
القسم الثاني
في الأصول المبتنية على العمل
وقد سبق في
التمهيد لمباحث علم الأصول أن المراد بها الكبريات المبتنية على العمل والناظرة
إليه لابتنائها على التعذير والتنجيز وتحديد مواردهما. وهي مباحث الحجج والأصول
العملية ، في مقابل القسم الأول المبحوث فيه عن مدركات واقعية لا تتضمن العمل
بنفسها ، وإنما يترتب عليها لخصوصية موضوعها أو بضميمة أمر خارج عنها.
تمهيد
لا يخفى أن من
التفت لحكم شرعي إما أن يحصل له القطع فيه وجودا أو عدما أو لا ، وعلى الثاني فإما
أن تقوم عنده الحجة المعتبرة ـ عقلا أو شرعا ـ عليه أو لا. ولا إشكال في وجوب
متابعة القطع في الصورة الأولى ، ومتابعة الحجة في الثانية. وأما في الثالثة فإن
دل دليل شرعي أو عقلي على وجوب الفحص عن الحكم من أجل حصول العلم به أو تحصيل
الحجة عليه تعين ، وإن لم يجب الفحص ـ ولو لاستكماله ـ تعين الرجوع للوظيفة
العملية الشرعية أو العقلية ، وهي المعبر عنها بالأصل في مصطلحهم.
من دون فرق في
ذلك بين الحكم الإلزامي ـ المعبر عنه بالتكليف ـ وغيره ، ولا بين كون منشأ الشك
الشك في تحقق الشروط العامة للتكليف
وغيره ، ولا بين كون الشاك هو المجتهد وغيره ، ولا بين رجوع الشك للشبهة
الحكمية ورجوعه للشبهة الموضوعية. وما قد يظهر من بعضهم من قصر موضوع القضية ببعض
الأقسام في غير محله ، بعد عمومها وبداهتها في نفسها عقلا.
نعم لما كان
الغرض من علم الأصول هو استنباط الأحكام الفرعية عن أدلتها التفصيلية اختص موضوعه
بشك الواجد لملكة الاجتهاد من جهة الشبهة الحكمية. إلا أن ذلك لا يقتضي تخصيص
القضية المذكورة بعد عمومها في نفسها وسوقها في المقام للإشارة الإجمالية لمباحث
هذا القسم.
هذا وحيث كانت
الكبرى المذكورة بديهية ـ لما سيأتي من بداهة متابعة القطع ، وكذا الحجة والأصل في
موردها ، لأنه مقتضى جعلهما ـ فالمهم تشخيص موضوعها وصغرياتها.
لكن لا مجال
لضبط موارد القطع بالحكم ، لأنه أمر تكويني تابع لأسبابه التكوينية غير المنضبطة.
نعم تقدم في مباحث الملازمات العقلية الكلام في تحققه في موارد التحسين والتقبيح
العقليين ، إلا أنه لا يستوفي موارده.
ومن ثم لا مجال
للكلام فيه هنا ، بل يختص الكلام في المقام بتشخيص الحجج والأصول العملية وتحديد
مفادها ومواردها ، ليرجع إليها مع عدم القطع ، لأنها حيث كانت تابعة لجعل الشارع
وحكم العقل تيسر ضبطها في الجملة بالنظر في أدلتها.
كما أنه حيث
كان كل من الحجج والأصول قد تتعارض تبعا لعموم أدلتها بدوا تعين الكلام في تحديد
موارد التعارض وأحكامه ، وكان البحث عنه في جملة مقاصد هذا القسم ، ولا وجه لجعله
خاتمة للبحث في هذا القسم بعد كونه كسائر مباحثه مما يتوقف عليه الاستنباط وتقع
كبريات مسائله مقدمة له ،
بل يتعين كونه من المباحث الأصلية فيه.
كما لا وجه
لجعله من جملة مباحث الحجج بعد عموم جملة من مباحثه للأصول ، بل يتعين البحث فيه
مستقلا عنهما.
ومن هنا كانت
مقاصد هذا القسم ثلاثة :
الأول : في الحجج.
الثاني : في الأصول.
الثالث
: في التعارض.
ومن المناسب
التعرض ـ تبعا لغير واحد ـ لبعض المباحث المتعلقة بالقطع ، والتي قد تجري في غيره
من الحجج والأصول من غير حيثية تشخيص صغرياتهما. حيث لا تخلو من فائدة تناسب
المقام ، وتكون مقدمة للمقاصد الأصلية في هذا القسم. ومنه سبحانه نستمد العون
والتوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.
مقدمة
في القطع
وفيها فصول ..
الفصل الأول
في حجية القطع
والمراد
بالحجية .. تارة : محض لزوم المتابعة في مقام العمل.
وأخرى : ما يناسب المنجزية المستتبعة لاستحقاق العقاب
بالمخالفة ، والمعذرية المستتبعة للأمان منه مع الموافقة ولو مع الخطأ وعدم الوصول
للواقع. ويظهر من بعض كلماتهم في المقام التلازم بين الأمرين أو الخلط بينهما ،
وإن صرحوا بعدم التلازم بينهما في غير المقام ، بل أشار بعضهم إلى ذلك في المقام.
ومن هنا ينبغي
الكلام في مقامين :
المقام الأول : في متابعة القطع
ولا إشكال
بينهم في لزومها وإن اختلفوا في تقريبه. ولعل الأولى أن يقال : بعد فرض كون الواقع
الذي يتعلق به القطع موردا لعمل المكلف ـ إلزاما كان أو غيره ـ فمن البديهي أنه
ليس علة تامة للعمل ، لأن العمل أمر اختياري ، والاختيار موقوف على الالتفات
للجهات المناسبة له من الدواعي وغيرها. ومع الالتفات للواقع ووصوله لا بد من ترتب
العمل المناسب له ، إذ ليس وراء
الوصول شيء ، وحيث كان القطع بنفسه وصولا للواقع تعين متابعته ، لتحقق شرط
العمل به. ومن هنا كانت متابعته من لوازم ذاته تكوينا ، ولا تحتاج لجعل من الشارع
، بل يكون الجعل لغوا ، لعدم استناد العمل له ، كما لا تحتاج إلى حكم العقل زائدا
على مقتضى الذات ، لأن حكم العقل إنما يتجه مع إمكان التخلف ، لا مع لزومه تكوينا.
وهذا بخلاف
غيره من الطرق ، فإنها لما لم تكن بنفسها وصولا للواقع ولا موصلة له ـ لاحتمال
الخطأ فيها ـ توقف وجوب متابعتها على أمر خارج عنها من حكم عقلي أو شرعي.
كما لا مجال
للردع عن متابعة القطع ، إذ عدم متابعته إن كان لعدم كون الواقع موردا للعمل فهو
خارج عن محل الكلام ، لفرض عدم تصرف الشارع في الحكم المعلوم برفعه أو نسخه أو
تقييده بحال خاص غير متحقق مع القطع.
وإن كان لعدم
كونه وصولا للواقع فهو مخالف لمقتضى ذات القطع ، لأن القطع عين الوصول للواقع ـ ولو
بنظر القاطع ـ وبه قوام ذاته. وإن كان لاعتبار أمر آخر في فعلية العمل بالواقع
زائدا على وصوله فهو خلاف مقتضى فطرة الإنسان ، بل كل ذي شعور ، حيث لا يحتاج في
فعلية العمل بالواقع إلى أكثر من وصوله. ولو فرض منه عدم ترتيب الأثر عليه بوصوله
فليس هو لعدم كفاية الوصول بنظره في فعلية العمل ، بل لقصور الواقع الواصل عن مقام
العمل ، إما لعدم كونه مقتضيا له بنظره ، أو لكونه مزاحما بما يمنع من تأثيره من
شهوة أو غضب أو غيرهما.
ومن ثم تكون
المخالفة ارتكازا ـ كالموافقة ـ مع العلم للواقع المعلوم ، لا للعلم بنفسه ، بل لا
يلتفت للعلم في مقام الموافقة أو المخالفة ، ويكون مغفولا عنه حينها ، بخلاف غيره
من الطرق ، فإنها ملحوظة في مقام الموافقة في طول الواقع ، كما أن المخالفة معها
تكون .. تارة : مخالفة للواقع الذي قامت عليه ،
وأخرى
: مخالفة
للطريق نفسه ، مع كون الواقع كافيا في العمل لو وصل بطريق آخر.
وبذلك يظهر أن
لزوم متابعة القطع إنما هو بمعنى لا بديتها تكوينا في ظرف كون الواقع موردا للعمل
عند القاطع ، لا بمعنى وجوبها شرعا أو عقلا ، كما في الطرق ، وأن التخلف عنه إنما
هو لعدم كون الواقع موردا للعمل عنده ولو لمزاحمته بجهات أخرى شهوية أو غضبية أو
غيرهما.
كما ظهر أن
إطلاق الطريق على القطع ـ كما في بعض كلماتهم ـ لا يخلو عن تسامح أو إشكال ، لأن
الطريق هو الأمر الموصل للواقع ، والقطع بنفسه وصول له. نعم قد يكون سبب القطع
طريقا للواقع كالخبر المتواتر.
كما لا مجال
لإطلاق الحجة على القطع ، لأن الحجة هي الأمر الذي يعتمد عليه في مقام العمل
لإثبات متعلقه والبناء عليه ، والقطع عبارة عن ثبوت الواقع ووصوله ، لا أنه مثبت
للواقع وموصل له ، بل لا يكون ملحوظا في مقام العمل ولا ملتفتا إليه ، كما سبق.
إلا أن يراد بالحجة ما يناسب المنجزية والمعذرية ، التي يأتي الكلام فيها في
المقام الثاني إن شاء الله تعالى.
بقي في المقام أمور ..
الأول
: استدل غير
واحد تبعا لشيخنا الأعظم قدسسره على لزوم متابعة القطع وامتناع ردع الشارع عنه بأن
الردع مستلزم للتناقض في الواقع أو في نظر القاطع ، لأن المكلف إذا قطع بحرمة شيء فنهي
الشارع له عن العمل بقطعه وترخيصه في ارتكابه موجب للتناقض ولو في نظره بين الواقع
المقطوع به والترخيص الشرعي المذكور.
وفيه : أولا : أن بطلان التناقض لم يبلغ إلا مرتبة القطع ،
فالاستدلال به موقوف على امتناع الردع عن حجية القطع ـ وإلا أمكن الردع عن القطع الحاصل
به ـ فكيف يمكن الاستدلال به على امتناع الردع عنه.
وثانيا : أن الردع عن العمل بالقطع ـ كالردع عن العمل بالظن ـ لا
يرجع إلى الترخيص على خلاف الواقع المقطوع به ، بل إلى مجرد عدم حجيته ، وهو لا
يناقض الواقع بوجه. نعم قد يستفاد الترخيص من الطرق والأصول الشرعية التي تجري مع
عدم الحجة ، وكما أمكن جمع مفادها مع الواقع المظنون أو المحتمل على ما يأتي في
مبحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري أمكن جمعه مع الواقع المقطوع به ، إلا مع
المفروغية عن حجية القطع وامتناع الردع عنه التي يستغنى معها عن الاستدلال المذكور.
الثاني : أن هذه المسألة خارجة عن المسائل الأصولية ، لأن
المعيار في المسألة الأصولية وقوعها في طريق استنباط الحكم الشرعي الفرعي ، لكونها
إحدى مقدمات القياس المنتج له ، والقطع بنفسه وصول للحكم لا مقدمة للوصول إليه ،
فهو عبارة عن العلم بالنتيجة المغني عن تكلف القياس المنتج لها ، والحكم معه
كالحكم بعد الاستنباط.
الثالث : أن موضوع الحسن والقبح الفعليين هو الواقع المقطوع به
، لأنه موضوع الآثار والملاكات والأغراض المستتبعة للحسن والقبح ، ولذا لا يكون
القطع الطريقي ـ الذي هو محل الكلام ـ مأخوذا في موضوع الكبريات العقلية والشرعية
، بل موضوعها الواقع بنفسه ، وليس القطع إلا محققا لشرط العمل التابع للاختيار ،
فهو محقق لشرط العمل بالنتيجة لا شرط في موضوع الكبرى.
نعم حيث كان
الحسن والقبح الفاعليان تابعين للاختيار الذي هو المعيار في المدح والذم وكان
الاختيار تابعا للقطع كان القطع دخيلا فيهما ، مطلقا وإن كان خطأ وجهلا مركبا ، من
دون أن يكون دخيلا في الحسن والقبح الفعليين ، وإن أوهمت ذلك كلمات بعضهم.
المقام الثاني : في منجزية القطع ومعذريته
ولا إشكال
عندهم في ثبوتهما للقطع في الجملة. وإن كان الظاهر أن المعيار فيهما أمر آخر قد
يجتمع مع القطع ، فمعيار المعذرية قصور الواقع عن الداعوية عقلا إما للغفلة
المطلقة عنه لا عن تقصير ، أو للقطع بخلافه كذلك ، أو لوجود المؤمّن منه من دليل
معتبر أو أصل ، لامتناع داعويته في الصورتين الأوليين ، لتوقف داعوية الداعي على
الالتفات له المفقود فيهما ، وفي الثالثة وإن أمكنت داعويته بسبب الالتفات إليه
إجمالا ، إلا أن وجود المؤمّن منه مسقط له عن فعلية الداعوية عقلا.
أما المنجزية
فالمعيار فيها بلوغه مرتبة الداعوية ، إما مع فعليتها بسبب القطع به أو قيام
الدليل أو الأصل المعتبر عليه ، أو بدونها للغفلة المطلقة عنه أو القطع بعدمه عن
تقصير ، لأن عدم فعلية داعويته حينئذ ـ لعدم الاحتمال الذي هو شرط في داعوية
الداعي ـ لما كان مسببا عن تقصير المكلف فهو لا ينافي بلوغه مرتبة الداعوية عقلا.
ولا سيما مع كون التقصير مستلزما للالتفات إليه إجمالا ، لأنه إنما يكون مع الالتفات
إلى وجود أحكام في الشريعة يجب الخروج عنها ، ومثل هذا الالتفات كاف في التنجيز
بعد عدم المؤمّن بسبب التقصير.
وبذلك يظهر
ملازمة القطع بالواقع لتنجزه ، وعدم معذرية القطع بخلاف الواقع مع التقصير.
الفصل الثاني
في التجري
وقع الكلام في
استحقاق العقاب بمخالفة التكليف المقطوع به مع خطأ القطع واقعا وكونه جهلا مركبا
وهو المعروف عندهم بالتجري. وكلمات شيخنا الأعظم قدسسره مضطربة في تحديد محل النزاع ، وما يستفاد من مجموع
كلماتهم أن النزاع .. تارة : في ثبوت التكليف واقعا في مورد القطع المذكور ، بحيث
يكون مخالفته معصية حقيقية.
وأخرى
: في حرمة
التجري شرعا ، وهو نفس القصد للمعصية في ظرف الجري عليه بفعل ما يعتقد كونه معصية
، وإن لم يكن الفعل بنفسه محرما ، لفرض خطأ القطع.
وثالثة
: في استحقاق
العقاب بالتجري المذكور وإن لم يكن معه معصية حقيقية ، لكون موضوع استحقاق العقاب
عقلا أعم منه ومن المعصية الحقيقية ، ولا يختص بالمعصية.
فالكلام في
مقامات ثلاثة.
المقام الأول
في ثبوت التكليف واقعا في مورد القطع المذكور ، ولو بعنوان ثانوي
وقد يقرب بوجوه
..
الأول : أن موضوع التكاليف الواقعية في ظاهر الأدلة بدوا وإن
كان هو العناوين الواقعية ـ كالخمر والكذب ـ إلا أنه لا بد من صرفه إلى ما يعتقد
المكلف
بانطباق العناوين عليه وإن كان خطأ ، حيث لا بد من تعلق التكليف بما هو
مقدور للمكلف بنحو يقتضي تحرك الاختيار والإرادة نحوه ، فالمطلوب الحقيقي للمولى
هو اختيار المكلف وإرادته للفعل.
وحيث كان تمام
الموضوع للإرادة والاختيار هو الصور الذهنية لزم صرف التكليف بالعناوين الواقعية
إلى التكليف بالاختيار المتعلق بالصور الذهنية الحاصلة مع القطع ، فمرجع التكليف
بحرمة الخمر ووجوب الصلاة مثلا إلى التكليف باختيار ترك ما يقطع بكونه خمرا ،
وباختيار فعل ما يقطع بكونه صلاة مثلا ، سواء كان القطع صوابا أم خطأ.
وفيه
أولا : أنه مختص
بما إذا كان الخطأ في الموضوع ذي الحكم الثابت ، كالأمثلة المتقدمة ، دون ما إذا
كان في نفس الحكم ، كما لو قطع خطأ بحرمة عصير الزبيب ، حيث لا حكم واقعا ليدعى
عمومه لمورد الخطأ. وأنه يستلزم إجزاء ما يقطع خطأ بأنه من أفراد الواجب ، وترتب
بقية آثار العنوان المقطوع به خطأ ، كالكفارة والحد ونحوهما مما تضمنت الأدلة
ترتبه على موضوع التكليف ... إلى غير ذلك مما لا يمكن البناء عليه.
وثانيا
: أن اعتبار
القدرة في التكليف لا يستلزم كون المكلف به هو إعمال الاختيار ، ليدعى كون موضوع
الاختيار هو الصور الذهنية وإن لم تطابق الواقع ، بل يكفي فيه كون القدرة قيدا في
التكليف مع كون المكلف به هو الواقع ، كما هو ظاهر الأدلة والمناسب لكونه مورد
الأغراض والملاكات. وأما إعمال الاختيار لتحصيل الواقع فهو من شئون امتثال التكليف
بالواقع من دون أن يكون بنفسه موردا للتكليف.
الثاني
: أن القطع
بكون شيء ما معصية يستلزم القبح الفاعلي بفعله ، كما سبق في آخر الفصل السابق ، بل
يأتي أنه يوجب القبح الفعلي ، حيث يكون
الفعل بنفسه تمردا على المولى وانتهاكا لحرمته وخروجا عن مقتضى العبودية له
، والقبح المذكور كاشف عن حرمة الفعل شرعا ، لقاعدة الملازمة بين الحكم العقلي
والحكم الشرعي التي لا إشكال فيها مع كون الفعل علة تامة في القبح ، كما في
المقام.
وفيه
: أن الحسن
والقبح المستلزمين للتكليف شرعا هما التابعان لذات العمل أو للملاكات الثابتة فيه
، دون ما ينشأ من التكليف الشرعي ويترتب عليه بعنوان ثانوي كالطاعة والمعصية
والانقياد والتجري ونحوها مما يتفرع على التكليف ، حيث لا إشكال في عدم استتباعه
التكليف ، وإلا لتسلسل.
الثالث : أنه مقتضى الأدلة الشرعية التعبدية ، حيث ادعي
الإجماع على أن من اعتقد أو ظن ضيق الوقت فأخر الصلاة عصى وإن انكشف سعته ، وعلى
أن من سلك طريقا يقطع أو يظن بترتب الضرر عليه عصى ووجب عليه الاتمام وإن انكشف
عدم الضرر. وفي موثق سماعة : «سألته عن رجلين قاما فنظرا إلى الفجر فقال أحدهما هو
ذا ، وقال الآخر : ما أرى شيئا. قال : فليأكل الذي لم يستبن [يتبين] له الفجر ،
وقد حرم على الذي زعم أنه رأى الفجر ، إن الله عزوجل يقول : (كُلُوا وَاشْرَبُوا
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ
الْفَجْرِ)» ، فإن مقتضى إطلاقه ثبوت الحرمة في حق من زعم أنه رأى
الفجر وإن كان مخطئا.
لكن الجميع ـ مع
اختصاصه بمورده ـ لا ينهض بالمدعى ، لعدم ثبوت الإجماع المذكور بنحو يصلح للحجية ،
ولا سيما مع تصريح العلامة في محكي التذكرة بعدم المعصية بتأخير الصلاة مع ظهور
سعة الوقت ، وعن النهاية والبهائي من التوقف في ذلك ، بل عن الشهيد في محكي قواعده
التنظر في تأثير
__________________
التجري العقاب والذم فضلا عن التحريم الشرعي.
مع قرب كون
مراد المجمعين بالمعصية مجرد التمرد على المولى ، دون المعصية الحقيقية التي هي عبارة
عن مخالفة التكليف الشرعي ، أو ابتناء كلامهم على كون القطع والظن في المقام
موضوعيين لا طريقيين ، فيخرج عن محل الكلام من التجري الذي هو عبارة عن مخالفة
القطع الطريقي مع الخطأ.
وأما الموثق
فالاستدلال فيه بالآية الشريفة موجب لكون المراد به ما يطابقها ، وحينئذ فالتبين
فيها إن كان هو تمام الموضوع الواقعي للحرمة كان القطع موضوعيا ، وكان التحريم في
حق من زعم أنه رأى الفجر واقعيا خارجا عن باب التجري ، وإن كان الموضوع الواقعي هو
طلوع الفجر والتبين طريق منجز له من دون أن يكون دخيلا في الموضوع كان حكمه عليهالسلام بالحرمة في حق من زعم أنه رأى الفجر ظاهريا راجعا إلى
تنجز طلوع الفجر عليه ـ كما هو مفاد الآية الشريفة ـ من دون نظر للحرمة الواقعية ،
ليدل على التحريم واقعا مع خطأ القطع الطريقي الذي هو المعيار في التجري. وهناك
بعض الوجوه غير ما تقدم لا مجال لإطالة الكلام فيها مع ضعفها.
بل ضعف القول
المذكور ارتكازا ـ لعدم مناسبته لفرض الخطأ جدا ـ مغن عن إطالة الكلام فيه لو لا
مجاراة الأعلام في المقام.
المقام الثاني : في كون نفس التجري بما هو أمر نفسي محرما
وربما يظهر من
بعضهم امتناع تحريمه شرعا ، لكونه خارجا عن الاختيار ، لأنه عبارة عن القصد والعزم
، فلو كان تابعا للاختيار لزم التسلسل في الاختيار.
ويشكل بأن
التسلسل إنما يقتضي عدم توقف الاختيار على الاختيار ، ولا ينافي وقوع الاختيار تحت
الاختيار في الجملة ، بحيث يمكن إعمال
الاختيار في فرد منه يكون موردا للتكليف ، ولذا ورد الحث على نية الخير
والردع عن نية الشر .
فالأولى توجيه
عدم وقوعه موردا للتكليف بأن المحرم إن كان هو مطلق العزم على المعصية ولو مع
الإصابة لزم تعدد المعصية في صورة الإصابة ، ولا يظن التزام أحد به ، وإن كان خصوص
العزم الخاطئ فهو بسبب امتناع الالتفات إليه حين وجوده يلغو تحريمه ولا يصلح
للداعوية. ومنه يظهر لزوم حمل ما دل على الحث على نية الخير والردع عن نية الشر
على الإرشاد حتى لو استتبع الثواب والعقاب ، لما يأتي من عدم ملازمتهما للتكليف.
المقام الثالث
في استحقاق العقاب بالتجري مع عدم التكليف المولوي
ومرجعه إلى عدم
اختصاص موضوع الاستحقاق بالمعصية الحقيقية ، بل يعم التجري ، فتكون المسألة عقلية
صرفة ، بخلافها على الوجهين الأولين.
وعن السبزواري
توجيه ذلك بأنه لا فرق بين المعصية الحقيقية والتجري إلا في إصابة الواقع وعدمها ،
ولا يكون ذلك معيارا في استحقاق العقاب ، لخروجه عن الاختيار ، وليس الأمر
الاختياري إلا الإقدام على ما يعتقد كونه معصية ، وهو مشترك بين الأمرين.
ويندفع بأن ذلك
إنما يمنع من كون إصابة الواقع هي العلة التامة في استحقاق العقاب ، ولا يستلزم
كون العلة التامة له هي القصد إلى المعصية ، بل يمكن دعوى : أن المقتضي للاستحقاق
هو الواقع والقصد إلى المعصية شرط له متمم لعلته ، فعدم الاستحقاق مع التجري لعدم
المقتضي له ، لا لكون العلة التامة هي إصابة الواقع الخارجة عن الاختيار.
__________________
نعم الظاهر
قضاء المرتكزات العقلائية بأن المعيار في استحقاق العقاب هو التمرد على المولى
وهتك حرمته ومجاهرته بذلك في مقام العمل ، وهو حاصل مع المعصية الحقيقية والتجري
بنحو واحد ، ولا خصوصية لإصابة الواقع في ذلك ، وهو الحال في جميع الحقوق العقلية
والعرفية ، فإن مقتضاها عدم تعمد الخروج عليها ، بحيث يعدّ المقدم على ذلك مخالفا
لمقتضاها وإن كان مخطئا في تحقق موضوعها ، ويترتب عليه ما يترتب على مخالفها حقيقة
من الذم والمؤاخذة.
ويناسب ذلك ما
تضمن ثبوت العقاب بفعل مقدمات الحرام ، مثل ما تضمن أنه إذا تلاقى المسلمان بالسيف
فالقاتل والمقتول في النار ، معللا دخول المقتول النار بأنه أراد قتل صاحبه ، وما تضمن عقاب غارس الخمر وعاصرها ومعتصرها .
وكذا ما تضمن
أن نية الكافر شر من عمله ، معللا في بعضه بأنه ينوي ويأمل من الشر ما لا يدركه ، و
ما ورد من
تعليل خلود أهل النار فيها بأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا
الله أبدا ، وما ورد من أنه يكتب للكافر في سقمه من العمل السيئ
ما كان يكتب في صحته ، وما ورد من حرمة الرضا بفعل الحرام ومشاركة الراضي
للفاعل في الإثم . فإن ذلك يقتضي بالأولوية العرفية استحقاق المتجري
للعقاب الذي زاد على نية الحرام
__________________
بالقصد لفعله.
ولا ينافيه ما
تضمن أن نية السيئة لا تكتب على العبد حتى يفعل . لظهوره في النية بمعنى العزم السابق للعمل ، لا القصد
المقارن له المناسب للتجري ، وفي التفضل على المؤمن غير المنافي للاستحقاق الذي هو
محل الكلام. وكيف كان فلا معدل عما ذكرنا من قضاء المرتكزات العقلية باستحقاق
العقاب بالتجري.
ولا يهم مع ذلك
الكلام في أن قبحه فاعلي فقط أو فعلي أيضا. وإن كان الظاهر الثاني ، وأن العمل
بنفسه يكون قبيحا بعنوانه الثانوي بلحاظ كونه هتكا لحرمة المولى وخروجا عن مقتضى
العبودية له ، فيكون ظلما له كالمعصية الحقيقية ، كما صرح به بعض الأعيان
المحققين.
إن
قلت : لازم ذلك
مزاحمة القبح المذكور للملاك الواقعي المقتضي للحكم الواقعي في الفعل المتجرى به
إذا كان اقتضائيا منافيا له ، كما لو كان التجري بفعل الواجب أو المستحب الواقعي ،
ومعه يتعين فعلية الأقوى منهما وتساقطهما مع التساوي ، وهو نحو من التصويب. وأيضا
تأكد القبح المذكور بالقبح الواقعي لو لم يكن منافيا له ، كما لو صادف محرما آخر
غير ما قصد. بل تأكد القبح في المعصية الحقيقية ، بخلاف ما لو كان قبح التجري
فاعليا فقط ، فإنه مع تعدد موضوع الحسن والقبح لا مجال للتزاحم والتأكد ، بل يبقى
الحسن أو القبح الواقعي قائما بموضوعه وهو الفعل ، والقبح الناشئ من القصد للمعصية
قائما بموضوعه ، وهو الفاعل.
قلت
: التزاحم
والتأكد بين الجهات المقتضية للحسن والقبح إنما يكونان مع تناسب الآثار التابعة
لها أو تضادها ، كما هو الحال في جهات الحسن والقبح
__________________
الواقعية الثابتة في الأفعال بعناوينها الأولية أو الثانوية ، لأن آثارها
لما كانت هي الأحكام الشرعية العملية ، فمع تناسب الأحكام الناشئة من جهات الحسن
والقبح المجتمعة في الفعل الواحد يلزم التأكد ، ومع تضادها يلزم التزاحم المستتبع للتساقط
أو الترجيح. أما مع عدم التناسب ولا التضاد بين الآثار فلا مجال للتأكد ولا
للتزاحم ، بل تستقل كل جهة بأثرها ، كما هو الحال في المقام ، فإن أثر الحسن
والقبح الواقعيين هو الحكم الشرعي المناسب لأحدهما ، وأثر القصد للمعصية الذي به
قوام التجري ، وبه يكون الفعل تمردا على المولى وهتكا لحرمته وظلما له هو استحقاق
الذم والعقاب ، ولا سنخية بين الأثرين ، ليلزم التأكد أو التزاحم ، كما يظهر بأدنى
تأمل.
بقي في المقام أمور ...
الأول : أن التجري لا يختص بالقطع ، بل يجري في غيره من موارد
تنجز التكليف المستند للطريق أو الأصل الشرعي أو العقلي ، مع عدم ثبوت التكليف
واقعا. وظاهر شيخنا الأعظم قدسسره تحقق التجري حينئذ سواء أقدم المكلف برجاء تحقق المعصية
أم لعدم المبالاة بذلك أم برجاء عدم تحققها.
وادعى بعض
الأعاظم قدسسره أن التجري في الصورة الثالثة ليس بالإضافة إلى الحكم
الواقعي ، بل بالإضافة إلى الطريق نفسه. ويشكل بأن الأحكام الطريقية لا تكون
موضوعا للإطاعة والمعصية إلا في طول الأحكام الواقعية مع كون موضوع العقاب والثواب
هو الأحكام الواقعية لا غير. وحينئذ إن أراد بالتجري في الطريق مجرد تعمد المخالفة
، فمن الظاهر أن مخالفته في الفرض المذكور حقيقية لا خطيئة لتكون تجريا ، وإنما
الخطأ في الحكم الواقعي المنجز بها. وإن أراد به تعمد المخالفة لما هو موضوع
العقاب والثواب فهو مختص بالحكم الواقعي المنجز بها. ومن هنا كان الظاهر أن التجري
في الجميع بلحاظ الحكم الواقعي ، كاستحقاق العقاب ، لأن تعمد مخالفته في ظرف تنجزه
تمرد على
المولى وانتهاك لحرمته وإن لم يكن ثابتا واقعا. نعم إذا ابتنى ذلك على
تجاهل طريقية الطرق كبرويا وعدم الإذعان بها كان محرما أيضا ، بلحاظ الرد للحكم
الشرعي ، عكس التشريع.
الثاني : كما يقبح التجري ويكون منشأ لاستحقاق العقاب يحسن
الانقياد ويكون منشأ لاستحقاق الثواب ، وهو الإقدام على موافقة التكليف المقطوع أو
المحتمل مع عدم ثبوته واقعا.
غايته أن
استحقاق الثواب معه كاستحقاقه مع الطاعة الحقيقية ـ التي هي عبارة عن موافقة
التكليف الثابت ـ ليس بمعنى لزومه على المولى ، نظير لزوم الأجر على الأجير ، لأن
ذلك لا يناسب استحقاق المولى للطاعة على العبد ، بل الظاهر تبعا للمرتكزات
العقلائية صيرورة المكلف مع الطاعة أو الانقياد أهلا للتفضل عليه من قبل المولى
بالثواب ، وليس ثوابه ابتداء تفضل ، كالتفضل على غير المطيع أو على العاصي.
هذا ولا إشكال
في لزوم الانقياد ظاهرا مع تنجز التكليف بملاك لزوم الطاعة الحقيقية من شكر المنعم
أو دفع الضرر أو غيرهما.
وأما مع عدم
تنجزه فهو وإن لم يكن لازما ، إلا أنه حسن بملاك الاحتياط للواقع ، على ما يأتي
الكلام فيه في مباحث أصل البراءة إن شاء الله تعالى.
الثالث : أن استحقاق العقاب مع التجري والثواب مع الانقياد عقلا
لا يرجع إلى استحقاق العقاب والثواب الموعودين من قبل المولى بعد أن كان موضوع
الموعود هو الواقع لا غير ، بل المتعين استحقاقهما في الجملة مع إيكال مقدارهما
للمولى الأعظم الواسع الرحمة والمحيط بمقتضى الحكمة.
الفصل الثالث
في تقسيم القطع إلى طريقي وموضوعي
القطع بالإضافة
إلى الحكم .. تارة : لا يكون دخيلا فيه ، بل هو متمحض في كونه وصولا
لمتعلقه ، مع كون تمام الموضوع للحكم أمرا آخر ، فيترتب الحكم واقعا تبعا لذلك
الأمر وإن لم يحصل القطع بالحكم.
وأخرى : يؤخذ في موضوع الحكم فلا يترتب الحكم إلا تبعا له وفي
رتبة متأخرة عنه. ويطلق على الأول القطع الطريقي ، وعلى الثاني القطع الموضوعي.
وبذلك يظهر أن
القطع الواحد قد يكون طريقيا محضا بالإضافة إلى حكم وموضوعيا بالإضافة إلى آخر ،
تبعا لأدلة الأحكام المختلفة.
هذا
وينبغي الكلام تبعا
للتقسيم المذكور في أمرين :
الأمر الأول : تقدم أن القطع عبارة عن وصول متعلقه للقاطع ، فهو نحو
من الإضافة القائمة بين القاطع والأمر المقطوع به متأخر عنهما رتبة تأخر الإضافة
عن أطرافها ، فيمتنع أن يكون دخيلا في تحقق متعلقه من حكم أو موضوع. ومن هنا يتعين
كون القطع بالإضافة إلى متعلقه طريقيا ، ولا يكون موضوعيا إلا بالإضافة إلى حكم
مباين لمتعلقه متأخر عنه وعن متعلقه.
ولازم ذلك
امتناع تقييد الحكم بالقطع به ، بل يلزم إطلاق الحكم في مقام الجعل بالإضافة إلى
حالتي حصول القطع به وعدمه ، فيعم كلا الحالين ، لأن امتناع التقييد بخصوصية قيد
يستلزم الإطلاق بالإضافة إليه ثبوتا ، بل إثباتا أيضا ، ولا يستلزم الإهمال ثبوتا
، ولا الإجمال إثباتا ، ولا يحتاج في التعميم إلى
جعل آخر. على ما تقدم توضيحه في المقدمة الأولى من مقدمات الإطلاق.
بل يمتنع
اختصاص الحكم بحال القطع به أو ببعض أفراد القطع به لا بتقييده بقيد ملازم للقطع
المذكور ، ولا بنتيجة التقييد الراجع إلى قصره على الذات المقارنة للقطع بنفسها
ومن دون أخذ قيد فيها ، لأن جعل الحاكم للحكم إن كان بنحو القضية الخارجية لزم سبق
علمه بتحقق الموضوع بتمام قيوده على الجعل ، فلو كان قطع المكلف بالحكم ملازما
لموضوعه لزم تحققه في رتبة سابقة على جعله ، وهو محال. وإن كان بنحو القضية
الحقيقية فمن الظاهر توقف قطع المكلف بالحكم الفعلي على قطعه بتحقق موضوعه ، فإذا
كان موضوعه ملازما للقطع به لزم سبق القطع بالحكم على القطع به ، وهو محال أيضا. ومن
ثم كان التصويب المنسوب للأشاعرة محالا في نفسه.
نعم يمكن
اختصاص الحكم بحال القطع به في الجملة بأحد وجهين :
الأول
: أن يكون
الحكم المجعول بدوا اقتضائيا ، ويكون القطع به شرطا في فعليته ، فيكون القطع
بالإضافة إلى الحكم الاقتضائي طريقيا ، وبالإضافة إلى الحكم الفعلي موضوعيا.
الثاني : أن يكون الحكم المجعول فعليا ثابتا في حالتي القطع
وعدمه ، إلا أن الخطأ فيه رافع له لكونه سببا في حدوث ملاك مزاحم للملاك الواقعي
مانع من تأثيره. وكلاهما لا يستلزم دخل القطع في متعلقه بوجه. وإلى الثاني يرجع
التصويب المنسوب للمعتزلة.
وكيف كان فلا
إشكال في أن القطع بالإضافة إلى متعلقه طريقي لا غير ويمتنع أن يكون موضوعيا
بالإضافة إليه ، وإنما ذلك بالإضافة إلى غيره ، حيث يكون القطع .. تارة : طريقيا محضا ، لا دخل له في الحكم ثبوتا.
وأخرى : يكون موضوعيا لدخله في موضوع الحكم ثبوتا ، بحيث لا يكون
الحكم فعليا بدونه. وتشخيص أحد القسمين موكول لدليل الحكم.
وربما يدعى أن
القطع في الأحكام العقلية لا يكون إلا موضوعيا ، فحكم العقل بحسن شيء أو قبحه لا
يكون إلا بعد العلم والالتفات إليه ، فلا يحكم العقل بقبح التصرف في مال الغير
مثلا إلا بعد العلم بكونه مال الغير. لكنه ممنوع ، بل موضوع الحسن والقبح الفعليين
قد يكون هو العنوان الواقعي بذاته أو بتبع الملاك المترتب عليه.
نعم الحسن
والقبح الفاعليان المستتبعان للمدح والذم حيث كانا تابعين للاختيار الموقوف على
الالتفات للداعي نحو الفعل يلزم توقفهما على العلم بموضوع الحسن والقبح الفعلي.
وكأن التوهم المذكور ناشئ من الخلط بين الحسن والقبح الفعليين والفاعليين.
الأمر الثاني : ذكر شيخنا الأعظم قدسسره : أن القطع الموضوعي .. تارة : يكون مأخوذا بما هو صفة خاصة للقاطع.
وأخرى : يكون مأخوذا بما هو طريق إلى الواقع المقطوع به.
وحيث تقدم أن
القطع ليس طريقا للواقع ، بل هو وصول له فلا بد من رجوع التقسيم إلى أنه .. تارة : يستفاد من دليل أخذ القطع في الموضوع أخذه بما هو صفة
خاصة ووصول وجداني.
وأخرى
: يستفاد منه
أخذه بما أنه وصول للواقع مصحح للعمل عليه ، وبه يرتفع التحير والتردد فيه عملا ،
من دون أن يؤخذ بخصوصيته.
ومن الظاهر أن
مقتضى الأول الاقتصار على القطع وعدم قيام غيره من الطرق والأمارات المعتبرة مقامه
، فضلا عن الأصول ، إلا بدليل خارجي يقتضي مشاركة غيره له في ذلك ، وصرح غير واحد
بعدم نهوض أدلة حجية الطرق
والأمارات وأدلة اعتبار الأصول بذلك. وهو في محله.
نعم بناء على
أن مفاد أدلة اعتبار الطرق والأمارات تنزيلها منزلة العلم يتجه قيامها مقام القطع
الطريقي المذكور. لكن لم يلتزم به القائل بذلك. وهو كاشف عن ضعف المبنى المذكور
بظاهره. ويأتي الكلام فيه عند التعرض لوجه تقديم الطرق والأدلة على الأصول في
مباحث التعارض إن شاء الله تعالى.
وأما الثاني
فقد صرح شيخنا الأعظم قدسسره بقيام الطرق والأمارات وبعض الأصول مقامه ، وتبعه جماعة
ممن تأخر عنه ، وأنكره المحقق الخراساني قدسسره.
وبنوا الكلام
في ذلك على الكلام في مفاد أدلة الطرق والأمارات والأصول ، وأنها هل تنهض بإلحاقها
بالعلم في ذلك بحيث يكون ثبوت الحكم المذكور في طول ثبوته للعلم وبملاك إلحاقها به
أو لا؟ وقد أطالوا الكلام في ذلك بنحو يضيق المقام عن متابعتهم فيه ، لأنه يبتني
على الكلام في مفاد الأدلة المذكورة الذي موضعه المناسب مباحث التعارض. وإن كان
التحقيق عدم نهوض الأدلة به على ما يأتي هناك إن شاء الله تعالى.
لكن الظاهر عدم
ابتناء ما ذكره شيخنا الأعظم قدسسره على تحديد مفاد الأدلة المذكورة. بل الوجه فيه أن مقتضى
أخذ القطع بالنحو المذكور في موضوع الحكم أن الموضوع ليس هو القطع بخصوصيته ، بل
وصول الواقع في مقابل التردد فيه والتحير ، وأن ذكر القطع لأنه أظهر أنحاء الوصول
، وأجلى أفراده ، ولا إشكال في أن مقتضى أدلة الطرق والأمارات وجملة من الأصول هو
التعبد بمؤدياتها ورفع التحير والتردد فيها في مقام العمل ، فتدخل في إطلاق دليل
الحكم في عرض دخول القطع ، لاشتراكها معه في الحيثية التي صار بها موضوعا للحكم ،
لا في طوله ، وبعناية الإلحاق به ، ليحتاج إلى النظر في وفاء أدلة اعتبارها بذلك.
ومن ثم كان ما ذكره شيخنا الأعظم قدسسره متينا جدا.
وكأنه قدسسره قد نظر إلى ما ذكرنا ، حيث أرسل الدعوى المذكورة إرسال
المسلمات من دون أن يشير إلى ابتنائها على تحديد مفاد أدلة الطرق والأمارات
والأصول المذكورة ، كما صنع في مواضع أخر.
نعم ما تضمن من
الأصول الوظيفة العملية من دون تعبد بالأمر المشكوك ـ كأصالتي البراءة والاحتياط ـ
لا يترتب عليه الحكم المذكور ، لعدم مشاركته للقطع في الجهة المذكورة التي هي
المعيار في موضوعيته للحكم.
الفصل الرابع
في عموم آثار القطع لجميع أفراده وعدمه
لا يخفى أن
القطع الموضوعي كسائر الموضوعات المأخوذة في الأحكام تابع في عمومه وخصوصه ثبوتا
لعموم جعل الحكم من قبل الحاكم وخصوصه ، وإثباتا لعموم دليل الحكم وخصوصه ، ولا
ضابط لذلك ، بل يوكل لنظر الفقيه.
نعم قد يدعى
انصراف إطلاق الحكم لو تم عن قطع القطاع ، لا بمعنى من يكثر منه القطع ولو لتهيؤ
أسبابه له دون غيره ـ كما هو مقتضى مفاد هيئته لغة ـ بل بمعنى من يخرج في قطعه عن
المتعارف ، فيقطع من أسباب غير متعارفة لا ينبغي حصول القطع منها عرفا.
وهو لا يخلو عن
وجه بالإضافة للأحكام المتعلقة بغير القاطع ، كحجية شهادته وفتواه ونفوذ حكمه ،
لأن مناسبة الحكم والموضوع تقتضي كون أخذ القطع من حيثية غلبة الوصول به للواقع
وكشفه عنه نوعا ، وهو غير حاصل في القطع المذكور ، فهو نظير اعتبار الضبط في
الراوي والشاهد.
وأما في
الأحكام المتعلقة بالقاطع نفسه ففي غاية الإشكال ، كما لو أخذ القطع بالضرر موضوعا
لوجوب الإفطار ، لأن القاطع دائما يرى أن قطعه في محله ومن سبب ينبغي حصوله منه ،
وأن عدم حصوله لغيره من السبب الخاص لقصور فيهم لا في السبب. وبذلك يظهر امتناع
التقييد بذلك في دليل خاص ، لأن عنوان المقيد إذا لم يتيسر تشخيصه لمن وظيفته
العمل به يلغو التقييد به.
هذا وأما القطع
الطريقي فحيث كانت متابعته لازمة لذاته تكوينا لم يفرق
فيه بين أفراده ، لعدم الفرق بينها في الجهة المقتضية للمتابعة ، كما يظهر
بأدنى تأمل فيها. ولم ينقل الخلاف في ذلك إلا في موردين :
الأول : ما عن كاشف الغطاء من عدم الاعتبار بقطع من خرج عن
العادة في قطعه ، كما لا اعتبار بشك كثير الشك وظن كثير الظن. قال في محكي كلامه
في مباحث الصلاة : «وكثير الشك عرفا ـ ويعرف بعرض الحال على عادة الناس ـ لا
اعتبار بشكه ، وكذلك من خرج عن العادة في قطعه أو ظنه ، فإنه يلغو اعتبارهما في
حقه». وظاهره إرادة القطع الطريقي ، لما هو المعلوم من أن القطع في الصلاة لا يكون
مأخوذا في موضوع الحكم الواقعي ، كالظن والشك ، وإن افترقا عنه بأخذهما في موضوع
الحكم الظاهري دونه ، إذ لا مجال للحكم الظاهري معه.
ولا مجال مع
ذلك لاحتمال حمله على القطع الموضوعي ، وإن جعله شيخنا الأعظم قدسسره وجها في تعقيب كلامه ، بل هو الذي قربه شيخنا الأستاذ قدسسره بدعوى : أن رفعة مقامه تمنع من حمل كلامه على القطع
الطريقي. وهو كما ترى خروج عن ظاهر كلامه. والعصمة لأهلها.
الثاني : ما نسب للأخباريين من المنع عن العمل بالقطع الحاصل من
المقدمات العقلية ، على تفصيل في كلماتهم التي قد تعرض شيخنا الأعظم قدسسره لبعضها.
وقد ادعى
المحقق الخراساني قدسسره أن مرادهم إما المنع من حصول القطع بالحكم الشرعي من
المقدمات العقلية ، أو المنع من الملازمة بين الحكم العقلي والشرعي. لكن ذلك وإن
أمكن في بعض كلماتهم ، يصعب أو يتعذر في الباقي ، لظهوره أو صراحته فيما سبق.
وهو بظاهره
ممتنع ، لما تقدم من وجه لزوم متابعة القطع. إلا أن يرجع
إلى دعوى أن إمكان الوصول للأحكام النقلية شرط في فعليتها ، أو يكون تعذر
الوصول إليها بها مانعا من فعليتها ، حيث يتعين عدم العمل بالقطع الحاصل من
المقدمات العقلية ، لعدم إحراز فعلية الحكم المقطوع. لكنه يحتاج حينئذ إلى دليل.
ومن ثم فقد
يستدل عليه بالأخبار الكثيرة ، مثل ما تضمن النهي عن أن يدان الله تعالى بغير
السماع منهم عليهمالسلام كقولهم عليهمالسلام : «أما إنه شر عليكم أن تقولوا بشيء ما لم تسمعوه منا» . وما تضمن النهي عن النظر في الدين بالرأي وقولهم عليهمالسلام : «أما لو أن رجلا صام نهاره وقام ليله وتصدق بجميع
ماله وحج جميع دهره ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه وتكون جميع أعماله بدلالته
إليه ما كان له على الله ثواب ولا كان من أهل الإيمان» .
لكن التأمل في
الأخبار المذكورة قاض بأنها أجنبية عما نحن فيه ، بل هي واردة لبيان عدم حجية
الرأي والقياس ، ووجوب التعبد بأقوالهم عليهمالسلام وعدم الاستغناء عنهم بذلك ، أو لبيان عدم إيصال الرأي
والنظر للحكم الشرعي ، بل يزيد في التيه والضلال ، نظير ما تضمن أن السنة إذا قيست
محق الدين ، فيكون التسليم بذلك مانعا عن حصول القطع منه غالبا ، أو لبيان حرمة
النظر وإعمال الرأي في الدين ، لما قد يستتبعه من الضلال والخطأ ، فلا يكون الناظر
معذورا وإن حصل له القطع من دون أن ينافي لزوم متابعة القطع ، لما سبق من عدم
ملازمة عموم متابعة القطع لعموم معذريته ، أو لبيان شرطية الولاية في قبول
__________________
الأعمال ، وغير ذلك مما يظهر بالتأمل في النصوص على اختلاف ألسنتها.
هذا وقد قرب
شيخنا الاستاذ قدسسره حمل النصوص المذكورة على اشتراط صحة العمل ـ عبادة كان
أو معاملة ـ بأخذه من الكتاب والسنة زائدا على الولاية ، وإن كان الحكم تابعا
ثبوتا لجعله وإن لم يؤخذ منهما ، فالعلم به منجز له وأخذه منهما شرط في امتثاله ،
نظير ثبوت الحكم على الجنب وغير المؤمن مع اشتراط امتثاله بالايمان والطهارة.
وكأنه استند
إلى مثل الحديث الأخير الظاهر في أن اعتبار الولاية في قبول العمل لأجل كون العمل
بدلالة ولي الله ، الراجع لكون الشرط فيه في الحقيقة هو الدلالة المذكورة.
وفيه : أنه لا
يناسب المدعى من الاكتفاء بالأخذ من الكتاب والسنة ، وليس إلغاء خصوصية الأخذ من
الإمام عليهالسلام في الحديث والتعميم لهما بأولى من حمله على مجرد بيان
لزوم التسليم له عليهالسلام بحيث لو دل على شيء لقبل منه من دون شرطية الأخذ منه في
امتثال الحكم. بل المتعين الثاني ، لصراحة الحديث في خصوصية ولي العصر في لزوم
الائتمام والولاية والتأكيد على أهميته ، مع ما هو المعلوم من سيرة الأصحاب قديما
وحديثا من الاكتفاء في العمل بأخذ الحكم من الكتاب والسنة وإن لم يكن بدلالة ولي
العصر ، وعدم توقف العمل في كل حكم على وصوله منه واستناده إليه. كيف ولازم ما
ذكره قدسسره تعذر الاحتياط مع الشك في الحكم ، لعدم كون العمل
بدلالة ولي الله ولا بدلالة الكتاب والسنة ، بل برجاء مشروعيته ، وهو ـ كما ترى ـ مخالف
لسيرة الفقهاء والمتشرعة في الفتوى والعمل.
الفصل الخامس
في العلم الإجمالي
والكلام فيه ..
تارة : في كفايته في وصول التكليف وتنجزه.
وأخرى : في الاكتفاء به في امتثال التكليف والفراغ عنه مع
تنجزه تفصيلا أو إجمالا بعلم أو غيره.
فهنا مقامان :
المقام الأول
في كفاية العلم الإجمالي في وصول التكليف وتنجزه
والكلام فيه ..
تارة : في التنجز بنحو يمنع من المخالفة القطعية.
وأخرى
: بنحو يلزم
بالموافقة القطعية. وعلى كلا التقديرين فهل هو لكون العلم الإجمالي علة تامة فيه ،
أو لكونه مقتضيا له بنحو يقبل الردع الشرعي عنه؟
ولا يخفى أن
المراد بالردع هو الحكم بعدم حجية العلم الإجمالي وعدم منجزيته بنحو يمنع من
المخالفة القطعية أو بنحو يقتضي الموافقة القطعية ، فيلزمه جريان الأصول الترخيصية
في تمام الأطراف أو بعضها لو تم عموم أدلتها لها ، فجريان الأصول مترتب على الردع
لا عينه. غاية الأمر أنه قد يستفاد الردع من جريان الأصول بالملازمة. على أنه قد
يبتني جريانها على أمر آخر ، كجعل البدل الظاهري ، الذي يمكن حتى مع كون العلم
الإجمالي علة تامة للتنجز.
وبذلك يظهر
الإشكال في ما ذكره شيخنا الأعظم قدسسره من أن البحث في
حرمة المخالفة القطعية يناسب مباحث العلم ، والبحث في وجوب الموافقة
القطعية يناسب مباحث الشك ، ولذا أوكله لمباحث الأصول العملية.
وجه الإشكال :
أن البحث في المقامين معا يناسب مباحث العلم ، والمناسب لمباحث الشك هو جريان
الأصول في الأطراف الذي هو متفرع في الجملة على الكلام في المقامين ، من دون أن
يرجع لأحدهما.
ومثله ما يظهر
من المحقق الخراساني قدسسره من أن جريان الأصول في الأطراف مبني على اقتضاء العلم
الإجمالي للتنجز مع إمكان الردع ، ولا مجال له بناء على عليته التامة له. للإشكال
فيه بما أشرنا إليه من إمكان ابتناء جريان الأصول على جعل البدل الظاهري من دون أن
ينافي علية العلم الإجمالي التامة للتنجز.
إذا عرفت هذا
فلا ينبغي التأمل في منجزية العلم الإجمالي ولزوم متابعته ، لعدم الفرق بينه وبين
العلم التفصيلي في الجهة المتقدمة المقتضية للعمل ، من كونه عبارة عن الوصول
للواقع ، الذي ليس وراءه شيء ، بعد كون الواقع الواصل موردا للعمل ، وأنه يمتنع مع
ذلك الردع الشرعي عن العمل على طبق القطع. وهو عبارة أخرى عن عليته التامة في
التنجز. ومجرد افتراق العلم الإجمالي.
عن التفصيلي
بتردد الواقع المعلوم بين الأطراف لا دخل له في الجهة المقتضية للعمل.
نعم قد يكون
الإجمال موجبا لقصور الواقع المعلوم عن مقام العمل ، لمزاحمة كلفة الاحتياط لملاك
الواقع مع الموافقة القطعية ، فعدم العمل حينئذ ليس لقصور في العلم ، بل في
المعلوم. ولا مجال لذلك في المقام ، لأن المفروض في محل الكلام فعلية التكليف
المعلوم بالإجمال ، وإلا فلو فرض
سقوطه عن الفعلية بسبب كلفة الاحتياط لبلوغها مرتبة الحرج خرج عن محل الكلام.
وأما حديث
الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية ـ إما لعدم اقتضاء العلم للموافقة القطعية ، أو
لردع الشارع عنها بعد اقتضاء العلم لها من دون أن يكون علة تامة ـ فهو لو أمكن في
العلم الإجمالي أمكن في العلم التفصيلي ، لعدم الفرق بينهما في الجهة المقتضية
للعمل ، كما ذكرنا. ويأتي الكلام في ذلك في أول الفصل الثالث من مباحث الأصول
العملية في التمهيد للكلام في المتباينين إن شاء الله تعالى.
ودعوى : الفرق
بأن المعلوم بالإجمال لما كان هو أحد الأطراف فلا يتنجز ما زاد عليه ولا يجب إحراز
الفراغ إلا عنه ، فالاقتصار على أحد الأطراف إطاعة قطعية للتكليف المنجز وإن كان
إطاعة احتمالية للتكليف الواقعي ، بخلاف المعلوم بالتفصيل فإن إطاعته لا تكون إلا
بإحراز الامتثال به بعينه.
مدفوعة بأن
المعلوم بالإجمال ليس هو مفهوم أحد الأطراف ـ كما في الواجب التخييري ـ كي يكفي في
إحراز الفراغ عنه الاقتصار على أحدهما ، بل هو مصداق أحدهما المعين واقعا بخصوصيته
وإن كانت مجهولة ، فلا بد في إحراز الفراغ عنه من إحرازه بخصوصيته الواقعية الذي
لا يتم إلا بالاحتياط التام ، ولا مجال للاكتفاء بأحد الأطراف إلا بناء على
الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية. نعم لا إشكال في إمكان التعبد الشرعي الظاهري
بتحقق امتثال المعلوم بالإجمال ببعض الأطراف ، كما في موارد القرعة ، كما يمكن
التعبد بامتثال المعلوم بالتفصيل مع الاحتمال كما في موارد قاعدتي الطهارة والفراغ
وغيرهما ، وهو خارج عن محل الكلام من الامتثال الاحتمالي ، وداخل في الامتثال
اليقيني ، إذ المراد به ما يعم الامتثال التعبدي.
المقام الثاني : في الاكتفاء بالعلم الإجمالي في امتثال التكليف
ولا إشكال
ظاهرا في الاكتفاء به مع تعذر الامتثال التفصيلي حتى في العباديات ، وفي الاكتفاء
به ولو مع تيسره في التوصليات ، ومنها المحرمات ، وإنما الإشكال في الاكتفاء به في
العباديات مع تيسر الامتثال التفصيلي.
كما وقع الكلام
في الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي للأمر العبادي المحتمل مع إمكان الفحص عن ثبوت
الأمر ، كما لو احتمل المكلف وجوب غسل رؤية المصلوب فجاء به برجاء مشروعيته ، مع
الفراغ ظاهرا عن الاكتفاء به مع تعذر الفحص وفي التوصليات مطلقا. وحيث يشترك
المقامان في كثير من جهات الكلام فالمناسب النظر هنا فيهما معا وإن كان الثاني
أجنبيا عن محل الكلام من العلم الإجمالي. ومن هنا يقع الكلام في موضعين :
الموضع الأول : الاحتياط مع احتمال التكليف
وقد أصر بعض الأعاظم
قدسسره على عدم مشروعيته ، وإليه مال شيخنا الأعظم قدسسره في بعض كلماته ـ وإن اضطرب كلامه في هذه المسألة كثيرا
ـ ونسب للمشهور عدم اكتفاء الجاهل بالاحتياط عن الاجتهاد والتقليد. والمستفاد منهم
الاستدلال عليه بوجوه ..
الأول : أنه يعتبر في العبادة الإتيان بها بنية الوجه الخاص
من الوجوب أو الندب ، فقد ذكر شيخنا الأعظم قدسسره أنه حكى غير واحد اتفاق المتكلمين على وجوب إتيان
الواجب والمندوب لوجوبه أو ندبه أو لوجههما ، وأن السيد الرضي قدسسره نقل إجماع أصحابنا على بطلان صلاة من لا يعلم أحكامها ،
وأن أخاه السيد المرتضى قدسسره أقره على ذلك. قال قدسسره في خاتمة مباحث أصالتي البراءة والاشتغال بعد نقل ذلك :
«بل يمكن أن يجعل هذان الاتفاقان المحكيان
من أهل المعقول والمنقول المعتضدان بالشهرة العظيمة دليلا في المسألة ...».
لكن لم يتضح
الوجه في اعتبار قصد الوجه في العبادة ، إذ لو أريد به أنه معتبر عند العقلاء في
الإطاعة فقد سبق في مبحث التعبدي والتوصلي أنه لا يعتبر فيها عندهم قصد التقرب ،
فضلا عن قصد الوجه. ولذا كان الأصل في الأوامر التوصلية. كيف ولو كان معتبرا في
أصل الإطاعة لزم تعذرها بتعذر الفحص وعدم مشروعية الاحتياط حينئذ مع مفروغيتهم من
مشروعيته. والفرق بين صورتي التعذر وعدمه تأباه المرتكزات العقلائية جدا. ولعل
مراد المتكلمين دخل قصد الوجه أو قصد الأمر في ترتب المدح والثواب ، كما هو ظاهر
بعض كلماتهم.
وإن أريد أنه
معتبر شرعا في خصوص العبادات مع التمكن منه بتيسر الفحص فلا بد من إقامة الدليل
عليه ، بعد أن كان مقتضى الأصل عدم اعتبار قصد التقرب ـ كما سبق ـ فضلا عن قصد
الوجه. والظاهر عدم الدليل على ذلك ، بل إهمال الشارع التنبيه عليه مع غفلة
العقلاء بل المتشرعة عنه موجب للقطع بعدم اعتباره. بل قال شيخنا الأعظم قدسسره في مبحث الانسداد : «إن معرفة الوجه مما يمكن للمتأمل
في الأدلة وفي إطلاقات العبادة وفي سيرة المسلمين وسيرة النبي صلىاللهعليهوآله والأئمة عليهمالسلام مع الناس الجزم بعدم اعتبارها حتى مع التمكن من المعرفة
العلمية. ولذا ذكر المحقق قدسسره ـ كما في المدارك في باب الوضوء ـ أن ما حققه المتكلمون
من وجوب إيقاع الفعل لوجهه أو وجه وجوبه كلام شعري».
وأما دعوى
الإجماع المتقدمة عن السيدين فالظاهر أنها أجنبية عما نحن فيه ، وأن المراد بها ما
إذا كان عمل الجاهل المعتقد بخلاف الواقع على طبق اعتقاده المخالف للواقع ، ردا
على المصوبة القائلين بصحة عمله ، لانقلاب الواقع في حقه. قال في الروض فيما لو
أتم المسافر جاهلا بوجوب القصر عليه :
«ويؤيده في الجاهل ما أورده السيد الرضي رحمهالله على أخيه المرتضى من أن الإجماع واقع على أن من صلى
صلاة لا يعلم أحكامها فهي غير مجزية ، والجهل بأعداد الركعات جهل بأحكامها ، فلا
تكون مجزية. وأجاب المرتضى بجواز تغير الحكم الشرعي بسبب الجهل وإن كان الجاهل غير
معذور ...» ونحوه عن الذكرى. وأين هذا مما نحن فيه من فرض الاحتياط بمتابعة الواقع
المحتمل؟!.
الثاني : ما ذكره بعض الأعاظم قدسسره من أن مراتب الامتثال عند
العقل أربع مترتبة لا يجوز العدول إلى اللاحقة مع تيسر السابقة ، وهي الامتثال
التفصيلي ، ثم الإجمالي ، ثم الظني ، ثم الاحتمالي. ففي المقام إن كانت الشبهة
موضوعية يحسن الاحتياط مطلقا ولو قبل الفحص ، لعدم وجوب الفحص فيها فلا تكون منجزة
، وإن كانت حكمية لم يحسن الاحتياط فيها إلا بعد الفحص والعجز عن معرفة الحكم ، إذ
التكليف فيها بمجرد احتماله يتنجز بتمام ما يعتبر فيه ، وحيث كان الامتثال
التفصيلي معتبرا فيه مع التمكن كان هو المتعين ، ولم يحسن الانتقال منه إلى
الامتثال الاحتمالي.
وفيه ـ مع أن
مجرد عدم تنجز التكليف في الشبهة الموضوعية لا ينافي اعتبار الإطاعة التفصيلية
فيها مع التمكن منها وعدم الاكتفاء بالإطاعة الاحتمالية لو صادفت ثبوت التكليف
واقعا. وأن لازم ما ذكره أنه مع تعذر تحصيل العلم لا بد في مشروعية الاحتياط من
محاولة تقوية الاحتمال وجعله ظنا بالفحص ، مع إمكانه ، ولا يظن منه الالتزام بذلك
ـ : أنه لا أصل لما ذكره من الترتب بين وجوه الإطاعة المذكورة ، بل يكفي مجرد
موافقة الأمر على تقدير حصوله وإن كان محتملا. لأن الترتب المذكور إن كان بحكم
العقل لكونه من شئون إطاعة التكليف لم يفرق فيه بين التعبديات والتوصليات مع عدم
الإشكال في الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي في التوصليات ، كما سبق. وإن كان بحكم
الشارع لدخله في
غرضه في خصوص العبادات كقصد التقرب ، كان محتاجا للدليل كأصل العبادية. كما
يظهر مما سبق هنا وفي مبحث التعبدي والتوصلي.
نعم لا إشكال
مع تنجز التكليف في عدم الاجتزاء بالإطاعة الظنية أو الاحتمالية الراجعة لاحتمال
عدم مطابقة المأتي به للمأمور به. وأن الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.
وكأن ذلك هو مراد شيخنا الأعظم قدسسره عند ذكره للمراتب الأربعة المذكورة في المقدمة الرابعة
من مقدمات دليل الانسداد. إلا أنه أجنبي عن محل الكلام من فرض اليقين بمطابقة
المأتي به للمأمور به على تقدير ثبوت الأمر ، وأن عدم اليقين بالامتثال لعدم
اليقين بالأمر ، للقطع معه بفراغ الذمة.
الثالث : أنه لما كان المعتبر في العبادة الإتيان بها بداعي
الأمر فلا بد في داعوية الأمر من إحرازه ، غاية الأمر أنه مع إحرازه يكفي داعويته
وإن كان مرددا بين الوجوب والاستحباب ، وإنما يعتبر قصد أحدهما بعينه بناء على
اعتبار قصد الوجه الذي تقدم الكلام فيه.
وفيه : أن
المتيقن من دليل عبادية العبادة الإتيان بها بوجه قربي ، ويكفي فيه الإتيان بالعمل
بداعي امتثال الأمر المحتمل ، الراجع إلى قصد امتثال الأمر معلقا على وجوده.
واعتبار اليقين بوجود الأمر محتاج إلى دليل ، بناء على ما أشرنا إليه آنفا من أن
أصل العبادية خلاف الأصل ، فضلا عما زاد عليها من الخصوصيات. ولا سيما مع ما أشرنا
إليه آنفا من المفروغية عن الاجتزاء بالاحتمال مع تعذر العلم ، وأن الفرق بينه
وبين تيسر العلم في معيار العبادية مما تأباه المرتكزات العقلائية والمتشرعية جدا.
ومن هنا كان
الظاهر عدم تمامية ما ذكروه في وجه المنع عن الاحتياط في المقام. بل المتعين
البناء على مشروعيته بعد ما أشرنا إليه من الأصل ، ولا سيما مع مطابقته لمرتكزات
العرف والمتشرعة والسيرة التي أشار إليها شيخنا الأعظم
في كلامه المتقدم في تعقيب الوجه الأول.
بل لعل هذا هو
المستفاد من نصوص قاعدة التسامح في أدلة السنن الظاهرة في المفروغية عن مشروعية
الاحتياط والحث عليه ، فإن تقييدها بصورة تعذر الفحص بعيد جدا بعد ظهورها في الحث
عليه بمجرد البلوغ.
وأبعد منه
تقييدها بالتوصليات ، لأن العبادات المعروفة هي المتيقن من مورد النصوص ، لكونها
الفرد الشائع المألوف للمتشرعة من العمل الذي يترتب عليه الثواب.
الموضع الثاني : الاحتياط مع العلم الإجمالي
وهو مستلزم
للتكرار مع كون التكليف المعلوم بالإجمال استقلاليا ، كالتكليف المردد بين القصر
والتمام والصلاة في الثوبين المعلوم نجاسة أحدهما. وقد أصرّ بعض الأعاظم قدسسره على المنع منه ، ومال إليه شيخنا الأعظم قدسسره هنا.
وهو ظاهر لو تم
الوجهان الأولان للاستدلال على عدم مشروعية الاحتياط في الموضع السابق. وأما الوجه
الثالث فهو لو تم لا ينفع في المقام ، لفرض الجزم بالأمر وإن لم يعلم بانطباق
المأمور به على المأتي به حين العمل ، لأن اعتبار ذلك زائدا على الجزم بالأمر
يحتاج إلى دليل. والأمر سهل بعد ما سبق من عدم تمامية الوجوه المذكورة.
نعم ذكر شيخنا
الأعظم قدسسره في خصوص المقام أن التكرار مخالف لسيرة المتشرعة ،
واستظهر استمرار سيرة العلماء على عدمه مع وجود الطريق الشرعي التفصيلي إلى الحكم
ولو كان هو الظن المطلق ـ لو تمت مقدمات الانسداد ـ فضلا عما لو أمكن الوصول للحكم
الشرعي بالعلم أو الظن الخاص. بل حكى عن بعضهم دعوى الاتفاق على المنع من التكرار.
وفيه : أن
مجانبة المتشرعة للتكرار ـ لو تمت ـ لا تختص بالعبادات. مع أنها قد تكون ناشئة من
صعوبته ، لا من ارتكاز عدم مشروعيته عندهم ، ولذا قد يقدمون عليه مع صعوبة الفحص.
كما أن سيرة العلماء ـ كالاتفاق المدعى ـ لم تتضح بنحو تنهض بالاستدلال ، ولا سيما
أن مساق حديثهم في دليل الانسداد يناسب عدم وجوب الاحتياط ، لا عدم جوازه.
ومثله ما ذكره قدسسره من أنه مستلزم للعب بأمر المولى. قال : «من أتى بصلوات
غير محصورة لإحراز شروط صلاة واحدة بأن صلى في موضع تردد فيه القبلة بين أربع جهات
في خمس أثواب أحدها طاهر ساجدا على خمسة أشياء أحدها ما يصح السجود عليه مائة صلاة
مع التمكن من صلاة واحدة يعلم فيها تفصيلا اجتماع الشروط الثلاثة ـ يعد في العرف
والشرع لاعبا بأمر المولى. والفرق بين الصلوات الكثيرة وصلاتين لا يرجع إلى محصل».
إذ فيه ـ مع
أنه يجري في التوصليات ـ أنه إن أريد باللعب بأمر المولى ما يساوق الاستهانة به
فهو ممنوع جدا. وإن أريد به ما يساوق عدم الغرض العقلائي المصحح للعمل فهو ليس
محذورا. على أنه لا يلزم فيما لو كان للمكلف غرض عقلائي مصحح لتحمل مشقة التكرار ،
كصعوبة الفحص ، أو الاهتمام بإصابة الواقع ، كما في بعض الشبهات الموضوعية وغالب
الشبهات الحكمية ، حيث لا يوجب الفحص فيها اليقين بالواقع بل معرفة مؤدى الحجة
عليه. ومنه يظهر الفرق بين مراتب التكرار ، فإنه كلما زاد احتاج لغرض أهم عند
العقلاء. بل ما ذكره من عدم الفرق بين القليل والكثير لا يناسب اقتصاره في تطبيق
اللعب على الكثير.
ومن هنا لا
مجال للخروج عن مقتضى الإطلاقات اللفظية والمقامية والأصل على ما يتضح بملاحظة ما
سبق هنا وفي مبحث التعبدي والتوصلي.
لكن ذكر بعض الأعاظم قدسسره أن الأصل في المقام يقتضي الاحتياط ، لرجوعه إلى
الدوران بين التعيين والتخيير ، للشك بين تعيين الامتثال التفصيلي والتخيير بينه
وبين الإجمالي.
وفيه : أن
المراد بذلك إن كان هو الدوران بين التعيين والتخيير العقليين ، فالعقل لا يشك في
حكمه ، بل المدعى هو قطعه بالتخيير. وإن كان هو الدوران بين التعيين والتخيير
الشرعيين ، فالشارع ليس من شأنه التصرف في مقام الامتثال. مضافا إلى القطع بأن بعض
أطراف العلم الإجمالي خارج عن مطلوب الشارع ، فلا معنى لكونه طرفا للتخيير الشرعي.
ومن هنا يتعين
رجوع الشك في المقام إلى الشك في أخذ الشارع خصوصية في الواجب زائدة على ذاته
ملازمة للامتثال التفصيلي ، كقصد الوجه أو نحوه ، وفي مثله تجري البراءة بلا إشكال
، ولذا التزم بجريانها لدفع احتمال اعتبار قصد الوجه.
هذا كله في
المطلوب الاستقلالي. وأما المطلوب الضمني فلا ينبغي الإشكال في الاحتياط فيه مع
الاحتمال أو العلم الإجمالي ، إذا كان شرطا ، كما لو احتمل اعتبار كون الساتر في
الصلاة قطنا فلبسه ، أو علم بذلك وتردد القطن بين ثوبين فلبسهما. لعدم قصد التقرب
بالشرط بل المشروط في ظرف تحققه ، ومن الظاهر أن الاحتياط في الشرط لا ينافي الجزم
بالامتثال بالمشروط في ظرف تحققه فلا مجال لوجه من وجوه المنع المتقدمة فيه. إلا
أن يكون الشرط بنفسه عبادة ـ كالطهارة ـ فيجري فيه ما سبق. وأما إذا كان جزءا
فكذلك ، بناء على ما سبق منا في المطلوب الاستقلالي.
بل صرح بعض
الأعاظم قدسسره بجواز الامتثال الإجمالي فيه ـ كما لو دار الأمر بين
سورتين فيجمع بينهما في صلاة واحدة ـ مع منعه منه في المطلوب
الاستقلالي ، بدعوى أنه يمكن قصد الامتثال التفصيلي بالنسبة إلى جملة العمل
، للعلم بتعلق الأمر به وإن لم يعلم بوجوب الجزء المشكوك.
لكنه يشكل بأن
التفكيك بين الأجزاء وتمام العمل في اعتبار الإطاعة التفصيلية فيه دونها لا يرجع
إلى
محصل بعد
اتحاده معها خارجا ، فما يعتبر في تمام العمل من القصود يعتبر فيها بحسب المرتكزات
العقلائية والمتشرعية. إلا أن يفرق بينها تعبدا بدليل شرعي خاص ، وهو مفقود.
ولنكتف بهذا
المقدار من الكلام في آثار القطع وأحكامه تبعا للأكابر في المقام. ولا يخفى أن
جملة مما تقدم لا يختص بالقطع ، بل يجري نظيره في الطرق المعتبرة ، بل الأصول ،
كمباحث التجري والقطع الموضوعي والإجمالي. فلاحظ. ومنه سبحانه نستمد العون
والتوفيق.
المقصد الأول
في مباحث الحجج
وقد سبق أن
البحث فيه يكون في تشخيص الحجج وتعيينها. ومن ثمّ كان المناسب التعرض تمهيدا لذلك
لأمرين :
الأمر الأول : في إمكان التعبد بغير العلم. إذ مع امتناعه لا مجال للنظر في أدلة جعل الطرق. ويكفي
في المقام عدم الدليل على الامتناع ـ الذي هو المعيار في الإمكان القياسي عندهم ـ بلا
حاجة لإثبات إمكان الوقوع في الخارج وعدم لزوم محذور منه واقعا ـ الذي هو المعيار
في الإمكان الوقوعي عندهم ـ حيث لا يجوز بنظر العقل إهمال الأدلة الدالة على ثبوت
الشيء بمجرد احتمال لزوم محذور منه مغفول عنه ، بل هو من سنخ احتمال المزاحم لا
يعتني به العقل ما لم يثبت بالدليل.
بل يمكن إثبات
إمكان الوقوع وعدم لزوم محذور منه مغفول عنه بأدلة الجعل في مثل المقام مما انحصر
فيه الدليل بالأدلة القطعية ـ لما هو المعلوم من لزوم انتهاء أدلة التعبد بغير
العلم إلى القطع ـ لملازمة الوقوع للإمكان بالمعنى المذكور.
لكنه راجع إلى
عدم الأثر للنزاع في الإمكان ، بل يلزم النظر في أدلة الوقوع ابتداء ، لنهوضها
بإثبات الإمكان ، ومع قطع النظر عنها لا أثر للإمكان. وعلى ذلك يكون الغرض الأصلي
من الاستدلال على الامتناع نفي الوقوع وإبطال أدلته بنحو يمنع من حصول القطع منها
، والغرض من إبطال دليل الامتناع رفع المنافي لأدلة الوقوع ، ليتسنى إثباته بها.
أما لو بلغت
أدلة الوقوع حدا من الوضوح يمتنع معه الإذعان بدليل الامتناع ، بل يكون كالشبهة
مقابل البديهية ـ كما هو كذلك في المقام ـ فقد يكون الغرض من النظر في أدلة
الامتناع توجيه أدلة الوقوع وشرح مفادها ، بنحو لا يلزم منه المحذور ، فهو يرجع
إلى حل الشبهة. وكفى بذلك فائدة مهمة.
إذا عرفت هذا
فقد نسب للشيخ أبي جعفر ابن قبة دعوى امتناع التعبد بخبر الواحد عقلا. ودليله ـ لو
تم ـ جار في جميع الطرق غير العلمية ، بل في مطلق التعبد بغير العلم وإن كان مفاد
الأصل. إذ عمدة دليله ـ على ما قرره شيخنا الأعظم قدسسره وحكي عن القوانين ـ أنه يستلزم تحليل الحرام وتحريم
الحلال ، إذ لا يؤمن أن يكون ما أخبر بحليته حراما وبالعكس.
والمحتمل بدوا
رجوع الوجه المذكور إلى أحد محاذير ثلاثة.
الأول : لزوم تفويت ملاكات الأحكام الواقعية ، وهو قبيح ، بل
يلزم نقض الغرض الداعي لجعل الأحكام الواقعية ، وإن لم يكن من سنخ الملاك الراجع
للمصالح والمفاسد في المتعلقات ، وهو ممتنع مطلقا.
الثاني : لزوم اجتماع الحكمين المتضادين أو المتناقضين ، وهو
محال.
الثالث : لزوم التشريع القبيح ، لما يستلزمه من إدخال ما ليس
من الدين في الدين ، ونسبة ما لم يصدر من الشارع الأقدس له.
لكن الثالث
ظاهر الدفع. إما لأن التعبد الشرعي رافع لقبح نسبة ما يصدر من الشارع له ، ومخرج
له عن التشريع ، لاختصاص القبح الواقعي بما إذا كانت النسبة من غير حجة ، ولذا لو
استندت للقطع المخالف للواقع فلا قبح واقعا. أو لأن الالتزام بمؤدى الطريق والأصل
لا يقتضي الالتزام بأنه الحكم الشرعي الثابت واقعا ، ليلزم نسبة ما لم يصدر من
الشارع له ، بل الالتزام بأنه الحكم الذي أدى إليه التعبد الشرعي الظاهري ، وهو
مطابق للواقع. ويأتي في الأمر الثاني عند
الكلام في مقتضى الأصل المعول عليه عند الشك في الحجية توضيح ذلك إن شاء
الله تعالى.
فالعمدة في
المقام المحذوران الأولان. ومن الظاهر أنهما مبنيان على ما عليه أهل الحق من
التخطئة ، ولا موضوع لهما على التصويب المنسوب للأشاعرة ، بل ولا على التصويب
المنسوب للمعتزلة ، لعدم ثبوت الحكم الواقعي وعدم فعلية ملاكه على خلاف الطرق
والأصول الشرعية ، ليلزم تفويت ملاكه أو جعل حكم مضاد له من قيامها. فما يظهر من
غير واحد في دفع المحذورين المذكورين بما يناسب التصويب المنسوب للمعتزلة خروج عما
هو مفروض الكلام ـ ويظهر التسالم عليه بين أهل الحق ـ من بطلان التصويب بكلا وجهيه.
وحينئذ يلزم النظر في المحذورين معا.
المحذور الأول : تفويت الملاكات الواقعية. والظاهر ـ كما ذكره غير
واحد ـ أنه لا يلزم لو علم الشارع الأقدس انسداد باب العلم الموصل للواقع ، إما
لخطأ القطع الحاصل للمكلف أو لعدم تيسر القطع له وعدم وجوب الاحتياط معه لأصالة
البراءة العقلية أو للزوم محذور عقلي من الاحتياط ، بحيث لا يلزم من نصب الطرق
والأصول غير العلمية فوت الواقع بقدر أكثر مما يلزم مع عدم نصبها ورجوع المكلف
لقطعه أو للأصل مع عدمه.
ودعوى : أن فوت
الواقع مع خطأ القطع قهري ، لعدم التفات القاطع إلى خطأ قطعه ، بخلافه مع التعبد
بغير العلم ، فإنه تفويت اختياري مستند للشارع فيقبح. كما ترى ، إذ مع فرض فوت
الواقع على كل حال بسبب انسداد باب العلم لا معنى لاستناده للشارع الأقدس.
نعم في تمامية
ذلك في محل الكلام إشكال ، بل منع ، بعد ملاحظة الطرق والأصول الجارية في الشبهات
الموضوعية التي هي معرضة للخطإ الكثير ، ولا سيما مع ما هو المعروف من عدم وجوب
الفحص فيها ، ومع جريان
جملة منها في موارد قاعدة الاشتغال المقتضية للاحتياط كقاعدتي الصحة
والتجاوز والفراغ ، بل وقاعدتي الحل والطهارة وغيرهما. على أن محل الكلام ليس هو
تصحيح جعل الطرق والأصول الثابتة الجعل ، كي يكفي احتمال ثبوت المصحح المذكور فيها
، بل إمكان نصب الطرق والأصول غير العلمية مطلقا ولو مع لزوم فوت الواقع منها. ومن
هنا لا بد من النظر في دفع المحذور المذكور.
والمذكور في
كلامهم وجوه لا مجال لإطالة الكلام فيها. ولا سيما مع ابتناء بعضها على الكلام في
حقيقة التكليف المولوي وحقيقة الإرادة التشريعية التي هي المعيار فيه ، وقد سبق
منا في مقدمة علم الأصول بعض الكلام في ذلك. والعمدة في المقام وجهان :
الأول : ما ذكره شيخنا الأعظم قدسسره من إمكان الالتزام بتدارك الملاكات الفائتة بمصلحة
متابعة الطرق ، فقيام الطرق لا يوجب تبدل الملاكات الواقعية الثابتة لأفعال
المكلفين ، ليلزم تبدل أحكامها الواقعية ـ كما هو مقتضى التصويب المنسوب للمعتزلة
ـ بل يوجب حدوث مصلحة في نفس سلوك الطرق ومتابعتها يكون بها تدارك ما فات من تلك
الملاكات بسبب عمل المكلف على الطرق المذكورة.
لكن لا ملزم
بالتدارك ، إذ مع كون الملاك الواقعي أهم من مصلحة متابعة الطريق لا ينفع تداركه
بها في قبح تفويته ، ومع كونها هي الأهم ـ كما لعله مفروض كلامه ـ لا يقبح تفويته
من أجلها ولو مع عدم التدارك.
على أن ما ذكره
يشكل بأن متابعة الطريق لما كانت بفعل المكلف كانت من عناوينه الثانوية ، فيكون
فعله واجدا للملاكين ، الملاك الثابت له بعنوانه الأولي المقتضي للحكم الواقعي ،
والملاك الثابت له بعنوانه الثانوي وهو كونه متابعة للطريق ، ومع أهمية الثاني
يتعين فعلية الحكم التابع له وسقوط الحكم الواقعي عن الفعلية ، وهو راجع للتصويب
المنسوب للمعتزلة الذي فر منه ،
والذي سبق أن الكلام في المقام مبني على بطلانه.
الثاني : ما ذكره المحقق الخراساني قدسسره من أن المصحح لتفويت الملاكات الواقعية هو المصلحة
الملزمة بنصب الطرق والتعبد بها ، نظير مصلحة التسهيل ، فنصب الطرق لا يقتضي
سلوكها ومتابعتها التي هي من عناوين فعل المكلف الثانوية ليزاحم الملاكات الواقعية
ويمنع من فعليتها وفعلية أحكامها ، بل هو نفسه مشتمل على المصلحة الملزمة لتفويت
الملاكات الواقعية مع فعليتها وفعلية أحكامها. وذلك يجري في التعبد بالأصول أيضا.
وقد يستشكل في
ذلك أيضا ـ كما يستفاد من بعض الأعيان المحققين وغيره ـ برجوعه إلى التزاحم بين
ملاكات الأحكام الواقعية وملاك نصب الطرق ، لامتناع استيفاء كلا الملاكين ، بل
استيفاء الثاني مانع من استيفاء الأول ، فمع أهمية الملاكات الواقعية يتعلق الغرض
الفعلي للمولى بجعل الأحكام الواقعية على طبقها ، ويمتنع نصب الطرق المخالفة لها ،
لما فيه من تفويت تلك الملاكات ونقض الغرض الفعلي ، ومع أهمية ملاك نصب الطرق يلزم
رفع اليد عن الملاكات الواقعية وسقوط أحكامها عن الفعلية ، وهو خلاف المفروض وراجع
للتصويب.
وبعبارة أخرى :
تعلق الغرض والإرادة الفعليين على طبق الأحكام الواقعية ينافي نصب الطرق المؤدية
إلى خلافها بعين التنافي بين إرادة الشيء وإرادة ما يمنع عنه.
لكن الظاهر
اندفاع ذلك بوجهين :
أحدهما : أن فعلية الملاك في الفعل التي تقتضي السعي لتحصيله
إنما هي ببلوغه مرتبة من الأهمية يكون بها الفعل الواجد له مما ينبغي حصوله ، بحيث
لو حصل لكان في محله مرغوبا في حصوله بلحاظ ذاته ولحاظ الجهات المقارنة له ، ولو
لم يحصل كان مأسوفا عليه يتمنى حصوله بلحاظ ذاته وبلحاظ
تلك الجهات.
وحينئذ فامتناع
الجمع بين الغرضين وتعذر استيفائهما معا في الخارج إنما يمنع من فعليتهما معا في
حق الشخص الواحد ، فيما إذا كانا في عرض واحد ، راجعين معا إلى مقام الثبوت أو إلى
مقام الإثبات والتحفظ على الواقع ، كما إذا تعذر الجمع بين حفظ المال وحفظ الصحة ،
أو بين حفظ كرامة الشاهد المقتضي لقبول شهادته وإن احتمل معها فوت الواقع ،
والاهتمام بحفظ الواقع المقتضي للاحتياط فيه وعدم الاكتفاء بغير العلم.
أما إذا كان
أحدهما راجعا إلى مقام الثبوت ، والآخر إلى مقام الإثبات والتحفظ على الواقع ، فلا
مانع من فعليتهما معا ، كما لو لم يكن بينهما تزاحم ، من دون أن يكون احتمال فوت
الملاك الراجع إلى مقام الثبوت لأجل الملاك الراجع إلى مقام الإثبات والتحفظ
منافيا لفعلية الملاك الراجع إلى مقام الثبوت بالمعنى المذكور للفعلية.
مثلا : إذا
اقتضى علاج المرض استعمال الدواء على رأس كل ساعة ولم يمكن إحراز ذلك كاملا إلا
بشراء المنبه ، وكان شراؤه مجحفا بالمريض ، فقد يكون العلاج المذكور من الأهمية
بنحو يلزم بتحمل الإجحاف المذكور ، وقد لا يبلغ ذلك إما لعدم أهمية المرض كثيرا ،
أو لعدم استلزام الإخلال بالموعد في بعض المرات تعذر العلاج ، بل عدم كماله ،
وحينئذ لا يقدم المريض على شراء المنبه وإن احتمل الإخلال بالموعد في بعض الوقائع
من دون أن يخرج استعمال الدواء في الموعد فيها عن الفعلية ، ولذا لو حصل صدفة بلا
علم بالوقت كان وافيا بالغرض الفعلي ، كما لو حصل مع العلم بالوقت ، بخلاف ما لو
كان استعماله في الموعد في بعض الوقائع مستلزما لمحاذير ثبوتية ، كالتعرض للبرد
المضر بالبدن من جهة أخرى أو الضرر المالي المجحف في نفس العلاج ، كغلاء الدواء
ونحوهما مما يمنع من فعلية الغرض فيه ثبوتا ،
بحيث لو وقع لم يكن مطابقا للغرض الفعلي على نحو غيرها من الوقائع غير
المزاحمة من تلك الجهة.
وكذا لو كان
التأكد من حفظ المال موقوفا على استئجار حارس له ، وكان استئجاره مجحفا بالمالك ،
فإن عدم استئجاره لا ينافي فعلية ملاك حفظ المال ، بحيث لو بقي ولم يسرق مع عدم
الحارس لكان مرغوبا في بقائه ، بخلاف ما لو كان بقاء المال مستلزما ثبوتا لتعرض
المالك لضرر مهم ، حيث يخرج ملاك حفظه عن الفعلية ويرغب في تلفه والتخلص منه.
نعم قد يكون
التزاحم بين الملاكين وفعلية ملاك مقام الإثبات مستلزما لضعف ملاك مقام الثبوت من
دون أن يسقط عن الفعلية.
وعلى ذلك حيث
كان ملاك نصب الطرق في المقام في طول ملاك الأحكام الواقعية وراجعا للتحفظ عليها ،
فتعذر الجمع بينهما وأهمية ملاك نصب الطرق وإن تعرضت للخطإ وتفويت الواقع لا ينافي
فعلية الملاكات وفعلية الأحكام الواقعية التابعة لها.
ثانيهما
: أنه سبق عند
الكلام في حقيقة الأحكام التكليفية أن قوام التكليف هو الإرادة التشريعية المتقومة
بالخطاب بداعي جعل السبيل ، وأنها مخالفة سنخا للإرادة الحقيقية التكوينية التي هي
عبارة عما يستتبع السعي لتحصيل المراد ، وأنهما قد يجتمعان ، بأن تتعلق بفعل
المكلف إرادة المولى التكوينية والتشريعية معا ، وحينئذ لا بد من تحقق الإطاعة من
المكلف مع قدرة المريد ، حيث تعين على المولى تهيئة أسباب الإطاعة ، بإيصال الحكم
للمكلف ، وحمله على إطاعته بالترغيب أو الترهيب أو التوفيق أو الهداية أو غيرها.
وقد يفترقان ، فلا يلزم تحقق الإطاعة من المكلف ، بل قد تتعلق الإرادة بمخالفة
التكليف بتهيئة أسبابها من الخذلان أو نحوه ، من دون أن يخل ذلك بصدق التكليف.
وحينئذ نقول :
لا بد في الملاك الثابت لفعل المكلف ، المصحح لتعلق الإرادة التشريعية به ،
والمستتبع للتكليف ، من أن يبلغ مرتبة الفعلية في حق المكلف ، بحيث ينبغي له
تحصيله بموافقة التكليف ، فمع بلوغه المرتبة المذكورة يتعين جعل التكليف تشريعا
وفعليته. ولا ملزم مع ذلك ببلوغه مرتبة الفعلية في حق المولى ، بحيث ينبغي له
تحصيله بتهيئة أسباب الإطاعة ، بل ذلك إنما يلزم مع تعلق إرادته التكوينية به
زائدا على الإرادة التشريعية ، وقد سبق إمكان افتراقهما.
وبذلك يظهر أن
نصب الشارع الطرق الموجبة لفوت الأحكام الواقعية ، لمصلحة تقتضي ذلك ، كمصلحة
التسهيل ، لا ينافي فعلية تلك الأحكام وفعلية ملاكاتها ، ليلزم التصويب ، ولا
يستلزم نقض الغرض ، لأن المعتبر في فعلية الحكم فعلية الملاك في حق المكلف ، لا
فعليته في حق المولى وتعلق غرضه بحفظه ، كي ينافي تفويته له بنصبه للطرق المذكورة.
ومن هنا كان ما ذكره المحقق الخراساني قدسسره وافيا بدفع المحذور.
المحذور الثاني : اجتماع الحكمين المتضادين. وهو لازم في صورة عدم
إصابة الطرق والأصول للواقع ، كما يلزم اجتماع الحكمين المتماثلين مع إصابتهما له.
ودعوى : أنه مع
التماثل يتعين التأكد وثبوت حكم واحد بمرتبة شديدة.
مدفوعة
أولا : بأن لازم
ذلك أن الحكم الواقعي إن كان منجزا بمطابقة الحكم الظاهري له لزم تأكد الثواب
والعقاب بالطاعة والمعصية ، بحيث يكونان أشد من الثواب والعقاب الثابتين مع القطع
بالحكم الواقعي الذي لا يستتبع حكما ظاهريا ، وإن لم يكن منجزا لزم كون الثواب
والعقاب على الحكم الظاهري. وكلاهما كما ترى.
وثانيا
: بأن التأكد
بين الحكمين المتماثلين إنما يكون مع اتحادهما
سنخا ، وحينئذ يلزم مع التخالف والتضاد ترتب آثار اجتماع الحكمين المختلفين
بعنوانين ، فيقدم الإلزامي على غيره ، والاقتضائي على غيره ، ويقع التزاحم بينهما
لو كانا مختلفين اقتضاء ، فيقدم الأهم ويتساقطان مع عدم المرجح. ومن الظاهر عدم
الالتزام بذلك في المقام. فالتحقيق أنهما مختلفان سنخا ، فلا يتأكد أحدهما بالآخر
مع التوافق ، ولا يتزاحمان مع التضاد.
ومن هنا لا بد
من ملاحظة ذلك في المقام عند الكلام عن كيفية الجمع بينهما مع التماثل والتضاد.
وقد كثر النقض والإبرام في العصور المتأخرة في توجيه الجمع بين الحكمين ، وتضمنت
كلماتهم ـ على شدة الاختلاف بينها ـ وجوها كثيرة يبتني جملة منها على أمور ..
الأول : الترتب بين الحكمين ، لأخذ الجهل بالحكم الواقعي في
موضوع الحكم الظاهري.
الثاني : عدم ترتب العمل على الأحكام الواقعية بسبب الجهل بها.
الثالث : عدم صدور الأحكام الظاهرية عن المصالح والمفاسد في
المتعلقات ، بل عن مصلحة في نفس جعل الحكم.
مع أن التأمل
قاض بعدم دخل ذلك كله في تصحيح الجمع بين الحكمين المتضادين والمتماثلين ، ولذا لا
يصح اجتماع الحكمين الواقعيين المتضادين ولو مع الترتب بينهما ـ بأخذ أحدهما في
موضوع الآخر ـ أو مع الجهل بأحدهما أو بهما معا ، أو مع صدور أحدهما أو صدورهما
معا عن مصلحة في نفس الحكم لا في المتعلق. ومن ثم كان الدليل على الحكم الواقعي
دليلا على نفي الحكم المضاد له بأي نحو فرض. مضافا إلى الإشكال في تفاصيل الوجوه
المذكورة بما يضيق الوقت عن استيعابه.
ولنقتصر في
المقام على ما هو المختار لنا بعد النظر في كلمات الأعلام والتأمل في حقيقة
الحكمين ، فنقول بعد التوكل على الله تعالى وطلب
التسديد منه :
الكلام في
الوظائف الظاهرية يكون ..
تارة
: في موارد
الطرق والأمارات.
وأخرى : في موارد الأصول التعبدية المتضمنة للتعبد بأحد طرفي
الاحتمال ، كالاستصحاب وأصالتي الحل والطهارة وقاعدتي الفراغ والفراش وغيرها.
وثالثة
: في بقية
الأصول مما يتضمن بيان الوظيفة العملية من دون تعبد بشيء كأصالتي البراءة
والاحتياط.
فهنا مقامات ..
المقام الأول : في الطرق والأمارات
وقد تقدم في
مقدمة علم الأصول عند الكلام في حقيقة الحجية أن مرجع اعتبار الطرق والأمارات ليس
إلى وجوب العمل على طبقها ظاهرا ـ ليكون الوجوب المذكور حكما لعمل المكلف مماثلا
لحكمه الواقعي أو منافيا له ـ بل إلى جعل حجيتها شرعا ، وأن الحجية من الأحكام
الوضعية المجعولة بنفسها ، وليست منتزعة من وجوب العمل بالطريق أو جوازه ، ومن
الظاهر أن حجية الطريق لا تضاد الحكم الواقعي ، ولا تماثله ، بل هي مباينة له سنخا
وموضوعا واقعة في طوله ، ولا موضوع معها للإشكال المذكور.
المقام الثاني : في الأصول التعبدية
والظاهر من
جملة من كلماتهم أن مفاد أدلتها جعل حكم ظاهري شرعي في مواردها ، بل هو صريح بعضها
، قال المحقق الخراساني قدسسره في حاشيته على الرسائل : «وأما الأصول التعبدية ... فهي
أحكام شرعية فعلية حقيقية ، بداهة أن : كل شيء حلال ، إباحة فعلية وترخيص حقيقي في
الاقتحام في الشبهة من الشارع ، كالترخيص في المباحات الواقعية. والتفاوت بين
الترخيصين بكون
موضوع أحدهما الشيء بعنوانه الواقعي وموضوع الآخر بعنوان كونه مجهول الحكم
لا يوجب التفاوت بينهما بالحقيقة والصورة ، كما لا يخفى». ومن ثم يقع الإشكال في
الجمع بين الحكمين.
لكن ارتكاز
التنافي بين جعل الحكم في ظرف الشك مع إطلاق موضوع الحكم الواقعي ـ المستفاد من
الغاية التي تضمنتها الأدلة المذكورة ، لظهورها في أن العلم بالواقع طريق محض لا
دخل له في الحكم الواقعي أصلا ـ مانع من ظهور الأدلة المذكورة في جعل الحكم في ظرف
الشك ، بل هي ظاهرة لأجل ذلك في التعبد بالحكم أو الموضوع عند الشك فيهما الراجع
إلى البناء على تحققهما إثباتا في مقام العمل ، كالبناء عليهما مع قيام الحجة
عليهما ، بل ومع العلم بهما. غاية الأمر أن البناء المذكور لازم للعلم تكوينا بلا
حاجة للجعل ، وفي موارد الطرق متفرع على جعل حجية الطريق ، أما هنا فهو تابع
للتعبد بمؤدى الأصل ابتداء.
وإن شئت قلت :
ليس في المقام نوعان من الحكم واقعي وظاهري على الموضوع الواحد ، ليشكل الجمع
بينهما ، بل الحاكم .. تارة : يجعل الحكم على موضوعه ثبوتا.
وأخرى : يعبد به أو يعبد بموضوعه ـ المستلزم عرفا للتعبد به ـ
بنحو يقتضي البناء على أحدهما إثباتا في مقام العمل بعد الفراغ عن مقام الثبوت وفي
رتبة متأخرة عنه ، والأول هو مفاد أدلة الأحكام الشرعية الواقعية ، والثاني هو
مفاد أدلة الأصول المذكورة.
بل ذلك كالصريح
من دليل الاستصحاب ، لعدم التعرض فيه لما يوهم جعل المستصحب أو أحكامه ، بل لم
يتضمن إلا لزوم العمل على مقتضى اليقين السابق ، وحيث لا يتضمن اليقين جعل المتيقن
، بل الإذعان بثبوته ، كان مفاد الاستصحاب البناء على الثبوت لا غيره.
ولا سيما مع
عموم دليله للحكم الشرعي والموضوع الخارجي معا ، مع وضوح امتناع جعل الثاني شرعا.
وحمل جعله على جعل حكمه تكلف ، لا يناسب وحدة دليل الجعل في الأمرين جدا ، بخلاف
ما لو حمل على ما ذكرنا ، لإمكان التعبد بالمعنى المذكور في الحكم والموضوع معا.
كما أن ما تضمن
التعبد بالعنوان وإن كان بعضه واردا في الحكم الشرعي القابل للجعل ـ كقاعدتي
الطهارة والحل ـ وبعضه واردا في الموضوع الخارجي ـ كقاعدتي التجاوز والفراش ـ إلا
أن حمله بقسميه على جعل المؤدى والحكم به مستلزم للتفكيك بين القسمين بحمل الأول
على جعل نفس العنوان المحمول والثاني على جعل أحكامه ، وهو لا يناسب وحدة لسان
الدليل في القسمين أو تقاربهما فيه ، بخلاف حملهما معا على التعبد بالعنوان
بالمعنى الذي ذكرنا.
بل ما ذكرنا هو
مقتضى مناسبة الحكم والموضوع ، فإن الجهل بالحكم أو الموضوع لما كان يقتضي التحير
في مقام العمل من حيثيتهما كان المناسب رفع التحير المذكور ، وذلك بورود أدلة
الأصول لبيان التعبد بالواقع المجهول ، لأنه هو الرافع للتحير ، لا لجعل حكم آخر ،
إذ الجهل بنفسه لا يقتضي الحاجة لذلك ، لتنصرف الأدلة له.
وبذلك افترقت
أدلة الأصول ـ التي موضوعها الجهل بواقع يترتب عليه العمل الذي هو سبب للتحير ـ عن
غيرها من القضايا التي لم يؤخذ الجهل في موضوعها ، إذ لا مورد في الأخيرة للتحير
الذي يحتاج معه للتعبد في مقام العمل ، بل لا موضوع معها للتعبد بعد عدم فرض واقع
مجهول ، فيتعين حملها على جعل الحكم ثبوتا ، بخلاف أدلة الأصول ، لما ذكرنا.
ومن هنا يظهر
عدم التنافي بين الحكم الواقعي ومفاد الأصل التعبدي ، بل الثاني في طول الأول
متفرع عليه تفرع مقام الإثبات على مقام الثبوت ، مع
التباين بينهما موضوعا وسنخا.
المقام الثالث : في الأصول غير التعبدية
وهي التي تتضمن
بيان الوظيفة العملية من دون تعبد بواقع مجهول. وتنحصر ظاهرا بالبراءة والاحتياط.
وقد يشكل الأمر
فيها بلحاظ أنها حيث لا تتضمن التعبد بالواقع المجهول ، بل ببيان الوظيفة العملية
في الواقعة ابتداء ، الذي هو نحو من الحكم الشرعي في الواقعة ، فمقتضى الوظيفة
فيها إن خالف مقتضى الحكم الواقعي عملا لزم اجتماع الضدين ، وإن وافقه لزم اجتماع
المثلين.
لكن لا موقع
للإشكال بناء على عدم تضمنها الحكم شرعا بالإلزام أو الترخيص في مورد الشك ، بل
مجرد بيان أهمية التكليف المجهول عند الشارع بنحو يقتضي حفظه على تقدير ثبوته ، أو
عدم أهميته كذلك ، حيث يكفي الأول في تنجز التكليف عقلا كما لو وصل التكليف أو
عبدنا الشارع به ، والثاني في عدم تنجزه وثبوت المعذرية عنه عقلا. لوضوح أن أهمية
التكليف بالنحو المذكور وعدمها من شئون التكليف الواقعي المحتمل ، من دون أن يكون
حكما آخر مضادا له أو مماثلا له.
وأما بناء على
تضمنها الحكم بذلك فالحكم المذكور لا يضاد الحكم الواقعي ولا يماثله ، بل هو مخالف
له سنخا وفي طوله ـ لا بلحاظ أخذ الجهل به في موضوعه ـ بل لأنه راجع لمقتضى
الوظيفة فيه على تقدير الجهل به من سعة تقتضي البراءة ، أو كلفة تقتضي الاحتياط.
كما أنه تابع لأهميته ، لا لملاك مستقل عنه ، نظير حكم العقل الظاهري بالبراءة
والاحتياط ، حيث لا يكون مخالفا للحكم المولوي الواقعي ، ولا موافقا له ، وليس هو
كحكمه بالتحسين والتقبيح الواقعيين.
غايته أن حكم
الشارع بأحد الأمرين إن كان مخالفا لمقتضى حكم العقل
الظاهري كان واردا عليه رافعا لموضوعه ، وإن كان موافقا له كان إمضاء له
وبيانا لعدم جعل الرافع له.
ولأجل ذلك كان
عدم التضاد والتماثل بين الأحكام الواقعية والحكمين المذكورين أمرا ارتكازيا جليا
عند العقلاء ، مع وضوح التماثل والتضاد عندهم بين الأحكام الواقعية بنفسها ، وبين
الأحكام الظاهرية كذلك.
وبما ذكرنا
يظهر أنه لو غض النظر عما ذكرنا في المقامين الأولين وبني على رجوع جعل الطرق
والأصول التعبدية إلى الأمر والترخيص بالعمل على مفادها لزم حمل الأمر والترخيص
المذكورين على أنهما من سنخ الحكم بالاحتياط والبراءة في طول الأحكام الواقعية ،
وليسا راجعين إلى حكم شرعي في قبال الحكم الواقعي ، فرارا من محذور التضاد
والتماثل بين الحكمين. إلا أنا في غنى عن ذلك هناك بما سبق ، وإنما نحتاج إليه في
هذا المقام لا غير.
الأمر الثاني : في مقتضى الأصل الذي يرجع إليه عند الشك في الحجية.
لا إشكال ـ في
الجملة ـ في أن الأصل عدم الحجية فيما شك في حجيته.
إلا أن الظاهر
اختلاف الكلام باختلاف آثار الحجية المترتبة عليها.
وتوضيح ذلك : أنهم ذكروا للحجية أثرين :
الأثر الأول : ما يرجع لمقام العمل بمؤدى الحجة ، وهو المنجزية
والمعذرية بالإضافة إلى الأحكام الواقعية المستتبعان للعمل عليها. وهو الأثر المهم
في المقام لمناسبته لعلم الأصول. ولا ريب في كونه حكما عقليا محضا.
كما لا ريب في
أنه مع الشك في الحجية لا يحكم العقل بها ، وأن ما هو المعذر والمنجز فعلا هو ما
ثبت حجيته والتعبد به من قبل المولى.
ومن ثم فقد
يستشكل في التمسك بأصالة عدم الحجية مع الشك فيها ، لأنه يكفي في عدم العمل بمشكوك
الحجية الشك في حجيته الحاصل بالوجدان ، بلا حاجة إلى التعبد بعدم الحجية الذي هو
مفاد الأصل ، بل يلغو
ذلك.
لكن الظاهر أن
اعتبار وصول الحجية في ترتب الأثر المذكور ليس لكون الوصول مقوما لمقتضى الأثر
وموضوعه ثبوتا ، بل لكونه شرطا في فعليته إثباتا ، مع كون تمام المقتضي والموضوع
هو التعبد الشرعي الواقعي. نظير اعتبار وصول التكليف في ترتب الأثر عليه ، وهو
لزوم الإطاعة ، مع كون تمام الموضوع والمقتضي له بنظر العقل هو التكليف الواقعي
بنفسه ، من دون أن يكون وصوله دخيلا فيه ثبوتا.
وحينئذ فعدم
العمل بالطريق مع الشك في حجيته إنما يكون بملاك عدم حصول شرط المعذرية والمنجزية
، بخلاف عدمهما مع إحراز عدم الحجية ، فإنه بملاك إحراز عدم المقتضي لهما ، ومثل
هذا الاختلاف كاف في الأثر المصحح للتعبد ارتكازا. ومن ثمّ جرى استصحاب عدم
التكليف ، مع أن الشك في التكليف كاف في البراءة منه وعدم وجوب العمل عليه عقلا.
هذا وقد يستدل
على عدم حجية ما شك في حجيته بإطلاق ما دل على عدم الاعتماد على غير العلم كقوله
تعالى : (وَلا تَقْفُ ما
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ
كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) ، وما دل على عدم الاعتماد على الظن وأنه لا يغني عن
الحق شيئا ، ونحو ذلك.
لكن لم يتضح
ورود الآية الشريفة فيما نحن فيه من عدم الاعتماد على غير العلم في مقام العمل ،
بل لعل المراد بها بيان حرمة التعبد والتدين والفتوى من غير علم تكليفا ، كما
يناسبه ذيلها. وحسن علي بن جعفر أو صحيحه عن أخيه عن آبائه عليهمالسلام في حديث أنه قال : «ليس لك أن تتكلم بما شئت ، لأن الله
__________________
عزوجل يقول : (وَلا تَقْفُ ما
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)».
على أنها لو دلت
على ذلك فهي ـ ككثير من الأخبار المتضمنة أنه لا عمل إلا بعلم ، وأن من عمل على
غير علم كان ما يفسده أكثر مما يصلحه ـ منصرفة إلى من لا يعلم لا بالواقع ولا بالحجية ، ولو
لأنه مقتضى الجمع بينه وبين ما دل على حجية كثير مما لا يفيد العلم ، فإن الجمع
بذلك أقرب من الجمع بتخصيص العموم المذكور ، فإنه آب عن التخصيص عرفا ، لانصرافه
إلى بيان معنى ارتكازي. فهو نظير ما ورد من أن العامل على غير بصيرة كالسائر على
غير الطريق لا يزيده سرعة السير إلا بعدا. وحينئذ لا تنهض ببيان عدم حجية ما لا
يفيد العلم واقعا ، ليتجه الاستدلال بعمومه مع الشك في الحجية.
وأما ما تضمن
عدم الاعتماد على الظن فهو وإن كان ظاهرا في عدم حجيته في مقام العمل ، إلا أنه
إنما يدل على عدم حجية الظن بما هو ظن ، ولا ينافي حجية بعض ما يوجب الظن نوعا
بخصوصيته ، كخبر الثقة.
مع أنه ظاهر في
الإشارة إلى أمر ارتكازي عقلائي لا تأسيسي للشارع تعبدي ، ولذا ورد مورد الذم
والتبكيت للكفار والاحتجاج عليهم ، ولا يحسن الاحتجاج عليهم بالقضايا التعبدية
الصرفة ، فيختص بالظنون غير المعتمدة عند العقلاء.
نعم قد يستدل
بإطلاق أدلة الأصول المتضمنة عدم رفع اليد عنها إلا بالعلم ، فإن مقتضى الحصر
المذكور عدم ترتب العمل على غير العلم ، بل لزوم العمل بمقتضى الأصل ، وهو راجع
لعدم حجيته في مقام العمل.
لكن الظاهر ولو
بضميمة أدلة حجية الحجج غير العلمية أن أخذ العلم في
__________________
أدلة الأصول ليس لخصوصيته خاصة ، بل بما هو طريق فيقوم مقامه سائر الطرق ،
ومرجع ذلك إلى أن الغاية مطلق الطريق ، بل مطلق الإحراز ولو بالأصل ، فلا ينافي
طريقية غير العلم وحجيته شرعا ، لينهض بالاستدلال في المقام. ويأتي في الفصل الأول
ما ينفع المقام.
الأثر الثاني : جواز التدين بمؤدى الحجة ونسبته للمولى والفتوى
بمضمونه تكليفا. وليس هو أثرا مهما في المقام ، لعدم دخله بمقام العمل بالحجة ، بل
هو حكم فرعي خارج عن محل الكلام.
ويقتضيه ـ مضافا
إلى الآية المتقدمة بالتقريب المتقدم ـ قوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ
عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا
مِنْهُ الْوَتِينَ* فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) ، والنصوص الكثيرة الدالة على حرمة الفتوى والتدين بغير
علم ، وما تضمن أن القضاة أربعة ثلاثة منهم في النار وهم من يقضي بالباطل وهو لا
يعلم ، ومن يقضي به وهو يعلم ، ومن يقضي بالحق وهو لا يعلم ، وما تضمن من أن حق
الله على العباد الوقوف عند ما لا يعلمون . مضافا إلى الإجماع المعتضد بالمرتكزات المتشرعية.
والمستفاد من
مجموع الأدلة أن موضوع الحرمة هو عدم العلم بالواقع ولا بقيام الحجة ، فيحرم واقعا
التدين والفتوى بالشيء ولو مع ثبوته واقعا ، ومع العلم بأحدهما يجوز واقعا التعبد
والفتوى بالشيء ولو مع عدم ثبوته واقعا.
وبذلك يظهر أن
أصالة عدم الحجية لا أثر لها في المقام ، إذ يكفي في حرمة التدين والفتوى الشك في
الحجية الحاصل بالوجدان بلا حاجة إلى التعبد بعدمها بالأصل ، وهذا بخلاف مقام
العمل بالحجة ، حيث سبق عدم لغوية
__________________
الأصل المذكور وترتب العمل عليه. فلاحظ.
كما ظهر أنه لا
مجال للتمسك بما دل على عدم جواز التدين والفتوى بغير علم لإثبات عموم عدم حجية
غير العلم بتقريب : أن ملازمة جواز التدين والفتوى للحجية تقتضي عدمها عند عدمهما.
لاندفاعه بأنه حيث كان المراد من عدم العلم هو عدم العلم لا بالواقع ولا بالحجية
فهو لا ينهض ببيان موارد عدم الحجية الواقعية. وقد تقدم عند الكلام في الأثر الأول
ما ينفع في المقام. فراجع.
بقي في المقام أمران :
الأول : أشرنا قريبا إلى دعوى الملازمة بين الحجية وجواز
التعبد بمؤدى الحجة والتدين به ونسبته للمولى والفتوى به. وظاهرها جواز التعبد به
ونسبته للمولى على أنه الحكم الواقعي ، كما لو علم به.
وهو لا يخلو عن
إشكال لانصراف دليل الحجية إلى خصوص مقام العمل بالحجة ، لأنه الغرض المهم منها ،
لا إلى جواز نسبة الحكم للمولى مع عدم العلم به. ولا سيما مع كون غالب الطرق عقلائية
، وظاهر أدلتها إمضاء طريقة العقلاء في العمل بها ، لوضوح عدم بناء العقلاء على
ترتيب غير العمل عليها ، بل حتى ما كان منها تعبديا محضا لا ظهور لأدلته إلا في
جعل الحجية له على نحو حجية الطرق العقلائية ، لا بنحو زائد على ذلك.
وعلى ذلك لا بد
في البناء على جواز التدين والنسبة اعتمادا على الحجة من دليل آخر غير دليل الحجية
، كما قد يدعى ورود بعض النصوص به ، فيخرج بها عما دل على عدم جواز النسبة والتعبد
والفتوى بما لا يعلم مما تقدمت الإشارة إليه. وإن كان الظاهر عدم نهوضها بذلك.
وللكلام مقام آخر.
ومن هنا
فالظاهر عدم جواز التدين بالمؤدى والنسبة له إلا على أنه الحكم الظاهري والوظيفة
العملية التي أذن الشارع في الجري عليها ، فإنه معلوم
بالوجدان بسبب دليل الحجية ، فيكون من التدين والفتوى بعلم.
الثاني : حيث تقدم أن الأصل عدم حجية غير العلم فالظاهر أن
مقتضى الأصل أيضا حجية الطرق العقلائية الارتكازية ، بحيث لا يحتاج البناء على
حجيتها إلى إحراز إمضاء الشارع لها ، وإن أمكن ردع الشارع عنها.
وتوضيح ذلك :
أن سيرة عامة الناس وتعارفهم على العمل بطريق ..
تارة
: تكون مستندة
لأمر خارج عنهم طارئ عليهم ، كحاجتهم إليه في خصوص زمان ، أو مكان ، أو حملهم عليه
من جهة خاصة ، كسلطان قاهر أو عالم ناصح ، أو جريهم عليه تبعا لعرف خاص أو لتقليد
كبرائهم أو آبائهم إلى غير ذلك.
وأخرى
: تكون ناشئة
من مرتكزاتهم التي أودعها الله سبحانه وتعالى فيهم ، وغرائزهم التي فطرهم عليها ،
بحيث يجرون عليها وحدها ، لا بلحاظ أمر خارج عنها. والظاهر أن ذلك هو المراد بسيرة
العقلاء في كلامهم ، إذ الظاهر من نسبتها إليهم جريهم عليها بما أنهم عقلاء. بخلاف
الوجه الأول فإنه مجرد عرف عام أو خاص.
أما الوجه
الأول فلا وجه لحجيته في نفسه ، كما لا مقتضي فيه للكشف عن الحجية الشرعية في مورده
، إذ لا منشأ لحمل الشارع الأقدس على الجهة الخارجية المذكورة ، كما لا وجه لحمل
غيره من الموالي على ذلك بنحو يستكشف حكمهم ، بل لا بد له من إحراز الإمضاء من
المولى الذي هو تمام المقتضي للحجية من قبله ، وبدونه لا مقتضي لها ، فلا يكفي في
البناء على مقتضى السيرة عدم الردع عنها ، فضلا عن عدم ثبوته.
نعم لو استحكمت
السيرة بنحو يغفل عن إرادة خلافها ، والتفت المولى لذلك وتيسر له الردع عنها
استفيد من عدم ردعه إمضاؤه لها الذي عرفت أنه
تمام المقتضي للحجية.
وأما الوجه
الثاني فالظاهر أنه بنفسه مقتض للحجية والعمل ، بحيث يكون مقتضى الأصل بنظر العقل
متابعتها والعمل عليها في مقام التنجيز والتعذير بين المولى والعبد ، ما لم يثبت
ردع المولى عنها. فمورد السيرة المذكورة يشترك مع العلم في ثبوت مقتضى الحجية فيه
بذاته ، وإن فارقه بأن للمولى الردع عنه ، بخلاف العلم فإنه علة تامة للحجية لا
تقبل الردع.
وعلى هذا لا
يحتاج العمل بذلك إلى إثبات الإمضاء ، كما تجشمه غير واحد في بعض الموارد ، بل ولا
إثبات عدم الردع ولو بالأصل ، بل يكفي عدم ثبوت الردع ، لحكم العقل في المقام
بلزوم متابعة المقتضي في مثل ذلك ما لم يثبت الردع ، حتى لو احتمل كون عدم الردع
لعدم تيسره للمولى ، كما يظهر بأدنى ملاحظة للمرتكزات العقلائية القطعية.
ومن ثم لا يظن
من أحد التشكيك في الإلزام والالتزام بظاهر كلام المولى مثلا لو احتمل كون عدم
ردعه عن العمل بالظهور لعدم تيسر الردع له. وكأن هذا هو مراد المحقق الخراساني قدسسره من قوله في الكفاية : «ضرورة أن ما جرت عليه السيرة المستمرة في مقام
الإطاعة والمعصية وفي استحقاق العقوبة بالمخالفة وعدم استحقاقها مع الموافقة ـ ولو
في صورة المخالفة عن الواقع ـ يكون عقلا في الشرع متبعا ما لم ينهض دليل على المنع
عن اتباعه في الشرعيات». وما يظهر من سيدنا الأعظم قدسسره من عدم ثبوت هذا الوجه في غير محله بعد ما سبق وربما
يأتي في المباحث الآتية ما ينفع في المقام.
هذا تمام
الكلام في تأسيس الأصل الذي يرجع إليه عند الشك في الحجية. فلنشرع فيما هو المقصود
بالكلام ، وهو تشخيص موارد الحجج وذلك في ضمن فصول ..
الفصل الأول
في حجية الاطمئنان
ولم يعرف القول
بحجيته على الإطلاق قبل بعض مشايخنا «دامت بركاته» ، فقد صرح بحجيته في مقابل
العلم الذي هو حجة ذاتية ، بدعوى : أنه علم عادي ، وهو حجة عقلائية ، ولم يردع
عنها الشارع الأقدس.
لكن المراد
بأنه علم عادي إن رجع إلى أنه من أفراد العلم الحقيقية الذي هو عبارة عن انكشاف
الأمر بحيث لا يحتمل معه الخلاف ، فلا وجه لجعله مقابل العلم الذي هو حجة ذاتية ،
ولا للاستدلال عليه بأنه حجة عقلائية لم يردع عنها.
وإن رجع إلى
أنه من أفراد العلم التسامحية العرفية ، لضعف الاحتمال وعدم تعويل العقلاء عليه ،
فمن المعلوم عدم التعويل على التسامح العرفي في تطبيقات العرف وتشخيص الموضوعات.
على أنه لو فرض التعويل على ذلك فهو إنما ينفع في أحكام العلم الموضوعي المأخوذة
من إطلاقات الأدلة اللفظية ، دون المأخوذة من أدلة لبية أو لفظية لا إطلاق لها ، للزوم
الاقتصار فيها على المتيقن. ولو كان داخلا في المتيقن كفى في ثبوت الحكم له بلا
حاجة إلى تكلف دعوى أنه علم عادي. كما لا ينهض ذلك بإلحاقه بالعلم الطريقي في
الحجية بعد عدم مشاركته له في الحجية الذاتية غير القابلة للردع. ومن هنا لا أثر
للدعوى المذكورة في الاستدلال على حجية الاطمئنان.
وأما دعوى :
أنه حجة عقلائية ، فهي لا تخلو من خفاء ، إذ لم يتضح من العقلاء حجية الاطمئنان
بنفسه مطلقا بما هو وإن كان ابتدائيا أو مستتبعا إلى ما
ليس حجة بنفسه ، كالرؤيا والفأل ونحوهما.
نعم لا يبعد
كفاية الاطمئنان بل الوثوق في حجية خبر غير الثقة ، على ما يأتي في محله من مبحث
حجية خبر الواحد. كما لا يبعد استفادة حجية الاطمئنان من خصوص بعض الأسباب أو في
خصوص بعض الموارد لأدلة تعبدية لفظية أو لبية ، وهو موكول للفقه ، ومحل الكلام
إنما هو عموم حجيته ببناء العقلاء.
على أنه لو تمت
الدعوى المذكورة أمكن استفادة الردع عنه من أمرين :
الأول : عموم أدلة الأصول المتضمنة عدم رفع اليد عن مقتضى
الأصل إلا بالعلم أو الاستبانة أو نحو ذلك مما يظهر منه عدم كفاية الاطمئنان في
رفع اليد عن مقتضى الأصل.
إن
قلت : تقدم في ذيل
الكلام في أصالة عدم حجية غير العلم أن العلم في تلك الأدلة ليس مأخوذا بما هو صفة
خاصة ، بل بما هو طريق ، فيقوم مقامه سائر الطرق ، لأن الموضوع في الحقيقة هو مطلق
الطريق ، ولا تنهض حينئذ تلك الأدلة ببيان عدم طريقية غير العلم لتصلح للردع في
المقام.
قلت
: هذا إنما يتم
في الطرق الخارجية غير القائمة بالنفس ـ كخبر الثقة واليد ـ دون الطرق القائمة
بالنفس ، فإن الاقتصار في بيان ما هو الطريق منها على العلم الذي هو أتم مراتب
الانكشاف ظاهر جدا في عدم حجية ما دونه من المراتب ومنها الاطمئنان. نظير عطف
البينة على العلم في حديث مسعدة بن صدقة ونحوه فإنه ظاهر في عدم حجية خبر الثقة
الواحد ، لأن الاقتصار في بيان ما هو الحجة من الخبر الحسي بما هو خبر على خبر
العدلين ظاهر في عدم حجية ما دونه كخبر العدل الواحد ، فضلا عن خبر الثقة غير
العدل ، من دون أن تنهض بالردع عن حجية مثل خبر صاحب اليد مطلقا ، أو الخبر الحدسي
من
أهل الخبرة في حق الجاهل ، أو غيرهما مما كانت حجيته لخصوصية زائدة على
كونه خبرا ، لعدم أخذ العلم والبينة فيها بخصوصيتهما ، بل بما هما طريق ، نظير ما
سبق.
الثاني
: النصوص
الخاصة الظاهرة في عدم حجية الاطمئنان بخصوصه ، كالنصوص المتضمنة للبناء على
الطهارة بالتنبيه لاحتمالات بعيدة ، مثل قوله عليهالسلام في موثق عمار في من وجد في إنائه فأرة وقد استعمل ماءه
: «وإن كان إنما رآها بعد ما فرغ من ذلك وفعله فلا يمس من ذلك الماء شيئا وليس
عليه شيء ، لأنه لا يعلم متى سقطت فيه». ثم قال : «لعله أن يكون إنما سقطت فيه تلك
الساعة التي رآها» .
وقوله عليهالسلام في صحيح زرارة فيمن رأى في ثوبه دما أو منيا في أثناء
الصلاة : «تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته ، وإن لم تشك ثم رأيته
رطبا قطعت وغسلته ثم بنيت على الصلاة ، لأنك لا تدري لعله شيء أوقع عليك» .
ومثلها ما يظهر
منه التأكيد على اليقين ، كصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما عليهالسلام : «في الذي يذكر أنه لم يكبر في أول صلاته. فقال : إذا
استيقن أنه لم يكبر فليعد ، ولكن كيف يستيقن؟» .
وصحيح زرارة
وبكير عن أبي جعفر عليهالسلام : «قال : إذا استيقن أنه زاد في صلاته المكتوبة ركعة لم
يعتد بها واستقبل صلاته استقبالا إذا كان قد استيقن يقينا» .
__________________
وصحيح محمد بن
مسلم : «سألت أبا جعفر عليهالسلام عن رجل استيقن بعد ما صلى الظهر أنه صلى خمسا. قال :
وكيف استيقن؟ قلت : علم ...» .
وقد يستأنس له
بما دل على لزوم الاحتياط في الشهادة ، مثل ما عن النبي صلىاللهعليهوآله أنه قال : «هل ترى الشمس على مثلها فاشهد أو دع» ، وما عن الصادق عليهالسلام : «لا تشهدن بشهادة حتى تعرفها كما تعرف كفك» .
ومن هنا لا
مجال للبناء على عموم حجية الاطمئنان. وإن أمكن البناء على حجيته في خصوص بعض
الموارد ، لأدلة خاصة لفظية أو لبية من دون أن تنهض بإثبات عموم حجيته الذي هو محل
الكلام في المقام.
__________________
الفصل الثاني
في حجية الظواهر
حيث كان الكلام
هو أهم أدوات البيان الذي به فضل الله تعالى الإنسان وميزه عن البهائم ، وكان
للعقلاء طرق خاصة في أداء المقاصد بالكلام ومعرفتها به جروا بمقتضى مرتكزاتهم على
سلوكها في مقام التفهيم والتفهم ، كانت الطرق حجة بمقتضى ما سبق في ذيل الكلام في
أصالة عدم حجية غير العلم من حجية سيرة العقلاء الارتكازية ما لم يصل الردع عنها
شرعا. ومن الظاهر عدم وصوله ، بل لا إشكال في عدم صدوره ، وإلا لظهر وبان ، لتوفر
الدواعي على نقله لو كان. بل حيث كان يتيسر له الردع فعدم صدوره منه موجب للقطع
بإمضائه للسيرة المذكورة ، وإلا كان مخلا بغرضه ، وهو قبيح منه. بل لا ريب في تحقق
الإمضاء منه بعد ملاحظة حاله في جريه على طريقة العقلاء المذكورة.
هذا ولا ينبغي
التأمل في عدم اقتصار العقلاء في مقام التفاهم على النصوص الكلامية الموجبة للقطع
بالمراد ، بل يكتفون بالظهورات الكلامية ، ولا يعتنون باحتمال مخالفتها للمراد
الجدي إلا بقرينة صارفة ، بل هي الأكثر شيوعا والأيسر تناولا ، لعدم تيسر ضبط
النصوص بقواعد عامة يتفق عليها الكل لا تختلف بالأحوال والأزمنة ، لعدم الضابط
للاحتمالات القريبة فضلا عن البعيدة ، فلو كان البناء على الاقتصار على ما يوجب
اليقين لاضطرب أمر التفاهم ، واختلت موازينه.
ثم إن احتمال
عدم مطابقة الظاهر للمراد الجدي يكون لأحد أمور ..
الأول
: خروج المتكلم
عن طريق العقلاء المذكور واختراعه طريقا آخر.
الثاني
: عدم صدور
الكلام لبيان المراد الجدي ، بل لغرض آخر غير عقلائي أو عقلائي ، كالخوف ، ومنه ما
إذا كان صادرا لبيان بعض المراد الجدي مما هو مورد الحاجة للبيان مع إيكال بيان
الباقي لقرائن منفصلة مخرجة عن مقتضى الظهور ، لعدم الحاجة لتعجيل بيانه.
الثالث
: غفلة المتكلم
عن مقتضى الظهور أو عن إقامة القرينة الخاصة الموجبة لتبدله لو فرض إمكان ذلك في
حقه كما في غير الشارع.
الرابع
: ضياع قرائن
احتفت بالكلام أوجبت تبدل ظهوره ، ولو بسبب غفلة السامع.
ولا إشكال في
عدم اعتناء العقلاء بالاحتمالات المذكورة ، ولا تمنع من اتباع الظهور ، بل يدفع
الأول بأصالة جري المتكلم على مقتضى الطريق المألوف للعقلاء ، ما لم يثبت منه
الردع عنه والخروج عن مقتضاه ، كما سبق ، والثاني بأصالة الجهة المعول عليها عند
العقلاء ، والثالث بأصالة عدم الخطأ والغفلة المعول عليها في غير المقام أيضا ، والرابع
بأصالة عدم القرينة. ولو لا ذلك لاختل نظام التفاهم.
هذا والظاهر أن
أصالة الظهور الراجعة إلى كون مقتضى الظهور هو المراد الجدي للمتكلم تبتني على
الأصول المذكورة بأجمعها وترجع إليها ، فهي إجمال لمؤدياتها ، وليست أصلا برأسه في
قبالها. كما أن الأصول الوجودية الأخر ـ كأصالة الحقيقة والعموم والإطلاق ونحوها ـ
راجعة إليها ومن صغرياتها ، فلا يرجع إليها لو كان الظهور على خلافها.
وأما الأصول
العدمية ـ كأصالة عدم المخصص والمقيد ونحوهما ـ فإن أريد بها نفي اتصال الأمور
المذكورة بالكلام بحيث توجب تبدل ظهوره فهي راجعة إلى أصالة عدم القرينة المتقدمة
ومن صغرياتها. وإن أريد بها نفي صدور
الأمور المذكورة منفصلة عن الكلام بنحو يرفع بها اليد عن مقتضى الظهور بعد
فرض انعقاده ـ كما هو غير بعيد ـ كانت من صغريات أصالة عدم المعارض المعول عليها
عند العقلاء أيضا.
والظاهر أن ما
ذكرنا أولى من ما ذكره شيخنا الأعظم قدسسره من رجوع أصالة الحقيقة وأخواتها إلى أصالة عدم القرينة
، ومن ما ذكره المحقق الخراساني قدسسره من إنكار أصالة عدم القرينة والاعتراف بأصالة الظهور ،
بدعوى : أن بناء العقلاء على إرادة المتكلم للظهور ليس بتوسط بنائهم على عدم
احتفاف الكلام بالقرينة ، ومن ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدسسره من أن أصالة الظهور في قبال أصالة عدم القرينة ومترتبة
عليها موضوعا ، بدعوى : أن أصالة عدم القرينة تنقح ظهور الكلام وأصالة الظهور
تقتضي إرادة مقتضاه بعد الفراغ عن ثبوته. وكذا ما تردد في كلام بعضهم من جعل أصالة
الظهور في قبال أصالة الجهة. فإن جميع ذلك غير ظاهر ، بل الأقرب ما ذكرنا. وإن كان
الأمر غير مهم بعد الاتفاق على الأصول المذكورة ، حيث يكون تحديد مرجعها أشبه
بتحديد الاصطلاح الذي لا مشاحة فيه.
بقي شيء
وهو أن حجية
الظهور من المسلمات في الجملة ، وإنما وقع الكلام في بعض الموارد ، إما بدعوى عدم
بناء العقلاء على حجية الظهور فيها ، أو لدعوى ردع الشارع عن مقتضى سيرتهم فيها ،
فينبغي الكلام فيها في ضمن مباحث ..
المبحث الأول
في حجية الظواهر في حق من لم يقصد بالإفهام
فعن المحقق
القمي قدسسره اختصاص الحجية بمن قصد بالإفهام. وقد يستدل لذلك بأن
حجية الظهور مبنية على أصالة عدم الغفلة ، حيث يعول عليها في دفع احتمال غفلة
المتكلم عن إقامة القرينة على خلاف ظاهر كلامه أو غفلة السامع عن القرائن المكتنفة
بالكلام. أما لو لم يبتن احتمال إرادة المتكلم خلاف ظاهر كلامه على احتمال غفلتهما
، فلا دليل على حجية الظهور. وحينئذ فحيث لم يكن وظيفة المتكلم تفهيم كل أحد بل
تفهيم خصوص من يقصد إفهامه ، وله إخفاء مراده عن غيره ، فلا مجال لحجية الظهور في
حق من لم يقصد بالإفهام ، لاحتمال اختصاص من قصد بالإفهام بقرينة لا يطلع عليها غيره
، ولا يكون عدم اطلاعه عليها ناشئا عن غفلته ولا عن غفلة المتكلم ، ليدفع احتمال
ذلك بالأصل المذكور ، ولا دافع لهذا الاحتمال.
وفيه : أن بناء
العقلاء وأهل اللسان على العمل بالظواهر لا يبتني على خصوص أصالة عدم الغفلة بل
الأصل عندهم عدم الصارف عن ظاهر الكلام مطلقا بعد الفحص عنه في مظانه ، من دون فرق
بين من قصد بالإفهام وغيره ، كما لو وقع كتاب موجه من شخص إلى آخر بيد ثالث ، فإنه
لا يتوقف عن استخراج مراد المرسل منه بحيث لو كان مضمون الكتاب متعلقا بعمله لم
يكن له التساهل والتسامح معتذرا بعدم حجية ظهور الكتاب في حقه ، كما نبه لذلك غير
واحد ، ويتضح مما تقدم في مبنى أصالة الظهور.
وعلى ذلك جرت
سيرة العلماء في الأحكام الكلية ، حيث يأخذونها من ظواهر الأخبار مع عدم كونهم
مقصودين بالإفهام منها ـ على كلام يأتي ـ وفي
الموضوعات كما في الوصايا والأقارير والعقود وغيرها. فالتفصيل المذكور في
غير محله.
بقي في المقام شيء
وهو أن المحقق
القمي قدسسره جعل ثمرة التفصيل المذكور عدم حجية الأخبار في حقنا.
لأن المقصود بالإفهام بها خصوص المخاطبين. وكذا الكتاب بناء على عدم كوننا مقصودين
بالإفهام به. أما بناء على كونه من باب تصنيف المصنفين يقصد به تفهيم كل من يطلع
عليه فهو حجة في حقنا وإن لم نكن مخاطبين به.
لكن الظاهر عدم
ترتب الثمرة المذكورة في أكثر الأخبار ، وهي التي يرويها المخاطبون بها ، لابتناء
نقلها على بيان المضمون لأجل العمل به والرجوع إليه ، لا لمجرد نقل اللفظ كحادث من
الحوادث ، فيكون الناقل متعهدا بالمضمون ، فيلزمه التعرض لجميع ما هو الدخيل فيه
من قرينة حالية أو مقالية.
ولذا يجري على
اختلاف النسخ بالزيادة والنقصان إذا كان موجبا لاختلاف المضمون حكم التعارض ،
لظهور حال عدم ناقل الزيادة في عدم وجودها.
وعليه فاحتمال
عدم وصول القرينة ناشئ من احتمال غفلة المخاطب المقصود بالإفهام عنها حين تلقي
المضمون من المعصوم عليهالسلام أو غفلته عن بيانها عند حكاية المضمون ، أو تعمد
إهمالها ، ويندفع الأولان بأصالة عدم الغفلة ، والثالث بفرض وثاقته وحجية نقله.
نعم قد يتم في
الأخبار التي يرويها غير المخاطبين بها ، كما لو قال الراوي : سأله رجل عن كذا
فقال عليهالسلام له ... ، أو سمعته يقول لرجل ... ، أو كتب إليه رجل في
كذا فكتب له ....
وأما ما ذكره
شيخنا الأستاذ قدسسره من كون المقصود بها إفهام جميع
السامعين لها ، لعلمهم عليهمالسلام بأن غرض الجالسين في مجالسهم الاستفادة من سؤال
السائلين والتفقه به. فهو غير ثابت بنحو العموم. ومن ثم لا يبعد ترتب الثمرة
المذكورة في مثل ذلك.
إلا أن الأخبار
المذكورة تشهد بعدم الفرق في الحجية بين من قصد بالإفهام وغيره ، لما أشرنا إليه
من أن نقل الأخبار من الرواة ليس لمحض حكاية اللفظ ، بل لبيان المضمون من أجل
الرجوع إليه والعمل به ، وهو شاهد بأن عموم الحجية من الارتكازيات العامة التي جرى
عليها الرواة ونقلة الحديث والعلماء في مقام معرفة الأحكام والاستدلال عليها ، كما
تقدم.
هذا وقد يستشكل
في الرجوع للروايات .. تارة : من جهة التقطيع الذي طرأ عليها ، حيث يحتمل معه ضياع
القرائن.
وأخرى
: من جهة النقل
بالمعنى ، حيث قد يخطئ الناقل في فهم المراد أو في أدائه.
لكن يندفع
الأول بأنه حيث كان إثبات الروايات في الكتب مع التقطيع لأجل الرجوع إليها والأخذ
بمضامينها كان اللازم على مثبتها ملاحظة القرائن الدخيلة في فهم المراد. واحتمال
غفلته مدفوع بالأصل.
والثاني بقرب
ظهور كلام الراوي في أنه حاك باللفظ. وإلا كان ظاهر نقل الحديث وتدوينه المفروغية
عن حجية النقل المذكور ، إما لبناء العقلاء على أصالة عدم الخطأ في فهم المراد
وأدائه ، أو للنصوص المجوزة له ، لما سبق من أن الغرض من نقل الأحاديث وتدوينها الرجوع
إليها والعمل بها.
وكفى بسيرة
الرواة والعلماء قديما وحديثا على الاهتمام بتدوين الروايات والعمل بها دافعا لهذه
الشبهة وأمثالها.
__________________
المبحث الثاني
في حجية الظواهر وإن لم تفد الظن ، أو ظن بخلافها
قال شيخنا
الأعظم قدسسره : «ربما يجري على لسان بعض متأخري المتأخرين من
المعاصرين عدم الدليل على حجية الظواهر إذا لم تفد الظن ، أو إذا حصل الظن الغير
المعتبر على خلافها. لكن الإنصاف أنه مخالف لطريقة أرباب اللسان في كل مكان».
وما ذكره متين
جدا بلحاظ مرتكزاتهم فيما هو محل الكلام من الحجية المتقومة بالتعذير والتنجيز في
مقام التكليف أو الخروج عن عهدته.
نعم قد يخالف
سيرتهم عند الاهتمام بتحصيل الواقع ، حيث لا يكتفون معه بالظهور مع عدم حصول الظن
منه ، فضلا عما لو حصل الظن بخلافه ، بل قد لا يكتفون بالظن ويستزيدون من القرائن
حتى يحصل الاطمئنان أو العلم حسب أهمية الواقع المفروض اهتمامهم به. وهو خارج عن
محل الكلام ، كما نبه له في الجملة بعض مشايخنا قدسسره.
ولعل منشأ
اكتفائهم بالظهور في محل الكلام أن إناطة حجية الظهور بالظن وجودا أو عدما يستلزم
عدم انضباط موارد الحجة ، ليتكل عليها المتكلم ، لاختلاف الظن الشخصي بحسب الأحوال
والأشخاص كثيرا ، وذلك يوجب اضطراب باب التفاهم ، بخلاف ما لو كانت تابعة للظهور
فإنه أيسر ضبطا لتبعيته لجهات عامة مشتركة بين أهل اللسان غالبا.
نعم لا يبعد
توقف العقلاء عن الاعتماد على الظهور مع وجود أمارات عرفية ـ وإن لم تكن معتبرة في
نفسها ـ توجب الوثوق بوجود قرائن ترفع بها اليد عن أصالة عدم القرينة أو أصالة
الجهة أو نحوهما مما تقدم ابتناء العمل بالظهور عليه ، بحيث يكون الظهور موردا
للريب عرفا.
ولعله على ذلك
تبتني سيرة جمهور الفقهاء على طرح الروايات المتروكة والمهجورة بين الأصحاب ، لأن
هجرها قرينة عرفية توجب الوثوق بل الاطمئنان بعثورهم على قرينة مانعة عن مقتضى
أصالة عدم القرينة أو أصالة الجهة.
بخلاف ما لو لم
يستند الظن بعدم إرادة الظهور لأمارة تقتضي الوثوق بوجود القرينة المذكورة ، بل
استند لجهة خارجية ، كالشهرة الفتوائية التي لا تبتني على هجر الرواية أو تركها ،
بل على أمور أخر كعدم عثورهم على الرواية أو خطئهم في فهمها أو دعوى الدليل
المعارض لها أو غير ذلك.
المبحث الثالث
في حجية ظاهر الكتاب الكريم
فقد حكي عن
جماعة من الأخباريين المنع عن العمل به ما لم يرد تفسيره عن الأئمة عليهمالسلام ، وهو ظاهر الوسائل. وقد استدل بوجوه كثيرة بعضها ظاهر
الوهن. وعمدتها النصوص الكثيرة التي تعرض لكثير منها في الوسائل ، وأنهاها في
الباب الثالث عشر من أبواب صفات القاضي إلى ثمانين حديثا ، ثم قال : «وتقدم ما يدل
على ذلك ويأتي ما يدل عليه ، والأحاديث في ذلك كثيرة جدا ... وإنما اقتصرت على ما
ذكرت لتجاوزه حد التواتر». وهي على طوائف.
الأولى : ما تضمن عدم حجية القرآن إلا بعد الرجوع للأئمة عليهمالسلام ، كصحيح منصور بن حازم : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام ... وقلت للناس : أليس تعلمون أن رسول الله صلىاللهعليهوآله كان الحجة من الله على خلقه؟ قالوا : بلى. قلت : فحين
مضى رسول الله صلىاللهعليهوآله من كان الحجة لله على خلقه؟ قالوا : القرآن. فنظرت في
القرآن فإذا هو يخاصم به المرجئ والقدري والزنديق الذي لا يؤمن به حتى يغلب الرجال
بخصومته ، فعرفت أن القرآن لا يكون حجة إلا بقيم فما قال
فيه من شيء كان حقا ... فأشهد أن عليا عليهالسلام كان قيم القرآن ... ، فقال : رحمك الله» .
وحديث عبيدة
السلماني : «سمعت عليا عليهالسلام يقول : يا أيها الناس اتقوا الله ولا تفتوا الناس بما
لا تعلمون ، فإن رسول الله صلىاللهعليهوآله قد قال قولا آل منه إلى غيره ، وقد قال قولا من وضعه
غير موضعه كذب عليه ، فقام عبيدة وعلقمة والأسود وأناس معهم فقالوا : يا أمير
المؤمنين فما نصنع بما قد خبرنا به في المصحف؟ فقال : يسأل عن ذلك علماء آل محمد صلىاللهعليهوآله» .
الثانية : ما تضمن اختصاص الأئمة عليهمالسلام بالعلم بالتأويل وأنهم الراسخون في العلم ، وما تضمن
تفسير قوله تعالى : (بَلْ هُوَ آياتٌ
بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) بهم عليهمالسلام ، وأن علم الكتاب عندهم ، وميراثه إليهم خاصة ، وعهد
بيانه إليهم ، ووجوب الرجوع لهم في تفسيره ، وهم المستنبطون ، وأن المتمسك بالقرآن
هو الذي يأخذه منهم ومن سفرائهم إلى شيعتهم ، لا عن آراء المجادلين وقياس
الفاسقين.
الثالثة : ما تضمن النهي عن تفسير القرآن مطلقا ، أو بالرأي ، أو
من غير علم ، وعن القول والمراء والجدال فيه ، وعن أخذه من غيرهم عليهمالسلام ، وأن الرجل ينتزع الآية فيخر فيها أبعد ما بين السماء
والأرض وأنه ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلا كفر ، ونحو ذلك.
الرابعة : ما تضمن أن للقرآن ظهرا وبطنا ، وأن فيه ناسخا ومنسوخا
، وأنه ليس شيء أبعد عن عقول الرجال منه ومن تفسيره ، ونحو ذلك.
__________________
لكن الظاهر عدم
نهوض النصوص المذكورة بالمدعى. أما الطائفة الأولى فعمدتها صحيح منصور ، وهو ظاهر
في إرادة نصب الإمام ، ليكون حجة على الناس في بيان الحق ورفع الاختلاف فيه ، وأن
القرآن لا يكفي في ذلك ، وهو لا ينافي حجية ظاهر الكتاب في مقام العمل كظاهر
الإمام عليهالسلام الذي لا يرفع الاختلاف أيضا. فالمراد فيه بالحجة الحجة
الرافعة للاختلاف ، لا الحجة التي يرجع إليها في مقام العمل.
وبعبارة أخرى :
ظاهر كلام الراوي الإشارة للواقع الخارجي الذي كان عليه الناس ، حيث استدلت كل فئة
وفرقة من القرآن بما يناسب أهواءهم وآراءهم ، ليجادلوا به مع تجاهلهم لغيره ، غفلة
أو تغافلا عن اشتماله على المجمل والمتشابه والظهورات المتنافية ، وعن عدم وفاء
ظواهره ببيان تمام الواقع ، وعن وجود غيره من الأدلة من سنة النبي صلىاللهعليهوآله والأئمة عليهمالسلام ، وحيث كان ذلك سببا للتفرق والانقسام في الأمة
واختلافها ، بنحو أوجب خفاء الواقع أو ضياعه ، فلا يمكن تجنبه إلا بنصب مرجع يحكم
فيه ويبين ما خفي منه ، فيكشف ذلك عن نصب المرجع المذكور من قبله تعالى بعد أن كان
الغرض من بعثة الأنبياء هداية الناس وتعريفهم بالحق. ولا ظهور له في الردع عن
العمل بظاهر القرآن على أنه حجة بعد الفحص عما ينافيه كسائر الحجج.
وأما رواية
عبيدة فهي وإن كان لها نحو تعلق بالمطلوب ، إلا أنها ـ مع ضعف سندها ـ لا يبعد
حملها على بيان عدم الاستغناء بالكتاب الكريم من دون رجوع للأئمة عليهمالسلام ، تنبيها على مقام أهل البيت عليهمالسلام الذي كان مجهولا حينئذ ، كما يناسبه صدرها المتضمن
لعروض النسخ والخطأ في موضع سنة النبي صلىاللهعليهوآله ، حيث لا يراد به بيان عدم حجية سنته صلىاللهعليهوآله ، لوضوح عدم التزام الخصم بذلك ، بل المراد لزوم الفحص
عما يكشف عن عدم إرادة ظاهرها بالرجوع إليهم عليهمالسلام وعدم الاستغناء بها عنهم كما عليه العامة.
وأما الطائفة
الثانية فهي ـ على كثرتها ـ أجنبية عما نحن فيه ، ولا تدل إلا على لزوم قبول ما
يرد منهم عليهمالسلام في تفسير القرآن وتأويله ، وعدم الاستغناء عنهم في ذلك
ـ كما عليه العامة ـ من دون أن تنهض ببيان عدم حجية ظاهره إذا لم يرد منهم ما
ينافيه. وليس معنى لزوم أخذه منهم دون غيرهم ، إلا لزوم أخذ ما يحتاج للتأويل
والتفسير ، دون الأخذ بالظاهر الذي هو واصل بنفسه عرفا. كما أن إرثه ليس إلا بإرث
ما اختص النبي صلىاللهعليهوآله بعلمه ، دون الظواهر التي يفهمها عموم الناس.
ومنه يظهر حال
الطائفة الثالثة ، فإن الأمور المذكورة فيها لا تنافي حجية ظواهر القرآن ، لعدم
ابتناء العمل بها على التأويل والتفسير ، ولا على القول فيه بغير علم ، وليس هو من
انتزاع الآية ، ولا من ضرب بعض القرآن ببعض ، لظهورهما في ابتناء أخذ المعنى على
التكلف أو التحكم.
ومثلها في ذلك
الطائفة الرابعة ، فإن وجود الظهر والبطن والناسخ والمنسوخ وغيرها في القرآن لا
ينافي حجية ظواهره على الوجه المعول عليه في سائر الظواهر ، وإنما يمنع من الأخذ
البدوي وإهمال القرائن الأخر التي قد تجعله من المتشابه ، وليس معنى بعده عن عقول
الرجال تعذر حصول شيء منه لهم ، بل بمعنى تعذر الوصول إلى تمام ما يقصد به ، كما
هو ظاهر ما في مرسلة شبيب بن أنس عن الصادق عليهالسلام : «قال : يا أبا حنيفة تعرف كتاب الله حق معرفته وتعرف
الناسخ والمنسوخ؟ قال : نعم. قال : يا أبا حنيفة لقد ادعيت علما. ويلك ما جعل الله
ذلك إلا عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم ... وما ورثك الله من كتابه حرفا» .
بل هو صريح ما
في رواية الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليهالسلام : «ثم إن الله
__________________
قسم كلامه ثلاثة أقسام ، فجعل قسما منه يعرفه العالم والجاهل ، وقسما لا
يعرفه إلا من صفا ذهنه ولطف حسه وصح تمييزه ممن شرح الله صدره للإسلام ، وقسما لا
يعلمه إلا الله وملائكته والراسخون في العلم ...» . كيف ولا إشكال ـ ولو بضميمة بعض الروايات ـ في أن بعض
ظواهره مرادة ، وهي مما تصل إليه العقول.
وبالجملة :
التأمل في الروايات المذكورة المتقدمة وغيرها ـ على كثرتها ـ شاهد بورودها للردع
عن الاستغناء بالقرآن عن الأئمة عليهمالسلام ، أو النهي عن تأويل مجملاته وصرف ظواهره بالاجتهاد
والاستحسانات التي ما أنزل الله بها من سلطان ، أو عن الأخذ بمشابهاته من دون تأمل
في القرائن الأخر ، أو نحو ذلك مما هو أجنبي عن محل الكلام.
ولو فرض عدم
ظهور النصوص المذكورة في ذلك بنفسها فلا أقل من لزوم حملها عليه أو على نحوه مما
لا ينافي حجية ظاهر الكتاب جمعا مع النصوص الكثيرة الظاهرة في حجية ظاهر الكتاب
والعمل بها ، كأحاديث عرض الأخبار على الكتاب ، وأحاديث الترجيح بينها بموافقته .
وأما ما في
الوسائل من حملها على ما كان من القرآن واضح الدلالة ، فإن أراد به خصوص النص
القطعي المراد فهو لا يناسب فرض اختلاف الأخبار الظاهر في احتمال كونه منشأ للتحير
واحتمال صدق كل منها. وإن أراد منه ما كان ظاهر الدلالة وإن احتمل التأويل فهو لا
يناسب ما ادعاه من عدم حجية ظواهر الكتاب.
ومثله ما ذكره
من حملهما على ما ورد تفسيره منهم عليهمالسلام. إذ هو راجع
__________________
إلى العرض على السنة المفسرة للكتاب والترجيح بها ، لا العرض على الكتاب
بنفسه والترجيح به ، الذي هو كالصريح من نصوص الطائفتين المذكورتين.
وأشكل منه ما
ذكره في نصوص العرض على الكتاب من أن العمل حينئذ بالكتاب والسنة ، لا بالكتاب
وحده . إذ فيه : أن مفاد النصوص المدعى دلالتها على المنع من العمل بظواهر
الكتاب ليس هو المنع من ذلك تعبدا ، بل لتعذر الاطلاع على معناه إلا بأخذه منهم عليهمالسلام. وحينئذ كيف يكون مرجعا في تصحيح الأخبار وتوهينها ،
وكيف يكون التابع لشيء متبوعا له والمحكوم بشيء حاكما عليه؟!
ومثل الأخبار
المذكورة ما تضمن لزوم الرجوع للكتاب الشريف والعترة الطاهرة الظاهرة في استقلال
كل منهما في المرجعية كحديث الثقلين ونحوه. بل حمل جميع النصوص المتضمنة لوجوب
الرجوع للقرآن والعمل به على خصوص ما إذا ورد تفسيره منهم عليهمالسلام صعب جدا. وكذا النصوص الكثيرة الواردة في الموارد
المتفرقة التي يظهر منها المفروغية عن جواز الرجوع للقرآن والاحتجاج بظاهره التي
لا يسع المقام استقصاءها ، وقد تعرض لبعضها شيخنا الأعظم قدسسره.
وعلى هذا جرت
سيرة الأصحاب قديما وحديثا ، فقد عرفوا بالرجوع للكتاب الشريف والاستدلال به ،
متسالمين على حجيته وحجية ظواهره ، حتى اشتهر بينهم عدّه أول الأدلة ، وتقديمه على
سائر الأدلة الظنية ، حتى اختلفوا في تخصيص خبر الواحد له ، وادعي إجماعهم على عدم
نسخه له ، مع أن النصوص المتقدمة حجة للأخباريين نصب أعينهم قد حفظوها ووعوها فلم
__________________
يروها تنهض بالردع عن ذلك والمنع منه.
وبذلك يظهر أنه
لا مجال للتعويل على الوجوه الأخر المستدل بها للمنع من حجية ظواهر الكتاب ، حيث
لا تنهض ـ مهما بلغت من المتانة ـ برفع اليد عما سبق. مع أنها في نفسها لا تخلو عن
إشكال.
منها : ما عن السيد الصدر ـ على اضطراب كلامه ـ من أن الظواهر
من المتشابه ، الذي ورد النهي عن العمل به في الكتاب والسنة ، وليس المحكم إلا
النصوص القطعية الدلالة. ولو فرض الشك في شمول المتشابه للظواهر كفى في منع العمل
بها.
وفيه : أن
المتشابه هو الذي يعمل به بعد التأويل ـ كما تشير إليه الآية الكريمة ـ إما لصرفه
عن ظاهره ، أو لإجماله في نفسه ، أو لمصادمته لظهور مثله ، أو لدليل قطعي مانع من
البناء عليه ، ولا يشمل الظواهر التي لا معارض لها والتي يراد العمل بظهورها تبعا
لسيرة العقلاء وأهل اللسان. ومن ثم كان ظاهر الآية الكريمة المفروغية عن حرمة
العمل بالمتشابه ، لا النهي عنه تأسيسا ، ردعا عن طريقة العقلاء في العمل
بالظواهر.
ولو فرض إجمال
المراد بالمتشابه واحتمال شموله للظواهر لزم الاقتصار فيه على المتيقن وعدم الخروج
به عن مقتضى الأصل الذي اعترف به من حجية الظواهر.
ومنها : أن ما دل من الروايات على وقوع التحريف في القرآن
مانع من العمل به ، لاحتمال ضياع القرائن الموجبة لتبدل ظهوره. ولا مجال معه
للرجوع لأصالة عدم القرينة فيما وصل إلينا من الظواهر ، لعدم بناء العقلاء عليها
في مثل ذلك مما علم فيه بضياع شيء من جملة الكلام وبوقوع الخطأ في نقله.
وفيه : أنه
يصعب جدا البناء على وقوع التحريف في القرآن المجيد مع ما
هو المعلوم من اهتمام المسلمين بحفظه في الصدور والزبر ومدارسته من الصدر
الأول إلى يومنا هذا ، حيث لا يتهيأ لأحد مع ذلك تضييعه بالتحريف.
كما أطال
الكلام فيه السيد المرتضى قدسسره وغيره وهو المناسب للواقع الخارجي ، حيث لم ينقل ـ ولو
شاذا ـ ما يصلح أن يكون قرآنا في أسلوبه وبيانه. وما تضمنته روايات الفريقين
المستدل بها على التحريف مما يقطع بعدم كونه قرآنا لهبوط مستواه وضعف بيانه وركة
أسلوبه. ومن ثم كان المعروف بين الطائفة إنكار التحريف. فلو فرض صحة النصوص الدالة
عليه وتعذر حملها على معنى آخر كانت من المشكل الذي يرد علمه لهم عليهمالسلام.
على أن ما تقدم
من النصوص الصريحة في جواز العمل بالقرآن بل لزومه والسيرة بذلك شاهدان بعدم كون
التحريف ـ لو فرض وقوعه ـ مانعا من ذلك إما لعدم وقوعه في آيات الأحكام ، أو لكونه
في كلام مستقل لا دخل له بالظهورات الواصلة أو لغير ذلك ، كما نبه له غير واحد.
ومنها : أن العلم الإجمالي بطروء التخصيص والتقييد والتجوز
وغيرها على ظواهر الكتاب مانع من الرجوع إليها. وفيه : أن ذلك إنما يمنع من العمل
بالظواهر قبل الفحص عما ينافيها ، لا مطلقا ، لانحلال العلم الإجمالي المذكور
بالعثور بعد الفحص على مقدار المعلوم بالإجمال ، ولا يعتنى باحتمال وجود الزائد ،
لأصالة حجية الظهور ، كما هو الحال في ظواهر الأخبار أيضا ، على ما يذكر في مسألة
وجوب الفحص عن المخصص قبل العمل بالعام وفي شرائط الرجوع للأصول العملية وغيرها.
ولنكتف بما ذكرنا ، لظهور وهن الوجوه الأخر ، أو رجوعها لما سبق.
الفصل الثالث
في حجية قول اللغويين
من جملة مقدمات
الظهور الكلامي تشخيص المعنى الموضوع له في مفرداته ، حيث يكون هو المعنى الظاهر
بحسب الأصل ما لم تكن هناك قرينة صارفة عنه ، ولذا اشتهر أن الأصل هو الحقيقة. ولا
كلام مع القطع بالمعنى الموضوع له للتبادر أو غيره من علامات الحقيقة التي تقدم
الكلام فيها في مقدمة مباحث الألفاظ ، وإنما الكلام في حجية قول اللغويين في ذلك
مع عدم حصول القطع منه ، فقد ذهب جماعة إلى ذلك ،
واستدل عليه
بوجوه ..
الأول : إجماع العلماء على الرجوع لهم والاستشهاد بكلامهم لمعرفة
المراد من الكلام ، من غير تناكر منهم لذلك. ويشكل بإمكان كون رجوعهم لهم لتحصيل
العلم والاطمئنان بمعنى اللفظ أو المراد منه في الاستعمال الخاص ولو بضميمة قرائن
داخلية أو خارجية ، ولا طريق لإحراز كون رجوعهم لهم للبناء على حجية قولهم تعبدا
بنحو يتحصل منه إجماع تعبدي حجة على ذلك.
الثاني : أنه مقتضى سيرة العقلاء على الرجوع لأهل الخبرة في كل
فن ، ومنه المقام.
وفيه
: أولا : أنه لم يتضح
خبرتهم بتعيين المعاني الموضوع لها ، لأن ذلك وإن كان ظاهرهم بدوا ، إلا أن النظر
في كلامهم مانع من الوثوق بخبرتهم في ذلك ، لكثرة المعاني التي يذكرونها للفظ
الواحد بنحو يوثق بعدم وضعه لكل منها استقلالا بنحو الاشتراك اللفظي ، ويقرب كون
مستندهم في ذلك مجرد الاستعمال ، من دون تفريق منهم بين مفهوم اللفظ الوضعي
وخصوصيات
الاستعمال المختلفة الخارجة عنه.
ولا سيما مع ما
هو المعلوم من تسامحهم في تحديد المعنى وبنائهم على الإشارة إجمالا ، حتى اشتهر أن
تعاريفهم لفظية ، حيث لا مجال معه للرجوع لهم لمعرفة المعنى بحدوده التفصيلية الذي
هو المهم غالبا ، وأما معرفته إجمالا فلا أثر لحجية قولهم فيها ، لتيسر القطع به
غالبا ولو بعد الرجوع لهم وملاحظة مورد الاستعمال الذي هو مورد الابتلاء.
وثانيا
: أنه لا وثوق
بتقيدهم في إحراز الاستعمال الذي هو مقدمة لتحديد المعنى بالوجه المعتبر من علم أو
علمي ، بل من القريب أو المعلوم تسامحهم في ذلك وكثرة تعويلهم على المراسيل
والمجاهيل ومن لا يعتد بنقلهم شرعا ، بل عرفا. ومن الظاهر عدم دخولهم مع ذلك في
كبرى الرجوع لأهل الخبرة بنظر العقلاء.
وثالثا
: أن الرجوع
لأهل الخبرة يختص بمن لا يتيسر له نوعا الاجتهاد في موضع الحاجة للرجوع لهم ،
والظاهر تيسر الاجتهاد نوعا للفقيه في تشخيص الظهور الذي هو المهم في المقام ، ولو
بالرجوع لهم بضميمة القرائن والمناسبات الارتكازية ، ومعه لا يهم تحديد المعنى
الحقيقي الموضوع له. بل قد يتيسر له تحديده بنحو يرى أنه أوصل منهم.
الثالث : أنه لو لم يرجع لقول اللغويين لزم انسداد باب العلم
باللغة ، إذ الغالب انحصار معرفة أصل المعنى إجمالا أو خصوصياته تفصيلا بالرجوع
لهم ، ومع انسداد باب العلم يتعين التنزل للظن الحاصل من قولهم.
وفيه ـ مضافا
إلى أن مقتضاه حجية كل ظن بالمعنى وإن لم يستند لقول اللغويين ، وإلى ما سبق من
عدم وضوح خبرة اللغويين بنحو يحصل الظن من قولهم ـ : أنه لا أثر لانسداد باب العلم
باللغة إلا بلحاظ إفضائه إلى انسداد باب
العلم في غالب الأحكام الشرعية ، وهو لا يلزم في المقام ، لقلة الأحكام
المتعلقة بالمفاهيم المجملة التي لا يتسنى للفقيه تشخيص ظهور الأدلة المتعرضة لها
بنفسه ولو بمعونة الرجوع لهم وملاحظة القرائن المتعلقة بالمقام ، ولا محذور مع ذلك
من الرجوع فيها للأدلة الأخر والأصول الجارية في المسألة ، مع أن من جملة مقدمات
الانسداد الملزمة بالتنزل للظن هو تعذر الرجوع إليها ، على ما يتضح في محله في آخر
مباحث الحجج إن شاء الله تعالى.
تنبيهان
الأول : ذكر بعض الأعاظم قدسسره أنه بعد الفراغ عن عدم حجية قول اللغويين فلو حصل
الوثوق بالمعنى من قولهم أوجب ظهور اللفظ فيه ، ومعه لا يكون الوثوق بالمراد
مستندا لأمر خارجي غير معتبر ، بل يدخل المورد في كبرى حجية الظهور بالخصوص ، لأن
الوثوق بالمعنى لو حصل قبل إلقاء الكلام لأوجب ظهور اللفظ فيه قطعا ، فكذا بعده ،
لعدم معقولية الفرق.
وفيه : أن
الوثوق بالمعنى ـ سواء حصل من قول اللغويين أم من غيره ـ لا يوجب العلم بالظهور ،
بل الوثوق به ، سواء حصل قبل إلقاء الكلام أم بعده وحينئذ فحيث كان موضوع الحجية
هو الظهور الواقعي ، فلا بد من إحرازه بعلم أو علمي ، ولا يكفي فيه مجرد الوثوق إذا
لم يستند إلى حجة ، كما هو المفروض.
الثاني : ما تقدم من حجية قول اللغويين يجري بعضه في قول غيرهم
من علماء الأدب ، كالنحويين والصرفيين والبيانيين ونحوهم ، فإن الظاهر عدم حجية
قولهم ، إلا إذا أوجب القطع ، لعدم نهوض الإجماع ودليل الانسداد لعين ما تقدم.
وأما الرجوع لهم بملاك الرجوع لأهل الخبرة فيجري فيه ما سبق من الوجهين الأخيرين
للإشكال في الرجوع للغويين ، كما يظهر بالتأمل.
الفصل الرابع
في حجية خبر الواحد
والمراد به هنا
كل خبر لا يحصل العلم بمؤداه ـ لعدم تواتره وعدم احتفافه بالقرائن الموجبة لذلك ـ وإن
كان المخبر به أكثر من واحد ، وإن كان ذلك خلاف مقتضى الجمود على العنوان.
هذا وربما ينسب
لبعض الأخباريين ـ ولعله ظاهر الوسائل ـ أن الأخبار المدونة في الكتب المعروفة ـ كالكتب
الأربعة ونحوها ـ قطعية الصدور ، فهي خارجة عن محل الكلام ، وحيث كان القطع من
الأمور الوجدانية غير المنضبطة فلا مجال للاستدلال على هذا القول ولا على بطلانه.
وقد أطال في
جملة من فوائد خاتمة الوسائل في سرد القرائن الموجبة لذلك.
والإنصاف أنها
ـ على أهميتها ـ لا توجب العلم التفصيلي بصدور كل خبر من الأخبار المذكورة ، ولا
سيما مع بعد زماننا عن زمان الصدور والتدوين واضطراب كثير من الأخبار ، فإن ذلك
يفتح باب الشك ولا طريق لسده. نعم التأمل في القرائن المذكورة وغيرها يوجب العلم
بصدور أكثر الأخبار بحيث لو لم يصدر بعضها فهو قليل جدا. لكنه لا يغني في خروج هذه
الأخبار عن موضوع هذه المسألة.
إذا عرفت هذا
فقد وقع الكلام في حجية خبر الواحد ـ بالمعنى المتقدم ـ بالخصوص على أقوال كثيرة
بين المنع مطلقا والحجية في الجملة على تفاصيل لا مجال لإطالة الكلام فيها.
ومن ثم يقع
الكلام في هذه المسألة في مقامات :
الأول : في حجج المنع مطلقا.
الثاني
: في حجج
الإثبات في الجملة.
الثالث
: في تحديد ما
هو الحجة حسبما يستفاد من أدلة الحجية التي تنهض بالاستدلال. وهو من أهم مباحث
المسألة. ولا يحسن إلحاقه بالمقام الثاني بالتعرض عند الكلام في كل دليل لمفاده
سعة وضيقا ، لأنه يستلزم اضطراب الكلام. ومن سبحانه نستمد العون والتسديد.
المقام الأول : في حجج المنع مطلقا
فقد حكي المنع
من حجية خبر الواحد مطلقا عن جماعة من الأكابر ، كالسيدين والقاضي والطبرسي وابن
ادريس قدسسرهم ، بل ربما نسب للشيخين قدسسرهما.
وحيث كان عدم
الحجية هو المطابق للأصل فهو غني عن الاستدلال ، وفائدة الاستدلال حينئذ تأكيد
مقتضى الأصل. مع أنه لو تم كان مانعا من أدلة المثبتين ـ لو تمت في أنفسها ـ أو
معارضا لها بنحو يلزم النظر في كيفية الجمع بينها.
وكيف كان فقد
استدل عليه بالأدلة الأربعة. وقد تقدم في مقدمة مباحث الحجج التعرض لدليل العقل
القاضي بامتناع التعبد بغير العلم من دون خصوصية للخبر ، والجواب عنه بما لا مزيد
عليه.
كما أن عمدة
الأدلة من الكتاب هو العمومات الناهية عن التمسك بغير العلم أو بالظن ونحوها مما
تقدم التعرض له في مقدمة مباحث الحجج أيضا ، عند الكلام في أصالة عدم حجية غير
العلم. وقد سبق أنه لا ينهض بإثبات العموم. ولو نهض به أمكن تخصيصه بأدلة الحجية ،
على كلام في خصوص سيرة العقلاء التي استدل بها على حجية الخبر يأتي التعرض له إن
شاء الله تعالى. كما يأتي الكلام عند الاستدلال على الحجية ب آية النبأ في نهوض
التعليل فيها بإثبات عدم جواز العمل بالخبر وسائر موارد عدم العلم. فالعمدة
في المقام الدليلان الباقيان.
الأول : السنة الشريفة. وقد استدل منها بعموم ما تضمن النهي
عن العمل بغير علم. ويظهر حاله مما تقدم عند الكلام في أصالة عدم الحجية ، نظير ما
تقدم في الاستدلال بالكتاب.
كما استدل أيضا
بما ورد من النصوص الكثيرة ـ المتواترة معنى أو إجمالا ـ في خصوص الأخبار ،
المتضمنة عدم العمل بالخبر إذا لم يعلم بصدوره ، أو إذا كان مخالفا للكتاب ، أو لم
يكن موافقا له ونحو ذلك. فاللازم النظر فيه على اختلاف ألسنته. فنقول : النصوص
المذكورة على طوائف ..
الأولى : ما ورد في المتعارضين. كمكاتبة محمد بن علي بن عيسى :
«كتب إليه يسأله عن العلم المنقول إلينا عن آبائك وأجدادك عليهمالسلام قد اختلف علينا فيه ، فكيف العمل به على اختلافه؟ أو
الردّ إليك فيما اختلف فيه؟ فكتب عليهالسلام :
ما علمتم أنه
قولنا فالزموه ، وما لم تعلموا فردوه إلينا» ، ونحوها ما عن بصائر الدرجات ، وغير ذلك من النصوص الكثيرة الواردة في التعارض ، وقد
تعرض لجملة منها في الباب التاسع من أبواب صفات القاضي من الوسائل.
ومن الظاهر
خروج هذه النصوص عن محل الكلام ، بل هي على الحجية أدلّ ، لظهورها في المفروغية عن
حجية الأخبار لو لا الاختلاف والتعارض بينها.
وأما الإشكال
فيها بأنها من أخبار الآحاد ، فيلزم من حجيتها عدمه. فيظهر اندفاعه مما يأتي في
الطائفة الثالثة.
ومثله دعوى :
أن مقتضى أدلة حجية خبر الثقة كونه معلوما تنزيلا فيكون
__________________
مقتضى الحديث المتقدم حجيته. إذ فيها : أنه لا معنى لجعل المعيار في العمل
العلم إذا كان المراد به ما يعم خبر الثقة بعد كون خبر الثقة من الأفراد المتيقنة
من مورد النصوص المتقدمة المسئول فيها عن حكم التعارض. بل المناسب حينئذ التنبيه
على كفاية الوثاقة ، فالعدول عن ذلك للعلم كالصريح في إرادة العلم الحقيقي.
فالعمدة ما ذكرنا.
الثانية : ما تضمن التبري من الخبر المخالف للكتاب أو الذي لا
يوافقه وأنه زخرف أو باطل. وهو نصوص كثيرة ذكرها شيخنا الأعظم قدسسره وغيره ، مثل قوله صلىاللهعليهوآله : «وما جاءكم عني لا يوافق القرآن فلم أقله» ، وقريب منه مصحح هشام بن الحكم ، وخبر أيوب بن الحر : «كل حديث لا يوافق كتاب الله فهو
زخرف» ، ونحوه خبر أيوب بن راشد ، وغيرها.
وهذه النصوص
على كثرتها لا تنفع فيما نحن فيه أيضا ، لإباء لسانها عن التخصيص ، فلا بد من حمل
المخالفة فيها على المخالفة بالتباين ، دون المخالفة للظهور ، للعلم بصدور الأخبار
الكثيرة عنهم عليهمالسلام على خلاف ظاهر الكتاب. كما لا بد من حمل عدم الموافقة
للقرآن على ذلك أيضا ، دون مجرد عدم الموافقة ولو لعدم وجود الحكم في ظاهر القرآن
، الذي هو ظاهرها بدوا. كيف ولا ريب في عدم وفاء ظاهر القرآن بجميع الأحكام ، وأن
كثيرا منها مأخوذ من النبي صلىاللهعليهوآله وآله عليهمالسلام ، ولذا أكمل الله تعالى الدين بولايتهم ، وقد استفاضت النصوص
بوجود أخبار منهم «صلوات الله عليهم» بمضامين لا يمكن تحصيلها من الكتاب الكريم.
__________________
ودعوى : أنه لا
مجال لحمل هذه النصوص على المخالفة بالتباين ، إذ لا يصدر ممن يكذب عليهم ما يباين
الكتاب والسنة المعلومة ، لأنه لا يصدق فيه ، فلا يترتب غرضه.
مدفوعة : بأن
عدم صدور ما يخالف الكتاب منهم عليهمالسلام إنما اتضح لأهل الحق من ذوي البصائر ، دون غيرهم من
جهال الناس وذوي المقالات الباطلة ، من أعدائهم اللذين ينسبون لهم الضلال والباطل
، أو المفوضة والغلاة ونحوهم من من يرى أن لهم تشريع الأحكام المخالفة للكتاب ،
وينسب لهم العقائد الفاسدة ، وهو كاف لتحقيق غرض من يكذب عليهم لتشويه سمعتهم عليهمالسلام أو لإضلال الناس بما ينسبه لهم ، ولا سيما مع دسّ تلك
الروايات في كتب أصحابهم من من يصدق عليهم ، كما صرحت به بعض النصوص الآتية
وغيرها.
بل لا ريب في
وجود أخبار كثيرة ليست من سنخ أحاديثهم عليهمالسلام ولا تشابه القرآن بل تخالفه ، كما استفاضت به النصوص.
ومن ثم نشأت الفرق الضالة من الغلاة والمفوضة ممن ينتسب لهم عليهمالسلام ويدعي الأخذ عنهم والقبول منهم.
نعم يشكل الحمل
المذكور في خبر كليب الأسدي : «سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : ما أتاكم عنا من حديث لا يصدقه كتاب الله فهو
باطل» .
لظهوره في عدم
صدور ما لا يصدقه الكتاب من الأخبار وإن لم يكن مخالفا له. فلا بد من حمل البطلان
فيه على مجرد النهي عن العمل به من دون تكذيب له ، كما يأتي في الطائفة الثالثة.
أو البناء على إجماله وكونه من المشتبه الذي يجب ردّ علمه لهم عليهمالسلام.
__________________
الثالثة : ما تضمن النهي عن قبول الخبر الذي يخالف الكتاب ، أو
لا يوافقه أو ليس عليه شاهد أو شاهدان منه ، وأنه يجب رده لهم ولا يعمل به ، من
دون تعرض لتكذيبه والتبري منه. وهو أخبار كثيرة ، كمعتبر ابن أبي يعفور : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومنهم من لا نثق به.
قال : إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله أو من قول رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وإلا فالذي جاءكم به أولى به» .
ومرسل عبد الله
بن بكير عن أبي جعفر عليهالسلام : «قال : إذا جاءكم حديث فوجدتم عليه شاهدا أو شاهدين
من كتاب الله فخذوا به ، وإلا فقفوا عنده ثم ردوه إلينا حتى يستبين لكم» .
ورواية محمد بن
مسلم : «قال أبو عبد الله عليهالسلام : يا محمد ما جاءك في رواية من بر أو فاجر يوافق القرآن
فخذ به ، وما جاءك في رواية من بر أو فاجر يخالف القرآن فلا تأخذ به» .
ورواية جابر عن
أبي جعفر عليهالسلام في حديث : «قال : انظروا أمرنا وما جاءكم عنا فإن
وجدتموه للقرآن موافقا فخذوا به ، وإن لم تجدوه موافقا فردوه ، وإن اشتبه الأمر
عليكم فقفوا عنده وردّوه إلينا حتى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا» .
وخبر سدير : «قال
أبو جعفر وأبو عبد الله عليهماالسلام : لا تصدق علينا إلا ما وافق كتاب الله وسنة نبيه صلىاللهعليهوآله» .
__________________
وما رواه الكشي
بسنده الصحيح عن محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس ابن عبد الرحمن : «أن بعض أصحابنا
سأله وأنا حاضر فقال له : يا أبا محمد ما أشدك في الحديث وأكثر إنكارك لما يرويه
أصحابنا ، فما الذي يحملك على رد الأحاديث؟ فقال : حدثني هشام بن الحكم أنه سمع
أبا عبد الله عليهالسلام يقول : لا تقبلوا علينا حديثا إلا ما وافق القرآن
والسنة أو تجدون معه شاهدا من أحاديثنا المتقدمة ، فإن المغيرة بن سعيد «لعنه الله»
دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدث بها أبي ، فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما
خالف قول ربنا تعالى وسنة نبينا محمد صلىاللهعليهوآله ، فإنا إذا حدثنا قلنا : قال الله عزوجل ، وقال رسول الله صلىاللهعليهوآله. قال يونس وافيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي
جعفر عليهالسلام ووجدت أصحاب أبي عبد الله عليهالسلام متوافرين ، فسمعت منهم وأخذت كتبهم فعرضها من بعد على
أبي الحسن الرضا عليهالسلام فأنكر منها أحاديث كثيرة أن يكون من أحاديث أبي عبد
الله عليهالسلام ، وقال لي : إن أبا الخطاب كذب على أبي عبد الله عليهالسلام. لعن الله أبا الخطاب. وكذلك أصحاب أبي الخطاب يدسون
هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله عليهالسلام ، فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن ، فإنا إن تحدثنا حدثنا
بموافقة القرآن وموافقة السنة ، إما عن الله و] إما. ظ [عن رسوله نحدث ، ولا نقول
: قال فلان وفلان ، فيتناقض كلامنا ، إن كلام آخرنا مثل كلام أولنا ، وكلام أولنا
مصداق لكلام آخرنا ، وإذا أتاكم من يحدثكم بخلاف ذلك فردوه عليه ، وقولوا : أنت
أعلم وما جئت به ، فإن مع كل قول منا حقيقة ، وعليه نور ، فما لا حقيقة معه ولا
نور عليه فذلك قول الشيطان» .
قال شيخنا
الأعظم قدسسره : «والأخبار الواردة في طرح الأخبار المخالفة
__________________
للكتاب والسنة متواترة جدا».
وهذه النصوص هي
المهمة في المقام ، لأنها ـ مع كثرتها وتشابه مضامينها ـ ظاهرة في أن عدم حجية
الأخبار ليس لبطلانها ـ كي يختص بالأخبار المخالفة بالتباين ، كما سبق في الطائفة
الثانية ـ بل لاحتمال كذبها ـ ولو من جهة احتمال الدسّ ، كما تضمنه بعضها ـ وهو
موجود في أغلب الأخبار التي بأيدينا ، فيكون مقتضى هذه النصوص توقف العمل بالأخبار
على اعتضادها بالقرائن القطعية من الكتاب والسنة ، وعدم كفاية رواية الثقات لها.
ولا مجال لدعوى
: حملها على أخبار غير الثقات جمعا بينها وبين ما تضمن حجية خبر الثقة. لاندفاعه
بأن أخبار الثقات متيقنة من مواردها ، لأن عدم حجية خبر غير الثقة لا يحتاج إلى
هذا النحو من البيان والتأكيد ، بل ظاهر هذه النصوص الردع عن العمل بالأخبار التي
هي مورد الابتلاء ومن شأنها أن يعمل بها التي عمدتها أخبار الثقات ، بل هو كالصريح
من حديثي ابن أبي يعفور ومحمد بن مسلم ، فإن إهمال الترجيح بالوثاقة مع التعرض لها
في الحديثين كالصريح في عدم كفايتها.
وكذا صحيحة
يونس لصراحتها في عدم التعويل على ما في كتب أصحاب الأئمة عليهمالسلام لاحتمال الدسّ فيها ، مع وضوح أن غرض الذي يدسّ الحديث
لا يتأتى إلا بدسه في كتب من يرجع إليهم ويقبل عنهم من الرواة ، وهم الثقات.
بل هذه النصوص
تصلح لتخصيص عموم حجية خبر الثقة لو تم ، لاختصاصها بالأخبار المروية عن أهل البيت
عليهمالسلام. كما تصلح للردع عن سيرة العقلاء على حجية خبر الثقة
بالإضافة إليها. بل بملاحظة التعليل في صحيحي يونس المتقدم والآتي تكون الأخبار
المذكورة حاكمة أو واردة على العمومات
والسيرة على حجية خبر الثقة ، لأنه يكشف عن ابتلاء الأخبار المروية عن
الأئمة عليهمالسلام بما يمنع من الاعتماد عليها عند العقلاء ويرفع الوثوق
بصدورها ، وهو دسّ الأكاذيب فيها.
