. طرابلس ليبيا ١٩٨٨ م (ضمن كتاب من قضايا الفكر الاسلامي كما يراها يعض المستشرقين).

١٠٤ ـ لايتنر. دين الاسلام ترجمة عبدالوهاب سليم المكتبة السلفية دمشق ١٣٤٢ هـ.

١٠٥ ـ مارسيل بوازار : الاسلام اليوم بيروت ١٩٨٦ م.

١٠٦ ـ : انسانية الاسلام ترجمة عفيفى دمشقية دار الاب بيروت ١٩٨٠ م.


١٠٧ ـ مونتجمرى واط : محمد في مكة. تعريب شعبان بركات المكتبة العصرية صيدا. بيروت.

١٠٨ ـ موريس بوكاى : التوراة والانجيل والقرآن والعلم ترجمة حسن خالد المكتب الاسلامي بيروت ١٤١١ هـ ـ ١٩٩٠ م.

١٠٩ ـ : دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة. دار المعارف لبنان ١٩٧٧ م.

١١٠ ـ ناصر الدين دينيه : أشعة خاصة بنور الاسلام ترجمة راشد رستم. المكتب الفني. بيروت ١٩٦٠ م.

١١١ ـ هاملتون جب : وجهة الاسلام ترجمة د. محمد عبدالهادي ابو ريدة مصر الطبعة الاولى.

١١٢ ـ هنرى دى فاسترى : الاسلام خواطر وسوانح ترجمة احمد فتحي زغلول باشا. م. الشعب القاهرة ١٩١١ م.

١١٣ ـ هنرى سيرورى. : فلسفة الفكر الاسلامي ترجمة محمد ابراهيم (سلسلة الثقافة الاسلامية) ع ٣٢ القاهرة ١٩٦١ م.

١١٤ ـ ول ديورانت. : قصة الحضارة. ترجمة محمد بدران لجنة التأليف والترجمة. القاهرة ط ٢.

هـ الدوريات : ـ

١١٥ ـ الكتاب الدورى لقسم الاستشراق. كلية الدعوة بالمدينة المنورة جامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية العدد الاول ١٤١٣ هـ ـ ١٩٩٣ م.

١١٦ ـ مجلة الزهراء ... عدد ربيع الاول ١٣٤٧ هـ القاهرة.

١١٧ ـ مجلة الفتح. السنة الخامسة. عدد جمادي الآخرة رقم ٢٢٢. ليبيا.

١١٨ ـ مجلة كلية أصول الدين. جامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية العدد الاول ١٣٩٧ هـ ـ ١٣٩٨ هـ

١١٩ ـ مجلة الهلال المصرية العدد الثالث ١٩٣٣ م


ه ـ المراجعة الاجنبية

١ – Carlyc : Man the unknown (١٩٦١)

٢ – Granebaum, G.E: Islam: essays in the nature and grouth of cultural tradition, London, (١٩٦١).

٣ – Hasting James, dictionary of the Bible, (New York, ١٩٦٣)

٤ – Watt. M. :the Islamic Revolution hn the modern world (١٩٦٩)

٥ – Islam and Integation society (London) (١٩٦١)

٦ – Muhammed – proght and states man (New York ١٩٧٨)

* * *



فهرس بالموضوعات

الإهداء :.................................................................... ٥

المقدمة :..................................................................... ٦

الفصل الأول

مباحث تمهيدية :

الاستشراق : المفهوم........................................................ ١٣

: الاهداف............................................................... ١٩

: المنهج.................................................................. ٢٨

الفصل الثاني

الوحي :................................................................... ٤٥

: الوحي في اللغة والاصطلاح.

: حقيقة الوحي.

: مراتب الوحي ووسائله.

: الوحي إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله.

: بدايات الوحي.

: مظاهر الوحي وكيف كان يجيء.

الفصل الثالث

دلالة المعجزات على النبوات :............................................... ٥٣

الفصل الرابع

كيفية الاستدلال على نبوة محمد (صلّى الله عليه وآله) :......................... ٦١

المبحث الاول : إدعاؤه النبوة وإظهار ذلك ، شأنه شأن إخوانه من الانبياء السابقين ٦٤

المبحث الثاني : ظهور المعجزات على يديه..................................... ٦٦

المبحث الثالث : أحواله قبل النبوة وبعدها وأخلاقه وأوصافه ، شهادة هرقل...... ٨٨

المبحث الرابع : إخبار الانبياء المتقدمين عليه بشهادات العهدين القديم والجديد... ٩٢


الفصل الخامس

شبهات المستشرقين حول الوحي إلى محمد صلّى الله عليه وآله وتفنيدها.......... ١٠٧

* تقديم :

المبحث الاول : إنكار أمية الرسول صلّى الله عليه وآله....................... ١١١

المبحث الثاني : الأخذ عن ورقة............................................ ١١٧

المبحث الثالث : الوحي النفسي............................................ ١٢٣

المبحث الرابع : رد القرآن إلى أصول : يهودية ونصرانية...................... ١٤٥

: ماذا أخذ محمد (صلّى الله عليه وآله) ـ منهما؟............................... ١٤٨

: مظاهر اللمسات البشرية في إعداد التوراة والانجيل بشهادة بعض علماء النصارى

: توحيد القرآن وتوحيد التوراة ـ بين القصص ـ القرآني والقصص التوراتي

: مقارنة بين عقائد المسيحيين حالياً وعقائد الوثنيين من البراهمة الهنود........... ١٦٤

: مقارنة بين ما يقوله عباد الوثنية في بوذا ابن الله وبين ما يقوله النصارى المسيحيون في يسوع المسيح ابن الله      ١٦٧

الخاتمة :.................................................................. ١٦٩

فهرس بالمصادر والمراجع :................................................. ١٧٧

فهرس بالموضوعات :...................................................... ١٨٧

الوحي القرآنى في المنظور الاستشراقى ونقده

المؤلف:
الصفحات: 188