ومما ذكرنا
يظهر لزوم قبول هذه الأخبار وإن كانت من أخبار الآحاد ـ إذا تمت فيها شرائط الحجية
المستفادة من العمومات والسيرة ـ بلا حاجة إلى تواترها ، لوجود مقتضي الحجية فيها
، وعدم المانع منها ، لقصورها عن إثبات عدم حجية أنفسها ، بل هي مختصة ببيان
المانع من حجية غيرها من الأخبار ، لا من جهة امتناع شمول القضية لنفسها ، فإنه لا
أصل له ، بل من جهة امتناع وجود المانع عن الحجية في جميع الأخبار حتى هذه الأخبار
نفسها ، إذ بعد منافاة حجيتها لحجية بقية الأخبار ، فلا بد إما من وجود المانع من
الحجية فيها دون بقية الأخبار ، أو في بقية الأخبار دونها ، وحيث يتعذر حملها على
بيان الأول ، لاستلزامه استعمال الكلام في نفسه ، بل فيما هو متأخر عنه ومن شئونه
ـ وهو إخبار الراوي به ـ واستلزامه لغوية صدورها ، وحمل عمومها على الفرد النادر ،
تعين الثاني ، فتبقى هذه الأخبار داخلة في عموم الحجية وباقية على مقتضى السيرة ،
وتكون حجة على الخروج عن عموم الحجية ومقتضى السيرة في بقية الأخبار ، فتسقط
بسببها بقية الأخبار عن الحجية.
وبعبارة أخرى :
جميع الأخبار الواجدة لشرائط الحجية الآتية ـ ومنها هذه الأخبار ـ حجة في مرتبة
سابقة على ورود هذه الأخبار ، وفي المرتبة المتأخرة عن صدورها يسقط غيرها من
الأخبار عن الحجية بسببها ، ولا تسقط هي بعد عدم شمولها لنفسها ، كما سبق. نظير ما
لو ورد ظهور كلامي رادع عن حجية الظهور ، ونحو ذلك.
نعم من يرى
قصور خبر الواحد عن مقتضى الحجية ذاتا لا من جهة المانع ليس له الاحتجاج بهذه
الأخبار إلا مع تواترها ، لعدم حجيتها مع عدمه
في مرتبة سابقة على صدورها. وهو غير مهم ، لبنائه على عدم حجية بقية
الأخبار ذاتا بلا حاجة إلى هذه الأخبار.
وكيف كان فهذه
الأخبار وافية ببيان عدم حجية أخبار الثقات ، إما لتواترها أو لما ذكرناه.
اللهم إلا أن
يقال : ما تقدم من الكشي من حديث يونس وإن تضمن النهي عن تصديق ما يخالف الكتاب
والسنة أو لا يوافقهما ، إلا أنه مسوق مساق التبري منه وبيان عدم صدوره منهم عليهمالسلام ، وأنها لا تشبه أقوالهم ، ومن قول الشيطان. وهو يناسب
حمله على الروايات المخالفة بالتباين من روايات الغلو والتفويض والتشبيه وسقوط
الفرائض ونحوها.
كما يناسبه في
الجملة ما رواه الكشي بسنده الصحيح أيضا عن هشام بن الحكم : «أنه سمع أبا عبد الله
عليهالسلام يقول : كان المغيرة بن سعيد يتعمد الكذب على أبي ويأخذ
كتب أصحابه ، وكان أصحابه المستترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي
فيدفعونها إلى المغيرة ، فكان يدس فيها الكفر والزندقة ويسندها إلى أبي ، ثم
يدفعها إلى أصحابه فيأمرهم أن يثبتوها في الشيعة ، فكلما كان من كتب أصحاب أبي من
الغلو فذلك مما دسه المغيرة بن سعيد في كتبهم» . ولعل ذلك جار في رواية سدير حيث لا يبعد ظهور النهي عن
التصديق في التبري من الرواية.
كما قد يكون
ذلك قرينة على بقية الروايات المتقدمة ، فلا يراد بها مثل روايات الأحكام التي
بأيدينا التي لا تتضمن أحكاما لا تشبه ما صدر عنهم عليهمالسلام. ولا سيما مع ما قد يقال من ضعف سند هذه النصوص ، وأن المتيقن
من مضمونها المتواتر خصوص صورة المخالفة بالتباين. فتأمل.
__________________
على أنه لا
مجال للتعويل على هذه النصوص بعد التأمل في سيرة الأصحاب قديما وحديثا وتسالمهم
على الرجوع للروايات والعمل عليها ، لأن هذه النصوص نصب أعينهم ، فعدم امتناعهم
لأجلها من العمل بالأخبار المتداولة بينهم شاهد باطلاعهم على ما يمنع من العمل بها
فيها ، إما لانصرافها إلى ما ذكرناه ونحوه ، أو لتهذيب الأخبار عن الأخبار
المكذوبة بعد عرضها على الأئمة عليهمالسلام ، أو لقرائن أخر ، بنحو يعلم بارتفاع ما يقتضي التوقف
عنها ويلزم بطلب الشاهد عليها.
هذا مضافا إلى
النصوص الكثيرة التي يأتي التعرض لها هناك الظاهرة في المفروغية عن قبول أخبار
الثقات عن أهل البيت عليهمالسلام ، حيث لا مجال معها للتعويل على هذه النصوص في التوقف
عنها ، بل تكشف عن خلل فيها إما بما ذكرنا أو غيره.
والمظنون
اختصاص ذلك بأوقات خاصة كثر فيها الكذب والتخليط والدس في غفلة من أصحاب الأئمة عليهمالسلام عن ذلك واسترسالهم عند بدئهم بتدوين الحديث ، وقد زال
ذلك بعد أن نبهوا وتنبهوا بنحو أوجب شدة احتياطهم وحذرهم عند تحمل الروايات وعند
روايتها ، وتحفظوا على كتبهم ، كما يناسب قبولهم لأخبار الثقات وجريهم على ذلك من
غير نكير ، كما يأتي عند التعرض لأدلة المثبتين للحجية إن شاء الله تعالى.
الثاني : الإجماع. فقد ادعى السيد المرتضى قدسسره إجماع أصحابنا على عدم العمل بأخبار الآحاد ، بل جعلها
كالقياس في كون ترك العمل به ضروريا من مذهب أصحابنا يعرفه الموافق والمخالف عنهم.
ويندفع بمنع
الإجماع المذكور ، بل الإجماع على خلاف ذلك ، كما يأتي في أدلة المثبتين. وهو قدسسره وإن ادعى أن الأخبار التي يعمل بها الأصحاب محتفة
بالقرائن القطعية ، وإن كانت مودعة في الكتب بطرق الآحاد ، إلا أنه لا يبعد كون
مراده ما يعم الوثوق ، حيث يصعب الالتزام بحصول القطع بصدور جميع الأخبار
لجميع العاملين بها ، كما يأتي في حجة أدلة المثبتين.
على أنه من
الإجماع المنقول الذي لا يعتمد عليه ما لم يوجب العلم بالواقع أو بالدليل المعتبر
على معقده ، وهو لا يوجب ذلك ، بل ولا الظن ، لو لم ندّع العلم بعدم ثبوت معقده.
المقام الثاني : في حجة الإثبات في الجملة
كما هو المعروف
من مذهب الأصحاب. وقد استدل عليه بالأدلة الأربعة.
الأول
: الكتاب الكريم. وقد استدل منه
بآيات ..
الأولى : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا
قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ). وتقريب الاستدلال بها : أن وجوب التبين كناية عن عدم
حجية الخبر ، ومقتضى جعل موضوعه خبر الفاسق حجية خبر غير الفاسق. إما لأن في خبر
الفاسق جهتين ذاتية ، وهي كونه خبر واحد ، وعرضية ، وهي كونه خبر فاسق ، فذكر
الثانية وعدم ذكر الأولى ظاهر في عدم صلوح الأولى لاقتضاء الحكم ، وإلا كانت هي
الأولى بالحكم ، إذ التعليل بالذاتي الصالح للعلية أولى من التعليل بالعرضي ، فلا
بد أن يكون المقتضي لعدم الحجية هو الجهة الثانية ، ولا سيما مع مناسبتها للحكم
عرفا ، حيث يناسب ذلك دخلها فيه وإما لأجل استفادة إناطته بالفسق من الشرط الدال
على التعليق والظاهر في المفهوم على التحقيق.
لكن الأول راجع
للاستدلال بمفهوم الوصف الذي تقدم في محله عدم تماميته. ومجرد المناسبة بين الوصف
والحكم عرفا لا يوجب الظهور في المفهوم ، بل غايته الإشعار بالعلية ـ وإن لم تكن
منحصرة ـ الذي لا يبلغ مرتبة الحجية. على أنه لا مجال له في خصوص المقام بناء على
ما يأتي من عدم سوق
__________________
الآية الشريفة لمجرد بيان عدم الحجية ، بل للاستنكار والتبكيت زائدا على
ذلك ، فلعل ذكر الفسق لأنه آكد في ذلك ، لا لإناطة عدم الحجية به.
وأما الثاني
فيدفعه أنه لا مفهوم للشرطية في المقام ، لأنها مسوقة لتحقيق الموضوع ، فإن المراد
بالأمر التبين ـ الذي هو كناية عن عدم الحجية ـ هو الأمر بالتبين عن حال خبر
الفاسق الذي هو موضوع قضية الشرط ، ومن الظاهر أن جملة الشرط مسوقة لتحقيق الموضوع
المذكور لا لاعتبار أمر زائد عليه ، إذ ليس مجىء الفاسق بالنبإ إلا عبارة عن وجوده
، وبدونه لا نبأ للفاسق الذي هو موضوع الأمر بالتبين والحكم بعدم الحجية.
نعم لو كان
موضوع الأمر بالتبين مطلق النبأ ومجىء الفاسق به أو كون الجائي به فاسقا شرطا
للأمر بالتبين عنه لم تكن جملة الشرط مسوقة لتحقيق الموضوع ، وكان لها مفهوم ، كما
لو كان الخطاب هكذا : النبأ إن جاء به الفاسق ، أو إن كان الجائي به فاسقا ،
فتبينوا عنه.
لكنه لا يناسب
التركيب الكلامي للآية الشريفة ، بل مقتضى تركيبها أن موضوع الأمر بالتبين في جملة
الجزاء هو خصوص نبأ الفاسق الذي سيقت جملة الشرط لتحقيقه ، وبارتفاعه لا يبقى
موضوع للحكم الذي تضمنته جملة الجزاء ، فلا مفهوم للقضية يقتضي عدم الأمر بالتبين
عن خبر غير الفاسق ، الملازم لحجيته.
هذا عمدة
الكلام في وجه الاستدلال بالآية ، وردّه ، وهناك وجوه أخرى للاستدلال لا يخلو
أكثرها عن تحكم أو تكلف ظاهر ، ولا مجال لإطالة الكلام فيها ، وإن كان قد يأتي ما
ينفع في ذلك.
ثم إنه لو تم
ظهور الآية الشريفة في نفسها في المفهوم فقد
أورد على الاستدلال بها بوجوه ..
الوجه
الأول : ما ذكره جماعة من القدماء والمتأخرين
من أنه لا بد من رفع اليد عن المفهوم بعموم التعليل في ذيلها المقتضي لعدم الإقدام مع الجهل فرارا من الوقوع في أمر
يحذر منه ، ولا مانع من رفع اليد عن المفهوم بالقرينة المنفصلة ، فضلا عن المتصلة
المانعة من انعقاد ظهور الكلام فيه بدوا.
وقد يدفع ذلك
بوجوه «أولها» : ما ذكره بعض المعاصرين رحمهالله في أصوله في تقريب معنى الآية من منع سوق الذيل للتعليل
، لاستلزامه تقدير مفعول لقوله : (فَتَبَيَّنُوا) وتقدير ما يدل على التعليل في الذيل ، فيكون التقدير
هكذا :
إن جاءكم فاسق
بنبإ فتبينوا صدقه لئلا تصيبوا قوما بجهالة ... ونحو ذلك ، وهو تكلف مخالف للأصل.
فالأولى جعل الذيل نفسه مفعولا للتبين ـ مع تضمن التبين معنى التثبت ـ قال : «فيكون
معناه : فتثبتوا واحذروا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين». فلا
يكون للذيل عموم ينهض برفع اليد عن المفهوم.
وفيه : أنه لا
مجال لكون الذيل مفعولا للتبين بعد تقييد الإصابة بالجهالة التي هي من الأمور
الوجدانية غير القابلة للجهل ، والتبين إنما يتعلق بالأمور الواقعية القابلة للجهل
، فلا يتم ما ذكره إلا بقطع التبين عن الإصابة وتقدير متعلق لها يناسب المقام ،
كالحذر ، إما بتقدير فعل الحذر ـ كما ذكره في كلامه ـ أو بتصيده من التبين بجعل
التبين متضمنا معناه ، وكلاهما خلاف الأصل كالتقدير اللازم من الحمل على التعليل.
بل لعل الثاني
أولى ، لاشتهار حذف عامل «أن» خصوصا في مقام التعليل الوارد مورد الحذر ، كما في
قوله تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ
لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) ، وقوله تعالى : (وَقالَ ما نَهاكُما
رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا
__________________
مِنَ
الْخالِدِينَ) ، وقوله سبحانه : (وَإِذْ أَخَذَ
رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى
أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ
الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ ...) ، وقوله عزّ اسمه : (وَاتَّبِعُوا
أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ
الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ* أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى
عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ ...) وغيرها ولا سيما مع كون التعليل أبلغ في بيان المطلوب
وأدعى للارتداع. ولا أقل من الإجمال والتردد بين الوجهين الراجع لاحتفاف الكلام
بما يصلح للقرينية على عدم المفهوم.
ثانيها
: ما ذكره غير
واحد من حكومة المفهوم على التعليل ، لأن مقتضاه كون خبر العادل علما تعبدا أو
تنزيلا ، فيخرج عن موضوع التعليل ، وترتفع المعارضة بينهما. وهو مبني على أن مفاد
جعل الطرق جعلها علما تعبدا أو تنزيلا.
لكنه ممنوع ،
كما يأتي في كيفية الجمع بين أدلة الطرق وأدلة الأصول من مبحث التعارض إن شاء الله
تعالى.
مع أن التعبد
أو التنزيل المذكور موقوف على انعقاد الظهور في المفهوم ، وعموم التعليل مانع من
انعقاده.
وبعبارة أخرى :
خروج خبر العادل عن عموم التعليل إثباتا في رتبة متأخرة عن انعقاد الظهور في
المفهوم ، وعموم التعليل مانع من انعقاده. ومجرد صلوح القضية في نفسها للدلالة على
المفهوم لا ينفع في حجية خبر العادل ما لم ينعقد ظهورها فيه ، ولا ينعقد ظهورها
فيه مع إلحاقها
__________________
بالتعليل ، فما ذكر قد يتجه لو كان دليل المفهوم منفصلا عن التعليل ، كما
أشار إليه شيخنا الأستاذ قدسسره.
ثالثها
ـ وهو العمدة ـ
: أن التعليل لا يعم مورد المفهوم غالبا ، فإن حمله على مطلق الجهل بالواقع لا
يناسب مقام التعليل الذي ينبغي فيه أن يكون ارتكازيا صالحا لبيان وجه الحكم
وتقريبه إلى ذهن السامع ليقتنع به ، كما لا يناسب خصوصية الفسق المناسب ارتكازا
للتوقف عن الخبر ، بل المناسب لذلك حمله على خصوص الجهل الذي يرى العقلاء الإقدام
معه تغريرا وتفريطا ، لعدم وجود ما يصلح بنظرهم لأن يركن إليه ويعتمد عليه في مقام
العمل ، كخبر الفاسق ، وتقديم عموم التعليل على المفهوم إنما هو بالإضافة إلى ما
يشبه خبر الفاسق في ذلك ، كخبر العدل غير الضابط ، دون مثل خبر العدل الضابط الذي
يصح الركون إليه والاعتماد عليه عند العقلاء الذي هو المراد بالمفهوم ، بل يقصر
التعليل عنه ارتكازا ، كما يقصر عن خبر الفاسق الثقة المأمون منه الكذب وإن دخل في
إطلاق المنطوق. ولعل وجه ذكر الفاسق حينئذ غلبة كونه من القسم الأول مع التنبيه
والتأكيد على فسق المخبر في مورد النزول ، والتأنيب والتبكيت لمن حاول العمل
بخبره.
ونظير ذلك ما
لو قيل : إن وصفت لك النساء دواء فلا تستعمله ، لأنك لا تأمن ضرره ، حيث لا يتوهم
عموم التعليل فيه لما يصفه الطبيب الحاذق وإن لم يكن معصوما من الخطأ ، وإنما يعم
ما يصفه غير الأطباء من الرجال ، كما يقصر عما يصفه النساء الطبيبات الحاذقات.
وليس وجه ذكر النساء إلا غلبة تصدي غير الطبيبات الحاذقات. وليس وجه ذكر النساء
إلا غلبة تصدي غير الطبيبات منهن لوصف الدواء أو الابتلاء بهن في مورد الخطاب.
ويشهد بما
ذكرنا أيضا التعقيب بالندم الظاهر في المفروغية عن ترتب الندم بالعمل على خبر
الفاسق بعد ظهور كذبه ، إذ من الظاهر أن الندم لا يكون بمجرد فوت الواقع ، بل مع
التقصير فيه ، المستلزم لتقريع النفس وتأنيبها ، ولا
تقصير في العمل بخبر العادل الضابط وإن لم يؤمن معه فوت الواقع ، كما لا
يترتب عليه الندم. ولأجل ذلك كان عموم التعليل آبيا عن التخصيص عرفا ، ولو حمل على
مطلق الجهل بالواقع لم يكن آبيا عنه ، لتعارف الطرق غير العلمية عند العقلاء ،
وعدم منافاتها لمرتكزاتهم.
هذا كله بناء
على حمل الجهالة على ما يقابل العلم ، وأما بناء على حملها على ما يناسب الطيش
والحمق والسفه ويقابل الرشد والتعقل والحكمة فالأمر أظهر. ولعل الثاني هو الأشهر
في الاستعمال في الكتاب والسنة وغيرهما ، فقد استعمل الجهل ومشتقاته في ما يزيد
على عشرين موضعا من الكتاب الكريم في المعنى المذكور صريحا أو ظاهرا ، واشتهر
استعماله في ذلك في السنة الشريفة ، كما يظهر بملاحظة كتاب العقل والجهل من الكافي
وغيره ، وكذا الحال في استعمالات أهل اللغة.
نعم ورد
استعماله بالمعنى الأول في مثل قولهم عليهمالسلام : «أيما امرئ ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه». إلا أنه
دون الاستعمال في المعنى الثاني. ولذا كان الجهل عرفا صفة ذم مستتبعة للوم ، مع أن
عدم العلم بنفسه وإن كان نقصا لا يستتبع اللوم أصلا. ومن ثم كان المعنى المذكور هو
الأقرب في الآية الشريفة ، ولا سيما بملاحظة كونها إشارة إلى أمر ارتكازي عرفي ،
كما لعله ظاهر. وحينئذ فقصور التعليل فيها عن مورد المفهوم ظاهر جدا.
نعم قد يقال :
حمل التعليل على خصوص ما لا يقدم العقلاء على العمل به لا يناسب الآية الشريفة ،
حيث وردت لردع النبي صلىاللهعليهوآله أو الصحابة عن محاولة العمل بخبر الفاسق ، إذ لا مجال
لتوهم إقدامه صلىاللهعليهوآله أو إقدامهم على ما لا ينبغي العمل عليه عند العقلاء ،
بل لا بد من البناء على ورودها لردعهم في مورد سيرة العقلاء على العمل بالخبر
زيادة في التحفظ.
لكنه مندفع
بأنه لا يظهر من الآية الشريفة الردع للنبي صلىاللهعليهوآله أو لأهل التعقل والحكمة من المؤمنين والتابعين له صلىاللهعليهوآله في القول والعمل ، بل سياقها كالصريح في مجانبة النبي صلىاللهعليهوآله ومن أطاعه من المؤمنين للعمل بخبر الفاسق في مورد
النزول ، وأن الردع والتبكيت مختص بغيرهم من جهال الناس الذين ينعقون مع كل ناعق
ويؤخذون بالتهريج والإرجاف من المنافقين ونحوهم ممن لا يتبع سبيل المؤمنين وقد
ابتلي بهم النبي صلىاللهعليهوآله والمؤمنون في حياته وبعد وفاته. قال تعالى بعد الآية
المذكورة : (وَاعْلَمُوا أَنَّ
فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ
وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ
وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ
الرَّاشِدُونَ). فإنه كالصريح في انقسام المسلمين على أنفسهم ، طائفة
مع النبي صلىاللهعليهوآله في التوقف عن خبر الفاسق ، قد حبب الله إليهم الإيمان
وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان وهم الراشدون ، وطائفة أرادوا العمل به وحملوا
النبي صلىاللهعليهوآله على ذلك وأصروا عليه.
ولكنه صلىاللهعليهوآله أبى عليهم ، فجاءت الآيتان الشريفتان تأييدا له وقمعا
للفتنة كما نبه لذلك شيخنا الأستاذ قدسسره وسبقه إليه بعض المفسرين كالزمخشري في الكشاف وغيره على
ما حكي.
ولو لا ذلك كان
التدافع بين صدر هذه الآية وذيلها ظاهرا ، لمناسبة صدرها للتأنيب والعذل ، ومناسبة
ذيلها للمدح والتشجيع ، فيلزم التدافع لو أريد بهما جماعة واحدة.
ومن جميع ذلك
ظهر أن آية النبأ ليست رادعة عن سيرة العقلاء في العمل بخبر الواحد الثقة ، زيادة
في التحفظ ، بل داعية لمقتضى سيرتهم ومرتكزاتهم من التوقف عن خبر غير المأمون ،
والإنكار على من أراد العمل
__________________
به ، كما وردت أكثر آيات سورة الحجرات لتأديب المسلمين وتهذيبهم مما يشينهم
من أخلاق وأفعال ، كرفع أصواتهم فوق صوت النبي صلىاللهعليهوآله ، وعدم توقيره ، وندائه من وراء الحجرات ، وسخرية بعضهم
من بعض واغتيابهم لهم والتنابز بالألقاب ، ونحو ذلك مما يخرجون به عن مقتضى الحكمة
والرشد.
وبذلك يتم ما
ذكرنا من قصور التعليل عن مورد المفهوم ، فلا ينهض برفع اليد عنه لو تم في نفسه ،
ولا موقع للإشكال المذكور من أصله.
ثم إنه بما
ذكرنا يتضح أنه لا مجال للاستدلال بالآية الشريفة على عدم حجية خبر الفاسق مطلقا
وإن كان ثقة في نفسه مأمونا منه التسامح في الكذب ، للزوم الخروج عن إطلاق الفاسق
فيها بالتعليل بعد حمله على ما سبق. ولا أقل من الإجمال المانع من الاستدلال.
وأما ما ذكره
شيخنا الأعظم قدسسره من ورود الآية للإرشاد إلى عدم جواز مقايسة خبر الفاسق
بخبر غيره وإن حصل منه الاطمئنان ، لزوال الاطمئنان منه بالالتفات إلى فسقه وعدم
مبالاته بالمعصية وإن كان متحرزا عن الكذب.
ففيه : أنه إن
أريد به زوال الاطمئنان من خبره حقيقة بسبب الالتفات إلى فسقه. فهو غير مطرد ، لأن
التحرز عن الكذب غير مختص بالعادل قطعا ، بل هو خلاف المفروض في محل الكلام.
وإن أريد به أن
الشارع قد ردع عن خبره مطلقا وإن كان متحرزا عن الكذب ، لعدم اكتفائه بالاطمئنان
الحاصل منه ، فلا مجال له بعد ما تقدم من ظهور التعليل في كونه ارتكازيا ، وظهور
الآية في الحث على مقتضى الارتكاز العقلائي في التوقف عن خبر من لا يؤمن كذبه ، لا
الردع عن مقتضى سيرة العقلاء في العمل بخبر من يؤمن كذبه زيادة في التحفظ. ومن هنا
لا مجال للخروج عما دل على حجية خبر الثقة لو تم.
الوجه الثاني : مما أورد على الاستدلال بالمفهوم في الآية الشريفة أن
المفهوم غير معمول به في الموضوعات الخارجية التي منها مورد الآية ، إذ لا إشكال
في عدم الاكتفاء فيها بخبر العدل الواحد ، بل لا بد فيه من التعدد. ومعه لا بد من
طرح المفهوم ، لئلا يلزم إخراج المورد.
وقد أجاب عنه
شيخنا الأعظم قدسسره وغيره بأن المورد داخل في المنطوق وهو عدم حجية خبر
الفاسق ، لا في المفهوم وهو حجية خبر العادل. وغاية ما يلزم هو تقييد المفهوم في
الموضوعات الخارجية بالتعدد ، ولا يلزم منه خروج المورد. وإليه يرجع ما قيل من أن
ارتكاب التقييد في المفهوم مقدم على إلغائه رأسا.
والذي ينبغي أن
يقال : إرجاع الشرطية للمنطوق والمفهوم ليس لانحلالها إليهما حقيقة ، بنحو يكون هناك
قضيتان يمكن طروء التقييد عليهما معا وعلى إحداهما دون الأخرى ، بل لدلالتها على
معنى يستلزمها ، وهو إناطة الجزاء بالشرط المستلزمة لوجوده عند وجوده وانتفائه عند
انتفائه. وحينئذ لو كانت الشرطية في المقام ذات مفهوم كان مفادها إناطة عدم حجية
الخبر بالفسق المستلزمة لحجيته مع عدمه مطلقا ، وحيث لا مجال لذلك في الموضوعات
الخارجية ، لعدم الإشكال في اعتبار التعدد فيها فلا بد إما من تخصيص موضوع الشرطية
ـ وهو النبأ ـ بغير الموضوعات ، أو إلغاء ظهور الشرطية في الإناطة وحملها على مجرد
بيان ترتب الجزاء على الشرط ، وحيث يمتنع الأول ، لاستلزامه خروج المورد عن
الشرطية فالمتعين الثاني الراجع لعدم كون الشرطية ذات مفهوم ، وتوجه الإشكال.
وأما احتمال
إبقاء الشرطية على عمومها والمحافظة على ظهورها في الإناطة المستلزمة للمفهوم مع
تقييدها في خصوص الموضوعات الخارجية بالتعدد. فلا مجال له ، إذ التقييد المذكور لا
يناسب الإناطة التامة ، ولا مجال
للتفكيك في الإناطة لبساطتها ، كما تقدم في مسألة تعدد الشرط مع وحدة
الجزاء من فصل مفهوم الشرط. ولعله لذا ذكر في الفصول أن ذلك تكلف مستبشع.
اللهم إلا أن
يحمل الأمر على عدم صلوح خبر الفاسق لأن يعمل به ويعتمد عليه ، فيكون مقتضى
المفهوم ـ لو تم ـ صلوح خبر غيره لأن يعمل به ، وإن احتاج إلى التعدد وانضمام غيره
له ، كما في الموضوعات الخارجية. وهو لو تم يستلزم رجوع المفهوم في المقام إلى
حجية خبر غير الفاسق في الجملة ، لا مطلقا. فتأمل جيدا.
الوجه الثالث : أن حمل الفاسق في الآية على ما يقابل العادل الذي هو
موضوع الحجية عند بعضهم لا يخلو عن إشكال ، لأنه وإن ورد استعماله فيه في بعض
النصوص ـ مثل ما تضمن جواز غيبة المتجاهر بالفسق ـ إلا أن تحديده به اصطلاح متأخر ، والشائع في
الاستعمالات ـ خصوصا في الكتاب الكريم ـ إطلاقه في مقابل المؤمن ، كما هو المناسب
لمورد الآية. بل في بعض النصوص النهي عن إطلاق الفاسق على المؤمن العاصي ، وأنه
فاسق العمل .
وحينئذ لا مجال
لحمل القضية على المفهوم إلا بتقييده بالعادل ولا مجال لذلك ، إما لما سبق في
الوجه الثاني من امتناع تقييد المفهوم ، أو لأن التقييد المذكور لما كان مستلزما
لإخراج كثير من الأفراد أو أكثرها كان إلغاء المفهوم أهون منه وأقرب عرفا.
وهناك وجوه أخر
لا يسع المقام التعرض لها ، لظهور ضعفها ، ولابتناء
__________________
جملة منها على تدقيقات وتكلفات لا ينبغي صرف الوقت فيها. ومنه سبحانه نستمد
العون والتوفيق والتأييد والتسديد. وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الآية الثانية مما استدل به على حجية خبر الواحد : قوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا
كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا
فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ
يَحْذَرُونَ) ، فإنها ظاهرة في وجوب الحذر تبعا لوجوب الإنذار ،
لكونه غاية له بمقتضى كلمة «لعل» المسوقة مساق التعليل ، ومرجع وجوب الحذر إلى
حجية قول المنذر في الأحكام الإلزامية القابلة للحذر ، ويتم في غيرها بعدم الفصل ،
بل بفهم عدم الخصوصية بعد عدم ظهورها في تشريع وجوب الحذر بعد الإنذار تعبدا
تأسيسا من الشارع ، بل في ترتبه طبعا ، وذلك إنما يكون بلحاظ السيرة العقلائية
المرتكز مضمونها في الأذهان ، فتكون ظاهرة في إمضائها والجري عليها ، ومن الظاهر عدم
خصوصية الأحكام الإلزامية في السيرة المذكورة.
وبذلك يظهر
اختصاص الآية بالخبر الموثوق به على ما يأتي تفصيله ، لاختصاص السيرة به. ومعه لا
حاجة إلى تكلف الدليل على التخصيص.
كما يندفع بذلك
أيضا توهم أن وجوب الحذر كما يكون لحجية الخبر يكون للزوم العمل على طبقه احتياطا
، لتنجز الواقع المحتمل به ، فلا تدل الآية على حجية الخبر ، بل على مجرد منجزيته
للتكليف المحتمل ، ولا موضوع لذلك في الخبر الذي يتضمن حكما غير إلزامي ، ليتعدى
له بعدم الفصل أو بفهم عدم الخصوصية.
وجه الاندفاع :
أن الأمر الارتكازي الذي يظهر من الآية إمضاؤه ليس هو مجرد لزوم موافقة الخبر ولو
احتياطا ، بل لزوم الأخذ به تبعا لحجيته ، مهما كان
__________________
مضمونه. على أن الظاهر المفروغية عن ملازمة وجوب الحذر عقيب الخبر لعموم
حجيته مهما كان مضمونه ، وذلك كاف في المطلوب لو فرض عدم ظهور الآية فيه في نفسها.
هذا وقد يستشكل في الاستدلال بالآية بوجوه ...
الأول : أنه لا إطلاق لها يقتضي وجوب الحذر عند الإنذار لعدم
سوقها لذلك ، بل لبيان وجوب النفر ، مع المفروغية عن ترتب الحذر على الإنذار في
الجملة ، لا مطلقا ، كما هو مقتضى كلمة «لعل» الظاهرة في عدم ملازمة ما بعدها لما
قبلها ، نظير قولنا : انصح زيدا لعله يقبل منك ، وأبلغه لعله يصدقك ، فلعل وجوب
الحذر يختص بما إذا تعدد المنذر أو قامت القرينة على صدق الخبر.
ويندفع بأن «لعل»
في المقام ونحوه ظاهرة في ملازمة مطلوبية ما بعدها لما قبلها ، بمقتضى ظهورها في
كونه غاية لطلبه ، وإن أمكن تخلفه بنفسه مع كونه مطلوبا ، نظير قولنا : أحسن لزيد
لعله ينفعك وادفع له دينارا لعله يكفّ عن الطلب من الناس. فإنه ظاهر في كون
الإحسان ودفع الدينار كافيين في استحسان النفع والكف ومطلوبيتهما من زيد ، بلا
حاجة إلى أمر آخر.
وأما ظهور «لعل»
في عدم لزوم ترتب الغاية فهو لأمر آخر غير عدم إطلاق الطلب ، كقصور المكلف لعدم
علمه بمطلوبية الشيء ، كما قد يكون في مثل : أبلغ زيدا بمجىء عمرو لعله يزوره ،
بأن يكون عدم زيارة زيد لعمرو ناشئا من عدم علمه بمطلوبية الزيارة منه أو تقصيره
تسامحا في القيام بما ينبغي له ، كما في المثالين المتقدمين وفي مثل قوله تعالى : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً
لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) ومنه المقام ، لأن الأمر بالنفر والتفقه والإنذار
والحذر عام ينبغي أن لا يجهله أحد بعد النص عليه في الكتاب الكريم ولا سيما مع
مطابقته
__________________
للمرتكزات العقلائية ، وظهور الآية الشريفة في إمضائها ، كما سبق.
الثاني : أن الحذر لم يجعل غاية لمطلق الإنذار وإن كان من واحد
، بل لإنذار الطائفة ، وإخبارهم بأمر واحد يوجب غالبا العلم به مع كونهم ثقات ،
خصوصا في عصر صدور الآية ، حيث لم يؤلف الكذب في الأحكام الشرعية على صاحب الشريعة
، ويندر الخطأ مع أخذ الحكم منه مباشرة ، ويصعب انتشار خلاف الواقع عليه مع تيسر
بيان الواقع له. وعليه لا تكون الآية واردة لإمضاء سيرة العقلاء الارتكازية بل
لبيان لزوم الاستعانة بالغير في تحصيل العلم لمن وجب عليه تحصيله ولا يتيسر له
تحصيله بنفسه. ويشهد به ما ورد من الاستشهاد بها على لزوم النفر لمعرفة الإمام مع أنه لا بد فيه من
العلم.
ودعوى : أن
ظاهر مقابلة الجمع بالجمع إرادة الاستغراق والانحلال ، فالمعنى أن كل واحد من
الطائفة ينذر بعضا من قومه.
مدفوعة بأن
ظهور مقابلة الجمع بالجمع في الاستغراق والانحلال مختص بما إذا أخذ عنوان لا يصدق
على الجمع ، كما في مثل : أكرموا جيرانكم وأدبوا أولادكم ، لوضوح أن علاقة الجوار
والبنوة لا تقوم بالمجموع ، بل بكل جار وجاره وأب وابنه بنحو الانحلال ، دون مثل
المقام حيث تكون نسبة القوم لأفراد الطائفة نسبة واحدة ، فإن حمله على التفريق وإن
كان ممكنا إلا أنه يحتاج إلى دليل. على أن إنذار تمام أفراد الطائفة للقوم ولو مع
تفرقهم فيهم موجب للعلم غالبا إن اتفقوا ، وإن اختلفوا ظهر اختلافهم ولزم التوقف
على كل حال ، وخرج عن مفاد الآية. فتأمل جيدا.
نعم ذكر بعض
الأعاظم قدسسره أن التكليف بكل من التفقه والإنذار والحذر استغراقي
انحلالي ، لا مجموعي ارتباطي ، فيجب على كل واحد القيام بها وإن
__________________
عصى غيره. فإن تمّ كان مقتضى الآية حجية الخبر من المنذرين بنحو صرف الوجود
الشامل لإنذار الواحد ، لأن الحذر إذا كان غاية لوجوب الإنذار بنحو الانحلال دل
على كفاية إنذار الواحد في وجوب الحذر الملازم لحجيته.
وما ذكره قدسسره مقطوع به في وجوب الحذر ، بل وفي وجوب الإنذار أيضا ، حيث لا إشكال ظاهرا
في وجوب الإنذار على كل واحد من المتفقهين حتى لو عصى غيره. ومن ثم يكون هو الظاهر
في التفقه أيضا ، كما هو الظاهر في غالب الخطابات الشرعية الموجهة للجميع. ولذا
استفيد من الآية الشريفة وجوب الاجتهاد وتبليغ الأحكام كفاية على كل أحد وإن لم
يقم به غيره. وبذلك يندفع الإشكال المذكور.
وأما الاستشهاد
في النصوص بالآية الشريفة لوجوب النفر لمعرفة الإمام فهو بلحاظ ظهورها في جواز
الاستعانة بالغير في الفحص وعدم وجوب مباشرة كل أحد له ، لا لظهورها في اعتبار
المعرفة العلمية. ولزوم كون معرفة الإمام علمية مستفاد من دليل خاص غير الآية.
الثالث : أن التفقه الواجب إنما هو معرفة الأحكام الشرعية
والإنذار الواجب إنما يكون بها ، والحذر إنما يجب على المكلف عقيبه لا عقيب كل
إنذار ، لأن الحذر في الحقيقة إنما يكون بسبب الحكم الشرعي الواقعي ، ولا يحرز
المكلف كون الخبر إنذارا بالحكم الشرعي إلا إذا أحرز صدقه ، فلا يكون وجوب الحذر
شرعيا راجعا إلى حجية الخبر ظاهرا ، بل عقليا راجعا لوجوب طاعة الأحكام الشرعية ،
فيخرج عن محل الكلام ، فالآية نظير قولنا : أخبر زيدا بأوامري لعله يمتثلها ، حيث
يراد به فرض علمه بصدق الخبر.
وفيه : أن
الحذر وإن كان في الحقيقة بسبب الحكم الشرعي ، إلا أنه لا مانع من كون الإنذار
طريقا شرعيا لمعرفته وحجة عليه ، كما هو ظاهر الآية بالتقريب
المتقدم. وليس المراد بالإنذار بالأحكام الشرعية الذي استفيد من الآية حجيته
إلا الإخبار عنها ، وهو يصدق على الخبر بها وإن لم يعلم صدقه.
وأما المثال
المذكور فحمله على صورة العلم بصدق الخبر موقوف على عدم إعلام من يصله الخبر
بحجيته ، ولو لعدم إعلامه بتكليف صاحبه بالإخبار.
وذلك لا يجري
في المقام بعد خطاب الكل بالنفر والتفقه والإنذار والحذر ، ومطابقة ترتب الحذر على
الإنذار للمرتكزات العقلائية التي يظهر من الآية إمضاؤها كما تقدم.
فالعمدة في
الإشكال في الاستدلال بالآية الشريفة ما ذكره غير واحد على تفصيل لا يسعه المقام.
والأولى تقريبه بأن الإنذار والتفقه من وظيفة المفتي ، لا الراوي ، لأن التفقه في
الدين عبارة عن معرفة أحكامه ، وهو لا يكون بمجرد تحمل الرواية وحفظها ، بل
باستحصال الحكم منها ، لتمامية دلالتها بملاحظة القرائن الخارجية وعدم المعارض
لها. كما أن الإنذار عبارة عن الإخبار مع التخويف ، وهو لا يكون بمجرد الإخبار عن
المعصوم ، بل بالإخبار بالتكليف المستلزم للعقاب ، وهو الذي يستحصله الفقيه من
الرواية.
نعم قد يظهر من
معتبر الفضل بن شاذان عن الرضا عليهالسلام صدق الإنذار والتفقه بمجرد تحمل الرواية وروايتها ،
لقوله فيه : «إنما أمروا بالحج لعلة الوفادة إلى الله عزوجل ... مع ما فيه من التفقه ونقل أخبار الأئمة عليهمالسلام إلى كل صقع وناحية ، كما قال الله عزوجل : فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ...» . لكن الاعتماد عليه في الخروج عن ظاهر الآية راجع إلى
الاستدلال بالسنة لا بالكتاب. مع قرب حمله على الراوي الفقيه المتعهد بمضمون
الرواية ، الذي يأتي التعرض له.
__________________
وأما ما ذكره
بعض الأعاظم قدسسره من أن الإنذار وإن كان هو الإخبار المشتمل على التخويف
إلا أنه لا يعتبر تصريح المخبر بالتخويف ، بل يكفي تضمن الخبر له واشتماله عليه
وإن سيق لغيره ، ولذا يصدق على الفتوى مع عدم تصريح المفتي بالتخويف ، ولا فرق بين
الفتوى والرواية في أن كلا منهما يشتمل على التخويف ضمنا ، فإن الإخبار بالوجوب
يتضمن الإخبار بما يستتبع مخالفته من العقاب.
ففيه : أن
اشتمال الخبر على التخويف ضمنا وإن كان كافيا في صدق الإنذار ، إلا أنه لا بد من
قصد المخبر له ، لابتناء خبره على الملازمة بين المخبر به والعقاب ، كي يرجع
الإخبار به للإخبار بالعقاب ، وذلك مختص بالمفتي ، ولا يجري في الراوي الناقل
لألفاظ الحديث من دون تعهد بمضمونه ، وأما الراوي المتعهد بالمضمون الذي ترجع
روايته للرواية لفتواه بمضمونها فهو وإن كان منذرا أيضا ، إلا أن ظاهر الآية
الشريفة حجية خبره من حيثية إنذاره ، لا مطلقا ، وهو راجع إلى حجية قوله في ترتب
العقاب ، التي تختص بالعامي الذي يجب تقليده عليه ، وأما قبول المجتهد لإخباره
بكلام الإمام ونحوه مجردا عما تضمنه من التخويف فلا دلالة للآية عليه بوجه.
ومنه يظهر
اندفاع ما في الفصول من أنه إذا ثبت من الآية الشريفة حجية خبر الراوي المذكور ،
لصدق الإنذار عليه ثبتت حجية خبر غيره بعدم القول بالفصل.
إذ فيه : أن
حجية خبره بنفسه مجردا عن التخويف لم يثبت من الآية ، ليتعدى لغيره بعدم الفصل.
وحجيته بلحاظ ما يتضمنه من التخويف راجعة إلى حجية فتواه في حق العامي ، ومن
الظاهر ثبوت الفصل بينها وبين حجية رواياته فضلا عن روايات غيره.
نعم قد يدعى أن
الآية وإن تضمنت حجية الفتوى ، إلا أنه يمكن التعدي منها لحجية الخبر بتنقيح
المناط ، أو بالأولوية العرفية ، لأن الخبر لما كان من مقدمات الفتوى ، فحجية
الفتوى المبتنية عليه وعلى الحدس تقتضي حجيته بالفحوى.
لكنه يندفع بأن
ذلك إنما يتجه لو ثبت عموم حجية الفتوى على نحو حجية الخبر المدعاة ، أما حيث كانت
حجية الفتوى مقصورة على العامي الذي لا طريق له لمعرفة الوظيفة الفعلية غيرها
فحجيتها في حقه لا تستلزم عموم حجية الخبر بنحو يرجع له المجتهد الذي لا تكون
الفتوى حجة في حقه ، لا عقلا ولا عرفا.
ومن هنا كان
الظاهر أنه لا دافع للإشكال المذكور. وأن المتعين الاستدلال بالآية الشريفة على
حجية الفتوى ، دون حجية الخبر التي هي محل الكلام.
الآية الثالثة : قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما
بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ
اللَّاعِنُونَ) بتقريب أن تحريم الكتمان ووجوب البيان يستلزم وجوب
القبول ، وإلا كان لاغيا. ومن ثم استدل في المسالك على حجية خبر المرأة عما في
رحمها بقوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ
أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ).
وفيه : أن وجوب
البيان لا يلغو مع عدم حجيته وعدم وجوب قبوله إذا لم يوجب العلم ، لإمكان كون
فائدته مجرد إثارة الاحتمال الملزم عقلا بالفحص أو الاحتياط. بل قد يكون سببا
للعلم أو بعض السبب له ، كما لعله الأنسب في الآية
__________________
الشريفة ، لقرب نزولها في علماء أهل الكتاب وكتمانهم لعلامات النبي صلىاللهعليهوآله التي يعتبر فيها العلم.
نعم قد تدعى
الملازمة العرفية بين وجوب الإخبار ووجوب القبول وإن لم يكن بينهما ملازمة واقعية.
لكنها ـ لو تمت ـ مختصة بما إذا كان الغالب انحصار طريق معرفة الشيء بالإخبار
المأمور به ، ولم يكن الغالب فيه إفادة العلم. ولعل منه إخبار النساء بما في
أرحامهن ، دون المقام ، لعدم انحصار المعرفة بأخبار الآحاد ، خصوصا في عصر نزول
الآية.
هذا مع أن
موضوع الآية الشريفة ما أنزله الله تعالى في الكتاب ، وهو في الفقه الحكم الشرعي
الذي يكون بيانه وظيفة المجتهد دون الراوي ، فإنه لا يحكي إلا كلام الإمام أو نحوه
، وهو وإن كان ملازما في الجملة لما أنزله الله تعالى إلا أن الملزوم غير محكي له
، كما تقدم نظيره في آية النفر. فتأمل جيدا.
الآية الرابعة والخامسة : قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ
كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ). وقوله سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا
قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ
كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ). فإنهما ظاهران في أن وظيفة الجاهل السؤال من العالم ،
تنبيها إلى سيرة العقلاء الارتكازية على ذلك. ومن ثم ينصرف إلى خبر الثقة ، نظير
ما تقدم في آية النفر.
ودعوى : أن
ظاهر أهل الذكر بقرينة السياق إرادة علماء أهل الكتاب ، كما عن بعض المفسرين.
مدفوعة بأن ورود القضية مورد الإمضاء لسيرة العقلاء الارتكازية موجب لإلغاء خصوصية
موردها عرفا لو تم عدم العموم فيها لفظا.
على أنه لم
يتضح وجه اقتضاء قرينة السياق ذلك ، إذ غاية ما يقال في
__________________
تقريبه أن الآيتين واردتان لردع المشركين عن دعوى عدم بعث الأنبياء من
البشر ، والاستشهاد بعلماء أهل الكتاب لإبطال ذلك ، لأنهم يقرون ببعثهم. وهو كما
ترى ، لأن مدعي ذلك من المشركين لا يرى علماء أهل الكتاب من أهل الذكر ، بل ينكر
عليهم ويكذبهم كما ينكر على النبي صلىاللهعليهوآله ويكذبه ، ومن يقر لهم بذلك مع الدعوى المذكورة متناقض
متعنت قد لا يحسن خطابه والاحتجاج معه.
ولا يبعد كون
تفريع الأمر بسؤال أهل الذكر على إرسال الرسل ، للتنبيه إلى أن فائدة إرسالهم
هداية الناس بما أنزل إليهم ، وأن على الناس اغتنام ذلك بالسؤال عما أنزل على الأنبياء
وأخذه من أهله ، كما قد يناسبه قوله تعالى بعد الآية الأولى : (... وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ). وهو المناسب لما يأتي من تفسيرها بأهل البيت عليهمالسلام.
ومثله في
الإشكال ما ذكره شيخنا الأعظم قدسسره من أنه ليس المراد بأهل العلم مطلق من علم بشيء ولو
بسماع رواية من الإمام ، وإلا لدلّ على حجية قول كل عالم بشيء ولو بطريق الحس ، مع
أنه يصح سلب هذا العنوان عنه ، بل المتبادر من الأمر بسؤال أهل العلم سؤالهم عما
يعدون عالمين به ، فينحصر مدلوله في التقليد دون الرواية.
إذ يندفع بأن
الظاهر صدق العنوان على الرواة كالمجتهدين ، عملا بإطلاق العلم الشامل للحسي ،
ولعله هو المناسب لمورد الآية. وصحة سلب العنوان عن من علم بشيء بطريق الحس مبني
على إطلاق العنوان في الأعراف المتأخرة على خصوص العالم بطريق الحدس ، بل خصوص من
يعلم بالأحكام الشرعية ، وهو لا يصلح قرينة على حمل الآية على ذلك ، والخروج
__________________
بها عن المعنى اللغوي ، خصوصا مع ظهورها في إمضاء السيرة العقلائية المشار
إليها.
نعم
يشكل الاستدلال
على المدعى بالآيتين لوجهين :
أحدهما : أنه لا ظهور لهما في كون السؤال لأجل العمل ، ليدل
بإطلاقه على ترتب العمل على الجواب وإن لم يوجب العلم الراجع لحجيته ، بل يمكن أن
يكون لأجل تحصيل العلم في مورد الحاجة له ، وهو لا ينافي كون القضية ارتكازية ، إذ
الارتكاز كما يقتضي العمل بخبر الثقة وإن لم يحصل منه العلم ، كذلك يقتضي السعي
لتحصيل العلم في مورد الحاجة له بالسؤال من الغير والاستعانة به وعدم الاقتصار على
ما يدركه الإنسان بنفسه مستغنيا عن غيره.
ثانيهما : أنه يلزم رفع اليد عن ظهور (أَهْلَ
الذِّكْرِ) البدوي في مطلق العلماء ـ لو تم ـ بالنصوص الكثيرة
الظاهرة ، بل الصريحة في اختصاص أهل الذكر بالأئمة عليهمالسلام وعدم شمولها لغيرهم بالنحو الذي ينفع فيما نحن فيه. كصحيح
محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليهالسلام : «قال : إن من عندنا يزعمون أن قول الله عزوجل : (فَسْئَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أنهم اليهود والنصارى. قال : إذن يدعوكم إلى دينهم. قال
: ثم قال بيده إلى صدره : نحن أهل الذكر ونحن المسئولون» ، وغيره .
وأما ما ذكره
بعض مشايخنا قدسسره من أن ذلك من باب تطبيق الكلي على مصداقه ، فلا تنافي
عمومه لغيره ، وقد ورد عنهم عليهمالسلام أنه لو ماتت الآية بموت من نزلت فيه لمات القرآن ، وأن
القرآن يجري مجرى الشمس والقمر.
__________________
فيندفع بأن
مفاد النصوص المذكورة اختصاص الآيتين بهم ، لا مجرد نزولها فيهم أو تطبيق أهل
الذكر عليهم ، فهما كسائر الآيات المختصة بهم عليهمالسلام كآيات الولاية والمودة والتطهير ، التي لم تمت ، لأنهم عليهمالسلام باقون ما بقي القرآن مرجعا للناس وحجة عليهم.
ومثله دعوى :
أن ذلك من التفسير بالباطن الذي لا يمنع من حجية الظهور.
لاندفاعها بأن
التفسير بالباطن إنما لا ينافي حجية الظهور إذا لم يرد مورد الردع عنه ، كما هو
ظاهر النصوص المذكورة. مع أن كون التفسير المذكور من التفسير بالباطن لا يناسب
مساق النصوص المذكورة جدا.
بل بملاحظة ما
سبق منا في تقريب عدم اختصاص أهل الذكر بأهل الكتاب يتضح كون التفسير المذكور هو
الأقرب بعد التأمل ، لأن الذكر ـ بمقتضى ما سبق وغيره ـ هو الكتب السماوية المنزلة
، والحقيقون بأن يكونوا أهلها هم من أودعت عندهم وعرفوها حق معرفتها ، وقد انحصر
ذلك بهم عليهمالسلام بعد أن ورثوا الأنبياء بأجمعهم. وأما علماء أهل الكتاب
فهم أهل الذكر ادعاء من دون حقيقة. كما أن علماء المسلمين لما كان علمهم بما كان
في الكتاب مبنيا على الاجتهاد والحدس فكونهم من أهله مبني على نحو من التوسع
والتسامح ، وانحصار المراد بأحد الفريقين في فهم عامة الناس مبني على الغفلة أو
التغافل عن مقام أئمة أهل البيت عليهمالسلام وحقيقة علمهم بالكتاب.
نعم في جملة من
النصوص أن الذكر هو رسول الله صلىاللهعليهوآله وأن أهله عليهمالسلام هم أهل الذكر ، واستدل في بعضها على ذلك بقوله تعالى : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ
__________________
إِلَيْكُمْ
ذِكْراً* رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ). وهو مبني على نحو من التكلف ، فيشبه التفسير بالباطن.
إلا أنه لا
يبعد أن يكون سلوك ذلك من أجل تجنب الاعتماد في إثبات المطلوب على حقيقة قد لا
يعترف بها الخصم ، وهي اختصاصهم بعلم الكتاب ، واللجوء لحقيقة لا تقبل الإنكار وهي
كونهم عليهمالسلام أهل النبي صلىاللهعليهوآله. وإلا فقد تضمن بعض النصوص أن الذكر هو القرآن ـ ولو لأنه أهم الكتب السماوية
والمهيمن عليها والذي يجب الرجوع إليه فعلا ـ وأنهم عليهمالسلام أهله.
وهو الظاهر من
النصوص الكثيرة المقتصر فيها على كونهم أهل الذكر من دون تنبيه لوجه ذلك.
الآية السادسة : قوله تعالى : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ
يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ
يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).
وتقريب
الاستدلال بها : أن بعض المنافقين المؤذين للنبي صلىاللهعليهوآله بذمه وقول السوء فيه لما خوّف من وصول ذلك له صلىاللهعليهوآله قال : إنه أذن يقبل كل ما يسمع ويصدق كل ما يقال له ،
فإذا أنكرنا وحلفنا صدقنا ، فنزلت الآية ورد الله تعالى عليهم بأن تصديقه لكم ليس
حقيقيا ، بل صوريا ، وهو خير لكم ، إذ لولاه لأوقع بكم وعاقبكم ، وليس إيمانه
الحقيقي إلا بالله تعالى ، وللمؤمنين ، فهم الذين يصدقهم حقيقة ، دونكم. فيدل ذلك
على رجحان تصديق المؤمنين وحسن الاعتماد على خبرهم وحجيته.
__________________
وأما ما ذكره
شيخنا الأعظم قدسسره وأطال فيه من حمل قوله (وَيُؤْمِنُ
لِلْمُؤْمِنِينَ) على التصديق الصوري وإظهار القبول من دون تصديق حقيقي ،
تأكيدا لما تضمنه قوله تعالى : (أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) الذي لا يراد به التصديق الحقيقي ، بلحاظ كون المخاطب
به المنافقين الذين يعلم عدم تصديق النبي صلىاللهعليهوآله لهم حقيقة.
فهو بعيد عن
ظاهر الآية جدا ، لظهور سياقها في مدح المؤمنين بتصديقه صلىاللهعليهوآله لهم ، الملزم بإرادة المؤمنين الحقيقيين ، لا ما يعم
المنافقين. بل إطلاق عنوان المؤمن على ما يعم المنافق في مثل هذه الآية ، الواردة
لذم المنافقين ، بعيد جدا ، ولا يناسب ذيلها المفصل بين المؤمنين والمؤذين لرسول
الله صلىاللهعليهوآله في الرحمة والعذاب.
ومثله دعوى :
أن اختلاف تعدية فعل الإيمان ـ حيث عدي لله تعالى بالباء وللمؤمنين باللام ـ قرينة
على إرادة التصديق الصوري في الإيمان للمؤمنين. لما قيل من أن اختلاف التعدية
للفرق بين إيمان التصديق وإيمان الأمان.
لاندفاعها بعدم
تبادر ذلك في اللام ، بل الظاهر منها التصديق الحقيقي ، كما في قوله تعالى : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) ، وقوله : (إِنَّ اللهَ عَهِدَ
إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ) ، وقوله عزّ اسمه : (قالُوا أَنُؤْمِنُ
لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) ، وغير ذلك مما هو كثير جدا.
واختلاف
التعدية إما لأن المراد بالإيمان به تعالى هو الإيمان بوجوده ووحدانيته ـ كما هو
ظاهر الآية في نفسها ـ أو الإيمان بقوله ، كما هو ظاهر
__________________
صحيح حريز الشاهد لما نحن فيه أيضا من أن الإيمان للمؤمنين بتصديقهم.
فقد روى حريز
أن إسماعيل بن الإمام الصادق عليهالسلام دفع إلى رجل من قريش بلغه أنه يشرب الخمر مالا ليشتري
له به بضاعة ، فأكل الرجل المال ، فدعا إسماعيل في الطواف بالأجر والخلف ، قال
حريز : «فلحقه أبو عبد الله عليهالسلام فهمزه بيده من خلفه وقال له : يا بني فلا والله مالك
على الله هذا ، ولا لك أن يأجرك ولا يخلف عليك وقد بلغك أنه يشرب الخمر فائتمنته.
فقال إسماعيل : يا أبت إني لم أره يشرب الخمر ، إنما سمعت الناس يقولون. فقال : يا
بني إن الله عزوجل يقول في كتابه : (يُؤْمِنُ بِاللهِ
وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) يقول : يصدق الله ويصدق للمؤمنين. فإذا شهد عندك
المؤمنون فصدقهم ، ولا تأتمن شارب الخمر ...» ، وقريب منه مرسلة العياشي .
وحملهما على
التصديق الصوري بعيد جدا ، ولا سيما مع تطبيق الإمام عليهالسلام شارب الخمر على الرجل المذكور. بل لا مجال له في حديث
عمر ابن يزيد : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : أرأيت من لم يقرّ بأنكم في ليلة القدر كما ذكرت ولم
يجحده. قال : أما إذا قامت عليه الحجة ممن يثق به في علمنا فلم يثق به فهو كافر ،
وأما من لم يسمع ذلك فهو في عذر حتى يسمع ، ثم قال أبو عبد الله عليهالسلام : يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين» .
هذا ولو تم ما
ذكرنا فلا إطلاق للآية الشريفة يقتضي عموم تصديق المؤمنين ، لعدم ورودها في مقام
بيان لزوم تصديقهم ، بل في مقام بيان أن تصديقه صلىاللهعليهوآله لهم دون المنافقين ، مدحا لهم بذلك وردعا للمنافق
المذكور من دون أن ينافي اعتبار بعض الأمور في تصديقهم.
__________________
نعم قد يستفاد
ورودها للعموم بضميمة صحيح حريز ، لتعقيب الاستدلال بها ببيان الكبرى العامة. ولكن
مقتضى حديث عمر بن يزيد انصرافها إلى الثقة ، ولا يبعد انصراف صحيح حريز إليه
أيضا. إلا أن ذلك كله خروج عن الاستدلال بالكتاب إلى الاستدلال بالسنة.
هذا تمام ما
عثرنا عليه من الآيات التي استدل بها في المقام. وقد ظهر عدم نهوض ما عدا الأخيرة
منها بالمدعى.
الثاني من
الأدلة التي استدل بها لحجية الخبر : السنة ، وهي على طوائف ..
الطائفة الأولى : ما ورد في الخبرين المتعارضين ، وقد روي منها في
الوسائل سبع عشرة رواية فيها الصحيح والموثق وغيرهما ، وفي مستدرك الوسائل خمس روايات منها ما هو تكرار لما
في الوسائل لمجرد اختلاف السند .
وهي وإن اختلفت
في الحكم بالتخيير والترجيح والتوقف إلا أن ظاهرها المفروغية عن قبول الرواية لو
لا التعارض. ويبعد حملها على خصوص ما يقطع بصدوره ، لندرة التعارض معه. بل لو قطع
بدوا بصدور الرواية ، إلا أن الالتفات لوجود المعارض لها يستلزم غالبا زوال القطع
، خصوصا مع التنبيه في بعضها على كون الراويين ثقتين ، حيث يقوى معه ظهورها في أن
المقتضي للعمل هو الوثوق بالراوي. مع أن اشتمال بعضها على المرجحات السندية ـ كالأوثقية
ـ مانع من حملها على صورة العلم ، إذ لا موضوع للترجيح بها معه.
الطائفة الثانية : ما تضمن الأمر بالعمل بالحديث ، كصحيح حريز
__________________
ومرسلة العياشي عنه وحديث عمر بن يزيد المتقدمة عند الكلام في آية الإيذاء
، وما عن العدة عن الصادق عليهالسلام : «قال : إذا نزلت بكم حادثة لا تعلمون حكمها فيما ورد
عنا فانظروا إلى ما رووه عن علي عليهالسلام فاعملوا به» . لظهوره في المفروغية عن العمل بما ورد عنهم عليهمالسلام. نعم لا إطلاق في ذلك ، وإنما سبق عند الكلام في آية
الإيذاء تمامية الإطلاق في حديث حريز ، مع قرب حمله على صورة الوثاقة ، كما هو
الحال في حديث عمر بن يزيد. فراجع.
الطائفة الثالثة : ما تضمن الإرجاع للشيعة ، أو للعلماء والرواة
ولكتبهم. كقول الإمام الكاظم عليهالسلام في كتابه لعلي بن سويد : «وأما ما ذكرت يا علي ممن تأخذ
معالم دينك. لا تأخذن معالم دينك عن غير شيعتنا ، فإنك إن تعديتهم أخذت دينك عن
الخائنين الذين خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم ...» .
وفي كتاب
الإمام الهادي عليهالسلام لا بني ماهويه : «فاصمدا في دينكما على كل مسنّ في حبنا
، وكل كثير القدم في أمرنا ، فإنهما كافوكما إن شاء الله تعالى» .
ودعوى :
اختصاصهما بالفتوى. ممنوعة ، لأن معالم الدين في الأول تشمل الروايات أو تختص بها.
كما أن الثاني شامل بإطلاقه لأخذ الحديث. فتأمل.
وأوضح منهما في
ذلك ما تضمن جواز الرجوع للكتب ، كموثق عبيد بن زرارة : «قال لي أبو عبد الله عليهالسلام : احتفظوا بكتبكم فإنكم سوف تحتاجون إليها» .
وخبر المفضل بن
عمر : «قال لي أبو عبد الله عليهالسلام : اكتب وبث علمك في
__________________
إخوانك ، فإن متّ فأورث كتبك بنيك ، فإنه يأتي على الناس زمان هرج لا
يأنسون فيه إلا بكتبهم» فإنهما كالصريحين في النظر إلى زمان الغيبة ونحوه مما
تنقطع فيه طرق العلم وينحصر الأمر بالكتب. وحملهما على إرادة الرجوع إليها في خصوص
ما يورث العلم بعيد جدا عن الواقع الخارجي ، ضرورة قلة المتواترات في الكتب
وانقطاع القرائن القطعية المحتفة بأخبار الآحاد بتقادم الزمان.
ومثلهما في ذلك
حديث محمد بن الحسن بن أبي خالد ، بل حسنه : «قلت لأبي جعفر عليهالسلام : جعلت فداك إن مشايخنا رووا عن أبي جعفر وأبي عبد الله
عليهماالسلام ، وكانت التقية شديدة فكتموا كتبهم فلم ترو عنهم ، فلما
ماتوا صارت تلك الكتب إلينا. فقال حدثوا بها فإنها حق» .
فإنه لو لا
المفروغية عن حجية ما يرويه المشايخ في مقام العمل لم يحتج إلى الاستئذان من
الإمام عليهالسلام في رواية الكتب المذكورة ، إذ روايتها لمجرد إثبات
الرواية وحفظها ، لتكون بعض السبب الموجب للعلم لا يحتاج إلى الاستئذان المذكور.
بل لا يبعد أن يكون قوله عليهالسلام : «فإنها حق» أنها كتبهم لا تحتاج نسبتها لهم إلى أن
تروى عنهم ، لا أن ما تضمنته حق واقعا ، ليكون شهادته عليهالسلام بحقيقة ما في الكتب المذكورة قرينة قطعية على صدور
مضمونها ، لتخرج عن محل الكلام.
ولعل مثلها في
ذلك ما عن الحسين بن روح وقد سئل عن كتب الشلمغاني بعد ما خرج التوقيع بلعنه : «أقول
فيها ما قال أبو محمد الحسن بن علي «صلوات الله عليهما» وقد سئل عن كتب بني فضال ،
فقالوا : كيف نعمل بكتبهم وبيوتنا منها ملاء؟ فقال صلوات الله عليه : خذوا بما
رووا وذروا ما
__________________
رأوا» حيث لا يبعد عدم كون الأمر بالأخذ بروايات المذكورين
شهادة بصحتها ، بل لبيان عدم مانعية مخالفتهم للحق في أصول الدين من قبول رواياتهم
مع وثاقتهم في أنفسهم ، لأن ذلك هو المناسب للسؤال ، وهو الجهة المشتركة عرفا بين
كتب بني فضال وكتب الشلمغاني المصححة لتعدي الحسين بن روح «رضي الله عنه» عن مورد
كلام الإمام عليهالسلام ، بخلاف العلم بإصابتها للواقع ، فإنه جهة خفية لا
خصوصية فيها لكتب بني فضال.
نعم لا مجال
للاستدلال بما تضمن من الروايات الكثيرة الإرجاع أو التصحيح أو التقرير لكتاب يوم
وليلة ليونس بن عبد الرحمن ، وكتاب سليم ، وكتاب الفرائض عن أمير المؤمنين عليهالسلام ، وكتاب ظريف في الديات ، وكتاب عبيد الله بن علي الحلبي والفضل بن شاذان وغيرها.
لأن تصحيحهم عليهمالسلام للكتاب شهادة منهم بصحة ما فيه ، وهي قرينة قطعية مخرجة
له عن محل الكلام ، وهو الخبر غير العملي.
ومثله ما تضمن
الإرجاع لبعض الرواة والفقهاء أو النهي عن رد حديثهم ، كزرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير والحارث بن المغيرة النضري وأبان بن تغلب وزكريا بن آدم ويونس بن عبد الرحمن والعمري وابنه . لاحتمال خصوصية أولئك النفر عندهم عليهمالسلام واطلاعهم على عدم مخالفة خبرهم للواقع أو ندرته ، بنحو
يمتازون به عن غيرهم من الرواة.
__________________
ومجرد التعبير منهم عليهمالسلام عن أولئك بأنهم ثقات أو السؤال منهم عليهمالسلام عن وثاقتهم لأجل العمل بروايتهم ، لا يشهد بعموم حجية
خبر الثقة ، لأن الوثاقة من الأمور الإضافية التي تختلف باختلاف الأشخاص ، ومفاد
هذه الروايات حجية خبر من هو ثقة عند الأئمة عليهمالسلام بضوابطهم الدقيقة ، والمطلوب حجية خبر من هو ثقة عند
المكلف وعامة الناس بضوابطهم العامة. ولذا كانت هذه الروايات شهادات رافعة للأشخاص
المذكورين إلى مراتب عالية في الجلالة تقرب من العصمة في التبليغ ، وليست كشهادة
سائر الناس للرجل بالوثاقة.
ومنه يظهر عدم
صحة الاستشهاد بما في التوقيع الشريف : «فإنه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك
فما يرويه عنّا ثقاتنا ، قد عرفوا بأنا نفاوضهم سرنا ونحملهم إياه إليهم» ومثله ما في تفسير الإمام العسكري عليهالسلام في بيان المتمسك بالقرآن : «هو الذي يأخذ القرآن
وتأويله عنا أهل البيت وعن وسائطنا السفراء عنا إلى شيعتنا» لعدم وضوح كون المراد بالسفراء جميع الرواة من الشيعة
أو الثقات منهم ، بل لعلهم خصوص المنصوبين من قبلهم عليهمالسلام من ثقاتهم وخواصهم.
نعم ما تضمن
الإرجاع للثقة ظاهر في إيكال تشخيصه للمكلف بالضوابط العرفية العامة ، كما هو
الحال في بعض نصوص الطائفة الأولى.
«الطائفة
الرابعة» : ما يدل بنفسه على المفروغية عن حجية خبر الواحد في الجملة ،مثل معتبر
الفضل بن شاذان المتقدم عند الكلام في آية النفر. ونحوه معتبر عبد المؤمن الأنصاري
عن الصادق عليهالسلام في تفسير قول النبي صلىاللهعليهوآله : «اختلاف أمتي رحمة» قال عليهالسلام : «إنما أراد قول الله عزوجل : (فَلَوْ لا نَفَرَ
مِنْ كُلِ
__________________
فِرْقَةٍ
مِنْهُمْ طائِفَةٌ ...) فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله فيتعلموا ثم يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم ، إنما أراد
اختلافهم من البلدان ، لا اختلافا في دين الله ...» ، وما عن روضة الواعظين للفتال عن النبي صلىاللهعليهوآله : «من تعلم بابا من العلم [عمل به أو لم يعمل] عمن يثق
به كان أفضل من أن يصلي ألف ركعة» .
وخبر جميل عن
أبي عبد الله عليهالسلام : «سمعته يقول : المؤمنون خدم بعضهم لبعض. قلت : وكيف
يكونون خدما بعضهم لبعض؟ فقال : يفيد بعضهم بعضا ... الحديث» .
وصحيح يزيد بن
عبد الملك عنه عليهالسلام : «تزاوروا ، فإن في زيارتكم إحياء لقلوبكم ، وذكرا
لأحاديثنا ، وأحاديثنا تعطف بعضكم على بعض ، فإن أخذتم بها رشدتم ونجوتم ، وإن
تركتموها ضللتم وهلكتم ، فخذوا بها وأنا بنجاتكم زعيم» .
وفي خطبة رسول
الله صلىاللهعليهوآله في مسجد الخيف المروية بطرق بعضها معتبر عن أبي عبد
الله عليهالسلام : «نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها من
لم يسمعها ، فربّ حامل فقه غير فقيه ، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه» .
ومرفوعة
الكناسي عنه عليهالسلام : «في قول الله عزوجل : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) قال : هؤلاء قوم من شيعتنا ضعفاء ليس عندهم ما يتحملون
به إلينا فيسمعون حديثنا ويقتبسون من علمنا ، فيرحل قوم فوقهم وينفقون أموالهم
ويتعبون أبدانهم حتى يدخلوا علينا ، فيسمعون حديثنا فينقلوه إليهم ، فيعيه هؤلاء
ويضيعه هؤلاء ، فأولئك الذين يجعل الله لهم
__________________
مخرجا ويرزقهم من حيث لا يحتسبون» .
وحسن عبد
السلام الهروي عن الرضا عليهالسلام : «قال : رحم الله عبدا من أحيا أمرنا. قلت : كيف يحيي
أمركم؟ قال : يتعلم علومنا ويعلمها للناس ، فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لا
تبعونا» .
وما عن النبي صلىاللهعليهوآله المروي عن الرضا عليهالسلام بطرق متعددة أنه قال : «اللهم ارحم خلفائي ـ ثلاث مرات
ـ فقيل له : يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال : الذين يأتون من بعدي ويروون عني
أحاديثي وسنتي فيعلمونها الناس من بعدي» . بناء على عدم اختصاصه بالأئمة عليهمالسلام.
وصحيح معاوية
بن عمار عن أبي عبد الله عليهالسلام قال في حديث : «الراوية لحديثنا يشدّ به [يسدده في]
قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد» .
وخبر حمزة بن
حمران : «سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : من استأكل بعلمه افتقر. قلت : إن في شيعتك قوما
يتحملون علومكم ويبثونها في شيعتكم فلا يعدمون منهم البر والصلة والإكرام فقال :
ليس أولئك بمستأكلين ...» .
وما عن أبي
حمزة عن أبي جعفر عليهالسلام في حديث أنه قال للحسن البصري : «نحن القرى التي بارك
الله فيها ... فقال : (وَجَعَلْنا
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً) والقرى الظاهرة الرسل والنقلة عنا إلى شيعتنا و [فقهاء]
شيعتنا إلى شيعتنا ...» وقريب منه التوقيع الشريف .
وما في خبر
جميل عن الصادق عليهالسلام في حديث أنه قال : «يا جميل ارو هذا الحديث لإخوانك ،
فإنه ترغيب في البرّ» .
__________________
فإن هذه النصوص
وإن لم يصرح فيها بحجية الحديث ، إلا أن ما تضمنته ـ من الاستفادة بالحديث بسبب
النقل وإفادته وتبليغه وتعليمه للناس وتعلمهم له وشدّ قلوب الشيعة به ونحو ذلك ـ ظاهر
في المفروغية عن حجيته بسبب النقل وصلوحه للعمل ، وبدون ذلك إنما يكونون عالمين
بنقله ، لا به ، فضلا عن أن ينتفعوا به.
نعم لا إطلاق
لها في ذلك. إلا أن حملها على خصوص صورة التواتر ونحوه مما يحصل معه العلم بعيد
جدا ، ولا سيما بملاحظة الواقع الذي عليه الناس في معيار العمل بالحديث.
ومثلها ما عن
تفسير الإمام العسكري عليهالسلام من قول الصادق عليهالسلام : «وكذلك عوامنا إذا عرفوا من علمائهم الفسق الظاهر ،
والعصبية الشديدة ، والتكالب على الدنيا وحرامها ، فمن قلد مثل هؤلاء فهو مثل
اليهود الذين ذمهم الله بالتقليد لفسقة علمائهم ، فأما من كان من الفقهاء صائنا
لنفسه ، حافظا لدينه ، مخالفا على هواه ، مطيعا لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلدوه ،
وذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة لا كلهم ، فإن من ركب من القبائح والفواحش مراكب
علماء العامة ، فلا تقبلوا منهم عنا شيئا ، ولا كرامة ، وإنما كثر التخليط فيما
يتحمّل عنّا أهل البيت لذلك ، لأن الفسقة يتحملون عنّا ، فيحرّفونه بأسره لجهلهم ،
ويضعون الأشياء على غير وجهها لقلة معرفتهم ، وآخرون يتعمدون الكذب علينا» .
فإنه وإن كان
واردا في التقليد إلا أن ذيله بضميمة المناسبات الارتكازية تقتضي عمومه للرواية.
وكذا ما تضمن
الحث على أخذ الحديث عن صادق كقوله عليهالسلام : «لحديث
__________________
واحد تأخذه عن صادق خير لك من الدنيا وما فيها» بناء على أن المراد بالصادق الثقة. أما لو كان المراد
به الصادق الواقعي المعلوم الصدق ، وهم الأئمة عليهمالسلام ـ كما هو غير بعيد ـ فهو خارج عن محل الكلام.
الطائفة الخامسة : ما قد يستفاد من مجموعها حجية الخبر ، وإن كان في
دلالة كل واحد منها على ذلك نظر. كالمستفيض ، بل المتواتر المتضمن أنه من حفظ
أربعين حديثا بعثه الله يوم القيامة فقيها عالما فإنه وإن أمكن حمله على الحفظ لأجل تكثير طرق الرواية
ليحصل العلم بصدورها لا لحجيتها في نفسها ، إلا أنه يبعد بلحاظ احتياج التواتر
لشروط خاصة يصعب المحافظة عليها ، فلو توقف الانتفاع بالرواية على حصول العلم بها
قلّت فائدة الحفظ ، وهو خلاف المنساق من هذه الروايات ، خصوصا المروي بطرق متعددة
عنه صلىاللهعليهوآله : «من حفظ من أمتي أربعين حديثا ينتفعون بها بعثه الله
يوم القيامة فقيها عالما» ، والآخر : «من حفظ من أمتي أربعين حديثا مما يحتاجون
إليه من أمر دينهم بعثه ...» لأن المنساق منهما كون تحمل الرواية وبيانها كافيا في
حصول الانتفاع وسدّ الحاجة.
ومن ثم لا يبعد
اختصاصهما بما إذا كان الحافظ واجدا لشروط الحجية من الثقة والعدالة وغيرها.
ومن هذه
الطائفة ما تضمن الأمر بكتابة الحديث وروايته ومذاكرته
__________________
ومدارسته ، ومنه قولهم عليهمالسلام : «اعرفوا منازل الناس على قدر روايتهم عنا» . وما ورد من الترخيص في النقل بالمعنى والتحذير من
الكذابين ، ونحو ذلك حيث يشعر بحجية الخبر وإن لم يفد العلم ، وإلا لقلّت
الفائدة في ذلك ، كما نبه له شيخنا الأعظم قدسسره.
وهذه الطائفة
إن لم تنهض بالاستدلال تصلح للتأييد ، ويكون الاستدلال بالطوائف الأربع الأول.
واستيعابها يورث القطع بحجية الخبر في الجملة ، لتواترها إجمالا.
الثالث من الأدلة التي استدل بها على حجية الخبر : الإجماع. والمراد
به ... تارة : الإجماع القولي الراجع إلى تصريح العلماء بحجية
الخبر.
وأخرى : الإجماع العملي الراجع إلى الاتفاق في مقام العمل على
الرجوع للخبر من أجل العمل بمضمونه.
أما الأول فلا
مجال لدعواه ، لعدم ثبوته تحصيلا ولا نقلا ، حيث لم ينقل التصريح بالحجية إلا عن
الشيخ وبعض من تأخر عنه ممن تعرض للمسائل الأصولية ، وهم قليلون لا يكشف اتفاقهم
عن الحكم الشرعي.
وأما الباقون
فلم يهتموا بتحرير المسائل الأصولية ، بل صرح بعض من حررها بعدم الحجية ، كالمرتضى
قدسسره وغيره ممن تقدم ، بل بامتناعها ، كابن قبة.
فالعمدة الوجه
الثاني ، وهو الإجماع العملي. وتقريبه بأحد وجوه ...
الأول : إجماع العلماء على العمل به في مقام الفتوى
والاستنباط.
__________________
الثاني : إجماع المسلمين بما هم مسلمون متدينون على العمل به
في الشرعيات.
الثالث : إجماع العقلاء بما هم عقلاء على العمل به في أمورهم
العامة.
والفرق بين هذا
الوجه وما قبله أن هذا الوجه يسقط عن الحجية بثبوت الردع عنه من الشارع ، بخلاف
الوجهين الأولين فإنهما لا ينهضان بالحجية إلا مع إحراز مطابقتهما لرأي المعصوم ،
ومعه لا يعقل ثبوت الردع عن مؤداهما.
ويترتب على ذلك
أنه لو ورد ما ظاهره الردع كان محكوما بالوجهين الأولين لو تمّا ، لامتناع حجية
الظهور مع القطع بكذبه ، وحاكما على الوجه الثالث لو انحصر الدليل به ، لحجية
الظهور وصلوحه للردع عن الوجه المذكور ، فيسقط عن الحجية.
أما الوجه الأول : فيمكن تحصيله بتتبع طريقة العلماء في مقام الاستدلال
من زماننا إلى زمان الشيخين ، بل من قبلهما من أرباب الفتاوى ، سواء كانوا في مقام
تحرير الفتاوى ، أو الاستدلال عليها ، أم في مقام بيانها بطريق إيداع الرواية ،
كما هو حال مثل الكليني في الكافي والصدوق في الفقيه. فإنهم متسالمون على
الاستدلال بأخبار الآحاد والفتوى في فروع كثيرة ليس فيها إلا خبر واحد لا يوجب
العلم. على ذلك جرى عامتهم لا ينكرونه ولا يتوقفون فيه. وإن أنكر بعض من يدعي عدم
حجية الخبر ذلك في بعض الفروع جرى عليه في بقيتها وأغفل مبناه. وإلا اختل نظام
الفقه والاستدلال.
ويقطع بأنهم قد
جروا في ذلك على سنن من كان قبلهم من معاصري الأئمة عليهمالسلام وأصحابهم ، بنحو يقطع معه بإقرارهم عليهمالسلام لهم على ذلك ، لامتناع الابتداع عادة والخروج عن طريقة
عامة العلماء في مثل ذلك ، لتعذر الاتفاق عليه دفعة واحدة في عصر واحد عادة.
وانفراد البعض به في بعض العصور ـ ثم
شيوع طريقته بين المتأخرين عنه ـ مثار للإنكار والتشنيع من معاصريه
وأتباعهم. ولو كان لوصل ، لأهميته ، وتوفر الدواعي لنقله.
وأما احتمال
ابتناء عمل القدماء بالأخبار على احتفافها بالقرائن القطعية ، لا على حجيتها في
أنفسها ، وقد اشتبه ذلك على المتأخرين عنهم ، فتوهموا اتفاقهم على حجيتها ، وعملوا
بها لذلك بعد خفاء القرائن عليهم. فلا مجال له ، لأن تحرّي القرائن القطعية في
جميع الفروع الفقهية وضبطها محتاج إلى عناية خاصة لو كان بناء القدماء عليها لما
خفي على المتأخرين مع تقارب العصور واتصال بعضهم ببعض وأخذ كل منهم عمن تقدمه.
والإنصاف أن
ملاحظة ذلك توجب وضوح الحال بنحو يغني عن تجشم الاستدلال وتكلف البحث والنظر.
هذا وقد صرح
بالإجماع بالوجه المذكور جمع من الأصحاب.
منهم : الشيخ قدسسره في العدة. قال في مقام الاستدلال على مختاره من حجية
الخبر : «والذي يدل على ذلك إجماع الفرقة المحقة ، فإني وجدتها مجمعة على العمل
بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم ودونوها في أصولهم لا يتناكرون ذلك ولا
يتدافعونه ، حتى أن واحدا منهم إذا أفتى بشيء لا يعرفونه سألوه من أين قلت هذا؟
فإذا أحالهم على كتاب معروف أو أصل مشهور وكان راويه ثقة لا ينكر حديثه ، سكتوا
وسلموا الأمر في ذلك وقبلوا قوله. وهذه عادتهم وسجيتهم من عهد النبي صلىاللهعليهوآله ومن بعده من الأئمة عليهمالسلام ، ومن زمن الصادق جعفر بن محمد عليهالسلام الذي انتشر العلم عنه وكثرت الرواية من جهته. فلو لا أن
العمل بهذه الأخبار كان جائزا لما أجمعوا على ذلك ولأنكروه ، لأن إجماعهم فيه
معصوم لا يجوز عليه الغلط والسهو» .
__________________
ثم أطال في
تعقيب ذلك إلى أن قال : «ما أنكرتم أن يكون الذين أشرتم إليهم لم يعملوا بهذه
الأخبار لمجردها ، بل إنما عملوا بها لقرائن اقترنت بها دلتهم على صحتها ، [و]
لأجلها عملوا بها ... قيل له : القرائن التي تقترن بالخبر وتدل على صحته أشياء
مخصوصة ـ نذكرها فيما بعد ـ من الكتاب والسنة والإجماع والتواتر ، ونحن نعلم أنه
ليس في جميع المسائل التي استعملوا فيها أخبار الآحاد ذلك ، لأنها أكثر من أن تحصى
، موجودة في كتبهم وتصانيفهم وفتاواهم ، لأنه ليس في جميعها يمكن الاستدلال
بالقرآن ، لعدم ذكر ذلك في صريحه وفحواه ، أو دليله ومعناه ، ولا في السنة
المتواترة ، لعدم ذلك في أكثر الأحكام ، بل لوجودها في مسائل معدودة ، ولا في
الإجماع لوجود الاختلاف في ذلك ، فعلم أن ادعاء القرائن في جميع هذه المسائل دعوى
محالة. ومن ادعى القرائن في جميع ما ذكرناه كان السبر بيننا وبينه ، بل كان معوّلا
على ما يعلم ضرورة خلافه ... ومن قال عند ذلك إني متى عدمت شيئا من القرائن حكمت
بما كان يقتضيه العقل ، يلزمه أن يترك أكثر الأخبار وأكثر الأحكام ، ولا يحكم فيها
بشيء ورد الشرع به ، وهذا حد يرغب أهل العلم عنه ، ومن صار إليه لا يحسن مكالمته ،
لأنه يكون معولا على ما يعلم من الشرع خلافه» .
ومنهم : السيد رضي الدين بن طاوس قدسسره ففي محكي كلامه الذي ردّ به على السيد قدسسره : «لا يكاد تعجبي ينقضي كيف اشتبه عليه أن الشيعة [لا]
يعمل بأخبار الآحاد في الأمور الشرعية ، ومن اطلع على التواريخ والأخبار وشاهد عمل
ذوي الاعتبار وجد المسلمين والمرتضى وعلماء الشيعة الماضين عاملين بأخبار الآحاد ،
بغير شبهة عند العارفين ، كما ذكر ذلك محمد بن الحسن الطوسي في كتاب العدة وغيره من
المشغولين بتصفح أخبار الشيعة وغيرهم من
__________________
المصنفين».
ومنهم :
العلامة قدسسره ففي محكي النهاية : «إن الأخباريين منهم لم يعولوا في
أصول الدين وفروعه إلا على أخبار الآحاد ، والأصوليون منهم ـ كأبي جعفر الطوسي ـ عمل
بها. ولم ينكره سوى المرتضى وأتباعه لشبهة حصلت لهم».
ومنهم : المجلسي حيث ادعى ـ كما عن بعض رسائله ـ تواتر
الأخبار وعمل الشيعة في جميع الأعصار على العمل بخبر الواحد.
بل قد يظهر من
السيد المرتضى قدسسره الاعتراف بعمل الأصحاب بخبر الواحد ، وأنه لا يعول عليه
، لأنه من الأمور المشتبهة. فعن محكي الموصليات : «إن قيل : أليس شيوخ هذه الطائفة
عوّلوا في كتبهم في الأحكام الشرعية على الأخبار التي رووها عن ثقاتهم ، وجعلوها
العمدة والحجة في الأحكام ، حتى رووا عن أئمتهم عليهمالسلام فيما يجيء مختلفا من الأخبار عند عدم الترجيح أن يؤخذ
منه ما هو أبعد من قول العامة. وهذا يناقض ما قدمتموه. قلنا : ليس ينبغي أن يرجع
عن الأمور المعلومة المشهورة المقطوع عليها إلى ما هو مشتبه وملتبس ومجمل ، وقد
علم كل موافق ومخالف أن الشيعة الإمامية تبطل القياس في الشريعة حيث لا يؤدي إلى
العلم. وكذلك نقول في أخبار الآحاد».
ويؤيد ذلك ما
عن ابن ادريس في تقريب الإجماع على المضايقة أنه قال : «إن ابني بابويه والأشعريين
ـ كسعد بن عبد الله وسعيد بن سعد ومحمد بن علي بن محبوب ـ والقميين أجمع ـ كعلي بن
إبراهيم ومحمد بن الحسن بن الوليد ـ عاملون بالأخبار المتضمنة للمضايقة ، لأنهم
ذكروا أنه لا يحل ردّ الخبر الموثوق بروايته». فإن اتفاق من ذكر ، مع معاصرة بعضهم
للأئمة عليهمالسلام ، وجلالتهم ورفعة مقامهم ، يناسب الاتفاق المدعى في
كلام من سبق. بل عن المجلسي قدسسره أن عمل أصحاب الأئمة عليهمالسلام بالخبر غير العلمي متواتر بالمعنى.
ويشهد بثبوت الإجماع المذكور أمور :
منها : تصدي الأصحاب قديما وحديثا للجرح والتعديل وتمييز من
تقبل روايته من غيره ، وتعبيرهم عن بعض الرواة بأنه مسكون إلى روايته ، أو أنه
مقبول الرواية أو صحيح الحديث ، أو لا يعمل بما ينفرد به ، وتصريحهم بتصحيح ما يصح
عن جماعة ، وقبول مراسيل بعض الرواة معللا بأنه لا يرسل ولا يروي إلا عن ثقة ،
واستثناؤهم بعض الرجال من بعض الكتب أو في بعض الطرق ، لخصوصية توجب الريب في
روايته المستثناة. إذ لا موضوع لذلك ولا فائدة فيه لو لم يكن العمل بالخبر غير
العلمي ثابتا عندهم ، كما نبه لذلك الشيخ قدسسره في تتمة كلامه السابق.
ومنها : نقلهم عن بعض الرجال أنه يعتمد المراسيل أو يروي عن
الضعفاء ، حيث قد يظهر منه أن نكتة التنبيه لذلك لزوم الحذر من روايته مع
المفروغية عن قبول رواية من لا يكون كذلك. بل لا ريب في سوق ذلك في كلماتهم لتمييزه
عن بقية الأصحاب بنحو يظهر في مفروغية الأصحاب عن العمل بالمسانيد المروية عن
الثقات.
ومنها : تصريح جمع من قدماء الأصحاب ومتأخريهم بما يظهر منه
المفروغية والتسالم على العمل بخبر الواحد في الجملة. فقد قال الصدوق قدسسره في ذيل أخبار سهو النبي صلىاللهعليهوآله من الفقيه : «ولو جاز أن ترد الأخبار الواردة في هذا
الباب لجاز أن ترد جميع الأخبار ، وفي ردها إبطال للدين والشريعة».
وقال المحقق في
المعتبر في مسألة خبر الواحد : «أفرط الحشوية في العمل بخبر الواحد حتى انقادوا
لكل خبر ... واقتصر بعض عن هذا الإفراط فقال : كل سليم السند يعمل به ، وما علم أن
الكاذب] الصادق. ظ [قد يلصق والفاسق قد يصدق ، ولم يتنبه أن ذلك طعن في علماء
الشيعة ، وقدح في المذهب ، إذ لا مصنف إلا وهو يعمل بخبر المجروح كما يعمل بخبر
الواحد
العدل ...».
وعن المفيد
الثاني ـ ابن الشيخ الطوسي ـ والشهيد في الذكرى : أن الأصحاب قد عملوا بشرائع
الشيخ أبي الحسن علي بن بابويه عند إعواز النصوص. حيث لا وجه له إلا تنزيل فتاواه
منزلة رواياته ، لأن فتاواه مضامين نصوص ... إلى غير ذلك مما يجده الباحث المتتبع
شاهدا بوضوح الحكم بين الأصحاب وتسالمهم عليه. وقد أطال في ذلك شيخنا الأعظم «قدس
الله تعالى سره وشكر سعيه».
ومن جميع ذلك
يظهر وهن الإجماع الذي ادعاه السيد المرتضى قدسسره على المنع من العمل بخبر الواحد. فلا بد إما من تنزيله
على أخبار المخالفين ، كما يناسبه ذكره لذلك في تعقيب حديث عدم توريث الأنبياء ،
ويكون قد اعتمده لدفع الخصوم تهربا من طعن روايتهم بضعف الراوي ، كما يظهر ذلك من
الشيخ قدسسره ، حيث قال في العدة : «فإن قيل : أليس شيوخكم لا تزال
يناظرون خصومهم في أن خبر الواحد لا يعمل به ويدفعونهم عن صحة ذلك؟ ... قيل له : من
أشرت إليهم من المنكرين لأخبار الآحاد إنما كلموا من خالفهم في الاعتقاد ، ودفعوهم
عن وجوب العمل بما يروونه من الأخبار المتضمنة للأحكام الذين يروونهم خلافها ،
وذلك صحيح على ما قدمنا. ولم نجدهم اختلفوا فيما بينهم وأنكر بعضهم على بعض العمل
بما يروونه ...» .
أو يكون مراده
بالعلم ما يعم الوثوق ، بناء على ما حكي عنه من تعريفه بأنه ما يوجب سكون النفس ،
أو غير ذلك مما يمكن به توجيه كلامه وإن كان على خلاف ظاهره ، وإلا فمن البعيد جدا
خفاء عمل الأصحاب بالخبر عليه.
__________________
وأما الوجه الثاني : ـ وهو سيرة المتشرعة على العمل بالخبر غير العلمي ـ فهو
مما لا يظن بأحد إنكاره ، إذ لولاه لاختل نظامهم في أمور معاشهم ومعادهم ، لعدم
تيسر العلم في جميع ما يبتلون به. وتحرّي طرقه وأسبابه يوجب توقفهم عن العمل في
كثير من الموارد ، بل أكثرها ، وهو مخلّ بنظامهم.
ولا مجال
لاحتمال سلوكهم في الشرعيات طريقا آخر غير نقل أخبار الأحكام عن الأئمة عليهمالسلام في عصورهم عليهمالسلام ونقل فتاوى المجتهدين بعد ذلك.
إذ لو كان ذلك
لظهر وبان.
نعم الظاهر أن
عملهم به مستند لارتكازياتهم الأولية من دون حاجة لبيان خاص من الشارع ، وإلا لظهر
، لكثرة الحاجة للسؤال عن ذلك لو لا الارتكازيات المذكورة. فسيرتهم من صغريات سيرة
العقلاء ، ومن شواهد إمضائها. ومن ثم كانت أولى بالاستدلال منها ، لما سبق في أول
الكلام في أقسام الإجماع العملي من عدم نهوض ظهور الأدلة في عدم الحجية ـ لو تم ـ بمعارضتها.
وأما الوجه الثالث : ـ وهو سيرة العقلاء ـ فالظاهر عدم الإشكال في ثبوتها
، وحيث كانت السيرة المذكورة ارتكازية فالأصل حجيتها ما لم يثبت الردع عنها ، كما
يظهر مما تقدم منا في ذيل الكلام في أصالة عدم حجية غير العلم. بل ذكر غير واحد أن
عدم ثبوت الردع في المقام كاشف عن الإمضاء ، لأن السيرة المذكورة بمرأى من الشارع
الأقدس ومسمع ، فلو لم يكن مقرا لها لردع عنها ، كما ردع عن القياس ، ولو ردع عنها
لوصل الردع إلينا ، كما وصلنا الردع عن القياس ، لعموم الابتلاء وتوفر الدواعي
لنقله.
بل لا ينبغي
الإشكال في ظهور أكثر الأدلة المتقدمة ـ من الآيات والنصوص والإجماع ـ في إمضاء
السيرة المذكورة ، كما تقدم التنبيه له في جملة منها. وإن كان هذا رجوعا عن
الاستدلال بها إلى الاستدلال بتلك الأدلة.
نعم ربما يدعى
نهوض العمومات الناهية عن العمل بغير العلم بالردع عن السيرة المذكورة ، حيث لا
إشكال في حجية الظهور في العموم كسائر الظهورات ولو ببناء العقلاء الذي لم يثبت
الردع عنه ، بل ثبت عدم الردع عنه وإمضاؤه ، كما سبق ، ومع حجيته ينهض بالردع في
المقام ، فيسقط الخبر عن الحجية في رتبة متأخرة عن العموم. وقد حاول غير واحد
المنع من نهوض العمومات بذلك بوجوه ضعيفة قدت ظهر بالتأمل.
والعمدة في ذلك
: أن استحكام السيرة على العمل بالخبر موجب للغفلة عن شمول العمومات له ، فلا
يترتب على العمومات الارتداع ، ولا يتأتى بها الغرض ، بل لا بد من ردع خاص رافع
للعلة. واللازم كثرته وتأكيده بالنحو المناسب لاستحكام السيرة ، بل يتعين كونه
أكثر وآكد من الردع عن مثل القياس الذي عرف العمل به عن جماعة خاصة من العامة ،
فعدم ورود ذلك والاقتصار على العمومات شاهد بعدم الردع عن السيرة في المقام ، بل
سبق أنه يستفاد إمضاؤها من جملة من الأدلة المتقدمة.
على أنه سبق
عند الكلام في أصالة عدم الحجية المنع من تمامية العمومات المذكورة. ومن هنا لا
ينبغي الإشكال في الرجوع للسيرة ، بل هي أهم الأدلة في المقام ، لنهوضها بتحديد ما
هو الحجة ، بخلاف أكثر الأدلة الأخر ، حيث لا إطلاق لها ينهض بذلك ، كما تقدم.
الرابع من الأدلة التي يستدل بها على حجية الخبر : دليل العقل.
وهو من وجوه ، بعضها يختص بإثبات حجية خبر الواحد ، وبعضها يقتضي حجية الظن مطلقا
أو في الجملة ، فيدخل فيه الخبر ، أو يختص به بضميمة مقدمة خارجية ، وهو كونه
متيقن الحجية من بين الظنون.
أما القسم
الثاني فيأتي الكلام فيه في فصل مستقل إن شاء الله تعالى.
وأما القسم
الأول فعمدته العلم الإجمالي بصدور بعض الأخبار التي بأيدينا مما اشتمل على أحكام
إلزامية ، الموجب لتنجز احتمال صدورها ، ولزوم موافقتها خروجا عن العلم الإجمالي
المذكور.
وهذا الوجه ـ لو
تم ـ لا يقتضي العمل بالأخبار التي لا تتضمن أحكاما إلزامية. بل حتى ما تضمن
الأحكام الإلزامية إنما تجب موافقته احتياطا ، لا لحجيته شرعا ، الذي هو محل
الكلام. ومن هنا لا ينبغي إطالة الكلام في هذا الوجه بعد وفاء الأدلة المتقدمة
بحجية الأخبار شرعا في الجملة من دون خصوصية لمضامينها. فلاحظ. ومنه سبحانه نستمد
العصمة والسداد.
المقام الثالث : في تحديد ما هو الحجة من أقسام الخبر
بعد الفراغ عن
حجيته في الجملة حسبما استفيد مما تقدم في المقام الثاني.
وقد اشتهر بين
المتأخرين تقسيم أخبار الآحاد إلى أربعة أقسام ..
الأول : الصحيح ، وهو ما كان راويه عدلا إماميا.
الثاني : الموثق ، وهو ما كان راويه ثقة غير إمامي.
الثالث : الحسن ، وهو ما كان راويه إماميا ممدوحا ، من دون أن
يرد فيه قدح ولا نص على العدالة. والظاهر أنه لا بد من رجوع المدح إلى ما يوجب
الوثوق بصدقه والأمن من كذبه.
الرابع : الضعيف ، وهو ما عدا الأقسام الثلاثة السابقة. ويدخل
فيه ما كان بعض رواته مجروحا أو مجهول الحال ، إما مع معرفة اسمه ، أو بدونها ،
كما في المرفوع والمرسل.
ومع اختلاف
رجال سلسلة السند في هذه الأمور يلحق الحديث
بالأدنى ، لأن النتيجة تتبع أخسّ المقدمات.
ويبقى ما رواه
إمامي ثقة لم تثبت عدالته ، وما رواه ممدوح غير إمامي ، خارجا عن الأقسام السابقة.
والظاهر إلحاق الأول بالموثق حكما ، والثاني بالحسن.
هذا ويظهر مما
سبق في المقام الثاني أن عمدة الأدلة في المقام هي الأخبار والإجماع.
أما الأخبار
فحيث لم تكن متواترة لفظا ولا معنى ، بل إجمالا ، يتعين الاقتصار على المتيقن من
مضمونها. ومن القريب جدا حصول اليقين من استيعابها بحجية خبر الثقة وإن لم يكن
عادلا ، لدلالة جملة منها عليه ، كخبر الحسن بن الجهم عن الرضا عليهالسلام : «قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ،
ولا نعلم أيهما الحق. قال : فإذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت» ، وخبر الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله عليهالسلام : «قال : إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة فموسع
عليك حتى ترى القائم عليهالسلام فترد إليه» ، وما في حديث عمر بن يزيد المتقدم عند الكلام في آية
الإيذاء من قوله عليهالسلام : «إذا قامت عليه الحجة ممن يثق به في علمنا ، فلم يثق
به ، فهو كافر» ، وما تقدم عند الاستدلال بالسنة عن روضة الواعظين من
قوله صلىاللهعليهوآله : «من تعلم بابا من العلم] عمل به أو لم يعمل [عن من
يثق به ...» ، وما عن الإمام الكاظم عليهالسلام في كتابه لعلي بن سويد : «لا تأخذن معالم دينك عن غير
شيعتنا فإنك إن تعديتهم أخذت دينك عن الخائنين الذين خانوا الله ورسوله
__________________
وخانوا أماناتهم ...» ، فإن تعليل عدم القبول من غير الشيعة بخيانتهم ظاهر في
كون منشئه عدم الوثوق بهم. وكذلك ما ورد في كتب بني فضال ، وما تقدم في تفسير قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ
مَخْرَجاً) الظاهر في حجية خبر المضيع للحديث الذي هو غير عادل غالبا. فإن النصوص المذكورة ظاهرة في
حجية خبر الثقة وإن لم يكن عدلا.
وهي معتضدة
بإطلاق قوله عليهالسلام في صحيح حريز المتقدم عند الكلام في آية الإيذاء : «فإذا
شهد عندك المؤمنون فصدقهم» ، ونحوه مرسلة ، حيث يلزم الاقتصار في تقييده على المتيقن وهو الوثاقة
، دون العدالة التي هي أخص.
بل هو المستفاد
من جملة من النصوص المتقدمة الظاهرة في المفروغية عن حجية الخبر وإن لم يكن لها
إطلاق في ذلك ، لظهورها في الجري في الحجية على مقتضى سيرة العقلاء الارتكازية ،
حيث لا إشكال في قبول خبر الثقة بمقتضى سيرتهم.
ومن هنا لا
ينبغي التأمل في استفادة حجية خبر الثقة من النصوص ، وعدم اعتبار العدالة في
الراوي.
وأما الإجماع
فقد سبق أن الاستدلال به إنما يكون بالإجماع العملي منه الراجع لعمل علماء الشيعة
، وسيرة المتشرعة ، وسيرة العقلاء. ولا ينبغي الريب في عمل قدماء الأصحاب من
العلماء بخبر الثقة وإن لم يكن إماميا عادلا ، كما يظهر بأدنى ملاحظة لكتب الجرح
والتعديل وطريقة أهل الفتوى والاستدلال.
__________________
وكذا خبر الضعيف المحتف بالقرائن الموجبة للوثوق بصدوره وركون النفس له ،
مثل أخذه من الأصول المعتمدة عند الأصحاب ، واعتماد قدمائهم عليه في مقام الفتوى ،
وغير ذلك مما يذكر في محله.
وقد صرح الشيخ قدسسره بذلك في كتاب العدة في غير موضع من كلامه ، قال في حال
ما يرويه المخالف الثقة : «أما إذا كان مخالفا في الاعتقاد لأصل المذهب وروى مع
ذلك عن الأئمة عليهمالسلام نظر فيما يرويه ، فإن كان هناك من طرق الموثوق بهم ما
يخالفه وجب اطراح خبره ... وإن لم يكن هناك من الفرقة المحقة خبر يوافق ذلك ولا
يخالفه ولا يعرف لهم قول فيه وجب أيضا العمل به ، لما روي عن الصادق عليهالسلام : أنه قال : إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما
رووا عنا فانظروا إلى ما رووا عن علي عليهالسلام فاعملوا به. ولأجل ما قلناه عملت الطائفة بما رواه حفص
بن غياث ، وغياث بن كلوب ، ونوح بن دراج ، والسكوني ، وغيرهم من العامة عن أئمتنا عليهمالسلام فيما لم ينكروه ولم يكن عندهم خلافه».
ثم ذكر نظير
ذلك في فرق الشيعة غير الاثنى عشرية ، وقال : «ولأجل ما قلناه عملت الطائفة بأخبار
الفطحية مثل عبد الله بن بكير وغيره وأخبار الواقفة ، مثل سماعة بن مهران وعلي بن
أبي حمزة وعثمان بن عيسى ، ومن بعد هؤلاء بما رواه بنو فضال وبنو سماعة والطاطريون
وغيرهم فيما لم يكن عندهم فيه خلافه».
ثم ذكر الغلاة
وأن أخبارهم ترد في حال تخليطهم ، ثم قال : «وكذلك القول فيما ترويه المتهمون
والمضعفون. وإن كان هناك ما يعضد روايتهم ويدل على صحتها وجب العمل به ... فأما من
كان مخطئا في بعض الأفعال أو فاسقا بأفعال الجوارح وكان ثقة في روايته متحرزا فيها
، فإن ذلك لا يوجب رد خبره ... لأن العدالة في الرواية حاصلة فيه ، وإنما الفسق
بأفعال الجوارح يمنع من قبول
شهادته ، وليس بمانع من قبول خبره. ولأجل ذلك قبلت الطائفة أخبار جماعة هذه
صفتهم».
ثم تعرض
لاختلاف الأخبار ... إلى أن قال : «وإذا كان أحد الراويين مسندا والآخر مرسلا نظر
في حال المرسل ، فإن كان ممن يعلم أنه لا يرسل إلا عن ثقة موثوق به فلا ترجيح لخبر
غيره على خبره. ولأجل ذلك سوّت الطائفة بين ما يرويه محمد بن أبي عمير وصفوان بن
يحيى وأحمد بن محمد بن أبي نصر وغيرهم من الثقات الذين عرفوا بأنهم لا يروون ولا
يرسلون إلا عن من يوثق به وبين ما أسنده غيرهم ، ولذلك عملوا بمراسيلهم إذا
انفردوا عن رواية غيرهم. [فأما إذا لم يكن كذلك ويكون ممن يرسل عن ثقة وعن غير ثقة
، فإنه يقدم خبر غيره عليه] ، وإذا انفرد وجب التوقف في خبره إلى أن يدل دليل على
وجوب العمل به. فأما إذا انفردت المراسيل فجوز العمل بها على الشرط [الوجه. خ. ل]
الذي ذكرناه. ودليلنا على ذلك الأدلة التي قدمناها على جواز العمل بأخبار الآحاد ،
فإن الطائفة كما عملت بالمسانيد عملت بالمراسيل ، فما يطعن في واحد منهما يطعن في
الآخر ، وما أجاز أحدهما أجاز الآخر ، فلا فرق بينهما على حال ...» .
وقال في مقدمة
كتاب الفهرست : «فإذا ذكرت كل واحد من المصنفين وأصحاب الأصول فلا بد من أن أشير
إلى ما قيل فيه من التعديل والتجريح ، وهل يعوّل على روايته أو لا ، وأبين اعتقاده
، وهل هو موافق للحق أو مخالف له ، لأن كثيرا من مؤلفي أصحابنا ينتحلون المذاهب
الفاسدة ، وإن كانت كتبهم معتمدة». وهو صريح في الاعتماد على كتب ذوي المذاهب
الفاسدة ، ولا وجه
__________________
لاعتمادهم عليها إلا وثاقتهم في أنفسهم ، أو احتفافها بما يوجب الوثوق بها
، وإلا فمن البعيد احتفافها بما يوجب العلم بصدور جميع ما فيها. كيف؟! وقد صرح
نفسه ـ كما تقدم في العدة ـ بعدم تيسر القرائن القطعية.
وقد أطال في
خاتمة الوسائل في ذكر القرائن التي تشهد بصحة الأخبار الموجودة في الكتب. والظاهر
أنه يريد ما يوجب الوثوق بها ، لا العلم التفصيلي بصحة جميع تلك الأخبار. وكيف كان
فما ذكره شاهد بتسالم الأصحاب على العمل بأخبار الثقات غير العدول ، بل أخبار
الضعاف مع احتفافها بقرائن توجب الوثوق بصدورها.
وأدنى سبر لكتب
الأصحاب ـ بما فيها الكتب الأربعة ـ شاهد بذلك ، لاشتمالها على كثير من أخبار
المجاهيل ، بل المضعفين والمطعون فيهم ، مع ظهور أن إثباتها في تلك الكتب ليس لمحض
التدوين ، بل لركونهم إليها واستدلالهم بها. ولا يظهر منهم الغمز في أسانيد تلك
الأخبار إلا نادرا في مقام التعارض ، أو لمخالفة الخبر لأصول المذهب بنظر المتصدي
لذلك.
ولم يعرف الغمز
بصورة ظاهرة إلا من المتأخرين ، كابن إدريس والمحقق ومن تأخر عنهما عند اشتمال
الخبر على حكم مستبعد بنظرهم ، مع عدم طعنهم بنظائره في السند في موارد أخر ، بل
يعملون بها متسالمين على قبولها ، حيث يشهد ذلك بأن طعنهم ناشئ عن الاستبعاد
المذكور الذي قد يجرّ للتشبث بما لا يصح التشبث به ، من دون أن يقدح ذلك في
الإجماع المذكور.
كيف ومن
المعلوم أن تقسيم الأخبار إلى الأقسام الأربعة المتقدمة قد حدث متأخرا ، فقد قيل :
إن أول من اصطلح على ذلك جمال الدين أحمد بن طاوس وتبعه تلميذه العلامة قدسسرهما ، ولم تكن طريقة القدماء على ذلك ، بل الصحيح عندهم ما
كان محفوفا بما يوجب ركون النفس إليه.
وأي إجماع أقوى
من مثل هذا الإجماع الذي جرى عليه قدماء الأصحاب في مقام العمل بعد الغيبة مدة
تزيد على ثلاثة قرون ، وشاع بين المتأخرين جريهم على ذلك ، حتى اشتهر التعبير
بانجبار ضعف الخبر بعمل الأصحاب. ويعلم من حال من اطلعنا عليه متابعتهم في ذلك لمن
قبلهم من أصحاب الأئمة عليهمالسلام وجريهم على طريقتهم ، لامتناع الخروج عن سيرة الأصحاب
عادة في مثل ذلك من الأمور المهمة التي يكثر الابتلاء بها. ولا سيما بعد ما تقدم
من الشيخ قدسسره.
وأما سيرة
المتشرعة فهي لا تخلو عن غموض. فإنه وإن لم يبعد استنكارهم أخذ معالم الدين من غير
العادل ، إلا أنه لا يبعد كون منشئها تنفرهم عنه بنحو يغفل عن فرض الوثوق بخبره ـ إما
لتحرزه عن الكذب ، أو لاحتفافه بقرائن خارجية ـ حتى ينظر في ذلك ، فلا مجال لجعل
سيرتهم من أدلة المنع في المقام ، فضلا عن أن تنهض بمعارضة سيرة العلماء التي تقدم
التعرض لها.
وأما سيرة
العقلاء ، فقد أشرنا آنفا إلى أنها عمدة أدلة الباب في تحديد ما هو الحجة من أقسام
الخبر ، لأنها تابعة لمرتكزاتهم الوجدانية ، ولسيرتهم الخارجية الظاهرة. ولا ريب
في عدم أخذ العدالة في موضوعها ، بل يكفي فيه الوثوق بالمخبر.
بل الظاهر أنها
أعم من ذلك أيضا ، فهي تشمل خبر غير الثقة في نفسه إذا احتف بما يوجب الوثوق بصدقه
من القرائن الداخلية أو الخارجية. فإن القرائن المذكورة وإن لم تكن حجة في نفسها ،
إلا أنها توجب حجية الخبر ودخوله في مورد السيرة ، حيث لا يكون العمل به حينئذ
تفريطا بنظر العقلاء.
ومن هنا كان
الظاهر أن سيرة الأصحاب ـ التي سبق التعرض لها ـ مبنية على سيرة العقلاء ومتفرعة
عليها ، فهي كاشفة عن إمضائها شرعا ، لا أنها مبنية على محض التعبد في قبالها.
ومن جميع ما
تقدم يظهر لزوم الخروج عن إطلاق آية النبأ المقتضي لعدم حجية خبر الفاسق ، ولزوم
التبين معه المقتضي لعدم الاكتفاء بالقرائن الخارجية ما لم توجب العلم بصدقه. على
أنه لا يبعد قصور الإطلاق المذكور ، أما إذا كان الفاسق ثقة في نفسه فلقصور
التعليل بالجهالة والندم عن خبره ، كما تقدم عند الكلام في مفاد التعليل. وإذا لم
يكن ثقة في نفسه ، فلقرب كون المراد بالتبين هو العرفي الذي يحصل به الوثوق كما هو
الحال في القرائن المذكورة.
ولا أقل من عدم
ظهوره في التبين العلمي بسبب التعليل بالندم الذي يكفي في رفعه التبين المذكور.
بقي في المقام أمران :
الأول : لا يبعد اختصاص بناء العقلاء على العمل بخبر الثقة
بما إذا لم تقم قرائن تشهد بكذبه وعدم صدوره ،بحيث توجب الريب فيه عرفا ، وإن كان
الراوي ثقة في نفسه. وربما يدعى أن ذلك هو الوجه فيما اشتهر من وهن خبر الثقة
بإعراض الأصحاب عنه ، حتى قيل : كلما زاد السند قوة زاد وهنا بإعراضهم.
لكن الظاهر عدم
كون إعراضهم في ذلك موهنا للسند ، بحيث يرتفع الوثوق معه بصدور الخبر ، بل هو موجب
لارتفاع الوثوق بظهوره ، كما تقدم في المبحث الثاني من مباحث حجية الظواهر. وإلا
فمن البعيد جدا التشكيك بنحو معتد به في صدور الروايات التي يرويها أعاظم الأصحاب
، ولا سيما مع إيداعها في الكتب المعدة لأخذ الأحكام ونحوها مما يعلم من حال
مؤلفيها الاهتمام بتحري خصوص ما يوثق بصدوره.
الثاني : حيث كان من عمدة أدلة المقام سيرة العقلاء على العمل
بخبر الثقة والخبر الموثوق بصدوره ، فمن الظاهر أنه لا فرق في السيرة المذكورة بين
الروايات وغيرها. وذلك يقتضي عموم حجية خبر الثقة ما لم يثبت الردع عنه
في مقام خاص.
وعليه يبتني
الاكتفاء في الجرح والتعديل بتزكية الواحد إذا كان ثقة أو قامت القرائن على صدقه ،
ولا يعتبر فيه العدالة ، فضلا عن التعدد.
نعم يختص ذلك
بما إذا كان الخبر عن حسّ أو حدس قريب من الحسّ ـ كما هو مقتضى الأصل فيما يمكن
فيه ذلك ـ أما إذا كان عن حدس واجتهاد ، فهو مبني على جواز الرجوع إلى أهل الخبرة
، المختص ارتكازا بمن يتعذر في حقه العلم ، مع امتناع رجوعه للأصل. والحمد لله رب
العالمين.
الفصل الخامس
في حجية الإجماع المنقول
والكلام في ذلك
متفرع على القول بحجية خبر الواحد ، حيث قد يدعى أن حجيته تستلزم حجية نقل الإجماع
بخبر الواحد ، لأنه من أفراده. وينبغي تقديم أمور تنفع في تحرير محل الكلام.
الأمر الأول : اشتهر ذكر الإجماع في أدلة الأحكام في كلمات أهل
الاستدلال ، حتى عدّ من الأدلة الأربعة. لكن صرّح أصحابنا رضى الله عنه بعدم حجية
الإجماع في نفسه إلا إذا وافق المجمعون قول الإمام عليهالسلام ، فالحجة قوله لا أقوالهم ، إذ لا مرجع للأمة بعد النبي
صلىاللهعليهوآله إلا الكتاب الكريم والعترة الطاهرة عليهمالسلام. نعم قد يكشف الإجماع عن قوله عليهالسلام ، فتكون حجيته في طول حجيته وراجعة إليها.
الأمر
الثاني : إحراز موافقة الإمام عليهالسلام
للمجمعين يكون بأحد وجوه ..
الأول : العلم برأيه عليهالسلام بطريق الحسّ ـ كالسماع منه عليهالسلام ولو في ضمن مجموعة من دون أن يميز بشخصه ، أو ظهور
إقراره للمجمعين مع اطلاعه على قولهم وتيسر الردع له ـ أو حدس يلحق بالحسّ ، كما
في موارد الضرورات المذهبية أو الفقهية التي يعلم بعدم حصولها لو لم تستند لهم عليهمالسلام.
الثاني : إحرازه حدسا بمقدمات نظرية يختلف الناس فيها ، كحسن
الظن بالمجمعين بحيث يعلم بعدم اجتماعهم على الخطأ ، ولو في خصوص الواقعة ، لكونها
موردا للابتلاء ، فيمتنع عادة خفاء حكمها عليهم.
وهذان الوجهان
وإن تمّا في الجملة إلا أن ذلك يختلف باختلاف أشخاص المجمعين عددا وعلما وقربا من
المعصومين عليهمالسلام ، وباختلاف المسائل من حيثية مقدار الابتلاء الدخيل في
وضوح حكم المسألة ، وباختلاف الأشخاص المطلعين على الإجماع في سرعة الجزم باللوازم
واستيضاحها وعدمهما. ولا ضابط لذلك ، ليقع الكلام في تماميته وعدمها ، بل يوكل
لنظر الفقيه في كل مسألة مسألة.
الثالث : إحرازه حدسا بقاعدة اللطف التي حكي عن الشيخ قدسسره البناء عليها ، بل تعذر الاستدلال بالإجماع لولاها.
وهي ترجع إلى
امتناع اتفاق الأمة في عصر على خلاف الواقع المطابق لرأي الإمام ، بل يجب عليه حينئذ
إزاحة العلة
بالظهور أو إظهار من يبين الحق في المسألة ، لطفا منه ، بملاك اللطف من الله تعالى
ببعثه الأنبياء وإنزال الكتب لهداية الناس للحق ، فمتى تمّ اتفاقهم ولم ينقض من
قبله عليهالسلام كشف عن موافقتهم له عليهالسلام وإصابتهم للحق الذي معه.
لكن الظاهر عدم
تمامية القاعدة المذكورة ، بل لو وجب اللطف عليه تعالى لاختص مقتضاه بتهيئة سبل
الهداية للكل بالطرق المتعارفة ، من إرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، ونصب الأعلام
على الحق ، وإن أمكن ضياع الحق على الكل أو البعض بسبب تقصير الناس وظلمهم ومنعهم
للإمام من القيام بكامل وظيفته في الهداية والإرشاد ، كما حصل فعلا في هذه الأمة
وفي الأمم السابقة.
وإلا فلو وجب
على الإمام حتما وعلى كل حال إزاحة العلة بمنع الإجماع من الانعقاد ، لئلا يضيع
الحق على الكل ، لوجب عليه هداية الكل برفع الخلاف ، وتحقيق الإجماع من الكل على
الحق ، لأن ملاك حسن الهداية للحق لا يفرق فيه بين الكل والبعض ، مع عدم وجوبه
قطعا ، ولذا حصل الخلاف.
الأمر الثالث : لما كان المعيار في حجية الإجماع عندنا على موافقة
المجمعين للإمام عليهالسلام فربما يظهر من بعض كلماتهم أن الإجماع اصطلاحا هو
الاتفاق المشتمل على قول الإمام عليهالسلام بحيث يكون ظاهر ناقل الإجماع ـ مع عدم القرينة الصارفة
ـ هو نقل قوله عليهالسلام في ضمن أقوال المجمعين.
لكنه خلاف
الظاهر ، بل ظاهرهم إرادة إجماع العلماء أنفسهم ، ولو بلحاظ ملازمته لقول الإمام عليهالسلام بنظر الناقل ، كما يشهد به مقابلة الإجماع في كثير من
الموارد بالخلاف ، واستثناء بعض الأشخاص من الإجماع وغير ذلك مما لا يناسب إرادة
المعنى المذكور. ولا سيما إذا كان نقل الإجماع في مقام الاحتجاج به ، لظهوره في
خصوصية اتفاق الجميع في الاحتجاج ، لا أن الاحتجاج بقول بعض المجمعين ـ وهو الإمام
عليهالسلام ـ من دون أثر للباقين.
بل هو كالصريح
من مثل نسبة الإجماع لعلمائنا ، أو أصحابنا ، أو فقهائنا ، أو فقهاء أهل البيت عليهمالسلام. نعم قد يحتمل إرادة دخوله عليهالسلام من مثل نسبة الإجماع للأمة أو المسلمين أو أهل الحق أو
الطائفة المحقة.
ومثله ما ذكره
شيخنا الأعظم قدسسره من اختصاص الإجماع اصطلاحا باتفاق أهل عصر واحد ،
مستشهدا له ببعض كلماتهم.
فإنه وإن ناسب
طريقة العامة ـ الذين شيدوا بالإجماع المزعوم خلافة الأولين المبتدعة ـ وطريقة
القائلين بقاعدة اللطف منا ، إلا أنه لم يتضح بوجه معتد به بحيث يصلح لتحديد مصطلح
خاص بذلك ، لتحمل عليه كلماتهم عند الإطلاق. ولا سيما مع ظهور كثير من كلماتهم في
الفقه في إرادة إجماع جميع العلماء في جميع العصور. ويناسبه مقابلته بالخلاف بنحو
يظهر منه إرادة الخلاف ولو بين أهل العصور المختلفة. ومن هنا لا مخرج عن مقتضى
الإطلاق الظاهر في إرادة العلماء في جميع العصور.
نعم الاطلاع
بطريق الحسّ على فتاوى أهل العصر الواحد ، فضلا عن علماء جميع العصور لا يتسنى
عادة لأحد ، خصوصا المتأخرين ، مع تباعد الأمكنة ، وعدم تيسر الاطلاع على فتاوى
كثير من العلماء ، أو لكونهم مغمورين لا ظهور لهم ، أو لضياع فتاواهم ، بل ربما لا
يكون لبعضهم فتوى في المسألة ، لعدم نظره في أدلتها.
فلا بد من
توجيه كلام مدعي الإجماع ، إما بحمله على إرادة خصوص أهل الفتاوي الظاهرة ، أو أهل
الكتب المشهورة ، أو نحو ذلك ، وإما بحمله على إرادة الكل مع كون العلم بفتاواهم
بطريق الحدس ، لاستبعاد مخالفتهم للمشهورين ، أو لابتناء الفتوى على أصل أو قاعدة
إجماعية بنظر مدعي الإجماع ، كما تعرض لذلك شيخنا الأعظم قدسسره ، وأطال الكلام فيه.
إذا عرفت هذا
فاعلم أنه حكي عن جماعة أن ما دل على حجية خبر الواحد في الأحكام يقتضي حجية
الإجماع المنقول من قبل الثقة ، لأنه من أفراده ، لرجوعه إلى حكاية قول الإمام عليهالسلام في المسألة. بل ربما قيل : إنه من الخبر العالي السند ،
لأن مدعي الإجماع يحكي عنه بلا واسطة.
والذي ينبغي أن
يقال : حجية نقل الإجماع بملاك حجية خبر الواحد يبتني على أحد أمرين :
الأول : أن يكون مرجع كلام ناقل الإجماع إلى نقل قول الإمام عليهالسلام في ضمن أقوال المجمعين.
الثاني : أن يكون ما ينقله من الأقوال ملازما عقلا أو عادة
لقول الإمام عليهالسلام ، فيكون خبره حجة فيه ، بناء على ما هو الظاهر من حجية
الخبر في لازم مؤداه وإن لم يقصد المخبر بيانه.
أما الأمر
الأول فهو بعيد عن ظاهر أكثر نقلة الإجماع ، كما سبق. مع أنه لا
مجال لحجيته بعد عدم كون ناقل الإجماع من أصحاب الأئمة عليهمالسلام ، وعدم اطلاعه على قولهم عليهمالسلام بالسماع ونحوه من الطرق الحسّية. كما يبعد اطلاعه عليه
بطريق ملحق بالحسّ ، كالتواتر الموجب للعلم لكل أحد ، وإلا لكان ذكره في مقام
الاستدلال أولى من ذكر الإجماع ، لأنه أصرح في بيان الحجة. ومن هنا لا مجال للبناء
على أصالة كون النقل عن حسّ أو حدس ملحق به.
وأما الثاني
فلا مجال لإحرازه بعد ما سبق من أن كلام ناقل الإجماع وإن كان ظاهرا بدوا في إرادة
النقل عن جميع العلماء في جميع الأعصار ، وهو ـ لو تم ـ ملازم عادة لقول الإمام عليهالسلام ، إلا أنه بعد العلم بامتناع الاطلاع على أقوالهم بطريق
الحسّ لا بد من حمله على إرادة النقل عن بعضهم ، أو عن جميعهم اعتمادا على الحدس ،
والأول لا يستلزم عادة قول الإمام عليهالسلام ، والثاني لا يكون حجة في إثبات المؤدى ، فضلا عن لازمه
المذكور.
هذا وقد ذكر
بعض الأعاظم قدسسره أن إجماع الأصحاب يكشف عن دليل معتبر عندهم خفي علينا
إذا لم يكن في مورد الإجماع أصل أو قاعدة أو دليل على وفق ما اتفقوا عليه ، وإلا
احتمل استنادهم إلى ذلك ، لا إلى دليل آخر وراءه.
وحينئذ لو كان
ناقل الإجماع مثل الفاضلين والشهيد قدسسرهم تعين حجية نقلهم ، لأنهم ينقلون نفس الفتاوى بلفظ
الإجماع ، فتكشف عن الدليل المعتبر مع عدم وجود أصل أو قاعدة في البين ، بخلاف ما
لو كان الناقل من تقدمهم ، لغلبة ابتناء حكايتهم الإجماع على تطبيق الأصل أو
القاعدة بنظرهم ، لا على حكاية نفس الفتاوى.
لكنه يشكل بأن
اتفاقهم على الفتوى إنما يستلزم وجود دليل معتبر عندهم ، لا وجود دليل معتبر واقعا
، إذ كما أمكن خطؤهم في الاستناد للأصل
أو القاعدة أو الدليل المذكور في المسألة أمكن خطؤهم فيما اعتمدوه من
الأدلة وخفي علينا.
مع أن الفرق في
ناقل الإجماع بين مثل المحقق ومن تقدمه ـ لو تم ـ لا ينفع بعد ما سبق من امتناع
اطلاع الناقل على فتاوى الكل حسّا ، بل لا بد من توجيه نقله بما تقدم ، مما لا
مجال معه للاعتماد على نقله. ومن هنا لا مجال للبناء على حجية الإجماع المنقول في
نفسه.
نعم قد تشهد
القرائن في بعض الموارد بمطابقته للواقع أو للدليل المعتبر ، وهو يختلف باختلاف
ناقلي الإجماع والمسائل المنقول فيها ، والأشخاص الذين يطلعون على النقل ، نظير ما
تقدم في الأمر الثاني. كما قد يحصل العلم بالحكم من ذهاب المشهور له ، أو تسالم
جماعة قليلة عليه ، أو غير ذلك مما لا ضابط له ، لينظر في تماميته.
الفصل السادس
في حجية مطلق الظن
ربما يدعى حجية
مطلق الظن في الأحكام الكلية من دون خصوصية أسبابه. وقد استدل عليها بوجوه ..
الأول : أن في مخالفة الظن بالوجوب أو التحريم مظنة الضرر ،
ودفع الضرر المظنون لازم. وفيه أولا : أن اللازم دفع الضرر المحتمل وإن لم يكن مظنونا ،
فيلزم تعميم هذا الوجه لمطلق احتمال التكليف. كما أن اللازم حجية الظن بالموضوع
أيضا ، لا خصوص الظن بالحكم الكلي. ولا قائل بهما.
وثانيا
: أن المراد
بالضرر إن كان هو العقاب فالصغرى ممنوعة ، إذ ليس العقاب من لوازم التكليف الواقعي
، بل لا بد في استحقاقه من تنجز التكليف في رتبة سابقة ، ولا ينهض هذا الوجه
بإثبات تنجزه بالظن.
وإن كان هو
الضرر الدنيوي ، لما عليه العدلية من تبعية التكاليف للمصالح والمفاسد الملزمة ،
فيلزم من مخالفة التكليف فوت المصالح الملزمة ، أو حصول المفاسد الملزمة ، وهو نحو
من الضرر. فهو ـ مع ابتنائه على تبعية التكاليف للمصالح والمفاسد في المتعلقات ،
وعدم الاكتفاء فيه بالمصلحة في جعل التكليف من دونها ، وهو محل نظر ـ يشكل بأن
وجوب دفع الضرر المظنون والمحتمل عقلا حكم طريقي لتجنب الضرر الواقعي ، فلا يلزم
من مخالفته إلا الضرر الواقعي مع إصابة الظن أو الاحتمال ، وليس الواجب واقعا إلا
دفع ذلك الضرر.
وحينئذ فوجوب
دفع الضرر الواقعي عقلا ليس كوجوب الطاعة يرجع إلى حكم العقل باستحقاق العقاب عليه
، ولا كوجوب العدل وحرمة الظلم يبتني على التحسين والتقبيح العقليين ، ليكون
مستلزما لوجوبه شرعا ـ بناء على ملازمة حكم الشرع لحكم العقل ـ المستلزم للعقاب ،
كي يكون الظن بالضرر مستلزما للظن بالعقاب. بل هو راجع إلى أن حبّ الإنسان لنفسه
يقتضي دفع الضرر عنها ، كما قد يهتم بدفع الضرر عن غيره لحبه له. فهو بالأمور
الفطرية أنسب منه بالواجبات العقلية. وليس وراء الضرر المترتب أمر آخر من عقاب
ونحوه يلزم دفعه.
وأما ما قيل من
استحقاق الذم بإيقاع الضرر ، المستلزم لوجوب دفعه عقلا من باب التحسين والتقبيح ،
نظير استحقاق الذم بالظلم. فهو في غاية المنع ، بل هو لا يستتبع إلا اللوم اللازم
من التفريط المنافي للحكمة بحفظ ما يتعلق الغرض بحفظه.
وعلى هذا يكون
مرجع الوجه المذكور إلى أن مخالفة المكلف الظن بالتكاليف تعرضه للوقوع في المفاسد
وتفويت المصالح الموجبة للتكليف ، وليس وراء ذلك أمر آخر ، من دون أن يصلح للإلزام
بمتابعة الظن ، لأن المصالح والمفاسد المذكورة قد لا تكفي في الداعوية ، إما لعدم
كونها من سنخ الأضرار الشخصية الراجعة للمكلف نفسه ، بل أضرارا عامة لا يهتم
بدفعها من لا يهتم بالصالح العام. أو لأن الإنسان قد يقدم على بعض الأضرار ، لعدم
كونه حكيما ، أو لابتلائه ببعض المزاحمات ، ولو كانت هي صعوبة الاحتياط. وهذا
بخلاف ما لو كان الوقوع في الضرر مظنة العقاب ، فإن العقاب بسبب أهميته وقوة
داعويته ـ وإن ضعف احتماله ـ لا يصلح شيء لمزاحمته بنظر العقلاء.
وأما وجوب دفع
الضرر شرعا المستتبع للعقاب بمخالفته ، فهو مختص ببعض الأضرار ، كتلف النفس أو ما
يعم تلف الطرف ، ولا يعم كل ضرر
خصوصا الضرر النوعي.
وعلى ذلك لو
رجع الظن بالتكليف للظن بمثل هذه الأضرار تعين وجوب مراعاة الظن المذكور حتى لو
كان من جهة الموضوع. بل يجب في مثله مراعاة مطلق الاحتمال المعتد به. لكنه فرض
نادر ، بل غير حاصل في الشبهات الحكمية ، فيخرج عن محل الكلام ، ولا ينهض بتأسيس
القاعدة في المقام.
هذا كله مع أن
هذا الوجه ـ لو تم ـ إنما يقتضي لزوم العمل بالظن بالتكليف ، لا الظن بعدمه ، ولا
الظن بالأحكام الوضعية إلا بلحاظ استتباعها الظن بالتكليف ، فلو ظن ملكية قدر
الاستطاعة مثلا كان مقتضى الوجه المذكور وجوب الحج ، دون جواز التصرف في المال. بل
قد يكون مقتضى الاستصحاب عدم ملكيته وحرمة التصرف فيه ، وهو قد يستلزم الحرج أو
اختلال النظام.
الثاني : أنه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح ،
وهو قبيح.
وفيه ـ مع أن
مقتضاه لزوم الرجوع للظن حتى في الشبهة الموضوعية ، وامتناع نصب الحجة على خلافه ـ
: أن قبح ترجيح المرجوح على الراجح إنما يمنع من مخالفة الظن إذا تعلق الغرض
بتحصيل الواقع. فإن كان المدعى لزوم حكم الشارع بحجية الظن فهو موقوف أولا : على تعلق غرضه بحفظ التكاليف الواقعية. وثانيا : على كون ظن المكلف هو الأرجح والأقرب للواقع بنظره. وكلاهما
غير ثابت ، فقد تقدم في مبحث إمكان التعبد بغير العلم أن الشارع قد لا يتعلق غرضه
بحفظ التكاليف الواقعية لأجل بعض المزاحمات المانعة منه. كما لا طريق لإحراز أن
الشارع يرى أن ظن المكلف هو الأقرب للواقع ، ولا سيما بملاحظة ما ورد في القياس من
أن ما يفسده أكثر مما يصلحه.
وإن كان المراد
إلزام المكلف بالعمل على طبق الظن ـ وإن لم يكن حجة شرعا ـ تحصيلا للتكاليف
الواقعية ، فهو موقوف على تعلق غرضه بتحصيل الواقع ، ولا ملزم به مع جريان الأصول
المؤمنة منه عند عدم الحجة.
نعم لو تنجز
الواقع على المكلف ـ كما لو قصّر في الفحص في موارد الدوران بين محذورين ، أو اضطر
بسوء اختياره إلى ارتكاب أحد أطراف الشبهة التحريمية المحصورة ـ لزمه عقلا متابعة
الظن بالتكليف ، لقبح ترجيح المرجوح على الراجح.
ومنه يظهر أن
الوجه المذكور لا ينهض بجواز متابعة الظن بعدم التكليف ، إذ لا غرض في متابعة عدم
التكليف لا للشارع ولا للمكلف ، بل يتجه الرجوع فيه للأصول أو الأدلة ، وقد يلزم
من ذلك الحرج أو اختلال النظام ، كما تقدم في الوجه الأول.
مضافا إلى أن
قبح ترجيح المرجوح على الراجح إنما يقتضي العمل بالظن في فرض تعلق الغرض بتحصيل
الواقع إذا تعذر الاحتياط ـ كما تقدم في المثالين السابقين ـ وهو مبني على ما يأتي
في دليل الانسداد. ومن ثم جعل هذا الوجه من مقدمات الدليل المذكور.
هذا مع أن
المراد من هذا الوجه وما قبله إن كان هو حجية الظن مطلقا ولو مع انفتاح باب العلم
والعلمي في معظم المسائل كانا منافيين لأدلة عدم حجية الظن ، وحيث كان ثبوت
مضمونها من الشارع قطعيا ضروريا لزم رفع اليد عنهما ، لأنهما كالشبهة في مقابل
البديهية. وإن كان هو حجيته مع انسداد باب العلم أو العلمي ، ليمكن جمعها مع
الأدلة المذكورة ، بحملها على صورة الانفتاح ، كانا مبنيين على ما يأتي في دليل
الانسداد.
الثالث : دليل الانسداد. وهو يبتني على مقدمات ، عمدتها ثلاث.
الأولى
: انسداد باب
العلم والعلمي ـ وهو الدليل المعتبر ـ بالحكم الشرعي.
الثانية : امتناع الرجوع للأصول الشرعية والعقلية المقررة
للجاهل من البراءة والاحتياط وغيرهما ، وعدم ثبوت غيرها.
الثالثة
: قبح ترجيح
المرجوح على الراجح. ومع تمامية المقدمات المذكورة يتعين العمل بالظن.
ولا حاجة في
ذلك إلى إضافة مقدمة رابعة ، وهي عدم جواز إهمال الأحكام الشرعية ، كما صنعه شيخنا
الأعظم قدسسره وغيره. إذ الإهمال إن كان على خلاف القاعدة فلا وجه
لتوهم جوازه حتى يحتاج لفرض عدم جوازه في مقدمات الدليل. وإن كان مطابقا للقاعدة
فهو عبارة أخرى عن امتناع الرجوع للبراءة المفروض في المقدمة الثانية.
إلا أن يراد
بإهمال الأحكام الشرعية إهمالها تبعا لسقوطها واقعا بسبب الجهل ، فيكون أمرا آخر
غير ما يأتي في المقدمة الثانية. لكنه بعيد عن ظاهر بعض كلماتهم ، ويأتي الكلام
فيه تبعا للكلام في الاحتياط.
ومثله ما ذكره
المحقق الخراساني قدسسره من إضافة مقدمة خامسة ، وهي العلم الإجمالي بثبوت
تكاليف شرعية ، إذ لا حاجة للعلم المذكور لو تمت المقدمات الثلاث. نعم قد يكون
العلم المذكور دخيلا في تمامية المقدمة الثانية ، وهو لا يقتضي أخذه في قبالها.
ومن هنا يقع الكلام في المقدمات الثلاث.
أما المقدمة الأولى : فقد ذكروا أنها عبارة عن انسداد باب العلم والعلمي في
معظم المسائل. لكن مع تمامية المقدمتين الأخريين يكفي انسداد باب العلم ولو في
مسألة واحدة ، كما في موارد التقصير في الفحص وتعذر الاحتياط ، كما
أشرنا إليه في الوجه الثاني لتقريب حكم العقل بحجية الظن.
نعم تمامية
المقدمة الثانية فيما لو لم يكن المكلف مقصرا ـ كما هو محل الكلام ـ موقوفة على
فرض الانسداد في المعظم ، حيث يلزم من البراءة والاحتياط المحاذير الآتية. فخصوصية
الانسداد في المعظم ليست دخيلة في أصل الدليل ، بل في تمامية مقدماته في محل
الكلام.
وكيف كان فمن
الظاهر انسداد باب العلم في المعظم وأما العلمي فانسداده موقوف على عدم حجية مقدار
يفي بالمعظم من أخبار الآحاد التي بأيدينا ، لعدم ثبوت التعبد بصدورها أو
بدلالتها.
لكن الظاهر
حجية المقدار المذكور ، لما تقدم في الفصل الأول من حجية الظواهر مطلقا ، ومنها
ظواهر الأخبار ، ولو لعدم اختصاص حجية الظواهر بالمشافهين أو المقصودين بالإفهام ،
وفي الفصل الرابع من ثبوت التعبد بصدور الأخبار مع الوثوق به أو برواتها. ومن ثم
لا تتم المقدمة المذكورة.
وأما المقدمة الثانية : فالظاهر تماميتها في الجملة ، لعدم الإشكال في امتناع
الرجوع للبراءة لو تم انسداد باب العلم في معظم المسائل ـ كما هو مفاد المقدمة
الأولى من كلامهم ـ للعلم الإجمالي بثبوت تكاليف كثيرة في المعظم ، فيلزم من
الرجوع للبراءة المخالفة الإجمالية الكثيرة.
بل لو فرض عدم
مانعية العلم الإجمالي من الرجوع للبراءة في تمام الأطراف فهو مختص بما إذا كان
المعلوم بالإجمال حكما واحدا أو أحكاما قليلة يمكن تسامح الشارع فيها ، دون ما إذا
كان أحكاما كثيرة ، فضلا عما إذا كان معظم الأحكام ، حيث يلزم من إهمالها تعطيل
الشريعة ، وهو الذي عبّر عنه شيخنا الأعظم قدسسره بمحذور الخروج عن الدين.
كما أنه لو فرض
كون تعذر الاحتياط التام في أطراف العلم الإجمالي
موجبا لسقوط التكاليف الواقعية عن الفعلية بنحو لا موضوع معه لتبعيض
الاحتياط فلا مجال لذلك في المقام ، لأجل المحذور المذكور. وقد سبق عند الكلام في
عدد مقدمات هذا الدليل احتمال كون ذلك هو المراد من عدم جواز الإهمال الذي جعل
مقدمة رابعة في كلام جماعة. بل لا بد من البناء على بقاء الأحكام الواقعية على
الفعلية ولزوم حفظها في مقام الامتثال في الجملة.
وأما الاحتياط
فهو وإن كان مقتضى القاعدة في العلم الإجمالي ، إلا أنه قد يدعى الإجماع على عدم
وجوبه في المقام.
لكن حيث كانت
المسألة من المستحدثات ، لبناء الأصحاب سابقا على انفتاح باب العلم ، فلا مجال
لدعوى الإجماع ، فضلا عن حجيته.
وأما دعوى
الإجماع الارتكازي ، الراجعة إلى أن المرتكزات الفقهية تناسب منع الأصحاب من وجوب
الاحتياط لو التفتوا لفرض الانسداد. فهي راجعة إلى الاستدلال بالمرتكزات ، وهو غير
ظاهر بنحو معتد به. فالعمدة في المقام وجهان :
أولهما
: لزوم اختلال
النظام من الاحتياط ، لكثرة موارد الجهل ، مع كون الاحتياط في بعض المسائل ذا
وجهين نظير ما أشرنا إليه في الوجه الأول من أن مقتضى الاحتياط مع الشك في ملكية
المال الذي تتحقق به الاستطاعة للحج هو الحج من دون تصرف في ذلك المال ، ومع
ابتناء العمل في كثير من المسائل التي هي مورد الجهل على مسائل أخر هي مورد الجهل
أيضا.
مثلا مقتضى
الاحتياط في الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر عدم الاجتزاء به في رفع الحدث ،
لكن لو انحصر الماء به وبماء محتمل النجاسة فمقتضى الاحتياط للمكلف التطهر بالأول
ثم بالثاني وأداء الصلاة في الوقت ، فإذا قدر بعد ذلك على ماء مقطوع الطهارة تطهر
به من الخبث المحتمل ثم تطهر
من الحدث وقضى الصلاة ، فيلزم تعدد جهات الاحتياط في العمل الواحد.
ومن الظاهر أن
المحافظة على الاحتياط في جميع ذلك وتعيين ما ينبغي سلوكه عند تزاحم جهات الاحتياط
مستلزم لاختلال النظام واضطراب أمر المعاش والمعاد ، خصوصا في حق العامي المحتاج
لصرف الوقت في تعلم المسائل وضبطها. ولا ريب في عدم رضا الشارع الأقدس بذلك. بل هو
يستلزم ترك كثير من الواجبات وفعل كثير من المحرمات ، بنحو يرجع لتعذر الاحتياط
التام.
ثانيهما : أنه يلزم من الاحتياط العسر والحرج. وذلك لأن مقتضى
أدلة نفي العسر والحرج رفع الأحكام التي يلزم منها الحرج ، والأحكام الواقعية في
المقام وإن لم تكن بدوا حرجية إلا أنه حيث فرض اشتباهها فلا يحرز امتثالها إلا
بالاحتياط التام الراجع للموافقة القطعية ، وذلك مستلزم للحرج لما سبق في الوجه
الأول.
وحينئذ إن قيل
بأن لزوم محذور من الاحتياط التام لا يصحح للشارع الاكتفاء بالاحتياط الناقص
الراجع للموافقة الاحتمالية ، لعدم سلطان الشارع على التصرف في مقام الطاعة ، بل
هو من مختصات العقل ، وليس للشارع إلا التصرف في الحكم الشرعي التابع له حدوثا
وبقاء ، فمقتضى أدلة رفع الحرج في المقام رفع الأحكام الواقعية ، لصيرورتها حرجية
بسبب الاشتباه المقتضي لوجوب الاحتياط الحرجيين ، وحيث لا مجال للبناء على سقوط
الأحكام الواقعية وخروجها عن الفعلية في المقام ، لاستلزامه تعطيل الشريعة ـ كما
سبق ـ يتعين قصور دليل الحرج عن المورد إلا أن يعلم بأهمية محذور الحرج أيضا بنحو
يتعين سلوك طريق يجمع بين عدم تعطيل الشريعة وعدم لزوم الحرج.
وإن قيل بأن
للشارع مع لزوم محذور من الاحتياط التام التنزل للاحتياط
الناقص والاكتفاء بالموافقة الاحتمالية مع المحافظة على الأحكام الواقعية ـ
كما هو الظاهر على ما يأتي في أوائل الفصل الثالث في تردد متعلق التكليف بين
المتباينين إن شاء الله تعالى ـ فمقتضى دليل رفع الحرج في المقام سقوط الاحتياط
التام مع بقاء الأحكام الواقعية والاكتفاء بالموافقة الاحتمالية بتبعيض الاحتياط ،
ولا بد حينئذ من النظر في كيفية التبعيض.
هذا كله في
الاحتياط اللازم من العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في موارد انسداد باب العلم
والعلمي التي هي معظم المسائل. أما الاحتياط اللازم في الموارد لخصوصية فيها مثل
موارد الشك في المحصل ـ كالطهارات ـ أو موارد العلم بالتكليف في الواقعة مع تردد
المكلف ـ كالتردد بين القصر والتمام ـ فسقوطه مبني على كثرة الموارد المذكورة بنحو
يلزم من الاحتياط فيها المحذوران المتقدمان ، وهو محتاج لتأمل واستقصاء لا يسعه
المقام.
لكن لو فرض عدم
لزوم المحذورين المذكورين ووجوب الاحتياط فهو لا يخل بتمامية المقدمة ، لعدم وفائه
بمعظم المسائل. غايته أنه لو تم دليل الانسداد واقتضى حجية الظن قصر عن الموارد
المذكورة ولزم الاحتياط فيها تبعا لمقتضى القاعدة فيها بخصوصيتها.
هذا كله في
الاحتياط. وأما الاستصحاب فلا مجال للرجوع إليه لو كان نافيا للتكليف للعلم
الإجمالي بمخالفته للواقع في كثير من الموارد ، لأنه يجري في أكثر موارد الرجوع
للبراءة. أما لو كان مثبتا للتكليف فالظاهر جواز الرجوع له ، لعدم كثرة موارده
بنحو يعلم إجمالا بمخالفته في بعضها للواقع.
بل التحقيق عدم
مانعية العلم الإجمالي المذكور ـ لو فرض حصوله ـ من جريان الاستصحاب ، على ما يذكر
في محله. نعم لما لم تكن موارده كثيرة فهو لا يفي بمعظم المسائل ، ليمنع من تمامية
هذه المقدمة. غايته أنه لو تمّ دليل
الانسداد واقتضى حجية الظن قصر عن الموارد المذكورة ، وكان المرجع فيها
الاستصحاب.
وأما أصالة
التخيير فالعقل إنما يحكم بها عند تعذر الاحتياط للدوران بين محذورين ، كالوجوب
والحرمة. أما مع تعذر الاحتياط لجهة أخرى ـ كاختلال النظام في المقام ـ فلم
يتعرضوا للرجوع إليها. ويأتي في المقدمة الثالثة تمام الكلام فيها إن شاء الله
تعالى.
هذا تمام
الكلام في الأصول المعروفة التي يرجع إليها في الشبهات الحكمية ، ومن الظاهر أنه
لم يثبت جعل الشارع طريقا أو أصلا آخر يتبع في خصوص حال الانسداد ليرجع إليه ، ولا
بد مع ذلك من الرجوع للعقل في تشخيص الوظيفة حينئذ ، وعليه يبتني ما يأتي في
المقدمة الثالثة.
وأما المقدمة الثالثة : فيظهر الكلام فيها مما تقدم في الوجه الثاني
للاستدلال على حجية مطلق الظن ، حيث يظهر مما سبق أن اقتضاء قبح ترجيح المرجوح على
الراجح الرجوع للظن موقوف ..
أولا : على الاهتمام بامتثال الأحكام الواقعية.
وثانيا : على كون الظن هو الأقرب للواقع.
وثالثا : على تعذر الاحتياط ، بحيث يتعذر إحراز الامتثال بنحو
أقوى من الظن ، كما في موارد الدوران بين محذورين.
وحينئذ إن كان
المراد بدليل الانسداد إحراز حجية الظن شرعا ـ وهو المعبر عنه بكلماتهم بالكشف ـ أشكل
بعدم إحراز الأمور الثلاثة. أما الأول فلما سبق هناك من أن مجرد جعل الشارع للحكم
الواقعي الفعلي لا يستلزم اهتمامه بامتثاله. وأما ما سبق في المقدمة الثانية في
وجه امتناع الرجوع للبراءة من العلم بعدم رضا الشارع بترك امتثال الأحكام الواقعية
في معظم المسائل. فهو إنما
يقتضي اهتمامه بامتثالها في الجملة بالنحو الذي لا يلزم منه تعطيل الشريعة
، لا اهتمامه بامتثالها مهما أمكن. كما سبق هناك أيضا عدم إحراز الثاني في حق
الشارع.
وأما الثالث
فالظاهر عدم تماميته أيضا ، لأن الاحتياط التام في جميع المسائل وإن كان متعذرا ،
إلا أنه يمكن تبعيض الاحتياط بالاقتصار على ما لا يلزم معه اختلال النظام أو العسر
والحرج ، ولا ينحصر الأمر بالاقتصار على موارد الظن بالتكليف.
على أنه لو فرض
لزوم الحرج أو اختلال النظام من الاحتياط في ما زاد على مقدار الظن فذلك وحده إنما
يكفي في تعيين الظن ـ لو كان أقرب بنظر الشارع ـ إذا انسد باب العلم في مسألة
واحدة ، أما مع انسداده في مسائل كثيرة فمع تعذر الاحتياط التام فيها أجمعها ـ للزوم
المحذورين السابقين ـ كما يمكن الاكتفاء في الكل بالظن يمكن اختلاف المسائل في ذلك
، تبعا لاختلافها في الأهمية ، فيلزم الشارع بالحفاظ في المهم منها على الموافقة
القطعية ، والاكتفاء في غيره بالموافقة الاحتمالية أو الموهومة ، لارتفاع
المحذورين بذلك أيضا ، ولا ملزم بالأول ، بل هو تابع لنظر الشارع الأقدس.
وإن كان المراد
به إثبات لزوم رجوع المكلف للظن عقلا وإن لم يكن حجة شرعا ـ وهو المعبر عنه في
كلماتهم بالحكومة ـ فالأمران الأولان وإن تمّا في حق المكلف ، لأنه يرى أن ظنه
أقرب ، وقد تنجزت عليه الأحكام الواقعية بالعلم الإجمالي المفروض ، فهو يهتمّ
بمقتضى ذلك بامتثالها ، إلا أن الأمر الثالث لا يتم في حقه ، حيث يسعه الاحتياط
للواقع في موارد احتمال التكليف زيادة على موارد الظن به ، فيجب عليه ذلك بمقتضى تنجز
التكليف وعدم التنزل عن الاحتياط في غير مورد لزوم اختلال النظام والعسر والحرج ،
ولا سيما مع اختلاف التكاليف في الأهمية كما أشرنا إليه قريبا.
على أن المبنى
المذكور ضعيف في نفسه ، إذ لا وجه لوجوب العمل بالظن على المكلف مع عدم حجيته شرعا
بعد أن كان المفروض في محل الكلام أن التنزل من الموافقة القطعية ـ عند تعذرها ـ للموافقة
الاحتمالية من وظيفة الشارع الأقدس ، حيث لا بد مع ذلك من كون تحديد الموافقة
الاحتمالية وتعيين مرتبتها من وظيفته أيضا ، لامتناع الإهمال في موضوع حكمه. ومعه
يمتنع عمل المكلف بالظن مع عدم حجيته شرعا. وقد ظهر من جميع ذلك عدم نهوض هذه
المقدمة بإثبات تعين العمل بالظن شرعا أو عقلا.
نعم قد يدعى
لزوم العمل بالظن بلحاظ أن تعذر الامتثال العلمي يقتضي التنزل للامتثال الظني ،
لأنه المرتبة الثانية للطاعة.
لكنه يشكل ـ مع
عدم وضوح الكبرى المذكورة ، خصوصا مع اختلاف المسائل في الأهمية ـ بأن الامتثال
الظني لا يكون بالاقتصار على موافقة مظنون التكليف ، بل لا بد فيه مع ذلك من ضم
الموافقة في الشك في التكليف من دون ترجيح ، والاقتصار في ترك موافقة احتمال
التكليف على موارد الظن بعدم التكليف ، كما نبّه له في الجملة بعض الأعاظم قدسسره.
ومن هنا ينبغي
أن يقال : بعد فرض تنجز التكليف بسبب العلم الإجمالي فاللازم عقلا ـ بعد فرض عدم
وجوب الاحتياط التام ، للزوم العسر والحرج واختلال النظام ، وتنزل الشارع للموافقة
الاحتمالية بتبعيض الاحتياط ـ الاقتصار في ترك الاحتياط على ما يرتفع به الحرج
واختلال النظام ، بترجيح الاحتمال الأقوى للتكليف على غيره ، وترجيح التكليف الأهم
أو المحتمل الأهمية على غيره. ومع تزاحم الجهتين ـ كما لو دار الأمر بين الأقوى
احتمالا الأضعف ملاكا ، والأقوى ملاكا الأضعف احتمالا ـ يتعين التخيير.
نعم حيث يصعب
ضبط ذلك وتحديده ، لاختلاف الأشخاص في الطاقة
فيما هو مورد الابتلاء من المسائل ، فالرجوع لذلك يستلزم الهرج والمرج
واختلال النظام ، ومن أجل ذلك يعلم بتعيين الشارع في فرض الانسداد طريقا منضبطا في
الجملة يسهل الرجوع إليه والعمل عليه ، وذلك موجب للاقتصار على المتيقن من الطرق
المحتملة الجعل ، وهو الطرق العرفية ، كخبر الثقة والظواهر ونحوها ، لأنها الطرق
التي يلتفت المكلف لطريقيتها بنفسه. فهذه الطرق لو لم يتيسر إثبات حجيتها ابتداء
أو إمضاء لسيرة العقلاء فلا إشكال في حجيتها في فرض الانسداد بعد الالتفات لما
سبق.
ولو فرض عدم وجود
الطرق المذكورة في مورد الانسداد تعين الرجوع للظن ، لا لقبح ترجيح المرجوح على
الراجح ، بل لأنه الطريق الميسور للمكلف الذي يلتفت إليه بنفسه بعد عدم تيسر غيره
وعدم التفاته له ، إذ يقطع مع ذلك برضا الشارع بسلوكه في ظرف تمامية المقدمتين
الأوليين. ولو فرض عدم الظن تعين التخيير بين الأطراف.
ولا يختص ما
ذكرنا بانسداد باب العلم في معظم الأحكام الذي هو محل الكلام ، بل يجري مع تمامية
المقدمتين الأوليين ولو في مسألة واحدة.
هذا وقد أطال
شيخنا الأعظم قدسسره وجملة ممن تأخر عنه في تنبيهات هذا الدليل ولواحقه. ولا
ينبغي لنا صرف الوقت في ذلك بعد ما ظهر من عدم تمامية أصل الدليل المذكور.
وبذلك ينتهي
الكلام في مباحث الحجج.
والحمد لله رب العالمين.
المقصد الثاني
في الأصول
وهي الوظائف
المقررة ـ عقلا أو شرعا ـ للجاهل بالحكم من دون حجة عنده عليه. ولا بد في الرجوع
إليها من عدم قيام الدليل على وجوب الفحص عن الواقع أو الحجة ، وإلا لزم الفحص
أولا ، ثم الرجوع إليها بعد اليأس عن الظفر بها ـ كما تقدم في التمهيد لمباحث
القسم الثاني من الأصول ـ لأن دليل وجوب الفحص يكون واردا على الأصل العقلي ومخصصا
لدليل الأصل الشرعي لو كان له عموم في نفسه ، كما لعله ظاهر.
وينبغي التمهيد لمحل الكلام بذكر أمور
..
الأمر الأول : تقدم عند الكلام في وجه الجمع بين الحكم الواقعي
والظاهري التعرض لحقيقة الأصول الشرعية وأما الأصول العقلية فهي متقومة بحكم العقل
بالتنجيز والتعذير. ومرجع الأول إلى حكمه باستحقاق العقاب بمخالفة التكليف الواقعي
المجهول ، المستلزم لاحتمال الضرر ، المقتضي بالفطرة للحذر. ومرجع الثاني إلى حكمه
بقبح العقاب عليه ، المستلزم للأمن من الضرر بضميمة العلم بعدم خروج الشارع ـ وكل
حكيم ـ عن مقتضى الحكم المذكور ، ومعه لا موضوع للحذر.
الأمر الثاني : لا ريب في تقديم الحجج على الأصول عقلية كانت أو
شرعية ، وإنما الإشكال في وجه التقديم وحيث كان البحث في ذلك يبتني على النظر في
مفاد كل من الحجج والأصول وفي أدلة اعتبارها كان المناسب الكلام
في ذلك بعد الفراغ عن البحث في الأصول. ومن هنا كان الأنسب إرجاء ذلك لمبحث
التعارض.
الأمر الثالث : أشار غير واحد إلى مسألة أن الأصل في الأشياء الحظر
أو الإباحة. ولا يخلو المراد بها عن إجمال. ويستفاد منهم حملها على أحد وجوه ..
الأول : أنه مع قطع النظر عن جعل الحكم الشرعي فهل يحكم العقل
بإباحة الأفعال أو بالمنع عنها. بمعنى أن الفعل هل يكون منشأ لاستحقاق العقاب عقلا
ما لم يرخص فيه الشارع ، أو لا يكون كذلك ما لم يمنع عنه الشارع.
الثاني : أنه في فرض ورود الحكم الشرعي في الواقعة وتردده بين
الحظر والإباحة فهل مقتضى الأصل كونه حظرا أو إباحة؟ فهو راجع إلى تعيين حال الحكم
الشرعي المجهول وتشخيصه. وقد يظهر هذا مما عن المحقق القمي قدسسره.
الثالث : أنه في فرض ورود الحكم الشرعي في الواقعة وعدم تشخيصه
فهل يحكم العقل بجواز الإقدام ما لم يثبت المنع من الشارع ، أو بالمنع منه ما لم
يثبت الترخيص من الشارع؟. وهو ظاهر الفصول.
وعلى الأخير
فمرجع النزاع للنزاع في البراءة والاحتياط العقليين الذي عقد له الفصل الأول
الآتي.
أما على الأول
فهو أجنبي عن ذلك ، لأن موضوعه فرض عدم الحكم الشرعي ، وموضوع النزاع في البراءة
والاحتياط العقليين فرض الجهل بحال الحكم الشرعي مع فرض وروده.
إلا أنه لا
يبعد ملازمة القول بالحظر في المسألة المذكورة للقول بالاحتياط العقلي ، للتناسب
بينهما جدا ، وإلا فمن البعيد جدا الالتزام بالمنع من الإقدام مع فرض عدم الحكم
الشرعي مع البناء على جوازه ظاهرا مع ورود
الحكم الشرعي والجهل به. نعم البناء على الحظر في هذه المسألة لا يستلزم
البناء على الاحتياط الشرعي ، بل يمكن معه البناء على البراءة الشرعية امتنانا من
الشارع على المكلف. كما أن القول بالإباحة في المسألة المذكورة يجتمع مع كل من
البراءة والاحتياط العقليين والشرعيين في ظرف الجهل بالحكم الشرعي مع فرض وروده ،
ولا يستلزم القول بالبراءة العقلية ، فضلا عن الشرعية ، لإمكان كون ورود الحكم
الشرعي سببا للزوم التحفظ عليه والاحتياط فيه عقلا أو شرعا.
وهكذا الحال في
الوجه الثاني ، لظهور كمال التباين بين تشخيص الحكم الشرعي المجهول الذي هو مفاد
القاعدة ، وتعيين الوظيفة العقلية عند الجهل من دون تشخيص له ، الذي هو مرجع
النزاع في البراءة والاحتياط.
هذا والقاعدة
على الوجهين الأولين وإن كانت أجنبية عما نحن فيه ، إلا أنها قد تنفع في مقام
العمل. ومن ثم كان المناسب الإشارة لما هو الحق فيها عليهما تمهيدا لمحل الكلام.
ولا ينبغي
التأمل في أن الحق على الوجه الأول الإباحة ، وأن استحقاق العقاب مشروط بالمنع
الشرعي. ومجرد ملكه تعالى للمكلف ولأفعاله لا يقتضي عقلا إلا سلطانه على منعه
ونفوذ تشريعه في حقه ، لا امتناعه عما لم يرخصه فيه. ولذا كان المرتكز عرفا احتياج
المنع إلى الجعل بالبيان.
ولا مجال
لقياسه بالملكية الاعتبارية التي تقتضي ارتكازا حرمة التصرف في المملوك ما لم يرخص
فيه المالك ، بل ما لم يثبت الترخيص منه. لاختلاف سنخ الملكيتين ، لأن ملكيته
تعالى حقيقية ، وهي لا تقتضي إلا ما ذكرنا. وأما الملكية الاعتبارية فهي ارتكازا
إنما تشرع من أجل اختصاص المالك بملكه وإناطة السلطنة عليه به نوعا واقتضاء ، وإن
كان عموم المنع الفعلي وخصوصه
مستفادا من أدلة شرعية تعبدية. على أن الوجه المذكور مبتن على فرض خلوّ
الواقعة عن الحكم الشرعي ، وهو فرض لا واقع له.
وأما على الوجه
الثاني فالظاهر التوقف ، ولا طريق لتشخيص الحكم المجهول وتعيينه. ومجرد ملكيته
تعالى للعبد وأفعاله لا يقتضي نوعا كون الحكم الصادر منه هو الحظر ، بل هو تابع
للواقع المفروض كونه مجهولا. كما لا مجال لتقريب الإباحة بأن الفعل منفعة خالية عن
أمارات المفسدة. لأن عدم ظهور المفسدة فيه لا ينافي ثبوتها واقعا وثبوت الحظر
بسببها.
الأمر الرابع : الأصول العملية التي اهتم المتأخرون هنا بالكلام فيها
وتنقيح مجاريها أربعة ، وهي البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب. وهي تشترك في
الجريان في الشبهات الحكمية ، الذي هو المعيار في كون المسألة أصولية. كما أن
الثلاثة الأول تختص بالأحكام التكليفية ، والرابع يجري فيها وفي الأحكام الوضعية
والموضوعات الخارجية.
ولم يتعرضوا
لأصالة الطهارة ، وإن كانت تجري في الشبهات الحكمية أيضا ، إما لما قيل من أنها من
الأصول المسلمة ، فلا تحتاج للبحث والاستدلال. أو لانصراف اهتمامهم للشك في
الأحكام التكليفية ، لأهميتها وكثرة الابتلاء بها ، وليست هي كالأحكام الوضعية يقل
الابتلاء بها نسبيا ، أو لتخيل كون الطهارة والنجاسة وسائر الأحكام الوضعية منتزعة
من الأحكام التكليفية ، فهي راجعة إليها ، والشك فيها شك فيها ، فيرجع فيه للأصول
الأربعة المتقدمة ـ ولعله إليه يرجع ما عن شيخنا الأعظم قدسسره من رجوع أصالة الطهارة لأصالة البراءة ـ أو لتخيل كون
الطهارة والنجاسة من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشارع ، لا من الأحكام
الشرعية ، فالشبهة فيها موضوعية لا غير ، وإن كان موضوع الشك أمرا كليا ، كالفأرة
والمذي.
ولعل الأقرب في
وجه إهمالهم لها الثاني ، وإن كان هو كبقية الوجوه لا يخلو عن إشكال ولا يسعنا
إطالة الكلام فيه في ذلك ، لعدم أهميته بعد كونه أشبه بالاصطلاح الذي لا مشاحة
فيه.
هذا وأما قاعدة
: ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده ، فهي وإن كان تنفع في كثير من الشبهات
الحكمية ، وتقع في طريق الاستنباط ، إلا أنها إما أن تكون قاعدة اجتهادية واقعية ،
أو ظاهرية راجعة إلى استصحاب عدم الضمان ، وليست أصلا برأسه. وكذا أصالة اللزوم في
العقود.
الأمر الخامس : بعد أن انحصرت الأصول التي اهتم المتأخرون بالنظر
فيها هنا بالأصول الأربعة المتقدمة فقد حاول غير واحد تحديد موضوعاتها مقدمة للبحث
فيها ، وهو تكلف لا موجب له ، لأن تحديد موضوعاتها يبتني على الكلام فيها وفي
أدلتها ، وهو يختلف باختلاف الأنظار. فالأنسب الإعراض عن ذلك ، وإيكاله إلى ما
يتحصل عند النظر فيها وفي أدلتها إن شاء الله تعالى.
والأولى صرف
النظر لمنهج البحث وتبويبه إجمالا فنقول : بعد فرض عدم قيام الحجة في الواقعة .. فتارة : لا تؤخذ الحالة السابقة في الوظيفة العملية ، بل لا
يلحظ فيها إلا الشك.
وأخرى : تؤخذ الحالة السابقة زيادة على الشك المفروض. فالقسم
الأول هو مجرى البراءة أو الاحتياط أو التخيير ، والثاني هو مجرى الاستصحاب.
ثم الشك في
القسم الأول .. تارة : يكون في أصل ثبوت التكليف الإلزامي أعني الوجوب أو
الحرمة.
وأخرى : يكون في تعيينه مع وحدة المتعلق ، وهو الدوران بين
وجوب الشيء وحرمته وثالثة
: في تعيينه مع
اختلاف المتعلق ، سواء اتحد سنخه ، كما في الدوران بين القصر والتمام ، أم اختلف ،
كما في الدوران بين وجوب شيء
وحرمة آخر.
وهناك صورة وقع
الكلام في رجوعها للصورة الأولى أو الثالثة ، وهي الدوران بين الأقل والأكثر
الارتباطيين ، فالمناسب إفرادها بالكلام ، فتكون صور هذا القسم أربعا.
هذا ولا يفرق
في جميع ذلك بين كون التكليف وجوبا وكونه تحريما. كما لا يفرق في منشأ الشك بين
عدم النص وإجماله وتعارض النصين ، لعدم الأثر لذلك في المهم من محل الكلام. ومجرد
شيوع الخلاف في الشبهة التحريمية وتميز إجمال النص ببعض جهات الكلام لا يقتضي
تكثير الأقسام. كما أن احتمال التخيير مع تعارض النصين ، ليس للخلاف في حكم الشك ،
بل لاحتمال حجية أحد النصين الذي يخرج معه المورد عن موضوع الكلام ، وهو أمر يخص
باب التعارض. والكلام هنا في فرض التساقط وعدم حجية أحد النصين. نعم قد تختلف هذه
الصور في بعض الجهات الأخر الخارجة عما هو المهم في المقام فقد يحسن التعرض لها
استطرادا.
وأما إذا كان
منشأ الشك الاشتباه في الموضوع فمن الظاهر خروجه عن محل الكلام ، لأن همّ الأصولي
تشخيص الوظيفة في الشبهة الحكمية التي يكون مورد الشك فيها الحكم الشرعي الكلي.
نعم ملاك البحث غالبا يعم ذلك فيستفاد حكمه تبعا ، وإن كان قد ينفرد ببعض
الخصوصيات. فالمناسب التعرض لها استطرادا ، تتميما للفائدة ، من دون حاجة لتكثير
الأقسام. ومن ثم يكون البحث في فصول أربعة للصور الأربع.
ثم إن الكلام
في هذا القسم ـ بفصوله الأربعة ـ يختص بالشك في الحكم الإلزامي ، الذي هو المراد
بالتكليف ، دون بقية الأحكام التكليفية ، فضلا عن الوضعية. وإن كان ربما يلحقها
الكلام في بعض الجهات تبعا أو استطرادا ، على ما قد يتضح في محله إن شاء الله
تعالى.
القسم الأول
في البراءة والاحتياط والتخيير
وفصوله أربعة ،
كما سبق.
الفصل الأول
في الشك في التكليف
المشهور الرجوع
مع الشك في التكليف للبراءة مطلقا ، ونسب للأصوليين قاطبة. وعن معظم الأخباريين أو
جميعهم وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية الحكمية ، بل عن الاسترابادي منهم وجوب
الاحتياط في الشبهة الوجوبية الحكمية أيضا ، وفي محكي كلام صاحب الحدائق موافقته
فيها مع إجمال النص. لكن في محكي كلام آخر له إطلاق الإجماع على عدم وجوب الاحتياط
في الشبهة الوجوبية ، ونفى الخلاف فيه في الوسائل. وأما الشبهة الموضوعية فالظاهر
عدم الخلاف في الرجوع للبراءة فيها مطلقا تحريمية كانت أو وجوبية.
وكيف كان فالحق
الرجوع للبراءة مطلقا. وينبغي الكلام هنا ... تارة : في مقتضى الأصل الأولي العقلي مع عدم البيان الشرعي حتى بالإضافة للوظيفة
العملية مع الجهل بالتكليف الواقعي.
وأخرى : في مقتضى الأصل الثانوي المستفاد من الأدلة الشرعية
الواردة لبيان حكم الجهل بالتكليف الشرعي الواقعي. ولا ينبغي الخلط بينهما مع
اختلاف مفاد الأدلة المستدل بها في المقام ونحو النسبة بينهما.
فالكلام في مقامين :
المقام الأول : في مقتضى الأصل الأولي العقلي
ولا ينبغي
الريب في حكم العقل بالبراءة في المقام ، الراجع لحكمه بقبح العقاب بلا بيان ، وهو
المراد بالبراءة العقلية ، فإن الحكم بقبح العقاب يقتضي السعة في موارد احتمال
التكليف المبني على الإلزام والاحتجاج والمؤاخذة. ولا ينافي ذلك لزوم الاحتياط عند
تعلق الغرض بإصابة الواقع ، كما في الأضرار الواقعية التي يهتم بتجنبها.
هذا ولا يبعد
كون الحكم المذكور مسلما عند الكل. إلا أن يكون مراد القائلين بأصالة الحظر الأصل
الظاهري مع الجهل بالحكم الشرعي ، الذي هو مرجع الوجه الثالث المتقدم في معنى
القاعدة ، حيث يرجع ذلك منهم لإنكار الحكم العقلي بقبح العقاب بلا بيان. لكنه في
غير محله قطعا ، لأن الحكم المذكور قطعي ارتكازي.
وأما الاستدلال
للحظر بأن ملكه تعالى للعبد وأفعاله يقتضي عدم تصرف العبد بوجه مع الشك في إذنه
تعالى فيه ، إذ لا يجوز التصرف في ملك الغير مع احتمال عدم إذنه.
فهو مندفع بأن
ذلك إنما يتم في الملكية الاعتبارية ، عملا بأدلة شرعية تعبدية ، وملكيته تعالى
للعبد ولأفعاله حقيقية ، وهي لا تقتضي عقلا إلا سلطانه على العبد بتكليفه له ، في
مقام الثبوت ، وعدم لزوم طاعته في مقام الإثبات إلا ببيان مصحح للاحتجاج والإلزام
، وبدونه يقبح العقاب وإن كان التكليف ثابتا واقعا ، كما ذكرنا. وقياس إحدى
الملكيتين بالأخرى في غير محله ، كما تقدم عند الكلام في أن الأصل الإباحة أو
الحظر.
ومثله ما عن
الشيخ قدسسره من الاستدلال على أن الأصل في الأشياء الحظر أو الوقف
بأن العقل يستقل بقبح الإقدام على ما لا يؤمن مفسدته ، وأنه كالإقدام على ما علم
مفسدته.
لاندفاعه بمنع
قبح الإقدام عقلا على ما لا يؤمن مفسدته ما لم يستلزم احتمال الضرر المساوق للعقاب
، وهو غير لازم في المقام بعد وجود المؤمن ، وهو قاعدة قبح العقاب بلا بيان. وقد
تقدم في الوجه الثاني من وجوه الاستدلال على حجية الظن المطلق ما ينفع في المقام.
فراجع.
وكيف كان
فالظاهر أن الحكم المذكور مسلم عند الأخباريين ، وأن نزاعهم في المقام يبتني على
دعوى وجود المخرج عنه ، وهو البيان الشرعي الوارد عليه.
ومن ثم استدل
شيخنا الأعظم قدسسره عليه بالإجماع من المجتهدين والأخباريين. وإن كان
الاستدلال على الحكم العقلي بالإجماع ونحوه من الأدلة التعبدية الشرعية في غير
محله. إلا أن يكون لمجرد الاستظهار وسوق الأدلة الشرعية مساق الإرشاد للحكم العقلي
المذكور. أو يكون المراد أنه لو فرض التشكيك في الحكم العقلي المذكور أمكن
الاستدلال بالأدلة الشرعية على الأصل المذكور على أنه أصل شرعي أولي ، فلا يكون
مرجع الإجماع إلى قبح العقاب ، بل إلى مجرد تأمين الشارع منه.
لكن الاستدلال بالإجماع
حينئذ لا يخلو عن إشكال ، لقرب استناد المجمعين لحكم العقل المذكور أو لغيره مما
يأتي الكلام فيه ، فلا يكون إجماعا تعبديا كاشفا عن حال الشارع. وأما ما يأتي من
سيرتهم على الرجوع للبراءة في مقام الاستدلال ، فلعله مبتن على الأصل الثانوي لمثل
حديث الرفع ، لا على الأصل الأولي الذي هو محل الكلام.
هذا وقد يستدل
على الأصل المذكور ـ بعد حكم العقل والإجماع المتقدمين ـ بالكتاب والسنة.
أما الكتاب فبآيات ..
الأولى
: قوله تعالى :
(وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) ،
بناء على أن
بعث الرسول كناية عن وصول البيان ، لا مجرد بعثه وإن لم يصل البيان ، فإن ذلك هو
المناسب لظهور كون القضية ارتكازية ـ كما هو المناسب لسياقها الآتي ـ لما هو
المرتكز عرفا من توقف العقاب على البيان.
وقد أورد شيخنا
الأعظم قدسسره على الاستدلال بها بأن ظاهرها الإخبار بعدم وقوع العذاب
سابقا إلا بعد بعث الأنبياء ، فيختص بالعذاب الدنيوي الواقع على الأمم السابقة.
وكأنه لما اشتهر من دلالة «كان» على النسبة في الزمان الماضي.
لكن ذلك إنما
يتعين إذا سلطت «كان» على النفي كما في قوله تعالى : (كانُوا لا
يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) ، وقوله سبحانه : (إِنَّهُمْ كانُوا لا
يَرْجُونَ حِساباً).
أما إذا سلط
النفي على «كان» فكثيرا ما تنسلخ عن الزمان الماضي ، ويدل التركيب على نفي النسبة
مطلقا ، بل على أنه ليس من شأنها الوقوع ، كما هو المفهوم من الآية المتقدمة
ونظائرها ، كقوله تعالى : (وَما كُنْتُ
مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) ، وقوله سبحانه : (وَما كانَ اللهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ) ، وقوله عزوجل : (وَما كانَ عَطاءُ
رَبِّكَ
__________________
مَحْظُوراً) ، وقوله عزّ اسمه : (وَما كانَ رَبُّكَ
نَسِيًّا) ، وغير ذلك.
هذا مع أن ظاهر
العذاب هو العذاب الأخروي أو ما يعمه ، ولا سيما بملاحظة سوق الآية في سياق الآيات
المناسبة للعذاب الأخروي ولقضايا ارتكازية عامة. قال تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ
فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً*
اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً* مَنِ اهْتَدى
فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا
تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً).
على أنه لو تم
ما ذكره فمن الظاهر عدم سوق الآية لمحض الإخبار ، بل لبيان جريه تعالى في العذاب
على طبق الموازين العقلائية اللازمة أو الراجحة المراعاة من كونه مسبوقا بإقامة
الحجة ، فيدل على ثبوت ذلك في العذاب الأخروي بفهم عدم الخصوصية أو بالأولوية
العرفية. ومن ثم كانت دلالة الآية وافية جدا.
نعم هي إنما
تدل على عدم تحقق العقاب ، لا على عدم استحقاقه ، لإمكان أن يكون عدم العقاب تفضلا
منه تعالى وزيادة في الاستظهار في إلقاء الحجة على المكلفين. ومجرد ظهور الآية في
أنه ليس من شأنه تعالى إيقاع العذاب قبل إرسال الرسل ، لا ينافي ذلك ، لأنه سبحانه
الأولى بمزيد التفضل والاستظهار. لكن ذلك كاف في المطلوب ، لتحقق الأمن من العقاب
معه ، وبه يرتفع منشأ الاحتياط ، وهو احتمال الضرر.
__________________
بقي شيء
وهو أن مقتضى
إطلاق الآية توقف العذاب على إرسال الرسول في الجملة ، ولو ببيان وجوب الاحتياط ،
دون بيان خصوص التكليف المعاقب عليه. ومن ثم كانت دالة على أن البراءة مقتضى الأصل
الأولي ، فلا تنافي قيام الأدلة الشرعية على وجوب الاحتياط حيث تكون رافعة لموضوع
الأصل المذكور.
الثانية : قوله تعالى : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ
وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) ، دلت على أنه لو لا بعث الرسل لكانت الحجة للناس على
الله تعالى ، وهو شاهد بأن الأصل الأولي البراءة ، ولو كان هو الاحتياط لكانت
الحجة له تعالى ، ولكان العبد يستحق العقاب ، حتى مع عدم بعث الرسل.
لكن قد يشكل
ذلك بأن ثبوت الحجة للناس مع عدم بعث الرسل أعم من جريان البراءة ، لأن وجوب
الاحتياط على الناس مع الشك في التكليف لا ينافي وجوب اللطف عليه تعالى ببعث الرسل
من أجل بيان شرايع الدين وتنبيه الغافلين ، فإن عليه تعالى أن يرفع العلة من قبله
، وإن لزم على الناس مع الشك الاحتياط للتكليف ـ بمقتضى الأصل الأولي أو الثانوي ـ
لو منعت الأسباب الخارجية من معرفتهم ، ومن وصول بيانه تعالى لهم.
نعم لو ثبتت
الحجة للناس مع عدم بعث الرسل في خصوص أمر العقاب ، بحيث يقبح بدون بعثهم رجع ذلك
إلى المعذرية المساوقة للبراءة. لكن الآية لا تدل على ذلك بخصوصه ، وثبوت الحجة
عليه تعالى أعم ، إذ قد يكون لمجرد وجوب اللطف عليه ، كما ذكرنا.
__________________
اللهم إلا أن
يستفاد ذلك من إضافة الحجة للناس ، لظهورها في كون جهة الاحتجاج تخص الناس ، وذلك
إنما يكون بلحاظ عقابه تعالى لهم ، وأما وجوب اللطف المذكور عليه تعالى ـ لو تم ـ فهو
أمر يخصه ولا يتعلق بالناس ، لتكون لهم الحجة بلحاظه. ومن ثم لا يبعد وفاء الآية
بالمطلوب.
نعم يجري فيها
ما سبق في الآية الأولى من أنها تدل على الأصل الأولي ، إذ يكفي في ارتفاع حجة
الناس إرسال الرسول بوجوب الاحتياط.
الثالثة
: قوله تعالى : (لِيَهْلِكَ مَنْ
هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)،
بدعوى :
دلالتها على أن هلاك الهالكين لا يكون إلا عن بينة ، وبدونها لا هلاك. نعم إنما
تدل على الأصل الأولي إذ يكفي في البينة بيان وجوب الاحتياط.
لكنه يشكل بأن
ظاهر الآية ـ بقرينة سياقها ـ أن الغرض من جمع المسلمين والمشركين في صعيد واحد
مقدمة لحرب بدر تحقق البينة للهالكين والناجين. وذلك بنفسه لا يدل على توقف الهلاك
على البينة ، كما لا تتوقف النجاة عليها ، بل قد يكون لمزيد الاستظهار بإقامة
الحجة ، ولا سيما مع معلومية أن المراد بالبينة هنا زيادة البيان وتأكيد الحجة ،
الذي لا يتوقف عليه الهلاك قطعا ، لما هو المعلوم من سبق الحجة على صدق النبي صلىاللهعليهوآله قبل الواقعة المذكورة. فالآية أجنبية عما نحن فيه.
وربما يستدل ب آيات أخرى لا مجال لإطالة الكلام فيها.
وأما السنة فبعدة أحاديث.
الأول : الموثق أو الصحيح عن حمزة بن الطيار عن أبي عبد الله عليهالسلام : «قال لي : اكتب ، فأملى عليّ : إن من قولنا : إن الله
يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم ،
__________________
ثم أرسل إليهم رسولا ، وأنزل عليهم الكتاب فأمر فيه ونهى ... وما أمروا إلا
بدون سعتهم ، وكل شيء أمر الناس به فهم يسعون له ، وكل شيء لا يسعون له فهو موضوع
عنهم ...» . فإن المنسبق منه إرادة الحصر وأنه تعالى لا يحتج عليهم
بما لم يعرّفهم. نعم هو يدل على الأصل الأولي ، لأن دليل الاحتياط ـ لو تم ـ يصلح
لأن يحتج به تعالى على العباد ، لأنه مما عرّفهم ، ولا دلالة في الحديث على عدم
الاحتجاج إلا مع الإعلام بالحكم الواقعي ، ليناسب الأصل الثانوي. ونحوه في ذلك
الصحيح عن ابن الطيار عنه عليهالسلام : «قال : إن الله احتج على الناس بما آتاهم وعرفهم» .
الثاني : صحيح عبد الأعلى بن أعين : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام من لم يعرف شيئا هل عليه شيء؟ قال : لا» ، فإنه صريح في عدم مؤاخذة من لم يعرف سواء أريد بالمفعول
به فردا مرددا أم فردا معينا مفروضا في الخارج. وكذا لو كان المراد به العموم لأنه
نكرة في سياق النفي.
وما ذكره شيخنا
الأعظم قدسسره من أنه على الأخير يكون ظاهره السؤال عن القاصر الذي لا
يدرك شيئا. مدفوع بأن ظاهر الحديث السؤال عن من لم تتحقق له المعرفة لا عن من لا
قابلية له للمعرفة. نعم من لا يعرف شيئا أصلا قاصر غالبا. إلا أن ظاهر الحديث كون
موضوع السؤال عدم معرفته لا قصوره. كما أن الحديث ظاهر في بيان الأصل الأولي ،
لعدم صدق موضوعه على العارف بوجوب الاحتياط.
الثالث : حديث حفص بن غياث : «قال أبو عبد الله عليهالسلام : من عمل بما علم
__________________
كفي ما لم يعلم» . وهو صريح في عدم المؤاخذة مع عدم العلم. نعم يكفي
العلم بوجوب الاحتياط في لزوم العمل الذي تضمنه الحديث. فيطابق الأصل الأولي
المذكور.
الرابع : صحيح عبد الصمد بن بشير : «عن أبي عبد الله عليهالسلام في حديث من أحرم بقميصه قال عليهالسلام : «أي رجل ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه» . وهو ظاهر في الجهالة في جميع الجهات التي هي موضوع
الأصل الأولي.
لكن استشكل
شيخنا الأعظم قدسسره في الاستدلال به بأنه ظاهر في اعتقاد الصواب أو الغفلة
عن الواقع ، ولا يعم صورة الشك والتردد التي هي محل الكلام. وكأن وجهه ـ مضافا إلى
مناسبته لمورده ـ ظهور الباء في قوله عليهالسلام :
«بجهالة» في
السببية ، لا محض المصاحبة ، ولا يكون الجهل سببا للعمل إلا مع الغفلة أو اعتقاد
الصواب بنحو الجهل المركب. أما مع الشك والتردد فالجهل بنفسه لا يقتضي الإقدام ،
بل التوقف ، والإقدام معه يستند لأمر آخر من أصل أو غيره.
وهناك بعض
النصوص الأخر ذكرها شيخنا الأعظم قدسسره لا مجال لإطالة الكلام فيها بعد عدم العثور على سندها.
نعم لا يبعد العثور بالتتبع على نصوص أخر تنفع في المقام. والأمر سهل بعد وضوح
الأصل المذكور.
المقام الثاني : في الأصل الثانوي.
وهو تابع
للأدلة الشرعية. ولو تم وجوب الاحتياط شرعا كان واردا على حكم العقل ـ في المقام
الأول ـ بقبح العقاب بلا بيان رافعا لموضوعه ، لاختصاص الحكم المذكور بما إذا لم
يهتم الشارع الأقدس بحفظ التكاليف
__________________
الواقعية ولم يلزم بالتحفظ عليها. كما أن الأدلة الشرعية المتقدمة مختصة
بذلك ، على ما سبق عند التعرض لها.
بل يظهر من
شيخنا الأعظم قدسسره أن العقاب مع قيام الدليل على وجوب الاحتياط يكون عقابا
على ما يعلم وورد به البيان ، لأن الدليل المذكور يوجب كون الشيء معلوم الوجوب
بعنوان كونه مجهول الحكم ، وإن لم يكن معلوم الوجوب بعنوانه الأولي. لكنه يشكل بأن
وجوب الاحتياط وإن كان معلوما حينئذ إلا أنه وجوب طريقي لا يكون موضوعا للعقاب
والثواب ، بل موضوعهما التكليف الواقعي المجهول المنجز بسبب وجوب الاحتياط.
وأما ما ذكره
بعض الأعاظم قدسسره من أن وجوب الاحتياط تكليف نفسي. فهو تكلّف مخالف لظاهر
الأدلة الآتية المسوقة له جدا.
ومثله ما يظهر
من بعض الأعيان المحققين قدسسره من أن دليل وجوب الاحتياط يكون بيانا للتكليف المجهول
في فرض وجوده. إذ فيه : أن دليل وجوب الاحتياط لا يصلح لبيان الواقع ، بل هو متمحض
في بيان الوظيفة في ظرف الجهل به.
وكيف كان
فالأصل الثانوي الشرعي في المقام هو البراءة.
وقد استدل عليه
بالأدلة الشرعية الثلاثة.
الأول
: الكتاب. ويستدل منه بآيتين :
الأولى
: قوله تعالى :
(لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلَّا ما آتاها)بناء على أن
المراد بالإيتاء في التكاليف الإعلام بها وإيصالها للمكلف ، فتدل على عدم التكليف
بما لم يصل المكلّف ، وحيث لا يراد به عدم فعليته واقعا ، لاستلزامه
__________________
التصويب ، فالمتعين حمله على رفعه ظاهرا وعدم تنجزه ، على ما تقدم عند
الكلام في حقيقة الأصول غير التعبدية من مبحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري.
وحينئذ تكون الآية معارضة لأدلة وجوب الاحتياط المقتضية لتنجز الواقع في ظرف الجهل
به ، كما تقدم.
ودعوى : ظهور
الآية في توقف المؤاخذة على قيام الحجة في الجملة وإن كانت على وجوب الاحتياط ،
ولا دلالة لها على لزوم بيان التكليف المؤاخذ به ، كما ذكره بعض الأعاظم قدسسره. ممنوعة جدا ، لتعلق الإيتاء فيها بنفس التكليف الملزم
به ، الظاهر في إرادة إيصاله بنفسه.
ومثله ما ذكره
بعض الأعيان المحققين قدسسره من ظهورها في عدم صلوح التكليف الواقعي غير الواصل
بنفسه للإلزام والمؤاخذة ، لا مطلقا ، فلا تنافي ترتب الإلزام والمؤاخذة عليه
بضميمة وجوب الاحتياط. لاندفاعه بظهورها في اعتبار وصول التكليف بنفسه في ترتب
الإلزام والمؤاخذة عليه ، فلا يكفي وجوب الاحتياط في ذلك بعد أن لم يكن مقتضيا
لوصول التكليف. ومن ثم كان الظاهر تمامية دلالة الآية في المقام لو تم كون المراد
بالإيتاء هو الإعلام في المقام.
لكن الظاهر عدم
تمامية ذلك ، لأن حقيقة الإيتاء الإعطاء ، فلا بد إما من حمله على ذلك مع حمل
الموصول على المال ، ويرجع التكليف به للتكليف بإنفاقه ، أو حمله على الإقدار
مجازا مع حمل الموصول على الفعل ، ويكون التكليف به حقيقيا. وكلاهما مناسب لورود
القضية مورد التعليل لما قبلها وللسياق. قال تعالى : (لِيُنْفِقْ ذُو
سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ
اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ
يُسْراً).
وإن كان الأول
أقرب ، لأنه المعنى الحقيقي ، ولما يستلزمه الثاني من
اختلاف معنى الإيتاء ومتعلقه في الموردين. ومجرد كون الثاني أشمل لا يقتضي
ظهور القضية فيه ـ بعد ما ذكرنا ـ مع كون الأول ارتكازيا مثله. غاية الأمر أن منشأ
توقف التكليف بالمال على إعطائه وإيتائه هو امتناع التكليف بغير المقدور ، فعدم
التكليف بغير المقدور منشأ للتعليل الذي تضمنته الآية الشريفة ، لا أنه مؤدى بها
بنفسها. وكيف كان فالآية أجنبية عما نحن فيه من عدم تنجز التكليف بما لا يعلم.
وأما ما ذكره
بعض الأعاظم قدسسره من أن إيتاء كل شيء بحسبه ، فإيتاء المال بإعطائه ،
وإيتاء العمل فعلا أو تركا بالإقدار عليه ، وإيتاء التكليف بإيصاله والإعلام به.
فيندفع بأن
الإيتاء لغة وعرفا الإعطاء ، وتعذره بالإضافة إلى غير المال من الأمور المذكورة
إنما يقتضي حمله على غير معناه لو ثبت إرادتها ، ولا ملزم بها في المقام ، بل
مقتضى أصالة الحقيقة عدمها. ولا سيما مع قضاء قرينة السياق بإرادة المال ، حيث يلزم
من إرادتها معه حينئذ الاستعمال في المعنى الحقيقي والمجازي معا ، والتحقيق
امتناعه. وخصوصا مع أن عدم تعلق التكليف بالتكليف المجهول يراد به عدم الكلفة به
ظاهرا بلحاظ المؤاخذة ، وعدم تعلقه بالمال يراد به عدم التكليف به واقعا حقيقة.
هذا وقد يدعى
إمكان الاستدلال بالآية بضميمة معتبر عبد الأعلى : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : أصلحك الله هل جعل في الناس أداة ينالون بها المعرفة؟
قال : لا. قلت : فهل كلفوا المعرفة؟ قال : لا ، على الله البيان (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا
وُسْعَها) و (لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلَّا ما آتاها)» .
لكنه يندفع بأن
المعرفة ـ التي سأل عن التكليف بها ـ بنفسها غير مقدورة
__________________
للإنسان إلا بنصب الحجة ، فلا يحتاج الاستشهاد في الحديث بالآية الشريفة
إلى إرادة الإعلام في الإيتاء فيها ، بل هو بمعنى الإقدار أو الإعطاء.
الثانية : قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ
لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ)
بتقريب ظهورها
في عدم تحقق الخذلان إلا بعد البيان ، وحيث كان الخذلان من سنخ الجزاء والمؤاخذة
في الدنيا فيتعدى منه للعقاب الأخروي بمناسبة ظهور كون القضية ارتكازية ، فلا تختص
بموردها ، كما يناسبه ظهور التركيب المذكور في أن النسبة لا ينبغي أن تقع ، على
نحو ما ذكرناه في الآية الأولى. هذا ولو أريد من الإضلال الحكم بالضلال ، أو
الإضلال عن الثواب والجنة ـ كما فسره به في مجمع البيان ـ فالأمر أظهر.
ثم إن ظاهر
الآية الشريفة لزوم بيان الأحكام الواقعية ، لأنها هي موضوع التقوى ، ويناسبه ما
في ذيل معتبر عبد الأعلى المتقدم : «وسألته عن قوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً
بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) قال : حتى يعرّفهم ما يرضيه وما يسخطه» ، ونحوه الموثق عن حمزة بن الطيار . فيناسب الأصل الثانوي الذي هو محل الكلام.
وربما استدل ب
آيات أخر قاصرة الدلالة لا مجال لإطالة الكلام فيها.
الثاني
: السنة. وقد استدل منها بأحاديث ..
الأول
: حديث الرفع
المروي بطرق
متعددة ومتون مختلفة زيادة ونقصانا.
منها صحيح حريز
عن أبي عبد الله عليهالسلام : «قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : رفع
__________________
عن أمتي تسعة أشياء الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا
يطيقون وما اضطروا إليه والحسد والطيرة والتفكر في الوسوسة في الخلق [الخلوة. خ. ل]
ما لم ينطقوا بشفة» . وفي بعض طرقه أنها ستة ، منها ما لا يعلمون .
وجه الاستدلال
به : أن ظاهره بدوا كون الخطأ والجهل والنسيان سببا في رفع التكليف واقعا ، حيث
تقدم في أوائل الفصل الثالث من مباحث القطع إمكان ذلك في الجملة. ولا سيما مع كون
الرفع في بقية الفقرات واقعيا. إلا أن ذلك حيث كان منافيا لما هو المتسالم عليه من
اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل والملتفت والغافل ، فلا بد من حمله على الرفع
الظاهري الراجع لعدم اهتمام الشارع بحفظ الحكم الواقعي في ظرف الجهل به المستلزم
لعدم وجوب الاحتياط فيه والراجع للبراءة.
بل قد يقرب ذلك
بما يناسب السياق في بقية الفقرات بأن مصحح إسناد الرفع للتسعة ليس إلا رفع الكلفة
الحاصلة بسببها والثقل الناشئ منها بلحاظ استتباعها العقاب والمؤاخذة ونحوهما مما
يترتب على الحكم ولو بضميمة وصوله. إلا أن ذلك مع العلم بالتكليف ـ بسبب العلم
بتشريعه وموضوعه ـ مستلزم عرفا لارتفاعه ، للغوية التكليف الواصل عرفا مع السعة من
هذه الجهة ، كما هو الحال في الفقرات الستة الأخر. أما في الجهل والخطأ والنسيان
فالرفع من الحيثية المذكورة لا يستلزم عرفا ارتفاع الحكم الواقعي ، بل يقتضي
التأمين من التبعة المذكورة الذي هو مرجع البراءة من دون أن يستلزم لغوية ثبوت
التكليف الواقعي ، فالفرق بين الفقرات ليس في الأمر المرفوع بالمطابقة ، بل
__________________
في لازمه لا غير.
ودعوى : أن
الرفع بالمعنى المذكور مع الجهل وأخويه يكفي فيه حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان
بلا حاجة للرفع الشرعي ، وظاهر الحديث إرادة الرفع الشرعي.
مدفوعة بأن
سلطان الشارع على إيجاب الاحتياط الرافع لحكم العقل المذكور مصحح لنسبة الرفع إليه
، لكونه مستندا إليه في المرتبة الثانية وإن كان مستندا للعقل في المرتبة الأولى.
وبما ذكرنا
يظهر أنه لا حاجة إلى إضمار المؤاخذة أو بقية الآثار ، لما في الإضمار من العناية
والتكلّف ، بل ارتفاعها مصحح لإسناد الرفع للتسعة المذكورة عرفا من دون حاجة
للتقدير.
كما لا حاجة
إلى تكلف أن المرفوع حقيقة هو إيجاب الاحتياط والتحفظ ، بدعوى أنه هو الذي يكون
رفعه ووضعه بيد الشارع ، ونسبة الرفع للحكم الواقعي المجهول بالعرض والمجاز ،
بعناية أن منشأ رفع وجوب الاحتياط منع تأثير ملاك الحكم الواقعي عن تأثيره. على
أنه يشكل بأن العناية المذكورة لا تصحح نسبة الرفع للحكم عرفا ولو مجازا ، وما
ذكرناه في وجه إسناد الرفع للتسعة هو الأظهر.
هذا وقد يدعى
اختصاص الحديث بالشبهة الموضوعية ، وقصوره عن الشبهة الحكمية ، التي هي المقصودة
بالأصل في محل الكلام ، لما ذكره شيخنا الأعظم قدسسره من أن الظاهر من الموصول في : «ما لا يعلمون» بقرينة
بقية الموصولات هو الموضوع ، وهو فعل المكلف غير المعلوم ، كالفعل الذي لا يعلم
كونه شرب الخمر أو شرب الخل ، فلا يشمل الحكم غير المعلوم ، كحرمة شرب التتن.
وفيه : أن
الاضطرار وأخواته إنما تتعلق بالموضوع بذاته ، لا بعنوانه ، أما العلم فهو يتعلق
بالموضوع بعنوانه بمفاد كان الناقصة ، فيعلم مثلا بأن الشيء خمر أو مضر أو حرام ،
والعنوان المناسب للرفع في المقام هو العنوان المنتزع من التكليف ، لأنه المنشأ
للضيق والتبعة ، وبقية العناوين ـ كالخمرية والنجاسة ـ لا تكون منشأ لهما إلا
بلحاظ استتباعها له ، ولا سيما مع عدم الجامع العرفي لها إلا بملاحظته ، فيكون
ملاحظة عنوان التكليف أظهر وأشمل.
فيراد حينئذ ما
لا يعلمون تعلق التكليف به إيجابا أو تحريما ، أو ما لا يعلمون حرمته فعلا أو تركا
، ومثل ذلك كما يصدق على الموضوع الجزئي في الشبهة الموضوعية يصدق على الموضوع
الكلي ، كالتتن ولحم الأرنب. بل يصدق على الموضوع الجزئي مع اختلاف منشأ الشك من
حيثية الشبهة الموضوعية والحكمية معا.
بل حيث اختلف
الأمور المذكورة في كيفية التعلق بالموضوع فلا مجال لملاحظة قرينة السياق ، بل
الأقرب حمل الموصول في «ما لا يعلمون» على العنوان ابتداء ، لصحة إسناد العلم
والجهل إليه عرفا ، وإن كان تعلقهما حقيقة بمفاد كان الناقصة ، وحينئذ يتعين لحاظ
العنوان المنتزع من التكليف ، لأنه المناسب للرفع ، كما تقدم. ومرجعه إلى حمل
الموصول على الحكم. ونظير «ما لا يعلمون» في جميع ما ذكرنا الخطأ والنسيان.
وهناك بعض
الوجوه الأخرى لا مجال لإطالة الكلام فيها مع ضعفها في نفسها ووضوح اندفاعها
بملاحظة ما سبق في تقريب الاستدلال بالحديث. ومن ثم لا ينبغي التأمل في تمامية
دلالة الحديث الشريف على المطلوب.
هذا وقد تصدى
غير واحد للكلام في بعض الجهات المتعلقة بالحديث الخارجة عن محل الكلام استطرادا.
ولا بأس بمتابعتهم في ذلك تتميما للفائدة.
وذلك بالكلام في أمور ...
الأول : ذكر غير واحد أن الرفع في المقام تشريعي راجع إلى
تنزيل الأمور المذكورة منزلة العدم شرعا ، لعدم ترتب الأحكام والآثار الشرعية
معها.
ولكنه قد يتم
لو كان البيان بلسان النفي المطلق ، نظير «لا شك لكثير الشك» ، أما حيث كان بلسان
الرفع فهو ظاهر في رفع الكلفة والتبعة المترتبة على الفعل أو التكليف ، برفع مثل
المؤاخذة الأخروية والدنيوية ـ بمثل الحدود والتعزيرات والكفارات ، ونفوذ مثل
العقود والإقرار ونحوها مما هو من سنخ تبعة الفعل ـ دون بقية الآثار الخارجة عن
ذلك ، كالنجاسة بمثل الملاقاة خطأ أو اضطرارا ، وتحريم الحيوان بمخالفة شروط
التذكية ، من دون فرق في ذلك بين الفقرات. نظير ما ذكرناه في محله في رفع القلم عن
الصبي وأخويه. غايته أن الرفع بلحاظ المؤاخذة لا يستلزم في الخطأ والجهل والنسيان
إلا عدم وجوب الاحتياط من دون أن يقتضي ارتفاع التكليف واقعا ، وفي بقية الفقرات
مستلزم لارتفاع التكليف ، كما تقدم.
وأما ما يظهر
من بعض الأعاظم قدسسره من أن الرفع فيما لا يعلمون ظاهري ، وفي الخطأ والنسيان
واقعي. فهو غير ظاهر المنشأ ، بعد مشاركتهما للجهل في كفاية الرفع الظاهري في رفع
الكلفة والتبعة ، وليسا هما كالاضطرار وبقية المرفوعات مما يجتمع مع العلم بالواقع
والالتفات إليه ، كي يتعذر معه الرفع الظاهري. مضافا إلى أن الرفع الواقعي فيهما
مناف لمفروغية الأصحاب من اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل والملتفت والغافل.
وعلى ما ذكرنا
تنزل صحيحة صفوان والبزنطي عن أبي الحسن الرضا عليهالسلام : «في الرجل يستكره على اليمين ، فيحلف بالطلاق والعتاق
وصدقة ما يملك أيلزمه ذلك؟ فقال : لا ، قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : وضع عن أمتي ما أكرهوا
عليه وما لم يطيقوا وما أخطئوا» . فإن نفوذ اليمين لما كان من سنخ التبعة شرعا كان
مرفوعا بالإكراه بمقتضى حديث الرفع ، ولا يتوقف رفعه على تنزيل الحديث على رفع
تمام الأحكام والآثار الشرعية.
وبذلك يظهر الوجه
في عدم سقوط الإعادة والقضاء بالإخلال ببعض الأجزاء أو الشروط جهلا ، فإن وجوبهما
ليس من سنخ التبعة المترتبة على الإتيان بالعمل الناقص ـ كالكفارة ـ بل هو من باب
لزوم امتثال التكليف الواقعي بوجهه الواقعي وعدم سقوطه عقلا أو شرعا.
الثاني : الظاهر اختصاص الحديث بما إذا كان الرفع امتنانيا ، لأنه
المنصرف منه. بل حيث كان ظاهرا في أنه من خواص هذه الأمة المرحومة تعين كونه
امتنانيا في حقها بمجموعها ، فلا يشمل ما لو كان منافيا للامتنان في حق بعضها ،
كما لو أكره على الإضرار بالغير ، فإنه يتعين عدم الرفع ، وبقاء التحريم في مثل
ذلك ، إذ لا امتنان على الأمة في التخفيف عن بعضها بنحو يستلزم الإضرار بالآخرين.
وقد ذكروا أن
ذلك هو الوجه في عدم سقوط الضمان بالإتلاف خطأ أو اضطرارا أو غير ذلك. لكن الظاهر
قصور الحديث عن رفع الضمان ابتداء ، لما سبق من اختصاص الحديث برفع الكلفة الحاصلة
من المؤاخذة وثبوت تبعة العمل على الفاعل ، والظاهر أن الضمان ليس من سنخ التبعة ،
كالكفارة والحد ، بل هو ثابت بملاك تدارك ضرر الغير وخسارته.
الثالث : الظاهر أن الحديث كسائر العمومات قابل للتخصيص ، فلا
مانع من عدم الرفع في بعض الموارد للدليل الخاص ، كما ثبت وجوب الاحتياط قبل الفحص
في الشبهة الحكمية ، ووجوب التحفظ عن النسيان في الأحكام
__________________
الكلية ، ووجوب الكفارة في بعض موارد الخطأ ، كالقتل ، وغير ذلك.
وأما ما يظهر
من بعض الأعيان المحققين قدسسره من قصور الحديث عن الرفع مع التقصير في الجهل والنسيان
، لعدم منافاة فعلية التكليف للامتنان ، حيث لا يأبى العقل ذلك. فهو كما ترى ، إذ
عدم إباء العقل عن فعلية التكليف لا ينافي كون رفعه امتنانيا لما فيه من السعة ،
ولذا يكون الرفع امتنانيا في موارد الجهل مع عدم إباء العقل عن إيجاب الاحتياط
فيها ، وفي موارد الحرج مع عدم إباء العقل عن فعلية التكليف فيها.
ومثله ما ذكره
شيخنا الأعظم قدسسره من خروج مثل وجوب كفارة الخطأ عن موضوع الحديث ،
لاختصاصه بالآثار الثابتة لذات الموضوع مع قطع النظر عن الخطأ والنسيان ونحوهما
مما تضمنه الحديث ، دون ما يثبت بتوسط أحد العناوين المذكورة فيه ، كما هو الحال
في الكفارة المذكورة وفي وجوب سجود السهو.
إذ هو إنما يتم
لو كان مفاد الحديث رفع الأحكام والآثار بلسان نفي الموضوع ، نظير ما تضمن أنه لا
شك لكثير الشك ، حيث يختص الرفع حينئذ بالآثار الثابتة للموضوع بإطلاقه ، دون ما
ثبت في خصوص حال ثبوت العنوان الرافع. لكن تقدم في الأمر الأول المنع من ذلك ، وأن
الرفع بلحاظ رفع الكلفة من حيثية المؤاخذة والتبعة ، حيث لا إشكال في كون ثبوت
الكفارة ولو في حال الجهل فقط من سنخ التبعة فثبوتها مناف للحديث ، ولا يكون إلا
بتخصيصه.
نعم لا مجال
لذلك في سجود السهو ، لعدم كونه من سنخ التبعة ، بل يظهر من دليله أن الإتيان به
لإرغام الشيطان ، فلا يكون مشمولا للحديث.
الثاني من الأحاديث المستدل بها في المقام : الصحيح عن أبي
الحسن زكريا بن يحيى عن أبي عبد الله عليهالسلام : «قال : ما حجب الله علمه عن العباد فهو
موضوع عنهم» . فإنه ظاهر في أن الحكم الواقعي المجهول موضوع عن
المكلفين ، فيدل على عدم وجوب الاحتياط ويعارض أدلته لو تمت. ومما تقدم في حديث
الرفع يظهر عمومه للشبهة الحكمية والموضوعية معا.
وقد استشكل في
الاستدلال المذكور شيخنا الأعظم قدسسره بأن الظاهر مما حجب الله علمه ما لم يبينه للعباد ، لا
ما بينه واختفى عليهم بسبب من عصى في تضييع الحق ، فهو مساوق لما عن أمير المؤمنين
عليهالسلام من قوله : «إن الله حدّ حدودا فلا تعتدوها ، وفرض فرائض
فلا تنقصوها ، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تكلفوها ، رحمة من الله لكم
، فاقبلوها» .
وفيه : أن منشأ
الظهور المذكور إن كان هو نسبة الحجب له تعالى ، فيكون كناية عن عدم إيصال الحكم
للرسل أو عدم أمرهم بتبليغه ، فالظاهر أنه يكفي في صحة النسبة استناد الفعل له
سبحانه ، بتقدير أسبابه ، ولو بتوسط الناس ، كما هو الحال في نسبة الرزق والابتلاء
ونحوهما إليه تعالى. وإن كان منشؤه ظهور فرض الحجب عن العباد في إرادة جميعهم
الراجع لعدم تصديه سبحانه لبيان الحكم حتى للرسل ، فالظاهر أن العموم في العباد
ليس مجموعيا بل انحلاليا ، راجعا إلى وضع التكليف عن كل من حجب عنه ، نظير العموم
في حديث الرفع ، لأن ذلك هو المناسب لكون القضية ارتكازية.
الثالث : ما عن الفقيه : «قال الصادق عليهالسلام : كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» ، وما عن أمالي الشيخ بسنده عنه عليهالسلام : «الأشياء مطلقة ما لم يرد عليك أمر ونهي» ، وعن عوالي اللآلي : «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نص» . قال
__________________
شيخنا الأعظم قدسسره بعد ذكر مرسل الفقيه : «ودلالته على المطلوب أوضح من
الكل. وظاهره عدم وجوب الاحتياط ، لأن الظاهر إرادة ورود النهي في الشيء من حيث هو
، لا من حيث كونه مجهول الحكم. فإن تم ما سيأتي من أدلة الاحتياط دلالة وسندا وجب
ملاحظة التعارض بينها وبين هذه الرواية وأمثالها». وما ذكره قريب جدا.
لكن قد يستشكل
في دلالة الحديث بوجهين الأول : ما أشار إليه المحقق الخراساني قدسسره من أنه يكفي في ورود النهي وروده إلى بعض المكلفين وإن
خفي على غيرهم ، ومن الظاهر ملازمة احتمال التكليف غالبا لاحتمال ورود النهي
بالنحو المذكور ولو بنحو العموم ، ولا سيما لو أريد من المكلفين ما يعم المعصومين عليهمالسلام. إلا أن يتمم الاستدلال بضميمة أصالة عدم ورود النهي ،
وهو أمر آخر.
وفيه : أن
الورود والإطلاق لما كانا أمرين إضافيين ، فالظاهر من إطلاقهما في الحديث كون رافع
الإطلاق في حق كل شخص ورود النهي له ، لا أن ورود النهي لبعض المكلفين رافع
للإطلاق في حق غيره ، خصوصا في هذه القضية الارتكازية. ولا سيما مع ظهوره في ضرب
القاعدة العملية المناسب لتيسر الاطلاع على موضوعها للعامل بها ، والمتيسر لكل شخص
إدراك ورود النهي له لا لغيره.
الثاني : أن ورود النهي يراد به .. تارة : وصوله للمكلف ، كما إذا عدّي للمكلف بنفسه أو باللام.
وأخرى : ما يساوق تشريعه في حقه وإن لم يصل إليه ، بلحاظ أن
التكليف لما كان قائما بين المولى والعبد ، فكما يصدق بجعل المولى له صدوره منه
يصدق وروده على العبد ، بمعنى صيرورته في ذمته ، وإن لم يعلم
بذلك.
وعلى الأول
ينفع الحديث فيما نحن فيه. أما على الثاني فيكون أجنبيا عنه ، واردا لبيان أن
الأشياء بطبعها على السعة ما لم يشرع النهي فيها ، فيرجع إلى أصالة الإباحة
بالمعنى الأول المتقدم عند الكلام في أن الأصل هو الحظر أو الإباحة في الأمر
الثالث من التمهيد لمباحث الأصول.
ولا يخفى أن
المعنى الأول هو المتعين في مرسل العوالي ، لأن النص ليس أمرا مجعولا ، فلا بد أن
يراد بوروده وصوله. أما مرسل الفقيه ونحوه فهو لا يخلو عن إجمال من هذه الجهة ،
ولا معين فيه لأحد المعنيين بعد حذف متعلق الورود فيه.
وفيه : أنه لا
فائدة ببيان المعنى الثاني بعد ورود الشريعة وعدم خلوّ الوقائع عن الأحكام الشرعية
ـ كما نبه لذلك غير واحد من مشايخنا ـ فلا مجال لحمل الحديث عليه ، بخلاف ما لو
أريد بيان الوظيفة الظاهرية ، حيث يترتب العمل على ذلك ، فيحسن بيانه ويتعين حمل
الحديث عليه.
الرابع : صحيح عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي إبراهيم عليهالسلام : «سألته عن الرجل يتزوج المرأة في عدتها بجهالة ، أهي
ممن لا تحل له أبدا؟ فقال : لا ، أما إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضي عدتها
، وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك. فقلت : بأي الجهالتين يعذر ،
بجهالته أن ذلك محرم عليه أم بجهالته أنها في عدة؟ فقال : إحدى الجهالتين أهون من
الأخر ، الجهالة بأن الله حرم ذلك عليه ، وذلك بأنه لا يقدر على الاحتياط معها.
فقالت : وهو في الأخرى معذور؟ قال : نعم إذا انقضت عدتها فهو معذور في أن يتزوجها»
.
حيث يتجه
الاستدلال به بناء على أن قوله عليهالسلام : «فقد يعذر الناس في
__________________
الجهالة بما هو أعظم من ذلك» إشارة إلى القضية الارتكازية المقتضية لعموم
العذر حتى بالإضافة إلى عدم العقاب ، وعدم اختصاصه بعدم الحرمة المؤبدة ، فيكون
واردا لبيان الأصل الثانوي ، ودليلا على عدم الاحتياط بقرينة المورد ، لكون
الجهالة المفروضة فيه هي الجهالة بالحكم الواقعي ، وهو حرمة التزويج في العدة ، لا
بالحكم الظاهري ، ليكون واردا لبيان الأصل الأولي الذي يرفعه دليل الاحتياط. كما
أنه نص في العموم للشبهة الموضوعية والحكمية.
لكنه يشكل
بانصراف الجهالة في الصحيح إلى الغفلة واعتقاد الحل خطأ ، نظير ما تقدم في صحيح
عبد الصمد من أدلة الأصل الأولي. ولا سيما مع التعليل فيه بأنه لا يقدر على
الاحتياط ، ضرورة القدرة على الاحتياط مع الالتفات والشك.
الخامس : صحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليهالسلام : «قال : كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتى
تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» ، وعن الذكرى الاستدلال به في المقام. ونحوه خبر عبد
الله بن سليمان ومرسل معاوية بن عمار الواردان في الجبن .
وقد استشكل فيه
شيخنا الأعظم قدسسره بأن الحديث حيث تضمن فرض انقسام الشيء فعلا للحلال
والحرام فالظاهر منه كون الانقسام المذكور هو منشأ اشتباه حال المشكوك ، وذلك إنما
يتم في الشبهة الموضوعية ، كالشبهة في الجبن الذي يعلم أن قسما منه حرام فيه ميتة
، وقسما حلال لا ميتة فيه ، فيشتبه حكم بعض أفراده لتردده بين القسمين. وأما
الشبهة الحكمية فهي ناشئة دائما عن فقد الدليل ، لا عن الانقسام المذكور وإن كان
موجودا ، فالحيوان وإن كان
__________________
منقسما إلى الحرام والحلال ، كالضأن والخنزير ، إلا أن انقسامه لا يكون
منشأ لاشتباه الحال في بعض أفراده الأخر كالأرنب ، بل الشك فيه ناشئ عن فقد الدليل
عليه ولو مع عدم الانقسام المذكور.
وقد حاول بعض
الأعيان المحققين قدسسره دفع ذلك بأن الانقسام للحرام والحلال قد يكون منشأ للشك
في الشبهة الحكمية ، كما لو كان القسمان مجملين بالإضافة إلى بعض الأصناف ، حيث
يكون الانقسام منشأ للشك في حكم الشبهة بين القسمين ، كالصيد حال الإحرام ، حيث
يحرم منه صيد البر ويحل صيد البحر ، فلو كان فرض إجمال القسمين ، بحيث يتردد حال
صيد الحيوان الذي يعيش في البحر والبر ـ كالسلحفاة والضفدع ـ بينهما كان من ذلك.
لكن ما ذكره قدسسره ـ لو تمّ ـ لا ينافي انصراف إطلاق الحديث للشبهة
الموضوعية ، لندرة الفرض الذي ذكره والغفلة عنه عرفا. مضافا إلى أن الحديث في نفسه
ظاهر في عدم منجزية العلم الإجمالي ، وحيث لا يمكن الالتزام بظاهره فالمتعين حمله
على الشبهة غير المحصورة التي تخرج بعض أطرافها عن الابتلاء كما يأتي عند الكلام
في حكم المخالفة القطعية للعلم الإجمالي ، وذلك إنما يكون خارجا في الشبهة
الموضوعية بسبب كثرة أفراد العناوين المشتملة على الحرام ـ كالجبن واللحم ـ ولا
يكون في الشبهات الحكمية.
السادس : موثق مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليهالسلام : «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من
قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، والمملوك عندك لعله حر
قد باع نفسه أو خدع فبيع قهرا ، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك. والأشياء كلها
على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة» ، ودلالته على الأصل الثانوي
__________________
ظاهرة ، ولا سيما بملاحظة الأمثلة.
ولكن لا عموم
فيه للشبهة الحكمية بلحاظ الأمثلة المذكورة ، لاحتمال سوقها مساق الشرح للقاعدة ،
لا لمجرد التمثيل ، فإن قوله عليهالسلام : «وذلك مثل ...» ظاهر في حصر مفاد القاعدة بما يكون
مثل الأمور المذكورة ، وحينئذ يحتمل كون الاشتباه في الموضوع مأخوذا في المماثلة
التي قيّد بها العموم.
بل ذكر البينة
في ذيل الحديث يناسب اختصاصها بالشبهة الموضوعية ، لوضوح كونها هي المرجع فيها ،
وأما في الشبهة الحكمية فالمرجع خبر الثقة ، الذي يلغو معه ذكر البينة ، كما سبق
عند الكلام في حجية الاطمئنان. ومثله في ذلك حديث عبد الله بن سليمان عن أبي عبد
الله عليهالسلام في الجبن : «قال : كل شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان
يشهدان أن فيه ميتة» .
هذا وقد أشار
شيخنا الأعظم قدسسره للإشكال في الأمثلة المذكورة بأن الحلّ فيها ليس مستندا
لأصالة الحلّ ، بل لأصول وقواعد حاكمة ومقدمة عليها ، وهي اليد في الأولين ،
وأصالة عدم الانتساب وعدم الرضاع في الثالث ، ومع قطع النظر عنها فالأصل لا يقتضي
الحلّ بل الحرمة ، لأصالة عدم تملك الثوب وأصالة الحرية في الإنسان ، وعدم الزوجية
في المرأة.
ويندفع أولا : بأن نسبة الأمارة أو الأصل الحاكم إلى الأصل المحكوم
نسبة الحكم الثانوي للحكم الأولي ، والحكم الثانوي وإن كان هو الأقوى ، فيقدم على
الحكم الأولي مع الاختلاف بينهما ، إلا أنه لا يوجب قصور موضوع الحكم الأولي ذاتا
عن شمول المورد ، بل يبقى موضوعه ثابتا ويتبعه الحكم اقتضاء ، بل فعلا مع الموافقة
بينهما ، وإنما يسقط عن الفعلية مع الاختلاف بينهما ، لكون موضوع الحكم الثانوي من
سنخ المانع من تأثير موضوع الحكم
__________________
الأولي له.
ففي المقام
التصرف في الثوب مثلا بلحاظ كونه أمرا مشكوك الحرمة يكون مجرى لأصالة الحلّ ،
وبلحاظ استصحاب عدم تملك الثوب يكون محكوما بالحرمة ظاهرا ، وبلحاظ كونه مورد اليد
يكون محكوما بالحلية ظاهرا ، والثالث حاكم على الثاني ومانع من فعليته ، ومع سقوطه
عن الفعلية يرتفع المانع من فعلية الأول ، ويصير الأول فعليا كالثالث.
وحينئذ لا مانع
من إغفال الأمارة أو الأصل الحاكم والتنبيه للأصل المحكوم ، لكون تفهيمه للخطاب
أيسر ، أو لكونه مورد الحاجة ، كما في مورد الحديث ، حيث احتيج لتوضيح أصالة الحلّ
بالتمثيل ، ولا سيما مع صعوبة فرض مثال لا يكون مجرى لأمارة أو أصل حاكم موافق أو
مخالف.
نعم إذا كانت
الأمارة أو الأصل الحاكم الجاري فعلا مخالفا للأصل المحكوم عملا كان التنبيه على
المحكوم وإغفال الحاكم إغراء بالجهل ومستلزما للإيقاع في خلاف الوظيفة الفعلية.
ومن الظاهر عدم لزومه في المقام.
وثانيا : أن الإشكال المذكور لا يمنع من الاستدلال بالموثق ،
لقوة ظهوره في إرادة أصالة الحلّ. وغاية ما يلزم إجمال وجه التمثيل بالأمثلة
المذكورة ، وهو ليس محذورا مانعا من الاستدلال في المقام.
ودعوى : أن
الأمثلة المذكورة توجب ظهور الموثق في إرادة الحلية المستندة لليد أو الاستصحاب ،
لا المستندة لأصالة الحل التي هي محل الكلام.
مدفوعة أولا : بأنه لا جامع عرفي بين الأمرين ، فلا مجال لحمل
القاعدة المضروبة في صدر الموثق والمشار إليها في ذيله على ذلك. وثانيا : بأن
الموثق إن حمل على التنبيه للاستصحاب واليد بعد الفراغ عن جريانها وتحقق موضوعها
كان واردا مورد الإرشاد ، وهو خلاف ظاهره جدا ، بل هو ظاهر في
التأسيس وضرب القاعدة الشرعية التي يرجع إليها في مقام العمل ، وذلك يقتضي
تحديد موضوعها ، ولا إشارة في الموثق لموضوع قاعدتي اليد والاستصحاب ، بل ظاهره
كون الموضوع صرف الشك ، وليس هو إلا موضوع قاعدة الحل.
هذا تمام ما
عثرنا عليه من النصوص العامة المستدل بها في المقام. وقد ظهر أن ما يدل على
البراءة في الشبهة الحكمية خصوص الثلاثة الأول ، وأن عمدتها الأول ، وهو حديث
الرفع ، لقوة دلالته وسنده معا. كما أن صحيح عبد الله بن سنان وما بعده تنهض دليلا
على البراءة في الشبهة الموضوعية فقط.
نعم هي تختلف
عن الثلاثة الأول بنهوضها بالتعبد بالحلّ ، أما الثلاثة الأول فهي إنما تدل على
السعة في مقام العمل من دون تعبد بأحد طرفي الشك.
ومن ثم عدت
الأول من أدلة البراءة ، وعدت الأخيرة من أدلة قاعدة الحلّ.
وتفترق
الطائفتان بأن الثانية تنهض بإحراز آثار الحل الشرعية ، بخلاف الأولى.
تتميم
قد يستدل في المقام
بالاستصحاب ، بلحاظ أن التكليف المشكوك أمر حادث مسبوق بالعدم ، للعلم بعدم
التكليف عند فقد شروطه العامة ـ كالبلوغ ـ أو الخاصة ـ كالوقت ـ فيستصحب العدم
المذكور بعد ذلك ، بناء على ما هو التحقيق من جريان الاستصحاب في الأمور العدمية.
وبعبارة أخرى : بعد أن كانت السعة مقتضى الأصل الأولي العقلي ، ولا يخرج عنها إلا
بالتكليف الشرعي ، فاستصحاب عدم التكليف والتعبد به شرعا يقتضي السعة المذكورة
ويطابق البراءة عملا وإن خالفها مفادا. نعم مع تعاقب حالتي التكليف وعدمه والجهل
بالتاريخ لا مجال لذلك ، على ما يذكر في مبحث الاستصحاب.
ودعوى : أن ما
يترتب على الاستصحاب المذكور من السعة في مقام
العمل ثابت بنفس الشك عقلا وشرعا ، بناء على ما تقدم من جريان البراءة
العقلية والشرعية ، فيكون التعبد بالاستصحاب لغوا ، لخلوه عن الفائدة.
مدفوعة بأن
السعة وإن كانت ثابتة مع الشك بناء على البراءة ، إلا أنها بملاك عدم تحقق شرط
استحقاق العقاب ، وهو تنجز التكليف ، أما مع عدم التكليف ـ الشرعي فالسعة بملاك
عدم المقتضي لاستحقاق العقاب ، فالتعبد بعدم التكليف ـ بالاستصحاب أو بغيره ـ تعبد
بعدم المقتضي ، وذلك كاف في رفع لغوية التعبد المذكور عرفا وإن كانا مشتركين في
الأثر.
ولو لا ذلك
لامتنع التعبد بالحلية والإباحة ـ التي هي من سنخ المقتضي لعدم الاستحقاق ـ بطريق
الأصل ، بل حتى بطريق الأمارة والحجج المثبتة لها.
بل امتنع جعل
الإباحة والترخيص ثبوتا ، لعدم الأثر العملي للجميع إلا السعة عملا وعدم استحقاق
العقاب اللذين يترتبان بمجرد الشك وعدم وصول المنع الشرعي. ولا رافع للغوية إلا ما
ذكرنا من اختلاف ملاك السعة في مقام العمل ، ومنشأ عدم استحقاق العقاب.
وما ذكرناه هو
العمدة في دفع محذور اللغوية ، لا ما قد يستفاد من غير واحد من أن الأثر في ظرف
جريان الاستصحاب يكون مستندا له لا للشك بنفسه ، حيث يكون الاستصحاب رافعا حقيقة
للشك الذي هو موضوع البراءة العقلية ورافعا تعبدا للشك الذي هو موضوع البراءة
الشرعية. إذ فيه : أن ذلك ـ لو تم ـ لا يرفع محذور لغوية التعبد بالاستصحاب بعد
كون الأثر المترتب عليه مترتبا مع عدمه.
وحيث انتهى
الكلام في أدلة البراءة فينبغي الكلام فيما استدل به على أدلة الاحتياط.
فقد استدل عليه
بالأدلة الثلاثة ..
الدليل الأول : الكتاب الشريف. وقد استدل منه بآيات كثيرة. ولعل
عمدتها ما تضمن النهي عن القول بغير علم ، وما تضمن الأمر بالتقوى.
وتقريب
الاستدلال بالأولى : أن الحكم بترخيص الشارع لمحتمل الحرمة قول بغير علم ، وافتراء
عليه ، لأنه لم يأذن فيه. قال شيخنا الأعظم قدسسره : «ولا يرد ذلك على أهل الاحتياط ، لأنهم لا يحكمون
بالحرمة ، وإنما يتركون الفعل لاحتمال الحرمة ، وهذا بخلاف الارتكاب ، فإنه لا
يكون إلا بعد الحكم بالرخصة والعمل على الإباحة».
أقول : الترك
لاحتمال الحرمة إن كان لحكم العقل فهو ـ مع ابتنائه على ما يأتي الكلام فيه ،
وخروجه عن الاستدلال بالكتاب ـ قد يجري مثله من القائلين بالبراءة ، حيث يمكن
استنادهم للبراءة العقلية لو لم يتم الدليل على البراءة الشرعية. وإن كان لدعوى
حكم الشارع به فلا بد من الاستناد فيه للعلم ، كالقول بالبراءة الشرعية ، الذي سبق
الاستدلال له بأدلة شرعية معتبرة ، وليس هو قولا بغير علم.
وتقريب
الاستدلال بالثانية : أن الاحتياط في الشبهة مقتضى التقوى لله تعالى. وفيه : أن
التقوى عبارة عن التوقي والتحرز عن عقابه تعالى ، فيختص بالشبهة التي يحتمل معها
العقاب ، ومع تمامية أدلة البراءة العقلية والشرعية يؤمن من العقاب ولا موضوع معه
للتقوى.
هذا مع النقض
على الاستدلال بكلتا الطائفتين بما هو المتسالم عليه من جريان البراءة في الشبهة
الموضوعية ، وما هو المعروف من الأخباريين أنفسهم من جريانها في الشبهة الوجوبية
الحكمية ، حيث لا مجال لالتزام تخصيص عموم الطائفتين المتقدمتين بأدلة البراءة في
الموردين المذكورين ، لإباء العموم المذكور عن التخصيص جدا ، فلا بد من البناء على
ارتفاع موضوعه بالأدلة
المذكورة وورودها عليه ، ومثله يجري في الشبهة التحريمية الحكمية.
الدليل الثاني : السنة. ويظهر حال الاستدلال بما تضمن النهي عن القول
والعمل بغير علم مما تقدم في الاستدلال بالكتاب. فالعمدة في المقام طائفتان :
الأولى : ما تضمن النهي عن الأخذ بالشبهة والأمر بالتوقف والكف
عنها. وهي نصوص كثيرة بألسنة مختلفة لا مجال لاستقصائها تعرض شيخنا الأعظم قدسسره لجملة منها ، وذكر كثيرا منها في الباب الثاني عشر من
أبواب صفات القاضي من الوسائل. قال شيخنا الأعظم قدسسره : «وظاهر التوقف المطلق السكون وعدم المضي ، فيكون
كناية عن عدم الحركة بارتكاب الفعل ، وهو محصل قوله عليهالسلام في بعض تلك الأخبار : الوقوف عند الشبهات خير من
الاقتحام في الهلكات. فلا يرد على الاستدلال أن التوقف في الحكم الواقعي مسلم عند
كلا الفريقين ، والإفتاء بالحكم الظاهري منعا أو ترخيصا مشترك كذلك. والتوقف في
العمل لا معنى له».
لكن يشكل
الاستدلال المذكور بأن التأمل في النصوص الكثيرة قاض بأن المراد بالشبهة ليس مجرد
احتمال التكليف الواقعي من دون حجة عليه الذي هو محل الكلام ، بل أحد أمرين :
الأول
: ما يعمل به
أهل البدع ونحوهم ممن لا يتحرج ، مما هو ليس بحجة ، كالقياس والاستحسان. ويظهر
إرادة ذلك مما عن رسالة المحكم والمتشابه عن أمير المؤمنين عليهالسلام قال في حديث طويل : «فاعلم أنا لما رأينا من قال بالرأي
والقياس قد استعملوا الشبهات في الأحكام لما عجزوا عن عرفان إصابة الحكم ...» .
ومرسل البرقي :
«قال أبو جعفر عليهالسلام : لا تتخذوا من دون الله وليجة فلا
__________________
تكونوا مؤمنين ، فإن كل سبب ونسب وقرابة ووليجة وبدعة وشبهة باطل مضمحل إلا
ما أثبته القرآن» .
ومقبولة عمر بن
حنظلة عن أبي عبد الله عليهالسلام : «قال : ... قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك
الشبهات نجا من المحرمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات ...» ، فإن الأخذ بالشبهة ليس بارتكابها ، بل باتباعها.
وخبر سلام بن
المستنير عن أبي جعفر عليهالسلام : «قال : قال جدي رسول الله صلىاللهعليهوآله : أيها الناس حلالي حلال إلى يوم القيامة ، وحرامي حرام
إلى يوم القيامة ، ألا وقد بينهما الله عزوجل في الكتاب ، وبينتهما لكم في سنتي وسيرتي ، وبينهما
شبهات من الشيطان وبدع بعدي ، من تركها صلح له أمر دينه وصلحت له مروته وعرضه ،
ومن تلبس بها [و] وقع فيها واتبعها كان كمن رعى غنمه قرب الحمى ...» .
وما عن تفسير
العياشي عن الرضا عليهالسلام : «إن هؤلاء قوم سنح لهم الشيطان اغترهم بالشبهة ولبّس
عليهم أمر دينهم ...» .
وما عن تفسير
القمي عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليهالسلام : «في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا
السَّيِّئاتِ ...) قال : هؤلاء أهل البدع والشبهات والشهوات» ، ونحوه خبره الآخر ، فإن الظاهر من أهل الشبهات من يعرفون بالعمل بها
وترويجها كالبدع.
وكأنه إلى هذا
المعنى يشير ما عن نهج البلاغة : «وقال عليهالسلام : وإنما سميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحق ، فأما
أولياء الله فضياؤهم فيها اليقين ، ودليلهم
__________________
سمت الهدى ، وأما أعداء الله فدعاؤهم فيها الضلال ودليلهم العمى» .
الثاني
: مجرد عدم
تشخيص الوظيفة الفعلية ولو كانت ظاهرية في مقابل العمل على بصيرة. ويستفاد هذا
المعنى من مقابلة الشبهة بالبينة في مرسل موسى بن بكر عن أبي جعفر عليهالسلام في حديثه مع زيد : «قال ... فإن كنت على بينة من ربك
ويقين من أمرك وتبيان من شأنك فشأنك ، وإلا فلا ترومنّ أمرا أنت منه في شك وشبهة» . ومقابلتها بالحجة في عهد أمير المؤمنين عليهالسلام للأشتر : «قال عليهالسلام : اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ... أوقفهم
في الشبهات وآخذهم بالحجج» .
هذا ولا يخفى
التناسب بين المعنيين. وعلى أحدهما يمكن حمل بقية نصوص المقام. وإرادة خصوص الجهل
بالحكم الواقعي من الشبهة اصطلاح متأخر لا ملزم بحمل النصوص المذكورة عليه. ومجرد
مقابلتها في مثل حديث التثليث بالحلال البين والحرام البين لا يقتضيه ، لقرب
حملهما على ما يعم تبين الوظيفة الظاهرية ، ليطابق النصوص الكثيرة المتقدمة
ويلائمها.
ويناسب ذلك
أمران :
أحدهما
: أن المنسبق
من النصوص المستدل بها التنبيه إلى أمر ارتكازي إرشادي ، ومن الظاهر أن الأمر
الارتكازي هو الوقوف عند الشبهة بالمعنى الذي ذكرناه ، لا بالمعنى الذي يريده المستدل
، بل هو أمر تعبدي شرعي ، قابل للتخصيص ، وقد التزموا بتخصيصه في بعض الموارد.
ثانيهما : أن ظاهر كثير من نصوص المقام المفروغية عن منجزية
الشبهة ، لا الحكم بمنجزيتها تعبدا وتأسيسا ، فإن قولهم عليهمالسلام في غير واحد من النصوص : «الوقوف عند الشبهة خير من
الاقتحام في الهلكة». ظاهر في
__________________
المفروغية عن تعرض المتورط في الشبهة للهلكة ، وأن الأمر بالتوقف لمحض
الإرشاد لذلك ، وليس هو واردا لبيان منجزية الشبهة تعبدا ، بخلاف ما لو قيل : لا
عذر في الشبهة ، بل قد يهلك العامل بها. والفرق بين التعبيرين نظير الفرق بين
قولنا في مقام الأمر بالحمية : قلة الأكل أهون من علاج المرض ، وقولنا : الإكثار
من الأكل معرض للمرض.
وكذا قولهم عليهمالسلام : «من أخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا
يعلم» ظاهر في المفروغية عن ترتب الهلاك مع الوقوع في الحرام الذي يتعرض له الآخذ
بالشبهة ، لا في بيان تعرض الآخذ بالشبهة للهلاك تعبدا.
وحينئذ حيث لا
مفروغية عن منجزية الشبهة بالمعنى المدعى للمستدل تعين حملها على المعنى الذي
ذكرناه ، لأنه هو الذي يكون تنجز التكليف معه مفروغا عنه.
ومن هنا لا
تنهض النصوص المذكورة بإثبات وجوب الاحتياط تعبدا في مورد الشك في التكليف الواقعي
، لينهض بمعارضة أدلة البراءة الشرعية ، بل هي واردة للإرشاد إلى عدم جواز اعتماد
غير الحجة في مقام العمل ولزوم كون العمل على بصيرة من دون فرق بين أقسام الشبهة
الموضوعية والحكمية.
ومن الظاهر أن
ذلك لا ينافي أدلة البراءة المتقدمة ، بل تكون تلك الأدلة واردة عليه ، رافعة
لموضوعه ، حيث يكون العمل معها على السعة عن بصيرة وحجة مؤمنة من العقاب على تقدير
مخالفة التكليف الواقعي.
نعم في صحيح
مسعدة بن زياد عن الصادق عليهالسلام عن النبي صلىاللهعليهوآله : «أنه قال : لا تجامعوا في النكاح على الشبهة ، وقفوا
عند الشبهة. يقول : إذا بلغك أنك قد رضعت من لبنها وأنها لك محرم وما أشبه ذلك ،
فإن الوقوف عند الشبهة خير
من الاقتحام في الهلكة» . وهي ظاهرة في لزوم التوقف مع احتمال الحرمة ، وأن
المراد بالشبهة ذلك.
لكن حيث تقدم
ظهور الشبهة فيما يتنجز الواقع معه فهي محمولة على المفروغية عن وجوب الاحتياط في
النكاح لأدلة أخر. أو على الإرشاد بلحاظ المشاكل المترتبة على تقدير انكشاف الحال
التي لا ينفع فيها عدم تنجز التكليف ووجود المعذر ، والتي هي لأهميتها يصح إطلاق
الهلكة عليها توسعا. أو على الكراهة بلحاظ أهمية أمر النكاح في ارتكازيات
المتشرعة.
ويناسب
الأخيرين ما تقدم في موثق مسعدة بن صدقة من أدلة البراءة من النص على جريان قاعدة
الحل في ذلك ، ولا سيما مع كون مورده الشبهة الموضوعية التي هي مجرى البراءة عند
الأخباريين. وكيف كان فلا مجال للخروج به عما سبق.
الطائفة الثانية : ما تضمن الأمر بالاحتياط ، كصحيح عبد الرحمن بن
الحجاج : «سألت أبا الحسن عليهالسلام عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان ، الجزاء بينهما أو
على كل واحد منهما جزاء؟ قال : لا ، بل عليهما أن يجزي كل واحد منهما الصيد. قلت :
إن بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه. فقال : إذا أصبتم بمثل هذا فلم
تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا» .
وموثق عبد الله
بن وضاح : «كتبت إلى العبد الصالح عليهالسلام : يتوارى القرص ويقبل الليل ثم يزيد الليل ارتفاعا ،
وتستتر عنا الشمس ، وترتفع فوق الجبل حمرة ، ويؤذن عندنا المؤذنون ، أفأصلي حينئذ
، وأفطر إن كنت صائما؟ ... فكتب إلى : أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة ، وتأخذ
بالحائطة لدينك» .
__________________
وخبر الجعفري
عن الرضا عليهالسلام : «أن أمير المؤمنين عليهالسلام قال لكميل بن زياد : أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت» ، وما أرسله الشهيد عن الصادق عليهالسلام : «لك أن تنظر الحزم وتأخذ بالحائطة لدينك» ، وما أرسله عن عنوان البصري عنه عليهالسلام : «سل العلماء ما جهلت ، وإياك أن تسألهم تعنتا وتجربة
، وإياك أن تعمل برأيك شيئا ، وخذ بالاحتياط في جميع أمورك ما تجد إليه سبيلا ،
واهرب من الفتيا هربك من الأسد ، ولا تجعل رقبتك عتبة للناس» . وما أرسل عنهم عليهمالسلام : «ليس بناكب عن الصراط من سلك سبيل الاحتياط» .
لكن لا عموم في
الصحيح ينفع فيما نحن فيه. ولعل الأمر بالاحتياط فيه لكون المراد بقوله عليهالسلام : «بمثل هذا» هو السؤال عما لا يعلم ، الذي يجب فيه
الاحتياط بترك الجواب ، أو الابتلاء بمثل واقعة الصيد مما لا يعلم حكمه مع إمكان
الفحص ، الذي يجب فيه الاحتياط عملا.
ومثله في ذلك
الموثق ، لظهوره في السؤال عن حكم الشبهة الموضوعية في دخول الليل الذي لا إشكال
في أن مقتضى استصحاب النهار فيه وجوب الانتظار. ولو احتمل بعيدا السؤال فيه للشبهة
الحكمية ، لاحتمال دخول الليل بسقوط القرص ، فحيث لم يكن الجواب بالاحتياط وظيفة
الإمام عليهالسلام ، بل وظيفته رفع الشبهة ببيان الحكم الواقعي ، أمكن أن
يكون التعبير بالاحتياط لأجل التقية ، لإيهام أن الوجه في التأخير هو حصول الجزم
بغيبوبة القرص ، لا عدم الاكتفاء به في جواز الصلاة والإفطار.
__________________
ودعوى : أن
قوله عليهالسلام : «وتأخذ بالحائطة لدينك» مسوق مساق التعليل ، فيتعدى
منه لجميع موارد الشبهة. مدفوعة ـ مضافا إلى أنه لا يبلغ مرتبة الظهور الحجة ـ بأن
ظاهر الاحتياط في الدين هو الاحتياط الذي يلزم من تركه تعرض الدين للخطر ، المختص
بما إذا تنجز الواقع ، كما يناسبه مورده الذي تقدم أن الاحتياط فيه مطابق
للاستصحاب عملا ، ولا ينهض بنفسه لبيان تنجز الواقع ، نظير ما تقدم في أخبار
الشبهة.
ومنه يظهر
الجواب عن خبر الجعفري ومرسل الشهيد عن الصادق عليهالسلام والمرسل الأخير. مع أنه لا ظهور لها في الوجوب ، بل
الثاني لا يخلو عن إجمال ، ولعل فيه سقطا. وأما المرسل عن عنوان البصري ، فهو ظاهر
في وجوب الاحتياط في كل شيء ، ولا ريب في عدم وجوب ذلك تعبدا ، فيتعين حمله على
الإرشاد إلى لزوم الضبط والإتقان ولو بتحصيل الوظيفة الظاهرية التي يؤمن معها من
العقاب. مضافا إلى ضعف الجميع.
الدليل الثالث : العقل. وقد يقرب إلزامه بالاحتياط بوجهين :
الأول : أن الأصل في الأفعال غير الضرورية الحظر. لكن يظهر
الجواب عنه مما تقدم في الأمر الثالث من الأمور المتقدمة في التمهيد لمباحث
الأصول. مضافا إلى أن الأصل المذكور لو تم في نفسه فأدلة البراءة الشرعية واردة
عليه رافعة لموضوعه.
الثاني : العلم الإجمالي باشتمال الشريعة على تكاليف في الوقائع
التي هي مورد ابتلاء المكلف ، وحيث يحتمل كون مورد الشبهة منها وجب الاحتياط فيه ،
لما يأتي إن شاء الله تعالى من منجزية العلم الإجمالي لأطرافه ، بنحو لا مجال معه
للرجوع للأصول الترخيصية.
وقد أجاب عنه
شيخنا الأعظم قدسسره بمنع تعلق تكليف غير القادر على
تحصيل العلم بغير ما أدى إليه الطرق غير العلمية المنصوبة له ، بل هو مكلف
بالواقع بحسب أداء هذه الطرق ، بحيث يقيد بها ، لأن ذلك هو مقتضى الجمع بين جعل
التكاليف الواقعية وجعل الطرق الموصلة إليها ، لا أن المكلف به هو الواقع بنفسه ،
ليتنجز بالعلم الإجمالي المذكور ، ولا مؤدى الطرق بنفسه ، ليلزم التصويب أو ما
يشبهه مع خطئها.
لكنه في غاية
الإشكال ، إذ ليس لسان أدلة جعل الطرق على الواقع تقييده بها ، بحيث يسقط عن
الفعلية في غير موردها ، بل مجرد الحكاية بها عنه وإحرازه بها إثباتا ، مع فعليته
في نفسه على تقدير عدم وصوله بها ، فلا مانع من تنجزه في غير مواردها بالعلم
الإجمالي المذكور.
كيف؟! وما ذكره
مناف للإجماع على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل والملتفت والغافل ، بل لازمه
عدم جريان الأصول في غير موارد الطرق ، للقطع بعدم التكليف ، ولا موضوع لها معه.
فالأولى الجواب
عن ذلك ـ مضافا للنقض بالشبهة الوجوبية ـ بأن الطرق المذكورة وإن لم تقتض اختصاص
التكليف بمواردها ، إلا أنها لما كانت منجزة للتكليف في مواردها من دون أن يعلم
بثبوت التكاليف في غيرها زائدا عليها ، كانت مانعة من منجزية العلم الإجمالي
المذكور ، لانحلاله بها ، على ما يأتي في التنبيه الخامس من الفصل الثاني إن شاء
الله تعالى.
هذا تمام
الكلام في حجج القائلين بالاحتياط ، وقد عرفت وهنها. فلا مخرج عن أدلة البراءة
العقلية والشرعية. والحمد لله رب العالمين.
بقي في المقام تنبيهات ..
الأول : لا فرق في أدلة البراءة المتقدمة بين عدم النص وإجماله
، لعدم صلوح النص المجمل للبيان ، ليرتفع معه موضوع أدلة البراءة. والظاهر عدم
الإشكال في ذلك لو كان الإجمال ناشئا من إجمال ما يدل على الحكم ، كما لو دار
الأمر الوارد من الشارع بين الوجوب والاستحباب ، أو النهي بين الحرمة والكراهة.
أما لو كان
ناشئا من إجمال ما يدل على متعلق التكليف ـ كما لو فرض إجمال لفظ الغناء بالإضافة
إلى بعض الموارد ، أو إجمال العموم الأفرادي بين الأقل والأكثر ـ فقد يتوهم لزوم
الاحتياط ، لصلوح الدليل لإثبات التكليف بمتعلقه المجمل على ما هو عليه ، فيجب
إحراز الفراغ عنه بالاحتياط.
وفيه : أن أخذ
العنوان اللفظي في متعلق التكليف ليس إلا بلحاظ حكايته عن معناه وما أريد منه ،
فليس المكلف به إلا المعنى ، وحيث فرض إجمال العنوان فهو لا يصلح للبيان بالإضافة
إلى مورد الشك وإن احتمل إرادته واقعا ، بل يبقى التكليف به خاليا عن الدليل ، ومشمولا
لأدلة البراءة.
التنبيه الثاني : الشبهة الموضوعية وإن كانت خارجة عن محل الكلام إلا
أن أدلة البراءة المتقدمة شاملة لها ، بل هي المتيقن من بعضها على ما سبق. كما
تضمنت جملة من النصوص جريان البراءة فيها في الموارد المتفرقة ، ولعله لذا حكي
الإجماع على عدم وجوب الاحتياط فيها حتى من الأخباريين.
لكن قد يدعى
أنه مع فرض ورود البيان الشرعي على التكليف الكلي يتنجز التكليف في الأفراد
الواقعية ، ولا مجال لجريان البراءة في موارد الشك ، لاحتمال وجود التكليف الواقعي
المنجز فيها.
إلا أنه يندفع
بأن جعل الحكم الكلي الذي تتضمنه الكبريات الشرعية لا يقتضي التكليف الفعلي الصالح
للاشتغال والمقتضي للامتثال إلا بفعلية
موضوعه في صغرياته المختلفة ، والتكليف الفعلي المذكور لا يكفي في بيانه
وتنجزه بيان الكبرى ، بل لا بد معه من العلم بفعلية الموضوع وتحقق الصغرى ،
وبدونها يدخل المورد في أدلة البراءة.
التنبيه الثالث : لا ريب في الخروج عن أصالة البراءة بالأصول المنقحة
لموضوع التكليف ، كاستصحاب النجاسة في الماء الحاكم على أصالة البراءة من حرمة
شربه ، كما هو الحال في جميع الأصول الموضوعية مع الأصول الحكمية ، على ما يأتي في
محله من مبحث التعارض إن شاء الله تعالى. أما مع عدم جريان الأصل الموضوعي فمقتضى
ما سبق الرجوع للبراءة. وربما يخرج عن ذلك في موردين :
الأول
: ما لو أحرز
مقتضي التحريم وشك في وجود المانع من دون أن يحرز عدمه ، حيث يظهر من بعض كلماتهم
في الموارد المتفرقة البناء على الحرمة وعدم الرجوع للبراءة بدعوى بناء العقلاء
على العمل على طبق المقتضي ما لم يحرز المانع. وهو المراد بقاعدة المقتضي في كلام
بعضهم. لكن لم يتضح بناء العقلاء على الكلية المذكورة ، بل لو ثبت ذلك في بعض
الموارد فهو لخصوصية فيها.
الثاني : ما ذكره بعض الأعاظم قدسسره من أن تعليق الحكم الترخيصي التكليفي أو الوضعي ـ كالطهارة
ـ على عنوان وجودي ملازم عرفا للبناء على عدمه عند عدم إحراز ذلك العنوان ، وأنه
لا بد في البناء على الترخيص حينئذ من إحراز ذلك العنوان ولو بالأصل ، وبدونه
يتعين البناء على عدم الترخيص ولو لم يحرز عدم العنوان المذكور.
أقول : لا ريب
في أن إحراز الحكم الواقعي والتعبد به ترخيصيا كان أو إلزاميا متفرع على إحراز
موضوعه ، ولا مجال له بدونه ، لكون التمسك بعموم دليله مع عدم إحراز موضوعه تمسكا
بالعام في الشبهة المصداقية من طرف
العام الذي لا يصح بلا كلام. إلا أنه مع عدم إحراز وجود موضوع الترخيص ولا
إحراز عدمه حيث يشك في ثبوت الترخيص ويتردد الأمر بينه وبين التكليف ، يدخل المورد
في عموم أدلة البراءة المقتضي للسعة الظاهرية وإن لم يحرز الترخيص الواقعي
المستفاد من عموم دليله.
فإن كان مراده
ظهور دليل الحكم المذكور في إيجاب الاحتياط شرعا مع عدم إحراز الموضوع تخصيصا
لأدلة البراءة ، أو ظهوره في تعبد الشارع ظاهرا بعدم الترخيص أو بعدم موضوعه عند
الشك ، كأصل خاص في المسألة يكون حاكما على أصل البراءة. فهو ممنوع جدا ، لعدم
تضمن الدليل إلا لجعل الحكم الواقعي على موضوعه من دون نظر لحال الشك.
وإن كان مراده
بناء العقلاء على ذلك كأصل عقلائي خاص يتعين الجري عليه ما لم يردع الشارع عنه.
فهو غير ثابت ، ولا واضح المنشأ.
هذا وقد فرّع قدسسره على ذلك أن الأصل الحرمة في الدماء والفروج والأموال.
قال الكاظمي في تقريره لدرسه : «فإن الحكم بجواز الوطء مثلا قد علق على الزوجة
وملك اليمين ، والحكم بجواز التصرف في الأموال على كون المال مما قد أحله الله ،
كما في الخبر : لا يحل مال إلا من حيث أحله الله ، فلا يجوز الوطء أو التصرف في
المال مع الشك في كونها زوجة أو ملك يمين أو الشك في كون المال مما قد أحله الله».
ولا إشكال في
أن الفروج من صغريات ما ذكره لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ* إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ
فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ «فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ
العادُونَ). حيث علق الحلّ والترخيص على عنوان وجودي هو الزوجية أو
ملك اليمين.
__________________
لكن لا حاجة
للتشبث في وجه الاحتياط بما ذكره مع جريان استصحاب عدم كون المرأة زوجة أو ملك
يمين ، لكفاية الاستصحاب المذكور في إحراز عدم الحل ، وأما مع عدم جريانه ، لتعاقب
الحالتين والجهل بالتاريخ ، فالظاهر أن وجوب الاحتياط ليس لما ذكره ، بل
للارتكازيات المتشرعية الكاشفة عن اهتمام الشارع الأقدس بالواقع بنحو يمنع من
الإقدام من دون إحراز السبب المحلل ، ويكون هذا مخصصا لعموم أدلة البراءة.
بل قد يستفاد
ذلك من الأمر بحفظ الفرج عن غير الزوجة وملك اليمين ، لأن حفظ الفرج عن غير الزوجة
وملك اليمين ليس عبارة عن مجرد عدم الاستمتاع به واقعا ، بل هو عبارة عن التحفظ
على الفرج من ذلك والتوقي منه ، الراجع للاحتياط فيه. ولا مخرج عنه إلا أن تحرز
الزوجية بالاستصحاب أو غيره. ويجري نظير ذلك في وجوب حفظ الفرج من النظر ، بناء
على ما في بعض النصوص من أن ذلك هو المراد من حفظ الفرج في قوله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ
أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) ... (وَقُلْ
لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ). ومن ثم لا يبعد القول ـ بل قد قيل ـ بوجوب الاحتياط
بالتستر على من لم يأمن من الناظر وإن لم يعلم بوجوده. بخلاف غضّ النظر المحرم عن
الجسد فإنه لا يجب إلا مع العلم به ، لعدم تضمن دليله الحفظ أو نحوه مما يقتضي
الاحتياط. وربما يستفاد ذلك من بعض النصوص الواردة في المقامين ، وإن كان محتاجا
إلى مزيد فحص وتأمل.
وأما الأموال
فالحديث الذي استشهد به فيها هو قول الإمام الرضا عليهالسلام في كتابه الذي رواه محمد بن زيد الطبري : «لا يحل مال
إلا من وجه أحله الله» .
__________________
ومن الظاهر أن العنوان المذكور ليس موضوعا بنفسه للحلية شرعا ، كي يشهد لما
ذكره من تعليق الحلية على أمر وجودي ، بل هو منتزع من الأسباب المختلفة المأخوذة
بعناوينها الخاصة في موضوع الحلية ، من دون أن ينافي كون بعضها عدميا. كما أنه لم
يتعرض للدماء.
واللازم فيها
وفي الأموال النظر في أسباب تحليلها وتحريمها ، فمع إحراز أحد الأمرين بأصل أو
غيره يتعين العمل عليه ، ومع عدمه فمقتضى القاعدة الرجوع للأصول العامة الجارية في
الحكم من استصحاب أو براءة أو غيرهما ، وعدم الخروج عن ذلك إلا بدليل خاص من إجماع
أو ارتكاز أو غيرهما. واستيفاء ذلك في الفروع المختلفة لا يسعه المقام ، بل يوكل
للفقه.
التنبيه الرابع : لا ريب في حسن الاحتياط في الشبهة البدوية عقلا ـ وإن
لم يكن لازما كما تقدم ـ لأنه نحو من الانقياد للمولى ومظهر من مظاهر العبودية له
، كما تشهد بذلك المرتكزات العقلية والعرفية. وهو موجب لاستحقاق الثواب ، لا بمعنى
لزومه على المولى ، لأنه لا يجب حتى مع امتثال التكليف المنجز ، بل بمعنى أهلية
المحتاط والمنقاد للتفضل بالثواب المبني على الشكر والجزاء ، نظير أهلية المطيع
للتكاليف المنجزة ، وليس إحسان المولى إليه ابتداء تفضل ، كالابتداء به على من لم
يعمل شيئا أو كان عاصيا ، كما تقدم في لواحق مبحث التجري.
ويناسب ما
ذكرنا من حسن الاحتياط نصوص قاعدة التسامح في أدلة السنن الآتية ، لقوة ظهورها في
الإرشاد للاحتياط وحسنه في نفسه ، وإن كان ما تضمنته من حصول الثواب الموعود بنفسه
مما لا يحكم به العقل ، وإنما هو تفضل منه تعالى بعد أهلية المحتاط له ، لما سبق.
ولذا جرت سيرة الفقهاء ـ خصوصا في العصور المتأخرة ـ على التنبيه للاحتياط ، بل
الحثّ عليه في موارد الفتوى بما يقتضي السعة.
وحيث عرفت ذلك
فينبغي التعرض
لأمور متعلقة بالمقام.
الأمر الأول : الاحتياط وإن كان حسنا عقلا ، إلا أنه قد يزاحم بما
هو الأهم ، كالإطاعة الحقيقية في الأحكام الاقتضائية المنجزة الإلزامية أو غيرها ،
فيلزم تركه أو يرجح ، وإن لم يخرج عن كونه حسنا في نفسه ، نظير تزاحم الاحتياطين
غير اللازمين ، وتزاحم التكليفين المنجزين.
كما أنه يمكن
الردع عنه شرعا ، لعدم وفائه بالغرض ، لتوقف الغرض على الجزم بالتكليف ، أو
لاستلزامه محذورا لازم الدفع يكون مانعا من تمامية الملاك ومن فعلية الحكم الواقعي
في مورده. ومرجع الردع حينئذ إلى قصور التكليف الواقعي أو المكلف به عن صورة
الاحتياط ولو بنتيجة التقييد ، فلا يكون الاحتياط طاعة له ، كي يكون انقيادا حسنا
، وهو راجع إلى سدّ باب الاحتياط ، وإلا فمع شمول التكليف أو المكلف به لصورة
الاحتياط بحيث يكون طاعة لو صادف الواقع يمتنع الردع عنه مع حسنه عقلا بملاك
امتناع الردع عن الطاعة.
إذا عرفت هذا
فربما يستظهر من بعض النصوص الردع عن الاحتياط أو عدم حسنه ، كصحيح البزنطي : «سألته
عن الرجل يأتي السوق ، فيشتري جبة فراء لا يدري أذكية هي أم غير ذكية ، أيصلي فيها؟
فقال : نعم ، ليس عليكم المسألة ، إن أبا جعفر عليهالسلام كان يقول : إن الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم ، إن
الدين أوسع من ذلك» ونحوه غيره مما تضمن النهي عن السؤال.
وموثق بكير : «قال
لي أبو عبد الله عليهالسلام : إذا استيقنت أنك قد أحدثت
__________________
فتوضأ ، وإياك أن تحدث وضوءا أبدا حتى تستيقن أنك قد أحدثت» .
وخبر الحسن بن
الجهم : «قلت لأبي الحسن عليهالسلام : أعترض السوق فأشتري خفا لا أدري أذكي هو أم لا؟ قال :
صل فيه. قلت : فالنعل؟ قال : مثل ذلك. قلت : إني أضيق من هذا. قال : أترغب عما كان
أبو الحسن عليهالسلام يفعله؟!» .
ومرسل الفقيه :
«سئل علي عليهالسلام أيتوضأ من فضل وضوء جماعة المسلمين أحب إليك أو يتوضأ من ركو أبيض مخمر؟
فقال : لا ، بل من فضل وضوء جماعة المسلمين ، فإن أحب دينكم إلى الله الحنيفية
السمحة السهلة» .
وما عن تفسير
النعماني بإسناده عن علي عليهالسلام في حديث طويل يتضمن الحث على التقية : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : إن الله يحب أن يؤخذ برخصه ، كما يحب أن يؤخذ بعزائمه»
.
فإن النصوص
المذكورة ونحوها مما يتضمن الحث على التيسير ظاهرة في عدم رجحان الاحتياط ، بل
بعضها ظاهر في مرجوحيته.
لكن صحيح
البزنطي وأمثاله بصدد التأكيد على حجية السوق ، والردع عن التزام التضييق ،
كالخوارج ، فلا ينافي حسن الانقياد بالاحتياط من دون التزام وتضييق. كما قد يحمل
موثق بكير على ذلك أيضا. على أنه خاص بمورده ، ولا مجال منه لغيره.
__________________
وأما خبر الحسن
بن الجهم فهو ظاهر في الردع عن ضيق النفس من العمل بأمارية السوق ، الراجع لعدم
سكون النفس للحكم الشرعي والمنافي للتسليم الكامل به ، وهو لا ينافي رجحان
الاحتياط برجاء إدراك الواقع لمحض الانقياد مع الطمأنينة والتسليم بالرخصة ، كما
قد يشهد به خبر أبي بصير : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الصلاة في الفراء. فقال : كان علي بن الحسين عليهالسلام رجلا صردا ... فكان يبعث إلى العراق فيؤتى مما قبلكم بالفرو
فيلبسه ، فإذا حضرت الصلاة ألقاه وألقى القميص الذي يليه ، فكان يسأل عن ذلك فقال
: إن أهل العراق يستحلون لباس جلود الميتة ، ويزعمون أن دباغه ذكاته» .
وأما مرسل
الفقيه فلعله وارد لدفع توهم كراهة الوضوء من فضل وضوء الغير ، وبيان استحبابه
بلحاظ مصلحة التيسير ، من دون أن ينافي رجحان الاحتياط بتجنب الماء المذكور لو
احتمل نجاسته. مع أنه لو كان رادعا عن الاحتياط حينئذ ، فلا يدل على الردع عنه
ذاتا ، ليمنع من حسنه عقلا ، بل لمزاحمة مصلحة التيسير التي يهتم بها الشارع لحسن
الاحتياط ، المستلزم لترجيح التيسير عقلا مع أهميته من دون أن ينافي حسن الاحتياط
في نفسه ومشروعيته ، كما تقدم.
ومنه يظهر
الحال فيما عن تفسير النعماني ، لأن مجرد رجحان الأخذ بالرخص لمصلحة التيسير لا
ينافي رجحان الاحتياط أيضا بلحاظ مصلحة الواقع ، وغاية ما يلزم التزاحم بين
الأمرين. على أنه قد يراد منه الرخص الواقعية بقرينة تطبيقه على التقية ، لا
الظاهرية ، لينفع فيما نحن فيه. فتأمل.
على أن النصوص
المذكورة واردة في الشبهة الموضوعية التي ورد التأكيد على السعة فيها.
__________________
ومن هنا لا
مجال للبناء على مرجوحية الاحتياط في نفسه شرعا في الشبهة الموضوعية ، فضلا عن
الحكمية. غاية الأمر أنه لا بد من التسليم للترخيص الشرعي الظاهري وسكون النفس له.
كما أنه يرجح استعمال الرخص من أجل التيسير انتفاعا بنعمته تعالى وشكرا له على
جعلها. وإن كان الاحتياط أيضا حسنا ، خصوصا في الشبهة الحكمية.
الأمر الثاني : حيث سبق حسن الاحتياط عقلا فقد وقع الكلام بينهم في
حسنه شرعا والأمر به مولويا ، فقد استفاضت النصوص المتقدمة ـ التي استدل بها
الأخباريون على وجوب الاحتياط ـ بالأمر به والحث عليه ، وبعد فرض عدم حملها على الوجوب
لتحكيم أدلة البراءة عليها فقد يستدل بها على استحباب الاحتياط شرعا ، لحمل الأمر
فيها على المولوية على ما هو الأصل في الأوامر الشرعية.
لكن لا يخفى أن
النصوص المشار إليها طائفتان :
الأولى
: ما تضمن
الأمر به بملاك تحصيل الواقع المحتمل ، مثل ما تضمن الأمر بالاحتياط وما تضمن
الأمر بالوقوف عند الشبهة خوف الوقوع في المحرم والهلاك بذلك. ولا مجال للاستدلال
بها على استحباب الاحتياط في مورد البراءة ، لما تقدم من حملها على الشبهات
المنجزة التي يكون الاحتياط فيها لازما ، ولا تجري معه البراءة ، وهو المناسب لقوة
ظهور بعضها في الإلزام ، بسبب تضمنها التعرض للهلكة مع الأخذ بالشبهة.
وأما ما يظهر
من شيخنا الأعظم قدسسره من حمل الهلكة فيها على مطلق ما يترتب على الاقتحام في
الشبهة ومخالفة احتمال التكليف ، فإن كانت الشبهة منجزة كان الأثر العقاب ، وإلا
كان الأثر فوت التكاليف الواقعية وعدم الانقياد بالحفاظ عليها. فهو مخالف للظاهر
جدا ، وإنما يمكن ذلك في خصوص
النكاح ، للنصّ الخاص ، كما تقدم.
على أن النصوص
المذكورة ظاهرة في الإرشاد دون المولوية ، لظهورها في أن منشأ الأمر بالاحتياط
أهمية الواقع في حق المكلف بنحو ينبغي منه الاهتمام بحفظه ، كما هو ظاهر مثل قوله عليهالسلام : «من أخذ بالشبهات ارتكب في المحرمات وهلك من حيث لا
يعلم» ، وقوله عليهالسلام : «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت» . فهي في مقام التنبيه لأمر معلوم ينبغي الاهتمام به مع
قطع النظر عنها ، لا في مقام الأمر لملاك خاص زائدا على ذلك قد لا يهتم المكلف
بحفظه لو لا اهتمام الشارع به المستفاد من أمره ، ليكون أمرا مولويا ، نظير كراهة
مساورة الحائض المتهمة ، وكراهة كسب الغلام ، لأنه إن لم يجد سرق ، وكسب الجارية ،
لأنها إن لم تجد زنت.
الثانية
: ما تضمن
الأمر بالاحتياط بملاك آخر غير تحصيل الواقع المشتبه ، مثل قوله عليهالسلام : «فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له
أترك» . والتعليل فيها لا ينافي الاستحباب ، كما لا ينافي المولوية ، لإمكان
اهتمام الشارع بالملاك المذكور بنحو يأمر بالاحتياط مولويا من أجله ، ولا دخل للملاك
المذكور بالواقع المحتمل ، ليتعين حمل الأمر على الإرشاد لحسن الاحتياط بتحصيله.
لكن التعليل
وإن لم يناف الاستحباب إلا أن ظاهر الشبهة أو المتيقن منها خصوص موارد تنجز
التكليف ، كما تقدم عند الكلام في الاستدلال لوجوب الاحتياط بالنصوص المذكورة ،
فتخرج عن محل الكلام. على أن الملاك المذكور مناسب للإرشاد جدا ، فإن البعد عن
الحرام مما يحسن عقلا ، احتياطا
__________________
للنفس ، بملاك حسن الطاعة وتحفظا عليه. ومعه يشكل ظهور الأوامر المذكورة في
المولوية الراجعة إلى الخطاب به بداعي بيان مشروعيته وانتسابه للشارع ، بحيث يكون
مأتيا به لأجله ، ليستحق به الثواب عليه زائدا عليا لأثر المذكور. ومن هنا يشكل
حمل الأوامر الشرعية بالاحتياط على استحبابه شرعا مولويا ، ليترتب عليه من الثواب
ما لا يترتب مع قطع النظر عن الخطاب المذكور.
الأمر الثالث : لما كان الاحتياط هو متابعة التكليف المحتمل فلا بد
فيه من تحصيل تمام ما يعتبر في الفعل الذي يتحقق به الامتثال المحتمل. ومن هنا فقد
يشكل الأمر في العبادات بلحاظ توقف امتثالها على وقوعها بوجه عبادي ، وذلك لا يكون
إلا بقصد امتثال الأمر ، المتوقف على إحرازه ، والمفروض عدمه ، لأن الاحتياط فرع
الشك. وقد أطال غير واحد في تقريب إمكان قصد الأمر الوارد عليها من جهة أوامر
الشارع بالاحتياط. لكن لا مجال له بعد ما سبق من أن أوامر الشارع بالاحتياط
إرشادية لا مولوية ، ومختصة بالشبهات المنجزة دون غيرها. فالعمدة في دفع الإشكال
أن المعتبر في عبادية العمل وقوعه بوجه قربي ، ويكفي في ذلك الإتيان به برجاء
المطلوبية وامتثال الأمر المحتمل ، ولا يتوقف على إحراز الأمر والجزم بثبوته. على
ما تقدم توضيحه في الفصل الخامس من مباحث القطع. فراجع.
الأمر الرابع : إذا تعددت جهات الاحتياط فإن اختار المكلف المحافظة
عليها جميعا فهو ، وإلا فالظاهر الترجيح بينها ارتكازا بأحد أمرين الأول : أهمية
التكليف المحتمل ، فكلما كان التكليف أهم كان الاحتياط فيه أولى الثاني : قوة
احتمال التكليف ، فكلما كان احتمال التكليف أقوى كان أولى بالمراعاة.
ويظهر من بعض
مشايخنا قدسسره ترجيح الاستمرار على تبعيض الاحتياط على الاحتياط التام
المنقطع ، لما تضمنته النصوص الواردة عنهم عليهمالسلام من أن
القليل المدوم عليه خير من الكثير المنقطع .
لكنه يشكل
بظهور النصوص المذكورة في الخير الشرعي وهو المشروع الواقعي ، دون مثل الاحتياط
مما هو حسن عقلا ، لما سبق من عدم ثبوت الأمر به مولويا. على أنه لا يبعد ظهورها
في أولوية القليل المدوم عليه من الكثير الذي ينقطع ويهمل ضجرا ومللا ، دون ما إذا
كان انقطاعه لتعذره بعد استكمال الطاقة في الخير. بل لعل استحباب التعجيل بالخير
يقتضي أولوية الكثير حينئذ. فتأمل جيدا.
الأمر الخامس : قد تضمن كثير من النصوص الحث على العمل الذي ورد عليه
الثواب ، كصحيح هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليهالسلام : «قال : من بلغه عن النبي صلىاللهعليهوآله شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول الله صلىاللهعليهوآله لم يقله» ، وصحيحه الآخر عنه عليهالسلام : «قال : من سمع شيئا من الثواب على شيء فصنعه كان له
وإن لم يكن على ما بلغه» ومعتبر محمد بن مروان عنه عليهالسلام : «قال : من بلغه عن النبي صلىاللهعليهوآله شيء من الثواب ففعل ذلك طلب قول النبي صلىاللهعليهوآله كان له ذلك الثواب وإن كان النبي صلىاللهعليهوآله لم يقله» وغيرها.
وقد يدعى ظهور
هذه النصوص في حجية الخبر الدال على الثواب مطلقا ، لصدق البلوغ عليه وإن كان
ضعيفا في نفسه. وعليه تبتني قاعدة التسامح في أدلة السنن التي عرفت بين الأصحاب ،
وعليها جروا في فتاواهم ، حيث يفتون بالاستحباب اعتمادا على النصوص الضعيفة التي
لا يعولون على مثلها في بقية الأحكام الشرعية. وكأن الوجه في استفادة حجية الخبر
المذكور من هذه
__________________
النصوص ظهور ذكر ترتب الثواب الموعود به في الحث على العمل بالخبر ومتابعته
، والأمر بمتابعة الطريق والعمل عليه ظاهر في حجيته في نفسه.
مناقشة دلالة
النصوص على القاعدة
لكنه يشكل بأن
الحث على متابعة الطريق إنما يكون ظاهرا في حجيته إذا رجع إلى الأمر بالاعتماد
عليه والبناء على تحقق مضمونه وتصديقه ، ولا ظهور لنصوص المقام في ذلك ، بل في
الحث على متابعته لرجاء إدراك الواقع معه ، ولا ظهور لذلك في الحجية بوجه ، بل ما
تضمنته من التنبيه على احتمال خطأ الخبر لا يناسب لسان الحجية المبنية على إلغاء
احتمال الخلاف عملا.
ومثل ذلك في
الضعف دعوى : أن هذه النصوص وإن لم تنهض بإثبات حجية الخبر الذي تضمن الثواب على
العمل ، إلا أنها تنهض بإثبات استحباب نفس العمل الذي بلغ الثواب عليه ، لظهور
الوعد بترتب الثواب على الفعل في مطلوبيته ، كظهور الوعيد بترتب العقاب عليه في
مبغوضيته ، ولذا استفيدت المطلوبية والمبغوضية شرعا لكثير من الأمور من مجرد ورود
الخبر بالوعد بالثواب والوعيد بالعقاب عليها من دون أن يتضمن الأمر بها أو النهي
عنها ، كالحج وزيارة المعصومين عليهمالسلام والإحسان للمؤمنين والإساءة لهم وشرب الخمر وغيرها.
وجه الضعف : أن
الوعد والوعيد على الفعل إنما يدلان على الأمر والنهي المولويين إذا لم يكن لهما
منشأ غيره ، كما في الموارد المذكورة ، دون ما إذا كان لأحدهما منشأ ارتكازي آخر
لا يتوقف عليهما ، كما هو في المقام ، لأن بلوغ الثواب على الفعل لما كان مستلزما
لبلوغ مطلوبيته شرعا ـ وإن لم يكن حجة ـ فهو يوجب كون الإتيان بالفعل برجاء ذلك
انقيادا للمولى يستحق به الفاعل الثواب في الجملة وإن لم يكن خصوص الثواب الموعود
به ، فلعل الوعد في
هذه النصوص بالثواب لذلك ، لا لمطلوبية الفعل شرعا. ولذا لا يستفاد الأمر
بالطاعة والنهي عن المعصية مولويا مما تضمن الحث والزجر بطريق الوعد والوعيد.
ومن هنا يتعين
الجمود على مفاد هذه النصوص من ترتب الثواب على العمل المذكور ، من دون أن يستفاد
منها استحبابه ، فضلا عن حجية الخبر الدال على ترتب الثواب عليه ، بل تتمحض في
الإرشاد لحسن الاحتياط والحث على الانقياد ، الذي هو حسن موجب لاستحقاق الثواب.
ودعوى : أن
العقل إنما يحكم بحسن الاحتياط والانقياد واستحقاق الثواب عليه في الجملة ، لا
خصوص الثواب الموعود فالحكم في هذه النصوص بترتب الثواب الموعود أمر زائد على ما
يحكم به العقل ، فلا بد أن يكون مسوقا لبيان الأمر المولوي. مدفوعة بأنه بعد أن
كان أصل الاستحقاق بحكم العقل فتحديد الثواب المترتب لا يلازم الأمر المولوي ، بل
قد يبتني على الإرشاد لتقوية الداعوية العقلية نحو الانقياد ، وذلك لأن تحديد الثواب
ليس من وظيفة العقل ، وإنما يحكم بأصل استحقاقه ، وتحديده دائما تابع للشارع حتى
في الإطاعة الحقيقية ، مع عدم الإشكال في أن تحديده فيها لا يكشف عن الأمر
المولوي.
بقي شيء
وهو أنه قد
تعرض جماعة للكلام في تحديد مفاد هذه النصوص وتشخيص ما هي ظاهرة فيه عموما وخصوصا.
وهو إنما ينفع
لو كان مفادها شرعيا أصوليا ـ وهو حجية الخبر الذي تضمن ترتب الثواب ـ أو فرعيا ـ وهو
استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب ـ لأن الظهور لما كان حجة في نفسه أمكن
الاعتماد عليه في إثبات الحكم الشرعي
والتعبد به.
أما بناء على
ما سبق من عدم تضمنها ذلك ، بل مجرد الحث على الانقياد والاحتياط ـ الذي هو حسن
عقلا ـ والوعد بفعلية الثواب عليه ، فلا أثر لتحديد ما هي ظاهرة فيه ، لأن حسن
الانقياد عقلي لا يختص بموردها ، بل يعم جميع موارد احتمال الحكم الاقتضائي من
الوجوب والاستحباب وغيرهما.
ولا تمتاز إلا
بالوعد بترتب الثواب في موردها ، وليس هو حكما شرعيا ، كي تنهض الحجة بإثباته
وتحديده ، بل هو أمر واقعي تابع ثبوتا لأسبابه الواقعية ، ولا أثر لقيام الحجة
عليه ، كي ينفع تحديد مؤداها من حيثيته سعة وضيقا.
ودعوى : أن
تحديد ما هي ظاهرة فيه ينفع في تحديد موضوع الثواب الموعود الذي هو الداعي للعمل ،
وذلك كاف في الأثر العملي المصحح للبحث والفحص.
مدفوعة بأن
ترتب الثواب الموعود ـ الذي هو الداعي للعمل ـ تابع لصدور الوعد به ، بضميمة العلم
بعدم خلفه تعالى للوعد ، وداعويته فعلا تابعة لقوة احتماله. ولا أثر لقيام الحجة
في ذلك ، بل لزوم تنفيذ الوعد تابع لصدوره واقعا قامت عليه الحجة أو لم تقم ، ومع
عدم صدوره لا يلزم المولى بتنفيذه وإن قامت عليه الحجة. وإنما ينفع قيامها في
التعذير والتنجيز وما يتبعهما من استحقاق العقاب وعدمه ، لا غير.
نعم قد ينفع
تشخيص الظهور في قوة احتمال الوعد بالثواب الموجب لقوة الداعي للانقياد وإن لم
يتيقن بترتب الثواب. كما قد يقوى احتمال ترتب الثواب لأسباب أخر غير الظهور ، كحسن
الظن به تعالى والوثوق برحمته ولطفه بعبده إذا كان متحريا لما يحبه ويرضاه متشبثا
باحتمال الوعد وإن ضعف.
وحيث عرفت هذا
أولها : أن نصوص المقام مختصة بما إذا تضمن الخبر تحديد ثواب
العمل ، لا أصل ترتب الثواب عليه من دون تعيين له ، كما هو ظاهر قوله عليهالسلام في صحيح صفوان : «من بلغه شيء من الثواب على شيء من
الخير فعمل به [فعمله. خ. ل] ...» وقوله في صحيح هشام : «من سمع شيئا من الثواب على شيء
فصنعه ...» وقوله عليهالسلام في خبر محمد بن مروان : «من بلغه ثواب من الله على عمل
فعمل ذلك العمل ...» .
نعم في صحيح
هشام بن سالم الآخر عن أبي عبد الله عليهالسلام : «قال : من بلغه عن النبي صلىاللهعليهوآله شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له ...» وقد ذكر شيخنا الأعظم قدسسره أن المراد من : «شيء من الثواب» بقرينة ضمير : «فعمله»
وإضافة الأجر له هو الفعل المشتمل على الثواب. وحينئذ فهو بإطلاقه يشمل العمل الذي
بلغ ترتب الثواب عليه من دون تحديد. ويعضده إطلاق ما عن الإقبال عن الصادق عليهالسلام : «قال : من بلغه شيء من الخير فعمل به كان له ذلك وإن
لم يكن الأمر كما بلغه» .
لكن كما يمكن
توجيه الصحيح بما تقدم يمكن إبقاء الثواب فيه على حقيقته ، وحمل ضمير : «فعمله»
على الاستخدام ، بأن يراد فعمل ما يوجبه ، وحينئذ يتجه إضافة الأجر إليه. ولا سيما
مع قرب اتحاده مع صحيحه الآخر المتقدم الذي لا إطلاق فيه ، والاختلاف بينهما بسبب
النقل بالمعنى. وأما مرسل الإقبال فضعفه مانع من الاستدلال به ، ولا سيما مع قرب
رجوعه للنصوص المسندة ، وكونه منقولا بالمعنى. ومن هنا لا مجال لاستفادة عموم
النصوص ، لما إذا بلغ أصل الثواب من دون تحديد.
__________________
نعم لا يبعد
إلغاء خصوصية مورد النصوص عرفا ، وتعميم مفادها لما إذا بلغ أصل الثواب من غير
تحديد ، لعدم دخلها في القضية الارتكازية التي تضمنتها النصوص بعد ظهور ورودها
مورد الامتنان ، والحث على فعل الخير ، والتأسي بالنبي صلىاللهعليهوآله ، وتحري مطابقة التشريع.
لكنه مبني على
حمل النصوص على ما سبق من الإرشاد لحسن الانقياد والحث عليه. أما بناء على حملها
على بيان حكم أصولي أو فرعي فحيث يكون مضمونها تعبديا محضا فلا مجال لإعمال
القرينة المذكورة. وإن كان عمل الأصحاب على التعميم. وعليه يبتني الكلام في جلّ
الفروع الآتية أو كلها. وكأنه لفهم عدم الخصوصية.
ثانيها : أنه لما كان الموضوع في المقام هو بلوغ الثواب ولو من
دون تحديد ـ كما سبق في الأمر الأول ـ فلا فرق بين بلوغه صريحا وبلوغه ضمنا
والتزاما ، كما يظهر من بعض كلماتهم المفروغية عن ذلك. لإطلاق النصوص في ذلك. ولا
سيما بملاحظة الارتكاز المشار إليه في الأمر الأول. ومن هنا يتجه العموم للأخبار
المتضمنة للأحكام وإن لم يصرح فيها بالثواب ، لما هو المفروغ عنه من ملازمة امتثال
الحكم الشرعي للثواب.
كما أن مقتضى
إطلاق النصوص العموم لجميع الأحكام الاقتضائية التي يترتب الثواب بامتثالها ، حتى
الحرمة والكراهة ، ولا وجه لتخصيصها بالوجوب والاستحباب ، فضلا عن خصوص الاستحباب.
ودعوى : اختصاص الأخبار بالخير والعمل الذي بلغ عليه الثواب ، وهو ظاهر في الأمر
الوجودي ، كما يشهد له التفريع بقولهم عليهمالسلام : «ففعل ذلك» و : «فعمل ذلك» و : «فصنعه» ونحوها ، ولا
يشمل بلوغ الثواب على الترك. مدفوعة بأن المناسبات الارتكازية تقتضي بأن المراد من
العمل مطلق فعل المكلف وإن كان عدميا ، ولا سيما بملاحظة أن فعله هنا بمعنى حمل
النفس عليه ، لأنه الذي يترتب عليه الثواب ،
دون مطلق تحققه. ولذا لا ريب في شمولها لما إذا دل الخبر على استحباب الترك
وترتب الثواب عليه صريحا.
ثالثها : من الظاهر أن الخبر الضعيف الدال على الحكم الإلزامي ـ
كالوجوب والحرمة ـ لما لم ينهض بإثبات الإلزام بنفسه فهو لا ينهض بإثباته بضميمة
هذه النصوص حتى بناء على دلالتها على حجية الخبر المتضمن للثواب ، لأن المتيقن من
حجيته حينئذ حجيته في إثبات ترتب الثواب على الفعل لا في تمام مدلوله بما في ذلك
الإلزام.
ومن الظاهر أن
رجحان متابعة الخبر المذكور من دون إلزام مطابق لاستحباب موافقته عملا وإن لم يكن
مؤداه الاستحباب. وكأن هذا هو الوجه في فتواهم باستحباب العمل الذي كان ظاهر النص
الضعيف وجوبه. وإلا فلا معنى لكون ضعف الخبر شاهدا بحمله على الاستحباب. كيف وقد
يعلم بعدم الاستحباب في مورده لدوران الأمر بين الوجوب والإباحة. فهو نظير الفتوى
باستحباب العمل الذي قامت الحجة على ورود الأمر به مع إجمال الأمر وتردده بين
الوجوب والاستحباب.
ومنه يظهر
اندفاع ما شدّد به صاحب الحدائق في كثير من الموارد من الإنكار عليهم في مثل ذلك ،
بأن ضعف الخبر لا يكون قرينة عرفية على حمله على الاستحباب.
رابعها : أن موضوع النصوص لما كان هو بلوغ الثواب وسماعه كان
مختصا بالخبر المبني على الحكاية ، دون سائر الطرق الكاشفة ، كالأولوية وتنقيح
المناط. كما أن الظاهر اختصاصه بالخبر الحسي دون الحدسي ، كفتوى المفتي. لانصراف
الخبر إليه ، ولذا يحتاج إرادة الحدسي من إطلاقه للتنبيه. ولا سيما مع اشتمال كثير
منها على تقييد البلوغ بكونه عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم الظاهر في
الإشارة للمعهود من الإخبار عنه في الروايات والأحاديث المسندة أو المرسلة.
ودعوى : أن
لازم ذلك قصورها عن فتوى المفتي في حق من يجب عليه تقليده. مدفوعة بأنه لا محذور
في ذلك ، غاية الأمر أن حجيتها في حقه مستغنية عن هذه النصوص. نعم الغالب أن إخبار
المجتهد بتحديد الثواب يستند للروايات ، فاطلاع من يقلده وغيره عليه يوجب صدق
البلوغ في حقه وإن كان بنحو مرسل ، فيدخل في مفاد النصوص.
خامسها : لا إشكال في شمول النصوص لبلوغ الثواب على العمل مع
عدم احتمال حرمته أو كراهته ، وأما مع احتمالهما فقد وقع الكلام بينهم في ذلك.
والذي ينبغي أن يقال : مع تنجز احتمال الحرمة بحجة أو غيرها لا مجال للبناء على
فعلية مفاد النصوص من رجحان الاحتياط بمتابعة الخبر الذي يكون به البلوغ ، لمزاحمة
حسن الاحتياط المذكور بلزوم الخروج عن المنجز. كما أنه يشكل شمولها لذلك بناء على
أن مفادها حجية الخبر الذي يتحقق به البلوغ أو استحباب الفعل الذي بلغ عليه
الثواب. لأن تفريع العمل على البلوغ ظاهر في أن من شأنه أن يترتب عليه ولو رجاء ،
فهي في مقام بيان فائدة العمل ، لا في مقام الحث عليه ابتداء ، ومن الظاهر أنه مع
مزاحمة البلوغ بلزوم الخروج عن المنجز لاحتمال الحرمة لا يكون البلوغ صالحا
للداعوية في نفسه.
أما قيام الحجة
على الكراهة فلا يمنع من شمول نصوص المقام بعد عدم لزوم العمل عليه عقلا ، بل
يتعين التزاحم بين الكراهة ومقتضى هذه النصوص من حسن الاحتياط بالاتيان بالعمل.
وكذا بناء على أن مفاد هذه النصوص استحباب الفعل الذي بلغ عليه الثواب. وأما بناء
على أن مفادها حجية الخبر الذي يتحقق به البلوغ فيكون المورد من موارد تعارض
الحجتين.
وأما مع عدم
تنجز احتمال الحرمة أو عدم قيام الحجة على الكراهة فاحتمالهما يقتضي حسن الاحتياط
، وبه يزاحم حسن الاحتياط بالإتيان بالعمل الذي تضمنته هذه النصوص أو استحبابه
الذي قيل باستفادته منها ابتداء أو بتوسط دلالتها على حجية الخبر الذي تحقق به البلوغ.
سادسها : الظاهر قصور نصوص المقام عن شمول الخبر مع قصور دلالته
على ترتب الثواب على الفعل ، لعدم صدق البلوغ والسماع معه ، وإن تحقق معه الاحتمال
الذي يحسن معه الاحتياط مع غض النظر عن هذه النصوص. أما لو انعقد ظهور الخبر في
ترتب الثواب فالظاهر شمول النصوص له وإن عورض بما هو أقوى دلالة بحيث يكون قرينة
عرفا على صرفه عن ظاهره كما في الخاص والعام والحاكم والمحكوم ، وكذا مع استحكام
التعارض بينهما. لصدق البلوغ في الموردين ، ما لم يوجب العلم أو الاطمئنان بكذب
الظهور.
سابعها : أنه ربما نسب للمشهور اختصاص نصوص المقام بالإخبار عن
الحكم الشرعي الكلي ، دون الموضوع الخارجي ، مثل ما ورد عنهم في تعيين بعض المساجد
والمراقد ونحوها مما يترتب عليها أحكام شرعية تستلزم الثواب. وهو الذي أصرّ عليه
بعض مشايخنا قدسسره بدعوى انصراف النصوص إلى ما يكون بيانه وظيفة للشارع ،
وهو الكبريات الشرعية.
وفيه : أنه لم
يتضح المنشأ للانصراف المدعى ، لعدم اختصاص وظيفة النبي صلىاللهعليهوآله ببيان الأحكام الكلية ، بل تعمّ بيان الموضوعات الخفية
وإن لم يكن ببيانها مشرعا ، وأخذ خصوصية التشريع في نصوص المقام لا شاهد له. ومن
هنا قد يدعى العموم للإخبار بالموضوعات من غير النبي صلىاللهعليهوآله ، كالمؤرخين ونحوهم ، لإطلاق بعض النصوص.
اللهم إلا أن
يقال : الإطلاق مختص بأحد صحيحي هشام بن سالم المتقدمين وبالمرسلين عن عدة الداعي
والإقبال ومن القريب اتحاد صحيح هشام مع صحيحه الآخر المختص
بالإخبار عن النبي صلىاللهعليهوآله ، والاختلاف بسبب النقل بالمعنى. كما أنه يقرب رجوع
المرسلين للأحاديث المسندة.
وأما خبر محمد
بن مروان : «سمعت أبا جعفر عليهالسلام يقول من بلغه ثواب من الله على عمل ، فعمل ذلك العمل
التماس ذلك الثواب أوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه» فبقرينة ذيله يكون المتيقن منه الإخبار عن النبي صلىاللهعليهوآله ، لانصراف الحديث لذلك. ومثله صحيح صفوان ، لاختلاف نسخه ، كما يظهر بمراجعته. ومن هنا لا مجال
لإثبات الإطلاق بنحو يشمل الإخبار من غير النبي صلىاللهعليهوآله.
نعم لا إشكال
ظاهرا في العموم للأخبار الصادرة عن الأئمة عليهمالسلام ، لرجوعها للإخبار عن النبي صلىاللهعليهوآله ، لأنهم منه يأخذون وعنه ينطقون.
التنبيه الخامس : تقدم أن الرجوع للبراءة كما يتجه في الشبهات الحكمية
يتجه في الشبهات الموضوعية. ويخرج عن ذلك ما إذا كان الشك في التكليف للشك في
القدرة التي هي شرط في فعليته عقلا. فيجب الاحتياط حتى يعلم بالتعذر المسقط
للتكليف. والظاهر عدم الإشكال فيه بينهم.
ويظهر من سيدنا
الأعظم قدسسره الاستدلال عليه بعموم دليل التكليف ، بناء منه على أن
العام حجة في الشبهة المصداقية من طرف الخاص إذا كان التخصيص لبيا ، كما في المقام
حيث كان تقييد التكليف بالقدرة بحكم العقل.
__________________
لكنه يشكل أولا : بعدم تمامية المبنى المذكور. ولو تم فهو مختص بما إذا
كان الخاص خفيا محتاجا للبحث ، دون مثل المقام مما يكون التخصيص فيه من الوضوح
بحدّ يكون من سنخ القرائن المتصلة المانعة من انعقاد ظهور العام في العموم ، إذ
تكون الشبهة حينئذ من طرف العام التي لا يكون العام حجة فيها بلا كلام.
وثانيا
: بأن التخصيص
بالقدرة وإن كان عقليا لبيا إلا أنه قد تظافرت الأدلة اللفظية به أيضا كحديث الرفع
وغيره.
فالظاهر أن
الوجه في لزوم الاحتياط مع الشك في القدرة هو بناء العقلاء على ذلك ، نظير بنائهم
على لزومه مع الشك في الفراغ ، لأن القدرة لما لم تكن دخيلة في الملاك فليس العجز
ارتكازا إلا من سنخ العذر المسقط للتكليف عقلا ، ولا يصح الاتكال على العذر إلا
بعد إحرازه ، ولا يكفي احتماله في قبح العقاب ورفع مسئولية الخطاب.
ومنه يظهر
الوجه في قصور عمومات البراءة الشرعية ، لأن المنسبق منها عدم التعويل على احتمال
ثبوت التكليف ، لا على احتمال سقوطه بطروء العذر مع تمامية موضوعه ، فتنصرف عن
المقام كما تنصرف عن صورة احتمال عدم التكليف لاحتمال الامتثال.
هذا ولا يبعد
جريان ذلك مع الشك في العذر الشرعي المسقط للتكليف مع تمامية موضوعه وملاكه ،
كالحرج ، لعين ما سبق. وأما الضرر فالاكتفاء فيه بالخوف في بعض الموارد ليس لأصالة
البراءة من التكليف مع الشك فيه ، بل للأدلة الخاصة المستفاد منها اهتمام الشارع
بالضرر والاحتياط منه وإرفاقه بالمكلف في عدم تعريضه له. فلاحظ.
والحمد لله رب
العالمين.
الفصل الثاني
في الشك في تعيين التكليف مع اختلاف المتعلق
وربما يعبر عنه
بدوران الأمر بين المتباينين. وقد تقدم أنه يعم صورة اتحاد سنخ التكليف ، كما في
الدوران بين وجوب القصر ووجوب التمام ، واختلافه ، كما في الدوران بين وجوب شيء
وحرمة آخر.
ومحل الكلام في
المقام هو أنه هل يلزم الجمع في مقام الامتثال بين أطراف الترديد تحصيلا للموافقة
القطعية ، أو يكفي الاقتصار على بعضها تجنبا للمخالفة القطعية ، أو يجوز ترك تمام
الأطراف وإن حصلت المخالفة القطعية.
كل ذلك الكلام
في مقتضى العلم الإجمالي المفروض في المقام.
تمهيد
ينبغي التعرض
لمنشا حرمة المخالفة ولزوم الموافقة القطعيتين في سائر موارد تنجز التكليف تمهيدا
لمحل الكلام في المقام ، فنقول : اندفاع المكلف للامتثال يبتني على أمور مترتبة في
نفسها :
الأول : جعل التكليف.
الثاني
: تنجزه.
الثالث : حدوث الداعي لامتثاله.
أما الأول فهو
مما يستقل به المولى ، ولا يشركه فيه غيره ، حتى في
المستقلات العقلية ـ بناء على التحسين والتقبيح ، وملازمة حكم الشارع لحكم
العقل ـ لأن مرجع الملازمة ليس إلى لزوم الحكم الشرعي للحكم العقلي تكوينا ، بل
إلى لزوم حفظ الشارع للملاك العقلي بجعل الحكم من قبله ، ليكون آكد في الداعوية ،
لأهليته للطاعة ، أو بملاك شكر المنعم ، أو بلحاظ ما يستتبعه من الثواب والعقاب
الصالحين للداعوية بملاك دفع الضرر ، الذي هو أمر فطري ، إذ قد لا يكفي الحكم
العقلي في الداعوية وفي حفظ الملاك.
وأما الثاني
فهو قد يستند للسبب التكويني ، وهو العلم ، لما سبق من أن حجيته ذاتية ، وقد يستند
لجعل الشارع للحجج والأصول ، كما قد يستقل به العقل ، كالظن الانسدادي بناء على
الحكومة.
وأما الثالث
فهو مما يستقل به العقل الحاكم بوجوب إطاعة المولى ، لأهليته للطاعة ، أو بملاك
شكر المنعم ، أو ثبوت الحق له بالنحو المقتضي لاستحقاق الثواب والعقاب. ويمتنع ردع
الشارع عن الحكم المذكور ، للغوية جعل الحكم بدونه. نعم له رفع موضوعه وهو الحكم
الشرعي ، أو رفع تنجيزه لو كان مستندا له.
هذا كله مع
إحراز أن عمل المكلف طاعة للتكليف وامتثال له ثبوتا. أما مع عدم إحراز ذلك بل
احتماله ، فإن كان ذلك لعدم إحراز جعل التكليف ، فهو مجرى لأصل البراءة ، على ما
تقدم في الفصل الأول. وإن كان ذلك لاحتمال سقوط التكليف بالامتثال مع إحراز جعله ،
فإن أحرز الامتثال شرعا أو عقلا تعين الاجتزاء به ، وإن لم يحرز الامتثال لم ينهض
ما سبق بإحداث الداعي للمكلف نحو العمل على ما يطابق التكليف ، لاختصاصه بمقام
الثبوت ، بل هو مبتن على أمر آخر ، وهو حكم العقل بلزوم إحراز الفراغ عن التكليف
المنجز ، وعدم الأمن من مسئولية التكليف بدونه ، وهو مفاد قاعدة الاشتغال.
ومن الظاهر أن
الحكم المذكور في طول حكمه بوجوب الطاعة الواقعية ومترتب عليه ترتب مقام الإثبات
على مقام الثبوت ، وليس هو عينه ، ولا راجعا إليه.
ولا ريب في
استقلال العقل بالحكم المذكور ، واختصاصه به ، والاستغناء به عن حكم الشارع في
ذلك. كما لا ريب في سلطان الشارع على رفع موضوعه بأن يتعبد بتحقق الامتثال وإحرازه
، بجعل الطريق عليه ، أو الأصل العملي المحرز له ، إذ لا يراد بإحراز الامتثال
اللازم عقلا إحرازه وجدانا بالقطع ، بل ما يعم الإحراز التعبدي.
هذا وقد يظهر
من بعض كلماتهم أنه ليس للشارع الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي بعد حكم العقل
المذكور ، بل ليس له إلا التعبد بالامتثال الرافع لموضوع حكم العقل المذكور.
لكن لا يبعد أن
يكون له ذلك ، وأن حكم العقل بلزوم الفراغ اليقيني مختص بما إذا لم يكتف الشارع
بالامتثال الاحتمالي ، فهو حكم اقتضائي قابل للردع الشرعي ، لعدم إباء الارتكازيات
العقلية عن ذلك ، والأحكام العقلية تابعة لها سعة وضيقا.
ويناسب ذلك أنه
لا إشكال في سلطان الشارع على التعبد بالامتثال في موارد الاحتمال ، كما سبق ،
وليس الفرق بينه وبين الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي إلا بمحض الجعل والاعتبار من
دون فرق حقيقي بينهما ، ومن البعيد جدا دخل ذلك في المرتكزات العقلية.
على أنه لو لم
نقل بذلك فمع تعذر الامتثال اليقيني هل يلتزم ببقاء التكليف واكتفاء العقل
بالامتثال الاحتمالي ، أو يلتزم بسقوط التكليف لملازمة وجوده لوجوب الفراغ اليقيني
عنه ، فمع تعذره لا بد من سقوطه؟ والأول
مناسب لما ذكرنا ، لأنه إذا أمكن تنازل العقل عن لزوم الفراغ اليقيني
بالتعذر أمكن تنازله عنه مع اكتفاء الشارع بالامتثال الاحتمالي. والثاني بعيد جدا
، بل تأباه المرتكزات العقلية ، فهل يحتمل مثلا مع تعذر معرفة القبلة وترددها بين
جهتين أن يسقط وجوب الاستقبال بالميت أو بالصلاة ، فيجوز دفن الميت أو الصلاة لجهة
ثالثة يعلم بعدم وجود القبلة فيها؟.
ودعوى : أن
العقل يختص بمقام الامتثال ، ولا دخل للشارع فيه. إنما تسلم بالإضافة إلى وجوب
الامتثال ثبوتا ، لا بالإضافة إلى مقام الإثبات عند الشك فيه ، بل كما كان له
التعبد بحصوله ، كان له الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي حينئذ. ولا أقل من الشك
المانع من الجزم بالامتناع ، حيث لا يصح حينئذ طرح ظواهر الأدلة فرارا عن اكتفاء
الشارع بالامتثال الاحتمالي.
ومن هنا لا
ضرورة للالتزام بأن القواعد الشرعية التي هي المرجع في مقام الامتثال ـ كقاعدة
الفراغ ، ونفي الشك لكثير الشك ، وفي النافلة ـ راجعة إلى التعبد شرعا بالامتثال
بلسان الطريق أو الأصل. بل لا مانع من البناء على رجوعها للاكتفاء بالامتثال
الاحتمالي. إلا أن تكون أدلتها ظاهرة في التعبد المذكور.
ثم إن الشك في
الامتثال .. تارة : يكون للشك في تحقق المكلف به مع وضوحه مفهوما ومصداقا
، كما لو شك المكلف في أنه هل صلى أو لا أو أن صلاته عن طهارة أو لا.
وأخرى : يكون للشك في انطباق المكلف به على بعض الأمور إما
لتردده بين المتباينين بنحو الشبهة الحكمية ـ كدوران الأمر بين القصر والتمام ، أو
الظهر والجمعة ـ أو الموضوعية ـ كتردد القبلة بين جهتين ـ أو لاحتمال توقف تحققه
على خصوصية مفقودة.
أما الأول فهو
أظهر موارد قاعدة الاشتغال. وأما الثاني فما كان التردد فيه
بين المتباينين يبتني الكلام فيه على منجزية العلم الإجمالي التي عقد هذا
الفصل للبحث فيها. وأما ما يحتمل توقف تحققه على خصوصية مفقودة فهو على قسمين :
أحدهما
: ما يرجع الشك
فيه للشك في اعتبار الخصوصية في المكلف به شرعا ، كاحتمال اعتبار الاستغفار أو
الطمأنينة في الصلاة. ومرجعه للدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين. الذي كان
المشهور المنصور فيه الرجوع للبراءة ، على ما يأتي في الفصل الرابع إن شاء الله
تعالى.
ثانيهما
: ما يرجع الشك
فيه للشك في توقف المكلف به خارجا على الخصوصية المذكورة من دون أن تكون معتبرة
فيه شرعا. واللازم الرجوع فيه لقاعدة الاشتغال ، لفرض تنجز التكليف وعدم الإجمال
في متعلقه ، وإنما الشك في تحقق المكلف به خارجا الذي لا إشكال بينهم في الرجوع
فيه للاشتغال.
وربما وقع
الكلام في تشخيص بعض الصغريات ، لترددها بين هذين القسمين. والمهم من ذلك موردان :
أحدهما
: أن يكون
المكلف به مسببا توليديا لا يكون موردا لاختيار المكلف إلا بتوسط سببه ، ويحتمل
اعتبار الخصوصية في سببه ، كالطهارة المسببة عن الوضوء الذي قد يتردد موضع المسح
فيه بين ما ينتهي بقبة القدم ، وما ينتهي بالمفصل ، أو تتردد الموالاة المعتبرة
فيه بين مرتبتين. وهو المعبر عنه بالشك في المحصل.
والمعروف فيه
الرجوع لقاعدة الاشتغال ، لأن التكليف بالمسبب التوليدي قد تنجز ، لفرض قيام
الدليل عليه ، وحيث لا إجمال فيه لا يكون موضوعا للبراءة ، كما لا مجال للرجوع
للبراءة من الخصوصية المحتملة في
سببه ، لعدم احتمال التكليف بها لنفسها ، وإنما يؤتى بها في ضمن السبب
لإحراز الفراغ عن المسبب ، اللازم بمقتضى قاعدة الاشتغال بعد إحراز التكليف به.
إن
قلت : لا مجال
للتكليف بالمسبب ، لعدم كونه مقدورا بنفسه ، بل المقدور هو سببه ، فلا بد من صرف
التكليف للسبب ، وحيث يحتمل دخول الخصوصية فيه ، كان المورد من موارد الدوران بين
الأقل والأكثر الارتباطيين.
قلت
: يكفي في صحة
التكليف بالمسبب عقلا القدرة عليه بتوسط القدرة على سببه ، ولا يتوقف على القدرة
عليه بالمباشرة ، ومع إحراز التكليف به يتعين إحراز الفراغ عنه بالمحافظة على
الخصوصية المعتبرة في السبب. مع أنه لو تم صرف التكليف للسبب حينئذ إلا أنه لا
يكون مكلفا به بذاته ، ليكون احتمال اعتبار الخصوصية فيه من صغريات الدوران بين
الأقل والأكثر الارتباطيين ، بل يكون مكلفا به بعنوان كونه سببا لمسببه المفروض ،
ولا بد من إحراز العنوان في مقام الامتثال في مثل ذلك على ما يأتي في الأمر
الثاني.
إن
قلت : هذا إنما
يتم فيما إذا كانت السببية تكوينية كسببية النار للإحراق. أما إذا كانت شرعية ـ كسببية
الغسل للطهارة ـ فبيان ما يعتبر في السبب من وظيفة الشارع ، ومع عدم ورود البيان
منه بدخل الخصوصية في السبب يتعين البناء على عدم دخلها فيه.
قلت : البناء على عدم دخل الخصوصية في السبب مع عدم ورود
البيان بدخلها من الشارع إن كان لانقلاب الأصل في السببية الشرعية ، فلا تجري فيها
قاعدة الاشتغال مع الشك في الامتثال ، فهو يحتاج للدليل المخرج عن القاعدة.
وإن كان لكشف
عدم تصدي الشارع لبيان عدم دخل الخصوصية عن عدم دخلها ، وإلا كان مخلا بوظيفته ،
فهو مسلم. لكنه ـ مع اختصاصه بما إذا لم
يحتمل حصول ما يمنع من بيان ذلك من تقية أو نحوها ـ لا يجري مع احتمال ضياع
البيان الصادر منه أو إجماله ، وإنما يتم مع العلم بعدم تصديه للبيان. وحينئذ يخرج
عن محل الكلام من فرض عدم الدليل على اعتبار الخصوصية الذي هو موضوع قاعدة
الاشتغال ، لأن عدم البيان حينئذ يكون بنفسه دليلا على عدم اعتبارها ، فيكون واردا
على القاعدة المذكورة.
ثانيهما
: أن يؤخذ في
المكلف به عنوان زائد على ذاته ، ويحتمل توقف انطباق العنوان على فعل المكلف على
واجديته للخصوصية الزائدة. وظاهر جماعة ـ منهم شيخنا الأعظم قدسسره ـ الرجوع فيه لقاعدة الاشتغال ، فيلزم الحفاظ على
الخصوصية المحتملة ليحرز صدق العنوان المأخوذ في المكلف به.
لكن ظاهر
المحقق الخراساني وسيدنا الأعظم «قدسسرهما» في مبحث الصحيح والأعم الرجوع فيه
للبراءة. وحاصل ما يقال في وجهه : أن العنوان المكلف به إذا كان متحدا مع فعل
المكلف بحيث يصح حمله عليه ويكون حاكيا عنه ـ كعنوان الناهي عن الفحشاء المتحد مع
الأفعال الصلاتية ـ فتردد الفعل بين واجد الخصوصية وفاقدها موجب لإجمال العنوان
الحاكي عنه من حيثية الخصوصية ، فلا يصلح دليل التكليف بالعنوان للبيان إلا
بالإضافة إلى المتيقن ، دون الخصوصية الزائدة ، فيرجع الشك للشك في التكليف بالخصوصية
، ويكون من صغريات مسألة الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين التي تقدم أن
المرجع فيها للبراءة.
والتحقيق : أن العنوان المنطبق على فعل المكلف الحاكي عنه .. تارة :
يحكي عن الفعل
بذاته ، كعنوان الصلاة الحاكي عن الأجزاء الخارجية ، وعنوان الأوقية الحاكي عن
الكمّ الخاص.
وأخرى : يحكي عن جهة خاصة قائمة به زائدة عليه ، سواء كانت
منتزعة
من ترتب شيء عليه ، كما في العناوين التسبيبية ـ كالناهي عن الفحشاء ،
والمطهر والدواء والمحرق ـ أم من نحو إضافة بينه وبين غيره ـ كالأكبر والمماثل
والمعاند ـ أم غير ذلك.
أما الأول
فاحتمال اعتبار الخصوصية في فعل المكلف مستلزم لإجماله ، لتردد ما يحكي عنه
العنوان المكلف به بين واجد الخصوصية والأعم منه ومن فاقدها ، فلا يصلح العنوان
للبيان بالإضافة إلى الخصوصية المحتملة ، ويتجه حينئذ الرجوع في الخصوصية للبراءة
، بناء على أنها المرجع عند الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين.
وأما الثاني
فاحتمال اعتبار الخصوصية في صدقه لا يوجب إجماله ، لتقوم العنوان بالجهة المنتزع
منها وحكايته عنها ، ولا يلزم من احتمال اعتبار الخصوصية إجمال تلك الجهة المحكية
بالعنوان ، بل المفروض أنها واضحة مفهوما ، فيصلح العنوان المأخوذ في دليل الحكم
للحكاية عنها ، ويكون الدليل بيانا للتكليف بها ، لأن التكليف بالعنوان يرجع
للتكليف بمنشإ انتزاعه ، فيجب إحراز الفراغ عنها وإحراز تحققها في الخارج
بالمحافظة على كل ما يحتمل دخله فيها ، ومنه الخصوصية المذكورة ، ولا مجال للرجوع
للبراءة من الخصوصية المحتملة.
إن
قلت : هذا القسم
من العنوان كما يحكي عن منشأ انتزاعه يحكي عن الذات المعنونة به ، وهي في المقام
فعل المكلف به بنفسه ، فإذا كان فعله مرددا بين واجد الخصوصية وفاقدها لزم إجمال
العنوان الحاكي عنه من حيثية الخصوصية المذكورة ، فلا يصلح للبيان عليها وتنجيزها.
قلت
: عدم منجزية
العنوان للخصوصية بنفسها لا ينافي لزوم المحافظة عليها من أجل إحراز الفراغ عن
منشأ الانتزاع المفروض حكاية العنوان عنه
ومنجزيته له ، لعدم إجماله من حيثيته.
نعم لو كان أخذ
العنوان في التكليف لمحض حكايته عن الفعل الخارجي والإشارة به إليه ، من دون أن
يكون العنوان بنفسه وبمنشإ انتزاعه موضوعا للتكليف ، كان الشك في اعتبار الخصوصية
موجبا لإجمال المكلف به وتردده بين الأقل والأكثر. لكنه خارج عن محل الكلام.
ولنكتف بهذا
المقدار من الكلام في قاعدة الاشتغال ، ونرجع إلى موضوع الكلام في هذا الفصل ، وهو
دوران الأمر بين المتباينين.
والكلام فيه في مقامين :
المقام الأول : في المخالفة القطعية
ربما قيل بجواز
المخالفة القطعية للعلم الإجمالي بالتكليف بأحد المتباينين ، رجوعا في كل منهما
للأصل بعد عدم العلم بثبوت التكليف فيه بخصوصه. لكن المعروف المنع منها. وهو الحق
، لثبوت المقتضي للمنع وعدم المانع.
أما المقتضي
فقد استدل عليه شيخنا الأعظم قدسسره بإطلاق دليل الحكم الواقعي الشامل للمعلوم بالإجمال.
لكنه كما ترى ، لعدم الإشكال ظاهرا في فعلية التكليف الواقعي في مورد العلم
الإجمالي ، كيف؟ ولا إشكال في فعليته مع الشك البدوي لو صادف ثبوته فيه ، لما هو
المعلوم من اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل ، وغاية ما يدعيه الخصم هو عدم تنجز
الحكم المذكور مع العلم الإجمالي ، كما لا يتنجز مع الشك البدوي.
فالأولى في
دفعه ما تقدم في الفصل الخامس من مباحث القطع من عدم الفرق بين العلم الإجمالي
والتفصيلي في التنجيز ـ الذي تقدم أنه المقتضي للزوم الموافقة القطعية ـ لاشتراكهما
في الجهة المقتضية للعمل. ومجرد مقارنة
العلم الإجمالي للجهل وعدم تعيين التكليف المعلوم وتحديده لا أثر له في
الجهة المذكورة.
وأما عدم
المانع فلأنه لا منشأ لتوهم المانع إلا دعوى : أن مقتضى عموم أدلة الأصول
الترخيصية ـ من البراءة وغيرها ـ جواز إهمال احتمال التكليف في جميع الأطراف وإن
استلزم المخالفة القطعية ، لتحقق موضوعها ـ وهو الشك ـ في كل طرف بخصوصه.
وحيث كان
الكلام في ذلك مهما جدا ، لما يترتب عليه من الفوائد في المقام وغيره فاللازم
النظر
أولا : في عموم
أدلة الأصول بدوا لأطراف العلم الإجمالي.
وثانيا : في
إمكان العمل بها في تمام الأطراف بنحو يقتضي الترخيص في المخالفة القطعية. فنقول :
الأمر الأول : في عموم أدلة الأصول بدوا لأطراف العلم الإجمالي. وقد
وقع الكلام في ذلك بين المتأخرين. ويظهر من جماعة ـ منهم شيخنا الأعظم قدسسره ـ قصور العموم المذكور عن الأطراف المذكورة. وقد يقرب
بوجوه ..
الأول : أن إطلاق العلم المجعول غاية في نصوص قاعدة الحلّ ،
وإطلاق اليقين في ذيل نصوص الاستصحاب شامل للعلم واليقين الإجمالي ، فيرتفع ـ تبعا
له ـ الحكم بالحلّ وببقاء الحالة السابقة في الطرفين وإن لم يعلم الحكم فيها
تفصيلا.
وفيه : أن
المستفاد من نصوص قاعدة الحل أن العلم بالتكليف إنما يرفع الحلّ في موضوعه ، لا في
موضوع آخر مشكوك فيه ، وحينئذ فالعلم الإجمالي إنما ينهض برفع الحل عن موضوعه ،
وهو الواحد المردد على ما هو عليه من
الإبهام والترديد بين الأطراف ، ولا ينهض برفعه بالإضافة إلى كل طرف
بخصوصيته بعد كونه مشكوكا في حكمه ، وقد سبق أن اختلاف العنوان في الموضوع الواحد
كاف في اختلاف الموضوع من حيثية العلم والجهل. وكذا الحال في نصوص الاستصحاب ، فإن
ظاهرها وجوب نقض اليقين باليقين مع اتحاد موضوعهما ، لا مع اختلافه ولو بالإجمال
والتفصيل.
الثاني : أن المعلوم بالإجمال لما كان هو الخصوصية المبهمة
الصالحة للانطباق على كل طرف بنفسه وخصوصيته ، فهو متحد مع أحد الأطراف واقعا ،
فإذا كان أحدها موضوعا للعلم الرافع للأصل لزم من جريان الأصل في تمام الأطراف
التناقض ، لوضوح التناقض بين جريان الأصل في تمام الأطراف وعدم جريانه في بعضها.
وفيه : أن
انطباق المعلوم الإجمالي على بعض الأطراف بخصوصه واقعا لا ينافي كون كل منها
بعنوانه التفصيلي موضوعا للشك الذي هو موضوع الأصل ، لأن تعلق العلم والجهل
بالموضوع لا يكون بقيامهما به بذاته مع تمحض العنوان في الحكاية كما هو الحال في
تعلق الأعراض الخارجية به ـ كالقيام والمرض ـ بل يتعلقان به بلحاظ عنوانه الذاتي
أو العرضي بحيث يكون العنوان جهة تقييدية غير متمحض في الحكاية ، ومن ثم يمكن
اجتماعهما معا في الموضوع الواحد بلحاظ اختلاف عناوينه ، فقد يكون الرجل الواحد
معلوم المرض مثلا بعنوان كونه زيدا مجهول المرض بلحاظ كونه ابن عمرو أو عالما.
وحينئذ يمكن
كون أحد الأطراف في المقام موضوعا للعلم بعنوان كونه أحد الأطراف المفروضة على إبهامه
، أو بعنوان كونه الملاقي للنجس مثلا ، وكون كل منهما بعنوانه التفصيلي موضوعا
للشك ، من دون تناف بين الأمرين.
ويترتب على ذلك
عموم دليل الأصل لكل منهما بعنوانه التفصيلي ، وإن
كان يقصر عن أحدهما المبهم بعنوانه الإجمالي أو بالعنوان الخاص الذي صار به
موضوعا للعلم ، من دون أن يلزم التناقض من ذلك ، لتعدد الموضوع حقيقة تبعا لتعدد
العنوان.
الثالث
: أنه لما كان
العلم واليقين في أدلة الأصول يعم العلم واليقين الإجمالي ، فالعلم الإجمالي وإن
لم يناف الشك ـ الذي هو موضوع الأصل ـ في كل طرف بخصوصه ، وإنما ينافيه في الأمر
المردد على إجماله ، إلا أن عموم موضوع الأصل لأطراف العلم الإجمالي مستلزم
للتناقض بين التعبدين ، وهما التعبد بمؤدى الأصل في كل طرف بخصوصه ، بلحاظ كونه
موردا للشك ، والتعبد بمقتضى العلم المانع من مفاد الأصل في المعلوم بالإجمال له ،
للتناقض بين مفادي الموجبة الكلية والسالبة الجزئية ، فيمتنع جعل كلا التعبدين ،
ويتعين البناء على قصور الأصل عن شمول الأطراف بخصوصيتها ، دفعا لذلك.
ولا مجال لرفع
اليد عن عموم التعبد بمفاد العلم واليقين الإجمالي ، لأن عموم التعبد بمفاد العلم
بسبب ارتكازيته آب عن التخصيص جدا. وحينئذ لا مجال لإحراز تحقق موضوع الأصول ذاتا
في أطراف العلم الإجمالي بخصوصياتها وإن كانت موردا للشك ، لأن مرجع قصور الأصل عن
الأطراف إلى عدم كون موضوعه مطلق الشك.
وفيه : أن أدلة
الأصول وإن تضمنت لزوم العمل بالعلم وعدم جريان الأصول معه ، إلا أنه لا يرجع
للتعبد شرعا بذلك ، كالتعبد بمفاد الأصل مع الشك ، ليلزم التناقض بين التعبدين ،
بل هو إشارة لحجية العلم الذاتية ، غير القابلة للجعل ، ولا للردع الشرعي ، فليس
في المقام إلا التعبد بمفاد الأصل في الأطراف ، لتحقق الشك فيها.
غاية الأمر أنه
قد ينافي العلم عملا ، وهو لا يستلزم قصور موضوع الأصل
عن الأطراف ذاتا ، بل غايته أن يكون من سنخ المانع من فعلية جريان الأصل ،
على ما يأتي الكلام فيه.
على أنه لو غض
النظر عن ذلك ، فتضمن أدلة الأصول لزوم العمل بالعلم الشامل للإجمالي لا يستلزم
قصور عموم دليل الأصل عن أطراف العلم الإجمالي ذاتا ، بحيث تخرج تخصصا أو تخصيصا ،
بل المرتكز في الجمع بين المغيى والغاية في نصوص قاعدة الحل ، وبين الصدر والذيل
في نصوص الاستصحاب ، هو الالتزام بتعدد الحيثية والجهة ، بنحو تؤثر كل جهة
لمقتضاها ، مع إعمال القواعد الارتكازية عند اجتماع الجهتين المختلفتين عملا ،
وذلك بالبناء على أن الأصل لا يقتضي ترتب مضمونه مطلقا ومن جميع الجهات ، بل من
حيثية الشك المأخوذ في موضوعه ، كما أن العمل بالعلم إنما يقتضي متابعته في مورده
لا غير.
ومع اجتماع
الجهتين واختلاف مقتضاهما عملا ـ كما في موارد العلم الإجمالي ـ يرجع لقواعد التزاحم
بين الجهتين. فمع كونهما اقتضائيتين بنحو الإلزام يتعين البناء على تزاحمهما
وتساقطهما عملا ، كما لو علم إجمالا بحرمة أحد مستصحبي الوجوب. ومع كون إحداهما
اقتضائية دون الأخرى يتعين العمل على الاقتضائية ، وإن كانت الأخرى تجري ذاتا.
مثلا : لو علم
بحرمة أحد أمرين ، فمقتضى الأصل في كل طرف إهمال احتمال التكليف فيه من حيثية الشك
فيه بنفسه ، وإن لزم الاحتياط بتركه من حيثية توقف الخروج عن العلم الإجمالي
المنجز بذلك. كما أنه لو علم إجمالا بتطهير أحد الإنائين المشتبهين نجسا سابقا ،
فالعلم الإجمالي وإن اقتضى السعة بالإضافة للمردد المعلوم بالإجمال ، إلا أنه لا
ينافي تنجز احتمال التكليف في كل من الخصوصيتين من حيثية سبق اليقين بنجاسته والشك
في طهارته ، المقتضي لاستصحاب النجاسة.
وقد تحصل من
جميع ذلك : أن مقتضى عموم أدلة الأصول جريانها في أطراف العلم الإجمالي ذاتا ،
لتحقق موضوعها فيها ، وهو الشك ، وإن كان العلم الإجمالي قد يمنع من فعلية العمل
على مقتضى الأصل ، بلحاظ استلزامه المخالفة القطعية للتكليف المنجز بالعلم.
وعلى ذلك يبتني
ما اشتهر بينهم من إمكان التفكيك في مفاد الأصول بين الأمور المتلازمة خارجا ، فمن
اغتسل بمائع مردد بين البول والماء مثلا يستصحب الحدث وطهارة البدن من الخبث ، مع
العلم إجمالا بانتقاض إحدى الحالتين ، لأن العمل بالأصل في الموردين لا يستلزم
محذور المخالفة القطعية لتكليف منجز.
الأمر الثاني : في فعلية جريان الأصول في الأطراف بنحو يقتضي
المخالفة القطعية. ولا ينبغي التأمل في امتناع ذلك ، لأن جواز المخالفة القطعية
مستلزم للغوية التكليف ، فمع فرض فعلية التكليف وتنجزه لا بد من امتناعها. ولا
مجال لجوازها ـ بارتكاب تمام الأطراف ـ إلا برفع تنجز التكليف ، أو رفع فعليته.
ولا مجال للأول
مع ما سبق من أن حجية العلم الإجمالي ـ كالتفصيلي ـ ذاتية لا تقبل الردع الشرعي.
نعم لو كان
الإجمال مقتضى حجة شرعية ـ كما لو قامت البينة على نجاسة أحد الإناءين إجمالا ـ أمكن
للشارع رفع اليد عن حجيتها. إلا أنه لا مجال لاستفادة ذلك من أدلة الأصول ، إذ هي
إنما تتضمن التعذير والتنجيز من حيثية الشك ، من دون نظر لها للردع عن حجية الحجج
، سواء كان مؤدى الحجج تفصيليا أم إجماليا ، بل مقتضى دليل حجية الحجج العمل عليها
في مواردها.
ومن ثم كان
المعروف تقديم الحجج على الأصول مع وحدة موضوعها ،
على ما يأتي في محله إن شاء الله تعالى.
وأما الثاني ـ وهو
رفع فعلية التكليف ـ فهو وإن كان ممكنا في نفسه في المقام بأن يكون الإجمال رافعا
لفعلية التكليف الواقعي ، إلا أن أدلة الأصول لا تنهض بذلك أيضا ، لظهورها في جعل
الوظيفة الظاهرية بعد فرض الشك في الواقع الظاهر في المفروغية عن فعلية الحكم
الواقعي لو كان موجودا.
ودعوى : لزوم
البناء على ذلك في المقام تصحيحا لجريان الأصول بعد فرض عموم أدلتها لأطراف العلم
الإجمالي ، حيث تكون دالة عليه بدلالة الاقتضاء.
مدفوعة بأن
دلالة الاقتضاء على شيء موقوفة على انحصار رفع لغوية الدليل عرفا بالحمل عليه ،
ولا مجال لذلك هنا بعد إمكان حمل إطلاق دليل الأصل في موارد العلم الإجمالي على ما
سبق ، وهو جريان الأصل من حيثية الشك ، وإن لم يمكن العمل عليه بسبب العلم
الإجمالي ، لكون العلم المذكور من سنخ المانع من فعلية الأصل ، بل حمل إطلاق دليل
الأصل على ذلك أقرب من حمله على رفع فعلية الواقع.
على أن المراد
بحمله على رفع فعلية الواقع إن كان هو حمله على ذلك في جميع موارد الشك ـ الذي هو
موضوع الأصل ـ فهو مستلزم للخروج به عن كونه أصلا ظاهريا إلى كونه قاعدة واقعية
تتضمن الترخيص مع الشك ، وهو خروج بأدلة الأصول عن ظاهرها ، وعن المفروض في محل
الكلام.
وإن كان هو حمله
على ذلك في خصوص أطراف العلم الإجمالي لزم التفكيك في مفاد العموم بين موارده ،
الذي هو ممتنع عرفا ، نظير استعمال اللفظ في أكثر من معنى.
نعم لو ورد
الترخيص في خصوص أطراف العلم الإجمالي المنجز ، كان
حمله على رفع فعلية التكليف الواقعي متعينا بدلالة الاقتضاء ، إذ يتعذر
عرفا حمله حينئذ على الترخيص الظاهري الاقتضائي من حيثية الشك مع مانعية العلم
الإجمالي من فعليته ، لاستلزامه حمل الدليل على بيان حكم غير عملي ، وهو مخالف
للظاهر جدا.
ومن هنا قد
يشكل الأمر في صحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليهالسلام : «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتى تعرف
الحرام منه بعينه فتدعه» فإن فرض التقسيم فيه للحلال والحرام الظاهر في كونه
منشأ الاشتباه ، ثم جعل الغاية للحلّ معرفة الحرام المفروض اشتباهه ، ظاهر في
إرادة العلم الإجمالي ، وفي فعلية الترخيص في أطرافه ، وتوقف ارتفاعه على العلم
التفصيلي بالحرام.
لكن حيث يمتنع
حمله على الردع عن حجية العلم الإجمالي ـ لما سبق ـ فلا بد من حمله إما على
الترخيص الواقعي ، لكون الإجمال رافعا لفعلية التكليف المعلوم بالإجمال. أو على
العلم الإجمالي غير المنجز ، لعدم انحصار الشبهة المستلزم لخروج بعض الأطراف عن
الابتلاء.
والأقرب الثاني
، لظهور لسان الصحيح في إرادة التعبد بالحلية ظاهرا ، لعدم المقتضي للتنجيز ، لا
في كون الإجمال مقتضيا لجعل الحل. ولذا استفيد ذلك من موثق مسعدة بن صدقة ونحوه
مما تضمن قاعدة الحل ، وتقدم في أدلة البراءة. وقريب منهما نصوص قاعدة الطهارة.
بل هو المتعين
بلحاظ ورود المضمون المذكور في الصحيح عن عبد الله بن سليمان ومرسل معاوية بن عمار
الواردين في الجبن وغيره ، حيث يراد
__________________
بهما إهمال احتمال حرمة بعض أفراد النوع ، مع وضوح عدم الابتلاء غالبا
بجميع أفراد أي نوع فرض ، لكثرتها. كما هو صريح موثق أبي الجارود : «سألت أبا جعفر
عليهالسلام عن الجبن فقلت له : أخبرني من رأي أنه يجعل فيه الميتة
فقال :
أمن أجل مكان
واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين؟! إذا علمت أنه ميتة فلا تأكله ، وإن لم
تعلم فاشتر وبع وكل ...» .
ولا سيما مع
ظهور الصحيح في فرض وحدة في الأمر المنقسم للحلال والحرام ، وهو لا يكون في أطراف
العلم الإجمالي إلا بلحاظ الوحدة النوعية التي تستلزم غالبا خروج بعض الأطراف عن
الابتلاء.
وبالجملة : لا
ينبغي الإشكال بعد التأمل في مفاد الصحيح وفي النصوص المشار إليها في حمله على
إرادة العلم الإجمالي غير المنجز.
وهو المناسب
لما تضمن منجزية الشبهة المحصورة ، كالنصوص الواردة في الإنائين المشتبهين والثوبين المشتبهين والشاة الموطوءة المشتبهة في قطيع الغنم .
نعم ورد
الترخيص في المال مع اختلاطه بالحرام في بعض الموارد . لكن بألسنة أخر ، فلو نهض بالحجية تعين حمله على سقوط
الحرمة عن الفعلية بسبب الاختلاط ، أو خروج العلم عن المنجزية بسبب خروج بعض
الأطراف عن الابتلاء ، ولم يصلح شاهدا لما نحن فيه. وتمام الكلام في محله.
__________________
ولأجل ذلك لا مجال للخروج عما ذكرنا من القاعدة.
هذا وقد يدعى
أن العمل بالأصل في تمام الأطراف إنما ينافي العلم الإجمالي بالتكليف إذا كان
ارتكابها دفعيا ، للعلم حينئذ بمخالفة التكليف المعلوم بالإجمال عند ارتكابها ،
بخلاف ما إذا كان تدريجيا ، حيث لا يعلم بمخالفة المعلوم بالإجمال عند ارتكاب كل
منها ، وإنما يعلم بمخالفته بعد ارتكابها بتمامها ، وهو ليس بمحذور ، إذ لا يتنجز
المعلوم بالإجمال حينئذ ، لعدم الأثر له.
لكنه يندفع بأن
المحذور ليس في الارتكاب نفسه لو تم الترخيص فيه ظاهرا ، بل في نفس الترخيص
الظاهري ، ومن الظاهر أن الترخيص في تمام الأطراف ليس تدريجيا ، لدخولها في عموم
أدلة الأصول في عرض واحد ، والترخيص فيها ظاهرا مناف لتنجز التكليف المعلوم
بالإجمال المقتضي لحرمة مخالفته القطعية.
نعم لو كان
الترخيص تدريجيا ، لاختلاف زمان الابتلاء بالأطراف ـ بحيث لا ابتلاء بكل طرف إلا
قبل الابتلاء بغيره أو بعد المخالفة فيه ـ لم يمتنع جريان الأصول في الجميع بنحو
التدريج ، لعدم منافاة الترخيص المستفاد منها في كل طرف للعلم الإجمالي ، ولا يكون
العلم الإجمالي منجزا حينئذ ، كما يأتي في التنبيه الرابع.
وقد تحصل من
جميع ما تقدم : أن لزوم المخالفة القطعية للتكليف المنجز مانع من العمل بالأصول
الترخيصية في تمام أطراف العلم الإجمالي. وهو المراد بلزوم الترخيص في المعصية في
بعض كلماتهم ، إذ لا يراد بالمعصية إلا مخالفة التكليف المنجز.
بقي شيء
وهو أن المحذور
المذكور مختص بجريان الأصول الترخيصية في أطراف العلم الإجمالي بالتكليف ، ولا
موضوع له في غير ذلك.
لكن الظاهر
عموم المنع لكل مورد ينافي حجية العلم ، وإن كان المعلوم بالإجمال أمرا غير
التكليف ، ولا يلزم من جريان الأصل في تمام الأطراف المعصية. لأن حجية العلم حيث
كانت ذاتية لا تقبل الردع تعين امتناع جعل الأصل المخالف لها عملا.
مثلا : لو علم
إجمالا باستحباب أحد أمرين امتنع جريان الأصل النافي للاستحباب فيهما معا ، لأن
العلم باستحباب أحدهما ـ بمقتضى حجيته الذاتية ـ ينقح موضوع حسن الطاعة ، كما ينقح
العلم بوجوب أحدهما موضوع وجوبها ، ولا مجال مع ذلك للتعويل على الأصل المذكور.
ومن ثم حكموا بأنه لو علم ببطلان إحدى النافلتين لم تجر قاعدة الفراغ فيهما معا.
كما أنه لو علم
بإباحة أحد أمرين امتنع الرجوع للأصل المقتضي لحرمة كل منهما ـ كالاستصحاب ـ لأن
مقتضى الأصل المذكور تنجيز احتمال الحرمة في كل منهما والتعبد بها ، بحيث يكون
تركه بملاك المعصية فيه ، وهو مناف للعلم بإباحة أحدهما.
نعم لو ترتب
الأثر على الأصل الجاري في بعض الأطراف بالنحو الذي لا ينافي العلم المذكور اتجه
جريانه ، كما لو كان لأحد الطرفين المسبوقين بالنجاسة والمعلوم فعلا طهارة أحدهما
ملاق برطوبة فإنه يتعين استصحاب نجاسة الملاقى لإثبات نجاسة الملاقي ، لعدم
منافاته للعلم بطهارة أحدهما ، بخلاف ما لو كان لكل منهما ملاق ، فإنه لا مجال
لاستصحاب نجاستهما معا لإثبات نجاسة الملاقيين ، لمنافاته للعلم بطهارة أحدهما
وطهارة ملاقيه.
وبالجملة : لا
بد في جريان الأصل من ترتب الأثر العملي بنحو لا ينافي العمل المترتب على العلم ،
وليست المخالفة القطعية للتكليف المعلوم إلا من صغريات ذلك ، من دون أن تكون تمام
المحذور.
المقام الثاني : في الموافقة القطعية
والمعروف
وجوبها في المقام ، وعن بعض دعوى الإجماع عليه. وإن كان القول بجواز تركها
والاكتفاء بالموافقة الاحتمالية محكيا عن بعض ، وليس هو شاذا كإنكار حرمة المخالفة
القطعية.
وكيف كان فعدم
وجوب الموافقة القطعية إما أن يكون لدعوى قصور العلم الإجمالي عن اقتضائها ، أو
لدعوى وجود المانع مع تمامية المقتضي في نفسه.
أما
الأولى : فيظهر
اندفاعها مما تقدم في الفصل الخامس من مباحث القطع من أن العلم الإجمالي كالتفصيلي
في التنجيز ، بضميمة ما تقدم في التمهيد لمحل الكلام من أن تنجيز التكليف يقتضي
عقلا لزوم إحراز الفراغ عنه بالموافقة القطعية.
ودعوى : أنه
لما كان العلم الإجمالي في المقام عبارة عن العلم بوجوب أحد الأمرين مثلا فهو لا
يقتضي إلا تنجيز أحدهما بالنحو المقتضي لعدم تركهما معا ، دون ما زاد عليه من
الخصوصية ، لعدم المنجز لها بعد فرض الجهل بها ، فالامتثال بأحد الطرفين إطاعة
قطعية للتكليف المنجز ، وإن كان إطاعة احتمالية للتكليف الواقعي.
مدفوعة بأن
تنجيز العلم تابع للواقع المعلوم ، والمفروض أن التكليف المعلوم مشتمل على إحدى
الخصوصيتين ، فالخصوصية معلومة على إبهامها وإجمالها ، فيلزم إحراز الفراغ عنها ،
وهو لا يكون إلا بالجمع بين الطرفين.
وليس التكليف المعلوم واردا على عنوان أحدهما بحيث ينطبق على كل منهما ،
كما في الواجب التخييري ، ليقطع بالفراغ عنه بأحد الأمرين :
«وأما الثانية»
: فلا منشأ لها إلا توهم أن الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية مقتضى أدلة الأصول بعد
امتناع جريانها في تمام الأطراف ، لاستلزامه المخالفة القطعية. واللازم النظر في
نهوض أدلة الأصول بذلك وعدمه ، فنقول :
يظهر مما تقدم
في التمهيد لمحل الكلام أن وجوب الموافقة القطعية راجع إلى حكم العقل بأن الاشتغال
اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني ، وأن رفع اليد عنه يتوقف على أحد أمور ..
الأول : رفع موضوع القاعدة إما برفع فعلية التكليف مع الشك في
امتثاله ، أو برفع تنجيزه حينئذ.
الثاني : الردع عن مقتضاها بالاكتفاء بالامتثال الاحتمالي ،
بناء على ما تقدم منا من أن حكم العقل بلزوم إحراز الفراغ والامتثال اقتضائي قابل
للردع.
الثالث : التعبد بالامتثال ، لقيام الحجة عليه أو لكونه مقتضى
الأصل ، كما هو لسان التعبد بدليل القرعة لو تم في المقام ، لرجوعه إلى تعيين المعلوم
بالإجمال في أحد الأطراف ، فتكون موافقته امتثالا له تعبدا ، والمراد بالفراغ
اليقيني ما يعم ذلك.
وكأنه إلى هذا
يرجع ما ذكره شيخنا الأعظم قدسسره من جواز الترخيص في بعض الأطراف بنحو جعل البدل الظاهري
، كما هو صريح بعضهم في بيان المراد من جعل البدل المذكور. وإلا فلا معنى لجعل
البدل الظاهري بمجرد الترخيص في بعض الأطراف والمنع من الآخر من دون تعبد بأنه هو
المعلوم بالإجمال ، بل هو راجع حينئذ للترخيص في المخالفة الاحتمالية وعدم لزوم
الفراغ اليقيني ، مع ظهور كلام شيخنا الأعظم قدسسره في
المفروغية عن لزومه.
وكيف كان فلا
مجال لاستفادة الأول من أدلة الأصول ، لما تقدم في المقام الأول من عدم نهوض
أدلتها برفع فعلية التكليف ، بل هي في مقام بيان الوظيفة العملية عند الشك فيه بعد
الفراغ عن فعليته لو كان ثابتا.
كما تقدم
امتناع الردع عن منجزية العلم الإجمالي ـ كالتفصيلي ـ وأنه لو كان منشأ الإجمال
حجة شرعية ـ كما لو قامت البينة على نجاسة أحد الإنائين ـ فالردع عن حجية الحجة مع
إجمال مؤداها وإن كان ممكنا ، إلا أن الأصول لا تنهض بذلك.
وكذا الحال في
الثاني ، فإن الردع عن لزوم الموافقة القطعية والاكتفاء بالموافقة الاحتمالية وإن كان
ممكنا ، إلا أن أدلة الأصول لا تنهض بذلك ، لأنها إنما تتضمن بيان الوظيفة العملية
مع عدم المنجز للتكليف ، لا الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي مع تنجزه ، فهي مسوقة
مساق قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لا مساق الردع عن قاعدة الاشتغال ، لتنفع في
المطلوب.
وأما الثالث
فلعل الأمر فيه أظهر ، فإن إحراز الامتثال بموافقة أحد المحتملين موقوف في المقام
على النظر للمعلوم بالإجمال وتعيينه في بعض الأطراف ، لتكون موافقة احتمال التكليف
في الطرف المذكور امتثالا له ، وأدلة الأصول بعيدة عن ذلك جدا ، حيث لا تتضمن إلا
رفع التكليف عملا في مورد الشك ، لعدم المنجز له.
بل لما كان
مقتضاها رفعه في جميع موارد الشك بنحو العموم الاستغراقي كان مقتضاها رفع التكليف
في تمام الأطراف وعدم الحرج في مخالفة احتمال التكليف في كل منها ، وهو مستلزم
للمخالفة القطعية ، وحيث لا يمكن البناء على ذلك يتعين قصورها عن تمام الأطراف ،
لعدم المرجح بينها.
إن
قلت : احتمال
الحلية في أطراف العلم الإجمالي ليس كاحتمالها في موارد الشبهة البدوية ، فإن
احتمالها في موارد الشبهة البدوية في عرض واحد ، فيكون مفاد أدلة الحل والبراءة
الترخيص فيها كذلك ، أما احتمالها في أطراف العلم الإجمالي فهو بنحو آخر ، لرجوع
احتمالها في كل طرف لاحتمال الحرمة في الآخر ، فإعمال أدلة البراءة والحل في كل
منها كما يقتضي الترخيص فيه ، يقتضي البناء على الحرمة في الآخر ، وليس مرجع ذلك
للترخيص في الكل بنحو يجوز ارتكاب الكل لتلزم المخالفة القطعية ، بل للترخيص في كل
منها مع البناء على الحرمة في الآخر المساوق للترخيص التخييري ، من دون أن يستلزم
المخالفة القطعية.
قلت
: التلازم بين
عدم التكليف في بعض الأطراف وثبوته في غيره ، لا يقتضي اتحاد احتمال عدم التكليف
في كل منها مع احتمال ثبوته في الآخر ، بل لا إشكال في تعدد الاحتمال تبعا لتعدد
الموضوع ، غاية الأمر هو التلازم بين الاحتمالين ، تبعا للتلازم بين المحتملين ،
ومن الظاهر أن مقتضى الأصول الترخيصية هو البناء على ما يطابق احتمال عدم التكليف
، دون احتمال التكليف.
بل لو قيل
بوحدة الاحتمال فأدلة الأصول الترخيصية لا تقتضي البناء على مقتضاه من جميع الجهات
بحيث تقتضي البناء على ثبوت التكليف في الطرف الآخر ، بل من حيثية السعة ورفع
الحرج لا غير. ولازم ذلك البناء على الترخيص في تمام الأطراف المقتضي لجواز
المخالفة القطعية ، وحيث كان ذلك ممتنعا تعين قصور الأصل عن تمام الأطراف ، كما
سبق.
إن
قلت : مع امتناع
شمول الأصول الترخيصية لتمام الأطراف فعدم المرجح بينها لا يقتضي قصور إطلاق أدلة
الأصول عن الكل ، بل عن أحدها تخييرا ، نظير ما لو علم بعدم الجمع بين فردين من
أفراد العام ، ودار الأمر بين
خروجهما معا وخروج أحدهما تخييرا ، كما لو وجب إكرام العلماء وعلم بعدم
وجوب الجمع بين إكرام زيد وإكرام عمرو ، حيث لا مجال للبناء على جواز ترك إكرامهما
معا ، بل يتعين البناء على وجوب إكرام أحدهما تخييرا ، اقتصارا في الخروج عن عموم
العام على المتيقن.
قلت : لا مجال للبناء على جريان الأصل الترخيصي في الأطراف
تخييرا ، للفرق بينه وبين المثال المتقدم بأن مرجع التخيير في المثال المتقدم إلى
رفع اليد عن إطلاق الحكم الأحوالي في كل من الفردين ، وتقييد ثبوت الحكم فيه بعدم
فعل المأمور به في الآخر ، وهو قد يكون أهون عرفا من رفع اليد عن عموم العام في
الفردين معا وإخراجهما منه رأسا. أما في المقام فمرجع التخيير إلى إناطة جريان
الأصل باختيار المكلف ، وهو أبعد عرفا عن مفاد الأدلة من البناء على ثبوت حكم
العام في كلا الفردين اقتضاء لو لا العلم الإجمالي المانع من فعليته.
فالمقام نظير
عموم الحكم الوضعي ـ كالنجاسة والزوجية ـ لو فرض تعذر عمومه لفردين ، حيث يتعين
عرفا ـ مع عدم المرجح لأحدهما ـ البناء على ثبوته اقتضاء في كل منهما لو لا المانع
، لا على ثبوته فعلا في أحدهما تخييرا. إلا أن يدل الدليل الخاص على التخيير ،
فيتعين ، عملا به ، لا بعموم العام ، كما ورد في من تزوج أختين أو خمسا في عقدة
واحدة .
على أنه مما
تقدم يظهر أن جواز ارتكاب بعض أطراف العلم الإجمالي بعد فرض تنجيز التكليف المعلوم
بالإجمال موقوف إما على رفع فعلية الحكم لو صادف ثبوته فيه ، أو على الترخيص في
المخالفة الاحتمالية ، أو على التعبد بالامتثال في بعض الأطراف لتعيين التكليف
المعلوم بالإجمال فيه ، والكل بعيد
__________________
عن مفاد أدلة الأصول ، كما سبق.
ودعوى : أن
أدلة الأصول وإن لم تنهض بأحد الأمور المذكورة بنفسها ، إلا أنه لا بد من استفادة
أحدها منها بدلالة الاقتضاء ، لتوقف شمول عموم أدلتها للأطراف على ذلك.
مدفوعة أولا : بأنه إذا توقف إعمال العام في فرد على إعمال عناية
زائدة عن مفاده أشكل نهوض أصالة العموم بإثبات دخول الفرد في حكم العام واستفادة
العناية منه بدلالة الاقتضاء ، بل تخصيص العام بالإضافة إلى ذلك الفرد أقرب عرفا.
وثانيا : بأن البناء على أحد الأمور المذكورة وإن كان يصحح
ارتكاب بعض الأطراف ، إلا أنه ليس بملاك الأصل الظاهري المؤمن من التكليف لعدم
المنجز له ، ليكون إعمالا لدليل الأصل ، بل بملاك آخر مباين لمفاد الدليل المذكور
مغن عنه ، فلا مجال لاستفادته من دليل الأصل ، فضلا عن استفادة أحد هذه الأمور منه
تبعا لذلك ، ودلالته عليه بدلالة الاقتضاء.
ومن هنا لا
تصلح أدلة الأصول للمنع من وجوب الموافقة القطعية التي سبق تمامية المقتضي لها ،
بل يتعين البناء على وجوبها ، ومانعية ذلك من جريان الأصول الترخيصية في أطراف
العلم الإجمالي ، وإن كان المقتضي لجريانها في تمام الأطراف تاما بلحاظ تمامية
موضوعها فيها ، كما سبق.
بقي شيء
وهو أنه مما
تقدم يظهر أن المانع من جريان الأصول الترخيصية في أطراف العلم الإجمالي بالتكليف ليس
هو لزوم المخالفة القطعية ، ليختص بما إذا كانت جميع الأطراف مجرى للأصل الترخيصي
، بل هو منجزية العلم الإجمالي للتكليف المعلوم بالإجمال ، المقتضية للموافقة
القطعية بالاحتياط في
تمام الأطراف ، بعد عدم نهوض دليل الأصل في كل طرف برفع ذلك ، إما برفع
فعلية التكليف المعلوم بالإجمال لو صادف الطرف المذكور ، أو بالردع عن وجوب
الموافقة القطعية ، أو بالتعبد بالامتثال ، كما سبق.
ولازم ذلك عدم
جريان الأصل الترخيصي ـ بنحو يعمل عليه ـ في بعض الأطراف أيضا إذا لم يكن الباقي
مجرى لأصل ترخيصي ولا إلزامي.
وتوضيح ذلك :
أن الأصل .. تارة : يقتضي الترخيص في تمام الأطراف.
وأخرى : يقتضي الترخيص في بعضها والمنع من الآخر ، كما لو كان
أحد الإنائين المعلومي النجاسة نجسا سابقا والآخر طاهرا كذلك وثالثة : يقتضي
الترخيص في بعضها من دون أن يجري في الآخر أصل شرعي ترخيصي ولا إلزامي.
ولا إشكال في
عدم جريان الأصل في الأول ، لاستلزامه المخالفة القطعية. وفي جريانه في الثاني ،
لأن الأصل الإلزامي في بعض الأطراف لما كان منجزا له مع قطع النظر عن العلم
الإجمالي كان موجبا لانحلال العلم الإجمالي حكما وسقوطه عن المنجزية ، كما يأتي في
محله إن شاء الله تعالى ، ومعه لا منجز لاحتمال التكليف في الطرف الآخر ليمنع من
جريان الأصل الترخيصي فيه.
وأما الثالث
فاللازم جريان الأصل الترخيصي فيه لو انحصر المانع من جريانه في أطراف العلم
الإجمالي بلزوم المخالفة القطعية ، لعدم لزومها من ذلك بعد عدم جريان الأصل إلا في
طرف واحد. أما بناء على ما سبق من لزوم الموافقة القطعية فاللازم عدم جريان الأصل
الترخيصي في محل الكلام ، لمنافاته لها ، كما صرح بذلك غير واحد.
لكن أصرّ بعض
الأعاظم قدسسره على جريان الأصل الترخيصي حينئذ «إما» لكونه موجبا لكون
الطرف الآخر بدلا قهريا عن المعلوم بالإجمال ، وبه يحصل
الفراغ التعبدي عنه «وإما» لكونه موجبا لانحلال العلم الإجمالي ، لأن العلم
الإجمالي كما ينحل بالمنع من بعض الأطراف ينحل بالترخيص في بعضها ، لأن الأصل
المنافي يكون مؤمّنا من احتمال التكليف في الطرف المذكور ، ويبقى الطرف الآخر بلا
مؤمّن.
ويندفع الأول
بأن الترخيص في بعض الأطراف لا يكفي في كون الآخر بدلا عن المعلوم بالإجمال بالنحو
الذي يحرز معه الفراغ تعبدا ما لم يكن ناظرا للمعلوم بالإجمال وشارحا له ، كما
تقدم في أول الكلام في وجوب الموافقة القطعية ، وتقدم أن أدلة الأصول لا تنهض
بذلك.
كما يندفع
الثاني بأن الأصل الترخيصي الجاري في بعض الأطراف إنما يكون مؤمّنا من احتمال
التكليف فيه من حيثية ثبوته في الطرف بخصوصيته ، ولا يكون مؤمّنا من التكليف
المعلوم بالإجمال ـ المنجز في نفسه ـ بعد عدم نظره إليه ، ولا شرحه لإجماله ، بل
الطرف المذكور من حيثية التكليف المعلوم بالإجمال كالطرف الآخر الذي لا يجري فيه
الأصل ، فمع فرض تنجز التكليف المذكور بالعلم ، ولزوم إحراز الفراغ عنه ـ لعدم
ترخيص الشارع في المخالفة الاحتمالية ـ يتعين لزوم الاحتياط في الطرف المذكور ،
وإن لم يجب الاحتياط فيه من حيثية احتمال التكليف فيه بخصوصيته.
ومثله ما ذكره
بعض مشايخنا قدسسره من أن العلم الإجمالي لا يزيد على العلم التفصيلي ،
فكما يمكن أن يكتفي الشارع مع العلم التفصيلي بالامتثال الاحتمالي ـ كما في موارد
قاعدة الفراغ والتجاوز ـ كذلك يمكن له الاكتفاء به مع العلم الإجمالي بطريق أولى.
لاندفاعه بأنه
إن أريد من الاكتفاء بالفراغ الاحتمالي التعبد بالفراغ مع الشك ـ كما يظهر منهم في
موارد قاعدة الفراغ ـ فقد تقدم عدم نهوض الأصل
بذلك ، لعدم نظره للمعلوم بالإجمال. وإن أريد به الاكتفاء به مطلقا ولو مع
عدم التعبد بالفراغ فهو وإن كان ممكنا إلا أن أدلة الأصول لا تنهض به ، كما تقدم.
هذا وقد تظهر
الثمرة لذلك فيما لو علم إجمالا بنجاسة أحد إناءين أحدهما متيقن الطهارة سابقا دون
الآخر ، فإن استصحاب الطهارة يعارض بأصالة الطهارة في الآخر ، وبعد تساقطهما
تتعارض أصالة الطهارة في الأول مع أصالة الحلّ في الآخر ، وبعد تساقطهما تجري
أصالة الحلّ في الأول بلا معارض.
لكن أصرّ بعض
الأعاظم قدسسره على عدم جريان أصالة الحلّ في الأول بدعوى : أن ملاك
التعارض بين الأصول لما كان هو تعارض مؤدياتها وما هو المجعول فيها ، وكان مفاد
استصحاب الطهارة وأصالة الطهارة واحدا لزم سقوطهما معا بالمعارضة لأصالة الطهارة
في الاناء الآخر. ومجرد حكومة الاستصحاب في مورد على أصالة الطهارة لا يوجب سقوط
استصحاب الطهارة أولا ، ثم جريان أصالة الطهارة بلا معارض. ومن ثم ذكر قدسسره أنه لم يعثر على مورد لجريان الأصل في بعض الأطراف دون
الآخر.
لكن ما ذكره لا
يناسب مسلكه في تقديم الأصول الحاكمة على المحكومة ، وأن المحكومة لا يتم موضوعها
في عرض الحاكمة ، كما ذكر ذلك شيخنا الاستاذ قدسسره.
كما أن الظاهر
جريان الأصل في خصوص بعض الأطراف أيضا إذا خرج الآخر عن الابتلاء ، على ما يأتي إن
شاء الله تعالى. ولازم ما ذكره قدسسره جواز ارتكاب الطرف الذي يجري فيه الأصل الترخيصي حتى لو
كان خروج الآخر عن الابتلاء بعد تنجز التكليف بالعلم الإجمالي. مع عدم الإشكال
ظاهرا في عدم جواز ارتكابه حينئذ ، على ما يأتي في محله إن شاء الله تعالى. ومن
هنا لا
ينبغي التأمل في ضعف المبنى المذكور. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق.
بقي في المقام تنبيهات ..
التنبيه الأول : في الشبهة الموضوعية
المقصود بالأصل
في محل الكلام هو الشبهة الحكمية ، لأنها مورد الاستنباط الذي هو وظيفة المجتهد ،
والذي كان علم الأصول مقدمة له. إلا أن جميع ما سبق يجري في الشبهات الموضوعية ،
لعدم الفرق بينها وبين الشبهات الحكمية في حكم العقل المتقدم.
بل تمتاز عن
الشبهات الحكمية ببعض النصوص المتضمنة لبعض الأصول ـ كموثق مسعدة بن صدقة الوارد
في قاعدة الحل ـ وبالنصوص الواردة في موارد العلم الإجمالي ، كما تقدم.
كما تمتاز عن
الشبهات الحكمية أيضا بما حكاه شيخنا الأعظم قدسسره عن بعضهم من الرجوع للقرعة ، فإنه وإن حكى ذلك في خصوص
الشبهة الموضوعية التحريمية إلا أنه قد يتعدى للشبهة الموضوعية الوجوبية. وأما
الشبهة الحكمية فقد ادعى المحقق الخراساني قدسسره الإجماع على عدم الرجوع فيها للقرعة ، وظاهر غير واحد
ممن تأخر عنه المفروغية عن ذلك. ويشهد به ما هو المعلوم من سيرة الأصحاب رضى الله
عنه من عدم عدها من أدلة الأحكام.
هذا ولا يخفى
أن القرعة تصلح لتمييز المعلوم بالإجمال وشرحه ، بنحو يرجع لتعيين التكليف المجمل
وللتعبد بالامتثال في بعض الأطراف ، الذي هو مقتضى قاعدة الاشتغال. ولا فرق في ذلك
بين كونها من الطرق وكونها من الأصول ، فإن الأصل إنما لا يصلح لتمييز المعلوم
بالإجمال إذا تمحض في بيان الوظيفة العملية في مورده من دون نظر للواقع ، أما إذا
كان ناظرا له وواردا لشرحه فاللازم العمل به على حسب مقتضاه.
ولعله لذا ورد
الإرجاع للقرعة في مورد العلم الإجمالي في صحيح محمد بن عيسى عن الرجل عليهالسلام : «أنه سئل عن رجل نظر إلى راع نزا على شاة. قال : إن
عرفها ذبحها وأحرقها ، وإن لم يعرفها قسمها نصفين أبدا حتى يقع السهم بها ، فتذبح
وتحرق ، وقد نجت سايرها» ونحوه مرسل تحف العقول .
وينبغي الكلام
في عموم الرجوع إليها في الشبهات الموضوعية خروجا عما تقدم من القاعدة المقتضية
للاحتياط. وهو موقوف على النظر في نصوص القرعة ، وهي طوائف ثلاث ...
الأولى
: ما تضمن
الإرجاع لها في موارد خاصة ، إما لا تعين فيها للأمر المقترع فيه ، مثل من أوصى
بعتق ثلث مماليكه ، أو نذر عتق أول مملوك يملكه ، فملك أكثر من واحد ، وإما مع تعين الأمر المقترع فيه واقعا ، إلا أنه لا
تجري فيه الأصول الشرعية ولا العقلية ، مثل ما لو وطأ الجارية جماعة فولدت من
أحدهم ، وما لو انهدمت الدار وبقي صبيان اشتبه الحرّ منهما بالعبد ، أو تجري فيه أصالة الاحتياط ، كالحديثين المتقدمين.
الثانية : ما تضمن تشريعها في موارد التنازع ، كصحيح عاصم بن
حميد عن أبي بصير عن أبي جعفر عليهالسلام في حديث بعث رسول الله صلىاللهعليهوآله أمير
__________________
المؤمنين عليهالسلام إلى اليمن « ... فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : ليس من قوم تقارعوا وفوضوا أمرهم إلى الله إلا خرج
سهم المحق» وغيره.
الثالثة
: ما تضمن
تشريعها في المجهول ، ولم أعثر فيه إلا على رواية محمد بن حكيم أو حسنته : «سألت
أبا الحسن عليهالسلام عن شيء ، فقال لي : كل مجهول ففيه القرعة. قلت له : إن
القرعة تخطئ وتصيب. قال : كلما حكم الله به فليس بمخطئ» .
هذا وقد تردّد
في بعض كلماتهم : «القرعة لكل أمر مشكل». لكن لم أعثر عاجلا على نص به. ولعله
مستفاد من النصوص المتقدمة.
أما الطائفة
الأولى فهي مختصة بمواردها. وورود بعضها ـ كالحديثين المتقدمين ـ في مورد أصل
الاحتياط لا يكفي في عموم الرجوع إليها في موارده ، وفي الخروج عن القاعدة
المتقدمة ، المعتضدة بما ورد في الإنائين ، والثوبين المشتبهين . ولا سيما مع اختصاص الحديثين المذكورين بما إذا لزم من
الاحتياط الضرر المالي المعتد به ، بل إتلاف المال الكثير.
وأما الطائفة
الثانية فهي أجنبية عما نحن فيه ، لعدم ورودها لبيان تشريع القرعة ، بل لبيان ضمان
تسديدها وإصابتها للواقع إذا ابتنت على تفويض الأمر لله تعالى من قبل المقترعين ،
بعد الفراغ عن مشروعيتها في الجملة من دون أن يكون لها إطلاق في ذلك.
على أنه لا
يرجع في شيء من موارد التنازع للاحتياط حتى في موارد
__________________
العلم الإجمالي ، ليكون تشريع القرعة منافيا له.
وأما الطائفة
الثالثة فهي وإن كانت شاملة لما نحن فيه إلا أن عمومها لكل مجهول مستلزم لكثرة
التخصيص فيها ، لوجوب الخروج عنها في جميع موارد الأصول الشرعية ، لأنها أخص منها
، وفي الشبهات الحكمية من موارد الأصول العقلية ، لما تقدم من التسالم على عدم
الرجوع إليها في الشبهات المذكورة ، وفي كثير من موارد الاشتباه الأخر ، كاشتباه
درهم الودعي بين شخصين ، وميراث الغرقى والمهدوم عليهم ، والخنثى المشكل ، واشتباه
القبلة ، والثوبين ، والإنائين المشتبهين ، وغير ذلك مما دل فيه الدليل الخاص على
عدم الرجوع للقرعة. وذلك يوجب جريان حكم الإجمال على العموم المذكور ، فلا يخرج به
في المقام عن مقتضى القاعدة من الاحتياط. ولا سيما مع اشتهار القول بوجوب الاحتياط
فيه معتضدا ببعض النصوص ، كما سبق.
التنبيه الثاني : فيما لو اختلفت الأطراف حقيقة أو خطابا
لا فرق في
منجزية العلم الإجمالي ومانعيته من الرجوع للأصول الترخيصية بين اندراج الأطراف
تحت حقيقة واحدة وعدمه ، فكما يكون العلم الإجمالي بنجاسة أحد الماءين منجزا كذلك
يكون العلم الإجمالي بنجاسة الثوب أو البدن منجزا. لعدم الفرق في وجه منجزية العلم
الإجمالي بينهما. خلافا لما عن صاحب الحدائق مما ظاهره عدم التنجز مع اختلاف
الحقيقة.
وربما يرجع ما
ذكره إلى تفصيل آخر ، وهو أنه لا بد من رجوع التكليف في جميع الأطراف إلى خطاب
واحد معلوم تفصيلا ، كما في التردد بين القصر والإتمام ، الراجع للعلم بتوجه
الخطاب بالصلاة ، والتردد بين نجاسة الثوب أو البدن الراجع للعلم بمانعية النجاسة
من الصلاة.
أما لو دار الأمر
بين خطابين فلا يكون منجزا ، كما لو دار الأمر بين نجاسة
أحد الإناءين وغصبية الآخر. ومنه ما إذا علم بنجاسة الثوب أو الطعام ، حيث
يعلم بتوجه أحد خطابين إما حرمة أكل النجس أو مانعية النجاسة من الصلاة.
وقد يوجه بأن
منشأ العلم الإجمالي هو شمول إطلاق دليل التكليف للواحد المعلوم بالإجمال المردد
بين الأطراف ، وهو إنما يتم مع اندراجه تحت خطاب واحد ، أما مع التردد بين خطابين
فلا يعلم شمول كل منهما للمعلوم بالإجمال.
وفيه : أنه مع
منجزية العلم الإجمالي لا يقدح تعدد الخطاب ، للعلم بشمول أحد الخطابين للمعلوم
بالإجمال ، ومع عدم منجزيته لا تنفع وحدة الخطاب ، لانحلال الخطاب إلى تكاليف
متعددة بعدد الأفراد ، فالعلم بأحد فردين لخطاب واحد راجع للعلم بأحد تكليفين
إجمالا ، لا للعلم بتكليف معين بخصوصه.
وبالجملة : لا
أثر لوحدة الخطاب وتعدده في منجزية العلم الإجمالي. كما لا أثر لهما في منجزية
العلم التفصيلي ، فكما يلزم اجتناب الحرام المعين لو علم عنوانه تفصيلا ، كالخمر ،
يلزم اجتنابه لو تردد بين عنوانين ، كالأرنب والجلال.
التنبيه الثالث : في معيار ترتيب الآثار
الظاهر أن
معيار منجزية العلم الإجمالي هو ترتب العمل على الأمر المعلوم ، بلحاظ حسن أو لزوم
الطاعة عقلا ، لما سبق في وجه منجزية العلم من أن فعلية العمل مع كون المعلوم
موضوعا له تترتب على العلم تكوينا. أما مع عدم ترتب العمل فلا موضوع للمنجزية.
وحينئذ تختص
منجزية العلم الإجمالي بما إذا كان المعلوم بالإجمال حكما تكليفيا اقتضائيا ،
كالوجوب والاستحباب. وقد تقدم في ذيل الكلام في المخالفة القطعية حكم ما لو دار
الأمر بين الحكم الإلزامي والحكم الاقتضائي
غير الإلزامي.
وأما الحكم
الوضعي فإن كان منتزعا من الأثر التكليفي كان طرفا للتنجيز ، كمانعية النجاسة من
الوضوء أو الصلاة ، المنتزعة من تقييد المطلوب بغير النجس ، لأنه يقتضي نحوا من
العمل في مقام الامتثال لا يترتب بدونه. وإن كان مجعولا بنفسه لم يكن موضوعا
للتنجيز إلا بلحاظ أثره التكليفي الفعلي ، فلو لم يكن له أثر تكليفي فعلي لم يصلح
للتنجيز ، لعدم ترتب العمل عليه ، كما لو علم بنجاسة أحد الدرهمين مثلا ولم يكن
لهما ملاق مورد للعمل. ومجرد استلزام نجاسة كل منهما نجاسة اليد أو الثوب
الملاقيين له برطوبة ، التي يترتب عليها العمل ، لا يكفي ما لم يكن ذلك فعليا
بفعلية الملاقاة.
وكذا لو علم
بنجاسة أحد الأمرين من اليد والدرهم ، لأن الأثر العملي لما كان مختصا بنجاسة اليد
لم يكن معلوما إجمالا ولم يصلح العلم للتنجيز ، بل يتعين الرجوع لأصالة الطهارة في
اليد ، لعدم المانع بعد عدم منجزية العلم.
هذا ولا ريب
ظاهرا في أنه لو اشتركت الأطراف في أثر واحد أو اختص كل منها بأثر وجب الاحتياط في
الجميع ، للعلم بثبوت ما به الاشتراك أو ما به الامتياز إجمالا ، على ما سبق في
التنبيه الثاني. وإنما الإشكال فيما لو اشتركت في بعض الآثار واختص أحدها بأثر ،
كما لو علم إجمالا بأن أحد الثوبين حرير والآخر من أجزاء ما لا يؤكل لحمه ، حيث
يشتركان في المانعية من الصلاة ، ويمتاز الحرير بحرمة اللبس مطلقا.
وقد يظهر من
شيخنا الأستاذ قدسسره أن المنجز حينئذ هو الأثر المشترك ، لأنه المتيقن ، دون
المختص ، لعدم كونه معلوما تفصيلا ، ولا طرفا لعلم إجمالي ، لفرض عدم وجود أثر
يختص بالطرف الآخر ليكونا معا طرفين لعلم إجمالي.
فلا مانع من
الرجوع للأصل الترخيصي في الأثر المذكور.
وفيه : أن
اشتراك الطرفين في أثر واحد لا يوجب اختصاص التنجيز به بعد كون طرف الترديد واجدا
للأثرين المشترك والمختص معا ، بل يكونان معا طرفا للترديد وللعلم الإجمالي من دون
مرجح ، نظير ما لو كان أحد الطرفين ذا أثرين مباينين سنخا للأثر الواحد في الطرف
الآخر ، كما لو علم إجمالا بنجاسة المسجد أو الماء ، حيث يكون الأثر في الأول وجوب
التطهير ، وفي الثاني المانعية من الوضوء وحرمة الشرب معا.
نعم لو كان
الأثر معلوما بالتفصيل بأن اتحد الموضوع لزم انحلال العلم الإجمالي ، كما لو علم
بأن الثوب المعين إما حرير أو من أجزاء ما لا يؤكل لحمه ، حيث يعلم تفصيلا
بمانعيته من الصلاة ، ويشك في حرمة لبسه تكليفا ، فتتنجز المانعية بالعلم التفصيلي
وتجري البراءة من حرمة اللبس.
بخلاف ما إذا
كان التردد في ثوبين كما هو محل الكلام ، حيث لا يكون الأثر معلوما بالتفصيل ، بل
بالإجمال ، حيث يتردد الأمر بين فردين منه كل منهما في طرف ، ففي المثال يتردد
الأمر بين فردين من المانعية من الصلاة في أحد الثوبين ، وليس أحد الفردين وحده
طرفا للترديد ، بل هو والأثر المختص معا من دون مرجح ، فيتعين تنجيزهما معا ، كما
ذكرنا.
التنبيه الرابع : في أنه لا بد من فعلية التكليف على كل حال
لما كان ملاك
منجزية العلم الإجمالي ترتب العمل على المعلوم بالإجمال ، ليكون وصوله بالعلم
موجبا لفعلية داعويته للعمل ، فلا بد فيها من صحة الخطاب بالتكليف على كل حال
ليترتب عليه العمل ويتحقق موضوع الداعوية للطاعة عقلا.
فلو كان بعض
الأطراف مبتلى بالمانع من فعلية التكليف ـ كالاضطرار والتعذر والحرج ـ لم يصلح
العلم الإجمالي لتنجيز التكليف ، ليجب مراعاة
احتماله في الأطراف الأخر الخالية من المانع ، لعدم كونه في الحقيقة علما
بالتكليف الفعلي ، بل الاقتضائي الذي لا يستتبع العمل ، غاية الأمر أنه يحتمل ثبوت
التكليف الفعلي في الأطراف المذكورة من دون أن يتنجز بعلم إجمالي يمنع من جريان
الأصل الترخيصي فيها.
هذا وقد ذكر
شيخنا الأعظم قدسسره أن من جملة ما يمنع من فعلية التكليف عدم الابتلاء
بمتعلقه ، بحيث يعد عرفا أجنبيا عن المكلف ويستهجن توجيه الخطاب به إليه. ورتب على
ذلك عدم منجزية العلم الإجمالي مع خروج بعض أطرافه عن الابتلاء.
ولا يخلو كلامه
في تحديد عدم الابتلاء عن غموض ، لاختلاف الأمثلة التي ذكرها له ، فإنها ترجع إلى
أقسام أربعة ..
الأول
: ما لا يكون
فيه لأحد طرفي العلم الإجمالي أثر تكليفي أصلا ولو تعليقيا ، كوقوع قطرة البول على
ظهر حيوان ، حيث لا أثر لذلك حتى بالإضافة إلى الملاقي ، لما هو المعلوم من عدم
نجاسة الحيوان مطلقا أو بعد زوال عين النجاسة ، فلا ينجس الملاقي للحيوان إلا مع
بقاء عين النجاسة ، ومعه يستند تنجس الملاقي لملاقاتها ، لا لملاقاة ظهر الحيوان.
الثاني : ما يكون أثره تعليقيا لا غير ، كنجاسة ظاهر الإناء ،
حيث لا توجب أثرا تكليفا فعليا إلا بملاقاة ما لنجاسته أثر تكليفي ، كالثوب.
الثالث
: ما لا يكون
من شأن المكلف التعرض له ، لوجود صوارف خارجية عنه ، كنجاسة الماء المستقذر الذي
ليس من شأن المكلف عادة شربه أو استعماله في التطهير.
الرابع
: ما يكون
موردا لتكليف فعلي مانع من استعماله ، كتنجس الإناء المغصوب ، حيث يحرم استعماله
مع قطع النظر عن نجاسته.
ومن الظاهر
خروج الأول عن محل الكلام ، لأن عدم فعلية التكليف فيه لعدم الموضوع ، لا لعدم
الابتلاء. وكذا الثاني ، لعدم اشتغال الذمة بالتكليف التعليقي ، بل ليس هو تكليفا
حقيقة. نعم لو علم بتحقق ما يوجب فعلية التكليف من جهته فيما بعد لم يبعد منجزية
العلم الإجمالي ، على ما يأتي في التدريجيات إن شاء الله تعالى. فلم يبق إلا
الأخيران ، والكلام فيهما في مقامين :
المقام الأول
فيما لا يكون من شأن المكلف التعرض له ، لصوارف خارجية
وظاهر المحقق
الخراساني قدسسره أنه هو المراد بعدم الابتلاء ، بل لعل ذلك هو مراد
شيخنا الأعظم قدسسره منه ، وذكره لغيره للبناء على رجوعه إليه. وقد وجه
المحقق الخراساني قدسسره عدم فعلية التكليف معه بأن الغرض من التكليف لما كان هو
إحداث الداعي للمكلف نحو مقتضاه فلا موقع له مع كون حصول مقتضى التكليف مقتضى حال
المكلف بطبعه مع قطع النظر عن التكليف ، حيث لا فائدة من التكليف حينئذ ، بل يكون
من قبيل طلب الحاصل.
وقد أورد بعض
مشايخنا قدسسره عليه بأن الغرض من التكليف الشرعي ليس مجرد حصول متعلقه
في الخارج ، بل يضاف إلى ذلك صلوح التكليف للداعوية ، ليكون مقربا للعبد ، فتكمل
نفسه. ولذا صح الزجر عما لا يحصل الداعي إلى فعله دائما أو غالبا ، كنكاح الأمهات
وأكل لحم الإنسان والقاذورات.
ومن الظاهر أن
عدم الابتلاء بالمعنى المتقدم لا يمنع من صلوح التكليف للداعوية بترويض النفس على
التعبد بالنهي المولوي وجعله داعيا ولو مع الدواعي الأخرى. نعم يتجه ذلك في
التكاليف العرفية ، إذ ليس الغرض منها إلا حصول متعلقها في الخارج.
لكنه يندفع بأن
صلوح التكليف للداعوية ليكون مقربا للعبد ليس هو الغرض المقوم للتكليف ، الذي به
يكون موضوعا لحكم العقل بوجوب الطاعة وقبح المعصية ، وموردا للعمل والتنجيز. ومن
ثم كانت التعبدية قيدا في التكليف مخالفا لإطلاقه.
نعم هو أثر
مناسب لمطلق المشروعية غير المختصة بالتكليف والشاملة للاستحباب والكراهة. بل هو
لا يختص بالأحكام الشرعية ، فإن انفتاح باب التقرب يجري حتى في الأحكام العرفية ،
غاية الأمر أن حسن التقرب والتعبد عقلا يختص بالأحكام الشرعية ، لمناسبته لمقام
العبودية وكونه سببا لتطهير النفس.
وأما الزجر عن
الأمور المذكورة في كلامه فمن الظاهر أنه لم يرد به الخطاب الشخصي من الشارع
الأقدس في حق من استحكم الداعي في نفسه لتحقيق مقتضاها ، لينافي ما تقدم ، بل هو
بين ما استفيد حرمته من أدلة لبية ، أو ورد الخطاب به بنحو القضية الحقيقية ،
لبيان الضوابط الشرعية العامة في حق جميع المكلفين بما فيهم من لم يستحكم في نفسه
الداعي المذكور ، فلا تنافي عدم فعلية التكليف في مورد عدم الابتلاء ، كما لا
تنافي عدم فعليته في حق العاجز.
ولا سيما مع أن
استحكام الداعي في النفس قد يكون مسببا عن استهجان العرف العام للفعل بسبب ورود
التكليف ، ولولاه لم يستهجن الفعل حتى يستحكم الداعي لتركه ، فإن ذلك يوجب حسن
الخطاب بالتكليف بنحو العموم ، وإن كان يسقط عن الفعلية باستحكام الداعي لمقتضاه.
نعم ما تقدم من
المحقق الخراساني قدسسره مبني على أن الغرض من التكليف هو إحداث الداعي نحو
مقتضاه. والظاهر عدم تمامية ذلك ، ولذا يحسن
التكليف مع العلم بعدم تأثيره لذلك ، لتمرد المكلف على المولى ، استهوانا
به ، أو لمنع القوى الشهوية والغضبية من تأثير تكليفه فيه.
بل ليس قوام
التكليف إلا جعل السبيل على المكلف ، لإحداث الداعي العقلي للامتثال وإن لم يؤثر
في نفس المكلف. كما يظهر مما تقدم عند الكلام في حقيقة الأحكام التكليفية من مقدمة
علم الأصول.
ومن ثم فقد
يشكل مانعية عدم الابتلاء من فعلية التكليف بأنه لا مانع من جعل المسئولية
بالإضافة إلى ما هو خارج عن الابتلاء ، لأن مجرد تحقق مقتضى التكليف بمقتضى وضع
المكلف مع قطع النظر عن التكليف لا ينافي جعل المسئولية فيه من قبل المولى ، بحيث
يكون محسوبا عليه.
لكنه يندفع بأن
مصحح التكليف وجعل المسئولية هو كونه محركا نحو العمل ، لا بنحو يقتضي ترتب العمل
عليه فعلا ، بل بمعنى داعويته له ، ومع ترتب مقتضى التكليف مع قطع النظر عنه وعلى
كل حال تلغو الداعوية وجعل المسئولية ، ولا تكون فعلية بل اقتضائية لا غير. وذلك
هو المعيار في التنجيز والتعذير أيضا ومن ثم لا يكون التعبد بمؤدى الحجج والأصول
فعليا في موارد عدم الابتلاء بالنحو المذكور.
هذا ولعل
الرجوع لسيرة المتشرعة كاف في استيضاح ما ذكرنا من عدم فعلية التكليف في موارد عدم
الابتلاء ، لعدم اعتنائهم ارتكازا بالتكليف الإجمالي في المورد المذكور ، فلا يكون
العلم منجزا عندهم في الأطراف التي هي مورد الابتلاء ، ومن القريب جدا ابتناء ذلك
منهم على ما ذكرناه من الوجه الارتكازي.
بقي شيء
وهو أنه لو فرض
الشك في مسقطية عدم الابتلاء للتكليف عن الفعلية فمن الظاهر أن الأمر المذكور لما
كان من الأمور الوجدانية فالشك فيه لا يكون إلا لاضطراب الوجدان ، نظير شك المصلي
في أن العارض له شك أو ظن.
وحينئذ لا يبعد
البناء على عدم فعلية التكليف وعدم منجزية العلم الإجمالي في محل الكلام.
ولا ينهض
الإطلاق بإثبات فعليته ، لأن وظيفة الحاكم بيان موضوع تكليفه ومتعلقه اللذين هما
موردا الملاك والغرض ، والإطلاق إنما ينهض بذلك ، لا ببيان الفعلية من غير حيثية
الموضوع والمتعلق ، بل هي مما يدركه العقل والوجدان تبعا للمرتكزات ، كما في شرطية
القدرة والابتلاء ، فمع اختلاط الأمر على العقل والوجدان لا طريق لإثبات الفعلية
وما تستتبعه من منجزية العلم الإجمالي.
وحيث كان مقتضى
إطلاق أدلة الأصول الترخيصية في الأطراف الأخر التي هي محل الابتلاء جواز ارتكابها
، يتعين العمل على ذلك بعد عدم استيضاح منجزية العلم الإجمالي التي هي من سنخ المانع
من العمل عليها.
ومن ذلك يظهر
الحال فيما إذا شك في تحديد مرتبة الابتلاء المعتبر في فعلية التكليف بعد الفراغ
عن أصل اعتباره ، حيث يتعين البناء على عدم فعلية التكليف إلا في مورد العلم بها ،
لتحقق المرتبة التي يعلم بفعلية التكليف معها ، لعين ما تقدم. ولا مجال للتمسك
بالإطلاق لإثبات الفعلية فيما زاد على ذلك ، كما يظهر من شيخنا الأعظم قدسسره.
ولعله إلى ما
ذكرنا يرجع ما ذكره المحقق الخراساني قدسسره في حاشية الرسائل في وجه امتناع التمسك بالإطلاق مع
الشك في مرتبة الابتلاء المعتبر.
قال : «إنما يجوز الرجوع إلى الإطلاقات في دفع قيد كان التقييد به في عرضه
ومرتبته ، بأن يكون من أحوال ما أطلق وأطواره ، لا في دفع ما لا يكون كذلك ، وقيد
الابتلاء من هذا القبيل ، فإنه بحكم العقل والعرف من شرائط تنجز الخطاب المتأخر عن
مرتبة أصل إنشائه ، فكيف يرجع إلى الإطلاقات الواردة في أصل إنشائه في دفع ما شك
في اعتباره في تنجزه؟!».
المقام الثاني
فيما يكون موردا لتكليف فعلي مانع من ارتكابه
وذلك كتنجس
طعام الغير ، حيث يحرم ارتكابه مع قطع النظر عن نجاسته. وقد يدعى مانعية التكليف
المعلوم بالتفصيل في أحد الأطراف من منجزية العلم الإجمالي ، لأنه يوجب سلب القدرة
عنه شرعا ، فلا يكون التكليف المعلوم بالإجمال فعليا لو صادفه واقعا ، فمع احتمال
مصادفته له لا يكون معلوم الفعلية ، بل محتملها ، فلا يصلح للتنجز ، كما يتعين
الرجوع في الطرف الآخر للأصل الترخيصي بعد عدم معارضته بمثله في الطرف الذي يعلم بالتكليف
به تفصيلا.
لكن مانعية
التكليف المعلوم بالتفصيل من فعلية التكليف المعلوم بالإجمال لو صادفه ليس بأولى
من العكس ، وهو مانعية التكليف المعلوم بالإجمال من فعلية التكليف المعلوم
بالتفصيل ، لعدم المرجح بعد كون كل منهما تام الموضوع ، بل يتعين البناء على فعلية
كل منهما.
ومن ثم أصرّ
بعض الأعيان المحققين قدسسره على عدم مانعية التكليف في بعض الأطراف من منجزية العلم
الإجمالي. وتوضيح ما ذكره : أن التكليف بشيء بعنوان لا يمنع من التكليف به بعنوان
آخر ، بل يتعين تأكّد التكليف ، الموجب لتأكّد الداعي العقلي ، وهو يكفي في منجزية
العلم الإجمالي.
وما اشتهر من
اعتبار القدرة الشرعية في متعلق التكليف كالقدرة العادية إنما هو بمعنى لزوم
القدرة الشرعية على موافقة التكليف ، فيمتنع تحريم ما هو واجب مثلا ، لئلا يلزم
التكليف بما لا يطاق ، أما بمعنى لزوم القدرة الشرعية على مخالفة التكليف ـ بأن
يمتنع تحريم ما هو حرام من جهة أخرى ـ فلا وجه له.
ولا وجه لقياسه
على القدرة العادية ، لأن الوجه في اعتبار القدرة العادية إنما هو لغوية التكليف
بدونها ، لعدم الأثر له في الداعوية العقلية ، بخلاف القدرة الشرعية ، حيث لا يلغو
التكليف الآخر الموافق له عملا ، بل بعد صلوحه لتأكيد الداعوية العقلية ، تبعا
لتأكد التكليف الواحد بتعدد جهات ثبوته.
كما أنه يمكن
جريان الأصل الإلزامي والترخيصي بالإضافة إلى التكليف الآخر المشكوك ، حيث يترتب
عليه استحقاق العقاب زائدا على عقاب الجهة المعلومة وعدمه بالإضافة إليها. وعليه
لا مانع من جريان الأصول الترخيصية في جميع أطراف العلم الإجمالي من حيثية التكليف
المعلوم بالإجمال ، فتسقط بالمعارضة.
وليس مفاد
الأصل الترخيصي في كل طرف الترخيص فيه مطلقا ومن جميع الجهات ، ليمتنع جريانه في
الطرف الذي يعلم تفصيلا بثبوت التكليف الآخر فيه ، بل الترخيص من حيثية التكليف
المعلوم بالإجمال المشكوك ثبوته في الطرف المذكور ، فيعارض بمثله في الطرف الآخر.
وما ذكره قدسسره متين في الجملة. ولذا لا إشكال في أن المرتكب لجميع
الأطراف كما يستحق العقاب من جهة مخالفة التكليف التفصيلي المفروض كذلك يستحقه من
جهة مخالفة التكليف الإجمالي ، ويتعدد عقابه ، تبعا لتعدد التكليف ، وما ذلك إلا
لفعلية التكليف الإجمالي ، وتنجزه بالعلم.
نعم قد يقال :
التكليف المعلوم بالتفصيل وإن لم يكن مانعا من فعلية التكليف المعلوم بالإجمال ،
ولا من تنجزه بالعلم ، إلا أن العلم الإجمالي حينئذ لا يصلح لتنجيز احتمال التكليف
في الطرف الآخر بنحو يقتضي لزوم الاحتياط فيه ، إذ مع تنجز بعض الأطراف على كل حال
ووجود المتيقن في مقام العمل لا يكون العلم الإجمالي موجبا للعلم بترتب عمل زائد
على ما يترتب بدونه. وتأكد التكليف والداعوية وإن كان قابلا للتنجيز ، إلا أنه لا
يستوجب عملا زائدا.
وبعبارة أخرى :
وجود القدر المتيقن يمنع من منجزية العلم الإجمالي لما زاد عليه ، سواء كان
المتيقن المذكور من حيثية الأمر المعلوم ، أم من حيثية العمل.
فالأول كما لو
دار الأمر بين وجوب شيء واستحباب آخر ، حيث لا يتنجز إلا القدر المشترك بين الوجوب
والاستحباب ، وهو الرجحان لكل منهما ، لأنه المتيقن من المعلوم ، ولا يتنجز كل من
الطرفين على إجماله ، ليلزم تنجز الوجوب المحتمل ، كما سبق في آخر الكلام في حرمة
المخالفة القطعية.
والثاني كما في
المقام ، حيث لا يكون العلم التفصيلي موجبا لوجود المتيقن من حيثية المعلوم ،
للعلم بثبوت تكليفين ، والمنجز لأحدهما العلم التفصيلي ، وللآخر العلم الإجمالي ،
وإنما يوجب المتيقن في مقام العمل ، حيث يلزم العمل في الطرف الذي يعلم التكليف به
تفصيلا على كل حال مع قطع النظر عن العلم الإجمالي ، والعلم الإجمالي لا يقتضي
العلم بترتب عمل زائد على مقتضاه ، بل ليس إلا احتمال لزوم العمل الزائد عليه في
الطرف الآخر ، فلا يكون منجزا للعمل المذكور ، ويتعين الرجوع فيه للأصل الترخيصي
بعد عدم المانع منه. ولا يعارض الأصل المذكور بالأصل الجاري في الطرف المعلوم
بالتفصيل المقتضي للسعة من حيثية احتمال انطباق التكليف المعلوم بالإجمال عليه ،
لعدم ترتب العمل على الأصل الجاري فيه
بعد العلم تفصيلا بثبوت التكليف الآخر فيه ، وإنما يكون مقتضى الأصل ـ وهو
السعة ـ اقتضائيا لا غير ، فلا يعارض الأصل الجاري في الطرف الآخر المقتضي للسعة
فعلا.
وأدنى ملاحظة
للمرتكزات العقلائية والمتشرعية تشهد بما ذكرنا ، حيث تكثر موارد العلم الإجمالي
بوجود النجس أو الحرام أو نحوهما في جملة من الأمور بعضها مملوك للغير لا يحل
التصرف فيه على كل حال ، لعدم السلطنة عليه. ولو بني على منجزية العلم الإجمالي في
ذلك لوقع الهرج والمرج واضطربت أمور الناس ، كما هو ظاهر.
وهل يمكن
البناء على وجوب الاحتياط بمراعاة احتمال التكليف الإجمالي في جميع الأطراف فيمن
علم إجمالا بأنه قد نذر الفريضة أو النافلة ، أو بأنه قد شرط على نفسه الإنفاق على
من تجب نفقته عليه أو غيره ، أو نحو ذلك؟.
على أن ذلك لو
لم يبلغ مرتبة اليقين بعدم منجزية العلم الإجمالي ، فلا أقل من عدم وضوح منجزيته
في المقام ، وهو كاف في العمل بالأصل الترخيصي الآخر ، بعد ما سبق من تمامية موضوع
الأصول في أطراف العلم الإجمالي ، وتمامية المقتضي للعمل عليها ، حيث لا مجال مع
ذلك للتوقف عن العمل بالأصل ما لم يقطع بالمانع. كما تقدم نظيره عند الكلام في
الشك في مانعية الخروج عن الابتلاء من منجزية العلم الإجمالي. فلاحظ.
ثم إن المعيار
في ذلك ليس ثبوت التكليف في بعض الأطراف معينا ، بل يكفي تنجيز احتمال التكليف فيه
بنحو يقتضي العمل على النحو الذي يقتضيه العلم الإجمالي فيه ، سواء كان طرفا لعلم
إجمالي آخر منجز بنفسه ، كما لو علم إجمالا بنجاسة أحد إناءين خزف وزجاج ، ثم علم
بإصابة النجاسة للزجاج
منهما أو لثالث كالصفر ، أم موردا لعلم إجمالي آخر ، كما لو علم إجمالا
بنجاسة عشرة أوان منها خمسة بيض يعلم بأن فيها واحدا نجسا نجاسة أخرى ، أم كان
موردا لأصل شرعي إلزامي ، كما إذا علم بملاقاة النجاسة لأحد ثوبين ، وكان أحدهما
مستصحب النجاسة ، أم كان موردا لقاعدة الاشتغال ، كما لو علم في أثناء الوقت بأنه
لم يأت بفريضة الوقت أو بفريضة خرج وقتها. لاشتراك الجميع في عدم ترتب أثر عملي
على العلم الإجمالي لا يترتب بدونه.
وإلى ذلك يرجع
ما تكرر في كلماتهم من انحلال العلم الإجمالي بتنجيز بعض أطرافه. لكنه ليس انحلالا
حقيقيا ، لعدم مانعية تنجز بعض الأطراف من تحقق العلم الإجمالي بتكليف فعلي غير
موضوع التنجيز ، وإنما هو انحلال حكمي يرجع إلى عدم ترتب الأثر العملي المعهود
للعلم الإجمالي ، فكأنه لم ينعقد. فلاحظ.
تتميم
ظهر مما تقدم
أن المانع من منجزية العلم الإجمالي أحد أمرين :
الأول : عدم فعلية التكليف في بعض الأطراف المعين ، لاضطرار
ونحوه. ويلحق به خروجه عن الابتلاء لوجود الصارف عنه ، كما تقدم في المقام الأول.
الثاني : وجود المتيقن في مقام العمل ، لوجود تكليف تفصيلي في
بعض الأطراف ، أو لتنجز احتمال التكليف فيه ، كما تقدم في المقام الثاني.
وحينئذ فالمانع
من منجزية العلم الإجمالي بقسميه .. تارة : يحصل قبل طروء التكليف الإجمالي أو مقارنا له.
وأخرى : يكون متأخرا عنه.
كما أن العلم
بحصول المانع .. تارة : يكون قبل حصول العلم الإجمالي أو مقارنا له.
وأخرى : يكون متأخرا عنه. فالصور أربع.
الصورة
الأولى : أن يكون
المانع سابقا على التكليف الإجمالي أو مقارنا له ، كما أن العلم به سابق أو مقارن
للعلم الإجمالي.
ولا ريب هنا في
عدم منجزية العلم الإجمالي. بل هذه الصورة هي المتيقنة من بين الصور الأربع من
حيثية الوجوه المتقدمة للمانعية من التنجيز.
نعم يستثنى من
ذلك ما إذا كان بعض أطراف العلم الإجمالي طرفا لعلم إجمالي آخر ، كما لو علم
إجمالا بوقوع نجاسة في أحد إناءين خزف وزجاج ، وبوقوع نجاسة في الزجاج منهما أو في
ثالث هو الصفر ، حيث لا مجال للبناء على مانعية أحد العلمين الإجماليين من منجزية
الآخر مع التقارن بين العلمين وبين التكليفين المعلومين ، لعدم المرجح ، بل يتعين
منجزيتهما معا.
ومجرد
اشتراكهما في بعض الأطراف ـ كالزجاج في المثال المتقدم ـ لا ينفع بعد عدم كون
احتمال التكليف في الطرف المذكور منجزا في نفسه لو لا العلم الإجمالي. وحيث لا
مرجح لأحد العلمين تعين منجزيتهما معا بعد عدم المتيقن في البين.
وإنما يتوجه
الانحلال في الفرض مع سبق أحد العلمين بنفسه أو بمعلومه ، على ما يظهر مما يأتي في
الصورتين الأخيرتين.
وكذا يتجه
الانحلال مع التقارن فيما إذا كانت أطراف أحد العلمين في ضمن أطراف الآخر ، كما لو
علم إجمالا بنجاسة عشرة أوان من بينها خمسة بيض يعلم أن فيها متنجس بنجاسة أخرى ،
لأن أطراف العلم الثاني تكون هي المتيقن ، كالمعلوم بالتفصيل.
الصورة
الثانية : أن يكون
المانع متأخرا عن التكليف المعلوم بالإجمال ، ويكون العلم به متأخرا أيضا عن العلم
الإجمالي به.
والظاهر عدم
الإشكال بينهم في عدم سقوط العلم الإجمالي به عن المنجزية.
وقد يوجه بأن
احتمال انطباق التكليف بالإجمال على مورد المانع راجع لاحتمال سقوط التكليف بعد
العلم بثبوته وانشغال الذمة به ، والمرجع فيه الاشتغال ، بخلاف الصورة الأولى ،
حيث يرجع الاحتمال المذكور لاحتمال ثبوت التكليف ، والمرجع فيه البراءة.
لكنه يندفع أولا : بأنه يختص بما إذا كان المانع من التنجز رافعا لفعلية
التكليف ، كالاضطرار ، ولا يجري فيما لم يكن كذلك ، مما كان مانعا من تنجيز العلم
الإجمالي ، كابتلاء بعض الأطراف بتكليف تفصيلي.
وثانيا : بأن الشك في سقوط التكليف إنما يرجع فيه لقاعدة
الاشتغال إذا كان ناشئا من احتمال الامتثال ، أما إذا كان ناشئا من احتمال تحقق
المانع من التكليف فلا تنهض قاعدة الاشتغال بالبناء على بقاء التكليف ، بل المرجع
البراءة منه ما لم يجر أصل حاكم عليها حكمي ، كاستصحاب التكليف ، أو موضوعي ،
كاستصحاب النجاسة.
إن
قلت : مقتضى
استصحاب التكليف المعلوم بالإجمال في المقام أو استصحاب عدم المانع منه لزوم
اجتنابه بترك الطرف الآخر الفاقد للمانع ، فلو علم إجمالا بحرمة أحد طعامين اضطر
إلى أحدهما المعين فمقتضى استصحاب حرمة الحرام أو عدم الاضطرار له المحرز لبقاء
حرمته لزوم الفراغ عنه بترك الطعام الآخر.
قلت : إن أريد بالاستصحاب المذكور إحراز ثبوت التكليف في
الطرف الآخر ، بضميمة ملازمة بقائه لثبوته في الطرف المذكور. فهو من أظهر أفراد
الأصل المثبت.
وإن أريد به
لزوم الاحتياط في الطرف الآخر ، لاحتمال انطباق التكليف المستصحب عليه من دون أن
يحرز ثبوته فيه ، كما وجب الاحتياط فيه مع اليقين بالتكليف إجمالا ، وليست فائدة
الاستصحاب إلا تنجيز التكليف على إجماله كما كان منجزا بالعلم ، وليس الاجتناب عن
الطرف المذكور إلا لقاعدة الاشتغال خروجا عن التكليف المنجز بالاستصحاب. أشكل بأن
الاحتياط في كل طرف من أطراف العلم الإجمالي ليس مفادا للاستصحاب ، لوضوح أن الاستصحاب
أصل تعبدي إحرازي ، والاحتياط لا يتضمن التعبد بالتكليف ، بل لزوم التحفظ منه ،
وإحراز الفراغ عنه ، خروجا عن احتماله.
نعم إذا أحرز
بالاستصحاب التعبد ببقاء التكليف في المعلوم بالإجمال على ما هو عليه من الترديد
لزم الاحتياط في كل طرف خروجا عن التكليف المذكور ، لاحتمال انطباق المردد عليه.
إلا أن
الاستصحاب في المقام لا ينهض بالتعبد ببقاء التكليف في الطرف المذكور على ما هو
عليه من الترديد بعد العلم بعدم فعلية التكليف في الطرف الواجد للمانع ، لوضوح
التنافي بين العلم بذلك والتعبد بالنحو المذكور.
مثلا : لو علم بحرمة
إناء زيد المردد بين الخزف والصفر ، ثم اضطر المكلف لاستعمال الخزف ، فمقتضى
استصحاب حرمة إناء زيد على ما هو عليه من الإجمال حرمة الخزف لو كان هو إناء زيد ،
مع أنه يعلم بحليته مطلقا ، إما لأنه ليس إناء زيد ، أو لسقوط حرمته بالاضطرار لو
كان هو إناء زيد ، فالتعبد المذكور مناف للعلم التفصيلي. ولأجل ذلك يتعين عدم
جريان الاستصحاب.
ومن هنا كان
الظاهر أن وجوب الاحتياط في المقام يبتني على منجزية العلم السابق حتى بعد ارتفاعه
بسبب طروء المانع.
ولا ينبغي
الريب فيه لو كان ارتفاعه ناشئا عن العمل على مقتضى
التكليف في بعض الأطراف الذي هو امتثال احتمالي للتكليف المعلوم بالإجمال ،
لما هو المعلوم من أن وجوب الموافقة القطعية لا يختص بالتكليف التحريمي ، بل يجري
في الوجوب أيضا ، الذي يكون الشك في امتثاله ملازما للشك في بقاء التكليف وارتفاع
العلم بوجوده ، فلو ارتفعت منجزية العلم تبعا لارتفاعه بذلك لم يبق موضوع لوجوب
الموافقة القطعية ، ولا لقاعدة الاشتغال بالتكليف. من دون فرق في ذلك بين العلم
التفصيلي والإجمالي ، فاقتضاء العلم بالتكليف للموافقة القطعية عقلا ملازم
لمنجزيته بعد ارتفاعه في المقام.
وأما في غير
ذلك من روافع التكليف كالاضطرار وارتفاع الموضوع ـ كما لو أريق أحد الإنائين ـ ونحوهما
فقد يصعب توجيه وجوب الاحتياط بعد ارتفاع العلم الإجمالي ، ولذا لا ريب في عدم
وجوبه مع العلم التفصيلي لو احتمل طروء المانع إلا بضميمة أصول أخر إحرازية ـ كالاستصحاب
الذي سبق عدم جريانه في المقام ـ أو غيرها.
لكن الإنصاف أن
المرتكزات تقضي بعدم كفاية إعدام موضوع التكليف في بعض الأطراف في جواز ارتكاب
بقيتها ، فلا يكفي إراقة أحد الإنائين المعلوم إجمالا نجاسة أحدها في جواز استعمال
الآخر. ومن ثم كان وجوب إهراق الإنائين المشتبهين معا والتيمم ارتكازيا ، لا تعبديا
محضا.
كما لا فرق
ارتكازا بين إعدام الموضوع من قبل المكلف وإعدامه من قبل غيره وانعدامه بنفسه وفقد
شرط التكليف وغير ذلك مما يمنع من فعلية التكليف وتوجه الخطاب به.
وأظهر من ذلك
ما لو كان المانع من التنجيز غير مانع من فعلية التكليف ، كابتلاء بعض الأطراف
بتكليف تفصيلي ، الموجب لوجود المتيقن في مقام العمل ، فإنه حيث لا يمنع من العلم
الإجمالي بالتكليف الفعلي ، المقتضي
لوجوب اليقين بالامتثال ، كان المتعين الرجوع في منجزية العلم المذكور سعة
وضيقا إلى المرتكزات العقلية ، وهي حاكمة بأن وجود المتيقن لا يمنع من منجزية
العلم الإجمالي في محل الكلام ، وهو ما إذا كان متأخرا عن التكليف المعلوم
بالإجمال وكان العلم به متأخرا أيضا عن العلم الإجمالي ، ومع منجزية العلم
الإجمالي فعلا يتعين لزوم إحراز الفراغ اليقيني بمراعاة احتمال التكليف المعلوم
بالإجمال في جميع الأطراف.
الصورة
الثالثة : أن يكون
حدوث المانع متأخرا عن التكليف المعلوم بالإجمال ، إلا أن العلم به مقارن للعلم
الإجمالي أو متقدم عليه ، كما لو أضطر عند الزوال إلى طعام معين ، وبعده علم
إجمالا بتنجس ذلك الإناء أو إناء آخر قبل الزوال. وعن شيخنا الأعظم قدسسره وغيره عدم منجزية العلم الإجمالي حينئذ.
وهو متجه بناء
على أن المعيار في منجزية العلم الإجمالي تساقط الأصول الترخيصية في الأطراف
بالمعارضة. لأن الأصل في الطرف المبتلى بالمانع لو جرى قبل حدوث المانع لم يعارض ،
لعدم العلم الإجمالي بالتكليف حينئذ. كما أنه حين حدوث العلم الإجمالي حيث لا يجري
الأصل في الطرف المذكور ، لسبق حدوث المانع فيه ، فلا معارض للأصل الجاري في الطرف
الآخر ، فلا يكون العلم الإجمالي المذكور منجزا.
لكن تقدم في
آخر الكلام في وجه وجوب الموافقة القطعية ضعف المبنى المذكور ، وأنه لو تم لزم
سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية في جميع صور ابتلاء بعض الأطراف بالمانع ، بل
العلم الإجمالي منجز في نفسه للأطراف ـ لاقتضائه الموافقة القطعية ـ مع قطع النظر
عن تعارض الأصول الترخيصية فيها.
وحينئذ يشكل
الأمر في المقام ، لأن العلم الإجمالي صالح للتنجيز بعد
كون المعلوم هو التكليف الفعلي الخالي عن المانع ، والمانع الطارئ الذي
يحتمل حصوله في الطرف المصادف للتكليف لا يمنع من حدوث التكليف ، لتأخره عنه ،
غاية الأمر أنه يحتمل إسقاطه للتكليف ، كما في الصورة الثانية.
إن
قلت : يعتبر في
منجزية العلم الإجمالي ترتب الأثر عليا لمعلوم حين العلم ، فلو لم يترتب الأثر
عليه ولو لاحتمال سقوطه بعد ثبوته لم يصلح العلم لتنجيزه ، كي يجب إحراز الفراغ
عنه. وبه يفرق بين هذه الصورة والصورة الثانية ، حيث كان المفروض في تلك الصورة
عدم حدوث المسقط إلا بعد العلم بالتكليف وترتب الأثر عليه.
قلت
: لا مجال
لاعتبار ذلك في منجزية العلم الإجمالي ، لما سبق من عدم الفرق بينه وبين العلم
التفصيلي في المنجزية ، ومن الظاهر أنه يكفي في منجزية العلم التفصيلي العلم بترتب
الأثر على المعلوم حين حدوثه. ولذا لو لم يلتفت للتكليف إلا بعد احتمال امتثاله لم
يعتن بالاحتمال المذكور ووجب اليقين بالامتثال.
اللهم إلا أن
يقال : المتيقن من ذلك ما إذا شك في ارتفاع التكليف لاحتمال الامتثال ، أما مع كون
الرافع المحتمل أمرا آخر ـ كالاضطرار ـ فليس المنجز للتكليف مع العلم التفصيلي هو
العلم السابق ، بل استصحاب التكليف أو موضوعه أو نحوهما من الأصول ، وقد تقدم في
الصورة الثانية عدم جريان الأصل مع حصول المانع في أحد الأطراف ، وأنه لا موجب
لمراعاة التكليف إلا تنجزه بالعلم السابق ، والمتيقن من ذلك ما إذا علم بترتب
الأثر على العلم حين حصوله ، كما في الصورة الثانية ، بخلاف هذه الصورة.
وكذا الحال
فيما إذا كان المانع من منجزية العلم الإجمالي غير مانع من فعلية التكليف ، وهو
وجود المتيقن في مقام العمل ، كابتلاء بعض الأطراف
بتكليف آخر. إذ لا أقل من الشك في منجزية العلم الإجمالي للطرف الآخر ،
فيتعين حينئذ عدمها. نظير ما تقدم عند الكلام في فرض الشك في مانعية الخروج عن
الابتلاء من منجزية العلم الإجمالي. فراجع.
الصورة
الرابعة : أن يكون
حدوث المانع متقدما على المعلوم بالإجمال أو مقارنا له ، إلا أنه لا يعلم به إلا
بعد العلم الإجمالي بالتكليف. كما لو تنجس أحد الطعامين حين الزوال ، وعلم المكلف
إجمالا بذلك ، ثم علم بتعذر استعمال أحدهما من قبل الزوال.
وقد سبق أن
المانع من منجزية العلم الإجمالي على قسمين الأول :
ما يكون مانعا
من فعلية التكليف ، كالاضطرار والتعذر. الثاني : وجود القدر المتيقن في مقام العمل
، كابتلاء أحد الأطراف بتكليف معلوم بالتفصيل من دون أن يمنع من فعلية التكليف
المعلوم بالإجمال.
أما الأول
فالعلم به في هذه الصورة يستلزم انكشاف الخطأ في مقدمات العلم الإجمالي ، لابتناء
العلم المذكور على فعلية التكليف في أي طرف وعلى كل حال ، مع أنه ليس كذلك. وحينئذ
يشكل بقاء منجزية العلم الإجمالي بعد ارتفاعه باحتمال مصادفة التكليف المعلوم
بالإجمال للطرف الواجد للمانع. ولا مجال لقياسه على ما تقدم في الصورة الثانية بعد
عدم استلزام المانع في تلك الصورة لخطأ مقدمات العلم الإجمالي ، بل لارتفاع
المعلوم بعد ثبوته من دون خلل في العلم بثبوته.
فالمقام نظير
ما لو علم المكلف بملاقاة النجاسة لأحد ماءين كان يعتقد قلتهما ، المستلزم للبناء
على نجاسة أحدهما ، ثم انكشف اعتصام أحدهما ، حيث لا يظن بأحد البناء على تنجز
احتمال النجاسة في الآخر بسبب العلم السابق الذي ظهر الخطأ في إحدى مقدماته.
وأما الثاني
فالعلم به لا يستلزم انكشاف الخطأ في مقدمات العلم الإجمالي ، كما لا يستلزم
ارتفاعه ، وإنما يوجب وجود المتيقن في مقام العمل لا غير.
لكن الظاهر
كفاية ذلك في سقوط منجزية العلم الإجمالي ، لأن المتيقن من عدم مسقطيته ما إذا كان
متأخرا عن المعلوم بالإجمال وكان العلم به أيضا متأخرا عن العلم ، كما في الصورة
الثانية ، ومع الشك في منجزية العلم الإجمالي للطرف الآخر يتعين البناء على عدمها
، نظير ما تقدم في الصورة الثالثة. فلاحظ.
التنبيه الخامس : في انحلال العلم الإجمالي
والمراد به
انحلاله حقيقة وسقوطه عن المنجزية بتنجز التكليف المعلوم بالإجمال بنفسه في خصوص
بعض الأطراف.
وبه يفترق عما
تقدم في التنبيه الرابع من انحلاله حكما وسقوطه عن المنجزية بتنجز التكليف في بعض
أطرافه ، إذ المراد هناك تنجز تكليف آخر مباين للتكليف المعلوم بالإجمال ، لا
نفسه.
وحينئذ فتنجز
التكليف المعلوم بالإجمال في خصوص بعض الأطراف على نحوين :
الأول : أن يكون بنحو يقتضي تعيين المعلوم بالإجمال فيه وخلوّ
الأطراف الأخر عنه ، كما لو علم بتنجيس الدم لثوبين من بين عشرة أثواب ، ثم عثر
على الثوبين بالفحص.
ولا ريب في
سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية في الأطراف الأخر ، وإن احتمل ابتلاؤها بتكليف
آخر غير معلوم بالإجمال مماثل له ، كما لو احتمل تنجسها بدم آخر ، أو مخالف ، كما
لو احتمل تنجسها بالبول.
والوجه في عدم
منجزية العلم أنه يرتفع وينحلّ حقيقة ، لرجوع العلم الإجمالي إلى قضية منفصلة لا
مجال لها مع العلم التفصيلي المذكور. وهذا بخلاف ما تقدم في التنبيه الرابع ، فإنه
لا يمنع من صدق القضية المنفصلة بالإضافة إلى المعلوم بالإجمال. ولذا تقدم أن
الانحلال معه حكمي.
نعم لو كان
تعيين المعلوم بالإجمال في بعض الأطراف بطريق تعبدي غير العلم يحتمل الخطأ ـ كالبينة
ـ تعين بقاء العلم الإجمالي حقيقة ، وكان الانحلال تعبديا ، لا حقيقيا ، وكان
العمل عليه مقتضى حجية الطريق المفروضة.
هذا وأما
احتمال ابتلاء الأطراف بتكليف آخر ، فهو مدفوع بالأصل ، بعد عدم تنجزه بالعلم
المفروض.
الثاني : أن لا يقتضي تعيين المعلوم بالإجمال ، لتردد المعلوم
بين الأقل والأكثر ، كما لو علم بنجاسة بعض من عشرة أثواب ، ثم علم بالفحص بثوبين
منها ، ولم يعلم أنها تمام المتنجس أو بعضه ، لتردد المتنجس بين الأقل والأكثر.
فإن المعلوم
بالإجمال وإن كان هو الأقل ، كما في الوجه الأول ، إلا أنهما يفترقان بأن المعلوم
بالإجمال في الأول محدود بحدود خارجية يعلم انطباقها على المعلوم بالتفصيل ، وأما
في الثاني فهو مبهم مردد بين الأطراف ، ولذا لو كان النجس في الواقع أربعة كان
نسبة كل منها إلى الأقل المعلوم بالإجمال واحدة ، لعدم المرجح ، ولا مجال مع ذلك
لإحراز انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل.
نعم هو يشارك
الوجه الأول في كون العلم التفصيلي رافعا للعلم الإجمالي حقيقة ، لما سبق من رجوع
العلم الإجمالي إلى قضية منفصلة لا مجال لها بعد العلم التفصيلي. ومن هنا يتعين
عدم منجزية احتمال التكليف في بقية
الأطراف ، لعدم العلم المنجز لها.
وكذا الحال لو
كان المنجز للتكليف في بعض الأطراف التفصيلية طريقا معتبرا شرعا وإن كان محتمل
الخطأ ، كما لو قامت البينة على نجاسة ثوبين معينين بالدم المذكور من دون أن تنفي
تنجس غيرهما به أيضا. فإن الطريق المذكور وإن لم ينهض بتمييز المعلوم بالإجمال ،
لفرض احتمال زيادة التكليف المعلوم بالإجمال عما تضمنه ، كما أنه لا يوجب ارتفاع
العلم لفرض احتمال خطئه. إلا أنه يصلح لرفع اليد عنه وإلغائه عملا ، والتعبد بقضية
حملية تعيينية في خصوص مورد الطريق لا تنافي العلم الإجمالي ، وإهمال الترديد في
المعلوم بالإجمال ، كإهمال الشك واحتمال الخطأ في سائر موارد الطرق المعتبرة.
ومثلها في ذلك
الأصول التعبدية المنجزة ، كاستصحاب الحرمة والنجاسة ، إذا احتمل مطابقة مؤداها
للمعلوم بالإجمال.
بخلاف أصل
الاحتياط ، فإنه وإن كان منجزا لاحتمال التكليف في مورده ، إلا أنه لا يتضمن إحراز
التكليف فيه ، ليحتمل انطباقه على المعلوم بالإجمال. وينحصر الوجه في سقوط العلم
الإجمالي معه عن المنجزية بما تقدم في التنبيه الرابع من سقوط العلم الإجمالي عن
المنجزية بوجود القدر المتيقن ـ في مقام العمل ـ في بعض أطرافه ، الموجب لانحلاله
حكما ، لا حقيقة.
وعلى ما ذكرنا
يبتني انحلال العلم الإجمالي المدعى في كثير من المباحث المتقدمة ، كمبحث العمل
بالعام قبل الفحص عن المخصص ، والدليل العقلي على حجية الخبر ، ودليل الانسداد ،
والدليل العقلي للأخباريين على وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية ، على ما أشرنا
إليه في بعض تلك المباحث.
التنبيه السادس : فيما لو اقترن العلم الإجمالي بما يمنع من الموافقة
القطعية
اعلم أن طروء
ما يوجب الترخيص في أطراف العلم الإجمالي ..
تارة : بأن يكون العنوان المقتضي للترخيص منطبقا على جميع
الأطراف.
وأخرى : بأن يكون منطبقا على بعضها المعين.
وثالثة : بأن يكون منطبقا على الجامع بينها ، المقتضي للتخيير
بينها عملا.
والأول يستلزم
القطع بعدم التكليف ، كما لو اضطر لارتكاب جميع الأطراف ، ولا موضوع معه للاحتياط
، فيخرج عن موضوع الكلام.
وأما الثاني
فهو مستلزم لاحتمال ارتفاع التكليف ، لاحتمال انطباقه على مورد التكليف الإجمالي ،
سواء كان الطرف المعين الذي هو مورد الترخيص معلوما للمكلف ، كما لو علم إجمالا
بنجاسة الماء أو اللبن فاضطر لاستعمال الماء ، أم لا ، كما لو علم إجمالا بملاقاة
أحد الماءين للنجاسة ، وباتصال أحدهما بالمادة.
لكن في الصورة
الأولى يبتني عدم وجوب الاحتياط بالإضافة إلى الأطراف الخالية عن المانع على ما
تقدم في التنبيه الرابع من أنه لا بد في منجزية العلم الإجمالي من فعلية التكليف
المعلوم بالإجمال على كل حال ، وبأن لا يطرأ مانع من فعلية التكليف ، وأنه مع طروء
المانع ـ كالاضطرار في المقام ـ فوجوب الاحتياط يختلف باختلاف الصور من حيثية سبق
المانع أو العلم به وتأخرهما عن العلم الإجمالي أو المعلوم بالإجمال. فلاحظ.
أما في الصورة
الثانية فلا ينبغي التأمل في مانعية الترخيص المذكور من منجزية العلم الإجمالي مع
سبق الترخيص أو مقارنته للمعلوم بالإجمال ، لمانعيته من العلم بتحقق التكليف
بالإجمال ، وإنما المعلوم هو حدوث المقتضي له لا غير. وأما مع تأخره عنه فمقتضى
استصحاب التكليف المعلوم
بالإجمال عدم ارتفاعه بحدوث سبب الترخيص ، ولازم ذلك تنجز المعلوم بالإجمال
وتنجز احتماله في تمام الأطراف.
وأما الثالث
فهو المهم في المقام ، كما لو علم إجمالا بحرمة أحد الطعامين ، واضطر المكلف لسد
رمقه بأحدهما دون تعيين ، أو كان في تركهما معا ضرر عليه ، ونحو ذلك.
ولا يخفى أن
التكليف المعلوم بالإجمال بنفسه لا ينافي الاضطرار وتجنب الضرر ونحوهما مما يقتضي
الترخيص في الجامع ، لوفاء بقية الأطراف بالجامع المذكور ، إلا أنه بعد إجمال
مورده ، واقتضاء العلم الإجمالي الموافقة القطعية ، يكون التكليف منافيا للترخيص
بالعرض.
فإن أمكن رفع
الشارع اليد عن لزوم الموافقة القطعية والاكتفاء بالموافقة الاحتمالية ـ كما سبق
منا في التمهيد لمباحث الدوران بين المتباينين من هذا الفصل ـ اتجه الاقتصار على
ذلك في رفع التنافي بين الحكمين. لظهور أن مقتضى إطلاق دليل التكليف الواقعي
المعلوم بالإجمال ثبوته في مورد العلم الإجمالي المذكور ، ولا ملزم بالخروج عنه من
أجل دليل الترخيص المفروض بعد إمكان رفع التنافي بينهما بالتنزل للموافقة
الاحتمالية.
أما بناء على
امتناع اكتفاء الشارع بالموافقة الاحتمالية ـ كما يظهر من شيخنا الأعظم قدسسره وجماعة ممن تأخر عنه ـ فاللازم استحكام التنافي بين
التكليف المعلوم بالإجمال والترخيص المفروض ، لوضوح التنافي بين لزوم اجتناب تمام
الأطراف ، تبعا لوجوب اجتناب المعلوم بالإجمال ، والترخيص في ارتكاب أي منها من
أجل الطارئ المفروض.
وحيث كان
المفروض فعلية الترخيص المذكور ، لزم سقوط التكليف المعلوم بالإجمال عن الفعلية ،
وبعد العمل بمقتضى الترخيص في بعض
الأطراف ، وسدّ الحاجة به ، لا يعلم ثبوت التكليف في الباقي ، لاحتمال سدّ
الحاجة بمورد التكليف المعلوم بالإجمال ، وارتفاع موضوع التكليف بذلك.
ولا يبقى إلا
احتمال ثبوت التكليف في الباقي الذي هو مدفوع بالأصل. ومن ثم أصرّ المحقق
الخراساني قدسسره على عدم وجوب الاحتياط في الباقي.
لكن شيخنا
الأعظم قدسسره مع ذهابه إلى ما عرفت من امتناع تنزل الشارع عن
الموافقة القطعية واكتفائه بالموافقة الاحتمالية أصرّ في المقام على لزوم الاحتياط
في الباقي بالتقريب المتقدم منا. ونظّر له بجميع الطرق الشرعية المنصوبة لامتثال
التكاليف الواقعية المعلومة بالإجمال ، حيث يرجع جعلها إلى القناعة عن الواقع
بمؤدياتها ، والاكتفاء في امتثاله بمتابعتها وإن لم يعلم إصابتها له ، من دون أن
يرجع جعلها إلى رفع اليد عن الواقع المعلوم إجمالا وإهماله رأسا.
وذلك منه لا
يناسب مبناه المذكور جدا. ولا وجه لقياس المقام بالطرق المنصوبة شرعا في مورد
العلم الإجمالي. لأن الطرق المذكورة إن كانت ناظرة للمعلوم بالإجمال وواردة بلسان
تعيينه كانت موجبة لانحلال العلم الإجمالي تعبدا ، كما سبق في التنبيه الخامس.
وإن لم تكن
ناظرة للمعلوم بالإجمال فحيث كانت منجزة لاحتمال التكليف في مؤدياتها كانت مانعة
من منجزية العلم الإجمالي وموجبة لانحلاله حكما ، كما سبق في التنبيه الرابع.
ولا مجال لذلك
في المقام ، لوضوح عدم نظر دليل الترخيص للمعلوم بالإجمال ، ليوجب انحلال العلم
الإجمالي تعبدا ، ولا يكون منجزا لاحتمال التكليف في بعض الأطراف ، ليسقط العلم
الإجمالي عن المنجزية ، بل هو مرخص في بعض الأطراف تخييرا ، وذلك مناف لمقتضى
العلم الإجمالي
من لزوم اجتناب تمام الأطراف ، فيجري ما سبق.
نعم تصدي غير
واحد لتوجيه وجوب الاحتياط في المقام. والمهم مما ذكروه وجهان :
الأول : أن الاضطرار ونحوه مما يقتضي الترخيص المفروض حيث لا
يقتضي الترخيص في جميع الأطراف ، بل الترخيص في بعضها بنحو البدلية ، فهو لا
يستلزم ارتفاع التكليف المعلوم بالإجمال رأسا ، بل يقتضي تقييده بما إذا لم يعمل
بمقتضى الترخيص في غير مورده من الأطراف ، إذ العمل به فيه يفي برفع الاضطرار ،
ومع رفعه لا ملزم برفع التكليف عن مورده.
وحينئذ لو خالف
المكلف مقتضى التكليف في جميع الأطراف يعلم بمخالفته للتكليف الفعلي في مورده.
وفيه : أنه لا
مجال لاشتراط سقوط التكليف في مورده بعدم مخالفة مقتضى التكليف في بقية الأطراف ،
إذ لازمه تحقق العصيان من المكلف لو صادف أن رفع اضطراره بمورد التكليف ، ثم ارتكب
بقية الأطراف مع عدم الإشكال في عدم العصيان حينئذ لا بالعمل بمقتضى الترخيص في
مورد التكليف ، لأن له رفع اضطراره به ، ولا في بقية الأطراف ، لعدم الموضوع.
فلا بد من
البناء على سقوط التكليف بعروض الاضطرار المقتضي للترخيص البدلي ، لمنافاة الترخيص
البدلي للتكليف الإجمالي ، للتنافي بينهما عملا بعد فرض لزوم الموافقة القطعية.
غاية الأمر أنه لو صادف رفع الاضطرار بغير مورد التكليف الإجمالي ، يتعين رجوع
التكليف للفعلية بعد سقوطه ، لعدم المانع.
إلا أنه لا
طريق لإحراز ذلك ، بل مقتضى الأصل عدمه.
الثاني
: أن العنوان
الموجب للترخيص كالاضطرار لما لم ينطبق على مورد التكليف الإجمالي بخصوصه لم يكن
صالحا لرفع التكليف المذكور. ومجرد الاضطرار للجامع بين الأطراف لا يكفي في رفع
التكليف عن بعضها بخصوصه بعد عدم كونه مضطرا إليه. ولذا لا يكون الاضطرار بالنحو
المذكور رافعا للتكليف مع العلم التفصيلي بمورده. غاية الأمر أن الاضطرار بالنحو
المذكور يقتضي جواز رفعه واقعا وظاهرا بأحد الأطراف وإن صادف مورد التكليف ، ومع
عدم ارتفاع التكليف الإجمالي يتعين تنجز احتماله في تمام الأطراف ، وذلك ملزم
بالاحتياط فيما بقي منها بعد رفع الاضطرار ، كما هو الحال فيما لو تلف بعض
الأطراف.
وفيه : أولا : أن ما ذكر ـ من عدم ارتفاع التكليف المعلوم بالإجمال
بعد عدم الاضطرار لمورده بخصوصه في محل الكلام ـ وإن كان هو مقتضى الجمود على لسان
دليل الاضطرار ، كقوله صلىاللهعليهوآله في حديث الرفع المشهور : «رفع عن أمتي تسعة أشياء :
الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه ... وما اضطروا إليه» وقوله عليهالسلام : «ليس شيء مما حرم الله إلا وقد أحله لمن اضطر إليه» . وكذا الحال في الإكراه.
إلا أنه لا
مجال له في مثل دليل العسر والحرج ، لظهوره في عدم جعل الحكم الموجب لهما ولو عرضا
بسبب اشتباه مورده المقتضي للاحتياط في تمام أطراف الاشتباه.
وكذا الحال في
مثل المزاحمة للتكليف الأهم ، لأن التكليف المهم وإن لم يزاحم الأهم بنفسه في مورد
الاشتباه ، إلا أنه بسبب الاشتباه المقتضي للاحتياط
__________________
يكون مزاحما له بالعرض.
بل لما كان
المستفاد من دليل رفع الاضطرار اهتمام الشارع بسدّ ضرورة المكلف ورفع الضيق عنه
الناشئ من الاضطرار والإكراه كان الاضطرار والإكراه في المقام رافعين للتكليف وإن
لم ينطبق عنوانهما في مورده بخصوصيته. كيف؟! ومن الظاهر أن العسر ليس أهم من
الاضطرار والإكراه.
وثانيا : أنه لو تم ما ذكره من عدم رافعية الاضطرار ونحوه
للتكليف في المقام ، بسبب عدم انطباق عنوان الرافع على مورد التكليف بخصوصه ، لزم
عدم جواز رفع الاضطرار ونحوه بأحد الأطراف تخييرا ، لا واقعا ، ولا ظاهرا ،
لامتناع الترخيص ـ الواقعي والظاهري ـ في مخالفة التكليف الواقعي الفعلي. بل لا
معنى للترخيص الظاهري بعد كون الاضطرار من الروافع الواقعية ، لا الظاهرية كالجهل.
ودعوى : أن
الموجب للترخيص لما كان هو الجهل بمورد التكليف ، ولذا لو علم بمورده تفصيلا تعين
رفع الاضطرار بغيره ، تعين كون الترخيص ظاهريا. مدفوعة بأن الجهل بمورد التكليف لا
يقتضي الترخيص في مخالفة التكليف ، بل يقتضي الاحتياط بترك تمام الأطراف خروجا عن
العلم الإجمالي ، والمقتضي للترخيص هو الاضطرار ، وهو من الروافع الواقعية ، لا
الظاهرية ، فإذا فرض عدم نهوضه برفع التكليف بالإجمال تعين عدم تأثير الاضطرار
للترخيص ، لما ذكرنا من امتناع الترخيص في مخالفة التكليف الفعلي.
وأما دعوى : أن
ما يختاره المكلف لرفع اضطراره في المقام يكون مصداقا للمضطر إليه ، وإن لم يكن
مصداقا له بمجرد اضطراره للجامع ، فلا ترتفع حرمته إلا باختياره. فهي ممنوعة جدا ،
لوضوح أنه لا دخل لاختيار المكلف في تعيين موضوع الاضطرار ، كما لا دخل له في رفع
التكليف عما
يختار ، بل لا بد من ارتفاع التكليف في رتبة سابقة على الاختيار.
وقد تحصل من
جميع ما تقدم أنه بناء على ما يظهر منهم ، من امتناع ترخيص الشارع في ترك الموافقة
القطعية والاكتفاء بالموافقة الاحتمالية ، فلا دافع لما ذكره المحقق الخراساني قدسسره من استلزام الترخيص في المقام لرفع التكليف المعلوم
بالإجمال ، ولا منجز لاحتمال التكليف في الطرف الباقي بعد رفع الاضطرار.
نعم لازم ذلك
أنه لو دار الأمر بين رفع الاضطرار بأطراف المعلوم بالإجمال ورفعه بما يعلم بحرمته
تفصيلا كان المكلف مخيرا بينهما. فلو ابتلى المكلف بطعامين يعلم بحرمة أحدهما
إجمالا وبثالث يعلم بحرمته تفصيلا ، واضطر لسدّ رمقه بأحدها كان مخيرا بين أحد
الطعامين الأولين والطعام الثالث ، لعدم الفرق بين التكليفين التفصيلي والإجمالي
في المنافاة للترخيص الناشئ عن الاضطرار ، المستلزم لرفع أحدهما تخييرا ، كما لو
اضطر لأحد طعامين يعلم بحرمتهما معا. ومن الظاهر أن المرتكزات العقلائية تأبى ذلك
جدا.
لكنه لا يستلزم
تمامية أحد الوجوه المذكورة في كلماتهم ، بل يكشف عن إمكان الاكتفاء بالموافقة
الاحتمالية ، كما يظهر مما تقدم عند الكلام في قاعدة الاشتغال في أول هذا الفصل.
التنبيه السابع : في العلم الإجمالي التدريجي
لا ريب في
منجزية العلم الإجمالي فيما لو كان الابتلاء بأطرافه في زمان واحد ، سواء أمكن
مخالفة احتمال التكليف فيها في زمان واحد ، كما لو علم بحرمة لبس أحد الثوبين
اللذين يمكن لبسهما في وقت واحد ، أم لا ، كما لو علم الجنب بمسجدية أحد مكانين ،
حيث يتعذر المكث فيهما معا في زمان واحد ، لأن فعلية الابتلاء بالأطراف في الزمان
الواحد تستلزم العلم بفعلية
التكليف المعلوم بالإجمال.
وأما لو كان
الابتلاء بأطرافه تدريجيا ـ كما لو علم المكلف بأنه قد نذر زيارة الحسين عليهالسلام في إحدى ليلتين ، أو بحيض زوجته في خمسة أيام من أول
الشهر أو آخره ـ فقد وقع الكلام بينهم في منجزية العلم الإجمالي حينئذ. وقد جزم
بعض الأعاظم وبعض الأعيان المحققين قدسسرهما بالمنجزية مطلقا. وربما قيل بالتفصيل ، على ما يتضح إن
شاء الله تعالى.
والذي ينبغي أن
يقال : حيث تقدم غير مرة أنه لا بد في منجزية العلم الإجمالي من كون المعلوم أمرا
يترتب عليه العمل على كل حال بحيث يكون موردا للمسئولية وصالحا للداعوية العقلية ،
ليجب عقلا الفراغ عنه بعد تنجزه بالعلم ، فالكلام في المقام يبتني على كون الطرف
المتأخر موردا للعمل والمسئولية بالنحو المذكور بعد الفراغ عن كون الطرف المتقدم
كذلك.
ولا ينبغي
التأمل في ذلك بعد الرجوع للمرتكزات العقلائية. إذ لا ريب في قبح تعجيز المكلف
نفسه عن امتثال التكليف المتأخر ، بحيث يلزم منه تفويت الملاك الفعلي للتكليف
التام الموضوع في وقته. وعليه يبتني ما تقدم في المبحث الثالث من مباحث مقدمة
الواجب من لزوم المحافظة على مقدمات المكلف به المفوّتة ، وهي التي لا يمكن
تحصيلها بعد دخول وقت الواجب.
نعم لو كانت
المنجزية موقوفة على فعلية التكليف ابتنى الكلام في المقام على الكلام في الواجب
المشروط والمعلق ، واتجه التفصيل بين ما إذا كان التكليف المتأخر المحتمل من
الواجب المعلق الذي يكون التكليف به فعليا قبل حضور وقته ، وما إذا كان من الواجب
المشروط الذي لا يكون فعليا قبل حصول شرطه ووقته ، فيتنجز العلم الإجمالي في الأول
دون الثاني.
وكأنه إلى ذلك
نظر المحقق الخراساني قدسسره في وجه التفصيل بين المثالين المتقدمين ، فإنه حيث ذهب
إلى إمكان كل من الواجب المعلق والمشروط اتجه
منه البناء على منجزية العلم الإجمالي في مثال النذر المتقدم ، لظهور أن
وجوب الوفاء بالنذر حينئذ يكون فعليا تبعا لفعلية موضوعه ، وهو النذر. كما اتجه
منه البناء على عدم منجزية العلم في مثال الحيض المتقدم ، لعدم إحراز فعلية حرمة
الوطء بعد عدم إحراز فعلية موضوعها وهو الحيض ، لاحتمال تأخره.
وأما شيخنا
الأعظم قدسسره فيلزمه البناء على منجزية العلم حتى في المثال الثاني ،
لأنه يرى فعلية التكليف في الواجب المشروط قبل شرطه. لكنه استشكل في عموم المنجزية
، واحتمل الفرق بين المثالين. وكيف كان فالظاهر عموم المنجزية وعدم دورانها مدار
فعلية التكليف ، كما تقدم.
إن
قلت : هذا مناف
لما تقدم في التنبيه السابق من أن عدم الابتلاء ببعض الأطراف مانع من منجزية العلم
الإجمالي ، حيث لا ريب في خروج الطرف المتأخر عن الابتلاء الفعلي.
قلت
: عدم الابتلاء
المانع من المنجزية هو الموجب للغوية التكليف وعدم صلوحه لإحداث المسئولية عرفا ،
وهو لا يشمل عدم الابتلاء الموقّت ، مع العلم بالابتلاء بالتكليف في وقته ، حيث لا
إشكال في كونه منشأ لإحداث المسئولية عرفا وعقلا. ولذا لا يجوز عقلا تعجيز النفس
قبل الوقت عن امتثال التكليف في وقته ، ويجب السعي لتحصيل مقدماته المفوتة ، كما
سبق.
التنبيه الثامن : في ملاقي بعض الأطراف
تمهيد
لزوم مراعاة
احتمال التكليف ..
تارة : يبتني على إحراز موضوعه ، فيحرز تبعا له.
وأخرى : لا يبتني على ذلك ، بل على إحراز التكليف رأسا
باستصحاب أو نحوه ، أو على مجرد لزوم الاحتياط شرعا أو عقلا من دون إحراز للتكليف.
ففي الأول
تترتب جميع آثار الموضوع مع إطلاق دليل التعبد به ، كما قد يدعى في البلل المشتبه
قبل الاستبراء. حيث قد يظهر من دليله أن وجوب الغسل من البلل مبني على التعبد بكون
الخارج بولا أو منيا ، فتترتب جميع آثارهما ، لا خصوص وجوب الغسل الذي تضمنته
النصوص. وإلا فمن البعيد جدا وجوب الغسل واقعا مع احتمال عدم الجنابة. وكذا وجوبه
ظاهرا من دون تعبد بها ، بل لمجرد الاحتياط. وإلا كان المناسب التنبيه للاحتياط
بضم الوضوء له.
وأما في الثاني
فلا مجال لترتيب الآثار الأخر ، لعدم إحراز موضوعها.
وعليه يبتني ما
لعله المشهور بينهم من عدم البناء على نجاسة ملاقي أحد أطراف العلم الإجمالي
بالنجاسة ، وعدم وجوب الاجتناب عنه ، لأن نجاسة الملاقي من آثار نجاسة ملاقيه ،
وهو غير ثابت بالعلم الإجمالي ، وإن وجب اجتنابه احتياطا بحكم العقل ، بل مقتضى
أصالة الطهارة ، بل الاستصحاب ، الحكم بطهارة الملاقي.
ومن هنا لا وجه
لما في الحدائق ، حيث عجب من حكمهم بعدم نجاسة ملاقي أحد الأطراف مع حكمهم بنجاسة
ملاقي البلل المشتبه ، مع أن كلا منهما مشتبه حكم عليه ببعض أحكام النجاسة.
إذا عرفت هذا
فاعلم أنه وقع الكلام بينهم في وجوب الاجتناب عن ملاقي أحد الأطراف التي يعلم
بنجاسة بعضها.
ولا ينبغي
التأمل في أنه لا مجال لاحتمال البناء على نجاسة الملاقي ، وإن أوهمته بعض
كلماتهم. لما هو المعلوم من أن الاجتناب عن الملاقى الذي هو الأصل ليس للبناء على
نجاسته ، بل لمجرد الاحتياط ، فكيف يمكن البناء على نجاسة الملاقي المتفرعة عليها؟!
وغاية ما يمكن هو دعوى وجوب الاجتناب عنه احتياطا ، كالاجتناب عن ملاقيه.
هذا وحيث كان
الملاقي موضوعا مستقلا مباينا للملاقى فلا بد من تباين حكمهما الوضعي ـ وهو
النجاسة ـ فضلا عن حكمهما التكليفي ، وهو وجوب الاجتناب ، المترتب على النجاسة ،
والذي هو الموضوع للتنجيز والتعذير ، على ما تقدم في التنبيه الثالث.
ويترتب على ذلك
أن تنجز التكليف المحتمل في الملاقى ـ بسبب العلم الإجمالي ـ لا يكفي في تنجز
التكليف المحتمل في الملاقي ، لتعدد الموضوع ، بل لا بد في تنجزه من سبب مستقل
يخصه.
وأما ما قد
يدعى من أن ذلك إنما يتم بناء على أن نجاسة الملاقي مسببة عن نجاسة الملاقى شرعا
مع مباينتها لها ، أما بناء على اتحادها معها وأن انفعال الملاقي يبتني على سراية
نجاسة الملاقى له وسعتها بنحو تسري فيه ـ نظير سراية الحرارة والبرودة من أحد
الجسمين للآخر ـ فيتعين تنجز احتمال النجاسة في الملاقي ، تبعا لتنجز احتمال
النجاسة في الملاقى ، لاحتمال سعة النجاسة المعلومة بالإجمال ، نظير ما لو علم
إجمالا بتكليف في طرف أو تكليفين في آخر ، أو قسم أحد طرفي العلم الإجمالي قسمين.
فهو كما ترى ،
لأن مورد العمل ليس هو النجاسة بل النجس ، بلحاظ أحكامه التكليفية التابعة لنجاسته
، وهو الذي يكون موضوعا للتنجيز ، وليست النجاسة إلا علة لثبوت تلك الأحكام. وحيث
كان الملاقي مباينا للملاقى عينا وأحكاما ، تعين عدم تنجزه بتنجز الملاقى ، بل لا
بد له من منجز يخصه.
ولا مجال
للتنظير له بالمثالين المذكورين ، لأن المنجز بالعلم الإجمالي من أول الأمر في
الأول احتمال التكليفين في الطرف المذكور ، وفي الثاني متحد مع كلا القسمين ، من
دون أن توجب القسمة احتمال حدوث تكليف جديد.
ومن هنا فقد
يوجّه تنجز احتمال التكليف في الملاقي بأنه طرف للعلم الإجمالي ، كالملاقى ، فإذا
علم إجمالا بنجاسة إحدى اليدين ، ولاقى الثوب اليمنى منهما ، فكما يعلم بنجاسة
إحدى اليدين يعلم بنجاسة اليد اليسرى أو الثوب ، والعلم الثاني منجز لطرفيه
كالأول.
وبتقريب آخر
يعلم إجمالا بنجاسة اليد اليسرى أو اليمنى مع الثوب ، والعلم المذكور كما ينجز
احتمال النجاسة في اليد اليمنى ينجز احتمالها في الثوب ، لعدم الفرق.
ودعوى : أن
العلم الإجمالي المذكور ليس منجزا ، لعدم المعارض للأصل الترخيصي الجاري في
الملاقي بعد تساقط الأصول الجارية في الملاقى وطرفه بالمعارضة في رتبة سابقة. ففي
المثال المتقدم ، لما كان الأصل المحرز للطهارة في كل من اليدين معارضا للأصل الجاري
في الأخرى فالأصل الجاري في الثوب لا يجري في عرضهما ـ ليسقط معهما بالمعارضة ـ بل
هو متأخر عن الأصل الجاري في اليد اليمنى ، لكونه مسببيا بالإضافة إليه ، وبعد
سقوط الأصل في اليدين معا بالمعارضة يجري الأصل في الثوب بلا معارض.
مدفوعة أولا : بأنها تبتني على أن المانع من جريان الأصول الترخيصية
في أطراف العلم الإجمالي ليس إلا التعارض ، لاستلزامها الترخيص في المخالفة
القطعية. وقد تقدم ضعف المبنى المذكور ، وأن المانع لا ينحصر بذلك بل يكفي في
المنع منجزية العلم الإجمالي بنحو يقتضي الموافقة القطعية ، فإن مقتضى ذلك عدم
جريان الأصل الترخيصي في أطراف العلم الإجمالي ـ ومنها الملاقي في المقام ـ حتى مع
عدم المعارضة. إلا أن يسقط العلم الإجمالي عن المنجزية بأحد المسقطات المتقدمة.
على أنه تقدم
أن ظاهر القائلين بانحصار المانع من جريان الأصول في الأطراف بتعارضها هو سقوط
الأصول المترتبة بأجمعها بالمعارضة ، ولا أثر
للترتب بينها في ذلك. فراجع.
وثانيا : أن مقتضى ذلك عدم جواز ترتيب آثار الطهارة المخالفة
للأصل في الملاقي في بعض فروض المسألة ، كما لو علم إجمالا بنجاسة أحد الطعامين
ولاقى الثوب أو الماء أحدهما ، إذ بعد سقوط أصالة الطهارة في الطعامين ، كما تجري
أصالة الطهارة في الماء والثوب تجري أصالة الحل في الطعامين ، وبعد سقوط الأصول
الثلاثة لا مجال لإحراز الطهارة في الثوب ، ليصلى به ، ولا في الماء ليتوضأ به ،
بل غايته أن تجري أصالة الحل في الماء ، فيجوز شربه لا غير.
بل لو علم
إجمالا بنجاسة أحد ماءين معلوم الطهارة سابقا ومجهول الحالة السابقة ، ولاقى
الثاني ثوب مجهول الحالة السابقة ، كان التعارض في المرتبة الأولى بين استصحاب
الطهارة في الماء الأول وقاعدتها في الثاني ، وبعد تساقطهما تجري أصالة الطهارة في
الماء الأول وأصالة الحل في الماء الثاني وأصالة الطهارة في الثوب ، وبعد تساقطها
تجري أصالة الحل في الماء الأول بلا معارض. ولازم ذلك حرمة شرب الماء الثاني ،
وعدم جواز الصلاة بالثوب ، وجواز شرب الماء الأول ، وعدم جواز الوضوء به ... إلى
غير ذلك مما لا يظن بأحد الالتزام به.
ومن هنا كان
الظاهر الرجوع إلى القاعدة المتقدمة في العلوم الإجمالية المتداخلة المقتضية تقديم
الأسبق منها ، وتعينه للمنجزية.
وتوضيح ذلك :
أن في المقام علوما إجمالية ثلاثة كما تقدم ، الأول : العلم بنجاسة المتلاقيين أو
صاحب الملاقى. الثاني : العلم بنجاسة الملاقى أو صاحبه. الثالث : العلم بنجاسة صاحب الملاقى أو الملاقي. والعلم الأول
أوسع أطرافا من العلمين الأخيرين ، وأطرافهما داخلة في أطرافه ، كما أن العلمين
الأخيرين يشتركان في طرف واحد وهو صاحب الملاقى.
فمع عدم المرجح
لأحد العلمين الأخيرين في المنجزية يتعين منجزيتهما معا. ومرجع ذلك إلى منجزية
الأول في تمام أطرافه ، ولزوم الموافقة فيها بأجمعها.
ومع تعين أحد
العلمين الأخيرين للمنجزية ، لمرجح له ، يتعين سقوط الآخر عنها ، لما تقدم في
التنبيه الرابع من أن تنجز بعض أطراف العلم الإجمالي بعلم إجمالي آخر مانع من
منجزيته في بقية أطرافه. ومرجع ذلك إلى عدم منجزية العلم الأول الأوسع أطرافا.
إذا عرفت هذا
فحدوث النجاسة المعلومة بالإجمال إن كان سابقا على الملاقاة كان العلم الثاني أسبق
معلوما ، فيتعين للتنجز ، دون الثالث. لما سبق في أواخر التنبيه الرابع من أن سبق
المعلوم مرجح في ذلك المقام.
وإن كان مقارنا
للملاقاة ، بحيث تكون النجاسة المحتملة في الملاقي مقارنة للنجاسة المحتملة في
الملاقى غير متأخرة عنها زمانا ، فإن كان العلم الثاني ـ وهو العلم بنجاسة الملاقى
أو صاحبه ـ أسبق ، بأن لم يعلم بالملاقاة إلا بعد العلم المذكور ، كان العلم
المذكور متعينا للتنجيز ، نظير ما تقدم في صورة سبق النجاسة على الملاقاة ، لما
سبق في التنبيه الرابع من أن سبق العلم مرجح أيضا.
وإن كان العلم
الثالث هو الأسبق ـ بأن علم بنجاسة الملاقي وصاحب الملاقى أولا ، ثم علم أن منشأ
احتمال نجاسة الملاقي هو الملاقاة ـ كان هو المتعين للتنجيز. وإن تقارنت العلوم
الثلاثة ـ بأن علم بالنجاسة حين العلم بالملاقاة ـ فاللازم منجزية العلوم الثلاثة
، لعدم المرجح بعد عدم السبق في العلم ولا في المعلوم.
نعم لا بد في
ذلك كله من ترتب الأثر العملي للنجاسة في الملاقى وصاحبه والملاقي ، كما لو علم
بنجاسة أحد ماءين ، ولاقاهما ثوب طاهر. أما لو
لم يترتب أثر على النجاسة في الملاقى ، أو في صاحبه فلا ينهض العلم
الإجمالي بتنجس أحدهما بالمنجزية ، ليقع الكلام في مانعيته من منجزية العلم الآخر
الحاصل من الملاقاة لو كان منجزا في نفسه ـ لترتب الأثر على طرفيه ـ بل يتعين منجزية
العلم المذكور ، كما لو علم إجمالا بنجاسة الماء أو ظاهر الإناء ، ثم لاقى الثوب
ظاهر الإناء ، حيث يتعين حينئذ منجزية العلم بنجاسة الماء أو الثوب.
التنبيه التاسع : في الشبهة غير المحصورة
لا يبعد أن
يكون المفهوم من الشبهة غير المحصورة عرفا أن تبلغ كثرة الأطراف حدّا لا يسهل
تشخيصها دقة في طرفي القلة والكثرة ، ولا يكفي فيها مجرد التردد بين الأقل والأكثر
مع ضبط الطرفين.
نعم تحديدها
مفهوما ومصداقا غير مهم ، بعد عدم ورود العنوان المذكور في دليل لفظي ينهض ظهوره
بالحجية ، وإنما ورد في كلمات الأصحاب ، بنحو لا يحرز دخله في موضوع الحكم ،
ليترتب الأثر على تحديده.
والمهم النظر
في أدلة ما هو المعروف من عدم منجزية العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة ، ثم
تحديد موضوع الحكم المذكور سعة وضيقا ، تبعا لمفاد تلك الأدلة.
إذا عرفت هذا
فقد استدل على ذلك بأمور ..
الأول : الإجماع. ففي جامع المقاصد : «الظاهر أنه اتفاقي» ،
وفي مبحث مكان المصلي من الروض التصريح به ، وعن الوحيد في فوائده : «عدم وجوب
الاجتناب عن غير المحصور مجمع عليه بين الكل ، ولا ريب فيه ، ومدار المسلمين في
الأعصار والأمصار على ذلك» ، وفي الجواهر : «للإجماع بقسميه ، والسيرة المستقيمة».
بل عن بعضهم دعوى الضرورة عليه في الجملة.
هذا والسيرة ـ التي
أشير إليها في كلام الوحيد والجواهر ـ من الوضوح
بحدّ لا مجال معه لإنكارها ، كما لا مجال لتخطئتها بعد عمومها للمتدينين ،
ومطابقتها لمرتكزات المتشرعة ، حتى ينسب مخالفها للوسواس. بل لو لا ذلك للزم الهرج
والمرج واختل نظام المعاش والمعاد.
ولعل دعوى
الإجماع مبنية على السيرة المذكورة ، لقلة المتعرضين للعنوان المذكور ، وتأخر
عصورهم ، كما يظهر بمراجعة مفتاح الكرامة. فكأنه إجماع ارتكازي ، لا فتوائي.
هذا وقد يستشكل
في الاستدلال بالإجماع المذكور بوجهين «أحدهما» : عدم وضوح كونه إجماعا تعبديا ،
لقرب استناده لأحد الوجوه الآتية أو غيرها ، فيلزم النظر في دليله.
ويندفع بأن
استناد الإجماع والسيرة والضرورة لأحد الوجوه المذكورة وإن كان قريبا ، إلا أنه لا
مجال لاحتمال خطئها ـ بحيث يمكن الخروج عنها لو لم تتم الوجوه الآتية عندنا ـ بعد
وضوحها وارتكازيتها ، واتصالها بعصور المعصومين عليهمالسلام ، لشيوع الحرام في جميع العصور ، بنحو يعلم إجمالا
بالتعرض له في الأموال والأعمال ، فلو وجب الاحتياط فيه لورد التنبيه عليه بنحو
يمنع من حصول السيرة وارتكازيتها وجري النظام عليها.
«ثانيهما» : أن
وجوب الاحتياط مع العلم الإجمالي لما كان عقليا فلا مجال لرفع اليد عنه بالأدلة
الشرعية التعبدية ، لفظية كانت أو لبّية كالإجماع.
ويندفع بما سبق
في أول الكلام في العلم الإجمالي من إمكان رفع الشارع موضوع حكم العقل المذكور
برفع فعلية التكليف المعلوم بالإجمال ، أو بالتعبد بالامتثال في بعض الأطراف ، أو
بالاكتفاء بالموافقة الاحتمالية. والإجماع والسيرة يصلحان لإثبات أحد هذه الأمور
في موارد الشبهة غير المحصورة لو فرض عموم حكم العقل بوجوب الاحتياط لها.
نعم لما كان
الإجماع والسيرة المذكوران دليلين لبّيين فاللازم الاقتصار على المتيقن من
مواردهما ، والرجوع في غيره لمقتضى حكم العقل المتقدم.
وضبط المتيقن
من الإجماع والسيرة صعب جدا. فاللازم النظر في بقية الوجوه ، ليكون التحديد تابعا
لها ، ولا سيما مع قرب ابتناء الإجماع والسيرة عليها.
الثاني : النصوص الظاهرة في عدم وجوب الاحتياط في موارد العلم
الإجمالي ، كصحيح عبد الله بن سنان ، وغيره مما تقدم عند الكلام في حرمة المخالفة
القطعية للعلم الإجمالي ، حيث ذكرنا هناك لزوم حمله على الشبهة غير المحصورة ،
خروجا عن محذور مخالفة العلم الإجمالي المنجز.
نعم لما كان
مقتضى إطلاق تلك النصوص عدم وجوب الاحتياط حتى في الشبهة المحصورة ، فمع عدم إمكان
الالتزام بذلك ، ولزوم حمله على الشبهة غير المحصورة ، فالظاهر أن ذلك لا يرجع
عرفا إلى تقييد الإطلاق المذكور مع عمومه في نفسه ، ليقتصر فيه على المتيقن من
موارد الشبهة غير المحصورة ، بل إلى كون المراد به الإشارة إلى ما هو المعهود من
الشبهة غير المحصورة ، من دون أن ينهض بتحديدها.
الثالث : ما أشار إليه في الشرائع من التعليل بدفع المشقة. وظاهره
إرادة قاعدة نفي الحرج بتقريب : أن التكاليف الواقعية وإن لم تكن حرجية بنفسها ،
إلا أنها بسبب الاشتباه في الأطراف الكثيرة تستلزم الحرج بالعرض ، وحينئذ يتعين
البناء على سقوطها عن الفعلية ، أو رفع اليد عن الموافقة القطعية ، والاكتفاء
بالموافقة الاحتمالية. وقد تقدم في التنبيه السادس أن الثاني هو الأظهر.
ويندفع بأن ذلك
أعم من وجه ، لأن الحرج قد يلزم مع الشبهة المحصورة ـ بل مع العلم التفصيلي ـ لخصوصية
في مورد التكليف. كما أن الاجتناب عن الشبهة غير المحصورة قد لا يستلزم الحرج ،
لعدم شدة حاجة
المكلف لأطراف الاشتباه. فلا ينفع ذلك في إثبات المدعى ، وهو عموم عدم وجوب
الاجتناب في الشبهة غير المحصورة.
إن
قلت : حيث يلزم من
اجتناب الشبهة غير المحصورة الحرج نوعا تعين البناء على عدم وجوب الاجتناب عنها.
لا لقاعدة نفي الحرج ، لما هو الظاهر من المراد بها الحرج الفعلي الشخصي ، دون
النوعي. بل لما تضمنته بعض النصوص من عدم تضمن الشريعة حكما يستلزم الحرج نوعا ،
مثل ما ورد في تعليل عدم وجوب الغسل من البول وغيره.
قلت : المراد من النصوص المذكورة ـ لو استفيد منها العموم ـ
عدم تشريع كبرى شرعية مستلزمة للحرج نوعا ، كوجوب الغسل من البول. ولا ينافي ثبوت
كبرى انتزاعية يلزم منها الحرج نوعا متفرعة على كبرى أو كبريات شرعية لا يلزم من
كل منها الحرج نوعا ، كلزوم أداء الواجبات الأولية على المريض التي هي منتزعة من
مجموعة صغريات لكبريات شرعية شاملة للمريض لا يلزم منها الحرج نوعا ، كوجوب الصلاة
التامة ، والصوم ، وتطهير المسجد ، وتغسيل الميت ، وغيرها. بل غاية ما يلزم تخصيص
الكبريات المذكورة في مورد الحرج الشخصي الفعلي تحكيما لقاعدة نفي الحرج.
ومن الظاهر أن
وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة ليس مفاد كبرى شرعية ، لتنافي النصوص المشار
إليها ، بل هو منتزع من صغريات لكبريات لا يلزم منها الحرج نوعا ، ككبرى حرمة أكل
النجس وشربه ، واعتبار الطهارة في الوضوء والصلاة ، وحرمة الغصب وغيرها من الأحكام
التي لا تختص بموارد الشبهة غير المحصورة. غايته أن عموم تلك الأحكام لموارد
الشبهة غير المحصورة مقتض لحكم العقل بوجوب الاحتياط فيها ، ومنه تنتزع
__________________
كبرى وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة ، وليست هي كبرى شرعية ، لترجع
إلى تشريع حكم يلزم منه الحرج نوعا.
الرابع : أن كثرة الأطراف توجب ضعف احتمال التكليف في كل منها
بنحو لا يعتني به العقلاء في مقام العمل ، ولا يصلح للتنجيز بملاك دفع الضرر المحتمل.
قال شيخنا الأعظم قدسسره : «ألا ترى الفرق الواضح بين العلم بوجود السمّ في أحد
الإناءين أو واحد من ألفي إناء؟».
وفيه أولا : أن لازمه الاقتصار في جواز ارتكاب أطراف الشبهة غير
المحصورة على صورة ضعف احتمال التكليف ، ولا يظهر منهم البناء على ذلك.
وثانيا : أن ذلك إن رجع إلى أن كثرة الأطراف تمنع من منجزية
العلم الإجمالي ، بحيث لا يكون بيانا على التكليف ، ويكون العقاب معه عقابا بلا
بيان.
فيدفعه أنه لا
فرق في منشأ منجزية العلم الذاتية بين كثرة الأطراف وقلتها ، كما يظهر مما تقدم في
مبحث منجزية العلم الإجمالي من مباحث القطع.
وإن رجع إلى أن
العلم وإن كان بيانا ومنجزا للمعلوم إلا أنه لا يقتضي الاحتياط مع ضعف الاحتمال.
فهو مما لا يمكن البناء عليه ، ولذا لا إشكال في عموم وجوب الاحتياط في الشبهة
المحصورة للأطراف التي يضعف فيها احتمال التكليف. وذلك لعموم وجوب دفع الضرر
المحتمل إذا كان مهما ـ كضرر العقاب في المقام ـ لصورة ضعف الاحتمال.
وعدم الاحتياط
في مثال السمّ المتقدم ـ لو تم ـ إنما هو لمزاحمة محذور الاحتياط للضرر المعلوم
إجمالا ، لما في الاحتياط مع كثرة الأطراف من المشقة
التي تصلح لمزاحمة الضرر. ولا مجال لذلك في العقاب لأهميته جدا.
على أن تجويز
العقل الإقدام على الضرر المحتمل ـ مهما ضعف احتماله ـ لا يقتضي الأمان منه ، كما
هو الحال في الأضرار التكوينية في المثال المتقدم ونحوه ، وفي مثل الدوران بين
المحذورين بسوء اختيار المكلف ، حيث قد يلزم العقل بلزوم العمل بالظن من دون أن
يحكم بالأمان من العقاب مع خطئه.
وحينئذ لا ينفع
ذلك في المقام ، لوضوح ابتناء جواز ارتكاب أطراف الشبهة غير المحصورة على الأمان
من العقاب لو صادف مخالفة التكليف الواقعي.
هذه عمدة
الوجوه المذكورة في كلماتهم ، وهناك وجوه أخر يظهر ضعفها بالتأمل لا مجال لإطالة
الكلام فيها. فلتلحظ في كلماتهم أو في المطولات المستوعبة لها.
وقد ظهر أن
التام منها الوجهان الأولان ، وهما الإجماع وبعض النصوص. وحيث سبق عدم نهوضهما
بتحديد الشبهة غير المحصورة التي لا يتنجز العلم الإجمالي معها ، فاللازم الرجوع
لضوابط عدم تنجيز العلم الإجمالي التي تقدم التعرض لها ، وتطبيقها في المقام.
ومن الظاهر أن
كثرة الأطراف وعدم الإحاطة بها تستلزم غالبا ابتلاء العلم الإجمالي بما يسقطه عن
المنجزية ، كتعذر بعض الأطراف أو خروجه عن الابتلاء بالمعنى المتقدم في التنبيه
الرابع ، أو ابتلائه بتكليف تفصيلي يقتضي الاجتناب عنه مع قطع النظر عن العلم
الإجمالي ، مثل كونه مملوكا لمن لم يأذن بالتصرف فيه. وحينئذ يتجه البناء على عدم
منجزية العلم الإجمالي لأجل ذلك ، لا لخصوصية في عدم الانحصار.
وذلك لا ينافي
النصوص ، لما سبق من عدم أخذ عدم الانحصار فيها. وأما الإجماع فهو وإن أخذ في
معقده عدم الانحصار ، إلا أنه لا يكشف عن
دخله في عدم المنجزية ، بل يمكن حمله على مجرد مقارنته له ، لأن ذلك هو
المتيقن منه. ولا سيما بلحاظ ما سبق من أن العمدة في حجيته ارتكازيته ، وموافقته
للسيرة ، وهما لا يقتضيان أكثر من ذلك ، كما يناسب ذلك أيضا اختصاص الأمثلة التي
يذكرونها بما ذكرنا.
وينبغي التنبيه على أمرين :
الأول : الظاهر جواز المخالفة القطعية في الشبهة غير المحصورة
لو تحقق الابتلاء التدريجي بالأطراف من دون أن يعلم به سابقا ، لعدم منجزية العلم
الإجمالي عند ارتكاب كل طرف بعد فرض عدم الابتلاء ببقية الأطراف ، ولو لارتكابها
سابقا ، أو غيره من موانع منجزية العلم الإجمالي. والعلم بحصول الحرام بعد ارتكاب
تمام الأطراف ليس محذورا مع عدم المنجز للتكليف حين الارتكاب.
وهو لا يستلزم
طرح دليل التكليف الواقعي ، لأن مخالفة التكليف مع وجود المؤمن ظاهرا لا تكون طرحا
له ، كما يظهر مما تقدم في وجه الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية ، وإلا كان
العمل على المؤمن الظاهري في غير موارد العلم الإجمالي مستلزما لاحتمال طرح دليل
التكليف الواقعي الذي هو ممتنع كالعلم به.
ولا يفرق في
ذلك بين العزم من أول الأمر على الإقدام لو صادف الابتلاء بتمام الأطراف وعدمه.
وما ذكره شيخنا الأعظم قدسسره من صدق المعصية عند مصادفة الحرام الواقعي مع العزم
المذكور. غير ظاهر ، لتوقف المعصية على تنجز التكليف ، والمفروض عدمه.
نعم لو علم
بالابتلاء بجميع الأطراف تدريجا كان المورد من صغريات العلم الإجمالي التدريجي
الذي سبق منجزيته ، فلا يجوز الإقدام حتى على
بعض الأطراف.
الثاني : عدم منجزية العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة
إنما يقتضي عدم وجوب الاحتياط في الأطراف من حيثية العلم المفروض. ولا ينافي وجوبه
من حيثية الشك لو كان مجرى لأصل يطابق الاحتياط عملا ، كما في موارد انقلاب الأصل
، أو قاعدة الاشتغال ، أو استصحاب عدم ترتب الأثر ، أو نحوها. لأن سقوط العلم
الإجمالي عن المنجزية لا يقتضي إلغاء الشك ولا يمنع من إعمال أدلة الأصول المذكورة
فيه.
فما يظهر من
بعض الأعاظم قدسسره من التشكيك في ذلك أو الميل إلى إلغاء الشك في غير محله
قطعا. إلا أن يكون الشك بمرتبة لا يعتني بها العقلاء ، لكونها ملحقة بالوسواس. لكن
ذلك غير لازم في الشبهة غير المحصورة ، ولا منحصر بها.
التنبيه العاشر : في توقف منجزية العلم الإجمالي على تحديد الأطراف بوجه ما
الظاهر توقف
منجزية العلم الإجمالي على الالتفات للأطراف وتحديدها بوجه ما ، لتكون موردا
للتنجيز ، فإن حدوث الداعي العقلي للعمل متفرع على تحديد موضوعه ، ولا يكفي مجرد
العلم بالابتلاء بالحرام والوقوع فيه من دون تحديد للأطراف ، لا قبل العمل ولا
حينه ، ليرتدع عنها بحكم العقل.
ومن ثم لا يمنع
من عمل المكلف بالأصول الترخيصية العلم بالتعرض للمخالفة الواقعية في يومه أو شهره
أو سنته ، خصوصا في الأموال والنجاسة ونحوها مما يكثر فيه مخالفة الأصول الترخيصية
للواقع من دون تحديد تفصيلي أو إجمالي لموارد التعرض المذكور. ولو لا ذلك لاختل
نظام المعاد والمعاش وقلّت الفائدة في جعل الأصول المذكورة.
ومنه يظهر
الإشكال فيما ذكره شيخنا الأعظم قدسسره من التمثيل للعلم الإجمالي التدريجي بما إذا علم المكلف
بأنه يبتلي في يومه أو شهره أو سنته بمعاملة ربوية ، فإنه حيث لم تكن المعاملات
المذكورة محددة لم يصلح العلم المذكور لتنجيز التكليف فيها ، بحيث يجب الاحتياط في
المعاملات وتركها فرارا من الوقوع في المعاملة الربوية.
نعم احتمال كون
المعاملة ربوية بنحو الشبهة الحكمية منجز بنفسه مع قطع النظر عن العلم الإجمالي
المذكور ، لوجوب الفحص عن الأحكام الشرعية بنحو يمنع من جريان الأصول الترخيصية.
وكذا احتمال ذلك بنحو الشبهة الموضوعية ، لأصالة عدم ترتب الأثر. إلا أن تكون
محكومة لأصل موضوعي يقتضي تصحيح المعاملة ، كأصالة عدم كون العوضين من المكيل
والموزون. فتأمل جيدا.
والله سبحانه
وتعالى العالم العاصم.
والحمد لله رب العالمين.
الفصل الثالث
في الشك في تعيين التكليف مع وحدة المتعلق
وهو مختص
بالدوران بين وجوب الشيء وحرمته ، الذي قد يعبر عنه بالدوران بين محذورين.
ويقع الكلام فيه في مقامين :
المقام الأول : في مقتضى الأصل العقلي
لا يخفى أنه
حيث يعلم بثبوت التكليف المردد واقعا فالعلم المذكور منجز للتكليف بواقعه ، وذلك
يقتضي لزوم الفراغ عنه بالامتثال ، فيلزم الفحص عنه مع إمكانه مقدمة لامتثاله ، من
دون فرق بين الشبهة الموضوعية والحكمية ، لتعذر إحراز الفراغ عنه بدون ذلك.
وأما مع
استكمال الفحص عنه أو تعذره فيتعين سقوط العلم المذكور عن المنجزية ، لعدم الأثر
له بعد تعذر موافقته ومخالفته القطعيتين ، ولزوم موافقته ومخالفته الاحتماليتين.
وأما احتمال كل من التكليفين بخصوصيته مع قطع النظر عن العلم المذكور فهو مجرى
للبراءة العقلية ، لأن العقاب على مخالفته بلا بيان.
ودعوى : أنه مع
سقوط العلم عن المنجزية يقطع بعدم العقاب ، ومعه لا موضوع لقاعدة قبح العقاب بلا
بيان. مدفوعة بأن سقوط العلم عن المنجزية إنما يقتضي القطع بعدم العقاب من جهته ،
وأما عدم العقاب بلحاظ احتمال كل من التكليفين بخصوصيته فهو كسائر موارد احتمال
التكليف من دون منجز له لا مجال للقطع به لو لا قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
هذا وقد تردد
في بعض كلماتهم أن المرجع في المقام هو أصالة التخيير. فإن أريد بها إلزام العقل
بأحدهما تخييرا ، نظير إلزام الشارع بأحد طرفي الواجب التخييري ، والتخيير بين
المتزاحمين ، أشكل بعدم الأثر عملا للإلزام المذكور بعد امتناع خلوّ المكلف عن أحد
طرفي التخيير. ومن ثم لا مجال للتخيير في ذلك حتى مع تزاحم التكليفين من دون مرجح
ـ الذي لا إشكال في أن مقتضى الأصل فيه التخيير ـ بأن انطبق عنوان واجب أو محرم
على كل من الفعل والترك. وإن أريد بها مجرد عدم الحرج من قبل العقل في كل من الفعل
والترك ، نظير تخييره مع الإباحة الواقعية فهو راجع إلى ما ذكرناه.
ثم إنه قد يدعى
أن مقتضى الأصل العقلي الأولي في المقام هو مراعاة احتمال الحرمة دون الوجوب ، لأن
الوجوب ناشئ عن المصلحة والحرمة ناشئة عن المفسدة ، ودفع المفسدة أولى من جلب
المنفعة.
لكنه يشكل ـ مضافا
إلى ابتنائه على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات ، لا مطلقا ولو في
نفس الجعل ـ بوجهين :
الأول : أن الوجوب لما كان ناشئا عن المصلحة الملزمة كان
فوتها ملازما للمفسدة ، أو لما هو من سنخها. قال شيخنا الأعظم قدسسره : «إذ مجرد فوات المنفعة عن الشخص وكون حاله بعد الفوت
كحاله فيما قبل الفوت عليه لا يصلح وجها لإلزام شيء على المكلف ما لم يبلغ حدّا
يكون في فواته مفسدة ...».
وعليه يتعين
توجيه ما اشتهر من تبعية الأوامر للمصالح والنواهي للمفاسد بأن الواجب ما يكون له
دخل في تحقيق المرتبة اللازمة من الكمال أو في حفظها ، والحرام ما له دخل في منع
تحقق المرتبة المذكورة ، أو رفعها ، فلو كانت مرتبة من قوة البدن لازمة الحفظ ،
فالواجب ما يكون محققا لها أو مبقيا
لها من دواء وغذاء أو غيرهما ، والحرام ما كان مانعا منها أو رافعا لها.
وما لا دخل له في المرتبة المذكورة ، بل هو دخيل بأحد النحوين في المرتبة الزائدة
عليها يكون مستحبا أو مكروها.
الثاني : أن القاعدة المذكورة لو تمت فهي من القواعد الواقعية
في مقام التزاحم بين المصلحة والمفسدة المعلومتين ، وليست من القواعد الظاهرية عند
الدوران بين المصلحة والمفسدة ، لتقتضي ترجيح احتمال المفسدة على احتمال المصلحة
عملا ، كي تنفع فيما نحن فيه ، لما هو المرتكز من أن منشأ الأولوية أهمية المفسدة
من المصلحة ، ومن الظاهر أن أهمية أحد التكليفين إنما تقتضي ترجيحه عند التزاحم ،
لا تقديم احتماله على احتمال المهم عند الدوران بينهما.
المقام الثاني : في مقتضى الأصل الثانوي الشرعي
والظاهر أن
مقتضى إطلاق أدلة البراءة الشرعية عدم الحرج من حيثية كل من طرفي الترديد بخصوصيته
، لتحقق موضوعها ـ وهو الشك والجهل ـ بالإضافة إلى كل منهما ، والعلم الإجمالي
بثبوت أحدهما لا يكون مانعا من ذلك بعد ما سبق من امتناع منجزيته.
ودعوى : امتناع
رفع كلا الحكمين ظاهرا ، لأن إمكانه فرع إمكان وضعهما معا ظاهرا تعيينا أو تخييرا
، وهو ممتنع ، كما سبق. مدفوعة بأن المدعى في المقام رفع كل منهما بتطبيق إطلاق
الأدلة عليه بخصوصيته ، فكل تطبيق يقتضي رفع أحدهما وحده ، وهو إنما يتوقف على
إمكان وضع ذلك الحكم وحده بإيجاب الاحتياط فيه ، وهو حاصل في المقام. على أنه يكفي
في إمكان رفعهما معا إمكان وضع أحدهما بخصوصيته ، لا إمكان وضعهما معا تعيينا أو
تخييرا ، لأن نقيض السالبة الكلية موجبة جزئية ، لا كلية.
ولذا لا ريب في
جريان البراءة من الحكمين معا لو دار الأمر بين الوجوب والحرمة والإباحة ، مع
امتناع جعلهما معا أيضا ، ولا فرق بينه وبين ما نحن فيه إلا بالعلم الإجمالي بثبوت
أحدهما ، الذي هو ليس فارقا بعد ما سبق من امتناع منجزيته.
وربما يرجع إلى
ما ذكرنا ما قد يقال : من أن مقتضى الأصل الإباحة. أما لو أريد بها ما هو أحد
الأحكام الخمسة أو ما يعم الأحكام الثلاثة غير التكليفية. فلا مجال للبناء عليه ،
لامتناع التعبد ظاهرا بما يعلم بعدم ثبوته واقعا ، بل لا بد من احتمال مطابقة
الحكم الظاهري للواقعي.
على أن أدلة
البراءة الشرعية لا تنهض بذلك ، لظهور جل أدلتها ـ كحديث الرفع والإطلاق ونحوهما ـ
في مجرد السعة ورفع الحرج من حيثية احتمال التكليف ، لا في التعبد بالترخيص ، فضلا
عن خصوص الإباحة. وأما مثل : «كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه» فهو ـ مع
اختصاصه بالشبهة الموضوعية ، كما تقدم ـ ظاهر في التعبد بالحلّ بالمعنى الأعم
الشامل للوجوب في مقابل احتمال الحرمة. ولا ينهض بنفي احتمال الوجوب في المقام إلا
بتطبيق آخر على الترك يقتضي التعبد بحليته بالمعنى الأعم أيضا الشامل لوجوب الترك
، وهو راجع إلى ما ذكرنا ، لا إلى البناء على الإباحة بأحد المعنيين المتقدمين.
هذا وأما الرجوع
لاستصحاب عدم كل من التكليفين بالتقريب الذي تقدم في آخر أدلة البراءة فالكلام فيه
مبني على جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي مع عدم لزوم المخالفة القطعية
الذي تقدم الكلام فيه في الفصل الثاني.
وينبغي التنبيه إلى أمور ..
الأول : الكلام المتقدم مبني على جريان البراءة في كل من
الاحتمالين في نفسه. ولو فرض عدم جريانها في خصوص أحدهما ، لوجود المنجز المانع من
جريانها فلا ريب في لزوم العمل على المنجز فيه ، والرجوع في الاحتمال الثاني
للبراءة ، لعموم دليلها ، سواء كان المنجز دليلا اجتهاديا ، أم أصلا إحرازيا ـ كالاستصحاب
ـ أو غير إحرازي ، كالاحتياط الواجب عقلا بمقتضى العلم الإجمالي أو شرعا في موارد
انقلاب الأصل التي سبقت الإشارة إليها أو غيرها.
ولعله لذا حكي
عن ظاهر كلام السيد الشارح للوافية جريان أخبار الاحتياط في المقام ، إذ لا يبعد
ابتناؤه على ما عليه الأخباريون من دلالتها على وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية
، دون الوجوبية ، المقتضي للاحتياط في احتمال الحرمة وترجيحه في المقام. ولا يهم
الكلام في شمول النصوص المذكورة للمقام بعد ما سبق من عدم نهوضها بإثبات وجوب
الاحتياط في الشبهة إذا لم تكن منجزة في نفسها مع قطع النظر عن تلك النصوص.
الثاني : لو احتمل أهمية أحد التكليفين اللذين يتردد الأمر
بينهما ، فظاهر المحقق الخراساني قدسسره لزوم ترجيحه. وهو غير ظاهر الوجه. وربما يقاس بترجيح
محتمل الأهمية في باب التزاحم. لكنه في غير محله ، للفرق بينهما بالعلم هناك بثبوت
ملاك محتمل الأهمية ، مع الشك في سقوط الإلزام به بسبب المزاحمة ، لاحتمال عدم
كونها عذرا مسقطا له بسبب أهميته ، ومقتضى إطلاق دليله ثبوته ، ولا كذلك الآخر ،
فإنه وإن علم بثبوت ملاكه أيضا إلا أنه يعلم بسقوط الإلزام به بسبب المزاحمة ، إما
لمرجوحيته أو لتساوي التكليفين في الأهمية. أما هنا فالشك في أصل ثبوت محتمل
الأهمية ملاكا وخطابا ، والمرجع فيه البراءة ، كما لو شك فيه بدوا من دون أن يعلم
بثبوت أحد التكليفين.
ومنه يظهر أنه
لا ملزم بترجيح ما يعلم بأهميته من التكليفين المحتملين ، إذ هو لا يمنع من الرجوع
للبراءة منه بعد الشك في أصل ثبوته ، كما لو لم يعلم
بثبوت أحدهما. نعم لو كانت الأهمية بنحو يعلم معه بوجوب الاحتياط وانقلاب
الأصل مع الشك اتجه الترجيح بها ، كما تقدم في الأمر الأول.
هذا وأما
الترجيح بالظن فهو مبني على نهوضه بالترجيح في مورد انسداد باب العلم ، ومما سبق
في دليل الانسداد يظهر عدم نهوضه بذلك مع انسداد باب العلم في معظم الأحكام ، فضلا
عن انسداده في حكم واحد ، كما في المقام.
الثالث : لو تعددت الوقائع في محل الكلام ـ من الدوران بين
المحذورين ـ فهل يكون التخيير استمراريا وفي كل واقعة ، فيجوز المخالفة بين الوقائع
في العمل ، وإن استلزم المخالفة الإجمالية فيها ، أو ابتدائيا وفي خصوص الواقعة
الأولى ، مع لزوم مطابقة العمل في بقية الوقائع للعمل فيها ، حذرا من لزوم
المخالفة القطعية؟
الظاهر الأول ،
كما ذهب إليه جماعة. والعمدة في وجهه : أن التخيير الاستمراري وإن استلزم المخالفة
القطعية الإجمالية في بعض الوقائع إلا أنه مستلزم أيضا للموافقة القطعية الإجمالية
في بعضها ، أما التخيير الابتدائي فهو يستلزم المخالفة الاحتمالية في الكل من دون
موافقة قطعية في شيء منها ، وليس الثاني بأولى من الأول بنظر العقل.
ودعوى : أن
تجنب المخالفة القطعية أهم من تحصيل الموافقة القطعية ، ولذا أمكن الردع عن لزوم
الموافقة القطعية ـ كما تقدم في أول الفصل الثاني ـ ولم يمكن الردع عن المنع من
المخالفة القطعية. مدفوعة بأن امتناع الردع عن المنع من المخالفة القطعية إنما هو
لأن مرجع الردع المذكور إلى الردع عن حجية العلم أو عن اقتضاء التكليف للامتثال ،
وكلاهما محال. وليس هو ناشئا عن أهمية تجنب المخالفة القطعية من تحصيل الموافقة ،
ليتعين ترجيح الأول
عند التزاحم ، بل هما في مرتبة واحدة من الأهمية ، لأن كلا منهما ناشئ عن
لزوم متابعة الأمر ومحقق لمرتبة منها ، فمع التزاحم بينهما يتعين التخيير ، كما
ذكرنا.
الرابع : لو دار الأمر بين جزئية شيء للمركب ومانعيته منه فهو
راجع للدوران بين المحذورين بالإضافة للمركب الخارجي من حيثية صحته وفساده.
لكنه خارج عن
محل الكلام ، لعدم حرمة الإتيان بالمركب الفاسد ، بل مرجع الشك في المقام للدوران
في المركب الواجب بين الواجد لذلك الشيء والفاقد له ، فيدخل في الدوران بين
المتباينين الذي تقدم في الفصل الثاني لزوم الاحتياط فيه بالجمع بينهما. ولو تعذر
كان من تعذر بعض أطراف العلم الإجمالي الذي تقدم الكلام فيه هناك أيضا.
والحمد لله رب العالمين.
الفصل الرابع
في الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين
أشرنا في أول
الكلام في الأصول العملية إلى أن النزاع هنا ليس في حكم هذه المسألة كبرويا ـ كما
هو الحال في الفصول السابقة ـ بل هو صغروي راجع إلى النزاع في أن موضوع الكلام هنا
من صغريات مسألة الشك في أصل التكليف ، التي عقدنا لها الفصل الأول ، والتي كان
التحقيق فيها البراءة ، أو من صغريات مسألة الشك في تعيين التكليف التي عقدنا لها
الفصل الثاني ، والتي كان التحقيق فيها وجوب الاحتياط. ومن ثم كان الكلام في
المقام مبنيا على الفراغ عن حكم المسألتين المذكورتين.
هذا
وينبغي التمهيد
للكلام في المقام بذكر أمور ..
الأول : محل الكلام في المقام ما إذا كان التردد بين الأقل
والأكثر مع وحدة التكليف تبعا لوحدة الملاك والغرض المستلزم للارتباطية بين ما
يعتبر في المكلف به ، فإن ذلك هو منشأ البناء من بعضهم على التردد في المقام بين
تكليفين التكليف بالأقل والتكليف بالأكثر من دون متيقن في البين. وأما إذا كان
التردد مع تعدد التكليف ، بحيث يكون التكليف بالزائد مستقلا عن التكليف بالأقل
جعلا ، تبعا لتعدد الملاك والغرض ، فلا ريب في خروجه عن محل الكلام ، ودخوله في
الشك في أصل التكليف ، الذي يكون المرجع فيه البراءة. من دون فرق بين كون الزائد
المشكوك مباينا خارجا للمكلف به المتيقن ، كما لو دار الأمر في الدّين بين الدرهم
والدرهمين ، وكونه من شئونه ، كما لو احتمل وجوب إيقاع الفريضة جماعة أو في المسجد
، لاحتمال تعلق النذر
بذلك ، لأن التكليف الناشئ من النذر مباين للتكليف بالفريضة.
كما أنه لا بد
في محل الكلام من كون التردد بين الأقل والأكثر في نفس المكلف به ، أما إذا كان في
سببه فالشك فيه راجع للشك في الامتثال الذي يكون المرجع فيه قاعدة الاشتغال
المقتضية للزوم الاحتياط ، على ما تقدم في تمهيد الفصل الثاني عند الكلام في قاعدة
الاشتغال.
الثاني : أن احتمال دخل شيء في الواجب يكون .. تارة : مع الدوران بين دخله فيه وعدمه ، من دون أن يحتمل
قادحيته فيه ، وأخرى : مع الدوران بين دخله فيه وقادحيته فيه ، الراجعة
لاعتبار عدمه فيه ، وثالثة : مع الدوران بين دخله فيه وقادحيته وعدمهما معا. ومحل
الكلام في المقام هو الصورة الأولى.
أما الثانية
فهي راجعة إلى الدوران بين المتباينين ، للتباين بين الماهية بشرط شيء والماهية
بشرط لا ، فيجري فيه ما تقدم في الفصل الثاني من حكم المتباينين. كما أن الكلام في
الثالثة يبتني على الكلام في الصورة الأولى ، فإن قيل فيها بوجوب الاحتياط ، لزم
الجمع في هذه الصورة بين الواجد للخصوصية والفاقد لها ، وإن قيل بجريان البراءة
فيها كانت هي المرجع في هذه الصورة أيضا ، فيجتزأ بكل منهما كما يظهر بالتأمل.
الثالث : حيث تقدم اختصاص محل الكلام بما إذا احتمل اعتبار شيء
في الواجب من دون احتمال قادحيته فلازم ذلك وجود المتيقن في مقام الامتثال الذي
يقطع بالفراغ على تقدير الإتيان به وإن لم يعلم بالتكليف به ، وذلك بالمحافظة على
الأمر المحتمل اعتباره المفروض عدم قادحيته.
ومن الظاهر أن
وجود المتيقن في مقام الامتثال كما يكون مع الشك في حال متعلق التكليف لتردده بين
واجد الخصوصية وفاقدها ـ كما هو المفروض في محل الكلام ـ كذلك يكون مع الشك في نحو
التكليف نفسه بأن يتردد بين
التعييني والتخييري ، كما لو ترددت الكفارة بين المخيرة والمرتبة.
وعمدة كلام
شيخنا الأعظم قدسسره ومن بعده في الأول. وربما تعرض بعضهم للثاني استطرادا ، وحيث كان الكلام
فيه مهما كان المناسب التعرض له هنا. كما أنه حيث كان مختصا ببعض الفروع
والتنبيهات المهمة كان المناسب تخصيص بحث له وفصله عن الأول ،
فيكون الكلام
في هذا الفصل في مبحثين :
المبحث الأول
صور الشك في دخل شيء في الواجب
وقد ذكروا له
صورا ثلاث ، بلحاظ أن الشيء المشكوك أخذه .. تارة :
يكون جزءا
خارجيا متحدا مع الواجب ، كالاستعاذة في الصلاة وأخرى : يكون جزءا ذهنيا منتزعا من خصوصية زائدة على المكلف
به خارجة عنه ، كالطمأنينة في الصلاة والإيمان في الرقبة وثالثة : يكون جزءا ذهنيا منتزعا من خصوصية متحدة مع الواجب
عقلا ، كما لو تردد الأمر بين الجنس والنوع ، أو الكلي والفرد. ويعبر عن الأول
بالشك في الجزئية ، وعن الثاني بالشك في الشرطية أو القيدية ، وعن الثالث بالدوران
بين التعيين والتخيير العقليين.
لكن الشك في
الجزئية يرجع للشك في الشرطية في الجهة المهمة من محل الكلام ، لأن اعتبار الجزء
في المركب الارتباطي يرجع إلى تقييده به لبّا ، كتقييده بالشرط الخارج عنه ،
والفاقد للجزء كالفاقد للشرط مباين للواجب خارجا ، لا بعض منه ، وإنما يكون الجزء
بعضا من الواجب المركب في ظرف تماميته.
وليس الفرق
بينهما إلا في أن الشرط قيد في تمام المركب ، والجزء قيد فيما عداه من أجزائه ،
وأن الشرط في ظرف أخذه في المركب خارج عنه ،
بخلاف الجزء ، فإنه داخل فيه متحد معه نحو اتحاد.
لكن لا أثر
لذلك في الجهة المبحوث عنها في محل الكلام وإنما الأثر للتقييد الذي هو المعيار في
الارتباطية. ومن ثم لا موجب لفصل الكلام في أحدهما عن الكلام في الآخر ، بل
المناسب الجمع بينهما في كلام واحد.
ومنه يظهر أنه
لا مجال للفرق في الشرط بين ما إذا كان فعلا للمكلف ، كالطهارة والاستقبال في
الصلاة وما إذا كان عرضا قائما بالموضوع ، كالإيمان في الرقبة ، بتقريب : أن الأول
حيث كان فعلا خارجيا كان موردا لتكليف زائد يمكن دفعه بالأصل ، بخلاف الثاني.
لاندفاعه بأن
المعيار لما كان هو التقييد فهو مشترك بينهما ، ولا أثر معه لكون الأول فعلا
خارجيا ، لأن وجوبه ليس نفسيا ، بل هو مقدمي ناشئ من التقييد. على أن الثاني قد
يكون موردا للعمل ، كما لو انحصر العبد بمن يمكن هدايته ، فإنه يجب هدايته تحصيلا
للقيد المعتبر في الواجب ، وإنما لا يكون موردا للعمل إذا كان خارجا عن اختيار
المكلف ، كالبياض في الرقبة.
نعم الشك في
أخذ الجزء الذهني المنتزع من الخصوصية المتحدة مع الذات يختص بجهات ينبغي الكلام
فيها مستقلا وعلى هذا يقع الكلام في مسألتين :
المسألة الأولى : في الشك في اعتبار شيء في المكلف به جزءا أو شرطا.
قال شيخنا
الأعظم قدسسره : «وقد اختلف في وجوب الاحتياط هنا. فصرح بعض متأخري
المتأخرين بوجوبه. بل ربما يظهر من كلام بعض القدماء ، كالسيد والشيخ. لكن لم يعلم
كونه مذهبا لهما ، بل ظاهر كلماتهم الأخر خلافه. وصريح جماعة إجراء أصالة البراءة
وعدم وجوب الاحتياط. والظاهر أنه المشهور بين العامة والخاصة المتقدمين منهم
والمتأخرين ، كما يظهر من تتبع
كتب القوم ، كالخلاف والسرائر وكتب الفاضلين والشهيدين والمحقق الثاني ومن
تأخر عنهم. بل الإنصاف أنه لم أعثر في كلمات من تقدم على المحقق السبزواري على من
يلتزم بوجوب الاحتياط في الأجزاء والشرائط ، وإن كان فيهم من يختلف كلامه في ذلك ،
كالسيد والشيخ ، بل الشهيدين قدسسرهم».
وهو وإن ذكر
ذلك في الشك في الجزئية ، إلا أن الظاهر عدم الفرق بينه وبين الشك في الشرطية
عندهم ، كما قد يظهر منه قدسسره ذلك.
وكيف كان فيقع
الكلام .. تارة : في مقتضى الأصل العقلي الأولي وأخرى : في مقتضى الأصل الثانوي المستفاد من الأدلة الشرعية
الواردة لبيان حكم الجهل بالتكليف ، فقد اختلفت كلماتهم في المقامين معا.
المقام الأول : في مقتضى الأصل العقلي
والظاهر حكم
العقل بالبراءة في المقام من الزائد المشكوك بملاك قبح العقاب بلا بيان ، الذي
تقدم تقريبه في الشك في أصل التكليف. لعدم الفرق في الملاك المذكور بين التكليف
الاستقلالي والضمني بعد الرجوع للمرتكزات العقلائية في باب التعذير والتنجيز
المبنيين على المسئولية بالتكليف والعقاب عليه ، الذي هو المهم في المقام والدائر
مدار البيان بلا كلام. ولا ريب في ذلك بعد التأمل في المرتكزات العقلائية وفي سيرة
أهل الاستدلال الارتكازية ، فإن المرتكز أن خصوصيات المكلف به كأصل التكليف هي
المحتاجة للبيان.
نعم لو تعلق
الغرض بتحصيل الواقع على ما هو عليه ، زائدا على مقتضى المسئولية التابعة للتنجيز
عقلا ، تعين الاحتياط ولو مع عدم البيان الواصل ، كما في موارد الاهتمام بالأثر
الوضعي في مثل الأوامر الإرشادية ، أو تنجز التكليف من جهة أخرى ـ كما في مورد
التقصير في الفحص ـ أو الاهتمام بتحصيل غرض المولى قياما ببعض حقوقه ، أو مداراة
له لدفع شرّه وجوره ، كما في
بعض الموالي العرفيين. لكن ذلك خارج عن محل الكلام من عدم تنجز احتمال
التكليف عقلا ، ولذا يجري ذلك أيضا مع الشك في أصل التكليف أيضا ، مع أن المفروض
فيه الرجوع للبراءة.
هذا وربما
يستشكل في الرجوع للبراءة بوجوه ..
الأول : دعوى تنجز التكليف الواقعي على ما هو عليه من الحدّ
الواقعي المردد بين الأقل والأكثر ، الملزم بإحراز الفراغ عنه بالاحتياط ، وذلك من
جهة العلم الإجمالي بالتكليف المردد بين الوجهين ، حيث يتنجز بسببه كل منهما.
لكن الظاهر
انحلال العلم الإجمالي في المقام بالعلم بوجوب الأقل على كل حال ، إما وحده أو في
ضمن الأكثر ، والشك في وجوب الزائد من جزء أو شرط.
إن
قلت : التكليف
الضمني بالأجزاء والشروط ملازم في التنجز للتكليف الاستقلالي بتمام المركب ، كما
هو ملازم له في الملاك والجعل والداعوية والامتثال ، فلا يعقل تنجزه بدونه ،
وحينئذ لا يمكن في المقام تنجز التكليف بالأقل على كل حال إلا في فرض تنجز الأكثر
بتمامه ، الموقوف على منجزية العلم الإجمالي المذكور ، فلا يمكن انحلاله به.
قلت
: التكليف
الاستقلالي بالمركب متحد مع التكاليف الضمنية بأجزائه وشروطه ، فداعويته عين
داعويتها ، وتنجزه عين تنجزها ، لأنها من حدوده ومقوماته ، ولا معنى للتلازم بين
منجزيتها ومنجزيته.
ومرجع دعوى
الانحلال إلى أن الواصل هو التكليف بالأقل لا غير ، إما لكونه تمام الواجب أو
لكونه بعضه. ومرجع اختصاصه بالتنجز ليس إلى التفكيك بين المتلازمين في التنجز ، بل
إلى اختصاص تنجز التكليف بحدوده الواصلة التي هي موضوع البيان ، دون الحدود التي
لم يتعلق بها البيان ، وهو
عبارة أخرى عما تقدم منا من جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان في التكاليف
الضمنية ، الذي سبق مطابقته للمرتكزات العقلائية.
وإن شئت قلت :
بعد ما سبق منا من عدم تنجز التكليف إلا بالمقدار الواصل من حدوده فالأقل منجز على
كل حال ، والعلم إما بوجوبه وحده أو في ضمن الأكثر لا يصلح للتنجيز ، لعدم كونه
علما بكلفة زائدة على كلفة التكليف المعلوم ، لوضوح كون أحد طرفيه السعة ، ولا
يقتضي الإلزام على كل حال ، كما نبه لذلك شيخنا الأستاذ قدسسره.
الثاني : أن المنجز وإن كان هو خصوص الأقل ، إلا أن مقتضى لزوم
الفراغ عنه هو الإتيان بالأكثر ، لعدم إحراز الفراغ عنه إلا بذلك بعد فرض
الارتباطية على تقدير وجوب الأكثر ، لأن سقوط التكليف منوط بتمامية المركب.
نعم لو أحرز
كون الأقل تمام الواجب اتجه الاكتفاء به في إحراز الفراغ عنه ، لكن لا مجال لإحراز
ذلك بعد كون مفاد قاعدة البراءة مجرد التعذير.
ويندفع بأن
اليقين بالفراغ لا يجب في مثل ذلك مما كان فيه الشك في الفراغ ناشئا من الشك في
حال المكلف به واحتمال دخل ما لم يصل التكليف به فيه ، وإنما يجب فيما إذا كان
الشك في الفراغ مسببا عن الشك في الإتيان بما وصل التكليف به.
وبالجملة :
إنما يجب إحراز الفراغ مع وصول التكليف بخصوصياته ، والشك في مطابقة المأتي به لها
، لا مع العلم بالمأتي به والشك في مطابقته للمكلف به ، بسبب إجمال المكلف به.
الثالث : أنه بناء على ما هو المشهور عند العدلية من تبعية
الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها يكون المكلف به ملازما لغرض للمولى
مترتب عليه ، وحيث لا يحرز حصول غرضه بالاقتصار على الأقل ـ لفرض
الارتباطية ـ يتعين الاحتياط بالأكثر ، لوجوب إحراز غرض المولى.
نعم بناء على
تبعية الأحكام لمصالح فيها ، لا في متعلقاتها ـ كما عن بعض العدلية ـ لا يجب
الاحتياط لاستيفاء المولى غرضه بنفس التكليف ، وتعلق غرض آخر له بفعل المكلف غير
معلوم ، ليجب إحرازه. وكذا بناء على عدم تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد أصلا.
وقد يدفع
بوجهين :
الأول : إنكار وجوب تحصيل غرض المولى ثبوتا وقصر موضوع الطاعة
والمعصية عقلا على خصوص تكليف المولى.
لكنه كما ترى
مناف للمرتكزات العقلائية ، حيث لا إشكال عندهم في وجوب موافقة غرض المولى ، إذا
بلغ مرتبة التكليف ، وعلم المكلف به ، وإن لم يستتبع فعلية التكليف فعلا لموانع
خارجية من خوف أو بعد مانع من توجيه الخطاب. بل ولو مع غفلة المولى عن غرضه لو
أمكن ذلك في حقه ـ كما في الموالي العرفيين ـ كما لو تعرض المولى أو ولده أو ماله
أو نحوهما للخطر. وقد تقدم التعرض لذلك في ذيل الكلام في حقيقة الأحكام التكليفية
من مقدمة علم الأصول.
الثاني
: أنه لا يجب
إحراز تحصيل الغرض إلا مع قيام الحجة عليه ، والمفروض أن دليل التكليف في المقام
لا يكون حجة إلا على تعلق الغرض بالأقل.
وفيه : أن
التكليف إنما يكون حجة على وجود الغرض وتوقف حصوله على الأقل ، لا على تعلق الغرض
بالأقل بنحو يعلم بحصوله معه. بل لا يعلم بحصول الغرض ـ المستكشف بالتكليف ـ بعد
فرض الارتباطية إلا بالإتيان
بالأكثر ، لأن الملاك في المقام إنما يترتب على مجموع أجزاء المركب
الارتباطي ، فلا يعلم بحصول شيء منه إلا بتمامية المركب.
فلعل الأولى
الجواب عن الوجه المذكور بأن تنجز الغرض إنما هو بمقدار وصوله ، فكما كان بيان
خصوصيات المكلف به وظيفة المولى ، وبدونه يكون المكلف في سعة منها ، ولا يعتنى
باحتمال دخل شيء فيه وإن كان أمرا ارتباطيا ، كذلك بيان ما هو الدخيل في الغرض من
وظيفة المولى ، وليس على المكلف الاهتمام بتحصيل ما يحتمل دخله فيه ، فلو فات
الغرض بسبب قصور بيان المولى فالمكلف آمن منه ، كما يأمن مع فوت التكليف لذلك.
هذا ولا يخفى
أن منشأ الوجوه الثلاثة المتقدمة للاحتياط هو ملاحظة الارتباطية المفروضة في
المقام ، والمستلزمة لوحدة التكليف والغرض ، وإنا وإن أطلنا الكلام فيها وفي دفعها
ـ تبعا لمشايخنا العظام «قدس الله تعالى أسرارهم» ـ إلا أننا في غنى عن ذلك. لأن
ما سبق آنفا في توجيه جريان البراءة من عدم الفرق في جريانها بين التكليف الضمني
والاستقلالي إن تم ارتكازا فهو مستلزم لوهنها ، لأن فرض كون التكليف المشكوك ضمنيا
مستلزم لفرض العلم الإجمالي ـ بالصورة المتقدمة في الوجه الأول ـ ولفرض الشك في
امتثال التكليف المتيقن ـ بالنحو المتقدم في الوجه الثاني ـ وفي حصول الغرض الذي
عليه يبتني الوجه الثالث ، ومرجع التسليم بالبراءة إلى عدم تمامية الوجوه المذكورة
، بنحو يكشف عن خلل في تصويرها إجمالا ، لوضوح أن كبرياتها لما كانت ارتكازية
امتنع عمومها للمقام مع التسليم بجريان البراءة ارتكازا.
ولو فرض المنع
أو التشكيك في جريان البراءة لم ينفع دفع هذه الوجوه في عدم وجوب الاحتياط والأمان
من العقاب بدونه.
بقي شيء
وهو أنه قد
يستثنى مما ذكرنا من جريان البراءة في المقام ما لو كان التردد ناشئا من إجمال
عنوان المكلف به ، بنحو لا يعلم بصدقه على الأقل ، لدعوى : أن العلم بالتكليف
بالعنوان منجز له ، فيجب إحرازه في مقام الامتثال ، بخلاف ما إذا شك في مقدار
المكلف به من دون أن يتنجز بعنوان يخصه أو علم بانطباق العنوان على الأقل واحتمل
اعتبار الخصوصية الزائدة عليه من دون إطلاق يدفعه.
لكن تقدم في
التمهيد للفصل الثاني في أواخر الكلام في قاعدة الاشتغال أن ذلك إنما يتم فيما إذا
كان العنوان حاكيا عن المركب بلحاظ خصوصية زائدة عليه مسببة عنه ـ كعنوان الدواء
الصادق على المركب بلحاظ ترتب الشفاء عليه فعلا أو اقتضاء ، وعنوان التطهير الصادق
على الغسل بلحاظ ترتب الطهارة عليه ـ أو قائمة به ـ كعنوان الأكبر والمطلوب ـ لرجوع
التكليف بالعنوان حينئذ إلى التكليف بمنشإ انتزاعه المفروض عدم الإجمال فيه ،
فيتنجز ويجب إحرازه ، نظير موارد الشك في المحصل.
أما إذا كان
العنوان حاكيا عن المركب بنفسه ـ كعنوان الصوم الصادق على ترك المفطرات ، لو ترددت
بين الأقل والأكثر ، وعنوان «السكنجبين» الصادق على الخل والسكر مع الامتزاج مطلقا
أو بشرط الغليان ـ فلا مجال لوجوب الاحتياط فيه ، لأن التكليف بالعنوان راجع
للتكليف بمنشإ انتزاعه ، فمع فرض انتزاعه من الأجزاء والشرائط بأنفسها ، وفرض
التردد فيها بين الأقل والأكثر ، لا يكون العنوان بيانا إلا على المتيقن منها ـ وهو
الأقل ـ ولا يكون منجزا لغيره ، بل المرجع فيه البراءة. فراجع.
المقام الثاني : في مقتضى الأصل الشرعي
والكلام فيه ..
تارة : بناء على المختار من جريان البراءة العقلية. وأخرى : بناء على عدمه ، وأن الأصل الأولي الاحتياط.
أما على الأول
فلا مانع من جريان البراءة من التكليف بالمركب المشتمل على الأكثر ، لتحقق موضوع
الأصل فيه ، وهو الجهل. ولا يعارض بأصالة البراءة من التكليف بالمركب المشتمل على
الأقل ، للعلم بوجوبه على كل حال ـ إما في نفسه أو في ضمن الأكثر ـ المقتضي لتنجزه
ولزوم الإتيان به.
وربما يدعى
جريان البراءة أيضا بالإضافة إلى خصوص الزائد ، للشك في التكليف به ضمنا ، فيرفع
بالأصل. وقد يدفع بانصراف عمومات البراءة للتكليف الاستقلالي ، دون التكليف الضمني
، لعدم كونه في الحقيقة تكليفا مجعولا ، وانحلال التكليف الاستقلالي إليه ليس
حقيقيا ، بل هو مجرد تحليل عقلي.
والفرق بينها
وبين البراءة العقلية أنها مفاد عموم لفظي عنواني يمكن دعوى الانصراف فيه ، أما
البراءة العقلية فهي ارتكازية لبّية واردة في كل مصداق بنفسه ، فلا مانع من دعوى
شمولها للمورد بلحاظ الزيادة بنفسها.
والأمر سهل بعد
عدم الإشكال في جريان البراءة الشرعية في المقام ، إما بلحاظ الزيادة بنفسها ، أو
بلحاظ المركب المشتمل عليها.
هذا وربما
يتمسك في المقام باستصحاب عدم وجوب الأكثر ، لأنه حادث مسبوق بالعدم ، كما تقدم
نظيره عند الكلام في مقتضى الأصل مع الشك في أصل التكليف. فراجع. وأما الأقل فحيث
كان منجزا للعلم بوجوبه على كل حال ـ إما بنفسه أو في ضمن الأكثر ـ فلا أثر
لاستصحاب عدم وجوبه استقلالا ، ليعارض الاستصحاب المذكور ، نظير ما تقدم في وجه
جريان البراءة الشرعية في المقام.
بقي شيء
وهو أنه حيث
يشك في سقوط التكليف واقعا وامتثاله بالإتيان بالأقل فقد يدعى أن مقتضى استصحاب
التكليف على تردده لزوم الإتيان بالأكثر ، لا لإحراز وجوب الأكثر شرعا بذلك ـ لأنه
لازم خارجي للمستصحب ، لا يترتب عليه شرعا ، فلا يخرج عن الأصل المثبت ـ بل للزومه
عقلا لإحراز الفراغ عن التكليف المستصحب.
والاستصحاب
المذكور له نحو حكومة على البراءة العقلية أو الشرعية ، لا من جهة كونه بيانا على
ثبوت التكليف بالأكثر رافعا لموضوع الأولى ، وحاكما على الثانية ـ لما ذكرنا من
عدم نهوضه بذلك ـ بل لكونه حكما اقتضائيا مقتضيا للعمل ، فيكون مقدما عملا على
الحكم الأولي اللااقتضائي الثابت بسبب عدم المقتضي ، فمفاد البراءة عدم لزوم
الإتيان بالأكثر لمجرد عدم البيان على ثبوت التكليف به ، والاستصحاب يقتضي الإتيان
به لجهة ثانوية ، وهي إحراز الفراغ عن التكليف المستصحب.
وبذلك يكون
مقدما أيضا على استصحاب عدم وجوب الأكثر الذي تقدم الاستدلال به للمدعى في المقام
، لأن عدم وجوب الإتيان به لإحراز عدم وجوبه شرعا لا ينافي لزوم الإتيان به عقلا
لإحراز الفراغ عن التكليف المستصحب على إجماله وتردده.
لكن الاستصحاب
المذكور لا يجري في نفسه أولا : لأنه من استصحاب الفرد المردد بين مقطوع البقاء
ومقطوع الارتفاع ، لأن الأثر ليس لعنوان التكليف بالمردد بين الأقل والأكثر ، بل
لواقعه وبما له من حدود واقعية قابلة للطاعة والمعصية ، فالتكليف بالأقل أثره عقلا
لزوم الإتيان به وجواز الاقتصار عليه ، والتكليف بالأكثر أثره لزوم الإتيان به
وعدم جواز الاقتصار على الأقل ، وبعد
الإتيان بالأقل يتردد التكليف المستصحب بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع ،
وفي مثله لا يجري الاستصحاب على التحقيق على ما يأتي إن شاء الله تعالى في مبحث
الاستصحاب.
وثانيا : لأن استصحاب التكليف لا يزيد على العلم به ، فكما كان
العلم بالتكليف المردد بين الأقل والأكثر لا يقتضي إلا تنجز الأقل ، فكذلك استصحابه
لا يقتضي إلا تنجز الأقل ، وحيث يمتنع تنجزه لفرض الإتيان به ، يمتنع جريان
الاستصحاب. فلاحظ.
«وأما على
الثاني» : وهو أن مقتضى الأصل العقلي الاحتياط ، فقد سبق ابتناء حكم العقل المذكور
على أحد وجوه ثلاثة إما العلم الإجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر ـ بناء على عدم
انحلاله بالعلم بوجوب الأقل على كل حال ـ أو لزوم إحراز الفراغ عن الأقل المنجز
على كل حال بالحفاظ على الخصوصية المحتملة التي لا يحرز الفراغ عنه بدونها ، أو
لزوم إحراز حصول غرض المولى بفعل ما يتوقف حصوله عليه وهو الأكثر.
وحينئذ من
الظاهر أنه على الوجهين الأخيرين لا مجال للتعويل على عمومات البراءة الشرعية في
ترك الأكثر ، لأن رفع التكليف بالأكثر من حيثية عدم العلم بالتكليف به وعدم
المؤاخذة عليه لأجل ذلك لا ينافي لزوم الإتيان به من أجل لزوم إحراز الفراغ عن
التكليف أو الغرض المعلومين ، لأن اللامقتضي لا يزاحم المقتضي ولا يمنع من تأثيره
، بل يتعين العمل على المقتضي.
وأما على الوجه
الأول ـ وهو العلم الإجمالي ـ فحيث كان مبنى الاستدلال به على وجوب الاحتياط عدم
انحلاله بالعلم بوجوب الأقل على كل حال ، بل لا بد في انحلاله به من العلم بكون
الأقل تمام المكلف به ، بحيث يكون التكليف به استقلاليا ، فمن الظاهر عدم نهوض
عمومات البراءة بذلك ، بل هي
لا تنهض إلا بنفي وجوب الأكثر وعدم المؤاخذة عليه من حيثية الشك فيه ، وهو
لا ينافي لزوم الإتيان به خروجا عن العلم الإجمالي المفروض كونه منجزا للتكليف على
إجماله ، بحيث يلزم إحراز الفراغ عنه كذلك ، ولا يكون إلا بالإتيان بالأكثر.
ومن هنا كان
الظاهر أنه لا مجال لجريان البراءة الشرعية في هذا المقام بناء على عدم جريان
البراءة العقلية في المقام الأول. بل لا بد في البناء على البراءة الشرعية من
البناء عليها في المقامين معا ، كما عرفت أنه ظاهر.
نعم ربما يتمسك
باستصحاب عدم جزئية الأمر المشكوك أو عدم شرطيته ، حيث يحرز به كون التكليف واردا
على الأقل وحده ، ويرتفع به إجماله بنحو لا مجال معه للعلم المذكور ، كما أنه ينهض
بإحراز عدم دخل الأمر المشكوك في الغرض ، وتمامية الغرض بدونه ، بنحو لا مجال معه
لشبهة الغرض المتقدمة.
لكنه يندفع
بعدم كون الجزئية والشرطية مجعولتين بالأصل ، بل هما منتزعتان من التكليف بالمركب
المشتمل على الجزء أو الشرط ، كما تقدم عند الكلام في حقيقة الأحكام الوضعية من
مقدمة علم الأصول. وحينئذ لا يجري الاستصحاب إلا في منشأ انتزاعهما ، فيكون مرجع
استصحاب عدم جزئية الأمر المشكوك أو شرطيته إلى استصحاب عدم وجوب الأكثر ، وهو لا
يحرز كون الأقل تمام الواجب إلا بناء على الأصل المثبت. على أنه معارض باستصحاب
عدم وجوب الأقل بحده ، فيتساقطان ، وينحصر الأمر بالأصول المتقدمة.
المسألة الثانية : في الدوران بين التعيين والتخيير العقليين.
ولا إشكال في
أن مقتضى الأصل العقلي هنا الاحتياط ، بناء على أن ذلك مقتضاه في المسألة الأولى ،
لاشتراكهما في الجهة المقتضية لذلك ، وهي العلم
الإجمالي ، أو الشك في الفراغ عن التكليف بالأقل ، أو في حصول الغرض.
أما بناء على
أن مقتضاه هناك البراءة ـ كما سبق ـ فقد صرح غير واحد بأنها هنا أيضا ، لنظير
الوجه المتقدم هناك ، فإن الخصوصية كلفة زائدة ، والمرجع فيها البراءة عقلا ،
بملاك قبح العقاب بلا بيان ، لعدم الفرق فيها بين أصل التكليف وخصوصياته. وما تقدم
هناك من دفع شبهة العلم الإجمالي والشك في الامتثال للأقل وفي حصول الغرض ، جار
هنا.
وقد خالف في
ذلك بعض الأعيان المحققين قدسسره فالتزم بالاحتياط ، بدعوى : أن ملاك الدوران بين الأقل
والأكثر كون الأقل موجودا في ضمن الأكثر بذاته لا بحدّه ، ولا مجال لذلك في المقام
، لأن الأقل هو الماهية المعراة عن قيد الخصوصية وهي تتحصص إلى حصص متعددة متباينة
في ضمن أفرادها المتباينة ، فكل حصة متحققة في ضمن فرد مباينة للحصة المتحققة في
ضمن آخر. فالحيوانية في ضمن الإنسان مباينة للحيوانية في ضمن غيره من الأنواع ،
والإنسانية المتحققة في ضمن زيد مباينة للإنسانية المتحققة في ضمن غيره من
الأفراد.
وعليه لا تكون
الماهية المطلقة الجامعة بين الحصص محفوظة في ضمن الخصوصية المحتملة التكليف ،
ليمكن دعوى وجوبها على كل حال ، بل المحفوظ في ضمنها هو الحصة الخاصة من الماهية
المباينة للحصص الأخرى.
وفيه : أن
الماهية المطلقة ليست هي الأقل بذاته ، بل الأقل بحدّه ، ولا ريب في عدم اعتبار
حفظها في الأكثر في جميع الأقسام المذكورة في المقام ، حتى في الشك في الجزئية ،
وليس المراد بالقدر المتيقن الذي هو مورد التكليف النفسي ـ الأعم من الاستقلالي
والضمني ـ إلا الماهية المهملة الصالحة للانطباق على المطلقة والمقيدة ، وهي الأقل
بذاته ، وهي موجودة في المقام.
هذا كله في مقتضى الأصل العقلي في المقام.
وأما مقتضى
الأصل الشرعي فالظاهر أنه مطابق لمقتضى الأصل العقلي الأولي ، فإن قيل بالبراءة
هناك فالمتعين البراءة هنا ، وإن قيل بالاحتياط هناك فالمتعين الاحتياط هنا ، لعين
ما سبق في المسألة الأولى.
وهنا تنبيهات ..
التنبيه الأول : في الشبهة الموضوعية
وقد سبق في أول
الكلام في الأصول العملية خروج الشبهة الموضوعية عن الغرض المهم في المقام ، إلا
أنه يحسن التعرض لها هنا استطرادا ، لاختصاصها ببعض جهات الكلام.
وحيث كان
المعيار في الشبهة الموضوعية هو اشتباه الأمور الخارجية مع تحديد الكبرى الشرعية
وعدم الاشتباه فيها ، فالشك في دخل شيء في المكلف به بنحو الشبهة الموضوعية يكون
.. تارة : بسبب أخذ عنوان في المكلف به منتزع من جهة زائدة على
ذاته احتمل توقفها على ذلك الشيء ، كما لو وجب تهيئة الحطب الذي يغلي به الماء وشك
في كميته ، أو وجب تهيئة سكين تصلح للذبح وشك في توقف صلوح السكين له على صقلها.
وأخرى : بسبب كون المكلف به هو العنوان بما له من الأفراد
بنحو العموم المجموعي مع احتمال كون ذلك الشيء في جملة تلك الأفراد ، كما لو وجب
إكرام كل عالم في البلد وشك في كون زيد منهم.
أما الصورة
الأولى فقد تقدم في التمهيد للفصل الثالث عند الكلام في قاعدة الاشتغال أن اللازم
فيها الاحتياط ، لصلوح العنوان المذكور لتنجيز منشأ انتزاعه المفروض عدم إجماله ،
فيجب إحراز الفراغ عنه ، فهو ملحق بالشك في المحصل حكما وإن اختلفا موضوعا بلزوم
كون مورد التكليف في الشك في
المحصل هو المسبب المترتب على فعل المكلف ـ كالتذكية والطهارة ـ وفيما نحن
فيه هو نفس فعل المكلف ذي العنوان المنتزع.
وأما الصورة
الثانية فالظاهر جريان البراءة فيها ، لأن تحقق العنوان وسعة انطباقه مأخوذان في
موضوع التكليف ، لا في المكلف به ، فمرجع التكليف بإكرام علماء البلد إلى التكليف
بإكرام الأشخاص إن كانوا من العلماء ، فلا يصلح الجعل الشرعي لفعلية التكليف إلا
بضميمة انطباق العنوان ، فالشك في مقدار المعنون مستلزم لإجمال التكليف وتردده بين
الأقل والأكثر ، كسائر موارد الدوران بينهما التي سبق أنه لا مجال فيها لتنجز
التكليف بحدّه الواقعي ، بل لا يتنجز منه إلا المتيقن وإن كان ارتباطيا.
هذا وقد جعل
بعض الأعاظم قدسسره من أمثلة الشبهة الموضوعية التي تجري فيها البراءة ما
إذا تردد لباس المصلي بين كونه من مأكول اللحم وغيره. بدعوى :
أنه بناء على
ما هو الظاهر من مانعية غير المأكول من الصلاة فالمانعية تختلف سعة وضيقا تبعا
لكثرة أفراد غير المأكول وقلتها ، ويكون كل منها مانعا برأسه ، لأن الأصل في باب
النواهي النفسية والغيرية هو الانحلالية.
فالنهي عن
الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه ينحل إلى نواهي متعددة بعدد ما لغير المأكول من
الأفراد خارجا ، ويكون عدم كل فرد قيدا في الصلاة الواجبة ، فإذا شك في كون اللباس
الخاص من غير المأكول فقد شك في مانعيته وأخذ عدمه قيدا في الصلاة ، فيؤول الأمر
إلى الدوران بين الأقل والأكثر من جهة الشبهة الموضوعية الذي هو مجرى البراءة.
وقد وافقه على
ذلك في الجملة سيدنا الأعظم قدسسره في مبحث اللباس المشكوك من مباحث لباس المصلي من
مستمسكه.
وفيه أولا : أن ذلك راجع إلى الدوران بين الأقل والأكثر
الانحلاليين ، لأن
مانعية كل فرد غير مقيدة بمانعية بقية الأفراد ، فيخرج عن محل الكلام ، وهو
الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين.
وثانيا : أن مانعية غير مأكول اللحم من الصلاة غير مجعولة شرعا
، بل هي منتزعة من التكليف بالصلاة المقيدة بعدمه ، فلا بد في مقام الامتثال من
إحراز الصلاة المذكورة ـ ولو بالأصل ـ تحقيقا للفراغ اليقيني ، ودليل البراءة لا
ينهض بإحرازها. وليس الشك في سعة التكليف ، لعدم الإجمال في حدوده.
وأما ما ذكره
من تحقق الشك في سعة المانعية. فهو لا يرجع إلى محصل ، إذ لو أراد بذلك نفس
المانعية ، فهي غير مجعولة ، لتكون موردا للأصل. ولو أراد بها تقييد الصلاة بعدم
استصحاب غير المأكول ، الذي منه تنتزع المانعية ، فالتقييد المذكور لا إجمال فيه
بعد فرض عدم إجمال غير المأكول.
ولو أراد بها
النهي عن الصلاة في غير المأكول ـ بدعوى كونه انحلاليا مشكوك الشمول للفرد المشكوك
ـ فالنهي المذكور ليس مولويا ـ لا نفسيا ولا غيريا ـ بل هو للإرشاد إلى تقييد
الصلاة المأمور بها بعدم استصحاب غير المأكول ، الذي عرفت مقتضى الوظيفة فيه.
وأما النهي
الغيري فهو النهي عن استصحاب أجزاء ما لا يؤكل لحمه تجنبا لمقارنة الصلاة له ،
نظير الأمر بالطهارة مقدمة لوقوع الصلاة مقارنة لها. وعدم العلم بالنهي المذكور
بالإضافة إلى مشكوك الفردية لعدم إحراز موضوعه لا يكون موردا لأدلة البراءة ، لعدم
كونه بنفسه موردا للعمل والتنجيز والتعذير ، بل ليس موضوعها إلا التكليف النفسي ،
وهو الأمر بالصلاة المقيدة ، والمفروض تنجزه ، فيلزم إحراز الفراغ عنه. ولذا لا
تجري البراءة مع احتمال حصول الشرط ـ كالطهارة ـ قبل ورود الأمر بالمشروط الملازم
لاحتمال عدم توجه الأمر الغيري بالشرط.
ومن ثم لا مجال
للخروج عما ذكرنا من لزوم إحراز الفراغ عن التكليف المتيقن بإحراز عدم وقوع الصلاة
بأجزاء غير مأكول اللحم ، ولا مجال للرجوع للبراءة في المقام.
نعم قد يتمسك
باستصحاب عدم وقوع الصلاة المأتي بها مع أجزاء ما لا يؤكل لحمه. وهو يبتني على
استصحاب العدم الأزلي الذي يأتي الكلام فيه في محله من مبحث الاستصحاب.
التنبيه الثاني : في الشك في الركنية
لا يخفى أن
عنوان الركن حيث لم يذكر في الأدلة وإنما ذكر في كلمات الفقهاء فلا ينبغي الاهتمام
بتحقيق مفهومه ، وأنه ما يبطل العمل بنقصه عمدا فقط أو مطلقا ولو سهوا ، أو ما يعم
بطلان العمل بزيادته عمدا فقط أو مع السهو أيضا ، بل ينبغي الكلام في الجهات
المذكورة بنفسها ، لأهميتها في مقام العمل.
نعم لا ينبغي
إطالة الكلام هنا في النقيصة العمدية ، لأنه وإن أمكن الإجزاء معها ـ كما وقع في
بعض فروع الحج ـ إلا أنه لا ريب في كونه مخالفا للأصل ، ومحتاجا للدليل الخاص ، إذ
لا منشأ هنا لاحتمال تبدل التكليف ، بل لا إشكال في عدم تبدله وفعلية التكليف
بالتام ، ومن الظاهر أن التكليف يدعو لمتعلقه ، ولا يكون امتثاله إلا به.
وأما سقوط
التكليف بغير الامتثال ، فهو يحتاج إلى دليل خاص. ومعه لا ريب في الإجزاء ، بمعنى
سقوط الإعادة والقضاء ـ الذي هو المهم في المقام ـ وإن لم يتم الامتثال. ومن ثم
كان اللازم إيكال ذلك للفقه.
كما لا ينبغي الكلام
في الزيادة السهوية ، إذ لا خصوصية لها في البطلان ، بل الزيادة إن لم تخلّ
بالمركب ولو مع العمد فهي لا تخلّ به مع السهو ، وإن كانت مخلة به ـ لفرض أخذ
عدمها فيه ـ كان الإتيان بها سهوا راجعا إلى الإخلال
بالشرط سهوا ، فيلحقه حكم النقيصة السهوية.
ومن هنا ينبغي قصر الكلام على مسألتين :
المسألة الأولى» : في الإخلال سهوا ببعض ما يعتبر في المركب
ولا إشكال في
إمكان صحة العمل معه بمعنى إجزائه عن الإعادة والقضاء ، كما وقع في كثير من أجزاء
الصلاة وشروطها وفي الصوم والحج وغيرها ، وإنما الكلام في مقتضى الأصل الذي يرجع
إليه مع الشك وفقد الدليل.
والكلام .. تارة : فيما إذا كان لدليل الجزئية أو الشرطية إطلاق يشمل
حال النسيان وأخرى : فيما إذا لم يكن له إطلاق بالنحو المذكور.
المقام الأول : فيما إذا كان لدليل الجزئية أو الشرطية إطلاق يشمل
حال النسيان ، مثل قوله عليهالسلام : «لا صلاة إلا بطهور» ، وقوله عليهالسلام في من لم يقرأ بفاتحة الكتاب : «لا صلاة له إلا أن يقرأ
بها» . ولا ينبغي التأمل في لزوم البناء على عدم الاجتزاء بالناقص حينئذ عملا
بالإطلاق المذكور.
ودعوى : أن قبح
تكليف الناسي ملزم بقصور الإطلاق المذكور عنه.
مدفوعة أولا : بأن قبح تكليف الناسي إنما هو بمعنى قبح مؤاخذته ،
كالجاهل ، من دون أن يمتنع فعلية التكليف في حقه وثبوته واقعا ، لأن النسيان من
شئون مقام الإثبات المانعة من تنجز التكليف ، كالجهل ، لا من شئون مقام الثبوت
المانعة من فعلية التكليف ، كالاضطرار ، ليستلزم قصور الإطلاق المذكور. وما ذكره
بعض الأعاظم قدسسره من عدم القدرة على المنسي غريب ، ضرورة عدم دخل
الالتفات في القدرة ، لعدم السنخية بينهما بوجه.
__________________
وثانيا : بأنه بعد فرض الارتباطية وإطلاق دليل الجزئية أو
الشرطية فنسيان الجزء أو الشرط مستلزم لنسيان المركب التام ـ الذي لا إشكال معه في
وجوب التدارك بعد التذكر ـ من دون أن يلزم التكليف بالناقص ، ليجتزأ به في مقام
الامتثال.
وأشكل من ذلك
ما قد يدعى من قصور الإطلاق عن شمول حال النسيان ، لأن النسيان من الجهات الثانوية
المتفرعة على التكليف المتأخرة عنه رتبة ، وأنه لا بد في تعميم الحكم للنسيان أو
قصوره عنه من جعل آخر متأخر رتبة عن الجعل الأول متمم له ، كما التزم بعض الأعاظم قدسسره بنظير ذلك في تعميم الحكم لحال الجهل به ، وحينئذ
فمقتضى الأصل عدم التعميم.
إذ فيه أولا : أن ذلك مبني على توقف الإطلاق على لحاظ القيد ثم
التعميم له ، وقد سبق في مبحث المطلق والمقيد المنع من ذلك وأنه يكفي في الإطلاق
عدم لحاظ القيد.
وثانيا : أنه مع قصور الإطلاق اللفظي لا مجال للرجوع للأصل
النافي للحكم حال النسيان ، بل يتعين الرجوع للإطلاق المقامي للخطاب ، لبناء العرف
في تكاليفهم وخطاباتهم على العموم ، واحتياج التقييد بحال الالتفات إلى عناية
زائدة وكلفة خاصة. ولذا بنى بعض الأعاظم قدسسره على عموم الأحكام لحال الجهل.
وثالثا : أنه لو فرض قصور الإطلاق عن حال النسيان فمقتضى
الارتباطية عدم التكليف بالتام حال النسيان ، لا ثبوت التكليف بالناقص ، ليتعين
الاجتزاء به في مقام الامتثال ، نظير ما سبق.
ورابعا : أن ذلك إنما يرد في نسيان الجزئية ، دون نسيان الجزء
، حيث لا مانع من التعميم حاله ، لعدم تفرعه على التكليف بالتام ، ولا على جزئية
الجزء
من المركب.
ومثل ذلك دعوى
: أن مقتضى حديث الرفع رافعية النسيان للتكليف بالمنسي شرعا ، لحكومته على إطلاقات
الأحكام الأولية ، كما هو الحال في الاضطرار.
لاندفاعها أولا : بأن مناسبة كون النسيان من شئون مقام الإثبات تقضي
بحمل الرفع فيه على الرفع الظاهري الراجع للتعذير ونفي المؤاخذة من دون أن ينافي
ثبوت الحكم واقعا الذي هو مقتضى الإطلاق المفروض ، كما هو الحال في الرفع مع عدم
العلم ومع الخطأ ، بخلاف الاضطرار والاستكراه ، اللذين يكون الرفع معهما واقعيا.
وثانيا
: بأن مقتضى
الارتباطية كون نسيان الجزء راجعا لنسيان المركب بتمامه ، فيرتفع التكليف التام من
دون أن يقتضي التكليف بالناقص ، ليتعين الاجتزاء به ، نظير ما تقدم.
ومن هنا لا
مخرج عما ذكرنا من أن مقتضى القاعدة في المقام عدم الاجتزاء بالناقص.
المقام الثاني : فيما إذا لم يكن لدليل الجزئية أو الشرطية إطلاق يشمل
حال النسيان. فإن كان لدليل بقية الأجزاء والشرائط إطلاق يشمل حال نسيان ذلك الجزء
أو الشرط أو نسيان اعتبارهما في المركب ، فمقتضى الإطلاق المذكور وجوب الناقص حال
النسيان ، اقتصارا في تقييد الإطلاق المذكور بالجزء أو الشرط المنسيين على المتيقن
وهو حال الذكر. وأما إذا لم يكن لدليل بقية الأجزاء والشرائط إطلاق يشمل حال
النسيان المذكور فمقتضى أصالة البراءة عدم وجوب الجزء أو الشرط المنسيين حال
النسيان ، والاقتصار في المكلف به على الناقص والاجتزاء به حينئذ.
اللهم إلا أن
يقال : الاختلاف في المكلف به بين حالي الذكر والنسيان وإن كان ممكنا في الجملة ،
إلا أنه مناف للتخطئة وللإجماع المدعى على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل
والملتفت والغافل ، والذي لا يفرق فيه بين الجهل والنسيان المتعلقين بالحكم ـ كالجزئية
والشرطية ـ والمتعلقين بالموضوع ، بل الظاهر أن عدم ارتفاعه مع الجهل بالموضوع
ونسيانه اتفاقي حتى من المصوبة.
وكأن ما ذكره
غير واحد ممن تأخر عن شيخنا الأعظم قدسسره من إمكان اختلاف التكليف بين الذاكر والناسي مبني على
كون النسيان من الجهات الثبوتية الرافعة للتكليف الواقعي ، كالاضطرار ، لا من
الجهات الإثباتية كالجهل ، وقد سبق ضعف ذلك.
وحينئذ لا بد
من البناء على عموم الجزئية والشرطية لحال النسيان مطلقا حتى لو لم يكن لدليلهما
إطلاق ، سواء كان لدليل بقية الأجزاء والشرائط إطلاق أم لم يكن.
ولا ينافي ذلك
ما تضمن الاجتزاء بالناقص ، كما في موارد حديث : «لا تعاد ...» وغيره. لأنه أعم من تبدل التكليف ، بحيث يكون المأتي به
تمام الواجب ويكون امتثالا تاما ، بل قد يكون مسقطا للتكليف ، لكونه موجبا لتعذر
استيفاء الملاك ، أو لتبدله أو نحو ذلك. ولذا كان ذلك ممكنا في النقيصة العمدية
التي لا إشكال في عدم تبدل التكليف معها وعدم كون الناقص امتثالا تاما.
وعلى ذلك يتعين
البناء على أن مقتضى الأصل عدم الاجتزاء بالناقص مطلقا حتى لو لم يكن لدليل الجزء
أو الشرط إطلاق يشمل حال النسيان ، ويحتاج الاجتزاء بالناقص للدليل المخرج عن
الأصل المذكور.
__________________
المسألة الثانية : في الزيادة
ولا ينبغي
التأمل في أصالة البطلان بالزيادة فيما إذا أخذ عدمها شرطا في المركب ، لرجوعه
للإخلال بالشرط. وكذا إذا أخذ عدمها شرطا في جزئية الجزء منه ، كما لو اشترطت
الوحدة في التسبيح الذي هو جزء من الصلاة ، بحيث يبطل لو تعدد ولا يقع جزءا منها.
لرجوع ذلك إلى نقص الجزء.
وأما في غير
ذلك فلا بد في قادحية الزيادة من دليل ، وبدونه فالأصل عدمها ، لرجوع الشك فيها
إلى الشك في المانعية الذي هو مورد البراءة ، كالشك في الشرطية. بل هو راجع إليه ،
لأن مانعية شيء في المركب ترجع إلى اعتبار عدمه فيه.
لكن قد يستدل
على مبطلية الزيادة حينئذ بوجهين الأول : ما أشار إليه المحقق في المعتبر ، من
أنها تغيير لهيئة العبادة الموظفة ، فتكون مبطلة.
ويندفع بما
ذكره شيخنا الأعظم قدسسره من أنه إن أريد أنها تغيير للهيئة المعتبرة في المركب
فالصغرى ممنوعة ، لأن اعتبار الهيئة الخاصة التي تخل بها الزيادة أول الدعوى. وإن
أريد أنها تغيير للهيئة المتعارفة فالكبرى ممنوعة ، لمنع كون تغيير الهيئة
المتعارفة مبطلا.
الثاني : أن الزيادة التي هي محل الكلام هي التي يؤتى بها بقصد
الجزئية ، والإتيان بها حينئذ يبتني على قصد امتثال أمر آخر غير الأمر الشرعي
متعلق بالمركب المشتمل على الزيادة المذكورة ، فيبطل العمل من جهة عدم قصد امتثال
الأمر الشرعي به.
لكنه ـ مع
اختصاصه بما يعتبر فيه قصد الامتثال ، وهو العبادة ـ يندفع بأن قصد الجزئية
بالزيادة يكون على أحد وجهين :
الأول : أن يبتني على قصد أمر آخر غير الأمر الشرعي ، تشريعا
، أو جهلا
ـ كما لو اعتقد وجوب الظهر فصلى أربعا وكان الواجب عليه في الواقع الجمعة ـ
أو سهوا ـ كما لو صلى المسافر ثلاث ركعات بنية أمر المغرب غفلة عن أنه قد صلاها
وأن الواجب عليه ركعتان للعشاء ـ.
الثاني
: أن يبتني على
قصد الأمر الشرعي ـ ولو إجمالا ـ مع التصرف فيه تشريعا أو جهلا ـ كما لو أتى
بالاستعاذة في الصلاة بنية الوجوب تشريعا أو جهلا ـ أو مع الغفلة عن كونها زيادة ـ
للغفلة عن الإتيان بالجزء الواجب ـ أو مع الجهل بذلك ـ كما لو تخيل إمكان تبديل
الامتثال ـ فإن المقصود بالامتثال في جميع ذلك ليس إلا الأمر الواقعي ، من دون أن
يكون الإتيان بالزيادة منافيا له.
والظاهر أن محل
الكلام في المقام هو الثاني دون الأول.
ودعوى : أنه مع
التشريع يحرم العمل فيمتنع التقرب به.
مدفوعة بأن
التشريع إنما يقتضي حرمة الزيادة التي يؤتى بها بداعي الأمر الضمني التشريعي ، لا
حرمة غيرها مما لا دخل للتشريع في الداعوية له ، بل لا يؤتى به إلا بداعي الأمر
الواقعي ويكون امتثالا له. ومجرد مقارنته للتشريع في الأمر الواقعي وفرضه على خلاف
واقعه لا يقتضي حرمة بقية الأجزاء وامتناع التقرب بها بعد عدم دخله في الداعوية
لها. ومن ثم لا مخرج عما ذكرنا من الأصل.
بقي شيء
وهو أنه قد
يتمسك لإحراز صحة العمل في المقام وأمثاله من موارد الشك في مبطلية شيء للعمل ـ مع
قطع النظر عن الأصل المذكور ـ بوجهين :
الأول
: استصحاب صحة
العمل. وفيه : أن الصحة ليست مجعولة بنفسها ، لأن مورد التكليف نفس العمل ،
والمفروض تردده بين المقيد بعدم ما يشك في مبطليته ـ كالزيادة ـ والمطلق من هذه
الجهة. وليست الصحة إلا منتزعة من
مطابقة المأتي به للمأمور به على ما هو عليه. ولا أثر لها إلا الإجزاء
العقلي ، من دون أن يكون لها أثر شرعي ليجري الاستصحاب بلحاظه.
مع أنها
بالإضافة إلى المركب التام لا موضوع لها إلا بعد تماميته فلا مجال لاستصحابها قبله
، وبالإضافة إلى الأجزاء السابقة على حدوث ما يشك في مبطليته مراعاة بتمامية
المركب ، لفرض الارتباطية بينها وبين بقية الأجزاء ، فلا يعلم حصولها قبله ، كي
تستصحب إلا بنحو الاستصحاب التعليقي ، الذي لا يجري على التحقيق.
نعم قد يراد
بها قابلية الفعل المأتي به لأن يقع امتثالا ، وهي حينئذ متيقنة قبل حصول ما يشك
في مبطليته ، مشكوكة بعده. لكنها بالمعنى المذكور ليست موردا لأثر شرعي ـ بل ولا
عقلي ـ ليجري استصحابها.
الثاني : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا
أَعْمالَكُمْ) فإن وجوب المضي في العمل يستلزم صحته وعدم بطلانه
بالزيادة.
وفيه أولا : أن الشك في المقام ليس في جواز الإبطال بعد فرض الصحة
، بل في تحقق البطلان بحصول الزيادة ونحوها من ما يشك في مبطليته ، ومع تحقق
البطلان لا موضوع لحرمة الإبطال ، فالتمسك بعموم حرمة الإبطال ونحوه من التمسك
بالعام في الشبهة المصداقية من طرف العام ، الذي لا إشكال في عدم جوازه.
وثانيا : أنه لا ظهور للآية في إرادة الإبطال بمعنى الإخلال
بالعمل وإفساده قبل إتمامه الذي يبتني عليه الاستدلال ، بل بمعنى إحباط العمل بعد
تماميته وصلوحه لأن يترتب عليه الجزاء والثواب ، وذلك بالنفاق والشقاق لله تعالى
__________________
ولرسوله صلىاللهعليهوآله ونحوهما ، كما يناسبه صدرها وسياقها مع قوله تعالى
قبلها : (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما
تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) ، واستشهاده صلىاللهعليهوآله بها لذلك ، كما في موثق أبي الجارود عن أبي جعفر عليهالسلام : «قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : من قال : سبحان الله ، غرس الله له بها شجرة في الجنة
، ومن قال : الحمد لله ، غرس الله له بها شجرة في الجنة ، ومن قال : لا إله إلا
الله ، غرس الله له بها شجرة في الجنة ، ومن قال : الله أكبر ، غرس الله له بها
شجرة في الجنة. فقال رجل من قريش : يا رسول الله إن شجرنا في الجنة لكثير. فقال :
نعم ، ولكن إياكم أن ترسلوا عليها نيرانا فتحرقوها ، وذلك أن الله عزوجل يقول : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا
أَعْمالَكُمْ)» .
فالعمدة في
تقريب عدم مبطلية الزيادة الأصل بالوجه المتقدم. ولا مجال للخروج عنه إلا بدليل ،
كما ورد في الصلاة والطواف ، على تفصيل يذكر في الفقه.
نعم قد يقال :
الأصل وإن كان يقتضي عدم مبطلية الزيادة ونحوها مما لم يقم دليل عقلي على قادحيته
في العمل ، كما تقدم في أصل المسألة ، إلا أن ذلك قد يشكل في الصلاة ونحوها مما
يحرم قطعه وإبطاله على تقدير صحته ، للعمل إجمالا معه إما بصحة العمل المستلزمة
لوجوب إتمامه وعدم جواز إبطاله ، وإما ببطلانه المستلزم لعدم الاجتزاء به ووجوب
استئنافه. والعلم الإجمالي المذكور حيث كان منجزا فهو يمنع من الرجوع لأصالة
البراءة من المانعية المقتضية للاستئناف ، كما يمنع من الرجوع لأصالة البراءة من
وجوب الإتمام ، فيتعين
__________________
الاحتياط بالإتمام ثم الإعادة.
ودعوى : أن
أصالة البراءة من مانعية الزيادة ونحوها تقتضي صحة العمل ووجوب إتمامه ، فينحل
بذلك العلم الإجمالي.
مدفوعة بأن
أصالة البراءة لا تحرز مطابقة العمل للتكليف الواقعي وصحته الذي هو موضوع وجوب
الإتمام وحرمة القطع والإبطال واقعا ، وإنما تقتضي المعذرية من احتمال البطلان ،
وليس هو موضوع وجوب الإتمام.
ومثلها دعوى
التمسك لذلك باستصحاب الصحة. لما تقدم من الإشكال في الاستصحاب المذكور. ومن ثم
جرى كثير من الفقهاء رضى الله عنه في عصورنا وما قاربها على لزوم الاحتياط
بالإتمام ثم الإعادة في موارد الاحتياط الوجوبي بالبطلان.
اللهم إلا أن
يقال : العلم الإجمالي المذكور ـ لو تم ـ لا يقتضي المنع من الزيادة ، ولا ينجز
احتمال مبطليتها قبل الإتيان بها ، بل هو مترتب على الإتيان بها ، فالزيادة شرط في
حدوث العلم الإجمالي المذكور ، وحيث كان الظاهر عموم حديث : «لا تعاد ...» لصورة
الجهل بمبطلية العمل ، ولا يختص بالإتيان بالمبطل سهوا فهو يقتضي عدم قادحية
الزيادة في المقام ، للإتيان بها جهلا بمبطليتها بعد عدم صلوح العلم الإجمالي
لتنجيز احتمال مبطليتها قبل الإتيان بها. وحينئذ تحرز صحة الصلاة معها ، ووجوب
المضي فيها ، إما لعدم مبطليتها ذاتا أو من جهة تحقق العذر فيها ، ولا مجال مع ذلك
لفرض العلم الإجمالي المذكور.
نعم لو كان
احتمال مبطلية الزيادة قبل الإتيان بها منجزا ـ كما في الشبهة الحكمية قبل الفحص ـ
لم يبعد قصور حديث : «لا تعاد ...» عنه ، واتجه فرض العلم الإجمالي المذكور. ولعله
عليه يبتني الاحتياط المذكور من الفقهاء رضى الله عنه.
كما يتجه ذلك أيضا بناء على اختصاص الحديث المذكور بالسهو وعدم شموله
للجهل.
هذا كله بناء
على عموم دليل حرمة القطع لما إذا احتمل بطلان العمل بنحو يقتضي الاحتياط. وأما
بناء على قصور دليل حرمة القطع عن ذلك ، لأن تجنب صعوبة التكرار مع الرغبة في
الاحتياط من جملة الأغراض العقلائية المسوغة للقطع ، فلا مجال لفرض العلم الإجمالي
حتى في الموردين المذكورين ، بل ليس في المقام إلا احتمال بطلان العمل بما يحتمل
قادحيته ، ولا مانع من الرجوع فيه للأصل. فتأمل جيدا.
التنبيه الثالث : في تعذر بعض ما يعتبر في الواجب الارتباطي
إذا تعذر بعض
ما يعتبر في المكلف به ، ودار الأمر بين عموم اعتباره لحال تعذره ـ المستلزم لسقوط
التكليف به تبعا لتعذر قيده ـ واختصاصه بحال القدرة عليه ـ المستلزم للتكليف بما
عدا المتعذر ـ فهل الأصل يقتضي الأول أو الثاني؟. والكلام في ذلك في مقامين :
المقام الأول : في مقتضى القاعدة الأولية بالنظر للأدلة الاجتهادية أو
الأصول العملية.
فاعلم أن في
المقام صورتين :
الأولى
: أن يكون
لدليل اعتبار الأمر المتعذر إطلاق يشمل حال التعذر ، كما في مثل قوله عليهالسلام : «لا صلاة إلا بطهور» . وحينئذ يكون مقتضى الإطلاق المفروض سقوط الواجب
بتعذره. ومعه لا مجال لاستصحاب التكليف بما عدا المتعذر ـ بالوجه الذي يأتي ، لو
تم في نفسه ـ لكونه محكوما للإطلاق المذكور.
__________________
ودعوى : أن
سقوط وجوب المركب بمقتضى الإطلاق المفروض لا ينافي وجوب الناقص بدلا عنه أو لكونه
الميسور منه. مدفوعة بأن محل الكلام هو احتمال وجوب الناقص بالعنوان الذي وجب به
التام ـ كالصلاة والحج والصيام ـ لا بعنوان آخر ، فإذا كان مقتضى الإطلاق سقوط
التكليف بالعنوان المذكور بتعذر ما تضمن الإطلاق اعتباره فيه فاحتمال وجوب الناقص
بعنوان آخر خارج عن محل الكلام. نعم لو فرض حصول الاحتمال المذكور ، فيظهر حال
الوظيفة فيه مما يأتي.
الثانية
: أن لا يكون
لدليله إطلاق ، كما هو الظاهر في مثل الطمأنينة في الصلاة. وحينئذ إن كان للتكليف
بالباقي إطلاق يشمل صورة تعذر الأمر المذكور لزم الاقتصار في جزئية المتعذر على
حال القدرة عليه ، والبناء على بقاء التكليف بالباقي مع تعذره. وإن لم يكن للتكليف
بالباقي إطلاق بالنحو المذكور يلزم الرجوع للأصل العملي.
ومن الظاهر أن
مقتضى الأصل بدوا براءة الذمة من التكليف بالناقص. إلا أنه قد يدعى لزوم الخروج
عنه والبناء على ثبوت التكليف بالناقص لأحد وجهين :
الأول : استصحاب وجوب الباقي المتيقن قبل تعذر الأمر المتعذر.
لكنه يشكل بأن المعلوم سابقا هو وجوبه ضمنا في ضمن التكليف بالتام ، وهو معلوم
الارتفاع ، غايته أنه يحتمل حدوث الوجوب الاستقلالي له خلفا له ، والأصل عدمه.
وأما ما ذكره
بعض الأعيان المحققين قدسسره من أن وجوب الباقي المشكوك متحد مع وجوب التام المتيقن
سابقا ، لوجوده في ضمنه ، وليس الاختلاف بينهما إلا في الحدود ، وهو لا يوجب تعدد
المحدود.
فيندفع ـ مضافا
إلى اختصاصه بما إذا كان التعذر بعد فعلية التكليف بالتام ، لتحقق الشروط المعتبرة
فيه من الوقت أو غيره ـ بأن اختلاف الحدود إنما لا يوجب تعدد المحدود إذا رجع إلى
اختلاف مرتبة الوجود الواحد بالشدة والضعف ، كالسواد الخفيف الموجود في ضمن السواد
الشديد ، لا في مثل اختلاف الوجوبين باختلاف حدود متعلقيهما ، لاحتياج كل منهما
لجعل مستقبل يباين جعل الآخر ، لتقوم التكليف بمتعلقه بما له من الحدود الملحوظة
للجاعل ، فمع اختلاف الحدّين لا بد من اختلاف الجعل والتكليف المجعول.
نعم قد يتمسك
باستصحاب الوجوب الاستقلالي فيما إذا كان الناقص متحدا مع التام عرفا ، لعدم أهمية
الأمر المتعذر ، بحيث يعدّ وجوده من حالات المركب بنظر العرف ، لا مقوّما له ،
ليكون تعذره مستلزما لتعدد الموضوع. لكنه يبتني على الاكتفاء بالتسامح العرفي في
موضوع الاستصحاب ، نظير ما جرى عليه غير واحد في استصحاب كرية الماء. وهو ممنوع ،
على ما يأتي في مبحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى.
الثاني
: أصالة
البراءة من جزئية المتعذر حال تعذره ، بدعوى : أن المقام من صغريات مسألة الدوران
بين الأقل والأكثر الارتباطيين.
ويندفع بأن
الجزئية والشرطية حيث لم يكونا من الأحكام المجعولة ، بل هما منتزعان من وجوب
المركب الذي أخذ فيه المشكوك ، وهو مما يقطع بارتفاعه بسبب التعذر ، فلا معنى
لجريان البراءة منه ، بل ليس في المقام إلا الشك في وجوب الباقي ، ودليل البراءة
لا يثبته ، بل ينفيه عملا ، ويقتضي السعة منه.
بل لو فرض
جريان البراءة من الجزئية والشرطية في نفسهما فلا مجال له في مثل المقام ، حيث لا
أثر لها إلا الإلزام بالناقص ، لمنافاته للامتنان الذي هو
منصرف أدلة البراءة. ومن هنا لا مخرج في المقام عن أصل البراءة من التكليف
بالناقص الذي أشرنا إليه آنفا.
المقام الثاني : في مقتضى القاعدة الثانوية بعد الفراغ عما تقدم في المقام
الأول.
ولا إشكال في
الاكتفاء بالميسور في كثير من فروع الفقه في الطهارة والصلاة والحج وغيرها ، وإنما
الإشكال في ثبوت عموم يقتضي الاكتفاء به يكون هو المرجع عند الشك ، وهو ما يسمى
بقاعدة الميسور ، التي وقع الكلام فيها بين الأصحاب.
وعمدة ما يستدل
به لها النصوص المتضمنة لوجوب الميسور ، وهي النبوي : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه
ما استطعتم».
وما عن أمير
المؤمنين عليهالسلام : «الميسور لا يسقط بالمعسور» وما عنه عليهالسلام أيضا : «ما لا يدرك كله لا يترك كله».
بدعوى : ظهورها
في لزوم تبعيض العمل الارتباطي بحسب الميسور من أجزائه وشرائطه ، فتكون حاكمة على
إطلاق دليل اعتبار الأمر المتعذر الشامل لحال تعذره لو فرض ثبوته. ومقتضى ذلك وجوب
الميسور في صورة ثبوت الإطلاق لدليل اعتبار الأمر المتعذر ، فضلا عما إذا لم يكن
لدليله إطلاق.
وينبغي الكلام
في هذه النصوص .. تارة : في السند وأخرى : في الدلالة.
أما السند فهو
ظاهر الضعف في جميعها ، لعدم ذكر الأصحاب لها في كتب الحديث المعروفة ، وإنما ورد
الأول مسندا في كتب العامة على اختلاف مضامينه الآتية. وذكرت بأجمعها مرسلة في
محكي عوالي اللآلي لابن أبي جمهور الاحسائي ، الذي لم يعرف بالضبط وانتقاء الحديث
في الكتاب المذكور ، حتى طعن فيه صاحب الحدائق ، مع ما هو المعلوم من حاله من عدم
شدة اهتمامه بصحة أسانيد الأخبار.
قال في رد
مرفوعة زرارة الواردة في تعارض الخبرين والمذكورة في الكتاب المذكور : «مع ما هي
عليه من الرفع والإرسال ، وما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه إلى التساهل في
نقل الأخبار والإهمال ، وخلط غثها بسمينها وصحيحها بسقيمها ، كما لا يخفى على من
وقف على الكتاب المذكور».
ودعوى :
انجبارها باشتهار التمسك بها بين الأصحاب في أبواب العبادات ، كما ذكره شيخنا
الأعظم قدسسره. ممنوعة جدا ، غاية الأمر موافقتهم لها في الجملة ، وهي
لا تصلح للجبر ، ما لم يثبت اعتمادهم عليها وتسالمهم على الرجوع لها ، ولا مجال
لدعواه بعد عدم تعرض القدماء لها في مقام الاستدلال فيما أعلم ، وإلا لما اقتصر
على نسبتها للكتاب المذكور مع ما هو عليه من الوهن.
بل لم يجروا
عليها في كثير من فروع العبادات ، فضلا عن غيرها ، كما يشهد به تتبع كلماتهم في
الصوم وكثير من فروع الطهارة والصلاة والحج ، فإنهم وإن تنزلوا في كثير من الموارد
عن بعض المراتب ـ كالقيام في الصلاة ، والمباشرة في كثير من فروع الطهارة والحج ـ بل
وعن بعض الأجزاء والشروط رأسا ـ كالسورة والطمأنينة والقبلة والطهارة الخبثية ـ إلا
أنهم لم يتنزلوا عن كثير من الأجزاء والشروط ، فلا مجال عندهم للتبعيض في ركعات
الصلاة وجملة من مناسك الحج ، واشتهر عندهم عدم صحة الصلاة من فاقد الطهورين.
فمن القريب جدا
أن يكون اجتزاؤهم بالناقص في كثير من الفروع لعدم إطلاق دليل الأمر المتعذر ، أو
لأدلة خاصة ، كالإجماع ، والسيرة ، وارتكاز المتشرعة ، والأخبار الكثيرة الواردة
في كثير من تلك الفروع ، والتي قد يتعدى الفقيه منها لفهم عدم الخصوصية لمواردها ،
أو لنحو ذلك مما لا مجال معه
لدعوى اعتمادهم في تلك الفروع على هذه الأخبار ، وانجبار ضعفها بذلك.
وأما الدلالة
فهي لا تخلو عن قصور في الجميع.
أما الأول ـ وهو
النبوي ـ فلأن «من» وإن كانت ظاهرة في التبعيض ، إلا أن التبعيض يكون .. تارة : بلحاظ الوحدة النوعية ، فيكون البعض هو الفرد من
الكلي ، فيرجع الحديث للاكتفاء بالميسور من الأفراد ، ويكون أجنبيا عما نحن فيه وأخرى : بلحاظ الوحدة الاعتبارية بين الأمور المتكثرة ، فيكون
البعض هو الجزء من الكل ، وهو الذي ينفع في محل الكلام.
ومن الظاهر أنه
لا مجال لحمل الحديث عليهما معا ، لعدم الجامع العرفي بينهما بعد اختلاف الجهة
المصححة للتبعيض. كما لا قرينة على حمله على الثاني. بل لا مجال له بعد احتياجه
إلى نحو من العناية في فرض الشيء المأمور به مركبا ذا أجزاء ، بخلاف الأول ، لأن
المأمور به لا ينفك عن كونه كليا ذا أفراد. ومن ثم كان الحمل عليه مناسبا لإطلاق
الشيء في الحديث.
ولا سيما بلحاظ
قرب أخذه مما في مجمع البيان مرسلا ، ورواه العامة ، فعن مسلم والنسائي والترمذي في صحاحهم
عن أبي هريرة قال : «خطبنا رسول الله صلىاللهعليهوآله فقال : أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا. فقال
رجل : أكل عام يا رسول الله؟ فسكت ، حتى قالها ثلاثا. فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : لو قلت : نعم ، لوجبت ، ولما استطعتم. ثم قال : ذروني
ما تركتكم ، فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا
أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» .
إن قلت : الحمل
على إرادة التكرار لا يناسب عمل الأصحاب ، ولا سيرة
__________________
المسلمين على الاكتفاء بالمرة ، بل هو خلاف المقطوع به في مورد الحديث ،
وهو الحج.
قلت
: ليس ذلك
قرينة عرفية على الحمل على المعنى الثاني بعد أن كان خلاف الظاهر في نفسه. بل
يتعين الحمل على الاستحباب مع الحفاظ على المعنى الأول. ولعله الظاهر مما سبق في
رواية العامة ، كما يناسبه ظهور عدم الاستطاعة في عدم الصبر على الاستمرار على
الإطاعة الذي هو محذور مع الوجوب قد يوجب توقعه الرأفة بعدم تشريعه ، لا عدم
الاستطاعة الحقيقية الذي هو ليس محذورا مع الوجوب ، ولا يمنع توقعه من تشريعه ، إذ
يتعين حينئذ حمل الأمر بالإتيان بالشيء بقدر الاستطاعة على استمرار المكلف عليه ما
لم يضق به ذرعا ، وذلك يناسب الاستحباب.
كما أنه مقتضى
الجمع بينه وبين ما عن عوالي اللآلي عن الشهيد عن ابن عباس قال : «لما خطبنا رسول
الله صلىاللهعليهوآله بالحج قام إليه الأقرع بن حابس فقال : في كل عام؟ فقال
: لا ، ولو قلت لوجب ، ولو وجب لم تفعلوا ، إنما الحج في العمر مرة واحدة ، فمن
زاد فتطوع» ونحوه ما عن أبي داود والنسائي وأحمد والحاكم .
نعم لا بد من
حمله على ما يكون مشروعا في نفسه بنحو الاستغراق ، كالحج والصدقة ، فيكون مسوقا
لبيان معنى ارتكازي عقلي ، وهو حسن الاستزادة من الخير والإكثار منه مهما أمكن ،
لا لبيان سقوط الارتباطية بالتعذر الذي هو معنى تعبدي محض. ولذا يصدق بلا تكلف على
مثل الصدقة بالميسور ومساعدة المؤمن.
__________________
بل إذا دار
الأمر بين حمل الكلام على أمر ارتكازي عرفي وأمر تعبدي كان المتعين الأول ، لأن
أنس الذهب به يوجب انصراف الكلام إليه وظهوره فيه ما لم تقم قرينة صارفة عنه ،
معينة للثاني.
هذا وقد يدفع
الاستدلال بالحديث على القاعدة ، بأنه لا دليل على كون «من» تبعيضية ، بل قد تكون
بمعنى الباء أو بيانية أو زائدة.
لكنه يشكل بأن
ورود «من» بمعنى الباء وإن حكي عن يونس مستشهدا عليه بقوله تعالى : (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ). إلا أن من القريب جدا كونها في الآية ابتدائية ، لبيان
المنشأ ، نظير قولنا : جرى الماء من الميزاب ، فكأن النظر يصدر من الطرف ، ومنه
ينشأ. مع أنه لو سلم كونها بمعنى «الباء» فهي بمعنى «باء» الاستعانة أو الآلة ، لا
«باء» التعدية ، ليناسب المقام.
كما أنه لا
يبعد رجوع البيانية التي يراد بها بيان جنس ما قبلها ـ نظير خاتم من حديد ـ إلى
الابتدائية ـ التي لا مجال لها في المقام ـ أو التبعيضية التي يحاول المدعي الفرار
منها ، فكأن المراد : خاتم ناشئ من حديد ، أو بعض منه. مع أنها تختص بما إذا كان
ما بعدها جنسا لما قبلها ـ كالمثال المتقدم ـ دون مثل المقام مما وقعت فيه بين
الفعل ومتعلقه ، إذ لم يعهد إرادة الجنس حينئذ ، كي يكون المراد هنا : إذا أمرتكم
بشيء فأتوا بجنسه ما استطعتم.
وأما زيادة «من»
في غير ما إذا كان مدخولها نكرة مسبوقة بنفي أو نهي ، فهي وإن قيل بها في مثل قوله
تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ
يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) إلا أن الظاهر رجوعها فيه للتبعيضية ، وأن المراد الأمر
بتبعيض النظر. إما بلحاظ المنظور ، لأن المنهي عنه هو النظر لبعض الأمور ،
كالأجنبية ، أو بلحاظ المرتبة
__________________
في مقابل الإشباع وملء العين بالمنظور ، كما لعله الأقرب.
وكيف كان
فزيادتها في الآية بعيدة ، وفي الحديث أبعد ، لأن «أتى» لا تتعدى للمأتي به
بنفسها. ومن ثم يتعين كونها في الحديث للتبعيض. ويتعين دفع الاستدلال بما سبق ، من
كون التبعيض بلحاظ الوحدة النوعية.
وأما الحديث
الثاني فالوجه في قصور دلالته أن عدم سقوط الميسور بالمعسور يمكن بدوا أن يحمل على
أحد أمرين الأول : بيان قضية تعبدية ، وهي أن تعذر بعض أجزاء المركب الارتباطي لا
يوجب سقوط التكليف به رأسا ، بل يبقى التكليف بالميسور منه ، لاختصاص الارتباطية
بحال القدرة على الكل ، فيكون شارحا للارتباطية في المركبات الشرعية ، وحاكما على
أدلتها ، ودليلا على قاعدة الميسور التي هي محل الكلام.
الثاني : الإرشاد لقضية ارتكازية عقلائية ، وهي أن تعذر بعض
مراتب المطلوب الانحلالي لا يوجب سقوطه رأسا ، بل يبقى الميسور من مراتبه مطلوبا
ينبغي تحصيله ، ولا يحسن التفريط فيه وإهماله ، فيكون أجنبيا عما نحن فيه ، ولا
يشمل المركبات الارتباطية إلا بعد الفراغ عن اختصاص الارتباطية فيها بحال القدرة
وقصورها عن حال التعذر.
وحيث لا قرينة
على الأول يتعين الحمل على الثاني ، لما سبق عند الكلام في الحديث الأول من أنه
إذا دار الأمر بين حمل الكلام على معنى تعبدي وحمله على معنى ارتكازي فالمتعين
الثاني.
وأما ما قيل من
أن الأصل في بيانات الشارع الأقدس المولوية لا الإرشاد. فهو مختص بما إذا علم
المراد من الكلام وشك في صدوره بداعي الإرشاد أو المولوية ، كما لو دار الأمر
بينهما في بعض الأوامر والنواهي التي يحتمل صدورها للإرشاد للآثار الوضعية دون
المولوية ، وكما قيل في بعض الأوامر
بالاحتياط في الشبهة البدوية. أما مع تردد الكلام بين معنيين أحدهما تعبدي
والآخر ارتكازي قد أنس به الذهن فاللازم الحمل على الثاني وإن لزم منه الإرشاد.
وعلى ذلك يكون
الحديث أجنبيا عما نحن فيه ، وواردا في أفعال الخير المفروغ عن كونها انحلالية
بلحاظ الميسور من مراتبها الفاقد لبعض الأجزاء أو الخصوصيات الكمالية ، ردعا عما
قد يحصل من كثير من الناس ـ بل أكثرهم ـ من التسامح عن الميسور حينئذ والتفريط فيه
، لعدم الاعتداد به ، فمن لا يستطيع إشباع جائع لا يعينه بتمرة ومن لا يستطيع
الصلاة التامة من قيام لا يغتنمها بالمراتب الدنيا منها ، معتذرا بالعسر ، غافلا
أو متسامحا في اغتنام الميسور.
ومنه يظهر
الحال في الحديث الثالث ، إذ بملاحظة ما سبق يتضح لزوم حمله على الإرشاد للقضية
الارتكازية المذكورة بعد الفراغ عن انحلال الطلب ، لا على بيان حال التكاليف
الشرعية بالمركبات الارتباطية ، لبيان سقوط الارتباطية فيها بالتعذر ، لينفع فيما
نحن فيه.
ولذا كان
المرتكز إباؤه هو والثاني عن التخصيص ، وعمومهما للمراتب القليلة بعد فرض
الانحلالية ، كشق التمرة بالإضافة إلى إشباع الفقير. مع أنه لو كان المراد بهما
قاعدة الميسور التي هي محل الكلام فمن الظاهر أنها قاعدة تعبدية قابلة للتخصيص ،
بل ثبت تخصيصها في كثير من الموارد. كما أنها مختصة عندهم بما إذا كان الميسور
مقدارا معتدا به من المركب.
وقد تحصل من
جميع ما تقدم : أنه لا مجال لإثبات عموم قاعدة الميسور من هذه النصوص ، وأنه لا بد
من إقامة الدليل عليها في الموارد المتفرقة من دون عموم ينهض بها.
وعلى ذلك لا
مجال للكلام في عمومها للمستحبات وللشروط وغير
ذلك مما أشار إليه شيخنا الأعظم قدسسره. نعم المعنى الارتكازي الذي تقدم حمل النصوص عليه لا
إجمال فيه ، وهو شامل للأمرين. والله سبحانه وتعالى العالم. ومنه نستمد العون
والتسديد.
المبحث الثاني
في دوران التكليف بين التعييني والتخييري
والمراد
التخيير الشرعي الراجع إلى أخذ خصوصية كل من أطراف التخيير في المكلف به شرعا ـ كما
في الكفارة المخيرة ـ لا التخيير العقلي الراجع إلى التكليف شرعا بالماهية ،
والمقتضي لتخيير العقل بين أفرادها ، فإن الكلام فيه قد سبق في المسألة الثانية من
المبحث الأول.
ومحل الكلام في
المقام ما إذا علم بالتكليف بشيء وشك في أن التكليف به تعييني ، فلا يسقط امتثاله
إلا به ، أو تخييري بين أمور هو أحدها ، فيكفي واحد منها في امتثاله ، نظير دوران
الأمر في الكفارة بين المخيرة والمرتبة ، لأن ذلك هو المناسب لمبحث الدوران بين
الأقل والأكثر الارتباطيين ، لاشتراكه معه في وجود القدر المتيقن في مقام الامتثال
، دون بقية صور الدوران بين التعيين والتخيير الآتية في التنبيه الرابع ، فإنها
خارجة عن محل الكلام.
كما أن الكلام
في المقام يبتني على ما هو المختار في حقيقة الواجب التخييري من أنه عبارة عن
التكليف بأحد الأطراف على أن يكون متعلق التكليف كل منهما بخصوصيته بنحو يقتضي
التخيير بينهما في مقام العمل والاكتفاء بكل منهما بنحو البدلية ، على ما تقدم
توضيحه في مباحث الأمر والنهي.
إذا عرفت هذا
فقد ذكر بعض الأعاظم قدسسره أن المرجع في المقام هو الاحتياط ، لأن التعييني وإن
كانت موجبة للضيق ، إلا أنها ليست أمرا وجوديا مجعولا ولو أتتبع ، بل هي منتزعة من
عدم جعل العدل ، ومن الظاهر أن جعل العدل محتاج إلى مئونة زائدة لا يقتضيها دليل
البراءة ، فكما يكون التخيير محتاجا إلى مئونة العدل في مقام الإثبات ، ولذا كان
خلاف إطلاق الأمر ، كذلك هو محتاج إلى مئونة بيان العدل في مقام الثبوت ، ولا مجال
مع ذلك لإثباته بأدلة البراءة ، كحديث الرفع ونحوه. بل لو لا ورودها في مقام
الامتنان لنهضت برفعه. ومن هنا يتعين العمل على التعيين ، لوجوب إحراز الفراغ عن
التكليف المعلوم في البين.
وفيه : أن
احتياج التخيير إلى مئونة بيان العدل في مقام الإثبات ، ولذا كان منفيا بالإطلاق ،
لا يستلزم احتياجه إلى مئونة زائدة في مقام الثبوت بنحو لا ينهض به الأصل. للفرق
بن المقامين بأن التخيير مبني على نحو من التقييد في الأمر بالإضافة إلى كل من
الطرفين بخصوصه ، وهو خلاف ظاهر الإطلاق في مقام الإثبات. أما في مقام الثبوت
والجعل فكل من التعيين والتخيير مبني على نحو من الجعل مباين للآخر ، وليسا
مشتركين في مقام الجعل في شيء واحد يكفي في التعيين مع تقوّم التخيير بقيد وجودي
زائد ، ليكون مبنيا على كلفة زائدة في مقام الثبوت.
على أن احتياج
التخيير للكلفة في مقام الجعل والثبوت ـ لم تم ـ لا يمنع من جريان البراءة من
التعيين لو فرض كونه مستلزما لزيادة في التكليف ، نظير تقييد التكليف بقيد خاص ،
كالوقت ، فإنه لا إشكال في احتياجه إلى زيادة مئونة في مقام الجعل والثبوت ، مع
أنه مطابق للأصل ، لأن إطلاق التكليف مستلزم لزيادة فيه يدفعها الأصل.
ومن هنا
فالظاهر ابتناء الكلام في المقام على وجود متيقن في مقام الجعل صالح للتنجيز
والموافقة القطعية ـ لينحل به العلم الإجمالي ـ وعدم وجود متيقن بالنحو المذكور.
وقد ادعى بعض
مشايخنا وجود المتيقن في البين ، وهو التكليف بأحد الأطراف بعنوانه الانتزاعي ،
الذي يقطع بموافقته وامتثاله بأي طرف من الأطراف ، وأن الشك إنما هو في التقييد
بالخصوصية ، والمرجع فيه البراءة ، كما هو الحال في الدوران بين التعيين والتخيير
العقلي ، الذي يشك معه في أخذ الخصوصية زائدا على العنوان المتيقن التكليف.
أقول : عنوان
أحد الأمرين ليس منتزعا من خصوصية فيهما مشتركة بينهما تصلح لأن تكون موردا
للتكليف ، بل هو منتزع من نفس الخصوصيتين على ما هو عليه من التباين ، فهو لا يحكي
عنهما إلا كذلك ، ولذا لا يكون كل منهما مشتملا على خصوصية زائدة على المطلوب
خارجة عنه ، كما هو الحال في مورد التخيير العقلي ، حيث تكون خصوصية كل فرد خارجة
عن المطلوب.
ومن ثم ذكرنا
في محله أن الوجوب التخييري عبارة عن التكليف بمصداق أحد الأمرين بنحو الترديد
والبدلية ، وليس عنوان «أحدهما» إلا حاكيا محضا عنهما. ولذا يشيع استبداله بالعطف
ب «أو» التي مفادها معنى حرفي لا يكون موردا للتكليف.
وعليه ليس
الفرق بين الوجوب التعيني والتخييري إلا في المتعلق وفي كيفية التعلق ، فالتعيين
متعلق بالجامع الصالح للامتثال بالأفراد المتكثرة بنحو يقتضي تحقيق الجامع المذكور
على كل حال ، والتخييري متعلق بالأطراف رأسا على ما هي عليه من التباين ، لكن بنحو
يقتضي الإتيان بأحدها لا غير.
إذا عرفت هذا
ظهر أنه لا مجال لدعوى وجود المتيقن في المقام ، وهو
التكليف بالجامع الذي هو عنوان أحد الأمرين ، إذ لا معنى لتعلقه به مع فرض
التعيين ، لعدم كون الخصوصية قيدا زائدا في العنوان المذكور ، بل هي بنفسها مورد
للتكليف التعييني.
كما أن الجامع
المذكور ليس منتزعا من أمر في الخصوصية يجب ضمنا بتبع وجوبها ، ليدعى وجوبه على كل
حال في مورد التردد بين التعيين والتخيير ، بل لا يؤخذ الجامع المذكور إلا في مقام
الحكاية عن كلتا الخصوصيتين اللتين هما موضوع التكليف التخييري ، بل لا يحتاج إليه
في الغالب ، لإمكان الإشارة للخصوصيتين بوجه آخر ، كالعطف ب «أو».
وبالجملة : لا
مجال لدعوى وجود متيقن في مقام الجعل صالح للموافقة القطعية ، لينحل به العلم
الإجمالي المفروض ، ويتجه الرجوع للبراءة من الزائد الذي يقتضيه التعيين. ومن هنا
كان الرجوع للبراءة في غاية الإشكال ، بل مقتضى العلم الإجمالي المذكور هو
الاحتياط بالاقتصار على الطرف الذي يعلم بالتكليف به تعيينا أو تخييرا ، لإحراز
الامتثال. والله سبحانه وتعالى العالم بحقيقة الحال ، وهو ولي العصمة والسداد.
بقي في المقام تنبيهات ..
الأول : قد يتعذر المتيقن عند الدوران بين التعيين والتخيير ،
كما لو تعذر الصيام ودار الأمر بين وجوبه تعيينا فيسقط التكليف بتعذره والتخيير
بينه وبين الصدقة فتتعين مع تعذره الصدقة. وحينئذ هل الأصل يقتضي البراءة أو
الاحتياط بالإتيان بالعدل كالصدقة في المثال المتقدم؟.
لا يخفى أن في
المقام صورتين : الأولى : أن يكون التعذر قبل فعلية التكليف المردد. ولا ينبغي
الإشكال في جريان البراءة من التكليف المردد المذكور ، لرجوع الشك حينئذ إلى الشك
في حدوث التكليف رأسا.
إلا أن يحصل
علم إجمالي منجز ، كما لو وجب القضاء مثلا بتعذر المكلف به في الوقت ، حيث يعلم
إجمالا إما بوجوب العدل ـ كالصدقة في المثال المذكور ـ في الوقت أو القضاء في
خارجه ، وحينئذ يلزم الخروج عنه بالجمع بين الأمرين.
الثانية
: أن يكون
التعذر بعد فعلية التكليف المردد ، وربما يدعى هنا وجوب الاحتياط بالإتيان بما
يحتمل كونه عدلا ، بناء على ما سبق من وجوب الاحتياط عند الدوران بين التعيين
والتخيير ، لفرض عدم انحلال العلم الإجمالي وتنجزه ، فيلحقه حكم تعذر البعض المعين
من أطراف العلم الإجمالي بالتكليف بعد حصوله الذي تقدم في ذيل التنبيه الرابع من
تنبيهات مسألة الدوران بين المتباينين أن العلم الإجمالي فيه لا يسقط عن المنجزية.
وفيه : أنه لا
معنى لتنجز احتمال الوجوب التخييري حين العلم بالتكليف ، ليلحقه حكم تعذر بعض
أطراف العلم الإجمالي بعد تنجزه ، لأن مفاد الوجوب التخييري السعة غير القابلة
للتنجيز ، بل ليس المنجز إلا احتمال الوجوب التعييني المفروض سقوطه بطروء التعذر.
ووجوب ما يحتمل كونه عدلا بعد التعذر محتاج إلى منجز ، وهو مفقود في المقام.
نعم لو فرض علم
المكلف قبل طروء التعذر بأن التعذر سوف يطرأ ، تحقق له علم إجمال تدريجي إما بوجوب
المبادرة إلى المتيقن قبل تعذره أو بوجوب فعل البدل المحتمل بعد التعذر ، فيلزم
الخروج عن العلم الإجمالي المذكور بالمبادرة إليه قبل تعذره ، وفعل البدل بعد
تعذره على تقدير عدم المبادرة ، بخلاف ما إذا كان غافلا عن التعذر حتى فاجأه ، حيث
لا يحصل له العلم الإجمالي المذكور إلا بعد التعذر ، فلا يصلح للتنجيز ، لخروج أحد
طرفيه بالتعذر عن الابتلاء.
التنبيه الثاني : قد يعلم بوجوب شيء وبسقوطه بفعل شيء آخر ، ويتردد
الأمر في ذلك الآخر بين كونه عدلا للواجب ، بأن يكونا واجبين تخييرا ، وكونه مسقطا
له مع وجوب ذلك الواجب تعيينا ، نظير الطلاق المسقط لوجوب الإنفاق. ومن الظاهر أنه
لا أثر للشك المذكور مع القدرة على ذلك الواجب ، للعلم بوجوبه وإجزائه وإجزاء
الآخر عنه على كل حال. وإنما يظهر الأثر عند تعذر ذلك الواجب ، حيث يتعين فعل
الآخر لو كان عدلا له مع كون الوجوب تخييريا ، ولا يجب فعله إذا كان مسقطا له مع
كون وجوبه تعيينيا ، لعدم وجوب فعل المسقط ، كما تقدم في التنبيه الثالث من
تنبيهات مبحث تقسيم الواجب إلى تعييني وتخييري.
ولا ينبغي
الإشكال بأن المرجع في ذلك البراءة ، لعدم المنجز لوجوب ذلك المسقط الذي يحتمل
كونه عدلا للواجب المتعذر.
هذا وقد يدعى
أنه على ذلك يبتني الكلام في مسألة وجوب الائتمام على من عجز عن القراءة ، لتردد
الائتمام بين كونه مستحبا مسقطا للقراءة مع وجوبها تعيينا ، وكونه واجبا مخيرا
بينه وبين الصلاة فرادى مع القراءة ، فيجب بتعذرها.
لكن المبنى
المذكور يختص بالواجبات الاستقلالية التي يكون تعذرها موجبا لسقوط التكليف بها ،
بحيث لا يتحقق الامتثال مع الاقتصار على فعل المسقط ، كالإنفاق بالإضافة للطلاق ،
دون مثل القراءة مما يجب ضمنا ، ولا يكون تعذره موجبا لسقوط التكليف بالمركب ، بل
يبقى التكليف به ويمتثل بالائتمام ، فإن إسقاط الائتمام للقراءة ـ إما لكونه رافعا
لموضوعها ، أو لتنزيل قراءة الإمام منزلة قراءة المأموم ـ لا ينافي كون الصلاة
مأموما من أفراد الصلاة الاختيارية التامة الصالحة للامتثال ، بل من أفضلها ، ولذا
لا ريب في وجوب الائتمام لو فرض عدم مشروعية صلاة الفرادى من دون قراءة ، أو تعذرت
مع القدرة على القراءة.
ومن هنا كان
الظاهر ابتناء المسألة المذكورة على أمر آخر ، وهو أن موضوع مشروعية صلاة الفرادى
من دون قراءة إن كان هو مجرد تعذر القراءة لم يجب الائتمام في الفرض ، وإن كان هو
تعذر الصلاة الاختيارية التامة تعين وجوب الائتمام ، لأن الصلاة معه من أفراد
الصلاة التامة ، بل من أفضلها. والظاهر الأول على تفصيل موكول للفقه.
التنبيه الثالث : قد يعلم بوجوب أمور متعددة ويتردد بين كونه تخييريا ،
فيكفي واحد منها ، وكونه تعيينيا فلا بد من الجمع بينها ، كما في موارد تردد
الكفارة بين كونها مخيرة وكونها كفارة جمع.
والظاهر هنا
جريان البراءة من وجوب الجمع ، لانحلال العلم الإجمالي بالعلم بتكليف واحد مردد
بين التعيين والتخيير ، وهذا التكليف صالح للامتثال بفعل أحد الأطراف ، فهو مجز
عما هو المعلوم قطعا ، ويشك في وجوب ما زاد عليه ، فيدفع بالأصل. وأدنى تأمل في
المرتكزات العقلائية قاض بوضوح ذلك.
التنبيه الرابع : ما تقدم إنما هو في احتمال التخيير في الحكم الواقعي
الواحد في مقام الجعل والتشريع ، لقصور الملاك عن اقتضاء كل طرف معينا ، كالتخيير
في خصال الكفارة ، لأنه المناسب لمبحث الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين.
وهناك قسمان آخران للتخيير.
الأول
: التخيير في
الحكم الواقعي ، لكن في مقام الامتثال للتزاحم بين التكليفين ، والدوران بين
التعيين والتخيير حينئذ إنما يكون للدوران بين أهمية أحد التكليفين الملزم بتعيين
امتثال الأهم وتساويهما المستلزم للتخيير بينهما.
الثاني : التخيير في الحكم الظاهري الراجع للتخيير بين الحجج
في مقام التعارض لو تم. والدوران بين التعيين والتخيير فيه إنما يكون للدوران بين
رجحان أحد الدليلين المقتضي لحجيته تعيينا وتساويهما المقتضي للتخيير
بينهما.
ومقتضى الأصل
التعيين في المقامين معا ، لترجيح محتمل الأهمية في باب التزاحم على ما يأتي في
مباحث التعارض إن شاء الله تعالى ، وللعلم بحجية ما يحتمل رجحانه من الدليلين
والشك في حجية الآخر ، والمرجع فيه أصالة عدم الحجية ، على ما تقدم في تمهيد
الكلام في مباحث الحجج.
خاتمة
في جريان الأصول في الحكم الاقتضائي غير الإلزامي
ذكر شيخنا
الأعظم قدسسره في خاتمة هذا القسم من الأصول ـ وهي التي لم يؤخذ فيها
الحالة السابقة ـ شروط العمل بالأصول المذكورة وأهمها الفحص ، واستطرد بعد ذلك إلى
الكلام في قاعدة نفي الضرر.
لكن حيث لا
يختص وجوب الفحص بالأصول المذكورة ، بل يجري في غيرها ، بل في الطرق أيضا ، كان المناسب
ذكره بعد الكلام في مبحث التعارض ، وقد رأينا ذكره في خاتمة مباحث الاجتهاد
والتقليد ، لرجوعه إلى بيان وظيفة المكلف عند الشك في وجود الدليل.
كما أن قاعدة
نفي الضرر حيث كانت قاعدة فقهية واقعية ـ كقاعدة نفي الحرج وضمان اليد ـ فهي لا
تناسب المقام ، لذلك أعرضنا عن ذكرها هنا.
نعم المناسب
هنا التعرض لجريان الأصول المذكورة في غير الحكم التكليفي من الأحكام الاقتضائية ،
وهي منحصرة بالاستحباب والكراهة ، فنقول ومنه سبحانه العون والتسديد : يقع الكلام
هنا في مسائل أربع ، نظير المسائل المتقدمة في التكليف الإلزامي.
المسألة الأولى : في الشك في الحكم الاستقلالي
كالشك في
استحباب الغسل لقتل الوزغ وفي كراهة سؤر البقر ، ولا مجال هنا للتمسك بالأدلة
المتقدمة العقلية للبراءة والاحتياط. لوضوح اختصاص قاعدتي قبح العقاب بلا بيان
ووجوب دفع الضرر المحتمل العقليين باحتمال العقاب والضرر المختصين بالتكليف.
وكذا الحال في
بعض الأدلة النقلية ، كقوله تعالى : (وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً). وأدلة الاحتياط التي استدل بها الأخباريون المتضمنة
للتحذير من الأخذ بالشبهة خوفا من العقاب والهلكة.
نعم قد يدعى أن
إهمال الأحكام الاقتضائية غير الإلزامية وعدم امتثالها وإن لم يستوجب العقاب إلا
أنه يقتضي نحوا من الحزازة والبعد عن حظيرة المولى ، بل قد يقتضي نحوا من التبعة
ولو في الدنيا ، نظير ما تضمن أن الرجل يترك صلاة الليل فيحبس عنه الرزق.
فلو تم هذا لم
يبعد جريان نظير قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لأن ما سبق ـ من الحزازة والبعد
والتبعة ـ نحو من العقاب لا يحسن إلا مع قيام الحجة الكافية.
بل قد يصحح ذلك
شمول مثل حديث الرفع ، لأن ثبوت الأمور المذكورة يستلزم أن يكون في ثبوت الحكم
المذكور نحو من الضيق يصدق بلحاظه الرفع ، ويتحقق برفعه الامتنان. وأظهر من ذلك
قوله عليهالسلام في حديث حفص بن غياث : «من عمل بما علم كفي ما لم يعلم»
، وقوله عليهالسلام في معتبر حمزة بن الطيار : «إن الله يحتج على العباد
بما آتاهم وعرفهم» ، ونحوه مما تضمن أخذ
__________________
عنوان الحجية.
بل تقدم منا أن
الاستصحاب مطابق عملا للبراءة. وهو لا يختص بالأحكام الإلزامية ، بل يجري في غيرها
من الأحكام الاقتضائية بعد كونها أحكاما شرعية مجعولة مثلها.
المسألة الثانية : في الشك في تعيين الحكم مع وحدة المتعلق
كما لو دار
الأمر بين استحباب الشيء وكراهته. والظاهر أن ما سبق هناك من سقوط العلم الإجمالي
عن المنجزية جار هنا. كما أن ما أشرنا إليه هناك من احتمال ترجيح اقتضاء الترك
تقديما لاحتمال المفسدة جار هنا. غايته أنه ليس بنحو الإلزام لعدم كون الحكم
المحتمل إلزاميا.
لكن تقدم هناك
منع الاحتمال المذكور ، وأن المتعين التخيير ، فيكون المورد من موارد تزاحم
الاحتياطين ، وقد سبق في التنبيه الرابع من تنبيهات الفصل الأول أن الترجيح يكون
بأهمية التكليف وقوة الاحتمال. لكنه هنا ترجيح غير إلزامي.
المسألة الثالثة : في الشك في تعيين الحكم مع اختلاف المتعلق.
كما في العلم
إجمالا باستحباب أحد أمرين ، أو باستحباب شيء أو كراهة آخر. والظاهر أن ما تقدم في
منجزية العلم الإجمالي جار فيه ، لأن المناط فيه حجية العلم الذاتية من دون خصوصية
للمعلوم ، واختلاف المعلوم بالإلزام وعدمه إنما يقتضي اختلاف حكم العقل من حيثية
الإلزام بالاحتياط وتحسينه من دون إلزام.
كما أن ما سبق
في ضوابط سقوط منجزية العلم الإجمالي يجري هنا أيضا. وكذا ضوابط عدم جريان الأصول
في الأطراف ، كما يظهر بالتأمل فيها. بل ذكرنا هناك حكم العلم الإجمالي بأحد حكمين
اقتضائيين إلزامي وغيره ، كالعلم
بوجوب شيء واستحباب آخر. فراجع.
المسألة الرابعة» : في الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين
كما لو شك في
جزئية السورة للنافلة. وقد ذكر بعض مشايخنا قدسسره أنه لا مانع من الرجوع فيه لحديث الرفع ، لرفع شرطية
الجزء المشكوك في المركب ظاهرا.
لكنه لا يخلو
عن إشكال ، لأن المراد بذلك إن كان هو إثبات مجرد عدم استحباب الجزء ضمنا فقد سبق
الإشكال في نهوض حديث الرفع بنفي الاستحباب.
وإن كان هو
إثبات مشروعية العمل وصحته وتماميته بدونه فمن الظاهر أن حديث الرفع لا ينهض بذلك
في المركبات الواجبة فضلا عن المستحبة ، لأن مفاده الرفع لا غير.
نعم لو أريد
بالتمامية مجرد حصول ما هو المتنجز الواصل وإن لم يحرز أنه تمام المطلوب لم يحتج
في ذلك إلى أدلة البراءة ، للعلم بحصوله بمجرد الشك في جزئية الزائد أو شرطيته
وفرض عدم تنجزه.
كما أن الظاهر
كفاية ذلك في مقام التقرب والامتثال ، فلا يعتبر إحراز كون المأتي به تمام
المطلوب. ولذا أمكن التقرب بالأقل عند تردد الواجب بين الأقل والأكثر ، والتفريق
بين الواجب والمستحب في ذلك بلا فارق.
ولنكتف بهذا
المقدار من الكلام في القسم الأول من الوظيفة العملية عند فقد الحجة ، وهو الذي لم
تؤخذ فيه الحالة السابقة ، والذي ينحصر الأصل الجاري فيه بالبراءة والاحتياط
والتخيير. والحمد لله رب العالمين.
القسم الثاني
في الاستصحاب
وينبغي التمهيد له بذكر أمور ..
الأمر الأول : الاستصحاب لغة استفعال من الصحبة. ومن الظاهر مناسبته
للمقام ، لمناسبة التعبد ببقاء المشكوك لمصاحبته في الزمان اللاحق ، وادعائها عملا
، حيث قد تستعمل هيئة الاستفعال في البناء على تحقق المادة وادعاء ذلك ، كما في
الاستكبار والاستحسان والاستقذار.
أما بحسب
الاصطلاح فقد عرف بتعاريف كثيرة. ولعل الأنسب بمفاد النصوص تعريفه بأنه : التعبد
الظاهري ببقاء الشيء في زمان الشك ، لليقين بثبوته في الزمان السابق.
وأما بناء على
أخذه من حكم العقل أو بناء العقلاء ـ وغض النظر عن مفاد النصوص ـ فكما يمكن تعريفه
بما سبق يمكن تعريفه بما هو المنشأ له ، وهو كون الشيء متيقنا سابقا مشكوكا في
بقائه لاحقا.
والأول أنسب
بإطلاق لفظ الاستصحاب ، لما تقدم من استعمال هيئة الاستفعال بلحاظ ادعاء وجود
المادة والبناء عليها ، كما هو المناسب لعدّ بعضهم الاستصحاب من أقسام حكم العقل ،
لأن التعبد بالبقاء نحو من الحكم.
والثاني هو
المناسب لعدّ بعضهم له من الطرق والأمارات.
والأمر سهل ،
لعدم الأثر لتحديد المعنى الاصطلاحي ، بل يلزم النظر في مفاد الأدلة ، ولم يؤخذ في
شيء منها عنوان الاستصحاب.
الأمر الثاني : اشتهر في كلماتهم تعريف المسألة الأصولية بأنها القاعدة
الممهدة لاستنباط الحكم الشرعي الكلي. والظاهر من الحكم الكلي هو الكبرى الشرعية
العملية ، كوجوب الصلاة وحرمة الخمر.
وعليه يشكل
انطباق ذلك على الاستصحاب ، لأنه وإن جرى في الشبهات الحكمية ـ كنجاسة الماء الذي
يزول تغيره من قبل نفسه ـ إلا أن فعلية موضوعه ـ وهو اليقين والشك ـ إنما تكون في
الواقعة الشخصية التي يكون حكمها جزئيا لا كليا ، كما هو الحال في الاستصحاب
الجاري في الشبهات الموضوعية.
وليست فتوى
المجتهد بالحكم الكلي في ذلك إلا لوجود الضابط العام لتحقق موضوع الاستصحاب في
صغرياته غير المنحصرة ، لا لجريان الاستصحاب بالإضافة للقضية الكلية قبل الابتلاء
بوقائعها الشخصية. فهو نظير فتواه في موارد الشبهات الموضوعية ذات الضابط العام
الشامل لأفراد كثيرة ، كالفتوى بطهارة الماء لو شك في ملاقاته للنجاسة ، حيث يجري
الاستصحاب في صغرياتها ، لا في الكبرى ولو لم تكن لها صغرى فعلية. وبالجملة :
يشترك الاستصحاب الجاري في الشبهات الحكمية والجاري في الشبهات الموضوعية في أن
موضوعهما معا هو الموضوع الخارجي الجزئي ومفادهما هو الحكم الشرعي الجزئي وإنما
يفترقان في أن منشأ الشك في الشبهة الحكمية اشتباه حال الجعل الشرعي ، وفي الشبهة
الموضوعية اشتباه الأمر الخارجي.
نعم لا مجال
للإشكال المذكور بناء على ما سبق منا في أول الكتاب من تعريف علم الأصول بأنه
القواعد المقررة ليستعان بها على استنباط الأحكام الشرعية ، والوظائف العملية
الشرعية والعقلية في موارد الشبهات الحكمية ، حيث يدخل الاستصحاب في القسم الثاني
من التعريف وإن لم يكن مفاده حكما كليا.
وكيف كان
فالأمر غير مهم بعد أهمية مسألة الاستصحاب. وترتب الفروع الكثيرة عليها ، حيث يلزم
تحريرها هنا إما لكونها مسألة أصولية ، أو لقيامها مقامها في كونها مرجعا في
الشبهات الحكمية الذي هو الغرض المهم للأصولي.
بل المناسب
عموم الكلام في جريان الاستصحاب للشبهات الموضوعية ، لأنها وإن لم تناسب غرض
الأصولي إلا أن أهميتها وكثرة الفروع المترتبة عليها وعدم خصوصية الشبهة الحكمية
في كثير من جهات الكلام يقتضي التعميم المذكور.
الأمر الثالث : اختلف في الاستصحاب .. تارة : في كونه أمارة أو أصلا
عقلائيا أو تعبديا شرعيا وأخرى : في حجيته وعدمه مطلقا ، أو على تفصيل ناشئ من
الاختلاف في عموم دليله وخصوصه ، أو من الاختلاف في تحقق أركانه وشروطه في بعض
الموارد. وقد كثرت الأقوال في ذلك حتى حكي عن بعضهم أنها بلغت نيفا وخمسين قولا.
وحيث لا مجال
لإطالة الكلام في تفاصيل الأقوال المذكورة فاللازم النظر في الأدلة وتحديد مفادها
، ليتضح منها حال تلك الأقوال تفصيلا أو إجمالا ، مع إهمال ما احتج به لكل منها ،
لضيق المجال عن ذلك وقلة الفائدة فيه. ثم ينظر بعد ذلك في الموارد المهمة التي وقع
الكلام في تحقق أركانه فيها.
ومن هنا كان
المناسب الكلام في مباحث ثلاثة : يبحث في الأول منها عن أدلة المسألة وعن تحديد
مدلولها ، ليظهر حاله من حيثية كونه أمارة أو أصلا عاما أو خاصا ، وفي الثاني عن
أركانه وشروطه العامة وما يناسب ذلك ، وفي الثالث عن الموارد التي وقع الكلام في
تمامية تلك الأركان والشروط فيها.
ثم إن شيخنا
الأعظم قدسسره استطرد في الخاتمة إلى ذكر حال الاستصحاب مع بعض
القواعد من حيثية تقديمها عليه أو تقديمه عليها ، واستوفى الكلام في
جملة من تلك القواعد. ويحسن بنا متابعته في ذلك ، لأن أهمية تلك القواعد وخروجها
عن صلب الكلام في الاستصحاب ومناسبتها له في الجملة يناسب جدا ذكرها في خاتمته.
وسوف نجري على
هذا المنهج إن شاء الله تعالى مستمدين منه العون والتوفيق والتأييد والتسديد ، وهو
حسبنا ونعم الوكيل.
المبحث الأول
في أدلة الاستصحاب
وقد استدل عليه
بوجوه كثيرة.
وما ينبغي لنا التعرض له أمور ..
الأول : الإجماع المدعى عليه في الجملة من بعضهم. فعن المبادي
دعوى إجماع الفقهاء على البناء على بقاء الحكم عند الشك في طروء رافعه ، وعن
النهاية دعواه على البناء على بقاء كل شيء عند اليقين بثبوته والشك في رافعه. بل
قد يظهر من بعض الأعاظم قدسسره وجود مدعي الإجماع على حجية الاستصحاب مطلقا.
لكن لا مجال
للتعويل على مثل هذه الدعاوى في مثل هذه المسألة التي كثرت فيها الأقوال واختلفت
فيها مباني الاستدلال. نعم الظاهر تحقق الإجماع على الرجوع إليه في خصوص بعض
الفروع في الشبهات الموضوعية التي هي غالبا مورد النصوص ، كالشك في الطهارة بعد
النجاسة أو الحدث ، أو العكس. إلا أنه لا يناسب اهتمام الأصولي به.
الثاني : بناء العقلاء على ذلك في جميع أمورهم ، كما ادعاه
العلامة قدسسره في محكي كلامه. بل ربما ادعي اختلال النظام بدونه. كما
قد يقال : إنه أمر فطري لكل ذي شعور ، ولا يختص بالإنسان ، حيث تطلب الحيوانات
الماء والكلاء من مواضعها المعهودة لها ، وتطلب الاستقرار والأمان في مواضعها التي
قد ألفتها.
هذا وقد اختلفت
كلماتهم .. تارة : في ثبوت البناء المذكور وعدمه ، مطلقا أو على تفصيل وأخرى : في حجيته على تقدير ثبوته.
أما الأول فهو
غير ظاهر ، لأن المهم في المقام هو بناؤهم على العمل عليه بما أنه أمر يصح
الاعتماد عليه في مقام التنجيز والتعذير ـ المستتبعين للعقاب والثواب ـ في مورد
الالتفات والشك ، نظير أصالة الظهور وأصالة عدم الخطأ والغفلة. ولا يكفي العمل عليه
غفلة عن احتمال تبدل الحال ، لعدم ما يثيره ، أو للاطمئنان بعدم تبدله ، لغلبة أو
نحوها ، أو للاحتياط في موافقة احتمال الواقع ورجاء تحصيله.
إذا عرفت هذا
فالمتيقن من بناء العقلاء وسيرتهم أو سيرة كل ذي شعور إنما هو العمل على طبق
الحالة السابقة لأحد الوجوه المتقدمة التي لا تنفع في المطلوب ، لا العمل عليه
بالنحو المهمّ في المقام. من دون فرق في ذلك بين الشك في المقتضى والغاية والرافع.
حيث لا طريق لنا لتحصيل اليقين ببنائهم على الرجوع للاستصحاب فيها جميعا أو في
بعضها في مقام التعذير والتنجيز ، بنحو يتحصل لهم سيرة معتد بها صالحة للاحتجاج.
نعم لا إشكال
في بنائهم عليه في الجملة في مقام التعذير والتنجيز في خصوص بعض الموارد ، كموارد
الشك في السلامة والشك في النسخ ، وعدول صاحب الرأي عن رأيه ، وفي القرينة الصارفة
عن ظاهر الكلام وغير ذلك. إلا أن ذلك لخصوصية الموارد المذكورة مع قطع النظر عن
الاستصحاب ، فلا يكشف بناؤهم عليها عن بنائهم على الرجوع للاستصحاب الذي هو محل
الكلام.
وأما الثاني ـ وهو
حجية بناء العقلاء لو تمّ في المقام ـ فيظهر الكلام فيه مما تقدم في ذيل الكلام في
أصالة عدم الحجية من التمهيد للكلام في مباحث الحجج ، فقد ذكرنا أن بناء العقلاء
وسيرتهم إذا كانا ناشئين عن مرتكزاتهم التي أودعها الله تعالى فيهم وغرائزهم التي
فطرهم عليها ـ كما هو المدعى في المقام ـ كانا تمام المقتضي للحجية ، من دون حاجة
للإمضاء ، بل لا بد في رفع اليد عن
مقتضاهما من ثبوت ردع الشارع عنها. وليس هناك ما يصلح للردع إلا عموم
الأدلة الناهية عن العمل بغير العلم ، وتقدم عند الكلام في أصالة عدم الحجية عدم
ثبوت العموم المذكور ، ولا سيما بنحو ينهض بالردع عن الطرق أو الأصول العقلائية
الإحرازية التي منها المقام.
الثالث : الأخبار. وهي عمدة أدلته ، وعليها اعتمد المتأخرون ،
واهتموا بتقريب دلالتها وتحديد مدلولها. وقد استدل عليه بنصوص كثيرة.
منها : صحيحة زرارة : «قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء أتوجب
الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال : يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب
والأذن ، فإذا نامت العين والأذن والقلب [فقد. يب] وجب الوضوء.
قلت : فإن حرك
على [إلى. يب] جنبه شيء ولم يعلم به؟ قال : لا حتى يستيقن أنه قد نام ، حتى يجىء
من ذلك أمر بيّن ، وإلا فإنه على يقين من وضوئه ، ولا تنقض [ينقض. يب] اليقين أبدا
بالشك ، وإنما تنقضه [لكن ينقضه. يب] بيقين آخر» .
ولا يمنع من
صحة الاستدلال بها إضمارها بعد ذكر الأصحاب لها في الكتب المعدة لجمع أحاديث
المعصومين عليهمالسلام. ولا سيما بعد كون الراوي لها زرارة ، الذي هو من أعيان
أصحابهم الراوين عنهم عليهمالسلام ، حيث لا يحتمل من مثله استفتاء غير الإمام عليهالسلام ، ولا سيما مع اشتمال الرواية على التفريع والتدقيق.
على أنها قد
أسندت للإمام الباقر عليهالسلام في الحدائق ومحكي الفوائد للسيد بحر العلوم والفوائد
المدنية للأسترآبادي. وإن لم يظهر لنا مأخذ ذلك بعد روايتها مضمرة في التهذيب
والوسائل.
__________________
ولا ريب في
دلالتها على الرجوع للاستصحاب في موردها ، وإنما الكلام في دلالتها على عموم
الرجوع إليه كما استدل بها عليه غير واحد ، ثم في تحديد ذلك العموم.
وتوضيح ذلك :
أن قوله عليهالسلام : «وإلا ...» لما كان راجعا إلى جملة شرطية تقديرها :
وإن لم يجئ من ذلك أمر بيّن ... فقد وقع الكلام في جزاء الشرطية المذكورة ،
والمذكور في كلماتهم احتمالات ثلاثة.
الأول
: أن يكون
محذوفا مقدرا ، نظير قوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ
فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) وقوله سبحانه : (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ
سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) وقوله عزّ اسمه : (إِنْ تَتُوبا إِلَى
اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ
مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ
ظَهِيرٌ) وغيرها.
والتقدير في
المقام : وإلا فلا يجب عليه الوضوء ، لأنه على يقين من وضوئه ....
الثاني : أن يكون هو قوله عليهالسلام : «فإنه على يقين من وضوئه» ، بأن تكون جملة انشائية
قصد بها بيان لزوم ترتيب أثر اليقين بالوضوء مع الشك المذكور.
الثالث : أن يكون هو قوله عليهالسلام : «ولا ينقض اليقين بالشك أبدا» ، ويكون قوله عليهالسلام : «فإنه على يقين من وضوئه» توطئة لذلك.
أما الوجه
الثالث فلم أعثر على من التزم به ، وإنما ذكر احتمالا في كلامهم. ولا مجال له ،
لأن توطئة الحكم راجعة إلى تعليله وبيان موضوعه ، نظير قولنا : إن جاء زيد فحيث
كان عالما بالفقه يجب إكرامه ، وهو لا يناسب عطف الجملة الثانية على الأولى في
الصحيحة ، بل يقتضي تصدير الأولى بما
__________________
يناسب سوقها لتمهيد الثانية وربطهما بما يقتضي تفريع الثانية عليها ، كما
في المثال المذكور.
ومن هنا لا يهم
الكلام في مفاد الصحيحة على الوجه المذكور ، وإن كان الظاهر أن مقتضاه عموم جريان
الاستصحاب لجميع موارد الشك في الوضوء ، لأن موضوع الشرطية وإن كان هو خصوص الشك
في النوم ، المناسب لكون ذلك هو موضوع الحكم في الجزاء بعدم انتقاض اليقين ، إلا
أن توطئة ذلك الحكم بقوله عليهالسلام : «فإنه على يقين من وضوئه» راجع إلى أن موضوع عدم
النقض بالشك هو مطلق عدم اليقين بالوضوء ، كما يظهر بملاحظة المثال الذي سبق
التنظير به.
وأما التعميم
لليقين بغير الوضوء فلا وجه له إلا دعوى : أن المناسبات الارتكازية تقتضي إلغاء
خصوصية الوضوء ، ولا سيما مع إشعار قوله : «أبدا» في عدم شأنية اليقين للانتقاض
بالشك. إلا أن ذلك لو تم لا يبلغ مرتبة الظهور الحجة. والأمر سهل بعد ما سبق من
عدم تمامية الوجه المذكور.
وأما الوجه
الثاني فهو الذي أصر عليه بعض الأعاظم قدسسره بعد أن استشكل في الوجه الأول بما يأتي ، وأصرّ أيضا
على أن مقتضاه عموم جريان الاستصحاب ، بدعوى عدم دخل التقييد بالوضوء في الحكم ،
وإنما ذكر لخصوصية مورد السؤال ، بل ذكر أنه لا مجال لاحتمال دخل خصوصيته ، كي
يقال : إنه يكفي الاحتمال في سقوط الاستدلال.
ويشكل ما ذكره
من وجهين : الأول : أن الوجه المذكور بعيد في نفسه جدا أولا : لأن حمل قوله عليهالسلام : «فإنه على يقين ...» على الإنشاء ، لبيان لزوم ترتيب
أثر اليقين بالوضوء ، بعيد عن ظاهره جدا ، إذ لم يعهد جعل اليقين بنفسه وادعائه
بمثل هذا التركيب.
وثانيا
: لأن مرجع ذلك
إلى عدم وجوب الوضوء المبين أولا من دون زيادة فائدة ، فهو تكرار مستهجن.
وثالثا
: لأن ذلك لا
يناسب قوله بعد ذلك : «ولا ينقض اليقين أبدا بالشك».
إذ المراد
باليقين فيه إن كان هو اليقين التعبدي بجعل هذه الجملة مؤكدة لما قبلها ، فعدم
نقضه بالشك لازم لفرضه. مضافا إلى ما فيه من التفكيك بين اليقين ومقابله ، وهو
الشك ، الذي لا إشكال في كون المراد منه الحقيقي. وإن كان هو اليقين الحقيقي
السابق بجعلها مفسرة لما قبلها ، فهو لا يخلو عن تكلف. مع ما فيه من التفكيك بين
اليقينين في الجملتين ، بحمل الأول على التعبدي ، والثاني على الحقيقي.
الثاني : أن ما ذكره من استفادة التعميم ـ بناء على الوجه
المذكور ـ لا يرجع إلى محصل ، فإن اليقين بالوضوء ـ على هذا الوجه ـ ليس موضوعا
للحكم ليمكن إلغاء خصوصية الوضوء ، بل هو بنفسه محكوم به ، فعمومه لعموم موضوعه ،
وحيث كان موضوع الجزاء تابعا لموضوع الشرط تعين اختصاص الحكم بالشك في النوم.
وبعبارة أخرى : مقتضى الوجه المذكور أن مرجع الشرطية إلى قولنا : وإن لم يجئ من
النوم أمر بين فهو بحكم المتيقن بالوضوء ، ولا إشكال في عدم دلالة الجملة حينئذ
على العموم. ولو فرض القطع بالعموم كان هو الحجة عليه ، لا الشرطية المذكورة.
ومن هنا كان
الأظهر هو الوجه الأول في الجملة ، وهو الذي أصر عليه شيخنا الأعظم قدسسره وجماعة ممن تأخر عنه.
وقد استشكل فيه
بعض الأعاظم قدسسره بأن لازمه التكرار في الجواب وبيان الحكم المسئول عنه
مرتين ، لأن الحكم بعدم الوضوء قد ذكر أولا بقوله : «لا حتى يستيقن ...» وهو لا
يخلو عن حزازة. ودعوى : أنه لا تكرار مع حذفه وإقامة
العلة مقامه. مدفوعة بأن المحذور ليس في تكرار ذكره صريحا ، بل في تكرار
بيانه ، وحذفه وإقامة العلة مقامه لا ينفك عن قصده بالبيان.
وقد أجاب عن
ذلك شيخنا الأستاذ قدسسره بأن تكرار الحكم بعدم إعادة الوضوء ليس مقصودا بالبيان
بنفسه ، ليكون منشأ للحزازة في البيان ، بل للتمهيد لبيان علته والاستدلال عليه ،
وهو كاف في رفع اللغوية والحزازة.
وما ذكره وإن
كان كافيا في الجواب عن الإشكال ، إلا أن الظاهر أن دعوى حذف الحكم لا يخلو عن
تسامح للمحافظة على القواعد النحوية من كون الجزاء جملة واحدة ، وإلا فالتأمل قاض
بكون الجزاء كلتا الجملتين ، وقد سيقتا للتنبيه لعلة الحكم لسدّ حاجة المخاطب
للقناعة بالحكم ، أو لمعرفة الضابط العام في أمثاله ، فكأنه قيل : وإن لم يجئ من
ذلك أمر بين فليلتفت إلى أنه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين أبدا بالشك.
فالجزاء هو علة الحكم بنفسها ، وما هو المقصود من ذكرها استيضاح الحكم ورفع
الاستيحاش منه ، لا الحكم بنفسه ، ليلزم التكرار.
على أن علوّ
متن الصحيحة ، وقوة ظهوره في سوق القضيتين مساق التعليل للحكم والاستدلال عليه ،
ملزمان بالبناء على هذا الوجه وعدم التعويل على مثل الإشكال المذكور في الخروج عنه
، بل هو كالشبهة في مقابل البديهة ، حيث يكشف ذلك إجمالا إما عن عدم لزوم التكرار
، أو عدم لزوم الحزازة منه ، ولا سيما مع ما سبق من وهن الوجهين الآخرين جدا ،
وعدم مناسبتهما للتركيب المذكور.
وحينئذ يلزم
النظر في مفاد الصحيحة بناء على هذا الوجه ، فنقول : صلوح الجملتين لتعليل الحكم
والاستدلال عليه إنما هو بلحاظ كونهما قياسا من الشكل الأول منتجا للمطلوب ،
ومقتضى عموم كبرى القياس المذكور ،
وهي قوله : «ولا ينقض اليقين أبدا بالشك» جريان الاستصحاب مطلقا من دون
خصوصية الشك في بقاء الوضوء ، فضلا عن خصوصية الشك في النوم.
إن
قلت : هذا موقوف
على كون اللام في «اليقين» الذي تضمنته الكبرى المذكورة للجنس ، لا للعهد بلحاظ
اليقين الذي تضمنته الصغرى ، وإلا كان مختصا باليقين بالوضوء.
قلت : لا مجال للعهد في المقام ، لأن اليقين في الصغرى قد
أخذ في الحكم لا في الموضوع ، ومن الظاهر أن الحكم تابع لموضوعه سعة وضيقا ، وحيث
كان موضوع الصغرى هو موضوع جملة الشرط ، وهو الشك في النوم ، فاليقين المحكوم به
هو اليقين بالوضوء في مورد الشك في النوم ، لا مطلقا ، فلو كانت اللام للعهد كان
موضوع القضية الثانية هو خصوص اليقين المذكور ، وخرجت عن كونها كبرى عامة واردة
مورد الاستدلال ، بل تكون عين الدعوى وتكرارا لها من دون فائدة.
وغاية ما يمكن
في توجيه دعوى اختصاص الكبرى باليقين بالوضوء هو كون اليقين في الكبرى مقيدا
بالوضوء بقرينة تقييده به في الصغرى ، مع كون اللام جنسية ، ليشمل الشك من غير جهة
النوم ، كي تصلح لأن تكون كبرى للصغرى المذكورة. إلا أنه لا مجال له ، لأنه تقييد
للإطلاق من غير ملزم. ومجرد تقييده في الصغرى لا يقتضيه.
إن
قلت : شرط القياس
تكرر الأوسط في القضيتين ، وحيث كان المتكرر هنا هو اليقين فلا بد من إلغاء القيد
المذكور في الصغرى ، أو المحافظة عليه وجعله قرينة على التقييد في الكبرى ، وليس
الأول بأولى من الثاني ، ولا أقل من الإجمال المانع من الاستدلال.
قلت : لا بد من البناء على إلغاء القيد المذكور في الصغرى ،
لا بمعنى عدم
كونه مقصودا بالبيان ـ فإنه خلاف المقطوع به ـ بل بمعنى كونه مذكورا مراعاة
للمورد من دون أن يكون دخيلا في الاستدلال حفاظا على الإطلاق في الكبرى ، كما يظهر
بملاحظة النظائر ، كقولنا : زيد ضارب عمرا ، والضارب يقتص منه ، و : علي عالم
بالنحو ، والعالم في هذا الزمان يجب إكرامه ، و : زيد مدرس للفقه ، والمدرس يجب
تشجيعه ، و : هذا الكتاب مفيد للمبتدئ والكتاب المفيد يلزم نشره ... إلى غير ذلك.
هذا مضافا إلى
ما أشار إليه غير واحد من أن التعميم هو المناسب لكون التعليل ارتكازيا ، لعدم
خصوصية الوضوء في الجهة الارتكازية المقتضية للعمل على اليقين السابق ، فلو أخذت
فيه كان التعليل تعبديا ، وهو خلاف ظاهر التعليل ، لأنه مسوق لتقريب الحكم إلى ذهن
السامع ، خصوصا من مثل الإمام عليهالسلام الذي لا يكلف بالاستدلال.
إن
قلت : هذا لا
يناسب ما تقدم من إنكار السيرة الارتكازية على الاستصحاب ، إذ وجود الجهة
الارتكازية المقتضية للعمل على اليقين السابق يستلزم جري العقلاء عليها في أمورهم.
قلت : لا تتوقف ارتكازية التعليل على بلوغ الارتكاز حدا
يقتضي العمل بنفسه ، ليكون ملازما للسيرة ، بل يكفي فيه إدراك العقلاء للجهة
المناسبة للجعل الشرعي ، التي يكون العمل عليها مقبولا عندهم ، وإن لم يكن لازما
لو لا الجعل ، ليستلزم قيام السيرة عليه.
فمثلا : إذا
قال المولى : زر زيدا لأنه أحسن إليك ، فالتعليل المذكور ارتكازي ، إلا أنه ليس
بنحو يستلزم السيرة الارتكازية على استحقاق المحسن للزيارة ، بحيث تنهض السيرة
بإثباته وتكشف عن الجعل المولوي من دون حاجة لثبوت الأمر به من المولى. وكذا تعليل
اعتصام ماء البئر وطهارته بزوال
التغير بأن له مادة ، فإنه وإن كان ارتكازيا إلا أن الارتكاز المذكور لا
يكفي في استكشاف الحكمين ، بنحو يخرج به عن عمومات الانفعال واستصحاب النجاسة لو
لا الجعل الشرعي ... إلى غير ذلك.
ومن ثم لا
نلتزم بأن مفاد التعليل في المقام إمضاء بناء العقلاء على العمل بالاستصحاب ،
ليكون قاصرا عما لو علم بعدم عملهم به ، كما لو ظن بانتقاض الحالة السابقة ، بل هو
حكم تعبدي للشارع الأقدس يتمسك بإطلاق دليله في المورد المذكور وإن كان ارتكازيا
في الجملة ، بلحاظ أن في الجري على مقتضى اليقين السابق جهة ارتكازية تناسب جعله
في مقام ضرب القاعدة العملية عند الشك.
والحاصل : أنه
لا ينبغي التأمل في ظهور الكبرى المذكورة في عموم الرجوع للاستصحاب من دون خصوصية
للشك في انتقاض الوضوء ، كما هو مقتضى إطلاق اليقين المناسب للارتكاز ، ولا يصلح
التقييد في الصغرى لرفع اليد عن ذلك.
ومنها : صحيحة أخرى لزرارة : «قلت [لأبي جعفر عليهالسلام : إنه. ع] أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره ، أو شيء من مني ،
فعلّمت أثره إلى أن أصيب له الماء ، فأصبت [الماء. ع [وحضرت الصلاة ونسيت أن بثوبي
شيئا وصليت ، ثم إني ذكرت بعد [ذلك. يب] قال : تعيد الصلاة وتغسله.
قلت : فإني [فإن.
ع] لم أكن رأيت موضعه و [قد. ع] علمت أنه أصابه فطلبته فلم أقدر عليه فلما صليت
وجدته. قال : تغسله وتعيد.
قلت [قال. ع] :
فإن ظننت أنه قد أصابه ولم أتيقن ذلك ، فنظرت فلم أر شيئا ثم صليت فرأيت [فرأيته.
ع] فيه [بعد الصلاة. ع] قال : تغسله ولا تعيد الصلاة. قلت : لم ذلك؟ [ولم ذاك. ع]
قال : لأنك كنت على يقين من طهارتك ،
فشككت [نظافتك ، ثم شككت. ع] فليس لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا. قلت :
فإني قد علمت أنه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله. قال : تغسل من ثوبك الناحية
التي ترى أنه [قد. يب] أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك [طهارته. قال. ع] قلت :
فهل علي إن شككت في أنه أصابه أن انظر فيه [فأقلبه. ع]؟ قال : لا ، ولكنك إنما
تريد [بذلك. ع] أن تذهب الشك الذي وقع في نفسك قلت : إن [قال : فإن. ع] رأيته في
ثوبي وأنا في الصلاة. قال : تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته [فيه.
ع] ، وإن لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت [الصلاة. يب] وغسلته ، ثم بنيت على الصلاة ،
لأنك [فإنك. ع] لا تدري لعله شيء أوقع [وقع. ع] عليك ، فليس ينبغي [لك. ع] أن تنقض
اليقين بالشك [بالشك اليقين. ع]» .
ولا يضر
إضمارها في التهذيب بعد روايته لها عن زرارة بطريق صحيح ، بضميمة ما تقدم في
الصحيحة الأولى ، وبعد روايتها في العلل عن أبي جعفر عليهالسلام بطريق صحيح أيضا.
ثم لا يخفى أن
الاستدلال بها بلحاظ التعليل في صدرها وذيلها بالقياس المتضمن لكبرى الاستصحاب ،
الظاهر في العموم بالتقريب المتقدم في الصحيحة الأولى. وأما قوله عليهالسلام : «تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها حتى
تكون على يقين من طهارتك». فهو وإن كان مطابقا لمفاد الاستصحاب إلا أنه مختص
بمورده ، والتعدي عنه إنما يكون بإلغاء خصوصيته عرفا تبعا للمناسبات الارتكازية
التي يغني عنها عموم التعليل المذكور.
هذا وقد يستشكل
في الاستدلال بصدرها من وجهين :
__________________
الأول : أنه لا ملزم بحمل اليقين بالطهارة على اليقين بتحققها
في الزمان السابق على إصابة النجاسة المحتملة ، وحمل الشك على الشك في بقائها في
زمان الإصابة المحتملة ، ليكون من موارد الاستصحاب ، ويلزم حمل الكبرى عليه.
بل قد يكون
المراد باليقين بالطهارة هو اليقين حين الصلاة الحاصل بسبب الفحص وعدم الوجدان ،
ومن الشك هو الشك في وجوده حينها أيضا الحاصل من رؤيته بعدها ، حيث قد يكون ذلك
سببا في تزلزل اليقين المذكور وتبدله بالشك ، للتردد بين سبق النجاسة المرئية ـ وعدم
استيعاب الفحص ـ وتجددها بعد الصلاة ـ نظير ما تضمنه الذيل ـ فيكون المورد من
موارد قاعدة اليقين ، ويلزم حمل الكبرى على القاعدة المذكورة ، وتخرج عن محل
الكلام.
ويندفع بأن
حصول اليقين من الفحص محتاج إلى عناية لم يشر إليها. ولا سيما مع سبق فرض عدم
الوجدان بالفحص مع اليقين بالإصابة في قوله : «علمت أنه أصابه فطلبته فلم أقدر
عليه». بل المنسبق منه بقاء الشك ، وإلا فاليقين المسبب عن الفحص المستوعب لا
يتزلزل غالبا برؤية النجاسة بعد ذلك مع فرض إمكان تجددها بعد الصلاة.
كما أن كون
رؤيته بعد الصلاة مثيرا لاحتمال رؤيته بعدها بنحو يقتضي تزلزل اليقين ، وتبدله
بالشك ـ ليكون من صغريات قاعدة اليقين ـ محتاج إلى عناية أيضا ، ولذا نبه له
الإمام عليهالسلام في الذيل ، فعدم تنبيه السائل عليه ظاهر في عدمه.
على أن ظاهر
سؤال زرارة عن العلة لعدم الإعادة في الفرض المذكور هو مشاركته للفرضين السابقين ـ
اللذين حكم فيهما بإعادة الصلاة ـ في وقوع الصلاة حال النجاسة. ولو كان المفروض
فيه الشك في ذلك لما كان بينه وبين
الفرضين السابقين جهة مشتركة ، تثير السؤال عن وجه اختصاصه بعدم الإعادة من
بينهما ، بل كان عدم الإعادة واضح الوجه ، لأنه مقتضى استصحاب الطهارة ، وقاعدة
الفراغ ، وقاعدة اليقين بناء على حجيتها.
ومن ثم كان
ظاهر الصدر إرادة ما يناسب الاستصحاب. بل هو المتعين بناء على ما في العلل من
روايته هكذا : «ثم صليت فرأيته فيه» لظهوره في كون المرئي هو الذي ظن إصابته أولا.
والظاهر حجية ما في العلل ، لأن نسبته لرواية التهذيب نسبة المبين للمجمل ، وليسا
من سنخ المتعارضين بعد إمكان النقل بالمعنى.
الثاني : أن عدم نقض اليقين بالشك إنما يصلح لأن يكون تعليلا
لجواز الدخول في الصلاة ظاهرا ، للشك حينه في النجاسة ، لا لعدم وجوب الإعادة
واقعا بعد فرض انكشاف وقوع الصلاة مع النجاسة وفقدها للشرط ، بل تكون الإعادة
حينئذ نقضا لليقين باليقين.
ويندفع بأن
التعليل بالاستصحاب إنما يتم بضميمة صحة الصلاة مع النجاسة عن عذر غير النسيان
المعلوم من النصوص والفتاوى ، والذي لا يبعد وضوحه لزرارة ، ولذا اكتفي بالتعليل
بالاستصحاب.
فالغرض من
التعليل بيان تحقق العذر الذي تصح معه الصلاة واقعا بالاستصحاب في مفروض السؤال ،
فرقا بينه وبين الفرض السابق الذي لا يجري فيه الاستصحاب ، وإن اشتركا في الصلاة
في النجاسة وعدم وجدانها بالفحص قبل الصلاة.
على أن خفاء
وجه التعليل وانطباق كبرى الاستصحاب على المورد ـ لو تم ـ لا يمنع من التمسك بها
بعد وفاء الكلام بالدلالة عليها. فلا مخرج عن ظهور الكبرى في الاستصحاب ، ويتعين
حجيتها فيه.
هذا كله في
الاستدلال بالتعليل الذي تضمنه الصدر. وأما التعليل الذي تضمنه الذيل فقد يشكل
الاستدلال به بما أشار إليه شيخنا الأعظم قدسسره من أن تفريع عدم نقض اليقين بالشك على احتمال تأخر وقوع
النجاسة مانع من حمل اللام على الجنس ، ليكون مشيرا لكبرى الاستصحاب ، لأن ظاهر
التفريع بالفاء ترتب ما بعدها على ما قبلها ، ـ نظير ترتب المعلول على العلة ،
والحكم على الموضوع ـ ولا ترتب بين الصغرى والكبرى ، وإنما المترتب على الصغرى
والذي يصح تفريعه عليها هو النتيجة التي يكون موضوعها مطابقا لموضوع الصغرى ، لا
أعم منه ، وذلك يناسب حمل اللام على العهد ، لبيان عدم جواز نقض اليقين الحاصل في
المورد بالشك الحاصل فيه ، الذي هو مفاد نتيجة القياس ، لا كبراه.
وحينئذ لا مجال
لاستفاد عموم الاستصحاب من القضية المذكورة إلا بضميمة إلغاء خصوصية المورد ، وأنه
ليس من شأن اليقين أن ينقض بالشك مطلقا ، كما هو غير بعيد. بل يتعين بلحاظ ورود
القضية مورد التعليل ، محافظة على ارتكازية التعليل ، على ما سبق توضيحه في
الصحيحة الأولى ، حيث يتعين حينئذ ابتناء التعليل على طىّ كبرى الاستصحاب العامة.
ثم إن هذا
الإشكال لا يرد في الصدر بناء على ما أثبته شيخنا الأعظم قدسسره من روايته بالواو لا بالفاء. لكن تقدم منا روايته
بالفاء تبعا للتهذيب والعلل المطبوعين في النجف الأشرف والوسائل الحديثة. وحينئذ
قد يتوجه الإشكال المذكور فيه أيضا. إلا أن حمله على العهد وبيان حكم خصوص المورد
لا يناسب ما تضمنه من التأييد جدا.
وحينئذ لا بد
إما من كون الصحيح فيه هو العطف بالواو ـ كما أثبته شيخنا الأعظم قدسسره ـ أو يكون ذكر الفاء للتوسع والتسامح في تفريع الكبرى
على الصغرى ، وإن كان هو خلاف الظاهر في نفسه. فإن تمّ هذا الأخير لم يبعد كونه
صالحا للقرينية على إرادة العموم من الذيل ، لأن الظاهر منه الإشارة إلى ما
تقدم في الصدر.
وقد تحصل من
جميع ما تقدم : أن الصحيحة ـ بصدرها وذيلها ـ وافية ببيان عموم الاستصحاب ، إما
لوفاء تركيب الكلام له بنفسه ، أو بضميمة لزوم حمل التعليل على كونه ارتكازيا.
ومنها : صحيحة ثالثة لزرارة عن أحدهما عليهماالسلام : «قلت له : من لم يدر في أربع هو أم في ثنتين؟ قال :
يركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ، ويتشهد ولا شيء عليه. وإذا لم
يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث قام فأضاف إليها أخرى ، ولا شيء عليه ،
ولا ينقض اليقين بالشك ، ولا يدخل الشك في اليقين ، ولا يخلط أحدهما بالآخر. ولكنه
ينقض الشك باليقين ، ويتم على اليقين ، فيبني عليه ، ولا يعتد بالشك في حال من
الحالات» .
وقد يستدل
بقوله عليهالسلام : «ولا ينقض اليقين بالشك» الذي هو بلسان كبرى
الاستصحاب التي تقدمت في الصحيحتين الأوليين.
وقد استشكل فيه
بوجوه عمدتها ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدسسره من أن قوله عليهالسلام : «قام فأضاف إليها أخرى» إن أريد به الإتيان بالركعة
متصلة بما قبلها كان مطابقا للاستصحاب ، إلا أنه جار على مذهب العامة ، ومخالف لما
عليه الإمامية من علاج الشك المذكور بركعة مفصولة ـ هي صلاة الاحتياط ـ ولظاهر
الفقرة الأولى المتضمنة للإتيان بالركعتين بفاتحة الكتاب ، لوضوح عدم تعين
__________________
الفاتحة في الأخيرتين من الرباعية ، بل قوله عليهالسلام : «يركع ركعتين ...» ظاهر في إرادة الصلاة المستقلة ،
وإلا كان المناسب أن يقول : «يأتي بركعتين». كما أنه لا يناسب بقية الفقرات
الناهية عن إدخال الشك في اليقين وخلط أحدهما بالآخر.
ومن هنا كان
الظاهر من قوله عليهالسلام : «قام فأضاف إليها أخرى» إرادة الإتيان بركعة مفصولة
هي صلاة الاحتياط ، كما هو الظاهر في الأمر بالركعتين قبل ذلك ، ويكون قوله عليهالسلام : «ولا ينقض اليقين بالشك» تعقيبا عليهما معا ، مع كون
المراد باليقين فيه اليقين ببراءة الذمة الحاصل من علاج الشك بصلاة الاحتياط ـ في
مقابل البناء على الأكثر والاكتفاء به ، أو على الأقل وإضافة المشكوك له متصلا به
، اللذين يشك في براءة الذمة واقعا بهما ـ أو اليقين بصحة المأتي به ومشروعيته ،
مع كون المراد بنقضه بالشك احتمال إبطاله بإضافة الركعة له أو نقصها منه ، أو يراد
نقض المتيقن الصحة ـ وهو المأتي به ـ بإبطاله واستئناف الصلاة بسبب الشك ، أو نحو
ذلك مما يناسب علاج الشك بصلاة الاحتياط. وحينئذ تكون أجنبية عن الاستصحاب.
هذا وقد أجيب
عن ذلك بوجوه الأول : ما أشار إليه المحقق الخراساني قدسسره من أن تطبيق كبرى الاستصحاب إنما هو بلحاظ أصل الإتيان
بالركعة ، وأن وجوب فصلها حكم آخر مستفاد من دليل آخر مقيد لإطلاق دليل الاستصحاب
المقتضي لترتيب تمام الآثار ، ومنها وصل الركعة ، فلا يلزم في المقام إلا تقييد
إطلاق دليل الاستصحاب ، لا إلغاؤه بالمرة ، ليمتنع حمل القضية عليه.
ولا يخفى أن
هذا الوجه مبني على كون وجوب الإتيان بما يحتمل نقصه ظاهريا ، مع كونه منوطا واقعا
بعدم الإتيان به ، بحيث لو لم يأت به واكتفى بالسلام على ما تيقن برجاء تمامية الصلاة
وصادف تماميتها واقعا صحت صلاته.
كما أن كون
دليل فصل صلاة الاحتياط مقيدا لعموم الاستصحاب مبني على كون وجوب الفصل ظاهريا
مراعاة لاحتمال تمامية المتيقن ، بحيث لو وصل برجاء النقص وصادف النقص واقعا صحت
الصلاة. أما بناء على أن وجوب الإتيان بالركعة المنفصلة واقعي ثانوي ، لتبدل الحكم
الواقعي في حال الشك ، فالوجوب المذكور لا يبتني على الاستصحاب ، ولا على تقييد
دليله.
إذا ظهر هذا
فأعلم أنه يشكل هذا الوجه بعدم ظهور الحديث في بيان وجوب أصل الإتيان بالمشكوك ،
بل في بيان وجوب خصوص صلاة الاحتياط المنفصلة ، كما يناسبه ملاحظة صدره ، والنهي
عن إدخال الشك في اليقين وعن خلط أحدهما بالآخر ، وشدة تأكيد الحكم والاهتمام
بتوضيحه ، مع أن أصل الإتيان بالمشكوك مستغن عن ذلك ، لمطابقته للاستصحاب ،
والمرتكزات.
كما أن تأكيد
قوله عليهالسلام : «ولا ينقض اليقين بالشك» بالفقرات الأخيرة خصوصا قوله
عليهالسلام : «ولا يعتد بالشك في حال من الحالات» لا يناسب تخصيصه
في وجوب فصل الركعة جدا.
وأضعف من ذلك
دعوى أن قوله عليهالسلام : «ولا يدخل الشك ...» هو الدليل على التخصيص المذكور.
إذ فيه : أن
ظاهر الفقرات المذكورة تأكيد ما قبلها والجري على ما يطابقه ، لا في بيان حكم آخر
مناف له ومقيد لإطلاقه.
على أن ما
تضمنته جملة من النصوص وكلمات الفقهاء من أن علاج الشك إنما يكون بالبناء على
الأكثر ، ثم الإتيان بصلاة الاحتياط ، لا يناسب ابتناء الإتيان بالمشكوك على
الاستصحاب الذي مقتضاه البناء على الأقل ، بل
__________________
المناسب لذلك الخروج عن مقتضى الاستصحاب بالبناء على الأكثر والسلام عليه ،
مع ابتناء الإتيان بصلاة الاحتياط على تقييد البناء على الأكثر ، لا أن فصلها
تقييد للاستصحاب. فالوجه المذكور بعيد جدا.
الثاني
: ما أشار إليه
شيخنا الأعظم قدسسره من حمل تطبيق كبرى الاستصحاب في المقام ـ المقتضي
للبناء على الأقل وتتميم الصلاة بالإتيان بالمشكوك ـ على التقية ، من دون أن يمنع
ذلك من الاستدلال بالكبرى المذكورة على الاستصحاب ، لأصالة الجهة فيها. نظير ما
ورد في قول الإمام الصادق عليهالسلام للسفاح في أمر الهلال : «ذاك إلى الإمام إن صمت صمنا ،
وإن أفطرت أفطرنا» حيث يستدل به على الرجوع للإمام في الهلال ، وإن كان
تطبيقه في المورد تقية.
ويشكل أولا : بأن ذلك قد يتم فيما إذا لم يكن الحمل على التقية منافيا
لعموم الكبرى حقيقة ، لخروج المورد تخصصا ـ كما في المثال المتقدم ـ أو لاستغناء
حكم المورد عن الكبرى ، كما في صحيحة صفوان والبزنطي عن أبي الحسن الرضا عليهالسلام : «في الرجل يستكره على اليمين ، فيحلف بالطلاق والعتاق
وصدقة ما يملك أيلزمه ذلك؟ فقال : لا. قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : وضع عن أمتي ما أكرهوا عليه وما لم يطيقوا وما أخطئوا»
فإن الحلف بالطلاق والعتاق والصدقة باطل ذاتا وإن وقع اختيارا ، وإنما علل
عليهالسلام مع ذلك البطلان بالإكراه وحديث الرفع تقية ، لذهاب
العامة إلى نفوذ الحلف المذكور ، من دون أن يمنع ذلك من عموم رفع الإكراه أو نحو
ذلك مما لا يلزم منه قصور العموم المذكور.
أما إذا كان
الحمل على التقية راجعا إلى قصور ذلك العموم عن المورد تخصيصا ـ كما في المقام ـ فهو
راجع إلى عدم صدور العموم لبيان الحكم
__________________
الحقيقي ، وعدم تمامية أصالة الجهة فيه ، فالبناء على تمامية العموم في غير
المورد يرجع إلى دعوى عموم آخر قاصر عن المورد ، ولا شاهد عليه.
ودعوى : أنه
يكفي في الشهادة عليه العموم المذكور في المورد ، المفروض كون تطبيقه على المورد
للتقية ، كما هو الحال في كل عموم ثبت تخصيصه في بعض أفراده حيث يكون حجة في
الباقي. ممنوعة ، لامتناع تخصيص المورد ، الملزم في مثل ذلك بالبناء على سقوط
العموم عن الحجية رأسا ، وعدم تمامية أصالة الجهة فيه ، لعدم وروده لبيان الحكم
الحقيقي.
وثانيا : بأن ذلك موقوف على ظهور الحديث في إرادة تتميم الصلاة
بالإتيان بالمشكوك متصلا بها ـ كما هو مذهب العامة ، المطابق للاستصحاب ـ وقد سبق
المنع منه ، وأن الحديث ظاهر في إرادة الإتيان بصلاة الاحتياط المفصولة عن الصلاة
التي وقع الشك فيها ، المخالف للعامة ولمقتضى الاستصحاب ، والملزم بحمل الكبرى على
ما يناسب ذلك ، لا على الاستصحاب تقية. ولا سيما مع تأكيد الكبرى المذكورة
بالفقرات التالية ، الظاهر في تبني الإمام عليهالسلام لمفادها واهتمامه به ، والمناسب لسوقه مساق الرد على
العامة ، لا لمجاراتهم.
الثالث : ما ذكره بعض مشايخنا قدسسره من أن موضوع صلاة الاحتياط التي يكون بها علاج الشك عند
الإمامية مركب من أمرين : الشك الوجداني وعدم الإتيان واقعا بالركعة المشكوك فيها.
فمع الدوران بين الثلاث والأربع يكون الجزء الأول ثابتا بالوجدان ، والثاني محرزا
بالاستصحاب ، فالاستصحاب منقح لموضوع الوظيفة التي يكون بها علاج الشك ، لا مناف
لها.
وفيه ـ مع
ابتنائه على كون وجوب صلاة الاحتياط ظاهريا ، وعدم مناسبة ابتناء وجوب صلاة
الاحتياط على الاستصحاب ، لما في جملة من النصوص
وكلمات الأصحاب من أن علاج الشك إنما يكون بالبناء على الأكثر ، نظير ما
تقدم في الوجه الأول ـ : أن أخذ الشك في موضوع صلاة الاحتياط ينافي عرفا أخذ عدم
الإتيان بالركعة واقعا بنحو يحتاج إلى إحرازه بالاستصحاب ، لوضوح أن الشك ينافي
الإحراز عرفا وإن لم ينافه حقيقة. ولذا لا ريب في عدم مشروعية صلاة الاحتياط مع
قيام البينة على عدم الإتيان بالركعة المشكوكة ، مع أن البينة تشارك الاستصحاب في
إحراز عدم الإتيان بالركعة المشكوكة ، وفي بقاء الشك حقيقة.
ولذا كان
المستفاد من نصوص العلاج أن موضوع صلاة الاحتياط هو الشك لا غير. وغاية ما يدعى
أنه موضوع لوجوبها ظاهرا لا واقعا. وحينئذ لا يحتاج إلى الاستصحاب لإحراز عدم
الإتيان بالركعة.
بل حمل قوله عليهالسلام : «ولا ينقض اليقين بالشك» على بيان موضوع صلاة
الاحتياط ، مع قوله عليهالسلام : «ولا يدخل الشك ...» لبيان كيفيتها ، ثم تأكيده بقوله
: «ولا يخلط ...» ، ثم تأكيد الأول بقوله عليهالسلام : «ولكنه ينقض ...» تكلف يوجب انحلال الكلام وعدم
تناسقه. ومن ثم لا يتم الوجه المذكور.
على أنه لو غض
النظر عما سبق في دفع هذه الوجوه فهي إنما تنهض ببيان إمكان إرادة الاستصحاب من
الفقرة المذكورة ، ولا تنهض بتقريب ظهورها فيه ، لتنهض الصحيحة بالاستدلال بحيث
يستغنى بها عن غيرها. ومجرد اشتمال بعض نصوص الاستصحاب على العبارة المذكورة لا
يكفي في ذلك. كما يظهر مما يأتي عند الكلام في حديث الخصال.
ومنها : صحيحة إسحاق بن عمار : «قال لي أبو الحسن الأول عليهالسلام : إذا شككت فابن على اليقين. قلت : هذا أصل؟ قال : نعم»
.
__________________
وقد يستدل بها
بتقريب أنها تقتضي لزوم العمل باليقين والبناء على مقتضاه عند الشك ، الذي هو مفاد
الاستصحاب. وليست مختصة بالشك بالركعات ، ليرد على الاستدلال بها ما سبق. غاية ما
يلزم تخصيصها ـ كسائر عمومات الاستصحاب ـ في الشك في الركعات ، لوجوب التسليم فيه
على الأقل. وليس ذلك محذورا.
وفيه : أن
الصحيحة إنما تضمنت الأمر بالبناء على اليقين ، وهو في نفسه لا يخلو عن إجمال.
ولعل الأقرب للمعنى الحقيقي هو لزوم ابتناء العمل على اليقين ، المساوق لما تضمن
لزوم كون العمل عن بصيرة ، وعدم التعويل على الظنون والشبهات.
وإذا فرض عدم
إرادة ذلك ، فكما يمكن حملها على الاستصحاب ـ بتنزيل اليقين على اليقين بالحدوث ،
والشك على الشك في البقاء ـ يمكن حمله على قاعدة اليقين ـ بتنزيل اليقين على
اليقين الزائل ، والشك على الشك الذي يخلفه في مورده ـ أو على وظيفة الشك في
الركعات ، بتنزيل اليقين على اليقين بما يوجب براءة الذمة ، أو اليقين بالركعات
المتيقنة المشروعية ، على ما تقدم شرحه في الصحيحة السابقة. وبعد عدم المعين
لإرادة الاستصحاب ـ من قرينة حالية أو مقالية ـ يتعين البناء على الإجمال.
بل ظاهر مثل
الصدوق ممن ذكر الحديث في أحكام الخلل في الصلاة كون وظيفة الشك في الركعات متيقنة
من موردها ، كما يناسبه ورود المضمون المذكور في صحيح عبد الرحمن بن الحجاج وعلي
عن أبي إبراهيم عليهالسلام : «في السهو في الصلاة. قال : تبني على اليقين ، وتأخذ
بالجزم ، وتحتاط بالصلوات كلها» . وحينئذ يبعد حمله على الاستصحاب جدا.
__________________
ومنها : ما في الخصال بسنده عن أبي بصير ومحمد بن مسلم عن أبي
عبد الله عليهالسلام عن أمير المؤمنين عليهالسلام : «أنه قال في حديث الأربعمائة : من كان على يقين فشك
فليمض على يقينه ، فإن الشك لا ينقض اليقين» .
وليس في سنده
من لم ينص على توثيقه إلا القاسم بن يحيى عن جده الحسن بن راشد. ويستفاد توثيقهما
من ابن قولويه ، لروايته عنهما في كتابه كامل الزيارات. معتضدا أو مؤيدا بحكم
الصدوق في الفقيه بترجيح زيارة الحسين عليهالسلام التي روياها. قال رضي الله عنه بعد ذكر تلك الزيارة : «وقد
أخرجت في كتاب الزيارات وفي كتاب مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب عليهالسلام أنواعا من الزيارات ، واخترت هذه لهذا الكتاب ، لأنها
أصح الروايات عندي من طريق الرواية وفيها بلاغ وكفاية» . ويعتضد توثيق القاسم برواية أحمد بن محمد بن عيسى عنه
، وهو الذي أخرج البرقي من قم ، لأنه يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل ، مؤيدا
برواية غيره من الأجلاء عنه. كما يعتضد توثيق الحسن بن راشد الذي هو مولى المنصور
بكونه من رجال تفسير القمي ، وبرواية ابن أبي عمير عنه ، مؤيدا برواية غيره من
الأجلاء عنه.
ولا يقدح في
وثاقة الحسن تضعيف النجاشي للحسن بن راشد الطفاوي. فإن الظاهر تعددهما ، لأن
الطفاويين بطن من العرب ، فالرجل منسوب لهم بالنسب أو الولاء فكيف يتحد مع مولى
المنصور العباسي ، ولا سيما وأن مولى المنصور من أصحاب الصادق والكاظم عليهماالسلام والطفاوي في طبقة أصحاب الرضا عليهالسلام. كما لا يقدح في وثاقتهما معا تضعيف ابن الغضائري
والعلامة لهما. إذ لا اعتماد على تضعيف ابن الغضائري. لما هو المعروف من إغراقه في
__________________
الطعن ، أو لعدم ثبوت نسبة الكتاب المتداول له ، ولا على تضعيف العلامة
لتأخر عصره وأخذه عمن سبقه ، حيث يقرب متابعته للتضعيف المنسوب لابن الغضائري.
وأما الدلالة
فقد تقرب بأن الحديث وإن اشتمل على الترتب بين اليقين والشك ، وهو مردد بدوا بين
قاعدة اليقين ـ التي يكون الترتب فيها بين الوصفين نفسهما مع اتحاد متعلقهما ـ والاستصحاب
ـ الذي يكون الترتب فيه بين متعلقي الوصفين ، من دون ترتب بين الوصفين نفسهما ـ إلا
أن الثاني أقرب. بل هو المتعين بعد كونه هو الأمر الارتكازي الصالح للتعليل ،
وتداول التعبير عنه بالعبارة المذكورة في النصوص الأخر ، وظهور الكلام في وجود
اليقين حين المضي والعمل ، الذي يختص بالاستصحاب. دون قاعدة اليقين التي يتزلزل
اليقين فيها ويخلفه الشك. فلا بد من تنزيل الترتيب على الترتيب بين المتعلقين ، أو
على الغالب من كون اليقين بالحدوث أسبق حصولا من الشك في البقاء.
لكن في بلوغ
ذلك حدا يوجب ظهور الحديث ونهوضه بالاستدلال إشكال. وتوضيح ذلك : أن ظاهر النهي عن
نقض شيء بشيء ـ كالنهي عن نقض خبر زيد بخبر عمرو ـ اعتبار أمرين : الأول : تنافي
مضمونيهما ، المتوقف على اتحاد موضوعهما ومتعلقهما من جميع الجهات. الثاني : تحقق
المنقوض في زمان الناقض ، وعدم ارتفاعه معه ، إذ نقض الطريق فرع تمامية اقتضائه
للعمل ، ولا اقتضاء له مع ارتفاعه. ولذا لا يصدق نقض خبر زيد بخبر عمرو إذا اختلف
مضمونهما ، أو عدل زيد عن خبره حين إخبار عمرو على خلافه.
إلا أنه يتعذر
الجمع بين الأمرين معا في النهي عن نقض اليقين بالشك ، لاستحالة اجتماعهما في
موضوع واحد في زمان واحد ، بل لا بد من رفع اليد عن أحدهما.
ومن الظاهر أن
رفع اليد عن الأول إنما يصح مع فرض نحو من الاتحاد بين المتعلقين يصحح التوسع
بإطلاق النقض ، إذ مع فرض التباين بينهما من جميع الجهات يكون إطلاق النقض
مستهجنا.
وحينئذ فكما
يمكن حمله على الاستصحاب ـ بلحاظ اتحاد متعلق الوصفين ذاتا واختلافهما زمانا ـ يمكن
حمله على قاعدة المقتضي والمانع. وربما يرجع إليه ما في حديث الإمام زين العابدين
مع الزهري في ردع الإنسان عن توهم الرفعة على غيره ، حيث قال عليهالسلام : «فقل : أنا على يقين من ذنبي ، وفي شك من أمره ، فما
لي أدع يقيني لشكي» . كما يمكن حمله على بيان عدم رفع اليد عن الحجة
باللاحجة ، فإن متعلق اليقين والشك وإن كان مختلفا ذاتا ، لتعلق اليقين بقيام
الحجة على الشيء ، وتعلق الشك بوجوده بنفسه ، إلا أن ذلك لا يمنع من إطلاق العلم
بالشيء توسعا ، بتنزيل العلم بالحجة على الشيء منزلة العلم به. بل قد يطلق الشك
على ما ليس بحجة ، فيتحد المتعلق حقيقة.
أما رفع اليد
عن الثاني ـ وهو تحقق المنقوض في زمان الناقض ـ مع المحافظة على الأول ، فهو يقتضي
الحمل على قاعدة اليقين لا غير.
وبهذا يكون
التعبير المذكور صالحا لجميع الوجوه ، وليس مرددا بين الاستصحاب وقاعدة اليقين
فقط. لاشتراك جميع هذه الوجوه في الاحتياج للعناية المصححة ، وفي حسن إرادته من
العبارة بعد إعمال العناية. وحمله على الاستصحاب في نصوصه لقرينة المورد لا يستلزم
ظهوره فيه في مثل هذا الحديث المجرد عن القرينة ، حتى مثل فهم الأصحاب ـ الذي قد
يكون من القرائن الخارجية ـ لعدم ثبوت فهمهم الاستصحاب من الحديث المذكور.
وأما اشتهار
التعبير عن الاستصحاب بالعبارة المذكورة أو ما يجري
__________________
مجراها في العصور المتأخرة فقد يكون لاشتهار التمسك له فيها بالنصوص
المتقدمة ، ولا يكشف عن ظهور مثل هذا اللسان في الاستصحاب في عصر صدور الحديث
الشريف. ولا سيما بعد ما تقدم من إطلاق مثل هذا اللسان في صحيحة زرارة الثالثة ،
وصحيح ابن الحجاج وعلي ، وما في حديث الإمام زين العابدين عليهالسلام مما لا يناسب إرادة الاستصحاب جدا.
كما لا يكشف عن
ظهوره في الاستصحاب بين قدماء الأصحاب بعد ما في كلام غير واحد من إطلاقه على ما
يناسب قاعدة اليقين. قال في النهاية في حكم الشك في الوضوء : «فإن انصرف من حال
الوضوء وقد شك في شيء من ذلك لم يلتفت إليه ومضى على يقينه» وقال في الغنية : «فإن
نهض متيقنا لتكامله لم يلتفت إلى شك يحدث له ، لأن اليقين لا يترك بالشك». وحكي
نحوه عن السرائر ، بل قال شيخنا الأعظم قدسسره : «ويقرب من هذا التعبير عبارة جماعة من القدماء».
وأما قرينة ارتكازية
التعليل ، فهي إنما تنفع في تعيين المراد من التعليل بعد الفراغ عن تعيين الحكم
المعلل ، لا في مثل المقام مما لم يعين فيه نفس الحكم المعلل.
على أنه لا
مجال لإنكار ارتكازية قاعدة اليقين فيما لو لم يكن ارتفاع اليقين ناشئا من انكشاف
خطأ الاستناد لمستنده ، بل من الجهل بحال المستند لنسيانه ، فإن البناء على مقتضى
اليقين ارتكازي لمشابهته لقاعدة الصحة. كما أن قاعدة المقتضي والمانع لا تقصر في
الارتكازية عن الاستصحاب. بل قاعدة عدم نقض الحجة باللاحجة أقوى ارتكازية من
الجميع ، فإنها قاعدة عقلية قطعية يكثر تسامح الناس فيها وخروجهم عنها باعتمادهم
على الشبه والظنون ، فيحسن الردع عن ذلك بالإرشاد للقاعدة والتنبيه عليها.
وأما ما تقدم
من ظهور الحديث في فعلية اليقين حين المضي والعمل ، فهو إنما يمنع من الحمل على
قاعدة اليقين ، ولا يعين الاستصحاب ، لاشتراك بقية القواعد المتقدمة معه في ذلك.
على أن ظهوره في ذلك لا يقصر عن ظهوره في تنافي اليقين والشك لاتحاد موضوعهما من
جميع الجهات ، الملزم بالحمل على قاعدة اليقين لا غير.
وبالجملة :
الظاهر عدم نهوض الحديث للاستدلال على الاستصحاب ، بل هو مردد بينه وبين القواعد
المشار إليها من دون قرينة معينة ، فيلزم البناء على إجماله.
هذا وربما يقال
: عدم القرينة على تعيين شيء من هذه الوجوه يقتضي الحمل على ما يعمها جميعا ، أخذا
بعموم المجاز.
وفيه أولا : أن الحمل على عموم المجاز إنما يتعين بعد العلم
بإرادة معنى مجازي وتحديده مع الشك في تقييده ، لأن التقييد خلاف الأصل ، كما في
المعنى الحقيقي ، بخلاف ما إذا كان الكلام صالحا للمعاني المجازية المتعددة مع
احتمال إرادة ما يعمها ، لأن الجامع بينهما نجده معنى مستقل بنفسه في قبال خصوصيات
المعاني يحتاج إلى قرينة تعينه مثلها.
وثانيا
: أن الحمل
عليه موقوف على وجود جامع عرفي بين المعاني المجازية ، ليمكن ظهور الكلام فيه ،
وهو غير حاصل في المقام. كما لعله ظاهر. ومما ذكرنا في حديث الخصال يظهر الحال في
مرسل المفيد قدسسره في الإرشاد عن أمير المؤمنين عليهالسلام : «من كان على يقين فأصابه شك فليمض على يقينه ، فإن
اليقين لا يدفع بالشك» ، لتقارب لسان الحديثين ، فما يجري في أحدهما
__________________
يجري في الآخر.
ومنها : ما رواه الصفار عن علي بن محمد القاساني ـ كما في
التهذيب ـ أو القاشاني ـ كما في الاستبصار ـ قال : «كتبت إليه وأنا بالمدينة أسأله
عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب : اليقين لا يدخل فيه الشك.
صم للرؤية ، وأفطر للرؤية» .
وقد يشكل السند
باشتراك علي بن محمد بين القاشاني الذي ضعفه الشيخ والقاساني الذي يظهر من النجاشي
توثيقه.
وأما الدلالة
فقد استوضحها غير واحد ، بل قال شيخنا الأعظم قدسسره :
«والإنصاف أن
هذه الرواية أظهر ما في الباب من أخبار الاستصحاب». وكأن وجه أظهريتها من
الصحيحتين الأوليين : أن الكبرى فيها ظاهرة في العموم ، لعدم سبق ما يوهم العهد ،
بخلاف الصحيحتين ، على ما سبق.
لكنه موقوف على
حمل اليقين على اليقين بالحالة السابقة ، والشك على الشك في الحالة اللاحقة ، وعدم
الدخول على عدم رفع اليد عن الأمر المتيقن ، ولا ملزم بشيء من ذلك بعد عدم كونه
المعنى الحقيقي المتعين من دون قرينة ، وعدم القرينة المعينة له من بين المعاني
غير الحقيقية الأخرى. بل كما يمكن الكناية عن ذلك يمكن الكناية عن أن ما يعتبر فيه
اليقين لا يدخل فيه الشك ، فيكون مساوقا لما ورد من أن شهر رمضان فريضة من فرائض
الله فلا يؤدى بالتظني ونحو ذلك ، فيكون مطابقا للاستصحاب ، وإن لم يبتن عليه.
ومنها : صحيح عبد الله بن سنان : «سأل أبي أبا عبد الله عليهالسلام وأنا حاضر : إني أعير الذمي ثوبي وأنا أعلم أنه يشرب
الخمر ويأكل لحم الخنزير ، فيرده
__________________
علىّ ، فأغسله قبل أن أصلي فيه؟ فقال أبو عبد الله عليهالسلام : صل فيه ولا تغسله من أجل ذلك ، فإنك أعرته إياه وهو
طاهر ، ولم تستيقن أنه نجسه ، فلا بأس أن تصلي فيه حتى تستيقن أنه نجسه» . وحيث لم يقتصر عليهالسلام في التعليل على الشك في التنجيس الذي هو موضوع قاعدة
الطهارة ، بل أضاف إليه سبق الطهارة ، كان ظاهرا في الاستصحاب ، نعم هو مختص
باستصحاب الطهارة ، والظاهر التسالم على جريانه بنحو يستغني عن الصحيح.
لكن قال شيخنا
الأعظم قدسسره : «ولا يبعد عدم القول بالفصل بينها وبين غيرها مما يشك
في ارتفاعها بالرافع». لكنه غير ظاهر ، إذ لا مجال لدعوى عدم الفصل بعد ما حكاه هو
قدسسره من التفصيل منهم بين الاستصحاب الموضوعي والحكمي الكلي
والجزئي ، والتفصيل بين أقسام الشك في الرافع. على أنه لا يكفي مجرد عدم القول بالفصل
، بل لا بد معه من القول بعدم الفصل الراجع للإجماع على الملازمة بين المورد وغيره
، ولا مجال لإثبات ذلك.
اللهم إلا أن
يقرب ظهور الصحيح في العموم بأن ورود مقدمتي استصحاب الطهارة مورد التعليل مناسب
لإلغاء خصوصية الطهارة في الحكم ، حفاظا على ارتكازية التعليل ، نظير ما تقدم في
صحيحة زرارة الأولى.
لكنه يشكل بأن
التعليل لم يتضمن كبرى عدم نقض اليقين بالشك الارتكازية ، بل مجرد تحقق موضوع
استصحاب الطهارة ، المقتضي لجريان استصحابها. ولعله بلحاظ وضوح جريان الاستصحاب
المذكور شرعا ، المصحح للتعليل به مع غض النظر عن الجهة الارتكازية فيه المقتضية
للتعميم. فلاحظ.
__________________
ومنها : ما تضمن من النصوص التعبد بالحل والطهارة. وحيث كان
الكلام فيها على نهج واحد تقريبا كان المناسب جمعها في مقام واحد. وهي موثق مسعدة
بن صدقة عن أبي عبد الله عليهالسلام : «سمعته يقول : كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام
بعينه فتدعه من قبل نفسك ...» .
وموثق عمار عنه
عليهالسلام في حديث قال : «كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر ، فإذا
علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك» .
وحديث حماد عنه
عليهالسلام : «الماء كله طاهر حتى يعلم أنه قذر» .
وقد اختلفوا في
مفاد هذه النصوص على أقوال كثيرة ، لترددها ـ بعد النظر في كلماتهم ـ بين قاعدة
الحل والطهارة الواقعية للأشياء بعنوانها الأولي ، وقاعدة الحل والطهارة الظاهرية
للأشياء بعنوان كونها مشكوكة الحكم ، واستصحابهما. وقد اختلفوا بين من جمع بين
القواعد الثلاث ، ومن جمع بين اثنتين منها ، ومن خصها بواحدة منها ، على اختلاف
بين الأخيرين في تعيين المراد منها من غير المراد.
وقد ذهب المحقق
الخراساني قدسسره في حاشيته على الرسائل إلى الجمع بين القواعد الثلاث
بدعوى : أن النصوص بصدرها قد تضمنت الحكم على الأشياء والماء بالحل والطهارة ،
وظاهر ذلك كون موضوع الحكم هو الشيء والماء بعنوانهما الأولي ، لا بعنوان ثانوي
آخر ، كمشكوك الحكم. وبعمومها الأفرادي تكون دالة على قاعدة الحل والطهارة
الواقعيتين.
وبإطلاقها
الأحوالي تقتضي عموم الحكم بالحل والطهارة لجميع
__________________
الأحوال ، ومنها حالة الشك فيهما ، وهو مفاد قاعدتي الحل والطهارة
الظاهريتين.
كما أن مقتضى
الغاية في الذيل استمرار الحكم المذكور إلى حين العلم بالحرمة والنجاسة ، الذي هو
مفاد استصحاب الحل والطهارة.
وفيه أولا : أن مجرد إطلاق الحكم الأحوالي بنحو يشمل حال الجهل لا
يجعله ظاهريا ، بل هو عبارة أخرى عما عليه الإمامية «أعز الله كلمتهم» من اشتراك
الحكم الواقعي بين العالم والجاهل والملتفت والغافل.
أما الحكم
الظاهري فهو متقوم زائدا على ذلك بالتعبد في مقام العمل بأحد طرفي الشك في رتبة
متأخرة عن ثبوت الحكم الواقعي تأخر مقام الإثبات عن مقام الثبوت ، من دون أن يتضمن
جعل الحكم ، فهو مختلف عن الحكم الواقعي سنخا ورتبة ، ولا ينهض الإطلاق الأحوالي
للحكم الواقعي بإثباته.
وثانيا : أنه لا مجال لحمل الغاية على الاستصحاب. لوضوح أن
مفاد الغاية استمرار الحكم المجعول المغيى نظير استمرار الحكم باستمرار موضوعه.
أما استصحاب الحكم فهو عبارة عن الحكم باستمراره ظاهرا بعد الفراغ عن أصل ثبوته
واقعا ، وفي رتبة متأخرة عن ذلك ، ولا يكفي فيه استمرار الحكم المجعول المستفاد من
الغاية الذي هو من شئونه وتابع لسعة موضوعه ، فإن كل حكم يستمر باستمرار موضوعه ،
وليس ذلك من الاستصحاب في شيء.
ومن ثم كان
الظاهر حمل النصوص على قاعدتي الحل والطهارة الظاهريتين لا غير ، لأن ظاهر أخذ
عنوان الشيء في الحكم وإن كان هو ثبوت الحكم له بذاته ، المناسب لكون الحكم
المجعول واقعيا ، إلا أن جعل الغاية العلم بالحرمة والنجاسة مناسب لكون موضوع
الحكم ليس هو الشيء بذاته ،
بل بعنوان الجهل بحكمه ، المتأخر رتبة عن جعل الحكم الواقعي ، والملزم بكون
المجعول هو الوظيفة العملية عند الشك فيه ، وأن الحكم ليس بالحل والطهارة ، بل
بالتعبد بهما والبناء عليهما عملا في ظرف الشك فيهما الذي هو مفاد قاعدتي الحل
والطهارة الظاهريتين ، دون الواقعيتين.
نعم لا يبعد
التفكيك بين الصدر والذيل ، بحمل الأول على الطهارة الواقعية ، والثاني على
الطهارة الظاهرية في خصوص حديث حماد المختص بالماء ، بتقريب : أن حمل الصدر فيها
على بيان الطهارة الظاهرية موجب لإلغاء خصوصية الماء ، وتقييده بخصوص الماء
المشكوك ، مع كون خصوصيته كعمومه الأفرادي ارتكازيا ، فأنس الذهن بذلك موجب
لاستحكام ظهور الصدر في بيان عموم طهارة الماء بحسب أصله واقعا ، الملزم برفع اليد
عن ظهور الغاية في كونها غاية للحكم المذكور في الصدر ، وتنزيلها على كونها غاية
للعمل على الحكم المذكور وترتيب الأثر عليه ، فكأنه قيل : الماء كله طاهر ، فليعمل
على ذلك حتى يعلم أنه قذر.
وذلك شايع في
الاستعمالات الشرعية ، نظير قوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ
الْفَجْرِ) وقوله عليهالسلام في موثق عمار بعد أن سئل عن ماء شرب منه باز أو صقر أو
عقاب : «كل شيء من الطير يتوضأ مما يشرب منه ، إلا أن ترى في منقاره دما» .
لوضوح أن غاية
جواز الأكل والشرب واقعا هو طلوع الفجر ، لا تبينه ، وغاية جواز الشرب من سؤر
الطير واقعا هو وجود الدم على منقاره ، لا رؤيته ، وليس التبين والرؤية إلا غاية
للجواز الظاهري عند الشك في طلوع الفجر
__________________
ووجود الدم.
وحينئذ لا بد
أن يكون فرض العلم بكونه قذرا في الصحيح للعلم لطروء ما ينجسه ، لا للعلم بكونه من
القسم الذي هو نجس من أصله ، لأنه خلاف فرض العموم الأفرادي الارتكازي في الصدر.
ولا يلزم من ذلك إلا رفع اليد عن إطلاق الصدر الأحوالي ، وحمله على بيان الطهارة
بحسب أصل الماء ، مع المحافظة على خصوصيته ، وعلى عمومه الأفرادي.
وهذا بخلاف
الموثقين ، فإن الحكم بالحل والطهارة فيهما وارد على عنوان الشيء ، وليس لعنوانه
خصوصية ارتكازية تقتضي الحلية والطهارة الواقعيتين ، كما لا يكون عمومهما لجميع
أفراده ارتكازيا ، بل هو مما يقطع بعدمه ، لما هو المعلوم من اشتمال الأشياء على
الحرام والنجس. بل لو لا فرض الحرام والنجس لم يحسن جعل الحل والطهارة واعتبارهما.
كما لا يناسب فرض العلم بالحرمة والنجاسة في الذيل.
وحمله على خصوص
الحرمة الطارئة بسبب ثانوي لا يوجب المحافظة على عمومه الأفرادي ، لأن العناوين
الثانوية داخلة في عنوان الشيء بعين دخول العناوين الذاتية ، فيشملها العموم
الأفرادي المفروض ، بخلاف مثل عنوان الماء ، فإن تبادل العناوين العرضية على
أفراده لا يوجب تعدد الفرد بل تعدد حال الفرد الواحد.
ومن جميع ما
سبق يظهر ضعف بقية الأقوال في المقام. فلا حاجة للتعرض لها تفصيلا ومناقشتها. كما
ظهر أن النصوص المذكورة أجنبية عن الاستصحاب.
هذه هي النصوص
المستدل بها على الاستصحاب. وقد ظهر أن عمدتها صحيحتا زرارة الأوليان المؤيدتان
بصحيحة عبد الله بن سنان. بل قد تؤيدان
بصحيح إسحاق بن عمار وروايتي الخصال والإرشاد ومكاتبة القاساني.
كما قد يؤيد
مضمونها بتسالم الأصحاب على الرجوع للاستصحاب في كثير من الشبهات الموضوعية ، بنحو
لا يبعد كشفه عن نحو من التسالم على العموم ، وأن الخروج عن ذلك في بعض الموارد
لدعوى عدم تمامية شروط الاستصحاب أو تخيل المخرج عنه ، لا لعدم تمامية العموم.
بل لا يبعد ذلك
في الشبهة الحكمية ، وأن شيوع الخلاف فيها ناشئ عن بعض الشبهات المانعة من الرجوع
له فيها ، ومنها شبهة عدم اتحاد المشكوك مع المتيقن ، التي هي في الشبهات الحكمية
أقوى منها في الشبهات الموضوعية ، لا لاختصاص عموم الاستصحاب بالشبهة الموضوعية
ابتداء. وإلا فالجهة الارتكازية لا تختص بها. وإن كنا في غنى عن ذلك بعد تمامية
دلالة النصوص على العموم.
بقي في المقام أمران :
الأمر الأول : المتيقن من الأدلة المتقدمة لزوم العمل على بقاء
المستصحب وترتيب الأثر عليه ، من دون أن تبتني على الكشف عن وجوده ، حيث لا قرينة
فيها على ذلك ، بل ظاهر النصوص ـ التي هي عمدة الدليل عليه ـ عدمه بعد ظهورها في
الإشارة إلى أمر ارتكازي ، إذ الارتكاز لا يبتني على الطريقية. وبهذا لا يكون
الاستصحاب من الطرق ، بل من الأصول العملية كما جرينا عليه في التبويب.
نعم الظاهر أنه
من الأصول التعبدية ، وهي المبنية على العمل على أحد طرفي الشك للتعبد الشرعي به
والبناء العملي عليه ، كأصالتي الحل والطهارة ، لا على مجرد العمل من دون تعبد
بشيء ، كأصالتي البراءة والاحتياط ـ على القول به ـ وقاعدة الاشتغال. لأن ذلك هو
المناسب للوجوه الثلاثة المذكورة ، ولا سيما
الأخبار ، لأنها حيث تضمنت عدم نقض اليقين بالشك فمرجعها إلى أن اليقين
بالحدوث منشأ للبناء على البقاء شرعا عند الشك ، كما هو منشأ للبناء على الحدوث
ذاتا ، ولذا يكون عدم ترتيب أثر البقاء نقضا له.
بل يختلف
الاستصحاب عن مثل قاعدة الطهارة والحل من الأصول التعبدية بأن التعبد فيه
بالمستصحب بتوسط المحرز له ، وهو اليقين السابق ، فإن اليقين السابق وإن لم يكن
كاشفا عن المستصحب ـ ولذا تقدم أن الاستصحاب ليس من الطرق والأمارات ـ إلا أنه
محرز له.
أما التعبد في
بقية القواعد فهو ابتدائي لا يبتني على وجود المحرز له.
إن
قلت : فرض كون
اليقين محرز للاستمرار راجع إلى كونه أمارة عليه شرعا وإن لم يكن بنفسه كاشفا عنه
، إذ لا يعتبر في أمارية الأمارة كشفها وإفادتها الظن بنفسها ولو نوعا.
قلت
: الذي لا
يعتبر في الأمارة هو إدراك الجهة الموجبة لكشفها ، حيث قد تكون خفية على العرف ،
ولا يطلع عليها غير الشارع ، أما أصل كاشفيتها فلا بد منها ، وليس المجعول في
الأمارة إلا الحجية بعد فرض الكاشفية ، أما في الاستصحاب فليس المجعول إلا
المحرزية ، من دون فرض الكاشفية ، لعدم نهوض دليله بها ، كما تقدم.
والمتحصل : أن
الاستصحاب ليس من الطرق والأمارات المبنية على الكشف ، بل هو أصل تعبدي إحرازي ،
يقتضي العمل تبعا لإحراز اليقين السابق بقاء المتيقن تعبدا.
وقد تقدم
الكلام في مفاد الأصول التعبدية عموما والاستصحاب خصوصا عند الكلام في دفع محذور
اجتماع الحكمين المتضادين من مبحث إمكان التعبد بغير العلم. فراجع.
الأمر الثاني : أشرنا آنفا إلى كثرة الأقوال في الاستصحاب وتعدد
التفصيلات فيه. وتلك التفصيلات تبتني .. تارة : على الكلام في عموم دليل الاستصحاب وخصوصه وأخرى : على الكلام في تحقق أركانه وشروطه في بعض الموارد.
ويأتي الكلام في القسم الثاني في المقام الثالث.
أما القسم
الأول فالمناسب بحثه في هذا المقام ، لابتنائه على الكلام في مفاد أدلة الاستصحاب.
وهو يختص بالتفصيل بين صورتي الشك في الرافع ، فيجري الاستصحاب والشك في المقتضي ،
فلا يجري. وقد اختاره جماعة ، وذكر شيخنا الأعظم قدسسره أن الذي فتح باب ذلك هو المحقق الخونساري في شرح
الدروس.
والذي يظهر من
شيخنا الأعظم قدسسره أن المعيار في التفصيل المذكور إحراز استعداد المستصحب
للبقاء لو لا الرافع ، بحيث يستند احتمال ارتفاع المتيقن لاحتمال حصول الرافع ،
سواء أحرز المقتضي له ، كما لو علم بعزم الفاعل على الاستمرار في الفعل واحتمل
حصول المزاحم المانع منه ، أم لم يكن محتاجا للمقتضي ، كالعدم الذي له استعداد
الاستمرار في نفسه لو لا حدوث مقتضي الوجود. ويشهد بذلك تعبيره عن التفصيل المذكور
بالتفصيل بين الشك في الرافع وعدمه. ويناسبه ظهور مفروغيته عن جريان الاستصحاب في
العدميات وفي الأحكام الوضعية كالملكية والطهارة والنجاسة ، مع وضوح أنها كالأعدام
لا يحتاج بقاؤها للمقتضي ، بل يكفي فيه عدم الرافع.
نعم قد لا
يناسب ذلك ما تكرر في كلامهم من لزوم إحراز المقتضي في جريان الاستصحاب ، ولا بعض
ما يظهر من وجوه استدلالهم على ما يأتي إن شاء الله تعالى. بل ذكر شيخنا الأعظم قدسسره أن حصول ملاك التفصيل في العدميات محتاج إلى تأمل ، وإن
لم يستبعد حصوله. لكن لا مجال للخروج بذلك عما تقدم ، فلا بد من حمل المقتضي في
كلامهم على ما يعم القابلية المذكورة.
إذا عرفت هذا
فاعلم أنه قد يستدل على التفصيل المذكور بوجوه ..
الأول : ما ذكره شيخنا الأعظم قدسسره من أن حقيقة النقض رفع الهيئة الاتصالية المساوق لقطع
الأمر المتصل ، كما في نقض الحبل. لكن يعلم بعدم إرادة المعنى المذكور ، لعدم فرض
الاستمرار في المتيقن ، بل الشك فيه ، وفرض عدم الاستمرار في اليقين نفسه. إلا أن
يراد به اليقين بالحدوث ، الذي لا معنى للنهي عن رفع استمراره وقطعه. وحينئذ يتعين
حمله إما على رفع اليد عما من شأنه الثبوت والاستمرار ، لثبوت مقتضيه ، أو على
مجرد رفع اليد عما كان ثابتا ، وإن لم يكن من شأنه الاستمرار. والأظهر الأول ،
لأنه أقرب للمعنى الحقيقي. فيلزم لأجله رفع اليد عن إطلاق اليقين ، وتقييده بما
إذا تعلق بما من شأنه الاستمرار.
وفيه أولا : أن النقض رفع الأمر المستحكم ، ففي لسان العرب : «النقض
إفساد ما أبرمت من عقد أو بناء» ، وقريب منه ما ذكره غيره. ويناسبه استعماله في
الكتاب المجيد والعرف في نقض العهد والميثاق ، وعليه جرى قوله تعالى : (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ
بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً). وإطلاق نقض الحبل إنما هو بلحاظ إبرامه وتماسكه ، لا
بلحاظ اتصاله ، ولذا لا يصدق مع عدم تماسكه. وعليه لا يكفي في صدقه كون الشيء من
شأنه البقاء لو لا الرافع ، كالعدم. كما لا يكفي مجرد وجود مقتضي البقاء له ،
كجاذبية الأرض ، المقتضية لبقاء الحجر في مكانه ، بل لا بد من استحكامه وإبرامه ،
وهو أخص من المدعى.
وأما استعماله
في النصوص في مثل نقض الوضوء مما يكون من شأنه البقاء من دون استحكام ، فهو لا
يشهد بالاكتفاء بذلك في المعنى الحقيقي ، بل الظاهر ابتناؤه على نحو من التوسع ،
نظير استعماله في مثل نقض الصلاة مما
__________________
ليس من شأنه البقاء بنفسه ، بل لا بد فيه من الإبقاء.
وثانيا
: أن متعلق
النقض في النصوص لما كان هو اليقين فلا بد من ملاحظة الاستحكام فيه ، لا في
المتيقن. ودعوى : أن إضافة النقض لليقين باعتبار ما يستتبعه من ترتيب آثار المتيقن
، لا آثار اليقين نفسه ، فهو ملحوظ في المقام طريقا للمتيقن ، لا موضوعا للعمل
بنفسه ، ومرجع ذلك إلى أن تعلق النقض باليقين في طول تعلقه بالمتيقن. مدفوعة بأن
النقض في المقام وإن كان بلحاظ آثار المتيقن ، إلا أنه لما كان المراد عدم ترتيبها
ظاهرا فمتعلق النقض اليقين بنفسه ، ولا يكون متعلقه المتيقن إلا إذا كان بلحاظ عدم
ترتيبها واقعا تمردا على الحكم الواقعي. وبعبارة أخرى : عدم ترتيب آثار المتيقن
تمردا على الحكم الواقعي نقض للمتيقن ، وعدم ترتيب آثاره ظاهرا وفي مقام الإثبات ـ
الذي هو المراد في المقام ـ نقض لليقين نفسه لا للمتيقن.
وعلى ذلك
فالمصحح لإسناد النقض لليقين ما فيه من الاستحكام في الكشف وشدة الوضوح ، حتى كان
ترتب العمل عليه ذاتيا ، فهو نظير الإرادة والعزم مما يصح إسناد النقض إليه بنفسه
، لا بلحاظ استحكام متعلقه. ولا يفرق في ذلك بين أفراده عرفا. غايته أن النقض في
المقام تسامحي ، لما سبق عند الكلام في رواية الخصال من توقف النقض الحقيقي على
وحدة متعلق الناقض والمنقوض.
الثاني : ما ذكره بعض الأعاظم قدسسره من توقف صدق نقض اليقين بالشك على أن يكون زمان الشك قد
تعلق به اليقين في زمان حدوثه ، لكون المتيقن مرسلا بحسب الزمان ، بحيث يكون من
شأنه البقاء لو لا الرافع ، أما لو كان محدودا بحدّ خاص ، فلا يقين فيما بعد ذلك
الحدّ لينقض بالشك.
وفيه أولا : أن مرجع ذلك إلى حمل انتقاض اليقين على انتقاضه حقيقة
،
الذي هو بمعنى ارتفاعه بعد وجوده ، ولا ريب في عدم إرادة ذلك ، لخروجه عن
اختيار المكلف ، وعدم استناده للشك ، بل لسببه. بل المراد نقض المكلف له عملا بعدم
ترتيب الأثر عليه. نعم تقدم أن النقض العملي في المقام تسامحي ، لتوقف النقض
العملي الحقيقي على وحدة الناقض والمنقوض.
وثانيا : أن ذلك لا يقتضي اعتبار تحقق مقتضي البقاء ، بل سبق
اليقين بالبقاء لليقين بعلته التامة ولو خطأ ، فلو اعتقد المكلف في أول الأمر
باستمرار المتيقن ثم تزلزل قطعه وشك في المقتضي جرى الاستصحاب ، وإن شك من أول
الأمر بالاستمرار ولو لاحتمال طروء الرافع مع القطع بتحقق المقتضي لم يجر
الاستصحاب. وهو كما ترى خروج عن المدعى.
الثالث : ما قد يرجع إليه كلام شيخنا الأستاذ قدسسره من أن المصحح لإسناد النقض في أدلة الاستصحاب إلى
اليقين مع ارتفاعه حقيقة هو الملازمة الادعائية بين اليقين بالحدوث واليقين
بالبقاء ، المتفرعة على ادعاء الملازمة بين نفس الحدوث والبقاء ، فعدم ترتيب أثر
البقاء نقض حقيقي لليقين الادعائي ونقض ادعائي لليقين الحقيقي بالحدوث ، ولا يصح
عرفا ادعاء الملازمة المذكورة مع عدم إحراز مقتضى البقاء ، لعدم المنشأ لها ،
وإنما صح ادعاؤها مع إحرازه لعدم الاعتداد باحتمال طروء الرافع.
وفيه : أن
ابتناء إسناد النقض لليقين على الملازمة المذكورة لا يخلو عن خفاء ، ولا شاهد عليه
في النصوص. كما لم يتضح ابتناء الملازمة ـ لو تمت ـ على عدم الاعتداد باحتمال طروء
الرافع. لوضوح أن عدم الاعتداد باحتمال طروء الرافع يرجع إلى قاعدة المقتضي ، التي
هي قاعدة أخرى في قبال الاستصحاب ، ولو تمت لم يحتج معها لليقين بالحدوث الذي هو
ركن الاستصحاب. وأخذ موضوعها ـ وهو إحراز المقتضي ـ قيدا في موضوعه ـ وهو اليقين
بالحدوث ـ مخالف لإطلاق نصوصه.
ومن هنا كان
المتعين البناء على عموم الاستصحاب ، عملا بإطلاق نصوصه ـ التي سبق أنها عمدة
الدليل عليه ـ بعد عدم وضوح ما يوجب الخروج عن الإطلاق المذكور. نعم لو كان الدليل
عليه السيرة أو الإجماع تعين الاقتصار على المتيقن منهما ، وهو الشك في الرافع أو
بعض أقسامه.
المبحث الثاني
في أركان الاستصحاب وشروطه
والكلام في ذلك
يقع في فصلين ، يبحث في الأول عن أركانه المقومة لمفهومه ، حسبما استفيد من الأدلة
المتقدمة ، وفي الثاني عن ما يعتبر في جريانه من الشروط الخارجة عن مفهومه.
الفصل الأول
في أركان الاستصحاب
مما تقدم في
تعريف الاستصحاب وشروطه يتضح أن للاستصحاب أركانا ثلاثة :
الأول : اليقين بتحقق الشيء سابقا.
الثاني : الشك في بقائه واستمراره.
الثالث : الحكم ببقائه تبعا للأمرين الأولين. لكن الثالث عبارة
عن مفاد الاستصحاب الذي تقدم التعرض له عند الكلام في مفاد أدلته بما يغني عن
الكلام فيه هنا.
واللازم هنا
الكلام فيما يتعلق بالأولين ، وهو يقع في ضمن أمور ..
الأمر الأول : لا إشكال في أن ظاهر اليقين بدوا في تعريف الاستصحاب
، ونصوصه وكلمات الأصحاب هو اليقين الحقيقي ، الذي هو صفة نفسية تقابل الظن والشك
والوهم. وذلك قد لا يناسب ما هو المعلوم منهم من البناء على جريان استصحاب مؤدى الطرق
والأمارات من دون يقين بثبوت مؤداها. بل
جريان استصحاب مؤدى الأصول التعبدية ، كما لو شك في تنجس الثوب بعد تطهيره
بماء غير متيقن الطهارة ، بل محكوم بها ظاهرا ، للاستصحاب أو لقاعدة الطهارة.
نعم لا موقع
للإشكال بناء على أن مفاد الاستصحاب ليس إلا التعبد ببقاء الأمر الحادث في فرض
الشك فيه ، فيكون الحكم بالبقاء في الاستصحاب مترتبا على الثبوت الواقعي ولازما له
، وإن لم يتيقن به ، نظير حجية الخبر المنوطة بعدالة المخبر. وليس أخذ اليقين
بالثبوت والحدوث في أدلته إلا لكونه طريقا محضا يحرز معه موضوع الحكم بالبقاء والتعبد
الظاهري به ، لا لكونه دخيلا في الموضوع ثبوتا ، فتقوم مقامه الطرق ، كما تقوم
مقام القطع الطريقي في سائر الموارد.
وإلى هذا يرجع
ما ذكره شيخنا الأعظم قدسسره من أن موضوع الاستصحاب ثبوت الشيء ، فلا بد من إحرازه
بالعلم أو الظن المعتبر. ويناسبه تعريف الاستصحاب بأنه إبقاء ما كان.
لكن المبنى
المذكور مخالف لظاهر أخذ اليقين في النصوص السابقة ، وما تضمنته من عدم نقضه
بالشك. أما البناء على ذلك في الأحكام الواقعية التي تقتضي المناسبات الارتكازية
أو الجمع بين الأدلة تبعيتها للواقع ـ نظير قوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ
الْفَجْرِ) ـ فهو لا يستلزم البناء عليه فيما نحن فيه ونحوه من
موارد الأحكام الظاهرية ، الراجعة إلى مقام الإحراز ، والتابعة للعلم ونحوه
ارتكازا ، بعد ظهور الأدلة في أخذ اليقين ، كما سبق. ومن ثم لا بد من توجيه
استصحاب مؤدى الطرق والأمارات والأصول التعبدية.
__________________
ولعل الأولى في
ذلك أن يقال : اليقين وإن كان دخيلا في موضوع الاستصحاب ـ كما ذكرنا ـ إلا أن
الظاهر أنه لم يؤخذ بما هو صفة خاصة ، بل بما هو وصول للواقع وإحراز له ، لما
أشرنا إليه غير مرة من أن قضية عدم نقض اليقين بالشك التي تضمنتها أدلته قضية
ارتكازية لا تعبدية ، وموضوعها ارتكازا هو اليقين بالنحو المذكور ، لا بما هو صفة
خاصة. فتقوم مقامه الطرق والأصول التعبدية.
ويؤيد ذلك تسالم
الأصحاب على جريان الاستصحاب في المقام ، بنحو يظهر منه كون ذلك مقتضى ارتكازاتهم
الأولية غير المبتنية على التعمل والاستدلال. وقد تقدم في الفصل الثالث من مباحث
القطع ما ينفع في المقام.
الأمر الثاني : الظاهر أن المراد بالشك في نصوص المقام ما يقابل
اليقين ، فيعم الظن والوهم ، لأنه معناه لغة ، كما في جمهرة اللغة ، ومختار الصحاح
، ولسان العرب ، والقاموس ، ومجمع البحرين. بل في الأخير : أنه المنقول عن أئمة
اللغة.
وهو المنسبق
منه عرفا ، والظاهر من موارد استعماله في الكتاب المجيد ، كما يناسبه مقابلته
بالإيمان والعلم في قوله تعالى : (إِلَّا لِنَعْلَمَ
مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ) وقوله سبحانه : (وَإِنَّ الَّذِينَ
اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ
الظَّنِ) ، وتعقيبه بالبيان في قوله عزّ اسمه : (إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي
فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ، وجعله موضوعا للسؤال في قوله تعالى : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا
أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ
__________________
الَّذِينَ
يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) ، ووصفه بالريب في مثل قوله سبحانه : (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ).
ويؤيده ظهور
بعض نصوص قاعدة التجاوز ، والشك في ركعات الصلاة في إرادته ، لمقابلته باليقين وفرض صورة الظن معه فيها
... إلى غير ذلك.
ومنه يظهر ضعف
ما في مفردات الراغب من أنه اعتدال النقيضين وتساويهما. والظاهر أن ذلك اصطلاح
متأخر قد اشتبه عليه بالمعنى اللغوي ، نظير جعل الوهم والظن متقابلين.
ومن ثم لا مجال
لحمل نصوص المقام وغيرها عليه. ولا سيما مع ما في المقام من مقابلته باليقين بنحو
يظهر منه استيفاء الأقسام وانحصار الأمر بهما ، وتضمنها حصر الناقض لليقين باليقين
، وعدم الاعتناء باحتمال النوم عند تحريك شيء إلى جنب الإنسان وهو لا يعلم ، الذي
يوجب غالبا الظن بالنوم ، والاكتفاء في العمل على اليقين السابق باحتمال وقوع الدم
على المصلي في أثناء الصلاة ، الذي هو ضعيف جدا. بل صرح بتطبيق الشك مع الظن
بإصابة الدم للثوب في صحيحة زرارة الثانية.
الأمر الثالث : ظاهر الأدلة المتقدمة كون موضوع الاستصحاب هو اليقين
والشك الفعليين المتفرعين على الالتفات للواقعة ، لا التقديريين الراجعين إلى كون
المكلف بحيث لو التفت لتيقن وشك ، وإن لم يحصل له اليقين والشك لغفلته. وهو الحال
في سائر الموضوعات المأخوذة في أدلة الأحكام الواقعية
__________________
والظاهرية ، التي يكون مفادها قضايا حقيقية ، فإن مفادها فعلية الحكم في
فرض فعلية الموضوع.
بل قد تضمنت
بعض النصوص المتقدمة أخذ فعلية اليقين والشك في صغرى الاستصحاب ، كقوله عليهالسلام في صحيحة زرارة الأولى : «وإلا فإنه على يقين من وضوئه
...» ، وفي صحيحته الثانية : «لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت ...» ، وفي رواية
الخصال : «من كان على يقين فشك ...» ، وفي رواية الإرشاد : «من كان على يقين
فأصابه شك ...».
هذا وقد جعل
شيخنا الأعظم قدسسره ثمرة ذلك صحة صلاة من سبق منه اليقين بالحدث لو علم من
نفسه أنه لو التفت قبل الصلاة لشك في الطهارة واستصحب الحدث ، بخلاف ما إذا تحقق
منه الشك وجرى الاستصحاب فعلا ثم غفل وصلى ، وعلم من نفسه بعد الصلاة أنه لم يتوضأ
بعد الشك.
بدعوى : أنه
حيث لا يجري الاستصحاب قبل الصلاة في الفرض الأول ، لعدم فعلية الشك ، تجري قاعدة
الفراغ المقدمة على الاستصحاب الجاري حينئذ ، كما في سائر مواردها. أما في الفرض
الثاني فحيث جرى الاستصحاب ، لفعلية الشك ، امتنع جريان قاعدة الفراغ ، لأن مجراها
الشك الحادث بعد الفراغ ، دون الشك الموجود قبله.
لكن الظاهر عدم
ابتناء صحة الصلاة وعدمها في الفرضين على جريان الاستصحاب مع الالتفات وعدم جريانه
مع الغفلة ، بل على عموم قاعدة الفراغ وعدمه. فمع عمومها يتعين البناء على صحة
الصلاة حتى لو جرى الاستصحاب مع الغفلة ، لتقدم قاعدة الفراغ على الاستصحاب. ومع
قصورها يتعين عدم الاجتزاء بالصلاة حتى لو لم يجر الاستصحاب ، إذ يكفي في عدم
الاجتزاء حينئذ قاعدة الاشتغال.
على أن جريانه
قبل الصلاة في الفرض الثاني لا أثر له بعد فرض تجدد
الغفلة قبل الصلاة ، لعدم جريانه مع الغفلة ، ووقوع الصلاة من دون استصحاب
، كما في الفرض الأول.
ثم إنه لا
إشكال في جريان قاعدة الفراغ في الفرض الأول. وأما في الفرض الثاني فقد سبق من
شيخنا الأعظم قدسسره توجيه عدم جريانها فيه بأن مجراها الشك الحادث بعد
الفراغ ، لا الموجود قبله. وهو كما ترى ، لارتفاع الشك الأول لفرض الغفلة حين
الصلاة ، والشك الحاصل بعدها ليس بقاء لذلك الشك ، بل هو شك آخر ، وإن اتحد
منشؤهما.
اللهم إلا أن
يدعى انصراف إطلاق دليل القاعدة عن الشك المذكور مما سبق مثيله قبل العمل. وكأنه
يبتني على دعوى اختصاص القاعدة بما إذا لم يعلم المكلف من نفسه الغفلة عن منشأ
الشك اللاحق ، التي لو تمت جرت في الفرض الأول أيضا ، فلا تجري فيه القاعدة لو علم
المصلي بعد الفراغ بأنه قد غفل عن إحراز الطهارة حين الصلاة.
ولذا لا ريب
ظاهرا في جريان القاعدة حتى في الفرض الثاني لو احتمل المكلف بعد الفراغ أنه لم
يدخل في الصلاة حتى تذكر سبق الطهارة ، وخطأ الاستصحاب الذي جرى في حقه عند حصول
الشك ، مع وضوح المماثلة أيضا بين ذلك الشك والشك الحادث بعد الصلاة.
وعلى ذلك لو لم
تتم الدعوى المذكورة ، وبني على عموم القاعدة لما إذا علم المكلف من نفسه الغفلة
عن منشأ الشك الحاصل بعد الفراغ ، فالبناء على جريانها في الفرض الثاني مطلقا قريب
جدا.
الأمر الرابع : المنساق من دليل الاستصحاب هو التعبد ببقاء المتيقن
واستمراره إلى زمن الشك ، لا محض وجوده في زمن الشك بعد سبق اليقين به ، لأن الجهة
الارتكازية التي أشير إليها في التعليل المتقدم تناسب ذلك جدا. بل هو المناسب لفرض
النقض ، فإن صدقه حقيقة موقوف على اتحاد مفاد
الناقض مع مفاد المنقوض من جميع الجهات حتى الخصوصية الزمانية ، كما سبق ،
وقرينة المقام إنما تقتضي التسامح في الخصوصية الزمانية بإرادة الشك في البقاء بعد
اليقين بالحدوث مع المحافظة على وحدة الوجود وعدم تعدده ، لعدم الملزم بالخروج
عنها. ومن هنا لا بد من أمرين :
الأول : اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، ولا يكفي مجرد تأخره
عنه ، ولو بمثل الطفرة ، لعدم صدق البقاء معه. بل لعله مقتضى تعقيب الشك لليقين
بالفاء في صحيحة زرارة الثانية وروايتي الخصال والإرشاد ، لظهورها في اتصال الشك
باليقين من حيثية متعلقهما.
بل لازم العموم
جريان استصحاب الحالتين المتضادتين المعلومتي التاريخ في زمان الشك المتأخر عنهما
وتعارضهما ، فلو كان زيد عادلا يوم الجمعة ، وفسق يوم السبت ، وشك في حاله يوم
الأحد جرى استصحاب عدالته وفسقه ، لا خصوص فسقه ، لمشاركته للعدالة في اليقين بها
سابقا والشك لاحقا.
ومنه يظهر لزوم
إحراز الاتصال في جريان الاستصحاب ، ولا يكفي احتماله ، لتردد زمان الشك بين
المتصل بزمان اليقين والمنفصل عنه ، إذ مع الاحتمال يكون التمسك بعموم الاستصحاب
من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية من طرف العام الذي لا يصح بلا كلام. ويأتي
ما يتعلق بذلك في استصحاب مجهولي التاريخ ، إن شاء الله تعالى.
الثاني : اتحاد المشكوك مع المتيقن في جميع الخصوصيات المقومة
له وحيث كان موضوع اليقين والشك هو النسبة التي هي مفاد القضية لزم اتحاد القضية
المشكوكة ـ التي هي موضوع الأثر ومورد العمل ـ مع القضية المتيقنة في تمام
الخصوصيات المقومة لها من موضوع ومحمول وغيرهما. بل لا بد من
إحراز الاتحاد ، ولا يكفي الشك فيه ، لما تقدم في نظيره. وهذا في الجملة
ظاهر لا خفاء فيه.
نعم إحراز
اتحاد القضيتين في الخصوصيات المذكورة متفرع على تعيين ما تقوم به النسبة المتيقنة
وتحديده ، كي يكون معيارا في الاتحاد المذكور. وهي المسألة المهمة في المقام التي
عليها يبتني الكلام في جريان الاستصحاب في كثير من الموارد. وقد أطلقوا عليها
مسألة موضوع الاستصحاب.
والعنوان
المذكور وإن اختص بالموضوع المقابل للمحمول ، الذي يكون نسبة المحمول إليه نسبة
العرض إلى موضوعه ، إلا أن ملاك الكلام يجري في جميع ما يقوّم النسبة ، كما سبق.
ولعل وجه تخصيصهم الكلام بالموضوع كثرة الفروع المبتنية عليه بنحو أوجب انصرافهم
إليه وإغفالهم غيره ، وإن عمّه الكلام ، كما يظهر من بعض كلماتهم. ومن ثم رأينا
مجاراتهم في ذلك لينتظم كلامنا مع كلامهم ، والاكتفاء في التعميم بما ذكرناه هنا
من عموم الملاك.
ولا يخفى أن
الموضوع في كلامهم .. تارة : يراد به كل ما هو دخيل في ثبوت الحكم الشرعي وفعليته
، الذي تكون نسبته له نسبة العلة للمعلول ، كالوقت لوجوب الصلاة ، والاستطاعة
لوجوب الحج ، والتغير لنجاسة الماء ، والملاقاة لنجاسة الجسم ، والزوجية لوجوب
الإنفاق ، وغيرها.
وأخرى : يراد به خصوص ما هو المعروض للأمر المحكوم به
والمتعلق له ـ سواء كان ذلك الأمر المحكوم به شرعيا أم خارجيا ـ وهو الذي يحمل الحكم
عليه ، وتكون نسبته إليه نسبة المحمول للموضوع في القضية الحملية ، كالماء وسائر
الأجسام المعروضة للنجاسة ، والصلاة والصوم والحج المعروضة للوجوب ، والجسم
المعروض للبياض ، والماء المعروض للكرية ، وغيرها.
وكلامهم وإن
كان مضطربا ومشتبها بين المعنيين ، إلا أن الغرض من
تحديد الموضوع لما كان هو تحصيل الضابط لاتحاد القضية المشكوكة مع القضية
المتيقنة ، بحيث تكون بقاء لها ، تعين كون المعيار في المقام على المعنى الثاني ،
لأنه المقوم للقضية ، والذي يكون تعدده موجبا لتعددها ، ووحدته شرطا في وحدتها
واستمرارها. ولا أثر لاختلاف العلة في ذلك.
وحيث اتضح ذلك فاللازم التعرض لأمور يتم
بها الكلام في المقام.
أولها : أن الشك في العنوان المأخوذ في الكبريات الشرعية التي
تقع موردا لعمل المكلف .. تارة : يتعلق بمفهومه ، كالشك في مفهوم الحج والصلاة والصعيد
والغناء وأخرى : يتعلق بتطبيقه مع وضوح مفهومه ، كالشك في تحقق البيع
والإقالة والطلاق ببعض الألفاظ الخاصة ، والشك في صدق الماء مع امتزاجه بشيء من
الخليط. وفي كليهما يتعين الرجوع للشارع مع تعرضه للجهة المشكوك فيها.
ومع عدمه
فمقتضى الإطلاق المقامي لدليل الكبرى الشرعية الإيكال للعرف فيهما. لأنه بعد فرض
كون الكبرى عملية ، وتوقف العمل بها على إحراز صغراها في الخارج ـ المتفرع على
تحديد المفهوم ثم انطباقه على ما في الخارج ـ فخطاب الشارع للعرف بها ، مع إهماله
التعرض لذلك ، ظاهر في إيكال تطبيقها لهم حسبما يتيسر لهم ، ويصلون إليه بالوجه
المتعارف بينهم. وإرادة خلاف ذلك تحتاج إلى عناية وتنبيه ، ولا مجال للبناء عليها
بدونه.
نعم لا بد من
كون تطبيق العرف للمفهوم على ما في الخارج حقيقيا بنظرهم ، ولا مجال للاكتفاء
بتطبيقاتهم التسامحية المبنية على نحو من المجاز وإعمال العناية ، لخروجها عن ظاهر
الإطلاق ، حيث لا يعولون عليها في خطاباتهم. ومن هنا أفتى الفقهاء بعدم التسامح في
موارد التحديد ، كالأوزان والمسافات ونحوها.
كما لا مجال
للبناء على أن المعيار هي التطبيقات الواقعية المبنية على البحث والتدقيق المغفول
عنه عند العرف بحسب طبعهم وما يتعارف بينهم ، لخروجه عن مقتضى الإطلاق المقامي
المشار إليه. بل المتعين الاكتفاء بتطبيقات العرف الحقيقية ، وإن ابتنت على إغفال
التدقيق المذكور. ومن ثم لا إشكال ظاهرا في جواز امتثال التكليف بصاع الحنطة مثلا
بما يكون منها مخلوطا بقليل من التراب أو التبن بالوجه المتعارف ، وإن كان دون
الصاع دقة. وكذا في سائر موارد الاستهلاك.
أما لو لم
يتيسر للعرف تحديد المفهوم أو تشخيص المصداق ، لخفاء الحال عليهم في مورد ،
فاللازم التوقف عن العمل فيه بدليل الكبرى الشرعية ، والرجوع لمقتضى الأصول
والقواعد الأخر.
ثانيها : من الظاهر أنه لا إجمال في مفهوم النقض في أدلة
الاستصحاب بعد ما تقدم من لزوم حملها على إرادة الشك في الاستمرار ، حيث لا يراد
بالنقض إلا رفع اليد عن استمرار الشيء عند الشك فيه ، إلا أنه حيث كان ذلك موقوفا
على اتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة المتوقف على اتحاد موضوعهما كان صدق
النقض موقوفا أولا : على تعيين موضوع القضية المتيقنة ، وثانيا : على إحراز اتحاد القضية المشكوكة معها فيه.
وعلى هذا يتعين
الجري في كلا الأمرين على ما ذكرناه في الأمر السابق ، فيرجع في تعيين موضوع
القضية المتيقنة إلى ما يستفاد من الأدلة الشرعية حسبما يفهمه العرف منها ، بضميمة
القرائن الحالية والمقالية ونحوها. فإن لم تف ببيانه أو لم تكن القضية شرعية ، بل
خارجية ـ كقضية : الماء كر ، وزيد حي ـ تعين الرجوع في تحديد الموضوع للعرف حسبما
يدركونه بطبعهم. وإن لم يتيسر لهم في مورد تعيينه لزم التوقف وعدم جريان الاستصحاب
، لعدم إحراز موضوعه.
وكذا الحال في
اتحاد موضوع القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة. إلا أنه حيث لم يتصد الشارع
لبيان الاتحاد تعين الرجوع فيه للعرف لا غير. ويكون المعيار فيه على ما سبق من
البقاء الحقيقي العرفي ، دون البقاء الحقيقي الدقي ، كالاتحاد في موارد الاستحالة
، حيث يكون المستحال إليه بقاء للمستحيل ومتحدا معه دقة ، وإن كان متولدا منه
مباينا له عرفا ، ودون البقاء العرفي التسامحي المبني على نحو من العناية والمجاز
الملتفت إليه عرفا.
وأما ما يظهر
من بعض الأعيان المحققين قدسسره من أن المستفاد من نصوص الاستصحاب ـ بلحاظ التطبيقات
الواردة فيها ـ ابتناء اتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة على التسامح
العرفي ، وإلا فلا اتحاد بينهما بلحاظ حقيقة اختلاف الزمان. ففيه : أن التسامح في
الاتحاد بإلغاء خصوصية الزمان وإرادة البقاء لا يستلزم عقلا ولا عرفا التسامح في
صدق البقاء بلحاظ اختلاف حدود القضية من غير حيثية الزمان.
ثالثها : أن الموضوع بمعنى معروض الحكم ومتعلقه ـ الذي سبق أنه
محل الكلام ـ يختلف باختلاف القضايا المتيقنة ، حيث يكون .. تارة : جزئيا ، كالماء الموضوع للطهارة والكرية ، والثوب
الموضوع للبياض والملكية ، والمرأة التي هي موضوع للزوجية ونحو ذلك وأخرى : كليا كالدينار المملوك في الذمة ، والعمل المستأجر
عليه.
ومنه فعل
المكلف المتعلق للأحكام التكليفية ، كالصلاة والحج وشرب الخمر والزنى وغيرها ،
لوضوح أن التكليف يرد على الماهيات ذات الأفراد الكثيرة ، وليس وجود الفرد في مقام
الامتثال والعصيان إلا مسقطا للتكليف ، كما يكون تسليم الفرد في مقام الوفاء مسقطا
للدين. ونسبة التكليف لبعض الأمور الجزئية ، كنسبة التحريم للمرأة الخاصة ، ووجوب
الإكرام لزيد ، لا يخلو عن تسامح ومجاز ، لرجوعه للنسبة بلحاظ حال المتعلق.
فالمرأة حرام نكاحها ،
وزيد واجب إكرامه ، وليست الأمور الجزئية في مثل ذلك إلا قيودا لموضوع
التكليف مع كون الموضوع كليا.
ويترتب على ذلك
أن موضوع الحكم إذا كان كليا فهو قابل للتقييد ، فتكون الحصة الواجدة للقيد مباينة
للحصة الفاقدة له ، ولازم ذلك تعدد القضيتين المأخوذتين فيهما.
أما إذا كان
جزئيا فمن الظاهر أنه لا يقبل التقييد بشيء من الحالات المتواردة عليه ، بل هو
محفوظ بوحدته مهما اختلفت تلك الحالات ، فإن كان بعضها دخيلا في الحكم ـ كملاقاة
النجاسة للماء ، وتغيره بها ، والعقد على المرأة ، وطلاقها ، وحيازة المال ،
وشرائه ، وغير ذلك ـ كان شرطا أو علة للحكم خارجا عن موضوعه ، لا قيدا مقوما
للموضوع.
نعم قد يكون
قيدا للموضوع في الكبرى الشرعية ، فيقال : الماء المتغير نجس ، والأرض التي يحوزها
الإنسان ملك له ، والمرأة التي يعقد عليها زوجته. إلا أن الحكم في الكبرى حينئذ
إنشائي متعلق بالموضوع الكلي القابل للتقييد ، وليس هو موردا للأثر والعمل ، بل
مورد الأثر والعمل ـ الذي يجري فيه الاستصحاب ـ هو الحكم الجزئي الفعلي المتعلق
بالأمر الجزئي غير القابل للتقييد ، المحفوظ في حالتي وجود القيد المأخوذ في
الكبرى وعدمه.
رابعها : أن الموضوع .. تارة : يكون أمرا واحدا ، لكون الأمر المحمول عليه في القضية
حقيقيا ، كالكرية والطهارة القائمتين بالماء ، والعدالة والحرية القائمتين بزيد. وأخرى : يكون متعددا ، لكون الأمر المحمول عليه إضافيا قائما
بأكثر من واحد ، كالأخوة القائمة بالأخوين ، والزوجية القائمة بالزوجين ، والتكليف
القائم بالمكلّف والمكلّف والمكلّف به ، والدّين القائم بالدائن والمدين والمال
المستحق.
إذا عرفت هذا
فاللازم النظر في القضية الفعلية المتيقنة التي هي مورد الأثر ، ويراد استصحابها.
فإن كانت شرعية لزم النظر في موضوعها واحدا كان أو متعددا ، فإن كان جزئيا ـ كالإنسان
المعروض للتكليف ، والمرأة المعروضة للزوجية ، والماء المعروض للنجاسة ـ فاختلاف
حالاته لا يمنع من الاستصحاب ، لأنه لا يوجب تعدده وإن احتمل دخلها في التكليف.
إلا أن يكون الطارئ موجبا لانعدامه عرفا وإن كان باقيا دقة ، كما في موارد
الاستحالة والاستهلاك ، لما سبق من عدم الاعتداد بالبقاء الدقي ، ولا بالبقاء
العرفي التسامحي.
وإن كان
الموضوع كليا ، كالمال الذي تنشغل به الذمة في الدين ، والفعل الذي يكون موردا
للتكليف والإجارة. فإن علم بتقييده بقيد مفقود حين الشك ، واحتمل التكليف بالفاقد
حينئذ ، ولو لأنه الميسور ، فلا مجال للاستصحاب ، لتعدد الموضوع حقيقة. خلافا لما
يظهر من بعض كلماتهم من الرجوع له ، اكتفاء منهم بالتسامح العرفي ، إما في نفس
موضوع القضية المتيقنة بفرضه الأعم من واجد القيد وفاقده ، تغافلا عن أخذ القيد ،
وإما في اتحاد فاقد القيد مع واجده تنزيلا له منزلته ، وقد سبق أنه لا تعويل على
التسامح في المقامين.
ومثله التسامح
في اتحاد الحكم المحمول على الموضوع ، فيقال : كان هذا الناقص واجبا فهو كما كان ،
مع إغفال أن وجوبه المتيقن في الزمان السابق ضمني ارتباطي بالإضافة إلى وجوب التام
الواجد للقيد المفقود ، وهو معلوم الارتفاع ، ووجوبه المشكوك في الزمان اللاحق
استقلالي غير متيقن سابقا ، بل متيقن العدم. لأنه لا عبرة بالاتحاد التسامحي ، لما
تقدم من أن ما يجري في الموضوع يجري في المحمول وفي جميع أجزاء القضية المستصحبة.
وإن احتمل
تقييد الموضوع بالقيد المفقود لزم الرجوع لأدلة الحكم الشرعي ونحوها كالأمارة على
الدّين ، فإن أحرز منها إطلاق متعلق الحكم ،
وكان احتمال ارتفاع الحكم لرافع خارج عن الموضوع جرى الاستصحاب ، كما لو شك
في سقوط التكليف لنسخه ، أو شك في سقوط الدين بالوفاء أو الإبراء. وإن لم يحرز
الإطلاق فحيث لا مجال للرجوع للعرف ، لعدم الطريق لهم لمعرفة مثل ذلك ، يتعين
التوقف وعدم الرجوع للاستصحاب ، لعدم إحراز الموضوع ، كما لو تردد التكليف بين
الموقت والمطلق.
ومنه يظهر حال
ما إذا كانت القضية المتيقنة غير شرعية ، ككون الماء كرا ، والثوب أبيض ، ونحو
ذلك. فإنه حيث لم يكن للشارع دخل فيها يتعين الرجوع في تعيين موضوعها وفي اتحاده
مع موضوع القضية المشكوكة للعرف. ويكون المعيار على تطبيقه الحقيقي ، دون التسامحي
، ودون التطبيق الدقي المغفول عنه عرفا. وإن لم يتسن للعرف تحديد الموضوع أو
استيضاح الاتحاد لم يجر الاستصحاب.
الفصل الثاني
في شروط الاستصحاب
والمراد بها كل
ما هو خارج عن أركان الاستصحاب المقومة لمفهومه مما كان دخيلا في جريانه وترتب
العمل عليه ، سواء كان وجوديا ـ وهو الذي قد يختص باسم الشرط اصطلاحا ـ أم عدميا ـ
وهو عدم المانع ـ فإنهما معا محل الكلام في المقام. لكن حيث كان عدم المانع هو عدم
ما يكون مقدما على الاستصحاب رتبة في مقام العمل ، وعدم المعارض الراجح أو المكافئ
، فالمناسب إيكاله إلى ما يأتي في مباحث التعارض ، حيث لا ميزة للاستصحاب في ذلك
عن بقية الأصول إلا في نكات قليلة يأتي التعرض لها إن شاء الله تعالى. ونقتصر في
الكلام هنا على الشرط وهو ينحصر بترتب الأثر العملي. فنقول :
الاستصحاب ـ كسائر
التعبدات الشرعية في موارد الحجج والأصول ـ إنما يصح مع ترتب العمل عليه ، إذ مع
عدم ترتب العمل يكون التعبد بمؤداه لاغيا عرفا وعقلا. مضافا إلى ظهور عدم النقض في
ذلك ، إذ بعد تعذر حمله على معناه الحقيقي يتعين حمله على عدم النقض عملا.
ولا فرق في
ترتب العمل بين ترتبه على المستصحب بلا واسطة ـ كما في استصحاب الحكم التكليفي ـ وترتبه
عليه بواسطة ، كما في استصحاب الحكم الوضعي والموضوع الخارجي اللذين يترتب عليهما
العمل بواسطة أثرهما وهو الحكم الشرعي. لإطلاق النهي عن نقض اليقين بالشك بعد حمله
على النقض العملي. ولخصوص صحاح زرارة وعبد الله بن سنان المتضمنة جريان الاستصحاب
في الطهارة الحدثية والخبثية ، اللذين لا يترتب عليهما العمل إلا بواسطة الحكم
التكليفي المترتب عليهما.
هذا والمراد
بالواسطة ما يكون وجوده لازما لوجود التعبد به.
والملازمة .. تارة : تكون اتفاقية ، كما لو علم إجمالا بوجود أحد أمرين ،
فإن عدم أحدهما مستلزم لوجود الآخر.
وأخرى : تكون حقيقة ناشئة عن علاقة بين الأمرين.
وذلك إما لكون
الأمر المتعبد به سببا للازم ، كالسفر المستلزم لوجوب الإفطار ، والنار المستلزمة
لتلف المال ، أو مسببا عنه ، كحرمة وطء الزوجة البالغة المستلزم لحيضها ، وعدم حيض
الجارية المستلزم لعقمها. وإما لكونهما مسببين عن سبب واحد أو سببين متلازمين ،
كوجوب الصلاة على المرأة وجواز وطئها المسببين عن بلوغها تسع سنين ، واحتراق الجسم
ووجود الدخان المسببين عن النار. ومنشأ الملازمة إما شرعي أو غير شرعي ، كما يظهر
من الأمثلة المتقدمة.
وقد تردد في
كلماتهم نهوض الأدلة والأمارات بإثبات الأثر العملي مع الواسطة في جميع موارد
الملازمة المتقدمة. أما الأصول ـ ومنها الاستصحاب ـ فقد ذكر شيخنا الأعظم قدسسره ومن تأخر عنه عدم نهوضها إلا بإثبات الأثر العملي
المترتب مع الملازمة الشرعية في مورد تكون الواسطة مسببة عن مجرى الأصل ، فلا يحرز
بالأصل إلا مجراه وما يترتب على مجراه شرعا من أحكام وآثار ، ولو مع تعدد الوسائط
، دون ما يكون سببا لمجراه شرعا ، أو يلازمه بملازمة غير شرعية. وهي المسألة
المعبر عنها في كلماتهم بعدم حجية الأصل المثبت.
أما من سبقهم
فقد يظهر منهم التوسع في العمل بالأصل ، والتمسك به في بعض موارد الملازمات غير
الشرعية. ولعله ناشئ عن الغفلة عن حالها ، لعدم توجههم لذلك ، وعدم اهتمامهم بتحديد
كبراه ، وإلا فمن البعيد جدا ذهابهم إلى عموم العمل بالأصل مع الملازمة.
وقد يوجه عدم
اعتبار الأصل المثبت بأن المنصرف من أدلة التعبد الشرعية النظر للكبريات الشرعية
وتنقيح صغرياتها ، فلا يحرز الأصل إلا صغرى تلك الكبريات. فإذا كان لمجرى الأصل
أثر شرعي ترتب ، كما يترتب الأثر الشرعي لذلك الأثر وأثر أثره وهكذا مهما تعددت
الوسائط ، لأن ترتب الأثر الشرعي على موضوعه مفاد كبرى شرعية ، فإذا كان مقتضى
الأصل التعبد بموضوع الأثر كان الأصل محرزا لصغرى الكبرى المذكورة ، وبضميمة
الكبرى المذكورة يترتب الأثر ، فإذا أحرز الأثر بالأصل فقد أحرزت أيضا الصغرى
للكبرى المتضمنة لأثره ... وهكذا.
مثلا : إذا وكل
المسافر شخصا على ماله ، ليؤدي منه ما عليه من حقوق وواجبات ، ثم طالت غيبته حتى
احتمل موته ، فهناك كبريات شرعية ، الأولى : أنه مع حياة الزوج وعدم طلاقه للزوجة
تبقى زوجته في حبالته ، الثانية : أنه مع
بقاء المرأة في حبالة الزوج يجب عليه الإنفاق عليها ، الثالثة : أنه يجوز
أو يجب على الوكيل تفريغ ذمة موكله من الحقوق التي عليه.
وحينئذ
فاستصحاب بقاء الزوج حيا غير مطلق لزوجته محرز لصغرى الكبرى الأولى ، وينتج من ذلك
بقاء زوجته في حبالته ، وبذلك تحرز صغرى الكبرى الثانية ، وينتج من ذلك وجوب
النفقة لها عليه ، فتحرز بذلك صغرى الكبرى الثالثة ، ومقتضاها جواز أو وجوب قيام
الوكيل عنه بذلك ، فينفق عليها من ماله.
أما إذا لم تكن
الملازمة مقتضى كبرى شرعية ـ كما لو علم في المثال السابق أن المسافر المذكور لو
كان حيا لكان عاجزا عن الصوم لشيخوخته حينئذ ، فتجب عليه الفدية ، ويجوز أو يجب
على وكيله إخراجها من ماله وأداؤها عنه ـ فلا ينهض الأصل بإحراز اللازم ـ كالشيخوخة
في المثال المذكور ـ لانصراف التعبد عنه. وحينئذ لا يترتب أثره الشرعي ـ كوجوب
الفدية في المثال السابق ـ لعدم إحراز موضوعه. وأما إحراز الأثر من دون إحراز
موضوعه ، بل بمجرد إحراز لازم الموضوع ، نظير الطفرة. فهو ممتنع أيضا ، لعدم كونه
أثرا شرعيا للازم المذكور.
لكن يشكل الوجه
المذكور بأن لازم ذلك عدم جريان الأصل في الأحكام التكليفية غالبا ، لعدم الأثر
الشرعي لها ، ليكون التعبد بها تعبدا بصغرى كبرى شرعية ، بل يختص أثرها غالبا بحسن
الطاعة وترك المعصية وهما لازمان لها عقلا. وحيث لا إشكال في جريانه فيها فلا بد
أن يكون جريانه مبتنيا على التوسع في العمل المعتبر في جريان الأصل.
ومن هنا فقد
يدعى أن مفاد الأصل هو جعل مؤداه ظاهرا لا غير ، حيث قد يدعى حينئذ أن ترتب الآثار
الشرعية ـ ولو مع تعدد الواسطة ـ إنما هو لتبعية
الحكم لموضوعه ، حتى مثل حسن الطاعة ، لأن موضوعه عقلا أعم من التكليف
الواقعي والظاهري.
أما غير ذلك من
اللوازم فلا مجال لترتبها ، لأنها لازمة للوجود الواقعي لا غير. كما لا مجال لترتب
الآثار الشرعية لتلك اللوازم ، لعدم إحراز الأصل للأثر ابتداء ، بل بتبع موضوعه ،
والمفروض عدم ترتب الموضوع المذكور.
لكن يظهر ضعفه
مما سبق ـ في أوائل مبحث الحجج عند الكلام في مفاد الأصول التعبدية من مبحث الجمع
بين الحكم الظاهري والواقعي ـ من عدم تضمن الأصول المذكورة جعل حكم ظاهري مباين
للحكم الواقعي ، بل ليس مفادها إلا تعبد الشارع بمفادها إثباتا المقتضي للبناء
عليه في مقام العمل.
فراجع.
مضافا إلى أن
لازم الوجه المذكور عدم جريان الاستصحاب في الموضوع الخارجي ، لعدم كونه قابلا للجعل
الشرعي ، وحيث لا إشكال في جريانه فلا بد من كون جعل الأثر هو المصحح لنسبة الجعل
إليها بعلاقة الملازمة ، وذلك كما يجري في الأثر الشرعي المترتب عليها بلا واسطة ،
يجري في الأثر الشرعي المترتب عليها بواسطة اللازم غير الشرعي ، لاشتراكهما في
الملازمة المصححة للنسبة مجازا. وهناك بعض الوجوه الأخر لا مجال لإطالة الكلام
فيها.
والتحقيق : أن
الوجه فيما ذكروه هو ما سبق من أن مفاد الأصول التعبدية تعبد الشارع بمفادها
إثباتا ، المقتضي للبناء عليه في مقام العمل ، فإن ذلك كما يجري في الأحكام
التكليفية يجري في الأحكام الوضعية والموضوعات الخارجية. غايته أنه في الأحكام
التكليفية يقتضي العمل على مقتضاها بلا واسطة بحكم العقل ، لأنه يكفي في المعذرية
والمنجزية عقلا. أما في الأحكام
الوضعية والموضوعات الخارجية فهو يقتضي العمل بتوسط أثره الشرعي ـ مهما
تعددت الوسائط ـ لأن التعبد من قبل الشارع بالشيء يقتضي عرفا التعبد بأثره الشرعي.
أما لازمه غير الشرعي فلا مجال للبناء على تعبد الشارع به تبعا لتعبده بالملزوم ،
لأنه أجنبي عنه. كما لا مجال لإحراز تعبده بالأثر الشرعي للازم المذكور بعد عدم
تعبده بموضوعه. ومن هنا تعين البناء على عدم جريان الأصل المثبت.
هذا وقد يستدل
على عدم اعتبار الأصل المثبت بأنه لا يظهر أثر جريانه إذا كانت الواسطة غير
الشرعية موردا لأصل موافق ، كما في استصحاب عدم النار المستلزم لعدم التلف وعدم
الضمان ، حيث يغني الأصل الموافق ـ كاستصحاب عدم التلف ، أو عدم الضمان ، أو أصالة
البراءة من وجوبه في المثال المتقدم ـ عن الأصل المثبت ، وإنما يظهر أثره فيما إذا
لم يكونا موردا لأصل موافق ، كما في استصحاب بقاء النار المستلزم للتلف والضمان.
والالتزام
باعتبار الأصل المثبت في مثل ذلك مستلزم لسقوطه غالبا بالمعارضة ، لجريان الأصل
المعارض في الواسطة أو الأثر ، فكما يكون مقتضى استصحاب النار ـ بناء على اعتبار
الأصل المثبت ـ إحراز التلف والضمان ، كذلك يكون مقتضى استصحاب عدم التلف وعدم
الضمان عدم بقاء النار ، فيتعارضان ويتساقطان ، ويرجع لأصالة البراءة من وجوب
الضمان.
وتنحصر فائدة
الأصل المثبت فيما إذا لم تتم أركان الاستصحاب المعارض في اللازم ولا في أثره. وهو
نادر. ولعله إلى هذا نظر من استدل على عدم اعتبار الأصل المثبت بلزوم التعارض في
جانب الثابت والمثبت ، كما حكاه شيخنا الأعظم قدسسره.
لكنه يندفع
بأنه حيث لا إشكال في عدم معارضة الأصل الجاري في الأثر الشرعي للأصل الجاري في ذي
الأثر ، لما يأتي في محله من حكومة الأصل السببي على الأصل المسببي ، أمكن البناء
على ذلك في الأثر غير الشرعي ، لو قيل باعتبار الأصل المثبت. وحينئذ لا تتم
المعارضة إلا فيما إذا لم يكن أحد المتلازمين أثرا للآخر لا شرعا ولا خارجا ، كما
لو علم إجمالا بتطهير أحد الإنائين النجسين ، حيث يكون مقتضى استصحاب نجاسة كل
منهما ـ بناء على اعتبار الأصل المثبت ـ طهارة الآخر ، فيتم التعارض حينئذ ، ويظهر
أثر اعتبار الأصل المثبت في مورد يكون أحد المتلازمين أثرا للآخر ، كما هو كثير.
بقي في المقام أمور ..
الأمر الأول : قد يستثنى من عدم اعتبار الأصل المثبت موارد ، عمدتها
ما ذكره شيخنا الأعظم قدسسره من أن الواسطة التي يستند إليها الأثر حقيقة إذا كانت
خفية ، بحيث يغفل عنها ويعد أثرها عرفا أثرا للمستصحب لم يبعد نهوض الاستصحاب
بإحراز أثرها المذكور.
وقد مثل قدسسره لذلك بأمرين الأول : استصحاب بقاء رطوبة أحد المتلاقيين إذا كان أحدهما
نجسا لإحراز انفعال الآخر به ، مع أن انفعاله من آثار سراية النجاسة الملازمة
لبقاء الرطوبة الثاني : استصحاب بقاء شهر رمضان وعدم دخول شهر شوال يوم الشك
لإحراز كون اليوم الثاني عيدا ، ليترتب عليه أحكامه ، من الصلاة والفطرة وغيرها ،
مع كون التلازم بين الأمرين خارجيا لا شرعيا.
ويشكل أولا : بأنه لا ضابط لخفاء الواسطة ، إذ لا يتضح الفرق بين
الاستصحابين المذكورين واستصحاب بقاء الماء في الحوض لإحراز طهارة ما وقع فيه ،
التي هي من آثار لازمه الخارجي ، وهو إصابة الماء له ، وكذا
استصحاب بقاء حياة المورث إلى حين إسلام الوارث ، لإحراز إرثه منه ، الذي
هو من آثار لازمه وهو موته بعد إسلامه ، مع أنه قدسسره التزم بعدم جريان الأصلين المذكورين ، لأنهما من الأصل
المثبت.
بل لا يحتمل من
أحد توهم خفاء الواسطة في مثل آثار العيد ، إذ لا ريب في نسبتها عرفا لموضوعها
الشرعي وهو العيد ، لا لكون شهر رمضان من اليوم السابق ، فلا بد من كون منشأ
البناء على ذلك أمرا آخر ، على ما يأتي الكلام فيه في استصحاب الزمان إن شاء الله
تعالى.
وثانيا : بما يستفاد من غير واحد. وحاصله : أن النظر العرفي
إذا رجع إلى فهم العرف من الكبرى الشرعية أن موضوع الأثر هو الأمر المستصحب ، لا
الواسطة ، فلا إشكال في العمل عليه ، لأن المرجع في فهم القضايا والكبريات الشرعية
هو العرف ، ويخرج المورد حينئذ عن الأصل المثبت. أما إذا رجع إلى التسامح في نسبة
الأثر بعد
فرض كون موضوع
الأثر هو الواسطة ، فلا وجه للتعويل عليه بعد خروجه عما يستفاد من كبرى الاستصحاب
، وهو التعبد بالمستصحب المستتبع للتعبد ب آثاره لا غير ، ولا عبرة بالتسامح
العرفي في نسبة الأثر الراجع للتسامح في تطبيق كبرى الاستصحاب ، كما تقدم نظيره في
بحث موضوع الاستصحاب.
الأمر الثاني : من الظاهر أن الأمور الدخيلة في موضوعات الآثار
الشرعية قد أخذت في لسان الأدلة بعناوينها العامة الكلية ، كالبلوغ المأخوذ في
موضوع التكليف ، والاستطاعة المأخوذة في موضوع وجوب الحج ، والطهارة المأخوذة قيدا
في كثير من الواجبات والمستحبات ، والنجاسة المأخوذة في حرمة الأكل.
ومن الظاهر أن
الاستصحاب في الموضوعات الخارجية إنما يكون
للأفراد الخاصة التي ينطبق عليها الكلي ، ويكون ترتب الأثر عليها بتوسطه ،
وليس هذا من الأصل المثبت ، لوضوح أن أخذ الكلي في موضوع الأثر إنما هو بلحاظ حكايته
عن أفراده الخارجية ، فهي الموضوع في الحقيقة لأفراد الأثر التي يراد ترتيبها
بالاستصحاب.
نعم لا بد في
استصحاب الفرد من استصحابه بحيثيته العنوانية المأخوذة في موضوع الحكم ، فلا بد من
سبق اليقين به بالحيثية المذكورة ، ولا يكفي استصحابه بذاته مع قطع النظر عن
الحيثية المذكورة وإن كانت ملازمة له. فإذا كان موضوع الأثر هو العالم أو الأبيض
فلا بد من استصحاب العالم الخاص أو الأبيض الخاص ، ولا يكفي استصحاب زيد بمفهومه
الخاص وإن كان ملازما للعالم أو الأبيض.
وعليه لا بد من
إحراز منشأ انتزاع العنوان المأخوذ في موضوع الحكم ، لتوقف اليقين بخصوصية العنوان
عليه ، من دون فرق في ذلك بين العنوان الذاتي ـ كالإنسان ـ والعرضي الحقيقي ـ كالأبيض
ـ أو الاعتباري ـ كالزوج ـ أو غيرها مما يفرض كونه دخيلا في موضوع الأثر.
ومن هنا قد
يشكل الأمر في استصحاب صغريات بعض العناوين المأخوذة في قضايا غير شرعية من أجل
إحراز آثار شرعية ثابتة في كبريات شرعية لعناوين أخرى لا تحرز بالاستصحاب. كما لو
نذر الرجل أن يتصدق في كل يوم ما دام ولده حيا ، فشك في حياة ولده في يوم ، حيث قد
يشكل استصحاب حياة ولده لإحراز وجوب التصدق ، بأن حياة الولد ليست موضوعا لوجوب
التصدق في كبرى شرعية ، بل هي لازمة عقلا لكون التصدق وفاء بالنذر ، الذي هو موضوع
الكبرى الشرعية ، من دون أن يستصحب كون التصدق في ذلك اليوم وفاء بالنذر ، لعدم
سبق اليقين بذلك.
ومثل النذر في
ذلك اليمين والعهد. وكذا الشرط والعقد ، كما لو استحق
زيد على عمرو منفعته يوم الجمعة بإجارة أو شرط ، ثم شك في بقاء يوم الجمعة
في ساعة ، فإن استصحاب بقاء يوم الجمعة لإثبات ملكيته لمنفعة تلك الساعة لا يكون
إلا بتوسط صدق عنوان الوفاء بالعقد أو الشرط ، من دون أن يكون يوم الجمعة بنفسه
موضوعا لملكية المنفعة المذكورة في كبرى شرعية ، لأن موضوع الكبرى الشرعية الوفاء
بالشرط.
ومن الظاهر أنه
لا مجال للبناء على مانعية توسط العناوين المذكورة فيها من العمل بالأصل. كيف؟!
ولازمه عدم جريان استصحاب الطهارة مثلا لإحراز وقوع الصلاة وفاء عن النذر أو
الإجارة أو نحوهما ، فإن ترتب صحة الصلاة على الطهارة وإن كان مستفادا من كبرى
شرعية ، مثل : «لا صلاة إلا بطهور» ، إلا أن ترتب امتثال الأمر بالوفاء بالنذر أو العقد أو
نحوهما عليها ليس إلا بتوسط صدق عنوان الوفاء بها عقلا بعد أن كان موضوع النذر أو
العقد أو نحوهما هو الصلاة المشروعة المشروطة بالطهارة.
وعلى ذلك لا بد
من النظر في وجه عدم إخلال توسط مثل هذه العناوين في العمل بالأصل ، وخروجه عما
تقدم في الأصل المثبت.
وقد ذكر المحقق
الخراساني قدسسره في وجهه أن الحكم في الكبريات الشرعية لم يرد على عنوان
الوفاء إلا لمحض الحكاية عن الأفراد الخاصة التي هي مجرى الأصل من دون أن يكون
دخيلا في الحكم ، بل هو منتزع منها ، ولم يؤخذ في موضوع الكبريات الشرعية إلا
لكونه جامعا لشتات تلك الأفراد مانعا من دخول غيرها ، كما هو الحال في كل عنوان
منتزع عن العناوين المختلفة المتفقة في ملاك الحكم ، كعنوان المقدمية والضدية ونحوهما.
وفيه : أن جميع
العناوين المذكورة في الكبريات الشرعية إنما يراد بها
__________________
الحكاية عن المصاديق ، ولا خصوصية لعنوان الوفاء في ذلك ، لكن ذلك لا ينافي
دخلها في الحكم بنحو يلزم إحرازها بالأصل ، بحيث لا بد من إحراز المصداق بالأصل من
حيثيتها ، لا بذاته ، كما تقدم.
وأما ما ذكره
من أن عنوان الوفاء منتزع من الأفراد المذكورة ، فإن أراد به أن تعلق الحكم به
بلحاظ وجوده الخارجي الذي لا يكون إلا بوجود الفرد. فهو يجري في كل عنوان يؤخذ في
كبريات الأحكام الشرعية. وإن أراد به سوقه لمحض الحكاية عن الأفراد من دون أن يكون
دخيلا في الحكم ، وليس الدخيل في الحكم إلا الأفراد بعناوينها الخاصة ، فيكفي
إحرازها بالأصل بنفسها من دون حاجة إلى إحرازه ـ كما يناسبه تنظيره بالمقدمية
والضدية ـ فهو خروج عن ظواهر الأدلة ، بل عما هو المقطوع به منها من دخله فيه ،
كسائر العناوين المأخوذة في القضايا الشرعية ، بل مطلق القضايا الحقيقية.
كيف؟! ولازمه
عدم جريان الأصل في نفس وجوب الوفاء أو موضوعه أو شرطه أو مانعة ، كحصول النذر ،
وحلّ الأب أو الزوج له ونحوهما مما يرجع إلى كبرى وجوب الوفاء. ولا مجال لقياسه
بعنوان المقدمية والضدية ، لوضوح عدم أخذها في موضوع الحكم في أدلة شرعية ، وإنما
استفيد ثبوت الحكم الشرعي لهما بحكم العقل الذي لا نظر له إلا إلى المصداق بنفسه ،
وليست المقدمية أو الضدية إلا جهة تعليلية أو انتزاعية.
فلعل الأولى أن
يقال : لا يتوقف جريان الأصل على أن يكون مجراه مأخوذا في كبرى شرعية ، بل يكفي
كونه موضوعا للأثر الشرعي ـ ليدخل في ما تقدم من أن التعبد بالموضوع يستتبع التعبد
بأثره ـ سواء كان ذلك مفاد الكبرى الشرعية ـ كاستصحاب زوجية المرأة لإحراز وجوب
الإنفاق عليها ، أو عدم حلّ الزوج لليمين لإحراز نفوذه ـ أم مستفادا من انطباق
الكبرى على الصغرى ، كما في المقام ونحوه مما كانت الصغرى فيه قضية ، وكان
المستفاد من الكبرى
نفوذها وجعل مضمونها شرعا ، حيث يرجع ذلك إلى قيام الأثر شرعا بالموضوع
المأخوذ في القضية المذكورة بخصوصياتها العنوانية ، فإذا أحرز ذلك الموضوع ترتب
أثره.
وذلك لأن مفاد
كبرى وجوب الوفاء بالنذر والعقد والشرط مثلا هو إمضاء مفاد النذور والعقود والشروط
الواقعة من المكلفين ، وجعل مضمونها شرعا ـ تبعا لإنشائه من موقعها ـ بخصوصياته
المجعولة في القضية المنشأة ، فالقضية التي يتضمنها النذر والعقد والشرط وإن كانت
مجعولة لمنشئها بدوا ، إلا أنها بسبب نفوذها المستفاد من كبرى الأمر بالوفاء تكون
مجعولة شرعا ، كالكبريات الشرعية ، والآثار التي تتضمنها تبعا لموضوعاتها آثار
شرعية يجري الاستصحاب بلحاظها. بل هي في الحقيقة بسبب الإمضاء المذكور كبريات شرعية
، كسائر القضايا المجعولة شرعا ، وتشاركها في آثارها.
وبذلك يظهر أنه
لا حاجة إلى توسط عنوان الوفاء بين المستصحب والأثر ، بل المستصحب بنفسه موضوع
للأثر شرعا ، فيخرج عن الأصل المثبت.
الأمر الثالث : تقدم أن استصحاب الحكم التكليفي إنما يجري بلحاظ ترتب
العمل عليه بلا واسطة ، وأن استصحاب الحكم الوضعي أو الموضوع الخارجي إنما يجري
بلحاظ ترتب أثره الشرعي بضميمة الملازمة العرفية بين التعبد بالشيء والتعبد بأثره.
ومن هنا قد
تشكل الاستصحابات العدمية في موردين :
الأول : استصحاب عدم التكليف ، حيث قد يستشكل فيه بوجهين :
أحدهما
: أن عدم
التكليف ليس مجعولا شرعا ، فإن المجعول هو الأحكام الخمسة دون عدمها ، وإلا كانت
الأحكام عشرة.
وقد دفع ذلك
المحقق الخراساني قدسسره بأن عدم التكليف وإن لم يكن
حكما شرعيا إلا أنه تابع للشارع ، لأن سلطنته على جعل الحكم تستلزم سلطنته
على عدمه ، وهو كاف في جريان الاستصحاب بعد عموم النهي عن نقض اليقين بالشك.
هذا ولا يخفى
أن الإشكال والدفع مبنيان على أن مفاد الأصول التعبدية ـ ومنها الاستصحاب ـ جعل
الحكم المماثل ظاهرا. وقد أشرنا في أوائل هذا الفصل إلى ضعف المبنى المذكور ، وأن
مفادها هو التعبد بالمؤدى ولزوم البناء عليه ، وهو لا يختص بالأحكام الشرعية ، ولا
بما يكون تحت سلطان الشارع ، بل يجري حتى في الأمور الخارجية التي لا دخل للشارع
بها.
غايته أنه لا
بد من ترتب العمل عليه ، وهو حاصل في المقام ، إذ كما يترتب العمل على استصحاب
التكليف ، بلحاظ أن التعبد الشرعي بالتكليف كاف في المنجزية المستتبعة للزوم
موافقته عقلا ، كذلك يترتب على استصحاب عدم التكليف ، بلحاظ أن التعبد بعدم
التكليف كاف في المعذرية المستتبعة لعدم وجوب موافقته عقلا.
ثانيهما
: ما يظهر من
شيخنا الأعظم قدسسره من أن العمل إنما يترتب على استصحاب عدم التكليف بلحاظ
ملازمة عدم التكليف للإذن والترخيص في الفعل أو الترك ، فيبتني على الأصل المثبت.
لكنه مبني على
أصالة الحظر عقلا ، وأن الرافع لاستحقاق العقاب هو الترخيص ، فلا معذرية إلا
بإحرازه. وهو خلاف التحقيق ، بل الأصل الإباحة عقلا ، وأن استحقاق العقاب مشروط
بمنع الشارع ، فإحراز عدم التكليف وعدم المنع الشرعي كاف في المعذرية. فلاحظ.
الثاني : استصحاب عدم الموضوع للحكم الشرعي ، سواء كان أمرا
خارجيا ـ كالقتل ـ أم شرعيا ـ كالنجاسة ـ لأن الأثر ليس للعدم المستصحب ، بل
للوجود ، غاية الأمر أن عدم الموضوع ملازم واقعا لعدم ترتب حكمه ، فيبتني
على الأصل المثبت. نعم لو كان العدم بنفسه مأخوذا في موضوع الحكم الشرعي
أمكن استصحابه ليترتب حكمه.
ويندفع بأنه
كما يكون التعبد بوجود الموضوع مستتبعا عرفا للتعبد بحكمه ، كذلك يكون التعبد بعدم
الموضوع مستتبعا عرفا للتعبد بعدم حكمه ، وكما لا يبتني العمل في الأول على الأصل
المثبت ، لا يبتني عليه في الثاني.
الأمر الرابع : لا يعتبر في خروج الأصل عن كونه مثبتا كون مجراه تمام
الموضوع الشرعي للأثر الشرعي ، أو تمام المنشأ للعمل عقلا ، بل يكفي دخله فيه
بعنوانه بنحو من أنحاء الدخل ، جزءا كان أو شرطا أو مانعا أو غير ذلك.
ويكفي في وجه
ذلك تطبيق كبرى الاستصحاب في صحيحتي زرارة على الطهارة الحدثية والخبثية مع وضوح
أن المستصحب لا يكفي في ترتب الأثر المهم ، وهو صحة الصلاة ، بل لا بد معه من شروط
وأجزاء أخر لا يحرزها الاستصحاب المذكور ، بل لا بد من إحرازها بالوجدان ، أو بأصل
آخر.
ومن هنا تكرر
في كلامهم أنه لا بأس بضم الوجدان للأصل في إحراز موضوع الأثر ، ولا يكون الأصل
مثبتا بعد كون المستصحب بعنوانه دخيلا في الأثر.
وإنما يكون
مثبتا إذا كان الدخيل في الأثر هو العنوان اللازم أو المنتزع من جملة أمور بعضها
مجرى الأصل ، كما لو كان موضوع الأثر هو وجود عشرة رجال في الدار ، وعلم بدخول
تسعة وشك في وجود زيد معهم بعد العلم بسبق وجوده فيها ، فإن استصحاب بقائه لا ينفع
في ترتب الأثر المذكور بعد عدم دخله بعنوانه فيه ، وإنما الدخيل عنوان العشرة
اللازم للمستصحب. وكذا لو كان
موضوع الأثر هو ارتفاع زيد على عمرو في المكان ، وعلم بسبق وجود زيد في
المكان العالي ثم علم بدخول عمرو في المكان الأسفل بعد احتمال خروج زيد من مكانه ،
فإن استصحاب بقاء زيد في مكانه لا يكفي في ترتب الأثر المذكور بعد عدم دخله فيه
بعنوانه ، وإنما الدخيل عنوان الارتفاع في المكان اللازم للمستصحب.
الأمر الخامس : يكفي في جريان الاستصحاب أن يكون لبقاء المستصحب أثر
في مقام العمل ، سواء كان تعلق العمل به حين الشك في البقاء ـ كما في استصحاب
طهارة الثوب لإحراز مشروعية الدخول في الصلاة به ـ أم بعده ـ كما في موارد الشك في
تأخر الحادث ـ أم حين اليقين بالحدوث ـ كما في استصحاب بقاء الدم ثلاثة أيام
لترتيب آثار الحيض بمجرد رؤيته ـ أم قبله ، كما لو وجب تهيئة الطعام للزائر إن كان
يبقى إلى الظهر ، وعلم يوم الخميس بمجيئه صباح الجمعة وشك في بقائه إلى الظهر. فإن
استصحاب بقائه إلى الظهر موجب لتنجز وجوب تهيئة الطعام ، ولو بإعداد مقدماته
المفوتة.
كل ذلك لعموم
دليل الاستصحاب ، بعد تحقق أركانه من اليقين بالحدوث والشك في البقاء وترتب العمل
الرافع للغوية. وعلى ذلك يبتني ما ذكره غير واحد من جريان الاستصحاب في الأمور
المستقبلة.
ودعوى : انصراف
عموم الاستصحاب لصورة فعلية المشكوك ولو بلحاظ مورد النصوص. مدفوعة بمنع الانصراف
المذكور. ولا سيما بعد كون القضية ارتكازية شاملة للجميع. كيف ولازم ذلك اختصاصه
بالصورة الأولى ، وعدم جريانه في الصورة الثانية ، للعلم بارتفاع المشكوك ـ وهو
عدم الحادث ـ فيها حين إرادة ترتيب الأثر. وإلحاقها وحدها دون الأخيرتين بالصورة
الأولى تحكم بعد اختصاص المورد بالصورة الأولى ، واشتراك الجميع في الدخول تحت
العموم الارتكازي.
الأمر السادس : اشتهر في كلام المتأخرين الفرق بين الأمارة والأصل في
الحجية في لازم المؤدى ، كما أشرنا إليه آنفا.
وقد تصدى غير
واحد لبيان وجه الفرق بينهما في ذلك. فقد ذكر بعض الأعاظم قدسسره لذلك وجها طويلا أسهب في ذكر مقدماته. وحاصله : أن مفاد
أدلة اعتبار الأمارة تتميم كشفها وجعلها علما تعبدا بالإضافة إلى المؤدى ، فتترتب
عليها آثار العلم به ، فكما كان العلم الحقيقي بشيء مثبتا لآثاره ولوازمه
وملزوماته مهما تعددت الوسائط ، فكذلك قيام الأمارة عليه. بخلاف الأصل فإن أدلة
اعتباره لا تقتضي إلا التعبد بمؤداه ، دون لوازمه ، من دون أن تقتضي تتميم كشفه
وجعله علما ، ليشارك العلم في ذلك.
وفيه أولا : أنه ليس مفاد دليل اعتبار الأمارة تتميم كشفها ولا
جعلها علما تعبدا ، بل مجرد جعل حجيتها ، كما تقدم في مقدمة علم الأصول ، ويأتي في
مباحث التعارض عند الكلام في وجه تقديم الطرق على الأصول إن شاء الله تعالى.
وثانيا
: أن إثبات
العلم بالشيء لجميع آثاره ولوازمه إنما هو بضميمة التلازم خارجا بين العلم بالشيء
والعلم بلازمه مع الالتفات للملازمة ، والتلازم المذكور مختص بالعلم الحقيقي ، دون
العلم التعبدي المدعى ، بل هو تابع لدليل التعبد ، فمع فرض اختصاصه بالمؤدى لا وجه
للتعدي للازمه.
ولذا لا إشكال
في إمكان التفكيك في حجية الأمارة بين المتلازمات ، لاختصاص دليل الحجية ببعضها ،
كما في الظن بالقبلة الذي لا يلزم من حجيته حجية الظن بالوقت وإن استلزمه ، وكما
في الإقرار.
أما المحقق
الخراساني قدسسره فقد ذكر أن الأمارة لما كانت مبنية على الحكاية فهي كما
تحكي عن المؤدى تحكي عن أطرافه من ملزومه ولوازمه وآثاره ،
ومقتضى إطلاق دليل حجيتها لزوم تصديقها في تمام ما تحكي عنه ، بخلاف الأصل
، فإن اعتباره لا يبتني إلا على محض التعبد الملزم بالاقتصار على مورده وهو المؤدى
، والتعدي إلى أثره الشرعي إنما هو بضميمة الملازمة بين التعبد بالشيء والتعبد
بأثره ، فيلزم الاقتصار على مورد الملازمة المذكورة ، وهو الأثر الشرعي.
وما ذكره راجع
إلى إمكان حجية الأمارة في لازم مؤداها تبعا لإطلاق دليل حجيتها. وهو في محله لو
فرض تمامية الإطلاق بأن يستفاد منه حجية الأمارة في تمام ما تكشف عنه ، ولو بضميمة
الملازمة بين الظن بالشيء والظن بلازمه.
لكن الظاهر عدم
تمامية ذلك أولا : لأن مبنى حجية الأمارة غالبا على إفادتها للظن نوعا ، وربما
تكون اللوازم شخصية اتفاقية ، وليست لوازم نوعية لتكشف الأمارة عنها نوعا.
وثانيا : لأنه لو فرض كاشفيتها عنها بالوجه المعتبر فيها ، إلا
أنه قد لا يكون لدليل حجيتها إطلاق يقتضي حجيتها في تمام ما هي كاشفة عنه وموجبة
للظن به ، بل يؤخذ في دليل حجيتها عناوين وجهات خاصة لا تنطبق على اللوازم. فحجية
الإقرار تختص بالحق الثابت على المقر ، وحجية اليد تختص بالملكية ... إلى غير ذلك
مما يختص بجهة خاصة من دون أن يعم اللازم.
ولو فرض عموم
دليل الحجية للازم في مورد كانت حجة فيه بلا كلام ، وخرج عما نحن فيه ، إذ لا يراد
بالمؤدى إلا ما قام الدليل على حجية الأمارة فيه ، وإلا فلا معنى لكون الملكية
مؤدى لليد لو لا حجيتها عليها. ومحل الكلام إنما هو استفادة حجية الأمارة في
اللازم لمحض ملازمته لما هي حجة فيه ، لا لقيام الدليل على حجيته فيه بالخصوص ،
وإثبات ذلك في غاية الإشكال ، بل المنع.
نعم مؤدى
الكلام والخبر هو مضمونه المحكي به المسوق له وإن لم يكن حجة فيه.
ومن هنا قد
ينزل ما ذكره المحقق الخراساني قدسسره على خصوص ما كان مبنى طريقيته على حكايته وأدائه للمراد
وإبرازه له ـ كالخبر ونحوه ـ دون ما يبتني على مجرد الكاشفية ، كاليد بالإضافة إلى
الملكية. بدعوى : أن مثل ذلك كما يحكي عن المؤدى يحكي عن لازمه ، فإطلاق دليل وجوب
التصديق فيه يقتضي تصديقه في تمام ما يحكي عنه وإن كان مدلولا التزاميا له.
لكنه يشكل أيضا
أولا : بأنه قد لا يكون لدليل الحجية إطلاق في وجوب التصديق ، لأخذ عنوان خاص فيه
لا ينطبق على تمام ما يحكي عنه ، كالإقرار ، فإن مفاد دليل حجيته جوازه على المقرّ
، وهو لا يقتضي إلا إلزامه بثبوت الحق عليه ، لا تصديقه في غيره مما يحكي عنه
الخبر وإن كان هو المؤدى المطابقي له.
وثانيا
: بأن موضوع
التصديق لما كان هو الخبر والنبأ والشهادة ونحوها ، اختص بما يكون مخبرا عنه ، وقد
ساق المتكلم الكلام لبيانه وإن كان مدلولا التزاميا ، دون غيره من اللوازم
الواقعية التي لم يقصد المتكلم بيانها بالكلام.
ومن ثم لا مجال
للبناء على عموم حجية الأمارة في اللازم.
نعم قد يتجه ما
ذكروه في الخبر ، لأن الأدلة وإن اشتملت على عنوان التصديق والنبأ والخبر ونحوها
مما يختص بما يقصد المتكلم الإخبار عنه ، إلا أن المستفاد منها لما كان هو إمضاء
سيرة العقلاء الارتكازية على العمل بخبر الثقة ، والجري على ما جروا عليه من عدم
الاعتناء باحتمال تعمد الكذب أو الخطأ ، كان اللازم الرجوع في سعة موضوع الحجية
إلى العقلاء ، وحيث كان بناؤهم على التعويل على الخبر في اللوازم ـ وإن لم يقصد
المتكلم الإخبار عنها
ـ للتعويل عليه في المؤدى ، كان اللازم البناء على عموم حجيتها شرعا أيضا ،
وعدم الجمود على عنوان التصديق ونحوه.
لكن ذلك مختص
بخبر الثقة ونحوه ، دون غيره مما لا تبتني حجيته على إمضاء سيرة العقلاء ، بل على
حكم الشارع تعبدا بتصديق الخبر في خصوص مورد ، كتصديق المرأة في العدة والحيض ، وتصديق البائع في الكيل وغير ذلك. فضلا عن ما لم يشتمل دليله على عنوان التصديق
ـ كالإقرار ـ أو كانت حجيته ببناء العقلاء في أمر خاص ـ كاليد التي هي أمارة على
الملكية ـ فإن اللازم في جميع ذلك الرجوع لمقتضى الأدلة سعة وضيقا ، ولا ضابط
لذلك.
وبهذا يظهر أن
البناء على حجية الاستصحاب بما أنه موجب للظن نوعا ، ببناء العقلاء ، بحيث يكون من
الأمارات لا يستلزم حجيته في لازم مؤداه ـ وإن كان ظاهر بعضهم ذلك ـ لإمكان اقتصار
العقلاء في العمل بالظن المذكور على خصوص مؤداه ، وهو بقاء الأمر المتيقن سابقا ،
دون لوازمه.
تلخيص وتتميم
قد ظهر من جميع
ما تقدم أن التعبد بالشيء بنفسه في الأمارة والأصل لا يقتضي التعبد بلوازمه غير
الشرعية ، ولا بما يترتب عليها من الآثار الشرعية ، إلا أن يدل الدليل عليه
بالخصوص ، لعموم دليل الحجية للوازم ، كما تقدم في بعض الأمارات ، وذلك قد يحصل في
بعض الأصول ، كما لعله يأتي. وكذا إذا ورد التعبد في خصوص مورد ينحصر فيه الأثر
بذلك ، حيث يتعين الالتزام به دفعا للغوية ، بخلاف ما إذا كان الدليل هو الإطلاق ،
حيث ترتفع اللغوية فيه
__________________
بتنزيله على خصوص الموارد التي يكون للأمر المتعبد به أثر شرعي بلا واسطة
أو بواسطة أثر شرعي.
كما أن إطلاق
التعبد بالشيء يقتضي التعبد بجميع آثاره الشرعية بضميمة الملازمة العرفية التي
تقدم التعرض لها آنفا. إلا أن هذا لا يمنع من العمل بالدليل الخاص إذا اقتضى
التفكيك بين الآثار المذكورة وعدم التعبد ببعضها ، مثل ما قيل من ثبوت الضمان
بشهادة رجل وامرأتين بالسرقة دون الحدّ. بل قد يقوم الدليل على التفكيك بين أجزاء
المؤدى في الحجية ، كما تضمنت النصوص ثبوت الوصية بشهادة أربع نساء ، وثبوت ربع
منها بشهادة امرأة واحدة بها فلاحظ. والحمد لله رب العالمين.
المبحث الثالث
في الموارد التي وقع الكلام في
تمامية أركان الاستصحاب وشروطه فيها
بعد أن تعرضنا
في المبحثين الأولين إلى أدلة الاستصحاب ومفاده ، وتحديد كبراه وأركانه وشروطه ،
يقع الكلام في هذا المبحث في تمامية الأركان والشروط في بعض الموارد لخصوصيات فيها
أوجبت الخلاف فيها.
وهو يقع في ضمن
فصول ..
الفصل الأول
في استصحاب العدم الأزلي
حيث تقدم في
ذيل الكلام في الأصل المثبت جريان استصحاب الأمور العدمية ، فيقع الكلام هنا في
استصحاب العدم الأزلي ، وهو العدم بلحاظ حال ما قبل وجود الموضوع ، فإن موضوع
الأثر قد يكون هو ثبوت العرض للموضوع وانتسابه له بمفاد كان الناقصة ، أو عدم
ثبوته كذلك ، كما لو ورد : إذا كانت المرأة قرشية فيأسها من الحيض ببلوغها ستين
سنة ، أو : إذا لم تكن قرشية فيأسها ببلوغها خمسين سنة. وحينئذ هل يمكن استصحاب
عدم العرض بلحاظ حال ما قبل وجود الموضوع بنحو السالبة بانتفاء الموضوع ، فيستصحب
عدم كون المرأة قرشية بلحاظ حال ما قبل وجودها لإحراز أن يأسها ببلوغها خمسين سنة
، لا ببلوغها ستين سنة؟ وجهان : أظهرهما الأول ،
لتمامية أركان الاستصحاب وشروطه ، لليقين بانتفاء النسبة قبل وجود الموضوع
والشك في ثبوتها عند تحققه ، فيستصحب العدم المذكور ، ويترتب أثره. وهو المطابق
لما هو المرتكز عرفا من أن العدم هو الأصل ، الذي يكفي في البناء عليه عدم الدليل
على الثبوت.
هذا وقد منع
غير واحد من ذلك. وقد استدل لهم بوجوه نقتصر منها على وجهين :
الأول : أن العدم الأزلي المتيقن مغاير للعدم المشكوك المقارن
لوجود الموضوع ، لاستناد الأول لعدم الموضوع ، والثاني لأمر آخر.
وفيه : أن تعدد
المنشأ والعلة لا يوجب تعدد المعلول عرفا ، ولا دقة ، بل المعيار في الوحدة
استمرار الأمر الواحد وبقاؤه ، وإن استند حدوثه لعلة ، وبقاؤه لعلة أخرى.
الثاني : أن المعتبر في موارد التقييد بالعدم هو العدم النعتي
المأخوذ وصفا للموضوع ، والذي هو مفاد الموجبة المعدولة المحمول ، التي لا تصدق
إلا بعد وجود الموضوع ، ولا يكفي في إحرازها استصحاب مفاد السالبة بانتفاء الموضوع
، إلا بناء على الأصل المثبت. والوجه في كون المعتبر في موارد التقييد هو العدم
النعتي : أن تقييد موضوع الحكم بالعرض ـ ومنه الأمر العدمي ـ لا يراد به محض
تقارنهما في الزمان ، ليكفي استصحاب العرض بمفاد كان التامة إلى حين وجود الموضوع
، بل يرجع إلى تخصيص الموضوع بخصوص الحصة المتصفة بالعرض ، لاستحالة إطلاق الموضوع
مع التقييد بوجود عرضه ، للتدافع بين الإطلاق والتقييد المذكورين ، فإذا كان العرض
عدميا لم يكن الاتصاف به إلا بمفاد الموجبة المعدولة المحمول ، التي يكون العدم
فيها نعتيا.
وفيه : أن
التقييد بالأمر العدمي على نحوين «أحدهما» : التقييد بمفاد السالبة المحصلة
المحمول ، الذي هو نقيض مفاد الموجبة بمفاد كان الناقصة ، كما في قولنا : إذا لم
يكن زيد فاسقا فأكرمه ، أو : يجب إكرام العالم الذي ليس بفاسق «ثانيهما» : التقييد
بمفاد الموجبة المعدولة المحمول ، الذي يقابل مفاد الموجبة بمفاد كان الناقصة
تقابل الملكة وعدمها ، كما في قولنا : إذا كان زيد غير فاسق فأكرمه ، أو : يجب
إكرام العالم غير الفاسق. وإرجاع الأول للثاني ، بحيث ينحصر الأمر بالثاني لا وجه
له ، بل هو مخالف لمفاد الأدلة.
ومن الظاهر أن
ما يتوقف صدقه على وجود الموضوع هو الثاني ، ولا يجري معه استصحاب العدم الأزلي
قطعا. أما الأول فهو يصدق قبل وجود الموضوع بنحو السالبة بانتفاء الموضوع ، ولا
وجه لمنع جريان الاستصحاب فيه بنحو العدم الأزلي بعد اليقين به سابقا والشك لاحقا
، كما لا وجه لإرجاعه للثاني بعد اختلاف مفادهما.
بقي شيء
وهو أن استصحاب
العدم الأزلي إنما يجري لنفي ما هو من عوارض وجود الموضوع في الخارج ، بحيث يمكن
نفيه عنه قبل وجوده بنحو السالبة بانتفاء الموضوع ، كبياض الجسم ، وانتساب الشخص
لقبيلة خاصة ، ونحوهما. دون ما إذا احتمل كونه من ذاتياته كالإنسانية والحيوانية
في الشبح المردد بين الإنسان وغيره ، أو من حدود الوجود الخارجي أو لوازمها ،
كالعدد الخاص أو الزوجية في المجموعة المرددة بين الأقل والأكثر ، فإن جميع ذلك لا
ينفك عن موضوعه حتى بلحاظ حال ما قبل وجوده ، فلا يقين بعدمه أزلا ، ليمكن استصحابه
بلحاظه.
الفصل الثاني
في استصحاب الأحكام الوضعية
حكي عن الفاضل
التوني قدسسره القول بعدم جريان الاستصحاب إلا في الأحكام الوضعية.
لكن لا بمعنى جريانه في نفس الحكم الوضعي ـ كالسببية والمانعية ونحوهما ـ بل في
موضوع الحكم الوضعي ، كالبلوغ الذي هو سبب للتكليف ، والطهارة التي هي شرط للصلاة
، والحيض الذي هو مانع منها. فالتفصيل في الحقيقة بين موضوعات الأحكام الوضعية
وغيرها.
وعمدة ما ذكره
في وجهه : هو عدم عروض الإجمال والشك في بقاء الحكم التكليفي ـ الذي هو مورد للعمل
ـ إلا من جهة الشك في حدوث سببه أو شرطه أو مانعة ، أو بقاء أحدهما ، لوفاء الأدلة
بالجهات الأخرى ، فلا يحتاج للاستصحاب.
وهو كما ترى ،
لإمكان الشك من جهات أخرى ، لإجمال الأدلة ، كما لو شك في مفهوم السبب وتحديده ،
بأن شك مثلا في مقدار السن الذي يتم به البلوغ ، أو شك في كيفية سببية السبب ،
وأنه سبب حدوثا وبقاء أو حدوثا فقط ، أو نحو ذلك ، مما لا مجال معه للاستصحاب في
نفس السبب وجودا أو عدما ، فيحتاج لاستصحاب نفس الحكم.
نعم في المقام
نزاع آخر ، وهو النزاع في جريان الاستصحاب في نفس الأحكام الوضعية ، كالسببية
والشرطية والمانعية والملكية والحجية وغيرها. ومنشؤه النزاع في أن الأحكام الوضعية
مجعولة بأنفسها أو منتزعة من الأحكام التكليفية ، فيصح استصحابها على الأول ، ولا
يصح على الثاني ، إذ لا حقيقة
لها ، لتكون موردا للعمل الذي هو الشرط في جريان الاستصحاب. ويظهر الحال في
النزاع المذكور مما سبق منا في مقدمة هذا الكتاب من الكلام في حقيقة الأحكام
الشرعية.
الفصل الثالث
في استصحاب الكلي والأمر المردد
من الظاهر أنه
لا بد من كون المستصحب بعنوانه العام أو الخاص موردا للأثر. فإذا كان الأثر للعام
لزم استصحابه بعنوانه ، وهو المراد باستصحاب الكلي. وإذا كان الأثر للخاص لزم
استصحابه بعنوانه ، وهو المراد باستصحاب الفرد. إلا أن الكلام هنا يقع في بعض
أقسام استصحاب الكلي والفرد ، لخصوصية فيها مع قطع النظر عما تقدم.
والكلام في ذلك
في مقامين :
المقام الأول : في استصحاب الكلي
اعلم أنه بعد
فرض كون موضوع الحكم هو الكلي فللشك في بقاء الكلي أقسام ينبغي التعرض لها ولحكمها.
القسم الأول : الشك في بقاء الكلي للشك في بقاء فرده الذي علم
بوجوده في ضمنه سابقا. كما لو كان الأثر لوجود الإنسان في الدار ، وعلم سابقا
بوجود زيد فيها ، واحتمل خروجه منها.
ولا إشكال هنا
في استصحاب الكلي وترتب أثره ، لتمامية أركان الاستصحاب فيه.
القسم الثاني : الشك في بقاء الكلي لتردد الفرد الذي علم بوجوده في
ضمنه سابقا بين الطويل المعلوم البقاء والقصير المعلوم الارتفاع. كما لو تردد
الإنسان المعلوم وجوده سابقا في الدار بين زيد وعمرو ، وعلم بأنه إذا كان زيدا فهو
باق ، وإذا كان عمرا فهو قد خرج.
والظاهر هنا ـ كما
ذكر غير واحد ـ جريان استصحاب الكلي أيضا ، وترتب أثره وإن لم يحرز به أثر خصوص
الفرد الطويل ، لعدم تمامية أركان الاستصحاب فيه.
وقد يستشكل فيه
بوجهين :
أحدهما
: أن الكلي
الطبيعي لا وجود له إلا بوجود فرده ، فموضوع الأثر حقيقة هو الفرد الذي يوجد الكلي
ضمنه ، فمع عدم جريان الاستصحاب في الفرد ـ لعدم تمامية ركني الاستصحاب فيه ،
لتردده بين مشكوك الحدوث ومعلوم الارتفاع ـ لا مجال لجريان الاستصحاب في الكلي.
ويندفع بأن
المستصحب ليس هو الكلي بنفسه لا في ضمن فرد ، بل الكلي في ضمن الفرد المعلوم
الحدوث. وعدم تمامية ركني الاستصحاب في الفرد المذكور بكل من خصوصيتيه الفرديتين
لا ينافي تماميتها في ذلك الفرد بما هو فرد للكلي وبعنوانه الذي صار به موضوعا
للأثر.
نظير ما لو
تردد الكلي في القسم الأول بين فردين كل منهما محتمل البقاء ، كما لو علم سابقا
بوجود زيد أو عمرو في الدار واحتمل بقاؤه فيها على كلا التقديرين ، حيث لا ريب في
جريان استصحاب بقاء الإنسان في الدار ، وإن لم يتم ركنا الاستصحاب في كل من
الفردين بخصوصيته ، لعدم اليقين بدخوله فيها.
ثانيهما
: أن الشك في
بقاء الكلي لما كان مسببا عن الشك في حدوث الفرد الطويل ، كان استصحاب عدم حدوث
الفرد المذكور حاكما على استصحاب الكلي ، ومانعا من ترتب العمل عليه.
ويندفع بأن
الفرد والكلي متحدان حقيقة ، ومختلفان عنوانا ، من دون
ترتب بينهما خارجا ، فضلا عن أن يكون بينهما ترتب شرعي ، فلا وجه لحكومة
الأصل الجاري في الفرد على الأصل الجاري في الكلي ، بل يتعين العمل بالأصل الجاري
في الكلي بعد كونه موضوعا للأثر ، من دون أن يمنع منه الأصل الجاري في الفرد
الطويل بخصوصيته.
القسم الثالث : الشك في بقاء الكلي لاحتمال وجود فرد آخر غير المتيقن
مع العلم بارتفاع المتيقن ، كما لو علم بوجود الإنسان سابقا في الدار في ضمن زيد ،
وعلم بخروج زيد ، لكن احتمل بقاء الإنسان لوجود عمرو فيها.
والمعروف هنا
المنع من جريان الاستصحاب. والعمدة في وجهه : أن وجود الكلي الطبيعي وإن كان بوجود
فرده ، إلا أن وجوده في ضمن الأفراد المتعددة ليس وجودا واحدا له ، بل تتعدد
وجوداته بتعدد أفراده ، فلا يكون الوجود المشكوك بقاء للمتيقن ، بل يكون مباينا له
، فيمتنع الاستصحاب.
إن
قلت : هذا إنما يتم
بالإضافة للوجود الحقيقي المستند للعلل التكوينية الخارجية ، دون الوجود الانتزاعي
السعي المنسوب للكلي بما هو على سعته ، من دون نظر إلى تخصصه ، وهو صرف الطبيعة ،
فإنه لا تكثر فيه بتعدد الأفراد ، بل يتحقق بصرف الوجود ـ الذي يصدق مع الواحد
والمتعدد ـ ولا ينعدم إلا بعدم جميع الإفراد. وحينئذ يتعين جريان استصحاب الكلي في
المقام بلحاظ وجوده السعي المذكور ، الذي لا يتعدد بتعدد الأفراد.
قلت
: لا مجال
لاستصحاب الكلي بلحاظ الوجود السعي المذكور ، لأنه أمر انتزاعي ليس له ما بإزاء في
الخارج ، ولا يكون غالبا محطّ الآثار والأغراض ، وليس محطها إلا الوجود المحدود
المتكثر بتكثر الأفراد ، حيث يكون ذلك قرينة عرفية على أن موضوع الأحكام الشرعية
هو الوجود المحدود ، لا الوجود السعي ، ولذا كان المرتكز عرفا أن كل فرد موضوع
مستقل يستند الأثر له ، فلو
تكثرت الأفراد كان السبب متكثرا. فإن تعدد الحكم كان كل منها مؤثرا له ،
وإن اتحد كان مستندا لأسبقها وجودا وكان الباقي لاغيا ، ولا يكون السبب في ذلك
واحدا ، وهو الوجود السعي غير القابل للتكثر.
نعم قد يستفاد
من الأدلة كون الموضوع الشرعي هو الكلي بما له من الوجود السعي ، لمناسبات وقرائن
خاصة مخرجة عما سبق ، كعنوان الجدة واليسار الموضوع لبعض الأحكام ، فإنه متقوم
بملكية الشخص للمال من دون ملاحظة خصوصية الأموال ، فيستمر عرفا مع تعاقبها ، لأن
المناسبات الارتكازية تقتضي بأن اعتباره لأجل كونه منشأ للقدرة والمكنة التي لا
تقوم بخصوصياتها ، ولا تتكرر بتعددها ولا بتعاقبها. وحينئذ لا مانع من استصحاب
الكلي فيستصحب يسار الشخص وجدته للمال مثلا بما لها من الوجود السعي المستمر ولو مع
تعاقب الأموال ، وإن علم بخروج شخص المال الذي كان عنده سابقا عن ملكيته.
وأظهر من ذلك
ما إذا كان الموضوع معنى بسيطا قائما بالأفراد أو ملازما لها ، كعنوان القبيلة ،
كما إذا قيل : إن كان الحكم لآل فلان وجبت الصدقة في كل جمعة ، بأن يراد بذلك
استحقاقهم الحكم قانونا ، أو استسلام الناس لهم إذ المعنى المذكور لا يتوقف على
فعلية وجود الحاكم منهم ، بل يصدق لو مات الحاكم منهم قبل تعيين غيره. فيتجه
استصحاب بقاء الحكم لهم ، ولو مع العلم بعدم بقاء الحاكم المتيقن سابقا. بل ليس
هذا من استصحاب الكلي ، لأن العنوان الذي هو موضوع الأثر شخصي.
بقي في المقام أمران :
أولهما : أنه لا يفرق فيما ذكرنا بين كون الفرد المحتمل مقارنا
للفرد المتيقن المعلوم ارتفاعه ـ بأن اجتمع معه في الوجود ثم بقي بعده ـ وكونه
مترتبا
عليه ، بأن لم يجتمعا معا ، بل حدث المحتمل عند ارتفاع المتيقن من دون أن
يتخلل العدم بينهما.
ودعوى : أنه في
الصورة الأولى يحتمل بقاء الكلي بعين الوجود السابق المتيقن ، لا بوجود آخر ، لفرض
احتمال وجود الفرد الآخر من أول الأمر.
مدفوعة بأن ذلك
إنما يتم بلحاظ الوجود السعي للكلي ، أما الوجود الحقيقي المتكثر ـ الذي سبق أن
الاستصحاب إنما يصح بلحاظه ـ فلا مجال لذلك فيه ، لوضوح أن الوجود المتيقن للكلي
قد علم بارتفاعه ، وإنما يحتمل بقاء الكلي في فرد لا يقين بوجوده سابقا.
ثانيهما : أن شيخنا الأعظم قدسسره قد حكم بجريان الاستصحاب فيما إذا كان الفرد المشكوك
مباينا للفرد المتيقن حقيقة ، لكن العرف يتسامح فيه فيعده متحدا معه واستمرارا
لوجوده وبقاء له. وذلك منه قدسسره للبناء على الاكتفاء في موضوع الاستصحاب بالتسامح
العرفي ، الذي سبق منا المنع منه عند الكلام في موضوع الاستصحاب.
نعم مثّل قدسسره لذلك بما إذا علم بوجود السواد الشديد ثم علم بتبدله
إما بسواد أضعف أو بالبياض. أو كان الشخص في مرتبة من كثرة الشك وتردد الأمر بين
زوالها وتبدلها بمرتبة أضعف ، وحكم في المثالين بجريان استصحاب السواد ، وكثرة
الشك.
لكن الظاهر أن
الاتحاد في المثالين المذكورين ونحوهما حقيقي لا تسامحي ، لأن المرتبة الضعيفة
موجودة في ضمن المرتبة الشديدة بذاتها ، وإن اختلفت عنها بحدّها ، فتبدل حدود
الأمور المشككة لا يوجب تبدل ذواتها ، ليكون من تبادل الفردين ، بل هو من سنخ تبدل
الحالات الزائدة على الذات لا يمنع من صدق البقاء عليها حقيقة بلحاظ بقاء ما به
الاشتراك بعينه ، فالمقام من القسم الأول لاستصحاب الكلي الذي تقدم عدم الإشكال في
جريانه.
المقام الثاني : في استصحاب الأمر المردد
لا بد في
استصحاب الكلي ـ بما له من الأقسام المتقدمة ـ من كون موضوع الأثر هو الجهة
الجامعة بين الأفراد بما لها من الحدود المفهومية مع اجتماع ركني الاستصحاب فيها ـ
من اليقين والشك ـ بتلك الحدود. وعليه يبتني عدم جريان الاستصحاب في موردين :
الأول : المفهوم المردد ، بأن كان الشك في بقاء المفهوم الكلي
ـ الذي هو موضوع الأثر ـ ناشئا من تردده وإجماله ، كما إذا تردد مفهوم العادل بين
مجتنب الكبيرة فقط ومجتنب جميع الذنوب ، وكان زيد مجتنبا للجميع ثم ارتكب الصغيرة.
فإنه لا مجال حينئذ لاستصحاب عدالته وإن اجتمع اليقين والشك في صدق عنوان العادل
عليه ، لأن موضوع الآثار ليس هو صدق العنوان وصحة إطلاقه ، بل منشأ انتزاع العنوان
والواقع الذي يحكي عنه ، فلا بد من اجتماع ركني الاستصحاب في منشأ انتزاعه ،
والمفروض عدمه في المقام ، لأن المعنى الأول معلوم البقاء والمعنى الثاني معلوم
الارتفاع ، وكل منهما لا يعلم بأنه موضوع الأثر.
نعم لا يعتبر
اليقين والشك التفصيليان ، بل يكتفى بالإجمالي منهما ، لإطلاق دليلهما ، كما لو
علم بوجود منشأ انتزاع العنوان الذي هو موضوع الأثر على إجماله ، وشك في بقائه
كذلك. مثلا إذا علم بأن زيدا عادل ـ بأي معنى فرض ـ وشك في صدور ذنب منه يخرجه عن
العدالة ، فإنه يصح استصحاب عدالته على إجمالها ، لأن المشكوك عين المتيقن وإن كان
مجملا.
الثاني : الفرد المردد ، بأن لا يكون الأثر للكلي الجامع بين
الفردين ، بل للفرد بما له من الحدود الواقعية المميزة له عن غيره ، ولا يكون بتلك
الحدود موردا لليقين والشك التفصيليين ، ولا الإجماليين ، وإن كان العنوان الحقيقي
أو الانتزاعي المنطبق على الفردين موردا لهما ، كعنوان «أحدهما» أو
عنوان «العالم».
كما لو نذر
المكلف بأن يتصدق كلما اشغل زيد الدار يوما ، وحلف أيضا أن يتصدق كلما اشغلها عمرو
يوما ، وعلم بدخول أحدهما يوم الجمعة ، وأنه إن كان زيدا فهو باق يوم الأحد ، وإن
كان عمرا فهو خارج يوم السبت ، فإنه لا مجال لاستصحاب اشغال الدار من قبل أحدهما ،
أو العالم ـ لو كانا معا عالمين ـ على إجماله إلى يوم الأحد من أجل وجوب التصدق
لذلك اليوم ، لعدم تمامية ركني الاستصحاب في كل من الخصوصيتين ، والجامع المشترك
بينهما الذي هو مورد لليقين والشك ليس موردا للأثر. بل استصحاب عدم دخول زيد الدار
بضميمة العلم بعدم بقاء عمرو فيها يوم الأحد يقضي بعدم وجوب الصدقة لذلك اليوم.
نعم لو علم
بدخول أحدهما إجمالا واحتمل بقاء الداخل منهما على كلا التقديرين اتجه استصحاب
بقاء الداخل على إجماله ، لما سبق من عموم اليقين والشك للإجماليين.
الفصل الرابع
في استصحاب الأمور التدريجية
وهي الأمور
التي توجد تدريجا بتعاقب أجزائها ، بحيث لا يوجد جزء منها إلا بعد انعدام جزء آخر
، كالكلام والقراءة والسير والحركة والأكل وجريان الماء وغيرها.
وقد يستشكل في
جريان الاستصحاب فيها بعدم اجتماع ركنيه فيها ، لأن ما علم حدوثه سابقا من أجزائها
معلوم الارتفاع ، وغيره مشكوك الحدوث ، فالأصل عدمه ، ولا يمكن فيها فرض أمر واحد
معلوم الحدوث مشكوك البقاء.
لكنه يندفع بأن
بقاء كل شيء بحسبه ، وبقاء الأمور التدريجية إنما هو بتعاقب أجزائها ، حيث يصح
عرفا نسبة الوجود للأمر التدريجي بما أنه أمر واحد بلحاظ تعاقب أجزائه بالنحو المذكور.
فإذا كان موضوع الأثر هو الأمر المذكور بما له من وحدة اعتبارية ، الذي لا وجود له
إلا بهذا النحو ، تعين جريان استصحابه ، لتمامية ركنيه فيه بلحاظ الوحدة المذكورة
، وإن لم يتم ركناه في كل جزء بنفسه. وليس ذلك مبنيا على التسامح العرفي في البقاء
، الذي سبق منا عدم التعويل عليه ، بل هو مبني على البقاء الحقيقي لما يفهم من
الأدلة أنه موضوع الأثر ، حيث لا بقاء له إلا بهذا النحو.
ومنه يظهر عدم
الفرق بين ما تكون وحدته عرفا باتصال أجزائه حقيقة وعدم تخلل العدم بينها أصلا ـ كجريان
الماء من الميزاب ـ وما تكون وحدته بتقارب أجزائه في الوجود مع تخلل العدم بينها
دقة ـ كالكلام وتقاطر الماء والمطر ـ لأن المعيار احتمال بقاء موضوع الأثر العملي
بالنحو الذي من شأنه أن
يوجد عليه ، وهو حاصل في الكل.
نعم قد يكون
البقاء تسامحيا فيما لو علم بانعدام الشيء في أمد قليل فيما تكون وحدته باتصال
أجزائه ـ كجريان الماء ـ وفي أمد أكثر مما يغتفر فيما تكون وحدته بتقارب أجزائه ـ كتقاطر
الماء ـ ثم احتمل عوده. ولا يجري الاستصحاب حينئذ. بل الظاهر خروجه عن محل كلامهم.
هذا والظاهر
جريان الاستصحاب المذكور حتى مع العلم بانتهاء أمد المقتضي الأول والشك في البقاء
لاحتمال تجدد مقتض آخر ، كما لو علم بحدوث الداعي للمتكلم لقراءة سورة خاصة ،
واحتمل استمراره في القراءة لتجدد مقتض آخر لقراءة سورة أخرى. لأن تعدد المقتضي لا
ينافي وحدة المعلول إذا لم يتخلل العدم بين أجزائه.
وأما ما ذكره
شيخنا الأعظم قدسسره من منع جريان الاستصحاب حينئذ لتعدد الوجود عرفا. فهو
ممنوع جدا ، كما ذكرنا ذلك في نظائره.
ومثله ما ذكره
المحقق الخراساني قدسسره من الإشكال في استصحاب الأمر التدريجي مع الشك في مقدار
الموضوع ، كما لو شك في جريان الماء للشك في مقدار الماء الجاري ، فضلا عما إذا
كان للشك في تعدد الموضوع ، كما لو علم بانتهاء الماء الأول وشك في كون تقاطر ماء
آخر يخلفه. لعدم الشك في جريان ما علم بجريانه سابقا ، بل في جريان ماء آخر غير ما
علم بجريانه ، نظير القسم الثالث من استصحاب الكلي. ويختص جريان الاستصحاب بما إذا
علم بقاء الموضوع وشك في بقاء العرض التدريجي ، كما لو علم ببقاء الماء الأول ،
وشك في انقطاع جريانه.
وجه الإشكال :
أنه بعد فرض عدم دخل خصوصية الموضوع في الأثر ، وقيام الأثر بالأمر التدريجي بنفسه
، فالمتعين جريان الاستصحاب ، لأن تعدد
الموضوع لا يوجب تعدد الأمر التدريجي بعد فرض اتصاله بتعاقب أجزائه ، فإذا
كان موضوع الأثر جريان الماء في الساقية ، فتعدد الماء لا ينافي وحدة الجريان
واستمراره.
بقي شيء
وهو أنه حيث
تقدم جريان الاستصحاب في الأمور التدريجية ، فالمتعين جريان الاستصحاب في الزمان
بما له من عناوين خاصة ـ كاليوم والليل والشهر ـ إذا كانت موردا للأثر. كما يجري
أيضا في الحدود الزمانية ـ كالزوال وغياب الشمس وطلوع الفجر ـ إذا كانت موردا
للأثر أيضا ، فيستصحب عدمها ، كما هو الحال في سائر الحوادث المسبوقة بالعدم.
وإنما المهم الكلام هنا في أمرين :
الأمر الأول : ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدسسره من أن استصحاب الزمان إنما ينفع فيما إذا كان موضوع
الأثر هو وجوده بمفاد كان التامة ، دون ما إذا كان موضوعه ظرفية الزمان زائدا على
وجوده بمفاد كان الناقصة. فإذا كان الواجب مثلا هو الصوم والنهار موجود أمكن
استصحاب النهار لإحراز الامتثال بالصوم المقارن له. أما إذا كان الواجب هو الصوم
في النهار فاستصحاب النهار لا يحرز ظرفيته للصوم الواقع في الزمان المشكوك حاله ،
لأن الظرفية أمر زائد على وجود النهار قائم به وبالصوم لا وجود له قبل وجودهما معا
، واستصحاب النهار لا يحرزها إلا بناء على الأصل المثبت ، لاستلزام بقاء النهار
حين الصوم وقوع الصوم فيه. فهو نظير استصحاب بقاء الخيمة منصوبة ـ لو شك في
تقويضها ـ لإحراز كون الصلاة في مكانها صلاة في الخيمة.
كما أن استصحاب
بقاء النهار لا يحرز كون الزمان الخاص الذي يقع فيه الصوم نهارا ، إلا بناء على
الأصل المثبت ، نظير استصحاب بقاء الكرّ في الحوض لإحراز كرية الماء الموجود فيه.
ومن هنا يشكل
أمر الاستصحاب في الموقتات مما كان ظاهر الأدلة أخذ الزمان فيه ظرفا للحكم الشرعي
أو لمتعلقه.
وقد تصدى غير
واحد ممن تأخر عنه لدفع الإشكال المذكور ، وأكثر الوجوه التي ذكروها راجع إلى
إنكار الظرفية الزمانية. ولعل أيسرها عرضا ما ذكره سيدنا الأعظم قدسسره من أن العناوين الزمانية لما كانت منتزعة من حوادث خاصة
، كوجود الشمس في القوس النهاري الذي ينتزع منه النهار ، ووجود القمر في الدور
الخاص الذي ينتزع منه الشهر ، ونحوهما ، فمن الظاهر أن الحوادث المذكورة كسائر
الحوادث التدريجية ـ كسير زيد وجريان النهر ـ لا معنى لكونها ظرفا لفعل المكلف
الذي هو حادث مثلها ، بل لا بد من رجوع التقييد بها إلى أخذ محض وجودها بمفاد كان
التامة من دون نظر لظرفيتها.
نعم الأمد
الموهوم ظرف لجميع الحوادث حتى ما كان منشأ للعناوين الخاصة ، كحركة الشمس. إلا
أنه لم يؤخذ التقييد به في شيء من الأدلة.
لكنه يشكل بأن
العناوين المذكورة وإن كانت منتزعة من حوادث خاصة واقعة في الأمد الموهوم ، إلا
أنها لا تحكي عن نفس الحوادث ، بل عما تقارنه من الأمد الموهوم المفروض كونه ظرفا.
فليس النهار مثلا شروق الشمس ، بل الأمد الموهوم المقارن للشروق ، وكذا الحال في
سائر العناوين الزمانية ، كالشهر والليل ونحوها ، فيعود الإشكال.
ولعل الأولى أن
يقال : لا حقيقة للظرفية الزمانية إلا وجود الحادث مقارنا للزمان ، وليست هي
كالظرفية المكانية مبنية ـ زائدا على ذلك ـ على اشتمال الظرف على المظروف ودخول
المظروف في الظرف ، الذي هو أمر حقيقي زائد على وجودهما واقترانهما.
ولذا لا إشكال
في أن تقييد الحادث بحصة من الزمان ـ كاليوم والشهر ـ لا
يراد به كون الحصة المذكورة أوسع منه ومشتملة عليه ، فإذا وجب إيقاع الصوم
في النهار وجب استيعاب الصوم له ، ولا يكتفى بصوم ما عدا طرفيه ، وإذا وجب إيقاع
الصلاة في نصف النهار الثاني كفى البدء بها عند أول جزء منه ، والانتهاء منها عند
آخر جزء منه.
كما لا فرق
عرفا بين التقييد بالعنوان الزماني بما يظهر في الظرفية ـ مثل صم في النهار ـ والتقييد
بحديه بما يقتضي محض المقارنة بمثل قوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ
الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) ، حيث يناسب ذلك رجوع أحدهما للآخر. فلاحظ.
الأمر الثاني : أن استصحاب الشهر السابق وعدم الشهر اللاحق في يوم
الشك لا ينفع في إحراز كون اليوم المذكور آخر الشهر السابق ، ولا كون اليوم الآتي
أول الشهر اللاحق ، ولا ما بعده من الأيام معنونة بعنوانها العددي. فاستصحاب بقاء
شهر ذي القعدة يوم السبت مثلا لا يحرز كونه آخره ، ولا كون يوم الأحد أول شهر ذي
الحجة ، ولا كون يوم الأحد الآتي ثامنه يوم التروية ... وهكذا. بل جميع هذه
العناوين ونحوها لوازم المستصحب ، فلا يحرزها الاستصحاب المذكور إلا بناء على
الأصل المثبت.
وقد سبق من
شيخنا الأعظم قدسسره توجيه ذلك بخفاء الواسطة ، الذي جعله من مستثنيات الأصل
المثبت ، وسبق الإشكال فيه كبرويا وصغرويا.
ويظهر من بعض
الأعاظم وبعض الأعيان المحققين قدسسرهما توجيهه بأن أول الشهر وإن كان هو اليوم الذي يوجد
الهلال في ليلته واقعا ، إلا أنه بهذا المعنى ليس موضوعا للأحكام الخاصة من وجوب
الصوم والإفطار وغيرهما ، بل
__________________
موضوعها ـ حسبما يستفاد من الأدلة ـ هو الأول بمعنى يوم ليلة الرؤية ، أو
ما يكون بعد مضي ثلاثين يوما من الشهر السابق ، فمع عدم الرؤية يتعين ترتيب آثار
الأول والثاني ونحوهما على ما يطابق تمامية الشهر بلا حاجة للاستصحاب.
لكنه كما ترى ،
إذ لا مجال للخروج عن مفهوم الأول والثاني ونحوهما مما هو موضوع الأحكام الخاصة عن
معناه العرفي التابع لوجود الهلال واقعا ، لعدم الدليل عليه. كيف؟ ولازمه عدم
مشروعية الاحتياط في الأحكام المذكورة لو احتمل ذلك ، ولا يظن التزام أحد به.
ولعل الأولى أن
يقال : لا ينحصر الدليل في المقام بعمومات الاستصحاب ، ليدعى عدم نهوضه بإثبات
اللوازم المذكورة. بل الظاهر من بناء العرف والمتشرعة كون الأصل في الشهر الهلالي
التمامية بنحو تحرز جميع العناوين المذكورة تبعا لذلك. والمستفاد من نصوص إناطة
الصوم والإفطار بالرؤية الجري على ذلك ، فهي واردة لبيان انحصار الخروج عن مقتضى
الأصل العرفي المذكور بالرؤية ، والردع عن توهم الخروج عنه بغيرها.
ولذا جرى العرف
والمتشرعة على ذلك في جميع المناسبات العرفية والدينية قبل ظهور الإسلام وبعده ،
من دون نظر لعمومات الاستصحاب. فهو من موارد الأصل المثبت التي دل الدليل عليها
بالخصوص ، وقد تقدم في آخر الكلام في الأصل المثبت أنه أمر ممكن في نفسه.
الفصل الخامس
في استصحاب الحكم الشرعي
وليس المراد به
الحكم الكبروي الإنشائي ، الذي هو مفاد القضية الشرطية أو الحقيقية الراجعة إليها
، فإنه يأتي الكلام في استصحابه في الفصلين الآتيين.
بل المراد به
الحكم الفعلي التابع لفعلية موضوعه ، سواء كان الشك في بقائه للشبهة الموضوعية ،
كما لو شك في بقاء نجاسة الماء للشك في وقوع المطر عليه ، أو شكت المرأة في بقاء
وجوب الصلاة عليها لاحتمال طروء الحيض عليها في أثناء الوقت قبل أن تصلي ، أم
للشبهة الحكمية ، كما لو شك في طهارة الماء النجس المتمم كرا بطاهر ، أو في وجوب
قضاء الموقت إذا فات وقته ، أم للشبهة المفهومية ، كما إذا شك في طهارة المتنجس
بغسله في الماء الذي يحتمل كونه كرا للشك في تحديد الكر ، أو شك في بقاء وجوب
الصوم بعد سقوط القرص قبل ذهاب الحمرة المشرقية ، للشك في تحديد النهار شرعا بأحد
الأمرين.
وقد استشكل في جريان الاستصحاب فيه من
وجهين :
الوجه الأول : عدم اتحاد المشكوك مع المتيقن ، لأن المتيقن هو الحكم
المقيد بالزمان الخاص أو الحال الخاص المفروض انقضاؤه ، فاستصحاب الحكم لما بعده
إثبات لحكم آخر مباين له ، وليس هو من الاستصحاب في شيء. وهذا بخلاف الأمور
الخارجية كالعدالة والبياض ، فإنها لا تقبل التقييد إذ لا معنى للتقييد في
التكوينيات ، بل ليس الزمان المتيقن إلا ظرفا لها من دون أن
يكون قيدا مقوما لها ، فلا مانع من استصحابها والحكم ببقائها في زمان الشك.
ومن هنا رجع
شيخنا الأعظم قدسسره في المقام إلى ما جرى عليه في غيره ـ وتبعه فيه جماعة ـ
من الاكتفاء بالتسامح العرفي في صدق البقاء ، فإذا كان الزمان بنظر العرف مقوما
للمتيقن وقيدا فيه يمتنع استصحابه ، وإذا كان بنظرهم ظرفا غير مقوم له يجري
الاستصحاب.
مثلا : إذا شك
في وجوب تدارك الموقت بالقضاء بعد خروج الوقت أمكن استصحاب وجوبه بعد الوقت ، لعدم
كون الوقت مقوما للواجب عرفا ، وإن كان هو قيدا له دقة.
كما أنه إذا
تعذر بعض أجزاء الواجب ، فإن كان المتعذر مقوما له عرفا لم يجر الاستصحاب لإثبات
وجوب الميسور ، وإن لم يكن مقوما له عرفا كان مقتضى الاستصحاب وجوب الميسور.
فيقال : كان
الشيء الفلاني واجبا فهو كما كان ، وإن كان مقتضى النظر الدقي أن المتيقن هو وجوب
التام والمشكوك وجوب الناقص ، وهما متباينان.
أو يقال : كان
الميسور واجبا تبعا لوجوب التام فهو كما كان ، وإن كان مقتضى النظر الدقي التباين
، لأن وجوب الميسور المتيقن تبعا للمقام ضمني ، ووجوبه المحتمل بعد تعذر المقام
استقلالي. على ما أشرنا إليه في التنبيه الثالث من تنبيهات مبحث الأقل والأكثر
الارتباطيين.
وهكذا الحال في
نظائر ذلك من موارد التسامح العرفي في اتحاد المشكوك مع المتيقن.
لكن تقدم منا
في تحقيق موضوع الاستصحاب أنه لا مجال للتعويل على التسامح العرفي ، بل لا بد من
كون المشكوك بقاء حقيقيا للمتيقن بعد الرجوع للأدلة في تعيينه وتحديده.
نعم بملاحظة ما
سبق هناك يظهر الضابط في جريان الاستصحاب هنا.
وحاصله : أن
المعروض للحكم ـ الذي هو موضوع القضية الحملية الحاكية عنه ـ إن كان جزئيا خارجيا
ـ كالثوب والماء الخارجيين المعروضين للنجاسة والملكية ـ امتنع تقييده بالزمان أو
الحال أو غيرهما ، بل لا بد من كون ذلك كله ظرفا أو مقارنا له ولحكمه. وحينئذ يجري
الاستصحاب في الحكم.
وإن كان
المعروض كليا ـ كفعل المكلف الموضوع للأحكام التكليفية ، والكليات الذمية كالدين
والعمل المستأجر عليه التي هي موضوع للملكية ـ كان قابلا للتقييد. وحينئذ إن أحرز
أو احتمل تقييده بالخصوصية الزمانية أو نحوها امتنع استصحاب الحكم ، لعدم اتحاد
موضوع القضية المشكوكة مع موضوع القضية المتيقنة ، أو عدم إحراز الاتحاد. وإن أحرز
إطلاقه تعين كون الخصوصية المحتملة دخيلة في الحكم وعلة له ، من دون أن تكون مقومة
له ، كما في موارد الشك في الرافع ، ويتعين حينئذ جريان استصحاب الحكم.
إن
قلت : احتمال دخل
الخصوصية في الحكم مستلزم لاحتمال تقييده بها ، فيمتنع استصحابه بعد ارتفاعها ،
لأن الحكم المقيد لا يقبل الاستصحاب ، والمطلق غير متيقن الحصول من أول الأمر.
قلت
: لا يكون
الإطلاق والتقييد إلا في الكبريات الشرعية المتضمنة للأحكام الكبروية الإنشائية ،
التي سبق أنها ليست موردا للكلام هنا ، وأن الكلام هنا في الحكم الفعلي ، وهو حكم
جزئي شخصي لا يقبل الإطلاق ولا التقييد ، بل كل خصوصية تؤخذ في الكبرى الشرعية
تكون علة له ، لا يضر تخلفها بوحدته المقومة للاستمرار الذي يحرز بالاستصحاب.
الوجه الثاني : أن استصحاب الحكم في زمان الشك معارض باستصحاب عدمه
الأزلي في الزمان المذكور ، لأن العدم الأزلي وإن علم بانتقاضه بجعل الحكم في
الجملة مرددا بين الانقطاع والاستمرار ، إلا أن المتيقن هو انتقاضه في الحصة
الأولى من الزمان ، وهي زمان اليقين ، دون الحصة الثانية ، وهي زمان الشك. بل
مقتضى الاستصحاب بقاء العدم الأزلي المذكور في زمان الشك ، وبه يعارض استصحاب
الحكم الثابت في زمان اليقين إلى زمان الشك.
ويندفع بأنه مع
تقييد الموضوع بالزمان أو الحال المتيقن لا يجري استصحاب ثبوت الحكم ، كما سبق ،
بل يجري الاستصحاب العدمي لا غير ، ومع عدم تقييده بأن يكون الموضوع واحدا متحققا
في الحالين يجري استصحاب ثبوت الحكم ، ولا يجري الاستصحاب العدمي ، لانتقاض العدم
الأزلي لحكم الموضوع المذكور بثبوته في الزمن السابق ، والشك إنما هو في استمراره
في الزمان اللاحق ، الذي هو مقتضى الاستصحاب الوجودي ، لا في وجود آخر ، ليجري
استصحاب عدمه أولا.
إن
قلت : جعل الحكم
في زمان الشك أمر مشكوك مسبوق بالعدم ، ومقتضى الاستصحاب عدمه. فيقال : لم يكن
الحكم مجعولا في هذه الحصة من الزمان ، فيستصحب العدم المذكور.
قلت : الأثر العملي إنما يترتب على الأحكام الشرعية ،
كالوجوب والحرمة والطهارة والنجاسة ، لا على جعلها بما هو فعل حقيقي للجاعل. فلا
يجري استصحاب عدم الجعل ، لعدم الأثر لمتعلقه ، إلا بناء على الأصل المثبت.
على أن من
المعلوم أن الحكم المستمر لا يستند وجوده في كل آن إلى
جعل مباين لجعله في الآن الآخر ، بل يكفي فيه جعل واحد يبتني على استمرار
الحكم المجعول ، فمع كون مقتضى الاستصحاب الوجودي استمرار الحكم المجعول في الزمان
المشكوك يترتب أثره ، ولا يمنع منه العلم بعدم الجعل الخاص بالزمان المشكوك ، فضلا
عن استصحابه. فلاحظ.
الفصل السادس
في استصحاب أحكام الشرائع السابقة
تمهيد
لا إشكال في
إمكان نسخ الأحكام الشرعية والعرفية ووقوعه.
والظاهر رجوعه
إلى رفع الحكم بعد ثبوته ، نظير فسخ العقد ، وحلّ النذر ، فإن للحكم نحوا من
الوجود الاعتباري تابعا لمن بيده جعله واعتباره ، فكما كان له تشريعه وجعله كان له
رفعه ونسخه ، كما يشهد بذلك الرجوع للمرتكزات العرفية.
نعم إذا كان
جاعل الحكم حكيما فلا بد من غرض عقلائي له في جعل الحكم ونسخه. ويكفي في ذلك ثبوت
المصلحة في نفس جعل الحكم على نحو الإطلاق لا في متعلقه ، ثم انتهاء أمد تلك
المصلحة. بل إن أمكن في حقه الجهل أمكن أن يكون مصحح جعل الحكم تخيل وجود المصلحة
في نفس الحكم أو في المتعلق ، ومصحح النسخ انكشاف الخطأ له في ذلك.
هذا وقد يدعى
رجوع النسخ إلى التخصيص في الأزمان ورفع اليد عن إطلاق دليله أو عمومه الأزماني
المقتضي لاستمراره.
لكنه يشكل أولا
: بأن الحكم المنسوخ قد يختص بواقعة واحدة لا استمرار لها ، كأمر إبراهيم عليهالسلام بذبح ولده. وأن دليله قد يكون لبيا أو لفظيا نصا في
العموم لا يقبل التخصيص. وأنه قد يكون الزمان الذي يرفع فيه الحكم أكثر بكثير من
الزمان الذي بقي فيه ، فلو رجع للتخصيص لزم تخصيص الأكثر
المستهجن.
وثانيا : بأن المرتكز كون النسخ رفعا واقعيا للحكم ، لا كشفا
عن حال دليله في مقام الظاهر. ولذا لا إشكال في عدم سقوط دليل الحكم عن الحجية لو
علم من أول الأمر بورود النسخ عليه من دون أن يعلم وقته ، مع أن العام يسقط عن
الحجية لو علم من أول الأمر بعدم إرادة عمومه وتخصيصه في الجملة.
ومثله ما قد
يدعى من رجوع النسخ إلى الكشف عن حال الحكم ، وأنه صوري من أصله أو باستمراره ،
لعدم ثبوت الملاك فيه على نحو ما جعل فهو مخالف لأصالة الجهة في دليل الحكم.
لاندفاعه أولا : بما سبق من أن دليل الحكم الذي يطرأ عليه النسخ قد
يكون لبيا ، ولا موضوع معه لأصالة الجهة. وبما سبق أيضا من أن لازم ذلك سقوط دليل
الحكم عن الحجية لو علم بورود النسخ عليه ولم يعلم وقته ، لسقوط أصالة الجهة فيه
حينئذ بالعلم المذكور.
وثانيا
: بأن مجرد
خلوّ الحكم عن الملاك لا يجعله صوريا ، بل لا يكون صوريا إلا إذا انحصر الغرض منه
بإظهار جعل الحكم من دون أن يقصد جعله ، بحيث لو علم المكلف بحاله انكشف له عدم
كونه موردا للعمل. وخلوّ الحكم عن الملاك لا يخرجه عن كونه موردا للعمل ، بل غاية
الأمر أن يكون جاعل الحكم مخالفا لمقتضى الحكمة ، أو مخطئا في تخيل ثبوت الملاك.
على أن المراد
بهذين الوجهين إن كان هو شرح حقيقة النسخ مطلقا حتى مع عدول الحاكم عن حكمه ،
لانكشاف الخطأ له في تشخيص الملاك الداعي لجعل الحكم لو كان ممن يمكن في حقه
الخطأ. فلا ريب في عدم نهوضهما بذلك ، لتوقفهما على التفات الحاكم لعدم مطابقة
حكمه للملاك الواقعي ، ولا مجال لهما مع اعتقاده ـ ولو خطأ ـ بمطابقة حكمه على
إطلاقه للملاك. بل لا
يخرج النسخ منه حينئذ عما ذكرنا.
وإن كان المراد
بهما شرح حقيقة النسخ من خصوص من لا يبتني نسخه على انكشاف الخطأ له ـ كالشارع
الأقدس ـ فرارا عن محذور حكمه على خلاف ما يعلمه من الملاك. أشكل بأنه لا ملزم
بخروج نسخه للحكم عن حقيقته ، إذ يكفي في دفع المحذور المذكور ثبوت المصلحة في نفس
جعل الحكم على نحو الإطلاق ، وإن لم يتم ملاكه في المتعلق ، كما ذكرناه آنفا. ومن
هنا لا مخرج عما ذكرناه في حقيقة النسخ.
ثم إنه لا
ينبغي التأمل في أن الأصل عدم النسخ. وهو أصل قائم بنفسه لا يبتني على الاستصحاب.
ولذا يجري مع الشك في نسخ كبرى الاستصحاب.
والوجه فيه
بناء العقلاء عليه في أمور معاشهم ومعادهم ، حيث لا ريب بعد ملاحظة عملهم
وارتكازيتهم في بنائهم في الأمور التشريعية ـ قانونية كانت أو شخصية ـ على بقائها
ما لم يثبت رفعها. وإلا لاضطرب نظم التشريع ، لعدم الضابط لاحتمال النسخ ، فقد
يتوجه المكلّف له ولا يتوجه له المشرع ليتصدى لرفعه ، بل قد لا يتسنى له رفعه لو
توجه له. فلو كان البناء على التعويل على الاحتمال المذكور لزم فوت الغرض من
التشريع واضطرب نظامه. وأدنى نظر في سيرة العقلاء الارتكازية في التكاليف الشخصية
، والقوانين الوضعية الدنيوية ، والتشريعات الدينية ـ على اختلاف الأديان ـ يوجب
وضوح ذلك.
وكفى بهذه
السيرة حجة بعد وضوح كونها ارتكازية عامة لم يثبت الردع عنها. بل يعلم بإمضاء
الشارع الأقدس لها ، بملاحظة اتفاق العلماء ـ قولا وعملا ـ وسيرة المتشرعة ـ بما
هم أهل دين ـ على ذلك ، من دون أن يبتني ذلك على أخبار الاستصحاب ، لعدم توجههم
للاستدلال بها إلا في العصور المتأخرة.
على أن المراد
بالاستصحاب إن كان هو استصحاب عدم نسخ الحكم ، لأنه أمر حادث مسبوق بالعدم. فهو
يبتني على الأصل المثبت ، لأن الأثر للحكم الشرعي ، وترتيب بقاء الحكم على عدم
نسخه ـ كترتب حدوثه على جعله وارتفاعه على نسخه ـ ليس شرعيا ، بل خارجيا.
وإن أريد
استصحاب نفس الحكم بلحاظ اليقين به سابقا والشك في بقائه تبعا لاحتمال نسخه ، فهو
قليل الفائدة ، لأنه إنما ينفع في خصوص الوقائع التي يطرأ فيها احتمال النسخ بعد
العلم بفعلية الحكم فيها تبعا لتمامية موضوعه ، كما لو احتمل يوم الجمعة نسخ غسلها
بعد فعلية استحبابه.
أما الوقائع
التي يطرأ فيها احتمال النسخ قبل فعلية الحكم فيها وقبل تمامية موضوعه ، فلا مجال
لاستصحاب الحكم الذي يحتمل نسخه ، لعدم العلم بثبوته سابقا ، بل يعلم بعدمه تبعا
لعدم فعلية موضوعه ، فيكون مقتضى الاستصحاب عدمه.
نعم قد يقال :
إنه وإن لم يجر استصحاب الحكم الفعلي مع عدم تمامية الموضوع ، إلا أنه يمكن
استصحاب ما يستفاد من القضايا الكبروية التشريعية التي هي بلسان القضايا التعليقية
أو الحقيقية الراجعة إليها. وقد ذكروا لذلك عدة وجوه نقتصر منها على وجهين :
الأول : أن المستصحب حينئذ السببية والملازمة بين الموضوع
والحكم ، فإن لها نحوا من التحقق وإن لم يوجد طرفاها ، فيقال مثلا : كانت الجنابة
سببا لحرمة المكث في المسجد فهي كما كانت.
ويشكل بأن
السببية والملازمة ونحوهما من الأحكام الوضعية ليست أحكاما حقيقية مجعولة ليتم
ركنا الاستصحاب فيها ، بل هي منتزعة من ترتب الأحكام على موضوعاتها ، مع كون مورد
العمل هو تلك الأحكام ـ المفروض
عدم فعليتها بعد ، لعدم تمامية موضوعاتها ـ كما فصلنا الكلام في ذلك في
المسألة الثالثة من المقام الثاني في الأحكام الوضعية من مقدمة علم الأصول.
مع أنها لو
كانت لها حقائق مجعولة فهي ليست بنفسها موردا للعمل ، بل بتوسط لازمها ، وهو فعلية
الحكم تبعا لفعلية موضوعه ، ومن الظاهر أن التلازم بينهما ليس شرعيا ، بل خارجي ،
فجريان الاستصحاب فيها يبتني على الأصل المثبت.
الثاني
: أن للحكم
الإنشائي التي تتضمنه الكبريات الشرعية نحوا من الوجود والتحقق يترتب عليه العمل
عند فعلية موضوعه ، وبلحاظ ما له من التحقق أمكن نسخه. وحينئذ يمكن استصحابه عند
الشك في نسخه ، لليقين بوجوده ، والشك في رفعه.
ويندفع بأن
الحكم المذكور وإن كان له نحو من التحقق ، إلا أنه ليس موردا للعمل بنفسه ، بل
بلحاظ مطابقته للأحكام الانحلالية التابعة لفعلية كل فرد فرد من الموضوع الكلي
الذي تضمنته القضية الكبروية. فالحكم الحقيقي الذي تناله يد الجعل ، والذي هو مورد
العمل عقلا وشرعا ليس هو الحكم الإنشائي ، بل الأحكام الفعلية الانحلالية المذكورة
، والتلازم بينه وبينها خارجي ، لا شرعي.
نعم ذكر بعض
الأعيان المحققين قدسسره أن الحكم الحقيقي الذي هو مورد العمل هو الحكم الكبروي
المذكور ، وأن فعلية الموضوع ظرف محركية الحكم عقلا ، لا ظرف فعلية الحكم الذي هو
مورد العمل.
وبهذا يختلف
التكليف المشروط ـ الذي إليه ترجع الكبريات الشرعية المجعولة بنحو القضية الحقيقية
ـ عن التكليف المطلق الذي يخاطب به تبعا لفعلية موضوعه ، لانتزاع الثاني من
الإرادة الفعلية ، وانتزاع الأول من الإرادة
المنوطة. كما يختلفان أثرا ، لمحركية الثاني عقلا بمجرد الخطاب ، وعدم
محركية الأول إلا بفعلية موضوعه خارجا.
لكنه يشكل بأن
المرتكزات العرفية قاضية باتحاد الحكم المطلق والحكم المشروط سنخا ، وانتزاعهما
معا عن الإرادة الفعلية الحاصلة للحاكم حين التفاته لفعلية تمام ما هو الدخيل في
الغرض والملاك ، والتي تكون مقارنة للخطاب بالحكم المطلق ولفعلية موضوع الحكم
المشروط.
وليس الخطاب
بالثاني إلا لضبط موارد الأحكام الفعلية الانحلالية ، من دون أن يكون بنفسه موردا
للعمل ، بل ليس الحكم الحقيقي الذي هو مورد للعمل إلا الحكم الفعلي المذكور. كما أن
ذلك هو ظاهر الأدلة الشرعية التي تضمنت أخذ الأحكام في موضوعاتها ـ كالزوجية
والملكية والحرية والوجوب والحرمة ـ حيث لا يراد منها في تلك الأدلة إلا الأحكام
الفعلية التابعة لفعلية موضوعاتها ، لا الأحكام الكبروية الإنشائية التابعة
للإنشاء.
إذا عرفت هذا
فاعلم أنه وقع الكلام بينهم في أنه هل يتجه البناء على بقاء أحكام الشرائع السابقة
عند الشك في نسخها في شريعتنا ـ كما هو الحال في سائر موارد الشك في النسخ ـ لما
سبق من الاستصحاب ، أو أصالة عدم النسخ ، أو لا؟. وقد منع من ذلك غير واحد.
والمذكور في
كلماتهم وجوه ..
أحدها : تعدد الموضوع ، لاختلاف المخاطبين بالشرائع السابقة عن
المخاطبين بهذه الشريعة ، فأهل هذه الشريعة غير مشمولين بدوا بتلك الأحكام ، ليكون
مقتضى أصالة عدم النسخ ، أو الاستصحاب بقاءها في حقهم.
ويندفع بأن
الظاهر أخذ عناوين المكلفين في تلك الأحكام بنحو القضية الحقيقية المنطبقة على أهل
هذه الشريعة النافذة عليهم لو لم يطرأ النسخ. وإلا
لامتنع النسخ ، لأنه رفع الحكم مع تحقق موضوعه ، لا انتهاء أمده لارتفاع
موضوعه.
ثانيها : ما ذكره شيخنا الأستاذ قدسسره. وهو أنه يعلم بنسخ جميع أحكام الشريعة السابقة
بشريعتنا ، حتى الأحكام الموافقة لأحكامها ، وأن تضمن هذه الشريعة لبعض الأحكام
الموافقة لأحكام تلك الشريعة لا يرجع إلى بقاء تلك الأحكام أو إمضائها ، بل إلى
تشريع الحكم المماثل بعد انتهاء أمد جعله في الشريعة السابقة ، كما يقتضيه ما دل
على نسخ هذه الشريعة لها.
وفيه : أنه لا
معنى لنسخ الحكم الإلهي بمثله. ومجرد اختلاف الشريعتين لا يصححه مع وحدة الحاكم.
وما تضمن نسخ شريعتنا لما قبلها لا يراد به نسخ جميع أحكامها بها ، بل مجرد
هيمنتها عليها ، بحيث تخضع أحكام الشريعة السابقة للنسخ بها.
ثالثها : أن العلم الإجمالي بنسخ بعض أحكام تلك الشرائع مانع من
الرجوع في مورد الشك فيه للاستصحاب أو لأصالة عدم النسخ.
وفيه : أنه لا
أثر للشك في النسخ في مورد الجهل بحكم الشريعتين معا ، ولا في مورد العلم بحكم هذه
الشريعة مع الجهل بحكم الشريعة السابقة ، لوجوب العمل على حكم هذه الشريعة سواء
كان باقيا من الشريعة السابقة أم ناسخا لحكمها.
وإنما ينحصر
الأثر له في موارد العلم بحكم الشريعة السابقة مع الجهل بحكم هذه الشريعة ، ومن
الظاهر قلة الموارد المذكورة ، ولا يعلم إجمالا بتحقق النسخ في بعضها ، ليمنع من
الرجوع فيها لأصالة عدم النسخ أو للاستصحاب.
هذه هي الوجوه
المذكورة في كلماتهم ، وقد ظهر ضعفها.
نعم روى في
الكافي عن محمد بن سالم عن أبي جعفر عليهالسلام في حديث طويل يتضمن أن الأنبياء عليهمالسلام بعثوا في أول أمرهم بالدعوة للتوحيد وأنه لم تشرع
لأممهم الأحكام إلا بعد فترة من بعثتهم ، قال عليهالسلام بعد بيان حالهم : «ثم بعث الله محمدا صلىاللهعليهوآله وهو بمكة عشر سنين ، فلم يمت بمكة في تلك العشر سنين
أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا صلىاللهعليهوآله رسول الله إلا أدخله الله الجنة بإقراره ، وهو إيمان
التصديق ، ولم يعذب الله أحدا ممن مات وهو متبع لمحمد صلىاللهعليهوآله على ذلك ، إلا من أشرك بالرحمن ... فلما أذن لمحمد صلىاللهعليهوآله في الخروج من مكة إلى المدينة بني الإسلام على خمس :
شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا صلىاللهعليهوآله عبده ورسوله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج
البيت ، وصيام شهر رمضان. وأنزل عليه الحدود وقسمة الفرائض ، وأخبره بالمعاصي التي
أوجب الله عليها وبها النار لمن عمل بها ، وأنزل في بيان القاتل ...» .
وهو صريح في
عدم تشريع التكاليف ونحوها إلا بعد الهجرة ، وأن الدين في أوائل البعثة لم يكن إلا
الشهادتين ، ولا يلزم المسلم بسواهما ، وإنما يندب لمكارم الأخلاق ، وهو مستلزم
لنسخ جميع أحكام الشرائع السابقة الإلزامية ونحوها ، وليس تشريع الأحكام الموافقة
لها أو المخالفة لها إلا بعد فترة طويلة.
وهو وإن كان
ضعيف السند ، إلا أنه مؤيد أو معتضد بصحيح أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام في حديث إسلام أبي ذر رضي الله عنه ، حيث تضمن دخوله على النبي صلىاللهعليهوآله وإقراره أمامه بالشهادتين ووعده الطاعة له ، ثم قوله صلىاللهعليهوآله : «أنا رسول الله يا أبا ذر انطلق إلى بلادك ... وكن
بها حتى يظهر أمري ...» ونحوه
__________________
مرسل اللؤلؤي .
على أن ذلك هو
الموافق للاعتبار ، لابتداء الدعوة للإسلام بين أقوام مشركين غالبا ، وليسوا أهل
دين ، وهم يجهلون أحكام الشرائع السابقة ، ولم يألفوا العمل بها ، وظروف الدعوة لا
تناسب فرض تلك الأحكام ، ولا غيرها من الأحكام العملية ، بل لا بد أولا من تركيز
الدين ـ كعقيدة ـ واستحكام أصوله في النفوس والمجتمع ، والاعتراف به كحقيقة ثابتة
قبل فرض سيطرته العملية في الحياة بتشريع أحكام العبادات والمعاملات.
ولا سيما وأن
أحكام الشرائع السابقة لم تكن من الوضوح بحدّ يمكن معه الرجوع إليها والعمل بها ،
لأن معتنقي تلك الشرائع قد حرّفوا أحكامها وضيعوا معالمها وكتموا كثيرا منها ، ولا
يتيسر العلم بها إلا من طريق النبي صلىاللهعليهوآله ، ولم يعرف عنه أنه تصدى لبيانها لأتباعه ليعملوا
عليها. ولذا كانت التشريعات الإسلامية بلسان التأسيس لا بلسان النسخ والتعديل
لأحكام الشرائع السابقة.
بل لا إشكال
ظاهرا في تأخر تشريع كثير من مهمات الفرائض ـ كالصلاة والزكاة والصوم ـ مع وجود
نظائرها في الشرائع السابقة من دون أن يعمل عليها المسلمون قبل تشريعها في
الإسلام.
ومن هنا كان من
القريب جدا نسخ الشرائع السابقة بجميع أحكامها العملية ببعثة النبي صلىاللهعليهوآله ، ثم تأسيس الشريعة تدريجا بعد مرور فترة خالية من
الأحكام قد ترك فيها الناس على ما كانوا عليه في الجاهلية من أعراف وعادات في نظام
الحياة.
نعم أهل تلك
الشرائع ملزمون بأحكامها في الفترة المذكورة ، إما ظاهرا بمقتضى أصالة عدم النسخ
قبل قيام الحجة عندهم على الإسلام ، أو واقعا ،
__________________
لقاعدة الإلزام التي هي قاعدة ثانوية تقتضي ثبوت الحكم بعنوان ثانوي ، لا
بمقتضى التشريع الأولي.
ومن هنا لا
مجال لاستصحاب أحكام تلك الشرائع في حق المسلمين بعد أن ثبت عندهم نسخ تلك الشرائع
بالإسلام وأقروا بذلك.
الفصل السابع
في الاستصحاب التعليقي
وقع الكلام
بينهم في استصحاب مفاد القضية الشرطية من أجل إحراز فعلية الجزاء عند تحقق الشرط
لو احتمل طروء ما يمنع من حصول الجزاء ، أو علم بطروء ما يحتمل كونه مانعا منه.
مثلا لو احتمل
حصول العاصم للماء القليل ـ كالاتصال بالمادة الكثيرة ـ أو علم بحصول ما يحتمل
كونه عاصما ـ كالاتصال بمادة دون الكر ـ فهل يمكن أن يقال : كان هذا الماء لو لاقى
النجاسة لتنجس فهو كما كان ، من أجل البناء على نجاسته بالملاقاة؟.
وقد منع من ذلك
غير واحد ، لأن الحكم في القضية التعليقية الشرطية لا وجود له قبل وجود ما علق
عليه ، كي يستصحب ، بل المستصحب عدمه ، لسبق اليقين به قبل وجود ما علق عليه.
كما أنه قد
تصدى غير واحد لتقريب جريان الاستصحاب في ذلك بالوجوه التي ذكرت لتقريب جريان الاستصحاب
مع الشك في نسخ الحكم بالإضافة للوقائع المتجددة ، والتي تقدم منها وجهان ، وتقدم
منها دفعهما.
هذا وظاهرهم
ابتناء الكلام في هذه المسألة على تلك المسألة ، فإن جرى الاستصحاب هناك جرى هنا ،
وإلا لم يجر.
لكن الظاهر
اختلاف المقام عما سبق ، وأن عدم جريان الاستصحاب هناك ـ للزوم كون الأمر المستصحب
فعليا ـ وإن كان مستلزما لعدم جريانه هنا ـ
لعدم الفعلية أيضا ـ إلا أن جريانه هناك لا يستلزم جريانه هنا. لأن مرجع
الوجوه المذكورة هناك إلى جريان الاستصحاب في السببية المنتزعة من الحكم ، أو في
الحكم الإنشائي الكلي الذي هو مفاد الكبرى الشرعية. وكلاهما لا ينفع هنا.
أما السببية
فلأنه لم يحرز سابقا أن تمام سبب الجزاء هو الشرط المتحقق حال الشك ـ كملاقاة
النجاسة في المثال المتقدم ـ ليحرز باستصحاب سببية ترتب الجزاء عليه ، بل يعلم
كونه جزء السبب وجزؤه الآخر الخصوصية التي يحتمل تخلفها ـ كعدم الاتصال بالمادة في
المثال المتقدم ـ أو يحتمل كونه جزء السبب والجزء الآخر هو الخصوصية المفقودة ـ كعدم
نزول المطر القليل في المثال المتقدم ـ ومن الظاهر أن إحراز السببية الأعم من
التامة والناقصة لا ينهض بإحراز المعلول.
وأما الحكم
الإنشائي الكلي فليس موضوعه هو الأمر الخارجي المحفوظ في حالتي اليقين والشك ـ كالماء
القليل الخارجي في المثال المتقدم ـ بل موضوعه العنوان الكلي ـ كعنوان الماء
القليل ـ مع العلم بأخذ الخصوصية التي يحتمل فقدها قيدا فيه ، أو احتمال أخذ
الخصوصية التي يعلم بفقدها قيدا فيه.
ففي المثال
المتقدم لا يعلم بأن موضوع الحكم الإنشائي بالانفعال هو مطلق الماء القليل المنطبق
قهرا على الماء الخارجي المفروض ، بل يعلم أن موضوعه هو خصوص الماء القليل غير
المتصل بالمادة ، أو يحتمل كون موضوعه هو خصوص الماء القليل الذي لم يتصل بمادة
وإن كانت دون الكر.
وعلى كلا
الحالين لا يحرز انطباقه على الماء المفروض ، ليكون استصحاب الحكم الكلي الإنشائي
محرزا لانفعاله.
ومن ثم كان
جريان الاستصحاب التعليقي أولى بالمنع من جريان استصحاب الحكم عند الشك في نسخه ،
وإن سبق منا المنع من الثاني أيضا في
غالب الموارد.
نعم قد يوجه
جريان الاستصحاب التعليقي في محل الكلام بأن الموضوع الخارجي حيث كان سابقا واجدا
لجميع ما يعلم أو يحتمل دخله في الحكم عدا الشرط المفقود تصدق بالإضافة إليه قضية
شرطية قابلة للاستصحاب.
فالماء في
المثال المتقدم حيث كان قليلا يعلم بعدم اتصاله بالمادة حتى ما دون الكر ، ولا
يتوقف انفعاله إلا على إصابة النجاسة له ، تصدق بالإضافة إليه قضية شرطية قابلة
للاستصحاب ، فيقال : كان هذا الماء إن أصابته نجاسة تنجس ، فهو كما كان. ولا يمنع
من استصحابه احتمال حصول ما يعلم بمانعيته من الانفعال ، وهو اتصاله بالمادة
الكثيرة ، أو العلم بحصول ما يحتمل مانعيته ، كاتصاله بمادة دون الكر. لابتناء
الاستصحاب على إهمال مثل هذا الاحتمال.
لكنه يندفع أولا : بعدم اليقين سابقا بصدق الشرطية المذكورة على إطلاقها
، بل مقيدة بعدم طروء ما يعلم أو يحتمل مانعيته من تحقق الجزاء ، فالذي يصدق في
المثال المتقدم قولنا : كان هذا الماء إن أصابته نجاسة وهو غير متصل بالمادة ولو
كانت دون الكر تنجس ، ومن المعلوم أن الشرطية المقيدة معلومة البقاء ، ولا تنفع في
إحراز تنجس الماء في محل الكلام.
وثانيا
: بأن الشرطية
المذكورة ليست شرعية ، بل هي منتزعة من جعل الحكم منوطا بجميع ما أخذ فيه. وليس
المجعول شرعا في مقام الإنشاء إلا الحكم الكبروي على الماء الكلي مع تمام ما أخذ
فيه من قيود وشروط. كما أن المجعول الفعلي هو الحكم الجزئي على الماء الجزئي
الواجد لجميع ما أخذ في الحكم الكبروي الإنشائي. وكلاهما لا ينفع في المقام ، لعدم
إحراز انطباقه على مورد الشك.
الفصل الثامن
في أصالة تأخر الحادث
من الظاهر أن
الاستصحاب كما ينهض بإحراز استمرار الحالة السابقة في زمان الشك مع الشك في أصل
انتقاضها ، كذلك ينهض بإحرازه مع العلم بانتقاضها والشك في تقدمه وتأخره ، فكما
يجري استصحاب حياة زيد مع الشك في موته ، يجري استصحاب حياته في زمان الشك مع
العلم بموته والجهل بوقته ، فإذا علم بموت زيد أما في يوم الخميس أو في يوم الجمعة
فمقتضى الاستصحاب حياته يوم الخميس.
نعم لا ينهض
الاستصحاب المذكور بإحراز الحدوث في الزمان المتأخر ، فلو أسلم الوارث ليلة الجمعة
في المثال السابق لم ينهض الاستصحاب بإحراز موت زيد يوم الجمعة ، ليترتب أثر موته
حين إسلام الوارث ، وهو ميراثه منه ، فإن حياته يوم الخميس مع فرض موته في أحد
اليومين وإن كانت تستلزم موته يوم الجمعة ، إلا أنه لا ترتب بينهما شرعا ،
فالانتقال من أحدهما للآخر يبتني على الأصل المثبت.
هذا وقد وقع
الكلام بينهم فيما لو علم بحدوث حادثين وشك في المتقدم والمتأخر منهما. ولذلك
صورتان الأولى : أن يمكن اجتماعهما في الوجود ، كإسلام الوارث وموت
المورث ، وموت الأب وموت الابن الثانية
: أن يمتنع
اجتماعهما في الوجود ، بل يخلف أحدهما الآخر ، لتضادهما ، كالطهارة والحدث ، حيث
يتعين حينئذ بقاء المتأخر منهما وترتب أثره ، دون المتقدم.
فالكلام في
مقامين :
المقام الأول : في الحادثين غير المتضادين
ولا ينبغي
التأمل في جريان استصحاب عدم كل منهما في زمان الشك ذاتا بلحاظ عمود الزمان ، من
دون نظر لإضافة زمان الشك للحادث الآخر ، لتمامية ركني الاستصحاب فيهما معا.
فإذا علم بموت
الأب والابن وتردد الأمر بين موت الأب يوم الخميس والابن يوم الجمعة والعكس جرى
استصحاب حياة كل منهما وعدم موته إلى يوم الجمعة. غاية الأمر أنه يعلم بكذب أحدهما
، فيجري عليهما ما يجري على الأصلين المعلوم كذب أحدهما. وهذا كله ظاهر.
وإنما المهم
الكلام في استصحاب عدم كل منهما في زمان حدوث الآخر على إجماله بما هو زمان خاص من
أزمنة الشك وبعنوانه الخاص من أجل إثبات أثره ، كميراثه منه. ومن الظاهر أن للشك
في تقدم أحد الحادثين على الآخر صورتين :
الصورة الأولى : أن يجهل تاريخ الحادثين ، كالمثال المتقدم. وظاهر
شيخنا الأعظم قدسسره جريان الاستصحاب في كل منهما ذاتا ، وأنه يجري عليهما
ما يجري على الأصلين المعلوم كذب أحدهما.
لكن منع من ذلك
غير واحد ، لدعوى قصور دليل الاستصحاب بدوا عن ذلك. والمذكور في كلامهم وجهان :
الأول
: عدم إحراز
اتصال زمان الشك بزمان اليقين. فقد تقدم عند الكلام في أركان الاستصحاب أنه لا بد
من إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، بحيث يحرز أن المشكوك استمرار للمتيقن ،
ولا يكفي تقدم زمان المتيقن على زمان المشكوك مع انفصالهما بزمان آخر ، نظير
الطفرة ، بل ولا مع احتمال الانفصال.
ولا مجال
لإحراز الاتصال في المقام ، لأن عدم أحد الحادثين حين حدوث الآخر وإن كان مشكوكا
فيه بعد اليقين به سابقا ، إلا أنه لما كان الشيء معلوم الحدوث في الجملة ـ قبل
الحادث الآخر أو بعده ـ فمن المحتمل أن يكون زمان حدوثه الإجمالي فاصلا بين زماني
الشك واليقين المفروضين.
مثلا : لما فرض
في المثال السابق تردد زمان كل من موت الأب وموت الابن بين الخميس والجمعة ، فزمان
اليقين بعدم موت الابن هو يوم الأربعاء ، وهو إنما يكون متصلا بزمان الشك المفروض
ـ وهو زمان موت الأب ـ إذا كان الزمان المذكور هو يوم الخميس أما إذا كان هو يوم
الجمعة كان منفصلا عنه بيوم الخميس. وعلى ذلك لا يجري استصحاب عدم موت الابن إلى
حين موت الأب. وكذا الحال في العكس.
إن
قلت : إن كان زمان
موت الأب يوم الخميس ، فهو متصل بزمان اليقين بعدم موت الابن ، وإن كان يوم الجمعة
كان متصلا بزمان الخميس المتصل به ، وذلك كاف في صحة الاستصحاب فيه ، إذ لا يعتبر
في استصحاب المتيقن في زمان ليترتب عليه الأثر اتصال ذلك الزمان بنفسه بزمان
اليقين ، بل يكفي اتصاله بزمان شك مثله متصل بزمان اليقين ، فإذا علم بالطهارة
صباحا ، وشك في انتقاضها ضحى أمكن استصحابها إلى الظهر ، لاتصاله بالضحى المتصل
بزمان اليقين.
فالمقام نظير
ما لو علم بنجاسة الجسم صباحا ، وشك في تطهيره ، وعلم بملاقاته برطوبة ضحى أو ظهرا
، حيث يجري استصحاب نجاسته إلى زمان الملاقاة المردد بين الضحى المتصل بنفسه بزمان
اليقين والظهر المتصل بالضحى الذي هو متصل بزمان اليقين.
قلت : إنما يكفي اتصال زمان الشك الذي هو مورد الأثر بزمان
شك
متصل بزمان اليقين إذا أريد بالاستصحاب جره منه إليه ، لا من زمان اليقين
ابتداء إليه ، كما في مثال الطهارة المتقدم ، حيث يكون الغرض من استصحابها إلى وقت
الظهر البناء على بقائها من الصبح إلى الضحى إلى الظهر ، لا على انتقالها من الصبح
إلى الظهر ابتداء نظير الطفرة.
وعليه يجري
الاستصحاب في مثال الملاقاة المذكور ، لوضوح أن زمان الملاقاة لو كان هو الظهر كان
المقصود بالاستصحاب التعبد ببقاء النجاسة إليه من الصبح بعد عبورها على الضحى.
أما في المقام
فلا يراد باستصحاب عدم موت الابن إلى حين موت الأب ـ المردد بين الخميس والجمعة ـ إلا
البناء على عدم موت الابن في زمان موت الأب بعنوانه ـ على ما هو عليه من التردد ـ من
دون أن يتضمن البناء على بقائه إلى زمان موت الأب مطلقا ، بحيث لو كان هو يوم
الجمعة لكان عابرا إليه من يوم الخميس ، للقطع بعدم بقاء حياة الابن وعدم موته إلى
يوم الجمعة ، بل هو منتقض في أحد اليومين المذكورين.
الثاني
: أن الشك في
بقاء الشيء في زمان الآخر .. تارة : يكون للشك في مقدار ذلك الشيء ، كما لو علم بأن موت
الأب كان ليلة الجمعة ، وشك في أن موت الابن كان يوم الخميس أو يوم الجمعة. وأخرى : يكون للشك في تقدم ذلك الشيء الآخر وتأخره ، كما لو
علم بموت الابن ليلة الجمعة وشك في أن موت الأب يوم الخميس أو يوم الجمعة.
ولا إشكال في
جريان الاستصحاب في الأول. أما في الثاني فالظاهر عدم جريان الاستصحاب هنا ، فلا
يستصحب في المثال عدم موت الابن حين موت الأب. لأن المنساق من أدلة الاستصحاب
المناسب لارتكازية مضمونه هو التعبد ببقاء المشكوك واستمراره وطول أمده ، لا تحققه
في زمان الشك بما له
من عنوان ، وإنما يحرز في الصورة الأولى كونه مستمرا حين الحادث الآخر
بتوسط العلم بأمد ذلك الحادث ، لا لوفاء الاستصحاب بذلك ابتداء ، بل ليس مفاد
الاستصحاب إلا التعبد ببقاء المستصحب وامتداده للزمان الخاص بذاته ، لا بعنوانه
المنتزع من حدوث الحدث فيه.
وبعبارة أخرى :
الاستصحاب متمحض في التعبد باستمرار المستصحب وبقائه في عمود الزمان ، ولا ينهض
بالتعبد بالنسبة بينه وبين غيره. وإنما تستفاد النسبة من إحراز حال ذلك الغير
زائدا على الاستصحاب ، كما لو علم بتاريخه.
ويترتب على ذلك
أنه لو كان منشأ الشك هو الجهتين معا ـ كما هو الحال في المقام ـ فالاستصحاب إنما
ينفع في إبقاء المشكوك وامتداده في عمود الزمان تعبدا ، ولا ينهض بإحراز خصوصية
وجوده في زمان الحادث الآخر إذا لم تكن من شئون امتداده.
ففي المثال
المتقدم يحكم بعدم موت الابن يوم الخميس ، للشك في امتداده إليه ، ويترتب عليه
أثره ، كالإنفاق على زوجته من ماله وعدم بدئها بالعدة في اليوم المذكور. ولا يحرز
عدم موت الابن حين موت الأب ، لعدم إحراز موت الأب في اليوم المذكور ، والشك في
الخصوصية المذكورة ينشأ من الشك في امتداد عدم موت الابن والشك في تقدم موت الأب
معا ، والاستصحاب لا ينهض بالتعرض للجهة الثانية.
الصورة الثانية : أن يجهل تاريخ أحد الحادثين دون الآخر. كما لو علم
بموت الأب ليلة الجمعة وتردد موت الابن بين يوم الخميس ويوم الجمعة. ولا إشكال في
جريان الاستصحاب في مجهول التاريخ ، حيث يحرز في المثال المذكور عدم موت الابن
ليلة الجمعة التي هي زمان موت الأب ، المقتضي لميراثه من أبيه.
كما أن الظاهر
عدم جريانه في معلوم التاريخ ، لا في عمود الزمان ، لفرض العلم بتاريخه ، ولا
بالإضافة إلى زمان الآخر بخصوصيته وعنوانه ، للوجهين السابقين في مجهول التاريخ.
أما الثاني فظاهر ، بل هو هنا أولى بالمنع من جريان الاستصحاب ، كما يتضح بملاحظة
تقرير الوجه المذكور.
وأما الأول
فلاحتمال كون زمان الشك ـ وهو زمان حدوث مجهول التاريخ ـ منفصلا عن زمان اليقين
بزمان اليقين بانتقاض الحالة السابقة. ففي المثال المتقدم لو أريد استصحاب عدم موت
الأب حين موت الابن أشكل باحتمال انطباق زمان الشك الذي يراد إحراز المستصحب فيه ـ
وهو زمان موت الابن ـ على يوم الجمعة ، فينفصل عن زمان اليقين بعدم موت الأب ـ وهو
يوم الخميس ـ بزمان اليقين بموته ، وهو ليلة الخميس. فلاحظ.
المقام الثاني : في الحادثين المتضادين
وليس الغرض هنا
إحراز عدم أحدهما حين حدوث الآخر ـ كما سبق في المقام ـ للقطع به بعد فرض التضاد ،
بل تشخيص الوظيفة الفعلية لو علم أو احتمل استمرار أحدهما لو لا الرافع ، المستلزم
لكون مقتضى الوظيفة العملية البناء على بقاء المتأخر منهما ، ولزوم العمل عليه.
والجهل بالمتأخر منهما هو المنشأ للجهل بالباقي منهما. حين إرادة تشخيص الوظيفة
ولذلك أيضا صورتان :
الصورة الأولى : أن يجهل تاريخ كل منهما. كما لو علم بإصابة البول
للأرض أما في يوم الخميس أو الجمعة ، وبإصابة المطر لها في أحد اليومين إما قبل
إصابة البول أو بعدها.
والمعروف هنا ـ
كما قيل ـ جريان الاستصحاب في كل منهما ذاتا لتمامية ركنيه من الشك واليقين ،
وسقوطه بالمعارضة ، لاستلزامه التعبد ظاهرا
بالضدين ، الراجع للتعبد بالنقيضين ، وهو ممتنع كجعلهما واقعا.
لكن ذهب غير
واحد إلى عدم جريان الاستصحاب ذاتا ، لوجوه كثيرة عمدتها عدم إحراز اتصال زمان
الشك بزمان اليقين ، نظير ما تقدم في المقام الأول. وإن اختلف عنه بأن منشأ عدم
إحراز الاتصال هناك هو تردد زمان الشك بين زمانين متصل بزمان اليقين ومنفصل عنه.
أما منشؤه هنا فهو تردد زمان اليقين بين زمانين متصل بزمان الشك الذي يراد ترتيب
الأثر فيه ومنفصل عنه.
ففي المثال
السابق لا تردد في زمان الشك في الطهارة والنجاسة ، بل هو يوم السبت وما بعده ،
حيث يراد معرفة الوظيفة العملية فيه بالإضافة إلى الأرض من جواز السجود عليها
والتيمم بها ، أو عدمهما وطهارة ملاقيها أو نجاسته.
وإنما التردد
في زمان اليقين ، فزمان اليقين بالطهارة مردد بين يومي الخميس والجمعة ، فإن كان
هو يوم الخميس كان منفصلا عن يوم السبت بيوم الجمعة.
ولا يراد
بالاستصحاب جرّ المستصحب ـ وهو الطهارة ـ منه إلى يوم السبت مارا بيوم الجمعة ،
للقطع بعدم بقائه كذلك ، بل لو كان زمان اليقين هو يوم الخميس فالأمر المتيقن
سابقا منتقض يوم الجمعة ، بل المراد بالاستصحاب إبقاء الطهارة من زمان اليقين ـ على
تردده ـ ليوم السبت ولو كان بنحو الطفرة ، وقد سبق عدم نهوض الاستصحاب بذلك. وهكذا
الحال في زمان اليقين بالنجاسة.
ومن هنا كان
الظاهر عدم جريان الاستصحاب ذاتا.
الصورة الثانية : أن يجهل تاريخ أحدهما مع العلم بتاريخ الآخر. كما لو
علم بإصابة الأرض بالبول يوم الجمعة وبإصابة المطر لها ليلة الجمعة أو ليلة السبت.
ولا إشكال في جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ ذاتا.
وأما في مجهول
التاريخ فهو يبتني على ما تقدم في الصورة الأولى ،
وحيث سبق منا عدم جريان الاستصحاب في مجهولي التاريخ ذاتا تعين عدم جريانه
هنا ، وانفرد الاستصحاب في معلوم التاريخ بالجريان والعمل.
أما لو لم يتم
ما ذكرنا فالمتعين جريان الاستصحاب فيه ، ومعارضته للاستصحاب في معلوم التاريخ ،
كما أصر عليه بعض مشايخنا قدسسره. لكن بعده عن الذوق العرفي في تطبيق كبرى الاستصحاب
مؤيد لما سبق منا.
الفصل التاسع
في استصحاب حكم المخصص
إذا ورد عام
مستمر الحكم ومخصص له في بعض الأفراد ، وكان المتيقن منه بعض الأزمنة فبعد انتهاء
ذلك الزمان لو شك في حكم الفرد هل يرجع لعموم العام أو لاستصحاب حكم الخاص؟. مثلا
: بعد تخصيص عموم نفوذ العقود بدليل خيار الغبن ، وخيار الزوجة في فسخ النكاح
بجنون الزوج ونحوهما ، لو شك بسبب إجمال الخاص في أن الخيار على الفور أو التراخي
، فهل المرجع في الزمان الثاني هو عموم نفوذ العقود المطابق عملا لفورية الخيار ،
أو استصحاب الخيار الموافق عملا للتراخي؟
ومن الظاهر أن
الكلام ليس في رفع اليد عن العموم بالاستصحاب ـ لما يأتي في مبحث التعارض من تقديم
العموم وسائر الأدلة على الاستصحاب وجميع الأصول ـ بل في حجية العموم بعد انتهاء
أمد التخصيص ، لترفع به اليد عن الاستصحاب.
كما أن محل
الكلام ما إذا كان العام متكفلا بإثبات الحكم في جميع الأزمنة ، دون ما إذا لم
يتعرض إلا للحدوث ، وكان الحكم بالبقاء لأمر خارج عن العموم ـ كاستعداد الحكم
بذاته للبقاء ، أو الاستصحاب ـ فإنه خارج عن محل الكلام ، لعدم كون ارتفاع الحكم
في الزمان اللاحق عن تمام الأفراد ، فضلا عن بعضها ، منافيا للعام بوجه.
كما هو الحال
في عموم ما دل على تنجس الجسم بملاقاة النجاسة ، وعموم ما دل على تحقق الزوجية
بالعقد على المرأة ، فإن بقاء النجاسة
والزوجية ليس مقتضى العمومين المذكورين ، بل لاستعدادهما ذاتا للبقاء ، أو
للاستصحاب.
إذا عرفت هذا
فالظاهر حجية العام بعد انتهاء أمد التخصيص ـ بنحو يمنع من الرجوع لاستصحاب حكم
المخصص ـ إلا في موردين الأول : ما إذا كان الاستمرار قيدا في متعلق الحكم ، بأن
تؤخذ أجزاء الزمان فيه بنحو المجموعية والارتباطية ، كوجوب الصوم في تمام النهار
مع وحدة التكليف والمكلف به في اليوم الواحد.
إذ مع ارتفاع
الحكم عن بعض الأفراد في بعض الأزمنة ، وثبوت التخصيص فيه ، يخرج الفرد عن العام
رأسا بعد أن كان مفاد العام ثبوت الحكم للمجموع بنحو الارتباطية ، المفروض منافاة
الخاص لها بدلالته على عدم ثبوت الحكم للفرد في بعض الأزمنة. وحينئذ يتعين الرجوع
في بقية الأزمنة لأمر آخر غير العموم ، من الاستصحاب ـ لو كان جاريا في نفسه ـ أو
غيره.
نعم لو فرض
الجمع بين العام والخاص برفع اليد عن الارتباطية بالإضافة إلى مورد التخصيص تعين
حجية العام في الباقي ، نظير موارد قاعدة الميسور. لكنه محتاج إلى عناية خاصة ،
ولا ضابط لذلك ، بل هو موكول لنظر الفقيه.
الثاني : ما إذا لم يكن مفاد العام مجرد ثبوت الحكم للفرد في
جميع الأزمنة ، بل بنحو يتفرع ثبوته في الزمان اللاحق على ثبوته في الزمان السابق
، لابتنائه على الاستمرار منه إليه ، بحيث يكون الحكم عابرا من الزمان السابق
للاحق. إذ مع دلالة الخاص على عدم ثبوت حكم العام في الزمان السابق لا يكون ثبوته
في الزمن اللاحق مقتضى العام ، بل لا بد فيه من الرجوع فيه لأمر آخر من استصحاب أو
غيره.
لكن الشأن في
إحراز ذلك إثباتا ، لاحتياجه إلى عناية خاصة ، ولا ضابط لاستفادتها من الأدلة ، بل
هي موكولة لنظر الفقيه.
الفصل العاشر
في جريان الاستصحاب في الأمور اللغوية
اشتهر في كلمات
أهل الاستدلال الرجوع لكثير من الأصول العدمية في الأمور اللغوية ونحوها مما يتعلق
بالكلام ، كأصالة عدم النقل وعدم التخصيص وعدم القرينة ونحوها. وربما يتوهم
ابتناؤها على الاستصحاب.
لكن الظاهر
أنها أصول عقلائية مستقلة بنفسها مع قطع النظر عن كبرى الاستصحاب الشرعية ، ولذا
لا ريب في جريانها في نفس أدلة الاستصحاب المتقدمة. بل لا مجال لتوهم ابتنائها على
الاستصحاب بعد عدم كون مفادها بعنوانه موردا لأثر عملي شرعي في كبريات شرعية. غاية
الأمر أنها بمقتضى سيرة العقلاء تطابق موارد تشخيص الظهور أو حجيته ، وهو لا يكفي
في جريان الاستصحاب بعد عدم أخذ خصوصية مفادها بعنوانه شرعا في موضوع الحجية.
والحمد لله رب العالمين.
خاتمة
يأتي إن شاء
الله تعالى في مبحث التعارض أن الأدلة تتقدم على الاستصحاب وغيره من الأصول.
والمناسب هنا التعرض ـ تبعا لمشايخنا قدسسره ـ لبعض القواعد الجارية في الشبهات الموضوعية التي تقدم
على الاستصحاب.
لأهميتها في
أنفسها ، ولمناسبة الكلام فيها للكلام في الاستصحاب ، وإن لم تكن من المسائل
الأصولية ، لعدم نهوضها بإثبات حكم شرعي كلي ، بل تختص بالشبهات الموضوعية. ويكون
الكلام في ذلك في ضمن فصول ..
الفصل الأول
في قاعدة اليد
وهي من القواعد
الظاهرية المشهورة. ومرجعها إلى أن اليد تنهض بإحراز ملكية صاحبها لما تحت يده.
ويدل على ذلك
أمور ..
الأول
: النصوص الكثيرة. وهي على طوائف ..
الأولى : ما تضمن أن البينة على المدعي ، واليمين على المدعى
عليه ، مع ما هو المعلوم والمصرح به في بعض النصوص من أن صاحب اليد هو المدعى عليه. وكذا ما تضمن أن
المنكر إذا رد اليمين على المدعي فنكل فلا حقّ له . فإن المستفاد من هذه النصوص ونحوها كون اليد في نفسها
محرزة للملكية ، وإن احتيج معها لليمين في خصوص مورد التخاصم ، ولذا لا يكلف
__________________
بها قبله أو بعد عدول المدعي عن دعواه.
بل هو كالمصرح
به في صحيح عثمان بن عيسى وحماد بن عثمان عن أبي عبد الله عليهالسلام في حديث فدك : «إن أمير المؤمنين عليهالسلام قال لأبي بكر : أتحكم [تحكم] فينا بخلاف حكم الله في
المسلمين؟ قال : لا. قال : فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه ادعيت أنا فيه من
تسأل البينة؟ قال : إياك كنت أسأل البينة على ما تدعيه على المسلمين. قال : فإذا
كان في يدي شيء فادعى فيه المسلمون تسألني البينة على ما في يدي وقد ملكته في حياة
رسول الله صلىاللهعليهوآله وبعده ... ، فسكت أبو بكر. ثم قال عمر : يا علي دعنا من
كلامك ، فإنا لا نقوى على حججك ...» إلى أن قال : «وقد قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : البينة على من ادعى واليمين على من أنكر] ادعي عليه [»
حيث لا بد من حمله على الملكية الظاهرية التي يمكن معها الدعوى وطلب
البينة.
الثانية : ما تضمن حلية جوائز السلطان ومعاملتهم إلا أن يعلم
حرمة المال بعينه ، وما تضمن جواز النزول على وكيل الوقف المستحل لما في
يده إذا كان له مال آخر . حيث يستفاد منها عدم صلوح تعرضهم للحرام وابتلائهم به
لإسقاط حجية اليد ، مع المفروغية عن حجيتها في نفسها.
الثالثة : صحيحا محمد بن مسلم المتضمنان أن ما يوجد من الورق
مدفونا في الدار المعمورة فهو لأهلها . وكذا صحيح
جميل بن صالح
__________________
المتضمن أن من وجد دينارا في صندوقه الذي لا يدخل غيره فيه يده فهو له . لوضوح أن عدم إدخال الغير يده لا يستلزم ملكيته له ،
لاحتمال أخذه له بلا حق ، أو نسيانه لصاحبه ، أو غير ذلك. فلا بد من استناد الحكم
بملكيته له لليد.
الرابعة : صحيح العيص ومعتبر حمزة بن حمران المتضمنان جواز شراء
المملوك من السوق وإن ادعى الحرية ، حيث لا وجه
لرفع اليد عن دعوى المملوك الحرية المطابقة للأصل لو لا حجية يد البائع.
الخامسة : بعض النصوص المتفرقة ، كموثق يونس بن يعقوب عن أبي عبد
الله عليهالسلام : «في امرأة تموت قبل الرجل أو رجل قبل المرأة. قال :
ما كان من متاع النساء فهو للمرأة ، وما كان من متاع الرجال والنساء فهو بينهما ،
ومن استولى على شيء منه فهو له» .
وموثق حفص بن
غياث عنه عليهالسلام : «قال له رجل : إذا رأيت شيئا في يدي رجل يجوز لي أن
أشهد أنه له؟ قال : نعم. قال الرجل : أشهد أنه في يده ، ولا أشهد أنه له ، فلعله
لغيره. فقال أبو عبد الله عليهالسلام : أفيحل الشراء منه؟ قال : نعم. فقال أبو عبد الله عليهالسلام : فلعله لغيره ، فمن أين جاز لك أن تشتريه ، ويصير ملكا
لك ، ثم تقول بعد الملك : هو لي ، وتحلف عليه ، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه
من قبله إليك؟ ثم قال أبو عبد الله عليهالسلام : لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق» . وربما كان هناك بعض النصوص الأخر لا مجال لإطالة
الكلام فيها. وفيما سبق كفاية.
هذا وأكثر هذه
النصوص لا ينهض بإثبات عموم يرجع إليه في مورد
__________________
الشك. نعم يمكن استفادة العموم من صحيح عثمان بن عيسى وحماد بن عثمان
المتقدم في الطائفة الأولى ومن موثق حفص ، لظهورهما في التصدي لبيان حكم اليد ،
ولا سيما الموثق.
الثاني من أدلة المسألة : الإجماع ، حيث يستفاد من كلمات
العلماء مفروغيتهم عن الحكم في أبواب الفقه المتفرقة ، خصوصا ما ذكروه في مبحث التداعي
من أنه لو اختلف المتداعيان في عين وكانت في يد أحدهما كلف الآخر بالبينة.
الثالث : سيرة المتشرعة الملتزمين بالدين. وهي أوضح من أن تحتاج
للإثبات ، كاتصالها بعصر المعصومين عليهمالسلام ، كما يشير لذلك موثق حفص المتقدم. ولا يقدح في
الاستدلال بها ابتناؤها على سيرة العقلاء الآتية ، ولذا لا تختص بالمتدينين ، بل
ولا بالمسلمين. إذ هو لا يمنع من كشفها عن رضا الشارع الأقدس ، وإلا لزمه النكير
عليها والردع عنها ، ولو صدر ذلك منه لشاع وذاع بسبب كثرة الابتلاء بالحكم ،
فارتدع عن ذلك المتدينون ولم تقم سيرتهم المذكورة.
الرابع : سيرة العقلاء على اختلاف مللهم ونحلهم وأمصارهم
وعصورهم. وهي سيرة ارتكازية عامة ناشئة عن إدراكهم بمقتضى فطرتهم نحوا من المناسبة
بين اليد والحكم بالملكية ظاهرا ، وليست ناشئة من مجرد التباني عند فئة معينة
لأسباب طارئة. ومثل هذه السيرة لا تحتاج للإمضاء ، بل يكفي عدم ظهور الردع عنها ،
كما يظهر مما تقدم في آخر الكلام في أصالة عدم الحجية. على أنه لا ينبغي الريب في
إمضائها بلحاظ الأدلة المتقدمة.
ومن هنا كانت
هذه القاعدة من الضروريات التي لا تحتاج لتكلف الاستدلال لو لا بعض الخصوصيات
والنكات التي قد ينفع فيها سطر الأدلة
واستيعابها ، على ما قد يتضح بما يأتي إن شاء الله تعالى.
إذا عرفت هذا فيقع الكلام في أمور ..
الأمر الأول : قد أخذت اليد بعنوانها في بعض النصوص المتقدمة. وهي
وإن كانت لغة الجارحة المعروفة ، إلا أن المعيار فيها في المقام كون الشيء في حوزة
الشخص ، بنحو يكون من توابعه الملحقة به ، لا لكونه تحت يده الحقيقية ، كالدرهم
المقبوض باليد. لتحققها في ما يمتنع الاستيلاء عليه بها ، كالضياع والعقار وقطعان
الماشية.
كما لا يكفي
فيها القدرة والسيطرة على الشيء ، لوضوح عدم كون السلطان صاحب يد على أموال رعيته
، وإن كان أقدر منهم عليها.
وكذا لا يكفي
كون الشيء في حوزة الإنسان إذا كان استيلاؤه عليه مبنيا على قيامه مقام غيره.
ولهذا لا تنسب اليد للوكيل على المال ولا للولي وإن كان في حوزتهما ، بل تنسب
للموكل والمولى عليه ، لكون المال من توابعهما عرفا ، لا من توابع الوكيل والولي.
ويناسب ذلك كله
ما في صحيح عثمان وحماد المتقدم ، فإنه عليهالسلام قد فرض نفسه صاحب يد على فدك من دون أن يقبضها بيده ،
بل جعل الوكيل عليها ، وكان السلطان والقدرة لغيره. كما أنه عليهالسلام تعرض لفرض كون اليد للمسلمين ، مع أن فعليه يدهم عليه
إنما تكون باستيلاء وليهم الذي يقوم مقامهم. بل هو المناسب لجميع أدلة المقام بعد
تنزيلها على بعض ، وتحكيم سيرتي المتشرعة والعقلاء عليها.
هذا والمرجع في
تحقيق اليد وتشخيص صغرياتها هو العرف ، لاختلاف الأموال والموارد في ذلك اختلافا
فاحشا. وربما يكون الشيء الواحد محققا لليد في حالة دون أخرى ، كالاستيلاء على
مفتاح الدار ، فإنه يكفي في حصول
اليد مع عدم وجود من يسكنها أو يتصرف فيها ، ولا يكفي مع أحدهما ، بل صاحب
اليد هو الساكن أو المتصرف ، لتبعية الدار لهما في هذا الحال ، لا للمستولي على
المفتاح.
الأمر الثاني : الظاهر أن الملكية المحرزة باليد هي ملكية المال ، لا
محض السلطنة على التصرف ولو بوكالة أو ولاية أو إباحة. ويقتضيه ـ مضافا إلى
المرتكزات العقلائية ـ ظاهر النصوص المتقدمة ، بل صريح جملة منها. وعليه يحكم
بملكية صاحب اليد لما تحت يده وإن لم يدعها لموت أو نحوه ، كما هو مقتضى إطلاق
صحيحي محمد بن مسلم الواردين في المال المدفون في الدار العامرة ، وصريح صحيح جميل
وموثق يونس.
كما أنه لو علم
بعدم ملكية صاحب اليد لما تحت يده لم يحكم بسلطنته على التصرف فيه ما لم يدع
السلطنة أو يظهر من حاله البناء عليها. لقبول قول صاحب اليد فيما تحت يده وإن لم
يكن مالكا.
الأمر الثالث : لا إشكال في حجية اليد على ملكية صاحبها وإن كانت
مسبوقة بملكية الغير ومتوقفة على تجدد سببها ، كالشراء أو الالتهاب منه.
لإطلاق بعض
النصوص المتقدمة ، بل هو المتيقن من موارد بعضها ـ كصحيح حماد وعثمان وغيره ـ ومن
بقية أدلة الحجية المتقدمة.
لكن الظاهر
اختصاصه بما إذا لم ينكر المالك السابق ملكية صاحب اليد وحصول سببها ، كما صرح به
جماعة. لقصور أدلة حجية اليد المتقدمة عن الصورة المذكورة. أما الإجماع وسيرة
المتشرعة والعقلاء فظاهر. وأما النصوص فقد سبق أن أكثرها لا عموم له ، وأن ما يستفاد
منه العموم صحيح عثمان وحماد وموثق حفص ، والظاهر قصورهما عن المقام.
أما الصحيح
فلظهوره في أن اليد الحجة التي يكون صاحبها منكرا لا
تسقط بدعوى الخصم ولا يكلف صاحبها البينة ، كما هو مقتضى السؤال والاستشهاد
فيه بالنبوي الشريف ، من دون أن يكون واردا لبيان حجية اليد ، ليكون مقتضى إطلاقه
عموم حجيتها للمقام.
وأما الموثق
فهو وإن كان ظاهرا في عموم حجية اليد ، ولذا يجوز الشهادة اعتمادا عليها ، إلا أنه
ظاهر في المفروغية عن حجيتها ، ولا منشأ للمفروغية ظاهرا إلا سيرة العقلاء
الارتكازية عليها ، فهو وارد مورد الإمضاء لها ، لا للردع عنها بتوسيع الحكم بحجية
اليد على خلافها ، فمع قضاء السيرة المذكورة بعدم حجية اليد في مورد لا ينهض
الموثق بحجيتها فيه ، كما هو الحال في المقام ، لما هو المرتكز من أن له إنكار ما
ادعاه صاحب اليد من فعل السبب المملك له.
نعم الظاهر
اختصاص ذلك بما إذا كان المنكر لملكية صاحب اليد ولحصول سببها هو المالك الأول
الذي يدعي صاحب اليد تملكه للمال منه ، لما سبق. ولا يعم ما إذا كان المنكر غيره
ممن تترتب ملكيته للعين على بقائها في ملك المالك الأول ، كالوارث والموصى له ،
ونحوهما. لعدم تعلق السبب به ليقبل قوله فيه.
غاية الأمر أن
مقتضى استصحاب بقاء العين في ملك الأول انتقالها له ، ومبنى اليد على إلغاء
الاستصحاب. ولذا تقدم عدم الإشكال في حجيتها مع سكوت المالك السابق.
ويؤكد ذلك صحيح
عثمان وحماد المتقدم ، لما هو المعلوم من أنه «صلوات الله عليه» ليس بصدد إنكار
ملكية المسلمين لما خلفه النبي صلىاللهعليهوآله بزعم عدم توريث الأنبياء عليهمالسلام ، بل بصدد إنكار مطالبة الصديقة «صلوات الله عليها»
بالبينة وإهمال يدها التي كانت في عهد النبي صلىاللهعليهوآله من دون إنكار منه صلىاللهعليهوآله لها ، ولا تكذيب.
الأمر الرابع : صرح غير واحد بعدم حجية اليد غير المالكية إذا احتمل
صيرورتها مالكية بتجدد سبب الملك لصاحبها سواء كانت اليد بحدوثها عدوانية كيد
الغاصب ، أم غير عدوانية كيد الأمين. وقد وقع الكلام بين المتأخرين في توجيه ذلك.
والظاهر أن
العمدة فيه قصور أدلة حجية اليد عن الصورة المذكورة ، وعمدتها السيرة الارتكازية ،
التي تقدم في الأمر السابق تنزيل النصوص عليها ، لأن المرتكز عرفا أن انقلاب اليد
عن حالها هو الذي يحتاج إلى دليل.
ومثله ما إذا
احتمل تعدد اليد بارتفاع اليد غير المالكية وحصول يد أخرى مالكية لصاحب اليد
الأولى. لنظير الوجه المتقدم ، فإن المرتكز عرفا أن تجدد اليد هو الذي يحتاج
للدليل.
ثم إن الظاهر
أن عدم حجية اليد في محل الكلام لا يتوقف على دعوى المالك الأول وإنكاره ملكية
صاحب اليد ـ كما تقدم في الأمر السابق ـ بل يجري في حق كل من علم بسبق عدم ملكية
صاحب اليد حين حدوثها ، أو قامت عنده حجة على ذلك ، من دون حاجة إلى إنكار المالك.
نعم لو ادعى
صاحب اليد حصول سبب الملكية وصيرورة يده مالكية قبل قوله إذا لم يكذبه المالك ولم
تكن يده بحدوثها عدوانية ، لما يأتي من قبول قول صاحب اليد فيما تحت يده.
أما إذا كانت
عدوانية ففي قبول قوله إشكال. والأظهر تبعا للمرتكزات عدمه. كما لا يقبل قوله في
الإذن في التصرف ونحوه مما لا يجتمع مع عدوانيته.
الأمر الخامس : الظاهر بعد الرجوع للمرتكزات العقلائية أن اليد من
سنخ الأمارة على الملكية لا مجرد كونها محرزة لها ، كالأصل الإحرازي.
وكيف كان فلا
ريب في تقديمها على الاستصحاب ، سواء كان المراد به استصحاب عدم الملكية أم
استصحاب عدم تحقق سببها من بيع أو نحوه. فإن
ذلك هو المتيقن من أدلتها ، لورود أكثر النصوص المتقدمة في مورد استصحاب
عدم الملكية ولو أزلا.
بل لو لم تقدم
عليه لزم اختصاصها بصورة عدم جريانه ـ كما في صورة العلم بسبق الملكية وسبق عدمها
مع الجهل بالتاريخ ـ وصورة جريان استصحاب الملكية ، وهو في معنى إلغاء حجية اليد
عرفا ، لندرة الصورة الأولى ، وإغناء الاستصحاب المذكور عنها في الثانية.
الأمر السادس : ينفذ تصرف صاحب اليد فيما تحت يده وإن لم يكن مالكا
إذا لم يحرز عدوانيته ، كما إذا احتمل كونه وليا على المالك أو مأذونا من قبله ،
ما لم يكذبه المالك.
وكذا يقبل قوله
فيما تحت يده حتى لو كان معتديا ، فإذا ادعى كون ما تحت يده ملكا لشخص خاص أو وقفا
، أو رهنا ، أو غير ذلك قبل قوله ما لم يثبت كذبه.
نعم لا يقبل قوله
في صيرورته مالكا أو مأذونا ، كما تقدم في الأمر الرابع. وهذه اليد غير اليد التي
هي محل الكلام في هذا الفصل ، والتي هي أمارة على الملكية.
الفصل الثاني
في قاعدة التجاوز والفراغ
وهي من القواعد
المشهورة المعول عليها في مقام العمل. ومرجعها إلى أنه لا يعتنى بالشك في العمل
إلا أن يكون في المحل قبل صدق التجاوز والفراغ.
ويدل عليها
عموما جملة من النصوص ، كموثق محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليهالسلام : «قال : كلما شككت فيه مما قد مضى فأمضه كما هو» .
وصحيح زرارة : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام : رجل شك في الأذان وقد دخل في الإقامة قال : يمضي. قلت
: رجل شك في الأذان والإقامة وقد كبّر. قال : يمضي ... ثم قال : يا زرارة إذا خرجت
من شيء ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشيء» .
وصحيح إسماعيل
بن جابر : «قال أبو جعفر عليهالسلام : إن شك في الركوع بعد ما سجد فليمض ، وإن شك في السجود
بعد ما قام فليمض. كل شيء شك فيه مما قد تجاوزه ودخل في غيره فليمض عليه» .
ولا يصلح الصدر
في الصحيحين لتخصيص عموم الذيل فيهما بأفعال الصلاة ، لأن المورد لا يخصص الوارد ،
ولا سيما إذا كان العموم ارتكازيا.
وما في
مستطرفات السرائر عن كتاب حريز عن زرارة عن أبي
__________________
جعفر عليهالسلام : «قال : إذا جاء [جاءك] يقين بعد حائل قضاه ، ومضى على
اليقين ، ويقضي الحائل والشك جميعا ، فإن شك في الظهر فيها بينه وبين أن يصلي
العصر قضاها ، وإن دخله الشك بعد أن يصلي العصر فقد مضت ، إلا أن يستيقن ، لأن
العصر حائل فيما بينه وبين الظهر ، فلا يدع الحائل لما كان من الشك إلا بيقين» .
وصحيح زرارة
والفضيل عنه عليهالسلام : «فإن شككت بعد ما خرج وقت الفوت فقد دخل حائل ، فلا
إعادة عليك من شك حتى تستيقن» .
فإن مقتضى
التعليل ـ المشار إليه في الأخير والمصرح به فيما قبله ـ عموم عدم الاعتناء بالشك
مع الحائل. وهناك بعض النصوص الأخر قد تنفع في المقام لا مجال لإطالة الكلام فيها.
ويكفي في
استفادة العموم ما تقدم المؤيد بجملة من النصوص المختصة ببعض الموارد ، كموثق بكير
أو صحيحه : «قلت له : الرجل يشك بعد ما يتوضأ.
قال : هو حين
يتوضأ أذكر منه حين يشك» ، وغيره مما ورد في الشك في الوضوء وفي أفعال الصلاة .
مضافا إلى سيرة
العقلاء الارتكازية على عدم الاعتناء بالشك بعد مضي محل المشكوك ، حيث لا مجال
لإنكارها بعد التأمل في المرتكزات ، وملاحظة مبانيهم في موارد قاعدة الصحة ، التي
يجمعها مع هذه القاعدة جامع ارتكازي واحد ، وهو عدم تعلق الشك بمقام العمل ، إما
لمضيه ـ كما في المقام ـ أو لعدم
__________________
كون الشاك هو العامل ، كما في موارد قاعدة الصحة. فلاحظ.
هذا وقد يدعى
أن النصوص المتقدمة لا تتضمن قاعدة واحدة ، بل ثلاث قواعد مختلفة المفاد.
الأولى : قاعدة التجاوز. ومرجعها إلى التعبد بوجود المشكوك
بمفاد كان التامة عند تجاوز محله والدخول في غيره.
ويدل عليها
صحيحا زرارة وإسماعيل.
الثانية : قاعدة عدم الاعتناء بالشك في وجود الشيء بعد مضي وقته
ومحله.
ويدل عليها ما في
مستطرفات السرائر وصحيح زرارة والفضيل.
الثالثة
: قاعدة
الفراغ. ومرجعها إلى التعبد بصحة الموجود وتماميته إذا حصل الشك في صحة بعد الفراغ
منه.
ويدل عليها
موثق محمد بن مسلم ، حيث فرض فيه مضي موضوع الشك المستلزم لوجوده ، حيث يتعين معه
حمل الشك فيه على الشك في صحته. كما يدل عليها ما تقدم من موثق بكير أو صحيحه
الوارد في الشك في الوضوء وغيره مما ورد في الموارد الخاصة.
وربما ترجع
الأوليان إلى قاعدة واحدة تتضمن عدم الاعتناء بالشك في وجود الشيء بمفاد كان
التامة عند مضي محله والتجاوز عنه. أما الثالثة فلا مجال لرجوعها لها ، لاختلافها
معها موضوعا ومفادا.
لأن موضوع تلك
القاعدة الشك في وجود المشكوك بمفاد كان التامة بعد مضي محله ، ومفادها التعبد
بوجوده. أما موضوع قاعدة الفراغ فهو الشك في صحة الموجود بمفاد كان الناقصة ـ مع
الفراغ عن وجوده ـ بعد مضيه بنفسه ،
وذلك بالفراغ عنه ، ومفادها التعبد بصحته وتماميته.
لكن من القريب
رجوع الكل إلى قاعدة واحدة مفادها عدم الاعتناء بالشك بعد مضي محله. بأن يراد
بالشك في الشيء في موضوعها مطلق الشك في شئونه التي يهتم بها مما يقتضي الرجوع
والتدارك ، ويراد بمضي الشيء الأعم من مضيه بنفسه ومضي محله. لوجود الجامع
الارتكازي بين القاعدتين.
وتعددهما مع
وجود الجامع المذكور يحتاج إلى عناية في البيان ، وهو لا يناسب تشابه ألسنة النصوص
، بسبب اشتمال كلتا الطائفتين من النصوص المتقدمة ـ وما جرى مجراها من النصوص
الواردة في خصوص بعض الموارد ـ على عنوان الشك في الشيء ، وعلى ما يقتضي مضي محل
الشك من المضي والتجاوز والخروج والفراغ ونحوها.
ولو أريد بكل
طائفة منها إحدى القاعدتين بخصوصيتها لكان المناسب التعرض لموضوعها بوجه مميز له
عن موضوع الأخرى ، ولا يتكل على القرائن المتصيدة من المورد ونحوه لتحديده.
بل قد لا تنهض
قرينة بتحديده ، كما في صحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليهالسلام : «في الرجل يشك بعد ما ينصرف من صلاته. قال : فقال :
لا يعيد ، ولا شيء عليه» . حيث لم يبين فيه أن المراد من الشك بعد الانصراف من
الصلاة هو الشك في وجود جزئها أو شرطها ، أو الشك في صحتها.
كما أنه قد
اشتمل في بعض النصوص على أحد جزئي موضوع كلتا القاعدتين ، كصحيحة الآخر عن أبي
جعفر عليهالسلام : «قال : كلما شككت فيه بعد ما تفرغ من صلاتك فامض ولا
تعد» ، لظهور قوله عليهالسلام : «كلما شككت فيه» في
__________________
الشك في وجود الجزء أو الشرط الذي هو أحد جزئي موضوع قاعدة التجاوز ، لا في
الشك في صحة الصلاة المأخوذ في قاعدة الفراغ ، مع أن ما تضمنه من فرض الفراغ من
الصلاة هو الجزء الثاني لقاعدة الفراغ.
فلو أريد قاعدة
التجاوز بخصوصيتها لكان المناسب ذكر مضي محل المشكوك. ولو أريد إعمال قاعدة الفراغ
بخصوصيتها لكان المناسب فرض الشك في صحة الصلاة ... إلى غير ذلك مما يظهر منه عدم
الاهتمام في النصوص بتحديد إحدى القاعدتين وتمييزها عن الأخرى ، بل النظر للجامع
الارتكازي بينهما الذي سبق منا ذكره.
إذا عرفت هذا
فيقع الكلام في
أمور ..
الأمر الأول : حيث عرفت أن موضوع القاعدة هو مضي محل الشك فهو يختلف
باختلاف الموارد ، إذ مع الشك في أصل وجود العمل لا بد في مضي محل الشك من خروج
وقته ، أو الدخول فيما يترتب عليه ، ومع العلم بوجوده والشك في صحته يكفي الفراغ
عنه في مضي محل الشك ، كما يستفاد ذلك كله من النصوص المتقدمة وغيرها.
هذا ووضوح خروج
الوقت يغني عن إطالة الكلام فيه. وإنما الكلام في الأمرين الآخرين ، وهما الدخول
فيما يترتب على العمل ، والفراغ عن العمل.
أما الأول
فالظاهر أن المعيار فيه الترتب الشرعي ، كالترتب بين الأذان والإقامة ، وبين
الإقامة والصلاة ، وبين الركوع والسجود ، وبين الظهر والعصر ، دون الترتب العادي
أو العقلي ، فلا يكفي في صدق المضي على الاستبراء الإتيان بالاستنجاء ، بلحاظ
تقديم الاستبراء على الاستنجاء عادة ، كما لا يصدق مضي السجود بالشروع في النهوض
للقيام للركعة اللاحقة ، بلحاظ عدم كون النهوض المذكور عقلا مقدمة للقيام الصلاتي
إلا بعد تحقق السجود ، إذ بدونه
يكون مقدمة لقيام غير صلاتي ولا مشروع.
والوجه في ذلك
: أن كون الشيء محلا لشيء ليس تابعا لعلاقة حقيقية بينهما لا تقبل الاختلاف
والتبديل ، بل هو أمر إضافي يختلف وجودا وعدما باختلاف جهة الإضافة من اعتبار شرعي
أو عرفي أو عادة أو عقل أو غيرها ، فلا بد من ملاحظة خصوص جهة تصلح لانتزاع النسبة
المذكورة. والمناسب للشارع إرادة ما يتعلق به ويرجع إليه ، وهو خصوص المحل الشرعي.
ودعوى : أن
مقتضى الإطلاق الاكتفاء بكل جهة صالحة لانتزاع عنوان المحل شرعية كانت أو غيرها.
مدفوعة بأن الإطلاق إنما ينهض بإلغاء القيود الزائدة على المفهوم ، وخصوصيات
الجهات المختلفة في المقام ليست قيودا للمضي ، بل هي معيار في صدقه ومصححة
لانتزاعه ، والإطلاق لا يتكفل بذلك ، بل المتكفل به هو الإطلاق المقامي ، وهو
يقتضي الحمل على المحل الشرعي مع وجوده ، كما في المقام.
وقد تقدم في
التنبيه الثاني من تنبيهات مبحث استعمال اللفظ في أكثر من معنى ما ينفع هنا.
فراجع.
نعم قد يستدل
على إرادة المحل العادي بقوله عليهالسلام في حديث بكير المتقدم : «وهو حين يتوضأ أذكر منه حين
يشك» وبصحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليهالسلام : «أنه قال : إذا شك الرجل بعد ما صلى فلم يدر أثلاثا
صلى أم أربعا وكان يقينه حين انصرف أنه كان قد أتم لم يعد الصلاة ، وكان حين انصرف
أقرب إلى الحق منه بعد ذلك» فإن التعليل بالأذكرية والأقربية للحق يناسب إرادة
المحل العادي ، لأن الإنسان لمقتضى عادته أذكر وأقرب منه لما يخالفها.
__________________
ويندفع بأنه لا
ظهور لهما في التعليل بالعلة المنحصرة الصالحة لتحديد الموضوع ، والتي يدور الحكم
مدارها وجودا وعدما ، لعدم اقترانهما بأداة التعليل ، بل في مجرد التنبيه لما يوجب
الاقتناع بالحكم ، فهو أشبه بالحكمة.
كيف؟! ولو
استظهر منهما التعليل الذي يدور الحكم مداره وجودا وعدما لزم التعدي لكل مورد يكون
المكلف فيه
أذكر وأقرب للحق وإن لم يكن الشك في صحة المركب وأجزائه ، بل في أصل الإتيان
بالعمل أو غيره ، لعدم خصوصية المورد في ذلك ارتكازا ، ولا يظن بأحد الالتزام بذلك
، لرجوعه إلى حجية كل ظن.
بل لزم قصور القاعدة
عن غير مورد العادة فمن لم يتعود الأذان أو الإقامة لو شك في الإتيان بهما بعد
الدخول في الصلاة لا يبني على الإتيان بهما ، لعدم تحقق الأذكرية. ومن ثم لا مخرج
عما ذكرنا من كون المعيار مضي المحل الشرعي ، للدخول فيما يترتب شرعا على الأمر
المشكوك.
نعم في صحيح
عبد الرحمن بن أبي عبد الله : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام :
رجل أهوى إلى
السجود فلم يدر أركع أم لم يركع. قال : قد ركع» . وقد يستظهر منه الاكتفاء في المضي بالدخول في مقدمات
ما يترتب شرعا على المشكوك.
لكنه معارض
بصحيحه الآخر : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : رجل رفع رأسه عن السجود ، فشك قبل أن يستوي جالسا فلم
يدر أسجد أم لم يسجد. قال : يسجد. قلت : فرجل نهض من سجوده فشك قبل أن يستوي قائما
فلم يدر أسجد أم لم يسجد. قال : يسجد» . وهو نص في عدم الاكتفاء بحال النهوض
__________________
قبل الوصول لحدّ القيام.
فأما أن يجمع
بينهما بحمل الهوي للسجود في الصحيح الأول على الوصول لحدّ السجود ، أو يقتصر فيه
على مورده ، ويرجع في غيره للقاعدة التي عرفتها والتي يطابقها الصحيح الآخر.
وأما الثاني
وهو الفراغ عن العمل ، فالمعيار فيه ليس على الفراغ الحقيقي عن العمل المشروع
المطلوب من المكلف ، إذ لا يجتمع إحرازه مع الشك في تمامية العمل ، ولا على الفراغ
البنائي الاعتقادي ، لمخالفته لظاهر إطلاق الفراغ والمضي من دون قرينة ، بل ظاهر
صحيح محمد بن مسلم المتقدم قريبا كونه أمرا زائدا على الفراغ.
بل الظاهر أن
المعيار فيه على الفراغ الحقيقي عن العمل الخارجي المأتي به بعنوانه الخاص من
تطهير أو وضوء أو غسل أو صلاة أو بيع أو غيرها ، لأن العمل المذكور هو الذي يكون
موضوعا للشك في الصحة والتمامية ، وإليه أسند المضي ونحوه في النصوص ، فيلزم صدقه
بالإضافة إليه حقيقة بالمعنى المقابل للانشغال به ولقطعه ، فإن من يشرع في العمل
لا يخرج عن أحد وجوه ثلاثة : الانشغال به ، وقطعه معرضا عنه ، والفراغ عنه منصرفا
عنه ، وموضوع القاعدة هو الأخير المقابل للأولين.
فليس التسامح
إلا في إطلاق العنوان على العمل المأتي به بقصده بناء على الصحيح ، وهو تسامح شايع
، أما بناء على الأعم فلا تسامح حتى في ذلك ، بل يكون الإطلاق حقيقيا مع احتمال
النقص ، بل مع العلم به. وقد شاع في النصوص وغيرها فرض تحقق العمل من المكلف مع
العلم ببطلانه أو الشك فيه.
نعم احتمال
النقص لا يجتمع مع إحراز الفراغ عن العمل المشروع. وهو
غير مهمّ ، لعدم اتصافه بالصحة والفساد ، بل بالوجود والعدم ، فيخرج عن محل
الكلام وعن مورد النصوص.
ومن ذلك يظهر
الحال فيما إذا شك في الإتيان بالجزء الأخير فيما يعتبر فيه الترتيب ، وببعض
الأجزاء فيما لا ترتيب فيه ، ولم يمكن إحرازه بالدخول فيما يترتب على العمل بتمامه
، سواء تحقق المنافي المانع من تتميم العمل أم لا. حيث يكون المدار في جريان
القاعدة فيه على إحراز الفراغ بالمعنى المتقدم ، بأن يحرز الانشغال بالعمل بعنوانه
الخاص ، ثم إنهاؤه والفراغ منه بذلك العنوان ، وإن احتمل نقصه عن بعض ما يجب فيه ،
أما إذا لم يحرز ذلك فلا تجري القاعدة ، لعدم إحراز موضوعها.
وذلك فيما
تعتبر فيه الموالاة إنما يكون لاحتمال الإعراض عن العمل بعد الشروع فيه ، وفيما لا
تعتبر فيه ـ كالغسل ـ قد يكون لذلك ، بأن يعلم المكلف من نفسه أنه قصد الإتيان
بمجموع العمل مواليا ، وقد يكون لعدم القصد من أول الأمر لمجموع العمل ، بل قصد
بعضه عازما على إكماله بعد ذلك بقصد استقلالي آخر ، ثم احتمل الغفلة عن الإكمال ،
إذ لا يحرز حينئذ الانشغال بتمام العمل بل ببعضه ، فلا يحرز الفراغ إلا عن البعض
المذكور ، ويحتمل الشروع في غيره والأصل عدمه.
نعم لو علم
بالفراغ عن كل الأجزاء ـ ولو مع القصد إليها متفرقا ـ صدق الفراغ عن المجموع وإن
احتمل الإخلال ببعض ما قصده وانشغل به من الأجزاء ، كما لو علم بأنه قد اغتسل
مفرقا للأعضاء وأكمل غسله ذلك ، ثم احتمل إخلاله ببعض عضو عند إرادة غسله.
وهذا هو
المعيار في الأمور غير الارتباطية ـ كالتطهير من الخبث ووفاء الدين ـ لو شك في
تحقق بعض أجزائها ، فإنه إن كان مع إحراز الفراغ عن
الكل ـ إما للقصد للمجموع ابتداء ، أو للقصد للأجزاء بنحو التعاقب مع احتمال
الإخلال ببعض ما قصد ـ جرت القاعدة ، وإلا لم تجر ، كما لو علم بقصده للكل واحتمل
إعراضه عن الإكمال ، أو علم بعدم القصد من أول الأمر للكل ، بل للأجزاء بنحو
التفريق واحتمل الغفلة عن بعضها.
الأمر الثاني : الظاهر عموم القاعدة بلحاظ جميع الأبواب من العبادات
والمعاملات وغيرها ، بنحو يكون الخروج عنه في بعضها محتاجا للدليل.
وهو المصرح به
في كلام غير واحد ممن ادعى تعدد القاعدة أيضا ، فحكموا بعموم قاعدتي التجاوز
والفراغ معا.
لكن ادعى بعض
الأعاظم قدسسره اختصاص قاعدة التجاوز بأجزاء الصلاة. وكأنه لاختصاص
مورد صحيحي زرارة وإسماعيل بن جابر المتقدمين بها ، بلحاظ الأمثلة المذكورة في
صدرهما ، لسوقها للتمهيد والتوطئة للقاعدة.
ويندفع : بأن
المورد لا يخصص الوارد ، خصوصا إذا كان العموم ارتكازيا ، كما في المقام. بل لا
ينبغي التأمل في ذلك بالنظر للتعليل بالحائل في صحيح زرارة المروي عن مستطرفات
السرائر ، وصحيح زرارة والفضيل الوارد في الشك في الصلاة بعد خروج الوقت.
نعم لا إشكال
في عدم جريانها في الشك في أجزاء الوضوء قبل الفراغ عنه. بل قيل بإلحاق غيره من
الطهارات به. وإن كان الظاهر خلوه عن الدليل. والبحث في ذلك بمسائل الفقه أنسب.
هذا ، وقد وقع
الكلام في عموم القاعدة من بعض الجهات الأخر غير ما سبق ، ولا مجال لاستقصائها.
ولنقتصر منها
على جهتين :
الأولى : العموم من حيثية الالتفات حين العمل لمنشا الشك وعدمه
، وأنه هل تجري القاعدة فيما لو علم المكلف من نفسه الغفلة حين العمل عن منشأ الشك
المتجدد بعد العمل ـ كما لو توضأ غفلة عن وجود الحاجب ، ثم احتمل صحة وضوئه لتأخر
طروء الحاجب عن الوضوء ، أو لعدم مانعيته من وصول الماء لما تحته ، أو صلى إلى جهة
غفلة ثم احتمل صحة صلاته لمصادفتها القبلة ـ أو لا ، بل لا بد في جريانها من
احتماله الالتفات حين العمل لمنشا الشك؟
وقد أصرّ بعض
مشايخنا قدسسره على الثاني ، ونسبه إلى جماعة. والظاهر أنه إليه يرجع
ما ذكره شيخنا الأعظم قدسسره من عدم جريان القاعدة مع حفظ صورة العمل ، كما يقضي به
التأمل في دليله.
وقد يستدل على
ذلك بأن مبنى القاعدة ارتكازا على ملاحظة ظهور حال العامل في مطابقة عمله لموضوع
الأثر المطلوب ، بالمحافظة على جميع الخصوصيات الدخيلة في ترتب الأثر. وذلك يختص
بما إذا لم يعلم بغفلته عن جهة الشك ، حيث يكون حصول الخصوصية المطلوبة على تقديره
اتفاقيا لا يقتضيه ظهور حال العامل. مضافا إلى التعليل بأنه أذكر ، وبأنه أقرب إلى
الحق ، في حديثي بكير ومحمد بن مسلم المتقدمين في التنبيه الأول ، فإنه لا مجال له
في فرض الغفلة عن منشأ الشك.
لكنه يندفع
بأنه ليس في النصوص العامة ـ على كثرتها ـ إشارة لابتناء القاعدة على الارتكاز
المذكور. بل مجرد عدم الاعتناء بالشك بعد مضي محله ، الذي هو أمر ارتكازي أيضا ،
قد يبتني على مصلحة التسهيل وحفظ النظام ، لعدم تيسر حفظ ما مضى وضبط حاله.
وأما التعليل
في حديثي بكير ومحمد بن مسلم فقد تقدم ـ عند الكلام في
معيار مضي المحل ـ المنع من ظهوره في التعليل بالعلة المنحصرة التي يدور
الحكم مدارها وجودا وعدما ، بل عدم إمكان الالتزام بذلك. فلا مجال للخروج به عن
إطلاق النصوص العامة المتقدم.
مضافا إلى صحيح
الحسين بن أبي العلاء : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الخاتم إذا اغتسلت. قال : حوّله من مكانه. وقال في
الوضوء : تديره ، فإن نسيت حتى تقوم في الصلاة فلا آمرك أن تعيد الصلاة» لظهوره في إهمال احتمال عدم وصول الماء لما تحت الخاتم
، والمضي على الوضوء إذا ذكر بعد الفراغ منه.
وأما ما ذكره
بعض مشايخنا قدسسره من أنه وارد لبيان عدم شرطية تحويل الخاتم وإدارته في
الوضوء والغسل ، ودفع توهم بطلانهما بتركهما ولو مع وصول الماء لما تحت الخاتم ،
لا بلحاظ احتمال وصول الماء لما تحت الخاتم ، لينفع فيما نحن فيه.
فهو بعيد جدا ،
لعدم المنشأ الارتكازي للاحتمال المذكور ، بخلاف وجوب التحويل أو الإدارة طريقيا
عند الشك في وصول الماء لإحراز وصوله ، فإنه أمر ارتكازي ينصرف إليه الإطلاق ، وقد
تضمنته بعض النصوص .
على أن حمل
صحيح الحسين على ذلك يقتضي البناء على شرطية التحويل أو الإدارة بنحو يبطل الغسل
والوضوء بتركهما عمدا ، غاية الأمر أنه يعفى عن تركهما نسيانا. ولا يظن بأحد
البناء على ذلك. وذلك يناسب حمله على ما ذكرنا. ومن ثم يتعين البناء على عموم
القاعدة من هذه الجهة.
__________________
الثانية
: العموم
للشروط. فإنه يظهر من كشف اللثام اختصاصها بالأجزاء ، وعدم جريانها في الشروط.
ورتب على ذلك وجوب إعادة الطواف لو شك بعد الفراغ منه في الطهارة حينه إذا كان
متيقن الحدث سابقا. ويحتمله ما في المدارك ، حيث وافقه في الفرع المذكور.
لكن الظاهر
جريان القاعدة في الشروط ، لصدق المضي مع الشك فيها بلحاظ نفس الشرط ، لمضي محله
بمضي المشروط والفراغ منه ، وبلحاظ المشروط ، لصدق مضيه بالفراغ عنه. مضافا إلى
خصوص صحيح محمد بن مسلم : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : رجل شك في الوضوء بعد ما فرغ من الصلاة. قال : يمضي
على صلاته ولا يعيد» وقد يستفاد من غيره.
نعم لا مجال
لجريانه في خصوص بعض الشروط مما كان مقوّما للمشروط غير زائد عليه عرفا ،
كالموالاة بين أجزاء الكلمة الواحدة ، وكالنية الراجعة لقصد نوع الفعل ، كنية كون
الانحناء ركوعا أو سجودا ، ونية كون الصلاة ظهرا أو عصرا ، ونية كون المال المدفوع
زكاة أو هدية.
إذ مع الشك في
ذلك لا يحرز مضي العمل ذي العنوان الخاص والفراغ عنه ، ولا مضي محل الشرط ، لأن
مضيه إنما يكون بمضي المشروط ، كما سبق. بل لا بد في عدم الاعتناء بالشك المذكور
من انطباق القاعدة على المشروط بنفسه لو مضى محله بخروج وقته ، أو بالدخول فيما
يترتب عليه.
فمن شك في أن
انحناءه كان بقصد الركوع أو لتناول شيء من الأرض لا مجال لإحرازه القصد للركوع بعد
الانتصاب من الانحناء والفراغ عنه ، بل لا بد في إحرازه الركوع من مضي محله
بالدخول في السجود المترتب عليه. ومن شك في أنه قد قصد بصلاته العصر لا مجال
لإحرازه ذلك بالفراغ عنها ، بل لا بد
__________________
من خروج وقتها حين الشك المذكور.
كما أن جريان
القاعدة في الشرط لا يقتضي إحرازه مطلقا ومن جميع الجهات ، بنحو يترتب عليه جميع
آثاره ، بل بنحو يترتب عليه خصوص الآثار التي يصدق المضي بالإضافة إليها ، كصحة العمل
السابق ، لأن ذلك هو المنصرف من إطلاق أدلة القاعدة.
وعلى ذلك لو شك
في الشرط في أثناء العمل فالقاعدة وإن كانت بإحراز الشرط بالإضافة إلى الأجزاء
الماضية وإحراز صحتها ، إلا أنها لا تصحح الاستمرار فيه ، فضلا عن الدخول في عمل
آخر مشروط بذلك الشرط. فلاحظ.
الأمر الثالث : اقتصر في أكثر النصوص العامة والخاصة على عدم
الاعتناء بالشك الذي مضى محله ، وهو بنفسه لا يقتضي كون مفادها أصلا تعبديا يقتضي
التعبد بالتمامية والإتيان بالمشكوك ، نظير التعبد بالطهارة والحل في مورد قاعدتي
الطهارة والحل ، فضلا عن أن يكون أصلا إحرازيا يقتضي التعبد بالتمامية والإتيان
بالمشكوك تبعا لوجود المحرز لها ، نظير التعبد بالحالة السابقة في الاستصحاب ،
تبعا لليقين السابق بها. بل هو أصل عملي محض ، نظير أصل البراءة المتمحض في عدم
الاعتناء باحتمال التكليف.
نعم قد يستفاد
كونه أصلا تعبديا من بعض النصوص الخاصة المتضمنة للتعبد بالركوع عند مضي محل الشك
فيه ، كصحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله المتقدم عند الكلام في معيار مضي المحل ،
وصحيح حماد : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : أشك وأنا ساجد فلا أدري ركعت أم لا. فقال : قد ركعت ،
امضه» وغيرهما.
بل قد يستفاد
من قوله عليهالسلام في صحيح زرارة المتقدم عن مستطرفات
__________________
السرائر : «فلا يدع الحائل لما كان من الشك إلا بيقين» أن الحائل من سنخ
المحرز لوجود المشكوك ، فيكون أصلا إحرازيا كالاستصحاب ، لا تعبديا محضا كقاعدتي
الحل والطهارة.
أما لو تم
ابتناء القاعدة على ظهور حال العامل في تمامية عمله ـ كما يناسبه التعليل
بالأذكرية والأقربية للحق في بعض النصوص ـ فتكون من الأمارات. لكن عرفت في الأمر
السابق المنع من ذلك ، ومن تحكيم التعليل المذكور. فلا مخرج عن ما ذكرنا.
وكيف كان فلا
ريب في تقديم القاعدة على الاستصحاب ، سواء كانت أصلا ـ عمليا أو تعبديا أو
إحرازيا ـ أم أمارة. لأن المتيقن من مورد نصوصها جريانها في مورد جريان الاستصحاب
المخالف ، كاستصحاب عدم تحقق العمل ، أو عدم تحقق جزئه أو شرطه ، حيث تكون نصا في
تقديمها عليه.
بل لو فرض
تقديم الاستصحاب عليها لم يبق لها مورد إلا مع موافقة الاستصحاب لها ، كما لو شك
في صحة العمل للشك في تحقق شرطه ـ كالطهارة ـ وكان مقتضى الاستصحاب تحققه ، ومع
عدم جريان الاستصحاب لتعاقب الحالتين. وهو في معنى إلغائها عرفا ، لقلة المورد الأخير
جدا ، وإغناء الاستصحاب الموافق لها في الأول عنها.
الفصل الثالث
في قاعدة الصحة
وهي من القواعد
المشهورة المعول عليها. ومرجعها إلى عدم الاعتناء باحتمال الفساد في عمل الغير ،
بل يبني على صحته وترتب الأثر المطلوب عليه.
وقد تعرض شيخنا
الأعظم قدسسره وغيره للاستدلال عليها ببعض الآيات والنصوص الآمرة
بالقول الحسن في الناس ، وحسن الظن بهم ، وحمل فعل المؤمن على الأحسن ، وعدم
اتهامه ، ونحو ذلك.
لكنه ـ مع
اختصاصه بالمؤمن ـ أجنبي عن المقام ، لظهوره في الحمل على ما يناسب إيمان الفاعل
من الحسن الفاعلي ـ الراجع لقصده الخير والحسن ، دون الشر والقبيح ـ دون الحسن
الفعلي ـ الراجع لحسن عمله واقعا ـ فضلا عن الصحيح التام الذي يترتب عليه الأثر
المطلوب منه ـ في مقابل الفاسد ـ وإن لم يكن حسنا ، كالطلاق والظهار.
ومثله
الاستدلال بعمومات النفوذ ، كعموم الأمر بالوفاء بالعقود ، وصحة التجارة عن تراض ،
ونحوهما. إذ فيه ـ مع اختصاصه بالعقود ونحوها مما كان نفوذه مقتضى العموم ـ : أن
العمومات المذكورة لما كانت مخصصة ، وكان الشك في صحة العقد الخاص مسببا عن الشك
في دخوله في عنوان المخصص ، لم يصح التمسك بالعموم فيه ، لعدم حجية العام في
الشبهة المصداقية ، خصوصا إذا كان مقتضى الأصل الموضوعي دخوله في عنوان المخصص ،
كاستصحاب كون المطلقة حائضا حين الطلاق ، أو عدم سماع
الشاهدين لصيغته. حيث لا إشكال في أن الأصل الموضوعي حاكم على عموم العام.
وكذا الاستدلال
بالغلبة وظهور حال المسلم أو الفاعل في تحري الوجه الصحيح ، لأنه موضوع الآثار ،
ومحط الأغراض المطلوبة. لاندفاعه بعدم وضوح الغلبة والظهور المذكورين بلحاظ ما هو
شايع من تسامح عامة الناس وغفلتهم ، أو جهلهم بما يعتبر شرعا في الصحة. على أن
حجية الغلبة والظهور المذكورين في المقام تحتاج إلى دليل. ولو تم كان بنفسه دليلا
على القاعدة ، بلا حاجة إلى توسطهما.
فالظاهر أن
العمدة في المقام سيرة العقلاء من ذوي الأديان وغيرهم بمقتضى ارتكازياتهم على
ترتيب آثار الصحة في عمل الغير ، وعدم التعويل على احتمال فساده. وحيث كانت هذه
السيرة ارتكازية كفى في العمل عليها عدم ثبوت ردع الشارع الأقدس عنها ، بلا حاجة
إلى إحراز إمضائه لها ، نظير ما تقدم في اليد. على أنه يكفي في إحراز إمضائها
الإجماع وسيرة المتشرعة.
أما الإجماع
فيستفاد من تتبع فتاواهم في أبواب الفقه ، خصوصا مسائل التنازع والقضاء ، حيث يظهر
منهم التسالم على الرجوع لهذا الأصل على أنه ارتكازي ، بنحو يمتنع عادة الخطأ منهم
في ذلك مع كثرة الابتلاء به في جميع العصور وفي كثير من الأمور.
لكن استشكل فيه
بعض مشايخنا قدسسره .. تارة : بأنه يتعذر عادة الاطلاع على فتاوى العلماء في جميع
موارد جريان الأصل المذكور من العبادات والمعاملات بالمعنى الأعم.
وأخرى : بأنه لا يحرز كونه إجماعا تعبديا ، ليكشف عن قول
المعصوم ، لاحتمال ابتنائه على بعض الوجوه المستدل بها في المقام ، فاللازم النظر
فيها.
فإن تمت كانت هي الدليل دون الإجماع. وإن لم تتم لم ينفع الإجماع في
الاستدلال.
ويندفع الأول
بأنه يمكن مع الاطلاع على فتاواهم في الموارد المتفرقة استفادة العموم منهم من
تصريحهم به في بعض الموارد ، بنحو يظهر منه عدم الخصوصية لتلك الموارد ، وإرادة
القاعدة الارتكازية التي جرت عليها سيرة العقلاء ، فيكشف عن إمضاء السيرة المذكورة
بما لها من عموم ارتكازي ، بحيث يحتاج الخروج عنه إلى دليل.
كما يندفع
الثاني بأن كثرة الابتلاء بالمسألة ، وظهور التسالم فيها ، مع مطابقة الحكم بالصحة
للمرتكزات العقلائية ، كاشف عن جري الشارع الأقدس على طبق تلك المرتكزات وعدم
إعراضه عنها ، تمت الوجوه المذكورة في كلماتهم أو لم تتم.
ولا سيما مع إرسالهم
الأصل المذكور إرسال المسلمات ، وعدم الاستدلال له إلا عابرا ببعض الوجوه التي هي
ليست من القوة بنحو يناسب التسالم المذكور ، حيث يكشف ذلك عن ابتناء التسالم على
سيرة العقلاء الارتكازية ، وعن إمضائها.
وأما سيرة
المتشرعة فيكفي في وضوحها ملاحظة حالهم في أمور معاشهم ومعادهم ، كالعقود
والإيقاعات المالية ـ كالبيع والوقف ـ وغيرها ـ كالنكاح والطلاق ـ والواجبات
الكفائية ـ كواجبات الأموات ـ والأفعال التسبيبية ـ كالتطهير من الحدث والخبث
والتذكية ـ وصلاة الإمام بالإضافة للمأمومين ، وصلاة بعض المأمومين بالإضافة لبعضهم
ممن يتوقف عليها اتصاله بالإمام ، وصلاة من مات وصيامه بالإضافة لوليه ، وغير ذلك
مما يعلم ببناء المتشرعة فيه على الصحة في عمل الغير.
ولو لا ذلك
لاضطرب أمرهم ، واختل نظامهم ، ولزم الهرج والمرج ، ونحو ذلك مما لو كان لبان ،
ولكثرت الأسئلة والبيانات من الشارع الأقدس ، وحيث لم يحصل شيء من ذلك كشف عن
اتصال هذه السيرة بعصور المعصومين «صلوات الله عليهم» ، وإقرارهم لها ، بنحو يصحح
الركون إليها والاستدلال بها.
ثم إنه حيث كان
ظاهر الإجماع وسيرة المتشرعة المذكورين في البناء على الصحة ليس محض التعبد الشرعي
، بل الجري على مقتضى سيرة العقلاء الارتكازية المستدل بها آنفا كان مقتضاهما
إمضاءها ، فيكون المتبع في عموم الحكم وخصوصه على مقتضاها ما لم يثبت الردع عنها
في بعض الموارد.
ولا يقدح
خلافهم في بعض الموارد لشبهة ترجع إلى توهم قصور السيرة ، أو ثبوت المانع من العمل
بها ، إذا اتضح بطلان الشبهة المذكورة. وذلك لأن مرجع الإمضاء المذكور إلى أن
الأمر الارتكازي ـ الذي عليه تبتني سيرة العقلاء ـ من شأنه أن يعمل عليه لو لا
المانع ، فموضوعه مقتض للحجية حتى عند المخالف في بعض الموارد ، فمع ظهور بطلان
شبهة المخالف يتعين العمل عليه بمقتضى الإمضاء المذكور.
وهكذا الحال في
جميع الأمور الارتكازية التي ثبت إمضاء الارتكاز فيها ، فإنه يتعين العمل عليها
حتى في موارد الخلاف لشبهة طارئة إذا ثبت بطلان تلك الشبهة ، نظير حجية الظواهر
وحجية خبر الثقة في بعض موارد الخلاف ، كحجية الظواهر في حق من لم يقصد بالإفهام ،
وحجية ظواهر الكتاب المجيد ، وحجية خبر الثقة غير الإمامي ، وغير ذلك.
إذا عرفت هذا
فيقع الكلام في
أمور ..
الأمر الأول : لما كان المقصود إثبات الصحة والتمامية له هو العمل
الخارجي بلحاظ مطابقته للماهية المقصودة ذات الأثر ، فلا بد في تحقق موضوع القاعدة
من إحراز قصد الماهية بالعمل ، ولا يكفي تحقق صورته من دون أن تقصد منه ، فالغسل
الذي يتصف بالصحة والفساد والذي تقتضي القاعدة صحته هو الذي يقصد به الغسل المطهّر
من الحدث أو الخبث. أما ما لا يقصد به ذلك فهو لا يتصف بالصحة والفساد ، ولا يكون
موضوعا للقاعدة في المقام.
من دون فرق بين
ما يتوقف ترتب الأثر عليه على قصد العنوان منه ـ كالوضوء والغسل ـ وغيره كالتطهير
من الخبث. لأن عدم توقف ترتب الأثر منه على قصده لا ينافي توقف دخوله في موضوع
القاعدة على القصد المذكور.
وعلى ذلك لا
مجال لجريان قاعدة الصحة مع احتمال عدم القصد بالفعل للماهية ذات الأثر الخاص ،
لعدم إحراز موضوعها.
نعم لو أحرز
القصد بالنحو المذكور واحتمل الفساد في العبادة ، لعدم قصد التقرب بالوجه المعتبر
فيها ـ ولو لاحتمال قصد الرياء المحرم ـ اتجه جريان قاعدة الصحة ، لتمامية موضوعها
بقصد العنوان ، وليس قصد التقرب إلا كسائر الشروط الزائدة عليه ، والتي تنهض
القاعدة بالبناء على الصحة من جهتها.
كما ظهر بذلك
أنه لو تردد نوع الفعل المقصود بين الصحيح والفاسد لم تنهض القاعدة بإحراز القصد
للصحيح. كما لو اختلف دافع المال وآخذه في أن دفعه كان بعنوان القرض الربوي ـ بشرط
الاشتراك في الربح ـ أو بعنوان المضاربة ، أو ترددت الصلاة المأتي بها بين فريضة
قد صلاها المكلف وأخرى لم يصلها. فإن القاعدة لا تنهض بإحراز المضاربة في
الأول ، والصلاة التي لم يصلها في الثاني.
وكذا الحال لو
أحرز نوع العمل ، وترددت بعض أركانه المقومة له بين ما يصح به العمل وما يبطل ،
كالثمن والمثمن والزوج والزوجة ، فإن قاعدة الصحة لا تنهض بإحراز ما يصح به العمل.
فإذا اختلف الزوج والأب في أنه زوجه بنته التي رضعت معه ، أو أختها التي لم ترضع
معه لم تنهض أصالة الصحة بإثبات الثاني.
كل ذلك لأن
أصالة الصحة إنما تحرز الصحة بعد الفراغ عن تحقق العمل الذي هو مورد الأثر والقصد
إليه بحدوده ، دون ما إذا شك في أصل القصد للعمل المذكور أو لحدوده.
الأمر الثاني : وقع الكلام بينهم في أن مفاد القاعدة هو الحمل على
الصحة الواقعية ، أو الصحة بنظر الفاعل. لكن لما كان موضوع الأثر ومحط الغرض هو
الصحة الواقعية ، فلا معنى لاحتمال كون مفاد القاعدة هو الصحة بنظر الفاعل.
بل لا بد من
رجوع النزاع المذكور إلى النزاع في عموم القاعدة لما إذا أخطأ الفاعل فيما يعتبر
في الصحة الواقعية وتشخيص ما هو الصحيح ، بعد المفروغية عن أن مفاد القاعدة هو
الصحة الواقعية لا غير ، فيقع الكلام حينئذ في أن القاعدة هل تجري لو احتمل صحة
عمله لاحتمال واجديته لشروط الصحة صدفة أو احتياطا منه؟ كما لو كان المطلّق يرى
أنه يكفي في عدالة الشاهدين ترك الكبائر ، وأراد أن يتزوج مطلقته من يرى أنه لا بد
فيها من ترك الصغائر أيضا ، إذا احتمل صحة طلاقه بإشهاده مجتنب الكبيرة والصغيرة
صدفة أو احتياطا.
وقد صرح غير
واحد بعدم جريان القاعدة حينئذ ، كما قد يظهر ذلك من كل من استدل على القاعدة
بالغلبة وظهور حال المسلم أو الفاعل ، لظهور اختصاصهما ـ لو تما ـ بصورة علم
الفاعل بالصحيح ، وعدم خطئه فيه.
وقد يستدل عليه
ـ مضافا إلى ذلك ـ بعدم وضوح ثبوت السيرة ـ التي سبق أنها دليل القاعدة ـ في الفرض
المذكور.
لكن تقدم المنع
من الاستدلال على القاعدة بالغلبة والظهور المذكورين. كما أنه لم يتضح ابتناء سيرة
العقلاء أو المتشرعة على ملاحظتهما معيارا في البناء على الصحة ، بحيث يقصر الحكم
بها عن غير موردهما.
بل الظاهر ثبوت
سيرة العقلاء ـ التي سبق أنها دليل القاعدة ـ في المقام ، كسيرة المتشرعة. كيف
والإلزام عدم جريان القاعدة في حق المخالفين ، لكثرة مخالفتهم لنا في الفروع بنحو
ظاهر من الصدر الأول ، مع القطع بجريانها في حقهم ، لكثرة الابتلاء بأعمالهم في
عصور الأئمة عليهمالسلام ، فلو لم تجر القاعدة فيها لظهر ذلك وبان ، وكثر السؤال
عنه ، والتنبيه عليه منهم «صلوات الله عليهم». بل لاختل نظام أمر المؤمنين ووقعوا
في أعظم الحرج. وحيث لم يحصل شيء من ذلك كشف عن عموم سيرتهم تبعا لسيرة العقلاء.
كما هو الحال
في السيرة الفعلية بين المؤمنين أنفسهم ، حيث لا إشكال في جريهم على مقتضى هذه
القاعدة في أعمالهم من دون توقف أو فحص ، مع وضوح اختلاف أفراد الطائفة المحقة في
الاجتهاد والتقليد اختلافا فاحشا.
بل لو لا ذلك
لم تجر القاعدة مع الجهل بحال الفاعل ، وأن نظره ـ المستند لاجتهاده أو تقليده ـ مصيب
موافق لنظر من يكون عمله موردا لابتلائه ، أو مخطئ مخالف لنظره ، لاشتراكه مع فرض
العلم بخطإ الفاعل في عدم المحرز لصحة العمل من ظهور حال أو نحوه ، مع أنه لا ريب
في جريانها في حقه بمقتضى السيرة ، لغلبة عدم تيسر المعرفة بحال الفاعل وكيفية
تشخيصه ، فلو بني على التوقف في جريان قاعدة الصحة في عمله لزم الهرج والمرج ،
نظير ما ذكرنا عند الاستدلال بالسيرة على أصل القاعدة.
ودعوى : أن
جريان قاعدة الصحة في حق مجهول الحال يبتني على أصالة الصحة في تشخيصه وعدم خطئه
في اعتقاده.
مدفوعة بأن
أصالة الصحة في الاعتقاد وعدم الخطأ فيه قد تتم في الأمور الحسية أو القريبة من
الحس ، كتشخيص العدالة صغرويا ، دون الأمور الحدسية المبنية على الاجتهاد والحدس
البعيد عن الحس ، كتشخيص مفهوم العدالة وحدودها كبرويا.
ومن ثم لا مجال
لابتناء جريان أصالة الصحة في حق مجهول الحال على أصالة الصحة في تشخيصه واعتقاده
، بل هي تبتني على عموم السيرة ابتداء ، دفعا لاختلال النظام ، المناسب لعمومها في
حق من يعلم بخطئه في اعتقاده إذا احتمل صحة عمله ، بعين الملاك المذكور ، كما سبق.
الأمر الثالث : سبق في الأمر الأول أنه لا بد في جريان قاعدة الصحة
من إحراز تحقق القصد بالفعل الخارجي إلى الماهية ذات الأثر الخاص ، والقصد إلى
أركانها ، كالثمن والمثمن والزوج والزوجة وغيرها. وربما قيل : إنه لا بد مع ذلك من
إحراز قابلية الموضوع وأهلية الفاعل.
وكلامهم في
تحديدهما في غاية الإشكال والاضطراب ، كالإشكال في دليل أخذ الشرط المذكور في
جريان القاعدة ، بعد عموم القاعدة ارتكازا.
نعم لا ينبغي
التأمل ـ بعد الرجوع للمرتكزات ـ في توقف جريان القاعدة على إحراز سلطنة الفاعل
على الفعل ، ولا تجري مع عدم إحرازها ، فلو باع رجل عينا ، وشك في صحة البيع ، لم
تجر قاعدة الصحة ما لم يحرز سلطنته على البيع ـ بملك أو وكالة أو نحوهما ـ ولو
لكون تلك العين تحت يده بحيث تنهض اليد بإحراز سلطنته عليها.
ولذا لا ريب
عندهم في أن من باع مثلا عينا تحت يده مدعيا تملكها من
غيره أو كونه وكيلا عن مالكها صح البيع ظاهرا ما دامت يده حجة على دعواه ،
فإذا سقطت يده عن الحجية بإنكار المالك السابق التمليك أو التوكيل بطل البيع ظاهرا
، ولم تجر قاعدة الصحة فيه بحيث تقتضي تقديم قول البائع لموافقته للأصل.
الأمر الرابع : الظاهر أن مفاد القاعدة ـ بعد التأمل في الجهات
الارتكازية المبتنية عليها ـ هو التعبد بصحة الموجود وتماميته ، فتتنقح بسببها
صغريات الكبريات الشرعية التكليفية والوضعية ، لا مجرد عدم الالتفات للشك في مقام
العمل ، والعمل بما يطابق احتمال الصحة من دون بناء عليها وتعبد بها. فهي قاعدة
تعبدية ـ كقاعدتي الحل والطهارة ـ لا عملية محضة.
بل من القريب
كونها قاعدة إحرازية لما سبق من تقريب ذلك في القاعدة السابقة ، بضميمة ما سبق
هناك عند الاستدلال بالسيرة من رجوع القاعدتين لجامع ارتكازي واحد. فتأمل جيدا.
هذا ولو ابتنى
التعبد بالصحة فيها على ملاحظة الغلبة ، أو ظهور حال المسلم أو الفاعل في تحري
الوجه الصحيح ، لكانت من الأمارات. لكن تقدم في الأمر الثاني المنع من ابتنائها
على ملاحظتهما.
وكيف كان فلا
ريب في تقدمها على الاستصحاب ، سواء أريد به استصحاب عدم تحقق شرط الصحة ـ كالطهارة
في الصلاة ، والعلم بالعوضين في البيع لو شك في صحة الصلاة والبيع من جهتهما ـ أم
استصحاب عدم ترتب الأثر على الفعل ، كاستصحاب الحدث ، وعدم انتقال المبيع عند الشك
في صحة الوضوء والبيع.
كل ذلك لأنها
لو لم تقدم على الاستصحاب لزم إلغاؤها عرفا وإهمال دليلها ، لغلبة ابتلائها
بالاستصحاب المذكور ، بحيث لا يمكن عرفا الاقتصار
فيها على صورة عدم جريانه ، نظير ما تقدم في القاعدة السابقة.
ولنقتصر من
الكلام في القاعدة ـ تتمة للكلام في الاستصحاب ـ على هذا المقدار ، مع إيكال كثير
مما وقع الكلام فيه بينهم من التفاصيل للمطولات.
وبذلك ينتهي
الكلام في الأصول العملية. والحمد لله رب العالمين.
المقصد الثالث
في التعارض
وهو لغة تفاعل
من العرض ، الذي ورد في استعمالات كثيرة بأنحاء مختلفة ، وذكرت له في كلمات
اللغويين ـ تبعا لذلك ـ معاني متعددة قد يرجع بعضها إلى بعض. ولعل الأصل لغير واحد
منها هو العرض المقابل للطول ، حيث قد يرجع إليه استعماله بمعنى السعة في مثل قوله
تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُها
كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) وقوله سبحانه : (وَإِذا مَسَّهُ
الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ).
كما قد يرجع
إليه استعماله بمعنى المنع تشبيها للمانع بما يقف للسائر في عرض الطريق ويصده عن
المضي والنفوذ ، كالخشبة المعترضة في النهر المانعة من جريان الماء ، كما تضمنه
حديث سراقة أنه عرض لرسول الله صلىاللهعليهوآله وأبي بكر الفرس.
قال ابن الأثير
: «أي اعترض به الطريق يمنعهما من المسير». ولعله لذا سمي الإيراد على المطالب
العلمية اعتراضا.
وهذا هو الأنسب
بالمقام ، بلحاظ أن كلا المتعارضين يمنع من العمل بالآخر. فكأنه مانع من نفوذه
وتأثيره لمقتضاه. والأمر سهل.
__________________
أما في
الاصطلاح فقد اختلفوا في تعريفه. ولعل الأولى أن يقال : «التعارض هو منع كل من التعبدين
أو الأكثر من حجية الآخر ومن نهوضه بالعمل ، بلحاظ إطلاق دليل التعبد به بسبب
تنافي المؤديين أو الأكثر بالذات ، أو لأمر خارج».
وبقولنا : «منع
...» يظهر أن التعارض هو الأمر المسبب عن التنافي بين المؤديين ، لا نفس التنافي
بينهما ـ كما تضمنه غير واحد من تعاريفه ـ لأن ذلك هو الأنسب بالمعنى اللغوي
المتقدم.
وبقولنا : «كل
من التعبدين ...» يظهر اختصاص التعارض المصطلح بتعارض ما يتضمن التعبد الشرعي ،
دون غيره كالأخبار التاريخية والعلمية غير التعبدية وغيرها مما لا يتعلق بمقام
العمل.
نعم قد يصدق
التعارض فيها عرفا بلحاظ التكاذب في مقام الحكاية والكشف عن الواقع. لكنه خارج عن
وظيفة الأصولي ، لعدم دخل ذلك بتشخيص الوظيفة العملية.
كما أنه يظهر
بذلك عدم اختصاص التعارض المصطلح بالأدلة الاجتهادية ، بل يعمّ الأصول العملية ،
لعموم جملة من أحكامه العامة لها. نعم الأخبار الواردة في التعارض مختصة بتعارض
الأدلة الاجتهادية ، بل بتعارض خصوص الأخبار منها. إلا أن ذلك لا يقتضي قصر
التعارض المصطلح عليه.
وبقولنا : «أو
الأكثر» يظهر عموم التعارض لما يكون بين أكثر من دليلين ، كما لو ورد دليل بوجوب
القصر ، وآخر بوجوب الصيام ، وثالث بالتلازم بين التقصير والإفطار وبين الإتمام
والصيام. فإن العموم لذلك هو المناسب لعموم جملة من أحكام التعارض العامة له.
غاية الأمر أن
بعض الأخبار الواردة في التعارض تختص بتعارض
الخبرين لا أكثر ، وهو لا يقتضي قصر التعارض المصطلح عليه. ولا سيما مع قرب
إلغاء خصوصية مورد النصوص المذكورة من هذه الجهة ، على ما يأتي في محله إن شاء
الله تعالى.
ثم إن التعارض
بين أكثر من دليلين يختص بما إذا كان الجميع ظنيا يمكن التوقف عن العمل به بسبب
التعارض ، أما إذا كان بعضها قطعيا فالتعارض يختص بالباقي ، غايته أنه يكون من
التعارض لأمر خارج.
وقولنا : «بلحاظ
إطلاق التعبد» يظهر أنه لا بد في التعارض في محل الكلام من تمامية موضوع الحجية
والعمل بلحاظ الأدلة العامة ، لأن فرض التمانع بين المتعارضين فرع تمامية موضوع
الحجية في كل منهما ، أما مع قصور موضوع الحجية في أحدهما رأسا ، أو في مورد
التعارض ، فلا يكون عدم العمل به من جهة التعارض والتمانع ، بل لعدم المقتضي. ومن
ثم لا تعارض بين الحجة واللاحجة إلا في مقام الحكاية والكشف عن الواقع ، الذي سبق
أنه خارج عن وظيفة الأصولي.
وبقولنا : «بسبب
تنافي المؤديين» يظهر أنه لا بد في صدق التعارض من تنافي المؤديين بسبب تناقض
مدلولهما أو تضادهما. حيث يكون كل منهما مانعا من العمل بالآخر ، لامتناع التعبد
بالمتنافيين. أما مع عدم التنافي بينهما والعلم من الخارج بعدم ثبوت أحدهما تخصيصا
لعموم دليله ، فلا تعارض ، كما لو علم بتخصيص دليل الاستصحاب في أحد موردين إجمالا
، فإنه وإن لم يمكن العمل بالاستصحاب في كل من الموردين بسبب العلم المذكور ، إلا
أنه لا تعارض بين الاستصحابين ، لعدم التنافي بينهما. وكذا إذا امتنع العمل
بالدليلين معا بسبب العجز عن الجمع بين مفاديهما عملا من دون تناف بين مضمونيهما ،
فإن اللازم حينئذ التزاحم ، لا التعارض.
وبقولنا : «بالذات
أو لأمر خارج» يظهر عموم التنافي في محل الكلام للوجهين معا. وتوضيح ذلك أن
التنافي بين الدليلين .. تارة : يكون بلحاظ مدلولهما المطابقي ـ كما لو دل أحدهما على
الوجوب والآخر على عدمه ، أو على الاستحباب ـ أو مدلولهما الالتزامي بلحاظ ملازمة
ظاهرة تكون من سنخ القرينة المحتفة بالكلام الموجبة لظهوره في اللازم ، كدليل وجوب
القصر ودليل وجوب التمام ، بضميمة ما هو المعلوم من عدم وجوب صلاتين ، حيث يكون
ذلك متمما لدلالة كل منهما على نفي الآخر ، ومنشأ للتنافي بينهما.
وأخرى : يكون لأمر خارج عن مدلولهما المطابقي والالتزامي ،
ثبت بدليل خارجي يقتضي عدم ثبوت مدلولي الدليلين معا ، إذ يكشف ذلك عن كون ثبوت كل
منهما ملازما لعدم الأخر ، فيكون دليل كل منهما حجة على نفي الآخر ، لما هو
المعلوم من حجية الدليل في لازم مؤداه وإن لم يكن مدلولا التزاميا له ، فيتنافيان
بلحاظ ذلك ، وإن لم يتنافيا بأنفسهما. هذا في الأدلة التي تكون حجة في لازم
مؤداها.
وأما الأصول
فكما إذا لزم من جريان الأصلين محذور مانع من الجمع بينهما ، كما في موارد العلم
الإجمالي المنجز ، حيث يلزم من جريان الأصول الترخيصية في الأطراف المخالفة
القطعية للتكليف المنجز ، وهو أمر خارج عن مفاد الأصول يقتضي التنافي بينها
بالعرض.
بقي في المقام أمران :
الأول : تعرض شيخنا الأعظم قدسسره للكلام في قاعدة : «الجمع مهما أمكن أولى من الطرح» المدعى
عليها الإجماع من بعضهم. وقد أطال الكلام فيها بما لا يسعنا متابعته فيه بعد إجمال
المراد من القاعدة المذكورة ، وعدم الدليل عليها غير الأدلة العامة المحكمة في
العمل بالأدلة.
والذي ينبغي أن
يقال : الجمع إن كان راجعا إلى تحكيم أحد الدليلين على الآخر وحمله عليه بالنحو
الذي تقتضيه أدلة الحجية العامة ـ كما في موارد الجمع العرفي ـ فهو المتعين عملا
بدليل الحجية المقتضي له ، كما يعمل به في الدليل الواحد الذي لا معارض له.
وإن لم يرجع
لذلك ، بل كان متمحضا في تأويل أحدهما بما لا ينافي الآخر ـ من دون أن تنهض به
أدلة الحجية ـ من أجل رفع التنافي بين الدليلين ، دفعا لتوهم صدور المتنافيين عن
المعصوم. فهو مستغنى عنه في حق من يعتقد عصمته ، وإنما يحتاج له لدفع النقض على
عصمته ممن لا يعتقد بها. ولا أثر له إلا محاولة الإقناع بوجه خطابي غير عملي ،
دفعا لشبهته بمثلها.
لأن دليل
العصمة إن لم يكن أقوى من هذه الشبهة المستندة لظهور الكلام لم يصلح التأويل الذي
لا تنهض به أدلة الحجية لدفع التنافي بعد استناده لظاهر الكلام الذي هو حجة في كشف
مراد المتكلم. وإن كان دليل العصمة قطعيا أقوى من الشبهة المذكورة كان مانعا من
التعويل عليها علميا ، فإيرادها تهريج بخطابيات مردود بمثلها.
نعم قد ينفع
التأويل في منع استحكام الشبهة في حق ضعيف البصيرة من المؤمنين. كما قد ينفع في
استيضاح العمل بأحد المتعارضين إذا اقتضاه دليل الحجية ، لأن طرح الآخر للجهل أثقل
على النفس من تأويله بما يلائم مقتضى الحجية. وقد تعرض لأكثر ما ذكرنا الشيخ قدسسره في التهذيب.
لكن اللازم
حينئذ ذكر التأويل احتمالا ، تجنبا لمحذور القول بغير علم ولا حجة الذي هو من
المحرمات ، ولا سيما إذا كان في كلام المعصومين «صلوات الله عليهم» الذين هم حجج
الله تعالى على خلقه والناطقين عنه في بريته.
وأشد من ذلك ما
لو أريد بالتأويل العمل بمقتضاه ، كما قد يناسبه المقابلة بالطرح ، فإنه قول وعمل
بغير علم. ومن ثم ورد عنهم عليهمالسلام الأمر بردّ ما اشتبه أمره إليهم ، والنهي عن القول فيه
بالرأي .
الثاني : سبق في تعقيب بعض فقرات تعريف التعارض أن التعارض لا
يتحقق إلا مع تمامية موضوع الحجية بحسب الأدلة العامة في كل من المتعارضين حتى في
ظرف اجتماعهما ، وأنه لا بد فيه من التنافي بين المؤديين.
ويترتب على
الأول عدم التعارض في موارد الجمع العرفي ، حيث يكون الأظهر قرينة عرفا على صرف
الظاهر عن ما هو ظاهر فيه ، بحيث يخرج بسببه عن موضوع حجية الظهور. كما يترتب على
الثاني عدم تحققه في موارد التخصص والورود والحكومة البيانية التفسيرية ، لعدم
التنافي بين دليل ثبوت الحكم لموضوعه والدليل الشارح لذلك الدليل أو لموضوعه
والمنقح لصغرياته.
ومن ثم كان
البحث في الأمرين خارجا عن التعارض الذي هو محل الكلام. إلا أن أهمية البحث فيهما
، وارتباطه بمحل الكلام ، ملزم بتعميم البحث بنحو يشملهما ، بأن يكون موضوع البحث
الأدلة التي يكون لبعضها أثر في العمل بالآخر.
وعلى ذلك يكون
البحث في بابين ، يبحث في الباب الأول عن الأدلة التي يكون بعضها دخيلا في العمل
بالآخر من دون تمانع بينهما في الحجية ، ويبحث في الباب الثاني عن الأدلة
المتعارضة التي يكون بعضها مانعا من حجية الآخر.
كما أن المناسب
إلحاق البحث في المقام بخاتمة يبحث فيها عن حقيقة
__________________
التزاحم بين الحكمين ، والفرق بينه وبين التعارض ، وعن الوظيفة معه من
حيثية التخيير والترجيح ، لأن خروج ذلك عن محل الكلام ، وعدم وضوح الجامع بينهما
مانع من جعله من مقاصد البحث. كما أن أهميته وشدة مناسبته للمقام ملزم بالتعرض له
وإلحاقه به تتميما للفائدة.
ومنه سبحانه
نستمد العون والتسديد.
الباب الأول
في الأدلة التي يكون لبعضها
دخل في العمل بالآخر بلا تمانع في الحجية
وقد أشرنا إلى
أن ذلك .. تارة : يكون مع عدم التنافي بين الدليلين وأخرى : يكون مع التنافي بينهما ، إلا أن موضوع الحجية يرتفع
في أحدهما بسبب الآخر.
وتوضيح ذلك :
أن ترتب العمل على الدليل اللفظي ـ الذي هو حجة في نفسه ـ موقوف على أمور لا يتكفل
هو بها ، بل تحرز من جهات أخر ، كإحراز موضوع الحكم الذي تكفله ، وتشخيص ظهوره ،
وإحراز إرادة الظهور ، وصدور الكلام لبيان المراد الجدي.
فإن كان الدليل
الآخر الدخيل في العمل به غير متعرض لمضمونه ، بل كان متكفلا ببعض هذه الجهات
ومتعرضا لها نفيا أو إثباتا لم يكن منافيا له في المؤدى ، ودخل في القسم الأول.
أما لو تعرض
لمضمونه ، فإن وافقه كان مؤكدا له ، وخرج عن محل الكلام. وإن كان منافيا له ، فإن
كان وروده موجبا لارتفاع موضوع الحجية في الدليل الأول كان من القسم الثاني. وإلا
خرج عن القسمين ، ودخل في التعارض الذي يأتي الكلام فيه في الباب الثاني إن شاء
الله تعالى.
كما أن المناسب
البحث في هذا الباب ـ بعد النظر في القسمين المذكورين ـ عن مراتب الأدلة والوظائف
الظاهرية التي سبق الكلام فيها من
الطرق والأصول بأقسامها ، والوجه في تقديم بعضها على بعض على ضوء الكلام في
هذين القسمين.
ومن ثم يكون
البحث في هذا الباب في ضمن فصول ثلاثة.
الفصل الأول
فيما إذا لم يكن الدليلان متنافيين
حيث سبق أن
موضوع الكلام هنا ما إذا لم يكن الدليل متعرضا للحكم الذي تضمنه الدليل الآخر ، بل
لأمور خارجة عن مضمونه دخيلة في ترتب العمل عليه ، فالدليل المذكور .. تارة : ينقح موضوع الحكم وأخرى : يتعرض لبقية الجهات المتقدمة. وقد خص الأول في
مصطلحهم بالورود ، والثاني بالحكومة. فالكلام في مقامين :
المقام الأول : في الورود
من الظاهر أن
كلا من ثبوت الحكم في مورد لصدق عنوان موضوعه فيه ، وقصوره عنه تخصصا لعدم صدق
عنوانه فيه ، أمر خارج عن مفاد دليل جعل الحكم على الموضوع. وحينئذ قد يكون ذلك
تابعا ثبوتا وإثباتا للأسباب التكوينية التي لا دخل للشارع بها. كشمول عموم وجوب
العالم لزيد المعلوم كونه عالما ، وقصوره عن عمرو المعلوم كونه جاهلا. وقد يكون
تابعا للشارع ثبوتا أو إثباتا أو من الجهتين معا.
وتوضيح ذلك :
أن الموضوع قد يكون أمرا جعليا تناله يد التشريع. وحينئذ إذا كان الدليل أو التعبد
بنفسه ـ لا بلحاظ مضمونه ـ محققا لموضوع الحكم أو لنفيه ثبوتا في مورد كان بنفسه
سببا في ثبوت الحكم أو نفيه في ذلك المورد ، كما في الأحكام التي يؤخذ في
موضوعاتها قيام الحجة ، كجواز القضاء
والفتوى ، وكما في الأصول العقلية التي يكون موضوعها عدم الحجة والبيان ،
كالبراءة والاشتغال ، حيث يكون قيام الحجة والدليل محققا لموضوع الأولى ، ورافعا
لموضوع الثانية واقعا.
كما أن الدليل
أو التعبد الشرعي قد يتكفل بإحراز تحقق الموضوع أو عدمه في مورد ، فيكون منشأ
لإحراز حصول الحكم فيه أو عدم حصوله فيه إثباتا ، سواء كان الموضوع جعليا ،
كالملكية والطهارة ، أم تكوينيا ، كالبلوغ والعدالة.
وذلك كإحراز
الملكية أو الطهارة أو البلوغ أو العدالة أو عدمها بالبينة أو اليد أو الاستصحاب
أو أصالة الطهارة ، بالإضافة إلى أحكام هذه الأمور ، كوجوب الحج على من ملك الزاد
والراحلة ، وجواز الوضوء بالماء الطاهر ، ونفوذ تصرف البالغ ، وجواز الائتمام
بالعادل. وكذا الحال فيما دل على سببية الأسباب كبرويا ، كأدلة حصول الملكية
بالميراث أو الحيازة ، وحصول الطهارة أو ارتفاعها بالأسباب الشرعية ... إلى غير
ذلك.
وهذا النحو من
النسبة بين الدليلين هو المصطلح عليه بالورود ، حيث يكون الدليل المتعرض للموضوع
هو الوارد على دليل الحكم ، ودليل الحكم مورودا له.
إلا أن المتيقن
من مصطلحهم المذكور هو الصورة الأولى ، التي يكون فيها الدليل المتعرض للموضوع
محققا له أو رافعا له ثبوتا ، دون الصورة الثانية التي يكون فيها متعرضا لإحرازه
إثباتا.
بل مقتضى جعله
في مساق التخصص ، والتمثيل له بقيام الحجة بالإضافة إلى دليل البراءة والاشتغال
الاقتصار فيه على ما إذا كان الدليل رافعا لموضوع الحكم ، دون ما إذا كان محققا
له. إلا أن اشتراكهما في سنخ التصرف في موضوع
الحكم يناسب تعميم هذا المصطلح لهما معا.
بل المناسب
تعميمه للصورة الثانية ، لأنها تبتني أيضا على نحو من التصرف في الموضوع ، ودليل
الحكم كما لا يقتضي تحقق موضوعه ثبوتا ، كذلك لا يقتضي إحرازه إثباتا.
وهو أولى من
إلحاقها بالحكومة ـ كما هو ظاهر أو صريح بعضهم ـ لأن التعبد بالموضوع وإن كان
مستلزما عرفا للتعبد بحكمه ، إلا أنه لا يبتني على النظر للحكم ، ولا لدليله ،
الذي يأتي أنه المعيار في الحكومة.
وعلى ذلك
فالورود عبارة عن «كون أحد الدليلين رافعا لموضوع حكم الآخر ، أو محققا له ثبوتا ،
أو محرزا لأحد الأمرين إثباتا». ولنخص الثاني باسم الورود الظاهري ، فرقا بينه
وبين الأول الذي هو المتيقن في الجملة من مصطلحهم. وإن كان الأمر غير مهم ، حيث لا
مشاحة في الاصطلاح.
وإنما المهم في
المقام هو عدم الإشكال في لزوم العمل بالدليل أو التعبد الوارد بالمعنى المتقدم
مطلقا. عملا بإطلاق دليله ، بعد عدم منافاته لدليل الحكم المورود ، لعدم تعرض دليل
الحكم للموضوع ثبوتا ولا إثباتا. والتعبير بالورود ليس بلحاظ تغليب الدليل الوارد
وترجيحه ، ولا بلحاظ تحكيمه فيه ، بل بلحاظ مجرد تحكيمه في حكم الدليل المورود وفي
العمل به.
ثم إنه قد يكون
الحكمان متواردين ، بأن يكون كل منهما مقيدا بقيد يرفعه الآخر ، كما لو تعلق النذر
ونهي الأم بشيء واحد ، حيث يعتبر في انعقاد النذر رجحان المنذور ، ونهي الأم عن
الشيء مانع من رجحانه ، كما يعتبر في مرجوحية معصية الأم أن لا تكون طاعتها معصية
شرعا ، ونفوذ النذر يجعل طاعتها في مخالفته معصية شرعا.
والظاهر أنه مع
تقارن حدوث عنوانيهما زمانا يتعين سقوطهما معا عن
الفعلية ، لمانعية كل منهما من تمامية موضوع الآخر في المرتبة اللاحقة
لتحقق العنوانين ، ومع عدم تمامية الموضوع يتعين عدم فعلية الحكم.
أما مع سبق
أحدهما فيكون فعليا ، لتمامية موضوعه ـ بعد فرض عدم تحقق الآخر ـ فيمنع من تمامية
موضوع اللاحق ، ومن فعلية حكمه.
المقام الثاني : في الحكومة
وقد سبق أن موضوعها
ما إذا كان أحد الدليلين متعرضا لبعض الجهات التي يترتب عليها العمل بالدليل
الثاني مما لا يتكفل به الدليل نفسه عدا تنقيح الموضوع ، كتعيين معاني المفردات ،
وظهور الكلام ـ ومنه التنبيه لبعض القرائن المحيطة به الموجبة لتبدل ظهوره ـ وشرح
مراد المتكلم منه ، أو التعرض لجهة صدوره ـ كالتقية ـ وغير ذلك.
كحديث علي بن
أبي المغيرة : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : جعلت فداك الميتة ينتفع منها بشيء؟ فقال : لا. قلت :
بلغنا أن رسول الله صلىاللهعليهوآله مرّ بشاة ميتة ، فقال : ما كان على أهل هذه الشاة إذ لم
ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها [بجلدها]؟! قال :
تلك شاة لسودة
بنت زمعة زوجة النبي صلىاللهعليهوآله ، وكانت شاة مهزولة لا ينتفع بلحمها ، فتركوها حتى
ماتت. فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : ما كان على أهلها إذ لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا
بإهابها. أي تذكى» .
وصحيح عبيد بن
زرارة عنه عليهالسلام : «سألته عن رجل لم يدر ركعتين صلى أم ثلاثا؟ قال :
يعيد. قلت : أليس يقال : لا يعيد الصلاة فقيه؟ فقال : إنما ذلك في الثلاث والأربع»
.
وموثقة عنه عليهالسلام : «قال : ما سمعته مني يشبه قول الناس فيه التقية ، وما
__________________
سمعت مني لا يشبه قول الناس فلا تقية فيه» وغيرها.
ومن الظاهر أن
هذا النوع من الأدلة ناظر للدليل الآخر ، إما تفصيلا كحديث علي بن المغيرة وصحيح
عبيد ، أو إجمالا كموثق عبيد. ومثله ما يتضمن شرح بيان معاني المفردات ـ كمرسل ابن
رباط الوارد في تفسير المني والوذي والمذي والودي ـ لرجوعه إلى بيان ما هي ظاهرة فيه في جميع موارد
استعمالها ، بما في ذلك أدلة أحكامها الشرعية.
ولا ينبغي
التأمل في العمل بالدليل الناظر للدليل الآخر ، المتعرض لبعض تلك الجهات فيه ،
وتحكيمه عليه ، لتقدمه عليه رتبة بعد كونه متعرضا للجهات التي تتم بها دليليته ،
من دون أن ينافيه ، لعدم تعرضه لمضمونه ، فضلا عن أن ينافيه فيه.
كما لا إشكال
في أن هذا من موارد الحكومة المصطلحة ، فالدليل الناظر لدليل الحكم هو الحاكم ،
ودليل الحكم المنظور له هو المحكوم.
وإنما الإشكال
في اختصاص الحكومة بذلك أو يعم قسما آخر ، وهو ما لا يكون فيه ناظرا للدليل
المحكوم بل لحكمه. وذلك كالأدلة المتضمنة للتنزيل صريحا ، كخبر النيسابوري : «قلت لأبي
عبد الله عليهالسلام : القدح من النبيذ والقدح من الخمر سواء؟ قال : نعم
سواء ...» .
أو بلسان توسيع
الموضوع ، كقوله عليهالسلام : «وكل مسكر خمر» وقوله عليهالسلام : «فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر» والنبوي : «الطواف بالبيت
__________________
صلاة» ونحوها ، أو تضييقه ، كقوله عليهالسلام : «ولا سهو في نافلة» وقولهم عليهمالسلام : «لا رضاع بعد فطام» وغيرهما.
لوضوح ابتناء
التنزيل على ملاحظة أحكام المنزل عليه. وكذلك توسيع العنوان بحمله على غير أفراده
، وتضييقه بسلبه عن بعض أفراده حيث لا مصحح لهما إلا النظر لأحكامه ، وبيان ثبوتها
في موضع الحمل ، وانتفائها في موضع السلب.
وكذا أدلة
الرفع الثانوية مع الأحكام الأولية ، كأدلة رفع الحرج والضرر والإكراه والاضطرار
ونحوها. لظهور ابتناء الرفع على النظر للأحكام الأولية التي من شأنها الثبوت ـ تبعا
لثبوت مقتضيها ـ لو لا طروء الرافع.
لكن لا نظر في
هذه الأدلة لأدلة تلك الأحكام ، ولا لشرح المراد منها ، لعدم تعرضها لها ، ولا
للجهات التي تبتني عليها دليليتها.
غاية الأمر أن
ما تضمن قصور الحكم عن بعض الأفراد أو الأحوال ـ بلسان نفي الموضوع أو بلسان الرفع
للعنوان الثانوي أو غيرهما ـ مستلزم لعدم إرادة عموم الحكم من أدلته بعد فرض عصمة
المتكلم وعدم النسخ. وهذا جار في جميع موارد التنافي البدوي بين الدليلين ، من دون
أن يقتضي نظر أحدهما للآخر.
إذا عرفت هذا
فقد يظهر من بعض كلمات شيخنا الأعظم قدسسره ـ الذي اشتهر أنه الأصل في مصطلح الحكومة ـ اختصاصها
بالقسم الأول. بل
__________________
بخصوص قسم منه ، وهو ما كان مسوقا لشرح المراد من الدليل المحكوم ، حيث قال
في مبحث التعارض : «وضابط الحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضا
لحال الدليل الآخر ، ورافعا للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه ،
فيكون مبينا لمقدار مدلوله ، ومسوقا لبيان حاله ، متفرعا عليه». وقريب منه في ذلك
كلامه الآتي.
إلا أن ذلك لا
يناسب تمثيله بأدلة أحكام الشكوك بالإضافة لما دل على أنه لا حكم للشك في النافلة
، أو مع حفظ الإمام ، أو المأموم ، أو بعد الفراغ من العمل. وتعرضه لنظير ذلك في
تقريب حكومة أدلة نفي الضرر والحرج على أدلة الأحكام الأولية ، وغير ذلك مما تطفح
به كلماته.
بل يتعين لأجل
ذلك عمومها للقسم الثاني ، كما هو الظاهر من جميع من تأخر عنه ، بل صريح بعضهم.
ولعله لذا حكي عن بعض محشي الرسائل أن شيخنا الأعظم قدسسره ضرب في الدورة الأخيرة على العبارة الدالة على إرادة
خصوص القسم الأول.
نعم لا مجال
لتوجيه تقديم الدليل الحاكم في هذا القسم بما سبق في وجه تقديمه في القسم الأول من
تقدمه عليه رتبة ، لتعرضه للجهات التي تتم بها دليليته ، من دون تناف بينهما. بل
لا بد فيه من وجه آخر.
وحينئذ لا
ينبغي التأمل في العمل بالدليل الحاكم في هذا القسم إذا لم يناف الدليل المحكوم ،
لإطلاق دليل حجيته بلا مانع ، كما هو الحال في موارد التنزيل المقتضي لتعميم حكم
الدليل المحكوم لغير مورده ، سواء كان صريحا ، أم كان بلسان توسيع الموضوع. لأن
دليل ثبوت الحكم لعنوان لا ينافي ثبوته في غير مورده.
وإنما الكلام
في وجه التقديم مع التنافي بينهما ، كما إذا كان مقتضى
الدليل المحكوم عموم الحكم ، وكان مقتضى الدليل الحاكم قصوره عن بعض
الأفراد أو الأحوال ، لتضمنه رفع الحكم بلسان رفع الموضوع ، أو رفعه للعنوان
الثانوي ، أو نحوهما. فهو نحو من التخصيص أو التقييد.
وقد حاول غير
واحد توجيه تقديم الدليل الحاكم في المقام بأن الحكم الذي تضمنه وإن كان منافيا
لإطلاق دليل المحكوم ، إلا أنه يتعين تقديمه عليه بسبب نظره إليه وسوقه لشرح
المراد منه. قال شيخنا الأعظم قدسسره : «والفرق بينه وبين التخصيص : أن كون التخصيص بيانا
للعام بحكم العقل الحاكم بعدم جواز إرادة العموم مع العمل بالخاص. وهذا بيان بلفظه
ومفسر للمراد من العام ، فهو تخصيص في المعنى بعبارة التفسير».
لكنه كما ترى
إنما يتجه في القسم الأول ، الذي يكون فيه الدليل الحاكم ناظرا للدليل المحكوم ،
دون هذا القسم ، الذي يكون الحاكم فيه ناظرا للحكم ، دون دليله ، حيث لا يكون
حينئذ مسوقا لتفسير الدليل المذكور ، ليتعين تقديمه عليه طبعا ، كما ذكرناه آنفا.
ومن هنا يتعين
كون المورد من موارد التنافي البدوي بين الدليلين ، الذي يتعين فيه الجمع العرفي
بتقديم الأظهر على الظاهر الذي يأتي الكلام فيه في الفصل الثاني.
وربما يكون
الوجه في تقديم الحاكم ـ مع قطع النظر عن كونه أخص مطلقا في بعض الموارد ـ : أن
ظهور دليله في خصوصية عنوانه كثيرا ما يكون أقوى من ظهور المحكوم ، لوروده في
الأفراد أو الأحوال المشتملة على خصوصية تناسب مضمونه ، كنفي السهو في النافلة ،
المناسب لعدم أهميتها ، أو عن كثير الشك ، المناسب للزوم العسر من جريان أحكام
الشك فيه ، أو لخروج الشك فيه عن الوضع الطبيعي للإنسان ، أو عن الإمام أو المأموم
مع
حفظ الآخر ، المناسب لوجود الأمارة المرجحة لأحد طرفي الشك ، وكرفع التكليف
مع الصبا والحرج والضرر والإكراه ونحوها مما يناسب عرفا التخفيف ، وكرفع حكم
الرضاع عن الرضاع بعد الفطام ، المناسب لكونه في غير محله ... إلى غير ذلك مما
يكون فيه الحكم الذي تضمنه الدليل الحاكم مناسبا عرفا لخصوصية مورده ، فإن الدليل
الحاكم حيث يكون منبها عرفا للمناسبة المفروضة يكون ظهوره في خصوصية مورده لحكمه
أقوى من ظهور الدليل المحكوم في خصوصية عنوانه لحكمه ، وذلك يناسب تقديمه عليه.
ولو فرض ورود
الألسنة المذكورة في مورد خال عن المناسبة العرفية ، بحيث يكون مقتضاه تعبديا
متمحضا في نفي الحكم ، فلا يبعد فقده الخصوصية الموجبة للتقديم ، بل يكون كسائر
موارد التخصيص أو التقييد ، كما لعله في مثل قوله عليهالسلام : «لا صلاة إلا بطهور» وقوله عليهالسلام : «من لم يقم صلبه في الصلاة فلا صلاة له» . ولعله غير منظور لهم في اصطلاح الحكومة ، ويختص نظرهم
لبا بالقسم السابق.
وبالجملة :
تقديم الدليل الحاكم في هذا القسم عرفي يبتني على أقوائية ظهوره في مورده من
الدليل المحكوم ، كما هو الحال في سائر موارد الجمع العرفي بين الأدلة المتنافية
بدوا. وليس هو كتقديمه في القسم الأول مبنيا على تقدمه رتبة من دون تناف بينهما ،
كما سبق. فالحكومة في القسمين مختلفة ملاكا. ومن ثم يحسن تسمية الحكومة في القسم
الأول بالحكومة البيانية ، وفي القسم الثاني بالحكومة العرفية.
__________________
الفصل الثاني
في ارتفاع موضوع الحجية في أحد الدليلين بسبب الآخر
من الظاهر أن
للمتكلم أن يلحق بكلامه ما شاء من القرائن في مقام بيان مراده وإن كانت على خلاف
مقتضى الظهورات الأولية العامة المستندة للأوضاع أو للانصرافات الناشئة من كثرة
الاستعمال أو نحوها ، فتمنع القرائن الخاصة من انعقاد ظهور الكلام على طبق
الظهورات الأولية ، بل ينعقد الظهور على طبقها.
فإذا فرغ
المتكلم من كلامه انعقد ظهوره في بيان مراده الجدي على ما يناسب الظهورات الأولية
والقرائن الخاصة ، ويستقر الظهور المذكور ، ويكون موضوعا للحجية بطبعه ، ولا يرتفع
بالعثور على المعارض له في المدلول وإن كان أقوى منه ظهورا.
هذا ولكن يظهر
من بعض الأعاظم قدسسره في غير موضع كلامه المنع من ذلك في بيانات الشارع
الأقدس ، لدعوى خروجه عن الطريقة العرفية في بيان مراده الجدي ، واتكاله فيه على
القرائن المنفصلة ـ كما يظهر بملاحظة النصوص المروية عن الأئمة (صلوات الله عليهم)
ـ لمصالح هو أعرف بها.
وعلى ذلك فقبل
الفحص عن القرائن المنفصلة لا مجال للجزم بظهور الكلام التصديقي ، وهو الظهور في
المراد الجدي ، وإن علم بظهور الكلام التصوري المستند لحاقّ الكلام ، والذي لا
يكون موضوعا للحجية ، فهو نظير ظهور صدر الكلام قبل الفراغ منه.
كما أنه
بالعثور على القرائن المنفصلة لا يلزم التعارض بين الظهورات التصديقية ، بل منعها
عن انعقاد الظهور الأولي للكلام ، وتحكيم الظهورات
التصورية بعضها على بعض ، ليكون هناك ظهور تصديقي واحد ، كما هو الحال في
الاطلاع على القرائن المتصلة.
لكنه كما ترى
مخالف لما هو المعلوم من سيرة المتشرعة عند سماعهم من النبي صلىاللهعليهوآله والأئمة عليهمالسلام الكلام ابتداء ، أو جوابا عن سؤال ، حيث لا ريب في نسبتهم مفاد ظهوره ـ المتحصل
منه ومن القرائن المحيطة به والمعلومة لهم ـ للمتكلم ، وعملهم عليه بلا تكلف الفحص
عن القرائن المنفصلة ، كما يعملون على ذلك في البيانات العرفية ، لبنائهم على
جريان الشارع الأقدس على الطريقة العرفية في البيان ، وعدم خروجه عنها.
كيف وخروجه عن
طريقتهم في مثل هذا الأمر المهم الشائع الابتلاء يحتاج إلى بيان خاص منه صريح ملفت
لأنظار الناس ، ليرتدعوا عن سيرتهم الارتكازية في معرفة مراده من كلامه ، مع العلم
بعدم صدور ذلك منه ، وإلا لظهر وبان ، لتكثر الدواعي لحفظه ، وتوفر الأسباب
لانتشاره وظهوره.
ولا مجال
لاتكاله في بيان خروجه عن الطريقة العرفية على كثرة القرائن المنفصلة الكاشفة عن
مخالفة مراده لظواهر كلامه ..
أولا : لأن ظهور كثرة القرائن بالنحو المذكور أمر متأخر عن
عصور التشريع.
وثانيا : لعدم ملازمة كثرتها لخروجه عن الطريقة العرفية
المذكورة ، لقرب رجوع ذلك إلى اختفاء القرائن المتصلة الكاشفة عن مراد المتكلم
بكلامه ، أو عدم كونه في مقام البيان من بعض الجهات ، أو نحو ذلك.
بل كيف يمكن
إيكاله في بيان مراده إلى القرائن المنفصلة مع عدم انضباطها ثبوتا وإثباتا. لتوقف
حصولها على أمور غير منضبطة ، كتحقق الداعي للسؤال ، أو الحاجة للبيان الابتدائي ،
أو الإجماع والسيرة الكافيين في الكشف عن رأي المعصوم عليهالسلام وغير ذلك. وتوقف وصولها بعد حصولها على تحقق
دواعي النقل ، وضبط الناقل ، وثبوت وثاقته ـ ليكون نقله حجة ـ وعدم ضياع
النقل ، وغير ذلك مما لا ينضبط أيضا.
ولا سيما مع
انفصال جملة منها عن الكلام بعشرات السنين ، بل مئاتها ، حيث قد يرد الكلام عن
النبي صلىاللهعليهوآله أو الوصي عليهالسلام ، ويرد ما يصرفه عن ظاهره عن الأئمة المتأخرين عليهمالسلام أو يستند للإجماع الحاصل من اتفاق العلماء بعد الغيبة.
على أن لازم
ذلك أمران لا يظن بأحد الالتزام بهما :
الأول
: جريان حكم
الكلام المجمل على المتعارضين ، لمانعية كل منهما من الظهور التصديقي للآخر لو
اجتمعا في كلام واحد.
الثاني : عدم حجية الظهور حتى بعد استكمال الفحص ، لاحتمال
ضياع القرائن المنفصلة ، لأن بناء العقلاء على أصالة عدم القرينة المنفصلة إنما هو
مع الجري على طريقتهم في البيان ، حيث تكون القرينة المنفصلة من سنخ المعارض بعد
انعقاد الظهور التصديقي للكلام الذي هو موضوع الحجية ، أما مع فرض الخروج عن
طريقتهم بحيث تكون القرينة المنفصلة من سنخ المقوم للظهور التصديقي المفروض عدم
إحراز انعقاده ، فلم يتضح بناؤهم على أصالة عدم القرينة.
بل يكون المقام
حينئذ نظير ما لو شك في سماع تمام الكلام واحتمل فوت بعضه على السامع ، أو صرح
المتكلم باعتماده على قرائن منفصلة واحتمل عدم استيفائها بالفحص ، حيث لا مجال
للبناء على أصالة عدم القرينة المتصلة في الأول والمنفصلة في الثاني لإحراز الظهور
التصديقي.
وبالجملة : لا
ينبغي التأمل في استقرار ظهور الكلام بفراغ المتكلم عن كلامه ، وعدم ارتفاعه
بالعثور على القرائن المنفصلة ، بل تكون القرائن المذكورة من سنخ المعارض للظهور
المذكور النافي له ، من دون فرق بين كلام
الشارع وغيره.
نعم قد يجمع
العرف بين الظهورين بحمل أحدهما على الآخر وتنزيله عليه ، لكونه بنظرهم قرينة
تصرفه عن ظاهره ، وتكشف عن عدم مطابقته لمراد المتكلم الجدي.
وحيث كان دليل
العمل بالظهور واستكشاف المراد الجدي به منحصرا بسيرة العرف الارتكازية ـ كما تقدم
في مبحث حجية الظواهر ـ كان توقفهم عن العمل بأحد الظهورين وتنزيله على ما يطابق
الظهور الآخر في محل الكلام راجعا إلى عدم حجيته في نفسه ، وأن الحجة مجموع
الكلامين على مقتضى الجمع العرفي المذكور.
ولازم ذلك عدم
التعارض بينهما في مقام الحجية بحسب عموم أدلتها ، بل يكون ورود القرينة المنفصلة
مانعا من حجية الظهور البدوي للكلام ، ولا مجال معه لفرض التعارض في مقام الحجية
بحسب عموم أدلتها. ومن ثم ذكرنا آنفا خروج ذلك عن التعارض حقيقة ، لأن المهم من
التعارض ليس هو التعارض البدوي في مقام الحكاية ، بل التعارض في مقام الحجية بحسب
أدلتها العامة.
وحيث انتهى
الكلام إلى هنا ، فالمناسب التعرض لأمور ..
الأمر الأول : الظاهر أن المعيار في الجمع العرفي على تقديم الأظهر
على الظاهر وتنزيله على ما يطابقه ، فتعين أحد الدليلين للقرينية على الآخر عرفا
منوط بأظهريته منه دلالة.
وما اشتهر من
تقديم الخاص على العام والمقيد على المطلق وغيرهما راجع إلى ذلك. فلو كان العام
أظهر من الخاص أو المطلق أظهر من المقيد لزم تنزيل الخاص أو المقيد على العام أو
المطلق. مثلا لو كان ظهور العام أو المطلق
في عموم الرخصة أقوى من ظهور الخاص أو المقيد في الإلزام تعين تقديم العام
وتنزيل الخاص عليه بحمله على الاستحباب ، أو بيان أحد الأفراد أو غير ذلك.
وأما ما ذكره
بعض الأعاظم قدسسره من لزوم تقديم الخاص مطلقا وإن كان أضعف ظهورا ، لأن
الخاص بمنزلة القرينة على العام ، وأصالة الظهور في القرينة حاكمة على أصالة
الظهور في ذيها ، فلا يحتاج تقديمها لملاحظة الترجيح الدلالي.
فيندفع بأن
تعيين أحد الكلامين للقرينية على الآخر إنما يتجه لو كان ناظرا إليه ، ومسوقا من
قبل المتكلم لبيان المراد منه ، حيث يكون حاكما عليه حكومة بيانية ، فيتقدم عليه
طبعا من دون تناف بينهما ، كما سبق في الفصل الأول ، ولا يحتاج تقديمه عليه
لأقوائية ظهوره. وأما في موارد تعارض الظاهرين بدوا فلا يتعين أحدهما عرفا
للقرينية على الآخر إلا بقوة ظهوره.
نعم الظاهر عدم
الاكتفاء بمجرد الأظهرية في الجمع العرفي ، بل لا بد معها من كون الأضعف ظهورا
صالحا عرفا للتأويل والتنزيل على طبق الأظهر ، بحيث يكون مفاد الجمع بينهما ملائما
عرفا لهما معا.
أما لو لم يصلح
لذلك فليس بينهما جمع عرفي ، ويتعين إجراء حكم التعارض ، لو لم يكشف الأظهر عرفا
عن خلل في الظاهر. وإلا تعين العمل بالأظهر وإهمال الظاهر ، لصيرورته بحكم المجمل.
الأمر الثاني : التعارض بين الظهورات الذي هو الموضوع للجمع العرفي
إنما يكون بلحاظ امتناع إرادتها جميعا. وعلى ذلك فهو كما يجري إذا كانت من متكلم
واحد يجري إذا كانت من أكثر إذا امتنع اختلافهم ، كالمعصومين عليهمالسلام. وكذا يجري فيما إذا لم تكن القرينة لفظية ، بل لبية
يعلم بعدم مخالفة المتكلم لمضمونها ، حيث يتعين رفع اليد عن ظاهر كلامه ، وتنزيله
على ما لا ينافيها.
كما أنه لا
يجري مع احتمال عدول المتكلم الواحد في رأيه أو خبره في أحد كلاميه عما كان عليه
في الآخر ، بحيث يمكن قصده لظاهر كل منهما عند صدوره وإن كانا مختلفين ، لأن أصالة
الظهور إنما تقتضي إرادته حين صدور الكلام ، لا دائما ، لينافي الآخر.
غاية الأمر أن
الأصل عدم عدول صاحب الرأي أو الخبر عن رأيه أو خبره. إلا أنه لا ينهض برفع اليد
عن أصالة الظهور في كل من الكلامين بنحو يلزم بالجمع بينهما ، بل أصالة الظهور
تكون واردة على الأصل المذكور رافعة لموضوعه ، حيث تكون دليلا على العدول ، ومعه
لا موضوع للجمع العرفي.
وكذا الحال مع
احتمال النسخ في الحكم الذي تعرض له المتكلم المسبب عن البداء الحقيقي لو أمكن في
حقه ، لأنه من صغريات العدول عن الرأي.
بل وكذا احتمال
النسخ غير المسبب عن البداء الحقيقي كما هو الحال في الأحكام الشرعية ، لما تقدم
في الفصل السادس من المبحث الثالث من مباحث الاستصحاب من أن نسخ الحكم الشرعي لا
يستلزم صدور دليله لا بداعي بيان المراد الجدي ، ليكون مقتضى أصالة الجهة نفيه ،
الملزم بالجمع العرفي بين الظهورين ، ولا مخالف لظهوره اللفظي ، ليكون الظهور
المذكور طرفا للمعارضة مع الظهورين المفروض تعارضهما في المقام ، ويقع الكلام في
تعيين الأقوى من الظهورات المذكورة ، كما يظهر من شيخنا الأعظم قدسسره وغيره في مسألة دوران الأمر بين النسخ والتخصيص. بل لا
دافع لاحتمال النسخ إلا الأصل الذي لا ينهض برفع اليد عن ظهور كل من الكلامين في
إرادة مضمونه ، فلا تصل النوبة للجمع العرفي.
لكن يصعب
البناء في الأحكام الشرعية على النسخ. لاستلزامه كثرة
النسخ ، ومن المعلوم قلته ، خصوصا من الأئمة عليهمالسلام بناء على ما هو الظاهر من إمكان صدوره منهم ، بمعنى
علمهم به وتبليغهم الأحكام على ما يناسبه ، كما هو الحال في النسخ الصادر من النبي
صلىاللهعليهوآله.
مع أنه مستلزم
لاضطراب نظام الفقه القائم ، وتأسيس فقه جديد ، إذ كثيرا ما يكون الظهور الأقوى
سابقا زمانا على الظهور الأضعف ، فلو بني على النسخ لزم البناء على مقتضى الظهور
الأضعف ، لنسخ الظهور الأقوى به. ولو جهل الأسبق من الظهورين لزم التوقف عنهما معا
، للعلم الإجمالي بنسخ أحدهما بالآخر.
ولا يظهر منهم
البناء على ذلك. بل سيرتهم على العمل بالأظهر مطلقا ، وتنزيل الأضعف عليه ، للجمع
العرفي بينهما ، ولا يذكر النسخ إلا احتمالا لتوجيه النصوص التي يبنى على إهمالها.
ولعل الوجه في
سيرتهم المذكورة وعدم تعويلهم على احتمال النسخ : أن العمدة في البيانات الشرعية
هي الأخبار الصادرة عن الأئمة (صلوات الله عليهم) ، وهي منصرفة إلى كون مضمونها
الأحكام الثابتة من عصر النبي صلىاللهعليهوآله ، لأن ذلك هو الذي يقع موردا لسؤال السائلين ، فإن
النسخ منهم عليهمالسلام وإن كان ممكنا ، إلا أنه مغفل في مقام السؤال والجواب.
ولذا تضمن كثير
من النصوص استشهاد الإمام عليهالسلام بكلام النبي صلىاللهعليهوآله ، أو استفسار السائل عن وجه الجمع بين فتواه عليهالسلام وما روي عنه صلىاللهعليهوآله أو عن الأئمة المتقدمين ، وتكذيب الإمام روايات العامة
المخالفة لفتواهم ، أو تفسيرها بما لا يخالفها ، حيث يظهر من ذلك ونحوه المفروغية
عن كون الحكم الصادر منهم عليهمالسلام مشرعا من عصر النبي صلىاللهعليهوآله.
وقد يشير إليه
ما ورد عن أمير المؤمنين عليهالسلام في توجيه اختلاف الناس
في الدين ، حيث تعرض لاحتمال النسخ من النبي صلىاللهعليهوآله ولم يشر لاحتمال وقوعه بعده ، بنحو يظهر في المفروغية
عن ثبوت أحكامهم من عصر النبي صلىاللهعليهوآله.
كما يشهد به
أيضا نصوص العرض على الكتاب ، والنصوص الواردة في تعارض الأخبار ، لأن فرض التعارض
بينها والترجيح ، من دون إشارة للنسخ والترجيح بما يناسبه من تأخر الزمان ، ظاهر
في المفروغية عن وحدة الحكم في الواقعة التي يرد فيها المتعارضان.
نعم ورد في
بعضها ترجيح الرواية عن الحي ، وترجيح المتأخر من أحاديث الإمام الواحد المختلفة . إلا أن ظاهر بعضها وصريح آخر عدم إحراز الحكم العام
الأولي به الذي هو محل الكلام ، بل الحكم الفعلي وإن كان ثانويا ، على ما يأتي عند
الكلام في المرجحات المنصوصة إن شاء الله تعالى.
وبالجملة : لا
ينبغي التأمل بعد النظر في النصوص الواردة عنهم عليهمالسلام في سوقها لبيان الحكم الثابت في عصر النبي صلىاللهعليهوآله ، وإن وقع خلاف ذلك فهو مبني على نحو من الخروج عن
الظاهر المستند للقرينة العامة المعول عليها ، وهو الذي فهمه الأصحاب ، كما يناسبه
سيرتهم المشار إليها آنفا.
نعم يشكل الأمر
في الأحاديث النبوية ، لعدم جريان القرينة المذكورة فيها. ومجرد كون الخروج عن
الظاهر أكثر وأشهر من النسخ ـ لو تم فيها ـ ليس من القرائن العرفية المحيطة
بالكلام ، بحيث يفيد استمرار مضمونه. ولعله لذا ورد عن الأئمة عليهمالسلام التعريض بالعامة ، حيث أخذوا بها من دون تمييز للناسخ
__________________
والمنسوخ ، وتوجيه اختلافهم فيما بينهم ومخالفة حديثهم عنه صلىاللهعليهوآله لأحاديث الأئمة عليهمالسلام بأن الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن .
نعم لا يجري
ذلك فيما روي عنه صلىاللهعليهوآله من طريق الأئمة عليهمالسلام في مقام بيان الحكم الشرعي ، لأن ظاهر حكايتهم له
استمرار حكمه وعدم نسخه.
ومن هنا يهون
أمر هذا الإشكال ، لندرة الأحاديث النبوية المعتبرة السند المروية من غير طريقهم عليهمالسلام ، أو من طريقهم في غير مقام بيان الحكم الشرعي ، والتي
يحتمل نسخها بنحو يكون له الأثر في مقام العمل. بل لعله لا وجود لها.
الأمر الثالث : لما كان مرجع الجمع العرفي إلى ترجيح الأظهر على
الظاهر فهو مبني على المفروغية عن البناء على صدور الأظهر ، وعن كون صدوره لبيان
المراد الجدي ، بحيث لا يمكن رفع اليد عن أحد الأمرين محافظة على ظهور الظاهر.
والوجه في ذلك
: أن صدور الأظهر هو مقتضى حجية سنده ، فيكون سنده دليلا على القرينة الرافعة
لحجية الظاهر. وأما صدوره لبيان المراد الجدي فهو مقتضى أصالة الجهة التي هي أقوى
ارتكازا من أصالة الظهور ومقدمة عليها. إلا أن تقوم بعض الأمارات العرفية على
خلافها ، فيشكل التعويل عليها حينئذ. وهو خارج عن محل الكلام.
ولعل هذا هو
الوجه في عدم بناء الفقهاء على رفع اليد عن أصالة الجهة في الدليل ـ بحمله على
التقية أو نحوها ـ إلا مع تعذر الجمع العرفي ، حيث
__________________
يجري حينئذ حكم التعارض بالرجوع للمرجحات ، ومنها مخالفة العامة.
الأمر الرابع : لما كان مبنى الجمع العرفي على ترجيح أقوى الظهورين
وتنزيل أضعفهما عليه فتشخيص ذلك يبتني على ملاحظة القرائن العامة والخاصة. أما
القرائن الخاصة فلا ضابط لها ، بل توكل لنظر الفقيه عند الابتلاء بالأدلة. وأما
القرائن العامة فقد تكفلت بعض مباحث الألفاظ ببعضها ، كتقديم الخاص على العام ،
والمقيد على المطلق. كما تعرض غير واحد هنا لبعض آخر لم يذكر هناك ، فالمناسب منا
التعرض لبعض ما ذكروه.
منها : تعارض العموم الوضعي والإطلاقي بنحو العموم من وجه ،
حيث يدور الأمر بين تقييد المطلق وتخصيص العموم. فإنه بناء على ما سبق ـ عند
الكلام في مقدمات الحكمة ـ من أن يكفي فيها عدم البيان المتصل يتعين استقرار ظهور
المطلق في الإطلاق ، وعدم ارتفاعه بالعثور على العام ، بل يكونان ظهورين متعارضين
لا بد من الجمع بينهما.
وقد ذكر غير
واحد أنه يتعين تقديم العام ، ووجهه بعض مشايخنا بأن نسبة العام إلى المطلق نسبة
الأمارة إلى الأصل ، فكما أن الأصل حجة ما لم تقم أمارة على خلافه ، كذلك المطلق
إنما يكون حجة ما لم يرد العام على خلافه ، فإذا ورد العام خرج عن موضوع الحجية
وانفرد بها العام.
لكن تقييد حجية
المطلق بذلك غير ظاهر المنشأ بعد كونه كالعام تام الظهور. غاية الأمر تقييد حجية
الظهور بعدم ورود ظهور أقوى منه يتعين عرفا للقرينية عليه ، وهو مشترك بين العموم
والإطلاق. فلا بد من بيان وجه ترجيح العموم ، ولا إشارة في كلامه لذلك.
وقد أشار شيخنا
الأعظم قدسسره وغيره للاستدلال له ... تارة : بأن التقييد أكثر من التخصيص. وأخرى : بأن دلالة العموم أقوى من دلالة الإطلاق. وثالثة :
بأن
ظهور العموم في السريان لما كان مستندا لوجود ما يدل عليه في الكلام فهو
أقوى من ظهور الإطلاق فيه ، المستند لسكوت المتكلم عن ذكر القيد.
ويندفع الأول :
بأن الغلبة بنفسها ـ لو سلمت في المقام ـ لا توجب أقوائية الظهور ما لم تكن من
الوضوح بحيث تكون عرفا قرينة محيطة بالكلام ، ولم يتضح ذلك في المقام.
وأما الأخيران
فهما وإن كانا قريبين في الجملة إلا أن في بلوغهما حدا ينهض بضرب القاعدة العامة
إشكالا. فلا بد من التأمل في خصوصيات الموارد ، لاستيضاح الأقوى من الظهورين ، كما
ذكره المحقق الخراساني قدسسره.
ومنها : تعارض الإطلاق الشمولي والإطلاق البدلي. حيث يظهر من
شيخنا الأعظم قدسسره وغيره تقديم الشمولي لوجوه لا مجال لإطالة الكلام فيها.
غير أنه ينبغي
التنبيه إلى أمر ، وهو أن مفاد الإطلاق البدلي لما كان هو وفاء الماهية بالغرض
الداعي للأمر بها بنحو يقتضي وفاء كل فرد منها به ، فالإطلاق الشمولي إن تضمن
النهي عن الماهية الأخرى المستلزم للنهي عن المجمع بين الماهيتين ، من دون أن
ينافي وفاء ذلك المجمع بغرض الأمر ، فالمورد خارج عن التعارض ـ الذي هو محل الكلام
ـ وداخل في التزاحم ويتعين حينئذ العمل على الإطلاق الشمولي حفاظا على غرضه ،
واستيفاء غرض الأمر بفرد آخر ، جمعا بين الغرضين. لكن لو جىء بالمجمع واجدا لشرائط
الأمر لوفى بغرضه ، وكان امتثالا له.
أما إذا كان
مفاد الإطلاق الشمولي النهي عن الماهية الأخرى بنحو ينافي وفاء المجمع بغرض الأمر
، فالمورد داخل في التعارض الذي هو محل الكلام ، وتعين التكاذب بين الإطلاقين.
ومجرد كون أحدهما شموليا لا يقتضي ترجيحه ما لم يرجع إلى كونه أقوى ظهورا ، ولم
يظهر من الوجوه المذكورة في كلامهم
ما ينهض بذلك. نعم لا يبعد غلبة أقوائية ظهور الشمولي. فاللازم التأمل في
خصوصيات الموارد.
ومنها : انقلاب النسبة ، الذي كثر النقض والإبرام فيه بينهم.
وموضوعه التعارض بين أكثر من دليلين. ومرجعه إلى أن النسبة بين تلك الأدلة
المتعارضة هل تتم بلحاظ مدلول كل منها في نفسه ، أو بلحاظ المتحصل منه بعد جمعه مع
أحد أطراف المعارضة؟.
مثلا : إذا ورد
عامان متباينان وخاص موافق لأحدهما مخالف للآخر ، مثل : يحرم بيع العذرة ، و : لا
بأس ببيع العذرة ، و : يحرم بيع عذرة الإنسان ، فهل يستحكم التعارض بين العامين ،
لأنهما متباينان ، ويقتصر في العمل بالخاص على مورده ، ففي الفرض السابق يحكم
بحرمة بيع عذرة الإنسان عملا بالخاص ، ويستحكم تعارض العامين في غيرها ، أو يخصص
العام المخالف للخاص به ، فيبقى حجة في غير مورده ، ويكون أخص من العام الموافق
للخاص ، فيخصصه ، ويكون العام الموافق حجة في مورد الخاص. ففي الفرض السابق يخصص
عموم جواز بيع العذرة بدليل حرمة بيع عذرة الإنسان ، فيبقى حجة في غيرها ، فيكون
أخص من عموم المنع ، فيخصصه ، ويحكم بحلية بيع عذرة غير الإنسان؟.
إذا عرفت هذا
فقد سبق في أول الكلام في الجمع العرفي أن تحكيم بعض الأدلة على بعض لا يبتني على
خصوصيات النسب بينها تعبدا ، بل على أقوائية ظهور بعضها من بعض بحيث يكون قرينة
عليه عرفا. ومرجعه إلى تحكيم العرف في فهم المراد من مجموع الأدلة ، وبدونه يتعين
استحكام التعارض بينها.
وحينئذ كما
يكون للعرف النظر للأدلة المتعارضة بمقتضى مدلولها في
نفسه ، الراجع لعدم انقلاب النسبة ، له النظر لها بتحكيم بعضها على بعض في
رتبة سابقة على تحكيمه على غيره ، الراجع لانقلاب النسبة. ولا مجال لتعميم أحد الوجهين
، أو إعطاء الضابط لموارد كل منهما ، بعد اختلاف خصوصيات الأدلة في أنفسها ، وفيما
بينها ، بوجه لا يتيسر استيعابه. بل المناسب إيكال ذلك لنظر الفقيه عند الابتلاء
بالأدلة المختلفة في كل واقعة واقعة. نعم يحسن التعرض لبعض الفروض المذكورة في
كلماتهم هنا.
الأول
: الفرض
المتقدم. والظاهر صلوح الخاص لأن يكون شاهد جمع بين العامين ، ومانعا من استحكام
التعارض بينهما ، بحمل الموافق على مورده والمخالف على غير مورده ، وخصوصا إذا كان
عنوان الخاص مناسبا لحكمه ارتكازا. ولا مجال عرفا لاستحكام التعارض بين العامين ،
وانفراد الخاص بالحجية في مورده.
الثاني
: ما إذا ورد
عام ، وورد خاصان بينهما عموم من وجه ، مثل : أكرم العلماء. و : لا تكرم فساق
العلماء. و : لا تكرم من لا ينتفع بعلمه. حيث يدور الأمر بين تخصيص العام بهما معا
بلحاظ أن كلا منهما في نفسه أخص منه مطلقا الذي هو مناسب لعدم انقلاب النسبة ،
وتخصيص العام بأحدهما أولا ، فتنقلب النسبة بين العام والخاص الآخر إلى العموم من
وجه ، فيجري عليهما حكم العامين من وجه ، ولا يتعين الخاص لتخصيص العام.
لكن الأظهر
الأول ، لأن كلا من الخاصين أقوى ظهورا في مورده من العام فيه ، فيقدم عليه. مع أنه
لا مرجح لأحد الخاصين على الآخر بعد تمامية مقتضى الحجية في كل منهما. ولا وجه
لترجيح مقطوع الصدور أو المضمون بعد مشاركة المظنون له في الحجية ، فإن القطعي
إنما يقدم على الظني عند تعارضهما ، لا في مقام تأثيرهما في الدليل الآخر. وكذا
ترجيح الأسبق زمانا ، لعدم الأثر لسبق صدور الخاص زمانا في استكشاف مراد المتكلم
من العام.
الثالث
: ما إذا وردت
أدلة ثلاثة أحدها أخص من الآخر مطلقا. والظاهر تخصيص الخاص منها لما فوقه إذا
خالفه في الحكم مطلقا ، لأنه أظهر منه ، والعمل بالعام في الباقي.
وقد يدعى
انقلاب النسبة فيما إذا اتفق الأخص والمتوسط في الحكم على خلاف الأعم ، فينحصر
الأعم بالأخص ، وحينئذ تنقلب النسبة بينه وبين المتوسط للعموم من وجه ، فإذا ورد :
أكرم العلماء ، و : لا تكرم العالم الفاسق ، و :
لا تكرم صاحب
السلطان من العلماء ، كان الثالث مخصصا للأول ، وانقلبت النسبة بين الأول والثاني
للعموم من وجه ، وكان مورد الاجتماع هو الفاسق الذي ليس بصاحب السلطان ، حيث يكون
مقتضى الأول إكرامه ، ومقتضى الثاني عدمه. ولا يكون مخصصا للأول ، المستلزم لعدم
إكرام الشخص المذكور.
ويشكل بأن
تخصيص الأخص للأعم لا أثر له عرفا في قرينية المتوسط عليه بنحو لا يشمله ملاك
التخصيص. مع أنه لا وجه لتخصيص الأعم بالأخص في رتبة سابقة على تخصيصه بالمتوسط ،
بل هو مخصص بهما معا في رتبة واحدة ، نظير ما سبق في الفرض الثاني.
هذه بعض الفروض
المذكورة في كلماتهم لانقلاب النسبة. وهناك فروض أخرى لا مجال لإطالة الكلام فيها
، بل يوكل ذلك لنظر الفقيه عند ابتلائه بالأدلة المتنافية. ومنه سبحانه نستمد
العون والتسديد.
الفصل الثالث
في مراتب الأدلة والوظائف الظاهرية
من الظاهر أن
استنباط الحكم والوظيفة العملية من الأدلة التفصيلية والوظائف الظاهرية كما يتوقف
على معرفة تلك الأدلة والوظائف ، يتوقف على معرفة النسب بينها وتعيين مرتبة كل
منها ، كي لا يرجع للمتأخر مع وجود المتقدم. لرجوع ذلك إلى تشخيص دليلية الدليل
ومعرفة مورده. ومن هنا كان البحث عن ذلك من مقدمات الاستنباط المهمة ، كالبحث عن
نفس الأدلة.
ولم تتكفل
المباحث السابقة بالنظر في ذلك ، بل كان البحث فيها مقتصرا على تعيين الأدلة
والوظائف الظاهرية من دون نظر لترتبها فيما بينها. والمناسب بحث ذلك هنا على ضوء
ما تقدم في الفصلين السابقين من البحث في أقسام النسب من الورود والحكومة والجمع
العرفي.
إذا عرفت هذا
فالظاهر لزوم الرجوع للطرق والأمارات في المرتبة الأولى ، ثم للأصول والقواعد
الشرعية الإحرازية ، كالاستصحاب وقاعدة التجاوز والفراغ ، ثم للأصول الشرعية غير
الإحرازية ، تعبدية كانت ـ كأصالة الطهارة ـ أو غيرها ـ كالبراءة والاحتياط
الشرعيين ـ ثم للأصول العقلية العملية.
كما أن الظاهر
تقدم الأصول التعبدية الموضوعية ـ وهي المتضمنة للتعبد بموضوعات الأحكام ـ وإن لم
تكن إحرازية على الأصول الحكمية ـ وهي المتضمنة للتعبد بحكم ذلك الموضوع أو بنفيه
ـ وإن كانت إحرازية. وهو مرادهم بتقدم الأصل السببي على المسببي.
وعلى هذا جرى
الأصحاب رضي الله عنه بطبعهم في مقام الاستدلال بنحو يظهر
منهم المفروغية عنه. بل صرح به بعضهم. وأطال شيخنا الأعظم قدسسره ومن بعده في توضيحه.
نعم قد يظهر من
بعضهم الخروج عنه في بعض الموارد ، حيث يجمع في مقام الاستدلال بين المرتبتين ، أو
يعارض بينهما. لكن الظاهر أن منشأه الغفلة عن الحال ، أو محض الاستظهار بتكثير
الأدلة ، وإلا فمن البعيد جدا خلافهم في ذلك.
هذا ولا ينبغي
التأمل في تأخر الأصول العقلية عن جميع الأدلة والأمارات والقواعد والأصول الشرعية
، لورودها عليها ، حيث لا يحكم العقل بالوظيفة الظاهرية إلا عند التحير ، وعدم
تصدي الشارع لبيانها ، وإلا استغنى ببيانه ، وارتفع موضوع حكمه.
وعلى هذا لا
يبقى في المقام إلا الكلام في وجه تقديم الطرق والأمارات على الأصول ، وفي وجه
تقديم القواعد والأصول الإحرازية على الأصول غير الإحرازية ، وفي وجه تقديم الأصل
السببي على المسببي ، فيقع البحث في مقامات ثلاثة.
المقام الأول : في تقدم الطرق والأمارات على الأصول الشرعية
من الظاهر أن
إطلاق أدلة الأصول شامل لصورة قيام الطرق والأمارات بعد فرض عدم إفادتها العلم
بالحكم الواقعي ، فهي بنفسها ـ مع قطع النظر عن دليل حجيتها ـ لا ترفع موضوع
الأصول.
وحينئذ ربما
يدعى ورود أدلة حجية الطرق والأمارات على أدلة الأصول ورفعها لموضوعها ، إما لأن
المراد من الشك والجهل في موضوع أدلة الأصول هو عدم الحجة على الواقع ، أو لأن
المراد به ما يقابل العلم ولو بالوظيفة الظاهرية. فيرتفع الموضوع المذكور حقيقة
بقيام الطرق والأمارات بعد فرض
حجيتها ، حيث يتم به قيام الحجة على الواقع ، والعلم بالوظيفة الظاهرية.
لكنه يندفع بأن
ظاهر الجهل والشك في أدلة الأصول هو ما يقابل العلم بالواقع لا غير ، وهو لا يرتفع
حقيقة بقيام الطرق والأمارات وإن كانت حجة. ويأتي تتمة الكلام في ذلك عند التعرض
للوجه المختار في المقام.
هذا وقد ادعى
شيخنا الأعظم قدسسره حكومة الطرق والأمارات على الأصول ، بتقريب : أن مقتضى
أدلة حجيتها إلغاء احتمال الخلاف وجعله بمنزلة العدم ، فهي وإن كانت لا ترفع موضوع
الأصول ـ وهو الشك ـ حقيقة ، إلا أنها ترفعه تنزيلا ، وتجعله بمنزلة العدم. نظير
الأدلة المتضمنة أنه لا حكم للشك في النافلة ، أو مع حفظ الإمام ، بالإضافة إلى
أدلة أحكام الشكوك.
هذا وقد سبق
عند الكلام في تحديد الحكومة أن الحكومة في مثل ذلك عرفية ، وهي نحو من الجمع
العرفي مع تنافي الدليلين بدوا ، وليست بيانية ، يكون الدليل الحاكم فيها متقدما
رتبة على الدليل المحكوم من دون تناف بينهما.
على أن تقريب
الحكومة بالوجه المذكور في المقام لا يخلو عن إشكال ، بل منع ، حيث لم تتضمن أدلة
حجية الطرق والأمارات تنزيلها منزلة العلم صريحا ، ولا إلغاء الشك ونفي الجهل معها
، ليلزم حمله على الإلغاء والنفي تنزيلا بعد تعذر حمله على الحقيقة ، نظير قوله عليهالسلام : «ولا سهو في نافلة» . بل مجرد لزوم متابعتها والعمل عليها ، من دون دلالة
على كون ذلك متفرعا على لزوم متابعة العلم وفي طوله ، وبعناية تنزيلها منزلته.
كيف؟! وقد سيقت
في بعض الأدلة في مقابل العلم بنحو لا يناسب التنزيل المذكور ، ففي موثق مسعدة بن
صدقة أو صحيحه : «والأشياء كلها على
__________________
هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة» .
وأشكل من ذلك
ما ذكره بعض الأعاظم قدسسره من أن مفاد أدلة حجية الطرق والأمارات جعلها علما تعبدا
من حيثية كشفه عن المعلوم ، فهي متممة لكشفه بإلغاء احتمال الخلاف شرعا.
إذ فيه أولا : ما سبق من أن أدلة الطرق والأمارات إنما تضمنت مجرد
لزوم متابعتها من دون عناية كون ذلك في طول متابعة العلم لتنزيلها منزلته.
وثانيا : أن التعبد والاعتبار الشرعي إنما يتناول الأمور
الجعلية التي ليس لها ما بإزاء في الخارج ، دون الحقائق المتأصلة ، كالعلم
والانكشاف والاحتمال ونحوها من الأمور الحقيقية ، فكما لا يمكن سلخ الانكشاف عن
العلم تشريعا ، لا يمكن جعله لغيره كذلك ، وكما لا يمكن جعل الاحتمال شرعا مع
العلم لا يمكن إلغاؤه بدونه. غاية الأمر أنه يمكن جعل أحكامه أو نفيها. على أن ذلك
لو تم كان وجها لورود الطرق والأمارات على الأصول ، لا لحكومتها عليها.
ومن هنا كان
الظاهر أن تقديم الطرق والأمارات على الأصول هو مقتضى الجمع العرفي بين أدلتها ،
بضميمة المناسبات الارتكازية ، فإنه وإن كان بين إطلاق كل منها عموم من وجه ، إلا
أن المتعين تنزيل أدلة الأصول على ما لا ينافي أدلة الطرق والأمارات ، بحملها على
ثبوت مقتضاها من حيثية موضوعها ، وهو الشك ، وإن لم يكن فعليا لطروء أمر زائد على
ذلك مقتض لخلافه ، وهو قيام الطرق والأمارات ، كما هو الحال في سائر موارد الجمع
بين أدلة الأحكام الأولية والأحكام الثانوية ، فالمورد من حيثية الشك مجرى للأصل ،
ومن حيثية قيام الطريق والأمارة الذي هو أمر زائد على الشك يتعين العمل فيه على
مقتضاهما.
__________________
بل الأمر في
الاستصحاب أظهر ، لأن دليله لم يتضمن العمل بالحالة السابقة مع الشك تعبدا ، بل من
أجل عدم نقض اليقين بالشك. فلا ينافي رفع اليد عنها بالطريق المعتبر. وبعبارة أخرى
: ليس مفاد أدلته عدم نقض اليقين مع الشك ، بل عدم نقضه بالشك ، ومن الظاهر أن عدم
نقض اليقين بالشك لا ينافي نقضه بقيام الطريق المعتبر.
إن
قلت : هذا لا
يناسب غير واحد من أدلة الأصول من إناطتها بعدم العلم ، والاقتصار في رفع مفادها
عليه ، كما هو مقتضى الغاية في قولهم عليهمالسلام :
«حتى تعرف
الحرام منه ...» و : «حتى تعلم أنه حرام بعينه ...» و : «حتى تعلم أنه قذر ...» و
: «حتى يستيقن أنه قد نام ، حتى يجىء من ذلك أمر بيّن» والحصر في قوله عليهالسلام : «ولا تنقض اليقين أبدا بالشك ، وإنما تنقضه بيقين آخر».
قلت : المتعين تنزيل ذلك ـ ولو بمقتضى الجمع المذكور ـ على
أن ذكر العلم ليس بما هو صفة خاصة ، بل بما هو طريق كاشف عن الواقع ودليل عليه ،
فيقوم مقامه سائر الطرق والأمارات المعتبرة ، كما سبق عند الكلام في قيام الطرق
والأمارات مقام القطع الموضوعي ، وتقدم نظيره عند الكلام في استصحاب مؤدى الطرق
والأمارات في أوائل الكلام في أركان الاستصحاب. ويناسبه ما في حديث مسعدة بن صدقة
من الاقتصار في صدره على العلم ، ثم قوله عليهالسلام في ذيله المتقدم : «والأشياء كلها على هذا حتى يستبين
لك غير هذا أو تقوم به البينة». ومرجع ذلك إلى كون الرافع لموضوع الأصول هو ثبوت
الواقع ولو بغير العلم.
لكن ذلك راجع
في الحقيقة إلى كون أدلة اعتبار الطرق والأمارات واردة على أدلة الأصول ، وأن قيام
الطرق رافعا لموضوعها حقيقة. غاية الأمر أنه ليس لكون المراد بالشك وعدم العلم عدم
قيام الحجة ، أو عدم العلم بما يعم الوظيفة
الظاهرية ـ كما أشرنا إليه آنفا ـ بل لإلغاء خصوصية العلم الرافع لمقتضى
الأصل ـ عرفا ، والتعدي منه لكل طريق.
بقي شيء
وهو أن هذا
الوجه إنما يقتضي ارتفاع موضوع الأصل بالطريق والأمارة المخالفين له ، دون
الموافقين له ، لأن ما تضمن كون العلم غاية للعمل على طبق الأصل ورافعيته له لا
يراد به إلا العلم بما يخالف مقتضى الأصل ، دون العلم بما يوافقه.
غاية الأمر أنه
يمتنع التعبد الظاهري مع العلم بالواقع عقلا. وهو مختص بالعلم الوجداني ، ولا يعم
ما يقوم مقامه من الطرق والأمارات المعتبرة ، فإن حجية الطرق والأمارات لا تنافي
التعبد الظاهري بالأصل المطابق لها.
كما أن العنوان
الثانوي الاقتضائي إنما يمنع من تأثير العنوان الأولي غير الاقتضائي مع تنافيهما
عملا ، لا مع اتفاقهما. وقد تقدم في الاستدلال بحديث مسعدة بن صدقة على البراءة ما
ينفع في المقام.
نعم الاستناد
في البناء على الشيء إلى مقتضي إثباته ـ وهو الطريق أو الأمارة ـ أولى ارتكازا من
الاستناد فيه إلى مجرد عدم المقتضي لخلافه ، كما هو مفاد الأصل. فالاستناد للطرق
والأمارات مقدم طبعا على الاستناد للأصل الموافق لها ، وإن لم تكن رافعة لموضوعه.
المقام الثاني
في تقديم الأصول الإحرازية على الأصول غير الإحرازية
والمراد
بالأصول غير الإحرازية ما يكون التعبد فيه بمفاد الأصل لمجرد الشك ، كما في أصالتي
الحل والطهارة ، وبالأصول الإحرازية ما يكون التعبد فيه بمفاد الأصل في مورد الشك
بضميمة المحرز له ، من دون أن يكون طريقا
وكاشفا عن الواقع ، كما هو الحال في الاستصحاب ، لأن الحكم في دليله بعدم
نقض اليقين راجع إلى أن البناء على مقتضى الحالة السابقة من أجل اليقين السابق ،
لا لمجرد الشك.
وحيث لا يجري
في الشبهات الحكمية من الأصول الإحرازية غير الاستصحاب ، فيقع الكلام هنا فيه ،
ومنه قد يتضح الكلام في غيره.
وقد حاول
المحقق الخراساني قدسسره تقريب وروده على بقية الأصول ، لدعوى كونه رافعا
لموضوعها ، لأن المشكوك معه يكون معلوم الحكم ، ولو بلحاظ الوظيفة الظاهرية ،
فيرتفع معه موضوع الأصول الأخر ، وهو المشكوك من جميع الجهات.
وفيه : أن ظاهر
أدلة الأصول الشرعية كون موضوعها الشك في الواقع ، لا في ما يعم الوظيفة الظاهرية
، من دون فرق بين الاستصحاب وغيره ، فكما لا تنهض بقية الأصول برفع موضوع
الاستصحاب لا ينهض الاستصحاب برفع موضوعها ، ولا منشأ للفرق بينه وبينها في ذلك.
نعم يتجه ذلك في الأصول العقلية ، لما ذكرناه آنفا من أن موضوعها عدم البيان مطلقا
ولو للوظيفة الظاهرية.
كما حاول شيخنا
الأعظم قدسسره تقريب حكومة الاستصحاب على بقية الأصول : بأن دليل
الاستصحاب بمنزلة معمم للنهي السابق بالنسبة إلى الزمان اللاحق ، فيكون حاكما على
دليل الأصل الذي أخذ فيه الشك في الحكم.
لكنه يندفع بأن
دليل الاستصحاب وإن تضمن الحكم ببقاء المتيقن سابقا ، إلا أنه لا يتضمن استمراره
واقعا ، ليكون متمما لدلالة الدليل الدال على الحدوث ، ويكون مقدما على بقية
الأصول بملاك تقديم الطرق عليها ، بل إنما يتضمن الحكم ببقاء المتيقن بلسان التعبد
الظاهري ، الراجع للزوم البناء على العمل على البقاء ، فينافي مفاد الأصول
المتضمنة للحكم بالحل أو الطهارة أو
السعة أو غير ذلك مما ينافي العمل على مقتضى البقاء. وليس التعبد المذكور
بلسان تنزيل المشكوك منزلة المتيقن ليتوهم تحقق ملاك الحكومة العرفية على أدلة
الأصول التي موضوعها الشك.
ومثله ما ذكره
بعض الأعيان المحققين قدسسره من أن مفاد دليل الاستصحاب الحكم ببقاء اليقين ـ الذي
هو رافع لموضوع بقية الأصول ـ ادعاء وتنزيلا ، فيكون حاكما على أدلة الأصول ، كما
في سائر موارد التنزيل.
لاندفاعه بأن
دليل الاستصحاب لا يتضمن الحكم ببقاء اليقين تنزيلا وادعاء ، بل الحكم بلزوم الجري
على مقتضى اليقين السابق وعدم نقضه ، لادعاء أن عدم ترتيب آثار المتيقن حين الشك
نقض لليقين السابق عملا ، فالادعاء والتوسع إنما هو في مقتضى اليقين السابق عملا.
لا في بقاء اليقين ، ليرتفع معه موضوع الأصول ادعاء وتنزيلا ، وتتم حكومة
الاستصحاب عليها عرفا.
ومن هنا كان
الظاهر أن تقديم الاستصحاب على بقية الأصول هو مقتضى الجمع العرفي بين أدلته
وأدلتها ، على نحو ما تقدم من الجمع بين أدلة الطرق والأمارات وأدلة الأصول ، بحمل
أدلة بقية الأصول على ثبوت مقتضاها من حيثية مجرد الشك ، لا مطلقا ومن جميع الجهات
، فلا ينافي رفع اليد عنه والبناء على مقتضى الاستصحاب بلحاظ أمر زائد عليه ، وهو
اليقين السابق ، نظير رفع اليد عن حكم العنوان الأولي بالعنوان الثانوي الزائد
عليه.
نعم مقتضى جعل
غاية الحكم في الأصول غير الإحرازية هو العلم بالواقع عدم رفع اليد عنها باليقين
السابق بعد الشك في بقاء المتيقن ، لعدم تحقق العلم بالواقع معه.
لكن يسهل الجمع
عرفا بإلغاء خصوصية العلم ، وجعل الغاية كل محرز
للواقع ، بنحو يشمل اليقين السابق بعد اقتضاء أدلة الاستصحاب نهوضه
بالإحراز وهو راجع في الحقيقة لورود الاستصحاب على الأصول غير الإحرازية ، نظير ما
تقدم في وجه تقديم الطرق والأمارات على الأصول.
كما يظهر مما
سبق هناك أن الاستصحاب إنما يمنع من جريان الأصول غير الإحرازية إذا كانت مخالفة
له عملا ، دون ما إذا كانت موافقة له. فلاحظ.
وبعبارة أخرى :
مقتضى الجمع العرفي بين أدلة الطرق والأمارات والاستصحاب وبقية الأصول ـ بضميمة
المناسبات الارتكازية ـ ابتناء أصل الطهارة والحل وغيرهما من الأصول غير الإحرازية
على مقتضى الأصل الأولي ، لعدم صلوح الشك للخروج عنه ، وأن البناء على مقتضى
الاستصحاب في مورد الأصول المذكورة إنما هو لصلوح اليقين السابق للعمل على مقتضاه
حال الشك ، بعد عدم صلوح الشك لنقضه ، وأن العمل على مقتضى الطرق والأمارات في
مورد الاستصحاب لصلوحها لنقض اليقين السابق ، وإن لم يصلح الشك لنقضه.
ومما ذكرنا
يظهر الحال في بقية الأصول الإحرازية الجارية في الشبهات الموضوعية التي يبتني التعبد
فيها على أمر زائد على الشك محرز للأمر المتعبد به ، كمضي المحل في قاعدة الفراغ
والتجاوز ، والفراش في قاعدة : الولد للفراش وغيرهما. حيث يتعين تقديمها على
الأصول المذكورة بالملاك المتقدم. بل هي مقدمة حتى على الاستصحاب ، كما تقدم
الكلام في بعضها في خاتمة الاستصحاب.
المقام الثالث : في تقديم الأصل السببي على المسببي
والمراد بالأصل
السببي هو الأصل الذي يتضمن التعبد بموضوع الأثر ، فيستتبع التعبد بالأثر ، لما
سبق عند الكلام في الأصل المثبت من أن التعبد
بالموضوع مستلزم عرفا للتعبد بأثره الشرعي. أما المسببي فهو الأصل المتضمن
لبيان الوظيفة بالإضافة إلى الأثر نفسه من حيثية كونه بنفسه موردا للشك.
ولا يعتبر في
السببي أن يكون إحرازيا ، بل يقدم وإن لم يكن إحرازيا على المسببي وإن كان إحرازيا
، كأصالة الطهارة في الماء التي يرفع بها اليد عن استصحاب نجاسة الثوب المغسول به
، كما يرفع بها اليد عن أصالة البراءة من وجوب تطهير المسجد به لو انحصر الماء به.
نعم مفروض كلام
شيخنا الأعظم والمحقق الخراساني قدسسرهما في السببي والمسببي معا الاستصحاب ، ونظرهما في
استدلالهما لدليله. لكن الظاهر أن منشأه تحريرهما للمسألة في الاستصحاب ، لا
لخصوصيته في التقديم. ومن ثم صرح غير واحد ممن تأخر عنهما بالتعميم.
إذا عرفت هذا
فقد يوجه تقديم السببي بأنه وارد على المسببي رافع لموضوعه ، نظير ما تقدم في
توجيه ورود الطرق على الأصول ، لدعوى : أن موضوع المسببي ليس محض الشك الوجداني في
الواقع الباقي مع جريان السببي ، بل عدم العلم بما يعم الوظيفة الظاهرية ، ومع
جريان السببي تعلم الوظيفة الظاهرية ، ويرتفع موضوع المسببي ، لما تقدم من أن
التعبد بالموضوع يقتضي التعبد بحكمه عرفا.
أما المسببي
فلا ينهض برفع موضوع السببي إلا بناء على الأصل المثبت ، لأن التعبد بالحكم وجودا
أو عدما لا يقتضي التعبد بموضوعه كذلك ، وإن كان ملازما له خارجا.
ويظهر اندفاعه
مما تقدم هناك من أن حمل الشك في أدلة الأصول على عدم العلم بما يعم الوظيفة
الظاهرية مخالف للظاهر ، وخال عن الشاهد.
وربما يدعى
حكومة الأصل السببي على المسببي بتقريب : أن السببي رافع لموضوع المسببي ـ وهو
الشك ـ تنزيلا ، أو في عالم التشريع والاعتبار ، لأن التعبد بمؤدى السببي يقتضي
إلغاء الشك في مورد المسببي تنزيلا أو تعبدا ، نظير ما تقدم من شيخنا الأعظم وبعض
الأعاظم قدسسرهم في توجيه حكومة الطرق على الأصول.
ويظهر اندفاعه
مما سبق هناك أيضا من أن التعبد بمفاد الأصل إنما يقتضي العمل على أحد طرفي الشك
من دون إلغاء الشك لا تنزيلا ولا تشريعا. بل لا مجال لإلغاء الشك تشريعا مع كون
الشك من الأمور الحقيقية التي لا تنالها يد التشريع والاعتبار ، مضافا إلى أنه لو
تم فهو يقتضي الورود لا الحكومة. فراجع.
ومثله ما يظهر
من بعض الأعيان المحققين قدسسره من أن الأصل السببي وإن لم يكن رافعا لموضوع المسببي ـ وهو
الشك ـ لا حقيقة ولا تنزيلا ولا تعبدا ، إلا أنه حاكم عليه بملاك النظر ، الذي هو
المعيار في الحكومة مطلقا ، لأن التعبد بالموضوع ـ بمقتضى الأصل السببي ـ ناظر
لإثبات آثاره التي هي مؤدى الأصل المسببي.
إذ هو ـ كما
ترى ـ إنما يقتضي حكومة الأصل السببي على أدلة تلك الآثار الواقعية ، أو الورود
عليها ورودا ظاهريا ـ على ما سبق التعرض له عند الكلام في تحديد الورود ـ لا على
أدلة التعبد ظاهرا بالآثار ، الذي هو مفاد الأصل المسببي.
وتوضيح ذلك :
أنه إذا غسل الثوب النجس بماء مشكوك الطهارة ، فدليل أصالة الطهارة في الماء ـ الذي
هو الأصل السببي ـ ناظر إلى الآثار الشرعية لطهارة الماء ، ومنها مطهريته للثوب
المغسول به ، فيكون حاكما أو واردا
ظاهريا على دليل مطهرية الماء الطاهر لما يغسل به ، ولذا يكون محرزا لطهارة
الثوب. ولا يكون ناظرا إلى استصحاب نجاسة الثوب المغسول ـ الذي هو الأصل المسببي ـ
المفروض تحقق موضوعه ، وهو الشك في حصول الطهارة له ، ليكون حاكما عليه. بل هو
مناف له عملا ، فلا بد من توجيه تقديمه عليه بغير ما سبق.
ولعل الأولى في
وجه تقديم السببي على المسببي الرجوع إلى ما سبق في وجه تقديم الطرق والأمارات على
الأصول. فإن المسببي إنما يقتضي تعيين الوظيفة العملية من حيثية موضوعه وهو الشك
في الأثر ، والسببي إنما يقتضي تعيينها بلحاظ أمر زائد على الشك المذكور ، وهو
التعبد بموضوع ذلك الأثر ، فيقدم عليه بملاك تقديم الحكم الثابت بالعنوان الثانوي
على الحكم الثابت بالعنوان الأولي. فإذا لاقى الثوب المشكوك الطهارة اليد
المستصحبة النجاسة برطوبة ، فهو من حيثية الشك في طهارته وإن كان محكوما ظاهرا
بالطهارة ، إلا أنه يتعين رفع اليد عن ذلك لأمر زائد على الشك المذكور ، وهو إحراز
سبب تنجيسه باستصحاب نجاسة اليد.
وأولى من ذلك
ما إذا كان الأصل المسببي استصحابا. لما أشرنا إليه هناك من أن عدم نقض اليقين
السابق بالشك في الأمر المستصحب لا ينافي نقضه بأمر آخر ، كالطرق. حيث يجري نظيره
في المقام ، فإن نقض اليقين في مورد الأصل المسببي ليس بمحض الشك في ارتفاع الأمر
المتيقن ، بل بالأصل السببي الذي به يحرز تحقق السبب الرافع له ، فإذا غسل الثوب
النجس بماء مستصحب الطهارة فرفع اليد عن اليقين بنجاسة الثوب ليس بمحض الشك ، بل
باستصحاب طهارة الماء المغسول به ، الذي به يحرز تحقق الرافع للنجاسة. وبملاحظة ما
تقدم هناك يتضح الحال هنا ، لأنهما من باب واحد.
الباب الثاني
في الأدلة المتعارضة
والمراد بها كل
تعبدين متنافيين في مقام العمل. من دون فرق بين الأدلة الاجتهادية والأصول العملية
، كما تقدم ، ولا يختصّ بالأولى ، فضلا عن أن يختصّ بالأخبار ، وإن اختصت بها بعض
الأحكام ، تبعا لاختصاص أدلتها بها.
وحيث كان مرجع
الكلام في المتعارضين إلى الكلام في حجيتهما بعد فرض التعارض فهو يقع أولا : في
مقتضى الأصل في المتعارضين بلحاظ أدلة الحجية الأولية ، وأنه التساقط ، أو التخيير
، أو الترجيح.
وثانيا : في مقتضى الأدلة الخاصة الواردة في حكم التعارض ، وفي
تحقيق مفادها.
فالكلام في
مقامين :
المقام الأول
في مقتضى الأصل في المتعارضين
والظاهر أن
الأصل في المتعارضين التساقط ، لا التخيير ولا الترجيح.
ووجهه ظاهر
فيما إذا كان دليل حجيتهما لبيا ، أو لفظيا لا إطلاق له يشمل صورة التعارض ، حيث
يكون المرجع فيها أصالة عدم الحجية في كل منهما ، من دون أن يكون هناك منشأ لتوهم
الخروج عنه.
وأما إذا كان
دليل الحجية لفظيا له عموم أو إطلاق يشمل صورة
التعارض ، فلامتناع حجية كلا المتعارضين ، لاستلزامه التعبد الظاهري
بالضدين أو النقيضين ـ ولو بلحاظ لازم المؤدى إذا كان الدليل حجة فيه ـ وهو ممتنع
بملاك امتناع جعل الضدين أو النقيضين واقعا. لتقوم الأحكام التكليفية بنحو
اقتضائها للعمل ، وتضادها وتناقضها إنما يكونان بلحاظ اختلافها في ذلك. ومن الظاهر
أن اقتضاء التعبد الظاهري بالحكم للعمل مماثل لاقتضاء نفس الحكم له ، وإن كان في
طوله بلحاظ طريقيته له ، فيستحيل حجية كلا المتعارضين.
وكذا الحال لو
كان التعارض بينهما لأمر خارجي ، كتعارض الأصول الترخيصية الجارية في أطراف العلم
الإجمالي بالتكليف بلحاظ لزوم المخالفة القطعية للتكليف المفروض.
كما لا مجال
لاختصاص الحجية بأحدهما ، لعدم المرجح له بالإضافة لعموم دليلها بعد فرض اشتراكهما
في الدخول تحته ، لتحقق عنوانه في كل منهما ، وفي الجهة المانعة من فعلية حكمه
فيهما معا ، وهو التعبد بالضدين أو النقيضين ، أو المحذور الخارجي. فيتعين سقوطهما
معا عن الحجية ، الراجع لخروجهما بسبب التعارض عن عموم دليل الحجية.
إن
قلت : ما سبق إنما
يمنع من حجية كل منهما والتعبد بمضمونه تعيينا في فرض التعارض ، دون حجيتها أو
التعبد بكل منهما تخييرا ، فيتعين البناء على ذلك ، عملا بعموم دليل الحجية ،
والتعبد بالقدر الممكن.
قلت : ليس مفاد الحجية تخييرا هو حجية أحدهما لا بعينه ،
ليكون أولى من سقوطهما معا عن الحجية ، بلحاظ كونه أقل تخصيصا. إذ لا معنى لحجية
أحدهما لا بعينه بعد مطابقة عمل المكلف لأحدهما المعين. بل لا بد من رجوع الحجية
التخييرية إلى حجية كل منهما على نحو خاص.
وذلك إما
بتقييد حجية كل منهما تعيينا بما إذا اختاره المكلف ، وإما بأن يكون كل منهما حجة
للمكلف في مقام التعذير ، يصح له الاعتماد عليه في الخروج عن مسئولية الواقع ،
ومجموعهما حجة عليه في مقام التنجيز ، بحيث ليس له الخروج عنهما معا. ولعل الأظهر
الثاني ، لاحتياج توقف الحجية على الاختيار على عناية يصعب تنزيل أدلة الحجية
التخييرية ـ لو تمت ـ عليها.
وكيف كان فدليل
الحجية حيث كان ظاهرا في الحجية التعيينية ، كان حمله على الحجية التخييرية ـ بأحد
الوجهين ـ في المتعارضين موقوفا على كون امتناع حجيتهما تعيينا قرينة عرفية على
تنزيل عمومه على الحجية التخييرية فيهما ، وهو غير ظاهر.
بل الأقرب عرفا
تنزيله على خروجهما معا عن الحجية الفعلية ، مع ثبوت الحجية الاقتضائية لكل منهما.
ومرجعه إلى حجية كل منهما لو لا المانع. لأن ذلك هو الأنسب بالقياس للحجج العرفية.
ومجرد كون
الحجية التخييرية أقل تخصيصا منه ، لابتنائها على إعمال دليل الحجية في المتعارضين
في الجملة ، لا يكفي في الحمل عليها بعد أن لم يكن التنزيل عليها عرفيا.
إن
قلت : لما كان
العمل بالحجة واجبا ، فمع تعذر العمل بكلتا الحجتين يتعين العمل بأحدهما تخييرا ،
كما هو الحال في سائر موارد تعذر الجمع بين الواجبين ، بل سائر موارد التزاحم بين
التكليفين.
قلت
: وجوب العمل
بالحجة ليس شرعيا ، بل هو عقلي طريقي تابع لمنجزيتها ، متفرع على حجيتها ، ولا
مجال لثبوته في المتعارضين بعد ما سبق من امتناع حجيتهما معا ، وعدم الدليل على
حجية أحدهما ، بل المستفاد من الأدلة ثبوت مقتضي الحجية فيهما من دون أن يكونا حجة
بالفعل.
هذا بناء على
التحقيق من الطريقية المحضة. أما بناء على السببية بأنحائها ـ من التصويب المنسوب
للأشاعرة ، والتصويب المنسوب للمعتزلة ، والمصلحة السلوكية الراجعة إلى أن في
متابعة الطريق مصلحة يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع في فرض الخطأ ـ فقيام
الطريق يستلزم حدوث ملاك يقتضي شرعا العمل على طبقه ، ومن ثم قد يدعى أنه مع تنافي
الملاكين عملا يتعين التخيير.
لكنه يندفع بأن
حدوث الملاك المقتضي للعمل على طبق الطريق متفرع على حجية الطريق ، فمع امتناع
حجية المتعارضين ـ لما سبق ـ يتعين فقد كل منهما للملاك المقتضي للعمل على طبقه ،
ومعه لا موضوع للتخيير.
ثم إنه قد أشار
المحقق الخراساني قدسسره لتقريب أصالة التساقط في المتعارضين بأنه حيث يمتنع
حجية معلوم الكذب من الطرق ، وكان تعارض الطريقين مستلزما للعلم بكذب أحدهما
إجمالا ، لزم العلم بقصور عموم الحجية عن أحدهما دون الآخر ، وحيث كان معلوم الكذب
مرددا بينهما ، كان المورد من موارد اشتباه الحجة باللاحجة ، الموجب لسقوط كل
منهما عن الحجية في خصوص مؤداه. نعم يجب ترتيب الأثر المشترك لحجية كل منهما ،
لفرض حجية أحدهما.
ويشكل ـ مضافا
إلى أن لازمه امتناع التخيير بين المتعارضين ، مع أنه لا إشكال في إمكانه ، بل لعل
المشهور البناء عليه ، وأصرّ هو قدسسره على ذلك ـ بأن المتصف بالكذب وإن كان هو أحدهما بخصوصه
على إجماله ، إلا أن معلوم الكذب هو أحدهما ، على ما هو عليه من الإبهام والترديد
، من دون أن ينطبق على أحدهما بخصوصه ، ومن المعلوم أن عموم الحجية إنما يقتضي
حجية كل فرد بواقعه وخصوصيته من دون إبهام ولا ترديد ، فلا ينطبق معلوم الكذب على
شيء من أفراد العام ، ليمتنع شمول العموم له.
نعم الكاذب
الواقعي ينطبق على بعض أفراد العام. إلا أن الكذب الواقعي من دون تعيين لموضوعه
غير مانع من الحجية ، ليكون المورد من موارد اشتباه الحجة باللاحجة.
بقي في المقام أمور ..
الأمر الأول : أنه لا فرق في أصالة التساقط في المتعارضين بين
التساوي في مقدار التخصيص اللازم من سقوط كل منهما عن الحجية والتفاضل فيه ،
لزيادة أحد طرفي التعارض كمية أو دليلا ، فكما يكون الأصل التساقط عند معارضة
صحيحة لأخرى ، يكون الأصل ذلك عند معارضة صحيحة لصحيحتين ، وكذا عند معارضة صحيحة
لموثقة وإن كانت الصحيحة مشاركة للموثقة في أدلة حجيتها ، وتزيد عليها بدليل حجية
خبر العادل أو المؤمن.
وأما ما اشتهر
من لزوم الاقتصار على التخصيص الأقل عند الدوران بينه وبين الأكثر ، فإنما هو مع
العلم بمورد التخصيص الأقل والشك في الزائد ، لا مع الدوران بين تخصيصين أحدهما
أكثر من الآخر من دون متيقن في البين ، كما في المقام ، لأن أصالة العموم وعدم
التخصيص إنما تنهض بنفي التخصيص في مورد الشك فيه ، لا بتعيين مورده مع تردده بين
أفراد العام.
الأمر الثاني : لا فرق في أصالة التساقط بين القطع ببعض الجهات ـ من
الصدور والدلالة والجهة ـ في أحد الدليلين ، أو في كليهما ، وعدمه. غايته أن
التعارض في الأول يكون بين الجهة غير المقطوعة من أحد الدليلين مع الدليل الآخر.
أما الجهة المقطوعة فهي لا تكون طرفا للمعارضة. ولذا يمتنع التعارض بين الدليلين
المقطوعين من جميع الجهات.
ومن هنا يشكل
ما يظهر من شيخنا الأعظم قدسسره من عدم التساقط في
مقطوعي الصدور مظنوني الدلالة ، بل يجب الأخذ بهما معا مع تأويلهما وصرفهما
عن ظاهرهما ، بل ظاهره الاتفاق على ذلك.
إذ فيه : أن
صرفهما عن ظاهرهما إن كان بنحو الجمع العرفي خرج عن محل الكلام من فرض استحكام
التعارض. وإن كان بنحو التأويل والجمع التبرعي ، فلا دليل على التعويل عليه في
مقام العمل ، كما سبق عند الكلام في قاعدة : الجمع مهما أمكن أولى من الطرح.
والمتيقن من الاتفاق المدعى هو عدم الحكم بكذب أحدهما وردّه بعد فرض القطع بصدوره
، لا العمل بهما بعد التأويل ، بل يتعين تساقطهما.
الأمر الثالث : بعد البناء على أصالة التساقط في المتعارضين ، فهل
يقتصر فيها على خصوص ما ينفرد به كل منهما ، أو تعم ما يشتركان فيه ، وهو نفي
الوجه الثالث لو فرض احتماله ، لاحتمال كذبهما معا ، وعدم العلم بصدق أحدهما
إجمالا؟
لا ينبغي
التأمل في حجيتهما في نفي الثالث بناء على ما سبق من المحقق الخراساني قدسسره من ابتناء أصالة التساقط على كون المورد من موارد
اشتباه الحجة باللاحجة ، لأن تردد ما هو الحجة منهما لا يوجب سقوطه عن الحجية فيما
لا يتكاذبان فيه.
أما بناء على
ما سبق في وجه التساقط فقد اختلفت كلماتهم في ذلك.
ويظهر من كثير
منها ابتناء الكلام في ذلك على الكلام في أن سقوط الكلام عن الحجية في المدلول
المطابقي هل يقتضي سقوطه عن الحجية في لازم مدلوله أو لا؟
فيحسن الكلام
في ذلك مقدمة لما نحن فيه من الكلام في حجية المتعارضين في نفي الثالث.
فاعلم أنه قد
أصرّ غير واحد على الثاني ، وأن سقوط الكلام عن الحجية في المدلول المطابقي لا
يستلزم سقوطه عنها في لازم مدلوله ، لدعوى : لزوم الاقتصار في الخروج عن عموم
الحجية على المورد الذي يقتضيه دليل التخصيص ، وهو خصوص المدلول المطابقي ـ الذي
هو مورد المعارضة في المقام ـ دون الالتزامي.
وقد يستشكل في
ذلك بأن دلالة الدليل على المدلول الالتزامي لما كانت متفرعة على دلالته على
المدلول المطابقي ، لتبعيته له ، فقصور الدليل عن إثبات المدلول المطابقي مستلزم
لقصوره عن إثبات المدلول الالتزامي.
والذي ينبغي أن
يقال : لما كانت حجية الكلام في لازم المدلول مقتضى بناء العقلاء ومرتكزاتهم ـ كما
ذكرناه في آخر الكلام في حجية الأصل المثبت ـ فاللازم الرجوع للمرتكزات المذكورة
في تحديد الحجية وسعتها في المقام ، وأنها هل تشمل صورة سقوط الكلام عن الحجية في
المدلول المطابقي أو تقصر عنها؟. والظاهر أنه يختلف باختلاف منشأ عدم الحجية في
المدلول المطابقي.
فإن كان ناشئا
من قصور في طريقية الطريق ، كان مستتبعا لعدم حجيته في اللازم ، لتفرع طريقيته
عليه ارتكازا على طريقيته على الملزوم ، سواء كان ذلك لعدم طريقيته رأسا ، كما لو
علم بخطئه فيه مع احتمال تحقق اللازم ، أم لعدم التعويل شرعا أو عرفا على طريقيته
، كما لو كان المدلول المطابقي ولازمه حسيين وكان الإخبار بالمدلول المطابقي عن
حدس واحتمل اطلاع المخبر على اللازم حسا.
أما إذا كان
عدم حجية الطريق في المدلول المطابقي ناشئا عن خصوصية فيه يمتاز بها عن اللازم ،
تمنع من ثبوته بالطريق ، من دون قصور في طريقية
الطريق ، ولا في كاشفيته ، فلا يكون مستتبعا لعدم حجية الطريق في اللازم ،
بعد فرض عدم اشتماله على تلك الخصوصية ، وصلوحه لأن يثبت بالطريق المذكور ، كما لو
أخذ في حجية الطريق عنوان لا ينطبق على المدلول المطابقي ، وينطبق على لازمه.
كالإقرار
المتقوم بكون موضوعه حقا على المقرّ ، حيث قد لا يتضمن الخبر حقا على المخبر
بمدلوله المطابقي ، بل بلازمه. وكما في الشاهد واليمين اللذين ينهضان شرعا بإثبات
حقوق الناس ، دون حقوق الله تعالى ، حيث قد يكون مدلولهما المطابقي موضوعا لحق
الله ، ومدلولهما الالتزامي موضوعا لحق الناس ، كالسرقة التي هي موضوع الحدّ وهو حق
الله تعالى ، فلا يثبت بهما ، ولازمها الضمان الذي هو حق الناس ، فيثبت بهما.
إذا عرفت هذا
فالظاهر أن التعارض من القسم الأول ، فإنه وإن كان سقوط الحجية معه لامتناع التعبد
بالنقيضين المفروض اختصاصه بالمدلول المطابقي ، إلا أنه موجب أيضا لقصور طريقية
الطريق عرفا ، حيث يكون كل من المتعارضين من سنخ المكذب للآخر في مدلوله ، فهو من
سنخ المانع من فعلية الطريقية وإن تم معه مقتضيها ، فيتعين عدم حجية الطريق في
اللازم ، تبعا لسقوط حجيته في الملزوم.
من دون فرق في
ذلك بين اتفاقهما في لازم واحد ـ كما في محل الكلام ـ وانفراد أحدهما بلازم لا
ينافيه الآخر ، كما لو قامت إحدى البينتين على مطر السماء المستلزم لوجود السحاب ،
ونفت الأخرى المطر من دون أن تنفي السحاب ، أو دل أحد الدليلين على وجوب شيء أو
استحبابه ، المستلزم لثبوت الملاك الصالح للتقرب ، ودل الآخر على العدم من دون أن ينفي
الملاك.
نعم إذا لم
يبتن التعارض على كون أحد الدليلين مكذبا للآخر في
مدلوله ، بل على خفاء وجه الجمع العرفي بينهما ، مع صلوح كل منهما للقرينية
على الآخر عرفا ، بحيث لا يتوقف العرف عن تحصيل المراد منهما رأسا ، بل عن تعيينه
مع تردده إجمالا بين وجهين تعين حجيتهما في نفي الثالث ، لخروجه عن طرفي الترديد.
كما هو الظاهر في مثل العامين من وجه في مورد الاجتماع.
هذا كله إذا
كانت حجية الكلام في لازم مدلوله ـ ومنه نفي الثالث ـ لمجرد بناء العقلاء
وارتكازياتهم على ذلك ، من دون أن يكون الكلام مسوقا لبيانه.
أما إذا كان الكلام
مسوقا لبيان اللازم ، نظير الكناية فاللازم بنفسه ـ كالملزوم ـ يكون موضوعا
للعنوان المأخوذ في دليل الحجية ، كالخبر والنبأ والشهادة ، فالكلام الواحد ينحل
إلى خبرين خبر عن الملزوم وخبر عن اللازم ، وحينئذ لا يكون سقوط أحد الخبرين ـ وهو
الخبر عن الملزوم ـ عن الحجية مستلزما لسقوط الآخر ـ وهو الخبر عن اللازم ـ عنها ،
من دون فرق بين منشأ السقوط عن الحجية. ويتعين حينئذ حجيتهما في نفي الثالث.
كما لو ورد أنه
قيل للإمام عليهالسلام : هل صلاة التراويح فريضة؟ فأجاب منكرا لذلك بأنها سنّة
، ثم ورد أنه أجاب بأنها بدعة. فإن تعارض الخبرين في أنها سنّة أو بدعة لا يكون
مانعا من حجيتهما في أنها ليست فريضة.
وكما لو سمع
شاهدان من يقول : أن زيدا عمّر طويلا ، فقالا منكرين ذلك : مات عن ثلاثين سنة ،
وشهد آخران أنه مات عن أربعين ، حيث لا يكون تعارضهما في تحديد سنّه مانعا من
حجيتهما في نفي طول عمره ، لأنه خبر آخر للبينتين لا قصور فيه ذاتا ، ولا مانع من
حجيته. بل لو صدر كل من الخبرين من واحد ، تمت بهما البينة في المدلول الالتزامي ـ
وهو نفي طول عمره ـ وإن لم تتم البينة في كل من مدلوليهما المطابقيين اللذين
تعارضا فيهما.
نعم لو لم يكن
الإخبار عن المدلول الالتزامي مستقلا ، بل مبتنيا على اعتقاد المخبر بتحقق المدلول
المطابقي ، أشكلت حجيته فيه ـ بعد فرض سقوط حجية الخبر في المدلول المطابقي ـ بقصور
في طريقيته من جهة التعارض ، لأن الخبر بعد معرفة مستنده تابع في الحجية لثبوت
مستنده ، فمع عدم ثبوت مستنده لا مجال للبناء على حجيته.
المقام الثاني
في مقتضى الأدلة الخاصة في المتعارضين
حيث سبق أن
الأصل في المتعارضين التساقط ، فالظاهر لزوم الخروج عنه في تعارض الأخبار ، بل
ربما ادعي الإجماع على عدم الرجوع فيه لأصالة التساقط. للنصوص الكثيرة المتضمنة
للترجيح والتخيير أو التوقف.
والنظر في ذلك
يستدعي الكلام في فصول ثلاثة ، يتضمن الأول منها البحث في الترجيح. والثاني البحث
في التعادل. وهو يكون مع عدم الترجيح ، إما لعدم ثبوته ، أو لعدم تحقق المرجحات
المعتبرة. ويتضمن الثالث البحث في اللواحق التي لا تخص أحد الفصلين ، لتبحث في
ضمنه.
الفصل الأول
في الترجيح
والمعروف وجوبه
في الجملة ، خلافا للمحقق الخراساني والمحكي عند السيد صدر الدين العاملي ، فقد
حكما بعموم التخيير. واستدل للمشهور بوجوه بعضها ظاهر الوهن لا ينبغي إطالة الكلام
فيه ، وما ينبغي التعرض له وجهان :
الأول : ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدسسره من الإجماع المحقق والسيرة القطعية. وكأن مراده بالسيرة
سيرة العلماء في مقام الاستدلال على الترجيح ، في مقابل إجماعهم عليه ، المستفاد
من تصريحهم به عند تعرضهم للمسألة
الأصولية ، ومن إيداعهم نصوصه في كتبهم المبنية على جمع الأخبار المعتمد
عليها. وإلا فسيرة المتشرعة في مقام العمل لا مجال لها في المسألة الأصولية التي
ليس من شأنهم الرجوع إليها.
وقد أنكر
المحقق الخراساني قدسسره الإجماع المذكور ، فذكر أنه لا مجال لدعواه مع ذهاب
الكليني قدسسره للتخيير ، حيث قال في ديباجة الكافي : «ولا نجد شيئا
أوسع ولا أحوط من التخيير».
لكن ما نقله عن
الكليني لا يناسب كلامه في ديباجة الكافي ، حيث قال : «فاعلم يا أخي أرشدك الله
أنه لا يسع أحدا تمييز شيء مما اختلفت الرواية فيه عن العلماء برأيه ، إلا على ما
أطلقه العالم بقوله عليهالسلام : اعرضوها على كتاب الله فما وافى كتاب الله عزوجل فخذوه ، وما خالف كتاب الله فردوه. وقوله عليهالسلام :
دعوا ما وافق
القوم ، فإن الرشد في خلافهم. وقوله عليهالسلام خذوا بالمجمع عليه ، فإن المجمع عليه لا ريب فيه. ونحن
لا نعرف من جميع ذلك إلا أقله ، ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كله
إلى العالم عليهالسلام ، وقبول ما وسّع من الأمر فيه بقوله عليهالسلام : بأيما أخذتم من باب التسليم وسعكم» . وظاهره لزوم الترجيح مع الاطلاع على المرجحات ،
والاقتصار في التخيير على صورة الجهل بها توسعة منهم عليهمالسلام.
ومن ثم لا مجال
لإثبات الخلاف ، وإنكار الإجماع المدعى ، المؤيد بارتكازية الحكم ، ومعروفيته عند
الأصحاب ، تبعا للنصوص الواردة به.
ودعوى : أن
موافقتهم للنصوص تجعل إجماعهم مدركيا يجب النظر في مدركه ، لا تعبديا ينهض
بالاستدلال مع قطع النظر عنها.
مدفوعة بأن
فهمهم للمعنى المذكور من النصوص ، وجريهم عليه ، مع
__________________
شيوع الابتلاء به من عصور الأئمة عليهمالسلام ، شاهد قطعي على أن ذلك هو المراد من النصوص ، وعلى
مطابقته لرأي الأئمة عليهمالسلام ، فيتم الاستدلال به لو فرض التشكيك في النصوص سندا أو
دلالة مع قطع النظر عنه.
نعم في بلوغ
الإجماع المذكور حدّا يحصل به القطع بالحكم ، بحيث ينهض وحده بالاستدلال ، إشكال ،
لعدم شيوع التعرض منهم للمسألة الأصولية ، وعدم تيسر الاستيعاب لكلماتهم في الفقه
بالنحو الكافي في معرفة اتفاقهم.
الثاني
: النصوص المشتملة على المرجحات ، على اختلاف في تعدادها.
منها : مقبولة عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله عليهالسلام الواردة في الخصومة ، والمتضمنة الأمر بتحكيم رواة
أحاديثهم عليهمالسلام العارفين بأحكامهم.
وفيها : «فإن
كان كل واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما ، واختلفا
فيما حكما ، وكلاهما اختلفا في حديثكم [حديثنا. خ. ل] فقال : الحكم ما حكم به
أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر.
قال : فقلت : فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا ، لا يفضل [ليس يتفاضل] واحد منهما
على صاحبه. فقال : ينظر إلى ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به المجمع
عليه عند أصحابك ، فيؤخذ به من حكمنا ، ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ،
فإن المجمع عليه لا ريب فيه ... قلت : فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما
الثقات عنكم؟ قال : ينظر ، فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به
، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة. قلت : جعلت فداك أرأيت إن
كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة ، ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة
والآخر مخالفا لهم ، بأي الخبرين
يؤخذ؟ فقال : ما خالف العامة ففيه الرشاد. فقلت : جعلت فداك ، فإن وافقهما
الخبران جميعا؟ قال : ينظر إلى ما هم إليه أميل ـ حكامهم وقضاتهم ـ فيترك ، ويؤخذ
بالآخر. قلت : فإن وافق حكامهم الخبرين جميعا؟ قال : إذا كان ذلك فارجئه حتى تلقى
إمامك ، فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات» .
وقد استشكل
فيها بعض مشايخنا قدسسره بضعف السند ، لعدم النص على توثيق عمر بن حنظلة.
ويندفع بأن
الظاهر وثاقة عمر بن حنظلة لأمرين :
الأول : رواية صفوان بن يحيى عنه ، الذي ذكروا أنه لا يروي
إلا عن ثقة ، مؤيدا برواية جماعة من الأعيان عنه ، وفيهم غير واحد من أصحاب
الإجماع.
الثاني : ما رواه يزيد بن خليفة : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : إن عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت. فقال أبو عبد الله عليهالسلام : إذا لا يكذب علينا ...» ، بناء على ما هو الظاهر من اعتبار سنده ، إذ ليس فيه
من لم ينص على توثيقه إلا يزيد بن خليفة الذي روى عنه صفوان بن يحيى ويونس ،
اللذين ذكروا أنهما لا يرويان إلا عن ثقة ، مؤيدا بروايات تدل على جلالته لا تبلغ
مرتبة الاستدلال.
ويؤيد هذين
الوجهين أيضا كثرة رواياته وتلقي الأصحاب لها بالقبول ، وروايتهم لها في الأصول ،
خصوصا هذه الرواية التي رواها المشايخ الثلاثة معتمدين عليها ، كما اعتمد عليها
الأصحاب في كثير من مضامينها حتى سميت بالمقبولة.
__________________
كما استشكل
فيها المحقق الخراساني قدسسره بأن موردها تعارض الحكمين في القضاء الذي لا مجال فيه
للتخيير ، لعدم فصل الخصومة به. ولذا أرجأ عليهالسلام الأمر مع عدم الترجيح إلى لقاء الإمام. ولا وجه للتعدي
عنه إلى مقام الفتوى ، التي يمكن فيها التخيير من أول الأمر. مضافا إلى اختصاصها
بزمان الحضور كما يظهر من ذيلها المذكور.
ويندفع أيضا
بأن لسان الترجيح فيها يأبى الجمود على مورد التخاصم ، لظهوره في عدم صلوح المرجوح
لأن يرجع إليه ، كما هو المناسب لقوله عليهالسلام : «فإن المجمع عليه لا ريب فيه» وقوله : «ما خالف
العامة ففيه الرشاد». ولذا كان المستفاد منها عرفا خطأ الحكم على طبق المرجوح ،
بحيث لا ينبغي لصاحبه العود له في واقعة أخرى ، وإن لم يكن له فيها مخالف في
التحكيم.
على أنه لا
مجال لذلك بناء على أن المرجع مع عدم الترجيح هو التوقف أو التساقط ، لأن خصوصية
القضاء لا تمنع منهما. وإلا فلا يحتمل حجية الراجح في القضاء والتخاصم دون الفتوى.
كما أن
اختصاصها بزمان الحضور لا يمنع من فهم عموم الترجيح منها لزمان الغيبة ، لإلغاء
خصوصية المورد عرفا ، كما هو الحال في بقية الأحكام التي اشتملت عليها ، ولا سيما
مع إباء لسان الترجيح عن الاقتصار على ذلك.
بل زمان الغيبة
أولى بالترجيح بناء على أن المرجع مع عدم الترجيح هو التوقف أو التساقط ، كما لعله
ظاهر. على أنه يكفي في البناء على العموم لغير مورد القضاء ، ولعصر الغيبة ، بقية
النصوص الآتية.
ومنها : صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله المروي عن رسالة
القطب الراوندي : «قال الصادق عليهالسلام : إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب
الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فردوه ، فإن لم
تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامة ، فما وافق أخبارهم فذروه
، وما خالف أخبارهم فخذوه» .
ومنها : صحيح الحسن بن الجهم المروي عن الرسالة المذكورة : «قلت
للعبد الصالح : هل يسعنا فيما ورد علينا منكم إلا التسليم لكم؟ فقال : لا والله لا
يسعكم إلا التسليم لنا. فقلت : فيروى عن أبي عبد الله عليهالسلام شيء ، ويروى عنه خلافه ، فبأيهما نأخذ؟ فقال : خذ بما
خالف القوم ، وما وافق القوم فاجتنبه» .
هذا ما تيسر لي
العثور عليه من النصوص المعتبرة السند. وهناك نصوص أخرى لا تبلغ درجة الاعتبار
تصلح للتأييد.
ومنها : خبر الحسين بن السري : «قال أبو عبد الله عليهالسلام : إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم» .
ومنها : الصحيح عن محمد بن عبد الله : «قلت للرضا عليهالسلام : كيف نصنع بالخبرين المختلفين؟ فقال : إذا ورد عليكم
خبران مختلفان فانظروا ما يخالف منهما العامة فخذوه ، وانظروا إلى ما يوافق
أخبارهم فدعوه» .
ومنها : مرفوعة زرارة : «سألت الباقر عليهالسلام فقلت : جعلت فداك يأتي عنكما الخبران والحديثان
المتعارضان فبأيهما آخذ؟ فقال : يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ، ودع الشاذ
النادر. فقلت : يا سيدي إنهما معا مشهوران مرويان مأثوران عنكم. فقال عليهالسلام : خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك. فقلت :
إنهما معا عدلان مرضيان موثقان. فقال : انظر ما وافق منهما العامة فاتركه ، وخذ ما
خالفه ، فان الحق فيما خالفهم. فقلت : ربما كانا موافقين لهم أو مخالفين ، فكيف
أصنع؟ فقال : إذن فخذ ما فيه الحائطة لدينك ، واترك الآخر. فقلت : إنهما معا
موافقان للاحتياط ، أو مخالفان له ، فكيف أصنع؟ فقال : إذن
__________________
فتخير أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر» .
ومنها : ما أرسله الكليني في ديباجة الكافي في كلامه المتقدم.
ومنها : ما أرسله المفيد في المحكي عن رسالة العدد. قال : «والمعروف
قول أبي عبد الله عليهالسلام : إذا أتاكم عنا حديثان مختلفان فخذوا بما وافق منهما
القرآن ، فإن لم تجدوا لهما شاهدا من القرآن فخذوا بالمجمع عليه ، فإن المجمع عليه
لا ريب فيه ، فإن كان فيه اختلاف وتساوت الأحاديث فيه فخذوا بأبعدهما من قول
العامة» . وهناك بعض النصوص الأخر يأتي التعرض لها.
وهذه النصوص
وافية بإثبات وجوب الترجيح في الجملة ، فالمتعين البناء على ذلك.
وقد استشكل
فيها المحقق الخراساني ـ مضافا إلى ما سبق منه في المقبولة وسبق دفعه ـ بأنه لا مجال
لتقييد إطلاقات التخيير بصورة تساوي الخبرين من جميع الجهات ، لندرة ذلك بنحو
يستلزم التخصيص المستهجن.
ويندفع أولا : بأن المرجحات المنصوصة ليست من الكثرة بحيث يمتنع حمل
مطلقات التخيير ـ لو تمت ـ عليها. وغاية ما يلزم عدم التعدي عن المرجحات المنصوصة
، وليس هو محذورا.
وثانيا : بأن ذلك لا يقتضي تعين نصوص الترجيح للسقوط ، بل
يقتضي التعارض بينها وبين نصوص التخيير ، المقتضي للتساقط ، والبناء على الترجيح ،
لأنه المتيقن.
وأما تنزيل
نصوص الترجيح على الاستحباب فهو بعيد في نفسه ، بل
__________________
يأباه لسان بعضها ، كالمقبولة والمرفوعة ومرسلي الكليني والمفيد ، فلا يكون
جمعا عرفيا. إذا عرفت هذا
فيقع الكلام في أمور ..
الأمر الأول : في المرجحات المنصوصة.
وقد اختلفت
النصوص المتقدمة في تعيين المرجحات. وربما يدعى اشتمال نصوص أخر على مرجحات أخرى.
فالمناسب التعرض للمرجحات التي قد يدعى دلالة النصوص عليها ، والنظر في أدلتها ،
وفي تحديدها. وهي أمور ..
الأول : صفات الراوي من الأعدلية والأفقهية والأصدقية
والأورعية والأوثقية. وظاهر شيخنا الأعظم قدسسره لزوم الترجيح بها ، بل معروفية ذلك ، وأنه مركوز في
أذهان الناس ، غير محتاج للتوقيف.
لكن في بلوغ
ذلك حدا ينهض بالاستدلال إشكال ، بل منع. ولا سيما مع عدم تعرض الكليني لذلك في
كلامه الذي تقدمت الإشارة إليه ، وعدم العثور فيما تيسر لي الاطلاع عليه من
كلماتهم في أبواب الفقه على التعويل عليه.
وأما النصوص
فلم يشتمل منها عليه إلا المقبولة والمرفوعة. والمقبولة ظاهرة في الترجيح بين
الحكمين قبل الانتقال إلى الترجيح بين الروايتين المستندين لهما ، ولا وجه للتعدي
من ذلك لترجيح نفس الروايتين.
ومثلها في ذلك
موثق داود بن الحصين ، وخبر موسى بن أكيل ، الواردان في الترجيح بين الحكمين ، من دون تعرض
للترجيح بين الروايتين أصلا.
__________________
ومجرد كون
الروايتين هما مدرك الحكمين لا يقتضي ابتناء الترجيح بين الحكمين بالصفات المذكورة
على الترجيح بين الروايتين بها ، لإمكان ابتنائه على أن اجتهاد واجد الصفات أقرب
إصابة للوظيفة الشرعية من فاقدها. ولا سيما مع عدم ملازمة واجدية أحد الحاكمين
للصفات لواجدية روايته التي اعتمد عليها لها.
وأما المرفوعة
فهي ضعيفة جدا ، حيث لم يذكرها إلا ابن أبي جمهور الأحسائي في كتاب عوالي اللآلي
عن العلامة مرفوعة إلى زرارة. وقيل : إنه لم يعثر عليها في كتب العلامة. قال في
الحدائق : «لم نقف عليها في غير كتاب عوالي اللآلي ، مع ما هي عليه من الرفع
والإرسال ، وما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه إلى التساهل في نقل الأخبار ،
والإهمال ، وخلط غثها بسمينها وصحيحها بسقيمها ، كما لا يخفى على من وقف على
الكتاب المذكور». ومن ثم لا مجال للتعويل على ذلك في الترجيح.
الثاني : شهرة الرواية. والدليل على الترجيح بها المقبولة ،
مؤيدة بالمرفوعة ومرسلتي الكليني والمفيد.
وقد ذكر بعض
مشايخنا قدسسره أن الإرجاع إليها لتمييز الحجة عن اللاحجة ، لا للترجيح
بين الحجتين ، الذي هو محل الكلام ، بدعوى : أن شهرة الرواية توجب العلم بصدورها ،
فيكون المعارض لها مخالفا للسنة القطعية ، فيخرج عن موضوع الحجية ، لأن المراد
بالسنة التي يسقط المخالف لها عن الحجية مطلق سنة المعصوم ، لا خصوص سنة النبي صلىاللهعليهوآله.
وفيه : أولا : أن حمل السنة التي يخرج المخالف لها عن موضوع الحجية
على مطلق سنة المعصوم لا يخلو عن إشكال ، بعد اختصاص النص المتضمن لذلك بسنة النبي
صلىاللهعليهوآله. كما يظهر بمراجعة ما سبق في نصوص المنع من حجية
خبر الواحد.
وأما ما تضمن
أن كلامهم عليهمالسلام مأخوذ من كلامه صلىاللهعليهوآله ، وأنهم خلفاؤه المعبرون عنه والمبينون لعلمه. فهو إنما
ورد لبيان حجية كلامهم ووجوب رجوع الأمة لهم ، ولا ينافي اختصاص نصوص العرض ـ التي
وردت لبيان الضابط في الحجية ـ بسنته صلىاللهعليهوآله ، التي هي أبعد عن التقية ، والتي تمتاز بمكانة سامية
في نفوس المسلمين تجعلها سببا للتشهير بمخالفها والتنفير عنه ، بخلاف سنتهم عليهمالسلام.
وثانيا
: أن اللازم
حمل ما تضمن بطلان المخالف للسنة على المخالفة بنحو التباين ، لتصادم الكلامين
عرفا ، دون مثل العموم من وجه مما يرجع لتصادم الظهورين.
وثالثا
: أنه لم يتضح
ورود المضمون المذكور بطريق معتبر في مخالفة السنة ، وإنما ورد في مخالفة الكتاب ،
كما ورد اعتبار موافقة الخبر للسنة في جواز العمل ، ولا يمكن العمل بظاهره. فراجع
ما يتعلق بذلك عند الكلام في استدلال المانعين من حجية خبر الواحد. ومن هنا لا
طريق لإثبات خروج المرجح المذكور عن محل الكلام.
ثم إن المعيار
في هذا المرجح على ما تضمنته أدلته من كون أحد الخبرين مشهورا معروفا بين الأصحاب
، والآخر شاذا نادرا. ولا يكفي فيه مجرد كون أحد الخبرين أكثر رواة من الآخر. وإن
كان هو ظاهر غير واحد. ولعله يبتني على التعدي عن المرجحات المنصوصة.
الثالث : موافقة الكتاب. والدليل على الترجيح بها المقبولة ،
وصحيح عبد الرحمن ، مؤيدين بمرسلي الكليني والمفيد.
وأما ما تضمن
عرض الحديث على الكتاب والسنة ، وأنه لا بد في العمل
به من موافقته لهما ، أو وجود شاهد عليه منهما. فهو يقتضي عدم حجية غير
الموافق ذاتا لا بسبب المعارضة ، وقد سبق في مبحث حجية خبر الواحد عدم التعويل على
هذه النصوص. وكذا ما تضمن طرح المخالف للكتاب والسنّة.
إلا أن يحمل
على المخالفة بنحو التباين ، بحيث لا يمكن الجمع بينهما وبينه ، بل يكون مصادما
لمضمونهما عرفا ، لا لظهورهما ، فيتعين سقوطه عن الحجية ذاتا ، لا بسبب المعارضة.
نظير ما تضمن أن المخالف لهما زخرف وباطل لم يصدر منهم ، وأنه مكذوب عليهم ، كما
تقدم توضيح ذلك في المبحث المذكور.
وحينئذ قد
يستشكل في إطلاق المخالفة في نصوص الترجيح المتقدمة بنحو يشمل المخالفة لظاهر
الكتاب ، بنحو يمكن تنزيل أحدهما على الآخر ، بل هي مختصة بالمخالفة بنحو التباين
، لبعد التفكيك بين نصوص الترجيح والنصوص المذكورة في معنى المخالفة.
بل من القريب
تفسير تلك النصوص لنصوص الترجيح ، وحمل المخالفة في الجميع على المخالفة بنحو
التباين ، فتخرج عما نحن فيه من الترجيح بين الحجتين إلى تمييز الحجة عن اللاحجة ،
كما ذكره المحقق الخراساني وشيخنا الأستاذ قدسسرهما. وعلى ذلك لا يبقى دليل على الترجيح بموافقة عموم
الكتاب وظاهره.
لكنه يندفع أولا : بأن الاستبعاد المذكور لا يكفي في الخروج عن إطلاق
المخالفة في نصوص الترجيح المتقدمة. ولا سيما مع مقابلتها بالموافقة في المقبولة
والصحيح ومرسل الكليني ، مع وضوح صدق الموافقة للكتاب بموافقة عمومه.
وثانيا
: بأن ذلك لا
يناسب تأخير الترجيح بموافقة الكتاب عن الترجيح
بشهرة الرواية ، مع وضوح أن شهرة الرواية إنما تقتضي القطع بالصدور ،
ومخالفة الكتاب بنحو التباين توجب القطع ببطلان المضمون ، فلا معنى لتأخير الترجيح
بها عن الترجيح بالشهرة ... إلى غير ذلك مما يظهر بالتأمل ، ويلزم بحمل المخالفة
في نصوص الترجيح على ما يعم المخالفة بالعموم والخصوص والإطلاق والتقييد ونحوها
مما لا يخرج به الخبر عن عموم الحجية ذاتا ، ويصلح لأن يكون مرجحا بين الحجتين.
الرابع : موافقة السنة. وينحصر الدليل على الترجيح بها بمقبولة
ابن حنظلة ، بناء على ما هو الظاهر من ابتناء ضمها للكتاب على مرجحية كل منهما
استقلالا ، بلحاظ مرجعيتهما للأمة في التشريع. كما قد يناسبه فرض السائل بعد ذلك
أخذ الفقيهين الحكم من الكتاب والسنة ، مع وضوح إرادة الأخذ منهما في الجملة ، ولو
بالأخذ من أحدهما فقط ، لانحصار الدليل به.
والمنصرف منها
وإن كان هو خصوص سنة النبي صلىاللهعليهوآله ، إلا أنه لا يبعد إلحاق سنة الأئمة عليهمالسلام بها ، لرجوعها إليها وقيامها مقامها في المرجعية للأمة.
الخامس : مخالفة العامة. ويدل على الترجيح بها جميع النصوص
السابقة. وربما يستدل بغيرها من ما لا ملزم بإطالة الكلام فيه بعد وفاء ما سبق
بالترجيح المذكور ، المعتضد بمعروفيته بين الأصحاب ، وجريهم عليه بنحو يقرّب تحقق
الإجماع منهم ، حيث يبعد جدا مخالفتهم لمفاد هذه النصوص ، مع كثرتها ومعروفيتها
بينهم ، وقرب مضامينها لأذواقهم ، ولظرف صدور الروايات.
لكن قال المحقق
في المعارج بعد الاستدلال للمرجح المذكور بالرواية : «وهو إثبات لمسألة علمية بخبر
واحد. وما يخفى عليك ما فيه. مع أنه قد طعن فيه فضلاء من الشيعة ، كالمفيد وغيره».
وهو كما ترى
لاستفاضة النصوص بذلك ـ بنحو يبعد عدم صدور شيء منها ـ وموافقته للاعتبار. وكون
المسألة علمية لا تثبت بخبر الواحد مبني على ما اشتهر من عدم ثبوت المسألة
الأصولية بالأدلة الظنية ، وهو مختص بأصول الدين الاعتقادية ، دون أصول الفقه التي
هي عملية ، كالمسائل الفقهية.
وأما طعن
المفيد فكأن مراده به ما ذكره في تعقيب المرسل المتقدم منه ، حيث قال : «وإنما
المعنى في قولهم عليهمالسلام : خذوا بأبعدها من قول العامة يختص بما روي عنهم في
مدائح أعداء الله ، والترحم على خصماء الدين ومخالفي الإيمان ، فقالوا عليهمالسلام : إذا أتاكم عنا حديثان مختلفان أحدهما في قول [تولي. ظ]
المتقدمين على أمير المؤمنين عليهالسلام والآخر في التبري منهم ، فخذوا بأبعدها من قول العامة ،
لأن التقية تدعوهم بالضرورة إلى مظاهرة العامة بما يذهبون إليه من أئمتهم».
وهو كما ترى
تكلف لا مجال لحمل النصوص عليه ، خصوصا المقبولة. على أنه لو تم إرادة ذلك منها ،
فإلغاء خصوصية موردها والتعدي إلى ما نحن فيه هو الأنسب بالعلة الارتكازية التي
أشار إليها والتي تضمنتها النصوص. فلا ينبغي التأمل في المرجح المذكور. بل لا يظن
بالمفيد والمحقق قدسسرهما الخروج عنه في فقههما. وكأن ما سبق منهما مبني على
تدقيقات وتمحلات تقتضيها طبيعة البحث وظروفه من دون أن تبلغ مقام العمل.
بل حاول المحقق
الخراساني قدسسره تخريج المرجح المذكور على القاعدة بإرجاعه إلى تمييز
الحجة عن اللاحجة ، دون الترجيح بين الحجتين ، ليحتاج للنصوص الخاصة ، بتقريب : أن
أصالة الجهة لا تجري في الخبر الموافق لهم بعد الوثوق بصدور الخبر المخالف ،
للوثوق حينئذ بصدوره تقية.
وما ذكره وإن
لم يخل عن وجه ، إلا أنه لا يبلغ من الوضوح حدا يستغنى
معه عن الأدلة الخاصة ، من الأخبار ، والإجماع ـ القولي أو العملي ـ أو
نحوها من الأدلة التعبدية. بل قد تنافيه نصوص الترجيح ، لظهورها في تأخر المرجح
المذكور عن الترجيح بموافقة الكتاب ، التي سبق الاكتفاء فيها بموافقة ظواهره من
عموم أو نحوه. وإن كان الأمر غير مهم بعد عدم ظهور أثر عملي للنزاع المذكور.
بقي شيء
وهو أن ظاهر
نسبة الموافقة والمخالفة للعامة هو مخالفتهم بما أنهم جماعة قائمة ، ولا يتم ذلك
إلا مع اتفاقهم ، أو شهرة الحكم بينهم شهرة يكون بها المخالف منهم شاذا عنهم. إلا
أن فرض موافقة الخبرين المتعارضين ومخالفتهما لهم في المقبولة والمرفوعة يناسب
العموم لمخالفة بعضهم ممن يعتد به ، ولا يكون شاذا عنهم عرفا. وهو المناسب لارتكاز
ابتناء المرجح المذكور على مراعاة احتمال التقية في الموافق ، فإنه يجري في فرض
كون أحد الخبرين موافقا لبعضهم والآخر مخالفا لهم بأجمعهم.
كما لا يفرق في
البعض بين أن يكون معاصرا لصدور الخبر الموافق أو المخالف وكونه سابقا عليه ، ولا
بين كونه منتسبا للسلطان ـ بقضاء ونحوه ـ وغيره ، عملا بالإطلاق.
بل مقتضى فرض
موافقة الخبرين للعامة في المقبولة ، ثم الأمر فيها بترك ما حكامهم وقضاتهم إليه
أميل ، كون المراد من موافقة البعض ما يعم موافقة غير الحكام والقضاة.
مضافا إلى عموم
الجهة الارتكازية لمنشا الترجيح ، لما هو المعلوم من فتح باب الاجتهاد عندهم في
العصور السابقة بمصراعيه ، فتتأدى التقية بموافقة أي منهم ، ولا تتميز الطائفة
عنهم إلا بمخالفة إجماعهم أو الشهرة المساوقة له.
نعم يقصر الإطلاق عن أقوالهم الحادثة بعد صدور الخبر ، لعدم تأدي التقية
بها.
ومنه يظهر عدم
الخصوصية للمذاهب الأربعة ، لأن الحصر بها قد فرض عليهم بعد الغيبة. بل بعضها قد
حدث في أواخر عصور ظهور الأئمة عليهمالسلام ، وربما كان قبل ذلك ما هو الأشيع منها ، وأجل قائلا
عندهم.
السادس : الإجماع. ففي الاحتجاج : «وروي عنهم عليهمالسلام أيضا أنهم قالوا : إذا اختلف أحاديثنا عليكم فخذوا بما
اجتمعت عليه شيعتنا ، فإنه لا ريب فيه» . وظاهر الاجتماع هنا هو الاجتماع على العمل بالخبر ،
الذي هو عبارة عن الإجماع على الفتوى. وحيث كان ذلك من القرائن القطعية على مطابقة
مضمون الخبر الموافق له للواقع دون الآخر ، فيخرجان به عن موضوع الحجية والترجيح.
ويرجع الخبر إلى تمييز الحق من الباطل ، لا إلى تمييز الحجة عن اللاحجة ، فضلا عن
الترجيح بين الحجتين. على أن ضعف الخبر مانع من التعويل عليه ، فلا ينفع لو كان
مخالفا للقواعد.
السابع : الأحدثية. فقد تضمنت جملة من النصوص لزوم الأخذ
بالأحدث ، كخبر المعلى بن خنيس الذي لا يخلو عن اعتبار : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : إذا جاء حديث عن أولكم وحديث عن آخركم بأيهما نأخذ؟ فقال
: خذوا به حتى يبلغكم عن الحي ، فإن بلغكم عن الحي فخذوا بقوله. قال : ثم قال أبو
عبد الله عليهالسلام : إنا والله لا ندخلكم إلا في ما يسعكم» .
وخبر أبي عمرو
الكناني : «قال لي أبو عبد الله عليهالسلام : يا أبا عمرو أرأيت لو حدثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا ثم
جئتني بعد ذلك فسألتني عنه فأخبرتك
__________________
بخلاف ما كنت أخبرتك أو أفتيتك بخلاف ذلك بأيهما كنت تأخذ؟ قلت : بأحدثهما
وأدع الآخر. فقال : قد أصبت يا أبا عمرو. أبي الله إلا أن يعبد سرا. أما والله لئن
فعلتم ذلك إنه لخير لي ولكم. أبى الله عزوجل لنا في دينه إلا التقية» .
ومرسل الحسين
بن المختار : عنه عليهالسلام : «قال : أرأيتك لو حدثتك بحديث العام ، ثم جئتني من
قابل فحدثتك بخلافه ، بأيهما كنت تأخذ. قال : كنت آخذ بالأخير. فقال لي : رحمك
الله» .
ومرسل الكليني
: «وفي حديث آخر : خذوا بالأحدث» .
ولم يعرف من
اعتمد هذا المرجح غير الصدوق في الفقيه في باب الرجلين يوصى إليهما ، حيث ذكر
حديثا عن العسكري عليهالسلام وآخر معارضا له عن الصادق عليهالسلام ، ثم قال : «لست أفتي بهذا الحديث ، بل أفتي بما عندي
بخط الحسن بن علي عليهالسلام. ولو صح الخبران جميعا لكان الواجب الأخذ بقول الأخير ،
كما أمر به الصادق عليهالسلام ، وذلك أن الأخبار لها وجوه ومعان ، وكل إمام أعلم
بزمانه وأحكامه من غيره من الناس. وبالله التوفيق» .
والذي ينبغي أن
يقال : من الظاهر أن تأخر الزمان لا دخل له في أقربية الدليل للواقع وكاشفيته عنه.
ومن هنا يمتنع حمل هذه النصوص على الترجيح إثباتا بين الخبرين ، بلحاظ طريقيتهما
للواقع ، كما هو حال المرجحات السابقة.
ويتعين حملها
على الترجيح ثبوتا بين الحكمين المحكيين بهما ـ من دون قصور في حجيتهما ـ بلحاظ
ورود الأحدث لبيان الوظيفة الفعلية التي يدركها إمام الوقت ، سواء كانت هي الحكم
الواقعي الثانوي ، لحدوث سبب التقية الرافع للحكم الأولي المبين بالدليل الأسبق ،
أو لتبدل مقتضى التقية ، أم
__________________
كانت هي الحكم الأولي ، لارتفاع سبب التقية التي كان الحكم المبين بالدليل
الأسبق جاريا على مقتضاها.
ويقتضيه قوله عليهالسلام : «إنا والله لا ندخلكم إلا في ما يسعكم» وقوله عليهالسلام : «أبي الله إلا أن يعبد سرا. أما والله لئن فعلتم إنه
لخير لي ولكم ، أبى الله عزوجل لنا في دينه إلا التقية». لمناسبتهما لتوجيه اختلاف نفس
الحكمين المحكيين بالدليلين ، وفعلية الحكم الأخير ، لأن ذلك هو الذي يسع الشيعة
في مقام العمل ، ويكون خيرا لهم ، ويرجع إلى عبادة السر والتقية عملا. لا لتوجيه
اختلاف نفس الدليلين في بيان الواقع ، الراجع للتقية في الفتوى التي هي من وظيفة
المفتي ، من دون أن يجب العمل عليها واقعا.
كما يناسبه ما
تضمنه حديثا الكناني والحسين من رجوع الراوي بطبعه للمرجح المذكور ، إذ من الظاهر
أن الأمر الارتكازي هو العمل على الحكم الأحدث الذي يدركه إمام الوقت ، لا ترجيح
الحجة الأحدث ، بلحاظ كاشفيتها.
وعلى ذلك
فاختلاف الحديثين في الحكم إن كان مع وحدة الحكم المحكي بهما ـ وهو الحكم الأولي
الثابت بأصل التشريع غير القابل للتبدل مع عدم النسخ ـ فالمتعين التكاذب بينهما
والتعارض الذي هو موضوع المرجحات الإثباتية المتقدمة ، ولا مجال معه للعمل
بالأحدث.
وإن كان مع
تعدد الحكم المحكي بهما ، وهو الوظيفة الفعلية ـ وإن كانت ثانوية بسبب التقية ـ التي
تختلف باختلاف الأزمنة والأحوال ، فلا تكاذب بينهما ولا تعارض في الحقيقة ، ليكونا
موضوعا للمرجحات الإثباتية المتقدمة ، بل يتعين العمل على الأحدث منهما ، كما
تضمنته هذه النصوص. ومرجع ذلك إلى أن الترجيح بالأحدثية لا يجري مجرى سائر
المرجحات ، بل هو مختلف معها سنخا وموضوعا.
هذا ولا ريب في
ظهور النصوص الواردة عن المعصومين عليهمالسلام نوعا في بيان الحكم الواقعي الأولي الثابت في أصل
التشريع غير القابل للاختلاف في فرض عدم النسخ ، بحيث يكون هو مورد السؤال والجواب
، دون الوظيفة الفعلية الثابتة من أجل التقية ونحوها.
كما يناسبه ما
تضمنته كثير من النصوص من الاستشهاد بالكتاب المجيد وبسنة النبي صلىاللهعليهوآله ، والاستفسار من الراوي عن توجيه الحكم المبين على ما
يناسبهما ، ونصوص عرض أخبارهم عليهمالسلام على الكتاب والسنة ، وضيق الشيعة من اختلاف النصوص ،
حتى صار سببا للتشكيك من بعض ضعاف البصائر في إمامة الأئمة عليهمالسلام ، وجميع النصوص الواردة في علاج التعارض غير هذه
النصوص.
وكذا النصوص
الحاثّة على التقية ، لظهورها في كون التقية حالة استثنائية يدركها المكلف يخرج
بسببها عن مقتضى الأحكام الأولية المتحصلة له من الأدلة ... إلى غير ذلك مما يوجب
وضوح الظهور النوعي المذكور بحيث يكون عليه العمل بدوا.
وحينئذ يتعين
البناء على تعارض النصوص المختلفة في بيان حكم الموضوع الواحد ، وكونها موضوعا للترجيحات
الإثباتية المتقدمة ، دون الترجيح بالأحدثية ، نظير ما سبق في مباحث الجمع العرفي
من عدم التعويل على احتمال النسخ.
كما يتعين ـ لأجل
ذلك ـ حمل نصوص الترجيح بالأحدثية على ما إذا احتف الكلام بما يناسب حمله على بيان
الوظيفة الفعلية ولو كانت ثانوية ، كالقطع بعدم كون مضمونه هو الحكم الأولي ، مع
ظهور الخطاب به في الجدية المستتبعة للعمل ، نظير ما ورد من أمر الإمام الكاظم عليهالسلام علي بن يقطين بوضوء
العامة ، حيث أدرك علي أن الأمر المذكور ثانوي ، لمخالفته لما عليه إجماع
العصابة في كيفية الوضوء ، كما صرح به في الخبر . وكظهور تعمد الخلاف من قبل الإمام عليهالسلام في بيان حكم الواقعة ، كما تضمنه غير واحد من النصوص ،
منها حديثا الكناني والحسين المتقدمان المفروض فيهما تعدد الجواب مع وحدة السائل
... إلى غير ذلك. وهو المناسب لما تضمنه الخبران المذكوران من ترجيح الراوي الأحدث
بطبعه ، كما أشرنا إليه آنفا.
نعم ذلك لا
يناسب إطلاق خبر المعلى الشامل لاختلاف الحديثين المحكيين عن الإمامين ، والظاهرين
في أنفسهما في بيان الحكم الأولي ، الذي سبق أنه مقتضى الظهور النوعي. ولا سيما مع
ظهور تحير السائل في الوظيفة ، مع أن الرجوع للأحدث بعد فرض ظهور الحديث في بيان
الوظيفة الفعلية ـ وإن كانت ثانوية ـ أمرا ارتكازيا لا يحتاج إلى سؤال ، حيث يتعين
كون منشأ سؤاله ظهور الحديثين في بيان الحكم الأولي الموجب للتعارض والتحير.
ولا مجال لحمله
على الترجيح بين الخبرين الحجتين إثباتا بالأحدثية ، لعدم مناسبته لقوله عليهالسلام فيه : «إنا والله لا ندخلكم إلا في ما يسعكم».
بل يكون الخبر
المذكور كاشفا عن حال اختلاف الأخبار ، وأنه ليس راجعا إلى تعارض الحجتين إثباتا
في الحكم الواحد ، كما هو مقتضى ظهورها البدوي ، بل إلى تعدد الحكم ثبوتا بلحاظ
العناوين الثانوية القابلة للتبدل ، والذي يلزم معه الأخذ بالأحدث ، والجري عليه
حتى يصدر خلافه من إمام الوقت الذي هو محيط بحكمه ، وعليه التنبيه له.
وبعبارة أخرى :
الخبر المذكور رادع عن مقتضى الظهور الأولي للنصوص ، وكاشف عن أن اختلافها ليس
راجعا إلى اختلافها إثباتا في بيان
__________________
الحكم الأولي ، بل إلى اختلاف الأحكام التي تضمنتها ثبوتا باختلاف الطوارئ
والأزمنة.
لكن ذلك مخالف
للنصوص الكثيرة التي سبقت الإشارة إليها ، والتي تناسب ورود الأخبار لبيان الحكم
الأولي. كما أنه معارض لنصوص العرض على الكتاب والسنة ، والآمرة بطرح ما خالفهما.
لوضوح أنه لو كان الحكم الذي تضمنته النصوص ثانويا كان مقدما على حكم الكتاب
والسنة.
وكذا الحال في
نصوص الترجيح الأخر ونصوص التخيير والتوقف ، التي يتعذر حملها على خصوص صورة الجهل
بالأحدث ، لندرتها في عصر حضور الأئمة عليهمالسلام. بل اللازم التوقف عن الترجيح حتى مع الجهل بالأحدث ،
لعدم صلوح المرجحات المذكورة لتشخيص الوظيفة الفعلية ، المفروض اهتمامهم عليهمالسلام ببيانها.
مضافا إلى ما
هو المعلوم من سيرة الأئمة عليهمالسلام من عدم التصدي لبيان الوظيفة الفعلية الثانوية في حق
جميع الشيعة بنحو تتجدد البيانات العامة منهم عليهمالسلام باختلاف المناسبات والظروف. بل البناء على العمل
بالأحكام الأولية المستفادة من الأدلة ، وإيكال تشخيص الوظيفة الثانوية من حيثية
التقية في حق كل شخص إليه ـ كما يشخصها من سائر الجهات ، كالحرج والضرر ـ لاختلافها
باختلاف الأشخاص والظروف والمناسبات بنحو غير منضبط عادة.
ولذا ورد الحثّ
على التقية ، مع وضوح الاستغناء عن ذلك لو كان بيان الحكم على ما يناسبها من وظيفة
الإمام عليهالسلام. وإنما صدر منهم عليهالسلام في مناسبات نادرة تشخيص الوظيفة الثانوية في حق بعض
الأشخاص وخطابهم على طبقها ، كما في قضيتي علي بن يقطين وداود بن زربي وغيرهما.
__________________
ومن أجل ذلك لا
مجال للتعويل على خبر المعلى ، ولا سيما مع ظهور إعراض الأصحاب عنه ، حتى في عصر
ظهور الأئمة عليهمالسلام ، لأن الجري عليه موجب لانقلاب مقاييس الفقه بنحو لا
يخفى عادة.
فلا بد من حمله
على ظروف خاصة ، أو بيانات خاصة ، نظير ما سبق في حديثي الكناني والحسين ، ولا
يتخذ قاعدة عامة للعمل عليها ، ولا سيما في عصر الغيبة المتطاول ، الذي يعلم بعدم
بقاء مقتضى التقية فيه على النحو الذي بدأ.
والله سبحانه
العالم. ومنه سبحانه نستمد العون والتسديد.
الثامن : موافقة الاحتياط. وقد انفردت بالترجيح بها مرفوعة
زرارة التي سبق عدم نهوضها بالاستدلال. فلا يهمّ مع ذلك تحقيق المراد بالموافقة
والمخالفة له ، وأنه كيف يمكن تحققهما معا في المتعارضين ، كما تضمنته المرفوعة.
وقد تحصل من
جميع ما سبق : أن المرجحات المنصوصة تنحصر بالشهرة في الرواية ، وموافقة الكتاب
والسنة ، ومخالفة العامة. وهي التي اقتصر عليها الكليني قدسسره ، وأن ما عداها إما لا تنهض نصوصه بإثباته ، أو خارج
عما نحن فيه من الترجيح بين الحجتين.
الأمر الثاني : في التعدي عن المرجحات المنصوصة.
لا يخفى أن
مقتضى الأصل التعدي عن المرجحات المنصوصة ، بناء على أن المرجع مع عدم الترجيح هو
التخيير ، من دون أن يكون لدليل التخيير إطلاق يقتضي الاقتصار في الخروج عنه على
المرجحات المنصوصة ، حيث يتعين حينئذ الاقتصار على محتمل الرجحان ، لأنه متيقن
الحجية ، على تفصيل لا يسعه المقام.
أما لو كان
لدليل التخيير إطلاق ـ بالنحو المذكور ـ فالمتعين عدم التعدي عن المرجحات المنصوصة
إلا بدليل. وكذا بناء على التساقط مع فقد المرجح ، لأصالة عدم حجية الواجد لجهة
الرجحان غير المنصوصة.
وكيف كان
فالمعروف عن جماعة من الأصحاب التعدي عن المرجحات المنصوصة لكل مزية ، ونسب شيخنا
الأعظم قدسسره إلى جمهور المجتهدين عدم الاقتصار على المرجحات الخاصة.
بل نسب في آخر تنبيهات دليل الانسداد لبعض مشايخه استظهار الاتفاق على الترجيح بكل
ظن. وقال في مبحث الترجيح : «ادعى بعضهم الإجماع ، وعدم ظهور الخلاف ، على وجوب
العمل بالراجح من الدليلين ، بعد أن حكى الإجماع عليه عن جماعة».
وقد يستدل على
ذلك بوجهين :
الأول : الإجماع المدعى فيما سبق ، فقد ذكر شيخنا الأعظم قدسسره في آخر تنبيهات دليل الانسداد أن تتبع كلماتهم يوجب
الظن القوي ، بل القطع بأن بناءهم على الأخذ بكل مزية ، حيث يظهر منه أن قوة
البناء على ذلك من جهة الإجماع.
لكن لا مجال
لدعوى الإجماع ، فضلا عن الاستدلال به ، بعد ما سبق من عدم نهوض الإجماع
بالاستدلال على أصل الترجيح ، وبعد ظهور كلام الكليني المتقدم في الاقتصار على
المرجحات المنصوصة. بل لعله مذهب جميع القدماء الذين لا طريق لمعرفة آرائهم إلا
النصوص التي يثبتونها في كتبهم. ولا سيما مع ظهور اعتماد بعض من صرح بالتعدي عن
المرجحات المنصوصة على بعض الوجوه الاعتبارية التي لا تنهض بالاستدلال ، بنحو لا
يناسب ابتناء ذلك منهم على تعبد شرعي يستكشف بإجماعهم.
ومن ثم أنكر
ذلك غير واحد من المتأخرين ، خصوصا المحدثين. قال
في الحدائق : «وقد ذكر علماء الأصول من وجوه الترجيحات في هذا المقام بما
لا يرجع أكثره إلى محصول. والمعتمد عندنا على ما ورد عن أهل بيت الرسول من الأخبار
المشتملة على وجوه الترجيحات ...».
الثاني : نصوص الترجيح ، فقد ادعى شيخنا الأعظم قدسسره ظهور بعض الفقرات فيها في الترجيح بكل مزية.
منها : الترجيح
بالأصدقية والأوثقية ، بدعوى : قضاء المناسبات الارتكازية بأن اعتبارهما ليس
تعبديا محضا ، كاعتبار الأعدلية والأفقهية ، بل لأن الخبر الواجد لهما أقرب للواقع
، فيتعدى لكل ما يوجب أقربية أحد المتعارضين من الآخر.
وفيه ـ مضافا
إلى ما سبق من عدم ثبوت الترجيح بالصفات ـ : أن المناسبات الارتكازية تقضي بكون
منشأ الترجيح الأقربية نوعا بنظر الشارع ، لا الأقربية الشخصية أو النوعية بنظر
المكلف ، ليتعدى عن موردها لكل ما هو الأقرب بنظره ، كما هو المدعى. نظير ما تضمن
حجية خبر الثقة أو الصادق ، حيث يبتني ارتكازا على القرب نوعا بنظر الشارع ، لا
على القرب شخصا أو نوعا بنظر المكلف ، ليتعدى منه لحجية كل ما يوجب الظن.
ومنها : تعليل الترجيح بالشهرة في المقبولة بقوله عليهالسلام : «فإن المجمع عليه لا ريب فيه» بدعوى : أن نفي الريب
في المشهور ليس بنحو الإطلاق ومن جميع الجهات وهي الصدور والدلالة والجهة ، بل
إضافي ، بمعنى أن المشهور لا ريب فيه بالنسبة للشاذ ، لأن جهة الريب في الشاذ غير
حاصلة فيه ، فيفيد الترجيح بكل مزية في أحد الخبرين ، لأن في فاقد المزية منشأ
لاحتمال مخالفة الواقع غير موجود في واجدها.
وفيه : أن
مناسبة الحكم والموضوع تقتضي حمل نفي الريب في المجمع عليه على نفيه من حيثية
الصدور فقط ، ومقتضى عموم التعليل التعدي عن
الإجماع إلى كل ما يوجب عدم الريب في صدور أحد الخبرين من القرائن ، لا
التعدي إلى كل مزية من حيثية الصدور وإن لم توجب نفي الريب فيه ، فضلا عن التعدي
لكل مزية ولو من غير جهة الصدور.
ومنها
: تعليل ترجيح
الخبر المخالف للعامة بأن الحق والرشد في خلافهم ، وأن ما وافقهم فيه التقية ، فإن
هذه كلها قضايا غالبية لا دائمية ، فيدل بمقتضى التعليل على وجوب ترجيح كل ما كان
معه أمارة الحق والرشد ، وترك ما فيه مظنة مخالفة الحق.
وفيه أولا : أنه لا مانع من الالتزام بأنها قضايا دائمية في خصوص
المتعارضين التي تصل النوبة فيهما للترجيح بمخالفة العامة. ولو كانت غالبية فلعل
الغلبة بمرتبة لا يعتد معها باحتمال الخلاف ، وذلك لا يقتضي التعدي لكل مزية توجب
الأقربية للواقع وإن كانت ضعيفة.
وثانيا
: أن ما تضمن
التعليل بأن الحق في خلافهم هو المرفوعة ، التي سبق عدم نهوضها بالاستدلال. وأما
المقبولة فقد تضمنت الحكم بأن ما خالف العامة ففيه الرشاد ، لا التعليل بذلك ،
وظاهره أنه دائمي واقعي ، فإن ثبت خلافه تعين حمله على كونه دائميا ظاهريا ، لأنه
الصالح لأن يترتب عليه العمل ، دون الغالبي الواقعي.
وأما ما تضمن
أن ما وافقهم فيه التقية ، فلم أعثر عليه عاجلا. نعم ورد أن ما يشبه قول الناس فيه
التقية . لكنه ليس من أخبار التعارض. على أنه ليس بلسان
التعليل.
ومنها
: قوله صلىاللهعليهوآله : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» قال قدسسره : «دل على أنه إذا دار أمر بين أمرين في أحدهما ريب ليس
في الآخر ذلك الريب يجب الأخذ
__________________
به ، وليس المراد نفي مطلق الريب ، كما لا يخفى».
وفيه ـ مع
إرسال الخبر ـ أنه لا شاهد على حمله على نفي الريب بالإضافة لخصوص بعض الجهات ، بل
ظاهره النفي الحقيقي بنحو السالبة الكلية ، ولا سيما مع عدم كونه من نصوص التعارض
، ليتوهم حمله على النفي الإضافي ، لدعوى ندرة خلوّ الخبر من الريب بنحو السالبة
الكلية. ولذا عدّه هو قدسسره وغير واحد من نصوص الاحتياط التي يحتج بها للأخباريين.
هذا كله مضافا
إلى إباء نصوص الترجيح الحمل على ذلك بعد ما تضمنته من الترتيب بين المرجحات ،
والاقتصار على قليل منها ، وإطلاق الأمر بالأخذ بالواجد لجهة الرجحان المنصوصة ،
من دون تنبيه إلى أنه قد يعارض بجهة غير منصوصة في الخبر الآخر.
كما قد تأباه
نصوص التخيير والتوقف ، لندرة التساوي بين الخبرين من جميع الجهات. وليس هو
كتقييدها بالمرجحات المنصوصة ، لكثرة موارد تساوي الخبرين من حيثيتها ، وقرب
الاعتماد في الإطلاق على وضوح بعضها ، لارتكازية أو ظهور مرجحيته. ومن ثم يتعين
الاقتصار على المرجحات المنصوصة ، وعدم التعدي عنها.
الأمر الثالث : في الترتيب بين المرجحات.
بعد ما سبق من
الاقتصار على المرجحات المنصوصة ، تعبدا بظاهر أدلتها ، فاللازم التعبد بظاهرها
أيضا في الترتيب بين المرجحات. ومن الظاهر أن أخص نصوص الترجيح هو مقبولة ابن
حنظلة ، لاستيفائها جميع المرجحات ، وهي تقتضي الترجيح أولا بشهرة الرواية ، ثم
بموافقة الكتاب والسنة ، من دون ترتيب بينهما ، ثم بمخالفة العامة ، ثم بمخالفة ما
حكامهم وقضاتهم إليه أميل ، فيلزم العمل عليها ، وتقييد إطلاق النصوص المقتصرة على
بعض المرجحات بها.
وأما ما
استظهره المحقق الخراساني قدسسره من كون المقبولة ـ كسائر أخبار الترجيح ـ بصدد بيان
مرجحية المرجحات المذكورة فيها ، من دون نظر للترتيب بينها ، لبعد تقييد نصوص
الترجيح الكثيرة بما فيها. فهو كما ترى ، لعدم كثرة نصوص الترجيح المعتبرة المقتصر
فيها على بعض المرجحات.
مع أن ذلك لا
يصحح الخروج عن ظاهر الترتيب في المقبولة. وليس تقييد نصوص الترجيح بها بأصعب من
رفع اليد عن ظهور تلك النصوص في انحصار الترجيح بما تضمنته من المرجح ، بحيث لا
تزاحمه المرجحات الأخرى التي تضمنتها المقبولة وغيرها. بل لازم ما ذكره إهمال كلا
المرجحين عند التزاحم بينهما ، وهو أكثر تخصيصا لإطلاقات الترجيح من الترتيب
بينها.
ولا سيما مع
اعتضاد المقبولة ـ في الجملة ـ بصحيح عبد الرحمن المتضمن تقديم موافقة الكتاب على
مخالفة العامة ، وتأيدها بمرفوعة زرارة المتضمنة تقديم الشهرة على مخالفة العامة.
مضافا إلى
احتمال كون إهمال بعض المرجحات ـ كالشهرة في الرواية ـ في بعض النصوص لوضوح حالها
، بنحو يكون كالقرينة على فرض التكافؤ فيها. واحتمال كون الاقتصار في بعضها على
مخالفة العامة بسبب كونه المرجح المهم الذي يكثر الابتلاء به ، ويغلب كونه منشأ
للاختلاف بين النصوص.
وأما ما تضمنه
مرسل المفيد من تقديم موافقة الكتاب على الشهرة في الرواية. فلا مجال للخروج به
عما سبق بعد ضعفه ، واحتمال الاضطراب فيه بسبب نقله بالمعنى.
هذا وأما بناء
على التعدي عن المرجحات المنصوصة ، فحيث يبتني التعدي عنها على إلغاء خصوصيتها ،
فلا بد معه من إلغاء خصوصية الترتيب بينها. وحينئذ ربما يدعى الترتب الطبعي بينها
بما لا مجال للتعويل عليه ، ولا لإطالة الكلام فيه ، بعد ما سبق من ضعف المبنى
المذكور.
الفصل الثاني
في التعادل
وهو يكون مع
عدم الترجيح ، إما للبناء على عدم ثبوته ، أو لعدم حصول المرجحات المعتبرة.
وقد يظهر من
المرتضى في الذريعة الحكم معه بالتخيير ، وبه صرح غير واحد ، كالكليني في كلامه
المتقدم ، والشيخ في الاستبصار ، والعلامة في المبادي وغيرهم. ونسبه شيخنا الأعظم قدسسره وغيره للمشهور ، كما نسبه هو لجمهور المجتهدين ، بل في
المعالم وعن غيره : «لا نعرف في ذلك من الأصحاب مخالفا».
وحيث سبق أن
الأصل التساقط لقصور إطلاقات الحجية عن شمول المتعارضين ، فلا بد من البناء على
التخيير من المخرج عنه ، وهو النصوص التي استدل بها غير واحد ، منهم الكليني في
كلامه المتقدم ، والشيخ في الاستبصار.
فاللازم النظر
فيما يمكن الاستدلال به منها ، وهو عدة نصوص.
الأول : موثق سماعة عن أبي عبد الله عليهالسلام : «سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر
كلاهما يرويه ، أحدهما يأمره بأخذه ، والآخر ينهاه عنه ، كيف يصنع؟ قال : يرجئه
حتى يلقى من يخبره ، فهو في سعة حتى يلقاه» بدعوى : ظهور السعة في السعة في العمل على طبق
الروايتين.
وفيه أولا : أن ظاهر السعة السعة في البقاء على الجهل مع فرض
العلم الإجمالي بالتكليف المردد بين الوجوب والحرمة ، وأن العلم المذكور وإن كان
__________________
منجزا بنحو يقتضي الفحص ، إلا أن المكلف في سعة من الجهل في زمن الفحص إلى
أن يلقى من يبين له الحق ويرفع جهله ، وهو أجنبي عن التخيير في مقام العمل.
ولو سلم أن
المراد السعة في العمل ، فالمتيقن منه السعة من حيثية الخبرين ، بمعنى أن كلا
منهما لا ينجز مضمونه في حقه ، الذي هو مرجع التساقط ، لا السعة في العمل على
طبقهما ، بحيث لا يجوز الخروج عنهما ، الذي هو مرجع التخيير المدعى.
وثانيا
: أن ظاهر
الحديث فرض اختلاف المفتيين في حق المستفتي ، لا اختلاف الروايتين في حق المفتي
الذي هو محل الكلام. والتخيير في الأول لا يستلزم التخيير في الثاني. ومجرد استناد
المفتيين للرواية لا يستلزم التخيير بين الروايتين.
الثاني : صحيح علي بن مهزيار : «قرأت في كتاب لعبد الله بن
محمد إلى أبي الحسن عليهالسلام : اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله عليهالسلام في ركعتي الفجر في السفر ، فروى بعضهم أن صلهما في
المحمل. وروى بعضهم : لا تصلهما إلا على الأرض ، فأعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي بك
في ذلك؟ فوقع عليهالسلام : موسع عليك بأية عملت» بدعوى ظهوره في حجية كل منهما تخييرا.
وفيه : أن
السؤال لما كان عن الحكم الواقعي ، الذي عليه عمل الإمام عليهالسلام ، فظاهر الجواب هو السعة الواقعية ، لابتناء اختلاف
الروايتين على الاختلاف في الفضل ، لا على التعارض والتكاذب بينهما. ولا مجال
لحمله على السعة الظاهرية الراجعة للتخيير في العمل على طبق إحدى الروايتين
المتعارضتين ،
__________________
التي هي محل الكلام. ولا سيما مع عدم مناسبته لوظيفة الإمام عليهالسلام المطلع على الحكم الواقعي في مورد السؤال.
الثالث : مكاتبة الحميري إلى صاحب الزمان «عجل الله فرجه» التي
رواها الشيخ في كتاب الغيبة بطريق معتبر ، والطبرسي في الاحتجاج مرسلا : «تسأل لي
بعض الفقهاء عن المصلي إذا قام من التشهد الأول للركعة الثالثة هل يجب عليه أن
يكبر ، فإن بعض أصحابنا قال : لا يجب عليه التكبير ويجزيه أن يقول : بحول الله
وقوته أقوم وأقعد. الجواب قال : إن فيه حديثين ، أما أحدهما فإنه إذا انتقل من
حالة إلى حالة أخرى فعليه التكبير ، وأما الآخر فإنه روي : أنه إذا رفع رأسه من
السجدة الثانية فكبر ثم جلس ثم قام فليس عليه للقيام بعد القعود تكبير. وكذلك
التشهد الأول يجري هذا المجرى. وبأيهما أخذت من باب التسليم كان صوابا» .
وتقريب دلالتها
بعين ما سبق في صحيح ابن مهزيار. كما يظهر الجواب بملاحظة ما سبق ، حيث يتضح به
ظهور التخيير في المقام في السعة الواقعية ، لظهور حال السائل في السؤال عن الحكم
الواقعي ، ولعدم التعارض بين الروايتين بعد كون الثانية أخص مطلقا ، غاية الأمر
كشف المكاتبة عن عدم تخصيص الثاني للأول ، بل رجوع نفي التكبير إلى خفة مطلوبيته
مع بقاء مشروعيته.
الرابع : مرسل الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله عليهالسلام : «قال : إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة فموسع
عليك حتى ترى القائم فترد إليه» .
واستشكل فيه
بعض مشايخنا بأن مفاده حجية أخبار الثقات ، من دون
__________________
نظر إلى فرض تعارضها الذي هو محل الكلام.
لكنه لا يناسب
التعبير بالسعة ، لأن الحجية كما تقتضي التعذير تقتضي التنجيز المستتبع للضيق ،
بخلاف التخيير بين الخبرين في فرض حجيتهما ذاتا ، فإنه نحو من السعة. ولا سيما مع
قوله عليهالسلام : «وكلهم ثقة» لظهوره في دخل وثاقة الكل بنحو المجموع
في الحكم بالسعة ، مع أن حجية كل خبر منوطة بوثاقة راويه فقط ، والذي يناط بوثاقة
الكل هو السعة مع التعارض ، إذ مع وثاقة البعض لا غير يتعين العمل بروايته.
وأما احتمال
كون المراد السعة من حيثية تلك الروايات ، بمعنى أنها لا تصلح للتخيير بسبب
التعارض ، الذي هو مرجع التساقط ، لا السعة في العمل على طبقها ، الذي هو مرجع
التخيير ، نظير ما تقدم في موثق سماعة.
فيدفعه أن ذلك
لا يناسب التنبيه على وثاقة الراوي المناسبة لحجية روايته ، بخلاف موثق سماعة ،
حيث لم يتضمن ذلك ، بل تضمن فرض التعارض المناسب للتساقط. فالإنصاف أن دلالة
المرسل على التخيير قريبة جدا ، ولا أقل من إشعاره به بنحو يصلح للتأييد.
الخامس : مرسل الحسن بن الجهم عن الرضا عليهالسلام : «قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ،
ولا نعلم أيهما الحق. قال : فإذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت» . ولعله أظهر نصوص التخيير دلالة.
ولا سيما بلحاظ
التقييد فيه بعدم العلم بما هو الحق من الخبرين ، حيث لا يكون بذلك منافيا لنصوص
الترجيح الصالحة للتعبد بتعيين ما هو الحق منهما ، بل يكون محكوما لها حكومة
عرفية.
السادس : ما أرسله الكليني في كلامه المتقدم في أول الكلام في
__________________
الترجيح ، وبعد ذكره لموثق سماعة السابق ، حيث قال : «وفي رواية أخرى : بأيهما
أخذت من باب التسليم وسعك» .
السابع : مرفوعة زرارة المتقدمة في نصوص الترجيح ، حيث تضمنت
التخيير بعد فرض عدم المرجح لأحد الخبرين حتى بالاحتياط.
الثامن : الرضوي : «والنفساء تدع الصلاة أكثره مثل أيام حيضها
وهي عشرة أيام ، وتستظهر بثلاثة أيام ثم تغتسل ، فإذا رأت الدم عملت كما تعمل
المستحاضة. وقد روي : ثمانية عشر يوما. وروي : ثلاثة وعشرين يوما. وبأي هذه
الأحاديث أخذه [أخذت. ظ] من جهة التسليم جاز» . وهو وإن كان واردا في مورد خاص ، إلا أن إلغاء خصوصية
مورده قريب جدا ، لاشتمال المورد على أحكام الزامية مهمة.
فالعمدة في وهن
الاستدلال به عدم ثبوت نسبته للإمام عليهالسلام. مضافا إلى أن الإرجاع للتخيير في الواقعة الشخصية لا
يناسب وظيفة الإمام المطلع على حكمها الواقعي.
كما أن ما دل
من النصوص السابقة على التخيير ضعيف لا ينهض بالاستدلال حتى بلحاظ التعاضد ، لعدم
كثرة النصوص المذكورة ، ينحو يمنع من احتمال عدم صدور مضامينها أو احتفافها بما
يمنع من استفادة التخيير منها من القرائن الحالية والمقالية.
ولو سلم نهوضها
في أنفسها بالاستدلال فهي معارضة بنصوص أخر ظاهرة في التوقف والإرجاء ، فينبغي
النظر فيها أولا ، ثم في الجمع بينها وبين
__________________
نصوص التخيير. وهي جملة من النصوص.
الأول : مقبولة ابن حنظلة المتقدمة في نصوص الترجيح ، حيث قال
عليهالسلام في ذيلها بعد فرض التعادل : «إذا كان ذلك فأرجئه حتى
تلقى إمامك ، فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات».
ومقتضى التعليل
فيها بأن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة إلغاء خصوصيتي القضاء وزمان
الحضور ، لظهوره في عدم حجية كل من الخبرين بسبب التعارض وعدم المرجح المستلزمين
لاشتباه الأمر.
على أن
الاختصاص بزمان الحضور إنما ينفع لو أمكن حمل نصوص التخيير على زمان الغيبة ، وهو
متعذر ، لاستلزامه تخصيص المورد.
«الثاني والثالث» : ما عن مستطرفات
السرائر عن كتاب مسائل الرجال لعلي بن محمد : «إن محمد بن علي بن عيسى كتب إليه يسأله عن العلم
المنقول إلينا عن آبائك وأجدادك عليهمالسلام قد اختلف علينا فيه ، فكيف العمل به على اختلافه ، أو
الرد إليك فيما اختلف فيه؟ فكتب عليهالسلام : ما علمتم أنه قولنا فالزموه ، وما لم تعلموا فردوه
إلينا» ونحوه مكاتبة داود بن فرقد الفارسي .
فإن مقتضى
إطلاقهما وإن كان هو التوقف حتى عن الترجيح ، إلا أنه لا يبعد تقييدهما بنصوص
الترجيح ، وحملهما على التعادل. وعلى كل حال فهما معارضان لنصوص التخيير.
الرابع : مرسلة عوالي اللآلي ، حيث قال بعد ذكر المرفوعة : «وفي
رواية
__________________
أنه عليهالسلام قال : إذن فأرجه حتى تلقى إمامك فتسأله» .
هذا والمتيقن
من التوقف في هذه النصوص هو التوقف عن ترجيح أحد الخبرين ، وعن العمل بهما ،
المساوق للتساقط ، ولزوم الفحص مع تيسره ، ثم الرجوع للأصل ، أو غيره مما هو متأخر
رتبة عن الخبرين المتعارضين. لا التوقف المطلق عن الفتوى ولو بالحكم الظاهري ، أو
الاحتياط في مقام العمل. إذ لا شاهد بحمل هذه النصوص عليه.
ثم إنه قد وقع
الكلام بينهم في وجه الجمع بين هذه النصوص ونصوص التخيير ، وذكروا وجوها كثيرة لا
يسعنا استقصاؤها بعد كون جملة منها تبرعيا ، أو ظاهر الوهن ، غير أنه لا بد من
التعرض لبعضها.
منها : حمل نصوص الإرجاء على زمن الحضور ، وحمل نصوص التخيير
على زمن الغيبة. بل قد يدعى القطع بعدم بناء الشيعة على التخيير في عصر الحضور ،
وأنهم يرجعون للأئمة عليهمالسلام لمعرفة الحق ، فلا بد من حمل نصوصه على خصوص عصر الغيبة
، فيكون أخص من نصوص التوقف.
وفيه : أنه إن
رجع إلى دعوى خصوصية زمن الحضور والغيبة ، فيظهر ضعفه مما سبق في الاستدلال على
الإرجاء بالمقبولة من تعذر حمل نصوص التخيير على خصوص زمن الغيبة ، لاستلزامه
تخصيص المورد.
ولو فرض القطع
بعدم بناء الشيعة على التخيير في عصر الحضور ، لزم البناء على إجمال نصوصه ، لا
على حملها على عصر الغيبة بعد استلزامه ذلك.
كما أن التعليل
في المقبولة بأن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة آب عن التخصيص عرفا.
__________________
وإن رجع إلى أن
المعيار على التمكن من لقاء الإمام عليهالسلام ، ومعرفة الحكم الواقعي منه ، وتعذر ذلك أو تعسره ،
الذي قد يكون في عصر الحضور أيضا ـ كما جرى عليه شيخنا الأعظم قدسسره ـ فهو جمع تبرعي خال عن الشاهد ، لأن اشتمال بعض نصوص
التوقف على جعل الغاية لقاء الإمام لا يقتضي القدرة على لقائه. كيف؟! وقد اشتملت
بعض نصوص التخيير على ذلك أيضا.
مضافا إلى ما
سبق من إباء التعليل في المقبولة عن التخصيص عرفا.
ومنها : حمل نصوص الإرجاء على الاستحباب ونصوص التخيير على
الرخصة. وكأنه لأنه المناسب للجمع العرفي بين الأمر أو النهي والترخيص.
وفيه : أنه لا
يناسب التعليل في المقبولة. مع أن مرجع الإرجاء إلى التساقط ، وهو قد يكون أوسع
عملا من التخيير.
ومنها : حمل نصوص التخيير على ما إذا كان الأمر أو النهي في
أحد الخبرين أمر فضل وندب ، أو نهي إعافة وكراهة ، فيحمل الإذن في الآخر على
الرخصة ، ويتخير في العمل بينهما ، وحمل نصوص التوقف على غير ذلك. ولا يخفى رجوعه
إلى الاستغناء عن نصوص التخيير في مقام العمل ، إذ مع إحراز كون الأمر والنهي
للندب والكراهة يتعين التخيير عملا ، من دون حاجة إلى خبر معارض مرخص ، فضلا عن
نصوص التخيير الموسعة في العمل بأيهما. ومع الشك فيه لا يحرز موضوعها. مضافا إلى
أن التخيير يكون حينئذ عقليا واقعيا بين المؤديين ، لا شرعيا ظاهريا بين الحجتين ،
ولا ريب في ظهور نصوص التخيير في الثاني.
نعم يتجه ما في
الحدائق من الاستدلال على هذا الوجه بما رواه الميثمي عن الرضا عليهالسلام في خبر طويل رواه الصدوق في العيون في اختلاف الحديث عن
النبي صلىاللهعليهوآله والأئمة عليهمالسلام. وقد تضمن صدره أن الأوامر والنواهي الواردة في
الكتاب والسنة تكون .. تارة : أوامر إلزام وفرض ونواهي تحريم وأخرى : أوامر فضل وندب ونواهي إعافة وكراهة. وأن القسم الأول
لا يمكن الخروج عنه ولا يقبل الحديث المخالف له ، لأنهم عليهمالسلام لا يستحلون ما حرم رسول الله صلىاللهعليهوآله ، ولا يحرمون ما استحل ، بل هم تابعون له ، كما كان هو صلىاللهعليهوآله تابعا لله تعالى ، وأن الذي يسع استعمال الرخصة فيه هو
القسم الثاني.
ثم قال عليهالسلام : «فما كان عن رسول الله صلىاللهعليهوآله نهي إعافة أو أمر فضل ، فذلك الذي يسع استعمال الرخصة
فيه إذا ورد عليكم عنا الخبر [الخبران. عيون] فيه باتفاق يرويه من يرويه في النهي
ولا ينكره ، وكان الخبران صحيحين معروفين باتفاق الناقلة فيهما ، يجب الأخذ
بأحدهما ، أو بهما جميعا ، أو بأيهما شئت وأحببت ، موسع ذلك لك من باب التسليم
لرسول الله صلىاللهعليهوآله ، والرد إليه وإلينا.
وكان تارك ذلك
من باب العناد والإنكار وترك التسليم لرسول الله صلىاللهعليهوآله مشركا بالله العظيم.
فما ورد عليكم
من خبرين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله ، فما كان في كتاب الله موجودا حلالا أو
حراما فاتبعوا ما وافق الكتاب ، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنن رسول الله صلىاللهعليهوآله فما كان في السنة موجودا منهيا عنه نهي حرام و [أو.
عيون] مأمورا به عن رسول الله صلىاللهعليهوآله أمر إلزام فاتبعوا ما وافق نهي رسول الله صلىاللهعليهوآله وأمره.
وما كان في
السنة نهي إعافة أو كراهة ، ثم كان الخبر الأخير خلافه فذلك رخصة فيما عافه رسول
الله صلىاللهعليهوآله وكرهه ولم يحرمه ، فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعا ،
وبأيهما شئت وسعك الاختيار ، من باب التسليم والاتباع والردّ إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله. وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردوا إلينا علمه ،
فنحن أولى بذلك ، ولا تقولوا فيه ب آرائكم وعليكم بالكف ، والتثبت والوقوف
وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا» .
ورجال سنده بين
صحيح وموثق ، عدا محمد بن عبد الله المسمعي الذي قال في حقه الصدوق بعد رواية هذا
الخبر : «كان شيخنا محمد بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه سيّئ الرأي في محمد بن
عبد الله المسمعي راوي هذا الحديث ، وإنما أخرجت هذا الخبر في هذا الكتاب لأنه كان
في كتاب الرحمة وقد قرأته عليه فلم ينكره ، ورواه لي».
وحيث إن سوء
الرأي لا يخلو عن إجمال ، لإمكان رجوعه لجهات لا تنافي الوثاقة ـ كالغلوّ واعتماد
المراسيل ـ فلا يخرج به عن ظاهر حال ابن الوليد في الاعتماد على حديثه ، حيث لم
يستثنه ـ كما قيل ـ من رجال كتاب نوادر الحكمة. ولا سيما مع ما صرح به الصدوق في
كلامه المتقدم من رواية ابن الوليد للحديث المذكور ، الظاهر في اعتماده عليه ،
وأنه قد رواه من كتاب الرحمة ، الذي صرح في الفقيه بأنه من الكتب المشهورة التي
عليها المعوّل وإليها المرجع .
وأما دلالته
فهو ظاهر في حصر المراد من أخبار التخيير في التخيير الواقعي في موارد الأمر
والنهي غير الإلزاميين في مقابل الرخصة ، ولزوم التوقف في غير الموارد المذكورة ،
وخروجه عن مفاد تلك الأخبار. وهو راجع إلى بيان حال التعارض واختلاف منشئه ، لا
إلى ضرب القاعدة العملية فيه ، لما سبق من أن نصوص التخيير بعد تفسيرها بذلك
يستغنى عنها في مقام العمل.
نعم يمكن
الرجوع للإمام في تشخيص حال الأمر والنهي وأنهما من أي
__________________
القسمين ، وتطبيق كبرى التخيير تبعا لذلك ، كما سبق في صحيح ابن مهزيار
ومكاتبة الحميري ، اللذين يصلحان لتأييد التفسير المذكور لنصوص التخيير.
وحيث كان هذا
الحديث متعرضا لمضامين نصوص التخيير كان حاكما عليها حكومة بيانية ، ومقدما عليها
طبعا ، ويكون كاشفا عن خلل في ظهورها البدوي في التخيير الظاهري ، الذي هو محل
الكلام. ومن ثم جعله شيخنا الأستاذ قدسسره مانعا من البناء على التخيير والعمل بنصوصه.
اللهم إلا أن
يقال : الحكومة المذكورة إنما تتم في مثل مرسل الكليني القابل للحمل على السعة
الواقعية ، دون مثل مرسل الحسن بن الجهم الذي هو كالصريح في التخيير الظاهري ، حيث
فرض في السؤال والجواب الجهل بالحق من الخبرين الظاهر في المفروغية عن مخالفة
أحدهما له ، ومرفوعة زرارة المفروض فيها لزوم الترجيح الذي لا مجال له في المورد
المذكور. فلا مجال لحكومة حديث الميثمي على الخبرين المذكورين ونحوهما حكومة
تفسيرية ، بل هو معارض لهما ، كأخبار التوقف.
على أنه ظاهر
في أن الخبرين المشتمل أحدهما على الأمر أو النهي والآخر على الرخصة متعارضان يكونان
موردا للتخيير أو الرد مع العلم بحال الأمر أو النهي ، وأنهما من أي القسمين ،
وللتوقف مع الجهل بحالهما. مع وضوح بناء الأصحاب على الجمع بينهما مع الجهل بالحال
بالحمل على الاستحباب أو الكراهة ، وخروجهما بذلك عن التعارض عرفا. فهو من هذه
الجهة مهجور عند الأصحاب.
كما أنه مناف
لنصوص الترجيح ، لقوة ظهوره في استيفاء حكم صور التعارض ، وفي عدم الوظيفة
الظاهرية فيها.
وذلك بمجموعه
موجب لوهن الخبر في نفسه ، ولزوم ردّ علمه
لقائله عليهمالسلام. ويبقى التعارض بين نصوص التخيير والتوقف مستحكما.
فتأمل جيدا.
نعم يتعين
إهمال نصوص التخيير ، إما لضعفها دلالة أو سندا ـ كما سبق ـ أو لمعارضتها بنصوص
التوقف ، والبناء على التساقط ، الذي سبق أنه مقتضى الأصل في المتعارضين.
بقي في المقام أمور تبتني على القول
بالتخيير.
الأول : أنه لا يراد بالتخيير التخيير في المسألة الفرعية ، نظير
التخيير بين القصر والتمام في المواطن الأربعة ، للعلم بعدم تبدل الحكم الفرعي
بسبب التعارض ، فلا معنى للحكم الواقعي أو الظاهري بالتخيير ، بل التخيير في
المسألة الأصولية الراجع لجواز التعويل في مقام العمل على كل من المتعارضين ظاهرا
ومطابقة العمل له ، لأن ذلك هو الظاهر من أدلته.
الثاني : أن مقتضى إطلاق أدلة التخيير عدم الفرق بين المفتي
والمستفتي ، فليس للمفتي اختيار أحد المتعارضين والفتوى على طبقه ، وإلزام
المستفتي بذلك.
أما بناء على أن مفاد الحجية التخييرية كون كل من الدليلين حجة
للمكلف ، ومجموعهما حجة عليه ، فلعدم لزوم العمل عليه بأحد المتعارضين ليتعين عليه
الفتوى بمفاده.
وأما بناء على
أن مفادها توقف حجية كل منهما تعيينا على اختيار المكلف له ، فاختيار المفتي لأحد
الدليلين وإن كان سببا لحجيته عليه تعيينا ، إلا أنه لا يكون سببا لحجيته على
المستفتي كذلك ، لعدم الدليل على قيام اختيار
__________________
المفتي مقام اختيار المستفتي ، بل مقتضى إطلاق أدلة التخيير إناطة الحجية
التعيينية لأحد المتعارضين في حق كل أحد باختياره هو غاية الأمر أن المفتي يقوم
مقام المستفتي في الفحص عن الأدلة وتحديد مفادها.
ولازم ذلك أن
وظيفة المفتي في مورد التعارض تنبيه المستفتي لورود الخبرين المتعارضين في الواقعة
، ثم الحكم بأنه له العمل على طبق كل منهما.
الثالث : أن مقتضى إطلاق أدلة التخيير أنه استمراري ، بمعنى أن
للمكلف في كل واقعة أن يختار في مقام العمل خلاف ما اختاره في الواقعة الأخرى ،
وليس ابتدائيا ، بحيث ليس له الخروج عما اختاره في الواقعة الأولى.
ودعوى : أن
أدلة التخيير واردة لبيان حكم المتحير ، ولا تحير بعد اختيار أحد الخبرين في
الواقعة الأولى ، حيث يكون هو الحجة حينئذ ، ويرتفع معه التحير.
مدفوعة أولا : بأنه مبني على رجوع الحجية التخييرية إلى حجية أحد
الخبرين تعيينا بشرط اختياره ، وهو لا يخلو عن إشكال ، كما سبق في أوائل الكلام في
مقتضى الأصل في المتعارضين.
وثانيا : بأن أدلة التخيير لم يؤخذ فيها التحير ، ليهتم
بتحديده وصدقه في المقام ، وإنما أخذ فيها تعارض الخبرين ـ الذي هو موجب للتحير ـ وهو
باق حتى بعد اختيار أحدهما في الواقعة الأولى. وارتفاع التحير في تلك الواقعة
باختيار أحدهما لا ينافي التحير في غيرها بسبب بقاء التعارض. بل لو كان مرسل الحارث
بن المغيرة من أدلة التخيير فقوله عليهالسلام فيه : «فموسع عليك حتى ترى القائم» صريح في استمرار
التخيير ما دام لم ير القائم ، وعدم اختصاصه بالواقعة الأولى.
الفصل الثالث
في لواحق الكلام في مفاد أدلة التعارض الخاصة
والكلام فيها
في ضمن مسائل ..
المسألة الأولى : سبق في الباب الأول عدم جريان أحكام التعارض العامة
في موارد الجمع العرفي. وأما الأحكام الخاصة ـ من الترجيح والتخيير والإرجاء ـ فقصورها
عن موارد الجمع العرفي موقوف على كون موضوعها التعارض في مقام الحجية المستتبعة
للعمل. أما لو كان موضوعها التعارض في مقام البيان والدلالة تعين عمومها لموارد
الجمع العرفي ، وتكون رادعة عنه ، وكاشفة عن خصوصية في الأخبار مانعة منه.
إذا عرفت هذا
فأكثر النصوص قد اشتمل على عنوان الاختلاف بين الأخبار ، والظاهر صدقه بمجرد
الاختلاف في مقام البيان والدلالة. إلا أن ورودها مورد التحير في الوظيفة موجب
لانصرافها عن موارد الجمع العرفي ، لعدم التحير فيه بحسب الطبع الأولي.
ولعل هذا هو
الوجه في سيرة الأصحاب «رضوان الله عليهم» في مقام الاستدلال على اعتماد الجمع
العرفي ، وعدم الرجوع لأحكام التعارض إلا بعد تعذره ، خصوصا بعض أنواعه المحررة
بعناوينها في كلماتهم ، كالعام والخاص ، والمطلق والمقيد ، حيث يظهر منهم الإجماع
على الرجوع إليها. من دون فرق بين تعارض الخبرين ، الذي هو موضوع نصوص العلاج ،
وتعارض البيانين الكتابيين ، وتعارض البيان الكتابي والخبر ، بنحو يكشف عن بنائهم
على عدم نهوض أخبار العلاج في تعارض الخبرين للردع عن الجمع العرفي بينهما.
وكفى بهذه
السيرة والإجماع دليلا على اعتماد الجمع العرفي في الأخبار ، وعاضدا للانصراف
المشار إليه آنفا ، فلا ينبغي التوقف في ذلك.
المسألة الثانية : سبق أن أحكام التعارض العامة كما تجري في الدليلين
الذي يكون أحدهما مكذبا للآخر عرفا ، لتعذر الجمع بينهما ، كذلك تجري في الدليلين
المتعارضين بظاهرهما ، بحيث يمكن تنزيل أحدهما على الآخر مع خفاء وجه الجمع بينهما
، كالعامين من وجه في مورد الاجتماع ، وكما إذا دار الأمر في الجمع بين المطلق
والمقيد بين تقييد المطلق بالمقيد ، وحمل المقيد على أفضل الأفراد ، من دون مرجح
لأحدهما ، وغير ذلك.
غاية الأمر أنه
بسبب عدم التكاذب بين الدليلين يكونان حجة في نفي الاحتمال الثالث ونحوه من
اللوازم المشتركة بين مفاديهما.
وأما أحكام
التعارض الخاصة المستفادة من أخبار العلاج فربما يدعى قصورها عن ذلك ، لعدم
التصادم بين الخبرين عرفا ، بل بين ظهوريهما ، الموجب لجريان حكم الإجمال عليهما
في مورد التعارض.
لكنه يندفع بأن
أكثر نصوص العلاج قد تضمن عنوان الاختلاف الصادق في مورد وضوح الجمع العرفي ـ كما
سبق ـ فضلا عما نحن فيه. غايته أن ورود تلك النصوص في مورد التحير موجب لانصرافها
عن مورد وضوح الجمع العرفي.
ولا وجه
لقصورها عما نحن فيه مع كونه موردا للتحير. ولا سيما مقبولة ابن حنظلة ، فإن فرض
اختلاف الخبرين فيها لم يكن ابتدائيا ، ليدعى انصرافه لخصوص صورة تكاذب الخبرين ،
وإنما كان بعد فرض اختلاف الحكمين ،
وحيث إن اختلاف الحكمين قد يكون لاختلاف ظهوري الخبرين من دون تصادم بينهما
، تعين عموم اختلاف الخبرين الذي هو موضوع العلاج لذلك.
هذا وظاهر بعض
الأعيان المحققين قدسسره خصوصية العامين من وجه ونحوهما مما لا يمنع التعارض فيه
من العمل به في الجملة ، ولو في غير مورد المعارضة ، لدعوى : انصراف العلاج إلى ما
إذا أوجب التعارض التوقف عن المتعارضين رأسا ، دون ما إذا بقي التعبد بسنديهما ،
لانفراد كل منهما بمورد يعمل فيه.
لكن منشأ
الانصراف المذكور غير ظاهر ، ليخرج به عن الإطلاق ، خصوصا بملاحظة ما سبق في
المقبولة ، فإنه يعم العامين من وجه ونحوهما ، بلحاظ أن ذلك قد يحصل في مورد
اختلاف الحكمين ، فيتعين عموم اختلاف الخبرين المفروض فيها له.
نعم قد يستشكل
في جريان المرجحات السندية ـ كالشهرة في الرواية ـ فيه ، لما ذكره شيخنا الأعظم قدسسره من أنه لا وجه لإعمالها على الإطلاق ، لأنه يوجب طرح
الخبر المرجوح في غير مورد التعارض ، ولا لإعمالها في خصوص مورد التعارض مع العمل
بالمرجوح في غيره ، لأنه بعيد عن ظاهر الأخبار العلاجية.
بل صرح بعض
الأعاظم قدسسره بامتناعه ، لأن الخبر الواحد لا يقبل التبعيض في
المدلول من حيثية الصدور ، بأن يكون صادرا في بعض مدلوله دون بعض.
اللهم إلا أن
يقال : ليس مرجع الترجيح الصدوري إلى تكذيب المرجوح والحكم بعدم صدوره ، ليمتنع
التفكيك في الصدور بين أبعاض مضمون الخبر الواحد ، بل إلى التعبد بمضمون الراجح
لأقوائيته من حيثية الصدور ، تقديما للأقوى في مقام التعارض ، وذلك إنما يناسب عدم
حجية المرجوح في مورد
المعارضة ، من دون أن يمنع من حجيته في غير موردها.
المسألة الثالثة : سبق في تعريف التعارض أنه قد يكون بين أكثر من
دليلين. ولا ريب في جريان أحكام التعارض العامة فيه. وأما أحكامه الخاصة التي
تضمنتها نصوص العلاج فلا يبعد جريانها فيه أيضا ، لأن جملة من تلك النصوص وإن
اختصت بتعارض الخبرين ، إلا أن إلغاء خصوصية ذلك قريب جدا ، ولا سيما مع مناسبته
لنوع المرجحات ارتكازا ، ولما في بعض نصوص التخيير من كون الأخذ بها من باب
التسليم.
بل بعض النصوص
مطلق من هذه الجهة ، كمقبولة ابن حنظلة المفروض فيها الاختلاف في الحديث بعد فرض
اختلاف الحكمين ، لوضوح أن كلا من الحكمين قد يستند في حكمه للجمع بين مضموني
حديثين أو أكثر ، وصحيح الحسن بن الجهم الوارد في الترجيح ، حيث فرض فيه رواية
الشيء عن أبي عبد الله عليهالسلام ورواية خلافه عنه ، فإن الخلاف قد يستفاد من الجمع بين
روايتين أو أكثر.
المسألة الرابعة : صرح بعض مشايخنا قدسسره بأن اختلاف النسخ في الأحاديث داخل في تعارض الأخبار. وظاهره
جريان أحكامه الخاصة من الترجيح والتخيير أو التوقف.
لكن الظاهر
قصور الأخبار العلاجية عن ذلك ، لأن موضوعها اختلاف أخبارهم ، واختلاف النسخ راجع
إلى الاختلاف في الخبر المنقول عنهم ، فإن الحديث والخبر والرواية في عرف المتشرعة
ـ الذي عليه جرت النصوص ـ عبارة عن الأمر المنقول عن المعصوم عليهالسلام ، واختلافه إنما يكون بتنافي المضامين المنقولة عنهم عليهمالسلام ، وهو لا يصدق مع اتحاد الأمر المنقول عنه من قبل
الراوي الأول ، مع الاختلاف في ما نقله الراوي الأول من قبل الوسائط
المتأخرة عنه.
ومن ثم كان
الترجيح بمخالفة العامة ارتكازا من المرجحات الجهتية ، بلحاظ أن ما ورد عنهم عليهمالسلام مخالفا للعامة أبعد عن التقية مما ورد عنهم موافقا لهم.
مع أنه لو كان شاملا لاختلاف النسخ لكان مرجحا صدوريا ، لفرض أنه لم يصدر عنهم إلا
شيء واحد مردد بين الوجهين. وهو بعيد جدا ، لعدم وضوح غلبة مخالفتهم للعامة ، بل
لعل ما ورد عنهم موافقا لهم أكثر.
ومن هنا كان
اللازم جريان حكم التعارض العام عند اختلاف النسخ ، وهو التساقط في فرض تكاذبها.
نعم لا يبعد
حجيتها في القدر المشترك بينها ، كنفي الثالث. أما مع العلم بصدق بعضها إجمالا
فظاهر. وأما مع عدمه فلقرب ابتناء اختلاف النسخ على الخطأ في إثبات النسخة أو
قراءتها أو سماعها ، وأصالة عدم الخطأ بنظر العقلاء تقتضي عدمه في إحداها إجمالا ،
اقتصارا فيه على المتيقن.
وليس الخطأ
كغيره من الأمور التي يبتني استحصال الواقع من الطريق على عدمها ـ كمخالفة ظاهر
الكلام ، وصدوره لبيان غير المراد الجدي ، والكذب من الناقل ـ مما يبتني على العمد
الذي لو جاز في أحد الطريقين جاز في الآخر ، ولا دافع له بعد تكاذب الخبرين.
كما أنه لا
يبعد الترجيح فيها بالشهرة ونحوها ، من ما يوجب الاطمئنان بصدق إحدى النسخ. لكن لا
بملاك الترجيح بين الحجتين ، بل لأن الاطمئنان بصدق إحدى النسخ مستلزم للاطمئنان
بكذب غيرها ، الذي يخرج معه الخبر عن الحجية ، بخلاف الاطمئنان بصدور أحد الخبرين
، فإنه لا يستلزم الاطمئنان بعدم صدور الخبر المعارض له ، لإمكان صدورهما معا ،
وإرادة خلاف الظاهر من أحدهما ، أو صدوره بداعي بيان غير الواقع من تقية أو نحوها.
وأما ما يتردد
في بعض الكلمات من ترجيح النسخة المتضمنة للزيادة ، لاحتياج الزيادة إلى عناية
بنحو يبعد الخطأ في إثباتها. فلم يتضح بناء العقلاء عليه بنحو يخرج به عما تقتضيه
القاعدة.
نعم إذا كانت
الزيادة غير دخيلة في بيان المراد من الباقي فقد لا يكون ظاهر حال النقل الخالي
عنها نفيها ، ليتحقق التعارض بين النقلين المانع من حجية نقلها.
المسألة الخامسة : لما كان موضوع نصوص العلاج تعارض أخبار الأئمة عليهمالسلام
، فلا مجال لجريان أحكامها في تعارض غيرها من الطرق المعتبرة بالخصوص ، بل يتعين
التساقط فيها ما لم يثبت الترجيح بينها بالخصوص.
وأما ما ذكره
شيخنا الأعظم قدسسره من جريان جميع الترجيحات فيها. لعموم التعليل المستفاد
من قوله عليهالسلام : «فإن المجمع عليه لا ريب فيه» وقوله عليهالسلام : «لأن الرشد في خلافهم» ، بدعوى : أن المورد لا يخصص
الوارد.
فيدفعه أن
المراد بالتعليل الأول لما كان هو خصوص الإجماع على الرواية ، فهو مختص بالأخبار ،
ولا موضوع له في غيرها. وأما التعليل بالثاني فهو إنما يستفاد من المرفوعة ، التي
تكرر منا عدم نهوضها بالاستدلال. وقد تقدم في مبحث التعدي عن المرجحات المنصوصة ما
ينفع في المقام. فراجع. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم. ومنه نستمد العون
والتسديد. والحمد لله رب العالمين.
خاتمة
في التزاحم
والكلام .. تارة : في حقيقته ومورده. وأخرى : في حكمه من حيثية الترجيح وعدمه. فهنا مقامان :
المقام الأول : في حقيقة التزاحم ومورده
التزاحم بين
الحكمين إنما يكون بتعذر الجمع بينهما في مقام الامتثال بعد بلوغهما مرتبة تقتضي
امتثالهما ، لتمامية ملاكيهما. أما التعارض فهو عبارة عن تكاذب الدليلين في إثبات
الحكمين.
وهما يشتركان
في عدم فعلية الحكمين معا بنحو الإطلاق. أما في التعارض فلفرض تكاذب الدليلين في
إثبات الحكمين. وأما في التزاحم فلأن تقوّم الحكم التكليفي بالعمل يستلزم عدم
فعليته مع تعذره ، فمع تعذر الجمع بين التكليفين في الامتثال يتعين امتناع
فعليتهما معا بنحو الإطلاق ، بحيث يقتضي الجمع بينهما في الامتثال. نعم يمكن
الخطاب بأحدهما أو بهما معا معلقا على عصيان أحدهما ، على ما سبق توضيحه في مبحث
الترتب من مسألة الضد.
كما أنهما يختلفان في أمور :
الأول : أن التعارض يبتني على فرض قيام الدليل على كل من
الحكمين ، بحيث يستلزم التنافي بين الحكمين ثبوتا التكاذب بين دليلهما إثباتا.
أما التزاحم
فلا يبتني إلا على محض التنافي بين الحكمين ثبوتا وإن لم
يتكاذب دليلاهما إثباتا ، لعدم قيام الدليل على فعلية كل منهما في مورده ،
بل على مجرد تمامية ملاكيهما ، ولو لكونه مقتضى الجمع بين الدليلين عرفا.
الثاني : أن التزاحم يبتني على فرض تمامية ملاك كل من الحكمين
، بحيث يقتضي تشريع كل منهما وامتثاله لو لا التزاحم ، والعجز عن الجمع بينهما في
مقام الامتثال. بخلاف التعارض ، فإنه يجتمع مع فرض العلم بعدم ثبوت أحد الملاكين ،
أو الشك في ثبوت أحدهما أو كليهما ، لفقد الدليل عليه بعد تكاذب الدليلين في الحكم
المسقط لهما عن الحجية فيه وفي الملاك تبعا له ، بناء على ما سبق من سقوط
المتعارضين عن الحجية في لازم مؤداهما.
الثالث : أنه لا بد في التزاحم من فرض اقتضاء كل من الحكمين
صرف القدرة لامتثاله بنحو ينافي مقتضى الآخر عملا. ولذا يختص بالأحكام الاقتضائية
مع العجز عن الجمع بينها في الامتثال.
أما التعارض
فلا يعتبر فيه إلا التنافي بين الحكمين ، بنحو يمنع من جعلهما معا ، وإن لم يكن
امتثال أحدهما منافيا لمقتضى الآخر ، لعدم كونه اقتضائيا ، كالوجوب والإباحة ، أو
لعدم تنافي مقتضاهما ، كالوجوب والاستحباب. بل وإن لم يقتض الحكمان العمل
والامتثال ، كالحكمين الوضعيين.
بقي في المقام أمران :
الأول : أنه قد يدعى أن ما تقدم من معيار التزاحم من الاكتفاء بإحراز
الملاكين لا يناسب ما هو المعلوم من أن الملاك بنفسه لا يصلح للإلزام عقلا ما لم
يترتب عليه جعل التكليف من قبل المولى ، ولذا لا يجب عقلا إطاعة الأوامر والنواهي
الواردة بداعي الإرشاد للمصالح والمفاسد الواقعية ، وينحصر وجوب الإطاعة بالأوامر
والنواهي المولوية.
كما لا ينبغي
التأمل في أن اجتماع مقتضيات الأحكام المختلفة في الموضوع الواحد ـ المعبر عنه
بالتزاحم الملاكي ـ لا يقتضي جريان أحكام التزاحم الذي نحن بصدده ، فليس للمكلف
الترجيح بينها بالأهمية ، فضلا عن احتمالها ، ولا التخيير مع عدمها ، بل إن أحرز
جعل المولى الحكم على طبق أحدها ـ لأهميته بنظره ـ أو جعله حكما آخر لا يناسب
أحدها بخصوصه فهو ، وإن لم يحرز تعين التوقف والرجوع للأصول.
بل تقدم منا
أنه بناء على التحسين والتقبيح العقليين فإحراز جهة الحسن أو القبح لا يقتضي
البناء على الحكم الشرعي المطابق لها ، لاحتمال المزاحم ، مع أن احتمال المزاحم
فيما نحن فيه لا يمنع من البناء على فعلية الحكم الذي يحتمل وجود المزاحم له.
كما أنه يمكن
فرض التزاحم ـ الذي نحن بصدده ـ حتى بناء على ما عليه الأشاعرة من عدم توقف
الأحكام على المصالح والمفاسد في المتعلقات ، ولا على المصالح في نفس الأحكام.
لكنه يندفع
بأنه ليس المراد بالملاك المصالح والمفاسد في متعلقات الأحكام ، أو المصالح في نفس
جعل الأحكام ، التي لا بد منها بناء على مختار العدلية في التحسين والتقبيح
العقليين. بل المقتضيات الموجبة لجعل الأحكام والأغراض الداعية له ، التي لا بد
منها فيه كسائر الأفعال الاختيارية ، ولا يظهر من الأشاعرة إنكار ذلك ، فلا يمنع
ما ذكرنا من فرض التزاحم على مختارهم.
وحينئذ فعدم
جعل الحكم إن كان لعدم المقتضي له خرج عن محل الكلام.
وإن كان مع
وجود المقتضي له فهو يكون .. تارة : لقصور المقتضي عن التأثير في جعل الحكم ، لوجود
المزاحم له في مرتبة سابقة على جعله ، ولو كان
هو مصلحة التسهيل على المكلف. وهو راجع إلى عدم تمامية موضوع الحكم ، الذي
هو موضوع الغرض الداعي لجعله. وفي مثل ذلك يكون التزاحم الملاكي.
وأخرى : لعجز المكلف عن الامتثال بعد تمامية المقتضي وصلوحه لأن
يترتب عليه جعل الحكم ، لتمامية موضوعه الذي هو موضوع الغرض الداعي للجعل ، وبه
يتم الملاك المراد في المقام. وفي مثله يكون التزاحم الحكمي الذي هو محل الكلام.
والحكم وإن لم
يكن فعليا في المقام إلا أن عدم فعليته ليس لقصور في ملاكه ، ولا لعدم تمامية
موضوعه وعدم تعلق الغرض به ، بل لقصور المكلف في مقام الامتثال ، نظير قصور المولى
لو فرض عجزه عن الكلام ، أو عن إيصال التكليف ، حيث قد لا يجعل التكليف حينئذ مع
تمامية غرضه وموضوعه.
نعم لو كان
العجز موجبا لقصور المقتضي عن التأثير في جعل الحكم ، ومانعا من تعلق الغرض به ،
كان من النحو الأول ، وكان مانعا من تمامية موضوع التكليف ، كما هو الحال في جميع
موارد تقييد التكليف بالقدرة شرعا.
ويفترق الوجهان
: أولا : في صدق الفوت بعدم متابعة المقتضي ـ قصورا أو تقصيرا
ـ في الثاني ، دون الأول.
وثانيا
: في صلوح
المقتضي في الثاني للتقرب ـ كما تقدم في مسألة الضد ـ دون الأول.
وثالثا
: في أنه يحق
للمكلف في الأول إحداث ما يرفع التكليف ، بتحقيق المزاحم للمقتضي ، كما يجوز له
الإخلال بسائر ما هو دخيل في موضوع التكليف ، لأن التكليف لا يقتضي حفظ موضوعه.
ولا يحق له ذلك في الثاني ، لأن التكليف ـ تبعا للغرض ـ يقتضي حفظ متعلقه ، فلا
يجوز له تعجيز نفسه عن الامتثال قبل الوقت ، فضلا عما بعده.
ورابعا : في أن الشك في فعلية التكليف في الوجه الأول للشبهة
الحكمية ـ الراجعة لاحتمال صلوح شيء لمزاحمة المقتضي ـ أو الموضوعية ـ الراجعة
لاحتمال وجود ما هو معلوم المزاحمة ـ مجرى للبراءة. أما الشك في فعلية التكليف في
الوجه الثاني للشك في القدرة فلا بد معه من الاحتياط ، على ما سبق في التنبيه
الخامس من مبحث البراءة.
إذا عرفت هذا
فاعلم أنه إن علم بدخل القدرة في الملاك وموضوع الغرض ، أو بعدم دخلها فذاك ، وإلا
فمقتضى إطلاق موضوع دليل الحكم ـ فيما لو لم يقيد بالقدرة ـ عدم دخلها في الملاك
والغرض ، كما هو الحال في سائر القيود المحتملة.
إن
قلت : لا مجال
لإحراز عموم الملاك والغرض لحال العجز وعدم دخل القدرة فيهما من إطلاق الخطاب ، إذ
بعد ظهور الخطاب في فعلية التكليف ، والعلم بعدم فعليته مع العجز يكون الإطلاق
مقيدا بالقدرة لبا ، كما لو قيد بها لفظا ، وكما لو استفيد التقييد لفظا أو لبا ـ بدليل
متصل أو منفصل ـ بغير القدرة من القيود التعبدية ، حيث يكون سقوط الإطلاق عن
الحجية في فعلية الحكم مانعا من استفادة عموم الملاك والغرض منه.
نعم لو بيّن
موضوع الغرض والملاك بطريق آخر غير الخطاب بالتكليف الظاهر في فعليته أمكن إحراز
عمومه لمورد العجز.
قلت : رفع اليد عن الإطلاق بدليل التقييد إنما هو بلحاظ
كونه قرينة عرفية على بيان المراد من الإطلاق وفهمه منه ، فهو تابع للنظر العرفي
في فهم الأدلة والجمع بينها. ووضوح دخل القدرة في فعلية التكليف ارتكازا إنما يكون
قرينة عرفا على تقييد الإطلاق من حيثية الفعلية ، لا من حيثية الغرض والملاك ، بل
يكتفي العرف بالإطلاق في إحراز عدم دخل القدرة في الملاك والغرض ، فيرتبون الآثار
العملية الأربعة المتقدمة ، كما يظهر بأدنى ملاحظة لطريقتهم في
فهم خطابات بعضهم لبعض ، وبالرجوع لمرتكزاتهم في فهم الخطابات الشرعية.
ولا مجال ـ مع
ذلك ـ لقياسه بالتقييد اللفظي المتصل أو المنفصل أو اللبي في القيود التعبدية ،
لعدم خضوع المرتكزات العرفية للقياسات ، وإنما يتشبث بها لتقريب المرتكزات فيما لو
طرأ عليها الالتباس ، لا في مثل المقام مما كانت فيه من الوضوح بحدّ يستغني عن
ذلك.
على أنه قد
يكون منشأ الفرق : أن ظاهر الخطاب وإن كان هو الفعلية ، إلا أن ظاهر حال الحاكم
أيضا هو بيان موضوع غرضه بخطابه ، فعدم تقييده بالقدرة اتكالا على الارتكاز المذكور
ظاهر في اعتماده على مفاده ، وهو خصوص تقييد الفعلية ، وإلا كان مخلا ببيان غرضه ،
أما مع التقييد بها ، فحيث كان تقييد الفعلية مستغنى عن بيانه ، فتصديه له ظاهر في
الحاجة إليه لبيان موضوع غرضه.
وإن كان
الإنصاف أن غلبة عدم دخل القدرة في الغرض ، وكونها آلة لتحصيله ، توجب ضعف ظهور
التقييد بها لفظا في دخلها فيه ، وقرب حمله على متابعة ما هو المرتكز من دخلها في
الفعلية ، بحيث قد يحتاج بيان دخلها في الغرض إلى مئونة في البيان ، وليست كسائر
القيود التعبدية التي يفهم من التقييد بها دخلها في الغرض.
ولذا يكثر من
العرف التسامح في ذكرها مع عدم دخلها في الغرض ، نظير تسامحهم في التقييد بالعلم ،
حيث يكثر ابتناؤه على ارتكاز طريقيته ، من دون أن يكون دخيلا في موضوع الحكم
ثبوتا.
الأمر الثاني : الكبريان المتنافيتان اللتان تتضمنهما الأدلة الشرعية
إن اتحد موضوعهما واختلف حكمهما فلا إشكال في كونهما موردا للتعارض ، دون التزاحم
، لتوقف التزاحم على تعدد الموضوع ، ليمكن تعدد الغرض والملاك.
وإن تعدد
موضوعهما فتنافيهما إن كان لمقدمة خارجية كانا موردا للتعارض أيضا ، دون التزاحم ،
للتكاذب بينهما بضميمة المقدمة المذكورة ، كما في دليلي وجوب القصر ووجوب التمام.
وكذا إن كان لتعذر الجمع بينهما في مقام الامتثال دائما أو غالبا ، لابتناء
التكاليف الشرعية على ما يلائم طاقة غالب الناس.
أما مع قلة
موارد تعذر الجمع بينهما في مقام الامتثال ، فالمورد غالبا يكون من موارد التزاحم
الذي هو محل الكلام.
ثم إن موضوعي
الكبريين المستفادين من دليلهما .. تارة : يتحدان بحسب العنوان والمعنون ، كما لو دل أحد
الدليلين على وجوب إكرام النحويين والآخر على حرمته.
وأخرى : يختلفان بحسبهما معا ، كما في دليلي حرمة التصرف في
المغصوب ووجوب إنقاذ الغريق.
وثالثة : يختلفان بحسب العنوان ويتحدان بحسب المعنون ولو في
بعض الأفراد ، كإكرام العلماء وإكرام الفساق ، والغصب والصلاة.
والأول من أوضح
أفراد الاتحاد المستلزم للتعارض ، والثاني من أوضح أفراد التعدد المعتبر في
التزاحم ، وأما الثالث فالحال يختلف فيه باختلاف العناوين ، وقد تقدم في مبحث اجتماع
الأمر والنهي الضابط في الفرق بينها بما يغني عن التعرض له هنا. فراجع.
المقام الثاني : في حكم التزاحم من حيثية الترجيح وعدمه
تقدم أنه لا بد
في التزاحم من تمامية موضوع التكاليف المتزاحمة ، وفعلية غرضها وملاكها مع العجز
عن الجمع بينهما في مقام الامتثال ، وحيث لا بد من حفظ الغرض والملاك من قبل
المولى بجعل التكليف ، فلا بد من عدم رفع اليد عن جميع التكاليف المتزاحمة ، لما
فيه من تفويت ما يمكن تحصيله من الغرض والملاك.
كما أنه حيث
يمتنع التكليف مع العجز ، فلا بد من قصور عموم التكاليف المتزاحمة عن حال التزاحم بنحو
يقتضي حفظ القدرة لامتثال كل منها ، بل لا بد من رفع اليد عن بعضها أو عن كل منها
معلقا على امتثال الباقي ، على ما أشرنا إليه آنفا.
نعم مع غفلة
المولى عن التزاحم ـ الذي هو ممكن في الموالي العرفيين ـ فالتكليف وإن لم يقصر من
قبل المولى ، إلا أنه يسقط عقلا عن مقام الإطاعة ، فلا يجب إطاعته في ظرف امتثال
الباقي.
إذا عرفت هذا
فلا ريب في التخيير في الامتثال بين التكاليف مع عدم المرجح لأحدها ، لامتناع
الترجيح من غير مرجح في فرض تساوي الغرضين ، بملاك امتناع تحقق التكليف ـ الذي هو
فعل اختياري للمولى ـ من دون غرض.
كما لا ريب في
أنه مع وجود المرجح لأحدهما يلزم حفظ الراجح واستيفاء ملاكه ، لإطلاق فعليته. ومن
هنا كان المناسب النظر في المرجحات الملزمة باختيار أحدها بعينه ، وفعليته على نحو
الإطلاق.
والمذكور في كلماتهم أمور ..
الأول : الأهمية. ولا إشكال في كونها من المرجحات في المقام ، لأن في
المحافظة على الأهم تحصيل المرتبة الزائدة من الغرض. نعم لا بد من كون الأهمية
بمرتبة ملزمة ، بأن تكون المرتبة الزائدة من الغرض مقتضية للإلزام ، وإلا كان
الترجيح أولى ولم يكن لازما.
هذا ولو كان
أحدهما المعين محتمل الأهمية ، فقد صرح غير واحد بوجوب اختياره ، على اختلاف منهم
في وجه ذلك.
والعمدة فيه :
أن سقوط التكليف في باب التزاحم وإن كان راجعا إلى تقييده لبا وعدم فعليته ، إلا
أن تقييده وعدم فعليته لمّا لم يكن لقصور موضوعه المستلزم لعدم فعلية غرضه وملاكه
، بل لوجود العذر عنه عقلا بملاك التعذر والعجز ، فبناء العقلاء في ذلك على لزوم
الاحتياط حتى يثبت العذر المسوغ للتفويت. ولذا كان بناؤهم على الاحتياط مع الشك في
القدرة ، كما أشرنا إليه آنفا عند الكلام في حقيقة التزاحم.
وحيث يشك في
مسوغية التزاحم لتفويت محتمل الأهمية ، لاحتمال عدم العجز عنه بسبب التكليف الآخر
، وجب الاحتياط بتحصيله ، وتعين تفويت الآخر الذي يعلم بمسوغية التزاحم لتفويته
تعيينا أو تخييرا ، وكونه عذرا فيه.
ولو كان كلاهما
محتمل الأهمية فلا موضوع للترجيح المذكور ، لتعذر الاحتياط المتقدم بعد تقابل
الاحتمالين. وهو ظاهر مع تساوي الاحتمالين.
أما مع أقوائية
أحدهما فربما يدعى لزوم العمل على الاحتمال الأقوى ، لعدم وضوح حكم العقل بالتخيير
معه ، واحتمال توقفه عن الحكم بكون متابعة الاحتمال الأضعف عذرا في ترك متابعة
الاحتمال الأقوى. فتأمل جيدا.
بقي شيء
وهو أن ترجيح
الأهم إنما هو مع اقتضائه صرف القدرة إليه ، وترك المهم من أجله ، لكونه تعيينيا
مضيقا بالذات أو بالعرض ، أما لو كان تخييريا أو موسعا ، بنحو يمكن الجمع بين
الامتثالين ، وجب الجمع بينهما ، وخرج عن باب التزاحم.
كما أن ترجيح
الأهم لمّا لم يوجب سقوط غرض الآخر وملاكه ، ولا رفع موضوعه ، فلا يجوز للمكلف
إيقاع التزاحم بين التكليفين بمثل تضييق وقت الأهم ، لأنه وإن أوجب رفع المولى يده
عن التكليف الآخر ، إلا أنه كرفع اليد عن التكليف مع العجز عن امتثاله ، الذي لا
يسوغ تعجيز المكلف نفسه عن الامتثال.
وكذا الحال لو
كانت الوظيفة التخيير بين التكليفين ، لعدم المرجح لأحدهما ، فإنه لا يسوغ للمكلف
إيقاع التزاحم بينهما ، لعين ما سبق.
الثاني : ما إذا كان لأحد التكليفين بدل اضطراري في طوله ، دون
الآخر ، فيقدم ما لا بدل له على ما له البدل ، وينتقل للبدل. كما لو دار الأمر بين
صرف الماء في الطهارة الحدثية للصلاة وصرفه في تطهير المسجد ، فيجب الثاني ،
ويتعين التيمم للصلاة. ذكر ذلك بعض الأعاظم قدسسره.
وهو ظاهر إذا
كان تشريع البدل بنحو يقتضي جواز إيقاع المكلف نفسه في الاضطرار ، بحيث له إراقة
الماء ليشرع له التيمم في المثال السابق ، حيث يخرج المورد حينئذ عن باب التزاحم ،
إذ يشترط في التزاحم كون كل من التكليفين بنحو يقتضي صرف القدرة إليه.
أما إذا لم يكن
كذلك ، بل كان المبدل مقتضيا لحفظ القدرة عليه ، فهو لا يخرج عن التزاحم. ولا وجه
حينئذ لتعجيز المكلف نفسه عن المبدل ،
والانتقال لبدله الاضطراري من أجل امتثال التكليف الآخر ، مع عدم المرجح له
من جهة أخرى.
وبالجملة : لا
وجه لعدّ هذا من مرجحات باب التزاحم ، لعدم الدليل على العمل عليه إلا في المورد
الخارج عن التزاحم.
الثالث : ما إذا كانت القدرة دخيلة في موضوع أحد التكليفين
شرعا دون الآخر ، فقد سبق في المقام الأول أن القدرة وإن كانت شرطا في فعلية
التكليف عقلا ، إلا أنها قد تكون أيضا دخيلة في فعلية الغرض من التكليف وتمامية
ملاكه ، فتكون معتبرة في موضوعه شرعا. وقد ذكر بعض الأعاظم قدسسره أنه يتعين ترجيح ما تعتبر فيه القدرة عقلا فقط على ما
تعتبر فيه القدرة شرعا أيضا عند التزاحم.
وهو متجه إن
كان المراد بالقدرة المعتبرة شرعا في التكليف ما يعم القدرة الشرعية الراجعة إلى
عدم لزوم محذور شرعي من تحقق متعلقه ، إذ يكون التكليف الآخر واردا عليه ورافعا
لموضوعه ، لأن مخالفة ذلك التكليف محذور شرعي ، فيرتفع به موضوع التكليف الذي أخذت
فيه القدرة شرعا.
لكنه يخرج عن
باب التزاحم ، لعدم فعلية الغرض من التكليف المذكور بعد عدم تمامية موضوعه ، ولا
بد في التزاحم من تمامية غرض كلا التكليفين ، كما تقدم.
أما إذا كان
المراد بالقدرة المعتبرة شرعا في موضوع التكليف خصوص القدرة الخارجية التكوينية ،
فلا وجه لترجيح الآخر عليه بعد تحقق موضوعهما معا ، وفعلية التزاحم بينهما ، لفرض
القدرة على كل منهما بنفسه ، والمتعذر إنما هو الجمع بينهما. وبذلك ظهر أن هذا
المرجح ـ كسابقه ـ إنما ينهض بالترجيح في غير مورد التزاحم.
الرابع : سبق زمان الامتثال. فقد التزم بعض الأعاظم قدسسره بترجيح السابق زمانا ، إلا أن يكون المتأخر أهم منه.
بدعوى : أن سقوط كل من التكليفين المتزاحمين لا يكون إلا بامتثال الآخر الموجب
للعجز عنه ، فلا مسقط للتكليف المتقدم ، لعدم امتثال المتأخر بعد ، فهو مقدور عليه
، أما المتأخر فيسقط بامتثال المتقدم ، للعجز عنه به. أما لو كان المتأخر أهم
فوجوب حفظ القدرة عليه يسقط التكليف المتقدم.
لكنه كما ترى ،
لوضوح أن المسقط لأحد التكليفين المتزاحمين ، ليس فعلية العجز عنه بامتثال الآخر ،
بل مجرد تعذر الجمع بين التكليفين في مقام الامتثال ، ولذا يتخير بين التكليفين
المتقارنين المتساوي الأهمية ، مع القدرة على كل منهما بخصوصه. وهو حاصل في المقام
، لأن التكليف المتأخر حيث يجب حفظ القدرة عليه ، ولا يجوز تعجيز النفس عنه قبل
مجىء وقته ـ ولذا اعترف به قدسسره بترجيحه مع أهميته ـ فهو صالح لمزاحمة التكليف المتقدم
مع عدم الترجيح بينهما ، كما لو كانا متقارنين.
والذي ينبغي أن
يقال : لا ينبغي التأمل في ترجيح المتقدم فيما لو احتمل احتمالا معتدا به تجدد
القدرة على المتأخر مع حفظ المتقدم ، أو تجدد العجز عن المتأخر أو ارتفاع موضوعه
مع تفويت المتقدم. لاحتمال تحصيل كلا الغرضين في الأول ، والحذر من فوتهما معا في
الثاني. ومرجع الأمرين في الحقيقة للشك في مزاحمة المتأخر للمتقدم ، الملزم
بالاحتياط بتحصيل المتقدم ، للشك في حصول العذر المسقط. إلا أن يكون اللاحق من
الأهمية بمكان بحيث يقتضي الاحتياط له بتفويت الأسبق زمانا بمجرد احتمال مزاحمته
له.
وأما مع عدم
الاحتمال المذكور ، أو ضعفه بنحو لا يعتد به ، فمقتضى القاعدة عدم ترجيح الأسبق
زمانا ، كما هو المعلوم في أغراض الإنسان
التكوينية. لو لا ما تقدم عند الكلام في ترجيح محتمل الأهمية من أن الشك
حيث كان في المسقط المعذر عن امتثال التكليف تعين تنجز احتمال التكليف ، بنحو يجب
الاحتياط فيه ما لم يعلم بالمعذرية.
وحينئذ ربما
يكون التقدم الزماني منشأ للترجيح بنظر المولى لتحصيل ما يمكن تحصيله فعلا ، تحفظا
من الطوارئ غير المحتسبة للمكلف ، أو التي لا يعتد باحتمالها ، كما قد يتحفظ من
احتمال خطأ قطع المكلف ، ولا يتحفظ المكلف نفسه من ذلك. ومع الاحتمال المذكور يشكل
حكم العقل بالتخيير.
نعم مع إحراز
أهمية المتأخر بنحو يعتد به فلا إشكال في لزوم ترجيحه.
وأما مع احتمال
أهميته ، فالأمر لا يخلو عن إشكال ، لتزاحم الاحتياطين. ولا بد من التأمل التام في
المقام ، لأن الأمور الوجدانية لما لم تكن خاضعة للبرهان فقد يلتبس الأمر فيها
بأدنى شبهة.
تنبيه
التزاحم في
مقام الامتثال إنما يتصور في التكاليف الاستقلالية ، دون التكاليف الضمنية بالأجزاء
أو الشرائط في المكلف به الارتباطي ، كما لو تعذر الجمع بين القيام والطمأنينة في
الصلاة. لوحدة الغرض الفعلي ، ولا موضوع معها للتزاحم.
ولذا كان مقتضى
القاعدة سقوط التكليف بالمركب بتعذر بعض ما يعتبر فيه ـ من الأجزاء والشرائط ـ لو
كان لدليل اعتباره إطلاق يشمل حال التعذر ، لرجوعه إلى تعذر المكلف به ، وهو
المركب الارتباطي التام. وإنما يكتفى بالناقص لدليل خاص من إجماع أو غيره.
وعلى ذلك لو
تعذر الجمع بين أمرين ، وعلم باكتفاء الشارع بالميسور ، فالمورد من موارد الشك في
الجعل ، للتردد في المركب الواجب ، وأنه
المشتمل على أي منهما. وحينئذ لا إشكال في التخيير بينهما مع العلم
بالتساوي بينهما في الأهمية ، وفي ترجيح الأهم منهما مع العلم به.
ولو احتمل
أهمية أحدهما بعينه فالمورد من صغريات الدوران بين التعيين والتخيير في مقام الجعل
، الذي سبق في مبحث الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين الكلام في أن المرجع
فيه البراءة أو الاشتغال.
ومنه يظهر
الحال لو تردد محتمل الأهمية بينهما. حيث يتعين التخيير بناء على الرجوع للبراءة
هناك ، والاحتياط بتكرار المركب مع كل منهما بناء على الاشتغال.
ولو علم بأهمية
أحدهما إجمالا فالمورد من صغريات الدوران بين المتباينين في مقام الجعل ، فيلزم
الاحتياط بتكرار المركب مع كل من الأمرين مع تيسره.
أما لو تعذر
الاحتياط ، أو علم بعدم وجوبه ، فالمتعين التخيير ظاهرا بين المركبين.
ولنكتف بهذا
المقدار من الكلام في المقام. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق والتأييد
والتسديد.
والحمد لله في
البدء والختام وبه الاعتصام.
خاتمة علم الأصول
في الاجتهاد والتقليد
يبحث في أولهما
عن الاجتهاد ، وفي ثانيهما عن التقليد ، ثم في خاتمة يبحث فيها عن وجوب الفحص الذي
هو مشترك بين المجتهد والمقلد.
المقام الأول
في الاجتهاد
وهو لغة بذل
الوسع ، كما في الصحاح ، ومختاره ، والقاموس ، والنهاية ، ولسان العرب. وزاد في
الأخيرين : «وهو افتعال من الجهد الطاقة». وأما في الاصطلاح فقد اختلفت كلماتهم في
تعريفه ، بما لا مجال لإطالة الكلام فيه.
ولعل الأنسب
بمحل الكلام تعريفه بأنه : ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي الكلي ، أو
معرفة الوظيفة الفعلية في الشبهات الحكمية. والكلام فيه يقع في ضمن مسائل ..
المسألة الأولى : وقع الكلام بين الأصوليين في تجزي الاجتهاد وعدمه. ومرجعه
إلى أنه هل يكون الشخص قادرا على استنباط الحكم الشرعي ، أو تشخيص الوظيفة في خصوص
بعض المسائل ، أو لا بد إما من قدرته على ذلك في جميع المسائل ، أو عجزه عنه في
الكل؟. والمعروف هو إمكان التجزي. وربما نسب القول بامتناعه للشذوذ ، وإن كان هو
الظاهر من شيخنا الأستاذ قدسسره
وبعض أعيان تلاميذه.
والظاهر إمكان
التجزي ، بل وقوعه ، لا بمعنى تجزّي الملكة ، فإنها أمر بسيط لا يقبل التجزي ، بل
بمعنى قصورها بسبب عدم الإحاطة بجميع كبريات الاستدلال وصغرياتها ، بل ببعضها ،
حيث يكون ذلك منشأ للقدرة على الاستنباط أو تشخيص الوظيفة في خصوص الفروع المبتنية
على ما أحاط به من الكبريات والصغريات المذكورة دون غيرها.
فقد يكون الشخص
مثلا محيطا بما هو الحجة من الأدلة اللفظية ، قادرا على تشخيص الظهورات اللفظية ،
غير قادر على بعض صور الجمع بين الظهورين ، أو على كيفية علاج تعارض الأدلة ، أو
على تشخيص الوظيفة والأصل عند فقد الأدلة ، فيتيسر له استنباط الفروع التي ينفرد
بها ظهور واحد ، دون الفروع التي تتصادم فيها الظهورات أو تتعارض فيها الأدلة ، أو
يكون المرجع فيها الأصول.
كما قد يكون
الشخص محيطا بالأصول العملية أو ببعض أقسامها دون الأدلة والظهورات ، فيتسنى له
معرفة الوظيفة في الفروع المبنية على تلك الأصول فيما لو قطع بوصول النوبة لها ،
دون الفروع المبنية على غيرها من الأصول أو على الظهورات ... وهكذا.
ودعوى : أن
مقدمات الاستدلال متداخلة يرتبط بعضها ببعض ، ولا يكفي الفراغ من بعضها في
الاستفادة منها في الاستنباط ، بل لا بد من الفراغ عن الجميع في عملية الاستنباط
وتشخيص الوظيفة. ممنوعة ، لاختلاف الفروع في ذلك جدا ، كما يظهر بأدنى ممارسة
وتأمل.
بل ذكر المحقق
الخراساني قدسسره : أنه يستحيل عادة حصول الاجتهاد المطلق من دون أن يكون
مسبوقا بالتجزي. وما ذكره متين بلحاظ الوضع
المتعارف من تدرج رجل العلم في المعلومات ، وفي المهارة فيها ، وفي قوة
النظر ، والذوق الفقهي باستمرار الممارسة ، فلا يتسنى له في أول مراحله إلا تشخيص
الوظيفة في الفروع الفقهية غير المعقدة ، التي يسهل إثبات كبرياتها الأصولية ،
وإحراز موضوع تلك الكبريات فيها ، ثم يقوى على الأصعب فالأصعب بطول الزمن مع
استمرار الممارسة وإعمال النظر والملاحقة.
وربما يبقى
عاجزا عن تشخيص الوظيفة في بعض الفروع ، لشدة تعقدها ، واضطراب الوجدان عليه فيها
، لتصادم جهات الكشف عن الوظيفة الفعلية ، أو ابتلائها بما يمنع من الركون إليها ،
كما يبتلى به أعاظم المجتهدين في كثير من الموارد ، فيتوقف عن الفتوى فيها. ولعله
لذا اكتفى في الفصول في الاجتهاد المطلق بالقدرة على استنباط جملة معتد بها من
الأحكام.
نعم قد يكون منشأ
التوقف عن الفتوى التورع والاحتياط للواقع ، أو تجنب بعض المحاذير ، مع القدرة على
تشخيص الوظيفة. ولذا قد يفتي لو ترجح في نظره ذلك ، لحاجة الناس للفتوى أو نحوها.
لكنه غير مطرد ، بل قد يكون للعجز ، كما ذكرنا.
هذا ولا ينبغي
التأمل في وجوب عمل المتجزي برأيه فيما وصل إليه ، وإن قيل إنه محل خلاف. لعموم
أدلة الحجج له ، فيقطع بمقتضاها بالوظيفة الفعلية ، كما يقطع بها في موارد الأصول
الفعلية. ولا مجال لتخلف القاطع عن قطعه ، فضلا عن حجية رأي غيره عليه ممن يخالفه
ويكون جاهلا بنظره. ولا يقلد الغير إلا فيما يعجز عن تشخيص الوظيفة فيه ، لدخوله
في كبرى رجوع الجاهل للعالم بالإضافة إليه.
وأما الرجوع
للمتجزي وتقليده فيما وصل إليه فالكلام فيه موكول لمبحث التقليد.
المسألة الثانية : اتفقت الكلمة ـ كما قيل ـ على التخطئة في العقليات ، سواء
كان لها دخل بالأحكام الشرعية ، كاستلزام وجوب الشيء لوجوب مقدمته ، أم لا ، ككون
الكل أعظم من الجزء. إذ ليس شأن العقل إلا إدراك الواقع ، ولا مجال لتبعية الواقع
للإدراك ، لتفرع مقام الإثبات على مقام الثبوت ، وتأخره عنه رتبة ، ولا يكون
المتقدم تابعا للمتأخر. بل ليس الواقع الذي يتناوله الإدراك إلا أمرا واحدا ،
يصيبه من يصيبه ، ويخطئه من يخطئه.
وأما الشرعيات
فقد تكرر نقل إجماع أصحابنا على التخطئة فيها ، وأن لله تعالى في كل واقعة حكما
واحدا تابعا لموضوعه الواقعي ، يصيبه من يصيبه ، ويخطئه من يخطئه. بل الظاهر
مفروغيتهم عنه.
وما قد ينافيه
من بعض كلماتهم في حقيقة الحكم الظاهري ، والجمع بينه وبين الحكم الواقعي ونحوهما.
ناشئ عن الغفلة عن منافاة ذلك للتخطئة. ولذا تكرر منهم النقض على بعض الوجوه
المذكورة في كلماتهم باستلزامه التصويب ، حيث يناسب ذلك المفروغية عن بطلانه.
وكيف كان
فالتصويب يتردد في كلمات القائلين والناقلين له بين وجوه ثلاثة الأول : أن الحكم في حق كل مجتهد ومن يقلده تابع لاجتهاده ،
بحيث لا حكم لله تعالى في الواقعة قبل تحقق الاجتهاد.
الثاني : أن له تعالى أحكاما متعددة بعدد ما يعلم حصوله من
آراء المجتهدين ، فكل مجتهد قد جعل في حقه وحق مقلديه الحكم الذي سوف يؤدي إليه
اجتهاده.
الثالث : أن له حكما واحدا أوليا يشترك بين العالم والجاهل ،
يصيبه من يصيبه ، ويخطئه من يخطئه ، إلا أن من أدى اجتهاده لخلافه ينقلب الحكم في
حقه وحق من يقلده على طبق اجتهاده ، فالاجتهاد المخالف للواقع من سنخ
العنوان الثانوي الموجب لتبدل الحكم الأولي.
وبأحد الوجهين
الأولين قد يفسر التصويب المنسوب للأشاعرة. وإن كان الأظهر من بعض الكلمات
المنقولة عنهم الأول. وبالوجه الثالث قد يفسر التصويب المنسوب للمعتزلة. ولعله
أهون الوجوه ، وأبعدها عن الخطأ ، لأن تبدل الأحكام الأولية بالعناوين الثانوية غير
عزيز.
إلا أنه لا
مجال للبناء عليه بعد منافاته لإطلاقات الأحكام الواقعية القاضية بفعليتها تبعا
لفعلية موضوعاتها ، وعدم ارتفاعها بخطإ المجتهد في الوصول إليها.
مضافا إلى
النصوص الكثيرة الظاهرة في فعلية الحكم الواقعي في صورة عدم إصابته.
منها : ما تضمن أن الحكم حكمان : حكم الله عزوجل ، وحكم الجاهلية ، وأن من أخطأ حكم الله فقد حكم بحكم
الجاهلية .
ومنها : ما تضمن تفسير حديث أن اختلاف الأمة رحمة بالاختلاف
في طلب العلم ، وأن الدين واحد . فإنه كالصريح في عدم تعدد حكم الدين في الواقعة ، تبعا
لاختلاف المجتهدين.
ومنها
: ما في نهج
البلاغة ، والاحتجاج ، عن أمير المؤمنين عليهالسلام أنه قال في ذم علماء السوء : «ترد على أحدهم القضية في
حكم من الأحكام ، فيحكم فيها برأيه ، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم
فيها بخلافه ، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آراءهم جميعا.
وإلههم واحد ، ونبيهم واحد ، وكتابهم واحد. أفأمرهم الله سبحانه بالاختلاف فأطاعوه
،
__________________
أم نهاهم عنه فعصوه؟!» فإنه صريح الإنكار على تصويب أحكام القضاة المختلفة
تبعا لاختلاف اجتهادهم.
ومنها : ما تضمن من النصوص الكثيرة الاهتمام بحفظ الأحاديث
ومدح رواتها الأمناء عليها . حيث يظهر منها أن ضياع الواقع بضياعها محذور لا يتدارك
بتشخيص المجتهد للوظيفة الفعلية المخالفة للواقع ، بحيث يقتضي تبدل الحكم ... إلى
غير ذلك من النصوص الظاهرة أو المشعرة بأن الأحكام الواقعية باقية على ما هي عليه
من الفعلية ، ولا تختلف باختلاف الاجتهادات والأنظار.
ولا ملزم
بالخروج عن ذلك إلا توهم أنه مقتضى الجمع بين أدلة الأحكام الواقعية وأدلة الحجج
والأصول الشرعية الظاهرية ، التي يختلف مفادها باختلاف الأنظار والاجتهادات ، إذ
لو لا ارتفاع الحكم الواقعي الأولي بقيام الطرق والأصول المخالفة له للزم اجتماع
الحكمين المتضادين ، وتفويت الملاكات الواقعية الفعلية.
لكن يظهر
اندفاع التوهم المذكور مما تقدم في أوائل مباحث الحجج في بيان حقيقة مفاد أدلة
الطرق والأصول ، وكيفية الجمع بينها وبين الأحكام الواقعية ، حيث يستغنى بذلك عن
التصويب.
بل مقتضى ما
سبق هناك عن ابن قبة من استحالة التعبد بغير العلم ، لاستلزامه تحليل الحرام وتحريم
الحلال ، كون بطلان التصويب أظهر من نصب الطرق الظنية ، لوضوح ابتناء المحذور
المذكور على عدم التصويب.
__________________
على أن منافاة
مفاد الطرق والأصول للواقع لو كانت ملزمة بالتصويب للزم البناء عليه في التعبد
الظاهري بموضوعات الأحكام ، مع أن المحكي عن الفصول نفي الخلاف في عدمه فيها.
ومما ذكرنا
يظهر ضعف الوجه الثاني للتصويب ، لصلوح ما سبق لرده ، فإن مقتضى إطلاق أدلة
الأحكام ثبوتها في حق جميع المكلفين ، وعدم اختصاصها بمن يؤدي اجتهاده أو تقليده
إليها. كما أن النصوص المتقدمة وافية بذلك.
بل هو مقتضى
نصوص كثيرة أخرى :
منها
: ما تضمن أن
من يقضي بالحق وهو لا يعلم فهو في النار ، وأن من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر من ما يصلح ، وأن من قال برأيه فأصاب لم يؤجر ، وأن أصحاب القياس لم يزدهم القياس من الحق إلا بعدا ، وأن أصحاب الرأي أحلوا ما حرم الله ، وحرموا ما أحل
الله ، وأنهم غيروا كلام الله وسنة رسوله . حيث فرض فيها وجود حق وحكم لله تعالى واحد ، دل عليه
كلامه وسنة رسوله صلىاللهعليهوآله ، من دون أن يصيبه اجتهاد المجتهدين.
ومنها
: ما تضمن أن
الدين كله مبين في الكتاب والسنة ، وأن علمهما عند
__________________
الأئمة عليهمالسلام . لوضوح أن مدعى القائل بالتصويب اختصاص أحكام الكتاب
والسنة بمن يصل إلى مضامينها ، دون من أخطأها ، بل له أحكام أخرى غير حكمها ، هي
الدين المطلوب منه.
ومنها
: ما تضمن أن
العلم مخزون عند أهله ، وكل ما لم يخرج من أهل البيت عليهمالسلام فهو باطل ، وأنه يجب سؤالهم عنه وطلبه منهم . لظهورها بمجموعها في وحدة التكليف الواقعي ، وعمومه
لكل أحد ، ولذا يجب طلبه من مظانه ... إلى غير ذلك مما هو صريح أو ظاهر في وحدة
الحكم الواقعي.
بل هو المطابق
لارتكازيات المتشرعة القطعية ، الملحقة بالبديهيات غير القابلة للأخذ والرد والنقض
والإبرام ، بحيث يقطع لأجلها بأن البناء على التصويب لشبهة ضاقت بأهلها ، مردودة
عليهم بالبداهة.
وأضعف وجوه
التصويب هو الوجه الأول ، لمنافاته لجميع ما تقدم. ولما هو المعلوم من الكتاب ،
والسنة ، وضرورات المتشرعة ، من جعل الأحكام الشرعية ، بل إكمال الدين مع قطع
النظر عن الاجتهاد فيها.
كما لا ريب في
أنه يمكن حصول العلم الإجمالي بالحكم قبل تناول الاجتهاد له بخصوصيته ، مع أن ثبوت
أحد الأطراف بخصوصيته راجع إلى سبق الحكم على الاجتهاد ، وإمكان خطأ الاجتهاد في
تعيينه ، إذ لا مجال للالتزام بثبوت أحدهما المردد ، لاستحالة جعل المردد ، ولا
التخييري ، للقطع بعدمه ،
__________________
بل قد يستحيل جعله ، كالتخيير بين الوجوب والحرمة ، أو بين الاستحباب
والوجوب ، والتخيير بين ملكية أحد الوارثين. بل المفروض في العلم الإجمالي كون
المعلوم بالإجمال هو أحد الطرفين بخصوصيته مع عدم وصول الاجتهاد للخصوصية بعد.
هذا مضافا إلى
استحالة الوجه المذكور من التصويب في نفسه ، لأن الاجتهاد لما كان راجعا إلى
التحري عن الأحكام الشرعية ، ثم إثباتها ، كان متأخرا عنها رتبة ، ومتفرعا عليها
تفرع مقام الإثبات على مقام الثبوت. فلا موضوع للاجتهاد إلا في فرض جعل أحكام
يجتهد المجتهد في الوصول إليها ، لا مع العلم بعدم جعل حكم في الواقعة. وقد تقدم
في أول الكلام في القطع الموضوعي ما ينفع في المقام.
والرجوع إلى
بعض ما ينقل من كلماتهم في وجه البناء على التصويب شاهد باختلاط مقام الإثبات
عليهم بمقام الثبوت ، ومقام التنجيز بمقام الجعل ، فحيث كان إثبات التكليف وتنجزه
متفرعا على الاجتهاد في الجملة تخيلوا إناطة الجعل به. وهو ظاهر الوهن.
المسألة الثالثة : لا إشكال في جواز الفتوى للمجتهد بالحكم الشرعي
الواقعي مع العلم الحقيقي به ، لضرورة ، أو إجماع ، أو غيرهما. وكذا مع قيام الحجة
عليه عنده ، بناء على جواز الإخبار بالواقع اعتمادا عليها. لكن الظاهر عدم تمامية
المبنى المذكور ، وأنه لا بد معه من ابتناء الخبر على بيان مفاد الحجة ، لا على
بيان الواقع.
فالعمدة في
المقام : أن ظاهر حال أهل الفتوى هو ابتناء الفتوى منهم على بيان مفاد الحجة
ومقتضى الوظيفة ، لا على بيان الواقع ، لعدم تعلق غرض المفتي والمستفتي ببيان
الحكم الواقعي ، بل ببيان ما ينبغي العمل عليه من مفاد
الحجة ، أو بيان مفاد الأصل الشرعي أو العقلي.
نعم لما كان
الغرض من الفتوى ترتب عمل المستفتي لزم تحقق موضوع الوظيفة العملية في حقه ، ولا
يكفي ـ كما لا يعتبر ـ تحققها في حق المفتي ، لأن اللازم على المستفتي هو العمل
على مقتضى وظيفته التي يشخصها له المفتي ، لا على مقتضى وظيفة المفتي. ولذا تقدم
أنه بناء على التخيير بين الخبرين المتعارضين فلا بد من اختيار المستفتي ، لا
المفتي. وربما يأتي في مباحث التقليد ما ينفع في المقام.
المقام الثاني
في التقليد
والمستفاد من
بعض كلمات اللغويين ، واستعمالات أهل اللغة ، أنه عبارة عن جعل الشيء في عنق
الغير. وأطلق في العرف على متابعة الغير في العمل. ولعله بلحاظ أن التابع قد حمّل
المتبوع مسئولية عمله ، كأنه جعله في عنقه.
لكنه جرد بعد
ذلك عن النكتة المذكورة ، ولحظ فيه محض المتابعة والمحاكاة مع قطع النظر عنها.
ولذا صح فيما لا مسئولية فيه من الأعمال ، وعدي ب «في» فيقال : قلده في عمله ، لا
قلده عمله.
والظاهر أن ذلك
هو المراد منه اصطلاحا ، فهو عبارة عن متابعة الغير في العمل. وإن كان ربما يظهر
من بعضهم أنه أمر سابق على العمل ، كالأخذ بقول الغير ، والالتزام به على أنه
الحكم الظاهري ، أو البناء على المتابعة في مقام العمل. لكنه بعيد ، لاحتياج
الخروج عن المعنى العرفي إلى عناية لا ملزم بها.
وكيف كان فلا
يهم تحقيق مفهوم التقليد الاصطلاحي ، إذ لا مشاحة في الاصطلاح. كما لا ثمرة مهمة
في تحقيق مفهومه اللغوي ، لعدم أخذ عنوانه في أدلة أحكامه ، وإنما أخذ في مرسل
الاحتجاج المتضمن لاعتبار العدالة في مرجع التقليد ، وهو ظاهر في
المعنى العرفي المذكور. على أن ضعفه في نفسه ، ووضوح اعتبار العدالة ، يغني عن
تحقيق مفاده.
__________________
إذا عرفت هذا
فالمعروف من مذهب الأصحاب اجتزاء العامي بالتقليد. والظاهر أن خلاف بعض الأخباريين
لفظي ، لأن المحكي عنهم دعوى أن ما صدر من معاصري الأئمة عليهمالسلام ، وجرت عليه سيرة الإمامية خلفا عن سلف ، ليس من التقليد ، بل هو نظير قبول
الرواية المنقولة بالمعنى ، الذي لا إشكال في جوازه ، وأنه لا يجوز تقليد من يجتهد
في استنباط الحكم برأيه ، بل يجب أخذ أحكام الدين من المعصومين عليهمالسلام.
ونحن متفقون
معهم في حرمة أخذ الدين من غير المعصومين عليهمالسلام اعتمادا على الرأي والاستحسان ونحوهما ، كما هو دأب
العامة. والتقليد الجائز عندنا هو الرجوع للعلماء لمعرفة الحكم الصادر عن
المعصومين عليهمالسلام ، الذي أقروه وجعلوه نظير قبول الرواية بالمعنى.
نعم حكي عن
الحلبيين وجوب الاجتهاد عينا. وهو غريب.
ويمكن
الاستدلال على جواز التقليد بسيرة العقلاء على الرجوع لأهل الخبرة في جميع أمورهم
، فكل من لا يتسنى له العلم بشيء يرجع إلى العالم به.
ولو لا ذلك
لاختل نظامهم في معاشهم ومعادهم ، لتعذر العلم لهم بجميع ما يحتاجون إليه. وحيث
كانت السيرة المذكورة ارتكازية ، كفى في حجيتها عدم ثبوت الردع عنها ، كما تقدم
أواخر الكلام في مقتضى الأصل عند الشك في الحجية.
ولا طريق
لإحراز الردع عن مقتضى السيرة المذكورة. لأن ما ورد في ذم التقليد من الآيات
والروايات ظاهر ، أو منصرف لتقليد الجهال في مقابل الحق والدليل ، لعصبية عمياء
وحمية جاهلية ، كما أشير إليه في مثل قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا
عَلَيْهِ
آباءَنا
أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ).
أو لتقليد
علماء السوء والسلاطين الذين يحلون الحرام ، ويحرمون الحلال ، والتدين بقولهم مع
ذلك ، كما ورد في تفسير قوله تعالى : (اتَّخَذُوا
أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) أنهم أحلوا لهم حراما ، وحرموا عليهم حلالا ، فعبدوهم
من حيث لا يشعرون .
أو لتقليد
علماء السوء الذين لا يأخذون من أهل البيت عليهمالسلام ، بل يتعدونهم إلى غيرهم ممن ليس بحجة ، أو يعتمدون
الرأي والاستحسان.
ولا عموم له
لمحل الكلام من الرجوع للعلماء المؤمنين الموثوقين الذين يعتمدون الحجج ، ويأخذون
عن الأئمة عليهمالسلام ، وينهجون نهجهم.
كما أن ما ورد
من النهي عن العمل بغير العلم أو بالظن قاصر عن التقليد المذكور ونحوه من موارد
الرجوع للحجج العقلائية ، كما تقدم عند الكلام في أصالة عدم الحجية في أوائل مباحث
الحجج. فراجع.
على أنه يمكن استفادة إمضاء مقتضى
السيرة المذكورة من أمور ..
الأول : سيرة المتشرعة خلفا عن سلف على الاجتزاء بأخذ الأحكام
العملية من العلماء ، لما هو المعلوم من عدم تيسر الاجتهاد لغالب الناس ، فلو لم
يشرع لهم ذلك ، ولم يعملوا عليه ، لزم الهرج والمرج ، واختل نظام معاشهم ومعادهم ،
ولكثر السؤال عن البديل بنحو لم يخف ، وحيث لم يظهر شيء من ذلك كشفت السيرة
المذكورة عن إقرار ذلك شرعا.
الثاني : قوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ
مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي
__________________
الدِّينِ
وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) فإن التفقه في الدين تعلمه ، ومنه تعلم أحكامه العملية
وأخذها عن أدلتها. وظاهر الإنذار هو الإنذار بما تفقهوا فيه ، فيدخل فيه بيان
الأحكام الإلزامية المستتبعة للعقاب ، والفتوى بها.
وحيث كان ظاهر
جعل الحذر غاية للإنذار مطلوبيته تبعا له ، كان ظاهرا في حجية الفتوى بالأحكام
الإلزامية. ويتم في غيرها بعدم الفصل. بل بفهم عدم الخصوصية ، بسبب ظهورها في كون
ترتب الحذر على الإنذار طبيعيا ، لا تعبديا محضا. وما ذلك إلا بلحاظ سيرة العقلاء
، التي لا يفرق فيها بين الأحكام الإلزامية وغيرها. وبذلك تكون الآية ظاهرة في
إمضاء السيرة المذكورة.
وقد تقدم في
الاستدلال بالآية على حجية خبر الواحد الكلام في بعض الجهات الراجعة للاستدلال بها
مما ينفع في المقام. كما تقدم الإشكال في الاستدلال على حجية الخبر ب آيات أخر ،
وهو يجري في الاستدلال بها في المقام. فراجع.
الثالث : النصوص الكثيرة الواردة في فضل العلم ، وتعلمه ،
والانتفاع به ، والرجوع للعلماء في القضاء ، وأخذ الأحكام منه ، ونحو ذلك حيث يظهر من مجموعها المفروغية عن جواز الرجوع للعلماء
في معرفة الأحكام والعمل عليها.
لكن لا عموم
للنصوص المذكورة ، لعدم التصدي فيها لبيان الحجية ، وإنما استفيد منها المفروغية
عنها ، تبعا لسيرة العقلاء المذكورة ، فتدل على
__________________
إمضائها ، ويستفاد العموم من السيرة ، لا منها.
نعم قد يستفاد
العموم من التوقيع الشريف : «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ،
فإنهم حجتي عليكم ، وأنا حجة الله» . وقول الإمام الصادق عليهالسلام : «فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه ، حافظا لدينه ،
مخالفا على هواه ، مطيعا لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلدوه» .
وقول الإمام
الهادي عليهالسلام في كتابه لأحمد بن حاتم وأخيه : «فاصمدا في دينكما على
كل مسنّ في حبنا ، وكل كثير القدم في أمرنا ، فإنهما كافوكما إن شاء الله تعالى» .
اللهم إلا أن
يستشكل في الأخير بوروده لبيان اشتراط الإيمان في المرجع ، من دون تعرض لمن يرجع
إليه ، ليؤخذ بعمومه. إذ لا ريب في عدم كفاية العنوان المذكور في المرجع. فهو نظير
قول أبي الحسن عليهالسلام في كتابه لعلي بن سويد : «لا تأخذن معالم دينك عن غير
شيعتنا ، فإنك إن تعديتهم أخذت دينك عن الخائنين ...» .
فلم يبق إلا
الأولين. لكن ضعفهما ـ خصوصا الثاني ـ مانع من التعويل عليهما ، لعدم وضوح
انجبارهما بعمل الأصحاب ، لقرب اعتمادهم على الأدلة الأخر.
على أن إهمال
الوثاقة في الأول لا بد أن يبتني على اعتبارها بمقتضى سيرة العقلاء ، أو على
اعتبار ما هو أشد منها شرعا ، كما هو مقتضى الثاني ، أو
__________________
غيره من الأدلة الشرعية. وعلى كل حال لا مجال للبناء على كون موضوع التقليد
شرعا أعم من مورد السيرة. فلاحظ.
الرابع : ما تضمن حثّ الإمام الباقر عليهالسلام أبان بن تغلب على الجلوس للفتوى ، وتقرير الإمام الصادق عليهالسلام معاذ بن مسلم على ذلك . لوضوح أن مبنى استفتاء الناس لهما على العمل بما
يفتيان ، كما هو مقتضى السيرة.
ولا يقدح في
ذلك احتمال خصوصيتهما في نظرهما عليهالسلام. لأن خصوصيتهما إنما تكون دخيلة في الأمر بالفتوى ،
والتقرير عليها ، لا في عمل المستفتي بفتواهما ، بل هو مبتن على الرجوع لهما لمحض
ثقته بهما ، كما يرجع إلى سائر أهل العلم بمقتضى السيرة ، فيدل على إمضائها.
نعم لا مجال
للاستدلال بالنصوص الكثيرة المتضمنة إرجاع الأئمة عليهمالسلام إلى بعض أصحابهم ، كأبي بصير ، ومحمد بن مسلم ، والحارث
بن المغيرة ، ويونس بن عبد الرحمن ، وزكريا بن آدم ، والعمري وابنه ، والمفضل بن عمر
. لإمكان خصوصيتهم بنظرهم عليهمالسلام في علمهم ودينهم ، بل هو المقطوع به. ومن المعلوم أن
إرجاع الإمام عليهالسلام شيعته لشخص ثقة منه عليهالسلام بعلمه ودينه لا يستلزم جواز رجوعهم لمن يثقون هم بعلمه
ودينه ، كما هو محل الكلام.
وربما يستدل
بنصوص أخر لا مجال لإطالة الكلام فيها بعد كفاية ما سبق ، ووضوح دلالته على إمضاء
السيرة ، التي عرفت لزوم التعويل عليها ما لم يثبت الردع عنها.
إذا عرفت هذا فيقع الكلام في مسائل ..
__________________
المسألة الأولى : لا ريب في اعتبار الوثوق بأهل الخبرة في جواز الرجوع
إليهم بمقتضى السيرة ، بأن يوثق بكونهم في مقام إعمال خبرتهم واجتهادهم ، وبيان ما
انتهى إليه نظرهم من دون تسامح.
إلا أن المعروف
من مذهب الأصحاب رضى الله عنه اعتبار الإيمان والعدالة في مرجع التقليد ، وادعي
عليه إجماعهم ، بل الظاهر من حالهم ومن بعض كلماتهم المفروغية عنه ، على خلاف ما
هو المعروف منهم في الخبر الحسي ، حيث يكتفي كثير منهم بالوثوق بالمخبر ، كما هو
مقتضى السيرة.
ولعل منشأ
الفرق : تيسر حصول الوثوق في الخبر الحسي ، لانضباطه ، بخلاف الفتوى المبنية على
الحدس. أما في الإيمان فلأن غير المؤمن إن كان يعتمد في الفتوى على أصوله الباطلة
، فهو ليس من أهل الخبرة في تشخيص وظيفة المؤمن ، المبنية على أصول أهل الإيمان ،
التي هي محل الكلام.
وإن كان يعتمد
على أصولنا وطرقنا ، فمن الظاهر عدم انضباط الطرق المذكورة. لأن كثيرا من الأدلة
والقرائن لا تتهيأ الإحاطة بها لغير المؤمن ، كإجماعات الخاصة ، وشهرة الحكم بينهم
، وهجرهم للأخبار ، وعملهم بها ، وتوثيقهم وجرحهم للرواة الذين تتضارب فيهم النصوص
والنقول ، وسيرة المتشرعة ، ومرتكزاتهم ، ونحو ذلك مما يكون دخيلا في استنباط
المجتهد المؤمن ، بسبب اندماجه بالمؤمنين ، وحسن ظنه بهم ، واعتقاده في علمائهم
وعوامهم أنهم في مقام تلقي الأحكام وأخذها عن أئمتهم ، والاحتياط لها ، وعدم
التساهل فيها ، وتجنب التعصب والعناد ، ونحو ذلك مما يوجب الوثوق بهم ، وبنقلهم ،
وسيرتهم ، ومرتكزاتهم ، وكل ذلك لا يتيسر لغير المؤمن. ومرجع ذلك إلى نقص خبرته.
ونظير ذلك يجري
في العدالة ، لتعرض المجتهد للضغط النفسي عند
اختيار الحكم .. تارة : بلحاظ أن النفس بطبعها تميل للفتوى بما يطابق الظنون
والقناعات والاستحسانات ، بحيث قد يغفل عن عدم بلوغ ذلك مرتبة الحجية. وأخرى : بلحاظ الهوى وحبّ الظهور في ابتكار الجديد ، وإرضاء
الناس ، واستقطاب أكبر عدد ممكن منهم. حيث قد تلبّس عليه النفس لأجل ذلك ، وتغفله
باعتماد ما ليس بحجة. وثالثة : بلحاظ أن ما تقتضيه الأدلة قد لا يلائم السلطان ،
أو الجماهير الضاغطة ، أو الظرف القائم. وفي جميع ذلك قد يؤتى حظا من القدرة على
الاستدلال واللحن بالحجة ، فيبرز ما ليس دليلا بصورة الدليل.
ولا حاجز له عن
التلاعب أو التسامح أو التغافل في ذلك إلا الخوف من الله تعالى ، وشدة الحذر من
نكاله ، حين يلتفت إلى أن الخصم المحاسب هو الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية ،
ولا يخدع بالحجج الواهية.
ومن ثم لا
تستكمل الخبرة والاجتهاد في الأحكام ، ولا يتم الوثوق بالمجتهد إلا بالعدالة ، بل
بالمرتبة العالية منها.
وعلى ذلك جرت
سيرة المتشرعة ، ومرتكزاتهم القطعية التي تنهض بنفسها بالاستدلال ، لو لم يتم
الاستدلال بالإجماع لبعض المناقشات التي لا مجال لإطالة الكلام فيها.
المسألة الثانية : لا ينبغي التأمل في أن مقتضى سيرة العقلاء عدم اعتبار
الحياة في المفتي ، لعدم دخلها في ما هو المناط في حجية الرأي ، وهو كاشفيته نوعا.
ودعوى : أن
موضوع الحجية هو الرأي ، ولا رأي للميت. مدفوعة ـ بعد تسليم عدم الرأي للميت ـ بأن
بقاء الرأي لا دخل له في حجيته بمقتضى السيرة. غاية الأمر أنه لا بد من عدم عدول
صاحب الرأي عن رأيه ، كاعتبار عدم عدول
الشاهد عن شهادته في حجية الشهادة ، ولا طريق لإحراز العدول من الميت. ولذا
لا ريب بملاحظة السيرة في عموم الحجية للميت في سائر موارد الرجوع لأهل الخبرة
وأهل العلم من الأمور النظرية.
لكن المشهور
اعتبار الحياة في المفتي ، خروجا عن مقتضى السيرة المذكورة. واستدل عليه بوجوه
كثيرة لا مجال لإطالة الكلام فيها بعد ظهور ضعفها. ونقتصر منها على وجهين :
الأول : أن أدلة التقليد الشرعية مختصة بصورة فعلية الرأي ،
ولا تشمل صورة زواله بالموت ونحوه ، لقصور العناوين التي تضمنتها ، كالإنذار ،
والفقاهة ، والعلم ، والنظر في الحلال والحرام.
وفيه أولا : أنه إن أريد بذلك أن الأدلة المذكورة رادعة عن مقتضى
السيرة ، فمن الظاهر عدم ظهورها في حصر الحجية بمواردها ونفيها عن غيرها ، لتنهض
بالردع عن عموم السيرة. وإن أريد به أن اختصاصها بذلك ملزم بالاقتصار عليه ، لعدم
إحراز إمضاء السيرة في غيره.
فيظهر اندفاعه
مما سبق من أنه يكفي في حجية السيرة عدم ثبوت الردع ، من دون حاجة للإمضاء.
وثانيا : أن ظهور الأدلة في الجري على مقتضى السيرة والمفروغية
عن ذلك موجب لانصرافها إلى بيان حجية الرأي الصادر عن العالم والفقيه وإن خرج بعد
ذلك عن كونه عالما وفقيها ، كما هو الحال في نظائر المقام ، كالرواية ، والشهادة ،
والإقرار ، وغيرها مما اعتبر فيه عناوين خاصة ، مثل الوثاقة ، والعدالة ، والعقل ،
وغيرها ، حيث يكفي تحقق العناوين المذكورة حين صدورها ، لا حين العمل بها ، بقرينة
ظهور أدلتها في الإشارة إلى موضوع السيرة.
الثاني : الإجماع المدعى من غير واحد ، كما في الجواهر. وقد
تعرض في التقريرات لكلمات غير واحد الظاهرة أو الصريحة في دعوى الإجماع ، كابن أبي
جمهور الأحسائي ، والمحقق الثاني في شرح الألفية ، والشهيد الثاني في المسالك ،
وفي رسالته في المسألة ، والوحيد البهبهاني قدس الله أسرارهم الزكية.
وقال سيدنا
الأعظم قدسسره : «فإن الحاكين للإجماع وإن كانوا جماعة خاصة ، لكن
تلقى الأصحاب لنقلهم بالقبول من دون تشكيك أو توقف من أحد ، وتسالمهم على العمل به
، يوجب صحة الاعتماد عليه. ولا سيما مع كون نقلة الإجماع المذكور من أعاظم علمائنا
وأكابر فقهائنا ، ولهم المقام الرفيع في الضبط والاتقان والتثبت. قدس الله تعالى
أرواحهم ، ورفع منازل كرامتهم ، وجزاهم أفضل الجزاء».
لكن في بلوغ
ذلك حدا ينهض بالحجية إشكال ، بل منع ، لأن دعوى الإجماع إنما صدرت من المتأخرين ،
مع عدم تحرير المسألة في العصور الأولى المقاربة لعصور المعصومين عليهمالسلام ، ليكشف عن أخذها خلفا عن سلف منهم ، وعدم وضوح نحو
الابتلاء بها في تلك العصور ، لتستند دعوى الإجماع لوضوح الحكم بين الطائفة بسبب
سيرتهم العملية.
بل من القريب
جريان السيرة على تقليد الموتى يوم لم يكن للتقليد عنوان يقتضي العناية به
والاهتمام بأحكامه ، بل تجري الناس فيه على مقتضى طبائعهم. إذ يبعد جدا أن يكون
أخذ المكلف الحكم من الفقيه ليعمل به هو وأهله ما دام الفقيه حيا ، فإذا مات رجع
إلى غيره ، وسأله عن نفس الحكم الذي تعلمه من الميت ، لما في ذلك من الخروج عن
مقتضى السيرة الارتكازية بنحو لو كان لظهر وبان ، ولم يخف علينا.
ومثله احتمال
أن يعمل به بعد موته هو وأهله ومن يتبعه ممن عملوا به
في حياة المفتي ، دون من تجدد تكليفه منهم ، أو اتصل بهم بعد موته ، بل
يرجع هؤلاء إلى مفت آخر حي ، لئلا يكون عملهم بفتوى الأول تقليدا ابتدائيا منهم
للميت ، بحيث يعمل أهل البيت الواحد على وجهين ، بعضهم على رأي الميت ، وبعضهم على
رأي الحي. لما في ذلك من الكلفة الظاهرة ، والخروج عن الوضع المتعارف بالنحو الذي
لو كان لظهر وبان.
بل يبعد جدا
تحقق ذلك منهم من دون ورود أدلة تعبدية نقلية خاصة صالحة عندهم للردع عن مقتضى
السيرة. ولو ورد شيء منها لم يخف عادة ، لتوفر الدواعي لنقله وحفظه عن الضياع.
نعم لا ريب في
عدم شيوع الرجوع للميت ، لغلبة عدم الاطلاع على فتاواه ، لعدم تعارف تحرير الفتاوى
وضبطها ، بل تصدر الفتاوى مشافهة ، فلا يتيسر الاطلاع عليها بعد موت المفتي لغير
من شافهه بها ، ومن حدث بها عنه ، لو لم تضع عليهم بنسيان أو غيره.
ولا سيما مع
تيسر الرجوع للأحياء ، والاستغناء بهم عن الأموات ، والغفلة عن الاختلاف الملزم
بالنظر في الترجيح ، حيث يستلزم ذلك إهمال رأي الميت طبعا.
ومن ثم لا ينهض
ذلك بتأييد دعوى الإجماع ، أو بالظن باستناد الدعوى المذكورة للتسالم ، بسبب سيرة
المتشرعة على عدم تقليد الميت ، خصوصا بعد ما سبق من قرب قيام السيرة في الجملة
على تقليده.
ولا سيما مع
ظهور بعض كلماتهم في وجود الخلاف في المسألة ، أو عدم القطع بانعقاد الإجماع فيها.
فعن الشهيد في الذكرى نسبة الخلاف للبعض.
وحمله على
العامة ـ كما عن الشهيد الثاني ـ بعيد جدا ، خصوصا مع كونه المعروف بينهم.
وأظهر من ذلك
قول المحقق الثاني في الجعفرية بعد بيان وجوب
الرجوع للمجتهد : «واشترط الأكثر كونه حيا». وعن الشهيد الثاني في المسالك
دعوى عدم تحقق الخلاف له ممن يعتد بقوله ، وفي رسالته في المسألة عدم العلم بمخالف
ممن يعتبر قوله ويعتمد على فتواه.
وأما تلقي
الأصحاب لدعواهم بالقبول ، فهو قد يتم في جملة من متأخري المتأخرين ، الذين لا
يكشف قبولهم عن ثبوت الإجماع ، لإمكان ابتنائه على حسن الظن بالناقلين له ، أو على
حجية الإجماع المنقول بنظرهم ، لا لاطلاعهم على قرائن تشهد بثبوته. بل لعل جملة
منهم قد استندوا في المنع من تقليد الميت لوجوه أخر غير الإجماع المدعى ، فهم
موافقون له ، لا أنهم معتمدون عليه ، ومتلقون له بالقبول.
على أن ظاهر
كلام السلطان في حاشية المعالم التردد في ثبوت الإجماع.
وهو المناسب
لما ذكره المحقق القمي من أنه لا يوجب الظن ، فضلا عن اليقين ، لعدم تداول المسألة
بين أصحاب الأئمة عليهمالسلام ، بل هي مسألة حادثة.
وكذا خروج
الأخباريين عليه ، فإن خروجهم وإن كان مبنيا على دعوى أن الفتوى من سنخ الرواية
المنقولة بالمعنى ، التي تقبل بعد موت الراوي ، إلا أن موضوع كلامهم لمّا كان هو
التقليد بواقعه الخارجي ، فلو كان عدم الرجوع للميت واضحا عند الشيعة ، متسالما
عليه بينهم ، لما وسعهم الخروج عليه.
ومن ثم يصعب
الخروج عما تقتضيه السيرة من جواز تقليد الميت.
لكن ذلك لا
ينفع في جواز تقليده مع العلم بمخالفة الحي له ، كما هو الشائع في محل الابتلاء.
لما سبق في مبحث التعارض ويأتي ، من أن الأصل في المتعارضين التساقط. وحينئذ يتعين
في حق العامي الاحتياط في الجملة ، كما هو الحال في سائر موارد اختلاف المجتهدين.
أما مع تعذر الاحتياط ، وفقد المرجح ، فالمتيقن التخيير بين الأحياء ، لو تم ، أما
التخيير بين الحي والميت فلا دليل عليه بعد احتمال عدم جواز تقليد الميت ، لأن ما
سبق لا ينهض بجواز
تقليد الميت في صورة الاختلاف.
نعم يتجه تقليد
الميت في صورتين :
الأولى : ما إذا كان أعلم من الحي بمرتبة معتد بها ، فالمتعين
تقليده ، لأن الأعلمية من المرجحات العقلائية كما سيأتي. وإن كان الفرض المذكور
ليس بذلك الشيوع ، لأن تطور العلم يناسب كون المتأخرين أعلم ، لو لم يفقدوا الذوق
الفقهي في فهم النصوص. بل لا ريب في أنهم نوعا أمتن استدلالا ، وأضبط للقواعد ،
وأقدر على إعمالها إذا بقي العلم في تطوره وتكامله.
غاية الأمر أنه
يعلم في الجملة بتيسر بعض الأدلة والقرائن للقدماء المقاربين لعصور الأئمة عليهمالسلام ، كمعرفة حال الرواة ، وصحة الكتب ، ونحو ذلك مما خفي
بعضه على المتأخرين. إلا أن عدم انضباط ذلك أوجب عدم إدراك حالهم فيه.
الثانية : ما إذا سبقت حجية فتواه في حق المكلف حال حياته ، كما
لو قلده بوجه شرعي ثم مات ، بناء على ما هو الظاهر من جريان استصحاب حجية رأيه في
حقه ، كما يظهر مما تقدم في مقدمة علم الأصول من أن الحجية من الأحكام المجعولة
التي تجري فيها الاستصحاب.
هذا وما ذكرناه
في الموت يجري في سائر ما يعرض للمجتهد مما يسقطه عن كونه ذا رأي وفتوى ـ كالخرف
والجنون ـ أو يسقط حجية رأيه ـ كالفسق ـ كما يظهر بالتأمل.
المسألة الثالثة : إذا تعدد المجتهدون ، فإن اتفقوا فلا إشكال في جواز
الرجوع لكل منهم ، كما يجوز الرجوع لهم جميعا. من دون فرق بين التفاضل بينهم وعدمه
، لعموم أدلة التقليد من الآية والروايات والسيرة. وما دل على عدم جواز تقليد
المفضول ـ لو تم ـ مختص بصورة الاختلاف.
وأما مع
الاختلاف بينهم ، فلا مجال لتخيل كون تقليد كل منهم مقتضى الإطلاقات ، لما سبق في
مبحث التعارض من قصور إطلاقات الحجية عن شمول المتعارضين ، وأنها لا تقتضي حجية كل
منهما تخييرا. وهو الحال في السيرة بملاحظة المرتكزات العقلائية التي تبتني عليها
سيرتهم في المقام ، وفي سائر موارد الرجوع لأهل الخبرة.
نعم مع تيسر
العلم بأعلمية أحدهم بعينه بمرتبة معتد بها فمقتضى السيرة جواز الرجوع له ، بل
تعينه للتقليد. لصلوح قوله للقرينية على خطأ المفضول المخالف له ، وخروجه عن موضوع
الحجية. وهو كاف في حجية قوله ، بناء على ما سبق من حجية السيرة ما لم يثبت الردع
عنها. على أنه لا يبعد تنزيل الأدلة الشرعية المتقدمة على ذلك ، بضميمة ما سبق من
ورودها مورد الإمضاء للسيرة.
مضافا إلى
الإجماع المدعى على تعينه للتقليد ، كما عن ظاهر السيد المرتضى في الذريعة ، وصريح
المحقق الثاني. مؤيدا بما عن النهاية من أنه قول من وصل إلينا كلامه من الأصوليين
، وما في المعالم من أن تعيين الأرجح في العلم والعدالة هو قول من وصل إلينا
كلامهم من الأصحاب.
ولم يعرف القول
بالتخيير ـ وجواز تقليد المفضول ـ إلا بعد الشهيد الثاني. قال في التقريرات : «وصار
إليه جملة من متأخري أصحابنا ، حتى صار في هذا الزمان قولا معتدا به». وهو لا يقدح
في انعقاد الإجماع.
ولا أقل من
الإجماع المركب على جواز تقليده ، فيتعين للتقليد بضميمة الأصل ، القاضي بالتعيين
عند دوران الحجية بين التعيين والتخيير.
لكن في نهوض
ذلك بالاستدلال إشكال. لعدم وضوح كونه إجماعا تعبديا ، بل لا يبعد ابتناء الإجماع
المدعى على تعينه للتقليد على السيرة ،
وابتناء القول بالتخيير على الأدلة الآتية. وعلى كلا التقديرين لا ينهض
بالاستدلال في قبال السيرة التي هي العمدة في المقام.
هذا وقد يستدل
لعدم تعيين الأعلم للتقليد ، وجواز تقليد المفضول ، بوجوه ..
الأول
: إطلاقات أدلة
التقليد ، كتابا ، وسنة. بل قيل : إن حمل مثل آية النفر على صورة تساوي النافرين
في الفضيلة حمل على الفرد النادر.
ويظهر الجواب
عنه مما تقدم من قصور الإطلاقات المذكورة ـ كسائر إطلاقات أدلة الحجية ـ عن صورة
العلم بالتعارض والاختلاف. نعم لو كانت الصورة المذكورة هي الشائعة تعذر الحمل على
غيرها ، وحينئذ يتعين حمل الإطلاقات على الحجية التخييرية ، ويتجه الاستدلال بها
في المقام.
لكن الظاهر عدم
شيوعها في الصدر الأول عند صدور الإطلاقات ، بسبب القرب من مصادر التشريع ، وعدم
تحرير الفتاوى. فلا ملزم بالخروج عن ظهورها في الحجية التعيينية ، المستلزمة
للقصور عن صورة العلم بالاختلاف.
الثاني : سيرة المتشرعة في عصر المعصومين عليهمالسلام على الأخذ بفتاوى الفقهاء ، من دون تقيد بالأعلم ، ولا
فحص عنه ، مع العلم بتفاضلهم.
ويندفع بأن
المتيقن من ذلك صورة عدم العلم بالاختلاف. أما مع العلم به ـ كما هو محل الكلام ـ فثبوت
السيرة غير معلوم. بل يظهر من الأخبار المتضمنة للسؤال عن الحكم الذي اختلف فيه
أصحابنا البناء على التوقف حينئذ. وهي وإن اختصت بصورة إمكان استعلام الحكم من
إمام العصر عليهالسلام ، إلا أنها كافية في منع السيرة المتصلة بعصر المعصومين
عليهمالسلام على الأخذ بفتوى المفضول مع مخالفتها لفتوى الأفضل.
الثالث : لزوم العسر والحرج من الاقتصار على تقليد الأعلم ،
لصعوبة تشخيصه ، وصعوبة رجوع جميع المسلمين له مع اختلاف أماكنهم وتباعد أوطانهم ،
فلا يتيسر لهم جميعا استفتاؤه ، ولا يتيسر له إفتاء جميعهم.
وكأن المراد بالحرج
الحرج النوعي ـ ليتم الاستدلال في حق من لا يلزم عليه الحرج من رجوعه للأعلم ـ
بضميمة ما يظهر
من جملة من النصوص من أن الأحكام الشرعية لم تشرع بنحو يلزم منها الحرج نوعا.
وفيه : أن
الترجيح بالأعلمية ـ بمقتضى السيرة ـ لما كان فرع الابتلاء بفتوى الفقيه ، والالتفات
للاختلاف ، فهو لا يقتضي رجوع المسلمين لشخص واحد ، بل اكتفاء كل مكلف بالترجيح
بها بين من يتيسر له معرفة رأيه عند اختلافهم.
نعم قد يلزم
ذلك في عصورنا حيث شاع تسجيل الآراء ، وانتشار الرسائل العملية ، وكثرت وسائط
النقل والاتصال. لكن ذلك أمر حادث لا يمكن تفسير التشريع على ضوئه. مع أنه بسبب
ذلك لا يلزم الحرج من رجوع الكل لشخص واحد ، حيث يتيسر معه معرفة رأيه لمن يريدها.
غاية الأمر أنه
قد يصعب تشخيص الأعلم على الكل ، لعدم تيسر اطلاع أهل الخبرة على حال الكل ، وغلبة
اختلافهم في من يتيسر لهم الاطلاع عليه.
لكن ذلك لا
يستلزم سقوط اعتبار الأعلمية رأسا ، ولو في حق من يتيسر له ذلك من المكلفين ، أو
في حق من يعلم بكونه مفضولا من المجتهدين ، بحيث يحرز لأجله حجية رأيه وجواز
الرجوع له ، وترك من يعلم بأنه أعلم منه ، خروجا عن مقتضى السيرة. لعدم نهوض قاعدة
نفي الحرج بذلك ، لاختصاصها بنفي الحرج الشخصي ، وبنفي الأحكام الحرجية ، لا تشريع
الحكم الذي يرتفع به الحرج ، كحجية رأي المفضول في المقام.
كما أن ما
يستفاد من بعض النصوص من عدم تشريع الأحكام بنحو يلزم منها الحرج نوعا لا ينهض
ببيان كيفية التشريع الذي لا يلزم منه الحرج النوعي ،
ليحرز به عموم الحجية لفتوى المفضول.
ومن ثم لا مخرج
عما ذكرنا من جواز الرجوع للأعلم ، بل لزوم ترجيحه في فرض تيسر الاطلاع عليه. ثم
إنهم وإن أطلقوا الترجيح بالأعلمية ، إلا أن المتيقن من السيرة ما إذا كان الفرق
معتدا به ، ولا يكفي الأعلمية بمرتبة ضعيفة غير معتد بها.
هذا ولو لم
يتيسر معرفة الأعلم بالوجه المذكور ، إما للعلم بتساوي المجتهدين ، أو تقاربهم ،
أو للجهل بحالهم ، فالمعروف بين الأصحاب التخيير بين المجتهدين ، بل مقتضى ما تقدم
في صورة التفاضل المفروغية عنه.
وقد يستدل له
بإطلاقات أدلة التقليد. ويظهر الجواب عنه مما سبق.
نعم ادعى شيخنا
الأعظم قدسسره وغيره الإجماع على جواز التقليد مطلقا للعامي ، وعدم
تكليفه بالاحتياط. وبه يخرج عن أصالة التساقط في المتعارضين ، التي سبق التعرض
لها.
لكن بعض
مشايخنا قدسسره استشكل في الإجماع المذكور بعدم كونه إجماعا تعبديا ، ليكشف
عن رأي المعصومين عليهمالسلام. ويناسبه عدم تحرير المسألة بصورة واضحة في العصور
السابقة ، بل عدم الابتلاء بها في عصور الأئمة عليهمالسلام ، لتيسر الرجوع لهم عليهمالسلام للفصل في الخلاف ، كما تضمنته بعض النصوص ، فكيف يعرف
رأيهم عليهمالسلام في صورة تعذر الرجوع لهم ، كما في عصر الغيبة؟. وكذا
ظهور كلمات بعض الأصحاب رضى الله عنه في عدم الاعتماد على الإجماع المذكور ، بل
على بعض الوجوه الاجتهادية.
ومن ثم جزم قدسسره بوجوب الأخذ بأحوط القولين. وهو الذي تقتضيه القاعدة في
حق العامي بعد عدم إحاطته بمقتضى الأصول في موارد الخلاف ، وتمييز موارد جريان
الأصول الترخيصية من موارد جريان الأصول الإلزامية.
لكن الإنصاف أن
الاحتياط متعسر على العامي غالبا ، فإن تعلم مسائل
الخلاف وضبطها ، وكيفية الاحتياط ، والترجيح بين جهاته عند التزاحم ، مما
لا يتهيأ لعامة الناس. ولا سيما مع كثرة المجتهدين ، وظهور أقوالهم. وخصوصا بناء
على ما سبق من عموم أدلة التقليد للأموات.
وحينئذ يكون
مقتضى قاعدة نفي الحرج عدم لزومه ، واكتفاء الشارع الأقدس بالموافقة الاحتمالية ،
بناء على ما سبق في أوائل الكلام في مباحث العلم الإجمالي بالتكليف من إمكان اكتفاء
الشارع بها. ولازم ذلك متابعة أحد المجتهدين تخييرا ، لتحقق مقتضي الحجية فيه ،
ولأنه المتيقن من صور الموافقة الاحتمالية.
بل حيث كان عدم
تيسر معرفة الأعلم بالوجه المذكور شايعا ، كالاختلاف بين المجتهدين ، فذلك يوجب
الاطمئنان بعدم تشريع التقليد بالوجه المقتضي غالبا للتساقط والاحتياط ، الذي هو
حرجي نوعا ، وبتسامح الشارع الأقدس في ذلك ، واكتفائه بما يتيسر للمكلف من
المرجحات ، ومع عدمها فالتخيير ، كما هو المناسب للإجماع المدعى.
وعلى ذلك يتعين
ترجيح الأعلم ولو بمرتبة ضعيفة ، ثم ترجيح محتمل الأعلمية لو كان معينا ، فضلا عن
مظنونها ، ثم ترجيح الأورع ، كما تقدم من المعالم ، لأنه أقرب للتحفظ في مقام
الاستنباط ، وللاقتصار في التخيير المخالف للأصل على المتيقن ، وهو صورة فقد جميع
المرجحات. وإن كان الأحوط مع ذلك الاقتصار على ما إذا كان الاحتياط حرجيا بالفعل ،
كما هو الغالب.
المسألة الرابعة : بعد الفراغ عما تقدم في مبحث الإجزاء من عدم إجزاء
الحكم الظاهري ، فإذا عمل المكلف على فتوى المجتهد بحجة شرعية ، ثم سقطت تلك
الفتوى عن الحجية في حقه ، ووجب العمل على وجه آخر ، فهل ينتقض التقليد السابق في
الوقائع التي عمل فيها على طبقه ، فيجب تدارك
الأعمال لو كانت باطلة وقابلة للتدارك بمقتضى الحجة الجديدة ، كما يجب
ترتيب سائر آثار بطلانها ، كالتطهير من النجاسات ، والضمان في الماليات ونحوهما ،
أو لا ينتقض ، بل يجتزئ المكلف بما وقع؟
لا ينبغي
التأمل في أن مقتضى القاعدة وجوب التدارك لو ظهر الخطأ للمقلد بالعلم ، أو
باجتهاده لو بلغ مرتبته. أما مع العلم فظاهر ، حيث لا يحتمل اختلاف الوقائع
السابقة عن اللاحقة في حكم الموضوع الواحد. وأما مع الاجتهاد ، فلوضوح عموم حجية
الأدلة التي استند إليها للوقائع السابقة ، فتكون حجة على خطأ مقتضى التقليد
السابق فيها. وكذا الحال لو عدل المجتهد نفسه عن اجتهاده السابق بعلم ، أو باجتهاد
مخالف ، لعين ما سبق.
ومنه يظهر
اندفاع ما في الفصول من دعوى عدم تحمل الواقعة لاجتهادين ولو في زمانين ، لعدم
الدليل عليه. وجه الاندفاع : أنه يكفي في الدليل عليه إطلاق أدلة الاجتهاد الثاني الشاملة
للوقائع السابقة.
وأما لو كان
سقوط الفتوى السابقة عن الحجية للعدول في التقليد من شخص لآخر ، فإن كان العدول
بسبب أعلمية الثاني ، فالظاهر لزوم التدارك أيضا ، لعدم الفرق في بناء العقلاء على
ترجيح الأعلم بين سبق الرجوع لغيره في الواقعة وعدمه. ومجرد حجية الأول في وقته لا
يصلح مانعا من عموم حجية الثاني للوقائع السابقة ، وسقوط حجية الأول فيها. وبه
يخرج عن استصحاب حجية فتوى الأول في تلك الوقائع. لأن مقتضى مرجحية الأعلمية سقوط
فتوى المفضول في تلك الوقائع بظهور فتوى الأفضل ، كما تسقط في الوقائع اللاحقة.
وإن لم يكن
العدول لأعلمية الثاني ، بل لأمر تعبدي ـ كما قيل به في الموت ونحوه ، على ما سبق
ـ فإن كان لدليل العدول إطلاق يعمّ الوقائع السابقة ـ بنحو ينافي بقاء حجية الأول
فيها ـ فالمتجه البناء على عدم الإجزاء أيضا ، كما
هو ظاهر.
وإن لم يكن له
إطلاق ـ كالإجماع المدعى على وجوب العدول مع الموت ـ تعين البناء على اختصاص حجية
الثاني بالوقائع اللاحقة ، وبقاء الأول حجة في الوقائع السابقة المفروض مطابقة
العمل فيها لفتواه ، من دون موجب للتدارك ، بعد فرض عدم الدليل على سقوط فتواه عن
الحجية بالإضافة لتلك الوقائع ، واختصاص دليل العدول بالوقائع اللاحقة.
نعم إنما يتم
ذلك إذا لم يلزم منهما مخالفة علم إجمالي بالتكليف ، كما إذا أفتى الأول بعدم وجوب
صلاة الآيات وأفتى الثاني بوجوبها ، أو بالعكس.
أما مع لزومها
فالمتعين سقوط حجية كل من المعدول عنه والمعدول إليه ، ووجوب الاحتياط ، خروجا عن
العلم الإجمالي المفروض.
كما إذا قلد من
يفتي بوجوب القصر مدّة ، ثم عدل إلى من يفتي بوجوب التمام. حيث يعلم إجمالا إما
بوجوب تدارك ما مضى ، وقضائه تماما كما يتم فيما يأتي ، أو بوجوب القصر عليه فيما
يأتي أيضا. ولا يخرج عن العلم الإجمالي المذكور إلا بالجمع بين الأمرين بقضاء ما
سبق تماما ، والجمع بين القصر والتمام فيما يأتي.
لكن ليس بناؤهم
على ذلك ، بل على الاجتزاء في الوقائع اللاحقة بمطابقة التقليد اللاحق ، مع الخلاف
في وجوب تدارك ما سبق لا غير.
هذا كله بحسب
القواعد الأولية العامة. وأما بحسب الأدلة الخاصة فقد يستدل للإجزاء وعدم وجوب
التدارك مطلقا .. تارة : بلزوم العسر والحرج ، لعدم وقوف المجتهد غالبا على
رأي واحد ، كما في الفصول.
وأخرى : بالإجماع المدعى. ففي التقريرات عن بعض الأفاضل في
تعليقاته على المعالم أنه ظاهر المذهب ، وعن المناهج نفي القول بعدم
الإجزاء ، وقال سيدنا الأعظم قدسسره : «بل نسب إلى بعض دعوى صريح الإجماع ، بل الضرورة عليه».
نعم عن بعض الأعاظم قدسسره أن المتيقن منه العبادات. وربما قيل : إن المتيقن منه
الصلاة.
وثالثة
: بسيرة
المتشرعة ، لابتلائهم بذلك كثيرا ، خصوصا بناء على المشهور من عدم جواز البقاء على
تقليد الميت ، فلو كان بناؤهم على عدم الإجزاء للزم الهرج والمرج.
لكن يندفع
الأول ـ مع عدم اطّراده ـ بأنه لا يقتضي الإجزاء والحكم بصحة العمل واقعا أو ظاهرا
، بل عدم وجوب التدارك وعدم ترتيب أثر البطلان بالمقدار الذي يلزم منه الحرج. مع
أنه لا يجري في حقوق الناس ، كالضمان ، لمنافاته في حقهم للامتنان ، الذي هو مبنى
قاعدة نفي الحرج.
والثاني بأنه
لا مجال للاستدلال بالإجماع في مثل هذه المسألة المستحدثة التحرير ، ولا سيما مع
إنكار غير واحد له. قال في التقريرات في بيان القول بعدم الإجزاء : «وفاقا للنهاية
والتهذيب والمختصر وشروحه وشرح المنهاج على ما حكاه في شرح المفاتيح عنهم. بل وفي
محكي النهاية الإجماع عليه ، بل وادعى العميدي قدسسره الاتفاق على ذلك ...». وكذا مع إطلاق جماعة عدم الإجزاء
في الأمارات والطرق الظاهرية.
وأما الثالث
فقد استشكل فيه غير واحد بمنع السيرة. وذكر بعض مشايخنا قدسسره أنها ـ لو تمت ـ مستندة في أمثال عصرنا إلى فتوى
المجتهدين ، ولا يحرز اتصالها بعصر المعصومين عليهمالسلام.
أقول : لا ريب
في ابتناء معرفة الأحكام في عصور الأئمة عليهمالسلام على الخطأ كثيرا. لعدم وضوح فتاواهم عليهمالسلام لشيعتهم ، بسبب انتشار فقهاء العامة ، وتعارف أخذ
الشيعة منهم ، للغفلة قبل عصر الصادقين عليهماالسلام عن امتياز الفرقتين في الفقه ، واختلافهما فيه ، كما
يشهد به قلة روايات الشيعة عن من قبلهما من
الأئمة عليهمالسلام ، وكثرة روايتهم عنهما وعن من بعدهما منهم عليهمالسلام ، خصوصا في الفروع المهمة التي يكثر الابتلاء بها ،
كفروع الطهارة الحدثية والخبثية والصلاة وغيرهما ، بنحو يظهر منه خفاء بعض ما هو
من ضروريات الفقه اليوم عليهم.
وبعد تميز
الفرقتين ، والالتفات لاختلافهما في الفروع ، وتنبه الشيعة لوجوب الأخذ منهم عليهمالسلام ، وعدم الركون لغيرهم ، فقد كان وصول أحكامهم عليهمالسلام لشيعتهم تدريجيا ، مشفوعا بأسباب الضياع والاشتباه من
التقية ، والخطأ ، والكذب ، وضياع كثير من القرائن. ولذا اختلفت الأخبار كثيرا ،
وكثرت الشكوى من ذلك.
ولازم ذلك تعرض
أصحاب الأئمة عليهمالسلام وشيعتهم عموما للاطلاع كثيرا على خطأ ما وصل إليهم ،
إما بالسؤال منهم عليهمالسلام ، أو بوصول أحاديث أخر مخالفة لما وصل لهم. فلو كان
البناء مع ذلك على عدم الإجزاء بعد انكشاف الخطأ ، ولزوم التدارك ، لوقع الهرج
والمرج واضطرب أمرهم ، ولكثر منهم السؤال عن الأحكام الماضية ، ولزوم تداركها ،
وضوابط ذلك وما يتعلق به من فروع. مع أنا لم نعثر على ذلك فيما وصلنا من النصوص.
ويظهر من ذلك المفروغية عن الإجزاء.
وهو المناسب
لما ارتكز من سهولة الشريعة ، وعدم ابتنائها على الضيق والحرج ، وعدم إيقاعهم عليهمالسلام لأوليائهم وشيعتهم إلا فيما يسعهم ، رأفة بهم ورحمة لهم
، وتداركا لما ابتلوا به نتيجة ظلم الظالمين من مشاكل أوجبت صعوبة القيام عليهم
بالوظائف الشرعية الواقعية الأولية. ولذا أحلوا لهم الخمس ونحوه مما يكون لهم ،
واكتفوا منهم في الزكاة والخراج والمقاسمة بما يأخذه منهم حكام الجور ، وأمضوا
أحكامهم فيها.
كما قد يعتضد
ذلك أو يتأيد بالنصوص الكثيرة المتضمنة تعمد
الأئمة عليهمالسلام بيان خلاف الواقع تقية على الشيعة ، وما تضمن الإرجاع
عند فقد النص لبعض الطرق التي يتوقع ظهور الخطأ فيها ، مثل ما تضمن الإرجاع لما
رواه العامة عن أمير المؤمنين عليهالسلام وما تضمن الأخذ بخلاف ما يفتي به قاضي البلد . حيث لا يبعد كون مقتضى إطلاقها المقامي الإجزاء لو
انكشف الخطأ ، فيكون عاضدا للسيرة التي هي العمدة في المقام.
ودعوى : أن
المتيقن من السيرة ما لو لم يكن الخطأ موجبا لبطلان العمل ، كما في موارد حديث : «لا
تعاد الصلاة ...» ونحوها ، ولم يعلم ابتلاؤهم بغير ذلك. ممنوعة جدا ، لكثرة اختلاف
الأخبار والفقهاء في غير الموارد المذكورة ، كتحديد الكر ، والوضوء ، والنجاسات ،
والقصر والتمام ، والتذكية ، وغيرها مما يكون الإخلال فيه مبطلا للعمل ومستلزما
للقضاء ، والضمان ونحوها. فعدم اهتمام المتشرعة بتمييز الموارد المذكورة شاهد
بالمفروغية عن عموم الإجزاء.
نعم لا يبعد
اختصاص السيرة بالعبادات ونحوها مما يقتضي بطلانه بعض الآثار التي هي من سنخ
التدارك والتبعة ، كالقضاء والضمان والكفارات ونحوها. أما ما لا يكون من سنخ التدارك
، بل من سنخ الجري على مقتضى العمل السابق ، وترتيب آثار صحته ، فلا يتضح قيام
السيرة عليه بعد انكشاف البطلان.
فمن ذكى بغير
الحديد ـ مثلا ـ لم يبعد توقفه عن أكل اللحم بعد انكشاف الخطأ له. وكذا من تزوج
امرأة بوجه قام الدليل عنده على مشروعيته لم يبعد توقفه عن مباشرتها ، وعن ترتيب
آثار الزوجية عليها ، بعد انكشاف البطلان ، ونحو ذلك. ولا أقل من خروجه عن المتيقن
من السيرة. ولعله إليه يرجع ما قيل
__________________
من اختصاص الإجماع بالعبادات.
بل لا يبعد
قصور السيرة عن إثبات عدم وجوب الإعادة لو انكشف الخطأ بعد العمل قبل خروج الوقت.
لعدم كونها بنظر المتشرعة من سنخ التدارك.
ولا أقل من
خروجه عن المتيقن من السيرة أيضا ، لعدم وضوح ابتلائهم بانكشاف الخطأ في الوقت بعد
العمل ، وعدم وضوح كيفية عملهم لو فرض ابتلاؤهم به بعد عدم أهميته ، وعدم لزوم
الحرج من الإعادة ، ليحاول التخلص منه بالسؤال عن الإجزاء ، فلا يكشف عدم السؤال
عن المفروغية عنه.
كما أن المتيقن
من السيرة أيضا ما إذا كان خفاء الحكم لعدم وصول الدليل للمكلف ، كما لو عدل
المجتهد عن فتواه لعثوره على نص لم يكن مقصرا في عدم الوصول إليه ، أو عدل المقلد
في تقليده لأحد أسباب العدول ، أو عدل مقلده في فتواه ، أو ظهر له خطأ فتوى مقلده
لبلوغه مرتبة الاجتهاد.
بخلاف ما إذا
كان لخطأ المكلف في فهم الدليل الواصل ، أو لنسيانه أو نحو ذلك ، مما يعود للمكلف
نفسه وإن كان معذورا ، كما يكثر في حق المجتهد في زماننا ، وكما إذا نسي العامي
فتوى مقلده ، أو لم يحسن فهم كلامه.
كل ذلك لعدم
شيوع الابتلاء بذلك في تلك العصور ، وعدم وضوح بنائهم على الإجزاء معه ، لاحتمال
ابتناء الإجزاء على الرفق بأهل الحق ، وعدم إلزامهم بتدارك ما ضاع عليهم بسبب
الظالمين ، دون ما يستند ضياعه للمكلف نفسه وإن كان معذورا.
ومنه يظهر أن
الإجزاء في المقام واقعي ، لا ظاهري ، فلا مجال معه لفرض العلم الإجمالي الذي سبق
تقريب لزومه من مقتضى القاعدة في بعض الفروض.
خاتمة
في وجوب الفحص
لا بد للمجتهد
في مقام الاستنباط ، وتشخيص وظيفته ووظيفة العامي ، من استفراغ الوسع في الفحص عن
الأدلة ، والمعارضات ، والقرائن الدخيلة في تعيين مفاد الدليل. وليس له الاكتفاء
بما وصل له من الأدلة ، فضلا عن الرجوع للأصل من دون فحص عن الدليل لو لم يطلع
عليه.
والظاهر عدم
الإشكال بينهم في ذلك ، كما يناسبه أخذ كثير منهم استفراغ الوسع في تعريف
الاجتهاد. بل لعل إطلاقهم الاجتهاد إنما هو بلحاظ ذلك ، لمناسبته لمعناه لغة.
ومرجع ذلك إلى قصور أدلة الحجج والأصول عن صورة عدم الفحص ، فلا يمكن الرجوع
إليها.
وكيف كان فيستدل على وجوب الفحص بأمور
..
الأول : الإجماع ، فإنه وإن لم أعثر على من ادعاه على عموم
الدعوى المذكورة. إلا أنه قد يستفاد من مجموع كلماتهم ، فقد ادعى شيخنا الأعظم قدسسره الإجماع القطعي على عدم جواز الرجوع للبراءة قبل
استفراغ الوسع في الأدلة. وذكر بعض أعاظم تلامذته في حاشيته على الرسائل أنه لا
ريب فيه ، كما يظهر بأدنى فحص في كلماتهم ، بل الحق إجماع علماء الإسلام عليه.
انتهى. كما أنه حكى في المعالم عن جمع من المحققين أن العمل بالعموم قبل البحث عن
المخصص ممتنع إجماعا. بل يظهر المفروغية عنه من استدلاله على ذلك بأن المجتهد يجب
عليه البحث عن الأدلة وكيفية دلالتها.
وهو المناسب
لسيرة الفقهاء في مقام الاستنباط والفتوى ، لاهتمامهم
بضبط الأدلة واستيعابها بنحو يظهر من حالهم ـ ولو بمعونة الارتكازيات ـ وجوب
ذلك.
وأما ما قد
يظهر من صاحب المعالم من عدم وجوب الفحص عن قرينة المجاز ، وما نسب للعلامة من
جواز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص. فإما أن ينزلا على ما لا ينافي ذلك ، بأن
يحملا على الخطابات العرفية ، أو على عدم وجوب القطع بانتفاء المخصص وقرينة المجاز
، والاكتفاء بالاطمئنان والظن. وإما أن يكونا مستندين لشبهة مخرجة عما سبق ، من
دون أن يقدحا في الإجماع الارتكازي المتقدم.
الثاني : العلم الإجمالي بوجود الأدلة على التكاليف ، والقرائن
الدخيلة فيها ، التي يمكن الاطلاع عليها بالفحص. وهو منجز لاحتمال التكليف في مورد
احتمال العثور على الدليل ، أو القرينة بالفحص. ومع تنجز احتمال التكليف لا مجال
للرجوع للطرق والأصول الترخيصية المعذرة.
نعم هذا الوجه
إنما ينفع مع عدم انحلال العلم الإجمالي بالعثور على مقدار المعلوم بالإجمال ، دون
ما إذا عثر عليه واحتمل وجود غيره ، كما يظهر وجهه مما سبق في مبحث انحلال العلم
الإجمالي.
الثالث
: الأدلة النقلية ، وهي طائفتان :
الأولى : ما تضمن الإنكار على بعض العامة في استنباط الحكم
والتصدي للفتوى من دون معرفة تامة بالكتاب المجيد ، ولا تمييز للناسخ والمنسوخ ،
والعام والخاص منه.
كموثق مسعدة بن
صدقة أو صحيحه عن أبي عبد الله عليهالسلام في حديث احتجاجه على الصوفية لما احتجوا عليه ب آيات من
القرآن : «قال : ألكم علم بناسخ القرآن ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، الذي في مثله
ضل من ضل ،
وهلك من هلك من هذه الأمة؟ ... «إلى أن قال :» فبئس ما ذهبتم إليه وحملتم
الناس عليه من الجهل بكتاب الله ... وترككم النظر في غريب القرآن من التفسير
والناسخ والمنسوخ ... إلى أن قال : كونوا في طلب ناسخ القرآن من منسوخه ، ومحكمه
من متشابهه ...» .
ورواية إسماعيل
بن جابر عنه عليهالسلام في ذمّ الناس : «وذلك أنهم ضربوا القرآن بعضه ببعض ،
واحتجوا بالمنسوخ وهم يظنون أنه الناسخ ، واحتجوا بالخاص وهم يقدرون أنه العام ،
واحتجوا بأول الآية وتركوا السنة في تأويلها ... فضلوا وأضلوا ...» .
ومرسل شبيب عنه
عليهالسلام في حديث : «قال لأبي حنيفة : أنت فقيه [أهل. ظ] العراق؟
قال : نعم. قال : فبم تفتيهم؟ قال : بكتاب الله وسنة نبيه صلىاللهعليهوآله. قال : يا أبا حنيفة تعرف كتاب الله حق معرفته؟ وتعرف
الناسخ والمنسوخ؟ قال : نعم.
قال : يا أبا
حنيفة لقد ادعيت علما ـ ويلك ـ ما جعل الله ذلك إلا عند أهل الكتاب الذين أنزل
عليهم ...» .
ومرسل العياشي
عن عبد الرحمن السلمي : «أن عليا عليهالسلام مرّ على قاض فقال : أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال : لا.
فقال : هلكت وأهلكت» .
ومرسله الآخر
عنه عليهالسلام في الإنكار على عمر حين أفتى بالمسح على الخفين لدعوى
أن النبي صلىاللهعليهوآله قد مسح عليهما ، وفيه : «قال : قبل المائدة أو بعدها؟
قال : لا أدري. قال : فلم تفتي وأنت لا تدري؟. سبق الكتاب الخفين» .
__________________
لوضوح أن أصالة
الظهور ، وعدم التخصيص ، والنسخ ، من الأصول العقلائية ، فإنكار العمل بالكتاب من
دون معرفة تامة به ، ولا معرفة بالناسخ والخاص ، ظاهر في لزوم استفراغ الوسع في
مقام الاستنباط ، وعدم الاكتفاء بالدليل الواصل.
نعم هذه النصوص
مختصة بالكتاب ، فاستفادة حكم غيره مبني على إلغاء خصوصية موردها ، أو أنها تكون
مؤيدة للعموم المدعى.
الثانية : ما تضمن الأمر بطلب العلم من أجل التعليم والعمل ، كآيتي
النفر ، وسؤال أهل الذكر ، والنصوص الكثيرة الواردة في تفسير الآيتين ، وغيرها
مما تضمن الأمر بطلب العلم ، والحث على السؤال ، والذم على تركه ، والأمر بمذاكرة
الروايات على اختلاف ألسنتها .
ومثل صحيح
مسعدة بن زياد : «سمعت جعفر بن محمد عليهالسلام وقد سئل عن قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ
الْبالِغَةُ) فقال : إذا كان يوم القيامة قال الله تعالى للعبد : أكنت
عالما؟ فإن قال : نعم قال له : أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال : كنت جاهلا قال له : أفلا
تعلمت حتى تعمل؟ فيخصمه. فتلك الحجة البالغة لله عزوجل على خلقه» .
وصحيحه الآخر
عنه عليهالسلام في من أطال الجلوس في الخلاء لاستماع الغناء مستحلا له
، لأنه لم يأته ، وإنما سمعه ، حيث أنكر عليهالسلام محتجا بقوله
__________________
تعالى : (إِنَّ السَّمْعَ
وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) ، ثم قال : «قم فاغتسل ، وصلّ ما بدا لك ، فإنك كنت
مقيما على أمر عظيم. ما كان أسوأ حالك لو متّ على ذلك ...» .
وما ورد من
النصوص في المجدور والجريح يجنب ، فيغسل فيموت ، من استنكار عدم السؤال ، والتوبيخ
عليه ، وفي بعضها «قتلوه ، قتلهم الله ، إنما كان دواء العي السؤال» .
وحيث كان
مفادها وجوب الفحص المتعلق بعمل المكلف الدخيل في حفظ تكاليفه ، كان مقتضى إطلاقها
وجوبه حتى في مورد الدليل المعتبر في نفسه إذا احتمل تبدل مقتضى الوظيفة بالفحص ،
ولا يختص بصورة فقد الدليل ، لصدق السؤال والتعلم والتفقه في الدين ونحوها من
العناوين المأخوذة في الأدلة عليه.
بل هو صريح ما
ورد في المجدور والجريح ، لوضوح أن التغسيل مقتضى عموم وجوب غسل الجنابة ،
ومشروعية التيمم مع المرض من سنخ المخصص له.
هذا ومقتضى
المناسبات الارتكازية ، وسياق جملة من النصوص ، بل صريح بعضها ، كون وجوب التعلم
والفحص طريقيا في طول التكاليف الواقعية ، لأجل حفظها والقيام بمقتضاها. ومن ثم لا
يجب في غير موارد احتمال الحكم الإلزامي ، ولا فيها مع عدم فوت الواقع ، لعدم
الابتلاء بها ، أو للاحتياط فيها.
__________________
ومرجع الوجوب
الطريقي المذكور إلى أن الواقع مورد للمسئولية ، ولا يكون الجهل به عذرا إذا استند
للتقصير في الفحص. ولازم ذلك قصور إطلاقات أدلة الحجج والأصول عن صورة عدم الفحص ،
كما سبق في توجيه المدعى.
ودعوى : امتناع
حمل الأدلة المتقدمة على الوجوب الطريقي ، الراجع إلى عدم معذرية الجهل. لشمولها
لما إذا وقع العمل غفلة عن احتمال الحرمة ، بل قد يكون هو المتيقن من مواردها ،
فتنافي حكم العقل بقبح عقاب الغافل. كما أنها تشمل التكاليف الموقتة التي لا تكون
فعلية قبل الوقت ، ليجب تعلمها طريقيا ، ولا يجب تعلمها بعد الوقت ، لضيقه عنه.
فلا بد من
حملها على الوجوب النفسي المطلق غير الموقت ، فيكون العقاب على ترك التعلم بنفسه ،
لفعلية التكليف به ، والقدرة عليه قبل الوقت ، كما حكي عن الأردبيلي ، وصاحب
المدارك. وحينئذ لا ينافي معذرية الجهل من التكاليف الواقعية. ولا تنهض أدلة وجوب
التعلم بتقييد أدلة الطرق والأصول.
مدفوعة بالمنع
من حكم العقل بقبح العقاب مع الغفلة إذا كانت مستندة لاختيار المكلف ، وتقصيره.
وكذا مع تعذر التعلم تقصيرا ، لعدم حفظه القدرة عليه قبل دخول الوقت ، نظير ما
يذكر في موارد المقدمات المفوتة. وإلا فأدلة وجوب التعلم المتقدمة كما تشمل وقوع
العمل غفلة عن احتمال التكليف ، تشمل وقوعه مع الغفلة عن وجوب التعلم.
على أن حمل الأدلة
المتقدمة على وجوب التعلم نفسيا ـ مع إباء سياقها عنه ، بل صراحة بعضها في خلافه ـ
مستلزم لحملها إما على الاكتفاء بمسمى التعلم ، ولو لحكم واحد ، وهو خلاف المقطوع
منها. أو على تعلم جميع
الأحكام وإن لم تكن إلزامية ، أو لم تكن مورد الابتلاء ، أو لم تكن معرضة
للمخالفة ، للبناء على الاحتياط. وهو خلاف المقطوع به منهم ، ومن المرتكزات
المتشرعية. كما أن لازمه عدم اختلاف مقدار العقاب باختلاف التكاليف الفائتة في
الأهمية. ولا يظن بأحد البناء على ذلك.
ومن هنا لا
ينبغي التأمل فيما ذكرنا من كون وجوب التعلم طريقيا مانعا من الرجوع للأصول
والأدلة الواصلة ، كما هو ظاهر الأصحاب.
بقي في المقام أمور ..
الأول : الظاهر أن الفحص اللازم هو الفحص بالمقدار الموجب
لليأس من كون استمرار الفحص موجبا للظفر بالدليل ، وإن أمكن حصوله بوجه غير محتسب
، قد يحصل مع الفحص وبدونه.
لقصور الوجوه السابقة
عن إثبات ما زاد على ذلك. أما الإجماع فظاهر. وأما العلم الإجمالي ، فلأن المتيقن
إجمالا هو وجود الأدلة التي يعثر عليها بالفحص ، ولا علم بوجود ما زاد على ذلك مما
يكشف عن تكاليف غير واصلة ، ليكون منجزا.
وأما النصوص ،
فلورود جملة منها مورد الإنكار على ترك الفحص ، والمنصرف منه مورد التقصير العرفي
في تركه ، للاعتداد باحتمال الاطلاع بسببه على الواقع ، ولا يشمل فرض اليأس من
ذلك. وكذا الحال فيما أطلق فيه وجوب التفقه والتعلم ، إذ لا يراد به إلا طلب تحصيل
العلم من مظانه المتيسرة ، ولا نظر فيه إلى حصوله بالطرق غير المحتسبة.
والظاهر أن
سيرة الفقهاء في مقام الاستنباط على ذلك ، لا على حصول العلم أو الاطمئنان بعدم
الدليل ، إذ قد لا يتيسر ذلك. مع أنه لا دليل عليه. إلا أن يراد به الاطمئنان بعدم
العثور على الدليل بالفحص ، فيرجع لما ذكرنا.
الثاني : أن أكثر الأدلة المتقدمة كما تجري في حق المجتهد في
مقام الاستنباط ـ لعمله وللفتوى ـ تجري في حق غيره ، فليس للعامي العمل بمقتضى
الأصول أو غيرها إذا احتمل قيام الأدلة على خلافها ، بل يجب عليه الفحص عن مفاد
الأدلة بالسؤال من المجتهد. لوضوح مشاركته للمجتهد في الإجماع ، والعلم الإجمالي ،
والطائفة الثانية من النصوص ، بل لعله المتيقن من كثير منها. نعم تقصر عنه الطائفة
الأولى منها. وهو غير مهم.
الثالث : تقدم قصور وجوب الفحص عما إذا أمن فوت التكاليف
الواقعية ، للاحتياط ، أو لعدم الابتلاء. كما لا إشكال في وجوبه مع التعرّض لفوت
التكاليف الواقعية التي يعلم بالابتلاء بمواردها.
وأما مع الشك
في الابتلاء ، فالظاهر وجوب الفحص ، لا للعلم الإجمالي ، لعدم صلوحه لتنجيز احتمال
المخالفة مع عدم إحراز الابتلاء بها ، بل لأدلة وجوب التعلم والتفقه ، لشمول
العناوين المأخوذة فيها من التعلم والتفقه والسؤال للتكليف المذكور من دون محذور ،
لأن وجوب التعلم لما كان طريقيا كفى في تحقق موضوعه وإمكانه الخوف من فوت الواقع
بسبب الجهل وإن لم يحرز الابتلاء به.
بل لعل المتيقن
من بعض النصوص المتقدمة ذلك ، كصحيح مسعدة بن زياد الوارد في من أطال الجلوس في
الخلاء لاستماع الغناء ، ونصوص غسل المجدور والجريح. ولا يبعد بناء الأصحاب على
ذلك ، بحيث يدخل في معقد إجماعهم.
الرابع : لا يخفى أن وجوب التعلم لما كان طريقيا يتفرع عليه
قصور أدلة حجية الأدلة الواصلة والأصول عن صورة عدم الفحص ، فهو إنما يقتضي عدم
الاجتزاء ظاهرا بالعمل الواقع من دون فحص.
ولو أحرز بعد
ذلك مطابقته للواقع تعين الاجتزاء به. وكذا لو انكشف مطابقته للحجة القائمة حين
إرادة الخروج عن العهدة ، كما لو كان حينئذ مقلدا لمن يقول بصحة عمله.
وأما إذا كان
مطابقا للحجة القائمة حين صدور العمل ، دون الحجة القائمة حين إرادة الخروج عن العهدة
، فهل يجب التدارك أو لا؟ فإذا صلّى الجمعة تسامحا في وقت كانت وظيفته الرجوع لمن
يفتي بإجزائها من دون علم برأيه ، ولم يهتم بالخروج عن العهدة إلا بعد أن صارت
وظيفته الرجوع لمن يفتي بعدم إجزائها ، فهل يجتزئ بها تبعا لفتوى الأول أو لا
يجتزئ بها تبعا لفتوى الثاني؟ وجهان ، مبنيان على ما تقدم في المسألة الرابعة من
التفصيل بين ما إذا كان دليل الرجوع للثاني يعم الوقائع السابقة ، بنحو يقتضي سقوط
التقليد الأول عن الحجية فيها ، وعدمه ، فيجتزئ بعمله على الثاني ، دون الأول.
ولا مجال لما
تقدم منا من الإجتزاء بمتابعة فتوى من يجب الرجوع إليه حين العمل مطلقا. لاختصاص
الدليل عليه بالسيرة ، والمتيقن منها صورة اعتماد المكلف على الحجة حين العمل ،
ولا طريق لإحراز عمومها لما إذا طابق الحجة المذكورة من دون أن يعتمد عليها.
هذا وقد دلت
الأدلة الخاصة في بعض الموارد على الاجتزاء بالعمل المخالف للواقع جهلا ، كما في
الإتمام في موضع القصر ، والإخفات في موضع الجهر ، وعكسه ، وجميع موارد حديث : «لا
تعاد الصلاة ...» ـ بناء على ما هو الظاهر من عمومه لصورة الجهل بالحكم ـ
وغيرها.
وقد وقع
الإشكال بينهم في الجمع بينه وبين وجوب الفحص عن الواقع في الأحكام المذكورة ،
الراجع لاستحقاق العقاب بفوته مع التقصير في
__________________
الفحص. بدعوى : أن المأتي به في حال الجهل على خلاف المطلوب الواقعي إن لم
يكن وافيا بغرض الواقع الأولي امتنع إجزاؤه ، وإن كان وافيا تعين كون المكلف به هو
الأعم منهما ، لتبعية التكليف للغرض ، وذلك لا يناسب وجوب الفحص عن الواقع
المستلزم لانحصار الغرض به ، وفوته بفوته ، بحيث يكون سببا لاستحقاق العقاب ، كما
تقدم.
وقد أطال شيخنا
الأعظم قدسسره ومن تأخر عنه في حلّ الإشكال بما لا مجال لإطالة الكلام
فيه ، بعد عدم التنافي بين الأمرين ، وإمكان الجمع بينهما.
لأن الإجزاء
كما يمكن أن يكون لوفاء المأتي به حال الجهل بملاك الواقع الأولي ، أو لتبدل
الملاك المستلزم لعدم العقاب ، كذلك يمكن أن يكون لمانعية المأتي به من استيفاء
تمام ملاك الواقع من دون أن يفي به ، كما لو تعلق الغرض بإطعام اللحم ، لخصوصية في
اللحم زائدة على الإشباع ، فأطعمه التمر حتى أشبعه ، ولم يكن التمر وافيا بفائدة
اللحم الخاصة ، إلا أنه حيث يوجب الامتلاء يتعذر إطعام اللحم وتحصيل فائدته ،
فيتعين الإجتزاء بالتمر عن اللحم.
الخامس : لا يخفى أن أدلة وجوب الفحص المتقدمة مختصة بالشبهات
الحكمية. أما الشبهات الموضوعية فمقتضى إطلاق أدلة حجية الأمارات الواصلة والأصول
جواز الرجوع إليها من دون فحص.
بل بعضها صريح
في ذلك ، كصحيحة زرارة الثانية المتقدمة في أدلة الاستصحاب ، المتضمنة عدم وجوب النظر
في الثوب الذي يحتمل إصابة النجاسة له ، عملا بأصالة الطهارة ، أو استصحابها ، والنصوص
المتضمنة عدم وجوب السؤال عن ذكاة الجلود المأخوذة من المسلمين ، عملا بأمارية
__________________
يد المسلم على التذكية ، وعن حال الجبن ، عملا بالأمارية المذكورة ، أو بأصالة الحل. وكذا ما
دل على أن من تزوج امرأة فليس عليه الفحص عن أن لها زوجا حتى بالسؤال منها . وغير ذلك. والظاهر عدم الخلاف فيه في الجملة ، بل ربما
ادعي الإجماع عليه.
نعم أوجب بعضهم
الفحص في بعض الموارد ، كالشك في المسافة المقتضية للقصر والإفطار ، وفي الاستطاعة
المقتضية للحج ، وفي النصاب الزكوي ، وفي الربح الذي يجب فيه الخمس. وكأنه للزوم
كثرة المخالفة للواقع بدونه.
وفيه : أن ذلك
وحده لا يكفي في استفادة وجوب الفحص ، بل لا بد من كون المورد مما يندر العلم
بالحكم فيه من دون فحص عن الموضوع ، حيث يستفاد من تشريع الحكم وجوب الفحص عن
موضوعه ، وإلا كان تشريعه لاغيا عرفا.
أما استلزام
عدم الفحص لكثرة المخالفة ، مع كثرة الموارد التي يعلم فيها بالحكم من دون فحص ،
فلا يكشف عن وجوب الفحص ، لعدم لغوية جعل الحكم عرفا. وإلا لوجب الفحص في كثير من
موارد الطرق والأصول ، كاليد التي هي أمارة على الملكية والسلطنة ، ويد المسلم
التي هي أمارة على التذكية ، وأصالة الطهارة ، واستصحابها. ومن الظاهر عدم البناء
على ذلك.
هذا وقد ذكر
بعض الأعاظم قدسسره أنه إذا تمت مقدمات العلم بالواقع للمكلف ، ولم يحتج
حصوله إلا لمثل النظر والسؤال ممن هو إلى جنبه ، فلا بد منه ، ولا مجال للرجوع
للأصل الترخيصي بدونه ، لعدم صدق الفحص عليه.
__________________
واستثنى من ذلك باب الطهارة ، لما علم من التوسعة فيه.
ووافقه عليه
شيخنا الاستاذ قدسسره مدعيا مناسبته للارتكاز ، من دون أن يشير للاستثناء
المذكور.
وهو كما ترى ،
لعدم أخذ عنوان الفحص في أدلة الأصول ، ليقع الكلام في صدقه على ما ذكره من النظر
ونحوه ، بل ليس موضوعها إلا الشك وعدم العلم ، وهو حاصل في محل الكلام. بل عرفت
صراحة بعض النصوص في عدم وجوب النظر والسؤال. وارتكازيات المتشرعة تقضي بكون
السؤال ونحوه احتياطا غير لازم.
ومن هنا يتعين
عموم جواز الرجوع للأصول المذكورة ، إلا في الموارد الخاصة التي ثبت وجوب الفحص
فيها. ولا يسعنا هنا استقصاؤها ، بل يوكل النظر فيها للفقه.
ومنه سبحانه
نستمد العون والتوفيق والتأييد والتسديد. وهو حسبنا ونعم الوكيل.
إلى هنا انتهى
الكلام في مبحث الاجتهاد والتقليد خاتمة لمباحث الأصول. وبه تم كتابنا (الكافي في
أصول الفقه) مختصرا من كتابنا (المحكم في أصول الفقه). وكان ذلك ضحى الأربعاء ،
السابع عشر من شهر جمادى الأولى ، سنة ألف وأربعمائة وتسع عشرة للهجرة النبوية على
صاحبها وآله أفضل الصلوات وأزكى التحيات. في النجف الأشرف ببركة الحرم المشرف على
مشرفه أفضل الصلاة والسلام. ونبتهل إلى الله جل شأنه أن لا يحرمنا من بركة مجاورته
، ويوفقنا للقيام بحقها ، وشكر نعمته فيها ، إنه أرحم الراحمين وولي المؤمنين.
وكان ذلك بقلم
العبد الفقير (محمد سعيد) عفي عنه ، نجل سماحة حجة الإسلام والمسلمين آية الله (السيد
محمد علي الطباطبائي الحكيم) دامت بركاته. والحمد لله رب العالمين وصلواته على
رسوله الأمين ، وآله الغر الميامين ، وسلم تسليما كثيرا.
ونسأل الله عزوجل بحقهم أن يغفر ذنوبنا ، ويستر عيوبنا ، ويصلح أنفسنا ،
ويتقبل أعمالنا ، ويثبتنا على الهدى والصلاح ، ويختم لنا بالحسنى ، ويحسن عواقبنا
، بمنه وجوده وكرمه. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
الفهرست
مقدمة في القطع.................................................................. ٨
الفصل الأول : في حجية القطع ، وفيه مقامان....................................... ٨
المقام الأول : في متابعة القطع...................................................... ٨
المقام الثاني : في منجزية القطع.................................................... ١٢
الفصل الثاني : التجري ، وفيه ثلاثة مقامات....................................... ١٣
المقام الأول : الكلام في حرمة الفعل المتجرى به واقعا................................ ١٣
المقام الثاني : الكلام في حرمة القصد للمعصية في مورد التجري....................... ١٦
المقام الثالث : استحقاق العقاب على التجري من دون تحريم شرعي................... ١٧
الفصل الثالث : في تقسيم القطع إلى طريقي وموضوعي............................. ٢٢
الفصل الرابع : في عموم آثار القطع لجميع أفراده وعدمه............................. ٢٧
الفصل الخامس : في العلم الإجمالي ، وفيه مقامان................................... ٣١
المقام الأول : في كفاية العلم الإجمالي في وصول التكليف............................. ٣١
المقام الثاني : في الاكتفاء بالعلم الإجمالي في امتثال التكليف
، وفيه موضعين............ ٣٤
الموضع الأول : الامتثال الإجمالي.................................................. ٣٤
الموضع الثاني : الامتثال الإجمالي في التكاليف الاستقلالية............................ ٣٨
المقصد الأول في مباحث الحجج
وفيه تمهيد بذكر أمرين :............................................................
الأمر الأول : في إمكان التعبد بغير العلم وفيه ذكر محذورين.......................... ٤٣
المحذور الأول : تفويت الملاكات الواقعية........................................... ٤٥
المحذور الثاني : اجتماع الحكمين المتضادين......................................... ٥٠
الأمر الثاني : في مقتضى الأصل الذي يرجع إليه عند الشك......................... ٥٦
بقي أمران : الأول : في جواز التدين اعتمادا على الحجة............................. ٦٠
الثاني : أصالة الحجية في الطرق العقلائية.......................................... ٦١
الكلام في مباحث الحجج يكون في ضمن فصول................................... ٦٣
الفصل الأول : حجية الاطمئنان................................................. ٦٣
الفصل الثاني : حجية الظواهر.................................................... ٦٧
حقيقة أصالة الظهور............................................................ ٦٨
وقع الكلام في بعض موارد حجية الظهور تذكر في ضمن مباحث..................... ٧٠
المبحث الأول : حجية الظواهر في حق من لم يقصد بالإفهام......................... ٧٠
المبحث الثاني : حجية الظواهر وإن لم تفد الظن.................................... ٧٣
المبحث الثالث : حجية ظاهر الكتاب الكريم...................................... ٧٤
الفصل الثالث : حجية قول اللغويين.............................................. ٨٢
الفصل الرابع : حجية خبر الواحد ، والكلام في مقامات............................. ٨٥
المقام الأول : في حجج المنع من حجية الخبر مطلقا.................................. ٨٦
المقام الثاني : في حجية الإثبات في الجملة.......................................... ٩٦
الاستدلال على حجية الخبر بآية النبأ.............................................. ٩٦
ما ورد على الاستدلال بالآية الوجه الأول : الكلام في عموم
التعليل................... ٩٨
الوجه الثاني : الإشكال في المفهوم باستلزامه خروج المورد............................ ١٠٤
الاستدلال على حجية الخبر بآية النفر........................................... ١٠٦
وجوه الإشكال على الاستدلال بالآية............................................ ١٠٧
الكلام في ورود الآية الشريفة في الفتوى.......................................... ١١٠
الاستدلال على حجية الخبر بآية الكتمان........................................ ١١٢
الاستدلال على حجية الخبر بآيتي سؤال أهل الذكر................................ ١١٣
دفع الاستدلال بالآيتين المذكورتين............................................... ١١٥
الاستدلال على حجية الخبر بآية الإيذاء.......................................... ١١٧
الاستدلال على حجية خبر الواحد بالسنة........................................ ١٢٠
الاستدلال على حجية الخبر الواحد بالإجماع...................................... ١٢٩
القرائن التي تشهد بثبوت الإجماع على العمل بالخبر................................ ١٣٤
الاستدلال بسيرة المتشرعة على العمل بالخبر...................................... ١٣٦
الاستدلال بسيرة العقلاء على العمل بالخبر....................................... ١٣٦
الاستدلال بدليل العقل على حجية الخبر......................................... ١٣٧
أقسام الخبر الحجة............................................................. ١٣٨
استفادة حجية خبر الثقة من الإجماع............................................ ١٤٠
بقي في المقام أمران : الأول : خبر الثقة المهجور عند الأصحاب..................... ١٤٥
الثاني : حجية خبر الثقة في غير روايات الأحكام.................................. ١٤٥
الفصل الخامس : حجية الإجماع المنقول.......................................... ١٤٧
معنى الإجماع في مصطلح الأصحاب............................................. ١٤٩
الفصل السادس : في حجية مطلق الظن......................................... ١٥٣
الكلام في حقيقة دفع الضرر................................................... ١٥٤
الاستدلال على حجية الظن بقبح ترجيح المرجوح على الراجح....................... ١٥٥
مقدمات الانسداد الثلاث..................................................... ١٥٦
المقدمة الأولى : انسداد باب العلم والعلمي في معظم المسائل........................ ١٥٧
المقدمة الثانية : امتناع الرجوع إلى الأصول الشرعية................................ ١٥٨
المقدمة الثالثة : قبح ترجيح المرجوح على الراجح................................... ١٦٢
المقصد الثاني في الأصول
وفيه تمهيد بذكر أمور.......................................................... ١٦٦
الأمر الأول : في مفاد الأصول العقلية........................................... ١٦٦
الأمر الثاني : تقديم الحجج على الأصول......................................... ١٦٦
الأمر الثالث : هل الأصل في الأشياء الحظر أو الإباحة............................ ١٦٧
الأمر الرابع : الأصول العملية الأربعة............................................ ١٦٩
القسم الأول في البراءة والاحتياط والتخيير
الفصل الأول : في الشك في التكليف ، والكلام في مقامين......................... ١٧٢
المقام الأول : في مقتضى الأصل الأولي العقلي.................................... ١٧٣
الاستدلال بالسنة على البراءة الأصلية........................................... ١٧٤
المقام الثاني : في الأصل الثانوي................................................. ١٨٠
الاستدلال بالكتاب المجيد على البراءة الشرعية.................................... ١٨١
الاستدلال بالسنة على البراءة الشرعية حديث الرفع............................... ١٨٤
الكلام في اختصاص حديث الرفع بالشبهة الموضوعية.............................. ١٨٦
بيان بعض الأمور الاستطرادية التي ذكرت في حديث الرفع.......................... ١٨٨
الاستدلال بسائر الأحاديث.................................................... ١٩٠
نصوص قاعدة الحلّ........................................................... ١٩٤
الاستدلال على البراءة باستصحاب عدم التكليف................................. ١٩٨
الكلام في الاحتياط واستدل عليه بالأدلة الثلاثة.................................. ١٩٩
الدليل الأول : الكتاب المجيد................................................... ٢٠٠
الدليل الثاني : السنة الشريفة................................................... ٢٠١
الدليل الثالث : العقل......................................................... ٢٠٧
تنبيهات البراءة الأول : عموم أدلة البراءة لصورة إجمال الدليل....................... ٢٠٩
التنبيه الثاني : الكلام في الشبهة الموضوعية....................................... ٢٠٩
التنبيه الثالث : حكومة الأصول الموضوعية على أصالة البراءة....................... ٢١٠
التنبيه الرابع : حسن الاحتياط في الشبهة البدوية.................................. ٢١٣
وينبغي التعرض لأمور الأمر الأول : قد يزاحم الاحتياط بما هو
أهم.................. ٢١٤
الأمر الثاني : استحباب الاحتياط شرعا.......................................... ٢١٧
الأمر الثالث : الاحتياط في العبادات............................................ ٢١٩
الأمر الرابع : المعيار في الترجيح بين وجوه الاحتياط................................ ٢١٩
الأمر الخامس : قاعدة التسامح في أدلة السنن ، وفيه أمور......................... ٢٢٠
أولها : إذا تضمن الخبر ثبوت الثواب من دون تحديد له............................. ٢٢٤
ثانيها : لا فرق في بلوغ الثواب صريحا أو ضمنا أو التزاما........................... ٢٢٥
ثالثها : الكلام في وجه الفتوى بالاستحباب إذا دل على الوجوب
خبر ضعيف........ ٢٢٦
رابعها : اختصاص النصوص بالخبر الحسي........................................ ٢٢٦
خامسها : إذا احتمل حرمة العمل الذي ورد الثواب عليه أو كراهته.................. ٢٢٧
سادسها : إذا كان الخبر الدال على الثواب معارضا لغيره............................ ٢٢٨
سابعها : الكلام في الاخبار عن الموضوع الخارجي................................. ٢٢٨
التنبيه الخامس : الكلام في الشك في القدرة...................................... ٢٢٩
الفصل الثاني : في الشك في تعيين التكليف مع اختلاف المتعلق ،
وفيه تمهيد......... ٢٣١
الكلام في مقامين : المقام الأول : المخالفة القطعية ، وفيه
أمران..................... ٢٣٩
الأمر الأول : في عموم أدلة الأصول بدوا لأطراف العلم الإجمالي.................... ٢٤٠
الأمر الثاني : في فعلية جريان الأصول في الأطراف بنحو يقتضي
المخالفة القطعية...... ٢٤٤
المقام الثاني : الموافقة القطعية.................................................... ٢٥٠
بقي شيء هل يجري الأصل الترخيصي في بعض الأطراف.......................... ٢٥٦
بقي في المقام تنبيهات التنبيه الأول : في الشبهة الموضوعية.......................... ٢٥٩
التنبيه الثاني : فيما لو اختلفت الأطراف حقيقة أو خطابا.......................... ٢٦٢
التنبيه الثالث : في معيار ترتيب الآثار........................................... ٢٦٣
التنبيه الرابع : في أنه لا بد من فعلية التكليف على كل حال........................ ٢٦٥
الكلام في مانعية عدم الابتلاء وتحديده ، وفيه مقامات............................. ٢٦٦
المقام الأول : فيما لا يكون من شأن المكلف التعرض له لصوارف
خارجية............ ٢٦٧
المقام الثاني : فيما يكون موردا لتكليف فعلي مانع من ارتكابه....................... ٢٧١
انحلال العلم الإجمالي وضابطه من حيثية تقدم المانع وتأخره
وصوره................... ٢٧٥
الصورة الأولى : سبق المانع أو مقارنته ثبوتا وإثباتا.................................. ٢٧٦
الصورة الثانية : تأخر المانع ثبوتا أو إثباتا......................................... ٢٧٦
الصورة الثالثة : تأخر المانع ثبوتا لا إثباتا......................................... ٢٨٠
الصورة الرابعة : تقدم المانع ثبوتا وتأخره إثباتا..................................... ٢٨٢
التنبيه الخامس : في انحلال العلم الإجمالي......................................... ٢٨٣
التنبيه السادس : فيما لو اقترن العلم الإجمالي بما يمنع من
الموافقة القطعية.............. ٢٨٦
التنبيه السابع : في العلم الإجمالي التدريجي........................................ ٢٩٢
التنبيه الثامن : في ملاقي بعض الأطراف......................................... ٢٩٤
التنبيه التاسع : في الشبهة غير المحصورة.......................................... ٣٠٠
التنبيه العاشر : في توقف العلم الإجمالي على تحديد الأطراف
بوجه ما................ ٣٠٧
الفصل الثالث : في الشك في تعيين التكليف مع وحدة المتعلق...................... ٣٠٩
الكلام في مقتضى الأصل العقلي الأولي.......................................... ٣٠٩
الكلام في مقتضى الأصل الشرعي الثانوي........................................ ٣١١
إذا تنجز أحد المحتملين بخصوصه لزم العمل عليه.................................. ٣١٣
الكلام في ترجيح الأهم أو محتمل الأهمية......................................... ٣١٣
الكلام في ترجيح الأقوى احتمالا................................................ ٣١٤
هل التخيير ابتدائي أو استمراري؟............................................... ٣١٤
إذا دار الأمر بين جزئية شيء للمركب ومانعيته منه................................ ٣١٥
الفصل الرابع : في الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين........................... ٣١٦
لا بد في محل الكلام من وحدة التكليف......................................... ٣١٦
صور احتمال دخل شيء في الواجب............................................ ٣١٧
يلحق بمحل الكلام الدوران بين التعيين والتخيير الشرعيين.......................... ٣١٧
المبحث الأول : في الشك في دخل شيء في المكلف به ، مع الكلام في
صوره......... ٣١٨
اشتراك الشك في الجزئية مع الشك في الشرطية في الجهة المهمة في
المقام............... ٣١٨
المسألة الأولى : في الشك في اعتبار شيء في المكلف به جزءا أو
شرطا............... ٣١٩
المقام الأول : في مقتضى الأصل العقلي وتحقيق أن مقتضى الأصل
البراءة............. ٣٢٠
الكلام في العلم الإجمالي....................................................... ٣٢١
الكلام في قاعدة الاشتغال بالإضافة إلى الأقل المتيقن.............................. ٣٢٢
الكلام في شبهة الغرض........................................................ ٣٢٢
الكلام فيما إذا احتمل اعتبار الخصوصية ناشئا من إجمال عنوان
الواجب............. ٣٢٥
المقام الثاني : في مقتضى الأصل الشرعي......................................... ٣٢٦
الكلام في جريان البراءة الشرعية بناء على جريان البراءة العقلية...................... ٣٢٦
الكلام في استصحاب عدم وجوب الأكثر........................................ ٣٢٦
الكلام في جريان البراءة الشرعية بناء على أن الأصل العقلي
الاحتياط................ ٣٢٨
المسألة الثانية : في الدوران بين التعيين والتخيير العقليين............................ ٣٢٩
بقي في المقام تنبيهات التنبيه الأول : في الشبهة الموضوعية.......................... ٣٣١
الكلام فيما إذا شك في كون لباس المصلي من أجزاء ما لا يؤكل
لحمه................ ٣٣٢
التنبيه الثاني : في الشك في الركنية............................................... ٣٣٤
الأصل عدم الإجزاء مع النقيصة العمدية......................................... ٣٣٤
الكلام في النقيصة السهوية..................................................... ٣٣٥
الكلام في عموم اطلاق التكليف لحال النسيان................................... ٣٣٥
الكلام في الزيادة عمدا أو سهوا................................................. ٣٣٩
الكلام في استصحاب صحة العمل.............................................. ٣٤٠
الكلام في الاستدلال على عدم مبطلية الزيادة بالنهي عن إبطال
العمل............... ٣٤١
الكلام في لزوم الاحتياط في مثل الصلاة بالإتمام ثم الإعادة......................... ٣٤٢
التنبيه الثالث : في تعذر بعض ما يعتبر في الواجب الارتباطي....................... ٣٤٤
الكلام في مقتضى القاعدة الأولية............................................... ٣٤٤
الكلام في القاعدة الثانوية وهي قاعدة الميسور..................................... ٣٤٧
المبحث الثاني : في دوران التكليف بين التعييني والتخييري.......................... ٣٥٤
بقي في المقام تنبيهات الأول : فيما إذا تعذر المتيقن................................ ٣٥٧
الثاني : فيما إذا تردد الشيء بين كونه عدلا لواجب تخييري أو
مسقطا للتكليف...... ٣٥٩
الثالث : فيما إذا علم بوجوب أمور وتردد وجوبها بين التعييني
والتخييري.............. ٣٦٠
الرابع : في الدوران بين التعيين والتخيير في الحجية وعند تزاحم
التكليفين.............. ٣٦٠
خاتمة : في جريان الأصول في الحكم الاقتضائي غير الإلزامي........................ ٣٦١
القسم الثاني : في الاستصحاب................................................. ٣٦٥
تعريف الاستصحاب.......................................................... ٣٦٥
الكلام في كون المسألة أصولية.................................................. ٣٦٦
المبحث الأول : في أدلة الاستصحاب........................................... ٣٦٩
الاستدلال بالإجماع والسيرة.................................................... ٣٦٩
الاستدلال بالأخبار : صحيحة زرارة الأولى....................................... ٣٧١
صحيحة زرارة الثانية........................................................... ٣٧٨
صحيحة زرارة الثالثة........................................................... ٣٨٣
صحيحة إسحاق ابن عمار.................................................... ٣٨٨
حديث الأربعمائة............................................................. ٣٩٠
مكاتبة القاساني............................................................... ٣٩٥
صحيح عبد الله بن سنان...................................................... ٣٩٥
نصوص قاعدتي الحل والطهارة.................................................. ٣٩٧
في أن الاستصحاب أصل إحرازي لا أمارة........................................ ٤٠١
الكلام في التفصيل في حجية الاستصحاب بين الشك في الرافع وغيره................ ٤٠٣
المبحث الثاني : في أركان الاستصحاب وشروطه................................... ٤٠٨
الفصل الأول : في أركان الاستصحاب........................................... ٤٠٨
استصحاب مؤدى الطرق والأمارات والأصول التعبدية.............................. ٤٠٨
في أن المراد بالشك مطلق الاحتمال............................................. ٤١٠
لا بد في جريان الاستصحاب من فعلية الشك واليقين............................. ٤١١
لا بد في جريان الاستصحاب من اتصال زمان الشك بزمان اليقين................... ٤١٤
لا بد من اتحاد المشكوك مع المتيقن ، مع الكلام في موضع
الاستصحاب............. ٤١٤
الفصل الثاني : في شروط الاستصحاب.......................................... ٤٢١
الكلام في الأصل المثبت....................................................... ٤٢٣
الكلام في خفاء الواسطة....................................................... ٤٢٧
الكلام في استصحاب الفرد بلحاظ أثر الكلي.................................... ٤٢٨
الكلام في جريان الاستصحاب لتنقيح مورد النذر والشرط ونحوهما.................... ٤٢٩
الكلام في استصحاب العدمي.................................................. ٤٣٢
في جريان الاستصحاب لإحراز جزء الموضوع أو شرطه............................. ٤٣٤
استصحاب الأمر الاستقبالي.................................................... ٤٣٥
الكلام في حجية الأمارة في لازم مؤداها ، دون الأصل............................. ٤٣٦
المبحث الثالث : في الموارد التي وقع الكلام في تمامية أركان
الاستصحاب وشروطه فيها. ٤٤١
الفصل الأول : في استصحاب العدم الأزلي....................................... ٤٤١
الفصل الثاني : في استصحاب الأحكام الوضعية.................................. ٤٤٤
الفصل الثالث : في استصحاب الكلي والأمر المردد............................... ٤٤٦
المقام الأول : في استصحاب الكلي............................................. ٤٤٦
الكلام في جريان الاستصحاب في الأمور المشككة مع تبدل حدودها................ ٤٥٠
المقام الثاني : في استصحاب الأمر المردد......................................... ٤٥١
الفصل الرابع : في استصحاب الأمور التدريجية.................................... ٤٥٣
الكلام في استصحاب الزمان لإحراز ظرفيته والكلام في حقيقة
الظرفية الزمانية......... ٤٥٥
الكلام في إحراز خصوصيات أيام الشهر بالاستصحاب............................ ٤٥٧
الفصل الخامس : في استصحاب الحكم الشرعي................................... ٤٥٩
الكلام في اتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة ، وفي ضابط
ذلك............... ٤٥٩
الكلام في معارضة استصحاب الحكم الشرعي باستصحاب عدمه.................... ٤٦٢
الفصل السادس : في استصحاب أحكام الشرائع السابقة........................... ٤٦٤
تمهيد في حقيقة النسخ......................................................... ٤٦٤
أصالة عدم النسخ ، مع الكلام في الدليل عليها................................... ٤٦٦
الكلام في جريان اصالة عدم النسخ مع اختلاف الشريعتين......................... ٤٦٩
تقريب نسخ شريعتنا لجمع أحكام الشرائع السابقة................................. ٤٧١
الفصل السابع : في الاستصحاب التعليقي....................................... ٤٧٤
الفصل الثامن : في أصالة تأخر الحادث.......................................... ٤٧٧
المقام الأول : في الحادثين المتضادين............................................. ٤٧٨
الصورة الأولى : الجهل بتاريخ الحادثين معا........................................ ٤٧٨
الصورة الثانية : في الحادثين المتضادين ، مع الجهل بتاريخهما
معا أو أحدهما........... ٤٨١
الفصل التاسع : في استصحاب حكم المخصص.................................. ٤٨٥
الفصل العاشر : في جريان الاستصحاب في الأمور اللغوية.......................... ٤٨٧
خاتمة في القواعد الجارية في الشبهات الموضوعية المقدمة على
الاستصحاب............ ٤٨٨
الفصل الأول : في قاعدة اليد.................................................. ٤٨٨
النصوص المستدل بها على القاعدة.............................................. ٤٨٨
الاستدلال على القاعدة بالإجماع والسيرة......................................... ٤٩١
المعيار في تحقق اليد............................................................ ٤٩٢
اليد حجة على الملكية ، لا على محض السلطنة................................... ٤٩٣
الكلام في اليد المسبوقة بملكية الغير.............................................. ٤٩٣
الكلام فيما لو احتمل صيرورة اليد مالكية بعد أن لم تكن مالكية.................... ٤٩٥
في أن اليد من الأمارات المقدمة على الاستصحاب................................ ٤٩٦
في أن تصرف صاحب اليد في ما تحت يده نافذ ظاهرا وان لم يكن
مالكا............. ٤٩٦
الفصل الثاني : في قاعدة التجاوز والفراغ......................................... ٤٩٧
النصوص المستدل بها على القاعدة.............................................. ٤٩٧
الاستدلال على القاعدة بسيرة العقلاء........................................... ٤٩٨
الكلام في وحدة القاعدة وتعددها............................................... ٤٩٩
المعيار في مضي محل الشك..................................................... ٥٠١
المعيار في الفراغ عن العمل ، مع الكلام فيما لو شك في الجزء
الأخير................. ٥٠٤
عموم القاعدة لجميع أبواب الفقه................................................ ٥٠٦
الكلام في جريان القاعدة مع الغفلة حين العمل عن منشأ الشك.................... ٥٠٧
الكلام في عموم القاعدة للشروط............................................... ٥٠٩
الكلام في أن مفاد القاعدة أصل إحرازي أو غيره.................................. ٥١٠
الفصل الثالث : في قاعدة الصحة.............................................. ٥١٢
الكلام في أدلة القاعدة........................................................ ٥١٢
المعيار في سعة القاعدة......................................................... ٥١٥
تحديد موضوع القاعدة......................................................... ٥١٦
الكلام في أن مفاد القاعدة الصحة الواقعية أو الصحة بنظر الفاعل.................. ٥١٧
لا بد في جريان القاعدة من إحراز سلطنة الفاعل.................................. ٥١٩
القاعدة أصل تعبدي إحرازي مقدم على الاستصحاب............................. ٥٢٠
المقصد الثالث في التعارض
تعريف التعارض لغة واصطلاحا................................................. ٥٢٣
الكلام في قاعدة الجمع مهما أمكن أولى من الطرح................................ ٥٢٦
منهج البحث في هذا المقصد................................................... ٥٢٨
الباب الأول : في الأدلة التي لبعضها دخل في العمل بالآخر بلا
تمانع في الحجية....... ٥٣٠
الفصل الأول : فيما إذا لم يكن الدليلان متنافيين................................. ٥٣١
المقام الأول : تعريف الورود.................................................... ٥٣٣
تقديم الدليل الوارد............................................................ ٥٣٣
الكلام في الدليلين المتواردين.................................................... ٥٣٣
المقام الثاني : في الحكومة....................................................... ٥٣٤
إذا لم يكن أحد الدليلين ناظرا للدليل الآخر بل لحكمه............................. ٥٣٥
تحديد مصطلح الحكومة........................................................ ٥٣٦
توجيه تقديم الدليل الناظر للحكم دون دليله...................................... ٥٣٧
تقسيم الحكومة إلى بيانية وعرفية................................................ ٥٣٩
الفصل الثاني : في ارتفاع موضوع الحجية في أحد الدليلين بسبب
الآخر.............. ٥٤٠
المدار في انعقاد ظهور الكلام عرفا على فراغ المتكلم منه............................ ٥٤٠
دعوى خروج الشارع الأقدس عن الطريقة العرفية ومناقشتها......................... ٥٤٠
الكلام في الجمع العرفي بعد انعقاد الظهور........................................ ٥٤٣
لا تعارض بين الظهورين في مقام الحجية في موارد الجمع العرفي....................... ٥٤٣
المعيار في الجمع العرفي على ملاحظة أقوى الظهورين............................... ٥٤٣
لا بد في الجمع العرفي من إمكان تنزيل الظاهر على الأظهر عرفا..................... ٥٤٤
توقف الجمع العرفي بين الظهورين على امتناع إرادتهما معا........................... ٥٤٤
لا مجال للجمع العرفي مع احتمال عدول المتكلم عن مقتضى كلامه.................. ٥٤٥
توجيه البناء على الجمع العرفي في الأحكام الشرعية دون النسخ...................... ٥٤٦
مبنى الجمع العرفي على تقديم أصالة الصدور والجهة على أصالة
الظهور............... ٥٤٨
توقف أقوائية الظهور على ملاحظة القرائن العامة والخاصة.......................... ٥٤٩
الكلام في تعارض العموم الإطلاقي والوضعي..................................... ٥٤٩
الكلام في تعارض الإطلاق الشمولي والإطلاق البدلي.............................. ٥٥٠
الكلام في انقلاب النسبة...................................................... ٥٥١
الفصل الثالث : في مراتب الأدلة والوظائف الظاهرية.............................. ٥٥٤
تأخر الأصول العقلية عن الأدلة والأصول الشرعية................................. ٥٥٥
المقام الأول : في تقدم الطرق والأمارات على الأصول الشرعية....................... ٥٥٥
دعوى ورود الطرق والأمارات على الأصول الشرعية................................ ٥٥٥
دعوى ورود الطرق والأمارات على الأصول ومناقشتها.............................. ٥٥٥
دعوى حكومة الطرق والأمارات على الأصول ومناقشتها........................... ٥٥٦
حديث المحقق النائيني ومناقشته................................................. ٥٥٧
المختار في وجه تقديم الطرق والأمارات على الأصول............................... ٥٥٧
الكلام في الأصل الموافق عملا للطريق أو الأمارة................................... ٥٥٩
المقام الثاني : في تقديم الأصول الإحرازية على الأصول غير
الإحرازية................. ٥٥٩
دعوى ورود الاستصحاب على الأصول غير الإحرازية ومناقشتها.................... ٥٦٠
دعوى حكومة الاستصحاب على الأصول غير الإحرازية ومناقشتها.................. ٥٦٠
المختار في وجه تقديم الاستصحاب على الأصول غير الإحرازية...................... ٥٦١
المقام الثالث : في تقديم الأصل السببي على المسببي................................ ٥٦٢
دعوى ورود الأصل السببي على المسببي ومناقشتها................................. ٥٦٣
المختار في وجه تقديم الأصل السببي على المسببي.................................. ٥٦٥
الباب الثاني : في الأدلة المتعارضة................................................ ٥٦٦
المقام الأول : في مقتضى الأصل في المتعارضين.................................... ٥٦٦
الكلام في اقتضاء التعارض الحجية التخييرية...................................... ٥٦٧
حقيقة الحجية التخييرية........................................................ ٥٦٨
الكلام في مقتضى الأصل بناء على السببية....................................... ٥٦٩
الاستدلال على أصالة التساقط باشتباه الحجة باللاحجة ومناقشة
ذلك.............. ٥٦٩
عموم أصالة التساقط لما إذا كان أحد الطرفين أكثر عددا أو دليلا.................. ٥٧٠
عموم أصالة التساقط لما إذا كان بعض جهات الدليل قطعيا........................ ٥٧٠
الكلام في حجية المتعارضين في نفي الثالث....................................... ٥٧١
سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية هل يستتبع سقوط الدلالة
الالتزامية عنها.......... ٥٧٢
التفصيل المختار في تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في
السقوط..................... ٥٧٢
التفصيل المختار في حجية المتعارضين في نفي الثالث............................... ٥٧٣
المقام الثاني : في مقتضى الأدلة الخاصة في المتعارضين............................... ٥٧٦
الفصل الأول : في الترجيح..................................................... ٥٧٦
الاستدلال في الترجيح بالنصوص................................................ ٥٧٨
مقبولة ابن حنظلة............................................................. ٥٧٨
الكلام في سند ودلالة المقبولة.................................................. ٥٧٩
بقية نصوص المقام............................................................ ٥٨٠
الأمر الأول : في المرجحات المنصوصة........................................... ٥٨٣
الكلام في الترجيح بصفات الراوي............................................... ٥٨٣
الكلام في الترجيح بشهرة الرواية................................................. ٥٨٤
المعيار في الترجيح بموافقة الكتاب................................................ ٥٨٥
الكلام في الترجيح بموافقة السنة................................................. ٥٨٧
الكلام في الترجيح بمخالفة العامة................................................ ٥٨٧
المعيار في موافقة العامة ومخالفتهم................................................ ٥٨٩
الكلام في الترجيح بالإجماع..................................................... ٥٩٠
الكلام في ترجيح الأحدث..................................................... ٥٩٠
الكلام في الترجيح بموافقة الاحتياط.............................................. ٥٩٦
الأمر الثاني : التعدي عن المرجحات المنصوصة.................................... ٥٩٦
الاستدلال بالإجماع على التعدي عن المرجحات المنصوصة.......................... ٥٩٧
الاستدلال بالنصوص على التعدي عن المرجحات المنصوصة........................ ٥٩٨
الأمر الثالث : الترتيب بين المرجحات........................................... ٦٠٠
الفصل الثاني : في التعادل...................................................... ٦٠٣
نصوص التوقف.............................................................. ٦٠٨
وجوه الجمع بين نصوص التخيير ونصوص التوقف................................. ٦٠٩
حديث الميثمي............................................................... ٦١٠
التخيير في المقام تخيير في المسألة الأصولية لا الفرعية............................... ٦١٤
في أن التخيير وظيفة المفتي والمستفتي............................................. ٦١٤
في أن التخيير استمراري لا ابتدائي.............................................. ٦١٥
الفصل الثالث : في لواحق الكلام في مفاد أدلة التعارض الخاصة ،
وفيه مسائل........ ٦١٦
الأولى : الكلام في عموم أحكام التعارض الخاصة لموارد الجمع
العرفي................. ٦١٦
الثانية : في عموم أحكام التعارض الخاصة لموارد الجمع مع خفاء
وجهه................ ٦١٧
الثالثة : في أحكام التعارض الخاصة للتعارض بين أكثر من دليلين................... ٦١٩
الرابعة : في اختلاف النسخ.................................................... ٦١٩
الخامسة : في جريان أحكام التعارض الخاصة في تعارض الأخبار..................... ٦٢١
خاتمة في التزاحم.............................................................. ٦٢٢
المقام الأول : حقيقة التزاحم ومورده.............................................. ٦٢٢
الاختلاف بين التعارض والتزاحم................................................ ٦٢٢
تحديد الملاك المعتبر في التزاحم................................................... ٦٢٣
الفرق بين التزاحم الملاكي والتزاحم الحكمي....................................... ٦٢٤
الإطلاق يقتضي عدم دخل القدرة في الموضوع والملاك.............................. ٦٢٦
تمييز موارد التزاحم عن موارد التعارض............................................ ٦٢٧
المقام الثاني : في حكم التزاحم من حيثية الترجيح وعدمه............................ ٦٢٩
الترجيح بالأهمية.............................................................. ٦٣٠
ترجيح محتمل الأهمية.......................................................... ٦٣٠
الكلام في ترجيح ما لا بدل له على ما له بدل اضطراري........................... ٦٣١
الكلام في ترجيح ما تعتبر القدرة فيه عقلا على ما تعتبر فيه
شرعا.................... ٦٣٢
الكلام في ترجيح الأسبق زمانا.................................................. ٦٣٣
الكلام في التزاحم بين التكاليف الضمنية......................................... ٦٣٤
خاتمة علم الأصول في الاجتهاد والتقليد
المقام الأول : تعريف الاجتهاد ، وفيه مسائل..................................... ٦٣٧
المسألة الأولى : الكلام في تجزئ الاجتهاد........................................ ٦٣٧
المسألة الثانية : التخطئة والتصويب............................................. ٦٤٠
وجوه التصويب............................................................... ٦٤٠
الاستدلال على بطلان التصويب المنسوب للمعتزلة................................ ٦٤١
الاستدلال على التصويب ودفعه................................................ ٦٤٢
الاستدلال على بطلان التصويب الراجع لتعدد الحكم تبعا لتعدد
المجتهدين............ ٦٤٣
الاستدلال على بطلان التصويب الراجع لتبعية الحكم للاجتهاد..................... ٦٤٤
المسألة الثالثة : في جواز الفتوى للمجتهد بما يؤدي إليه
اجتهاده..................... ٦٤٥
المقام الثاني : في التقليد ، وتعريفه............................................... ٦٤٧
الاستدلال على جواز التقليد بسيرة العقلاء....................................... ٦٤٨
الاستدلال بسيرة المتشرعة...................................................... ٦٤٩
الاستدلال بآية النفر.......................................................... ٦٤٩
الاستدلال بالنصوص.......................................................... ٦٥٠
الكلام في الاستدلال بما تضمن إرجاع الأئمة عليهمالسلام لبعض
أصحابهم........... ٦٥٢
المسألة الأولى : الكلام في وجه اعتبار الإيمان والعدالة في
مرجع التقليد................ ٦٥٣
المسألة الثانية : في تقليد الميت.................................................. ٦٥٤
الكلام في عموم أدلة التقليد للميت............................................. ٦٥٥
الإجماع على عدم جواز تقليد الميت ومناقشته..................................... ٦٥٦
تقريب جريان السيرة على تقليد الميت............................................ ٦٥٦
الكلام في تقليد الميت إذا خالفه الحي............................................ ٦٥٨
الكلام فيما إذا كان الميت أعلم من الحي......................................... ٦٥٩
الكلام في البقاء على تقليد الميت............................................... ٦٥٩
المسألة الثالثة : في تعدد المجتهدين ، والكلام في اختلافهم.......................... ٦٥٩
الكلام في ترجيح الأعلم....................................................... ٦٦٠
الاستدلال على جواز تقليد المفضول بالإطلاقات ومناقشته......................... ٦٦١
الاستدلال على جواز تقليد المفضول بسيرة المتشرعة ومناقشته....................... ٦٦١
الاستدلال على جواز تقليد المفضول بلزوم العسر.................................. ٦٦٢
الاستدلال فيما إذا لم يتيسر معرفة الأعلم........................................ ٦٦٣
المختار في المقام............................................................... ٦٦٤
الكلام في الاجتزاء بالعمل على مقتضى التقليد السابق............................. ٦٦٤
وجوه الاستدلال على الاجتزاء بالتقليد السابق ومناقشتها........................... ٦٦٦
تحقيق الكلام في مقتضى سيرة المتشرعة.......................................... ٦٦٧
خاتمة : في وجوب الفحص ، الاستدلال بالإجماع على وجوب الفحص.............. ٦٧١
الاستدلال على وجوب الفحص بالعلم الإجمالي................................... ٦٧١
الاستدلال على وجوب الفحص بالأدلة النقلية.................................... ٦٧٢
في أن وجوب الفحص طريقي لا نفسي.......................................... ٦٧٥
مقدار الفحص اللازم.......................................................... ٦٧٧
وجوب الفحص على العامي.................................................... ٦٧٨
هل يجب الفحص في المسائل التي يشك في الابتلاء بها............................. ٦٧٨
حكم العمل من دون تعلم...................................................... ٦٧٨
الكلام في الجمع بين وجوب التعلم والإجتزاء بالعمل بدونه.......................... ٦٧٩
عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية...................................... ٦٨٠
الفهرس...................................................................... ٦٨٥
|